الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي
وهبة الزحيلي
مقدمات
الجزء الأول مقدمات مقدمة الطبعة الجديدة الفِقْهُ الإسلاميُّ وأدلَّتُهُ هذه الطبعة الجديدة الحمد لله رب العالمين حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على رسول الرحمة ومعلم الأمة محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد: فإن الفقه الإسلامي العظيم الذي هو نسيج الإسلام المتين وشرع الله الحكيم، والذي به صاغ المسلمون حياتهم في ضوء النصوص الشرعية، فتوحدوا في العبادة والمعاملة والسلوك، هذا الفقه هو المنطلق الحضاري الرائع للأمة؛ لأنه يبني لها أصول عزتها، وقوام حياتها، ويضع لها مخطط عملها في المستقبل. ولقد أسهم كتابي هذا ولله الحمد والمنة في أمرين أساسيين، بسبب دقته وتوثيقه وتميزه بالموضوعية والتجرد، وهما: أولاً - إرشاد المسلمين والمسلمات إلى الأقوم، وتعليم الجيل أحكام دين الله وشرعه، في وقت اختلطت فيه العلوم، وقل فيه التخصص، ولم يعد الإفتاء في الحكم الشرعي دقيقاً، مما زاد في الجهل ومجانبة الصواب، بسبب قلة حلقات العلم ومدارسة الفقه على أيدي العلماء في المساجد والمدارس على وجه سليم أو كاف. وثانياً - كان هذا الكتاب انتصاراً للمذاهب في وقت تعرضت فيه لهجمة شرسة من أناس منتمين في الظاهر للإسلام، وهم بعيدون عنه، أو من آخرين يدّعون الاجتهاد والتجديد، ويتذرعون بأخذ الأحكام الشرعية مباشرة من القرآن والسنة، وهم في الواقع يجهلون أبسط قواعد الاستنباط من الأدلة، بل ربما كانوا غرباء عن العلم وأصول الشريعة واللغة العربية. ولم يدروا أو تجاهلوا أن فقه
تميزت هذه الطبعة بما يلي
المذاهب فقه متين جداً، وعميق جداً، وحضاري معاصر مع الأصالة، لا يخرج عن الكتاب والسنة، فلكل حكم دليله الواضح إما من نص مباشر خاص، أو من مجموعة نصوص تشريعية، أو إدراك لما قامت عليه النصوص ذاتها من مراعاة المصالح العامة ودرء المضار والمفاسد عن الفرد والجماعة والأمة، ولا أكون مبالغاً إن قلت: لن تخلف الدنيا أمثال أئمة المذاهب في العلم والورع والتقوى والإخلاص لهذه الشريعة والحرص على استنباط الحكم الصائب ضمن مناهج الاجتهاد وأصوله السليمة. وهذه الطبعة الجديدة هي الطبعة الرابعة المنقحة المعدلة بالنسبة لما سبقها، وهي الطبعة الثانية عشرة لما تقدمها من طبعات مصورة، لأن الدار الناشرة دار الفكر بدمشق لا تعتبر التصوير وحده مسوغاً لتعدد الطبعات ما لم يكن هناك إضافات ملموسة، وعلى كل حال فإن آلاف النسخ السابقة من خلال ما تم تصويره قد أغنى الثقافة الإسلامية، وكان لها انتشار واضح في جميع البلاد العربية والإسلامية، شرقها وغربها، وتميزت هذه الطبعة بما يلي: - إحداث تغييرات جزئية، وتعديلات كثيرة، وإضافات لبحوث جديدة متعددة، مثل النية والباعث في العقود، ونظرية الفسخ، والتأمين وإعادة التأمين، والدولة الإسلامية، وإعادة صياغة بعض الأبواب الفقهية كالمزارعة والاستصناع مثلاً. - إغناء الفهرسة وتطويرها بحسب أحدث مناهج الفهرسة والمكانز العربية والأجنبية. - تخريج الآيات بالإضافة لتخريج الأحاديث النبوية الشريفة الذي كان مرعياً منذ صدور الطبعة الأولى.
- إضافة كثير من المسائل الجزئية والموضوعات المعاصرة، الملحقة بالأبواب الفقهية، ليصير الكتاب أكثر معاصرة ومواكبة للحاجة، وتلبية الرغبات المتنوعة لمعرفة حكم كل جديد أو طارئ. - إلحاق قرارات مجمع الفقه الإسلامي الصادرة عنه في دوراته الثماني السابقة باستثناء الدورة الأولى التي لم يكن فيها توصيات أو قرارات أو فتاوى جماعية، وإضافة وثيقة شرعة حقوق الإنسان في الإسلام. - أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يتقبل مني هذا العمل، ويجعله خالصاً لوجهه الكريم، وفي ميزان حسناتي يوم الدين؛ لأن قصدي هو إغناء المعرفة بعلوم الشريعة وتصحيح الأقوال والأفعال وضبط أصول الالتزام.
تقديم
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين تقديم - الحمد لله العليم الخبير، والصلاة والسلام على سيدنا محمد البشير النذير، وعلى آله وصحبه أئمة الهدى ومصابيح الحياة، ورضي الله تبارك وتعالى عن أئمة الاجتهاد من السلف الصالح صحباً وتابعين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد: - فإن تنظيم شؤون الحياة والعلاقات الاجتماعية بين الناس، لايتم على نحو صحيح في ميزان العدل الإلهي والمنطق البشري، من دون عقيدة سامية، وأخلاق رصينة، ومبادئ وأنظمة شاملة، تضع حداً للفرد في ذاته وفي سره وعلانيته، وللأسرة الخلية الأولى للمجتمع، وللمجتمع الكبير المنتظم تحت سلطان الدولة، ليعيش في أمن واستقرار، ويظل في تقدم إلى الأمام، وليحمي نفسه من الأمراض التي قد يتعرض لها، والتيارات التي تغزوه وتهز كيانه، إما بسبب الضعف والانحلال والفساد، أو بسبب الفقر والجوع، أو بسبب التسلط والظلم والاستعباد، أو بسبب الترف والأهواء، أو بسبب طغيان المادة على كل شيء، كما في عصرنا الحاضر. - ولا عاصم لهذا المجتمع من التردي، والانحدار أو الضياع، إلا بباعث إصلاحي قوي يهز أركان الانحراف، ويقض مضاجع الغافلين السادرين، ليعيد
إلى النفس الشعور بالذات والثقة بها، وضرورة إثبات وجودها وحيويتها وفاعليتها، وليس مثل القرآن العظيم، وسيرة نبي الإسلام أصدق لهجة، وأقوم دعوة، وأخلص هدفاً في تصحيح مسيرة الناس، قال الله تعالى: {وبالحق أنزلناهُ وبالحق نَزَلَ، وماأرسلناك إلا مبشراً ونذيراً} [الإسراء:17/ 105] {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً} [الإسراء:17/ 9]. - ولايمكن البقاء لأي دعوة تعتمد على الاعتقاد الداخلي أو العاطفة فقط، بل لابد دائماً من الالتزام العملي ببعض الواجبات، ليكون ذلك دليلاً صادقاً على صحة الاعتقاد؛ لأن الإيمان الصحيح: هو ما وقر في القلب وصدقه العمل. - وقد كان الفقه الإسلامي الذي مايزال موضع اعتزاز وفخار وتقدير بين أنواع الفقه العالمي خير صورة عملية للمسلمين، لبَّى مطالب الناس في حكم أقوالهم وأفعالهم وتصرفاتهم، وتنظيم شؤون حياتهم، وفيه تبلورت بحق أحكام القرآن والسنة النبوية، وبه تحقق المقصد الأسمى والغاية الكبرى لهذا الدين الحنيف؛ لأن ماجاء به الإسلام من مبادئ في العقيدة الصحيحة والعبادة السليمة والمعاملة المستقيمة، إنما يهدف في الحقيقة إلى تحقيق أغراض تهذيبية، تؤدي إلى تصحيح المعاملات والسلوك الاجتماعي، وكان الفقه الأكبر: وهو معرفة النفس مالها وماعليها، والفقه بالمعنى الضيق وهو الأحكام الشرعية العملية: هو الترجمة الصادقة الدقيقة لشريعة الإسلام، ومنهاج القرآن في الحياة. - ولكن مما لاشك فيه أن الفقه الإسلامي بحاجة ماسة إلى كتابة حديثة فيه، تبسط ألفاظه، وتنظم موضوعاته، وتبين مراميه، وتربط اجتهاداته بالمصادر الأصلية له، وتيسر للباحث طريق الرجوع إليه، للاستفادة منه في مجال التقنين، وتزوده بمعادن الثروة الخصبة الضخمة التي أبدعتها عقول المجتهدين، من غير تقيد باتجاه مذهبي معين؛ لأن فقه مذهب ما لا يمثل فقه الشريعة كله، وقد بدئ
ولله الحمد على هذا النحو بمحاولات كتابة موسوعة فقهية في سورية ومصر والكويت، ولما يكتمل شيء منها إلى الآن؛ لأن للعمل الجماعي عيوبه أحياناً، من بطء الإنجاز، وتوزع العلماء، وكثرة المشكلات. - وكون أحد آراء الفقهاء من دون تعيين هو الحق والصواب ـ باعتبار أن الحق واحد لا يتعدد ـ لايمنع الأخذ بأي رأي فقهي؛ لتعذر معرفة الأصوب بسبب انقطاع الوحي والنبوة، إلا أن يتضح لنا رجحان الرأي بدليله الأقوى. وإذا لم يتبين الأمر أمامنا، فلنأخذ في مجال وضع القوانين المستمدة من الفقه بالرأي الذي يحقق مصلحة الناس، وحاجة التعامل، ويتلاءم مع التطورات الزمنية، والأعراف الصحيحة التي لا تصادم الشريعة، وتنسجم في أفقها العام وهدفها البعيد، مع مبادئ الإسلام وروح التشريع، ومقاصد الشرائع الكلية، وبه نحقق غاية الشريعة ومصالح الناس معا ً، فلا يتعثر تطبيق الشريعة، ولا يصطدم بأصولها العامة، أو بأحكامها الثابتة المقررة في نصوصها، فإن الأخذ بالنصوص لايكون بتعطيلها، بل بتخصيصها وتأويلها والاجتهاد في فهمها، فكثيراً ماخصص الفقهاء النص الشرعي بالتعامل، وقرروا بناء الأحكام على العرف. - وكل هذا يتم على وفق نظرة إسلامية شاملة متكاملة، لا بمجرد ترقيع الواقع المخالف في أسسه بمظاهر إسلامية، وترك الجوهر والمضمون الحقيقي، ولا بمجرد تطعيم القوانين والأنظمة بنموذج إسلامي مبتور الجذور والأصول عن بقية أحكام شرع الله تعالى، كالبدء بتطبيق العقوبات الشرعية (الحدود مثلاً) في مجتمع ما غريب عن الإسلام في التربية والتعليم، والاجتماع والاقتصاد، والمنهج والحياة، والتنظيم المستورد المفروض قسراً على الأمة. - وبما أنني ما زلت مؤمناً بأن المستقبل للإسلام وفقهه وتشريعاته، وإن عطل بعض الناس الانتفاع بنظامه، بالقوانين الوضعية المستوردة، فإني حريص على بيان أحكام هذا الفقه؛ لأن ذلك التعطيل ردة موقوتة ليس لها دعائم بقاء أو استقرار أو
منهج هذا الكتاب
احترام في أذهان المسلمين، بدليل ظهور صحوة مباركة في بداية هذا القرن الخامس عشر الهجري، وبروز اتجاه قوي نحو العودة بالفعل لتطبيق الشريعة الإسلامية في شتى المجالات، وقد بدأت فعلاً لجان علمية متخصصة تنفذ قرارات وزراء العدل العرب بوضع قانون موحد مستمد من الشريعة الإسلامية في النطاقين المدني والجنائي بالإضافة إلى مشروع قانون موحد في الأحوال الشخصية وقد أنجز أغلب هذه المشروعات. - منهج هذا الكتاب: - يمكن إبراز بعض مزايا هذا الكتاب في الفقه على النحو الجديد في التأليف تحقيقاً واستنباطاً وأسلوباً وتبويباً وتنظيماً وفهرسة واستدلالاً بما يأتي: - 1ً - إنه كتاب فقه الشريعة الإسلامية المعتمد على الدليل الصحيح من القرآن والسنة والمعقول، لا فقه السنة وحدها، ولا فقه الرأي وحده، إذ ليس عمل المجتهد معتبراً بغير الاعتماد على القرآن والسنة. ومعرفة أحكام الشرع الفقهية التي هي مجرد أمر وصفي وبيان مسلَّمات، لاتكوِّن قناعة عقلية ولا متعة نفسية، ولا طمأنينة للعالم والمتعلم إذا جاءت من غير دليل، كما أن العلم بدليل الحكم يخرج من ربقة الجمود على التقليد المذموم في القرآن إلى الاتباع المقرون بالبصيرة الذي اشترطه الأئمة فيمن يتلقى العلم عنهم، ثم إن أدلة الأحكام هي روح الفقه، ودراستها رياضة للعقل، وتربية له، وتكوين للملكة الفقهية لدى كل متفقه. - وبكلمة موجزة: يمتاز هذا الكتاب الشامل فقه المذاهب باعتماده ــ وهو اعتماد المذاهب الإسلامية نفسها ــ على استنباط أحكامه من مختلف مصادر التشريع الإسلامي النقلية والعقلية (الكتاب والسنة والاجتهاد بالرأي المعتمد على روح التشريع الأصلية العامة) فمن قصر الفقه الإسلامي على القرآن وحده فقد بتر أو مسخ الإسلام من جذوره، وكان أقرب لأعداء الدين، ومن حصر الفقه بالسنة
وحدها فقد قصَّر وأساء، وعاش قاصر الطرف عن شؤون الحياة، وبعد عن التفاعل أو التجاوب مع متطلبات الناس، وتحقيق مصالحهم، ومن المعروف أنه حيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله ودينه، وأن زعماء مدرسة الحديث (مالك والشافعي وأحمد) أخذوا بالمصالح المرسلة والعرف والعادة وسد الذرائع وغيرها من أدلة الاجتهاد بالرأي، كما أن زعماء مدرسة الرأي كالنخعي وربيعة الرأي وأبي حنيفة وأصحابه لم يهملوا بتاتاً سنة أو أثراً أو اجتهاداً عن السلف. - 2ً - وهو ليس كتاباً مذهبياً محدوداً، وإنما هو فقه مقارن بين المذاهب الأربعة (الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة) وبعض المذاهب الأخرى أحياناً، بالاعتماد الدقيق في تحقيق كل مذهب على مؤلفاته الموثوقة لديه، والإحالة على المصادر المعتمدة عند أتباعه؛ لأن نقل حكم في مذهب من كتب المذاهب الأخرى لايخلو من الوقوع في غلط في بيان الرأي الراجح المقرر، وقد عثرت على أمثلة كثيرة من هذا النوع، آثرت عدم الإشارة إليها، حرصاً على الموضوعية والإيجابية فيما يقرر، وبعداً عن تفسيرات فجة، وعصبيات مذهبية ضيقة، وتنزهاً عن المغالاة في تقديس كل جزئيات الكتب الفقهية. وقد لقي هذا النوع من الدراسة والبيان لفقه المذاهب الأربعة إقبالاً شديداً وحرصاً تاماً على المطالعة والاستفادة، وهو يتفق مع الاتجاه العالمي للدراسة المقارنة، ويسهم في البعد عن العصبية المذهبية أو يزيلها من النفس. ومع ذلك فإني أحاول دائماً التنويه بالرأي الموحد بين فقهاء المذاهب، لا في مجرد العناوين لأحكام فقهية، بل في الشروط والتفصيلات أيضاً. - 3ً - فيه الحرص على بيان صحة الحديث، وتخريج وتحقيق الأحاديث التي استدل بها الفقهاء، حتى يتبين القارئ طريق السلامة، فيأخذ الرأي الذي صح دليله، ويترك من دون أسف كل رأي متكئ على حديث ضعيف. وإذا لم أذكر ضعف الحديث فلأنه مقبول صحيح، عملاً بالأصل العام في الحديث. - 4ً - إنه كتاب يستوعب مختلف الأحكام الفقهية للمسائل الأصلية، وموازنة
القضايا الفقهية في كل مذهب مع المذاهب الأخرى، حتى يتحقق التقابل بين الآراء، ويجد الباحث ضالته المنشودة لمعرفة الحكم المطلوب في المذهب الذي يطمئن إليه، ومقابلة الجزئيات المذهبية مع المذاهب الأخرى والموازنة بين الآراء. وبالرغم من كونه أمراً عسيراً، فإنه يحقق هدف القارئ، ويروي ظمأه. - 5ً - فيه تركيز على الجوانب العملية أو الواقعية، وبعد عن المسائل الفرضية البعيدة الحصول، وإهمال لكل مايتعلق بالرق والعبيد، لعدم الحاجة إليه بعد إنهاء هذه المشكلة وإلغاء الرق من العالم، إلا على سبيل الإلمام التاريخي واستكمال تصور المسائل الفقهية أحياناً. - 6ً - قد أذكر ترجيحاً بين الآراء بحسب مايبدو لي، وبخاصة في مقابلة الحديث الضعيف، أو لما أرى في مذهب ما من تحقيق مصلحة أو دفع مفسدة ومضرة. - وإذا لم أصرح بالترجيح، فالأولى العمل برأي الأكثرين أو الجمهور؛ لأن الكثرة يحصل بها الترجيح، فيقدم رأي الجمهور إلا إذا لم يكن ملائماً لظروف الحياة الشرعية المعاصرة في المعاملات أو لم يترجح لدى مجتهد ما. - ويجوز تقليد كل مذهب إسلامي معتمد عند الأغلبية، وإن أدى إلى التلفيق (¬1)، عند الضرورة أو الحاجة أو العجز والعذر؛ لأن الصحيح جوازه عند المالكية وجماعة من الحنفية، كما يجوز الأخذ بأيسر المذاهب أو تتبع الرخص (¬2) عند الحاجة أو المصلحة لاعبثاً وتلهياً وهوى؛ لأن دين الله يسر لا عسر، فيكون القول بجواز التلفيق من باب التيسير على الناس، قال الله تعالى: {يريد الله بكم اليسر، ولايريد بكم العسر} [البقرة:2/ 185]، {وما جعل عليكم في الدين من ¬
- ولايجوز تتبع الرخص عبثاً أو لهوى ذاتي، بأن يأخذ الإنسان من كل مذهب ماهو الأخف عليه، من غير ضرورة ولا عذر، سداً لذرائع الفساد بالانحلال من التكاليف الشرعية، ولايجوز التلفيق الذي يؤدي إلى نقض حكم الحاكم؛ لأن حكمه يرفع الخلاف درءاً للفوضى، ولا التلفيق الذي يؤدي إلى الرجوع عما عمل به المرء تقليداً، أو إلى مصادمة أمر مجمع عليه، أو الوقوع في محظور شرعي، كالتزوج بامرأة بلا ولي ولاصداق ولا شهود، مقلداً كل مذهب فيما لايقول به الآخر، أو تحليل المبتوتة بتزويجها من غلام صغير. - 7ً - سهولة الأسلوب، وتبسيط الكلام، وبيان الأمثال، والتبويب والمنهج الأقرب لفهم أهل العصر ومألوفهم، وتحقيق الرأي الراجح في كل مذهب، ووضع الضوابط الكلية، ليسهل التعرف على الأحكام من غير استطراد ولابعثرة للمسائل، فيصبح الفقه قريب المنال بأسلوبه وتنظيمه وتبويبه، بعد أن كان أحياناً عصي الفهم، غريب الأسلوب، بعيد الإدراك، حتى بالنسبة للمتخصص الذي يلقى صعوبة في التعرف على حكم فقهي معين في ثنايا المسائل الكثيرة المتشابكة، وقد يحتاج لجهد كبير ووقت طويل للاطلاع على باب فقهي برمَّته، أو اللجوء إلى أكثر من كتاب في الموضوع ذاته. وحينئذ لايبقى عذر لأحد في محاولة التهرب من تطبيق أحكام الفقه الإسلامي، بعد أن أزيل غموضه، ورفعت حواجز الوهم والتعقيد والصعوبة في فهمه من بطون الكتب القديمة الغاصة بثروة وكنوز لامثيل لها في التاريخ. - 8ً - حاولت بحث بعض القضايا الجديدة وبخاصة في هذه الطبعة التاسعة، ليتعايش الناس معها، مستلهماً قواعد الشريعة ومبادئها ومقررات الفقهاء، ويظل الباب مفتوحاً أمام المزيد من البحوث والاجتهادات الجزئية؛ لأن فضل الله
لاينقطع، ومواهبه وعطاياه لاتنحصر في زمن دون آخر، ولا على أشخاص دون غيرهم. - ويظل رائدي إلى الأبد قوله تعالى: {إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء} [فاطر:35/ 28]، وقوله سبحانه: {وقل: رب زدني علماً} [طه:20/ 114]، وقوله صلّى الله عليه وسلم فيما يرويه البخاري ومسلم: «من يرد الله به خيراً، يفقهه في الدين» وما يرويه البخاري: «رب مبلَّغ أوعى من سامع». - ومع أن هذا العمل يحتاج إلى جهد كبير وصبر وأناة، وتعاون فئة من العلماء، فقد صممت على الكتابة مستعيناً بالله تعالى، لتقريب الفقه إلى الناس، سواء العالم والمتعلم، من غير تعصب لرأي مذهبي معين؛ لأن الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها التقطها، ولأن المساهمة في تقدم العلم بحسب مايرى العالم من الحاجة أمر واجب على العلماء، لأن «العلم يزكو بالإنفاق» كما قال سيدنا علي رضي الله عنه، خصوصاً مايتطلب البحث والتتبع والاستقصاء، والتحقيق وبيان الراجح دليلاً ومذهباً، راجياً من الله تعالى أن يحقق به النفع، وأن يكون سبيلاً للأجر وادخار الثواب عند الله تعالى بعد الموت وانتهاء الأجل، قال النبي صلّى الله عليه وسلم فيما يرويه البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأصحاب السنن إلا ابن ماجه عن أبي هريرة: «إذا مات الإنسان انقطع عمله، إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» (¬1) وقال ابن عمر رضي الله عنه: «مجلس فقه خير من عبادة ستين سنة» وجزى الله والدي رحمه الله الذي حبب إلي هذا العلم، وجزى الله أيضاً أساتذتي في الأزهر وسورية على أفضالهم علي خير الجزاء. - فإن أصبت الهدف المرجّى، فهو من فضل الله تعالى، ولا أدعي العصمة والكمال والإحاطة بكل شيء في الفقه، فذلك من صفات الله وحده، وأعترف سلفاً بعجزي وقصوري، قال الله سبحانه: {وماأوتيتم من العلم إلا قليلاً} [الإسراء:17/ 85]، وإنما هو عمل لايعدو أن يكون محاولة في البيان والترتيب ¬
الباعث المباشر على تأليف هذا الكتاب
وتقريب الفقه للناس، والموازنة بين أحكامه في المذاهب الأربعة ونحوها، والله ولي التوفيق. - {رب هب لي حكماً وألحقني بالصالحين، واجعل لي لسان صدق في الآخرين، واجعلني من ورثة جنة النعيم} [الشعراء:26/ 83 - 84 - 85]. - الباعث المباشر على تأليف هذا الكتاب: - كان المسلم في الصدر الأول وِحْدة متكاملة، يجمع بين شؤون الدين والدنيا والآخرة، في انسجام والتزام دقيق متوازن، سواء في شخصه وأسرته أم في سلوكه وعمله في الحياة، وسواء أكان حاكماً قائداً، أم رعية من آحاد المسلمين العاديين، فكان إذا دعا داعي الجهاد مثلاً هبَّ كالأسد الهصور للدفاع المستميت عن دين الله تعالى وعزة الإسلام وحرمات المسلمين، وإن طرأت قضية تهم الجماعة أو المجتمع في السياسة والحكم أو في القضايا الاجتماعية أو في مجال الإفتاء، بادر إلى تقديم كل مايمكنه من عمل مثمر أو فكر متفتح منتج مستلهماً العون الإلهي، مبتغياً تحقيق مرضاة الله تعالى. - واليوم تشعبت اتجاهات المسلمين ومسالكهم، فلم يعد التوجه للإسلام في قمة عناية المسلم وعمله، وأصبح العمل البنَّاء من أجل الصالح العام أمراً قليل الأهمية أو عسير التحقيق، وانصرف غالب الناس من ملايين المسلمين الموزعين في زهاء إحدى وخمسين دولة الآن إلى أعمالهم الخاصة، تشغلهم ثروتهم أو تجارتهم أو عملهم الحر أو تثقيفهم أنفسهم بثقافات نظرية أو عملية معاصرة طغت على الثقافة الإسلامية الأصيلة. - وأصبح من الصعب العثور على فهم إيجابي للمسلم لحياة العصر، بسبب ازدواج الثقافة العلمية المادية والشرعية، أو بسبب العمل بالتقنينات الوضعية المستوردة والنظريات الاقتصادية الحديثة.
لكن يظل في أعماق الساحة الإسلامية قلَّة من الرجال أو الشباب الذين فهموا ما يتطلبه الإسلام، وحياة المسلم المعاصر، من احتياجات مع زحمة أعباء الحياة، لمعرفة شؤون الحلال والحرام في المعاملات أو أحكام التكاليف الشرعية، فقدروا مايضر وماينفع، وبعدوا عن العيش بالعاطفة وحدها. - ولقد كان لأصحاب دار الفكر في دمشق، فضل الاقتراح علي بتأليف كتاب فقهي جامع لكل نواحي الفقه الإسلامي، ينسجم مع أسلوب، وحاجات المسلم في الوقت الراهن الذي لم يعد يقبل بديلاً عن التسلح بالقناعة الفكرية، والاطمئنان الذاتي لصحة الحكم الشرعي المؤيد بالدليل، فبادرت إلى تلبية الدعوة وتنفيذ الاقتراح بجهد متواصل وعمل مضن، حتى وفقني الله تعالى لإنجاز المطلوب، بعد أن لمست فائدة هذا المنهج في الإقبال على دراسة واقتناء وتدريس ثلاثة أجزاء من هذا الكتاب عن المعاملات والعقود بعنوان (الفقه الإسلامي في أسلوبه الجديد) في أكثر من ست جامعات عربية. - فللإخوة أصحاب دار الفكر كل التقدير والشكر الجزيل، ولهم من الله تعالى المثوبة وحسن الجزاء على نشر هذا الكتاب وطبعه وتمويله وإخراجه في أجمل مظهر من الطباعة الأنيقة الحديثة، وجزاهم الله خير الجزاء.
مقدمات ضرورية عن الفقه
مقدمات ضرورية عن الفقه - لابد قبل البدء في بحث الأحكام الشرعية من بيان معلومات تتناول ما يأتي: - معنى الفقه وخصائصه، لمحة موجزة عن فقهاء المذاهب، مراتب الفقهاء وكتب الفقه، اصطلاحات الفقه والمؤلفين في المذاهب، أسباب اختلاف الفقهاء، الضوابط الشرعية للأخذ بأيسر المذاهب وخطة البحث. - المطلب الأول ـ معنى الفقه وخصائصه: - الفقه لغة: الفهم (¬1)، ومنه قوله تعالى: {قالوا: ياشعيب، ما نفقه كثيراً مما تقول} [هود:11/ 91]، وقوله سبحانه: {فما لهؤلاء القوم لايكادون يفقهون حديثاً} [النساء:4/ 78]. - وفي الاصطلاح الشرعي: عرفه أبو حنيفة رحمه الله تعالى بأنه «معرفة النفس مالها وما عليها» (¬2) والمعرفة: (هي إدراك الجزئيات عن دليل). والمراد بها هنا سببها: وهو الملكة الحاصلة من تتبع القواعد مرة بعد أخرى. - وهذا تعريف عام يشمل أحكام الاعتقاديات، كوجوب الإيمان ونحوه، والوجدانيات أي الأخلاق والتصوف، والعمليات كالصلاة والصوم والبيع ونحوها، وهذا هو الفقه الأكبر. وعموم هذا التعريف كان ملائماً لعصر أبي حنيفة الذي لم يكن الفقه فيه قد استقل عن غيره من العلوم الشرعية، ثم استقل، فأصبح ¬
علم الكلام (التوحيد) يبحث في الاعتقاديات، وعلم الأخلاق والتصوف كالزهد والصبر والرضا وحضور القلب في الصلاة ونحوها، يبحث في الوجدانيات. وأما الفقه المعروف حالياً فموضوعه أصبح مقصوراً على معرفة ما للنفس وما عليها من الأحكام العملية، وعندئذ زاد الحنفية في التعريف كلمة (عملاً) لتخرج الاعتقاديات والوجدانيات. - وعرف الشافعي رحمه الله الفقه بالتعريف المشهور بعده عند العلماء بأنه: العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية (¬1). - والمقصود بالعلم هنا: هو الإدراك مطلقاً الذي يتناول اليقين والظن؛ لأن الأحكام العملية قد تثبت بدليل قطعي يقيني، كما تثبت غالباً بدليل ظني. - والأحكام: جمع حكم، وهو مطلوب الشارع الحكيم، أو هو خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء أو تخييراً أو وضعاً. والمراد بالخطاب عند الفقهاء: هو الأثر المترتب عليه، كإيجاب الصلاة، وتحريم القتل، وإباحة الأكل، واشتراط الوضوء للصلاة. - واحترز بعبارة (العلم بالأحكام) عن العلم بالذوات والصفات والأفعال. - و (الشرعية): المأخوذة من الشرع، فيحترز بها عن الأحكام الحسية مثل: الشمس المشرقة، والأحكام العقلية مثل: الواحد نصف الاثنين، والكل أعظم من الجزء، والأحكام اللغوية أو الوضعية، مثل: الفاعل مرفوع، أو نسبة أمر إلى آخر إيجاباً أو سلباً مثل زيد قائم، أو غير قائم. - و (العملية): المتعلقة بالعمل القلبي كالنية، أو غير القلبي مما يمارسه الإنسان مثل القراءة والصلاة ونحوها من عمل الجوارح الباطنة والظاهرة. والمراد أن أكثرها ¬
عملي، إذ منها ماهو نظري، مثل اختلاف الدين مانع من الإرث. واحترز بها عن الأحكام العلمية والاعتقادية، كأصول الفقه، وأصول الدين كالعلم بكون الإله واحداً سميعاً بصيراً. وتسمى العملية أحياناً: (الفرعية) والاعتقادية: (الأصلية). - و (المكتسب) صفة للعلم: ومعناه المستنبط بالنظر والاجتهاد، وهو احتراز عن علم الله تعالى، وعلم ملائكته بالأحكام الشرعية، وعلم الرسول صلّى الله عليه وسلم الحاصل بالوحي، لا بالاجتهاد، وعلمنا بالبدهيات أوالضروريات التي لاتحتاج إلى دليل ونظر، كوجوب الصلوات الخمس، فلا تسمى هذه المعلومات فقهاً، لأنها غير مكتسبة. - والمراد بالأدلة التفصيلية: ما جاء في القرآن، والسنة، والإجماع، والقياس. واحترز بها عن علم المقلد لأئمة الاجتهاد، فإن المقلد لم يستدل على كل مسألة يعملها بدليل تفصيلي، بل بدليل واحد يعم جميع أعماله، وهو مطالبته بسؤال أهل الذكر والعلم، فيجب عليه العمل بناء على استفتاء منه. هذا .. وقد أصبح الفقه أخيراً كما في قواعد الزركشي: هو معرفة أحكام الحوادث نصاً واستنباطاً، على مذهب من المذاهب. - وموضوع الفقه: هو أفعال المكلفين من حيث مطالبتهم بها، إما فعلاً كالصلاة، أو تركاً كالغصب، أو تخييراً كالأكل. - والمكلفون: هم البالغون العاقلون الذين تعلقت بأفعالهم التكاليف الشرعية. - خصائص الفقه: - الفقه: هو الجانب العملي من الشريعة، والشريعة: كل ماشرع الله تعالى لعباده من الأحكام، سواء بالقرآن، أم بالسنة، وسواء ماتعلق منها بكيفية
يمتاز الفقه الإسلامي بعدة مزايا أو خصائص أهمها
الاعتقاد، ويختص بها علم الكلام أو علم التوحيد، أو بكيفية العمل، ويختص بها علم الفقه. - وقد بدأت نشأة الفقه تدريجياً في حياة النبي صلّى الله عليه وسلم وفي عصر الصحابة، وكان سبب نشوئه وظهوره المبكر بين الصحابة هو حاجة الناس الماسة إلى معرفة أحكام الوقائع الجديدة، وظلت الحاجة إلى الفقه قائمة في كل زمان لتنظيم علاقات الناس الاجتماعية، ومعرفة الحقوق والواجبات لكل إنسان، وإيفاء المصالح المتجددة، ودرء المضار والمفاسد المتأصلة والطارئة. - ويمتاز الفقه الإسلامي بعدة مزايا أو خصائص أهمها ما يأتي (¬1): - 1 ً - أساسه الوحي الإلهي: يتميز الفقه عن غيره من القوانين الوضعية بأن مصدره وحي الله تعالى المتمثل في القرآن والسنة النبوية، فكل مجتهد مقيد في استنباطه الأحكام الشرعية بنصوص هذين المصدرين، وما يتفرع عنهما مباشرة، وماترشد إليه روح الشريعة، ومقاصدها العامة، وقواعدها ومبادئها الكلية، فكان بذلك كامل النشأة، سوي البنية، وطيد الأركان، لاكتمال مبادئه، وإتمام قواعده، وإرساء أصوله في زمن الرسالة وفترة الوحي على النبي صلّى الله عليه وسلم، قال تعالى {اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام ديناً} [المائدة:5/ 3]، ولم يبق بعدئذ إلا التطبيق على وفق المصالح البشرية التي تنسجم مع مقاصد الشريعة. ¬
- 2 ً ــ شموله كل متطلبات الحياة: يمتاز الفقه الإسلامي عن القوانين بأنه يتناول علاقات الإنسان الثلاث: علاقته بربه، وعلاقته بنفسه، وعلاقته بمجتمعه، لأنه للدنيا والآخرة، ولأنه دين ودولة، وعام للبشرية وخالد إلى يوم القيامة، فأحكامه كلها تتآزر فيها العقيدة والعبادة والأخلاق والمعاملة، لتحقق ــ بيقظة الضمير، والشعور بالواجب، ومراقبة الله تعالى في السر والعلن، واحترام الحقوق- غاية الرضا والطمأنينة والإيمان والسعادة والاستقرار، وتنظيم الحياة الخاصة والعامة وإسعاد العالم كله. - ومن أجل تلك الغاية: كانت الأحكام العملية (الفقه) وهي التي تتعلق بما يصدر عن المكلف من أقوال، وأفعال وعقود، وتصرفات، شاملة نوعين: - الأول: أحكام العبادات: من طهارة وصلاة وصيام وحج وزكاة ونذر ويمين، ونحو ذلك مما يقصد به تنظيم علاقة الإنسان بربه. وقد ورد في القرآن عن العبادات بأنواعها نحو (140) آية. - الثاني: أحكام المعاملات: من عقود وتصرفات وعقوبات، وجنايات، وضمانات، وغيرها مما يقصد به تنظيم علاقات الناس بعضهم ببعض، سواء أكانوا أفراداً أم جماعات. وهذه الأحكام تتفرع إلى ما يلي: - أـ الأحكام التي تسمى حديثاً بالأحوال الشخصية: وهي أحكام الأسرة من بدء تكوينها إلى نهايتها من زواج وطلاق ونسب ونفقة وميراث،،يقصد بها تنظيم علاقة الزوجين والأقارب بعضهم ببعض. - ب ــ الأحكام المدنية: وهي التي تتعلق بمعاملات الأفراد ومبادلاتهم من بيع وإجارة ورهن وكفالة وشركة ومداينة ووفاء بالالتزام، ويقصد بها تنظيم علاقات
الأفراد المالية حفظ حق المستحق. وقد ورد في المجموعة المدنية في القرآن نحو سبعين آية. - جـ ــ الأحكام الجنائية: وهي التي تتعلق بما يصدر من المكلف من جرائم، ومايستحقه عليها من عقوبات، ويقصد بها حفظ حياة الناس وأموالهم وأعراضهم وحقوقهم، وتحديد علاقة المجني عليه بالجاني وبالأمة، وضبط الأمن. وقد ورد في المجموعة الجنائية في القرآن نحو ثلاثين آية. - د ــ أحكام المرافعات أو الإجراءات المدنية أو الجنائية: وهي التي تتعلق بالقضاء والدعوى وطرق الإثبات بالشهادة واليمين والقرائن وغيرها، ويقصد بها تنظيم الإجراءات لإقامة العدالة بين الناس. وقد ورد في القضاء والشهادة ومايتعلق بها في القرآن نحو (عشرين) آية. هـ ــ الأحكام الدستورية: وهي التي تتعلق بنظام الحكم وأصوله، ويقصد بها تحديد علاقة الحاكم بالمحكوم، وتقرير ما للأفراد والجماعات من حقوق، وماعليهم من واجبات. - وـ الأحكام الدولية: وهي التي تتعلق بتنظيم علاقةِ الدولةِ الإسلاميةِ بغيرها من الدول في السِّلمِ وَالحْرَبِ، وعلاقة غير المسلمين المواطنين بالدولة، وتشمل ُ الجهاد َ والمعاهداتِ. ويقصد بها تحديد نوع العلاقة والتعاون والاحترام المتبادل بين الدول. - ز ــ الأحكام الاقتصادية والمالية: وهي التي تتعلق بحقوق الأفراد المالية والتزاماتهم في نظام المال، وحقوق الدولة وواجباتها المالية، وتنظيم موارد الخزينة ونفقاتها. ويقصد بها تنظيم العلاقات المالية بين الأغنياء والفقراء، وبين الدولة والأفراد.
وهذه تشمل أموال الدولة العامة والخاصة، كالغنائم والأنفال والعشور (ومنها الجمارك) والخراج (ضريبة الأرض) والمعادن الجامدة والسائلة وموارد الطبيعة المخلوقة، وأموال المجتمع كالزكاة والصدقات والنذور والقروض، وأموال الأسرة كالنفقات والمواريث والوصايا، وأموال الأفراد كأرباح التجارة، والإجارة، والشركات، وكل مرافق الاستغلال المشروع، والإنتاج، والعقوبات المالية، كالكفارات والديات والفدية. - ح ــ الأخلاق أو الآداب (المحاسن والمساوئ): وهي التي تحد من جموح الإنسان، وتشيع أجواء الفضيلة والتعاون والتراحم بين الناس. - وكان سبب اتساع الفقه هو ما جاء في السنة النبوية من الأحاديث الكثيرة في كل باب من هذه الأبواب. - 3 ً ــ اتصافه بالصفة الدينية حلاً وحرمة: يفترق الفقه عن القانون الوضعي في أن كل فعل أو تصرف مدني في المعاملات يتصف بوجود فكرة الحلال والحرام فيه، مما يؤدي إلى اتصاف أحكام المعاملات بوصفين: - أحدهما ـ دنيوي يبنى على ظاهر الفعل أو التصرف، ولا علاقة له بالأمر المستتر الباطني، وهو الحكم القضائي؛ لأن القاضي يحكم بما هو مستطاع. وحكمه لايجعل الباطل حقاً، والحق باطلاً في الواقع، ولايحل الحرام ولايحرم الحلال في الواقع. ثم إن القضاء ملزم، بعكس الفتوى. - والثاني ــ حكم أخروي يبنى على حقيقة الشيء والواقع، وإن كان خفياً عن الآخرين، ويعمل به فيما بين الشخص وبين الله تعالى. وهو الحكم الدياني. وهذا مايعتمده المفتي، والفتوى: هي الإخبار عن الحكم الشرعي من غير إلزام.
ومنشأ هذه التفرقة: حديث النبي صلّى الله عليه وسلم فيما يرويه مالك وأحمد وأصحاب الكتب الستة: «إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن (¬1) بحجته من بعض، فأقضي له على نحوٍ مما أسمع، فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار، فليأخذها أو ليتركها» وسبب وجود هذين الوصفين: أن الشريعة وحي الله، لها ثواب وعقاب أخروي، وهي نظام روحي ومدني معاً، لأنها جاءت لخيري الدنيا والآخرة، أو الدين والدنيا. - وتظهر ثمرة التفرقة مثلاً في الطلاق والأيمان والديون والإبراء والإكراه ونحوها، وبناء عليه، اختلفت وظيفة القاضي عن وظيفة المفتي، فالقاضي يصدر حكمه بناء على الأمر الظاهر فقط، والمفتي يراعي الباطن والظاهر معاً، فإذا اختلفا بني حكمه على الباطن إذا بان له. - فمن طلق امرأته خطأ غير قاصد الطلاق، يقع منه قضاء ولا يقع ديانة، ومن أبرأ مدينه دون أن يعلمه بذلك، ثم رفع الدعوى على المدين مطالباً بسداد الدين، فالقضاء يقضي له بقبض الدين، والفتوى تمنعه من ذلك لوجود الإبراء. - وقد أدى وجود هذه النزعة الدينية أو الوازع الديني الداخلي إلى إضفاء صفة الهيبة والاحترام للأنظمة الشرعية، وإلى صيانة الحقوق بجانب النزعة المادية التي تلاحظها فقط القوانين الوضعية؛ لأن الشريعة ترعى الاعتبارين معاً: الاعتبار القضائي والاعتبار الدياني. - 4 ً ــ ارتباط الفقه بالأخلاق: يختلف الفقه عن القانون في تأثره بقواعد الأخلاق، فليس للقانون الوضعي إلا غاية نفعية وهي العمل على حفظ النظام واستقرار المجتمع، وإن أهدرت بعض مبادئ الدين والأخلاق. ¬
أما الفقه فيحرص على رعاية الفضيلة والمثل العليا والأخلاق القويمة، فتشريع العبادات من أجل تطهير النفس وتزكيتها وإبعادها عن المنكرات؛ وتحريم الربا بقصد بث روح التعاون والتعاطف بين الناس، وحماية المحتاجين من جشع أصحاب المال؛ والمنع من التغرير والغش في العقود وأكل المال بالباطل، وإفساد العقود بسبب الجهالة ونحوها من عيوب الرضا، من أجل إشاعة المحبة وتوفير الثقة، ومنع المنازعة بين الناس، والسمو عن أدران المادة، واحترام حقوق الآخرين؛ والأمر بتنفيذ العقود قصد به الوفاء بالعهد؛ وتحريم الخمر للحفاظ على مقياس الخير والشر وهو العقل. - وإذا تآزر الدين والخلق مع التعامل، تحقق صلاح الفرد والمجتمع، وسعادتهما معاً، وتهيأ سبيل الخلود في النعمى في عالم الآخرة، والأمل بالخلود هو مطمح البشرية من قديم الزمان. وبذلك تكون غاية الفقه هي خير الإنسان حقاً في الحال والمآل، وإسعاده في الدنيا والآخرة. - ثم إن التأثر بالدين والخلق يجعل الفقه أكثر امتثالاً وأشد احتراماً وطاعة، أما القوانين فيكثر الإفلات من سلطانها. - 5 ً ــ الجزاء على المخالفة دنيوي وأخروي: يمتاز الفقه عن القانون الذي يقرر جزاء دنيوياً فقط على المخالفة بأن لديه نوعين من الجزاء على المخالفات: الجزاء الدنيوي من عقوبات مقدرة (الحدود) وغير مقدرة (التعازير)، على الأعمال الظاهرة للناس، والجزاء الأخروي على أعمال القلو ب غير الظاهرة للناس، كالحقد والحسد وقصد الإضرار بالآخربن إذا اتخذ مظهراً إيجابياً، وعلى الأعمال الظاهرة التي لم يعاقب عليها في الدنيا، إما بسبب إهمال عقوبتها، كتعطيل الحدود اليوم في أغلب الدول، أو لعدم إثباتها في الظاهر، أو لعدم اطلاع السلطة عليها
كذلك الجزاء في الفقه إيجابي وسلبي، إيجابي لأن فيه ثواباً على طاعة الأوامر وامتثالها، وسلبي لأنه يقرر ثواباً على اجتناب النواهي والمعاصي والكف عنها. أما القانون فيقتصر على تقرير جزاءات سلبية على مخالفة أحكامه، دون تقرير ثواب على حالة امتثال قواعده. - 6 ً- النزعة في الفقه جماعية: أي أن فيه مراعاة لمصلحة الفرد والجماعة معاً، دون أن تطغى واحدة على الأخرى، ومع ذلك تقدم مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد عند تعارض المصلحتين، كما أنه عند تعارض مصلحة شخصين: تقدم مصلحة من يصيبه أكبر الضررين، تطبيقاً لقاعدة (لا ضرر ولا ضرار) و (يدفع أكبر الضررين بالأخف منهما). - فمن أمثلة رعاية مصلحة الجماعة: تشريع العبادات من صلاة وصوم ونحوهما، وحل البيع وتحريم الربا، وتحريم الاحتكار ثم البيع بثمن المثل، ومشروعية التسعير الجبري، وإقامة الحدود على أخطر المنكرات، وتنظيم الأسرة، ورعاية حقوق الجار، والوفاء بالعقود، والبيع الجبري للمصلحة العامة كبناء المساجد والمدارس والمشافي، وإنشاء المقابر، وتوسيع الطرق ومجاري الأنهار. - ومن أمثلة تقييد حق الفرد عند ضرر الجماعة، أو حدوث ضرر أكبر: عدم إلزام الزوجة بطاعة زوجها إذا أضرَّ بها، لقوله تعالى: {ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا} [البقرة:2/ 231]، وعدم إطاعة الحاكم إذا أمر بمعصية، أو تنكر للمصلحة العامة؛ لأن الطاعة في المعروف، ولقول رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد: «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب أو كره، مالم يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة». - ومن أمثلته: تقييد جواز الوصية بثلث المال منعاً من إضرار الورثة، لقول
النبي صلّى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص فيما يرويه البخاري ومسلم: «الثلث والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة، يتكففون الناس» أي فقراء يسألون الناس بأكفهم. - ومن أمثلته: ترك الأراضي المفتوحة بيد أهلها على أن يدفعوا ضريبة الجزية والخراج، توفيراً لمورد عام للخزينة، ورعاية لمصلحة المسلمين العامة، ومنه تشريع الشفعة للشريك أو للجار دفعاً للضرر الذي قد يحدث من المشتري الجديد. ومنه إمرار الماء في أرض الغير لإرواء الأرض البعيدة عن مجرى الماء. ونحو ذلك من الأمثال التي تصدر عن مبدأ واحد في الإسلام، وهو أن مصدر الحق: هو الله الذي لايمنحه لأحد إلا لغرض حكيم هو تحقيق الخير للفرد وللمجتمع معاً. - 7 ً - الفقه صالح للبقاء والتطبيق الدائم: إن فقه المبادئ الخالدة لايتغير كالتراضي في العقود، وضمان الضرر، وقمع الإجرام وحماية الحقوق، والمسؤولية الشخصية، أما الفقه المبني على القياس ومراعاة المصالح والأعراف، فيقبل التغير والتطور بحسب الحاجات الزمنية، وخير البشرية، والبيئات المختلفة زماناً ومكاناً، مادام الحكم في نطاق مقاصد الشريعة وأصولها الصحيحة، وذلك في دائرة المعاملات لا في العقائد والعبادات، وهذا هو المراد بقاعدة (تتغير الأحكام بتغير الأزمان). - 8 ً - إن الغاية من توطئة الفقه وتعبيد طرق الوصول إليه هي الإفادة الكاملة منه على الصعيد الفردي، وعلى الصعيد الرسمي باستمداد القوانين في كل بلاد الإسلام منه؛ لأن غايته خير الإنسان وإسعاده في الدارين، أما غاية القوانين الحالية فهي مجرد استقرار المجتمع. - وقد اشتمل الفقه الإسلامي على فروع القوانين المختلفة كما بينا، ويمكن
معرفة حكم مشكلات العصر كالتأمين ونظام المصارف ونظام البورصات وقواعد النقل الجوي والبحري ونحوها بالقواعد الفقهية الكلية، والاجتهاد المستند إلى القياس والاستحسان والمصالح المرسلة وسد الذرائع والعرف وغيرها، كما يمكن صياغة الفقه على أساس النظريات العامة كما هو الشأن في دراسة القوانين، مثل نظرية الضمان، ونظرية الضرورة، ونظرية العقد، ونظرية الملكية، والمؤيدات الشرعية المدنية والجزائية ونظرية الحق، والتعسف في استعمال الحق، والظروف الطارئة وغيرها. وأجاز بعض الفقهاء خلافا ً للأكثرية تخصيص النصوص بالعرف كعدم إلزام المرأة الشريفة القدر بإرضاع ولدها عند المالكية (¬1)، ومثل أخذ أبي يوسف بالعرف في مقياس الأموال الربوية كيلاً أو وزناً لتحقيق المساواة وعدمها، فإذا تبدل عرف التعامل، فأصبح بيع المال الربوي كالقمح والشعير وزنياً بعد أن كان كيلياً، أو العكس، عمل به، وينظر حينئذ للتساوي وزناً أو كيلاً بحسب المتعارف بين الناس. - كما أجاز بعضهم تغير الحكم لتغير علته كإيقاف سهم المؤلفة قلوبهم (¬2)، واعتماد حساب أوائل الشهور العربية على الحساب، لا على الرؤية (¬3). - وأجاز آخرون تغير الحكم بالضرورة أو الحاجة دفعاً للحرج والضرر عن الناس بشرط توافر معنى الضرورة والحاجة شرعاً، والترخيص بالقدر اللازم فقط لإزالة الضرورة وتحقيق الحاجة، لأن «الضرورة تقدر بقدرها» (¬4)، والضرورة: هي التي تهدد المرء بهلاك نفسه أو نسله، أو تلف ماله، أو ذهاب عقله إذا لم يقدم ¬
على الشيء الممنوع. والحاجة: ما يترتب على عدم استعمال الشيء الممنوع من حرج ومشقة تصيب الإنسان في نفسه أو ولده أو ماله أو عقله. - والعمل بالفقه في الجملة واجب إلزامي؛ لأن المجتهد يجب عليه أن يعمل بما أداه إليه اجتهاده، وهو بالنسبة إليه حكم الله تعالى. وعلى غير المجتهد أن يعمل بفتوى المجتهد، إذ ليس أمامه طريق آخر لمعرفة الحكم الشرعي سوى الاستفتاء لقوله تعالى: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [الأنبياء:21/ 7]. وإنكار حكم من أحكام الشريعة التي ثبتت بدليل قطعي، أو زعم قسوة حكم ما كالحدود مثلاً، أو ادعاء عدم صلاحية الشريعة للتطبيق، يعتبر كفراً وردة عن الإسلام. أما إنكار الأحكام الثابتة بالاجتهاد المبني على غلبة الظن فهو معصية وفسق وظلم؛ لأن المجتهد بذل أقصى جهده لمعرفة الحق وبيان حكم الله تعالى، بعيداً عن أي هوى شخصي، أو مأرب نفعي، أو طلب سمعة أو شهرة زائفة، وإنما مستنده الدليل الشرعي، ورائده الحق، وشعاره الأمانة والصدق والإخلاص. - وسبيل العودة إلى العمل بالفقه: هو تقنينه (¬1) أي صياغته في مواد مبسطة تيسيراً لرجوع القضاة إليه، وتوحيداً لأحكام القضاة، وتسهيلاً لأمر المتقاضين بمعرفة الحكم الذي يتقاضى على أساسه. ويتم هذا من طريق لجنة من علماء المذاهب لانتقاء الحكم من أي مذهب حسبما يرون من المصلحة، ويكون عمل اللجنة جاداً وسريعاً، حتى إذا ما انتهت من أعمالها أصدر الحاكم -وهنا العقدة- أمراً باعتماد القانون المستمد من الفقه، تجاوباً مع تطلعات الناس بالرجوع إلى الشريعة وفقه القرآن والسنة، وفي ذلك راحة للنفوس، وطمأنينة للقلوب تزول بها تلك الازدواجية بين الدين والحياة والأنظمة السائدة. ¬
المطلب الثاني ـ لمحة موجزة عن فقهاء المذاهب
ولعل في مثل هذا المؤلَّف ما ييسر الطريق أمام هؤلاء المقننين، وليس في الأمر صعوبة إذا صدقت النية وتوافرت العزيمة، وكان الحاكم جاداً في تنفيذ هذه الخطوة الجريئة التي لا تتم إلا بصدق الإسلام، والاقتناع الحر، والقدرة على مواجهة التحديات والتخرصات والأضاليل. - المطلب الثاني ـ لمحة موجزة عن فقهاء المذاهب: - الفقيه أو المفتي: هو المجتهد، والمجتهد: هو الذي حصلت له ملكة يقتدر بها على استنباط الأحكام من أدلتها. وإطلاق كلمة الفقيه أو المفتي أخيراً على متفقهة المذاهب من باب المجاز والحقيقة العرفية. والفتاوى الصادرة في زماننا هي مجرد نقل كلام المفتي (المجتهد) ليأخذ به المستفتي، وليست هي بفتوى حقيقة. - والمذهب: لغة: مكان الذهاب وهو الطريق. واصطلاحاً: الأحكام التي اشتملت عليها المسائل. شبهت بمكان الذهاب بجامع أن الطريق يوصل إلى المعاش، وتلك الأحكام توصل إلى المعاد (¬1). - ولقد بدأت نواة المذاهب في عصر الصحابة كما أشرنا سابقاً، فكان مثلاً مذهب عائشة، ومذهب عبد الله بن عمر، ومذهب عبد الله بن مسعود وغيرهم، ثم في عصر التابعين اشتهر فقهاء المدينة السبعة (وهم سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وخارجة بن زيد، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن حارث ابن هشام، وسليمان بن يسار، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود) ونافع مولى عبد الله بن عمر. ومن أهل الكوفة: علقمة بن مسعود، وإبراهيم النخعي شيخ حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة، ومن أهل البصرة: الحسن البصري. ¬
لمحة موجزة عن أئمة المذاهب الكبرى الثمانية المعروفة عند أهل السنة والشيعة
وهناك بين التابعين فقهاء آخرون: مثل عكرمة مولى ابن عباس وعطاء بن أبي رباح، وطاوس بن كيسان، ومحمد بن سيرين، والأسود بن يزيد، ومسروق بن الأعرج، وعلقمة النخعي، والشعبي، وشريح، وسعيد بن جبير، ومكحول الدمشقي، وأبو إدريس الخولاني. - وفي أول القرن الثاني إلى منتصف القرن الرابع الهجري وهو الدور الذهبي للاجتهاد، لمع في الأفق ثلاثة عشر مجتهداً دونت مذاهبهم، وقلدت آراؤهم وهم (¬1): سفيان بن عيينة بمكة، ومالك بن أنس بالمدينة، والحسن البصري بالبصرة، وأبو حنيفة وسفيان الثوري (161 هـ) بالكوفة، والأوزاعي (157هـ) بالشام، والشافعي والليث بن سعد بمصر، وإسحاق بن راهويه بنيسابور، وأبو ثور وأحمد، وداود الظاهري، وابن جرير الطبري ببغداد. - إلا أن أكثر هذه المذاهب لم يبق إلا في بطون الكتب، لانقراض أتباعها، وظل بعضها قائماً مشهوراً إلى يومنا هذا، وسأذكر هنا لمحة موجزة عن أئمة المذاهب الكبرى الثمانية المعروفة عند أهل السنة والشيعة، وبعض الفرق المعتدلة. الذين ما يزال أتباعهم موجودين كالإباضية، أو الذين فقدوا الأشياع والأتباع كالظاهرية (¬2). - أولاً ـ أبو حنيفة ـ النعمان بن ثابت (80 - 150 هـ) مؤسس المذهب الحنفي: - هو الإمام الأعظم أبو حنيفة، النعمان بن ثابت بن زُوَطَى الكوفي من أبناء فارس الأحرار، ولد عام (80)، وتوفي عام (150 هـ) رحمه الله، عاصر أوج ¬
الدولتين الأموية والعباسية. وهو من أتباع التابعين، وقيل: من التابعين، لقي أنس ابن مالك، وروى عنه حديث: «طلب العلم فريضة على كل مسلم». - وهو إمام أهل الرأي، وفقيه أهل العراق، صاحب المذهب الحنفي، قال الشافعي عنه: «الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة»، كان تاجر قماش بالكوفة. - أخذ علمه في الحديث والفقه عن أكثر أعيان العلماء، وتفقه في مدة ثمانية عشر عاماً بصفة خاصة بحمَّاد بن أبي سليمان، الذي أخذ الفقه عن إبراهيم النخعي، تشدد في قبول الحديث، وتوسع في القياس والاستحسان. وأصول مذهبه: الكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستحسان. له في علم الكلام كتاب الفقه الأكبر، كما له مسند في الحديث، ولم يؤثرعنه كتاب في الفقه. - وأشهر تلامذته أربعة: - 1 ًـ أبو يوسف، يعقوب بن إبراهيم الكوفي (113 - 182هـ): قاضي القضاة في عهد الرشيد، كان له الفضل الأكبر على مذهب أبي حنيفة في تدوين أصوله، ونشر آرائه في أقطار الأرض، وكان مجتهداً مطلقاً. - 2 ً ــ محمد بن الحسن الشيباني (132 - 189هـ): ولد بواسط، وكان والده من أهل حرستا بدمشق، ونشأ بالكوفة، وعاش في بغداد، وتوفي بالري، تفقه أولاً على أبي حنيفة، ثم أتم تعلمه على أبي يوسف، ولازم مالك بن أنس مدة، وانتهت إليه رياسة الفقه بالعراق بعد أبي يوسف، وكان نابغة من أذكياء العلم ومجتهداً مطلقاً، صنف التصانيف الكثيرة التي حفظ بها فقه أبي حنيفة، فهو صاحب الفضل في تدوين المذهب الحنفي، وكتبه (ظاهر الرواية) هي الحجة المعتمدة عند الحنفية.
مالك بن أنس
3 ً ــ أبو الهذيل، زفر بن الهذيل بن قيس الكوفي (110 - 158 هـ): ولد في أصبهان، وتوفي بالبصرة، كان من أصحاب الحديث ثم غلب عليه الرأي، ومهر في القياس، حتى صار أقيس تلامذة أبي حنيفة وأصحابه، وكان مجتهداً مطلقاً. - 4 ً ــ الحسن بن زياد اللؤلؤي (المتوفى عام 204 هـ): تتلمذ أولاً لأبي حنيفة، ثم للصاحبين: أبي يوسف ومحمد، اشتهر برواية الحديث، وبرواية آراء أبي حنيفة، لكن روايته دون رواية كتب (ظاهر الرواية) للإمام محمد، ولم يبلغ في الفقه درجة أبي حنيفة وصاحبيه. - ثانياً ــ مالك بن أنس (93 - 179 هـ) مؤسس المذهب المالكي: - هو الإمام مالك بن أنس بن أبي عامر الأصبحي (¬1)، إمام دار الهجرة فقهاً وحديثاً بعد التابعين، ولد في عهد الوليد بن عبد الملك ومات في عهد الرشيد في المدينة رحمه الله، ولم يرحل منها إلى بلد آخر، عاصر كأبي حنيفة الدولتين الأموية والعباسية، لكنه أدرك من الدولة العباسية حظاً أوفر، وقد اتسعت الدولة الإسلامية في عصر هذين الإمامين، فامتدت من المحيط الأطلسي غرباً إلى الصين شرقاً، ووصلت إلى أواسط أوربا بفتح الأندلس. - طلب العلم على علماء المدينة، ولازم عبد الرحمن بن هرمز مدة طويلة، وأخذ عن نافع مولى ابن عمر وابن شهاب الزهري، وشيخه في الفقه ربيعة بن عبد الرحمن المعروف بربيعة الرأي. - كان إماماً في الحديث وفي الفقه، وكتابه (الموطأ) كتاب جليل في الحديث ¬
والفقه، قال عنه الشافعي رحمه الله: «مالك أستاذي، وعنه أخذت العلم، وهو الحجة بيني وبين الله تعالى، وما أحد أمنّ علي من مالك، وإذا ذكر العلماء، فمالك النجم الثاقب» بنى مذهبه على أدلة عشرين: خمسة من القرآن، وخمسة مماثلة لها مؤ السنة، وهي نص الكتاب، وظاهره وهو العموم، ودليله وهو مفهوم المخالفة، ومفهومه: وهو مفهوم الموافقة، وتنبيهه وهو التنبيه على العلة، كقوله تعالى: {فإنه رجس، أو فسقاً} [الأنعام:6/ 145] فهذه عشرة. - والبقية هي: الإجماع، والقياس، وعمل أهل المدينة، وقول الصحابي، والاستحسان، والحكم بسد الذرائع، ومراعاة الخلاف، فقد كان يراعيه أحياناً، والاستصحاب، والمصالح المرسلة، وشرع من قبلنا (¬1). - وأهم ما اشتهر به: العمل بالسنة، وعمل أهل المدينة، والمصالح المرسلة، وقول الصحابي إذا صح سنده، والاستحسان. - كان من أشهر تلامذته فريق من المصريين، وفريق آخر من شمال إفريقية والأندلس، منهم سبعة مصريون وهم (¬2): - 1 ً ــ أبو عبد الله، عبد الرحمن بن القاسم (المتوفى بمصر عام 191 هـ) تفقه على مالك مدة عشرين سنة، وتفقه على الليث بن سعد فقيه مصر المتوفى عام (175 هـ)، كان مجتهداً مطلقاً، قال عنه يحيى بن يحيى: «أعلم الأصحاب بعلم مالك، وآمنهم عليه»، وهو الذي نظر وصحح (المدوَّنة) في مذهب مالك، وهي من أجل الكتب عند المالكية، وعنه أخذ سحنون المغربي الذي رتب المدونة على ترتيب الفقه. ¬
2 ً ــ أبو محمد، عبد الله بن وهب بن مسلم (ولد عام 125 وتوفي سنة 197 هـ) لازم مالكاً عشرين سنة، ونشر فقهه في مصر وكان له أثر في تدوين مذهبه، وكان مالك يكتب إليه: إلى فقيه مصر، وإلى أبي محمد المفتي. وتفقه أيضاً على الليث بن سعد، وكان محدثاً ثقة، وكان يسمى (ديوان العلم). - 3 ً ــ أشهب بن عبد العزيز القيسي (ولد في السنة التي ولد فيها الشافعي وهي سنة 150هـ، وتوفي سنة 204 هـ) بعد الشافعي بثمانية عشر يوماً، تفقه على مالك والليث بن سعد، انتهت إليه رياسة الفقه بمصر بعد ابن القاسم، وله مدونة روى فيها فقه مالك تسمى (مدونة أشهب) وهي غير مدونة سحنون. قال عنه الشافعي: ما رأيت أفقه من أشهب. - 4 ً ــ أبو محمد، عبد الله بن عبد الحكم (المتوفى عام 214 هـ) أعلم أصحاب مالك بمختلف أقواله، وإليه صارت رياسة المالكية بعد أشهب. - 5 ً ــ أصْبَغ بن الفرج، الأموي ولاءً (المتوفى عام 225هـ) تفقه بابن القاسم وابن وهب وأشهب السابق ذكرهم، كان من أعلم خلق الله بمذهب مالك ومسائله. - 6 ً ــ محمد بن عبد الله بن عبد الحكم (المتوفى عام 268هـ)، أخذ الفقه والعلم عن أبيه، ومن عاصره من الفقهاء المالكيين السابق ذكرهم، كما أخذ عن الشافعي، حتى صار علماً في الفقه، وانتهت إليه الرياسة والفُتيا بمصر، والرحلة من بلاد المغرب والأندلس. - 7 ً ــ محمد بن إبراهيم الاسكندري بن زياد، المعروف بابن الْمَوَّاز، (والمتوفى عام 269هـ)، أخذ الفقه عن علماء عصره، حتى صار راسخاً في الفقه والفتيا، وله كتابه المشهور بالموازية، وهو أجل كتاب ألفه المالكيون، وأصحه مسائل، وأبسطه كلاماً وأوعبه، بنى فيه الفروع على الأصول.
ومن أشهر تلامذة مالك المغاربة سبعة وهم: - 1 ً - أبو الحسن، علي بن زياد التونسي، (المتوفى عام 183هـ)، أخذ عن مالك والليث بن سعد، كان فقيه إفريقية. - 2 ً - أبو عبد الله، زياد بن عبد الرحمن القرطبي (المتوفى عام 193) يلقب بشبْطون، سمع الموطأ عن مالك، وكان أول من أدخله الأندلس. - 3 ً - عيسى بن دينار، القرطبي الأندلسي، المتوفي عام (212هـ)، كان فقيه الأندلس. - 4 ً - أسد بن الفرات بن سنان التونسي، أصله من خراسان من نيسابور (ولد عام 145، وتوفي عام 213هـ) شهيداً بسرقوسة، إذ كان أميرالجيش الذي ذهب لفتح صقلِّية، كان عالماً فقيهاً، مجاهداً يقود الجيوش، وجمع بين فقه المدينة، إذ سمع الموطأ من مالك، وفقه العراق، إذ لقي أبا يوسف ومحمد بن الحسن، وله كتاب (الأسدية) التي هي الأصل لمدونة سحنون. - 5 ً - يحيى بن يحيى بن كثير الليثي (المتوفى عام 234 هـ) أندلسي قرطبي، نشر مذهب مالك في الأندلس. - 6 ً - عبد الملك بن حبيب بن سليمان السُّلَمي (المتوفى عام 238هـ)، انفرد برياسة الفقه المالكي بعد يحيى المذكور آنفاً. - 7 ً - سَحْنون، عبد السلام بن سعيد التَّنُوخي (المتوفى عام 240هـ) تفقه بعلماء مصر والمدينة، حتى صار فقيه أهل زمانه، وشيخ عصره، وعالم وقته. وهو صاحب (المدونة) في مذهب مالك التي يعتمد عليها المالكية.
محمد بن إدريس الشافعي
ومن أشهر تلامذة مالك الذين نشروا مذهبه في الحجاز والعراق ثلاثة وهم: - 1 ً - أبو مروان، عبد الملك بن أبي سَلَمة الماجِشون (المتوفى عام 212هـ) كان مفتي المدينة زمانه. وقيل: إنه كتب (موطأ) قبل مالك. - 2 ً - أحمد بن الْمُعَذَّل بن غيلان العبدي، معاصر ابن الماجشون ومن أصحابه، كان أفقه أصحاب مالك في العراق. ولم يعرف تاريخ وفاته. - 3 ً - أبو إسحاق، إسماعيل بن إسحاق، القاضي (المتوفى عام 282هـ) أصله من البصرة، واستوطن بغداد، تفقه على ابن المعذل، السابق الذكر، نشر مذهب مالك في العراق. - ثالثاً - محمد بن إدريس الشافعي (150 ـ 204هـ) مؤسس المذهب الشافعي: - الإمام أبو عبد الله، محمد بن إدريس القرشي الهاشمي الْمُطَّلبي بن العباس بن عثمان بن شافع رحمه الله، يلتقي نسبه مع الرسول صلّى الله عليه وسلم في جده عبد مناف، ولد في غزة بفلسطين الشام عام (150هـ)، وهو عام وفاة أبي حنيفة، وتوفي في مصر عام (204هـ). - بعد موت أبيه في غزة وبعد سنتين من ميلاده، حملته أمه إلى مكة موطن آبائه، فنشأ بها يتيماً، وحفظ أشعارهم، ونبغ في العربية والأدب، حتى قال الأصمعي عنه: «وصححت أشعار هذيل على فتى من قريش يقال له: محمد بن إدريس»، فكان بذلك إماماً في العربية وواضعاً فيها. - تتلمذ في مكة على مفتيها مسلم بن خالد الزنجي، حتى أذن له بالإفتاء وهو ابن خمس عشرة سنة، ثم ارتحل إلى المدينة، فتفقه على مالك بن أنس، وسمع منه
الموطأ، وحفظه في تسع ليال، وروى الحديث أيضاً عن سفيان بن عيينة، والفضيل ابن عياض، وعمه محمد بن شافع وغيرهم. - وارتحل إلى اليمن، فولي عملاً فيها، ثم ارتحل إلى بغداد عام (183هـ) و (195هـ)، فأخذ عن محمد بن الحسن كتب فقهاء العراق، وكانت له مناظرات معه، سر منها الرشيد. - ولقيه أحمد بن حنبل في مكة سنة (187هـ)، وفي بغداد سنة (195هـ)، وأخذ عنه فقهه وأصوله، وبيانه ناسخ القرآن ومنسوخه. وفي بغداد صنف كتابه القديم المسمى بالحجة الذي ضمن فيه (مذهبه القديم)، ثم ارتحل إلى مصر عام (200هـ) حيث أنشأ (مذهبه الجديد) وتوفي بها شهيد العلم (¬1) في آخر رجب يوم الجمعة سنة (204هـ)، ودفن بالقرافة بعد العصر من يومه، رحمه الله. - ومن مؤلفاته (الرسالة) أول مدون في علم أصول الفقه، وكتاب (الأم) في فقه مذهبه الجديد. - كان مجتهداً مستقلاً مطلقاً، إماماً في الفقه والحديث والأصول، جمع فقه الحجازيين والعراقيين، قال فيه أحمد: «كان أفقه الناس في كتاب الله وسنة رسوله» وقال عنه أيضاً: «مامن أحد مسَّ بيده محبرة وقلَماً، إلا وللشافعي في عنقه منَّة» وقال عنه طاش كبري زاده في مفتاح السعادة: «اتفق العلماء من أهل الفقه والأصول والحديث، واللغة والنحو وغير ذلك، على أمانته وعدالته وزهده، وورعه وتقواه وجوده، وحسن سيرته، وعلو قدره، فالمطنب في وصفه مقصر، والمسهب في مدحته مقتصر». ¬
وأصول مذهبه: القرآن والسنة، ثم الإجماع، ثم القياس. ولم يأخذ بأقوال الصحابة، لأنها اجتهادات تحتمل الخطأ، وترك العمل بالاستحسان الذي قال به الحنفية والمالكية، وقال: (من استحسن فقد شرع)، ورد المصالح المرسلة، وأنكر الاحتجاج بعمل أهل المدينة، وسماه أهل بغداد (ناصر السنة). - روى عنه كتابه القديم (الحجة) أربعة من أصحابه العراقيين وهم: أحمد بن حنبل، وأبو ثور، والزعفراني، والكرابيسي، وأنفسهم رواية له: الزعفراني. - وروى عنه مذهبه الجديد في (الأم) في أبواب الفقه كلها أربعة أيضاً من أصحابه المصريين وهم: المزني، والبويطي، والربيع الجيزي، والربيع بن سليمان المرادي راوي (الأم) وغيرها عن الشافعي. والفتوى على مافي الجديد، دون القديم، فقد رجع الشافعي عنه، وقال: «لاأجعل في حل من رواه عني» إلا في مسائل يسيرة نحو السبع عشرة، يفتى فيها بالقديم إلا إذا اعتضد القديم بحديث صحيح لامعارض له، فإن اعتضد بدليل فهو مذهب الشافعي، فقد صح أنه قال: «إذا صح الحديث فهو مذهبي، واضربوا بقولي عُرْض الحائط». - وقد كثر تلاميذه وأتباعه في الحجاز والعراق ومصر وغيرها من البلاد الإسلامية، وأترجم بصفة خاصة لخمسة مصريين منهم أخذوا عنه مذهبه الجديد وهم (¬1): - 1 ً - يوسف بن يحيى البويطي، أبو يعقوب (توفي عام 231هـ) وهو مسجون ببغداد بسبب فتنة القول بخلق القرآن التي أثارها الخليفةالمأمون، استخلفه الشافعي في حلقته، له مختصر مشهور اختصره من كلام الشافعي. ¬
أحمد بن حنبل الشيباني
2 ً - أبو إبراهيم، إسماعيل بن يحيى المزني (المتوفى عام 264هـ) قال عنه الشافعي: «المزني ناصر مذهبي»، له في مذهب الشافعي كتب كثيرة، منها المختصر الكبير المسمى المبسوط، والمختصر الصغير. أخذ عنه كثير من علماء خراسان والعراق والشام، وكان عالماً مجتهداً. - 3 ً - الربيع بن سليمان بن عبد الجبار المرادي، أبو محمد، راوي الكتب، كان مؤذناً بجامع عمرو بن العاص (جامع الفسطاط)، توفي عام (270هـ)، صحب الشافعي طويلاً، حتى صار راوية كتبه، وعن طريقه وصلنا: الرسالة والأم وغيرهما من كتب الإمام. وتقدم روايته على رواية المزني إن تعارضتا. - 4 ً - حَرْملة بن يحيى بن حرملة (المتوفى سنة 266هـ) روى عن الشافعي من الكتب مالم يروه الربيع، مثل كتاب الشروط (3 أجزاء)، وكتاب السنن (عشرة أجزاء) وكتاب النكاح، وكتاب ألوان الإبل والغنم وصفاتها وأسنانها. - 5 ً - محمد بن عبد الله بن عبد الحكم (المتوفى في ذي القعدة سنة 268هـ) كان تلميذ الشافعي وأحد تلامذة مالك، كان أهل مصر لايعدلون به أحداً، وكان الشافعي يُحبه ويوده، ثم ترك مذهبه إلى مذهب مالك؛ لأن الشافعي لم يخلفه في حلقته، ولأنه مذهب أبيه. - رابعاً ــ أحمد بن حنبل الشيباني (164 - 241 هـ) مؤسس المذهب الحنبلي: - الإمام أبو عبد الله، أحمد بن حنبل بن هلال بن أسد الذُّهلي الشيباني، ولد ببغداد، ونشأ بها، وتوفي فيها في ربيع الأول رحمه الله، وكانت له رحلات إلى مدائن العلم، كالكوفة والبصرة ومكة والمدينة واليمن والشام والجزيرة.
تفقه على الشافعي حين قدم بغداد، ثم أصبح مجتهداً مستقلاً، وتجاوز عدد شيوخه المئة، وأكبَّ على السُّنة يجمعها ويحفظها، حتى صار إمام المحدثين في عصره، بفضل شيخه: هشيم بن بشير بن أبي خازم البخاري الأصل (104 - 183هـ). - كان إماماً في الحديث والسنة والفقه، قال عنه إبراهيم الحَرْبي: «رأيت أحمد، كأن الله قد جمع له علم الأولين والآخرين» وقال عنه الشافعي حين ارتحل إلى مصر: «خرجت من بغداد، وماخلَّفت بها أتقى ولاأفقه من ابن حنبل». - وقد امتحن أحمد بالضرب والحبس في فتنة خلق القرآن في زمن المأمون والمعتصم والواثق، فصبر صبر الأنبياء، قال عنه ابن المديني: «إن الله أعز الإسلام برجلين: أبي بكر يوم الردة، وابن حنبل يوم المحنة». وقال عنه بشر الحافي: «إن أحمد قام مقام الأنبياء». - وأصول مذهبه في الاجتهاد قريبة من أصول الشافعي؛ لأنه تفقه عليه، فهو يأخذ بالقرآن والسنة وفتوى الصحابي والإجماع والقياس، والاستصحاب، والمصالح المرسلة، والذرائع. - لم يؤلف الإمام أحمد في الفقه كتاباً، وإنما أخذ أصحابه مذهبه من أقواله وأفعاله وأجوبته وغير ذلك. - وله كتاب (المسند) في الحديث، حوى نيفاً وأربعين ألف حديث، وكان ذا حافظة قوية جداً. ويعمل بالحديث المرسل (وهو مارواه غير الصحابي مسقطاً منه أحد الرواة) وبالحديث الضعيف الذي يرتفع إلى درجة الحديث الحسن، لاالباطل ولاالمنكر، مرجحاً العمل بالمرسل أو الضعيف على القياس.
وكان من أشهر تلامذته الذين نشروا علمه الآتي ذكرهم (¬1): - 1 ً - صالح بن أحمد بن حنبل المتوفى سنة (266هـ): وهو أكبر أولاد الإمام أحمد، تلقى الفقه والحديث عن أبيه، وعن غيره من معاصريه، قال فيه أبو بكر الخلال راوي الفقه الحنبلي: «سمع من أبيه مسائل كثيرة، وكان الناس يكتبون إليه من خراسان، يسأل لهم ـ أي أباه ـ عن المسائل». - 2 ً - عبد الله بن أحمد بن حنبل (213 - 290هـ): اشتغل برواية الحديث عن أبيه. أما أخوه صالح فقد عني بنقل فقه أبيه ومسائله. - 3 ً - الأثرم، أبو بكر، أحمد بن محمد بن هانئ الخراساني البغدادي (المتوفى سنة 273هـ) روى عن أحمد مسائل في الفقه، وروى عنه حديثاً كثيراً، له كتاب (السنن في الفقه) على مذهب أحمد وشواهده من الحديث، كان من الفقهاء الحفاظ الأعلام. - 4 ً - عبد الملك بن عبد الحميد بن مهران الميموني (المتوفى سنة 274هـ) صحب أحمد أكثر من عشرين سنة، وكان جليل القدر في أصحاب أحمد، وكان أبو بكر الخلال معجباً بنقله عن أحمد أشد الإعجاب. - 5 ً - أحمد بن محمد بن الحجاج، أبو بكر المرّوذي (المتوفى عام 274هـ) كان أخص أصحاب أحمد به، وأقربهم إليه، وإماماً في الفقه والحديث، كثير التصانيف. وإذا أطلق الحنابلة كلمة (أبو بكر) يراد به المرّوذي. - 6 ً - حرب بن إسماعيل الحنظلي الكرماني (المتوفى سنة 280هـ) أخذ عن أحمد فقهاً كثيراً، وكان المروذي، مع عظيم صلته بأحمد، ينقل عنه ماكتب عن أحمد. ¬
أبو سليمان، داود بن علي الأصفهاني الظاهري
7 ً - إبراهيم بن إسحاق الحربي، أبو إسحاق، (المتوفى عام 285هـ)، كان تبحره في الحديث أكثر من الفقه، وكان عالماً باللغة. - ثم جاء أحمد بن محمد بن هارون، أبو بكر الخلال (المتوفى سنة 311هـ) فجمع عن أصحاب أحمد فقهه، حتى عُدَّ أنه (جامع الفقه الحنبلي) أو ناقله أو راويه. وقد صحب الخلال أبا بكر المروذي حتى مات، ويظهر أنه هو الذي حبب إليه رواية فقه أحمد. - ثم لخص ماجمعه الخلال اثنان شهيران هما: - أبو القاسم، عمر بن الحسين الخرقي البغدادي (المتوفى عام 334هـ) ودفن في دمشق، له كتب كثيرة في المذهب، منها مختصره المشهور، الذي شرحه ابن قدامة في كتابه (المغني) وكان له أكثر من ثلاث مئة شرح. - أبو بكر، عبد العزيز بن جعفر، المعروف بغلام الخلال (المتوفى سنة 363هـ) كان قريناً للخرقي الآنف الذكر، وأشد تلاميذ الخلال اتباعاً له، وقد يرجح روايات وأقوالاً رجح الخلال غيرها. - خامساً ــ أبو سليمان، داود بن علي الأصفهاني الظاهري (المولود بالكوفة سنة202هـ، المتوفى في بغداد عام 270هـ) مؤسس المذهب الظاهري: - هو شيخ أهل الظاهر، وواضع أساس هذا المذهب، الذي انتصر له وأشاده من بعده أبو محمد، علي بن سعيد بن حزم الأندلسي (384 - 456هـ) وذلك بما ألف من كتب، من أهمها (المحلى) في الفقه، و (الإحكام في أصول الأحكام) في أصول الفقه. - كان داود من حفاظ الحديث، فقيهاً مجتهداً، صاحب مذهب مستقل، بعد أن كان شافعياً في بغداد.
زيد بن علي زين العابدين بن الحسين
وأساس المذهب الظاهري: العمل بظاهر القرآن والسنة، مادام لم يقم دليل على إرادة غير الظاهر، ثم عند عدم النص، يأخذ بالإجماع، بشرط أن يكون إجماع علماء الأمة قاطبة، وقد أخذ الظاهرية بإجماع الصحابة فقط، فإن لم يوجد النص أو الإجماع أخذوا بالاستصحاب: وهو الإباحة الأصلية. - أما القياس والرأي والاستحسان والذرائع وتعليل نصوص الأحكام بالاجتهاد، فمرفوض، ولا يعتبر دليلاً من أدلة الأحكام، كما أنهم يرفضون التقليد. - من أمثلته الفقهية: قصر تحريم استعمال آنية الذهب والفضة على الشرب منها، وقصر تحريم الربا على الأصناف الستة المذكورة في الحديث، وأن الجمعة تصلى في مسجد العشائر، كقول أبي ثور أحد أصحاب المذاهب المندثرة، وأن الزوجة الغنية تكلف بالإنفاق على زوجها المعسر وعلى نفسها. - انتشر هذا المذهب في الأندلس، وأخذ في الاضمحلال في القرن الخامس، ثم انقرض تماماً في القرن الثامن. - سادساً ــ زيد بن علي زين العابدين بن الحسين المتوفى سنة (122هـ) ــ إمام الشيعة الزيدية، الذي يعد مذهباً خامساً بجانب المذاهب الأربعة: - كان إماماً في عصره وشخصية علمية متعددة النواحي، لمعرفته بعلوم القرآن والقراءات وأبواب الفقه، وكان يسمى (حليف القرآن) وله أقدم كتاب فقهي هو (المجموع) في الفقه، مطبوع في إيطاليا، وشرحه العلامة شرف الدين الحسين بن الحَيْمي اليمني الصنعاني المتوفى (عام 1221هـ) في كتاب (الروض النضير، شرح مجموع الفقه الكبير) في أربعة أجزاء. وأبو خالد الواسطي هو راوي
أحاديث المجموع وجامع فقه زيد. ويقال: إن كتبه (15) كتاباً، منها (المجموع) في الحديث. لكن نسبة هذه الكتب إليه مشكوك فيها. - والزيدية: هم الذين جعلوا الإمامة بعد علي زين العابدين إلى ابنه زيد مؤسس هذا المذهب. وقد بويع لزيد بالكوفة في أيام هشام بن عبد الملك، فقاتله يوسف بن عمر، حتى قتل. - وكان زيد يفضل علي بن أبي طالب على سائر أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم، ويتولى أبا بكر وعمر، ويرى الخروج على أئمة الجور، وقد أنكر على من طعن على أبي بكر وعمر من أتباعه، فتفرق عنه الذين بايعوه، فقال لهم: رفضتموني، فسموا (الرافضة) لقول زيد لهم: (رفضتموني). ثم خرج ابنه يحيى بعده في أيام الوليد بن يزيد بن عبد الملك، فقتل أيضاً. - ومن أهم المؤلفات المطبوعة حالياً في هذا المذهب (كتاب البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار) للإمام أحمد بن يحيى بن المرتضى المتوفى عام (840هـ) في أربعة أجزاء، وهو جامع لآراء الفقهاء واختلافاتهم. - ويميل هذا الفقه إلى فقه أهل العراق مهد التشيع والأئمة، ولايختلف كثيراً في عهد ظهور الزيدية الأولى عن فقه أهل السنة، ويخالفون في مسائل معروفة، منها: عدم مشروعية المسح على الخفين، وتحريم ذبيحة غير المسلم، وتحريم الزواج بالكتابيات، لقوله تعالى: {ولاتمسكوا بعصم الكوافر} [الممتحنة:10/ 60]، وخالفوا الشيعة الإمامية في إباحة زواج المتعة، فلا يجيزونه، ويزيدون في الأذان: (حي على خير العمل) ويكبرون خمس تكبيرات في الجنازة. والمذهب الفعلي في اليمن هو مذهب الهادوية أتباع الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين.
أبو عبد الله جعفر الصادق
ومايزال هذا المذهب مذهب دولة الزيدية في اليمن منذ (عام 288هـ). وهم أقرب المذاهب الشيعية إلى مذهب أهل السنة، ومذهبهم في العقيدة هو مذهب المعتزلة. وهم يعتمدون في استنباط الأحكام على القرآن والحديث والاجتهاد بالرأي، والأخذ بالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة والاستصحاب. - والخلاصة: أن الزيدية منسوبة لزيد، لقولهم بإمامته، وإن لم يكونوا على مذهبه في الفروع الفقهية، بخلاف الحنفية والشافعية مثلاً، فهم يتابعون الإمام في الفروع. - سابعاً ــ الإمام أبو عبد الله جعفر الصادق (80 - 148 هـ= 699 - 765م) بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين السبط مؤسس مذهب الإمامية. وأما أبو جعفر، محمد بن الحسن بن فرّوخ الصفار الأعرج القُمِّي المتوفى (سنة 290هـ)، فهو ناشر مذهب الشيعة الإمامية في الفقه. - والإمامية يقولون بإمامة اثني عشر إماماً معصوماً، أولهم الإمام أبو الحسن علي المرتضى، وآخرهم محمد المهدي الحجة، الذين زعموا أنه مستور وأنه هو الإمام القائم. - وابن فرّوخ هو الناشر الفعال لفقه الشيعة الإمامية في فارس في كتابه (بشائر الدرجات في علوم آل محمد، وماخصهم الله به) طبع سنة (1285هـ). - وقد تقدمه أول كتاب للإمامية في الفقه وهو رسالة الحلال والحرام لإبراهيم ابن محمد أبي يحيى المدني الأسلمي التي رواها عن الإمام جعفر الصادق. - ثم كتب ابنه علي الرضا كتاب (فقه الرضا) طبع عام (1274هـ) في طهران. - ثم جاء بعد ابن فرّوخ الأعرج في القرن الرابع: محمد بن يعقوب بن إسحاق الكُلَيني الرازي، شيخ الشيعة، المتوفى (سنة 328هـ)، فألف كتابه «الكافي في علم الدين» وفيه (16099) ستة عشر ألفاً وتسعة وتسعون حديثاً من
ـ أبو الشعثاء التابعي جابر بن زيد
طرق آل البيت، وهو رقم يزيد على ماجاء في كتب الصحاح الستة (البخاري ومسلم ... ). - وبه تكون عمدة مذهب الإمامية: الكافي، ومن لا يحضره الفقيه للصدوق القمي، وتهذيب الأحكام للطوسي، والاستبصار للطوسي، وهم كالزيدية لايعتمدون غالباً في الفقه بعد القرآن إلا على الأحاديث التي رواها أئمتهم من آل البيت، كما أنهم يرون فتح باب الاجتهاد، ويرفضون القياس غير المنصوص العلة، وينكرون الإجماع إلا إذا كان الإمام داخلاً فيه. ومرجع الأحكام الشرعية هم الأئمة دائماً لاغيرهم. - وفقه الإمامية وإن كان أقرب إلى المذهب الشافعي، فهو لايختلف في الأمور المشهورة عن فقه أهل السنة إلا في سبع عشرة مسألة تقريباً، من أهمها إباحة نكاح المتعة، فاختلافهم لايزيد عن اختلاف المذاهب الفقهية كالحنفية والشافعية مثلاً. وينتشر هذا المذهب إلى الآن في إيران والعراق. والحقيقة أن اختلافهم مع أهل السنة لايرجع إلى العقيدة أو إلى الفقه، وإنما يرجع لناحية الحكومة والإمامة. ولعل أفضل ماأعلنت عنه ثورة الخميني في إيران عام (1979م)، هو تجاوز الخلاف مع أهل السنة، واعتبار المسلمين جميعاً أمة واحدة، راجين تحقيق ذلك. - ومن أهم المسائل الفقهية التي افترقوا بها عن أهل السنة: القول بإباحة الزواج المؤقت أو زواج المتعة، وإيجاب الإشهاد على الطلاق، وتحريمهم كالزيدية ذبيحة الكتابي والزواج بالنصرانية أو اليهودية، وتقديمهم في الميراث ابن العم الشقيق على العم لأب، وعدم مشروعية المسح على الخفين، ومسح الرجلين في الوضوء، وفي أذانهم: (أشهد أن علياً ولي الله)، (حي على خير العمل)، وتكرار جملة: (لا إله إلا الله). - ثامنا ً ـ أبو الشّعثاء التابعي جابر بن زيد (المتوفى سنة 93هـ / 711م) مؤسس مذهب الإباضية، الذي ينسب عادة إلى عبد الله بن إباض التميمي (المتوفى عام 80 هـ).
كان جابر بن زيد من العلماء التابعين العاملين بالقرآن والسنة، تتلمذ على ابن عباس رضي الله عنهما، وأصول فقه الإباضية كأصول المذاهب الأخرى المعتمدة على القرآن والسنة والإجماع والقياس والاستدلال أو الاستنباط بجميع طرقه من الاستحسان والاستصلاح (المصالح المرسلة) والاستصحاب وقول الصحابي وغيرها. والمعتمد عندهم أن الإلهام من غير النبي صلّى الله عليه وسلم ليس بحجة في الأحكام الشرعية على غير الملهَم، وأما المجتهد الملهم فليس الإلهام في حقه حجة إلا في قضية لايوجد لحكمها دليل متفق عليه، وكأنه الاستحسان المعروف. وهم يتبرؤون من تسميتهم الخوارج أو الخوامس، وكانوا يعرفون بأهل الدعوة، وأهل الاستقامة، وجماعة المسلمين. - وقد اشتهرت الإباضية بالقول بالمسائل الفقهية التالية (¬1): - 1ً - عدم جواز المسح على الخفين كالشيعة الإمامية. - 2ً - عدم رفع الأيدي في تكبيرة الإحرام، أما إسبال الأيدي في الصلاة والاقتصار على تسليمة واحدة فهم موافقون المذهب المالكي والزيدي. - 3ً - القول بإفطار من أصبح جنباً في رمضان عملاً بحديث أبي هريرة ورأي بعض التابعين. - 4ً - تحريم ذبائح أهل الكتاب الذين لايعطون الجزية أو الحربيين غير المعاهدين، والإمامية لايجيزون أكل هذه الذبائح مطلقاً. - 5ً - تحريم نكاح الصبي والصبية في قول جابر بن زيد، والعمل في المذهب بخلافه. ¬
- 6ً - كراهة الجمع بين بنات العم خوف القطيعة، وهي كراهة تنزيه. - 7ً - الوصية واجبة للأقربين غير الوارثين عملاً بالأحاديث التي تحث على الإيصاء، وتجوز الوصية لأولاد الابن مع وجود الأولاد، لقول الله تعالى: {كتب عليكم إذا حضر أحدَكم الموتُ إن ترك خيراً الوصيةُ للوالدين والأقربين} [البقرة:180/ 2] ونسخت الوصية للوالدين بآية المواريث وبحديث (لاوصية لوارث). - 8ً - المكاتب حر من وقت الكتابة، والمدبَّر حر بعد موت المدبِّر كبقية المذاهب، أو بعد انقضاء الأجل الذي أجل إليه، ولايجوز بيعه إلا في الدَّيْن عند أكثر علماء المذهب. - 9ً - تحريم التبغ على أنه من الخبائث. - ومن كتبهم في العقيدة: (مشارق الأنوار) للشيخ نور الدين السالمي، وفي الأصول (طلعة الشمس) للشيخ نور الدين السالمي، وفي الفقه (شرح النيل وشفاء العليل) للشيخ محمد بن يوسف بن أطَّفَيِّش، (17) جزءا، و (قاموس الشريعة) للسعدي، (90 جزءاً)، و (المصنَّف) للشيخ أحمد بن عبد الله الكندي، (42 جزءًا)، و «منهج الطالبين» للشيخ الشقعبي، (20 جزءاً)، و «الإيضاح» للشيخ الشمَّاخي، (8 أجزاء)، و (جوهر النظام) للشيخ السالمي، و (الجامع) لابن بركة في جزأين. - ومايزال مذهبهم قائماً في سلطنة عمان وفي شرق أفريقيا والجزائر وليبيا وتونس. - وهم في العقائد يقولون بتخليد أصحاب الكبائر في النار إن لم يتوبوا، وبالولاية والبراءة (ولاية الطائع والبراءة من العاصي) وبجواز التَّقيَّة في الأقوال لا في الأفعال، وبأن صفات الله تعالى هي عين الذات، أي أن صفاته قائمة بذاته
المطلب الثالث ـ مراتب الفقهاء وكتب الفقه
وليست مغايرة له، فهم يقصدون تعظيم الله وتنزيهه، كما أنهم كالشيعة بنفيهم رؤية الله عز وجل في الآخرة يقصدون التعظيم والتنزيه، ولكنهم لايقولون كالمعتزلة بالتحسين والتقبيح العقليين، ولا بوجوب فعل الصلاح والأصلح على الله تعالى (¬1). - المطلب الثالث ـ مراتب الفقهاء وكتب الفقه: - لابد للمفتي أن يعلم حال من يفتى بقوله، فيعرف درجته في الرواية وفي الدراية، وطبقته بين الفقهاء، ليميز بين الآراء المتعارضة، ويرجح أقواها، والفقهاءعلى سبع مراتب (¬2): 1 ً - المجتهد المستقل: وهوالذي استقل بوضع قواعده لنفسه، يبني عليها الفقه، كأئمة المذاهب الأربعة. وسمى ابن عابدين هذه الطبقة: (طبقة المجتهدين في الشرع). 2ً - المجتهد المطلق غير المستقل: وهو الذي وجدت فيه شروط الاجتهاد التي اتصف بها المجتهد المستقل، لكنه لم يبتكر قواعد لنفسه، بل سلك طريق إمام من أئمة المذاهب في الاجتهاد، فهو مطلق منتسب، لا مستقل، مثل تلامذة الأئمة السابق ذكرهم كأبي يوسف ومحمد وزفر من الحنفية، وابن القاسم وأشهب وأسد ابن الفرات من المالكية، والبويطي والمزني من الشافعية، وأبي بكر الأثرم، وأبي بكر المروذي من الحنابلة، وسمى ابن عابدين هذه الطبقة: (طبقة المجتهدين في ¬
- المجتهد المقيد،
المذهب): وهم القادرون على استخراج الأحكام من الأدلة على مقتضى القواعد التي قررها أستاذهم في الأحكام، وإن خالفوه في بعض أحكام الفروع، لكن يقلدونه في قواعد الأصول. - وهاتان المرتبتان قد فقدتا من زمان. 3ً - المجتهد المقيد، أو مجتهد المسائل التي لانص فيها عن صاحب المذهب أو مجتهد التخريج، كالخصاف والطحاوي والكرخي والحلواني والسرخسي والبزدوي وقاضي خان من الحنفية، والأبهري وابن أبي زيد القيرواني من المالكية، وأبي إسحاق الشيرازي والمروذي ومحمد بن جرير وأبي نصر وابن خزيمة من الشافعية، والقاضي أبي يعلى والقاضي أبي علي بن أبي موسى من الحنابلة. وهؤلاء يسمون أصحاب الوجوه؛ لأنهم يخرِّجون مالم ينص عليه على أقوال الإمام، ويسمى ذلك وجهاً في المذهب، أو قولاً فيه، فهي منسوبة للأصحاب، لا لإمام المذهب، وهذا مألوف في المذهبين الشافعي والحنبلي. 4ً - مجتهد الترجيح: وهو الذي يتمكن من ترجيح قول لإمام المذهب على قول آخر، أو الترجيح بين ماقاله الإمام وماقاله تلاميذه أو غيره من الأئمة، فشأنه تفضيل بعض الروايات على بعض، مثل القدوري والمرغيناني صاحب الهداية من الحنفية، والعلامة خليل من المالكية، والرافعي والنووي من الشافعية، والقاضي علاء الدين المرداوي منقح مذهب الحنابلة، وأبي الخطاب محفوظ بن أحمد الكلوذاني البغدادي (510هـ) المجتهد في مذهب الحنابلة. 5ً - مجتهد الفتيا: وهو أن يقوم بحفظ المذهب ونقله وفهمه في الواضحات والمشكلات، ويميز بين الأقوى والقوي والضعيف، والراجح والمرجوح، ولكن عنده ضعف في تقرير أدلته وتحرير أقيسته، كأصحاب المتون المعتبرة من المتأخرين،
- طبقة المقلدين
مثل صاحب الكنز، وصاحب الدر المختار، وصاحب الوقاية، وصاحب مجمع الأنهر من الحنفية، والرملي وابن حجر من الشافعية. 6ً - طبقة المقلدين: الذين لايقدرون على ماذكر من التمييز بين القوي وغيره، ولايفرقون بين الغث والسمين. - هذا ولم يفرق الجمهور بين المجتهد المقيد، ومجتهد التخريج، وجعل ابن عابدين طبقة مجتهد التخريج مرتبة رابعة بعد المجتهد المقيد، ومثل له بالرازي الجصاص (المتوفى سنة 370هـ) وأمثاله. - مراتب كتب الفقه الحنفي: رتب الحنفية كتب الفقه عندهم، ومسائل علمائهم على طبقات ثلاث (1): 1 - مسائل الأصول، وتسمى ظاهر الرواية: وهي مسائل مروية عن أصحاب المذهب، وهم أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد، ويلحق بهم زفر والحسن ابن زياد وغيرهما من تلاميذ الإمام، لكن الغالب الشائع في ظاهر الرواية أن يكون قول الثلاثة (الإمام وصاحبيه). - وكتب ظاهر الرواية للإمام محمد: هي الكتب الستة المعتمدة المروية عن محمد برواية الثقات، بالتواتر أو الشهرة، وهي المبسوط (2)، والزيادات، والجامع الصغير، والجامع الكبير، والسير الكبير، والسير الصغير. وسميت بظاهر الرواية؛ لأنها رويت عن محمد برواية الثقات. وقد جمعت هذه الكتب الستة في مختصر الكافي لأبي الفضل المروزي المعروف بالحاكم الشهيد، المتوفى عام-
2 - مسائل النوادر
2 - مسائل النوادر: وهي المروية عن أصحاب المذهب المذكورين، لافي الكتب المذكورة، بل إما في كتب أخر لمحمد، كالكيسانيات والهارونيات والجرجانيات، والرِّقيات، والمخارج في الحيل، وزيادة الزيادات رواية ابن رستم، وهي أمالي محمد في الفقه، ويقال لها: غير ظاهر الرواية؛ لأنها لم ترو عن محمد بروايات ظاهرة ثابتة صحيحة كالكتب الأولى. - وإما في كتب لغير محمد، كالمحرَّر للحسن بن زياد وغيره، وكتب الأمالي المروية عن أبي يوسف. - والأمالي جمع إملاء: وهو مايقوله العالم بما فتح الله تعالى عليه من ظهر قلبه، ويكتبه التلامذة، وكان ذلك عادة السلف. - وإما برواية مفردة كرواية ابن سماعة، والمعلى بن منصور وغيرهما في مسائل معينة. ------------------------------ (1) حاشية ابن عابدين: 64/ 1، رسم المفتي: ص 16 ومابعدها. (2) ويعرف بالأصل، وهو أطول وأهم كتب محمد. 344هـ، ثم شرحه السرخسي في كتاب المبسوط في ثلاثين جزءاً وهو كتاب معتمد في نقل المذهب. - 3 - الواقعات والفتاوى: وهي مسائل استنبطها المجتهدون المتأخرون لما سئلوا عنها، ولم يجدوا فيها رواية عن أهل المذهب المتقدمين، وهم أصحاب أبي يوسف ومحمد، وأصحاب أصحابهما، وهم كثيرون. - فمن أصحابهما مثل: عصام بن يوسف، وابن رستم، ومحمد بن سماعة، وأبي سليمان الجرجاني، وأبي حفص البخاري. - وأما من بعدهم فمثل: محمد بن سلمة، ومحمد بن مقاتل، ونصر بن يحيى، وأبي النصر القاسم بن سلام، وقد يخالفون أصل المذهب لدلائل ظهرت لهم.
المطلب الرابع ـ اصطلاحات الفقه والمؤلفين فيه
وأول كتاب جمع الفتاوى: كتاب النوازل للفقيه أبي الليث السمرقندي. ثم جمع المشايخ بعده كتباً أُخَر، كمجموع النوازل والواقعات للناطفي، والواقعات للصدر الشهيد ابن مسعود. - ثم ذكر المتأخرون هذه المسائل مختلطة غير متميزة، كما في فتاوى قاضيخان، والخلاصة وغيرهما. وميز بعضهم، كما في المحيط لرضا الدين السرخسي، فإنه ذكر أولاً مسائل الأصول، ثم النوادر، ثم الفتاوى. - وأشهر من امتاز بتدوين ورواية الفقه الحنفي بعد محمد وأبي يوسف هم: عيسى بن أبان (المتوفى سنة 220هـ)، ومحمد بن سماعة (المتوفى سنة 233هـ) وهلال بن يحيى الرأي البصري (المتوفى سنة 245هـ)، وأحمد بن عمر بن مهير الخصاف (المتوفى سنة 261هـ)، وأحمد بن محمد بن سلامة، أبو جعفر الطحاوي (المتوفى سنة 321هـ). - المطلب الرابع ـ اصطلاحات الفقه والمؤلفين فيه: - للفقهاء كغيرهم في مختلف العلوم اصطلاحات (¬1) معينة شائعة، تتردد في كثير من المناسبات الفقهية، كما أن هناك اصطلاحات في كتب المذاهب، تبين طريق الأخذ بالقول الراجح في المذهب، وهي المعروفة بـ: - رسم المفتي: أي العلامة التي تدل المفتي على مايفتي به، وللعلامة ابن عابدين رسالة باسم (رسم المفتي) وهي الرسالة الثانية من رسائله المشهورة. ¬
المصطلحات الفقهية العامة
أولاً ـ المصطلحات الفقهية العامة: - هناك مصطلحات فقهية أو أصولية عامة، هي الفرض، الواجب، المندوب، الحرام، المكروه تحريماً، المكروه تنزيهاً، المباح، وهي أنواع الحكم التكليفي (¬1) عند الأصوليين من الحنفية، ويلحق بالواجب: الأداء والقضاء والإعادة. والركن والشرط، والسبب، والمانع، والصحيح، والفاسد، والعزيمة، والرخصة، وهي أنواع الحكم الوضعي (¬2) عند الأصوليين. 1 - الفرض: هو ماطلب الشرع فعله طلباً جازماً بدليل قطعي لاشبهة فيه، كأركان الإسلام الخمسة التي ثبتت بالقرآن الكريم، والثابت بالسنة المتواترة أو المشهورة كقراءة القرآن في الصلاة، والثابت بالإجماع كحرمة بيع المطعومات الأربعة (القمح والشعير والتمر والملح) ببعضها نسيئة (¬3). وحكمه: لزوم الإتيان به، مع ثواب فاعله، وعقاب تاركه، ويكفر منكره. 2 - الواجب: ماطلب الشرع فعله جازماً، بدليل ظني فيه شبهة، كصدقة الفطر، وصلاة الوتر والعيدين، لثبوت إيجابه بدليل ظني، وهو خبر الواحد عن النبي صلّى الله عليه وسلم. وحكمه كالفرض، إلا أنه لايكفر منكره. - والفرض والواجب مترادفان بمعنى واحد عند الجمهور غير الحنفية: وهو ماطلب الشرع فعله طلباً جازماً. ¬
3 - المندوب أو السنة: هو ماطلب الشرع فعله من المكلف طلباً غير لازم، أو مايحمد فاعله، ولا يذم تاركه، مثل توثيق الدين بالكتابة (سند أو غيره)، وحكمه: أنه يثاب فاعله، ولا يعاقب تاركه، وقد يستحق اللوم والعتاب من الرسول صلّى الله عليه وسلم. - ويسمى المندوب عند غير الحنفية سنة ونافلة ومستحباً وتطوعاً ومرغباً فيه، وإحساناً وحسناً. وقسم الحنفية المندوب: إلى مندوب مؤكد، كصلاة الجماعة، ومندوب مشروع، كصيام يومي الاثنين والخميس، ومندوب زائد كالاقتداء بأكل الرسول وشربه ومشيه ونومه ولبسه ونحو ذلك. - واختار صاحب الدر المختار وابن عابدين رأي الجمهور، فقالا: لافرق بين المندوب والمستحب والنفل والتطوع، وتركه خلاف الأولى، وقد يلزم من تركه ثبوت الكراهة (¬1). 4 - الحرام: هو ماطلب الشرع تركه على وجه الحتم والإلزام. وقال الحنفية: هو ماثبت طلب تركه بدليل قطعي لاشبهة فيه، مثل تحريم القتل وشرب الخمر والزنا والسرقة. وحكمه: وجوب اجتنابه، وعقوبة فاعله. ويسمى الحرام أيضاً معصية، وذنباً، وقبيحاً، ومزجوراً عنه، ومتوعداً عليه أي من الشرع. ويكفر منكر الحرام. 5 - المكروه تحريماً: وهو عند الحنفية: ماطلب تركه على وجه الحتم والإلزام بدليل ظني، كأخبار الآحاد، كالبيع على بيع الغير، والخطبة على الخطبة، ولبس الحرير والذهب للرجال. وحكمه: الثواب على تركه، والعقاب على فعله. - ¬
6 - المكروه تنزيهاً: وهو عند الحنفية: ماطلب الشرع تركه، طلباً غير جازم، ولا مشعر بالعقوبة، كأكل لحوم الخيل، للحاجة إليها في الماضي في الجهاد، والوضوء من سؤر الهرة وسباع الطير كالصقر والغراب، وترك السنن المؤكدة عموماً. وحكمه: ثواب تاركه، ولوم فاعله دون عقاب. - والمكروه عند غير الحنفية نوع واحد: وهو ماطلب الشرع تركه لا على وجه الحتم والإلزام، وحكمه: أنه يمدح ويثاب تاركه، ولا يذم ولا يعاقب فاعله. 7 - المباح: هو ماخير الشرع المكلف بين فعله وتركه، كالأكل والشرب. والأصل في الأشياء الإباحة مالم يرد حظر أو تحريم. وحكمه: أنه لاثواب ولاعتاب على فعله أو تركه، إلا إذا أدى الترك إلى خطر الهلاك، فيجب الأكل مثلاً ويحرم الترك، حفاظاً على النفس. 8 - السبب عند جمهور الأصوليين: هو ما يوجد عنده الحكم، لا به، سواء أكان مناسباً للحكم، أم لم يكن مناسباً، مثال المناسب: الإسكار سبب لتحريم الخمر؛ لأنه يؤدي إلى ضياع العقول، والسفر سبب لجواز الفطر في رمضان؛ لأنه يودي إلي التيسير ودفع المشقة. ومثال غير المناسب أي بحسب إدراكنا: دلوك (زوال) الشمس سبب لوجوب الظهر، في قوله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} [الإسراء:78/ 17]، وعقولنا لا تدرك مناسبة ظاهرة بين السبب والحكم. 9 - الشرط والركن: الشرط: هو مايتوقف عليه وجود الشيء وكان
خارجاً عن حقيقته، فالوضوء شرط للصلاة خارج عنها، وحضور الشاهدين في عقد الزواج شرط له خارج عنه، وتعيين المبيع والثمن في عقد البيع شرط لصحته وليس جزءاً من العقد. - والركن عند الحنفية: هو مايتوقف عليه وجود الشيء، وكان جزءاً من حقيقته أو ماهيته، فالركوع ركن في الصلاة؛ لأنه جزء منها، وكذا القراءة في الصلاة ركن؛ لأنها جزء من حقيقة الصلاة، والإيجاب والقبول في العقد ركن؛ لأنه جزء يتكون به العقد. والركن عند الجمهور: مايتوقف عليه أساساً وجود الشيء، وإن كان خارجاً عن ماهيته. 10 - المانع: مايلزم من وجوده عدم الحكم، أو بطلان السبب. مثال الأول: الدَّين في باب الزكاة مانع من وجوبها عند الحنفية، ومثال الثاني: الأبوة مانع من القصاص. 11 - الصحة والفساد والبطلان: - الصحة: موافقة أمر الشرع، والصحيح: هو ما استوفى أركانه وشروطه الشرعية. وصحة العبادة عند الفقهاء: وقوعها مسقطة لطلب الشرع، على وجه يسقط القضاء. وصحةالمعاملات: ترتيب آثارها الشرعية عليها، فالمراد من صحة العقد هو ترتيب أثره عليه، وهو ماشرع له، كحل الانتفاع في البيع، والاستمتاع في الزواج. - والعبادات باتفاق العلماء: إما صحيحة، أو غير صحيحة، وغير الصحيح منها لافرق فيه بين الباطل والفاسد، فالقسمة ثنائية. - أما المعاملات المدنية: فلا فرق فيها أيضاً عند غير الحنفية بين الفاسد
والباطل، وعند الحنفية تكون القسمة ثلاثية؛ لأن العقد غير الصحيح إما باطل أو فاسد. - وغير الصحيح: هو مالم يستوف أركانه وشروطه المطلوبة شرعاً. - والباطل عند الحنفية: هو الذي يشتمل على خلل في أصل العقد أي في أساسه، ركنا ً كان أو غيره، أي في صيغة العقد، أو العاقدين، والمعقود عليه. ولايترتب عليه أي أثر شرعي، كأن يصدر البيع من مجنون أو صبي غير مميز (دون السابعة). - والفاسد عند الحنفية: هو ماكان الخلل فيه في وصف من أوصاف العقد، بأن كان في شرط من شروطه، لافي ماهيته أو ركنه. ويترتب عليه في المعاملات بعض الآثار، إذا توافر ركنه وعناصره الأساسية، مثل البيع بثمن مجهول، أو المقترن بشرط فاسد كانتفاع البائع بالمبيع بعد البيع مدة معلومة، والزواج بغير شهود. فيثبت الملك خبيثاً في البيع الفاسد إذا قبض المبيع، ويجب المهر، والعدة بعد الفراق، ويثبت النسب بالدخول في الزواج الفاسد. - وبه يظهر أن البطلان: هو مخالفة أمر الشرع المؤدية إلى عدم ترتب الآثار الشرعية المقصودة عادة من العبادة أو المعاملة. وهو في المعاملات: مخالفة التصرف لنظامه الشرعي في ناحية جوهرية. والناحية الجوهرية: هي الأساسية. - والفساد: هو اختلال في العقد المخالف لنظامه الشرعي في ناحية فرعية متممة يجعله مستحقاً للفسخ. وهو يجعل العقد في مرتبة متوسطة بين الصحة والبطلان، فلا هوبالباطل غير المنعقد لتوافر الناحية الجوهرية أو الأساسية المطلوبة شرعاً فيه، ولاهو بالصحيح التام الاعتبار، لوجود خلل في ناحية فرعية فقط غير
جوهرية. وأسباب الفساد أربعة هي: الجهالة، والغرر (الاحتمال)، والإكراه (¬1)، والشرط الممنوع المفسد. 12 - الأداء والقضاء والإعادة: - هذه الأمور تبحث عادة مع الواجب الموسع: وهو الذي يتسع وقته له ولغيره من جنسه، كأوقات الصلوات المفروضة، فإن كل وقت يسع الفريضة صاحبة الوقت، وأداء صلاة أخرى. - والأداء: هو فعل الواجب في الوقت المقدر له شرعاً. - والإعادة: فعل الواجب ثانياً في الوقت، كإعادة الصلاة مع الجماعة. - والقضاء: فعل الواجب بعد انتهاء الوقت. وقضاء الصلاة المفروضة أمر واجب، لما رواه أنس في الصحيحين أن الرسول صلّى الله عليه وسلم قال: «من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك» ويقاس على الناسي والنائم من باب أولى: تارك الصلاة كسلاً، أو عمداً بغير عذر مشروع؛ لاستقرار وجوب الصلاة ديناً في الذمة، ولاتبرأ الذمة إلا بفعل الواجب. - ثانياً ـ المصطلحات الخاصة بالمذاهب: - هناك مصطلحات مكررة في كل مذهب، دعا إليها إيثار الاختصار، وملل التكرار، وضرورة معرفة المعتمد الراجح من بين الأقوال وهي مايلي: ¬
مصطلحات المذهب الحنفي
مصطلحات المذهب الحنفي: أـ ظاهر الرواية: يراد به في الغالب الشائع ـ كما عرفنا ـ القول الراجح لأئمة الحنفية الثلاثة (أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد). ب ـ الإمام: هو أبو حنيفة، والشيخان: هما أبو حنيفة وأبو يوسف، والطرفان: هما أبو حنيفة ومحمد، والصاحبان: هما أبو يوسف ومحمد. والثاني: هو أبو يوسف. والثالث: هو محمد، ولفظ (له) أي لأبي حنيفة، ولفظ (لهما) أو (عندهما) أو (مذهبهما) أي مذهب الصاحبين، وإذا قالوا: أصحابنا، فالمشهور إطلاق ذلك على الأئمة الثلاثة: أبي حنيفة وصاحبيه، وأما المشايخ: فالمراد بهم في الاصطلاح: من لم يدرك الإمام. جـ ـ يفتي قطعاً بم ااتفق عليه أبو حنيفة وأصحابه في الروايات الظاهرة، فإن اختلفوا: فإنه يفتى بقول الإمام أبي حنيفة على الإطلاق، وخصوصاً في العبادات، ولا يرجح قول صاحبيه أو أحدهما إلا لموجب: وهو ـ كما قال ابن نجيم ـ إما ضعف دليل الإمام، وإما للضرورة والتعامل، كترجيح قولهما في المزارعة والمساقاة (المعاملة) وإما بسبب اختلاف العصر والزمان. ويفتى بقول أبي يوسف في القضاء والشهادات والمواريث، لزيادة تجربته. كما يفتى بقول محمد في جميع مسائل ذوي الأرحام، ويفتى بقول زفر في سبع عشرة مسألة (¬1). د ـ إذا لم يوجد رواية للإمام في المسألة: يفتى بقول أبي يوسف، ثم بقول محمد، ثم بقول زفر، والحسن بن زياد. ¬
هـ ـ إذا كان في مسألة قياس واستحسان، فالعمل على الاستحسان إلا في مسائل معدودة مشهورة، هي اثنتان وعشرون مسألة (¬1). وإذا لم تذكر المسألة في ظاهر الرواية، وثبتت في رواية أخرى، تعين المصير إليها. وإذا اختلفت الروايات عن الإمام، أو لم يوجد عنه ولا عن أصحابه رواية أصلاً، يؤخذ في الحالة الأولى بأقواها حجة، ويؤخذ في الحالة الثانية بما اتفق عليه المشايخ المتأخرون، فإن اختلفوا يؤخذ بقول الأكثرين، فإن لم يوجد منهم قول أصلاً، نظر المفتي في المسألة نظرة تأمل وتدبر واجتهاد، ليجد فيها مايقرب من الخروج عن العهدة، ولايتكلم فيها جزافاً، ويخشى الله تعالى ويراقبه، لأن الجرأة على الفتيا بدون دليل أمر عظيم لايتجاسر عليه إلا كل جاهل شقي. وـ إذا تعارض التصحيح والفتوى، فقيل: الصحيح كذا، والمفتى به كذا، فالأولى العمل بما وافق المتون، فإن لم توجد موافقة لها، فيؤخذ بالمفتى به؛ لأن لفظ الفتوى آكد (أقوى) من لفظ الصحيح والأصح والأشبه وغيرها. وإذا ورد في المسألة قولان مصححان جاز القضاء والإفتاء بأحدهما. ويرجح أحدهما بما هو أوفق للزمن أو العرف أو أنفع للوقف أو للفقراء، أو كان دليله أوضح وأظهر؛ لأن الترجيح بقوة الدليل. ولفظ: (به يفتى) آكد من لفظ «الفتوى عليه»؛ لأن الأول يفيد الحصر. ولفظ (الأصح) آكد من (الصحيح) و (الأحوط) آكد من (الاحتياط). ز ـ المراد بكلمة «المتون»: أي متون الحنفية المعتبرة، مثل كتاب مختصر ¬
القدوري، والبداية، والنقاية، والمختار، والوقاية، والكنز، والملتقى فإنها وضعت لنقل ظاهر الرواية والأقوال المعتمدة. ح ـ لايجوز العمل بالضعيف من الرواية، ولو في حق نفسه، بدون فرق بين المفتي والقاضي، إلا أن المفتي مخبر عن الحكم الشرعي، والقاضي ملزم به. وصح عن أبي حنيفة أنه قال: «إذا صح الحديث فهو مذهبي»، ونقل مثل ذلك غيره من أئمة المذاهب (¬1). لكن يجوز الإفتاء بالقول الضعيف للضرورة تيسيراً على الناس. ط ـ الحكم الملفق عند الحنفية باطل، كما أن الرجوع عن التقليد بعد العمل باطل، على ماهو المختار في المذهب، فمن صلى ظهراً بمسح الرأس مقلداً للحنفي، فليس له إبطال صلاته باعتقاده لزوم مسح كل الرأس مقلداً للمالكي. وأجاز بعض الحنفية التقليد بعد العمل، كما إذا صلى ظاناً صحة صلاته على مذهبه، ثم تبين بطلانها في مذهبه، وصحتها على مذهب غيره فله تقليده، ويجتزئ بتلك الصلاة، على ماقال في الفتاوى البزازية: روي عن أبي يوسف أنه صلى الجمعة مغتسلاً من الحمام، ثم أخبر بفأرة ميتة في بئر الحمام، فقال: نأخذ بقول إخواننا من أهل المدينة: «إذا بلغ الماء قُلَّتين (270 ليتراً أو 15 تنكة)، لم يحمل خبثاً». ي ـ أجاز بعض الحنفية: أن المقلد إذا قضى بمذهب غيره، أو برواية ضعيفة، أو بقول ضعيف، نفذ، وليس لغيره نقضه. ك ـ تعتبر حاشية ابن عابدين (1252هـ) علامة الشام وهي (رد المحتار على الدر المختار) خاتمة التحقيقات والترجيحات في المذهب الحنفي. ¬
مصطلحات المذهب المالكي
مصطلحات المذهب المالكي: المذهب المالكي كغيره من المذاهب يتميز بكثرة الأقوال، مراعاة لمصالح الناس وأعرافهم المختلفة. والمفتي يفتي بالراجح الذي يكون صالحاً في موضوع المسألة. وغير المفتي الذي لم يستكمل شروط الاجتهاد يأخذ بالمتفق عليه، أو المشهور من المذهب، أو ما رجحه الأقدمون، فإن لم يعرف أرجحية قول، قيل كما ذكر الشيخ عليش (1299هـ): إنه يأخذ بالقول الأشد؛ لأنه أحوط، وقيل: يختار أخف الأقوال وأيسرها، لأن ذلك أليق بالشرع الإسلامي؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم جاء بالحنيفية السمحة، وقيل: إنه يتخير، فيأخذ بأيها شاء؛ لأنه لاتكليف إلا بما يطاق (¬1). أـ رتب بعض المالكية الترجيح بين روايات الكتب، والروايات عن المشايخ، فقال: قول مالك في المدونة أولى من قول ابن القاسم فيها، فإنه الإمام الأعظم، وقول ابن القاسم فيها أولى من قول غيره فيها، لأنه أعلم بمذهب مالك، وقول غيره فيها أولى من قول ابن القاسم في غيرها، وذلك لصحتها. وإذا لم يذكر قول في المدونة، فإنه يرجع إلى أقوال المخرجين. ب ـ إذا قيل: (المذهب) يراد به مذهب مالك، وإذا قيل: (المشهور) فيعني مشهور مذهب مالك، وفي ذلك إشعار بخلاف في المذهب. والمعتمد أن المراد (بالمشهور): ماكثر قائله. جـ ـ إذا قيل: «قيل كذا» أو «اختلف في كذا» أو «في كذا قولان فأكثر» أي أن هناك اختلافاً في المذهب. ¬
مصطلحات المذهب الشافعي
د ـ إذا ذكر (روايتان) أي عن مالك. وقد جرى مؤلفو الكتب عند المالكية على أن الفتوى تكون بالقول المشهور، أو الراجح من المذهب. وأما القول الشاذ والمرجوح أي الضعيف فلا يفتى بهما، ولا يجوز العمل به في خاصة النفس، بل يقدم العمل بقول الغير عليه؛ لأن قول الغير، قوي في مذهبه (¬1). هـ ـ في التلفيق في العبادة الواحدة من مذهبين طريقتان: المنع: وهو طريقة المصريين، والجواز: وهو طريق المغاربة، ورجحت، وقال الدسوقي قائلاً عن مشايخه: إن الصحيح جوازه، وهو فسحة (¬2). وـ يعتبر متن العلامة الشيخ خليل (767هـ) ومدرسته من الشراح الكثيرين الذين شرحوه هو المعتمد عند المالكية، في تحرير الأقوال والروايات، وبيان الراجح منها (¬3). مصطلحات المذهب الشافعي: نقل عن الشافعي في بضع عشرة مسألة قولان فأكثر، كما في خيار الرؤية الذي ذكر فيه قول بجوازه وقول بمنعه رجع فيه عن الأول، وكما في وجوب الزكاة على المدين بدين مساو لما في يده، وكما في إقرار المفلس بدين له لآخر، هل يدخل المقر له مع الغرماء أم لا، وكما في تغرير الزوج بزوجته، بأن يذكر لها نسباً غير نسبه، هل لها الخيار بفسخ الزواج، أو أن الزواج باطل، ونحو ذلك، مما جعل بعض المغرضين يتخذون من تعدد أقوال الشافعي سبيلاً للنيل منه، والطعن في اجتهاده، وزعم نقص علمه. والحق أن التردد بين القولين عند تعارض الأقيسة، ¬
وتصادم الأدلة، ليس دليل النقص، ولكنه دليل الكمال في العقل، فهو لايهجم باليقين في مقام الظن، ودليل على كمال الإخلاص في طلب الحق والقصد، فهو لايجزم بالحكم إلا إذا توافرت لديه أسباب الترجيح، وإن لم تتوافر الأسباب لذلك، ألقى بتردده (¬1). وعلى المفتي إذا وجد قولين للشافعي أن يختار مارجحه المخرجون السابقون (¬2)، وإلا توقف كما يقول النووي. وإذا كانت المسألة ذات أوجه للمجتهدين من أصحاب الشافعي أو طرق نقل مختلفة، فيأخذ المفتي بما رجحه المجتهدون السابقون: وهو ماصححه الأكثر، ثم الأعلم، ثم الأورع، فإن لم يجد ترجيحاً، يقدم مارواه البويطي والربيع المرادي والمزني عن الشافعي (¬3) ويعتبر الشيخ أبو زكريا، يحيى بن شرف النووي (676هـ) بحق مُحرِّر المذهب الشافعي أي منقحه، ومبين الراجح من الأقوال فيه، وذلك في كتابه (منهاج الطالبين، وعمدة المفتين)، وهو المعتمد لدى الشافعية، حتى بالنسبة لبعض كتب النووي الأخرى كالروضة، وقد اعتمد في تأليفه على مختصر (المحرّر) للإمام أبي القاسم الرافعي (المتوفى سنة 623هـ)، ثم اختصر الشيخ زكريا الأنصاري المنهاج إلى المنهج. والفتوى على ماقاله النووي في المنهاج وما ذكره الشارح في نهاية المحتاج للرملي، وتحفة المحتاج لا بن حجر، ثم ماذكره الشيخ زكريا. وهذه طريقة النووي في حكاية الأقوال وبيان الأوجه المخرجة للأصحاب، وكيفية الترجيح بينها، علماً بأنه يسمي آراء الشافعي أقوالاً، وآراء أصحابه ¬
أوجهاً، واختلاف رواة المذهب في حكاية مذهب الشافعي طرقاً، فالاختلافات ثلاثة: الأقوال: وهي المنسوبة للشافعي، والأوجه: وهي الآراء التي يستنبطها فقهاء الشافعية بناء على قواعده وأصوله، والطرق: وهي اختلاف الرواة في حكاية المذهب (¬1). أـ (الأظهر): أي من قولين أو أقوال للشافعي رحمه الله تعالى، قوي الخلاف فيهما أو فيها، ومقابله (ظاهر) لقوة مدرك كلٍ (¬2). ب ـ (المشهور): أي من قولين أو أقوال للشافعي لم يقو الخلاف فيهما أو فيها، ومقابله (غريب) لضعف مدركه. فكل من الأظهر والمشهور: من قولين للشافعي. جـ ـ (الأصح): أي من وجهين أو أوجه استخرجها الأصحاب من كلام الشافعي، بناء على أصوله، أو استنبطوهامن قواعده، وقد قوي الخلاف فيما ذكر، ومقابله صحيح. د ـ (الصحيح): أي من وجهين أو أوجه، ولكن لم يقو الخلاف بين الأصحاب، ومقابله ضعيف لفساد مدركه. فكل من الأصح والصحيح: من وجهين أو أوجه للأصحاب. هـ ـ (المذهب) من الطريقتين أو الطرق: وهي اختلاف الأصحاب في حكاية المذهب، كأن يحكي بعضهم في المسألة قولين، أو وجهين لمن تقدم، ويقطع ¬
بعضهم بأحدهما، وعلى كل قد يكون قول القطع هو الراجح، وقد يكون غيره. ومدلول هذا التعبير (المذهب): أن المفتى به هو ماعبر عنه بالمذهب. وـ (النص) أي نص الشافعي، ومقابله وجه ضعيف أو مخرَّج (¬1)، وعلى كل قد يكون الإفتاء بغير النص. ز ـ (الجديد): هو مقابل المذهب القديم، والجديد: هو ماقاله الشافعي في مصر تصنيفاً أو إفتاء، ورواته: البويطي والمزني والربيع المرادي وحرملة ويونس بن عبد الأعلى، وعبد الله بن الزبير المكي، ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم وغيرهم. والثلاثة الأول: هم الذين قاموا بالعبء، والباقون نقلت عنهم أمور محصورة. ح ـ (القديم): ماقاله الشافعي في العراق تصنيفاً في كتابه (الحجة) أو أفتى به. ورواته جماعة أشهرهم: الإمام أحمد بن حنبل، والزعفراني والكرابيسي، وأبو ثور. وقد رجع الشافعي عنه، ولم يحل الشافعي الإفتاء به، وأفتى الأصحاب به في نحو سبع عشرة مسألة. وأما ماوجد بين مصر والعراق، فالمتأخر جديد، والمتقدم قديم. وإذا كان في المسألة: قديم وجديد، فالجديد هو المعمول به، إلا في مسائل يسيرة نحو السبع عشرة، أفتي فيها بالقديم (¬2). ¬
مصطلحات المذهب الحنبلي
ط ـ (قولا الجديد): يعمل بآخرهما إن علم، فإن لم يعلم، وعمل الشافعي بأحدهما، كان إبطالاً للآخر أو ترجيحاً لما عمل به. وكلمة (قيل) تعني وجود وجه ضعيف، والصحيح أو الأصح خلافه. و (الشيخان) هما الرافعي والنووي. ي ـ قال ابن حجر: ولايجوز العمل بالضعيف في المذهب، ويمتنع التلفيق في مسألة، كأن قلد مالكاً في طهارة الكلب، والشافعي في مسح بعض الرأس في صلاة واحدة، وأما في مسألة بتمامها بجميع معتبراتها فيجوز، ولو بعد العمل، كأن أدى عبادته صحيحة عند بعض الأربعة دون غيره، فله تقليده فيها، حتى لايلزمه قضاؤها، ويجوز الانتقال من مذهب لغيره، ولو بعد العمل (¬1). مصطلحات المذهب الحنبلي: كثرت الأقوال والروايات في مذهب أحمد كثرة عظيمة، إما بسبب اطلاعه على الحديث بعد الإفتاء بالرأي، أو بسبب اختلاف الصحابة على رأيين في المسألة، أو لمراعاته الظروف والملابسات في الوقائع المستفتى فيها. وقد اختلف علماء المذهب في طرق الترجيح بين الأقوال والروايات على فريقين: أحدهما ـ الاهتمام بنقل الأقوال، لأن ذلك دليل كمال في الدين. والثاني ـ الميل إلى توحيد رأي الإمام، بالترجيح بالتاريخ إن علم تاريخ القولين، أو بالموازنة بين القولين، والأخذ بأقواهما دليلاً، وأقربهما إلى منطق ¬
الإمام وقواعد مذهبه، فإن تعذر الترجيح كان في المذهب قولان، عند الاضطرار إليه، ويخير المقلد بينهما في الأظهر، لأن الأصل في المجتهد أن يكون له رأي واحد في اجتهاده، وإن لم يكن له رأي واحد في المسألة، لا يكون له اجتهاد فيها (¬1). والقول الواحد الذي يذكره المؤلفون: هو ما رجحه أهل الترجيح من أئمة المذهب، كالقاضي علاء الدين، علي بن سليمان السعدي المرداوي، المجتهد في تصحيح المذهب، في كتبه الإنصاف، وتصحيح الفروع، والتنقيح (¬2). أـ إذا أطلقت كلمة (الشيخ) أو (شيخ الإسلام) عند المتأخرين من علماء الحنابلة: فيراد به أبو العباس، أحمد تقي الدين بن تيمية الحراني (661 - 728هـ) الذي كان له في رسائله وفتاويه واختياراته فضل في نشر مذهب أحمد، كما كان لتلميذه ابن القيم صاحب إعلام الموقعين (المتوفى عام 751) فضل أيضاً في ذلك. ب ـ إذا أطلق المتأخرون قبل ابن تيمية كصاحب الفروع والفائق والاختيارات وغيرهم: (الشيخ) أرادوا به الشيخ العلامة موفق الدين أبا محمد عبد الله بن قدامة المقدسي (المتوفى سنة 620هـ) صاحب المغني والمقنع، والكافي والعمدة ومختصر الهداية في الفقه. جـ ـ وإذا قيل (الشيخان): فالموفق والمجد أي ابن قدامة الآنف الذكر، ومجد الدين أبو البركات (المتوفى سنة 652هـ) صاحب (المحرر في الفقه) على مذهب الإمام أحمد. ¬
المطلب الخامس ـ أسباب اختلاف الفقهاء
د ـ وإذا قيل: (الشارح) فهو الشيخ شمس الدين، أبو الفرج، عبد الرحمن ابن الشيخ أبي عمر المقدسي (682هـ)، وهو ابن أخ الموفق وتلميذه، ومتى قال الحنابلة: قال في الشرح، كان المراد به هذا الكتاب، وقد استمد من المغني، واسمه: الشرح الكبير، أو (الشافي) شرح (المقنع) في عشر مجلدات أو (12) جزءاً، والكتب المعتمدة عند الحنابلة هي: المغني والشرح الكبير، وكشاف القناع لمنصور البُهُوتي، وشرح منتهى الإرادات للبُهُوتي. والعمل في الفتوى والقضاء في السعودية على كتابي البهوتي، وعلى شرح الزاد وشرح الدليل. هـ ـ إذا أطلق (القاضي) فالمراد به القاضي أبو يعلى محمد بن الحسين بن الفراء (المتوفى سنة 458هـ). وإذا أطلق (أبو بكر) يراد به المرُّوذي (274هـ) تلميذ الإمام أحمد. وـ وإذا قيل: (وعنه) أي عن الإمام أحمد رحمه الله. وقولهم: (نصاً) معناه نسبته إلى الإمام أحمد. وأخيراً أريد في هذا الكتاب بكلمة الجمهور: المذاهب الثلاثة، في مواجهة المذهب الرابع، ويعرف من هم الجمهور من تحديد المذهب المخالف المقابل لهم. وإذا قلت: اتفق الفقهاء، أردت أئمة المذاهب الأربعة دون التفات للآراء الشاذة. المطلب الخامس ـ أسباب اختلاف الفقهاء: لاحظنا فيما سبق ظاهرة اختلاف المذاهب في تقرير الأحكام الشرعية، ليس فيما بين المذاهب فقط، وإنما في دائرة المذهب الواحد، وقد يستغرب الشخص العادي غير المتخصص في الدراسات الفقهية مثل هذا الاختلاف، لاعتقاده أن
الدين واحد، والشرع واحد، والحق واحد لايتعدد، والمصدر واحد وهو الوحي الإلهي، فلماذا التعدد في الأقوال، ولم لايوحد بين المذاهب، فيؤخذ بقول واحد يسير عليه المسلمون، باعتبارهم أمة واحدة؟! وقد يتوهم أن اختلاف المذاهب اختلاف يؤدي إلى تناقض في الشرع، أو المصدر التشريعي، أو أنه اختلاف في العقيدة كاختلاف فرق غير المسلمين من أرثوذكس وكاثوليك وبروتستانت، والعياذ بالله!! وهذا كله وهم باطل، فإن اختلاف المذاهب الإسلامية رحمة ويسر بالأمة، وثروة تشريعية كبرى محل اعتزاز وفخار، واختلاف في مجرد الفروع والاجتهادات العملية المدنية الفقهية، لافي الأصول والمبادئ أو الاعتقاد، ولم نسمع في تاريخ الإسلام أن اختلاف المذاهب الفقهية أدى إلى نزاع أو صدام مسلح هدد وحدة المسلمين، أو ثبط همتهم في لقاء أعدائهم؛ لأنه اختلاف جزئي لايضر، أما الاختلاف في العقيدة فهو الذي يعيبها ويفرق بين أبنائها، ويمزق شملها، ويضعف كيانها، لهذا فإن العودة إلى العمل بالفقه الإسلامي، والاعتماد على تقنين موحد مستمد منه سبيل لتدعيم وحدة الأمة الإسلامية ونبذ خلافاتها. وبه يتبين أن اختلاف الفقهاء محصور فقط بين المأخوذ من مصادر الشريعة، بل هو ضرورة اجتهادية يمليها الاجتهاد نفسه في فهم الحكم من الأدلة الشرعية مباشرة، كما هو الشأن في تفسير نصوص القوانين، واختلاف الشراح فيما بينهم، وذلك إما بسبب طبيعة اللغة العربية المجملة أو المحتملة ألفاظها أحياناً أكثر من معنى واحد محدد، وإما بسبب رواية الحديث وطريق وصوله إلى المجتهد قوة وضعفاً، وإما بسبب التفاوت بين المجتهدين في كثرة أو قلة الاعتماد على مصدر تشريعي، أو لمراعاة المصالح والحاجات والأعراف المتجددة المتطورة.
ومنبع الاختلاف: هو تفاوت الأفكار والعقول البشرية في فهم النصوص واستنباط الأحكام، وإدراك أسرار التشريع وعلل الأحكام الشرعية. وذلك كله لاينافي وحدة المصدر التشريعي، وعدم وجود تناقض في الشرع نفسه، لأن الشرع لاتناقض فيه، وإنما الاختلاف بسبب عجز الإنسان، لكن يجوز العمل بأحد الآراء المختلفة، رفعاً للحرج عن الناس الذين لايجدون سبيلاً آخر بعد انقطاع الوحي إلا الأخذ بما غلب على ظن هذا المجتهد أو ذاك، مما فهمه من الأدلة الظنية، والظن مثار اختلاف الأفهام، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد» (¬1). أما الأدلة القطعية التي تدل على الحكم يقيناً وقطعاً بسبب قطعية ثبوتها وقطعيةدلالتها المستنبطة منها، كالقرآن والسنة المتواترة أو المشهورة (¬2)، فلا مجال أصلاً لاختلاف الفقهاء في الأحكام المستفادة منها. وأهم أسباب اختلاف الفقهاء في استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة الظنية هو مايأتي (¬3): ¬
أولا ـ اختلاف معاني الألفاظ العربية
أولاً ـ اختلاف معاني الألفاظ العربية: إما بسبب كون اللفظ مجملاً، أو مشتركاً، أو متردداً بين العموم والخصوص، أو بين الحقيقة والمجاز، أو بين الحقيقة والعرف، أو بسبب إطلاق اللفظ تارة وتقييده تارة. أو بسبب اختلاف الإعراب، أو الاشتراك في الألفاظ إما في اللفظ المفرد: كلفظ القُرْء الذي يطلق على الأطهار وعلى الحيضات، ولفظ الأمر: هل يحمل على الوجوب أو على الندب، ولفظ النهي: هل يحمل على التحريم أو الكراهية؟ وإما في اللفظ المركب: مثل قوله تعالى بعد آية حد القذف: {إليه يصعد الكلم الطيب، والعمل الصالح يرفعه} [فاطر:10/ 35]، اختلف في الفاعل، هل هو الكلم، أو العمل. وإما في الأحوال العارضة، نحو: {ولا يضارَّ كاتب ولا شهيد} [البقرة:2/ 282]، فإنه يحتمل لفظ (يضار) وقوع الضرر منهما أو عليهما. ومثال التردد بين العموم والخصوص: {لا إكراه في الدين} [البقرة:2/ 256]، هل هو خبر بمعنى النهي، أو هو خبر حقيقي؟. والمجاز له أنواع: إما الحذف، وإما الزيادة، وإما التقديم وإما التأخير. والتردد بين الإطلاق والتقييد: نحو إطلاق كلمة الرقبة في العتق في كفارة اليمين، وتقييدها بالإيمان في كفارة القتل الخطأ. ثانياً - اختلاف الرواية: وله أسباب ثمانية، كأن يصل الحديث إلى أحدهم ولايصل إلى غيره، أو يصل من طريق ضعيف لايحتج به، ويصل إلى آخر من
ثالثا ـ اختلاف المصادر
طريق صحيح، أو يصل من طريق واحد، ويرى أحدهم أن في بعض رواته ضعفاً لايعتقده غيره، أو لايراه مانعاً من قبول الرواية، وهذا مبني على الاختلاف في طريق التعديل والترجيح. أو يصل إليهما من طريق متفق عليه، غير أن أحدهما يشترط في العمل به شروطاً لا يشترطها الآخر، كالحديث المرسل (وهو مارواه غير الصحابي بدون سند إلى الرسول صلّى الله عليه وسلم). ثالثاً ـ اختلاف المصادر: وهناك أدلة اختلفوا في مدى الاعتماد عليها، كالاستحسان والمصالح المرسلة وقول الصحابي والاستصحاب، والذرائع ونحوها من دعوى البراءة أو الإباحة وعدمها. رابعاً ـ اختلاف القواعد الأصولية أحياناً: كقاعدة العام المخصوص ليس بحجة، والمفهوم ليس بحجة، والزيادة على النص القرآني نسخ أم لا، ونحو ذلك. خامساً ـ الاجتهاد بالقياس: هو أوسع الأسباب اختلافاً، فإن له أصلاً وشروطاً وعلة، وللعلة شروطاً ومسالك، وفي كل ذلك مجال للاختلاف، والاتفاق بالذات على أصل القياس ومايجري فيه الاجتهاد ومالايجري أمر يكاد يكون غير متحقق. كما أن تحقيق المناط (وهو التحقق من وجود العلة في الفرع) من أهم أسباب اختلاف الفقهاء. سادساً ـ التعارض والترجيح بين الأدلة: وهو باب واسع اختلفت فيه الأنظار وكثر فيه الجدل. وهويتناول دعوى التأويل والتعليل والجمع والتوفيق والنسخ وعدمه. والتعارض إما بين النصوص أو بين الأقيسة مع بعضها، والتعارض في
السنة قد يكون في الأقوال أو في الأفعال، أو في الإقرارات، وقد يكون الاختلاف بسبب وصف تصرف الرسول سياسة أو إفتاء، ويزال التعارض بأسباب من أهمها الاحتكام إلى مقاصد الشريعة، وإن اختلفت النظرة إلى ترتيب المقاصد. وبهذا يعلم أن اجتهادات أئمة المذاهب جزاهم الله خيراً لايمكن أن تمثل كلها (شرع الله المنزل على رسوله صلّى الله عليه وسلموإن كان يجوز أو يجب العمل بأحدها، والحق أن أكثرها مسائل اجتهادية وآراء ظنية تحترم وتقدر على السواء، ولايصح أن تكون ذريعة للعصبية والعداوة والفرقة الممقوتة بين المسلمين الموصوفين في قرآنهم بأنهم إخوة، والمأمورين بالاتفاق والاعتصام بحبل الله. وقد كان المجتهد من الصحابة يتحاشى أن يسمى اجتهاده: حكم الله أو شرع الله، وإنما كان يقول: هذا رأيي، فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريء. وكان مما يوصي به النبي صلّى الله عليه وسلم أمير الجيش أو السرية قوله: «وإذا حاصرت حصناً فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلاتنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لاتدري، أتصيب حكم الله فيهم أم لا» (¬1). وهو يدل على أن الأصح في قضية الإصابة والخطأ في الاجتهاد في الفروع الفقهية، هو مذهب المخطئة، وهم جمهور المسلمين، منهم الشافعية، والحنفية على التحقيق، الذين يقولون بأن المصيب في اجتهاده واحد من المجتهدين، وغيره مخطئ؛ لأن الحق لايتعدد. ويقولون أيضاً: إن الله تعالى في كل واقعة حكماً معيناً، فمن أصابه فهو المصيب، ومن أخطأه فهو المخطئ. لكن بالنظر إلى العمل بثمرة الاجتهاد، لاشك أن حكم كل مجتهد هو حكم الله، لتعذر معرفته بيقين. وأخيراً تظل عقدة المسلمين الجاثمة فيهم في عصرنا هي العمل، العمل ¬
المطلب السادس ـ الضوابط الشرعية للأخذ بأيسر المذاهب
بشريعتهم عقيدة وعبادة والتزاماً وتطبيقاً لأحكام الإسلام في العبادات والمعاملات والجنايات والعلاقات الخارجية على حد سواء. المطلب السادس ـ الضوابط الشرعية للأخذ بأيسر المذاهب: تمهيد: إن عملية (التخير أو الانتقاء من آراء المذاهب الإسلامية) كانت هي الضوء الأخضر الذي أضاء الطريق أمام العاملين في العصر الحاضر لإنهاض الفكر الإسلامي، والقائمين فعلاً بوضع التشريعات أو التقنينات المستمدة من معين الفقه الإسلامي، تمشياً مع متطلبات التطور، وضغط الحاجات، ومراعاة مصالح الناس في كل زمان ومكان. وقد استجاب المصلحون المخلصون من العلماء ـ غير المتشائمين والمتزمتين ـ من رجال الأزهر وجامعة الزيتونة في مصر وتونس وغيرهما من البلاد الإسلامية، إلى دواعي النهضة أوالحركة المطلوبة، فقاموا باختيار الحق أو الأفضل والأصلح من الآراء الفقهية المتعددة في المسألة الواحدة، لجعل (الفقه المختار) يتفق مع المصلحة العامة في هذا العصر، ذلك عملاً بالمبادئ أو الأسس التالية: 1 - الحق واحد لايتعدد، ودين الله واحد مستمد من معين واحد: هو الكتاب والسنة وعمل السلف الصالح، وبما أننا لانعرف الحق من آراء المجتهدين فنحن في حل من العمل ببعضها بحسب تقدير المصلحة. 2 - الإخلاص للشريعة والحفاظ على أحكامها وخلودها وبقائها عقيدة كل مسلم.
3 - مبدأ دفع الحرج أو خاصية اليسر والسماحة التي قامت عليها الشريعة من أبرز مقومات شرع الله الخالد. 4 - مراعاة مصالح الناس وحاجاتهم المتجددة أمر يتفق مع روح الشريعة التي قامت ـ بالاستقراء والتتبع ـ على المصالح، فالمصلحة عماد التشريع، وحيثما وجدت المصلحة فثمة شرع الله ودينه، ولاينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان. 5 - لا إلزام في الشريعة بأحد اجتهادات أو أقوال الفقهاء، إذ لاواجب إلا ما أوجبه الله ورسوله، ولم يوجب الله ولا رسوله على أحد من الناس أن يعمل في دين الله عز وجل بغير كتاب الله وسنة رسوله ومايرجع إليهما. 6 - لايجب ـ في الأصح الراجح ـ التزام مذهب فقهي معين، لأن ذلك مجرد تقليد (أي أخذ بقول الغير من غير معرفة دليله) وإيجاب التقليد تشريع شرع جديد، كما قال شارح مسلم الثبوت. فلا مانع شرعاً من تقليد أئمة المذاهب والمجتهدين المشهورين والمغمورين، كما لامحذور في الشرع من التلفيق بين أقوال المذاهب عملاً بمبدأ اليسر في الدين لقوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة:185/ 2]، ومن المعلوم أن أغلب الناس لامذهب لهم، وإنما مذهبهم مذهب مفتيهم، وهم حريصون على أن يكون عملهم شرعياً. لكن في خضم هذا الاتجاه بالانتقاء من المذاهب، لابد من معرفة (الضوابط الشرعية للأخذ بأيسر المذاهب) وهو موضوع بحثنا، حتى لاينقلب الأمر فوضى، أو يصبح مجرد عمل بالرغبة المحضة والهوى الشخصي، بدون دليل شرعي، أو مسوغ مقبول، ولأن اختيار الأيسر نوع من الاجتهاد في تقديري.
خطة البحث
خطة البحث: بحث هذا الموضوع يقتضي مايلي: الفرع الأول ـ ما المذاهب أو الآراء التي يمكن الأخذ بها؟ الفرع الثاني ـ هل التزام مذهب معين أمر مطلوب أصولياً؟ الفرع الثالث ـ هل يجب على السائل المستفتي الترجيح بين العلماء وسؤال الراجح في نظره، أم له الاختيار وسؤال من شاء من المفتين؟ الفرع الرابع ـ ما آراء الأصوليين في مسألة اختيار الأيسر (أو تتبع الرخص) وفي التلفيق بين المذاهب الإسلامية؟. الفرع الخامس ـ ما الضوابط الشرعية للأخذ بأيسر المذاهب المستنبطة من جملة أقوال الأصوليين؟ ويلاحظ أن الكلام عن المطالب الأربعة السابقة تقديم ضروري لبحث المطلب الأخير، لاعتماده على القواعد التي ذكرها الأصوليون فيها. ولايخفى مالهذا الموضوع من أهمية وفائدة ملموسة، سواء فيما يخص أكثرية المسلمين المستفتين فيما يحتاجونه بالفعل في نطاق العبادات والمعاملات والأحوال الشخصية، أو يهم رجال القانون والقضاء الذين يضعون القوانين المستمدة من الفقه الإسلامي، أو يحتاج إليه علماء التدريس العام والخاص لاستئصال العصبية المذهبية التي تقوم على التقليد الأعمى، من دون مراعاة لما يوجبه رجحان دليل بعض الأقوال الفقهية من ضرورة الإسراع في اتباعها، وترك القول الآخر المرجوح، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
الفرع الأول ـ المذاهب أو الآراء التي يمكن الأخذ بها
الفرع الأول ـ المذاهب أو الآراء التي يمكن الأخذ بها: إن الثروة الفقهية الضخمة التي تنتظم كل الأحكام الكفيلة بحل مشكلات الناس، والتي خلفها لنا سلفنا الصالح، لاتقتصر على المذاهب الفقهية الأربعة (المالكية، والحنفية، والشافعية، والحنبلية) وإنما تشمل كل المذاهب المعروفة، مااشتهر منها وماانقرض كمذهب الليث بن سعد، والأوزاعي وابن جرير الطبري وداود الظاهري والثوري، ومذاهب أهل السنة والشيعة الإمامية والزيدية، والإباضية والظاهرية، وآراء الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، فقد نجد فيها مايؤدي لنا فائدة كبرى في نهضتنا المرجوة، لأن ذلك أولى من أخذ أحكام غير شرعية ذات مصدر غربي أو شرقي، ودين الله يسر لاعسر، ولاحرج في دين الله. وتحقيق المصالح والحاجات أمر مطلوب شرعاً. وعلى هذا فإن المشرع واضع القوانين لاحرج عليه في الاختيار من كل هذه الآراء والمذاهب الاجتهادية. وأما القاضي فأرى أن يتقيد بما هو مقرر في المذاهب الأربعة عملاً بالعرف العام الشائع، ومن المعلوم أن هذا العرف يخصص النص. وأكاد أجزم أن المشرع حينما أحال إلى المشهور من أيسر المذاهب قصد المذاهب المعمول بها غالباً في الدول الإسلامية. والمذاهب: هي آراء المجتهدين. ومما يدل على سلامة اتجاه المشرع القانوني أن جمهور المسلمين يرون ترجيح نظرية (المخطئة) القائلين بأن الحق واحد لايتعدد، وأن المجتهد المصيب في اجتهاده هو واحد، وغيره هو المخطئ، ولكن لاإثم عليه في الخطأ، لأنه مكلف بالعمل بما أداه إليه اجتهاده، وبما غلب على ظنه، فقالوا: «الصواب الذي لاصواب غيره أن دين الله واحد، وهو ماأنزل الله به كتابه، وأرسل به رسوله، وارتضاه لعباده، كما أن نبيه واحد، وقبلته واحدة، فمن وافقه فهو المصيب وله أجران، ومن أخطأه فله
أجر واحد على اجتهاده، لا على خطئه» (¬1) وهذا هو الصحيح عند الأئمة الأربعة (¬2). فالواجب أولاً طلب مافيه الحق والصواب أو المصلحة من الأقوال الفقهية الثابتة النسبة لأصحابها، ويترك منها ماهو شاذ مخالف للمصادر والأصول الشرعية، فقد أمر الله مثلاً باتباع الصحابة والتابعين (¬3)، فقال الله تعالى: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، رضي الله عنهم ورضوا عنه، وأعد لهم جناتٍ تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً، ذلك الفوز العظيم} [التوبة:100/ 9]، وقد قال الشافعي في الصحابة: «رأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا» (¬4) وقال العز بن عبد السلام: إن المدار على ثبوت المذهب عند المقلِّد (¬5)، وغلبة الظن على صحته، فحيث ثبت عنده مذهب من المذاهب صح له أن يقلده، ولو كان صاحب المذهب من غير الأئمة الأربعة. وقال العراقي: انعقد الإجماع على أن من أسلم، فله أن يقلد من شاء من العلماء من غير حجر. وأجمع الصحابة رضي الله عنهم على أن من استفتى أبا بكر وعمر وقلدهما، فله أن يستفتي أبا هريرة ومعاذ بن جبل وغيرهما، ويعمل بقولهم من غير نكير، فمن ادعى رفع هذين الإجماعين فعليه الدليل (¬6). وبهذا يتبين أن لادليل على إلزام الناس بمذاهب الأئمة الأربعة رضي الله ¬
الفرع الثاني ـ هل التزام مذهب معين أمر مطلوب أصوليا؟
عنهم، فهم وغيرهم سواء، ويصح تقليد غير الأربعة إذا صحت نسبته لصاحبه، كما أبان العز بن عبد السلام. الفرع الثاني ـ هل التزام مذهب معين أمر مطلوب أصولياً؟ انقسم الأصوليون في هذه المسألة على آراء ثلاثة: 1 - فقال بعضهم: يجب التزام مذهب إمام معين، لأنه اعتقد أنه حق، فيجب عليه العمل بمقتضى اعتقاده. 2 - وقال أكثر العلماء: لايجب تقليد إمام معين في كل المسائل والحوادث التي تعرض، بل يجوز أن يقلد أي مجتهد شاء، فلو التزم مذهباً معيناً كمذهب أبي حنيفة أو الشافعي أو غيرهما، لايلزمه الاستمرار عليه، بل يجوز له الانتقال منه إلى مذهب آخر، إذ لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله، ولم يوجب الله تعالى ولا رسوله على أحد أن يتمذهب بمذهب رجل من الأئمة، وإنما أوجب الله تعالى اتباع العلماء من غير تخصيص بواحد دون آخر، فقال عز وجل: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون} [الأنبياء:7/ 21]، ولأن المستفتين في عصر الصحابة والتابعين، لم يكونوا ملتزمين بمذهب معين، بل كانوا يسألون من تهيأ لهم دون تقيد بواحد دون آخر، فكان هذا إجماعاً منهم على عدم وجوب تقليد إمام، أو اتباع مذهب معين في كل المسائل. ثم إن القول بالتزام مذهب ما، يؤدي إلى الحرج والضيق، مع أن المذاهب نعمة وفضيلة ورحمة للأمة. وهذا القول هو الراجح عند علماء الأصول.
3 - وفصل الآمدي والكمال بن الهمام في المسألة فقال: إن عمل الشخص بما التزمه في بعض المسائل بمذهب معين، فلا يجوز له تقليد الغير فيها، وإن لم يعمل في بعضها الآخر جاز له اتباع غيره فيها، إذ إنه لم يوجد في الشرع مايوجب عليه اتباع ماالتزمه، وإنما أوجب الشرع عليه اتباع العلماء دون تخصيص عالم دون آخر (¬1). يتلخص من هذا أن القول الأصح الراجح عند علماء الأصول (¬2): هو عدم ضرورة الالتزام بمذهب معين، وجواز مخالفة إمام المذهب، والأخذ بقول غيره، لأن التزام المذهب غير ملزم، كما بينا. وبناء عليه فلا مانع إطلاقاً من حيث المبدأ في العصر الحاضر من اختيار بعض الأحكام الشرعية المقررة لدى علماء المذاهب، دون تقيد بجملة المذهب أو بتفصيلاته. ويضاف لذلك أن الفقهاء قرروا جواز العمل بالقول الضعيف في المذهب عند الضرورة أو الحاجة، وهذه هي نصوصهم: 1 - للقاضي أن يلجأ إلى غير مذهبه للضرورة (فتوى عطاء بن حمزة). ¬
2 - للقاضي أن يعمل بغير المشهور من مذهبه إذا نص السلطان على ذلك (نص الدر المختار للحصكفي). 3 - للقاضي أن يقضي بالقول المنصوص على فساده، ولا ينقض قضاؤه، لأنه مجتهد فيه، إلا إذا كان في مقابلة أخذ المال، أو للهوى والغرض (عبارة جامع الفصولين وتعليلها). 4 - جواز العمل والإفتاء بالقول الضعيف في مواضع الضرورة (عبارة المعراج عن فخر الأئمة). 5 - جواز العمل بالضعيف للشخص في خاصة نفسه، وللفتوى إذا تحقق المفتي الضرورة (عبارة الدسوقي المالكي). 6 - منع التخيير إذا كان الغرض من الالتجاء إلى القول الضعيف الشهوة والغرض، اتباعاً للهوى وابتغاء حطام الدنيا (¬1). 7 - إن خروج المقلد من العمل بالمشهور إلى العمل بالشاذ الذي فيه رخصة من غير تتبع للرخص صحيح عند كل من قال بعدم لزوم تقليد الأرجح، وهو قول الأكثر من الأصوليين. ويباح للمقلد أن يقلد من شاء من أقوال المجتهدين. وإن نقل الإجماع على منع ذلك غير صحيح (فتاوى الشيخ عليش: 61/ 1). 8 - وكذا يجوز الأخذ والعمل لنفسه بالأقوال والطرق والوجوه الضعيفة، إلا بمقابل الصحيح، فإن الغالب فيه أنه فاسد، ويجوز الإفتاء به للغير بمعنى الإرشاد (الفوائد المكية فيما يحتاجه طلبة الشافعية للسقاف: ص51). ¬
الفرع الثالث ـ هل يجب سؤال الأفضل والأرجح في العلم، أو يصح سؤال من تيسر؟
الفرع الثالث ـ هل يجب سؤال الأفضل والأرجح في العلم، أو يصح سؤال من تيسر؟ عبارة الأصوليين المشهورة في هذه المسألة هي: هل يجوز تقليد المفضول مع وجود الأفضل؟ للعلماء رأيان في ذلك (¬1). 1 - قال جماعة (وهو مذهب أحمد في رواية عنه وابن سريج والقفال الشافعيين، وأبي إسحاق الإسفراييني الملقب بالأستاذ، وأبي الحسن الطبري الملقب بالكِيَا، واختاره الغزالي، وهو المذهب المشهور عند الشيعة): يجب استفتاء (¬2) الأفضل في العلم والورع والدين، ويجب على السائل النظر في الأرجح، ثم اتباعه، ويكفيه الاعتماد على الشهرة. قال الغزَّالي في المستصفى (¬3): «والأولى عندي أنه يلزمه اتباع الأفضل، فمن اعتقد أن الشافعي رحمه الله أعلم، والصواب على مذهبه أغلب، فليس له أن يأخذ بمذهب مخالفه بالتشهي». ودليل هؤلاء: هو أن أقوال المجتهدين بالنسبة للناس كالأدلة والأمارات المتعارضة بالنسبة للمجتهد، فيجب على السائل الترجيح، ولاترجيح إلا بالفضل ¬
والعلم، لأن الأعلم أقوى، وطريق معرفة الأعلم إما بالاختبار والتجربة، أو بالشهرة والتسامع ورجوع الناس إليه. 2 - وقال القاضي أبو بكر بن العربي وأكثرية الفقهاء والأصوليين (¬1): يخير السائل في سؤال من شاء من العلماء سواء أتساووا أم تفاضلوا، أي أنه يجوز تقليد المفضول مع وجود الأفضل في العلم لعموم قوله تعالى: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون} [الأنبياء:7/ 21]، ولإجماع الصحابة: وهو أن الصحابة كان فيهم الفاضل والمفضول من المجتهدين، وكان فيهم العوام، ولم ينقل عن أحد من الصحابة تكليف العوام بالاجتهاد في أعيان المجتهدين، ولو كان التخيير غير جائز لما تطابق الصحابة على عدم إنكاره. قال الآمدي حاكياً هذا الإجماع (¬2): إن الصحابة كان فيهم الفاضل والمفضول من المجتهدين، فإن الخلفاء الأربعة كانوا أعرف بطريق الاجتهاد من غيرهم، ولهذا قال عليه السلام: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ» وقال عليه السلام: «أقضاكم علي، وأفرضكم زيد، وأعرفكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل» وكان فيهم العوام ومن فرضه الاتباع للمجتهدين والأخذ بقولهم لاغير. ومع ذلك لم ينقل عن أحد من الصحابة والسلف تكليف العوام الاجتهاد في أعيان المجتهدين، ولا أنكر أحد منهم اتباع المفضول، والاستفتاء له، مع وجود الأفضل. ولو كان ذلك غير جائز، لما جاز من الصحابة التطابق على عدم إنكاره والمنع منه. ولولا ¬
الفرع الرابع ـ آراء الأصوليين في مسألة اختيار الأيسر (أو تتبع الرخص)، وفي التلفيق بين المذاهب.
إجماع الصحابة على ذلك لكان القول بمذهب الخصوم ـ أي أصحاب الرأي الأول ـ أولى (¬1). يتبين من هذا أن القول الثاني هو الأرجح بإجماع الصحابة على جواز التخير بين الأقوال، وسؤال السائل من شاء من العلماء (¬2). الفرع الرابع ـ آراء الأصوليين في مسألة اختيار الأيسر (أو تتبع الرخص)، وفي التلفيق بين المذاهب. يتفرع على مابيناه من أنه لم يوجد في الشرع مايوجب على الإنسان اتباع ماالتزمه من المذاهب: القول بجواز تتبع الرخص والتلفيق. أما تتبع الرخص أو اختيار الأيسر: فهو أن يأخذ الشخص من كل مذهب ماهو أهون عليه وأيسر فيما يطرأ عليه من المسائل. وقد حكى الأصوليون في هذه المسألة ثمانية أقوال (¬3) أذكرها بإجمال ثم أبين أقوى النظريات المقولة فيها. 1 - قال أكثر أصحاب الشافعي وصححه الشيرازي والخطيب البغدادي وابن الصباغ والباقلاني والآمدي: يخير الإنسان بأخذ ماشاء من الأقوال، لإجماع الصحابة على عدم إنكار العمل بقول المفضول مع وجود الأفضل. 2 - أهل الظاهر والحنابلة: يأخذ بالأشد الأغلظ. ¬
1 - قال الحنابلة، والمالكية في الأصح عندهم، والغزالي
4 - يبحث عن الأعم من المجتهدين، فيأخذ بقوله. 5 - يأخذ بقول الأول، حكاه الرُّوياني. 6 - يأخذ بقول من يعمل على الرواية دون الرأي، حكاه الرافعي. 7 - يجب عليه أن يجتهد فيما يأخذ مما اختلفوا فيه، حكاه ابن السَّمعاني، ومشى عليه الشاطبي في الموافقات.،وهذا القول قريب من رأي الكعبي. 8 - إن كان الأمر في حق الله أخذ بالأخف، وإن كان في حق العباد أخذ بالأغلظ، حكاه الأستاذ أبو منصور الماتريدي. ويمكن القول بوجود آراء ثلاثة في الموضوع هي الأشهر وهي التي نعتمدها بحثاً. 1 - قال الحنابلة (¬1)، والمالكية في الأصح عندهم (¬2)، والغزالي (¬3): يمتنع تتبع الرخص في المذاهب، لأنه ميل مع أهواء النفوس، والشرع جاء بالنهي عن اتباع الهوى، قال تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} [النساء:59/ 4]، فلا يصح رد المتنازع فيه إلى أهواء النفوس، وإنما يرد إلى الشريعة. ونقل عن ابن عبد البر: أنه لايجوز للعامي تتبع الرخص إجماعاً. وعبارة ¬
2 - قال القرافي المالكي، وأكثر أصحاب الشافعي، والراجح عند الحنفية منهم ابن الهمام وصاحب مسلم الثبوت
الحنابلة في ذلك (¬1): إن استوى المجتهدان عند المستفتي في الفضيلة واختلفا عليه في الجواب اختار الأشد منهما، لما روى الترمذي من حديث عائشة قالت: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ماخير عمار بين أمرين إلا اختار أشدهما» وفي لفظ «أرشدهما» قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. ورواه أيضاً النسائي وابن ماجه. فثبت بهذين اللفظين للحديث أن الرشد في الأخذ بالأشد، والأولى أن يعتبر ـ أي المستفتي ـ القولين ساقطين، لتعارضهما، ويرجع إلى استفتاء آخر. وعبارة المالكية (¬2): الأصح أنه يمتنع تتبع الرخص في المذاهب، بأن يأخذ منها ماهو الأهون فيما يقع من المسائل. وقيل: لايمتنع. وصرح بعضهم بتفسيق متتبع الرخص. والأولى الاحتياط بالخروج من الخلاف بالتزام الأشد الأقوى، فإن من عز عليه دينه تورع، ومن هان عليه دينه تبدع. وعبارة الغزالي (¬3): ليس للعامي (¬4) أن ينتقي من المذاهب في كل مسألة أطيبها عنده، فيتوسع، بل هذا الترجيح عنده كترجيح الدليلين المتعارضين عند المفتي، فإنه يتبع ظنه في الترجيح، فكذلك ههنا. 2 - قال القرافي المالكي، وأكثر أصحاب الشافعي، والراجح عند الحنفية منهم ابن الهمام وصاحب مسلم الثبوت (¬5): يجوز تتبع رخص المذاهب، لأنه ¬
لم يوجد في الشرع مايمنع من ذلك، إذ للإنسان أن يسلك الأخف عليه إذا كان له إليه سبيل، بأن لم يكن عمل بآخر، بدليل أن سنة الرسول صلّى الله عليه وسلم الفعلية والقولية تقتضي جوازه، فإنه عليه الصلاة والسلام «ماخير بين أمرين قط إلا اختار أيسرهما مالم يكن مأثماً» (¬1) وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يحب ماخفف عن أمته». وقال صلّى الله عليه وسلم: «بعثت بالحنيفية السمحة» (¬2) وقال أيضاً: «إن هذا الدين يسر، ولن يشادَّ الدين أحد إلا غلبه» (¬3). وقال عليه السلام أيضاً: «إن الله قد فرض فرائض وسن سننًا وحد حدوداً وأحل حراماً وحرم حلالاً، وشرع الدين فجعله سهلاً سمحاً واسعاً ولم يجعله ضيقاً» (¬4). وقال الشعبي: «ماخير رجل بين أمرين، فاختار أيسرهما إلا كان ذلك أحبهما إلى الله تعالى». وقال القرافي في هذه المسألة: يجوز تتبع الرخص بشرط ألا يترتب عليه العمل بما هو باطل عند جميع من قلدهم، أي أن شرط جواز تقليد مذهب الغير ألا يؤدي إلى التلفيق (¬5) أي ألا يكون موقعاً في أمر يجتمع على إبطاله الإمام الذي كان على مذهبه، والإمام الذي انتقل إليه، كما إذا قلد الإمام مالك في عدم نقض الوضوء بلمس المرأة بغير شهوة، وقلد الإمام الشافعي في عدم وجوب ذلك ¬
ويلاحظ أن هذا القيد الذي ذكره القرافي وهو: (ألا يترتب على تتبع الرخص العمل بما هو باطل لدى جميع من قلدهم) لادليل عليه من نص أو إجماع، وإنما هو قيد متأخر، كما قرر الكمال بن الهمام في (التحرير). فإذا جاز للشخص مخالفة بعض المجتهدين في كل ماذهب إليه، كما بينا، جازت مخالفته في بعض ماذهب إليه من باب أولى، كما قال صاحب تيسير التحرير. ثم قال: وليس هناك دليل من نص أو إجماع يدل على أن الفعل إذا كانت له شروط، فإنه يجب على المقلد أن يتبع مجتهداً واحداً في هذه الشروط التي يتوقف عليها هذا الفعل، ومن ادعى دليلاً على ذلك فعليه الإتيان به. وأما مانقل عن ابن عبد البر، من أنه «لايجوز للعامي تتبع الرخص إجماعاً، فلا نسلم صحة هذا النقل عنه، ولو سلم فلا يسلم صحة الإجماع، إذ في تفسيق متتبع الرخص عن أحمد روايتان. وحمل القاضي أبو يعلى الرواية المفسقة على غير متأول ولامقلد. وقال ابن أمير الحاج في التقرير على التحرير: وذكر بعض الحنابلة: أنه إنْ قوي الدليل، أو كان عامياً، لايفسق. وفي روضة النووي حكاية عن ابن أبي هريرة: لايفسق. والخلاصة: أن مبدأ الأخذ بالرخص أمر محبوب، ودين الله يسر، وماجعل عليكم في الدين من حرج، والمفروض أن المقلد لم يقصد تتبع الرخص في كل الوقائع وإنما في بعض المسائل، وكثيراً ماقال العلماء: «من قلد عالماً فقد برئ مع الله» «اختلاف العلماء رحمة» وربما قال بعضهم: «حجَّرت واسعاً» إذا التزم العمل بالقول المشهور في جميع تصرفاته.
3 - رأي الشاطبي
3 - رأي الشاطبي: يرى الشاطبي رأي ابن السمعاني (¬1): وهو أنه يجب على المقلد الترجيح بين أقوال المذاهب بالأعلمية وغيرها، واتباع الدليل الأقوى، لأن أقوال المجتهدين بالنسبة للمقلدين كالأدلة المتعارضة بالنسبة إلى المجتهد، فكما يجب على المجتهد الترجيح أو التوقف عند تعادل الأدلة، كذلك المقلد. ولأن الشريعة ترجع في الواقع إلى قول واحد، فليس للمقلد أن يتخير بين الأقوال. وإلا كان متبعاً غرضه وشهوته، والله تعالى يمنع اتباع الهوى جملة وهو قوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} [النساء:59/ 4]. ثم أبان الشاطبي في كلام مسهب مايترتب على مبدأ الأخذ بالأيسر من مفاسد: أولها ـ الضلال في الفتوى بمحاباة القريب أو الصديق في تتبع رخص المذاهب اتباعاً للغرض والشهوة. ثانيها ـ الادعاء بأن الاختلاف حجة على الجواز أو الإباحة، حتى شاع بين الناس الاعتماد في جواز الفعل على كونه مختلفاً فيه بين أهل العلم. ثالثها ـ اتباع رخص المذاهب اعتماداً على مبدأ جواز الانتقال الكلي من مذهب إلى مذهب، وأخذاً بمبدأ اليسر الذي قامت عليه الشريعة مع (أن الحنيفية السمحة أتى فيها السماح مقيداً بما هو جار على أصولها، وليس تتبع الرخص ولا اختيار الأقوال بالتشهي بثابت من أصولها). ثم ذكر بعض مفاسد اتباع رخص المذاهب كالانسلاخ من الدين بترك اتباع الدليل إلى اتباع الخلاف، وكالاستهانة ¬
بالدين إذ يصير سيَّالاً لاينضبط، وكترك ماهو معلوم إلى ماليس بمعلوم، للجهل بأحكام المذاهب الأخرى، وكانخرام قانون السياسة الشرعية (¬1) بترك انضباط معيار العدالة بين الناس وشيوع الفوضى والمظالم وضياع الحقوق وتعطيل الحدود واجتراء أهل الفساد، وكإفضاء ذلك إلى القول بتلفيق المذاهب على وجه يخرق إجماعهم، وغير ذلك من المفاسد التي يكثر تعدادها. رابعها ـ التخلص من الأحكام الشرعية وإسقاطها جملة، عملاً بمبدأ الأخذ بأخف القولين، لابأثقلهما، مع أن التكاليف كلها شاقة ثقيلة. ثم رد الشاطبي على القائل بجواز تتبع الرخص في حالات للضرورة أو الحاجة عملاً بالقاعدة الشرعية (الضرورات تبيح المحظورات) بأن حاصل فعله هو الأخذ بما يوافق الهوى، أو تجاوز حدود الضرورة أو الحاجة المقررة في الشرع. كما أنه رد على المتمسك بمبدأ (مراعاة الخلاف بين الأقوال) لتسويغ الأخذ بالأيسر بأن مراعاة الخلاف لايترتب عليه الجمع بين قولين متنافيين أو القول بهما معاً، وإنما هما لمسألتين مختلفتين. وفي تقديري أن السبب الذي حمل الشاطبي على منع تتبع الرخص والتلفيق هو غيرته على نظام الأحكام الشرعية حتى لايتخطاها أحد عملاً بمبدأ التيسير على الناس،،ولكنه ـ كما يلاحظ من كلامه ـ متأثر بالعصبية المذهبية، ويخشى ـ رغم تحرره الفكري ـ مخالفة مذهب الإمام مالك، ويحرص على التقليد ومنع الاجتهاد. ونحن معه في هذه الغيرة على أحكام الشريعة، لكن التقليد أو التلفيق الجائز مجاله محصور فيما لم يتضمن الإعراض عما أنزل الله، أو الذي لم يتضح فيه ¬
التلفيق
رجحان الحق والدليل على صحة قول المجتهد المقلَّد (¬1)، وحينئذ ينهدم رأي الشاطبي من أساسه، لأنه يطالب بضرورة العمل بالدليل الراجح، والتزام أصول الشريعة، وهذا أمر مفترض في كل تقليد محمود أو أخذ بأيسر المذاهب. التلفيق: هو الإتيان بكيفية لا يقول بها المجتهد. ومعناه أن يترتب على العمل بتقليد المذاهب، والأخذ في مسألة واحدة بقولين أو أكثر: الوصول إلى حقيقة مركبة لايقرها أحد، سواء الإمام الذي كان على مذهبه، والإمام الذي انتقل إليه، فكل واحد منهم يقرر بطلان تلك الحقيقة الملفقة. ويتحقق ذلك إذا عمل المقلد في قضية واحدة بالقولين معاً، أو بأحدهما مع بقاء أثر الثاني. فالتلفيق إذاً: هو الجمع بين تقليد إمامين أو أكثر في فعل له أركان أو جزئيات لها ارتباط ببعضها، لكل منها حكم خاص، كان موضع اجتهادهم وتباين آرائهم، فيقلد أحدهم في حكم، ويقلد آخر في حكم آخر، فيتم الفعل ملفقاً من مذهبين أو أكثر. مثل أن يقلد شخص في الوضوء مذهب الشافعي في الاكتفاء بمسح بعض الرأس، ثم يقلد أبا حنيفة أو مالكاً في عدم نقض الوضوء بلمس المرأة خالياً عن قصد الشهوة ووجودها، ثم يصلي، فإن هذا الوضوء الذي صلى به لم يقل به كل واحد من هؤلاء الأئمة، فالشافعي يعتبره باطلاً لنقضه باللمس، وأبو حنيفة لايجيزه لعدم مسح ربع الرأس، ومالك لايقره لعدم مسح جميع الرأس أو لعدم ¬
مجال التلفيق
دلك أعضاء الوضوء ونحو ذلك. أو أن يقلد مالكاً في عدم نقض الوضوء بالقهقهة في الصلاة، وأبا حنيفة في عدم النقض بمس الذكر، وصلى. فهذه صلاة مجمع منهما على فسادها. ومثل أن يستأجر شخص مكاناً موقوفاً تسعين سنة فأكثر، من غير أن يراه، مقلداً في المدة الطويلة للشافعي وأحمد، وفي عدم الرؤية لأبي حنيفة، فيجوز (¬1). ومجال التلفيق كمجال التقليد محصور في المسائل الاجتهادية الظنية. أما كل ما علم من الدين بالضرورة ـ أي بالبداهة ـ من متعلَّقات الحكم الشرعي، وهو ماأجمع عليه المسلمون ويكفر جاحده، فلا يصح فيه التقليد والتلفيق، وعلى هذا فلا يجوز التلفيق المؤدي إلى إباحة المحرمات كالنبيذ والزنا مثلاً. هذا وإن قضية التلفيق بين المذاهب اشترط عدمها لجواز تقليد مذاهب الغير أكثر المتأخرين من العلماء بعد انتهاء القرن العاشر الهجري، ولم يتكلم فيها قبل القرن السابع. وجواز التلفيق مبني على ما قررناه من أنه لا يجب التزام مذهب معين في جميع المسائل، فمن لم يكن ملتزماً مذهباً معيناً، جاز له التلفيق، وإلا أدى الأمر إلى بطلان عبادات العوام، لأن العامي لا مذهب له ولو تمذهب به، ومذهبه في كل قضية هو مذهب من أفتاه بها. كما أن القول بجواز التلفيق يعتبر من باب التيسير على الناس. وتقليد إمام في جزئية أو مسألة لايمنع من تقليد إمام آخر في مسألة أخرى، ولايقال: إن المقلد وصل إلى حقيقة لم يقل بها كلا الإمامين، وإنما يعد ذلك من قبيل تداخل أقوال المفتين (أي المجتهدين) بعضها في بعض في عمل المستفتي ¬
أقوال علماء المذاهب في إباحة التلفيق
تداخلاً غير مقصود، كتداخل اللغات بعضها ببعض في لسان العرب. فالمقلد لم يقلد كل إمام في مجموع عمله، وإنما قلد كلا من الإمامين في مسألة معينة غير التي قلد فيها غيره، ومجموع العمل لم يوجب أحد النظر إليه لا في اجتهاد ولا في تقليد. وأما اشتراط بعض العلماء لجواز التلفيق ضرورة مراعاة الخلاف بين المذاهب، فهو أمر عسير، سواء في العبادات أو في المعاملات، وذلك يتنافى مع سماحة الشريعة ويسرها ومسايرتها لمصالح الناس. وأما ادعاء وجود الإجماع (من قِبَل ابن حجر وغيره من بعض علماء الحنفية) على عدم جواز التلفيق، فيحتاج إلى دليل، وليس أدل على عدم قيام مثل هذا الإجماع من وجود اختلاف واضح بين العلماء في مسألة التلفيق. قال الشفشاوني في تركيب مسألة من مذهبين أو أكثر: «إن الأصوليين اختلفوا في هذه المسألة، والصحيح من جهة النظر جوازه» وحكى الثقات الخلاف أيضاً كالفهامة الأمير والفاضل البيجوري. هذا وإن مثل هذا الإجماع المدعى المنقول بطريق الآحاد لايوجب العمل عند جمهور العلماء، ولعل المراد بهذا الإجماع هو اتفاق الأكثر أو أهل مذهب ما. وسأذكر هنا بإيجاز أقوال علماء المذاهب في إباحة التلفيق (¬1): 1 - الحنفية: قال الكمال بن الهمام وتلميذه ابن أمير الحاج في التحرير ¬
2 ـ المالكية
وشرحه: إن المقلد له أن يقلد من شاء، وإن أخذ العامي في كل مسألة بقول مجتهد أخف عليه لا أدري ما يمنعه من النقل أو العقل، وكون الإنسان يتتبع ما هو الأخف عليه من قول مجتهد مسوغ له الاجتهاد، ما علمت من الشرائع ذمه عليه، وكان صلّى الله عليه وسلم يحب ما خفف عن أمته. وجاء في تنقيح الفتاوى الحامدية لابن عابدين ما يفيد أن في منية المفتي ما يفيد جواز الحكم المركب، وأن القاضي الطرسوسي (المتوفى سنة 758 هـ) مشى على الجواز. وأفتى مفتي الروم أبو السعود العمادي (المتوفى سنة 983 هـ) في فتاويه بالجواز. وجزم ابن نجيم المصري (المتوفى سنة 970 هـ) في رسالته (في بيع الوقف بغبن فاحش) بأن المذهب جواز التلفيق، ونقل الجواز عن الفتاوى البزازية. وذهب أمير باد شاه (المتوفى سنة 972 هـ) إلى جواز التلفيق بكل قوته. وألف مفتي نابلس منيب أفندي الهاشمي رسالة في التقليد عام (1307 هـ) أيد فيها التقليد مطلقاً، وقال عنها فقيه عصره الشيخ عبد الرحمن البحراوي: «أن المؤلف قد بين الحق على الوجه الصحيح». والخلاصة: أن الشائع المشهور أن التلفيق باطل، لكن العلماء خلاف ذلك وأنه جائز بأدلة كثيرة ناطقة على صحته. 2 ـ المالكية: الأصح والمرجح عند المتأخرين من فقهاء المالكية هو جواز التلفيق، فقد صحح الجواز ابن عرفة المالكي في حاشيته على الشرح الكبير للدردير، وأفتى العلامة العدوي بالجواز، ورجح الدسوقي الجواز، ونقل الأمير الكبير عن شيوخه أن الصحيح جواز التلفيق وهو فسحة. 3 ـ الشافعية: منع بعضهم كل صور التلفيق، واقتصر بعضهم الآخر على حظر حالات التلفيق الممنوع الآتي بيانها، وأجاز آخرون التلفيق إذا جمعت في المسألة شروط المذاهب المقلدة.
4 ـ الحنابلة
4 ـ الحنابلة: نقل الطرسوسي أن القضاة الحنابلة نفذوا الأحكام الصادرة بالتلفيق. هذا ولم أذكر أقوال المخالفين من علماء هذه المذاهب، سواء في قضية الأخذ بأيسر المذاهب أو في تتبع الرخص، ولأن أقوال المخالفين لا تلزمنا، لعدم وجود دليل شرعي راجح لها. التلفيق الممنوع: ليس القول بجواز التلفيق مطلقاً، وإنما هو مقيد في حدود معينة، فمنه ما هو باطل لذاته، كما إذا أدى إلى إحلال المحرمات كالخمر والزنا ونحوهما. ومنه ما هو محظور لا لذاته، بل لما يعرض له من العوارض، وهو ثلاثة أنواع (¬1): أولها ـ تتبع الرخص عمدا ًً: بأن يأخذ الإنسان من كل مذهب ما هو الأخف عليه بدون ضرورة ولاعذر. وهذا محظور سداً لذرائع الفساد بالانحلال من التكاليف الشرعية. الثاني ـ التلفيق الذي يستلزم نقض حكم الحاكم، لأن حكمه يرفع الخلاف درءاً للفوضى. الثالث ـ التلفيق الذي يستلزم الرجوع عما عمل به تقليداً أو عن أمر مجمع عليه لازم لأمر قلده. وهذا الشرط في غير العبادات، أما فيها فيجوز التلفيق ولو استلزم الرجوع عما عمل به أو عن أمر لازم لآخر إجماعاً، مالم يفض إلى الانحلال من ربقة التكاليف الشرعية أو إلى الذهاب بالحكمة الشرعية باقتراف الحيل المغايرة للشريعة أو المضيعة لمقاصدها. ¬
بطلان التلفيق بعد العمل
مثال الأول أي الرجوع عن العمل: ما نقل عن الفتاوى الهندية: لو أن فقيهاً قال لامرأته: (أنت طالق البتة) وهو يرى أن الطلاق يقع ثلاثاً، فأمضى فيما بينه وبينها، وعزم على أنها حرمت عليه. ثم رأى بعدئذ أنها تطليقة رجعية، أمضى رأيه الأول الذي كان عزم عليه، ولايردها إلى أن تكون زوجته برأي حدث من بعد. وكذلك لوكان في الابتداء يراها تطليقة رجعية، فعزم على أنها امرأته، ثم رأى بعد أنها ثلاث، لم تحرم عليه. هذا ويلاحظ أن بطلان التلفيق بعد العمل مقيد بقيدين: أولهما ـ أن يبقى من آثار الفعل السابق أثر يؤدي إلى تلفيق العمل بشيء لايقول به كل من المذهبين كتقليد الشافعي في مسح بعض الرأس، ومالك في طهارة الكلب في صلاة واحدة. وكما لو أفتى مفت ببينونة زوجته بطلاقها مكرهاً، ثم نكح أختها مقلداً للحنفي بوقوع طلاق المكره. ثم أفتاه شافعي بعدم الحنث، فيمتنع عليه أن يطأ الأولى، مقلداً للشافعي والثانية مقلداً للحنفي، لأن إمضاء الفعل كإمضاء القاضي لا ينقض. ثانيهما ـ أن يكون ذلك في حادثة واحدة بعينها لا في مثلها، كما لو صلى ظهراً بمسح ربع الرأس مقلداً للحنفي، فليس له إبطال طهارته باعتقاده لزوم مسح الكل مقلداً للمالكي. وأما لوصلى يوماً على مذهب، وأراد أن يصلي يوماً آخر فلا يمنع منه (¬1). مثال الثاني أي الرجوع عن أمر مجمع عليه: لو قلد رجل أبا حنيفة في عقد النكاح بلا ولي، فيستلزم العقد صحة إيقاع الطلاق، لأنها أمر لازم لصحة النكاح إجماعا , فلو طلقها ثلاثا , ثم أراد تقليد الشافعي في عدم وقوع الطلاق لكون النكاح ¬
إجماعاً، فلو طلقها ثلاثاً، ثم أراد تقليد الشافعي في عدم وقوع الطلاق لكون النكاح بلا ولي، فليس له ذلك لكونه رجوعاً عن التقليد في أمر لازم إجماعاً. وهذا أمر معقول حتى لا تصبح العلاقة الزوجية السابقة علاقة محرمة، وأن الأولاد أولاد زنا. فيمنع ذلك كما يمنع كل ما يؤدي إلى العبث بالدين أو الإضرار بالبشر أو الفساد في الأرض. ومن صور التلفيق الممنوع لمخالفته الإجماع: أن يتزوج رجل امرأة بغير صداق ولا ولي ولا شهود، مقلداً كل مذهب فيما لا يقول به الآخر، فهذا من التلفيق المؤدي إلى محظور، لأنه يخالف الإجماع، فلم يقل به أحد (¬1). ومن صور التلفيق الممنوع أيضاً: أن يطلق شخص زوجته ثلاثاً، ثم تتزوج بابن تسع سنين بقصد التحليل، مقلدا ً زوجها في صحة الزواج للشافعي، فأصابها، ثم طلقها مقلداً في صحة الطلاق، وعدم الحاجة إلى العدة للإمام أحمد، فيجوز لزوجها الأول العقد عليها فوراً. فهذا التلفيق ممنوع لأنه يؤدي إلى التلاعب بقضايا الزواج، لذا قال الشيخ الاجهوري من الشافعية: هذا ممنوع في زماننا ولا يجوز ولايصح العمل بهذه المسألة، لأنه يشترط عند الشافعي أن يكون المزوج للصبي أباً له، أو جداً، وأن يكون عدلاً، وأن يكون في تزويجه مصلحة للصبي، وأن يكون المزوج للمرأة وليها العدل بحضرة عدلين، فإذا اختل شرط لم يصح التحليل لفساد النكاح. ¬
حكم التلفيق في التكاليف الشرعية
حكم التلفيق (¬1) في التكاليف الشرعية: تنقسم الفروع الشرعية إلى ثلاثة أنواع (¬2): الأول ـ ما بني في الشريعة على اليسر والتسامح مع اختلافه باختلاف أحوال المكلفين. الثاني ـ ما بني على الورع والاحتياط. الثالث ـ ما يكون مناطه مصلحة العباد وسعادتهم. أما النوع الأول ـ فهو العبادات المحضة، وهذه يجوز فيها التلفيق، لأن مناطها امتثال أمر الله تعالى والخضوع له مع عدم الحرج، فينبغي عدم الغلو بها؛ لأن التنطع يؤدي إلى الهلاك. أما العبادات المالية: فإنها مما يجب التشديد بها احتياطاً خشية ضياع حقوق الفقراء، فلا يؤخذ بالقول الضعيف أو يلفق من كل مذهب ماهو أقرب لمصلحة المزكي لإضاعة حق الفقير، وإنما يجب الإفتاء بالأحوط والأنسب لمصلحة الفقراء. وأما النوع الثاني ـ فهو المحظورات: وهي مبنية على مراعاة الاحتياط والأخذ بالورع مهما أمكن (¬3)، لأن الله تعالى لا ينهى عن شيء إلا لمضرته، فلا يجوز فيها التسامح أو التلفيق إلا عند الضرورات الشرعية، لأن (الضرورات تبيح المحظورات). ¬
وعليه لايجوز التلفيق في المحظورات المتعلقة بحقوق الله (أو حقوق المجتمع) حفاظاً على النظام العام في الشريعة، واهتماماً برعاية المصالح العامة. كما لا يجوز التلفيق في المحظورات المتعلقة بحقوق العباد (حقوق الأشخاص الخاصة) منعاً من الاحتيال على حقوق الناس وإلحاق الضرر بهم والاعتداء عليهم. وأما النوع الثالث ـ فهو المعاملات المدنية: والعقوبات الشرعية (الحدود والتعزيرات)، وأداء الأموال الواجبة شرعاً من عشر المزروعات، وخراج الأراضي، وخمس المعادن المكتشفة، والمناكحات (أو الأحوال الشخصية). فعقود الزواج (المناكحات) وما يتبعها من أنواع الفرقة الزوجية: مبناها سعادة الزوجين وأولادهما. ويتحقق ذلك بالحفاظ على الرابطة الزوجية، وتوفر الحياة الطيبة فيها، كما قرر القرآن الكريم: {فإمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان} [البقرة:229/ 2]. فكل ما يؤيد هذا الأصل يعمل به، ولو أدى في بعض الوقائع إلى التلفيق الجائز، أما إذا اتخذ التلفيق ذريعة لتلاعب الناس بأقضية الزواج والطلاق، فيكون تلفيقاً قادحاً ممنوعاً، مراعاة للقاعدة الشرعية: وهي (أن الأصل في الأبضاع (¬1) التحريم) صيانة لحقوق النساء والأنساب. وأما المعاملات، وأداء الأموال، والعقوبات المقررة في الشرع والقصاص لصيانة الدماء ونحوها من التكاليف المراعى فيها مصالح البشرية والمرافق الحيوية، فيجب الأخذ فيها من كل مذهب ما هو أقرب لمصلحة الناس وسعادتهم، ولو لزم منه التلفيق، لما فيه من السعي وراء تأييد المصلحة التي يقصدها الشرع، ولأن مصالح الناس تتغير بتغير الزمان والعرف وتطور الحضارة والعمران. ومعيار المصلحة أو تحديد المراد منها: هو كل ما يضمن صيانة الأصول الكلية الخمسة: ¬
ضابط جواز التلفيق وعدم جوازه
وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال. وصيانة كل مصلحة مقصودة شرعاً من الكتاب أو السنة أو الإجماع. وهي المصالح المرسلة المقبولة. قال الشرنبلالي الحنفي في العقد الفريد بعد أن ذكر فروعاً من أصل المذهب صريحة بجواز التلفيق: فتحصل مما ذكرناه أنه ليس على الإنسان التزام مذهب معين، وأنه يجوز له العمل بما يخالف ما عمله على مذهبه، مقلداً فيه غير إمامه، مستجمعاً شروطه، ويعمل بأمرين متضادين في حادثتين لا تعلق لواحدة منهما بالأخرى. وليس له إبطال عين ما فعله بتقليد إمام آخر، لأن إمضاء الفعل كإمضاء القاضي لا ينقض. وقال أيضاً: إن له التقليد بعد العمل، كما إذا صلى ظاناً صحة الصلاة على مذهبه، ثم تبين بطلانها في مذهبه، وصحتها على مذهب غيره فله تقليده، ويجتزئ بتلك الصلاة، على ما قال في البزازية: أنه روي عن أبي يوسف: أنه صلى الجمعة مغتسلاً من الحمام، ثم أخبر بفأرة ميتة في بئر الحمام، فقال: نأخذ بقول إخواننا من أهل المدينة: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثاً (¬1). والخلاصة: إن ضابط جواز التلفيق وعدم جوازه: هو أن كل ما أفضى إلى تقويض دعائم الشريعة والقضاء على سياستها وحكمتها، فهو محظور، وخصوصاً الحيل الشرعية الممنوعة (¬2).وأن كل ما يؤيد دعائم الشريعة، وما ترمي إليه حكمتها وسياستها لإسعاد الناس في الدارين بتيسير العبادات عليهم، وصيانة مصالحهم في المعاملات، فهو جائز مطلوب. اختيار الأيسر في التقنين: لا مانع شرعاً من اختيار الحاكم ولي الأمر أيسر الأقوال في المذاهب الشرعية ¬
المختلفة، إذ إن ذلك ليس من قبيل التلفيق الممنوع، لأن الأحكام المختارة من المذاهب هي أحكام كلية لأمور متغايرة لا تجمع بينها رابطة، كما بينا. وإذا حدث فيها تلفيق أثناء التطبيق الفعلي فهو غير مقصود، فلا حرج فيه، كالقول بصحة الزواج بغير ولي وبعبارة النساء، والتفريع عليه بجواز استدامة الزوجية بعد مراجعتها إثر صدور طلاق ثلاث بلفظة واحد اكتفاء بإيقاعه طلقة واحدة رجعية. فهو تلفيق غير ممنوع لأنه لم يقصد إليه. والقول بجواز التلفيق في الجملة أقوى دليلاً من القول بمنعه، فضلاً عما فيه من تحقيق مصالح الأفراد والجماعات، ولا يترتب عليه أي مفسدة من مفاسد التلفيق المحظور. ولو افترضنا أن التلفيق كله غير جائز فإن تخير الحاكم لرأي وجعله قانوناً نافذاً: يقوي الحكم ولو كان قولاً ضعيفاً، كما قرر العلماء، بل ويوجب الطاعة إذا لم يكن أمراً بمعصية متيقنة شرعاً. وقد بدأ التخير من أحكام المذاهب في مجال التقنين فعلاً منذ أكثر من خمسين عاماً في مطلع هذا القرن، وذلك حينما شعرت الحكومة العثمانية بالحاجة إلى التوسع في حرية التعاقد، والشروط العقدية، وقابلية المحل المعقود عليه، بسبب ازدياد حاجة التعامل التجاري والصناعي، وتطور أساليب التجارة الداخلية والخارجية وظهور أنواع جديدة من الحقوق هي الحقوق الأدبية كحق المؤلف والمخترع، والاحتياج إلى عقود التأمين على البضائع المستوردة، واتساع مجال عقود الاستصناع مع المصانع الكبرى، وعقود التوريد لتقديم اللوازم والمواد الأولية إلى المؤسسات الحكومية والشركات والمعامل والمدارس. فاستبدلت السلطة العثمانية بالمادةو (64 سنة 1332 هـ/1914م) من قانون أصول المحاكمات مادة أخذت مبادئها من غير المذهب الحنفي كالمذهب
الحنبلي ومذهب ابن شبرمة اللذين يوسعان من دائرة حرية الشروط العقدية ويقتربان من مبدأ سلطان الإرادة القانوني أي أن (العقد شريعة المتعاقدين) ويجيزان هذه المبادئ الثلاثة التي تضمنتها المادة الجديدة وهي: 1 - توسيع قابلية المحل للتعاقد عليه ليشمل كل ما جرى به العرف، أو سيوجد بعد. 2 - جواز كل اتفاق أو اشتراط لا يخالف النظام العام والآداب والقوانين الخاصة، وقوانين العقارات والأحوال الشخصية والأوقاف. وبذلك تقلصت نظرية الفساد عند الحنفية، وأصبح جائزاً ما يعرف بالشرط الجزائي أي التعهد بالضمان المالي جزاء النكول أو التأخر عن تنفيذ الالتزام، عملاً بمذهب القاضي شريح. 3 - اعتبار العقد تاماً بمجرد الاتفاق على النواحي الأساسية فيه، ولو لم تذكر الأمور الفرعية. وبه أصبحت الجهالة غير ضارة في تكوين العقد، فيصح العقد بسعر السوق أو بما سيستقر عليه في يوم ما (¬1). هذا وقد أصدرت الحكومة العثمانية سنة (1336 هـ) قرار حقوق العائلة المعمول به اليوم، أخذت فيه بطائفة من أحكام المذاهب الثلاثة غير الحنفية واختارت بعض أقوال ضعيفة في المذهب الحنفي، وصدرت في مصر قوانين متخيرة من أحكام المذاهب بدءاً من سنة (1920 م) إلى سنة (1929) ثم سنة (1936 م) وحتى الآن اتبعت فيها أسلوب قانون العائلة العثماني، وذلك بحضور صفوة مختارة من كبار العلماء ورجال القضاء الشرعي من مختلف المذاهب، مراعاة لتغير الزمان، وتطور الحياة الاجتماعية، وتجدد المصالح والحاجات، وتبدل الأوضاع والتنظيمات. ومن أبرز ¬
الأمثلة على القوانين الملفقة: قانون الوصية الواجبة رقم (71) في المواد (76 - 79) من قانون الأحوال الشخصية المصري الصادر عام (1946)، لمعالجة مشكلة (أولاد المحروم) أي أولاد الابن المتوفى في حال حياة أبيه، وتابعه القانون السوري الصادر عام (1953م) مع وجود فارق بينهما، وهو أن القانون المصري لم يميز بين أولاد الابن وأولاد البنت، وأما القانون السوري فقد اقتصر على أولاد الابن، وأما أولاد البنت فهم من ذوي الأرحام الوارثين. وقد أخذ هذا القانون من مجموع آراء فقهية كرأي ابن حزم الظاهري وأقوال بعض فقهاء التابعين ورواية في مذهب أحمد ومذهب الإباضية، ولم يستند ذلك إلى رأي فقهي معين. ومن الأمثلة الشهيرة على تخطي المذاهب الأربعة أو التلفيق بينها وبين غيرها لحاجة الناس إليها: جواز الوصية لوارث بدون توقف على إجازة الورثة في المادة (37) من قانون الوصية المصري رقم (71) لعام (1946 م)، أخذا بقول فريق من المفسرين ومنهم أبو مسلم الأصفهاني، وفريق من الفقهاء من غير المذاهب الأربعة كبعض أئمة الشيعة الزيدية، وبعض الشيعةالإمامية الاثني عشرية، والإسماعيلية. ومن الأمثلة القضائية للتخير: تقييد قبول الشهادات بأن تصحب بدليل قوي كالكتابة والخبرة والتسجيل الرسمي لنفي الشبهة بسبب تغير الزمان وضعف الوازع الديني. والنهي عن سماع الدعوى بعد مضي خمس عشرة سنة إلا في الوقف والإرث فبعد ثلاث وثلاثين سنة في لائحة المحاكم الشرعية المصرية سنة (1880م). والمنع من سماع دعوى الزوجية والطلاق والإقرار بهما بعد وفاة أحد الزوجين إلا إذا كانت الدعوى مؤيدة بأوراق خالية من شبهة تدل على صحتها في المادة (31) من لائحة سنة (1897 م) المصرية.
الفرع الخامس ـ أنواع الضوابط الشرعية للأخذ بأيسر المذاهب
الفرع الخامس ـ أنواع الضوابط الشرعية للأخذ بأيسر المذاهب: لم أجد فيما اطلعت عليه من كتب علماء الأصول والفقه بحثاً مستقلا ًبهذا الموضوع، ويمكن وضع ضوابط شرعية للأخذ بأيسر المذاهب من طريق الاسنتباط أوالاستخلاص مما كتبه الأصوليون والفقهاء في بحث التلفيق وتتبع الرخص والتقليد عموماً. وهذه الضوابط (¬1) هي ما يأتي: الضابط الأول: أن يتقيد الأخذ بالأيسر في مسائل الفروع الشرعية الاجتهادية الظنية أي القضايا العملية التي ثبتت أحكامها بطريق ظني أغلبي كأحكام العبادات والمعاملات والأحوال الشخصية والجنايات التي ليس فيها نص قطعي أو إجماع أو قياس جلي (¬2). وهذا ـ كما بينا ـ هو مجال التقليد والتلفيق. أما غير ذلك فلا يصح الأخذ فيه بالأيسر مثل مسائل العقائد وأصول الإيمان والأخلاق كمعرفة الله تعالى وصفاته وإثبات وجود الله ووحدانيته ودلائل النبوة، ومثل كل ماعلم من الدين بالضرورة ــأي بالبداهة ــ وهو ما أجمع عليه المسلمون ويكفر جاحده أو منكره، في جميع التكاليف الشرعية: عبادات أو معاملات أو عقوبات أو محرمات، كأركان الإسلام الخمسة وحرمة الربا (الفائدة)، والزنا، وحل البيع والزواج والقرض ونحوها مما هو ثابت قطعاً بالإجماع، لا يجوز فيها التقليد والتلفيق أو الأخذ بالأيسر. فلا يباح التلفيق المؤدي إلى إباحة المحرمات كالنبيذ المسكر والزنا مثلاً. ¬
كما لا يباح التلفيق المؤدي إلى إهدار حقوق الناس أو إلحاق الأذى والضرر بهم والعدوان عليهم، إذ لاضرر ولا ضرار في الإسلام. قال القرافي (¬1): إن ضابط المذاهب التي يقلد فيها خمسة أشياء لا سادس لها عملاً بالاستقراء: 1 - الأحكام الشرعية الفروعية الاجتهادية. 2 - وأسبابها. 3 - وشروطها. 4 - وموانعها. 5 - والحِجاج (¬2) المثبتة للأسباب والشروط والموانع. احترز بـ (الشرعية) عن العقلية كالحساب والهندسة وعن الحسيات وغيرها. واحترز بالفروعية عن أصول الدين وأصول الفقه. وبالاجتهادية عن الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة. وأسباب الأحكام مثل الإتلاف المسبب للضمان. والشروط كاشتراط الولي والشهود في عقد الزواج. والموانع كالجنون والإغماء المانعين من التكليف الشرعي، والدَّين المانع من إيجاب الزكاة. والحجاج المثبتة للأسباب والشروط والموانع هي ما يعتمد عليه القضاء من البينات والأقارير ونحو ذلك. وهي نوعان: ¬
الضابط الثاني ـ ألا يترتب على الأخذ بالأيسر معارضة مصادر الشريعة القطعية، أو أصولها ومبادئها العامة
1 - مجمع عليه كالشاهدين في الأموال والأربعة الشهود في الزنى، والإقرار في جميع ذلك إذا صدر من أهله في محله. 2 - ومختلف فيه: نحو الشاهد واليمين وشهادة الصبيان في القتل والجراح، والإقرار إذا أعقبه رجوع. ونحن كما نقلد العلماء في الأحكام وأسبابها وشروطها وموانعها، فكذلك نقلدهم في الحجاج المثبتة لذلك. فاختيار الأيسر من المذاهب مقيد إذن في هذا النطاق وهو الأحكام الفرعية الثابتة بغلبة الظن لدى المجتهد مثل وجوب الوتر والنية في الوضوء، وكون الدَّين مانعاً من الزكاة، وإباحة المعاطاة (¬1)، وقبول شهادة الصبيان في القتل والجراح، والشاهد واليمين، وشهادة النساء فيما يختص بهن الاطلاع عليه كعيوب الفروج واستهلال المولود، وجواز البيع بشرط فيه منفعة لأحد المتعاقدين. والتطليق بسبب الغيبة أو الإعسار أو الإضرار، وتقويم منافع العقارات، وتضمين الأجراء والصناع، ومنع هدية المديان، ونحو ذلك. الضابط الثاني ـ ألا يترتب على الأخذ بالأيسر معارضة مصادر الشريعة القطعية، أو أصولها ومبادئها العامة. يفهم هذا الشرط مما ذكره فقهاء المالكية ـ حتى الشاطبي ـ من ضرورة نقض حكم الحاكم أو قضاء القاضي في أمور أربعة ينقض فيها قضاؤه، مما يدل على أنه عند الأخذ بالأيسر لا يجوز الوقوع فيما يخالف هذه الأمور وهي ما يأتي (¬2): الأول ـ أن يحكم القاضي بما يخالف الكتاب أو السنة أو الإجماع، فينقض هو حكم نفسه بذلك،،وينقضه القاضي الوالي بعده. ويلحق بذلك الحكم بالقول الشاذ. ¬
الثاني ـ أن يحكم بالظن والتخمين من غير معرفة ولا اجتهاد، فينقضه هو ومن يلي بعده. الثالث ـ أن يحكم بعد الاجتهاد، ثم يتبين له الصواب في خلاف ما حكم به، فلا ينقضه من ولي بعده. واختلف هل ينقضه هو أم لا؟. الرابع ـ أن يقصد الحكم بمذهب، فيذهل ويحكم بغيره من المذاهب، فيفسخه هو، ولا يفسخه غيره. ويهمنا في بحث الأخذ بالأيسر من هذه الأمور الأمر الأول، فقد عدد القرافي (¬1) صوراً أربعة ينقض فيها الحكم هي: مخالفة الإجماع، والقواعد، والقياس الجلي، والنص. ومثل لكل حالة وبين سبب النقض، ثم قال: فإن مثل هذا لايقر في الشرع لضعفه، وكما لا يتقرر إذا صدر عن الحكام، كذلك لا يصح التقليد فيه إذا صدر عن المفتي، ويحرم اتباعه فيه (¬2). أما سبب نقض الحكم المخالف للإجماع: فهو أن الإجماع معصوم من الخطأ ولا يحكم إلا بحق، فخلافه يكون باطلاً قطعاً. وأما سبب نقض الحكم لمخالفة القواعد والقياس الجلي والنص إذا لم يكن لها معارض راجح عليها فهو أنها واجبة الاتباع شرعاً ويحرم مخالفتها ولا يقر شرعاً ما يعارضها باجتهاد خطأ، لقوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} [النساء:59/ 4]. فمخالفة النص: مثل لو حكم القاضي بإبطال وقف المنقول، فإنه ينقض حكمه، لمخالفته نصوص الأحاديث الصحيحة بصحة وقف المنقول، منها أن ¬
رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال في حق خالد بن الوليد: «قد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله» (¬1). ومثل جواز الوصية للوارث، فإنه مخالف للحديث المتواتر: «ألا لاوصية لوارث». ومثل إقرار الربا القليل أو الفائدة في حدود (7 %) فإنه مخالف للآيات القرآنية الدالة دلالة قطعية على تحريم الربا: {وأحل الله البيع وحرم الربا} [البقرة:275/ 2]، ومثل تسوية المرأة بالرجل في الميراث فإنه معارض صراحة للنص القرآني: {للذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء:11/ 4]. ومخالفة الإجماع: مثل الحكم بحرمان الجد من الميراث إذا اجتمع مع الإخوة مع أن الصحابة أجمعوا ضمناً على ضرورة إرث الجد، وإنما اختلفوا في أنه: هل يرث جميع المال ويحجب الإخوة، أم أنه يرث مع الإخوة. ومثل الحكم بعدم ضرورة القسمة بين الزوجات في بعض الأحوال، فإنه مخالف للإجماع على أن العدل في القسمة واجب. ومثل الحكم بالقرائن في إثبات جريمة الزنا، فإنه مخالف للإجماع والنص القرآني القاطع. ومخالفة القواعد: مثل لها القرافي بالمسألة السُّريجية (نسبة لأحمد بن سريج الشافعي المتوفى سنة 306هـ) وهي أن يقول الزوج: «إن طلقتك فأنت طالق قبله ثلاثاً» فلا يقع الطلاق عند ابن سريج، وتابعه فيه ابن تيمية وابن القيم (¬2)، لأن الطلاق الصادر منه لم يصادف محلاً له. فلو حكم حاكم بإقرار الزواج عملاً بهذا الرأي فينقض حكمه - عند المالكية - لمخالفته القواعد، لأن من قواعد الشرع صحة اجتماع الشرط مع المشروط، فإذا لم يجتمع الشرط مع المشروط لايصح أن يكون في الشرع شرطاً (¬3). هذا والوصية لوارث مخالفة للقواعد أيضاً مثل قاعدة ¬
الضابط الثالث ـ ألا يؤد ي الأخذ بالأيسر إلى التلفيق الممنوع
(درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) وقاعدة (الحكم يتبع المصلحة الراجحة) والمصلحة الراجحة في الإبقاء على روابط الأسرة على أساس من المحبة والتعاون وصلة الرحم. ومخالفة القياس الجلي: مثل قبول شهادة النصراني، فإن الحكم بشهادته ينقض، لأن الفاسق لا تقبل شهادته، والكافر أشد منه فسوقاً وأبعد عن المناصب الشرعية في مقتضى القياس، فينقض الحكم لذلك، ولقوله تعالى: {وأشهدوا ذوي عدلٍ منكم} [الطلاق:2/ 65]، وهو رأي المذاهب الأربعة، إلا الحنابلة فقد أجازوا شهادة أهل الكتاب في الوصية في السفر إذا لم يكن غيرهم، عملاً بقوله تعالى: {أو آخران من غيركم} [المائدة:106/ 5]. لكني أرى أن الأسباب المعنوية والاجتماعية والظروف الخاصة والتعصب الذي كان موجوداً في التاريخ بين المسلمين وغيرهم هو الذي أدى إلى رفض قبول شهادة غير المسلمين، أما الآن وقد عاش المسلمون مع غيرهم في صعيد واحد، واتصلوا اتصالاً وثيقاً مع بعضهم، فلا مانع من قبول شهادتهم على المسلمين للضرورة. وقد جرى العمل على ذلك في البلاد الإسلامية. الضابط الثالث ـ ألا يؤد ي الأخذ بالأيسر إلى التلفيق الممنوع: قد بينا دائرة التلفيق الممنوع سواء الباطل لذاته كإحلال المحرمات كالخمر والزنا ونحوهما أو الباطل لا لذاته، وإنما لعارض ويشمل أنواعاً ثلاثة: الأول ـ تتبع الرخص عمداً أي الأخذ بالأيسر بدون ضرورة ولا عذر. الثاني ـ التلفيق الذي يستلزم نقض حكم القاضي. الثالث ـ التلفيق الذي يستلزم الرجوع عما عمل به تقليداً، أو عن أمر مجمع
عليه لازم لأمر قلده وذلك في غير العبادات المحضة. فلا يؤخذ بالأيسر إذا أدى الأمر إلى الانحلال من مسؤولية التكاليف الشرعية أو العبث بالدين وقضايا الزواج، أو الإضرار بالبشر، أو الفساد في الأرض، أو الإضرار بالمصلحة الاجتماعية. فلا يجوز مثلاً التلفيق أو الأخذ بالأيسر للتخلص من فريضة الزكاة، باستخدام الحيل (¬1) قبيل مضي العام بإعطاء الشخص مدينا ً له من الزكاة بقدر ماعليه، ثم يطالبه بالوفاء، فإذا وفاه برىء وسقطت الزكاة عن الدافع. أو يلجأ المزكي لتصرف صوري بيعاً أو هبة ثم يسترد المال إليه، فهذه حيلة محرمة باطلة لاتسقط فرض الزكاة (¬2) لأن في ذلك إضراراً بمصلحة الفقراء، وتآمراً على حقوقهم الثابتة شرعاً في أموال الأغنياء. كما لا يصح الإفتاء بأيسر المذاهب في أحكام الزكاة دفعاً لحاجة الفقير، وإنما يفتى بما يحقق المصلحة، فيفتي مثلاً بمذهب مالك والشافعي وجمهور العلماء بإيجاب الزكاة في مال الصبي والمجنون، وبإخراج زكاة الأرض الخراجية (التي فتحت عنوة) مع الخراج، فيكون الواجب في تلك الأرض الخراج والعشر معاً، لأن العشر واجب ديني على المسلمين، والخراج واجب اجتهادي ليكون مورداً للجماعة ممثلة بالدولة لسد حاجاتها ونفقاتها العامة. ومن الواجب أن تكون الغاية من الأخذ بالأيسر الحفاظ على مقاصد الشريعة، والتزام سياستها وحكمتها التشريعية، ورعاية مصلحة الناس كافة في المعاملات والعقوبات وأداء الأموال والعلاقات الزوجية لا المصلحة الخاصة، وعدم إهدار مصلحة أهم مما دونها، واتقاء المفسدة الكبرى بالدنيا عند الضرورة، ¬
الضابط الرابع ـ أن تكون هناك ضرورة أو حاجة للأخذ بالأيسر
وأن يكون الشرع هو معيار تحقيق المصلحة ودرء المفسدة. ومقاصد الشريعة هي: حفظ الدين (من عقائد وعبادات)، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، وينبغي التدرج في الحفاظ عليها بحسب مراتبها وهي الضروريات أولاً، ثم الحاجيات، ثم التحسينيات. أما الضروريات: فهي التي يتوقف عليها حياة الناس الدينية والدنيوية بحيث إذا فقدت اختلت الحياة في الدنيا، وضاع النعيم وحل العقاب في الآخرة. أي أنها كل مالا بد منه لحفظ المقاصد الخمسة الأصلية. وأما الحاجيات: فهي التي يحتاج الناس إليها لرفع الحرج عنهم فقط، بحيث إذا فقدت وقع الناس في الضيق والحرج دون أن تختل الحياة. فقد تتحقق بدونها المقاصد الخمسة، ولكن مع المشقة والضيق. وأما التحسينيات: فهي المصالح التي يقصد بها الأخذ بمحاسن العبادات ومكارم الأخلاق، كالطهارات وستر العورات. فهي بمثابة السور للحفاظ على المقاصد الخمسة الضرورية. الضابط الرابع ـ أن تكون هناك ضرورة أو حاجة للأخذ بالأيسر. الأخذ بالأيسر ينبغي ألا يكون متخذاً للعبث في الدين أو مجاراة أهواء النفوس أو للتشهي وموافقة الأغراض، لأن الشرع جاء بالنهي عن اتباع الهوى، قال الله تعالى: {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن} [المؤمنون:71/ 23]، {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} [النساء:59/ 4]، فلا يصح رد المتنازع فيه إلى أهواء النفوس. وهناك آيات كثيرة في هذا المعنى منها قوله سبحانه: {فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم، ومن
أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله، إن الله لا يهدي القوم الظالمين} [القصص:28/ 50]، {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم} [المائدة:5/ 49]، {ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض، فاحكم بين الناس بالحق، ولا تتبع الهوى، فيضلك عن سبيل الله} [ص:38/ 26]. وبناءً عليه ألزم العلماء المفتي في إفتائه ألا يتبع أهواء الناس (¬1) بل يتبع المصلحة والدليل الراجح، والمصلحة المعتبرة هي مصلحة الكافة كما بينا. قال تعالى لنبيه: {ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولاتتبع أهواء الذين لايعلمون، إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً} [الجاثية:45/ 18 - 19]، قال القرافي في الإحكام والشيخ عليش في فتاويه (¬2): «أما اتباع الهوى في الحكم والفتيا فحرام إجماعاً». وقال ابن القيم: لايجوز للمفتي تتبع الرخص لمن أراد نفعه، فإن تتبع ذلك فسق، وحرم استفتاؤه (¬3) وهذا المعنى هو الذي حمل الشاطبي ـ كما بينت سابقاً ـ على منع تتبع الرخص، فقد قال: وقد أدى إغفال هذا الأصل (أي اتباع أحد الدليلين أو القولين من غير ترجيح) إلى أن صار كثير من مقلدة الفقهاء يفتي قريبه أو صديقه بمالايفتي به غيره من الأقوال، اتباعا ً لغرضه، وشهوته، أو لغرض ذلك القريب وذلك الصديق (¬4). وهذا يدلنا على أن مراعاة المصلحة الخاصة في الأخذ بالأيسر أمر غير مرغوب فقهاً وشرعاً، وإنما ينبغي مراعاة المصلحة العامة أو مصلحة الكافة. ¬
الضابط الخامس ـ أن يتقيد الأخذ بالأيسر بمبدأ الترجيح
وإذا كان اتباع الأهواء محرما ً لزم تقييد الأخذ بأيسر المذاهب بوجود حالة الضرورة أو الحاجة، لأن (الضرورات تبيح المحظورات) و (الحاجة تنزل منزلة الضرورة، عامة كانت أو خاصة) والضرورة: مايترتب على عصيانها خطر. أما الحاجة: فهي مايترتب على عدم الاستجابة إليها عسر وصعوبة. والمراد بكون الحاجة عامة: أن تكون شاملة جميع الأمة، والمراد بكونها خاصة أن يكون الاحتياج لطائفة متخصصة من الأمة كأهل بلد أو حرفة، لا أن تكون فردية (¬1). ولست مع الشاطبي في أن العمل بالضرورة أو الحاجة أخذ بما يوافق الهوى (¬2)، لأن الضرورات والحاجات تتجدد بحسب التطور. ولابد من مراعاة ضوابط الضرورة الشرعية والحاجة (وهي أن تكون قائمة لامتوقعة، ويقينية أو غالبة الظن، وملجئة أو محرجة ... إلخ) (¬3). الضابط الخامس ـ أن يتقيد الأخذ بالأيسر بمبدأ الترجيح. أي أن يكون الهدف العام أولاً هو العمل بالرأي الأقوى أو الأرجح بحسب رجحان دليله، لأن الأخذ بالأيسر نوع من الاجتهاد، والمجتهد ملزم باتباع الدليل الراجح المؤدي إلى الصواب، بحسب غلبة ظنه. لذا أوجب الأصوليون على المفتي (أي المجتهد) أن يتبع القول لدليله، فلايختار من المذاهب أضعفها دليلاً، بل يختار أقواها دليلاً؛ لأن الصحابة أجمعوا في اجتهاداتهم على وجوب العمل بالراجح من الظنين دون أضعفهما، ولأن العقل يوجب العمل بالراجح في الحوادث، والأصل اتفاق الشرع مع العقل. قال القرافي: إن الحاكم إن كان ¬
مجتهداً فلا يجوز له أن يحكم أو يفتي إلا بالراجح عنده، وإن كان مقلداً جاز له أن يفتي بالمشهور في مذهبه، وأن يحكم به، وإن لم يكن راجحاً عنده، مقلداً في رجحان القول المحكوم به إمامه الذي يقلده، كما يقلده في الفتيا. وقال أيضاً: أما الحكم أو الفتيا بما هو مرجوح فخلاف الإجماع (¬1). لكن ناقش الشيخ عليش هذا الإجماع فقال: ولعل هذا الإجماع ـ على تقدير ثبوته ـ إنما يكون حيث تبع القاضي أو المفتي في تقليد الشاذ هواه، فإن أبغض شخصاً أو كان من ذوي الخمول، شدد عليه، فقضى عليه وأفتاه بالمشهور، وإن أحبه أو كان له عليه منة، وكان من أصدقائه أو أقاربه واستحيا منه، لكونه من ذوي الوجاهة أو أبناء الدنيا، أفتاه، أو قضى له بالشاذ الذي فيه رخصة (¬2). ثم ذكر الشيخ عليش في فتاويه عند الكلام على موضوع التخير بين الأقوال: الصحيح إن كان المقلد أهلاً للنظر في طرق الترجيح وإدراك مدارك التقديم والتصحيح، فإنما الواجب عليه في القولين أو الأقوال إن كانت لشخص واحد ألا يعمل أو يفتي أو يحكم إلا بالراجح عنده (¬3). ثم تعقب الشيخ عليش (¬4) عبارة القرافي في أنه منع المجتهد من الحكم والفتيا إلا بالراجح عنده، وأجاز للمقلد أن يفتي بمشهور مذهب من قلده حتى ولو كان شاذاً مرجوحاً في نظره. ثم قال عليش: لا دليل فيه على جواز العمل بغير الراجح، لأنه لا يلزم من العمل بالمرجوح عنده الراجح في نظر إمامه أو عكسه العمل بالمرجوح في نظرهما معاً. ¬
وخلاصة الكلام المفهوم من كلام القرافي والشيخ عليش: إن المقلد إذا كان أهلاً للترجيح، وكان هناك قولان: راجح ومرجوح، فعليه النظر والترجيح. وإن كان القولان متكافئين لا راجح فيهما في نظره، جاز له الحكم بأحد القولين أو الترجيح بالأعلم أو بالأكثر أو بالأشد والأثقل (¬1). هذا هو الأصل العام عند العلماء في أنه يجب العمل بالراجح في الفتوى والقضاء والعمل إلا لعارض معتبر شرعاً، فإذا وجدت ضرورة أو حاجة أومصلحة عامة للعمل بالقول المرجوح (الضعيف أو الشاذ) (¬2) أو اعتمد الحاكم قولاً مرجوحاً، جاز الأخذ به، كما بينت سابقاً، ولا إجماع في الحقيقة على منع الأخذ بالمرجوح بدليل وجود الاختلاف بين العلماء فيما يأخذ به المقلد من أقوال العلماء. قيل: يأخذ بقول أعلمهم. وقيل: يأخذ بقول أكثرهم، وقيل: يأخذ بقول من شاء منهم، يعني وإن لم يكن قائله أعلم ولا أكثر، بل يكون مماثلاً أو أقل عدداً أو أدنى علماً، وهذا هو عين القول الشاذ. وقد قال بعض المفسرين في سر قوله تعالى لداود عليه السلام: {ولا تتبع الهوى} [ص:26/ 38]، بعد أمره له أن يحكم بالحق: إن فيه إشارة إلى أن الامتثال لايكون بمجرد الحكم بالحق، حتى يكون الباعث على الحكم به حقيته، لا اتباع الهوى، فيكون معبود من اتصف بهذا هواه، لا مولاه جل وعلا، حتى إذا لم يجد هواه في الحق تركه، واتبع غير الله. أما من قلد القول الشاذ لأنه حق في حق من قال به، وفي حق من قلده، ولم يحمله عليه مجرد الهوى، بل الحاجة والاستعانة على دفع ضرر ديني أو دنيوي، ¬
يمكن اختصار هذه الضوابط في أمرين
فهذا ترجى له السلامة في تقييده ذلك (¬1). وقال الشيخ عليش: أما التقليد في الرخصة من غير تتبع، بل عند الحاجة إليها في بعض الأحوال خوف فتنة ونحوها، فله ذلك (¬2). هذه هي ضوابط الأخذ بأيسر المذاهب - قي تقديرنا - فإذا ماالتزمناها نكون قد أخذنا بمبدأ الاعتدال والتوسط الذي قامت عليه شريعة الإسلام، والذي يتفق مع المنهج الذي ارتآه الخليفة أبو جعفر المنصور، حينما لقي الإمام مالك في الحج، فقال له: إنه لم يبق عالم غيري وغيرك. أما أنا فقد اشتغلت بالسياسة. فأما أنت فضع للناس كتاباً في السنة والفقه، تجنب فيه رخص ابن عباس، وتشديدات ابن عمر، وشواذ ابن مسعود، ووطئه توطيئاً. قال مالك: فعلمني كيفية التأليف. يعني دله على طريقة الاعتدال. ويمكن اختصار هذه الضوابط في أمرين: أولهما - أن تكون المسألة اجتهادية ليس فيها دليل راجح. ثانيهما - أن تكون هناك ضرورة أو حاجة أو مصلحة أو عذر. هذا وقد أبان ابن حجر وغيره من الشافعية (¬3) شروط التقليد، وبالتالي تصلح هذه الشروط لبحثنا وهو الأخذ بأيسر المذاهب، من باب أولى فيحسن ذكرها، فقال: وشروط التقليد ستة: ¬
الأول - أن يكون مذهب المقلَّد مدوناً لتتمكن فيه عواقب الأنظار ويتحصل له العلم اليقيني بكون المسألة المقلد بها من هذه المذاهب. الثاني - حفظ المقلِّد شروط إمام المذهب في تلك المسألة. الثالث - أن لايكون التقليد فيما ينقض فيه قضاء القاضي، بأن لايكون خلاف نص الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس الجلي. الرابع - أن لايتبع الرخص بأن يأخذ من كل مذهب بالأسهل لتنحل رتبة التكليف من عنقه. قال ابن حجر: ومن ثم كان الأوجه أن يفسق به. وقال الرملي: الأوجه أنه لايفسق وإن أثم به. وهذا الشرط - كما صرح المتأخرون - ليس شرطاً لصحة التقليد بل هو شرط لدرء الإثم كالنهي عن الصلاة في الأرض المغصوبة. الخامس - أن لايعمل بقول في مسألة ثم بضده في عينها. وهذا الشرط فيه نظر، لأنه مبني على امتناع التقليد بعد العمل، والأصح جوازه - كما قال الشافعية. السادس - أن لايلفق بين قولين تتولد منهما حقيقة واحدة مركبة، لايقول كل من الإمامين بها، كتقليد الشافعي في مسح بعض الرأس، ومالك في طهارة الكلب في صلاة واحدة. قال البلقيني: إن التركيب القادح في التقليد إنما يؤخذ إذا كان في قضية واحدة، كتقليد إمامين في طهارة الحدث. أما إذا كان التركيب من حيث القضيتين كطهارة الحدث وطهارة الخبث، فذلك غير قادح، لأن الإمامين لم يتفقا على بطلان طهارته.
وزاد بعض الشافعية شرطاً سابعاً: وهو أنه يلزم المقلِّد اعتقاد أرجحية أو مساواة مقلِّده للغير، لكن المشهور الذي رجحه النووي والرافعي جواز تقليد المفضول مع وجود الفاضل. قال ابن عابدين في رد المحتار: ذكر في التحرير وشرحه أنه يجوز تقليد المفضول مع وجود الأفضل. وبه قال الحنفية والمالكية وأكثر الحنابلة والشافعية. وزاد بعضهم شرطاً ثامناً: وهو أنه لابد من صحة التقليد أن يكون صاحب المذهب حياً وقت التقليد. لكن هذا مردود عند العلماء، لأن الشيخين النووي والرافعي اتفقا على جواز تقليد الميت، وقالا: هو الصحيح. يتبين من نقاش هذه الشروط خلال ماكتبناه أن الشرطين الأولين مفترض تحققهما في كل تقليد أو أخذ بالأيسر. وأن الشرط السابع والثامن لاداعي لهما، وأوافق على الشرط الثالث وأعتمده في بحثي، وأمنع الأخذ بالتلفيق الممنوع فقط وبه يستغنى عن الشرط الخامس. وآخذ بما يخالف الشرط الرابع عند الحاجة. ويحسن وضع مشاريع قوانين مدنية وتجارية وجزائية مستمدة من الفقه الإسلامي كله (فقه الصحابة والتابعين وفقه المذاهب الأربعة وغيرها من فقه أئمة الاجتهاد الآخرين وعلماء العصر الحديث). والاجتهاد ممكن كل الإمكان اليوم، ولاصعوبة فيه، بشرط أن ندفن تلك الأوهام والخيالات، ونمزق ذلك الران الذي خيم على عقولنا وقلوبنا من رواسب الماضي وآفات الخمول، والظن الآثم بعدم إمكان الوصول إلى ماوصل إليه الأولون، حتى عد ذلك كأنه ضرب من المستحيل، وهل هناك مستحيل بعد غزو الفضاء واختراع أنواع الآلات الحديثة العجيبة الصنع؟!.
المطلب السابع ـ المصيب في الاجتهاد
إن استكمال شرائط الاجتهاد ليس من العسير في شيء بعد تدوين العلوم المختلفة، وتعدد المصنفات فيها، وتصفية كل دخيل عليها. وهاهم العلماء في كل عصر يجتهدون، ويرجحون بين أقوال الفقهاء السابقين، حتى انضبطت المذاهب، وحررت الأحكام. قال ابن عبد السلام من أئمة المالكية في كتابه (شرح مختصر ابن الحاجب) في باب القضاء: «إن رتبة الاجتهاد مقدور على تحصيلها، وهي شرط في الفتوى والقضاء، وهي موجودة إلى الزمان الذي أخبر عنه عليه الصلاة والسلام بانقطاع العلم، ولم نصل إليه إلى الآن، وإلا كانت الأمة مجتمعة على الخطأ، وذلك باطل». قال السيوطي معلقاً على هذه العبارة: «فانظر كيف صرح بأن رتبة الاجتهاد غير متعذرة، وأنها باقية إلى زمانه، وبأنه يلزم من فقدها اجتماع الأمة على الباطل، وهو محال» (¬1). قال الشيخ المراغي في بحثه عن الاجتهاد في الإسلام: وإني مع احترامي لرأي القائلين باستحالة الاجتهاد أخالفهم في رأيهم، وأقول: إن في علماء المعاهد الدينية في مصر من توافرت فيهم شروط الاجتهاد ويحرم عليهم التقليد. المطلب السابع ـ المصيب في الاجتهاد اتفق الأصوليون على أن الناظر في القضايا العقلية المحضة (¬2) والمسائل ¬
منشأ الخلاف
الأصولية (¬1): يجب أن يهتدي إلى الحق والصواب فيها، لأن الحق فيها واحد، لايتعدد، والمصيب فيها واحد بعينه، وإلا اجتمع النقيضان. فمن أصاب الحق فقد أصاب، ومن أخطأ فهو آثم، ونوع الإثم يختلف: فإن كان الخطأ فيما يرجع إلى الإيمان بالله ورسوله فالمخطئ كافر، وإلا فهو مبتدع فاسق، لأنه عدل عن الحق، وضل، كالقول بعدم رؤية الله تعالى، وخلق القرآن (¬2). ويلحق بذلك المسائل القطعية المعلومة من الدين بالضرورة (أي البداهة)، كوجوب الصلوات الخمس والزكاة والحج وصوم رمضان وتحريم الزنا والقتل والسرقة وشرب الخمر ونحوها مما علم قطعاً من دين الله، فليس كل مجتهد فيها مصيباً، بل الحق فيها واحد لايتعدد، وهو المعلوم لنا، فالموافق له مصيب، والمخالف له مخطئ آثم. أما المسائل الفقهية الظنية أي الأحكام التي ليس فيها دليل قاطع، فهي محل الاجتهاد، ولا إثم على المجتهد فيها، لكن اختلف الأصوليون فيها، هل كل مجتهد فيها مصيب أو أن المصيب واحد؟. ومنشأ الخلاف في هذا: هل لله تعالى في كل مسألة حكم معين في الأمر نفسه قبل اجتهاد المجتهد، أو ليس له حكم معين، وإنما الحكم فيها هو ماوصل إليه المجتهد باجتهاده؟. ¬
المطلب الثامن ـ طريقة الاجتهاد
فقال الأشعري والغزالي والقاضي الباقلاني: لاحكم لله قبل اجتهاد المجتهد، وحكم الله ما أدى إليه اجتهاد المجتهد، فالحكم يتبع الظن، وما غلب على ظن المجتهد هو حكم الله، أي أن كل مجتهد مصيب، لأنه أدى ماكلف به. وقال جمهور العلماء والشيعة: إن لله في كل واقعة حكماً معيناً قبل الاجتهاد، فمن صادفه فهو المصيب، ومن لم يصادفه كان مخطئاً. فالمصيب واحد، له أجران، والمخطئ غيره وله أجر واحد (¬1). ثم اختلف هؤلاء، فقالت طائفة من الفقهاء والمتكلمين: هذا الحكم لادليل ولا أمارة عليه، بل هو كدفين يعثر عليه الطالب مصادفة. وهو رأي غير معقول لامعنى له، إذ كيف يكلف الله العباد بحكم لا دليل عليه؟. وقال الأكثرون: قد نصب الله على هذا الحكم أمارة ظنية، والمجتهد ليس مكلفاً بإصابة الدليل لخفائه وغموضه، فمن لم يصبه كان معذوراً مأجوراً، وهذا هو القول الصحيح، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر». المطلب الثامن ـ طريقة الاجتهاد: إذا وقعت حادثة جديدة، أو أراد إنسان استخلاص رأي راجح من بين آراء الأئمة، استجمع العالم المجتهد كل ما يتصل بنواحي الموضوع من لغة وآيات قرآنية ¬
المطلب التاسع ـ نقض الاجتهاد وتغييره وتغير الأحكام بتغير الأزمان
وأحاديث نبوية وأقاويل السلف وأوجه القياس الممكنة، أي لا بد من توافر شروط الاجتهاد في تلك الحادثة، ثم ينظر فيها بدون تعصب لمذهب معين على النحو التالي: ينظر أولاً في نصوص كتاب الله تعالى، فإن وجد فيه نصاً أو ظاهراً، تمسك به، وحكم في الحادثة بمقتضاه. فإن لم يجد فيه ذلك، نظر في السنة، فإن وجد فيها خبراً أو سنة عملية أو تقريرية، أخذ بها، ثم ينظر في إجماع العلماء، ثم في القياس (¬1)، ثم في الرأي الموافق لروح التشريع الإسلامي (¬2). وهكذا تتحدد طريقة الاجتهاد إما بالأخذ من ظواهر النصوص إذا انطبقت على الواقعة، أو بأخذ الحكم من معقول النص أي بالقياس، أو بتنزيل الوقائع على القواعد العامة المستنبطة من الأدلة المتفرقة في القرآن والسنة كالاستحسان والمصالح المرسلة والعرف وسد الذرائع إلخ (¬3). المطلب التاسع ـ نقض الاجتهاد وتغييره وتغير الأحكام بتغير الأزمان: أولاً ـ تغير الاجتهاد: يجوز للمجتهد تغيير اجتهاده، فيرجع عن قول قاله سابقاً، لأن مناط الاجتهاد هو الدليل، فمتى ظفر المجتهد به، وجب عليه الأخذ بموجبه لظهور ماهو أولى بالأخذ به، مما كان قد أخذ به، ولأنه أقرب إلى الحق والصواب (¬4). جاء في كتاب عمر رضي الله عنه لأبي موسى الأشعري قاضيه على الكوفة: ¬
ثانيا ـ نقض الاجتهاد
«ولايمنعنك قضاء قضيته اليوم، فراجعت فيه نفسك، وهديت فيه لرشدك، أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل». ثانياً ـ نقض الاجتهاد: إذا أفتى مجتهد في حادثة ما، أو حكم الحاكم في نزاع بين متخاصمين، ثم تغير اجتهاد كل منهما، فرأى المجتهد أو الحاكم حكماً بخلاف مارآه أولاً، فما الذي يعمل به من الاجتهادين: السابق أم اللاحق، وهل ينقض الاجتهاد السابق؟ وقبل الإجابة يلاحظ أن هناك فرقاً بين نقض الاجتهاد وتغير الاجتهاد. وهو أن التغير أمر نظري لتقرير مبدأ العدول عن الاجتهاد السابق، وأما نقض الاجتهاد فمجاله الحياة العملية والإفتاء وفض المنازعات والخصومات بين الناس. وقد ميز الأصوليون في مسألة نقض الاجتهاد بين المجتهد والحاكم (¬1). أما المجتهد لنفسه إذا رأى حكماً معيناً، ثم تغير ظنه، لزمه أن ينقض اجتهاده وما ترتب عليه. مثاله: إذا رأى المجتهد أن الخلع فسخ، فنكح امرأة كان قد خالعها ثلاثاً، ثم رأى بعدئذ أن الخلع طلاق، لزمه مفارقة تلك المرأة، ولايجوز له إمساكها، عملاً بمقتضى الاجتهاد الثاني، لأنه تبين أن الاجتهاد الأول خطأ، والثاني صواب، والعمل بالظن واجب. وأما الحاكم: إذا قضى في واقعة معينة باجتهاد، ثم تغير اجتهاده في واقعة مماثلة، فإن كان حكمه مخالفاً لدليل قاطع، من نص، أو إجماع، أو قياس جلي (¬2) نقض باتفاق العلماء، سواء من قبل الحاكم نفسه أو من أي مجتهد آخر، لمخالفته الدليل. ¬
ثالثا ـ تغير الأحكام بتغير الأزمان
وأما إذا كان حكمه في مجال الاجتهاديات، أو الأدلة الظنية، فإنه لاينقض الحكم السابق، لأن نقضه يؤدي إلى اضطراب الأحكام الشرعية وعدم استقرارها، وعدم الوثوق بحكم الحاكم، وهذا مخالف للمصلحة التي نصب الحاكم لها، وهو فصل المنازعات. فلو أجيز نقض حكم الحاكم، لما استقرت للأحكام قاعدة، ولبقيت الخصومات على حالها بعد الحكم، وذلك يوجب دوام التشاجر والتنازع وانتشار الفساد ودوام العناد، وهو مناف للحكمة التي لأجلها نصب الحكام، كما قال القرافي (¬1). والرائد في ذلك قول عمر حينما قضى في مسألة إرثية بحكمين: «تلك على ماقضينا وهذا على مانقضي» وقول الفقهاء في الفروع: «لاينقض الاجتهاد بالاجتهاد». ثالثاً ـ تغير الأحكام بتغير الأزمان: لاينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان، كما هو معروف مشهور، وذلك بسبب تغير العرف، أو تغير مصالح الناس، أو مراعاة الضرورة، أو لفساد الأخلاق، وضعف الوازع الديني، أو لتطور الزمن وتنظيماته المستحدثة. فيجب تغير الحكم الشرعي لتحقيق المصلحة ودفع المفسدة، وإحقاق الحق والخير. وهذا يجعل مبدأ تغير الأحكام أقرب إلى نظرية المصالح المرسلة منها إلى نظرية العرف. ومما ينبغي ملاحظته أن الأحكام القابلة للتغير أو التطور هي المستنبطة بطريق القياس أو المصلحة المرسلة، وذلك في نطاق المعاملات أو الأحكام الدستورية والإدارية والعقوبات التعزيرية، مما يدور مع مبدأ إحقاق الحق وجلب المصالح ودرء المفاسد. ¬
المطلب العاشر ـ خطة البحث
أما ما عدا ذلك من الأحكام الأساسية المقررة لغاية تشريعية أو مبدأ تنظيمي عام، فهي أمور ثابتة لا تقبل التطور، مثل أصول العقيدة والعبادات والأخلاق وأصول التعامل كحرمة محارم الإنسان، ومبدأ الرضائية في العقود، ووفاء العاقد بعقده أو عهده، وضمان الضرر اللاحق بالغير، وتحقيق الأمن والاستقرار، وقمع الإجرام، وحماية الحقوق الإنسانية العامة، ومبدأ المسؤولية الشخصية، واحترام مبدأ العدالة والشورى. المطلب العاشر ـ خطة البحث: طريقتي في بحث أبواب الفقه هي تقسيم الفقه إلى أقسام ستة: 1 - العبادات، وما له صلة بها كالنذور والأيمان والأضاحي والذبائح (صلة الإنسان بالله تعالى). 2 - أهم النظريات الفقهية. 3 - المعاملات - العقود المدنية وتوابعها (علاقة الإنسان بغيره). 4 - الملكية وما يتبعها من بحث أحكام الأراضي، وإحياء الموات، وحقوق الارتفاق، وعقود استثمار الأرض، وأحكام المعادن والنفط، والقسمة، والغصب واللقطة والسبق والمفقود والشفعة. 5 - ما له صلة بالدولة (الفقه العام): الحدود والجنايات والجهاد والمعاهدات والقضاء وطرق الإثبات وأحكام الإمامة الكبرى أو نظام الحكم. وقد يسمى ذلك بالأحكام السلطانية. 6 - الأحوال الشخصية من زواج وطلاق وتوابعهما، وميراث ووصية،
المطلب الحادي عشر ـ جدول المقاييس
ووقف، وأما الأهلية والولاية فقد أوضحتهما في بحث النظريات الفقهية، ويتكرر تفصيلهما أحياناً في بعض مباحث الأحوال الشخصية، وعقد البيع وغيره. المطلب الحادي عشر ـ جدول المقاييس (¬1) 1 - وحدات الأطوال: القَصَبة: (6 أذرع أو 696،3 م) (متراً) (¬2). الجريب: (100 قصبة أو 3600) ذراعاً هاشمياً أو قدماً مربعاً أو ياردة مربعة، (أو0416،1366 م2) (متر مربع)، والقدم: (4،30 سم)، واليارد الحالي: (43،91سم). الذراع الهاشمي: (32) إصبعاً أو قيراطاً، والإصبع: (925،1) سم (سنتيمتر). الذراع المصري العتيق (¬3): (2،46) سم. الذراع المقصود فقهاً هو الهاشمي: (2،61) سم. الباع: (4) أذرع، والمرحلة: (12) ساعة. ¬
2 - وحدات المكاييل
القفيز (في الأطوال): (10/ 1) الجريب أو (6،136م2). الغَلْوة (غلوة سهم): (400) ذراع أو (8،184م). الميل: (4000) ذراع أو (1848م) أو (2/ 1) ساعة أو (1000) باع. والميل البحري الحديث: (32،1848) م. الفرسخ: (3) أميال أو (5544) م أو (12000) خطوة، حوالي (2/ 1) 1ساعة، واحد ونصف. البريد العربي: (4) فراسخ أو (22176م) أو (176،22) كم أو حوالي (6) ساعات (¬1). مسافة القصرللمسافر أربعة برد وهي ستة عشر فرسخاً، وتساوي: (704،88) كم (كيلومتر)، وعند الحنيفة حوالي 86 كم. وقدرها بعضهم بـ 83كم. الفدان المصري: (5/ 6) (4200) م2 أو (3/ 1) (333) قصبة مربعة. والفدان القديم: (5929م2). الدونم: (1000م2). 2 - وحدات المكاييل: الصاع الشرعي أو البغدادي: (4) أمدادأو (5 و3/ 1) رطل، أي أربع حَفَنات كبار، ووزنه: (7،685) درهماً أو (75،2) لتراً أو (2176) غم وهو رأي الشافعي ¬
وفقهاء الحجاز والصاحبين باعتبارأن المد: رطل وثلث بالعراقي، وعند أبي حنيفة وفقهاء العراق: ثمانية أرطال باعتبار أن المد رطلان، فيكون (3800غم).وفي تقدير آخر هو الشائع أن الصاع (2751غم). قال النووي: الأصح أن الصاع ست مئة وخمسة وثمانون درهماً وخمسة أسباع درهم. والرطل مئة وثمانية وعشرون درهماً وأربعة أسباع درهم. والعبرة بالصاع النبوي إن وجد أومعياره، فإن فقد أخرج مزكي الفطرة قدراً يتيقن أنه لا ينقص عن صاع. والصاع بالكيل المصري: قَدَحان. المد: (3/ 1) 1 رطلاً أو (675) غم (غرام) أو (688،0) لتراً. الرطل الشرعي أو البغدادي: (7/ 4) (128) درهماً، وقيل: (130) درهماً، والرطل البغدادي: (408) غم، والرطل المصري: (144) درهماً أي (450) غم تقريباً. الدرهم العراقي (17،3) غم، والدرهم الحالي المصري: (12،3) غم، والدرهم العربي (975،2غم). القفيز: (12) صاعاً أو ثمانية مكاكيك، والمكُّوك: صاع ونصف. ويساوي القفيز أيضاً (33) لتراً أو (128) رطلاً بغدادياً، كما يساوي ثلاث كيلجات، والكيلجة: نصف صاع. المنا: رطلان. الفَرْق: إناء من نحاس يسع (16) رطلاً، أي ما يعادل (10) كغ أو (6) أقساط، والقِسْط نصف صاع. الْمُدْي (مكيال للشام ومصر وهو غير الْمُدّ): (5،22) صاعاً.
3 ـ وحدات الأوزان والنقود
الجريب: (48) صاعاً أو (192) مداً. الوَسْق: (60) صاعاً، والخمسة أوسق نصاب الزكاة: (300) صاعاً أو (653) كغ على رأي الجمهور غير أبي حنيفة بتقدير الصاع (2175) غم أو (1200) مداً أو (4) أرادب وكيلتين من الكيل الحالي المصري أو (50) كيلة مصرية. والكيلة: (24) مداً. والإردب المصري الحالي: (96) قدحاً أو (288) مداً أو (198) لتراً (¬1)، أو (156) كغ أو (192) رطلاً أو (72) صاعاً. والكيلة المصرية: (6) آصع أو (32) رطلاً. الإرْدَب المصري أو العربي: (24) صاعاً أو (64) مَنَا أو (128) رطلاً أو (6) وَيْبات أو (66) لتراً. الوَيْبة: (24) مداً أو (6) آصع، فهي الكيلة المصرية الحالية. الكُرّ (أكبر مقاييس الكيل العربي): (720) صاعاً أو (60) قفيزاً أو (10) أرادب أو (3840) رطل عراقي أو (1560) كغ (كيلو غرام). 3 ـ وحدات الأوزان والنقود: الدينار: المثقا ل من الذهب أو (25،4) غم (¬2) أو حبة من الشعير المتوسط. حبة الشعير (أي المعتدل): (059،0) غم من الذهب. المثقال أو الدينار: (20) قيراطاً، والمثقال العجمي: (80،4) غم، والمثقال ¬
العراقي: (5) غم (¬1). القيراط: (2125،0) غم فضة إذا اعتبرنا المثقال مقسماً إلى عشرين قيراطاً وهو ما أراد معاوية أن يزيده على مصر، أو (2475،0) غم فضة إذا اعتبرنا المثقال مقسماً إلى اثنين وعشرين قيراطاً. الدرهم العربي: (10/ 7) من المثقال (الدينار) أو (975،2) غم أو (6) دوانق أو (5/ 2) (50 حبة) شعير متوسط، والعشرة دراهم: (7) مثاقيل ذهباً أو (140) قيراطاً وأوقية الذهب: (40) درهماً. الدانق: قيراطان أو (5/ 2) 8 حبة شعير متوسط أو (6/ 1) الدرهم أو (495،0) غم من الفضة. الطّسوج: حبتان أو نصف قيراط أو (1237،0) غم، والقيراط: طسوجان. الحبة: (681،0) غم فضة أو (06،0) غم أو فلسين. النواة: (5) دراهم. الفَلْس: (03،0) غم فضة. القنطار الشرعي: (1200) أوقية أو (8400) (¬2) دينار أو (000،80) درهم، ¬
ملاحظة
القنطار الحالي: (100) رطل شامي، والرطل الشامي: (564،2) كغ، ونصاب العنب والتمر (الخمسة أوسق): (5،2) قنطاراً زبيباًأو (653) كغ أو (50) كيلة مصرية. ملاحظة: إن التقدير الذي اعتمدته هنا على الأصح: هو أن الدينار (25،4غم) والدرهم (975،2 غم) ونصاب الفضة في الزكاة (595غم) ونصاب الذهب (85غم) والصاع عند الشافعية (2176غم) فتكون الخمسة أوسق. (300صاع×2176غم) = 8،652 كغ أي (653) كغ تقريباً. واعتمدت أيضاً في خلاصة التقديرات على ماهو الأشهر، وإن كانت إلا حالات أحياناً على تقدير مذهبي آخر. المطلب الثاني عشر ـ النية والباعث في العبادات والعقود والفسوخ والتروك: هذا بحث في النية المشروعة (القصد أو الإرادة) والنية غير المشروعة (الباعث السيء) وأحكامها وأحوالها في مجال العبادات من طهارة وصيام وزكاة وحج وغيرها، والمعاملات من عقود بيع وزواج وهبة وكفالة وحوالة ونحوها، وفسوخ كالطلاق لإنهاء رابطة الزواج، وتروك كترك المكروه والحرام، وإزالة النجاسة ورد المغصوب والعواري وإيصال الهدية وغير ذلك مما لا تتوقف صحته على النية، ومباحات وعادات كالأكل والشرب والجماع ونحوها مما يثاب عليه المسلم ثواب العبادات عند استحضار النية فيها. ولا مشقة عليه في القيام بها، بل هي مألوفة لنفسه، مستلذة يقبل عليها بدافع ذاتي أو بالغريزة والفطرة.
أهمية البحث وخطته: تمتاز الشريعة الإسلامية بسبب شمولها لأمور الدين والدنيا بأنها نظام روحي ومدني معاً، وينقسم الحق فيها باعتبار وجود المؤيد القضائي وعدمه إلى نوعين: حق دياني وحق قضائي. الأول: هو الذي لايدخل تحت ولاية القضاء، وإنما يكون الإنسان مسؤولاً عنه أمام الله تعالى. والثاني: هو ما يدخل تحت ولاية القاضي، ويمكن لصاحبه إثباته أمام القضاء. وتظهر ثمرة القسمة بينهما في أن الأحكام الديانية تبنى على النوايا والواقع والحقيقة، وأما الأحكام القضائية فتبنى على ظاهر الأمر، ولا ينظر فيها إلى النوايا وواقع الأمر، فمن طلَّق امرأته خطأ، ولم يقصد إيقاع الطلاق، يحكم القاضي بوقوع طلاقه، عملاً بالظاهر واستحالة معرفة الحقيقة. وأما ديانة فيحكم المفتي بعدم وقوع الطلاق، وللإنسان أن يعمل بذلك فيما بينه وبين الله تعالى. فحق الديانة يعتمد على النية، والنية أساس الديانة (¬1)، وهو الحق الأبدي الخالد الذي يبقى ولا يتغير، وهو مناط الثواب والعقاب بين يدي الله تعالى؛ لأن الإسلام دين قبل كل شيء، والدينونة جوهر الإسلام، وهي محصورة بأن تكون لله عز وجل وحده. أما القوانين الوضعية فلا ينظر فيها للنوايا والبواطن والخفايا ولا مجال فيها لفكرة الحلال والحرام بالمعنى الديني، وإنما العبرة للظواهر ورصد واقع الحياة من خلال التعامل القائم، وتنظيمه على وفق النظام السائد في المجتمع والدولة. ¬
وقد أدى تطبيق القوانين الوضعية في البلاد الإسلامية إلى إضعاف الوازع الديني، وانحسار هيمنة الدين ورقابة الإله في السر والعلن على تصرفات الناس، وغياب ميزان التقوى في كسب الحقوق والتنازل عنها، مما أفقد الاهتمام بالنية. ولكن بروز مثل هذه الظاهرة المرضية في مجتمعاتنا لا يثنينا عن ضرورة التذكير المستمر برصيد الإسلام وقيمه وأحكامه؛ لأنه النظام الأمثل والأخلد والأصلح للبشرية لتصحيح مسيرة الناس، وتجاوز الانحرافات والأخطاء، ولأنه الأساس الذي يحاسب عليه الإنسان في الضمير العام بين البشر، ولدى أحكم الحاكمين في الدار الآخرة. ومن أهم مقومات الرصيد الإسلامي في نطاق الأحكام الشرعية التي يلزم بها المكلفون: النية الصحيحة، فهي معيار لتصحيح الأعمال، فحيث صلحت النية، صلح العمل، وحيث فسدت فسد العمل. ولا تصير أعمال المكلفين المؤمنين معتبرة شرعاً، ولا يترتب الثواب على فعلها إلا بالنية. وقد اعتبر حديث عمر رضي الله عنه المشهور وهو «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ مانوى» أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، فهو أحد أصول الدين، وعليه تدور غالب أحكامه، وهو نصف الإسلام، قال أبو داود: «إن هذا الحديث نصف الإسلام؛ لأن الدين إما ظاهر وهو العمل، أو باطن وهو النية» وهو أيضاً ثلث العلم، قال الإمام الشافعي وأحمد رحمهما الله: يدخل في حديث (الأعمال بالنيات) ثلث العلم، قال البيهقي وغيره. وسبب ذلك أن كسب العبد يكون بقلبه، ولسانه، وجوارحه، والنية أحد أقسامه الثلاثة. وروي عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه قال: يدخل هذا الحديث في سبعين باباً من الفقه. ولذا استحب العلماء أن تستفتح به الكتب والمصنفات، ليكون ذلك منبِّهاً طالب العلم أن يصحح نيته لوجه الله تعالى في طلب العلم وعمل الخير ونفع نفسه وأمته وبلاده. وبناء عليه قال العلماء: «إن قاعدة: الأمور بمقاصدها ثلث العلم».
هل العبرة في العقود والتصرفات للمقاصد والمعاني أو للألفاظ والمباني
وقال جماعة من العلماء: حديث الأعمال بالنيات ثلث الإسلام، قا ل أبو داود: نظرت في الحديث المسند، فإذا هو أربعة آلاف حديث، ثم نظرت، فإذا مدار أربعة آلاف حديث على أربعة أحاديث: حديث النعمان بن بشير: «الحلال بيِّن والحرام بيِّن» وحديث عمر هذا، وحديث أبي هريرة: «إن الله طيِّب لا يقبل إلا طيباً» وحديث «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» قال: فكل حديث من هذه الأربعة ربع العلم (¬1). لهذا كله يكون بحث النية من أوليات الدين. وأصول العلم الضرورية لكل إنسان، لأن في البحث تذكيراً وبياناً وضبطاً، ووضع الضوابط للنية ييسر على العبَّاد والنسَّاك معرفة الطريق الأصح الأسلم لعبادتهم وقرباتهم، ويوضح لكل إنسان طريق التمييز بين الحلال والحرام وما يوجب الثواب والعقاب، ويبيِّن له ما يجب عليه معرفته من الحد الأدنى في طلب العلم، إذ لا تصح عبادة بدون نية، ويتأثر الحكم على كل تصرف من عقد أو فسخ بنوع النية، فهو إما جائز صحيح بالنية المشروعة، وإما فاسد باطل بالنية الخبيثة أو السيئة، وإما مُرتِّب للأثر أو عدمه بحسب النية وجوداً وفقداناً، ف هل العبرة في العقود والتصرفات للمقاصد والمعاني أو للألفاظ والمباني؟ وهل الباعث السيء يفسد العقد أو لا؟ وهذا يؤدي لبيان مبدأ الذرائع سداً وفتحاً. وأتناول في بحثي هذا عن النية الأمور التالية: 1 - حقيقة النية أو تعريف النية. 2 - حكم النية (الوجوب)، وأدلة إيجابها، والقواعد الشرعية المتعلقة بها. 3 - محل النية. ¬
4 - زمن النية أو وقت النية. 5 - كيفية النية. 6 - الشك في النية وتغييرها والجمع بين عبادتين بنية واحدة. 7 - المقصود بالنية ومقوماتها. 8 - شروط النية. 9 - النية في العبادات. 10 - النية في العقود. 11 - النية في الفسوخ. 12 - النية في التروك. 13 - النية في المباحات والعادات. 14 - النية في أمورأخرى. هذا مع العلم بأن المحدِّثين والفقهاء أوضحوا الكلام في النية، ولكن في مواطن متفرقة، وفي ثنايا المسائل وأعماق الأبواب الفقهية، ولم أطلع على كتاب جامع لأحكام النية وأحوالها سوى (كتاب نهاية الإحكام في بيان ما للنية من أحكام) للعالم أحمد بك الحسيني (طبع 1320هـ /1903م) بالمطبعة الأميرية بمصر، إلا أنه محصور بأمرين: كونه في مذهب الشافعية فقط، وفي بعض العبادات فحسب. لذا وجدت لزاماً علي بحث كل ما يتعلق بالنية بحسب الخطة المذكورة، لتتجلى للقارئ هذه النظرية الشاملة لشؤون العبادات والمعاملات والأحوال الشخصية والتروك والمباحات، والله الموفق لسواء الصراط.
أولا ـ حقيقة النية أو تعريفها
أولاً ـ حقيقة النية أو تعريفها: النية لغة: قصد الشيء وعزم القلب عليه (¬1)، قال الأزهري: يقال نواك الله: أي حفظك. وتقول العرب: نواك الله: أي صحبك في سفرك وحفظك. وبعبارة أخرى: النية: القصد: وهو اعتقاد القلب فعل شيء وعزمه عليه، من غير تردد. والنية وإرادة الفعل مترادفان، وتعم كل منهما الفعل الحالي والاستقبالي. وفَرَق بعض اللغويين بين النية والعزم بجعل النية: الإرادة المتعلقة بالفعل الحالي، والعزم: الإرادة المتعلقة بالفعل الاستقبالي. لكن يردّ على هذا الفارق بتفسير النية بالعزم مطلقاً في كتب اللغة. والنية في الشرع: عزم قلبي على عمل فرضي أو غيره. أو عزم القلب على عمل فرضاً كان أو تطوعاً. وهي أيضاً: الإرادة المتعلقة بالفعل في الحال أو في المستقبل. وبناء عليه: إن كل فعل صدر من عاقل متيقظ مختار لايخلو عن نية، سواء أكان من قبيل العبادات أم من قبيل العادات. وذلك الفعل هو متعلَّق الأحكام الشرعية التكليفية من الإيجاب والتحريم، والندب والكراهة والإباحة. وما خلا عن النية فهو فعل غافل، فهو لاغٍ، لايتعلق به حكم شرعي. فإذا صدر الفعل من غير عاقل متيقظ، بأن كان من مجنون أو ناسٍ أو مخطئ أو مكرَه، فإنه لاغٍ، لايتعلق به حكم تكليفي مما ذكر، لعدم وجود النية والقصد والإرادة فيه، ولايعتبر شرعاً، ولايتعلق به طلب ولاتخيير. وأما إذا كان الفعل من الأفعال العادية كالأكل والشرب والقيام والقعود والبطش والمشي والنوم ونحوها صادراً من العاقل المتيقظ بدون نية، فحكمه الإباحة، إن لم يقترن بمايوجب حظره أو طلبه، ويكون معتبراً شرعاً. ¬
وأما الحكم ببطلان وضوء الناسي، وضمان المتلفات من المجنون والصبي ونحوهما، وضمان الدية بقتل النفس أو قطع عضو، أو إزالة معنى من المعاني كالسمع والبصر والبطش والحركة إذا وقع ذلك خطأ أو شبه عمد، مع عدم نية القتل أو القطع، فهو ليس من باب التكليف الشرعي بشيء بل من باب الحكم الوضعي، أي جعل الشيء سبباً أو شرطاً أو مانعاً أو صحيحاً أو فاسداً أو عزيمة أو رخصة، أي أن الإتلاف مثلاً سبب موجب للتعويض أو للضمان مطلقاً، سواء صدر من صغير أو كبير، من عاقل أو مجنون. ويلاحظ أن المراد بالنية في الصيام هو العزم أو الإرادة الكلية وهو المعنى العام للنية، أي أن الصيام يصح بتبييت النية من الليل، دون اشتراط مقارنتها لبدء الصوم وهوطلوع الفجر، فلو نوى ثم أكل، وصام، صح صومه، أما غير الصيام من العبادات التي تتطلب لصحتها مقارنة النية ببدء الفعل فلابد فيها من القصد تحقيقاً: وهو الإرادة المتعلقة ببدء الفعل، فالنية المعتبرة فيه هي القصد تحقيقاً، أي النية المقترنة ببدء تنفيذ الفعل، وهو المراد بالنية عند عدّها لدى الشافعية من أركان العبادة، كالوضوء والغسل والتيمم والصلاة والزكاة والحج، ومثلها كنايات العقود والفسوخ، فلابد فيها من القصد تحقيقاً الذي هو النية المقارنة للفظ الكنائي أو الكتابة وإشارة الأخرس التي يفهمها الفطن، وكذا الاستثناء في الأقارير (الإقرارات) والطلاق، والتعليق في الطلاق بكلمة (إن شاء الله) فلابد فيها من النية بمعنى القصد تحقيقاً قبل الفراغ من المستثنى منه، أي اقتران النية بالكلام المتصل ببعضه. وخلاصة الكلام في بيان حقيقة النية تظهر فيما يأتي: قال الحافظ ابن رجب الحنبلي: اعلم أن النية في اللغة نوع من القصد والإرادة، وإن كان قد فرق بين هذه الألفاظ بما ليس هذا موضع ذكره. والنية في كلام العلماء تقع بمعنيين:
ثانيا ـ حكم النية وأدلة إيجابها، والقواعد الشرعية المتعلقة بها
أحدهما ـ تمييز العبادات بعضها عن بعض، كتمييز صلاة الظهر من صلاة العصر مثلاً، وتمييز رمضان من صيام غيره. أو تمييز العبادات من العادات، كتمييز الغسل من الجنابة من غسل التبرد والتنظيف ونحو ذلك، وهذه النية هي التي توجد كثيراً في كلام الفقهاء في كتبهم. والمعنى الثاني ـ بمعنى تمييز المقصود بالعمل، وهل هو لله وحده لا شريك له، أو لله وغيره. وهذه هي النية التي يتكلم فيها العارفون في كتبهم على الإخلاص وتوابعه، وهي التي توجد كثيراً في كلام السلف المتقدمين. وقد صنف أبو بكر بن أبي الدنيا مصنفاً سماه (كتاب الإخلاص والنية) وإنما أراد هذه النية، وهي النية التي يتكرر ذكرها في كلام النبي صلّى الله عليه وسلم تارة بلفظ (النية) وتارة بلفظ (الإرادة) وتارة بلفظ مقارب. وقد جاء ذكرها كثيراً في كتاب الله عز وجل بغير لفظ النية أيضاً من الألفاظ المقاربة. وإنما فرَق من فرَق بين النية وبين الإرادة والقصد ونحوها لظنهم اختصاص النية بالمعنى الأول الذي يذكره الفقهاء، فمنهم من قال: النية تختص بفعل الناوي، والإرادة لا تختص بذلك، كما يريد الإنسان من الله أن يغفر له، ولا ينوي ذلك، وقد ذكرنا أن النية في كلام النبي صلّى الله عليه وسلم وسلف الأمة، إنما يراد لها هذا المعنى الثاني غالباً، فهي حينئذ بمعنى الإرادة، ولذلك يعبر عنها بلفظ الإرادة في القرآن كثيراً. ثانياً ـ حكم النية وأدلة إيجابها، والقواعد الشرعية المتعلقة بها: حكم النية عند جمهور الفقهاء (¬1) (غير الحنفية): الوجوب فيما توقفت صحته عليها، كالوضوء والغسل، ماعدا غسل الميت والتيمم، والصلاة بأنواعها، ¬
والزكاة والصيام والحج والعمرة إلى غير ذلك، والندب فيما لم تتوقف صحته عليها كرد المغصوب، والمباحات كالأكل والشرب والتروك كترك المحرَّم والمكروه، مثل ترك الزنا والخمر وغيرهما من المحرَّمات، وترك اللهو الخالي من القمار: وهو اللعب الذي لا عوض فيه من الجانبين ولا من أحدهما، فهو مكروه، لما فيه من تضييع الوقت والانشغال عن كل نافع مفيد. ورأي الحنفية (¬1): أن النية تسن في الوضوء والغسل وغيرهما من وسائل الصلاة، لتحصيل الثواب، وهي شرط لصحة الصلاة، كما قرر المالكية والحنابلة وسيأتي مزيد بيان لذاك في بحث النية في العبادات، علماً بأن العلماء اتفقوا على أن النية واجبة في الصلاة، لتتميز العبادة عن العادة وليتحقق في الصلاة الإخلاص لله تعالى؛ لأن الصلاة عبادة، والعبادة: إخلاص العمل بكلية العابد لله تعالى. وأدلة إيجاب النية كثيرة، منها قول الله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء .. } [البينة:98/ 5] قال الماوردي: والإخلاص في كلامهم النية. ومنها الحديث المتفق على صحته بين البخاري ومسلم وباقي الأئمة الستة وأحمد (الجماعة) من رواية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو ـ كما قا ل النووي ـ حديث عظيم، أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، بل هو أعظمها، وهي اثنان وأربعون حديثاً. ونصه: قا ل عمر: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ¬
ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدُنيا يصيبها أو امرأة ٍ ينكِحُها، فهجرتُه إلى ما هاجر إليه». والمراد بالأعمال: أعمال الطاعات والأعمال الشرعية، دون أعمال المباحات. وقد دل الحديث على اشتراط النية في العبادات، لأن كلمة (إنما) للحصر، تثبت المذكور وتنفي ماسواه، وليس المراد صورة العمل، فإنها توجد بلا نية، وإنما المراد أن حكم العمل لا يثبت إلا بالنية، ومعناه لا يعتد بالأعمال الشرعية بدون النية، مثل الوضوء والغسل والتيمم، وكذلك الصلاة والزكاة والصوم والحج والاعتكاف وسائر العبادات. فأما إزالة النجاسة فلا تحتاج إلى نية؛ لأنها من باب التروك، والترك لا يحتاج إلى نية. وفي قوله: (إنما الأعمال بالنيات) محذوف، اختلف العلماء في تقديره، فقال جمهور العلماء (غير الحنفية) الذين اشترطوا النية: المراد إما صحة الأعمال، أو تصحيح الأعمال أو قبول الأعمال، ويكون التقدير: صحة الأعمال بالنيات، فالنية شرط صحة، لا تصح الوسائل من وضوء وغسل وغيرهما، والمقاصد من صلاة وصوم وحج وغيرها إلا بها. وقال الحنفية الذين لم يشترطوا النية في الوسائل: المراد كمال الأعمال ويكون تقديرهم كمال الأعمال بالنيات، فالنية شرط كمال فيها، لتحصيل الثواب فقط. وقوله: (وإنما لكل امرئ ما نوى) يدل على أمرين: الأول ـ قال الخطابي: يفيد معنى خاصاً غير الأول، وهو تعيين العمل بالنية وقال النووي: فائدة ذكره أن تعيين العبادة المنوية شرط لصحتها. فلو كان على
إنسان صلاة مقضية، لا يكفيه أن ينوي الصلاة الفائتة، بل يشترط أن ينوي كونها ظهراً أو عصراً أو غيرهما، ولولا هذا اللفظ الثاني، لاقتضى الأول صحة النية بلا تعيين، أو أوهم ذلك. الثاني ـ أنه لا تجوز النيابة في العبادات ولا التوكيل في النية نفسها. وقد استثني من ذلك تفرقة الزكاة وذبح الأضحية، فيجوز التوكيل فيهما في النية والذبح والتفرقة، مع القدرة على النية، وكذلك يجوز التوكيل في دفع الدَّين (¬1). وآخر هذا الحديث أبان سببه، روى الطبراني في معجمه الكبير بإسناد رجاله ثقات، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها: أم قيس، فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر، فهاجر، فتزوجها، فكنا نسميه: مهاجر أم قيس. والخلاصة: دل هذا الحديث على عدة أمور منها: أـ لا يكون العمل شرعياً يتعلق به ثواب وعقاب إلا بالنية. ب ـ تعيين المنوي وتمييزه عن غيره شرط في النية، فلا يكفي أن ينوي الصلاة، بل لابد باتفاق العلماء من تعيينها بصلاة الظهر أو العصر أو الصبح مثلاً. جـ ـ من نوى عملاً صالحاً، فمنعه من تنفيذه عذر قاهر كالمرض أوالوفاة، فإنه يثاب عليه؛ لأن من همَّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، ومن همَّ بسيئة فلم يعملها، لم تكتب له سيئة، قال السيوطي: من عزم على المعصية ولم يفعلها أو لم يتلفظ بها لا يأثم (¬2)، لقوله صلّى الله عليه وسلم فيما يرويه الأئمة الستة عن أبي هريرة: «إن الله تعالى تجاوز لأمتي عما حدّثت بها أنفسها، مالم تتكلم به أو تعمل به». ¬
د ـ الإخلاص في العبادة والأعمال الشرعية هو الأساس في تحصيل الأجر والثواب في الآخرة، والفلاح والنجاح في الدنيا، والدليل تصريح الزيلعي بأن المصلي يحتاج إلى نية الإخلاص فيها. هـ ـ يصبح كل عمل نافع أو مباح أو ترك بالنية الطيبة وقصد امتثال الأمر الإلهي عبادة مثوباً عليها عند الله تعالى. وـ إذا كانت نية الفعل لإرضاء الناس أو الشهرة والسمعة أو لتحقيق نفع دنيوي مثل مهاجر أم قيس، فلا ثواب للفاعل في الآخرة. رأي الحنفية في بيان تعيين المنوي وعدم تعيينه: فصَّل الحنفية (¬1) في شأن تعيين المنوي، فقالوا: أـ إن كان المنوي عبادة: فإن كان وقتها ظرفاً للمؤدى بمعنى أنه يسعه ويسع غيره، وهو الواجب الموسَّع، فلا بد من التعيين كالصلاة، كأن ينوي الظهر، فإن قرنه باليوم كظهر اليوم، صح. وعلامة التعيين للصلاة أن يكون بحيث لو سئل أي صلاة يصلي يمكنه أن يجيب بلا تأمل. ولا يسقط التعيين في الصلاة بضيق الوقت؛ لأن السعة باقية. ب ـ وإن كان وقت العبادة معيارا ً لها، بمعنى أنه لا يسع غيرها كالصوم في يوم رمضان، وهو الواجب المضيَّق، فإن التعيين ليس بشرط، إن كان الصائم صحيحاً مقيماً، فيصح بمطلق النية، وبنية النفل؛ لأن التعيين في المتعين لغو. وإن كان مريضاً، ففيه روايتان، والصحيح وقوعه عن رمضان، سواء نوى واجبا ً آخر أو نفلاً. وأما المسافر: فإن نوى عن واجب آخر، وقع عما نواه، لا عن رمضان. وفي النفل روايتان، والصحيح وقوعه عن رمضان. ¬
القواعد الشرعية الكلية المتعلقة بالنية
جـ ـ وإن كان وقت العبادة مشكلاً وهو الواجب ذو الشبهين كوقت الحج، فإنه يشبه الواجب المضيق أو المعيار باعتبار أنه لا يصح في السنة إلا حجة واحدة، ويشبه الواجب الموسع أو الظرف باعتبار أن أفعاله لا تستغرق وقته، فيصح الحج بمطلق النية نظراً إلى المعيارية. وإن وقع نفلاً، وقع عما نوى، نظراً إلى الظرفية. القواعد الشرعية الكلية المتعلقة بالنية: استنبط الفقهاء من حديث عمر السابق: (إنما الأعمال بالنيات) ثلاث قواعد كلية، اعتمد عليها المجتهدون وأئمة المذاهب في بناء أصول مذاهبهم عليها، واستنباط أحكام الفروع الفقهية منها (¬1)، وهذه القواعد هي: لا ثواب إلا بالنية، الأمور بمقاصدها، العبرة في العقود للمقاصد والمعاني، لا للألفاظ والمباني. القاعدة الأولى ـ (لا ثواب إلا بالنية): النية شرط في العبادات كما بينا إما بالإجماع، أو بآية: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حُنَفَاء} [البينة:5/ 98]، قال ابن نجيم الحنفي: والأول أوجه؛ لأن العبادة فيها ـ أي في الآية ـ بمعنى التوحيد، بقرينة عطف الصلاة والزكاة، فلا تشترط في الوضوء والغسل ومسح الخفين وإزالة النجاسة الحقيقية عن الثوب والبدن والمكان والأواني للصحة. وأما اشتراطها ـ أي النية ـ في التيمم فلدلالة آتية عليها؛ لأنه القصد. وأما غسل الميت فقالوا: لا تُشترط النية لصحة الصلاة عليه وتحصيل طهارته، وإنما هي شرط لإسقاط الفرض عن ذمة المكلفين (¬2). ¬
القاعدة الثانية ـ (الأمور بمقاصدها)
والنية واجبة عند الجمهور كما بينا في الوسائل والمقاصد معاً، وهي شرط كمال في الوسائل عند الحنفية كالوضوء والغسل، وشرط صحة في المقاصد كالصلاة والزكاة والصوم والحج. ومعنى هذه القاعدة: لا ثواب على جميع الأعمال الشرعية إلا بالنية، قال ابن نجيم المصري (¬1) الثواب نوعان: أخروي: وهو الثواب واستحقاق العقاب، ودنيوي: وهو الصحة والفساد. وقد أريد الأخروي بالإجماع، للإجماع على أنه لا ثواب ولا عقاب إلا بالنية، فانتفى إرادة النوع الآخر وهو الدنيوي، لاندفاع الضرورة بالأول من صحة الكلام به، فلا حاجة إلى النوع الآخر. القاعدة الثانية ـ (الأمور بمقاصدها): معنى هذه القاعدة: أن أعمال الإنسان وتصرفاته القولية والفعلية تخضع أحكامها الشرعية التي تترتب عليها لمقصوده الذي يقصده منها، وليس بظاهر العمل أو القول. والأصل في هذه القاعدة كما أوضحت الحديث السابق: «إنما الأعمال بالنيات» وأحاديث أخرى كثيرة في معناه أوردها السيوطي في كتابه (¬2). وأمثلتها مايأتي: يختلف حكم القتل بحسب القصد الجنائي أو النية، فإذا كان القاتل عامداً وجب عليه القصاص، وإن كان مخطئاً وجبت عليه الدية. وتقبل الصلاة ويثاب عليها المصلي إن كانت بإخلاص لله تعالى، وترد في وجه صاحبها إن كانت بقصد الرياء. ¬
ومن أخذ اللقطة بقصد تملكها، كان آثماً غاصباً يضمنها، ومن أخذها بنية حفظها لمالكها حل له رفعها وكان أميناً، لا يضمنها إذا هلكت إلا بالتعدي أو بالتقصير في حفظها. ومن قال لزوجته: اذهبي إلى بيت أهلك، فإن قصد الطلاق وقع عليه، وإن لم يقصده لم يحكم بالطلاق عليه. وذكر قاضي خان في فتاواه عند الحنفية (¬1): أن بيع العصير ممن يتخذه خمراً: إن قصد به التجارة، فلا يحرم، وإن قصد به لأجل التخمير حرم (¬2)، وكذا غرس الكرم على هذا. وهجر المسلم أخاه فوق ثلاثة أيام دائر مع القصد، فإن قصد هجر المسلم حرم، وإلاَّ لا. والإحداد للمرأة على ميت غير زوجها فوق ثلاث دائر مع القصد، فإن قصدت ترك الزينة والتطيب لأجل الميت حرم عليها، وإلا فلا. وإذا قرأ المصلي آية من القرآن جواباً لكلام، بطلت صلاته وكذا إ ذا أُخبر المصلي بما يسره فقال: الحمد لله، قاصداً الشكر، بطلت صلاته، أو بما يسوؤه، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله أو بموت إنسان فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، قاصداً له، بطلت صلاته. وإن سجد امرؤ للسلطان، فإن كان قصده التعظيم والتحية، دون الصلاة لايكفر، لأمر الملائكة بالسجود لآدم عليه السلام، وسجود إخوة يوسف له عليه السلام. ¬
القاعدة الثالثة ـ (العبرة في العقود للمقاصد والمعاني، لا للألفاظ والمباني)
والأكل فوق الشبع حرام بقصد الشهوة، وإن قصد به التقوي على الصوم أو مؤاكلة الضيف فمستحب. والكافر إذا تترس بالمسلم، فإن رماه مسلم، فإن قصد قتل المسلم حرم، وإن قصد قتل الكافر لا يحرم. وإذا توسد الكتاب، فإن قصد الحفظ لا يكره، وإلا كره. وإن غرس في المسجد، فإن قصد الظل لا يكره. وإن قصد منفعة أخرى يكره. وكتابة اسم الله تعالى على الدراهم، إن كان بقصد العلامة لا يكره، وللتهاون يكره. والجلوس على جوالق (وعاء) فيه مصحف، إن قصد الحفظ لا يكره، وإلا يكره. وكنايات البيع والهبة والوقف والقرض والضمان والإبراء والحوالة والإقالة والوكالة وتفويض القضاء، والإقرار والإجارة والوصية والطلاق والخلع والرجعة والإيلاء والظهار واللعان، والأيمان والقذف والأمان، إن قصد بها ما يقصد بالصريح وقع وإلا فلا (¬1). القاعدة الثالثة ـ (العبرة في العقود للمقاصد والمعاني، لا للألفاظ والمباني): هذه القاعدة أخص من القاعدة الثانية السابقة، فهي في العقود خاصة، والثانية عامة في كل التصرفات. ومعناها: أن ألفاظ العقود تحوّل العقد إلى عقد آخر إذا قصده العاقدان، ¬
فالهبة بشرط العوض، مثل وهبتك كذا بشرط أن تعطيني كذا، هي بيع؛ لأنها في معناه، فتأخذ أحكام البيع والكفالة بشرط عدم مطالبة المدين المكفول عنه: حوالة تأخذ أحكامها لأنها في معناها. والحوالة بشرط مطالبة المدين المحيل والمحال عليه: كفالة. والإعارة بعوض: إجارة. وبيع الوفاء عند الحنفية (وهو أن يبيع المحتاج إلى النقود عقاراً، على أنه متى وفى الثمن، استرد العقار) يأخذ غالباً أحكام الرهن؛ لأنه هو مقصود العاقدين. لكن هذه القاعدة يعمل بها عند الحنفية والشافعية (¬1) إن ظهر القصد في العقد صراحة أو ضمناً، فإن لم يكن في العقد ما يدل على النية والقصد صراحة، فيعمل بقاعدة «المعتبر في أوامر الله المعنى، والمعتبر في أمور العباد الاسم واللفظ» أي أن المبدأ حينئذ هو الاعتداد بالألفاظ في العقود، دون النيات والقصود؛ إذ إن نية السبب والغرض غير المباح شرعاً مستترة، فيترك أمرها لله وحده، يعاقب صاحبها عليها مادام أثم بنيته. وبناء عليه، تؤخذ أحكام كل عقد من صيغته ومما لابسه واقترن به، ففساده يكون من صيغته، وصحته تكون منها، ولا يفسد لأمور خارجة عنه، ولو كانت نيات ومقاصد لها أمارات، أو لو كانت مآلات مؤكدة ونهايات ثابتة. وهذا يدل على أن الشافعية والحنفية لا يأخذون بمبدأ سد الذرائع في بيوع ¬
ثالثا ـ محل النية
الآجال وبيوع العينة، كأن يبيع إنسان سلعة بعشرة دراهم إلى شهر، ثم يشتريها بخمسة قبل الشهر، فالشافعي ينظر إلى صورة البيع، ويحمل الأمر على ظاهره، فيصحح العقد، وأما أبو حنيفة فهو وإن لم يقل بحكم سد الذرائع، يفسد البيع الثاني على أساس آخر: وهو أن الثمن إذا لم يستوف، لم يتم البيع الأول، فيصير الثاني مبنياً عليه. وأخذ الإمامان مالك وأحمد بمبدأ سد الذرائع في هذه البيوع؛ لأنها وسيلة السلف بفائدة: خمسة بعشرة إلى أجل، بإظهار صورة البيع لذلك. قال ابن القيم: أحكام الشريعة تجري على الظاهر فيما عرف منه قصد المتكلم لمعنى الكلام، أو لم يظهر قصد يخالف كلامه، وأما النيات والمقاصد فتعتبر فيما ظهر فيه خلاف الصيغة والنطق (¬1). وهذا هو الحق الأبلج لدي، سداً لباب التحايل على الربا. فيكون الباعث السيء أو القصد غير المشروع سبباً واضحاً في إفساد البيع وبطلانه. ثالثاً ـ محل النية: محل النية باتفاق الفقهاء وفي كل موضع: القلب وجوباً، ولا تكفي باللسان قطعاً، ولا يشترط التلفظ بها قطعاً، لكن يسن عند الجمهور غير المالكية التلفظ بها لمساعدة القلب على استحضارها، ليكون النطق عوناً على التذكر، والأولى عند المالكية: ترك التلفظ بها (¬2)؛ لأنه لم ينقل عن النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه التلفظ بالنية، وكذا لم ينقل عن الأئمة الأربعة. وسبب كونها في القلب في جميع العبادات: أن ¬
الحاصل أن في الكلام عن محل النية أصلين
النية: الإخلاص، ولا يكون الإخلاص إلا بالقلب، أو لأن حقيقتها القصد مطلقاً، فإن نوى بقلبه، وتلفظ بلسانه، أتى عند الجمهور بالأكمل، وإن تلفظ بلسانه ولم ينو بقلبه لم يجزئه. وإن نوى بقلبه، ولم يتلفظ بلسانه أجزأه. قال البيضاوي: النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقاً، من جلب نفع، أو دفع ضر، حالاً أو مآلاً، والشرع خصصه بالإرادة المتوجهة نحو الفعل، لابتغاء رضا الله تعالى، وامتثال حكمه. والحاصل أن في الكلام عن محل النية أصلين: الأصل الأول ـ أنه لا يكفي التلفظ باللسان دون القلب، لقوله تعالى: {وماأمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} [البينة:98/ 5]، والإخلاص: ليس في اللسان، وإنما هو عمل القلب، وهو محض النية، وذلك بأن يقصد بعمله الله وحده، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى». ويتفرع عن هذا الأصل: أـ أنه لو اختلف اللسان والقلب، فالعبرة بما في القلب، فلو نوى بقلبه الوضوء، وبلسانه التبرد، صح الوضوء، ولو نوى عكسه لا يصح. وكذا لو نوى بقلبه الظهر، وبلسانه العصر، أو بقلبه الحج وبلسانه العمرة أو عكسه، صح له مافي القلب. وجاء في بعض كتب الحنفية (القنية والمجتبى): من لا يقدر أن يحضر قلبه لينوي بقلبه أو يشك في النية يكفيه التكلم بلسانه: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} [البقرة:2/ 286]. ب ـ إن سبق لسانه إلى لفظ اليمين بالله تعالى بلا قصد، فلا تنعقد عند الجمهور (غير الحنفية) وهي يمين اللغو، ولا يتعلق به كفارة، أو قصد الحلف على
شيء، فسبق لسانه إلى غيره. وقال الحنفية (¬1):انعقدت الكفارة؛ لأن يمين اللغو التي لاحكم لها أصلاً ولا كفارة لها: هي أن يخبر عن الماضي أو عن الحال، على الظن أن المخبر به كما أخبر، وهو بخلافه في النفي أو الإثبات (¬2). كمن قال: «والله مادخلت هذه الدار» وفي ظنه أنه كذلك، والأمر بخلافه، أو رأى طيراً من بعيد، فظن أنه غراب، فحلف، فإذا هو حمام، ويمين اللغو عند الجمهور: هي اليمين التي تجري على لسان الحالف (سواء كان في الماضي أو الحال أو المستقبل) من غير قصد اليمين، كأن يقول: لا والله، أو بلى والله، أو كان يقرأ القرآن، فجرى على لسانه اليمين. والحاصل أن الحنفية يقولون: لا لغو في المستقبل، بل اليمين على أمر في المستقبل تعتبر يميناً منعقدة، وتجب فيها الكفارة إذا حنث الحالف، سواء قصد اليمين أو لم يقصد، وإنما تختص يمين اللغو في الماضي أو الحال فقط، بحسب الظن من الحالف أن الأمر كما حلف، والحقيقة بخلاف ذلك. هذا في اليمين بالله تعالى، وأما في الطلاق والعتاق والإيلاء فيقع قضاء لا ديانة، أي أنه لم يتعلق به شيء باطناً، ويديَّن بذلك فيما بينه وبين الله تعالى، ولا يقبل كلامه في الظاهر والقضاء، لتعلق حق الغير به. جـ ـ إن قصد بالطلاق أو العتق معنى آخر غير معناه الشرعي، كلفظ الطلاق أراد به الطلاق من وثاق، أو يقصد ضم شيء إليه يرفع حكمه، لم يقبل منه قضاء، ويديَّن فيما بينه وبين الله تعالى، فيعمل بما قصده. قال الفوراني في الإبانة: الأصل أن كل من أفصح بشيء وقبل منه، فإذا نواه، قبل فيما بينه وبين الله تعالى ¬
ومثاله: إذا قال رجل لامرأته: أنت طالق، ثم قال: أردت من وثاق، ولا قرينة، لم يقبل في الحكم، ويديَّن. فإن كان قرينة، كأن كانت مربوطة، فحلَّها، وقال ذلك، قبل ظاهراً. الأصل الثاني ـ أنه لا يشترط مع نية القلب التلفظ في جميع العبادات، فلا معتبر باللسان، ويترتب على ذلك ما يأتي: أـ إذا أحيا إنسان أرضاً بنية جعلها مسجداً، فإنها تصير مسجداً بمجرد النية، فلا يحتاج إلى التلفظ. ب ـ من حلف: (لا يسلِّم على فلان) فسلَّم على قوم هو فيهم، واستثناه بالنية، فإنه لا يحنث، بخلاف من حلف: (لا يدخل على فلان) فدخل على قوم هو فيهم، واستثناه بقلبه، وقصد الدخول على غيره، فإنه يحنث في الأصح عند الشافعية، وكذا يحنث عند الحنفية إن كان فلان ساكناً في الدار، ولا يحنث إن لم يكن ساكناً. ويستثنى من هذا الأصل مسائل: منها: (النذر والطلاق والعتاق والوقف) لو نواها بقلبه، ولم يتلفظ لم ينعقد النذر والوقف، ولم يقع الطلاق والعتق بمجرد النية، بل لابد من التلفظ. ومنها: لو قال رجل لامرأته: (أنت طالق) ثم قال: أردت: إن شاء الله تعالى، لم يقبل قوله، قال الرافعي: المشهور أنه لا يديَّن أيضاً. ومنها: حديث النفس لايؤاخذ به مالم يتكلم أو يعمل، أو من عزم على المعصية ولم يفعلها أو لم يتلفظ بها لا يأثم، لقوله صلّى الله عليه وسلم ـ فيما رواه الأئمة الستة عن أبي هريرة ـ «إن الله تجاوز لأمتي عما حدَّثت بها أنفسها، مالم تتكلم به أو تعمل به».
وقد قسم السبكي وغيره من العلماء الذي يقع في النفس من قصد المعصية خمس مراتب: الأولى ـ الهاجس: وهو ما يُلقى في النفس، وهذا لا يؤاخذ به إجماعاً لأنه ليس من فعله، وإنما هو شيء ورد عليه لا قدرة له فيه ولا صنع. الثانية ـ الخاطر: وهو ما يجري في النفس، وكان الإنسان قادراً على دفعه، كصرف الهاجس أول وروده. وهذا لا مؤاخذة فيه أيضاً. الثالثة ـ حديث النفس: وهو ما يقع في النفس من التردد، هل يفعل أو لا؟ وهذا لا إثم فيه أيضاً، بنص الحديث السابق، وإذا ارتفع حديث النفس، ارتفع ما قبله با لأولى. وهذه المراتب الثلاث لو كانت في الحسنات لم يكتب له بها أجر، لعدم القصد. الرابعة ـ الهمّ: وهو ترجيح قصد الفعل، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن الهم بالحسنة يكتب حسنة، والهمّ بالسيئة لا يكتب سيئة (¬1)، وينظر: فإن تركها لله تعالى كتبت حسنة، وإن فعلها كتبت سيئة واحدة. والأصح في معناه أنه يكتب عليه إثم الفعل وحده، وأن الهمَّ مرفوع. الخامسة ـ العزم: وهو قوة القصد والجزم به، والمحققون على أنه يؤاخذ به. ¬
رابعا ـ زمن النية أو وقتها
رابعاً ـ زمن النية أو وقتها: الأصل العام: أن وقت النية أول العبادة البدنية إلا في حالات سأذكرها (¬1). فنية الوضوء: محلها عند غسل الوجه، قال الحنفية: ويسن أن تكون في أول السنن عند غسل اليدين إلى الرسغين، لينال ثواب السنن المتقدمة على غسل الوجه. ووقتها: قبل الاستنجاء ليكون جميع فعله قربة لله تعالى. وقال المالكية: محلها الوجه، وقيل: أول الطهارة. وقال الشافعية: يجب قرن النية بأول غسل جزء من الوجه، لتقترن بأول الفرض كالصلاة، ويستحب أن ينوي قبل غسل الكفين، لتشمل النية مسنون الطهارة ومفروضها، فيثاب على كل منهما، كما قال الحنفية، ويجوز تقديم النية على الطهارة بزمن يسير، فإن طال الزمن لم يجزئه ذلك. ويستحب استصحاب ذكر النية إلى آخر الطهارة، لتكون أفعاله مقترنة بالنية، وإن استصحب حكمها أجزأه، ومعناه ألا ينوي قطعها. وقال الحنابلة: وقت النية عند أول واجب، وهو التسمية في الوضوء. وللمتوضئ عند الشافعية والحنابلة تفريق النية على أعضاء الوضوء، بأن ينوي عند كل عضو رفع الحدث عنه؛ لأنه يجوز تفريق أفعال الوضوء، فكذلك يجوز تفريق النية على أفعاله. والمعتمد عند المالكية، خلافاً لابن رشد: أنه لا يجزئ تفريق النية على الأعضاء، بأن يخص كل عضو بنية، من غير قصد إتمام الوضوء، ثم يبدو له ¬
فيغسل ما بعده، فإن فرق النية على الأعضاء مع قصده إتمام الوضوء على الفور، أجزأه ذلك. والغسل كالوضوء في السنن عند الحنفية؛ لأن الابتداء بالنية في الغسل عندهم سنة فقط، ليكون فعل المغتسل تقرباً يثاب عليه، كالوضوء. وأوجب الجمهور النية للغسل كالوضوء، للحديث السابق: (إنما الأعمال بالنيات) وتكون النية عند غسل أول جزء من البدن، بأن ينوي فرض الغسل، أو رفع الجنابة أو الحدث الأكبر، أو استباحة ممنوع مفتقر إليه. والنية في التيمم فرض باتفاق المذاهب الأربعة، والمعتمد الراجح أنها شرط عند الحنفية والحنابلة، وتكون لدى الحنفية عند الوضع على الصعيد (التراب). وأوجب الشافعية قرن النية بالنقل الحاصل للتراب بالضرب إلى الوجه؛ لأنه أول الأركان، ويجب على الصحيح استدامة النية إلى مسح شيء من الوجه. واقتصر المالكية والحنابلة على إيجاب النية عند مسح الوجه. ونية الصلاة تكون عند تكبيرة الإحرام، واشترط الحنفية (¬1) اتصال النية بالصلاة، بلا فاصل أجنبي، بين النية والتكبيرة، والفاصل: عمل ما لا يليق بالصلاة كالأكل والشرب ونحو ذلك. وأوجب المالكية (¬2) استحضار النية عند تكبيرة الإحرام، أو قبلها بزمن يسير. واشترط الشافعية (¬3) اقتران النية بفعل الصلاة، فإن تراخى عنه سمي عزماً. ¬
وقال الحنابلة (¬1): الأفضل مقارنة النية للتكبير، فإن تقدمت النية على التكبير بزمن يسير بعد دخول الوقت في أداء فريضة وراتبة، ولم يفسخها، وكان ذلك مع بقاء إسلامه، بأن لم يرتدّ، صحت صلاته؛ لأن تقدم النية على التكبير بزمن يسير لا يخرج الصلاة عن كونها منْوية، ولا يخرج الفاعل عن كونه ناوياً مخلصاً، ولأن النية من شروط الصلاة، فجاز تقدمها كبقية الشروط، وفي طلب المقارنة حرج ومشقة، فيسقط لقوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج:78/ 22]، ولأن أول الصلاة من أجزائها، فكفى استصحاب النية فيه كسائرها. والخلاصة: يجب أن تكون النية مقارنة لتكبيرة الإحرام، لكن الشافعية أوجبوا أن تكون النية مقارنة للتكبير، ومقترنة بكل التكبير؛ لأن التكبير أول أفعال الصلاة، فيجب اقتران النية به كالحج وغيره، وأجاز باقي المذاهب (الجمهور) تقدم النية على التكبير بزمان يسير، فإن تأخرت النية أو تقدمت بزمن كثير، بطلت بالاتفاق. وكذلك قال الشافعي في الإمامة: إذا أحرم، إماماً كان أو منفرداً، نوى في حال التكبير، لا قبله ولا بعده. قال أصحاب الشافعي: لم يرد بهذا أنه لا يجوز أن تتقدم النية على التكبير، ولا تتأخر عنه، وإنما أراد الشافعي بقوله: «لا قبله» أنه لا يجوز أن ينوي قبل التكبير، ويقطع نيته قبل التكبير، وكذلك لم يرد بقوله: «ولابعده» أنه لا تجوز استدامتها بعد التكبير، وإنما أراد لو ابتدأ بالنية بعد التكبير لم تجزه، فإن نوى قبل التكبير، واستصحب ذكرها إلى آخر التكبير أجزأه، وكذلك لو استدام ذكرها بعد الفراغ من التكبير أجزأه، وقد أتى بأكثر مما يجب عليه، ولا يضره ذلك. ¬
ما يستثنى من وجوب توقيت النية أول العبادة
وقال الحنفية: ينبغي أن تكون نية الإمامة وقت اقتداء أحد بالإمام لا قبله، كما أنه ينبغي أن يكون وقت نية الجماعة أول صلاة المأموم، قال في فتح القدير في صحة الاقتداء بالإمام: والأفضل أن ينوي الاقتداء عند افتتاح الإمام. وأما ما يستثنى من وجوب توقيت النية أول العبادة فهو ما يأتي: 1ً - الصوم: يجوز تقديم نيته على أول الوقت، لعسر مراقبته، فلو نوى مع الفجر لم يصح في الأصح عند الشافعية. وفصل الحنفية القول ورأوا أن الصوم إن كان أداء رمضان، جاز بنية متقدمة من غروب الشمس، وبنية مقارنة لطلوع الفجر وهو الأصل، وبنية متأخرة عن الشروع إلى ما قبل نصف النهار الشرعي تيسيراً على الصائمين. وإن كان غير أداء رمضان من قضاء أو نذر أو كفارة، فيجوز بنية متقدمة من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، ويجوز بنية مقارنة لطلوع الفجر؛ لأن الأصل القران، وإن كان نفلاً فكرمضان أداء. 2ً - الحج: النية فيه سابقة على الأداء، أي أداء المناسك، عند الإحرام، وهو النية مع التلبية أو ما يقوم مقامها من سوق الهدي عند الحنفية. ورأى المالكية أن الإحرام ينعقد بالنية المقترنة بقول أو فعل متعلق بالحج، كالتلبية والتوجه إلى الطريق، لكن الأرجح أنه ينعقد بمجرد النية، وقرر الشافعية والحنابلة أن الإحرام ينعقد بالنية، فإن اقتصر على النية، ولم يلبِّ أجزأه، وإن لبى بلا نية، لم ينعقد إحرامه، ولا يشترط قرن النية بالتلبية؛ لأنها من الأذكار، فلم تجب في الحج كسائر الأذكار، فصار الجمهور قائلين بانعقاد الإحرام بالنية؛ ولا ينعقد بمجردها عند الحنفية، وإنما لابد من قرنه بقول أو فعل من خصائص الإحرام. والأصح عند الشافعية أن وقت نية التمتع مالم يفرغ من العمرة.
عدم اشتراط النية في البقاء
3ً - الزكاة وصدقة الفطر: يجوز تقديم النية فيهما على الدفع إلى الفقراء قياساً على الصوم، ويكتفى بوجود النية حال عزل مقدار ما وجب عن بقية المال، أو عند إعطائها للوكيل أو بعده، وقبل التفرقة، تيسيراً على المزكين، وإن كان الأصل ألا يجوز أداء الزكاة إلا بنية مقارنة للأداء. وهل تجوز بنية متأخرة على الأداء؟ قال الحنفية: لو دفعها بلا نية، ثم نوى بعده، فإن كان المال قائماً في يد الفقير جاز وإلا فلا. والكفارة مثل الزكاة يجوز تقديمها على وجوبها، ويجوز تقديم نيتها على دفعها للمستحقين. 4ً - نية الجمع بين الصلاتين: تكون في الصلاة الأولى، مع أن الصلاة الثانية هي المجموعة. فإن جعلت الصلاة الأولى أول العبادة، جاز فيها عند الشافعية تأخير النية عن أولها؛ لأن الأظهر جواز النية في أثنائها ومع التحلل منها. 5ً - نية الأضحية: يجوز تقديمها على الذبح، ولا يجب اقترانها به في الأصح لدى الشافعية. وتجوز النية عند الدفع إلى الوكيل في الأصح. 6ً - نية الاستثناء في اليمين: تجب قبل فراغ اليمين مع وجوبها في الاستثناء أيضاً. عدم اشتراط النية في البقاء: لا تشترط النية في البقاء للحرج، ولا يلزم نية العبادة في كل جزء، إنما تلزم في جملة ما يفعله في كل حال. وعليه يكتفى في العبادات الأفعال بالنية في أولها، ولايحتاج إليها في كل فعل، اكتفاء بانسحابها عليه كالوضوء والصلاة، وكذا الحج، فلا يحتاج إلى إفراد الطواف والسعي والوقوف بنية. لكن لا يجوز في الصلاة تفريق النية على أركانها، ويجوز ذلك في الوضوء على الأصح في مذهب
خامسا ـ كيفية النية
الشافعية كما بينت، والأكمل في الحج وجود نية الطواف والسعي والوقوف بعرفة عند كل منها، لكن تشترط النية في طواف النذر والتطوع، لعدم اندراجه مع غيره، وعلى هذا يقال: لنا عبادة تجب النية في نفلها دون فرضها وهو الطواف، ولا نظير لذلك. وعبارة الحنابلة في ذلك: الواجب استصحاب حكم النية دون حقيقتها، بمعنى أنه لا ينوي قطعها، فلو ذهل عنها، لم يؤثر ذلك في صحة صلاته. وذكر الحنفية أن الحاج لو طاف بنية التطوع في أيام النحر، وقع عن الفرض، ولو طاف بعد ما حل النفر ونوى التطوع أجزأه عن طواف الصدر (الوداع). ولو طاف الحاج طالباً الغريم لا يجزئه، ولو وقف في عرفات طالباً الغريم أجزأه؛ لأن الطواف قربةمستقلة بخلاف الوقوف (¬1). خامساً ـ كيفية النية: تتطلب العبادة مع نية فعلها تمييزها عن غيرها، سواء أكان ذلك الغير عبادة من نوعها أو جنسها أم غير عبادة أي فعلاً عادياً؛ لأن المقصود بالنية في العبادة تمييزها عن العادات، أو تمييز رتب العبادة عن بعضها. مثلاً الوضوء يكون عبادة إذا قصد به التوصل للعبادة كالصلاة والطواف ونحوهما مما يفتقر إلى ذلك، ويكون عادة للنظافة والتبرد ونحوهما، فإذا نوى استباحة الصلاة باستعمال الماء في أعضاء الوضوء، أو فرض الغسل، صح الوضوء. ¬
والصلاة، وإن لم تكن من جنس العادات، بل هي محض عبادة، فإنها تتنوع إلى نوعين: فرض وسنة، والفرض: عيني وكفائي، الأول: الصلوات الخمس، والثاني: الجنازة. والسنة: رواتب تابعة للفرائض، ووتر وعيدان وكسوفان واستسقاء وتراويح، ونفل مطلق. فالفرض لابد مع نية فعله من ملاحظة تعينه باسمه، ليتميز عن باقي الفروض، ومن ملاحظة فرضيته ليتميز عما عداه من السنن، ولم يشترط بعض الفقهاء التعرض في نيته للفرضية، اكتفاء بالتعيين بالاسم، لوضعه للفرض. والرواتب والسنن المؤكدة غير النفل المطلق: لابد مع نية فعلها من ملاحظة تعينها بإضافة: كراتبة كذا، أو صلاة عيد كذا، أو صلاة كسوف. وأما النفل المطلق: فيكفي فيه نية الفعل، لتميزه بذاته عن غيره لعدم تقيده بوقت وإعطاء المال للغير من غير مقابل: قد يكون زكاة، وصدقة تطوع، وهدية، وهبة، فلا بد مع نية الإعطاء من التعيين بالوصف الشرعي وهو الزكاة مثلاً، ليتميز عن الإعطاء لغيرها، ولا يحتاج لنية الفرض؛ لأن لفظ الزكاة موضوع شرعاً للفرض. والإمساك عن المفطرات قد يكون لأجل الصيام، وقد يكون لأجل الحمية والتداوي، فلا بد مع نية الإمساك من ملاحظة تعينه بكونه صياماً ليتميز عن غيره. ثم إن الصيام يكون فرضاً وسنة كالصلاة، فلا بد مع نية الصيام من ملاحظة تعينه بكونه عن رمضان إن وقع في غير شهره، أو قضاء عنه، أو كفارة يمين أو ظهار أو قتل أو جماع في رمضان أو فدية تطيب في الحج مثلاً. ولا يحتاج في ذلك إلى ملاحظة الفرض؛ لأن هذه الأمور لا تكون إلا فرضاً، فهو متعين بذاته لا يشتبه بغيره من السنن. وقصد الحرم قد يكون للإحرام، وقد يكون لغيره من العادات كالتجارة أو
غيرها، فلابد مع قصده من ملاحظة كونه للإحرام، إما بالحج إن كان الوقت قابلاً له وذلك في أشهر الحج، أو بالعمرة، أو مطلقاً، ويصرف لما شاء منهما، إن كان الوقت قابلاً للحج، وإلا تعين للعمرة. ولا يشترط نية الفرضية لانصراف الإحرام إليه، حيث لم يسبق له حج ولا عمرة (¬1). ودليل اشتراط التعيين حديث: (وإنما لكل امرئ مانوى) فهو ظاهر في اشتراط التعيين، كما بينا. وأذكر هنا أمثلة لكيفية النية في العبادات، ففي الوضوء: أن ينوي رفع الحدث، أو إقامة الصلاة، أو ينوي الوضوء، أو امتثال الأمر الإلهي، أو يقصد بطهارته استباحة شيء لا يستباح إلا بها، كالصلاة والطواف ومس المصحف، أو ينوي رفع الجنابة أو فرض الغسل، أو الغسل المفروض مع أول غسل جزء من الجسد وهو الرأس أو غيره. وإذا وضأه غيره، اعتبرت النية من المتوضئ دون الموضئ؛ لأن المتوضئ هو المخاطب بالوضوء. وينوي من حدثه دائم كالمستحاضة وسلس البول ونحوه استباحة الصلاة دون رفع الحدث، لعدم إمكان رفعه (¬2). وفي التيمم: ينوي عند الحنفية أحد أمور ثلاثة: إما نية الطهارة من الحدث، أو استباحة الصلاة، أو نية عبادة مقصودة لا تصح بدون طهارة، كالصلاة أو سجدة التلاوة أو صلاة الجنازة، ولا تشترط له نية الفرض؛ لأنه من الوسائل عندهم. ¬
ونية التيمم عند المالكية: إما استباحة الصلاة أو استباحة ما منعه الحدث، أو فرض التيمم عند مسح الوجه، ولو نوى رفع الحدث فقط، كان تيممه باطلاً؛ لأن التيمم لا يرفع الحدث، على المشهور عندهم. ولو نوى فرض التيمم أجزأه. وقال الشافعية: لابد أن ينوي استباحة الصلاة ونحوها، فلا يكفي في الأصح نية فرض التيمم أو فرض الطهارة أو الطهارة عن الحدث أو الجنابة؛ لأن التيمم لا يرفع الحدث عندهم. وينوي عند الحنابلة استباحة ما لا يباح إلا بالتيمم كالصلاة ونحوها، من طواف أو مس مصحف، أي كما قال الشافعية (¬1). وفي الغسل: ينوي المغتسل عند غسل أول جزء من البدن نية فرض الغسل أو رفع الجنابة أو الحدث الأكبر، أو استباحة ممنوع مفتقر إلى الغسل كأن ينوي استباحة الصلاة أو الطواف مما يتوقف على غسل، فإن نوى ما لا يفتقر إليه كالغسل ليوم العيد، لم يصح. وتكون النية مقرونة بأول فرض: وهو أول ما يغسل من البدن، سواء أكان من أعلاه أم من أسفله، إذ لا ترتيب فيه (¬2). ولا تشترط عند الحنفية نية الفرضية، الغسل والوضوء، لعدم اشتراط النية فيهما. ¬
وفي الصلاة: قال الحنفية: إن كان المصلي منفرداً يصلي وحده، عيَّن نوع الفرض أو الواجب، وإن كان تطوعاً تكفيه نية الصلاة. وإن كان المصلي إماماً، عيَّن كما سبق، ولا يشترط للرجل نية إمامة الرجال، ويصح اقتداؤهم به بدون نية إمامتهم. ويشترط للرجل نية إمامة النساء لصحة اقتدائهن به. وإن كان مقتدياً، عيَّن أيضاً كما سبق، ويحتاج لزيادة نية الاقتداء بالإمام، كأن ينوي فرض الوقت والاقتداء بالإمام فيه، أو ينوي الشروع في صلاة الإمام، أو ينوي الاقتداء بالإمام في صلاته. وقال المالكية: يجب التعيين في الفرائض، والسنن الخمس (وهي الوتر والعيد والكسوف والخسوف والاستسقاء) (¬1) وسنة الفجر، دون غيرها من النوافل كالضحى والرواتب والتهجد، فيكفي فيه نية مطلق نفل، وينصرف للضحى إن كان قبل الزوال، ولراتب الظهر إن كان قبل صلاته، أو بعده، ولتحية المسجد إن كان حين الدخول فيه، وللتهجد إن كان في الليل، وللشفع (سنة العشاء) إن كان قبل الوتر. ولا يشترط نية الأداء أو القضاء أو عدد الركعات، فيصح القضاء بنية الأداء وعكسه. وتجب نية الانفراد، والمأمومية، ولا تجب نية الإمامة إلا في الجمعة والجمع بين الصلاتين تقديماً للمطر، والخوف، والاستخلاف، لكون الإمام شرطاً فيها (¬2). ¬
وقرر الشافعية (¬1) أنه إن كانت الصلاة فرضاً، ولو فرض كفاية كصلاة الجنازة، أو قضاء كالفائتة، أو معادة، أو نذراً يجب ثلاثة أمور: أـ نية الفرضية: أي يلاحظ ويقصد كون الصلاة فرضاً، لتتميز عن النفل والمُعَاد. والعبارة عن نية الفرض: أن يقول: (أؤدي الظهر، فرض الوقت لله تعالى) فيشمل قوله: (أؤدي) أصل الفعل والأداء. ب ـ والقصد: أي قصد إيقاع الفعل، بأن يقصد فعل الصلاة لتتميز عن سائر الأفعال. جـ ـ التعيين: أي تعيين نوع الفريضة من صبح أو ظهر مثلاً، بأن يقصد إيقاع صلاة فرض الظهر مثلاً. ويشترط أن يكون ذلك مقارناً لجميع أجزاء تكبيرة الإحرام، مقارنة إجمالية لاتفصيلية، بأن يستحضر المصلي أركان الصلاة، أي أن تكون حاضرة في الذهن في زمن واحد، بأن يحضر المصلي في ذهنه ذات الصلاة وصفاتها التي يجب التعرض لها كالظهرية والفرضية وغيرهما، ثم يقصد إلى هذا المعلوم قصداً مقارناً لأول التكبير، ودائماً مع ذكر المعلوم إلى آخر التكبير، وتكفي المقارنة العرفية العامة، بحيث يعدّ المصلي مستحضرا ً للصلاة غير غافل عنها، قال النووي: وهو المختار. وهذا الحكم هو المقصود عندهم بالاستحضار والمقارنة العرفيين، أي يستحضر قبل التحريمة فعل الصلاة من أقوالها وأفعالها في أولها وآخرها ولو إجمالاً، على المعتمد، ويقرن ذلك الاستحضار السريع في الذهن في أثناء تكبيرة الإحرام. ¬
والحاصل: إن كانت الصلاة إحدى الفرائض الخمس، يجب على المصلي ثلاث نيات: فعل الصلاة، والفرضية، والتعيين، فيقول: نويت أن أصلي فرض الظهر، أو نويت أداء فرض صلاة العصر، أو فرض صلاة المغرب، ينوي الصلاة لتتميز العبادة عن العادة، وينوي الظهر لتمتاز عن العصر، وينوي الفرض ليمتاز عن النفل. ولا يشترط نية عدد الركعات، ولا تعيين اليوم، لا في الأداء ولا في القضاء، ولا الإضافة إلى الله تعالى (¬1)، ولا التعرض لأركان الصلاة، ولا لاستقبال القبلة، ولا التعرض للأداء والقضاء في الأصح عند الأكثرين، وإنما يسن ذلك كله، فلا تجب الإضافة إلى الله تعالى؛ لأن العبادة لا تكون إلا له سبحانه وتعالى، لكن تستحب ليتحقق معنى الإخلاص. ويستحب نية استقبال القبلة وعدد الركعات خروجاً من الخلاف، فلو أخطأ في العدد، كأن نوى الظهر ثلاثاً أو خمساً، لم تنعقد صلاته، كما يستحب نية الأداء والقضاء للتمييز بينهما. والأصح لدى الشافعية أنه يصح الأداء بنية القضاء وعكسه في حالة العذر، كجهل الوقت بسبب غيم أو نحوه، فلو ظن خروج الوقت، فصلاها قضاء، فبان بقاؤه، أو ظن بقاء الوقت، فصلاها أداء، فبان خروجه، صحت صلاته. وذكر المالكية: أنه يصح القضاء بنية الأداء وعكسه مطلقاً. ويصح عند الحنابلة أيضاً القضاء بنية الأداء أو عكسه إذا بان خلاف ظنه. كذلك قال الحنفية: يجوز الأداء بنية القضاء وبالعكس في الصلاة والحج. وإن كانت الصلاة نفلاً ذات وقت كسنن الرواتب، أو ذات سبب ¬
كالاستسقاء، وجب أمران: قصد فعله، وتعيينه كسنة الظهر أو عيد الفطر أو الأضحى، ولا يشترط نية النفلية على الصحيح. ويكفي في النفل المطلق (وهو الذي لا يتقيد بوقت ولا سبب نحو تحية المسجد وسنة الوضوء) نية فعل الصلاة. ولا يشترط للإمام نية الإمامة، بل يستحب ليحوز فضيلة الجماعة، فإن لم ينو لم تحصل له، إذ ليس للمرء من عمله إلا مانوى. وتشترط نية الإمامة في مذهب الشافعية في حالات أربع: في الجمعة، والصلاة المجموعة مع غيرها للمطر جمع تقديم، والصلاة المعادة في الوقت جماعة، والصلاة التي نذر أن يصليها جماعة، للخروج من الإثم. وكذلك قال المالكية: لا تجب نية الإمامة إلا في الجمعة والجمع والخوف والاستخلاف، لكون الإمام شرطاً فيها، وزاد ابن رشد الجنائز. ويشترط للمقتدي نية الاقتداء: بأن ينوي المأموم مع تكبيرة الإحرام الاقتداء أو الائتمام أو الجماعة بالإمام الحاضر، أو بمن في المحراب ونحو ذلك؛ لأن التبعية عمل، فافتقرت إلى نية، إذ ليس للمرء إلا ما نوى. ولا يكفي إطلاق نية الاقتداء، من غير إضافة إلى الإمام، فلو تابع بلا نية، أو مع الشك فيها، بطلت صلاته إن طال انتظاره. ومذهب الحنابلة (¬1): إن كانت الصلاة فرضاً، اشترط أمران: تعيين نوع الصلاة: ظهراً أو عصراً أو غيرهما، وقصد الفعل، ولا يشترط نية الفرضية بأن يقول: أصلي الظهر فرضاً. ¬
أما الفائتة: فإن عينها بقلبه أنها ظهر اليوم، لم يحتج إلى نية القضاء، ولا الأداء. ويصح القضاء بنية الأداء أو عكسه إذا بان خلاف ظنه. وإن كانت الصلاة نافلة: فيجب تعيينها إن كانت معينة أو مؤقتة بوقت كصلاة الكسوف والاستسقاء، والتراويح والوتر، والسنن الرواتب؛ ولا يجب تعيين النافلة إن كانت مطلقة، كصلاة الليل، فيجزئه نية الصلاة لا غير، لعدم التعيين فيها، فهم كالشافعية في هذا. وفي الصوم: رأى الحنفية (¬1) أنه يصح صوم رمضان ونحوه كالنذر المعين زمانه بمطلق النية، وبنية النفل، وبنية واجب آخر، ولا يجب تبييت نية صوم رمضان، كما أبنت، والتسحر نية عندهم. وصفة النية عند المالكية (¬2): أن تكون معينة مبيتة جازمة. وكمال النية لدى الشافعية (¬3) في رمضان: أن ينوي صوم غد عن أداء فرض رمضان هذه السنة لله تعالى، والمعتمد أنه لا يجب في التعيين نية الفرضية. ومذهب الحنابلة (¬4): من خطر بباله أنه صائم غداً، فقد نوى، ويجب تعيين النية، بأن يعتقد أنه يصوم غداً من رمضان أو من قضائه أو من نذره أو كفارته، ولا يجب مع التعيين نية الفرضية. والحاصل: اتفق الجمهور غير الحنفية على وجوب تبييت النية، كما اتفق الجمهور غير الشافعية على أن الأكل والشرب بنية الصوم أو التسحر نية، إلا أن ¬
ينوي معه عدم الصيام. ولا يقوم مقام النية لدى الشافعية التسحر في جميع أنواع الصيام، إلا إذا خطر له الصوم عند التسحر ونواه، كأن يتسحر بنية الصوم، أو امتنع من الأكل عند الفجر خوف الإفطار. وفي الاعتكاف (وهو اللبث في المسجد من شخص مخصوص بنية، كما عرفه الشافعية) تشترط النية اتفاقاً، فلا يصح الاعتكاف إلا بالنية، للحديث المتقدم: (إنما الأعما ل بالنيات) ولأنه عبادة محضة، فلم تصح من غير نية كالصوم والصلاة وسائر العبادات. وأضاف الشافعية: إن كان الاعتكاف فرضاً، لزمه تعيين النية للفرض، لتمييزه عن التطوع. ويشترط له أيضاً عند الحنفية والمالكية الصوم (¬1)، لحديث رواه الدارقطني والبيهقي عن عائشة: «لا اعتكاف إلا بصوم»، لكنه ضعيف. وليس الصوم بشرط عند الشافعية والحنابلة إلا أن ينذره، ونية الاعتكاف أن يقول: (نويت الاعتكاف في هذا المسجد ما دمت فيه). وفي الزكاة: اتفق الفقهاء على أن النية شرط في أداء الزكاة، وينوي المزكي: «هذا زكاة مالي» ولا يشترط ذكر الفرض؛ لأن الزكاة لا تكون إلا فرضاً، ونحو ذلك مثل: هذا فرض صدقة مالي، أو صدقة مالي المفروضة، أو الصدقة المفروضة، أو فرض الصدقة. وتجزئ عند المالكية نية الإمام أو من يقوم مقامه عن نية المزكي. وقال الحنابلة: النية أن يعتقد أنها زكاته، أو زكاة ما يخرج عنه كالصبي والمجنون، ومحلها القلب؛ لأن محل الاعتقادات كلها القلب (¬2). ¬
سادسا ـ الشك في النية، وتغييرها، والجمع بين عبادتين بنية واحدة
وفي الحج والعمرة: لا بد فيهما من النية، وهي الإحرام: وهو نية الحج أو العمرة، أو هما، بأن يقول: نويت الحج أو العمرة وأحرمت به لله تعالى. وإن حج أو اعتمر عن غيره قال: نويت الحج أوالعمرة عن فلان، وأحرمت به لله تعالى. ثم يلبي عقب صلاة ركعتي الإحرام. وينعقد الإحرام عند الجمهور بالنية، ولا ينعقد عند الحنفية بمجردها، وإنما لابد من قرنه بقول أو فعل من خصائص الإحرام، كالتلبية أو التجرد، ويسن عند الحنفية النطق بما نوى بأن يقول الحاج المفرد: اللهم إني أريد الحج فيسره لي وتقبله مني، ويقول المعتمر: اللهم إني أريد العمرة، فيسرها لي، وتقبلها مني، ويقول القارن: اللهم إني أريد العمرة والحج، فيسرهما لي وتقبلهما مني (¬1). ونية الأضحية: أن تكون في رأي الشافعية والحنابلة عند ذبح الأضحية؛ لأن الذبح قربة في نفسه، ويكفيه أن ينوي بقلبه، ولا يشترط أن يتلفظ بالنية بلسانه؛ لأن النية عمل القلب، والذكر باللسان دليل عليها (¬2). سادساً ـ الشك في النية، وتغييرها، والجمع بين عبادتين بنية واحدة: الشك في النية: عني الشافعية والحنابلة (¬3) بأمر النية والشك فيها في العبادات، فقرروا أن الشك في أصل النية أو في شرطها يبطل العبادة. فإذا شك المصلي، هل نوى صلاة الظهر أو العصر، فلا يحسب له واحدة منهما، كما نص عليه الشافعي في الأم. ¬
وإن شك المتطهر في النية في أثناء الطهارة، لزمه استئنافها؛ لأنها عبادة شك في شرطها، وهو فيها، فلم تصح كالصلاة. ولا يضر شكه في النية بعد فراغ الطهارة، كسائر العبادات. وقرر الشافعية: أن النية شرط في جميع الصلاة، فلو شك في النية في صلاته، هل أتى بها أو لا، بطلت صلاته. وبطلان صلاته فيما إذا فعل مع الشك مالا يزاد مثله في الصلاة، وإن زيد بطلت كالركوع والسجود والرفع منهما. أي أن صلاته تبطل إذا استمر في الشك بمقدار أداء ركن فعلي، فإن لم يمض ركن، وقصر الزمان، لم تبطل صلاته على المشهور، إلا إذا شك المسافر في نية القصر، ثم تذكر أنه نوى عن قرب، يلزمه الإتمام، لأن تلك اللحظة، وإن قصرت، فهي في حق المسافر محسوبة من الصلاة، مع تخلف نية القصر، وإذا مضى شيء من الصلاة مع تخلف نية القصر، غلب الإتمام، فإنه الأصل. ومالا يشترط أصل نيته، فالشك فيه لا يمنع الجواز، واستحضار النية في أثناء الصلاة لا يشترط، فلو صلى ركعة من الظهر، فظن في الركعة الثانية أنها من العصر، ثم تذكر في الثالثة، صح ظهره، ولا يضر ظنه أنها من العصر؛ لأن مالا يجب أصل نيته، فالخطأ فيه لا يضر.،ولو شك في أصل النية، فأتى بفعل الصلاة على الشك، بطلت؛ لأن أصل النية، وإن لم يكن شرطاً، فاستدامة الحكم شرط. وحكم الشك في شرط النية كالحكم في أصلها، فلو فاتته صلاتان، فعرفهما، فدخل في إحداهما بنية، ثم شك، فلم يدر أيتهما نوى، وصلى، لم تجزئه هذه الصلاة عن واحدة منهما، حتى يكون على يقين أو ظن غالب من التي نوى.
وكذلك قرر الحنابلة: إن شك في أثناء الصلاة، هل نوى أو لا؟ أو شك في تكبيرة الإحرام، استأنفها، كما قال الشافعية؛ لأن الأصل عدم ماشك فيه. فإن ذكر أنه قد نوى، أو كبر قبل قطعها، فله البناء أي الإكمال؛ لأنه لم يوجد مبطل لها. وإن عمل في الصلاة عملاً مع الشك، بطلت الصلاة، كما قال الشافعية. تغيير النية: اتفق الفقهاء على أن المصلي إذا أحرم بفريضة، ثم نوى نقلها إلى فريضة أخرى، بطلت الاثنتان؛ لأنه قطع نية الأولى، ولم ينو الثانية عند الإحرام. فإن حول الفرض إلى نفل، فالأرجح عند الشافعية أنها تنقلب نفلاً؛ لأن نية الفرض تتضمن نية النفل، بدليل أنه لو أحرم بفرض، فبان أنه لم يدخل وقته، كانت صلاته نافلة، والفرض لم يصح، ولم يوجد ما يبطل النفل. والحاصل: تبطل الصلاة بفسخ النية أو تردده فيها أو عزمه على إبطالها أو نية الخروج من الصلاة، أو إبطالها وإلغاء ما فعله من الصلاة، أو شكه هل نوى أو لا، أو بالانتقال من صلاة إلى أخرى (¬1). الجمع بين عبادتين بنية واحدة: قال الحنفية (¬2): إما أن يكون الجمع بين العبادتين في الوسائل أو في المقاصد. فإن كان في الوسائل، فإن الكل صحيح، كما لو اغتسل الجنب يوم الجمعة للجمعة ولرفع الجنابة، ارتفعت جنابته وحصل له ثواب غسل الجمعة. ومثله لو نوى الغسل للجمعة والعيد، فإنهما يحصلان. وإن كان في المقاصد: فإما أن ينوي فرضين، أو نفلين، أو فرضاً ونفلاً. أما ¬
الأول (نية الفرضين): فإن كان في الصلاة، لم تصح واحدة منهما، فلو نوى صلاتي فرض كالظهر والعصر، لم يصحا اتفاقاً. ولو نوى في الصوم القضاء والكفارة، كان عن القضاء. ولو نوى الزكاة وكفارة الظهار، جعله عن أيهما شاء. ولو نوى الزكاة وكفارة اليمين، فهو عن الزكاة. ولو نوى صلاة مكتوبة (مفروضة) وصلاة جنازة، فهي عن المكتوبة. وقد ظهر بهذا أنه إذا نوى فرضين: فإن كان أحدهما أقوى، انصرف إليه، فصوم القضاء أقوى من صوم الكفارة، وإن استويا في القوة، فإن كان في الصوم، فله الخيار ككفارة الظهار وكفارة اليمين، وكذلك الزكاة وكفارة الظهار. وأما الزكاة مع كفارة اليمين، فالزكاة أقوى، وأما في الصلاة فيقدم أيضاً، فقدمت المكتوبة على صلاة الجنازة. وإن نوى فرضاً ونفلاً، فإن نوى الظهر والتطوع، أجزأه عن المكتوبة وبطل التطوع، في رأي أبي يوسف. وقال محمد: لا يجزئه شيء منهما. وإن نوى الزكاة والتطوع يكون عن الزكاة، وعند محمد عن التطوع. ولو نوى نافلة وجنازة فهي نافلة. وأما إذا نوى نافلتين، كما إذا نوى بركعتي الفجر التحية والسنة أجزأت عنهما. وأما التعدد في الحج: فلو أحرم نذراً ونفلاً، كان نفلاً، أو فرضاً وتطوعاً، كان تطوعاً عند أبي يوسف ومحمد في الأصح. ولو أحرم بحجتين معاً أو على التعاقب، لزماه عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وعند محمد: في المعية يلزمه إحداهما، وفي التعاقب الأولى فقط. وإذا نوى عبادة ثم نوى في أثنائها الانتقال عنها إلى غيرها، فإن كبر ناوياً الانتقال إلى غيرها، صار خارجاً، كما إذا نوى تجديد الأولى وكبر.
سابعا ـ المقصود بالنية ومقوماتها
وذكر السيوطي (¬1): لو نوى مع النفل نفلا ً آخر فلا يحصلان، لكن لو نوى صوم يوم عرفة والاثنين مثلاً، فيصح. أما لو نوى سُنَّتين: فإن لم تدخل إحداهما في الأخرى كسنة الضحى وقضاء سنة الفجر، فلا تنعقدان عند التشريك بينهما. وأما إن دخلت إحداهما في الأخرى كتحية المسجد وسنة الظهر مثلاً، فتنعقدان؛ لأن التحية تحصل ضمناً. ومثل التحية في رأي ابن حجر وشيخه العراقي أن ينوي مع الفرض صوم يوم عرفة وعاشوراء وتاسوعاء وستة من شوال والأيام البيض ويوم الاثنين والخميس من كل شهر. أما لو نوى مع غير العبادة شيئاً آخر غيرهما، كما لو قال لزوجته: أنت عليَّ حرام، ناوياً الطلاق والظهار، أو قال لزوجتيه: أنتما على حرام، ناوياً في إحداهما الطلاق ووفي الأخرى الظهار، حمل في رأي الحنفية إن أراد أحدهما على الأغلظ منهما وهو الطلاق؛ لأن اللفظ الواحد لا يحمل على أمرين. والأصح عند الشافعية: يخير بينهما، فما اختاره ثبت (¬2). وسيأتي في بحث المقصود بالنية تفصيل رأي الشافعية في هذا الموضوع. سابعاً ـ المقصود بالنية ومقوماتها: أوضح ابن نجيم والسيوطي (¬3) الهدف أو الغاية من النية إيضاحاً تاماً، فقالا: إن المقصود الأهم من النية تمييز العبادات من العادات وتمييز رُتَب العبادات بعضها من بعض، كالوضوء والغسل، يتردد بين التنظيف والتبرد والعبادة. والإمساك عن المفطرات قد يكون حِمْية أو تداوياً أو لعدم الحاجة إليه. والجلوس في المسجد ¬
قد يكون للاستراحة. ودفع المال قد يكون هبة أو لغرض دنيوي، وقد يكون قربة كالزكاة والصدقة والكفارة. والذبح قد يكون للأكل، فيكون مباحاً أو مندوباً، أو للأضحية فيكون عبادة، أو لقدوم أمير، فيكون حراماً، فشرعت النية لتمييز القربات من غيرها. والتقرب إلى الله تعالى يكون بالفرض والنفل والواجب، فشرعت النية لتمييزها عن بعضها، فكل من الوضوء والغسل والصلاة والصوم ونحوها قد يكون فرضاَ ونذراً ونفلاً. والتيمم قد يكون عن الحدث، أو عن الجنابة، وصورته واحدة وهي في الوجه واليدين فقط. ويتفرع عن ذلك أمور: 1 ً - ما لا يكون عادة أو لا يلتبس بغيره، لا تشترط فيه نية زائدة على قصد الفعل، كالإيمان بالله تعالى، والمعرفة والخوف والرجاء والنية وقراءة القرآن والأذكار؛ لأنها متميزة لا تلتبس بغيرها، فإذا قصد الإنسان الإيمان أو القراءة، صار طاعة مثاباً عليها، بدون قصد التقرب، أما غير ذلك فلا يكفي فيه مجرد قصد الفعل، بل لا بد من نية زائدة، بأن ينوي التقرب في دخول المسجد ونحوه، ليكون مثاباً عليه. 2 ً - اشتراط التعيين فيما يلتبس دون غيره: لقوله صلّى الله عليه وسلم: «وإنما لكل امرئ مانوى» فهذا ظاهر في اشتراط التعيين، فيشترط في الفرائض التعيين لتساوي الظهر والعصر صورة وفعلاً، فلا يميز بينها إلا التعيين. وتعين النوافل غير المطلقة كالرواتب (سنن الصلاة) بإضافتها إلى الظهر مثلاً قبلية أو بعدية.
ثم ذكر السيوطي قواعد ثلاثاً وهي: أـ (ما لايشترط التعرض له لا جملة ولا تفصيلاً لايضر الخطأ فيه) أي في تعيينه، مثل مكان الصلاة وزمانها. ب ـ (وما يشترط تعيينه يضر الخطأ فيه) كالخطأ من الصوم إلى الصلاة ومن الظهر إلى العصر. جـ ـ (وما يجب التعرض له جملة ولا يجب تعيينه تفصيلاً، إذا عينه وأخطأ فيه ضر) مثل عدد الركعات، لو نوى الظهر خمساً أو ثلاثاً لم يصح. 3 ً - اشتراط التعرض للفرضية وللصلاة: يترتب كلاهما على ماشرعت النية لأجله وهو التمييز، فلا بد من بيان صفة الفرضية لتتميز عن النفل. والأصح وجوب التعرض للصلاة لتتميز عن غيرها من صوم وغيره، والأصح اشتراط التعرض للفرضية في الغسل دون الوضوء؛ لأن الغسل قد يكون عادة، والوضوء لا يكون إلا عبادة. والأصح اشتراط التعرض للفرضية في الزكاة، إن أتى بلفظ الصدقة، وعدم التعرض لها إن أتى بلفظ الزكاة؛ لأن الصدقة قد تكون فرضاً، وقد تكون نفلاً، فلا يكفي مجردها، والزكاة لا تكون إلا فرضاً؛ لأنها اسم للفرض المتعلق بالمال، فلا حاجة إلى تقييدها به. وكذا الحج والعمرة لا يشترط فيهما التعرض للفرضية بلا خلاف. والخلاصة: تنقسم العبادات التي تجب فيها النية بالنسبة لوجوب نية الفرضية إلى أقسام أربعة: ـ الحج والعمرة والزكاة بلفظها والجماعة: لا تشترط فيها بلا خلاف. ـ الصلاة والجمعة منها، والغسل، والزكاة بلفظ الصدقة: تشترط فيها على الأصح. ـ الوضوء والصوم: لاتشترط فيها على الأصح.
ـ التيمم: لا يكفي فيه نية الفرضية، بل يضر على الصحيح، فإذا نوى فرضه لم يكف. 4 ً - عدم اشتراط نية القضاء والأداء، على الأصح، في الصلوات، ومنها الجمعة. وأما الصوم: فالذي يظهر ترجيحه أن نية القضاء لا بد منها فيه. وأما الحج والعمرة فلا شك أنهما لا يشترطان فيهما، إذ لو نوى بالقضاء الأداء لم يضره، وانصرف إلى القضاء. ولو كان عليه قضاء حج أفسده في صباه ثم بلغ، فنوى القضاء، انصرف إلى حجة الإسلام وهي الأداء. 5 ً - الإخلاص: يترتب على التمييز، فلا تصح النيابة أو التوكيل في النية إلا فيما يقبل النيابة وهو ما يقترن بفعل، كتفرقة زكاة، وذبح أضحية، وصوم عن الميت، وحج؛ لأن المقصود اختبار سر العبادة، بأن ينويها المكلف بالعبادة بنفسه. وضابط التشريك في النية يتضح في الأقسام التالية التي ذكرناها في بحث الجمع بين العبادتين بنية واحدة وهي: الأول ـ أن ينوي مع العبادة ماليس بعبادة، فقد يبطلها، كما إذا ذبح الأضحية لله ولغيره، فانضمام غيره يوجب حرمة الذبيحة. ويقرب من ذلك: ما لو كبَّر للإحرام بالصلاة مرات، ونوى بكل تكبيرة افتتاح الصلاة، فإنه يدخل في الصلاة بالأوتار، ويخرج بالأشفاع لأن من افتتح صلاة، ثم افتتح أخرى، بطلت صلاته؛ لأنه يتضمن قطع الأول. فلو نوى الخروج بين التكبيرتين، خرج بالنية، ودخل بالتكبيرة، ولو لم ينو بالتكبيرات شيئاً، لا دخولاً ولا خروجاً. صح دخوله بالأولى، والبواقي ذِكْر.
وقد لا يبطلها، كما لو نوى مع الوضوء أو الغسل التبرد، الأصح الصحة لأن التبرد حاصل، قصده أم لا، فلم يجعل قصده تشريكاً للعبادة مع غيرها وتركاً للإخلاص، بل هو قصد للعبادة على حسب وقوعها لأن من ضرورتها حصول التبرد. الثاني ـ أن ينوي مع العبادة المفروضة عبادة أخرى مندوبة، وفيه صور: منها ـ ما لا يقتضي البطلان وتحصلان معاً: كأن أحرم بصلاة، ونوى بها الفرض والتحية معاً، صحت، وحصلا معاً. وكأن ينوي بغسله غسل الجنابة والجمعة معاً، حصلا جميعاً على الصحيح. ولو نوى بسلامه الخروج من الصلاة والسلام على الحاضرين حصلا. ولو حج الفرض وقرنه بعمرة التطوع، أو عكسه، حصلا. ولو نوى في صوم يوم عرفة غيره من قضاء أو نذر أو كفارة، صح وحصلا معاً. ومنها ـ ما يحصل الفرض فقط: كأن نوى بحجه الفرض والتطوع، وقع فرضاً؛ لأنه لو نوى التطوع، انصرف إلى الفرض. ولو صلى الفريضة الفائتة في ليالي رمضان، ونوى معها التراويح، حصلت الفائتة دون التراويح. ومنها ـ ما يحصل النفل فقط: كأن أخرج خمسة دراهم، ونوى بها الزكاة وصدقة التطوع، لم تقع زكاة، ووقع التطوع. ولو خطب بقصد الجمعة والكسوف، لم يصح للجمعة؛ لأنه تشريك بين فرض ونفل. ومنها ـ ما يقتضي البطلان في الكل: كأن كبَّر المسبوق، والإمام راكع تكبيرة واحدة، ونوى بها التحرُّم والهويّ إلى الركوع، لم تنعقد الصلاة أصلاً، للتشريك. ولو نوى بصلاته الفرض والراتبة، لم تنعقد أصلاً.
ثامنا ـ شروط النية
الثالث ـ أن ينوي مع المفروضة فرضاً آخر، ويجري ذلك في الحج والعمرة، والغسل والوضوء معاً، فإنهما يحصلان على الأصح. الرابع ـ أن ينوي مع النفل نفلاً آخر: فلا يحصلان، لأن السَّنتين إذا لم تدخل إحداهما في الأخرى، لا تنعقدان عند التشريك بينهما كسنة الضحى وقضاء سنة الفجر، فإن دخلت إحداهما في الأخرى كتحية المسجد وسنة الظهر مثلاً، صح؛ لأن التحية تحصل ضمناً. ويستثنى من ذلك: ما لو نوى الغسل للجمعة والعيد، فإنهما يحصلان، وما لو خطب خطبتين بقصد العيد والكسوف جميعاً، فإنه يصح. وما لو نوى صوم يوم عرفة والاثنين مثلاً، فيصح. الخامس ـ أن ينوي مع غير العبادة شيئاً آخر، وهما مختلفان في الحكم، كأن يقول لزوجته: «أنت علي حرام» وينوي الطلاق والظهار فالأصح يخير بينهما، فما اختاره ثبت. والخلاصة: أن النية لها مقومات: هي القصد، والفرضية في الفرائض الخمس والغسل والزكاة بلفظ الصدقة، والتعيين فيما يلتبس مع غيره، والإخلاص، فلا يصح التوكيل في النية إلا فيما يقبل النيابة مما يقترن بفعل، والأصل: ألا يصح التشريك في العبادة، إلا ما استثني. ثامناً ـ شروط النية: للنية شروط عامة في العبادات، وشروط خاصة بكل عبادة. أما الشروط العامة فهي ما يأتي (¬1): ¬
1 ً - الإسلام: لا تصح النية المرتبة للثواب وصحة الفعل إلا من المسلم، فلا تصح العبادات من كافر، فلغا تيمم كافر وكذا وضوؤه عند الجمهور، ويصح وضوؤه وغسله عند الحنفية؛ لأن النية من شروط التيمم دون الوضوء عندهم، فإذا أسلم بعدهما صلى بوضوئه وغسله. ولم تصح عندهم الكفارة من كافر، فلا تنعقد يمينه، لقوله تعالى: {إنهم لا أيمان لهم} [التوبة:12/ 9]، وقوله تعالى: {وإن نكثوا أيمانهم} [التوبة:12/ 9]، أي عهودهم الظاهرية. وتصح الكفارة عند الشافعية بغير العبادة (الصوم) من عتق رقبة وإطعام مساكين، ويشترط منه نيتها، لأن المغلب فيها جانب الغرامات، والنية فيها للتمييز لا للقربة، وهي بالديون أشبه. ويصح غسل الكتابية زوجة المسلم عن الحيض، ليحل وطؤها بلا خلاف للضرورة، ويشترط نيتها عند الشافعية. أما المرتد فلا يصح منه غسل ولا غيره، لكن إذا أخرج المرتد الزكاة في حال ردته تصح وتجزئه. 2 ً - التمييز: فلا تصح بالاتفاق عبادة صبي غير مميز، ولا مجنون. لكن يصح عند الشافعية للولي أن يوضئ الطفل للطواف حيث يحرم عنه، وللزوج أن يغسل المجنونة عن الحيض، وينوي على الأصح. ويتفرع عن هذا الشرط أن (عمد الصبي والمجنون خطأ) سواء أكان الصبي مميزاً أم لا عند الحنفية. ورأى الشافعية أن عمد المجنون والصبي غير المميز خطأ قطعاً، أما المميز منهما فعمده عمد في الأصح. وينتقض وضوء السكران وتبطل صلاته بالسكر، لعدم تمييزه. لكن الشافعية قالوا: لا يقضى عليه بالحدث ولا تبطل صلاته وسائر أفعاله، حتى يستغرق في سكره، بعد أوان النشوة.
3 ً - العلم بالمنوي: فمن جهل فرضية الصلاة، لم تصح منه، وكذا لو علم أن بعض الصلاة فرض، ولم يعلم الفرضية التي شرع فيها. ولا يشترط هذا الشرط في الحج، فهو يفارق الصلاة بأنه لا يشترط فيه تعيين المنوي، بل ينعقد الإحرام مطلقاً، ثم يعينه؛ لأن علياً رضي الله عنه أحرم بما أحرم به النبي صلّى الله عليه وسلم وصححه، فإن عين حجاً أو عمرة صح إن كان قبل الشروع في الأفعال، وإن شرع تعينت عمرة. وفرع السيوطي على هذا الشرط: ما لو نطق بكلمة الطلاق بلغة لا يعرفها، وقال: قصدت بها معناها بالعربية، فإنه لا يقع الطلاق في الأصح. 4 ً - ألا يأتي بمنافٍ بين النية والمنوي بأن يستصحبها حكماً: فتبطل العبادات من صلاة وصوم وحج وتيمم بالارتداد ـ والعياذ بالله تعالى ـ في أثنائها، وتبطل صحبة النبي صلّى الله عليه وسلم بالردة إذا مات عليها، فإن أسلم بعدها: فإن كان في حياته عليه الصلاة والسلام، فلا مانع من عودها، وإلا ففي عودها نظر. وذكر السيوطي: أن الوضوء أو الغسل لم يبطل بالردة؛ لأن أفعالهما غير مرتبطة ببعضها، ولكن لا يحسب المغسول في زمن الردة. والردة تحبط العمل والأجر والإيمان السابق، سواء عاد إلى الإسلام أم لا. ومن المنافي للنية: نية القطع، فإذا نوى قطع الإيمان، صار مرتداً للحال، ولو نوى قطع الصلاة بعد الفراغ منها لم تبطل بالإجماع. وكذا سائر العبادات. أما لو نوى قطع الصلاة في أثنائها بطلت بلا خلاف؛ لأنها شبيهة بالإيمان، إلا أن ابن نجيم المصري قال: لا تبطل إلا إذا كبر في الصلاة، وينوي الدخول في أخرى، فالتكبير هو القاطع للأولى، لا مجرد النية.
ولو نوى قطع الطهارة في أثنائها، لم يبطل ما مضى في الأصح، لكن يجب تجديد النية لما بقي. ولو نوى قطع الصوم أو الاعتكاف، لم يبطل في الأصح؛ لأن الصلاة مخصوصة من بين سائر وجوه العبادات بوجوه من الربط ومناجاة العبد ربه. ولو شرع في الصوم الفرض بعد الفجر، ثم نوى قطعه والانتقال إلى صوم نفل، فإنه لا يبطل؛ لأن الفرض والنفل في الصوم وكذا في الزكاة جنس واحد. أما لو افتتح الصلاة بنية الفرض، ثم غيَّر نيته في الصلاة، وجعلها تطوعاً، فتصير تطوعاً. ولو نوى فعلَ منافٍ للصلاة لم تبطل. ولو نوى الأكل أو الجماع في الصوم، لم يضره. ولو نوى الصوم من الليل، ثم قطع النية قبل الفجر، سقط حكمها؛ لأن ترك النية ضد النية. ولو نوى قطع السفر بالإقامة، صار مقيماً، وبطل سفره بخمس شرائط في رأي الحنفية: ترك السير، حتى لو نوى الإقامة سائراً لم تصح، وصلاحية الموضع للإقامة، فلو نواها في بحر أو جزيرة لم تصح، والاستقلال بالرأي، فلا تصح نية التابع، والمدة أي إن نوى إقامة نصف شهر، فيقصر إن نوى الإقامة في أقل من نصف شهر، واتحاد الموضع، فلو نوى إقامة نصف شهر في موضعين مستقلين، كمكة ومنى، لم يصر مقيماً، وأصبح كمن نوى الإقامة في غيرموضعها (¬1) ويقرب من نية القطع: نية القلب (التحويل): وهي نية نقل الصلاة إلى أخرى، وذلك لا يكون عند الحنفية إلا بالشروع بالتحريمة لا بمجرد النية، ولا بد أن تكون الثانية غير الأولى، كأن يشرع في العصر بعد افتتاح الظهر، فيفسد الظهر، وبشرط ألا يتلفظ بالنية، فإن تلفظ بها بطلت الأولى مطلقاً. وقال الماوردي: تبطل الصلاة بنقل من فرض إلى فرض، أو من نفل راتب إلى نفل راتب، كوتر إلى سنة ¬
الفجر، أو من نفل إلى فرض، أو من فرض إلى نفل إلا إذا كان لعذر، كأن أحرم بفرض منفرداً، ثم أقيمت جماعة، فسلَّم من ركعتين ليدركها، صحت نفلاً في الأصح. ومن المنافي: التردد وعدم الجزم في أصل النية، فلو نوى يوم الشك (ليلة الثلاثين من شعبان): إنه إن كان من شعبان فليس بصائم، وإن كان من رمضان كان صائماً، لم تصح نيته، بخلاف لو وقع ذلك ليلة الثلاثين من رمضان، لاستصحاب الأصل. ولو ترد د هل يقطع الصلاة أو لا، أو علق إبطالها على شيء بطلت. ولو تردد في أنه نوى القصر أو لا أو هل يتم أو لا، لم يقصر. ومن فروعه: تعقيب النية بالمشيئة: قال السيوطي: إن نوى التعليق بطلت، أو التبرك فلا تبطل، أو أطلق تبطل؛ لأن اللفظ موضوع للتعليق، فلو قال: أصوم غداً إن شاء الله، لم يصح. وقال ابن نجيم: إن كان مما يتعلق بالنيات كالصوم والصلاة لم تبطل، وإن كان مما يتعلق بالأقوال كالطلاق والعتاق بطل. وهناك صور تصح فيها النية مع التردد أو التعليق أوردها السيوطي، فمن صور التردد: لو اشتبه عليه ماء، وماء ورد، لا يجتهد، بل يتوضأ بكل مرة، ويغتفر التردد في النية للضرورة. ومنها: من كان عليه صوم واجب، لا يدري هل هو من رمضان أو من نذر أو كفارة، فنوى صوماً واجباً أجزأه، كمن نسي صلاة من الخمس، وصلى الخمس، أجزأه، ويعذر في عدم جزم النية للضرورة. ومن صور التعليق: في الصلاة: إن شك في قصر إمامه، فقال: إن قصر قصرت، وإلا أتممت،
فبان قاصراً، قصر. وفي الحج: بأن يقول مريد الإحرام: إن كان زيد محرماً فقد أحرمت، فإن كان زيد محرماً انعقد إحرامه، وإلا فلا. ولو علقه بمستقبل كقوله: إذا أحرم زيد أو جاء رأس الشهر، فقد أحرمت فلا يصح. ومنها: عليه فائتة وشك في أدائها، فقال: أصلي عنها إن كانت وإلا فنافلة، فبانت، أجزأه. ومنها في الصوم: لو نوى ليلة الثلاثين من شعبان صوم غد إن كان من رمضان فهو فرض، وإن لم يكن فتطوع، صح وأجزأه. ومنها في الزكاة: نوى زكاة ماله الغائب إن كان باقياً، وإلا فعن الحاضر، فبان باقياً أجزأه عنه، أو تالفاً أجزأه عن الحاضر. ومنها في الجمعة: أحرم بالصلاة في آخر وقتها، فقال: إن كان الوقت باقياً فجمعة، وإلا فظهر، فبان بقاؤه، صحت الجمعة في وجه، وقيل: لا تصح. ومن المنافي: عدم القدرة على المنوي إما عقلاً أو شرعاً أو عادة. مثال الأول ـ نوى بوضوئه أن يصلي صلاة وألا يصليها لم تصح لتناقضه. مثال الثاني ـ نوى بوضوئه الصلاة في مكان نجس، لا تصح. ومثال الثالث ـ نوى بوضوئه صلاة العيد، وهو في أول السنة، أو الطواف وهو بالشام، الأصح الصحة، وقيل: لا تصح. هذه هي الشروط العامة في العبادات، شرطها الفقهاء في الطهارة، فقالوا: يشترط في نية الوضوء: إسلام الناوي، وتمييزه، وعلمه بالمنوي وعدم إتيانه بما ينافيها بأن يستصحبها حكماً، فلا ينصرف عن الوضوء مثلاً لغيره، وألا تكون
معلَّقة، فلو قال: إن شاء الله تعالى: فإن قصد التعليق أو أطلق، لم تصح، وإن قصد التبرك صحت. واشترط غير الحنفية دخول وقت الصلاة لدائم الحدث كسلس بول ومستحاضة؛ لأن طهارته طهارة عذر وضرورة، فتقيدت بالوقت كالتيمم (¬1). وشرطها الفقهاء أيضاً في الصلاة، وأضافوا إليها مقارنة النية لتكبيرة الإحرام، فاشترط الحنفية اتصال النية بالصلاة بلا فاصل أجنبي بين النية والتكبير، واشترط الشافعية اقتران النية بفعل الصلاة، وكذلك اشترط المالكية والحنابلة المقارنة، لكنهم أجازوا تقدم النية على التكبير بزمن يسير. واتفق الفقهاء على اشتراط تعيين نوع الفرض الذي يصليه المصلي كالظهر أو العصر؛ لأن الفروض كثيرة، ولا يتأدى واحد منها بنية فرض آخر. ولا تجب نية الخروج من الصلاة بالسلام، وإنما تستحب عند المالكية والشافعية. واشترط الفقهاء تلك الشروط في الصيام، وأضافوا إليها: تبييت النية أي إيقاعها ليلاً في رأي الجمهور غير الحنفية، وهو الأفضل عند الحنفية، لقوله عليه الصلاة والسلام: «من لم يبيِّت الصيام قبل طلوع الفجر، فلا صيام له» (¬2). واشترط الجمهور أيضاً تعيين النية في فرض الصيام، ولم يشترطه الحنفية، والتعيين: أن يعتقد أنه يصوم غداً من رمضان، أو من قضائه، أو من كفارته أو نذره. واشترط الجمهور كذلك الجزم بالنية، فلو نوى ليلة الشك: إن كان من رمضان، فأنا صائم فرضاً، وإلا فهو نفل، لم يجزئه عن واحد منهما، لعدم جزمه ¬
بالنية لأحدهما؛ إذ لم يعين الصوم من رمضان جزماً. وليس الجزم بالنية في الصوم المقيد بزمن معين شرطاً عند الحنفية، فيصح صومه بالنية المذكورة. وليست نية فرضية الصيام شرطاً باتفاق الفقهاء، بخلاف المقرر في الصلاة؛ لأن صوم رمضان من البالغ لا يقع إلا فرضاً، بخلاف الصلاة، فإن المعادة نفل. وكذلك لا يشترط بالاتفاق تعيين السنة، ولا الأداء، ولا الإضافة إلى الله تعالى؛ لأن المقصود متحقق بنية الصوم، والتعيين يجزئ عن ذلك. واشترط الجمهور تعدد النية بتعدد الأيام، فينوي لكل يوم من رمضان على حدة، لعدم تعلق عبادة يوم باليوم الآخر. وقال المالكية: تجزئ نية واحدة لرمضان في أوله، فيجوز صوم جميع الشهر بنية واحدة. وفي الزكاة: تشترط الشروط العامة للنية، واختلفوا في أحوال مقارنتها للأداء، فقال الحنفية: لا يجوز أداء الزكاة إلا بنية مقارنة للأداء إلى الفقير، ولو حكماً، كما لو دفع بلا نية ثم نوى، والمال في يد الفقير، أو نوى عند الدفع إلى الوكيل، ثم دفع الوكيل بلا نية، أو مقارنة لعزل مقدار الواجب. وقال المالكية: تشترط النية لأداء الزكاة عند الدفع، ويكفي عند عزلها، وتجزئ من دفعها كرهاً عنه كالصبي والمجنون، وتجزئ نية الإمام أو من يقوم مقامه عن نية المزكي. وأجاز الشافعية كالحنفية والمالكية تقديم النية على الدفع للفقير، بشرط أن تقارن عزل الزكاة، أو إعطاءها للوكيل أو بعده، وقبل التفرقة، كما تجزئ بعد العزل وقبل التفرقة، وإن لم تقارن أحدهما، ويجوز تفويضها للوكيل إن كان من أهلها، بأن يكون مسلماً مكلفاً. ويجوز توكيل الصبي والكافر في أدائها للمستحقين، بشرط أن يعين له المدفوع له. وتجب نية الولي في زكاة الصبي
والمجنون والسفيه، وإلا ضمنها لتقصيره. ولو دفعها المزكي للإمام بلا نية لم تجزئه نية الإمام في الأظهر. وإذا أخذت قهراً من المزكي نوى عند الأخذ منه، وإلا وجب على الآخذ النية. وأجاز الحنابلة أيضاً تقديم النية على الأداء بالزمن اليسير، كسائر العبادات. وإن دفع الزكاة إلى وكيله ونوى هو دون الوكيل، جاز، إذا لم تتقدم نيته الدفع بزمن طويل. فإن تقدمت النية بزمن طويل لم يجز إلا إذا نوى حال الدفع إلى الوكيل، ونوى الوكيل عند الدفع إلى المستحق. لكن إن أخذ ها الإمام قهراً، أجزأت من غير نية؛ لأن تعذر النية في حقه، أسقط وجوبها عنه كالصغير والمجنون. ولو تصدق الإنسان بجميع ماله تطوعاً، لم يجزئه عند الجمهور غير الحنفية؛ لأنه لم ينو به الفرض، كما لو تصدق ببعضه، وكما لو صلى مئة ركعة، ولم ينو الفرض بها. ورأى الحنفية أنه يسقط الفرض عنه استحساناً، بشرط ألا ينوي بها واجباً آخر من نذر أو غيره؛ لأن الواجب جزء منه، فكان متعيناً فيه، فلا حاجة إلى التعيين، وعلى هذا: لو كان للمزكي دين على فقير، فأبرأه عنه، سقط زكاة المبلغ المبرأ عنه، سواء نوى به عن الزكاة أو لم ينو؛ لأنه كالهلاك. وفي الحج والعمرة: تشترط الشروط العامة أيضاً، ولكن يشترط في الحج أن يكون الإحرام في وقت معين، وهي الأشهر الثلاثة: شوال وذو القعدة وذو الحجة، أما العمرة فتصح على مدار العام، ويشترط أن ينضم للإحرام في رأي الحنفية قول أو فعل من خصائصه، كالتلبية أو التجرد من المخيط، ولم يشترط الجمهور ذلك، وإنما ينعقد الإحرام عندهم بمجرد النية، لكن يلزمه عند المالكية دم في ترك التلبية والتجرد من المخيط ونحوه حين النية. ويشترط للإحرام تجرد
تاسعا ـ النية في العبادات: هل هي شرط أو ركن؟
الرجال من المخيط، والامتناع عن الطيب ونحو ذلك من محظورات الإحرام، وإحرام المرأة بكشف وجهها. ويشترط للإحرام أيضاً كونه من الميقات، ولكل جهة ميقات معين معروف عند الفقهاء والناس. وأجاز جمهور الفقهاء إدخال الحج على العمرة وبالعكس، بشرط أن يكون الإدخال قبل الشروع في طواف العمرة، وبشرط كونه عند الحنفية قبل أداء أربعة أشواط من طواف العمرة، ولا يجوز إدخال العمرة على الحج في مذهب الحنفية. وأجاز الحنابلة خلافاً للجمهور فسخ الحج إلى العمرة، أي تحويل النية من الإحرام بالحج إلى العمرة. وفي الأضحية: اشترط الشافعية والحنابلة أن تكون النية عن ذبح الأضحية لأن الذبح قربة في نفسه، ويكفيه أن ينوي بقلبه، ولا يشترط أن يتلفظ بالنية بلسانه؛ لأن النية عمل القلب، والذكر باللسان دليل عليها. وقال الكاساني في البدائع: لا تتعين الأضحية إلا بالنية وتكفي النية في مذهب الحنفية عند الشراء، كما سأوضح. تاسعاً ـ النية في العبادات: هل هي شرط أو ركن؟ تكلمنا فيما سبق في هذا البحث عن شروط النية ومحلها وكيفيتها وزمنها وغير ذلك، ولم يبق في بحث النية في العبادات إلا الكلام عن شرطيتها وركنيتها، فهل النية في العبادات شرط أو ركن؟ علماً بأن كلاً من الشرط والركن فرض، لكن الشرط يكون خارجاً عن المشروط، كالطهارة شرط للصلاة خارجة عن الصلاة، والركن في اصطلاح الحنفية: هو ما يتوقف عليه وجود الماهية أو الشيء، ويكون جزءاً داخلاً فيها أو فيه. وهو عند الجمهور: ما به قوام الشيء الذي يتوقف وجوده عليه، سواء أكان جزءاً داخلاً فيه أم أمراً أساسياً فيه. فالركوع والسجود
ركنان للصلاة داخلان فيها؛ لأنهما جزءان من أجزائها. والإيجاب والقبول ركن العقد في اصطلاح الحنفية، ويضاف إلى الصيغة (الإيجاب والقبول) العاقدان والمعقود عليه، والثمن أو العوض في المعاوضات، تعد أركاناً في العقد في اصطلاح الجمهور. ويحسن إيراد عبارتين لكل من ابن نجيم والسيوطي قبل تفصيل حكم النية في العبادات؛ لأنهما يمثلان اتجاهين متعارضين في شرطية النية وركنيتها. قال ابن نجيم (¬1):النية شرط عندنا في كل العبادات باتفاق الأصحاب (أي الحنفية)، لا ركن، وإنما الاختلاف بينهم وقع في تكبيرة الإحرام، والمعتمد أنها شرط كالنية وقيل: بركنيتها. وكذلك قال الحنابلة والمالكية: النية شرط في العبادة لاركن ولو داخلها (¬2). وقال السيوطي (¬3):اختلف الأصحاب (أصحاب الشافعي) هل النية ركن في العبادات أو شرط؟ فاختار الأكثرون أنها ركن؛ لأنها داخل العبادات، وذلك شأن الأركان، والشرط ما يتقدم عليها، ويجب استمراره فيها. وأتتبع هنا حكم النية في كل عبادة على حدة (¬4). 1 - الطهارة: اختلف الفقهاء في اشتراط النية للوضوء على رأيين فقال الحنفية (¬5): يسن للمتوضئ البداية بالنية لتحصيل الثواب، ووقتها قبل الاستنجاء ¬
ليكون جميع فعله قربة، وكيفيتها: أن ينوي رفع الحدث، أو إقامة الصلاة، أو ينوي الوضوء، أو امتثال الأمر ومحلها: القلب، فإن نطق بها ليجمع بين فعل القلب واللسان، فهو مستحب عند المشايخ. ويترتب على قولهم بعدم فرضية النية: صحة وضوء المتبرد، والمنغمس في الماء للسباحة أو للنظافة أو لإنقاذ غريق، ونحو ذلك. واستدلوا على رأيهم بما يأتي: أـ عدم النص عليها في القرآن: إن آية الوضوء لم تأمر إلا بغسل الأعضاء الثلاثة والمسح بالرأس، والقول باشتراط النية بحديث آحاد زيادة على نص القرآن، والزيادة على الكتاب عندهم نسخ، لا يصح بالآحاد. ب ـ عدم النص عليها في السنة: لم يعلِّمْها النبي صلّى الله عليه وسلم للأعرابي مع جهله. وفرضت النية في التيمم؛ لأنه بالتراب، وليس هو مزيلاً للحدث بالأصالة، وإنما هو بدل عن الماء. جـ ـ القياس على سائر أنواع الطهارة وغيرها: إن الوضوء طهارة بماء، فلا تشترط لها النية كإزالة النجاسة، كما لا تجب النية في شروط الصلاة الأخرى كستر العورة، ولا تجب أيضاً بغسل الذمية من حيضها لتحل لزوجها المسلم. د ـ إن الوضوء وسيلة للصلاة، وليس مقصوداً لذاته، والنية شرط مطلوب في المقاصد، لا في الوسائل. وقال الجمهور غير الحنفية (¬1): النية فرض في الوضوء، لتحقيق العبادة أو ¬
قصد القربة لله عز وجل، فلا تصح الصلاة بالوضوء لغير العبادة كالأكل والشرب والنوم ونحو ذلك، واستدلوا بما يأتي: أـ السنة: قوله صلّى الله عليه وسلم ـ فيما رواه الجماعة عن عمر رضي الله عنه ـ «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ مانوى» أي إن الأعمال المعتدّ بها شرعاً تكون بالنية، والوضوء عمل، فلا يوجد شرعاً إلا بنية. ب ـ تحقيق الإخلاص في العبادة، لقوله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء} [البينة:5/ 98]، والوضوء عبادة مأمور بها، لا يتحقق إلا بإخلاص النية فيه لله تعالى؛ لأن الإخلاص عمل القلب وهو النية. جـ ـ القياس: تشترط النية في الوضوء، كما تشترط في الصلاة، وكما تشترط في التيمم لاستباحة الصلاة. د ـ الوضوء وسيلة للمقصود، فله حكم ذلك المقصود، لقوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} [المائدة:6/ 5]، فهذا يدل على أن الوضوء مأمور به عند القيام للصلاة، ومن أجل هذه العبادة، فالمطلوب غسل الأعضاء لأجل الصلاة، وهو معنى النية. وبمقارنة أدلة الفريقين يتبين لي أن الحق هو القول بفرضية النية؛ لأن أحاديث الآحاد كثيراً ما أثبتت أحكاماً ليست في القرآن، بل إن حديث عمر في النية، وإن كان غريباً بالنسبة إلى أوله، فهو مشهور بالنسبة إلى آخره، فإنه اشتهر، فرواه عن عمر أكثر من مئتي إنسان، أكثرهم أئمة، ومن أعيانهم الإمام مالك والثوري والأوزاعي وابن المبارك والليث بن سعد وحماد بن زيد وشعبة وابن عيينة وغيرهم، ولأن عموم الماء للأعضاء بدون قصد أصلاً، أو بقصد التبرد، ليس غسلاً للوضوء، حتى يؤدي مهمته الشرعية، ويحقق المأمور به كما أمر به، والأمور بمقاصدها باتفاق الأئمة.
2 - التيمم: اتفق العلماء على وجوب النية في التيمم، وهي فرض عند المالكية والشافعية، والمعتمد أنها شرط في رأي الحنفية والحنابلة (¬1)، ودليلهم على اشتراط النية في التيمم: الحديث السابق: (إنما الأعمال بالنيات) واستدل الحنفية: بأن التراب ملوِّث، فلا يكون مطهراً إلا بالنية، أي أن التراب ليس بطهارة حقيقية، وإنما جعل طهارة عند الحاجة، والحاجة إنما تعرف بالنية، بخلاف الوضوء؛ لأنه طهارة حقيقية. فلا يشترط له الحاجة ليصير طهارة، فلا يشترط له النية. 3 - الغسل: الخلاف فيه كالخلاف في الوضوء على قولين، فقد أوجب الجمهور غير الحنفية النية للغسل كالوضوء، للحديث المتقدم: «إنما الأعمال بالنيات». ورأى الحنفية أن الابتداء بالنية سنة، ليكون فعله تقرباً إلى الله تعالى يثاب عليه، كالوضوء (¬2). وفي غسل الميت اشترط الحنابلة في الغاسل النية: نية غسل الميت، للحديث السابق: «إنما الأعمال بالنيات». 4 - الصلاة: النية واجبة في الصلاة باتفاق العلماء، لتتميز العبادة عن العادة، وليتحقق في الصلاة الإخلاص لله تعالى؛ لأن الصلاة عبادة والعبادة إخلاص العمل بكليته لله تعالى، قال الله تعالى: {وماأمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين، حنفاء} [البينة:5/ 98]، قال الماوردي: والإخلاص في كلامهم: النية. ودل الحديث المتقدم: «إنما الأعمال بالنيات» على إيجابها، فلا تصح الصلاة بدون النية بحال. ¬
والنية شرط من شروط الصلاة عند الحنفية والحنابلة، وكذا عند المالكية على الراجح، وهي من أركان الصلاة عند الشافعية وبعض المالكية؛ لأنها واجبة في بعض الصلاة، وهو أولها، لا في جميعها، فكانت ركناً كالتكبير والركوع (¬1). وهل يجب على الإمام أن ينوي الإمامة أو لا؟ ذهب قوم إلى أنه ليس ذلك بواجب عليه، لحديث ابن عباس أنه قام إلى جنب رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد دخوله في الصلاة. ورأى قوم أن هذا محتمل، وأنه لابد من ذلك؛ لأن الإمام يحمل بعض أفعال الصلاة عن المأمومين (¬2). أما الجمهور فيرون عدم اشتراط نية الإمام الإمامة، بل تستحب ليحوز فضيلة الجماعة، فإن لم ينو لم تحصل؛ لأنه ليس للمرء من عمله إلا ما نوى. واستثنى الشافعية والمالكية الصلاة التي تتوقف صحتها على الجماعة كالجمعة والمجموعة للمطر، والمعادة، وصلاة الخوف، والاستخلاف فلا بد فيها من نية الإمام الإمامة. واستثنى الحنفية اقتداء النساء بالرجل، فإنه يشترط نية الإمامة، لصحة اقتداء النساء به. وقال الحنابلة: تشترط نية الإمامة مطلقاً، فينوي الإمام أنه إمام، والمأموم أنه مأموم، وإلا فسدت الصلاة، لكن لو أحرم الشخص منفرداً، ثم جاء آخر، فصلى ¬
معه، فنوى إمامة صح في النفل، عملاً بحديث ابن عباس، وهو أنه قال: «بتُّ عند خالتي ميمونة، فقام النبي صلّى الله عليه وسلم متطوعاً من الليل، فقام إلى القربة، فتوضأ، فقام، فصلى، فقمت لما رأيته صنع ذلك، فتوضأت من القربة، ثم قمت إلى شقه الأيسر، فأخذ بيدي من وراء ظهره يعدلني كذلك إلى الشق الأيمن» (1). أما في الفريضة: فإن كان المصلي ينتظر أحداً، كإمام المسجد، فإنه يُحرم وحده، وينتظر من يأتي، فيصلي معه، فيجوز ذلك أيضاً عند الحنابلة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أحرم وحده، ثم جاء جابر وجبارة، فأحرما معه، فصلى بهما، ولم ينكر فعلهما. والظاهر أنها كانت صلاة مفروضة؛ لأنهم كانوا مسافرين. أما في غير هذه الحالة، فلا يصح الاقتداء لمن لم ينو الإمامة. ----------------------------- (1) متفق عليه. وأما نية المؤتم الاقتداء: فهي شرط باتفاق المذاهب، فلا يصح اقتداء بإمام إلا بنية، أي أن ينوي المأموم مع تكبيرة الإحرام الاقتداء أو الجماعة أو المأمومية، فلو ترك هذه النية أو مع الشك فيها، وتابعه في الأفعال، بطلت صلاة المقتدي، ولايجب تعيين الإمام باسمه، فإن عينه وأخطأ، بطلت صلاته عند الشافعية. لكن لا بد من تعيين إمام معين بصفة الإمامة، فلو نوى الائتمام بأحد رجلين يصليان، لابعينه، لم يصح، حتى يعين الإمام بوصفه؛ لأن تعيينه شرط. ولا يجوز الائتمام بأكثر من واحد، فلو نوى الائتمام بإمامين لم يجز؛ لأنه لا يمكن اتباعهما معاً. وشرط النية في القدوة أن تكون مقارنة للتحريمة عند الشافعية. وأجاز الحنفية أن تكون متقدمة على التحريمة، بشرط ألا يفصل بينها وبين التحريمة فاصل أجنبي. والأفضل عندهم وعند الحنابلة: أن تكون النية مقارنة، خروجاً من الخلاف. والخروج من الخلاف مستحب. واشترط المالكية المقارنة للتحريمة أو قبلها بزمن يسير، كاشتراط النية في الصلاة، كما بينا.
وأما الأذان: فالمشهور أنه لا يحتاج إلا نية. وقيل: إنه يحتاج. وفي خطبة الجمعة: اشترط الحنفية والحنابلة النية أو قصد الخطبة، لحديث: «إنما الأعمال بالنيات» فلو خطب الخطيب بغير النية، لم يعتد بها عندهم. ولم يشترط المالكية النية، كما لم يشترطها الشافعية، وإنما اشترطوا عدم الصارف، فلو حمد الله للعطاس، لم يكف للخطبة (¬1). واشترط الشافعية لكل من سجدتي التلاوة والشكر النية مع تكبيرة الإحرام، لكن المصلي ينوي بقلبه لا بلسانه سجدة التلاوة، كما ينوي سجود السهو. وفي صلاة المسافر: اشترط الشافعية والحنابلة لصحة جمع التقديم نية الجمع عند الإحرام بالصلاة الأولى، لحديث «إنما الأعمال بالنيات» وتجوز نية الجمع عند الشافعية في الأظهر في أثناء الصلاة الأولى، ولو مع السلام منها. وكذلك اشترط هذان المذهبان لجمع التأخير نية الجمع أو التأخير قبل خروج وقت الصلاة الأولى، ولو بقدر ركعة، أي بزمن لو ابتدئت فيه كانت أداء، عند الشافعية، وما لم يضق وقتها عن فعلها عند الحنابلة، فإن ضاق وقت الأولى عن فعلها، لم يصح الجمع؛ لأن تأخيرها إلى القدر الذي يضيق عن فعلها حرام، ويأثم بالتأخير (¬2). 5 - الصوم: ذهب الجمهور (غير الشافعية): إلى أن نية الصوم شرط؛ لأن صوم رمضان وغيره عبادة، والعبادة: اسم لفعل يأتيه العبد باختياره خالصاً لله تعالى بأمره، والاختيار والإخلاص لا يتحققان بدون النية، فلا يصح أداء الصوم إلا بالنية، تمييزاً للعبادات عن العادات. ¬
وذهب الشافعية: إلى أن نية الصيام ركن كالإمساك عن المفطرات، لحديث: «إنما الأعمال بالنيات» (¬1). أما نية الأداء والقضاء: فالأصح عند الشافعية أنهما لا يشترطان في الصلاة والحج والزكاة والكفارة وصلاة الجنازة. وأما الجمعة التي لاتقبل القضاء فلا حاجة فيها إلى نية الأداء لتمييزها. وأما الصوم فالراجح عندهم أن نية القضاء لا بد منها فيه، وهذا متفق عليه بين المذاهب. 6 - الاعتكاف: (وهو اللبث في المسجد من شخص مخصوص بنية، بتعريف الشافعية): ويشترط لصحته بالاتفاق النية واجباً كان أو سنة أو نفلاً، فلا يصح الاعتكاف إلا بنية، للحديث السابق: «إنما الأعمال بالنيات» ولأنه عبادة محضة، فلم تصح من غير نية، كالصوم والصلاة وسائر العبادات. وأضاف الشافعية: إن كان الاعتكاف فرضاً كالمنذور، لزمه تعيين النية للفرض، لتميزه عن الطاعة (¬2). 7 - الزكاة: اتفق الفقهاء على أن النية شرط في أداء الزكاة، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات» وأداؤها عمل، ولأنها عبادة كالصلاة، فتحتاج إلى نية لتمييز الفرض عن النفل (¬3). 8 - الحج والعمرة: يرى الحنفية: أن الإحرام بالحج (نيته) شرط صحته، فرضاً كان أو نفلاً، والعمرة كذلك، ولا تكون عندهم إلا سنة، والمنذور عمرة ¬
فرض. ولو نذر حجة الإسلام لا يلزمه إلا حجة الإسلام، كما لو نذر الأضحية. والقضاء في الكل كالأداء من جهة أصل النية. ويرى جمهور الفقهاء: أن الإحرام بأن ينوي الدخول في النسك ركن في الحج والعمرة، فلا ينعقدان بدون النية، ولا يصح الإحرام إلا بالنية، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات» ولأن الحج أو العمرة عبادة محضة، فلم تصح من غير نية، كالصوم والصلاة (¬1). ومحل النية كما عرفنا: القلب، والإحرام: النية بالقلب، والأفضل عند أكثر العلماء أن ينطق بما نواه، لما رواه مسلم عن أنس رضي الله عنه، قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: لبيك بحج وعمرة». وينعقد الإحرام بالنية وحدها عند الجمهور، كما أوضحت، ولا ينعقد بمجردها عند الحنفية، وإنما لا بد من قرنه بقول أو فعل من خصائص الإحرام، كالتلبية أو التجرد من المخيط. 9 - اليمين: لا يتوقف اليمين بالله على النية، فينعقد إذا حلف عامداً أو ساهياً أو مخطئاً أومكرهاً، وكذا إذا فعل المحلوف عليه (¬2). أما في حال التحليف فقد اتفق الفقهاء على أن اليمين في الدعاوى تكون بحسب نية المستحلف، لا الحالف، واختلفوا في الأيمان على الوعود ونحوها، فقال قوم: بحسب نية الحالف، وقال آخرون: بحسب نية المستحلف (¬3). ¬
أما المالكية فقالوا: اليمين على نية المستحلف، ولا تقبل نية الحالف؛ لأن الخصم كأنه قبل هذه اليمين عوضاً عن حقه، ولأنه ثبت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «اليمين على نية المستحلف» وفي رواية: «يمينك على ما يصدقك به صاحبك» (¬1). والمعول عند الحنفية: أن اليمين على نية المستحلف، إلا إذا كانت اليمين بالطلاق أو العتاق ونحوهما، فتعتبر نيةالحالف إذا لم ينو خلاف الظاهر، ظالماً كان الحالف أو مظلوماً. وكذلك إذا كانت اليمين بالله تعالى، وكان الحالف مظلوماً، فإنه تعتبر نية الحالف أيضاً. والظالم: من يريد بيمينه إبطال حق الغير. وذهب الحنابلة وفي رواية عن أبي حنيفة: إلى أن من حلف، فتأول في يمينه، أي قصد بكلامه محتملاً يخالف ظاهره، فله تأويله إن كان مظلوماً، ولم ينفعه تأويله إن كان ظالماً. قال ابن نجيم: والفتوى في مذهب الحنفية على اعتبار نية الحالف إن كان مظلوماً، لا إن كان ظالماً، لكن بشرط كون اليمين بالله تعالى، فإن كان بطلاق أو عتاق لا اعتبار بنية الحالف مطلقاً كما بينا. والمقرر لدى الشافعية: أن العبرة في اليمين بنية الحالف؛ لأن المقصود من الأيمان هو المعنى القائم بالنفس، لا ظاهر اللفظ. واختلف الفقهاء أيضاً في تفسير المقصود بالمحلوف عليه في اليمين، فهل تبنى الأيمان على النية أو العرف أو صيغة اللفظ (¬2)؟ فذهب الحنفية: إلى أن الأيمان مبنية على العرف والعادة، لا على المقاصد ¬
والنيات؛ لأن غرض الحالف هو المعهود المتعارف عنده، فيتقيد بغرضه. هذا هو الغالب عندهم. وقد تبنى الأيمان عندهم على الألفاظ، لا على الأغراض. فلو اغتاظ من إنسان، فحلف أنه لا يشتري له شيئاً بفلس، فاشترى له شيئاً بمئة درهم، لم يحنث. ولو حلف لا يبيعه بعشرة فباعه بأحد عشر أو بتسعة، لم يحنث، مع أن غرضه الزيادة. وقال الإمام مالك في المشهور من مذهبه: المعتبر في الأيمان التي لا يقضى على حالفها بموجبها (¬1)، وكذلك النذور: هو النية، أي نية الحالف في غير الدعاوى، ففيها تعتبر نية المستحلف، فإن عدمت فقرينة الحال، فإن عدمت فعرف اللفظ، أي ما قصد الناس من عرف أيمانهم، فإن عدم فدلالة اللغة. وأما الأيمان التي يقضى بها على صاحبها: ففي مجال الاستفتاء تراعى هذه الضوابط على هذا الترتيب. وإن كان مما يقضى بها عليه، لم يراع فيها إلا اللفظ، إلا أن يؤيد ما ادعاه من النية قرينة الحال أو العرف. وقال الشافعية: الأيمان مبنية على الحقيقة اللغوية، أي بحسب صيغة اللفظ؛ لأن الحقيقة أحق بالإرادة والقصد، إلا أن ينوي شيئاً فيعمل بنيته. فمن حلف ألا يأكل رؤوساً، فأكل رؤوس حيتان (مفرده حوت) فمن راعى العرف كالحنفية قال: لا يحنث، ومن راعى دلالة اللغة كالشافعية قال: يحنث. وكذلك يحنث عندهم من حلف لا يأكل لحماً، فأكل شحماً، مراعاة لدلالة اللفظ. وقال غيرهم: لايحنث. ¬
ورأى الحنابلة: أنه يرجع في الأيمان إلى النية، أي نية الحالف، فإن نوى ما يحتمله اللفظ انصرفت يمينه إليه، سواء أكان ما نواه موافقاً لظاهر اللفظ أم مخالفاً له، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى». فإن لم ينو شيئاً رجع إلى سبب اليمين وما هيَّجها أو أثارها لدلالته على النية. فإن حلف لا يأوي مع امرأته في هذه الدار، فإن كان سبب يمينه غيظاً من جهة الدار لضرر لحقه منها أو منَّة عليه بها، اختصت يمينه بها. وإن كان لغيظ لحقه من المرأة يقضي جفاءها، ولا أثر للدار فيها، تعلق ذلك بإيوائه معها في كل دار. اليمين أمام القضاء: بينت سابقاً أن العبرة في الحلف أمام القضاء بنية القاضي المستحلف للخصم، لقوله صلّى الله عليه وسلم ـ فيما رواه مسلم عن أبي هريرة ـ: «اليمين على نية المستحلف» وقد حمل هذا الحديث على الحاكم؛ لأنه الذي له ولاية الاستحلاف، فلو أخذ بنية الحالف، لبطلت فائدة الأيمان وضاعت الحقوق؛ إذ كل أحد يحلف على ما يقصد. فلو ورَّى الحالف في يمينه، بأن قصد خلاف ظاهر اللفظ عند تحليف القاضي، أو تأول، أي اعتقد خلاف نية القاضي، أو استثنى الحالف، كقوله عقب يمينه: (إن شاء الله) أو وصل باللفظ شرطاً، مثل: إن دخلت الدار، بحيث لا يسمع القاضي كلامه، لم يدفع ما ذكر إثم اليمين الفاجرة، فإن لم نحكم بالتأثيم ضاع المقصود من اليمين، وهو حصول الهيبة من الإقدام عليها. واشترط الشافعية والحنابلة (¬1) شرطين في كون اليمين على نية المستحلف. 1ً - ألا يحلفه القاضي بالطلاق أو العتاق. 2ً - ألا يكون القاضي ظالماً أو جائراً في طلب اليمين. ¬
التورية في اليمين: يجوز للحالف في اليمين غير القضائية التي يحلفها باختياره أو يطلبها شخص منه دون أن يكون له عليه حق اليمين: التورية في يمينه، بأن يقصد فيها غير المعنى المتبادر من اللفظ، أو ينوي فيها خلاف الظاهر، للحديث السابق: «إنما الأعمال بالنيات» وقد حكى القاضي عياض الإجماع على أن الحالف من غير استحلاف، ومن غير تعلق حق بيمينه، له نيته ويقبل قوله. وبناء عليه ذكر السيوطي (¬1) ثلاث قواعد وهي: الأولى ـ (مقاصد اللفظ على نيةاللافظ إلا في موضع واحد وهو اليمين عند القاضي) فإنها على نية القاضي دون الحالف. الثانية ـ (تجري النية مجرى الشروط) في مسألة وهي: ما لو شك بعد الصلاة في تركها أو ترك الطهارة، فإنه تجب الإعادة، بخلاف ما لو شك في ترك ركن؛ لأن الشك في الأركان يكثر بخلاف الشروط. أما لو شك الصائم في النية بعد الغروب (نهاية اليوم) فلا أثر له. الثالثة ـ (النية في اليمين تخصص اللفظ العام، ولا تعمم الخاص) مثال الأول أن يقول: (والله، لا أكلم أحداً) وينوي زيداً. ومثال الثاني: أن يمن عليه رجل بماء، فيقول: والله لا أشرب منه ماء من عطش، فإن اليمين تنعقد على الماء من عطش خاصة، ولا يحنث بطعامه وشرابه؛ لأن النية إنما تؤثر إذا احتمل اللفظ ما نوى بجهة يجوز لها. وقال ابن نجيم (¬2) عن هذه القاعدة: (تخصيص العام بالنية مقبول ديانة لا ¬
قضاء) وعند الخصاف: تصح قضاء أيضاً، فلو قال: (كل امرأة أتزوجها فهي طالق) ثم قال: (نويت من بلدة كذا) لم تصح في ظاهر المذهب، خلافاً للخصاف. ولا بأس أن يؤخذ بقول الخصاف إذا وقع الشخص في يد الظلمة، فإذا حلفه الظالم له أن يخصص العام. وأما تعميم الخاص بالنية فلم أره الآن. 10 - الأضحية: لا تجزئ الأضحية بدون النية؛ لأن الذبح قد يكون للحم، وقد يكون للقربة، والفعل لا يكون قربة بدون النية، لقوله عليه الصلاة والسلام: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» قال الكاساني: والمراد منه عمل هو قربة، فلا تتعين الأضحية إلا بالنية. وتتعين الأضحية بالذبح اتفاقاً، وبالنذر إن عينها له اتفاقاً، وتتعين عند أبي حنيفة بالشراء بنية الأضحية. واشترط الشافعية والحنابلة: أن تكون النية عند ذبح الأضحية؛ لأن الذبح قربة في نفسه. ويكفيه أن ينوي بقلبه، ولا يشترط أن يتلفظ بالنية بلسانه؛ لأن النية عمل القلب، والذكر باللسان دليل عليها (¬1). وتتعين الأضحية عند المالكية إما بالذبح أو بالنية قبله، على خلاف في المذهب. والمعتمد المشهور في المذهب المالكي: أن الأضحية لا تجب إلا بالذبح فقط، ولا تجب بالنذر (¬2). 11 - الاصطياد: الصيد: هو وضع اليد على شيء مباح غير مملوك لأحد. ويتم إما بالاستيلاء الفعلي على المصيد، أو بالاستيلاء الحكمي: وهو اتخاذ فعل يعجز الطير أو الحيوان أو السمك عن الفرار، كاتخاذ الحياض لصيد الأسماك، أو الشباك، أو الحيونات المدربة على الصيد كالكلاب والفهود والجوارح المعلَّمة. ¬
عاشرا ـ النية في العقود أو المعاملات
ويشترط في الاستيلاء الحكمي لا الاستيلاء الحقيقي: قصد التملك، عملاً بقاعدة «الأمور بمقاصدها». فمن نصب شبكة، فتعلق بها صيد، فإن كان قد نصبها للجفاف، فالصيد لمن سبقت يده إليه؛ لأن نيته لم تتجه إليه. وإن كان قد نصبها للصيد، ملكه صاحبها، وإن أخذه غيره كان متعدياً غاصباً. ولو أفرخ طائر في أرض إنسان، كان لمن سبقت إليه يد إلا إذا كان صاحب الأرض هيأها لذلك. وإذا دخل طائر في دار، فأغلق صاحبها الباب لأخذه، ملكه، وإن أغلقه صدفة لم يملكه. وهكذا لو وقع الصيد في حفرة أو ساقية، المعوَّل في تملكه على نية صيده، وإلا فلمن سبقت إليه يده (¬1). 13 - قراءة القرآن: إن القرآن يخرج عن كونه قرآناً بالقصد، فجاز للجنب والحائض قراءة ما فيه من الأذكار بقصد الذكر، والأدعية بقصد الدعاء (¬2). عاشراً ـ النية في العقود أو المعاملات (مدى تأثير النية غير المشروعة أو الباعث على العقود): للفقهاء اتجاهان من نظرية السبب بالمعنى الحديث: اتجاه يغلِّب النظرة الموضوعية أو الإرادة الظاهرة، واتجاه آخر يلاحظ فيه النوايا والبواعث الذاتية أو الإرادة الباطنة (¬3). أما الاتجاه الأول: فهو مذهب الحنفية والشافعية (¬4) الذين يأخذون بالإرادة الظاهرة في العقود، لا بالإرادة الباطنة، أي أنهم حفاظاً على مبدأ استقرار ¬
المعاملات لا يأخذون بنظرية السبب أو الباعث لأن فقههم ذو نزعة موضوعية بارزة كالفقه الجرماني، والسبب أو الباعث الذي يختلف باختلاف الأشخاص عنصر ذاتي داخلي قلق يهدد المعاملات. ولا تأثير للسبب أو للباعث على العقد إلا إذا كان مصرحاً به في صيغة التعاقد، أي تضمنته الإرادة الظاهرة، كالاستئجار على الغناء والنوح والملاهي وغيرها من المعاصي. فإذا لم يصرح به في صيغة العقد، بأن كانت الإرادة الظاهرة لا تتضمن باعثاً غير مشروع، فالعقد صحيح لا شتماله على أركانه الأساسية من إيجاب وقبول وأهلية المحل لحكم العقد، ولأنه قد لا تحصل المعصية بعد العقد، ولا عبرة للسبب أو الباعث في إبطال العقد، أي أن العقد صحيح في الظاهر، دون بحث في النية أو القصد غير المشروع، لكنه مكروه حرام، بسبب النية غير المشروعة، نظراً لاستكمال العقد أركانه وشروطه المطلوبة شرعاً في الظاهر. وبناء عليه قال الحنفية والشافعية بصحة العقود التالية في الظاهر، مع الكراهة التحريمية أو الحرمة عند الشافعية، للنهي عنها في السنة النبوية، وهي: 1 ً - بيع العينة (أي البيع الصوري المتخذ وسيلة للربا): كبيع سلعة بثمن مؤجل إلى مدة بمئة درهم، ثم شراؤها من المشتري في الحال بمئة وعشرة، فيكون الفرق ربا. لكن أبا حنيفة رحمه الله استثناء من مبدئه في عدم النظر إلى النية غير المشروعة، اعتبر هذا العقد فاسداً، إن خلا من توسط شخص ثالث بين المالك المقرض والمشتري المقترض، لأساس آخر: وهو عدم تمام البيع الأول بسبب عدم قبض الثمن، ولأن البيع الثاني بيع شيء منقول قبل القبض وبيع الشيء قبل القبض فاسد شرعاً. 2 ً - بيع العنب لعاصر الخمر: أي لمن يعلم البائع أنه سيتخذه خمراً أو يظنه ظناً غالباً، فإن شك في اتخاذه خمراً أوتوهمه، فالبيع مكروه.
3 ً - بيع السلاح في الفتنة الداخلية، أو لمن يقاتل به المسلمين أو لقطاع الطريق المحاربين، ومثله بيع أدوات القمار، وإيجاد دار للدعارة أو للقمار، وبيع الخشب لمن يتخذ منه آلات الملاهي، والإجارة على حمل الخمر لمن يشربها، ونحو ذلك. 4 ً - زواج المحلِّل: وهو الذي يعقد زواجه على امرأة مطلقة طلاقاً بائناً، أي البائن بينونة كبرى، بقصد تحليلها لزوجها الأول بالدخول بها في ليلة واحدة مثلاً، ثم يطلقها ليصح لزوجها الأول العقد عليها من جديد، هو عقد صحيح في الظاهرعملاً بظاهر الآية القرآنية: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد، حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة:230/ 2]، أي أنه لا يصرح في عقد التحليل بالغرض المقصود، وإنما يتم الاتفاق سراً وبنحو مستتر في غير حالة إبرام العقد. والخلاصة: أن هذا الاتجاه لا يأخذ بالسبب أو الباعث إلا إذا كان داخلاً في صيغة العقد، وتضمنه التعبير عن الإرادة ولو ضمناً، ولا يعتد به إذا لم تتضمنه صيغة العقد. وأما الاتجاه الثاني: فهو مذهب المالكية والحنابلة والظاهرية والشيعة (¬1) الذين ينظرون إلى القصد والنية أو الباعث، فيبطلون التصرف المشتمل على باعث غير مشروع، بشرط أن يعلم الطرف الآخر بالسبب غير المشروع، أو كان بإمكانه أن يعلم بذلك بالظروف والقرائن التي تدل على القصد الخبيث، كإهداء العدو هدية ¬
لقائد الجيش، والإهداء للحكام والموظفين، فذلك مقصود به الرشوة. فتكون للدولة. وهبة المرأة مهرها لزوجها، يقصد به استدامة الزواج، فإن طلقها بعدئذ، كان لها الرجوع فيما وهبت (¬1). هذا الاتجاه يأخذ تقريباً بنظرية السبب أو بمذهب الإرادة الباطنة في الفقه اللاتيني، مراعاة للعوامل الأدبية والخلقية والدينية، فإن كان الباعث مشروعاً، فالعقد صحيح، وإن كان غير مشروع فالعقد باطل حرام، لما فيه من الإعانة على الإثم والعدوان. وبناء عليه، قال المالكية والحنابلة وموافقوهم ببطلان العقود السابقة وأضاف إليها المالكية: أنهم لا يجيزون بيع أرض بقصد بناء كنيسة أو بيع خشب بقصد صنع صليب، أو شراء عبد بقصد أن يكون مغنياً، أو استئجار كراريس فيها عبارات النوح، وبيع ثياب حرير ممن يلبسها (¬2). أما عدم صحة بيع العنب للخمار، وبيع السلاح للأعداء ونحوهما، فلأنه إعانة على الحرام، أو عقد على شيء لمعصية الله به، فلا يصح. وأما فساد زواج المحلل، فلأنه يتنافى مع أغراض الزواج السامية: وهو أنه عقد مؤبد، قصد به تكوين أسرة دائمة، لإنجاب ذرية تنعم بجو هادئ مطمئن، وهذا الزواج اتخذ لتحليل المطلقة ثلاثاً لزوجها الأول في وضع مؤقت قلق، فهو حيلة لرفع تحريم مؤبد، وهو قصد غير مشروع. وأما فساد بيع العينة أو بيوع الآجال، فلأنه اتخذ البيع حيلة لتحليل التعامل بالربا، ولم يكن الغرض الحق هو البيع والشراء، فهو وسيلة لعقد محرم غير مشروع، فيمنع سداً للذرائع المؤدية إلى الحرام. ¬
والخلاصة: أن هذا الاتجاه يعتد بالمقاصد والنيات، ولو لم تذكر في العقود، بشرط أن يكون ذلك معلوماً للطرف الآخر، أو كانت الظروف تحتم علمه؛ لأن النية روح العمل ولبّه. ويكون هذا الاتجاه آخذاً بنظرية السبب التي تتطلب أن يكون السبب مشروعاً، فإن لم يكن سبب العقد مشروعاً، فلا يصح العقد. أما في الأحوال غير المصحوبة بنية غير مشروعة أو بباعث سيء، فهل يصح العقد بنية تحول صفة العقد؟. يرى المالكية والحنفية: أن للنية تأثيراً في صيغة العقود، فقالوا: يصح عقد الزواج بكل لفظ يدل على تمليك العين في الحال، كالتزويج والنكاح والتمليك، والجعل، والهبة والعطية والصدقة، بشرط توافر النية أو القرينة الدالة على أن المراد باللفظ هو الزواج، وبشرط فهم الشهود للمقصود،؛ لأن عقد الزواج كغيره من العقود التي تنشأ بتراضي العاقدين، فيصح بكل لفظ يدل على تراضيهما وإرادتهما (¬1). أما البيع والإقالة والإجارة والهبة فلا تتوقف على النية، فلو وهب مازحاً صحت. لكن قال الحنفية (¬2): إن عُقِد البيع بمضارع لم يصدَّر بسوف أو السين توقف على النية، فإن نوى به الإيجاب للحال، كان بيعاً، وإلا لا، بخلاف صيغة الماضي، فإن البيع لايتوقف على النية. وأما المضارع المتمحض للاستقبال فهو كالأمر، لا يصح البيع به ولا بالنية، ولا يصح البيع مع الهزل، لعدم الرضا بحكمه معه. ¬
الحادي عشر ـ النية في الفسوخ
وأما القصاص فمتوقف على قصد القاتل القتل، لكن قال الحنفية: لما كان القصد أمراً باطنياً، أقيمت الآلة مقامه، فإن قتله بما يفرق الأجزاء عادة، كان عمداً ووجب القصاص، وإن قتله بما لا يفرق الأجزاء عادة، لكن يقتل غالباً، فهو شبه عمد لا قصاص فيه عند أبي حنيفة. الحادي عشر ـ النية في الفسوخ: الإقالة (وهي فسخ العقد) والطلاق (حل الرابطة الزوجية) إن كان صريحاً لا يتوقفان على النية (¬1) فلو طلق الرجل زوجته غافلاً أو ساهياً أو مخطئاً وقع، حتى قال الحنفية: إن الطلاق يقع بالألفاظ المصحفة قضاء، ولكن لا بد من أن يقصدها باللفظ. وأما الطلاق بالكناية: (وهو كل لفظ يحتمل الطلاق وغيره، ولم يتعارفه الناس، مثل قول الرجل لزوجته: الحقي بأهلك، اذهبي، اخرجي، أنت بائن، أنت بتَّة، أنت بتلة، أنت خلية، برية، اعتدي، استبرئي رحمك، أمرك بيدك) فلا يقع قضاء في رأي الحنفية والحنابلة إلا بالنية أو دلالة الحال على إرادة الطلاق، كأن يكون الطلاق في حالة الغضب، أو في حال المذاكرة بالطلاق. ولا يقع في رأي المالكية والشافعية إلا بالنية، ولا عبرة بدلالة الحال، فلا يلزمه الطلاق إلا إن نواه، فإن قال: إنه لم ينو الطلاق، لم يقع، وإن امتنع عن اليمين، حكم عليه بالطلاق. ¬
الثاني عشر ـ النية في التروك
واشترط الشافعية في نية الكناية اقترانها بكل اللفظ، فلو قارنت أوله، وغابت عنه قبل آخره، لم يقع طلاق. ولو قال الزوج: أنت طلاق أو أنت الطلاق (بالمصدر) أو أنت طالق طلاقاً، فيقع بها عند الحنفية والمالكية والحنابلة طلقة واحدة رجعية إن لم ينو شيئاً. فإن نوى ثلاثاً فهي ثلاث، فهي عندهم من الألفاظ الصريحة؛ لأنه صرح بالمصدر، والمصدر يقع على القليل والكثير، وإنه نوى بلفظه ما يحتمله. وأضاف الحنفية: ولا تصح نية الثنتين في المصدر: (أنت الطلاق) إلا أن تكون المرأة أَمَة (رقيقة). وأما تفويض الطلاق والخلع والإيلاء والظهار، فما كان منه صريحاً فلا تشترط له النية، وما كان كناية، اشترطت له. وأما الرجعة فهي كعقد الزواج؛ لأنها استدامته، لكن ما كان منها صريحاً لا يحتاج إلى نية، وكنايتها تحتاج إليها. ورأي الشافعية في الأصح: ليس قوله: (أنت طلاق أو الطلاق) من الألفاظ الصريحة، بل هما كنايتان؛ لأن المصادر إنما تستعمل في الأعيان توسعاً (¬1). ويلاحظ أن الشافعية قرروا أن التعريض بالقذف يوجب الحد إن نوى به القاذف القذف، فهو بمنزلة كنايات الطلاق، والكناية مع النية توجب الحد كالصريح. الثاني عشر ـ النية في التروك: التروك كترك الرياء وغيره من المنهي عنه. إن المقرر شرعاً: أن ترك المنهي عنه لا يحتاج إلى نية للخروج عن عهدة النهي، وإنما لحصول الثواب بأن كان كفّاً: ¬
وهو أن تدعوه النفس إليه، قادراً على فعله، فيكف نفسه عنه خوفاً من ربه، فهو مثاب، وإلا فلا ثواب على تركه، فلا يثاب على ترك الزنا وهو يصلي، ولا يثاب العنِّين (العاجز عن الجماع) على ترك الزنا، ولا الأعمى على ترك النظر المحرم. وهناك أعمال في حكم التروك، لترددها بين أصلين: الأفعال من حيث إنها فعل، والتروك من حيث إنها قريبة منها، رجح الأكثرون عدم النية فيها، لمشابهة التروك، وذلك مثل إزالة النجاسة، ورد المغصوب والعواري، وإيصال الهدية وغير ذلك، فلا تتوقف صحتها على النية المصححة، لكن يتوقف الثواب فيها على نية التقرب. وأما غسل الميت: فالأصح فيه عند الأكثرين خلافاً للحنابلة كما بينا عدم اشتراط النية فيه، كالأعمال الملحقة بالتروك؛ لأن القصد منه التنظيف كإزالة النجاسة. ومثله أيضاً نيةالخروج من الصلاة: الأصح فيها عدم الاشتراط؛ لأن النية تليق بالإقدام، لا بالترك. ومن الملحق بالتروك: إطعام الشخص دابته: إن قصد بإطعامها امتثال أمر الله تعالى، فإنه يثاب، وإن قصد بإطعامها حفظ المالية، فلا ثواب، كما ذكر القرافي. لكن يستثنى من ذلك: فرس المجاهد: إذا ربطها في سبيل الله، فإنها إذا شربت وهو لا يريد سقيها، أثيب على ذلك. وكذلك الزوجة، وكذلك إغلاق الباب وإطفاء المصباح عند النوم: إذا قصد به امتثال أمر الله أثيب، وإن قصد به أمر آخر، فلا (¬1). ¬
الثالث عشر ـ النية في المباحات والعادات
الثالث عشر ـ النية في المباحات والعادات: تختلف صفة المباحات والعادات التي تصدر عن الإنسان في اليوم والليلة باعتبار ما قصدت لأجله، فإذا قصد بها التقوّي على الطاعات أو التوصل إليها كانت عبادة، وإن لم يقصد بها العبادة لا ثواب عليها. وبناء عليه إن المباحات كالأكل والشرب والنوم واكتساب المال والجماع أو الوطء كالتروك مثل ترك الزنا والخمر، ليست مفتقرة إلى نية، ولا تكون عبادة إلا إذا نوى بها العبادة كالأكل والشرب بقصد التقوي بهما على الطاعة، والجماع بقصد إعفاف نفسه وزوجه وحصول نسل يعبد الله، وترك الزنا والخمر مثلاً بقصد امتثال نهي الشارع. وهكذا كل فعل يصح أن يكون عبادة بالقصد، لا بد فيه من القصد ليكون عبادة يترتب عليها الثواب، وإليه يشير حديث (إنما الأعمال بالنيات). فينبغي ـ كما قال الرملي ـ استحضار النية عند المباحات والعاديات ليثاب عليها ثواب العبادات، ولا مشقة عليه في القيام بها، بل هي مألوفة لنفسه، مستلذة، فسبحان الله ماأعظم منته، وما أوسع رحمته، أباح لعبده الطيبات التي يشتهيها، ثم هو مع ذلك يثيبه عليها بحسن نيته، كما يثيبه على عبادته التي طلبها منه، فله الحمد والمنة، لا ربَّ غيره، ولا خير إلا خيره. ويسن لكل إنسان أن يقول في الصباح والمساء، ليحظى بالثواب والأجر على المباحات والتروك: (اللهم ما أعمله في هذا النهار ـ أو في هذه الليلة ـ من خير، فهو امتثال لأمرك، وما أتركه من معصية فهو امتثال لنهيك). الرابع عشر ـ النية في أمور أخرى: هناك غير ما ذكرناه أمور أخرى، أشير إلى النية فيها بإجمال (¬1): ¬
1 - الجهاد: هو من أعظم العبادات، فلا بد له من خلوص النية، ليكون في سبيل الله. 2 - الوصية كالعتق: إن قصد به التقرب إلى الله فله الثواب، وإلا فهي صحيحة فقط. 3 - الوقف: ليس عبادة وضعاً، بدليل صحته من الكافر، فإن نوى القربة، فله الثواب، وإلا فلا. 4 - الزواج: أقرب إلى العبادات، حتى إن الاشتغال به أفضل من التخلي لمحض العبادة، وهو عند الاعتدال سنة مؤكدة على الصحيح في مذهب الحنفية، فيحتاج إلى النية لتحصيل الثواب: وهو أن يقصد إعفاف نفسه وتحصين زوجته وحصول الولد. والرجعة كالزواج لأنها استدامة، فما كان منها صريحاً لا يحتاج إلى نية، وما كان منها كناية يحتاج إلى نية. 5 - القضاء: من العبادات، والثواب عليه متوقف عليه متوقف على النية. 6 - الحدود والتعازير وكل ما يتعاطاه الحكام والولاة، وتحمل الشهادات وأداؤها: الثواب في كل ذلك متوقف على النية. 7 - الضمان أو التعويض عن الضرر: لا يتوقف على النية أو القصد، ويجب الضمان عن الضرر كالتلف، سواء حدث عمداً أم خطأ. وهل يترتب الضمان في شيء بمجرد النية من غير فعل؟ قال الحنفية في المُحْرِم إذا لبس ثوباً، ثم نزعه، ومن قصده أن يعود إليه، لا يتعدد الجزاء. فإن قصد ألا يعود إليه، تعدد الجزاء بلبسه. وقالوا أيضاً في الوديع إذا لبس ثوب الوديعة ثم نزعه، ومن نيته أن يعود إلى لبسه، لم يبرأ من الضمان.
خاتمة المطاف
8 - الكفارات: النية شرط صحتها، عتقاً، أو صياماً، أو إطعاماً. 9 - الضحايا: لابد فيها من النية كما بينا، لكن في رأي الحنفية: عند الشراء لا عند الذبح. وتفرع عليه: أنه لو اشتراها بنية الأضحية، فذبحها غيره بلا إذن، فإن ذبحها عن مالكها، فلا ضمان عليه، وإن ذبحها عن نفسه: فإن أخذها مذبوحة ولم يضمنه مالكها قيمتها، أجزأته. وإن ضمنه لا يجزئه. وهل تتعين الأضحية بالنية؟ قال الحنفية: إن كان فقيراً، وقد اشتراها بنية الأضحية، تعينت، فليس له بيعها. وإن كان غنياً لم تتعين، وصحح ابن نجيم في الأشباه أنها تتعين مطلقاً، والصحيح لدى غيره أنها لا تتعين مطلقاً، ولو في غير أيام الذبح، ويتصدق بها. وتتعين الأضحية في مذهب الشافعية وفي قول عند المالكية بقول مشتريها: هذه أضحية، أو جعلتها أضحية، فيتعين عليه ذبحها، لزوال ملكه عنها بذلك القول. وتتعين الأضحية عند المالكية إما بالذبح أو بالنية قبله، على خلاف في المذهب، كما بينا، والمعتمد المشهور في المذهب: أن الأضحية لا تجب إلا بالذبح فقط، ولا تجب بالنذر. وفي خاتمة المطاف أقول: هذه هي النية وأهميتها وأحكامها، فهي رادار القلب المسلم توجهه إما إلى الخير وإما إلى الشر. وهي مدار عمل المسلم ومعيار ضبط الأعمال الشرعية من عبادات ومعاملات فإما أن تصحح العمل الشرعي، وإما أن تبطله وتلغي آثاره.
وهي سبب الثواب الأخروي على العمل، فإما أن تكون سبباً للثواب والظفر بجنان الخلد، كنية الجهاد وحب المؤمنين وصفاء القلب، وإما أن تكون سبباً للعقاب كالحقد والحسد والبغضاء، أو الرياء والشهرة والسمعة. فمن حسنت نيته، وصلحت سريرته، حاز الفضل والفوز والخير في الدنيا والاخرة ومن ساءت نيته، وفسدت سريرته، بالخسران والسوء، والخذلان في الدنيا والاخرة.
القسم الأول: العبادات
القسْمُ الأَوّل: العِبَادَاتُ {يا أيُّها الناسُ اعبدوا ربًكم} [البقرة:21/ 2]
تمهيد
تمهيد تقوم أمور الدين على الاعتقادات والآداب والعبادات والمعاملات والعقوبات، وذلك هو الفقه الأكبر، وبما أن بحثنا في فقه الأحكام الشرعية العملية، فلا نتعرض لبحث أمور العقيدة والأخلاق. والعبادات خمسة: الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والجهاد. وبحث الجهاد في خطتنا ليس مع العبادات، وإنما هو في فقه الأحكام ذات الصلة بالدولة. والمعاملات خمسة: المعاوضات المالية، والمناكحات، والمخاصمات، والأمانات، والتركات. والعقوبات خمسة: القصاص، وحد السرقة، والزنا، والقذف، والردة (¬1). والعبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال، والأعمال الباطنة والظاهرة (¬2). ودين الله: عبادته وطاعته والخضوع له. فالصلاة والزكاة، والصيام، والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وجهاد الكفار والمنافقين، والإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل، والبهائم، والدعاء والذكر والتلاوة، وأمثال ذلك: من العبادة. ¬
وكذلك حب الله ورسوله، وخشية الله والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه، وأمثال ذلك، هي من العبادة. وذلك أن العبادة لله هي الغاية المحبوبة له، والمرضية له، التي خلق الخلق لها، قال الله تعالى: {وما خلقتُ الجنَّ والإنْسَ إلا ليَعْبُدون} [الذاريات:56/ 51]، وبها أرسل جميع الرسل، كما قال نوح لقومه: {اعبدوا الله َ مالكم من إله غيرُه} [الأعراف:59/ 7]، وكذلك قال هود وصالح وشعيب وغيرهم لأقوامهم. وبما أن المخلوقين كلهم عباد الله، الأبرار منهم والفجار، والمؤمنون والكفار، وأهل الجنة وأهل النار، فإن عبوديتهم الحقة تستلزم عبادة الله الواحد القهار، قال تعالى: {إن هذه أمَّتُكم أمةً واحدة، وأنا ربكم فاعبدون} [الأنبياء:92/ 21]، وقال سبحانه: {يا أيها الناسُ اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم، لعلكم تتقون} [البقرة:21/ 2]، {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات:56/ 51]. لذا اعتاد الفقهاء تقديم العبادات على غيرها اهتماماً بشأنها؛ لأن العباد لم يخلقوا إلا لها، كما قدموا الصلاة على غيرها لأنها أحب الأعمال إلى الله بعد الإيمان، ولأنها عماد الدين (¬1). ¬
خطة بحث العبادات
خطة بحث العبادات: الكلام في العبادات ماعدا الجهاد يشمل ما يأتي: الطهارة، الصلاة، الجنائز، الزكاة، الصيام والاعتكاف، الحج، الأيْمان والنذور، الأطعمة والأشربة، والصيد والذبائح، الضحايا والعقيقة والختان. وينقسم البحث فيها إلى الأبواب التسعة التالية: الباب الأول ـ الطهارات ـ مقدمات الصلاة أو الوسائل. الباب الثاني ـ الصلاة وأحكام الجنائز. الباب الثالث ـ الصيام والاعتكاف. الباب الرابع ـ الزكاة وأنواعها. الباب الخامس ـ الحج والعمرة. الباب السادس ـ الأيمان والنذور والكفارات. الباب السابع ـ الحظر والإباحة أو الأطعمة والأشربة. الباب الثامن ـ الضحايا والعقيقة والختان. الباب التاسع ـ الصيد والذبائح.
الباب الأول: الطهارات
البَابُ الأوَّل: الطَّهارات الوسائل أو مقدمات الصلاة بحث الطهارات يشمل الفصول السبعة التالية: الفصل الأول ـ الطهارة: معناها، وأهميتها، وأنواع المطهرات، وأنواع المياه، وحكم الأسآر والآبار، وأنواع الأعيان الطاهرة. الفصل الثاني ـ النجاسة: أنواعها، المقدار المعفو عنها، كيفية تطهير النجاسة، حكم الغُسالة. الفصل الثالث ـ الاستنجاء: معناه، حكمه، وسائله، آداب قضاء الحاجة. الفصل الرابع ـ الوضوء وما يتبعه: المبحث الأول ـ الوضوء: فرائضه، شروطه، سننه، نواقضه، وضوء المعذور. المبحث الثاني ـ السواك: تعريفه، حكمه، كيفيته، فوائده. المبحث الثالث ـ المسح على الخفين: معناه ومشروعيته، كيفيته، شروطه،
مدة المسح، مبطلاته، المسح على العمامة، المسح على الجوارب، المسح على الجبائر. الفصل الخامس ـ الغسل: خصائصه، موجباته، فرائضه، سننه ومكروهاته، ما يحرم على الجنب، الأغسال المسنونة، ملحقان بأحكام المساجد وأحكام الحمامات. الفصل السادس ـ التيمم: تعريفه، مشروعيته وصفته، أسبابه، فرائضه، كيفيته، شروطه، سننه ومكروهاته، نواقضه، حكم فاقد الطهورين. الفصل السابع ـ الحيض والنفاس والاستحاضة. المبحث الأول ـ تعريف الحيض ومدته. المبحث الثاني ـ تعريف النفاس ومدته. المبحث الثالث ـ أحكام الحيض والنفاس وما يحرم على الحائض والنفساء. المبحث الرابع ـ الاستحاضة وأحكامها.
الفصل الأول: الطهارة
الفَصْلُ الأوَّل: الطَّهارة قدم الفقهاء بحث الطهارة على الصلاة؛ لأن الطهارة مفتاح الصلاة، وشرط لصحة الصلاة، والشرط مقدم على المشروط، قال عليه الصلاة والسلام: «مفتاح الصلاة الطُّهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم» (¬1) «الطُّهور شطر الإيمان» (¬2). وفي هذا الفصل مباحث ستة: المبحث الأول ـ معنى الطهارة وأهميتها. المبحث الثاني ـ شروط وجوب الطهارة. المبحث الثالث ـ أنواع المطهرات. المبحث الرابع ـ أنواع المياه. المبحث الخامس ـ حكم الأسآر والآبار. المبحث السادس ـ أنواع الأعيان الطاهرة. ¬
المبحث الأول ـ معنى الطهارة
المبحث الأول ـ معنى الطهارة وأهميتها: الطهارة لغة: النظافة والخلوص من الأوساخ أو الأدناس الحسية كالأنجاس من بول، وغيره، والمعنوية كالعيوب والمعاصي. والتطهير: التنظيف وهو إثبات النظافة في المحل. والطهارة شرعاً: النظافة من النجاسة: حقيقية كانت وهي الخَبَث، أو حُكمية وهي الحَدَث (¬1). والخبث في الحقيقة: عين مستقذرة شرعاً. والحدث: وصف شرعي يحل في الأعضاء يزيل الطهارة. وعرف النووي الشافعي الطهارة بأنها: رفع حدث أو إزالة نجس، أو ما في معناهما وعلى صورتهما (¬2). وأراد بالزيادة الأخيرة على تعريف الحنفية السابق: شمول التيمم والأغسال المسنونة، وتجديد الوضوء، والغسلة الثانية والثالثة في الحدث والنجس، ومسح الأذن، والمضمضة ونحوها من نوافل الطهارة، وطهارة المستحاضة وسلس البول. ويتفق تعريفها عند المالكية والحنابلة (¬3) مع تعريفها عند الحنفية، فإنهم قالوا: الطهارة في الشرع: رفع ما يمنع الصلاة من حدث أو نجاسة بالماء، أو رفع حكمه بالتراب. نوعاها: يتبين من تعريف الطهارة أنها نوعان: طهارة حدث، وتختص بالبدن، وطهارة خبث، وتكون في البدن والثوب والمكان. وطهارة الحدث ¬
أهميتها
ثلاث: كبرى وهي الغسل، وصغرى وهي الوضوء، وبدل منهما عند تعذرهما وهو التيمم. وطهارة الخبث ثلاث: غسل، ومسح، ونضح. فالطهارة تشمل الوضوء والغسل وإزالة النجاسة والتيمم وما يتعلق بها. أهميتها: للطهارة أهمية كبيرة في الإسلام، سواء أكانت حقيقية وهي طهارة الثوب والبدن ومكان الصلاة من النجاسة، أم طهارة حكمية وهي طهارة أعضاء الوضوء من الحدث، وطهارة جميع الأعضاء الظاهرة من الجنابة؛ لأنها شرط دائم لصحة الصلاة التي تتكرر خمس مرات يومياً، وبما أن الصلاة قيام بين يدي الله تعالى، فأداؤها بالطهارة تعظيم لله، والحدث والجنابة وإن لم يكونا نجاسة مرئية، فهما نجاسة معنوية توجب استقذار ما حلّ بهما، فوجودها يخل بالتعظيم، وينافي مبدأ النظافة التي تتحقق بالغسل المتكرر، فبالطهارة تطهر الروح والجسد معاً. وعناية الإسلام بجعل المسلم دائماً طاهراً من الناحيتين المادية والمعنوية (¬1) أكمل وأوفى دليل على الحرص الشديد على النقاء والصفاء، وعلى أن الإسلام مثل أعلى للزينة والنظافة، والحفاظ على الصحة الخاصة والعامة، وبناء البنية الجسدية في أصح قوام وأجمل مظهر وأقوى عماد، ولصون البيئة والمجتمع من انتشار المرض والضعف والهزال؛ لأن غسل الأعضاء الظاهرة المتعرضة للغبار والأتربة والنُّفايات والجراثيم يومياً، وغسل الجسم في أحيان متكررة عقب كل جنابة، كفيل بحماية الإنسان من أي تلوث، وقد ثبت طبياً أن أنجع علاج وقائي للأمراض الوبائية وغيرها هو النظافة، والوقاية خير من العلاج. وقد امتدح الله تعالى المتطهرين، فقال: {إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين} [البقرة:222/ 2]، ¬
المبحث الثاني ـ شروط وجوب الطهارة
وأثنى سبحانه على أهل قُباء بقوله: {فيه رجال يحبون أن يتطهروا، والله يحب الْمُطَّهرِّين} [التوبة:9/ 108]. وعلى المسلم أن يكون بين الناس مثالاً بارزاً في نظافته، وطهره الظاهر والباطن، قال صلّى الله عليه وسلم لجماعة من صحبه: «إنكم قادمون على إخوانكم، فأصلحوا رحالكم، وأصلحوا لباسكم، حتى تكونوا كأنكم شامة في الناس، فإن الله لايحب الفحش ولا التفحش» (¬1). المبحث الثاني ـ شروط وجوب الطهارة: يجب تطهير ما أصابته النجاسة من بدن أو ثوب أو مكان، لقوله تعالى: {وثيابَك فطهر} [المدثر:4/ 74]، وقوله سبحانه: {أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود} [البقرة:125/ 2]، وإذا وجب تطهير الثوب والمكان وجب تطهير البدن بالأولى، لأنه ألزم للمصلي. وتجب الطهارة على من وجبت عليه الصلاة، وذلك بعشرة شروط (¬2): الأول ـ الإسلام، وقيل: بلوغ الدعوة، فعلى الأول: لا تجب على الكافر، وعلى الثاني: تجب عليه. وذلك مبني على الخلاف في مبدأ أصولي معروف، وهو مخاطبة الكفار بفروع الشريعة، فعند الجمهور: الكفار مخاطبون بفروع العبادات أي أنهم مؤاخذون بها في الآخرة مؤاخذة إضافية على ترك الإيمان فهم يستحقون عقابين: عقاباً على ترك الإيمان، وعقاباً على ترك الفروع الدينية، وعند الحنفية: لا يخاطب الكفار بفروع الشريعة، فيستحقون في عالم الآخرة عقاباً واحداً على ¬
الثاني ـ العقل
ترك الإيمان فقط، فالخلاف في العقاب الأخروي. والفريقان متفقان على ألا ثمرة لهذا الخلاف في أحكام الدنيا، فلا يصح أداء العبادة من الكفار ما داموا كفاراً، وإذا أسلموا فلا يطالبون بالقضاء. وعليه: لا تصح الصلاة من كافر بالإجماع. وإذا أسلم المرتد لم يلزمه قضاء ما فاته من الصلوات في ردته عند الجمهور، وعليه القضاء عند الشافعية. الثاني ـ العقل: فلا تجب الطهارة على المجنون والمغمى عليه، إلا إذا أفاقا في بقية الوقت. أما السكران فلا تسقط عنه الطهارة. الثالث ـ البلوغ: وعلاماته خمس: الاحتلام، وإنبات الشعر، والحيض، والحمل، وبلوغ السن، وهو خمسة عشر عاماً، وقيل: سبعة عشر عاماً، وقال أبو حنيفة: ثمانية عشر عاماً، فلا تجب الطهارة على الصبي، ويؤمر بها لسبع، ويضرب عليها لعشر. فإن صلى الصبي، ثم بلغ في بقية الوقت أو في أثناء الصلاة، لزمته الإعادة عند المالكية، ولم تلزمه عند الشافعي. الرابع ـ ارتفاع دم الحيض والنفاس أي انقطاع الدم. الخامس ـ دخول الوقت. السادس ـ عدم النوم. السابع ـ عدم النسيان. الثامن ـ عدم الإكراه، ويقضي النائم والناسي والمكره ما فاته إجماعاً. التاسع ـ وجود الماء أو (التراب الطاهر)، فمن عدمهما قيل: يصلي
العاشر ـ القدرة على الفعل بقدر الإمكان
فاقد الطهورين ويقضي، وفي قول لا يقضي، وقيل: لا يصلي، وعليه القضاء، كما سأبين تفصيلاً في بحث هذا الموضوع آخر التيمم. العاشر ـ القدرة على الفعل بقدر الإمكان. المبحث الثالث ـ أنواع المطهرات: ثبت بالدليل القطعي المجمع عليه أن الطهارة واجبة شرعاً، وأن المفروض منها هو الوضوء والغسل من الجنابة والحيض والنفاس بالماء، والتيمم عنهما عند فقد الماء، أو التضرر باستعماله، وإزالة النجاسة. واتفق الفقهاء على جواز التطهير بالماء الطهور أو المطلق: وهو ما يسمى «ماءً» بدون تقييد بوصف كماءٍ مستعمل، أو بإضافة كماء الورد مثلاً، قال تعالى: {وأنزلنا من السماء ماء طهوراً} [الفرقان:48/ 25]، {وينزل عليكم من السماء ماءً ليطهركم به} [الأنفال:11/ 8]. كما اتفقوا على جواز التطهير بالمسح بالورق أو الحجارة في حالة الاستنجاء، أي إزالة النجاسة عن المخرجين من بول وغائط ما لم يفحش الخارج. واتفقوا على مشروعية التطهر بالتراب طهارة حكمية، وعلى طهارة الخمر بالتخلل. واختلفوا في مطهرات أخرى، وها هي آراء الفقهاء في المطهرات: قال الحنفية (¬1): يجوز رفع النجاسة عن محلها بما يأتي: ¬
1 ً ـ الماء المطلق ولو كان مستعملاً، تحصل به الطهارة الحقيقية والحكمية (الحدث والجنابة) جميعاً، كماء السماء والأنهار والبحار والآبار والعيون، والوديان التي يجتمع فيها ماء السيل؛ لأن الله تعالى سمى الماء طهوراً بقوله: {وأنزلنا من السماء ماء طهوراً} [الفرقان:48/ 25]، وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غيَّر لونه أو طعمه أوريحه» (¬1)، والطهور: هو الطاهر في نفسه، المطهر لغيره. 2 ً ـ المائعات الطاهرة: وهي التي تنعصر بالعصر، أو تزيل النجاسة. لاتحصل بها الطهارة الحكمية (وهي زوال الحدث بالوضوء والغسل) باتفاق الحنفية وغيرهم؛ لأن الحدث الحكمي خص بالماء بالنص القرآني، وهو متيسر للناس، وتحصل بها الطهارة الحقيقية (وهي زوال النجاسة الحقيقية عن الثوب والبدن) عند أبي حنيفة وأبي يوسف وهو المفتى به، مثل ماء الورد والزهر، والخل، وعصير الشجر والثمر من رمان وغيره، وماء الباقلاء (وهي الفول: أي إذا طبخت بالماء حتى صار بحيث إذا برد ثخن) (¬2) ونحوها مما إذا عصر انعصر، حتى الريق، فتطهر أصبع، وثدي تنجس بالقيء بلحس ثلاث مرات، عن طريق إرضاعه لولده، ويطهر فم شارب الخمر بترديد ريقه وبلعه. فإن كان لا ينعصر مثل العسل والسمن والدهن والزيت واللبن وإن كان مخيضاً، والمرق ونحوها، فلا تحصل الطهارة بها، لعدم إمكان تحقق إزالة النجاسة بها؛ لأن الإزالة إنما تكون بإخراج أجزاء النجاسة مع المزيل شيئاً فشيئاً، وذلك إنما يتحقق فيما ينعصر بالعصر، فتكون هذه المائعات مثل الماء في إزالة أجزاء ¬
ومنع محمد وزفر وغير الحنفية إزالة النجاسة بالمائعات (¬1)؛ لأن طهورية الماء عرفت شرعاً، وأقر الشرع التطهير بالماء دون غيره، فلا يلحق به غيره. وتجوز الطهارة بماء خالطه شيء طاهر، فغيَّر أحد أوصافه (¬2)، كماء السيل (المَدّ) والماء الذي يختلط به الأشنان والصابون والزعفران، ما دام باقياً على رقته وسيلانه، لأن اسم الماء باق فيه، ولا يمكن الاحتراز عن هذه الأشياء التي تختلط بالماء، كالتراب والأوراق والأشجار، فإن صار الطين غالباً، وماء الصابون أو الأشنان ثخيناً، وماء الزعفران صبْغاً، لا تجوز به الطهارة. 3 ً - الدلك: وهو مسح المتنجس على الأرض مسحاً قوياً بحيث يزول به أثر أو عين النجاسة. ومثل الدلك: الحت: وهو القشر بالعود أو باليد. وبه يطهر الخف والنعل المتنجس بنجاسة ذات جِرْم، سواء أكانت جافة أم رطبة،. والجِرْم: كل ما يرى بعد الجفاف كالغائط والروث والدم والمني والبول والخمر الذي أصابه تراب. ويلاحظ أن شمول الجرم الرطب هو الأصح المختار، وعليه الفتوى، لعموم البلوى، ولإطلاق حديث النبي صلّى الله عليه وسلم: «إذا جاء أحدكم المسجد، فليقلب نعليه ولينظر فيهما، فإن رأى خَبَثاً (أذى أو قذراً)، فليمسحه بالأرض، ثم ليصل فيهما» (¬3). ¬
فإذا لم تكن النجاسة ذات جرم، فيجب غسلها ثلاث مرات بالماء، ولو بعد الجفاف، ويترك في كل مرة حتى ينقطع التقاطر، وتذهب النداوة من الخف، ولا يشترط اليبس. وقال أكثر العلماء: يطهر النعل بالدلك يابساً، لا رطباً؛ لأن عائشة كانت تفرُك المني من ثوب رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا كان يابساً، وتغسله إذا كان رطباً (¬1). وقال الشافعي ومحمد: لا يطهر النعل بالدلك، لا رطباً ولا يابساً، لأن النجاسة تداخلت في الخف تداخلها في الثوب والبدن. وقال الحنابلة: يعفى بالدلك عن يسير النجاسة، وإلا وجب غسله (¬2). 4 ً - المسح الذي يزول به أثر النجاسة: يطهر به الشيء الصقيل الذي لا مسام له، كالسيف والمرآة والزجاج، والآنية المدهونة والظفر والعظم، والزبدية الصينية وصفائح الفضة غير المنقوشة ونحو ذلك؛ لأنه لا تتداخله النجاسة، ويزول ما على ظاهره بالمسح، وقد صح أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم كانوا يقتلون الكفار بالسيوف، ويمسحونها، ويصلون بها. وبناء عليه يكفي مسح محل الحجامة بثلاث خرق نظيفة مبلولة. ورأي المالكية كالحنفية في جواز إزالة النجاسة بالمسح فيما يفسد بالغسل كالسيف والنعل والخف (¬3). ¬
5 ً - الجفاف بالشمس أو الهواء وزوال أثر النجاسة: يطهر الأرض وكل ماكان ثابتاً بها كالشجر والكلأ والبلاط، لأجل الصلاة عليها، لا للتيمم بها، بخلاف ماكان نحو البساط والحصير والثوب والبدن وكل ما يمكن نقله، فإنه لا يطهر إلا بالغسل. وطهارة الأرض باليبس لقاعدة: (ذكاة الأرض يبسها) (¬1) ولحديث ابن عمر: «كنت أبيت في المسجد في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكنت شاباً عَزَباً، وكانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد، ولم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك» (¬2). والسبب في التفرقة بين الصلاة والتيمم في هذا: هو أن المطلوب لصحة الصلاة الطهارة، ولصحة التيمم الطهورية، والذي تحقق بالجفاف هو الطهارة، لاالطهورية، والطهارة لا تستدعي الطهورية، ويشترط في التيمم طهورية التراب، كما يشترط في الوضوء طهورية الماء. ولا تطهر الأرض بالجفاف عند غير الحنفية، وإنما لا بد من تطهيرها بالماء إذا أصابتها النجاسة، فالأرض المتنجسة وأجرنة الحمام والحيطان والأحواض ونحوها تطهر بمكاثرة الماء عليها أي بكثرة إفاضة الماء عليها من مطر أو غيره حتى تزول عين النجاسة، كما في حديث الأعرابي الذي بال في المسجد، فأمر النبي بصب ذنوب من ماء عليه (¬3). ¬
6 ً - تكرار المشي في الثوب الطويل الذي يمس الأرض النجسة والطاهرة: يطهر الثوب، لأن الأرض يطهر بعضها بعضاً، بدليل حديث أم سلمة: أنها قالت: «إني امرأة أطيل ذيلي، أمشي في المكان القذر، فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلم: يطهره ما بعده» (¬1). ويتفق المالكية والحنابلة مع الحنفية في ذلك، وأقره الشافعي بما جرى على يابس، وقيده الحنابلة بيسير النجاسة، وإلا وجب غسله (¬2). 7 ً - الفَرْك: يطهر به مني الإنسان إذا أصاب الثوب وجف، ولا يضر بقاء أثره، كبقائه بعد الغسل، إن كان رأس العضو (الحشفة) طاهراً، بأن استنجى بماء، لا بورق أو حجر، لأن الحجر ونحوه لا يزيل البول المنتشر على رأس العضو، فإذا لم ينتشر البول، ولم يمر عليه المني في الخارج، فإنه يطهر بالفرك أيضاً، إذ لا يضر مروره على البول في الداخل. ولا فرق بين مني الرجل ومني المرأة. فإن كان المني رطباً، أو كان مني غير الآدمي، أو استنجى الآدمي بورق أو نحوه، فلا يطهر بالفرك، ولابد من الغسل؛ عملاً بما جاء في السنة من حديث عائشة إنها كانت تغسل المني من ثوب رسول الله صلّى الله عليه وسلم (¬3)، وفي حديث الدارقطني عن عائشة: «كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا كان يابساً، وأغسله إذا كان رطباً» (¬4). ¬
هذا ويمكن جعل الفرك والدلك واحداً (¬1). والمالكية كالحنفية في الحكم بنجاسة المني، وقال الشافعية والحنابلة: مني الآدمي طاهر، عملاً بحديث عائشة السابق عند الدارقطني، وبقول ابن عباس: «امسحه عنك بإذخرة (¬2) أو خرقة، فإنما هو بمنزلة المخاط والبصاق» (¬3). وسب الاختلاف شيئان: أحدهما: اضطراب رواية حديث عائشة، إذ مرة تغسله، ومرة تفركه. والثاني: تردد المني بين أن يشبه بالأحداث الخارجة من البدن، وبين أن يشبه بخروج الفضلات الطاهرة، كاللبن وغيره. وأميل إلى القول بطهارة المني تيسيراً على الناس، ويغسل الثوب بسبب الاستقذار لا للنجاسة، لصحة حديث عائشة الأول الذي تكتفي فيه بفرك المني، وإن كان ذلك يصلح حجة للحنفية في أن النجاسة تزال بغير الماء (¬4). 8 ً - الندف: ويطهر به القطن إذا ندف، وذهب أثر النجاسة إذا كانت قليلة. 9 ً - التقوير: أي عزل الجزء المتنجس عن غيره، يطهر به الدهن الجامد المتنجس كالسمن والدبس ونحوهما، لحديث ميمونة زوج النبي صلّى الله عليه وسلم: «أن فأرة وقعت في سمن، فماتت فيه، فسئل النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: ألقوها وما حولها، وكلوه» (¬5). وهذا متفق عليه، فإن كان السمن جامداً طرحت النجاسة وما حولها خاصة. ¬
فإن وقعت النجاسة في مائع كالزيت والسمن الذائب، لم يطهر عند الجمهور (¬1)، وعند الحنفية: يطهر بصب الماء عليه بقدره ثلاث مرات، أو يوضع في إناء مثقوب ثم يصب عليه الماء، فيعلو الدهن، ويرفع بشيء أو يفتح الثقب حتى يذهب الماء. والنحت مثل التقوير. وأما الجامدات فتقبل التطهير إلا ما تشربت أجزاؤه النجاسة، فإن كان الجامد إناء يطهر بصب الماء عليه وسيلانه حتى يغمره، وإن كان مما يطبخ كاللحم والحنطة والدجاج فيطهر بغسله نيئاً، ولا يطهر أبداً إذا تنجس وغلي على النار بنجاسته، لتشرب أجزاء النجاسة فيه. وعلى هذا لو غليت رؤوس الحيوان ولحم الكرش قبل غسلها وتطهيرها لا تطهر أبداً، ولو غليت الدجاجة قبل شق بطنها لنتف ريشها، لا تطهر أبداً. واتفق المالكية والحنابلة مع الحنفية في أن اللحم المطبوخ بنجس لا يطهر، وأضاف المالكية أن البيض المسلوق بنجس والزيتون المملح بنجس والفخار الذي غاصت النجاسة في أعماقه لا يقبل التطهير. أما إن وقعت النجاسة في اللحم المطبوخ بعد نضجه فيقبل التطهير عند المالكية، بأن يغسل ما تعلق به من المرق إذا لم تطل إقامة النجاسة فيه. وقال الشافعية: الجامدات التي تشربت النجاسة تقبل التطهير، فلو طبخ لحم في نجس، أو تشربت حنطة النجاسة، أو سقيت السكين بنجاسة، تطهر بصب الماء عليها إلا اللَّبِن (الطوب النيء) الذي عجن بنجاسة جامدة، لا يطهر. 10 ً - قسمة المتنجس، بفصل الأجزاء النجسة عن الظاهرة: وقسمة المثلي ¬
كالحنطة والشعير إذا تنجس، وتوزيعه بين الشركاء أو المشترين، فلو بال حمار على حنطة يدوسها، فقسم أو غسل بعضه، أو ذهب بهبة أو أكل أو بيع يطهر الباقي والذاهب. ومثله هبة المتنجس لمن لا يرى نجاسته. والتقوير والقسمة والهبة لا تعد مطهرات في الحقيقة، وإنما هي مطهرات تساهلاً. 11 ً - الاستحالة: أي تحول العين النجسة بنفسها أو بواسطة كصيرورة دم الغزال مسكاً، وكالخمر إذا تخللت بنفسها، أو بتخليلها بواسطة، والميتة إذا صارت ملحا، أو الكلب إذا وقع في ملاحة، والروث إذا صار بالإحراق رماداً، والزيت المتنجس بجعله صابوناً، وطين البالوعة إذا جف وذهب أثره، والنجاسة إذا دفنت في الأرض وذهب أثرها بمرور الزمان، وهذا عمل بقول الإمام محمد خلافاً لأبي يوسف، لأن النجاسة إذا استحالت وتبدلت أوصافها ومعانيها، خرجت عن كونها نجاسة، لأنها اسم لذات موصوفة، فتنعدم بانعدام الوصف، وصارت كالخمر إذا تخللت، باتفاق المذاهب. وتطهر الخمر ودَنّها (وعاؤها) إذا تخللت بنفسها أو بنقلها من ظل إلى شمس أو بالعكس عند غير الحنفية (¬1)؛لأن نجاستها بسبب شدتها المسكرة قد زالت، من غير نجاسة خلفتها، كما تطهر الخمر إذا خللت عند المالكية. ولا تطهر عند الشافعية والحنابلة بتخليلها بالعلاج كالبصل والخبز الحار؛ لأن الشيئ المطروح بتنجس بملاقاتها. أما غير ذلك فهو نجس، فلا تطهر نجاسة باستحالة، ولا بنار، فرماد الروث النجس: نجس، والصابون المعمول من زيت ¬
نجس، ودخان النجاسة وغبارها: نجس، وما تصاعد من بخار ماء نجس إلى جسم صقيل أو غيره: نجس، والتراب المجبول بروث حمار أو بغل ونحوه مما لايؤكل لحمه: نجس ولو احترق، كالخزف. ولو وقع كلب في ملاَّحة، فصار ملحاً أو في صبَّانة فصار صابوناً، فهو نجس. لكن استثنى المالكية على المشهور رماد النجس ودخانه فقالوا بطهارته على المعتمد. وقيد الحنابلة طهارة الخمر بنقلها من مكان لآخر بحالة غير قصد التخليل، فإن قصد تخليلها بنقلها لم تطهر، لأنه يحرم تخليلها، فلا تترتب عليه الطهارة. وقال الشافعية (¬1): لا يطهر شيء من النجاسات بالاستحالة إلا ثلاثة أشياء: الخمر مع إنائها إذا صارت خلاً بنفسها، والجلد (غير جلد الكلب والخنزير) المتنجس بالموت يطهر ظاهره وباطنه بالدبغ، وما صار حيواناً كالميتة إذا صارت دوداً لحدوث الحياة. 12 ً - الدباغ للجلود النجسة أو الميتة يطهرها كلها إلا جلد الإنسان والخنيزير، وما لا يحتمل الدبغ كجلد حية صغيرة وفأرة، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «أيما إهاب دبغ فقد طهر» (¬2) وروي أن النبي صلّى الله عليه وسلم مر بفِناء (ساحة الدار أو جوانبها) قوم في غزوة تبوك، فاستسقاهم، فقال: «عندكم ماء؟ فقالت امرأة: لا، يا رسول الله، إلا في قربة لي ميتة، فقال صلّى الله عليه وسلم: ألست دبغتِها؟ فقالت: نعم، فقال: فإن دباغها طهورها» (¬3)، ولأن الدبغ يزيل سبب نجاسة الميتات وهو الرطوبات والدماء السائلة، فصار الدبغ كالثوب النجس إذا غسل. ¬
والدبغ عند الحنفية مطهر إذا كان بما يمنع النَّتَن والفساد، ولو دباغة حُكْمية كالتتريب والتشميس، لحصول المقصود بها. وكل ما يطهر بالدباغة يطهر بالذكاة. والدبغ يطهر جلد الكلب والفيل على المعتمد، واستثناء جلد الآدمي للكرامة الإلهية، واستثناء جلد الخنزير لنجاسته العينية، وألحقوا بهما ما لا يحتمل الدباغة كفأرة صغيرة. أما ما على جلد الميتة من شعر ونحوه فهو طاهر، وقميص الحية طاهر. والدبغ مطهر أيضاً عند الشافعية (¬1)، فيطهر كل جلد نجس بالموت ظاهره، وكذا باطنه على المشهور وإن كان من غير مأكول اللحم للحديثين السابقين مع حديث ابن عباس (في الحاشية)، لكن يشترط أن يكون الدبغ بشيء قالع: وهو نزع فضول الجلد (وهي مائيته ورطوباته التي يفسده بقاؤها، ويطيبه نزعها) بحرِّيف (ما يحرف الفم أي يلذع اللسان بحرافته) كالقَرَظ (ورق السَلَم مثل شجر الجوز يدبغ به) والعفص وقشور الرمان، والشب (شيء معروف من جواهر الأرض). سواء أكان طاهراً أم نجساً كذرق الطيور، ولا يصح الدبغ بشمس وتراب وتجميد وتمليح بما لا ينزع الفضول، وإن جف الجلد، وطابت رائحته؛ لأن الفضلات لم تزل، وإنما جمدت، بدليل إنه لو نقع في الماء عادت إليه العفونة. ولا يطهر عند الشافعية بالدبغ جلد الكلب والخنزير وما تولد منهما أو من أحدهما مع حيوان طاهر، كما لا يطهر عندهم بالدبغ ما على جلد الميتة من شعر ونحوه، لكن يعفى عن القليل من ذلك لمشقة إزالته. ¬
وقال المالكية والحنابلة على المشهور (¬1): لا يطهر الجلد النجس بالدبغ، لحديث عبد الله بن عُكيم، قال: «كتب إلينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبل وفاته بشهر أن لاتنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب» (¬2) فهو ناسخ لما قبله من الأحاديث، لأنه في آخر عمر النبي صلّى الله عليه وسلم، ولفظه دال على سبق الترخيص، وأنه متأخر عنه، وقال الدردير المالكي: ما ورد من نحو قوله عليه الصلاة والسلام: «أيما إهاب ـ أي جلد ـ دبغ، فقد طهر» فمحمول على الطهارة اللغوية، لا الشرعية في مشهور المذهب. وحينئذ لا تجوز الصلاة عليه. وعلى القول المشهور عند المالكية من نجاسة الجلد المدبوغ: يجوز استعماله بعد الدبغ في اليابسات غير المائعات، كلبسه في غير الصلاة والجلوس عليه في غير المسجد، ولا يجوز استعماله في المائعات كالسمن والعسل والزيت وسائر الأدهان، والماء غير المطلق كماء الورد، والخبز المبلول قبل جفافه، والجبن، فلا يوضع فيه، ويتنجس بوضعه فيه. واستثنوا من ذلك جلد الخنزير فلا يجوز استعماله مطلقاً، دبغ أو لم يدبغ، في يابس أو مائع، وكذا جلد الآدمي، لشرفه وكرامته، وأما صوف الحيوان ونحوه فلا ينجس بالموت عند المالكية. وعند الحنابلة روايتان في الانتفاع بالجلد النجس المدبوغ: إحداهما ـ لا يجوز، لحديث ابن عكيم المذكور، وحديث البخاري في تاريخه «لا تنتفعوا من الميتة بشيء». ¬
والثانية ـ وهي الراجحة ـ يجوز الانتفاع به، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم السابق: «هلا أخذتم إهابها، فدبغتموه»، ولأن الصحابة رضي الله عنهم لما فتحوا فارس انتفعوا بسروجهم وأسلحتهم وذبائحهم ميتة، ولأنه انتفاع من غير ضرر، فأشبه الاصطياد بالكلب، وركوب البغل والحمار. وصوف الميتة وشعرها ووبرها وريشها طاهر عند الحنابلة. والراجح عندي رأي الحنفية والشافعية في أن الدباغ مطهر، لأن حديث ابن عكيم فيه اختلاف واضطراب، قال الحازمي في الناسخ والمنسوخ: وطريق الإنصاف فيه: أن يقال: إن حديث ابن عكيم ظاهر الدلالة في النسخ، لو صح، ولكنه كثير الاضطراب، لا يقاوم حديث ميمونة في الصحة. والمصير إلى حديث ابن عباس أولى لوجوه من الترجيح، ويحمل حديث ابن عكيم على منع الانتفاع به قبل الدباغ، وحينئذ يسمى إهاباً، وبعد الدباغ يسمى جلداً، ولا يسمى إهاباً، وهذا معروف عند أهل اللغة، وليكون جمعاً بين الحكمين، وهذا هو الطريق في نفي التضاد (¬1). ويلاحظ أخيراً أن كلاً من التخلل والدباغ داخل في استحالة أو انقلاب العين. 13 ً - الذكاة الشرعية (الذبح) في تطهير الذبيح: وهو أن يذبح مسلم أوكتابي (يهودي أو نصراني) حيواناً ولو غير مأكول اللحم. فيطهر بالذكاة في أصح مايفتى به عند الحنفية من الحيوان غير المأكول الجلد دون اللحم والشحم، لأن كل حيوان يطهر بالدباغ يطهر جلده بالذكاة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «دباغ الأديم ذكاته» (¬2) ¬
ألحق الذكاة بالدباغ، وبما أن الجلد يطهر بالدباغ، فيطهر بالذكاة، لأن الذكاة كالدباغ في إزالة الدماء السائلة والرطوبات النجسة، فتفيد الذكاة الطهارة كالدبغ، إلا في الآدمي والخنزير. وأما فعل المجوسي فليس بذكاة شرعية، لعدم أهلية الذكاة، فلا يفيد الطهارة، فتعين تطهيره بالدباغ، وكل شيء لا يسري فيه الدم لا ينجس بالموت كالشعر والريش المجزوز والقرن والحافر والعظم ما لم يكن به دسم. والعصب نجس في الصحيح. ونافجة المسك طاهرة كالمسك. وأما الحيوان المأكول اللحم، فيطهر بالذبح جميع أجزائه إلا الدم المسفوح، باتفاق المذاهب. وقال المالكية في المشهور (¬1): إذا ذبح ما لا يؤكل كالسباع وغيرها، يطهر لحمه وشحمه وجلده، إلا الآدمي والخنزير، أما الآدمي فلحرمته وكرامته، وأما الخنزير فلنجاسة عينه (ذاته). لكن قال الصاوي والدردير: مشهور المذهب: لا تعمل الذكاة في محرم الأكل من حمير وبغال وخيل، وكلب وخنزير، أما سباع الوحوش وسباع الطير فتطهر بالذبح. وقال الشافعية والحنابلة (¬2): لا تؤثر الذكاة في شيء من الحيوان غير المأكول؛ لأن أثر الذكاة في إباحة اللحم هو الأصل، والجلد تبع للحم، فإن لم تعمل الذكاة في اللحم، لم تعمل فيما سواه، كذبح المجوسي، أو الذبح غير المشروع، ولا يقاس الذبح على الدباغ، لكون الدبغ مزيلاً للخبث والرطوبات كلها، مطيباً للجلد على وجه يتهيأ به للبقاء على وجه لا يتغير، والذكاة لا يحصل ¬
بها ذلك، فلا يستغنى بها عن الذبح. وهذا الرأي هو الأرجح لدي؛ لأن القياس (قياس الذكاة على الدباغ) في التعبديات أمر غير مقبول. 14 ً - النار تطهر في مواضع: هي إذا استحالت بها النجاسة، أو زال أثرها بها، كحرق الفخار الجديد، وتحول الروث إلى رماد، وإحراق موضع الدم من رأس الشاة. ومثلها الغلي بالنار كغلي الدهن أو اللحم ثلاثاً. قال ابن عابدين: «ولا تظن أن كل ما دخلته النار يطهر، كما بلغني عن بعض الناس أنه توهم ذلك، بل المراد أن ما استحالت به النجاسة بالنار، أو زال أثرها بها يطهر» وبه يظهر أن حرق النجاسة بالنار مطهر. والنار غير مطهرة عند غير الحنفية كما بينا في بحث الاستحالة، فرماد النجس ودخانه نجسان. إلا أن المالكية استثنوا على المشهور رماد النجس فإنه يطهر بالنار، وكذا دخان النجس والوقود المتنجس، إنه يطهر بالنار. 15 ً - نزح البئر المتنجسة أو غوران ماء البئر قدر ما يجب نزحه منها: مطهر لها كالنزح. والنزح: هو نزح ما وجب من الدلاء، أو نزح جميع الماء بعد استخراج الواقع في البئر من الآدمي أو غيره من الحيوان، وهو مطهر للبئر. وإذا وجب نزح جميع الماء من البئر فينبغي سد جميع منابع الماء إن أمكن، ثم ينزح ما فيها من الماء النجس. وإن لم يمكن سد منابعه لغلبة الماء، فتنزح المقادير التالية (¬1): أـ إن كان الواقع حيواناً: فإن كان نجس العين كالخنزير، يجب نزح جميع الماء. والصحيح عند الحنفية: أن الكلب ليس بنجس العين. وأما إذا لم يكن نجس ¬
العين: فإن كان آدمياً فلا ينجس البئر، وأما سائر الحيوان: فإن كان لا يؤكل لحمه كسباع الوحش والطيور، فالصحيح أنه يوجب التنجيس. وأما الحمار والبغل فالصحيح أنه يجعل الماء مشكوكاً فيه. ب ـ وإن كان حيواناً يؤكل لحمه، فيتنجس الماء إن خرج ميتاً. وينزح ماء البئر كله إن كان منتفخاً أو متفسخاً. وإن لم يكن منتفخاً ولا متفسخاً فهو في ظاهر الرواية على مراتب ثلاث: في الفأرة ونحوها: ينزح عشرون دلواً أو ثلاثون بحسب كبر الدلو وصغره. وفي الدجاجة ونحوها: ينزح أربعون أو خمسون. وفي الآدمي ونحوه: ينزح ماء البئر كله. وذلك إذا كان على الآدمي نجاسة بيقين، حقيقية أو حكمية، أو نوى الغسل أو الوضوء. ودليلهم على ذلك فعل الصحابة رضي الله عنهم، ولم يصح فيه حديث نبوي. 16 ً - دخول الماء من جانب وخروجه من الجانب الآخر في حوض صغير مثلما كان فيه ثلاث مرات، فيصير ذلك بمنزلة غسله ثلاثاً: هو وسيلة لتطهير حوض الحمام أو الأواني إذا تنجس، لأنه بزوال أثر النجاسة يصير الماء جارياً، ولم يتيقن من بقاء النجس فيه. وعلى هذا إذا تنجس ماء في قناة أو في وعاء، فيطهر بصب ماء طاهر عليه من ناحية منه، حتى يسيل من جوانبه ويخرج من الناحية الأخرى. 17 ً - الحفر (أي قلب الأرض بجعل الأعلى أسفل): يطهرها. 18 ً - غسل طرف الثوب أو البدن: يجزئ عن غسله كله إذا نسي المرء محل النجاسة، وإن وقع الغسل بغير تحر، وهو المختار عند الحنفية.
المالكية
مذاهب غير الحنفية في المطهرات: عرفنا - في ثنايا بحث أنواع المطهرات عند الحنفية - آراء المذاهب الأخرى، وأفردها هنا إجمالاً ببيان مستقل. مذهب المالكية: المطهرات عند المالكية هي ما يأتي (¬1): 1 - الغسل بالماء الطهور المطلق لكل ما لا يجزئ فيه المسح أو النضح. ولايكفي إمرار الماء بل ولا بد من إزالة عين النجاسة وأثرها، ولا يجوز إزالة النجاسة بمائع غير الماء. 2 - المسح بخرقة مبللة لما يفسد بالغسل، كالسيف والنعل والخف. 3 - النضح للثوب أو الحصير إذا شك في نجاسته، ينضح بلا نية كالغسل: وهو رش باليد أو غيرها كفم أو تلقي مطر رشة واحدة، على المحل المشكوك بنجاسته بالماء المطلق. ففي حالة الشك بإصابة مكان بالنجاسة، يجب نضحه لاغسله، فإن غسل كان أحوط. ولا يجزئ رش البدن المشكوك في نجاسته، وإنما يجب غسله كمحقق الإصابة بالنجاسة. 4 - التراب الطاهر: طهارة حكمية في حالة التيمم. 5 - الدلك: لما أصاب الخف والنعل من أرواث الدواب وأبوالها في الطرق والأماكن التي تطرقها الدواب كثيراً لعسر الاحتراز من ذلك، بخلاف غير الدواب كالآدمي والكلب والهر ونحوها، فلا يعفى عما أصاب الثوب أو البدن من فضلاتها، وبخلاف ما أصاب غير الخف والنعل كالثوب والبدن فلا عفو عنه. ¬
6 - تكرار المشي أو المرور: يطهر ثوب المرأة الطويل الذي تجره على الأرض المتنجسة اليابسة، فيتعلق به الغبار، بشرط أن تكون إطالته للستر لا للخيلاء، واختلف في النجاسة الرطبة. والتطهير يحصل إذا كانت غير لابسة للخف، فإن كانت لابسة للخف فلا عفو. ومثلها: من مشى برجل مبلولة على نجاسة يابسة: يطهره ما بعده، ويصلي كل منهما على وضعه، ولا يجب عليهما الغسل. ويعفى عن طين المطر، ما لم تكن النجاسة غالبة، أو عينها قائمة. 7 - التقوير: يطهر الجامدات، كأن وقعت فأرة في سمن جامد، طرحت هي وما حولها خاصة، قال سحنون: إلا أن يطول مقامها فيه. فإن وقعت الفأرة في سمن ذائب، فماتت فيه، طرح جميعه. وعلى هذا، إذا وقعت نجاسة في مائع غير الماء، تنجس، سواء تغير أو لم يتغير. 8 - النزح: إذا وقعت دابة نجسة في بئر، وغيرت الماء، وجب نزح جميعه، فإن لم تغيره، استحب أن يُنزح منه بقدر الدابة والماء، أي ينزح كله بالإضافة إلى نزح مقدار الدابة. 9 - غسل مكان النجاسة: إذا مُيِّز موضع النجاسة من الثوب والبدن، غسل وحده، وإن لم يميز غسل الجميع. 10 - الاستحالة: تطهر الخمر إذا تخللت بنفسها أو خللت، ولا يطهر جلد الميتة بالدبغ، والمعتمد أن رماد النجس ودخانه طاهر. 11 - الذكاة الشرعية تطهر غير المأكول اللحم، إلا الآدمي والخنزير، وعلى رأي الدردير: مشهور المذهب أن الذكاة لا تطهر محرم الأكل كالخيل والبغال والحمير والكلب والخنزير.
الشافعية
وإذا صلى الإنسان، وبعد الانتهاء من صلاته، رأى على ثوبه أو بدنه نجاسة لم يكن عالماً بها، أو كان يعلمها ونسيها، صحت صلاته عند المالكية الذين لايوجبون إزالة النجاسة إلا عند التذكر والقدرة والتمكن. والمطهر للمائع والجامد وغيرهما عند الشافعية أربعة هي (¬1): 1 - ماء مطلق: وهو ما يقع عليه اسم ماء، بلا قيد إضافي كماء ورد، أو قيد وصفي كماء دافق، وهو أنواع: ما نزل من السماء وهو ثلاثة: المطر، وذوب الثلج والبرد، وما نبع من الأرض وهو أربعة: ماء العيون والآبار والأنهار والبحار، ويتعين الماء لإزالة خبث ورفع حدث وغيرهما كتجديد الوضوء. وينضح بول أو قيء صبي لم يَطْعم (يتناول) قبل مضي حولين غير لبن التغذي، للأحاديث الصحيحة في ذلك، منها: «يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام» (¬2) وقد أخذ بهذه التفرقة الشافعية والحنابلة، ولم يفرق المالكية بين الذكر والأنثى وقالوا: النضح: طهارة ما شك فيه أي الثوب المشكوك فيه فقط، وأوجبوا كالحنفية الغسل في الحالين قياساً للأنثى على الذكر (¬3)، وإني أميل إلى رأي الشافعية والحنابلة للتصريح بالتفرقة، والحكمة فيه: أن بول الغلام يخرج بقوة، فينتشر، أو أنه يكثر حمله على الأيدي، فتعظم المشقة بغسله، أو أن مزاجه حار، فبوله رقيق، بخلاف الأنثى. ¬
الحنابلة
2 - وتراب مطهر لم يستعمل في فرض، ولم يختلط بشيء، لقوله تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً} [المائدة:6/ 5]، أي تراباً طاهراً. 3 - ودابغ: وهو ما ينزع فضلات الجلد وعفونته، بحيث لو نقع في الماء بعد اندباغه، لم يعد إليه النتن والفساد، كقَرَظ وشَبّ، ولو كان الدابغ نجساً، كذرق طير. 4 - وتخلل: هو انقلاب الخمر خلاً، بلا مصاحبة عين تقع فيها، وإن نقلت من شمس إلى ظل، أو عكسه، فإن صحب تخللها عين وإن لم تؤثر فيها، أو وقع فيها عين نجسة وإن نزعت قبل التخلل، لم يكن ذلك مطهراً. والطهارات الحاصلة بالمطهرات الأربعة أربع: وضوء، وغسل، وتيمم، وإزالة نجس، وهذا الأخير يشمل الإحالة. ولا يطهر المتنجس الصقيل كسيف ونحوه بالمسح بل لا بد من غسله، كما لايطهر النعل بالدلك دون الغسل، ويطهر الماء بالمكاثرة ولو لم يبلغ قلتين، وتطهر الأرض المتنجسة بمكاثرة الماء عليها. والمطهرات عند الحنابلة (¬1): كالشافعية غالباً إلا في الدباغ، فإنه غير مطهر عندهم، وهي الماء، والتراب ومثله الاستنجاء بالأحجار، والتخلل. فتطهر الأرض المتنجسة بمكاثرة الماء عليها أي صب الماء على النجاسة بحيث يغمرها من غير اعتبار عدد، ولم يبق للنجاسة عين، ولا أثر من لون أو ريح، إن لم يعجز عن إزالتهما أو إزالة أحدهما. ¬
ولا تطهر الأرض المتنجسة بشمس ولا ريح، ولا جفاف؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم أمر بغسل بول الأعرابي، ولو كان ذلك يطهر لاكتفى به. ولا تطهر نجاسة باستحالة، فلو أحرق السرجين النجس، فصار رماداً أو وقع كلب في ملاحة، فصار ملحاً، لم تطهر، لأنه صلّى الله عليه وسلم «نهى عن أكل الجلاَّلة وألبانها» (¬1) لأكلها النجاسة، ولو طهرت بالاستحالة لم ينه عنه. ولا تطهر النجاسة بنار، فالرماد من روث نجس، والصابون المعمول من زيت نجس، ودخان نجاسة وغبارها: نجس، وما تصاعد من بخار ماء نجس إلى جسم صقيل أو غيره: نجس، وتراب جبل بروث حمار أو بغل ونحوه مما لا يؤكل لحمه: نجس، ولو احترق كالخزف. وكذا لو وقع كلب في ملاحة، فصار ملحاً، أو في صبَّانة، فصار صابوناً: نجس (¬2). ويستثنى من مبدأ عدم التطهير بالاستحالة: ما يخلق منه الآدمي، والخمرة التي انقلبت خلاً بنفسها، أو بنقلها من موضع إلى آخر لغير قصد التخليل، ويحرم تخليلها، فإن خللت، ولو بنقلها بقصد التخليل لم تطهر، لحديث مسلم عن أنس قال: «سئل النبي صلّى الله عليه وسلم عن الخمر تتخذ خلا ً؟ قال: لا» ودَنُّ الخمر (أي وعاؤها) مثلها، يطهر بطهارتها تبعاً لها ...... ولا يطهر دهن تنجس بغسله؛ لأنه لا يتحقق وصول الماء إلى جميع أجزائه. كما لا يطهر باطن حَبّ (وعاء فخاري) تشرب النجاسة، ولا عجين تنجس، لأنه لا يمكن غسله، ولا يطهر لحم تنجس، ولا إناء تشرَّب نجاسة ولا سكين سقيت ماء نجساً. ¬
ويطهر السمن الجامد ونحوه بإلقاء النجاسة وما حولها، وأما المائع فلا يطهر إن ظلت النجاسة فيه، كأن ماتت الفأرة فيه، فإن خرجت حية، فهو طاهر. ويلزم غسل ما وقعت فيه النجاسة، حتى يتيقن من إزالتها، فإن خفي موضع نجاسة في بدن أو ثوب أو مكان صغير، كبيت صغير، فيلزم غسله، ولا يكفي الظن، لأن الطاهر اشتبه بالنجس، فوجب اجتناب الجميع، حتى يتيقن الطهارة بالغسل، لأن النجاسة متيقنة، فلا تزول إلا بيقين الطهارة. أما خفاء موضع النجاسة في مكان كبير كصحراء واسعة ودار واسعة، فلايضر، منعاً من الوقوع في الحرج والمشقة. ويجزئ نضح بول أو قيء الغلام الذي لم يأكل الطعام لشهوة، وإن كان نجساً كبول الكبير، ولا بد من غسل بول الأنثى والخنثى. ولا يطهر النعل بالدلك، بل يجب غسله، كمايجب غسل ذيل ثوب امرأة تنجس بمشي أو غيره، كغسل الثوب والبدن، لكن يعفى عن يسير النجاسة على أسفل الخف والحذاء بعد الدلك، عملاً بحديث أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا وطئ الأذى بخفيه، فطهورهما التراب» (¬1). ولا تطهر الأرض النجسة بشمس ولا ريح ولا جفاف، عملاً بالحديث السابق «أهريقوا على بوله سَجْلاً من ماء». والخلاصة: أن الشافعية والحنابلة نظروا في المطهرات إلى أكمل ما يحصل به مراد الشارع. ¬
المبحث الرابع ـ أنواع المياه
وتوسع الحنفية في شأن المطهرات، وقاربهم فيها أحياناً المالكية. والواقع العملي وحاجة الناس وأعرافهم كل ذلك يؤيد العمل بمذهب الحنفية. وبناء عليه لاتطهر الأرض وحبل الغسيل المتنجس عند الجمهور بجفاف الشمس والريح، وتطهر بذلك عند الحنفية. وتطهير الموكيت أو المقاعد المفروشة يكون بصب الماء على مكان النجاسة. ويطهر النعل المتنجس والخف بالدلك بالأرض عند القائلين به كالحنفية والمالكية، لما رواه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى، فإن التراب له طهوره». وتطهر المرآة والسكين والسيف والزجاج وكل شيء أملس صقيل بالمسح الذي يزول به أثر النجاسة، عملاً بفعل الصحابة في مسح سيوفهم من الدماء. ويطهر الغسيل في الغسَّالة الآلية بغمره الماء، فإن هذه الغسَّالات يتكرر فيها صب الماء، ويعصر بها الثوب بسرعة الدوران. ولا يحكم بنجاسة ثوب أو مكان إلا برؤية عين النجاسة، فلو سقط ماء أو غيره على إنسان أو أصيب ثوبه بشيء رطب ليلاً، يحكم بطهارته ولا يسأل عن نجاسته، ولا يحكم بالنجاسة إلا بغلبة الظن. المبحث الرابع ـ أنواع المياه: المياه أنواع ثلاثة: طهور، وطاهر غير مطهر، ومتنجس: النوع الأول ـ الماء الطهور أو المطلق: هو الطاهر في نفسه المطهر لغيره، وهو كل ماء نزل من السماء، أو نبع من الأرض، ما دام باقياً على أصل الخِلْقة، فلم يتغير أحد أوصافه الثلاثة وهي (اللون
أـ التغير غير المؤثر في الطهورية
والطعم والرائحة) أو تغير بشيء لم يسلب طهوريته كتراب طاهر أو ملح أو نبات مائي، ولم يكن مستعملاً، مثل ماء المطر والأودية (¬1) والعيون والينابيع والآبار والأنهار والبحار، وماء الثلج والبرد، ونحوها من كل ماء عذب أو مِلْح، ويشمل الماء الذي ينعقد على صورة حيوان، أو ينعقد ملحاً، أو يرشح ويتبخر بخار ماء؛ لأنه ماء حقيقة. إلا أن الحنفية قالوا: الماء الذي ينعقد فيه الملح طهور قبل الانعقاد، أما بعد الانعقاد والذوبان، فإنه يكون طاهراً غير طهور فلا يرفع الحدث، ويزيل الخبث. هذا الماء المطلق طاهر مطهر إجماعاً، يزال به النجس، ويستخدم للوضوء والغسل، لقوله تعالى: {وأنزلنا من السماء ماء طهوراً} [الفرقان:48/ 25]، {وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به} [الأنفال:11/ 8]، ولقوله صلّى الله عليه وسلم عن ماء البحر: «هو الطهور ماؤه، الحل ميتته» (¬2) وقوله عليه السلام: «إن الماء طهور، لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه» (¬3). وبحث الماء الطهور يستتبع معرفة الأمرين التاليين: أـ التغير غير المؤثر في الطهورية: اتفق الفقهاء على أن كل ما يغير الماء مما لا ينفك عنه غالباً: أنه لا يسلبه صفة الطهارة والتطهير، فلا يضر تغير أوصاف الماء كلها أو بعضها بطول المكث (البقاء ¬
في المكان مدة طويلة) لتعذر الاحتراز عنه، ولا بتراب طهور، وطُحلُب (خضرة تعلو على وجه الماء)، وما في مقره وممره، ولا بمخالط مجاور (وهو ما يمكن فصله) كعود ودُهن ولو مطيبين ومنه البَخور ولا بجيفة ملقاة على الشاطئ تغير الماء بريحها، ولابدابغ إنائه كقطران وقَرَظ، ولا ببعض المعادن كملح ماء وكبريت، ولا بما يعسر الاحتراز عنه كالتبن وورق الشجر. وللفقهاء تفصيلات وإيراد قيود هي: قال الحنفية (¬1): تجوز الطهارة بماء خالطه شيء جامد طاهر، ما لم يكن التغير عن طبخ، فغير أحد أوصافه أو أوصافه كلها، كماء السيل الذي يختلط بالتراب والأوراق والأشجار، وبقيت رقته غالبة، فإن صار الطين غالباً لا تجوز الطهارة به. وكالماء الذي اختلط به اللبَن أو الزعفران أوالصابون أو الأشنان ما دام باقياً على رقته وسيلانه، لأن اسم الماء باق فيه، ولا يمكن الاحتراز عن هذه الأشياء المخالطة له، فلو خرج الماء عن طبعه أو حدث له اسم جديد، كأن صار ماء الصابون ثخيناً، أو صار ماء الزعفران صِبْغاً، لا تجوز به الطهارة. وقال المالكية (¬2): لا يضر ما تغير بطول مُكْثه، أو بما يجري عليه، أو بما متولد منه كالطحلب والدود والسمك الحي، أو بما لا ينفك عنه غالباً، أو بالمجاورة، ولا يؤثر تغيره بالتراب المطروح، على المشهور، وبما طرح فيه من الملح ونحوه من أجزاء الأرض كالنحاس والكبريت والحديد، ولو قصداً، ولا بدابغ طاهر كقَطِران، أو بما يعسر الاحتراز منه كتبن أو ورق شجر يتساقط في الآبار والبِرك من الريح، فإذا دبغت الجلود المعدة لحمل الماء كالقِرب والدلاء التي يستقى بها، يجوز الانتفاع بمائها، وإن تغير بأثر الدابغ الطاهر كالقَرَظ والقطران والشب، ¬
ولا يضر التغير بالمجاور؛ لأن الماء يتكيف بكيفية المجاور، ومن المجاور: جيفة مطروحة خارج الماء، فتغير ريح الماء منها. ولا يضر التغير الخفيف بآلة سقي من حَبْل أو وعاء، أو بأثر بخور دهن به الإناء من غير دبغ به، أو رمي في الماء، فرسب في قراره، فتغير الماء به، لأن العرب كانت تستعمل القطران كثيراً عند الاستقاء وغيره، فصار كالتغير بالمقَرّ. كما لا يضر التغير بالشك في جنس المغير، هل هو من جنس ما يضر كالعسل والدم، أو من جنس ما لا يضر كالكبريت وطول المكث، ويجوز التطهر به. وكذا لايضر المشكوك في تغيره بالريق، كما إذا جعل الماء في الفم، وحصل شك فيه، هل تغير بالريق أو لا، فإنه يجوز التطهير به. ويضر التغير لأحد أوصاف الماء بالشيء المفارق غالباً: وهو ما شأنه مفارقة الماء غالباً وكان طاهراً، كلبن وسمن وعسل وحشيش، فإذا امتزج به، أو لاصقه، كالرياحين المطروحة على سطح الماء، والدهن الملاصق له، وتغير أحد أوصاف الماء لوناً أو طعماً أو ريحاً، لم يجز التطهر به، ويصبح الماء طاهراً بنفسه، غير مطهر لغيره. والخلاصة: إن خالط الماء شيء طاهر، ولم يغير لونه أو طعمه أو ريحه، فهو ماء مطلق طهور، وإن غير أحد هذه الأوصاف الثلاثة فهو طاهر عند المالكية والشافعية والحنابلة، غير مطهر، وعند الحنفية: طاهر مطهر، ما لم يطبخ أو يغلب على أجزائه. والمالكية يلحقون بالتراب: كل أجزاء الأرض كالكبريت والحديد والنحاس فإنها لا تسلب طهورية الماء، إذا غيرت أحد أوصافه، ولو طرحت فيه قصداً.
وقال الشافعية (¬1): لا يضر تغير يسير بطاهر لا يمنع إطلاق اسم الماء عليه، ولو كان مشكوكاً في أن تغيره كثير أو يسير، لتعذر صون الماء عنه. ولا يضر متغير بمُكْث وإن فحش التغير، وطين وطُحْلُب (شيء أخضر يعلو الماء من طول المكث)؛ وما في مقره وممره، ككبريت وزرنيخ ونُورة (كلس)، لتعذر صون الماء عن ذلك؛ ولا يضر تغير بملح ماء، لا بملح جبلي، فيضر التغير به ما لم يكن بمقر الماء أو ممره؛ ولا تمنع الطهارة بملح انعقد من الماء، لأنه كان ماء في الأصل، فهو كالثلج إذا ذاب فيه. ولا يضر تغير بورق شجر تناثر وتفتت واختلط بالماء، لتعذر صون الماء عنه؛ ولا يضر متغير بمجاور طاهر كعود ودهن، ولو مطيبين، وكافور صلب، أو بتراب ولو مستعملاً طرح فيه في الأظهر، لأن تغيره بغير التراب تروّح، وبالتراب كدورة لا تمنع اسم الماء عليه. ومذهب الحنابلة (¬2) كالشافعية في عدم تأثر الماء بالمغير بطول مكث (وهو الماء الآجن الذي تغير بطول إقامته في مقره) (¬3) أو بالمقر والممر، أو بالمجاور، أو بريح ميتة إلى جانبه؛ لأن ذلك يشق الاحتراز عنه أو بملح مائي: وهو الماء الذي يرسل على الأرض السباخ، فيصير ملحاً؛ لأن المتغير به منعقد من الماء، فأشبه ذوب الثلج. والخلاصة: إن الماء المتغير الذي لا يضر التوضؤ به أربعة أنواع: 1 - ما أضيف إلى محله ومقره، كماء النهر والبئر وأشباههما. ¬
ب ـ الماء الطهور المكروه الاستعمال تنزيها عند الحنفية
2 - ما لا يمكن التحرز عنه كالطحلب والخزّ (الشوك الأخضر) وسائر ما ينبت في الماء، وكذا ورق الشجر الذي يسقط في الماء أو تحمله الريح فتلقيه فيه، وما تجذبه السيول من العيدان والتبن ونحوه، فتلقيه في الماء، وما هو في قرار الماء، كالكبريت والزفت وغيرهما إذا جرى عليه الماء فتغير به، أو كان في الأرض التي يقف الماء فيها. 3 - مايوافق الماء في صفتيه: الطهارة والطهورية، كالتراب إذا غيَّر الماء، لا يمنع الطهورية؛ لأنه طاهر مطهر كالماء، فإن ثخن بحيث لا يجري على الأعضاء، لم تجز الطهارة به، لأنه طين وليس بماء، ولافرق في التراب بين وقوعه في الماء عن قصد أو غير قصد، وكذلك الملح البحري أو المائي، والمعدني، لأن هذا الأخير خليط مستغنى عنه غير منعقد من الماء، فهو كالزعفران وغيره. 4 - ما يتغير به الماء بمجاورته من غير مخالطة، كالدهن بأنواعه، ومثله القطران والزفت والشمع، والطاهرات الصلبة، كالعود والكافور والعنبر، إذا لم يتلف في الماء، ولم يمع فيه، أنه تغيير مجاورة، فأشبه ما لو تروح الماء بريح شيء في جانبه، ولا خلاف في هذا. ولا خلاف بين العلماء في جواز التوضؤ بما خالطه طاهر لم يغيره، فإذا سقط شيء من الباقلا والحمص والورد والزعفران وغيره في ماء، وكان يسيراً، فلم يوجد له طعم ولا لون ولا رائحة كثيرة، جاز الوضوء به، لأنه «صلّى الله عليه وسلم اغتسل وزوجته من جفنة فيها أثر العجين». ب ـ الماء الطهور المكروه الاستعمال تنزيهاً عند الحنفية: هناك ماء طاهر مطهر مكروه استعماله تنزيهاً حال وجود غيره على الأصح
النوع الثاني ـ الماء الطاهر غير الطهور
عند الحنفية (¬1): وهو الماء القليل الذي شرب منه حيوان مثل الهرة الأهلية، لا الوحشية إذ سؤرها (¬2) نجس، ومثل الدجاجة المخلاة (المتروكة تأكل القاذورات) وسباع الطير، والحية والفأرة؛ لأنها لا تتحامى عن النجاسة. وهذا عمل بمقتضى الاستحسان، تيسيراً على الناس بسبب مخالطة الناس للهرة، وتطوافها بهم، وللضرورة في سباع الطير لعدم إمكان التحرز عنها، وقد قرر النبي صلّى الله عليه وسلم طهارة سؤر الهرة، فقال: «إنها ليست بنجَس، إنها من الطوافين عليكم، والطوافات» (¬3)، وعن عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلم «أنه كان يُصغي إلى الهرة الإناء حتى تشرب، ثم يتوضأ بفضلها» (¬4). وتزول الكراهة إذا لم يوجد غير هذا الماء. وقال الشافعية بطهارة فم الهرة وطهارة سؤرها. النوع الثاني ـ الماء الطاهر غير الطهور: وحكمه عند الحنفية أنه يزيل الخبث، أي النجاسة عن الثوب والبدن، ولايزيل الحدث، فلا يصح الوضوء والغسل به، وهو ثلاثة أنواع: أحدها ـ الماء الذي خالطه طاهر غير أحد أوصافه الثلاثة وسلب طهوريته: وسالب الطهورية عند الحنفية هو غلبة غير الماء عليه إما في مخالطة الجامدات وإما في المائعات (¬5). والغلبة في الجامدات تكون بإخراج الماء عن رقته وسيلانه، أو ¬
التي تزيل طبع الماء (وهو الرقة والسيلان والإرواء والإنبات) بالطبخ بنحو حِمّص وعدس، ولم يقصد به التنظيف كالصابون والأشنان؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم اغتسل بماء فيه أثر العجين، وكان يغتسل وهو جنب ويغسل رأسه بالخِطْمي (ورق يدق ويغسل به الرأس)، وأمر النبي بغسل الذي وقَصَتْه (كسرته) ناقته، وهو مُحْرِم بماء وسِدْر (شجر النبق)، وأمر قيس بن عاصم حين أسلم أن يغتسل بماء وسدر (¬1). والغلبة في المائع الذي لا وصف له كالماء المستعمل، وماء الورد المنقطع الرائحة: تكون إما بزيادة الوزن كأن اختلط رطلان من الماء المستعمل برطل من الماء المطلق أو بظهور وصفين من مائع له أوصاف ثلاثة، كالخل له لون وطعم وريح، فأي وصفين ظهرا منعا صحة الوضوء، ولا يضر ظهور وصف واحد لقلته، أو بظهور وصف واحد من مائع له وصفان فقط، كاللبن له اللون والطعم، ولا رائحة له. الماء المشكوك في طهوريته عند الحنفية: وهو ما شرب منه حمار أو بغل. وهو عند الحنفية طاهر في نفسه، مشكوك في إمكان إزالة الحدث به، فمن لم يجد غيره توضأ به وتيمم، بسبب تعارض الأدلة في إباحته وحرمته أو اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في نجاسته وطهارته (¬2). وقال المالكية (¬3): إن سالب الطهورية الذي يترتب عليه أنه لا يرفع الحدث ولا يزيل الخبث: هو كل طاهر يخالط الماء مما يفارقه غالباً، ويغير أحد أوصافه ¬
(لونه أو طعمه أو ريحه)، ولم يكن من أجزاء الأرض، ولا دابغاً لإنائه، ولا ما يعسر الاحتراز عنه. مثال ذلك الطاهر المفارق للماء غالباً الصابون وماء الورد والزعفران واللبن والعسل والزبيب المنبوذ في الماء، والليمون وروث الماشية ودخان شيء محروق، والحشيش، أو ورق الشجر أو التبن الواقع في بئر يسهل تغطيتها، والقطران الراسب في الماء لغير دباغ للوعاء والطحلب المطبوخ في الماء، والسمك الميت. فهذه الأمثلة إن غيرت أحد أوصاف الماء، جعلته طاهراً غير طهور. ومثلها المتغير الفاحش بآلة السقي، أو بإنائه، إذا كانا من غير أجزاء الأرض كإناء من جلد أو خشب، وحبل من كَتَّان أو ليف. فإن كان التغير يسيراً، أو استعمال القطران للدباغ، فلا يسلب الطهورية، ولا يضر. وقال الشافعية (¬1): الذي يسلب طهورية الماء، فيجعله غير صالح لرفع الحدث ولا لإزالة النجس به: هو كل مخالط طاهر يستغني الماء عنه، إذا غير أحد أوصافه (لونه أو طعمه أو ريحه) تغيراً كثيراً يمنع إطلاق اسم الماء عليه، ولم يكن المغير تراباً ولا ملحاً مائياً ولو طرحا قصداً. وذلك مثل الزعفران وماء الشجر والمني والملح الجبلي والتمر والدقيق والطحلب المطروح في الماء، والمنقوع في الماء من كتان أو عرق سوس، والقطران لغير دباغ، والماء المخلوط بنحو سدر أو صابون، فلا يصح الوضوء به كماء اللحم وماء الباقلا. وسواء أكان التغير حسياً أم تقريرياً، فلو وقع في الماء مائع يوافقه في الصفات، كماء الورد المنقطع الرائحة، فلم يتغير، فلو قدرنا أن ماء الورد الواقع حل محله مخالف وسط، كلون العصير، وطعم الرمان، وريح اللاَّذَن (¬2)، ثم غيَّره، لم يصر طهوراً. ¬
ثانيها ـ الماء المستعمل القليل
وقال الحنابلة (¬1): يسلب طهورية الماء أنواع منها: المستخرج بالعلاج، كماء ورد وزهر وبطيخ، إذا غلبت أجزاؤه على الماء؛ والطاهر الذي يغير اسم الماء حتى صار صبغاً أو خلاً؛ والطاهر الذي يغير أحد أوصاف الماء تغيراً كثيراً، بأن طبخ فيه كماء الباقلا والحمص، أو لم يطبخ كالزعفران والملح المعدني، أو طرحه فيه آدم عاقل قصداً كطحلب أو ورق شجر ونحوه، ففي كل ذلك لا يعد ماء مطلقاً، فلا يتوضأ به. الماء المشتبه فيه: إذا اشتبه الطاهر من الماء أو الثياب بالنجس، تحرى الشخص واجتهد، كالاجتهاد في القبلة، وصلى بثوب منها، وتوضأ بأحد الماءين بما غلب على ظنه طهارته بعلامة واستعمله؛ لأن التطهر شرط من شروط الصلاة، وحل التناول والاستعمال والتوصل إلى ذلك ممكن بالاجتهاد، فوجب عند الاشتباه إن تعين طريقاً. وإذا أخبره بتنجسه ثقة أو كان فقيهاً اعتمده. ثانيها ـ الماء المستعمل القليل: والقليل: هو ما نقص عن القُلَّتين بأكثر من رطلين. والقلتان: خمس مئة رطل بغدادي تقريباً (500) وبالمصري (446و7/ 3) رطلاً (¬2) وبالشامي (81) رطلاً، والرطل الشامي: (2و2/ 1) كغ فيكون قدرهما (112،195كغ) وتساوي (10) تنكات (صفايح) وقيل: (15) تنكة أو (270) لتراً، وقدرهما بالمساحة في مكان مربع: ذراع وربع طولاً وعرضاً وعمقاً بالذراع المتوسط. وفي المكان المدور كالبئر: ذراعان عمقاً، وذراع عرضاً. وقال الحنابلة: ذراعان ونصف عمقاً، وذراع طولاً. ¬
والمستعمل عند الحنفية (¬1): هو الماء الذي استعمل لرفع حدث (وضوء أو غسل) أو لقربة (ثواب) كالوضوء ـ في مجلس آخر ـ على الوضوء بنية التقرب أو لصلاة الجنازة ودخول المسجد ومس المصحف وقراءة القرآن. ويصير الماء مستعملاً بمجرد انفصاله عن الجسد، والمستعمل: هو الذي اتصل بالأعضاء، لا كل الماء. وحكمه عندهم أنه طاهر بنفسه غير مطهر لغيره من الحدث ويطهر الخبث أي أنه لا يزيل الحدث من وضوء وغسل، ويزيل النجاسة الحقيقية عن الثوب والبدن على الراجح المعتمد. والمستعمل عند المالكية (¬2): هو الماء الذي استعمل في رفع حدث (وضوء أو غسل) أو في إزالة خَبَث (عين النجاسة)، سواء أكان الغسل واجباً كغسل الميت، أم غير واجب كالوضوء على الوضوء وغسل الجمعة والعيدين، والغسلة الثانية والثالثة في الوضوء، إذا لم يغيره الاستعمال. والمستعمل في رفع الحدث: هو ما تقاطر من الأعضاء (¬3)، أو اتصل بها، أو انفصل عنها وكان المنفصل يسيراً، أو غسلت فيه، فإن اغترف منه وغسلت الأعضاء خارجه فليس بمستعمل. والماء المستعمل: طاهر مطهر، ولا يكره على الأرجح استعماله مرة أخرى في إزالة النجاسة، أو في غسل إناء ونحوه، لكن يكره استعماله في رفع حدث أو اغتسالات مندوبة مع وجود غيره، إذا كان يسيراً. وعلة الكراهة: أن النفوس تعافه. والماء المستعمل عند الشافعية (¬4): هو الماء القليل المستعمل في فرض الطهارة ¬
عن حدث كالغسلة الأولى فيه، والأصح أن نفل الطهارة كالغسلة الثانية والثالثة طهور في المذهب الجديد. والمراد بفرضية الطهارة ولو صورة كوضوء الصبي، إذ لابد لصحة صلاته من وضوء. ومن المستعمل: ماء قليل اغترف منه بدون نية الاغتراف عند إرادة غسل اليدين بأن يقصد نقل الماء من إنائه لغسلهما خارجه، فإن نوى الاغتراف بهما فهو طهور. ومن المستعمل: ماء غسل بدل مسح من رأس أو خف، وماء غسل كافرة لتحل لحليلها المسلم، وماء غسل ميت، وماء غسل مجنونة لتحل لحليلها المسلم، ولا يصبح مستعملاً إلا إذا انفصل عن العضو. والمستعمل الطاهر في إزالة النجاسة (وهو الغسالة) يشترط فيه شروط ثلاثة: 1 - أن يكون الماء وارداً على محل النجاسة إن كان قليلاً في الأصح لا كثيراً، لئلا يتنجس الماء، لو عكس الأمر، لأن الماء ينجس بمجرد وقوع النجاسة فيه. 2 - أن ينفصل طاهراً بحيث لم يتغير أحد أوصافه، وقد طهر المحل. 3 - ألا يزيد وزنه بعد اعتبار ما يأخذه الثوب من الماء ويعطيه من الوسخ الظاهر. فإذا تغير الماء أو زاد وزنه، أو لم يطهر المحل بأن بقي لون النجس وريحه معاً، أو طعمه وحده، ولم يعسر زواله، صار نجساً؛ لدلالة ذلك على بقاء عين النجاسة. وحكم المستعمل: أنه طاهر غير طهور في المذهب الجديد، فلا يتوضأ أو يغتسل به، ولا تزال النجاسة به؛ لأن السلف الصالح كانوا لا يحترزون عن ذلك،
ولا عما يتقاطر عليهم منه، وفي الصحيحين «أنه صلّى الله عليه وسلم عاد جابراً في مرض موته، فتوضأ وصب عليه من وضوئه» وكانوا مع قلة مياههم لم يجمعوا المستعمل للاستعمال ثانياً، بل انتقلوا إلى التيمم، ولم يجمعوه للشرب، لأنه مستقذر. ويعفى عن يسير الماء المستعمل الواقع في الماء. فإن جمع الماء المستعمل فبلغ قلتين، فطهور في الأصح. والمستعمل عند الحنابلة (¬1): هو المستعمل في رفع حدث أكبر (جنابة) أو أصغر (وضوء)، أو إزالة نجاسة من آخر غسلة زالت بها النجاسة وهي الغسلة السابعة (¬2) كما هو المذهب، ولم يتغير أحد أوصاف الماء (لونه أو طعمه أو ريحه). ومن المستعمل: ما غسل به الميت؛ لأنه غسل تعبدي، لا عن حدث، ويصبح الماء مستعملاً: لو نوى الجنب أو المتوضئ رفع الحدث في ماء قليل، فإن لم ينو رفع الحدث أو نوى الاغتراف أو نوى إزالة الغبار أو التبرد أو العبث ظل الماء طهوراً. ومنه: الماء اليسير الذي غمس أو غسل به يد القائم من نوم الليل، وكان الشخص مسلماً عاقلاً بالغاً، وكان الغمس قبل غسل اليد ثلاثاً. ومنه الماء الذي يغمس فيه المسلم البالغ العاقل (غير الصبي والمجنون والكافر) يده كلها إلى الكوع، أي الزند. فلو غمس غير يده كالوجه والرجل لم يكن مستعملاً. ولا يصير الماء مستعملاً إلا بعد انفصاله عن محل الاستعمال. ويعفى عن يسير الماء المستعمل الواقع في الماء؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يتوضؤُون من الأقداح، ويغتسلون من الجفان، واغتسل النبي وعائشة من إناء واحد، تختلف ¬
ثالثها ـ ماء النبات من زهر أو ثمر، كماء الورد، أو الزهر، وماء البطيخ ونحوه من الفاكهة
أيديهما فيه، كل واحد منهما يقول لصاحبه: أبق لي، ومثل هذا لا يسلم من رشاش يقع في الماء. فإن كثر الواقع وتفاحش لم تجز الطهارة به على الرواية الراجحة، وهو مذهب الشافعية أيضاً كما بينت، والمستعمل في طهارة مستحبة كتجديد الوضوء، والغسلة الثانية والثالثة في الوضوء، وغسل الجمعة والعيدين وغيرهما فيه روايتان: إحداهما: أنه كالمستعمل في رفع الحدث؛ لأنه طهارة مشروعة. والثانية وهي الراجحة: أنه طهور فلا يمنع الطهارة؛ لأنه لم يزل مانعاً من الصلاة، فأشبه ما لو تبرد به، ولا خلاف بين العلماء أن ما استعمل في التبرد والتنظيف طاهر طهور غير مكروه. ولا يصير الماء اليسير مستعملاً إذا اغترف منه المتوضئ عند غسل يديه؛ لأن المغترف لم يقصد بغمس يده إلا الاغتراف دون غسلها، ولأن النبي عليه السلام فيما رواه سعيد عن عثمان اغترف من إناء: «ثم غرف بيده اليمنى، فصب على ذراعه اليمنى، فغسلها إلى المرفقين ثلاثاً». وحكم المستعمل: أنه لا يرفع الحدث ولا يزيل الخبث، كالشافعية. وإن جمع الماء المستعمل فبلغ قلتين، ففيه وجهان: وجه: أنه على الأصل كما كان، ووجه: أنه طهور لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث» (¬1) وإن اجتمع الماء المستعمل مع غير مستعمل فبلغ قلتين، صار الكل طهوراً. ثالثها ـ ماء النبات من زهر أو ثمر، كماء الورد، أو الزهر، وماء البطيخ ونحوه من الفاكهة، طاهر غير مطهر. ¬
النوع الثالث ـ الماء النجس
النوع الثالث ـ الماء النجس: وهو الذي وقعت فيه نجاسة غير معفو عنها مثل قليل الأرواث، وكان الماء راكداً (غير جارٍ) قليلاً. والقليل بالمساحة عند الحنفية (¬1): ما دون عشر في عشر بذراع العامة. فينجس وإن لم يظهر أثر النجاسة فيه. وأما إذا كان عشراً في عشر بحوض مربع، أو ستة وثلاثين في مدور، وكان عمقه بحال لا تنكشف أرضه بالغَرف منه، على الصحيح، فلا ينجس إلا بظهور وصف النجاسة فيه. وأما الماء الجاري فينجس بظهور أثر النجاسة فيه، والأثر: طعم النجاسة أو لونها أو ريحها. وبذلك يكون الماء المتنجس نوعين: الأول ـ ما كان طهوراً قليلاً، ووقعت فيه نجاسة لم تغير أحد أوصافه. الثاني ـ ما كان طهوراً وقعت فيه نجاسة غيَّرت أحد أوصافه الثلاثة. واتفق العلماء على نجاسة النوع الثاني الذي تغيرت فيه أحد أوصاف الماء (طعمه أو لونه أو ريحه) كما أن الشافعية والحنابلة وافقوا الحنفية في نجاسة النوع الأول إلا ما يعفى عنه عند الشافعية كميتة ما لا دم له سائل مثل الذباب والنحل إذا وقع بنفسه أو ألقته الرياح. وقال المالكية في أرجح الروايات بطهورية النوع الأول وهو الماء القليل الذي ¬
قلة الماء وكثرته
وقعت فيه نجاسة لم تغير أحد أوصافه، لكنه مكروه، مراعاة للخلاف (¬1). والمتنجس عند أكثر الفقهاء لا ينتفع به ولا يستعمل في طهار ة ولا في غيرها إلا في نحو سقي بهيمة أو زرع، أو في حالة الضرورة كعطش. قلة الماء وكثرته: اختلف الفقهاء في حد القلة والكثرة: فالكثرة عند أبي حنيفة: هو أن يكون الماء من الكثرة بحيث إذا حركه آدمي من أحد طرفيه، لم تسْرِ الحركة إلى الطرف الثاني منه (¬2). والقلة: ما كان دون عشر في عشر من أذرعة العامة؛ كما تقدم. ولا حد لكثرة في مذهب المالكية فلم يحدوا لها حداً مقدراً، والماء اليسير المكروه: هو ما كان قدر آنية الوضوء أو الغسل، فما دونها. فإذا حلت فيه نجاسة قليلة كالقطرة، ولم تغيره، فإنه يكره استعماله في رفع حدث أو إزالة خبث، أو متوقف على طهارة كالطهارة المسنونة والمستحبة، ولا كراهة في استعماله في العادات. والحد الفاصل عند الشافعية والحنابلة بين القليل والكثير: هو القلتان (¬3)، من قُلال هجَر: وهو خمس قِرَب، في كل قربة مئة رطل عراقي، فتكون القلتان خمس مئة رطل بالعراقي. ¬
فإذا بلغ الماء قلتين، فوقعت فيه نجاسة، جامدة أو مائعة، ولم تغير طعمه أو لونه، أو ريحه، فهو طاهر مطهر، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا بلغ الماء قلتين، لم يحمل الخبَث» قال الحاكم: على شرط الشيخين (أي البخاري ومسلم)، وفي رواية لأبي داود وغيره بإسناد صحيح: «فإنه لا ينْجُس» وهو المراد بقوله: «لم يحمل الخبث» أي يدفع النجس ولا يقبله. فإن وقعت النجاسة في مائع كثير غير مائع، ولو بمقدار قلتين فإنه ينجس بمجرد ملاقاة النجاسة، لأن الماء يشق حفظه عن النجس، بخلاف غيره وإن كثر. وإن تغير أحد أوصاف الماء الكثير (القلتين)، ولو تغيراً يسيراً، فنجس بالإجماع المخصص لحديث القلتين ولحديث الترمذي وابن حبان: «الماء لا ينجسه شيء» (¬1)، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الماء القليل والكثير إذا وقعت فيه نجاسة، فغيرت للماء طعماً أو لوناً أو رائحة، أنه نجس، ما دام كذلك. وقد روى أبو إمامة الباهلي أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «الماء طهور لا ينجسه شيء، إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه» رواه ابن ماجه، لكنه حديث ضعيف (¬2). وأرجح رأي الشافعية والحنابلة في الأخذ بحديث القلتين الثابت الصحيح، وإن أعله الحنفية بالاضطراب وتعارض الروايات، إذ في رواية: «إذا بلغ ثلاث قلال» وفي رواية «قلة» كما أعلوه بجهالة قدر القلة، وقد أجاب الشافعية عن هذا كله (¬3). ¬
المبحث الخامس ـ حكم الأسآر والآبار
المبحث الخامس ـ حكم الأسآر والآبار: وفيه مطلبان: المطلب الأول ـ حكم الأسآر: الأسآر: جمع سؤر، والسؤر: البقية والفضلة، واصطلاحاً: هو بقية الماء في الإناء أو في الحوض بعد شرب الشارب منه. ثم استعير لبقية الطعام. واتفق العلماء على طهارة أسآر المسلمين وبهيمة الأنعام، واختلفوا فيما عداها اختلافاً كثيراً. فحكم السؤر بسبب مخالطة لعاب الشارب له عند الحنفية (¬1): يختلف بحسب طهارة أو نجاسة لحم الشارب، فسؤر الآدمي وما يؤكل لحمه من الحيوان طاهر، وسور الكلب نجس، وقد يكون السؤر مكروهاً، أو مشكوكاً فيه، فتكون الأسآر عند الحنفية أربعة أنواع: طاهر، ومكروه، ومشكوك فيه، ونجس كما يتبين مما يأتي: 1 ً - سؤر طاهر مطهر بلا كراهة: وهو الذي شرب منه الآدمي، أو حيوان مأكول اللحم كالإبل والبقر والغنم، والفرس في الأصح، ونحوها، ما لم تكن جلالة (تأكل الجلة) ولا في حال اجترارها إن كانت من الحيوانات المجترة؛ لأن الماء المختلط به اللعاب أثناء الشرب قد تولد من لحم طاهر، فيكون طاهراً. ولا فرق بين أن يكون الآدمي صغيراً أو كبيراً، مسلماً أو كافراً، جنبا ً أو ¬
حائضاً، إلا أن يشرب الكافر خمراً فينجس فمه، إذا شرب عقب الخمر فوراً من إناء، أما لو مكث قدر ما يغسل فمه بلعابه، ثم شرب لا ينجس (¬1). ودليل طهارة سؤر الآدمي مطلقاً: ما رواه أبو هريرة قال: يا رسول الله، لقيتني وأنا جنب، فكرهت أن أجالسك، فقال صلّى الله عليه وسلم: «سبحان الله، إن المؤمن لا ينجس» (¬2). وروى مسلم عن عائشة قالت: «كنت أشرب وأنا حائض، فأناوله النبي صلّى الله عليه وسلم، فيضع فاه على موضع فيَّ». وروى البخاري أنه عليه الصلاة والسلام شرب اللبن، وعن يمينه أعرابي، وعن يساره أبو بكر، ثم أعطى الأعرابي، فقال: الأيمن فالأيمن. 2 ً - سؤر طاهر مكروه تنزيهاً استعماله مع وجود غيره: وهو سؤر الهرة، والدجاجة المخلاة (¬3)، والإبل والبقر الجلالة (أي التي تأكل النجاسة إذا جهل حالها)، وسباع الطير كالصقر والنسر والشاهين والحدأة والغراب، وسواكن البيوت كالحية والفأرة، ما لم تر النجاسة في فمها، لأنها تلازم التطواف في المنازل، أو للضرورة، وعدم إمكان الاحتراز منها، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يصغي (يميل) للهرة الإناء، فتشرب منه، ثم يتوضأ به (¬4). 3 ً - سؤر مشكوك في طهوريته لا في طهارته: وهو سؤر البغل والحمار ¬
الأهلي، فيتوضأ به أو يغتسل، ثم يتيمم بعدئذ أو يقدم أيهما شاء، احتياطاً بالنسبة لصلاة واحدة. وسبب الشك: هو تعارض الأدلة في إباحة لحمه وحرمته، أو اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في نجاسته وطهارته، أو للتردد في توافر الضرورة والبلوى المسقطتين للنجاسة، وذلك بسبب ربط هذا الحيوان في الدور وشربه من الأواني المستعملة، ومخالطة الناس له بالركوب عليه، فالمذهب عند الحنفية: طهارة لعاب البغل والحمار قطعاً، والشك في الطهورية. أما تعارض الأدلة في الإباحة والحرمة: فقد ورد في شأن حرمة لحمه حديثان: 1ً - حديث أبجر بن غالب، قال: «يا رسول الله، أصابتنا سَنَة (جدب وقحط)، ولم يكن في مالي ما أطعم أهلي إلا سِمان حُمُر، وإنك حرمت الحُمُر الأهلية؟ فقال: أطعم أهلك من سمين حمرك (¬1)». 2ً - وحديث أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم جاءه رجل، فقال: يا رسول الله، أكلت الحمر، فسكت، ثم أتاه الثانية، فقال: أكلت الحمر، فسكت، ثم أتاه الثالثة، فقال: أفنيت الحمر، فأمر منادياً ينادي في الناس: «إن الله ورسوله ينهاكم عن لحوم الحمر الأهلية» وفي رواية: «فإنها رجس، فأكفئت القدور، وإنها لتفور باللحم» (¬2). وأما اختلاف الصحابة في الطهارة والنجاسة: فعن ابن عمر نجاسته، وعن ابن عباس طهارته. ¬
المالكية
والحق أن رواية حديث أنس أصح، وأن لحم الحمير محرم بلا إشكال وأنه إذا تعارض المحرم والمبيح، يقدم المحرم، سواء بالنسبة للحديثين أم للاجتهادين عن الصحابة، والأصح أن دليل الشك هو التردد في الضرورة، فإن الحمار يربط في الدور والأفنية، إلا أنها دون ضرورة الهرة والفأرة، لدخولهما المضايق، دون الحمار، فوقع الشك في الطهورية، فهو نجس من وجه لنجاسة لعابه، طاهر من وجه لوجود نوع من الضرورة، وسرى الشك إلى سؤره، فهذا سبب الشك، لا أن السبب هو الإشكال في حرمة لحمه، ولا اختلاف الصحابة في سؤره. 4 ً - سؤر نجس نجاسة مغلظة، لا يجوز استعماله بحال إلا للضرورة كأكل الميتة: وهو ما شرب منه كلب أو خنزير أو سباع البهائم كالأسد والفهد والذئب والقرد والنمر والضبع. أما الكلب، فلقوله عليه السلام: «إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً» (¬1) فلما تنجس الإناء، فالماء أولى، وهذا يفيد النجاسة. وأما الخنزير، فلأنه نجس العين، لقوله تعالى: {فإنه رجس} [الأنعام:145/ 6]، وأما سباع البهائم، فلأن لحمها نجس، ولعابها المخالط للماء يتولد من لحمها، فيتنجس الماء. وقال المالكية (¬2): 1 ً - سؤر ابن آدم: إن كان مسلماً لا يشرب الخمر، فسؤره طاهر مطهر ¬
الشافعية والحنابلة
بإجماع. وإن كان كافراً أو شارب خمر: فإن كان في فمه نجاسة فهو كالماء الذي خالطته النجاسة. وإن لم يكن في فمه نجاسة، فهو طاهر مطهر، وهو رأي الجمهور. لكن يكره عند المالكية سؤر شارب خمر مسلم أو كافر شك في فمه، كما يكره ما أدخل يده فيه، لأنه كماء حلته نجاسة ولم تغيره. 2 ً - سؤر ما يستعمل النجاسة: كالهرة والفأرة، فإن رئي في أفواهها نجاسة، كان كالماء الذي خالطته النجاسة، فإن تحقق طهارة أفواهها، فطاهر، وإن لم يعلم فيغتفر ما يعسر التحرز عنه، لكنه مكروه، وفي تنجيس ما يتحرز منه قولان (¬1)، أرجحهما: القول بالطهارة. 3 ً - سؤر الدواب والسباع طاهر، لكنه يكره سؤر حيوان لا يتوقى نجساً كطير. 4 ً - سؤر الكلب والخنزير طاهر، وغسل الإناء الذي ولغ فيه الكلب سبع مرات من ولوغه في الماء إنما هو عبادة. وفي غسل الإناء الذي شرب منه الخنزير سبعاً: قولان. وقال الشافعية والحنابلة (¬2): 1 ً - سؤر الآدمي طاهر، سواء أكان مسلماً أم كافراً، وهذا متفق عليه بين العلماء، كما بينا، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «المؤمن لا ينجس». ¬
2 ً - سؤر الحيوان المأكول اللحم طاهر، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن سؤر ما أكل لحمه يجوز شربه والتوضؤ به. 3 ً - سؤر الهر والفأر وابن عُرْس ونحوها من حشرات الأرض كالحيات وسام أبرص: طاهر، يجوز شربه والتوضؤ به، ولا يكره عند أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين، إلا أبا حنيفة، فإنه كره الوضوء بسؤر الهر، كما أوضحنا فإن فعل أجزأ. 4 ً - سؤر جميع الحيوانات من الخيل والبغال والحمير والسباع المأكول لحمه وغير المأكول، طاهر، وهي الرواية الراجحة عند الحنابلة، لحديث جابر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم سئل: أنتوضأ بما أفضلت الحمر؟ قال: نعم، وبما أفضلت السباع كلها» (¬1)، ولأنه حيوان يجوز الانتفاع به من غير ضرورة، فكان طاهراً كالشاة، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم وصحبه كانوا يركبون البغل والحمار، فلو كان نجساً لبين النبي صلّى الله عليه وسلم ذلك، ولأنهما لا يمكن التحرز عنهما لمقتنيهما، فأشبها الهر. وقول النبي عن الحمر يوم خيبر: «إنها رجس» أراد أنها محرمة الأكل. 5 ً - سؤر الكلب والخنزير وما تولد منهما أو من أحدهما: نجس لقولهصلّى الله عليه وسلم في الكلب: «إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات أولهن بالتراب» (¬2)، والخنزير كالكلب، لأنه أسوأ حالاً منه. وأما المتولد فحكمه حكم أصله؛ لأنه يتبع أخسهما في النجاسة. وهذا المذهب هو الراجح، أما قول المالكية بالغسل تعبداً فلا يفهم، لأن ¬
المطلب الثاني ـ حكم الآبار
الأصل وجوب الغسل من النجاسة، بدليل سائر أنواع الغسل، ولو كان الأمر بالغسل تعبداً لما أمر النبي صلّى الله عليه وسلم بإراقة الماء، ولما اختص الغسل بموضع الولوغ، لعموم اللفظ في الإناء كله. المطلب الثاني ـ حكم الآبار: الكلام في الآبار المتنجسة يشبه الكلام في الماء الذي خالطته نجاسة، ولا فرق بين الأمرين عند الجمهور، وفرق الحنفية بينهما في بعض الأحوال. فقال المالكية (¬1): إذا وقعت دابة نجسة في بئر، وغيرت الماء، وجب نزح جميعه. فإن لم تغيره استحب أن ينزح منه بقدر الدابة والماء. وقال الشافعية والحنابلة (¬2): الماء الراكد والجاري سواء في التفرقة بين القليل والكثير، فما دون القلتين وهو القليل ينجس بمجرد ملاقاة النجاسة المؤثرة، وإن لم يتغير. وأما الكثير وهو القلتان فأكثر، فلا ينجس بملاقاة نجس جامد أو مائع إن لم يتغير الماء، وإن غيره فنجس. وبناء عليه قال الشافعية: إذا أريد تطهير الماء النجس نظر: فإن كانت نجاسته بالتغير وهو أكثر من قلتين، طهر، بأن يزول التغير بنفسه، أو بأن يضاف إليه ماء آخر، أو بأن يؤخذ بعضه، لأن النجاسة بالتغير وقد زال. وقال الحنابلة: المصانع أو البرك التي يجتمع فيها ماء كثير، لا تتنجس بشيء من النجاسات ما لم تتغير، أي يتغير لونها أو طعمها أو ريحها، فإن تغيرت بنجاسة كبول آدمي أو عذرته المائعة، نزحت، ولم يقدرا مقداراً معيناً للماء ¬
أولا ـ حالة بقاء الواقع في البئر حيا
المنزوح، ثبت عن علي رضي الله عنه بإسناد صحيح «أنه سئل عن صبي بال في بئر، فأمرهم أن ينزفوها» ومثل ذلك عن الحسن البصري. وسئل أحمد عن بئر بال فيها إنسان، قال: تنزح حتى تغلبهم. قلت: ما حده؟ قال: لا يقدرون على نزحها. أي فهم في نزح جميع ماء البئر كالمالكية. واتفق الحنفية (¬1) مع الجمهور على أن الماء الكثير (وهو عشر في عشر) (¬2) لاينجس إلا بظهور أثر النجاسة فيه، وأما الماء القليل فيتنجس ولو لم تتغير أوصافه. وقدروا استحساناً مقادير معينة في نزح ماء البئر القليل، على النحو التالي: أولاً ـ حالة بقاء الواقع في البئر حياً: إذا سقط آدمي أو حيوان في بئر، وبقي حياً: لا ينجس البئر بوقوع آدمي فيه أو حيوان مأكول اللحم إذا خرج حياً، ولم يكن على بدنه نجاسة. فإن كان عليه نجاسة تنجس الماء لوجود النجاسة. وينجس البئر إذا وقع فيه خنزير، أو وصل إليه لعاب الكلب، أما لعاب سائر أنواع الحيوان غير المأكول اللحم كلعاب بغل وحمار وسباع طير ووحش إذا وصل إلى الماء، فيأخذ فيه الماء في الصحيح حكم الحيوان طهارة، وكراهة ونجاسة، فينزح بالنجس والمشكوك فيه وجوباً، ويستحب في المكروه عدد من الدلاء، كما سيأتي. والنجس: هو سباع الوحش أو البهائم كالأسد والذئب، والمكروه: هو سباع الطير كالنسر والصقر، والمشكوك فيه: هو البغل والحمار. ¬
ثانيا ـ حالة موت الإنسان أو الحيوان في البئر
وقال الحنابلة (¬1): إذا وقعت الفأرة أو الهر ونحوهما في مائع أو ماء يسير، ثم خرجت حية، فهو طاهر. ثانياً ـ حالة موت الإنسان أو الحيوان في البئر: أـ إذا مات الإنسان في البئر ينجس الماء عند الحنفية، لأن ابن عباس وابن الزبير أفتيا بمحضر من الصحابة بنزح ماء زمزم بموت زنجي فيه (¬2). وهذا مخالف لرأي غير الحنفية (¬3) الذين يقولون بطهارة ماء البئر بموت الآدمي، ولو كان كافراً، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «المؤمن لاينجس» (¬4). ب ـ إذا كان الحيوان برياً غير مائي كشاة وكلب ودجاجة وهرة وفأرة ومات في البئر، فإنه ينجس. جـ ـ ولا ينجس البئر بموت حيوان لا دم له سائل كذباب وصرصور وخنفساء وزُنبور وبق وعقرب، أو بموت حيوان مائي كسمك وضفدع وتمساح وسرطان وكلب ماء وخنزيره، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه، ثم لينزعه، فإن أحد جناحيه داء، وفي الآخر شفاء» رواه البخاري، وزاد أبو داود: «وإنه يتقي بجناحيه الذي فيه الداء» (¬5) ولقوله عليه السلام: «يا سلمان، كل طعام وشراب وقعت فيه دابة ليس لها دم، فماتت فيه، فهو حلال أكله، وشربه، ووضوؤه». ¬
ثالثا ـ حالة وقوع النجاسة في الماء
ثالثاً ـ حالة وقوع النجاسة في الماء: أـ تنجس البئر الصغيرة بوقوع نجاسة فيها، وإن قلت، كقطرة دم وقطرة خمر، وبول وغائط، وينزح ماء جميع البئر، بعد إخراج عين النجاسة، وتطهر البئر والدلو والرشاء (الحل) والبكرة، ويد المستقي. ب ـ ولا تنجس البئر بالبعر (للإبل والغنم) والروث (للفرس والبغل والحمار) والخنثِي (للبقر) إلا أن يستكثره الناظر أو ألا يخلو دلو عن بعرة ونحوها. وأما القليل فهو ما يستقله الناظر. وذلك بدليل ما روى ابن مسعود رضي الله عنه قال: «أتيت النبي صلّى الله عليه وسلم بحجرين وروثة، فأخذ الحجر، وألقى الروثة، وقال: إنها ركس» (¬1). ولا تنجس البئر بخُرْء حمام وعصفور ونحوها مما يؤكل من الطيور غير الدجاج والإوز والبط، استحساناً؛ لأن ابن مسعود رضي الله عنه مسح خرء الحمامة عنه بإصبعه. والأصح أنه لا ينجس البئر بخرء الطيور غير المأكولة اللحم، مثل سباع الطير، لتعذر صونها، أي البئر عنه أي عن الخرء. وقال الشافعية: روث جميع البهائم والطيور نجس، لأنه ركس، والركس: النجس. وقال المالكية والحنابلة (¬2): روث وبول الحيوان المأكول طاهر، وروث وبول محرم الأكل نجس. ¬
مقدار الماء الواجب نزحه
مقدار الماء الواجب نزحه: 1 - يجب نزح ماء البئر كله أو مئتا دلو لو لم يمكن نزح البئر، إذا مات آدمي فيه، أو حيوان كبير مثل البغل والحمار والكلب أو الشاة ونحوها، أو إن انتفخ الحيوان في البئر أو تفسخ، سواء أكان صغيراً أم كبيراً، أو كانت الفأرة هاربة من الهرة أو مجروحة، وإن خرجت حية، أو كانت الهرة هاربة من الكلب أو مجروحة، لأن الفأرة والهرة تبول في هذه الحالة، والبول والدم نجاسة مائعة. 2 - وينزح ما بين أربعين دلواً إلى ستين دلواً إذا كان الحيوان ذا حجم متوسط، مثل الحمامة والدجاجة والسنور (الهر). والأظهر ما ذكر في الجامع الصغير: وهو أربعون أو خمسون دلواً، وفي الاثنين من هذه الحيوانات ينزح الماء كله. والأربعون واجب والخمسون مستحب. 3 - وينزح من البئر عشرون دلواً أو ثلاثون بحسب كُبْر الدلو وصُغْرها (¬1)، إذا مات فيها حيوان صغير كالعصفور والفأر وسام أبرص ونحوها. ونزح العشرين واجب، والثلاثين مستحب أي أنه إذا كان الواقع كبيراً والبئر كبيرة فالعشرة مستحبة، وإن كانا صغيرين فالاستحباب دون ذلك، وإن كان أحدهما صغيراً والآخر كبيراً، فخمس مستحبة، وخمس دونها في الاستحباب. هذا وقد روي عن أنس أنه قال في الفأرة إذا ماتت في البئر وأخرجت من ساعتها: ينزح منها عشرون دلواً. وروي عن أبي سعيد الخدري أنه قال في الدجاجة إذا ماتت في البئر: ينزح منها أربعون دلواً (¬2). حجم الدلو: المعتبر في حجم الدلو: دلو تلك البئر، فإن لم يكن فالمعتبر ¬
المبحث السادس ـ أنواع الأعيان الطاهرة
دلو: يسع صاعاً، أي حوالي (2و2/ 1) كغ أو (75،2) ليتراً، وغير هذا الدلو المذكور، بأن كان أصغر أو أكبر يحتسب به، فلو نزح القدر الواجب بدلو واحد كبير، أجزأ، في ظاهر المذهب الحنفي، لحصول المقصود. ويكفي ملء أكثر الدلو، كما يكفي نزح الموجود في البئر ولو كان دون القدر الواجب. ويمكن تطهيرها بتغويرها أي بفتح مصرف أو حفر منفذ يخرج منه بعض الماء. وإذا وجد في الماء حيوان ميت، فيحكم بموته من يوم وليلة إذا لم يكن منتفخاً، ومن ثلاثة أيام بلياليها إذا كان منتفخاً، فيلزم إعادة صلوات تلك المدة إن توضؤوا منها عن حدث، وغسلوا الثياب وكل شيء أصابه ماؤها. المبحث السادس ـ أنواع الأعيان الطاهرة: جميع ما في الكون إما جماد، أو حيوان، أو فضلات. والأصل في الأشياء الطهارة، ما لم تثبت نجاستها بدليل شرعي. والفقهاء متقاربون في الحكم بطهارة الأعيان، فاتفقوا على أن الجماد (وهو كل جسم لم تحله الحياة ولم ينفصل عن حي) (¬1) كله طاهر إلا المسكر، فجميع أجزاء الأرض الجامدة والمائعة وما تولد منها طاهرة، ومن الجامد: المعادن كالذهب والفضة والحديد ونحوها، وجميع أنواع النبات ولو كان ساماً أو مخدرا ً كالحشيش والأفيون والبنج، ومن المائع: المياه والزيوت وعسل القصب وماء الأزهار والطيب والخل. واتفقوا أن كل جاف طاهر، وأن نافجة (وعاء) المسك طاهر كالمسك، وأن الزبَاد والعنبر (¬2) طاهر، وأن شعر الحيوان المأكول طاهر، وأن الخمر المتخللة بنفسها طاهرة. ¬
الحنفية
كما اتفقوا على طهارة الحيوان المذكى ذكاة شرعية، وعلى طهارة ميتة السمك والجراد، وعلى طهارة ميتة الآدمي ولو كافراً إلا الحنفية، فقالوا بنجاستها؛ لقوله تعالى: {ولقد كرمنا بني آدم} [الأسراء:70/ 17]، وتكريمهم يقتضي طهارتهم ولو أمواتاً، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن المسلم ـ أي يحكم الغالب ـ لا ينجس». أما قوله: {إنما المشركون نجس} [التوبة:28/ 9]، فيراد به نجاسة الاعتقاد، أو أن اجتنابهم كالنجس، لا نجاسة الأبدان. واختلفوا في أشياء، فقال الحنفية (¬1): كل شيء من أجزاء الحيوان غير الخنزير لا يسري فيه الدم من الحي والميت المأكول وغير المأكول حتى الكلب: طاهر، كالشعر، والريش المجزوز، والإنفحة الصلبة (¬2)، والمنقار والظلف، والعصب على المشهور، والقرن والحافر، والعظم ما لم يكن به دسم (وَدَك)؛ لأنه نجس من الميتة، فإذا زال عن العظم زال عنه النجس، والعظم في ذاته طاهر، لما أخرج الدارقطني: «إنما حرم رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الميتة لحمها، فأما الجلد والشعر والصوف، فلا بأس به». ويدخل فيه شعر الإنسان غير المنتوف، وعظمه وسنه مطلقاً على المذهب، أما الشعر المنتوف فنجس، لأن كل ما أبين من الحي فهو كميتته. وأما دمع الحي وعرقه ولعابه ومخاطه فكالسؤر طهارة ونجاسة، والمذهب طهارة لعاب بغل وحمار، وكراهة لعاب سباع الطير وسواكن البيوت كالفأرة ¬
والعقرب والهرة ونحوها، ونجاسة لعاب وسؤر الخنزير والكلب وسائر سباع الوحش. ولعاب الآدمي كسؤره طاهر، إلا في حال شرب الخمر لنجاسة فمه، ويطهر فمه بالغسل أو شرب الماء من ساعته، أو بابتلاع بزاقه ثلاث مرات. ورطوبة الفرج طاهرة عند الإمام خلافاً لصاحبيه: وهي رطوبة الولد عند الولادة، ورطوبة الخلة (الخل) إذا خرجت من أمها، وكذا البيضة، فلا يتنجس بها الثوب ولا الماء، لكن يكره التوضؤ به. وميتة الحيوان البري الذي ليس له دم سائل كالذباب والسوس والنمل والعقرب والزنبور والبرغوث: طاهرة. وخرء الطيور المأكولة اللحم التي تذرق في الهواء كالحمام والعصفور والعَقْعق (القاق) ونحوها: طاهر، لأن الناس اعتادوا اقتناء الحمامات في المسجد الحرام والمساجد الجامعة، مع علمهم أنها تذرق فيها، ولو كان نجساً لما فعلوا ذلك، مع الأمر بتطهير المسجد في قوله تعالى: {أن طهرا بيتي للطائفين} [البقرة:125/ 2]، وروي عن ابن عمر: «أن حمامة ذرقت عليه، فمسحه وصلى» وعن ابن مسعود مثل ذلك في العصفور. وكذلك خرء ما لا يؤكل لحمه كالصقر والبازي والحدأة ونحوها، طاهر عند أبي حنيفة وأبي يوسف، للضرورة المتحققة، لأنها تذرق في الهواء، فيتعذر صيانة الثياب والأواني عنها. ودم السمك طاهر عند أبي حنيفة ومحمد، لإجماع الأمة على إباحة تناوله مع دمه، ولو كان نجساً لما أبيح، ولأنه ليس بدم حقيقة، بل هو ماء تلون بلون الدم؛ لأن الدموي لا يعيش في الماء.
المالكية
والدم الذي يبقى في العروق واللحم بعد الذبح طاهر؛ لأنه ليس بمسفوح، ولهذا حل تناوله مع اللحم. ولو لف ثوب جاف طاهر في ثوب نجس رطب لاينعصر الرطب لو عصر، لا ينجس، كما لا ينجس ثوب رطب نشر على أرض نجسة يابسة، فتندت الأرض منه ولم يظهر أثرها فيه. ولا ينجس الثوب بريح هبت على نجاسة، فأصابت الريح الثوب، إلا أن يظهر أثر النجاسة فيه. وقال المالكية (¬1): كل حي ولو كلباً وخنزيراً طاهر ولو أكل نجساً، وكذا عَرَقه ودمعه، ومُخَاطه، ولعابه الخارج من غير المعدة (¬2)، وبيضه، إلا البيض المَذِر وما خرجه بعد موته، والبيض المذر: وهو ما تغير بعفونة أو زرقة، أو صار دماً: نجس، بخلاف الممروق: وهو ما اختلط بياضه بصفاره من غير نتونة. وما خرج من الحيوان من بيض أو مخاط أو دمع أو لعاب بعد موته بلا ذكاة شرعية، يكون نجساً، إذا كانت ميتة الحيوان نجسة. ومن الطاهر: بَلْغم: وهو ما يخرج من الصدر منعقداً كالمخاط، وكذا ما يسقط من الدماغ من آدمي أو غيره. ومنه: الصفراء: وهي ماء أصفرملتحم، يخرج من المعدة يشبه الصبغ الزعفراني، لأن المعدة عندهم طاهرة، ما لم يستحل إلى فساد كالقيء المتغير. ومن الطاهر: ميتة الآدمي، ولو كان كافراً على الصحيح، وميتة ما لا دم له من جميع هوام الأرض، كعقرب وجندب وخنفس، وجراد، وبرغوث، بخلاف ميتة القمل، والوزغ (غراب الزرع) والسحالي من كل ماله لحم ودم، تكون نجسة، ولكن لا يؤكل الجراد إلا بما يموت به من ذكاة ونحوها. أما دود الفاكهة والمِش ¬
(الجبن المعتق في اللبن والملح)، فيؤكل قطعاً ولو بدون ذكاة. ويعفى عن القملتين والثلاث للمشقة. ومنه: ميتة الحيوان البحري من السمك وغيره، ولو طالت حياته بالبر كتمساح وضفدع وسلحفاة بحرية، ولو على صورة الخنزير والآدمي. ومنه: جميع ما ذُكِّي بذبح أو نحر أو عقر من غير مُحَّرم الأكل. أما محرم الأكل كالخيل والبغال والحمير، فإن الذكاة لا تطهره على مشهور المذهب (¬1) كما قرر الدردير والصاوي، وكذا الكلب والخنزير لا تطهره الذكاة، فتكون ميتة ما ذكر نجسة، ولو ذكي. ومن الطاهر: الشعر والوبر والصوف ولو من خنزير، وكذا زغب الريش: وهو ما اكتنف القصبة من الجانبين. ومنه: الجماد إلا المسكر، كما بينت في الأعيان المتفق على طهارتها، أما المسكر فنجس سواء أكان خمراً أم من نقيع الزبيب أو التمر ونحوه. وأما المخدر كالحشيشة والأفيون والسيكران، فطاهر لأنه من الجماد، ويحرم تعاطيه لتغييبه العقل، ولايحرم التداوي به في ظاهر الجسد. ومنه: لبن الآدمي ولو كافراً، ولبن غير محرم الأكل، ولو مكروهاً كالهر والسبع، أما لبن محرم الأكل كالخيل والبغال والحمير فهو نجس. ومنه: فضلة الحيوان المباح الأكل، من روث وبعر وبول وزبل دجاج وحمام وجميع الطيور، مالم يستعمل النجاسة؛ فإن استعملها أكلاً أو شرباً، ففضلته نجسة. ¬
الشافعية
والفأرة من المباح أكله، ففضلتها طاهرة، إن لم تصل للنجاسة، ولو شكاً؛ لأن شأنها استعمال النجاسة كالدجاج. بخلاف الحمام، فلا يحكم بنجاسة فضلته، إلا إذا تحقق أو ظن استعمالها للنجاسة. ومن الطاهر: مرارة المذكَّى غير محرم الأكل من مباح أو مكروه. والمراد بها: الماء الأصفر الكائن في الجلدة المعلومة للحيوان. ومنه: القَلَس: وهو ما تقذفه المعدة من الماء عند امتلائها. والقيء طاهر ما لم يتغير عن حالة الطعام بحموضة أو غيرها، فإن تغير فنجس. ومنه: المسك وفأرته: وهي الجلدة المتكون فيها. وكذا الخمر إذا خلل بفعل فاعل أو حُجِّر أي صار كالحجر في اليبس أو تخلل بنفسه أو تحجَّر بنفسه، ويطهر معه وعاؤه وما وقع فيه. ومنه: زرع سقي بنجس، لكن يغسل ظاهره المتنجس. ومن الطاهر: رماد النجس، كالزبل والروث النجسين، والوقود المتنجس فإنه يطهر بالنار. وكذا دخان النجس طاهر على المعتمد. ومنه: الدم غير المسفوح، أي الجاري من المذكى: وهو الباقي بالعروق، أو في قلب الحيوان، أو ما يرشح من اللحم؛ لأنه كجزء المذكى، وكل مذكى وجزئه طاهر. لكن ما بقي على محل الذبح هو من باقي المسفوح،: نجس، وكذا ما يوجد في بطن المذبوح من الدم بعد السلخ: نجس، لأنه جرى من محل الذبح إلى البطن، فهو من المسفوح. وقال الشافعية (¬1): الحيوان كله طاهر إلا الكلب والخنزير وفرع كل منهما، والجماد كله طاهر إلا المسكر. ¬
والعلقة (دم غليظ) والمضغة (لحمة صغيرة) ورطوبة الفرج (وهي ماء أبيض متردد بين المذي والعرق) من كل حيوان طاهر، ولو غير مأكول، من آدمي أو غيره: طاهرة. ومن الطاهر: لبن المأكول، ولو ذكراً صغيراً ميتاً، وإنفحته (¬1) إن أُخذت منه بعد ذبحه، ولم يطعم غير لبن ولو نجساً. ومترشح كل حيوان طاهر كعرق ولعاب ومخاط وبلغم، إلا المتيقن خروجه من المعدة. وماء قروح ونَفَط (بثور) لم يتغير، والبيض المأخوذ من حيوان طاهر ولو من ميتة إن كان متصلباً، ولو من غير مأكول، ولو استحالت البيضة دماً، وبزر القز: وهو البيض الذي يخرج منه دود القز. ومنه ميتة الحيوان البحري وإن لم يسمَّ سمكاً إلا التمساح والضفدع والحية فإنها نجسة. أما ميتة الجراد فهي طاهرة، وأما ميتة غيره من الحيوان البري الذي ليس له دم يسيل كالذباب والنمل والبرغوث فهي نجسة. ومنه: المسك وفأرته المنفصلة في حياته، أو بعد ذكاته. ومنه: الزَّبَاد (نوع من الطيب يؤخذ من حيوان كالسنور) لا ما فيه من شعر السنور البري، والعنبر (هو نبت أو روث بحري وهو الطيب المعروف) وإن ابتلعه حوت، ما لم يستحل. ومن الطاهر إجماعاً كما بينت: شعر أو صوف أو ريش أو وبر الحيوان المأكول، ولو أخذ نتفاً بعد التذكية، أو في حال الحياة. أما لو أخذ بعد الموت فنجس، كما أن الشعر المجزوز من حيوان غير مأكول: نجس كميتته. ويعفى عن قليل من دخان النجاسة، وعن اليسير عرفاً من شعر نجس من غير كلب أو خنزير، كما يعفى عن كثير الشعر من مركوب لعسر الاحتراز عنه. ويعفى عن روث سمك في ماء ما لم يغيره لتعذر الاحتراز عنه. ويعفى ¬
الحنابلة
عن قليل بخار النجاسة المتصاعد بواسطة نار نجس. أما البخار الخارج من نجاسة الكنيف، والريح الخارج من الدبر، فطاهر. والثمر والشجر والزرع النابت من نجاسة، أو سقيت بماء نجس: طاهر، لكن يطهر ظاهر الزرع النابت على نجاسة بالغسل. وقال الحنابلة (¬1): الطاهر: دم عِرْق مأكول بعدما يخرج بالذبح، وما في خلال اللحم؛ لأنه لا يمكن التحرز منه، ودم السمك وبوله؛ لأنه لو كان نجساً لتوقفت إباحته على إراقته بالذبح، ولأنه يستحيل ماء، ولأنه كالكبد. ودم الشهيد، ولو كثر إذا لم ينفصل عنه. ودم بق وقمل وبراغيث وذباب ونحوها من كل ما لا نفس له سائلة. والكبد والطحال من مأكول. لحديث: «أحلت لنا ميتتان ودمان». ودود القز وبزره. والمسك وفأرته (سرة الغزال). والعنبر (¬2)، لما ذكر البخاري عن ابن عباس: «العنبر شيء دسره البحر» أي دفعه ورمى به، وهو الطيب المعروف. وما يسيل من فم وقت النوم، والبخار الخارج من الجوف، لأنه لا تظهر له صفة بالمحل، ولا يمكن التحرز منه. ¬
والبلغم ولو أزرق، وسواء أكان من الرأس أم الصدر أم المعدة، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم فيما يرويه مسلم أشار بمسحه في الثوب أثناء الصلاة. وبول ما يؤكل لحمه، أما العلقة التي يخلق منها الآدمي أو يخلق منها حيوان طاهر، فإنها نجسة؛ لأنها دم خارج من الفرج. وكذلك البيضة المذرة (أي الفاسدة) أو البيضة التي صارت دماً: نجسة، لأنها أي الأخيرة في حكم العلقة. ومن الطاهر: الدم والعرق واللعاب والمخاط من حيوان يؤكل، أو من غيره إذا كان مثل الهر أو الفأر أو أقل منه، وألا يكون متولداً من النجاسة. ومنه: ميتة الحيوان البحري، وإن لم يسم سمكاً، إلا التمساح والضفدع والحية، فإنها نجسة، كما قال الشافعية. كما أن ميتة الحيوان البري ما عدا الجراد الذي ليس له دم يسيل كالذباب والنمل والبرغوث نجسة، كما قال الشافعية. ومن الطاهر: الشعر ونحوه من كل حيوان مأكول اللحم حياً كان أو ميتاً، أو من غير مأكول اللحم إذا كان قدر الهر فأقل، ولم يتولد من نجاسة، لكن أصول الشعر والريش نجسة مطلقاً.
الفصل الثاني: النجاسة
الفَصْلُ الثَّاني: النَّجاسة وفيه مباحث أربعة: المبحث الأول ـ أنواع النجاسة إجمالاً وحكم إزالتها: النجاسة: ضد الطهارة، والنَّجَس ضد الطاهر، والأنجاس جمع نَجِس: وهو اسم لعين مستقذرة شرعاً. ويطلق على النجس الحكمي والحقيقي. ويختص الخبث بالحقيقي، ويختص الحدث بالحكمي. والنجس بفتح الجيم: اسم، وبكسرها صفة. وتنقسم النجاسة إلى قسمين: حقيقية، وحكمية. فالنجاسة الحقيقية: هي لغة: العين المستقذرة كالدم والبول والغائط، وشرعاً: هي مستقذر يمنع من صحة الصلاة حيث لا مرخص. والنجاسة الحكمية: هي أمر اعتباري يقوم بالأعضاء يمنع من صحة الصلاة حيث لا مرخص. ويشمل الحدث الأصغر الذي يزول بالوضوء، والحدث الأكبر (الجنابة) الذي يزول بالغسل. والنجاسة الحقيقية أنواع: إما مغلظة أو مخففة، وإما جامدة أو مائعة، وإما مرئية أو غير مرئية.
المطلب الأول ـ النجاسات المتفق عليها والمختلف فيها
وأما حكم إزالة النجاسة غير المعفو عنها: عن الثوب والبدن والمكان للمصلي: فواجب عند جمهور الفقهاء غير المالكية، لقوله تعالى: {وثيابك فطهر} [المدثر:4/ 74]. وهناك قولان مشهوران في مذهب مالك (¬1): الوجوب والسنية، وذلك حالة التذكر والقدرة والتمكن، والمعتمد المشهور هو السنية، إلا أن فروع المذهب بنيت على قول الوجوب، فإن صلى المرء بالنجاسة عامداً قادراً على إزالتها، أعاد صلاته أبداً، وجوباً، لبطلانها. وعلى القول المشهور بأن إزالة النجاسة سنة إن ذكر وقدر، تندب الإعادة، وعلى كلا القولين: تندب الإعادة للناسي، وغير العالم بوجود النجاسة، والعاجز عن إزالتها. ويشمل هذا المبحث المطلبين الآتيين: المطلب الأول ـ النجاسات المتفق عليها والمختلف فيها: أولاً ـ النجاسات المتفق عليها في المذاهب: أجمع الفقهاء على نجاسة الأنواع التالية (¬2): 1ً - لحم الخنزير: وإن كان بذبحه شرعاً؛ لأنه بالنص القرآني نجس العين، فيكون لحمه وجميع أجزائه من شعر وعظم وجلد ولو مدبوغ نجساً. والمعتمد عند المالكية: أن الخنزير الحي وعرقه ودمعه ومخاطه ولعابه طاهر. ¬
- الدم
2ً - الدم: دم الآدمي غير الشهيد ودم الحيوان غير المائي، الذي انفصل منه حياً أو ميتاً، إذا كان مسفوحاً (جارياً) كثيراً. فيخرج دم الشهيد ما دام عليه، ودم السمك ودم الكبد والطحال والقلب، وما يبقى في عروق الحيوان بعد الذح ما لم يسل، ودم القمل والبرغوث والبق وإن كثر عند الحنفية. والدم المسفوح نجس ولو كان عند المالكية والشافعية من سمك وذباب وقراد. ويترتب على هذا الخلاف: أكل الفسيخ (السمك المملح) الذي يوضع بعضه على بعض، ويسيل دمه من بعضه إلى بعض، لا يؤكل منه عند الشافعية والراجح عند المالكية إلا الصف الأعلى أوالمشكوك في كونه من الأعلى أو من غيره. وأما عند الحنفية وابن العربي من المالكية: فيؤكل كله؛ لأن الخارج من السمك ليس بدم، بل رطوبة، وحينئذ فهو طاهر (¬1). 3ً - بول الآدمي وقيئه (¬2) وغائطه: إلا بول الصبي الرضيع، فيكتفي برشه عند الشافعية والحنابلة مع أنه نجس. وكذلك بول الحيوان غير المأكول اللحم وغائطه وقيئه، إلا خرء الطيور وبول الفأر والخفاش عند الحنفية، لأن الفأر لا يمكن التحرز عنه، والخفاش يبول في الهواد، فيعفى عنهما في الثياب والطعام فقط دون ماء الأواني، وما اجتره الحيوانات نجس. 4ً - الخمر: نجسة عند أكثر الفقهاء، لقوله تعالى: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان} [المائدة 5/ 90] وقال بعض المحدثين بطهارتها. والخمر تشمل كل مسكر مائع عند الجمهور والمعتمد عند الحنفية. ¬
- القيح
5ً - القيح: وهو دم فاسد، لا يخالطه دم، وهو نجس لأنه دم مستحيل. ومثله الصديد: وهو ماء رقيق يخالطه دم. والنجس منهما: هو الكثير، ويعفى عن القليل. 6 ً - المَذْي والوَدْي: والمذي هو ماء أبيض رقيق يخرج عند ثوران الشهوة أو تذكرالجماع بلا تدفق، وهو نجس للأمر بغسل الذكر منه والوضوء في حديث علي رضي الله عنه، قال: «كنت رجلاً مذَّاء، فاستَحَيْت أن أسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأمرت المقداد بن الأسود فسأله، فقال: فيه الوضوء، والمسلم: يغسل ذكره ويتوضأ» (¬1). والوَدْي: ماء أبيض كدر ثخين يخرج عقب البول، أوعند حمل شيء ثقيل. وهو نجس؛ لأنه يخرج مع البول أو بعده، فيكون له حكمه (¬2). والرمل أو الحصاة التي تخرج عقب البول: إن أخبر طبيب عدل بأنها منعقدة من البول فهي نجسة، وإلا فهي متنجسة تطهر بالغسل (¬3). 7ً - لحم ميتة الحيوان غير المائي الذي له دم سائل، مأكول اللحم أو غير المأكول، كالكلب والشاة والهرة والعصفور ونحوها. ومثله: جلد الميتة إن لم يدبغ. هذا عند الحنفية. وقال غيرهم: ميتة غير الآدمي يجميع أجزائها من عظم وشعر وصوف ووبر وغير ذلك نجسة، لأن كلاً منها تحله الحياة. ¬
- لحوم الحيوان غير المأكول، وألبانه؛
8ً - لحوم الحيوان غير المأكول، وألبانه؛ لأنها متولدة من اللحم فتأخذ حكمه. 9ً - الجزء المنفصل أو المقطوع من الحي في حال حياته كاليد والألية، إلا الشعر وما في معناه كالصوف والوبر والريش، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ـ أي المقطوع ـ ميت» (¬1). ثانياً ـ النجاسات المختلف فيها: اختلف الفقهاء في حكم نجاسة بعض الأشياء: 1ً - الكلب: الأصح عند الحنفية، أن الكلب ليس بنجس العين؛ لأنه ينتفع به حراسة واصطياداً، أما الخنزير فهو نجس العين، لأن الهاء في الآية القرآنية: {فإنه رجس} [الأنعام145/ 6] منصرف إليه، لقربه. وفم الكلب وحده أو لعابه ورجيعه هو النجس، فلا يقاس عليه بقية جسمه، فيغسل الإناء سبعاً بولوغه فيه (¬2)، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً» ولأحمد ومسلم: «طُهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب» (¬3). وقال المالكية (¬4): الكلب مطلقاً سواء أكان مأذوناً في اتخاذه ككلب الحراسة والماشية، أم لا، طاهر، والولوغ لا غيره كما لو أدخل رجله أو لسانه بلا تحريك، ¬
- ميتة الحيوان المائي، والحيوان الذي لا دم له سائل
أوسقط لعابه، هو الذي يغسل من أجله تعبّداً سبع مرات، على المشهور عندهم. وقال الشافعية والحنابلة (¬1): الكلب والخنزير وما تولد منهما من الفروع وسؤره وعرقه نجس ويغسل ما تنجس منه سبع مرات إحداهن بالتراب، لأنه إذا ثبتت نجاسة فم الكلب بنص الحديث السابق: «طهور إناء أحدك ... »، والفم أطيب أجزائه، لكثرة ما يلهث، فبقيته أولى. وفي حديث آخر رواه الدارقطني والحاكم: «أنه صلّى الله عليه وسلم دعي إلى دار قوم، فأجاب، ثم دعي إلى دار أخرى فلم يجب، فقيل له في ذلك، فقال: إن في دار فلان كلباً، قيل له: وإن في دار فلان هرة، فقال: إن الهرة ليست بنجسة» فأفهم أن الكلب نجس. 2ً - ميتة الحيوان المائي، والحيوان الذي لا دم له سائل: اتفق أئمة المذاهب على طهارة ميتة الحيوان المائي إذا كان سمكاً ونحوه من حيوان البحر، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «أحلت لنا ميتتان ودمان: السمك والجراد، والكبد والطحال» (¬2) ولقوله عليه السلام في البحر: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» (¬3). واختلف الفقهاء في ميتة الحيوان الذي لا دم له سائل، وعباراتهم في الميتة مطلقاً ما يأتي: ¬
قال الحنفية (¬1): موت ما يعيش في الماء فيه لا يفسده أي لا ينجسه، كالسمك واضفدع والسرطان، لكن لحم الميتة ذات الدم السائل وجلدها قبل الدبغ نجس. وما لا دم له سائل إذا وقع في الماء لا ينجسه كابق والذباب والزنابير والعقرب ونحوها، لحديث الذباب: «إذا وقع الذباب في شراب أحدكم، فليغمسه، ثم لينزعه فإن في إحدى جناحيه داء وفي الآخر شفاء» (¬2) وبه يتبين أن ميتة الحيوان المائي وما لا دم له طاهرة عند الحنفية. ومثلهم قال المالكية (¬3): ميتة البحر وما لا دم له طاهرة. وقال الشافعية والحنابلة (¬4): ميتة السمك والجراد ونحوهما من حيوان البحر طاهرة، وأما ميتة ما لا دم له سائل كالذباب والبق والخنافس والعقارب والصاصر ونحوها، فهي نجسة عند الشافعية، طاهرة عند الحنابلة، وميتة حيوان البحر الذي يعيش في البر كالضفدع والتمساح والحية، نجسة عند الشافعية والحنابلة. إلا أن الشافعية قالوا: ميتة دود نحو خل وتفاح نجسة، لكن لا تنجسه لعسر الاحتراز عنها، ويجوز أكله معه، لعسر تمييزه. وقال الحنابلة: ما لا نفس (دم) له سائلة: إن تولد من الطاهرات فهو طاهر حياً وميتاً، وأما إن تولد من النجاسات كدود الحَشّ (البستان) وصراصره فهو نجس، حياً وميتاً؛ لأنه متولد من النجاسة، فكان نجساً كولد الكلب والخنزير. ¬
- أجزاءالميتة الصلبة التي لادم فيها
والخلاصة: أن ميتة الحيوان المائي وما لا دم له طاهرة عند الفقهاء إلا الشافعية فيقولون بنجاسة ميتة ما لا دم له سائل، لقوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة} [المائدة 5/ 3] والميتة عند الشافعية: مازالت حياته، لابذكاة شرعية، كذبيحة المجوسي، والمُحرم (بضم الميم)،وماذبح بالعظم، وغيرالمأكول إذا ذبح. وكذلك قال المالكية: جميع ما ذكِّي (ذبح) بذبح أونحر أوعقرمن غيرمحرم الأكل طاهر، أما ماحرم أكله كالحميروالبغال، والخيل عندهم، فإن الذكاة لاتعمل فيه وكذا الكلب والخنزير لاتعمل فيه. وكذا الكلب والخنزير لاتعمل فيهما الذكاة، فميتة ماذكر نجسة. 3ً - أجزاءالميتة الصلبة التي لادم فيها: كالقرن والعظم والسن ومنه عاج الفيل والحافر والخف والظلف والشعر والصوف والعصب والإنفحة (¬1) الصلبة: طاهرة ليست بنجسة عند الحنفية (¬2)،لأن هذه الأشياء ليست بميتة؛ لأن الميتة من الحيوان شرعا: ما زالت حياته ,لابصنع إنسان، أوبصنع غيرمشروع، ولاحياة في هذه الأشياء، فلا تكون ميتة. ولأن نجاسة الميتات لما فيها من الدماءالسائلة والرطوبات النجسة، ولم توجد في هذه الأشياء. وبناءعليه يكون الجزء المقطوع من هذه الأشياء في حال الحياة طاهراً. وأما الإنفحة المائعة واللبن فطاهران عندأبي حنيفة، لقوله تعالى: {وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين} [النحل 16/ 66]. وقال الصاحبان ـ وقولهما هو ¬
- جلد الميتة
الأظهر ـ: هما نجسان؛ لأن اللبن وإن كان طاهراً بنفسه، لكنه صار نجساً لمجاورة النجس. وقال الجمهور غير الحنفية (¬1):أجزاء الميتة كلها نجسة، ومنها الإنفحة واللبن إلا إذا أخذا من الرضيع عند الشافعية؛ لأن كلاً منها تحلة الحياة، إلا أن الحنابلة قالوا: صوف الميتة وشعرها طاهر، لما رواه الدارقطني عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «لابأس بمسك الميتة إذا دبغ، وصوفها وشعرها إذا غسل» لكنه حديث ضعيف. كما أن المالكية استثنوا زغب الريش والشعر، فقالوا بطهارتهما، لأنه ليس بميتة، بخلاف العظم فإنه ميتة. ورجح بعض المالكية الكراهة التنزيهية لناب الفيل الميت المسمى بالعاج، وكذا قصب الريش من حي أو ميت: وهو الذي يكتنفه الزغب. والخلاصة: أن الفقهاء ما عدا الشافعية يقولون بطهارة شعر الميتة وصوفها وريشها. 4ً - جلد الميتة: قال المالكية والحنابلة في المشهور عندهم (¬2): جلد الميتة نجس، دبغ أو لم يدبغ، لأنه جزء من الميتة، فكان محرماً لقوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة} [المائدة 5/ 3] فلم يطهر بالدبغ كاللحم، وللأحاديث النبوية الواردة في ذلك، منها: «لا تنتفعوا من الميتة بشيء» (¬3)، ومنها كتابه صلّى الله عليه وسلم إلى جهينة: «إني كنت ¬
رخصت لكم في جلود الميتة، فإذا جاءكم كتابي هذا، فلا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولاعصب» (¬1) وفي لفظ: «أتانا كتاب رسول االله صلّى الله عليه وسلم قبل وفاته بشهر أو شهرين» وهو ناسخ لما قبله، لأنه في آخر عمر النبي صلّى الله عليه وسلم. وتأول المالكية حديث «أيما إهاب ـ أي جلد ـ دبغ فقد طهر» بأنه في مشهور المذهب محمول على الطهارة اللغوية، لا الشرعية. ومثل ذلك: إذا ذبح ما لا يؤكل لحمه، يكون جلده نجساً، دبغ أو لم يدبغ. وقال الحنفية والشافعية (¬2): تطهر الجلود النجسة بالموت وغيره، كالمذبوح غير المأكول اللحم بالدباغ، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «أيما إهاب دبغ فقد طهر» (¬3) ورواه مسلم بلفظ: «إذا دبغ الإهاب فقد طهر» وهذا هو الراجح لصحة هذا الحديث، ولأن الدبغ يقطع الرطوبات ويزيل النجاسات، ويؤيده حديث البخاري ومسلم عن ابن عباس، قال: «تُصُدِّق على مولاة لميمونة بشاة، فماتت، فمر بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: هلا أخذتم إهابها فدبغتموه، فانتفعتم به؟ فقالوا: إنها ميتة؟ قال: إنما حرم أكلها». وفي لفظ، قال: «يُطَهِّرها اماء والقَرَظ» قال النووي في شرح مسلم: يجوز ¬
- بول الصبي الرضيع الذي لم يطعم غير اللبن
الدباغ بكل شيء ينشف فضلات الجلد ويطيبه ويمنع من ورود الفساد عليه كالشَّت (من جواهر الأرض يشبه الزاج) والقرظ وقشور الرمان وغير ذلك من الأدوية الطاهرة، ولا يحصل بالشمس إلا عند الحنفية، ولا بالتراب والرماد والملح على الأصح. أي أن الحنفية يجيزون الدبغ الحقيقي بمواد كيماوية، والدبغ الحكمي كالتتريب والتشميس؛ لأن كل ذك مجفف قالع مطهر، كما قدمنا سابقاً. 5ً - بول الصبي الرضيع الذي لم يطعم غير اللبن: قرر الشافعية والحنابلة (¬1): أن ما تنجس ببول أو قيء صبي لم يَطْعم (يتناول قبل مضي حولين) غير لبن للتغذي (لا تحنيكه بنحو تمر حين الولادة)، ينضح، أما الطفلة الصبية والخنثى فلا بد من غسل موضع بولهما، بإسالة الماء عليه، عملاً بالأصل في نجاسة الأبوال. واستثناء الصبي بسبب كثرة حمله على الأيدي، مأخوذ من خبر الشيخين: عن أم قيس بنت مِحْصَن أنها: «أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام، فأجلسه رسول الله صلّى الله عليه وسلم في حِجْره، فبال على ثوبه، فدعا بماء، فنضحه ولم يغسله» ولخبر الترمذي وحسنه: «يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام» (¬2) وفرّق بينهما بأن الائتلاف بحمل الصبي أكثر، فخفف في بوله، وبأن بوله أرقّ من بولها، فلا يلصق بالمحل لصوق بولها به، وألحق بها الخنثى. وهذا الرأ ي هو الراجح، لصحة الحديث الخاص والوار فيه، فيقدم على الحديث العام الآمر بالاستنزاه من البول. ¬
- بول الحيوان المأكول اللحم وفضلاته ورجيعه
وقرر الحنفية والمالكية (¬1): نجاسة بول أو قيء الصبي والصبية، ووجوب الغسل منه، عملاً بعموم الأحاديث الآمرة بالاستنزاه من البول: «استنزهوا من البول، فإن عامة عذاب القبر منه» (¬2). إلا أن المالكية قالوا: يعفى عما يصيب ثوب المرضعة أو جسدها من بول أو غائط الطفل، سواء أكانت أماً أم غيرها، إذا كانت تجتهد في درء النجاسة عنها حال نزولها، بخلاف المفرِّطة، لكن يندب لها غسله إن تفاحش. 6ً - بول الحيوان المأكول اللحم وفضلاته ورجيعه: هناك اتجاهان فقهيان: أحدهما القول بالطهارة، والآخر القول بالنجاسة، الأول للمالكية والحنابلة، والثاني للحنفية والشافعية. قال المالكية والحنابلة (¬3): بول ما يؤكل لحمه من الحيوان كالإبل والبقر والغنم والدجاج والحمام وجميع الطيور، ورجيعه وفضلاته (روثه): شيء طاهر، واستثنى المالكية التي تأكل النجاسة أو تشربها، فتكون فضلته نجسة، كما أن ما يكون منها مكروهاً، أبوالها وأرواثها مكروهة. وهكذا فإن أبوال سائر الحيوانات تابعة للحومها، فبول الحيوان المحرم الأكل نجس، وبول الحلال طاهر، وبول المكروه مكروه. ¬
ودليلهم على الطهارة: إباحته عليه الصلاة والسلام للعُرَنيين شرب أبوال الإبل وألبانها (¬1)،ولأن إباحة الصلاة في مرابض الغنم دليل على طهارة أرواثها وأبوالها (¬2). وقال الشافعية والحنفية (¬3): البول والقيء والروث من الحيوان أو الإنسان مطلقاً نجس، لأمره صلّى الله عليه وسلم بصب الماء على بول الأعرابي في المسجد (¬4)، ولقوله صلّى الله عليه وسلم في حديث القبرين: «أما أحدهما فكان لا يستنزه من البول» (¬5)، ولقوله صلّى الله عليه وسلم السابق: «استنزهوا من البول» وللحديث السابق: «أنه صلّى الله عليه وسلم لما جيء له بحجرين وروثة ليستنجي بها، أخذ الحجرين ورد الروثة، وقال: هذا ركس، والركس: النجس». والقيء وإن لم يتغير وهو الخارج من المعدة: نجس؛ لأنه من الفضلات المستحيلة كالبول. ومثله البلغم الصاعد من المعدة، نجس أيضاً، بخلاف النازل من الرأس أو من أقصى الحلق والصدر، فإنه طاهر. وأما حديث العرنيين وأمره عليه السلام لهم بشرب أبوال الإبل، فكان للتداوي، والتداوي بالنجس جائز عند فقد الطاهر الذي يقوم مقامه. ¬
إلا أن الحنفية فصلوا في الأمر، فقالوا: بول ما يؤكل لحمه نجس نجاسة مخففة، فتجوز الصلاة معه إذا أصاب المرء ما يبلغ ربع الثوب. وهو رأي الشيخين أبي حنيفة وأبي يوسف. وأما روث الخيل وخِثْي البقر، فنجس نجاسة مغلظة عند أبي حنيفة مثل غير مأكول اللحم، لأنه صلّى الله عليه وسلم رمى الروثة، وقال: هذا رجس أو ركس. ونجس عند الصاحبين نجاسة مخففة، فلا يمنع صحة الصلاة بالثوب المتنجس به حتى يصبح كثيراً فاحشاً، لأن للاجتهاد فيه مساغاً، ولأن فيه ضرورة لامتلاء الطرق به، ورأي الصاحبين هو الأظهر لعموم البلوى بامتلاء الطرق بها. والكثير الفاحش: ما يستكثره الناس ويستفحشونه، كأن يبلغ ربع الثوب. وعلى هذا: يكون بول ما يؤكل لحمه، ورجيع (نجو) الكلب، ورجيع ولعاب سباع البهائم كالفهد والسبع والخنزير، وخرء الدجاج والبط والأوز لنتنه، من النجاسة الغليظة بالاتفاق، ويعفى قدر الدرهم منها. وبول الفرس، وبول ما يؤكل لحمه، وخرء طير لا يؤكل كالصقر والحدأة في الأصح لعموم الضرورة، من النجاسة الخفيفة، ويعفى منها ما دون ربع الثوب، أو البدن أي ما دون ربع العضو المصاب كاليد والرجل إن كان بدناً. وأما الربع فأكثر فهو كثير فاحش. وأما خرء الطير المأكول اللحم الذي يذرق (أو يزرق) في الهواء، كالحمام، فهو طاهر عند الحنفية، لعموم البلوى به بسبب امتلاء الطرق والخانات بها. كما أن الإمام محمد حكم آخراً بطهارة بول ما يؤكل لحمه ومنه الفرس، وقال: لا يمنع الروث وإن فحش، لما رأى من بَلْوى الناس من امتلاء الطرق والخانات بها، لما
- المني
دخل الرِّي مع الخليفة. وقاس المشايخ عليه طين بخارى؛ لأن ممشى الناس والدواب واحد (1). وهذا يتفق مع رأي مالك وأحمد. وقال الشافعية (2): يعفى عن ذرق الطير إذا كثر لمشقة الاحتراز عنه. وأرى الأخذ بالأيسر في هذه الأمور ما لم يكثر النجس. 7ً - المني: وهو ما يخرج عند اللذة الكبرى عند الجماع ونحوه. وفي نجاسته وطهارته رأيان إن كان من الآدمي. وأما مني غير الآدمي فهو نجس عند الحنفية والمالكية، طاهر عند الحنابلة إن كان من مأكول اللحم، والأصح عند الشافعية: طهارة مني غير الكلب والخنزير وفرع أحدهما. وفي مني الآدمي: قال الحنفية والمالكية (3): المني نجس يجب غسل أثره، إلا أن الحنفية قالوا: يجب غسل رَطْبه، فإذا جف على الثوب، أجزأ فيه الفرك. وأطلق المالكية الحكم بنجاسة المني ولو من مباح الأكل للاستقذار والاستحالة إلى فساد، ولأن أصله دم، ولا يلزم من العفو عن أصله العفو عنه، أي لا يلزم من العفو عن يسير الدم: (وهو دون الدرهم) العفو عن يسير المني، إذ ليس ما ثبت لأصل يثبت لفرعه. ------------------------------ (1) رد المحتار: 295/ 1 ومابعدها، اللباب شرح الكتاب:56/ 1. (2) مغني المحتاج:188/ 1. (3) الدر المختار:287/ 1 ومابعدها، اللباب شرح الكتاب:55/ 1، مراقي الفلاح: ص26، بداية المجتهد:79/ 1، الشرح الصغير:54/ 1، الشرح الكبير:56/ 1. ودليلهم حديث عائشة: «كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا كان
- يابساً، وأغسله إذا كان رطباً» (¬1). وفي رواية البخاري ومسلم من حديث عائشة: أنها كانت تغسل المني من ثوب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فيخرج، فيصلي، وأنا أنظر إلى بُقع الماء في ثوبه. ولأنه شبيه بالأحداث الخارجة من البدن، مما يدل على كونه نجساً. وقال الشافعية على الأظهر، والحنابلة (¬2): المني طاهر ويستحب غسله أو فركه إن كان مني رجل، لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها «أنها كانت تُحكَّ المني من ثوب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم يصلي فيه» (¬3). وفي رواية «كنت أحكه من ثوبه وهو يصلي فيه» (¬4). وقال ابن عباس: «امسحه عنك بإذخرة أو خرقة، فإنما هو بمنزلة المخاط والبصاق» (¬5). ويختلف عن البول والمذي بأنه بدء خلق آدمي. ورجح الشوكاني نجاسة المني فقال: «فالصواب أن المني نجس يجوز تطهيره بأحد الأمور الواردة» (¬6) أي بالغسل أو المسح أو الفرك. وأرجح القول بطهارته حتى لا يلزم منه القول بنجاسة أصل الإنسان، وتيسيراً على الناس، لكن يزال أثره ندباً، اتباعاً للسنة النبوية. ¬
- ماء القروح
ويلاحظ أن الحكم بطهارة المني مشروط بألا يسبقه المذي الذي يخرج عادة عند ثورة الشهوة، وبأن يكون العضو مغسولاً مسبقاً بالماء، فإن كان عليه أثر بول بتنشيفه بالورق كما عليه حال كثير من الناس اليوم، فإن المني يتنجس بسبب ما يختلط به من البول. والأولى تخصيص إزار (لباس) لحالات الجماع خروجاً من الخلاف. 8ً - ماء القروح: عدَّ الحنفية والمالكية (¬1) من النجاسات: القيح (وهو المِدَّة الخاثرة تخرج من الدمل) والصديد (وهو الماء الرقيق من المِدَّة، الذي قد يخالطه دم)، وماء القروح (المصل الأبيض): وهو كل ما سال من الجرح من نَفَط نار، أو جَرب أو حكة أو غير ذلك، لكن يعفى عن قليل الصديد والقيح كالدم. واتفق الشافعية والحنابلة (¬2) مع بقية الأئمة في الحكم بنجاسة القيح والصديد، لكن قرر الحنابلة أنه يعفى عن يسير دم وما تولد منه من قيح وغيره كصديد، وماء قروح، في غير مائع ومطعوم؛ لأن الإنسان غالباً لا يسلم منه، ولأنه يشق الاحتراز عنه، كأثر الاستجمار. وأما المائع والمطعوم فلا يعفى عن شيء من ذلك. وقدر اليسير المعفو عنه: هو الذي لم ينقض الوضوء، أي ما لا يفحش في النفس، ويعفى من القيح ونحوه أكثر مما يعفى عن مثله من الدم. والمعفو عنه إذا كان من حيوان طاهر من آدمي من غير سبيل، فإن كان من سبيل لم يعف عنه. ¬
- الآدمي الميت، وما يسيل من فم النائم
والمذهب قطعاً عند الشافعية: طهارة دم البَثَرات (خرَّاج صغير) ودم البراغيث وونيم الذباب، وماء القروح والنفاطات (أي الحروق) أو المتنفِّط الذي له ريح، أو لا ريح له في الأظهر، وموضع الفصد والحجامة، قليلاً كان أو كثيراً. والأظهر العفو عن قليل دم الأجنبي، أي عن دم الإنسان المنفصل عنه ثم العائد إليه. 9ً - الآدمي الميت، وما يسيل من فم النائم: عرفنا في أنواع المطهرات في الآدمي الميت قولين (¬1): قول الحنفية: إنه ينجس عملاً بفتوى بعض الصحابة (ابن عباس وابن الزبير) كسائر الميتات. وقول جمهور العلماء: إنه طاهر، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن المسلم لا ينجس». وأما الماء السائل من فم النائم وقت النوم فهو طاهر كما صرح الشافعية والحنابلة (¬2)، إلا أن الشافعية والمالكية قالوا: إن كان من المعدة كأن خرج منتناً بصفرة فنجس كالبلغم الصاعد من المعدة، فإن كان من غيرها أو شك في أنه منها أو لا، فإنه طاهر. وعد المالكية (¬3) من الطاهر: القَلَس، وهو ما تقذفه المعدة من الماء عند امتلائها، ما لم يشابه في التغير أحد أوصاف العَذِرة. ¬
المطلب الثاني ـ أنواع النجاسة الحقيقية
المطلب الثاني ـ أنواع النجاسة الحقيقية: للنجاسة الحقيقية تقسيمات عند الحنفية هي ما يأتي: التقسيم الأول ـ تقسيم النجاسة إلى مغلظة ومخففة (¬1): النجاسة المغلظة: ما ثبتت بدليل مقطوع به، كالدم المسفوح والغائط، والبول من غير مأكول اللحم، ولو من صغير لم يطعم، والخمر (¬2)، وخُرْء طير لايزرق في الهواء كدجاج وبط وإوز، ولحم الميتة وإهابها، ونجو (قذر) الكلب، ورجيع السباع ولعابها، والقيء ملء الفم، وكل ما ينقض الوضوء إذا خرج من الإنسان كالعذرة والمني والمذي والدم السائل. ويعفى منها في الصلاة مقدار الدرهم فما دونه: (وهو الدرهم الكبير المثقال، وفي المساحة: قدر عرض الكف في الصحيح)؛ لأن القليل لا يمكن التحرز عنه، وقدر القليل بالدرهم أخذاً عن موضع الاستنجاء، فإن زادت النجاسة عن الدرهم لم تجز الصلاة. والنجاسة المخففة: وهي ماتثبت بدليل غير مقطوع به، كبول مايؤكل لحمه، ومنه الفرس، وخرء طير لايؤكل، أما نجاسة البعر (للإبل والغنم) والروث (للفرس والبغل والحمار) والخِثْي (للبقر) فهي غليظة عند أبي حنيفة، وقال الصاحبان: خفيفة، ورأيهما هو الأظهر، لعموم البلوى بامتلاء الطرق بها، وطهرها محمد آخراً، وقال: لايمنع الروث وإن فحش. وفي عصرنا في الطرق المعبدة تعتبر النجاسة مخففة. ¬
التقسيم الثاني ـ تقسيم النجاسة إلى جامدة ومائعة
ويعفى من النجاسة المخففة في الصلاة: مقدار ربع جميع الثوب، إن كان المصاب ثوباً، وربع العضو المصاب كاليد والرجل، إن كان المصاب بدناً. وهذا التقديرمراعى فيه التيسير على الناس، سيما من لا رأي له من العوام. التقسيم الثاني ـ تقسيم النجاسة إلى جامدة ومائعة: النجاسة الجامدة: كالميتة والغائط. والمائعة: كالبول والدم المسفوح والمذي. التقسيم الثالث ـ تقسيم النجاسة إلى مرئية وغير مرئية (¬1): المرئية أو العينية: ما يكون مرئياً بالعين بعد الجفاف كالعذرة والدم، وطهارة النجاسة المرئية تكون بزوال عينها ولو بمرة على الصحيح؛ لأن النجاسة حلت المحل، باعتبار العين (الجِرْم)، فتزول بزوالها. وغير المرئية أو غير العينية: ما لا يكون مرئياً بعد الجفاف كالبول ونحوه، أي مالا تكون ذاته مشاهدة بحس البصر. وطهارته أن يغسل حتى يغلب على ظن الغاسل أن المحل قد طهر، وقدر ذلك لموسوس بثلاث مرات؛ لأن التكرار لا بد منه لاستخراج النجاسة، وإذا لم يقطع بزواله، فالمعتبر غالب الظن، كما في أمر الاجتهاد في القِبْلة، ولا بد من العَصْر في كل مرة، في ظاهر الرواية، لأنه هو المستخرِج. النجاسات عند غير الحنفية: يلاحظ أن هذه التقسيمات معروفة عند غير الحنفية، وأضاف إليها المالكية ¬
المبحث الثاني ـ المقدار المعفو عنه من النجاسة
تقسيماً آخر عندهم وهو: النجاسة المجمع عليها في المذهب، والمختلف فيها في المذهب (¬1). والنجاسات المجمع عليها في المذهب: ثماني عشرة: بول ابن آدم الكبير، ورجيعه، والمذي، والودي، ولحم الميتة، والخنزير وعظمهما، وجلد الخنزير مطلقاً، وجلد الميتة إن لم يدبغ، وما قطع من الحي في حال حياته إلا الشعر وما في معناه، ولبن الخنزيرة، والمسكر، وبول الحيوان المحرم الأكل، ورجيعه، والمني، والدم الكثير، والقيح الكثير، والأصح أن كل حي ولو كلباً أو خنزيراً طاهر، وكذا عرقه في المعتمد عند المالكية. والنجاسات المختلف فيها في المذهب المالكي ثماني عشرة: بول الصبي الذي لا يأكل الطعام، وبول الحيوان المكروه الأكل، وجلد الميتة إذا دبغ، وجلد المذكى المحرم الأكل، ولحمه، وعظمه، ورماد الميتة، وناب الفيل، ودم الحوت، والذباب، والقليل من دم الحيض، والقليل من الصديد، ولعاب الكلب، ولبن مالايؤكل لحمه غير الخنزير، ولبن مستعمل النجاسة، وعرق مستعمل النجاسة، وشعر الخنزير، والخمر إذا خللت. وتظهر ثمرة هذه التقسيمات في كيفية التطهير، وفي المقدار المعفو عنه. المبحث الثاني ـ المقدار المعفو عنه من النجاسة للفقهاء تقديرات للمعفو عنه من النجاسات لا مانع في تقديري من الأخذ بها دفعاً للحرج ومراعاة اليسر، وأهمها في كل مذهب ما يأتي: ¬
- مذهب الحنفية
1ً - مذهب الحنفية (¬1): حددوا المعفو عنه بحسب نوع النجاسة مغلظة أو مخففه: يعفى من النجاسة المغلظة أو المخففه: القدر القليل، دون الكثير، وقدروا القليل في النجاسة الجامدة المغلظة: بما دون الدرهم (975،2غم): وهو ما يزن عشرين قيراطاً، وبما دون مقعر الكف في النجاسة المائعة. وتكره الصلاة تحريماً في المشهور بالقدر القليل من النجاسة، مع كونه معفواً عنه. والقليل من النجاسة المخففة في الثياب: ما دون ربع الثوب، وفي البدن: مادون ربع العضو المصاب كاليد والرجل. كما يعفى عن القليل من بول أو خرء الهرة والفأرة، في الطعام والثياب للضرورة. وعن انتضاح غسالة لا تظهر مواقع قطرها في الإناء، وعن رشاش بول، كرؤوس الإبر، للضرورة، وإن امتلأ منه الثوب والبدن، لكن لو وقع في ماء قليل نجَّسه في الأصح، لأن طهارة الماء آكد، ومثله الدم الذي يصيب الجزار، وأثر الذباب الذي وقع على نجاسة. ومثله أيضاً روث الحمار وخِثْي البقر والفيل في حالة الضرورة والبلوى. ويعفى عما لا يمكن الاحتراز أو الامتناع عنه من غسالة الميت ما دام في تغسيله، لعموم البلوى. كما يعفى عن طين الشوارع، إلا إذا علم عين النجاسة للضرورة. ويعفى عن الدم الباقي في عروق الحيوان المذكى (المذبوح) لتعذر الاحتراز عنه، وعن دم الكبد والطحال والقلب، لأنه دم غير مسفوح، وعن الدم الذي لا ¬
- مذهب المالكية
ينقض الوضوء في الصحيح، وعن دم البق والبراغيث والقمل وإن كثر، وعن دم السمك في الصحيح وعن لعاب البغل والحمار، والمذهب طهارته، وعن دم الشهيد في حقه وإن كان مسفوحاً. ويعفى للضرورة عن بخار النجس وغباره ورماد هـ لئلا يحكم بنجاسة الخبز في سائر الأمصار، وعن ريح هبت على نجاسة فأصابت الريح الثوب، إلا إذا ظهر أثر النجاسة في الثوب. ويعفى عن بعر الإبل والغنم إذا وقع في البئر أو في الإناء ما لم يكثر كثرة فاحشة أو يتفتت، فيتلون به الماء. والقليل: هو ما يستقله الناظر إليه، والكثير: مايستفحشه الناظر إليه. وأما خرء الطيور المأكولة التي تذرق في الهواء، فهو طاهر، وإن لم تذرق فهو نجاسة مخففة. وهكذا فإن سبب العفو إما الضرورة، أو عموم البلوى، أو تعذر الاحتراز (الامتناع) عن النجس. 2ً - مذهب المالكية (¬1): يعفى عن القليل من دم الحيوان البري، وعن القليل من الصديد والقيح، وهو بمقدار الدرهم البغلي: وهو الدائرة السوداء الكائنة في ذراع البغل فدون. وذلك سواء أكان الدم ونحوه من نفسه أم من غيره، من آدمي أو حيوان ولو من خنزير، بثوب أو بدن أو مكان. ¬
ويعفى عن كل ما يعسر التحرز عنه من النجاسات بالنسبة للصلاة ودخول المسجد، لا بالنسبة للطعام والشراب، فإذا حل ذلك بطعام أو شراب نجَّسه، ولايجوز أكله وشربه، والمعفو عنه لمشقة الاحتراز ما يأتي: سلَس الأحداث: وهو ما خرج بنفسه من غير اختيار من الأحداث، كالبول والمذي والمني والغائط يسيل من المخرج بنفسه، فيعفى عنه، ولا يجب غسله للضرورة إذا لازم كل يوم، ولو مرة. وبلل الباسور (¬1) إذا أصاب البدن أو الثوب كل يوم ولو مرة. أما اليد أو الخرقة، فلا يعفى عن غسلها، إلا إذا كثر الرد بها أي إرجاع الباسور، بأن يزيد على المرتين كل يوم، وإلا وجب غسلها؛ لأن اليد لا يشق غسلها كالثوب والبدن. وما يصيب ثوب المرضعة أو جسدها من بول أو غائط طفلها، ولو لم يكن وليدها، إذا كانت تجتهد في درء النجاسة عنها حال نزولها، بخلاف المفرّطة. ومثلها الجزار والكنَّاف والطبيب الذي يعالج الجروح، ويندب لها ولأمثالها إعداد ثوب خاص للصلاة. وما يصيب ثوب المصلي أو بدنه أو مكانه من بول أو روث خيل أو بغال أو حمير، إذا كان ممن يزاول رعيها أو علفها أو ربطها، ونحو ذلك، لمشقة الاحتراز. أثر ذباب أو ناموس يقع على نجاسة (عَذِرة أو بول أو دم) بأرجله أو فمه، ثم يطير ويحط على ثوب أو بدن لمشقة الاحتراز. أثر الوشم الذي تعسر إزالته لضرورة (¬2). ¬
أثر موضع الحجامة إذا مسح بخرقة ونحوها، إلى أن يبرأ المحل، فيغسل، لمشقة غسله قبل برء الجرح، فإذا برأ غسل وجوباً أو ندباً على قولين. أثر الدمامل من المِدَّة السائلة إذا كثرت، سواء سالت بنفسها أو بعصرها، لأن كثرتها مظنة الاضطرار كالحكة والجرب. فإن كانت دملاً واحداً فيعفى عما سال منه بنفسه أو بعصر احتيج إليه. فإن عصر بغير حاجة لم يعف إلا عن قدر الدرهم دون مازاد عليه. دم البراغيث بما دون الدرهم، لا مازاد عنه، وخرء البراغيث ولو كثر. والقليل من ميتة القمل، ثلاث فأقل. الماء الخارج من فم النائم إذا كان من المعدة بحيث يكون أصفر منتناً، إذا لازم، فإن لم يلازم فهو نجس. طين المطر، وماؤه المختلط بنجاسة، إذا أصاب الثوب أو الرجل، ما دام طرياً في الطرق، ولو بعد انقطاع المطر، ما لم تغلب النجاسة على الطين بأن تكون أكثر منه يقيناً أو ظناً، وما لم تصب الإنسان عين النجاسة غير المختلطة بغيرها، وما لم يكن له دخل في الإصابة بشيء من الطين. فإن وجدت حالة من هذه الثلاث فلا عفو، ويجب الغسل، كما لا عفو بعد جفاف الطرق، لزوال المشقة. أثر الاستجمار بحجر أو ورق بالنسبة للرجل، إن كان غير زائد على المعتاد. أما إن كان منتشراً كثيراً، غسل الزائد على ما جرت العادة بتلويثه، ويعفى عن المعتاد. ويتعين الماء في الاستنجاء بالتبول من قبل المرأة، كما سأفصّل في بحث الاستنجاء.
- مذهب الشافعية
3ً - مذهب الشافعية (¬1): لا يعفى عن شيء من النجاسات إلا ما يأتي: ما لا يدركه البصر المعتدل كالدم اليسير والبول المترشش. القليل والكثير من دم البثرات والبقابيق والدماميل والقروح والقيح والصديد منها، ودم البراغيث والقمل والبعوض والبق ونحوه مما لا دم له سائل (¬2)، وموضع الحجامة والفصد، وونيم الذباب، وبول الخُفَّاش، وسلس البول، ودم الاستحاضة، وماء القروح والنفاطات (البقابيق) الذي له ريح، وما لا ريح له في الأظهر، لمشقة الاحتراز عنه. لكن إذا عصر البثرة أو الدمل أو قتل البرغوث أو فرش أوحمل الثوب الذي فيه ذلك المعفو عنه، عفي عن قليله فقط إذ لا مشقة في تجنبه، ولا يعفى عن جلد البرغوث ونحوه. كما يعفى في الأظهر عن قليل دم الأجنبي (¬3)، غير الكلب والخنزير، ومن الأجنبي: ما انفصل من بدنه ثم أصابه، وسبب العفو: هو المسامحة، أما دم الكلب ونحوه فلا يعفى عن قليله لغلظ حكمه. ويتحدد القليل والكثير بالعرف، ويعفى عن قليل الدم الذي يصيب ثوب الجزار، والدم الباقي على اللحم. ويلاحظ أن محل العفو عن سائر الدماء ما لم يختلط بأجنبي، فإن اختلط به ولو دم نفسه من موضع آخر لم يعف عن شيء منه. ¬
ويعفى عن أثر محل الاستجمار في حق صاحبه دون غيره، حتى ولو عرق محل الأثر وانتشر، ولم يجاوز محل الاستنجاء. ويعفى عما يتعذر الاحتراز عنه غالباً من طين الشارع المتيقن نجاسته، في زمن الشتاء، لا في زمن الصيف، إذا كان في أسفل الثوب (ذيله)، والرجل، دون الكم واليد، بشرط ألا تظهر عين النجاسة عليه، وأن يكون المرء محترزاً عن إصابتها بحيث لا يرخي ذيل ثيابه، وأن تصيبه النجاسة وهو ماش أو راكب، لا إن سقط على الأرض. فيكون ضابط القليل المعفو عنه: هو الذي لا ينسب صاحبه إلى سقطة على شيء، أو كبوة على وجهه، أو قلة تحفظ، فإن نسب إلى ذلك، فلا يعفى عنه. فإن لم يكن الطين متيقن النجاسة، وإنما يغلب على الظن اختلاطه بها كغالب الشوارع، فهو وأمثاله كثياب الخمارين والأطفال والجزارين والكفار الذين يتدينون باستعمال النجاسة، طاهر في الأصح عملاً بالأصل. وإن لم تظن نجاسته فهو طاهر قطعاً، كما أن ماء الميزاب الذي تظن نجاسته طاهر جزماً. ويعفى عن ميتة دود الفاكهة والخل والجبن المتخلقة فيها ما لم تخرج منه ثم تطرح فيه بعد موتها، وما لم تغيره، وعن الإنفحة المستعملة للجبن، والكحول المستخدم في الأدوية والعطور، وعن دخان النجاسة، وعن القليل من بخار الماء النجس المنفصل بواسطة النار، وعن الخبز المسخن أو المدفون في رماد نجس، وإن علق به شيء منه، وعن الثياب المنشورة على الحيطان المبنية برماد نجس، لمشقة الاحتراز. ويعفى عن الميتة التي لا دم لها سائل إذا وقعت بنفسها في مائع كالذباب والنحل والنمل، ولم تغير المائع الذي وقعت فيه. ويعفى عن خرء الطيور في الفرش والأرض إن شق الاحتراز عنه، ولم
- مذهب الحنابلة
يتعمد المشي عليه، ولم يكن أحد الجانبين رطباً، إلا للضرورة كأن يتعين محل المرور فيه. ويعفى عن قليل شعر نجس كشعرة أو شعرتين، من غير كلب أو خنزير أو ما تولد منهما أو من أحدهما مع غيره، فذلك منهما وإن قل غير معفو عنه. ويعفى عن كثير الشعر من مركوب لعسر الاحتراز عنه. ومن المعفو عنه: أثر الوشم (¬1)، وروث السمك في الماء إذا لم يغيره، والدم الباقي على اللحم أو العظم، ولعاب النائم الخارج من المعدة في حق المبتلى به، ومايصيب قائد الحيوان وسائسه ونحوهما من جرَّة البعير ونحوه من الحيوانات المجترة، وروث البهائم وبولها حين درس الحب، وروث الفأر في مجمع الماء في المراحيض إذا كان قليلاً ولم يغير أحد أوصاف الماء، وروث المحلوبة ونجاسة ثديها إذا وقع في اللبن حال حلبه، وأثر روث البهائم المختلط بالطين، الذي يصيب عسل خلايا النحل، ونجاسة فم الصبي عند إرضاعه أو تقبيله. 4ً - مذهب الحنابلة (¬2): لا يعفى عن يسير نجاسة، ولو لم يدركها الطرف (أي البصر) كالذي يعلق بأرجل ذباب ونحوه، لعموم قوله تعالى: {وثيابك فطهر} [المدثر:4/ 74]، وقول ابن عمر: «أمرنا أن نغسل الأنجاس سبعاً» وغير ذلك من الأدلة. ¬
إلا أنه يعفى عن يسير دم وقيح وصديد وماء قروح في غير مائع ومطعوم، لأنه يشق التحرز عنه، وذلك إذا كان من حيوان طاهر حال حياته، من آدمي أو غير آدمي مأكول اللحم كإبل وبقر، أولا كهر ونحوه من غير سبيل (قبل أو دبر) فإن وقع في مائع أو مطعوم، أو كان من حيوان نجس كالكلب والخنزير، والحمار والبغل، أو خرج من أحد السبيلين (القبل أو الدبر) حتى دم حيض ونفاس واستحاضة، فلايعفى فيه عن شيء من ذلك. ويعفى عن أثر الاستجمار (¬1) بعد الإنقاء واستيفاء العدد المطلوب في الاستجمار. وعن يسير طين شارع تحققت نجاسته لمشقة التحرز منه. وعن يسير سلس بول، مع كمال التحفظ منه، للمشقة. وعن يسير دخان نجاسة وغبارها وبخارها، ما لم تظهر له صفة في الشيء الطاهر، لعسر التحرز. وعن ماء قليل نجس بماء معفو عن يسيره. وعن النجاسة التي تصيب العين، ويتضرر المرء بغسلها. وعن أثر الدم الكثير ونحوه كالقيح الواقع على جسم صقيل بعد المسح؛ لأن الباقي بعد المسح يسير. ¬
المبحث الثالث ـ كيفية تطهير النجاسة الحقيقية بالماء
وعدوا من الطاهرات: دم العروق من مأكول اللحم، لأنه لا يمكن التحرز منه، ودم السمك، ودم الشهيد الذي عليه ولو كثر، ودم بق وقمل وبراغيث وذباب ونحوها من كل ما لا نفس له سائلة، والكبد والطحال من مأكول، لحديث: «أحل لنا ميتتان ودمان»، ودود القز وبزره، والمسك وفأرته: وهي سرَّة الغزال، والعنبر لقول ابن عباس ـ فيما ذكره البخاري: «العنبر شيء دسره البحر» أي دفعه ورمى به، وما يسيل من فم النائم وقت النوم، كما سبق بيانه، والبخار الخارج من الجوف، لأنه لا تظهر له صفة بالمحل، ولا يمكن التحرز منه، والبلغم ولو أزرق، سواء أكان من الرأس أم الصدر أم المعدة، لحديث مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً: «فإذا تنخع أحدكم، فليتنخع عن يساره، أو تحت قدمه، فإن لم يجد فليقل هكذا، فتفل في ثوبه، ثم مسح بعضه ببعض» ولو كانت النخامة نجسة لما أمر بمسحها في ثوبه، وهو في الصلاة. وبول سمك ونحوه مما يؤكل، كل ذلك طاهر. المبحث الثالث ـ كيفية تطهير النجاسة الحقيقية بالماء: المواضع التي تزال عنها النجاسة الحقيقية ثلاثة: هي الأبدان، والثياب، ومواطن الصلاة. وقد عرفنا في بحث المطهرات: أن الماء الطهور هو الأصل في إزالة النجاسة، لقوله صلّى الله عليه وسلم لأسماء بنت أبي بكر في كيفية تطهير ثوبها من الحيض: «تحتُّه، ثم تقرصه بالماء» (¬1). ¬
- العدد
وعرفنا أيضاً أن الرأي الراجح في النجاسة الحقيقية لا الحكمية عند الحنفية: هو جواز التطهير بالمائعات الأخرى غير الماء كماء الورد والخل وعصير الفواكه والنباتات، وأنه يمكن التطهير بمطهرات أخرى كثيرة هي (21) مطهراً عند الحنفية وافقهم في بعضها غيرهم، وخالفهم في البعض الآخر. وأما كيفية التطهير بالماء أو شروطه فهي ما يأتي (¬1): 1ً - العدد: اشترط الحنفية العدد في النجاسة غير المرئية وهو الغسل ثلاثاً فقالوا: إن كانت النجاسة غير مرئية كالبول وأثر لعاب الكلب ونحوهما، فطهارته أن يغسل حتى يغلب على ظن الغاسل أنه قد طهر، ولا يطهر إلا بالغسل ثلاث مرات، وإنما قدروا التكرار بالثلاث ولو في نجاسة الكلب؛ لأن غالب الظن يحصل عنده، فأقيم السبب الظاهر مُقَامه تيسيراً. ودليلهم حديثان هما: «يغسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاثاً» (¬2) و «إذا استيقظ أحدكم من نومه، فليغسل يده ثلاثاً قبل أن يدخلها في إنائه» (¬3)، فقد أمر ¬
صلّى الله عليه وسلم بالغسل ثلاثاً، وإن كان هناك شيء غير مرئي، وأما الأمر بالغسل سبعاً من ولوغ الكلب، فكان في ابتداء الإسلام، لقلع عادة الناس بإلف الكلاب، كالأمر بكسر الدنان والنهي عن الشرب في ظروف الخمر حين حرمت الخمر. وأما إن كانت النجاسة مرئية كالدم ونحوه، فطهارتها زوال عينها ولو بمرة على الصحيح، إلا أن يبقى من أثرها، كلون أو ريح، ما يشق إزالته، فلا يضر بقاؤه، ويغسل إلى أن يصفو الماء، على الراجح، بدليل قوله صلّى الله عليه وسلم للحائض إن لم يخرج أثر الدم: «يكفيك الماء، ولا يضرك أثره» (¬1). وتظهر المشقة عندما يحتاج في إزالة الأثر إلى غير الماء القَرَاح كصابون أو ماء حار. وعليه: يطهر الثوب المصبوغ بمتنجس إذا صار الماء صافياً مع بقاء اللون. ولا يضر أثر دهن متنجس على الأصح لزوال النجاسة المجاورة بالغسل، ويطهر السمن والدهن المتنجس بصب الماء عليه ورفعه عنه ثلاثاً. ويطهر اللبن والعسل والدبس والدهن بالغلي على النار ثلاثاً، فيصب عليه الماء، ويغلى، حتى يعلو الدهن، ويرفع بشيء ثلاث مرات. ويطهر لحم طبخ بخمر بغلي وتبريد ثلاث مرات. وعلى هذا: الدجاج المغلي قبل إخراج أمعائها، يطهر بالغسل ثلاثاً، ويطهر ظاهره وباطنه، على المفتى به. وإذا وضع الدجاج بقدر انحلال المسام لنتف ريشه، يطهر بالغسل ثلاثاً. ¬
والحنطة المطبوخة في خمر لا تطهر أبداً، على المفتى به. أما لو انتفخت من بول، نقعت وجففت ثلاثاً. ولو عجن خبز بخمر صب فيه خل، حتى يذهب أثره، فيطهر. وقال المالكية: لا يكفي في غسل النجاسة إمرار الماء، بل ولا بد من إزالة عين النجاسة وأثرها، بأن ينفصل الماء طاهراً، ويزول طعم النجاسة قطعاً، ويزول لونها وريحها إن تيسر زوالهما، ولا يضر بقاء لون أو ريح عسر زواله، كالمصبوغ بالنجاسة من زعفران متنجس أو نيلة ونحوهما. ولا يشترط عدد معين للغسل أصلاً؛ لأن المفهوم من الأمر بإزالة النجاسة إزالة عينها. وأما العدد المشترط في غسل الإناء سبعاً من ولوغ الكلب، فهو عبادة لالنجاسة. وقال الشافعية والحنابلة: ما نجس بملاقاة شيء (من لعاب أو بول، وسائر الرطوبات، والأجزاء الجافة إذا لاقت رطباً) من كلب أو خنزير، وما تولد منهما، أو من أحدهما من حيوان طاهر، يغسل سبع مرات إحداهن بالتراب الطاهر، ولو غبار رمل، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «يغسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب سبع مرات، أولاهن أو أخراهن بالتراب» (¬1) وفي حديث عبد الله بن المغفل: «إذا ولغ الكلب في الإناء، فاغسلوه سبع مرات، وعفروه الثامنة بالتراب» (¬2). ويقاس الخنزير على الكلب؛ لأنه أسوأ حالاً منه، وشر منه، لنص الشارع ¬
على تحريمه، وتحريم اقتنائه، فثبت الحكم فيه بطريق التنبيه، وإنما لم ينص الشارع عليه؛ لأنهم لم يكونوا يعتادونه. والغسلة الأولى أولى بجعل التراب فيها للخبر الوارد، وليأتي الماء بعده، فينظفه، ولا بد من استيعاب المحل المتنجس بالتراب، بأن يمر التراب مع الماء على جميع أجزاء المحل المتنجس. والأظهر عند الشافعية تعين التراب، فلا يكفي غيره كأشنان وصابون. ويقوم عند الحنابلة الأشنان والصابون والنخالة ونحوها من كل ماله قوة في الإزالة، مقام التراب، ولو مع وجوده، وعدم تضرر المحل به، لأن نصه على التراب تنبيه على ما هو أبلغ منه في التنظيف. وإذا أضر التراب بالمحل فيكفي مسماه أي أقل شيء يسمى تراباً يوضع في ماء إحدى الغسلات، للنهي عن إفساد المال، ولحديث: «إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم» (¬1). وأما نجاسة غير الكلب والخنزير فتطهر عند الحنابلة بسبع مرات منقية دون تراب، لقول ابن عمر: «أمرنا أن نغسل الأنجاس سبعاً» فينصرف إلى أمره صلّى الله عليه وسلم، وقد أمر به في نجاسة الكلب، فيلحق به سائر النجاسات، والحكم لا يختص بمورد النص، بدليل إلحاق البدن والثوب به، وكذلك محل الاستنجاء يغسل سبعاً كغيره. فإن لم ينق المحل المتنجس بالسبع، زاد في الغسل حتى ينقى المحل. ولايضر بقاء لون النجاسة أو ريحها أو هما معاً حالة العجز عن إزالتهما، لحديث خولة بنت يسار السابق: «يكفيك الماء، ولا يضرك أثره». ويضر بقاء طعم النجاسة لدلالته على بقاء عينها، ولسهولة إزالته. ¬
- العصر فيما يمكن عصره ويتشرب كثيرا من النجاسة
وأما عند الشافعية في نجاسة غير الكلب والخنزير: فإن كانت النجاسة مرئية (عينية): وهي التي تدرك بإحدى الحواس، وجبت إزالة عينها وطعمها ولونها ورائحتها. ويجب نحو صابون إن توقفت الإزالة عليه. ولا يضر بقاء لون أو ريح عسر زواله، كما قرر الفقهاء بالاتفاق، ويضر بقاؤهما معاً، أو بقاء الطعم وحده. ولايشترط عدد معين للغسلات. وإن كانت النجاسة غير مرئية (لا عين عليها): وهي ما تيقن وجودها ولا يدرك لها طعم ولا لون ولا ريح، كفى جري الماء عليها مرة، كبول جف ولم يبق له أثر. والجري: هو وصول الماء إلى المحل بحيث يسيل عليه زائداً على النضح. 2 ً - العصر فيما يمكن عصره ويتشرب كثيراً من النجاسة: قال الحنفية: إن كان محل النجاسة مما يتشرب كثيراً من النجاسة: فإن كان مما يمكن عصره كالثياب: فطهارته بالغسل والعصر إلى أن تزول عين النجاسة، إن كانت النجاسة مرئية. وبالغسل ثلاثاً والعصر في كل مرة إن كانت غير مرئية؛ لأن الماء لايستخرج كثير النجاسة إلا بالعصر، ولا يتم الغسل بدونه. أما إن كان محل النجاسة مما لا يتشرب شيئاً أصلاً من النجاسة كالأواني الخزفية والمعدنية، أو مما يتشرب شيئاً قليلاً من النجاسة كالجسد والخف والنعل، فطهارته بزوال عين النجاسة. وأما إن كان مما لا يعصر كالحصير والسجاد والخشب: فينقع في الماء ثلاث مرات، ويجفف في كل مرة، وهو قول أبي يوسف، وهو الرأي الراجح، وقال محمد: لا يطهر أبداً.
- الصب أو إيراد الماء على النجاسة (الغسل في الأواني)
وأما تطهير الأرض: فإن كانت رخوة، فيصب الماء عليها، حتى يتسرب في أسفل الأرض، وتزول النجاسة، ولا يشترط فيها العدد، وإنما بحسب الاجتهاد وغلبة الظن بطهارتها، ويقوم تسرب الماء أو تسفله مقام العصر، وعلى قياس ظاهر الرواية: يصب الماء عليها ثلاث مرات، ويتسفل في كل مرة. وإن كانت صلبة فإن كان في أسفلها حفرة أو بالوعة يصب الماء عليها ثلاث مرات ويزال عنها إلى الحفرة. وإن لم يكن لها منفذ للماء لا تغسل لعدم الفائدة في الغسل. وتطهر عند الشافعية بمكاثرة الماء عليها، كما سأبيّن قريباً. ولم يشترط غير الحنفية العصر فيما يمكن عصره، إذ البلل بعض المنفصل، وقد فرض طهره. ومرجع الخلاف هو حكم الغسالة الآتي بيانه، هل هي طاهرة أو نجسة، إن حكم بطهارتها لم يجب العصر، وإلا وجب. لكن يسن العصر خروجاً من الخلاف. أما مالا يمكن عصره فلا يشترط فيه العصر، بلا خلاف. 3ً - الصب أو إيراد الماء على النجاسة (الغسل في الأواني): قال الحنفية: لا يشترط صب الماء أو وروده على محل النجاسة، فيطهر الغسل في الأواني، وغسل الثوب المتنجس أو البدن المتنجس، بتبديل الماء بماء جديد، ثلاث مرات، والعصر في كل مرة، ويغسل الإناء بعد الغسلة الأولى ثلاثاً، وبعد الثانية مرتين، وبعد الثالثة مرة واحدة، وذلك إذا حدث الغسل في إناء واحد، أما إن غسل في آنية ثلاثة، فكل إناء ينوب عن تبديل الماء مرة. لكن المعتبر ـ كما أبنت وكما أوضح ابن عابدين (¬1) ـ في تطهير النجاسة ¬
تطهير الأرض النجسة بالمكاثرة
المرئية: زوال عينها، ولو بغسلة واحدة، ولو في إناء واحد (إجانة: إناء تغسل فيه الثياب) فلا يشترط فيها تثليث غسل ولا عصر. وأما غير المرئية فالمعتبر فيها غلبة الظن في تطهيرها، بلا عدد، على المفتى به، وقيل: مع شرط التثليث. وهذا المفتى به عند الحنفية يقترب من مذهب المالكية القائلين بإزالة عين النجاسة. وقال الشافعية: يشترط ورود الماء، لا العصر في الأصح. أي يشترط ورود الماء على محل النجاسة، إن كان الماء قليلاً، لئلا يتنجس الماء لو عكس الأمر، لأن الماء ينجس بمجرد وقوع النجاسة فيه. فلو وضع ثوباً في إجَّانة وفيه دم معفو عنه، وصب الماء عليه تنجس بملاقاته، وتجب المبالغة في الغرغرة عند غسل فمه المتنجس، ويحرم ابتلاع نحو طعام قبل ذلك. هذا ... وقد اتفق الحنفية مع غيرهم على أن المتنجس إذا غسل في ماء جار، أو غدير (أي ماء كثير له حكم الجاري) أو صب عليه ماء كثير، أو جرى عليه الماء، طهر مطلقاً، بلا شرط عصر وتجفيف، وتكرار غمس، لأن الجريان بمنزلة التكرار والعصر (¬1). تطهير الأرض النجسة بالمكاثرة: قال الحنفية (¬2): إذا كانت الأرض المتنجسة صلبة منحدرة، يحفر في أسفلها حفرة، ويصب الماء عليها ثلاث مرات، ويزال عنها إلى الحفرة، بدليل ما أخرجه الدارقطني عن أنس في قصة الأعرابي الذي بال في المسجد: «احفروا مكانه، ثم صبوا عليه» (¬3). ولا تطهر الأرض بمكاثرة الماء. ¬
تطهير الماء النجس بالمكاثرة
وقال غير الحنفية (¬1): تطهر الأرض النجسة بالصب ومكاثرة الماء عليها أي كثرة إفاضة أو طرح الماء عليها، حتى تغمر النجاسة. لحديث أبي هريرة قال: «قام أعرابي، فبال في المسجد، فقام إليه الناس ليقعوا به، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: دعوه، وأريقوا على بوله سَجْلاً من ماء أو ذَنُوباً من ماء، فإنكم بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا مُعسِّرين» (¬2). وأما تطهير الماء النجس بالمكاثرة ففيه تفصيل عند الشافعية (¬3): أـ إن كانت نجاسته بالتغير، وهو أكثر من قلتين، طهر، بأن يزول التغير بنفسه، أو بأن يضاف إليه ماء آخر، أو بأن يؤخذ بعضه؛ لأن النجاسة بالتغير، وقد زال. ب ـ وإن كان نجاسته بالقلة، بأن يكون دون القلتين، طهر بأن يضاف إليه ماء آخر، حتى يبلغ قلتين، سواء كوثر بماء طاهر أو نجس، كثير أو قليل. ويطهر بالمكاثرة من غير أن يبلغ قلتين، كالأرض النجسة إذا طرح عليها ماء حتى غمر النجاسة، لإيراد الماء على النجاسة (¬4). لكن الماء الذي طهر بالمكاثرة، دون أن يبلغ قلتين، هو طاهر غير مطهر؛ لأن المستعمل في إزالة النجاسة لا تجوز الطهارة به. ¬
التطهير بالماء الجاري
وأما إذا كان الماء أكثر من قلتين، والنجاسة الواقعة جامدة، فالمذهب أنه تجوز الطهارة منه، لأنه لا حكم للنجاسة القائمة، فكان وجودها كعدمها. وإن كان الماء قلتين فقط، وفيه نجاسة قائمة، ففيه وجهان، أصحهما جواز الطهارة به. وإن كانت النجاسة ذائبة جازت الطهارة به على الصحيح. التطهير بالماء الجاري: قال الحنفية (¬1): يختلف حكم الماء الجاري عن الراكد. والجاري: هو ما يعده الناس جارياً عرفاً. وألحقوا بالجاري: حوض الحمام وغير الحمام إذا كان الماء ينزل من أعلاه، والناس يغترفون منه، فلو أدخلت القَصْعة أو اليد النجسة فيه، لاينجس. وحكمه: أنه إذا وقعت النجاسة فيه، ولم ير لها أثر من طَعْم أو لون أو ريح، فهو طاهر مطهر، يجوز الوضوء به، وإزالة النجاسة به؛ لأن النجاسة إذا كانت مائعة لا تستقر مع جريان الماء. أما إذا كانت دابة ميتة: فإن كان الماء يجري عليها أو على أكثرها، أو نصفها، لا يجوز استعماله، وإن كان يجري على أقلها، وأكثره يجري على موضع طاهر، وللماء قوة، فإنه يجوز استعماله، إذا لم يوجد أثر للنجاسة. والغدير (¬2) والحوض العظيم الراكد: وهو في رأي العراقيين: الذي لايتحرك أحد طرفيه بتحريك الطرف الآخر إذا وقعت نجاسة في أحد جانبيه. وفي ¬
ظاهر الرواية وهو الأصح: هو الذي يغلب على ظن المرء واجتهاده عدم وصول النجاسة فيه إلى الجانب الآخر. يجوز الوضوء وإزالة النجاسة به من الجانب الآخر الذي لم تقع فيه النجاسة؛ لأن الظاهر أن النجاسة لا تصل إلى الجانب الآخر، كما أن المفتى به جواز التطهر به من جميع الجوانب. وقال غير الحنفية (¬1) الماء الجاري كالراكد، إن كان كثيراً لا تضره النجاسة، التي لم تغير أحد أوصافه (الطعم واللون والريح) فهو طاهر، وإن كان قليلاً تنجس مجموعه بمجرد الملاقاة. ولا حد للكثرة عند المالكية. والكثير عند الشافعية والحنابلة: ما بلغ قلتين (500 رطل بغدادي تقريباً). والعبرة في الجاري بالجرية: وهي كما عرفها الشافعية: ما يرتفع من الماء عند تموُّجه: أي تحقيقاً أوتقديراً، فإن كبرت الجرية لم تنجس إلا بالتغير، وهي في نفسها منفصلة عما أمامها وما خلفها من الجريات حكماً. والجرية عند الحنابلة: هي الماء الذي فيه النجاسة، وما قرب منها، من خلفها وأمامها، مع ما يحاذي ذلك مما بين طرفي النهر. أو هي ما أحاط بالنجاسة فوقها وتحتها، ويمنة ويسرة. والتعريفان مترادفان. فإن كان الماء جارياً، وفيه نجاسة جارية، كالميتة، والجرية المتغيرة، فالماء الذي قبلها طاهر؛ لأنه لم يصل إليه النجاسة، فهو كالماء الذي يصب على النجاسة من إبريق، والذي بعدها طاهر أيضاً؛ لأنه لم تصل إليه النجاسة. وأما ما يحيط بالنجاسة من فوقها وتحتها ويمينها وشمالها: فإن كان قلتين ولم يتغير، فهو طاهر، وإن كان دونهما، فهو نجس كالراكد. ¬
المبحث الرابع ـ حكم الغسالة
وينظر إلى أجزاء الجرية الواحدة، بعضها ببعض: وهي ما يرتفع وينخفض بين حافتي النهر من الماء عند تموجه. أما الجريات فلا يتقوى بعضها ببعض، فلو وقعت فيه نجاسة، وجرت بجرية، فموضع الجرية المتنجس بها نجس، وأما المارة بعدها، فلها حكم غسالة النجاسة، فلو كانت النجاسة كلباً، فلا بد من سبع جريات مع كدورة الماء بالتراب الطهور في إحداهن. ويعرف كون الجرية قلتين بأن تمسح، وتضرب ذراعاً وربعاً، طولاً وعرضاً وعمقاً. وإذا كان أمام الماء الجاري ارتفاع يرده، فله حكم الراكد. والخلاصة: أنه إذا وردت النجاسة على الماء تنجس الماء إجماعاً، وإذا ورد الماء على نجس تنجس (¬1). المبحث الرابع ـ حكم الغُسَالة: الغُسَالة: هي الماء المستعمل في إزالة حدث أو خبث أي إزالة النجاسة الحكمية أو الحقيقية. وحكمها عند الجمهور غير الحنفية أنها طاهرة إذا طهر المحل المغسول. وللفقهاء تفصيلات في شأنها. قال الحنفية (¬2): غسالة النجاسة نوعان: غسالة النجاسة الحقيقية، وغسالة النجاسة الحكمية وهي الحَدَث. أما غُسالة النجاسة الحكمية: وهي الماء المستعمل، فهو في ظاهر الرواية طاهر غير مطهر، أي لا يجوز التوضؤ به، لكن في الراجح يجوز إزالة النجاسة الحقيقية به. ¬
المالكية
والماء المستعمل: هو ما زايل البدن واستقر في مكان. أما مادام على العضو الذي استعمله فيه فلا يكون مستعملاً. ويصير مستعملاً إما بإزالة الحدث، أو بنية إقامة القربة، كالصلاة المعهودة، وصلاة الجنازة، ودخول المسجد، ومس المصحف، وقراءة القرآن ونحوها. فإن كان الشخص محدثاً صار الماء مستعملاً بلا خلاف عندهم، لوجود السببين: وهو إزالة الحدث، وإقامة القربة جميعاً. وإن لم يكن محدثاً يصير مستعملاً أيضاً عند أئمة الحنفية ما عدا زفر، لوجود إقامة القربة، لكون الوضوء نوراً على نور. وعند زفر لا يصير مستعملاً لانعدام إزالة الحدث. أما إن كان الوضوء أو الغسل للتبرد ولم يكن محدثاً لا يصير مستعملاً. وأما غسالة النجاسة الحقيقية: فهي نجسة إذا انفصلت متغيرة، بأن تغير طعمها أو لونها أو ريحها. أو إذا لم يطهر المحل، كما لو انفصلت بعد الغسلات الثلاث، الأولى والثانية والثالثة من نجاسة غير مرئية؛ لأن النجاسة انتقلت إليها، إذ لا يخلو كل ماء عن نجاسة. ولا يجوز الانتفاع بالغُسَالة فيما سوى الشرب والتطهير من بل الطين وسقي الدواب ونحو ذلك، إن كان قد تغير طعمها أو لونها أو ريحها؛ لأنه لما تغير، دل على أن النجس غالب، فالتحق بالبول. وإن لم يتغير شيء من ذلك يجوز الانتفاع بها، لأنه لما لم يتغير دل على أن النجس لم يغلب على الطاهر، والانتفاع بما ليس بنجس العين مباح في الجملة. وقال المالكية (¬1): إن انفصلت الغُسَالة متغيرة الطعم أو اللون أو الريح، فهي ¬
الشافعية
نجسة، والموضع نجس. وإن طهر المحل، كانت الغسالة طاهرة. ولا يجوز استعمال المتنجس في العادات. والأظهر عند الشافعية (¬1): طهارة غُسَالة قليلة تنفصل بلا تغير، وقد طهر المحل، لأن البلل الباقي على المحل هو بعض المنفصل، فلو كان المنفصل نجساً، لكان المحل كذلك. أما الكثيرة فطاهرة ما لم تتغير، وإن لم يطهر المحل. أي أن الغُسَالة القليلة المنفصلة طاهرة غير مطهرة، ما لم تتغير بطعم أو لون أو ريح، ولم يزد وزنها، بعد اعتبار ما يأخذه الثوب من الماء، ويعطيه من الوسخ الطاهر، وقد حل المحل. أما إذا تغيرت أو زاد وزنها، أو لم يطهر المحل، فهي نجسة كالمحل. وبه يتبين أن الغُسَالة كالمحل مطلقاً، فحيث حكم بطهارته، حكم بطهارتها، وحيث لا، فلا. وقال الحنابلة (¬2) كالشافعية: ما أزيلت به النجاسة، إن انفصل متغيراً بالنجاسة، أو قبل طهارة المحل، فهو نجس، لأنه تغير بالنجاسة، كما أن الماء القليل إذا لاقى محلاً نجساً لم يطهره، يكون نجساً، كما لو وردت النجاسة عليه. وإن انفصل غير متغير من الغسلة التي طهر بها المحل ففيه تفصيل: فإن كان المحل أرضاً فهو طاهر، لطهارة الأرض التي بال عليها الأعرابي بصب دلو عليها، بأمره صلّى الله عليه وسلم. وإن كان غير أرض: فيه وجهان أصحهما أنه طاهر. ¬
الفصل الثالث: الاستنجاء
الفَصْلُ الثَّالث: الاستِنْجَاء معناه، حكمه، وسائله، مندوباته، آداب قضاء الحاجة. أولاً ـ معنى الاستنجاء والفرق بينه وبين غيره من الاستبراء والاستجمار ونحوهما: الاستنجاء: لغة: إزالة النجو أي الغائط. واصطلاحاً: هو قلع النجاسة بنحو الماء، أو تقليلها بنحو الحجر، فهو استعمال الأحجار أو الماء. أو هو إزالة للنجاسة من كل خارج ملوّث ولو نادراً كدم ومذي وودي، لا على الفور، بل عند الحاجة إليه بماء أو حجر. أو هو إزالة نجس عن سبيل: قبل أو دبر. فلا يطلب من ريح، وحصاة، ونوم، وفصد دم. والاستنجاء أو الاستطابة أعم من أن يكون بالماء وغيره. والاستجمار: إزالة النجس بالأحجار ونحوها، مأخوذ من الجمرات أي الأحجار. والاستبراء: طلب البراءة من الخارج، حتى يتيقن من زوال الأثر أو هو طلب براءة المخرج عن أثر الرشح من البول. والاستنزاه: طلب البعد عن الأقذار. وهو بمعنى الاستبراء.
الاستنقاء
والاستنقاء: طلب النقاوة، وهو أن يدلك المقعدة بالأحجار أو بالأصابع حالة الاستنجاء بالماء (¬1). وكل هذه الوسائل للتطهر من النجاسة، ولا يجوز الشروع في الوضوء حتى يطمئن المرء من زوال أثر رشح البول. ثانياً ـ حكم الاستنجاء والاستجمار والاستبراء: أما حكم الاستنجاء: قال الحنفية (¬2): إنه في الأحوال العادية، ما لم تتجاوز النجاسة المخرج، سنة مؤكدة للرجال والنساء، لمواظبة النبي صلّى الله عليه وسلم، ولقوله عليه السلام: «من استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج» (¬3). فإذا تجاوزت النجاسة المخرج، وكان المتجاوز قدر الدرهم فيجب إزالته بالماء. وإن زاد المتجاوز على قدر الدرهم، افترض الغسل بالماء أو المائع. وقال الجمهور غير الحنفية (¬4): يجب الاستنجاء أو الاستجمار من كل خارج معتاد من السبيلين، كالبول أوالمذي أو الغائط، لقوله تعالى: {والرجزَ فاهجر} ¬
الاستبراء
[المدثر:5/ 74]، وهو يعم كل مكان ومحل من ثوب أو بدن، ولأن الاستنجاء بالماء هو الأصل في إزالة النجاسة، ولقوله عليه السلام: «إذا ذهب أحدكم إلى الغائط، فليذهب بثلاثة أحجار، فإنها تجزئ عنه» (¬1) وقوله: «لا يستنجي أحدكم بدون ثلاثة أحجار» رواه مسلم، وفي لفظ لمسلم: «لقد نهانا أن نستنجي بدون ثلاثة أحجار» وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب. وليس على من نام أو خرجت منه ريح استنجاء باتفاق العلماء، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من استنجى من ريح فليس منا» (¬2)، وعن زيد بن أسلم في قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} [المائدة:6/ 5]: «إذا قمتم من النوم، ولم يأمر بغيره» فدل على أنه لا يجب، ولأن الاستنجاء إنما شرع لإزالة النجاسة، ولا نجاسة ههنا. والأظهر عند الشافعية: ألا استنجاء لدود وبعر بلا لوث، إذ لا نجاسة باقية، ويندب عند الشافعية والحنابلة، ويجب عند الحنفية والمالكية، بعد قضاء الحاجة قبل الاستنجاء. الاستبراء: أيضاً إما بالمشي أو التنحنح أو الاضطجاع على شقه الأيسر أو غيره بنقل أقدام وركض، وهو: أن يستخلص مجرى البول من ذكره، بمسح ذكره بيده اليسرى من حلقة دبره (بدايته) إلى رأسه ثلاثاً، لئلا يبقى شيء من البلل في ذلك المحل، فيضع إصبعه الوسطى تحت الذكر، والإبهام فوقه، ثم يمرهما إلى رأس الذكر، ويستحب نتره ثلاثاً بلطف ليخرج ما بقي إن كان. وعبارة المالكية والحنابلة والشافعية: يكون الاستبراء بنتر وسلت خفيفين ¬
ثالثا ـ وسائل الاستنجاء وصفاته أو كيفيته
ثلاثاً: بأن يجعل إصبعه السبابة من يده اليسرى تحت ذكره من أصله، والإبهام فوقه، ثم يسحبه برفق، حتى يخرج ما فيه من البول. والنتر: جذبه، وندب أن يكون كل منهما برفق، وذلك حتى يغلب الظن نقاوة المحل من البول، ولا يتتبع الأوهام، فإنه يورث الوسوسة، وهي تضر بالدين (¬1). روى الإمام أحمد حديث: «إذا بال أحدكم فلينتر ذكره ثلاث مرات». واستبراء المرأة: أن تضع أطراف أصابع يدها اليسرى على عانتها. والاستبراء عموماً يختلف باختلاف الناس. والقصد أن يظن أنه لم يبق بمجرى البول شيء يخاف خروجه، فمنهم من يحصل هذا بأدنى عصر، ومنهم من يحتاج إلى تكرّره، ومنهم من يحتاج إلى تنحنح، ومنهم من لا يحتاج إلى شيء من هذا. ويكره حشو مخرج البول من الذكر بنحو قطن، وإطالة المكث في محل قضاء الحاجة، لأنه يورث وجعاً في الكبد. ودليل طلب الاستبراء: حديث ابن عباس: أن النبي صلّى الله عليه وسلم مرّ بقبرين، فقال: «إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير: أماأحدهما فكان لا يستبرئ من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة» (¬2). ودليل القائلين بندبه دون إيجاب: قوله صلّى الله عليه وسلم: «تنزهوا من البول، فإن عامة عذاب القبر منه» والظاهر من انقطاع البول عدم عوده، ويحمل الحديث على ماإذا تحقق أو غلب على ظنه بمقتضى عادته أنه إن لم يستبرئ خرج منه شيء. ثالثاً ـ وسائل الاستنجاء وصفاته أو كيفيته: يكون الاستنجاء بالماء أوبالحجر ونحوه من كل جامد طاهر قالع غير محترم، كورق وخرق وخشب وخزف، لحصول الغرض به كالحجر. ¬
شرط الاستنجاء بالحجر أو الورق ونحوه
والأفضل الجمع بين الجامد والماء، فيقدم الورق ونحوه، ثم يتبعه بالماء، لأن عين النجاسة تزول بالورق أو الحجر، والأثر يزول بالماء (¬1). والاقتصار على الماء أفضل من الاقتصار على الحجر ونحوه، لأنه يزيل عين النجاسة وأثرها، بخلاف الحجر والورق ونحوه، روي عن أنس بن مالك أنه لما نزلت آية: {فيه رجال يحبون أن يتطهروا} [التوبة:108/ 9]، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «: يا معشر الأنصار، إن الله قد أثنى عليكم في الطهور، فما طهوركم؟ قالوا: نتوضأ للصلاة، ونغتسل من الجنابة، ونستنجي بالماء، قال: هو ذاكم، فعليكموه» (¬2). وشرط الاستنجاء بالحجر أو الورق ونحوه ما يأتي (¬3): 1ً - ألا يجف النجس الخارج، فإن جف تعين الماء. 2ً - ألا ينتقل عن المحل الذي أصابه عند خروجه واستقر فيه، أوألا يجاوز صفحته وحشفته، فإن انتقل عنه، بأن انفصل عنه، تعين الماء في المنفصل اتفاقاً. ¬
هل يشترط عدد ثلاثة أحجار في الاستنجاء
3ً - ألا يطرأ عليه شيء رطب أجنبي عنه، نجساً كان، أو طاهراً، فإن طرأ عليه جاف طاهر فلا يؤثر. 4ً - أن يكون الخارج من فرج معتاد: فلا يجزئ في الخارج من غيره، كالخارج بالفصد، أو من منفذ منفتح تحت المعدة، ولو كان الأصلي منسداً انسداداً عارضاً، ولا يجزئ الورق ونحوه في بول خنثى مشكل، وإن كان الخارج من أحد قُبُليه، لاحتمال زيادته، ولا في بول الأقلف إذا وصل البول إلى الجلدة. ويجزئ الورق ونحوه عند غير المالكية في مسح دم حيض أو نفاس، كما يجزئ الحجر في الأظهر عند الشافعية وعند الحنابلة والحنفية فيما ندر خروجه كالدم والودي والمذي، أو انتشر الخارج فوق عادة الناس، ولكن لم يجاوز في الغائط صفحته (ما انضم من الأليتين عند القيام) وحشفته (وهي ما فوق الختان أو قدرها من مقطوعها). ولا يجوز الاستجمار بالأحجارعند المالكية من المني ولا من المذي ودم الحيض، وإنما يتعين الماء في إزالة مني، ودم حيض ونفاس، ودم استحاضة إن لم يلازم كل يوم ولو مرة، وإلا فهو معفو عنه كسلس البول الملازم لذكر أو أنثى، ولاتجب إزالته حينئذ. كما يتعين الماء عند المالكية أيضاً في إزالة بول المرأة، بكراً كانت أو ثيباً، لتعديه المخرج إلى جهة المقعدة عادة. وهل يشترط عدد ثلاثة أحجار في الاستنجاء؟ قال الحنفية والمالكية: يستحب ولا يجب عدد الثلاث، ويكفي ما دونه إن حصل الإنقاء أو التنظيف به، ومعنى الإنقاء: إزالة عين النجاسة وبلّتها، بحيث
عدد الغسلات حالة الاستنجاء بالماء
يخرج الحجر نقياً، وليس عليه أثر، إلا شيئاً يسيراً فالواجب عند المالكية والسنة عند الحنفية الإنقاء دون العدد، للحديث السابق: «من استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج». وقال الشافعية والحنابلة: الواجب الإنقاء وإكمال الثلاثة: ثلاثة أحجار، أو ثلاث مسحات ولو بأطراف حجر، وإن لم ينق بالثلاث، وجب الإنقاء برابع فأكثر، إلى أن لا يبقى إلا أثر لا يزيله إلا الماء، أو صغار الحصى، لأنه المقصود من الاستنجاء. ودليلهم الأحاديث السابقة، منها: «وليستنج بثلاثة أحجار» وخبر مسلم عن سلمان: «نهانا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار» وفي معناها: ثلاثة أطراف حجر. وإذا زاد عن الثلاثة: سن الإيتار، لما روى الشيخان عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا استجمر أحدكم، فليستجمر وتراً» وصرفه عن الوجوب رواية أبي داود: «من استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج». وأما عدد الغسلات حالة الاستنجاء بالماء: فالصحيح أنه مفوض إلى الرأي حتى يطمئن القلب بالطهارة بيقين أو غلبة الظن، وهو الأصح عن الإمام أحمد، قال أبو داود: سئل أحمد عن حد الاستنجاء بالماء؟ فقال: ينقي. ولم يصح عن النبي صلّى الله عليه وسلم في ذلك عدد ولا أمر به، ويروى عن أحمد عدد سبع غسلات (¬1). وعلى هذا فإن الواجب في الاستنجاء أن يغلب على الظن زوال النجاسة، ولا يضر شم ريحها باليد؛ لأن بقاء الرائحة يدل على بقائها على المحل، ويحكم على اليد بالنجاسة حينئذ. ¬
صفة الاستنجاء
وصفة الاستنجاء: أن يفرغ على يده اليسرى قبل أن يلاقي بها الأذى، ثم يغسل القبل: المخرج خاصة في حالة البول، والذكر كله في حالة المذي، ثم يغسل الدبر، ويوالي صب الماء، ويدلكه بيده اليسرى، ويسترخي قليلاً، ويجيد العرك حتى ينقي. ولا يستنجي باليمين، ولا يمس به ذكره (¬1). ويحترز الصائم من إدخال الإصبع المبتل في الدبر، لأنه يفسد الصوم. وكيفية الاستجمار: أن يمسح بالحجر الأول من الأمام إلى الخلف، وبالثاني من الخلف إلى الأمام، وبالثالث كالأول من الأمام إلى الخلف إذا كانت الخصية مدلاة، خشية تلويثها، وكالثاني من الخلف إلى الأمام إن كانت الخصية غير مدلاة. والمرأة تبتدئ من الأمام إلى الخلف خشية تلويث فرجها (¬2). وقال الشافعية (¬3): يسن استيعاب المحل بكل حجر من الثلاث، بأن يبدأ بالأول من مقدم الصفحة اليمنى ويديره إلى محل ابتدائه، وبالثاني من مقدم اليسرى ويديره كذلك، ويمر الثالث على صفحتيه ومُسرَبته جميعاً. والمسربة: مجرى الغائط. رابعاً ـ مندوبات الاستنجاء: يسن في الاستنجاء ما يأتي (¬4): ¬
1ً - أن يستنجي بحجر أو ورق منق، بألا يكون خشناً كالآجر، ولا أملس كالعقيق، لأن الإنقاء هو المقصود. ويعد كالحجر: كل طاهر مزيل بلا ضرر، وليس متقوماً ولا شيئاً محترماً، فلا يستنجي بملوث كالفحم، ولا بما يضر كالزجاج، ولا بمال متقوم، كحرير وقطن ونحوهما، لأنه إتلاف للمال، ولا بشيء محترم لطعمه أو شرفه أو لحق الغير. وهذا يعني أنه يجوز عند الحنفية الاستنجاء بالمائع غير الماء كماء الورد والخل، واشترط الجمهور غير الحنفية: أن يكون بجامد يابس، فلا يجوز بالمائع. واتفقوا على أن الاستنجاء يكون بطاهر قالع غير محترم، فلا يجوز (أو يكره تحريماً عند الحنفية) الاستنجاء بالنجس كالبعر والروث، ولا بالعظم والطعام أو الخبز لآدمي أو بهيمة؛ لأنه إتلاف وإهانة، ولا بغير القالع نحو الزجاج والقصب الأملس والآجر والخزف ولا بالمتناثر كتراب أو مدر وفحم رخوين، بخلاف التراب والفحم الصلبين، ولا بالشيء المحترم لشرف ذاتي كالذهب والفضة والجواهر، أو لكونه حق الغير كالشيء المملوك للغير، ومنه جدار الغير ولو وقفاً. واكتفى المالكية بالقول بأنه يكره الاستنجاء بعظم وروث طاهرين وبجدار مملوك له. والخلاصة: أنه يشترط لجواز الاستجمار بالأحجار ونحوها شروط خمسة هي: كل جامد طاهر قالع غير مؤذ ولا محترم لطعمه أو شرفه أو حق الغير، وإلا فلا، وأجزأ إن أنقى ويجزئ الإنقاء باليد بدون الثلاث من الأحجار ونحوها. ولم يشترط الحنفية كونه جامداً. وقال المالكية والحنفية: إن استجمر بما لا يجوز أجزأه مع الكراهة.
وقد ثبت النهي عن الاستنجاء بالروث والعظم، روى مسلم وأحمد عن ابن مسعود: «لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام، فإنهما زاد إخوانكم من الجن» (¬1)، وروى الدارقطني: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى أن نستنجي بروث أو عظم، وقال: إنهما لا يُطهِّران» (¬2) وروى أبو داود عنه عليه السلام أنه قال لرويفع بن ثابت (أبي بكرة): «أخبر الناس أنه من استنجى برجيع (أي روث) أو عظم، فهو بريء من دين محمد» (¬3) وهذا عام في الطاهر منها، وإذا حرم طعام الجن حرم طعام الآدمي بالأولى، لكن أجاز الشافعية الاستنجاء بمطعوم البهائم الخاص بها كالحشيش، وقال الجمهور: لا يجوز. قال النووي: لكن النهي عن الاستنجاء بالفحم ضعيف، وإن صح حمل على الرخو. 2ً - تثليث الأحجار أو الورق ونحوه، مندوب عند الحنفية والمالكية، واجب عند الشافعية والحنابلة، فإنهم قالوا: يجب في الاستنجاء بالحجر أمران: أحدهما ـ ثلاث مسحات ولو بأطراف حجر، والإيتار بعد الثلاث إلى السبع إن لم ينق المحل، ويسن أن يكون كل حجر أو نحوه لكل محل الخارج، ودليلهم حديثان: الأول: «إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليستطب بثلاثة أحجار، فإنها تجزئ عنه» والثاني: «من استجمر فليوتر» (¬4). ¬
خامسا ـ آداب قضاء الحاجة
3ً - ألا يستنجي باليد اليمنى إلا لعذر، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا بال أحدكم فلا يمس ذكره بيمينه، وإذا أتى الخلاء فلا يتمسح بيمينه، وإذا شرب فلا يشرب نفَساً واحداً» (¬1) وإذاً يسن الاستنجاءُ باليسار. 4ً - الاستتار وعدم كشف العورة عمن يراه واجب أثناء الاستنجاء وقضاء الحاجة، لحرمته والفسق به، فلا يرتكبه لإقامة السنة، ويمسح المخرج من تحت الثياب بنحو حجر. وإن تركه صحت الصلاة بدونه لأن ما في المخرج ساقط الاعتبار. ودليل الاستتار أحاديث رواها أبو داود وابن ماجه، منه: «من أتى الغائط، فليستتر، فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيباً من الرمل فليستدبره» ويبعد عن الناس في الصحراء ونحوها إلى حيث لا يسمع للخارج منه صوت ولا يشم له ريح. 5ً - للمستنجي بالماء أن يدلك يده بنحو أرض، ثم يغسلها بعد الاستنجاء بتراب أو صابون وأشنان ونحوه. 6ً - تنشيف المقعدة قبل القيام إذا كان صائماً لئلا تجذب المقعدة شيئاً من الماء. 7ً - يبدأ الرجل في الاستنجاء بالقبل لئلا تتلوث يده إذا شرع في الدبر، والمرأة مخيرة في البداية بأيهما شاءت. ويستحب عند الشافعية والحنابلة: أن ينضح الماء على فرجه وإزاره ليزيل الوسواس عنه. خامساً ـ آداب قضاء الحاجة: يندب لقاضي الحاجة من بول أو غائط ما يأتي (¬2): ¬
1ً - ألا يحمل مكتوباً ذكر اسم الله عليه، أو كل اسم معظم كالملائكة، والعزيز والكريم ومحمد وأحمد، لما روى أنس «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء وضع خاتمه (¬1)» وكان فيه: محمد رسول الله. فإن احتفظ به، واحترز عليه من السقوط فلا بأس. 2ً - أن يلبس نعليه، ويستر رأسه، ويأخذ أحجار الاستنجاء أو يهيء ويعد المزيل للنجاسة من ماء ونحوه. 3ً - يدخل الخلاء برجله اليسرى، ويخرج برجله اليمنى؛ لأن كل ما كان من التكريم يبدأ فيه باليمين، وخلافه باليسار، لمناسبة اليمين للمكرم، واليسار للمستقذر، بعكس المسجد والمنزل، يقدم يمناه فيهما. ويقول عند إرادة الدخول: «باسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخُبُث والخبائث» أي أتحصن من الشيطان، وأعتصم بك يا الله من ذكور الشياطين، وإناثهم، اتباعاً لما رواه الشيخان في السنة: «سترة ما بين أعين الجن وعورات بني آدم، إذا دخل أحدكم الخلاء أن يقول: بسم الله» «إن الحُشوش (¬2) محتضرة، فإذا أتى، فليقل: أعوذ بالله من الخبث والخبائث». ويقول عند خروجه: «غفرانَك، الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني» اتباعاً للسنة، رواه النسائي. 4ً - يعتمد في حال جلوسه على رجله اليسرى، لأنه أسهل لخروج الخارج، ولما رواه الطبراني عن سراقة بن مالك قال: «أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن نتوكأ على ¬
اليسرى، وأن ننصب اليمنى» ويوسع فيما بين رجليه، ولا يتكلم إلا لضرورة، ولايطيل المقام أكثر من قدر الحاجة؛ لأن ذلك يضره، بظهور الباسور أو إدماء الكبد ونحوه. ويستحب ألا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض؛ لأن ذلك أستر له، ولما روى أبو داود عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «أنه كان إذا أراد الحاجة، لا يرفع ثوبه حتى يدنومن الأرض». ويستحب أن يبول قاعداً لئلا يترشش عليه، ويكره البول قائماً إلا لعذر قال ابن مسعود: «من الجفاء أن تبول وأنت قائم» قالت عائشة: «من حدثكم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يبول قائماً، فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعداً» (¬1)، ورويت الرخصة في التبول قائماً عن جماعة من الصحابة كعمر وعلي وغيرهما. ويستحب أن يبول في مكان رخو غير صلب لئلا يترشش بالبول، ولما روى أحمد وأبو داود عن أبي موسى: «إذا بال أحدكم فليرتَدْ لبوله». 5ً - لا يبول في مهب الريح لئلا تعود النجاسة إليه، ولا في ماء راكد، وقليل جار، أو في كثير أيضاً عند الحنفية؛ للنهي عنه في حديث البخاري ومسلم (¬2)، ولا في المقابر احتراماً لها، ولا في الطرقات ومُتَحدَّث الناس، لقولهصلّى الله عليه وسلم: «اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل» (¬3) «ولا يبول في شق أو ثقب؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى أن يبال في الجُحر» (¬4). ¬
ولا يبول تحت شجرة مثمرة في حال كون الثمرة عليها، لئلا تسقط عليه الثمرة؛ لأن التبول في الماء القليل حرام عند الحنفية، ومكروه تحريماً في الماء الكثير، ومكروه تنزيهاً في الماء الجاري عندهم، فتتنجس به. قال الشافعية: وكذا في غير وقت الثمر، صيانة لها عن التلويث عند الوقوع، فتعافها النفس، ولم يحرموه، لأن التنجس غير متيقن. وأجازه الحنابلة في غير حال الثمر، فإن النبي صلّى الله عليه وسلم «كان أحب ما استتر به لحاجته هدف أو حائش نخل» (¬1) أي جماعته. ويكره أن يستنجي بماء في موضعه بل ينتقل عنه إن لم يكن معداً لذلك، لئلا يعود عليه الرشاش، فينجسه. ويكره أن يبول في المغتسل، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يبولن أحدكم في مُسْتَحمه، ثم يتوضأ فيه، فإن عامة الوسواس منه» (¬2) وذلك إذا لم يكن ثَم منفذ ينفذ منه البول والماء. 6ً - يكره تحريماً عند الحنفية ولو في البنيان استقبال القبلة واستدبارها بالفرج حال قضاء الحاجة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ببول ولا غائط، ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا» (¬3). وقال الجمهور غير الحنفية: لا يكره ذلك في المكان المعد لقضاء الحاجة، لحديث جابر: «نهى النبي صلّى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة ببول، فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها» (¬4) وهذا يحتمل أنه رآه في البنيان أو مستتراً بشيء. ويحرم استقبالها واستدبارها في البناء غير المعد لقضاء الحاجة، وفي ¬
الصحراء بدون ساتر مرتفع بقدر ثلثي ذراع تقريباً فأكثر، ولا يبعد عنه أكثر من ثلاثة أذرع، كما يحرم وطء الزوجة بدون ساتر في الفضاء، وإلا فلا حرمة، كأن كان في منزله، أو في الفضاء بساتر. ويكره استقبال عين الشمس والقمر بفرجه، لما فيهما من نور الله تعالى، ولكونهما آيتين عظيمتين، فإن استتر عنهما بشيء أو في المكان المعد فلا بأس، كما في القبلة. كما يكره استقبال الريح لئلا يرد عليه رشاش البول، فينجسه. 7ً - يستحب ألا ينظر إلى السماء، ولا إلى فرجه، ولا إلى ما يخرج منه، ولايعبث بيده، ولا يلتفت يميناً ولا شمالاً، ولا يستاك؛ لأن ذلك كله لا يليق بحاله، ولا يطيل قعوده، لأنه يورث الباسور، وأن يسبل ثوبه شيئاً فشيئاً، قبل انتصابه. ويحرم البول في المسجد ولو في إناء؛ لأن ذلك لا يصلح له، ويحرم أيضاً على القبر المحترم، ويكره عند القبر، احتراماً له. وإذا عطس حمد الله بقلبه، ويقول بعد الاستنجاء عقب الخروج من الخلاء: (اللهم طهر قلبي من النفاق، وحصن فرجي من الفواحش) (الحمد لله الذي أذاقني لذته، وأبقى فِيَّ منفعته، وأخرج عني أذاه).
الفصل الرابع: الوضوء وما يتبعه
الفَصْلُ الرَّابع: الوضُوء وما يتبعه وفيه مباحث ثلاثة: المبحث الأول ـ الوضوء تعريفه وأنواعه، فرائضه، شروطه، سننه، آدابه، مكروهاته، نواقضه، وضوء المعذور، ما يمنع منه غير المتوضئ. تقدم بحث الطهارة عن الخبث وهي الطهارة الحقيقية، أما الطهارة عن الحدث فهي طهارة حُكْمية، وهي ثلاثة أنواع: الوضوء، الغسل، التيمم. وأبدأ بالوضوء، لأن الموجب له الحدث الأصغر، أما الغسل فالموجب له هو الحدث الأكبر. وأما التيمم فهو بديل يخلف كلاً من الوضوء والغسل في حالات معينة، وقد عرفنا سابقاً أن الطهارة الحكمية: هي وصف شرعي يحل في الأعضاء يزيل الطهارة، وأن الطهارة الحقيقية: هي إزالة الخبث وهو عين مستقذرة شرعاً. وفيه مطالب تسعة: المطلب الأول ـ تعريف الوضوء، وحكمه (أنواعه أو أوصافه): الوضوء في اللغة بضم الواو: هو اسم للفعل أي استعمال الماء في أعضاء مخصوصة، وهو المراد هنا، مأخوذ من الوضاءة والحسن والنظافة، يقال: وضؤ الرجل: أي صار وضيئاً.
انقسام الوضوء عند الحنفية إلى خمسة أنواع
وأما بفتح الواو فيطلق على الماء الذي يتوضأ به. والوضوء شرعاً: نظافة مخصوصة (¬1)، أو هو أفعال مخصوصة مفتتحة بالنية (¬2). وهو غسل الوجه واليدين والرجلين، ومسح الرأس. وأوضح تعريف له هو: أنه استعمال ماء طهور في الأعضاء الأربعة (أي السابقة) على صفة مخصوصة في الشرع (¬3). وحكمه الأصلي أي المقصود أصالة للصلاة: هو الفرضية، لأنه شرط لصحة الصلاة، بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهَكم وأيديَكم إلى المرافقِ، وامسحوا برؤوسكم، وأرجلَكم إلى الكعبين} [المائدة:6/ 5]، وبقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ» (¬4) وبإجماع الأمة على وجوبه. وشُرع الوضوء بمكة وآيته في المدينة كما أوضح المحققون. والحكمة من غسل هذه الأعضاء هو كثرة تعرضها للأقذار والغبار والنُّفايات وغيرها. وقد يعرض للوضوء أوصاف أخرى، فتجعله مندوباً، أو واجباً بتعبيرالحنفية (¬5)، أو ممنوعاً، لهذا قسمه الفقهاء أنواعاً، وذكروا له أوصافاً. انقسام الوضوء عند الحنفية إلى خمسة أنواع فقال الحنفية (¬6): الوضوء خمسة أنواع: الأول ـ فرض: أـ على المحدث إذا أراد القيام للصلاة فرضاً كانت أو نفلاً، كاملة، أو غير ¬
كاملة كصلاة الجنازة وسجدة التلاوة (¬1)، للآية السابقة: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ... } [المائدة:6/ 5]، ولقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ» (¬2) «لا يقبل الله صلاة بغير طُهور، ولا صدقة من غُلُول» (¬3). ب ـ ولأجل لمس القرآن، ولو آية مكتوبة على ورق أو حائط، أو نقود، لقوله تعالى: {لا يمسه إلا المطهرون} [الواقعة:79/ 56]، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يمس القرآن إلا طاهر» (¬4). الثاني ـ واجب: للطواف حول الكعبة، وقال الجمهور غير الحنفية. إنه فرض، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «الطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله قد أحل فيه النطق، فمن نطق فيه، فلا ينطق إلا بخير» (¬5). قال الحنفية: ولما لم يكن الطواف صلاة حقيقية، لم تتوقف صحته على الطهارة، فيجب بتركه دم في الواجب، وبَدَنة في الفرض للجنابة، وصدقة في النفل بترك الوضوء ¬
الثالث ـ مندوب: في أحوال كثيرة منها ما يأتي (¬1): أـ التوضؤ لكل صلاة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم عند كل صلاة بوضوء، ومع كل وضوء بسواك» (¬2) ويندب تجديد الوضوء إذا كان قد أدى بالسابق صلاة: فرضاً أو نفلاً، لأنه نور على نور، وإن لم يؤد به عملاً مقصوداً شرعاً، كان إسرافاً (¬3)، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات» (¬4) كما يندب المداومة على الوضوء، لما روى ابن ماجه والحاكم وأحمد والبيهقي عن ثوبان: «استقيموا ولن تُحصْوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن». ب ـ مس الكتب الشرعية من تفسير وحديث واعتقاد وفقه ونحوها، لكن إذا كان القرآن أكثر من التفسير، حرم المس. جـ ـ للنوم على طهارة وعقب الاستيقاظ من النوم مبادرة للطهارة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، ثم قل: اللهم إني أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت» (¬5). ¬
د ـ قبل غسل الجنابة، وللجنب عند الأكل والشرب والنوم ومعاودة الوطء، لورود السنة به، قالت عائشة: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا كان جنباً، فأراد أن يأكل أو ينام، توضأ» (¬1) وقالت أيضاً: «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينام وهو جنب، غسل فرجه وتوضأ وضوءه للصلاة» (¬2) وقال أبو سعيد الخدري: «إذا أتى أحدكم أهله، ثم أراد أن يعود، فليتوضأ» (¬3). هـ ـ بعد ثورة الغضب، لأن الوضوء يطفئه، روى أحمد في مسنده: «فإذا غضب أحدكم فليتوضأ». وـ لقراءة القرآن، ودراسة الحديث وروايته، ومطالعة كتب العلم الشرعي، عنايةً بشأنها، وكان مالك يتوضأ ويتطهر عند إملاء الحديث عن رسول الله، تعظيماً له. ز ـ للأذان والإقامة وإلقاء خطبة ولو خطبة زواج، وزيارة النبي صلّى الله عليه وسلم، وللوقوف بعرفة، وللسعي بين الصفا والمروة، لأنها في أماكن عبادة. ح ـ بعد ارتكاب خطيئة، من غيبة وكذب ونميمة ونحوها، لأن الحسنات تمحو السيئات، قال صلّى الله عليه وسلم: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخُطا إلى المساجد، وانتظار صلاة بعد صلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط» (¬4). ¬
انقسام الوضوء عند المالكية إلى خمسة أنواع
ط ـ بعد قهقهة خارج الصلاة، لأنها حدث صورة. ي ـ بعد غسل ميت وحمله، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من غسل ميتاً فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ» (¬1). ك ـ للخروج من خلاف العلماء، كما إذا لمس امرأة، أو لمس فرجه ببطن كفه، أو بعد أكل لحم الجزور، لقول بعضهم بالوضوء منه، ولتكون عبادته صحيحة بالاتفاق عليها، استبراء لدينه. الرابع ـ مكروه: كإعادة الوضوء قبل أداء صلاة بالوضوء الأول، أي أن الوضوء على الوضوء مكروه، وإن تبدل المجلس (¬2) ما لم يؤد به صلاة أو نحوها. الخامس ـ حرام: كالوضوء بماء مغصوب، أو بماء يتيم. وقال الحنابلة: لا يصح الوضوء بمغصوب ونحوه لحديث: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (¬3). انقسام الوضوء عند المالكية إلى خمسة أنواع وقال المالكية (¬4) أيضاً: الوضوء خمسة أنواع: واجب، ومستحب، وسنة، ومباح، وممنوع. فالواجب: هو الوضوء لصلاة الفرض، والتطوع، وسجود القرآن، ولصلاة ¬
الجنازة، ولمس المصحف، وللطواف. ولا يصلى عندهم إلا بالواجب، ومن توضأ لشيء من هذه الأشياء، جاز له فعل جميعها. والسنة: وضوء الجنب للنوم. والمستحب: الوضوء لكل صلاة، ووضوء المستحاضة وصاحب السلس لكل صلاة، وأوجبه غير المالكية لهما، والوضوء للقربات كالتلاوة والذكر والدعاء والعلم، وللمخاوف كركوب البحر، والدخول على السلطان والقوم. والمباح: للتنظيف والتبرد. والممنوع: التجديد قبل أن تقع به عبادة. واتفق الشافعية والحنابلة (¬1) مع الحنفية والمالكية على الحالات السابقة ونحوها التي يندب لها الوضوء، من قراءة قرآن أو حديث، ودراسة العلم، ودخول مسجد وجلوس أو مرور فيه، وذكر وأذان ونوم ورفع شك في حدث أصغر، وغضب (¬2) وكلام محرم كغيبة ونحوها، وفعل مناسك الحج كوقوف ورمي جمار، وزيارة قبر النبي صلّى الله عليه وسلم، وأكل، ولكل صلاة، لحديث أبي هريرة يرفعه: «لولا أن أشق على أمتي، لأمرتهم بالوضوء عند كل صلاة» (¬3) كما يستحب الوضوء عند الشافعية من بعد الفصد والحجامة والرعاف والنعاس والنوم قاعداً ممكناً مقعدته من الأرض، والقهقهة في الصلاة، وأكل مامسته النار، ولحم الجزور، والشك في الحدث، وزيارة القبور، ومن حمل الميت ومسه. ¬
المطلب الثاني ـ فرائض الوضوء
المطلب الثاني ـ فرائض الوضوء: نص القرآن الكريم على أركان أو فرائض أربعة للوضوء: وهي غسل الوجه، واليدين، والرجلين، ومسح الرأس، في قوله تعالى: {يا آيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم، وأيديكم إلى المرافق، وامسحوا برؤوسكم، وأرجلَكم إلى الكعبين} [المائدة:6/ 5]. وأضاف جمهور الفقهاء غير الحنفية بأدلة من السنة فرائض أخرى، اتفقوا فيها على النية، وأوجب المالكية والحنابلة الموالاة، كما أوجب الشافعية والحنابلة الترتيب، وأوجب المالكية أيضاً الدلك. فتكون أركان الوضوء أربعة عند الحنفية هي المنصوص عليها، وسبعة عند المالكية بإضافة النية والدلك والموالاة، وستة عند الشافعية بإضافة النية والترتيب. وسبعة عند الحنابلة والشيعة الإمامية بإضافة النية والترتيب والموالاة. وبه يتبين أن أركان أو الفرائض نوعان: متفق عليها، ومختلف فيها. النَّوعُ الأوَّل ـ فرائِضُ الوضوء المتَّفق عليها: هي أربعة منصوص عليها في القرآن العظيم وهي: أولاً ـ غسل الوجه: لقوله تعالى: {فاغسلوا وجوهكم} [المائدة:6/ 5]، أي غسل ظاهر وجميع الوجه مرة (¬1)، وللإجماع (¬2). ¬
والغسل: إسالة الماء على العضو بحيث يتقاطر، وأقله قطرتان في الأصح، ولا تكفي الإسالة بدون التقاطر، والمراد بالغسل، الانغسال، سواء أكان بفعل المتوضئ أم بغيره. والفرض هو الغسل مرة، أما تكرار الغسل ثلاث مرات فهو سنة وليس بفرض. والوجه: ما يواجه به الإنسان. وحده طولاً: ما بين منابت شعر الرأس المعتاد، إلى منتهى الذقن، أو من مبدأ سطح الجبهة إلى أسفل الذقن. والذقن: منبت اللحية فوق الفك السفلي أو اللَّحْيين: أي العظمين اللذين تنبت عليها الأسنان السفلى. ومن الوجه: موضع الغمم: وهو ما ينبت عليه الشعر من الجبهة، وليس منه النزعتان (¬1): وهما بياضان يكتنفان الناصية: وهي مقدم الرأس من أعلى الجبين، وإنما النزعتان من الرأس؛ لأنهما في حد تدوير الرأس. وحد الوجه عرضاً: ما بين شحمتي الأذنين. ويدخل في الوجه في الراجح عند الحنفية والشافعية البياض الذي بين العذار والأذن. وقال المالكية والحنابلة: إنه من الرأس. كما يدخل في الوجه في الأصح عند الحنابلة كما في المغني موضع التحذيف: وهو ما ينبت عليه الشعر الخفيف من طرفي الجبين بين ابتداء العذار والنزعة (¬2) لأن محله من الوجه. ولكن قال النووي: صحح الجمهور أي من الشافعية أن موضع التحذيف من الرأس، لاتصال شعره بشعر الرأس. وقال صاحب كشاف القناع الحنبلي: لا يدخل في الوجه تحذيف، وإنما هو من الرأس. ¬
والصدغان من الرأس: وهما فوق الأذنين، متصلان بالعذارين، لدخولهما في تدوير الرأس، ولا بد من إدخال جزء يسير من الرأس؛ لأنه مما لا يتم الواجب إلا به. وقال الحنابلة: يستحب تعاهد موضع المفصل (وهو ما بين اللحية والأذن) بالغسل، لأنه مما يغفل الناس عنه، وقال الشافعية: ويسن غسل موضع الصلع والتحذيف والنزعتين والصدغين مع الوجه، خروجاً من الخلاف في وجوب غسلها. ويجب غسل جزء من الرأس ومن الحلق ومن تحت الحنك ومن الأذنين، كما يجب أدنى زيادة في غسل اليدين والرجلين، على الواجب فيهما؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب. ومن الوجه: ظاهر الشفتين (¬1) ومارن الأنف (مالان منه) وموضع الجدع من الأنف ونحوه، ولا يغسل المنضم من باطن الشفتين، ولا باطن العينين. ويجب غسل الحاجب والهُدْب (الشعر النابت على أجفان العين) والعذار (الشعر النابت على العظم الناتئ المحاذي للأذن بين الصدغ والعارض) (¬2) والشارب وشعر الخد، والعنفقة (الشعر النابت على الشفة السفلى) واللِّحية (الشعر النابت على الذقن خاصة، وهي مجمع اللِّحْيين) الخفيفة، ظاهراً وباطناً، خفيفاً كان الشعر أو كثيفاً (¬3) لما روى مسلم من قوله صلّى الله عليه وسلم لرجل ترك موضع ظفر على قدمه: «ارجع فأحسن وضوءك». فإن كانت اللحية كثيفة لا ترى بشرتها، فيجب فقط غسل ظاهرها، ويسن تخليل باطنها، ولا يجب إيصال الماء إلى بشرة الجلد، لعسر إيصال الماء إليه، ولما ¬
ثانيا ـ غسل اليدين إلى المرفقين مرة واحدة
روى البخاري أنه صلّى الله عليه وسلم توضأ فغرف غرفة غسل بها وجهه (¬1) وكانت لحيته الكريمة كثيفة، وبالغرفة الواحدة لا يصل الماء إلى ذلك غالباً. وأما المسترسل من اللحية الخارج عن دائرة الوجه فيجب غسله عند الشافعية على المعتمد، وعند الحنابلة، لأنه نابت في محل الفرض، ويدخل في اسمه ظاهراً، ويفارق ذلك شعر الرأس، فإن النازل عنه لا يدخل في اسمه، ولما رواه مسلم عن عمرو بن عَبْسة: « ... ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله، إلا خَرَّت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء». ولم يوجب الحنفية والمالكية غسل المسترسل؛ لأنه شعر خارج عن محل الفرض، وليس من مسمى الوجه. وأضاف الحنابلة: أن الفم والأنف من الوجه يعني أن المضمضة والاستنشاق واجبان في الوضوء، لما روى أبو داود وغيره: «إذا توضأت فمضمض» ولما روى الترمذي من حديث سلمة بن قيس: «إذا توضأت فانتثر» ولحديث أبي هريرة المتفق عليه: «إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء، ثم لينتثر» كما أوجب الحنابلة التسمية في الوضوء لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لاصلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» (¬2). ثانياً ـ غسل اليدين إلى المرفقين مرة واحدة: لقوله تعالى: {وأيديكم إلى المرافق} [المائدة:6/ 5]، وللإجماع (¬3). ¬
والمرفق: ملتقى عظم العضد والذراع. ويجب عند جمهور العلماء ومنهم أئمة المذاهب الأربعة إدخال المرفقين في الغسل، لأن حرف «إلى» لانتهاء الغاية، وهي هنا بمعنى «مع» كما في قوله تعالى: {ويزدكم قوة إلى قوتكم} [هود:52/ 11]، {ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم} [النساء:2/ 4]، ولأن الأصل في اليد شمولها الكف إلى الذراع، لكن التحديد بالمرافق أسقط ما وراءها، وقد أوضحت السنة النبوية المطلوب وبينت المجمل، روى مسلم عن أبي هريرة في صفة وضوء رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أنه توضأ فغسل وجهه، فأسبغ الوضوء، ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد، ثم اليسرى حتى أشرع في العضد .. » (¬1) وروى الدارقطني عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: «هلمَّ أتوضأ لكم وُضوء رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فغسل وجهه ويديه حتى مسَّ أطراف العضدين ... » (¬2) وروى الدارقطني أيضاً عن جابر، قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا توضأ أمرَّ الماء على مرفقيه». ويجب غسل تكاميش الأنامل، وغسل ما تحت الأظافر الطويلة التي تستر رؤوس الأنامل، كما يجب عند غير الحنفية إزالة أوساخ الأظافر إن منعت وصول الماء، بأن كانت كثيرة، ويعفى عن القليل منها، ويعفى عند الحنفية عن تلك الأوساخ، سواء أكانت كثيرة أم يسيرة دفعاً للحرج. لكن يجب بالاتفاق إزالة ما يحجب الماء عن الأظافر غيرها كدهن وطلاء. ويجب عند المالكية تخليل أصابع اليدين، ويندب تخليل أصابع الرجلين. ويجب غسل الإصبع الزائدة في محل الفرض مع الأصلية؛ لأنها نابتة فيه، ¬
ثالثا ـ مسح الرأس
كما يجب عند الحنابلة والمالكية غسل جلدة متعلقة في غير محل الفرض وتدلت إلى محل الفرض. وقال الشافعية: إن تدلت جلدة العضد منه، لم يجب غسل شيء منها، لا المحاذي ولا غيره؛ لأن اسم اليد لا يقع عليها، مع خروجها عن محل الفرض. فإن قطع بعض ما يجب غسله من اليدين، وجب بالاتفاق غسل ما بقي منه؛ لأن الميسور لا يسقط بالمعسور، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم». أما من قطعت يده من المرفق فيجب عليه غسل رأس عظم العضد، لأنه من المرفق. فإن قطع ما فوق المرفق، ندب غسل باقي العضد، لئلا يخلو العضد عن طهارة. ويجب عند الجمهور تحريك الخاتم الضيق، ولا يجب عند المالكية تحريك الخاتم المأذون فيه لرجل وامرأة، ولو ضيقاً لا يدخل الماء تحته، ولا يعد حائلاً. ثالثاً ـ مسح الرأس: لقوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم} [المائدة:6/ 5]، وروى مسلم «أنه (صلّى الله عليه وسلم) مسح بناصيته وعلى العمامة». والمسح: هو إمرار اليد المبتلة على العضو. والرأس: منبت الشعر المعتاد من المقدم فوق الجبهة إلى نقرة القفا. ويدخل فيه الصُدْغان ما فوق العظم الناتئ في الوجه.
واختلف الفقهاء في القدر المجزئ منه (¬1): فقال الحنفية على المشهور المعتمد: الواجب مسح ربع الرأس مرة، بمقدار الناصية، فوق الأذنين لا على طرف ذؤابة (ضفيرة)، ولو بإصابة مطر أو بلل باق بعد غسل لم يؤخذ من عضو آخر. ودليلهم: أنه لا بد من تحقيق معنى المسح عرفاً، فيحمل على مقدار يسمى المسح عليه مسحاً في المتعارف، وبما أن الباء للإلصاق، فيكون معنى الآية وامسحوا أيديكم ملصقة برؤوسكم، والقاعدة: أن الباء إذا دخلت على الممسوح اقتضت استيعاب الآلة، وإذا دخلت على الآلة اقتضت استيعاب الممسوح، فتفيد المسح بمقدار اليد؛ لأن استيعاب اليد ملصقة بالرأس لا يستغرق غالباً سوى الربع، فيكون هو المطلوب من الآية. ويوضحه مارواه البخاري ومسلم عن المغيرة بن شعبة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم توضأ، فمسح بناصيته، وعلى العمامة، والخفين» وما رواه أبو داود عن أنس قال: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتوضأ وعليه عِمامة قِطْرية (من صنع قَطَر)، فأدخل يده تحت العمامة، فمسح مقدَّم رأسه، ولم ينقض العمامة» (¬2)، فكان ذلك بياناً لمجمل الآية القرآنية، لأن الناصية أو مقدم الرأس مقدرة بالربع؛ لأنها أحد جوانب الرأس الأربعة، ولعل أرجح الآراء وجوب مسح مقدار يسمى مسحاً باليد في العرف. وقال المالكية: والحنابلة في أرجح الروايتين عندهم: يجب مسح جميع ¬
الرأس، وليس على الماسح نقض ضفائر شعره، ولا مسح ما نزل عن الرأس من الشعر، ولا يجزئ مسحه عن الرأس، ويجزئ المسح على الشعر الذي لم ينزل عن محل الفرض. فإن فقد شعره مسح بشرته؛ لأنها ظاهر رأسه بالنسبة إليه. والظاهر عند الحنابلة: وجوب الاستيعاب للرجل، أما المرأة فيجزئها مسح مقدم رأسها؛ لأن عائشة كانت تمسح مقدم رأسها. ويجب أيضاً عند الحنابلة مسح الأذنين ظاهرهما وباطنهما؛ لأنهما من الرأس، لما رواه ابن ماجه: «الأذنان من الرأس» (¬1). ويكفي المسح عندهم مرة واحدة، ولا يستحب تكرار مسح رأس وأذن، قال الترمذي وأبو داود: والعمل عليه عند أكثر أهل العلم؛ لأن أكثر من وصف وضوء رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذكر أنه مسح رأسه واحدة، لأنهم ذكروا الوضوء ثلاثاً ثلاثاً، وقالوا فيها: (ومسح برأسه) ولم يذكروا عدداً، كما ذكروا في غيره. ودليلهم: أن الباء للإلصاق أي إلصاق الفعل بالمفعول، فكأنه تعالى قال: ألصقوا المسح برؤوسكم أي المسح بالماء. ولأنه صلّى الله عليه وسلم مسح جميع الرأس، روى عبد الله بن زيد «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم مسح رأسه بيديه، فأقبل بهما، وأدبر، بدأ بمقدِّم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قَفاه، ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه» (¬2) وهو يدل على مشروعية مسح جميع الرأس، وهو مستحب باتفاق العلماء، كما قال النووي. ¬
رابعا ـ غسل الرجلين إلى الكعبين
وقال الشافعية: الواجب مسح بعض الرأس، ولو شعرة واحدة في حدِّ الرأس، بأن لا يخرج بالمدِّ عنه من جهة نزوله. والأصح عند الشافعية جواز غسله لأنه مسح وزيادة، وجواز وضع اليد على الرأس بلا مَدّ، لحصول المقصود من وصول البلل إليه. والأصح عند الحنابلة: أنه لا يكفي غسل الرأس من غير إمرار اليد على الرأس، فيجزئه الغسل مع الكراهة إن أمرّ يده. ودليل الشافعية حديث المغيرة السابق عند الشيخين: «أنه صلّى الله عليه وسلم مسح بناصيته، وعلى العمامة» فاكتفى بمسح البعض فيما ذكر، لأن المطلوب مطلقاً وهو المسح في الآية يتحقق بالبعض، والباء إذا دخلت على متعدد، كما في الآية، تكون للتبعيض، فيكفي القليل كالكثير. والحق: أن الآية من قبيل المطلق، وأنها لا تدل على أكثر من إيقاع المسح بالرأس، وذلك يتحقق بمسح الكل، وبمسح أي جزء قل أم كثر، ما دام في دائرة ما يصدق عليه اسم المسح، وأن مسح شعرة أو ثلاث شعرات لا يصدق عليه ذلك (¬1). رابعاً ـ غسل الرجلين إلى الكعبين: لقوله تعالى: {وأرجلكم (¬2) إلى الكعبين} [المائدة:5/ 6]، ولإجماع العلماء، ولحديث عمرو بن عَبْسة عند أحمد: « ... ثم يمسح رأسه كما أمر الله، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين كما أمره الله» ولحديث عثمان عند أبي داود ¬
والدارقطني بعد أن غسل رجليه قال: «هكذا رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتوضأ» ولغيرهما من الأحاديث كحديث عبد الله بن زيد وحديث أبي هريرة. والكعبان: هما العظمان الناتئان من الجانبين عند مفصل القدم. والواجب عند جمهور الفقهاء غسل الكعبين أو قدرهما عند فقدهما مع الرجلين مرة واحدة، كغسل المرفقين، لدخول الغاية في المُغَيَّا أي لدخول ما بعد «إلى» فيما قبلها (¬1)،ولحديث أبي هريرة السابق: « ... ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق، ثم غسل رجله اليسرى حتى أشرع في الساق، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتوضأ» (¬2). ويلزم عند الجمهور أيضاً غسل القدمين مع الكعبين، ولا يجزئ مسحهما لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ويل للأعقاب من النار» (¬3) فقد توعد على المسح، ولمداومته صلّى الله عليه وسلم على غسل الرجلين، وعدم ثبوت المسح عنه من وجه صحيح، ولأمره بالغسل، كما ثبت في حديث جابر عند الدارقطني بلفظ «أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا توضأنا للصلاة أن نغسل أرجلنا» ولثبوت ذلك من قوله وفعله صلّى الله عليه وسلم، كما في حديث عمرو بن عَبْسة وأبي هريرة وعبد الله بن زيد وعثمان السابقة التي فيها حكاية وضوء رسول الله وفيها: (فغسل قدميه)، ولقوله صلّى الله عليه وسلم بعد أن توضأ وضوءاً غسل قدميه: «فمن ¬
زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم» (¬1) ولا شك أن المسح بالنسبة إلى الغسل نقص، ولقوله عليه الصلاة والسلام للأعرابي: «توضأ كما أمرك الله» (¬2) ثم ذكر له صفة الوضوء، ولإجماع الصحابة على الغسل، فكانت هذه الأمور موجبة لحمل قراءة (وأرجلِكم) بالكسر على حالة نادرة مخالفة للظاهر، لا يجوز حمل المتنازع فيه عليها. وعطفها على (برؤوسكم) بالجر للمجاورة. وأما قراءة النصب فهي عطف على اليدين في الغسل. ثم إن أمر النبي صلّى الله عليه وسلم بتخليل أصابع اليدين والرجلين يدل على وجوب الغسل (¬3). وأوجب الشيعة الإمامية (¬4) مسح الرجلين، لما أخرج أبو داود من حديث أوس بن أبي أوس الثقفي: «أنه رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أتى كِظَامة (¬5) قوم بالطائف، فتوضأ، ومسح على نعليه وقدميه» (¬6)، وعملاً بقراءة الجر «وأرجلكم» وبما روي عن علي وابن عباس وأنس، لكن قد ثبت عنهم الرجوع عن ذلك. قال الشوكاني: وأما الموجبون للمسح، وهم الإمامية، فلم يأتوا مع مخالفتهم الكتاب ¬
النوع الثاني ـ فرائض الوضوء المختلف فيها
والسنة المتواترة قولاً وفعلاً بحجة نيرة، وجعلوا قراءة النصب عطفاً على محل قوله: {برؤوسكم} [المائدة:6/ 5] (¬1). والسبب في ذكر الغسل والمسح في الأرجل بحسب قراءتي النصب والجر ـ كما ذكر الزمخشري ـ هو توقي الإسراف؛ لأن الأرجل مظنة لذلك. والخلاصة: أن أركان الوضوء المتفق عليها أربعة: غسل الوجه واليدين والرجلين مرة واحدة، والمسح بالرأس مرة واحدة، وأما التثليث فهو سنة، كما سيأتي بيانه. النَّوع الثَّاني ـ فرائِضُ الوضوء المختلف فيها: اختلف الفقهاء في إيجاب النية والترتيب والموالاة والدلك. فقال غير الحنفية بفرضية النية، وقال المالكية والحنابلة والإمامية بوجوب الموالاة، وقال الشافعية والحنابلة والإمامية بوجوب الترتيب، وانفرد المالكية بإيجاب الدلك. وأبحث الخلاف في هذه الأمور: أولاً ـ النية: النية لغة: القصد بالقلب، لا علاقة للسان بها، وشرعاً: هي أن ينوي المتطهر أداء الفرض، أو رفع حكم الحدث، أو استباحة ما تجب الطهارة له، كأن يقول المتوضئ: نويت فرائض الوضوء، أو يقول من دام حدثه كمستحاضة وسلس بول أو ريح: نويت استباحة فرض الصلاة، أو الطواف أو مس المصحف. أو يقول المتطهر مطلقاً: نويت رفع الحدث، أي إزالة المانع بين كل فعل يفتقر إلى الطهارة. وعرف الحنفية النية اصطلاحاً بأنها توجه القلب لإيجاد الفعل جزماً. ¬
وقد اختلف الفقهاء في اشتراط النية للطهارة: فقال الحنفية (¬1): يسن للمتوضئ البداية بالنية لتحصيل الثواب، ووقتها: قبل الاستنجاء ليكون جميع فعله قربة. وكيفيتها: أن ينوي رفع الحدث، أو إقامة الصلاة، أو ينوي الوضوء أو امتثال الأمر. ومحلها القلب، فإن نطق بها ليجمع بين فعل القلب واللسان، فهو مستحب عند المشايخ. ويترتب على قولهم بعدم فرضية النية: صحة وضوء المتبرد، والمنغمس في الماء للسباحة أو للنظافة أو لإنقاذ غريق، ونحو ذلك. واستدلوا على رأيهم بما يأتي: 1ً - عدم النص عليها في القرآن: إن آية الوضوء لم تأمر إلا بغسل الأعضاء الثلاثة والمسح بالرأس، والقول باشتراط النية بحديث آحاد زيادة على نص الكتاب، والزيادة على الكتاب عندهم نسخ، لا يصح بالآحاد. 2ً - عدم النص عليها في السنة: لم يعلمها النبي صلّى الله عليه وسلم للأعرابي مع جهله. وفرضت النية في التيمم لأنه بالتراب، وليس هو مزيلاً للحدث بالأصالة، وإنما هو بدل عن الماء. 3ً - القياس على سائر أنواع الطهارة وغيرها: إن الوضوء طهارة بماء، فلا تشترط لها النية كإزالة النجاسة، كما لا تجب النية في شروط الصلاة الأخرى كستر العورة، ولا تجب أيضاً بغسل الذمية من حيضها لتحل لزوجها المسلم. 4ً - إن الوضوء وسيلة للصلاة، وليس مقصوداً لذاته، والنية شرط مطلوب في المقاصد، لا في الوسائل. ¬
وقال المالكية والشافعية: النية فرض في الوضوء، وعند الحنابلة شرط، لتحقيق العبادة أو قصد القربة لله عز وجل (¬1)،فلا تصح الصلاة بالوضوء لغير العبادة كالأكل والشرب والنوم ونحو ذلك. واستدلوا بما يأتي: 1ً - السنة: قوله صلّى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» (¬2) أي إن الأعمال المعتدّ بها شرعاً تكون بالنية، والوضوء عمل، فلا يوجد شرعاً إلا بنية. 2ً - تحقيق الإخلاص في العبادة: لقوله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} [البينة:5/ 98]، والوضوء عبادة مأمور بها، لا يتحقق إلا بإخلاص النية فيه لله تعالى، لأن الإخلاص عمل القلب وهو النية. 3ً - القياس: تشترط النية في الوضوء كما تشترط في الصلاة، وكما تشترط في التيمم لا ستباحة الصلاة. 4ً - الوضوء وسيلة للمقصود، فله حكم ذلك المقصود، لقوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} [المائدة:6/ 5]، فهذا يدل على أن الوضوء مأمور به عند القيام للصلاة، ومن أجل هذه العبادة، فالمطلوب غسل الأعضاء لأجل الصلاة، وهو معنى النية. والحق: القول بفرضية النية؛ لأن أحاديث الآحاد كثيراً ما أثبتت أحكاماً ¬
ما يتعلق بالنية
ليست في القرآن، ولأن عموم الماء للأعضاء بدون قصد أصلاً، أو بقصد التبرد، ليس غسلاً للوضوء، حتى يؤد ي مهمته الشرعية، ويحقق المأمور به كما أمر به (¬1). ما يتعلق بالنية: يتلخص مما سبق أمور تتعلق بالنية هي ما يأتي (¬2): أـ حقيقتها: لغة: القصد، وشرعاً: قصد الشيء مقترناً بفعله. ب ـ حكمها: عند الجمهور: الوجوب، وعند الحنفية: الاستحباب. جـ ـ المقصود بها: تمييز العبادة عن العادة، أو تمييز رتبتها أي تمييز بعض العبادات عن بعض، كالصلاة تكون فرضاً تارة، ونفلاً أخرى. د ـ شرطها: إسلام الناوي وتمييزه وعلمه بالمنوي، وعدم إتيانه بما ينافيها بأن يستصحبها حكماً، فلا ينصرف عن الوضوء مثلاً لغيره، وألا تكون معلقة، فلو قال: إن شاء الله تعالى: فإن قصد التعليق أوأطلق، لم تصح، وإن قصد التبرك صحت. واشترط غير الحنفية دخول وقت الصلاة لدائم الحدث كسلس بول ومستحاضة؛ لأن طهارته طهارة عذر وضرورة، فتقيدت بالوقت كالتيمم. هـ ـ محلها: القلب، إذ هي عبارة عن القصد، ومحل القصد: القلب، فمتى اعتقد بقلبه أجزأه، وإن لم يتلفظ بلسانه، أما إن لم تخطر النية بقلبه، فلم يجزئه الفعل الحاصل، والأولى عند المالكية ترك التلفظ بالنية، ويسن عند الشافعية والحنابلة: التلفظ بها، إلا أن المذهب عند الحنابلة أنه يستحب التلفظ بها سراً، ويكره الجهر بها وتكرارها. ¬
وـ صفتها: أن يقصد بطهارته استباحة شيء لا يستباح إلا بها، كالصلاة والطواف ومس المصحف، وينوي رفع الحدث الأصغر، أي المنع المترتب على الأعضاء، أي أن صفة النية أن ينوي رفع الحدث أو الطهارة من الحدث، وأيهما نواه أجزأه، لأنه نوى المقصود وهو رفع الحدث. فإن نوى بالطهارة: ما لا تشرع له الطهارة، كالتبرد والأكل والبيع والزواج ونحوه، ولم ينو الطهارة الشرعية، لم يرتفع حدثه؛ لأنه لم ينو الطهارة ولامايتضمن نيتها، فلم يحصل له شيء، كالذي لم يقصد شيئاً. وإن نوى بالوضوء الصلاة وغيرها كالتبرد أو النظافة أو التعليم أو إزالة النجاسة، صحت النية وأجزأته. لكن لو أطلق النية أي لمجرد الطهارة الشاملة للحدث والخبث مثلاً، لم تصح ولم تجزئ، حتى يتحقق تمييز العبادة عن العادة، ولا يتم التمييز إلا بالنية، والطهارة قد تكون عن حدث وقد تكون عن نجس، فلم تصح بنية مطلقة. وإن نوى المتوضئ بوضوئه ما تسن له الطهارة، كأن نوى الوضوء لقراءة وذكر وأذان ونوم وجلوس بمسجد أو تعليم علم وتعلمه أو زيارة عالم ونحو ذلك، ارتفع حدثه وله أن يصلي ما شاء عند الحنابلة، لأنه نوى شيئاً من ضرورة صحة الطهارة. ولا يجزئه للصلاة عند المالكية من غير أن ينوي رفع الحدث، لأن ما نواه يصح فعله مع بقاء الحدث. كما لا يجزئه في الأصح عند الشافعية؛ لأنه مباح مع الحدث، فلا يتضمن قصده رفع الحدث. ولا خلاف في أنه إذا توضأ لنافلة أو لما يفتقر إلى الطهارة كمس المصحف والطواف، صلى بوضوئه الفريضة؛ لأنه ارتفع حدثه (¬1). ¬
وإن شك في النية في أثناء الطهارة لزمه استئنافها؛ لأنها عبادة شك في شرطها، وهو فيها، فلم تصح كالصلاة. ولا يضر شكه في النية بعد فراغ الطهارة، كسائر العبادات. وإذا وضّأه غيره، اعتبرت النية من المتوضئ دون الموضئ؛ لأن المتوضئ هو المخاطب بالوضوء، والوضوء يحصل له بخلاف الموضئ فإنه آلة لا يخاطب ولا يحصل له. وينوي من حدثه دائم كالمستحاضة وسلس البول ونحوه استباحة الصلاة دون رفع الحدث، لعدم إمكان رفعه. ز ـ وقت النية: قال الحنفية: وقتها قبل الاستنجاء ليكون جميع فعله قربة، وقال الحنابلة: وقتها عند أول واجب وهو التسمية في الوضوء، وقال المالكية: محلها الوجه، وقيل: أول الطهارة. وقال الشافعية: عند أول غسل جزء من الوجه، ويجب عند الشافعية قرنها بأول غسل الوجه لتقترن بأول الفرض كالصلاة. ويستحب أن ينوي قبل غسل الكفين لتشمل النية مسنون الطهارة ومفروضها، فيثاب على كل منهما. ويجوز تقديم النية على الطهارة بزمن يسير، فإن طال الزمن لم يُجزه ذلك. ويستحب استصحاب ذكر النية إلى آخر الطهارة، لتكون أفعاله مقترنة بالنية، وإن استصحب حكمها أجزأه، ومعناه: ألا ينوي قطعها. ولا يضر عزوب النية: أي ذهابها عن خاطره وذهوله عنها، بعد أن أتى بها في أول الوضوء؛ لأن ما اشترطت له النية لا يبطل بعزوبها والذهول عنها كالصلاة والصيام. وذلك بخلاف الرفض: أي الإبطال في أثناء الوضوء بأن يبطل ما فعله منه، كأن يقول بقلبه: أبطلت وضوئي، فإنه يبطل.
ثانيا ـ الترتيب
وللمتوضئ عند الشافعية والحنابلة تفريق النية على أعضاء الوضوء، بأن ينوي عند كل عضو رفع الحدث عنه، لأنه يجوز تفريق أفعال الوضوء، فكذلك يجوز تفريق النية على أفعاله. والمعتمد عند المالكية خلافاً للأظهر عند ابن رشد: أنه لا يجزئ تفريق النية على الأعضاء، بأن يخص كل عضو بنية، من غير قصد إتمام الوضوء، ثم يبدو له فيغسل ما بعده، وهكذا، فإن فرق النية على الأعضاء مع قصده إتمام الوضوء على الفور، أجزأه ذلك. وبه يلتقي المالكية مع الشافعية والحنابلة. والخلاصة: اتفق العلماء على وجوب النية في التيمم، واختلفوا في وجوبها في الطهارة عن الحدث الأكبر والأصغر على قولين. ثانياً ـ الترتيب: الترتيب: تطهير أعضاء الوضوء واحداً بعد الآخر كما ورد في النص القرآني: أي غسل الوجه أولاً ثم اليدين ثم مسح الرأس ثم غسل الرجلين. واختلف الفقهاء في وجوبه (¬1). فقال الحنفية والمالكية: إنه سنة مؤكدة لا فرض، فيبدأ بما بدأ الله بذكره وبالميامن؛ لأن النص القرآني الوارد في تعداد فرائض الوضوء عطف المفروضات بالواو، التي لا تفيد إلا مطلق الجمع، وهو لا يقتضي الترتيب، ولو كان الترتيب مطلوباً لعطفه بالفاء أو (ثم)، والفاء التي في قوله تعالى: {فاغسلوا} [المائدة:6/ 5]، لتعقيب جملة الأعضاء. ¬
وروي عن علي وابن عباس وابن مسعود ما يدل على عدم وجوب الترتيب، قال علي رضي الله عنه: «ما أبالي بأي أعضائي بدأت» وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «لابأس بالبداية بالرجلين قبل اليدين» وقال ابن مسعود رضي الله عنه: «لابأس أن تبدأ برجليك قبل يديك في الوضوء» (¬1). وقال الشافعية والحنابلة: الترتيب فرض في الوضوء لا في الغسل. لفعل النبي صلّى الله عليه وسلم المبين للوضوء المأمور به (¬2)، ولقوله صلّى الله عليه وسلم في حجته: «ابدؤوا بما بدأ الله به» (¬3)، والعبرة بعموم اللفظ، ولأن في آية الوضوء قرينة تدل على أنه أريد بها الترتيب، فإنه تعالى ذكر ممسوحاً بين مغسولات، والعرب لا تفرق بين المتجانسين ولا تقطع النظير عن نظيره إلا لفائدة، وهي هنا الترتيب، ولأن الآية بيان للوضوء الواجب، بدليل أنه لم يذكر فيها شيء من السنن. وقياساً على الترتيب الواجب في أركان الصلاة. فلو نكس (¬4) الترتيب المطلوب، فبدأ برجليه، وختم بوجهه لم يصح إلا غسل وجهه، ثم يكمل ما بعده على الترتيب الشرعي. ويمكن تصحيح الوضوء غير المرتب بأن يغسل أعضاءه أربع مرات، لأنه يحصل له في كل مرة غسل كل عضو، فيحصل له من المرة الأولى غسل الوجه، ومن الثانية غسل اليدين، ومن الثالثة مسح الرأس، ومن الرابعة غسل الرجلين. وإن غسل أعضاءه دفعة واحدة، لم يصح وضوءه، وكذا لو وضأه أربعة في حالة واحدة؛ لأن الواجب الترتيب، لا عدم التنكيس، ولم يوجد الترتيب. ¬
ثالثا ـ الموالاة أو الولاء
ولو اغتسل محدث حدثاً أصغر فقط بنية رفع الحدث أو نحوه، فالأصح عن الشافعية: أنه إن أمكن تقدير ترتيب بأن غطس مثلاً صح، ولو بلا مُكْث؛ لأنه يكفي ذلك لرفع أعلى الحدثين، فللأصغر أولى، ولتقدير الترتيب في لحظات معينة. ولا يكفي ذلك عند الحنابلة، إلا إذا مكث في الماء قدراً يسع الترتيب، فيخرج وجهه ثم يديه، ثم يمسح رأسه، ثم يخرج من الماء، سواء أكان الماءراكداً أم جارياً. والترتيب مطلوب بين الفرائض، ولا يجب الترتيب بين اليمنى واليسرى من اليدين والرجلين، وإنما هو مندوب، لأن مخرجهما في القرآن واحد، قال تعالى: {وأيديكم} .... {وأرجلكم} [المائدة:6/ 5]، والفقهاء يعدون اليدين عضواً، والرجلين عضواً، ولا يجب الترتيب في العضو الواحد. وهذا هو المقصود من قول علي وابن مسعود، قال أحمد: إنما عنيا به اليسرى قبل اليمنى؛ لأن مخرجهما من الكتاب واحد. وفي تقديري: أن رأي القائلين بالترتيب أولى، لمواظبة النبي صلّى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً عليه، واستمر الصحابة على ذلك، لا يعرفون غير الترتيب في الوضوء، ولايتوضؤون إلا مرتبين، ودرج المسلمون على الترتيب في كل العصور. وكون الواو لا يقتضي الترتيب صحيح مسلّم به، لكن ذلك عند عدم القرائن الدالة على إرادة الترتيب، والقرائن الدالة عليه كثيرة، وهي المواظبة من النبي وصحبه (¬1). ثالثاً ـ الموالاة أو الوِلاء: هي متابعة أفعال الوضوء بحيث لا يقع بينها ما يعد فاصلاً في العرف، أو هي ¬
المتابعة بغسل الأعضاء قبل جفاف السابق، مع الاعتدال مزاجاً وزماناً ومكاناً ومناخاً. واختلف الفقهاء في وجوبها (¬1). فقال الحنفية الشافعية: الموالاة سنة لا واجب، فإن فرق بين أعضائه تفريقاً يسيراً لم يضر؛ لأنه لا يمكن الاحتراز عنه. وإن فرق تفريقاً كثيراً، وهو بقدر ما يجف الماء على العضو في زمان معتدل، أجزأه؛ لأن الوضوء عبادة لايبطلها التفريق القليل والكثير كتفرقة الزكاة والحج. واستدلوا على رأيهم بالآتي: 1ً - «إنه صلّى الله عليه وسلم توضأ في السوق، فغسل وجهه ويديه، ومسح رأسه، فدعي إلى جنازة، فأتى المسجد يمسح على خفيه وصلى عليها» (¬2) قال الإمام الشافعي: وبينهما تفريق كثير. 2ً - صح عن ابن عمر رضي الله عنهما التفريق أيضاً، ولم ينكر عليه أحد. وقال المالكية والحنابلة: الموالاة في الوضوء لا في الغسل فرض، بدليل مايأتي: 1ً - «إنه صلّى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي، وفي ظهر قدمه لُمْعة (بقعة) قدر الدرهم، لم يصبها الماء، فأمره النبي صلّى الله عليه وسلم أن يعيد الوضوء والصلاة» (¬3) ولو لم تجب الموالاة لأجزأه غسل اللمعة. ¬
رابعا ـ الدلك الخفيف باليد
2ً - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه «أن رجلاً توضأ فترك موضع ظفر على قدمه، فأبصره النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: ارجع فأحسن وضوءك، فرجع ثم صلى» (¬1). 3ً - مواظبته صلّى الله عليه وسلم على الوِلاء في أفعال الوضوء، فإنه لم يتوضأ إلا متوالياً، وأمر تارك الموالاة بإعادة الوضوء. 4ً - القياس على الصلاة، الوضوء عبادة يفسدها الحدث، فاشترطت الموالاة كالصلاة. وفي تقديري أن القول بضرورة الموالاة إلا لعجز أمر يتفق مع ضرورة الجدية في العبادات وعدم العبث واللعب فيها، ومع وحدة العبادات، والسنة الفعلية، ولزوم الانصراف الكلي بالنية والتطبيق لتنفيذ مطلب الشرع على نحو متتابع منسجم بعضه مع بعض، دون تخلل أمر صارف عن موضوعية الفعل. رابعاً ـ الدلك الخفيف باليد: الدلك: هو إمرار اليد على العضو بعد صب الماء قبل جفافه، والمراد باليد: باطن الكف، فلا يكفي دلك الرِجل بالأخرى. واختلف الفقهاء في إيجابه (¬2). فقال الجمهور (غير المالكية): الدلك سنة لا واجب، لأن آية الوضوء لم تأمر ¬
به، والسنة لم تثبته، فلم يذكر في صفة وضوء النبي صلّى الله عليه وسلم. والثابت في صفة غسله عليه الصلاة والسلام مجرد إفاضة الماء مع تخلل أصول الشعر (¬1). وقال المالكية: الدلك واجب، ويكون في الوضوء بباطن الكف، لا بظاهر اليد، ويكفي الدلك بالرجل في الغسل، والدلك فيه: هو إمرار العضو على العضو إمراراً متوسطاً، ويندب أن يكون خفيفاً مرة واحدة، ويكره التشديد والتكرار لما فيه من التعمق في الدين المؤدي للوسوسة. وهو واجب بنفسه، ولو وصل الماء للبشرة على المشهور. واستدلوا بما يأتي: 1ً - إن الغسل المأمور به في آية الوضوء {فاغسلوا وجوهكم} [المائدة:6/ 5]، لا يتحقق معناه إلا بالدلك، فإن مجرد إصابة الماء للعضو لا يعتبر غسلاً، إلا إذا صاحبه الإمرار بشيء آخر على الجسم، وهو معنى الدلك. 2ً - حديث «بُلُّوا الشعر، وأنقوا البشر» (¬2) على فرض صحته مشعر بوجوب الدلك؛ لأن الإنقاء لا يحصل بمجرد الإفاضة. 3ً - القياس: قاسوا طهارة الحدث الأصغر على إزالة النجاسة التي لا تحصل إلا بالدلك والعرك، كما قاسوها على غسل الجنابة في آية: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} [المائدة:6/ 5]، فالصيغة للمبالغة، والمبالغة تكون بالدلك. ويظهر لي أن الدلك وسيلة تنظيف وتحسين هيئة الأعضاء الظاهرة، ويكفي لتحقيق هذا ¬
حكم ناسي أحد الفروض
المقصود القول بسنية الدلك لا بوجوبه، لأن الأحاديث التي وصفت غسل النبي صلّى الله عليه وسلم لا تدل حقاً على الدلك، وليس في كتب اللغة ما يشعر بأن الدلك داخل في مسمى الغسل، فالواجب ما صدق عليه اسم الغسل المأمور به لغة. حكم ناسي أحد الفروض: قال ابن جزي المالكي (¬1): من نسي شيئاً من فرائض الوضوء، فإن ذكر بعد أن جف وضوءه، فعل ما ترك خاصة، وإن ذكر قبل أن يجف وضوءه ابتدأ الوضوء، قال الطُّليطلي: إنه يعيد الذي نسي وما بعده ولايبتدئ الوضوء، وهو الصحيح. المطلب الثالث ـ شروط الوضوء: سبب وجوب الوضوء: هو الحدث، ودخول وقت الصلاة، والقيام إليها ونحوها، والأصح عند الشافعية: الاثنان معاً أي الحدث والقيام إلى الصلاة ونحوها. وأما شروط الوضوء فنوعان: شروط وجوب، وشروط صحة (¬2). وشرائط الوجوب: هي ما إذا اجتمعت وجبت الطهارة على الشخص. وشرائط الصحة: ما لا تصح الطهارة إلا بها. أولاً ـ شروط الوجوب: يشترط لوجوب الوضوء على الشخص، أي التكليف به وافتراضه عليه شروط ثمانية هي ما يأتي: ¬
1ً - العقل: فلا يجب ولا يصح من مجنون حال جنونه، ولا من مصروع حال صرعه، ولا يجب على النائم والغافل ولا يصح منهما لعدم النية عند الجمهور غير الحنفية؛ إذ لا نية لنائم أو غافل حال النوم أو الغفلة. 2ً - البلوغ: فلا يجب على صبي، لكن لا يصح الوضوء إلا من مميز، فالتمييز شرط لصحة الوضوء. 3ً - الإسلام: شرط وجوب عند الحنفية بناء على المشهور عندهم من أن الكفار غير مخاطبين بالعبادات وغيرها من فروع الشريعة، فلا يجب على كافر إذ لايخاطب كافر بفروع الشريعة. وهو شرط صحة عند الجمهور بناء على أن المقرر لديهم مخاطبة الكفار بفروع الشريعة، فلا يصح من كافر، إذ يشترط لصحة أدائه منه وجود الإسلام (¬1). وهذا شرط في جميع العبادات من طهارة وصلاة وزكاة وصوم وحج. 4ً - القدرة على استعمال الماء الطهور الكافي، فلا يجب على عاجز عن استعمال المطهر، ولا على فاقد الماء، والتراب أيضاً، ولا على واجد ماء لا يكفي لجميع الأعضاء مرة مرة. ولا على عاجز يضره الماء، فالمراد بالقادر: هو الواجد الماء الذي لا يضره استعماله. هذا عند الحنفية والمالكية، والأظهر عند الشافعية والحنابلة أنه يجب استعمال الماء الذي لا يكفيه ثم يتيمم. 5ً - وجود الحدث: فلا يلزم المتوضئ إعادة الوضوء أي الوضوء على الوضوء. 6ً، 7ً - عدم الحيض والنفاس بانقطاعهما شرعاً، فلا يجب على الحائض والنفساء. ¬
ثانيا ـ شروط الصحة
8ً - ضيق الوقت: لأن الخطاب الشرعي يتوجه للمكلف حينئذ توجهاً مضيقاً، وموسعاً في ابتداء الوقت، فلا يجب الوضوء حال سعة الوقت، ويجب إذا ضاق الوقت. ويمكن اختصار هذه الشروط في أمر واحد: هو قدرة المكلف بالطهارة عليها بالماء. ثانياً ـ شروط الصحة: يشترط لصحة الوضوء شروط ثلاثة عند الحنفية، وأربعة عند الجمهور: 1ً - عموم البشرة بالماء الطهور: أي أن يعم الماء جميع أجزاء العضو المغسول، بحيث لا يبقى منه شيء، إلا وقد غسل، لكي يغمر الماء جميع أجزاء البشرة، حتى لو بقي مقدار مغرز إبرة لم يصبه الماء من المفروض غسله، لم يصح الوضوء. وبناء عليه يجب تحريك الخاتم الضيق عند الجمهور غير المالكية: أما المالكية فقالوا: لا يجب تحريك الخاتم المأذون فيه لرجل أو امرأة ولو ضيقاً لا يدخل الماء تحته، ولا يعد حائلاً بخلاف غير المأذون فيه، كالذهب للرجل أو المتعدد أكثر من واحد، فلا بد من نزعه ما لم يكن واسعاً يدخل الماء تحته، فيكفي تحريكه؛ لأنه بمنزلة الدلك بالخرقة. ولا يصح الوضوء باتفاق الفقهاء بغير الماء من المائعات كالخل والعصير واللبن ونحو ذلك، كما لا يصح التوضؤ بالماء النجس، إذ لا صلاة إلا بطهور أو لا صلاة إلا بطهارة. 2ً - إزالة ما يمنع وصول الماء إلى العضو: أي ألا يكون على العضو الواجب
غسله حائل يمنع وصول الماء إلى البشرة، كشمع وشحم ودهن ودهان، ومنه عماص العين، والحبر الصيني المتجسم، وطلاء الأظافر للنساء. أما الزيت ونحوه فلا يمنع نفوذ الماء للبشرة. 3ً - عدم المنافي للوضوء أو انقطاع الناقض من خارج أو غيره: أي انقطاع كل ما ينقض الوضوء قبل البدء به، لغير المعذور، من دم حيض ونفاس وبول ونحوهما، وانقطاع حدث حال التوضؤ؛ لأنه بظهور بول وسيلان ناقض، لا يصح الوضوء. والخلاصة: أنه لا يصح الوضوء لغير المعذور حال خروج الحدث أو وجود ناقض للوضوء. 4ً - دخول الوقت للتيمم عند الجمهور غير الحنفية، ولمن حدثه دائم كسلس البول عند الشافعية والحنابلة، لأن طهارته طهارة عذر وضرورة، فتقيدت بالوقت. والإسلام كما عرفنا شرط لصحة أداء العبادات عند غير الحنفية، وعندهم: شرط وجوب. وأما التمييز فهو شرط لصحة الوضوء وغيره من العبادات بالاتفاق. وقال الشافعية: شروط الوضوء والغسل ثلاثة عشر: الإسلام، والتمييز، والنقاء من الحيض والنفاس، وعما يمنع وصول الماء إلى البشرة، والعلم بفرضيته، وألا يعتقد فرضاً معيناً من فروضه سنة، والماء الطهور، وإزالة النجاسة العينية، وألا يكون على العضو ما يغير الماء، وألا يعلق نيته، وأن يجري الماء على العضو، ودخول الوقت لدائم الحدث، والموالاة (أي فقد الصارف).
المطلب الرابع ـ سنن الوضوء
المطلب الرابع ـ سنن الوضوء: ميز الحنفية بين السنة والمندوب، فقالوا: السنة: هي المؤكدة وهي الطريقة المسلوكة في الدين من غير لزوم، على سبيل المواظبة، أي أنها التي واظب عليها النبي ـ صلّى الله عليه وسلم وتركها أحياناً بلا عذر. وحكمها الثواب على الفعل والعتاب على الترك. وأما المندوب أو المستحب: فهو مالم يواظب عليه النبي صلّى الله عليه وسلم. ويعرف هنا بآداب الوضوء. وحكمه الثواب على فعله وعدم اللوم على تركه. وأهم سنن الوضوء عند الحنفية: ثمانية عشر شيئاً، وعند المالكية ثمان، وعند الشافعية حوالي ثلاثين، إذ لم يفرقوا بين السنة والمندوب، وعند الحنابلة: حوالي عشرين مطلوباً (¬1). 1 ً - النية سنة عند الحنفية، ووقتها قبل الاستنجاء، وكيفيتها: أن ينوي رفع الحدث أو إقامة الصلاة أو ينوي الوضوء أو امتثال الأمر. ومحلها القلب، واستحب المشايخ النطق بها. وهي فرض عند الجمهور غير الحنفية، كما بينت في بحث فرائض الوضوء. 2 ً - غسل اليدين إلى الرسغين ثلاثاً قبل إدخالهما الإناء، سواء قام من النوم أم لم يقم؛ لأنهما آلة التطهير، ولقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «إذا استيقظ أحدكم من نومه، ¬
- التسمية في بدء الوضوء
فليغسل يده، قبل أن يدخلها في الإناء، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده» (¬1) وفي لفظ: «حتى يغسلها ثلاثاً» والأرجح الاكتفاء بمرة كبقية أفعال الوضوء، والتثليث مستحب. وقال الحنابلة: يكون الغسل ثلاثاً، سنة لغير المستيقظ من النوم ليلاً، وواجباً على المستيقظ من نومه ليلاً. 3 ً - التسمية في بدء الوضوء: بأن يقول عند غسل يديه إلى كوعيه: بسم الله، والوارد عنه عليه السلام ـ فيما رواه الطبراني عن أبي هريرة بإسناد حسن ـ باسم الله العظيم، والحمد لله على دين الإسلام. وقيل: الأفضل: (باسم الله الرحمن الرحيم) عملاً بحديث «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم: أقطع» (¬2). وقد اعتبر المالكية التسمية من فضائل (آداب) الوضوء. وأوجب الحنابلة التسمية عند الوضوء. ودليلهم: قوله صلّى الله عليه وسلم: «لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» (¬3) وقوله عليه السلام من حديث سعيد بن زيد مثله (¬4)، وحديث أبي سعيد: «لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» (¬5). ¬
- المضمضة والاستنشاق
استدل الحنابلة على وجوب التسمية بهذه الأحاديث. وتأول الجمهور هذه الأحاديث بأنها واردة لنفي الكمال، لا نفي الصحة، كحديث «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» (¬1) وحديث «ذكر الله على قلب المؤمن، سمى أو لم يسمِّ» (¬2) بقرينة حديث مرفوع عن ابن عمر (¬3): «من توضأ وذكر اسم الله عليه كان طهوراً لجميع بدنه، ومن توضأ ولم يذكر اسم الله عليه، كان طهوراً لأعضاء وضوئه» (¬4) ولخبر النسائي وابن خزيمة بإسناد جيد عن أنس: «توضؤوا بسم الله» أي قائلين ذلك، وأكملها كمالها، ثم الحمد لله على الإسلام ونعمته، الحمد لله الذي جعل الماء طهوراً. وإنما تجب التسمية لآية الوضوء المبينة لواجباتها. 4 ً - المضمضة والاستنشاق: والمضمضة: هي إدخال الماء في الفم وخضخضته وطرحه، أو استيعاب جميع الفم بالماء. والاستنشاق: إدخال الماء في الأنف وجذبه بنفسه إلى داخل أنفه. ويلحق بهما سنة الاستنثار: وهو دفع الماء بنفسه مع وضع أصبعيه (السبابة والإبهام من يده اليسرى) على أنفه، كما يفعل في امتخاطه. وهي كلها سنة مؤكدة عند الجمهور غير الحنابلة لحديث مسلم: «ما منكم من أحد يقرب وضوءه، ثم يتمضمض ويستنشق ويستنثر، إلا خرَّت خطايا فيه وخياشيمه مع الماء» (¬5). وأما خبر (تمضمضوا واستنشقوا) فضعيف. وإنما لم يجبا فلآية الوضوء المبينة لواجباته. ¬
صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم في المضمضة والاستنشاق
صفة وضوء رسول الله صلّى الله عليه وسلم في المضمضة والاستنشاق: وتسن المضمضة والاستنشاق ثلاثاً للحديث المتفق عليه عن عثمان بن عفان رضي الله عنه: أنه دعا بإناء، فأفرغ على كفيه ثلاث مرات، فغسلهما، ثم أدخل يمينه في الإناء، فمضمض واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ويديه إلى المرفقين ثلاث مرات، ثم مسح برأسه، ثم غسل رِجليه ثلاث مرات إلى الكعبين. ثم قال: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم توضأ نحو وُضوئي هذا، ثم قال: من توضأ نحو وُضوئي هذا، ثم صلى ركعتين، لا يُحدِّث فيهما نفسه، غفَر الله له ما تقدم من ذنبه» (¬1) ولقوله عليه السلام فيما روى أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة عن عائشة: «عشر من الفطرة» وذكر منها (المضمضة والاستنشاق) والفطرة: السنة، ولأن الفم والأنف عضوان باطنان، فلا يجب غسلهما كباطن اللحية وداخل العينين، ولأن الوجه: ماتحصل به المواجهة ولا تحصل المواجهة بهما. واتفق الفقهاء على أنه تسن المبالغة فيهما للمفطر غير الصائم، لقوله صلّى الله عليه وسلم ـ في رواية صحح ابن القطان إسنادها ـ: «إذا توضأت فأبلغ في المضمضة والاستنشاق ما لم تكن صائماً» ولحديث لَقِيط بن صَبْرة: «أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق، إلا أن تكون صائماً» (¬2) ولا تسن المبالغة للصائم، بل تكره لخوف الإفطار. والمبالغة في المضمضة: أن يبلغ الماء إلى أقصى الحنك ووجهي الأسنان واللثات. ويسن إمرار أصبع يده اليسرى على ذلك، وفي الاستنشاق: أن يصعد الماء بالنَّفَس إلى الخيشوم. ويسن إدارة الماء في الفم ومجه. ¬
ويسن الاستنثار للأمر به في خبر ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «استنثروا مرتين بالغتين، أو ثلاثاً» (¬1). وعبارة الحنفية في المضمضة والاستنشاق: وهما سنتان مؤكدتان مشتملتان على سنن خمس: الترتيب، والتثليث، وتجديد الماء، وفعلهما باليمنى، والمبالغة فيهما بالغرغرة ومجاوزة المارن (أرنبة الأنف) لغير الصائم، لاحتمال الفساد أي الإفطار (¬2). وقال المالكية: يندب فعل المضمضة والاستنشاق، بثلاث غرفات لكل منهما، ومبالغة مفطر. ويرى الشافعية في الأصح أن الترتيب فيهما مستحق لا مستحب، بعكس تقديم اليمنى على اليسرى. والأظهر كما قال النووي في المنهاج: تفضيل الجمع على الفصل بين المضمضة والاستنشاق، بثلاث غرف، يتمضمض من كلٍ، ثم يستنشق، أي أن الجمع بغرفة لكليهما أفضل من فصلهما للأخبار الصحيحة في ذلك (¬3). والمشهور في مذهب الحنابلة: أن المضمضة والاستنشاق واجبان في الطهارتين جميعاً: الوضوء والغسل، لأن غسل الوجه واجب فيهما، والفم والأنف من الوجه، ولحديث عائشة: «المضمضة والاستنشاق من الوضوء الذي لابد منه» (¬4)، ولمداومته صلّى الله عليه وسلم عليهما في كل حديث ذكر فيه صفة وضوء رسول الله ¬
- السواك سنة باتفاق الفقهاء ما عدا المالكية
صلّى الله عليه وسلم، مثل حديث عثمان السابق، وحديث علي: «أنه دعا بوَضُوء (أي ماء)، فتمضمض واستنشق ونثر بيده اليسرى، ففعل هذا ثلاثاً، ثم قال: هذا طَهُور نبي الله صلّى الله عليه وسلم» (¬1) وحديثي أبي هريرة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: إذا توضأ أحدكم، فليجعل في أنفه ماء، ثم لينثر» «أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالمضمضة والاستنشاق» (¬2). والحق: أن هذه الأحاديث ظاهرة في إيجاب المضمضة والاستنشاق. وقد اعترف جماعة من الشافعية وغيرهم بضعف دليل من قال بعدم وجوب المضمضة والاستنشاق والاستنثار، قال الحافظ ابن حجر في الفتح: وذكر ابن المنذر أن الشافعي لم يحتج على عدم وجوب الاستنشاق، مع صحة الأمر به، إلا بكونه لا يعلم خلافاً في أن تاركه لا يعيد. وهذا دليل فقهي، فإنه لا يحفظ ذلك عن أحد من الصحابة والتابعين إلا عن عطاء (¬3). 5 ً - السواك سنة باتفاق الفقهاء ما عدا المالكية الذين عدوه من الفضائل، وسأخصص له مبحثاً مستقلاً. 6 ً - تخليل اللحية الكثة والأصابع: يسن تخليل اللحية الكثة بكف ماء من أسفلها (¬4)، وتخليل أصابع اليدين والرجلين باتفاق الفقهاء، لما روى ابن ماجه والترمذي وصححه: أنه صلّى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته، ولما روى أبو داود: «أنه صلّى الله عليه وسلم كان إذا توضأ، أخذ كفاً من ماء، فأدخله تحت حنكه، فخلل به لحيته، وقال: هكذا ¬
- تثليث الغسل
أمرني ربي» (¬1). ولحديث لَقيط بن صَبْرَة في المبالغة في الاستنشاق السابق: «أسبغ الوضوء وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً» (¬2) وحديث ابن عباس: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: إذا توضأت فخلِّل أصابع يديك ورجليك» (¬3) وحديث المُسْتَورِد بن شدَّاد قال: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا توضأ خلل أصابع رجليه بخنصره» (¬4). 7 ً - تثليث الغسل: اتفق الفقهاء على أنه يسن تثليث الغسل واعتبره المالكية من فضائل الوضوء، لما ثبت في السنة كحديث عمرو بن شعيب من تثليث غسل الكفين والوجه والذراعين (¬5). وإنما لم يجب؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة، وقال: «هذا الذي لايقبل الله العمل إلا به»، وتوضأ مرتين مرتين، وقال: «هذا يضاعف الله به الأجر مرتين» وتوضأ ثلاثا صلّى الله عليه وسلم ثلاثاً، وقال: «هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي» (¬6). وأما المسح فلا يسن تكراره عند الجمهور وأكثر أهل العلم من الصحابة، لحديث عبد الله بن زيد في وصف وضوء رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قال: «ومسح برأسه مرة ¬
- استيعاب كل الرأس بالمسح
واحدة» (¬1)، ولما روي عن علي رضي الله عنه «أنه توضأ ومسح برأسه مرة واحدة»، ثم قال: «هذا وضوء النبي صلّى الله عليه وسلم، من أحب أن ينظر إلى طهور رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلينظر إلى هذا» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وكذلك وصف عبد الله بن أبي أوفى، وابن عباس، وسلمة بن الأكوع والرُّبَيِّع، كلهم قالوا: (ومسح برأسه مرة واحدة) وحكايتهم لوضوء النبي صلّى الله عليه وسلم إخبار عن الدوام، ولا يداوم إلا على الأفضل الأكمل. ولأنه مسح في طهارة، فلا يسن تكراره، كالمسح في التيمم والمسح على الجبيرة، وسائر المسح. وقال الشافعية: ويسن أيضاً تثليث المسح، لما روي عن أنس: «الثلاث أفضل» ولحديث شقيق بن سلمة عند أبي داود قال: «رأيت عثمان بن عفان غسل ذراعيه ثلاثاً ومسح برأسه ثلاثاً، ثم قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فعل مثل هذا، وروي مثل ذلك عن غير واحد من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وروى عثمان وعلي وابن عمر وأبو هريرة وعبد الله بن أبي أوفى، وأبو مالك والرُّبيع، وأبي بن كعب: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم توضأ ثلاثاً ثلاثاً». لكن رد الجمهور على الشافعية بأنه لم يصح من أحاديثهم شيء صريح، ويظهر أن رأي الجمهور أقوى دليلاً من السنة الصحيحة. 8 ً - استيعاب كل الرأس بالمسح: يسن الاستيعاب بالمسح عند الحنفية والشافعية اتباعاً للسنة فيما رواه الشيخان، مرة واحدة عند الحنفية، وثلاثاً عند الشافعية، وخروجاً من خلاف من أوجبه؛ لأن مسح الرأس كله واجب عند المالكية والحنابلة كما بينا. ¬
- مسح الأذنين ظاهرا وباطنا بماء جديد
والسنة في كيفيته: أن يضع يديه على مقدمة رأسه ويلصق سبابته بالأخرى وإبهاميه على صدغيه، ثم يذهب بهما إلى قفاه، ثم يردهما إلى المكان الذي ذهب منه إذا كان له شعر ينقلب (¬1)، فإن لم يقلب شعره لقصره أو عدمه لم يردّ لعدم الفائدة. وقال المالكية: يسن رد مسح الرأس وإن لم يكن له شعر بأن يعمه بالمسح ثانياً إن بقي بيده بلل من المسح الواجب، وإلا سقطت سنة الرد. ودليل الحنفية: حديث عمرو بن شعيب وحديث عثمان السابقان وفيهما: «ثم مسح برأسه» ولم يذكرا عدداً. ومثله حديث أبي حَبَّة في صفة وضوء علي وفيه: «ومسح برأسه مرة» (¬2) ودليل الشافعية: حديث عثمان السابق فيما رواه أبو داود بإسناد حسن: أنه توضأ، فمسح رأسه ثلاثاً، وقال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم توضأ هكذا. وحديث علي عند البيهقي: «توضأ، فمسح رأسه ثلاثاً، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فعل». وأجاز الشافعية والحنابلة مسح بعض الرأس والإكمال على العمامة إن عسر رفعها، لأنه صلّى الله عليه وسلم «مسح بناصيته وعلى العمامة وعلى الخفين» (¬3). 9 ً - مسح الأذنين ظاهراً وباطناً بماء جديد: يسن مسح الأذنين ظاهراً وباطناً بماء جديد عند الجمهور؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم مسح في وضوئه برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما، وأدخل أصبعيه في صماخي أذنيه، يأخذ لصماخيه أيضاً ماء جديداً. روي عن عبد الله بن زيد: «أنه رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتوضأ، فأخذ لأذنيه ماءً ¬
- البداءة بالميامن في غسل اليدين والرجلين
خلاف الماء الذي أخذه لرأسه» (¬1)، وكان ابن عمر إذا توضأ يأخذ الماء بإصبعيه لأذنيه (¬2). وقال الحنابلة: يجب مسح الأذنين؛ لأن الأذنين من الرأس لحديث «الأذنان من الرأس» (¬3)،ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم مسحهما مع رأسه، كما هو الثابت في أحاديث متعددة (¬4). والراجح لدي القول بسنية مسح الأذنين فقط، لأن حديث «الأذنان من الرأس» لم يثبت، وإنما هو ضعيف، حتى قال ابن الصلاح: إن ضعفه كثيرلا ينجبر بكثرة الطرق. وقال الشوكاني: الحق عدم انتهاض الأحاديث الواردة لذلك، والمتيقن الاستحباب، فلا يصار إلى الوجوب إلا بدليل ناهض، وإلا كان من التقول على الله بما لم يقل (¬5). ومسح الأذنين: ثلاث مرات عند الشافعية ومرة عند الجمهور. 10 ً - البداءة بالميامن في غسل اليدين والرجلين: واعتبره المالكية من الفضائل. ودليل السنية: حديث عائشة قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يحب التيامُن في تنعله وترجُّله وطَهوره، وفي شأنه كله» (¬6) وهو دليل على مشروعية الابتداء ¬
- الترتيب والموالاة والدلك عند من لا يرى فرضيتها،
باليمين في لبس النعال، وفي ترجيل الشعر (أي تسريحه) وفي الطهور، فيبدأ بيده اليمنى قبل اليسرى، وبالجانب الأيمن من سائر البدن في الغسل قبل الأيسر، والتيامن سنة في جميع الأشياء. ويؤيده حديث أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا لبستم، وإذا توضأتم فابدءوا بأيامنكم» (¬1). وأضاف الحنفية والشافعية لهذه السنة: البداءة برؤوس الأصابع ومقدم الرأس، كما أن الشافعية أضافوا: البدء بأعلى الوجه. وقال المالكية: يندب البدء في الغسل أو المسح بمقدم العضو، أي في الوجه واليدين والرأس والرجلين. 11 ً- الترتيب والموالاة والدلك عند من لا يرى فرضيتها، كما قدمنا في بحث فرائض الوضوء. المطلب الخامس ـ آداب الوضوء أو فضائله: عبر الحنفية عن ذلك بالآدا ب جمع أدب: وهو ما فعله النبي صلّى الله عليه وسلم مرة أو مرتين ولم يواظب عليه. وحكمه: الثواب بفعله وعدم اللوم على تركه. وآداب الوضوء عندهم أربعة عشر شيئاً. وعبر عنها المالكية بالفضائل أي الخصال والأفعال المستحبة، وهي عندهم عشر، والفرق بينها وبين السنة: أن السنة: ما أكد الشارع أمرها، وعظم قدرها، وأما المندوب أو المستحب: فهو ما طلبه الشارع طلباً غير جازم، وخفف أمره، وكل منهما يثاب على فعله، ولا يعاقب على تركه. ¬
وأهم هذه الآداب ما يأتي: 1ً- استقبال القبلة؛ لأنها أشرف الجهات ولأنها حالة أرجى لقبول الدعاء، واعتبره الحنابلة والشافعية سنة، إذ لم يفرقوا بين السنة والأدب. 2ً - الجلوس في مكان مرتفع؛ تحرزاً عن الغسالة. وقال المالكية: يستحب إيقاع الوضوء في محل طاهر بالفعل، وشأنه الطهارة، فيكره الوضوء في بيت الخلاء أو الكنيف (دورة المياه) قبل استعماله (¬1)، كما يكره الوضوءفي غيره من المواضع المتنجسة بالفعل. 3ً - عدم التكلم بكلام الناس، بلا ضرورة؛ لأنه يشغله عن الدعاء المأثور. 4ً - عدم الاستعانة بغيره إلا لعذر؛ كالصب ونحوه (¬2)، لأنه الأكثر من فعله صلّى الله عليه وسلم (¬3)، ولأنها نوع من الترفه والتكبر، وذلك لا يليق بالمتعبد، والأجر على قدر النَّصَب، وهي خلاف الأولى، وقيل: تكره. فإن كان ذلك لعذر كمرض فلا بأس، وقد أجازها النبي، بدليل حديث المغيرة بن شعبة: «أنه كان مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في سفر، وأنه ذهب لحاجة له، وأن مُغيرة جعل يصب الماء عليه وهو يتوضأ، فغسل وجهه ويديه، ومسح برأسه، ومسح الخفين» (¬4)،وقال صفوان بن عَسَّال: ¬
«صببت الماء على النبي صلّى الله عليه وسلم في السفر والحضر في الوضوء» (¬1) وقد دل هذان الحديثان على جواز الاستعانة بالغير، وبهما أخذ الحنابلة فقالوا بالإباحة. 5ً - تحريك الخاتم الواسع؛ مبالغة في الغسل، وروي عن أبي رافع: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان إذا توضأ حرَّك خاتمه» (¬2). ويندب أيضاً تحريك الخاتم الضيق إن علم وصول الماء، وإلا فيفرض تحريكه. وقد بينت أنه عند المالكية: لا يجب تحريك الخاتم الضيق المأذون فيه. 6ً - كون المضمضة والاستنشاق باليد اليمنى لشرفها، والامتخاط باليسرى لامتهانها. 7ً - التوضؤ قبل دخول الوقت مبادرة للطاعة، لغير المعذور. أما المعذور أو المتيمم فلا يندب له تعجيل الطهارة عند الحنفية، ويجب تأخيرها لما بعد دخول الوقت عند الجمهور. 8ً - إدخال الخنصر المبلولة في صماخ الأذنين؛ مبالغة في التنظيف. 9ً - مسح الرقبة بظهر يديه، لا الحلقوم عند الحنفية (¬3)؛ لما روي عن ليث عن طلحة بن مُصرِّف عن أبيه عن جده أنه رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يمسح رأسه حتى بلغ القَذَال، وما يليه من مُقَدَّم العنق» (¬4). ¬
وقال جمهور الفقهاء: لا يندب مسح الرقبة، بل يكره؛ لأنه من الغلو في الدين. 10ً- إطالة الغرة والتحجيل: إطالة الغرة: بغسل زائد على الواجب من الوجه من جميع جوانبه، وغايتها: غسل صفحة العنق مع مقدمات الرأس. والتحجيل: بغسل زائد على الواجب من اليدين والرجلين من جميع الجوانب، وغايته استيعاب العضدين والساقين. وهذا مندوب عند الجمهور، لخبر الصحيحين: «إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غُرَّته فليفعل» وخبر مسلم: «أنتم الغُرُّ المحجَّلُون يوم القيامة من إسباغ الوضوء، فمن استطاع منكم فليطل غُرَّته وتحجيله» (¬1). وقال المالكية: لا تندب إطالة الغرة: وهي الزيادة في غسل أعضاء الوضوء على محل الفرض، بل يكره، لأنه من الغلو في الدين، وإنما يندب دوام الطهارة والتجديد، ويسمى ذلك أيضاً إطالة الغرة، كما حمل عليه الحديث السابق: «من استطاع منكم أن يطيل غرته» فقد حملوا الإطالة على الدوام، والغرة على الوضوء. فيتلخص أن إطالة الغرة له معنيان: الزيادة على المغسول، وإدامة الوضوء، الأول مكروه، والثاني مطلوب عندهم. 11ً - ترك التنشيف بالمنديل عند الحنفية والحنابلة وفي الأصح عند ¬
الشافعية: إبقاء لأثر العبادة، ولأنه صلّى الله عليه وسلم «بعد غسله من الجنابة أتته ميمونة بمنديل، فرده، وجعل يقول بالماء: هكذا، ينفضه» (¬1). وقال المالكية: المسح بالمنديل جائز، لحديث قيس بن سعد، قال: «زارنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم في منزلنا، فأمر له سعد بغُسْل، فوُضع له فاغتسل، ثم ناوله مِلْحفة مصبوغة بزعفران، أو وَرَس، فاشتمل بها» (¬2). وعبارة الحنابلة: يباح للمتطهر تنشيف أعضائه (¬3)، وتركه أفضل. وهذا هو الراجح. 12ً - ترك النفض للماء في الأصح عند الشافعية والحنابلة؛ ويكره النفض عند بعض الحنابلة، وخلاف الأولى عند الشافعية، لحديث أبي هريرة: «إذا توضأتم فلا تنفضوا أيديكم، فإنها مراوح الشيطان» (¬4)، والأظهر عند الحنابلة أنه لا يكره وفاقاً للأئمة الثلاثة. 13ً - تقليل الماء الذي يرفعه للأعضاء حال الوضوء، لأن الإسراف في الماء مكروه. 14ً - جعل الإناء المفتوح كالقَصْعة والطَّست عن يمين المتطهر، لأنه أعون في التناول. ¬
15ً - الإتيان بالشهادتين والدعاء بعد الوضوء. قال الحنابلة: وكذا بعد الغسل. وهو أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين، سبحانك اللهم وبحمد ك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إ ليك. ويسن الصلاة والسلام بعد الوضوء على النبي صلّى الله عليه وسلم، فيقول: اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد. والنطق بالشهادتين لخبر مسلم وأبي داود وابن ماجه عن عمر مرفوعاً: «مامنكم من أحد يتوضأ فيبلِّغ، أو فيسبغ الوضوء (أي يتمه)، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء». وزاد الترمذي على مسلم: «سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك» وزاد فيه أيضاً: «اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين» ورواه أحمد وأبو داود. وروى النسائي والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري: «من توضأ ثم قال: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، كتب في رَقّ ثم طبع بطابَع (خاتم)، فلم يكسر إلى يوم القيامة» أي لم يتطرق إليه إبطال. قال السامري: ويقرأ سورة القدر ثلاثاً. وأما الدعاء عند غسل الأعضاء فلا أصل له في كتب الحديث، كما قال
صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم
النووي رحمه الله. واستحبه الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، وأباحه بعض الشافعية. صفة وضوء النبي صلّى الله عليه وسلم: أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه: قال حُمْرانُ مولى عثمان: «إن عثمان دعا بإناء (¬3)،فأفرغ على كفّيه ثلاث مرار، فغسلهما، ثم أدخل يمينه في الإناء، فمضمض، واستَنْثَر (¬4)، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ويديه إلى المرفقين ثلاث مرات، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه ثلاث مرات إلى الكعبين. ثم قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا، ثم قال: من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يُحدِّثُ (¬5) فيهما نفسه، غفر له ما تقدم من ذنبه» (¬6). ¬
خلاصة المذاهب في سنن الوضوء وآدابه
خلاصة المذاهب في سنن الوضوء وآدابه: 1 ً - مذهب الحنفية (¬1): أـ سنن الوضوء سبع عشرة: غسل اليدين إلى الرسغين، والتسمية والسواك في ابتداء الوضوء، والمضمضة ثلاثاً ولو بغرفة، والاستنشاق بثلاث غرفات، والمبالغة في المضمضة والاستنشاق لغير الصائم، وتخليل اللحية الكثة بكف ماء من أسفلها، وتخليل الأصابع، وتثليث الغسل، واستيعاب الرأس بالمسح مرة، ومسح الأذنين ولو بماء الرأس، والدلك، والولاء، والنية، والترتيب كما نص الله تعالى في كتابه، والبداءة بالميامن ورؤوس الأصابع ومقدم الرأس. ب ـ آداب الوضوء خمسة عشر: مسح الرقبة لا الحلقوم، الجلوس في مكان مرتفع، واستقبال القبلة، وعدم الاستعانة بغيره، وعدم التكلم بكلام الناس، والجمع بين نية القلب وفعل اللسان، والدعاء بالمأثور والتسمية عند كل عضو، وإدخال خنصره في صماخ أذنيه، وتحريك خاتمه الواسع، والمضمضة والاستنشاق باليد اليمنى، والامتخاط باليسرى، والتوضؤ قبل دخول الوقت لغير المعذور، والإتيان بالشهادتين بعده، وأن يشرب من فضل الوضوء قائماً، وأن يقول: اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين. ومن آدابه قراءة سورة القدر (¬2) وصلاة ركعتين في غير وقت الكراهة (¬3) ومن الآداب: تعاهد موقية وكعبيه وعرقوبيه وإخمصيه. ¬
- مذهب المالكية
2ً - مذهب المالكية (¬1): أ - سنن الوضوء ثمان: غسل اليدين مرة إلى الكوعين أولاً قبل إدخالهما في الإناء، والمضمضة، والاستنشاق بثلاث غرفات لكل منهما ومبالغة فيهما للمفطر، ولا بد لهذه السنن الثلاث من نية بأن ينوي بها سنن الوضوء، أو ينوي عند غسل يديه أداء الوضوء، والاستنثار (دفع الماء من الأنف)، ومسح الأذنين ظاهرهما وباطنهما مرة واحدة، وتجديد الماء لهما، ورد مسح الرأس إن بقي بيده بلل من أثر المسح الواجب لرأسه، وترتيب فرائضه الأربعة بتقديم غسل الوجه على اليدين، ثم مسح الرأس، ثم غسل الرجلين، فإن قدم فرضاً على موضعه المشروع له، أعاده وحده مرة ولا يعيد ما بعده. والمعتمد في ترك سنة ندب الإعادة دون ما بعدها، سواء طال الترك أو لا، لكن من ترك فرضاً من فرائض الوضوء أو الغسل غير النية، أو ترك لمعة (بقعة) أتى به وبما بعده من الأعضاء إن لم يطل الترك، فإن طال بطل كل الفرض لعدم الموالاة الواجبة. ب ـ فضائل الوضوء عشر: أي خصاله وأفعاله التي يثاب عليها ولا يعاقب على تركها: إيقاع الوضوء موضع طاهر بالفعل وشأنه الطهارة، واستقبال القبلة، والتسمية بأن يقول عند غسل يديه إلى كوعيه: بسم الله، وتقليل الماء الذي يرفعه للأعضاء حال الوضوء (¬2)، وتقديم اليد أو الرجل اليمنى على اليسرى، وجعل الإناء المفتوح ¬
- مذهب الشافعية
كالقصعة والطست لجهة اليد اليمنى، والبدء في الغسل أو المسح بمقدم العضو، والغسلة الثانية والثالثة في السنن والفرائض حتى في الرِّجْل، وترتيب السنن مع بعضها أو مع الفرائض، واستياك ولو بأصْبُع. 3ً - مذهب الشافعية (¬1): سنن الوضوء حوالي ثلاثين: السواك عرضاً بكل خشن لا أصبُعه في الأصح لغير صائم بعد الزوال، والتسمية مقرونة بالنية مع أول غسل الكفين (¬2)، والتلفظ بالنية واستصحابها، وغسل الكفين: فإن لم يتيقن طهرهما كره غمسهما في مائع أو ماء قليل قبل غسلهما ثلاث مرات، والمضمضة، والاستنشاق، والأفضل ـ في الأظهر كما رجح النووي خلافاً للرافعي ـ الجمع بينهما بثلاث غرفات يتمضمض من كل غرفة ثم يستنشق بباقيها، والمبالغة فيهما لغير الصائم، وتثليث كل من الغسل والمسح والتخليل والدلك والسواك (¬3)، ومسح جميع رأسه أو بعضه ويتم على العمامة، ثم مسح أذنيه ظاهرهما وباطنهما وصماخيه بماء جديد. وتخليل اللحية الكثة وأصابع اليدين بالتشبيك وأصابع الرجلين بخنصر اليسرى من أسفل خنصر الرجل اليمنى إلى خنصر اليسرى، والتتابع (الموالاة) والتيامن، وإطالة غرته وتحجيله، وترك النفض والاستعانة بالصب إلا لعذر والتنشيف في الأصح، وتحريك الخاتم (¬4)، والبداءة بأعلى الوجه، والبداءة في اليد ¬
- مذهب الحنابلة
والرجل بالأصابع (¬1)، ودلك العضو، ومسح المأقين (طرفي العين مما يلي الأنف) (¬2) واستقبال القبلة، ووضع الإناء في حالة الاغتراف فيه عن يمينه إن كان واسعاً، فإن صب منه وضعه عن يساره، وألا ينقص ماء الوضوء عن مُدّ (675غم). وألا يتكلم في جميع وضوئه إلا لمصلحة، ولا يلطم وجهه بالماء، ولا يمسح الرقبة، وأن يقول بعده: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين، سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، ويسن أن يقول بعده: وصلى الله وسلم على محمد وآل محمد، ويقرأ سورة القدر، ويصلي ركعتين. 4ً - مذهب الحنابلة (¬3): جملة سنن الوضوء حوالي عشرين: استقبال القبلة، والسواك عند المضمضة، وغسل الكفين ثلاثاً لغير قائم من نوم ليل، ويجب ذلك للمستيقظ ليلاً، والبداءة قبل الوجه بالمضمضة، ثم الاستنشاق، والمبالغة فيهما لغير صائم، والمبالغة في سائرالأعضاء لصائم وغيره، والاستنثار باليسار، وتخليل أصابع اليدين والرجلين، وتخليل شعر اللحية الكثيفة في الوجه، والتيامن حتى بين الكفين للقائم من نوم الليل، وبين الأذنين، ومسح الأذنين بعد الرأس بماء جديد، ومجاوزة موضع الفرض، والغسلة الثانية والثالثة، وتقديم النية على مسنونات الوضوء، واستصحاب ذكرها إلى آخر الوضوء، وغسل باطن الشعور الكثيفة في ¬
المطلب السادس ـ مكروهات الوضوء
الوجه غير اللحية، وأن يزيد في ماء الوجه؛ لأن فيه غضوناً وشعوراً، ودواخل وخوارج ليصل الماء إلى جميعه، وأن يتولى وضوءه بنفسه من غير معاونة، ويباح للمتطهر تنشيف أعضائه وتركه أفضل، ووضع الإناء الواسع عن يمينه ليغترف منه، وترك نفض الماء، ولا يكره فعله في الأظهر وفاقاً للأئمة الثلاثة، والدعاء (السابق عند الشافعية) عقب فراغه من الوضوء بعد رفع بصره إلى السماء (¬1)، وكذا يدعو به بعد الغسل. المطلب السادس ـ مكروهات الوضوء: المكروه عند الحنفية نوعان: مكروه تحريماً: وهو ما كان إلى الحرام أقرب، وتركه واجب. وهو المراد عندهم حالة الإطلاق. ومكروه تنزيهاً: وهو ما كان تركه أولى من فعله، أي خلاف الأولى. وكثيراً ما يطلقونه. وعلى هذا إذا ذكروا مكروهاً فلا بد من النظر في دليله، فإن كان نهياً ظنياً يحكم بكراهة التحريم إلا لصارف عن التحريم إلى الندب. وإن لم يكن الدليل نهياً بل كان مفيداً للترك غير الجازم، فهي تنزيهية. ولم يفرق الجمهور غير الحنفية بين نوعي الكراهة، ويراد بها عندهم التنزيهية. ويكره للمتوضئ (¬2) ضد ما يستحب من الآداب (¬3) وأهمها ما يأتي: ¬
- الإسراف في صب الماء
1ً - الإسراف في صب الماء: بأن يستعمل منه فوق الحاجة الشرعية أو ما يزيد عن الكفاية. وهذا إذا كان الماء مباحاً أو مملوكاً للمتوضئ، فإن كان موقوفاً على الوضوء منه كالماء المعد للوضوء في المساجد، فالإسراف فيه حرام. ودليل الكراهة: ما أخرج ابن ماجه وغيره عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم مرَّ بسعد، وهو يتوضأ، فقال: «ما هذا السَّرَف؟ فقال: أفي الوضوء إسراف؟ فقال: نعم، وإن كنت على نهر جار» ومن الإسراف: الزيادة على الثلاث في الغسلات وعلى المرة الواحدة في المسح عند الجمهور غير الشافعية لحديث عمرو بن شعيب السابق: «فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وتعدى وظلم» (¬1). والكراهة تنزيهية حتى عند الحنفية إلا إذا اعتقد أن ما زاد على الغسلات الثلاث من أعمال الوضوء، فتكون الكراهة حينئذ تحريمية عندهم. وذكر ابن عابدين: أن الكراهة مطلقاً تنزيهية، فإن زاد للنظافة أو للطمأنينة ونحوها فلا كراهة. وكذا يكره تنزيهاً التقتير بجعل الغسل مثل المسح: (وهو أن يكون تقاطر الماء عن العضو المغسول غير ظاهر) لأن السنة إسباغ الوضوء، والتقتير ينافيه. 2ً - لطم الوجه أو غيره بالماء: والكراهة تنزيهية؛ لأنه يوجب انتضاح الماء المستعمل على ثيابه، وتركه أولى، وهو أيضاً خلاف التؤدة والوقار، فالنهي عنه من الآداب. 3ً - التكلم بكلام الناس: والكراهة تنزيهية؛ لأنه يشغله عن الأدعية. وعند الشافعية: خلاف الأولى. ¬
- الاستعانة بالغير بلا عذر
4ً - الاستعانة بالغير بلا عذر: لحديث ابن عباس السابق: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم لا يكل طهوره إلى أحد ... » (¬1). وقد عرفنا أن الثابت في السنة جواز المعاونة في الوضوء، لكن قد حمل ذلك على حالة العذر، ولأن الضرورات تبيح المحظورات. 5ً - التوضؤ في موضع نجس: لئلا يتنجس منه، وزاد الحنفية: التوضؤ بفضل ماء المرأة، أو في المسجد إلاّ في إناء أوفي موضع أعد لذلك خشية تلويث المسجد بآثار الماء. وقال الحنابلة (¬2): تكره إراقة ماء الوضوء وماء الغسل في المسجد، أوفي مكان يداس فيه كالطريق تنزيهاً لماء الوضوء؛ لأن له حرمة وأنه أثر عبادة. ويباح الوضوءوالغسل في المسجد اذا لم يؤذ به أحداً ولم يؤذ المسجد؛ لأن المنفصل منه طاهر. 6ً - مسح الرقبة بالماء: عند الجمهور غير الحنفية؛ لأنه غلو في الدين وتشديد. قال الشافعية: ولا يسن مسح الرقبة إذ لم يثبت فيه شيء، قال النووي: بل هو بدعة. وكذلك قال المالكية: إنه بدعة مكروهة (¬3). 7ً - مبالغة الصائم في المضمضة والاستنشاق مخافة أن يفسد صومه. 8ً - ترك سنة من سنن الوضوء، السابق بيانها في المذاهب. قال الحنابلة مثلاً: يكره لكل أحد أن ينتثر وينقي أنفه ووسخه ودرنه ويخلع نعله ويتناول الشيء من يد غيره، ونحو ذلك بيمينه، مع القدرة على ذلك بيساره، مطلقاً (¬4). ¬
- الوضوء بفضل طهور المرأة إذا استقلت به
9ً - الوضوء بفضل طهور المرأة إذا استقلت به: قال الحنابلة في المشهور عن أحمد (¬1): يكره ولا يجوز وضوء الرجل بفضل وضوء المرأة إذا خَلَت به (استقلت)، فإن اشترك الرجل معها فلابأس. بدليل «أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة» (¬2) لأن جماعة من الصحابة كرهوا ذلك، فقالوا: إذا خلت بالماء فلا يتوضأ منه. وقال أكثر العلماء: يجوز الوضوء به للرجال والنساء، لما روى مسلم في صحيحه وأحمد عن ابن عباس، قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يغتسل بفضل وضوء ميمونة» (¬3) وقالت ميمونة: «اغتسلت من جفنة (¬4)، ففضلت فيها فضلة، فجاء النبي صلّى الله عليه وسلم يغتسل، فقلت: إني قد اغتسلت منه، فقال: الماء ليس عليه جنابة» (¬5) ولأنه ماء طهور جاز للمرأة الوضوء به، فجاز للرجل كفضل الرجل. وهذا هو الأصح، ويحمل النهي على الكراهة التنزيهية بقرينة أحاديث الجواز. 10ً - الماء الساخن والماء المشمس: قال الشافعية: يكره تنزيهاً التطهير بماء شديد السخونة وشديد البرودة، والمشمس في جهة حارة في إناء منطبع (أي ممتد تحت المطرقة من حديد ونحاس) في بدن دون ثوب، لناحية طبية لأنه يورث البرص ظناً، ولم يحرم لندرة ترتبه عليه. وتزول الكراهة بالتبريد. ¬
المطلب السابع ـ نواقض الوضوء
المطلب السابع ـ نواقض الوضوء: النواقض جمع ناقضة وناقض، والنقض: إذا أضيف إلى الأجسام كنقض الحائط: يراد به إبطال تأليفها. وإذا أضيف إلى المعاني كالوضوء: يراد به إخراجها عن إقامة المطلوب بها، والمعنى الثاني هو المراد هنا، فمعنى ناقض الوضوء: إخراجه عن إفادة المقصود منه، كاستباحة الصلاة بالوضوء. والنواقض أو المعاني الناقضة للوضوء المبطلة حكمه متفق على الكثير منها، مختلف في بعضها. وهي عند الحنفية اثنا عشر ناقضاً، والمالكية: ثلاثة أنواع، والشافعية: خمسة أشياء، والحنابلة: ثمانية أنواع، وهي ما يأتي (¬1): 1ً - كل خارج من أحد السبيلين: معتاد كبول أو غائط أو ريح أو مذي أو ودي (¬2) أو مني، أو غير معتاد: كدودة وحصاة ودم قليلاً كان الخارج أو كثيراً، لقوله تعالى: {أو جاء أحد منكم من الغائط} [المائدة:6/ 5]، كناية عن الحدث من بول أو غائط، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ، فقال رجل من أهل حضرموت: ما الحدث يا أبا هريرة؟ قال: فُسَاء أو ضراط» (¬3) وقوله عليه السلام: «لا وضوء إلا من صوت أو ريح» (¬4)، ولأن الخارج غير المعتاد ¬
خارج من السبيل، فأشبه المذي، ولأنه لا يخلو من بَلَّة تتعلق به، فينتقض الوضوء بها، وقد أمر النبي صلّى الله عليه وسلم المستحاضة بالوضوء لكل صلاة، ودمها خارج غير معتاد (¬1). واستثنى الحنفيةفي الأصح: ريح القبل فهو غير ناقض؛ لأنه اختلاج لا ريح، وإن كان ريحاً فهو لا نجاسة فيه. وغير الحنفية لم يستثنوا ذلك، للحديث السابق «أو ريح» فهو شامل للريح من القبل. والحق أنه كما قال ابن قدامة في المغني: «لا نعلم لهذا الريح وجوداً ولا نعلم وجوده في حق أحد». واستثنى المالكية الخارج غير المعتاد من المخرج في حالة الصحة، كالدم والقيح والحصى والدود، والريح أو الغائط من القبل، والبول من الدبر، والمني بغير لذة معتادة كمن حك لجرب أو هزته دابة فأمنى، فلا ينقض حتى ولو كان مع الحصى والدود أذى (أي بول أو غائط) بخلاف غيرهما، فلو خرج مع الدم والقيح أذى انتقض الوضوء (¬2). وكذا لا ينتقض الوضوء إن خرج شيء من ثقب إلا إذا كان تحت المعدة وانسد المخرجان المعتادان، فلا ينقض الوضوء بول أو غائط أو ريح من ثقبة فوق المعدة، سواء انسد المخرجان أو أحدهما أو لا، أما الخارج من ثقبة تحت المعدة، فإنه ينقض بشرط انسداد المخرجين لأنه صار بمنزلة الخارج من المخرجين نفسهما. ولا ينتقض الوضوء عندهم بخروج شيء من السَّلَس الذي يلازم صاحبه ¬
- الولادة من غير رؤية دم،
نصف الزمن فأكثر، وإلا نقض. والسلس: هو ما يسيل بنفسه لانحراف الطبيعة بولاً أو ريحاً أو غائطاً أو مذياً. ودم الاستحاضة من السلس. وهذا في غير المستحاضة إذا لم ينضبط ولم يقدر على التداوي، فإن انضبط بأن جرت عادته أن ينقطع آخر الوقت أو أوله، وجب عليه الصلاة حينئذ، وإن قدر على التداوي وجب عليه التداوي. واستثنى الشافعية: مني الشخص نفسه، فإنه لا ينقض؛ لأنه أوجب أعظم الأمرين وهو الغسل. لكن ينتقض الوضوء عندهم بالخارج من مخرج انفتح دون المعدة، وانسد المخرج المعتاد لأنه صار هو المخرج المعتاد، أي كما قال المالكية. فإن لم ينسد المخرج المعتاد فالأصح أنه لا ينقض، سواء أكان المخرج تحت المعدة أم فوقها. واستثنى الحنابلة: صاحب الحدث الدائم، لا يبطل وضوءه بالحدث الدائم قليلاً كان الخارج أو كثيراً، نادراً كان أو معتاداً للحرج والمشقة. أما غير صاحب الحدث الدائم فينقض ما خرج منه من بول أو غائط، قليلاً كان أو كثيراً، من تحت المعدة أو فوقها، سواء أكان السبيلان مفتوحين أم مسدودين لعموم الآية والحديث السابق. وأضاف الحنابلة: أنه لو احتمل المتوضئ في قُبُل أو دُبُر قطناً أو ميلاً، ثم خرج ولو بلا بلل، نقض، وكذا لو قطر في إحليله دهناً أو غيره من المائعات ثم خرج نقض، أو ظهر طرف مصران أو رأس دودة نقض. 2ً - الولادة من غير رؤية دم، والصحيح عند الحنفية قول الصاحبين أن المرأة لا تكون حينئذ نفساء لتعلق النفاس بالدم ولم يوجد، وإنما عليها الوضوء للرطوبة. وقال أبو حنيفة: عليها الغسل احتياطاً لعدم خلوه عن قليل دم غالباً.
- الخارج من غير السبيلين كالدم والقيح والصديد
3ً - الخارج من غير السبيلين كالدم والقيح والصديد (¬1): ناقض بشرط سيلانه عند الحنفية إلى موضع يلحقه حكم التطهير وهو ظاهر الجسد: أي يجب تطهيره في الجملة، ولو ندباً كسيلان الدم داخل الأنف. والسيلان: أن يتجاوز موضع خروجه بأن يعلو على رأس الجرح ثم ينحدر إلى أسفل، فليس في النقطة والنقطتين وضوء، وليس في أثر الدم بسبب عض شيء أو استياك وضوء. كما لا وضوء من دم يخرج من موضع لا يلحقه حكم التطهير كالخارج من جرح في العين أو في الأذن أو الثدي أوالسرة، ثم يسيل إلى الجانب الآخر منها. وبشرط كونه كثيراً عند الحنابلة، والكثير: ما كان فاحشاً بحسب كل إنسان، أي أنه يراعى حالة الجسم نحافة وضخامة، فلو خرج دم من نحيف مثلاً وكان كثيراً بالنسبة إلى جسده، نقض، وإلا فلا، لقول ابن عباس: «الفاحش: ما فحش في قلبك». ودليل الحنفية: قوله صلّى الله عليه وسلم: «الوضوء من كل دم سائل» (¬2) وقوله عليه السلام: «من قاء أو رعف في صلاته، فلينصرف، وليتوضأ، وليبن ـ يكمل ـ على صلاته ما لم يتكلم» (¬3) وقوله أيضاً: «ليس في القطرة ولا في القطرتين من الدم وضوء إلا أن يكون دماً سائلاً» (¬4). ¬
- القيء
ودليل الحنابلة حديث فاطمة بنت أبي حبيش السابق عند الترمذي: «إنه دم عرق، فتوضئي لكل صلاة» ولأن الدم ونحوه نجاسة خارجة من البدن، فأشبه الخارج من السبيل. وأما كون القليل من ذلك لا ينقض، فلمفهوم قول ابن عباس: في الدم: «إذا كان فاحشاً فعليه الإعادة» وعصر ابن عمر بثرة، فخرج الدم، فصلى ولم يتوضأ، وابن أبي أوفى عصر دملاً، وغيرهما (¬1). وقرر المالكية والشافعية: عدم نقض الوضوء بالدم ونحوه، بدليل حديث أنس، قال: «واحتجم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فصلى ولم يتوضأ، ولم يزد على غسل محاجمه» (¬2). وحديث عباد بن بشر: «أنه أصيب بسهام، وهو يصلي، فاستمر في صلاته» (¬3) ويبعد ألا يطلع النبي صلّى الله عليه وسلم على مثل هذه الواقعة العظيمة، ولم ينقل أنه أخبره بأن صلاته قد بطلت. 4ً - القيء: الخلاف فيه كالخلاف في الدم ونحوه من الخارج من غير السبيلين، على اتجاهين: الأول ـ للحنفية والحنابلة: أنه ينقض الوضوء، إذا كان بملء الفم عند الحنفية: وهو ما لا ينطبق عليه الفم إلا بتكلف، على الأصح. وإذا كان كثيراً فاحشاً عند الحنابلة: وهو ما فحش في نفس كل أحد بحسبه. ¬
والقيء سواء أكان طعاماً أم ماء أم عَلَقًا (المراد به هنا الدم المتجمد الخارج من المعدة) أم مِرَّة (الصفراء). ولا ينقض البلغم من معدة أو صدر أو رأس، كالبصاق والنخامة، لأنها طاهرة تخلق من البدن. ولا ينقض الجشاء وهو الريح الذي يخرج من فم الرجل. ودليلهم: حديث عائشة المتقدم: «من أصابه قيء أو رعاف أو قَلس، أو مذي، فلينصرف، فليتوضأ، ثم ليَبْن على صلاته، وهو في ذلك لا يتكلم» (¬1). والقلس: هو ما خرج من العلق ملء الفم أو دونه، وليس بقيء، وإن عاد فهو القيء. وحديث أبي الدرداء: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قاء، فتوضأ، فلقيت ثوبانَ في مسجد دمشق، فذكرت له ذلك، فقال: صدق، أنا صببت له وَضُوءه» (¬2). والخلاصة: أن القيء ناقض للوضوء عند هؤلاء بقيود ثلاثة: كونه من المعدة، وكونه ملء الفم أو كثيراً، وكونه دفعة واحدة. الاتجاه الثاني ـ للمالكية والشافعية: أنه لا ينقض الوضوء بالقيء؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قاء فلم يتوضأ (¬3)،وفي حديث ثوبان قال: «قلت: يا رسول الله، هل يجب الوضوء من القيء؟ قال: لو كان واجباً، لوجدته في كتاب الله» ولأنه خارج من غير المخرج، مع بقاء المخرج، فلم ينقض الطهارة كالبصاق. وأجابوا عن حديث أبي الدرداء بأن المراد بالوضوء: غسل اليدين. ¬
- غيبة العقل أو زواله
والظاهر لي: أن الخارج من غير السبيلين كالدم والقيء ينقض الوضوء إذا كان كثيراً فاحشاً أي كما قال الحنابلة، قياساً على الخارج النجس من السبيلين، إذ في الأحاديث كلها كلام، ولا تخلو من ضعف. 5ً - غيبة العقل أو زواله بالمخدرات أو المسكرات، أو بالإغماء أو الجنون، أو الصرع، أو بالنوم: هذا السبب وما بعده من لمس المرأة المشتهاة، ومس الذكر أو القبل أو الدبر، قد يترتب عليه غالباً خروج شيء من أحد السبيلين، فيكون ناقضاً للوضوء، لأن زائل العقل لا يشعر بحال، والنوم يذهب معه الحس، والجنون والإغماء ونحوهما أشد تأثيراً من النوم. والدليل على أن النوم الثقيل أو غير اليسير ناقض للوضوء: قوله صلّى الله عليه وسلم من حديث علي: «العين وِكاء السَّهِ، فمن نام فليتوضأ» (¬1) وحديث معاوية «العين وكاء السه، فإذا نامت العينان، استطلق الوكاء» (¬2) والحديثان يدلان على أن النوم مظِنَّة للنقض، لا أنه بنفسه ناقض. وقد اختلف الفقهاء على آراء في كون النوم ناقضاً للوضوء، ذكرها النووي في شرح مسلم (73/ 1) أختار منها رأيين متقاربين لا يختلفان إلا في بيان مدى عمق النوم الذي يعد دليلاً على خروج الريح، وهما ما يأتي: الرأي الأول ـ للحنفية والشافعية: أن النوم الناقض للوضوء هو الذي لم تتمكن فيه المقعدة من الأرض، أو النوم مضطجعاً أو متكئاً أو منكباً على شيء؛ ¬
لأن الاضطجاع ونحوه سبب لاسترخاء المفاصل. فإن نام قاعداً ممكناً مقعدته من الأرض كأرض وظهر دابة سائرة، لم ينتقض وضوءه. فإن كان مستنداً إلى شيء لو أزيل عنه لسقط، ولم يكن ممكناً مقعده من الأرض، انتقض وضوءه عند الحنفية؛ لأن الاسترخاء يبلغ نهايته بهذا النوع من الاستناد، ولم ينتقض عند الشافعية إذا كان ممكناً مقعده من الأرض، للأمن حينئذ من خروج شيء، فالحكم في المذهبين إذن واحد. ولا ينتقض الوضوء عند الحنفية بالنوم حالة القيام والركوع والسجود في الصلاة وغيرها؛ لأن بعض الاستمساك باق، إذ لو زال لسقط، فلم يتم الاسترخاء. ودليلهم: أحاديث، منها حديث ابن عباس: «ليس على من نام ساجداً وضوء، حتى يضطجع، فإنه إذا اضطجع، استرخت مفاصله» (¬1) وفي لفظ «لاوضوء على من نام قاعداً، إنما الوضوء على من نام مضطجعاً فإن من نام مضطجعاً استرخت مفاصله» (¬2) وفي رواية للبيهقي: «لا يجب الوضوء على من نام جالساً أو قائماً أو ساجداً حتى يضع جنبه». ومنها حديث أنس: «كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم ينتظرون العشاء، فينامون قعوداً، ثم يصلون، ولا يتوضؤون» (¬3) وهويدل على أن يسير النوم لا ينقض الوضوء. ¬
ومنها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من نام جالساً فلا وضوء عليه، ومن وضع جنبه فعليه الوضوء» (¬1). وروى مالك عن ابن عمر أنه كان ينام جالساً، ثم يصلي ولا يتوضأ. وروى أبو داود والترمذي عن ابن عباس أنه رأى النبي صلّى الله عليه وسلم نام وهو ساجد، حتى غَطَّ أو نفخ، ثم قام يصلي، فقلت: يا رسول الله، إنك قد نمت؟ قال: «إن الوضوء لا يجب إلا على من نام مضطجعاً، فإنه إذا اضطجع استرخت مفاصله» (¬2). قال الكمال بن الهمام: وأنت إذا تأملت فيما أوردناه لم ينزل عندك الحديث عن درجة الحسن (¬3). الرأي الثاني ـ للمالكية والحنابلة: أن النوم اليسير أو الخفيف لا ينقض، والنوم الثقيل ينقض. وعبارة المالكية: النوم الثقيل ولو قَصُر زمنه ناقض للوضوء، أما النوم الخفيف ولو طال زمنه فلا ينقض. والثقيل: ما لا يشعر صاحبه بالأصوات، أو بسقوط شيء بيده، أو سيلان ريقه ونحو ذلك، فإن شعر بذلك فنوم خفيف. ودليلهم حديث أنس المتقدم: «كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم ينتظرون العشاء الآخرة، حتى تخفُق رؤوسهم، ثم يصلون ولا يتوضؤون». وحديث ابن عباس، قال: «بتُّ عند خالتي ميمونة، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقمت إلى جنبه الأيسر، فأخذ بيدي، فجعلني عن شقه الأيمن، فجعلت إذا ¬
- لمس المرأة
أغفَيت، يأخذ بشحمة أذُني، قال: فصلى إحدى عشرة ركعة» (¬1) في هذين الحديثين دلالة واضحة على أن النوم اليسير لا ينقض الوضوء. وعبارة الحنابلة: النوم في جميع أحواله ناقض للوضوء إلا النوم اليسير عرفاً من جالس أو قائم، لحديثي أنس وابن عباس السابقين. والصحيح أنه لا حد للنوم القليل، وإنما مرجعه إلى ما جرت به العادة، فسقوط المتمكن وغيره ينقض الوضوء. فإن نام وشك، هل نومه كثير أو يسير؟ اعتبر طاهراً لتيقنه الطهارة، وشكه في نقضها، وإن رأى رؤيا فهو نوم كثير. وينقض النوم اليسير من راكع وساجد ومستند ومتكئ ومُحْتَب (¬2) كمضطجع. ومن لم يُغْلب على عقله، لم ينقض وضوءه؛ لأن النوم: الغلبة على العقل، ولأن الناقض زوال العقل، ومتى كان العقل ثابتاً، وحسه غير زائل، مثل من يسمع ما يقال عنده، ويفهمه، لم ينتقض وضوءه. والخلاصة: أن النوم مضطجعاً في الصلاة أو في غيرها غير ممكن مقعدته ناقض للوضوء بلا خلاف بين الفقهاء، وأن زوال العقل بأي سبب من إغماء أو جنون أو سكر ناقض للوضوء قياساً على النوم، وهو الحق. 6ً - لمس المرأة: ينتقض الوضوء عند الحنفية بلمس المرأة في حالة المباشرة الفاحشة، وعند المالكية والحنابلة بالتقاء بشرتي الرجل والمرأة في حال اللذة أو الشهوة. وعند الشافعية: بمجرد التقاء بشرتي الرجل والمرأة، اللامس والملموس، ولو بدون شهوة. ¬
وتفصيل آراء المذاهب فيما يأتي: قال الحنفية: ينتقض الوضوء بالمباشرة الفاحشة: وهي التقاء الفرجين مع انتشار العضو بلا حائل يمنع حرارة الجسد، أو هي أن يباشر الرجل المرأة بشهوة وينتشر لها، وليس بينهما ثوب، ولم ير بللاً. وقال المالكية: ينتقض الوضوء بلمس المتوضئ البالغ لشخص يلتذ به عادة ـ من ذكر أو أنثى ـ ولو كان الملموس غير بالغ، سواء كان اللمس لزوجته أو أجنبية أو محرماً، أو كان اللمس لظفر أو شعر، أو من فوق حائل كثوب، وسواء كان الحائل خفيفاً يحس اللامس معه بطراوة البدن، أو كان كثيفاً، وسواء كان اللمس بين الرجال أو بين النساء. فاللمس بلذة ناقض، وكذا القبلة بالفم تنقض الوضوء مطلقاً، ولو بدون لذة؛ لأنها مظنة اللذة، أما القبلة في غير الفم فتنقض وضوء المقبِّل والمقبَّل إن كانا بالغين، أو البالغ منهما إن قبل من يشتهي، إن وجدت اللذة، ولو وقعت بإكراه أو استغفال. فالنقض باللمس مشروط بشروط ثلاثة: أن يكون اللامس بالغاً، وأن يكون الملموس ممن يشتهى عادة، وأن يقصد اللامس اللذة أو يجدها. ولا ينقض الوضوء بلذة من نظر أو فكر ولو حدث انتصاب (إنعاظ) ما لم يلتذ بالفعل، ولا بلمس صغيرة لا تشتهى، أو بهيمة أو رجل ملتحي، إذ الشأن عدم التلذذ به عادة إذا كملت لحيته. وقال الحنابلة في المشهور: ينقض الوضوء بلمس بشرة النساء بشهوة من غير حائل، وكان الملموس مشتهى عادة غير طفلة وطفل، ولو كان الملموس ميتاً، أو عجوزاً، أو مَحْرماً، أو صغيرة تشتهى: وهي بنت سبع سنين فأكثر، فلا فرق بين الأجنبية وذات المحرم والكبيرة والصغيرة.
ولا ينقض لمس شعر وظفر وسن، ولا مس عضو مقطوع لزوال حرمته، ولا مس أمرد ولو بشهوة، ولا مس خنثى مشكل، ولا ينقض مس الرجل الرجل ولا المرأة المرأة ولو بشهوة. وإذا لم ينقض الوضوء بمس أنثى، فإنه يستحب. والخلاصة: أن هذه المذاهب الثلاثة (الجمهور): لا ينتقض الوضوء لديها بمجرد التلامس العادي بين الرجل والمرأة. الأدلة: واستدلوا بما يأتي: 1 - قوله تعالى: {أو لا مستم النساء} [المائدة:6/ 5]، وحقيقة اللمس: ملاقاة البشرتين، أما الحنفية فأخذوا بما نقل عن ابن عباس ترجمان القرآن رضي الله عنهما: أن المراد من اللمس الجماع، وبما قال ابن السكيت: أن اللمس إذا قرن بالنساء يراد به الوطء، تقول العرب: لمست المرأة أي جامعتها، فيجب المصير في الآية إلى إرادة المجاز: وهو أن اللمس يراد به الجماع، لوجود القرينة وهي حديث عائشة الذي سيأتي. وأما المالكية والحنبلية الذين قيدوا اللمس الناقض بما إذا كان لشهوة: فجمعوا بين الآية والأخبار الآتية عن عائشة وغيرها. 2 - حديث عائشة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يُقبِّل بعض أزواجه، ثم يصلِّي ولا يتوضأ» (¬1). ¬
3 - حديث عائشة أيضاً، قالت: «إن كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليُصلّي، وإني لمعترضة بين يديه اعتراض الجنازة، حتى إذا أراد أن يوتر مسَّني برجْله» (¬1) فيه دليل على أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء، والظاهر أن مسها برجله كانَ من غير حائل. 4 - حديث عائشة أيضاً، قالت: «فَقَدْتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليلةً من الفراش، فالتمسته، فوضعت يدي على باطن قدميه، وهو في المسجد، وهما منصوبتان، وهو يقول: اللهم إني أعوذ برضاك من سَخَطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، كما أثنيت على نفسك» (¬2) وهو يدل على أن اللمس غير موجب للنقض. وقال الشافعية: ينقض الوضوء بلمس الرجل المرأة الأجنبية غير المحرم، ولو ميتة، من غير حائل بينهما، ينقض اللامس والملموس، ولو عجوزاً شوهاء أو شيخاً هرماً، ولو بغير قصد، ولا ينقض شعر وسن وظفر، أو لمس مع حائل. والمراد بالرجل والمرأة: ذكر وأنثى بلغا حد الشهوة عرفاً، أي عند أرباب الطباع السليمة، والمراد بالمَحْرم: من حرم نكاحها لأجل نسب أو رضاع أو مصاهرة، فلا ينقض صغير أو صغيرة لا يشتهى أحدهما عرفاً غالباً لذوي الطباع السليمة، فلا يتقيد بابن سبع سنين أو أكثر، لاختلافه باختلاف الصغار والصغيرات، لانتفاء مظنة الشهوة. ولا ينقض مَحْرم بنسب، أو رضاع، أو مصاهرة كأم الزوجة لانتفاء مظنة الشهوة. وسبب النقض: أنه مظنة التلذذ المثير للشهوة التي لا تليق بحال المتطهر. ¬
- مس الفرج ـ القبل أو الدبر
ودليلهم: العمل بحقيقة معنى الملامسة في اللغة في الآية: {أو لامستم النساء} [المائدة:6/ 5]، وهو الجس باليد، أو ملاقاة البشرتين، أو لمس اليد، بدليل قراءة: {أو لمستم} [المائدة:6/ 5]، فإنها ظاهرة في مجرد اللمس من دون جماع. وأما حديث عائشة في التقبيل فهو ضعيف، ومرسل. وأما حديث عائشة في لمسها لقدمه صلّى الله عليه وسلم فمؤول بأن اللمس يحتمل أنه كان بحائل، أو أنه خاص بالنبي. لكن في هذا التأويل تكلف ومخالفة للظاهر. ويبدو لي أن اللمس العارض أو الطارئ، أو الذي لا لذة أو لا شهوة فيه غير ناقض للوضوء، وأما اللمس الذي يصحبه الشهوة فهو ناقض، وهذا في تقديري أرجح الآراء. 7 ً - مس الفرج ـ القُبُل أو الدبر: لا ينتقض الوضوء عند الحنفية بمس الفرج، وينتقض به عند الجمهور، على تفصيل آتٍ، قال الحنفية: لا ينتقض الوضوء بمس الفرج أو الذكر، لحديث طَلْق بن علي: «الرجل يمس ذكره، أعليه وضوء؟ فقال صلّى الله عليه وسلم: إنما هو بَضْعة منك، أو مضغة منك» (¬1). ولما روي عن عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وزيد بن ثابت وعمران بن حصين، وحذيفة بن اليمان، وأبي الدرداء، وأبي هريرة رضي الله عنهم: أنهم لم يجعلوا مس الذكر حدثاً، حتى قال علي رضي الله عنه: لا أبالي مسسته، أو أرنبة أنفي. ¬
وقال المالكية: ينقض الوضوء بمس الذكر، لا بمس الدبر، فيعد مس الذكر المتصل ناقضاً، لا المقطوع، سواء مسَّه من أي جزء منه، التذ أم لا، إذا مسه عمداً أو سهواً من غير حائل ببطن الكف أو جنبه، أو ببطن أصبع وبجنبه، لا بظهره، ولو كان الأصبع زائداً على الخمسة إن كان له إحساس ويتصرف به كغيره من الأصابع، وذلك إذا كان بالغاً، أما مس الصبي ذكره فلا ينقض، أي أن المراد مس البالغ ذكره بباطن الكف والأصابع. ولا ينقض مس حلقة الدبر، أو الأنثيين (الخِصيتين)، ولا مس امرأة فرجها، ولو ألطفت: أي أدخلت أصبعاً أو أكثر من أصابعها في فرجها. ولا ينقض مس ذكر صبي أو كبير غيره. ودليلهم: الاقتصار على حديث: «من مس ذكره فلا يصلي حتى يتوضأ» (¬1) وحديث «من أفضى بيده إلى ذكره ليس دونه سِتْر، فقد وجب عليه الوضوء» (¬2). وقال الشافعية والحنابلة: ينتقض الوضوء بمس فرج الآدمي (الذكر والدبر وقبُل المرأة) من نفسه أو غيره، صغيراً أو كبيراً، حياً أو ميتاً، وقياس الدبر على الذكر هو مذهب الشافعي الجديد، بشرط كونه بباطن الكف (أي الراحة مع بطون الأصابع) فلا ينقض بظاهر الكف وحرفه ورؤوس الأصابع وما بينها بعد التحامل اليسير، أي أن الناقض هو ما يستتر عند وضع إحدى الراحتين على الأخرى مع ¬
- القهقهة في الصلاة
تحامل يسير، وفي الإبهامين يضع باطن أحدهما على باطن الآخر. فلو كان التحامل كثيراً كثر غير الناقض، وقل الناقض. وفي هذا يتفق الشافعية مع مذهب المالكية؛ لأن ظاهر الكف ليس بآلة اللمس، فأشبه ما لو مسه بفخذه. ولا فرق عند الحنابلة بين بطن الكف وظهره، بدليل حديث الإفضاء المتقدم: «إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه، ليس بينهما سترة، فليتوضأ» وظاهر كفه من يده، والإفضاء: اللمس من غير حائل. ودليل الشافعية والحنابلة مجموع الحديثين السابقين: حديث بُسْرة بنت صفوان وأم حبيبة: «من مس ذكره فليتوضأ» وفي لفظـ «من مس فرجه فليتوضأ» وحديث أبي هريرة: «إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره، فقد وجب عليه الوضوء» وفي لفظ «إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه .. » والفرج: يشمل القبُل والدبُر، ولأن الدبر أحد الفرجين، فأشبه الذكر. والنقض بمس المرأة قبلها لعموم حديث بسرة وأم حبيبة: «من مس فرجه فليتوضأ» ولما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «أيما رجل مس فرجه فليتوضأ، وأيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ» (¬1). والراجح عندي مذهب الجمهور غير الحنفية؛ لأن حديث طلق بن علي ضعيف أو منسوخ، ضعفه الشافعي وأبو حاتم وأبو زرعة والدارقطني والبيهقي وابن الجوزي، وادعى فيه النسخ ابن حبان والطبراني وابن العربي والحازمي وآخرون. 8ً - القهقهة في الصلاة: تنقض الوضوء عند الحنفية دون غيرهم، إذا كان ¬
- أكل لحم الإبل
المصلي بالغاً، عمداً أو سهواً، زجراً وعقوبة للمصلي، لمنافاتها مناجاة الله تعالى، فلا تبطل صلاة الصبي، لأنه ليس من أهل الزجر. والقهقهة: ما يكون مسموعاً لجيرانه. أما الضحك: فهو ما يسمعه هو دون جيرانه، والأول يبطل الصلاة والوضوء، والثاني يبطل الصلاة فقط. أما التبسم: وهو ما لا صوت فيه، ولو بدت به الأسنان، فلا يبطل شيئاً. ودليلهم: حديث: «ألا من ضحك منكم قهقهة فليعد الصلاة والوضوء جميعاً» (¬1). ولا ينتقض الوضوء عند الجمهور (غير الحنفية) بالقهقهة؛ لأنها لا توجب الوضوء خارج الصلاة، فلا توجبه داخلها كالعطاس والسعال. وردوا الحديث السابق لكونه مرسلاً، ولمخالفته للأصول: وهو أن يكون شيء ينقض الطهارة في الصلاة، ولا ينقضها في غير الصلاة (¬2). وأرجح رأي الجمهور لعدم ثبوت حديث الحنفية. 9ً - أكل لحم الإبل: ينتقض الوضوء عند الحنابلة دون غيرهم بأكل لحم الإبل، على كل حال، نيئاً ومطبوخاً، عالماً كان أو جاهلاً. بدليل ما روي البراء بن عازب قال: «سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن لحوم الإبل؟ فقال: توضؤوا منها، وسئل عن لحوم الغنم؟ فقال: لا يتوضأ منها» (¬3) وروى أسيد بن حضير حديث: ¬
- غسل الميت
«توضؤوا من لحوم الإبل، ولا تتوضؤوا من لحوم الغنم» (¬1). وعلق الحنابلة على ذلك بقولهم: إن وجوب الوضوء من أكل لحم الجزور تعبُّد لا يعقل معناه، فلا يتعدى إلى غيره، فلا يجب الوضوء بشرب لبنها ومرق لحمها وأكل كبدها وطحالها وسنامها وجلدها وكرشها ونحوه. وقال الجمهور غير الحنابلة؛ لا ينقض الوضوء بأكل لحم الجزور، لما رواه جابر قال: «كان آخر الأمرين من رسول الله صلّى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار» (¬2) ولأنه مأكول كسائر المأكولات. والراجح لدي رأي الجمهور؛ لأن جمهور فقهاء الأمصار بعد الصدر الأول اتفقوا على سقوط الأمر بإيجاب الوضوء من أكل ما مسته النار، إذ صح عندهم أنه عمل الخلفاء الأربعة، بل إن الحنابلة أنفسهم أخذوا بحديث الجمهور وقالوا: لانقض بأكل ما مسته النار. 10ً - غسل الميت: ينتقض الوضوء عند أكثر الحنابلة بغسل الميت (¬3) أو بعضه، سواء أكان المغسول صغيراً أم كبيراً، ذكراً أم أنثى، مسلماً أم كافراً، لما روي عن ابن عمر وابن عباس، وأبي هريرة، فقد روي عن ابن عمر وابن عباس «أنهما كانا يأمران غاسل الميت بالوضوء» وقال أبو هريرة: «أقل ما فيه الوضوء»، ولأن الغالب فيه أنه لا يسلم أن تقع يده على فرج الميت. وقال أكثر الفقهاء وهو الصحيح: لاوضوء من غسل الميت، إذ لم يرد فيه نص شرعي، ولا هو في معنى المنصوص عليه، ولأنه غسل آدمي، فأشبه غسل الحي. ¬
- الشك في الوضوء
وما أحسن ما ذكره ابن رشد عن النواقض الثلاثة الأخيرة، فقال: شذ أبو حنيفة فأوجب الوضوء من الضحك في الصلاة لمرسل أبي العالية ... الخ وشذ قوم فأوجبوا الوضوء من حمل الميت، وفيه أثر ضعيف: (من غسل ميتاً فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ) وذهب قوم من أهل الحديث: أحمد وإسحاق وطائفة غيرهم: أن الوضوء يجب فقط من أكل لحم الجزور، لثبوت الحديث الوارد بذلك عنه عليه الصلاة والسلام (¬1). 11ً - الشك في الوضوء: قال المالكية في المشهور من المذهب: من تيقن الطهارة أو ظنها، ثم شك في الحدث، فعليه الوضوء، وإن تيقن الحدث وشك في الطهارة فعليه الوضوء؛ لأن الذمة عامرة فلا تبرأ إلا بيقين. وقال الجمهور غير المالكية وهو الأولى: لا ينتقض الوضوء بالشك، فمن تيقن الطهارة وشك في الحدث، أو تيقن الحدث وشك في الطهارة بنى على اليقين، وهو الطهارة الأولى، والحدث في الثانية، لحديث عبد الله بن زيد قال: «شُكي إلى النبي صلّى الله عليه وسلم الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة؟ فقال: لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً» (¬2)، ولأنه إذا شك تعارض عنده الأمران، فيجب سقوطهما، كالبينتين إذا تعارضتا، تساقطتا، ويرجع إلى اليقين. وبناء عليه قرر الفقهاء قاعدة عامة وهي: (اليقين لا يزول بالشك). 12ً - ما يوجب الغسل: قال الحنابلة: ينتقض الوضوء بكل ما يوجب الغسل غير الموت، فإنه يوجب الغسل ولا يوجب الوضوء. ومن موجبات ¬
تعليق على النواقض
الغسل: التقاء الختانين، وانتقال المني، وإسلام الكافر أصلياً كان أو مرتداً، فإذا عاد المرتد إلى الإسلام، وجب عليه الغسل، وإذا وجب الغسل وجب الوضوء. وينتقض الوضوء بالردة، لأنهامحبطة للعمل ومنه الوضوء والغسل. وهذا يوافق رأي المالكية، ولا ينتقض الوضوء بالردة عند الحنفية والشافعية. تعليق على النواقض: هذه النواقض مشتركة بين الماسح على الخفين وغيره. وهناك نواقض خاصة، كبطلان طهارة المسح على الخفين ونحوهما من الجوارب بانتهاء مُدَّته وبخلع حائله، وكانتقاض طهارة المستحاضة ونحوها كسلس البول بخروج الوقت، وطهارة المتيمم بوجود الماء ونحوها، تبحث في مباحثها الخاصة بها. ولا نقض بكلام محرَّم، كالكذب والغيبة والقذف والسب ونحوها، بل يستحب الوضوء منه، ولا نقض بإزالة شعر وأخذ ظفر ونحوهما. خلاصة نواقض الوضوء في المذاهب: 1 - مذهب الحنفية: ينقض الوضوء اثنا عشر شيئاً: ما خرج من السبيلين إلا ريح القبل في الأصح، وولادة من غيررؤية دم، ونجاسة سائلة من غير السبيلين كدم وقيح وقيء طعام أو ماء أو عَلَق (دم متجمد من المعدة)، أو مِرَّة (صفراء) إذا ملأ الفم: وهو مالا ينطبق عليه الفم إلا بتكلف على الأصح، ويجمع متفرق القيء إذا اتحد سببه (¬1)، وينقضه دم غلب على البزاق أو ساواه، ونوم مضطجعاً، أو متكئاً أو ¬
2 - مذهب المالكية
مستنداً إلى شيء لوأزيل لسقط (أي نوم لم تتمكن فيه المقعدة من الأرض)، وارتفاع مقعدة نائم على الأرض قبل انتباهه، وإن لم يسقط على الأرض، وإغماء، وجنون، وسكر، وقهقهة بالغ يقظان في صلاة ذات ركوع وسجود، ولو تعمد الخروج بها من الصلاة، ومس فرج بذكر منتصب بلا حائل. ولا ينقض الوضوء عشرة أشياء: دم لم يسل عن محله، وسقوط لحم من غير سيلان دم، وخروج دودة من جرح وأذن وأنف، ومس ذكر، ومس امرأة، وقيء لا يملأ الفم، وقيء بلغم ولو كثيراً، وتمايل نائم احتمل زوال مقعدته، ونوم متمكن ولو مستنداً إلى شيء، لو أزيل سقط، ونوم مُصَلٍّ ولو راكعاً أو ساجداً. 2 - مذهب المالكية: النواقض ثلاثة: الأحداث، والأسباب، والارتداد والشك. والأحداث: هي الخارج المعتاد من السبيلين وهي ثمانية أشياء: البول، والغائط، والريح بصوت وبغير صوت، والودي (وهو ماء أبيض خاثر يخرج بأثر البول)، والمذي (وهو ماء أبيض رقيق يخرج عند الالتذاذ)، والهادي (وهو الماء الذي يخرج من فرج المرأة عند ولادتها)، ودم الاستحاضة ونحوه: وهو سلس البول إن خرج أحياناً: بأن لم يلازم الخروج نصف زمن أوقات الصلاة أو أكثر، فإن لازم نصف زمن أوقات الصلاة أو أكثر فلا ينقض، ومني الرجل الخارج من فرج المرأة بعد أن اغتسلت (¬1). ولا ينقض الخارج غير المعتاد كالدم والقيح والحصى والدود، ولا الخارج من ¬
3 - مذهب الشافعية
غير المعتاد كخروج ريح أو غائط من القبل، أو خروج بول من الدبر، ولا المني بغير لذة معتادة: بأن كان بغير لذة أصلاً، أو لذة غير معتادة كمن حك لجرب أو هزته دابة فأمنى. أما ما خرج بلذة معتادة من جماع أو لمس أو فكر فموجب للغسل. ولا ينقض البول أو الغائط أو الريح الخارج من ثقبة فوق المعدة، سواء انسد المخرجان أو أحدهما أو لا، وينقض الخارج من تحت المعدة إن انسد المخرجان، كما ينقض الوضوء إن انقطع الخروج من المخرج، وصار يبول أو يتغوط من فمه مثلاً. والأسباب: ثلاثة أنواع: زوال العقل، ولمس البالغ بلذة من تشتهى، ومس البالغ ذكره المتصل به ببطن كفه أو جنبه أو أصبع بلا حائل ولو كان خفيفاً، إلا أن يكون خفيفاً جداً كالعدم. وزوال العقل يكون بجنون أو إغماء أو سكر أو بنوم ثقيل ولو قصر زمنه. والقبلة بالفم تنقض ولو بغير لذة. والردة والشك في الناقض بعد طُهر معلوم وعكسه: أي الشك في الطهارة بعد تيقن الحدث أو ظنه، كل منهما ناقض للوضوء، ليس بحدث ولا سبب. 3 - مذهب الشافعية: نواقض الوضوء أربعة: الأول ـ الخارج من أحد السبيلين إلا المني أي مني الشخص نفسه، لأنه أوجب الغسل. الثاني ـ زوال العقل بجنون أو إغماء أو نوم إلا النوم قاعداً ممكِّناً مقعده من مقره كالأرض، وظهر دابة سائرة، وإن كان مستنداً إلى شيء بحيث لو زال، لسقط.
4 - مذهب الحنابلة
الثالث ـ التقاء بشرتي الرجل والمرأة ولو ميتة، عمداً أو سهواً. وينتقض اللامس والملموس، ولا ينقض صغير أو صغيرة لا تشتهى، ولا ينقض شعر وسن وظفر، ومحرم بنسب أو رضاع أو مصاهرة، أي المحرَّمات بصفة التأبيد، لا المؤقتة كأخت الزوجة فإنها تنقض الوضوء. الرابع ـ مس قبل الآدمي، وحلقة دبره، بباطن الكف. ولا ينتقض الممسوس. وينقض فرج الميت والصغير، ومحل الجَبِّ كله لا الثقبة فقط، والذكر المقطوع. ولا ينقض فرج البهيمة، ولا المس برأس الأصابع وما بينها. 4 - مذهب الحنابلة: نواقض الوضوء ثمانية أنواع: أحدها ـ الخارج من السبيلين، إلا ممن حدثه دائم، فلا يبطل وضوءه، وينقضه ولو كان الخارج ريحاً من قُبُل أنثى أو من ذكر، أو قطناً أو ميلاً أو دهناً أو حقنة أدخل فيهما، أو ظهر طرف مصران أو رأس دودة، أو منياً لرجل أو امرأة استدخلته امرأة في فرجها ثم خرج. الثاني ـ خروج النجاسات من بقية البدن: فإن كانت النجاسة غائطاً أو بولاً، نقض ولو قليلاً، من تحت المعدة أو فوقها، انسد المخرجان أم بقيا مفتوحين، وإن كانت النجاسة غير الغائط والبول، كالقيء والدم والقيح ودود الجراح لم ينقض إلا كثيرها: وهوما فحش في نفس كل أحد بحسبه. الثالث ـ زوال العقل بجنون ونحوه، أو تغطيته بإغماء أو سكر قليل أو كثير، أو بنوم إلا النوم اليسير عرفاً من جالس وقائم. وينقض النوم اليسير من راكع وساجد ومستند ومتكئ ومُحْتب كمضطجع.
الرابع ـ مس ذكر أو قبُل أو دبُر آدمي من نفسه أو غيره، ولو من غير شهوة بيده، ببطن كفه أو بظهره أو بحرفه، غير ظفر، من غير حائل، ولو بأصبع زائدة، ولا ينتقض وضوء ملموس، ولا ينقض مس ذكر بائن (أي مقطوع) ولا مس محله، ولا قُلَفة (وهي الجلدة التي تقطع في الختان) بعد قطعها، ولا مس ذكر زائد؛ لأنه ليس فرجاً، ولا ينقض مس امرأة شفريها، لأن الفرج هو مخرج الحدث، وهو ما بينهما دونهما. الخامس ـ مس بشرة الرجل بشرة الأنثى بشهوة، من غير حائل. ولا ينقض مس طفلة وطفل من دون سَبْع إذا لم يكن بشهوة، وينتقض الوضوء باللمس بشهوة ولو كان الملموس ميتاً أو عجوزاً، أو محرماً، أو صغيرة تشتهى وهي بنت سبع فأكثر لقوله تعالى: {أو لا مستم النساء} [المائدة:6/ 5].ولا ينتقض وضوء الملموس، ولو وجد منه شهوة، ولا ينتقض وضوء بانتشار ذكر عن فكر وتكرار نظر، ولا ينقض لمس شعر وظفر وسن؛ لأنه في حكم المنفصل، ولا ينقض مس عضو مقطوع لزوال حرمته، ولا مس أمرد ولو بشهوة، لعدم تناول الآية له، ولأنه ليس محلاً للشهوة شرعاً. ولا ينقض مس خنثى مشكل من رجل أو امرأة ولو بشهوة، ولا ينقض مس الرجل الرجل، ولا المرأة المرأة، ولو بشهوة فيهن. السادس ـ غسل الميت أو بعضه، ولو في قميص، ولا ينقض تيمم الميت لتعذر غسل. وغاسل الميت: من يقلبه ويباشره ولو مرة، لا من يصب الماء ونحوه. السابع ـ أكل لحم الجزور نيئاً وغير نيء. الثامن ـ موجبات الغسل كالتقاء الختانين وانتقال المني وإسلام الكافر الأصلي أو المرتد.
المطلب الثامن ـ وضوء المعذور
المطلب الثامن ـ وضوء المعذور: ينتقض الوضوء بالخارج من أحد السبيلين إذا كان خروجه في حال الصحة، فإن كان في حال المرض كان معذوراً. والمعذور كما عرفه الحنفية: من به سلس بول لايمكنه إمساكه، أو استطلاق بطن، أو انفلات ريح أو رعاف دائم أو نزف دم جرح، أو استحاضة (¬1)،وكذا كل ما يخرج بوجع ولو من أذن وثدي وسرة، من دم أو قيح أو صديد، أو ماء الجرح والنفطة، وماء البثرة، والثدي والعين والأذن (¬2). وأحكام وضوء المعذور وصلاته تحتاج لتفصيل بين المذاهب. 1 - مذهب الحنفية (¬3): ضابط المعذور: هو ـ في ابتداء الأمر ـ من يستوعب عذره تمام وقت صلاة مفروضة، بأن لا يجد في جميع وقتها زمناً يتوضأ، ويصلي فيه خالياً عن الحدث، كأن يستمر تقاطر بوله مثلاً من ابتداء الظهر إلى العصر. فإن أصبح متصفاً بهذه الصفة، كفى وجوده في جزء من الوقت ولو مرة، كأن يرى الدم مرة فقط في وقت العصر، بعد استمراره في وقت الظهر، ولا يصبح معافى إلا إذا انقطع عنه وقت صلاة كامل، أي أن شرط ثبوت العذر في مبدأ الأمر: هو استيعابه جميع الوقت. ¬
وشرط دوامه: وجوده في كل وقت بعد ذلك، ولو مرة واحدة، ليعلم بها بقاؤه. وشرط انقطاعه وعدم اتصافه بوصف المعذور: خلو وقت صلاة كامل عنه، كأن ينقطع طوال وقت العصر مثلاً. وحكمه: أنه يتوضأ لوقت كل فرض، لا لكل فرض ونفل، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة» (¬1) ويقاس عليها سائر ذوي الأعذار. ويصلي بهذا الوضوء ما شاء من الفرائض والنوافل، ويبقى وضوءه ما دام باقياً بشرطين: أن يتوضأ لعذره، ولم يطرأ عليه حدث آخر كخروج ريح أو سيلان دم من موضع آخر. ويبطل وضوء المعذور بخروج وقت الصلاة المفروضة فقط، فإن توضأ بعد طلوع الشمس لصلاة العيد، ودخل وقت الظهر، فإن وضوءه لا ينتقض، لأن دخول وقت الظهر ليس ناقضاً، وكذا خروج وقت العيد ليس ناقضاً، لأنه ليس وقت صلاة مفروضة، بل هو وقت مهمل، وصلاة العيد بمننرلة صلاة الضحى، وهذا يعني أنه يصح في هذه الحالة فقط وضوء المعذور قبل دخول الوقت (وقت الظهر) ليتمكن من الأداء عند دخول الوقت، وأنه يبطل وضوء المعذور بخروج الوقت لا بدخوله (¬2). فإذا خرج الوقت بطل وضوء المعذور واستأنف الوضوء لصلاة أخرى عند أئمة الحنفية الثلاثة، وقال زفر: استأنف إذا دخل الوقت. ¬
2 - مذهب المالكية
أما إن توضأ قبل طلوع الشمس، فإنه ينتقض بطلوعها لخروج وقت الفريضة. وكذلك ينتقض وضوءه إن توضأ بعد صلاة الظهر ثم دخل وقت العصر، لخروج وقت الظهر. وعلى المعذور أن يخفف عذره بالقدر المستطاع، كالحِفَاظ للمستحاضة، والقعود في أثناء الصلاة إن كانت الحركة أو القيام تؤدي إلى السيلان. ويستحب للرجل أن يحتشي إن رابه الشيطان، ويجب إن كان لا ينقطع إلا به. ولا يجب على المعذور غسل ما يصيب ثوبه أكثر من قدر الدرهم إذا اعتقد أنه لو غسله تنجس بالسيلان قبل الفراغ من الصلاة. فإن لم يتنجس قبل فراغه من الصلاة، وجب عليه غسله، وهو المختار للفتوى. 2 - مذهب المالكية (¬1): السلس: هو ما يسيل بنفسه لانحراف الطبيعة بولاً أو ريحاً أو غائطاً أو مذياً، ومنه دم الاستحاضة. وذلك إذا لم ينضبط، ولم يقدر على التداوي. فإن انضبط بأن جرت عادته أن ينقطع آخر الوقت، وجب عليه تأخير الصلاة لآخره، وإن كان ¬
3 - مذهب الحنابلة
ينقطع أول الوقت وجب عليه تقديم الصلاة. وإن قدر على التداوي أو التزوج وجب عليه ذلك، واغتفر له زمن التداوي والتزوج. فلا يكون السلس من طول العزوبة، وإنما من اختلال المزاج، أو من برودة وعلة. ولا ينتقض الوضوء عند المالكية إن خرج البول والمذي على وجه السلس الملازم: وهو أن يلازمه نصف زمن أوقات الصلاة أو أكثر، أو كل الزمن. لكن يندب الوضوء إذا لم يعم الزمن. وينتقض وضوء السلس: إذا بال البول المعتاد، أو أمذى بلذة معتادة بأن حدث كلما نظر أو تفكر. ويعرف ذلك: بأن البول المعتاد يكثر ويمكن إمساكه، وأن المذي يكون بشهوة. كما ينتقض وضوء السلس: إن لازمه أقل الزمان. وإذا لم ينتقض وضوء السلس، فله أن يصلي به ما شاء إلى أن يوجد ناقض غيره، لكن يستحب للسلس والمستحاضة: أن يتوضأ لكل صلاة، ولا يجب عليهما. 3 - مذهب الحنابلة (¬1): لا ينتقض وضوء المبتلى صاحب الحدث الدائم بسلس بول وكثرة مذي ونزف الدم وانفلات ريح ونحوها كالمستحاضة. وذلك إذا دام حدثه، ولم ينقطع زمناً من وقت الصلاة بحيث يسعها مع الطهارة. فإن انقطع حدثه زمناً يسع الصلاة والطهارة، وجب عليه أداء الصلاة فيه. ¬
لكن عليه الوضوء إن خرج منه شيء من حدثه الدائم لكل صلاة، بعد غسل محل الحدث، وشدِّه، والتحرز من خروج الحدث بما يمكنه، ولا يصح وضوءه إلا بعد دخول وقت الصلاة؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش: «توضئي لكل صلاة، حتى يجيء ذلك الوقت» (¬1) وفي لفظ: «توضئي لوقت كل صلاة» (¬2) ولأنها طهارة عذر وضرورة، فتقيدت بالوقت كالتيمم، فإن توضأ قبل دخول الوقت وخرج منه شيء بطلت طهارته. ويجوز للمستحاضة وغيرها الجمع بين فرضي الصلاتين بوضوء واحد؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «أمر حَمْنة بنت جحش بالجمع بين الصلاتين بغسل واحد» (¬3) وأمر به سهلة بنت سهيل، ولبقاء وضوئها إلى آخر الوقت، وكالمتيمم وأولى. ولو زال العذر كأن انقطع دم المستحاضة وقتاً يسع الوضوء والصلاة، بطلت الطهارة ويلزم استئنافها؛ لأنه صار بهذا الانقطاع في حكم من حدثه غير دائم. وكيفية إعداد المعذور للوضوء: هي أن تغسل المستحاضة المحل ثم تحشوه بقطن أو نحوه ليرد الدم. ومن به سلس البول أو كثرة المذي: يعصب رأس ذكره بخرقة ويحترس حسبما يمكنه. وكذلك يفعل من به ريح أو نزف دم يعصب المحل. فإن كان مما لا يمكن عصبه مثل من به جرح لا يمكن شده، أو باسور، أو ناسور لايتمكن من عصبه، صلى على حسب حاله، كما روي عن عمر رضي الله عنه «أنه حين طعن، صلى وجرحه يثْعَب دماً» أي يتفجر. وينوي المعذور استباحة الصلاة، ولا يكفيه نية رفع الحدث لأنه دائم الحدث. ¬
4 - مذهب الشافعية
4 - مذهب الشافعية (¬1): صاحب السلَس الدائم من بول أو مذي أو غائط أو ريح، والمستحاضة، يغسل الفرج ثم يحشوه إلا إذا كان صائماً، أو تأذت المستحاضة به، فأحرقها الدم فلا يلزم الحشو حينئذ، ثم يعصِب. وكيفية العصب للمستحاضة مثلاً: أن تشد فرجها بعد غسله بخرقة مشقوقة الطرفين، تخرج أحدهما من أمامها، والآخر من خلفها، وتربطهما بخرقة تشدها على وسطها كالتكة. ثم يتوضأ أو يتيمم عقب ذلك فوراً، أي أنه تجب الموالاة بين الأفعال من عصب ووضوء، يفعل كل ذلك فوراً، أي أنه تجب الموالاة بين الأفعال من عصب ووضوء، يفعل كل ذلك بعد دخول وقت الصلاة، لأنه طهارة ضرورة، فلا تصح قبل الوقت كالتيمم. ثم يبادر وجوباً إلى الصلاة تقليلاً للحدث، فلو أخر لمصلحة الصلاة كستر العورة، وأذان وإقامة، وانتظار جماعة، واجتهاد في قبلةوذهاب إلى مسجد، وتحصيل سترة، لم يضر، لأنه لا يعد بذلك مقصراً، وإلا كأن أخر لا لمصلحة الصلاة كأكل وشرب وغزل وحديث، فيضر التأخير على الصحيح، فيبطل الوضوء، وتجب إعادته وإعادة الاحتياط لتكرر الحدث والنجس مع إمكان الاستغناء عنه. وتجب الطهارة وتجديد العصابة في الأصح، والوضوء لكل فرض ولو منذوراً، كالمتيمم لبقاء الحدث، ويصلي به ما شاء من النوافل فقط، وصلاة الجنازة لها حكم النافلة، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش: «توضئي لكل صلاة» ولو زال العذر وقتاً يسع الوضوء والصلاة، كانقطاع الدم مثلاً، وجب الوضوء، وإزالة ما على الفرج من الدم ونحوه. ¬
المطلب التاسع ـ ما يحرم بالحدث الأصغر أو ما يمنع منه غير المتوضئ
وسلس المني: يلزمه الغسل لكل فرض. ولو استمسك الحدث بالجلوس في الصلاة، وجب بلا إعادة. ولا يجوز للسلس: أن يعلق قارورة يقطر فيها بوله. وينوي المعذور استباحة الصلاة، لا رفع الحدث لأنه دائم الحدث، لا يرفعه وضوءه، وإنما يبيح له العبادة، كما قال الحنابلة. وبه يتبين أن مذهبي الشافعية والحنابلة متفقان في أحكام وضوء المعذور، إلا أن الحنابلة ومثلهم الحنفية قالوا: يجوز بالوضوء الواحد صلاة أكثر من فرض في الوقت؛ لأن الواجب عندهم الوضوء لوقت كل صلاة. ولم يجز الشافعية الصلاة به إلا فرضاً واحداً؛ لأن الواجب عندهم تجديد الوضوء لكل فرض. واتفق الجمهور (غير المالكية) على وجوب تجديد وضوء المعذور، وقال المالكية باستحباب الوضوء فقط. والوضوء يكون بعد دخول الوقت عند الشافعية والحنابلة، وفي غير صلاة الظهر عند الحنفية، أما صلاة الظهر فيجوز تقديم الوضوء لها على دخول الوقت، لسبقها بوقت مُهْمل. المطلب التاسع ـ ما يحرم بالحدث الأصغر أو ما يمنع منه غير المتوضئ: يحرم بالحدث الأصغر ثلاثة أمور: الصلاة ونحوها، والطواف، ومس المصحف وتوابعه، على تفصيل بين المذاهب (¬1). 1 - الصلاة ونحوها: يحرم على المحدث غير المتوضئ الصلاة فرضاً أو ¬
2 - الطواف بالبيت الحرام فرضا أو نفلا؛
نفلاً، ونحوها، كسجود التلاوة، وسجود الشكر، وخطبة الجمعة، وصلاة الجنازة. لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ» (¬1) «لا صلاة لمن لا وضوء له ... » (¬2). 2 - الطواف بالبيت الحرام فرضاً أو نفلاً؛ لأنه صلاة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «الطواف بالبيت صلاة، ولكن الله أحل فيه المنطق، فمن نطق فلا ينطق إلا بخير» (¬3). إلا أن الحنفية جعلوا الطهارة للطواف واجباً لا شرطاً في صحته، فيصح مع الكراهة التحريمية الطواف محدثاً؛ لأن الطواف بالبيت شبيه بالصلاة بنص الحديث السابق، ومعلوم أنه ليس بصلاة حقيقة، فلكونه طوافاً حقيقة يحكم بالجواز، ولكونه شبيهاً بالصلاة يحكم بالكراهة. 3 - مس المصحف كله أو بعضه ولو آية: والمحرم هو لمس الآية ولو بغير أعضاء الطهارة لقوله تعالى: {لا يمسه إلا المطهرون} [الواقعة:79/ 56]، أي المتطهرون، وهو خبر بمعنى النهي، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يمس القرآن إلا طاهر» (¬4)، ولأن تعظيم القرآن واجب، وليس من التعظيم مس المصحف بيد حلَّها الحدث. ¬
واتفق الفقهاء على أن غير المتوضئ يجوز له تلاوة القرآن أو النظر إليه دون لمسه، كما أجازوا للصبي لمس القرآن للتعلم؛ لأنه غير مكلف، والأفضل التوضؤ. وقد حرم المالكية والشافعية مس القرآن بالحدث الأصغر ولو بحائل أو عود، وأجاز الحنفية والحنابلة مسّه بحائل أو عود طاهرين. وهذه عبارات الفقهاء: قال الحنفية: يحرم مس المصحف كله أو بعضه أي مس المكتوب منه، ولو آية على نقود (درهم ونحوه) أو جدار، كما يحرم مس غلاف المصحف المتصل به، لأنه تبع له، فكان مسه مساً للقرآن، ولا يحرم مس الغلاف المنفصل عن القرآن كالكيس والصندوق، ويجوز مسه بنحو عود أو قلم أو غلاف منفصل عنه، ويكره لمسه بالكم تحريماً لتبعيته للابس، والحائل كالخريطة في الصحيح، والمقصود بالخريطة: هو الوعاء من جلد أو غيره تُشرَج على ما فيها. ولا يجوز لغير المسلم مس المصحف ويجوز له تعلمه وتعلم الفقه ونحوه، ويجوز للصبي مس القرآن أو لوح منه للضرورة من أجل التعلم والحفظ. ولا تحرم كتابة آية على ورقة، لأن المحرم هو مس المكتوب باليد، أما القلم فهو واسطة منفصلة، كالثوب المنفصل الذي يمس به القرآن؛ لأن المفتى به جواز مس المصحف بغلاف منفصل أو بصُرة. ولا يكره مس كتب التفسير إن كان التفسير أكثر، ويكره المس إن كان القرآن أكثر من التفسير أو مساوياً له. ولا مانع من مس بقية الكتب الشرعية من فقه وحديث وتوحيد بغير وضوء، والمستحب له ألا يفعل. كما لا مانع من لمس الكتب السماوية الأخرى المبدلة،
لكن يكره قراءة توراة وإنجيل وزبور؛ لأن الكل كلام الله، وما بدل منها غير معين. ويجوز قربان المرأة في بيت فيه مصحف مستور، ويكره وضع المصحف تحت رأسه إلا للحفظ. ويكره لف شيء في ورق فيه فقه ونحوه من علوم الشرع. ويدفن المصحف كالمسلم إذا صار بحال لا يقرأ فيه، ولا بأس أن تدفن كتب الشرع، أوتلقى في ماء جارٍ، أو تحرق، والأول أحسن. ويجوز محو بعض الكتابة ولو قرآناً بالريق، ويجوز حمل الحجب المشتملة على آيات قرآنية ودخول الخلاء بها ومسها ولو للجنب إذا كانت محفوظة بغلاف منفصل عنها كالمشمع ونحوه. وقال المالكية: يمنع المحدث حدثاً أصغر من مس مصحف أو جزئه، أو كَتْبِه، أو حمله ولو بعلاقة أو ثوب أو وسادة، أو كرسي تحته، ولو كان المس بحائل أو عود، أو كان الحمل مع أمتعة أخرى غير مقصودة بالحمل. أما إن قصد حمل الأمتعة وفيها قرآن تابع لها كصندوق ونحوه، فيجوز الحمل، أي إن قصد المصحف فقط أو قصده مع الأمتعة حرم الحمل، وإن قصد الأمتعة بالحمل جاز. ويجوز المس والحمل لمعلم ومتعلم بالغ، وإن كان حائضاً أو نفساء، لعدم قدرتهما على إزالة المانع، ولايجوز ذلك للجنب لقدرته على إزالة المانع بالغسل أو التيمم. كما يجوز للمسلم لا للكافر المس والحمل بحِرْز ساتر واقٍ، ولو لجنب أو حائض، ولو مصحفاً كاملاً. ويباح مس التفسير وحمله والمطالعة فيه للمحدث ولو كان جنباً، لأن المقصود من التفسيرمعاني القرآن، لا تلاوته. وقال الشافعية: يحرم حمل المصحف ومس ورقه وحواشيه، وجلده، المتصل به (لا المنفصل عنه)، ووعائه (خريطته) (¬1) وعلاقته، وصندوقه، وما كتب ¬
من الألواح لدارس قرآن، ولو بخرقة، أو بحائل. ويحل حمل القرآن في أمتعة لا بقصده، وحمل التفسير الأكثر منه، أما إذا كانا متساويين أو كان القرآن أكثر فلا يجوز، ويجوز حمل كتب العلم الأخرى غير التفسير المشتملة على آيات قرآنية. ويباح قلب ورقه بعود. ولا يمنع الصبي المميز من حمله ومسه للدراسة. ويجوز حمل التمائم، وما على النقد، وما على الثياب المطرزة بالآيات القرآنية ككسوة الكعبة لأنه لم يقصد به القرآن. ويجوز للمحدث كتابة القرآن بدون مس. ويحرم وضع شيء على المصحف كخبز وملح؛ لأن فيه إزراء وامتهاناً له. ويحرم تصغير المصحف والسورة لما فيه من ايهام النقص، وإن قصد به التعظيم. وقال الحنابلة: يحرم مس المصحف ولو آية منه، بشيء من جسده، ويجوز مسه بحائل أو عود طاهرين، وحمله بعلاقة أو وعاء، ولو كان المصحف مقصوداً بالحمل، وكتابته ولو لذمي من غير مس، وحمله بحرز ساتر طاهر. ولا يجوز لولي الصبي تمكينه من مس المصحف أو لوح الدرس القرآني ولو للحفظ أو التعلم، ما دام الصبي محدثاً، أي أن حرمة مس القرآن إلا بطهارة تشمل عندهم الصبي. ويجوز مس كتب التفسير والفقه وغيرها وإن كان فيها آيات من القرآن، بدليل «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كتب إلى قيصر كتاباً فيه آية» (¬1). يجوز في أرجح الوجهين: مس الدراهم المكتوب عليها القرآن، والثوب المرقوم بالقرآن، لأنها لا تسمى قرآناً، ولأن في الاحتراز منها مشقة، فأشبهت ألواح الصبيان على أحد الوجهين. ¬
وإن احتاج المحدث إلى مس المصحف عند عدم الماء، تيمم وجاز مسه. ويمنع الكافر (الذمي أو غيره) من مس القرآن ومن قراءته ومن تملكه ويمنع المسلم من تمليكه له، ويحرم بيع المصحف ولو لمسلم، ويحرم توسد المصحف والوزن به والاتكاء عليه أو على كتب العلم التي فيها القرآن. فإن لم يكن فيها القرآن، كره توسدها والوزن بها والاتكاء عليها، إلا إن خاف عليها سرقة، فلا بأس أن يتوسدها للحاجة. ولا يجوز المسافرة بالمصحف إلى دار الحرب، لما روى ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو، مخافة أن تناله أيديهم» (¬1). والخلاصة: أنه وقع الإجماع ما عدا داود أنه لا يجوز للمحدث حدثاً أكبر أن يمس المصحف. وأما المحدث حدثاً أصغر فلم تدل الأدلة قطعاً على منعه من مس القرآن، لكن أكثر الفقهاء على أنه لا يجوز له. وأجاز ابن عباس والزيدية له مس المصحف (¬2).والظاهر أن المراد من آية {لا يمسه إلا المطهرون} [الواقعة:79/ 56] هو اللوح المحفوظ، والمطهرون: الملائكة، فإن لم يكن ظاهراً فهو احتمال، كاحتمال أن المراد من كلمة (طاهر) في الحديث «لا يمس القرآن إلا طاهر»: هو المؤمن، والطاهر من الحدث الأكبر والأصغر، ومن ليس على بدنه نجاسة. ويجوز للمحدث عند الجمهور غير المالكية كتابة المصحف أو بعض آيات منه، وإن لم يكن بقصد التعليم والتعلم، بشرط ألا يحمله الكاتب المحدث أو يمسه أثناء كتابته، وإلا حرم. ¬
المبحث الثاني ـ السواك
وحرَّم المالكية على المعتمد كتابةالقرآن أو بعض منه للمحدث كحمله ومسَّه. ويجوز عند الجمهور غير الحنابلة للصبيان كتابة القرآن ومسّه بقصد التعليم والتعلم للضرورة أو الحاجة ودفعاً للمشقة. وأجاز المالكية للحائض والنفساء قراءة القرآن وحمله ومسّه أثناء التعليم والتعلم للضرورة، كما أجازوا لهما القراءة في غير حال التعلم إذا كان يسيراً كآية الكرسي والإخلاص والمعوذتين وآيات الرُّقية للتداوي بقصد الاستشفاء بالقرآن. المبحث الثاني ـ السواك: تعريفه، حكمه، كيفيته، فوائده. أولاً ـ تعريف السواك: السواك لغة: الدلك وآلته. وشرعاً: استعمال عود أو نحوه كأشنان وصابون، في الأسنان وما حولها، ليذهب الصفرة وغيرها عنها. ثانياً ـ حكمه: السواك من سنن الفطرة (أي من السُّنَّة أو من الدين)، لأنه سبب لتطهير الفم وموجب لرضا الله على فاعله، قال عليه السلام: «السواك مَطْهرة للفم، مَرْضاة للرب» (¬1) وهو يدل على مطلق شرعيته دون تخصيص بوقت معين، ولا بحالة مخصوصة، فهو مسنون في كل وقت. وهو من السنن المؤكدة، وليس بواجب في حال من الأحوال، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل ¬
صلاة» وفي رواية لأحمد: «لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء» (¬1) وللبخاري تعليقاً بصيغة الجزم - وتعليقاته هكذا صحيحة -: «لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء» قال بعض الفقهاء: اتفق العلماء على أنه سنة مؤكدة لحث الشارع ومواظبته عليه، وترغيبه وندبه إليه. وحكمه عند الفقهاء: أنه سنة عند الحنفية لكل وضوء عند المضمضة، ومن فضائل الوضوء قبل المضمضة عند المالكية، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء» (¬2) إلاأنه إذا نسيه عند المضمضة في الوضوء فيندب للصلاة. وهو لدى الشافعية والحنابلة سنة مستحبة عند كل صلاة، لحديث أبي هريرة السابق برواية الجماعة: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة» وسنة أيضاً عند الوضوء بعد غسل الكفين وقبل المضمضة ولتغير الفم أو الأسنان، بنوم أو أكل أو جوع أو سكوت طويل أو كلام كثير، لحديث حذيفة: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك» (¬3) أي يدلكه بالسواك، وقيس بالنوم غيره بجامع التغير. وكما أنه يتأكد للصلاة ولتغير الفم واصفرار الأسنان، يتأكد أيضاً لقراءة قرآن، أو حديث شرعي، ولعلم شرعي، ولذكر الله تعالى، ولنوم ويقظة، ولدخول منزله، وعند الاحتضار (¬4)، وفي السحَر، وللأكل، وبعد الوتر، ¬
وللصائم قبل الظهر (¬1). وأضاف الشافعية: ويسن التخلل قبل السواك وبعده ومن آثار الطعام. وأدلة ذلك: ما روى الجماعة إلا البخاري والترمذي عن عائشة: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا دخل بيته بدأ بالسواك» وروى ابن ماجه عن أبي أمامة: «إني لأستاك، حتى لقد خشيت أن أُحفي مقادم فمي» (¬2) وعن عائشة: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يرقد من ليل أو نهار، فيستيقظ، إلا تسوك، قبل أن يتوضأ» (¬3)، ولأن النوم والأكل ونحوهما يغير رائحة الفم، والسواك مشروع لإزالة رائحته وتطييبه. ويكره عند الشافعية والحنابلة السواك للصائم بعد الزوال أي من وقت صلاة الظهر إلى أن تغرب الشمس، لخبر الصحيحين: «لخُلوف (¬4) فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك» وأطيبية الخلوف تدل على طلب إبقائه، فكرهت إزالته، وتزول الكراهة بالغروب؛ لأنه ليس بصائم الآن، واختصاصه بما بعد الزوال لأن تغير الفم بالصوم إنما يظهر حينئذ. ولا يكره عند المالكية والحنفية السواك للصائم مطلقاً لعموم الأحاديث السابقة الدالة على استحباب السواك، وقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «من خير خصال الصائم السواك» (¬5) وقال ربيعة بن عامر: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما لا أحصي يتسوك، ¬
ثالثا ـ كيفيته وأداته
وهو صائم» (¬1) قال الشوكاني: الحق أنه يستحب السواك للصائم أول النهار وآخره، وهو مذهب جمهور الأئمة. ثالثاً ـ كيفيته وأداته: يستاك الشخص بيده اليمنى مبتدئاً بالجانب الأيمن، عرضاً في الأسنان (أي ظاهراً وباطناً) من ثناياه إلى أضراسه، ويذهب إلى الوسط ثم الأيسر، وطولاً في اللسان، لحديث عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلم «كان يحب التيامن في تنعله وترجله وطُهوره، وفي شأنه كله» (¬2) ولخبر «إذا استكتم فاستاكوا عرضاً» (¬3)،ويجزئ الاستياك في الأسنان طولاً، لكن مع الكراهة؛ لأنه قد يدمي اللثة، ويفسد لحم الأسنان. أما اللسان فيسن أن يستاك فيه طولاً، كما ذكره ابن دقيق العيد مستدلاً بخبر في سنن أبي داود (¬4). وقال الحنابلة: يبدأ من أضراس الجانب الأيمن بيساره. ويحصل الاستياك بعود ليِّن من نخل أو غيره، ينقي الفم، ولا يجرحه ولا يضره ولا يتفتت فيه كالأراك والفرشاة، والأفضل أن يكون من أراك، ثم من النخل، ثم ذو الريح الطيب ثم اليابس المندى بالماء، ثم العود. ولا يكره بسواك الغير إذا أذن وإلا حرم، روى أبو داود عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يستنُّ، وعنده رجلان، ¬
أحدهما أكبر من الآخر، فأُوحي إليه في فضل السواك (أن كبِّر) أعط السواك أكبرهما». ويحصل أيضاً بالإصبع عند عدم السواك في رأي الحنفية والمالكية، قال علي رضي الله عنه: التشويص بالمُسبِّحة والإبهام سواك، وروى البيهقي وغيره من حديث أنس يرفعه: «يجزي من السواك الأصابع» (¬1) وروى الطبراني عن عائشة رضي الله عنها، قلت: يا رسول الله، الرجل يذهب فوه، يستاك؟ قال: نعم، قلت: كيف يصنع؟ قال: يدخل أصبعه في فيه، فيدلكه» (¬2). ولا يحصل السواك بالإصبع في الأصح عند الشافعية، والحنابلة، كما لايحصل بخرقة عند الحنابلة، ويصح بكل خشن عند الشافعية؛ لأن استعمال الإصبع لا يسمى استياكاً، ولم يرد الشرع به، ولا يتحقق به الإنقاء الحاصل بالعود. ويغسل السواك بالماء بعد استعماله ليزيل ما عليه، قالت عائشة: «كان نبي الله صلّى الله عليه وسلم يستاك، فيعطيني السواك لأغسله، فأبدأ به فأستاك، ثم أغسله وأدفعه إليه» (¬3). ولا يستاك بعود الرمان ولا الآس ولا الريحان ولا الأعواد الذكية الرائحة؛ لأنها تضر بلحم الفم، ولايحصل الإنقاء بها، ولم يرد بها الشرع، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: ¬
رابعا ـ فوائد السواك
«لا تخللوا بعود الريحان، ولا الرمان، فإنهما يحركان عرق الجذام». (¬1) ولا يستاك أيضاً بقصب الشعير ولا بعود الحلفاء ونحوهما من كل ما يضر أو يجرح؛ ولأنهما يورثان الأكلة أو البرص. ولا يتسوك ولا يتخلل بما يجهله، لئلا يتضرر منه. ويقول إذا استاك: (اللهم طهر قلبي، ومحِّص ذنوبي) (¬2). وقال بعض الشافعية: وينوي به الإتيان بالسنة. ولا يكره السواك في المسجد، لعدم الدليل الخاص بالكراهة. ويكره أن يزيد طول السواك على شبر، في البيهقي عن جابر قال: «كان موضع سواك رسول الله صلّى الله عليه وسلم موضع القلم من أذن الكاتب». رابعاً ـ فوائد السواك: ذكر العلماء من فوائد السواك: أنه يطهر الفم، ويرضي الرب، ويبيض الأسنان، ويطيب النكهة، ويسوِّي الظهر، ويشد اللثة، ويبطئ الشيب، ويصفي الخلقة، ويذكي الفطنة، ويضاعف الأجر، ويسهل النزع، ويذكّر الشهادة عند الموت (¬3). ونحو ذلك، مما يصل إلى بضع وثلاثين فضيلة، نظمها الحافظ ابن حجر (¬4). ¬
ما يلحق بالسواك من سنن العادات الحسنة (سنن الفطرة)
ويوصي الأطباء المعاصرون باستعمال السواك لمنع نخر الأسنان، والقَلَح (الطبقة الصفراء على الأسنان)، والتهابات اللثة والفم، ومنع الاختلاطات العصبية والعينية والتنفسية والهضمية، بل ومنع ضعف الذاكرة وبلادة الذهن، وشراسة الأخلاق. ما يلحق بالسواك من سنن العادات الحسنة (سنن الفطرة): ورد في السنة النبوية أحاديث تبين مجموعة حسنة من الآداب أو السنن الدينية المرتبطة بنظافة أجزاء الإنسان من أشعار وأظفار ونحوها، يحسن ذكرها كما وردت، ثم تشرح وتوضح على طريقة الفقهاء. ومن أهم هذه الأحاديث اثنان: الأول ذكر فيه خمس خصال من الفطرة، والثاني ذكر فيه عشر خصال: سنن الفطرة الخمس: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: خمس من الفطرة: الاستحداد، والختان، وقص الشارب، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار» (¬1). والاستحداد: هو حلق العانة، وهو سنة بالاتفاق، ويكون بالحلق، والقص، والنتف، والنورة (الكلس). قال النووي: والأفضل الحلق. والمراد بالعانة: الشعر النابت حول فرج الرجل، أو فرج المرأة. والخِتَان: قطع جميع الجلدة التي تغطي حشفة ذكر الرجل، حتي ينكشف جميع الحشفة. وفي المرأة قطع أدنى جزء من الجلدة التي في أعلى الفرج. ويسمى ختان الرجل إعذاراً، وختان المرأة: خفضاً، فالخفض للنساء كالختان للرجال. ¬
ويستحب أن يكون في اليوم السابع من الولادة، والأظهر أنه يحسب يوم الولادة. وهو سنة للرجل، مكرمة للمرأة عند الحنفية والمالكية، لحديث: «الختان سنة في الرجال، مكرمة في النساء» (¬1). وواجب عند الشافعية والحنابلة للذكر والأنثى، لقوله صلّى الله عليه وسلم لرجل أسلم: «ألق عنك شعر الكفر، واختتن» (¬2) ولخبر أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من أسلم فليختتن» (¬3) وفي حديث آخر لأبي هريرة: «اختتن إبراهيم خليل الرحمن بعد ما أتت عليه ثمانون سنة، واختتن بالقَدُّوم» (¬4) أي آلة النجارة، ولأنه من شعار المسلمين، فكان واجباً كسائر شعاراتهم. والدليل على أنه مكرمة لا واجب للنساء عند الحنابلة: حديث: «الختان سنة للرجال، ومكرمة للنساء» وحديث «أشمِّي ولا تنهكي» (¬5) وفي حديث أم عطية: «إذا خَفَضْتِ فأشِمِّي». وقص الشارب: هو سنة بالاتفاق. والقاص مخير بين أن يتولى ذلك بنفسه، أو يوليه غيره، لحصول المقصود، بخلاف الإبط والعانة. والمراد به عند الشافعية والمالكية: التقصير بأن يؤخذ من الشارب حتى يبدو ¬
أطراف الشفة، وهو معنى الحديث «احْفُوا الشوارب وأرْخوا اللحى، خالفوا المجوس» (¬1) أو «جزوا الشوارب». ويراد به عند الحنفية: الاستئصال، لظاهر الحديث السابق: «احفوا وانهَكُوا». ويخير عند الحنابلة بين القص والإحفاء، والحف أولى نصاً. أما إرخاء أو إعفاء اللحية: فهو تركها وعدم التعرض لها بتغيير، وقد حرم المالكية والحنابلة حلقها، ولا يكره أخذ ما زاد على القبضة، ولا أخذ ما تحت حلقه، لفعل ابن عمر (¬2). ويكره حلقها تحريماً عند الحنفية، ويكره تنزيهاً عند الشافعية، فقد ذكر النووي في شرح مسلم عشر خصال مكروهة في اللحية، منها حلقها، إلا إذا نبت للمرأة لحية، فيستحب لها حلقها. ونتف الإبط: هو سنة بالاتفاق أيضاً. وتقليم الأظافر: هو سنة بالاتفاق أيضاً. ويستحب في كل ما سبق البدء بالجانب الأيمن، لحديث التيامن المتقدم، وفيه: «كان يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره، وفي شأنه كله». ¬
خصال الفطرة العشر
خصال الفطرة العشر: عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسِّواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البَرَاجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء يعني الاستنجاء، قال الراوي مصعب بن شيبة: ونسيت العاشرة، إلا أن تكون المضمضة» (¬1) وقال النووي عن العاشرة: لعلها الختان، وهو أولى. وقد سبق بيان هذه الخصال في الحديث السابق وفي سنن الوضوء، أما غسل البراجم: فهو سنة مستقلة ليست بواجبة، والبراجم: عقد الأصابع ومعاطفها كلها. قال العلماء: ويلحق بالبراجم: ما يجتمع من الوسخ في معاطف الأذن، وقعر الصماخ، فيزيله بالمسح ونحوه. وأما انتقاص الماء فهو الاستنجاء، وفي رواية: الانتضاح: وهو نضح الفرج بماء قليل بعد الوضوء لينفي عنه الوسواس. آراء الفقهاء في خصال الفطرة: بناء على ما ورد في الحديثين السابقين وغيرهما قال الفقهاء (¬2): 1ً - الطيب والظفر والكحل: يسن الادهان في بدن وشعر غِبَّاً: يوماً فيوماً، والاكتحال وتراً في كل عين قبل النوم، والوتر: ثلاثة في العين اليمنى، ¬
- الانتعال وإطالة الثياب
وثلاثة في اليسرى، وتقليم الأظافر بادئاً ـ كما يرى الشافعية ـ بسبابة يده اليمنى إلى الخنصر، ثم الإبهام، ثم خنصر اليسرى إلى الإبهام. ويستحب سل رؤوس الأصابع بعد قص الأظافر تكميلاً للنظافة، وينبغي دفن الشعر والأظافر وإن رمى به فلا بأس. وقطع الظفر بالأسنان مكروه يورث البرص. والدليل لما سبق بالترتيب: أنه عليه السلام «نهى عن الترجل إلا غِبَّاً» (¬1). وروى ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه «كان يكتحل بالإثْمِد (حجر للكحل معروف)، كل ليلة، قبل أن ينام، وكان يكتحل في كل عين ثلاثة أميال» (¬2). وتقليم الأظفار من سنن الفطرة، في الحديثين السابقين. والمرأة تتطيب في بيتها، وتمنع من الطيب في غير بيتها لأنه يؤدي إلى الفتنة والفساد. قال الحنفية: قلم الأظفار سنة إلا في دار الحرب فإن تركها مندوب إليه. 2ً - الانتعال وإطالة الثياب: يكره بلا عذر المشي في نعل واحد للنهي الصحيح عنه، ولئلا يختل توازنه ومشيه، كما يكره الانتعال قائماً للنهي الصحيح عنه، ولأنه يخشى منه السقوط. ويكره إطالة العَذَبة (طرف العمامة) والثوب والإزار عن الكعبين، لا للخيلاء، وإلا حرم. ولا يكره إرسال العَذَبة ولا عدمه، كما لا يكره للمرأة إرسال ثوبها على الأرض ذراعاً. ¬
- الختان
3ً - الختان: سنة عند الحنفية والمالكية: واجب عند الشافعية والحنابلة للذكر والأنثى، كما بينا في شرح الحديث السابق. ويجب للذكر والأنثى في رأي الحنابلة عند البلوغ ما لم يخف على نفسه، لقول ابن عباس: «وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك» (¬1). والختان في الصغر أفضل منه عند التمييز، لأنه أسرع برءاً. ويكره الختان قبل اليوم السابع من الولادة. ويجوز أن يختن نفسه إن قوي عليه وأحسنه، لأنه قد روي أن إبراهيم عليه السلام ختن نفسه. 4ً - الشعر: يسن الامتشاط غِبّاً كالادهان، ويفعله كل يوم لحاجة لخبر أبي قتادة عند النسائي. واللحية كالرأس في ذلك. ويسن قص الشارب وإعفاء اللحية ونتف الإبط، لأنها من خصال الفطرة في الحديث السابق. ويكون ذلك مع تقليم الأظفار وحلق العانة يوم الجمعة، وقيل: يوم الخميس، وقيل: يخير. ويدفن الشعر والظفر والدم، لما ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلم (¬2). ويفعل ما ذكر كل أسبوع، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «كان يأخذ أظفاره وشاربه كل ¬
جمعة» (¬1) فالأفضل أن يقلم أظفاره ويحفي شاربه ويحلق عانته وينظف بدنه بالاغتسال في كل أسبوع مرة. ويكره ترك التقليم، والحلق لشعر الرأس والعانة، والنتف فوق أربعين يوماً، ويستحب حلق الرأس في كل جمعة، ويكره القزَع وهو أن يحلق البعض ويترك البعض قطعاً مقدار ثلاثة أصابع، وعن أبي حنيفة: يكره أن يحلق قفاه إلا عند الحجامة. وحلق الشعر وقص الأظفار حال الجنابة مكروه. وكان هديه صلّى الله عليه وسلم في حلق رأسه: تركه كله أو حلقه كله، ولم يكن يحلق بعضه ويدع بعضه. ويسن أن يغسله ويسرحه متيامناً لحديث «من كان له شعر فليكرمه» (¬2) قال ابن عبد البر: أجمع العلماء في جميع الأمصار على إباحة الحلق، أي حلق الذكر رأسه ولو لغير نسك وحاجة. ويكره نتف الشيب، لحديث «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن نتف الشيب، وقال: إنه نور الإسلام» (¬3). ويكره أيضاً نتف اللحية إيثاراً للمردودة، ويكره القَزَع: وهو حلق بعض الرأس - كما تقدم - للنهي عنه، ويكره حلق القفا منفرداً عن الرأس إذا لم يحتج إليه لحجامة أو غيرها - كما تقدم -، لأنه من فعل المجوس. ويخضب الشيب بحمرة أو صفرة، اتباعاً للسنة (¬4)، ويكره أو يحرم بسواد إلا في حالة الحرب لإرهاب الكفار. وللمرأة المزوجة أن تخضب يديها ورجليها بالحنَّاء إن أحب ذلك زوجها. ¬
- التزين
ويكره للمرأة حلق رأسها وقصه تماماً من غير عذر، قال عكرمة: «نهى النبي صلّى الله عليه وسلم أن تحلق المرأة رأسها» (¬1)، فإن كان ثَمَّ عذر كقروح لم يكره. ويحرم حلقها رأسها لمصيبة كلطم خد وشق ثوب ويجوز للمرأة قص شعرها لما دون الأذن، حتى لاتتشبه بالرجال، ولها التجمل لزوجها أو للنساء بمختلف أنواع التسريحات، مالم تقصد التشبه بالكافرة أو الساقطة. 5ً - التزين: لا بأس بالنظر في المرآة، ويقول حينئذ: (اللهم كما حسَّنت خَلْقي، فحسِّن خُلُقي، وحرِّمْ وجهي على النار) (¬2). ويكره ثقب أذن صبي، لا بنت نصاً، لحاجتها للتزين بخلافه. ويحرم نمص (وهو نتف الشعر من الوجه)، ووَشْر (أي برد الأسنان لتحدد وتفلج وتحسن)، ووشْم (وهو غرز الجلد بإبرة حتى يخرج الدم ثم حشوه كحلاً أو نيلة ليخضر أو يزرق بسبب الدم الحاصل بغرز الإبرة)، ووصل شعر بشعر، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله» (¬3) أي الفاعلة، والمفعول بها ذلك بأمرها، واللعنة ¬
على الشيء تدل على تحريمه؛ لأن فاعل المباح لا تجوز لعنته. وعلى هذا فلا يجوز وصل شعر المرأة بشعر آخر لهذا الحديث، وأما وصله بغير الشعر: فإن كان بقدر ما تشد به رأسها فلا بأس به، لأن الحاجة داعية إليه، ولا يمكن التحرز منه، كذلك لا يحرم في الأصح ما يزيد عن الحاجة إن كان فيه مصلحة من تحسين المرأة لزوجها من غير مضرة. وقال مالك: الوصل ممنوع بكل شيء، سواء وصلته بشعر أو صوف أو خرق، لحديث جابر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم زجر أن تصل المرأة برأسها شيئاً» (¬1). وقد فصل الشافعية والحنابلة في موضوع وصل الشعر، فقالوا: إن وصلت المرأة شعرها بشعر آدمي، فهو حرام بلا خلاف، سواء أكان شعر رجل أم امرأة، وسواء أكان شعر قريب محرم أم زوج أم غيرهما لعموم الأدلة، ولأنه يحرم الانتفاع بشعر الآدمي وسائر أجزائه لكرامته، بل يدفن شعره وظفره وسائر أجزائه. وإن وصلته بشعر غير آدمي: فإن كان شعراً نجساً، وهو عندهم: شعر الميتة وشعر ما لا يؤكل لحمه إذا انفصل في حياته، فهو حرام أيضاً للحديث، ولأنه حمل نجاسة في صلاتها وغيرها عمداً. وهاتان الحالتان يستوي فيهما المرأة المزوجة وغيرها من النساء، والرجال. لكن الأوجه عند الشافعية أنه يجوز التنميص بإذن الزوج؛ لأن له غرضاً في تزيينها له، وقد أذن لها فيه (¬2). وأما الشعر الطاهر من غير الآدمي: فإن لم يكن لها زوج فالوصل حرام أيضاً، وإن كان لها زوج يجوز لها في الأصح بإذن الزوج، وإلافهو حرام. وأما نتف الشعر (النَّمْص) فهو حرام مطلقاً، إلا إذا نبت للمرأة لحية أو شوارب، فلا يحرم إزالتها، بل يستحب، كما قال النووي وغيره. ¬
- تغطية الإناء
والتحريم المذكور في الحديث إذا كان لقصد التحسين، لا لداء وعلة، فإنه ليس بمحرم. والمحرم فقط هو نتف الشعر من الوجه، وللمرأة حلق الوجه وحفه نصاً، ولها تحسين شعرها وتحميره ونحوه من كل ما فيه تزيين للزوج، ولها التحذيف، أي إرسال الشعر الذي بين العذار والنزعة، ويكره ذلك، كما يكره حف الوجه للرجل. وينبني على ذلك أنه يحرم قلع سن أو إصبع زائدة أو عضو زائد؛ لأنه من تغيير خلق الله، قال القاضي عياض: إلا أن تكون هذه الزوائد مؤلمة ويتضرر بها، فلا بأس بنزعها، واستثنى الطبري ما يحصل به الضرر والأذية، كالسن الزائدة أو الطويلة التي تعوق في الأكل أو الأصبع الزائدة التي تؤذي أو تؤلم، سواء للمرأة أو للرجل (¬1). ويكره كسب الماشطة ككسب الحمامي، ويحرم على النساء التشبه بالمردان، كما يحرم على المردان التشبه بالنساء. ويكره كما تقدم نتف الشيب من المحل الذي لا يطلب منه إزالة شعره، لخبر الترمذي وحسنه: «لا تنتفوا الشيب، فإنه نور المسلم يوم القيامة». 6ً - تغطية الإناء: يسن تخمير الإناء أي تغطيته، ولو بعود، لحديث: «أوك سِقاك، واذكر اسم الله، وخمِّر إناءك، واذكر اسم الله، ولو أن تعرض عليه عوداً» (¬2) وحكمة وضع العود: أن يعتاد تخميره ولا ينساه، وربما كان سبباً لرد دبيب بحباله، أو بمروره عليه. ويسن مع ذكر اسم الله إيكاء السقاء (ربط فم وعاء الماء) إذا أمسى، للخبر السابق. ¬
- النوم
7ً - النوم: يسن إغلاق الباب وإطفاء المصباح عند الرقاد، وإطفاء الجمر عند الرقاد مع ذكر اسم الله، للحديث السابق. وينفض الفراش عند إرادة النوم، ويسن وضع يده اليمنى تحت خده الأيمن، ويجعل وجهه نحو القبلة على جنبه الأيمن، ويتوب إلى الله تعالى، ويقول ما ورد: (باسمك ربي وضعت جنبي، وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فاغفر لي، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين). ويستحب قراءة سورة السجدة (آلم)، وسورة الملك (تبارك)، وروى الإمام أحمد والترمذي والخلا ل عن جابر أنه صلّى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك أي الدعاء والقراءة. ويستحب أيضاً قراءة آخر سورة البقرة: {آمن الرسول} [البقرة:285/ 2] وآية الكرسي والمعوذتين وسورة الإخلاص، وإذا استيقظ من النوم نظر في السماء وقرأ آخر آل عمران: {إن في خلق السموات والأرض} [آل عمران:190/ 3]. ويكره النوم على سطح ليس عليه حاجز، لنهيه عليه السلام (¬1)، وخشية أن يتدحرج، فيسقط عنه. ويكره نومه على بطنه وعلى قفاه (¬2)، إن خاف انكشاف عورته. ويكره النوم بعد العصر لحديث: «من نام بعد العصر، فاختل عقله، فلا يلومن إلا نفسه» (¬3)، والنوم بعد الفجر، لأنه وقت قسْم الأرزاق، كما ثبت في السنة، والنوم تحت السماء متجرداً من ثيابه مع ستر العورة فقط، والنوم بين قوم ¬
المبحث الثالث ـ المسح على الخفين
مستيقظين؛ لأنه خلاف المروءة، والنوم وحده لحديث «نهى عن الوحدة، وأن يبيت الرجل وحده» (¬1)،كما يكره السفر وحده، لخبر «الواحد شيطان» (¬2). والنوم والجلوس بين الظل والشمس، لنهيه عليه السلام عنه (¬3)،وفي الخبر: أنه مجلس الشيطان. ويكره ركوب البحر عند هيجانه؛ لأنه مخاطرة. وتستحب القائلة (¬4) أو القيلولة: أي الاستراحةوسط النهار، وإن لم يكن مع ذلك نوم، شتاء أو صيفاً. ويقرأ عند الميت (يس) لحديث عند أبي داود وغيره، ويقرأ عند المريض الفاتحة والإخلاص والمعوذتين مع النفخ في اليدين ويمسحه بهما، كما ثبت في الصحيحين، ويقرأ الكهف يوم الجمعة وليلتها. وسيأتي في بحث الحظر والإباحة مزيد بيان لأحوال الإنسان وعاداته في اللبس واستعمال الأواني والنظر واللمس واللهو والطعام والشراب. المبحث الثالث ـ المسح على الخفين معناه ومشروعيته، كيفيته ومحله، وشروطه، مدته، مبطلاته، المسح على العمامة، المسح على الجوارب، المسح على الجبائر. أولاً ـ معنى المسح على الخفين ومشروعيته: المسح على الخفين بدل عن غسل الرجلين في الوضوء، ومعناه لغة: إمرار ¬
اليد على الشيء. وشرعاً: إصابة اليد المبتلة بالماء (البِلَّة) لخف مخصوص في موضع مخصوص، وفي زمن مخصوص، والخف شرعاً: الساتر للكعبين فأكثر من جلد ونحوه. والموضع المخصوص: ظاهر الخفين لا باطنهما، والزمن المخصوص: هو يوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام بلياليها للمسافر (¬1). ولم يحدد المالكية مدة للمسح كما سيأتي بيانه، كما أن الإمامية حال تجويزه للضرورة لم يقدروا مدة المسح بيوم ولا ثلاثة أيام. وصفة المسح: أنه شرع رخصة، وهو جائز في المذاهب الأربعة في السفر والحضر، للرجال والنساء (¬2)، تيسيراً على المسلمين، وبخاصة في وقت الشتاء والبرد، وفي السفر، ولأصحاب الأعمال الدائمة كالجنود والشرطة والطلاب المواظبين على العمل في الجامعات ونحوهم. وقد ثبتت مشروعيته بالسنة النبوية في طائفة من الأحاديث منها: 1 - حديث علي رضي الله عنه قال: «لو كان الدين بالرأي، لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، لقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه» وقال علي أيضاً: «جعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوماً وليلة للمقيم» (¬3). 2 - حديث المغيرة بن شعبة، قال: كنت مع النبي صلّى الله عليه وسلم (¬4)، فتوضأ، فأهويت ¬
لأنزع خفيه، فقال: دعهما، فإني أدخلتهما طاهرتين، فمسح عليهما» (¬1). 3 - حديث صفوان بن عَسَّال، قال: أمرنا، يعني النبي صلّى الله عليه وسلم أن نمسح على الخفين، إذا نحن أدخلناهما على طُهْر، ثلاثاً إذا سافرنا، ويوماً وليلة إذا أقمنا، ولا نخلعهما من غائط ولا بول، ولا نخلعهما إلا من جنابة» (¬2). 4 - حديث جرير، أنه بال ثم توضأ، ومسح على خفيه، فقيل له: تفعل هكذا؟ قال: «نعم رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم بال، ثم توضأ ومسح على خفيه» (¬3). ومن المعروف أن إسلام جرير كان بعد نزول سورة المائدة التي فيها آية الوضوء. قال النووي في شرح مسلم: وقد روى المسح على الخفين خلائق لا يحصون من الصحابة. وصرح جمع من الحفاظ بأن المسح على الخفين متواتر، وجمع بعضهم رواته، فجاوزوا الثمانين، منهم العشرة المبشرون بالجنة. وقال الإمام أحمد: فيه أربعون حديثاً عن الصحابة مرفوعة. وقال الحسن: حدثني سبعون من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يمسح على الخفين (¬4) والقول بالمسح قول أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وسعد بن أبي وقاص وبلال وحذيفة وبريدة وخزيمة بن ثابت وسلمان وجرير البجلي وغيرهم. وقد أنكر الشيعة الإمامية والزيدية والإباضية والخوارج مشروعية المسح على ¬
الخفين (¬1)، والأدق أن يقال: إن الإمامية لا يجيزون المسح مع الاختيار، ويجيزونه للضرورة عند الخوف والتَّقية، أما الخوارج فلا يجوز عندهم ولو لضرورة. والواجب في المسح عند الحنفية (¬2): هو قدر ثلاث أصابع من أصغر أصابع اليد، على ظاهر مقدم كل رجل، مرة واحدة، اعتباراً لآلة المسح، فلا يصح على باطن القدم، ولاعقبه، ولا جوانبه وساقه. ولا يسن تكراره ولا مسح أسفله لأنه يراعى فيه جميع ما ورد به الشرع. واستدلوا على رأيهم بأدلة لا تخلو من مناقشة، بل هي واهية، منها: 1 - إنه منسوخ بآية الوضوء في سورة المائدة التي لم يذكر فيها المسح على الخفين، وإنما قال تعالى: {وأرجلَكم إلى الكعبين} [المائدة:6/ 5] فعينت الآية مباشرة الرجلين بالماء. روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال: سبق الكتاب الخفين، وقال ابن عباس: ما مسح رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد المائدة. ورد: بأن الوضوء ثابت قبل نزول المائدة بالاتفاق، فإن كان المسح على الخفين ثابتاً قبل نزولها، فورودها بغسل الرجلين، أو مسحهما على رأي الإمامية دون التعرض للمسح، لا يوجب نسخ المسح على الخفين. وإن كان المسح غير ثابت قبل نزولها فلا نسخ قطعاً. ثم إن إسلام جرير راوي الحديث السابق كان بعد نزول المائدة كما بينا، وقد رأى الرسول عليه السلام يمسح على خفيه، ومن شرط النسخ تأخر الناسخ. والخلاصة: أن آية الوضوء نزلت في غزوة المُرَيسيع، ومسحهصلّى الله عليه وسلم في غزوة تبوك (1)، فكيف ينسخ المتقدم المتأخر؟! وأما قول علي فيما أخرجه عنه ابن أبي شيبة، فهو منقطع، كذا ما روي عن ¬
ابن عباس، مع أنه مخالف ما ثبت عنهما من القول بالمسح، وعارض حديثهماما هو أصح منهما، وهو حديث جرير البجلي. 2 - الأخبار الواردة بمسح الخفين نسخت بآية المائدة التي ذكر فيها الوضوء. والجواب: أن الآية عامة مطلقاً باعتبار حالتي لبس الخف وعدمه، فتكون أحاديث الخفين مخصِّصة أو مقيدة، فلا نسخ، وتلك الأحاديث متواترة كما بينت، فتصلح مخصصة بالاتفاق، أي أن قوله تعالى {وأرجلكم} [المائدة:6/ 5] مطلق قيدته أحاديث المسح على الخف، أو عام خصصته تلك الأحاديث. 3 - لم يذكر المسح على الخفين في أحاديث الوضوء، وإنما فيها كلها الأمر بغسل الرجلين، دون ذكر المسح، وفيها بعد غسل الرجلين: (لا يقبل الله الصلاة من دونه) وقوله عليه السلام لمن لم يغسل عقبه: «ويل للأعقاب من النار». والجواب: أن غاية ما اشتملت عليه الأحاديث الأمر بالغسل، دون حصر ولا قصر ينفي مشروعية غيره، ولو كان فيها ما يدل على الغسل فقط، لكانت مخصصة بأحاديث المسح المتواترة. وأما لفظ (لا يقبل الله الصلاة بدونه) فلم يثبت من وجه يعتد به. وأما حديث «ويل للأعقاب من النار» فهو وعيد لمن مسح رجليه، ولم يغسلهما، ولم يرد في المسح على الخفين. وهو لا يشمل المسح على الخفين، لأنه يدع رجله كلها، ولا يدع العقب فقط. ثم إن أحاديث المسح مخصصة للماسح من ذلك الوعيد. ويمكن أن يقال: قد ثبت في آية المائدة قراءة بالجر لأرجلكم عطفاً على الممسوح وهو الرأس، فيحمل على مسح الخفين كما بينت السنة، ويتم ثبوت المسح بالسنة والكتاب، وهو أحسن الوجوه التي توجه به قراءة الجر.
ثانيا ـ كيفية المسح على الخفين ومحله
ثانياً ـ كيفية المسح على الخفين ومحله: كيفيته: الابتداء من أصابع القدم خطوطاً بأصابع اليد إلى الساق. والواجب في المسح عند الحنفية (¬1): هو قدر ثلاث أصابع من أصغر أصابع اليد، على ظاهر مقدم كل رجل، مرة واحدة، اعتباراً لآلة المسح، فلا يصح على باطن القدم، ولاعقبه، ولا جوانبه وساقه. ولا يسن تكراره ولا مسح أسفله لأنه يراعى فيه جميع ما ورد به الشرع. والواجب عند المالكية (¬2): مسح جميع أعلى الخف، ويستحب أسفله أيضاً. وعند الشافعية (¬3): يكفي مُسمَّى مسح، كمسح الرأس، في محل الفرض وهو ظاهر الخف، لا أسفله وحرفه وعقبه؛ لأن المسح ورد مطلقاً، ولم يصح فيه تقدير شيء معين، فتعين الاكتفاء بما ينطلق عليه اسم المسح، كإمرار يد أو عود ونحوهما، أي يجزئه أقل ما يقع عليه اسم المسح، ويسن مسح أعلاه وأسفلِه وعقبه خطوطاً، كما قال المالكية. وعند الحنابلة (¬4): المجزئ في المسح: أن يمسح أكثر مقدم ظاهر الخف، خطوطاً بالأصابع، ولا يسن مسح أسفل الخف ولا عقبه، كما قال الحنفية. ودليلهم: أن لفظ المسح ورد مطلقاً، وفسره النبي صلّى الله عليه وسلم بفعله، فيجب الرجوع إلى تفسيره، وقد فسر المسح في حديث المغيرة بن شعبة ـ فيما يرويه الخلاّل بإسناده ـ قال: «ثم توضأ ومسح على الخفين، فوضع يده اليمنى على خفه الأيمن، ووضع ¬
يده اليسرى على خفه الأيسر، ثم مسح أعلاهما مسحة واحدة، حتى كأني أنظر إلى أثر أصابعه على الخفين». والخلاصة: أن الواجب هو مسح جميع ظاهر الخف عند المالكية، كسائر أعضاء الوضوء، وبمقدار ثلاث أصابع من اليد عند الحنفية كمسح الرأس في الوضوء، ومسح أكثر أعلى الخف عند الحنابلة لحديث المغيرة: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر الخفين» (¬1) والواجب عند الشافعية: أقل ما يطلق عليه اسم المسح؛ لأن ما ورد في الشرع مطلقاً يتحقق بأي حالة من حالاته، والراجح تحقيق مدلول المسح على الخف، كالراجح في المسح بالرأس في الوضوء. وسبب الاختلاف في مسح باطن الخف تعارض أثرين (¬2): أحدهما ـ حديث المغيرة بن شعبة، وفيه أنه صلّى الله عليه وسلم مسح أعلى الخف وأسفله (¬3)، وبه أخذ المالكية والشافعية. والثاني ـ حديث علي السابق: «لو كان الدين يؤخذ بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه» وبه أخذ الحنفية والحنابلة. والفريق الأول: جمع بين الحديثين، فحمل حديث المغيرة على الاستحباب، وحديث علي على الوجوب. والفريق الثاني: ذهب مذهب الترجيح، فرجح حديث علي على حديث المغيرة، لأنه أرجح سنداً، ولأن المسح على الخف شرع مخالفاً للقياس، فيقتصر فيه على النحو الذي ورد به الشرع. ¬
سنة المسح
والثاني هو الأرجح في تقديري، وإن قال ابن رشد: والأسد في هذه المسألة هو مالك. والخلاصة: أن محل المسح على الخف هو ظاهره وأعلاه ولا يمسح باطنه وأسفله عند الحنفية والحنابلة، ومحله المفروض عند المالكية والشافعية: هو أعلى الخف ويسن مسح أسفله معه. سنة المسح: تبين مما ذكر أن للفقهاء رأيين في سنة المسح: قال الحنفية والحنابلة: يمسح خطوطاً بالأصابع بادئاً من ناحية الأصابع إلى الساق، لحديث المغيرة رضي الله عنه: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم مسح على خفيه، ووضع يده اليمنى على خفه الأيمن، ويده اليسرى على خفه الأيسر، ثم مسح إلى أعلاه مسحة واحدة» (¬1). فإن بدأ في المسح من ساقه إلى أصابعه، أجزأه. ويسن مسح الرجل اليمنى باليد اليمنى والرجل اليسرى باليد اليسرى، لحديث المغيرة السابق. وقال المالكية والشافعية: صفة المسح المندوبة: أن يضع باطن كف يده على أطراف أصابع رجله اليمنى، ويضع باطن كف يده اليسرى تحت أصابع رجليه (عند المالكية) وتحت العقب (عند الشافعية)، ثم يمر يديه إلى آخر قدمه، أي أنه يندب عندهم مسح أعلى الخف مع أسفله معاً، ولا يسن استيعابه بالمسح، ويكره تكراره وغسله؛ لأن ذلك مفسد للخف، ولو فعل ذلك أجزأه. ¬
ثالثا ـ شروط المسح على الخفين
ثالثاً ـ شروط المسح على الخفين: هناك شروط ثلاثة متفق عليها فقهاً، وشروط مختلف فيها بين الفقهاء (¬1)، ومن المعلوم أنها جميعاً شروط في المسح لأجل الوضوء، أما من أجل الجنابة فلا يجوز المسح، أفلا يجوز المسح على الخفين لمن وجب عليه الغسل، لحديث صفوان بن عسَّال المتقدم: «أمرنا النبي صلّى الله عليه وسلم أن نمسح على الخفين، إذا نحن أدخلناهما على طهر، ثلاثاً إذا سافرنا، ويوماً وليلة إذا أقمنا، ولا نخلعهما من غائط ولا بول ولا نوم، ولا نخلعهما إلا من جنابة». الشروط المتفق عليها: اتفق الفقهاء على اشتراط شروط ثلاثة في المسح على الخفين لأجل الوضوء وهي ما يأتي: 1 ً - لبسهما على طهارة كاملة: لحديث المغيرة السابق، قال: «كنت مع النبي صلّى الله عليه وسلم في سفر، فأهويت لأنزع خفيه، فقال: دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين، فمسح عليهما» (¬2)، واشترط الجمهور أن تكون تلك الطهارة بالماء، وأجاز الشافعية: أن تكون الطهارة بالماء من وضوء أو غسل، أو بالتيمم لا لفقد الماء. وقد جعل المالكية هذا الشرط مشتملا على شروط خمسة في الماسح هي: الأول - أن يلبس الخف على طهارة، فإن لبسه محدثاً، لم يصح المسح عليه. وأجاز الشيعة الإمامية أن يلبس الخف على طهارة أو غير طهارة. ¬
الثاني ـ أن تكون الطهارة مائية، لا ترابية، وهذا شرط عند الجمهور غير الشافعية، فإن تيمم ثم لبس الخف، لم يكن له المسح عند الجمهور؛ لأنه لبسه على طهارة غير كاملة، ولأنها طهارة ضرورة بطلت من أصلها، ولأن التيمم لا يرفع الحدث، فقد لبسه وهو محدث. وقال الشافعية: إن كان التيمم لفقد الماء فلا يجوز المسح بعد وجود الماء، وإنما يلزمه إذا وجد الماء نزع الخف، والوضوء الكامل. أما إن كان التيمم لمرض ونحوه، فأحدث فله أن يمسح على الخف. الثالث ـ أن تكون تلك الطهارة كاملة، بأن يلبسه بعد تمام الوضوء أو الغسل، الذي لم ينتقض فيه وضوءه. فإن أحدث قبل غسل الرجل، لم يجز له المسح؛ لأن الرِجْل حدثت في مقرها، وهو محدث، فصار كما لو بدأ اللبس وهو محدث. والشرط عند الشافعية والحنابلة: أن تكون الطهارة كاملة عند اللبس، أي لا بد من كمال الطهارة جميعها، وأما عند الحنفية: فالطهارة عند الحدث بعد اللبس، أي لا يشترط كمال الطهارة، وإنما المطلوب إكمال الطهارة. ويظهر أثر الخلاف فيما لو غسل المحدث رجليه أولاً، ولبس خفيه، ثم أتم الوضوء قبل أن يحدث، ثم أحدث، جاز له أن يمسح على الخفين عند الحنفية، لوجود الشرط: وهو (لبس الخفين على طهارة كاملة وقت الحدث بعد اللبس). وعند الشافعية والحنابلة: لا يجوز لعدم الطهارة الكاملة وقت اللبس؛ لأن الترتيب شرط عندهم، فكان غسل الرجلين مقدماً على الأعضاء الأُُخر، كأن لم يكن. الرابع ـ ألا يكون الماسح مترفهاً بلبسه، كمن لبسه لخوف على حناء برجليه، أو لمجرد النوم به، أو لكونه حاكماً، أو لقصد مجرد المسح، أو لخوف برغوث مثلاً، فلا يجوز له المسح. لكن لو لبسه لحر أو برد أو وعر، أو خوف عقرب، ونحو ذلك، فيجوز له المسح.
الخامس ـ ألا يكون عاصياً بلبسه، كمُحرم بحج أو عمرة، لم يضطر للبسه، فلا يجوز له المسح. أما المضطر للبسه، والمرأة، فيجوز له المسح. والمعتمد عند المالكية والحنابلة والشافعية: أنه يجوز المسح للعاصي بالسفر كالعاق والديه وقاطع الطريق. والضابط عند المالكية: أن كل رخصة جازت في الحضر، كمسح خف وتيمم وأكل ميتة، تفعل في السفر، وكل رخصة تختص بالسفر كقصر الصلاة وفطر رمضان تجوز في السفر لغير العاصي بسفره، أما هو فلا يجوز له ذلك (¬1). 2 ً - أن يكون الخف طاهراً، ساتراً المحل المفروض غسله في الوضوء: وهو القدم بكعبيه من سائر الجوانب، لا من الأعلى، فلا يجوز المسح على خف غير ساتر الكعبين مع القدم، كما لا يجوز المسح على خف نجس، كجلد الميتة قبل الدباغ عند الحنفية والشافعية، وكذلك بعد الدباغ عند المالكية والحنابلة؛ لأن الدباغ عندهم غير مطهر، والنجس منهي عنه. 3 ً - إمكان متابعة المشي فيه بحسب المعتاد: وتقدير ذلك محل خلاف، فقال الحنفية: أن يكون الخف مما يمكن متابعة المشي المعتاد فيه فرسخاً (¬2) فأكثر، فلا يجوز المسح على خف متخذ من زجاج أو خشب أو حديد، أو خف رقيق يتخرق بالمشي. واشترطوا في الخفين: استمساكهما على الرجلين من غير شد. والمعتبر عند المالكية: أن يمكن تتابع المشي فيه عادة، فلا يجوز المسح على خف واسع لا تستقر القدم أو أكثرها فيه، وإنما ينسلت من الرجل عند المشي فيه. والمقرر عند الأكثرين من الشافعية: أن يمكن التردد فيه لقضاء الحاجات، للمقيم سفر يوم وليلة، وللمسافر: سفر ثلاثة أيام ولياليهن، وهو سفر القصر؛ لأنه بعد انقضاء المدة يجب نزعه. ¬
الشروط المختلف فيها بين الفقهاء
وانفرد الحنابلة برأي خاص هنا، فقالوا: إمكان المشي فيه عرفاً، ولو لم يكن معتاداً، فجاز المسح على الخف من جلد ولبود وخشب، وزجاج وحديد ونحوها؛ لأنه خف ساتر يمكن المشي فيه، فأشبه الجلود، وذلك بشرط ألا يكون واسعاً يرى منه محل الفرض، أي كما قال الحنفية والمالكية. الشروط المختلف فيها بين الفقهاء: هناك شروط أخرى مقررة في المذاهب مختلف فيها وهي: 1 ً - أن يكون الخف صحيحاً سليماً من الخروق: هذا شرط مفرع على الشرط الثالث السابق، مشروط عند الفقهاء، لكنهم اختلفوا في مقدار الخرق اليسير المتسامح فيه. فالشافعية في الجديد والحنابلة: لم يجيزوا المسح على خف فيه خرق، ولو كان يسيراً؛ لأنه غير ساتر للقدم، ولو كان الخرق من موضع الخرز؛ لأن ما انكشف حكمه حكم الغسل، وما استتر حكمه المسح، والجمع بينهما لا يجوز، فغلب حكم الغسل، أي أن حكم ما ظهر الغسل، وما استتر: المسح، فإذا اجتمعا غلب حكم الغسل، كما لو انكشفت إحدى قدميه. والمالكية والحنفية: أجازوا استحساناً ورفعاً للحرج المسح على خف فيه خرق يسير؛ لأن الخفاف لا تخلو عن خرق في العادة، فيمسح عليه دفعاً للحرج. أما الخرق الكبير فيمنع صحة المسح، وهو عند المالكية: مالا يمكن به متابعة المشي، وهو الخرق الذي يكون بمقدار ثلث القدم، سواء أكان منفتحاً أم ملتصقاً بعضه ببعض، كالشق وفتق خياطته، مع التصاق الجلد بعضه ببعض. وإن كان الخرق دون الثلث ضر أيضاً إن انفتح، بأن ظهرت الرجل منه، لا إن التصق. ويغتفر الخرق اليسير جداً بحيث لا يصل بلل اليد حال المسح لما تحته من الرجل.
والخرق الكبير عند الحنفية: هو بمقدار ثلاث أصابع من أصغر أصابع القدم. 2 ً - أن يكون الخف من الجلد: هذا شرط عند المالكية، فلا يصح المسح عندهم على خف متخذ من القماش، كما لا يصح عندهم المسح على الجورب: وهو ما صنع من قطن أو كتان أو صوف، إلا إذا كسي بالجلد، فإن لم يجلَّد، فلا يصح المسح عليه. وكذلك قال الشافعية: لا يجزئ المسح على منسوج لا يمنع نفوذ الماء إلى الرجل من غير محل الخرز، لو صب عليه لعدم صفاقته. واشترط المالكية أيضاً أن يكون الخف مخروزاً، لا إن لزق بنحو رسراس قصراً للرخصة على الوارد. وأجاز الجمهور غير المالكية: المسح على الخف المصنوع من الجلود، أو الخِرَق، أو غيرها، فلم يشترطوا هذا الشرط. واشترط الحنفية والشافعية: أن يكون الخف مانعاً من وصول الماء إلى الجسد؛ لأن الغالب في الخفاف أنها تمنع نفوذ الماء، فتنصرف إليها النصوص الدالة على مشروعية المسح. المسح على الجوارب: أجاز الحنفية على الراجح لديهم (¬1) المسح على الجوربين الثخينين بحيث يمشي به اللابس فرسخاً فأكثر، ويثبت الجورب على الساق بنفسه، ولا يرى ما تحته، ولا يشف (يرق حتى يرى ما وراءه). وأجاز الحنابلة أيضاً المسح على الجورب الصفيق الذي لا يسقط إذا مشى فيه، أي بشرطين: أحدهما ـ أن يكون صفيقاً لا يبدو منه شيء من القدم (¬2). ¬
الثاني ـ أن يمكن متابعة المشي فيه. ويجب أن يمسح على الجوربين وعلى سيور النعلين قدر الواجب. وسيأتي تفصيل آراء الفقهاء. وأجاز الشافعية والحنابلة المسح على الخف المشقوق القدم كالزربول الذ ي له ساق إذا شد في الأصح بواسطة العرا، بحيث لا يظهر شيء من محل الفرض إذا مشى عليه. 3 ً - أن يكون الخف مفرداً: (المسح على الجرموق): وهذا أيضاً شرط عند المالكية (¬1)، فلو لبس خفاً فوق خف (الجُرْموق) (¬2) ففي جواز المسح عليه قولان عندهم، الراجح أنه يجوز في هذه الحالة المسح على الأعلى، فلو نزعه، وكان على طهر، وجب عليه مسح الأسفل فوراً. وقال الحنفية والحنابلة (¬3): يجزئ المسح على الجرموق فوق الخف، أي كما قال المالكية. لقول بلال: «رأيت النبي صلّى الله عليه وسلم يمسح على الموق» (¬4) ولقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «امسحوا على النصيف والموق» (¬5). ولكن اشترط الحنفية لصحة المسح على الجرموق شروطاً ثلاثة: ¬
الأول ـ أن يكون الأعلى جلداً، فإن كان غير جلد يصح المسح على الأعلى إن وصل الماء إلى الأسفل. الثاني ـ أن يكون الأعلى صالحاً للمشي عليه منفرداً، فإن لم يكن صالحاً لم يصح المسح عليه إلا بوصول الماء إلى الأسفل. الثالث ـ أن يلبس الأعلى على الطهارة التي لبس عليها الأسفل. ولا يجزئ عند الشافعية (¬1) في الأظهر الاقتصار في المسح على الخف الأعلى من الجرموقين (وهما خف فوق خف، كل منهما صالح للمسح عليه)؛ لأن الرخصة وردت في الخف لعموم الحاجة إليه، والجرموق لا تعم الحاجة إليه، أي أنه لا بد من مسح الأعلى والأسفل. 4 ً - أن يكون لبس الخف مباحاً: هذا شرط عند المالكية والحنابلة، فلا يصح المسح على خف مغصوب، ولا على محرم الاستعمال كالحرير، وأضاف الحنابلة: ولو في ضرورة، كمن هو في بلد ثلج، وخاف سقوط أصابعه بخلع الخف المغصوب أو الحرير، فلا يستبيح المسح عليه؛ لأنه منهي عنه في الأصل، وهذه ضرورة نادرة، فلا حكم لها. ولا يجوز عند الحنابلة للمحرم المسح على الخفين ولو لحاجة. والأصح عند الشافعية: أنه لا يشترط هذا الشرط، فيكفي ¬
المسح على المغصوب، والديباج الصفيق، والمتخذ من فضة أو ذهب، للرجل وغيره، كالتيمم بتراب مغصوب. ويستثنى من ذلك المُحرِم بنسك اللابس للخف؛ لأن المحرم منهي عن اللبس من حيث هو لبس، أما النهي عن لبس المغصوب ونحوه فلأنه متعدٍ في استعمال مال الغير. 5 ً - ألا يصف الخف القدم لصفائه أو لخفته: هذا شرط عند الحنابلة، فلا يصح المسح على الزجاج الرقيق؛ لأنه غير ساتر لمحل الفرض، ولا على ما يصف البشرة لخفته. والمطلوب عند المالكية أن يكون الخف من جلد كما بينت، وعند الحنفية والشافعية: أن يكون مانعاً من نفوذ الماء إلى الرِجْل من غير محل الخرز، لو صب عليه، لعدم صفاقته، وبناء عليه يصح المسح على خف مصنوع من «نايلون» سميك، ونحوه من كل شفاف، لأن القصد هو منع نفوذ الماء. 6 ً - أن يبقى من مقدم القدم قدر ثلاث أصابع من أصغر أصابع اليد: اشترط الحنفية هذا الشرط في حالة قطع شيء من الرجل، ليوجد المقدار المفروض من محل المسح. فإذا قطعت رجل من فوق الكعب سقط غسلها ولا حاجة للمسح على خفها، ويمسح خف القدم الأخرى الباقية. وإن بقي من دون الكعب أقل من ثلاث أصابع، لا يمسح لافتراض غسل الجزء الباقي. وعليه فمن كان فاقداً مقدم قدمه لا يمسح على خفه ولو كان عقب القدم موجوداً، لأنه ليس محلاً لفرض المسح، ويفترض غسله. ويصح عند الفقهاء الآخرين المسح على خف أي جزء باق من القدم مفروض غسله، فإذا لم يبق من محل الغسل شيء من الرجل، وصار برجل واحدة، مسح على خف الرجل الأخرى. ولا يجوز بحال أن يمسح على رجل أو ما بقي منها، ويغسل الأخرى، لئلا يجمع بين البدل والمبدل في محل واحد.
خلاصة الشروط في المذاهب
خلاصة الشروط في المذاهب: 1 ً - الحنفية: يشترط لجواز المسح على الخفين سبعة شرائط: الأول ـ لبسهما بعد غسل الرجلين، ولو قبل تمام الوضوء، إذا أتمه قبل حصول ناقض للوضوء. الثاني ـ سترهما للكعبين. الثالث ـ إمكان متابعة المشي فيهما. الرابع ـ خلو كل منهما عن خرق قدر ثلاث أصابع من أصغر أصابع القدم. الخامس ـ استمساكهما على الرجلين من غير شد. السادس ـ أن يبقى ـ في حالة قطع شيء من القدم ـ من مقدم القدم قدر ثلاث أصابع من أصغر أصابع اليد. 2ً - المالكية: لجواز المسح على الخف أحد عشر شرطاً: ستة في الممسوح وخمسة في الماسح. أما شروط الماسح فقد ذكرتها في بحث أول شرط متفق عليه. وأما شروط الممسوح فهي ما يأتي: الأول ـ كون الممسوح جلداً، فلا يصح المسح على غيره. الثاني ـ أن يكون طاهراً، احترازاً من جلد الميتة ولو مدبوغاً. الثالث ـ أن يكون مخروزاً، لا إن لزق بنحو رسراس. الرابع ـ أن يكون له ساق ساتر لمحل الفرض في الغسل، بأن يستر الكعبين، فلا يصح المسح على غير الساتر لهما.
- الشافعية
الخامس ـ أن يمكن المشي فيه عادة، احترازاً من الواسع الذي ينسلت من الرجل عند المشي فيه. 3ً - الشافعية: يشترط لجواز مسح الخف أمران: أحدهما ـ أن يلبسه بعد طهارة كاملة من الحدثين الأصغر والأكبر. الثاني ـ أن يكون الخف طاهراً قوياً، يمكن تتابع المشي عليه في الحاجة (¬1)، ساتراً لمحل فرض الغسل (وهو القدم بكعبيه من سائر الجوانب لا من الأعلى) (¬2)، مانعاً لنفوذ الماء من غير الخرز والشق. ويجوز في الأصح مشقوق قدم شد بالعرا بحيث لا يظهر شيء من محل الفرض إذا مشى، أي يكفي المسح عليه. 4ً - الحنابلة: يشترط لجواز المسح على الخف سبعة شروط: الأول ـ أن يلبس الخفان بعد كمال الطهارة بالماء. الثاني ـ أن يثبت بنفسه أو بنعلين، ولا يصح المسح على خف يثبت بشده فقط، لكن يصح المسح على خف يثبت بنفسه، لكن يبدو بعضه، ويشد بالعرا كالزربول الذي له ساق، فيدخل بعضها في بعض، فيستتر بذلك محل الفرض. الثالث ـ إباحته، فلا يصح المسح على خف مغصوب ولا حرير، ولو في ضرورة. الرابع ـ إمكان المشي فيه عرفاً، ولو لم يكن معتاداً، فيصح المسح على خف من جلود ولبود وخشب وزجاج وحديد ونحوها؛ لأنه خف ساتر يمكن المشي فيه. ¬
رابعا ـ مدة المسح على الخفين
الخامس ـ طهارة عينه، فلا يصح المسح على نجس، ولو في ضرورة، وفي حال الضرورة: يتيمم للرجلين، إذ لا بد من غسلهما. السادس ـ ألا يصف القدم لصفائه كالزجاج الرقيق؛ لأنه غير ساتر لمحل الفرض، فلا يصح المسح على خف فيه خرق أو غيره، يبدو منه بعض القدم، ولو من موضع الخرز، لعدم ستره محل الفرض. فإن انضم الخرق ونحوه بلبسه، جاز المسح عليه، لحصول الشرط، وهو ستر محل الفرض. السابع ـ ألا يكون واسعاً يرى منه محل الفرض. رابعاً ـ مدة المسح على الخفين: للفقهاء رأيان في توقيت مدة المسح، المالكية لم يؤقتوا، والجمهور أقتوا مدة. أما المالكية (¬1) فقالوا: يجوز المسح على الخف من غير توقيت بزمان، مالم يخلعه، أو تصيبه جنابة، فيجب حينئذ خلعه للاغتسال، وإن خلعه انتقض المسح، ووجب غسل الرجل، وإن وجب الاغتسال لم يمسح، لأن المسح إنما هو في الوضوء. وبالرغم من عدم وجوب نزع الخف في مدة معينة، فإنهم قالوا: يندب نزع الخف كل أسبوع مرة في مثل اليوم الذي لبسه فيه. واستدلوا بما يأتي: 1ً - حديث أُبيّ بن عمارة، قال: قلت: يا رسول الله، أمسح على الخفين؟ قال: نعم، قلت: يوماً؟ قال: يوماً، قلت: يومين؟ قال: ويومين، قلت: وثلاثة؟ ¬
قال: وما شئت» (¬1). 2ً - روي عن جماعة من الصحابة ذكرالمسح بدون توقيت، منهم عمر، ومنهم أنس بن مالك عند الدارقطني. 3ً - إنه مسح في طهارة، فلم يتوقت كمسح الرأس والجبيرة؛ لأن التوقيت غير مؤثر في نقض الطهارة، لأن النواقض هي الأحداث من بول أو غائط ونحوهما، وهذا القياس يعارض الأخبار الدالة على توقيت المسح بمدة معينة، فيعمل به، بسبب معارضة حديث ابن عمارة لها. وأما الجمهور فقالوا: مدة المسح للمقيم يوم وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام بلياليها (¬2)، ويرى الحنفية أن المسافر العاصي بسفره كغيره من المسافرين، وأما الشافعية والحنابلة فيجعلون مدة المسح له كالمقيم. وأدلتهم هي الأحاديث الثابتة الواردة بمشروعية المسح، منها: حديث علي المتقدم: «للمسافر ثلاثة أيام وليالِيهن، وللمقيم يوم وليلة» (¬3) ومنها: حديث خزيمة بن ثابت: «للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة» (¬4). ¬
ومنها حديث صفوان بن عَسَّال، قال: أَمَرنا يعني النبي صلّى الله عليه وسلم أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على طُهر، ثلاثاً إذا سافرنا، ويوماً وليلة إذا أقمنا، ولا نخلعهما من غائط ولا بول ولا نوم، ولا نخلعهما إلا من جنابة» (¬1). ومنها حديث عوف بن مالك الأشجعي «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمر بالمسح على الخفين في غزوة تبوك ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوماً وليلة للمقيم» (¬2) وثبت القول بالتوقيت عن عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس، وأبي زيد، وشريح، وعطاء، والثوري، وإسحاق. والحق القول بتوقيت المسح، لأن حديث ابن عمارة لم يثبت، ويحتمل أنه منسوخ بهذه الأحاديث الصحيحة؛ لأنها متأخرة، لكون حديث عوف في غزوة تبوك، وليس بينها وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلا شيء يسير. وقياس المالكية ينتقض بالتيمم. بدء المدة: وتبدأ عند الجمهور مدة المسح المقررة من تمام الحدث بعد لبس الخف إلى مثله من اليوم الثاني للمقيم، ومن اليوم الرابع للمسافر؛ لأن وقت جواز المسح (أي الرافع للحدث) يدخل بذلك، فاعتبرت مدة المسح بدءاً منه كالصلاة يبدأ وقتها من حين جواز فعلها، ولأن حديث صفوان بن عسال المتقدم: «أمرنا ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن، إلا من جنابة، ولكن من غائط ونوم وبول» يدل بمفهومه: أنها تنزع لثلاث مضين من الغائط، ولأن الخف مانع سراية الحدث (أي وصوله إلى الرجل) فتعتبر المدة من وقت المنع، أي من وقت منع الحدث عن الرجل. ¬
خامسا ـ مبطلات (أو نواقض) المسح على الخفين
وعلى هذا: من توضأ عند طلوع الفجر، ولبس الخف، ثم أحدث بعد طلوع الشمس، ثم توضأ ومسح بعد الزوال، فيمسح المقيم إلى وقت الحدث من اليوم الثاني: وهو ما بعد طلوع الشمس من اليوم الثاني، ويمسح المسافر إلى ما بعد طلوع شمس اليوم الرابع. وإذا مسح خفيه مقيماً حالة الحضر، ثم سافر، أو عكس بأن مسح مسافراً ثم أقام، أتم عند الشافعية والحنابلة مسح مقيم؛ تغليباً للحضر؛ لأنه الأصل. فيقتصر في الحالتين على يوم وليلة. وعند الحنفية: من ابتدأ المسح وهو مقيم فسافر قبل تمام يوم وليلة، مسح ثلاثة أيام ولياليها؛ لأنه صار مسافراً، والمسافر يمسح مدة ثلاثة أيام، ولو أقام مسافر إن استكمل مدة الإقامة، نزع الخف؛ لأن رخصة السفر لا تبقى بدونه، وإن لم يستكمل أتمها لأن هذه مدة الإقامة، وهو مقيم. وإن شك، هل ابتدأ المسح في السفر أو الحضر، بنى عند الحنابلة (¬1) على المتيقن وهو مسح حاضر (مقيم)؛ لأنه لا يجوز المسح مع الشك في إباحته. وقال الشافعية (¬2): ولا مسح لشاكّ في بقاء المدة، انقضت أو لا، أو شك المسافر، هل ابتدأ في السفر أو في الحضر؛ لأن المسح رخصة بشروط، منها المدة، فإذا شك فيها رجع إلى الأصل وهو الغسل. خامساً ـ مبطلات (أو نواقض) المسح على الخفين: يبطل المسح على الخف بالحالات الآتية (¬3): ¬
1 ً - نواقض الوضوء: ينتقض المسح على الخف بكل ناقض للوضوء؛ لأنه بعض الوضوء، ولأنه بدل فينقضه ناقض الأصل. وحينئذ يتوضأ، ويمسح، إذا كانت مدة المسح باقية. فإن انتهت المدة يعاد الوضوء وغسل الرجلين. 2 ً - الجنابة ونحوها: إن أجنب لابس الخف، أو حدث منه موجب غسل كحيض في أثناء المدة، بطل المسح، ووجب غسل الرجلين. فإن أراد المسح على الخف بعد الغسل، جدد لبسه، لحديث صفوان بن عسال السابق: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا مسافرين أو سَفْراً (أي مسافرين) ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام بلياليهن، إلا من جنابة» وقيس بالجنابة غيرها، مما هو في معناها، كالحيض والنفاس والولادة. 3 ً - نزع أحد الخفين أو كليهما، ولو كان النزع بخروج أكثر القدم إلى ساق الخف، ينتقض بذلك، لمفارقة محل المسح مكانه، وللأكثر حكم الكل. وفي هذه الحالة: يغسل عند الجمهور غير الحنابلة قدميه، لبطلان طهرهما؛ لأن الأصل غسلهما، والمسح بدل، فإذا زال حكم البدل، رجع إلى الأصل، كالتيمم بعد وجود الماء. ولا يكتفى بغسل الرجل المنزوع خفها، وإنما لا بد من غسل الرجلين؛ إذ لا يجوز الجمع بين غسل ومسح. وفي حالة نزع الخف الأعلى (الجرموق) قال المالكية: تجب المبادرة لمسح الأسفل، كما هو المقرر في الموالاة، وكما بينت سابقاً. 4 ً - ظهور بعض الرجل بتخرق أو غيره كانحلال العرا ونحو ذلك: ينتقض الوضوء بذلك عند الشافعية والحنابلة، وبظهور قدر ثلاث أصابع من أصابع
الرجل عند الحنفية، أو بقدر ثلث القدم عند المالكية، سواء أكان منفتحاً أم ملتصقاً بعضه ببعض، كالشق وفتق الخياطة مع التصاق الجلد بعضه ببعض، أم أقل من الثلث أيضاً إن انفتح بأن ظهرت الرجل منه، لا إن التصق. فإن كان المنفتح يسيراً جداً، بحيث لا يصل بلل اليد حال المسح لما تحته من الرجل، فلا يضر. 5 ً - إصابة الماء أكثر إحدى القدمين في الخف، على الصحيح: هذا ناقض للمسح على الصحيح عند الحنفية، كما لو ابتل جميع القدم، فيجب قلع الخف وغسل الرجلين، تحرزاً عن الجمع بين الغسل والمسح، فلا يغسل قدماً ويمسح على الأخرى؛ إذ هو لا يجوز. 6 ً - مضي المدة: وهي اليوم والليلة للمقيم، والثلاثة الأيام بلياليها للمسافر؛ لأن أحاديث المسح عن علي وخزيمة وصفوان حددت للمسح هذه المدة. والواجب في هذه الحالة والأحوال الثلاثة السابقة (نزع الخف، وظهور بعض الرجل أو أكثرها بحسب الخلاف المتقدم) عند الحنفية، والمالكية، والراجح عند الشافعية، وهو بطهر المسح في جميع ذلك: غسل الرجلين فقط، دون تجديد الوضوء كله، إذا ظل متوضئاً، لأن أثر الحدث اقتصر على الخف، أو لبطلان طهر القدمين فقط، وبما أن الأصل غسلهما، والمسح بدل، فإذا زال حكم البدل رجع إلى الأصل، كالتيمم بعد وجود الماء. واستثنى الحنفية هنا حالة الضرورة: وهي الخوف من ذهاب رجله من البرد، فلا يقلع الخفين، وإنما يجوز له المسح حتى يأمن، أي بدون توقيت، ويلزمه استيعاب المسح جميع الخف، كمسح الجبائر. والواجب بعد مضي المدة أو خلع الخف عند الحنابلة: هو استئناف الطهارة (تجديد الوضوء كله)؛ لأن الوضوء عبادة يبطلها الحدث، فتبطل كلها ببطلان
سادسا ـ المسح على العمامة
بعضها، كالصلاة، أي أن الحدث لا يتبعض ولا يتجزأ، فإذا خلع أو مضت المدة، عاد الحدث إلى العضو الذي مسح الخف عنه، فيسري إلى بقية الأعضاء، فيستأنف الوضوء، ولو قرب الزمن. والخلاصة: أن نواقض المسح عند الحنفية أربعة أشياء: كل ناقض للوضوء، ونزع الخف ولو بخروج أكثر القدم إلى ساق الخف، وإصابة الماء أكثر إحدى القدمين في الخف على الصحيح، ومضي المدة إن لم يخف ذهاب رجله من البرد، فيجوز له المسح حينئذ حتى يأمن الضرر. سادساً ـ المسح على العمامة: قال الحنفية (¬1): لا يصح المسح على عِمامة وقَلنسُوة وبُرْقع وقُفَّازين (¬2)؛ لأن المسح ثبت بخلاف القياس، فلا يلحق به غيره. وقال الحنابلة (¬3): من توضأ من الذكور ثم لبس عمامة، ثم أحدث وتوضأ، جاز له المسح على العمامة أي عمامة الذكور، لقول عمرو بن أمية الضَّمْري: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يمسح على عمامته وخفيه» (¬4)، وقال المغيرة بن شعبة: «توضأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ومسح على الخفين، والعمامة» (¬5)، وعن بلال قال: ¬
يصح المسح على العمامة بشروط
«مسح رسول الله صلّى الله عليه وسلم على الخفين والخمار» (¬1)، وبه قال أبو بكر وعمر وأنس وأبو أمامة. روى الخلال عن عمر: «من لم يطهره المسح على العمامة، فلا طهره الله». والواجب مسح أكثر العمامة، لأنها بدل كالخف، وتمسح دوائرها دون وسطها لأنه يشبه أسفل الخف، ولا يجب أن يمسح معها ما جرت العادة بكشفه؛ لأن العمامة نابت عن الرأس، فانتقل الفرض إليها، وتعلق الحكم بها. ولا يجوز المسح على القلنسوة. ويصح المسح على العمامة بشروط: 1 ً - إذا كانت مباحة بألا تكون محرمة كمغصوبة أو حرير. 2ً - أن تكون محنَّكة: وهي التي يدار منها تحت الحنك كَوْر، أو كَوران، سواء أكان لها ذؤابة أم لا؛ لأنها عمامة العرب، ويشق نزعها، وهي أكثر ستراً. أو تكون ذات ذؤابة: وهي طرف العمامة المرخي؛ لأن إرخاء الذؤابة من السنة، قال ابن عمر: «عمَّ النبي صلّى الله عليه وسلم عبد الرحمن بعمامة سوداء، وأرخاها من خلفه، قدر أربع أصابع». فلا يجوز المسح على العمامة الصماء، لأنها لم تكن عمامة المسلمين، ولا يشق نزعها، فهي كالطاقية. 3ً - أن تكون لذكر، لا أنثى؛ لأنها منهية عن التشبه بالرجال، فلا تمسح أنثى على عمامة، ولو لبستها لضرورة برد وغيره. 4ً - أن تكون ساترة لما لم تجر العادة بكشفه، كمقدم الرأس والأذنين وجوانب الرأس. ¬
سابعا - المسح على الجوارب
وقال المالكية (¬1): يجوز المسح على عمامة خيف بنزعها ضرر، ولم يقدر على مسح ماتحتها مما هي ملفوفة عليه كالقلنسوة. فإن قدر على مسح بعض الرأس، أتى به وكمل على العمامة. وقال الشافعية: لايجوز الاقتصار على مسح العمامة، لحديث أنس السابق: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتوضأ، وعليه عمامة قِطْرية (من صنع قَطَر)، فأدخل يده تحت العمامة فمسح مقدَّم رأسه، ولم ينقض العمامة» (¬2)؛ ولأن الله فرض المسح على الرأس، والحديث في العمامة محتمل التأويل، فلا يترك المتيقن للمحتمل، والمسح على العمامة ليس بمسح على الرأس. قال الشوكاني (¬3): والحاصل أنه قد ثبت المسح على الرأس فقط، وعلى العمامة فقط، وعلى الرأس والعمامة، والكل صحيح ثابت، فقصر الإجزاء على بعض ماورد لغير موجب، ليس من دأب المنصفين. سابعاً - المسح على الجوارب: اتفق الفقهاء على جواز المسح على الجوربين (¬4) إذا كانا مجلَّدين أو منعلين (¬5)، واختلفوا في الجوربين العاديين على اتجاهين: ¬
اتجاه يمثله جماعة: وهم أبو حنيفة والمالكية والشافعية: لايجوز، واتجاه آخر يمثله الحنابلة، والصاحبان من الحنفية وعلى رأيهما الفتوى: يجوز. وهذه آراء المذاهب (¬1): قال أبو حنيفة: لايجوز المسح على الجوربين، إلا أن يكونا مجلَّدين أو منعلين، لأن الجورب ليس في معنى الخف؛ لأنه لايمكن مواظبة المشي فيه، إلا إذا كان منعلاً، وهو محمل الحديث المجيز للمسح على الجورب. والمجلد: هو الذي وضع الجلد أعلاه وأسفله. إلا أنه رجع إلى قول الصاحبين في آخر عمره، ومسح على جوربيه في مرضه، وقال لعواده: فعلت ماكنت أمنع الناس عنه، فاستدلوا به على رجوعه. وقال الصاحبان، وعلى رأيهما الفتوى في المذهب الحنفي: يجوز المسح على الجوربين إذا كانا ثخينين، لا يشفان (لا يرى ما وراءهما)؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم مسح على جوربيه (¬2)، ولأنه يمكن المشي في الجورب إذا كان ثخيناً، كجوارب الصوف اليوم. وبه تبين أن المفتى به عند الحنفية: جواز المسح على الجوربين الثخينين، بحيث يمشي عليهما فرسخاً فأكثر، ويثبت على الساق بنفسه، ولا يرى ما تحته ولا يشف. واشترط المالكية كأبي حنيفة: أن يكون الجوربان مجلّدين ظاهرهما وباطنهما، حتى يمكن المشي فيهما عادة، فيصيران مثل الخف. وهو محمل أحاديث المسح على الجوربين. ¬
وأجاز الشافعية المسح على الجورب بشرطين: أحدهما ـ أن يكون صفيقاً لا يشف بحيث يمكن متابعة المشي عليه. والثاني ـ أن يكون منعلاً. فإن اختل أحد الشرطين لم يجز المسح عليه، لأنه لا يمكن متابعة المشي عليه حينئذ كالخرقة. قال البيهقي عن حديث المغيرة «أن النبي صلّى الله عليه وسلم مسح على جوربيه ونعليه»: إنه ضعيف، وضعف المحدثون حديثي أبي موسى وبلال. وأباح الحنابلة المسح على الجورب بالشرطين المذكورين في الخف وهما: الأول ـ أن يكون صفيقاً لا يبدو منه شيء من القدم. الثاني ـ أن يمكن متابعة المشي فيه، وأن يثبت بنفسه. ودليلهم ما روي من إباحة المسح على الجوربين عن تسعة من الصحابة: علي وعمار، وابن مسعود، وأنس، وابن عمر، والبراء، وبلال، وابن أبي أوفى، وسهل بن سعد، وبه قال جماعة من مشاهير التابعين كعطاء والحسن البصري وسعيد بن المسيب وابن جبير والنخعي والثوري. وثبت في السنة النبوية المسح على الجوربين منها: حديث المغيرة: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم توضأ، ومسح على الجوربين والنعلين» (¬1). وحديث بلال: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يمسح على المُوقَين والخمار» (¬2). ¬
ثامنا ـ المسح على الجبائر
والراجح رأي الحنابلة لاستناده لفعل الصحابة والتابعين، ولما ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلم في حديث المغيرة. وهو الرأي المفتى به عند الحنفية. ويمسح على الجوربين إلى خلعهما مدة يوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام للمسافر، ويجب عند الحنابلة أن يمسح على الجوربين، وعلى سيور النعلين، بقدر الواجب في المسح على الخفين. ثامناً ـ المسح على الجبائر: معنى الجبيرة، مشروعية المسح عليها، حكمه، شرائط جواز المسح على الجبيرة، القدر المطلوب مسحه، هل يجمع بين المسح والتيمم؟ هل تجب إعادة الصلاة بعده؟ نواقض المسح على الجبيرة، الفوارق بينه وبين المسح على الخفين. معنى الجبيرة: الجبيرة والجِبارة: خشب أو قصب يسوّى ويشد على موضع الكسر أو الخلع لينجبر (¬1). وفي معناها: جبر الكسور بالجِبْس، وفي حكمها: عصابة الجراحة ولو بالرأس، وموضع الفصد (¬2) والكي، وخرقة القرحة، ونحو ذلك من مواضع العمليات الجراحية. قال ابن جزي المالكي: الجبائر: هي التي تشد على الجراح والقروح والفصادة (¬3). مشروعية المسح على الجبيرة: المسح على الجبائر جائز شرعاً بالسنة والمعقول. أما السنة: فأحاديث منها: حديث علي بن أبي طالب، قال: «انكسرت إحدى زندي، فسألت النبي صلّى الله عليه وسلم، فأمرني أن أمسح على الجبائر» (¬4). ومنها حديث جابر في الرجل الذي شُجَّ (كسر) فاغتسل، فمات، فقال النبي ¬
حكمه ـ هل المسح على الجبيرة واجب أو سنة؟
صلّى الله عليه وسلم: «إنما كان يكفيه أن يتيمم، ويَعْصِب على جُرْحه خِرْقة، ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده» (¬1). وأما المعقول: فهو أن الحاجة تدعو إلى المسح على الجبائر؛ لأن في نزعها حرجاً وضرراً. قال المرغيناني في الهداية: إن الحرج فيه فوق الحرج في نزع الخف، فكان أولى بشرع المسح (¬2). حكمه ـ هل المسح على الجبيرة واجب أو سنة؟ قال أبو حنيفة وصاحباه (¬3) في الأصح وعليه الفتوى: المسح على الجبائر واجب؛ وليس بفرض، لكن قال أبو حنيفة: وإذا كان المسح على الجبيرة يضره سقط عنه المسح؛ لأن الغسل يسقط بالعذر، فالمسح أولى. ودليل الوجوب: أن الفرضية لاتثبته إلا بدليل مقطوع به. وحديث علي ـ المتقدم ـ من أخبار الآحاد، فلا تثبت الفرضية به. وبه يظهر أن الإمام وصاحبيه اتفقوا على الوجوب بمعنى عدم جواز الترك، لكن عنده يأثم بتركه فقط مع صحة الصلاة بدونه، ووجوب إعادتها، فهو يريد الوجوب الأدنى، وعندهما: لا تصح الصلاة بدونه فهما أرادا الوجوب الأعلى. وقال الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) (¬4): المسح على الجبائر بماء ¬
شرائط المسح على الجبيرة
واجب أي فرض، استعمالاً للماء ما أمكن، وقياساً على الخفين بجامع الضرورة وبطريق الأولى، وللأمر به في حديث علي ـ مع ضعفه ـ: «امسح على الجبائر» والأمر للوجوب. ولا يجوز اتفاقاً المسح على جبيرة رِجْل مع مسح خف الأخرى الصحيحة، وإنما يجمع بين المسح والغسل. شرائط المسح على الجبيرة: يشترط لجوازه ما يأتي (¬1): 1ً - ألا يمكن نزع الجبيرة، أو يخاف من نزعها بسبب الغسل حدوث مرض، أو زيادته، أو تأخر البرء كما في التيمم. قال المالكية: يجب المسح إن خيف هلاك أو شدة ضرر أو أذى، كتعطيل منفعة من ذهاب سمع أو بصر مثلاً، ويجوز إن خيف شدة الألم أو تأخره بلا شين، أو رمد أو دمل أو نحوها. وذلك إذا كان الجرح ونحوه في أعضاء الوضوء في حالة الحدث الأصغر، أو في الجسد في حالة الحدث الأكبر. 2ً - ألا يمكن غسل أو مسح الموضع نفسه بسبب الضرر، فإن قدر عليه فلا مسح على الجبيرة، وإنما يمسح على عين الجراحة إن لم يضر المسح بها، ولا يجزئه المسح على الجبيرة، وإن لم يستطع مسح على الجبيرة. قال المالكية: والأرمد الذي لا يستطيع المسح على عينيه أو جبهته إن خاف الضرر، يضع خرقة على العين أو الجبهة ويمسح عليها. وقال الحنفية: يترك المسح كالغسل إن ضر، وإلا لا يترك. وقال الشافعية: لا يمسح على محل المرض بالماء، وإنما يغسل الجزء الصحيح ويتيمم عن الجزء العليل، ويمسح على الجبيرة إن وجدت. 3ً - ألا تتجاوز الجبيرة محل الحاجة، فإن تجاوزت الجبيرة محل الحاجة، وهو مالا بد منه للاستمساك، وجب نزعها، ليغسل الجزء الصحيح من غير ضرر لأنها ¬
طهارة ضرورة، فتقدر بقدرها، فإن خاف من نزعها تلفاً أو ضرراً، تيمم لزائد على قدر الحاجة، ومسح ما حاذى محل الحاجة، وغسل ما سوى ذلك، فيجمع إذن بين الغسل والمسح والتيمم، ولا يجب مسح موضع العلة بالماء، وإن لم يخف منه، لأن الواجب إنما هو الغسل، لكن يستحب المسح، ولا يجب عليه وضع ساتر على العليل ليمسح على الساتر؛ لأن المسح رخصة؛ فلا يليق بها وجوب المسح. وهذا شرط ذكره الشافعية والحنابلة. وأوجب الشافعية أيضاً التيمم مطلقاً كما سيأتي. وقال الحنفية عملاً بما ذكر الحسن بن زياد: إن كان حل الخرقة، وغسل ما تحتها من حوالي الجراحة، مما يضر بالجرح، يجوز المسح على الخرقة الزائدة ويقوم المسح عليها مقام غسل ماتحتها، كالمسح على الخرقة التي تلاصق الجراحة. وإن كان ذلك لا يضر بها، لا يجوز المسح إلا على الجراحة نفسها، ولا يجوز على الجبيرة؛ لأن الجواز على الجبيرةللعذر، ولا عذر. وهذا هو المقرر أيضاً عند المالكية، وبه يتبين أن الحنفية والمالكية لم يفرقوا بين ما إذا كانت الجبيرة قدر المحل المألوم أو زادت عنه للضرورة. 4ً - أن توضع الجبيرة على طهارة مائية، وإلا وجبت إعادة الصلاة: هذا شرط عند الشافعية والحنابلة؛ لأن المسح على الجبيرة أولى من المسح على الخف، للضرورة فيها، ويشترط لبس الخف على طهارة (وضوء أو غسل). ولا تعاد الصلاة إن كانت الجبيرة بقدر الاستمساك، ووضعت على طهر، وغسل الصحيح، وتيمم عن الجريح، ومسح على الجبيرة. ولو شد الجبيرة على غير طهارة، نزعها إن لم يتضرر، ليغسل ما تحتها، فإن خاف من نزعها تلفاً أو ضرراً، تيمم لغسل ما تحتها، ولو عمت الجبيرة فرض التيمم (الوجه واليدين) كفى مسحها بالماء عند الحنابلة، وسقط التيمم، ويعيد الصلاة عند الشافعية لأنه كفاقد الطهورين.
القدر المطلوب مسحه على الجبيرة
ولم يشترط الحنفية والمالكية: وضع الجبيرة على طهارة، فسواء وضعها وهو متطهر أو بلا طهر، جاز المسح عليها ولا يعيد الصلاة إذا صح، دفعاً للحرج. وهذا هو المعقول؛ لأنه يغلب في وضعها عنصر المفاجأة، فاشتراط الطهارة وقتئذ فيه حرج وعسر. 5ً - ألا يكون الجبر بمغصوب، ولا بحرير محرم على الذكر، ولا بنجس كجلد الميتة والخرقة النجسة، فيكون المسح حينئذ باطلاً، وتبطل الصلاة أيضاً. وهذا شرط عند الحنابلة. القدر المطلوب مسحه على الجبيرة: المفتى به عند الحنفية (¬1): أنه يكفي مسح أكثر الجبيرة مرة، فلا يشترط استيعاب وتكرار، ونية اتفاقاً، كما لا تطلب النية في مسح الخف والرأس أو العمامة، والفرق بينه وبين مسح الرأس والمسح على الخفين، حيث لايشترط فيهما مسح الأكثر، وإنما يكفي مقدار ثلاث أصابع: أن مسح الرأس شرع بالقرآن بواسطة حرف الباء الذي اقتضى تبعيضه، والمسح على الخفين: إن ثبت بالقرآن بقراءة الجر: {وأرجلكم} [المائدة:6/ 5]، فحكمه حكم المعطوف عليه، وإن ثبت بالسنة، فهي أوجبت مسح البعض. أما المسح على الجبائر: فإنما ثبت بحديث علي رضي الله عنه، وليس فيه ما ينبئ عن البعض، إلا أن القليل سقط اعتباره دفعاً للحرج، وأقيم الأكثر مقامه. والواجب عند الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) (¬2): مسح الجبيرة كلها بالماء، استعمالاً للماء ما أمكن، ولأن مسحها بدل عن غسل ما تحتها، وما تحت ¬
الجبيرة كان يجب استيعابه بالغسل، فكذا المسح، ولا ضرر في تعميمها بالمسح، بخلاف الخف يشق تعميم جميعه، ويتلفه المسح. وأوضح المالكية والحنفية أن الواجب الأصلي هو غسل أو مسح المحل المجروح مباشرة إن أمكن بلا ضرر؛ فإن لم يستطع المسح عليه، مسح جبيرة الجرح: وهي اللزقة التي فيها الدواء الذي يوضع على الجرح ونحوه، أو على العين الرمداء؛ فإن لم يقدر على مسح الجبيرة أو تعذر حلها، مسحت عصابته التي تربط فوق الجبيرة. ولو تعددت العصائب، فإنه يمسح عليها. ولا يجزيه المسح على ما فوق العصائب إن أمكنه المسح على ما تحتها أو مسح أسفلها. ولا يقدر المسح بمدة، بل له الاستدامة إلى الشفاء (الاندمال)؛ لأنه لم يرد فيه تأقيت، ولأن الساتر لا ينزع للجنابة، بخلاف الخف، ولأن مسحها للضرورة، فيقدر بقدرها، والضرورة قائمة إلى حلِّها أو برء الجرح عند الجمهور، وإلى البرء عند الحنفية. ويمسح الجنب ونحوه متى شاء. ويمسح المحدث عند الشافعية والحنابلة وقت غسل الجزء العليل، عملاً بمبدأ الترتيب المطلوب عندهم، وله تقديم التيمم على المسح والغسل وهو أولى. ويجب مسح الساتر، ولو كان به دم؛ لأنه يعفى عن ماء الطهارة (¬1)، ومسحه بدل عما أخذه من الجزء الصحيح. فلو لم يأخذ الساتر شيئاً، أو أخذ شيئاً وغسله، لم يجب مسحه على المعتمد عند الشافعية. وذكر الشافعية: أنه لو برأ وهو على طهارة، بطل تيممه لزوال علته، ووجب غسل موضع العذر، جنباً كان أو محدثاً، ولا يجدد (يستأنف) الطهارة كلها، لأن بطلان بعضها لا يقتضي بطلان كلها، ويجب على المحدث عندهم أن ¬
هل يجمع بين المسح على الجبيرة والتيمم؟
يغسل ما بعد موضع العذر، رعاية للترتيب كما لو أغفل لمعة، بخلاف الجنب لا يغسل ما بعد موضع العذر، لعدم اشتراط الترتيب في الغسل، باتفاق الفقهاء. هل يجمع بين المسح على الجبيرة والتيمم؟ يرى الحنفية والمالكية (¬1): الاكتفاء بالمسح على الجبيرة، فهو بدل لغسل ما تحتها، ولا يضم إليه التيمم؛ إذ لا يجمع بين طهارتين. ويرى الشافعية في الأظهر (¬2): أنه يجمع بين المسح على الجبيرة والتيمم، فيغسل الجزء الصحيح، ويمسح على الجبيرة، ويتيمم وجوباً، لما روى أبو داود والدارقطني بإسناد كل رجاله ثقات عن جابر في المشجوج الذي احتلم واغتسل، فدخل الماء شجته، فمات: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إنما كان يكفيه أن يتيمم، ويعصب على رأسه خرقة، ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده» والتيمم بدل عن غسل العضو العليل، ومسح الساتر بدل عن غسل ما تحت أطرافه من الجزء الصحيح؛ لأن الغالب أن الساتر يأخذ زيادة على محل العلة. فلو كان الساتر بقدر العلة فقط، أو بأزيد وغسل الزائد كله، لا يجب المسح. ولو كان في بدنه جبائر كثيرة وأجنب وأراد الغسل، كفاه تيمم واحد عن الجميع؛ لأن بدنه كعضو واحد. وفي حالة الحدث الأصغر (الوضوء) يتعدد التيمم بعدد الأعضاء المريضة على الأصح، كما يتعدد مسح الجبيرة بتعددها. وعليه: إن كانت الجراحة في أعضاء الوضوء الأربعة ولم تعممها فلا بد من ثلاثة تيممات: الأول للوجه، والثاني لليدين، والثالث للرجلين، أما الرأس فيكفي فيه مسح ما ¬
هل تجب إعادة الصلاة بعد البرء؟
قل منه، فإن عمت الجراحة الرأس فأربعة تيممات. وإن عمت الأعضاء كلها فتيمم واحد عن الجميع لسقوط الترتيب بسقوط الغسل. وتوسط الحنابلة (¬1) فرأوا أنه يجزئ المسح على الجبيرة، من غير تيمم، إذا لم تجاوز الجبيرة قدر الحاجة؛ لأنه مسح على حائل، فأجزأ من غير تيمم، كمسح الخف، بل أولى؛ إذ صاحب الضرورة أحق بالتخفيف (¬2). ويمسح ويتيمم إن تجاوزت الجبيرة محل الحاجة، أو خيف الضرر من نزعها، ويكون التيمم للزائد على قدر الحاجة، والمسح لما يحاذي محل الحاجة، والغسل لما سوى ذلك، فيجمع إذن بين الغسل والمسح والتيمم. وإذا لم يكن على الجرح عصاب، يغسل الصحيح ويتيمم للجرح. وهو في تقديري أولى الآراء. ويتعدد التيمم عندهم كما قرر الشافعية. هل تجب إعادة الصلاة بعد البرء؟ الذين لم يشترطوا وضع الجبيرة على طهارة وهم المالكية والحنفية (¬3)، ورأيهم هو الحق، لم يوجبوا إعادة الصلاة بعد الصحة من الجرح، لإجماع العلماء على جواز الصلاة، وإذا جازت الصلاة، لم تجب إعادتها. أما الذين اشترطوا وضع الجبيرة على طهارة وهم الشافعية والحنابلة (¬4)، فقد أوجب الشافعية إعادة الصلاة، لفوات شرط الوضع على طهارة، ولو يوجبها الحنابلة إذا تيمم. ¬
نواقض المسح على الجبيرة
وتعاد الصلاة عند الشافعية في الأحوال الثلاثة التالية (¬1). 1 - إذا كانت الجبيرة في أعضاء التيمم (الوجه واليدين) مطلقاً، سواء على طهر أو حدث. 2 - إذا وضعت الجبيرة على غير طهر (حدث) سواء في أعضاء التيمم أو في غيرها. 3 - إذا زادت الجبيرة على قدر الحاجة أو الاستمساك، مطلقاً، سواء طهر أو حدث. ولا تعاد الصلاة عندهم في حالتين وهما: 1 - إذا كانت في غير أعضاء التيمم، ولم تأخذ من الصحيح شيئاً، ولو على حدث. 2 - إذا كانت في غير أعضاء التيمم، ووضعها على طهر، ولو زادت على قدر الحاجة. نواقض المسح على الجبيرة: يبطل المسح على الجبيرة في حالتين هما (¬2): 1ً - نزعها وسقوطها: قال الحنفية: يبطل المسح على الجبيرة إن سقطت عن ¬
وإذا رمد، وأمَره طبيب مسلم حاذق ألا يغسل عينه، أو انكسر ظفره، أو حصل به داء، وجعل عليه دواء، جاز له المسح للضرورة، وإن ضره المسح تركه؛ لأن الضرورة تقدر بقدرها. وقال المالكية: يبطل المسح بنزع الجبيرة أو سقوطها للمداواة أو غيرها، فإذا صح غسل الموضع على الفور، وإن لم يصح وبدَّلها للمداواة، أعاد المسح، وإن سقطت الجبيرة وهو في الصلاة. بطلت الصلاة، وأعاد الجبيرة في محلها، وأعاد المسح عليها، إن لم يطل الفاصل، ثم ابتدأ صلاته، لأن طهارة الموضع قد انتقضت بظهوره. ويمسح المتوضئ رأسه إن سقط الساتر، الذي كان قد مسح عليه من الجبيرة أو العصابة أو العمامة، ثم صلى إن طال فاصل سقوط الساتر نسياناً، وإلا ابتدأ طهارة جديدة أي أعاد الوضوء. وقال الشافعية: لو سقطت جبيرته في الصلاة، بطلت صلاته، سواء أكان قد برئ، أم لا، كانقلاع الخف. وفي حالة البرء تبطل الطهارة أيضاً، فإن لم يبرأ رد الجبيرة إلى موضعها ومسح عليها فقط.
أهم الفروق بين المسح على الخفين والمسح على الجبيرة
وقال الحنابلة: زوال الجبيرة كالبرء، ولو قبل برء الكسر أو الجرح، وبرؤها كخلع الخف، يبطل المسح؛ والطهارة والصلاة كلها، وتستأنف من جديد، لأن مسحها بدل عن غسل ما تحتها، إلا أنه في الطهارة الكبرى من الجنابة يكفي بزوال الجبيرة غسل ما تحتها فقط. وفي الطهارة الصغرى (الوضوء) إن كان سقوطها عن برء توضأ فقط، وإن كان سقوطها عن غير برء، أعاد الوضوء والتيمم. وهكذا يتبين أن الجمهور غير الحنفية يقررون بطلان المسح على الجبيرة بنزعها أو سقوطها. 2ً - الحدث: يبطل المسح على الجبيرة بالاتفاق بالحدث. لكن إذا أحدث صاحب الجبيرة يعيد عند الشافعية (¬1) ثلاثة أمور: يغسل الصحيح، ويمسح على الجبيرة، ويتيمم. فإن لم يحدث وأراد صلاة فرض آخر، تيمم فقط، ولم يعد غسلاً ولا مسحاً؛ لأن الواجب عندهم إعادة التيمم لكل فريضة (¬2). أهم الفروق بين المسح على الخفين والمسح على الجبيرة: ذكر الحنفية فروقاً بين هذين النوعين من المسح، وهي سبعة وعشرون وجهاً، وأضاف ابن عابدين لها عشرة أخرى، أهمها ما يأتي (¬3): ¬
1ً - المسح على الجبائر غير مؤقت بالأيام، بل هو موقت بالبرء، أما المسح على الخفين فهو بالشرع مؤقت بالأيام، للمقيم يوم وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام بلياليها. 2ً - لا تشترط الطهارة لوضع الجبائر، فيجوز المسح عليها للمحدث. وتشترط الطهارة للبس الخفين، فلا يجوز المسح عليهما للمحدث. 3ً - إذا سقطت الجبائر لا عن برء لا ينتقض المسح، وسقوط الخفين أو أحدهما يوجب انتقاض المسح. 4ً - المسح على الجبائر جائز إذا كان يضره المسح على الجراحة، فإن لم يضره فلا يمسح على الجبائر. أما المسح على الخفين فهو جائز ولو لم يعجز عن غسل الرجلين. 5ً - المسح على الجبائر جائز ولو كانت في غير الرجلين. أما المسح على الخفين فمحصور في الرجلين. وتعرف بقية الفروق من طبيعة كلا النوعين وشروطهما. وذكر الحنابلة خمسة فروق بين نوعي المسح المذكورين، وافقوا الحنفية في الفرق الأول والثاني والرابع، أما الفرقان الآخران فهما: أنه يمسح على الجبيرة في الطهارة الكبرى؛ لأن الضرر يلحق بنزعها فيها، بخلاف الخف، ويجب عندهم استيعابها بالمسح لأنه لاضرر في تعميمها، بخلاف الخف فإنه يشق تعميم جميعه ويتلفه المسح (¬1). ¬
الفصل الخامس: الغسل
الفَصْلُ الخامِس: الغَُسلُ خصائصه، موجباته، فرائضه، سننه، مكروهاته، مايحرم على الجنب، الأغسال المسنونة. ملحقان به: الأول ـ في أحكام المساجد، والثاني ـ في أحكام الحمامات. المطلب الأول ـ خصائص الغسل: الغسل المراد هنا بضم الغين أو فتحها: هو فعل الاغتسال، أو الماء الذي يغتسل به. وهو لغة: سيلان الماء على الشيء مطلقاً. والغسل بكسر الغين: ما يغسل به الشيء من أشنان وصابون ونحوه. والغسل شرعاً: إفاضة الماء الطهور على جميع البدن على وجه مخصوص (¬1). وعرفه الشافعية بأنه: سيلان الماء على جميع البدن مع النية (¬2). وعرفه المالكية بأنه: إيصال الماء لجميع الجسد بنية استباحة الصلاة مع الدلك (¬3). ¬
الأصل في مشروعيته
والأصل في مشروعيته: قوله تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} [المائدة:6/ 5]، وهو أمر بتطهير جميع البدن، إلا أن ما يتعذر إيصال الماء إليه كداخل العينين خارج عن الإرادة، لما في غسلهما من الضرر والأذى. والقصد منه التنظيف، وتجديد الحيوية وإثارة النشاط؛ لأن عملية الجنابة تؤثر في جميع أجزاء الجسد، فتزال آثارها بالاغتسال. وفي الغسل ثواب لامتثال أمر الشارع، قال النبي صلّى الله عليه وسلم فيما أخرجه: «الطُّهور شطر الإيمان» أي جزء منه، وهو يشمل الوضوء والغسل. وركنه: عموم ما أمكن من الجسد، من غير حرج، بالماء الطهور. وسببه: إرادة ما لا يحل مع الجنابة، أو وجوبه (¬1). وحكمه: حل ماكان ممتنعاً قبله، والثواب بفعله، تقرباً إلى الله. أما الستر للغسل: فيجوز أن ينكشف للغسل في خلوة، أو بحضرة من يجوز له نظره إلى عورته، والستر أفضل، لقوله صلّى الله عليه وسلم لبَهْز بن حكيم: «احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ماملكت يمينك، قال: أرأيت إن كان أحدنا خالياً؟ قال: الله أحق أن يستحيا منه من الناس» (¬2). المطلب الثاني ـ موُجِبات الغسل: يسمى ما يوجب الغسل (حدثاً أكبر)، كما يسمى ما يوجب الوضوء (حدثاً أصغر). وموجبات الغسل على المكلف (البالغ العاقل) ذكراً أو أنثى عند الحنفية ¬
1 - خروج المني
سبعة أسباب، وعند المالكية: أربعة، وعند الشافعية خمسة، وعند الحنابلة ستة، وهي ما يأتي (¬1): 1 - خروج المني: أي بروزه إلى الظاهر من فرج الرجل أو المرأة، بلذة معتادة تدفقاً، في حال النوم أو اليقظة بنظر، أو فكر في جماع، أو بمباشرة فعلية، لإنسان حي أو ميت، أو بهيمة. إلا أن الحنفية لم يوجبوا الغسل بوطء الميتة والبهيمة والصغيرة غير المشتهاة. والمني: هو الماء الغليظ الدافق الذي يخرج عند اشتداد الشهوة. ومني المرأة رقيق أصفر ولا غسل للمذي والودي، أما المذي: فهو رقيق أبيض مائل إلى البياض يخرج عند ملاعبة الرجل أهله. وأما الودي فهو الغليظ من البول يعقب الرقيق منه. ويعرف المني كما أبان الشافعية: بتدفقه (بأن يخرج بدفعات)، أو لذة بخروجه مع فتور الذكر وانكسار الشهوة عقبه، وإن لم يتدفق لقلته، أو خرج على لون الدم، كما يعرف أيضاً بشم ريح عجين حنطة إذا كان رطباً، أو ريح بياض بيض دجاج أو نحوه إذا كان جافاً، وإن لم يلتذ منه ولم يتدفق، كأن خرج باقي منيه بعد غسله، فيجب عليه إعادة الغسل. والخلاصة: أن خروج المني ولو بحمل ثقيل أو سقوط من مكان مرتفع أو ¬
وجوده في الثوب مطلقاً: موجب للغسل عند الشافعية، سواء بشهوة أو غيرها، خرج من طريقه المعتاد أو من غيره، كأن انكسر صلبه فخرج منيه، إلا أنه إذا خرج من غير طريقه المعتاد لمرض فلايجب الغسل به. وقال الحنابلة: إذا خرج المني بغير اللذة أو الشهوة كمرض، أو برد أو كسر ظهر، من غير نائم أو مجنو ن أو مغمى عليه أو سكران، لم يوجب غسلاً. وعلى هذا يكون نجساً يجب غسل المحل الذي أصابه، كما أن سلس المني لا غسل عليه، وإنما يجب الوضوء فقط. ومن رأى في ثوبه منياً فعليه الغسل. ومن رأى أنه قد احتلم ولم يجد منياً فلا غسل عليه باتفاق العلماء. وقال الحنفية: من موجبات الغسل احتياطاً: وجود بلل ظنه منياً بعد إفاقته من سكر أو إغماء. كما يجب الغسل عندهم بخروج مني الشخص منه بعد الغسل. ويشترط عند الحنفية في المني الموجب للغسل: إنزاله على وجه الدفق والشهوة من الرجل والمرأة حالة النوم واليقظة، فلو خرج بسبب حمل ثقيل أو بسقوط من مكان لا يجب الغسل؛ لأن الجنب في آية {وإن كنتم جنباً فاطهروا} [المائدة:6/ 5]: من خرج منه المني على وجه الشهوة. واتفق أئمة الحنفية على أنه لا يجب الغسل إذا انفصل المني عن مقره من الصلب بشهوة إلا إذا خرج على رأس الذكر. وهناك خلاف بينهم في أنه هل تشترط مقارنة الشهوة للخروج؟ فعند أبي حنيفة ومحمد: لا تشترط. وعند أبي يوسف: تشترط. وثمرة الخلاف تظهر: فيما لو احتلم فوجد اللذة، ولم ينزل حتى توضأ وصلى ثم أنزل، اغتسل، ولا يعيد الصلاة في رأيهما، ولايغتسل في رأيه. ولو اغتسل بعد الجماع قبل النوم أو البول أو المشي، ثم خرج منه المني بلا شهوة، يجب إعادة الغسل عندهما، لا عنده. وقولهما أحوط لأن الجنابة قضاء الشهوة، فإذا وجدت مع الانفصال تحقق اسمها.
وقال المالكية كالحنفية والحنابلة: المني الموجب للغسل: هو الخارج بلذة معتادة، فإن لم يخرج بلذة معتادة، كأن خرج بنفسه لمرض أو ضربة أو سلس أو لدغة عقرب، فلاغسل، وعليه الوضوء فقط. كما أنه إذا خرج بلذة غير معتادة كمن حك لجرب بذكره، أو هزته دابة له، أو نزل بماء حار، فلا غسل وعليه الوضوء فقط، لكن في مسألة الماء الحار والجرب بغير الذكر، لا غسل ولو أحس بمبادئ اللذة واستدام حتى أمنى. لبعد الماء الحار عن شهوة الجماع. أما في مسألة هز الدابة أو الجرب بالذكر، فإن أحس بمبادئ اللذة واستدام حتى أنزل، وجب الغسل، لأنه أقرب لشهوة الجماع. ومن انتبه من نومه، فوجد بللاً في ثوبه أو بدنه، فشك هل هو مني أو مذي؟ وجب عليه الغسل؛ لأن الشك مؤثر في إيجاب الطهارة. ولايجب بالاتفاق الغسل على امرأة بمني وصل للفرج ما لم تحبل منه، واتفقوا على أن رطوبة الفرج طاهرة، وغسله سنة. والدليل لوجوب الغسل بخروج المني: حديث علي قال: «كنت رجلاً مذَّاء، فسألت النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: في المَذْي الوضوء، وفي المَنِيّ الغسل» (¬1) ولأحمد: «إذا حَذَفْت الماء فاغتسل من الجنابة، فإذا لم تكن حاذفاً فلا تغتسل». وحديث أم سَلَمة: «أن أم سُلَيم قالت: يا رسول الله، إن الله لا يسْتَحِي من الحق، فهل على المرأة الغسل إذا احتلمت؟ قال: نعم، إذا رأت الماء، فقالت أم سلمة: وتحتلم المرأة؟ فقال: تربت يداك، فيمَ يُشْبهها ولدها!!» (¬2). ¬
2 - التقاء الختانين
وقوله: «إذا رأت الماء» أي المني بعد الاستيقاظ. وتربت يداك أي افتقرت، ولا يراد ذلك وإنما للزجر (المرجع السابق: ص219). وليس في المذي والودي غسل، وفيهما الوضوء، وغسل الذكر، لقوله عليه الصلاة والسلام: «كل فحل يمذي، وفيه الوضوء» (¬1). 2 - التقاء الختانين (¬2) ولو من غير إنزال: أو الجنابة بمغيب حَشَفة (رأس الذكر) أو قدرها من مقطوعها في فرج مطيق للجماع، قبلاً أو دبراً، من ذكر أو أنثى، طائع أو مكره، نائم أو يقظان. ولو من غير بالغ عند الشافعية والحنابلة، فلا يشترط التكليف، فيجنب الصبي والمجنون بالإيلاج، ويجب عليهما الغسل عند الشافعية بعد الكمال، ويصح الغسل من مميز ويؤمر به كالوضوء. وأوجب الحنابلة على صغير ابن عشر وطئ، وبنت تسع وطئت الغسل والوضوء إذا أرادا ما يتوقف عليه الغسل كقراءة القرآن، أو الوضوء كالصلاة والطواف. واشترط المالكية والحنفية: أن يكون الوطء من مكلف (بالغ عاقل) فلا يجب الغسل على غير مكلف. ويندب عند المالكية في المعتمد الغسل للمراهق والصغيرة التي وطئها بالغ، وقال الحنفية: يمنع المراهق من الصلاة حتى يغتسل، ويؤمر به ابن عشر تأديباً. ولا يشترط الإنزال بالاتفاق لأن حديث «إنما الماء من الماء» منسوخ بالإجماع، إلا أن الحنفية استثنوا وطء الميتة والبهيمة والصغيرة غير المشتهاة إذا لم تزل بكارتها، فلا يجب الغسل إلا بالإنزال، فإن لم يوجد إنزال ولم تزل بكارة الصغيرة فلا يجب الغسل ولا الوضوء، وإنما يجب فقط غسل الذكر؛ لأن هذا الوطء غير مقصود في الطبع السليم (¬3). ¬
وقال الجمهور: يجب الغسل بوطء الميتة والبهيمة، لأنه إيلاج في فرج كوطء الآدمية في حياتها، ووطء الآدمية الميتة داخل في عموم الأحاديث الآتية الموجبة للغسل. وسواء أكان الوطء عند المالكية والشافعية بحائل أم بغير حائل، يوجب الغسل، إلا أن المالكية قالوا: الموجب للغسل فيما إذا لف الذكر بخرقة خفيفة لا كثيفة. وقال الشافعية: يجب الغسل ولو كان على الذكر خرقة خفيفة أو غليظة. وقال الحنيفة والحنابلة: لا يجب الغسل في حالة عدم الإنزال بإيلاج بحائل كأن يلف على ذكره خرقة أو يدخله في كيس. واشترط الحنابلة والشافعية: أن يكون الإيلاج في فرج أصلي، فلا غسل بلا إنزال بإيلاج في غير أصلي كإيلاج رجل في قبل الخنثى، لعدم الفرج الأصلي بيقين، أو إيلاج الخنثى ذكره في قبل أو دبر بلا إنزال، لعدم تغييب الحشفة الأصلية بيقين. واشترط المالكية وغيرهم: أن يكون الإيلاج في فرج مطيق، فلا غسل في حالة عدم الإنزال: بإيلاج بعض الحشفة أو بإيلاج في فرج غير مطيق أو ما دون الفرج كالتفخيذ والتبطين، والتغييب بين الشفرين، أو في هوى الفرج، والتصاق الختانين بدون إيلاج، والسحاق (إتيان المرأة المرأة)، كل ذلك لا غسل فيه بلا إنزال. والأدلة على إيجاب الغسل بالتقاء الختانين: قوله تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطَّهروا} [المائدة:6/ 5]، وأحاديث كثيرة: منها حديث «إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل، وإن لم ينزل» (¬1) وحديث «إذا جلس بين شُعَبها الأربع، ثم ¬
3، 4 - الحيض والنفاس
جَهَدها، فقد وجب عليه الغسل» (¬1)، ولمسلم وأحمد: «وإن لم ينزل». وحديث «إذا قعد بين شعبها الأربع، ثم مس الخِتانُ الختانَ، فقد وجب الغسل» (¬2)، ولفظ الترمذي: «إذا جاوز الختان الختان، وجب الغسل» وحديث أبي بن كعب قال: «إن الفُتْيا التي كانوا يقولون: الماء من الماء، رُخْصة، كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم رخص بها في أول الإسلام، ثم أمرنا بالاغتسال بعدها» (¬3)، وفي لفظ للترمذي وصححه: «إنما كان الماء من الماء، رخصة في أول الإسلام، ثم نهي عنها». فدل على أن حديث رافع بن خديج عند أحمد: «الماء من الماء» منسوخ. وبه يرد على الأنصار الذين كانوا يقولون: لا يجب الغسل بالإكسال (أي من غير إنزال)، إذ إن هذه الأحاديث صريحة في إيجاب الغسل من التقاء الختانين، أنزل أو لم ينزل، وقد انعقد إجماع الصحابة على ذلك. وليس المراد من التقاء الختانين، تجاورهما أو انضمامهما فقط، وإنما مجاوزة الختان الختان، فهو مجاز أريد به الإيلاج أو إدخال الحشفة في الفرج (القبل أو الدبر) إذ الختانان محل القطع في الختان، وختان المرأة فوق مخرج البول، ومخرج البول فوق مدخل الذكر. وصرح الحنابلة وغيرهم بأنه يعاد غسل الميتة الموطوءة. 3، 4 - الحيض والنفاس: هذان يوجبان الغسل بالاتفاق، أما الحيض فلقوله تعالى: {فاعتزلوا النساء في المحيض} [البقرة:222/ 2]، ولخبر البخاري ومسلم أنه صلّى الله عليه وسلم قال لفاطمة بنت أبي حبيش: «إذا أقبلت الحيضة، فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي». ¬
5 - موت المسلم غير الشهيد
وأما النفاس: فلأنه دم حيض مجتمع. وانقطاع دم الحيض والنفاس شرط وجوب الغسل وصحته، بدليل قوله تعالى: {فإذا تطهرن فأتوهن} [البقرة:222/ 2]، يعني: إذا اغتسلن، قيل: منع الزوج وطأها قبل الغسل، فدل على وجوبه عليها. أما الولادة بلا بلل: فتوجب الغسل في المعتمد عند المالكية وفي المختار عند الحنفية، وفي الأصح عند الشافعية، لأن المولود ولو كان عند الشافعية علقة أو مضغة: مني منعقد؛ ولأنه لايخلو عن بلل غالباً، فأقيم مقامه، كالنوم مع الشيء الخارج، وتفطر به المرأة. بخلاف ما لو ألقت يداً أو رجلاً أو نحو ذلك، فإنه لا يجب عليها الغسل، ولا تفطر به، بل تتخير بين الغسل والوضوء. وقال الحنابلة على الراجح: لا يجب الغسل بولادة عريت عن دم؛ لأنه لانص فيه، ولا هو في معنى المنصوص، فلا يبطل الصوم، ولا يحرم الوطء بها قبل الغسل، ولا يجب الغسل بإلقاء علقة أو مضغة لأن ذلك ليس بولادة، والولد طاهر، ومع الدم يجب غسله، كسائر الأشياء المتنجسة. ولا يجب الغسل بدم الاستحاضة، لكن يندب إذا انقطع. 5 - موت المسلم غير الشهيد: يجب تعبداً باتفاق المذاهب الأربعة على المسلمين وجوب كفاية غسل الميت المسلم غير الشهيد، الذي لا جنابة منه، لقوله صلّى الله عليه وسلم في الذي سقط عن راحلته فمات: «اغسلوه بماء وسِدْر، وكفِّنوه في ثوبين» (¬1) فهو دليل على وجوب غسل الميت، وقد غسل النبي صلّى الله عليه وسلم، وأبو بكر بعده، وتوارثه المسلمون. ¬
6 - إسلام الكافر، ولو مرتدا أو مميزا
6 - إسلام الكافر، ولو مرتداً أو مميزاً: أوجب المالكية والحنابلة الغسل على الكافر إذا أسلم، لحديث قيس بن عاصم: «أنه أسلم فأمره النبي صلّى الله عليه وسلم أن يغتسل بماء وسدر» (¬1). وقال الحنفية والشافعية: إنه يستحب إذا لم يكن جنباً، ويجزئه الوضوء، لأنه لم يأمر النبي صلّى الله عليه وسلم كل من أسلم بالغسل، ولو كان واجباً لما خص بالأمر به بعضاً دون بعض، فيكون ذلك قرينة تصرف الأمر إلى الندب. ويجب الغسل على الكافر إذا أسلم جنباً: للأدلة القاضية بوجوبه، مثل آية: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} [المائدة:6/ 5]؛ لأنها لم تفرق بين كافر ومسلم. خلاصة ما يوجب الغسل وما لا يوجبه: هذه موجبات الغسل الستة عند الحنابلة. أما الأسباب السبعة عند الحنفية فهي: خروج المني إلى ظاهر الجسد بشهوة، وتواري حشفة أو قدرها من مقطوعها في أحد سبيلي آدمي حي، وإنزال المني بوطء ميتة أو بهيمة، ووجود ماء رقيق بعد النوم إذا لم يكن ذكره منتشراً قبل النوم، ووجود بلل ظنه منياً بعد إفاقته من سكر أو إغماء، وحيض، ونفاس، ثم أضافوا إليها: ويفترض تغسيل الميت كفاية. والأربعة عند المالكية: هي خروج المني، ومغيب الحشفة، والحيض، والنفاس. والخمسة عند الشافعية: هي موت، وحيض، ونفاس، وولادة بلا بلل في الأصح، وجنابة بدخول حشفة أو قدرها فرجاً وبخروج مني من طريقه المعتاد وغيره. ¬
المطلب الثالث ـ فرائض الغسل
ثم قال الحنفية: عشرة أشياء لا يغتسل منها: مذي، وودي، واحتلام بلا بلل، وولادة من غير رؤية دم بعدها، في قول أبي حنيفة، والأصح كما أبان ابن عابدين وجوب الغسل لها احتياطاً، وإيلاج بخرقة ما نعة من وجود اللذة على الأصح، وحقنة، وإدخال أصبع ونحوه في أحد السبيلين، ووطء بهيمة أو ميتة من غير إنزال، وإصابة بكر لم تُزل الإصابة بكارتها من غير إنزال. ويلاحظ أنه إذا اجتمع شيئان يوجبان الغسل، كالحيض والجنابة، أو التقاء الختانين والإنزال، أجزأه غسل واحد، كما تنوب عند الجمهور نية الغسل عن الوضوء لدخوله تحته، بخلاف العكس، وقال الحنابلة: لابد من نية الوضوء أيضاً. المطلب الثالث ـ فرائض الغسل: ثبتت فرضية الغسل بالقرآن في قوله تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} [المائدة:6/ 5]، وقوله سبحانه: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} [النساء:43/ 4]. صفة غسل النبي صلّى الله عليه وسلم: إن كيفية الغسل الكامل عرفت بالسنة: عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة، يبدأ فيغسل يديه، ثم يُفرغ بيمينه على شماله، فيغسل فرجه، ثم يتوضأ (¬1)، ثم يأخذ الماء، فيدخل أصابعه في أصول الشعر، ثم حَفَن على رأسه ثلاث حَفَنات (¬2)، ثم أفاض الماء على سائر جسده، ثم غسل رجليه» (¬3). ¬
أوجب العلماء في الغسل ما يأتي
وقد أوجب العلماء في الغسل ما يأتي (¬1): 1 - تعميم الجسد شعره وبشره بالماء الطهور: هذا متفق عليه بين الفقهاء، فيجب تعميم (أو إعمام وهو الأصح) الشعر والبشرة بالماء مرة واحدة، حتى لو بقيت بقعة يسيرة لم يصبها الماء، يجب غسلها، ويجب تعهد مواطن تجاعيد البدن، كالشقوق التي في البدن أي التكاميش والسُّرة، والإبطين وكل ما غار من البدن، بصب الماء عليها، لقوله صلّى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة: «إن تحت كل شعرة جنابة، فاغسلوا الشَّعرَ، وأنْقُوا البَشَر» (¬2). قال الحنفية: يجب غسل سائر البدن مما يمكن غسله من غير حرج كأذن وسرة وشارب وحاجب وداخل لحية وشعر رأس، وخارج فرج، ولا يجب غسل ما فيه حرج كداخل عين وداخل قُلْفة، والأصح أنه يندب عند الحنفية. وهل يجب نقض ضفائر الشعر؟ للعلماء آراء متقاربة: قال الحنفية: يكفي بلُّ أصل الضفيرة (¬3) أي شعر المرأة المضفور، دفعاً للحرج، أما المنقوض، فيفرض غسله كله اتفاقاً، ولو لم يبتل أصل الضفيرة بأن كان متلبداً أو غزيراً، أو مضفوراً ضفراً شديداً لا ينفذ فيه الماء، يجب نقضها مطلقاً، على الصحيح، لكن لو ضرها غسل رأسها تركته، وقيل: تمسحه، ولا تمنع نفسها عن زوجها. ويجب عند الحنفية غسل داخل قُلْفة، لا عسر في فسخها، ¬
كما يجب نقض ضفائر الرجل وغسل أصول الشعر مطلقاً. وكذلك قال المالكية: لا يجب على المغتسل نقض مضفور شعره، ما لم يشتد الضفر، حتى يمنع وصول الماء إلى البشرة، أو يضفر بخيوط كثيرة تمنع وصول الماء إلى البشرة، أو إلى باطن الشعر. ودليل الحنفية والمالكية: حديث أم سلمة، قالت: يا رسول الله، إني امرأة أشد شعر رأسي، أفأنقضه لغسل الجنابة أو الحيضة؟ فقال: لا إنما يكفيك أن تَحْثي على رأسك ثلاث حَثَيات» (¬1). وقال الشافعية: يجب نقض الضفائر إن لم يصل الماء إلى باطنها إلا بالنقض، لكن يعفى عن باطن الشعر المعقود، ولا يجب غسل الشعر النابت في العين والأنف، وإن كان يجب غسله من النجاسة. ويجب غسل الأظفار، وما يظهر من صماخي الأذنين، وما تحت القُلْفة من الأقلف (غير المختون)، بدليل حديث أبي هريرة المتقدم الدال على وجوب إيصال الماء إلى الشعر والبشرة. وقيدوا حديث أم سلمة بحالة وصول الماء إلى الضفائر من غير نقض. أما الإمام أحمد ففرق بين الحيض والجنابة، وقال: تنقض المرأة شعرها لغسلها من الحيض والنفاس، وليس عليها نقضه من الجنابة إذا أروت أصوله، عملاً في الجنابة بحديث أم سلمة. ودليل نقضه من الحيض: ماروت عائشة: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لها إذ كانت حائضاً: «خذي ماءك وسدرك وامتشطي» (¬2) ولا يكون المشط إلا في شعر غير مضفور، وللبخاري: «انقضي رأسك وامتشطي» ولابن ¬
ماجه «انقضي رأسك وامتشطي» لكن قال ابن قدامة: النقض من الحيض مستحب، وهو الصحيح إن شاء الله، وهو قول أكثر الفقهاء؛ لأن في بعض ألفاظ حديث أم سلمة: «أفأنقضه للحيض؟ قال: لا». والخلاصة: أن المذاهب الأربعة متفقة على أن نقض الشعر للمرأة غير واجب إن وصل الماء لأصول الشعر لحديث أم سلمة المتقدم. وإذا بقيت لُمْعة من الجسد لم يصبها الماء، يجزئه غسلها، والصحيح عند الحنابلة أنه يجزئه مايصيبها من بلل شعره في الغسلة الثانية أو الثالثة وجرى ماؤه على تلك اللمعة، لأن غسلها بذلك البلل كغسلها بماء جديد، مع ما فيه من الأحاديث. روى أحمد عن النبي صلّى الله عليه وسلم «أنه رأى على رجل موضعاً لم يصبه الماء، فأمره أن يعصر شعره عليه». أما غسل بشرة الرأس: فواجب، سواء أكان الشعر كثيفاً أم خفيفاً، وكذلك ما تحت الشعر كجلد اللحية وغيرها، لما روت أسماء: «أنها سألت النبي صلّى الله عليه وسلم عن غسل الجنابة، فقال: تأخذ إحداكن ماء، فتطهر، فتحسن الطهور ـ أو تبلغ الطهور ـ ثم تصب على رأسها، فتدلكه، حتى تبلغ شؤون رأسها، ثم تفيض عليها الماء» (¬1). وعن علي رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «من ترك موضع شعرة من جنابة لم يصبها الماء، فعل الله به كذا وكذا من النار، قال علي: فمن ثم عاديت شعري، زاد أبو داود: وكان يجزّ شعره رضي الله عنه» (¬2)، ولأن ما تحت الشعر بشرة أمكن إيصال الماء إليها من غير ضرر، فلزمه كسائر بشرته. ¬
2 - المضمضة والاستنشاق
وأما غسل المسترسل من الشعر: فواجب عند الشافعية، لحديث أبي هريرة السابق «إن تحت كل شعرة جنابة»، ولأنه نابت في محل الغسل، فوجب غسله كشعر الحاجبين وأهداب العينين. ولا يجب عند الحنفية والمالكية، لحديث أم سلمة السابق في عدم نقض الشعر، مع إخبارها إياه بشد ضفر رأسها، ولأنه لو وجب بلُّه، لوجب نقضه ليعمه الغسل. وعند الحنابلة وجهان: كالرأيين المذكورين، أرجحهما الوجوب كالشافعية. ويعركه عند صب الماء حتى يصل إلى البشرة فلا يجب إدخال أصابعه تحته، ويعرك بها البشرة. وكذا يجب عندهم تخليل أصابع الرجلين واليدين، أما في الوضوء فيندب تخليل أصابع رجليه ويجب تخليل أصابع اليدين، ومن الفرائض عند المالكية: تخليل شعره ولو كثيفاً، سواء أكان شعر رأس أم غيره، ومعنى تخليله: أن يضمه. 2 - المضمضة والاستنشاق: أوجب الحنفية والحنابلة المضمضة والاستنشاق، عملاً بقوله تعالى: {وإنْ كنتُمْ جُنُباً فاطَّهروا} [المائدة:6/ 5]، وبحديث «ثم تفيضين عليك الماء» ففيهما طلب تطهير جميع البدن وتعميمه بالماء (¬1). وقال المالكية والشافعية: إنهما سنة في الغسل كالوضوء لحديث: «عشر من الفطرة» وذكر منها المضمضة والاستنشاق (¬2). ¬
3 - النية عند غسل أول جزء من البدن
3 - النية عند غسل أول جزء من البدن: أي نية فرض الغسل، أو رفع الجنابة أو الحدث الأكبر، أو استباحة ممنوع مفتقر إليه، كأن ينوي استباحة الصلاة أو الطواف مما يتوقف على غسل، فإن نوى ما لا يفتقر إليه كالغسل ليوم العيد، لم يصح. ومحل النية في القلب، وتكون مقرونة بأول فرض: وهو أول ما يغسل من البدن، سواء أكان من أعلاه أم من أسفله، إذ لا ترتيب فيه. وأوجب الجمهور (غير الحنفية) النية للغسل كالوضوء، للحديث: «إنما الأعمال بالنيات». والابتداء بالنية عند الحنفية سنة، ليكون فعله تقرباً يثاب عليه، كالوضوء. أما التسمية فهي سنة عند الجمهور، فرض عند الحنابلة كالوضوء، لكنهم ذكروا أن حكمها في الجنابة أخف؛ لأن حديث التسمية إنما تناول بصريحه الوضوء لا غير. 4 - الدلك والموالاة والترتيب: اتفق الفقهاء على عدم إيجاب الترتيب في الغسل، فيصح البدء بأعلى الجسد أو بأسفله. وأوجب المالكية دون غيرهم الدلك ولو بخرقة، والموالاة إن ذكر وقَدَر كالوضوء، والدلك هنا: إمرار العضو على ظاهر الجسد، يداً أو رجلاً، فيكفي دلك الرِجْل بالأخرى، ويكفي الدلك بظاهر الكف وبالساعد والعضد، بل يكفي بالخرقة عند القدرة، باليد على الراجح: بأن يمسك طرفيها بيديه، ويدلك بوسطها، أو بحبل كذلك، ويكفي ولو بعد صب الماء وانفصاله عن الجسد ما لم يجف، فإن تعذر الدلك، سقط. ويكفي تعميم الجسد بالماء كما في سائر الفرائض، إذ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
خلاصة فرائض الغسل في المذاهب
والموالاة فريضة كما في الوضوء، فإن فرق عامداً بطل إن طال، وإلا بنى (كمل) على ما فعل بنية. ولم يوجب غير المالكية الدلك والموالاة؛ لأن الآية: {فاطهروا} [المائدة:6/ 5]، والأحاد يث ليس فيها تعرض لوجوبهما. خلاصة فرائض الغسل في المذاهب: 1 ً - مذهب الحنفية: يفترض في الغسل أحد عشر شيئاً: غسل الفم، والأنف، والبدن مرة، وداخل قُلْفة لا عسر بلا مشقة في فسخها، وسرة، وثقب غير منضم، وداخل المضفور من شعر المرأة إن سرى الماء في أصوله، وبشرة اللحية، وبشرة الشارب، والحاجب، والفرج الخارج (الظاهر)، لكن الأصح أنه يندب غسل داخل القلفة (الجلدة التي يقطعها الخاتن) ولا يجب. 2ً - مذهب المالكية: فرائض الغسل خمسة: نية فرض الغسل، أو رفع الحدث، أو استباحة ممنوع، بأول مفعول، بأن ينوي بقلبه أداء فرض الغسل، أو ينوي رفع الحدث الأكبر، أو رفع الجنابة، أو ينوي استباحة ما منعه الحدث الأكبر، أو استباحة الصلاة مثلاً. وموالاة إن ذكر وقدر كالوضوء، وتعميم ظاهر الجسد بالماء، ودلك ولو بعد صبه وإن بخرقة، وتخليل شعر وأصابع رجليه ويديه. 3ً - مذهب الشافعية: الواجب في الغسل ثلاثة أشياء: النية، وإزالة النجاسة إن كانت، وإفاضة الماء على البشرة الظاهرة وما عليها من الشعر حتى يصل الماء إلى ما تحته. وما زاد على ذلك سنة.
- مذهب الحنابلة
4ً - مذهب الحنابلة: واجبات الغسل أحد عشر شيئاً: إزالة مابه من نجاسة أو غيرها تمنع وصول الماء إلى البشرة إن وجد، والنية، والتسمية، وتعميم بدنه بالغسل حتى فمه وأنفه، فتجب المضمضة، والاستنشاق في الغسل كالوضوء، ويجب غسل ظاهر شعره وباطنه، من ذكر أو أنثى، مسترسلاً كان أو غيره، مع نقض الشعر لغسل حيض ونفاس، لا غسل جنابة إذا روَّت أصوله. ويجب غسل حشفة أقلف (غير مختون) إن أمكن تشميرها، وغسل ما تحت خاتم ونحوه، فيحركه ليتحقق وصول الماء إلى ما تحته، وغسل ما يظهر من فرج المرأة عند قعودها لقضاء حاجتها؛ لأنه في حكم الظاهر، ولا يجب غسل داخله، ولا غسل داخل عين، بل ولا يستحب ولو أمن الضرر. ولا يجب الترتيب ولا الموالاة في أعضاء الوضوء؛ لأن الغسل يجزئ عنهما، لأنهما عبادتان دخلت إحداهما في الأخرى، فسقط حكم الصغرى، كالعمرة مع الحج. ولا يجب الدلك إذا تيقن أو غلب على ظنه وصول الماء إلى جميع جسده. المطلب الرابع ـ سنن الغسل: أوضحت كيفية غسل النبي صلّى الله عليه وسلم وهو دليل لصفة الغسل الكامل الشامل للواجب والسنة: وهو ما اجتمع فيه عشرة أشياء كما فهم الحنابلة (¬1): النية، والتسمية، وغسل يديه ثلاثاً، وغسل ما به من أذى، والوضوء، ويحثي على رأسه ثلاثاً يروي بها أصول الشعر، ويفيض الماء على سائر جسده، ويبدأ بشقه الأيمن، ويدلك بدنه بيده، وينتقل من موضع غسله، فيغسل قدميه. ويستحب أن يخلل أصول شعر رأسه ولحيته بماء قبل إفاضته عليه. ¬
وترتيب سنن الغسل التي يتحقق بها كماله على اختلاف المذاهب ما يأتي (¬1): 1ً - البدء بغسل اليدين والفرج، وإزالة النجاسة إن كانت على بدنه، وينوي كما أبان الشافعية عن غسل القبل والدبر، فيقول: نويت رفع الجنابة عن هذين المكانين وما بينهما. 2ً - ثم يتوضأ وضوءه للصلاة. والأولى عند الحنفية تأخير غسل رجليه إن كان المغتسل واقفاً في مكان يجتمع فيه الماء كالطَّست، ثم يتنحى عن ذلك المكان ويغسلهما، وإلا قدمه إذا كان مثلاً واقفاً على لوح أو قبقاب أو حجر. وبالوضوء تتحقق المضمضة والاستنشاق الواجبان عند الحنفية والحنابلة. ويمسح عند المالكية صماخ أذنيه أي ثقبيهما، ولا يبالغ فإنه يضر السمع، وأما ظاهرهما وباطنهما فمن ظاهر الجسد، يجب غسله عندهم. 3ً - ثم يتعهد عند الشافعية معاطف جسده، كأن يأخذ الماء بكفه، فيجعله على المواضع التي فيها انعطاف والتواء، كالأذنين، وطبقات البطن، وداخل السرة؛ لأنه أقرب إلى الثقة بوصول الماء، ويتأكد ذلك في الأذن، فيأخذ كفاً من ماء، ويضع الأذن عليه برفق، ليصل الماء إلى معاطفه وزواياه ويتفقد تحت حلقه، وإبطيه، وحالبيه (وهما العرقان اللذان يكتنفان السرة). 4ً - ثم يفيض الماء على رأسه ويخلله، وعلى سائر جسده، ثلاثاً، بادئاً بشقه الأيمن ثم الأيسر، لما تقدم أنه صلّى الله عليه وسلم: «كان يعجبه التيمن في طهوره»، وتخليل شعره ¬
وتفقد أصوله لحديث «تحت كل شعرة جنابة» ويسن أن يدلُك بدنه بيديه؛ لأنه أنقى، وبه يتيقن وصول الماء إلى مغابنه وجميع بدنه، وبه يخرج من خلاف من أوجبه وهم المالكية. ويكفي الظن في الإسباغ أي في وصول الماء إلى البشرة؛ لأن اعتبار اليقين حرج ومشقة. قال الحنفية: ولو انغمس في الماء الجاري أو ما في حكمه ومكث، فقد أكمل السنة. وقال المالكية: يجزئ غسل الجنابة عن غسل الوضوء بنية رفع الحدث الأكبر ولو لم ينو الأصغر إذا لم يحصل له ناقض من مس ذكر أو غيره، وكذلك قال الشافعية على المذهب: يكفي الغسل، سواء أنوى الوضوء معه أم لا. وقال الحنابلة: يجزئ الغسل عن الوضوء بعد أن يتمضمض ويستنشق وينوي به الغسل والوضوء، وكان تاركاً للأفضل والأولى. وتسن عند غير المالكية الموالاة في الغسل عند غسل جميع أجزاء البدن، لفعله صلّى الله عليه وسلم. وعند المالكية: هي فرض. كما يسن الترتيب بالبداءة بالرأس، ثم بالمنكب الأيمن، ثم الأيسر. ولا يجب الترتيب بالاتفاق؛ لأن البدن شيء واحد، بخلاف أعضاء الوضوء، وبناء عليه لو ترك لمعة في الجسد أو محل جبيرة أعاد غسلها فقط دون ما بعدها. أما نقض الضفائر فلا يجب عند المالكية ما لم يشتد، ولا يجب في الجنابة ويجب في الحيض في رأي الحنابلة، ولا يجب للمرأة إن سرى الماء في أصوله، ويجب للرجل مطلقاً عند الحنفية.
ويجب النقض لدى الشافعية إن لم يصل الماء إلى باطن الشعر، كما أبنت قريباً. وفي الجملة يسن نقض الضفائر لحديث عائشة: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لها وكانت حائضاً: «انقضي شعرك واغتسلي» (¬1). ويسن عند الحنابلة سدر، أي صابون في غسل كافر أسلم، لحديث قيس بن عاصم السابق: «أنه أسلم، فأمره النبي صلّى الله عليه وسلم أن يغتسل بماء وسدر» (¬2)، ويسن له إزالة شعره، فيحلق رأسه، إن كان رجلاً، ويأخذ عانته وإبطيه مطلقاً، لقوله صلّى الله عليه وسلم لرجل أسلم: «ألق عنك شعر الكفر، واختتن» (¬3) ويختتن الكافر إذا أسلم وجوباً بشرط كونه مكلفاً، وألا يخاف على نفسه منه. ويسن عند الحنابلة أيضاً سدر في غسل حيض ونفاس، لحديث عائشة المتقدم: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لها: «وإذا كنت حائضاً، خذي ماءك وسدرك وامتشطي» (¬4) وروت أسماء أنها «سألت النبي صلّى الله عليه وسلم عن غسل الحيض، فقال: تأخذ إحداكن ماءها وسدرها، فتطهر» (¬5). ويسن عند الشافعية والحنابلة: أن تتبع المرأة غير المحرمة بنسك، أو المحدّة (المعتدة) (¬6) أثر دم الحيض والنفاس مِسْكاً أو طيباً، أو ماء، فتجعله في قطنة أو غيرها كخرقة، وتدخله فرجها بعد غسلها، ليقطع رائحة الحيض أو النفاس، لما روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها: «أن امرأة جاءت إلى النبي صلّى الله عليه وسلم تسأله عن ¬
مقدار ماء الغسل والوضوء
الغسل عن الحيض، فقال: خذي فِرْصة (¬1) من مسك، فتطهري بها، فقالت: كيف أتطهر بها؟ فقال صلّى الله عليه وسلم: سبحان الله، واستتر بثوبه، تطهري بها، فاجتذبتها عائشة، فعرفتها أنها تتبع بها أثر الدم» ويكره تركه بلا عذر. ولا يسن تجديد الغسل؛ لأنه لم ينقل فيه شيء، ولما فيه من المشقة، بخلاف الوضوء فيسن تجديده إذا صلى بالأول صلاة ما. مقدار ماء الغسل والوضوء: ويسن عند الشافعية والحنابلة: ألا ينقص ماء الوضوء عن مُدّ تقريباً: وهو رطل وثلث بغدادي، ويساوي (675) غم، وألا ينقص ماء الغسل عن صاع تقريباً، وهو أربعة أمداد، ويساوي (2175) غم، لحديث مسلم عن سُفَينة: «أنه صلّى الله عليه وسلم كان يغسله الصاع، ويوضئه المد» (¬2). ولاحدّ لأقل ماء الوضوء والغسل، فلو نقص عن ذلك وأسبغ كفى، روى أبو داود والنسائي: «أنه صلّى الله عليه وسلم توضأ بإناء فيه قدر ثلثي مدّ» ولأن الله تعالى أمر بالغسل، وقد فعله، ولم يكره، والإسباغ في الوضوء والغسل: تعميم العضو بالماء، بحيث يجري عليه، ولا يكون مسحاً، لقوله تعالى: {فاغسلوا وجوهكم .. } [المائدة:6/ 5]، والمسح ليس غسلاً. فإن مسح العضو بالماء، أو أمرَّ الثلج عليه، لم تحصل الطهارة به؛ لأن ذلك مسح لا غسل، إلا أن يكون الثلج خفيفاً فيذوب، ويجري على العضو، فيجزئ، لحصول الغسل المطلوب. وإن زاد على المد في الوضوء والصاع في الغسل جاز، بدليل قول عائشة: «كنت أغتسل أنا ¬
آداب الغسل
والنبي صلّى الله عليه وسلم من إناء واحد من قدح يقال: الفَرَق» (¬1) والفرق ستة عشر رطلاً عراقياً. وقال الحنفية والمالكية: لا تقدير للماء الذي يتطهر به في الغسل والوضوء لاختلاف أحوال الناس، ويراعي المغتسل حالاً وسطاً من غير إسراف ولا تقتير. آداب الغسل: فرق المالكية والحنفية بين سنن الغسل وآدابه أو فضائله. فقال المالكية (¬2): سننه خمس: وهي غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء، والمضمضة والاستنشاق، ومسح داخل الأذنين، وتخليل أصول شعر الرأس بإدخال الأصابع تحته. أما تخليل الشعر بدون إدخال الأصابع تحته فهو أحد فرائض الغسل عندهم كما أبنت. وقد أوجب الحنفية والحنابلة المضمضة والاستنشاق. وأوجب الشافعية تخليل شعر الرأس. وفضائله خمس: التسمية، والغرف على الرأس ثلاثاً، وتقديم الوضوء، والبداءة بإزالة الأذى قبل الوضوء، والبدء بالأعالي والميامن. وقال الحنفية (¬3): يسن في الاغتسال اثنا عشر شيئاً، الابتداء بالتسمية، والنية، وغسل اليدين إلى الرسغين، وغسل نجاسة لو كانت بانفرادها، وغسل فرجه، ثم يتوضأ كوضوئه للصلاة، فيثلث الغسل ويمسح الرأس، ولكنه يؤخر غسل الرجلين إن كان يقف في محل يجتمع فيه الماء، ثم يفيض الماء على بدنه ¬
المطلب الخامس ـ مكروهات الغسل
ثلاثاً، ويبتدئ في صب الماء برأسه، ويغسل بعدها منكبه الأيمن، ثم الأيسر، ويدلك جسده. وآداب الاغتسال: هي آداب الوضوء، إلا أنه لا يستقبل القبلة؛ لأنه يكون غالباً مع كشف العورة. المطلب الخامس ـ مكروهات الغسل: قال الحنفية (¬1): كره في الغسل ما كره في الوضوء وهي ستة أشياء: الإسراف في الماء، والتقتير فيه، وضرب الوجه به، والتكلم بكلام الناس، والاستعانة بغيره من غير عذر. ويزاد فيه كراهة الدعاء. أما في الوضوء، فيندب الدعاء بالمأثور والتسمية عند كل عضو، كما بينت. وقال المالكية (¬2): مكروهات الغسل خمسة: هي الإكثار من صب الماء، والتنكيس في عمله، وتكرار غسل الجسد إذا أوعب، والاغتسال في الخلاء، والكلام بغير ذكر الله. وقال الشافعية (¬3): يكره الإسراف في الصب والغسل، والوضوء والاغتسال في الماء الراكد، والزيادة على الثلاث، وترك المضمضة والاستنشاق، ويكره للجنب ومنقطعة الحيض والنفاس: الأكل والشرب والنوم والجماع قبل غسل الفرج والوضوء. وقال الحنابلة (¬4): يكره الإسراف في الماء ولو على نهرٍ جارٍ، لحديث ابن ¬
عمر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم مرّ على سعد، وهو يتوضأ، فقال: ما هذا الإسراف؟ فقال: أفي الوضوء إسراف؟ قال: نعم، وإن كنت على نهرٍ جار» (¬1). ويكره لمن توضأ قبل غسله إعادة الوضوء بعد الغسل، لحديث عائشة، قالت: «كان صلّى الله عليه وسلم لايتوضأ بعد الغسل» إلا أن ينتقض وضوءه بمس فرجه أو غيره، كمس امرأة لشهوة، أو بخروج خارج، فيجب عليه إعادته للصلاة ونحوها. ويكره للجنب ومنقطعة دم الحيض والنفاس ترك الوضوء لنوم فقط، ولا يكره تركه لأكل وشرب ومعاودة وطء، وإنما يستحب لهما الوضوء. بدليل ما روى ابن عمر أن عمر قال: «يا رسول الله، أيرقد أحدنا، وهو جنب؟ قال: نعم، إذا توضأ فليرقد» وعن عائشة قالت: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينام وهو جنب، غسل فرجه، وتوضأ وضوءه للصلاة» (¬2). وأما استحباب الوضوء للأكل والشرب، فلما روت عائشة قالت: «رخص النبي صلّى الله عليه وسلم للجنب إذا أراد أن يأكل أو يشرب أن يتوضأ وضوءه للصلاة» (¬3). وأما كون الوضوء يستحب لمعاودة الوطء، فلحديث أبي سعيد، قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إذا أتى أحدكم أهله، ثم أراد أن يعاود، فليتوضأ بينهما وضوءاً» (¬4) وزاد الحاكم: «فإنه أنشط للعود» لكن الغسل لمعاودة الوطء أفضل من الوضوء؛ لأنه أنشط. ولا يكره عند الحنابلة للجنب أو الحائض والنفساء أن يأخذ شيئاً من شعره وأظفاره، ولا أن يختضب قبل الغسل، نصاً. ¬
المطلب السادس: ما يحرم على الجنب ونحوه
وقال الغزالي في الإحياء: لا ينبغي أن يقلم أو يحلق أو يستحد (يحلق العانة) أو يخرج دماً أو يبين من نفسه جزءاً وهو جنب، إذ يرد إليه سائر أجزائه في الآخرة، فيعود جنباً، ويقال: إن كل شعرة تطالب بجنابتها (¬1). المطلب السادس: ما يحرم على الجنب ونحوه: يحرم على الجنب والحائض والنفساء ما يحرم على المحدث حدثاً أصغر: من صلاة وطواف ومس مصحف أو جزئه، كما يحرم على الجنب قراءة القرآن ودخول المسجد، وتعرف الأحكام من التفصيل التالي (¬2): 1ً - الصلاة ومثلها سجود التلاوة: تحرم على الجنب ونحوه إجماعاً، لقوله تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} [المائدة:6/ 5]. 2ً - الطواف حول الكعبة: ولو نفلاً؛ لأنه صلاة كما في الحديث المتقدم: «إنما الطواف بالبيت صلاة، فإذا طفتم فأقلوا الكلام» (¬3). 3ً - مس القرآن، لقوله تعالى: {لايمسه إلا المطهرون} [الواقعة:79/ 56] أي (المتطهرون) ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «لايمس القرآن إلا طاهر» (¬4). ¬
هذه الأمور الثلاثة تحرم على المحدث حدثا أكبر أو أصغر، ويزاد عليها للجنب
وهذه الأمور الثلاثة تحرم على المحدث حدثاً أكبر أو أصغر، ويزاد عليها للجنب ونحوه أيضا ً:4ً - تلاوة القرآن للمسلم بلسانه، ولو لحرف، أو ولو دون آية على المختار عند الحنفية، والشافعية، بقصد القراءة: فلو قصد الدعاء أو الثناء أو افتتاح أمر، أو التعليم، أو الاستعاذة، أو الأذكار، فلا يحرم، كقوله عند الركو ب: {سبحان الذي سخر لنا هذا، وما كنا له مقرنين} [الزخرف:13/ 43] أي مطيقين، وعند النزول: {وقل: ربِّ أنزلني منزلاً مباركاً} [المؤمنون:29/ 23]. وعند المصيبة: {إنا لله وإنا إليه راجعون} [البقرة:156/ 2]. كما لا يحرم إذا جرى القرآن على لسانه بلا قصد، فإن قصد القرآن وحده أو مع الذكر، حرم. ولا تحرم البسملة والحمد لله والفاتحة وآية الكرسي وسورة الإخلاص بقصد الذكر: أي ذكر الله تعالى، لما روى مسلم عن عائشة قالت: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يذكر الله تعالى على كل أحيانه». والمحرَّم بالجنابة: التلاوة لفظاً من الناطق، وإشارةٍ من الأخرس؛ لأنها بمنزلة النطق، ولو كان المتلو بعض آية، كحرف، للإخلال بالتعظيم. ودليل التحريم: حديث ابن عمر عند الترمذي وأبي داود: «لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئاً من القرآن» (¬1)، وحديث علي: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقرئنا القرآن على كل حال، ما لم يكن جنباً» (¬2). ¬
- الاعتكاف في المسجد إجماعا، ودخول المسجد مطلقا
وأجاز الحنابلة للجنب: قراءة بعض آية، ولو كرره، لأنه لا إعجاز فيه، ما لم تكن طويلة. كما أجازوا له مع الحنفية تهجية القرآن؛ لأنه ليس بقراءة له، وله قراءة لا تجزئ في الصلاة لإسرارها، وله أن ينظر في المصحف من غير تلاوة، وأن يقرأ عليه وهو ساكت؛ لأنه في هذه الحالة لا ينسب إلى القراءة. وضبط المالكية ما يجوز للجنب من القراءة اليسيرة: بأنها ما الشأن أن يتعوذ به كآية الكرسي، والإخلاص والمعوذتين، أو لأجل رقيا للنفس أو للغير من ألم أو عين، أو لأجل استدلال على حكم نحو: {وأحل الله البيع وحرم الربا} [البقرة:275/ 2]. والمعتمد عند المالكية: أنه لا يحرم قراءة القرآن القليلة على الحائض والنفساء حال استرسال الدم عليها، سواء أكانت جنباً أم لا، إلا بعد انقطاعه وقبل غسلها، فلا تقرأ بعد انقطاعه مطلقاً حتى تغتسل. ودليلهم الاستحسان لطول مقامها حائضاً. واتفق الفقهاء على أنه لا يحرم النظر في القرآن لجنب وحائض ونفساء؛ لأن الجنابة لا تحل العين الناظرة. 5 ً - الاعتكاف في المسجد إجماعاً، ودخول المسجد مطلقاً ولو عبوراً أو مجتازاً، عند الحنفية والمالكية، لما أخرجه أبو داود وغيره عن عائشة، قالت: «جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وبيوت الصحابة شارعة في المسجد، فقال: وجهوا هذه البيوت عن المسجد، فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب» (¬1) ولحديث أم سلمة قالت: ¬
المطلب السابع ـ الأغسال المسنونة
دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم صرحة المسجد، فنادى بأعلى صوته: إن المسجد لا يحل لحائض ولا لجنب» (¬1). والمراد بعابري سبيل في الآية: المسافرون، فالمسافر مستثنى من النهي عن الصلاة بلا اغتسال، وبينت الآية أن حكمه التيمم، واكتفى الشافعية والحنابلة بالنسبة للجنب ونحوه (¬2) بتحريم المكث في المسجد أو التردد فيه لغير عذر، وأباحوا له عبور المسجد، ولو لغير حاجة، لقوله تعالى: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى، حتى تعلموا ماتقولون، ولا جنباً إلا عابري سبيل} [النساء:43/ 4] وهو الطريق. وروي سعيد بن منصور عن جابر، قال: «كان أحدنا يمر في المسجد جنباً مجتازاً» وروى أيضاً عن زيد بن أسلم قال: «كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم يمشون في المسجد وهم جنب». لكن إباحة عبور المسجد للحائض والنفساء مقيد بما إذا أمنت تلويثه، فإن خافت تلويثه منعت وحرم عليها الدخول فيه، كالمكث فيه. المطلب السابع ـ الأغسال المسنونة: الغسل قد يكون واجباً: كالغسل من الجنابة والحيض والنفاس، واعتناق الإسلام عند المالكية والحنابلة. وقد يكون سنة، وقد يكون مندوباً أو مستحباً عند الحنفية والمالكية. ¬
- الغسل لصلاة الجمعة
والأغسال المسنونة هي مايأتي (¬1): 1ً - الغسل لصلاة الجمعة: لأحاديث متعددة، منها حديث أبي سعيد مرفوعاً: «غسل الجمعة واجب على كل محتلم» (¬2) والإيجاب محمول على أنه مسنون مؤكد الاستحباب، لأحاديث أخرى: وهي حديث سمرة: «من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل» (¬3) وحديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يغتسل من أربع: من الجنابة، ويوم الجمعة، ومن الحجامة، ومن غسل الميت» (¬4). والغسل مسنون لحاضر الجمعة في يومها بدءاً من طلوع الفجر إلى الزوال، ويشترط عند المالكية اتصاله بالرواح إلى المسجد لحديث رواه الجماعة عن ابن عمر: «من جاء منكم الجمعة فليغتسل» وهذا الغسل عند المالكية والصحيح عند الحنفية للصلاة. وعند غيرهم: الغسل ليوم الجمعة. وتظهر ثمرة الخلاف فيمن اغتسل يوم الجمعة ثم أحدث، فتوضأ وصلى الجمعة، لم تحصل له السنة عند الأولين، وتحصل له عند الآخرين. ولا يعتبر الغسل بعد صلاة الجمعة إجماعاً. ومن اغتسل لجنابة أو نحوها كحيض، مع غسل جمعة أو عيد، أجزأه الغسل ¬
- الغسل لصلاة العيدين
عنهما إذا نوى الجنابة وأتبعها الجمعة باتفاق المذاهب، كما لو نوى الفرض وتحية المسجد عند الشافعية، وكما اغتسل لفرضي جنابة وحيض اتفاقاً. وهو آكد الأغسال المسنونة للأحاديث المتقدمة، ولا يستحب للنساء. 2ً - الغسل لصلاة العيدين: لأن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يغتسل لذلك (¬1)، لكن قال الشوكاني: الحديث استدل به على أن غسل العيد مسنون، وليس في الباب ما ينتهض لإثبات حكم شرعي. ولأنها صلاة شرعت لها الجماعة، فأشبهت الجمعة. ويكون في يوم العيد لحاضره إن صلى العيد، ولو صلى وحده إن صحت صلاة المنفرد، بأن صلى بعد صلاة العدد المعتبر، فلا يجزئ قبل طلوع الفجر. 3ً - للإحرام بالحج أو بالعمرة، ولوقوف عرفة بعد الزوال ولدخول مكة ومبيت مزدلفة وطواف زيارة وطواف وداع: أما الإحرام فلما روى زيد بن ثابت أن النبي صلّى الله عليه وسلم «تجرد لإهلاله واغتسل» (¬2) وظاهره ولو مع حيض ونفاس، بدليل أمر النبي صلّى الله عليه وسلم أسماء بنت عميس به حينما ولدت محمد بن أبي بكر (¬3). وأما لدخول مكة ولو مع حيض: فلفعله صلّى الله عليه وسلم (¬4)، وظاهره ولو كان في منطقة الحرم، كالذي بمنى، إذا أراد دخول مكة. ويندب الغسل أيضاً لدخول المدينة تعظيماً لحرمتها، وقدومه على حضرة النبي صلّى الله عليه وسلم. ¬
- لصلاة الكسوف (للشمس) والخسوف (للقمر) والاستسقاء
وأما لوقوف عرفة، فلثبوته في السنة (¬1). وأما الغسل لمبيت مزدلفة ورمي الجمار في منى وطواف الزيارة والوداع، فلأنها أنساك يجتمع لها الناس، فيعرقون، فيؤذي بعضهم بعضاً، فاستحب الغسل لها كالجمعة دفعاً للروائح وللتنظيف وقال المالكية: الغسل للطواف والسعي وللوقوف بعرفة والمزدلفة مستحب، أما للإحرام ولدخول مكة فهو سنة. وقال الحنفية: الغسل للإحرام ولدخول عرفة سنة، أما للوقوف بالمزدلفة وعند دخول مكة فهو مندوب. 4ً - لصلاة الكسوف (للشمس) والخسوف (للقمر) والاستسقاء: لأنها عبادة يجتمع لها الناس، فأشبهت الجمعة والعيدين. وقال الحنفية: إنه مندوب فقط. 5ً - لغسل الميت، المسلم أو الكافر: وهو مستحب عند المالكية والشافعية والحنابلة، لقولهصلّى الله عليه وسلم: «من غسل ميِّتاً فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ» (¬2) وهو محمول على الندب لحديث «إن ميِّتكم يموت طاهراً؛ فحسبكم أن تغسلوا أيديكم» (¬3)، ولحديث: «كنا نغسل الميت، فمنا من يغتسل، ومنا من لا يغتسل» (¬4). ¬
- للمستحاضة
وقال الحنفية: لا يجب، لحديث «لا غسل عليكم من غسل الميت» (¬1) وقال ابن عطاء: «لا تنجسوا موتاكم، فإن المؤمن ليس بنجس حياً ولا ميتاًَ» (¬2) لكن قالوا: يندب الغسل خروجاً من خلاف من ألزم به. لكن قال الشوكاني: القول بالاستحباب هو الحق، لما فيه من الجمع بين الأدلة بوجه مستحسن. وبه يتبين أن طلب الغسل غير لازم لغسل الميت، مندوب إليه في المذاهب الأربعة. 6ً - للمستحاضة: يسن الغسل عند الشافعية والحنابلة للمستحاضة لكل صلاة، وقال المالكية: إنه مستحب، وقال الحنفية: يندب لها إذا انقطع دمها. ودليل ندب الغسل: «أن أم حبيبة استحيضت، فسألت النبي صلّى الله عليه وسلم، فأمرها أن تغتسل، فكانت تغتسل عند كل صلاة» (¬3) وفي غير الصحيح: «أنه أمرها به لكل صلاة». وعن عائشة: أن زينب بنت جحش استحيضت، فقال لها النبي صلّى الله عليه وسلم: «اغتسلي لكل صلاة» (¬4). ويجوز الاقتصار على غسل واحد لما يجوز جمعه بين الصلاتين: الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، لحديث عائشة: أن سهلة بنت سهيل بن عمرو ¬
- للإفاقة من جنون أو إغماء أو سكر
استحيضت فأتت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فسألته عن ذلك، فأمرها بالغسل عند كل صلاة، فلما جَهَدَها ذلك أمرها أن تجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بغسل، والصبح بغسل» (¬1). 7ً - للإفاقة من جنون أو إغماء أو سكر: يندب الغسل لمن أفاق من جنون ونحوه، قال ابن المنذر: «ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلم اغتسل من الإغماء» (¬2). 8ً - عند حجامة، وفي ليلة براءة، وليلة قدر إذا رآها: يندب عند الحنفية الغسل من الحجامة خروجاً من خلاف من ألزمه. وفي ليلة براءة: وهي ليلة النصف من شعبان، لإحيائها وعظم شأنها؛ إذ فيها تقسم الأرزاق والآجال. وفي ليلة القدر إذا رآها، لإحيائها. وفي حال فزع من مخوف، التجاء إلى الله، وكرمه، لكشف الكرب عنه. وفزع من ظلمة وريح شديدة؛ لأن الله تعالى أهلك به من طغى، كقوم عاد. ويندب الغسل للتائب من ذنب، وللقادم من سفر، ولمن أصابته نجاسة وخفي مكانها، فيغسل جميع بدنه وجميع ثوبه احتياطاَ. ملحقان بالغسل: الملحق الأول ـ في أحكام المساجد: المساجد أفضل بقاع الأرض، وأفضل المساجد ثلاثة: المسجد الحرام، ومسجد المدينة، والمسجد الأقصى، وأفضل الثلاثة عند الجمهور مسجد ¬
مكة، وعند مالك مسجد المدينة , كما أن مالكا فضل المدينة على مكة خلافا للجمهور. وقال الحنفية: مسجد استاذ للعلوم أفضل اتفاقا, ومسجد الحي أفضل من الجامع. وقد ذكر الإمام النووي (المتوفى سنة 676 للهجرة) ثلاثة وثلاثين حكما للمساجد وهي ما يأتي (¬1): 1ً -يحرم على الجنب والحائض والنفساء دخول المساجد , وأباح الشافعية المرور من غير مكث , ولا كراهة فيه , سواء أكان لحاجة أو لغيرها , لكن الأولى ألا يعبر إلا لحاجة , ليخرج من خلاف الحنفية والمالكية. كما أبنت فيما يحرم على الجنب ونحوه. ويكره تحريما عند الحنفية اتخاذ المسجد طريقاً بغير عذر، وقال المالكية: يكره كثرة المرور في المسجد إن كان بناء المسجد سابقاً على الطريق، وإلا فلا كراهة. 2ً - لو احتلم في المسجد، وجب عليه الخروج منه، إلا أن يعجز عن الخروج لإغلاق المسجد ونحوه، أو خاف على نفسه أو ماله، فإن عجز أو خاف، جاز أن يقيم للضرورة. ولا يتيمم بتراب المسجد فيحرم ذلك، فإن خالف وتيمم صح. ولو أجنب وهو خارج المسجد، والماء في المسجد، لم يجز أن يدخل ويغتسل في المسجد؛ لأنه يلبث لحظة مع الجنابة. ¬
ولو دخل للاستسقاء، لا يجوز أن يقف إلا قدر حاجة الاستسقاء. 3ً - يجوز للمحدث الجلوس في المسجد بإجماع المسلمين، سواء لغرض شرعي كاعتكاف أو سماع قرآن أو علم آخر، أم لغير غرض، ولا كراهة في ذلك. 4ً - يجوز النوم في المسجد، ولا كراهة فيه عند الشافعية، لفعل ابن عمر في الصحيحين، وكان أصحاب الصُفَّة (¬1) ينامون في المسجد، ونام العرنيون في المسجد، ونام علي وصفوان بن أمية فيه، ونام غيرهم. وقال مالك: لابأس بذلك للغرباء، ولا أرى ذلك للحاضر. وقال الحنفية: يكره النوم في المسجد إلا للغريب والمعتكف. وقال أحمد وإسحاق: إن كان مسافراً أو شبهه، فلا بأس، وإن اتخذه مبيتاً أو مقيلاً، فلا. وقال المالكية (¬2): يمنع دخول الكافر المسجد وإن أذن له مسلم إلا لضرورة عمل، ومنها قلة أجرته عن المسلم في عمل ما، وإتقانه العمل على الظاهر. وأجاز أبو حنيفة لكافر دخول كل مسجد. ويجوز عند الشافعية للكافر دخول المسجد غير المسجد الحرام وحرم مكة، وله أن يبيت فيه، ولو كان جنباً في الأصح، ولكن بإذن المسلمين. 5ً - يجوز الوضوء في المسجد إذا لم يؤذ بمائه، والأولى أن يكون في إناء. قال ابن المنذر: أباح كل من يحفظ عنه العلم الوضوء في المسجد، إلا أن يَبُلَّه، ويتأذى به الناس، فإنه يكره. ¬
وقال مالك وأبو حنيفة: يكره الوضوء، تنزيهاً للمسجد، واستثنى الحنفية: ماأعد للوضوء فلا يكره فيه. 6ً - لا بأس بالأكل والشرب ووضع المائدة في المسجد، وغسل اليد فيه. وقال الحنفية: يكره تنزيهاً أكل ما ليست له رائحة كريهة، وقال المالكية: يجوز للغرباء الأكل في المساجد ما لم يقذر، وكذلك قال الحنابلة: يباح الأكل بشرط ألا يلوثه. 7ً - يكره لمن أكل ثوماً، أو بصلاً، أو كُرَّاثاً، أو غيرها مما له رائحة كريهة، وبقيت رائحته، أن يدخل المسجد من غير ضرورة، لحديث ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من أكل من هذه الشجرة ـ يعني الثوم ـ فلا يقربن مسجدنا» أو «مساجدنا» (¬1)، وحديث أنس: «من أكل من هذه الشجرة، فلا يقربنا، ولا يصلين معنا» (¬2)، وحديث جابر: «من أكل ثوماً، أو بصلاً، فليعتزلنا، أو فليعتزل مساجدنا» (¬3). وقال الحنفية: يكره ذلك تحريماً، وقال المالكية: يحرم ذلك. 8ً - يكره البصاق في المسجد، لما ثبت في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «البصاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها». 9ً - يحرم البول والفصد والحجامة في المسجد في غير إناء. ويكره الفصد ¬
والحجامة فيه في إناء. ولا يحرم. وقال الحنفية: يكره تحريماً البول والتغوط والوطء في المسجد؛ لأنه مسجد إلى عنان السماء، ويكره إدخال نجاسة إلى المسجد، فلا يجوز الاستصباح فيه بدهن نجس، ولا تطيينه بنجس ولا الفصدفيه. وقال الشافعية: يحرم إدخال النجاسة إلى المسجد. أما من على بدنه نجاسة أو به جرح: فإن خاف تلويث المسجد، حرم عليه دخوله، وإن أمن لم يحرم. ولا يجوز البناء ولا التجصص بالنجس، ويكره ذلك تحريماً عند الحنفية. ويحرم الاستصباح فيه بالزيت والدهن المتنجس. ودليل حرمة هذه المسائل حديث أنس عند مسلم: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله، وقراءة القرآن». 10ً - يكره غرس الشجر في المسجد، ويكره حفر البئر؛ لأنه بناء في مال غيره، وللإمام قلع ما غرس فيه، وقال الحنفية: يكره غرس الأشجار في المسجد إلا لنفع، كتقليل نَزّ (ما يتحلب من الأرض من الماء). 11ً - تكره الخصومة في المسجد، ورفع الصوت فيه، ونشد الضالة، والبيع والشراء والإجارة ونحوها من العقود، لحديث أبي هريرة عند مسلم وأحمد وابن ماجه: «من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد، فليقل: لا ردها الله عليك، فإن المساجد لم تبن لهذا» وفي رواية الترمذي: «إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد، فقولوا: لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم من ينشد ضالة، فقولوا: لا ردها الله عليك» (¬1). ¬
كذلك يكره البيع والشراء عند الحنفية والمالكية، ويحرم عند الحنابلة، وإن وقع فهو باطل. ويكره رفع الصوت بالذكر إن شوش على المصلين عند الحنفية والحنابلة إلا للمتفقهة، كما يكره عندهم الكلام غير المباح، فإن كان مما يباح فلا يكره إن لم يشوش على المصلين. وقال المالكية: يكره رفع الصوت في المسجد مطلقاً ولو بالذكر والعلم. لكن لا بأس عند الشافعية أن يعطى السائل في المسجد شيئاً، لحديث: «هل منكم أحد أطعم اليوم مسكيناً؟ فقال أبو بكر: دخلت المسجد، فإذا أنا بسائل يسأل، فوجدت كسرة خبز في يد عبد الرحمن، فأخذتها فدفعتها إليه» (¬1) وكره الشافعي السؤال في المسجد، وكذلك كرهه المالكية والحنابلة، ولكن يجوز الإعطاء، وقال الحنفية: يحرم السؤال في المسجد، ويكره إعطاء السائل فيه شيئاً. 12ً - يكره إدخال البهائم والمجانين، والصبيان الذين لايميزون المسجد؛ لأنه لا يؤمن من تلويثهم إياه، ولا يحرم ذلك؛ لأنه ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم صلى حاملاً أمامة بنت زينب رضي الله عنهما، وطاف على بعيره. ولا ينفي هذا الكراهة؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم فعله لبيان الجواز، فيكون حينئذ أفضل في حقه، فإن البيان واجب. وهذا الحكم هو المقرر أيضاً عند الحنابلة إلا أنهم أجازوا إدخال المجانين في المساجد لحاجة كتعليم الكتابة. ومنع المالكية والحنفية من إدخال الصبيان والمجانين المساجد، وهو مكروه، ويرخص للنساء الصلاة في المساجد إذا أمن الفساد، ويكره للشابة الخروج إليه. 13ً - يكره أن يجعل المسجد مقعداً لحرفة، كالخياطة ونحوها، لحديث أنس السابق في حكم المسألة التاسعة. أما من ينسخ فيه شيئاً من العلم، أو اتفق قعوده فيه، فخاط ثوباً، ولم يجعله مقعداً للخياطة، فلا بأس به. ¬
14ً - يجوز الاستلقاء في المسجد على القفا، ووضع إحدى الرجلين على الأخرى، وتشبيك الأصابع ونحو ذلك، ثبت في صحيحي البخاري ومسلم أن النبي صلّى الله عليه وسلم فعل ذلك كله. 15ً - يستحب عقد حلق العلم في المساجد، وذكر المواعظ والرقائق ونحوها، والأحاديث الصحيحة في ذلك كثيرة مشهورة. ويجوز التحدث بالحديث المباح في المسجد، وبأمور الدنيا وغيرها من المباحات، وإن حصل فيه ضحك ونحوه ما دام مباحاً، لحديث جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يقوم من مصلاه الذي صلى فيه الصبح حتى تطلع الشمس فإذا طلعت قام، وقال: وكانوا يتحدثون، فيأخذون في أمر الجاهلية، فيضحكون ويبتسم (¬1).» 16ً - لا بأس بإنشاد الشعر في المسجد إذا كان مدحاً للنبوة أو الإسلام، أو كان حكمة، أو في مكارم الأخلاق، أو الزهد، أو نحو ذلك من أنواع الخير، بدليل حديث سعيد بن المسيب قال: مر عمر بن الخطاب، وحسان ينشد الشعر، فلحظ إليه، فقال: أنشد فيه، وفيه من هو خير منك، ثم التفت إلى أبي هريرة فقال: أنشدك بالله، أسمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «أجب عني، اللهم أيده بروح القدس»؟ قال: نعم (¬2). أما ما فيه شيء مذموم كهجو مسلم أو صفة الخمر، أو ذكر النساء أو المُرْد، أو مدح ظالم، أو افتخار منهي عنه، أو غير ذلك، فحرام لحديث أنس السابق في المسألة التاسعة، ولحديث آخر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن تناشد الأشعار في ¬
المسجد» (¬1) وهذا التفصيل هو الحكم المقرر لدى المذاهب الأخرى. 17ً - يسن كنس المسجد وتنظيفه وإزالة ما يرى فيه من نخامة أو بصاق، أو نحو ذلك، ثبت في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلّى الله عليه وسلم رأى بصاقاً في المسجد، فحكه بيده. وروى أبو داود عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «عرضت علي أجور أمتي، حتى القَذاةُ يخرجها الرجل من المسجد» والقذاة: الواحدة من التبن والتراب وغير ذلك. 18ً - من البدع المنكرة إيقاد القناديل الكثيرة في ليال معينة كليلة نصف شعبان، مضاهاة للمجوس في الاعتناء بالنار، وإضاعة للمال. 19ً - السنة لمن دخل المسجد ومعه سلاح: أن يمسك على حَدِّه، كنصل السهم وسنان الرمح ونحوه، لحديث جابر رضي الله عنه: أن رجلاً مر بسهام في المسجد، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أمسك بنصالها» (¬2). 20ً - السنة للقادم من سفر: أن يبدأ بالمسجد، فيصلي فيه ركعتين، لحديث كعب بن مالك رضي الله عنه، قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر، بدأ بالمسجد، فصلى ركعتين» (¬3). 21ً - ينبغي للجالس في المسجد لانتظار صلاة، أو اشتغال بعلم، أو لشغل آخر من طاعة أو مباح: أن ينوي الاعتكاف، فإنه يصح، وإن قل زمانه. 22ً - لا بأس بإغلاق المسجد في غير وقت الصلاة، لصيانته أو لحفظ آلاته. فإذا لم يخف من فتحها مفسدة ولا انتهاك حرمتها، وكان في فتحها رفق بالناس، فالسنة فتحها، كما لم يغلق مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم في زمنه ولا بعده. ¬
23ً - يكره لداخل المسجد: أن يجلس فيه، حتى يصلي ركعتين. 24ً- ينبغي للقاضي ألا يتخذ المسجد مجلساً للقضاء، إلا ما يقع فيه صدفة، فيقضى فيه. 25ً- يكره أن يتخذ على القبر مسجد، لحديث صحيح: «قاتل الله اليهود، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (¬1). وأما حفر القبر في المسجد، فحرام شديد التحريم. وتكره الكتابة عند الشافعية والحنفية والحنابلة على جدران المسجد وسقوفه. وقال المالكية والحنابلة: تكره الكتابة في القبلة لئلا تشغل المصلي، ولا تكره فيما عدا ذلك؛ لأن الكتابة تشغل قلب المصلي، وربما اشتغل بقراءته عن صلاته. كما يكره تزويقه وكل ما يشغل المصلي عن صلاته. ً 26ً- حائط المسجد من داخله وخارجه: له حكم في وجوب صيانته وتعظيم حرماته، وكذا سطحه، والبئر التي فيه، وكذا رحبته، وقد نص الشافعي وأصحابه على صحة الاعتكاف في رحبته وسطحه، وصحة صلاة المأموم فيهما مقتدياً بمن في المسجد، وكذلك يعتبر سطح المسجد كالمسجد في بقية المذاهب. 27ً - السنة لمن أراد دخول المسجد: أن يتفقد نعليه، ويمسح ما فيهما من أذى قبل دخوله، لحديث: «إذا جاء أحدكم إلى المسجد، فلينظر، فإن رأى في نعليه قذراً أو أذى، فليمسحه، وليصل فيهما» (¬2). 28ً - يكره الخروج من المسجد بعد الأذان حتى يصلي إلا لعذر، لحديث ¬
أبي الشَّعْثاء قال: «كنا قعوداً مع أبي هريرة رضي الله عنه في المسجد، فأذن المؤذن، فقام رجل من المسجد يمشي، فأتبعه أبو هريرة بصره، حتى خرج من المسجد، فقال أبو هريرة: أما هذا، فقد عصى أبا القاسم صلّى الله عليه وسلم» (¬1). 29ً - يستحب أن يقول عند دخوله المسجد: (أعوذ بالله العظيم ووجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم، باسم الله والحمد لله، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل محمد وسلم، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك). وإذا خرج من المسجد قال مثله، إلا أنه يقول: (وافتح لي أبواب فضلك) (¬2). ويقدم رجله اليمنى في الدخول، واليسرى في الخروج. 30ً- لا يجوز أخذ شيء من أجزاء المسجد، كحجر وحصاة وتراب وغيره، لحديث مرفوع: «إن الحصاة لتناشد الذي يخرجها من المسجد» (¬3). 31ً- يسن بناء المساجد وعمارتها وتعهدها، وإصلاح ما تشعث منها، لحديث: «من بنى لله تعالى مسجداً، بنى الله له مثله في الجنة» (¬4). وقال الحنابلة: يجب بناء المساجد في الأمصار والقرى والمحالّ (جمع مَحلِّة) ¬
ونحوها بحسب الحاجة فهو فرض كفاية، وعمارة المساجد ومراعاة أبنيتها مستحبة، ويسن أن يصان المسجد عن الأوساخ والمخاط وتقليم الأظافر وقص الشعر ونتفه، وعن الروائح الكريهة من بصل وثوم وكراث ونحوها. ويجوز بناء المسجد في موضع كان كنيسة وبِيعة أو مقبرة درست إذا أصلح ترابها، لحديث عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمره أن يجعل مسجد أهل الطائف حيث كانت طواغيتهم» (¬1)، ولحديث أنس: «أن مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان فيه قبور مشركين، فنبشت» (¬2). ويكره زخرفة المسجد باللونين الأحمر والأصفر ونقشه وتزيينه، لئلا تشغل قلب المصلي، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد» (¬3) وقوله أيضاً: «ما أمرت بتشييد المساجد، قال ابن عباس: (لَتُزَخرِفُنَّها) كما زخرفت اليهود والنصارى» (¬4) فهو يدل على أن تشييد المساجد بدعة، وهذا الحكم بالكراهة هو المقرر عند المالكية والحنابلة، لكن أجاز الحنفية نقش المسجد بالمال الحلال، خلا محرابه فإنه يكره، لأنه يلهي المصلي. وروي عن أبي حنيفة الترخيص في ذلك. وروي عن أبي طالب المكي: أنه لا كراهة في تزيين المحراب. ¬
الملحق الثاني ــ أحكام الحمامات العامة
32ً - ورد في فضل المساجد أحاديث كثيرة منها: «أحب البلاد إلى الله تعالى مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها» (¬1). 33ً - مصلى العيد وغيره الذي ليس بمسجد: لايحرم المكث فيه على الجنب والحائض، على المذهب عند الشافعية. الملحق الثاني ــ أحكام الحمامات العامة: ذكر الشافعية والحنابلة أحكام الحمام وآداب دخوله فقالوا (¬2): أـ أجود الحمامات: ماكان شاهقاً، عذب الماء، معتدل الحرارة، معتدل البيوت، قديم البناء. ب ـ بناء الحمام: وبيعه وشراؤه وإجارته مكروه عند الإمام أحمد، لما فيه من كشف العورة والنظر إليها، ودخول النساء إليه، قال أحمد: في الذي يبني حماماً للنساء: ليس بعدل. وحمله بعضهم على غير البلاد الباردة. وكسب الحمام والحلاق عند الحنابلة مكروه. جـ ــ الدخول إلى الحمام: يباح للرجال دخول الحمام، ويجب عليهم غض البصر عما لايحل لهم، وصون عورتهم عن الكشف بحضرة من لايحل له النظر إليها، أو في غير وقت الاغتسال، فإنه يروى: «أن ابن عباس دخل حماماً بالجُحْفة»، ويروى ذلك عن النبي صلّى الله عليه وسلم، كما يروى عن خالد بن الوليد «أنه دخل الحمام». ¬
فإن خشي ألا يسلم من النظر إلى العورات، ونظر الناس إلى عورته كره له ذلك؛ لأنه لايأمن وقوعه في المحظور، فإن كشف العورة ومشاهدتها حرام، بدليل حديث بهز بن حكيم المتقدم في أول مبحث الغسل: «احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ماملكت يمينك ... » (¬1)، وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «لاينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولاتنظر المرأة إلى عورة المرأة» «لاتمشوا عراة» (¬2) «الفخذ عورة» (¬3). ويحرم دخول الحمامات العامة بغير مئزر، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر من ذكور أمتي، فلا يدخل الحمام إلا بمئزر، ومن كانت تؤمن بالله واليوم الآخر، فلا تدخل الحمام» (¬4) «حرام على الرجال دخول الحمام إلا بمئزر» (¬5)، وروي: «أن الرجل إذا دخل الحمام عارياً لعنه ملكاه» (¬6). وأما النساء: فيكره لهن دخول الحمام بلا عذر من حيض أو نفاس أو مرض أو حاجة إلى الغسل، ولا يمكن المرأة أن تغتسل في بيتها، لخبر: «ما من امرأة تخلع ثيابها في غير بيتها إلا هتكت مابينها وبين الله تعالى» (¬7) وقال صلّى الله عليه وسلم: «ستفتح عليكم أرض العجم، وستجدون فيها بيوتاً، يقال لها الحمامات، فلا يدخلنها الرجال إلا بالإزار، وامنعوها النساء، إلا مريضة أو نفساء» (¬8)، ولأن أمرهن ¬
مبني على المبالغة في الستر، ولما في خروجهن واجتماعهن من الفتنة والشر (¬1). ولايحرم على المرأة الاغتسال في حمام دارها حيث لم ير من عورتها مايحرم النظر إليه. د - يحرم الاغتسال عرياناً بين الناس، فمن اغتسل عرياناً بين الناس: لم يجز له ذلك؛ لأن كشف العورة للناس محرم، لما تقدم، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل حيي ستِّير، يحب الحياء والستر، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر» (¬2). أما إن كان خالياً فيجوز؛ لأن موسى عليه السلام اغتسل عرياناً (¬3)، كما اغتسل أيوب عليه السلام عرياناً (¬4). وإن ستره إنسان بثوب، فلابأس، فقد كان النبي صلّى الله عليه وسلم يستتر بثوب ويغتسل. ويستحب التستر وإن كان خالياً للحديث السابق: «فالله أحق أن يستحيا منه من الناس». ولايسبح في ماء إلا مستتراً؛ لأن الماء لايستر، فتبدو عورة من دخله عرياناً. هـ ـ يجزئ الغسل والوضوء بماء الحمام، لأنه طاهر، ويجعل بمنزلة الماء الجاري إذا كان يفيض من الحوض ويخرج، أي أن عليه مصبَّاً، فإن الذي يأتي أخيراً يدفع مافي الحوض، ويثبت في مكانه. وـ لابأس للمستتر بذكر الله في الحمام، فإن ذكر الله حسن في كل مكان، مالم يرد المنع منه، روي «أن أبا هريرة دخل الحمام، فقال: لا إله إلا الله» وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلم «أنه كان يذكر الله على كل أحيانه». ¬
آداب الحمام
أما قراءة القرآن في الحمام: فلا تكره عند مالك والنخعي، كذكر الله فيه، وكره أحمد ذلك، ولو خفض صوته؛ لأنه محل التكشف، ويفعل فيه مالايحسن في غيره، فيصان القرآن عنه. كما يكره السلام فيه. وأباحه بعض الحنابلة؛ لأن الأشياء على الإباحة. ز ـ آداب الحمام: يجب ألايزيد المستحم في الماء على قدر الحاجة والعادة، ولايطيل المقام إلا بقدر الحاجة. وآداب الحمام: أن يقصد التطهير والتنظيف، لا الترفه والتنعم، وأن يسلم الأجرة قبل دخوله، وأن يسمي للدخول، ثم يتعوذ، كما في دخول الخلاء، ويقدم رجله اليسرى عند الدخول، ورجله اليمنى عند الخروج. ويتذكر بحرارة الحمام حرارة نار جهنم، ولايدخله إذا رأى فيه عرياناً، ولايعجل بدخول البيت الحار حتى يعرق في البيت الأول؛ لأنه أجود طباً، ولايكثر الكلام، ويتحين بدخوله وقت الفراغ أو الخلوة إن قدر على ذلك، ويقلل الالتفات؛ لأنه محل الشياطين، ويستغفر الله تعالى ويصلي ركعتين بعد خروجه منه، فقد كانوا يقولون: يوم الحمام يوم إثم. وكره الشافعية دخول الحمام قبيل الغروب، وبين العشاءين؛ لأنه وقت انتشار الشياطين، وقال الحنابلة: لايكره ذلك لعدم النهي الخاص عنه. ولابأس بدلك غيره إلا عورة أو مظنة شهوة. ويكره الحمام للصائم؛ لأن الغسل يضعف الجسم، وهو ترفه لايلائم الصوم، وقد يسبق الماء إلى جوفه، فيفطر. ويغسل قدميه عند خروجه بماء بارد، ولابأس بشرب ماء بارد عند خروجه منه، لأنه أنفع طباً، كما لابأس بقوله لغيره: عافاك الله، ولا مانع من المصافحة.
الفصل السادس: التيمم
الفَصْلُ السَّادس: التَّيَمُّم تعريفه، ومشروعيته وصفته، أسبابه، فرائضه، كيفيته، شروطه، سننه، ومكروهاته، نواقضه، حكم فاقد الطهورين. المطلب الأول ــ تعريف التيمم ومشروعيته وصفته: التيمم لغة: القصد ومنه قوله تعالى: {ولاتيمموا الخبيث منه تنفقون} [البقرة:2/ 267]، وشرعاً عرفه الفقهاء بعبارات متقاربة، فقال الحنفية (¬1): مسح الوجه واليدين عن صعيد مطهر. والقصد شرط له؛ لأنه النية، فهو قصد صعيد مطهر واستعماله بصفة مخصوصة لإقامة القربة. وقال المالكية (¬2): طهارة ترابية تشتمل على مسح الوجه واليدين بنية. وقال الشافعية (¬3): إيصال التراب إلى الوجه واليدين بدلاً عن الوضوء أو الغسل أو عضو منهما بشرائط مخصوصة. ¬
مشروعيته
وقال الحنابلة (¬1): مسح الوجه واليدين بتراب طهور على وجه مخصوص. مشروعيته: التيمم من خصائص الأمة الإسلامية، شرع في غزوة بني المصطلق (غزوة المريسيع) في السنة السادسة من الهجرة حينما أضاعت عائشة عِقْدها، فبعث صلّى الله عليه وسلم في طلبه، وحانت الصلاة، وليس معهم ماء، فنزلت آية التيمم، كما نزلت آيات براءة عائشة من الإفك في سورة النور، فقال أُسَيدُ بن حضير: «يرحمك الله يا عائشة، مانزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله للمسلمين فيه فرجاً». وهو رخصة، وقال الحنابلة: إنه عزيمة، وأدلة مشروعيته: الكتاب والسنة والإجماع: أما القرآن: فقوله تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفر، أو جاء أحد منكم من الغائط، أو لامستم النساء، فلم تجدوا ماء، فتيمموا صعيداً طيباً (¬2)، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} [المائدة 5/ 6]، وهذا يدل على أن التيمم فريضة بدل الغسل بالماء. وأما السنة: فأحاديث كثيرة، منها خبر مسلم: «جعلت لنا الأرض كلها مسجداً وتربتها طهوراً» (¬3)، ومنها «التراب طهور المسلم، ولو إلى عشر حجج، مالم يجد الماء أو يحدث» (¬4). ¬
صفته أو الطهارة التي هو بدل عنها
وأجمعت الأمة على جواز التيمم في الجملة. صفته أو الطهارة التي هو بدل عنها: قال عامة الفقهاء (¬1): التيمم ينوب عن الوضوء وعن الغسل من الجنابة والحيض والنفاس، إلا أنه لايجوز عند غير الحنفية لزوج الحائض أن يطأها حتى تغتسل بالماء، فالمحدث والجنب والحائض والنفساء ومن ولدت ولداً جافاً يتيمم للصلاة وغيرها من الطاعات؛ لأن الضمير في قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} [المائدة 5/ 6]، يعود على المحدث حدثاً أصغر وعلى المحدث حدثاً أكبر عند القائلين بأن الملامسة هي الجماع. أما من كانت الملامسة عنده هي اللمس باليد في قوله تعالى: {أو لامستم النساء} [المائدة:5/ 6]، فالضمير يعود على المحدث حدثاً أصغر فقط، وتكون مشروعية التيمم للجنب ثابتة بالسنة: مثل حديث عمران بن حصين، قال: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في سفر، فصلى بالناس، فإذا هو برجل معتزل، فقال: مامنعك أن تصلي؟ قال: أصابني جنابة ولا ماء؟ قال: عليك بالصعيد فإنه يكفيك» (¬2) وهو يدل على مشروعية التيمم للصلاة عند عدم الماء من غير فرق بين الجنب وغيره. والصعيد: ماصعد على وجه الأرض من التراب. ومثل حديث جابر قال: خرجنا في سفر، فأصاب رجلاً منا حَجَر، فشجَّه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابَه، هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: مانجد لك رخصة، وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على رسول ¬
الطاعات التي يتيمم لها
الله صلّى الله عليه وسلم أُُخبر بذلك، فقال: قتلوه، قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العِيّ (¬1) السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويِعْصِر، أو يَعْصِب على جُرْحه، ثم يمسح عليه، ويغسل سائر جسده (¬2) وهو يدل على جواز العدول إلى التيمم لخشية الضرر. ومثل حديث عمرو بن العاص: أنه لما بُعث في غزوة ذات السلاسل (¬3)، قال: احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت أن أهْلِك، فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، فلما قدمنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذكروا ذلك له، فقال: ياعمرو، صليت بأصحابك وأنت جنُب؟ فقلت: ذكرت قول الله تعالى: ولا تقتلوا أنفسكم، إن الله كان بكم رحيماً، فتيممت، ثم صليت، فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولم يقل شيئاً» (¬4) وهو يدل على جواز التيمم لشدة البرد، ولا إعادة عليه، وهو رأي مالك وأبي حنيفة. الطاعات التي يتيمم لها: يجوز التيمم لكل مايتطهر له من صلاة مفروضة أو نافلة، أو مس مصحف، أو قراءة قرآن، أو سجود تلاوة أو شكر، أو لُبث في مسجد، للأحاديث السابقة، ولأنه يستباح بالتيمم مايستباح بطهارة الماء. مايتيمم له من الأحداث: ويجوز التيمم للحدث الأصغر، والجنابة، والحيض والنفاس على حد سواء، لما روي أن قوماً جاءوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقالوا: إنا قوم نسكن هذه الرمال، ولانجد الماء شهراً أو شهرين، وفينا الجنب ¬
نوع البدل
والحائض والنفساء، فقال عليه السلام: «عليكم بالأرض» (¬1). وقال الله تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطّهروا، وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء، فلم تجدوا ماء فتيمموا} [المائدة:5/ 6]. نوع البدل: قال الحنفية (¬2): إن التيمم بدل مطلق، وليس ببدل ضروري، فالحدث يرتفع بالتيمم إلى وقت وجود الماء في حق الصلاة المؤداة، بدليل الحديث المتقدم: «التيمم وضوء المسلم، ولو إلى عشر حِجج، مالم يجد الماء، أو يحدث» فقد سمى التيمم وضوءاً، والوضوء مزيل للحدث. وقال صلّى الله عليه وسلم: «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً» (¬3)، والطهور اسم للمطهر، فدل على أن الحدث يزول بالتيمم، إلا أن زواله مؤقت إلى غاية وجود الماء، فإذا وجد الماء يعود الحدث. ويترتب عليه: أنه يجوز التيمم قبل دخول الوقت، ويجوز له أن يصلي بالتيمم ما شاء من الفرائض والنوافل ما لم يجد الماء أو يحدث، وإذا تيمم للنفل جاز له أن يؤدي به النفل والفرض. وقال الجمهور غير الحنفية (¬4): التيمم بدل ضروري، فيباح له الصلاة مع قيام الحدث حقيقة للضرورة، كطهارة المستحاضة، لحديث أبي ذر عند الترمذي: ¬
آراء المذاهب فيما يترتب على الاختلاف في نوع بدلية التيمم
« فإذا وجدت الماء فأمسَّه جلدك، فإنه خير لك» ولو رفع الحدث لم يحتج إلى الماء إذا وجده، ولو رأى الماء يعود الحدث، مما يدل على أن الحدث لم يرتفع، لكن أبيح له أداء الصلاة مع قيام الحدث للضرورة، كمافي المستحاضة. ويترتب عليه عكس الأحكام السابقة، إلا أن الحنابلة خلافاً للمالكية والشافعية أجازوا بالتيمم الواحد صلاة ما عليه من فرائض فوائت إن كانت عليه. آراء المذاهب فيما يترتب على الاختلاف في نوع بدلية التيمم: 1 ً - وقت التيمم: قال الحنفية (¬1) القائلون بأن التيمم طهارة مطلقة: يجوز التيمم قبل الوقت، ولأكثر من فرض، ولغير الفرض من النوافل؛ لأن التيمم بدل مطلق عند عدم الماء، ويرتفع به الحدث إلى وقت وجود الماء، وليس ببدل ضروري مبيح مع قيام الحدث حقيقة، الذي هو قول الجمهور، فلا يجوز عندهم قبل الوقت، ولا يصلى به أكثر من فرض. ودليل الحنفية: أن التوقيت في العبادات لا يكون إلا بدليل سمعي، ولا دليل فيه، فيقاس على الوضوء، والوضوء يصح قبل الوقت. وقال الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) (¬2): لا يصح التيمم إلا بعد دخول وقت ما يتيمم له من فرض أو نفل، فلا يتيمم لفرض قبل دخول وقت فعله، ولا لنفل معين أو مؤقت كسنن الفرائض الرواتب قبل وقتها. أما الفريضة: فلقوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة} [المائدة:5/ 6]، والقيام إليها بعد دخول الوقت، ولما رواه البخاري من حديث «فأيما رجل من أمتي ¬
أدركته الصلاة فليصل» وما رواه أحمد: «أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت» أي تيممت وصليت، وهذا دليل على أن التيمم يكون عند إدراك الصلاة، أي بعد دخول وقتها. وأما النفل: فلحديث أبي أمامة مرفوعاً قال: «جعلت الأرض كلها لي ولأمتي مسجداً وطهوراً، فأينما أدركت رجلاً من أمتي الصلاة، فعنده مسجده، وعنده طهوره» (¬1). وأما الوضوء: فإنما جاز قبل الوقت، فلكونه رافعاً للحدث، بخلاف التيمم، فإنه طهارة ضرورة، فلم يجز قبل الوقت، كطهارة المستحاضة. ويصح التيمم لركعتي الطواف كل وقت لإباحته، ويصح التيمم لفائتة تذكرها وأراد فعلها لصحة فعلها في كل وقت، ويصح التيمم لكسوف عند وجوده إن لم يكن وقت نهي عن الصلاة فيه (¬2)، ويصح التيمم لاستسقاء إذا اجتمعوا لصلاته، ولصلاة جنازة إذا غسل الميت، أو يمم لعذر، ولصلاة عيد إذا دخل وقته، ولمنذورة كل وقت. ويصح التيمم لنفل عند جواز فعله كتحية المسجد؛ لأن ذلك وقته. واحترز بعبارة النفل المعين أو المؤقت عن النوافل المطلقة، فإنه يتيمم لها متى شاء، إلا في وقت الكراهة المنهي عنه؛ لأنه ليس وقتاً له. ¬
هل يؤخر التيمم لآخر الوقت؟
هل يؤخر التيمم لآخر الوقت؟ اتفق أئمة المذاهب الأربعة (¬1) على أن الأفضل تأخير التيمم لآخر الوقت إن رجا وجود الماء حينئذ. فإن يئس من وجوده استحب تقديمه أول الوقت عند الجمهور (غير الحنابلة) والمنصوص عن أحمد: أن تأخير التيمم أولى بكل حال. والأصح عند الحنفية: أن ندب التأخير هو لآخر الوقت المستحب بحيث لايقع في كراهة؛ إذ لا فائدة في التأخير سوى الأداء بأكمل الطهارتين. ويجب التأخير بالوعد بالماء، ولو خاف القضاء، كما يجب التأخير عند أبي حنيفة بالوعد بالثوب للعاري، أو بالدلو لنزح الماء، ما لم يخف القضاء. وقيد الشافعية أفضلية الانتظار بحالة تيقن وجود الماء آخر الوقت، فإن شك في وجوده أو ظن بأن ترجح عنده وجود الماء آخر الوقت، فتعجيل التيمم أفضل في الأظهر؛ لأن فضيلة التقديم محققة بخلاف فضيلة الوضوء. وفصل المالكية في الأمر فقالوا: اليائس من وجود الماء يندب له التعجيل أول الوقت. والمتردد في ذلك وهو الشاك أو الظان ظناً قريباً من الشك: يندب له التيمم وسط الوقت. والراجي: وهو الغالب على ظنه وجود الماء: يتيمم ندباً آخر الوقت. 2ً - مايفعل بالتيمم الواحد: قال الحنفية (¬2): يصلي بتيممه ماشاء من الفرائض والنوافل؛ لأنه طهور حال ¬
عدم الماء، فيعمل عمله ما بقي شرطه، فله أن يصلي بتيمم واحد فرضين فأكثر، وما شاء من نافلة. وقال الحنابلة (¬1): التيمم مقيد بالوقت، لقول علي رضي الله عنه: «التيمم لكل صلاة» وقول ابن عمر رضي الله عنهما: «تيمم لكل صلاة» ولأن التيمم طهارة ضرورة، فتقيدت بالوقت، كطهارة المستحاضة، والطواف المفروض كالصلاة الفريضة. وبناء عليه: إذا تيمم صلى الصلاة التي حضر وقتها، وصلى به فوائت إن كانت عليه، فيصلي الحاضرة، ويجمع بين الصلاتين، ويقضي فوائت، وله التطوع بما شاء من النوافل إلى أن يدخل وقت صلاة أخرى. وقال المالكية والشافعية (¬2): لا يصلى بتيمم واحد فرضان، فلا يجوز للمتيمم أن يصلي بتيمم واحد أكثر من فريضة. ويجمع بين نوافل، وبين فريضة ونافلة إن قدم الفريضة عند المالكية، ويتنفل ما شاء قبل المكتوبة وبعدها عند الشافعية، لأنها غير محصورة. ودليلهم: ما روى البيهقي بإسناد صحيح عن ابن عمر، قال: «يتيمم لكل صلاة، وإن لم يحدث»، ولأنه طهارة ضرورة، فلا بد من تكرار التيمم لكل فرض، وإن كانت الفريضتان مجموعتين في وقت واحد، كالظهر مع العصر، ولو كان التيمم من مريض يشق عليه إعادته. ويجوز أن يصلي بتيمم واحد فرض صلاة، وفرض جنازة عند المالكية، ¬
- هل التيمم للنفل يجيز صلاة الفرض؟
والشافعية في الأصح؛ لأن الجنازة فرض كفاية، فهي كالنفل في جواز الترك في الجملة. وجاز بالتيمم للصلاة: مس المصحف، وقراءة القرآن إن كان جنباً. والنذر عند الشافعية كفرض في الأظهر، فيجدد له التيمم، ولا يجمعه مع فرض آخر أداء أو قضاء بتيمم واحد. وفرض الطواف وخطبة الجمعة عند الشافعية كفرض الصلاة، فلا يجمع بتيمم واحد بين طوافين مفروضين، ولا بين طواف مفروض وصلاة مفروضة، ولا بين صلاة جمعة وخطبتها؛ لأن الخطبة وإن كانت فرض كفاية، ألحقت بفرض العين، إذا قيل: إنها قائمة مقام ركعتين. وأجاز المالكية الجمع بتيمم بين صلاة مفروضة وطواف غير واجب وركعتيه، فهم إذن كالشافعية. 3ً - هل التيمم للنفل يجيز صلاة الفرض؟ قال الحنفية الواصفون التيمم بأنه بدل مطلق (¬1): إذا تيمم للنفل، يجوز له أن يؤدي به النفل والفرض. ويجوز عند أبي حنيفة وأبي يوسف: أن يؤم المتيمم المتوضئين إذا لم يكن معهم ماء؛ لأن التيمم في حال عدم الماء طهارة مطلقة، فيجوز اقتداؤهم به، وإن كان معهم ماء لا تجوز صلاتهم؛ لأن التيمم بدل عن الماء عند عدمه. وقال المالكية (¬2): لا يصلى فرض بتيمم نواه لغيره، فإن نوى فرض الصلاة ¬
صلى به ما عليه من فرض واحد، وما شاء من النوافل على أن يقدم صلاة الفرض على النفل، ولا يصلى به الفريضة الفائتة معه، وإن نوى مطلق الصلاة صلى به النفل دون الفرض، لأن الفرض يحتاج لنية تخصه، ومن نوى نفلاً لم يصل به فرضاً. ويلزم حال نية استباحة الصلاة أو ما منعه الحدث نية الحدث الأكبر من جنابة أو غيرها إن كان عليه. فإن لم يلاحظه بأن نسيه أو لم يعتقد أنه عليه، لم يجزه وأعاد أبداً. ويندب نية الحدث الأصغر إذا نوى استباحة الصلاة أو نوى استباحة ما منعه الحدث. أما لو نوى فرض التيمم، فلا تندب نية الأصغر، ولا الأكبر؛ لأن نية الفرض تجزئ عن نية كل من الأصغر والأكبر. وإذا تيمم لقراءة قرآن أو للدخول على سلطان ونحو ذلك لا يجوز أن يصلي به. وقال الشافعية والحنابلة (¬1): إن نوى فرضاً ونفلاً صلى به الفرض والنفل، وإن نوى فرضاً استباح مثله، وما دونه من النوافل، لأن النفل أخف، ونية الفرض تتضمنه، وبما أن الفرض أعلى استباح ما دونه تبعاً. وإن نوى نفلاً أو أطلق النية للصلاة بأن نوى استباحة الصلاة، ولم ينو فرضاً ولا نفلاً، لم يصل إلا نفلاً، ولم يصل به إلا فرضاً؛ لأن الفرض أصل والنفل تابع، فلا يجعل المتبوع تابعاً، وقياساً على ما لو أحرم بالصلاة، فإن صلاته تنعقد نفلاً. ¬
المطلب الثاني ـ أسباب التيمم
المطلب الثاني ـ أسباب التيمم: أسباب التيمم أو الأعذار له هي ما يلي (¬1): 1ً - فقد الماء الكافي للوضوء أو الغسل: حساً بأن لم يجد ماء أصلاً أو وجد ماء لا يكفيه، أو شرعاً: بأن خاف الطريق إلى الماء أو كان عند الحنفية بعيداً عنه بمقدار ميل (8481م أو 0004 ذراع أو خطوة) أو أكثر، أو بقدر ميلين كما قال المالكية، أو احتاج إلى ثمنه أو وجده بأكثر من ثمن المثل، للآية السابقة: {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً} [المائدة:5/ 6]. وفصل الشافعية في جواز التيمم لفقد الماء وطلبه، فقالوا: أـ إن تيقن فقد الماء حوله، تيمم بلا طلب. ب ـ وإن توهم الماء أو ظنه، أو شك فيه، فتش في منزله وعند رفقته وتردد قدر حد الغوث (¬2): وهو مقدار غَلْوة سهم (004 ذراع أو 8،481م)، فإن لم يجد ماء تيمم. وقد اقتصر الحنفية على هذا فأوجبوا طلب الماء إلى أربع مئة خطوة إن ظن قربه من الماء مع الأمن. جـ ـ وإن تيقن الماء طلبه في حد القُرب (¬3): (وهو ستة آلاف خطوة) وقال ¬
الشراء
المالكية: إذا تيقن أو ظن الماء يطلبه لأقل من ميلين. وقال الحنابلة: يطلبه فيما قرب منه عادة. ولا يطلب الماء عند الشافعية سواء في حد القرب أو الغوث إلا إذا أمن نفساً ومالاً، وانقطاعاً عن الرفقة. والأظهر عند الشافعية، والحنابلة خلافاً لغيرهم: أنه لو وجد ماء لا يكفيه، وجب استعماله، ثم يتيمم، للحديث المتفق عليه عن أبي هريرة: «إذا أمرتكم بأمر، فأتوا منه مااستطعتم». الشراء: ويجب شراؤه بثمن المثل، إن لم يحتج إليه لدين مستغرق (محيط بماله) أو مؤنة سفره، أو نفقة حيوان محترم، سواء أكان آدمياً أم غيره. الهبة: ولو وهب له ماء أوعير دلواً، وجب القبول عند العلماء وفي الأصح عند الشافعية، أما لو وهب ثمنه فلا يجب قبوله بالإجماع، لعظم المنة، ولو من الوالد لولده. نسيان الماء: ولو نسي الماء في رحله، فتيمم وصلى، ثم تذكر الماء في الوقت بعد أن فرغ من الصلاة، قضى في الأظهر عند الشافعية وأبي يوسف والمالكية، لأنه واجد للماء، ولكنه قصر في الوقوف عليه، فيقضي كما لو نسي ستر العورة، بأن كان في رحله ثوب فنسيه (¬1). ولم يقض عند أبي حنيفة ومحمد؛ لأنه لا قدرة بدون العلم، فهو غير واجد للماء؛ لأن المراد بوجود الماءالقدرة على استعماله، ولا قدرة إلا بالعلم (¬2). فإن تذكر الماء وهو في الصلاة يقطع ويعيد إجماعاً، كما أنه يعيد اتفاقاً إذا ¬
- فقد القدرة على استعمال الماء
ظن فناء الماء. ولا يكره الوطء لعادم الماء، ولو لم يخف العنت (المشقة)؛ إذ الأصل في الأشياء الإباحة إلا لدليل. 2ً - فقد القدرة على استعمال الماء: قال المالكية والحنابلة وغيرهم: يتيمم العاجز الذي لا قدرة له على الماء كالمكره والمحبوس، والمربوط بقرب الماء، والخائف على نفسه من سبع أو لص، سواء في الحضر أو السفر، ولو سفر معصية؛ لأن التيمم مشروع مطلقاً، سواء في الحضر أو السفر، في الطاعة أو المعصية، ولأنه عادم للماء، ولعموم قوله صلّى الله عليه وسلم: «إن الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك خير» (¬1). لكن عند الشافعية يقضي المقيم المتيمم لفقد الماء، لا المسافر، إلا العاصي بسفره في الأصح، فإنه يقضي؛ لأنه ليس من أهل الرخصة (¬2). ولا يعيد عند بقية المذاهب في الأرجح عند الحنابلة؛ لأنه أتى بما أمر به، فخرج من عهدته، ولأنه صلى بالتيمم المشروع على الوجه المشروع، فأشبه المريض والمسافر (¬3)، واستثنى الحنفية المكره على ترك الوضوء فإنه يتيمم ويعيد صلاته. 3ً - المرض أو بطء البرء: يتيمم إذا خاف باستعمال الماء على نفس أو منفعة عضو حدوث مرض من نزلة أو حمى أو نحو ذلك، أوخاف من استعماله زيادة المرض أو طوله، أو تأخر ¬
- الحاجة إلى الماء في الحال أو في المستقبل
برئه، ويعرف ذلك بالعادة، أو بإخبار طبيب عارف، ولو غير مسلم عند المالكية والشافعية، مسلم عند الحنفية والحنابلة. وأضاف الشافعية في الأظهر والحنابلة حدوث شين فاحش في عضو ظاهر، لأنه يشوه الخلقة ويدوم ضرره. والمراد بالظاهر ما يبدو عند المهنة غالباً كالوجه واليدين. وقال الحنابلة: من كان مريضاً لا يقدر على الحركة، ولا يجد من يناوله الماء للوضوء فهو كعادم للماء، له التيمم إن خاف فوت الوقت. 4ً - الحاجة إلى الماء في الحال أو في المستقبل: للمرء التيمم إذا اعتقد أو ظن ولو في المستقبل أنه يحتاج للماء احتياجاً مؤدياً إلى الهلاك أو شدة الأذى، بسبب عطش حيوان محترم شرعاً، من آدمي وغيره، ولو كلب صيد أو حراسة، بخلاف الحربي والمرتد والكلب غير المأذون فيه (ومنه عند الحنابلة: الكلب الأسود)، وذلك صوناً للروح عن التلف. ومن أصناف الحاجة: الاحتياج للماء لعجن أو طبخ له ضرورة، أو لإزالة نجاسة غير معفو عنها، بشرط أن تكون عند الشافعية على البدن، فإن كانت على الثوب توضأ بالماء. وصلى عرياناً إن لم يجد ساتراً، ولا إعادة عليه. وقال الشافعية والحنابلة (¬1): إن كانت على بدنه نجاسة وعجز عن غسلها لعدم الماء أو خوف الضرر باستعماله، تيمم لها وصلى، وعليه القضاء عند الشافعية، ولا قضاء عليه عند الحنابلة. ولا إعادة للصلاة بالاتفاق على مسافر تيمم خوف العطش. 5ً - الخوف من تلف المال لو طلب الماء: قال المالكية: يتيمم القادر على استعمال الماء من حاضر أو مسافر إذا خاف ¬
- شدة البرد أي شدة برودة الماء
تلف مال ذي بال، سواء أكان له أم لغيره، لو طلب الماء الذي تحقق وجوده أو ظنه. أما إن شكه أو توهمه، فيتيمم ولو قل المال. والمراد بالمال ذي البال: ما زاد على ما يلزمه بذله في شراء الماء. وقال غير المالكية: خوف عدو آدمي أو غيره أو حريق أو لص يجيز التيمم وعدم طلب الماء، سواء خاف على نفسه أو ماله أو أمانته، أو خافت امرأة فاسقاً عند الماء، أو خاف المديون المفلس الحبس، أو خاف فوات مطلوبه كتحصيل شارد، فحال كل واحد من هؤلاء كعادم الماء؛ لأن في ذلك ضرراً، وهو منفي شرعاً. 6ً - شدة البرد أي شدة برودة الماء: يجوز التيمم لشدة البرد إذا خاف ضرراً من استعمال الماء، ولم يجد ما يسخن به الماء. لكن قيد الحنفية إباحة التيمم للبَرْد بما إذا خاف الموت أو التلف لبعض الأعضاء أو المرض، وبالجنب فقط ولو في الحضر، إذا لم تكن له أجرة حمام ولا ما يدفئه، لأنه هو الذي يتصور فيه ذلك. أما المحدث حدثاً أصغر فلا يجوز له التيمم للبرد في الصحيح. وقيد المالكية جواز التيمم للبرد بحالة الخوف من الموت. أما الشافعية والحنابلة: فأباحوا التيمم للبرد إذا تعذر تسخين الماء في الوقت، أو لم تنفع تدفئة أعضائه، وخاف على منفعة عضو أو حدوث شين فاحش، في عضو ظاهر عند الشافعية، أو في بدنه بسبب استعمال الماء عند الحنابلة. ويقضي الصلاة عند الشافعية من تيمم لمرض، أو لبرد في الأظهر، ولا قضاء عليه عند المالكية والحنفية، وعند الحنابلة: روايتان: إحداهما ـ لا يلزمه القضاء، والثانية يلزمه الإعادة.
- فقدان آلة الماء من دلو وحبل
7ً - فقدان آلة الماء من دلو وحبل: يتيمم من له قدرة على استعمال الماء، ولكن لم يجد من يناوله إياه، أولم يجد آلة من حبل أو دلو، إذا خاف خروج الوقت، لأنه بمنزلة عادم الماء. وأضاف الحنابلة: أنه يلزم طلب الآلة بالاستعارة ليحصل بها الماء، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ويلزمه قبول عارية؛ لأن المنة في ذلك يسيرة. وإن قدر على استخراج ماء بئر بثوب يبله، ثم يعصره، لزمه ذلك لقدرته على تحصيل الماء، كما لو وجد حبلاً ودلواً، إذا لم تنقص قيمة الثوب أو أكثر من ثمن الماء الذي يستخرجه في مكانه، فإن نقصت أكثر من ثمنه لم يلزمه كشرائه. ويلزمه قبول الماء قرضاً، وقبول ثمنه قرضاً، إذا كان له ما يوفيه منه؛ لأن المنة في ذلك يسيرة، ولا يلزمه اقتراض ثمن الماء للمنة، ويلزمه قبول الماء إذا بذل له هبة لسهولة المنة فيه، لعدم تموله عادة، ولا يلزمه قبول ثمن الماء هبة للمنة، ولا يلزمه شراء الماء بدين في ذمته، ولو قدر على أدائه في بلده؛ لأن عليه ضرراً في بقاء الدين في ذمته، وربما تلف ماله قبل أدائه. 8ً - الخوف من خروج وقت الصلاة: لم يجز الشافعية (¬1) التيمم خوفاً من خروج الوقت؛ لأنه يكون متيمماً مع وجود الماء، واستثنوا حالة المسافر فإنه لا يلزم بطلب الماء ويتيمم إذا خاف خروج الوقت وخاف على نفسه أو ماله أو انقطاعه عن الرفقة. وكذلك الحنابلة لم يجيزوا التيمم لخوف فوت الوقت سواء لجنازة أو عيد أو فريضة، إلا لمسافر علم وجود الماء في مكان قريب، لكن إذا قصده خاف خروج ¬
الوقت، فيتيمم حينئذ، ويصلي ولا إعادة عليه، لأنه غير قادر على استعماله في الوقت، فأشبه عادم الماء (¬1). ولم يجز الحنفية التيمم خوف خروج الوقت إلا فيما يأتي (¬2): أولاً ـ يتيمم لفقد الماء خوف فوت صلاة جنازة ولو جنباً، أو فوت صلاة عيد بسبب الخوف من فراغ إمام أو زوال شمس لو اشتغل بالوضوء، سواء أكان إماماً أم غيره في الأصح، لفواتهما بلا بدل، ولما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إذا فاجأتك صلاة جنازة، فخشيت فوتها، فصل عليها بالتيمم. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أتي بجنازة، وهو على غير وضوء، فتيمم، ثم صلى عليها. وإذا تيمم لصلاة جنازة أو لسجدة تلاوة يجوز له عند فقد الماء أداء سائر الصلوات (¬3). ثانياً ـ له التيمم أيضاً لفقد الماء خوف فوت صلاة كسوف وسنن المفروضات، ولو سنة فجر، إذا أخرها بحيث لو توضأ، فات وقتها. ولا يصح التيمم لصلاة الجمعة وسائر الصلوات المكتوبة والوتر إذا خاف فوت الوقت؛ لأن للجمعة بدلاً وهو الظهر، ولأن بقية الصلوات تقضى. وقال المالكية على المعتمد (¬4): يجوز التيمم لعادم الماء خوف خروج الوقت ¬
أسباب التيمم ترجع إلى أمرين
محافظة على أداء الصلاة في وقتها، فإن ظن أنه يدرك منها ركعة في وقتها إن توضأ أو اغتسل، فلا يتيمم. والأظهر خلاف المشهور: أنه يجوز التيمم لعادم الماء وقت الأداء لحاضر (مقيم) صحيح لأداء جمعة، وصلاة جنازة، متعينة أم لا، خاف فواتها، ويصلي ولا يعيد. كما يجوز التيمم لعادم الماء لأداء السنة والمندوب ومس المصحف، والطواف غير الواجب. والخلاصة أن أسباب التيمم ترجع إلى أمرين: الأول: فقد الماء، ويشمل حالة الحاجة إلى الماء ولو في المستقبل، وحالة الخوف من تلف المال، وخوف خروج الوقت بالطلب أو الاستعمال. والثاني ـ العجز عن استعمال الماء. ويشمل بقية الحالات. والأمر الثاني مقيس على الأمر الأول: وهو فاقد الماء المنصوص عليه في آية التيمم. واتفق الفقهاء على أنه يجوز التيمم لاثنين: للمريض وللمسافر إذا عدم الماء. هل تعاد الصلاة المؤداة بالتيمم؟ اتفق الفقهاء على أن من تيمم لفقد الماء، وصلى، ثم وجد الماء بعد خروج الوقت (وقت الصلاة)، لا إعادة عليه. أما إن وجد الماء في الوقت، أو تيمم لأسباب أخرى ففيه اختلاف (¬1): ¬
قال الحنفية والمالكية والحنابلة: لا إعادة على من تيمم ثم وجد الماء في الوقت، ولا قضاء عليه بالتيمم للأسباب الأخرى، إلا أن المالكية قالوا: كل من أمر بالتيمم يعيد الصلاة في الوقت إذا كان مقصراً أي عنده نوع من التقصير في البحث عن الماء، أو طلبه. واستثنى الحنفية: المحبوس الذي صلى بالتيمم فإنه يعيد الصلاة إن كان مقيماً في الحضر، ولا يعيدها في السفر. والأيسر الأخذ بهذا الرأي. ودليلهم: ما روى أبو داود عن أبي سعيد: «أن رجلين خرجا في سفر، فحضرت الصلاة، وليس معهما ماء، فتيمما صعيداً طيباً، فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما الوضوء والصلاة، ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فذكر له ذلك، فقال للذي لم يعد: أصبت السنة، وأجزأتك صلاتك، وقال للذي أعاد: لك الأجر مرتين». وتيمم ابن عمر وهو يرى بيوت المدينة، وصلى العصر، ثم دخل المدينة، والشمس مرتفعة، فلم يعد. ولأن المتيمم فعل ما أمر به، وأدى فرضه كما أمر، فلم يلزمه الإعادة، ولأن عدم الماء عذر معتاد، فإذا تيمم معه يجب أن يسقط فرض الصلاة، كالمرض، وماسقط لايعود إلى الذمة. وذهب الحنابلة على المشهور في المذهب إلى أن المتيمم واجد الماء في الصلاة، ينتقض تيممه، وتبطل طهارته، ويعيد الطهارة ويستأنف الصلاة من جديد، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «الصعيد الطيب: وضوء المسلم، إن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجدت الماء، فأمِسَّه جلدك» (¬1) دل بمفهومه: على أنه لا يكون طهوراً عند وجود الماء، ¬
وبمنطوقه على وجوب إمساسه جلده عند وجوده، ولأنه قدر على استعمال الماء، فبطل تيممه كالخارج من الصلاة، ولأن التيمم طهارة ضرورة، فبطلت بزوال الضرورة، كطهارة المستحاضة إذا انقطع دمها. وإن عدم الماء تيمم وصلى ولم يعد الصلاة؛ لأنها صلاة تيمم صحيح، وإن خاف العطش أبقى ماءه ولا إعادة عليه. وقال الشافعية: إن تيمم لعدم الماء، ثم رأى الماء: أـ فإن كان قبل الدخول في الصلاة، بطل تيممه، لأنه لم يشرع في المقصود، وللحديث السابق عن أبي ذر: «فإذا وجدت الماء، فأمسه جلدك». ب ـ وإن رأى الماء في أثناء الصلاة: فإن كان في الحضر بطل تيممه وصلاته؛ لأنه تلزمه الإعادة لوجود الماء، وقد وجد الماء، فوجب أن يشتغل بالإعادة. والأصح أن خروجه من الصلاة وقطعها ليتوضأ أفضل. وإن كان في السفر لم يبطل تيممه على المذهب؛ لأنه وجد الأصل بعد الشروع في المقصود، فلا يلزمه الانتقال إليه. وإن رأى الماء في الصلاة في السفر، ثم نوى الإقامة، بطل تيممه وصلاته؛ لأنه اجتمع حكم السفر والحضر في الصلاة، فوجب أن يغلَّب حكم الحضر، ويصير كأنه تيمم وصلى، وهو حاضر، ثم رأى الماء. جـ ـ وإن رأى الماء بعد الفراغ من الصلاة: إن كان في الحضر، أعاد الصلاة؛ لأن عدم الماء في الحضر عذر نادر غير متصل، فلم يسقط معه فرض الإعادة، كما لو صلى بنجاسة نسيها. وإن كان في السفر لا تلزمه الإعادة، سواء أكان السفر طويلاً أم قصيراً في أشهر القولين عن الشافعي.
وإن كان سفر معصية فالأصح أنه تجب عليه الإعادة كالمقيم؛ لأن سقوط الفرض بالتيمم رخصة تتعلق بالسفر، والسفر معصية، فلا تتعلق به رخصة. وإن تيمم للمرض وصلى، ثم برئ، لم تلزمه الإعادة أي في الوقت؛ لأن المرض من الأعذار العامة، فهو كعدم الماء في السفر. وإن تيمم لشدة البرد، وصلى، ثم زال البرد: فإن كان في الحضر، لزمه الإعادة؛ لأن ذلك من الأعذار النادرة. وإن كان في السفر ففيه قولان أرجحهما أنه تجب الإعادة، لأن البرد الذي يخاف منه الهلاك، ولا يجد ما يدفع ضرره عذر نادر غير متصل، فهو كعدم الماء في الحضر. أما قضاء الصلاة المؤداة بالتيمم عند الشافعية: فقالوا فيه: يقضي المقيم المتيمم لفقد الماء، لا المسافر، إلا العاصي بسفره كالآبق والناشزة، فإنه يقضي في الأصح، لأنه ليس من أهل الرخصة. ويقضي في الأظهر من تيمم في السفر للبرد، أو لمرض يمنع الماء مطلقاً (أي في جميع أعضاء الطهارة)، أو يمنع الماء في عضو من أعضاء الطهارة ولا ساتر عليه، أو بسبب وجود ساتر كجبيرة في محل التيمم (الوجه واليدين)، أو حالة وجود ساتر وضع على حدث في غير أعضاء التيمم. والخلاصة: أن ما كان من الصلاة بعذر دائم كصلاة المستحاضة والمريض قاعداً، والمسافر: لا يقضي. وما كان منها بعذر لا يدوم وليس له بدل كفاقد الطهورين (الماء والتراب)، والمصلوب إذا صلى بالإيماء: يقضي، وما كان منها بعذر لا يدوم وله بدل كتيمم المقيم وتيمم المسافر لشدة البرد، ففي القضاء قولان أرجحهما أنه يقضي.
المطلب الثالث ـ أركان التيمم أو فرائضه
ولا يخفى ما في رأي الشافعية من تشدد، يقتضي الجنوح إلى الأخذ برأي الحنفية وموافقيهم. المطلب الثالث ـ أركان التيمم أو فرائضه: للتيمم أركان أو فرائض، علماً بأن المراد بالركن أو الفرض ما يتوقف عليه، أساساً وجود الشيء أو هو جانبه الأقوى، وهو اصطلاح الجمهور (غير الحنفية)، أما الحنفية فيحصرون الركن فيما يتوقف الشيء على وجوده، وكان جزءاً من حقيقته. وبناء عليه قالوا: للتيمم ركنان فقط: هما الضربتان، والاستيعاب بالمسح وجهه ويديه إلى المرفقين. أما الجمهور فقالوا: أركان التيمم أربعة أو خمسة على الاختلاف الآتي (¬1): 1ً - النية عند مسح الوجه: هي فرض باتفاق المذاهب الأربعة، منهم القدوري وصاحب الهداية من الحنفية، وجعلها جماعة من الحنفية وبعض الحنابلة شرطاً، وهو المعتمد في مذهبي الحنابلة والحنفية. والنية عند المالكية: أن ينوي استباحة الصلاة أو استباحة ما منعه الحدث، أو فرض التيمم عند مسح الوجه، ولو نوى رفع الحدث فقط كان تيممه باطلاً؛ لأن التيمم لا يرفع الحدث على المشهور عندهم. ¬
ولو نوى فرض التيمم أجزأه، ولا يلزم بتعيين الحدث الأكبر إن كان عليه، أو الأصغر. أما لو نوى استباحة الصلاة أو ما منعه الحدث فيلزم بتعيين الحدث الأكبر إن كان عليه، ويندب نية الأصغر، كما تقدم سابقاً. ويندب فقط تعيين الصلاة المتيمم لها من فرض أو نفل، أو هما معاً. فإن لم يعين الصلاة لا يصلي الفرض بنية النفل، ولا بنية مطلق الصلاة لأن الفرض يحتاج لنية تخصه. وقال الشافعية: لا بد أن ينوي استباحة الصلاة ونحوها، فلا يكفي في الأصح نية فرض التيمم أو فرض الطهارة، أو الطهارة عن الحدث أو الجنابة أو رفع الحدث، لأن التيمم لا يرفع الحدث عندهم، ولأن التيمم ليس مقصوداً في نفسه، وإنما يؤتى به عن ضرورة، فلا يجعل مقصوداً. والأصح عندهم أنه لا يشترط التعيين في النية، فإذا أطلق، صلى أي فرض شاء، وإن عين فرضاً، جاز أن يصلي غيره فرضاً أو نفلاً في الوقت أو غيره، لكن لا يصلي الفرض بنية النفل، أو بنية استباحة مطلق الصلاة، أي كما قال المالكية. ويجب عندهم قرن النية بالنقل الحاصل للتراب بالضرب إلى الوجه، لأنه أول الأركان، ويجب على الصحيح استدامة النية إلى مسح شيء من الوجه. وينوي عند الحنابلة استباحة ما لا يباح إلا بالتيمم كالصلاة ونحوها، من طواف ومس مصحف، أي كما قال الشافعية، ولا يصح بنية رفع الحدث؛ لأن التيمم لا يرفع الحدث عندهم كالمالكية والشافعية، لحديث أبي ذر: «فإذا وجدت الماء فأمسَّه جلدك، فإنه خير لك» (¬1). ¬
ويجب عندهم تعيين النية لما تيمم له كصلاة وطواف ومس مصحف، من حدث أصغر أو أكبر، أو نجاسة على بدنه؛ لأن التيمم لا يرفع الحدث، وإنما يبيح الصلاة، فلم يكن بد من تعيين النية تقوية لضعفه. وصفة التعيين: أن ينوي استباحة صلاة الظهر مثلاً من الجنابة إن كان جنباً، أو من الحدث إن كان محدثاً، أو منهما إن كان جنباً محدثاً، وما أشبه ذلك. وإن تيمم لجنابة لم يجزه عن الحدث الأصغر؛ لأنهما طهارتان، فلم تتأد إحداهما بنية الأخرى. وقال الحنفية: يشترط لصحة نية التيمم الذي تصح به الصلاة أن ينوي أحد أمور ثلاثة: إما نية الطهارة من الحدث، أو استباحة الصلاة، أو نية عبادة مقصودة لا تصح بدون طهارة كالصلاة أو سجدة التلاوة أو صلاة الجنازة. فإن نوى التيمم فقط من غير أن يلاحظ استباحة الصلاة، أو رفع الحدث القائم به، لم تصح الصلاة به. كما لا تصح الصلاة إذا نوى ما ليس بعبادة أصلاً كدخول المسجدومس المصحف (¬1)، أو نوى عبادة غير مقصودة لذاتها كالأذان والإقامة (¬2)، أو نوى عبادة مقصودة تصح بدون طهارة كالتيمم من المحدث حدثاً أصغر لقراءة القرآن، أو للسلام أو رده. فإن تيمم الجنب لقراءة القرآن، صح له أن يصلي به سائر الصلوات. ولا يشترط عندهم تعيين الحدث أو الجنابة، وإنما يصح التيمم بإطلاق النية، ويصح أيضاً بنية رفع الحدث؛ لأن التيمم رافع له كالوضوء. ¬
- مسح الوجه واليدين مع الاستيعاب
ويشترط لصحة النية عندهم: الإسلام، والتمييز، والعلم بما ينويه ليعرف حقيقة المنوي. ومذهب الحنفية هنا أولى الآراء لسماحته ويسره وسعته. والدليل على اشتراط النية الحديث المتقدم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» واستدل الحنفية: بأن التراب ملوث، فلا يكون مطهراً إلا بالنية، أي أن التراب ليس بطهارة حقيقية، وإنما جعل طهارة عند الحاجة، والحاجة إنما تعرف بالنية، بخلاف الوضوء؛ لأنه طهارة حقيقية، فلا يشترط له الحاجة ليصير طهارة، فلا يشترط له النية. 2ً - مسح الوجه واليدين مع الاستيعاب (¬1): لقوله تعالى: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} [المائدة:5/ 6]. والمطلوب في اليدين عند الحنفية والشافعية: مسحهما إلى المرفقين كالوضوء، على وجه الاستيعاب، للآية المذكورة، لقيام التيمم مقام الوضوء، ولأن اليد أطلقت في التيمم، وقيدت في الوضوء بقوله تعالى: {إلى المرافق} [المائدة:5/ 6]، فيحمل التيمم على الوضوء، ويقاس عليه، ولحديث عمار: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال في التيمم: «ضربة للوجه واليدين» (¬2). ¬
واكتفى المالكية والحنابلة بمسح اليدين إلى الكوعين، أما من الكوعين إلى المرفقين فسنة، مستدلين بقوله تعالى: {وأيديكم} [المائدة:6/ 5]، وإذا علق حكم بمطلق اليدين، لم يدخل فيه الذراع، كقطع السارق، ولحديث عمار بن ياسر: أن النبي صلّى الله عليه وسلم أمره بالتيمم للوجه والكفين (¬1)، ولقول عمار: أجنبت فلم أصب الماء، فتمعكت (تمرغت أو تقلبت) في الصعيد، وصليت، فذكرت ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: إنما كان يكفيك هذا، وضرب النبي صلّى الله عليه وسلم بكفَّيه الأرض، ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه (¬2). والمفروض عند الحنفية والشافعية: ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين. وقال المالكية والحنابلة: الفريضة: الضربة الأولى: أي وضع الكفين على الصعيد، وأما الضربة الثانية فهي سنة، كما سيأتي. وسبب الخلاف: أن الآية مجملة في ذلك، والأحاديث متعارضة، وقياس التيمم على الوضوء في جميع أحواله غير متفق عليه. والذي في حديث عمار الثابت من ذلك: إنما هو ضربة واحدة للوجه والكفين معاً، وهناك أحاديث فيها ضربتان، فرجح الجمهور هذه الأحاديث قياساً للتيمم على الوضوء، ومن هذه الأحاديث حديث ابن عمر: «التيمم ضربتان: ضربة للوجه وضربة لليدين» (¬3) وروى أبو داود: «أنه صلّى الله عليه وسلم تيمم بضربتين مسح بإحداهما وجهه، وبأخرى ذراعيه» (¬4). ¬
- الترتيب فرض عند الشافعية، وعند الحنابلة في غير حدث أكبر
واتفق الفقهاء على وجوب نزع الخاتم في التيمم، بخلاف الوضوء؛ لأن التراب كثيف لا يسري إلى ما تحت الخاتم بخلاف الماء. ومحل الوجوب عند الشافعية في الضربة الثانية، ويستحب في الأولى، وإيجاب النزع إنما عند المسح لا عند نقل التراب. وأوجب المالكية والحنفية أيضاً تخليل الأصابع بباطن الكف أو الأصابع ليتم المسح. واكتفى الشافعية والحنابلة بالقول بأنه يندب تخليل الأصابع بعد مسح اليدين احتياطاً. ولا يجب إيصال التراب منبت الشعر الخفيف، فلا يوصل التراب إلى ما تحت شعر اللحية مثلاً ولو خفيفاً، لما فيه من العسر، بخلاف الوضوء، وليس فيه مضمضة واستنشاق، لئلا يدخل التراب فمه وأنفه، بل يكرهان لما فيهما من التقذير. 3ً - الترتيب فرض عند الشافعية، وعند الحنابلة في غير حدث أكبر: أي بين عضوي التيمم؛ لأن التيمم مبني على الطهارة بالماء، والترتيب فرض في الوضوء، فكذا في التيمم القائم مقامه، أما التيمم لحدث أكبر ونجاسة ببدن، فلا يعتبر فيه ترتيب. وقال الحنفية والمالكية: الترتيب في التيمم بين العضوين (الوجه واليدين) مستحب لا واجب؛ لأن الفرض الأصلي المسح، وإيصال التراب وسيلة إليه. 4ً - الموالاة فرض عند الحنابلة والمالكية، وقيدها الحنابلة بغير الحدث الأكبر كالترتيب:
- الصعيد الطاهر فرض عند المالكية، شرط عند غيرهم
بأن يوالي بين أجزاء التيمم، بألا يؤخر مسح عضو عما قبله زمناً بقدرها في الوضوء، أي بحيث لو قدر مغسولاً لجف بزمن معتدل. وأضاف المالكية: أن يوالي بين التيمم وبين ما فعل له من صلاة ونحوها. وقال الشافعية والحنفية: موالاة التيمم كالوضوء سنة، كما تسن الموالاة أيضاً بين التيمم والصلاة، خروجاً من خلاف من أوجبها، وهم المالكية كما قدمنا. 5ً - الصعيد الطاهر فرض عند المالكية، شرط عند غيرهم: والصعيد عند المالكية (¬1): كل ما صعد على الأرض من أجزائها، كتراب وهو الأفضل من غيره عند وجوده، ورمل وحجارة وحصى، وجص (¬2) لم يحرق بالنار، فإن أحرق أو طبخ لم يجز التيمم به، ولو نقل ذلك من محله: بأن يجعل بينه وبين الأرض حائل. ويجوز التيمم على المعادن ما دامت في مواضعها ولم تنقل من محلها، إذا لم تكن من أحد النقدين (الذهب أو الفضة) أو من الجواهر كاللؤلؤ. فلا يتيمم على المعادن من شبّ ومِلْح وحديد ورصاص وقصدير وكحل إن نقلت من محلاتها، وصارت أموالاً في أيدي الناس، ولا يتيمم على الذهب والفضة ولو في مكانهما الأصلي، ولا على الجواهر كالياقوت والزبرجد واللؤلؤ ولو بمحلها، ولا يجوز التيمم في قول على الخشب والحشيش، ولو لم يوجد غيرهما، إذ ليس كلاهما بصعيد ولا ما يشبه الصعيد، والمعتمد جواز التيمم عليها عند عدم غيرهما. ويجوز التيمم على الجليد: وهو الثلج المجمد من الماء على وجه الأرض أو البحر؛ لأنه أشبه بجموده الحجر، فالتحق بأجزاء الأرض. ¬
ومذهب الحنفية كالمالكية، فقال أبو حنيفة ومحمد (¬1): يجوز التيمم بكل ما كان من جنس الأرض، كالتراب (وهو مجمع عليه) والغبار، والرمل، والحجر، والجِصّ (الكلس) والنُّورة (حجر الكلس)، والكُحْل والزَّرْنيخ، وإن لم يكن عليها غبار؛ لأن الصعيد اسم لوجه الأرض، وهذا لا يوجب الاختصاص بالتراب، بل يعم جميع أجزاء الأرض، ولحديث أبي هريرة: أن ناساً من أهل البادية أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقالوا: إنا نكون بالرمال، الأشهر الثلاثة والأربعة، ويكون فينا الجنب والنفساء والحائض، ولسنا نجد الماء، فقال عليه السلام: «عليكم بالأرض، ثم ضرب بيده على الأرض لوجهه ضربة واحدة، ثم ضرب أخرى، فمسح بها على يديه إلى المرفقين» (¬2) وقال الإمام البخاري: «لا بأس بالصلاة على السبخة والتيمم منها» وهي الأرض ذات الملح والنزز. ويجوز عند المالكية والحنفية التيمم بحجر أو صخرة لا غبار عليهما، وبتراب ندي لا يعلق باليد منه غبار، كما يجوز التيمم بالغبار، بأن ضرب يده على ثوب أو لبد أو سرج، فارتفع غباراً. وقال الشافعية والحنابلة (¬3): لا يجوز التيمم إلا بتراب طاهر ذي غبار يعلق باليد غير محترق، فإن كان جرشاً أو ندياً لا يرتفع له غبار لم يكف. وأضاف ¬
الشافعية: يجوز برمل فيه غبار، ولا يجوز عند الحنابلة التيمم برمل، ونحت حجارة ونحوه، وعن أحمد: رواية أخرى: أنه يجوز التيمم بالرمل. ولا يجوز عند الفريقين التيمم بمعدن كنفط وكبريت ونورة، ولا بسُحاقة خزف، إذ لا يسمى ذلك تراباً، ولا بتراب مختلط بدقيق ونحوه كزعفران وجص، لمنعه وصول التراب إلى العضو، ولا بجص مطبوخ لأنه ليس بتراب، ولا بسبخة ونحوها مما ليس له غبار، ولا بطين رطب لأنه ليس بتراب، ولا بتراب نجس، كالوضوء باتفاق العلماء لقوله تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً} [المائدة:6/ 5]، ولا بما استعمل في العضو عند الشافعية، ولا بمغصوب ونحوه كتراب مسجد عند الحنابلة. وإن ضرب على لبد أو ثوب أو جوالق أو بساط، فعلق بيديه غبار، فتيمم به، جاز، وأعجب الإمام أحمد حمل التراب لأجل التيمم احتياطاً للعبادة. ودليلهم قوله عز وجل: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} [المائدة:6/ 5] وهذا يقتضي أنه يمسح بجزء من الصعيد، فما لا غبار له كالصخر لا يمسح بشيء منه، ولأنه طهارة، فوجب إيصال الطهور فيها إلى محل الطهارة، كمسح الرأس، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «جعل لي التراب طهوراً» (¬1). وذكر الحنابلة: أنه لو وجد ثلجاً وتعذر تذويبه، لزمه مسح أعضائه، الواجب غسلها به، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر، فائتوا منه ما استطعتم»، ويعيد الصلاة، إن لم يجر على الأعضاء بالمس؛ لأنه صلى مع وجود الماء في الجملة، بلا طهارة كاملة، كما لو صلى بلا تيمم، مع وجود طين يابس عنده، لعدم ما يدقه به، ليصير له غبار. ¬
المطلب الرابع ـ كيفية التيمم
وقال ابن عباس: «الصعيد: تراب الحرث، والطيب الطاهر». وإن كان الثلج يسيل على الأعضاء، لم يعد الصلاة، لوجود الغسل المأمور به، وإن كان خفيفاً. هذا وقد اعتبر الشافعية: نقل التراب إلى العضو الممسوح أول أركان التيمم الخمسة عندهم (¬1)، فلو نقل التراب من عضو حدث عليه تراب جديد إلى عضو التيمم، كفى في الأصح، لوجود مسمى النقل،،ولو كان على العضو تراب، فردده عليه من جانب إلى جانب، لم يكف ولم يجز، ويظهر لي أن رأي الشافعية والحنابلة أقوى، لقوله تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً} [المائدة:6/ 5]. المطلب الرابع ـ كيفية التيمم: للفقهاء رأيان في كيفية التيمم: 1 ً - رأي الحنفية والشافعية (¬2): التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلي المرفقين، بدليل الحديث المتقدم، وهوما روى أبو أمامة وابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين» (¬3) ولأن اليد عضو في التيمم، فوجب استيعابه كالوجه. وأما حديث عمار رضي الله عنه الدال على الاكتفاء بالكفين، فيتأول على أنه مسح كفيه إلى المرفقين، بدليل حديث أبي أمامة وابن عمر. وهذا الرأي هو الأولى بالاتباع؛ لأن التيمم بدل عن الوضوء، فيكون محله أعضاء الوضوء المنصوص على وجوب التيمم فيها. ¬
- رأي المالكية والحنابلة
2ً - رأي المالكية والحنابلة (¬1): التيمم الواجب: ضربة واحدة يمسح بها وجهه بباطن أصابعه، ثم كفيه براحتيه، لحديث عمار: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال في التيمم: «ضربة واحدة للوجه واليدين» (¬2)، لأن اليد إذا أطلقت لا يدخل فيها الذراع بدليل السرقة. والأكمل عندهم خروجاً من خلاف من أوجبه: ضربتان يمسح بالثانية يديه إلى المرفقين، وكيفية المسح: أن يمر اليد اليسرى على اليمنى من فوق الكف إلى المرفق، ثم باطن المرفق إلى الكوع (الرسغ)، ثم يمر اليمنى على اليسرى كذلك، وكيفما فعل أجزأه إذا أوعب. واتفق الفقهاء على أنه إن تيمم بأكثر من ضربتين، جاز أيضاً؛ لأن المقصود إيصال التراب إلى محل الفرض، فكيفما حل جاز، كالوضوء. المطلب الخامس ـ شروط التيمم: اشترط الحنفية لصحة التيمم ثمانية شروط، والشافعية شرطوا عشرة، والمالكية والحنابلة شرطوا شرطين. وهذه الشروط قد تختلط بالفرائض المتقدمة، وقد تكون الأسباب السابقة نفسها. أما المالكية ففسروا الشروط بالأسباب وقالوا (¬3): يشترط لجواز التيمم في الجملة شرطان: عدم الماء، أو تعذر استعماله. ¬
الشرط الأول ـ الصعيد الطاهر
وأما تفصيلاً فهي ما يلي: عدم الماء في السفر، والمرض، وفي الحضر: أن يجد من الماء ما لا يكفيه، وعدم الآلة الموصلة إلى الماء كالدلو أو الرشاء (الحبل)، وأن يخاف العطش على نفسه أو غيره من آدمي أو بهيمة، وأن يخاف إن خرج إلى الماء لصوصاً أو سباعاً، وأن يجد الماء غالياً يجحف به شراؤه، وأن يخاف فوات الوقت إن ذهب إلى الماء أو انتظره، أو استعمله، وأن يخاف الموت من البرد، أو حدوث مرض أو زيادته أو تأخر برء، أو يكون مريضاً لا يجد من يناوله الماء، أو يكون قد استوعبت الجراح أو القروح أكثر جسد الجنب، أو أعضاء الوضوء من المحدث. ويلاحظ أن هذه الحالات هي أسباب للتيمم، والذي يمكن جعله شرطاً عند المالكية: اثنان: فعله بعد دخول الوقت، وطلب الماء. أما عند الحنابلة فشرطا التيمم هما: دخول وقت ما يتيمم له، والعجز عن استعمال الماء. يتبين مما ذكر أن شروط التيمم هي ما يأتي: الشرط الأول ـ الصعيد الطاهر: فلا يصح التيمم بغير صعيد الأرض (التراب عند الشافعية والحنابلة، وكل ما كان من جنس الأرض عند الحنفية والمالكية)، ولا بالصعيد المتنجس، لقوله تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً} [المائدة:6/ 5]. وهذا شرط لصحة التيمم عند الجمهور، فرض عند المالكية، كما تقدم في فروض التيمم. وأضاف الحنابلة: أن يكون التراب مباحاً، فلو تيمم بمغصوب أو بتراب مقبرة تكرر نبشها أو بتراب مسجد لم يجز. الشرط الثاني ـ كون التيمم بعد دخول الوقت: أي وقت ما يتيمم له. وهذا شرط عند الجمهور، وليس بشرط عند الحنفية، كما اتضح في بحث صفة التيمم.
الشرط الثالث ـ طلب الماء
الشرط الثالث ـ طلب الماء: يشترط لجواز التيمم باتفاق المذاهب الأربعة طلب الماء ما لم يتيقن عدم وجوده؛ لأنه لا يسمى فاقد الماء (أو غير واجده أوعادمه) إلا إذا طلب الماء، فلم يجده. لكن الفقهاء اختلفوا في تقدير المسافة التي يلزم طلب الماء فيها، وقد أشرت إليها سابقاً في بحث أسباب التيمم، وأذكرها هنا تفصيلاً: 1 - مذهب الحنفية (¬1): على المقيم في البلد طلب الماء قبل التيمم مطلقاً، سواء ظن قربه أو لم يظن، أما المسافر أو خارج المصر الذي يريد التيمم، فليس عليه طلب الماء إذا لم يغلب على ظنه أن بقربه ماء؛ لأن الغالب عدم الماء في الفلوات. وإن غلب على ظنه وجود الماء، لم يجز له التيمم حتى يطلبه بنفسه أو برسوله، بمقدار غَلْوة سهم من كل جانب، ولا يبلغ ميلاً (¬2)، وظاهره أنه لا يلزمه المشي، بل يكفيه النظر في الجهات الأربع، لئلا ينقطع عن رفقته، ودفعاً للحرج عن نفسه، لقوله تعالى إثر آية التيمم: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج، ولكن يريد ليطهركم} [المائدة:6/ 5]، ولا حرج فيما دون الميل، قال الكاساني: أقرب الأقاويل اعتبار الميل؛ لأن الجواز لدفع الحرج، ثم قال: والأصح أنه يطلب قدر ما لا يضر بنفسه ورفقته بالانتظار. فإن قصر في طلب الماء، وصلى ولم يطلبه، وجبت عليه الإعادة عند أبي حنيفة ومحمد. ¬
وإن كان مع رفيقه ماء طلب منه قبل أن يتيمم، لعدم المنع غالباً، فإن منعه منه تيمم لتحقق العجز. لكن لو تيمم قبل الطلب من رفيقه أجزأه عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنه لا يلزمه الطلب من ملك الغير. وقال الصاحبان: لا يجزيه؛ لأن الماء مبذول عادة. ولو أبى أن يعطيه إلا بثمن المثل، وعنده ثمنه، لا يجزئه التيمم، لتحقق القدرة، ولا يلزمه تحمل الغبن الفاحش (¬1). وإن لم يغلب على ظنه قرب الماء لا يجب طلبه، بل يندب إن رجا وجود الماء. وإن كان بينه وبين الماء ميل فأكثر، تيمم. 2 - مذهب المالكية (¬2): إن تحقق عدم الماء فلا يلزمه طلبه. وإن علم وجود الماء أو ظنه أو شك فيه في مكان أو توهم وجوده، لزمه طلبه لكل صلاة طلباً لا يشق عليه بالفعل، وهو على أقل من ميلين. كما يلزمه طلبه من رُفْقته إن اعتقد أو ظن أو شك أو توهم إعطاءهم، فإن لم يطلب منهم وتيمم، ثم تبين وجود الماء أو لم يتبين شيئاً، أعاد الصلاة أبداً إن اعتقد أو ظن الإعطاء، وأعاد في الوقت فقط إن شك أو توهم. ويلزمه شراء الماء بثمن معتاد لم يحتج له، نقداً أو ديناً في الذمة، فإن زاد على الثمن المعتاد، ولو درهماً على الراجح، في ذلك المحل وما قاربه، فلا يلزمه الشراء. 3 - مذهب الشافعية (¬3): إن تيقن المسافر أو المقيم فقد الماء حوله، تيمم بلا ¬
طلب. وإن توهم الماء (وقع في وهمه - تصور ذهنه - أي جوز ذلك)، طلبه من رحله ورُفقته، ونظر حواليه إن كان بمستو من الأرض، فإن احتاج إلى تردد، تردد في الجهات الأربعة قدر نظره في المستوي , إن أمن على نفسه وماله وانقطاعه عن الرفقة , بمقدار حد الغوث , وهو غلوة سهم , فإن لم يجد ماء تيمم. ولو مكث في موضعه فالأصح وجوب الطلب لما يطرأ. وإن تيقن الماء في محل , طلبه في حد القرب: وهو ستة آلاف خطوة. ويجب شراؤه بثمن مثله إن كان قادرا عليه بنقد أو غيره , ولم يحتج إليه، وثمن المثل: هو على الأصح ما تنتهي إليه الرغبات في ذلك الموضع في تلك الحالة. ولا يجب عليه شراؤه بزيادة على ذلك، وإن قلَّت. لكن إن بيع لأجل بزيادة لائقة بذلك الأجل وكان موسرا , والأجل ممتد إلى موضع ماله، وجب الشراء؛ لأن ذلك لا يخرجه عن ثمن المثل. ويندب له أن يشتريه إذا زاد على ثمن مثله، وهو قادر على شرائه. ولا يجب طلب الماء في حد البعد: وهو مازاد عن ستة آلاف خطوة، وله أن يتيمم. 4 - مذهب الحنابلة (¬1): يلزم طلب الماء لوقت كل صلاة، بعد دخول الوقت في رحله (أي ما يسكنه وما يستصحبه من الأثاث) وفيما قرب منه عرفاً وعادة، ويسع في جهاته الأربع إلى ما قرب منه مما عادة القوافل السعي إليه، ويسأل رفقته ذوي الخبرة بالمكان عن موارد الماد، كما يسألهم عمن يبيع له الماء أو يبذله له. وإن رأى خُضْرة أو شيئاً يدل على الماء لزمه قصده، وإن كان بقربه ربوة أو شيء قائم، ¬
شروط التيمم عند الحنفية
أتاه وفتش عنده قطعاً للشك. وإن كان سائراً طلبه أمامه فقط؛ لأن في طلبه فيما عدا ذلك ضرراً به. وإن دله أو أرشده عليه ثقة (عدل ضابط) لزمه قصده إن كان قريباً عرفاً. فإن تيمم وصلى بعد طلب الماء وفقده، صح تيممه وصلاته، ولم يعد الصلاة؛ لأنها صلاة تيمم صحيح. هذا وقد ذكر الحنابلة شرطاً آخر لصحة التيمم: وهو العجز عن استعمال الماء؛ لأن غير العاجز يجد الماء على وجه لا يضره، فلم يتناوله النص: {وإن كنتم مرضى أو على سفر، فلم تجدوا ماء فتيمموا} [المائدة:6/ 5]، لكن يلاحظ أن هذا سبب من أسباب التيمم التي ذكرتها. وعد بعض الحنابلة ثمانية شروط للتيمم وهي: نية وإسلام وعقل وتمييز واستنجاء أو استجمار، وإزالة ما على بدن من نجاسة ذات جرم، ودخول وقت لصلاة ولو منذورة بزمن معين، وتعذر ماء ولو بحبس أو غيره. شروط التيمم عند الحنفية: ذكر الحنفية شروطاً ثمانية لصحة التيمم، بعضها من أسباب التيمم، وبعضها من فرائض التيمم عند غيرهم وبعضها داخل في كيفية التيمم، وهذه الشروط هي باختصار ما يأتي (¬1): 1ً - النية: وهي عقد القلب على الفعل، ووقتها: عند ضرب يده على ما يتيمم به. ويشترط لصحة النية عندهم ثلاثة شروط: الإسلام، والتمييز، والعلم بما ينويه. كما يشترط لصحة نية التيمم للصلاة به: أحد ثلاثة أشياء: إما نية ¬
الطهارة، أو استباحة الصلاة، أو نية عبادة مقصودة (¬1) لا تصح بدون طهارة، فله الصلاة بالتيمم بنية الصلاة أو صلاة الجنازة، أو سجدة التلاوة، وليس له الصلاة بالتيمم بنية دخول المسجد ومس المصحف ولو كان جنباً؛ لأنه عبادة غير مقصودة، ولا بنية قراءة القرآن للمحدث حدثاً أصغر، ولكن له الصلاة بتيمم بنية الجنب قراءة القرآن، لجواز قراءة المحدث، لا الجنب، وليس له الصلاة بتيمم لزيارة القبور والأذان والإقامة والسلام ورده أو للإسلام؛ لأنها تصح بدون طهارة. 2ً - العذر المبيح للتيمم: كبعده ميلاً عن الماء ولو في المصر، وحصول مرض، وبرد يخاف منه التلف أو المرض، وخوف عدو وعطش، واحتياج لعجن، لا لطبخ مرق لا ضرورة إليه، ولفقد آلة، وخوف فوت صلاة جنازة أو عيد لو اشتغل بالوضوء (¬2)، وليس من العذر خوف فوت الجمعة، وفوات الوقت، لو اشتغل بالوضوء. 3ً - أن يكون التيمم بطاهر من جنس الأرض كالتراب والحجر والرمل، والفيروزج والعقيق، لا الحطب والفضة والذهب والنحاس والحديد، وضابطه: أن كل شيء يصير رماداً، أو ينطبع (يلين) بالإحراق، لا يجوز التيمم به، وإلا جاز لقوله تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً} [المائدة:6/ 5]، والصعيد: اسم لوجه الأرض تراباً كان أو غيره. 4ً - استيعاب المحل بالمسح. 5ً - أن يمسح بجميع اليد أو بأكثرها (أي بثلاث أصابع) فلو مسح بأصبعين ¬
شروط التيمم عند الشافعية
مثلاً لا يجوز حتى ولو كرر واستوعب المحل الممسوح، بخلاف مسح الرأس في الوضوء. 6ً - أن يكون بضربتين بباطن الكفين، ولو في مكان واحد على الأرض. ويقوم مقام الضربتين: إصابة التراب بجسده إذا مسحه بنية التيمم. 7ً - انقطاع ما ينافيه من حيض أو نفاس أو حدث، كما هو مشروط في الوضوء. 8ً - زوال ما يمنع المسح على البشرة، كشمع وشحم، حتى يتحقق مسح الجسد، وهذا مانع من تحقق المسح عليه. شروط التيمم عند الشافعية: ذكر الشافعية عشرة شروط للتيمم هي ما يأتي (¬1): 1ً - أن يكون بتراب على أي لون كان كالمدر والسبخ (¬2) الذي عليه غبار وغيرهما، حتى ما يداوى به كالطين الأرمني إذا سحق، وحتى غبار رمل خشن أو ناعم، لا مشوي بقي اسمه وزال غباره. 2ً - وأن يكون طاهراً، لقوله تعالى: {صعيداً طيباً} [المائدة:6/ 5]، قال ابن عباس: تراباً طاهراً. 3ً - ألا يكون مستعملاً كالماء: وهوما بقي بمحل التيمم أو تناثر بعد مسه العضو حالة التيمم، في الأصح. ¬
المطلب السادس ـ سنن التيمم ومكروهاته
4ً - ألا يخالطه دقيق ونحوه كزعفران وجص، لمنعه وصول التراب إلى العضو. 5ً - أن يقصده، فلو سَفَتْه (ألقته) ريح عليه، فردده على أعضاء التيمم، ونوى، لم يجزئ، لأنه لم يقصد التراب بنقله إليه، وإنما التراب أتاه. لكن لو يُمم بغيره بإذنه، جاز. 6ً - أن يمسح وجهه ويديه بضربتين، وإن أمكن بضربة بخرقة ونحوها. 7ً - أن يزيل النجاسة أولاً، فلو تيمم قبل إزالتها، لم يجز على المعتمد، لأن التيمم للإباحة، ولا إباحة مع المانع، فأشبه التيمم قبل الوقت. 8ً - أن يجتهد في القبلة قبل التيمم، فلو تيمم قبل الاجتهاد فيها، لم يصح على الأوجه. 9ً - أن يقع التيمم بعد دخول الوقت، لأنه طهارة ضرورة، ولا ضرورة قبله، فيتيمم للنافلة المطلقة فيما عدا وقت الكراهة، وللصلاة على الميت بعد طهره، وللاستسقاء بعد تجمع الناس، وللفائتة بعد تذكرها. 10ً - أن يتيمم لكل فرض عيني؛ لأن التيمم طهارة ضرورة، فيقدر بقدرها. المطلب السادس ـ سنن التيمم ومكروهاته: يسن في التيمم الأمور التالية (¬1) علماً بأنها سبع عند الحنفية، وتسع عند المالكية، وخمس عشرة عند الشافعية، واثنتان عند الحنابلة. ¬
أما سننه عند الحنفية فهي ما يأتي: 1ً - التسمية في أوله، كالوضوء، بأن يقول: بسم الله، وقيل: الأفضل: بسم الله الرحمن الرحيم. 2ً - 4ً - الضرب بباطن الكفين وإقبال اليدين بعد وضعهما في التراب، وإدبارهما مبالغة في الاستيعاب، ثم نفضهما، اتقاء عن تلويث الوجه، نقل ذلك عن أبي حنيفة. 5ً - تفريج الأصابع، ليصل التراب إلى ما بينهما. 6ً، 7ً - الترتيب والموالاة (الوِلاء) أي مسح المتأخر عقب المتقدم، بحيث لو كان الاستعمال بالماء لا يجف المتقدم، كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلم. وسنن التيمم عند المالكية أربع: 1ً - الترتيب: بأن يمسح الوجه أولاً، ثم اليدين، فإن نكس أعاد المنكس وحده وهو اليدان، إن قرب ولم يصلّ به وإلا بطل التيمم. أما الموالاة فهي فرض عندهم. 2ً، 3ً - الضربة الثانية ليديه، والمسح إلى المرفقين. 4ً - نقل أثر الضرب من الغبار إلى الممسوح، بأن لا يمسح على شيء قبل مسح الوجه واليدين، فإن مسحهما بشيء قبل ما ذكر، كره وأجزأ، وهذا لا يمنع من نفضهما نفضاً خفيفاً. وأضاف المالكية فضائل أو مندوبات أخرى للتيمم وهي: 1ً - التسمية: بأن يقول: بسم الله الرحمن الرحيم على الأظهر، أو بسم الله في قول آخر.
عند الشافعية
2ً، 3ً - الصمت، واستقبال القبلة. 4ً، 5ً - البدء باليد اليمنى، وجعل ظاهرها من طرف الأصابع بباطن يسراه، ثم يُمرّها من فوق الكف إلى المرفق، ثم باطن المرفق إلى الكوع (الرسغ) ثم يمر اليمنى على اليسرى كذلك، كما فعل في اليمنى، ثم يخلل أصابعه وجوباً، كما أوضحت في الفرائض. وسنن التيمم عند الشافعية نحو خمس عشرة: التسمية الكاملة أوله كالوضوء والغسل، والبداءة بأعلى الوجه. وتقديم اليمنى على اليسرى من اليدين، وتفريق الأصابع في الضربة الأولى، وتخليل الأصابع بعد مسح اليدين احتياطاً، وتخفيف الغبار بحيث يبقى بقدر الحاجة، لئلا تتشوه به خلقته، وعملاً بحديث عمار السابق وغيره. والموالاة، كالوضوء لأن كلاً منهما طهارة عن حدث، والموالاة بين التيمم والصلاة، خروجاً من خلاف من أوجبها، وهم المالكية. ويسن أيضاً إمرار اليد على العضو كالدلك في الوضوء، وألا يرفع اليد عن العضو قبل تمام مسحه، خروجاً من خلاف من أوجبه. ومن سننه أيضاً مسح بعض العضد كالتحجيل في الوضوء، وعدم تكرار المسح؛ لأن المطلوب منه تخفيف الغبار، واستقبال القبلة، والشهادتان بعده، كالوضوء فيهما. ويسن نزع الخاتم في الضربة الأولى، ويجب نزعه في الضربة الثانية عند المسح. ويسن صلاة ركعتين عقبه قياساً على الوضوء، والسواك قبله بين التسمية
الحنابلة
ونقل التراب إلى أعضاء التيمم، كما أنه في الوضوء بين غسل اليدين والمضمضة. أما الحنابلة: فاعتبروا التسمية والترتيب والموالاة واجبة في التيمم كالوضوء، ولم يعدوا من سنن التيمم سوى أن تأخيره أولى بكل حال إلى آخر الوقت المختار، إن رجا وجود الماء، لقول علي رضي الله عنه في الجن: «يتلوم ما بينه وبين آخر الوقت، فإن وجد الماء، وإلا تيمم» ولأنه يستحب التأخير للصلاة إلى ما بعد العَشَاء، وقضاء الحاجة، كيلا ذهب خشوعها وحضور القلب فيها، ويستحب تأخيرها لإدراك الجماعة، فتأخيرها لإدراك الطهارة المشترطة أولى. كما أنهم اعتبروا تخليل الأصابع مستحباً، وليس بفرض (¬1). وصفة التيمم عندهم (¬2): أن ينوي استباحة ما يتيمم له، كفرض الصلاة من الحدث الأصغر، أو الأكبر ونحوه، ثم يسمي، فيقول: بسم الله، وتسقط سهواً، ويضرب يديه مفرجتي الأصابع ليصل التراب إلى ما بينها، على التراب أو على غيره مما له غبار طهور، كلبد أو ثوب أو بساط أو حصير أو برذعة حمار ونحوها، ضربة واحدة، بعد نزع خاتم ونحوه، ليصل التراب إلى ما تحته، وإن كان التراب خفيفاً كره نفخه لئلا يذهب فيحتاج إلى إعادة الضرب. ثم يمسح وجهه بباطن أصابعه، ثم كفيه براحتيه، لحديث عمار السابق أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال في التيمم: «ضربة واحدة للوجه واليدين» (¬3). ويجوز أن يمسح بضربتين، بإحداهما وجهه، وبالأخرى يديه إلى المرفقين، وهو حسن. ¬
مكروهات التيمم
مكروهات التيمم: يتبين من بحث سنن التيمم أنه عند الحنفية يكره ترك سنة من السنن المتقدمة، وتكرار المسح. وقال المالكية: تكره الزيادة على مرة في المسح، وكثرة الكلام في غير ذكر الله، وإطالة المسح إلى ما فوق المرفقين وهو المسمى بالغرة والتحجيل. وقال الشافعية: يكره تكثير التراب، وتكرار المسح، وتجديد التيمم ولو بعد فعل صلاة، ونفض اليدين بعد تمام التيمم. وقال الحنابلة: يكره تكرار المسح، وإدخال التراب في الفم والأنف، والضرب أكثر من مرتين، ونفخ التراب إن كان خفيفاً. المطلب السابع: نواقض التيمم أو مبطلاته: ينقض التيمم ما يأتي (¬1) 1ً - كل ما ينقض الوضوء والغسل ينقض التيمم؛ لأنه بدل عنهما، وناقض الأصل ناقض لخلفه، فلو تيمم للجنابة، ثم أحدث صار محدثاً لا جنباً، فيتيمم وينزع خفيه إن كان لابسهما، ثم بعده يمسح عليهما، ما لم يجد الماء. 2ً - زوال العذر المبيح له كذهاب العدو والمرض والبرد ووجود آلة نزح الماء، وإطلاق سراحه من السجن الذي لا ماء فيه؛ لأن ما جاز بعذر بطل بزواله. ¬
3ً - رؤية الماء أو القدرة على استعمال الماء الكافي ولو مرة عند الحنفية والمالكية، ولو لم يكف عند الشافعية والحنابلة، وذلك قبل الصلاة، لا فيها عند جماعة كما سيأتي، وأن يكون فاضلاً عن حاجته كعطش وعجن وغسل نجاسة؛ لأنه مشغول بالحاجة، وغير الكافي في رأي الحنفية والمالكية كالمعدوم. وقال الحنفية: إن مرور نائم أو ناعس متيمم على ماء كاف يجعله كالمستيقظ، يبطل تيممه. فإن رأى الماء أثناء الصلاة: ينتقض تيممه عند الحنفية والحنابلة، لبطلان الطهارة بزوال سببها، ولأن الأصل إيقاع الصلاة بالوضوء، وقد قدر على الأصل قبل حصول المقصود ببدله، وللأدلة النصية المتقدمة في بحث إعادة الصلاة. ولا ينتقض تيممه عند المالكية، ولا ينتقض بالنسبة للمسافر عند الشافعية؛ لأنه مأذون له بالدخول في الصلاة بالتيمم، والأصل بقاء ذلك الإذن، ولقوله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم} [محمد:33/ 47]، وكان عمله سليماً قبل رؤية الماء، والأصل بقاؤه، وقياساً على رؤية الماء بعد الفراغ من الصلاة؛ لأن رؤية الماء ليست بحدث، فلا تبطل الصلاة، حفاظاً على حرمة الصلاة. وتبطل صلاة المقيم عند الشافعية إن رأى الماء في أثناء الصلاة؛ لأنه كما أبنت سابقاً تلزمه إعادة الصلاة لوجود الماء، وقد وجد الماء، فوجب أن يشتغل بالإعادة. واستثنى المالكية حالة نسيان الماء: فمن كان ناسياً للماء الذي معه، فتيمم وأحرم بصلاة ثم تذكر فيها، تبطل إن اتسع الوقت. أما إن رأى الماء بعد انتهاء الصلاة:
المطلب الثامن ـ حكم فاقد الطهورين
فإن كان بعد خروج وقت الصلاة، لا يعيدها إجماعاً، دفعاً للحرج. وإن كان في أثناء الوقت، لم يعد الصلاة عند الجمهور (غير الشافعية)، ويعيدها المقيم لا المسافر غير العاصي بسفره عند الشافعية، كما أوضحت سابقاً. 4ً - خروج الوقت: يبطل التيمم عند الحنابلة بخروج وقت الصلاة، وأضاف الحنابلة: إن خرج وقت الصلاة وهو فيها، بطل تيممه، وبطلت صلاته، لأن طهارته انتهت بانتهاء وقتها، فبطلت صلاته، كما لو انقضت مدة المسح وهو في الصلاة. 5ً - الردة: تبطل التيمم عند الشافعية، بخلاف الوضوء، لقوته، وضعف بدله، لكن تبطل نية الوضوء فيجب تجديدها، ولأن التيمم لاستباحة الصلاة، وهي منتفية مع الردة، هذا والردة تبطل التيمم ولو صورة كالواقعة من الصبي. ولا يبطل التيمم بالردة عند الحنفية وغيرهم، فيصلي به إذا أسلم؛ لأن الحاصل بالتيمم صفة الطهارة، والكفر لا ينافيها كالوضوء، ولأن الردة تبطل ثواب العمل، لا زوال الحدث. 6ً - الفصل الطويل بين التيمم والصلاة: يُبطل التيمم عند المالكية دون غيرهم لاشتراطهم الموالاة بينه وبين الصلاة كما تقدم. المطلب الثامن ـ حكم فاقد الطهورين: فاقد الطهورين: هو فاقد الماء والتراب، كأن حبس في مكان ليس فيه واحد منهما، أو في موضع نجس لا يمكنه إخراج تراب مطهر. أو كأن وجد ما هو محتاج إليه لنحو عطش، أو وجد تراباً ندياً ولم يقدر على تجفيفه بنحو نار. ومثله المصلوب وراكب سفينة لا يصل إلى الماء.
حكمه
ومثله: من عجز عن الوضوء والتيمم معاً بمرض ونحوه، كمن كان به قروح لا يستطيع معها مس البشرة بوضوء ولا تيمم. وحكمه يتردد بين رأيين: إيجاب الصلاة عليه عند الجمهورمع الإعادة عند الحنفية والشافعية، وعدم الإعادة عند الحنابلة، وسقوط الصلاة عند المالكية على المعتمد. وهذا تفصيل الآراء (¬1): 1 ً - الحنفية: المفتى به عندهم ما قاله الصاحبان: وهو أن فاقد الطهورين يتشبه بالمصلين وجوباً، فيركع ويسجد، إن وجد مكاناً يابساً، وألا يومئ قائماً، ولا يقرأ ولا ينوي، ويعيد الصلاة متى قدر على الماء أو التراب. أما مقطوع اليدين والرجلين إذا كان بوجهه جراحة، فيصلي بغير طهارة ولا يتيمم، ولا يعيد على الأصح. والمحبوس الذي صلى بالتيمم يعيد الصلاة إن كان مقيماً في الحضر، لعدم الضرورة؛ لأن الحضر مظنة الماء، فلا ضرورة، ولا يعيدها في السفر؛ لأن الغالب فيه فقد الماء، وهذا مذهب الشافعية كما أبنت في بحث إعادة الصلاة. 2 ً - المالكية: المذهب المعتمد أن فاقد الطهورين وهما الماء والتراب، أو فاقد القدرة على استعمالهما كالمكره والمصلوب، تسقط عنه الصلاة أداء وقضاء، فلا يصلي ولا يقضي، كالحائض؛ لأن وجود الماء والصعيد شرط في وجوب أداء الصلاة، وقد عدم، وشرط وجوب القضاء: تعلق الأداء بذمة المصلي، ولم يتعلق الخطاب بأداء الصلاة في ذمته. ¬
3 ً - الشافعية: يصلي فاقد الطهورين الفرض وحده في المذهب الجديد على حسب حاله بنية وقراءة، لأجل حرمة الوقت، ولا يصلي النافلة ويعيد الصلاة، إذا وجد الماء أو التراب في مكان لا ماء فيه؛ لأن هذا العذر نادر ولا دوام له، ولأن العجز عن الطهارة التي هي شرط من شروط الصلاة لا يبيح ترك الصلاة، كستر العورة وإزالة النجاسة، واستقبال القبلة، والقيام والقراءة. ومن على بدنه نجاسة يخاف من غسلها، ومن حبس عن الصلاة كفاقد الطهورين يصلون الفريضة فقط، إلا أن الجنب يقتصر على قراءة الفاتحة فقط. والراجح لدي هذا الرأي، أي أن الصلاة تكون بحسب المعتاد، وتعاد لعدم النص الصريح في حكم حال هذا المصلي. 4 ً - الحنابلة: يصلي فاقد الطهورين الفرض فقط، على حسب حاله وجوباً، لقوله صلّى الله عليه وسلم - فيما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة -: «إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم» ولأن العجز عن الشرط لا يوجب ترك المشروط، كما لو عجز عن السترة والاستقبال، أي كما قال الشافعية. ولا إعادة عليه، لما روي عن عائشة: «أنها استعارت من أسماء قلادة، فضلَّتها، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم رجالاً في طلبها، فوجدوها، فأدركتهم الصلاة، وليس معهم ماء، فصلوا بغير وضوء، فشكوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فأنزل الله آية التيمم» (¬1) ولم يأمرهم بالإعادة، ولأن الوضوء أحد شروط الصلاة، فسقط عند العجز، كسائر شروطها. ولا يزيد المصلي الفاقد الطهورين على ما يجزئ في الصلاة من قراءة ¬
وغيرها، فيقرأ الفاتحة فقط، ويسبح مرة فقط، ويقتصر على ما يجزئ في طمأنينة ركوع أو سجود، أو جلوس بين السجدتين، كما يقتصر على ما يجزئ في التشهد الأول والأخير، ثم يسلم في الحال. ولا يتنفل، ولا يؤم متطهراً بماء أو تراب، لعدم صحة اقتداء المتطهر بالمحدث العالم بحدثه، لكن يؤم مثله. ولا يقرأ في غير صلاة إن كان جنباً ونحوه كحائض ونفساء. وتبطل صلاته بالحدث فيها، وبطروء نجاسة لا يعفى عنها؛ لأن ذلك ينافي الصلاة. ولا تبطل صلاته بخروج وقتها بخلاف صلاة المتيمم؛ لأن التيمم يبطل فتبطل الصلاة. وتبطل الصلاة على الميت إذا لم يغسل ولم يتيمم، لعدم الماء والتراب، ويجوز نبشه قبل تفسخه للغسل أو التيمم، لأنه مصلحة بلا مفسدة، فإن خيف تفسخه لم ينبش.
الفصل السابع: الحيض، النفاس، الاستحاضة
الفَصْلُ السَّابع: الحَيض، النِّفاس، الاسْتِحاضة الدماء التي تخرج من فروج النساء ثلاثة: دم حيض: وهو الخارج في حالة الصحة، ودم استحاضة: وهو الخارج في حالة المرض، وهو غير دم الحيض لقوله عليه الصلاة والسلام «إنما ذلك عِرْق وليس بالحيضة» (¬1)،ودم نفاس: وهو الخارج مع الولد. ولكل أحكام، ففي هذا الفصل مباحث أربعة: المبحث الأول ـ تعريف الحيض ووقته وفيه مطلبان: المطلب الأول ـ تعريف الحيض: الحيض: لغة: هو السيلان، يقال: حاض الوادي: إذا سال، وحاضت الشجرة: إذا سال صمغها. وشرعاً: هو الدم الخارج في حال الصحة من أقصى رحم المرأة من غير ولادة ولا مرض، في أمد معين. ولونه عادة: السواد، وهو محتدم (أي شديد الحرارة)، لذاع محرق (أي موجع مؤلم)، كريه الرائحة. والأصل فيه آية: {ويسألونك عن المحيض} [البقرة:222/ 2]، أي ¬
وقته
الحيض، وخبر الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الحيض: «هذا شيء كتبه الله على بنات آدم». ووقته: من بلوغ الأنثى تقريباً تسع سنين قمرية (¬1)، إلى سن اليأس. فإن رأت الدم قبل هذه السن أو بعد سن اليأس، فهو دم فساد أو نزيف. وتصبح الأنثى برؤية الحيض بالغة مكلفة مطالبة بجميع التكاليف الشرعية من صلاة وصوم وحج ونحوها، كما أن الولد يبلغ بالاحتلام بخروج المني، ويحصل البلوغ باستكمال سن الخامسة عشرة، إذا لم يحصل الاحتلام أو الحيض. واختلف الفقهاء في تحديد سن اليأس لعدم النص فيه، ولاعتمادهم على الاستقراء والتتبع لأحوال النساء (¬2). فقال الحنفية على المفتى به أو المختار: سن الإياس خمس وخمسون سنة، فإن رأت بعده دماً قوياً أسود أو أحمر قانياً، اعتبر حيضاً، وعليه: ما تراه آيسة على ظاهر المذهب يعد استحاضة ما لم يكن دماً خالصاً كالأسود والأحمر القاني. وقال المالكية: سن اليأس سبعون سنة، وتسأل النساء في بنت الخمسين إلى السبعين، فإن قلن: حيض، أو شككن، فحيض، كما يسألن في المراهقة: وهي بنت تسع إلى ثلاث عشرة. وقال الشافعية: لا آخر لسن اليأس، فما دامت حية فالحيض ممكن في حقها، لكن غالبه اثنان وستون سنة. ¬
هل تحيض الحامل
وقدر الحنابلة سن اليأس بخمسين سنة، لقول عائشة: «إذا بلغت امرأة خمسين سنة خرجت من حد الحيض» (¬1) وقالت أيضاً: «لن ترى في بطنها ولداً بعد الخمسين» (¬2). وهل تحيض الحامل؟ للفقهاء فيه رأيان: فذهب المالكية، والشافعية في الأظهر الجديد (¬3): إلى أن الحامل قد تحيض، وقد يعتريها الدم أحياناً ولو في آخر أيام الحمل، والغالب عدم نزول الدم بها، ودليلهم إطلاق الآية السابقة، والأخبار الدالة على أن الحيض من طبيعة المرأة، ولأنه دم صادف عادة، فكان حيضاً كغير الحامل. وذهب الحنفية والحنابلة (¬4): إلى أن الحامل لا تحيض، ولو قبل خروج أكثر الولد عند الحنفية، أما عند الحنابلة: فما تراه قبل ولادتها بيومين أو ثلاثة، يكون دم نفاس. ودليلهم: قول النبي صلّى الله عليه وسلم في سبي أوطاس: «لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض» (¬5) فجعل وجود الحيض علماً على براءة الرحم، فدل على أنه لا يجتمع معه وقال صلّى الله عليه وسلم في حق ابن عمر ـ لما طلق زوجته وهي حائض ـ «ليطلقها طاهراً، أو حاملاً» (¬6) فجعل الحمل علماً على عدم الحيض، كما جعل ¬
ألوان الدم
الطهر علماً على انتهاء الحيض، ولأنه زمن لا تعتاد المرأة فيه الحيض غالباً، فلم يكن ما تراه فيه حيضاً كالآيسة. والطب والواقع يؤيد هذا الرأي. وعليه: لا تترك الحامل الصلاة لما تراه من الدم، لأنه دم فساد، لا حيض، كما لا تترك الصوم والاعتكاف والطواف ونحوها من العبادات، ولا يمنع زوجها من وطئها؛ لأنها ليست حائضاً، وتغتسل الحامل إذا رأت دماً زمن حملها عند انقطاعه استحباباً، خروجاً من الخلاف. ألوان الدم: دم الحيض في أيام العادة الشهرية باتفاق الفقهاء (¬1): إما أسود أو أحمر أو أصفر أو أكدر (متوسط بين السواد والبياض) وليست الصفرة والكدرة بعد العادة حيضاً، ولا يعرف انقطاعه إلا برؤية بياض خالص، بأن تدخل المرأة خرقة نظيفة أو قطنة في فرجها لتنظر هل بقي شيء من أثر الدم أو لا. ورأى الحنفية: أن ألوان دم الحيض ستة: السواد، والحمرة، والصفرة، والكدرة، والخضرة، والتٌربية (أي على لون التراب) على الأصح. فكل ما يرى في أيام الحيض من الدماء فهو حيض، حتى ترى البياض الخالص: وهو شيئ يشبه المخاط يخرج عند انتهاء الحيض. أو هو القطن الذي تختبر به المرأة نفسها، إذا خرج أبيض، فقد طهرت. والخضرة نوع من الكدرة، وتظهر في المرأة ذات العادة الشهرية بسبب غذاء فاسد أفسد صورة دمها، كما أن الآيسة الكبيرة لاترى غير الخضرة. ورتب الشافعية ألوان الحيض بحسب قوتها فقالوا: الألوان خمسة: أقواها السواد، ثم الحمرة، ثم الشقرة (وهي التربية عند الحنفية) ثم الصفرة، ثم الكدرة. ¬
صفات دم الحيض
وصفات دم الحيض أربعة أقواها: الثخين المنتن، ثم المنتن، ثم الثخين، ثم غير الثخين وغير المنتن. والدليل على أن هذه الألوان في أيام العادة حيض: هو دخولها في عموم النص القرآني: {ويسألونك عن المحيض} [البقرة:222/ 2] وأخبار في السنة، منها قول عائشة: «وكان النساء يبعثن إليها بالدُّرجة فيها الكُرْسف (¬1)، فيه الصفرة والكدرة من دم الحيض، فتقول: لا تعْجَلْن حتى ترين القَصَّة البيضاء» (¬2) تريد بذلك الطهر من الحيض. وأما الدليل على أن ما بعد الحيضة من الصفرة والكدرة ليس حيضاً: فهو قول أم عطية: «كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئاً» (¬3). المطلب الثاني ـ مدة الحيض والطهر: مدة الحيض لا يكون الدم حيضاً إلا إذا كان بالألوان السابقة، وأن يتقدمه أقل مدة الطهر (وهي خمسة عشر يوماً عند جمهور الفقهاء). وأن يبلغ أقل مدة الحيض، وهي مختلف فيها بين الفقهاء (¬4). وما نقص عن مدة الحيض أو زاد على أكثرها فهو استحاضة. ¬
الحنفية
يرى الحنفية: أن أقل الحيض: ثلاثة أيام ولياليها، وما نقص عن ذلك، فليس بحيض، وإنما هو استحاضة. وأوسطه خمسة أيام. وأكثره عشرة أيام ولياليها، والزائد عن ذلك: استحاضة. ودليلهم: حديث «أقل الحيض للجارية البكر والثيب: ثلاثة أيام، وأكثره عشرة أيام» (¬1) وما زاد على ذلك استحاضة؛ لأن تقدير الشرع يمنع إلحاق غيره به. ويرى المالكية: ألا حد لأقل الحيض بالنسبة للعبادات، فأقله دَفْقه أو دَفعة في لحظة، فتعتبر حائضاً وتغتسل بانقطاعه، ويبطل صومها وتقضي ذلك اليوم. وأما بالنسبة للعدة والاستبراء، فأقله يوم أو بعض يوم له بال. وأكثر الحيض يختلف باختلاف النساء وهن أربع: مبتدأة، ومعتادة (¬2)، وحامل، ومختلطة. أما المبتدأة: فيقدر بخمسة عشر يوماً، وما زاد فهو دم علة وفساد. وأما المعتادة: فيقدر بزيادة ثلاثة أيام على أكثر عادتها ـ والعادة تثبت بمرة ـ استظهاراً، مالم تجاوز نصف الشهر. وأما الحامل فيما بعد شهرين من بدء الحمل: فيقدر أكثر الحيض بعشرين يوماً. ¬
الشافعية والحنابلة
وما بعد ستة أشهر فأكثر: فيقدر له ثلاثون يوماً. وأما المختلطة: وهي التي ترى الدم يوماً أو أياماً، والطهر يوماً أو أياماً، حتى لا يحصل لها طهر كامل، فإنها تلفق أيام الدم، فتعدها حتى يكمل لها مقدار أكثر أيام الحيض (15 يوماً)، وتلغي أيام الطهر التي بينها، فلا تعدها. فما زاد عن مدة أكثر الحيض يكون استحاضة. وتغتسل في كل يوم لا ترى فيه الدم، رجاء أن يكون طهراً كاملاً. وتكون حائضاً في كل يوم ترى فيه الدم، وتجتنب ما تجتنبه الحائض. ويرى الشافعية والحنابلة: أن أقل زمن الحيض يوم وليلة: وهو أربع وعشرون ساعة، على الاتصال المعتاد في الحيض، بحيث لو وضعت قطنة لتلوثت، فلا يشترط نزوله بشدة دائماً حتى يوجد الاتصال. وعلى هذا فقد يتصل في الظاهر أو ينقطع في الظاهر، ولكنه موجود في الواقع، ويعرف بتلوث قطنة أو نحوها، فإن رأت الدم أقل من يوم وليلة، فهو دم استحاضة، لا دم حيض. وغالبه: ست أو سبع، لقوله صلّى الله عليه وسلم لِحَمْنة بنت جحش لما سألته: «تَحَيَّضي في علم الله ستة أيام أو سبعة، ثم اغتسلي وصلي أربعاً وعشرين ليلة وأيامها، أو ثلاثاً وعشرين ليلة، فإن ذلك يجزيك» (¬1). وأكثره: خمسة عشر يوماً بلياليها، فإن زاد عليها فهو استحاضة. ويتميز دم الحيض عن دم الاستحاضة بلونه وشدته ورائحته الكريهة. ¬
أقل الطهر
ودليلهم: الاستقراء (السؤال والتتبع لأحوال بعض النساء في زمان ما) الذي قام به في زمانه الإمام الشافعي رضي الله عنه وغيره؛ إذ لا ضابط له لغة ولا شرعاً، فرجع إلى المتعارف بالاستقراء، ويكون المعتمد فيه هو العرف والعادة، كما هو المقرر في القبض والإحراز والتفرق بين المتبايعين في العقود. ويؤيدهم قول علي: «أقل الحيض يوم وليلة، وما زاد على خمسة عشر استحاضة». وقول عطاء: «رأيت من النساء من تحيض يوماً، وتحيض خمسة عشر» والقاعدة عند الشافعية كما قال النووي في المنهاج: رأت المرأة الدم لسنّ الحيض أقلّه، ولم يعبر أكثره، فكله حيض، سواء أكانت مبتدأة أم معتادة، تغيرت عادتها أم لا. فإذا رأت المرأة الدم أقل من يوم وليلة أو بعد أكثر من مدة الحيض (أي بعد 51 يوماً) كان دم استحاضة، لا دم حيض. أقل الطهر: قال الجمهور غير الحنابلة (¬1): إن أقل الطهر الفاصل بين الحيضتين: خمسة عشر يوماً؛ لأن الشهر غالباً لايخلو عن حيض وطهر، وإذا كان أكثر الحيض خمسة عشر، لزم أن يكون أقل الطهر كذلك خمسة عشر يوماً. ولا حد لأكثره؛ لأنه قد يمتد سنة أو سنتين، وقد لا تحيض المرأة أصلاً، وقد تحيض في السنة مرة واحدة. وقال الحنابلة (¬2): أقل الطهر بين الحيضتين ثلاثة عشر يوماً، لما روى أحمد عن علي: «أن امرأة جاءته ـ قد طلقها زوجها ـ فزعمت أنها حاضت في شهر ثلاث حِيَض، فقال علي لشريح: قل فيها، فقال شريح: إن جاءت ببينة من بطانة أهلها ممن يرجى دينه وأمانته، فشهدت بذلك، وإلا فهي كاذبة. فقال علي: «قالون» أي ¬
المراد بالطهر
جيد بالرومية. وهذا لا يقوله إلا توقيفاً، وهو قول صحابي اشتهر، ولم يعلم خلافه، ووجود ثلاث حيض في شهر، دليل على أن الثلاثة عشر طهر صحيح يقيناً (¬1). ولا حد لأكثر الطهر باتفاق الفقهاء. والمراد بالطهر: هو زمان نقاء المرأة من دم الحيض والنفاس، وللطهر علامتان: جفاف الدم أو جفوفه، والقصة البيضاء: وهي ماء أبيض رقيق يأتي في آخر الحيض (¬2). النقاء من الدم في أيام الحيض: النقاء: أي عدم الدم، ويحدث ذلك بأن تبدأ العادة الشهرية، ثم ينقطع الحيض مدة زمنية، ثم يعود، فهل تعد تلك المدة من أيام الحيض أو لا؟ هناك رأيان فقهيان، الأول للحنفية والشافعية، والثاني للمالكية والحنابلة (¬3). وأصحاب الرأي الأول يرون: أن النقاء من الدم في أيام الحيض يعتبر حيضاً، فلو رأت يوماً دماً، ويوماً نقاء، بحيث لو وضعت قطنة لم تتلوث، ويوماً بعد ذلك دماً وهكذا في مدة الحيض (أثناء العادة)، تعتبر حائضاً في كل تلك المدة. وأصحاب الرأي الثاني يأخذون بمبدأ التلفيق: وهو ضم الدم إلى الدم ¬
تفصيل الآراء في كل مذهب
واعتبار أيام النقاء طهراً صحيحاً، فلو رأت الحائض الدم يوماً أو يومين، ثم طهرت يوماً أو يومين، جمعت أيام الدم بعضها إلى بعض، واعتبر الباقي طهراً، واتفق الكل على أن الطهر (المتخلل) بين الدمين إذا كان خمسة عشر يوماً فأكثر يكون فاصلاً بين الدمين في الحيض، وما قبله وما بعده يعد حيضاً إذا بلغ أقل مدة الحيض. وها هو تفصيل الآراء في كل مذهب: 1 ً - مذهب الحنفية: أفتى كثير من المتأخرين بقول أبي يوسف وهو قول أبي حنيفة الآخر، وهو أن الطهر المتخلل بين الدمين، لا يعد فاصلاً، بل يكون كالدم المتوالي بشرط إحاطة الدم لطرفي الطهر المتخلل، فيجوز بداية الحيض بالطهر، وختمه به أيضاً، فلو رأت مبتدأة يوماً دماً، وأربعة عشر طهراً، ويوماً دماً، فالعشرة الأولى حيض. ولو رأت المعتادة قبل عادتها يوماً دماً وعشرة طهراً ويوماً دماً، فالعشرة التي لم تر فيها الدم حيض إن كانت عادتها، وإلا ردت إلى أيام عادتها. وأما الطهر المتخلل بين الأربعين يوماً في حالة النفاس فلا يفْصل عند أبي حنيفة وعليه الفتوى، سواء أكان خمسة عشر أم أقل أم أكثر، ويجعل إحاطة الدم بطرفيه كالدم المتوالي. 2ً - مذهب الشافعية: الأظهر المعتمد أن النقاء بين دماء أقل الحيض فأكثر حيض تبعاً لها، بشروط: وهي ألا يجاوز ذلك خمسة عشر يوماً، ولم تنقص الدماء المرئية عند المرأة عن أقل الحيض، وأن يكون النقاء محتوشاً (محوطاً) بين دمي حيض. وهذا يسمى قول السَّحْب؛ لأننا سحبنا الحكم بالحيض على النقاء أيضاً، وجعلنا الكل حيضاً.
- مذهب المالكية المعتمد، والحنابلة
وهناك قول آخر ضعيف يسمى قول اللَّقْط: وهو أن النقاء طهر؛ لأن الدم إذا كان حيضاً، كان النقاء طهراً، وسمي بذلك لأنا لقطنا أوقات النقاء وجعلناها طهراً. أما زمن النقاء في حالة النفاس فهو على المعتمد طهر، لكنه يحسب من مدة النفاس الستين يوماً، أي أنه من النفاس عدداً لا حكماً على المعتمد. والخلاصة: أن النقاء في الحيض يأخذ حكم الحيض، وفي النفاس: لايأخذ حكمه، وإنما يحسب أي النقاء من أيام الستين التي هي أكثر مدة النفاس. 3ً - مذهب المالكية المعتمد، والحنابلة: هو الأخذ بالتلفيق أي ضم الدم إلى الدم، والطهر في أثناء الحيضة طهر صحيح، فإذا أتاها الدم في يوم مثلاً، وانقطع يوماً أو أكثر، ولم يبلغ الانقطاع نصف الشهر وهو أكثر مدة الحيض، فإنها تلفق أيام الدم فقط، أي يضم الدم إلى الدم، فيكون حيضاً، وما بينهما من النقاء طهر. وحكم الملفقة: أنها تغتسل وجوباً، كلما انقطع دمها، وتصلي وتصوم وتوطأ، لأنه طهر حقيقة، لكن قال الحنابلة: يكره وطؤها زمن الطهر. وتظل على هذا النحو عند الحنابلة إلى أن يجاوز زمن الدم وزمن النقاء أكثر الحيض، كأن ترى يوماً دماً ويوماً طهراً إلى ثمانية عشر يوماً مثلاً، فتكون مستحاضة. وقال المالكية: تلفق المبتدأة، والمعتادة نصف الشهر: خمسة عشر يوماً. أما المعتادة أقل من نصف شهر: فتلفق عادتها، مع إضافة ثلاثة أيام على أكثر عادتها، وهي التي تسمى أيام الاستظهار. وما نزل عليها من الدم بعد ذلك فاستحاضة لاحيض.
المبحث الثاني ـ تعريف النفاس ومدته
أولاً ـ تعريف النفاس: المبحث الثاني ـ تعريف النفاس ومدته أولاًـ تعريف النفاس: النفاس عند الحنفية والشافعية (¬1): هو الدم الخارج عقب الولادة. أما الخارج مع الولد حال الولادة أو قبله، فهو دم فساد واستحاضة، فتتوضأ إن قدرت وتصلي، وأضاف الحنفية: أو تتيمم وتومئ بصلاة ولا تؤخر الصلاة. واستثنى الشافعية الدم الخارج قبل الولادة المتصل بحيض قبله، بناء على أن الحامل تحيض في الأصح عندهم، وقال المالكية: الدم الذي يخرج قبل الولادة هو دم حيض. والنفاس عند الحنابلة (¬2): الدم الخارج بسبب الولادة. والدم النازل قبل الولادة بيومين أو ثلاثة مع أمارة كالطلق، والدم الخارج مع الولادة هو دم نفاس عندهم، كالدم الخارج عقب الولادة. ويعد الدم عند هؤلاء دم نفاس: بخروج أكثر الولد، ولو متقطعاً عضواً عضواً، ولو سِقْطاً (¬3) استبان فيه بعض خلقة الإنسان كأصبع أو ظفر، ولو بين توأمين (¬4)، إلا أن الأصح عند الشافعية أن النفاس معتبر من الولد الثاني، ومايخرج بعد الأول هو حيض ان اتصل بحيض سابق وإلا فهو استحاضة. فإن رأت دماً بعد إلقاء نطفة أو علقة، فليس بنفاس، أما المالكية فقالوا (¬5): ¬
ثانيا ـ مدة النفاس
النفاس: هو ما خرج من قُبُل المرأة عند ولادتها مع الولادة أو بعدها، ولو بين توأمين. أما ما خرج قبل الولادة، فالراجح أنه حيض، فلا يحسب من الستين يوماً. ثانياً ـ مدة النفاس: للنفاس مدة دنيا وقصوى وغالبة (¬1). أما المدة الدنيا: فقال الشافعية: أقله لحظة أي مجة أو دفعة. وقال الأئمة الآخرون: لا حد لأقله، لأنه لم يرد في الشرع تحديده، فيرجع فيه إلى الوجود الفعلي، وقد وجد قليلاً وكثيراً. والظاهر ألا خلاف بين الرأيين، والمراد بهما واحد. وقد تلد المرأة ولا ترى الدم، روي أن امرأة ولدت على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، «فلم تر نفاساً»، فسميت ذات الجفوف. وغالبه عند الشافعية أربعون يوماً. وأكثره عند المالكية والشافعية ستون يوماً والمعتمد في ذلك هو الاستقراء، وعند الحنفية والحنابلة: أربعون يوماً، وما زاد عن ذلك فهو استحاضة، بدليل قول أم سلمة: «كانت النفساء تجلس على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم أربعين يوماً وأربعين ليلة» (¬2). ¬
المبحث الثالث ـ أحكام الحيض والنفاس وما يحرم على الحائض والنفساء
لكن قال فيه الشافعية: لا دلالة فيه على نفي الزيادة، أو محمول على الغالب أو على نسوة مخصوصات. المبحث الثالث ـ أحكام الحيض والنفاس وما يحرم على الحائض والنفساء: للحيض أحكام خمسة وهي ما يلي (¬1): 1 ً - الحيض ومثله النفاس يوجب الغسل بعد انقطاعه، لقوله تعالى: {ويسألونك عن المحيض، قل: هو أذى، فاعتزلوا النساء في المحيض، ولا تقربوهن حتى يطْهُرنَ، فإذا تطَّهرْنَ فأتوهن من حيث أمركم الله} [البقرة:222/ 2]. ولقوله صلّى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حُبَيْش: «فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنكِ الدم وصَلِّي» (¬2) وفي رواية للبخاري: «ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلي وصلي». 2 ً - البلوغ: تبلغ الأنثى وتصبح أهلاً للتكاليف الشرعية بالحيض، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار» (¬3) فأوجب عليها أن تستتر لأجل الحيض، فدل على أن التكليف حصل به. 3 ً - الحكم ببراءة الرحم في الاعتداد بالحيض، ومن المعلوم أن الأصل في مشروعية العدة العلم ببراءة الرحم. 4 ً - الاعتداد بالحيض في رأي الحنفية والحنابلة؛ لأن الأقراء الثلاثة المنصوص عليها في القرآن الكريم هي الحيضات، ولا تنتهي عدة المطلقة غير الحامل إلا بانتهاء الحيضة الثالثة ولا تحتسب الحيضة التي وقع الطلاق في أثنائها. وقال ¬
- الكفارة بالوطء في أثناء الحيض عند الحنابلة،
المالكية والشافعية: القرء: الطهر، فتحسب العدة بزمن الأطهار، وتنتهي العدة بابتداء الحيضة الثالثة، ويحتسب الطهر الذي وقع الطلاق فيه من الأطهار الثلاثة ولو كان لحظة. 5 ً - الكفارة بالوطء في أثناء الحيض عند الحنابلة، وسيأتي الكلام في ذلك في بحث ما يحرم بالحيض. ما يحرم بالحيض والنفاس: يحرم بالحيض والنفاس ما يحرم بالجنابة وهي سبعة أمور: الصلوات كلها، وسجود التلاوة، ومس المصحف، ودخول المسجد، والطواف، والاعتكاف، وقراءة القرآن، لكن أجاز المالكية على المعتمد للحائض والنفساء قراءة القرآن عن ظهر قلب إلا بعد انقطاع الدم وقبل غسلها، سواء أكانت جنباً حال حيضها أو نفاسها أم لا. ويزاد على ذلك أمور أخرى، وقد عد الحنفية ثمانية أمور تحرم على الحائض والنفساء، والمالكية عدوا اثني عشر، وهي السبعة السابقة وخمسة أخرى وهي الصيام، والطلاق، والجماع في الفرج قبل انقطاع الدم، والجماع بما دون الفرج قبل انقطاع الدم، والجماع بعد انقطاع الدم وقبل الاغتسال. وعد الشافعية ثمانية أمور، والحنابلة خمسة عشر أمراً. وتفصيل هذه الممنوعات في حالة الحيض ومثله النفاس وأدلتها بتبين فيما يأتي (¬1): ¬
- الطهارة
1ً - الطهارة: غسلاً أو وضوءاً: في رأي الشافعية والحنابلة، فإذا حاضت المرأة، حرم عليها الطهارة للحيض؛ لأن الحيض ومثله النفاس يوجب الطهارة، وما أوجب الطهارة منع صحتها كخروج البول، أي أن انقطاعه شرط لصحة الطهارة له. لكن يجوز الغسل لجنابة أو إحرام ودخول مكة ونحوه (¬1) بل يستحب لذلك. 2ً - الصلاة: يحرم على الحائض والنفساء الصلاة، لحديث فاطمة بنت أبي حُبَيش المتقدم: «إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة» لكن يسقط فرض الصلاة ولا يقضى، بإجماع العلماء، لما روت عائشة رضي الله عنها: «كنا نحيض على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة» (¬2)، ولأنه يشق قضاء الصلاة لتكرر الحيض وطول مدته، بخلاف الصوم. ويحرم على الحائض قضاء الصلاة، والمعتمد عند الشافعية أنه يكره وتنعقد نفلاً مطلقاً لا ثواب فيه. 3ً - الصوم: يحرم على الحائض والنفساء الصوم ويمنع صحته، لحديث عائشة السابق، فإنه يدل على أنهن كن يفطرن. ولا يسقط قضاؤه عنهما فتقضي الحائض والنفساء الصوم دون الصلاة للحديث نفسه، ولأن الصوم في السنة مرة، فلا يشق قضاؤه، فلم يسقط. وهناك حديث آخر عن أبي سعيد الخدري: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال للنساء: أليس شهادةُ المرأة مثلَ نصف شهادة الرجل؟ قلن: بلى، قال: فذلكن من نقصان عقلها. أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ قلن: بلى؟ قال: فذلكن من نقصان دينها» (¬3). ¬
- الطواف
4ً - الطواف: لقوله صلّى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنهما: «إذا حضت، افعلي ما يفعل الحاج، غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري» (¬1) ولأنه يفتقر إلى الطهارة ولا يصح من الحائض. 5ً - قراءة القرآن ومس المصحف وحمله، كما سبق في الجنابة، لقوله تعالى {لا يمسه إلا المطهرون} [الواقعة:79/ 56]، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن» (¬2) واستثنى الشافعية حالة الخوف على القرآن من غرق أو حرق أو نجاسة أو وقوعه في يد كافر، فيجب حمله حينئذ، كما يجوز حمله باتفاق العلماء في تفسير أكثر منه يقيناً، ولا يجوز حمله عند الشافعية إذا قصده مع المتاع على المعتمد. واستثنى الحنفية حالة مس القرآن بغلاف متجاف عن القرآن، ويكره مسه بالكم تحريماً لتبعيته للابس، ويرخص لأهل كتب الشريعة من حديث وفقه وتفسير أخذ الورقة بالكم وباليد للضرورة، ويكره مسها؛ لأنها لا تخلو عن آيات القرآن، والمستحب ألا تقلب ورقة القرآن إلا بوضوء. وأجازوا تقليب أوراق المصحف بنحو قلم للقراءة، كما أجازوا للصبي حمل القرآن ورفعه لضرورة التعلم، ولا يكره النظر للقرآن لجنب وحائض ونفساء؛ لأن الجنابة لا تحل العين. وتكره كتابة القرآن وأسماء الله تعالى على الدراهم والمحاريب والجدران وما يفرش، وتكره القراءة في المخرج والمغتسل والحمام. ولا تكره كتابة آية الكرسي على صحيفة منفصلة عن الكاتب، إلا أن يمسها بيده. ¬
- دخول المسجد، واللبث والاعتكاف فيه، ولو بوضوء،
6ً - دخول المسجد، واللبث والاعتكاف فيه، ولو بوضوء، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا أحل المسجد لحائض ولا جنب» (¬1). وأجاز الشافعية والحنابلة للحائض والنفساء العبور في المسجد إن أمنت تلويثه، لأنه يحرم تلويث المسجد بالنجاسة وغيرها من الأقذار بسبب المكث فيه، ولما روت عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ناوليني الخُمْرة من المسجد» فقلت: «إني حائض» فقال: «إن حيضتك ليست في يدك» (¬2) وعن ميمونة رضي الله عنها قالت: «تقوم إحدانا بالخُمْرة إلى المسجد، فتبسُطُها وهي حائض» (¬3) هذا .. وأباح الحنابلة أيضاً للحائض المكث في المسجد بوضوء بعد انقطاع الدم، لانتفاء المحذور وهو خشية تلويث المسجد. 7ً - الوطء في الفرج (الجماع) ولو بحائل باتفاق العلماء، والاستمتاع بما بين السرة والركبة عند الجمهور (غير الحنابلة)، لقوله تعالى: {فاعتزلوا النساء في المحيض، ولا تقربوهن حتى يطهرن} [البقرة:222/ 2] والمراد بالاعتزال: ترك الوطء، ولقوله صلّى الله عليه وسلم لعبد الله بن سعد حينما سأله: ما يحل لي من امرأتي، وهي حائض؟ قال: «لك ما فوق الإزار» (¬4) ولأن الاستمتاع بما تحت الإزار يدعو إلى الجماع، فحرم لخبر الصحيحين عن النعمان بن بشير: «من حام حول الحمى ¬
يوشك أن يقع فيه» والإزار: الثوب الذي يستر وسط الجسم وما دونه، وهو ما بين السرة والركبة غالباً، فما عدا ذلك جائز بالذكر أو القبلة أوالمعانقة أو اللمس أو غير ذلك. وأباح الحنابلة الاستمتاع بالحائض ونحوها بما دون السرة وفوق الركبة ما عدا الوطء في الفرج، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «اصنعوا كل شيء إلا النكاح» (¬1)، كما أنهم أباحوا الجماع لمن به شَبَق بشرط ألا تندفع شهوته بدون الوطء في الفرج، ويخاف تشقق أنثييه إن لم يطأ، ولا يجد غير الحائض بأن لا يقدر على مهر حرة، ولا ثمن أمَة ... وتستمر حرمة الوطء والاستمتاع بما بين السرة والركبة عند المالكية والشافعية حتى تغتسل، أي تطهر بالماء لا بالتيمم، إلا في حال فقد الماء أوالعجز عن استعماله، فيباح الوطء بالتيمم. واستدلوا بقوله تعالى: {فاعتزلوا النساء في المحيض، ولا تقربوهن حتى يطهرن، فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله} [البقرة:222/ 2] فالله تعالى شرط لحل الوطء شرطين: انقطاع الدم، والغسل، الأول من قوله تعالى: {حتى يطهرن} [البقرة:222/ 2] أي ينقطع دمهن، والثاني: من قوله عز وجل: {فإذا تطهرْن} أي اغتسلن بالماء {فأتوهن} [البقرة:222/ 2] فتصير إباحة وطئها موقوفة على الغسل. وهذا هو رأي الحنابلة أيضاً في حرمة الوطء (الجماع). وكذلك قال الحنفية: إذا انقطع دم الحيض لأقل من عشرة أيام، لم يحل وطؤها أو الاستمتاع بها حتى تغتسل أو تتيمم بشرطه، وإن لم تصل به في ¬
الأصح؛ لأن الدم تارة يدر، وتارة ينقطع، فلا بد من الاغتسال ليترجح جانب الانقطاع. فإن لم تغتسل ومضى عليها وقت صلاة كامل، بأن تجد من الوقت زمناً يسع الغسل ولبس الثياب وتحريمة الصلاة، وخرج الوقت، ولم تُصَلِّ، حل وطؤها؛ لأن الصلاة صارت ديناً في ذمتها، فطهرت حكماً. ولو انقطع دم الحائض لدون عادتها، فوق الأيام الثلاثة، لم يقربها حتى تمضي عادتها، وإن اغتسلت؛ لأن النقاء عندهم حيض كما عرفنا، ولأن العَوْد في العادة غالب، فكان الاحتياط في الاجتناب. وإن انقطع دم الحائض لعشرة أيام، وهو أكثر الحيض عندهم، جاز وطؤها قبل الغسل؛ لأن الحيض لا مزيد له على العشرة؛ إلا أنه لا يستحب قبل الغسل، للنهي عنه في قراءة {ولا تقربوهن حتى يطَّهَّرن} [البقرة:2/ 222] بالتشديد، والتشديد يدل على المبالغة في الطهارة، وذلك إنما يكون بالاغتسال فعلاً، لا بانقطاع الدم. والخلاصة: أن الحنفية أجازوا الوطء في حالة الحيض ومثله النفاس قبل الغسل في حالتين، لقوله تعالى: {ولا تقربوهن حتى يطهرن} [البقرة:2/ 222] بتخفيف الطاء، فإنه جعل الطهر غاية للحرمة. ويستحب ألا يطأها حتى تغتسل لقراءة التشديد، خروجاً من الخلاف. والحالتان هما: أن يمضي على من اع دمها دون العشرة أيام وقت صلاة كامل ويخرج الوقت ولم تصل، وأن ينقطع دمها لعشرة أيام أي بعد أكثر الحيض. أما الحالة الغالبة بين النساء: وهي انقطاع الدم بعد ستة أو سبعة أيام فلا يجوز نقطة أج
كفارة وطء الحائض ونحوها
وطؤها حتى تغتسل، ما لم تصر الصلاة ديناً في ذمتها، وهي الحالة الأولى السابقة، فمن انقطع دمها لأكثر الحيض حلت حينئذ، وإن انقطع دمها لأقل الحيض، لم تحل حتى يمضي وقت صلاة كامل. كفارة وطء الحائض ونحوها: يري المالكية والحنفية والشافعية في المذهب الجديد: أنه لا كفارة على من وطئ حائضاً ونحوها، بل الواجب عليه الاستغفار والتوبة؛ لأن الأصل البراءة، فلا ينتقل عنها إلا بحجة، وحديث الكفارة مضطرب، ولأنه وطء محرم للأذى، فلم تتعلق به الكفارة كالوطء في الدبر. ويرى الحنابلة في أرجح الروايتين عن أحمد: أنه تجب الكفارة على من وطئ امرأة في أثناء الحيض أو النفاس، وتجب على المرأة إن طاوعت الرجل في وطئها في الحيض، ككفارة الوطء في الإحرام، فإن كانت مكرهة فلا شيء عليها، لعدم تكليفها. والكفارة واجبة ولو كان الوطء من ناس ومكره وجاهل الحيض أو الالتحريم، أو كلاهما، ولا تجب الكفارة بوطئها بعد انقطاع الدم. والكفارة دينار أو نصف دينار على سبيل التخيير، أيهما أخرج أجزأه، لما روي عن ابن عباس، عن النبي صلّى الله عليه وسلم: في الذي يأتي امرأته، وهي حائض: يتصدق بدينار أو نصف دينار (¬1) وتسقط كفارة الوطء في الحيض بعجز عنها، ككفارة الوطء في رمضان. وقال الشافعية: يسن لمن وطئ في إقبال الدم التصدق بدينار، ولمن وطئ في إدباره التصدق بنصف دينار، لخبر ابن عباس السابق عن الترمذي: «إذا كان دما أحمر، فدينار، وإن كان دما أصفر فنصف دينار». ووطء الحائض ليس بمعصية كبيرة، لعدم انطباق تعريفها عليه. ¬
- الطلاق
8ً - الطلاق: يحرم الطلاق في الحيض، ويكون الطلاق بدعياً واقعاً، لما فيه من تطويل العدة على المرأة، ولمخالفته قوله تعالى: {إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق:1/ 65] أي في الوقت الذي يشرعن فيه العدة، لأن بقية الحيض لا تحسب من العدة فتتضرر بطول مدة التربص والانتظار، ولما روي عن ابن عمر: «أنه طلق امرأته، فذكر عمر ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: مره فليراجعها، ثم ليطلقها طاهراً أو حاملاً» (¬1). أما بعد انقطاع الدم وقبل الغسل فيحل الطلاق. وهكذا يبين أنه إذا انقطع الدم لم يحل قبل الغسل غيرُ الصوم، والطلاق، والطهر، والصلاة المكتوبة إذا فقدت المرأة الطهورين. أما الصوم: فلأن تحريمه بالحيض، لا بالحدث، بدليل صحته من الجنب، وقد زال الحيض. وأما الطلاق: فلزوال المعنى المقتضي للتحريم، وهو تطويل العدة. وأما الطهر فإنها مأمورة به. وأما الصلاة المكتوبه فهي مأمورة بها أيضاً. ولا تبدأ العدة إذا طلق الرجل زوجته في أثناء الحيض، لقوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة:228/ 2] وبعض القرء ليس بقرء. الفرق بين الحيض والجنابة: عرفنا أن ما يحرم على الحائض ونحوها أكثر مما يحرم على الجنب. وهناك فروق أخرى هي (¬2): ¬
الفرق بين الحيض والنفاس
فالجنب يجوز له أداء الصوم مع الجنابة، ولا يجوز للحائض والنفساء؛ لأن الحيض والنفاس أغلظ من الحدث، وهو معنى قوله صلّى الله عليه وسلم في تفسير نقصان الدين عند المرأة: «تقعد إحداهن شطر عمرها، لا تصوم ولا تصلي» (¬1). ويقضي الجنب الصلاة والصوم، والحائض ونحوها لا تقضي الصلاة وإنما تقضي الصوم فقط؛ لأن الحيض يتكرر في كل شهر، فتحرج في قضاء أيام العادة، ولا حرج في قضاء الصوم؛ لأنه مفروض في السنة مرة. ويحرم قربان المرأة في حالتي الحيض والنفاس، ولا يحرم قربان المرأة التي أجنبت لقوله تعالى: {فاعتزلوا النساء في المحيض} [البقرة:222/ 2] ومثل هذا لم يرد في الجنابة، بل وردت الإباحة بقوله تعالى: {فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم} [البقرة:187/ 2] أي الولد، فقد أباح الله المباشرة وطلب الولد بالجماع مطلقاً على الأحوال. الفرق بين الحيض والنفاس: يفترق الحيض عن النفاس في ثلاثة أمور هي (¬2): 1 - الاعتداد بالحيض عند الحنفية والحنابلة؛ لأن انقضاء العدة بالقروء والنفاس ليس بقرء. 2 - النفاس لا يوجب البلوغ، لحصوله قبله بالحمل؛ لأن الولد ينعقد من الرجل والمرأة، لقوله تعالى: {خلق من ماء دافق، يخرج من بين الصلب والترائب} [الطارق:6/ 86 - 7]. ¬
المبحث الرابع ـ الاستحاضة وأحكامها
3 - لا تحتسب مدة النفاس على المولي في مدة الإيلاء (¬1) في قوله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم تربُّص أربعة أشهر} [البقرة:226/ 2] لأنه ليس بمعتاد، بخلاف الحيض. وبدن الحائض وعَرَقها وسؤرها طاهر، ولا يكره طبخها وعجنها وغير ذلك، ولا وضع يديها في شيء من المائعات، وأجمع العلماء على جواز مؤاكلة الحائض كالمعتاد دون عزلها، لأن المراد من اعتزالها هو وطؤها، روت عائشة فقالت: «كنت أشرب وأنا حائض، فأناوله النبي صلّى الله عليه وسلم، فيضع فاه على موضع فيَّ فيشرب، وأتعرق العَرْق، وأنا حائض، فأناوله النبي صلّى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع فيَّ» (¬2). المبحث الرابع ـ الاستحاضة وأحكامها: تعريف الاستحاضة: هي سيلان الدم في غير أوقاته المعتادة (غير الحيض والنفاس) من مرض وفساد، من عِرْق أدنى الرحم، يقال له العاذل، فكل نزيف من الأنثى قبل مدة الحيض (وهي تسع سنين)، أو نقص عن أقل الحيض، أو زاد على أكثره أو أكثر النفاس، أو زاد عن أيام العادة الشهرية وجاوز أكثر مدة الحيض، أو ما تراه الحامل (الحبلى) في رأي الحنفية والحنابلة، هو استحاضة (¬3). أحكام المستحاضة: هناك أمور ثلاثة تحتاج إلى بحث وهي ما يأتي: ¬
أولا ـ هل يحرم شيء على المستحاضة مما يحرم على الحائض؟
أولاً ـ هل يحرم شيء على المستحاضة مما يحرم على الحائض؟ الاستحاضة حدث دائم كسلَس بول ومذي وغائط وريح باتفاق الفقهاء، أو كرعاف دائم أو جرح لا يرقأ دمه أي لا يسكن عند الحنفية والحنابلة، فلا يمنع شيئاً مما يمنعه الحيض والنفاس من صلاة وصوم ولو نفلاً، وطواف، وقراءة قرآن ومس مصحف ودخول مسجد واعتكاف ووطء بلا كراهة، للضرورة (¬1)، وللأحاديث الثابتة في ذلك، منها: 1 - ما روت عائشة قالت: «قالت فاطمة بنت أبي حبيش لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: إني امرأة أُسْتَحاض، فلا أطهرُ، أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إنما ذلك عِرْق (أي ينزف)، وليس بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، فإذا ذهب قدرها (قدر عادتها) فاغسلي عنك الدم، وصلِّي» (¬2). 2 - أمر النبي صلّى الله عليه وسلم حَمْنة بنت جَحْش بالصوم والصلاة في حالة الاستحاضة (¬3). 3 - روى أبو داود عن عكرمة عن حمنة بنت جحش «أنها كانت مستحاضة وكان زوجها يجامعها» وقال: «كانت أم حبيبة تستحاض وكان زوجها يغشاها» وكانت حمنة زوجة طلحة، وأم حبيبة زوجة عبد الرحمن بن عوف (¬4). وهذا المذكور في إباحة وطء المستحاضة هو ما قرره الفقهاء، منهم الإمام ¬
ثانيا ـ طهارة المستحاضة الوضوء والغسل
أحمد في رواية عنه، وفي رواية أخرى يظهر أنها الراجحة عند الحنابلة: لا توطأ المستحاضة إلا أن يخاف على نفسه الوقو ع في محظور، لما روى الخلال بإسناده عن عائشة: أنها قالت: «المستحاضة لا يغشاها زوجها» ولأن بها أذى، فيحرم وطؤها كالحائض، قال تعالى في الحائض معللاً منع وطئها بالأذى {قل: هو أذى، فاعتزلوا النساء في المحيض} [البقرة:222/ 2]. لكن إذا انقطع دم المستحاضة أبيح وطؤها عند الحنابلة من غير غسل، لأن الغسل ليس بواجب عليها كسلس البول. ثانياً ـ طهارة المستحاضة الوضوء والغسل: قال المالكية (¬1): يستحب للمستحاضة أن تتوضأ لكل صلاة، كما يستحب لها بعد انقطاع الدم الغسل من دم الاستحاضة. وقال الحنفية والشافعية والحنابلة (الجمهور) (¬2): يجب على المستحاضة أن تتوضأ لوقت كل صلاة، بعد أن تغسل فرجها، وتعصِبه، وتحشوه بقطن وما أشبهه إلا إذا أحرقها الدم أو كانت صائمة، والحشو ليرد الدم، لقوله صلّى الله عليه وسلم لحمنة حين شكت إليه كثرة الدم: «أنْعَت لك الكُرْسُفَ، فإنه يُذهب الدمَ» (¬3) فإذا استوثقت (بأن تشد خرقة مشقوقة الطرفين تخرج أحدهما من أمامها والآخر من خلفها، وتربطهما بخرقة تشدها على وسطها كالتكة) ثم خرج الدم من غير تفريط في الشد، لم تبطل صلاتها، لما روت عائشة رضي الله عنها: أن فاطمة ¬
بنت أبي حبيش استحيضت، فقال لها النبي صلّى الله عليه وسلم: «اجتنبي الصلاة أيام محيضك، ثم اغتسلي، وتوضئي لكل صلاة، ثم صَلِّي، وإن قطر الدم على الحصير» (¬1). والدليل على أن المستحاضة تتوضأ لوقت كل فريضة: وهو أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال في المستحاضة: تدع الصلاة أيام أقرائها (حيضاتها)، ثم تغتسل، وتتوضأ عند كل صلاة، وتصوم وتصلي» (¬2) ولأنهاطهارة عذر وضرورة، فتقيدت بالوقت كالتيمم. ولا يجب على المستحاضة إلا غسل واحد باتفاق المذاهب الأربعة بدليل الحديث السابق وغيره كحديث حمنة، ويسن لها عند الشافعية والحنابلة، ويندب عند الحنفية كالمالكية أن تغتسل لكل صلاة، بدليل الحديث المتقدم في الأغسال المسنونة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر أم حبيبة أن تغتسل، فكانت تغتسل عند كل صلاة» (¬3). وتصلي المستحاضة ونحوها عند الحنفية بوضوئها ما شاءت من الفرائض والنوافل. ويبطل وضوءها بخروج الوقت كما بينا في بحث وضوء المعذور. ولها عند الحنابلة أيضاً الجمع بين الصلاتين بوضوء واحد؛ «لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر حمنة بنت جحش بالجمع بين الصلاتين بغسل واحد» وأمر به سهلة بنت سهيل. وخروج الوقت مبطل لهذه الطهارة، أي أن مذهبي الحنفية والحنابلة متفقان. ¬
ثالثا ـ تقدير مدة حيض المستحاضة
أما الشافعية فقالوا: يجب الوضوء لكل فرض ولو منذوراً، كالتيمم لبقاء الحدث، وتصلي به الجنازة وما شاءت من النوافل، وكذا يجب لكل فرض تجديد العِصَابة في الأصح، قياساً على تجديد الوضوء. ويجب أن تبادر إلى الصلاة عقب الوضوء، إلا لمصلحة كستر عورة وأذان وإقامة، وانتظار جماعة واجتهاد في قبلة وذهاب إلى مسجد وتحصيل سترة. وقد سبق بيان ذلك وغيره في بحث وضوء المعذور. ثالثاً ـ تقدير مدة حيض المستحاضة: نظراً لاستمرار نزول الدم على المستحاضة بسبب حالة مرضية، فإنها تحتاج لبيان مدة الحيض الشهرية، لتطبق عليها أحكام الحيض، ويكون الباقي استحاضة، وقد ورد في السنة النبوية مبادئ أساسية في هذا الموضوع، منها ما يأتي: أولاً ـ العمل بالتمييز بصفة الدم، فإذا كان متصفاً بصفة السواد فهو حيض، وإلا فهو استحاضة، أي أن المرأة إذا ميزت دم الحيض عن دم الاستحاضة، عملت بتمييزها، وذلك في حديث عروة عن فاطمة بنت أبي حُبَيش، أنها كانت تستحاض، فقال لها النبي صلّى الله عليه وسلم: إذا كان دم الحيضة، فإنه أسود يعرف، فإذا كان كذلك فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر فتوضئي وصلِّي، فإنما هو عِرْق» (¬1) ينزف. ثانياً ـ بناء المعتادة على عادتها السابقة، في حديث عائشة عن فاطمة بنت أبي حبيش، وفي رواية البخاري: «ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلي، وصلِّي» (¬2). ¬
اختلفت المذاهب في تقدير مدة حيض المستحاضة
ثالثاً ـ رجوع المستحاضة إلى الغالب من عادة النساء: وهي ست أو سبع لفقد العادة والتمييز، في حديث حمنة بنت جحش: « ... إنما هذه رَكْضة من رَكَضات الشيطان (¬1) فتحيَّضي (¬2) ستة أيام أو سبعة في علم الله، ثم اغتسلي، حتى إذا رأيت أنك قد طهُرت، واستَنْقَيت، فصلِّي أربعاً وعشرين ليلة، أو ثلاثاً وعشرين وأيامها، فصومي، فإن ذلك مُجْزيك، وكذلك فافعلي في كل شهر، كما تحيض النساء، وكما يَطْهُرن لميقات حيضِهِن وطهرهن .. » (¬3). وقد اختلفت المذاهب في تقدير مدة حيض المستحاضة على النحو التالي: مذهب الحنفية (¬4): المستحاضة إما مبتدأة: وهي التي ابتدأها الدم مع البلوغ أو في أول نفاس ثم استمر، أو معتادة: وهي التي سبق لها دم وطهر صحيحان، أو متحيرة وهي المعتادة التي نسيت عادتها. أما المبتدأة: فيقدر حيضها بعشرة أيام لأنه لا مزيد للحيض على العشرة، وطهرها بعشرين يوماً من كل شهر (عشرة حيض وعشرون استحاضة) عملا ً بالحديث السابق: «المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها» أي أيام حيضها، كما يقدر نفاسها بأربعين يوماً وطهرها منه بعشرين يوماً، ثم يقدر حيضها بعد ذلك بعشرة أيام، وهكذا حتى تطهر أو تموت. ¬
مذهب المالكية
وأما المعتادة: التي لم تنس عادتها الممتدة الدم: فترد إلى عادتها المعروفة في الحيض والطهر، وما زاد على ذلك فهو استحاضة، فتقضي ما تركت من الصلاة بعد العادة، إلا إذا كانت عادتها في الطهر ستة أشهر فأكثر، فترد إلى ستة أشهر إلا ساعة بالنسبة لانقضاء العدة، وأما بالنسبة لغير العدة فترد إلى عادتها السابقة كما كانت ترى. والمفتى به أن العادة تثبت بمرة. وأما المحيَّرة أو المتحيرة وهي التي نسيت عادتها، فلا يحكم لها بشيء من الطهر أو الحيض على التعيين، بل تأخذ بالأحوط في حق الأحكام الشرعية (¬1)، وأما بالنسبة لانقضاء العدة فيقدر في الأصح بستة أشهر إلا ساعة، لأن الطهر بين الدمين أقل من أدنى مدة الحمل (¬2) عادة، فنقصناه من ذلك ساعة، فإن طُلِّقت تنقضي عدتها بتسعة عشر شهراً إلا ثلاث ساعات، لجواز أن يكون طلقها في أول الطهر، فتحتاج إلى ثلاث حيضات مجموعها شهر (لأن كل حيضة عشرة أيام)، وإلى ثلاثة أطهار مجموعها ثمانية عشر شهراً إلا ثلاث ساعات. مذهب المالكية (¬3): المستحاضة وهي التي استمر بها الدم بعد تمام حيضها: إذا ميزت الدم بتغير رائحة أو لون أو ثخن أو تألم ونحو ذلك لا بكثرة الدم وقلّته، فهو حيض (¬4)، بشرط أن يتقدمه أقل الطهر، وهو خمسة عشر يوماً، علماً بأن دم الحيض أسود ¬
مذهب الشافعية
غليظ، ودم الاستحاضة أحمر رقيق، والصفرة أو الكدرة حيض، كما أبنت في ألوان الدم. ولا تزيد المميزة ثلاثة أيام على عادتها استظهاراً، على الأصح، بل تقتصر على عادتها، ما لم يستمر ما ميزته بصفة الحيض المميز، فإن استمر بصفته استظهرت على المعتمد، والعادة تثبت بمرة. فإن لم تميز، فهي مستحاضة (أي باقية على أنها طاهر)، ولو مكثت طول عمرها، وتعتد عدة المرتابة بسنة بيضاء. وكذلك تكون مستحاضة لو ميزت قبل تمام أقل الطهر، إذ لا عبرة بذلك التمييز ولا فائدة له. والخلاصة: أن المستحاضة لا تعد بحكم الحائض إلا بثلاثة شروط: الأول ـ أن تكون المرأة مميزة. والثاني ـ أن يتغير الدم عن صفة الاستحاضة إلى الحيض. والثالث ـ أن تمضي لها من الأيام في الاستحاضة مقدار أقل الطهر (51 يوماً). مذهب الشافعية (¬1): تسمى المرأة التي زاد دمها على خمسة عشر يوماً مستحاضة، وصورها سبع: 1ً - المُبتَدَأة المميزة: المبتدأة: أول ما ابتدأها الدم، والمميزة: هي التي تميز الدم، فترى قوياً وضعيفاً، كالأسود والأحمر (¬2). ¬
وحكمها: الضعيف استحاضة، والقوي حيض، بشرط ألا ينقص القوي عن أقل الحيض (يوم وليلة)، وألا يعبر أو يجاوز أكثره (وهو خمسة عشر يوماً) لأن الحيض لا يزيد عن ذلك، وبشرط ألا ينقص الضعيف إن استمر عن أقل الطهر (وهو خمسة عشر يوماً) أي بأن يكون ولاء متتابعاً خمسة عشر يوماً فأكثر متصلة. فإن نقص القوي عن أقل الحيض، أو عبر أكثره، أو نقص الضعيف عن أقل الطهر أو لم يكن ولاء متتابعاً، كما لو رأت يوماً أسود، ويوماً أحمر، فهي فاقدة شرطاً من شروط التمييز، يعرف حكمها من الصورة الثانية. 2ً - المبتدأة غير المميزة: وهي أول ما ابتدأها الدم، ولكنها ترى الدم بصفة واحدة. ومثلها المميزة التي فقدت شرطاً من شروط التمييز. وحكمها: أن حيضها يوم وليلة، وطهرها تسع وعشرون إن عرفت وقت ابتداء الدم، وإلا فهي متحيرة سيأتي حكمها. 3ً - المعتادة المميزة: المعتادة: هي التي سبق لها حيض وطهر، والمميزة: هي التي ترى قوياً وضعيفاً، كما تقدم. والأصح أن العادة تثبت بمرة. وحكمها: العمل بالتمييز، لا بعادة مخالفة للتمييز في الأصح، إن لم يتخلل بين القوي والضعيف أقل الطهر. فلو كانت عادتها خمسة من أول الشهر، وبقيته طهر، ثم لما استحيضت ونزل عليها الدم واستمر، فرأت عشرة أيام أسود من أول الشهر، وبقيته أحمر، كان حيضها العشرة، لا الخمسة فقط، للحديث المتقدم «دم الحيض أسود يعرف» ولأن التمييز أقوى من العادة؛ لأن التمييز علامة في الدم، والعادة علامة في صاحبته. فإن كانت العادة متفقة مع التمييز، كما لو كانت عادتها خمسة أيام من أول الشهر، فجاء التمييز كذلك، حكم لها بهما معاً.
وإن تخلل بين نوعي الدم أقل الطهر: كأن رأت بعد خمستها العادية عشرين يوماً ضعيفاً، ثم خمسة قوياً، ثم ضعيفاً، فقدر العادة حيض للعادة، وقدر التمييز حيض آخر للتمييز. 4ً - المعتادة غير المميزة الذاكرة لعادتها قدراً ووقتاً: وهي التي سبق لها حيض وطهر، ولكنها ترى الدم بصفة واحدة، وتذكر مقدار عادتها ووقته. وحكمها: أن ترد إلى العادة قدراً ووقتاً، فلو حاضت في شهر خمسة أيام من أوله مثلاً، ثم استحيضت، فحيضها هو الخمسة من أول الشهر، وطهرها بقية الشهر، عملاً بعادتها، وإن لم تتكرر؛ لأن العادة تثبت بمرة إن لم تختلف، فإن اختلفت فلا تثبت بمرة. 5ً - المعتادة غير المميزة الناسية لعادتها قدراً ووقتاً: بأن سبق لها حيض وطهر، ولم تعلم عادتها قدراً ووقتاً. حكمها: كحائض في أحكام كحرمة الاستمتاع بها وقراءة القرآن في غير الصلاة، ومس المصحف، احتياطاً؛ لأن كل زمن يمر عليها يحتمل الحيض. وهي أيضاً كطاهر في أحكام كالصلاة فرضاً أو نفلاً في الأصح والصوم، احتياطاً؛ لأن كل زمن يمر عليها يحتمل الطهر. وتغتسل لكل فرض في وقته، لاحتمال انقطاع الدم حينئذ إن جهلت وقت الانقطاع. فإن علمته كأن عرفت أنه كان ينقطع عند الغروب، فلا يلزمها الغسل، إلا عند الغروب، وتتوضأ لباقي الفرائض لاحتمال الانقطاع عند الغروب، دون ما عداه، وتصوم رمضان، ثم شهراً كاملاً، ويبقى عليها يومان، لاحتمال أن يطرأ عليها الحيض في أثناء اليوم الأول، واحتمال كونها تحيض أكثر الحيض (51 يوماً) فيفسد صومها في اليوم السادس عشر؛ لأنه يطرأ الدم في أثناء يوم، وينقطع في
أثناء يوم، ويحسب لها أربعة عشر من كل من الشهرين، بثمانية وعشرين يوماً، فيبقى لها يومان، تصوم لهما من ثمانية عشر ثلاثة أولها، وثلاثة آخرها، فيحصلان، علماً بأن أقل الطهر 51 يوماً. 6ً - المعتادة غير المميزة الذاكرة لعادتها قدراً لا وقتاً: كأن تقول: كان حيضي خمسة في العشر الأول من الشهر، لا أعلم ابتداءها، وأعلم أني في اليوم الأول طاهر بيقين، فالسادس حيض بيقين، والأول طهر بيقين، كالعَشْرين الأخيرين، والثاني إلى آخر الخامس محتمل للحيض والطهر، دون الانقطاع، والسابع إلى آخر العاشر محتمل للحيض والطهر والانقطاع. فلليقين من حيض وطهر حكمه، وهي في المحتمل كناسية لهما (الحيض والطهر) كما في الصورة الخامسة. ومعلوم أنه لا يلزمها الغسل إلا عند احتمال الانقطاع. ويسمى ما يحتمل الانقطاع طهراً مشكوكاً فيه، وما لا يحتمله حيضاً مشكوكاً فيه. 7ً - المعتادة غير المميزة، الذاكرة لعادتها وقتاً لا قدراً، كأن تقول: كان حيضي يبتدئني أول الشهر، ولا أعلم قدره. حكمها: يوم وليلة منه حيض بيقين، ونصفه الثاني طهر بيقين، وما بين ذلك محتمل للحيض والطهر والانقطاع. فلليقين من حيض وطهر حكمه، وهي في المحتمل كناسية لهما، كما مر في التي قبلها.
مذهب الحنابلة
والخلاصة: يطلق على الصور الثلاث الأخيرة اسم المتحيرة: وهي التي نسيت عادتها قدراً ووقتاً، أو نسيت القدر دون الوقت، أو بالعكس. والمشهور في حكمها: وجوب الاحتياط، فيحرم الوطء ومس المصحف، والقراءة في غير الصلاة، وتصلي الفرائض كلها، وكذا النفل في الأصح. وتغتسل لكل فرض، وتصوم رمضان، ثم شهراً كاملاً، فيحصل من كل منهما أربعة عشر يوماً، ثم تصوم ثمانية عشر: ثلاثة أولها، وثلاثة آخرها، فيحصل اليومان الباقيان. وما عدا المتحيرة: تعمل أولاً بالتمييز إن كانت مميزة، سواء أكانت مبتدأة أم معتادة. وإن لم تكن مميزة وتعلم عادتها قدراً ووقتاً، ترد إلى عادتها في ذلك، وإن كانت مبتدأة لا مميِّزة، أو فقدت شرط تمييز، فالأظهر أن حيضها يوم وليلة، وطهرها تسع وعشرون. مذهب الحنابلة (¬1): المستحاضة إما مبتدأة أو معتادة، وكل منهما إما مميزة أولا، فإن كانت المبتدأة مميزة عملت بتمييزها، وإن كانت غير مميزة قدر حيضها بيوم وليلة، وتغتسل بعد ذلك، وبقية الشهر طاهرة، وذلك في الشهور الثلاثة الأولى، ثم تنتقل في الشهر الرابع إلى غالب الحيض وهو ست أو سبع باجتهادها. وتفصيل كلامهم فيما يأتي: 1ً - المبتدأة غير المميزة: يقدر حيضها بيوم وليلة؛ لأنه المتيقن، وما زاد مشكوك فيه كغير المستحاضة، ثم تغتسل وتصلي احتياطاً لبراءة ذمتها، ولكن يحرم وطؤها في مدة خمسة عشر يوماً إن استمر بها الدم هذه المدة. فإن انقطع الدم قبل هذه المدة اغتسلت عند انقطاعه غسلاً ثانياً، ويباح وطؤها حينئذ. ¬
تفعل هكذا في ثلاثة أشهر، في كل شهر مرة؛ لأن العادة لا تثبت بدون التكرار ثلاث مرات في ظاهر المذهب أو أكثر الروايات عن أحمد. وفي الشهر الرابع تنتقل إلى غالب الحيض وهو ستة أيام أو سبعة باجتهادها وتحريها، ورأيها، فتعمل بما يغلب على ظنها أنه أقرب إلى عادتها، أو عادة نسائها، أو ما يكون أشبه بكونه حيضاً. وإن جاوز دمها أكثر الحيض (51 يوماً) فهي مستحاضة، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «إنما ذلك عرق، وليس بحيضة» ولأن الدم كله لا يصلح أن يكون حيضاً. 2ً - المبتدأة المميزة: بأن ميزت الدم الأسود أو الثخين أو المنتن عن الرقيق الأحمر غير المنتن، فتعمل بالتمييز، ويكون حيضها زمن الأسود أو زمن الثخين، أو زمن المنتن إن لم ينقص عن أقل الحيض (يوم وليلة) ولم يجاوز أكثره (خمسة عشر يوماً) لحديث عائشة في قصة فاطمة بنت أبي حبيش بلفظ النسائي: «إذا كان الحيض، فإنه أسود يعرف، فأمسكي عن الصلاة، وإذا كان الآخر فتوضئي وصلي، فإنما هو دم عرق»، فإن نقص عن يوم وليلة فهو استحاضة، وإن جاوز الخمسة عشر، بأن كان الأسود عشراً، والأحمر ثلاثين مثلاً، فحيضها زمن الدم الأسود، وما عداه استحاضة؛ لأنه لا يصلح حيضاً. 3ً - المعتادة غير المميزة: ترجع إلى عادتها، لتعمل بها، لما يأتي في الصورة التالية. 4ً - المعتادة المميزة: بأن ترى بعض دمها أسود أو ثخيناً أو منتناً، فتقدم العادة على التمييز، سواء اتفق تمييزها وعادتها، بأن تكون عادتها أربعة مثلاً من أول الشهر، وكان دم هذه الأربعة الآن أسود، ودم باقي الشهر أحمر، أو اختلفا أي العادة والتمييز، بأن تكون عادتها ستة أيام، وترى الآن أربعة أسود، وباقي الشهر أحمر؛ لقوله صلّى الله عليه وسلم: «دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم
اغتسلي وصلي» ولأن العادة أقوى؛ لأنها لاتبطل دلالتها، بخلاف اللون إذا زاد على أكثر الحيض بطلت دلالته. 5ً - المعتادة المميزة الناسية لعادتها: تعمل كالمبتدأة بالتمييز الصالح؛ لأنه يكون حيضاً. والتمييز الصالح: هو ألا يكون الدم ناقصاً عن يوم وليلة، وألا يجاوز خمسة عشر يوماً. وذلك عملاً بحديث فاطمة بنت أبي حبيش: «إذا كان دم الحيض فإنه أسود يعرف، فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر فتوضئي، فإنما هو عرق». 6ً - المتحيرة: وهي التي تحيرت في حيضها بجهل العادة، وعدم التمييز، ولها أحوال ثلاثة: أـ الناسية لوقت عادتها وعددها: يكون حيضها في كل شهر ستة أيام أو سبعة بحسب اجتهادها ورأيها فيما يغلب على ظنها أنه أقرب إلى عادتها أو عادة نسائها، أو ما يكون أشبه بكونه حيضاً، ثم تغتسل، وتعتبر فيما بعد ذلك مستحاضة، تصوم وتصلي وتطوف، عملاً بحديث حمنة بن جحش: «فتحيَّضي ستة أو سبعة أيام في علم الله، ثم اغتسلي ... ». ب ـ الناسية عدد عادتها، وتذكر وقتها: كالتي تعلم أن حيضها في العشر الأول من الشهر، ولا تعلم عدده، حكمها كالحالة الأولى، ترد إلى غالب الحيض: ست أو سبع، في أصح الروايتين. جـ ـ الناسية لوقتها دون عددها: أي أنها عالمة بالعدد ناسية للموضع، كأن تعلم عدد أيام حيضتها، وتنسى موضعها بأن لم تدر أكانت تحيض في أول الشهر أو أوسطه أو آخره؟ حكمها: أن تجعل أيام حيضتها من أول كل شهر هلالي؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم (جعل حيضة حمنة من أول الشهر، والصلاة في بقيته) ولأن دم الحيض هو الأصل، والاستحاضة عارضة، فيقدم دم الحيض.
الباب الثاني: الصلاة
البَابُ الثَّاني: الصَّلاة (¬1) وفيه عشرة فصول: الفصل الأول ـ تعريف الصلاة، مشروعيتها وحكمة تشريعها، فرضيتها وفرائضها، حكم تارك الصلاة. الفصل الثاني ـ أوقات الصلاة، وفيه بحث: متى تدرك الصلاة أداء؟ الفصل الثالث ـ الأذان والإقامة. الفصل الرابع ـ شروط الصلاة (شروط التكليف بها أو الوجوب، وشروط بحث صلاة المريض. الفصل الخامس ـ أركان الصلاة (أو فرائضها) وواجباتها عند الحنفية وفيه بحث صلاة المريض. الفصل السادس ـ سنن الصلاة ومندوباتها وصفتها (كيفيتها) ومكروهاتها، والأذكار الواردة عقبها، وفيه بحث أمور مستقلة ثلاثة وهي: سترة المصلي، والقنوت، والوتر. ¬
الفصل السابع ـ مفسدات أو مبطلات الصلاة. الفصل الثامن ـ النوافل أو صلاة التطوع وترتيب أفضليتها. الفصل التاسع ـ أنواع خاصة من السجود (سجود السهو، وسجدة التلاوة، وسجدة الشكر)، وقضاء الفوائت. الفصل العاشر ـ أنواع الصلاة: وفيه ثمانية مباحث: المبحث الأول ـ صلاة الجماعة وأحكامها (الإمامة والاقتداء) وفيه بحث صلاة المسبوق، والاستخلاف والبناء على الصلاة. المبحث الثاني ـ صلاة الجمعة وخطبتها. المبحث الثالث ـ صلاة المسافر (الجمع والقصر). المبحث الرابع ـ صلاة العيدين. المبحث الخامس ـ صلاة الكسوف والخسوف. المبحث السادس ـ صلاة الاستسقاء. المبحث السابع ـ صلاة الخوف. المبحث الثامن ـ صلاة الجنازة، وأحكام الجنائز والشهداء والقبور.
صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم
صفة صلاة النبي صلّى الله عليه وسلم: هذه صفة واضحة لصلاة النبي صلّى الله عليه وسلم، أثْبتها هنا قبل تفصيل الكلام عن الصلاة، كما رواها المحدِّثون الثقات، أخرج البخاري وأبو داود والترمذي عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: سمعت أبا حميد الساعديّ في عشرة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم ـ منهم أبو قتادة ـ قال أبو حميد: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قالوا: فلِمَ؟ فوالله ما كنتَ بأكثرنا له تَبَعاً، ولا أقدمنا له صحبةً، قال: بلى، قالوا: فاعرض، قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة، يرفع يديه حتى يُحاذِيَ بهما مَنْكِبيه، ثم يُكَبِّر حتى يَقِرَّ كل عظم في موضعه معتدلاً، ثم يقرأ، ثم يكبر ويرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه معتدلاً، ثم يركع ويضع راحتيه على ركبتيه، ثم يعتدل ولا يَنْصِبُ رأسه ولا يُقْنِعُ (¬1)، ثم يرفع رأسه فيقول: سمع الله لمن حمده، ثم يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه معتدلاً، ثم يقول: الله أكبر، ثم يَهْوي (¬2) إلى الأرض، فيجافي يديه عن جنبيه، ثم يرفع أسه، ويُثْني رجله اليسرى فيقعد عليها (¬3)، ويفتح أصابع رجليه إذا سجد، ويسجد، ثم يقول: الله أكبر، ويرفع، ويُثْني رجله اليسرى فيقعد عليها، حتى يرجع كل عظم إلى موضعه، ثم يصنع في الآخر مثل ذلك. ¬
ثم إذا قام من الركعتين، كبَّر ورفع يديه حتى يحاذيَ بهما منكبيه، كما كبر عند افتتاح الصلاة، ثم يصنع ذلك في بقية صلاته. حتى إذا كانت السجدة التي فيها التسليم أخرَّ رجله، وقعد مُتَورِّكاً (¬1) على شِقِّه الأيسر، قالوا: صدقت، هكذا كان يصلي صلّى الله عليه وسلم. وفي رواية قال: «كنت في مجلس من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قال: اذكروا صلاته، فقال أبو حميد ـ فذكر بعض هذا الحديث ـ فتذكر: فإذا ركع أمْكَن كفّيه من ركبتيه، وفرَّج بين أصابعه، وهَصَر (¬2) ظهره، غير مُقْنِع رأسه، ولا صافِحٍ بخدِّه (¬3)، وقال: فإذا قعد في الركعتين، قعد على بطن قدمه اليسرى، ونصب اليمنى، فإذا كان في الرابعة أفضى بوَرِكه اليسرى إلى الأرض، وأخرج قدميه من ناحية واحدة». وفي رواية أخرى: قال: «إذا سجد وضع يديه غير مُفْترش (¬4) ولا قابِضهما، واستقبل بأطراف أصابعه القبلة». وفي رواية قال: «ثم رفع رأسه ـ يعني من الركوع ـ فقال: سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد، ورفع يديه». وأخرج أبو داود والترمذي والنسائي عن رفاعة بن رافع رضي الله عنه حديثاً علَّم فيه النبي صلّى الله عليه وسلم رجلاً بدوياً كيفية الصلاة، حينما صلى فأخَفَّ صلاته، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إنه لا تتم صلاةُ أحد من الناس حتى يتوضأ، فيضع الوضوء ـ يعني ¬
مواضعه ـ ثم يكبر، ويحمد الله عز وجل، ويُثْني عليه، ثم يقرأ بما شاء من القرآن، ثم يقول: الله أكبر، ثم يركع حتى تطمئن مفاصلُه، ثم يرفع، ثم يقول: سمع الله لمن حمده، حتى يستوي قائماً، ويقول: الله أكبر، ثم يسجد، حتى تطمئن مفاصله، ثم يقول: الله أكبر، ويرفع رأسه حتى يستوي قاعداً، ثم يقول: الله أكبر، ثم يسجد حتى تطمئن مفاصلُه، ويرفع ثانية ليكبِّر، فإذا فعل ذلك تمت صلاته».
الفصل الأول: تعريف الصلاة، ومشروعيتها وحكمة تشريعها فرضيتها وفرائضها، حكم تارك الصلاة
الفَصْلُ الأوَّل: تعريف الصَّلاة، ومشروعيَّتها وحكمة تشريعها فرضيَّتها وفرائضها، حكم تارك الصَّلاة حقيقة الصلاة: الصلاة لغة: الدعاء أو الدعاء بخير، قال تعالى: {وصل عليهم إن صلاتك سَكَن لهم} [التوبة:9/ 301] أي ادع لهم. وشرعاً: هي أقوال وأفعال مخصوصة، مفتتحة بالتكبير، مختتمة بالتسليم. مشروعيتها: الصلاة واجبة بالكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب: فقوله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، وذلك دين القيِّمة} [البينة:5/ 89] وقوله سبحانه: {فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، واعتصموا بالله هو مولاكم، فنعم المولى ونعم النصير} [الحج:22/ 87]، مع آي كثيرة مثل: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً} [النساء:4/ 301]. وأما السنة: فأحاديث متعددة، منها: حديث ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «بني الإسلام على خمس، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقامِ الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً» (¬1)، وفي معناه حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «الإسلام: أن ¬
تاريخها ونوع فرضيتها وفرائضها
تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا» (¬1). وأما الإجماع: فقد أجمعت الأمة على وجوب خمس صلوات في اليوم والليلة. تاريخها ونوع فرضيتها وفرائضها: فرضت الصلاة ليلة الإسراء قبل الهجرة بنحو خمس سنين على المشهور بين أهل السير، لحديث أنس، قال: «فرضت على النبي صلّى الله عليه وسلم الصلوات ليلة أسري به خمسين، ثم نقصت حتى جعلت خمساً، ثم نودي: يا محمد، إنه لا يبدل القول لدي، وإن لك بهذه الخمسة خمسين» (¬2). وقال بعض الحنفية: فرضت ليلة الإسراء قبل السبت سابع عشر من رمضان قبل الهجرة بسنة ونصف. وجزم الحافظ ابن حجر بأنه ليلة السابع والعشرين من رجب، وعليه عمل أهل الأمصار. وهي فرض عين على كل مكلف (بالغ عاقل)، ولكن تؤمر بها الأولاد لسبع سنين، وتضرب عليها لعشر، بيدٍ، لا بخشبة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «مُروا صبيانكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر سنين، وفرِّقوا بينهم في المضاجع» (¬3). والصلوات المكتوبات خمس في اليوم والليلة، ولا خلاف بين المسلمين في وجوبها، ولا يجب غيرها إلا بنذر، للأحاديث السابقة، ولحديث الأعرابي: ¬
حكمة تشريع الصلاة
«خمس صلوات في اليوم والليلة» قال الأعرابي: «هل علي غيرها؟ قال: «لا، إلا تطَّوع» (¬1) ولقوله صلّى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: «أخبرهم أن الله تعالى فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة» (¬2). وقال أبو حنيفة رحمه الله: الوتر واجب، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله قد زادكم صلاة، وهي الوتر» (¬3) وهذا يقتضي وجوبه، وقال عليه السلام: «الوتر واجب على كل مسلم» (¬4). حكمة تشريع الصلاة: الصلاة أعظم فروض الإسلام بعد الشهادتين، لحديث جابر: «بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة» (¬5). وقد شرعت شكراً لنعم الله تعالى الكثيرة، ولها فوائد دينية وتربوية على الصعيدين الفردي والاجتماعي. فمن فوائدها الدينية: عقد الصلة بين العبد وربه، بما فيها من لذة المناجاة للخالق، وإظهار العبودية لله، وتفويض الأمر له، والتماس الأمن والسكينة والنجاة في رحابه، وهي طريق الفوز والفلاح، وتكفير السيئات والخطايا، قال تعالى: {قد أفلح المؤمنون، الذين هم في صلاتهم خاشعون} [المؤمنون23/ 1 - 2] ¬
من فوائدها الشخصية
{إن الإنسان خلق هلوعاً، إذا مسه الشر جزوعاً، وإذا مسه الخير منوعاً إلا المصلين} [المعارج:70/ 19 - 20]. وقال صلّى الله عليه وسلم: «أرأيتم لو أن نَهَراً بباب أحدكم، يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، هل يَبْقى من دَرَنه شيء؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء. قال: فكذلك مَثَل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا» (¬1). وفي حديث آخر عن أبي هريرة أيضاً أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن، ما لم تُغْشَ الكبائر» (¬2). وعن عبد الله بن عمرو مرفوعاً: «إن العبد إذا قام يصلي، أُتي بذنوبه فوضعت على رأسه أو على عاتقه، فكلما ركع أو سجد، تساقطت عنه» (¬3) أي حتى لا يبقى منها شيء إن شاء الله تعالى. ومن فوائدها الشخصية: التقرب بها إلى الله تعالى ومعراج النفس إلى ربها، قال الله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات:51/ 56] وفيها تقوية النفس والإرادة، والاعتزاز بالله تعالى دون غيره، والسمو عن الدنيا ومظاهرها، والترفع عن مغرياتها وأهوائها، وعما يحلو في النفس مما لدى الآخرين من جاه ومال وسلطان، قال الله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة، وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين} [البقرة:2/ 45]. كما أن في الصلاة راحة نفسية كبيرة، وطمأنينة روحية، وبعداً عن الغفلة ¬
من فوائدها الاجتماعية
التي تصرف الإنسان عن رسالته السامية الخالدة في هذه الحياة، قال صلّى الله عليه وسلم: «حُبِّب إلي من دنياكم: النساء والطيب، وجعلت قُرَّة عيني في الصلاة» (¬1)، وكان عليه السلام ـ فيما رواه أحمد ـ إذا حَز به أمر (أي نزل به هم أو غم) قال: «أرحنا بها يا بلال» (¬2). وفي الصلاة: تدرب على حب النظام والتزام التنظيم في الأعمال وشؤون الحياة، واحترا م الوقت وتقديره لأدائها في أوقات منظمة، وبها يتعلم المرء خصال الحلم والأناة والسكينة والوقار، ويتعود على حصر الذهن في المفيد النافع، لتركيز الانتباه في معاني آي القرآن وعظمة الله تعالى ومعاني الصلاة. كما أن الصلاة مدرسة خلقية عملية انضباطية تربي فضيلة الصدق والأمانة، وتنهى عن الفحشاء والمنكر، قال الله سبحانه: {وأقم الصلاة، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} [العنكبوت:92/ 54]. ومن فوائدها الاجتماعية: إقرار العقيدة الجامعة لأفراد المجتمع، وتقويتها في نفسهم، وفي تنظيم الجماعة في تماسكها حول هذه العقيدة، وفيها تقوية الشعور بالجماعة، وتنمية روابط الانتماء للأمة، وتحقيق التضامن الاجتماعي، ووحدة الفكر والجماعة التي هي بمثابة الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. وفي صلاة الجماعة: فوائد عميقة وكثيرة، من أهمها إعلان مظهر المساواة، وقوة الصف الواحد، ووحدة الكلمة، والتدرب على الطاعة في القضايا العامة أو المشتركة باتباع الإمام فيما يرضي الله تعالى، والاتجاه نحو هدف واحد وغاية نبيلة سامية هي الفوز برضوان الله تعالى. ¬
حكم تارك الصلاة
كما أن بها تعارف المسلمين وتآلفهم، وتعاونهم على البر والتقوى، وتغذية الاهتمام بأوضاع وأحوال المسلمين العامة، ومساندة الضعيف والسجين والملاحَق بتهمة والغائب عن أسرته وأولاده. ويعد المسجد والصلاة فيه مقراً لقاعدة شعبية منظمة متعاونة متآزرة، تخرِّج القيادة، وتدعم السلطة الشرعية، وتصحح انحرافاتها وأخطاءها بالكلمة الناصحة والموعظة الحسنة، والقول الليِّن، والنقد البناء الهادف؛ لأن «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً» (¬1). والصلاة تميِّز المسلم عن غيره، فتكون طريقاً للثقة والائتمان، وبعث روح المحبة والمودة فيما بين الناس، جاء في الحديث: «من استقبل قبلتنا، وصلى صلاتنا، وأكل ذبيحتنا، فهو المسلم، له ما للمسلم، وعليه ما على المسلم» (¬2). حكم تارك الصلاة: اتفق المسلمون على أن الصلاة واجبة على كل مسلم بالغ عاقل طاهر، أي غير ذي حيض أو نفاس، ولا ذي جنون أو إغماء، وهي عبادة بدنية محضة لا تقبل النيابة أصلاً، فلا يصح أن يصلي أحد عن أحد، كما لا يصح أن يصوم أحد عن أحد. وأجمع المسلمون على أن من جحد وجوب الصلاة، فهو كافر مرتد، لثبوت فرضيتها بالأدلة القطعية من القرآن والسنة والإجماع، كما أبنت. ومن تركها تكاسلاً وتهاوناً فهو فاسق عاص، إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام، أو لم يخالط المسلمين مدة يبلغه فيها وجوب الصلاة. وترك الصلاة موجب للعقوبة الأخروية والدنيوية، أما الأخروية فلقوله تعالى: {ما سلككم في سَقَر؟ قالوا: لم نك من المصلين} [المدثر:74/ 42 - 43] ¬
{فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون} [الماعون:107/ 4 - 5]، {فخلَف من بعدهم خَلْف أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، فسوف يلقون غيّاً} [مريم:19/ 59]. وقال صلّى الله عليه وسلم: «من ترك الصلاة متعمداً، فقد برئت منه ذمة الله ورسوله» (¬1). وأما عقوبتها الدنيوية لمن تركها كسلاً وتهاوناً، فلها أنماط عند الفقهاء. فقال الحنفية (¬2): تارك الصلاة تكاسلاً فاسق يحبس ويضرب ـ على المذهب ـ ضرباً شديداً حتى يسيل منه الدم، حتى يصلي ويتوب، أو يموت في السجن ومثله تارك صوم رمضان، ولا يقتل حتى يجحد وجوبهما، أو يستخف بأحدهما كإظهار الإفطار بلا عذر تهاوناً، بدليل قوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» (¬3). وأضاف الحنفية: أنه يحكم بإسلام فاعل الصلاة بشروط أربعة: أن يصلي الوقت، مع جماعة، أو يؤذن في الوقت، أو يسجد للتلاوة عند سماع آية سجدة، ولا يحكم بإسلام الكافر في ظاهر الرواية إن صام أوحج أو أدى الزكاة. وقال الأئمة الآخرون (¬4): تارك الصلاة بلا عذر ولو ترك صلاة واحدة. يستتاب ثلاثة أيام كالمرتد (¬5)، وإلا قتل إن لم يتب، ويقتل عند المالكية والشافعية ¬
حداً، لا كفراً، أي لا يحكم بكفره وإنما يعاقب كعقوبة الحدود الأخرى على معاصي الزنى والقذف والسرقة ونحوها، وبعد الموت يغسل ويصلى عليه، ويدفن مع المسلمين. ودليلهم على عدم تكفير تارك الصلاة قوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء:4/ 48]، وأحاديث متعددة منها: حديث عبادة بن الصامت: «خمس صلوات كتبهن الله على العباد، من أتى بهن لم يضيِّع منهن شيئاً استخفافاً بحقهن، كان له عند الله عهد أن يُدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد، إن شاء عذبه، وإن شاء غفَر له» (¬1). وحديث أبي هريرة: «إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة: الصلاة المكتوبة، فإن أتمها، وإلا قيل: انظروا هل له من تطوع؟ فإن كان له تطوع، أُكملت الفريضة من تطوعه، ثم يُفعل بسائر الأعمال المفروضة مثلُ ذلك» (¬2) فلا يكفر بترك الصلاة؛ لأن الكفر بالاعتقاد، واعتقاده صحيح، ويكفر إن تركها جاحداً وجوبها. وتأولوا الأحاديث الآتية التي استدل بها الحنابلة بأنها محمولة على المستحل أو المستحق عقوبة الكافر وهي القتل. وقال الإمام أحمد رحمه الله (¬3): يقتل تارك الصلاة كفراً أي بسبب كفره، لقوله تعالى: {فإذا انسلخ الأشهر الحُرُم، فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد، فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، فخلوا سبيلهم، إن الله غفور رحيم} [التوبة:9/ 5]، فمن ترك الصلاة، لم يأت بشرط التخلية، فيبقى على إباحة القتل، فلا يخلى من لم يقم الصلاة. ¬
وطريقة قتل تارك الصلاة عند الجمهور (غير الحنفية)
ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «بين الرجل وبين الكفر: ترك الصلاة» (¬1) فهويدل على أن ترك الصلاة من موجبات الكفر. ومثله حديث بُرَيْدة: «العهد الذي بيننا وبينكم الصلاة، فمن تركها فقد كفر» (¬2) وهو يدل على أن تارك الصلاة يكفر. ورجح الشوكاني هذا الرأي، فقال: والحق أنه كافر يقتل. ولا يمنع بعض أنواع الكفر من المغفرة واستحقاق الشفاعة. وإني أميل إلى الرأي الأول وهو الحكم بعدم كفر تارك الصلاة، للأدلة الكثيرة القاطعة بعدم خلود المسلم في النار بعد النطق بالشهادتين، قال صلّى الله عليه وسلم: «من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يُعبد من دون الله، حرُم ماله ودمه، وحسابه على الله» (¬3) وقال عليه السلام أيضاً: «يخرج من النار: من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار: من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن بُرَّة من خير، ويخرج من النار: من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه مثقال ذرة من خير» (¬4). وطريقة قتل تارك الصلاة عند الجمهور (غير الحنفية): هو ضرب عنقه بالسيف، إن لم يتب. دوام فرضية الصلاة طوال العمر: لا تسقط الصلاة بحال حضراً أو سفراً أو ¬
مرضاً، فيلزم المسلم بالصلاة ما دام حياً، ولم يصبح في حال غيبوبة أو فقد الوعي، وإنما يسر الإسلام كيفية أداء الصلاة كما في صلاة الخوف، وصلاة المريض بحسب القدرة من قيام أو قعود أو على جنب أواستلقاء أو بالرأس أو بالأعين أو إجراء الأركان على القلب. ومن كان ملطخاً بالدم إثر عملية جراحية، أو مربوطاً بكيس يصب فيه الدم مثلاً، أو مجبَّر الكسور، يصلي على هذه الحال بوضوء أو تيمم بحسب القدرة، ثم يعيد الصلاة، بعد الشفاء احتياطاً.
الفصل الثاني: أوقات الصلاة
الفَصْلُ الثَّاني: أوقاتُ الصَّلاة الأوقات في السنة: حددت السنة النبوية مواقيت الصلاة تحديداً دقيقاً لأول الوقت (¬1) وآخره، روى جابر بن عبد الله أن النبي صلّى الله عليه وسلم جاءه جبريل عليه السلام، فقال له: قم، فصلِّهْ، فصلى الظهر حين زالت الشمس، ثم جاءه العصر، فقال: قم فصلِّه، فصلى العصر، حين صار ظل كل شيء مثلَه، ثم جاءه المغرب، فقال: قم فصله، فصلى المغرب حين وَجَبت الشمس (غربت)، ثم جاءه العشاء، فقال: قم فصله، فصلى العشاء حين غاب الشَّفَق، ثم جاءه الفجر، فقال: قم فصله، فصلى الفجر حين بَرَق الفجر، أو قال: سطع الفجر. ثم جاءه من الغد للظهر، فقال: قم فصلِّهْ، فصلى الظهر، حين صار كل شيء مثله، ثم جاءه العصر، فقال: قم فصلِّهْ، فصلى العصر حين صار ظل كل شيء مثليه، ثم جاءه المغرب وقتاً واحداً، لم يزُل عنه، ثم جاءه العشاء حين ذهب نصف الليل، أو قال: ثلث الليل، فصلى العشاء، ثم جاءه حين أسفر جداً، فقال: قم فصَلِّهْ، فصلى الفجر، ثم قال: ما بين هذين الوقتين وقت» (¬2) وهو يدل على أن للصلوات وقتين، إلا المغرب. ¬
- وقت الفجر
وهناك حديث آخر في تحديد وقت المغرب عن عقبة بن عامر: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: لا تزال أمتي بخير، أو على الفطرة ما لم يؤخروا المغرب، حتى تشتبك النجوم» (¬1) وهو يدل على استحباب المبادرة بصلاة المغرب، وكراهة تأخيرها إلى اشتباك النجوم. وقد أوضح الفقهاء بناء على ذلك وقت كل صلاة على النحو الآتي (¬2)، وأجمع المسلمون على أن الصلوات الخمس مؤقتة بمواقيت معلومة محدودة، ثبتت في أحاديث صحاح جياد، وتجب الصلاة بأول الوقت وجوباً موسعاً إلى أن يبقى من الوقت ما يسعها فيضيق الوقت حينئذ. وفي المناطق القطبية ونحوها يقدرون الأوقات بحسب أقرب البلاد إليهم، أو بميقات مكة المكرمة. 1ً - وقت الفجر: يبدأ من طلوع الفجر الصادق إلى طلوع الشمس. والفجر الصادق: هو البياض المنتشر ضوءه معترضاً في الأفق. ويقابله الفجر الكاذب: وهو الذي يطلع مستطيلاً متجهاً إلى الأعلى في وسط السماء، كذنب السِرْحان (¬3)، أي الذئب، ثم تعقبُه ظُلْمة. والأول: هو الذي تتعلق به الأحكام الشرعية كلها من بدء الصوم ووقت الصبح وانتهاء وقت العشاء، والثاني: لا يتعلق به شيء من الأحكام، ¬
- وقت الظهر
بدليل قوله عليه السلام: «الفجر فجران: فجر يحرِّم الطعام وتحل فيه الصلاة، وفجر تحرم فيه الصلاة ـ أي صلاة الصبح ـ ويحل فيه الطعام» (¬1). وفي حديث عبد الله بن عمرو عند مسلم: «ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر، ما لم تطلع الشمس» وما بعد طلوع الشمس إلى وقت الظهر يعتبر وقتاً مهملاً لا فريضة فيه. 2ً - وقت الظهر: من زوال الشمس إلى مصير ظل كل شيء مثله، سوى ظل أو فيء الزوال. وهذا رأي الصاحبين المفتى به عند الحنفية والأئمة الثلاثة. وظاهر الرواية وهو رأي أبي حنيفة: أن آخر وقت الظهر: أن يصير ظل كل شيء مِثْليْه، إلا أن هذا الوقت هو وقت العصر بالاتفاق، فتقدم الصلاة عن هذا الوقت؛ لأن الأخذ بالاحتياط في باب العبادات أولى. وزوال الشمس: هو ميلها عن وسط السماء، ويسمى بلوغ الشمس إلى وسط (أو كبد) السماء: حالة الاستواء، وإذا تحولت الشمس من جهة المشرق إلى جهة المغرب حدث الزوال. ويعرف الزوال: بالنظر إلى قامة الشخص، أو إلى شاخص أو عمود منتصب في أرض مستوية (مسطحة)، فإذا كان الظل ينقص فهو قبل الزوال، وإن وقف لايزيد ولا ينقص، فهو وقت الاستواء، وإن أخذ الظل في الزيادة علم أن الشمس زالت. فإذا زاد ظل الشيء على ظله حالة الاستواء، أو مالت الشمس إلى جهة ¬
- وقت العصر
المغرب، بدأ وقت الظهر، وينتهي وقته عند الجمهور بصيرورة ظل الشيء مثله في القدر والطول، مع إضافة مقدار ظل أو فيء الاستواء، أي الظل الموجود عند الزوال. ودليل الجمهور: أن جبريل عليه السلام صلى بالنبي صلّى الله عليه وسلم في اليوم التالي حين صار ظل كل شيء مثله، ولا شك أن هذا هو الأقوى. ودليل أبي حنيفة قوله عليه السلام: «أبردوا بالظهر، فإن شدة الحر من فيح جهنم» (¬1). وأشد الحر في ديارهم كان في هذا الوقت يعني إذا صار ظل كل شيء مثله. ودليل الكل على بدء وقت الظهر قوله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} [الإسراء:17/ 78] أي زوالها. 3ً - وقت العصر: يبدأ من خروج وقت الظهر، على الخلاف بين القولين المتقدمين، وينتهي بغروب الشمس، أي أنه يبدأ من حين الزيادة على مثل ظل الشيء، أدنى زيادة عند الجمهور، أو من حين الزيادة على مثلي الظل عند أبي حنيفة، وينتهي الوقت بالاتفاق قبيل غروب الشمس، لحديث: «من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس، فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك العصر» (¬2). ويرى أكثر الفقهاء: أن صلاة العصر تكره في وقت اصفرار الشمس لقوله صلّى الله عليه وسلم: «تلك صلاة المنافق، يجلس يرقُب الشمس، حتى إذا كانت بين قَرْني ¬
- وقت المغرب
الشيطان، قام فنَقَرها أربعاً، لا يذكر الله إلا قليلاً» (¬1) وقوله عليه السلام: «وقت العصر مالم تصفر الشمس» (¬2). وصلاة العصر: هي الصلاة الوسطى عند أكثر العلماء، بدليل ما روت عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قرأ: {حافظوا على الصلوات، والصلاة الوسطى} [البقرة:2/ 238]، والصلاة الوسطى: صلاة العصر (¬3) وعن ابن مسعود وسمرة قالا: قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «الصلاة الوسطى: صلاة العصر» (¬4) وسميت وسطى لأنها بين صلاتين من صلاة الليل، وصلاتين من صلاة النهار. والمشهور عند مالك: أن صلاة الصبح هي الوسطى، لما روى النسائي عن ابن عباس قال: «أدلج رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم عرّس، فلم يستيقظ حتى طلعت الشمس أو بعضها، فلم يصل حتى ارتفعت الشمس، فصلى وهي صلاة الوسطى، والرأي الأول أصح لصحة الأحاديث فيه». 4ً - وقت المغرب: من غروب الشمس بالإجماع، أي غياب قرصها بكامله، ويمتد عند الجمهور (الحنفية والحنابلة والأظهر عند الشافعية وهو مذهب الشافعي القديم) إلى مغيب الشَّفَق، لحديث: «وقت المغرب ما لم يغب الشفق» (¬5). ¬
والشفق عند الصاحبين والحنابلة والشافعية: هو الشفق الأحمر، لقول ابن عمر: «الشفق: الحمرة» (¬1) والفتوى عند الحنفية على قول الصاحبين، وقد رجع الإمام إليه، وهو المذهب. وعند أبي حنيفة: هو البياض الذي يستمر في الأفق ويبقى عادة بعد الحمرة، ثم يظهر السواد، وبين الشفقين تفاوت يقدر بثلاث درجات، والدرجة أربع دقائق. ودليله قوله عليه الصلاة والسلام: «وآخر وقت المغرب إذا اسود الأفق» (¬2) وهو ما روي عن أبي بكر وعائشة ومعاذ وابن عباس. والمشهور عند المالكية ومذهب الشافعي الجديد غير الأظهر المعمول به لدى الشافعية: أن وقت المغرب ينقضي بمقدار وضوء وستر عورة وأذان وإقامة وخمس ركعات، أي أن وقته مضيق غير ممتد؛ لأن جبريل عليه السلام صلى بالنبي عليه الصلاة والسلام في اليومين في وقت واحد، كما ذكر في حديث جابر المتقدم، فلو كان للمغرب وقت آخر لبينه، كما بين وقت بقية الصلوات. ورد بأن جبريل إنما بين الوقت المختار، وهو المسمى بوقت الفضيلة، وأما الوقت الجائز وهو محل النزاع فليس فيه تعرض له. ¬
- وقت العشاء
5ً - وقت العشاء: يبدأ في المذاهب من مغيب الشفق الأحمر على المفتى به عند الحنفية إلى طلوع الفجر الصادق، أي قبيل طلوعه لقول ابن عمر المتقدم: «الشفق الحمرة، فإذا غاب الشفق وجبت الصلاة» ولحديث أبي قتادة عند مسلم: «ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى». فإنه ظاهر في امتداد وقت كل صلاة إلى دخول وقت الصلاة الأخرى إلا الفجر، فإنها مخصوصة من هذا العموم بالإجماع. وأما الوقت المختار للعشاء فهو إلى ثلث الليل أو نصفه، لحديث أبي هريرة: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتُهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه» (¬1)، وحديث أنس: «أخر النبي صلّى الله عليه وسلم صلاة العشاء إلى نصف الليل ثم صلى» (¬2) وحديث ابن عمرو: «وقت صلاة العشاء إلى نصف الليل» (¬3). وأما حديث عائشة «أعتم النبي صلّى الله عليه وسلم ذات ليلة حتى ذهب عامة الليل، حتى نام أهل المسجد، ثم خرج فصلى، فقال: إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي» (¬4) فهو وإن كان فيه إشعار بامتداد وقت اختيار العشاء إلى ما بعد نصف الليل. ولكنه مؤول بأن المراد بعامة الليل: كثير منه، وليس المراد أكثره. وأول وقت الوتر: بعد صلاة العشاء، وآخر وقتها مالم يطلع الفجر. ¬
الوقت الأفضل أو المستحب
الوقت الأفضل أو المستحب: للفقهاء آراء في بيان أفضل وقت كل صلاة أو الوقت المستحب، فقال الحنفية (¬1): يستحب للرجال الإسفار بالفجر، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «أسفروا بالفجر، فإنه أعظم للأجر» (¬2) والإسفار: التأخير للإضاءة. وحد الإسفار: أن يبدأ بالصلاة بعد انتشار البياض بقراءة مسنونة، أي أن يكون بحيث يؤديها بترتيل نحو ستين أو أربعين آية، ثم يعيدها بطهارة لو فسدت. ولأن في الإسفار تكثير الجماعة وفي التغليس تقليلها، وما يؤدي إلى التكثير أفضل، وليسهل تحصيل ما ورد عن أنس من حديث حسن: «من صلى الفجر في جماعة، ثم قعد يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين، كانت كأجر حجة تامة، وعمرة تامة». وأما النساء: فالأفضل لهن الغَلَس (الظلمة)؛ لأنه أستر، وفي غير الفجر يَنْتَظِرْن فراغ الرجال من الجماعة. وكذلك التغليس أفضل للرجل والمرأة لحاج بمزدلفة. ويستحب في البلاد الحارة وغيرها الإبراد بالظهر في الصيف، بحيث يمشي في الظل، لقوله صلّى الله عليه وسلم السابق: «أبردوا بالظهر، فإن شدة الحر من فيح جهنم» ويستحب تعجيله في الشتاء والربيع والخريف، لحديث أنس عند البخاري: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا اشتد البرد بكَّر بالصلاة، وإذا اشتد الحر أبرد بالصلاة» (¬3). ويستحب تأخير العصر مطلقاً، توسعة لأداء النوافل، ما لم تتغير الشمس ¬
بذهاب ضوئها، فلا يتحير فيها البصر، سواء في الشتاء أم الصيف، لما فيه من التمكن من تكثير النوافل، لكراهتها بعد العصر. ويستحب تعجيل المغرب مطلقاً، فلا يفصل بين الأذان والإقامة إلا بقدر ثلاث آيات أو جلسة خفيفة؛ لأن تأخيرها مكروه لما فيه من التشبه باليهود، ولقوله عليه السلام: «لا تزال أمتي بخير أو قال: على الفطرة، ما لم يؤخروا المغرب إلى أن تشتبك النجوم» (¬1). ويستحب تأخير العشاء إلى ما قبل ثلث الليل الأول، في غير وقت الغيم، فيندب تعجيله فيه، للأحاديث السابقة: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه». ويستحب في الوتر لمن يألف صلاة الليل ويثق بالانتباه: أن يؤخر الوتر إلى آخر الليل، ليكون آخر صلاته فيه، فإن لم يثق من نفسه بالانتباه أوتر قبل النوم، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من خاف ألا يقوم آخر الليل، فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخر الليل، فليوتر آخره، فإن صلاة الليل مشهودة، وذلك أفضل» (¬2). وقال المالكية (¬3): أفضل الوقت مطلقاً لظهر أو غيره، لفرد أو جماعة، في شدة الحر أو غيره أوله، فهو رضوان الله، لقوله صلّى الله عليه وسلم لمن سأله: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها» (¬4) أو «الصلاة في أول وقتها» وعن ابن عمر ¬
مرفوعاً: «الصلاة في أول الوقت: رضوان الله، وفي آخره عفو الله» (¬1) فالأفضل تقديم الصبح والعصر والمغرب. لكن الأفضل على المشهور تأخير الظهر لربع القامة بعد ظل الزوال صيفاً وشتاء، أي التأخير بمقدار ذراع بأن يصيرظل الشخص بمقدار ربع قامته زيادة على ظل الزوال، وندب التأخير لربع القامة لمن ينتظر أداء الصلاة جماعة أو كثرتها، لتحصيل فضل الجماعة، وإذا كان الوقت وقت شدة الحر ندب تأخير الظهر للإبراد، أي الدخول في وقت البرد. كما أن الأفضل في قول ضعيف في المدونة تأخير العشاء قليلاً في المساجد، والراجح كما حقق الدسوقي ندب تقديم العشاء للجماعة مطلقاً. والخلاصة: أن المبادرة في أول الوقت مطلقاً هو الأفضل، إلا في حال انتظار الفرد جماعة للظهر وغيره، وفي حال الإبراد بالظهر أي لأجل الدخول في وقت البرد. وقال الشافعية (¬2): يسن تعجيل الصلاة ولو عشاء لأول الوقت، إلا الظهر، فيسن الإبراد بالظهر في شدة الحر، للأحاديث السابقة المذكورة في مذهب المالكية، والحنفية، والأصح: اختصاص التأخير للإبراد ببلد حار، وجماعة مسجد ونحوه كمدرسة، يقصدونه من مكان بعيد. ويكره تسمية المغرب عشاء والعشاء عتْمة للنهي عنه (¬3)، ويكره النوم قبل ¬
صلاة العشاء والحديث بعدها إلا في خير، لما رواه الجماعة عن أبي بَرْزة الأسلمي أن النبي صلّى الله عليه وسلم «كان يستحب أن يؤخر العشاء التي يدعونها العَتْمة، وكان يكره النوم قبلها، والحديث بعدها». وقال الحنابلة (¬1): الصلاة في أول الوقت أفضل إلا العشاء، والظهر في شدة الحر، والمغرب في حالة الغيم، أما العشاء فتأخيرها إلى آخر وقتها المختار وهو ثلث الليل أو نصفه أفضل، ما لم يشق على المأمومين أو على بعضهم، فإنه يكره، عملاً بقول النبي صلّى الله عليه وسلم السابق: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه» ولأنه صلّى الله عليه وسلم «كان يأمر بالتخفيف رفقاً بهم». وأما الظهر فيستحب الإبراد به على كل حال في وقت الحر، ويستحب تعجيلها في وقت العشاء، عملاً بالحديث السابق: «إذا اشتد الحر فأبردوا، فإن شدة الحر من فيح جهنم». وأما حالة الغيم: فيستحب تأخير الظهر والمغرب أثناءه، وتعجيل العصر والعشاء؛ لأنه وقت يخاف منه العوارض من المطر والريح والبرد، فيكون في تأخير الصلاة الأولى من أجل الجمع بين الصلاتين في المطر، وفي تعجيل الثانية دفع للمشقة التي قد تحصل بسبب هذه العوارض. ولا يستحب عند الحنابلة تسمية العشاء العتمة، وكان ابن عمر إذا سمع رجلاً يقول (العتمة) صاح وغضب، وقال: (إنما هو العشاء). والخلاصة: أن الفقهاء اتفقوا على أن الوقت الأفضل هو أول وقت كل صلاة، واستحب الحنفية الإسفار بصلاة الصبح، وقال الجمهور: التغليس بها ¬
متى تقع الصلاة أداء في الوقت؟
أفضل، واستحب الكل الإبراد بالظهر، واستحب الحنفية تأخير العصر، واستحب المالكية للفرد التأخير رجاء إدراك صلاة الجماعة، واستحب الحنابلة تأخير العشاء، وتأخير الظهر والمغرب للجمع بين الصلاتين في حالة الغيم بسبب المطر. متى تقع الصلاة أداء في الوقت؟ من المعلوم أن الصلاة إذا أديت كلها في الوقت المخصص لها فهي أداء، وإن فعلت مرة ثانية في الوقت لخلل غير الفساد فهي إعادة، وإن فعلت بعد الوقت فهي قضاء، والقضاء: فعل الواجب بعد وقته. أما إن أدرك المصلي جزءاً من الصلاة في الوقت فهل تقع أداء؟ للفقهاء رأيان: الأول للحنفية، والحنابلة على الراجح، والثاني للمالكية والشافعية. الرأي الأول ـ للحنفية والحنابلة في أرجح الروايتين عن أحمد (¬1): تدرك الفريضة أداء كلها بتكبيرة الإحرام في وقتها المخصص لها، سواء أخرها لعذر كحائض تطهر، ومجنون يفيق، أو لغير عذر، لحديث عائشة: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من أدرك سجدة من العصر قبل أن تغرب الشمس، أو من الصبح قبل أن تطلع الشمس، فقد أدركها» (¬2) وللبخاري «فليتم صلاته» وكإدراك المسافر صلاة المقيم، وكإدراك الجماعة، ولأن بقية الصلاة تبع لما وقع في الوقت. الرأي الثاني ـ للمالكية، والشافعية (¬3) في الأصح: تعد الصلاة جميعها أداء في الوقت إن وقع ركعة بسجدتيها في الوقت، وإلا بأن وقع أقل من ركعة فهي ¬
الاجتهاد في الوقت
قضاء، لخبر الصحيحين: «من أدرك ركعة من الصلاة، فقد أدرك الصلاة» (¬1) أي مؤداة. ومفهومه أن من لم يدرك ركعة لا يدرك الصلاة مؤداة، والفرق بين الأمرين: أن الركعة مشتملة على معظم أفعال الصلاة، وغالب ما بعدها كالتكرار لها، فكان تابعاً لها. وهذا الرأي فيما يظهر أصح لأن المراد بالسجدة الركعة، بدليل ما ذكر مسلم، وبدليل ما رواه الجماعة بلفظ «من أدرك من الصبح ركعة ... » الخ. الاجتهاد في الوقت: من جهل الوقت بسبب عارض غيم أو حبس في بيت مظلم (¬2)، وعدم ثقة يخبره به عن علم، ولم يكن معه ساعة تؤقت له، اجتهد بما يغلب على ظنه دخوله بوِرْد من قرآن ودرس ومطالعة وصلاة ونحوه كخياطة وصوت ديك مجرَّب، وعمل على الأغلب في ظنه. والاجتهاد يكون واجباً إن عجز عن اليقين بالصبر أو غيره كالخروج لرؤية الفجر أو الشمس مثلاً، وجائزاً إن قدر عليه. وإن أخبره ثقة من رجل أو امرأة بدخول الوقت عن علم، أي مشاهدة، عمل به؛ لأنه خبر ديني يرجع في المجتهد إلى قول الثقة كخبر الرسول صلّى الله عليه وسلم. أما إن أخبره عن اجتهاد فلا يقلده؛ لأن المجتهد لا يقلد مجتهداً آخر. وإذا شك في دخول الوقت، لم يصل حتى يتيقن دخوله، أو يغلب على ظنه ذلك، وحينئذ تباح له الصلاة، ويستحب تأخيرها قليلاً احتياطاً لتزداد غلبة ظنه، إلا أن يخشى خروج الوقت. ¬
تأخير الصلاة
وإن تيقن أن صلاته وقعت قبل الوقت، ولو بإخبار عدل مقبول الرواية عن مشاهدة، قضى في الأظهر عند الشافعية وعند أكثر العلماء، وإلا أي إن لم يتيقن وقوعها قبل الوقت، فلا قضاء عليه. ودليل القضاء: ما روي عن ابن عمر وأبي موسى أنهما أعادا الفجر؛ لأنهما صلياها قبل الوقت، ولأن الخطاب بالصلاة يتوجه إلى المكلف عند دخول وقتها، فإن لم تبرأ الذمة منه بقي بحاله. تأخير الصلاة: يجوز تأخير الصلاة إلى آخر الوقت لقوله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه الدارقطني عن جرير بن عبد الله: «أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله» ولأنا لو لم نجوز التأخير لضاق على الناس، فسمح لهم بالتأخير. لكن من أخر الصلاة عمداً، ثم خرج الوقت وهو فيها، أثم وأجزأته (¬1). الأوقات المكروهة: ثبت في السنة النهي عن الصلاة في أوقات خمسة، ثلاثة منها في حديث، واثنان منها في حديث آخر. أما الثلاثة ففي حديث مسلم عن عقبة بن عامر الجُهَني: «ثلاث ساعات كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلِّي فيهن، وأن نقبُر فيهن موتانا: حين تطلعُ الشمس بازغة حتى ترتفع (¬2)، وحين يقوم قائم الظهيرة (¬3) حتى تزول الشمس (¬4)، وحين تتضيَّف (¬5) الشمس لغروب». ¬
وهذه الأوقات الثلاثة تختص بأمرين: دفن الموتى والصلاة. وأما الوقتان الآخران ففي حديث البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس» ولفظ مسلم: «لا صلاة بعد صلاة الفجر» وهذان الوقتان يختصان بالنهي عن الصلاة فقط. فالأوقات الخمسة هي ما يأتي: 1ً - ما بعد صلاة الصبح حتى ترتفع الشمس كرُمح في رأي العين. 2ً - وقت طلوع الشمس حتى ترتفع قدر رُمح أي بعد طلوعها بمقدار ثلث ساعة. 3ً - وقت الاستواء (¬1) إلى أن تزول الشمس، أي يدخل وقت الظهر. 4ً - وقت اصفرار الشمس حتى تغرب. 5ً - بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس. والحكمة من النهي عن الصلاة في هذه الأوقات وتحريم النوافل فيها: هي أن الأوقات الثلاثة الأولى ورد تعليل النهي عن الصلاة فيها في حديث عمرو بن عبسة عند مسلم وأبي داود والنسائي: وهو أن الشمس عند طلوعها تطلع بين قرني شيطان، فيصلي لها الكفار، وعند قيام قائم الظهيرة تسجر (توقد) جهنم وتفتح أبوابها، وعند الغروب تغرب بين قرني شيطان، فيصلي لها الكفار. فالحكمة هي إما التشبه بالكفار عبدة الشمس، أو لكون الزوال وقت غضب. ¬
نوع الحكم المستفاد من النهي
وأما حكمة النهي عن النوافل بعد الصبح وبعد العصر فهي ليست لمعنى في الوقت، وإنما الوقت كالمشغول حكماً بفرض الوقت، وهو أفضل من النفل الحقيقي. وأما نوع الحكم المستفاد من النهي: فهو حرمة النافلة عند الحنابلة في الأوقات الخمسة، وعند المالكية في الأوقات الثلاثة، والكراهة التنزيهية في الوقتين الآخرين. والكراهة التحريمية عند الحنفية في الأوقات الخمسة، وهو المعتمد عند الشافعية (¬1) في الأوقات الثلاثة، والكراهة التنزيهية في مشهور مذهب الشافعية في الوقتين الآخرين. والحرمة أو الكراهة التحريمية (¬2) تقتضي عدم انعقاد الصلاة على الخلاف الآتي. وأما نوع الصلاة المكروهة ففيها خلاف بين الفقهاء. أولاً ـ الأوقات الثلاثة (الشروق والغروب والاستواء) قال الحنفية (¬3): يكره تحريماً فيها كل صلاة مطلقاً، فرضاً أو نفلاً، أو واجباً، ولو قضاء لشيء واجب في الذمة، أو صلاة جنازة أو سجدة تلاوة أو سهو، إلا يوم الجمعة على المعتمد المصحح، وإلا فرض عصر اليوم أداء. ¬
والكراهة تقتضي عدم انعقاد الفرض وما يلحق به من الواجب كالوتر، وينعقد النفل بالشروع فيه مع كراهة التحريم، فإن طرأ الوقت المكروه على صلاة شرع فيها فتبطل إلا صلاة جنازة حضرت فيها، وسجدة تليت آيتها فيها، وعصر يومه، والنفل والنذر المقيد بها، وقضاء ما شرع به فيها ثم أفسده، فتنعقد هذه الستة بلا كراهة أصلاً، في الأولى منها، ومع الكراهة التنزيهية في الثانية، والتحريمية في البواقي. ودليلهم عموم النهي عن الصلاة في هذه الأوقات. وأما عدم صحة القضاء؛ فلأن الفريضة وجبت كاملة فلا تتأدى بالناقص. ولا يصح أداء فجر اليوم عند الشروق، لوجوبه في وقت كامل فيبطل في وقت الفساد، إلا العوام فلا يمنعون من ذلك؛ لأنهم يتركونها، والأداء الجائز عند البعض أولى من الترك. ويصح أداء العصر مع الكراهة التحريمية، لحديث أبي هريرة: «من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر» (¬1). ويصح مع الكراهة التنزيهية أداء سجدة التلاوة المقروءة في وقت النهي أو أداء صلاة منذورة فيه أو نافلة شرع بأدائها فيه، لوجوبها في هذا الوقت. كذلك تصح صلاة الجنازة إذا حضرت في وقت مكروه لحديث الترمذي: «يا علي ثلاثة لا تؤخرها: الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيّم إذا وجدت لها كفؤاً». ¬
وقد رد الحنفية على التفرقة بين العصر والصبح مع أن هذا الحديث يسوي بينهما: بأن التعارض لما وقع بينه وبين النهي عن الصلاة في الأوقات الثلاثة، رجعنا إلى القياس، كما هو حكم التعارض، فرجحنا حكم هذا الحديث في صلاة العصر، وحكم النهي في صلاة الفجر (رد المحتار:346/ 1) والحق أن هذه التفرقة لدي غير مقبولة، لأنه يلزم عليها العمل ببعض الحديث وترك بعضه. ودليل المصحح المعتمد، وهو قول أبي يوسف، في إباحة النفل يوم الجمعة وقت الزوال: هو حديث أبي هريرة في مسند الشافعي رحمه الله: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس إلا يوم الجمعة» (¬1). ثانياً ـ الوقتان الآخران (بعد صلاتي الفجر والعصر): يكره تحريماً أيضاً التنفل فيهما، ولو بسنة الصبح أو العصر إذا لم يؤدها قبل الفريضة أو بتحية مسجد، أو منذور، وركعتي طواف، وسجدتي سهو، وصلاة جنازة؛ لأن الكراهة كانت لشغل الوقت بصاحب الفريضة الأصلية، فإذا أديت لم تبق كراهة بشغله بفرض آخر أو واجب لعينه، لكن عدم الكراهة في القضاء بما بعد العصر مقيد بما قبل تغير الشمس، أما بعده فلا يجوز فيه القضاء أيضاً، وإن كان قبل أن يصلي العصر. وقال المالكية (¬2): يحرم النفل لا الفرض في الأوقات الثلاثة، ويجوز قضاء الفرائض الفائتة فيها وفي غيرها، ومن النفل عندهم: صلاة الجنازة، والنفل المنذور، والنفل المفسد، وسجود السهو البعدي، لأن ذلك كله سنة، عملاً بمقتضى النهي السابق الثابت في السنة. ويكره تنزيهاً النفل في الوقتين الآخرين (بعد طلوع الفجر وبعد أداء العصر) إلى أن ترتفع الشمس بعد طلوعها قدر رمح (¬3)، وإلى أن تصلي المغرب، إلا صلاة الجنازة وسجود التلاوة بعد صلاة الصبح قبل إسفار الصبح، وما بعد العصر قبل ¬
اصفرار الشمس فلا يكره بل يندب، وإلا ركعتي الفجر، فلا يكرهان بعد طلوع الفجر، لأنهما رغيبة كما سيأتي. ويقطع المتنفل صلاته وجوباً إن أحرم بوقت تحرم فيه الصلاة، وندباً إن أحرم بوقت كراهة، ولا قضاء عليه. وقال الشافعية (¬1): تكره صلاة النافلة تحريماً على المعتمد في الأوقات الثلاثة، وتنزيهاً (¬2) في الوقتين الآخرين. ولا تنعقد الصلاة في الحالتين؛ لأن النهي إذا رجع لذات العبادة أو لازمها اقتضى الفساد، سواء أكان للتحريم أم للتنزيه. ويأثم الفاعل في الحالتين أيضاً؛ لأن الكراهة التنزيهية وإن كانت لا تقتضي الإثم عموماً، لكنها في هذه الحالة يأثم بها المصلي، بسبب التلبس بعبادة فاسدة. ويعزر من صلى في الأوقات المنهي عنها. واستثنى الشافعية حالات لا كراهة فيها وهي ما يأتي: 1ً - يوم الجمعة: لا تكره الصلاة عند الاستواء يوم الجمعة، لاستثنائه في خبر البيهقي عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة قالا: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم ينهى عن الصلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة» (¬3) وخبر أبي داود عن أبي قتادة نحوه، ولفظه: «وكره النبي صلّى الله عليه وسلم الصلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة، وقال: إن جهنم تسجر إلا يوم الجمعة» (¬4). ¬
والأصح عندهم جواز الصلاة في هذا الوقت، سواء أحضر إلى الجمعة أم لا. 2ً - حرم مكة: الصحيح أنه لا تكره الصلاة في هذه الأوقات في حرم مكة لخبر جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يا بني عبد مناف، لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت، وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار» (¬1) ولما فيه من زيادة فضل الصلاة فلا تكره بحال، لكنها خلاف الأولى خروجاً من الخلاف. 3ً - الصلاة ذات السبب غير المتأخر، كفائتة، وكسوف، وتحية مسجد، وسنة الوضوء وسجدة شكر؛ لأن الفائتة وتحية المسجد وركعتي الوضوء لها سبب متقدم، وأما الكسوف وصلاة الاستسقاء وصلاة الجنازة وركعتا الطواف فلها سبب متقدم، وأما الكسوف وصلاة الاستسقاء وصلاة الجنازة وركعتا الطواف فلها سبب مقارن. والفائتة فرضاً أو نفلاً تقضى في أي وقت بنص الحديث: «من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها» (¬2) وخبر الصحيحين «أنه صلّى الله عليه وسلم صلى بعد العصر ركعتين، وقال: هما اللتان بعد الظهر» والكسوف وتحية المسجد ونحوهما معرضان للفوات، وفي الصحيحين عن أبي هريرة «أنه صلّى الله عليه وسلم قال لبلال: حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت دَفَّ نعليك (¬3) بين يدي في الجنة؟ قال: ما عملت عملاً أرجى عندي من أني لم أتطهر طهوراً في ساعة من ليل أو نهار، إلا صليت بذلك الطهور ما كتب الله لي أن أصلي». ¬
وفي سجدة الشكر: ورد في الصحيحين أيضاً توبة كعب بن مالك: «أنه سجد سجدة للشكر بعد صلاة الصبح قبل طلوع الشمس». أما ما له سبب متأخر كركعتي الاستخارة والإحرام: فإنه لا ينعقد، كالصلاة التي لا سبب لها. وقال الحنابلة (¬1): يجوز قضاء الفرائض الفائتة في جميع أوقات النهي وغيرها، لعموم الحديث السابق: «من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها» ولحديث أبي قتادة: «ليس في النوم تفريط، وإنما التفريط في اليقظة، فإذا نسي أحدكم صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها» (¬2). ولو طلعت الشمس وهو في صلاة الصبح أتمها، خلافاً للحنفية، للحديث السابق: «إذا أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس، فليتم صلاته». ويجوز فعل الصلاة المنذورة في وقت النهي، ولو كان نذرها فيه، خلافاً للحنفية؛ لأنها صلاة واجبة، فأشبهت الفريضة الفائتة وصلاة الجنازة. ويجوز فعل ركعتي الطواف، للحديث السابق عند الشافعية: «يا بني عبد مناف، لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى في أي ساعة شاء من ليل أو نهار». وتجوز صلاة الجنازة في الوقتين (بعد الصبح وبعد العصر) وهو رأي جمهور الفقهاء، ولا تجوز صلاة الجنازة في الأوقات الثلاثة (الشروق والغروب والاستواء) إلا أن يخاف عليها فتجوز مطلقاً للضرورة، ودليلهم على المنع قول ¬
وتجوز إعادة جماعة في أي وقت من أوقات النهي بشرط أن تقام وهو في المسجد، أو يدخل المسجد وهم يصلون، سواء أكان صلى جماعة أم وحده، لما روى يزيد بن الأسود، قال: «صليت مع النبي صلّى الله عليه وسلم صلاة الفجر، فلما قضى صلاته، إذا هو برجلين لم يصليا معه، فقال: ما منعكما أن تصليا معنا؟ فقالا: يا رسول الله، قد صلينا في رحالنا، فقال: لا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة، فصلِّيا معهم، فإنها لكم نافلة» (¬1) وهذ نص في الفجر، وبقية الأوقات مثله، ولأنه متى لم يعد لحقته تهمة في حق الإمام. ويحرم التطوع بغير الصلوات المستثناة السابقة في شيء من الأوقات الخمسة، للأحاديث المتقدمة، سواء أكان التطوع مما له سبب كسجود تلاوة وشكر وسنة راتبة كسنة الصبح إذا صلاها بعد صلاة الصبح، أو بعد العصر، وكصلاة الكسوف والاستسقاء وتحية المسجد وسنة الوضوء، أم ليس له سبب كصلاة الاستخارة، لعموم النهي، وإنما ترجح عمومها على أحاديث التحية وغيرها، لأنها حاظرة وتلك مبيحة، والحاظر مقدم على المبيح، وأما الصلاة بعد العصر فمن خصائصه صلّى الله عليه وسلم. لكن تجوز فقط تحية المسجد يوم الجمعة إذا دخل والإمام يخطب، فيركعهما، للحديث السابق «أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة». ويجوز في الصحيح قضاء السنن الراتبة بعد العصر؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم فعله، فإنه قضى الركعتين اللتين بعد الظهر بعد العصر في حديث أم سلمة. والصحيح ¬
كراهة التنفل في أوقات أخرى
في الركعتين قبل العصر أنها لا تقضى، لما روت عائشة «أن النبيصلّى الله عليه وسلم صلاهما، فقلت له: أتقضيهما إذا فاتتا؟ قال: لا» (¬1) ويجوز قضاء سنة الفجر بعد صلاة الفجر، إلا أن أحمد اختار أن يقضيهما من الضحى خروجاً من الخلاف. والمشهور في المذهب أنه لا يجوز قضاء السنن في سائر أوقات النهي. ولا فرق بين مكة وغيرها في المنع من التطوع في أوقات النهي، لعموم النهي. كما لا فرق في وقت الزوال بين الجمعة وغيرها، ولا بين الشتاء والصيف، لعموم الأحاديث في النهي. كراهة التنفل في أوقات أخرى: كره الحنفية والمالكية التنفل في أوقات أخرى هي ما يأتي (¬2)، علماً بأن الكراهة تحريمية عند الحنفية في كل ما يذكر هنا: 1 ً - ما بعد طلوع الفجر قبل صلاة الصبح: قال الحنفية: يكره تحريماً التنفل حينئذ بأكثر من سنة الفجر، وقال بعض الشافعية بكراهة التنزيه في هذا الوقت، والمشهور في المذهب خلافه، كما أن الصحيح عند الحنابلة جواز التنفل في هذا الوقت؛ لأن أحاديث النهي الصحيحة ¬
ليست صريحة في النهي قبل صلاة الفجر، وإنما فيه حديث ابن عمر، وهو غريب، فيجوز بناء عليه صلاة الوتر قبل الفجر. وقال المالكية: يكره تنزيهاً الصلاة تطوعاً بعد الفجر قبل الصبح، ويجوز فيه قضاء الفوائت وركعتا الفجر، والوتر، والوِرْد، أي ما وظفه من الصلاة ليلاً على نفسه. ودليل الحنفية والمالكية على الكراهة حديث ابن عمر: «لا صلاة بعد الفجر إلا الركعتين قبل صلاة الفجر» (¬1). 2 ً - ما قبل صلاة المغرب: يكره التنفل عند الحنفية والمالكية قبل صلاة المغرب، للعمومات الواردة في تعجيل المغرب، منها حديث سلمة بن الأكوع: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يصلي المغرب إذا غَرَبَتْ الشمس وتوارت بالحجاب» (¬2) وحديث عقبة بن عامر: «لا تزال أمتي بخير أو على الفطرة، ما لم يؤخروا المغرب حتى تشتبك النجوم» (¬3) والتنفل يؤدي إلى تأخير المغرب، والمبادرة إلى أداء المغرب مستحبة. وقال الشافعية على المشهور: يستحب صلاة ركعتين قبل المغرب، وهي سنة غير مؤكدة، وقال الحنابلة: إنهما جائزتان وليستا سنة، ودليلهم: ما أخرجه ابن حبان من حديث عبد الله بن مغفل «أن النبي صلّى الله عليه وسلم صلى قبل المغرب ركعتين» وقال ¬
أنس: «كنا نصلي على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم ركعتين بعد غروب الشمس قبل صلاة المغرب» (¬1) وعن عبد الله بن مُغَفَّل أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «صلوا قبل المغرب ركعتين، ثم قال: صلوا قبل المغرب ركعتين، ثم قال عند الثالثة: لمن شاء كراهية أن يتخذها الناس سنة» (¬2). قال الشوكاني: والحق أن الأحاديث الواردة بشرعية الركعتين قبل المغرب مخصصة لعموم أدلة استحباب التعجيل. 3 ً - أثناء خطبة الإمام في الجمعة والعيد والحج والنكاح والكسوف والاستسقاء: يكره لدى الحنفية والمالكية التنفل عند خروج الخطيب حتى يفرغ من الصلاة، لحديث أبي هريرة: «إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: أنصت، والإمام يخطب فقد لغوت» (¬3)، وأضاف المالكية أنه يكره التنفل بعد صلاة الجمعة أيضاً إلى أن ينصرف الناس من المسجد. وكذلك يكره التنفل تنزيهاً في هذه الحالة عند الشافعية والحنابلة إلا تحية المسجد إن لم يخش فوات تكبيرة الإحرام، ويجب عليه أن يخففهما بأن يقتصر على الواجبات، فإن لم يكن صلى سنة الجمعة القبلية نواها مع التحية إذ لا يجوز له الزيادة على ركعتين، ولا تنعقد صلاة غير التحية عند الشافعية. ودليلهم خبر الصحيحين: «إذا دخل أحدكم المسجد، فلا يجلس حتى يصلي ركعتين» فهو ¬
مخصص لخبر النهي. وروى جابر، قال: «جاء سُلَيك الغطفاني، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم يخطب، فقال: ياسليك قم، فاركع ركعتين، وتجوَّز فيهما» (¬1) أي خفف فيهما. 4 ً - ما قبل العيد وبعده: يكره التنفل عند الحنفية والمالكية والحنابلة قبل صلاة العيد وبعده، لحديث أبي سعيد الخدري قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم لا يصلي قبل العيد شيئاً، فإذا رجع إلى منزله، صلى ركعتين» (¬2) وأضاف الحنابلة: لا بأس بالتنفل إذا خرج من المصلى. والكراهة عند الحنفية والحنابلة سواء للإمام والمأموم، وسواء أكان في المسجد أم المصلى، وأما عند المالكية فالكراهة في حال أدائها في المصلى لا في المسجد. وقال الشافعية: يكره التنفل للإمام قبل العيد وبعده، لاشتغاله بغير الأهم، ولمخالفته فعل النبي صلّى الله عليه وسلم، فقد روى ابن عباس رضي الله عنهما: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم صلى يوم العيد ركعتين لم يصلّ قبلها ولا بعدها» (¬3). ولا يكره النفل قبل العيد بعد ارتفاع الشمس لغير الإمام، لانتفاء الأسباب المقتضية للكراهة، كذلك لا يكره النفل بعد العيد إن كان لا يسمع الخطبة، فإن كان يسمع الخطبة كره له. 5 ً - عند إقامة الصلاة المكتوبة: قال الحنفية: يكره تحريماً التطوع عند إقامة الصلاة المفروضة، لحديث: «إذا ¬
أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة» (¬1) إلا سنة الفجر إن لم يخف فوت جماعة الفرض ولو بإدراك تشهده، فإن خاف تركها أصلاً، فيجوز الإتيان بسنة الفجر عند الإقامة، لشدة تأكدها، والحث عليها، ومواظبة النبي صلّى الله عليه وسلم عليها، قال عليه السلام: «ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها» (¬2) وقالت عائشة: «لم يكن النبي صلّى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشدَّ تعاهداً منه على ركعتي الفجر» (¬3). وروى الطحاوي وغيره عن ابن مسعود: «أنه دخل المسجد، وأقيمت الصلاة، فصلى ركعتي الفجر في المسجد إلى أسطوانة». وكذلك يكره التطوع عند ضيق وقت المكتوبة، لتفويته الفرض عن وقته. وقال الشافعي والجمهور (¬4): يكره افتتاح نافلة بعد إقامة الصلاة، سواء أكانت راتبة كسنة الصبح والظهر والعصر، أم غيرها كتحية المسجد. وقد عنون النووي لهذا البحث بقوله: «باب كراهة الشروع في نافلة بعد شروع المؤذن في إقامة الصلاة، سواء السنة الراتبة كسنة الصبح والظهر وغيرها، سواء علم أنه يدرك الركعة مع الإمام أم لا» ودليل الجمهور على كراهة افتتاح النافلة: قوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة» وفي الرواية الأخرى: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم مر برجل يصلي، وقد أقيمت صلاة الصبح، فقال: يوشك أن يصلي أحدكم الصبح أربعاً» ومعناه أنه لا يشرع بعد الإقامة للصبح إلا ¬
الفريضة (¬1)،فإذا صلى ركعتين نافلة بعد الإقامة، ثم صلى معهم الفريضة، صار في معنى «من صلى الصبح أربعاً» لأنه صلى بعد الإقامة أربعاً. والصحيح في حكمة النهي عن صلاة النافلة بعد الإقامة: أن يتفرغ للفريضة من أولها، فيشرع فيها عقب شروع الإمام، وإذا اشتغل بنافلة فاته الإحرام مع الإمام، وفاته بعض مكملات الفريضة، فالفريضة أولى بالمحافظة على إكمالها. وفيه حكمة أخرى هو النهي عن الاختلاف على الأئمة. إلا أن الإمام مالك قال: إن لم يخف فوات الركعة ركعهما خارج المسجد. ¬
الفصل الثالث: الأذان والإقامة
الفَصْلُ الثَّالث: الأذان والإقامة أولاً ـ معنى الأذان، ومشروعيته وفضله، حكمه، شروطه، كيفيته، سننه ومكروهاته، إجابة المؤذن، ما يستحب بعد الأذان. ثانياً ـ صفة الإقامة أو كيفيتها، وأحكامها أولاً ـ الأذان: معنى الأذان: الأذان لغة: الإعلام، ومنه قوله تعالى: {وأذان من الله ورسوله إلى الناس} [التوبة:9/ 3]، أي إعلام {وأذِّن في الناس بالحج} [الحج:22/ 27] أي أعلمهم. وشرعاً: قول مخصوص يعلم به وقت الصلاة المفروضة (¬1). أو هو الإعلام بوقت الصلاة بألفاظ مخصوصة (¬2). مشروعيته وفضله: دل القرآن والسنة والإجماع على شرعية الأذان؛ لأن فيه فضلاً كثيراً وأجراً عظيماً. ¬
فمن القرآن: قوله تعالى: {وإذا ناديتم إلى الصلاة ... } [المائدة:5/ 58]. ومن السنة: أحاديث كثيرة، منها خبر الصحيحين: «إذا حضرت الصلاة، فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمّكم أكبركم» (¬1)، ودل حديث عبد الله بن زيد على كيفية الأذان المعروف بالرؤيا التي أيده فيها عمر بن الخطاب في حديث طويل، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إنها لرؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت، فإنه أندى صوتاً منك» (¬2). وليس مستند الأذان الرؤيا فقط، بل وافقها نزول الوحي، فقد روى البزار: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أُري ليلة الإسراء، وأسمعه مشاهدة فوق سبع سموات، ثم قدّمه جبريل، فأمَّ أهل السماء، وفيهم آدم ونوح عليهم أفضل الصلاة والسلام، فأكمل له الله الشرف على أهل السموات والأرض، لكنه حديث غريب، والخبر الصحيح أن بدء الأذان كان بالمدينة كما أخرجه مسلم عن ابن عمر (¬3). وعلى هذا كانت رؤيا الأذان في السنة الأولى من الهجرة، وأيده النبي صلّى الله عليه وسلم. وفي الأذان ثواب كبير، بدليل قوله صلّى الله عليه وسلم: «لو يعلم الناس ما في النداء، والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يَسْتهموا عليه، لا ستهموا عليه» (¬4) وقوله عليه السلام: «إذا كنت في غنمك أو باديتك، فأذنت بالصلاة، فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء، إلا شهد له يوم القيامة» (¬5). ¬
حكم الأذان
وفي حديث آخر: «المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة» (¬1). واعتبر الأذان مع الإقامة عند الشافعي في الأصح والحنابلة أفضل من الإمامة، لقوله تعالى: {ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً} [فصلت:33/ 41] قالت عائشة: هم المؤذنون، وللأخبار السابقة في فضيلته، ولقوله عليه الصلاة والسلام: «الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن، اللهم أرشد الأئمة، واغفر للمؤذنين» (¬2) والأمانة أعلى من الضمان، والمغفرة أعلى من الإرشاد، ولم يتوله النبي صلّى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه لضيق وقتهم عنه (¬3). وقال الحنفية: الإقامة والإمامة أفضل من الأذان؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم وخلفاءه تولوا الإمامة، ولم يتولوا الأذان. حكم الأذان: الأذان والإقامة عند الجمهور (¬4) (غير الحنابلة) ومنهم الخرقي الحنبلي: سنة مؤكدة للرجال جماعة في كل مسجد للصلوات الخمس والجمعة، دون غيرها، كالعيد والكسوف والتراويح وصلاة الجنازة، ويقال فيها عند أدائها جماعة: «الصلاة جامعة» لما روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو وقال: «لما ¬
الأذان للفائتة وللمنفرد
انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، نودي: الصلاة جامعةٌ» أما الأذان والإقامة، فلأن المقصود منهما الإعلام بدخول وقت الصلاة المفروضة، والقيام إليها. ولاتسن للنافلة والمنذورة. ودليلهم على السنية الحديث السابق: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، لاستهموا عليه» ولأنه صلّى الله عليه وسلم لم يأمر بهما في حديث الأعرابي، مع ذكر الوضوء والاستقبال وأركان الصلاة. وبناء عليه: لم يأثم أهل بلدة بالاجتماع على ترك الأذان إذا قام به غيرهم ولم يضربوا ولم يحبسوا. وأضاف الشافعية والمالكية أنه يستحب الإقامة وحدها لا الأذان للمرأة أو جماعة النساء، منعاً من خوف الفتنة برفع المرأة الصوت به. وقال الحنفية: إنه تكره الإقامة كالأذان للنساء؛ لما روي عن أنس وابن عمر من كراهتها لهن، ولأن مبنى حالهن على الستر، ورفع صوتهن حرام. الأذان للفائتة وللمنفرد: المعتمد عند الشافعي: أنه يستحب أيضاً الأذان والإقامة للمنفرد أيضاً أداء أو قضاء بالرغم من سماع أذان الحي أو المسجد، ويرفع صوته بالأذان إلا إذا كان بمسجد وقعت فيه جماعة، لئلا يتوهم السامعون دخول وقت صلاة أخرى، والأذان للفائتة هو المذهب القديم للشافعي وهو الأظهر كما أبان النووي، لما ورد في فضل الأذان من الأحاديث السابقة، ومنها ما رواه البخاري عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صًعْصعة: «أن أبا سعيد الخدري قال له: إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك أو باديتك، فأذنت للصلاة، فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء، إلا شهد لك يوم القيامة، سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلم» (¬1). وإن اجتمع على المصلي فوائت، أو جمَع تقديماً ¬
أو تأخيراً أذن للأولى وحدها، لما روى البخاري ومسلم عن جابر رضي الله عنه: «أنه صلّى الله عليه وسلم جمع بين المغرب والعشاء بمزدلفة بأذان وإقامتين» والمستحب عند الشافعي أن يكون للجمعة أذان واحد بين يدي الإمام عند المنبر؛ لأنه لم يكن يؤذن يوم الجمعة للنبي صلّى الله عليه وسلم إلا بلال. هذا مذهب الشافعية في الفوائت. وقال الحنفية: يؤذن المصلي للفائتة ويقيم؛ لأنها بمنزلة الحاضرة، فإن فاتته صلوات أذن للأولى وأقام، وكان مخيراً في الباقية بعدها: إن شاء أذن وأقام لكل واحدة، وهو أولى؛ لأن ما سن للصلاة في أذانها، سن في قضائها كسائر المسنونات. وإن شاء اقتصر فيما بعد الأولى على الإقامة؛ لأن الأذان للاستحضار، وهم حضور، والأولى الأذان والإقامة لكل فريضة، بدليل حديث ابن مسعود عند أبي يعلى حينما شغل المشركون رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم الأحزاب عن الصلوات: الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فأمر النبي بلالاً بالأذان والإقامة لكل صلاة (¬1). وقال مالك: إنه يقيم ولا يؤذن، لما روى أبو سعيد قال: «حبسنا يوم الخندق عن الصلاة، حتى كان بعد المغرب بهوى من الليل، قال: فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بلالاً، فأمره فأقام الظهر فصلاها، ثم أمره فأقام العصر فصلاها» ولأن الأذان للإعلام بالوقت، وقد فات. وعلى هذا قال المالكية: يكره الأذان لفائتة، ولصلاة ذات وقت ضروري (أي المجموعة مع غيرها جمع تقديم أو تأخير) ولصلاة جنازة ونافلة كعيد وكسوف. وقيد المالكية سنية الأذان في كل مسجد ولو تلاصقت المساجد: بجماعة ¬
أكثر الحنابلة
طلبت غيرها، سواء في حضر أو سفر، ولا يسن لمنفرد أو جماعة لم تطلب غيرها، بل يكره لهم إن كانوا في حضر. ويندب لمنفرد أو لجماعة لا تطلب غيرها في أثناء السفر، ولو لمسافة دون مسافة القصر (89 كم). أما أكثر الحنابلة (¬1) فقالوا: الأذان والإقامة فرضا كفاية للصلوات الخمس المؤداة والجمعة دون غيرها، للحديث السابق: «إذا حضرت الصلاة، فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم» والأمر يقتضي الوجوب على أحدهم، وعن أبي الدرداء مرفوعاً: «ما من ثلاثة لا يؤذنون، ولا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان» (¬2)، ولأنهما من شعائر الإسلام الظاهرة، فكانا فرضي كفاية كالجهاد، فإذا قام به البعض، سقط عن الباقين، وبناء عليه يقاتل أهل بلد تركوهما. ويكره ترك الأذان والإقامة للصلوات الخمس، ولا يعيد المصلي. ويكفي أذان واحد في المصر، ويكتفي بقية المصلين بالإقامة. وهو رأي الحنفية والمالكية أيضاً، خلافاً للشافعية كما بينت، ودليلهم أن ابن مسعود وعلقمة والأسود صلوا بغير أذان، قال سفيان: كفتهم إقامة المصر، لكن قال الحنفية: من صلى في بيته في المصر يصلي بأذان وإقامة ليكون الأداء على هيئة الجماعة، وإن تركهما جاز، لقول ابن مسعود: «أذان الحي يكفينا» لكنه غريب كما قال الزيلعي. ومن فاتته صلوات، أو جمع بين صلاتين في وقت أولاهما: استحب له أن يؤذن للأولى، ثم يقيم لكل صلاة إقامة، وهو موافق لقول الشافعية. ودليلهم على ¬
شروط الأذان
ذلك حديث أبي سعيد المتقدم: «إذا كنت في غنمك .. » وحديث أبي قتادة «أنهم كانوا مع النبي صلّى الله عليه وسلم، فناموا حتى طلعت الشمس، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: يا بلال، قم فأذن الناس بالصلاة» (¬1). ومن دخل مسجداً قد صلي فيه، فإن شاء أذن وأقام، لما روى الأثرم وسعيد ابن منصور عن أنس: «أنه دخل مسجداً قد صلوا فيه، فأمر رجلاً فأذن وأقام، فصلى بهم في جماعة» وإن شاء صلى من غير أذان ولا إقامة. وليس على النساء أذان ولا إقامة، خلافاً للشافعية والمالكية في الإقامة، لما روى النجاد بإسناده عن أسماء بنت بريد، قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «ليس على النساء أذان ولا إقامة». والخلاصة: أنه يؤذن للفائتة عند الجمهور، ويكره ذلك عند المالكية، ويسن الأذان للرجال دون النساء، بالاتفاق، وتسن الإقامة للمرأة سراً عند الشافعية والمالكية، وتكره عند الحنفية، ولا تشرع عند الحنابلة. ويكفي عند الجمهور أذان الحي، ولا يكفي عند الشافعية. شروط الأذان: يشترط في الأذان والإقامة ما يأتي (¬2): ¬
- دخول الوقت
1 ً - دخول الوقت: فلا يصح الأذان ويحرم باتفاق الفقهاء قبل دخول وقت الصلاة، فإن فعل أعاد في الوقت؛ لأن الأذان للإعلام، وهو قبل دخول الوقت تجهيل. ولذا يحرم الأذان قبل الوقت لما فيه من التلبيس والكذب بالإعلام بدخول الوقت، كما يحرم تكرير الأذان عند الشافعية، وليس منه أذان المؤذنين المعروف في كل مسجد. لكن أجاز الجمهور غير الحنفية، وأبو يوسف: الأذان للصبح بعد نصف الليل، ويندب بالسَّحَر وهو سدس الليل الأخير، ثم يعاد استناناً عند طلوع الفجرالصادق (¬1)، لخبر الصحيحين عن عبد الله بن عمرو: «إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم» زاد البخاري: «وكان رجلاً أعمى لا ينادي حتى يقال: أصبحت أصبحت» لكن ينبغي لمن يؤذن قبل الوقت أن يؤذن في وقت واحد في الليالي كلها، منعاً للالتباس على الناس. ويشترط في المرتب (الموظف) للأذان علمه بالمواقيت، أما غير الموظف فلا يشترط علمه بالمواقيت، فمن أذن لنفسه أو لجماعة مرة، أو كان أعمى، صح أذانه إذا علم من غيره دخول الوقت. 2 ً - أن يكون باللغة العربية، فلا يصح بغيرها إن أذن لجماعة، فإن أذن غير العربي لنفسه وهو لا يحسن العربية، جاز عند الشافعية، ولم يجز مطلقاً عند الحنابلة والحنفية لوروده بلسان عربي كالقرآن. ¬
- يشترط في الأذان والإقامة إسماع بعض الجماعة، وإسماع نفسه إن كان منفردا.
3 ً - يشترط في الأذان والإقامة إسماع بعض الجماعة، وإسماع نفسه إن كان منفرداً. 4 ً - الترتيب والموالاة بين ألفاظ الأذان والإقامة: اتباعاً للسنة كما روى مسلم وغيره، ولأن ترك الموالاة بين كلمات الأذان يخل بالإعلام، فلا يصح الأذان إلا مرتباً، كما لا يصح بغير المتوالي ويعاد غير المرتب وغير المتوالي، ولا يضر فاصل يسير بنوم أو إغماء أو سكوت أو كلام، ويبطل بالردة عند الفقهاء، فإن ارتد بعد انتهاء الأذان لم يبطل. وهذا شرط عند الشافعية والحنابلة. وقال الحنفية والمالكية: يسن ترتيب كلمات الأذان والإقامة، والموالاة بينها، ويصح بغير الترتيب والموالاة، مع الكراهة، والأفضل أن يعيد الأذان والإقامة. ويرى بعض الحنابلة أن الأذان يبطل بالكلام المحرم ولو يسيراً كالسب ونحوه، وفي وجه آخر لا يبطل كالكلام المباح. 5 ً - كونه من شخص واحد: فلو أذن مؤذن ببعضه، ثم أتمه غيره لم يصح، كما لايصح إذا تناوبه اثنان بحيث يأتي كل واحد بجملة غير التي يأتي بها الآخر؛ لأن الأذان عبادة بدنية، فلا يصح من شخصين يبني أحدهما على الآخر. أما اجتماع جماعة على الأذان، بحيث يأتي كل واحد بأذان كامل، فهو صحيح. وأضاف المالكية: أنه يكره اجتماع مؤذنين بحيث يبني بعضهم على ما يقول الآخر. ويكره تعدد الأذان لصلاة واحدة. ويلاحظ أن أول من أحدث أذانين اثنين معاً هم بنو أمية، والأذان الجماعي غير مكروه كما حقق ابن عابدين. 6 ً - أن يكون المؤذن مسلماً عاقلاً (مميزاً)، رجلاً، فلا يصح أذان الكافر،
والمجنون والصبي غير المميز والمغمى عليه والسكران؛ لأنهم ليسوا أهلاً للعبادة، ولا يصح أذان المرأة؛ لحرمة أذانها ولأنه لا يشرع لها الأذان، فلا تصح إمامتها للرجال، ولأنه يفتتن بصوتها؛ ولا يصح أذان الخنثى، لأنه لا يعلم كونه رجلاً. وهذا شرط عند المالكية والشافعية والحنابلة. ويقرب منهم مذهب الحنفية، لأنهم قالوا: يكره تحريماً أذان هؤلاء الذين لم تتوافر فيهم هذه الشروط، ويستحب إعادته. وعلى هذا: يسن عند الحنفية: أن يكون المؤذن رجلاً عاقلاً تقياً عالماً بالسنة وبأوقات الصلاة. ولا يشترط عند الجمهور (غير المالكية) البلوغ والعدالة، فيصح أذان الصبي المميز، والفاسق، لكن يستحب أن يكون المؤذن بالغاً أميناً، لأنه مؤتمن يرجع إليه في الصلاة والصيام، فلا يؤمن أن يغرهم أذانه إذا لم يكن كذلك. وقال الحنفية: يكره أذان الفاسق ويستحب إعادته. وقال المالكية: يشترط العدالة والبلوغ في المؤذن، فلا يصح أذان الفاسق، والصبي المميز إلا إذا اعتمد في دخول الوقت على بالغ. واشتراطهم العدالة لحديث ابن عباس: «ليؤذن لكم خياركم، ويؤمكم قراؤكم» (1). ولا يشترط النية عند الحنفية، والشافعية في الأصح، لكن يشترط الصرف (أي عدم قصد غير الأذان) فلو قصد به تعليم غيره، لم يعتد به. وتشترط النية عند الفقهاء الآخرين، فإن أتى بالألفاظ المخصوصة بدون قصد الأذان لم يصح.
كيفية الأذان أو صيغته
ولا يشترط في الأذان والإقامة عند جمهور الفقهاء: الطهارة، واستقبال القبلة، والقيام، وعدم الكلام في أثنائه، وإنما يندب ذلك، ويكره الأذان عند الجمهور للمحدث، وللجنب أشد كراهة، والإقامة أغلظ، والكراهة تحريمية عند الحنفية بالنسبة للجنب، ويعاد أذانه عندهم وعند الحنابلة، ولا يكره عند الحنفية أذان المحدث على المذهب. ------------------------------ (1) رواه أبو داود وابن ماجه والطبراني في معجمه (نصب الراية:279/ 1) ودليل ندب الطهارة حديث: «لا يؤذن إلا متوضئ» (¬1). ويكره الأذان قاعداً، مستدبراً القبلة، كما يكره الكلام فيه. ويسن عند المالكية والحنفية والشافعية والحنابلة أن يتولى الإقامة من تولى الأذان، اتباعاً للسنة (¬2)، فإن أقام غير المؤذن جاز؛ لأن بلالاً أذن، وعبد الله بن زيد الذي رأى الأذان في المنام أقام، بأمر النبي صلّى الله عليه وسلم (¬3). وبناء على هذه الشروط: يبطل الأذان والإقامة بردة وسكر وإغماء ونوم طويل وجنون وترك كلمة منهما، ووجود فاصل طويل من سكوت أو كلام. والمذهب عند الشافعية أنه إن ارتد في الأذان، ثم رجع إلى الإسلام في الحال، فله أن يبني على أذانه السابق. كيفية الأذان أو صيغته: اتفق الفقهاء على الصيغة الأصلية للأذان المعروف الوارد بكيفية متواترة من غير زيادة ولا نقصان وهو مثنى مثنى، كما اتفقوا على التثويب، أي الزيادة في أذان الفجر بعد الفلاح وهي (الصلاة خير من النوم) مرتين، عملاً بما ثبت في السنة عن بلال (¬4)، ولقوله صلّى الله عليه وسلم لأبي محذورة ـ فيما رواه أحمد وأبو داود ـ «فإذا كان أذان ¬
اختلفوا في الترجيع
الفجر، فقل: الصلاة خير من النوم مرتين» واختلفوا في الترجيع: وهو أن يأتي بالشهادتين سراً قبل أن يأتي بهما جهراً، فأثبته المالكية والشافعية، وأنكره الحنفية والحنابلة، لكن قال الحنابل: لو أتى بالترجيع لم يكره. قال الحنفية والحنابلة على المختار (¬1): الأذان خمس عشرة كلمة، لا ترجيع فيه، كما جاء في خبرعبد الله بن زيد (¬2) السبق، وهي: «الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله». وذلك ـ كما جاء في البدائع ومراقي الفلاح ـ بجزم الراء في التكبير، وتسكين كلمات الأذان، والإقامة كما قال المالكية. وجاء في الدر المختار: بفتح راء «أكبر» (¬3) كما قال الشافعية، أي أنه يجمع كل تكبيرتين بنَفَس ويفتح الراء في الأولى في قوله (الله أكبر الله أكبر) ويسكِّن في الثانية. وقال بعض الشافعية: يسن الوقف على أواخر الكلمات في الأذان؛ لأنه روي موقوفاً. وقال المالكية والشافعية (¬4): إن كلمات الأذان مشهورة، وعدتها بالترجيع ¬
معاني كلمات الأذان
تسع عشرة كلمة، عملاً بالأذان المسنون وهو أذان أبي محذورة (¬1)، وفيه الترجيع: أي أن يذكر الشهادتين مرتين مرتين. معاني كلمات الأذان: معنى ألفاظ الأذان: هو أن قوله (الله أكبر) أي من كل شي، أو أكبر من أن ينسب إليه ما لا يليق بجلاله، أو هو بمعنى كبير. وقوله: (أشهد) أي أعلم. وقوله (حي على الصلاة) أي أقبلوا إليها، أو أسرعوا. والفلاح: الفوز والبقاء؛ لأن المصلي يدخل الجنة إن شاء الله، فيبقى فيها ويخلَّد. والدعوة إلى الفلاح معناها: هلموا إلى سبب ذلك. وختم بـ (لا إله إلا الله) ليختم بالتوحيد وباسم الله تعالى، كما ابتدأ به (¬2). سنن الأذان: يسن في الأذان ما يأتي (¬3): 1ً - أن يكون المؤذن صيِّتاً (عالي الصوت)، حسن الصوت، يرفع صوته بالأذان، على مكان مرتفع وبقرب المسجد، لقوله صلّى الله عليه وسلم في خبر عبد الله بن زيد ¬
المتقدم: «ألقه على بلال، فإنه أندى منك صوتاً» أي أبعد، ولزيادة الإبلاغ، وليرقّ قلب السامع، ويميل إلى الإجابة، ولأن الداعي ينبغي أن يكون حلو المقال، وروى الدارمي وابن خزيمة: أن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر عشرين رجلاً، فأذنوا، فأعجبه صوت أبي محذورة، فعلّمه الأذان. أما رفع الصوت: فليكون أبلغ في إعلامه، وأعظم لثوابه، كما ذكر حديث أبي سعيد: «إذا كنت في غنمك .. » ولما رواه الخمسة إلا الترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «المؤذن يغفر له مدَّ صوته، ويشهد له كل رطب ويابس»، ولكن لا يجهد نفسه في رفع صوته زيادة على طاقته، لئلا يضر بنفسه، وينقطع صوته. ويسن رفع الصوت بالأذان لمنفرد فوق ما يسمع نفسه، ولمن يؤذن لجماعة فوق ما يسمع واحداً منهم، ويخفض صوته في مصلى أقيمت فيه جماعة. وكونه على مرتفع، ليكون أيضاً أبلغ لتأدية صوته، روى أبو داود عن عروة ابن الزبير عن امرأته من بني النجار، قالت: «كان بيتي من أطول بيت حول المسجد، وكان بلال يؤذن عليه الفجر، فيأتي بسحَر (وهو السدس الأخير من الليل)، فيجلس على البيت ينظر إلى الفجر، فإذا صلى رآه تمطى، ثم قال: اللهم إني أستعينك وأستعديك على قريش: أن يقيموا دينك، قالت: ثم يؤذن» (¬1) وكونه بقرب المسجد؛ لأنه دعاء إلى الجماعة وهي فيه أفضل (¬2) ¬
2ً - أن يؤذن قائماً على حائط أو منارة للإسماع: قال ابن المنذر: أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم أن السنة أن يؤذن قائماً. وجاء في حديث أبي قتادة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لبلال: «قم فأذن» (¬1)، وكان مؤذنو رسول الله صلّى الله عليه وسلم يؤذنون قياماً. فإن كان له عذر كمرض، أذن قاعداً. كذلك يسن أن يقيم قائماً. 3ً - أن يكون المؤذن حراً بالغاً أميناً صالحاً عالماً بأوقات الصلاة، لحديث ابن عباس السابق: «ليؤذن لكم خياركم ويؤمكم قراؤكم». وهذا سنة عند الجمهور غير المالكية، أما المالكية فيشترطون العدالة، كما أن الشافعية يشترطون في موظف الأذان العلم بالوقت. 4ً - أن يكون متوضئاً طاهراً، للحديث السابق: «لا يؤذن إلا متوضئ، وفي حديث ابن عباس: «إن الأذان متصل بالصلاة فلا يؤذن أحدكم إلا وهو طاهر» (¬2). 5ً - أن يكون المؤذن بصيراً؛ لأن الأعمى لا يعرف الوقت، فربما غلط، فإن أذن الأعمى صح أذانه، فإن ابن مكتوم كان يؤذن للنبي صلّى الله عليه وسلم، قال ابن عمرو فيما روى البخاري: «كان رجلاً أعمى لا ينادي حتى يقال له: أصبحت، أصبحت» وقال المالكية: يجوز أذان الأعمى إن كان تبعاً لغيره أو قلد ثقة في دخول الوقت. 6ً - أن يجعل أصبعيه في أذنيه، لأنه أرفع للصوت، ولما روى أبو حنيفة «أن بلالاً أذن، ووضع إصبعيه في أذنيه» (¬3)، وعن سعد مؤذن رسول الله صلّى الله عليه وسلم «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمر بلالاً أن يجعل إصبعيه في أذنيه، وقال: إنه أرفع لصوتك» (¬4). ¬
7ً - أن يترسَّل (يتمهل أو يتأنى) في الأذان بسكتة بين كل كلمتين، ويحدُر (يسرع) في الإقامة، بأن يجمع بين كل كلمتين، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم لبلال رضي الله عنه: «إذا أذنت فترسَّل، وإذا أقمت فاحدر» (¬1)، ولأن الأذان لإعلام الغائبين بدخول الوقت، والإعلام بالترسل أبلغ، أما الإقامة فلإعلام الحاضرين بالشروع في الصلاة، ويتحقق المقصود بالحدر. 8ً - أن يستقبل القبلة في الأذان والإقامة: لأن مؤذني النبي صلّى الله عليه وسلم كانوا يؤذنون مستقبلي القبلة ولأن فيه مناجاة فيتوجهه بها إلى القبلة. ويستحب في الحيعلتين (حي على الصلاة، حي على الفلاح): أن يدير أو يحول وجهه يميناً في الأولى، وشمالاً في الثانية، من غير أن يحول قدميه؛ لأن فيه مناداة فيتوجه به إلى من على يمينه وشماله، ولما روى أبو جحيفة قال: «رأيت بلالاً يؤذن، فجعلت أتَتبَّع فاه ههنا وههنا يميناً وشمالاً، يقول: حي على الصلاة، حي على الفلاح، وأصبعاه في أذنيه» (¬2) وفي لفظ قال: «أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو في قبة حمراء من أَدَم (جلد) فخرج بلال، فأذن، فلما بلغ: حي على الصلاة، حي على الفلاح، التفت يميناً وشمالاً، ولم يستدر» (¬3) ويصح عند الشافعية الإدارة في المنارة واستدبار القبلة إن احتيج إليه، وعند الحنابلة في ذلك روايتان عن أحمد: إحداهما ـ لا يدور للخبر السابق في استقبال القبلة، والثانية ـ يدور في مجالها، لأنه لا يحصل الإعلام بدونه. والرواية الثانية هي الصواب. ¬
ويستحب بعد انتهاء الأذان: أن يفصل بين الأذان والإقامة بقدر ما يحضر المصلون، مع مراعاة الوقت المستحب، وفي المغرب بقدر قراءة ثلاث آيات قصار. ودليل هذا الاستحباب قوله عليه السلام: «يا بلال، اجعل بين أذانك وإقامتك نَفَساً يفرغ الآكل من طعامه في مهل، ويقضي حاجته في مهل» (¬1). ولأن الذي رآه عبد الله بن زيد في المنام أذن، وقعد قعدة أي لانتظار الجماعة، حتى يتحقق المقصود من النداء. وقال الحنفية: يستحب بعد الأذان في الأصح أن يثوِّب في جميع الأوقات، كأن يقول: الصلاة الصلاة يامصلين، لظهور التواني في الأمور الدينية. وقال الشافعية: يسن أن يقول المؤذن بعد الأذان أو الحيعلتين في الليلة الممطرة أو ذات الريح أو الظلمة: (ألا صلوا في الرحال). 9ً - أن يؤذن محتسباً، ولا يأخذ على الأذان والإقامة أجراً باتفاق العلماء. ولا يجوز أخذ الأجرة على ذلك عند الحنفية، والحنابلة في ظاهر المذهب؛ لأنه استئجار على الطاعة، وقربة لفاعله، والإنسان في تحصيل الطاعة عامل لنفسه، فلا تجوز الإجار ة عليه كالإمامة غيرها، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لعثمان بن أبي العاص: «واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً» (¬2). وأجاز المالكية والشافعية في الأصح الاستئجار على الأذان؛ لأنه عمل معلوم يجوز أخذ الأجر عليه كسائر الأعمال. وأفتى متأخرو الحنفية وغيرهم ـ كما سيأتي ¬
في بحث الإجارة ـ بجواز أخذ الأجرة على القربات الدينية، ضماناً لتحصيلها بسبب انقطاع المكافآت المخصصة لأهل العلم من بيت المال. كما أن الحنابلة قالوا: إن لم يوجد متطوع بالأذان والإقامة، أعطي من يقوم بهما من مال الفيء المعد للمصالح العامة. 10ً - يستحب عند الجمهور غير الحنفية أن يكون للجماعة مؤذنان، لا أكثر؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «كان له مؤذنان: بلال وابن أم مكتوم» (¬1)، ويجوز الاقتصار على مؤذن واحد للمسجد، والأفضل أن يكون مؤذنان لهذا الحديث، فإن احتاج إلى الزيادة عليهما، جاز إلى أربعة؛ لأنه كان لعثمان رضي الله عنه أربعة مؤذنين، ويجوز إلى أكثر من أربعة بقدر الحاجة والمصلحة عند الحنابلة والشافعية. وإذا تعدد المؤذنون فالمستحب أن يؤذن واحد بعد واحد؛ كما فعل بلال وابن أم مكتوم، كان أحدهما يؤذن بعد الآخر، ولأن ذلك أبلغ في الإعلام. ويصح في حالة تعدد المؤذنين: إما أن يؤذن كل واحد في منارة، أو ناحية، أو يؤذنوا دفعة واحدة في موضع واحد. 11ً - يستحب أن يؤذن المؤذن في أول الوقت ليعلم الناس، فيستعدوا للصلاة، وروى جابر بن سمرة قال: «كان بلال لا يؤخر الأذان عن الوقت، وربما أخر الإقامة شيئاً» (¬2) وفي رواية قال: «كان بلال يؤذن إذا مالت الشمس لا يؤخر، ثم لا يقيم، حتى يخرج النبي صلّى الله عليه وسلم، فإذا خرج أقام حين يراه» (¬3). ¬
مكروهات الأذان
12ً - يجوز استدعاء الأمراء إلى الصلاة، لما روت عائشة رضي الله عنهما أن بلالاً جاء، فقال: السلام عليك يا رسول الله وبركاته، الصلاة يرحمك الله، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: مروا أبا بكر فليصل بالناس. وكان بلال يسلم على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، كما كان يسلم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم. 13ً - يستحب ألا يقوم الإنسان قبل فراغ المؤذن من أذانه، بل يصبر قليلاً إلى أن يفرغ أو يقارب الفراغ؛ لأن في التحرك عند سماع الأذان تشبهاً بالشيطان. مكروهات الأذان: للأذان مكروهات هي ما يأتي (¬1): 1ً - يكره الأذان إذا لم تتوافر السنن السابقة، وقد عدد الحنفية أحوال الكراهة إذا لم تتحقق السنن، فقالوا: يكره تحريماً أذان جنب وإقامته، ويعاد أذانه، وإقامة المحدث على المذهب، وأذان مجنون ومعتوه وصبي لا يعقل، وامرأة وخنثى، وفاسق، وسكران، وقاعد إلا إذا أذن لنفسه، وراكب إلا المسافر. 2ً - يكره التلحين وهو التطريب أو التغني أو التمديد الذي يؤدي إلى تغيير كلمات الأذان، أو الزيادة والنقص فيها، أما تحسين الصوت بدون التلحين فهو مطلوب. ويصح أذان ملحَّن على الراجح عند الحنابلة، لحصول المقصود منه كغير الملحن. ويكره أيضاً اللحن أو الخطأ في النحو أو الإعراب. ¬
3ً - يكره المشي فيه؛ لأنه قد يخل بالإعلام، والكلام في أثنائه، حتى ولو بردّ السلام، ويكره السلام على المؤذن (¬1) ويجب عليه أن يرد عليه بعد فراغه من الأذان. ولا يبطله الكلام اليسير، ويبطله الكلام الطويل، لأنه يقطع الموالاة المشروطة في الأذان عند الجمهور غير الحنفية. وأشار الحنابلة: أنه يجوز رد السلام في أثناء الأذان والإقامة. 4ً - يكره التثويب في غير الفجر، سواء ثوب في الأذان أو بعده، لما روي عن بلال أنه قال: «أمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن أثوب في الفجر، ونهاني أن أثوب في العشاء» (¬2)، ولأن التثويب مناسب لصلاة الفجر حيث يكون الناس نياماً، فاحتيج إلى قيامهم إلى الصلاة عن نوم. 5ً - قال الحنابلة: يحرم ولا يجوز الخروج من المسجد بعد الأذان إلا لعذر، لعمل أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم، قال أبو الشعثاء: «كنا قعوداً مع أبي هريرة في المسجد، فأذن المؤذن، فقام رجل من المسجد يمشي، فأتبعه أبو هريرة بصره حتى خرج من المسجد، فقال أبو هريرة: أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلّى الله عليه وسلم (¬3)، وقال عثمان بن عفان: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من أدركه الأذان في المسجد، ثم خرج، لم يخرج لحاجة، وهو لا يريد الرجعة، فهو منافق» (¬4). أما الخروج لعذر فمباح، بدليل أن ابن عمر خرج من أجل التثويب في غير حينه. ¬
إجابة المؤذن والمقيم
وقال الشافعية: يكره الخروج من المسجد بعد الأذان من غير صلاة إلا لعذر. 6ً - قال الحنابلة: يكره الأذان قبل الفجر في شهر رمضان مقتصراً عليه، لئلا يغتر الناس به، فيتركوا السحور. ويحتمل ألا يكره في حق من عرف عادته بالأذان في الليل؛ لأن بلالاً كان يفعل ذلك، بدليل قوله صلّى الله عليه وسلم: «إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم» وقوله عليه السلام: «لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال، فإنه يؤذن بليل لينبه نائمكم، ويرجع قائمكم». ويكره عندهم القول قبل الإقامة: اللهم صل على محمد، ولا بأس بنحنحة قبلها، كما يكره عندهم النداء بالصلاة بعد الأذان في الأسواق وغيرها، مثل أن يقول: الصلاة، أو الإقامة، أو الصلاة رحمكم الله. وقال النووي: تسن الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم قبل الإقامة. إجابة المؤذن والمقيم: يجب في الراجح عند الحنفية لمن سمع الأذان وندباً لمن سمع الإقامة، ويسن عند غيرهم لمن سمع المؤذن أو المقيم: أن يقول مثلما يقول مثنى مثنى عقب كل جملة، إلا في الحيعلتين، فيحوقل فيقول: (لا حول ولا قوة إلا بالله) ومعنى ذلك: أنه لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله، ولا قوة على طاعة الله إلا بمعونته، كما قال ابن مسعود. وإلا في التثويب، فيقول: (صدقتَ وبررت) فالإجابة إنما هي باللسان وهو الظاهر عند الحنفية (¬1). ¬
وقال بعض الحنفية: بالقدم أي بالمشي إلى الصلاة، وهو مشكل لأنه يلزم عليه وجوب الأداء في أول الوقت في المسجد. واكتفى المالكية بأن يقول السامع لمنتهى الشهادتين، ولو كان في صلاة نفل، ويكره ولا يحاكي المؤذن في بقية الأذان (على الراجح المشهور المعتمد)، ولا في قوله (الصلاة خير من النوم) قطعاً، ولا في قوله (صدقت وبررت) أي صرت ذا بر أي خير كثير، إلا في الإقامة، فيقول بعدها: (أقامها الله وأدامها). والدليل على الإجابة: ما روى أبو سعيد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا سمعتم النداء، فقولوا مثل ما يقول المؤذن» (¬1) لكن قال المالكية: المتبادر من قوله «سمعتم»: ولو البعض، خصوصاً وقد قال: فقولوا مثل ما يقول، ولم يقل: مثل ما قال. وهذا في تقديري تعسف واضح في التأويل، والظاهر كما قال بعض المالكية: أن يحكي الأذان كله. والأمر في الحديث عند الحنفية للوجوب وعند غيرهم للندب كالأمر بالدعاء عقب الصلاة. وروى مسلم عن عمر في فضل القول كما يقول المؤذن كلمة كلمة سوى الحيعلتين (حي على الصلاة، حي على الفلاح) فيقول: «لا حول ولا قوة إلا بالله» (¬2) وروى ابن خزيمة: عن أنس رضي الله عنه قال: «من السنة إذا قال المؤذن في الفجر: حي على الفلاح، قال: الصلاة خير من النوم» (¬3).وأخرج أبو داود عن بعض أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم «أن بلالاً أخذ في الإقامة، فلما أن قال: قد قامت ¬
الصلاة، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: أقامها الله وأدامها» (¬1) وفي التثويب ورد خبر أيضاً كما قال ابن الرفعة، ولكن لا يعرف من قاله. ويستحب لمن كان يقرأ ولو قرآناً أن يقطع القراءة، ليقول مثلما يقول المؤذن أو المقيم، لأنه يفوت، والقراءة لا تفوت، لكن إن سمعه في الصلاة، لم يقل مثل قوله، لئلا يشتغل عن الصلاة بما ليس منها، وقد روي «إن في الصلاة لشغلاً» وعلى هذا ينبغي عند الحنفية ألا يتكلم ولا يشتغل بشيء حال الأذان أو الإقامة. وتشمل الإجابة عند الجمهور كل سامع، ولو كان جنباً أو حائضاً أو نفساء، أو كان في طواف فرضاً أو نفلاً، ويجيب بعد الجماع والخلاء والصلاة ما لم يطل الفصل بينه وبين الأذان. وقال الحنفية: تشمل الإجابة من سمع الأذان ولو كان جنباً، لا حائضاً ونفساء وسامع خطبة وفي صلاة جنازة، وجماع، ومستراح في بيت الخلاء، وأكل، وتعليم علم وتعلمه، لكن في أثناء قراءة القرآن يجيب لأنه لا يفوت، وتكرار القراءة للأجر. ويندب عند الحنفية القيام عند سماع الأذان، والأفضل أن يقف الماشي للإجابة ليكون في مكان واحد. ويجيب المؤذن سواء سمع الآذان كله أم بعضه. فإن لم يسمعه لبعد أو صمم لا تسن له الإجابة. ¬
ما يستحب بعد الأذان
وينبغي تدارك إجابة المؤذن إن لم يطل الفصل، وإن طال فلا (¬1). وإذا تكرر الأذان أجاب ـ كما ذكر في الدر المختار ـ الأول، سواء أكان مؤذن مسجده أم غيره، لكن قال ابن عابدين: ويظهر لي إجابة الكل بالقول، لتعدد السبب وهو السماع، كما اعتمده بعض الشافعية. وقال النووي في المجموع: وإذا سمع مؤذناً بعد مؤذن، فالمختار أن أصل الفضيلة في الإجابة شامل للجميع، إلا أن الأول متأكد يكره تركه (¬2). قال الشافعية والحنابلة: وإذا دخل المسجد، والمؤذن قد شرع في الأذان، لم يأت بتحية ولا بغيرها، بل يجيب المؤذن واقفاً حتى يفرغ من أذانه ليجمع بين أجر الإجابة والتحية. وقال الحنفية: إذا دخل المسجد، والمؤذن يؤذن أو يقيم، قعد حتى ينتهي الأذان أو الإقامة، ويقوم الإمام إلى مصلاه. ما يستحب بعد الأذان: يستحب بعد الأذان وبعد الإقامة ما يأتي (¬3): 1 - أن يصلي على النبي صلّى الله عليه وسلم، وذلك عند الشافعية والحنابلة مسنون بعد الفراغ من الأذان لكل من المؤذن والسامع، للحديث الآتي. وقد استحدث الصلاة على النبي بعد الأذان في أيام صلاح الدين الأيوبي سنة (781 هـ) في عشاء ليلة الاثنين، ثم يوم الجمعة، ثم بعد عشر سنين حدث في الكل إلا المغرب، ثم فيها مرتين، قال الفقهاء: وهو بدعة حسنة. ¬
2 - أن يدعو بالدعاء المأثور: (اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته) لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا سمعتم المؤذن، فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإن من صلى علي صلاة، صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة، لا ينبغي أن تكون إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة، حلَّت عليه الشفاعة» (¬1). وعن سعد بن أبي وقاص قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: من قال حين يسمع النداء: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً رسول الله، رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلّى الله عليه وسلم رسولاً، غفر له ذنبه» (¬2). وعن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة» (¬3). وإذا كان الأذان للمغرب قال: «اللهم هذا إقبال ليلك، وإدبار نهارك، ¬
ثانيا ـ الإقامة
وأصوات دعاتك، وحضور صلواتك، فاغفر لي»؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر أم سلمة أن تقول ذلك (¬1) ويقول بعد الصبح: (اللهم هذا إقبال نهارك وإدبار ليلك وأصوات دعاتك فاغفر لي). 3 - يدعو عند فراغ الأذان بينه وبين الإقامة، وسأل الله تعالى العافية في الدنيا والآخرة لقوله صلّى الله عليه وسلم: «الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة قالوا: فما نقول يا رسول الله؟ قال: سلوا الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة (¬2). والمستحب أن يقعد المؤذن بين الأذان والإقامة قعدة ينتظر فيها الجماعة، كما أبنت في سنن الأذان. ثانياً ـ الإقامة: صفة الإقامة أو كيفيتها: الإقامة سنة مؤكدة في الفرائض الوقتية والفائتة، على المنفرد والجماعة، للرجال والنساء عند المالكية والشافعية. أما الحنابلة والحنفية فقالوا: ليس على النساء أذان وإقامة. واختلف العلماء في صفة الإقامة على آراء ثلاثة (¬3): فقال الحنفية: الإقامة مثنى مثنى مع تربيع التكبير مثل الأذان، إلا أنه يزيد ¬
فيها بعد الفلاح: (قد قامت الصلاة مرتين) فتكون كلماتها عندهم سبع عشرة كلمة، بدليل ما روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم أن عبد الله ابن زيد الأنصاري جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: «يا رسول الله، رأيت في المنام، كأن رجلاً قام وعليه بُردان أخضران، فقام على حائط، فأذن مثنى مثنى، وأقام مثنى مثنى» (¬1). وروى الترمذي عن عبد الله بن زيد، قال: «كان أذان رسول الله صلّى الله عليه وسلم شفعاً شفعاً في الأذان والإقامة» (¬2). وعن أبي محذورة قال: «علمني رسول الله صلّى الله عليه وسلم الأذان تسع عشرة كلمة، والإقامة سبع عشرة كلمة» (¬3). وقال المالكية: الإقامة عشر كلمات، تقول: «قد قامت الصلاة» مرة واحدة، لما روى أنس قال: «أمر بلال أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة» (¬4). وقال الشافعية والحنابلة: الإقامة فرادى، إحدى عشرة كلمة، إلا لفظ الإقامة: «قد قامت الصلاة» فإنها تكرر مرتين، لما روى عبد الله بن عمر أنه قال: «إنما كان الأذان على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم مرتين مرتين، والإقامة مرة مرة، غير أنه يقول: قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة» (¬5). ويظهر لي أن هذا أصح الآراء، ¬
أحكام الإقامة
أو أن الأمر على التخيير بين هذا الرأ ي ورأي الحنفية. وأما حديث أنس فمقيد بحديث ابن عمر. أحكام الإقامة: أحكام الإقامة كأحكام الأذان السابقة، ويزاد عليها ما يأتي (¬1): 1ً - يسن إدراج الإقامة أو حدرها: أي الإسراع بها مع بيان حروفها، فيجمع بين كل كلمتين منها بصوت، والكلمة الأخيرة بصوت، عملاً بالحديث السابق عن جابر: «إذا أذَّنت فترسّل ـ أي تمهل ـ وإذا أقمت فاحدُر، واجعل بين أذانك وإقامتك مقدار ما يفرُغ الآكل من أكله». 2ً - الأفضل في المذاهب الأربعة أن يتولى الإقامة من أذَّن، اتباعاً للسنة: (من أذن فهو يقيم)، كما تقدم في شروط الأذان، فإذا أذن واحد وأقام غيره جاز. لكن قال الحنفية: يكره أن يقيم غير من أذن إن تأذى بذلك؛ لأن اكتساب أذى المسلم مكروه، ولا يكره إن كان لا يتأذى به. 3ً - يستحب عند الحنابلة أن يقيم في موضع أذانه؛ لأن الإقامة شرعت للإعلام، فشرعت في موضعه، ليكون أبلغ في الإعلام، إلا أن يؤذن في المنارة أو مكان بعيد من المسجد، فيقيم في غير موضعه، لئلا يفوته بعض الصلاة. وقال الشافعية: يستحب أن تكون الإقامة في غير موضع الأذان، وبصوت أخفض من الأذان. ¬
ولا يقيم حتى يأذن له الإمام، فإن بلالاً كان يستأذن النبي صلّى الله عليه وسلم، وفي حديث زياد بن الحارث الصدائي قال: «فجعلت أقول للنبي صلّى الله عليه وسلم أقيم أقيم؟» وقال صلّى الله عليه وسلم: «المؤذن أملك بالأذان، والإمام أملك بالإقامة» (¬1). 4ً - لا يقوم المصلون للصلاة عند الإقامة حتى يقوم الإمام أو يقبل؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني» (¬2). وأما تعيين وقت قيام المؤتمين إلى الصلاة: فقال المالكية: يجوز للمصلي القيام حال الإقامة أو أولها أو بعدها، فلا يطلب له تعيين حال، بل بقدر الطاقة للناس، فمنهم الثقيل والخفيف. وقال الحنفية: يقوم عند «حي على الفلاح» وبعد قيام الإمام. وقال الحنابلة: يستحب أن يقوم عند قول المؤذن (قد قامت الصلاة) لما روي عن أنس «أنه كان يقوم إذا قال المؤذن: قد قامت الصلاة». وقال الشافعية: يستحب أن يقوم المصلي بعد انتهاء الإقامة إذا كان الإمام مع المصلين في المسجد (¬3)، وكان يقدر على القيام بسرعة، بحيث يدرك فضيلة تكبيرة الإحرام، وإلا قام قبل ذلك بحيث يدركها. 5ً - يسن كما في الأذان أن يقيم قائماً متطهراً، مستقبل القبلة، ولا يمشي في أثناء إقامته، ولا يتكلم، ويشترط ألا يفصل بين الإقامة والصلاة بفاصل طويل، ¬
ملحق ـ الأذان لغير الصلاة
وينبغي إن طال الفصل أو وجد ما يعد قاطعاً كأكل أن تعاد الإقامة. ويسن أن يحرم الإمام عقب فراغ الإقامة، ولا يفصل إلا بمندوب كأمر الإمام بتسوية الصفوف. ولا تجزئ إقامة المرأة للرجال. ويسن عند الشافعية لمن كان أهلاً أن يجمع بين الأذان والإقامة. وكذلك قال الحنفية: الأفضل كون الإمام هو المؤذن، لأنه عليه السلام ـ كما في الضياء ـ أذن في سفر بنفسه وأقام وصلى الظهر. ولا يسن في الإقامة كونها في مكان مرتفع، ولا وضع الأصبع في الأذن، ولا الترجيع فيها والترتيل. 6ً- إذا أذن المؤذن وأقام، لم يستحب لسائر الناس أن يؤذن كل منهم أو يقيم، وإنما يقول مثل ما يقول المؤذن،؛ لأن السنة وردت بهذا. 7ً - يستحب للإمام تسوية الصفوف، يلتفت عن يمينه وشماله، فيقول: استووا رحمكم الله، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «سووا صفوفكم، فإن تسوية الصف من تمام الصلاة» (¬1). ملحق ـ الأذان لغير الصلاة. هذا ويندب الأذان لأمور غير الصلاة: منها الأذان في أذُن المولود اليمنى عند ولادته، كما تندب الإقامة في اليسرى لأنه صلّى الله عليه وسلم ْذَّن في أذ ُن الحسن حين ولدته فاطمة (¬2). ومنها الأذان وقت الحريق ووقت الحرب، وخلف المسافر. ¬
ومنها الأذان في أذن المهموم المصروع وللغضبان ولمن ساء خلقه من إنسان أو بهيمة، وإذا تغولت الغيلان (¬1) أي سحرة الجن والشياطين، وذلك لدفع شرها بالأذان، فإن الشيطان إذا سمع الأذان أدبر. ولا يسن عند إدخال الميت القبر على المعتمد عند الشافعية. ¬
الفصل الرابع: شروط الصلاة
الفَصْلُ الرَّابع: شروطُ الصَّلاة تتوقف صحة الصلاة على توافر شروط وأركان معينة لها. أما الشرط في اللغة: فهو العلامة، وفي الشريعة: هو ما يتوقف عليه وجود الشيء، وكان خارجاً عن حقيقته أو ماهيته. وأما الركن في اللغة: فهو الجانب الأقوى، وفي الاصطلاح: هو ما يتوقف عليه وجود الشيء، وكان جزءاً ذاتياً تتركب منه الحقيقة أو الماهية. ويطلق على كل من الشرط والركن وصف الفرضية، فكل منهما فرض، لذا عنون بعض الفقهاء لهذا البحث بفروض الصلاة. والشرطان نوعان: شروط تكليف أو وجوب، وشروط صحة أو أداء، وشروط الوجوب: هي ما يتوقف عليها وجوب الصلاة كالبلوغ عاقلاً، وشروط الصحة: هي ما يتوقف عليها صحة الصلاة كالطهارة. شروط وجوب الصلاة: تجب الصلاة على كل مسلم بالغ عاقل، لا مانع عنده كالحيض والنفاس، فتكون شروط وجوب الصلاة ثلاثة (¬1): ¬
- الإسلام
1ً - الإسلام: تجب الصلاة على كل مسلم ذكر أو أنثى، فلا تجب على كافر عند الجمهور وجوب مطالبة بها في الدنيا، لعدم صحتها منه، لكن تجب عليه وجوب عقاب عليها في الآخرة، لتمكنه من فعلها باعتناق الإسلام؛ لأن الكافر عند الجمهور مخاطب بفروع الشريعة أو الإسلام في حال كفره. ولا تجب عند الحنفية على الكافر، بناء على مبدئهم في أن الكافر غير مطالب بفروع الشريعة، لا في حكم الدنيا ولا في حكم الآخرة. ولا قضاء بالاتفاق على الكافر إذا أسلم، لقوله تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يُغفَر لهم ما قد سلف} [الأنفال:38/ 8] ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «الإسلام يجبُّ ما قبله» (¬1) أي يقطعه، والمراد أنه يذهب أثر المعاصي التي قارفها حال كفره. أما المرتد فيلزمه عند غير الحنفية قضاء الصلاة بعد إسلامه تغليظاً عليه، ولأنه التزمها بالإسلام، فلا تسقط عنه بالجحود كحقوق الآدميين المالية. ولا قضاء عليه عند الحنفية كالكافر الأصلي. وأما الطاعات وأفعال الخير التي يفعلها الكافر: فلا تنفعه في الآخرة إن مات كافراً لقوله تعالى: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل، فجعلناه هباء منثوراً} [الفرقان:23/ 25]. وأما في الدنيا فتنفعه في سعة رزقه ومعيشته. وإن أسلم يثاب عليها ولا يجُبُّها (يقطعها) الإسلام، لحديث حكيم بن حزام عند مسلم وغيره: أنه قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: أرأيت أموراً كنت أتحنث بها في ¬
- البلوغ
الجاهلية، هل لي فيها من شيء؟ فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أسلمتَ على ما أسلفتَ من خير» وقال عليه السلام: «إذا أسلم العبد، فحسن إسلامه، يكفر الله عنه كل سيئة كان زَلِفها ـ أي قدمها ـ وكان بعد ذلك القصاص: الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبع مئة ضعف، والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله عنها» (¬1). وقال النووي: الصواب الذي عليه المحققون، بل نقل بعضهم الإجماع فيه أن الكافر إذا فعل أفعالاً جميلة كالصدقة وصلة الرحم، ثم أسلم ومات على الإسلام، أن ثواب ذلك يكتب له (¬2). 2ً - البلوغ: لا تجب الصلاة على الصبي، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب على عقله حتى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم» (¬3). ولكن يؤمر الصغير ذكراً أو أنثى بالصلاة، تعويداً له، إذا بلغ سبع سنين أي صار مميزاً، ويضرب ـ باليد لا بخشبة بما لا يزيد عن ثلاث ضربات إن أفاد وإلا فلا ـ على تركها لعشر سنين زجراً له، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع» (¬4) أي بحيث لا يشملهم ساتر واحد مع التجرد، فإن استقل كل منهم بساتر فلا يمنع والتفريق لعشر أمر مندوب، ويحرم تلاصق البالغين بعورتيهما بقصد اللذة، ويكره من غير لذة كتلاصقهم بالصدر. ¬
- العقل
3ً - العقل: فلا تجب الصلاة عند الجمهور غير الحنابلة على المجنون والمعتوه ونحوهما كالمغمى عليه إلا إذا أفاقوا في بقية الوقت؛ لأن العقل مناط التكليف، كما ثبت في الحديث السابق: «عن المجنون حتى يبرأ» لكن يسن لهم القضاء عند الشافعية. وقال الحنابلة: يجب القضاء على من تغطى عقله بمرض أو إغماء أو دواء مباح، لأن ذلك لا يسقط الصوم، فكذا الصلاة. ولا تطلب الصلاة ولا تقضى من حائض ونفساء، ولو طرّحت نفسها بضرب أو دواء ونحوها. ويجب القضاء على السكران، لتعديه بالسكر. ويجب القضاء على نائم ويجب إعلامه إذا ضاق الوقت، ودليل القضاء حديث: «من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك» (¬1) وهذا دليل على وجوب قضاء الصلوات المفروضة المتروكة عمداً أو سهواً، مهما طال الزمان. قال النووي في المجموع: ويسن إيقاظ النائم للصلاة ولا سيما إذا ضاق وقتها، ففي سنن أبي داود «أن النبي صلّى الله عليه وسلم خرج يوماً إلى الصلاة، فلم يمر بنائم إلا أيقظه» وكذا إذا رآه أمام المصلين، أو كان نائماً في الصف الأول، أو محراب المسجد، أو كان نائماً على سطح لا حجاز له، لورود النهي عنه، أو كان نائماً ¬
زوال الأعذار أو الموانع في أثناء وقت الصلاة
بعضه في الشمس وبعضه في الظل، أو كان نائماً بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس، أو كان نائماً قبل صلاة العشاء، أو بعد صلاة العصر، أو نام خالياً وحده، أو كانت المرأة نائمة مستلقية ووجهها إلى السماء، أو نام الرجل منبطحاً فإنها ضجعة يبغضها الله، ويستحب أن يوقظ غيره لصلاة الليل، وللتسحر، والنائم بعرفات، وقت الوقوف؛ لأنه وقت طلب وتضرّع. قال الإسنوي: وهذا بخلاف ما لو رأى شخصاً يتوضأ بماء نجس، فإنه يلزمه إعلامه. زوال الأعذار أو الموانع في أثناء وقت الصلاة: إذا زالت هذه الأسباب المانعة من وجوب الصلاة، فبلغ الصبي، أو أفاق المجنون، أو طهرت الحائض أوالنفساء، أو أسلم الكافر، وبقي من الوقت عند الحنابلة والشافعية في الأظهر قدر تكبيرة الإحرام، فأكثر، وجب قضاء الصلاة. كما يجب عند جمهور الفقهاء غير الحنفية قضاء الصلاة الأخرى التي يمكن جمعها مع الصلاة التي زال المانع في وقتها. فإن زال المانع بمقدار تكبيرة الإحرام عند الشافعية والحنابلة في آخر وقت العصر، وجب قضاء الظهر أيضاً، وإن زال المانع في آخر وقت العشاء، وجب قضاء المغرب أيضاً؛ لاتحاد وقتي الظهر والعصر، ووقتي المغرب والعشاء في العذر، ففي الضرورة أولى. وذلك بشرط أن يخلو الشخص من الموانع قدر الطهارة، والصلاتين أخف ما يجزئ، كركعتين في صلاة المسافر. أما المالكية فقالوا: إن أدرك قدر خمس ركعات في الحضر، وثلاث في السفر من وقت الثانية وجبت الأولى أيضاً؛ لأن قدر الركعة الأولى من الخمس وقت للصلاة الأولى في حال العذر، فوجبت بإدراكه، كما لو أدرك ذلك من وقتها المختار، بخلاف ما لو أدرك دون ذلك.
حدوث الأعذار في وقت الصلاة بعد مضي قدر ما يسعها
وإن أدرك قدر ركعة فقط، وجبت الأخيرة وسقطت الأولى. وإن بقي من الوقت ما يسع أقل من ركعة، سقطت الصلاتان. وقال الحنفية: لا تجب إلا الصلاة التي زال المانع في وقتها وحدها؛ لأن وقت الأولى خرج في حال العذر، فلم تجب، كما لو لم يدرك من وقت الثانية شيئاً. وهذا في تقديري هو المعقول؛ لأن الصلاة تجب بوقت معين، فإذا فات الوقت، سقط الوجوب. حدوث الأعذار في وقت الصلاة بعد مضي قدر ما يسعها: وهذا يتصور في الجنون والإغماء والحيض والنفاس، ولا يتصور في الكفر والصبا، فلو جن البالغ أو أغمي عليه، أو حاضت المرأة أو نُفست في أول الوقت أو أثناءه بحيث يمكنه أداء الصلاة، وجب عليه عند الجمهور غير الحنفية قضاء تلك الصلاة، إن مضى قدر الفرض مع الطهر، ولا تجب الصلاة الثانية التي تجمع معها؛ لأن وقت الأولى لا يصلح للثانية إلا إذا صلاهما جمعاً، بخلاف العكس. ودليل الجمهور على وجوب قضاء الصلاة صاحبة الوقت؛ أن أول أجزاء الوقت هو سبب الإيجاب، أي علامة توجه الخطاب الشرعي، فمتى ابتدأ صار المكلف مطالباً بالفعل، مخيراً في جميع أجزاء الوقت، إذا كان أهلاً للتكليف أول الوقت، لقوله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} [الإسراء:78/ 17] فقد جعل الدلوك علامة على توجه الخطاب إلى المكلف، ولما بينت السنة أوائل الأوقات وأواخرها وقال الرسول صلّى الله عليه وسلم: «الوقت ما بين هذين» كما سبق، دل ذلك على التوسع على المكلف. ومتى وجب الواجب في الذمة استقر ولم يسقط. وهذا الرأي هو الأصح لدي.
شروط صحة الصلاة
وقال الحنفية (¬1): لاتجب صلاة ذلك الوقت على أصحاب الأعذار هؤلاء؛ لأن سبب إيجاب الصلاة: هو الجزء الذي يتصل به الأداء من الوقت، فإن لم يؤد تعين الجزء الأخير الذي يسع الواجب للسببية، وبعد خروج الوقت تضاف السببية إلى جملة الوقت. شروط صحة الصلاة: يشترط لصحة الصلاة: الإسلام والتمييز والعقل، كما يشترط ذلك لوجوب الصلاة، فتصح الصلاة من المميز، لكن لا تجب عليه، وهناك أحد عشر شرطاً أخرى متفق عليها بين الفقهاء: وهي دخول الوقت، والطهارة عن الحدثين، والطهارة عن النجس، وستر العورة، واستقبال القبلة، والنية، والترتيب في أداء الصلاة، وموالاة فعلها، وترك الكلام إلا بما هو من جنسها أو من مصالحها، وترك الفعل الكثير من غير جنس الصلاة، وترك الأكل والشرب (¬2). الشرط الأول - معرفة دخول الوقت: لا تصح الصلاة بدون معرفة الوقت يقيناً أو ظناً بالاجتهاد، فمن صلى بدونها لم تصح صلاته، وإن وقعت في الوقت، لتكون عبادته بنية جازمة، لاشك فيها، فمن شك لم تصح صلاته؛ لأن الشك ليس بجازم. والدليل: هو قوله تعالى: ¬
الشرط الثاني ـ الطهارة عن الحدثين
{إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً} [النساء:103/ 4]، أي فرضاً مؤقتاً محدوداً بوقت. وقد سبق بحث مواقيت الصلاة، والاجتهاد في الوقت. الشرط الثاني ـ الطهارة عن الحدثين (¬1): الأصغر والأكبر (الجنابة والحيض والنفاس)، بالوضوء والغسل، أو التيمم. لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} ... إلى قوله سبحانه: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} [المائدة:6/ 5]، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «لايقبل الله صلاة بغير طهور» (¬2) «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ» (¬3). والطهارة عن الحدث شرط في كل صلاة، مفروضة أو نافلة، كاملة أو ناقصة كسجدة التلاوة، وسجدة الشكر. فإذا صلى بغير طهارة، لم تنعقد صلاته. وإذا تعمد الحدث بطلت الصلاة بالإجماع، إلا في آخر الصلاة فلا تبطل عند الحنفية، وإن سبقه الحدث بطلت صلاته حالاً عند الشافعية والحنابلة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا فسا أحدكم في الصلاة، فلينصرف وليتوضأ وليعد صلاته» (¬4). وقال الحنفية: لا تبطل في الحال وإنما تبطل بمكثه قدر أداء ركن بعد سبق الحدث مستيقظاً بلا عذر. فإن وجد عذر كرعاف مثلاً بنى على صلاته إن شاء (أي أكملها من بعد وقت العذر) بعد استكمال الطهارة، وإن شاء استأنف الصلاة، أي ابتدأها من جديد، ويخرج من الصلاة واضعاً يده على أنفه تستراً. ¬
الشرط الثالث ـ الطهارة عن الخبث
وقال المالكية كالحنفية: يجوز البناء على الصلاة في حالة الرعاف بشروط ستة بعد أن يخرج من الصلاة ممسكاً أنفه من أعلاه وهو مارنه، لا من أسفله من الوترة لئلا يبقى الدم في طاقتي أنفه، وهذه الشروط هي: الأول: إن لم يتلطخ بالدم بما يزيد على درهم، وإلا قطع الصلاة. الثاني: ولم يجاوز أقرب مكان ممكن، لغسل الدم فيه، فإن تجاوزه بطلت الصلاة. الثالث: أن يكون المكان الذي يغسل فيه قريباً، فإن كان بعيداً بعداً فاحشاً بطلت. الرابع: ألا يستدبر القبلة بلا عذر، فإن استدبرها لغير عذر بطلت. الخامس: ألا يطأ في طريقه نجساً، وإلا بطلت. السادس: ألا يتكلم في مضيه للغسل، فإن تكلم ولو سهواً بطلت. الشرط الثالث ـ الطهارة عن الخبث: أي النجاسة الحقيقية. يشترط لصحة الصلاة الطهارة عن النجس الذي لا يعفى عنه في الثوب والبدن والمكان حتى موضع القدمين واليدين والركبتين، والجبهة على الأصح عند الحنفية، لقوله تعالى: {وثيابك فطهر} [المدثر:4/ 74]، قال ابن سيرين: هو الغسل بالماء، ولخبر الصحيحين السابق: «إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي» ولحديث الأعرابي المتقدم الذي بال في المسجد: «أريقوا على بوله ذ َنوباً ـ دلواً ـ من ماء» فالآية دلت على وجوب طهارة الثوب، والحديث الأول دل على وجوب طهارة البدن، والحديث الثاني دل على وجوب طهارة المكان.
مسائل متفرعة على طهارة الثوب والبدن والمكان
ومشهور مذهب المالكية: أن الطهارة من النجس سنة مؤكدة. والذي اعتبره شرطاً كالشيخ خليل وشراحه جرى على القول بأنها فرض مع الذكر والقدرة. مسائل متفرعة على طهارة الثوب والبدن والمكان: أولاً ـ طهارة الثوب والبدن: أـ لو وقعت ثياب المصلي كالعباءة على أرض نجسة عند السجود: لا يضر ذلك عند الحنفية؛ لأن المفسد للصلاة عندهم أن يكون النجس في موضع قيامه أو جبهته أوفي موضع يديه أو ركبتيه. وتفسد الصلاة عند الشافعية والحنابلة، فلا تصح صلاة ملاقٍ بعضُ لباسه أو بدنه نجاسة؛ لأن ثوب المصلي تابع له، وهو كعضو سجوده (¬1). ب - جهل النجاسة: لو صلى حاملاً نجاسة غير معفو عنها، ولا يعلمها: تبطل صلاته في المذاهب الثلاثة (غير المالكية) وعليه قضاؤها، لأن الطهارة مطلوبة في الواقع، ولو مع جهله بوجود النَّجِس أو بكونه مبطلاً، لقوله تعالى: {وثيابك فطهر} [المدثر:4/ 74] والمشهور عند المالكية: أن الطهارة من الخبث أو إزالة النجاسة واجبة في حال الذكر والقدرة، فمن صلى بها ذاكراً قادراً، أعاد، ويسقط الوجوب بالعجز والنسيان، فلا يعيد إن صلى ناسياً أو عاجزاً (¬2). جـ ـ الثوب المتنجس أو المكان النجس: إن لم يجد المصلي غير ثوب عليه نجاسة غير معفو عنها ولم يتيسر غسل النجاسة، أو وجد الماء ولم يجد من يغسلها ¬
وهو عاجز عن غسلها، أو وجده ولم يرض إلا بأجرة ولم يجدها، أو وجدها ولم يرض إلا بأكثر من أجرة المثل، أو حبس على نجاسة، واحتاج إلى فرش السترة عليها، لم يجز لبس الثوب النجس عند الشافعية لأنه سترة نجسة، وجاز لبسه عند الحنفية والمالكية والحنابلة، والصلاة به، وصلى عند المالكية قائماً عُرْياناً إن لم يجد ثوباً يستر به عورته، لأن ستر العورة مطلوب عند توفر القدرة على سترها، والمعتمد الإعادة في الوقت إن وجد ثوباً طاهراً، إن صلى بنجس أو بحرير أو بذهب ولو خاتماً، أو صلى عرياناً. ويصلي في حال فقد الساتر جالساً، يومئ إيماءً عند الحنابلة والحنفية، عملاً بفعل ابن عمر، روى الخلال بإسناده عن ابن عمر في قوم انكسرت مراكبهم، فخرجوا عراة، قال: «يصلون جلوساً، يومئون إيماءً برؤوسهم» وروى عبد الرزاق عن ابن عباس، قال: «الذي يصلي في السفينة، والذي يصلي عرياناً، يصلي جالساً». أما في حالة وجود الساتر النجس فيصلي فيه، ولا يعيد، ولا يصلي عرياناً؛ لأن الستر آكد من إزالة النجاسة، فكان أولى، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «غطِّ فخذك» وهذا عام، ولأن السترة متفق على اشتراطها، والطهارة من النجاسة مختلف فيها، فكان المتفق عليه أولى. ويصلي عند الشافعية عرياناً متماً الأركان، ولا إعادة عليه على المذهب عندهم، لأن الصلاة مع العري يسقط بها الفرض. لكن لو كان على بدنه نجاسة غير معفو عنها، ولم يجد ما يغسل به، صلى وأعاد كفاقد الطهورين؛ لأن الصلاة مع النجاسة لا يسقط بها الفرض. وفصل الحنفية (¬1) في الأمر فقالوا: ¬
إن كان ربع الثوب فأكثر طاهراً، صلى فيه حتماً، ولم يصل عرياناً؛ لأن الربع كالكل، يقوم مقامه في مواضع منها كشف العورة (¬1)، ويتحتم عليه تقليل النجاسة بقدر الإمكان، ويلبس أقل ثوبيه نجاسة. وإن كان أقل من ربعه طاهراً، ندب صلاته فيه بالقيام والركوع والسجود، وجاز أن يصلي عارياً بالإيماء، والصلاة في ثوب نجس الكل أحب من الصلاة عرياناً. وهذا رأي الشيخين أبي حنيفة وأبي يوسف (¬2). وإذا لم يجد المسافر ما يزيل به النجاسة أو يقللها، صلى معها، أو عارياً، ولا إعادة عليه، والقاعدة عندهم: أن فاقد ما يزيل به النجاسة يصلي معها، ولا إعادة عليه، ولا على فاقد ما يستر عورته. والصلاة عُرْياناً: أن يمد رجليه إلى القبلة لكونه أستر، ويومئ إيماء بالركوع والسجود وهو أفضل من الصلاة قائماً؛ لأن الستر آكد. د ـ جهالة محل النجاسة في الثوب: إذا وجد ثوب متنجس، ولكن خفي عليه موضع النجاسة: يكفي عند الحنفية غسل طرف من الثوب، ولو من غير تحر، ويطهر. ويغسل الثوب كله أو البدن كله عند الشافعية إن كان الخفاء في جميعه، وكذلك يغسل كله على الصحيح إن ظن طرفاً، لأن الثوب والبدن واحد. ولو اشتبه عليه طاهر ونجس من ثوبين أو بيتين، اجتهد فيهما للصلاة (¬3). ¬
هـ ـ طرف الثوب على نجاسة: لو كان على المصلي ثوب أو غيره وطرفه واقع على نجاسة كطرف عمامته الطويلة أو كمه الطويل المتصل بنجاسة: لم تصح صلاته عند الشافعية كالمسألة الأولى، وإن لم يتحرك الطرف الذي يلاقي النجاسة بحركته أثناء قيامه وقعوده أو ركوعه وسجوده؛ لأن اجتناب النجاسة في الصلاة شرع للتعظيم، وهذا ينافيه هنا. وذلك بخلاف ما لو سجد على متصل بالنجاسة حيث تصح الصلاة إن لم يتحرك بحركته؛ لأن المطلوب في السجود كونه مستقراً على غيره، لحديث «مكّن جبهتك» فإذا سجد على متصل بنجس لم يتحرك بحركته، حصل المقصود، وعلى هذا لا يضر في صحة الصلاة نجس يحاذي صدر المصلي في الركوع والسجود وغيرهما على الصحيح، لعدم ملاقاته له. وقال الحنفية: تصح صلاته إن لم يتحرك الطرف النجس بحركته، فإن تحرك لم تصح؛ لأن الشرط عندهم طهارة ثوب المصلي وما يتحرك بحركته، أو يعد حاملاً له، كما سيأتي. وذلك بخلاف ما لم يتصل كبساط طرفه نجس، وموضع الوقوف والجبهة طاهر، فلا يمنع صحة الصلاة (¬1). وـ إمساك حبل مربوط بنجس: إذا أمسك المصلي حبلاً مربوطاً بنجس، كالحبل الذي يمسك به كلب بقلادة في عنقه، أو دابة أو مركب صغير يحملان نجساً: لم تصح صلاته عند الشافعية في الأصح؛ لأن الكلب سواء أكان صغيراً أم كبيراً نجس العين عندهم، ويصبح المصلي في هذه الحالة حاملاً نجساً، لأنه إذا مشى ¬
انجر معه. بخلاف السفينة الكبيرة التي لا تنجر بجره، فإنها كالدار، تصح الصلاة بحبل متصل بها. وتصح صلاته عند الحنفية كالحالة السابقة في حالة إمساك الكلب بناء على الراجح عندهم أنه ليس بنجس العين، بل هو طاهر الظاهر، كغيره من الحيوانات سوى الخنزير، فلا ينجس إلا بالموت. وذلك إذا لم يسل من الكلب ما يمنع الصلاة (¬1). ز ـ حمل بيضة صار مُحُّها (¬2) دماً: لو صلى المصلي حاملاً بيضة مَذِرة (فاسدة) صار محها دماً، جاز عند الحنفية، كمسألة الكلب، لأن الدم في معدن البيض، والشيء ما دام في معدنه لا يعطى له حكم النجاسة، بخلاف ما لو حمل قارورة فيها بول، فلا تجوز صلاته؛ لأنه في غير معدنه. ولا تصح صلاته في الحالتين عند الشافعية في أصح الوجهين في البيضة، وفي الصحيح في القارورة؛ لأنه يكون حاملاً نجاسة (¬3) ح ـ حمل صبي صغير في الصلاة: لو حمل المصلي صبياً صغيراً عليه نجس: تبطل صلاته عند الحنفية إن لم يستمسك بنفسه؛ لأنه يعد حاملاً للنجاسة، ويشترط عندهم طهارة ما يعد حاملاً له أي باستثناء ما يكون في الجوف كمسألة الكلب والبيضة السابقة. وتصح صلاته إن كان الصغير يستمسك بنفسه؛ لأنه لا يعد حاملاً للنجاسة. ¬
ثانيا ـ طهارة المكان
وقال الشافعية كالحنفية وغيرهم اتفاقاً لا خلاف فيه: لا يضر حمل الصبي الذي لا تظهر عليه نجاسة، فلو حمل حيواناً طاهراً في صلاته، صحت صلاته؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم حمل أمامة بنت أبي العاص في صلاته (¬1)، ولأن ما في الحيوان من النجاسة في معدن النجاسة هو كالنجاسة التي في جوف المصلي (¬2). ط ـ وصل العظم بنجس: قال الشافعية: لو وصل عظمه المنكسر بنجس لفقد الطاهر، فهو معذور تصح صلاته معه للضرورة (¬3). ثانياً ـ طهارة المكان: تشترط طهارة مكان المصلي مباشرة، فإن لم تباشره النجاسة جازت الصلاة كما في الصور الآتية: أـ الصلاة على بساط عليه نجاسة: إذا صلى على بساط عليه نجاسة: فإن صلى على الموضع النجس، فلا تصح صلاته بالاتفاق؛ لأنه ملاق للنجاسة، ووضع العضو على النجاسة بمنزلة حملها. وإن صلى على موضع طاهر، صحت صلاته اتفاقاً أيضاً، ولو كان البساط صغيراً في الأصح عند الحنفية؛ لأنه غير ملاق للنجاسة ولا حامل لما هو متصل بالنجاسة (¬4). ب ـ الصلاة على موضع نجس بحائل: إن فرش على الأرض النجسة شيئاً وصلى عليه، جاز بالاتفاق إن صلح الفرش ساتراً للعورة؛ لأنه غير مباشر للنجاسة ولا حامل لما هو متصل بها. فإن لامس النجاسة من ثقوب الفرش، ¬
بطلت صلاته (¬1)، وأضاف الحنفية: أنه تجوز الصلاة على لِبْد (فرش سميك) وجهه الأعلى طاهر، والأسفل نجس، وعلى ثوب طاهر وبطانته نجسة إذا كان غير مخيط بها، لأنه كثوبين فوق بعضهما. جـ ـ النجاسة في بيت أو صحراء: إذا كانت النجاسة في بيت أو صحراء وعرف مكانها، صلى في المواضع الخالية عن النجاسة. وإن خفي عليه موضعها: تحرى المكان الطاهر وصلى عند الحنفية. وقال الشافعية (¬2): إن كانت الأرض واسعة كصحراء، فصلى في موضع منها جاز؛ لأنه غير متحقق لها، ولأن الأصل فيها الطهارة، ولا يمكن غسل جميعها. وإن كانت الأرض صغيرة كبيت، لم يجز أن يصلي فيه حتى يغسله، كما في حالة الشك بنجاسة جزء من الثوب؛ لأن البيت ونحوه يمكن غسله وحفظه من النجاسة، فإذا نجس أمكن غسله، وإذا خفي موضع النجاسة منه غسله كله كالثوب. وإن كانت النجاسة في أحد البيتين واشتبها عليه، تحرى، كما يتحرى في الثوبين. وإن حبس في موضع نجس ـ حُش (هو الخلاء)، وجب عليه أن يصلي عند جمهور العلماء، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «وإذا أمرتكم بشيء، فأتوا منه ما استطعتم» (¬3) وقياساً على المريض العاجز عن بعض الأركان. ¬
الشرط الرابع ـ ستر العورة
وإذا صلى يجب عليه أن يتجافى عن النجاسة في قعوده بيديه وركبتيه وغيرهما القدر الممكن، ويجب عليه أيضاً الإيماء أو الانحناء في السجود إلى القدر الذي لو زاد عليه لاقى النجاسة، ولا يسجد على الأرض، على الصحيح؛ لأن الصلاة قد تجزئ مع الإيماء، ولا تجزئ مع النجاسة. وتجب عليه الإعادة في موضع طاهر على الجديد الأصح، ومستحبة على القديم، لأنه ترك الفرض لعذر نادر غير متصل، فلم يسقط عنه الفرض، كما لو ترك السجود ناسياً. والذي يعتبر فرضاً هو الصلاة الثانية في أصح الأوجه عند الشافعية. الشرط الرابع ـ ستر العورة: العورة لغة: النقص، وشرعاً: ما يجب ستره وما يحرم النظر إليه، والمعنى الأول هو المراد هنا في الصلاة. يشترط ستر العورة عن العيون، ولو كان خالياً في ظلمة عند القدرة في رأي الجمهور. وقال الحنفية: يجب الستر بحضرة الناس إجماعاً، وفي الخلوة على الصحيح، فلو صلى في الخلوة عرياناً، ولو في بيت مظلم، وله ثوب طاهر، لا يجوز (¬1). ويجب ستر العورة في الصلاة وغيرها ولو في الخلوة إلا لحاجة كاغتسال وتغويط واستنجاء. والدليل على وجوب الستر: قوله تعالى: {خذوا زينتكم عند كل مسجد} [الأعراف7/ 31] قال ابن عباس: المراد به: الثياب في الصلاة. ¬
شروط الساتر
وقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار» (¬1) والخمار: ما يغطى به رأس المرأة، وقوله عليه السلام: «يا أسماء، إن المرأة إذا بلغت المحيض، لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا، وأشار إلى وجهه وكفيه» (¬2). وأجمع العلماء على وجوب سترة المرأة مطلقاً، في الصلاة وغيرها. شروط الساتر: 1 ً - يجب أن يكون صفيقاً كثيفاً: فالواجب الستر بما يستر لون البشرة ولايصفها من ثوب صفيق أو جلد أو ورق، فإن كان الثوب خفيفاً أو رقيقاً يصف ما تحته أو يتبين لون الجلد من ورائه، فيعلم بياضه أو حمرته، لم تجز الصلاة به؛ لأن الستر لا يحصل بذلك. وإن كان يستر لونها، ويصف الخلقة أو الحجم؛ جازت الصلاة به؛ لأن هذا مما لا يمكن التحرز منه، حتى ولو كان الساتر صفيقاً، لكنه عند الشافعية للمرأة مكروه، وللرجل خلاف الأولى. وقال الشافعية: شرط الساتر: ما يمنع لون البشرة، ولو ماء كدراً أو طيناً، لاخيمة ضيقة وظلمة، ويجب عندهم أن يكون الساتر طاهراً، وقال المالكية: إن ظهر ما تحته فهو كالعدم، وإن وصف فهو مكروه (¬3). 2ً - والشرط عند الشافعية والحنابلة: أن يشمل المستور لبساً ونحوه، فلا تكفي الخيمة الضيقة والظلمة. وتكفي الظلمة عند الحنفية والمالكية للضرورة؛ لأن ¬
الصلاة في الثوب الحرام
3ً - والمطلوب هو ستر العورة من جوانبها، على الصحيح عند الحنفية، وغيرهم من الفقهاء، فلا يجب الستر من أسفل أو من فتحة قميصه، فلو صلى على زجاج يصف ما فوقه، جاز. وإن وجد مإ يستر بعض عورته، يجب سترها ولو بيده في الأصح عند الشافعية، لحصول المقصود، فإن كفى الساتر سوأتيه أو الفرجين تعين لهما، وإن كفى أحدهما تعين عليه ستر القُبُل ثم الدبر عند الشافعية، وبالعكس عند الحنفية والمالكية. ويجب أن يزر قميصه أو يشد وسطه إن كانت عورته تظهر منه في الركوع أو غيره. الصلاة في الثوب الحرام: يصح الستر مع الحرمة عند المالكية والشافعية، وتنعقد الصلاة مع الكراهة التحريمية عند الحنفية: بما لا يحل لبسه كثوب حرير للرجل، ويأثم بلا عذر، كالصلاة في الأرض المغصوبة. وقال الحنابلة: لا تصح الصلاة بالحرام كلبس ثوب حرير، أو صلاة في أرض مغصوبة ولو منفعتها أو بعضها، أو صلاة في ثوب ثمنه كله أو بعضه حرام أو كان متختماً بخاتم ذهب، إن كان عالماً ذاكراً (¬1)، لما روى أحمد عن ابن عمر: «من اشترى ثوباً بعشرة دراهم، وفيه درهم حرام، لم يقبل الله له صلاة، ما دام عليه» ثم أدخل أصبعيه في أذنيه وقال: «صُمَّتا إن لم يكن النبي صلّى الله عليه وسلم سمعته يقوله» (¬2)، ¬
عادم الساتر
ولحديث عائشة: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (¬1)، ولأن قيامه وقعوده ولبثه فيه محرم منهي عنه، فلم يقع عبادة كالصلاة في زمن الحيض، وكالنجس. فإن جهل كونه حريراً أو غصباً، أو نسي كونه حريراً أو غصباً، أو حبس بمكان غصب أو نجس، صحت صلاته؛ لأنه غير آثم. وأجاز المالكية والحنفية الصلاة بثوب نجس كما أوضحت سابقاً. واتفق علماء المذاهب: أن ستر العورة واجب ولو بإعارة، فإن صلى عرياناً مع وجود ثوب عارية، أو مع وجود ثوب من حرير طاهر عند الجمهور غير الحنابلة، بطلت صلاته. ولو وُعد به، ينتظر ما لم يخف فوات الوقت، وهو الأظهر عند الحنفية، ويلزمه الشراء بثمن المثل (¬2) كالمقرر في شراء الماء سابقاً. عادم الساتر: من لم يجد ساتراً لعورته: صلى عرياناً عند المالكية؛ لأن ستر العورة مطلوب عند القدرة، ويسقط بالعجز. وصلى قاعداً يومئ إيماء عند الحنابلة، عملاً بفعل ابن عمر كما أبنت سابقاً في الشرط الثالث. ويجب عليه أن يصلي عند الشافعية والحنفية ولو بطين يتطين به يبقى إلى تمام صلاته، أو بماء كدر غير صاف، وتكفيه الظلمة للاضطرار عند الحنفية والمالكية، وباليد عند الشافعية في الأصح وعند الحنابلة لحصول المقصود كما تقدم، ويصلي قائماً عند الشافعية متمماً الأركان، ولا إعادة عليه على المذهب عندهم كما أوضحت. ويصلي قاعداً مومياً بركوع وسجود عند الحنفية والحنابلة، وهو أفضل من الصلاة قائماً بإيماء أو بركوع وسجود؛ لأن الستر أهم من أداء الأركان. ¬
انكشاف العورة فجأة
قال الحنابلة: ومن كان في ماء وطين ولم يمكنه السجود على الأرض إلا بالتلوث بالطين والبلل بالماء صلى على دابته، يومئ بالركوع والسجود (¬1). انكشاف العورة فجأة: إن انكشفت عورة المصلي فجأة بالريح مثلاً عن غير عمد، فستره في الحال، لم تبطل صلاته عند الشافعية والحنابلة لانتفاء المحذور، وإن قصر أو طال الزمان، بطلت بسبب تقصيره، ولأن الكثير يفحش انكشاف العورة فيه، ويمكن التحرز منه، فلم يعف عنه (¬2). وقال المالكية: تبطل الصلاة مطلقاً بانكشاف العورة المغلظة. وقال الحنفية: إذا انكشف ربع العضو من أعضاء العورة، فسدت الصلاة إن استمر بمقدار أداء ركن، بلا صنعه، فإن كان بصنعه فسدت في الحال. صلاة العراة جماعة: الجماعة مشروعة للعراة، فلهم عند الشافعية والحنابلة أن يصلوا فرادى أو جماعة، وفي حال الصلاة جماعة يقف الإمام معهم في الصف وسطاً، ويكون المأمومون صفاً واحداً، حتى لا ينظر بعضهم إلى عورة بعض، فإن لم يمكن إلا صفين، صلوا وغضوا الأبصار. وإن اجتمع نسوة عراة، استحب لهن الجماعة، وتقف المرأة الإمام وسطهن في كل حال لأنهن عورات؛ لأن صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد، كما هو الثابت في السنة. ويصلون قياماً مع إتمام جميع الأركان عند الشافعية، ويومئون إيماء، ويكون سجودهم أخفض من ركوعهم عند الحنابلة. وهل الأفضل أن يصلوا جماعة أو فرادى؟ ¬
حد العورة
قال الشافعية: إن كانوا عُمْياً أو في ظلمة بحيث لا يرى بعضهم بعضاً، استحبت الجماعة بلا خوف، ويقف إمامهم قُدَّامهم. وإن كانوا بحيث يرون، فأصح الأقوال أن الجماعة والانفراد سواء. وإن وجد مع إنسان كسوة، استحب أن يعيرهم، فإن لم يفعل، لم يغصب منه؛ لأن صلاتهم تصح من غير سترة. وقال المالكية والحنفية: يصلون فرادى، ويتباعد بعضهم من بعض، وإن كانوا في ظلمة صلوا جماعة ويتقدمهم إمامهم (¬1). وإن لم يمكن تفرقهم صلوا جماعة قياماً صفاً واحداً مع ركوع وسجود، إمامهم وسطهم، غاضين أبصارهم وجوباً. حد العورة: يشترط عند أئمة المذاهب لصحة الصلاة ستر العورة كما تقدم، لكن الفقهاء اختلفوا في حد العورة للرجل والأمة والمرأة الحرة، فما آراؤهم تفصيلاً؟ مذهب الحنفية (¬2): أـ عورة الرجل: هي ما تحت سرته إلى ما تحت ركبته، فالركبة من الفخذ عورة في الأصح، عملاً بالمأثور عندهم: «عورة الرجل ما بين سرته إلى ركبته» أو «مادون سرته حتى يجاوز ركبته» (¬3) ولحديث ضعيف عند الدارقطني: «الركبة من ¬
: العورة» (¬1). ب ـ الأمَة (الرقيقة): كالرجل في العورة، مع ظهرها وبطنها وجنبها، لقول عمر رضي الله: «ألق عنك الخمار يا دفار، أتتشبهين بالحرائر» (¬2)، ولأنها تخرج لحاجة مولاها في ثياب مهنتها عادة، فاعتبرت كالمحارم في حق الأجانب عنها دفعاً للحرج. جـ ـ المرأة الحرة ومثلها الخنثى: جميع بدنها حتى شعرها النازل في الأصح، ما عدا الوجه والكفين، والقدمين ظاهرهما وباطنهما على المعتمد لعموم الضرورة، والصوت على الراجح (¬3) ليس بعورة، لكن ظهر الكف عورة على المذهب، والأصح أن باطن الكفين وظاهرهما ليسا بعورة. والقدمان ليسا بعورة في حق الصلاة على المعتمد، والصحيح أنهما عورة في حق النظر والمس. واستدلوا بقوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} [النور:31/ 24] والمراد محل زينتهن، وما ظهر منها: الوجه والكفان، كما قال ابن عباس وابن عمر، وبقوله صلّى الله عليه وسلم: «المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان» (¬4) وبحديث عائشة السابق: «يا أسماء، إن المرأة إذا بلغت المحيض، لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا، وأشار إلى وجهه وكفه» (¬5). ¬
مذهب المالكية
وبحديث عائشة المتقدم أيضاً: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار» والخمار: ما يغطى به رأس المرأة. وتمنع المرأة الشابة من كشف الوجه بين الرجال، لا لأنه عورة، بل لخوف الفتنة، أي الفجور بها، أو الشهوة. والمعنى أنها تمنع من الكشف خوفاً أن يرى الرجال وجهها، فتقع الفتنة؛ لأنه مع الكشف قد يقع النظر إليها بشهوة. ولا يجوز النظر إلى وجه المرأة والفتى الأمرد بشهوة، إلا لحاجة، كقاض أو شاهد أو للشهادة عليها، وخاطب يريد زواجها، فينظر ولو عن شهوة، بنية العمل بالسنة، لا قضاء الشهوة، وكذا في حال المداواة إلى موضع المرض بقدر الضرورة. والمعتمد عند الحنفية: أن كشف ربع عضو من أعضاء العورة (الغليظة وهي القبل والدبر وما حولهما، أو المخففة: وهي ما عدا السوأتين) (¬1) إن استمر بمقدار أداء ركن، بدون تعمد، وإنما سهواً، يبطل الصلاة؛ لأن ربع الشيء له حكم الكل، كما تقدم سابقاً. ولا تبطل بما دون ذلك، فمن كشف ربع بطن أو فخذ أو شعر نزل من الرأس، أو دبر، أو ذكر، أو أنثيين، أو فرج بطلت صلاته، إن استمر مقدار أداء ركن، وإلا لا يبطل. مذهب المالكية (¬2): يجب ستر العورة عن أعين الناس إجماعاً، أما في الصلاة فالصحيح من المذهب وجوب ستر ما يأتي: ¬
أـ عورة الرجل في الصلاة: هي المغلظة فقط وهي السوأتان وهما من المقدم: الذكر مع الأنثيين، ومن المؤخر: ما بين الأليتين. فيجب إعادة الصلاة في الوقت لمكشوف الأليتين فقط، أو مكشوف العانة. فليس الفخذ عورة عندهم، وإنما السوأتان فقط، لحديث أنس: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم يوم خيبر حَسَر الإزار عن فخذه، حتى إني لأنظر إلى بياض فخذه» (¬1). ب ـ عورة الأمة هي السوأتان مع الأليتين، فإذا انكشف منها شيء من ذلك أو كشفت فخذاً كله أو بعضه، أعادت أبداً في الوقت، كالرجل. ووقت الإعادة في الظهر والعصر للاصفرار، وفي المغرب والعشاء: الليل كله، وفي الصبح لطلوع الشمس. جـ ـ عورة الحرة المغلظة: جميع البدن ما عدا الصدر والأطراف من رأس ويدين ورجلين. وما قابل الصدر من الظهر كالصدر. فإن انكشف من العورة المخففة شيء من صدرها أو أطرافها، ولو ظهر قدم لا باطنه، أعادت في الوقت الضروري السابق بيانه: في الظهرين للاصفرار، وفي العشاءين الليل كله، وفي الصبح للطلوع. هذا بالنسبة للصلاة. أما بالنسبة للرؤية والصلاة أيضاً فيجب ولا يشترط ستر عورة الرجل وعورة الأمة. أما عورة الحرة أمام امرأة أخرى مسلمة أو كافرة، فهي للرؤية ما بين السرة والركبة. كما يجب على الحرة أمام رجل أجنبي، أي ليس بمحرم لها ستر جميع البدن ¬
غير الوجه والكفين، أما هما فليسا بعورة، وإن وجب عليها سترها لخوف الفتنة، ولا يجوز للرجل أن يرى من المرأة المَحْرم ولو بمصاهرة ورضاع صدرها ونحوه غير الوجه والأطراف وإن لم يلتذ، خلافاً للشافعية وغيرهم الذين أجازوا رؤية ما عدا ما بين السرة والركبة، وذلك فسحة، والأطراف تشمل العنق والرأس وظهر القدم. يتبين من ذلك أن العورة في الرجل والمرأة بالنسبة للصلاة: مغلظة ومخففة. فالمغلظة للرجل: السوأتان (القبل وحلقة الدبر)، والمخففة له: ما زاد على السوأتين مما بين السرة والركبة. والمغلظة للأمة: الأليتان وما بينهما من فم الدبر، والفرج وما والاه من العانة. والمخففة: الفخذ وما فوق العانة للسرة. والمغلظة للحرة: جميع بدنها ما عدا الأطراف والصدر وما حاذاه من الظهر، والمخففة لها: هي جميع البدن ما عدا الوجه والكفين. فمن صلى مكشوف شيء من العورة المغلظة مع الذِّ كْر والقدرة على الراجح ولو بشراء أو إعارة، بطلت صلاته، ويعيد أبداً على المشهور. ومن صلى مكشوف شيء من العورة المخففة، لا تبطل صلاته، وإن كان كشفها مكروهاً ويحرم النظر إليها، ولكن يستحب لمن صلى مكشوف العورة المخففة أن يعيد الصلاة في الوقت الضروري (في الظهرين للاصفرار، وفي العشاءين: الليل كله، وفي الصبح للطلوع). ويحرم النظر للعورة ولو بلا لذة إذا كانت غير مستورة، أما النظر إليهما مستورة فهو جائز بخلاف جسها من فوق الساتر، فإنه لا يجوز. والعورة بالنسبة للرؤية: للرجل ما بين السرة والركبة، وللمرأة أمام رجل
مذهب الشافعية
أجنبي جميع بدنها غير الوجه والكفين، وأمام محارمها جميع جسدها غير الوجه والأطراف: وهي الرأس والعنق واليدان والرجلان، إلا أن يخشى لذة، فيحرم ذلك، لا لكونه عورة. والمرأة مع المرأة أو مع ذوي محارمها كالرجل مع الرجل: ترى ما عدا ما بين السرة والركبة، وأما المرأة في النظر إلى الأجنبي فهي كحكم الرجل مع ذوات محارمه وهو النظر إلى الوجه والأطراف (الرأس واليدين والرجلين). مذهب الشافعية (¬1): أـ عورة الرجل: ما بين سُرَّته وركبته (¬2) في الصلاة والطواف وأمام الرجال الأجانب والنساء المحارم، لما روى الحارث بن أبي أسامة عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، قال: «عورة المؤمن ما بين سرته إلى ركبته» وروى البيهقي «وإذا زوج أحدكم أمته ـ عبده أو أجيره ـ فلا تنظر ـ أي الأمة ـ إلى عورته» وروي في ستر الفخذ أحاديث، منها: «لا تُبرز فخِذاك، ولا تنظر إلى فخذي حي ولا ميت» (¬3) ومنها قوله صلّى الله عليه وسلم لجَرْهد الأسلمي: «غطِّ فخذك، فإن الفخذ عورة» (¬4). فالسرة والركبة ليستا من العورة على الصحيح، لحديث أنس السابق في مذهب المالكية المتضمن إظهار النبي صلّى الله عليه وسلم فخذه. لكن يجب ستر شيء من الركبة لستر الفخذ، ومن السرة؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، كما أبان الشافعية والحنابلة والمالكية في الأصول (¬5). ¬
وأماعورة الرجل أمام النساء الأجانب بالنسبة للنظر، فجميع بدنه، وفي الخلوة: السوأتان فقط. وقد رد على استدلال المالكية بحديث أنس وعائشة المتضمنين أن الفخذ ليست بعورة، بوجوه أربعة: الأول: أنه حكاية فعل، وطرف الفخذ قد يتسامح في كشفه، لا سيما في مواطن الحرب ومواقف الخصام، والمقرر في الأصول: أن القول أرجح من الفعل. والثاني: أن حديث أنس وعائشة لا يقويان على معارضة تلك الأقوال الصحيحة العامة لجميع الرجال. والثالث: حديث عائشة في رواية مسلم فيه تردد: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم مضطجعاً في بيتي كاشفاً عن فخذيه أو ساقيه» والساق ليس بعورة إجماعاً، فهو مشكوك في المكشوف. والرابع: غاية ما في هذه الواقعة بكشف الفخذ: أن يكون ذلك خاصاً بالنبي صلّى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يظهر فيها دليل يدل على التأسي به في مثل ذلك، فيكون الواجب التمسك بالأقوال الناصعة على أن الفخذ عورة (¬1). ب ـ عورة الأمة كالرجل في الأصح، إلحاقاً لها بالرجل بجامع أن رأس كل منهما ليس بعورة، ولأن الرأس والذراع مما تدعو الحاجة إلى كشفه. جـ ـ عورة الحرة ومثلها الخنثى: ما سوى الوجه والكفين، ظهرهما وبطنهما من رؤوس الأصابع إلى الكوعين (الرسغ أو مفصل الزند) لقوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} [النور:31/ 24]، قال ابن عباس وعائشة رضي ¬
الله عنهم: «هو الوجه والكفان» ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى المرأة الحرام (المحرمة بحج أو عمرة) عن لبس القفازين والنقاب (¬1)، ولو كان الوجه عورة لما حرم سترهما في الإحرام، ولأن الحاجة تدعو إلى إبراز الوجه للبيع والشراء، وإلى إبراز الكف للأخذ والعطاء، فلم يجعل ذلك عورة. وإذا انكشف بعض العورة في الصلاة مع القدرة على سترها بطلت صلاته، إلا إن كشفها ريح أو سهواً، فسترها في الحال فلا تبطل، كما تقدم سابقاً. وإن كشفت بغير الريح أو بسبب بهيمة أو غير مميز فتبطل. ولا يجب على الرجل ستر عورته عن نفسه، لكنه يكره نظره إليها. وعورة المرأة الحرة بالنسبة للنظر: خارج الصلاة جميع بدنها أمام الرجال الأجانب، وأمام النساء الكافرات ما عدا ما يبدو عند المهنة أي الخدمة والاشتغال بقضاء حوائجها. وأما أمام النساء المسلمات والرجال المحارم: فعورتها كالرجل ما بين السرة والركبة. ودليل العلماء كافة على وجوب ستر العورة وعدم جواز نظر الرجل إلى عورة الرجل، والمرأة إلى عورة المرأة: حديث أبي سعيد الخدري بلفظ: «لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة في الثوب الواحد» (¬2) وحديث بَهْز بن حََكيم عن أبيه عن جده قال: قلت: يا رسول الله، عوراتُنا ما نأتي منها، وما نَذَر؟ قال: احفظ عورتَك إلا من زوجك أو ما ملكت يمينك، قلتُ: فإذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: إن استطعت ألا يراها أحد، فلا يَرَينَّها، قلت: فإذا ¬
مذهب الحنابلة
كان أحدنا خالياً؟ قال: فالله تبارك وتعالى أحقُ أن يُسْتَحيا منه» (¬1) فهو يدل على أن التعري في الخلاء غير جائز. ويؤيده حديث ابن عمر عند الترمذي بلفظ: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إياكم والتعري، فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط»، وحين يفضي الرجل إلى أهله، فاستحيوهم وأكرموهم». واستدل البخاري على جواز التعري في الغسل بقصة موسى وأيوب. مذهب الحنابلة (¬2): أـ عورة الرجل: ما بين سرته وركبته، للأحاديث السابقة التي استدل بها الحنفية والشافعية، وليست سرته وركبتاه من عورته، لحديث عمرو بن شعيب السابق: « .. فإن ما تحت السرة إلى الركبة عورة» وحديث أبي أيوب الأنصاري بلفظ: «أسفل السرة وفوق الركبتين من العورة» (¬3)، ولأن الركبة حد، فلم تكن من العورة كالسرة. والخنثى المشكل كالرجل، إذ لا نوجب عليه الستر بأمر محتمل متردد. ويجب بالإضافة لذلك لصحة الصلاة في ظاهر المذهب: أن يستر الرجل أحد منكبيه، ولو بثوب خفيف يصف لون البشرة؛ لأن وجوب ستر المنكبين بالحديث، ولفظه: «لا يصلي الرجل في الثوب الواحد، ليس على عاتقه منه شيء» (¬4) وهذا نهي يقتضي التحريم، ويقدم على القياس، وروى أبو داود عن بريدة قال: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يصلي في لحاف، ولا يتوشح به». ¬
لكن من لم يجد إلا ما يستر عورته فقط أو منكبيه فقط، ستر عورته وصلى قائماً وجوباً، وترك ستر منكبيه، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا كان الثوب واسعاً، فخالف بين طرفيه، وإن كان ضيقاً فاشدده على حَقْوك» (¬1) أي خصرك. وعلى الرجل أن يستر عورته في الصلاة عن النظر، حتى عن نفسه، فلو رأى عورته من جيب واسع لقميصه، إذا ركع أو سجد، وجب زره ونحوه ليسترها، لعموم الأمر بستر العورة. كما يجب عليه سترها ولو في خلوة أو ظلمة، لحديث بَهْز بن حكيم السابق «احفظ عورتك إلا من زوجتك، أو ما ملكت يمينك ... ». ولا يجب سترها بحصير وحفيرة وطين وماء كدر؛ لأن ذلك لا يثبت، وفي الحفيرة حرج. وإن انكشف من العورة يسير، لم تبطل صلاته، لما رواه أبو داود عن عمرو ابن سلمة الذي كانت تنكشف عنه بردته لقصرها إذا سجد. وإن انكشف من العورة شيء كثير، تبطل صلاته. والمرجع في التفرقة بين اليسير والكثير إلى العرف والعادة. لكن إن انكشف الكثير من العورة عن غير عمد، فستره في الحال، من غير تطاول الزمان، لم تبطل؛ لأن اليسير من الزمان أشبه اليسير في القَدْر. فإن طال كشفها، أو تعمد كشفها، بطلت الصلاة مطلقاً. ب ـ عورة الأمة كالرجل: ما بين السرة والركبة على الراجح، لحديث عمرو ابن شعيب السابق مرفوعاً: «إذا زوج أحدكم عبده ـ أمَتَه أو أجيره ـ فلا ينظر إلى شيء من عورته، فإن ما تحت السرة إلى ركبته عورة». ¬
عورة المرأة مع محارمها الرجال
هذا بالنسبة لعورة الأمة في الصلاة، بقصد التخفيف عنها، ودفع الحرج والتيسير عليها وعلى الآخرين، لانشغالها بخدمة سيدها، ولأن من شأن الأمة الابتذال والقيام بالأعمال، ولضعف الميل إليها غالباً، أما بالنسبة للنظر فيحرم على الناس غير السيد إدمان النطر إلى الإماء، منعاً من الفتنة، وللأمر بغض البصر عن جميع النساء. جـ ـ عورة الحرة البالغة: جميع بدنها سوى وجهها، وكفيها على الراجح ـ عند جماعة ـ من الروايتين، لقوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا ماظهر منها} [النور:31/ 24]، قال ابن عباس وعائشة: «وجهها وكفيها» (¬1) وليس لها كشف ما عدا وجهها وكفيها في الصلاة، بدليل الأحاديث السابقة عند الشافعية. والدليل على وجوب تغطية القدمين: ما روت أم سلمة قالت: «قلت: يا رسول الله، أتصلي المرأة في درع وخمار ليس عليها إزار؟ قال: نعم، إذا كان سابغاً يغطي ظهور قدميها» (¬2) وهذا يدل على وجوب تغطية القدمين، ولأنه محل لا يجب كشفه في الإحرام، فلم يجز كشفه في الصلاة كالساقين. ويجزئ المرأة من اللباس ما سترها الستر الواجب، لحديث أم سلمة السابق والمستحب أن تصلي المرأة في دِرْع (قميص سابغ يغطي قدميها) وخمار يغطي رأسها وعنقها، وجلباب تلتحف به من فوق الدرع. وحكم انكشاف شيء من عورة المرأة غير الوجه والكفين بالتفرقة بين اليسير والكثير، كحكم الرجل سابقاً. وعورة المرأة مع محارمها الرجال: هي جميع بدنها ما عدا الوجه والرقبة واليدين والقدم والساق. ¬
عورة المسلمة أمام الكافرة
وجميع بدن المرأة حتى الوجه والكفين خارج الصلاة عورة كما قال الشافعية، لقوله صلّى الله عليه وسلم السابق: «المرأة عورة». ويباح كشف العورة لنحو تداوٍ وتخل في الخلاء، وختان، ومعرفة بلوغ، وبكارة وثيوبة، وعيب. عورة المسلمة أمام الكافرة: عورة الحرة المسلمة أمام الكافرة عند الحنابلة والمالكية كالرجل المحرم: ما بين السرة والركبة. وقال الحنفية والشافعية: جميع البدن ماعدا مايظهر عند المهنة أي الأشغال المنزلية. ومنشأ الخلاف تفسير المراد من آية النور {ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن} .. إلى أن قال: {أو نسائهن} [النور:31/ 24] فال الحنابلة وآخرون: المراد بهن: عموم النساء، بلا فرق بين المسلمات والكافرات، فيجور للمرأة المسلمة أن تبدي من زينتها للمرأة الكافرة ما يحل لها أن تبديه للمسلمة. وقال الحنفية والشافعية: إن المراد بهن خصوص النساء المسلمات، أي المختصات بهن في الصحبة والأخوة في الدين، وعلى هذا فلا يحل للمسلمة أن تبدي شيئاً من زينتها الباطنة للكافرة (¬1). العورة المنفصلة: يحرم النظر إلى عورة الرجل عند الحنفية والشافعية متصلة كانت أو منفصلة من شعر أو ذراع أو فخذ. وقال الحنابلة: العورة المنفصلة لا يحرم النظر إليها لزوال حرمتها بالانفصال. ¬
صوت المرأة
وقال المالكية: يجوز النظر إلى العورة المنفصلة حال الحياة، ويحرم النظر إلى العورة المنفصلة بعد الموت كالمتصلة. صوت المرأة: صوت المرأة عند الجمهور ليس بعورة؛ لأن الصحابة كانوا يستمعون إلى نساء النبي صلّى الله عليه وسلم لمعرفة أحكام الدين، لكن يحرم سماع صوتها بالتطريب والتنغيم ولو بتلاوة القرآن، بسبب خوف الفتنة. وعبارة الحنفية: الراجح أن صوت المرأة ليس بعورة. والخلاصة: أن العلماء اتفقوا على أن الفرجين عورة، وأن السرة ليست بعورة وأن عورة الرجل ما بين السرة والركبة، وأن عورة المرأة في الصلاة ما عدا الوجه والكفين، وما عدا القدمين عند الحنفية، وأن عورتها خارج الصلاة جميع بدنها. واختلفوا في الركبة، فقال الحنفية: إنها عورة، وقال الجمهور: إنها ليست بعورة، ولكن يجب ستر شيء منها ومن السرة، لأنها مقدمة الواجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وأما عورة المرأة أمام أقاربها المحارم أو النساء المسلمات، فهي ما بين السرة والركبة عند الحنفية والشافعية، وقال المالكية: جميع بدنها ما عدا الوجه والأطراف: وهي الرأس والعنق واليدان والرجلان. وقال الحنابلة: جميع بدنها ما عدا الوجه والرقبة والرأس واليدين والقدم والساق فالقدم ليس بعورة عند الحنابلة والحنفية. حد عورة الصغير: اختلف الفقهاء في بيان حد عُمره الصغير والصغيرة، بين متشدد كالشافعية، ومخفف كالمالكية، ومتوسط كالحنابلة والحنفية. قال الحنفية (¬1): لا عورة للصغير جداً وهو من عُمره أربع سنين فأقل، فيباح ¬
النظر إلى بدنه ومسه. ثم ما دام لم يشته فعورته القُبُل والدبر، ثم تغلظ عورته إلى عشر سنين، أي تعتبر عورته: الدبر وما حوله من الأليتين والقبل وما حوله. وبعد العاشرة تعتبر عورته كعورة البالغ في الصلاة وخارجها، سواء أكان ذكراً أم أنثى. وقال المالكية (¬1): يفرق بين الذكر والأنثى: أـ في الصلاة: عورة الصغير الذكر المأمور بالصلاة وهو بعد تمام السبع: هي السوأتان والأليتان والعانة والفخذ، فيندب له سترها كحالة الستر المطلوب من البالغ. وعورة الصغيرة المأمورة بالصلاة: ما بين السرة والركبة، ويندب لها سترها كالستر المطلوب من البالغة. ب ـ خارج الصلاة: ابن ثمان سنين فأقل لا عورة له، فيجوز للمرأة النظر إلى جميع بدنه وتغسيله ميتاً. وابن تسع إلى اثنتي عشرة سنة يجوز لها النظر إلى جميع بدنه، ولكن لا يجوز لها تغسيله. وابن ثلاث عشرة سنة فأكثر عورته كعورة الرجل. وبنت سنتين وثمانية أشهر لا عورة لها. وبنت ثلاث سنين إلى أربع لا عورة لها في النظر، فينظر إلى بدنها، ولها عورة في المس فليس للرجل أن يغسلها، والمشتهاة كبنت ست كالمرأة، لا يجوز للرجل النظر إلى عورتها ولا تغسيلها. وقال الشافعية (¬2): عورة الصغير ولو غير مميز كالرجل: ما بين السرة والركبة. وعورة الصغيرة كالكبيرة أيضاً في الصلاة وخارجها. ¬
الشرط الخامس ـ استقبال القبلة
وقال الحنابلة (¬1): الصغير الذي لم يبلغ سبع سنين: لا عورة له، فيباح النظر إليه ومس جميع بدنه. وابن سبع إلى عشر عورته الفرجان فقط في الصلاة وخارجها، وبنت سبع إلى عشر عورتها في الصلاة: ما بين السرة والركبة، وأما خارج الصلاة فمثل الكبيرة: أمام المحارم عورتها ما بين السرة والركبة ويستحب لها الاستتار وستر الرأس كالبالغة احتياطاً، وأمام الأجانب: عورتها جميع بدنها إلا الوجه والرقبة والرأس، واليدين إلى المرفقين، والساق والقدم. وابن عشر كالكبير تماماً. ويظهر لي أن هذا الرأي ورأي الحنفية أولى لاتفاقه مع حديث الأمر بالصلاة لسبع، والضرب عليها لعشر. الشرط الخامس ـ استقبال القبلة: اتفق الفقهاء على أن استقبال القبلة شرط في صحة الصلاة، لقوله تعالى: {ومن حيث خرجت فولّ وجهك شطر المسجد الحرام، وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره} [البقرة:150/ 2] إلا في حالتين: في شدة الخوف، وصلاة النافلة للمسافر على الراحلة. وقيد المالكية والحنفية شرط الاستقبال بحالة الأمن من عدو وسبع وبحالة القدرة، فلا يجب الاستقبال مع الخوف، ولا مع العجز كالمربوط والمريض الذي لا قدرة له على التحول ولا يجد من يحوله، فيصلي لغيرها إلى أي جهة قدر، لتحقق العذر. واتفق العلماء على أن من كان مشاهداً معايناً الكعبة: ففرضه التوجه إلى عين الكعبة يقيناً. ومثله عند الحنابلة: أهل مكة أوالناشئ بها وإن كان هناك حائل محدث كالحيطان بينه وبين الكعبة. ¬
وأما غير المعاين للكعبة ففرضه عند الجمهور (غير الشافعية) إصابة جهة الكعبة (¬1)، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ما بين المشرق والمغرب قبلة» (¬2) وظاهره أن جميع ما بينهما قبلة، ولأنه لو كان الفرض إصابة عين الكعبة، لما صحت صلاة أهل الصف الطويل على خط مستو، ولا صلاة اثنين متباعدين يستقبلان قبلة واحدة، فإنه لا يجوز أن يتوجه إلى الكعبة مع طول الصف إلا بقدرها. وهذا هو الأرجح لدي. وقال الشافعي في الأم: فرضه ـ أي الغائب عن مكة ـ إصابة العين أي عين الكعبة؛ لأن من لزمه فرض القبلة، لزمه إصابة العين، كالمكي، ولقوله تعالى: {وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره} [البقرة:150/ 2]، أي أنه يجب عليه التوجه إلى الكعبة، فلزمه التوجه إلى عينها كالمعاين (¬3). والمطلوب عند أئمة المذاهب في إصابة جهة الكعبة محاذاتها ببدنه وبنظره إليها (¬4)، بأن يبقى شيء من الوجه مسامتاً (محاذياً) للكعبة، أو لهوائها عند الجمهور غير المالكية، بحيث لو امتد خط من وجهه في منتصف زاوية قائمة، لكان ماراً على الكعبة أو هوائها، والكعبة: من الأرض السابعة إلى العرش، فمن صلى في الجبال العالية والآبار العميقة السافلة، جاز، كما يجوز على سطحها وفي جوفها، ولو افترض زوالها، صحت الصلاة إلى موضع جدارها. ¬
الاجتهاد في القبلة
وقال المالكية: الواجب استقبال بناء الكعبة، ولا يكفي استقبال الهواء لجهة السماء. الاجتهاد في القبلة: يجب التحري والاجتهاد في القبلة أي بذل المجهود لنيل المقصود بالدلائل على من كان عاجزاً عن معرفة القبلة، واشتبهت عليه جهتها، ولم يجد أحداً ثقة يخبره بها عن علم أي يقين ومشاهدة لعينها، فمن وجده اتبعه؛ لأن خبره أقوى من الاجتهاد. والدليل على وجوب التحري: ما روى عامر بن ربيعة أنه قال: «كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة، فلم ندر أين القبلة، فصلى كل رجل منا على حياله، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، فنزلت {فأينما تولوا فثَمَّ وجه الله} [البقرة:115/ 2]» (¬1). ومن لم يجد ثقة يقلده اعتمد على الدلائل كالفجر والشفق والشمس والقطب وغيره من الكواكب، والريح الشرقي أو الغربي أو الجنوبي، وغيرها كثير، وأضعفها الرياح وأقواها نجم القطب في الليل. والقطب: نجم صغير من بنات نعش الصغرى بين الفرقدين والجدي، ويختلف باختلاف الأقاليم، ففي مصر يكون خلف أذن المصلي اليسرى، وفي العراق يكون خلف اليمنى، وفي أكثر اليمن يكون قبالته مما يلي جانبه الأيسر، وفي الشام وراءه. ¬
الخطأ في الاجتهاد
الخطأ في الاجتهاد: إن تيقن الخطأ في اجتهاده، فقال الحنفية: إن كان في الصلاة استدار وبنى عليها أي أكمل صلاته، فلو صلى كل ركعة لجهة، جاز. وإن كان بعد الصلاة صلى الصلاة القادمة، ولا إعادة عليه لما مضى، لإتيانه بما في وسعه، قال علي: «قبلة المتحري جهة قصده» ومن صلى بلا تحرٍ وأصاب، لم تصح صلاته، لتركه فرض التحري، إلا إذا علم إصابته بعد فراغه، فلا يعيد بالاتفاق عندهم. ومن أمَّ قوماً في ليلة مظلمة، فتحرى القبلة وصلى إلى جهة أخرى، وتحرى من خلفه، وصلى كل واحد منهم إلى جهة، وكلهم خلف الإمام، فمن علم منهم بحال إمامه تفسد صلاته، ومن لم يعلم ما صنع الإمام، صحت صلاته وأجزأه، لوجود التوجه إلى جهة التحري، ومخالفة المأمومين لإمامهم لا تمنع صحة الصلاة، كالصلاة في جوف الكعبة. وقال المالكية: إن تبين المجتهد في القبلة خطأ: يقيناً أو ظناً، في أثناء الصلاة، قطعها إن كان بصيراً منحرفاً كثيراً، بأن استدبر أو شرّق أو غرب، وابتدأها بإقامة، ولا يكفي تحوله لجهة القبلة. وإن كان أعمى، أو كان منحرفاً انحرافاً يسيراً، فلا إعادة عليه. وإن كان بصيراً منحرفاً كثيراً أو ناسياً للجهة التي أداه اجتهاده إليها، أو التي دله عليها العارف، أعاد في الوقت على المشهور. وقال الشافعية: إن تيقن الخطأ في الصلاة أوبعدها، استأنفها أي أعادها من جديد؛ لأنه تعين له يقين الخطأ فيما يأمن مثله في القضاء، فلم يعتد بما مضى، كالحاكم إذا حكم ثم وجد النص بخلافه.
وإن تغير اجتهاده للصلاة الثانية، فأداه اجتهاده إلى جهة أخرى، صلى الصلاة الثانية إلى الجهة الثانية، ولا يلزمه إعادة ما صلاه إلى الجهة الأولى، كالحاكم إذا حكم باجتهاده، ثم تغير اجتهاده، لم ينقض ما حكم فيه بالاجتهاد الأول. ويجتهد لكل فرض، فإن تحير، صلى كيف شاء، ويقضي وجوباً لأن ذلك أمر نادر. وقال الحنابلة: إن بان له يقين الخطأ وهو في الصلاة، استدار إلى جهة الكعبة، وبنى على ما مضى من الصلاة، كما قرر الحنفية؛ لأن ما مضى منها كان صحيحاً، فجاز البناء عليه، كما لو لم يبن له الخطأ. وكذلك تستدير الجماعة مع الإمام إن بان لهم الخطأ في حال واحدة. وإن تبين خطأ اجتهاده بعد الصلاة، بأن صلى إلى غير جهة الكعبة يقيناً لم يلزمه الإعادة، ومثل المجتهد في هذا: المقلد الذي صلى بتقليده، وهذا موافق لمذهب الحنفية. أما من صلى في الحضر إلى غير الكعبة سواء أكان بصيراً أم أعمى، ثم بان له الخطأ، فعليه الإعادة؛ لأن الحضر ليس بمحل الاجتهاد؛ لأن من فيه يقدر على معرفة القبلة بالمحاريب، ويجد من يخبره عن يقين غالباً، فلا يكون له الاجتهاد، كالقادر على النص في سائر الأحكام. والخلاصة: أن الحنفية والحنابلة يقررون البناء على الصلاة في أثنائها، ولا يوجبون الإعادة في حال الاجتهاد. وتبين الخطأ بعد الفراغ من الصلاة إلا المقيم في الحضر عند الحنابلة. والمالكية والشافعية يقررون قطع الصلاة إذا عرف الخطأ فيها، وإعادة الصلاة إذا عرف الخطأ بعدها، لكن المالكية يوجبون الإعادة في الوقت
الصلاة في الكعبة
الضروري فقط. والشافعية يوجبون الإعادة مطلقاً في الوقت وبعده، لتبين فساد الأولى. هذا ويتعلق بشرط الاستقبال بحث أمرين: الصلاة في الكعبة، وصلاة المسافر على الراحلة. الصلاة في الكعبة: عرفنا أنه لا بد شرعاً من استقبال جزء من الكعبة، وعند غير المالكية: أو استقبال هوائها إلى السماء، والثابت عنه صلّى الله عليه وسلم أنه دخل الكعبة المشرفة يوم فتح مكة مرة واحدة وصلى فيها، روى ابن عمر أنه قال لبلال: هل صلى النبي صلّى الله عليه وسلم في الكعبة؟ قال: نعم، ركعتين بين السَّاريتين عن يسارك إذا دخلتَ، ثم خرج، فصلى في وجهة الكعبة ركعتين» (¬1). وإذا كان ابن عباس عند البخاري وغيره روى «أنه صلّى الله عليه وسلم كبَّر في البيت ولم يصل فيه» فإنه يقدم حديث ابن عمر، لأنه مثبت، وحديث ابن عباس لأنه نافي، والمقرر عند جمهور الفقهاء غير الشافعية: أنه إذا تعارض المثبت والنافي قدم المثبت، لأنه يشتمل على زيادة علم (¬2) ولأن ابن عمر كان مع النبي صلّى الله عليه وسلم ولم يكن ابن عباس معه، وأما نفي أسامة الصلاة فلأنه نقل ما لاحظه من اشتغال النبي صلّى الله عليه وسلم بالدعاء في ناحية وأسامة في ناحية، وذلك في حال الظلمة بسبب إغلاق باب الكعبة (¬3). ¬
وقد أقر الفقهاء مشروعية الصلاة في جوف الكعبة، فقال الحنفية (¬1): يصح أداء الصلاة فرضاً أو نفلاً ولوجماعة في الكعبة أو على سطحها وإن لم يتخذ سترة، لكنه يكره الصلاة فوقها، لإساءة الأدب، باستعلائه عليها، وترك التعظيم المطلوب لها، ونهي النبي عنه. وإن صلى الإمام بجماعة، فجعل بعضهم ظهره إلى ظهر الإمام جاز، ومن جعل منهم ظهره إلى وجه الإمام لم تجز صلاته، لتقدمه على الإمام. وإذا صلى الإمام في المسجد الحرام، تحلَّق الناس حول الكعبة، وصلوا بصلاة الإمام، فمن كان منهم أقرب إلى الكعبة من الإمام، جازت صلاته إذا لم يكن في جانب الإمام؛ لأن التقدم والتأخر إنما يظهر عند اتحاد الجانب. وقال الشيخ خليل من المالكية (¬2): يجوز لأي جهة الصلاة في الكعبة وعلى سطحها نفلاً غير مؤكد، ومنه سنن الرواتب كأربع ركعات قبل الظهر والضحى والشفْع (سنة العشاء)، كما يجوز النفل مستقبل القبلة في الحِجْر أي حجر إسماعيل. ولا تصح عندهم الفرائض في داخل الكعبة. وتكره السنن المؤكدة كالوتر والعيدين وركعتي الفجر وركعتي الطواف. ولا تجوز صلاة الفرض في الكعبة أو في الحِجْر، فإن وقع، أعاده بوقت ضروري (وهو في الظهرين للاصفرار وفي العشاءين الليل كله، وفي الصبح حتى طلوع الشمس). وتبطل صلاة الفرض على ظهر الكعبة، ويعاد أبداً؛ لأن الواجب استقبال البناء، ولا يكفي استقبال الهواء لجهة السماء. ¬
صلاة النافلة على الراحلة للمسافر
والخلاصة: إن هذا التفصيل الذي قرره العلامة خليل والقول بجواز هذه الصلاة هو حكم ضعيف عند المالكية، كما صرح شارح خليل. وقال ابن جزي المالكي: تكره الصلاة على ظهر الكعبة، وتمنع في المذهب الفرائض داخل الكعبة. وقال الشافعية (¬1): تجوز الصلاة فرضاً أو نفلاً في الكعبة أو على سطحها إن استقبل من بنائها أوترابها شاخصاً (سترة) ثابتاً كعتبة وباب مردود أو عصا مسمَّرة أو مثبتة فيه، قدر ثلثي ذراع تقريباً فأكثر بذراع الآدمي، وإن بعد عنه ثلاثة أذرع فأكثر. وإنما صح استقبال هوائها لمن هو خارج عنها، فلأنه يعد حينئذ متوجهاً إليها كالمصلي على أعلى منها كأبي قبيس، بخلاف القريب منها المصلي فيها أو عليها. وأجاز الحنابلة (¬2) أيضاً صلاة النافلة في الكعبة أو على سطحها، ولا تصح صلاة الفريضة لقوله تعالى: {وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره} [البقرة:150/ 2]، والمصلي فيها أو على ظهرها غير مستقبل لجهتها، والنافلة مبناها على التخفيف والمسامحة بدليل صلاتها قاعداً، أو إلى غير القبلة في السفر على الراحلة. صلاة النافلة على الراحلة للمسافر: يجوز التطوع على الراحلة للمسافر باتجاه مقصده بإجماع العلماء، ولما ثبت في السنة، عن عامر بن ربيعة قال: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهو على راحلته يسبِّح، يومئ برأسه، قِبَل أي وِجْهة توجَّه، ولم يكن يصنع ذلك في الصلاة المكتوبة (¬3). ¬
وللفقهاء آراء وشروط في صلاة النافلة على الراحلة: قال الحنفية (¬1): إن قبلة العاجز لمرض أو ركوب على دابة جهة قدرته، ولو مضطجعاً، ويصلي بإيماء أي يتوجه العاجز إلى أي جهة قدر، سواء أكان مسافراً أم خائفاً من عدو أو سبع أو لص، أم هارباً من العدو. لكن يشترط في الصلاة على الدابة إيقافها إن قدر، وإلا بأن خاف الضرر، كأن تذهب القافلة وينقطع، فلا يلزمه إيقافها ولا استقبال القبلة، حتى في ابتداء الصلاة بتكبيرة الإحرام. والجائز هو صلاة النفل والسنن المؤكدة إلا سنة الفجر، فلا تجوز صلاة الفرض، والواجب بأنواعه كالوتر، والمنذور، وصلاة الجنازة، أي لا يجوز ذلك على الدابة بلا عذر لعدم الحرج. والنافلة تجوز للمقيم الراكب خارج المصر لمسافة يجوز القصر فيها (وهي 98كم) كما تجوز للمسافر بالأولى، فالأول في حكم الثاني. وتتم الصلاة بالإيماء بالركوع والسجود، إلى أي جهة توجهت دابته للضرورة، ولا يشترط استقبال القبلة في الابتداء كما ذكرت، لأنه لما جازت الصلاة إلى غير جهة الكعبة، جاز الافتتاح إلى غير جهتها. وظاهر المذهب والأصح: أنه تصح الصلاة ولو كان على سرج الدابة أو ركابها نجس كثير. وقال المالكية (¬2): يجوز للمسافر الراكب في السفر الذي يخاف إن نزل لصاً أو سبعاً أن يتنفل بالصلاة ولو بوتر، على الدابة إلى القبلة وغيرها بحسب اتجاه ¬
الدابة، ولو كان بمَحْمِل (وهو ما يركب فيه من مِحَفَّة (¬1) أو هَوْدَج ونحوهما مما يجلس فيه) ويصلي فيه متربعاً. والراكب يصلي بالإيماء، فيومئ بالركوع والسجود، ويجعل السجود أخفض من الركوع، ولا يتكلم ولا يلتفت، ولا يشترط طهارة الأرض. واشترطوا لجواز التنفل صوب السفر شروطاً: 1ً - أن يكون السفر طويلاً سفر قصر (98 كم) ومشروعاً، فلا يتنفل العاصي بسفره. 2ً - وأن يكون راكباً لا ماشياً ولا جالساً. أما الراكب في السفينة فيصلي إلى القبلة، فإن دارت السفينة استدار. 3ً - وأن يكون راكب دابة من حمار أو بغل أو فرس أوبعير، لا سفينة أو راجل. 4ً- وأن يكون ركوبه لها على الوجه المعتاد، لا مقلوباً، أو جاعلاً رجليه معاً لجنب واحد. ولا تصح صلاة فرض على ظهر الدابة، وإن كان المصلي مستقبلاً القبلة إلا في أحوال أربع هي: أولها ـ حالة التحام القتال مع العدو الكافر أو غيره، من كل قتال جائز لا يمكن النزول فيه عن الدابة، فيصلي الفرض على ظهرها إيماء للقبلة إن أمكن، ولا يعيد الملتحم. ¬
ثانيها ـ حالة الخوف من عدو كسبع أو لص إن نزل عن دابته، فيصلي الفرض على ظهرها إيماء للقبلة إن أمكن، وإن لم يمكن صلى لغير القبلة. فإن أمن الخائف بعد صلاته، أعاد في الوقت. ثالثها ـ الراكب في خضخاض (قليل) من ماء، لا يطيق النزول فيه أو خشي تلطخ ثيابه، وخاف خروج الوقت الاختياري (المعتاد) أو الضروري (¬1) ويصلي الفرض على الدابة إيماء، فإن لم يخف خروج الوقت أخر الصلاة لآخر الاختياري. رابعها ـ حالة مرض الراكب الذي لا يطيق النزول معه، فيؤدي الفريضة إيماء على الدابة للقبلة بعد إيقافها، كما يؤديها على الأرض بالإيماء. وقال الشافعية (¬2): يجوز للمسافر سفراً مباحاً طويلاً أو قصيراً صلاة النافلة على الراحلة، ولا يجوز ذلك للعاصي بسفره والهائم، ولا للماشي، فعليهم إتمام الشروط والأركان كلها من استقبال القبلة وإتمام الركوع والسجود، ولا يمشي الماشي إلا في قيامه وتشهده. ويومئ المتنفل بركوعه وسجوده، ويكون سجوده أخفض من ركوعه، ويشترط أن يبدأ الصلاة بالاتجاه إلى القبلة إن أمكنه. ولا تصح صلاة الآخذ بزمام الدابة إذا كان بها نجاسة. وإن وطئت نجاسة رطبة أو جافة لم تفارقها بطلت صلاته، وتفصيل ذلك فيما يأتي: ¬
أـ إن كان الراكب في مَرْقَد أو هودج (محمل واسع)، لزمه أن يتوجه إلى القبلة في جميع صلاته وإتمام الأركان كلها أو بعضها الذي هو الركوع والسجود، لتيسره عليه، وإن لم يسهل عليه ذلك، فلا يلزمه إلا التوجه للقبلة في تكبيرة إحرامه إن سهل عليه: بأن تكون الدابة واقفة وأمكنه تحريفها، أو تكون سائرة وبيده زمامها، وهي سهلة القيادة. فإن كانت صعبة أو لم يمكن تحريفها، أو كانت مقطورة لم يلزمه التوجه للقبلة للمشقة واختلال أمر السير عليه. ويحرم انحراف المصلي عن طريقه إلا إلى القبلة. ودليل اشتراط استقبال القبلة في ابتداء الصلاة: حديث أنس رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا كان في السفر، وأراد أن يصلي على راحلته تطوعاً، استقبل القبلة، وكبر، ثم صلى، حيث توجهت به» (¬1). ب ـ وأما الملاح في سفينة (أي قائدها) فلا يلزمه التوجه للقبلة لمشقة ذلك عليه. وقال الحنابلة (¬2): يجوز للمسافر الراكب لا الماشي، سفراً طويلاً أو قصيراً أن يتطوع في السفر على الراحلة إذا قصد جهة معينة، ويومئ بالركوع والسجود، ويجعل السجود أخفض من الركوع، قال جابر: «بعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلم في حاجة فجئت وهو يصلي على راحلته نحو المشرق، والسجود أخفض من الركوع» (¬3) ولا يسقط الاستقبال إذا تنفل في الحضر كالراكب السائر في مصره أو قريته؛ لأنه ليس مسافراً، وليس للهائم والتائه والسائح التنفل؛ إذ ليس له جهة معينة. ¬
ويجوز أن يصلي على البعير والحمار وغيرهما، قال ابن عمر: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلي على حمار، وهو متوجه إلى خيبر» (¬1) لكن إن صلى على حيوان نجس، فلا بد أن يكون بينهما سترة طاهرة. وقبلة المصلي: حيث كانت وجهته، ولا يجوز انحرافه عن جهة سيره عند الإمكان إلا إلى القبلة، فإن فعل ذلك مغلوباً أو نائماً فهو على صلاته. وإن كان في مركب أو سفينة كبيرة يدور فيه كيفما شاء، ويتمكن من الصلاة إلى القبلة والركوع والسجود، فعليه استقبال القبلة في صلاته، ويسجد على ماهو عليه إن أمكن ذلك. وإن قدر على الاستقبال دون الركوع والسجود، استقبل القبلة وأومأ بهما. وإن عجز عن الاستقبال سقط بغير خلاف، كما يسقط الاستقبال لأعذار أخرى كالتحام حرب وهرب من سيل أو نار أو سبع ونحوه، ولو كان العذر نادراً كمريض عجز عن الاستقبال، وكمقعد عجز عمن يديره إلى القبلة وكمربوط ونحوه. وإن عجز عن الاستقبال في ابتداء صلاته، كراكب راحلة لا تطيعه، أو كان في قافلة (قطار) فليس عليه استقبال القبلة في شيء من الصلاة. ولا يلزم الملاح في سفينة الاتجاه إلى القبلة ولو في الفرض، لحاجته إلى تسيير السفينة وإن أمكنه افتتاح الصلاة إلى القبلة، كراكب راحلة منفردة تطيعه، ففي إلزامه التوجه إلى القبلة روايتان عن أحمد: إحداهما وهي الراجحة: يلزمه، لحديث أنس السابق في مذهب الشافعية، وعلى هذا يلزم الراكب إذا تنفل على راحلته افتتاح النافلة إلى القبلة بالدابة، بأن يديرها إلى القبلة إن أمكنه بلا مشقة، أو يدور بنفسه إلى القبلة إن أمكنه ذلك بلا مشقة. ¬
والثانية: لا يلزمه، لأنه جزء من أجزاء الصلاة، فأشبه سائر أجزائها، ولأن ذلك لا يخلو من مشقة، فسقط، وخبر أنس السابق يحمل على الفضيلة والندب. ويجوز للمسافرالتنفل على الراحلة ولو كانت النافلة وتراً أو غيره من سنن الرواتب وسجود التلاوة. والماشي في السفر لا تباح له الصلاة في حال مشيه، بل يلزمه افتتاح النافلة إلى القبلة، كما يلزمه الركوع والسجود إلى القبلة على الأرض لتيسر ذلك عليه مع متابعة سيره، ويفعل باقي الصلاة إلى جهة سيره. وأما الصلاة على الراحلة لأجل المرض، ففيه روايتان: إحداهما: ىجوز؛ لأن المشقة بالنزول في المرض أشد منها بالنزول في المطر. ومن صلى على الراحلة لمرض أو مطر، فليس له ترك الاستقبال. والثانية: لا يجوز ذلك؛ لأن ابن عمر (كان يُنزل مرضاه) ولأنه قادر على الصلاة أو على السجود، فلم يجز تركه كغير المريض. والخلاصة: أن الفقهاء اتفقوا على جواز الصلاة على الراحلة في السفر الطويل، وعلى كون الصلاة بالإيماء، واختلفوا في السفر القصير، فأجازها الشافعية والحنابلة، ومنعها المالكية والحنفية. وليس استقبال القبلة شرطاً عند الحنفية والمالكية، وهو شرط عند الشافعية والحنابلة في بداية الإحرام بالصلاة عند الإمكان، ويسقط بالعجز، بأن لم يمكنه افتتاح النافلة إلى القبلة، بلا مشقة، كأن يكون مركوبه حَرُوناً تصعب عليه إدارته. ولا يضر اشتمال الدابة على نجاسة عند الحنفية والمالكية، ويضر ذلك عند الشافعية، وتصح الصلاة عند الحنابلة بشرط وجود ساتر، إذ إنه يشترط لصحة التنفل طهارة محل المصلي نحو سرج وإكاف كغيره، لعدم المشقة فيه، فإن كان
الشرط السادس ـ النية
المركوب نجس العين، أو أصاب موضع الركوب منه نجاسة، وفوقه حائل طاهر، من برذعة ونحوها، صحت الصلاة، وإن وطئت دابته نجاسة، لم تبطل صلاته عند الحنابلة. ولا تصح صلاة الفرض على الدابة إلا إذا أتى بها كاملة الأركان مستوفية الشروط. ومن صلى في سفينة عليه أن يستقبل القبلة متى قدر على ذلك، وعليه إذا غيرت جهتها أن يدور لو دارت السفينة وهو يصلي. الشرط السادس ـ النية: النية من شروط الصلاة عند الحنفية والحنابلة، وكذا عند المالكية على الراجح، وهي من فروض الصلاة أو أركانها عند الشافعية ولدى بعض المالكية؛ لأنها واجبه في بعض الصلاة، وهو أولها، لا في جميعها، فكانت ركناً كالتكبير والركوع. وهي لغة: القصد، وشرعاً: عزم القلب على فعل العبادة تقرباً إلى الله تعالى. بأن يقصد بعمله الله تعالى، دون شيء آخر من تصنع لمخلوق، أو اكتساب محمدة عند الناس، أو محبة مدح أو نحوه. وهذا هو الإخلاص. والنية واجبة في الصلاة باتفاق العلماء لتمييز العبادة عن العادة، وليتحقق في الصلاة الإخلاص لله تعالى؛ لأن الصلاة عبادة، والعبادة إخلاص العمل بكليته لله تعالى، قال الله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} [البينة:89/ 5]، قال الماوردي: والإخلاص في كلامهم النية. ودل الحديث المعروف على إيجابها أيضاً، وهوقوله صلّى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» (¬1) فلا تصح الصلاة بدون النية بحال. ¬
شروط النية
وكمال النية: أن يستشعر المصلي الإيمان، وينوي التقرب إلى الله بالصلاة، ويعتقد وجوبها وأداءها في ذلك اليوم، ويعينها، وينوي عدد ركعاتها، وينوي الإمامة أو المأمومية (الاقتداء) أو الانفراد، ثم ينوي تكبيرة الإحرام. والواجب باتفاق الفقهاء استصحاب حكم النية دون حقيقتها، بمعنى أنه لا ينوي قطعها، فلو ذهل عنها وعزبت (غابت عنه) في أثناء الصلاة، لم يضر. شروط النية: إن شروط النية: الإسلام، والتمييز، والعلم بالمنوي. مقارنة النية للتكبير: يشترط اتصال النية بالصلاة بلا فاصل أجنبي عند الحنفية (¬1) بين النية والتكبيرة، والفاصل عمل لا يليق بالصلاة كالأكل والشرب ونحو ذلك، أما إذا فصل بينهما بعمل يليق بالصلاة كالوضوء والمشي إلى المسجد، فلا يضر، فلونوى، ثم توضأ أو مشى إلى المسجد، فكبر، ولم تحضره النية، جاز، لعدم الفاصل الأجنبي، بدليل أن من أحدث في الصلاة، له البناء عليها بعد تجديد الوضوء. ويندب اقتران النية بتكبيرة الإحرام، خروجاً من الخلاف، ولا يصح أن تتأخر النية عن التحريمة في الصحيح. وكذلك يجوز تقديم النية في الحج، فلو خرج من بيته يريد الحج، فأحرم ولم تحضره النية، وكذلك الزكاة تجوز بنية وجدت عند الإفراز. ولا تجزئ النية المتأخرة عن التكبير في الصلاة، أما الصوم فيجوز تأخيرها عن البدء به للضرورة، ولا ضرورة في الصلاة. وقال الحنابلة (¬2): الأفضل مقارنة النية للتكبير، خروجاً من خلاف من ¬
تعيين المنوي
أوجبه، فإن تقدمت النية على التكبير بزمن يسير بعد دخول الوقت في أداء وراتبة، ولم يفسحها، وكان ذلك مع بقاء إسلامه، بأن لم يرتدّ، صحت صلاته؛ لأن تقدم النية على التكبير بالزمن اليسير لا يخرج الصلاة عن كونها منوية، ولا يخرج الفاعل عن كونه ناوياً مخلصاً، ولأن النية من شروط الصلاة، فجاز تقدمها كبقية الشروط، وفي طلب المقارنة حرج ومشقة، فيسقط لقوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج:22/ 87]، ولأن أول الصلاة من أجزأئها، فكفى استصحاب النية فيه كسائرها. وقال المالكية (¬1): يجب استحضار النية عند تكبيرة الإحرام، أو قبلها بزمن يسير. وقال الشافعية (¬2): يشترط اقتران النية بفعل الصلاة، فإن تراخى عنه سمي عزماً، ولو قال: «نويت أن أصلي الظهر، الله أكبر، نويت» بطلت صلاته؛ لأن قوله «نويت» بعد التكبيرة كلام أجنبي عن الصلاة، وقد طرأ بعد انعقاد الصلاة، فأبطلها. تعيين المنوي: يشترط تعيين نوع الفرض الذي يصليه باتفاق الفقهاء، كالظهر أو العصر، لأن الفروض كثيرة، ولا يتأدى واحد منها بنية فرض آخر. محل النية: محل التعيين هو القلب بالاتفاق، ويندب عند الجمهور غير المالكية التلفظ بالنية، وقال المالكية: يجوز التلفظ بالنية، والأولى تركه في صلاة أو غيرها. والأصح عند الشافعية (¬3) أيضاً وجوب نية الفرضية، دون الإضافة إلى الله تعالى، فتكون شروط النية عندهم ثلاثة، القصد، والتعيين، ¬
آراء الفقهاء في النية
والفرضية. آراء الفقهاء في النية: تفصيل آراء المذاهب في النية فيما يأتي: قال الحنفية (¬1): الكلام في النية يتناول مواضع ثلاثة: تفسير النية، وكيفية النية، ووقت النية. آـ تفسير النية: النية: هي الإرادة، فنية الصلاة: هي إرادة الصلاة لله تعالى، والإرادة عمل القلب، فمحل النية: هو القلب: بأن يعلم بقلبه أي صلاة يصلي، ولا يشترط الذكر باللسان، وإنما يستحب إعانة للقلب الجمع بين نية القلب وتلفظ اللسان. أما التعيين فهو أفضل وأحوط عموماً، ثم إن كانت الصلاة فرضاً كظهر وعصر مثلاً أو واجباً كالوتر وسجود التلاوة والنذر وصلاة العيدين، فلابد من التعيين، كما لابد من تعيين اليوم أو الوقت في حالة القضاء، ولا يلزم نية القضاء. أما الأداء فلا يلزم قرن النية باليوم أو الوقت، كما لا يلزم تعيين عدد الركعات. وأما صلاة النفل ولو سنة الفجر والتراويح وغيرها في الصحيح، فيكفيها مطلق النية، والاحتياط: التعيين، فينوي مراعياً صفة النافلة بالتراويح أو سنة الوقت. ولا تبطل نية الصلاة أو الصوم بتعليقها بمشيئة الله، لأن محل النية: القلب. والمعتمد أن العبادات ذات الأفعال تنسحب نيتها على كلها. ¬
المالكية
ولو أدرك شخص القوم في الصلاة، ولم يدر أفرض أم تراويح، ينوي الفرض، فإن كانوا هم فيه صح، وإن لم يكن فيه تقع نفلاً. ب ـ كيفية النية: إن كان المصلي منفرداً: عين نوع الفرض أو الواجب، وإن كان تطوعاً تكفيه نية الصلاة، كما ذكرت. وإن كان المصلي إماماً: عين كما سبق، ولا يشترط للرجل نية إمامة الرجال، ويصح اقتداؤهم به بدون نية إمامتهم. ويشترط له نية إمامة النساء لصحة اقتدائهن به، والفرق أنه لو صح اقتداء المرأة بالرجل، فربما تحاذيه، فتفسد صلاته، فيلحقه الضرر من غير اختياره، فشرط نية اقتدائها به، حتى لا يلزمه الضرر من غير التزامه ورضاه، وهذا المعنى منعدم في جانب الرجال. والخلاصة: تلزم نية الإمام في صورة واحدة: وهي حالة صلاة الرجل إماماً بالنساء. وإن كان مقتدياً: عين أيضاً كما سبق، ويحتاج لزيادة نية الاقتداء بالإمام، كأن ينوي فرض الوقت والاقتداء بالإمام فيه، أو ينوي الشروع في صلاة الإمام، أو ينوي الاقتداء بالإمام في صلاته. جـ ـ وقت النية: يندب أن تكون النية وقت التكبير، أي مقارناً له، ويصح عندهم تقديم النية على التحريمة، إذا لم يوجد بينهما عمل يقطع أحدهما عن الآخر، والقران ليس بشرط. وقال المالكية (¬1): النية: قصد الشيء، ومحلها القلب، ونية الصلاة فرض والراجح أنها شرط ¬
بأن يقصد بقلبه أداء فرض الظهر مثلاً، والقصد للشيء خارج عن ماهية الشيء، والأولى ترك التلفظ بها، إلا الموسوس فيستحب له التلفظ ليذهب عنه اللبس، ويجب أن تكون النية مقارنة لتكبيرة الإحرام، فإن تأخرت النية أو تقدمت بوقت كثير، بطلت اتفاقاً، وإن تقدمت بوقت يسير، فقيل وهو المختار: تصح كالحنفية، وقيل: تبطل كالشافعية. ويجب التعيين في الفرائض، والسنن الخمس (وهي الوتر والعيد والكسوف والخسوف (¬1) والاستسقاء) وسنة الفجر، دون غيرها من النوافل، كالضحى والرواتب والتهجد، فيكفي فيه نية مطلق نفل، وينصرف للضحى إن كان قبل الزوال، ولراتب الظهر إن كان قبل صلاته، أو بعده، ولتحية المسجد إن كان حين الدخول فيه، وللتهجد إن كان في الليل، وللشفع (سنة العشاء) إن كان قبل الوتر. ولا يشترط نية الأداء أو القضاء أو عدد الركعات، فيصح القضاء بنية الأداء وعكسه. ويستثنى من وجوب التعيين صورة واحدة: وهي ما إذا دخل شخص المسجد، فوجد الإمام يصلي، فظن أن صلاته هي الجمعة، فنواها، فتبين أنها الظهر، فتصح، وعكس ذلك باطل. وتجب نية الانفراد، والمأمومية، ولا تجب نية الإمامة إلا في الجمعة والجمع بين الصلاتين تقديماً للمطر، والخوف، والاستخلاف (¬2)، لكون الإمام شرطاً فيها، وزاد ابن رشد: الجنائز، فلو ترك الإمام نية الإمامة في الجمعة بطلت الصلاة ¬
الشافعية
عليه وعلى المأمومين، ولو تركها في صلاة الجمع تقديماً للمطر بطلت الثانية، وإذا تركها في صلاة الخوف تبطل الصلاة على الطائفة الأولى من المأمومين فقط، وتصح للإمام وللطائفة الثانية، ولو تركها في صلاة الاستخلاف، صحت له، وبطلت على المأمومين. وقال الشافعية (¬1): النية: قصد الشيء مقترناً بفعله، ومحلها القلب، ويندب النطق بها قبيل التكبير. ولو عقب النية بقوله: إن شاء الله بقلبه أو لسانه، فإن قصد التبرك ووقع الفعل بمشيئة الله تعالى، لم يضره. وإن قصد به التعليق أو الشك، لم يصح. فإن كانت الصلاة فرضاً ولو فرض كفاية كصلاة الجنازة، أو قضاء كالفائتة، أو معادة، أو نذراً، يجب ثلاثة أمور: نية الفرضية (أي يلاحظ ويقصد كون الصلاة فرضاً)، وقصد إيقاع الفعل (بأن يقصد فعل الصلاة لتتميز عن سائر الأفعال) وتعيين نوع الفرضية من صبح أو ظهر مثلاً: بأن يقصد إيقاع صلاة فرض الظهر مثلاً (¬2). ويشترط أن يكون ذلك مقارناً لأي جزء من أجزاء تكبيرة الإحرام، وهذا هو المقصود عندهم بالاستحضار والمقارنة العرفيين (أي يستحضر قبل التحريمة فعل الصلاة من أقوالها وأفعالها في أولها وآخرها ولو إجمالاً على المعتمد، ويقرن ذلك الاستحضار السريع في الذهن في أثناء تكبيرة الإحرام). وإن كانت الصلاة نفلاً ذات وقت كسنن الرواتب، أو ذات سبب كالاستسقاء، وجب أمران: قصد فعله، وتعيينه كسنة الظهرأو عيد الفطر أو الأضحى، ولا يشترط نية النفلية على الصحيح. ¬
ويكفي في النفل المطلق (وهو الذي لا يتقيد بوقت ولا سبب نحو تحية المسجد وسنة الوضوء): نية فعل الصلاة. ولا تجب الإضافة إلى الله تعالى؛ لأن العبادة لاتكون إلا له سبحانه وتعالى، لكن تستحب ليتحقق معنى الإخلاص. ويستحب نية استقبال القبلة وعدد الركعات خروجاً من الخلاف، فلو أخطأ في العدد، كأن نوى الظهر ثلاثاً أو خمساً، لم تنعقد صلاته، كما يستحب نية الأداء والقضاء. والأصح أنه يصح الأداء بنية القضاء وعكسه في حالة العذر، كجهل الوقت بسبب غيم أو نحوه، فلو ظن خروج الوقت، فصلاها قضاء، فبان بقاؤه، أو ظن بقاء الوقت فصلاها أداء، فبان خروجه، صحت صلاته. كذلك تصح صلاته في حالة عدم العذر إذا قصد المعنى اللغوي، لاستعمال كل بمعنى الآخر، تقول: قضيت الدين وأديته، بمعنى واحد، وهو دفعه. أما إذا فعل ذلك بلا عذر، ولم ينو المعنى اللغوي، لم تصح صلاته لتلاعبه. ولا يشترط التعرض للوقت، فلو عين اليوم وأخطأ، لم يضر. ومن عليه فوائت لا يشترط أن ينوي ظهر يوم كذا، بل يكفيه نية الظهر مثلاً. ولا يندب ذكر اليوم أو الشهر أو السنة على المعتمد. والنية شرط في جميع الصلاة، فلو شك في النية، هل أتى بها أو لا، بطلت صلاته. ولا يشترط للإمام نية الإمامة، بل يستحب ليحوز فضيلة الجماعة، فإن لم ينو لم تحصل له، إذ ليس للمرء من عمله إلا ما نوى. وتشترط نية الإمامة في
الحنابلة
حالات أربع: في الجمعة، والصلاة المجموعة مع غيرها للمطر جمع تقديم، والصلاة المعادة في الوقت جماعة، والصلاة التي نذر أن يصليها جماعة للخروج من الإثم. ويشترط للمقتدي نية الاقتداء: بأن ينوي المأموم مع تكبيرة الإحرام الاقتداء أو الائتمام أو الجماعة بالإمام الحاضر أو بمن في المحراب ونحو ذلك؛ لأن التبعية عمل، فافتقرت إلى نية، إذ ليس للمرء إلا ما نوى. ولا يكفي إطلاق نية الاقتداء، من غير إضافة إلى الإمام. فلو تابع بلا نية، أو مع الشك فيها، بطلت صلاته إن طال انتظاره. وقال الحنابلة (¬1): النية: عزم القلب على فعل العبادة تقرباً إلى الله تعالى، فلا تصح الصلاة بدونها بحال. ومحلها القلب وجوباً، واللسان استحباباً. فإن كانت الصلاة فرضاً: اشترط أمران: تعيين نوع الصلاة: ظهراً أو عصراً أو غيرهما، وقصد الفعل، ولا يشترط نية الفرضية (¬2) بأن يقول: أصلي الظهر فرضاً. أما الفائتة: فإن عينها بقلبه أنها ظهر اليوم، لم يحتج إلى نية القضاء ولا الأداء، ويصح القضاء بنية الأداء أو عكسه إذا بان خلاف ظنه. وإن كانت الصلاة نافلة: فيجب تعيينها إن كانت معينة أو مؤقتة بوقت كصلاة الكسوف والاستسقاء، والتراويح والوتر، والسنن الرواتب. ¬
الشك في النية
ولا يجب تعيينها إن كانت مطلقة، كصلاة الليل، فيجزئه نية الصلاة لاغير، لعدم التعيين فيها، فهم كالشافعية في هذا. وقالوا: إذا دخل في الصلاة بنية مترددة بين إتمامها وقطعها، لم تصح؛ لأن النية عزم جازم، ومع التردد لا يحصل الجزم، وهذا باتفاق الفقهاء. وإن دخل في الصلاة بنية صحيحة، ثم نوى قطعها والخروج منها، بطلت عند الجمهور؛ لأن النية شرط في جميع الصلاة، وقد قطعها بما حدث. وقال أبو حنيفة: لا تبطل بذلك؛ لأنها عبادة صح دخوله فيها، فلم تفسد بنية الخروج منها، كالحج. الشك في النية: إن شك في أثناء الصلاة، هل نوى أو لا؟ أو شك في تكبيرة الإحرام، استأنفها، كما قال الشافعية؛ لأن الأصل عدم ما شك فيه. فإن ذكر أنه كان قد نوى، أو كبر قبل قطعها، فله البناء أي الإكمال؛ لأنه لم يوجد مبطل لها. وإن عمل في الصلاة عملاً مع الشك، بطلت الصلاة، كما قال الشافعية. تغيير النية: إذا أحرم بفريضة، ثم نوى نقلها إلى فريضة أخرى، بطلت الاثنتان، لأنه قطع نية الأولى، ولم ينو الثانية عند الإحرام، وهذا متفق مع الشافعية أيضاً. فإن حول الفرض إلى نفل ففيه رأيان عند الشافعية والحنابلة، أرجحهما أنها تنقلب نفلاً؛ لأن نية الفرض تتضمن نية النفل، بدليل أنه لو أحرم بفرض، فبان أنه لم يدخل وقته، كانت صلاته نافلة، والفرض لم يصح، ولم يوجد ما يبطل النفل. ولا يشترط إضافة الفعل إلى الله تعالى في العبادات كلها، بأن يقول: أصلي لله، أو أصوم لله، ونحوه؛ لأن العبادات لا تكون إلا لله، بل يستحب ذلك خروجاً من خلاف من أوجبه. كما لا يشترط أيضاً ذكر عدد الركعات، ولا استقبال القبلة، كما قال الشافعية.
الشرط السابع والثامن: الترتيب في أداء الصلاة، وموالاة أفعالها
ويأتي بالنية عند تكبيرة الإحرام، إما مقارنة لها أو متقدمة عليها بزمن يسير، كما قال المالكية والحنفية، لكن الأفضل المقارنة، كما تقدم. ويشترط لصحة الجماعة: أن ينوي الإمام والمأموم حالهما، فينوي الإمام أنه إمام، والمأموم أنه مأموم في أول الصلاة إلا في صورتين: الأولى: أن يكون المأموم مسبوقاً، فله أن يقتدي بعد سلام إمامه بمسبوق مثله في غير الجمعة. والثانية: ما إذا اقتدى مقيم بمسافر يقصر الصلاة، فله أن يقتدي بمثله في بقية الصلاة. الشرط السابع والثامن: الترتيب في أداء الصلاة، وموالاة أفعالها. الحقيقة أن كلاً منهما شرط لأركان الصلاة. الشرط التاسع: ترك الكلام الأجنبي عن الصلاة: الصلاة عبادة خالصة لله تعالى، لا يجوز الكلام فيها، فتبطل صلاة من تكلم بحرفين مفهمين ولو لمصلحة الصلاة مثل: قم أو اقعد، أو بحرف مفهم نحو (ق) من الوقاية، و (ع) من الوعي، و (ف) من الوفاء، و (ش) من الوشي، وكذا مَدَّة بعد حرف في الأصح عند الشافعية، وإن لم يفهم، نحو «آ» والمدُّ: ألف، أو واو، أو ياء، فالممدود في الحقيقة حرفان. لخبر مسلم عن زيد بن أرقم: «كنا نتكلم في الصلاة، حتى نزلت: ـ وقوموا لله قانتين ـ فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام». وخبر معاوية بن الحَكَم السُّلَمِي الذي قال لمن عطس في الصلاة: «يرحمك الله» فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما
الشرط العاشر ـ ترك الفعل الكثير من غير جنس الصلاة
هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن» (¬1). وسيأتي في بحث مبطلات الصلاة تفصيل هذا الموضوع. الشرط العاشر ـ ترك الفعل الكثير من غير جنس الصلاة: وهو ما يخيل للناظر إليه أن فاعله ليس في الصلاة. وسيأتي تفصيل الكلام فيه في بحث مبطلات الصلاة. الشرط الحادي عشر ـ ترك الأكل والشرب: وسيأتي توضيحه في مبطلات الصلاة. هذا وقد أضاف الشافعية شروطاً خمسة أخرى: وهي العلم بفرضية الصلاة؛ وألا يعتقد فرضاً من فروضها سنة؛ وألا يمضي ركن قولي أو فعلي مع الشك في نية الصلاة: هل نوى أو أتم النية أو أتى ببعض أجزائها أو بعض شروطها؛ وألا ينو قطع الصلاة أو يتردد في قطعها، فمتى نوى قطعها، ولو بالخروج منها إلى أخرى، أو تردد فيه أو في الاستمرار فيها بطلت، لمنافاة ذلك للجزم بالنية؛ وعدم تعليق قطعها بشيء، فإن علقه بشيء ولو محالاً، بطلت، لمنافاته للجزم بالنية. انتهى الجزء الأول من كتاب الفقه الإسلامي وأدلته ¬
الفصل الخامس: أركان الصلاة
الفَصْلُ الخامِس: أركانُ الصَّلاةِ أركان الصلاة (أو فرائضها)، وواجباتها عند الحنفية: بحث الفقهاء تحت عنوان (صفة الصلاة أي كيفيتها) نظام الصلاة، المشتمل على الأركان والشروط، والأبعاض: وهي السنن المجبورة بسجود السهو، والهيئات: وهي السنن التي لا تجبر. والمقصود بكيفية الصلاة: الصورة الوصفية لها. والركن كالشرط في أنه لا بد منه، إلا أن الشرط: هو الذي يتقدم على الصلاة، ويجب استمراره فيها كالطهر والستر، ونحوهما مما سبق بيانه، والركن: ما تشمل عليه الصلاة، كالركوع والسجود، ونحوهما مما سيبحث هنا، ولا يسقط الركن عمداً ولا سهواً ولا جهلاً، وسمي ركناً تشبيهاً له بركن البيت الذي لا يقوم إلا به؛ لأن الصلاة لا تتم إلا به. وعلى هذا يكون الركن: هو الواجب فعله وكان جزءاً من حقيقة الفعل، والشرط: هو الواجب فعله ولكنه ليس جزءاً من حقيقة الفعل، بل من مقدماته. وقد اختلف الفقهاء في تصنيف وتعداد مطالب الصلاة الأساسية: فقال الحنفية (¬1): فرائض الصلاة ستة: التحريمة قائماً، والقيام، والقراءة ¬
واجبات الصلاة
والركوع، والسجود، والقَعْدة الأخيرة مقدار التشهد. هذا ما ذكره القدوري وهو رأي محمد، إلا أن المعتمد عندهم أن تكبيرة الإحرام شرط عندهم كالنية وهو رأي أبي حنيفة وأبي يوسف، خلافاً لجمهور الفقهاء. واجبات الصلاة: واجبات الصلاة ثمانية عشر، والواجب عندهم ما ثبت بدليل فيه شبهة، وحكمه: استحقاق العقاب بتركه عمداً، لكن لا تفسد الصلاة بتركه، ويلزم سجود السهو لنقص الصلاة بترك الواجب سهواً، ويجب إعادة الصلاة بترك الواجب عمداً، أو سهواً إن لم يسجد سجود السهو له. وإن لم يعدها، يكون فاسقاً آثماً، كما هو الحكم في كل صلاة أديت مع كراهة التحريم. وهذه الواجبات هي ما يأتي: 1 ً - افتتاح الصلاة بلفظ (الله أكبر) لا في صلاة العيدين فقط. 2 ً - قراءة الفاتحة: لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» (¬1) وهذا عندهم لنفي الكمال؛ لأنه خبر آحاد، لا ينسخ قوله تعالى: {فاقرؤوا ما تيسر من القرآن} [المزمل:20/ 73]، فوجب العمل به. ويسجد للسهو بترك أكثرها، لا أقلها؛ لأن الواجب عند أبي حنيفة وأبي يوسف أكثرها، لا كلها. وقال الجمهور (غير الحنفية): إن قراءة الفاتحة ركن في كل ركعة من ركعات الصلاة. إلا أن الشافعية قالوا: هي ركن مطلقاً، وقال المالكية: هي فرض لغير المأموم في صلاة جهرية. 3 ً - قراءة سور ة بعد الفاتحة: يجب قراءة سورة قصيرة كالكوثر ونحوها، ¬
وهو ثلاث آيات قصار، تقدر بثلاثين حرفاً، كقوله تعالى: {ثم نظر، ثم عبس وبسر، ثم أدبر واستكبر} [المدثر:21/ 47 - 22 - 23] أو آية طويلة أو آيتان بمقدار ثلاثين حرفاً. ودليلهم على الوجوب: حديث أبي سعيد الخدري: «أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب، وما تيسر» (¬1) والأمر للوجوب. وقال الجمهور: تسن قراءة سورة أو آيات بعد الفاتحة، لقول أبي هريرة: «في كل صلاة يقرأ، فما أسمعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أسمعناكم، وما أخفى عنا أخفينا عنكم، وإن لم تزد على أم القرآن أجزأت، وإن زدت فهو خير» (¬2). 4 ً - يجب قراءة السورة في الركعتين الأوليين من الفرض على المذهب، لمواظبة النبي صلّى الله عليه وسلم على القراءة فيهما. ولا يكره تحريماً بل تنزيهاً في الركعتين الأخريين (الثالثة والرابعة) على المختار. ولو ترك السورة في ركعة أو ركعتين من أوليي المغرب أو العشاء، وجب قراءتها في الأصح في أخرى العشاء، وثالثة المغرب مع الفاتحة جهراً بهما على الأصح، ويقدم الفاتحة، ثم يقرأ السورة. ولو ترك الفاتحة لا يكررها في الأخريين. وتجب أيضاً في جميع ركعات الوتر لمشابهته السنة، وفي جميع ركعات النافلة؛ لأن كل شفع (أي ركعتين) من النافلة صلاة على حدة، ولحديث أبي سعيد المتقدم بلفظ «لا تجزئ صلاة إلا بفاتحة الكتاب، وسورة في فريضة أو غيرها» (¬3). ¬
5 ً - تقديم الفاتحة على قراءة السورة، لمواظبة النبي صلّى الله عليه وسلم على ذلك. فلو بدأ بالسورة قبل الفاتحة سهواً، ثم تذكر، قطع القراءة، وقرأ الفاتحة، ثم السورة، ويسجد للسهو، كما لو كرر الفاتحة ثم قرأ السورة، لتأخير الابتداء بالفاتحة في الحالة الأولى، ولتأخير القراءة في الحالة الثانية. ولو تذكر الفاتحة قبل الركوع، قرأها، ثم قرأ سورة، وسجد للسهو. 6 ً - ضم الأنف للجبهة في السجود، لمواظبة النبي صلّى الله عليه وسلم عليه. ولا تجوز الصلاة بالاقتصار على الأنف في السجود، على الصحيح. 7 ً - مراعاة الترتيب فيما شرع مكرراً من الأفعال في الصلاة وهو السجدة الثانية: والأدق أن يقال: رعاية الترتيب بين القراءة والركوع، وفيما يتكرر في كل ركعة، فيأتي بالسجدة الثانية قبل الانتقال لغيرها من أفعال الصلاة، بدليل المواظبة منه صلّى الله عليه وسلم على مراعاة الترتيب. ومعنى كون الترتيب فيما يتكرر في كل ركعة واجباً: أن الصلاة بعد إعادة ما قدمه لا تفسد بترك الترتيب صورة، الحاصل بزيادة ما قدمه. فلو نسي سجدة من الركعة الأولى (¬1)، قضاها، ولو بعد القعود الأخير، أو بعد السلام قبل الكلام، ثم يعيد التشهد والقعود، ويسجد للسهو بعد التسليمة الأولى، ثم يتشهد. أما ما لا يتكرر في كل ركعة أو في كل الصلاة ماعدا القراءة كترتيب القيام والركوع والسجود الأول والقعود الأخير، فإن الترتيب فيه فرض، وعلى هذا فترتيب القيام على الركوع، والركوع على السجود فرض. فلو ركع قبل القراءة ¬
صح ركوعه، لأنه لا يشترط في الركوع أن يكون مترتباً على قراءة في كل ركعة. بخلاف الترتيب بين الركوع والسجود مثلاً، فإنه فرض، فلو سجد قبل الركوع لم يصح سجود هذه الركعة؛ لأن أصل السجود يشترط ترتبه على الركوع في كل ركعة، كترتيب الركوع على القيام. 8 ً - الاطمئنان في الأركان: بتسكين الجوارح في الركوع والسجود ونحوهما من الرفع والاعتدال، حتى تطمئن مفاصله قدر تسبيحة في الركوع والسجود والرفع منهما، ويستقر كل عضو في محله، لمواظبته صلّى الله عليه وسلم على ذلك كله، ولحديث المسيء صلاته، وقول النبي صلّى الله عليه وسلم له: «ارجع فصلّ، فإنك لم تصلِّ» ثم علمه كيفية الطمأنينة: «إذا قمت إلى الصلاة فكبِّر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم افعل ذلك في الصلاة كلها» (¬1). 9 ً - القعود الأول في صلاة ثلاثية أو رباعية: لمواظبة النبي صلّى الله عليه وسلم عليه، وسجوده للسهو لما تركه وقام ساهياً (¬2). ويجب ترك الزيادة فيه كما يجب ترك الزيادة في كلمات التشهد، أو بعد تمام التشهد. 10 ً- قراءة التشهد في القعود الأول، في الصحيح، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا قعدتم في كل ركعتين، فقولوا: التحيات لله ... » (¬3) والأمر للوجوب. وقال غير الحنفية عن هذين الأمرين: إنهما سنة؛ لأن عدم تداركه من النبي يدل على عدم وجوبه. ¬
11 ً - قراءة التشهد في الجلوس الأخير، لمواظبة النبي صلّى الله عليه وسلم عليه. أما الجلوس الأخير فهو فريضة. ويسجد للسهو بترك بعض أو كل من التشهدين: الأول والأخير. 12 ً - القيام إلى الركعة الثالثة من غير تراخ بعد قراءة التشهد الأول: فلو زاد عليه بمقدار أداء ركن ساهياً، وأقل الزيادة المفوتة للواجب عن التشهد الأول مقدار (اللهم صل على محمد) فقط على المذهب، سجد للسهو، لتأخير واجب القيام للثالثة. 13 ً - لفظ (السلام) دون (عليكم) مرتين في آخر الصلاة، عن اليمين واليسار، لمواظبة النبي صلّى الله عليه وسلم، وأما (عليكم ورحمة الله) فهو سنة. وكل من التسليمة الأولى، والثانية واجب في الأصح، فلو فرغ المقتدي قبل فراغ الإمام، فتكلم أو أكل، فصلاته تامة. وليس السلام فرضاً، لحديث ابن مسعود: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يسلم عن يمينه وعن يساره: السلام عليكم ورحمة الله، حتى يُرى بياض خدِّه» (¬1) وهو يدل على مشروعية التسليمتين. وقال غير الحنفية: السلام للخروج من الصلاة فرض. 14 ً - جهر (¬2) الإمام بالقراءة في ركعتي الفجر والركعتين الأوليين من المغرب والعشاء، ولو قضاء، وفي صلاة الجمعة والعيدين، والتراويح، والوتر في رمضان، لفعله ومواظبته صلّى الله عليه وسلم. أما المنفرد: فهو مخير بين الجهر والإسرار، والأفضل الجهر، ليكون الأداء على هيئة الجماعة. ¬
أركان الصلاة عند غير الحنفية
والمتنفل بالليل مخير أيضاً بين الجهر والإسرار، ويكتفي بأدنى الجهر لئلا يصير نائماً، لأنه صلّى الله عليه وسلم جهر في التهجد بالليل، وكان يؤنس اليقظان، ولا يوقظ الوسنان. وسئلت عائشة: كيف كانت قراءة النبي صلّى الله عليه وسلم بالليل؟ فقالت: كل ذلك قد كان يفعل، ربما أسرَّ، وربما جهر (¬1). 15 ً - إسرار الإمام والمنفرد في صلاتي الظهر والعصر، وفيما عدا الركعتين الأوليين من المغرب والعشاء، وفي صلاة النفل بالنهار. 16 ً، 17 - قنوت الوتر، وتكبيرات العيدين (وهي ثلاث في كل ركعة)، وتكبيرة القنوت عند أبي حنيفة وعند الصاحبين: هي سنة كالوتر نفسه، وتجب تكبيرة الركوع في الركعة الثانية من صلاة العيد تبعاً لتكبيرات الزوائد فيها، لاتصالها بها، بخلاف تكبيرة الركوع في الركعة الأولى. 18 ً - إنصات المقتدي، ومتابعة الإمام، في صلاة الجماعة. أركان الصلاة عند غير الحنفية: قال المالكية كما ذكر العلامة خليل وشرّاح متنه (¬2):فرائض الصلاة أربع عشرة فريضة وهي: النية، وتكبيرة الإحرام، والقيام لها في الفرض، وقراءة الفاتحة للإمام والمنفرد، والقيام لها أي (الفاتحة) بفرض، والركوع، والرفع منه، والسجود، والجلوس بين السجدتين، والسلام، والجلوس له، والطمأنينة في جميع الأركان. والاعتدال بعد الركوع والسجود، وترتيب الأركان بأن يقدم النية على تكبيرة الإحرام، ثم الفاتحة، ثم الركوع، ثم الاعتدال، ثم السجود .. الخ ¬
قال الشافعية
ووضع المالكية ضابطاً للأركان فقالوا: الصلاة مركبة من أقوال وأفعال، فجميع أقوالها ليست بفرائض إلا ثلاثة: تكبيرة الإحرام، والفاتحة والسلام، وجميع أفعالها فرائض إلا ثلاثة: رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام، والجلوس للتشهد، والتيامن بالسلام. وقال الشافعية (¬1): أركان الصلاة ثلاثة عشر وهي: النية، وتكبيرة الإحرام، القيام في الفرض للقادر عليه، والفاتحة لكل مصلي إلا المعذور لسبق أو غيره، الركوع، والسجود مرتين، والجلوس بين السجدتين، التشهد الأخير، القعود في التشهد الأخير، الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم بعد التشهد الأخير قاعداً، السلام، الترتيب كما ذكر. والفرض لا ينوب عنه سجود السهو، بل إن تذكره وهو في الصلاة أو بعد السلام والزمان قريب أتى به وبنى على صلاته وسجد للسهو. وقال الحنابلة (¬2): أركان الصلاة أربعة عشر وهي: تكبيرة الإحرام، والقيام في فرض لقادر عليه، وقراءة الفاتحة في كل ركعة للإمام والمنفرد، والركوع، والاعتدال بعده، والسجود، والاعتدال عنه، والجلوس بين السجدتين، والطمأنينة في هذه الأفعال (الركوع وما بعده)، والتشهد الأخير، والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم بعد التشهد الأخير عند أكثر الحنابلة، والجلوس له وللتسليمتين، والتسليمتان، وترتيب الأركان، على النحو المذكور. والفرض أو الركن لا يسقط عمداً ولا سهواً ولا جهلاً. ¬
أركان الصلاة المتفق عليها
وسنفصل الكلام في هذه الأركان كلها، علماً بأن النية بحثت في الشروط عملاً بمنهج الحنفية والحنابلة وبعض المالكية (ابن رشد وابن جزي)، والمعتمد عند المالكية أن النية ركن، وأن الإحرام عبارة عن النية والتكبير. أركان الصلاة المتفق عليها: يلاحظ أن الفقهاء اتفقوا على ستة فروض أو أركان وهي: التحريمة، والقيام، والقراءة، والركوع، والسجود، والقعدة الأخيرة مقدار التشهد إلى قوله: «عبده ورسوله». الركن الأول ـ التحريمة أو تكبيرة الإحرام: هي أن يقول المصلي قائماً مسمعاً نفسه: (الله أكبر) (¬1) إلا في حال العجز عن القيام، وذلك بالعربية، لمن قدر عليها، لا بغيرها من اللغات، وبلا فصل بين المبتدأ والخبر عند المالكية والحنابلة بكلمة أخرى ولا بسكوت طويل. هذا إذا كان المصلي غير إمام، فأدناه أن يسمع نفسه، فإن كان إماماً يستحب له أن يجهر بالتكبير ليسمع من خلفه (¬2) والتكبير ركن لا شرط، فلا تنعقد الصلاة إلا بقول (الله أكبر)، وإن عجز عن التكبير كأن كان أخرس أو عاجزاً عن التكبير بكل لسان، سقط عنه. وإن قدر على الإتيان ببعضه، أتى به، إن كان له معنى (¬3). ¬
ودليلهم على اشتراط لفظ (الله أكبر) وأنه ركن: هو قوله تعالى: {وربَّك فكبر} [المدثر:3/ 74]، والحديث السابق عن علي: «مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير» (¬1) وحديث رفاعة بن رافع: «لا يقبل الله صلاة امرئ حتى يضع الوضوء مواضعه، ثم يستقبل القبلة، فيقول: الله أكبر» (¬2)، وقال عليه السلام للمسيء صلاته: «إذا قمت إلى الصلاة فكبر» (¬3) وقال صلّى الله عليه وسلم أيضاً: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن» قرن التكبير بالقراءة، فدل على أنه مثله في الركنية. وقال الشافعية ومحمد من الحنفية (¬4) كالمالكية والحنابلة: التكبير ركن لا شرط، إلا أن الشافعية قالوا: لا تضر زيادة لا تمنع اسم التكبير، مثل (الله الأكبر)؛ لأنه لفظ يدل على التكبير، وعلى زيادة مبالغة في التعظيم، ومثل (الله الجليل أكبر) في الأصح، وكذا كل صفة من صفاته تعالى، إذا لم يطل بها الفصل، لبقاء النظم. ويشترط إسماع نفسه التكبير كالقراءة وسائر الأركان القولية، ويُبين التكبير كما أوضح الشافعية والحنابلة، ولا يمد في غير موضع المد، فإن فعل بحيث تغير المعنى، مثل أن يمد الهمزة الأولى، فيقول (آلله) أو يمد (آكبر) أو يزيد ألفاً بعد باء (أكبر)، لم يصح؛ لأن المعنى يتغير به. والأصح عند الشافعية: أن من عجز عن التكبير بالعربية أتى بمدلول التكبير بأي لغة شاء. ووجب التعلم إن قدر عليه. ومن عجز عن النطق بالتكبير كأخرس، لزمه تحريك لسانه، وشفتيه ولهاته ما أمكنه، فإن عجز نواه بقلبه. ¬
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف (¬1): التحريمة شرط، لا ركن، وقولهما هو المعتمد لدى الحنفية، لقوله تعالى: {وذكر اسم ربه فصلى} [الأعلى:87/ 15] قالوا: المراد بالذكر هنا التحريمة، وهي غير الصلاة، بدليل العطف عليها، والعطف يقتضي المغايرة، ولأن حديث علي السابق «وتحريمها التكبير» أضيف التحريم فيه إلى الصلاة، والمضاف غير المضاف إليه؛ لأن الشيء لا يضاف إلى نفسه. وتظهر ثمرة الخلاف بين الشيخين (أبي حنيفة وأبي يوسف) القائلين بالشرطية وبين محمد القائل بفرضية التكبير. فيما لو أحرم حاملاً النجاسة، فألقاها فور فراغه من التكبير، أو كان مكشوف العورة، فسترها عند فراغه من التكبير، أو كان منحرفاً عن القبلة، فاستقبلها عند الفراغ من التكبير، أو شرع في التكبير بالظهر قبل الزوال مثلاً، ثم زالت الشمس بعد فراغه من التكبير، تجوز الصلاة عند الشيخين، ولا تجوز عند محمد. وكذلك إذا فسدت الفريضة، تنقلب نفلاً عند الشيخين، وعند محمد: لاتنقلب. واتفق الحنفية على أن التحريمة ركن في صلاة الجنازة كبقية تكبيراتها. وقد عرفنا في بحث واجبات الصلاة: أنه يجب عند الحنفية بدء الصلاة بلفظ (الله أكبر) ويكره تحريماً الشروع بغير هذا اللفظ. وأجاز أبو حنيفة ومحمد افتتاح الصلاة بكل تعبير خالص لله تعالى، فيه تكبير وتعظيم، كقول المصلي: الله أجل، الله أعظم، وكبير أو جليل، والرحمن أعظم، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والحمد لله، ونحوه، لأن ذلك كله يؤدي ¬
معنى التكبير، ويشتمل على معنى التعظيم، فأشبه قوله: (الله أكبر) ولو افتتح الصلاة بـ (اللهم اغفر لي) لا يجوز؛ لأنه مشوب بحاجته، فلم يكن تعظيماً، ولو افتتح بقوله: (اللهم) فالأصح أنه يجزئه؛ لأن معناه: يا الله. وخص أبو يوسف الافتتاح بالتكبيرومشتقاته، مثل: (الله أكبر) والكبير، والكُبَّار، وتردد في (الله كبير) ومن عجز عن التكبير كالأخرس، سقط عنه ذلك، لتعذر الواجب في حقه، وتكفيه النية عن التحريمة. وقال أبو حنيفة: إنه يجزئ التكبير بغير العربية، لقول الله تعالى: {وذكر اسم ربه، فصلى} [الأعلى:15/ 87]، وهذا قد ذكر اسم ربه. أما الصاحبان فقالا كالشافعية: إن كان لا يحسن العربية أجزأه غيرها، فإن كان يحسنها وكبر بغير العربية لا يجزئه لقوله صلّى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي» (¬1). واشترط الحنفية لأداء تكبيرة الإحرام عشرين شرطاً: وهي دخول الوقت، واعتقاد دخوله أو غلبة الظن به، وستر العورة، والطهر من الحدث والنجاسة المانعة عن البدن والثوب والمكان، والقيام لقادر عليه في غير نفل، وفي سنة فجر، ونية اتباع الإمام (وهو في الواقع شرط لصحة الاقتداء لا لصحة التحريمة)، والنطق بها: (وهو أن يسمع بها نفسه، فمن همس بها أو أجراها على قلبه لا تجزئه، كجميع أقوال الصلاة)، وتعيين الفرض أنه ظهر أوعصر مثلاً، وتعيين الوجوب كركعتي الطواف والعيدين والوتر والمنذرو وقضاء أفسده، وأن تكون بجملة ذكر خالص لله غير مشوب بحاجته وأهوائه، ولا يصح باستغفار نحو اللهم اغفر لي، وصح بلفظ (اللهم) في الأصح: مثل (الله أكبر) فلا يصير شارعاً بأحدهما في ¬
الركن الثاني ـ القيام في الفرض لقادر عليه، وكذا في الواجب كنذر وسنة في الأصح عند الحنفية
ظاهر الرواية، وألا تكون مع بسملة، وأن تكون بجملة عربية لمن قدر عليها، فلا يصح شروعه بغيرها، إلا إذا عجز، فيصح بالفارسية كالقراءة في الصلاة، والأصح أنه يصح الشروع في الصلاة بالتكبير بغير العربية، وإن قدر عليها اتفاقاً عندهم، بخلاف القراءة، وأن تخلو عن ترك هاء لفظ الجلالة: (الله)، وترك مد همزة (الله) وهمزة (أكبر) ومد باء (أكبر) وألا يكون هناك فاصل بين النية والتحريمة بكلام مباين ونحوه من أكل وشرب، وألا تسبق النية بتكبيرته، فلو فرغ منه قبل فراغ إمامه، لم يصح شروعه، وأن يؤديها مستقبلاً القبلة إلا لعذر، أو لتنفل راكب خارج البلد. واشترط جمهور الفقهاء ألا يكبر المأموم حتى يفرغ إمامه من التكبير، للحديث المتفق عليه: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا» وأجاز الحنفية مقارنة المأموم في التكبير وغيره، فيكبر معه كما يركع معه. الركن الثاني ـ القيام في الفرض لقادر عليه، وكذا في الواجب كنذر وسنة في الأصح عند الحنفية (¬1): لقوله تعالى: {وقوموا لله قانتين} [البقرة:238/ 2] أي مطيعين وقيل: خاشعين، وقوله صلّى الله عليه وسلم في حديث عمران بن حصين: «صل قائماً» (¬2). ¬
المقدار المفروض من القيام
ولا يجب القيام في النافلة، فتصح مع القدرة على القيام؛ لأن مبنى النوافل على التيسير والأخذ بالرفق، ولأن النوافل كثيرة، فلو وجب فيها القيام شَقَّ وانقطعت النوافل. ولا يجب أيضاً على المريض العاجز عن القيام، سواء في الفريضة أم النافلة؛ لأن التكليف بقدر الوسع، ومن عجز عن القيام قعد كيف شاء. وحدّ القيام عند الحنفية: أن يكون بحيث لو مدّ يديه لا ينال ركبتيه. وعند المالكية والحنابلة: ألا يكون في حالة جلوس ولا في حالة انحناء بحيث يصير راكعاً. ولا يضر خفض الرأس على هيئة الإطراق لأنه لا يخرجه عن كونه يسمى قائماً. وعند الشافعية: يشترط نصب فَقَار المصلي (¬1)؛لأن اسم القيام دائر معه، ولايشترط نصب رقبته؛ لأنه يستحب إطراق الرأس. فإن وقف منحنياً أو مائلاً يمنة أو يسرة، بحيث لا يسمى قائماً، لم يصح قيامه لتركه الواجب بلا عذر. والانحناء المنافي للقيام: أن يصير إلى الركوع أقرب، فلو كان أقرب إلى القيام أو استوى الأمران صح. فهم إذن كالمالكية والحنابلة. ومن لم يطق انتصاباً بسبب مرض أو تقوس ظهر بسبب الكبر، فالصحيح أنه يقف كذلك، ويزيد انحناءه إن قدر. والمقدار المفروض من القيام: هو عند الحنفية بقدر القراءة المطلوبة فيه، وهو بقدر قراءة الفاتحة وسورة وتكبيرة الإحرام. وعند الجمهور: بقدر تكبيرة الإحرام وقراءة الفاتحة فقط؛ لأن الفرض عندهم قراءة الفاتحة، وأما السورة بعدها فهي سنة. ¬
هل يشترط الاستقلال في القيام؟
هل يشترط الاستقلال في القيام؟ قال الحنفية: يشترط للقادر الاستقلال في الفرض، فمن اتكأ على عصاه، أو على حائط ونحوه، بحيث يسقط لو زال، لم تصح صلاته، فإن كان لعذر صحت. أما في التطوع أوالنافلة: فلا يشترط الاستقلال بالقيام سواء أكان لعذر أم لا، إلا أن صلاته تكره لأنه إساءة أدب، وثوابه ينقص إن كان لغير عذر. وقال المالكية: يجب القيام مستقلاً في الفرائض للإمام والمنفرد حال تكبيرة الإحرام وقراءة الفاتحة والهوي للركوع، وأما حال قراءة السورة فهو سنة، فلو استند إلى شيء بحيث لو أزيل لسقط، فإن كان في غير قراءة السورة، بطلت صلاته؛ لأنه لم يأت بالفرض الركني، وإن كان في حال قراءة السورة لم تبطل وكره استناده، ولو جلس في حال قراءة السورة بطلت صلاته لإخلاله بهيئة الصلاة. وأما المأموم فلا يجب عليه القيام لقراءة الفاتحة، لو استند حال قراءتها لعمود بحيث لو أزيل لسقط، صحت صلاته. وقال الشافعية: لا يشترط الاستقلال في القيام، فلو استند إلى شيء، أجزأه مع الكراهة، لوجود اسم القيام. لكن لو استند إلى شيء بحيث لو رفع قدميه إن شاء، ظل مستنداً ولم يسقط، لم تصح صلاته؛ لأنه لا يسمى قائماً، بل معلقاً نفسه. وقال الحنابلة: يشترط الاستقلال في القيام للقادر عليه في فرض، فلو استند استناداً قوياً على شيء بلا عذر، بطلت صلاته.
صلاة المريض أو متى يسقط القيام؟
صلاة المريض أو متى يسقط القيام؟ اتفق الفقهاء على أنه يسقط القيام في الفرض والنافلة للعاجز عنه لحديث عمران بن حصين السابق: «صل قائماً، فإن لم تستطع، فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب» فإن قدر على بعض القراءة ولو آية قائماً، لزمه بقدرها. ويسقط القيام أيضاً عند جمهور الفقهاء غير الشافعية للعريان، فإنه يصلي قاعداً بالإيماء إذا لم يجد ساتراً يستر به عورته، كما قدمنا. ومن حالات العجز المسقطة للقيام: حالة المداواة: كمن يسيل جرحه إذا قام، أو أثناء مداواة العين استلقاء. ومنها: حالة سلس البول: فإذا كان يسيل بوله لو قام، وإن قعد لم يسل، صلى قاعداً، ولا إعادة عليه حتى عند الشافعية في الأصح. ومنها: حالة الخوف من عدو بحيث إذا قام، رآه العدو، صلى قاعداً ولا إعادة عليه حتى عند الشافعية أيضاً. ومنها: عند الحنابلة قصر سُقِف لعاجز عن خروج كالحبس، وصلاة خلف إمام حي عاجز. كيفية صلاة العاجز المريض: للفقهاء آراء متقاربة في كيفية صلاة المريض، وبعضها أيسر من بعض. قال الحنفية (¬1): أـ إذا عجز المريض عن القيام، سقط عنه، وصلى قاعداً كيف تيسر له، يركع ¬
ويسجد إن استطاع، فإن لم يستطع الركوع والسجود، أو السجود فقط، أو مأ إيماء برأسه، وجعل إيماءه للسجود أخفض من ركوعه، تفرقة بينهما، لحديث عمران بن حصين المتقدم. ولا يرفع إلى وجهه شيئاً مثل الكرسي والوسادة، يسجد عليه، لنهيه صلّى الله عليه وسلم عن ذلك، روى جابر: أن النبي صلّى الله عليه وسلم عاد مريضاً، فرآه يصلي على وسادة، فأخذها، فرمى بها، فأخذ عوداً ليصلي عليه، فرمى به، وقال: صل على الأرض إن استطعت، وإلا فأومئ إيماء، واجعل سجودك أخفض من ركوعك (¬1). ب ـ فإن لم يستطع القعود، استلقى على ظهره، وجعل رجليه إلى القبلة، وأومأ بالركوع والسجود. وإن استلقى على جنبه، ووجهه إلى القبلة، وأومأ، جاز، والكيفية أو الهيئة الأولى هنا أولى؛ لأن إشارة المستلقي تقع إلى هواء الكعبة، وإشارة المضطجع على جنبه تقع إلى جانب قدميه، أي أن الاستلقاء عندهم أولى من الاضطجاع، وعلى الشق الأيمن أولى من الأيسر. جـ ـ فإن لم يستطع الإيماء برأسه: أخر الصلاة، ولا يومئ بعينيه ولا بقلبه، ولا بحاجبيه؛ لأنه لا عبرة به، عملاً بالحديثين السابقين عن عمران وجابر، ولأن إقامة البدل عن هيئة الصلاة الواجبة شرعاً بالرأي ممتنع، ولا قياس على الرأس؛ لأنه يتأدى به ركن الصلاة، دون العين والحاجبين والقلب. ولا تسقط عنه الصلاة، ويجب عليه القضاء، ولو كثرت الصلوات إذا كان يفهم مضمون الخطاب، وهو الصحيح كما ذكر في الهداية. وذكر في البدائع ¬
قال المالكية
وغيرها عدم لزوم القضاء إذا كثرت الصلوات، فزاد المتروك عن صلاة يوم وليلة، وإن كان المصلي يفهم الخطاب الشرعي؛ لعدم القدرة على الصلاة، ومنعاً من الوقوف في الحرج، وهو المختار وعليه الفتوى. وإن قدر المريض على القيام، ولم يقدر على الركوع والسجود، لم يلزمه القيام، وجاز أن يصلي قاعداً يومئ برأسه إيماء. والأفضل الإيماء قاعداً؛ لأنه أشبه بالسجود، لكون رأسه أخفض إلى الأرض. وإن صلى الصحيح بعض صلاته قائماً، ثم حدث به مرض، أتمها قاعداً، يركع ويسجد، أو يومئ إن لم يستطع الركوع والسجود، أو مستلقياً إن لم يستطع القعود؛ لأن بناء الأدنى على الأعلى، وبناء الضعيف على القوي أولى من الإتيان بالكل ضعيفاً. ومن صلى قاعداً يركع ويسجد لمرض به، ثم صح في خلالها، بنى على صلاته قائماً؛ لأن البناء كالاقتداء، والقائم يقتدي بالقاعد. وإن كان المريض صلى بعض صلاته بإيماء، ثم قدر في خلالها على الركوع والسجود، استأنف (جدد) الصلاة؛ لأنه لا يجوز اقتداء الراكع بالمومئ، فكذا البناء لايجوز. وقال المالكية (¬1): أـ إذا لم يقدر المصلي على القيام استقلالاً لعجز أو لمشقة فادحة كدوخة في صلاة الفرض، جاز فيه الجلوس، ولا يجوز الاضطجاع إلا لعذر. ويجوز أداء بعض الصلاة قائماً وبعضه جالساً باتفاق أهل المذهب. ¬
ب ـ ومن قدر على القيام في الفرض، ولكن خاف به ضرراً كالضرر المبيح للتيمم (وهو خوف حدوث مرض من نزلة أو إغماء أو زيادته لمتصف به، أو تأخر برء)، أو خاف بالقيام خروج حدث كريح، استند ندباً لحائط أو على قضيب أو لحبل معلَّق بسقف البيت يمسكه عند قيامه، أو على شخص غير جنب أوحائض. فإن استند على جنب أو حائض أعاد بوقت ضروري. وإن صلى جالساً مستقلاً عن غيره، مع القدرة على القيام مستنداً، صحت صلاته. جـ ـ وإن تعذر القيام بحالتيه (مستقلاً أو مستنداً)، جلس وجوباً إن قدر، وإن لم يقدر جلس مستنداً. وتربع ندباً للجلوس البديل عن القيام: وهو حالة تكبيرة الإحرام، والقراءة والركوع، ثم يغير جلسته في الجلوس بين السجدتين والتشهد. د ـ وإن لم يقدر على الجلوس بحالتيه (مستقلاً أو مستنداً)، صلى على شق أيمن ندباً، فأيسر إن عجز عن الأيمن، ثم مستلقياً على ظهر ورجلاه للقبلة، فإن لم يقدر فعلى بطنه ورأسه للقبلة. والشخص القادر على القيام فقط، دون الركوع والسجود والجلوس، أومأ للركوع والسجود قائماً. والقادر على القيام مع الجلوس، أومأ للركوع من القيام، وأومأ للسجود من الجلوس، فإن خالف فيهما، بطلت صلاته. وإذا أومأ للسجود من قيام أوجلوس، حَسَر (رفع) عمامته عن جبهته وجوباً، بحيث لو سجد لأمكن وضع جبهته بالأرض، أو بما اتصل بها من فرش ونحوه.
قال الشافعية
وإن كان بجبهته قروح، فسجد على أنفه، صحت صلاته؛ لأنه أتى بما في طاقته من الإيماء، علماً بأن حقيقة السجود: وضع الجبهة على الأرض. وإن قدر المصلي على جميع الأركان، في الركعة الأولى، إلا أنه إذا سجد بعد أن أتم الركوع وقراءة الفاتحة، لا يقدر على القيام، صلى الركعة الأولى بسجدتيها، وتمم صلاته جالساً. هـ ـ إن لم يقدر المصلي على شيء من الأركان إلا على نية، بأن ينوي الدخول في الصلاة ويستحضرها، أو قدر على النية مع إيماء بطرف، وجبت الصلاة بما قدر عليه، وسقط عنه غير المقدور عليه. وإن قدر مع ذلك على (السلام) سلم. ولا يجوز له تأخير الصلاة عن وقتها بما قدر عليه، مادام المكلف في عقله. وقال الشافعية (¬1): أـ إن لم يقدر على القيام في الفرض مع نصب عموده الفقري، وقف منحنياً؛ لأن الميسور لا يسقط بالمعسور. ب ـ وإن عجز عن القيام أصلاً (بأن لحقته مشقة شديدة لا تحتمل في العادة كدوران رأس راكب السفينة)، قعد كيف شاء، لخبر عمران بن حصين، وركع محاذياً جبهته قُدَّام ركبتيه، والأفضل أو الأكمل: أن يحاذي موضع سجوده. وكل من ركوعه وسجوده على وزان ركوع القائم في المحاذاة بحسب النظر، لأنه يسن للمصلي النظر إلى موضع سجوده. وقعوده مفترشاً كهيئة الجالس للتشهد الأول أفضل من تربعه في الأظهر؛ ¬
لأنها هيئة مشروعة في الصلاة، فكانت أولى من غيرها، ويكره الإقعاء بأن يجلس على وركيه ناصباً ركبتيه، لما فيه من التشبه بالكلب والقرد. جـ ـ فإن لم يقدر على القعود: بأن نالته المشقة السابقة، اضطجع وجوباً على جنبه، مستقبلاً القبلة بوجهه ومقدم بدنه. والجنب الأيمن أفضل للاضطجاع عليه من الأيسر، والأيسر بلا عذر مكروه. د ـ فإن لم يقدر على الاضطجاع، استلقى، ويرفع وجوباً رأسه بشيء كوسادة ليتوجه إلى القبلة بوجهه ومقدم بدنه، إلا أن يكون في الكعبة وهي مسقوفة، فيجوز له الاستلقاء على ظهره، وعلى وجهه وإن لم تكن مسقفة؛ لأنه كيفما توجه، فهو متوجه لجزء منها. ويركع ويسجد بقدر إمكانه، فيومئ برأسه للركوع والسجود، وإيماؤه للسجود أكثر، بقدر إمكانه. هـ ـ فإن لم يقدر، أومأ بطرفه (أي بصره) إلى أفعال الصلاة. وـ فإن لم يقدر، أجرى الأركان على قلبه، مع السنن، بأن يمثل نفسه قائماً وراكعاً، وهكذا؛ لأنه الممكن. فإن اعتقل لسانه، أجرى القراءة وغيرها على قلبه كذلك. ولا تسقط عنه الصلاة ما دام عقله ثابتاً، لوجود مناط التكليف. ومتى قدر على مرتبة من المراتب السابقة في أثناء الصلاة، لزمه الإتيان بها. ز ـ للقادر على القيام، أن يتنفل قاعداً، أو مضطجعاً في الأصح، لا مستلقياً، ويقعد للركوع والسجود ولا يومئ بهما إن اضطجع، لعدم وروده في السنة.
مذهب الحنابلة
وأجر القاعد القادر نصف أجر القائم، والمضطجع نصف أجر القاعد لحديث ثابت في ذلك. والخلاصة: إن المريض يصلي كيف أمكنه ولو مومياً ولا يعيد، والغريق والمحبوس يصليان موميين ويعيدان. ومذهب الحنابلة (¬1) كالشافعية، فإنهم قالوا: أـ يجب أن يصلي المريض قائماً إجماعاً في فرض، ولو لم يقدر إلا بصفة ركوع، لحديث عمران بن حصين مرفوعاً: «صل قائماً، فإن لم تستطع فعلى جنب» رواه الجماعة، وزاد النسائي: «فإن لم تستطع فمستلقياً» وحديث «إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه مااستطعتم». ويصلي قائماً ولو بالاستناد إلى شيء آخر بأجرة مثله أو زائدة يسيراً إن قدر عليها، فإن لم يقدر على الأجرة، صلى على حسب ما يستطيع، وهذا يوافق رأي المالكية. ب ـ فإن لم يستطع المريض القيام أو شق عليه مشقة شديدة لضرر من زيادة مرض، أو تأخر برء ونحوه، فإنه يصلي قاعداً لما تقدم من الخبر، متربعاً ندباً كمتنفل أي كما قال المالكية، وكيف قعد جاز كالمتنفل، ويثني رجليه في ركوع وسجود، كمتنفل. جـ ـ فإن لم يستطع القعود، أو شق عليه، فيصلي على جنب، لما تقدم في حديث عمران. والصلاة على الجنب الأيمن أفضل من الصلاة على الجنب الأيسر، لحديث ¬
علي مرفوعاً: «يصلي المريض قائماً، فإن لم يستطع، صلى قاعداً، فإن لم يستطع أن يسجد أومأ، وجعل سجوده أخفض من ركوعه، فإن لم يستطع أن يصلي قاعداً، صلى على جنبه الأيمن مستقبل القبلة، فإن لم يستطع صلى مستلقياً، رجلاه مما يلي القبلة» (¬1) فإن صلى على الجنب الأيسر، جاز، لظاهر خبر عمران، ولتحقق استقبال القبلة. د ـ ويصح أن يصلي على ظهره، ورجلاه إلى القبلة، مع القدرة على الصلاة على جنبه، لأنه نوع الاستقبال (¬2)، مع الكراهة. فإن تعذر عليه أن يصلي على جنبه تعين الظهر، لما تقدم في حديث علي. ويلزمه الإيماء بركوعه وسجوده برأسه ما أمكنه، لحديث «إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم»، ويكون سجوده أخفض من ركوعه وجوباً، لحديث علي، وليتميز أحدهما عن الآخر. هـ ـ فإن عجز عن الإيماء برأسه لركوعه وسجوده كأسير عاجز، أومأ بطرفه (أي عينه) ونوى بقلبه، لما روى زكريا الساجي عن علي بن أبي طالب أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «فإن لم يستطع أومأ بطرفه». وـ فإن عجز عن الإيماء بطرفه، فيصلي بقلبه، مستحضراً القول إن عجز عنه بلفظه، ومستحضراً الفعل بقلبه، لقوله تعالى: {وماجعَل عليكم في الدين من حَرج} [الحج:78/ 22]، وقوله: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} [البقرة:286/ 2]، وقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم». ¬
الركن الثالث ـ القراءة لقادر عليها
ولا تسقط الصلاة حينئذ عن المكلف، ما دام عقله ثابتاً، لقدرته على أن ينوي بقلبه، مع الإيماء بطرفه أو بدونه، ولعموم أدلة وجوب الصلاة (¬1) والخلاصة: إن أقصى حالات التيسير للمريض هو الإيماء بالرأس عند الحنفية، والإيماء بالطرف (البصر أو العين) أو مجرد النية عند المالكية، وإجراء الأركان على القلب عند الشافعية والحنابلة. واتفق الكل على أنه لا تسقط الصلاة عن المرء ما دام في عقله، ويجب قضاؤها عند الحنفية إن لم يستطع الإيماء برأسه. الركن الثالث ـ القراءة لقادر عليها: الركن عند الحنفية (¬2) الذي هو فرض عملي في جميع ركعات النفل والوتر، وفي ركعتين من الفرض، للإمام والمنفرد: هو قراءة آية من القرآن، لقوله تعالى: {فاقرؤوا ما تيسر من القرآن} [المزمل:20/ 73]، ومطلق الأمر للوجوب، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا صلاة إلا بقراءة» (¬3) وأقل الواجب عند أبي حنيفة: هو آية بمقدار ستة أحرف مثل {ثم نظر} [المدثر:21/ 74]، ولو تقديراً، مثل {لم يلد} [الإخلاص:3/ 112]، إذ أصله {لم يولد} [الإخلاص:3/ 112] وقال الصاحبان: فرض القراءة ثلاث آيات قصار، أو آية طويلة، بمقدار ثلاث آيات قصيرة. ¬
البسملة عند الحنفية
وأما تعيين القراءة في الركعتين الأوليين من الفرض فهو واجب، لقول علي رضي الله عنه: «القراءة في الأوليين قراءة في الأخريين» وعن ابن مسعود وعائشة: «التخيير في الأخريين، إن شاء قرأ، وإن شاء سبح» وكذلك قراءة الفاتحة والسورة، أو ثلاث آيات، هو واجب أيضاً (¬1). ليست الفاتحة عندهم فرضاً في الصلاة مطلقاً، لا في السرية ولا في الجهرية، لا على الإمام، ولا على المأموم، بل تكره قراءتها للمأموم. البسملة عند الحنفية: ليست البسملة آية من الفاتحة ولا من غيرها من السور إلا من سورة النمل في أثنائها، لحديث أنس رضي الله تعالى عنه قال: «صليت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فلم أسمع أحداً منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم» (¬2). لكن يقرأ المنفرد بسم الله الرحمن الرحيم مع الفاتحة في كل ركعة سراً، كما أنه يسر بالتأمين، فالتسمية والتأمين يسر بهما القارئ. أما الإمام فلا يقرأ البسملة ولا يسر بها لئلا يقع السر بين جهرين، قال ابن مسعود: «أربع يخفيهن الإمام: التعوذ، والتسمية، والتأمين، والتحميد» (¬3) وأدلتهم ما يأتي: 1ً - قوله تعالى: {فاقرؤوا ما تيسر من القرآن} [المزمل:20/ 73] هو أمر ¬
قراءة المقتدي
بمطلق قراءة، فتتحقق بأدنى ما يطلق عليه اسم القرآن، وبما أن قراءة القرآن ليست فرضاً خارج الصلاة بالإجماع بدليل سياق الآية، فتعين أن تكون فرضاً في الصلاة. 2ً - لا تجوز الزيادة بخبر الواحد الظني على ما ثبتت فرضيته بالدليل القطعي في القرآن، ولكن خبر الواحد يوجب العمل به، لا فرضيته، فقالوا بوجوب قراءة الفاتحة فقط، أي أن الصلاة تصح بتركها مع الكراهة التحريمية. 3ً - جاء في حديث المسيء صلاته المتقدم: «إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر، ثم اقرأ ما تيسرمعك من القرآن» (¬1) فالواجب هو مطلق القراءة، كما دل القرآن، ولو كانت قراءة الفاتحة فرضاً أو ركناً لعلَّمه إياها، لجهله بالأحكام وحاجته إليها. 4ً - أما حديث «لاصلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» الذي رواه الأئمة الستة عن عبادة بن الصامت (¬2)، فهو محمول على نفي الفضيلة، لا نفي الصحة كحديث «لاصلاة لجار المسجد إلا في المسجد» (¬3). قراءة المقتدي: أما المقتدي: فلا قراءة عليه عند الحنفية للأدلة الآتية (¬4): 1 ً - الكتاب: قال تعالى: {وإذا قرئ القرآن، فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ¬
ترحمون} [الأعراف:204/ 7]، قال الإمام أحمد: «أجمع الناس على أن هذه الآية في الصلاة» وهي تأمر بالاستماع والإنصات، والاستماع خاص بالجهرية، والإنصات يعم السرية والجهرية، فيجب على المصلين أن يستمعوا فيما يجهر به، وأن ينصتوا فيما يسر به. وبما أن الأحاديث تطلب القراءة، فقد أصبحت دلالة الآية مفيدة للوجوب، الذي يقتضي مخالفته كراهة التحريم. 2 ً - السنة: قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «من صلى خلف إمام، فإن قراءة الإمام له قراءة» (¬1) وهو يشمل السرية والجهرية. وقال عليه السلام أيضاً: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا» (¬2). وفي حديث آخر: أن النبي صلّى الله عليه وسلم صلى الظهر، فجعل رجل يقرأ خلفه: سبح اسم ربك الأعلى، فلما انصرف، قال: «أيكم قرأ» أو أيكم القارئ، فقال الرجل: أنا، فقال: لقد ظننت أن بعضكم خالجنيها» (¬3) أي نازعنيها. وهذا يدل على إنكار القراءة في صلاة سرية، ففي الجهرية أولى. 3 ً - القياس: لو وجبت القراءة على المأموم، لما سقطت عن المسبوق كسائر الأركان، فقاسوا قراءة المؤتم على قراءة المسبوق في حكم السقوط، فتكون غير مشروعة. وقال الجمهور (¬4) (غير الحنفية): ركن القراءة الواجبة في الصلاة: هو ¬
الفاتحة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» وقوله أيضاً: «لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب» (¬1)، ولفعله صلّى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم، مع خبر البخاري: «صلوا كما رأيتموني أصلي». وأما قراءة سورة بعد الفاتحة في الركعتين الأوليين من كل صلاة فهو سنة، وأما المأموم فيقرأ في الصلاة السرية الفاتحة والسورة، ولا يقرأ شياً عند المالكية والحنابلة في الجهرية، ويقرأ الفاتحة فقط في الجهرية عند الشافعية (¬2). وفي ظاهر كلام أحمد أنه استحسن قراءة بعض الفاتحة في سكتة الإمام الأولى، ثم يقرأ بقية الفاتحة في السكتة الثانية. ويستمع بينهما لقراءة الإمام. إلا أن الشافعية قالوا: تتعين قراءة الفاتحة حفظاً أو نظراً في مصحف أو تلقيناً أو نحو ذلك، في كل ركعة للإمام والمأموم والمنفرد، سواء أكانت الصلاة سرية أم جهرية، فرضاً أم نفلاً، للأدلة المذكورة هنا، ولحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: «صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم الصبح، فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف، قال: إني أراكم تقرءون وراء إمامكم؟! قال: قلنا: يا رسول الله، إي وا لله، قال: لاتفعلوا إلا بأم القرآن، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ فيها» (¬3) فهذا نص صريح خاص بقراءة المأموم دال على فرضيتها، وظاهر النفي متجه إلى الإجزاء، أي لا تجزئ، وهو كالنفي للذات في المآل. فلو تركها ناسياً لا يجزيه في الجديد؛ لأن ما كان ركناً من الصلاة، لم يسقط فرضه بالنسيان كالركوع والسجود. ولا تسقط عن المصلي إلا لمسبوق في ركعة، ¬
البسملة عند الشافعية
فإن الإمام يتحملها عنه. وكالمسبوق: زحمة أو نسيان أنه في الصلاة، أو بطء حركة، بأن لم يقم من السجود إلا والإمام راكع أو قريب من الركوع، أو شك بعد ركوع إمامه في قراءة الفاتحة فتخلف لها. والبسملة عند الشافعية آية من الفاتحة، لما رواه البخاري في تاريخه أنه صلّى الله عليه وسلم عدّ الفاتحة سبع آيات، وعدّ: بسم الله الرحمن الرحيم آية منها. وروى الدارقطني عن أبي هريرة أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا قرأتم الحمد لله، فاقرؤوا بسم الله الرحمن الرحيم، إنها أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني، وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها» (¬1)، ولأن الصحابة رضي الله عنهم أثبتوها فيما جمعوا من القرآن، فيدل على أنها آية منها. وإن كان في صلاة جهرية جهر بها، كما يجهر في سائر الفاتحة، لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلّى الله عليه وسلم جهر ببسم الله الرحمن الرحيم (¬2) ولأنها تقرأ على أنها آية من القرآن، بدليل أنها تقرأ بعد التعوذ، فكان سنتها الجهر كسائر الفاتحة. وتشديدات الفاتحة الأربع عشرة شدة هي منها، ثلاث منها في البسملة، فلو خفف منها تشديدة، بطلت قراءة تلك الكلمة، لتغييره النظم. ويشترط في القراءة: عدم اللحن المخل بالمعنى كضم تاء: أنعمت، أو كسرها ممن يمكنه التعلم، وكقراءة شاذة: وهي غير السبعة إن غيرت المعنى كقراءة {إنما ¬
يخشى الله من عباده العلماء} [فاطر:28/ 35] برفع الأول ونصب الثاني، أو زادت ولو حرفاً أو نقصت، فمتى فعل شيئاً من ذلك بطلت قراءته. وقال المالكية (¬1): تصح القراءة بالقراءة الشاذة إن وافقت رسم المصحف العثماني، وإن لم تجز القراءة بها. وتصح القراءة بلحن في القراءة ولو بالفاتحة إن لم يتعمد، وأثم الإمام إن وجد غيره ممن يحسن القراءة. وتصح القراءة بغير تمييز بين ضاد وظاء، كما في لغة العرب الذين يقلبون الضاد ظاء. ولا تصح القراءة إن تعمد اللحن أو تبديل الحروف بغيرها، ولا يصح الاقتداء به. ولو أبدل صاداً بظاء لم تصح في الأصح قراءته لتلك الكلمة، لتغييره النظم واختلاف المعنى. ويجب ترتيبها (بأن قرأ آياتها على نظمها المعروف) وموالاتها (بأن يصل بعض كلماتها ببعض من غير فصل إلا بقدر التنفس) عملاً بالسنة: «صلوا كما رأيتموني أصلي» فإن تخللها ذكر كالتحميد عند العطاس، قطع الموالاة. أما إن كان الفاصل متعلقاً بالصلاة كالتأمين لقراءة الإمام، وفتحه (¬2) عليه إذا توقف في القراءة، وسؤال الرحمة، والتعوذ من العذاب، وسجود التلاوة لقراءة إمامه، فلا يقطع الموالاة في الأصح. ويقطع الموالاة السكوت الطويل، لإشعاره بالإعراض مختاراً، وكذا اليسير إن قصد به قطع القراءة في الأصح، عملاً بالنية. وإن جهل إنسان الفاتحة بكمالها بأن لم يمكنه معرفتها لعدم معلم أو مصحف أو نحو ذلك، أجزأه بدلها بما يعادل حروفها في الأصح، من سبع آيات متوالية أو ¬
متفرقة، فإن عجز عنها أتى بسبعة أنواع من ذكر أو دعاء يتعلق بالآخرة لا الدنيا بحيث لا ينقص عن حروفها، لما روى أبو داود وغيره «أن رجلاً قال: يا رسول الله، إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئاً، فعلمني ما يجزيني عنه، فقال: قل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله». فإن لم يحسن شيئاً قرآناً ولا ذكراً، وقف بقدر الفاتحة. ويسن عقب الفاتحة بعد سكتة لطيفة: (آمين) (خفيفة الميم بالمد، ويجوز القصر) أي استجب، سواء أكان في صلاة أم لا، ولكن في الصلاة أشد استحباباً، لما روى أبو داود والترمذي وغيرهما عن وائل بن حُجْر، قال: «صليت خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلما قال ـ ولا الضالين ـ قال: آمين، ومدّ بها صوته» وروى البخاري عن أبي هريرة: «إذا قال الإمام: ولا الضالين، فقولوا: آمين، فإن من وافق قوله قول الملائكة، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر». ويؤمن مع تأمين إمامه، ويجهر به في الأظهر (¬1)، تبعاً لإمامه للاتباع، رواه ابن حبان وغيره وصححوه، مع خبر: «صلوا كما رأيتموني أصلي». وتسن للإمام والمنفرد قراءة سورة بعد الفاتحة، إلا في الركعتين الثالثة والرابعة في الأظهر، اتباعاً للسنة، رواه الشيخان، فإن سُبق بهما المأموم من صلاة نفسه، قرأها فيهما حين تداركهما، على النص؛ لأن مافاته المسبوق مع الإمام بالنسبة إليه هو أول صلاته، وما أدركه معه هوآخر صلاته، لئلا تخلو صلاته من سورتين. ¬
ولا يقرأ المأموم سورة في الصلاة الجهرية، إلا إن كان بعيداً لا يسمع الإمام، أو كان به صمم أو سمع صوتاً لا يفهمه. ويقرأ سورة في الصلاة السرية في الأصح، إذ لا معنى لسكوته. وقال المالكية على المشهور: والحنابلة: يجب قراءة الفاتحة في كل ركعة على الإمام والمنفرد، ولا يقرأ المأموم الفاتحة في الصلاة الجهرية وإنما يستحب أن يقرأها في السرية؛ لأن الأمر القرآني بالاستماع والإنصات للقرآن خاص بالصلاة الجهرية، بدليل «أن النبي صلّى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة، فقال: هل قرأ أحد منكم آنفاً؟ فقال رجل: نعم، يا رسول الله، قال: فإني أقول: ما لي أنازَع القرآن، فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما يجهر فيه من الصلوات بالقراءة، حين سمعوا ذلك من رسول الله صلّى الله عليه وسلم» (¬1) وهذا صريح في كراهة القراءة للمؤتم حالة الجهر. أما دليلهم على استحباب القراءة في حالة السر: فهو قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «إذا أسررت بقراءتي فاقرءوا» (¬2). وألحق الحنابلة بالصلاة السرية: كل ما لا يجهر فيه من حالات عدم السماع لبعد أو آفة أو سكوت الإمام، أي كما قال الشافعية؛ لأن المأموم في كل تلك الأحوال غير سامع للقراءة، فلا يحصل له مقصود الاستماع. ويظهر لي أن هذا الرأي هو أولى الآراء، توفيقاً بين دلالة الآية على وجوب الاستماع للقرآن، ودلالة الحديث على القراءة في السر، وعدم وجود مسوغ للإنصات في السرية، لكني لا أطمئن إلى ترك الفاتحة مطلقاً، للحديث المتفق عليه ¬
البسملة عند المالكية
والمتواتر عن عبادة وغيره: «لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن» وهودليل واضح على وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة، ولأن الظاهر فيه بحسب الأصل هو نفي الصحة، لا نفي الكمال والفضيلة. وليست البسملة عند المالكية آية من الفاتحة، فلا يقرؤها في الصلاة المكتوبة، جهراً كانت أو سراً، لا في الفاتحة، ولا في غيرها من السور. ويجب عند المالكية كغيرهم تعلم الفاتحة إن أمكن التعلم، فإن لم يمكن التعلم لخرس ونحوه، أو لم يجد معلماً أو ضاق الوقت، ائتم وجوباً بمن يحسنها إن وجده، وتبطل إن تركه، وإن لم يجده صلى منفرداً. ويندب الإسرار عندهم بالتأمين لكل مصل طلب منه أي كما قال الحنفية. وقال الحنابلة: البسملة آية من الفاتحة يجب قراءتها في الصلاة، لكن يقرأ بها سراً، ولا يجهر بها. ويلزم المصلي عند الحنابلة كما قال الشافعية بقراءة الفاتحة مرتبة مشددة غير ملحون فيها لحناً يغير المعنى، فإن ترك ترتيبها أو شدَّة منها، أو لحن لحناً يحيل المعنى، مثل أن يكسر كاف (إياك) أو يضم تاء (أنعمت) أو يفتح ألف الوصل في (اهدنا) لم تصح قراءته، إلا أن يكون عاجزاً عن غير هذا، وإن قطع قراءة الفاتحة بذكر من دعاء أو قراءة أو سكوت يسير أو قال: آمين في أثناء قراءة الإمام، لا تنقطع قراءته. وقال المالكية على المعتمد: إن اللحن لا يبطل الصلاة ولو غيَّر المعنى. وأقل ما يجزئ في الفاتحة: قراءة مسموعة يسمعها نفسه، أو يكون بحيث يسمعها لو كان سميعاً، كما هو المقرر في تكبيرة الإحرام، فإن ما دون ذلك ليس بقراءة. والمستحب: أن يأتي بها مرتلة معربة يقف فيها عند كل آية، ما لم يؤد ذلك
الركن الرابع ـ الركوع
إلى التمطيط، لقوله تعالى: {ورتل القرآن ترتيلاً} [المزمل:4/ 73]. وقال المالكية: تجزئ القراءة وإن لم يسمع نفسه. وقد أجمع الفقهاء على أنه لا تجزئ القراءة بغير العربية (¬1)، ولا الإبدال بلفظها لفظاً عربياً آخر، سواء أحسن قراءتها بالعربية أو لم يحسن، لقوله تعالى: {قرآناً عربياً} [يوسف:2/ 12]، وقوله سبحانه: {بلسان عربي مبين} [الشعراء:195/ 26] ولأن القرآن معجزة بلفظه ومعناه، فإذا غيّر خرج عن نظمه، فلم يكن قرآناً ولامثله، وإنما يكون تفسيراً له، والتفسير غير المفسر، وليس مثل القرآن المعجز المتحدى بالإتيان بسورة مثله. لكن أجاز بعض الحنفية لعاجز عن القراءة بالعربية أن يقرأ الفاتحة بغير العربية (¬2). والتأمين عند الحنابلة وغيرهم سنة للإمام والمأموم للأحاديث السابقة، ويسن عند الحنابلة كالشافعية أن يجهر الإمام والمأموم بالتأمين فيما يجهر فيه بالقراءة، ويخفيه فيما يخفي فيه القراءة. الركن الرابع ـ الركوع: الركوع لغة: مطلق الانحناء، وشرعاً: الانحناء بالظهر والرأس معاً حتى تبلغ يداه (أوراحتاه) ركبتيه، وأقله: أن ينحني حتى تنال راحتاه ركبتيه، وأكمله: تسوية ظهره وعنقه (أي يمدّهما بانحناء خالص بحيث يصيران كالصفيحة الواحدة) اتباعاً كما رواه مسلم، ونصب ساقيه وفخذيه، ومساواة رأسه بعجزه، ويكفيه أخذ ركبتيه ¬
بيديه وتفرقة أصابعه لجهة القبلة، ولا يرفع رأسه ويكفيه أخذ ركبتيه بيديه وتفرقة أصابعه لجهة القبلة، ولا يرفع رأسه ولا يخفضه، ويجافي مرفقيه عن جنبيه بالنسبة للرجل، أما المرأة فتضم بعضها إلى بعض، ومن تقوس ظهره يزيد في الانحناء قليلاً إن قدر عليه (¬1). ودليل فرضية الركوع: قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اركعوا} [الحج:77/ 22]، وحديث المسيء صلاته « ... ثم اركع حتى تطمئن راكعاً» وللإجماع على فرضيته. ودليل وضع اليدين على الركبتين: ما ذكره أبو حميد في صفة صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «رأيته إذا ركع، أمكن يديه من ركبتيه، ثم هصر ظهره» يعني عصره حتى يعتدل. ودليل مشروعية التفريق بين الأصابع: ما رواه أبو مسعود عقبة بن عمرو: أنه ركع، فجافى يديه، ووضع يديه على ركبتيه، وفرَّج بين أصابعه من وراء ركبتيه، وقال: هكذا رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلي» (¬2). ودليل عدم رفع الرأس وعدم خفضه: قول عائشة رضي الله عنها: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا ركع لم يرفع رأسه ولم يصوبه، ولكن بين ذلك» (¬3) وجاء في الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلم «أنه كان إذا ركع، لو كان قدح ماء على ظهره ما تحرك» وذلك لاستواء ظهره. ¬
الاطمئنان في الركوع
ويشترط عند الشافعية والحنابلة ألا يقصد بركوعه غيره، فلو هوى للتلاوة، فجعله ركوعاً، لم يكفه. الاطمئنان في الركوع: أقل الاطمئنان في الركوع: هو أن يمكث في هيئة حتى تستقر أعضاؤه راكعاً قدر تسبيحة في الركوع والسجود وفي الرفع منهما. وهو واجب عند الحنفية كما بينا لقوله تعالى: {اركعوا واسجدوا} [الحج:22/ 77] ولم يذكر الطمأنينة، وفرض عند الجمهور كما أشرنا، لحديث المسيء صلاته: «ثم اركع حتى تطمئن راكعاً» وروى أبو قتادة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته، قيل: وكيف يسرق من صلاته؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها ولاخشوعها» (¬1)، وقال أيضاً: «لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل صلبه فيها في الركوع والسجود» (¬2). إلا أن أبا حنيفة ومحمد قالا: هذه الأحاديث أخبار آحاد، فلا يزاد بها فرض على النص القرآني {اركعوا واسجدوا} [الحج:77/ 22] لئلا يلزم منه نسخ المتواتر بالآحاد؛ لأن الزيادة على النص نسخ عندهم. وقال أبو يوسف الاطمئنان فريضة. الركن الخامس ـ الرفع من الركوع والاعتدال: قال أبو حنيفة ومحمد (¬3): القيام من الركوع والاعتدال (الاستواء) والجلوس بين السجدتين واجب لا ركن؛ لأنه من مقتضيات الطمأنينة (تعديل الأركان)، ولقوله تعالى: {اركعوا واسجدوا} [الحج:77/ 22] ويحصل ¬
الركوع بمجرد الانحناء ولم يأمر الله به وإنما أمر بالركوع والسجود والقيام، فلا يفرض غيره، ولمواظبة النبي صلّى الله عليه وسلم على الاعتدال قائماً، وللأمر به في حديث المسيء صلاته: «ثم ارفع حتى تعتدل قائماً» وهذا يدل على الوجوب لثبوته بخبر آحاد، فلو تركه أو ترك شيئاً منه ساهياً، يلزمه سجود السهو، ولو تركه عمداً كره أشد الكراهة، ويلزمه أن يعيد الصلاة في الوقت، وتكون الإعادة جبراً للأولى؛ لأن الفرض لا يتكرر. هذا ويلاحظ أن المشهور في مذهب الحنفية هو القول بسنية القيام من الركوع والجلسة بين السجدتين وتعديلهما، وروي وجوبها، وهو الموافق للأدلة. وهو الصواب وقول الكمال بن الهمام ومن بعده من متأخري الحنفية. وقال أبو يوسف والأئمة الآخرون (¬1): الرفع من الركوع والاعتدال قائماً مطمئناً ركن أو فرض في الصلاة، وهو أن يعود إلى الهيئة التي كان عليها قبل الركوع، سواء أكان قائماً أم قاعداً، أو يفعل مقدوره إن عجز. ولا يقصد غيره، فلو رفع فَزَعاً (خوفاً) من شيء كحية، لم يكف رفعه لذلك عن رفع الصلاة، كما صرح الشافعية. وإذا سجد ولم يعتدل، لم تصح وبطلت صلاته، لتركه ركناً من أركان الصلاة. لقوله صلّى الله عليه وسلم للمسيء صلاته: «ثم ارفع حتى تعتدل قائماً» وداوم النبي على فعله، وقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي»، ونفى النبي صلّى الله عليه وسلم كون ما فعل المسيء صلاة، فدل كل ذلك على أن الاعتدال والطمأنينة ركن، ويدخل فيه الرفع من الركوع لاستلزامه له. ¬
الركن السادس ـ السجود مرتين لكل ركعة
الركن السادس ـ السجود مرتين لكل ركعة: السجود لغة: الخضوع والتذلل، أو التطامن والميل، وشرعاً: أقله وضع بعض الجبهة مكشوفة على الأرض أو غيرها من المُصلَّى، لخبر: «إذا سجدت، فمكِّن جبهتك ولا تنقر نقراً» (¬1) وخبر خباب بن الأرت: «شكونا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم حر الرمضاء في جباهنا وأكفنا، فلم يشكنا، أي لم يزل شكوانا» (¬2). وأكمل السجود: وضع جميع اليدين والركبتين والقدمين والجبهة مع الأنف. وهو فرض بالإجماع، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا} [الحج:22/ 77] ولمواظبة النبي صلّى الله عليه وسلم، وأمره به المسيء صلاته: «ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً» ولإجماع الأمة. والواجب عند المالكية (¬3): سجود على أيسر جزء من الجبهة: وهي ما فوق الحاجبين وبين الجبينين. ويندب إلصاق جميع الجبهة بالأرض وتمكينها، ويندب السجود على أنفه أيضاً، ويعيد الصلاة لتركه في الوقت الضروري (وهو في الظهرين للاصفرار، وفي العشاءين لطلوع الفجر وفي الصبح لطلوع الشمس) مراعاة لمن يقول بوجوبه، فلو سجد على جبهته دون أنفه، لم يكفه، والمشهور في المذهب: أنه يجزئ السجود على الجبهة بخلاف الأنف، وإن عجز عن السجود على الجبهة أومأ للسجود، كمن كان بجبهته قروح تؤلمه إن سجد. وذكر الشافعية والحنفية والحنابلة: أن من منعه الزحام عن السجود على ¬
أرض أو نحوها مع الإمام، فله السجود على شيء من إنسان أو متاع أو بهيمة أو نحو ذلك، لقول عمر فيما رواه البيهقي بإسناد صحيح: «إذا اشتد الزحام فليسجد أحدكم على ظهر أخيه». وأما السجود على اليدين والركبتين وأطراف القدمين فهو سنة. ودليلهم حديث العباس بن عبد المطلب أنه سمع رسول الله يقول: «إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب ـ أعضاء ـ وجههُ وكفّاه وركبتاه وقدماه» (¬1). واتفق العلماء (¬2) على أن السجود الكامل يكون على سبعة أعضاء: الوجه واليدين والركبتين وأطراف القدمين، لحديث ابن عباس: «أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة، وأشار بيده على أنفه، واليدين، والرُّكبتين، والقدمين» (¬3) وفي رواية «أُمِرَ النبي صلّى الله عليه وسلم أن يسجد على سبعة أعضاء، ولا يكف شعراً ولا ثوباًً (¬4): الجبهة واليدين والركبتين، والرِّجلين» والمراد من عدم كف الشعر والثوب: عدم رفع الثوب والشعر عن مباشرة الأرض، فيشبه المتكبرين. ولا خلاف أن السجود على مجموع الجبهة والأنف مستحب. ونقل ابن المنذر إجماع الصحابة على أنه لا يجزئ السجود على الأنف وحده. ¬
واتفق علماء الحنفية وغيرهم على أنه إن قتصر في السجود على الجبهة دون الأنف، جاز. لكن قال أبو حنيفة: يخير المصلي بين الجبهة وبين الأنف، فإن اقتصر على أحدهما، جاز ويكره، مستدلاً بالرواية السابقة لحديث ابن عباس المذكور؛ لأنه ذكر الجبهة وأشار إلى الأنف، ولأن المأمور به في كتاب الله تعالى هو السجود {واسجدوا} [الحج:77/ 22]، والسجود المأمور به: هو وضع بعض الوجه الذي هو محل السجود إجماعاً، وهو يتحقق بالأنف، فاشتراط وضع آخر معه زيادة بخبر الواحد، فوجب أن يجوز الاقتصار عليه كالجبهة، بخلاف الذقن والخد ونحوهما، لأنه ليس بمحل للسجود إجماعاً، لكن ضم الأنف للجبهة في السجود واجب عندهم كما بينت. وقال الصاحبان: لا يجوز الاقتصار في السجود على الأنف إلا لعذر، للحديث السابق الذي عُدّ فيه الجبهة في الأعضاء السبعة، وهذا هو الراجح عند الحنفية. ووضع اليدين والركبتين سنة عند الحنفية لتحقق السجود بدونهما. وأما وضع القدمين فهو فريضة في السجود، كما ذكر القدوري. والخلاصة: إن فرض السجود عند الحنفية والمالكية يتحقق بوضع جزء من الجبهة ولو كان قليلاً، والواجب عند الحنفية وضع أكثرها، ويتحقق الفرض أيضاً بوضع أصبع واحدة من القدمين، فلو لم يضع شيئاً من القدمين لم يصح السجود. وأما تكرار السجود فهو أمر تعبدي، أي لم يعقل معناه على قول أكثر مشايخ الحنفية، تحقيقاً للابتلاء (الاختبار) ولو سجد على كَوْر عمامته إذا كان على جبهته أو فاضل (طرف) ثوبه، جاز عند الحنفية والمالكية والحنابلة، ويكره إلا من عذر لحديث أنس «كنا نصلي مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في شدة الحر، فإذا لم يستطع أحدنا أن
يمكِّن جبهته من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه» (¬1). ولا خلاف في عدم وجوب كشف الركبتين، لئلا يفضي إلى كشف العورة، كما لا يجب كشف القدمين واليدين، لكن يسن كشفها، خروجاً من الخلاف. ودليل جواز ترك كشف اليدين: حديث عبد الله بن عبد الرحمن قال: «جاءنا النبي صلّى الله عليه وسلم، فصلى بنا في مسجد بني الأشهل، فرأيته واضعاً يديه في ثوبه إذا سجد» (¬2). وقال الشافعية: إن سجد على متصل به كطرف كمّه الطويل أو عمامته، جاز إن لم يتحرك بحركته؛ لأنه في حكم المنفصل عنه. فإن تحرك بحركته في قيام أو قعود أو غيرهما كمنديل على عاتقه، لم يجز. وإن كان متعمداً عالماً، بطلت صلاته، وإن كان ناسياً أوجاهلاً، لم تبطل، وأعاد السجود. وتصح صلاته فيما إذا سجد على طرف ملبوسه ولم يتحرك بحركته. وضعف الشافعية الأحاديث الواردة في السجود على كور العمامة، أو أنها محمولة على حالة العذر (¬3). والشافعية والحنابلة متفقون على وجوب السجود على جميع الأعضاء السبعة المذكورة في الحديث السابق، ويستحب وضع الأنف مع الجبهة عند الشافعية، لكن يجب عند الحنابلة وضع جزء من الأنف. واشترط الشافعية أن يكون السجود على بطون الكفين وبطون أصابع القدمين، أي أنه يكفي وضع جزء من كل واحد من هذه الأعضاء السبعة كالجبهة، والعبرة في اليدين ببطن الكف، سواء الأصابع والراحة، وفي الرجلين ببطن الأصابع، فلا يجزئ الظهر منها ولا الحرف. ¬
الاطمئنان في السجود
الاطمئنان في السجود: يجب أن يطمئن المصلي في سجوده، والطمأنينة فرض عند الجمهور واجب عند الحنفية، لحديث المسيء صلاته: «ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً» كما يجب عند الشافعية: أن ينال ثقل رأسه محل سجوده، للخبر السابق: «إذا سجدت فمكِّن جبهتك» ومعنى ذلك: أن يتحامل بحيث لو فرض تحته قطن أو حشيش لا نكبس، وظهر أثره في يده. يتضح مما سبق أنه يشترط لصحة السجود: الطمأنينة، وكشف الجبهة عند الشافعية، ولا يشترط ذلك عند الجمهور، وكون السجود على الجبهة بالاتفاق، ويضم لها القدمان عند الحنفية، واليدان والركبتان والقدمان عند الشافعية والحنابلة، والأنف أيضاً عند الحنابلة، وأن يكون السجود على ما تستقر عليه جبهة المصلي، والتنكس: وهو استعلاء أسافل المصلي وتسفل أعاليه إلا لزحمة سجد فيها على ظهر مصل آخر، كما أوضح الشافعية والحنفية. وأن يقصده عند الشافعية، فلو سقط لوجهه، وجب العود إلى الاعتدال. والسنة في هيئة السجود عند الجمهور: أن يضع المصلي على الأرض ركبتيه أولاً، ثم يديه، ثم جبهته وأنفه. ويرفع أولاً وجهه ثم يديه ثم ركبتيه، لحديث وائل ابن حُجْر قال: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا سجد، وضع رُكبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه، قبل ركبتيه» (¬1) قال الخطابي: هذا أصح من حديث أبي هريرة الآتي في مذهب مالك. فإن عكس الترتيب المذكور أجزأ، مع مخالفة السنة إلا من عذر. وقال المالكية: يندب تقديم اليدين على الركبتين عند السجود، وتأخير اليدين عن الركبتين عند القيام للقراءة، لحديث أبي هريرة: «إذا سجد أحدكم، فلا يبرك ¬
مكان الصلاة
كما يبرك البعير، وليضع يديه ثم ركبتيه» (¬1) قال ابن سيد الناس: أحاديث وضع اليدين قبل الركبتين أرجح. وتوسط النووي فقال: لا يظهر لي ترجيح أحد المذهبين. مكان الصلاة: قال المالكية: تكره الصلاة على غير الأرض وما تنبته. وقال الحنابلة: تصح الصلاة على الثلج بحائل أو لا، إذا وجد حجمه لاستقرار أعضاء السجود، كما تصح على حشيش وقطن منتفش إذا وجد حجمه، وإن لم يجد حجمه، لم تصح صلاته، لعدم استقرار الجبهة عليه (¬2). الركن السابع ـ الجلوس بين السجدتين: الجلوس بين السجدتين مطمئناً ركن عند الجمهور، واجب عند الحنفية (¬3)، لحديث المسيء صلاته: «ثم ارفع حتى تطمئن جالساً» وفي الصحيحين «كان صلّى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه، لم يسجد حتى يستوي جالساً». وأضاف الشافعية: ويجب ألا يقصد برفعه غيره، فلورفع فزعاً من شيء لم يكف، وألا يُطوِّله، ولا الاعتدال؛ لأنهما ركنان قصيران ليسا مقصودين لذاتهما، بل للفصل بين السجدتين. ¬
الركن الثامن ـ القعود الأخير مقدار التشهد
والسنة في هيئة السجود: أن يجلس بين السجدتين مفترشاً: وهو أن يثني رجله اليسرى، ويبسطها ويجلس عليها، وينصب رجله اليمنى ويخرجها من تحته، ويجعل بطون أصابعه على الأرض معتمداً عليها، لتكون أطراف أصابعه إلى القبلة. وذلك للاتباع، كما سيأتي في صفة صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ثم ثنى رجله اليسرى وقعد عليها، ثم اعتدل حتى رجع كل عظم في موضعه، ثم هوى ساجداً» وفي حديث عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلم «وكان يفرش رجله اليسرى، وينصب اليمنى» (¬1). ويضع يديه على فخذيه قريباً من ركبتيه، منشورتي الأصابع، اليمنى واليسرى سواء. الركن الثامن ـ القعود الأخير مقدار التشهد: هذا فرض عند الحنفية إلى قوله: (عبده ورسوله) على الصحيح، فلو فرغ المقتدي قبل فراغ الإمام، فتكلم أو أكل، فصلاته تامة، وهو مع التشهد الأخير والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم بعده قاعداً بمقدار: (اللهم صل على محمد) ركن عند الشافعية والحنابلة. والركن عند المالكية هو بمقدار الجلوس للسلام (¬2). ويلاحظ أن التشهد الأول كالأخير واجب عند الحنفية، سنة عند الجمهور، كما أن الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم في التشهد الأخير سنة عند الحنفية والمالكية. استدل الحنفية: بحديث ابن مسعود رضي الله عنه حين علّمه النبي التشهد، ¬
فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم: «إذا قلت هذا، أو فعلت هذا، فقد تمت صلاتك» (¬1) أي إذا قلت التشهد أو فعلت القعود، فقد تمت صلاتك. فإنه صلّى الله عليه وسلم علق تمام الصلاة بالفعل، وهو القعود، سواء قرأ التشهد أو لم يقرأ، لأنه علقه بأحد الأمرين من قرادة التشهد والقعود، والقراءة لم تشرع بدون القعود، حيث لم يفعلها رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلا فيه، فكان القعود هو المعلق به تمام الصلاة في الحقيقة، لاستلزامه القراءة، وكل ما علق بشيء لا يوجد بدونه، وبما أن تمام الصلاة واجب، أو فرض، وتمام الصلاة لا يوجد بدون القعود، فالقعود واجب أي فرض؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وكون خبر ابن مسعود خبر آحاد أثبت الفرضية، فلأنه بيان لمجمل الكتاب، ويصلح البيان الظني لذلك، بخلاف قراءة الفاتحة مع نص القرآن؛ لأن نص القراءة ليس بمجمل، بل هو خاص، فتكون الزيادة عليه نسخاً بخبر الواحد، وهو لايجوز. واستدل المالكية على أن التشهد والقعود ليسا بواجب: بأنهما يسقطان بالسهو، فأشبها السنن. وأما الشافعية والحنابلة فاستدلوا: بأن النبي صلّى الله عليه وسلم فعل الجلوس، وداوم على فعله، وأمر به في حديث ابن عباس، وقال: «قولوا: التحيات لله» (¬2) وسجد للسهو حين نسيه، وقد قال عليه السلام: «صلوا كما رأيتموني أصلي»، وقال ابن ¬
مسعود: «كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد: السلام على الله قبل عباده، السلام على جبريل، السلام على ميكائيل، السلام على فلان، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: لاتقولوا: السلام على الله، فإن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله .. » (¬1) الخ. والدلالة منه بوجهين: أحدهما ـ التعبير بالفرض، والثاني: الأمر به وفرضه في جلوس آخر الصلاة. وأما الجلوس له، فلأنه محله، فيتبعه. وأما فرضية الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم في التشهد الأخير، فلإجماع العلماء على أنها لا تجب في غير الصلاة، فتعين وجوبها فيها، ولحديث «قد عرفنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ فقال: قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ... الخ» (¬2) وفي رواية «كيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا؟ فقال: قولوا .. الخ» (¬3) والمناسب لها من الصلاة، التشهد آخرها، فتجب فيه، أي بعده. وقد صلى النبي صلّى الله عليه وسلم على نفسه في الوتر، كما رواه أبو عوانة في مسنده، وقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» ولم يخرجها شيء عن الوجوب. ومما يدل على الوجوب حديث علي عند الترمذي وقال: حسن صحيح: «البخيل من ذكرت عنده، فلم يصل علي» وقد ذكر النبي في التشهد، ومن أقوى الأدلة على الوجوب ما أخرجه الحاكم والبيهقي عن ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلم بلفظ: «إذا تشهد أحدكم في الصلاة فليقل: اللهم صل على محمد ... » الحديث. ¬
صفة الجلوس
والصلاة على النبي سنة عند الشافعية على الأظهر في التشهد الأول، لبنائه على التخفيف، ولا تسن على الآل في التشهد الأول، وتسن الصلاة على الآل (وهم بنو هاشم وبنو المطلب) في التشهد الأخير، وقيل: تجب فيه لقوله صلّى الله عليه وسلم في الحديث السابق: «قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد» والأمر يقتضي الوجوب. صفة الجلوس: صفة الجلوس للتشهد الأخير عند الحنفية، كصفة الجلوس بين السجدتين، يكون مفترشاً كما وصفنا، سواء أكان آخر صلاته أم لم يكن، بدليل حديث أبي حميد الساعدي في صفة صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم «أن النبي صلّى الله عليه وسلم جلس ـ يعني للتشهد ـ فافترش رجله اليسرى، وأقبل بصدر اليمنى على قبلته» (¬1) وقال وائل بن حجر: «قدمت المدينة، لأنظرن إلى صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلما جلس ـ يعني للتشهد ـ افترش رجله اليسرى، ووضع يده اليسرى على فخذه اليسرى، ونصب رجله اليمنى» (¬2) وقال المالكية: يجلس متوركاً في التشهد الأول والأخير (¬3)، لما روى ابن مسعود «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يجلس في وسط الصلاة وآخرها متوركاً» (¬4). وقال الحنابلة والشافعية: يسن التورك في التشهد الأخير، وهو كالافتراش، ولكن يخرج يسراه من جهة يمينه ويلصق وركه بالأرض، بدليل ما جاء في حديث ¬
صيغة التشهد
أبي حميد الساعدي: «حتى إذا كانت الركعة التي تنقضي فيها صلاته، أخرَّ رجله اليسرى، وقعد على شقه متوركاً، ثم سلَّم» (¬1) والتورك في الصلاة: القعود على الورك اليسرى، والوركان: فوق الفخذين كالكعبين فوق العضدين. لكن قال الحنابلة: لا يتورك في تشهد الصبح؛ لأنه ليس بتشهدٍ ثانٍ، والذي تورك فيه النبي بحديث أبي حميد هو التشهد الثاني للفرق بين التشهدين، وما ليس فيه إلا تشهد واحد لا اشتباه فيه، فلاحاجة إلى الفرق. والخلاصة: إن التورك في التشهد الثاني سنة عند الجمهور، وليس بسنة عند الحنفية. صيغة التشهد: للتشهد صيغتان مأثورتان: فقال الحنفية والحنابلة (¬2):التشهد هو: التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وهو التشهد الذي علَّمه النبي صلّى الله عليه وسلم لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه (¬3). وقال الإمام مالك: أفضل التشهد: تشهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه (التحيات لله، الزاكيات لله، الصلوات لله) وسائره كتشهد ابن مسعود السابق. وقال الشافعية (¬4): أقل التشهد: التحيات لله، سلام عليك أيها ¬
معاني ألفاظ التشهد
النبي ورحمة الله وبركاته، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله. وأكمل التشهد: ما ورد في حديث ابن عباس قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يُعلِّمنا التشهد، كما يعلمنا السورة من القرآن، فكان يقول: التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله» (¬1). معاني ألفاظ التشهد: معنى (التحيات لله): الثناء على الله تعالى بأنه مالك مستحق لجميع التحيات الصادرة من الخلق. وهي جمع تحية يقصد بها البقاء والعظمة والملك، وقيل: السلام. والمباركات: الناميات. والصلوات: الصلوات الخمس وغيرها من العبادات الفعلية. والطيبات: الأعمال الصالحة. والسلام: أي اسم الله عليك، أو السلام الذي وجه إلى الرسل والأنبياء عليك أيها النبي. وعلينا: أي الحاضرين من إمام ومأموم وملائكة وغيرهم. والعباد: جمع عبد. والصالحين: جمع صالح، وهو القائم بما عليه من حقوق الله تعالى وحقوق عباده. ومعنى رسول الله، هو الذي يبلغ خبر من أرسله، وسمي تشهداً لما فيه من النطق بالشهادتين. الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم في التشهد الأخير: أقل الصلاة على النبي، الذي هو الركن عند الشافعية والحنابلة في التشهد الأخير: «اللهم صل على محمد» لظاهر الآية: {يا أيها الذين آمنوا، صلوا عليه ¬
التشهد بالعربية
وسلموا تسليماً} (¬1) [الأحزاب:56/ 33] وهي تدل على الوجوب؛ لأن الأمر للوجوب، علماً بأنه قد حصل السلام على النبي في التشهد بقوله: «السلام عليك» وأما الصلاة على الآل فهي سنة. وأكمل الصلاة على النبي أن يقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. وقد ثبتت هذه الصيغة عند البخاري ومسلم، بل عند الجماعة عن كعب بن عُجْرة، قال: «إن النبي صلّى الله عليه وسلم خرج علينا، فقلنا: يا رسول الله، قد علّمنا الله، كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ قال: قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد» (¬2). وقال الحنفية والمالكية: الصلاة على النبي سنة كما سيأتي. التشهد بالعربية: يشترط موالاة التشهد، وكونه بالعربية، هو وسائر أذكار الصلاة المأثورة، فلا يجوز من قدر على العربية التشهد والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم بغيرها، كما ذكرنا في التكبير والقراءة، فإن عجز مؤقتاً حتى يتعلم تشهد بلغته، كالأخرس. ومن قدر على تعلم التشهد والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم، لزمه ذلك، لأنه من فروض الأعيان، ¬
الركن التاسع ـ السلام
فلزمه كالقراءة. فإن صلى قبل تعلمه مع إمكانه، لم تصح صلاته. وإن خاف فوات الوقت، أو عجز عن تعلمه، أتى بما يمكنه، وأجزأه للضرورة. وإن لم يحسن بالكلية، سقط كله (¬1). الركن التاسع ـ السلام: السلام الأول للخروج من الصلاة حال القعود فرض عند المالكية، والشافعية، والتسليمتان: فرض عند الحنابلة (¬2)، إلا في صلاة جنازة ونافلة وسجدة تلاوة وشكر، فيخرج منها بتسليمة واحدة، وتنقضي الصلاة عند المالكية والشافعية بالسلام الأول، وعند الحنابلة بالسلام الثاني. ودليلهم قوله صلّى الله عليه وسلم: «مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم» (¬3)، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم «كان يسلم من صلاته» (¬4) ويديم ذلك، ولا يخل به، وقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» (¬5) وقال ابن المنذر: «أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم أن صلاة من اقتصر على تسليمة واحدة جائز». ¬
صيغة السلام
وقال الحنفية (¬1): السلام ليس بفرض، بل واجب والواجب تسليمتان، فلو قعد قدر التشهد، ثم خرج من الصلاة بسلام أو كلام أو فعل أو حدث، أجزأه ذلك، فالفرض: إنما هو الخروج من الصلاة بصنع المصلي، عملاً بحديث ابن مسعود السابق: «إذا قضيت هذا تمت صلاتك» ولأن السلام لم يذكر في حديث المسيء صلاته. وتنقضي الصلاة عندهم بالسلام الأول قبل قوله (عليكم). ومما يدل على عدم فرضية السلام، وأن الفرض في آخر الصلاة هو القعود بمقدار التشهد: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: إذا قضى الإمام الصلاة، وقعد، فأحدث قبل أن يتكلم، فقد تمت صلاته، ومن كان خلفه ممن أتم الصلاة» (¬2) ويؤيده حديث ابن عباس: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من التشهد، أقبل علينا بوجهه، وقال: من أحدث حدثاً بعد ما يفرغ من التشهد، فقد تمت صلاته» (¬3). صيغة السلام: أقل ما يجزئ في واجب السلام مرتين عند الحنفية: السلام، دون قوله: «عليكم»،وأكمله وهو السنة أن يقول: (السلام عليكم ورحمة الله) مرتين. وينوي الإمام بالتسليمتين السلام على من يمينه ويساره من الملائكة ومسلمي الإنس والجن. ويسن عدم الإطالة في لفظه والإسراع فيه لحديث أبي هريرة عند أحمد وأبي داود: (حذف التسليم سنة) قال ابن المبارك: معناه ألا يمد مداً. ¬
نية الخروج من الصلاة بالسلام
وأقل ما يجزئ عند الشافعية والحنابلة: (السلام عليكم) مرة عند الشافعية، ومرتين عند الحنابلة وأكمله: (السلام عليكم ورحمة الله) مرتين يميناً وشمالاً، ملتفتاً في الأولى حتى يرى خده الأيمن، وفي الثانية: الأيسر، ناوياً السلام على من عن يمينه ويساره من ملائكة وإنس وجن. وينوي الإمام أيضاً زيادة على ما سبق السلام على المقتدين. وهم ينوون الرد عليه وعلى من سلم عليهم من المأمومين، فينويه المقتدون عن يمين الإمام عند الشافعية بالتسليمة الثانية، ومن عن يساره بالتسليمة الأولى. وأما من خلفه وأمامه فينوي الرد بأي التسليمتين شاء. ودليل ذلك حديث سمرة بن جندب قال: «أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن نرد على الإمام، وأن نتحاب، وأن يسلم بعضنا على بعض» (¬1). وقال الحنفية: ينوي المأموم الرد على الإمام في التسليمة الأولى إن كان في جهة اليمين، وفي التسليمة الثانية إن كان في جهة اليسار، وإن حاذاه نواه في التسليمتين. وتسن نية المنفرد الملائكة فقط. ولا يندب زيادة (وبركاته) على المعتمد عند الشافعية والحنابلة، ودليلهم يتفق مع دليل الحنفية: وهو حديث ابن مسعود وغيره المتقدم: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يسلم عن يمينه وعن يساره: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، حتى يُرى بياض خده». فإن نكس السلام فقال: (عليكم السلام) لم يجزه عند الشافعية والحنابلة. والأصح عندهم ألا يجزيه: (سلام عليكم). نية الخروج من الصلاة بالسلام: والأصح عند الشافعية: أنه لا تجب نية الخروج من الصلاة، قياساً على ¬
سائرالعبادات، ولأن النية السابقة منسحبة على جميع الصلاة، ولكن تسن خروجاً من الخلاف، وهذا هو مشهور مذهب المالكية وهو المعتمد، ويسن بالتسليمتين معاً نية الخروج من الصلاة عند الحنابلة، لتمييز الصلاة عن غيرها، كما تتميز بتكبيرة الإحرام، فإن لم ينو، بطلت صلاته، والصحيح المنصوص عن أحمد: أنه لاتبطل صلاته. ولا يستحب نصاً الرد على الإمام والمأموم، فإن نوى مع الخروج من الصلاة السلام على الحفظة من الملائكة، والإمام والمأموم، جاز، لحديث سمرة عند أبي داود: «أمرنا النبي صلّى الله عليه وسلم أن نرد على الإمام، وأن يسلم بعضنا على بعض» وقال بعض الحنابلة: ينوي بالأولى الخروج من الصلاة، وينوي بالثانية السلام على الملائكة الحفظة والمأمومين إن كان إماماً، والرد على الإمام والملائكة إن كان مأموماً. وأقل ما يجزئ عند المالكية: (السلام عليكم) بالعربية، ويجزئ (سلام عليكم) وأكمله: (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) لما رواه أبو داود عن وائل بن حُجْر، ورواه أيضاً ابن حبان في صحيحه وابن ماجه من حديث ابن مسعود (¬1) ويسلّم المأموم عند المالكية ثلاثاً: واحدة يخرج بها من الصلاة، وأخرى يردها على إمامه، والثالثة: إن كان على يساره أحد، رد عليه، في مشهور المذهب. ويسن رد المقتدي السلام على إمامه، وعلى من يساره إن وجد وشاركه في ركعة فأكثر، لا أقل. ودليل جواز الاقتصار على تسليمة واحدة عند المالكية والشافعية حديث عائشة قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يسلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه» وحديث ¬
الركن العاشر: الطمأنينة في أفعال معينة
سلمة بن الأكوع قال: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم صلى فسلم تسليمة واحدة» (¬1) ولأنه بالتسليمة الأولى قد خرج بها من الصلاة، فلم يشرع مابعدها كالثانية. ودليل إيجاب التسليمتين عند الحنفية والحنابلة: حديث ابن مسعود السابق، وحديث جابر بن سمرة عند مسلم أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخده، ثم يسلم على أخيه من على يمينه وشماله». الركن العاشر: الطمأنينة في أفعال معينة: الطمأنينة ركن أو شرط ركن عند الجمهور (¬2) في الركوع والاعتدال منه، والسجود، والجلوس بين السجدتين، وواجب عند الحنفية للأمر بها في حديث المسيء صلاته: «إذا قمت إلى الصلاة فكبِّر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم افعل ذلك في الصلاة كلها» (¬3) ولحديث حذيفة: «أنه رأى رجلاً لا يتم ركوعه ولا سجوده، فقال له: ما صليت، ولو مِتَّ على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمداً صلّى الله عليه وسلم» (¬4) وظاهره أنها ركن واحد في الكل، لأنه يعم القيام (¬5). والطمأنينة: سكون بعد حركة، أو سكون بين حركتين بحيث ينفصل مثلاً رفعه عن هويه. وأقلها: أن تستقر الأعضاء في الركوع مثلاً بحيث ينفصل الرفع عن الهوي كما قال الشافعية. وذلك بقدر الذكر الواجب لذاكره، وأما الناسي ¬
الركن الحادي عشر: ترتيب الأركان على النحو المشروع في صفة الصلاة في السنة
فبقدر أدنى سكون، كما قال بعض الحنابلة، والصحيح من المذهب: أنها السكون وإن قل. أو هي تسكين الجوارح قدر تسبيحة في الركوع والسجود، والرفع منهما، كما قال الحنفية. أو هي استقرار الأعضاء زمناً ما في جميع أركان الصلاة، كما قال المالكية. الركن الحادي عشر: ترتيب الأركان على النحو المشروع في صفة الصلاة في السنة: الترتيب ركن عند الجمهور، واجب في القراءة وفيما يتكرر في كل ركعة، وفرض فيما لايتكرر في كل الصلاة أو في كل ركعة كترتيب القيام على الركوع، وترتيب الركوع على السجود، عند الحنفية (¬1)،بأن يقدم النية على تكبيرة الإحرام، والتكبيرة على الفاتحة، والفاتحة على الركوع، والركوع على الرفع منه، والاعتدال على السجود، والسجود على السلام، والتشهد الأخير على الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم عند الشافعية والحنابلة. والدليل أنه صلّى الله عليه وسلم كان يصلي الصلاة مرتبة، وعلمها للمسيء صلاته مرتبة بـ «ثم»، ولأنها عبادة تبطل عند الجمهور غير الحنفية بالحدث، فكان الترتيب فيها ركناً كغيره. ويترتب على كون الترتيب ركناً عند الجمهور، وكما ذكر الشافعية: أن من تركه عمداً كأن سجد قبل ركوعه، بطلت صلاته إجماعاً لتلاعبه. وإن سها ¬
عن الترتيب فما فعله بعد المتروك لغو؛ لوقوعه في غير محله. فإن تذكر المتروك قبل بلوغ مثله من ركعة أخرى، فعله بعد تذكره فوراً، فإن تأخر بطلت صلاته. وإن لم يتذكر حتى بلغ مثله، تمت به ركعته المتروك آخرها كسجدته الثانية منها، وتدارك الباقي من صلاته؛ لأنه ألغى ما بينهما. ولو تيقن في آخر صلاته ترك سجدة من الركعة الأخيرة، سجدها وأعاد تشهده. وإن كانت السجدة من ركعة أخرى غير الأخيرة، أو شك هل ترك السجدة من الأخيرة أو من غيرها، لزمه ركعة؛ لأن الناقصة قد تكمَّلت، بسجدة من الركعة التي بعدها، وألغي باقيها. وإن قام للركعة الثانية، وتذكر أنه ترك سجدة من الركعة الأولى: فإن كان قد جلس بعد سجدته التي قام عنها ولو للاستراحة، سجد فوراً من قيامه. وإن لم يكن قد جلس، جلس مطمئناً، ثم سجد. وإن علم في آخر صلاة رباعية ترك سجدتين أو ثلاث، جهل موضعها، وجب عليه ركعتان، أخذاً بأسوأ الافتراضات، فتنجبر الركعة الأولى بسجدة من الثانية، ويلغو باقيها، وتنجبر الركعة الثالثة بسجدة من الرابعة ويلغو باقيها. وإن علم ترك أربع سجدات، فعليه سجدة وركعتان. فإن كانت خمساً أو ستاً فعليه ثلاث ركعات. وإن كانت سبعاً فعليه سجدة وثلاث ركعات. وإن تذكر ترك ركن بعد السلام: فإن كانت النية، أو تكبيرة الإحرام، بطلت صلاته، وإن كان غيرهما، بنى على صلاته السابقة إن قرب الفاصل، ولم يأت بمناف للصلاة كمس نجاسة. ولا يضر استدبار القبلة إن قصر زمنه عرفاً، ولا الكلام إن قل عرفاً أيضاً، لأنهما يحتملان في الصلاة.
وإن طال الفصل عرفاً استأنف، أي ابتدأ صلاة جديدة. ويترتب على كون الترتيب واجباً فيما يتكرر في كل ركعة عند الحنفية (¬1): أنه لو سجد ثم ركع، لم يعتبر سجوده، ويلزمه سجود آخر، فإن سجده صحت صلاته لتحقيق الترتيب المطلوب، ويلزمه سجود السهو، لتقديمه السجود المفروض. ولو قعد القعود الأخير، وتذكر سجدة صلبية (¬2)، فإنه يسجدها، ويعيد القعود، ويسجد للسهو، لاشتراط الترتيب بين القعود وما قبله، ويبطل القعود بالعود إلى السجدة الصلبية أو التلاوية. ولو ترك ركوعاً، فإنه يقضيه مع ما بعده من السجود. ولو تذكر قياماً أو قراءة، صلى ركعة. ولو نسي سجدة من الركعة الأولى، قضاها ولو بعد السلام قبل الكلام، ثم يتشهد، ثم يسجد للسهو، ثم يتشهد، أي يقرأ التشهد إلى (عبده ورسوله) فقط. ¬
الفصل السادس: سنن الصلاة وصفتها ومكروهاتها والأذكار الواردة عقبها
الفَصْلُ السَّادس: سُنَنُ الصَّلاة وصفتُها ومكروهاتُها والأذكارُ الواردة عقبها وفيه مباحث سبعة: ويلاحظ أن أنواع سنن الصلاة: سنن الصلاة قسمان: إما داخل فيها، وإما خارج عنها كالاستياك المذكور سابقاً، وكسترة المصلي وغير ذلك مما يأتي توضيحه. المبحث الأول ـ سنن الصلاة الداخلة فيها: سنن الصلاة: هي الأقوال والأفعال التي يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، بل يعاتب ويلام، ولا تنجبر إذا تركت بسجود السهو، ولا تبطل الصلاة بتركها عمداً. والسنة كما ذكر الحنفية (¬1): مافعله رسول الله صلّى الله عليه وسلم بطريق المواظبة، ولم يتركها إلا لعذر، كدعاء الثناء، والتعوذ، وتكبيرات الركوع والسجود. وللصلاة عندهم سنن وآداب، والأدب فيها: ما فعله رسول الله صلّى الله عليه وسلم مرة أو مرتين، ولم يواظب عليه، كزيادة التسبيحات في الركوع والسجود على الثلاثة، والزيادة على القراءة المسنونة، وقد شرع لإكمال السنة. ¬
المالكية
والسنة أو الأدب عندهم دون الواجب، لأن الواجب في الصلاة: ما تجوز الصلاة بدونه، ويجب بتركه ساهياً سجدتا السهو. وذكروا للصلاة إحدى وخمسين سنة، وسبعة آداب. وذكر المالكية (¬1) للصلاة أربع عشرة سنة، وثمانية وأربعين أدباً. والسنة عندهم: ما طلبه الشرع وأكد أمره وعظم قدره وأظهره في الجماعة. ويثاب فاعله ولا يعاقب تاركه كالوتر وصلاة العيدين. والمندوب عندهم: ما طلبه الشرع طلباً غير جازم، وخفف أمره، ويثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، كصلاة أربع ركعات قبل الظهر. ويُسجد سجود السهو لثمان من السنن وهي: السورة، والجهر، والإسرار، والتكبير، والتحميد، والتشهدان، والجلوس لهما. وسنن الصلاة عند الشافعية (¬2) نوعان: أبعاض وهيئات. والأبعاض: هي التي يجبر تركها بسجود السهو وهي ثمانية (¬3): التشهد الأول، والقعود له، والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم بعده، وعلى آله بعد التشهد الأخير، والقنوت في الصبح ووتر النصف الأخير من رمضان، والقيام للقنوت، والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم، وعلى آله بعد القنوت. ¬
الهيئات
والهيئات: هي أربعون كالتسبيحات ونحوها لا يجبر تركها بسجود السهو. والسنة أو المستحب عندهم إن تركها المصلي لا يعود إليها بعد التلبس بفرض آخر، فمن ترك التشهد الأول مثلاً، فذكره بعد اعتداله مستوياً، لا يعود إليه لكنه يسجد للسهو، فإن عاد إليه عامداً عالماً بتحريمه، بطلت صلاته، أما إن عاد إليه ناسياً أنه في الصلاة، فلا تبطل صلاته، ويلزم القيام عنه فوراً عند تذكره ثم يسجد للسهو. هذا إن كان المصلي إماماً أو منفرداً. فإن كان المصلي مأموماً عاد وجوباً لمتابعة إمامه؛ لأن المتابعة آكد من التلبس بالفرض، فإن لم يعد عامداً عالماً، بطلت صلاته إذا لم ينو المفارقة، فإن نواها لم تبطل. وقال الحنابلة (¬1): ما ليس بفرض نوعان: واجبات، وسنن. والواجبات: وهي ما تبطل الصلاة بتركه عمداً، وتسقط سهواً أو جهلاً، ويجبر تركها سهواً بسجود السهو، وهي ثمانية: 1 - التكبير (الله أكبر) للانتقال في محله: (وهو ما بين انتهاء فعل وابتداء فعل آخر) لأنه صلّى الله عليه وسلم كان يكبر كذلك، وقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي»، فلو شرع المصلي في التكبير قبل الانتقال، كأن يكبر للركوع أو السجود قبل هُوِّيه إليه، لم يجزئه، ويجزئه فميا بين ابتداء الانتقال وانتهائه. وهذا التكبير غير تكبيرتي الإحرام، وتكبيرة ركوع مأموم أدرك إمامه راكعاً، فإن الأولى ركن، والثانية سنة للاجتزاء عنها بتكبيرة الإحرام. 2 - التسميع: أي قول (سمع الله لمن حمده) لإمام، ومنفرد دون مأموم. ¬
3 - التحميد: أي قول (ربنا لك الحمد) لكل من الإمام والمأموم والمنفرد. 4 - تسبيح الركوع: (سبحان ربي العظيم). 5 - تسبيح السجود: (سبحان ربي الأعلى). 6 - دعاء (رب اغفر لي) بين السجدتين. والواجب مرة واحدة في كل ما سبق، والأكمل أن يكرر ذلك مراراً، وأدنى الكمال: ثلاث. 7 - التشهد الأول: لأنه صلّى الله عليه وسلم فعله وداوم على فعله وأمر به، وسجد للسهو حين نسيه. وأقله: (التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله). 8 - الجلوس للتشهد الأول. وهذا وما قبله واجب على غير مأموم قام إمامه عنه سهواً. وأما السنن: فهي سنن أقوال وأفعال وهيئات. وسنن الأقوال سبع عشرة وهي (الاستفتاح، والتعوذ، والبسملة، والتأمين، وقراءة السورة في الركعتين الأوليين من الصلاة الرباعية والثلاثية، وفي صلاة الفجر، والجمعة، والعيدين، وفي التطوع كله، والجهر والإخفات في محلهما، وقول: ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد بعد التحميد في حق الإمام والمنفرد، دون المأموم، وما زاد على المرة من تسبيح الركوع والسجود، ورب اغفر لي: بين السجدتين، والتعوذ في التشهد الأخير، أي قول: أعوذ با لله من عذاب جهنم ... الخ، والدعاء في آخر التشهد الأخير، والصلاة في التشهد الأخير على آل النبي صلّى الله عليه وسلم والبركة فيه، أي قول: وبارك على محمد وعلى آل محمد ... الخ، وما زاد على المجزئ من التشهد الأول، والقنوت في الوتر).
بيان سنن الصلاة الداخلة فيها
وما سوى ذلك: سنن أفعال وهيئات (¬1)، كسكون الأصابع مضمومة ممدودة حال رفع اليدين مبسوطة (ممدودة الأصابع) مضمومة الأصابع مستقبل القبلة ببطونها إلى حذو منكبيه، عند الإحرام وعند الركوع وعند الرفع منه، وحطهما عقب ذلك. بيان سنن الصلاة الداخلة فيها: 1 ً - رفع اليدين للتحريمة: لا خلاف في استحباب رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام لافتتاح الصلاة، وذلك حَذْو (مقابل) المنكبين عند المالكية (¬2) والشافعية، ويخير عند الحنابلة في رفعهما إلى فروع أذنيه أو حذو منكبيه. وقال الحنفية: يحاذي الرجل بإبهاميه أذنيه، وترفع المرأة حذاء منكبيها فقط؛ لأنه أستر لها. قال ابن قدامة: ومعناه أن يبلغ بأطراف أصابعه ذلك الموضع. وقال النووي: معناه أن تحاذي أطراف أصابعه أعلى أذنيه وابهاماه شحمتي أذنيه وراحتاه منكبيه، واعتمد المالكية هذه الكيفية. وأضاف الفقهاء: ويسن إمالة أطراف الأصابع نحو القبلة لشرفها. ودليل الحنفية: حديث وائل بن حجر: «أنه رأى النبي صلّى الله عليه وسلم رفع يديه حين دخل في الصلاة، وكبّر، وصفَّهما حيال أذنيه» (¬3) وحديث البراء بن عازب: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا صلى، رفع يديه حتى تكون إبهامه حذاء أذنيه» (¬4) وحديث أنس: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم كبر، فحاذى بإبهاميه أذنيه» (¬5). ¬
زمن الرفع
ودليل الشافعية والمالكية: حديث ابن عمر رضي الله عنهما: «أنه صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة» (¬1). ودليل الحنابلة على التخيير: أن كلا الأمرين مروي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فالرفع إلى حذو المنكبين: في حديث أبي حميد (¬2) وابن عمرو علي وأبي هريرة. والرفع إلى حذو الأذنين: رواه وائل بن حجر ومالك بن الحويرث (¬3). زمن الرفع: وقت الرفع في الأصح عند الحنفية: أنه يرفع أولاً، ثم يكبر؛ لأن في فعله نفي الكبرياء عن غير الله تعالى. وقال المالكية: ترفع اليدان مبسوطتين ظهورهما للسماء وبطونهما للأرض على صفة الخائف، عند الشروع في تكبيرة الإحرام، لا عند غيره. وقال الشافعية والحنابلة: إنه يرفع مع ابتداء تكبيرة الإحرام، ويكون انتهاؤه مع انقضاء التكبير، ولا يسبق أحدهما صاحبه، فإذا انقضى التكبير حط يديه، فإن نسي رفع اليدين حتى فرغ من التكبير لم يرفعهما؛ لأنه سنة فات محلها، وإن ذكره في أثناء التكبير رفع؛ لأن محله باق. فإن لم يمكنه رفع يديه إلى المنكبين، رفعهما قدر ما يمكنه، وإن أمكنه رفع إحداهما دون الأخرى رفعها، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»، وإن لم يمكنه رفعهما إلا بالزيادة على المسنون رفعهما؛ لأنه يأتي بالسنة. حالة الأصابع: قال الحنفية والمالكية والشافعية: يسن نشر الأصابع أي ألا ¬
الجهر بتكبيرة الإحرام
تضم كل الضم، ولا تفرج كل التفريج، بل تترك على حالها منشورة، أي مفرقة تفريقاً وسطاً؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم كان إذا كبّر، رفع يديه، ناشراً أصابعه» (¬1) أي مفرقاً أصابعه. وقال الحنابلة: يستحب أن يمد أصابعه وقت الرفع، ويضم بعضها إلى بعض، لما روى أبو هريرة قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه مدًّا» (¬2) والمد: ما يقابل النشر. الجهر بتكبيرة الإحرام: قال المالكية (¬3): يندب لكل مصل إماماً أو مأموماً أو منفرداً الجهر بتكبيرة الإحرام، وأما تكبيرات الانتقال فيندب للإمام دون غيره الجهر بها، والأفضل لغير الإمام الإسرار بها. رفع اليدين في غير تكبيرة الإحرام: قال الحنفية والمالكية: لا يسن رفع اليدين في غير الإحرام عند الركوع أو الرفع منه، لأنه لم يصح ذلك عندهم عن النبي صلّى الله عليه وسلم، واستدلوا بما روي عن ابن عمر: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يرفع يديه إذا افتتح الصلاة، ثم لا يعود» (¬4). واستدلو بفعل ابن مسعود، قال: «ألا أصلي بكم صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ فصلى، فلم يرفع يديه إلا في أول أمره. وفي لفظ: «فكان يرفع يديه أول مرة، ثم لا يعود» (¬5) وقال أيضاَ: «صليت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، فلم ¬
يرفعوا أيديهم إلا عند استفتاح الصلاة» (¬1). وقال الشافعية والحنابلة: يسن رفع اليدين في غير الإحرام: عند الركوع، وعند الرفع منه، أي عند الاعتدال، لما ثبت في السنة المتواترة عن واحد وعشرين صحابياً (¬2)، منها الحديث المتفق عليه عن ابن عمر قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى يكونا بحَذْو مِنْكَبيه، ثم يكبّر، فإذا أراد أن يركع، رفعهما مثل ذلك، وإذا رفع رأسه من الركوع، رفعهما كذلك أيضاً، وقال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد» (¬3). وأضاف الشافعية في الصواب عندهم كما قال النووي: أنه يستحب الرفع أيضاً عند القيام من التشهد الأول، بدليل حديث نافع: أن ابن عمر رضي الله عنهما: «كان إذا دخل الصلاة، كبر ورفع يديه، وإذا ركع رفع يديه، وإذا قال: سمع الله لمن حمده رفع يديه، وإذا قام من الركعتين رفع يديه ورفع ابن عمر ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم» (¬4). والخلاصة: يراعى في رفع اليدين أن تكون الأصابع منشورة مفرقة وسطاً عند الجمهور، مضمومة عند الحنابلة، وأن تكون الأيدي باتفاق الفقهاء في اتجاه القبلة، بحيث يستقبلها المصلي ببطونها، لشرف القبلة. ¬
- مقارنة إحرام المقتدي لإحرام إمامه
2ً - مقارنة إحرام المقتدي لإحرام إمامه: قال الحنفية: تسن هذه المقارنة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا كبر ـ أي الإمام ـ فكبر» بشرط ألا يفرغ المقتدي من لفظ (الله أكبر) قبل فراغ الإمام منه. 3ً - وضع اليد اليمنى على ظهر اليسرى: قال الجمهور غير المالكية: يسن بعد التكبير أن يضع المصلي يده اليمنى على ظهر كف ورسغ اليسرى، لما رواه وائل بن حجْر أنه رأى النبي صلّى الله عليه وسلم رفع يديه حين دخل في الصلاة، وكبر، ثم التحف بثوبه، ثم وضع يده اليمنى على كفه اليسرى والرسغ والساعد» (¬1)، ومارواه قَبيصة بن هُلب عن أبيه قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يؤمنا فيأخذ شماله بيمينه» (¬2) وما رواه سهل بن سعد قال: «كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة» (¬3) وعن ابن مسعود: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم مرّ به، وهو واضع شماله على يمينه، فأخذ يمينه، فوضعها على شماله» (¬4). وصفة الوضع عند الحنابلة والشافعية: أن يضع يده اليمنى على كوع اليسرى أو ما يقاربه، لحديث ابن حجر السابق، علماً بأن الكوع طرف الزند مما يلي الإبهام، أما عند الحنفية: فهو أن يجعل باطن كف اليمنى على ظاهر كف اليسرى، محلقاً الرجل بالخنصر والإبهام على الرسغ. أما المرأة فتضع يديها على صدرها من غير تحليق لأنه أستر لها. ¬
- النظر إلى موضع السجود
ويضعهما عند الحنفية والحنابلة تحت السُّرة، لما روي عن علي أنه قال: «من السنة وضع اليمين على الشمال تحت السرة» (¬1)، وهذا ينصرف إلى سنة النبي صلّى الله عليه وسلم. والمستحب عند الشافعية: أن يجعلهما تحت الصدر فوق السرة، مائلاً إلى جهة اليسار؛ لأن القلب فيها، فتكونان على أشرف الأعضاء، وعملاً بحديث وائل بن حجر السابق: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلي، فوضع يديه على صدره، إحداهما على الأخرى» ويؤيده حديث آخر عند ابن خزيمة في وضع اليدين على هذه الكيفية. وقال المالكية: يندب إرسال اليدين في الصلاة بوقار، لا بقوة، ولايدفع بهما من أمامه لمنافاته للخشوع. ويجوز قبض اليدين على الصدر في صلاة النفل لجواز الاعتماد فيه بلا ضرورة، ويكره القبض في صلاة الفرض لما فيه من الاعتماد أي كأنه مستند، فلو فعله لا للاعتماد، بل استناناً لم يكره، وكذا إذا لم يقصد شيئاً فيما يظهر. والراجح المتعين لدي هو قول الجمهور بوضع اليد اليمنى على اليسرى، وهو المتفق مع حقيقة مذهب مالك الذي قرره لمحاربة عمل غير مسنون: وهو قصد الاعتماد، أي الاستناد، أو لمحاربة اعتقاد فاسد: وهو ظن العامي وجوب ذلك. 4ً - النظر إلى موضع السجود: قال الشافعية وغيرهم: يستحب النظر إلى موضع سجود المصلي؛ لأنه أقرب إلى الخشوع، ولما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا ¬
- دعاء الثناء أو الاستفتاح
استفتح الصلاة لم ينظر إلا إلى موضع سجوده» (¬1) وذلك إلا عند التشهد فينظر إلى سبابته التي يشير بها (¬2). 5ً - دعاء الثناء أو الاستفتاح: قال المالكية: يكره دعاء الاستفتاح، بل يكبر المصلي ويقرأ، لما روى أنس قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين» (¬3). وقال الجمهور: يسن دعاء الاستفتاح بعد التحريمة في الركعة الأولى، وهو الراجح لدي، وله صيغ كثيرة، المختار منها عند الحنفية والحنابلة: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جَدُّك، ولا إله غيرك) لما روت عائشة، قالت: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا استفتح الصلاة، قال: سبحانك اللهم وبحمد ك، وتبارك اسمك وتعالى جَدُّك، ولا إله غيرك» (¬4). وسبحانك: من التسبيح: وهو تنزيه الله تعالى، وتبارك اسمك: من البركة وهي ثبوت الخبر الإلهي في الشيء، وتعالى جَدُّك: الجَدُّ: العظمة، وتعالى: تفاعل من العلو، أي ¬
علت عظمتك على عظمة كل أحد غيرك، أو علا جلالك وعظمتك. ومعناه إجمالاً: تنزيهاً لك يارب، وإنما أنزهك بحمدك، دام خبر اسمك في كل شيء، وعلا جلالك، ولا معبود غيرك. قالوا: ولايخفى أن ماصح عن النبي صلّى الله عليه وسلم أولى بالإيثار والاختيار. والمختار عند الشافعية صيغة: (وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً، وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونُسُكي، ومحيايَ ومماتِي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين) لما رواه أحمد ومسلم والترمذي وصححه عن علي ابن أبي طالب (¬1) وهو آية قرآنية ماعدا مايناسب المسلم في آخره: وهو «من المسلمين» وأصلها (أول المسلمين) كما روى مسلم. ومعناه: قصدت بعبادتي خالق السموات والأرض، مائلاً إلى الدين الحق وهو الإسلام، مبتعداً عن كل شرك بالله، مخلصاً كل شيء لله، فصلاتي وعبادتي وحياتي وموتي لله، وأنا مسلم. وأجاز الإمام أحمد الاستفتاح بغير: (سبحانك اللهم)، وأجاز الحنفية في النافلة الجمع بين الثناء والتوجه، لكن في صلاة الجنازة يقتصر على الثناء فقط. وإذا شرع الإمام في القراءة الجهرية أو غيرها، لم يكن للمقتدي عند الحنابلة والحنفية على المعتمد (¬2) أن يقرأ الثناء، سواء أكان مسبوقاً أم مدركاً، أي لاحقاً الإمام بعد الابتداء بصلاته، أو مدركاً الإمام بعد مااشتغل بالقراءة، لأن الاستماع ¬
للقرآن في الجهرية فرض، وفي السرية يسن تعظيماً للقراءة، فكان سنة غير مقصودة لذاتها، وعدم قراءة المؤتم في السرية لا لوجوب الإنصات، بل لأن قراءة الإمام له قراءة. ويستفتح المأموم ويستعيذ عند الحنابلة في الصلاة السرية، أو الجهرية في مواضع سكتات الإمام. ويجوز عند الشافعية (¬1) البدء بنحو (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)، ونحو (الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله وبحمده بكرةً وأصيلاً) ونحو (اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني بالماء والثلج والبرد). ويستحب الجمع بين جميع ذلك للمنفرد، ولإمام قوم محصورين راضين بالتطويل. ويزاد على ذلك لهما: (اللهم أنت الملك، لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعاً، فإنه لايغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق، فإنه لايهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها، فإنه لايصرف سيئها إلا أنت، لبيك وسَعْديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت ربي وتعاليت، فلك الحمد على ماقضيت، أستغفرك وأتوب إليك). ويستحب التوجه عند الشافعية في افتتاح الفريضة والنافلة، للمنفرد والإمام والمأموم، حتى وإن شرع إمامه في الفاتحة أو أمَّن هو لتأمين إمامه قبل شروعه فيه، ولكن لايبدأ به إذا بدأ هو بالفاتحة أو بالتعوذ، فإنهم قالوا: لايستحب إلا بشروط خمسة: ¬
- التعوذ أو الاستعاذة
أولاً - أن يكون في غير صلاة الجنازة، فليس فيها توجه، وإنما يسن فيها التعوذ. ثانياً - ألا يخاف فوت وقت الأداء: وهو مايسع ركعة، فلو لم يبق من الوقت إلا مايسع ركعة لم يسن التوجه. ثالثاً - ألا يخاف المأموم فوت بعض الفاتحة، فإن خاف ذلك لم يسن، وإن بدأ به قرأ بقدره من الفاتحة. رابعاً - ألا يدرك الإمام في غير القيام، فلو أدركه في الاعتدال مثلاً لم يسن. وإن أدركه في التشهد، وسلَّم الإمام أو قام قبل أن يجلس معه، سن له الافتتاح به. خامساً- ألا يشرع في التعوذ أو القراءة ولو سهواً، فإن شرع لم يعد له. 6ً - التعوذ أو الاستعاذة (¬1) قبل القراءة في الصلاة: قال المالكية: يكره التعوذ والبسملة قبل الفاتحة والسورة، لحديث أنس السابق: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين». وقال الحنفية: يتعوذ في الركعة الأولى فقط. وقال الشافعية والحنابلة: يسن التعوذ سراً في أول كل ركعة قبل القراءة، بأن يقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) وعن أحمد أنه يقول: (أعوذ بالله السميع ¬
- التأمين
العليم من الشيطان الرجيم) (¬1) ثم يقول: (بسم الله الرحمن الرحيم) سراً عند الحنفية والحنابلة، وجهراً في الجهرية عند الشافعية كما قدمنا، واستدلوا على سنية التعوذ بقوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن، فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} [النحل:98/ 16]. 7ً - التأمين: هو أن يقول المصلي إماماً أو مأموماً أو منفرداً: (آمين) أي استجب، بعد الانتهاء من الفاتحة، وذلك عند الحنفية والمالكية سراً، وعند الشافعية والحنابلة: سراً في الصلاة السرية، وجهراً فيما يجهر فيه بالقراءة. ويؤمن المأموم مع تأمين إمامه. ودليلهم حديث أبي هريرة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا أمَّن الإمام فأمنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة، غفر له ماتقدم من ذنبه» وقال ابن شهاب الزهري: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: آمين (¬2). وأضاف الحنابلة (¬3): فإن نسي الإمام التأمين أمن المأموم، ورفع صوته، ليذكّر الإمام، فيأتي به؛ لأنه سنة قولية إذا تركها الإمام أتى بها المأموم كالاستعاذة، وإن أخفاها الإمام جهر بها المأموم. وإن ترك المصلي التأمين نسياناً أو عمداً حتى شرع في قراءة السورة لم يأت به؛ لأنه سنة فات محلها. ¬
- السكتة اللطيفة
والدليل على كون التأمين سراً عند المالكية والحنفية قول ابن مسعود: «أربع يخفيهن الإمام: التعوذ والتسمية والتأمين والتحميد» (¬1) أي قول: ربنا لك الحمد. ودليل الجهر به عند الشافعية والحنابلة: حديث أبي هريرة: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا تلا: غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال: آمين، حتى يسمع من يليه من الصف الأول» (¬2) وحديث وائل بن حُجْر: «سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم قرأ: غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فقال: آمين، يُمدُّ بها صوته» (¬3). 8ً - السكتة اللطيفة: قال الشافعية (¬4): ست سكتات لطيفة تسن في الصلاة بقدر: (سبحان الله) إلا التي بين: آمين والسورة، فهي في حق الإمام في الجهرية بقدر قراءة المأموم الفاتحة. ويسن للإمام أن يشتغل فيها بقراءة أو دعاء سراً، والقراءة أولى، فمعنى السكوت فيها: عدم الجهر، وإلا فلا يطلب السكوت حقيقة في الصلاة. والسكتات الست: هي مابين التوجه والتعوذ، ومابين التحرم والتوجه، وبين التعوذ والبسملة، وبين الفاتحة وآمين، وبين آمين والسو رة، وبين السورة وتكبيرة الركوع، أي ثلاثة قبل الفاتحة وثلاثة بعد الفاتحة. والحكمة من السكتة الرابعة: أن يعلم المأموم أن لفظة (آمين) ليست من القرآن. وقال الحنابلة (¬5): يستحب أن يسكت الإمام عقيب قراءة الفاتحة يستريح ¬
- تفريج القدمين
فيها، ويقرأ فيها من خلفه الفاتحة، كيلا ينازعوه فيها، كما يستحب السكوت عقب التكبير، وبعد الانتهاء من القراءة، وبعد الفاتحة قبل قوله: «آمين». ودليل مشروعية السكتات: حديث سمرة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يسكت سكتتين، إذا استفتح الصلاة، وإذا فرغ من القراءة كلها» وفي رواية: «سكتة إذا كبَّر، وسكتة إذا فرغ من قراءة: غير المغضوب عليهم ولا الضالين» (¬1) ففيه دليل على مشروعية سكتات ثلاث: بعد التكبير، وبعد الفاتحة، وبعد القراءة كلها. وقال الحنفية والمالكية: السكتة مكروهة. إلا أن المالكية (¬2) قالوا في بحث وجوب الفاتحة على المشهور: يندب الفصل بسكوت، أو ذكر وهو أولى بين تكبيرة الإحرام والركوع، لئلا تلتبس تكبيرة الإحرام بتكبيرة الركوع، فإن لم يفصل وركع أجزأه. وقال الحنفية (¬3): يخير مصلي الفريضة (المفترض) على المذهب في الركعتين الأخريين (الثالثة والرابعة) بين قراءة الفاتحة وتسبيح ثلاثاً، وسكوت قدرها، ولايكون مسيئاً بالسكوت، لثبوت التخيير عن علي وابن مسعود، وهو الصارف لمواظبة النبي على الفاتحة عن الوجوب. 9ً - تفريج القدمين: قال الحنفية: يسن تفريج القدمين في القيام قدر أربع أصابع؛ لأنه أقرب إلى الخشوع. ¬
- قراءة سورة بعد الفاتحة
وقال الشافعية: يفرق بين القدمين بمقدار شبر، ويكره لصق إحدى القدمين بالأخرى حيث لاعذر؛ لأنه تكلف ينافي الخشوع. وقال المالكية والحنابلة: يندب تفريج القدمين، بأن يكون بحالة متوسطة بحيث لايضمهما ولايوسعهما كثيراً حتى يتفاحش عرفاً. 10ً - قراءة سورة بعد الفاتحة: هذا واجب عند الحنفية كما بينا، سنة عند الجمهور في الركعتين الأولى والثانية من كل صلاة، ويجهر بهما فيما يجهر فيه بالفاتحة، ويسر فيما يسر بها فيه، لفعل النبي صلّى الله عليه وسلم، فإن أبا قتادة روى: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعتين الأوليين من الظهر بفاتحة الكتاب وسورتين، يطول في الأولى، ويقصر في الثانية، يسمع الآية أحياناً، وكان يقرأ في الركعتين الأوليين من العصر بفاتحة الكتاب وسورتين يطول في الأولى ويقصر في الثانية، وكان يطول في الأولى من صلاة الصبح، ويقصر في الثانية» (¬1) وروى أبو برزة «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقرأ في الصبح من الستين إلى المئة» (¬2) وقد اشتهرت قراءة النبي صلّى الله عليه وسلم للسورة مع الفاتحة في صلاة الجهر، ونقل نقلاً متواتراً وأمر به معاذاً، فقال: «اقرأ بالشمس وضحاها، وبسبح اسم ربك الأعلى، والليل إذا يغشى» (¬3). نوع السورة المقروءة: قال الحنفية (¬4): لا بأس بأن يقرأ سورة ويعيدها في ¬
مواطن الجهر والإسرار في القراءة
الثانية، وأن يقرأ في الركعة الأولى من محل، وفي الثانية من محل آخر، ولو كان المقروء من سورة واحدة إن كان بينهما آيتان أو أكثر. ويكره الفصل بسورة قصيرة، وأن يقرأ منكوساً، بأن يقرأ في الثانية أعلى مما قرأ في الأولى؛ لأن ترتيب السور في القرآن من واجبات التلاوة، وإنما جوز للصغار تسهيلاً لضرورة التعليم، واستثنوا من كراهة التنكيس: أن يختم القرآن، فيقرأ من البقرة. ولو قرأ في الأولى {الكافرون} [الكافرون:109/ 1] وفي الثانية {ألم تر} [الفيل:105/ 1] أو {تبت} [المَسد:111/ 1]، ثم تذكر القراءة يتم. ولا يكره في النفل شيء من ذلك. وقراءة ثلاث آيات تبلغ قدر أقصر سورة من آية طويلة؛ لأن التحدي والاعجاز وقع بذلك القدر، لا بالآية. والأفضلية ترجع إلى كثرة الثواب. والعبرة الأكثر آيات في قراءة سورة وبعض سورة. مواطن الجهر والإسرار في القراءة: اتفق الفقهاء على أنه يسن الجهر في الصبح والمغرب والعشاء والجمعة والعيدين والتراويح ووتر رمضان، ويسر في الظهر والعصر. وللفقهاء في النوافل كالوتر وغيره تفصيل: فقال الحنفية: يجب الجهر على الإمام في كل ركعات الوتر في رمضان، وصلاة العيدين، والتراويح. ويجب الإسرار على الإمام والمنفرد في صلاة الكسوف والاستسقاء والنوافل النهارية. وأما النوافل الليلية فهو مخير فيها. ويخير المنفرد بين الجهر والإسرار في الصلاة الجهرية أداء، أو قضاء في وقتها أو غيروقتها، إلا أن الجهر أفضل في الجهرية ليلاً. أما الصلاة السرية فيجب عليه أن يسر بها على الصحيح.
الدعاء أثناء القراءة
ويجب على المأموم الإنصات في كل حال. وقال المالكية: يندب الجهر في جميع النوافل الليلية، والسر في جميع النوافل النهارية إلا النافلة التي لها خطبة كالعيد والاستسقاء، فيندب الجهر فيها. ويندب للمأموم الإسرار. وقال الشافعية: يسن الجهر في العيدين وخسوف القمر والاستسقاء والتراويح ووتر رمضان وركعتي الطواف ليلاً أو وقت الصبح، والإسرار في غير ذلك إلا نوافل الليل المطلقة فيتوسط فيها بين الجهر والإسرار، والتوسط: أن يجهر تارة، ويسر أخرى، اتباعاً للسنة، إن لم يشوش على نائم أو مصل أو نحوه. والعبرة في قضاء الفريضة بوقته أي وقت القضاء على المعتمد. وجهر المرأة دون جهر الرجل. ومحل جهرها إن لم تكن بحضرة أجانب. وقال الحنابلة: يسن الجهر في صلاة العيد والاستسقاء والكسوف والتواويح والوتر إذا وقع بعد التراويح، ويسر فيما عدا ذلك. ويخير المنفرد بين الجهر والإسرار في الصلاة الجهرية، كما قال الحنفية. الدعاء أثناء القراءة: يستحب طلب الرحمة والمغفرة عند قراءة آية رحمة، والتعوذ من النار عند المرور بذكره؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقول عند ذكر الجنة والنار: «أعوذ بالله من النار، ويل لأهل النار» (¬1) وكان لا يمر بآية فيها تخويف إلا دعا الله عز وجل واستعاذ، ولا يمر بآية فيها استبشار إلا دعا الله عز وجل، ورَغب إليه (¬2)، وكان إذا قرأ {أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى}؟ [القيامة:40/ 75]، قال: ¬
متى وكيف تقرأ السورة؟
«سبحانك، فَبَلى» (¬1)، كذلك يسن التسبيح عند آية التسبيح نحو {فسبح باسم ربك العظيم} [الواقعة:74/ 56] وأن يقول عند آخر {والتين} [التين:1/ 95] وآخر القيامة: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين، وفي آخر المرسلات: آمنا بالله. متى وكيف تقرأ السورة؟ قال الشافعية: ولا سورة في الجهرية للمأموم، بل يستمع، فإن بعد، أو كانت الصلاة سرية، قرأ في الأصح؛ إذ لا معنى لسكوته. وغير الشافعية قالوا: لاسورة على المأموم. وقال المالكية والحنابلة: ويسن أن يفتتح السورة بقراءة (بسم الله الرحمن الرحيم) ويندب كمال سورة بعد الفاتحة، فلا يقتصر على بعضها، ولا على آية أو أكثر، ولو من الطوال، ويندب قراءة خلف إمام سراً في الصلاة السرية، وفي أخيرة المغرب، وأخيرتي العشاء. ويكره تكرير السورة عند الجمهور في الركعتين، بل المطلوب أن يكون في الثانية سورة غير التي قرأها في الأولى، أنزل منها لا أعلى، فلا يقرأ في الثانية (سورة القدر) بعد قراءته في الأولى (سورة البينة). وقال الحنفية: لا بأس أن يقرأ سورة ويعيدها في الثانية. ويندب عند الجمهور تقصير قراءة ركعة ثانية عن قراءة ركعة أولى في فرض، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: يندب تطويل الركعة الأولى في الفجر فقط. والفتوى على قول محمد كالجمهور بتطويل الركعة الأولى في كل الصلوات على الثانية، اتباعاً للسنة، رواه الشيخان في الظهر والعصر، ورواه مسلم في الصبح، ويقاس غير ذلك عليه. ¬
المستحب في مقادير السور في الصلوات
ويندب باتفاق الفقهاء أن يكون ترتيب السور في الركعتين على نظم المصحف، فتنكيس السور مكروه. ولا تكره قراءة أواخر السور وأوساطها؛ لأن أبا سعيد قال: «أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر». وجاز الجمع بين السورتين فأكثر في صلاة النافلة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «قرأ في ركعة سورة البقرة وآل عمران والنساء» أما الفريضة: فالمستحب أن يقتصر على سورة مع الفاتحة من غير زيادة عليها؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم هكذا كان يصلي أكثر صلاته. المستحب في مقادير السور في الصلوات: يسن أن تكون السورة لإمام جماعة محصورين رضوا بالتطويل في صلاة الفجر من طوال المفصَّل (¬1) باتفاق الفقهاء، وفي الظهر أيضاً عند المالكية والحنفية والشافعية، أما عند الحنابلة فمن أوساط المفصل (¬2)، وفي العصر والعشاء من أوساط المفصل، وفي المغرب من قصار المفصل. وقال المالكية: العصر كالمغرب يقرأ فيه. والدليل حديث أبي هريرة قال: «ما رأيت رجلاً أشبه صلاة برسول الله صلّى الله عليه وسلم من فلان، قال سليمان بن يسار: فصليت خلفه، فكان يقرأ في الغداة بطوال المفصل، وفي المغرظ بقصاره، وفي العشاء بوسط المفصل» (¬3) والحكمة في إطالة القراءة في الفجر والظهر: طول وقتهما، وليدركهما من كان في غفلة بسبب النوم آخر الليل وفي القيلولة. والتوسط في العصر لانشغال الناس بالأعمال آخر النهار، وفي العشاء لغلبة النوم والنعاس. والتخفيف في المغرب لضيق وقته. والحديث الجامع للقراءة في الصلوات عن جابر بن سمرة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان ¬
تحديد مقادير السور
يقرأ في الفجر بـ {ق والقرآن المجيد} [ق:50/ 1] ونحوها، وكان صلاته بعد إلى تخفيف. وفي رواية: كان يقرأ في الظهر بالليل إذا يغشى، وفي العصر نحوَ ذلك، وفي الصبح أطولَ من ذلك» (¬1) وفي رواية: «كان إذا دحَضَت ـ مالت ـ الشمس، صلى الظهر، وقرأ بنحو من: والليل إذا يغشى، والعصر كذلك، والصلوات كلِّها كذلك إلا الصبح، فإنه كان يطيلها» (¬2). وروى ابن ماجه عن ابن عمر قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب: قل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد» ويندب للإمام التخفيف عموماً، لحديث جابر: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «يا معاذ، أفتَّانٌ أنت؟! أو قال: أفاتن أنت، فلولا صليت بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى» (¬3) وفي رواية عند البخاري وغيره: «من أمَّ بالناس فليخفف، فإن فيهم الضعيف والمريض وذا الحاجة». تحديد مقادير السور: للفقهاء آراء في تحديد السور الطوال والأوساط والقصار: قال الحنفية في المعتمد عندهم (¬4): طوال المفصل: من سورة الحجرات إلى آخر البروج (أو قدر أربعين أو خمسين آية) وأوساط المفصل: من الطارق إلى أول البينة (أو مقدار خمس عشرة آية)، وقصار المفصل: من البينة إلى آخر القرآن الكريم (أو مقدار خمس آيات في كل ركعة). ¬
حد الجهر والإسرار
وقال المالكية (¬1): طوال المفصل: من الحجرات إلى سورة النازعات. وأوسط المفصل من عبس إلى سورة: والليل. وقصاره من سورة (والضحى) إلى آخر القرآن. وقال الشافعية (¬2): طوال المفصل: من الحجرات إلى النبأ (عمَّ)، وأوسطه من النبأ إلى الضحى، وقصاره: من الضحى إلى آخر القرآن. ويقرأ في الركعة الأولى من صبح الجمعة {الم تنزيل} [السجدة:32/ 1] وفي الثانية: {هل أتى} [الإنسان:76/ 1] لما ثبت من حديث أبي هريرة (¬3). وقال الحنابلة (¬4): أول المفصل سورة {ق} [ق:50/ 1] وقيل: الحجرات. وأوضح الحنابلة أنه يقرأ بما وافق مصحف عثمان، وهو ماصح تواتره وسنده ووافق اللغة، ولا تصح الصلاة ويحرم قراءة بما يخرج عن مصحف عثمان، كقراءة ابن مسعود وغيرها من القراءات الشاذة (وهي التي اختل فيها ركن من أركان القراءة المتواترة الثلاثة: موافقة العربية ولو بوجه، وموافقة أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالاً، وصح إسنادها) (¬5). حد الجهر والإسرار: قال الحنفية: أقل الجهر إسماع غيره ممن ليس بقربه كأهل الصف الأول، فلو سمع واحد أو اثنان لا يجزئ. وأقل المخافتة إسماع نفسه أو من بقربه من رجل أو رجلين. ¬
- التكبير عند الركوع والسجود والرفع منه، وعند القيام
وقال المالكية: أقل جهر الرجل أن يسمع من يليه، وأقل سره: حركة اللسان. أما المرأة فجهرها إسماع نفسها. وقال الشافعية والحنابلة: أقل الجهر: أن يسمع من يليه ولو واحداً، وأقل السر أن يسمع نفسه، أما المرأة فلا تجهر بحضرة أجنبي. 11ً - التكبير عند الركوع والسجود والرفع منه، وعند القيام: بأن يقول: (الله أكبر) وهو ثابت بإجماع الأمة، لقول ابن مسعود: «رأيت النبي صلّى الله عليه وسلم يكبّر في كل رفع وخفض، وقيام وقعود» (¬1) وهو يدل على مشروعية التكبير في هذه الأحوال إلا في الرفع من الركوع، فإنه يقول: سمع الله لمن حمده. وقد قال الحنابلة بوجوب التكبير، كوجوب (سمع الله لمن حمده) وقول (ربي اغفر لي) بين السجدتين، والتشهد الأول. ويسن في الركوع ما يأتي: أـ أخذ الركبتين باليدين وتمكين اليدين من الركبتين، وتسوية الظهر أثناء الركوع، وتفريج الأصابع للرجل، أما المرأة فلا تفرجها، ونصب الساقين، وتسوية الرأس بالعجز، وعدم رفع الرأس أو خفضه، ومجافاة الرجل عضديه عن جنبيه، بدليل حديث أبي مسعود عقبة بن عَمْرو: «أنه ركع فجافى يديه، ووضع يديه على ركبتيه، وفرج بين أصابعه من وراء ركبتيه، وقال: هكذا رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلّي» (¬2) وحديث مصعب بن سعد قال: صليت إلى جنب أبي، فطبَّقت بين كفَّيَّ، ثم وضعتهما بين فخذي، فنهاني عن ذلك، وقال: كنا نفعل هذا، وأمرنا ¬
أن نضع أيدينا على الركب» (¬1) وحديث أبي حميد الساعدي في بيان صفة صلاة الرسول صلّى الله عليه وسلم: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم وضع يديه على ركبتيه، ووَتَر يديه فنحاهما عن جنبيه» (¬2) وحديث وابصة بن معبد عند ابن ماجه: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلي، فكان إذا ركع، سوَّى ظهره، حتى لو صب عليه الماء لاستقر» وحديث عائشة عند مسلم: «وكان إذا ركع لم يشخص رأسه، ولم يصوبه، ولكن بين ذلك». ب ـ أن يقول: (سبحان ربي العظيم) وهو الحد الأدنى، وأدنى الكمال ثلاثاً عند الجمهور، ولا حد له عند المالكية، ويضيف المالكية والشافعيةوالحنابلة (وبحمده). والدليل حديث حذيفة قال: «صليت مع النبي صلّى الله عليه وسلم، فكان يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم، وفي سجوده: سبحان ربي الأعلى، وما مرَّت به آية رحمة إلا وقف عندها يسأل، ولا آية عذاب إلا تعوذ منها» (¬3) وحديث عقبة بن عامر أنه قال: «لما نزلت: فسبح باسم ربك العظيم، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: اجعلوها في ركوعكم» وحديث ابن مسعود أن النبي صلّى الله عليه وسلم: «إذا ركع أحدكم، فليقل ثلاث مرات: سبحان ربي العظيم، وذلك أدناه» (¬4). ولا يزيد الإمام عن التسبيحات الثلاث، ويكره له ذلك، تخفيفاً على المأمومين. ولكن عند الشافعية: يزيد المنفرد وإمام قوم محصورين راضين بالتطويل: «اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي وما استقلت به قدمي» (¬5). ¬
- التسميع والتحميد
وقال الحنفية: وكره تحريماً إطالة ركوع، أو قراءة لإدراك الجائي إن عرفه، وإلا فلابأس به، وهذا موافق لبقية الأئمة، والاطمئنان في الركوع واجب في المذاهب الأربعة كما بينا سابقاً. 12ً - التسميع والتحميد: أي قول: سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد (¬1): للإمام سراً في التحميد وللمنفرد عند الحنفية وفي المشهور عند الحنابلة، وأما المقتدي فيقول فقط عند الحنابلة وعلى المعتمد عند الحنفية: (ربنا لك الحمد) أو (ربنا ولك الحمد) أو (اللهم ربنا ولك الحمد) والأول عند الشافعية أولى لورود السنة به، وأفضله عند الحنفية الأخير، ثم (ربنا ولك الحمد) ثم الأول. والأفضل عند الحنابلة والمالكية: (ربنا ولك الحمد). وعند المالكية: الإمام لا يقول: (ربنا لك الحمد) والمأموم لا يقول: (سمع الله لمن حمده) والمنفرد يجمع بينهما حال القيام، لا حال رفعه من الركوع، إذ الرفع يقترن بـ (سمع الله)، فإذا اعتدل قال: (ربنا ... ) الخ. والخلاصة: إن المقتدي عند الجمهور يكتفي بالتحميد. ويسن عند الشافعية: الجمع بين التسميع والتحميد في حق كل مصل، منفرد وإمام ومأموم. والدليل على الجمع لدى الشافعية: حديث أبي هريرة قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يكبِّر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يقول: سمع الله لمن حمده، حين يرفع صُلْبه من الركعة، ثم يقول وهو قائم: ربنا ولك الحمد ... » ¬
- وضع الركبتين، ثم اليدين، ثم الوجه
الحديث متفق عليه، وفي رواية لهما: «ربنا لك الحمد» (¬1). ودليل التفرقة بين الإمام والمأموم لدى الجمهور: حديث أنس: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد» (¬2). ويسن عند الشافعية والحنابلة القول: (ربنا لك الحمد، ملء السموات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد) أي بعدهما كالعرش والكرسي وغيرهما مما لا يعلمه إلا هو، ويزيد المنفرد وإمام قوم محصورين رضوا بالتطويل: (أهلَ الثناء والمجد (¬3)، أحقُّ ما قال العبد (¬4)، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدّ منك الجَدُّ) (¬5). ودليلهم حديث ابن عباس: أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: اللهم ربَّنا لك الحمد، مِلء السموات وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ماشئت بعدُ، أهلَ الثناء والمجد، لا مانع لما أعطيتَ، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدّ منك الجَدّ» (¬6) وكذلك حمله الحنفية على حال الانفراد (¬7). 13ً - وضع الركبتين، ثم اليدين، ثم الوجه عند الهوي للسجود، وعكس ذلك عند الرفع من السجود. هذا عند الجمهور غير المالكية، لحديث وائل بن حجر السابق: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا سجد، وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه». ¬
- هيئات السجود الأخرى
وقال المالكية: يضع يديه، ثم ركبتيه عند السجود، ويرفع ركبتيه ثم يديه عند الرفع منه، لحديث أبي هريرة: «إذا سجد أحدكم، فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه ثم ركبتيه» وقد سبق بيان ذلك ولا ترجيح بين الكيفيتين. 14ً - هيئات السجود الأخرى: أـ وضع الوجه بين الكفين عند الحنفية، وتوجيه الأصابع مضمومة مكشوفة نحو القبلة باتفاق المذاهب، ووضع اليدين حذو (مقابل) المنكبين في أثناء السجود عند غير الحنفية وإبرازهما من ثوبه والاعتماد على بطونهما، والتفرقة بقدر شبر بين القدمين والركبتين والفخذين عند الشافعية. وعلى هذا يكون توجيه أصابع الرجلين نحو القبلة سنة. دليل الحالة الأولى: حديث وائل بن حجر: «أنه صلّى الله عليه وسلم كان إذا سجد وضع وجهه بين كفيه» (¬1). والحكمة من ضم أصابع اليدين هو التوجه نحو القبلة لشرفها، ولأن في السجود تنزل الرحمة، وبالضم ينال أكثر (¬2)، ودليل الضم وتوجيه الأصابع للقبلة: حديث أبي حميد الساعدي: «فإذا سجد، وضع يديه غير مفترش، ولا قابضهما، واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة» (¬3). ودليل الحالة الثالثة: حديث أبي حميد الساعدي: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا سجد وضع كفيه حذو منكبيه» (¬4). ¬
ب ـ مباعدة الرجل بطنه عن فخذيه، ومرفقيه عن جنبيه
ودليل إبراز اليدين من الثوب حديث أبي هريرة: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يشتمل الصمَّاء بالثوب الواحد ليس على أحد شقيه منه، يعنى شيء» (¬1). وأما الاعتماد على بطون اليدين فلكونه أعون على الحركة وأبلغ في الخشوع والتواضع، وأما التفرقة بين القدمين ونحوهما فلا تباع السنة في ذلك. ب ـ مباعدة الرجل بطنه عن فخذيه، ومرفقيه عن جنبيه، وذراعيه عن الأرض في السجود في غير زحمة، وتفريقه بين ركبتيه ورجليه. أما المرأة فتضم بطنها إلى فخذيها وفي جميع أحوالها؛ لأنه أستر لها (¬2). ودليل حالة الرجل أحاديث: منها: حديث ميمونة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا سجد جافى، حتى لو شاءت بهيمة أن تمر بين يديه لمرت» (¬3). وحديث عبد الله بن بُحَيْنة قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا سجد يُجنِّح في سجوده، حتى يُرى وَضَحُ إبطيه» (¬4) أي بياض إبطيه. وحديث أبي حميد في صفة صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا سجد فَرَّج بين فخذيه، غير حامل بطنَه على شيء من فخذيه» (¬5). ¬
جـ ـ تجب الطمأنينة
وحديث أنس في النهي عن ترك المجافاة، عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «اعتدلوا في السجود، ولا يبسُطُ أحدكم ذراعيه انبساط الكلب» (¬1). جـ ـ تجب الطمأنينة باتفاق المذاهب كما بينا، ويستحب وضع الأنف مع الجبهة كما ذكرنا، لحديث أبي حميد: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا سجد أمكن أنفه وجبهته من الأرض، ونحَّى يديه عن جنبيه، ووضع كفيه حذو منكبيه» (¬2). د ـ التسبيح في السجود: بأن يقول: «سبحان ربي الأعلى» مرة في الحد الأدنى، وثلاثاً وهو أدنى الكمال، وهو سنة بالاتفاق لحديث ابن مسعود السابق: « ... وإذا سجد، فقال في سجوده: سبحان ربي الأعلى، ثلاث مرات». وحديث حذيفة: أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا سجد، قال: «سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات» (¬3). قال الحنفية: ولا يزيد الإمام على ذلك تخفيفاً على المأمومين، ولا حد للتسبيح عند المالكية. وزاد المالكية والشافعية والحنابلة: (وبحمده) ويزيد عند الشافعية المنفرد وإمام قوم محصورين راضين بالتطويل: (سُبُّوح قدُّوس رب الملائكة والروح، اللهم لك سجدت، وبك آمنت، ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين). ¬
هـ ـ الدعاء في السجود
ودليلهم على الجملة الأولى حديث عائشة: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه وسجوده: سبّوح قُدُّوس، ربُّ الملائكة والروح» (¬1) وسبّوح قُدُّوس: من صفات الله، والمراد: المسبَّح والمقدس، فكأنه يقول: مسبح مقدس، ومعنى (سبّوح) المبرأ من النقائص والشريك وكل ما لا يليق بالألوهية. وقدوس: المطهر من كل مالا يليق بالخالق. وبقية التسبيح رواه مسلم. هـ ـ الدعاء في السجود (¬2): قال الحنفية: لا يأتي المصلي في ركوعه وسجوده بغير التسبيح، على المذهب، وما ورد محمول على النفل، ويندب الدعاء في السجود عند المالكية بما يتعلق بأمور الدين أو الدنيا، أو الآخرة، له أو لغيره، خصوصاً أو عموماً، بلا حدّ، بل بحسب ما يسر الله تعالى. ولا بأس عند الحنابلة بالدعاء المأثور أو الأذكار. ويتأكد طلب الدعاء في السجود عند الشافعية. ودليلهم خبر مسلم وغيره: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء، فقِمِن أن يستجاب لكم» (¬3) أي أكثروا الدعاء في سجودكم، فحقيق أن يستجاب لكم. وعن أبي سعيد أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: يا معاذ، إذا وضعت وجهك ساجداً، فقل: اللهم أعني على شكرك وحسن عبادتك». ¬
- الجلوس بين السجدتين، مطمئنا مفترشا الرجل
وقال علي رضي الله عنه: «أحب الكلام إلى الله أن يقول العبد، وهو ساجد: رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي» (¬1). وعن أبي هريرة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده: اللهم اغفر لي ذنبي كله، دِقَّه وجِلَّه، وأوله وآخره، وعلانيته وسره» (¬2). 15 ً - الجلوس بين السجدتين، مطمئناً مفترشاً الرجل رجله اليسرى، وناصباً اليمنى، موجهاً أصابعه نحو القبلة، واضعاً يديه على فخذيه، بصورة مبسوطة، بحيث تتساوى رؤوس الأصابع مع الركبة. أما المرأة فتتورك عند الحنفية، بأن تجلس على أليتها، وتضع الفخذ على الفخذ، وتخرج رجلها اليسرى من تحت وركها اليمنى؛ لأنه أستر لها. والدليل على هيئة الجلوس هذه للرجل: حديث أبي حميد في صفة صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ثم ثنى رجله اليسرى، وقعد عليها، ثم اعتدل حتى رجع كل عظم في موضعه، ثم هوى ساجداً» وحديث عائشة: «وكان يفرش رجله اليسرى، وينصب اليمنى» (¬3). وقال ابن عمر: «من سنة الصلاة: أن ينصب القدم اليمنى، واستقباله بأصابعها القبلة» (¬4). ويكره الإقعاء: وهو أن يفرش قدميه، ويجلس على عقبيه، لحديث علي: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لاتُقْعِ بين السجدتين» وحديث أنس: «قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إذا رفعت رأسك من السجود فلا تُقع كما يقعي الكلب» (¬5). ¬
- الدعاء بين السجدتين
ويسن عند الشافعية والحنابلة الاعتماد بيديه على الأرض عند القيام عن سجود أو قعود اتباعاً للسنة، والنهي عن ذلك ضعيف (¬1). 16ً - الدعاء بين السجدتين: ليس عند الحنفية (¬2) بين السجدتين دعاء مسنون، كما ليس بعد الرفع من الركوع دعاء، ولا في الركوع والسجود على المذهب كما قدمنا، وما ورد محمول على النفل أو التهجد. ولم يذكر المالكية هذا الدعاء من مندوبات الصلاة، وذكره ابن جزي فيما يقال بين السجدتين. والدعاء مشروع عند الشافعية والحنابلة؛ بل قال الحنابلة: إنه واجب، وأدناه أن يقول مرة: (رب اغفر لي) وأدنى الكمال عندهم أن يقول ذلك: ثلاث مرات كالكمال في تسبيح الركوع والسجود. وصيغة هذا الدعاء عند الشافعية والمالكية والحنابلة: (رب اغفر لي وارحمني، واجبرني، وارفعني، وارزقني، واهدني، وعافني) وقال الحنابلة: لايجوز في الصلاة، بغير الوارد في السنة، ولايجوز بما ليس من أمر الآخرة، كحوائج الدنيا وملاذها، وتبطل الصلاة به. ودليل المشروعية: ماروى حذيفة: «أنه صلى مع النبي صلّى الله عليه وسلم، فكان يقول بين السجدتين: رب اغفر لي» (¬3). ¬
جلسة الاستراحة
وروي عن ابن عباس أنه قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول بين السجدتين: اللهم اغفر لي، وارحمني، واهدني، وعافني، وارزقني» (¬1). وفي رواية لمسلم: «أن رجلاً أتى النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: يارسول الله كيف أقول حين أسأل ربي، قال: قل: اللهم اغفر لي وارحمني، وارزقني، فإن هؤلاء تجمع لك دنياك وآخرتك» أي لأن الغفر الستر، والعافية: اندفاع البلاء عن الإنسان، والأرزاق نوعان: ظاهرة للأبدان كالأقوات، وباطنة للقلوب والنفوس كالمعارف والعلوم. جلسة الاستراحة: المشهور عند الشافعية (¬2): سنُّ جلسة خفيفة بعد السجدة الثانية تسمى جلسة الاستراحة، في كل ركعة يقوم عنها فلا تسن عقب سجدة التلاوة، اتباعاً لما ثبت في السنة عند البخاري. وروى الجماعة إلا مسلماً وابن ماجه عن مالك بن الحويرث أنه رأى النبي صلّى الله عليه وسلم يصلي، فإذا كان في وتر من صلاته، لم ينهض حتى يستوي قاعداً» (¬3). ولا تستحب جلسة الاستراحة عند الجمهور، إذ لم تذكر في حديث أبي حميد الساعدي في بيان صفة صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم (¬4). 17ً - التشهد الأول، والافتراش له كالجلوس بين السجدتين، والتورك في التشهد الأخير: ¬
وصيغة التشهد عند الشافعية كما تقدم: (التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله). وقد اتفق الفقهاء على مشروعية التشهد الأول والجلوس له، على أنهما سنتان عند الجمهور، وواجبان عند الحنفية، بدليل الأمر به وسقوطه بالسهو، قال ابن مسعود: «إن محمداً صلّى الله عليه وسلم قال: إذا قعدتم في كل ركعتين، فقولوا: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ثم ليتخير أحدكم من الدعاء أعجبَه إليه، فليدع ربه عز وجل» (¬1). واستدل الحنابلة على وجوبه بفعل النبي صلّى الله عليه وسلم ومداومته على فعله، وأمره به في حديث ابن عباس، فقال: «قولوا: التحيات لله» وسجد للسهو حين نسيه، وقد قال: «صلوا كما رأيتموني أصلي»، ولاتستحب عند الجمهور الزيادة على هذا التشهد ولا تطويله، وقال الحنابلة أيضاً: إذا أدرك المسبوق بعض الصلاة مع الإمام، لم يزد المأموم على التشهد الأول، بل يكرره حتى يسلم الإمام. ويسن أن يضم إليه عند الشافعية: الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم في آخره، فيقول: (اللهم صل على محمد عبدك ورسولك النبي الأمي). ويلاحظ أن كلاً من التشهد الأول والأخير سنة عند المالكية، والتشهدان واجبان عند الحنفية، وكذا القعود الأول ولو في نفل في الأصح، والأول سنة أو ¬
بعض، والأخير فرض عند الشافعية، والأول واجب والأخير فرض عند الحنابلة. ويسن باتفاق الفقهاء الإسرار بقراءة التشهد، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يكن يجهر به، قال ابن مسعود: «من السنة إخفاء التشهد» (¬1) ولأنه ذكر غير القراءة كالتسبيح، فاستحب إخفاؤه. وأما صفة الجلوس للتشهد الأول: فهي الافتراش عند الحنفية والشافعية والحنابلة، وهو أن يجلس على كعب يسراه بعد أن يضجعها، وينصب يمناه. وتتورك المرأة عند الحنفية؛ لأنه أستر لها، ودليل الافتراش حديث عائشة: «وكان يفرش رجله اليسرى، وينصب اليمنى» (¬2) وحديث وائل بن حجر: «أنه رأى النبي صلّى الله عليه وسلم يصلي، فسجد، ثم قعد فافترش رجله اليسرى» (¬3) وحديث أبي حميد «أن النبي صلّى الله عليه وسلم جلس ـ للتشهد ـ فافترش رجله اليسرى، وأقبل بصدر اليمنى على قبلته» (¬4) وحديث رفاعة بن رافع «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال للأعرابي: إذا سجدت، فمكِّن لسجودك، فإذا جلست فاجلس على رجلك اليسرى» (¬5). وقال المالكية: يجلس متوركاً في التشهد الأول والأخير، لما بينا، ولما روى ابن مسعود: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يجلس في وسط الصلاة وآخرها متوركاً» (¬6). ¬
- وضع اليدين على الفخذين
وقال الحنفية: الجلوس للتشهد الأخير كالتشهد الأول، يكون مفترشاً، لحديث أبي حميد. وقال الشافعية والحنابلة: يسن التورك للتشهد الأخير، وهو كالافتراش، لكن يخرج يسراه من جهة يمينه، ويلصق وَرِكَه بالأرض، بدليل حديث أبي حميد: «حتى إذا كانت الركعة التي تنقضي فيها صلاته، أخَّر رِجْله اليسرى، وقعد على شقه متوركاً، ثم سلم» (¬1). والأصح عندهم: يفترش المسبوق والساهي. والخلاصة: أنه يسن التورك في التشهد الأخير عند الجمهور، ولا يسن عند الحنفية، إلا أن الحنابلة قالوا: لا يتورك إلا في صلاة فيها تشهدان، فلايتورك في تشهد الصبح. 18ً - وضع اليدين على الفخذين: بحيث تكون رؤوس أصابعهما على الركبتين، ورفع الإصبع السبابة من اليمنى فقط عند الشهادة في التشهد: قال الحنفية (¬2): يضع يمناه على فخذه اليمنى، ويسراه على اليسرى، ويبسط أصابعه، كالجلسة بين السجدتين، مفرجة قليلاً، جاعلاً أطرافها عند ركبتيه، ولا يأخذ الركبة في الأصح، والمعتمد أنه يشير بسبابة يده اليمنى عند الشهادة، يرفعها عند نفي الألوهية عما سوى الله تعالى، بقوله: (لا إله)، ويضعها عند إثبات الألوهية لله وحده، بقوله: (إلا الله) ليكون الرفع إشارة إلى النفي، والوضع إشارة إلى الإثبات، ولا يعقد شيئاً من أصابعه. ¬
ودليلهم رواية في صحيح مسلم عن ابن الزبير تدل على ذلك؛ لأنه اقتصر فيها على مجرد الوضع والإشارة (¬1). وقال المالكية (¬2): ترسل اليد اليسرى، ويعقد من اليد اليمنى في حال تشهده ما عدا السبابة والإبهام: وهو الخنصر والبنصر والوسطى، بجعل رؤوسها باللُّحْمة التي بجنب الإبهام، مادَّاً إصبعه السبابة كالمشير بها، فتصير الهيئة هيئة التسعة والعشرين؛ لأن مدَّ السبابة مع الإبهام صورة عشرين، وقبض الثلاثة تحت الإبهام صورة تسع. ويندب دائماً تحريك السبابة تحريكاً وسطاً من أول التشهد إلى آخره، يميناً وشمالاً، لا لجهة: فوق وتحت، واستدلوا بحديث وائل بن حجر: أنه قال في صفة صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ثم قعد فافترش رجله اليسرى، ووضع كفه اليسرى على فخذه، وركبته اليسرى، وجعل حد مِرْفقه الأيمن على فخذه اليمنى، ثم قبض ثنتين من أصابعه، وحلَّق حَلْقةً، ثم رفع أُصبعه، فرأيته يحركها (¬3)، يدعو بها» (¬4). وقال الشافعية والحنابلة (¬5) السنة وضع اليدين على الفخذين في الجلوس ¬
للتشهد الأول والأخير، يبسط يده اليسرى منشورة، مضمومة الأصابع في الأصح عند الشافعية، بحيث تسامت رؤوسها الركبة، مستقبلاً بجميع أطراف أصابعها القبلة، فلا تفرج الأصابع؛ لأن تفريجها يزيل الإبهام عن القبلة. ويضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويقبض منها الخنصر والبنصر، وكذا الوسطى في الأظهر عند الشافعية، أما عند الحنابلة: فإنه يحلق الإبهام مع الوسطى. ويشير بالسبابة (أو المُسبِّحة)، ويرفعها عند قوله: «إلا الله» ولا يحركها، لفعله صلّى الله عليه وسلم، ويديم نظره إليها، لخبر ابن الزبير السابق. والأظهر عند الشافعية والحنابلة: ضم الإبهام إلى السبابة، كعاقد ثلاثة وخمسين، بأن يضعها تحتها على طرف راحته. ولو أرسل الإبهام والسبابة معاً، أو قبضهما فوق الوسطى، أو حلَّق بينهما برأسهما أو وضع أنملة الوسطى بين عقدتي الإبهام، أتى بالسنة، لورود جميع ذلك، لكن الأول أفضل كما قال الشافعية؛ لأن رواته أفقه. ودليلهم حديث ابن عمر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم وضع يده اليمنى على ركبته اليمنى، وعقد ثلاثاً وخمسين، وأشار بالسبابة» (¬1)، ودليلهم على عدم تحريك الأصبع: حديث عبد الله بن الزبير: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يشير بأصبعه إذا دعا، ولايحركها» (¬2) وحديث سعد بن أبي وقاص قال: «مرَّ علي النبي صلّى الله عليه وسلم وأنا أدعو بأصابعي، فقال: أحد، أحد، وأشار بالسبابة» (¬3). ¬
- قراءة الفاتحة في الركعتين الثالثة والرابعة من الصلوات المفروضة
19ً - قراءة الفاتحة في الركعتين الثالثة والرابعة من الصلوات المفروضة: تسن على الصحيح عند الحنفية ولو ضم إليها سورة لا بأس به؛ لأن القراءة في هاتين الركعتين مشروعة من غير تقدير. وهي فرض عند الشافعية، وواجبة للإمام والمنفرد عند المالكية والحنابلة. دليل الحنفية: هو أن الفاتحة لا تتعين في الصلاة، وتجزئ قراءة آية من القرآن في أي موضع كان، لقوله تعالى: {فاقرؤوا ما تيسر من القرآن} [المزمل:20/ 73] {فاقرؤوا ما تيسر منه} [المزمل:20/ 73]، وقوله صلّى الله عليه وسلم للمسيء صلاته: «ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن»، ولأن الفاتحة وسائر القرآن سواء في سائر الأحكام، فكذا في الصلاة. وقد وردت آثار عن بعض الصحابة (علي وابن مسعود) بسنيتها، فصرف الوجوب الظاهر من الأحاديث للمواظبة على الفاتحة إلى السنية، وهو أدنى ما تدل عليه الأحاديث. ودليل الجمهور: حديث عبادة بن الصامت: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» (¬1)، وبما أن القراءة (أي قراءة شيء من القرآن» فرض أو ركن في الصلاة، فكانت معينة كالركوع والسجود. وأما خبر المسيء صلاته فمقيد بما روى الشافعي بإسناده عن رفاعه بن رافع أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال للأعرابي: «ثم اقرأ بأم القرآن، وما شاء الله أن تقرأ» (¬2) فهو محمول على الفاتحة، وما تيسر معها من القرآن مما زاد عليها. ¬
- الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله في التشهد الأخير
20 ً- الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم وعلى آله في التشهد الأخير: قال الحنفية (¬1): الصلاة على النبي وعلى آله ـ الصلوات الإبراهيمية: سنة وكذلك قال المالكية (¬2): تسن الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم بعد التشهد الأخير، كما أن كل تشهد (أول أو أخير ولو في سجود سهو) هو سنة مستقلة. وقال الشافعية والحنابلة (¬3): تجب الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم في التشهد الأخير، أما الصلاة على الآل فيه فهي سنة عند الشافعية، واجبة عند الحنابلة. ودليل الوجوب عند الحنابلة: حديث كعب بن عُجرة السابق: «إن النبي صلّى الله عليه وسلم خرج علينا، فقلنا: يا رسول الله، قد علمنا الله كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ قال: قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد» (¬4)، وروى الأثرم عن فضالة بن عبيد: «سمع النبي صلّى الله عليه وسلم رجلاً يدعو في صلاته لم يمجد ربه، ولم يصل على النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: عجل هذا، ثم دعاه النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: إذا صلى أحدكم فليبدأ بتمجيد ربه والثناء عليه، ثم ليصل على النبي صلّى الله عليه وسلم، ثم لِيَدْعُ بعد بما شاء» والأمر يقتضي الوجوب، وصفة الصلاة على النبي وآله: تكون على النحو المذكور في حديث كعب. واستدل الشافعية على وجوب الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم بالأمر القرآني: {ياأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً} [الأحزاب:56/ 33] وبالحديث السابق، ¬
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في غير الصلاة
وبحديث آخرفي معناه رواه الدارقطني وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه، وقال: إنه على شرط مسلم، وبحديث أبي مسعود عند أحمد ومسلم والنسائي والترمذي وصححه (¬1). .وأقل الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم، وآله: اللهم صل على محمد وآله، والزيادة إلى «مجيد» سنة. وأما كون الصلاة على الآل سنة، فلخبر أبي زرعة: «الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم أمر، من تركها أعاد» ولم يذكر الصلاة على آله. ودليل الحنفية والمالكية على السنية مطلقاً (الصلاة على النبي وآله): أن الأوامر المذكورة في الأحاديث تعلم كيفيته، وهي لا تفيد الوجوب. قال الشوكاني (¬2): إنه لم يثبت عندي من الأدلة ما يدل على مطلوب القائلين بالوجوب، وعلى فرض ثبوته، فترك تعليم المسيء للصلاة، لا سيما مع قوله صلّى الله عليه وسلم: «فإذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك» قرينة صالحة لحمله على الندب. ويؤيد ذلك قوله لابن مسعود بعد تعليمه التشهد: «إذا قلت هذا، أو قضيت هذا فقد قضيت صلاتك، إن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد» (¬3). الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم في غير الصلاة: أما الصلاة على النبي في غير الصلاة فهي مندوبة، لا واجبة، فقد حكى الطبري الإجماع على أن محمل الآية على الندب. وقال الحنفية (¬4): هي فرض مرة واحدة في العمر، والمذهب أنه تستحب على التكرار كلما ذكر النبي صلّى الله عليه وسلم، ولو اتحد المجلس في الأصح وعليه الفتوى. ¬
السيادة لمحمد صلى الله عليه وسلم
السيادة لمحمد صلّى الله عليه وسلم: قال الحنفية والشافعية (¬1): تندب السيادة لمحمد في الصلوات الإبراهيمة؛ لأن زيادة الإخبار بالواقع عين سلوك الأدب، فهو أفضل من تركه. وأما خبر «لا تسودوني في الصلاة» فكذب موضوع (¬2). وعليه: أكمل الصلاة على النبي وآله: «اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم، وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد» (¬3). 21 ً - الدعاء بعد الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم: يدعو المصلي بما هو مأثور عن الرسول صلّى الله عليه وسلم عند الحنفية، أو بما شاء من خيري الدنيا والآخرة عند الأئمة الآخرين، والمأثور أفضل. ويندب تعميم الدعاء؛ لأنه أقرب إلى الإجابة، ومن الدعاء العام: (اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولمن سبقنا بالإيمان مغفرة عزماً) أي جزماً. ومن الدعاء المأثور: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار) ومنه: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم) (¬4) ومنه ¬
أيضاً: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال) (¬1) ومنه: (اللهم إني أعوذ بك من المغرم والمأثم) ومنه: (اللهم اغفر لي ما قدمت وماأخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت) (¬2). وكان ابن مسعود رضي الله عنه يدعو بكلمات، منها: «اللهم إني أسألك من الخير كله ما علمت منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله ما علمت منه وما لم أعلم، اللهم إني أسألك من خير ما سألك عبادك الصالحون، وأعوذ بك من شر ما عاذ منه عبادك الصالحون، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار، ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك، ولا تخزنا يوم القيامة، إنك لا تخلف الميعاد» (¬3). وعن معاذ ابن جبل قال: لقيني النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: إني أوصيك بكلمات تقولهن في كل صلاة: «اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» (¬4) وعن ابن عباس: أن النبي صلّى الله عليه وسلم صلّى فجعل يقول في صلاته أو في سجوده: «اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي سمعي نوراً، وفي بصري نوراً، وعن يميني نوراً، وعن شمالي نوراً، وأمامي نوراً، وخلفي نوراً، وفوقي نوراً، وتحتي نوراً، واجعل لي نوراً، أو قال: واجعلني نوراً» (¬5). ¬
الدعاء بالعربية
قال الحنفية: ولا يجوز أن يدعو في صلاته بما يشبه كلام الناس، مثل (اللهم ارزقني كذا) مثلاً، أو بما لا يستحيل حصوله من الناس مثل: (اللهم زوجني فلانة) مثلاً، وهومكروه تحريماً، ويُبطل الصلاة إن وجد قبل القعود للتشهد الأخير وقدر التشهد، ويفوت الواجب لوجوده بعد القعود قبل السلام بخروجه به من الصلاة دون السلام. وقد استدلوا بحديث مسلم السابق: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن». وأجاز غير الحنفية الدعاء بماشاء الإنسان، بدليل ما ثبت في السنة عن بعض الصحابة كابن مسعود وأبي هريرة (¬1) وغيرهما، وبدليل حديث ابن مسعود السابق في التشهد: «ثم ليختر من الدعاء أعجبه إليه، فيدعو به»، وفي رواية: «ثم يتخير من المسألة ما شاء»، وفي رواية «ليتخير بعد من الكلام ما شاء» (¬2). الدعاء بالعربية: يكون الدعاء بالعربية باتفاق الفقهاء، قال الحنفية: الدعاء بغير العربية حرام، لكن تصح أذكار الصلاة عند أبي حنيفة خلافاً لصاحبيه بغير العربية، مع الكراهة التحريمية. وقال الشافعية: ويترجم للدعاء والذكر المندوب العاجز عنه بالعربية لعذره، لا القادر عليه في الأصح لعدم عذره (¬3). ¬
- الالتفات يمينا ثم شمالا بالتسليمتين
22 ً - الالتفات يميناً ثم شمالاً بالتسليمتين: عرفنا أن السلام واجب عند الحنفية، ركن عند الجمهور، ويسن عند الجميع الالفتات يميناً وشمالاً حتى يرى بياض خده، قائلاً عند الجمهور: «السلام عليكم ورحمة الله» ويزيد عند المالكية «وبركاته» والأول هو الواجب عند المالكية والشافعية، والتسليمتان واجبتان عند الحنفية والحنابلة. ودليل سنية الالتفات: حديث مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: «كنت أرى النبي صلّى الله عليه وسلم يسلم عن يمينه وعن يساره حتى يرى بياض خده»، وفي رواية الدارقطني: «كان يسلم عن يمينه حتى يرى بياض خده، وعن يساره حتى يرى بياض خده». ودليل إضافة (وبركاته) عند المالكية حديث ابن مسعود ووائل بن حجر السابقين. وقد عرفنا أنه ينوي بالسلام من عن يمينه ويساره من ملائكة وإنس وجن. وينوي الإمام السلام على المقتدين، وهم ينوون الرد عليه، إلا أنه عند الحنفية ينوون الرد عليه في التسليمة الأولى إن كانوا في جهة اليمين، وفي التسليمة الثانية إن كانوا في جهة اليسار، وعند الشافعية بالعكس. قال القفال الشاشي الكبير: والمعنى في السلام أن المصلي كان مشغولاً عن الناس وقد أقبل عليهم» (¬1). استقبال القبلة في السلام: يرى الحنفية أنه يسن التيامن في التسليمة الأولى، ثم يسلم عن يساره في الثانية. ويرى المالكية أن المأموم يندب له التيامن كلياً بتسليمة التحليل من الصلاة. أما الإمام والمنفرد، فيشير عند النطق بالتسليمة ¬
- خفض التسليمة الثانية عن الأولى
للقبلة، ويختمها بالتيامن عند النطق بالكاف والميم من (عليكم) حتى يرى من خلفه صفحة وجهه. وقال الشافعية والحنابلة: يبتدئ السلام مستقبل القبلة، قائلاً «السلام عليكم» ثم يلتفت ويتم سلامه قائلاً: (ورحمة الله) لقول عائشة: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يسلم تلقاء وجهه» معناه ابتداء السلام، ورحمة الله: يكون في حال التفاته. 23ً - خفض التسليمة الثانية عن الأولى: يسن ذلك عند الحنفية والحنابلة؛ لأن الأولى للإعلام، فيجهر بها، وقد حصل العلم بالجهر بها، فلا يشرع الجهر بغيرها. وقال المالكية: يسن الجهر بتسليمة التحليل فقط دون تسليمة الرد، بل يندب السرفيها، أي يسن للإمام والمأموم والمنفرد الجهر بالتسليمة يخرج بها من الصلاة، ويندب السر في تسليمة المقتدي للرد على إمامه وعلى من يساره من إمام ومأموم. وقال الحنابلة: يجهر الإمام بالتسليمة الأولى فقط، ويسر غيره التسليمتين. 24ً - مقارنة المقتدي لسلام الإمام: يسن ذلك عند أبي حنيفة موافقة للإمام، كما تسن مقارنته في غير التسليم من تكبير الإحرام وتكبيرات الانتقال. وأما الصاحبان والشافعية: فإنه يسن عندهم في التسليم المعاقبة والبعدية عن الإمام، لئلا يسرع المأموم بأمور الدنيا. وأضاف الشافعية القول: إنه تنقضي القدوة بسلام الإمام، فللمأموم أن يشتغل بدعاء ونحوه، ثم يسلم. ولو اقتصر الإمام على تسليمة، فللمأموم أن يسلم ثنتين، لإحراز فضيلة الثانية، ولزوال المتابعة بالأولى.
- انتظار المسبوق فراغ الإمام من التسليمتين،
25ً - انتظار المسبوق فراغ الإمام من التسليمتين، لوجوب المتابعة، حتى يعلم ألا سهو عليه. وهذه سنة عند الحنفية. 26ً - ذكر الشافعية أنه يسن الخشوع وتدبر القراءة والأذكار، ودخول الصلاة بنشاط وفراغ قلب من الشواغل الدنيوية؛ لأنه أعون على الخضوع والخشوع. آداب الصلاة عند الحنفية: عرفنا أن الأدب: ما فعله الرسول صلّى الله عليه وسلم مرة أو مرتين، ولم يواظب عليه كزيادة التسبيحات في الركوع والسجود، والزيادة على القراءة المسنونة. وقد شرع لإكمال السنة. ومن هذه الآداب عند الحنفية ما يأتي (¬1): 1ً - إخراج الرجل كفيه من كميه عند تكبيرة الإحرام، لقربه من التواضع إلا لضرورة، كبرد. أما المرأة فتستر كفيها حذراً من كشف ذراعيها. 2ً - نظر المصلي إلى موضع سجوده قائماً، وإلى ظاهر قدميه راكعاً، وإلى أرنبة أنفه ساجداً، وإلى حجره جالساً، وإلى منكبيه مسلِّماً، تحصيلاً للخشوع في الصلاة، ملاحظاً قوله صلّى الله عليه وسلم: «اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك» (¬2). هذا تفصيل لبعض الحنفية، والمنقول في ظاهر الرواية: هو النظر إلى محل سجوده، كما قال الشافعية. ¬
التبليغ خلف الإمام
3ً - إمساك فمه عند التثاوب، فإن لم يقدر غطاه بظهر يده اليسرى، أو كمه؛ لأن التغطية بلا ضرورة مكروهة. 4ً - دفع السعال ما استطاع؛ لأنه بلا عذر مفسد للصلاة. 5ً - قيام الإمام والمؤتم في حالة الإقامة عند القول: «حي على الفلاح» لأنه أمر به فيجاب. هذا إذا كان الإمام حاضراً بقرب المحراب. فإن لم يكن حاضراً يقوم كل صف حين ينتهي إليه الإمام على الأظهر. وإن دخل الإمام من قدام، قاموا حين يقع بصرهم عليه. وإن أقام الإمام بنفسه في مسجد، فلا يقف المؤتمون حتى يتم إقامته. ويشرع الإمام في الصلاة مذ قيل: (قد قامت الصلاة) ولو أخر حتى أتمها، لا بأس به إجماعاً. وهو قول أبي يوسف والأئمة الثلاثة غير الحنفية، وهو أعدل المذاهب. التبليغ خلف الإمام: اتفق الفقهاء على أنه يسن (وعند المالكية: يندب) للإمام الجهر بقدر الحاجة بالتكبير والتسميع والسلام، لإعلام من خلفه، فإن عجز جاز التبليغ من غيره؛ لأن أبا بكر في مرض النبي صلّى الله عليه وسلم كان يبلِّغ المؤتمين تكبيره. أما المؤتم والمنفرد فيسمع نفسه، وقال المالكية: يندب لكل مصلٍ الجهر بتكبيرة الإحرام، كما بينا. فإن كان من خلف الإمام يسمعه، كره التبليغ من غيره لعدم الحاجة إليه. ويجب أن يقصد المبلِّغ سواء أكان إماماً أم غيره الإحرام للصلاة بتكبيرة الإحرام، فلو قصد الإعلام فقط، لم تنعقد صلاته، وكذا لاتنعقد عند الشافعية إذا أطلق، فلم يقصد شيئاً، فإن قصد مع الإحرام الإعلام، صحت الصلاة عند الشافعية والحنفية.
سنن الصلاة إجمالا في كل مذهب
أما غير تكبيرة الإحرام من تكبيرة الانتقال والتسميع والتحميد: فإن قصد بها التبليغ فقط، فلا تبطل صلاته عند الجمهور، وإنما يفوته الثواب. لكن قال الحنفية (¬1): إن قصد بذلك مجرد إعجاب الناس بتبليغه، فسدت صلاته على الراجح، كما أن من رفع صوته زيادة على الحاجة، فقد أساء، والإساءة دون الكراهة. وقال الشافعية: إذا قصد بذلك مجرد التبليغ، أو لم يقصد شيئاً، بطلت صلاته إن كان غير عامي، أما العامي فلا تبطل صلاته، ولو قصد الإعلام فقط. ودليل مشروعية التبليغ: الحديث المتفق عليه عن جابر، قال: «صلى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبو بكر خلفه، فإذا كبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم كبر أبو بكر ليسمعنا». سنن الصلاة إجمالاً في كل مذهب: يحسن تعداد سنن الصلاة في المذاهب كلاً على حدة، لما فيها من اختلافات بسبب عد بعض الفرائض في مذهب، سنة في مذهب آخر. مذهب الحنفية: للصلاة آداب ذكرناها مستقلة، وسنن إحدى وخمسون (¬2) وهي ما يأتي (¬3): 1ً - رفع اليدين للتحريمة حذاء الأذنين للرجل، وحذاء المنكبين للمرأة الحرة. 2ً - ترك الأصابع على حالها بحيث لا يضمها ولا يفرقها. ¬
3ً - مقارنة إحرام المقتدي لإحرام إمامه. 4ً - وضع الرجل يده اليمنى على اليسرى تحت سرته، ووضع المرأة يديها على صدرها. 5ً، 6ً، 7ً - الثناء، والتعوذ للقراءة، والتسمية سراً أول كل ركعة قبل الفاتحة. 8ً، 9ً، 10ً - التأمين، والتحميد، والإسرار بهما وبالثناء والتعوذ والتسمية. 11ً - الاعتدال عند ابتداء التحريمة وانتهائها من غير طأطأة الرأس. 12ً - جهر الإمام بالتكبير والتسميع والسلام. 13ً - تفريج القدمين في القيام قدر أربع أصابع. 14ً - أن تكون السورة بعد الفاتحة من طوال المفصل في الفجر والظهر، ومن أوساطه في العصر والعشاء، ومن قصاره في المغرب إن كان مقيماً، ويقرأ أي سورة شاءإن كان مسافراً. 15ً - إطالة القراءة في الركعة الأولى في كل الصلوات، على المفتى به عند الحنفية، وهو قول محمد. 16ً، 17ً - تكبير الركوع والسجود عند كل خفض ورفع، إلا في الرفع من الركوع فيسن التسميع، والتسبيح فيهما ثلاثاً: سبحان ربي العظيم في الركوع، سبحان ربي الأعلى في السجود. 18ً - أخذ ركبتيه بيده حال الركوع.
19ً - تفريج الرجل أصابع يديه في الركوع، والمرأة لا تفرجها. 20ً،21ً - بسط ظهره في الركوع، وتسوية رأسه بعجزه. 22ً،23ً - الاعتدال مطمئناً أو الرفع من الركوع والسجود. 24ً - وضع الركبتين ثم اليدين ثم الوجه عند النزول للسجود، وعكسه عند الرفع منه. 25ً - كون السجود بين كفيه، ووضع يديه حذو منكبيه. 26ً - مجافاة أو مباعدة الرجل بطنه عن فخذيه، ومرفقيه عن جنبيه، وذراعيه عن الأرض في حال السجود. 27ً - إلصاق المرأة بطنها بفخذيها في السجود. 28ً - الجلوس بين السجدتين، والأصح أنه واجب عند الحنفية. 29ً - وضع اليدين على الفخذين في الجلوس بين السجدتين، وفي التشهد. 30ً - افتراش الرجل رجله اليسرى، ونصب اليمنى، مع توجيه أصابع القدم للقبلة في جلوس السجدتين والتشهد. 31ً - تورك المرأة: أن تجلس على أليتيها، وتضع إحدى فخذيها على الأخرى، وتخرج رجلها اليسرى من تحت وركها اليمنى، لأنه أستر لها. 32ً - الإشارة بالسبابة عند الشهادة فقط، برفعها عند (لا إله) ووضعها عند: (إلا الله). 33ً - قراءة الفاتحة فيما بعد الركعتين الأولين.
34ً - الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم في الجلوس الأخير، والمختار في صفتها (¬1): «اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد» وهي الموافقة لما في الصحيحين وغيرهما. 35ً - الدعاء بعد الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم بما يشبه ألفاظ القرآن والسنة. 36ً - الالتفات يميناً ثم شمالاً بالتسليمتين. 37ً - أن ينوي الإمام بالتسليمتين من خلفه من المصلين والملائكة الحفظة (¬2) وصالحي الجن. 38ً - أن ينوي المأموم الرد على إمامه في السلام في الجهة التي هو فيها، فإن كان في جهة اليمين نوى فيها، وإن كان في جهة اليسار نوى فيها، وإن حاذاه نواه في التسليمتين، مع القوم والملائكة وصالح الجن. 39ً - أن ينوي المنفرد بسلامه الملائكة فقط؛ إذ ليس معه غيرهم. 40ً - أن يخفض صوته في سلامه الثاني عن الأول. 41ً - مقارنته لسلام الإمام. 42ً - أن يبدأ باليمين في سلامه. ¬
مذهب المالكية
43ً - أن ينتظر المسبوق فراغ إمامه من سلامه الثاني، حتى يعلم أنه ليس عليه سجود سهو. مذهب المالكية: للصلاة سنن ومندوبات، وسننها أربع عشرة وهي ما يأتي (¬1): 1ً - قراءة آية بعد الفاتحة في الركعتين الأولى والثانية من الفرض الوقتي المتسع وقته. ويقوم مقام الآية بعض آية طويلة له بال نحو: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} [البقرة:255/ 2]، وإتمام السورة مندوب. 2ً - القيام لقراءة ما زاد على الفاتحة في الفرض، فلو استند لشيء حال قراءتها بحيث لو أزيل لسقط، لم تبطل صلاته، أما إن جلس فقرأها جالساً، فتبطل لإخلاله بهيئة الصلاة؛ لأن القيام في الفريضة فرض. أما القيام في النفل فهو سنة. 3ً - الجهر في الصبح والجمعة وأولتي المغرب والعشاء. 4ً - الإسرار في الظهر والعصر وأخيرة المغرب وأخيرتي العشاء. ويتأكد الجهر والإسرار بالفاتحة دون السورة بعدها. وهذه السنن الأربع مخصوصة بالفرض، فلا تسن في النفل. وأقل جهرالرجل، والمرأة حيث لا أجانب: إسماع من يليه فقط، لو فرض أن بجانبه أحداً متوسط السمع. وأقل السر للرجل والمرأة: حركة اللسان. 5ً - كل تكبيرة غير تكبيرة الإحرام. ¬
6ً - كل لفظ «سمع الله لمن حمده» لإمام ومنفرد حال رفعه من الركوع، لا مأموم، فلا تسن في حقه، بل يكره له قولها. 7ً - كل تشهد، سواء أكان الأول أم غيره، ولو في سجود سهو. 8ً - كل جلوس تشهد. 9ً - الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم بعد التشهد الأخير، بأي لفظ كان، وأفضلها: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين، إنك حميد مجيد). 10ً - السجود على صَدْر القدمين، وعلى الركبتين والكفَّيْن. والمشهور عند المالكية أن السجود الواجب إنما يكون على الجبهة. 11ً - رد المقتدي السلام على إمامه، وعلى من يساره إن وجد، إن شاركه في ركعة فأكثر، لا أقل. ويجزئ في سلام الرد: «سلام عليكم» أو «وعليكم السلام». 12ً - جهر بتسليمة التحليل (¬1) فقط، دون تسليمة الرد. 13ً - إنصات المقتدي للإمام في حالة الجهر، حتى ولو سكت الإمام أو لم يسمعه المأموم. 14ً - الزائد على الطمأنينة الواجبة بقدر ما يجب. وبه يتبين أن المالكية يتفقون مع الحنفية في تحديد السنن فيما عدا القيام للقراءة ¬
والتشهد والجلوس له، والسجود على الأعضاء الستة، وإنصات المقتدي لقراءة الإمام في الصلاة الجهرية. ومندوبات الصلاة عند المالكية ثمانية وأربعون (¬1)، أهمها ما يأتي: 1ً - نية الأداء في الحاضرة، والقضاء في الفائتة. 2ً - نية عدد الركعات. 3ً - الخشوع، وهو استحضار عظمة الله تعالى وهيبته وأنه لا يعبد ولا يقصد سواه. واستحضار امتثال أمره بتلك الصلاة وهذا هو المندوب، وأما أصل الخشوع فواجب. 4ً - رفع اليدين حذو المنكبين عند تكبيرة الإحرام فقط، لا عند غيرها من ركوع ورفع منه. 5ً - إرسال اليدين بوقار، وجاز قبضهما على الصدر في النفل، وكره القبض في الفرض، لما فيه من الاعتماد، أي كأنه مستند إلى شيء. 6ً - إكمال سورة بعد الفاتحة، فلا يقتصر على بعضها، ولا على آية ولو طويلة. 7ً - قراءة سورة في الركعة الثانية غير التي قرأها في الركعة الأولى، في صلاة الفرض، لا في النفل. ويكره تكريرالسورة في الركعتين في الفرض، كما يكره فيه قراءة سورتين في ركعة. ويجوز بالنفل قراءة أكثر من سورة بعد الفاتحة. والمعتمد أنه يكره أيضاً تكرير السورة في الركعة في النفل. ¬
8ً - تطويل قراءة الصبح والظهر على أن تكون قراءة الظهر دون الصبح. وأول المفصل على المعتمد: الحجرات. والتطويل لمنفرد، وإمام جماعة محصورين طلبوا التطويل، وإلا فالتقصير في حق الإمام أفضل؛ لأن الناس قد يكون فيهم الضعيف وذو الحاجة. 9ً - تقصير القراءة في العصر والمغرب، فيقرأ فيهما من قصار المفصَّل بدءاً من سورة: والضحى. 10ً - توسط القراءة في العشاء، وأوسط المفصل: عبس، وآخره سورة: والليل. 11ً - تقصير الركعة الثانية عن الركعة الأولى في الزمن. وتجوز المساواة مع خلاف الأولى. ويكره تطويل الثانية عن الأولى. 12ً - إسماع المصلي نفسه في السر؛ لأنه أكمل، وللخروج من خلاف من أوجبه. 13ً - قراءة المأموم خلف الإمام في الصلاة السرية، وأخيرة المغرب، وأخيرتي العشاء. 14ً - تأمين المنفرد والمأموم مطلقاً أي في السرية والجهرية بعد: «ولا الضالين» إن سمع المأموم إمامه، وتأمين الإمام في الصلاة السرية فقط. 15ً - الإسرار بالتأمين لكل مصل. 16ً - تسوية ظهر المصلي في الركوع. 17ً - وضع اليدين على الركبتين في الركوع، وتمكين اليدين من الركبتين فيه أيضاً.
18ً - نصب الركبتين في الركوع، فلا يحنيهما قليلاً. 19ً - التسبيح في الركوع بأن يقول: (سبحان ربي العظيم وبحمده) وفي السجود بأن يقول: (سبحان ربي الأعلى وبحمده) ولا يدعو ولا يقرأ في الركوع، ويدعو مع التسبيح في السجود. 20ً - مباعدة (مجافاة) الرجل مِرْفقيه عن جنبيه، بأن يُجنِّح بهما تجنيحاً. 21ً - التحميد للمنفرد والمقتدي بأن يقول بعد (سمع الله لمن حمده): (اللهم ربنا ولك الحمد) وجاز حذف الواو، وإثباتها أولى. فالإمام لا يقول حال القيام: (ربنا ولك الحمد) كما لا يقول المأموم: (سمع الله لمن حمده) وإنما يقول بعد الاعتدال قائماً: (ربنا) الخ، ويجمع المنفرد بينهما. 22ً - التكبير حال الخفض للركوع أو السجود، وحال الرفع من السجود في السجدة الأولى، وحال القيام من التشهد الأول. 23ً - تمكين الجبهة والأنف من الأرض في السجود. ويعتبر كالأرض ما اتصل بها من سطح كسرير أو سقف ونحوهما. 24ً - تقديم اليدين على الركبتين حال الانحطاط للسجود، وبالعكس عند القيام للقراءة. 25ً - وضع اليدين حذْو (أي قبالة) الأذنين أو قربَهما في سجوده، بحيث تكون أطراف أصابعهما حذو الأذنين. 26ً - ضم أصابع اليدين ورؤوسها لجهة القبلة. 27ً - مجافاة (مباعدة) الرجل في السجود بطنه عن فخذيه، فلا يجعل بطنه
عليهما ومجافاة مِرْفقيه عن رُكْبتيه، وضبْعيه (ما فوق المرفق إلى الإبط) عن جنبيه مباعدة وسطاً في الجميع. وأما المرأة: فتكون منضمة في جميع أحوالها، ستراً لها. 28ً - رفع العجز عن الرأس في السجود، فإن تساويا أو كان الرأس أعلى، لم تبطل الصلاة عند المالكية، وتبطل في الأصح عند الشافعية، والحنفية. 29ً - الدعاء في السجود بما يتعلق بأمور الدين أو الدنيا أو الآخرة لنفسه أو لغيره خصوصاً أو عموماً، بلا حدّ، بل بحسب ما يسر الله تعالى، كالتسبيح فيه، يندب بلا حد، ويقدم على الدعاء. 30ً - الإفضاء (الافتراش) في الجلوس بين السجدتين أو في التشهد الأول أو الأخير: وهو جَعْل الرجل اليسرى مع الإلية على الأرض، وقدم اليسرى جهة الرِجْل اليمنى، ونَصْبُ قدم اليمنى على قدم اليسرى خلفها، وجعل باطن إبهام اليمنى على الأرض. 31ً - وضع الكفين في الجلوس على رأس الفخذين بحيث تكون رؤوس أصابعهما على الركبتين. 32ً - تفريج الرجل الفخذين في الجلوس، فلا يلصقهما، بخلاف المرأة. 33ً - عقد ما عدا السبابة والإبهام وهو الخنصر والبنصر والوسطى من اليمنى في جلوس التشهد مطلقاً (الأخير أو غيره) تحت الإبهام، مع مدّ السبابة والإبهام، وتحريك السبابة دائماً يميناً وشمالاً، من أول التشهد إلى آخره، تحريكاً وسطاً. 34ً - القنوت (¬1) في صلاة الصبح بأي لفظ نحو: (اللهم اغفر لنا وارحمنا) ¬
ومحله قبل الركوع في الركعة الثانية، وندب إسراره ككل دعاء في الصلاة. وندب لفظه الوارد عن النبي صلّى الله عليه وسلم، وهو الذي اختاره الإمام مالك رضي الله عنه، وهو: «اللهم إنا نستعينك ونستغفرك، ونؤمن بك، ونتوكل عليك، ونَخْنَع لك، ونخلع (¬1) ونترك من يَكْفُرك، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفِد (¬2)، نرجو رحمتك، ونخاف عذابك، إن عذابك الجدَّ (¬3) بالكافرين ملحق» (¬4). 35ً - الدعاء قبل السلام وبعد الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم: بما أحب. 36ً - إسرار الدعاء كالتشهد؛ لأن كل دعاء يندب إسراره. 37ً - تعميم الدعاء؛ لأن التعميم أقرب للإجابة. ومن الدعاء العام: (اللهم اغفر لنا (¬5) ولوالدينا ولأئمتنا ولمن سبقنا بالإيمان مغفرة عزماً) أي جزماً. (اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أنت أعلم به منا، ربناآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار) أي أعطنا هداية وعافية وصلاح حال في الدنيا، ولحوقاً بالأخيار وإدخالاً تحت شفاعة النبي المختار، في الآخرة، واجعل بيننا وبين النار وقاية، حتى لا ندخلها. وأحسن الدعاء: ما ورد في الكتاب أو السنة، ثم ما فتح به على العبد. ¬
مذهب الشافعية
38ً - تيامن المأموم بتسليمة التحليل كلها فقط. وأما الإمام والمنفرد فيشير عند النطق بها للقبلة، ويختمها بالتيامن عند النطق بالكاف والميم من (عليكم) حتى يرى من خلفه صفحة وجهة. 39ً - سترة لإمام ومنفرد على الراجح. وأما المأموم: فالإمام سترته. والسترة: ما يجعله المصلي أمامه لمنع المارين بين يديه. وسنفصل الكلام فيها. مذهب الشافعية: السنن عندهم كما ذكرنا نوعان: أبعاض ثمانية سردناها، بل هي عشرون نذكرها في بحث سجود السهو. وهيئات منها أربعون (¬1) أهمها ما يأتي، علماً بأنهم كالحنابلة لا يفرقون بين السنة والمندوب والمستحب. 1 - رفع يديه حذو (مقابل) منكبيه في تحرُّم وركوع ورفع منه، كما روى الشيخان، ومعناه: أن تحاذي أطراف أصابعه أعلى أذنيه، وإبهاماه شحمتي أذنيه، وراحتاه منكبيه. والأصح رفع يديه مع ابتداء التكبير والتسميع. 2 - إمالة أطراف الأصابع نحو القبلة، وتفريجها. 3 - وضع يمين على شمال، وجعلهما تحت صدره وفوق سرته، اتباعاً للسنة كما روى ابن خزيمة. 4، 5 - دعاء افتتاح وتعوذ بفرض أو نفل، والافتتاح نحو «وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ¬
ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لاشريك له، وبذلك أمرت، وأنا أول المسلمين» (¬1). 6، 7 - جهر وإسرار بقراءة الفاتحة والسورة في محلهما المعروف، اتباعاً كما روى الشيخان، وفي الصبح والجمعة والعيدين وخسوف القمر والاستسقاء وأوَّلَتي العشاءين، والتراويح، ووتر رمضان، وركعتي الطواف ليلاً، أو وقت الصبح. والإسرار في غير ذلك إلا نوافل الليل المطلقة فيتوسط فيها بين الجهر والإسرار، إن لم يشوش على نائم أو مصل أو نحوه. والعبرة في قضاء الفريضة بوقت القضاء على المعتمد. والتوسط في نافلة الليل، أي بين الجهر والإسرار، لقوله تعالى: {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها} [الإسراء:110/ 17]، وجهر المرأة دون جهر الرجل إذا لم تكن بحضرة أجانب. 8 - تأمين عقب قراءة الفاتحة، وجهر به في جهرية. أما السرية فيسر كل مصل به. ويلاحظ أن هناك أحوالاً خمسة يجهر فيها المأموم خلف الإمام: وهو التأمين مع إمامه، ودعاؤه في قنوت الصبح، وفي قنوت الوتر في النصف الأخير من رمضان، وفي قنوت النازلة في الصلوات الخمس، وإذا فتح على إمامه. 9 - قراءة سورة بعد الفاتحة في الركعتين الأوليين (¬2) للإمام وغيره، إلا المأموم في الجهرية إذا جهر إمامه، فتكره السورة له، وإلا فاقد الطهورين ذا الحدث الأكبر، ومصلي الجنازة، وإلا المسبوق، فله القراءة في الركعتين الثالثة والرابعة من صلاة نفسه؛ لأن ما يدركه المسبوق هو أول صلاته. ¬
وأقل القراءة: آية طويلة أو ثلاث آيات كالكوثر. ويسن تطويل قراءة الركعة الأولى عن الثانية، كما يسن كون السورتين متواليتين، وعلى ترتيب المصحف، وعكسه خلاف الأفضل. ويحصل أصل السنة بقراءة شيء من القرآن، لكن السورة أحب، وإن كانت أقصر، إلا في التراويح فقراءة بعض السورة الطويلة أفضل؛ لأن السنة فيها القيام بجميع القرآن. والمتنفل بركعتين تسن له السورة أيضاً، فإن تنفل بأكثر من ركعتين، فالأصح الذي أفتى به الأكثرون عدم استحباب السورة في الركعتين الثالثة والرابعة كالفريضة، وهذا خلافاً للحنفية. ويستحب في ركعتي سنة الصبح التخفيف، فيقرأ في الأولى: {قولوا: آمنا بالله وما أنزل إلينا…} (الآية:136 من البقرة)، وفي الثانية: {قل: يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء…} (الآية: 64 من آل عمران) كما ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلّى الله عليه وسلم. وفي رواية لمسلم: «يقرأ فيهما: قل: ياأيه االكافرون، وقل: هو الله أحد» (¬1). ويسن لصبح الجمعة في الأولى: {الم} [السجدة:1/ 32]، وفي الثانية: {هل أتى} [الإنسان:1/ 76]، اتباعاً للسنة (¬2). فإن ترك {الم} في الأولى، سن أن يأتي بها في الثانية. وأن اقتصر على بعضهما، أو قرأ غيرهما، خالف السنة. وإن ضاق الوقت عنهما، أتى بالممكن، ولوآية السجدة، وبعض {هل أتى}. وقال بعض الشافعية: لا تستحب المداومة عليهما ليعرف أن ذلك غير واجب. ¬
10 - التكبير في كل خفض ورفع من غير ركوع (¬1)، إلا تكبيرة الإحرام فإنها فرض. 11 - وضع راحتيه على ركبتيه في الركوع، وتفرقة أصابعه للقبلة حالة الوضع (¬2) 12 - التسبيح في الركوع ثلاثاً: (سبحان ربي العظيم) (¬3) مع زيادة «وبحمده» وهو أدنى الكمال. 13 - التسميع أي قول: (سمع الله لمن حمده) (¬4) لكل مصل إماماً أو غيره عند رفعه من الركوع، ويسن الجهر به للإمام والمبلِّغ إن احتيج إليه؛ لأنه من أذكار الانتقال، ولا يجهر بقوله: (ربنا لك الحمد) كالتسبيح وغيره من الأذكار. لكن قد عمت البلوى بالجهر به، وترك الجهر بالتسميع؛ لأن أكثر الأئمة والمؤذنين صاروا جهلة بسنة سيد المرسلين. وإذا انتصب المصلي معتدلاً قائماً أرسل يديه، وقال: «ربنا لك الحمد، ملء السموات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد» (¬5)، ويزيد المنفرد وإمام جماعة التطويل: «أهلَ الثناء والمجد، أحقُّ ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجد» (¬6). ¬
14 - أن يضع في سجوده ركبتيه، ثم يديه، ثم جبهته وأنفه (¬1). 15 - التسبيح في السجود ثلاثاً: «سبحان ربي الأعلى» (¬2) مع إضافة «وبحمده» وهو أدنى الكمال. 16 - وضع يديه حِذْو منكبيه في السجود، وضم أصابعه منشورة نحو القبلة (¬3). 17 - مجافاة الرجل عضديه عن جنبيه، وبطنه عن فخذيه في ركوعه وسجوده. أما المرأة والخنثى فلا يجافيان، بل يضمان بعضهما إلى بعض؛ لأنه أستر لها، وأحوط للخنثى. ويسن أيضاً تفرقة ركبتيه وكذا قدميه بشبر (¬4). 18 - توجيه المصلي رجلاً كان أو غيره أصابع رجليه نحو القبلة (¬5). 19 - الدعاء في الجلوس بين السجدتين: بأن يقول: (ربي اغفر لي وارحمني، واجبرني، وارفعني، وارزقني واهدني وعافني) (¬6) 20 - الافتراش في جلوسه بين سجدتيه، وفي جلوس تشهد أول: بأن يجلس على يسراه، وينْصِبَ يمناه (¬7).والحكمة: أن المصلي مستوفز للحركة غالباً، والحركة عن الافتراش أهون. ¬
14 - أن يضع في سجوده ركبتيه، ثم يديه، ثم جبهته وأنفه (¬1). 15 - التسبيح في السجود ثلاثاً: «سبحان ربي الأعلى» (¬2) مع إضافة «وبحمده» وهو أدنى الكمال. 16 - وضع يديه حِذْو منكبيه في السجود، وضم أصابعه منشورة نحو القبلة (¬3). 17 - مجافاة الرجل عضديه عن جنبيه، وبطنه عن فخذيه في ركوعه وسجوده. أما المرأة والخنثى فلا يجافيان، بل يضمان بعضهما إلى بعض؛ لأنه أستر لها، وأحوط للخنثى. ويسن أيضاً تفرقة ركبتيه وكذا قدميه بشبر (¬4). 18 - توجيه المصلي رجلاً كان أو غيره أصابع رجليه نحو القبلة (¬5). 19 - الدعاء في الجلوس بين السجدتين: بأن يقول: (ربي اغفر لي وارحمني، واجبرني، وارفعني، وارزقني واهدني وعافني) (¬6) 20 - الافتراش في جلوسه بين سجدتيه، وفي جلوس تشهد أول: بأن يجلس على يسراه، وينْصِبَ يمناه (¬7).والحكمة: أن المصلي مستوفز للحركة غالباً، والحركة عن الافتراش أهون. 21 - جلوس استراحة: بعد سجدة ثانية يقوم عنها مفترشاً (¬8)، وذلك بقدر الطمأنينة، ولا يضر زيادتها على قدر الجلوس بين السجدتين على المعتمد. ويأتي بها المأموم وإن تركها الإمام. 22 - الاعتماد على الأرض بيديه عند قيامه من جلوسه (¬9)، أو سجوده؛ لأنه أبلغ في الخشوع والتواضع، وأعون للمصلي. 23 - رفع يديه عند قيامه من تشهد أول (¬10). 24 - تورك في التشهد الأخير: بأن يلصق وركه الأيسر بالأرض، وينصب رجله اليمنى (¬11)، إلا أن يريد سجود سهو، أو يطلق بأن لم يرده ولا عدمه، فيفترش، لاحتياجه إلى السجود بعد. 25 - وضع يديه على فخذيه، وقبض أصابع يده اليمنى، إلا المسبّحة، فيشير بها منحنية عند ((إلا الله)) بلا تحريك، وينشر أصابع اليسرى مضمومة (¬12). 26 - ألا يجاوز بصرُه إشارته بالمسبحة (¬13). 27 - التعوّذ من العذاب بعد التشهد الأخير (¬14)، ويسن الدعاء بغير ذلك كاللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت، وما أنت ¬
أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك. اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً كبيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم. 29،28 - التسليمة الثانية (¬1)، ونية الخروج من الصلاة من أول التسليمة الأولى، فلو نوى الخروج قبل ذلك، بطلت صلاته، وإن نواه في أثنائها أو بعدها لم تحصل السنة. 30 - تحويل وجهه يميناً وشمالاً في تسليمتيه، حتى يرى في الأولى خده الأيمن، وفي الثانية خده الأيسر (¬2). وينوي السلام على من عن يمينيه وشماله ومحاذيه من ملائكة ومؤمني إنس وجن. ويسن أن يدرج السلام ولا يمده، وأن يسلم المأموم بعد سلام الإمام، ولو قارنه جاز كبقية الأركان إلا تكبيرة الإحرام. 31 - الاستياك ولو بِخرقة لا أصبعه عند قيامه إلى الصلاة (¬3) ولو لفاقد الطهورين إلا بعد الزوال للصائم، فيكره له. وقد سبق تفصيل الكلام في السواك، وهو من السنن الخارجة عن الصلاة. 32 - الخشوع في الصلاة كلها: وهو حضور القلب وسكون الجوارح: بأن يستحصر أنه بين يدي الله تعالى، وأن الله مطلع عليه، لقوله تعالى: {قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون} [المؤمنون:1/ 23 - 2]، وقوله صلّى الله عليه وسلم: «ما من عبد مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه، ثم يقوم فيصلي ركعتين يقبل عليهما بوجهه وقلبه إلا وجبت له الجنة» (¬4) وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: «أن ¬
النبي صلّى الله عليه وسلم رأى رجلاً يعبث بلحيته في الصلاة، فقال: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه» (¬1). 33 - تدبر القراءة: أي تأملها؛ لأن بذلك يحصل مقصود الخشوع والأدب، قال تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن، أم على قلوب أقفالها} [سورة سيدنا محمد:24/ 47] ويسن ترتيل القراءة: وهو التأني فيها، ويكره تركه والإسراع في القراءة. ويسن للقارئ في الصلاة وخارجها إذا مر بآية رحمة أن يسأل الله الرحمة، أو بآية عذاب أن يستعيذ منه (¬2)، أو بآية تسبيح أن يسبح، أو بآية مَثَل أن يتفكر. وإذا قرأ: {أليس الله بأحكم الحاكمين} [التين:8/ 95]، قال: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين؛ وإذا قرأ: {فبأي حديث بعده يؤمنون} [المرسلات:50/ 77] قال: آمنت بالله؛ وإذا قرأ: {فمن يأتيكم بماء معين؟} [الملك:30/ 67]، قال: الله رب العالمين. 34 - تدبر الذِّكر: قياساً على القراءة. 35 - دخول الصلاة بنشاط وفراغ قلب من الشواغل الدنيوية: للذم على ترك الأول، قال تعالى في صفة المنافقين: {وإذا قاموا إلى الصلاة، قاموا كسالى} [النساء:142/ 4]، والكسل: الفتور عن الشيء والتواني فيه، وضده النشاط، ولأن فراغ القلب أعون على الخضوع والخشوع. ¬
الأمور التي تخالف فيها المرأة الرجل في الصلاة
ويكره أن يفكر في صلاته في أمر دنيوي أو مسألة فقهية. أما التفكر في أمور الآخرة، فلا بأس به، وأما فيما يقرؤه فمستحب. 36 - تنبيه الإمام على الخطأ في صلاته ونحو ذلك (¬1): يسن للرجل الذي نابه شيء في صلاته، كتنبيه إمامه لنحو سهو، وإذنه لداخل استأذن في الدخول عليه، وإنذاره أعمى مخافة أن يقع في محذور أو نحو ذلك كغافل وغير مميز، ومن قصد ظالم أو نحوسبع: أن يسبح فيقول: «سبحان الله» بشرط ألا يقصد التنبيه وحده، وإلا بطلت الصلاة. وأما المرأة: فتصفق بضرب بطن اليمين على اليسار، أو عكسه. والدليل هو خبر الصحيحين: «من نابه شيء في صلاته، فليسبح، وإنما التصفيق للنساء» (¬2) ومثلهن الخناثى .. وهذه سنة متفق عليها، إلا أن المالكية قالوا: الشأن لمن نابه شيء وهو يصلي التسبيح (سبحان الله) ويكره التصفيق للمرأة. الأمور التي تخالف فيها المرأة الرجل في الصلاة: ذكر الشافعية أربعة أمور تخالف فيها المرأة الرجل في الصلاة يمكن ملاحظتها مما سبق، وهي ما يأتي (¬3): 1ً - الرجل يجافي مرفقيه عن جنبيه، ويرفع بطنه عن فخذيه في الركوع والسجرد. والمرأة تضم بعضها إلى بعض، فتلصق بطنها بفخذيها وتضم ركبتيها وقدميها في ركوعها وسجودها؛ لأنه أستر لها. ¬
2ً - يجهر الرجل في موضع الجهر، ويسر في موضع الإسرار، كما بينا سابقاً، وتخفض المرأة صوتها إن صلت بحضرة الرجال الأجانب، بحيث لا يسمعها من صلت بحضرته من الأجانب، دفعاً للفتنة، وإن كان الأصح أن صوتها ليس بعورة، فلا يحرم سماع صوت المرأة ولو مغنية، إلا عند خوف الفتنة، بأن كان لو اختلى الرجل بها، لوقع بينهما مُحرَّم. 3ً - إذا ناب الرجل شيء في الصلاة سبَّح، فيقول: «سبحان الله» بقصد الذكر فقط أو مع الإعلام، أو أطلق، ولا تبطل صلاته، لكن إن قصد الإعلام فقط بطلت صلاته. أما المرأة إذا نابها شيء في الصلاة، فتصفق، وإن كانت خالية عن الرجال الأجانب على المعتمد، بضرب بطن اليمين على ظهر الشمال، فلو ضربت بطناً ببطن بقصد اللعب، ولو قليلاً، مع علم التحريم، بطلت صلاتها، فلو لم تقصد اللعب لم تبطل صلاتها. والخنثى كالمرأة في التصفيق والضم وغيرهما. ولا يضر التصفيق وإن كثر وتوالى حيث كان بقدر الحاجة. وكذا لو صفق الرجل فإنه لا يضر وإن كثر وتوالى، ولا تبطل الصلاة؛ لأن الفعل خفيف، فأشبه تحريك الأصابع في سبحة، أو لنحو جرب. ولا تبطل الصلاة بالتصفيق ولو بقصد الإعلام، ولو من الرجل على المعتمد، بخلاف التسبيح بقصد الإعلام فإنه يبطل الصلاة؛ لأن التسبيح لفظ يصلح لقصد الذكر، والتصفيق فعل لا يصلح له. أما التصفيق خارج الصلاة فيكره بلا قصد اللعب على المعتمد عند الرملي، ولو بقصد اللعب على المعتمد عند ابن حجر، وذلك منعاً من التشبه بالعرب في
مذهب الحنابلة
الجاهلية: {وما كان صلاتُهم عند البيت إلا مُكاءً وتصدية، فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} (¬1). 4ً - عورة الرجل: ما بين سرته وركبته في الصلاة والطواف وأمام الرجال الأجانب والنساء المحارم. أما عند النساء الأجانب فعورته جميع بدنه، وعورته في الخلوة: السوأتان فقط. والأمة كالرجل. وليست السرة والركبة من العورة، لكن يجب ستر جزء منهما ليتحقق ستر العورة، من باب ما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب. وجميع بدن المرأة الحرة في الصلاة عورة إلا وجهها وكفيها، أما خارج الصلاة فعورتها جميع البدن. مذهب الحنابلة: سنن الصلاة عندهم ثلاث وسبعون، وهي قسمان: قولية وفعلية (¬2). السنن القولية سبع عشرة، وقد ذكرناها في بدء البحث، والسنن الفعلية ست وخمسون تقريباً أهمها ما يأتي، علماً بأنهم كالشافعية لا يفرقون بين السنة والمندوب والمستحب. 1، 2، 3 - رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام: بأن تكون مبسوطة (ممدودة الأصابع) مضمومة الأصابع، مستقبل القبلة ببطونها إلى حذو منكبيه عند الإحرام. 4 - جهر الإمام بتكبيرة الإحرام، بحيث يسمع المأمومون ليكبروا، فإنهم لا يجوزون التكبير إلا بعد تكبيره. ¬
5، 6 - رفع اليدين على الهيئة السابقة عند الركوع وعند الرفع من الركوع، وحطهما عقب ذلك. 7، 8 - وضع اليمين على كوع (¬1) الشمال، حال القيام والقراءة، وجعلهما تحت سرته بعد إحرامه. 9 - نظر المصلي إلى موضع سجوده حال قيامه. 10، 11 - ترتيل القراءة والتخفيف فيها للإمام، للحديث السابق: «من أم بالناس فليخفف». 12، 13 - إطالة الركعة الأولى، وتقصير الركعة الثانية في غير صلاة الخوف. 14 - تفريج المصلي بين قدميه حال قيامه يسيراً. 15، 16 - قبض ركبتيه بيديه حال الركوع، مفرجتي الأصابع. 17، 18 - مد ظهره مستوياً، وجعل رأسه حيال ظهره، فلا يخفضه ولا يرفعه. 19 - مجافاة عضديه عن جنبيه في الركوع. 20، 21 - البدء في سجوده بوضع ركبتيه قبل يديه، ورفع يديه أولاً في القيام من السجود. 22، 23 - تمكين كل أعضاء السجود من الأرض، أي تمكين كل جبهته، ¬
وكل أنفه وأطرافه، ومباشرة المصلَّى بيديه وجبهته بأن لا يكون ثم حائل متصل به، وعدم المباشرة بركبتيه. 24 - مجافاة عضديه عن جنبيه، وبطنه عن فخذيه، وفخذيه عن ساقيه في السجود. 25 - التفريق بين ركبتيه في سجوده، ونصب قدميه، وجعل بطون أصابعهما على الأرض مفرقة في السجود وفي الجلوس بين السجدتين أو للتشهد. 26 - وضع يديه في السجود حذو منكبيه، مبسوطة الأصابع. 27 - توجيه أصابع يديه في السجود مضمومة نحو القبلة. 28 - القيام من السجود إلى الركعة الثانية على صدور قدميه، معتمداً بيديه على ركبتيه في النهوض لبقية صلاته، إلا أن يشق عليه، فيعتمد على الأرض. 29، 30، 31 - الافتراش في الجلوس بين السجدتين وفي التشهد الأول، والتورك في التشهد الثاني. 32 - 35 - وضع اليدين على الفخذين، مبسوطتين، مضمومتي الأصابع، مستقبلاً بها القبلة، في الجلوس بين السجدتين، وفي التشهد الأول والثاني. 36 - قبض الخنصر والبنصر من يده اليمنى، وتحليق إبهامه مع الوسطى في التشهد مطلقاً. 37 - الإشارة بالسبابة عند ذكر الله تعالى في التشهد. 38، 39 - ضم أصابع اليسرى في التشهد، وجعل أطراف أصابعها جهة القبلة.
المبحث الثاني ـ سنن الصلاة الخارجة عنها
40 - الإشارة بوجهه نحو القبلة في ابتداء السلام. 41، 42 - الالتفات يميناً وشمالاً في تسليمه، وزيادة التفات اليمين على الشمال. 43 - أن ينوي بسلامه الخروج من الصلاة، كما قال الشافعية. 44 - الخشوع في الصلاة: للآية السابقة: {الذين هم في صلاتهم خاشعون} [المؤمنون:2/ 23] وللحديث السابق وقول النبي صلى الله عليه وسلم في العابث بلحيته: «لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه» والخشوع: معنى يقوم في االنفس يظهر منه سكون الأطراف. والمرأة فيما فيما تقدم كالرجل إلا أنها لا يسن لها المجافاة السابقة في الركوع والسجود، بل السنة لها أن تجمع نفسها، وتجلس مسدلة رجلها عن يمينها، وهو الأفضل. ويجب عليها الإسرار بالقراءة إن كان يسمعها أجنبي. والخنثى المشكل كالأنثى. المبحث الثاني ـ سنن الصلاة الخارجة عنها: للصلاة سنن قبلها كالاستياك والأذان والإقامة، واتخاذ السترة، وهنا نبحث الأخير وقد سبق بحث ما قبله: 1 - تعريف سترة المصلي: هي ما يجعله المصلي أمامه لمنع المرور بين يديه. 2 - حكم سترة المصلي: هي سنة مشروعة، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا صل أحدكم فليصل إلى سترة، ولْيَدْن منها، ولا يدع أحداً يمر بين يديه، فإن جاء أحد يمر، فليقاتله، فإنه شيطان» (¬1) ¬
حكمتها
وليست واجبة باتفاق الفقهاء؛ لأن الأمر باتخاذها للندب، إذ لا يلزم من عدمها بطلان الصلاة وليست شرطاً في الصلاة، ولعدم التزام السلف اتخاذها، ولو كان واجباً لالتزموه، ولأن الإثم على المار أمام المصلي، ولو كانت واجبة لأثم المصلي، ولأن «النبي صلّى الله عليه وسلم صلى في فضاء ليس بين يديه شيء» رواه البخاري. 3 - وحكمتها: منع المرور أمام المصلي بين يديه، مما يقطع خشوعه، وتمكين المصلي من حصر تفكيره في الصلاة، وعدم استرساله في النظر إلى الأشياء، وكف بصره عما وراء سترته لئلا يفوت خشوعه. 4 - آراء الفقهاء في السترة: للفقهاء رأيان في اتخاذها مطلقاً أو في حالة خشية مرور أحد: فقال المالكية والحنفية (¬1): السترة في الفرض أو النفل مندوبة للإمام والمنفرد إن خشيا مرور أحد بين يديهما في محل سجودهما فقط، وأما المأموم فسترة الإمام سترة له؛ لأنه عليه السلام صلى ببطحاء مكة إلى عَنَزة (¬2)، ولم يكن للقوم سترة (¬3). ولا بأس بترك السترة إذا أمن المصلي المرور، ولم يواجه الطريق. فالمستحب لمن صلى بالصحراء أن ينصب بين يديه عوداً أو يضع شيئاً، ويعتبر الغرز دون الإلقاء والخط؛ لأن المقصود وهو الحيلولة بينه وبين المار لا يحصل به. ¬
وقال الشافعية والحنابلة (¬1): يستحب للمصلي أن يصلي إلى سترة، سواء أكان في مسجد أم بيت، فيصلي إلى حائط أو سارية (عمود)، أم في فضاء، فيصلي إلى شيء شاخص بين يديه كعصا مغروزة أو حربة، أو عرض البعير أو رحله عند الحنابلة، فإن لم يجد خطَّ خطاً قبالته، أو بسط مصلَّى كسجادة كما ذكر الشافعية. ودليلهم حديث أبي جحيفة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم ركزت له العَنَزة، فتقدم وصلى الظهر ركعتين، يمر بين يديه الحمار والكلب، لا يمنع» (¬2) وحديث طلحة بن عبيد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مُؤَخَّرة الرحل، فليصل، ولا يبال من مر وراء ذلك» (¬3). وسترة الإمام سترة لمن خلفه بالاتفاق؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم صلى إلى سترة، ولم يأمر أصحابه بنصب سترة أخرى، كما ذكر في رأي المالكية والحنفية. وفي حديث عن ابن عباس قال: «أقبلت راكباً على حمار أتان، والنبي صلّى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار، فمررت بين يدي بعض أهل الصف، فنزلت، فأرسلت الأتان ترتع، فدخلت في الصف، فلم ينكر علي أحد» (¬4). وذكر الحنابلة: أنه لا بأس أن يصلي بمكة إلى غير سترة، فقد روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم فيما ذكر أحمد ـ «أنه صلى ثَمَّ، ليس بينه وبين الطواف سترة» أي كأن مكة مخصوصة. ¬
صفة السترة وقدرها
5 - صفة السترة وقدرها: للفقهاء آراء متقاربة في ذلك فقال الحنفية: أدنى السترة طول ذراع (2،46سم) فصاعداً وغلظ أصبع، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا جعلت بين يديك مثل مؤخرة الرحل، فلا يضر ك من مر بين يديك» (¬1) وقدرت العنزة التي كان يصلي إليها النبي صلّى الله عليه وسلم في الصحراء بذراع طولاً. ويعتبر الغرز دون الإلقاء والخط كما بينا. ويجوز عندهم الاستتار بظهر آدمي جالس أو قائم، أو بدابة لا إلى مصحف أو سيف، وحيلة الراكب: أن ينزل فيجعل الدابة بينه وبين المصلي، فتصير سترة، فيمر. ومن احتاج إلى المرور بين يدي المصلي، ألقى شيئاً بين يدي المصلي، ثم يمر من ورائه. وقال المالكية أيضاً: أقلها طول الذراع في غلظ الرمح، بشرط أن تكون بشيء ثابت، طاهر، وكره النجس، لا يشوش القلب، فلا يستر بصبي لا يثبت، ولا بامرأة، ولا إلى حلقة المتكلمين، ولا بسوط وحبل ومنديل ودابة غير مربوطة، ويجوز الاستتار بالإبل والبقر والغنم المربوطة؛ لأنها عندهم طاهرة الفضلة، ولايجوز الاستتار بخط في الأرض ولا حفرة. بدليل ما روي عن ابن عمر: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان إذا خرج يو م العيد، يأمر بالحربة، فتوضع بين يديه، فيصلي إليها الناس وراءه، وكان يفعل ذلك في السفر» (¬2) وعن أبي جحيفة قال: «وبين يديه عَنَزة» وهي عصا قصيرة فيها زُجّ (¬3). وأما حديث أبي هريرة في الخط فهو ضعيف مضطرب (¬4). ¬
ويكره عندهم الاستتار بظهر امرأة أجنبية أو كافر، ويجوز من غير كراهة الاستتار برجل غير كافر، أو بامرأة محرم على الراجح. وقال الشافعية: يستحب أن يصلي إلى شاخص قدر ثلثي ذراع طولاً وإن لم يكن له عرض كسهم، لخبر: «استتروا في صلاتكم ولو بسهم» (¬1)، ولا يستتر بدابة. وقال الحنابلة كالحنفية والمالكية: قدر السترة في طولها ذراع أو نحوه، وأما قدرها في الغلظ والدقة فلا حد له عندهم، فيجوز أن تكون دقيقة كالسهم والحربة، وغليظة كالحائط، فإن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يستتر بالعنزة. واستدل الشافعية والحنابلة على إجزاء الخط بحديث أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا صلى أحدكم، فليجعل تلقاء وجهه شيئاً، فإن لم يجد فلينْصِب عصاً، فإن لم يكن معه عصا، فليخط خطاً، ولا يضره ما مر بين يديه» (¬2). وصفة الخط عند الشافعية: أنه مستقيم طولاً. وعند الحنابلة: أنه مثل الهلال عرضاً كالقنطرة، وقال بعض الحنابلة: كيفما خطه أجزأه، إن شاء معترضاً وإن شاء طولاً. وإن كان معه عصا، فلم يمكنه نصبها، ألقاها عند الجمهور عرضاً؛ لأن هذا في معنى الخط، فيقوم مقامه. وقال المالكية: لا بد من وضعها منصوبة. وأجاز الحنابلة أن يستتر ببعير أو حيوان أو إنسان، وفعله ابن عمر وأنس، ¬
استقبال وجه الإنسان أو الصلاة إلى نار أو صورة أو امرأة تصلي
بدليل ماروى ابن عمر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم صلَّى إلى بعير» (¬1) وفي لفظ: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعرض راحلته، ويصلي إليها» قال: قلت: فإذا ذهب الركاب؟ قال: يعرض الرحل، ويصلي إلى آخرته، فإن استتر بإنسان، فلا بأس، فإنه يقوم مقام غيره من السترة. وعن نافع قال: «كان ابن عمر إذا لم يجد سبيلاً إلى سارية من سواري المسجد، قال: ولّني ظهرك». وروي عن حميد بن هلال قال: «رأى عمر بن الخطاب رجلاً يصلي، والناس يمرون بين يديه، فولاه ظهره، وقال بثوبه هكذا، وبسط يديه هكذا، وقال: صل ولاتعجل» (¬2). والخلاصة: يصح الاستتار بظهر آدمي أو امرأة عند الحنفية والمالكية، وقال الحنابلة: يصح الاستتار بالآدمي مطلقاً بظهره أو غيره، وقال الشافعية: لا يصح الاستتار بالآدمي مطلقاً، ويصح عند الجمهور الاستتار بسترة مغصوبة ولا يصح بها وتكره الصلاة إليها عند الحنابلة، ويصح الاستتار عند الجمهور بالسترة النجسة، ولا يصح ذلك عند المالكية، ويصح بالاتفاق الاستتار بجدار. 6 - استقبال وجه الإنسان أو الصلاة إلى نار أو صورة أو امرأة تصلي (¬3): اتفق الفقهاء على أنه يكره أن يصلي مستقبلاً وجه إنسان؛ لأن عمر رضي الله عنه أدَّب على ذلك، وفي حديث عائشة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يصلي حذاء وسط السرير، وأنا مضطجعة بينه وبين القبلة، تكون لي الحاجة، فأكره أن أقوم، فاستقبله، فأنسل انسلالاً» (¬4)، وأنه شبه السجود لذلك الشخص. والكراهة فيه عند الحنفية تحريمية. ¬
- مدى بعد السترة عن المصلي
ويكره اتفاقاً أن يصلي إلى نار من تنور، وسراج وقنديل وشمع ومصباح ونحوها؛ لأن النار تعبد من دون الله، فالصلاة إليها تشبه الصلاة لها. وتكره الصلاة إلى صورة منصوبة في وجهك؛ لأن الصورة تعبد من دون الله، وقد روي عن عائشة قالت: «كان لنا ثوب فيه تصاوير، فجعلته بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو يصلي، فنهاني: أو قالت: كره ذلك» (¬1) ولأن التصاوير تشغل المصلي بالنظر إليها، وتذهله عن صلاته، قال أحمد: يكره أن يكون في القبلة شيء معلق، مصحف أو غيره، ولا بأس أن يكون موضوعاً على الأرض. وقال الحنفية: لا بأس بأن يصلي وبين يديه مصحف معلق أو سيف معلق؛ لأنهما لا يعبدان. ولا بأس أن يصلي على بساط فيه تصاوير، لاستهانته بها. ويكره أن يصلي، وأمامه امرأة تصلي، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «أخروهن من حيث أخرهن الله» (¬2). أما في غير الصلاة، فلا يكره لخبر عائشة المتقدم. وروى أبو حفص بإسناده عن أم سلمة قالت: «كان فراشي حيال مصلَّى النبي صلّى الله عليه وسلم». 7 - مدى بُعْد السترة عن المصلي: يستحب عند الجمهور أن يقرب من سترته قدر ثلاثة أذرع فأقل من ابتداء قدميه، لحديث بلال: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم دخل الكعبة، فصلى وبينه وبين الجدار نحوٌ من ثلاثة أذرع» (¬3) وروى الاسماعيلي عن سلمة: «كان المنبر على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليس بينه وبين حائط القبلة إلا قدر ما تمر العنز» وممر العنز: ثلاثة أذرع. ¬
موقف المصلي من السترة
وقال المالكية: يجعل بينه وبينها قدر ممر الهر أو الشاة، وقيل: ثلاثة أذرع. للحديث المتفق عليه عن سهل بن سعد: «كان بين مصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وبين الجدار ممر شاة». 8 - موقف المصلي من السترة: السنة باتفاق المذاهب الأربعة: أن يميل المصلي عن السترة يميناً أو يساراً، بحيث لا يقابلها، ولا يصمُد لها صمداً (أي لا يجعلها تلقاء وجهه)، لما روى أبو داود عن المقداد بن الأسود، قال: «ما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم صلَّى إلى عود أو إلى عمود، ولا شجرة، إلا جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر، ولا يصمُد له صَمْداً» (¬1). 9 - المرور بين يدي المصلي: قال الحنفية (¬2): يكره تحريماً المرور بين يدي المصلي، ويأثم المار في موضع سجود المصلي، إذا اتخذ سترة، دون أن يكون بينهما حائل كعمود أو جدار، وتحاذت بعض أعضاء المار أعضاء المصلي كمحاذاة رأس المار قدمي المصلي، وذلك إذا كان يصلي في الصحراء. ولو مر رجلان، فالإثم على من يلي المصلي. فإن مر إنسان فيما بعد موضع سجود المصلي، أو لم يكن المصلي متخذاً سترة، أو وجد حائل ولو ستارة، أو لم تتحاذ كل أعضاء المار مع أعضاء المصلي بأن مشى جانبه، أو مر في المسجد وراء السترة، لم يحرم المرور ولم يأثم المار؛ لأن المؤثم المرور بين يدي المصلي، ولأن المسجد كبقعة واحدة، ويجوز المرور بين يدي المصلي لسدّ فرجة في الصف. ¬
كذلك يكره للمصلي أن يتعرض بصلاته لمرور الناس بين يديه، بأن يصلي بدون سترة في طريق مثلاً، فيأثم بمرور الناس بين يديه بالفعل، لا بترك السترة، فلو لم يمر أحد لا يأثم؛ لأن اتخاذ السترة في ذاته ليس واجباً. ومن الذي يأثم؟ المصلي أم المار؟ هناك صور أربع: الأولى: إثم المار وحده: أن يكون للمار مندوحة عن المرور بين يدي المصلي، ولم يتعرض المصلي لذلك، فيختص المار بالإثم إن مر. الثانية: إثم المصلي وحده: وهي عكس الأولى: أن يكون المصلي تعرض للمرور وليس للمار مندوحة عن المرور، فيختص المصلي بالإثم دون المار. الثالثة: أن يتعرض المصلي للمرور ويكون للمار مندوحة، فيأثمان. الرابعة: ألا يتعرض المصلي ولا يكون للمار مندوحة، فلا يأثم واحد منهما. وقال المالكية (¬1): يأثم المار بين يدي المصلي فيما يستحقه من محل صلاته، سواء صلى لسترة أم لا، ما لم يكن محرماً بصلاة، فيجوز له المرور لسد فرجة بصف أو لغسل رعاف، وما لم يكن طائفاً بالبيت الحرام، فلا حرمة على الطائف والمصلي إذا مرّا بين يدي المصلي، ولو كان لهما مندوحة، أي سعة وطريق يمران فيهما. وحرمة المرور هذه إذا كان للمار مندوحة أي سعة وطريق آخر يمر فيه. فإن لم يكن له طريق إلا ما بين يدي المصلي، فلا إثم عليه إن احتاج للمرور، وإلا أثم. ويأثم مصل تعرَّض بصلاته من غير سترة في محل يظن به المرور، ومرَّ بين يديه أحد. وقد يأثمان معاً إن تعرض بغير سترة، وكان للمار مندوحة. ¬
المرور أمام المصلي في أثناء الطواف
وقد يأثم أحدهما، فيأثم المصلي إن تعرض، ولا مندوحة للمار، ويأثم المار إن كان له مندوحة ولم يتعرض المصلي، أي إن قصر أحدهما دون الآخر أثم وحده. وقد لا يأثم واحد منهما إن اضطر المار، ولم يتعرض المصلي. وقال الشافعية (¬1): الصحيح تحريم المرور إن اتخذ المصلي سترة، ولو لم يجد المار سبيلاً آخر، لخبر أبي جهم الأنصاري: «لو يعلم المار بين يدي المصلي (أي إلى السترة) ماذا عليه من الإثم، لكان أن يقف أربعين خريفاً، خيراً له من أن يمر بين يديه» (¬2). ويكره تعرض المصلي بصلاته في موضع يحتاج للمرور فيه. وقال الحنابلة (¬3): يأثم المار بين يدي المصلي، ولو لم يكن له سترة، لحديث أبي جهم الأنصاري السابق. ويكره تعرض المصلي لمكان فيه مرور، كما قال الشافعية. المرور أمام المصلي في أثناء الطواف: اتفق الفقهاء على أنه يجوز المرور بين يدي المصلي للطائف بالبيت أو داخل الكعبة أوخلف مقام إبراهيم عليه السلام، وإن وجدت سترة، وأضاف الحنابلة أنه لا يحرم المرور بين يدي المصلي في مكة كلها وحرمها. ¬
موضع حرمة المرور
10 - موضع حرمة المرور: قال الحنفية (¬1): إ ن كان يصلي في الصحراء أو في مسجد كبير، فيحرم المرور في الأصح بين يديه، من موضع قدمه إلى موضع سجوده. وإن كان يصلي في بيت أو مسجد صغير (وهو ما كان أقل من أربعين ذراعاً على المختار)، فإنه يحرم المرور من موضع قدميه إلى حائط القبلة؛ لأنه كبقعة واحدة، إن لم يكن له سترة. فلو كانت له سترة لا يضر المرور وراءها. ولا يجعل المسجد الكبير أو الصحراء كمكان واحد؛ لأنه لو جعل كذلك، لزم الحرج على المارة، فاقتصر على موضع السجود. وقال المالكية (¬2): إن صلى لسترة حرم المرور بينه وبين سترته، ولا يحرم المرور من ورائها، وإن صلى لغير سترة، حرم المرور في موضع قيامه وركوعه وسجوده فقط. وقال الشافعية (¬3): يحرم المرور فيما بين المصلي وسترته بقدر ثلاثة أذرع فأقل. وقال الحنابلة (¬4): إن اتخذ المصلي سترة حرم المرور بينه وبينها ولو بعدت، وإن لم يتخذ سترة حرم المرور في مسافة بقدر ثلاثة أذرع من قدمه. ¬
دفع المار بين يدي المصلي
11 - دفع المار بين يدي المصلي: يرى أكثر العلماء أن للمصلي منع المار بين يديه ودفعه، لما ثبت في السنة من الأحاديث الصحيحة، منها ما رواه ابن عمر: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا كان أحدكم يصلي، فلا يدع أحداً يمرّ بين يديه، فإن أبى فلْيقاتلْه، فإن معه القَرين» (¬1). ومنها حديث أبي سعيد الخدري، قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: «إذا صلَّى أحدكم إلى شيء يستُره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه، فليدفعه، فإن أبى فليقاتله، فإنما هو شيطان» (¬2). ولكن اختلف الفقهاء في أفضلية دفع المار: فقال الحنفية (¬3): هو رخصة، والأولى تركه، والعزيمة ترك التعرض له. أما الأمر بمقاتلة المار، فكان في بدء الإسلام حين كان العمل في الصلاة مباحاً، فهو منسوخ. وإذا أراد الرجل الدفع عملاً بالرخصة: دفع بالإشارة، أو التسبيح، أو الجهر بالقراءة، ولا يزاد عليها، ويكره الجمع بينهما. وتدفع المرأة بالإشارة أو بالتصفيق لابباطن الكفين، وإنما ببطن اليمنى على ظهر اليسرى. ودليل الدفع بالإشارة: ما فعله الرسول صلّى الله عليه وسلم بولدي أم سلمة رضي الله عنها (¬4). ودليل الدفع بالتسبيح حديث: «من نابه شيء في صلاته فليسبح، فإنه إذا ¬
هل المرور بين يدي المصلي يقطع الصلاة؟
سبح التفت إليه وإنما التصفيق للنساء» (¬1). وقال المالكية (¬2): يندب للمصلي أن يدفع المار بين يديه دفعاً خفيفاً فإن كثر أبطل صلاته، ولو دفعه فأتلف له شيئاً، كما لو خرق ثوبه أو سقط منه مال، ضمن على المعتمد، ولو دفعه دفعاً مأذوناً فيه. وقال الشافعية والحنابلة (¬3): يسن للمصلي أن يدفع المار بينه وبين سترته، عملاً بالأحاديث الثابتة المتقدمة، ويضمن المصلي المار إن قتله أو آذاه، هذا ولا يرد المار بين يدي المصلي في مكة والحرم، بدليل ماروى أحمد وأبو داود وابن ماجه والنسائي عن المُطّلِب بن وَدَاعة: «أنه رأى النبي صلّى الله عليه وسلم يصلِّي مما يلي باب بني سهم والناس يمرون بين يديه، وليس بينهما سُترة». 12 - هل المرور بين يدي المصلي يقطع الصلاة؟ اتفق أئمة المذاهب الأربعة على أن المرور بين يدي المصلي لا يقطعها ولا يبطلها، وإنما ينقص الصلاة إذا لم يرده (¬4)، لقول صلّى الله عليه وسلم: «لا يقطع صلاة المرء شيء، وادرؤوا ما استطعتم» (¬5). وروي عن ابن مسعود: «أن ممر الرجل يضع نصف الصلاة، وكان عبد الله إذا مر بين يديه رجل التزمه حتى يرده» (¬6). قال القاضي أبو يعلى الحنبلي: ينبغي ¬
أن يحمل نقص الصلاة على من أمكنه الرد، فلم يفعله، أما إذا رد فلم يمكنه الرد، فصلاته تامة، لأنه لم يوجد منه ما ينقص الصلاة، فلا يؤثر فيها ذنب غيره. وقال الإمام أحمد: لا يقطع الصلاة إلا الكلب الأسود البهيم (¬1)، قال معاذ ومجاهد: الكلب الأسود شيطان، وهو يقطع الصلاة. وقال الظاهرية: يقطع الصلاة مرور المرأة والكلب والحمار، لحديث أبي هريرة: «يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب، ويقي ذلك مثل مؤخرة الرحل» (¬2) وحديث أبي ذر: «إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره مثل آخرة الرحل، فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل، فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود، قال عبد الله بن الصامت: يا أبا ذر، ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر، من الكلب الأصفر؟ قال: يابن أخي، سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم كما سألتني، فقال: «الكلب الأسود شيطان» (¬3) واقتصر الحنابلة على بطلان الصلاة بمرور الكلب الأسود، لمعارضة هذين الحديثين بحديث الفضل بن عباس عند أبي داود المتضمن صلاة النبي صلّى الله عليه وسلم أمام حمار، وحديث عائشة السابق المتضمن صلاة الرسول عليه السلام وهي معترضة بينه وبين القبلة، وحديث ابن عباس المتفق عليه الذي مر راكباً على حمار، ثم نزل وترك الأتان ترتع بين الصفوف، فبقي الكلب الأسود خالياً عن معارض، فيجب القول به لثبوته، وخلوه عن معارض. ورد النووي على هذه الأحاديث الصحيحة لدى الحنابلة والظاهرية بما أجاب ¬
تقديم العشاء على صلاة العشاء
به الشافعي والخطابي والمحققون من الفقهاء والمحدثين: بأن المراد بالقطع القطع عن الخشوع والذكر، للشغل بها والالتفات إليها، لا أنها تفسد الصلاة (¬1). تقديم العَشَاء على صلاة العشاء: إذا حضر العشاء في وقت الصلاة، فالمستحب عند الشافعية والحنابلة أن يبدأ بالعَشَاء قبل الصلاة إذا كانت نفسه تتوق إلى الطعام كثيراً، ليكون أفرغ لقلبه، وأحضر لباله، ولا يستحب أن يعجل عن عشائه أو غدائه. روى مسلم وغيره عن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا قُرِّب العَشَاء، وحضرت الصلاة فابدؤوا به قبل أن تصلوا صلاة المغرب، ولا تعجلوا عن عشائكم» وقالت عائشة: إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «لا صلاة بحضور طعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان» أي البول والغائط. ولا فرق بين كون الصلاة جماعة أو غير جماعة، لما رواه مسلم عن ابن عمر: «إذا قرِّب عشاء أحدكم وأقيمت الصلاة، فابدؤوا بالعَشَاء، ولا يعجلن حتى يفرغ منه» أي وأقيمت الجماعة. وقال مالك: تبدأ الجماعة بالصلاة إلا أن يكون طعاماً خفيفاً (¬2). المبحث الثالث ـ صفة الصلاة أو كيفيتها: صفة صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم: عن أبي حميد الساعدي أنه قال وهو في عَشَرة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أحدُهم أبو قتادة: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قالوا: ماكنتَ أقدم منا له صُحبة، ولا أكثَرنا له إتياناً؟ قال: بلى، قالوا: فاعرض (¬3)، فقال: ¬
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة اعتدل قائماً، ورفع يديه، حتى يحاذي بهما مَنْكبيه، ثمَ يكبر، فإذا أراد أن يركع، رفع يديه، حتى يحاذي بهما مَنْكبيه، ثم قال: الله أكبر، وركع. ثمّ اعتدل، فلم يُّصوِّب رأسه ولم يُقْنِع (¬1)، ووضع يديه على ركبتيه، ثمّ قال: سمع الله لمن حمِدَه، ورفع يديه واعتدل، حتى يرجِع كل عظم في موضعه معتدلاً (¬2). ثم هوى (¬3) إلى الأرض ساجداً، ثم قال: الله أكبر، ثم ثنى رجله وقعد عليها (¬4)، واعتدل حتى يرجع كل عظم في موضعه، ثم نهض. ثم صتع في الركعة الثانية مثل ذلك، حتى إذا قام من السجدتين، كبّر ورفع يديه حتى يحاذي بهما مَنْكبيه، كما صنع حين افتتح الصلاة، ثم صنع كذلك، حتى إذا كانت الركعة التي تنقضي فيها صلاته، أخَّر رجله اليسرى، وقعد على شقه متورِّكاً (¬5)، ثمَّ سلَّم. قالوا: صدقت، هكذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬6). ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصّلي» (¬7). ¬
توضيح كيفية الصلاة
توضيح كيفية الصلاة: يتبين من هذا الحديث ومما ذكرناه من شروط الصلاة وأركانها وسننها وآدابها ومندوباتها في المذاهب المختلفة أن صفة الصلاة على النحو التالي (¬1): يراعي المصلي شروط الصلاة من ستر العورة وطهارة البدن والثوب والمكان وغيرهما، ثم يتوضأ للصلاة، ثم يؤذن لها ويقيم بعد دخول وقتها، ثم يستقبل القبلة، ثم يشرع في الصلاة ناوياً بقلبه، مكبراً للافتتاح، ويسن التلفظ بالنية عند الجمهور (غير المالكية)، قائلاً وجوباً بلا مد: «الله أكبر» جاهراً بها عند المالكية، رافعاً يديه مع ابتداء التكبير، مخرجاً كفيه من كميه، بخلاف المرأة، مفرجاً أصابعه عند الجمهور (غير الحنابلة)، مستقبلاً بها القبلة، محاذياً بإبهاميه شحمتي أذنيه عند الحنفية، وحذو منكبيه عند غيرهم وعند الحنفية للمرأة، كماثبت في السنة، ثم يضع عند الجمهور (غير المالكية) كفَّه اليمنى على اليسرى تحت سرته عند الحنفية والحنابلة، وتحت صدره عند الشافعية، ويرسلهما عند المالكية. وينظر المصلي إلى موضع سجوده، ثم يقرأ الثناء (¬2) عند الحنفية والحنابلة، والتوجه (¬3) عند الشافعية، ولا يقرؤهما عند المالكية، ثم يتعوذ سراً للقراءة بالاتفاق، ويسمي سراً عند الحنفية والحنابلة، ويجهر بالبسملة عند الشافعية، ولايسمي عند المالكية، ثم يقرأ الفاتحة، ويؤمِّن المصلي بعد {ولا الضالين} [الفاتحة:7/ 1] سراً عند المالكية والحنفية، جهراً عند الشافعية والحنابلة، ثم يقرأ ¬
سورة أو آيات بعد الفاتحة من طوال المفصل في الفجر والظهر، ومن أوساطه في العصر والعشاء، وكذا في الظهر عند الحنابلة، ومن قصاره في المغرب، وكذا في العصر عند المالكية، ويجهر بالقراءة ليلاً، ويسر بها نهاراً. ثم يكبر للركوع مع ابتداء الانحناء وينهيه بانتهائه، رافعاً يديه عند الجمهور غير الحنفية، آخذاً ركبتيه بيديه، مطمئناً، مفرجاً أصابعه، باسطاً ظهره مستقيماً، مسوياً رأسه بعجزه، غير رافع رأسه ولا خافضه، ناصباً ساقيه، مجافياً مرفقيه عن جنبيه، قائلاً ثلاثاً: (سبحان ربي العظيم) مع إضافة (وبحمده) عند غير الحنفية. ثم يرفع رأسه من الركوع قائلاً: (سمع الله لمن حمده)، ويقول المقتدي فقط سراً عند الجمهور غير الشافعية: (ربنا لك الحمد)، ويجمع بينهما عند الشافعية كالإمام ولا يجهر بالتحميد، كما يجمع بينهما المنفرد عند المالكية. ويجمع بينهما الإمام عند الحنفية والحنابلة، ولا يحمد الإمام عند المالكية، رافعاً يديه عند غير الحنفية، مطمئناً بالاتفاق حال الاعتدال، ولا يرفع يديه عند الحنفية إلا في التكبيرة الأولى. ثم يهوي للسجود واضعاً عند غير المالكية ركبتيه، ثم يديه، ثم جبهته وأنفه، ويقدم اليدين عند المالكية، ناصباً قدميه، موجهاً أصابعها نحو القبلة، واضعاً عند الحنفية وجهه بين كفيه، مجافياً بطنه عن فخذيه، وعضديه عن جنبيه، والمرأة لاتجافي؛ لأنه أستر لها، واضعاً عند غير الحنفية كفيه حذو منكبيه، ناشراً أصابعهما مضمومة للقبلة، معتمداً عليهما، مطمئناً في سجوده، ويقول ثلاثاً: (سبحان ربي الأعلى) ويضيف عند غير المالكية: (وبحمده). ثم يرفع رأسه مكبراً، ويجلس بين السجدتين مطمئناً، مفترشاً رجله اليسرى ويجلس عليها، ناصباً رجله اليمنى، واضعاً يديه على فخذيه، ويقول عند
غيرالحنفية: (رب اغفر لي). ثم يكبر للسجود، ويسجد السجدة الثانية، كالأولى. ثم يكبر للنهوض إلى الركعة الثانية، ويقوم عند الحنفية على صدور قدميه (¬1)، ولا يقعد، ولا يعتمد بيديه على الأرض، وإنما يعتمد عندهم على ركبتيه إلا أن يشق عليه فيعتمد على الأرض، ولا يجلس للاستراحة عند غير الشافعية. ويعتمد بيديه على الأرض عند الشافعية والحنابلة، ويجلس للاستراحة ويرفع يديه حالة النهوض عند الشافعية. فإذا استوى قائماً لم يقرأ الاستفتاح بالاتفاق، وإنما يتعوذ سراً عند الشافعية والحنابلة، ولا يتعوذ عند الحنفية والمالكية، ولا يبسمل عند المالكية، وكذا عند الحنفية إذا كان إماماً، ويبسمل عند الجمهور، ويقرأ الفاتحة وسورة، ويقصر قراءة الركعة الثانية عن الأولى. ثم يركع ويسجد كما فعل في الركعة الأولى، ويقنت في صلاة الصبح قبل الركوع عند المالكية وهو أفضل، ويجوز بعده، وبعده عند الشافعية، وبعده في الوتر في جميع السنة عند الحنابلة، كما سنبين. فإذا أتم السجدة الثانية من الركعة الثانية، جلس للتشهد الأول مفترشاً عند الجمهور (غير المالكية) متوركاً عند المالكية، كما بينا، موجهاً أصابعه نحو القبلة، واضعاً يديه على فخذيه، باسطاً أصابعه عند الحنفية، باسطاً اليسرى، قابضاً ما عدا السبابة والإبهام عند المالكية، وما عدا السبابة فقط عند الشافعية، ويحلِّق الإبهام مع الوسطى عند الحنابلة. ويشير بالسبابة عند الحنفية عند قوله: (لا إله) ¬
ثم يضعها عندهم عند (إلا الله)، ويشير في رأي الشافعية والحنابلة عند قوله: (إلا الله) بلا تحريك، ومع التحريك والإشارة بها من أول التشهد عند المالكية. ثم يقرأ التشهد بإحدى الصيغ الثلاث السابقة إلى قوله «عبده ورسوله» (¬1)، دون أن يضم إليه عند الجمهور (غير الشافعية) أي زيادة في القعدة الأولى، ويضم إليه عند الشافعية الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم فقط. أما في التشهد الأخير فيضم إليه الصلاة الإبراهيمة. ويتورك عند غير الحنفية في التشهد الأخير، ثم يدعو عند الحنفية بالمأثور من القرآن والسنة، أو بما شاء عند الجمهور. ثم يسلم عن يمينه وشماله في الصلاة الثنائية، قائلاً: (السلام عليكم ورحمة الله) ويضيف عند المالكية (وبركاته) دون أن يمده مداً أي لا يطيله ويسرع فيه، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «حذف التسليم سنة» (¬2) قال ابن المبارك: معناه ألا يمد مداً. فإن كانت الصلاة ثلاثية، أتى بركعة ثالثة، ثم يتشهد ويسلم، وإن كانت الصلاة رباعية، أتى بركعتين، ثم يتشهد ويسلم. ولا يقرأ غير الفاتحة في الفريضة في الركعتين الثالثة والرابعة، ويقرأ فيهما سورة عند الحنفية في النافلة وجميع ركعات الوتر، ولا يقرأ فيهما كالفرض سورة عند الشافعية. ¬
المبحث الرابع ـ مكروهات الصلاة
المبحث الرابع ـ مكروهات الصلاة: فيه أربعة مطالب: ما يكره في الصلاة، والأماكن التي تكره الصلاة فيها، مالايكره فعله، ما تحرم الصلاة فيه. والكراهة عند الجمهور تنزيهية، وعند الحنفية إما تنزيهية: وهي خلاف الأولى. وإما تحريمية وهي المقصودة عند الإطلاق، وهي ما نهي عنه شرعاً بدليل ظني الثبوت وليس فيه صارف عن التحريم. فإن وجد الصارف له عن التحريم فهي تنزيهية. وترك السنة المؤكدة يكره تحريماً، وترك السنة غير المؤكدة كترك صلاة الضحى تنزيهاً، وترك المستحب أو المندوب خلاف الأولى. ويستحب عند الفقهاء لمن أتى بالصلاة على وجه مكروه إعادتها ما دام الوقت باقياً. المطلب الأول ـ ما يكره في الصلاة: يكره في الصلاة ما يأتي (¬1): 1 ً - يكره تحريماً عند الحنفية ترك واجب من واجبات الصلاة عمداً: كترك قراءة الفاتحة أو قراءة سورة بعدها، أو جهر في صلاة سرية أو إسرار في جهرية، وتصح الصلاة بترك الواجب، لكن يجب إعادتها، ويكره عندهم رفع اليدين عند إرادة الركوع والرفع منه، ولا تفسد الصلاة على الصحيح. ¬
- ترك سنة من سنن الصلاة عمدا
2 ً - ترك سنة من سنن الصلاة عمداً: كترك دعاء الثناء أو التوجه، أو التسبيح في الركوع أو السجود، أو التكبير والتسميع والتحميد، أو رفع الرأس أو خفضه في الركوع، أو تحويل أصابع قدميه أو يديه عن القبلة، وهذا متفق عليه. 3 ً - يكره عند المالكية تعوذ وبسملة قبل الفاتحة والسورة بفرض، ويجوزان بنفل، وتركهما أولى ما لم يراع الخلاف، فالإتيان بالبسملة أولى خروجاً من الخلاف. 4 ً - يكره عند المالكية دعاء قبل القراءة للفاتحة أو السورة، وأثناءها أي القراءة. 5 ً - تطويل القراءة في الركعة الثانية على الأولى، وقدره الحنفية بأكثر من ثلاث آيات. 6 ً - تكرار سورة واحدة في ركعة واحدة، أو في ركعتين في الفرض، أما النفل فلا يكره عند الحنفية. ولا يكره عند الحنابلة تكرار سورة في ركعتين، لما روى زيد بن ثابت أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم «قرأ في المغرب بالأعراف في الركعتين كلتيهما» (¬1)، وإنما يكره تكرار الفاتحة في ركعة؛ لأنها عندهم ركن. قال الحنفية (¬2): يكره أن يتخذ سورة بعينها للصلاة لا يقرأ فيها غيرها. 7 ً - القراءة بعكس ترتيب القرآن وهذا متفق عليه: كأن يقرأ في الركعة الأولى «اللهب» أو «الكافرون»؛ لأن المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم ¬
- يكره عند المالكية وغيرهم القراءة في ركوع أو سجود أو إتمام قراءة السورة في الركوع،
القراءة في الركعة الثانية بسورة بعد السورة التي قرأها في الركعة الأولى في النظم القرآني، وروي عن ابن مسعود «أنه سئل عمن يقرأ القرآن منكوساً؟ قال: ذلك منكوس القلب» وفسره أبو عبيدة: بأن يقرأ سورة ثم يقرأ بعدها أخرى، هي قبلها في النظم. 8 ً - يكره عند المالكية وغيرهم القراءة في ركوع أو سجود أو إتمام قراءة السورة في الركوع، وإتمام الفاتحة في الركوع مبطل للصلاة حيث كانت الفاتحة فرضاً، وقال الحنفية بالكراهة التحريمية؛ لأن الفاتحة ليست فرضاً عندهم. واستثنى المالكية: أن يقصد في السجود الدعاء فلا يكره، كأن يقول: {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا} [آل عمران:8/ 3] ويكره الدعاء في الركوع، وقبل التشهد الأول أو الأخير، ويكره الجهر بالتشهد مطلقاً، كما يكره للمأموم بعد سلام الإمام الجهر بالدعاء المطلوب في الصلاة في سجود أو غيره. ويكره أيضاً تخصيص دعاء دائماً لا يدعو بغيره، فالأفضل أن يدعو تارة بالمغفرة، وتارة بسعة الرزق، وتارة بصلاح النفس أو الولد أو الزوجة، وتارة بغير ذلك من أمور الدنيا والآخرة، والله ذو الفضل العظيم. ومن أعظم الدعوات الجامعة أن يقول: «اللهم إني أسألك من كل خير سألك منه محمد نبيك ورسولك صلّى الله عليه وسلم، وأعوذ بك من كل شر استعاذك منه محمد نبيك ورسولك صلّى الله عليه وسلم». 9 ً - العبث القليل بيده (¬1) بالثياب أو البدن أو اللحية، أو وضع يده على فمه أو تغطية أنفه (وهو التلثم) بدون حاجة، والكراهة هنا تحريمية عند الحنفية، بدليل ما رواه القضاعي عن يحيى بن أبي كثير مرسلاً: «إن الله كره لكم ثلاثاً: العبث في الصلاة، والرفث في الصيام، والضحك في المقابر» فإن كان لحاجة كإزالة العرق ¬
عن وجهه أو التراب المؤذي، أو للتثاؤب، فلا يكره. ومن العبث: «فرقعة الأصابع، وتقليب الحصى، وتسويتها في مكان سجوده» للنهي الصحيح عنه، روى الجماعة عن مُعَيقب عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال في الرجل يسوي التراب حيث يسجد: «إن كنت فاعلاً فواحدة» (¬1) وروى أبو داود عن أبي ذر مرفوعاً: «إذا قام أحدكم في الصلاة فلا يمس الحصى، فإن الرحمة تواجهه». ودليل كراهة العبث هو النهي عنه في السنة، ولمنافاته لهيئة الخشوع، وقد مدح الله الخاشعين في صلاتهم بقوله سبحانه: {قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون} [المؤمنون:1 - 2/ 23] ونهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن فرقعة الأصابع فقال: «لا تفرقع أصابعك وأنت في الصلاة» (¬2) وروى أبو داود عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى أن يغطي الرجل فاه في الصلاة» ويكره للمرأة أن تنتقب في الصلاة، لأن وجه المرأة ليس بعورة، فهي كالرجل. وصرح الحنابلة (¬3) بأنه لا بأس بالعمل اليسير في الصلاة للحاجة، كأن يحمل الرجل ولده في الصلاة الفريضة، لحديث أبي قتادة وحديث عائشة: «أنها استفتحت الباب، فمشى النبي صلّى الله عليه وسلم، وهو في الصلاة حتى فتح لها» (¬4)، وأمر النبي صلّى الله عليه وسلم بقتل الأسودين في الصلاة: الحية والعقرب (¬5). فإذ رأى العقرب، خطا إليها، وأخذ النعل وقتلها، ورد النعل إلى موضعها، وهذا جائز بلا كراهة اتفاقاً. ¬
- تشبيك الأصابع، والتخصر
وقال أحمد: وإذا رأى صبيين يقتتلان يتخوف أن يلقي أحدهما صاحبه في البئر، فإنه يذهب إليهما، فيخلصهما، ويعود إلى صلاته. ويرجع في تحديد الفعل الكثير واليسير إلى العرف، وكل ما شابه فعل النبي صلّى الله عليه وسلم فهو يسير. وإن فعل أفعالاً متفرقة، لو جمعت كانت كثيرة، وكل واحد منها بمفرده يسير، فهي في حد اليسير، بدليل حمل النبي صلّى الله عليه وسلم لأمامة، في كل ركعة، ووضعها. لكن قال الحنفية: يكره حمل الطفل، وما ورد منسوخ بحديث «إن في الصلاة لشغلاً» وما كثر وزاد على فعل النبي صلّى الله عليه وسلم أبطل الصلاة، سواء أكان لحاجة أم غيرها، إلا أن يكون لضرورة، فيكون بحكم الخائف، فلا تبطل صلاته به. وقال المالكية: يكره قتل برغوث ونحوه في الصلاة، والحنفية كالحنابلة فإنهم قالوا: يكره كل عمل قليل بلا عذر كتعرض لقملة قبل الأذى. ويكره أيضاً رفع أو جمع الثوب باليدين في الركوع والسجود، وجمع الشعر وضمه، لحديث: «أمرت أن أسجد على سبعة أعظم ولا أكف ثوباً ولا شعراً» (¬1) والكراهة تحريمية. كما يكره مسح غبار الجبهة قبل الانصراف من الصلاة، لما رواه ابن ماجه: «إن من الجفاء أن يكثر الرجل مسح جبهته قبل الفراغ من صلاته» عند الحنفية. 10 ً - تشبيك الأصابع، والتخصر: وهو أن يضع يده على خاصرته. وهذا متفق عليه، لحديث أبي سعيد أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا كان أحدكم في المسجد، فلا يُشَبِّكنَّ، فإن التشبيك من الشيطان، وإن أحدكم لا يزال في صلاة، ما دام في ¬
- تغميض العينين
المسجد حتى يخرج منه» (¬1) وروى ابن ماجه عن ابن عمر أنه قال ـ في الذي يصلي وقد شبك أصابعه ـ «تلك هي صلاة المغضوب عليهم». وحديث أبي هريرة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن التخصر في الصلاة» (¬2) وفرقعة الأصابع وتشبيكها ولو منتظراً الصلاة أو ماشياً إليها، والتخصر مكروه تحريماً عند الحنفية، وكذلك يكره تنزيهاً التخصر خارج الصلاة، ولا يكره التشبيك والفرقعة خارج الصلاة. 11 ً - تغميض العينين إلا لخوف وقوع بصره على ما يشغله عن صلاته، روى ابن عدي في حديث بسند ضعيف: «إذا قام أحدكم في الصلاة فلا يغمض عينيه» لأن السنة النظر إلى موضع سجوده وفي التغميض تركها، والكراهة تنزيهية بالاتفاق. 12 ً - الالتفات في الصلاة بلا حاجة مهمة، ولو بجميع جسده ما دامت رجلاه للقبلة، وإلا بطلت الصلاة. هذا ما قاله المالكية. وقال الحنفية: يكره تنزيهاً الالتفات بالعنق فقط أي بالوجه كله أو ببعضه، وببصره، ولا تفسد الصلاة بتحويل صدره على المعتمد. أما لو نظر بمؤخر عينه يمنة أو يسرة من غير أن يلوي عنقه، لا يكره، قال ابن عباس: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يلحظ في الصلاة يميناً وشمالاً، ولا يلوي عنقه خلف ظهره» (¬3). ¬
وقال الشافعية: يكره الالتفات بالوجه إلا لحاجة، فلا يكره؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم «كان في سفر، فأرسل فارساً إلى شِعْب، من أجل الحرس، فجعل يصلي، وهويلتفت إلى الشعب» (¬1). فإن حول صدره عن القبلة بطلت صلاته، لانحرافه عن القبلة. وقال الحنابلة: يكره في الصلاة التفات يسير بلا حاجة. وتبطل الصلاة إن استدار المصلي بجملته أو استدبر القبلة، لتركه الاستقبال بلاعذر، ما لم يكن في الكعبة، أو في شدة خوف، أو إذا تغير اجتهاده، فلا تبطل إن التفت بجملته، أو استدبر القبلة، لسقوط الاستقبال حينئذ، وفي حالة تغير الاجتهاد؛ لأنها صارت قبلته. ولا تبطل الصلاة لو التفت بصدره ووجهه؛ لأنه لم يستدر بجملته. ودليل كراهة الالتفات لغير حاجة باتفاق المذاهب: حديث عائشة، قالت: «سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن التَّلفُّت في الصلاة، فقال: اختلاس يختلِِسه الشيطان من العبد» (¬2) وحديث أبي ذر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لايزال الله مقبلاً على العبد في صلاته، مالم يلْتفِت، فإذا صرَف وجهه، انصرف عنه» (¬3) وحديث أنس قال: «قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إيَّاك والالتفاتَ في الصلاة، فإن الالتفات في الصلاة هَلَكَة فإن كان لابُدّ، ففي التطوع، لا في الفريضة» (¬4) وفي العبارة الأخيرة الإذن بالالتفات للحاجة في التطوع، والمنع من ذلك في صلاة الفرض، ومما يجيز الالتفات لحاجة حديث علي بن شيبان: «قال: قدمنا على النبي صلّى الله عليه وسلم وصلينا معه، فلمح بمؤخر عينه رجلاً لايقيم صلبه في الركوع والسجود، فقال: لا صلاة لمن لا يقيم صلبه» (¬5). ¬
- رفع البصر إلى السماء
من العبد» (¬1) وحديث أبي ذر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا يزال الله مقبلاً على العبد في صلاته، ما لم يلْتفِت، فإذا صرَف وجهه، انصرف عنه» (¬2) وحديث أنس قال: «قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إيَّاك والالتفاتَ في الصلاة، فإن الالتفات في الصلاة هَلَكَة، فإن كان لابُدّ، ففي التطوع، لا في الفريضة» (¬3) وفي العبارة الأخيرة الإذن بالالتفات للحاجة في التطوع، والمنع من ذلك في صلاة الفرض، ومما يجيز الالتفات لحاجة حديث علي بن شيبان: «قال: قدمنا على النبي صلّى الله عليه وسلم وصلينا معه، فلمح بمؤخر عينه رجلاً لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، فقال: لا صلاة لمن لا يقيم صلبه» (¬4). 13 ً - رفع البصر إلى السماء: وهذا متفق عليه، لحديث أنس، قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم؟! فاشتد قوله في ذلك، حتى قال: لينتهين عن ذلك، أو لتخطفن أبصارهم» (¬5). لكن قال المالكية: إن كان ذلك للموعظة والاعتبار بآيات السماء، فلا يكره. واستثنى الحنابلة حالة التجشي، فلا يكره. 14 ً - القيام على رجل واحدة، أو رفع رجل عن الأرض واعتماد على الأخرى إلا لضرورة أو عذر، كوجع الأخرى فلا كراهة حينئذ؛ لأنه تكلف ينافي الخشوع. وأضاف المالكية: وكره إقران القدمين دائماً في جميع صلاته. وذكر الشافعية ¬
- الصلاة حاقنا بالبول، أو حاقنا بالغائط، أو حازقا بالريح
أنه يكره تقديم رجل على الأخرى، ولصق رجل بالأخرى، حيث لا عذر؛ لأنه تكلف ينافي الخشوع. ولا بأس بالاستراحة على إحدى الرجلين لطول القيام أو نحوه. 15 ً - الصلاة حاقناً بالبول، أو حاقناً بالغائط، أو حازقاً بالريح إن وسع الوقت، أو مع توقان الطعام الحاضر أو القريب الحضور، أي اشتهائه بحيث يختل الخشوع لو قدم الصلاة عليه، وهذا متفق عليه، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا صلاة ـ أي كاملة ـ بحضرة طعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان» (¬1) أي البول والغائط. والشرب كالأكل. والصلاة مع مدافعة الأخبثين مكروهة تحريماً عند الحنفية. وتكره الصلاة حال النعاس الشديد وهو الذي لا يأمن ضبط قراءته والسهو فيها، لحديث الشيخين عن عائشةرضي الله عنها قالت: «إذا نَعَس أحدكم وهو يصلي، فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس، لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه». 16 ً - البصاق أو التنخم في غير المسجد أمامه، أو عن يمينه، لحديث الشيخين وأحمد: «إذا كان أحدكم في الصلاة، فإنما يناجي ربه، فلا يبزُقن بين يديه، ولا عن يمينه» زاد البخاري: «فإن عن يمينه ملكاً، ولكن يساره أو تحت قدمه». ويكره البصاق أيضاً وهو في غير الصلاة عن يمينه وأمامه إذا كان متوجهاً إلى القبلة، إكراماً لها. 17 ً - قال المالكية: يكره التفكر في أمر دنيوي، أو حمل شيء بكم أو فم إذا لم يمنعه مخارج الحروف، وإلا منع وبطلت، أو حمد لعاطس أو بشارة بشر بها ¬
- التثاؤب؛
وهو يصلي، بأن يقول: الحمد لله، أو حكّ جسد لغير ضرورة إن قل، والكثير مبطل، وكره تبسم قليل اختياراً، والكثير مبطل ولو اضطراراً. وقال الحنابلة: يكره حمله ما يشغله عن إكمال صلاته؛ لأنه يذهب بالخشوع. ويكره إخراج لسانه وفتح فمه، ووضعه فيه شيئاً؛ لأن ذلك يخرجه عن هيئة الصلاة. ولا يكره وضع شيء في يده وكمه، إلا إذا شغله عن كمال الصلاة، فيكره. 18 ً - التثاؤب؛ لأنه من التكاسل والامتلاء ومن الشيطان، والأنبياء محفوظون منه، فإن غلبه فليكظم ما استطاع لقوله صلّى الله عليه وسلم: «التثاؤب من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع» (¬1) وفي رواية لمسلم: «فليمسك بيده على فيه فإن الشيطان يدخله»، ويكره التمطي أيضاً، لأنه يخرجه عن هيئة الخشوع ويؤذن بالكسل، ولحديث الدارقطني عن أبي هريرة: «نهى أن يتمطى الرجل في الصلاة، أو عند النساء إلا عند امرأته أو جواريه» والكراهة هنا تنزيهية عند الحنفية إلا إن تعمده فيكره تحريماً؛ لأنه عبث، والعبث مكروه تحريماً في الصلاة، وتنزيهاً خارجها. 19 ً - قال الشافعية والحنابلة: يكره الاستناد إلى جدار أو نحوه مما يسقط بسقوطه إذا ظل قائماً، إلا لحاجة إليه، فلا يكره معها؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «لما أسنَّ وأخذه اللحم، اتخذ عموداً في مصلاه يعتمد عليه» (¬2). فإن سقط المصلي لو أزيل، أو كان يمكنه رفع قدميه عن الأرض، بطلت صلاته؛ لأنه بمنزلة غير القائم. ¬
- يكره تنزيها عند الحنفية رد السلام بالإشارة باليد أو الرأس؛
ويكره الاعتماد على يده في جلوسه، لقول ابن عمر: «نهى النبي صلّى الله عليه وسلم أن يجلس الرجل في الصلاة وهومعتمد على يده» (¬1). 20 ً - يكره تنزيهاً عند الحنفية رد السلام بالإشارة باليد أو الرأس؛ لأنه سلام، حتى لو صافح بنية التسليم، تفسد صلاته، ويكره كل إشارة بالعين أو اليد ونحوها. ويستحب عند الشافعية حتى للناطق رد السلام بالإشارة، ولمن عطس أن يحمد الله، ويسمع نفسه. ولو قال المأموم: استعنا بالله بعد قراءة الإمام {إياك نستعين} [الفاتحة:5/ 1]، بطلت صلاته إن لم يقصد تلاوة أو دعاء. ولا يكره عند المالكية رد السلام بالإشارة على مسلّم عليه، وإنما هو مطلوب. ولكن يكره عندهم إشارة للرد برأس أو يد على مشمِّت شمته وهو يصلي قائلاً له: (يرحمك الله) إذا ارتكب المكروه، وحمد لعطاسه. وتجوز عندهم الإشارة الخفيفة لأي حاجة، كما يجوز عند الحنفية تكليم المصلي وإجابته برأسه، كما لو طلب منه، فأومأ بنعم أو لا. أما الرد بالكلام فمبطل للصلاة اتفاقاً. 21 ً - قراءة سورة أو آية في الركعتين الأخيرتين من الفريضة. واستثنى الشافعية المسبوق الذي سبق بالأولى والثانية، فله أن يقرأ السورة في الأخيرتين من صلاة الإمام؛ لأنهم أولياه، إذ إن ما أدركه المأموم هو أول صلاته. فإن لم يمكنه قراءتها فيهما قرأ في أخيرتيه، لئلا تخلو صلاته من السورة. ولو سبق بالأولى فقط قرأها في الثانية والثالثة. ¬
- الجهر بالقراءة في موضع الإسرار، والإسرار في موضع الجهر،
22 ً - الجهر بالقراءة في موضع الإسرار، والإسرار في موضع الجهر، والجهر عند الشافعية خلف الإمام. ويحرم الجهر إن شوش على غيره. ويسجد حينئذ على المشهور عند المالكية سجود السهو (¬1). 23 ً - يكره عند الشافعية: الزيادة في جلسة الاستراحة على قدر الجلوس بين السجدتين، وإطالة التشهد الأول، ولو بالصلاة على الآل فيه، والدعاء فيه، لبنائه على التخفيف، وترك الدعاء في التشهد الأخير خروجاً من خلاف من أوجبه، ومقارنة الإمام في أفعال الصلاة وأقوالها، للخلاف في صحة صلاته حينئذ. وهذه الكراهة الأخيرة تفوت فضيلة الجماعة، كالانفراد عن الصف، وترك فرجة فيه مع سهولة سدها، وهو مكروه أيضاً عند الحنفية، وتبطل الصلاة عند الحنابلة إن صلى وحده، والعلو على الإمام، والانخفاض عنه لغير حاجة ولو في المسجد، والاقتداء بالمخالف ونحو الفاسق والمبتدع، واقتداء المفترض بالمتنفل، ومصلي الظهر بمصلي العصر مثلاً وعكسه (¬2)، ويكره تنزيهاً أيضاً عند الحنفية ارتفاع الإمام بما يقع به الامتياز عن المأمومين وعكسه، لما أخرجه الحاكم: «أنه صلّى الله عليه وسلم نهى أن يقوم الإمام فوق، ويبقى الناس خلفه» وعللوه بأنه تشبه بأهل الكتاب، فإنهم يتخذون لإمامهم دكاناً أي مرتفعاً. 24 ً - عقص الشعر (¬3) وتشمير الكم. وقيد المالكية كراهة تشمير الكم: بأن يكون لأجل الصلاة. ودليل كراهة العقص ما رواه أحمد وابن ماجه عن أبي رافع قال: «نهى النبي صلّى الله عليه وسلم أن يصلي الرجل ورأسه معقوص» والكراهة تنزيهية بالاتفاق. وقيد الحنفية ¬
- الإقعاء
كراهة التشمير تحريماً برفع الكم إلى المرفقين، فلا يكره مادونهما، وكذا مادونهما كما في كتاب البحر. 25 ً - الإقعاء: وهو أن يضع أليتيه على الأرض، وينصب ركبتيه. وقال المالكية: إنه محرم بهذا المعنى، ولا يبطل الصلاة على الأظهر، والمكروه عندهم له صور أربع، منها: أن يجعل بطون أصابعه للأرض، ناصباً قدميه، جاعلاً أليتيه على عقبيه، أو يجلس على القدمين، وظهورهما للأرض. ودليل كراهة الإقعاء: حديث أبي هريرة: «نهاني رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن ثلاث: عن نقرة كنقر الديك، وإقعاء كإقعاء الكلب، والتفات كالتفات الثعلب» (¬1)، وعن علي، قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «لا تُقْع بين السجدتين» وعن أنس قال: قال صلّى الله عليه وسلم: «إذا رفعت رأسك من السجود، فلا تُقْع كما يُقْعي الكلب» (¬2). ويكره تنزيهاً التربع بغير عذر في الصلاة، لترك الجلسة المسنونة، ولا يكره خارجها؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان جل جلوسه مع أصحابه التربع، وكذا عمر رضي الله عنه. 26 ً - افتراش ذراعيه: أي مدُّهما كما يفعل السبع. لحديث عائشة في صحيح مسلم: «وكان ينهى عن عُقْبة الشيطان (¬3)، وأن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع» والكراهة هنا تحريمية عند الحنفية. 27 ً - قال المالكية كما بينا: يكره التصفيق في صلاة ولو من امرأة لحاجة تتعلق بالصلاة كسهو إمامه، أو سلامه بعد ركعتين في رباعية، أو بغير الصلاة ¬
- الصلاة في ثياب البذلة (التي يلبسها في بيته)، والمهنة (أي الخدمة)
كمنع مارّ بين يدي المصلي، أو تنبيه على أمر ما. والشأن المطلوب شرعاً لمن نابه شيء ـ وهو يصلي ـ التسبيح بأن يقول: سبحان الله. وتكره في المذهب المالكي الصلاة على غير الأرض وما تنبته، كما ذكرنا سابقاً. 28 ً - الصلاة في ثياب البِذْلة (التي يلبسها في بيته)، والمهنة (أي الخدمة) إن كان له غيرها، وإلا فلا يكره. لقوله تعالى: {خذوا زينتكم عند كل مسجد} [الأعراف:31/ 7] أي صلاة. والكراهة هنا تنزيهية اتفاقاً. 29 ً - الصلاة في السراويل أو الإزار مع القدرة على لبس القميص، والصلاة حاسراً (كاشفاً) رأسه، للتكاسل، ولا بأس به بقصد التذلل، لأن مبنى الصلاة على الخشوع. والكراهة هنا تنزيهية اتفاقاً، والمستحب شرعاً أن يصلي الرجل في ثوبين: قميص ورداء، أو قميص وسراويل، لما روى أبو داود وغيره عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا صلى أحدكم فليلبس ثوبيه، فإن الله أحق من تزين له، فمن لم يكن له ثوبان فليتزر إذا صلى، ولا يشتمل اشتمال اليهود» كما يستحب تغطية الرأس. 30 ً - الصلاة بثياب فيها تصاوير الحيوان أو الإنسان (¬1)، لقول أبي طلحة: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة» (¬2) ولأنه يشبه حامل الصنم، ولحديث عائشة عن البخاري عن أنس قال: «كان قِرام ـ ستر رقيق ـ لعائشة سترت به جانب بيتها، فقال لها النبي صلّى الله عليه وسلم: أميطي عنك ¬
قرامك، فإنه لا تزال تصاويره تعرض في صلاتي» وكونه غير حرام أن زيد بن خالد روى الحديث الأول عن أبي طلحة عن النبي صلّى الله عليه وسلم؛ وقال في آخره: «إلا رقما في ثوب» (¬1). وتكره الصلاة إلى صورة منصوبة أو تمثال فوق رأسه أو بين يديه أو بحذائه يمنة أو يسرة، ولوفي وسادة منصوبة لا مفروشة؛ لأنه يشبه سجود الكفار إليها، والتشبه بعبادة الأوثان والأصنام. ويكره السجود على الصورة ولو كانت صغيرة عند الحنابلة والشافعية، وقال الحنفية (¬2): لا يكره إن كانت تحت قدميه؛ لأنه مهانة، أو محل جلوسه، أو في يده؛ لأنها مستورة بثيابه، أوعلى خاتمه بنقش غير مستبين، ولا يكره المستتر بكيس أو صورة أو ثوب آخر. والكراهة هنا تحريمية عند الحنفية، وأبان الحنفية أنه لا تكره الصلاة مع وجود صورة صغيرة لا تتبين تفاصيل أعضائها للناظر قائماً، وهي على الأرض، ولا الصورة المقطوعة الرأس أو الوجه أو ممحوة عضو لا تعيش بدونه، ولاصورة شيء غير ذي روح من النبات ونحوه؛ لأن كل هذه المذكورات لا تعبد. وخبر مسلم عن جبريل «إنا لا ندخل بيتاً فيه كلب أو صورة» مخصوص بغير المهانة. وقال الحنفية: لا بأس أن يصلي وبين يديه مصحف معلق أو سيف معلق؛ لأنهما لا يعبدان. ولا بأس أن يصلي على ثوب فيه تصاوير، لأنه فيه استهانة بالصور. ولا تكره الصلاة لو كانت الصورة على وسادة ملقاة، أو على بساط مفروش. ¬
- قال الحنفية: يكره تنزيها قيام بجملته في المحراب،
ويكره الصليب في ثوب، لحديث عائشة: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان لا يترك في بيته شيئاً فيه تصاليب إلا نقضه» (¬1). 31 ً - قال الحنفية: يكره تنزيهاً قيام بجملته في المحراب، لا سجوده فيه مع وجود قدميه خارجه، لئلا يمتاز الإمام عن المأمومين في المكان؛ لأن المحراب في معنى بيت آخر، وذلك صنيع أهل الكتاب؛ إلا إذا ضاق المكان، فلا كراهة. وقالوا أيضاً: يكره تنزيهاً عد الآي والسور والتسبيح باليد في الصلاة مطلقاً، فرضاً أو نفلاً؛ لأن ذلك ليس من أعمال الصلاة، ولا يكره خارجها، ويكره أن يصلي أمام متحدثين تصدر عنهم أصوات، أو شغل، أو نائمين يخشى خروج شيء منهم مضحك. ويكره أيضاً السجود على كور عمامته إذا أصابت الجبهة الأرض، وإلا لم تصح الصلاة. ويكره الاعتجار: وهو لَفّ العمامة على الرأس وترك وسطه مكشوفاً. وقالوا: لا بأس باتخاذ المسبحة لغير رياء. 32 ً - الصلاة إلى نار موقدة، لما فيها من التشبه بالمجوس عبدة النار، وهذا كما قدمنا في بحث السترة متفق عليه، والكراهة تنزيهية اتفاقاً، إلا أن الشافعية لم يذكروا ذلك من المكروهات. 33 ً - السدل في الصلاة: أي إرسال الثوب أو الرداء على الكتفين بلا لبس معتاد (كالحرام والملاءة) بدون أن يرد أحد طرفيه على الكتف الآخر. وهو عند غير ¬
- اشتمال الصماء
المالكية مكروه بلا عذر، وإلا فلا يكره (¬1)، لحديث أبي هريرة: أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن السَّدْل في الصلاة، وأن يُغطِّي الرجل فاه (¬2) والكراهة تحريمية عند الحنفية. وقال المالكية: إلقاء الرداء على الكتفين مندوب، بل يتأكد لإمام المسجد (كالبرنس المغربي) المعروف. 34 ً - اشتمال الصمَّاء: وهو أن يجلل جسده بالثوب لا يرفع منه جانباً، ولايبقي ما تخرج منه يده. وفسره بأن يلتحف بثوب واحد، ليس عليه غيره، ثم يرفعه من أحد جانبيه، فيضعه على منكبيه، فيبدو منه فرجه. فعلى هذا التفسير يكون النهي للتحريم، وتفسد الصلاة معه (¬3). فإن لم يظهر الفرج بأن اشتمل بالثوب (كالحِرام ونحوه) بحيث لا يدع منفذاً يخرج منه يديه، كان مكروهاً اتفاقاً، والكراهة تحريمية عند الحنفية. لما روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة وأبي سعيد عن النبي صلّى الله عليه وسلم «أنه نهى عن لبستين: اشتمال الصماء، وأن يحتبي الرجل بثوب ليس بين فرجه وبين السماء شيء» (¬4). قال الشيرازي في المهذب: ويكره اشتمال الصماء: وهو أن يلتحف بثوب، ثم يخرج يده من قبل صدره (¬5). ¬
- قال الحنابلة: تكره الصلاة في الثوب الأحمر،
35 ً - قال الحنابلة (¬1): تكره الصلاة في الثوب الأحمر، كما يكره للرجال لبسه: لما روى أحمد عن بعض الصحابة: «نهاني رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن لبس الحمرة» وعن عبد الله بن عمرو، قال: «دخل على النبي صلّى الله عليه وسلم رجل عليه بردان أحمران فسلم فلم يرد النبي صلّى الله عليه وسلم» (¬2).وقال الحنفية (¬3): يكره تنزيهاً لبس المعصفر والمزعفر: الأحمر والأصفر للرجال، ولا بأس بسائر الألوان للنساء. وقال مالك: يكره الثوب الأحمر لقصد الزينة والشهرة، ويجوز في المهنة والبيوت. وأباح الشافعي لبس الثياب المصبوغة بالأحمر (¬4). 36 ً - قال المالكية (¬5): يكره لباس مُحدِّد للعورة لرقته أو لضيقه وإحاطته، كسراويل، ولو بغير صلاة؛ لأنه ليس من زي السلف. 37 ً - الاضطباع: وهو أن يجعل الرداء تحت إبطه الأيمن، ثم يلقي طرفه على كتفه الأيسر، ويترك الآخر مكشوفاً. وهو داخل في كيفية اشتمال الصماء المنهي عنه في الحديث السابق. 38 ً - الإتيان بأذكار الانتقال كالتكبير والتسميع والتحميد في غير محلها، كأن يكبر للركوع بعد أن يتم ركوعه، أو يقول: سمع الله لمن حمده، بعد تمام القيام؛ لأن السنة أن يكون ابتداء الأذكار عند ابتداء الانتقال. وقال الحنابلة: إن ذلك مبطل للصلاة إن تعمده. ¬
- ترك اتخاذ السترة أمام المصلي،
وقال المالكية: إن ذلك خلاف المندوب. 39 ً - ترك اتخاذ السترة أمام المصلي، كما بينا. وأخيراً .. قال الحنفية: يكره تحريماً استقبال القبلة بالفرج في بيت الخلاء، للنهي عنه في السنة، ويكره الاستدبار، لما فيه من ترك التعظيم لها. وحديث النهي: «إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة، ولا تستدبروها، ولكن شرّقوا أو غربوا» (¬1). وهذا من المكروهات خارج الصلاة، وقد قدمنا الكلام عليه في بحث آداب قضاء الحاجة. المطلب الثاني ـ الأماكن التي تكره الصلاة فيها: حرم الحنابلة الصلاة في هذه الأماكن، وكره الشافعية والحنفية ذلك (¬2) والكراهة تحريمية عند الحنفية، لثبوت النهي عنها في السنة، ويذكرونها عادة في شروط الصلاة عند طهارة المكان، روى ابن عمر: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى أن يصلى في سبعة مواطن: في المزبلة، والمَجْزرة، والمَقْبرة، وقارعة الطريق، وفي الحمام، وفي أعطان الإبل، وفوق ظهر بيت الله» (¬3) وهو إن صح يدل على تحريم الصلاة في هذه المواطن وهو رأي الحنابلة. وحكمة النهي وتفصيل الحكم فيها يتجلى فيما يأتي: ¬
- الصلاة في قارعة الطريق،
1 ً - الصلاة في قارعة الطريق، أي أعلاه أو أوسطه: مكروهة عند الحنفية والشافعية (¬1)؛ لأن الطريق ممر الناس، فلا يؤمن من المرور، ولا من النجاسة، إذ لا تخلو من الأرواث والأبوال، فينقطع الخشوع بممر الناس، فإن صلى فيه، صحت الصلاة؛ لأن المنع لترك الخشوع، أو لمنع الناس من الطريق، وذلك لا يوجب بطلان الصلاة، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً:» وفي لفظ: «فحيثما أدركتك الصلاة، فصل، فإنه مسجد» وفي لفظ: «أينما أدركتك الصلاة فصل، فإنه مسجد» (¬2). وذكر الشافعية: أن الصلاة تكره في الأسواق والرحاب الخارجة عن المسجد. وقال المالكية: تجوز الصلاة بلا كراهة في محجة الطريق والمزبلة والمقبرة والحمام والمجزرة، أي وسطها إن أمنت النجاسة. فإن لم تؤمن بأن كانت محققة أو مظنونة فهي باطلة، وإن كانت مشكوكة أعيدت على الأرجح في الوقت، إلا إذا صلى في الطريق لضيق المسجد وشك في الطهارة فلا إعادة عليه. ولكن تظل الكراهة إن صلى بطريق من يمر بين يديه. وقال الحنابلة: تحرم الصلاة ولا تصح في قارعة الطريق (¬3) والمزبلة والمقبرة والمجزرة والحمام ومعاطن الإبل، كما لا تصح الصلاة في أسطحتها؛ لأن الهواء تابع للقرار فيها، بدليل أن الجنب يمنع من اللبث على سطح المسجد، وأن من حلف لا يدخل داراً يحنث بدخول سطحها. ¬
- الصلاة في داخل الحمام
ولا تصح الصلاة في ساباط على طريق؛ لأن الهواء تابع للقرار فيها، ولا على سطح نهر؛ لأن الماء كالطريق لا يصلى عليه. واستثنوا صلاة الجنازة في المقبرة وعلى سطحها، فإنها تصح، كما استثنوا طريق البيوت القليلة وما علا عن جادة الطريق يمنة ويسرة، فتصح الصلاة فيه بلا كراهة، لأنه ليس بمحجة. وتجوز الصلاة في هذه الأماكن لعذر، كأن حبس فيها. وقالوا: المنع من هذه المواضع تعبدي، لا لعلة معقولة بوهم النجاسة ونحوه. ودليلهم العمل بنص رواية ابن عمر. هذا ماذكر في كشاف القناع. وقال ابن قدامة في المغني: الصحيح أنه لا بأس بالصلاة إلى شيء من هذه المواضع إلا المقبرة؛ لأن قوله صلّى الله عليه وسلم: «جعلت لي الأرض مسجداً» يتناول الموضع الذي يصلي فيه من هي في قبلته. لكن يكره أن يصلي إلى هذه المواضع، فإن فعل صحت صلاته. وعليه يكون رأي الحنابلة كالجمهور. ودليلهم على استثناء المقابر: حديثان صحيحان وهما: «إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك، وقال: لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (¬1) فلا تصح الصلاة إلى القبور للنهي عنها، ويصح إلى غيرها لبقائها في عموم الإباحة، وامتناع قياسها على ما ورد النهي فيه. 2 ً - الصلاة في داخل الحمام: مكروهة عند الحنفية والشافعية والحنابلة؛ لأنها مأوى الشياطين، ومظنة انكشاف العورات، ومصب الغسالات والنجاسات عادة. ¬
- الصلاة في معاطن الإبل، أي مباركها
3 ً - الصلاة في معاطن الإبل، أي مباركها (¬1): مكروهة عند القائلين بنجاسة أبوالها وأرواثها، وهم الحنفية والشافعية، أو لما فيها من النفور، فربما نفرت، وهو في الصلاة، فتؤدي إلى قطعها، أو أذى يحصل له منها، أو تشويش الخاطر الملهي عن الخشوع في الصلاة. وتكره الصلاة في مبارك الإبل عند المالكية أيضاً، للعلة السابقة غير النجاسة، ولا تكره في مرابض (مجالس) الغنم والبقر، بدليل حديث أبي هريرة: «صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل» (¬2) وعدم كراهة الصلاة في مرابض الغنم متفق عليه. وتعاد الصلاة في الوقت عندهم إن صليت في معاطن الإبل، وإن أمنت النجاسة، أو فرش فراش طاهر، تعبداً على الأظهر. 4 ً - الصلاة في المزبلة والمجزرة: مكروهة عند غير المالكية، لمجاورة النجاسة، أو مظنة وجودها، فالأولى موضع النجاسة، ومجمع الأوساخ والنفايات والذباب والثانية: موضع ذبح الحيوان. وذلك إذا بسط على الموضع طاهراً وصلى عليه، وإلا لم تصح الصلاة؛ لأنه مصل على نجاسة، وتكره عند الشافعية على الحائل إذا كانت النجاسة محققة، فإن بسطه على ما غلبت فيه النجاسة، لم تكره. والْحُش (¬3) المعد لنجاسة أولى بمنع الصلاة فيه من بابه وموضع الكنيف ¬
- الكنيسة (معبد النصارى) والبيعة (معبد اليهود) ونحوهما من أماكن الكفر
(مجمع الأوساخ)، وسطحه؛ لأنه لما منع الشرع من ذكر الله والكلام فيه، كان منع الصلاة فيه من باب أولى. 5 ً - الكنيسة (معبد النصارى) والبِيعة (معبد اليهود) ونحوهما من أماكن الكفر: تكره الصلاة فيها عند الجمهور وابن عباس، مطلقاً عامرة أو دارسة؛ إلا لضرورة كحر أو برد أو مطر، أو خوف عدو أو سبع، فلا كراهة. وحكمة الكراهة: أنها مأوى الشياطين، لأنها لا تخلو من التماثيل والصور، ولأنها موضع فتنة وأهواء، مما يمنع الخشوع. وقالت الحنابلة: لا بأس بالصلاة في الكنيسة النظيفة، وقد رخص فيها الحسن البصري وعمر بن عبد العزيز والشعبي والأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز، وروي أيضاً عن عمر وأبي موسى الأشعري. واستدلوا: بأن النبي صلّى الله عليه وسلم صلى في الكعبة وفيها صور (¬1)، وهي داخلة في عموم قوله عليه السلام: «فأينما أدركتك الصلاة، فصل، فإنه مسجد». قال النووي في المجموع: وتكره الصلاة في مأوى الشياطين كالخمارة وموضع المكس ونحو ذلك من المعاصي الفاحشة. 6 ً - الصلاة في المقبَرة: مكروهة عند الجمهور غير المالكية، لنجاسة ما تحتها بالصديد ولما فيها من التشبه باليهود، كما في الحديث السابق: «لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، فلا تتخذوا قبري بعدي مسجداً»، ولهم تفصيل في شأن الصلاة في المقابر: ¬
قال الحنفية: تكره الصلاة في المقبرة إذا كان القبر بين يدي المصلي، بحيث لو صلى خاشعاً وقع بصره عليه. أما إذا كان خلفه أو فوقه أو تحته فلا كراهة على التحقيق، كما لا كراهة في الموضع المعد للصلاة بلا نجاسة ولا قذر، ولا تكره الصلاة مطلقاً في أماكن قبور الأنبياء. وقال الشافعية: تكره الصلاة في المقبرة التي لم تنبش، سواء أكانت القبور أمامه أم خلفه أم عن يمينه أم شماله، أم تحته، إلا مقابر الأنبياء وشهداء المعركة؛ لأن الله تعالى حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، وإنما هم أحياء في قبورهم يصلون، كما أن الشهداء أحياء، إلا إن قصد تعظيمهم فيحرم. أما المقبرة المنبوشة فلاتصح الصلاة فيها بغير حائل ومعه تكره. وقال الحنابلة: المقبرة: ما احتوت على ثلاثة قبور فأكثر في أرض موقوفة للدفن، فإن لم تحتو على ثلاثة فالصلاة فيها صحيحة بلا كراهة إن لم يستقبل القبر، وإلا كره. ولا تصح الصلاة عندهم في المقابر، لحديث أبي سعيد مرفوعاً: «الأرض كلها مسجد، إلا المقبرة والحمام» (¬1) وتكره الصلاة إلى المقبرة بلا حائل لحديث أبي مَرْثد الغَنَوي: «لا تصلوا إلى القبور، ولا تجلسوا عليها» (¬2). وحديث ابن عمر: «اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تتخذوها قبوراً» (¬3). ¬
- الصلاة فوق الكعبة
وذلك سواء حدث المسجد بعد المقبرة أم حدثت المقبرة بعده، حوله أو في قبلته. 7 ً - الصلاة فوق الكعبة: مكروهة لما فيها من ترك التعظيم المأمور به، ولعدم وجود السترة الثابتة بين يدي المصلي، لأنه مصلٍ على البيت لا إلى البيت. ولكن تصح الصلاة على ظهر الكعبة أو في الكعبةإذا كانت نافلة بالاتفاق، ولا تصح الفريضة فيهما عند المالكية والحنابلة، وتصح فيهما الصلاة مطلقاً فرضاً أو نفلاً عند الحنفية والشافعية، كما بينا في شرط استقبال القبلة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم (صلى في البيت ركعتين) إلا أنه إن صلى تلقاء الباب، أو على ظهرها وكان بين يديه شيء من بناء الكعبة متصل بها، صحت صلاته عند الحنابلة، فإن لم يكن بين يديه شاخص، لا تصح صلاته عندهم؛ لأنه غير مستقبل لشيء منها. لكن قال ابن قدامة (¬1): والأولى أنه لا يشترط كون شيء منها بين يديه؛ لأن الواجب استقبال موضعها وهوائها، دون حيطانها، بدليل ما لو انهدمت الكعبة، صحت الصلاة إلى موضعها، ولو صلى على جبل عال يخرج عن مسامتتها، صحت صلاته إلى هوائها، فكذا ههنا. المطلب الثالث ـ ما لايكره فعله في الصلاة: تبين مما سبق أن الصلاة لا تكره في الأفعال الآتية عند الحنفية (¬2): 1 - لا بأس بالصلاة إلى ظهر إنسان قائم أو قاعد، ولو كان يتحدث ما لم يكن منه تشويش للصلاة؛ لأن ابن عمر ربما كان يستتر بمولاه (نافع) في بعض أسفاره. ¬
المطلب الرابع ـ ما تحرم الصلاة فيه (الصلاة في الموضع المغصوب)
2 - ولا بأس أن يصلي وبين يديه مصحف معلق أو سيف معلق لأنهما لايعبدان. 3 - لا يكره السجود على بساط فيه تصاوير لذي روح، لم يسجد عليها؛ لأن فيه استهانة بالصور بالوطء عليها. 4 - لا يكره باتفاق العلماء قتل حية وعقرب ونحوهما من كل حيوان مؤذ، ولو بضربتين، ما لم يقتض ذلك عملاً كثيراً، ولو أدى إلى الانحراف عن القبلة، لحديث أبي هريرة السابق: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر بقتل الأسودين في الصلاة: العقرب والحية» (¬1). 5 - لا مانع من نفض ثوبه بعمل قليل، كيلا يلتصق بجسده في الركوع، تحاشياً عن ظهور الأعضاء. 6 - لا بأس باتفاق العلماء بالفتح على الإمام من المأموم إذا أرتج عليه، أو غلط في التلاوة، لما فيه من التنبيه إلى ما هو مشروع في الصلاة، كما سيأتي في بحث مبطلات الصلاة. 7 - المراوحة بين الرِجْلين: بأن يعتمد مرة على هذه، ومرة على هذه، لأنه أدعى لطول القيام، وتكره إذا كثرت، لدلالتها على الملل وهو مكروه. المطلب الرابع ـ ما تحرم الصلاة فيه (الصلاة في الموضع المغصوب): الصلاة في الأرض المغصوبة حرام بالإجماع؛ لأن اللبث فيها يحرم في غير الصلاة، فلأن يحرم في الصلاة أولى (¬2). ¬
وهل تصح الصلاة في المكان المغصوب؟ قال الجمهور غير الحنابلة: الصلاة صحيحة؛ لأن النهي لا يعود إلى الصلاة، فلم يمنع صحتها، كما لو صلى وهو يرى غريقاً يمكنه إنقاذه، فلم ينقذه، أو حريقاً يقدر على إطفائه فلم يطفئه، أو مطلَ غريمه الذي يمكن إيفاؤه وصلى. ويسقط بها الفرض مع الإثم، ويحصل بها الثواب، فيكون مثاباً على فعله، عاصياً بمقامه، وإثمه إذن للمكث في مكان مغصوب. وقال الحنابلة في الأرجح عندهم: لا تصح الصلاة في الموضع المغصوب، ولو كان جزءاً مشاعاً، أو في ادعائه الملكية، أو في المنفعة المغصوبة من أرض أو حيوان أو بادعاء إجارتها ظالماً، أو وضع يده عليها بدون حق؛ لأنها عبادة أتى بها على الوجه المنهي عنه، فلم تصح، كصلاة الحائض وصومها؛ لأن النهي يقتضي تحريم الفعل واجتنابه والتأثيم بفعله، فكيف يكون مطيعاً بما هو عاص به، ممتثلاً بما هو محرم عليه، متقرباً بما يبعد به؟! فإن حركاته وسكناته من القيام والركوع والسجود أفعال اختيارية، هو عاص بها منهي عنها. ويختلف الأمر عن إنقاذ الغريق وإطفاء الحريق؛ لأن أفعال الصلاة في نفسها منهي عنها. وأضاف الحنابلة: أنه يصح الوضوء والأذان وإخراج الزكاة والصوم والعقود كالبيع والنكاح وغيرهما، والفسوخ كالطلاق والخلع، في مكان مغصوب؛ لأن البقعة ليست شرطاً فيها، بخلاف الصلاة. وتصح الصلاة في بقعة أبنيتها غصب، ولو استند إلى الأبنية لإباحة البقعة المعتبرة في الصلاة. وتصح صلاة من طولب برد وديعة أو رد غصب، قبل دفعها إلى صاحبها، ولو بلا عذر؛ لأن التحريم لا يختص بالصلاة.
الأرض المسخوط عليها
ولو صلى على أرض غيره ولو كانت مزروعة بلا ضرر ولا غصب، أو صلى على مصلاه بلا غصب ولا ضرر، جاز وصحت صلاته. وإن صلى في غصب من بقعة أو غيرها جاهلاً أو ناسياً كونه غصباً، صحت صلاته؛ لأنه غير آثم. وإذا حبس في مكان غصب، صحت صلاته، لحديث: «عفي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه». الأرض المسخوط عليها: وتصح الصلاة في الأرض المسخوط عليها، كأرض الخسف، وكل بقعة نزل فيها عذاب، كأرض بابل، وأرض الحِجْر (¬1)، ومسجد الضرار (¬2)، وتكره الصلاة في هذه المواضع؛ لأن هذا المسجد موضع مسخوط عليه، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلم يوم مر بالحجر: «لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، أن يصيبكم مثل ما أصابهم» (¬3). ملحق بأنواع اللباس في الصلاة: ذكر الشافعية والحنابلة أنواعاً أربعة للباس (¬4): 1 - ما يجزئ من اللباس: هو ثوب واحد يستر العورة، وبعضه ـ عند الحنابلة ـ أو غيره على عاتقه لما ¬
2 - ثياب الفضيلة
روى عمرو بن سلمة «أنه رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلي في ثوب واحد، في بيت أم سلمة، قد ألقى طرفيه على عاتقه» (¬1)، وعن جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا كان الثوب واسعاً، فالتحف به، وإذا كان ضيقاً، فائتزر به» (¬2) وغير ذلك من الأحاديث. ويجب ستر العورة بما لا يصف البشرة من ثوب صفيق أو جلد أو ورق، فإن ستر بما يظهر منه لون البشرة من ثوب رقيق، لم يجز؛ لأن الستر لا يحصل بذلك. 2 - ثياب الفضيلة: وهو أن يصلي الرجل في ثوبين أو أكثر، فإنه أبلغ وأعم في الستر، روي عن عمر أنه قال: «إذا أوسع الله فأوسعوا، جمع رجل عليه ثيابه، صلى رجل في إزار وبرد، أو في إزار وقميص، في إزار وقباء، في سراويل ورداء، في سراويل وقميص، في سراويل وقباء، في تُبّان وقميص» (¬3)، وقال عمر أيضاً: «إذا كان لأحدكم ثوبان، فليصل فيهما، فإن لم يكن إلا ثوب واحد، فليتزر به، ولا يشتمل اشتمال اليهود» (¬4). والمستحب للمرأة أن تصلي في ثلاثة أثواب: خمار تغطي به الرأس والعنق، ودِرْع تغطي به البدن والرجلين، وملحفة صفيقة، تستر بها الثياب، لقول عمر رضي الله عنه: «تصلي المرأة في ثلاثة أثواب: درع وخمار وإزار» ولقول عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما: «تصلي في الدرع، والخمار والملحفة». ¬
3 - الثياب المكروهة
والمستحب أن تكثف المرأة جلبابها، حتى لايصف أعضاءها، وتجافي الملحفة عنها في الركوع والسجود، حتى لايصف ثيابها. 3 - الثياب المكروهة: اشتمال الصماء: وهو أن يلتحف بثوب، ثم يخرج يديه من قبل صدره، كالعباءة اليوم. وقيل: أن يضطبع بالثوب ليس عليه غيره. ومعنى الاضطباع: أن يضع وسط الرداء تحت عاتقه الأيمن، وطرفيه على منكبيه الأيسر، ويبقى منكبه الأيمن مكشوفاً. وقد سبق بيان ذلك في مكروهات الصلاة. ويكره السدل أيضاً: وهو أن يلقي طرف الرداء من الجانبين، ولا يرد أحد طرفيه على الكتف الأخرى، ولا يضم الطرفين بيديه، كالحرام أو الملاءة الآن. وقد سبق بيانه. ويكره أيضاً إسبال القميص والإزار والسراويلات على وجه الخيلاء، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه» (¬1) وقوله أيضاً: «من أسبل إزاره في صلاته خيلاء، فليس من الله جل ذكره في حل ولا حرام» (¬2). ويكره أن يغطي الرجل وجهه أو فمه، لما ذكرنا من حديث أبي هريرة «أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى أن يغطي الرجل فاه». وروي عن الحنابلة في كراهة التلثم على الأنف روايتان: إحداهما: يكره لأن ابن عمر كرهه. والأخرى: لا يكره: لأن النهي ورد في تغطية الفم. ¬
4 - ما يحرم لبسه والصلاة فيه
وتكره الصلاة في الثوب المزعفر للرجل، وكذلك المعصفر؛ لأن «النبي صلّى الله عليه وسلم نهى الرجال عن التزعفر» (¬1) وروى مسلم عن علي قال: «نهاني النبي صلّى الله عليه وسلم عن لباس المعصفر» وقال عبد الله بن عمرو: «رأى النبي صلّى الله عليه وسلم علي ثوبين معصفرين، فقال: إن هذا من ثياب الكفار، فلا تلبسهما». ولا يكره شد الوسط بمنطقة أو مئزر أو ثوب أو شد قباء. ويكره للرجال عند الحنابلة لبس الثوب الأحمر والصلاة فيه، لحديث عبد الله ابن عمرو السابق: أن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يرد السلام على رجل عليه بردان أحمران، قال ابن القيم: وقد صح عنه صلّى الله عليه وسلم من غير معارض النهي عن لبس المعصفر والأحمر (¬2). 4 - ما يحرم لبسه والصلاة فيه: وهو قسمان: أـ قسم يعم الرجال والنساء: وهو نوعان: الأول: النجس: فلا تصح الصلاة فيه ولا عليه؛ لأن الطهارة من النجاسة شرط. والثاني: المغصوب، وتصح الصلاة فيه عند الجمهور، ولا تصح فيه عند الحنابلة كما بينا. ب ـ ما يختص تحريمه بالرجال دون النساء: وهو الحرير، والمنسوج بالذهب، والمموه به، يحرم لبسه وافتراشه في الصلاة وغيرها. لقوله صلّى الله عليه وسلم: «حرم لباس ¬
5 - ما تخالف فيه المرأة الرجل
الحرير والذهب على ذكور أمتي وأحل لإناثهم» (¬1) وقوله أيضاً: «لا تلبسوا الحرير، فإن من لبسه في الدنيا، لم يلبسه في الآخرة» (¬2). ولا خلاف في تحريم الحرير على الرجال إلا لعارض أو عذر. وسيأتي مزيد بيان لذلك في بحث الحظر والإباحة. 5 - ما تخالف فيه المرأة الرجل: يسن للمرأة مخالفة الرجل في ستة أمور ذكرها الشافعية: أولاً ـ تضم بعضها إلى بعض في السجود، بأن تضم مرفقيها إلى جنبيها وتلصق بطنها بفخذيها، أما الرجل فيباعد مرفقيه عن جنبيه، ويرفع بطنه عن فخذيه، لحديث رواه البيهقي في المرأة (¬3). ثانياً ـ تخفض المرأة صوتها في حضرة الرجال الأجانب، أما الرجل فيسن له الجهر في الصلاة الجهرية. ثالثاً ـ تصفق المرأة بيدها اليمنى على ظهر كف اليسرى إذا نابها شيء أثناء الصلاة، أما الرجل فيسبح بصوت مرتفع، لحديث رواه الشيخان عن سهل بن سعد (¬4). رابعاً ـ جميع بدن المرأة عورة إلا الوجه والكفين، أما الرجل فعورته ما بين سرته وركبته، كما تقدم في شروط الصلاة. ¬
المبحث الخامس ـ الأذكار الواردة عقب الصلاة
خامساً ـ تسن الإقامة للمرأة دون الأذان، فيكره لها رفع صوتها به، أما الرجل فيسن له الأذان والإقامة عند كل صلاة مكتوبة في مذهب الشافعية. سادساً ـ تقف المرأة وسط النساء في إمامتهن، وخلف الرجال في إمامة الرجل، أما الرجل فيتقدم المأمومين، ويقف الرجال في الصف الأول (¬1). المبحث الخامس ـ الأذكار الواردة عقب الصلاة: يسن ذكر الله والدعاء المأثور عقب الصلاة، إما بعد الفريضة مباشرة إذا لم يكن لها سنة بعدية كصلاة الفجر وصلاة العصر، وإما بعد الانتهاء من السنة البعدية كصلاة الظهر والمغرب والعشاء؛ لأن الاستغفار يعوض نقص الصلاة، والدعاء سبيل الحظوة بالثوا ب والأجر بعد التقرب إلى الله بالصلاة. ويأتي بالأذكار سراً على الترتيب التالي إلا الإمام المريد تعليم الحاضرين فيجهر إلى أن يتعلموا، ويقبل الإمام على الحاضرين، جاعلاً يساره إلى المحراب (¬2)،قال سمرة: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا صلى أقبل علينا بوجهه» (¬3). 1ً - يقول: (أستغفر الله) ثلاثاً، أو (استغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحيَّ القيوم وأتوب إليه) ثلاثاً. ثم يقول: (اللهم أنت السلام ومنك السلام، وإليك السلام، تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام) لما روى ثوبان أن النبي صلّى الله عليه وسلم ¬
«كان إذا سلم ـ وفي لفظ إذا انصرف من صلاته ـ استغفر ثلاثاً، ويقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام» (¬1). ثم يقول: «اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» لحديث معاذ ابن جبل، قال: «لقيني النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: إني أوصيك بكلمات تقولهن في كل صلاة ـ أو في دبر كل صلاة ـ اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» (¬2). 2ً - يقرأ آية الكرسي، وسورة الإخلاص: {قل هو الله أحد} [الإخلاص:1/ 112]، والمعوذتين {قل أعوذ برب الفلق} [الفلق:1/ 113]، {قل أعوذ برب الناس} [الناس:1/ 114] والفاتحة؛ لما روى الحسين بن علي رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ آية الكرسي في د ُ بُر الصلاة المكتوبة، كان في ذمة الله إلى الصلاة الأخرى» (¬3)، ولخبر أبي أمامة: «من قرأ آية الكرسي، وقل: هو الله أحد، دُبُر كل صلاة مكتوبة، لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت» (¬4). ¬
ولما روي عن عقبة بن عامر، قال: «أمرني النبي صلّى الله عليه وسلم أن أقرأ المعوذات (¬1) دبر كل صلاة» (¬2). 3ً - يسبح الله يقول (سبحان الله)، ويحمده يقول (الحمد لله)، ويكبره يقول (الله أكبر) ثلاثاً وثلاثين، ثم يختم تمام المئة بقوله: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد» لحديث أبي هريرة، قال: «من سبَّح الله دُ بُر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وحَمِد الله ثلاثاً وثلاثين، وكبَّر الله ثلاثاً وثلاثين، فتلك تسع وتسعون ـ عدد أسماء الله الحسنى ـ وقال: تمام المئة: لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، غُفرت خطاياه، ولو كانت مثلَ زَبَد البحر» (¬3) وورد أيضاً: «أن يسبح ويكبر ويحمد عشراً عشراً» (¬4). وعن المغيرة بن شُعبة: أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت (¬5)، ولا ينفع ذا الجَدّ منك الجدّ» (¬6)، وروى مسلم عن ابن الزبير نحوه، وزاد بعد (قدير): «ولا حول ولا قوة إلا بالله، ¬
لا إله إلاالله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون». 4ً - يقول ـ قبل القراءة والتحميد وغيرهما من المذكور في الرقمين السابقين ـ بعد صلاتي الصبح والمغرب، وهو ثان رجليه قبل أن يتكلم، عشر مرات: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير» لخبر أحمد عن عبد الرحمن بن غُنم مرفوعاً (¬1). ويقول أيضاً وهو على الصفة المذكوة سبع مرات: (اللهم أجرني من النار) لحديث مسلم بن الحارث التميمي عن أبيه: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أسرَّ إليه، فقال: إذا انصرفت من صلاة المغرب، فقل: اللهم أجرني من النار سبع مرات» وفي رواية: «قبل أن تكلم أحداً، فإنك إذا قلت ذلك ثم مت في ليلتك، كتب لك جواراً منها، وإذا صليت الصبح، فقل مثل ذلك، فإنك إن مت من يومك، كتب لك جواراً منها، قال الحارث: أسر بها النبي صلّى الله عليه وسلم، ونحن نخص بها إخواننا» (¬2). 5ً - ثم يدعو المصلي لنفسه وللمسلمين بما شاء من خيري الدنيا والآخرة، وخصوصاً بعد الفجر والعصر، لحضور ملائكة الليل والنهار فيهما، فيؤمِّنون على الدعاء، فيكون أقرب للإجابة. وأفضل الدعا هو المأثور في السنة، مثل ما روى سعد بن أبي وقاص: أنه كان يعلِّم بنيه هؤلاء الكلمات، كما يُعلِّم المعلم الغلمان الكتابة، ويقول: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كا ن يتعوَّذ بهن دُبُر الصلاة: اللهم إني أعوذ ¬
أهم آداب الدعاء
بك من البخل، وأعوذ بك من الجُبْن، وأعوذ بك أن أردّ إلى أرذل العُمُر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر» (¬1). ومن أهم آداب الدعاء (¬2): رفع اليدين حتى يرى بياض إبطيه، وغاية الرفع إلى حذو المنكبين إلا إذا اشتد الأمر، ثم مسح الوجه بهما، اتباعاً للسنة، روى أبو داود بإسناد حسن عن مالك ابن يسار مرفوعاً: «إذا سألتم الله فاسألوه ببطون أكفكم، ولا تسألوه بظهورها»، وتكون اليدان مضمومتين لما روى الطبراني في الكبير عن ابن عباس: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا دعا ضم كفيه، وجعل بطونهما مما يلي وجهه» لكن ضعفه في المواهب. ثم يبدأ الدعاء بالحمد لله والثناء عليه، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا صلى أحدكم، فليبدأ بتحميد ربه، والثناء عليه، ثم يصلي على النبي صلّى الله عليه وسلم، ثم يدعو بما شاء» (¬3) وأفضل تحري مجامع الحمد مثل: (الحمد لله حمداً يوافي نعمه، ويكافئ مزيده، ياربنا لك الحمد، كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك). ويختم دعاءه بالحمد لله، لقوله تعالى: {وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين} [يونس:10/ 10] كما يختم دعاءه بالآية الكريمة: {سبحان ربك رب ¬
العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين} [الصافات:182/ 37]، قال علي كرم الله وجهه: «من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة، فليكن آخر كلامه إذا قام من مجلسه: سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين» (¬1). ويصلي على النبي صلّى الله عليه وسلم أول الدعاء وآخره، لخبر جابر قال: قال صلّى الله عليه وسلم: «لاتجعلوني كقَدَح الراكب (¬2)، فإن الراكب يملأ قدحه، ثم يضعه، ويرفع متاعه، فإن احتاج إلى شراب شرب، أو لوضوء توضأ، وإلا أهراقه، ولكن اجعلوني في أول الدعاء، وأوسطه، وآخره» (¬3). ويستقبل الداعي غير الإمام القبلة؛ لأن خير المجالس ما استقبل به القبلة. ويكره للإمام استقبال القبلة، بل يستقبل الإمام المأمومين للحديث السابق: أنه صلّى الله عليه وسلم كان ينحرف إليهم إذا سلم. ويلحُّ الداعي في الدعاء مع الخشية، لحديث: «إن الله يحب الملحِّين في الدعاء» (¬4) وحديث: «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله عز وجل لا يستجيب دعاء من قلب غافل» (¬5) ويكرر الدعاء ثلاثاً؛ لأنه نوع من الإلحاح، قال ابن مسعود: «كان عليه السلام إذا دعا دعا ثلاثاً، وإذا سأل سأل ثلاثاً» (¬6). ¬
ويكون متطهراً، ويقدم بين يدي حاجته التوبة والاستغفار. والدعاء سراً أفضل منه جهراً، لقوله تعالى: {ادعوا ربكم تضرعاً وخفية} [الأعراف:55/ 7] لأنه أقرب إلى الإخلاص. ويكره رفع الصوت بالدعاء في الصلاة وغيرها إلا لحاج لحديث: «أفضل الحج: العَجّ والثجّ» (¬1). ويعم بالدعاء، لقوله صلّى الله عليه وسلم لعلي: «يا علي عمم». ويكون دعاؤه بتأدب في هيئته وألفاظه، وخشوع وخضوع، وعزم ورغبة، وحضور قلب ورجاء، للحديث السابق: «لا يستجاب من قلب غافل» وشرط الدعاء: الإخلاص. ويتوسل بأسماء الله وصفاته وتوحيده، ويقدم بين دعائه صدقة، ويتحرى أوقات الإجابة وهي: الثلث الأخير من الليل، وبين الأذان والإقامة، وأدبار الصلوات المكتوبة، وعند صعود الإمام المنبر يوم الجمعة، حتى تنقضي الصلاة، وآخر ساعة بعد العصر من يوم الجمعة. ويوم عرفة ويوم الجمعة، وعند نزول الغيث، وعند زحف الصفوف في سبيل الله تعالى، وحالة السجود. وينتظر الإجابة، للحديث السابق: «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، ولا يَعْجل، فيقول: دعوت فلم يستجب لي» لما في الصحيح مرفوعاً: «يستجاب لأحدكم، ما لم يَعْجل، قالوا: وكيف يعجل يا رسول الله؟ قال: يقول: قد دعوت، فلم أر يستجب لي، فيستحسر عند ذلك». ¬
ولا يكره عند الحنابلة رفع بصره إلى السماء (¬1)، ولا بأس أن يخص نفسه بالدعاء، لحديث أبي بكرة، وأم سلمة، وسعد بن أبي وقاص، إذ أولها: «اللهم إني أعوذ بك وأسألك» فهو يخص نفسه الكريمة صلّى الله عليه وسلم، ولحديث عائشة: «أفضل الدعاء: دعاء المرء لنفسه» (¬2). ويستحب أن يخفف الدعاء؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم «نهى عن الإفراط في الدعاء» (¬3) والإفراط يشمل كثرة الأسئلة. ويدعو بدعاء مأثور، إما من القرآن أو السنة أو عن الصحابة أو التابعين، أو الأئمة المشهورين. من ذلك ما روته أم سلمة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقول إذا صلى الصبح حين يسلم: اللهم إني أسألك علماً نافعاً، ورزقاً طيباً، وعملاً متقبلاً» (¬4). ومن الأدعية المأثورة الجامعة: (اللهم إني أسألك مُوجِبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم، والغنيمة من كل بر، والفوز بالجنة، والنجاة من النار. اللهم إني أعوذ بك من الهم والحَزَن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل والفشل، ومن غلبة الدين وقهر الرجال. اللهم إني أعوذ بك من جهد البلاء، ودَرْك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء، وعضال الداء). ¬
ما يستحب للمصلي بعد انتهاء الصلاة المفروضة
ما يستحب للمصلي بعد انتهاء الصلاة المفروضة: استحب الفقهاء بعد انتهاء الفريضة مايأتي (¬1): 1ً - يستحب الانتظار قليلاً أو اللبث للإمام مع المصلين، إذا كان هناك نساء، حتى ينصرف النساء ولا يختلطن بالرجال، لحديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا سلَّم، قام النساء، حتى يقضي تسليمَه، وهو يمكث في مكانه يسيراً، قبل أن يقوم، قالت: فنُرى ـ والله أعلم ـ أن ذلك كان لكي ينصرف النساء، قبل أن يُدركَهن الرجال (¬2). 2ً - وينصرف المصلي في جهة حاجته إن كانت له يميناً أو شمالاً، فإن لم تكن له حاجة، انصرف جهة يمينه، لأنها أفضل، لقول ابن مسعود: «لا يجعل أحدكم للشيطان حظاً من صلاته، يرى حقاً عليه ألا ينصرف إلا عن يمينه، لقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم كثيراً ما ينصرف عن شماله» (¬3) وعن قبيصة بن هُلْب عن أبيه: «أنه صلى مع النبي صلّى الله عليه وسلم، فكان ينصرف عن شقيه» (¬4). 3ً - يندب أن يفصل المصلي بين الفرض والسنة بكلام أو انتقال من مكانه، والفصل بالانتقال أفضل، للنهي عن وصل ذلك إلا بعد المذكور، والانتقال أفضل تكثيراً للبقاع التي تشهد له يوم القيامة. ويفصل بين الصبح وسنته باضطجاع على جنبه الأيمن أو الأيسر، اتباعاً للسنة. وقال أحمد: لا يتطوع الإمام في مكانه الذي صلى فيه المكتوبة، كما قال ¬
المبحث السادس ـ القنوت في الصلاة
علي رضي الله عنه. وقال أحمد أيضاً: من صلى وراء الإمام، فلا بأس أن يتطوع مكانه، كما فعل ابن عمر. روى المغيرة بن شعبة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يتطوع الإمام في مقامه الذي يصلي فيه بالناس» (¬1) وذكر الشافعية (¬2) أن النفل الذي لا تسن فيه الجماعة صلاته في البيت أفضل منه بالمسجد، للخبر الصحيح: «أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة» لتعود بركة صلاته على منزله. المبحث السادس ـ القنوت في الصلاة: يندب القنوت (¬3) في الصلاة، لكن الفقهاء اختلفوا في تحديد الصلاة التي يقنت فيها على آراء، فقال الحنفية والحنابلة: يقنت في الوتر، قبل الركوع عند الحنفية، وبعد الركوع عند الحنابلة، ولا يقنت في غيره من الصلوات. وقال المالكية والشافعية: يقنت في صلاة الصبح بعد الركوع، والأفضل عند المالكية قبل الركوع، ويكره عند المالكية على الظاهر القنوت في غير الصبح. ويستحب عند الحنفية والشافعية والحنابلة: القنوت في الصلوات المفروضة إذا نزلت بالمسلمين نازلة، وحصرها الحنابلة في صلاة الصبح، والحنفية في صلاة جهرية. وتفصيل الكلام عن كل مذهب ما يأتي: ¬
أولا ـ قنوت الوتر أو الصبح
أولاً ـ قنوت الوتر أو الصبح: قال الحنفية (¬1): يقنت المصلي في صلاة الوتر، فيكبر بعد الانتهاء من القراءة، ويرفع يديه كرفعه عند الافتتاح، ثم يضعهما تحت سرته، ثم يقنت، ثم يركع، ولا يقنت في صلاة غير الوتر إلا لنازلة في الصلاة الجهرية، وأما قنوت النبيصلّى الله عليه وسلم في الفجر شهراً فهو منسوخ بالإجماع، لما روى ابن مسعود: أنه عليه السلام قنت في صلاة الفجر شهراً ثم تركه (¬2). وحكمه عندهم: أنه واجب عند أبي حنيفة، سنة عند الصاحبين، كالخلاف الآتي في الوتر. ومحل أدائه: الوتر في جميع السنة قبل الركوع من الركعة الثالثة، بدليل ماروي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم وهم (عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب) أن قنوت رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان في الوتر قبل الركوع (¬3). ومقداره كمقدار: إذا السماء انشقت، لما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ في القنوت: اللهم إنا نستعينك، أو اللهم اهدنا فيمن هديت الخ، وكلاهما على مقدار هذه السورة. ¬
وصيغة الدعاء المفضلة عندهم وعند المالكية: (اللهم إنا نستعينك ونستهديك، ونستغفرك ونتوب إليك، ونؤمن بك ونتوكل عليك، ونثني عليك الخير كله، نشكرك ولا نكفرك، ونخلَع ونترك من يفجُرُك، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفِد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك الجِدَّ بالكفار مُلحق) (¬1) وهوالدعاء المشهور لابن عمر، ولا مانع من صحة نسبته لكل من عمر وابنه. وذلك بدليل ما أخرجه أبو داود في المراسيل عن خالد بن أبي عمران، قال: «بينما رسول الله صلّى الله عليه وسلم يدعو على مضر، إذ جاءه جبريل، فأومأ إليه أن اسكت، فسكت، فقال: يا محمد، إن الله لم يبعثك سبابا ولا لعَّاناً، وإنما بعثك رحمة للعالمين، ليس لك من الأمر شيء، ثم علّمه القنوت: اللهم إنا نستعينك ... إلخ» (¬2) ولأن الصحابة رضي الله عنهم اتفقوا على هذا القنوت، فالأولى أن يقرأه. ولو قرأ غيره جاز، ولو قرأ معه غيره، كان حسناً. والأولى أن يقرأه بعدما علَّم رسول الله صلّى الله عليه وسلم الحسن بن علي رضي الله عنهما في قنوته: اللهم اهدنا فيمن هديت ... إلى آخره (¬3). ثم بعده يصلي فيه على النبي صلّى الله عليه وسلم وآله، على المفتى به، فيقول: «وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم». ومن لا يحسنه بالعربية أو لا يحفظه، إما أن يقول: يا رب أو اللهم اغفر لي ثلاثاً أو {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار} [البقرة:201/ 2]، والآية الأخيرة أفضل. ¬
مذهب المالكية
وصفته من الجهر والإسرار: المختار أنه يخفيه الإمام والمقتدي. وحكمه حال نسيانه: إذا نسي المصلي القنوت حتى ركع، ثم تذكر بعدما رفع رأسه من الركوع، لا يعود إليه، ويسقط عنه القنوت، كما يسقط في ظاهر الرواية إذا تذكره في الركوع، ثم يسجد للسهو في آخر صلاته قبل السلام، لفوات القنوت عن محله، فإن عاد إليه وقنت، ولم يعد الركوع، لم تفسد صلاته، لكون ركوعه بعد قراءة تامة. ويأتي المأموم بقنوت الوتر، ولو اقتدى بشافعي يقنت بعد الركوع، لأنه مجتهد فيه. وإذا أدرك المقتدي الإمام في ركوع الثالثة من الوتر، كان مدركاً للقنوت حكماً، فلا يأتي به في آخر صلاته. وقالوا أخيراً: إذا قنت الإمام في صلاة الفجر، سكت من خلفه عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وهو الأظهر؛ لأنه منسوخ ولا متابعة فيه، وقال أبو يوسف: يتابعه؛ لأنه تبع لإمامه، والقنوت مجتهد فيه. مذهب المالكية: يندب عند المالكية (¬1) قنوت سراً في الصبح فقط، لا في الوتر وغيره فيكره، وذلك قبل الركوع، وهو أفضل، ويجوز بعد الركوع. ولفظه المختار: اللهم إنا نستعينك .. إلخ كالحنفية، ولا يضم إليه: اللهم اهدنا فيمن هديت ... إلخ على المشهور. ويقنت الإمام والمأموم والمنفرد سراً، ولا بأس برفع اليدين فيه. ¬
مذهب الشافعية
مذهب الشافعية: يسن عندهم (¬1) القنوت في اعتدال ثانية الصبح، وصيغته المختارة هي: (اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت (¬2)، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، فلك الحمد على ما قضيت، أستغفرك وأتوب إليك) (¬3)، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم. ويقنت الإمام بلفظ الجمع؛ فيقول: اللهم اهدنا .. إلخ؛ لأن البيهقي رواه بلفظ الجمع، فحمل على الإمام، وعلله النووي في «أذكاره» بأنه يكره للإمام تخصيص نفسه بالدعاء لخبر: «لا يؤم عبد قوماً، فيخص نفسه بدعوة دونهم، فإن فعل فقد خانهم» (¬4). ودليلهم على اختيار هذه الصيغة: ما رواه الحاكم في المستدرك عن أبي هريرة ¬
رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع من صلاة الصبح في الركعة الثانية، رفع يديه، فيدعو بهذا الدعاء: اللهم اهدني فيمن هديت .. إلخ ما تقدم (¬1). وزاد البيهقي فيه عبارة: «فلك الحمد على ما قضيت (¬2) .. إلخ». وقال أنس بن مالك: «ما زال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقنت في الفجر، حتى فارق الدنيا» (¬3) وكان عمر يقنت في الصبح بمحضر من الصحابة وغيرهم. والصحيح سن الصلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم في آخر القنوت للأخبار الصحيحة في ذلك. كما يسن الصلاة على الآل، وسن رفع اليدين فيه كسائر الأدعية، اتباعاً للسنة (¬4). ويسن في الدعاء أن يجعل ظهر كفيه إلى السماء إن دعا لرفع بلاء، وعكسه إن دعا لتحصيل شيء. وقد أفتى بعض الشافعية بأنه لا يسن ذلك عند قوله في القنوت: (وقني شر ما قضيت) لأن الحركة في الصلاة ليست مطلوبة. والصحيح أنه لا يمسح بيديه وجهه، لعدم وروده، كما قال البيهقي. والإمام يجهر بالقنوت، اتباعاً للسنة (¬5)، ويؤمن المأموم للدعاء (¬6) إلى قوله: (وقني شر ما قضيت)، ويجهر به كما في تأمين القراءة، ويقول الثناء سراً بدءاً من قوله: (فإنك تقضي .. ) إلخ؛ لأنه ثناء وذكر، فكانت الموافقة فيه أليق، أو يقول: أشهد، ¬
وهل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من قبيل الدعاء،
والأول أولى، وقال بعضهم: الثاني أولى. فإن لم يسمع الإمام قنت ندباً معه سراً كسائر الدعوات والأذكار التي لا يسمعها. وهل الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم من قبيل الدعاء، فيؤمن فيها، أو من قبيل الثناء فيشارك فيها؟ المعتمد هو الأول، لكن الأولى الجمع بينهما. ولا يرد على اقتصاره على التأمين قوله صلّى الله عليه وسلم: «رغم أنف امرئ ذكرت عنده، فلم يصل علي» (¬1) لأنه في غير المصلي، على أن التأمين في معنى الصلاة عليه. ويصح الدعاء بغير هذه الصيغة، بكل ذكر مشتمل على دعاء وثناء، مثل: «اللهم اغفر لي ياغفور» فقوله: «اغفر لي» دعاء، وقوله: «ياغفور» ثناء، ومثل «وارحمني يارحيم» أو «والطف بي يا لطيف» والأولى أن يقول: «اللهم اهدني .. » السابق. ويكره إطالة القنوت كالتشهد الأول، لكن يستحب له الجمع بين قنوت النبي صلّى الله عليه وسلم «اللهم اهدني .. إلخ» وقنوت عمر أو ابنه: «اللهم إنا نستعينك ونستهديك» السابق. والجمع لمنفرد وإ مام جماعة التطويل، وإن اقتصر فليقتصر على الأول. ويزاد عليهما: (اللهم عذب الكفرة والمشركين أعداءك أعداء الدين، الذين يصدون عن سبيلك، ويكذبون رسولك، ويقاتلون أولياءك. اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، اللهم أصلح ذات بينهم، وألِّف بين قلوبهم، واجعل في قلوبهم الإيمان والحكمة، وثبِّتهم على ملة رسولك، وأوزعهم (أي ألهمهم) أن يوفوا بعهدك الذي عاهدتهم عليه، وانصرهم على عدوك وعدوهم، إله الحق، واجعلنا منهم). ¬
مذهب الحنابلة
والقنوت كما سنبين من أبعاض الصلاة، فإن تركه كله أو بعضه، أو ترك شيئاً من قنوت عمر إذا جمعه مع قنوت النبي عليه السلام، أو ترك الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم بعده، سجد للسهو. كما يسجد للسهو إن ترك القنوت تبعاً لإمامه الحنفي، أو تركه إمامه المذكور وأتى به هو. مذهب الحنابلة: يسن القنوت عندهم (¬1) كالحنفية، في الوتر في الركعة الواحدة في جميع السنة، بعد الركوع، كما قال الشافعي في وتر النصف الأخير من رمضان، فإن قنت قبل الركوع فلا بأس، لما روى ابن مسعود: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قنت بعد الركوع» (¬2) وروى حميد، قال: سئل أنس عن القنوت في صلاة الصبح؟ فقال: «كنا نقنت قبل الركوع وبعده» (¬3). ويقول في قنوته جهراً إن كان إماماً أو منفرداً: «اللهم إنا نستعينك .. إلخ» «اللهم اهدنا فيمن هديت» والثاني أولى كما ذكر ابن قدامة، لما روى الحسن بن علي رضي الله عنهما، قال علمني رسول الله صلّى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر: اللهم اهدني فيمن هديت .. إلخ (¬4). وعن عمر رضي الله عنه: أنه قنت في صلاة الفجر، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم إنا نستعينك .. إلخ ثم يصلي على النبي صلّى الله عليه وسلم، وعلى آله. ولا بأس أن يدعو في قنوته بما شاء غير ما تقدم. ¬
ثانيا ـ القنوت أثناء النوازل
وإذا أخذ الإمام في القنوت أمَّن من خلفه، ويرفع يديه، ويمسح وجهه بيديه، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «إذا دعوت الله فادع ببطون كفيك، ولا تدع بظهورها، فإذا فرغت فامسح بهما وجهك» (¬1)، وروى السائب بن يزيدعن أبيه: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا دعا، رفع يديه، ومسح بهما وجهه» (¬2). ويؤمن المأموم بلا قنوت إن سمع، وإن لم يسمع دعا. ولا يسن القنوت في الصبح ولا غيرها من الصلوات سوى الوتر، كما قال الحنفية، لما روي «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قنت شهراً، يدعو على حي من أحياء العرب، ثم تركه» (¬3). ثانياً ـ القنوت أثناء النوازل: قال الحنفية والشافعية والحنابلة (¬4): يشرع القنوت للنازلة لا مطلقاً، في الجهرية فقط عند الحنفية، وفي سائر الصلوات المكتوبة عند غيرهم إلا الجمعة عند الحنابلة اكتفاءً في خطبتها (¬5)، ويجهر في دعائه في هذا القنوت. والنازلة: أن ينزل بالمسلمين خوف أو قحط أو وباء أو جراد، أو نحوها، اتباعاً للسنة؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم قنت شهراً يدعو على قاتلي أصحابه القراء ببئر معونة (¬6) وعن أبي هريرة «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يدعو على أحد، أو يدعو لأحد، قنت بعد الركوع .. » (¬7). ¬
المبحث السابع ـ صلاة الوتر
وكون القنوت عند النازلة لم يشرع مطلقاً بصفة الدوام، على المشهور عند الشافعية، فلأنه صلّى الله عليه وسلم لم يقنت إلا عند النازلة. ويدعو بنحو ما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه، وروي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يقول في القنوت: (اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، وألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم العن كفرة أهل الكتاب الذين يكذبون رسلك، ويقاتلون أولياءك، اللهم خالف بين كلمتهم، وزلزل أقدامهم، وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين. بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم إنا نستعينك). ولا يسن السجود لترك قنوت النوازل؛ لأنه ـ كما قال الشافعية ـ ليس من أبعاض الصلاة. المبحث السابع ـ صلاة الوتر: الكلام عن الوتر في بيان حكمه أوصفته واجب أم سنة، ومن يجب عليه، ومقداره، ووقته، صفة القراءة فيه، القنوت فيه، ومحل القنوت (¬1). 1 - حكم الوتر أو صفته: الوتر مطلوب بالإجماع، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «يا أهل القرآن أو تروا فإن الله وتر يحب الوتر» (¬2)، وكان واجباً على النبي صلّى الله عليه وسلم، لحديث: «ثلاث كتبن علي ولم تكتب عليكم: الضحى، والأضحى، والوتر» (¬3). ¬
وهو واجب كصلاة العيدين عن أبي حنيفة، سنة مؤكدة وآكد السنن عند الصاحبين وبقية الفقهاء. استدل أبو حنيفة بقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى زادكم صلاة، ألا وهي الوتر، فصلوها ما بين العشاء إلى طلوع الفجر» (¬1) وهو أمر والأمر للوجوب، وإنما لم يكفر جاحده باتفاق الحنفية؛ لأن وجوبه ثبت بسنة الآحاد، وهو معنى ما روي عنه أنه سنة. وبناء عليه لا يجوز عنده أداؤه قاعداً أو على الدابة بلا عذر. ويؤيده أحاديث أخرى، منها حديث أبي أيوب: «الوتر حق، فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل» (¬2). وحديث بريدة: «الوتر حق، فمن لم يوتر، فليس منا» (¬3). واستدل الجمهور على سنيته بأحاديث كثيرة منها: «قوله صلّى الله عليه وسلم للأعرابي، حين سأله عما فرض الله عليه من الصلاة؟ قال: خمس صلوات، قال: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوَّع» (¬4). وكذَّب عبادة بن الصامت رجلاً يقول: الوتر واجب، وقال: «سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: خمس صلوات كتبهن الله على العبد في اليوم والليلة» (¬5). ¬
2 - من يجب عليه الوتر عند أبي حنيفة
وعن علي قال: «الوتر ليس بحتم كهيئة الصلاة المكتوبة، ولكنه سنة سنها النبي صلّى الله عليه وسلم» (¬1). ولأنه يجوز فعله على الراحلة من غير ضرورة، فأشبه السنن، وروى ابن عمر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يوتر على بعيره» (¬2). وهذا الرأي هو الحق؛ لأن أحاديث أبي حنيفة إن صحت فهي محمولة على التأكيد، وقد تكلم المحدثون فيها، فحديث «من لم يوتر فليس منا» فيه ضعيف، وحديث أبي أيوب «الوتر حق» وإن كان رواته ثقاتاً، فمحمول على تأكيد الاستحباب، لقول الإمام أحمد: «من ترك الوتر عمداً فهو رجل سوء، لا ينبغي أن تقبل له شهادة». 2 - من يجب عليه الوتر عند أبي حنيفة: الوتر عند أبي حنيفة كالجمعة والعيدين واجب على كل مسلم، ذكر أم أنثى، بعد أن يصبح أهلاً للوجوب، لحديث أبي أيوب السابق: «الوتر حق واجب على كل مسلم، فمن أحب أن يوتر بخمس فليوتر، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة، فليوتر» (¬3). وهو عند الجمهور سنة مؤكدة على كل مسلم. 3 - مقداره وكيفيته: الوتر عند الحنفية ثلاث ركعات، لا يفصل بينهن بسلام، وسلامه في آخره، ¬
كصلاة المغرب، حتى لو نسي قعود التشهد الأول، لا يعود إليه، ولو عاد فسدت الصلاة. لحديث عائشة: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوتر بثلاث، لا يسلم إلا في آخرهن» (¬1). ولا يجوز بدون نية الوتر، فينويه ثلاث ركعات، ويقرأ الفاتحة وسورة في الركعات الثلاث، ويتشهد تشهدين: الأول والأخير، ولا يقرأ دعاء الاستفتاح في بداية الركعة الثالثة، ويكبر ويرفع يديه ثم يقنت بعد القراءة قبل ركوع الثالثة، وبانتهائه يسلم يميناً وشمالاً، ففيه تكبيرة إحرام واحدة وسلام واحد. وقال المالكية: الوتر ركعة واحدة، يتقدمها شَفْع، (سنة العشاء البعدية). ويفصل بينهما بسلام، يقرأ فيها بعد الفاتحة: الإخلاص والمعوذتين. وكذلك قال الحنابلة (¬2): الوتر ركعة، قال أحمد: إنا نذهب في الوتر إلى ركعة، وإن أوتر بثلاث أو أكثر فلا بأس. وقال الشافعية: أقل الوتر ركعة، وأكثره إحدى عشرة، والأفضل لمن زاد على ركعة الفصل بين الركعات بالسلام، فينوي ركعتين من الوتر ويسلم، ثم ينوي ركعة من الوتر ويسلم، لما روى ابن حبان: «أنه صلّى الله عليه وسلم كان يفصل بين الشفع والوتر». ودليل المالكية والحنابلة وهو دليل الشافعية على أقل الوتر: خبر مسلم عن ابن عمر وابن عباس: «الوتر ركعة من آخر الليل» وروى أبو داود من حديث أبي أيوب السابق: «من أحب أن يوتر بواحدة فليفعل»، وفي صحيح ابن حبان من حديث ابن عباس: «أنه صلّى الله عليه وسلم أوتر بواحدة». ¬
وأدنى الكمال ثلاث، وأكمل منه خمس، ثم سبع، ثم تسع، ثم إحدى عشرة فأكثره إحدى عشرة للأخبار الصحيحة، منها خبر عائشة: «ما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة» فلا تصح الزيادة عليها كسائر الرواتب. وفي رواية لمسلم عن عائشة: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشر ركعة، يسلم بين كل ركعتين، ويوتر بواحدة» وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خِفْت الصبح، فأوتر بواحدة» (¬1). والوتر بخمس ثابت في حديث أبي أيوب السابق: «الوتر حق واجب على كل مسلم، فمن أحب أن يوتر بخمس فليوتر .. »، وروي عن زيد بن ثابت: أنه كان يوتر بخمس، لا ينصرف إلا في آخرها. وفي حديث عائشة المتفق عليه: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، يوتر من ذلك بخمس، لايجلس في شيء منها إلا في آخرها» وروي مثل ذلك عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلم (¬2)، وعن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا توتروا بثلاث، أو تروا بخمس أو سبع، ولاتشبَّهوا بصلاة المغرب» (¬3). والوتر بسبع أو تسع ثبت في حديث عائشة عند مسلم وأبي داود، وأيدها بذلك ابن عباس. والوتر بإحدى عشرة ثبت أيضاً في حديث عائشة المتقدم في الصحيحين. قال أحمد رحمه الله: الأحاديث التي جاءت «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أو تر بركعة» كان قبلها صلاة متقدمة. ¬
4 - وقت الوتر
4 - وقت الوتر: أصل الوقت، والوقت المستحب: وقته عند الجمهور: ما بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، فلا يصح أداؤه قبل صلاة العشاء، فلو أوتر قبل العشاء عمداً أو سهواً لم يعتد به. وعند أبي حنيفة: وقته وقت العشاء، إلا أنه شرع مرتباً عليه، فلا يجوز أداؤه قبل صلاة العشاء، مع أنه وقته، لعدم شرطه، وهو الترتيب، إلا إذا كان ناسياً، فلو صلاه قبل العشاء ناسياً لم يعده. وقال الصاحبان وغيرهما: يعيد، بدليل الخبر: «إن الله أمدكم بصلاة هي خير لكم من حُمْر النعم، وهي الوتر، فجعلها لكم من العشاء إلى طلوع الفجر» (¬1). ودليل امتداد وقته في الليل: حديث عائشة قالت: «من كل الليل قد أوتر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، من أول الليل وأوسطه وآخره، فانتهى وتره إلى السَّحر» (¬2) وحديث أبي سعيد: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أوتروا قبل أن تصبحوا» (¬3). ووقته الاختياري عند المالكية: إلى ثلث الليل، ووقته الضروري من طلوع الفجر لتمام صلاة الصبح، فإن صلاها خرج وقته الضروري وسقط، لأنه لا يقضى عندهم من النوافل إلا سنة الفجر، فتقضى للزوال، وكره تأخيره لوقت الضرورة بلا عذر. والأفضل الوتر آخر الليل. ومن أوتر أول الليل، ثم تنفل فلا يعيد الوتر عندهم وهو رأي الجمهور؛ إذ لا وتران في ليلة. ¬
ووقته المختار عند الشافعية إلى نصف الليل، والباقي وقت جواز، وإذا جمع العشاء مع المغرب جمع تقديم، كان له أن يوتر وإن لم يدخل وقت العشاء. ويسن جعله آخر صلاة الليل، ولو نام قبله، لخبر الشيخين: «اجعلوا آخر صلاتكم من الليل وتراً». فإن كان له تهجد، أخرَّ الوتر إلى أن يتهجد، وإلا أوتر بعد فريضة العشاء وسنتها الراتبة إذا لم يثق بيقظته آخر الليل، وإلا بأن وثق من اليقظة فتأخيره أفضل، لخبر مسلم: «من خاف ألا يقوم آخر الليل، فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخره، فليوتر آخر الليل، فإن صلاة آخر الليل مشهودة» وذلك أفضل، وعليه يحمل خبر مسلم أيضاً: «بادروا الصبح بالوتر» (¬1). فإن أوتر، ثم تهجد، لم يعد الوتر أي لا يسن له إعادته لخبر: «لا وتران في ليلة» (¬2). ووقته المستحب عند الحنفية: آخر الليل، لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن وتر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقالت: تارة كان يوتر في أول الليل، وتارة في وسط الليل، وتارة في آخر الليل، ثم صار وتره في آخر عمره في آخر الليل (¬3). وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «يصلي أحدكم مثنى مثنى، فإذا خشي الصبح، صلى واحدة، فأوترت له ماصلى من الليل» (¬4). وكذلك الأفضل عند الحنابلة: فعل الوتر في آخر الليل، فهذا متفق عليه، ¬
5 - صفة القراءة في الوتر
لخبر مسلم السابق: «من خاف ألا يقوم من آخر الليل .. » وخبر الشيخين السابق: «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً، فإن خاف ألا يقوم من آخر الليل استحب أن يوتر أوله» وهذا متفق عليه أيضاً؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أوصى أبا هريرة وأبا ذر وأبا الدرداء بالوتر قبل النوم، وقال: «من خاف ألا يقوم آخر الليل، فليوتر من أوله» (¬1). ومن أوتر من الليل، ثم قام للتهجد، فالمستحب عند الحنابلة أن يصلي مثنى مثنى، ولا ينقض وتره، ومعناه أنه إذا قام للتهجد صلى ركعة تشفع الوتر الأول، ثم يصلي مثنى مثنى، ثم يوتر في آخر التهجد، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً» وهذا مخالف لرأي الجمهور السابق. وذكر الحنابلة أنه إذا صلى شخص مع الإمام , وأحب متابعته في الوتر، وأحب أن يوتر آخر الليل، فإنه إذا سلم الإمام لم يسلم معه، وقام فصلى ركعة أخرى , يشفع بها صلاته مع الإمام. 5 - صفة القراءة في الوتر: القراءة تجب عند الحنفية في كل ركعات الوتر، ويندب عندهم أن يقرأ في الركعة الأولى سورة الأعلى وفي الثانية سورة الكافرون وفي الثالثة سورة الإخلاص لحديث أبي ابن كعب «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقرأ في الوتر بسبح اسم ربك الأعلى، وفي الركعة الثانية بقل يا أيها الكافرون، وفي الثالثة بقل هو الله أحد، ولا يسلِّم إلا في آخرهن» (¬2). ¬
6 - قنوت الوتر
ويندب عند المالكية القراءة في وتر الركعة الواحدة بالإخلاص والمعوذتين بعد الفاتحة، ويقرأ في الشفع بسبِّح اسم ربك الأعلى في الأولى، والكافرون في الثانية بعد الفاتحة فيهما، ويفصل بينهما بسلام، إلا في حالة الاقتداء لمن يواصل، فيوصله معه، وينوي بالأوليين الشفع، وبالأخيرة الوتر، وكره وصل الوتر بالشفع بغير سلام لغير مقتد يواصل، وكره وتر بواحدة من غير تقدم شفع، ولو لمريض أو مسافر. ويستحب عند الشافعية لمن أوتر بثلاث: أن يقرأ في ركعات الوتر الثلاث بعد الفاتحة: في الأولى بسبح، وفي الثانية {قل يا أيها الكافرون} [الكافرون:1/ 109] وفي الثالثة {قل هو الله أحد} [الإخلاص:1/ 112] والمعوذتين، وينبغي لمن زاد على الثلاثة أن يقرأ فيها ذلك، لحديث عائشة: أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعة الأولى من الوتر بفاتحة الكتاب، وسبح اسم ربك الأعلى، وفي الثانية: يقل يا أيها الكافرون، وفي الثالثة: يقل هو الله أحد، والمعوذتين (¬1): الفلق ثم الناس. واستحب الحنابلة الاقتصار في الثالثة على سورة الإخلاص لحديث أبي بن كعب السابق، قائلين: إن حديث عائشة في هذا لا يثبت، فإنه يرويه يحيى بن أيوب، وهو ضعيف، وقد أنكر أحمد ويحيى بن معين زيادة المعوذتين. 6 - قنوت الوتر: قال الحنفية والحنابلة (¬2): يقنت المصلي في الوتر في جميع السنة، إلا أن الحنفية قالوا: يقنت في الثالثة قبل الركوع أداء وقضاء؛ لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قنت قبل ¬
الركوع (¬1)، وكيفيته: أن يكبر ويرفع يديه ثم يقنت، لحديث علي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه كان إذا أراد أن يقنت كبر وقنت. وهذا رأي المالكية أيضاً في الصبح لا في الوتر كما تقدم. وقال الحنابلة: يقنت بعد الركوع، لما رواه مسلم عن ابن مسعود «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قنت بعد الركوع»، ولحديث الزهري عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم، وعن أنس وغيره: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قنت بعد الركوع (¬2). وطعنوا في حديث أبي بأنه قد تكلم فيه، وفي حديث ابن مسعود بأن فيه متروك الحديث. وصيغة القنوت عند الحنفية: هي الدعاء المشهور عن عمر وابنه: «اللهم إنا نستعينك ونستهديك .. إلخ»، ما ذكرناه في بحث القنوت، ويصلي على النبي صلّى الله عليه وسلم في آخره، على المفتى به. والأولى عند الحنابلة دعاء: «اللهم اهدني فيمن هديت»، وللمصلي الدعاء بـ «اللهم إنا نستعينك» والأصح عند الحنفية أن يكون الدعاء مخافتاً فيه (¬3)، وعند الحنابلة: يجهر به الإمام والمنفرد. وقال الشافعية: يندب القنوت في آخر الوتر في النصف الثاني من رمضان بعد الركوع، وهو كقنوت الصبح، ويقول بعده في الأصح: «اللهم إنا نستعينك ¬
الذكر بعد الوتر
ونستهديك ونستغفرك .. إلخ»، لما روى أبو داود والبيهقي: «أن أبي بن كعب كان يقنت في النصف الأخير من رمضان حين يصلي التراويح» (¬1). الذكر بعد الوتر: ويستحب أن يقول بعد الوتر: سبحان الملك القدوس ثلاثاً، ويمد صوته بها في الثالثة، لما روى أبي بن كعب، قال: «كان ر سول الله صلّى الله عليه وسلم إذا سلم من الوتر، قال: سبحان الملك القدوس» (¬2) وروى عبد الرحمن بن أَبْزى: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوتر بسبح اسم ربك الأعلى، وقل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد، وإذا أراد أن ينصرف من الوتر قال: سبحان الملك القدوس ثلاث مرات، ثم يرفع صوته بها في الثالثة» (¬3). الدعاء بعد الوتر: عن علي بن أبي طالب عليه السلام أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يقول في آخر وتره: «اللهم إني أعوذ برضاك من سَخَطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» (¬4). صفة وتر رسول الله صلّى الله عليه وسلم: عن سعيد بن هشام أنه قال لعائشة: أنبئيني عن وتر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقالت: ¬
كنا نُعِدُّ له سواكه وطهوره، فيبعثه الله متى شاء أن يبعثه من الليل، فيتسوك ويتوضأ، ويصلي تسع ركعات (¬1)، لا يجلس فيها إلا في الثامنة، فيذكر الله ويحمده، ويدعوه ثم ينهض ولا يسلِّم. ثم يقوم فيصلي التاسعة، ثم يقعد، فيذكر الله ويحمده ويدعوه، ثم يسلم تسليماً يُسمعنا. ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلم، وهو قاعد، فتلك إحدى عشرة ركعة يابني. فلما أسنَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأخذه اللحم، أو تر بسبع، وصنع في الركعتين مثل صنيعه الأول، فتلك تسع يا بُنيَّ. وكان نبي الله إذا صلى صلاة أحب أن يداوم عليها، وكان إذا غلبه نوم أو وجَع عن قيام الليل، صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة، ولا أعلم رسول الله صلّى الله عليه وسلم قرأ القرآن كله في ليلة، ولا قام ليلة حتى أصبح، ولا صام شهراً كاملاً غير رمضان (¬2). وفي رواية لأحمد والنسائي وأبي داود نحوه، وفيها: فلما أسنَّ وأخذه اللحم، أوتر بسبع ركعات، لم يجلس إلا في السادسة والسابعة، ولم يسلم إلا في السابعة. وفي رواية للنسائي قالت: فلما أسن وأخذه اللحم، صلى سبع ركعات لا يقعد إلا في آخرهن. ¬
الفصل السابع: مبطلات الصلاة أو مفسداتها
الفَصْل ُالسَّابع: مُبْطِلاتُ الصَّلاة أو مُفْسِداتُها الصلاة عبادة ذات أقوال وأفعال مخصوصة كما عرفنا، ويجب أداؤها مستوفية شرائطها وأركانها لتكون صحيحة على النحو الذي بينه النبي صلّى الله عليه وسلم، وأمر به المسلمين فقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» (¬1). فإذا اشتملت الصلاة على أمر مخالف للكيفية المشروعة، فسدت أو بطلت، والفساد والبطلان في العبادات بمعنى واحد باتفاق الفقهاء، أما في المعاملات كالبيع فهما عند الحنفية مفترقان بمعنى مختلف. وإذا فسدت العبادة وجب إعادتها، والفساد أو البطلان: هو خروج العبادة عن كونها عبادة بسبب فوات بعض الفرائض. والصلاة قد تبدأ فاسدة بترك شرط من شروطها الصحيحة كالطهارة وستر العورة، أما كشف العورة في أثناء الصلاة فمفسد لها عند الحنفية إذا دام قدر أداء ركن وهو مقدار ثلاث تسبيحات، كما قد تكون فاسدة بترك فريضة من فرائضها كتكبيرة الإحرام، وقد يطرأ الفساد بترك ركن من أركانها كترك الركوع أو السجود. ¬
أولا ـ مفسدات الصلاة عند الفقهاء
أولاً ـ مفسدات الصلاة عند الفقهاء: إن أهم مفسدات الصلاة عند الفقهاء هي مايأتي (¬1)، علماً بأن الحنفية ذكروا ثمانية وستين أمراً مفسداً للصلاة، والمالكية حوالي ثلاثين، والشافعية سبعة وعشرين، والحنابلة حوالي ستة وثلاثين. 1 - الكلام: أي النطق بحرفين ولو لم يفهما أو حرف مفهم أجنبي عن الصلاة، عمداً أو سهواً؛ لخبر زيد بن أرقم: «كنا نتكلم في الصلاة، يكلّم الرجل منا صاحبه، وهو إلى جنبه حتى نزلت: وقوموا لله قانتين، فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام» (¬2) وخبر معاوية بن الحكم السُّلَمي: «بينما أنا أصلي مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذ عطَس رجل من القوم، فقلت: يرحمُك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثُكل أمَّاه، ما شأنكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يُصمتونني لكني سكتُّ، فلما صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فبأبي وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله، ما كهرني (انتهرني) ولا ضربني ولا شتمني، قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن» (¬3). ومن الكلام المبطل: التنحنح بلا عذر إذا صحبه حرفان فأكثر، ومنه التأوه والأنين والتأفف والبكاء إذا اشتمل على حروف مسموعة، إلا إذا نشأ من مرض أو ¬
قوله لكني سكت، قال المنذري: يريد لم أتكلم لكني سكت. من خشية الله، ومنه تشميت العاطس، ورد السلام ومنه الدعاء بما يشبه كلام الناس، غير أن للفقهاء تفصيلات في ذلك يحسن إيرادها: قال الحنفية (¬1): تفسد الصلاة بالكلام عمداً أو سهواً، أو جاهلاً، أو مخطئاً، أو مكرهاً، على المختار، وذلك بالنطق بحرفين أو حرف مفهم، مثل (عِ) و (قِِ)، وكما لو سلم على إنسان، أو رد السلام بلسانه، لا بيده، ويكره ذلك على المعتمد، أو شمَّت عاطساً، أو نادى إنساناً بقوله (يا) ولو ساهياً، لكن لو سلم ساهياً للخروج من الصلاة قبل إتمامها على ظن إكمالها، فلا تفسد الصلاة، ولو صافح بنية السلام، تفسد، لأنه عمل كثير. ولو استعطف كلباً أو هرة أو ساق حماراً بما ليس من حروف الهجاء لا تفسد صلاته؛ لأنه صوت لا هجاء له. ومن ارتفع بكاؤه لمصيبة بلغته، فسدت صلاته، لأنه تعرض لإظهارها. وتبطل بالتنحنح بحرفين بلا عذر، فإن وجد عذر، كأن نشأ من طبعه فلا تفسد، كما لا تفسد إن كان لغرض صحيح كتحسين الصوت، أو ليهتدي إمامه إلى الصواب، أو للإعلام أنه في الصلاة، فلا فساد على الصحيح، وهكذا فإن التنحنح عن عذر لا يفسد الصلاة. وتفسد بالدعاء بما يشبه كلام الناس: وهو ما ليس في القرآن ولا في السنة، ولا يستحيل طلبه من العباد، وبالأنين (هو قوله: أه)، والتأوه (هو قوله: آه) والتأفف (أف أو تف)، والبكاء بصوت يحصل به حروف، لوجع أو مصيبة في الحالات الأربع الأخيرة، إلا لمرض لا يملك نفسه عن أنين وتأوه؛ لأنه حينئذ كعطاس وسعال وجشاء وتثاؤب، وإن ظهرت حروف للضرورة. ¬
والنفخ بصوت مسموع يفسد الصلاة سواء أراد به التأفف أو لم يرد عند أبي حنيفة ومحمد، لقول ابن عباس: «النفخ في الصلاة كلام» (¬1). ولا تفسد بالدعاء لذكر جنة أو نار عند قراءة الإمام، فجعل يبكي ويقول: بلى أو نعم، لدلالته على الخشوع. وتفسد بجواب خبر سوء، بالاسترجاع على المذهب، أي بقوله: {إنا لله وإنا إليه راجعون} [البقرة:156/ 2]، لأنه يقصد الجواب، فصار ككلام الناس. وتفسد بكل ما قصد به الجواب، كأن قيل: هل مع الله إله؟ فقال: (لا إله إلا الله) أو قيل: ما مالك؟ فقال: الخيل والبغال والحمير. أو سئل: من أين جئت؟ فقال: وبئر معطلة وقصر مشيد. وتفسد بالخطاب كقوله لمن اسمه يحيى أو موسى: (يا يحيى خذ الكتاب بقوة) أو (وما تلك بيمينك يا موسى) أو لمن بالباب: (ومن دخله كان آمنا). وتفسد إن قصد الجواب: إذا قال عند سماع اسم الله تعالى: (لا إله إلا الله) أو قال: (جل جلاله)، أو عند ذكر النبي صلّى الله عليه وسلم، فصلى عليه، أو عند قراءة الإمام، فقال: صدق الله ورسوله. أما إن لم يقصد الجواب، بل قصد الثناء والتعظيم، فلا تفسد؛ لأن تعظيم الله تعالى بذاته، والصلاة على نبيه صلّى الله عليه وسلم لا ينافي الصلاة. ولا تفسد الصلاة بالنظر إلى مكتوب وفهمه، غير أنه مكروه، أما القراءة من المصحف فتفسد الصلاة عند أبي حنيفة؛ لأن حمل المصحف والنظر فيه وتقليب الأوراق عمل كثير، ولأنه يشبه التلقين من الآخرين. وقال الصاحبان: لا تفسد ¬
وإنما تكره؛ لأن القراءة من المصحف عبادة انضافت إلى عبادة أخرى. وتكره لأنه تشبه بأهل الكتاب. وقال المالكية (¬1): يشترط لصحة الصلاة ترك الكلام إلا بما هو من جنسها، أو مصلح لها. وتبطل بتعمد كلام أجنبي ولو كلمة، نحو «نعم» أو «لا» لمن سأله عن شيء، لغير إصلاح الصلاة، فإن كان الكلام لإصلاح الصلاة وبقدر الحاجة لا تبطل الصلاة إلا إن كان كثيراً، كأن يسلم الإمام بعد ركعتين في صلاة رباعية، أو يقوم لركعة خامسة، ولم يفهم بالتسبيح، فقال له المأموم: أنت سلمت من ركعتين أو قمت لخامسة، لم يضر عملاً بقصة ذي اليدين، روى أبو هريرة، قال: صلى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي، إما الظهر، وإما العصر، فسلم في ركعتين، ثم أتى جِذْعاً في قبلة المسجد، فاستند إليها مغضباً، وفي القوم أبو بكر وعمر، فهابا أن يتكلما، وخرج سَرْعانُ الناس (أي المتسرعون)، فقام ذو اليدين، فقال: يا رسول الله، أقصرت الصلاة، أم نسيت؟ فقال: ما يقول ذو اليدين؟ قالوا: صدق، لم تصل إلا الركعتين، فصلى ركعتين، وسلم، ثم سجد سجدتين، ثم سلم (¬2). ومن تلا وقصده التفهيم لشخص لم يضره كقوله: (ادخلوها بسلام). وتبطل أيضاً بتعمد تصويت خال عن الحروف، كصوت الغراب، وبتعمد نفخ بفم، لا بأنف، وبتعمد سلام في حال العلم أو الظن أو الشك بعدم إكمال الصلاة. ¬
وقال الشافعية (¬1): تبطل الصلاة بالنطق بكلام البشر بحرفين مفهمين ولو لمصلحة الصلاة كقوله: لا تقم أو اقعد، أم بحرف مفهم، أو بمدَّة حرف في الأصح؛ لأن الممدود في الحقيقة حرفان. والأصح أن التنحنح والبكاء والأنين، والنفخ إن ظهر به حرفان مبطل للصلاة. ويعذر في يسير الكلام إن سبق لسانه إليه، أو نسي الصلاة عملاً بقصة ذي اليدين السابقة، أو جهل تحريم الكلام في الصلاة إن قرب عهده بالإسلام، وتبطل بكثير الكلام (¬2) في الأصح، ويعذر في اليسير عرفاً من التنحنح ونحوه كالسعال والعطاس وإن ظهر به حرفان ولو من كل نفخة ونحوها، لغلبة كل ما ذكر عليه فلا تقصير منه، أو لتعذر القراءة الواجبة وغيرها من الأركان القولية في حال التنحنح للضرورة، والجهر بالقراءة لا يصلح في الأصح عذراً ليسير التنحنح. ولو أكره المصلي على الكلام اليسير في صلاته بطلت صلاته في الأظهر؛ لأنه أمر نادر كالإكراه على الحدث. وقال الحنابلة (¬3): تبطل الصلاة بكلام الآدميين (وهو ما انتظم حرفين فصاعداً)، لغير مصلحة الصلاة، كقوله: يا غلام اسقني، ونحوه. ولا تبطل إن تكلم من سلَّم قبل إتمام صلاته سهواً بكلام يسير عرفاً لمصلحة الصلاة، عملاً بقصة ذي اليدين، سواء أكان إماماً أم مأموماً. ولا تبطل إن تكلم مغلوباً على الكلام، بأن خرجت الحروف منه بغير اختياره، كأن سلم سهواً أو نام فتكلم لرفع القلم عنه، أو سبق على لسانه حال قراءته كلمة لا من القرآن، لأنه لا يمكنه التحرز عنه، أو غلبه سعال أو عطاس أو تثاؤب، فبان منه حرفان. ¬
الفتح على غير الإمام وعلى الإمام
وتبطل الصلاة بالنفخ إن بان منه حرفان، لقول ابن عباس السابق: «من نفخ في صلاته فقد تكلم» وبالنحيب (هو رفع الصوت بالبكاء) إذا بان منه حرفان، لا من خشية الله، وبالتنحنح من غير حاجة، فبان منه حرفان، فإن تنحنح لحاجة لم تبطل. وأجاز الحنابلة القراءة في أثناء الصلاة في المصحف، ويكره ذلك لمن يحفظ؛ لأنه يشغل عن الخشوع والنظر إلى موضع السجود لغير حاجة، كما يكره في الفرض على الإطلاق؛ لأن العادة أنه لا يحتاج إلى ذلك فيها، وتباح في غير هذين الموضعين للحاجة إلى سماع القرآن والقيام به. والدليل على الجواز أن «عائشة كان يؤمها عبد لها في المصحف» (¬1)، وسئل الزهري عن رجل يقرأ في رمضان في المصحف؟ فقال: كان خيارنا يقرؤون في المصاحف. الفتح على غير الإمام وعلى الإمام: أي إرشاده إلى الصواب في القراءة. تبطل الصلاة بإرشاد المأموم غير إمامه إلى صواب القراءة لأنه تعليم وتعلم، فكان من جنس كلام الناس، أما إرشاد المأموم إمامه ففيه تفصيل بين الفقهاء: قال الحنفية (¬2): إذا توقف الإمام في القراءة أو تردد فيها، قبل أن ينتقل إلى آية أخرى، جاز للمأموم أن يفتح عليه أي يرده إلى الصواب، وينوي الفتح على إمامه دون القراءة على الصحيح؛ لأنه مرخص فيه، أما القراءة خلف الإمام فهي ممنوعة مكروهة تحريماً. فلو كان الإمام انتقل إلى آية أخرى، تفسد صلاة الفاتح، وتفسد صلاة الإمام لو أخذ بقوله، لوجود التلقين والتلقن من غير ضرورة. وينبغي للمقتدي ألا يعجل الإمام بالفتح، ويكره ¬
له المبادرة بالفتح، كما يكره للإمام أن يلجئ المأموم إليه، بل يركع حين الحرج إذا جاء أوان التردد في القراءة، أو ينتقل إلى آية أخرى. وتبطل الصلاة إن فتح المأموم على غير إمامه إلا إذا قصد التلاوة لا الإرشاد، ويكون ذلك مكروهاً تحريماً. كما تبطل الصلاة بإرشاد غير المصلي له، أو بامتثال أمر الغير، كأن يطلب منه غيره سد فرجة، فامتثل وسدها، وإنما ينبغي أن يصبر زمناً ثم يفعل من تلقاء نفسه. ودليل جواز الفتح على الإمام: حديث المُسَوَّر بن يزيد المكي قال: «صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فترك آية، فقال له رجل: يا رسول الله، آية كذا وكذا، قال: فهلاّ ذكّرْتنيها؟» (¬1) وحديث ابن عمر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم صلى صلاة، فقرأ فيها، فَلَبَس عليه، فلماانصرف، قال لأبي: أصليت معنا؟ قال: نعم، قال: فما منعك؟» (¬2). وقال المالكية (¬3): تبطل الصلاة بالفتح على غير الإمام سواء من المصلي أو من غيره، بأن سمعه يقرأ، فتوقف في القراءة، فأرشده للصواب؛ لأنه من باب المكالمة، أما الفتح على الإمام إذا وقف وتردد في القراءة، ولو في غير الفاتحة فجائز لا يبطل الصلاة، بل هو واجب، فإن وقف ولم يتردد كره الفتح عليه. وقال الشافعية (¬4): الفتح على الإمام: هو تلقين الآية عند التوقف فيها. ويفتح عليه إذا سكت، ولا يفتح عليه ما دام يردد التلاوة وسؤال الرحمة ¬
والاستعاذة من عذاب، لقراءة آيتهما. والفتح في حالة السكوت لا يقطع في الأصح موالاة قراءة المأموم، أما في حالة التردد فيقطع موالاة قراءته، ويلزمه استئناف القراءة. ولا بد لمن يفتح على إمامه أن يقصد القراءة وحدها أو يقصدها مع الفتح، فإن قصد الفتح وحده، أو لم يقصد شيئاً أصلاً، بطلت صلاته على المعتمد. أما الفتح على غير إمامه فيقطع موالاة القراءة. وقال الحنابلة (¬1): للمصلي أن يفتح على إمامه إذا أُرْتِج عليه (منع من القراءة) أو غلط في قراءته، فرضاً كانت الصلاة أو نفلاً. ويجب الفتح على إمامه إذا أرتج عليه أو غلط في الفاتحة، لتوقف صحة صلاته على ذلك، كما يجب تنبيهه عند نسيان سجدة ونحوها من الأركان. وإن عجز المصلي عن إتمام الفاتحة بالإرتاج عليه، فكالعاجز عن القيام في أثناء الصلاة، يأتي بما يقدر عليه، ويسقط عنه ما عجز عنه، ولا يعيدها. وقال ابن قدامة في المغني: والصحيح أنه إذا لم يقدر على قراءة الفاتحة فإن صلاته تفسد؛ لأنه قادر على الصلاة بقراءتها، فلم تصح صلاته بدون ذلك، لعموم قوله صلّى الله عليه وسلم: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب». ويكره للمصلي الفتح على من هو في صلاة أخرى، أو على من ليس في صلاة؛ لأن ذلك يشغله عن صلاته، ولا تبطل صلاته، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن في الصلاة لشغلاً» (¬2). ¬
2 - الأكل والشرب
2 - الأكل والشرب: هذا مبطل للصلاة على تفصيل في جزئيات يسيرة بين الفقهاء. قال الحنفية: تبطل الصلاة بالأكل والشرب عامداً أم ناسياً، سواء أكان المأكول قليلاً أم كثيراً؛ لأنه ليس من أعمال الصلاة، إلا إذا كا بين أسنانه مأكول دون الحِمِّصة، فابتلعه، فلا تبطل صلاته لمشقة الاحتراز عنه دائماً، كما هو الحال في الصوم. أما المضغ الكثير بأن كان ثلاثاً متواليات فمفسد، وكذا لو ابتلع ذوب سكرأو حلوى في فمه. وقال المالكية: تبطل الصلاة بتعمد أكل ولو لقمة بمضعها، وتعمد شرب ولو قلّ، ولا تبطل بأكل يسير مثل الحبة بين أسنانه، كما لا تبطل بأكل أو شرب سهواً على الراجح، ويسجد له بعد السلام. فإن اجتمع الأكل والشرب، أو وجد أحدهما مع السلام سهواً، فتبطل الصلاة. وقال الشافعية والحنابلة: تبطل الصلاة بتعمد تناول قليل الأكل، لشدة منافاته للصلاة؛ لأن ذلك يشعر بالإعراض عنها، ولا تبطل بتناول قليل الأكل ناسياً أو جاهلاً تحريمه، وتبطل بكثير الأكل ولو مع النسيان والجهل في الأصح، ولو مفرقاً، بخلاف الصوم، فإنه لا يبطل بذلك. كما تبطل بكثير المضغ، وإن لم يصل إلى الجوف شيء من الممضوغ. وتبطل في الأصح ببلع ذوب سُكَّرة بفمه، لمنافاته للصلاة. ولا يضر ما وصل مع الريق إلى الجوف من طعام بين أسنانه، إذا عجز عن تمييزه ومجه.
3 - العمل الكثير المتوالي
3 - العمل الكثير المتوالي: اتفق الفقهاء على بطلان الصلاة بالعمل الكثير المتوالي، ولو سهواً؛ لأن الحاجة لا تدعو إليه. قال الحنفية: تبطل الصلاة بكل عمل كثيرليس من أعمالها ولا إصلاحها، كزيادة ركوع أو سجود، وكمشي لغير تجديد الوضوء لمن سبقه الحدث. ولا تفسد برفع اليدين في تكبيرات الزوائد ولكنه يكره. والعمل الكثير: هو الذي لا يشك الناظر لفاعله أنه ليس في الصلاة. فإن اشتبه فهو قليل على الأصح. وقال المالكية: تبطل الصلاة بالفعل الكثير عمداً أو سهواً كحك جسد، وعبث بلحية، ووضع رداء على كتف، ودفع مارّ وإشارة بيد. ولا تبطل بالفعل القليل أو اليسير جداً كالإشارة وحك البشرة، أما المتوسط بين الكثير والقليل، كالانصراف من الصلاة، فيبطل عمده دون سهوه. وقال الشافعية والحنابلة: تبطل الصلاة بكثير من العمل عمداً أو سهواً، لا بقليله، وتعرف الكثرة بالعرف والعادة، فالخُطوتان والضربتان قليل، والثلاث المتواليات عند الشافعية كثير. ومعنى التوالي: ألا تعد إحداها منقطعة عن الأخرى. وتبطل بالوثبة الفاحشة وهي النطة لمنافاتها الصلاة، لا الحركات الخفيفة المتوالية، كتحريك أصابعه في سُبْحة أو عِقْد، أو حكّ أو نحو ذلك في الأصح، كتحريك لسانه أو أجفانه أو شفتيه أو ذكره مراراً ولاء، فلا تبطل بذلك. ولا يضر العمل اليسير عادة من غير جنس الصلاة، لفتح النبي صلّى الله عليه وسلم الباب
لعائشة، وحمله أمامة ووضعها (¬1)، كما لايضر العمل المتفرق وإن كثر، ولا الحاصل بعذر كمرض يستدعي حركة لا يستطيع الصبر عنها زمناً يسع الصلاة. ويكره العمل الكثير غير المتوالي بلا حاجة. ولا يقدر عند الحنابلة العمل الكثير بثلاث ولا بعدد. وأضاف الشافعية (¬2): أن العمل الكثير في العرف يضبط بثلاثة أفعال فأكثر، ولو بأعضاء متعددة، كأن حرك رأسه ويده. ويحسب ذهاب اليد وعودها مرة واحدة، ما لم يسكن بينهما، وكذا رفع الرجل، سواء عادت لموضعها الذي كانت فيه أو لا. أما ذهابها وعودها فمرتان. وقد عرفنا أن الوثبة الفاحشة كالعمل الكثير، وكذا تحريك كل البدن، أو معظمه ولو من غير نقل قدميه. ومحل البطلان بالعمل الكثير: إن كان بعضو ثقيل، فإن كان بعضو خفيف، فلا بطلان، كما لو حرك أصابعه من غير تحريك كفه في سُبْحة أو حل عِقْد، أو تحريك لسان وأجفان وشفة أو ذكر ولو مراراً؛ إذ لا يخل ذلك بهيئة الخشوع والتعظيم، فأشبه الفعل القليل. ولو تردد في فعل، هل هو قليل أو كثير، فالمعتمد أنه لا يؤثر. والفرق بين الكلام في أن الصلاة تبطل بقليله وكثيره، وبين العمل في الصلاة لا تبطل إلا بكثيره: هو أن العمل يتعذر الاحتراز عنه، فعفي عن القليل؛ لأنه لا يخل بالصلاة، بخلاف الكلام العمد عند الشافعية، وأما غير العمد فلا يضر قليله، كما تقدم. وتبطل الصلاة عند أبي حنيفة بالقراءة في مصحف لسببين: ¬
المشي في الصلاة
أحدهما ـ أن حمل المصحف والنظر فيه وتقليب الأوراق عمل كثير. والثاني ـ أن تلقن من المصحف كما تلقن من غيره، وجوزه الصاحبان بالكراهة، وجوزه الشافعي وأحمد بلا كراهة. المشي في الصلاة: لا تبطل الصلاة إن مشى مستقبل القبلة بنحو متقطع يفصل بين تقديم كل رجل والأخرى بقدر أداء ركن، فيقف، ثم يمشي وهكذا وإن كثر ما لم يختلف المكان، بأن خرج من المسجد، أو تجاوز الصفوف إن كانت الصلاة في الصحراء. 4 - استدبار القبلة: بتحويل الصدر عنها بغير عذر، عند الحنفية والشافعية، فإن كان بعذر، كاستدبار القبلة للذهاب إلى الوضوء، فلا تبطل لأنه مغتفر. ومن العذر عند الشافعية: انحراف الجاهل والناسي إن عاد عن قرب. ولا تبطل الصلاة عند المالكية ما لم تتحول قدما المصلي عن مواجهة القبلة. وعند الحنابلة: ما لم يتحول المصلي بجملته عن القبلة. 5 - كشف العورة عمدا ً أو انكشافها بنحو ريح ومضي مقدار أداء ركن أو مقدار ثلاث تسبيحات عند الحنفية إذا انكشف ربع عضو من أعضاء العورة، وإن سترها حالاً لم تبطل صلاته عند الشافعية والحنابلة. وتبطل الصلاة عند المالكية بمجرد انكشاف العورة المغلظة مطلقاً، لا غيرها والمعتبر في ستر العورة من الجوانب، لا من الأسفل، فإن ظهرت عورته من أسفل سقيفة أو سدّة مثلاً لم يضر. 6 - طروء الحدث الأصغر أو الأكبر ولو من فاقد الطهورين عمداً أو سهواً، ولو من دائم الحدث غير حدثه الدائم. لكن لو شك في الحدث استمر.
7 - حدوث النجاسة التي لا يعفى عنها في البدن والثوب والمكان
ومن الحدث: نوم غير المتمكن مقعدته من الأرض. والمفسد للصلاة عند الحنفية: هو الحدث العمد بعد الجلوس الأخير قدر التشهد، أو قبل ذلك، فإن سبقه الحدث قبل السلام بعد الجلوس الأخير صحت الصلاة عندهم. كما أنه يبني على صلاته استحساناً إن سبقه الحدث من غير قصد في أثناء الصلاة: وهو ما يخرج من بدنه من بول أو غائط أو ريح أو رعاف أو دم سائل من جرح أو دمل به بغير صنعه. 7 - حدوث النجاسة التي لا يعفى عنها في البدن والثوب والمكان: فمن تنجس جسده أو ثوبه، أو سجد على شيء نجس بنجاسة لا يعفى عنها، أو سالت نجاسة داخل فمه أو أنفه أو أذنه، بطلت صلاته. ولا تبطل الصلاة بالنجاسة التي يعفى عنها، ولا بما إذا وقع على ثوبه نجاسة يابسة فنفض ثوبه حالاً. 8 - القهقهة: أي الضحك بصوت، تفسد الصلاة عند الجمهور (غير الحنفية) إن ظهر بها حرفان فأكثر، أو حرف مفهم. فالبطلان فيها من جهة الكلام المشتملة عليه. وفرق الحنفية (¬1): بين الضحك والقهقهة، فالأول: هو ما يكون مسموعاً للمصلي فقط دون جيرانه، وحكمه أنه يفسد الصلاة فقط، ولا يبطل الوضوء. وأما القهقهة: فهي ما يكون مسموعاً للمصلي ولجيرانه، وحكمه: أنه يفسد الصلاة ويبطل الوضوء. أما التبسم وهو ماخلا عن الصوت فلا يفسد شيئاً. ¬
9 - الردة (وهي قطع الإسلام بقول أو فعل) والموت والجنون والإغماء
ودليل الحنفية حديث: مضمونه: ألا من ضحك منكم قهقهة، فليعد الصلاة والوضوء جميعاً (¬1). وتبطل الصلاة عند الحنفية بالقهقهة، كما تبطل بالحدث العمد إذا حصلت قبل القعود الأخير قدر التشهد، فإن كانت بعده فلا تبطل الصلاة التي تمت بها، وإن نقض الوضوء. ويفسد الجزء الذي حصلت فيه، كما يفسد مثله من صلاة المسبوق، فلا يمكن بناؤه الفائت عليه؛ لأن الجزء الذي لا بسته القهقهة، أفسدته من وسط صلاة المأمومين، فإذا فسد الجزء، فسدت الصلاة. 9 - الردة (وهي قطع الإسلام بقول أو فعل) والموت والجنون والإغماء. 10 - تغيير النية: تبطل الصلاة بفسخ النية أو تردده فيها، أو عزمه على إبطالها أو نية الخروج من الصلاة، أو إبطالها وإلغاء ما فعله من الصلاة، أو شكه هل نوى أم لا، فعمل مع الشك عملاً. وهذا متفق عليه. وتبطل الصلاة أيضاً عند الحنفية (¬2) بالانتقال من صلاة إلى مغايرتها، كأن ينوي الانتقال من صلاته التي هو فيها إلى صلاة أخرى: كمن صلى ركعة من الظهر، ثم افتتح بتكبير العصر أو التطوع، فقد نقض الظهر؛ لأنه صح شروعه في غيره، فيخرج عنه. ولو كان يصلي منفرداً في فرض، فكبر ناوياً الشروع في الاقتداء بإمام، أو كبر ناوياً إمامة النساء، فسدت الصلاة الأولى، وصار شارعاً في الصلاة الثانية. ¬
11 - اللحن في القراءة، أو زلة القارئ
وكذا لو نوى نفلاً أو واجباً، أو شرع في جنازة، فجيء بأخرى، فكبر ينويهما، أو كبر ناوياً الصلاة على الثانية، بطل ما مضى، ويصير شارعاً في الثانية. لكن لو بدأ صلاة الظهرمثلاً، فصلى ركعة أو دونها أو فوقها، ثم كبر ناوياً استئناف الظهر بعينها، لا يفسد ما أداه، وتحتسب الركعة أو غيرها التي صلاها، لعدم صحة الشروع في الثانية، إذ إنه نوِى الشروع في عين ما هو فيه، فلغت نيته، إلا إذا كبر ينوي إمامة النساء أو الاقتداء بالإمام، أو كان مقتدياً، فكبر ينوي الانفراد، فحينئذ يكون شارعاً فيما كبر له، ويبطل ما مضى من صلاته. وإن تلفظ بنية جديدة يصير مستأنفاً مطلقاً، أي سواء انتقل إلى صلاة مغايرة أو متحدة؛ لأن التلفظ بالنية كلام مفسد للصلاة الأولى، فصح الشروع الثاني. والخلاصة: إذا كبر المصلي ينوي الاستئناف (أي البدء بصلاة جديدة) ينظر: فإن كانت الثانية التي نوى الشروع فيها هي الأولى بعينها من كل وجه، ولم تخالفها في شيء، لا تبطل صلاته، ويجتزئ بما مضى من صلاته، إلا إذا تلفظ أو اقتدى بإمام أو نوى إمامة النساء. وإن كانت تخالفها تبطل صلاته، ويستأنف، سواء نوى بقلبه أو تلفظ. هذا وقد أجاز الشافعية تحويل الصلاة المفروضة إلى نفل مطلق، دون أن يبطل ما مضى من الصلاة كما سنبين. 11 - اللحن في القراءة، أو زلة القارئ: للحنفية (¬1) في هذا رأيان: رأي المتقدمين، ومعهم الشافعية في الجملة، وهو الأحوط، ورأي المتأخرين، وهو الأيسر. ¬
ويتلخص رأي المتقدمين فيما يأتي: تبطل الصلاة بكل ما غيَّر المعنى تغيراً يكون اعتقاده كفراً، وبكل مالم يكن مثله في القرآن، والمعنى بعيد متغير تغيراً فاحشاً، كهذا الغبار مكان {هذا الغراب} [المائدة:5/ 31]، وبكل مالم يكن له مثل في القرآن، ولا معنى له، كالسرائل مكان {السرائر}، وتبطل أيضاً عند أبي حنيفة ومحمد بما له مثل في القرآن، والمعنى بعيد، ولم يكن متغيراً تغيراً فاحشاً. ولا تبطل عند أبي يوسف؛ لعموم البلوى. فإن لم يكن له مثل في القرآن، ولم يتغير به المعنى، كقيامين مكان {قوامين} فعكس الخلاف السابق: لا تبطل عند الطرفين، وتبطل عند أبي يوسف. وقال المتأخرون: إن الخطأ في الإعراب لا يفسد الصلاة مطلقاً، ولو كان اعتقاده كفراً؛ لأن أكثر الناس لا يميزون بين وجوه الإعراب. وإن كان الخطأ بإبدال حرف مكان حرف: فإن أمكن الفصل بينهما بلا كلفة، كالصاد مع الطاء، بأن قرأ الطالحات مكان {الصالحات} فتفسد الصلاة اتفاقاً. وإن لم يكن الفصل إلا بمشقة، فالأكثر على عدم الفساد، لعموم البلوى، كالصاد مع السين، كالسراط بدل {الصراط}. ولا تفسد الصلاة بتخفيف مشدّد ولا عكسه (تشديد مخفّف)، كما لو قرأ {أفعيينا} بالتشديد، و {اهدنا الصراط} بإظهار اللام، كما لا تفسد بزيادة حرف فأكثر نحو (الصراط الذين)، أو بوصل حرفٍ بكلمة نحو (إياكنعبد)، أو بوقف وابتداء، وإن غيَّر المعنى.
12 - ترك ركن بلا قضاء، وشرط بلا عذر
لكن تفسد الصلاة بعدم تشديد {ربّ العالمين} و {إيّاك نعبد} [الفاتحة:1/ 5]. ولا تفسد لو زاد كلمة، أو نقص كلمة، أو نقص حرفاً أو قدمه أو بدله بآخر، نحو (من ثمره إذا أثمر واستحصد) و (تعال جدّ ربنا) و (انفرجت) بدل «انفجرت» و (إياب) بدل (أواب) إلا إذا تغير المعنى. ولا تفسد لو كرر كلمة وإن تغير المعنى، مثل (رب رب العالمين). وتفسد لو بدل كلمة بكلمة، وغير المعنى، مثل: (إن الفجار لفي جنات) و (لعنة الله على الموحدين) وكتغيير النسب نحو (عيسى بن لقمان) بخلاف موسى ابن لقمان، ونحو (مريم بنت غيلان). فإن لم يتغير المعنى، مثل الرحمن بدل الكريم لم تفسد اتفاقاً. وقال الحنابلة (¬1): إن أحال اللحان المعنى في غير الفاتحة لم يمنع صحة الصلاة ولا الائتمام به إلا أن يتعمده، فتبطل صلاتهما. أما إن أحال المعنى في الفاتحة فتبطل الصلاة مطلقاً. 12 - ترك ركن بلا قضاء، وشرط بلا عذر: الأول: مثل ترك سجدة من ركعة، وسلم قبل الإتيان بها. والثاني: كترك ستر العورة بلا عذر، فإن وجد عذر كعدم وجود ساتر أو مطهر للنجاسة، وعدم قدرة على استقبال القبلة، فلا فساد. 13 - أن يسبق المقتدي إمامه عمداً بركن لم يشاركه فيه: كأن يركع ويرفع قبل أن يركع مع الإمام. فإن كان سهواً، رجع لإمامه ولا تبطل صلاته، لكن ¬
14 - محاذاة المرأة الرجل في الصلاة من غير فرجة
الحنفية قالوا: تبطل الصلاة ولو سبق سهواً إن لم يعد ذلك مع الإمام، أو بعده ويسلم معه، فإن أعاده معه أو بعده وسلم معه، فلا تبطل. وقال الشافعية: لا تبطل صلاة المأموم إلا بتقدمه عن الإمام بركنين فعليين بغير عذر، كسهو مثلاً، وكذا لو تخلف عنه عمداً من غير عذر، كبطء قراءة. 14 - محاذاة المرأة الرجل في الصلاة من غير فرجة تسع مكان مصلٍ، أو من غير حائل، سواء أكانت المرأة مَحْرماً كأخت أو بنت، أم غير محرم كزوجة. وتتحقق المحاذاة عند الحنفية بالشروط الآتية: أولاً ـ أن تكون المحاذاة بالساق والكعب. ثانياً ـ أن تكون الصلاة مشتركة بينهما في التحريمة، والأداء، ونية الإمام إمامتها، أو باقتدائها مع الرجل بإمام آخر، أو باقتدائها برجل، ولم يشر إليها لتتأخر عنه. فإن لم ينو الإمام إمامتها، لا تكون معه في الصلاة، وإن لم تتأخر بإشارته فسدت صلاتها هي، لا صلاته. ثالثاً ـ أن يكون مكانهما متحداً ولا حائل بينهما. رابعاً ـ أن تكون المرأة مشتهاة. ومقدار المحاذاة المفسدة: أداء ركن عند محمد، أو قدره عند أبي يوسف، ويقدر بمقدار ثلاث تسبيحات. 15 - إذا وجد المتيمم ماء قدر على استعماله وهو في الصلاة: تبطل الصلاة عند الحنابلة والحنفية بمجرد رؤية الماء، إلا أن الحنفية قالوا: تبطل إذا رأى الماء قبل القعود الأخير قدر التشهد، وإلا فلا تبطل؛ لأن الصلاة تكون قد تمت عندهم.
16 - القدرة على الساتر لعورته
ولا تبطل الصلاة برؤية الماء عند المالكية والشافعية، إلا إذا كان عند المالكية ناسياً للماء الموجود معه، ثم تذكره، فتبطل الصلاة حينئذ إذا اتسع الوقت لإدراك ركعة من الصلاة بعد استعماله. 16 - القدرة على الساتر لعورته: إذا وجد العريان ثوباً ساتراً لعورته أثناء الصلاة واحتاج إلى عمل كثير لإحضاره، بطلت صلاته. إلا أن المالكية قالوا: لاتبطل إن كان بعيداً عنه أكثر من نحو صفين من صفوف الصلاة غير صفه، وإنما يكمل الصلاة، ويعيدها في الوقت فقط. 17 - أن يسلم عمداً قبل تمام الصلاة: فإن سلم سهواً، لم تبطل صلاته إذا لم يعمل عملاً كثيراً، ولم يتكلم كلاماً كثيراً على الخلاف السابق في بحث (السلام). 18 - المسائل الاثنتا عشرة عند أبي حنيفة خلافاً للصاحبين (¬1): تفسد الصلاة عند الإمام أبي حنيفة رحمه الله باثنتي عشرة مسألة وهي: رؤية المتيمم الماء، وتمام مدة المسح على الخفين، وتعلم الأمي آية ما لم يكن مقتدياً بقارئ، ووجدان العاري ساتراً، وقدرة المومي على الركوع والسجود، وتذكر فائتة إن كان من أصحاب الترتيب (¬2)، واستخلاف من لا يصلح إماماً كالمرأة، وطلوع الشمس في صلاة الفجر، وزوال الشمس في صلاة العيدين، ودخول وقت العصر في الجمعة، وسقوط الجبيرة عن برء، وزوال عذر المعذور. ¬
ثانيا - مبطلات الصلاة في كل مذهب على حدة
ودليله أن هذه المذكورات مغيرة للفرض، فاستوى حدوثها في أول الصلاة وفي آخرها. وقال الصاحبان: لا تفسد الصلاة بهذه المذكورا ت إن حدثت بعد الجلوس الأخير بقدر التشهد، عملاً بحديث ابن مسعود السابق: «إذا قلت هذا أوفعلت هذا، فقد تمت صلاتك» فإنه نص على أن تمام الصلاة بالقعود، فلا شيء يفترض بعد ذلك، وافتراضه زيادة على هذا النص، وهذه الأمور وإن كانت مفسدة للصلاة، إلا أنها حدثت بعد تمام الفرائض والأركان، فلا تفسد الصلاة. وهناك مبطلات أخرى نادرة مذكورة فيما يأتي من آراء المذاهب. ثانياً - مبطلات الصلاة في كل مذهب على حدة: مذهب الحنفية: تبطل الصلاة بثمانية وستين سبباً (¬1): الكلام ولو سهواً أو خطأ، والدعاء بما يشبه كلام الناس، مثل: اللهم ارزقني فلانة أو ألبسني ثوباً، والسلام بنية التحية ولو ساهياً، ورد السلام بلسانه أو بالمصافحة. والعمل الكثير، وتحويل الصدر عن القبلة، وأكل شيء من خارج فمه ولو قل، وأكل ما بين أسنانه: وهو قدر الحِمَّصه، والشرب. ولو مضغ العلْك في الصلاة فسدت صلاته؛ لأن الناظر إليه من بُعْد لا يشك أنه في غير الصلاة. والتنحنح بلا عذر، والتأفيف كنفخ التراب والتضجر والأنين والتأوه بأن يقول «آه»، وارتفاع البكاء من وجع أو مصيبة، لا من ذكر جنة أو نار. ¬
وتشميت عاطس بقوله (يرحمك الله)، وجواب مستفهم عن شريك أو ندّ لله بقوله: (لا إله إلا الله) وعن خبر السوء بقوله: (إنا لله وإنا إليه راجعون) وعن بشارة بقوله: (الحمد لله) وعن تعجب بقوله: (لا إله إلا الله) أو (سبحان الله)، وكل شيء قصد به الجواب مثل: (يا يحيى خذ الكتاب) لمن طلب كتاباً ونحوه، وقوله: (آتنا غداءنا) لمستفهم عن شيء يأتي به، وقوله (تلك حدود الله فلا تقربوها) لمن استأذن في الأخذ. وإذا لم يرد بذلك الجواب، بل أراد الإعلام بأنه في الصلاة، لاتفسد. ورؤية المتيمم ماء قدر على استعماله قبل قعوده قدر التشهد الأخير. وتمام مدة المسح على الخفين، ونزع الخف، وتعلم الأمي آية ما لم يكن مقتدياً، وقدرة المومي على الركوع والسجود، وتذكر فائتة إذا كان من أهل الترتيب، وكان الوقت متسعاً، واستخلاف من لا يصلح إماماً، ووجدان العاري ساتراً، وطلوع الشمس في الفجر، وزوالها في العيدين ودخول وقت العصر في الجمعة، وسقوط الجبيرة عن برء، وزوال عذر المعذور إذا حدث كل ذلك من المسائل الاثنتي عشرة قبل الجلوس الأخير قدر التشهد. والحدث عمداً، أو بصنع غيره كوقوع ثمرة أدمته، والإغماء، والجنون، والجنابة بنظر أو احتلام نائم متمكن. ومحاذاة المرأة المشتهاة للرجل بساقها وكعبها في الأصح، ولو محرماً له أو زوجة، أو عجوزاً شوهاء، في أداء ركن عند محمد، أو قدره عند أبي يوسف، في صلاة ذات ركوع وسجود، فلا تبطل صلاة الجنازة، إذ لا سجود لها، اشتركت معه بتحريمة باقتدائها بإمام، أو اقتدائها به، في مكان متحد، بلا حائل قدر ذراع أو فرجة تسع رجلاً، ولم يشر إليها لتتأخر عنه، فإن لم تتأخر بإشارته، فسدت
صلاتها، لاصلاته، ولا يكلف بالتقدم عنها لكراهته. وأن يكون الإمام قد نوى إمامتها، فإن لم ينوها لا تكون في الصلاة، فلم تتحقق المحاذاة. فهذه شروط تسعة للمحاذاة المبطلة أوجزناها سابقاً بخمسة. وظهور عورة من سبقه الحدث في ظاهر الرواية، ولو اضطر إليه ككشف المرأة ذراعها للوضوء، أو عورة الرجل بعد سبق الحدث، على الصحيح. وقراءة من سبقه الحدث وهو ذاهب للوضوء أو عائد منه، لإتيانه بركن مع الحدث، ومكثه قدر أداء ركن بعد سبق الحدث مستيقظاً، بلا عذر، فلومكث لزحام أو لقطع رعاف، لا تبطل. ومجاوزة ماء قريب لغيره بأكثر من صفين، وخروج المصلي من المسجد لظن الحدث، لوجود النافي بغير عذر، فإن لم يخرج من المسجد فلا تفسد. وانصرافه عن مقامه للصلاة، ظاناً أنه غير متوضئ، أو أن مدة مسحه انقضت، أو أن عليه فائتة، أو نجاسة، وإن لم يخرج من المسجد. وفتح المأموم على غير إمامه لتعليمه، بلا ضرورة. أما فتحه على إمامه فهو جائز، ولو قرأ المقدار المفروض في القراءة. وأخذ المصلي بفتح غيره، وامتثال أمر الغير في الصلاة. والتكبير بنية الانتقال لصلاة أخرى غير صلاته، كما إذا نوى المنفرد الاقتداء بغيره، أوالعكس، أو انتقل بالتكبير من فرض لفرض، أو من فرض إلى نفل، وبالعكس. وذلك إذا حصل قبل القعود الأخير قدر التشهد، وإلا فلا تفسد على المختار، فإن عرض المنافي قبيل السلام بعد القعود، فالمختار صحة الصلاة؛ لأن الخروج منها بفعل المصلي واجب على الصحيح.
ومدُّ الهمزة في التكبير، وقراءة ما لا يحفظه في المصحف، أو يلقنه غيره القراءة. وأداء ركن كركوع أو مضي زمن يسع أداء ركن مع كشف العورة أو مع نجاسة مانعة من الصلاة، وأن يسبق المقتدي إمامه بركن لم يشاركه فيه، ومتابعة المسبوق إمامه في سجود السهو بعد تأكد انفراده (¬1) (أي المسبوق) بأن قام إلى الإتيان بما فاته بعد سلام الإمام أو قبله بعد قعوده (أي الإمام) قدر التشهد (¬2)، وقيد ركعته (أي المسبوق) بسجدة، فتذكر الإمام سجود سهو، فتابعه، فتفسد صلاته؛ لأنه اقتدى بعد وجود الانفراد ووجوبه. وعدم إعادة الجلوس الأخير بعد أداء سجدة صلبية أو تلاوية تذكرها بعد الجلوس. وعدم إعادة ركن أداه نائماً. وقهقهة إمام المسبوق أو حدثه العمد، أي إذا قهقه الإمام وإن لم يتعمد، أو أحدث عمداً بعد قعوده قدر التشهد تمت صلاته، وصلاة المدرك خلفه، وفسدت صلاة المسبوق خلفه، لوقوع المفسد قبل تمام أركانه، إلا إذا قام قبل سلام إمامه وقيد الركعة بسجدة، لتأكد انفراده. والسلام على رأس الركعتين في الرباعية أو الثلاثية، إذا ظن أنه مسافر أو يصلي غيرها، كأن كان يصلي الظهر، فظن أنه يصلي الجمعة أو التراويح، أو كان قريب عهد بالإسلام، فصلى الفرض ركعتين. وتقدم المأموم على الإمام بقدمه، أما مساواته فلا تبطل. ¬
مذهب المالكية
والقراءة بالألحان، وزلة القارئ أي اللحن في القراءة بما يغير المعنى، مثل: (فما لهم يؤمنون) بترك (لا) على الصحيح. فإن لم تغير المعنى مثل (وجزاء سيئة مثلها) بترك (سيئة) الثانية، لا تفسد. ولا تفسد الصلاة بالنظر إلى مكتوب وفهمه، لعدم النطق بالكلام، ولا بأكل ما بين أسنانه بقدر الحمصة، لعسر الاحتراز عنه، ولا بمرور بين يدي المصلي في بيت أو مسجد كبير أو صغير، أو صحراء أو في مكان أسفل من موضع المصلي، ولو كان المار امرأة أو كلباً، وإن كان المرور بمحل السجود في الأصح مكروهاً، كما سبق بيانه. مذهب المالكية: تبطل الصلاة بحوالي ثلاثين سبباً (¬1) وهي: رفض النية (أي تركها، وإبطالها وإلغاء وقطع ما فعله منها)، ترك ركن أو شرط من أركان وشروط الصلاة عمداً، وترك ركن سهواً حتى سلم وطال تركه عرفاً، زيادة ركن فعلي عمداً كركوع أو سجود، بخلاف زيادة ركن قولي كالقراءة، زيادة تشهد بعد الركعة الأولى أو الثالثة عمداً في حالة الجلوس. القهقهة عمداً أو سهواً، تعمد أكل ولو لقمة بمضغها، أو شرب ولو قل، الكلام عمداً لغير إصلاح الصلاة، فإن كان لإصلاحها، فإن الصلاة تبطل بكثيره دون يسيره، التصويت عمداً، كصوت الغراب، النفخ بالفم عمداً، القيء عمداً، ولو كان قليلاً. السلام عمداً حال الشك في تمام الصلاة، طروء ناقض للوضوء أو تذكره، ¬
كشف العورة المغلظة أو شيء منها، لا غيرها، طروء نجاسة على المصلي أو علمه بها أثناء الصلاة. فتح المصلي على غير الإمام، الفعل الكثير عمداً أو سهواً الذي ليس من جنس الصلاة، كحك جسد وعبث بلحية ووضع رداء على كتف ودفع مارّ دفعاً قوياً وإشارة بيد، فإن كان الفعل قليلاً لم تبطل. طروء شاغل عن إتمام فرض كاحتباس بول يمنع من الطمأنينة مثلاً، أو هم كثير أو غثيان (فوران النفس)، أو وضع شيء في فمه. تذكر أولى الصلاتين المشتركتي الوقت في الصلاة الثانية، كالظهر والعصر. فإذا كان يصلي العصر، فتذكر أنه لم يصل الظهر، بطلت صلاته، لأنه يجب عليه ترتيبها. زيادة أربع ركعات سهواً على الصلاة الرباعية ولو في السفر، أو على الثلاثية، وزيادة ركعتين على الثنائية كالصبح والجمعة، أو على الوتْر، وزيادة مثل النفل المحدود كالعيد والاستسقاء والكسوف. سجود المسبوق الذي لم يدرك ركعة مع الإمام، سجود سهو، سواء أكان السجود قبل السلام أم بعده؛ لأن سجوده لا يلزم ذلك المسبوق؛ لأنه ليس بمأموم حقيقة، فسجوده معه محض زيادة في الصلاة. فإن أدرك معه ركعة بسجدتيها، سجد معه السجود القبلي، وقام لقضاء ما عليه بعد سلامه، وأخر السجود البَعْدي لتمام صلاته، فإن قدمه قبل إتمام ما عليه، بطلت صلاته. السجود قبل السلام لترك سنة خفيفة كتكبيرة أو تسميعة، أو لترك مستحب أو فضيلة كالقنوت.
مذهب الشافعية
ترك ثلاث سنن من سنن الصلاة سهواً، مع ترك السجود لها، حتى سلم، وطال الأمر عرفاً. الردة، والاتكاء حال قيامه على حائط أو عصا لغير عذر، بحيث لو أزيل عنه متكَؤه، لسقط. الجهل بالقبلة، وصلاة الفريضة في الكعبة أوعلى ظهرها، وتذكر المتيمم الماء في صلاته، واختلاف نية المأموم والإمام، وفساد صلاة الإمام بغير سهو. مذهب الشافعية: تبطل الصلاة بسبعة وعشرين سبباً وهي ما يأتي (¬1): 1، 2 - طروء الحدث الأصغر أو الأكبر، ولو بلا قصد، واتصال النجاسة التي لا يعفى عنها بالبدن أو الملبوس، والمكان، إلا إن نحاها حالاً. 3 - الكلام العمد الذي يخاطب به البشر بحرفين، أو حرف مفهم، ولو لمصلحة الصلاة، كما لو قال لإمامه إذا قام لركعة زائدة: لا تقم أو اقعد، أو هذه خامسة. أما كلام الله تعالى أو الذكر أو الدعاء فلا تبطل به الصلاة، كما لا تبطل بخطاب الرسول عند ذكره، قائلاً: (الصلاة والسلام عليك يا رسول الله)، أما لو نطق بالقرآن بقصد آخر، كأن استأذنه شخص في أخذ شيء، فقال: {يا يحيى خذ الكتاب بقوة} [مريم:12/ 19] فإن قصد القراءة، ولو مع التفهيم، لم تبطل صلاته، وإلا بطلت. وكما لا تبطل الصلاة بالذكر والدعاء بلا خطاب لمخلوق غير النبي صلّى الله عليه وسلم، لا ¬
تبطل بالتلفظ بقربة بلا تعليق ولا خطاب لمخلوق غير النبي كالنذر؛ لأنه من جنس الدعاء، ولا تبطل بالسكوت الطويل بلا عذر، لأنه لا يخل بنظم الصلاة. ولو قرأ الإمام: {إياك نعبد وإياك نستعين} [الفاتحة:1/ 5] فقال المقتدي: استعنا بالله، بطلت صلاته، إلا إن قصد بذلك الدعاء. ولو قال: (صدق الله العظيم) لم تبطل صلاته؛ لأنه ثناء. ومن المبطلات: البكاء والأنين والضحك والتنحنح إن ظهر فيه حرفان وإن لم يكونا مفهمين، والذكر والدعاء إن قصد به مخاطبة الناس، كقوله لإنسان: يرحمك الله. 4 - تناول مفطر للصائم من أكل، أو شرب، قليل أو كثير، ولو بالإكراه إلا أن يكون الشخص في هذه الحالة جاهلاً تحريم ذلك. 5 - الفعل الكثير المتوالي من غير جنس الصلاة، كثلاث خطوات وذهاب اليد وعودها ثلاث مرات، وحركة البدن كله، وقفزة، في غير صلاة شدة الخوف ونفل السفر، عمداً كان ذلك أو سهواً، إذ لا مشقة في الاحتراز عنه. أما الفعل القليل كتحريك أصابعه في سبحة، فلا يفسد، لخبرالصحيحين أنه صلّى الله عليه وسلم صلَّى وهوحامل أمامة، فكان إذا سجد وضعها، وإذا قام حملها. وكذلك لا تفسد الصلاة بالفعل الكثير إذا كان لشدة جرب، أو كان منفصلاً لاتوالي فيه. 6، 7، 8 - القهقهة، والردة، والجنون في الصلاة. 9، 10 - ترك استقبال القبلة حيث يشترط أي في غير صلاة الخوف، بتحول
الصدر عنها، وكشف عورة عمداً مع القدرة على سترها، أو قهراً ولم يسترها حالاً، فإن كشفها الريح، فسترها في الحال، لم تبطل صلاته. 11 - أن يجد من يصلي عارياً ثوباً بعيداً منه: بأن احتاج في المضي إليه إلى أفعال كثيرة، أو طالت مدة الكشف. أما لو كان قريباً منه: فإن استتر به حالاً بلا أفعال كثيرة دامت صلاته على الصحة، وإلا بطلت. 12 - فعل ركن من أركان الصلاة أو مضي زمن يسع ركناً، مع طروء الشك في النية، أو في شروط الصلاة كالطهارة، أو الشك في كيفية النية: هل نوى ظهراً أو عصراً مثلاً؟ 13 - تغيير النية إلى صلاة أخرى، أي صرف الفرض إلى غيره: فلو قلب صلاته التي هو فيها صلاة أخرى عالماًَ عامداً بطلت صلاته، إلا إذا قلب فرضاً نفلاً مطلقاً ليدرك جماعة مشروعة، وهومنفرد، فسلم من ركعتين ليدركها، لم تبطل صلاته، بل يندب له القلب إن كان الوقت متسعاً، فإن ضاق الوقت حرم القلب. ولو قلبها نفلاً معيناً كركعتي الضحى لم تصح لافتقاره إلى التعيين حال النية، أو كانت الجماعة غير مشروعة، كما لو كان يصلي الظهر، فوجد من يصلي العصر، فلا يجوز له القلب، وكما لو كان الإمام ممن يكره الاقتداء به، فلا يندب القلب، بل يكره. ولو قام للركعة الثالثة من الثلاثية أو الرباعية لم يندب القلب، بل يباح، كما يباح ولا يندب لو كان في الركعة الأولى ولو من الصلاة الثنائية؛ لأن النفل المطلق يجوز فيه الاقتصار على ركعة. 14، 15، 16 - نية الخروج من الصلاة قبل تمامها أو العزم على قطعها، والتردد في قطع الصلاة والاستمرار فيها، وتعليق قطعها بشيء ولو كان محالاً في العادة كعدم قطع السكين، كأن قال بقلبه: إن جاء زيد، قطعت الصلاة. أما إن علق الخروج من الصلاة على محال عقلي، كالجمع بين الضدين، فلا يضر.
17، 18، 19 - ترك ركن من أركان الصلاة ولو قولياً عمداً، فإن تركه سهواً لعذر لا تبطل ويتداركه، وتكرير ركن فعلي عمداً لتلاعبه، وتقديمه على غيره؛ لأن ذلك يخل بصورة الصلاة، أما تكرير الركن القولي عمداً كالفاتحة والتشهد وتقديمه على غيره، أو تكرير الركن الفعلي سهواً، فلا يفسد الصلاة على المعتمد. 21،20 - ظهور بعض ما يستر بالخف من الرِجل، أو الخِرَق (جمع خرقة)، وخروج وقت مسحه، لبطلان بعض طهارته. 22 - اقتداء بمن لا يقتدى به، لكفر أو غيره، ولو مع الجهل بحاله في بعض الصور، بأن اقتدى به بعد تحرّم صحيح. 23 - تطويل ركن قصير عمداً: بأن يزيد في الاعتدال (الرفع من الركوع) على الدعاء الوارد فيه بقدر الفاتحة، أو أن يزيد في الجلوس بين السجدتين على الدعاء الوارد فيه بقدر التشهد. ويستثنى من ذلك تطويل الاعتدال في الركعة الأخيرة من سائر الصلوات لأنه معهود في الصلاة في الجملة، كما في صلاة النازلة، وتطويل الجلوس بين السجدتين في صلاة التسابيح، كما سيأتي في النوافل. 24 - سبق المأموم إمامه بركنين فعليين أو تأخره عنه بهما من غير عذر. 25 - التسليم عمداً قبل محله. 26 - تكرير تكبيرة الإحرام مرة ثانية بنية الافتتاح. 27 - العود بعد الانتصاب للتشهد الأول عامداً عالماً بتحريمه؛ لأنه زاد قعوداً عمداً. فإن عاد ناسياً أنه في صلاة أو جاهلاً بتحريم العود، فلا تبطل في الأصح.
مذهب الحنابلة
مذهب الحنابلة: عدوا مبطلات الصلاة بحوالي ستة وثلاثين وهي ما يأتي (¬1)، وهي تشبه كثيراً المبطلات عند الشافعية: طروء ناقض للطهارة، واتصال نجاسة به إن لم يزلها حالاً، واستدبار القبلة حيث شرط استقبالها، وكشف عورة إلا إن كشفتها الريح فسترها حالاً، ووجود سترة بعيدة لعريان، واستناد قوي على شيء بلا عذر بحيث لو أزيل سقط. ترك ركن مطلقاً، وترك واجب عمداً، وتعمد زيادة ركن فعلي كركوع، وتقديم بعض الأركان على بعض عمداً، ورجوعه للتشهد الأول بعد الشروع في القراءة إن كان عالماً ذاكراً للرجوع. السلام عمداً قبل تمام الصلاة وسلام المأموم قبل إمامه عمداً، أو سهواً ولم يعده بعد سلام إمامه، والتلحين في القراءة لحناً يغير المعنى مع قدرته على إصلاحه، كضم تاء {أنعمت} [الفاتحة:7/ 1]. فسخ النية بأن ينوي قطع الصلاة، والتردد في الفسخ، والعزم على الفسخ، وإن لم يفسخ بالفعل، والشك في النية هل نوى أوعين، وعمل عملاً مع الشك كأن ركع أو سجد، والشك في تكبيرة الإحرام. مرور الكلب الأسود البهيم (¬2) بين يدي المصلي، للحديث السابق الذي رواه الجماعة إلا البخاري عن أبي ذر: «الكلب الأسود شيطان». تسبيح ركوع وسجود بعد اعتدال، وجلوس وسؤال مغفرة بعد سجود، والدعاء بملاذ الدنيا كأن يسأل عروساً حسناء مثلاً. ¬
الكلام مطلقاً ولو قل، أو سهواً أو مكرهاً أو تحذيراً من مهلكة، والنطق بكاف الخطاب لغير الله تعالى ورسوله أحمد صلّى الله عليه وسلم، والقهقهة مطلقاً، والتنحنح بلا حاجة، والنفخ إذا بان منه حرفان، والبكاء لغير خشية الله تعالى إذا بان منه حرفان، إلا إذا غلبه، وكلام النائم غير الجالس والقائم. العمل المتوالي الكثير عادة من غير جنس الصلاة بلا ضرورة كخوف وهرب من عدو ونحوه، ولو سهواً أو جهلاً، ولا يقدر العمل اليسير بثلاث، ولا غيرها من العدد، وإشارة الأخرس كفعله. الأكل والشرب إلا اليسير لناسٍ (ساهٍ) وجاهل، وبلع ذوب نحو سكر بفم أي ما يتحلل منه إلا إن كان يسيراً من ساه وجاهل. ومن علم ببطلان الصلاة ومضى فيها أدّب. ولا تبطل الصلاة بعمل يسير، أو كثير غير متوال، وكره بلا حاجة. ولا يشرع له سجود، ولا تبطل ببلع ما بين أسنان عمداً بلا مضغ، ولو لم يجر به ريق، ولايبطل النفل بيسير شرب عمداً، ولا بإطالة نظر لشيء، ولو لكتاب، وقرأ ما فيه بقلبه، ولا بعمل قلبي ولو طال (¬1)، فلا تبطل صلاة من غلبة وسواس على أكثرها، ولا تبطل إذا غلبه سعال أو عطاس أو تثاؤب وإن بان منها حرفان، ولا تبطل بكلام النائم القليل إذا كان نوماً يسيراً، وكان جالساً أو قائماً. وتبطل الصلاة عند الحنابلة كما بينا في المقبرة وموضع الخلاء والحمام وفي أعطان الإبل (مباركها)، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «الأرض كلها مسجد إلا الحمام والمقبرة (¬2)» ¬
ثالثا ـ ما تقطع الصلاة لأجله
وحديث «لا تصلوا في مبارك الإبل، فإنها من الشياطين» (¬1) والنهي يقتضي التحريم، ولأن بعض هذه الأماكن موضع نجاسة، أوتعري. ثالثاً ـ ما تقطع الصلاة لأجله: قد يجب قطع الصلاة لضرورة، وقد يباح لعذر (¬2). أما ما يجب قطع الصلاة له لضرورة فهو ما يأتي: 1 ً - تقطع الصلاة ولو فرضاً باستغاثة شخص ملهوف، ولو لم يستغث بالمصلي بعينه، كما لو شاهد إنساناً وقع في الماء، أو صال عليه حيوان، أو اعتدى عليه ظالم، وهو قادر على إغاثته. ولا يجب عند الحنفية قطع الصلاة بنداء أحد الأبوين من غير استغاثة؛ لأن قطع الصلاة لا يجوز إلا لضرورة. 2 ً - وتقطع الصلاة أيضاً إذا غلب على ظن المصلي خوف تردي أعمى، أو صغير أو غيرهما في بئر ونحوه. كما تقطع الصلاة خوف اندلاع النار واحتراق المتاع ومهاجمة الذئب الغنم؛ لما في ذلك من إحياء النفس أوالمال، وإمكان تدارك الصلاة بعد قطعها، لأن أداء حق الله تعالى مبني على المسامحة. وأما ما يجوز قطع الصلاة له ولو فرضاً لعذر فهو ما يأتي: 1 ً - سرقة المتاع، ولو كان المسروق لغيره، إذا كان المسروق يساوي درهماً فأكثر. ¬
- خوف المرأة على ولدها، أو خوف فوران القدر، أواحتراق الطعام على النار.
2 ً - خوف المرأة على ولدها، أو خوف فوران القدر، أواحتراق الطعام على النار. ولو خافت القابلة (الداية) موت الولد أو تلف عضو منه، أو تلف أمه بتركها، وجب عليها تأخير الصلاة عن وقتها، وقطعها لو كانت فيها. 3 ً - مخافة المسافر من اللصوص أو قطاع الطرق. 4 ً - قتل الحيوان المؤذي إذا احتاج قتله إلى عمل كثير. 5 ً - رد الدابة إذا شردت. 6 ً - مدافعة الأخبثين (البول والغائط) وإن فاتته الجماعة. 7 ً - نداء أحد الأبوين في صلاة النافلة، وهولا يعلم أنه في الصلاة، أما في الفريضة فلا يجيبه إلا للضرر، وهذا متفق عليه.
الفصل الثامن: النوافل أو صلاة التطوع
الفَصْلُ الثَّامِن: النَّوافِل أو صَلاةُ التَّطوّع التطوع في الأصل: فعل الطاعة: وشرعاً وعرفاً، طاعة غير واجبة. فصلاة التطوع: هي ما طلب فعلها من المكلف زيادة على الفرائض طلباً غير جازم. وتكمل به صلاة الفرض يوم القيامة، إن لم يكن المصلي أتمها، وفيه حديث صحيح مرفوع رواه أحمد في المسند (¬1)، وهو أن فريضة الصلاة والزكاة وغيرهما إذا لم تتم تكمل بالتطوع. وحكمها: أنه يثاب على فعلها ولا يعاقب على تركها. وهي إما أن تكون مستقلة عن الفرائض المكتوبة كصلاة العيدين والاستسقاء والكسوف والخسوف والتراويح. وقال الحنفية: صلاة العيدين واجبة، وقال الحنابلة: صلاة العيدين فرض كفاية. وإما أن تكون تابعة للفرائض كالسنن القَبْلية والبَعْدية. والنوافل جمع نافلة، والنفل والنافلة في اللغة: الزيادة، والتنفل: التطوع، وشرعاً: عبارة عن فعل مشروع ليس بفرض ولا واجب ولا مسنون (¬2). وعند ¬
النوافل عند الحنفية
الشافعية: النوافل: ما عدا الفرائض، سمي النفل بذلك لأنه زائد على ما فرضه الله تعالى (¬1). وقد ثبتت مشروعية النوافل بفعل النبي صلّى الله عليه وسلم. «روى مسلم عن ربيعة بن مالك الأسلمي رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم: سَلْ، فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، فقال: أو غير ذلك، قلت: هو ذاك، قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود». وأفضل عبادات البدن: الصلاة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن» (¬2) ولأنها تجمع من القرَب ما لا يجمع غيرها، من الطهارة واستقبال القبلة، والقراءة، وذكر الله عز وجل، والصلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ويمنع فيها من كل ما يمنع منه في سائر العبادات، وتزيد عليها بالامتناع عن الكلام، والمشي، وسائر الأفعال. وتطوعها أفضل التطوع (¬3). وللمذاهب الفقهية اصطلاحات في تقسيم النوافل، يحسن ذكرها في كل مذهب على حدة: النوافل عند الحنفية: تنقسم النوافل عند الحنفية قسمين: مسنونة ومندوبة (¬4)، والسنة: هي ¬
أولا ـ السنن المؤكدة
المؤكدة التي واظب الرسول صلّى الله عليه وسلم على أدائها، ولم يتركها إلا نادراً، إشعاراً بعدم فرضيتها. والمندوب: هو السنة غير المؤكدة التي فعلها الرسول صلّى الله عليه وسلم أحياناً وتركها أحياناً. أولاً ـ السنن المؤكدة: هي ما يأتي: 1 ً - ركعتان قبل صلاة الفجر (الصبح)، وهما آكد (آقوى) السنن، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها» (¬1)، وقالت عائشة: «لم يكن النبي صلّى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد تعاهداً منه على ركعتي الفجر» (¬2). وبناء عليه قالوا: لا يجوز أن يؤديهما قاعداً أو راكباً بدون عذر. ولا يقضى شيء من السنن سوى الفجر، إذا فاتت معه، وقضاه من يومه قبل الزوال، فإن صلى الفرض وحده، لا يقضيان. ووقتهما وقت صلاة الصبح. والسنة أن يقرأ في أولاهما سورة الكافرون، وفي الثانية: الإخلاص. وأن يصليهما في بيته في أول الوقت. وإذا قامت صلاة الجماعة لفرض الصبح قبل أن يصليهما: فإن أمكنه إدراكهما بعد صلاتهما ولو في الركعة الثانية، فعل، وإلا تركهما، وأدرك الجماعة، ولا يقضيهما بعد ذلك. والإسفار بسنة الفجر أفضل. 2 ً - أربع ركعات قبل صلاة الظهر أو قبل الجمعة، بتسليمة واحدة، لحديث عائشة رضي الله عنها: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان لا يدع أربعاً قبل الظهر، وركعتين قبل ¬
الغداة» (¬1) أي سنة الفجر. وهذه آكد السنن بعد سنة الفجر، ثم الكل الباقي سواء. ترتيب أفضلية النوافل: تبين مما ذكر أن آكد السنن: سنة الفجر اتفاقاً، ثم الأربع قبل الظهر في الأصح، ثم الكل سواء. 3 ً - ركعتان بعد الظهر، ويندب أن يضم لها ركعتين، وأربع بعد الجمعة بتسليمة واحدة، لقوله صلّى الله عليه وسلم بالنسبة للظهر: «من صلى أربع رَكَعات قبل الظهر، وأربعاً بعدها، حرَّمه الله على النار» (¬2)، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم «كان يركع من قبل الجمعة أربعاً لا يفصل في شيء منهن، وأربعاً بعدها» (¬3). 4 ً - ركعتان بعد المغرب: ويسن إطالة القراءة فيهما، كما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يفعل. 5 ً - ركعتان بعد فرض العشاء: والدليل على تأكد هذه السنن قوله صلّى الله عليه وسلم: «من صلَّى في يوم وليلة ثِنْتَي عشرة ركعة سوى المكتوبة بنى الله له بيتاً في الجنة» (¬4) ولفظ مسلم: «من صلى ثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة، بُني له بهن بيت في الجنة» ورواية الترمذي: «من صلى في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة، بني له بيت في الجنة: أربعاً قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل صلاة الفجر» وذكر النسائي «ركعتين قبل العصر» ولم يذكر ركعتين بعد العشاء». ¬
ومشروعية السنن القبلية لقطع طمع الشيطان: بأن يقول: إنه لم يترك ما ليس بفرض، فكيف يترك ما هو بفرض؟ والسنن البَعْدية لجبر النقصان أي ليقوم في الآخرة مقام ما ترك منها لعذر كنسيان. 6 ً - صلاة التراويح: التراويح سنة مؤكدة للرجال والنساء لمواظبة النبي صلّى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين عليها، ويسن فيها الجماعة، بدليل أن النبي صلّى الله عليه وسلم صلاها جماعة في رمضان في ليالي الثالث والخامس والسابع والعشرين، ثم لم يتابع خشية أن تفرض على المسلمين، وكان يصلي بهم ثمان ركعات، ويكملون باقيها في بيوتهم، فكان يسمع لهم أزيز كأزيز النحل (¬1). ووقتها: في رمضان بعد صلاة العشاء إلى الفجر، قبل الوتر وبعده في الأصح عند الحنفية. ويستحب تأخيرها إلى ثلث الليل أو نصفه، ولا تكره بعده في الأصح عند الحنفية. ولا تقضى عندهم إذا فاتت أصلاً، فإن قضاها، كانت نفلاً مستحباً، وليس بتراويح، كسنة مغرب وعشاء؛ لأن القضاء من خصائص الواجبات كالوتر والعيدين. والجماعة فيها سنة على الكفاية في الأصح، فلو تركها أهل مسجد أثموا، وكل ما شرع بجماعة، فالمسجد فيه أفضل، والمتخلف عن الجماعة إذا أقامها البعض تارك للفضيلة؛ لأن أفراد الصحابة روي عنهم التخلف. وتؤدى أيضاً فرادى، والأفضل فيها الجماعة، ويسن أن يختم فيها القرآن كله مرة خلال شهر رمضان. وإذا مل الناس سن قراءة ما تيسر من القرآن بقدر ما لا يثقل عليهم، كآية طويلة أو ثلاث قصار، ولا يكره الاقتصار على آية أو آيتين، ¬
ثانيا ـ أما المندوب أو السنن غير المؤكدة
بشرط الترتيل، والاطمئنان في الركوع والسجود مع التسبيح، ولا يترك دعاء الثناء والتعوذ والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم في كل تشهد. وعدد ركعاتها عشرون ركعة، تؤدى ركعتين ركعتين، يجلس بينهما، مقدار الترويحة، بعشر تسليمات ثم يوتر بعدها، ولا يصلى الوتر بجماعة في غير شهر رمضان. ودليلهم على العدد فعل عمر رضي الله عنه كما أخرج مسلم في صحيحه، حيث إنه جمع الناس أخيراً على هذا العدد في المسجد، ووافقه الصحابة على ذلك، ولم يخالفهم بعد الراشدين مخالف، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلم «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي» (¬1). وأخرج البيهقي عن ابن عباس «كان يصلي في شهر رمضان في غير جماعة عشرين ركعة والوتر» (¬2). وقد سئل أبو حنيفة عما فعله عمر رضي الله عنه فقال: التراويح سنة مؤكدة، ولم يتخرجه عمر من تلقاء نفسه، ولم يكن فيه مبتدعاً، ولم يأمر به إلا عن أصل لديه، وعهد من رسول الله صلّى الله عليه وسلم. لكن قال بعض أهل الحديث: إن العدد الثابت عنه صلّى الله عليه وسلم في صلاته في رمضان هو ثمان ركعات، بدليل ما أخرجه البخاري وغيره عن عائشة أنها قالت: «ماكان النبي صلّى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة» وأخرج ابن حبان في صحيحه من حديث جابر أنه صلّى الله عليه وسلم: «صلى بهم ثمان ركعات ثم أوتر» (¬3). ثانياً ـ أما المندوب أو السنن غير المؤكدة: فهي ما يأتي، ولا يعني كونها غير مؤكدة تركها، بل كان النبي صلّى الله عليه وسلم يصليها غالباً، ويتركها أحياناً: ¬
النوافل المستقلة
1 ً - ركعتان أخريان إلى سنة الظهر البعدية، كما بينا. 2 ً - أربع ركعات قبل العصر بتسليمة واحدة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «رحم الله امرءاً صلى أربعاً قبل العصر» (¬1). أما جواز صلاة ركعتين فقط قبل العصر، فيشملها حديث «بين كل أذانين صلاة» (¬2). 3 ً - أربع ركعات قبل صلاة العشاء وأربع بعدها بتسليمة واحدة، لما روي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يصلي قبل العشاء أربعاً، ثم يصلي بعدها أربعاً، ثم يضطجع (¬3). وإن شاء اقتصر على الركعتين المؤكدتين بعدها، عملاً بالحديث السابق: «من ثابر على ثنتي عشر ركعة ... ». 4 ً - صلاة الأوابين (¬4): وهي ست ركعات بعد المغرب، بتسليمة أو ثنتين أو ثلاث، والأول أدوم وأشق، لقوله تعالى: {فإنه كان للأوابين غفوراً} [الإسراء:17/ 25]، ولما روي عن عمار بن ياسر: «من صلى بعد المغرب ست ركعات، غفرت ذنوبه، وإن كانت مثل زبَد البحر» (¬5). واستحب الكمال بن الهمام كالشافعية والحنابلة ركعتين خفيفتين قبل المغرب لخبر الصحيحين عن عبد الله المزني: «صلوا ركعتين قبل المغرب» ثم قال في الثالثة: (لمن شاء) وهذه النوافل تابعة للفرائض، أما النوافل المستقلة فهي ما يأتي: ¬
5 ً - صلاة الضحى: وهي أربع ركعات على الصحيح إلى ثمانية، وأقلها ركعتان، ووقتها من بعد طلوع الشمس قدر رمح أي حوالي ثلث أو نصف ساعة إلى قبيل الزوال، لحديث عائشة: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلي الضحى أربع ركعات، لا يفصل بينهن بكلام» (¬1) ورواية مسلم: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلي الضحى أربعاً، ويزيد ما شاء الله» وثبت في الصحيحين من رواية أبي هريرة «وركعتي الضحى» ووقتها المختار: بعد ربع النهار. 6 ً - ركعتا الوضوء قبل جفافه للحديث السابق: «ما من أحد يتوضأ، فيحسن الوضوء، ثم يقوم فيصلي ركعتين، يقبل عليهما بقلبه، إلا وجبت له الجنة» (¬2). 7 ً - تحية المسجد: يندب ركعتان لمن دخل المسجد تحية لرب المسجد، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا دخل أحدكم المسجد، فلا يجلس حتى يركع ركعتين» (¬3). يصليهما عند الحنفية في غير وقت الكراهة، وأداء الفرض أو غيره ينوب عنهما بلا نية. وتكفيه لكل يوم مرة إذا تكرر دخوله لعذر، ولا تسقط بالجلوس عندهم، لحديث ابن حبان في صحيحه: «يا أبا ذر، إن للمسجد تحية، وإن تحيته ركعتان، فقم فاركعهما» وأما الحديث السابق: «إذا دخل أحدكم .. » فهو بيان للأولى. ويستثنى من المساجد المسجد الحرام، فإن تحيته الطواف. ومن لم يتمكن من تحية المسجد لحدث أو غيره يقول ندباً كلمات التسبيح الأربع: (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر). ¬
8 ً - صلاة التهجد (الليل): يندب الصلاة ليلاً خصوصاً آخره، وهي أفضل من صلاة النهار، لقوله تعالى {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} [السجدة:17/ 32] وقوله سبحانه: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} [السجدة:16/ 32]، ولقوله صلّى الله عليه وسلم ـ فيما روى مسلم في صحيحه ـ «أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل»، وروى الطبراني مرفوعاً: «لابد من صلاة بليل، ولو حلب شاة، وما كان بعد صلاة العشاء فهو من الليل»، وفي صحيح مسلم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «عليكم بصلاة الليل، فإنها دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم». وعدد ركعاتها من ركعتين إلى ثمانية. ويندب إحياء ليالي العيدين (الفطر والأضحى)، وليالي العشر الأخير من رمضان لإحياء ليلة القدر، وليالي عشر ذي الحجة، وليلة النصف من شعبان، ويكون بكل عبادة تعم الليل أو أكثره، للأحاديث الصحيحة الثابتة في ذلك (¬1). ويندب الإكثار من الاستغفار بالأسحار، وسيد الاستغفار: (اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء (أعترف) لك بنعمتك، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنب إلا أنت). ¬
ويكره الاجتماع على إحياء ليلة من هذه الليالي في المساجد وغيرها؛ لأنه لم يفعله النبي صلّى الله عليه وسلم ولا الصحابة. كما يكره الاجتماع على صلاة الرغائب التي تفعل في أول جمعة من رجب، وإنها بدعة. وطول القيام أفضل من كثرة السجود، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «أفضل الصلاة طول القنوت» (¬1) أي القيام، ولأن القراءة تكثر بطول القيام، وبكثرة السجود يكثر التسبيح، والقراءة أفضل منه. 9 ً - صلاة الاستخارة: أي طلب ما فيه الخير، وتكون في الأمور المباحة التي لايعرف وجه الصواب فيها، وهي ركعتان، يدعو بعدهما بالدعاء المأثور، روى الجماعة إلا مسلماً (¬2) عن جابر بن عبد الله قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعلّمنا الاستخارة في الأمور كلها، كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: إذا همَّ أحدكم بالأمر، فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: «اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال: عاجل أمري وآجله، فاقدره لي، ويسره لي، ثم بارك لي فيه. وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال: عاجل أمري وآجله، فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدُر لي الخير حيث كان، ثم رضني به. قال: ويسمي حاجته» أي عند قوله: (هذا الأمر). ¬
ويستحب افتتاح هذا الدعاء وختمه بالحمد لله، والصلاة على النبي. ويقرأ في الركعة الأولى: الكافرون، وفي الثانية: الإخلاص. وينبغي ـ أي إذا لم يبن له الأمر ـ أن يكررها سبعاً، لما روى ابن السني: يا أنس، إذا هممت بأمر، فاستخر ربك فيه سبع مرات، ثم انظر إلى الذي سبق إلى قلبك، فإن الخير فيه. ولو تعذرت عليه الصلاة استخار بالدعاء. 10 ً - صلاة التسبيح: وفضلها عظيم، وفيها ثواب لا يتناهى. ويفعلها المسلم في كل وقت لا كراهة فيه، أو في كل يوم وليلة مرة، وإلا ففي كل أسبوع، أو جمعة، أو شهر، أو العمر. وحديثها حسن لكثرة طرقه، ووهم من زعم وضعه. وهي أربع ركعات يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب، وسورة، بتسليمة أو تسليمتين، يقول فيها ثلاث مئة مرة: «سبحان الله والحمد لله ولاإله إلا الله والله أكبر» في كل ركعة خمس وسبعون تسبيحة. فبعد الثناء: خمس عشرة، ثم بعد القراءة، وفي الركوع، والرفع منه، وكل من السجدتين، وفي الجلسة بينهما: عشر تسبيحات، بعد تسبيح الركوع والسجود. وهذه الكيفية هي التي رواها الترمذي في جامعه عن عبد الله بن المبارك أحد أصحاب أبي حنيفة. وهي المختار من الروايتين. ولا يعد المصلي التسبيحات بالأصابع إن قدر أن يحفظ بالقلب (¬1). 11 ً - صلاة الحاجة: وهي أربع ركعات بعد العشاء، وقيل: ركعتان. ورد ¬
أحكام فرعية لصلاة النافلة
في الحديث المرفوع أنه يقرأ في الأولى الفاتحة مرة وآية الكرسي ثلاثاً، وفي كل من الثلاثة الباقية: يقرأ الفاتحة والإخلاص والمعوذتين مرة مرة، فإن قرأهن كن له مثلهن من ليلة القدر. وأخرج الترمذي عند عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من كانت له إلى الله حاجة، أو إلى أحد من بني آدم، فليتوضأ وليُحسن الوضوء، وليصلّ ركعتين، ثم ليُثن على الله، وليُصلِّ على النبي صلّى الله عليه وسلم، ثم ليقل: لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين، أسألك مُوجِبات رحمتك، وعزائمَ مغفرتك، والغنيمة من كل برّ، والسلامة من كل إثم، لا تدع لي ذنباً إلا غفرته، ولا همَّاً إلا فرَّجته (¬1)، ولا حاجة هي لك رضاً إلا قضيتها يا أرحم الراحمين» (¬2). أحكام فرعية لصلاة النافلة (¬3): أـ كيفية أداء نوافل النهار والليل: إن شاء صلى في النهار ركعتين بتسليمة واحدة، وإن شاء أربعاً، وتكره الزيادة على ذلك (أي على الأربع من غير تسليمة). أما نوافل الليل، فقال أبو حنيفة: إن صلى ثماني ركعات بتسليمة واحدة جاز، وتكره الزيادة على ذلك (أي على الثمانية من غير تسليمة) والأفضل عنده رباع أي أربعاً أربعاً ليلاً ونهاراً. ¬
وقال أبو يوسف ومحمد: لا يزيد ـ من حيث الأفضلية ـ بالليل على ركعتين بتسليمة واحدة، والأفضل في الليل مثنى مثنى، وفي النهار: أربع أربع. وبرأي الصاحبين يفتى عند الحنفية اتباعاً للحديث. دليل أبي حنيفة: الحديث السابق عن عائشة أنه صلّى الله عليه وسلم صلى أربعاً بعد العشاء، وأنه عليه السلام كان يواظب على الأربع في الضحى، ولأنه أدوم تحريمة، فيكون أكثر مشقة وأزيد فضيلة. ودليل الكراهة أن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يزد على ثمان ركعات، ولولا الكراهة لزاد، تعليماً للجواز. ودليل الصاحبين: الاعتبار بالتراويح، كل ركعتين بتسليمة واحدة. ب ـ القراءة واجبة في جميع ركعات النفل، وفي جميع الوتر؛ أما النفل فلأن كل شفع منه صلاة على حدة، والقيام إلى الثالثة كتحريمة مبتدأة، ولهذا لا يجب بالتحريمة الأولى إلا ركعتان على المشهور، وأما الوتر فللاحتياط. أما القراءة في الفرض فهي ـ كما بينا ـ واجبة في الركعتين الأوليين فقط، والمصلي مخير في الأخريين: إن شاء قرأ الفاتحة، وإن شاء سكت مقدار ثلاث تسبيحات وإن شاء سبَّح ثلاثاً، وهو المأثور عن علي وابن مسعود وعائشة رضي الله عنهم، إلا أن الأفضل أن يقرأ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام داوم على ذلك، ولهذا لايجب السهو بترك القراءة في ظاهر الرواية. وبناء على ما ذكر في النفل: إن صلى أربعاً، ولم يقرأ فيهن شيئاً أعاد عند أبي حنيفة ومحمد؛ لأن ترك القراءة في الأوليين يوجب بطلان التحريمة: وعند أبي يوسف: يقضي أربعاً؛ لأن ترك القراءة في الشفع الأول لا يوجب بطلان التحريمة، وإنما يوجب فساد الأداء؛ لأن القراءة ركن زائد، وفساد الأداء لا يزيد على تركه، فلا يبطل التحريمة.
جـ ـ الشروع في النفل صلاة أو صوماً ملزم عند الحنفية، خلافاً للشافعي فإنه قال: المتنفل متبرع فيه أي في فعل النفل، ولا لزوم على المتبرع لقوله تعالى: {ما على المحسنين من سبيل} [التوبة:91/ 9] فالسنن لا تلزم بالشروع عند الشافعية، إلا في الحج والعمرة، أو فرض كفاية على الصحيح، فتلزم في الجهاد وصلاة الجنازة والحج والعمرة (¬1). ودليل الحنفية قوله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم} [سورة سيدنا محمد:33/ 47] فيحرم قطع الصلاة وغيرها. فيلزم النفل عندهم بالشروع في تكبيرة الإحرام، أو بالقيام للركعة الثالثة وقد أدى الشفع الأول صحيحاً، فإذا فسد الثاني لزم قضاؤه فقط، ولا يسري إلى الأول؛ لأن كل شفع صلاة على حدة. وبناء عليه: من دخل في صلاة النفل، ثم أفسدها، قضاها. وإن صلى أربع ركعات، وقعد في الأوليين، ثم أفسد الأخريين قضى ركعتين. ويستثنى من ذلك ما لو شرع متنفلاً خلف مفترض ثم قطعه، أو شرع في فرض ظاناً أنه عليه، ثم تذكر أنه ليس عليه، فلا قضاء عليه. د ـ يقتصر المتنفل في الجلوس الأول من الرباعية المؤكدة (وهي التي قبل الظهر والجمعة وبعدها) على التشهد، ولا يأتي في الثالثة بدعاء الاستفتاح على الأصح. أما الرباعية المندوبة (غير المؤكدة)، فإنه يقرأ في القعود الأول التشهد والصلاة الإبراهيمية ويأتي بالاستفتاح والتعوذ في ابتداء الثالثة، أي في ابتداء كل شفع من النافلة. هـ ـ إذا صلى نافلة أكثر من ركعتين، ولم يجلس إلا في آخرها، صح ¬
استسحاناً؛ لأنها صارت صلاة واحدة من ذوات الأربع، وفيها الفرض وهو الجلوس الأخير، ويجبر ترك القعود الأول ساهياً بالسجود، ويجب العود إليه بتذكره بعد القيام ما لم يسجد. وـ صلاة النفل قاعداً أو راكباً: يجوز ـ كما بينا في بحث القيام في الصلاة ـ النفل قاعداً مع القدرة على القيام، لكن له نصف أجر القائم إلا لعذر، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من صلى قائماً فهو أفضل، ومن صلى قاعداً فله نصف أجر القائم، ومن صلى نائماً فله نصف أجر القاعد» (¬1). وأجاز الشافعية في الأصح التنفل مضطجعاً، مطلقاً وأباحه بقية المذاهب لعذر. وكيفية القعود في النفل كالمتشهد، على المختار وعليه الفتوى عند الحنفية والشافعية، ويندب التربع عند المالكية والحنابلة. ويجوز للقادر على القيام إتمام نفله قاعداً، بعد افتتاحه قائماً، بلا كراهة على الأصح. ويصح أداء النوافل ولو كانت مؤكدة كسنة الفجر (¬2) على الراحلة راكباً خارج البلاد، ويومئ إلى الركوع والسجود، إلى أية جهة توجهت دابته، للحاجة، وإذا نزل عن الدابة أتم صلاته. ولا يشترط عجزه عن إيقافها لتكبيرة الإحرام في ظاهر الرواية. وإذا حرك رجله أو ضرب دابته، فلا بأس به، إذا لم يصنع شيئاً كثيراً. ودليل التنفل على الراحلة: حديث جابر المتقدم: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلي النوافل على راحلته، يومئ إيماء، ولكنه يخفض السجدتين من الركعتين» (¬3). ¬
والصلاة في المحمل على الدابة كالصلاة عليها، سواء أكانت سائرة أم واقفة، إلا إذا استقر المحمل على الأرض، فتصح الصلاة فيه ولو فرضاً. ولا يمنع صحة الصلاة على الدابة نجاسةٌ عليها، ولو كانت في السرج والركابين على الأصح. ولا تصح صلاة الماشي اتفاقاً. ويجوز للمتطوع الاتكاء على شيء إن تعب، بلا كراهة، وإن كان بغير عذر كره في الأظهر، لإساءة الأدب. ز ـ صلاة الفرض والواجب على الدابة: ولا يصح على الدابة صلاة الفرائض والواجبات، كالوتر والمنذورة، وقضاء ما شرع فيه نفلاً فأفسده، ولا صلاة الجنازة، أو سجدة تليت آيتها على الأرض، إلا للضرورة أو العذر، كخوف لص أو سبع على نفسه أو دابته، أو ثيابه، لو نزل، أو وجود طين ومطر في المكان، أو لعجز لمرض أو كسر ولم يوجد من يركبه. ح ـ الصلاة في السفينة، ومثلها الطائرة والسيارة: تجوز صلاة الفريضة في السفينة والطائرة والسيارة قاعداً، ولو بلا عذر عند أبي حنيفة، ولكن بشرط الركوع والسجود. وقال الصاحبان: لا تصح إلا لعذر، وهو الأظهر. والعذر كدوران الرأس، وعدم القدرة على الخروج. ويشترط التوجه للقبلة في بدء الصلاة، ويستدير إليها كلما استدارت السفينة، ولو ترك الاستقبال لا تجزئه الصلاة، وإن عجز عن الاستقبال يمسك عن الصلاة حتى يقدر على الإتمام مستقبلاً. والسفينة المربوطة في لجة أو عرض البحر التي تحركها الريح الشديدة كالسائرة، فإن لم تحركها فهي كالواقفة على الأصح.
التطوعات عند المالكية
والمربوطة بالشط أوالمرفأ لا تجوز الصلاة فيها قاعداً اتفاقاً. والثابت في السنة وجوب القيام على من يصلي في السفينة، ولا يجوز له القعود إلا عند خشية الغرق، لقول ابن عمر: «سئل النبي صلّى الله عليه وسلم، كيف أصلي في السفينة؟ قال: صلِّ فيها قائماً، إلا أن يخاف الغرق» (¬1). التطوعات عند المالكية: التطوعات عند المالكية ثلاثة أنواع: سنة، وفضيلة، ونافلة (¬2). أما السنة: فهي عشر صلوات: الوتر، وهي ركعة يقرأ فيها بالفاتحة والإخلاص والمعوذتين، وهي آكد السنن، وندب الجهر بوتر، وركعتا الفجر، وتسمى عند المالكية رغيبة (¬3): أي مرغب فيها، وهي ما فوق المندوب ودون السنة، ووقتها كالصبح من طلوع الفجر الصادق إلى طلوع الشمس، ثم تقضى إلى الزوال فقط، فإن صلى الصبح قبلها كره فعلها إلى مابعد طلوع الشمس بقدر رمح (21 شبراً متوسطاً) ولا يقضى نفل خرج وقت سواها، أي كما قال الحنفية. ويند ب صلاتها في المسجد لمن أراد التوجه للمسجد لصلاة الفريضة، ويقرأ في الأولى الكافرون وفي الثانية الإخلاص. وصلاة عيد الفطر، وصلاة عيد الأضحى، وصلاة كسوف الشمس، وكسوف القمر، وصلاة الاستسقاء، وسجود التلاوة، وركعتا الطواف، وركعتا الإحرام بالحج. ¬
الفضائل
وترتيبها: الوتر ثم العيد، ثم الكسوف، ثم الاستسقاء. وذكر العلامة خليل في متنه أن صلاة خسوف القمر مندوب. وأما الفضائل فهي عشر أيضاً. وهي ركعتان بعد الوضوء، وركعتا تحية المسجد لداخل يريد الجلوس به لا المرور فيه، وإن في وقت النهي، وتتأدى بفريضة، والضحى وهي مؤكدة وأقلها ركعتان وأكثرها ثمانٍ، وقيام الليل ويندب جهراً، وهو مؤكد، وأفضله الثلث الأخير (¬1)، وهو عشر غير الشفع والوتر، وأكثره لا حد له، وقيام رمضان وهي التراويح سنة مؤكدة، عشرون ركعة، يسلم من كل ركعتين، غير الشفع والوتر، وهي آكد من قيام الليل، وندب ختم القرآن فيها، بأن يقرأ كل ليلة جزءاً يفرقه على العشرين ركعة. فإن لزم على الانفراد بها تعطيل المساجد عنها، فالأولى إيقاعها في المساجد جماعة، فدل على أنه يندب لأعيان (وجهاء) الناس فعلها في المساجد؛ لأن الشأن الاقتداء بهم، فإذا لم يصلوها في المساجد تعطلت المساجد. ويتأكد النفل قبل صلاة الظهر وما بعدها، وقبل صلاة العصر، وبعد صلاة المغرب، والعشاء، بلا تحديد بعدد معين، فيكفي في تحصيل الندب ركعتان، والأولى بعد كل صلاة عدا المغرب أربع ركعات، وبعد المغرب ست ركعات. ويندب فصل الشفع (المراد به الركعتان قبل الوتر) عن الوتر، بسلام، وكره وصله به من غير سلام، وكره الاقتصار على الوتر من غير شفع، وصح الوتر من غير شفع، خلافاً لمن قال بعدم صحته إلا بشفع. ويندب القراءة في الشفع بسبّح اسم ربك الأعلى عقب الفاتحة في الركعة الأولى، والكافرون في الثانية. ¬
أما النوافل
ويندب الإسرار بسنة الفجر وسائر نوافل النهار. ويندب الجهر بالوتر وفي سائر نوافل الليل. وتندب تحية المسجد قبل السلام على النبي صلى الله عليه وسلم بمسجده عليه السلام، وتحية مسجد مكة: الطواف بالبيت سبعاً، إلا المكي فيكفيه الركعتان. وأما النوافل فهي قسمان: 1 - مالا سبب له: وهي التطوع في الأوقات الجائزة غير الخمسة المكروهة المذكورة سابقاً. 2 - وماله سبب: وهي عشر: الصلاة عند الخروج إلى السفر، وعند الرجوع منه، وعند دخول المنزل، وعند الخروج منه، وصلاة الاستخارة ركعتان (¬1)، وصلاة الحاجة ركعتان (¬2)، وصلاة التسبيح أربع ركعات (¬3)، وركعتان بين الأذان والإقامة، لقوله صلى الله عليه وسلم: «بين كل أذانين صلاة» والمراد باللأذانين: الأذان والإقامة. وأربع ركعات بعد الزوال، وركعتان عند التوبة، لقوله صلى الله عليه وسلم: «ما من رجل يُذنب ذنباً، ثم يقوم فيتطهر، ثم يصلي، ثم يستغفر الله إلا غفر الله له، ثم قرأ هذه الآية: {والذين إذا فعلوا فاحشة، أو ظلموا أنفسهم .. الآية [آل عمران: 135/ 3]» (¬4)، زاد ابن حبان والبيهقي وابن خزيمة: «ثم يصلي ركعتين» ¬
ما يكره في أداء النوافل عند المالكية
وزاد بعض المالكية ركعتين عند الدعاء، وركعتين لمن قدم للقتل اقتداء بخبيب ابن عدي رضي الله عنه. ما يكره في أداء النوافل عند المالكية (¬1): يكره تأخير الوتر للوقت الضروري وهو من طلوع الفجر لصلاة الصبح، بلاعذر من نوم أو غفلة أو نحوهما. وكره كلام بالأمور الدنيوية بعد صلاة الصبح، لا بعد سنة الفجر وقبل الصبح. وكره ضِجْعة: بأن يضطجع على شقه الأيمن بعد سنة الفجر قبل الصبح إذ لم يصحبها عمل أهل المدينة. وهذا متفق مع مذهب الحنفية (¬2)، أخذاً برأي ابن عمر، إذ لم يفصل بالضجعة، وقال: وأي فصل أفضل من السلام؟! أي سلام سنة الفجر؛ لأن السلام إنما ورد للفصل، وهو أفضل ما يخرج به من الصلاة من الفعل والكلام. وكره جمع كثير لصلاة النفل في غير التراويح؛ لأن شأن النفل الانفراد به، كما يكره صلاة النفل في جماعة قليلة بمكان مشتهر بين الناس. النوافل عند الشافعية: النوافل نوعان: نوع تسن له الجماعة، ونوع لا تسن له الجماعة (¬3). ¬
- ما تسن له الجماعة
1ً - ما تسن له الجماعة: سبع صلوات مسنونات هي: العيدان أي صلاة عيد الفطر وعيد الأضحى، والكسوفان: أي صلاة كسوف الشمس وخسوف القمر، والاستسقاء، والتراويح، لخبر الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: «أنه صلّى الله عليه وسلم صلاها ليالي، فصلوها معها، ثم تأخر وصلاها في بيته باقي الشهر، وقال: خشيت أن تفرض عليكم (¬1)، فتعجزوا عنها» وروى ابنا خزيمة وحبان عن جابر قال: «صلى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم في رمضان ثمان ركعات، ثم أوتر، فلما كانت الليلة القابلة، اجتمعنا في المسجد، ورجونا أن يخرج إلينا حتى أصبحنا» الحديث. وكان جابر إنما حضر في الليلة الثالثة والرابعة، ولأن عمر جمع الناس على قيام شهر رمضان: الرجال على أبي بن كعب، والنساء على سليمان ابن أبي حَثْمة (¬2). وكان قد انقطع الناس عن فعلها جماعة في المسجد إلى زمن عمر رضي الله عنه، وإنما صلاها النبي صلّى الله عليه وسلم بعد ذلك فرادى خشية الافتراض، كما مرَّ، وقد زال ذلك المعنى. والتراويح عشرون ركعة بعشر تسليمات في كل ليلة من رمضان بين صلاة العشاء وطلوع الفجر، اتباعاً للسنة (¬3)، مع مواظبة الصحابة عليها. أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قام رمضان إيماناً واحتساباً (¬4)، غفر له ما تقدم من ذنبه». ¬
2 - ما لا تسن له الجماعة
وينوي الشخص بكل ركعتين: التراويح أو قيام رمضان، ولو صلى أربع ركعات منها بتسليمة واحدة لم تصح، ووقتها بين صلاة العشاء وطلوع الفجر. وتندب الجماعة في الوتر عقب التراويح جماعة، إلا إن وثق باستيقاظه آخر الليل، فالتأخير أفضل، لخبر مسلم: «من خاف ألا يقوم من آخر الليل، فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخره، فليوتر آخر الليل، فإن صلاة آخر الليل مشهودة» أي تشهدها ملائكة الليل والنهار. وهذا النوع أفضل مما لا تسن له الجماعة؛ لأنها تشبه الفرائض في سنة الجماعة، وأوكد ذلك صلاة العيد؛ لأنها راتبة بوقت كالفرائض، ثم صلاة الكسوف، لأن القرآن دل عليها، ثم صلاة الاستسقاء. لكن الأصح تفضيل الراتبة على التراويح، لمواظبته صلّى الله عليه وسلم على الراتبة لا التراويح. 2 - ما لا تسن له الجماعة: وهو نوعان: أـ الرواتب مع الفرائض: أي السنن التابعة للفرائض، ويعبر عنها بالسنة الراتبة وهي سبع عشرة ركعة: ركعتا الفجر، وأربع قبل الظهر، وركعتان بعدها، وأربع قبل العصر، وركعتان بعد المغرب، وثلاث بعد العشاء يوتر بواحدة منهن. والواحدة هي أقل الوتر، وأكثره إحدى عشرة ركعة. ووقته بين صلاة العشاء وطلوع الفجر، فلو أوتر قبل العشاء عمداً أو سهواً لم يعتد به. ويسن قبل الجمعة أربع كما قبل الظهر، وبعدها أربع وهو الأكمل (¬1). ¬
ب - غير الراتبة أي المستقلة عن الفرائض: وهي الصلوات التي يتطوع بها الإنسان في الليل والنهار. وأفضلها التهجد أو قيام الليل، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «أفضل الصلوات بعد المفروضة: صلاة الليل» (¬1)، ولأنها تفعل في وقت غفلة الناس وتركهم للطاعات، فكان التهجد أفضل. والنفل المطلق في الليل أفضل من النفل المطلق في النهار، والنفل وسط الليل أفضل، ثم آخره أفضل، إذا قسم المسلم الليل أثلاثاً. فإن قسمه أنصافاً فالنفل في آخره أفضل منه في أوله. والأفضل من ذلك كله: أن يقسمه أسداساً، فينام ثلاثة أسداس، ويقوم السدس الرابع والخامس، وينام السادس ليقوم للصبح بنشاط. ويكره أن يقوم الليل كله، لما روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أتصوم النهار؟ فقلت: نعم، وتقوم الليل؟ قلت: نعم، قال: لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأمس النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» (¬2). وأفضل تطوع النهار: ما كان في البيت، لما روى زيد بن ثابت رضي الله عنه: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة» (¬3). والسنة أن يسلم في تهجده من كل ركعتين؛ لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا رأيت أن الصبح يدركك فأوتر بواحدة» (¬4). ¬
وإن جمع ركعات بتسليمة واحدة، جاز، لما روت عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، ويوتر من ذلك بخمس، يجلس في الركعة الأخيرة ويسلم، وإنه أوتر بسبع وخمس لا يفصل بينهن بسلام ولا كلام» (¬1). وإن تطوع بركعة واحدة، جاز، لما روي أن عمر رضي الله عنه مر بالمسجد، فصلى ركعة، فتبعه رجل، فقال: يا أمير المؤمنين، إنما صليت ركعة، إنما هي تطوع، فمن شاء زاد، ومن شاء نقص (¬2). ويستحب أن ينوي الشخص القيام عند النوم، وأن يمسح المستيقظ النوم عن وجهه، وأن ينظر إلى السماء، وأن يقرأ: {إن في خلق السموات والأرض} [آل عمران:190/ 3]، وأن يفتتح تهجده بركعتين خفيفتين. والسنة أن يتوسط في نوافل الليل بين الجهر والإسرار، وإطالة القيام فيها أفضل من تكثير عدد الركعات، وأن ينام من نعس في صلاته، ويتأكد بإكثار الدعاء والاستغفار في جميع ساعات الليل، وفي النصف الأخير آكد، وعند السحر أفضل. ومن غير الراتبة: صلاة الضحى، وأقلها ركعتان، وأكثرها اثنتا عشرة، لخبر مسلم: «يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة، ويجزئ عن ذلك ركعتان يصليهما من الضحى»، وأدنى الكمال أربع، وأكمل منه ست، وأفضلها ثماني ركعات، لما روت أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها: أن النبي صلّى الله عليه وسلم صلاها ثماني ركعات (¬3). وكون أكثرها ثنتا عشرة ركعة لخبر أبي داود: «إن صليت ¬
الضحى ركعتين لم تكتب من الغافلين أو أربعاً كتبت من المحسنين، أو ستاً كتبت من القانتين، أو ثمانياً كتبت من الفائزين، أو عشراً لم يكتب عليك ذلك اليوم ذنب، أو ثنتي عشرة بنى الله لك بيتاً في الجنة» (¬1). ووقتها: من ارتفاع الشمس إلى زوالها. ومن غير الراتبة: تحية المسجد ركعتين، والأصح أنها تتكرر بتكرر الدخول في المسجد مراراً، لما روى أبو قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا دخل أحدكم المسجد، فلا يجلس حتى يصلي ركعتين» (¬2). فإن دخل وقد أقيمت الجماعة، لم يصل التحية، لقوله صلّى الله عليه وسلم «إذا أقيمت الصلاة، فلا صلاة إلا المكتوبة» (¬3)، ولأنه يحصل بها التحية. وتحصل التحية بفرض أو نفل آخر، وإن لم تنو؛ لأن القصد بها ألا ينتهك المسجد بلا صلاة. وعلى هذا فإنها تكره إذا وجد المكتوبة تقام، أو دخل المسجد الحرام ففعلها قبل الطواف، أو خاف فوت الصلاة. ولا تسن التحية للخطيب إذا خرج من مكانه للخطبة، ولا لمن لو فعلها فاته أول الجمعة مع الإمام. ومنها: صلاة التوبة: لخبر أبي داود وغيره وحسنه الترمذي: «ليس عبد يذنب ذنباً، فيقوم فيتوضأ، ويصلي ركعتين ثم يستغفر الله، إلا غفر له». ومنها: صلاة التسبيح أربع ركعات، يقول في كل ركعة بعد القراءة: «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله، والله أكبر» خمس عشرة مرة، ويقول في ¬
كل من الركوع والرفع منه والسجدتين والجلوس بينهما وجلسة الاستراحة، وما قبل التشهد عشراً، فذلك خمس وسبعون في كل ركعة (¬1). ومنها: صلاة الاستخارة ركعتان، لخبر البخاري السابق عن جابر: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها ... » الحديث في النوافل عند الحنفية. ويقرأ بعد الفاتحة في الركعة الأولى: {قل يا أيها الكافرون} [الكافرون:109/ 1]، وفي الثانية: {قل هو الله أحد} [الإخلاص:1/ 112]. ومنها: ركعتا الزوال عقبه، يقرأ فيهما بعد الفاتحة (الكافرون والإخلاص) فقد روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه فعل ذلك، وأمر بفعله. وهو حديث غريب أي من حيث روايته؛ لأنه انفرد به راو واحد. ومنها: ركعتان عند الرجوع من سفره في المسجد قبل دخوله بيته. اتباعاً للسنة، رواه الشيخان. ومنها: ركعتا الوضوء ولو مجدَّداً، لخبر الصحيحين «من توضأ فأسبغ الوضوء، وصلى ركعتين، لم يحدث فيهما نفسه، غفر له ما تقدم من ذنبه». ومنها: صلاة الأوابين وتسمى صلاة الغفلة لغفلة الناس عنها بسبب عشاء أو نوم أو نحو ذلك، وهي عشرون ركعة بين المغرب والعشاء، وأقلها ركعتان لحديث الترمذي أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «من صلى ست ركعات بين المغرب والعشاء، كتب الله له عبادة اثنتي عشرة ركعة». ¬
المؤكد وغير المؤكد من النوافل عند الشافعية
المؤكد وغير المؤكد من النوافل عند الشافعية: أولاً ـ السنن المؤكدة: أـ عشر ركعات من الراتب التابع للفرض: وهي ركعتا الفجر، وركعتا قبل الظهر أو الجمعة، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء (¬1). ويقرأ في ركعتي المغرب والفجر سورتي الإخلاص: في الأولى: قل ياأيها الكافرون، وفي الثانية: قل هو الله أحد (¬2).وروي أيضاً أنه صلّى الله عليه وسلم قرأ في الأولى من ركعتي الفجر: {قولو آمنا بالله وما أنزل إلينا} ـ الآية التي في البقرة:136،وفي الثانية: {قل يا أهل الكتاب تعالوا} ـ الآية ال عمران: 64. والخلاصة: يقرأ في أولى ركعتي الفجر والمغرب والاستخارة وتحية المسجد وركعتي الإحرام والزوال: قل يا أيها الكافرون، وفي الثانية: الإخلاص. ويسن أن يفصل بين سنة الصبح وفرضه باضطجاع أو كلام أو نحوه، لحديث عائشة قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا سكت المؤذن من صلاة الفجر، وتبين له الفجر، قام فركع ركعتين خفيفتين، ثم اضطجع على شقه الأيمن، حتى يأتيه المؤذن للإقامة، فيخرج» (¬3) وهذا موافق لمذهب الحنابلة أيضاً، وخالف المالكية والحنفية في ذلك كما بينا. ب ـ الوتر: إذا أراد أن يصليه ثلاثاً فالأفضل أن يصليها مفصولة بسلامين ¬
ترتيب أفضليتها
لكثرة الأحاديث الصحيحة فيه، ولكثرة العبادات، فإنه تتجدد فيه النية، ودعاء التوجه والدعاء في آخر الصلاة، والسلام وغير ذلك. جـ ـ ثلاث نوافل غير راتبة أي تابعة للفرائض: صلاة الليل (التهجد) وصلاة الضحى، وصلاة التراويح. ترتيب أفضليتها: وآكد السنن الراتبة مع الفرائض: سنة الفجر والوتر؛ لأنه ورد فيهما ما لم يرد في غيرهما، والمذهب الجديد وهو الصحيح أن الوتر أفضل من الفجر، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم، وهي الوتر» وقوله عليه السلام «من لم يوتر فليس منا» (¬1). والأصح تفضيل الراتبة على التراويح، ثم أفضل الصلوات بعد الرواتب والتراويح: الضحى، ثم ما يتعلق بفعل كركعتي الطواف، وركعتي الإحرام، وتحية المسجد، ثم سنة الوضوء. (¬2) وقت الرواتب: ما يفعل قبل الفرائض من سنن الرواتب يدخل وقتها بدخول وقت الفرض، ويبقى وقتها إلى أن يذهب وقت الفرض. وما كان بعد الفرض يدخل وقتها بالفراغ من الفرض، ويبقى وقتها إلى أن يذهب وقت الفرض، ويعد فعل القبلية بعد الفرض أداء، والاختيار ألا تؤخر عن وقتها إلا لمن حضر والصلاة تقام أو نحوه، وفعل البعدية قبله لا تنعقد. ويسن فعل السنن الراتبة في السفر، سواء أقصر أم أتم، لكنها في الحضر آكد (¬3). ¬
قضاء النوافل
قضاء النوافل: لو فات النفل المؤقت، ندب قضاؤه في الأظهر (¬1)، لحديث الصحيحين: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها» ولأنه صلّى الله عليه وسلم «قضى ركعتي الفجر لما نام في الوادي عن صلاة الصبح إلى أن طلعت الشمس» (¬2) «وقضى ركعتي سنة الظهر المتأخرة بعد العصر» (¬3)، ولأنها صلاة مؤقتة، فقضيت كالفرائض، سواء في السفر والحضر. ثانياً ـ السنن غير المؤكدة: أـ اثنتا عشرة ركعة: ركعتان قبل الظهر، سوى المؤكدتين، وركعتان بعدها كذلك، والجمعة كالظهر، وأربع قبل العصر، وركعتان قبل المغرب، ويسن تخفيفهما وفعلهما بعد إجابة المؤذن لحديث «بين كل أذانين صلاة» والمراد الأذان والإقامة كما قدمنا، وركعتان قبل العشاء. ب ـ كل النوافل الأخرى غير المؤكدة مما ذكر سابقاً في السنن غير الراتبة. جـ ـ النفل المطلق: وهو ما لا يتقيد بوقت ولا سبب، أي لا حصر لعدده ولا لعدد ركعاته، قال صلّى الله عليه وسلم لأبي ذر: «الصلاة خير موضوع، استكثر أو أقلّ» (¬4). فإن أحرم بأكثر من ركعة فله التشهد في كل ركعتين، والصحيح منعه في كل ركعة. وإذا نوى عدداً، فله أن يزيد وينقص بشرط تغيير النية قبلهما، وإلا فتبطل، فلو نوى ركعتين، ثم قام إلى ثالثة سهواً، فالأصح أنه يقعد، ثم يقوم للزيادة إن شاء الزيادة، ثم يسجد للسهو في آخر صلاته لزيادة القيام. ¬
النوافل عند الحنابلة
وقد بينا سابقاً أن نفل الليل أفضل، وأوسطه أفضل، ثم آخره. ويسلم في النفل من كل ركعتين، ويكره قيام كل الليل دائماً، وتخصيص ليلة الجمعة بقيام (¬1)، وترك تهجد اعتاده بلا عذر، لقوله صلّى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو: «ياعبد الله، لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل ثم تركه» (¬2). النوافل عند الحنابلة: يتشابه المذهب الحنبلي مع الشافعي في النوافل إلى حد كبير، فقالوا (¬3): التطوعات قسمان: أحدهما: ما تسن له الجماعة، وهو صلاة الكسوف والاستسقاء والتراويح. والثاني: ما يفعل على الانفراد، وهي قسمان: سنة معينة، ونافلة مطلقة. فأما السّنّة المعيّنة فتتنوّع أنواعاً: النوع الأول ـ السنن الرواتب مع الفرائض أي المؤكدة: وهي ركعة الوتر: يتأكد فعلها، ويكره تركها، ولا تقبل شهادة من داوم عليه ثم تركه، لسقوط عدالته، قال أحمد: من ترك الوتر عمداً فهو رجل سوء، لا ينبغي أن تقبل شهادته. وعشر ركعات: ركعتان قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، ¬
وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر. ويخير في السفر بين فعلها وبين تركها؛ لأن السفر مظنة المشقة، ولذلك جاز في القصر، إلا سنة الفجر وسنة الوتر، فيفعلان فيه، لتأكدهما. وفعل الرواتب في البيت أفضل، بل السنن كلها سوى ما تشرع له الجماعة، لحديث ابن عمر: «حفظت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم عشر ركعات: ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته، وركعتين قبل الصبح، كانت ساعة لا يُدخل فيها على النبي صلّى الله عليه وسلم حدثتني حفصة: أنه كان إذا أذن المؤذن، وطلع الفجر، صلى ركعتين» (¬1) ولمسلم «بعد الجمعة سجدتين» ولم يذكر ركعتين قبل الصبح». ويسن تخفيف ركعتي الفجر، لحديث عائشة: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يخفف الركعتين اللتين قبل صلاة الصبح، حتى إني لأقول: هل قرأ بأم الكتاب؟» (¬2). ويسن الاضطجاع بعدهما على جنبه اليمين قبل الفرض، لقول عائشة: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا صلى ركعتي الفجر، اضطجع» وفي رواية: «فإن كنت مستيقظة حدثني، وإلا اضطجع» (¬3) قالوا: واتباع النبي صلّى الله عليه وسلم في قوله وفعله أولى من اتباع من خالفه كائناً من كان. ويسن أن يقرأ في ركعتي الفجر والمغرب (الكافرون) و (الإخلاص) لما روى أبو هريرة وغيره في الفجر، وابن مسعود في المغرب (¬4)، أو يقرأ في ركعتي ¬
النوع الثاني ـ السنن غير الرواتب
الفجر: في الأولى {قولوا آمنا بالله ... } من البقرة:136،وفي الثانية: {قل: يا أهل الكتاب تعالوا ... } من آل عمران: 64، للخبر المتقدم. ويجوز فعل ركعتي الفجر والوتر وغيرها راكباً، لحديث مسلم عن ابن عمر في الفجر، وللبخاري «إلا الفرائض». وآكد هذه الركعات: ركعتا الفجر، لحديث عائشة السابق: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يكن على شيء أشد معاهدة منه على ركعتي الفجر» (¬1). ووقت السنن الرواتب القبلية: وقت الفرض قبله، والبعدية بعده، ولا يقضى منها شيء إلا ركعتا الفجر، اختار أحمد أن يقضيهما من الضحى، أي كما قال الحنفية والمالكية، وقال: إن صلاهما بعد الفجر أجزأ. ويجوز قضاء السنن الراتبة بعد العصر، في حديث أم سلمة، وقضى الركعتين اللتين قبل العصر بعدها في حديث عائشة، والاقتداء بما فعله النبي صلّى الله عليه وسلم متعين؛ ولأن النهي بعد العصر خفيف. وقال في كشاف القناع: تقضى جميع السنن، إذ يقاس الباقي على سنة الفجر والعصر، قال ابن حامد: تقضى جميع السنن الرواتب في جميع الأوقات إلا أوقات النهي؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم قضى بعضها، وقسنا الباقي عليه، أي كما قال الشافعية. النوع الثاني ـ السنن غير الرواتب، وهي تطوعات مع الرواتب أي غير مؤكدة: وهي عشرون: أربع قبل الظهر وأربع بعدها، وأربع قبل صلاة العصر، ¬
وأربع بعد صلاة المغرب، وأربع بعد صلاة العشاء. ويباح أن يصلي ركعتين قبل المغرب. وأدلة ذلك: في الظهر: حديث أم حبيبة «من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها، حرمه الله على النار» (¬1). وفي العصر: «رحم الله امرءاً صلى قبل العصر أربعاً» (¬2)، وعن علي في صفة صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «وأربعاً قبل الظهر إذا زالت الشمس، وركعتين بعدها، وأربعاً بعدها، وأربعاً قبل العصر بين كل ركعتين بالسلام على الملائكة المقربين والنبيين ومن تبعهم من المسلمين» (¬3). وفي المغرب: «من صلى بعد المغرب ست ركعات لم يتكلم بينهن بسوء عدلن له بعبادة اثنتي عشرة سنة» (¬4). وفي العشاء: سأل شريح بن هانئ عائشة عن صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ فقالت: ما صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم العشاء قط، إلا صلى أربع ركعات، أو ست ركعات (¬5). وأما سنة قبل المغرب: فلحديث أنس: «كنا نصلي على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم ركعتين بعد غروب الشمس قبل صلاة المغرب، فسئل أنس: أكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم صلاهما؟ قال: كان يرانا نصليهما، فلم يأمرنا ولم ينهنا» (¬6). ¬
النوع الثالث ـ صلوات معينة مستقلة
وقال في كشاف القناع (¬1): ولا سنة راتبة للجمعة قبلها، وأقل السنة الراتبة بعدها: ركعتان، لما في رواية متفق عليها عن ابن عمر: «وركعتين بعد الجمعة في بيته»، وأكثرها ست. وفعل سنة الجمعة في المسجد مكانه أفضل. أما صلاة ركعتين بعد الوتر: فظاهر كلام أحمد: أنه لا يستحب فعلهما، وإن فعلهما إنسان جاز. والصحيح أنهما ليستا بسنة؛ لأن أكثر من وصف تهجد النبي صلّى الله عليه وسلم لم يذكرهما، منهم ابن عباس وزيد بن خالد وعائشة. ويسن أن يفصل بين كل فرض وسنة بقيام أو كلام، لقول معاوية: «إن النبي صلّى الله عليه وسلم أمرنا بذلك ألا نوصل صلاة، حتى نتكلم أو نحرج» (¬2). النوع الثالث ـ صلوات معينة مستقلة: 1 ً - صلاة التراويح أو قيام شهر رمضان: عشرون ركعة، وهي سنة مؤكدة، وأول من سنها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قال أبو هريرة: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يرغِّب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة، فيقول: «من قام رمضان إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه» (¬3)،وقالت عائشة: «صلى النبي صلّى الله عليه وسلم في المسجد ذات ليلة، فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة، وكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة، فلم يخرج إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلما أصبح قال: قد رأيت الذي صنعتم، فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفترض عليكم ـ قال: وذلك في رمضان» (¬4). ¬
ودليل كونها عشرين: ما روى مالك عن يزيد بن رومان قال: «كان الناس يقومون في زمن عمر في رمضان بثلاث وعشرين ركعة» والسر فيه: أن الراتبة عشر، فضوعفت في رمضان؛ لأنه وقت جدّ، وهذا مظنة الشهرة بحضرة الصحابة، فكان إجماعاً. وروى أبو بكر عبد العزيز في كتابه الشافي عن ابن عباس: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يصلي في شهر رمضان عشرين ركعة»، وأن عمر لما جمع الناس على أبي بن كعب كان يصلي لهم عشرين ركعة. وعن علي «أنه أمر رجلاً يصلي بهم في رمضان عشرين ركعة» وهذا كالإجماع. وثبت أن أبي بن كعب كان يقوم بالناس عشرين ركعة في قيام رمضان، ويوتر بثلاث. ويجهر فيها الإمام بالقراءة لفعل الخلف عن السلف. وفعلها جماعة أفضل من فعلها فرادى، لحديث أبي ذر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم جمع أهله وأصحابه، وقال: إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف، كتب له قيام ليلة» (¬1)، وقد جاء عن عمر أنه كان يصلي في الجماعة. وروى البيهقي عن علي: أنه كان يجعل للرجال إماماً وللنساء إماماً. وكان علي وجابر وعبد الله يصلونها جماعة. وقد أجمع الصحابة على ذلك. هذا ... وللعلماء في عدد التراويح ثلاثة أقوال: قول كثير من العلماء إنها عشرون وهو السنة، لعمل المهاجرين والأنصار، وقوله آخرين: إنها ست وثلاثون غير الشفع والوتر وهو ماكان في زمن عمر بن عبد العزيز، وعمل أهل المدينة القديم (¬2)، وقالت طائفة: قد ثبت في الصحيح عن عائشة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يكن يزيد في رمضان ولا غيره على ثلاث عشرة ركعة» قال ابن تيمية: والصواب أن ذلك جميعه حسن، كما نص على ذلك الإمام أحمد رحمه الله، وأنه ¬
القراءة في التراويح
لا يتوقت في قيام رمضان عدد، فإن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يوقت فيها عدداً، وحينئذ فيكون تكثير الركعات وتقليلها، بحسب طول القيام وقصره (¬1)، وقال الشوكاني: دلت الأحاديث على مشروعية القيام في رمضان والصلاة فيه جماعة وفرادى، فقصر الصلاة المسماة بالتراويح على عدد معين، وتخصيصها بقراءة مخصوصة لم يرد به سنة (¬2). القراءة في التراويح: قال أحمد رحمه الله: يقرأ الإمام بالقوم في شهر رمضان ما يخف على الناس، ولا يشق عليهم، ولا سيما في الليالي القصار، والأمر على ما يحتمله الناس. وقال القاضي أبو يعلى: لا يستحب النقصان عن ختمة في الشهر، ليسمع الناس جميع القرآن، ولا يزيد على ختمة كراهية المشقة على من خلفه. وعقب صاحب المغني على ذلك: والتقدير بحال الناس أولى، فإنه لو اتفق جماعة يرضون بالتطويل ويختارونه كان أفضل، كما روى أبو ذر قال: «قمنا مع النبي صلّى الله عليه وسلم حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح ـ يعني السحور». ويستحب أن يبتدئ التراويح بسورة العلق {اقرأ باسم ربك} [العلق:1/ 96]؛ لأنها أول ما نزل من القرآن، فإذا سجد للتلاوة في آخرها قام فقرأ من البقرة. نية التراويح: وينوي في كل ركعتين، فيقول سراً ندباً، أصلي ركعتين من التراويح المسنونة، أو من قيام رمضان، لحديث «إنما الأعمال بالنيات»، ويستريح بعد كل أربع بجلسة يسيرة. ¬
وقت التراويح
ولا بأس بترك الجلسة بعد كل أربع، ولا يدعو إذا استراح، لعدم وروده، ولا يكره الدعاء بعد التراويح لعموم قوله تعالى: {فإذا فرغت فانصب} [الانشراح:7/ 94]. وقت التراويح: ووقتها بعد صلاة العشاء وبعد سنتها قبل الوتر إلى طلوع الفجر الثاني، فلا تصح قبل صلاة العشاء، فمن صلى العشاء ثم التراويح، ثم ذكر أنه صلى العشاء محدثاً، أعاد التراويح؛ لأنها سنة تفعل بعد مكتوبة، فلم تصح قبلها، كسنة العشاء. وإن طلع الفجر، فات وقتها، ولا تقضى. وإن صلى التراويح بعد العشاء، وقبل سنتها، صح جزماً، ولكن الأفضل فعلها بعد السنة، على المنصوص. فعلها في المسجد: وفعلها في المسجد أفضل؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «صلاها مرة ثلاث ليال متوالية» كما روته عائشة، ومرة «ثلاث ليال متفرقة» كما رواه أبو ذر، وقال عليه السلام: «من قام مع الإمام حتى ينصرف حسب له قيام ليلة» (¬1)، وكان أصحابه يفعلونها في المسجد أوزاعاً في جماعات متفرقة في عهده، وجمع عمر الناس على أبي، وتابعه الصحابة على ذلك ومن بعدهم. وفعلها أول الليل أفضل؛ لأن الناس كانوا يقومون على عهد عمر أوله. الوتر بعد التراويح: ويوتر بعدها في الجماعة بثلاث ركعات، لما تقدم عن مالك عن يزيد بن رومان. ¬
التطوع بين التراويح وبعدها
فإن كان له تهجد جعل الوتر بعده استحباباً لقوله صلّى الله عليه وسلم: «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً» (¬1). وإن لم يكن له تهجد صلى الوتر مع الإمام لينال فضيلة الجماعة. فإن أحب من له تهجد متابعة الإمام في وتره، قام إذا سلم الإمام، فشفعها أي ركعة الوتر بأخرى، ثم إذا تهجد أوتر، فينال فضيلة متابعة الإمام حتى ينصرف، وفضيلة جعل وتره آخر صلاته. ومن أوترفي جماعة أو منفرداً، ثم أراد الصلاة تطوعاً بعد الوتر، لم ينقض وتره أي لم يشفعه بركعة، كما قال الشافعية، لقول عائشة ـ وقد سئلت عن الذي ينقض وتره ـ «ذاك الذي يلعب بوتره» (¬2)، وصلى شفعاً ما شاء إلى طلوع الفجر الثاني؛ لأنه قد صح عن النبي صلّى الله عليه وسلم «أنه كان يصلي بعد الوتر ركعتين»، ولم يوتر اكتفاء بالوتر الذي قبل تهجده، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا وتران في ليلة» (¬3). التطوع بين التراويح وبعدها: ويكره التطوع بين التراويح، ولا يكره طواف بينها، ولا طواف بعدها، وكان أهل مكة يطوفون بين كل ترويحتين أسبوعاً، ويصلون ركعتي الطواف. ولا يكره تعقيب التطوع بعد التراويح وبعد الوتر في جماعة، سواء طال الفصل أو قصر. 2ً - صلاة الضحى: وهي مستحبة أي غير مؤكدة، لما روى أبو هريرة قال: «أوصاني خليلي بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أرقد» (¬4). ¬
- صلاة التسبيح
وأكثرها ثمان ركعات، لما روت أم هانئ: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم دخل بيتها، يوم فتح مكة، وصلى ثماني ركعات، فلم أر صلاة قط أخف منها، غير أنه يتم الركوع والسجود» (¬1). ووقتها: إذا علت الشمس واشتد حرها، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «صلاة الأوابين حتى ترمَض الفصال» (¬2). وقال بعض الحنابلة: لا تستحب المداومة عليها؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يداوم عليها، قالت عائشة: «ما رأيت النبي صلّى الله عليه وسلم يصلي الضحى قط» (¬3)، ولأن في المداومة عليها تشبيهاً بالفرائض. وقال بعض آخر (أبو الخطاب): تستحب المداومة عليها؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أوصى بها أصحابه، وقال: «من حافظ على شفعة الضحى غفرت ذنوبه، وإن كانت مثل زبد البحر» (¬4)، ولأن أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه. 3ً - صلاة التسبيح: ليست مستحبة عند الإمام أحمد إذ لم يثبت له الحديث المروي فيها (¬5)، وإن فعلها إنسان فلا بأس بها، فإن النوافل والفضائل لا يشترط صحة الحديث فيها. 4ً - صلاة الاستخارة: سنة لحديث جابر السابق عند البخاري. ¬
- صلاة الحاجة
5ً - صلاة الحاجة: سنة لحديث عبد الله بن أبي أوفى السابق عند الترمذي، وقال حديث غريب. 6ً - صلاة التوبة: سنة لحديث علي السابق عند أبي داود والترمذي، وقال: حديث حسن غريب. 7ً - تحية المسجد: سنة لحديث أبي قتادة المتقدم، المتفق عليه. 8ً - صلاة الزوال: مستحبة لحديث علي المتقدم في مذهب الشافعية. النَّفْلُ المُطلَق: تشرع النوافل المطلقة في الليل كله، وفي النهار، فيما سوى أوقات النهي، وتطوع الليل أفضل من تطوع النهار، قال أحمد: ليس بعد المكتوبة عندي أفضل من قيام الليل. وقد أمر النبي صلّى الله عليه وسلم بذلك، قال تعالى: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك} [الإسراء:79/ 17]، وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل» (¬1). وأفضل التهجد جوف الليل الآخر، لما روى عمدو بن عبسة قال: «قلت: يا ¬
عدد التهجد
رسول الله، أي الليل أسمع؟ قال: جوف الليل الآخر، فصل ما شئت» (¬1). والتطوع في البيت أفضل، لحديث «عليكم بالصلاة في بيوتكم، فإن خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة» (¬2). ويستحب أن يتسوك قبل التهجد، لما روى حذيفة قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك» (¬3). ويستحب أن يفتح تهجده بركعتين خفيفتين، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا قام أحدكم من الليل فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين» (¬4). عدد التهجد: واختلف في عدد ركعات تهجد النبي صلّى الله عليه وسلم، ففي حديث زيد بن خالد وابن عباس: إنه ثلاث عشرة ركعة، منها الوتر ثلاثاً (¬5)، وفي حديث عائشة: إنه إحدى عشرة ركعة، منها الوتر ثلاثاً (¬6). قال ابن قدامة الحنبلي: يحتمل أنه صلى في ليلة ثلاث عشرة، وفي ليلة إحدى عشرة. قراءة المتهجد: يستحب أن يقرأ المتهجد جزءاً من القرآن في تهجده، فإن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يفعله. وهو مخير بين الجهر بالقراءة والإسرار بها، إلا أنه إن كان الجهر أنشط له ¬
قضاء التهجد
في القراءة، أو كان بحضرته من يستمع قراءته، أو ينتفع بها، فالجهر أفضل. وإن كان قريباً منه من يتهجد أو من يستضر برفع صوته، فالإسرار أولى. وإن لم يكن لا هذا ولا هذا، فليفعل ما شاء (¬1). قضاء التهجد: ومن كان له تهجد ففاته، استحب له قضاؤه بين صلاة الفجر والظهر (¬2). التنفل بين المغرب والعشاء: يستحب التنفل بين المغرب والعشاء، لما روي عن أنس بن مالك في هذه الآية: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} الآية [السجدة:16/ 32]، قال: «كانوا يتنفلون ما بين المغرب والعشاء يصلون» (¬3). التطوع مثنى مثنى: وصلاة التطوع في الليل مثنى مثنى كالشافعية، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «صلاة الليل مثنى مثنى» (¬4). وإن تطوع بأربع في النهار فلا بأس. والأفضل في تطوع النهار: أن يكون مثنى مثنى، كصلاة الليل. التطوع جالسا ً: لا خلاف في إباحة التطوع جالساً، وإنه في القيام أفضل، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: ¬
الدعاء عند اليقظة من النوم
«من صلى قائماً فهو أفضل، ومن صلى قاعداً فله نصف أجر القائم» (¬1)، وفي لفظ مسلم: «صلاة الرجل قاعداً نصف الصلاة». ويستحب للمتطوع جالساً: أن يكون في حال القيام متربعاً، كما قال المالكية؛ لأن القيام يخالف القعود، فينبغي أن تخالف هيئته في بدله هيئة غيره، كمخالفة القيام غيره، وهو مع هذا أبعد من السهو والاشتباه. الدعاء عند اليقظة من النوم: يستحب أن يقول الشخص عند انتباهه: «ما رواه عبادة عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: من تعارَّ (¬2) من الليل، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: اللهم اغفر لي، أو دعا، استجيب له، فإن توضأ وصلى، قبلت صلاته» (¬3). وعن ابن عباس قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يتهجد، قال: اللهم لك الحمد، أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت ملك السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك الحق، وقولك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق، والنبيون حق، ومحمد صلّى الله عليه وسلم حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك ¬
قراءة القرآن وحفظه
حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك» (¬1). قراءة القرآن وحفظه (¬2): القرآن أفضل الذكر: القرآن أفضل من سائر الذكر لقوله صلّى الله عليه وسلم: «يقول الرب سبحانه وتعالى: من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أُعطي السائلين، وفضلُ كلام الله تعالى على سائر الكلام كفضل الله تعالى على خلقه» (¬3). لكن الاشتغال بالمأثور من الذكر في محله كأدبار الصلوات أفضل من الاشتغال بتلاوة القرآن في ذلك المحل. والقرآن أفضل الكتب والصحف السماوية، وبعض القرآن أفضل من بعض، إما باعتبار الثواب، أو باعتبار متعلقه، كما يدل عليه ما ورد في (قل هو الله أحد والفاتحة وآية الكرسي). حفظ القرآن: ويستحب حفظ القرآن إجماعاً، وحفظه فرض كفاية إجماعاً، ويجب أن يحفظ منه ما يجب في الصلاة أي الفاتحة على المشهور، أو الفاتحة وسورة. ويبدأ ولي الصبي بتعليمه إياه قبل البلوغ، فيقرؤه كله إلا أن يعسر عليه حفظ كله، فيقرأ ماتيسر منه. ويقدم المكلف العلم بأحكام الشريعة بعد القراءة الواجبة. ¬
الاستماع للقرآن
الاستماع للقرآن: يجب الاستماع للقراءة مطلقاً؛ لأن العبرة لعموم اللفظ، لا لخصوص السبب، لكن الاستماع للقرآن فرض كفاية؛ لأنه لإقامة حقه، بأن يكون ملتفتاً إليه غير مضيع، وذلك يحصل بإنصات البعض، كما في رد السلام (¬1). القراءة في الطريق: ولا بأس بقراءة القرآن وهو ماش في الطريق، والإنسان مضطجع أو جالس أو راكب، بدليل ما ثبت عن جماعة من السلف قراءة الكهف وغيرها في الطريق، وعن عائشة قالت: «إني لأقرأ القرآن وأنا مضطجعة على سريري» رواه الفرياني، وروى الشيخان عن عائشة أيضاً: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يتكئ في حجري وأنا حائض، ثم يقرأ القرآن». ويستحب أن يقرأ القرآن في كل سبعة أيام ليكون له ختمة في كل أسبوع، روى أبو داود أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن عمرو: «اقرأ القرآن في سبع، ولا تزيدن على ذلك». ختم القرآن: ويكره أن يؤخر ختمة القرآن أكثر من أربعين يوماً؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «سأله عبد الله بن عمر: في كم تختم القرآن؟ قال: في أربعين يوماً، ثم قال: في شهر، ثم قال: في عشرين، ثم قال: في عشر، ثم قال: في سبع، لم ينزل علي من سبع» (¬2). ¬
ترتيله وتلحينه
وإن قرأه في ثلاث فحسن، لما روي عن عبد الله بن عمرو قال: «قلت لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: إن بي قوة؟ قال: «اقرأه في ثلاث» (¬1) ويكره أن يقرأه في أقل من ثلاث، لما رواه عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا يفقه من قرأه في أقل من ثلاث» (¬2). ترتيله وتلحينه: والترتيل أفضل من قراءة الكثير مع العجلة، وتفهم القرآن وتدبره بالقلب أفضل من إدراجه؛ لأن الله تعالى قال: {ورتل القرآن ترتيلاً} [المزمل:4/ 73]، {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته} [ص:29/ 38] ويستحب تحسين القراءة وترتيلها وإعرابها، ويمكّن حروف المد واللين من غير تكلف، للأمر السابق بترتيله. قال الإمام أحمد: يُحسِّن القارئ صوته بالقرآن، ويقرؤه بحزن وتدبر، فقد ثبت أن تحسين الصوت بالقرآن وتطريبه مستحب غير مكروه إذالم يفض إلى زيادة حرف فيه أو تغيير لفظه، لقول أبي موسى الأشعري للنبي صلّى الله عليه وسلم: «لو علمت أنك تسمع قراءتي لحبَّرته لك تحبيراً» (¬3) وقال عبد الله بن المغفل: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم فتح مكة يقرأ سورة الفتح، قال: فقرأ ابن المغفل ورجَّع في قراءته» (¬4) فلا يكره الترجيع وتحسين القراءة، بل ذلك مستحب لحديث أبي هريرة: «ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن يجهر به» (¬5) وقال عليه السلام: «زينوا القرآن بأصواتكم» (¬6) «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» (¬7). ¬
آداب التلاوة
ويكره قراءة القرآن بالألحان، وهي بدعة، أي إذا جعل الحركات حروفاً، ومدَّ في غير موضع المد؛ لأن القرآن معجز في لفظه ونظمه، والألحان تغيره، فإن حصل مع الألحان تغير نظم القرآن، وجَعْل الحركات حروفاً، حرم. آداب التلاوة: يستحب التعوذ قبل القراءة؛ لقوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} [النحل:98/ 16]، ويستحب حمد الله تعالى عند الفراغ من القراءة على توفيقه ونعمه. ومن آداب القراءة: البكاء، فإن لم يبك فليتباك، وأن يسأل الله عند آية الرحمة، ويتعوذ عند آية العذاب. ولا يقطع القراءة لحديث الناس إلا لحاجة. وأن تكون قراءته على العدول الصالحين العارفين بمعناها، وأن يتطهر ويستقبل القبلة إذا قرأ قاعداً، ويتحرى أن يعرضه كل عام من هو أقرأ منه، ويفصل كل سورة مما قبلها بالوقف أو التسمية، ويترك المباهاة، وأن يطلب به الدنيا بل ما عند الله تعالى، وينبغي أن يكون ذا سكينة ووقار وقناعة بما قسم الله له، وألا يجهر بين مصلين أو نيام، أو تالين جهراً يؤذيهم. وقراءة القرآن أول النهار بعد الفجر أفضل من قراءته آخره، لقوله تعالى: {إن قرآن الفجر كان مشهوداً} [الإسراء:78/ 17]، ويجوز تنوع الكلمة بقراءات السبع. ولا تكره القراءة مع حدث أصغر (نقض الوضوء) وبنجاسة بدن وثوب، وحال مس الزوجة والذكر. وتكره القراءة في المواضع القذرة تعظيماً للقرآن، وتكره استدامتها حال
تفسير القرآن
خروج الريح، وإنما يمسك حتى تنقضي، ويكره جهره بالقراءة مع الجنازة لأنه إخراج لها مخرج النياحة، ولا تمنع نجاسة الفم القراءة. وكره ابن عقيل القراءة في الأسواق يصيح أهلها فيها بالنداء والبيع. وتستحب القراءة في المصحف، ويستحب الاستماع لها؛ لأنه يشارك القارئ في أجره، ويكره الحديث عند القراءة بما لا فائدة فيه، لقوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} [الأعراف:7/ 204]، ولأنه إعراض عن الاستماع الذي يترتب عليه الأجر بما لا طائل تحته. ويدعو عقب ختم القرآن لفعل أنس: «كان أنس إذا ختم القرآن جمع أهله ودعا» (¬1)، ويستحب إذا فرغ من الختمة أن يشرع في أخرى، لحديث أنس: «خير الأعمال: الحل والرحلة، قيل: وما هما؟ قال: افتتاح القرآن وختمه». ويسن أن يكبر فقط، فلا يستحب التهليل والتحميد لختمه آخر كل سورة من آخر الضحى إلى آخره، لأنه روي عن أبي بن كعب أنه قرأ على النبي صلّى الله عليه وسلم فأمره بذلك (¬2)، ويكرر سورة الصمد، ولا يقرأ الفاتحة وخمس آيات من أول البقرة عقب الختم؛ لأنه لم يثبت فيه أثر. ويستحب الإكثار من التلاوة في الأماكن الفاضلة كمكة لمن دخلها من غير أهلها، اغتناماً للزمان والمكان. ويجوز تفسير القرآن بمقتضى اللغة العربية؛ لأنه عربي، ولقوله تعالى: {لتبين للناس ما نزّل إليهم} [النحل:16/ 44]، وندد الله بالأعراب فقال: {وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله} [التوبة:9/ 97] أي الأحكام. ¬
تفسير القرآن: ولا يجوز تفسير القرآن بالرأي، من غير لغة ولا نقل، فمن قال في القرآن أي فسره برأيه أو بما لا يعلم فليتبوأ مقعده (¬1) من النار، وأخطأ ولو أصاب، لقول ابن عباس مرفوعاً: «من قال في القرآن برأيه، أو بما لا يعلم، فليتبوأ مقعده من النار» (¬2)، وعن جندب مرفوعاً: «من قال في القرآن برأيه، فأصاب فقد أخطأ» (¬3)، ويلزم الرجوع إلى تفسير الصحابي؛ لأن الصحابة شاهدوا التنزيل، وحضروا التأويل، فهو أمارة ظاهرة، ولا يلزم الرجوع إلى تفسير التابعي؛ لأن قوله ليس بحجة على المشهور. ولا يجوز أن يجعل القرآن بدلاً من الكلام، مثل أن يرى رجلاً جاء في وقته، فيقول: {ثم جئت على قدر يا موسى} [طه:40/ 20]. وذكر المالكية (¬4): أنه يكره الاجتماع على قراءة سورة مثل سورة «يس» كما يكره بالاتفاق الجهر بالقراءة في المسجد لما فيه من التشويش على الآخرين، ولمظنة الرياء. ¬
الفصل التاسع: أنواع خاصة من السجود وقضاء الفوائت
الفَصْلُ التَّاسِع: أَنواعٌ خاصَّة من السّجود وقضاء الفوائت وفيه مبحثان: المبحث الأول ـ أنواع خاصة من السجود (سجود السهو، وسجدة التلاوة، وسجدة الشكر): هنا سجدات ثلاث ليست من صلب الصلاة هي: سجود السهو والتلاوة والشكر. المطلب الأول ـ سجود السهو: حكمه، أسبابه، محله وصفته: السهو في الشيء: تركه من غير علم، والسهو عن الشيء: تركه مع العلم به. والفرق بين الناسي والساهي: أن الناسي إذا ذكرته تذكر، بخلاف الساهي. أولاً ـ حكم سجود السهو: لا مرية في مشروعية سجود السهو، قال الإمام أحمد: نحفظ عن النبي صلّى الله عليه وسلم خمسة أشياء: سلم من اثنتين فسجد، سلم من ثلاث فسجد، وفي الزيادة،
والنقصان، وقام من اثنتين ولم يتشهد. وقال الخطابي: المعتمد عليه عند أهل العلم: هذه الأحاديث الخمسة: يعني أحاديث ابن مسعود، وأبي سعيد، وأبي هريرة، وابن بُحينة، وعمران بن حصين. أما حديث أبي سعيد الخدري فهو كما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر كم صلى ثلاثاً، أم أربعاً، فلْيطْرح الشك، وليَبْن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يُسلِّم، فإن كان صلى خمساً شفَعْن له صلاته، وإن كان صلى إتماماً لأربع كانتا ترغيماً للشيطان» (¬1). وشرع سجود السهو جبراً لنقص الصلاة، تفادياً عن إعادتها، بسبب ترك أمر غير أساسي فيها أو زيادة شيء فيها. ولا يشرع سجود السهو في حالة العمد، لما رواه الطبراني عن عائشة: «من سها قبل التمام، فليسجد سجدتي السهو قبل أن يسلم»، فعلق السجود على السهو؛ ولأنه يشرع جبراناً للنقص أو الزيادة، والعامد لا يعذر، فلا ينجبر خلل صلاته بسجوده، بخلاف الساهي. وسجود السهو واجب على الصحيح عند الحنفية، سنة في الجملة في المذاهب الأخرى (¬2). قال الحنفية: يجب سجود السهو على الصحيح، يأثم المصلي بتركه، ولا تبطل صلاته؛ لأنه ضمان فائت، وهو لا يكون إلا واجباً، وهو يرفع الواجب من قراءة التشهد والسلام، ولا يرفع القعدة لأنها ركن. ¬
وإنما يجب على الإمام والمنفرد، أما المأموم (المقتدي) إذا سها في صلاته، فلا يجب عليه سجود السهو (¬1)، فإن حصل السهو من إمامه، وجب عليه أن يتابعه، وإن كان مدركاً أو مسبوقاً في حالة الاقتداء (¬2)، وإن لم يسجد الإمام سقط عن المأموم؛ لأن متابعته لازمة، لكن المسبوق يتابع في السجود دون السلام. ووجوب سجود السهو إذا كان الوقت (أو الحالة) صالحاً للصلاة، فلو طلعت الشمس بعد السلام في صلاة الفجر، أو احمرت الشمس في صلاة العصر، سقط عنه السهو؛ لأن السهو جبر للنقص المتمكن كالقضاء، ولا يقضى الناقص. وإذا فعل فعلاً يمنعه من البناء على صلاته: بأن تكلم أو قهقه، أو أحدث متعمداً أو خرج عن المسجد أو صرف وجهه عن القبلة وهو ذاكر له، سقط عنه السهو ضرورة، لأنه فات محله وهو تحريمة الصلاة. والأولى ترك سجود السهو في الجمعة والعيدين إذا حضر فيهما جمع كبير، لئلا يشتبه الأمر على المصلين. وإذا سها في سجود السهو فلا سجود عليه. ودليل وجوب سجود السهو: حديث ابن مسعود: «وإذا شك أحدكم في صلاته، فليتحر الصواب، فليتم عليه، ثم ليسلم، ثم ليسجد سجدتين» (¬3). وحديث ثوبان: «لكل سهو سجدتان بعدما يسلم» (¬4)، فيجب تحصيلهما تصديقاً للنبي صلّى الله عليه وسلم في خبره، ولمواظبة النبي صلّى الله عليه وسلم وصحابته عليه، والمواظبة دليل الوجوب، ¬
ولأنه شرع جبراً لنقصان العبادة، فكان واجباً كدماء الجبر في الحج، تحقيقاً لكمال أداء العبادة. وقال المالكية: سجود السهو سنة مؤكدة للإمام والمنفرد. أما المأموم حال القدوة فلا سجود عليه بزيادة أو نقص لسنة مؤكدة أو سنتين خفيفتين؛ لأن الإمام يتحمله عنه. فلو سها فيما يقضيه بعد سلام الإمام، سجد لنفسه. وأما المسبوق الذي أدرك ركعة مع إمامه، فيسجد مع إمامه السجود القَبْلي المترتب على الإمام، قبل قضاء ما عليه، إن سجد الإمام، وإن لم يسجد الإمام، وتركه، سجد المأموم لنفسه، قبل قضاء ما عليه، وأخَّر السجود البَعْدي الذي ترتب على إمامه، ويسجده بعد سلامه، فإن قدمه بطلت صلاته. وقال الشافعية: سجود السهو سنة للإمام والمنفرد، أما المأموم فلا يسجد لسهو نفسه خلف إمامه المتطهر، ويتحمل الإمام عنه سهوه في حال قدوته، كما يتحمل عنه القنوت وغيره، أما المحدث فلا يتحمل عنه، ولا يلحقه سهوه، إذ لا قدوة في الحقيقة. ويجب سجود السهو في حالة واحدة: وهي حالة متابعة المقتدي لإمامه ولو كان مسبوقاً، فإن سجد لسهو وجب أن يسجد تبعاً لإمامه؛ لأن المتابعة لازمة، فإن لم يسجد بطلت صلاته، ووجب عليه إعادتها إن لم يكن قد نوى المفارقة، إلا إن علم المأموم خطأ إمامه في السجود للسهو، فلا يتابعه. ولو اقتدى مسبوق بمن سها بعد اقتدائه أو قبله في الأصح، فالصحيح أنه يسجد معه، ويستحب أن يسجد أيضاً في آخر صلاته، لأنه محل السهو الذي لحقه. وإذا ترك الإمام سجود السهو، لم يجب على المأموم أن يسجد، بل يندب.
ولو سها إمام الجمعة وسجدوا، فبان فوتها، أتموا ظهراً وسجدوا ثانياً آخر الصلاة؛ لأنه تبين أن السجود الأول ليس في آخر الصلاة. ولو ظن المصلي أو اعتقد سهواً، فسجد، فبان عدم السهو، سجد في الأصح، لأنه زاد سجدتين سهواً. وضابط هذا: أن السهو في سجود السهو لايقتضي السجود، والسهو به يقتضيه. وقال الحنابلة: سجود السهو واجب، وقد يكون مندوباً، وقد يصبح مباحاً. ويجب سجود السهو لما يأتي: أـ لكل ما يبطل عمده في الصلاة بالزيادة أو النقص كترك ركن فعلي، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر به في حديث أبي سعيد وابن مسعود، وقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي». ب ـ لترك كل واجب سهواً كترك التسبيح في الركوع أو السجود. جـ ـ للشك في الصلاة في بعض صوره كالشك في ترك ركن أو في عدد الركعات. د ـ لمن لحن لحناً يغير المعنى، سهواً أو جهلاً. ويندب سجود السهو: إن أتى بقول مشروع في غير موضعه غير سلام سهواً أوعمداً كالقراءة أو القعود، وكالتشهد في القيام، وكقراءة سورة في الركعتين الأخريين. ويباح سجود السهو لترك سنة من سنن الصلاة. هذا التفصيل بالنسبة للإمام والمنفرد، أما المأموم فيجب عليه متابعة إمامه في السجود ولو كان مباحاً، فإن لم يتابعه بطلت صلاته. وعلى المسبوق أيضاً متابعة
ثانيا ـ أسباب سجود السهو
إمامه في السجود، وإن كان سبب السجود قبل أن يدركه، وإن سجد المسبوق إحدى سجدتي السهو مع إمامه، يأتي بالسجدة الثانية من سجدتي السهو إذا سلم إمامه، ليوالي بين السجدتين. ثانياً ـ أسباب سجود السهو: اختلف الفقهاء في تعداد أسباب سجود السهو، يحسن بيانها في كل مذهب. مذهب الحنفية: يسجد للسهو بترك شيء عمداً أو سهواً، أو زيادة شيء سهواً، أو تغيير محله سهواً، وذلك في الأحوال التالية: 1ً - لا يسجد للسهو في العمد إلا في ثلاث: ترك القعود الأول أو تأخيره سجدة من الركعة الأولى إلى آخر الصلاة، أو تفكره عمداً حتى شغله عن مقدار ركن. 2ً - يسجد للسهو بترك واجب من واجبات الصلاة سهواً إما بتقديم أو تأخير أو زيادة أو نقص، وهي أحد عشر واجباً، منها ستة واجبات أصلية، وهي مايلي: الأول - ترك قراءة الفاتحة أو أكثرها في الركعتين الأوليين من الفرض. الثاني - ترك سورة أو ثلاث آيات قصار أو آية طويلة بعد الفاتحة في الركعتين الأوليين من الفريضة. الثالث - مخالفة نظام الجهر والإسرار: فإن جهر في الصلاة السرية نهاراً وهي الظهر والعصر، وخافت في الصلاة الجهرية ليلاً وهي الفجر والمغرب والعشاء، سجد للسهو.
الرابع ـ ترك القعدة الأولى للتشهد الأول في صلاة ثلاثية أو رباعية. الخامس ـ ترك التشهد في القعدة الأخيرة. السادس ـ عدم مراعاة الترتيب في فعل مكرر في ركعة واحدة، وهو السجدة الثانية في كل ركعة، فلو سجد سجدة واحدة سهواً، ثم قام إلى الركعة التالية، فأداها بسجدتيها، ثم تذكر السجدة المتروكة في آخر صلاته، فسجدها، فيجب عليه سجود السهو بترك الترتيب؛ لأنه ترك الواجب الأصلي ساهياً، فوجب سجود السهو. أما عدم رعاية الترتيب فيما لا يتكرر، كأن أحرم فركع ثم رفع ثم قرأ الفاتحة والسورة، فيوجب عليه إعادة الركوع، ويسجد للسهو. وكذلك ترك سجدة التلاوة عن موضعها، يوجب سجود السهو. وكل تأخير أو تغيير في محل فرض، كالقعود محل القيام وعكسه يوجب سجود السهو. السابع ـ ترك الطمأنينة الواجبة في الركوع والسجود، فمن تركها ساهياً وجب عليه سجود السهو على الصحيح. الثامن ـ تغيير محل القراءة في الفرض: بأن قرأ الفاتحة بعد السورة، أو قرأ السورة في الركعتين الأخريين من الرباعية، أو في الثانية والثالثة فقط، وجب عليه سجود السهو. التاسع ـ ترك قنوت الوتر: ويتحقق تركه بالركوع قبل الإتيان به، فمن تركه سجد للسهو. العاشر ـ ترك تكبير القنوت. الحادي عشر ـ ترك تكبيرات العيدين أو بعضها، أو تكبيرة ركوع الركعة الثانية من صلاة العيد، فإنها واجبة، بخلاف التكبيرة الأولى.
العود إلى ما سها عنه
3ً - زيادة فعل في الصلاة ليس من جنسها وليس منها؛ كأن ركع ركوعين، فإنه يسجد للسهو. العود إلى ما سها عنه: من سها عن القعدة الأولى، ثم تذكر، وهو إلى حال القعود أقرب، عاد، فجلس وتشهد، وإن كان إلى حال القيام أقرب لم يعد، ويسجد للسهو. ومن سها عن القعدة الأخيرة، فقام إلى الخامسة، رجع إلى القعدة ما لم يسجد وألغى الخامسة، ويسجد للسهو. فإن قيد الخامسة بسجدة بطل فرضه، وتحولت صلاته نفلاً عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وكان عليه أن يضم ركعة سادسة ندباً. وإن قعد في الرابعة قدر التشهد، ثم قام ولم يسلّم يظنها القعدة الأولى، عاد إلى القعود ما لم يسجد في الخامسة، ويسلم، وإن قيد الخامسة بسجدة ضم إليها ركعة أخرى استحباباً، وقد تمت صلاته لوجود الجلوس الأخير في محله، والركعتان الزائدتان: له نافلة. الشك في الصلاة: إذا سها في صلاته، فلم يدر أثلاثاً صلى أم أربعاً؟ فإن كان ذلك أول ما سها (أي أن السهو لم يصر عادة له، لا أنه لم يسه في عمره قط)، استقبل الصلاة، وبطلت، أي استأنفها وأعادها، والسلام قاعداً أولى، لحديث «إذا شك أحدكم في صلاته، أنه كم صلى، فليستقبل الصلاة» (¬1)، وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عمر، قال في الذي لا يدري كم صلى، أثلاثاً، أو أربعاً؟ قال: يعيد حتى يحفظ، ولأنه لو استأنف أدى الفرض بيقين كاملاً، ولو بنى على الأقل ما أداه كاملاً. وإن حدث الشك المذكور بعد السلام، فلا إعادة عليه، كما لا إعادة عليه إن شك بعد قعوده قدر التشهد قبل السلام. فإن كان الشك يعرض له كثيراً، بنى على غالب ظنه، إذا كان له ظن يرجح ¬
مذهب المالكية
أحد الطرفين؛ لأن في استئناف الصلاة مع كثرة عروضه حرجاً، ولقوله عليه السلام: «من شك في صلاته، فليتحر الصواب» (¬1). وإن لم يكن له ظن أو رأي، أخذ بالأقل أي بنى على اليقين؛ لأنه المتيقن، ويقعد في كل موضع ظنه موضع قعوده، لئلا يصير تاركاً فرض القعود أو واجبه مع تيسير الوصول إليه، فإذا وقع الشك في صلاة رباعية أن الركعة هي الأولى أو الثانية عمل بالتحري، فإن لم يقع تحريه على شيء بنى على الأقل، فيجعلها أولى، ثم يقعد لجواز أنها الركعة الثانية، والقعدة فيها واجبة، ثم يقوم ويصلي ركعة أخرى ويقعد. ودليل الأخذ بالأقل حديث أبي سعيد الخدري: «إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر: أثلاثاً صلى أم أربعاً، فليلغ الشك، وليبن على الأقل» (¬2). مذهب المالكية: يسجد للسهو بأسباب ثلاثة: نقص فقط، وزيادة فقط، ونقص وزيادة. أما النقص: فهو ترك سنة مؤكدة داخلة في الصلاة سهواً أو عمداً، كالسورة إذا تركها عن محلها سهواً، أو ترك سنتين خفيفتين فأكثر كتكبيرتين من تكبيرات الصلاة سوى تكبيرة الإحرام، أو ترك تسميعتين أو تكبيرة وتسميعة. ومن أمثلة ترك سنة أيضاً: ترك جهر بفاتحة فقط ولو مرة، أو بسورة فقط في الركعتين بفرض كالصبح، لا نفل كالوتر والعيدين، مع اقتصار على حركة اللسان الذي هو أدنى السر، وترك تشهد ولو مرة لأنه سنة خفيفة. ويسجد للنقصان قبل السلام. ¬
أما الزيادة
فإن نقص ركناً عمداً بطلت صلاته، وإن نقصه سهواً أجبره ما لم يفت محله، فإن فات ألغى الركعة وقضاها. وأما الزيادة: فهي زيادة فعل غير كثير (¬1) ليس من جنس الصلاة، أو من جنسها. مثال الأول: أكل خفيف أو كلام خفيف سهواً. ومثال الثاني: زيادة ركن فعلي من أركان الصلاة كالركوع والسجود، أو زيادة بعض من الصلاة كركعة أو ركعتين، أو أن يسلم من اثنتين. ويسجد للزيادة بعد السلام. أما زيادة القول سهواً: فإن كان من جنس الصلاة فمغتفر، وإن كان من غيرها سجد له. وأما الزيادة والنقص معا ً: فهو نقص سنة ولو غير مؤكدة، وزيادة ما تقدم في السبب الثاني، كأن ترك الجهر بالسورة وزاد ركعة في الصلاة سهواً، فقد اجتمع له نقص وزيادة. ويسجد للزيادة والنقصان قبل السلام، ترجيحاً لجانب النقص على الزيادة. العود لما سها عنه: من قام إلى ركعة زائدة في الفريضة، رجع متى ذكر، وسجد بعد السلام، وكذلك يسجد إن لم يذكر حتى سلم. أما المأموم: فإن اتبع عالماً عامداً بالزيادة، بطلت صلاته. وإن اتبعه ساهياً أو شاكاً، صحت صلاته. ومن اتبعه جاهلاً أو متأولاً ففيه قولان. ومن لم يتبعه وجلس، صحت صلاته. ومن قام إلى ثالثة في النافلة: فإن تذكر قبل الركوع، رجع وسجد بعد السلام. وإن تذكر بعد الرفع من الركوع، أضاف إليها ركعة وسلَّم من أربع، وسجد بعد السلام لزيادة الركعتين. ¬
مذهب الشافعية
ومن ترك الجلسة الوسطى: فإن ذكر قبل أن يفارق الأرض بيديه أمر بالرجوع إلى الجلوس، فإن رجع فلا سجود عليه في المشهور، لخفته، وإن لم يرجع سجد. وإن ذكر بعد مفارقته الأرض بيديه، لم يرجع على المشهور. وإن ذكر بعد أن استقل قائماً، لم يرجع وسجد للسهو، فإن رجع فقد أساء، ولا تبطل صلاته على المشهور، أي خلافاً في هذا للحنفية؛ لأن ما قارب الشيء يعطى حكمه عندهم. ومن شك في صلاته، هل صلى ركعة أو اثنتين، فإنه يبني على الأقل، ويأتي بما شك فيه، ويسجد بعد السلام. مذهب الشافعية: يسجد للسهو عند ترك مأمور به في الصلاة، أوفعل منهي عنه فيها. والسنة إن تركها المصلي لا يعود إليها بعد التلبس بالفرض، فمن ترك التشهد الأول مثلاً، فتذكره بعد قيامه مستوياً، لم يعد له، فإن عاد إليه عالماً بتحريمه عامداً، بطلت صلاته، وإن عاد إليه ناسياً لم تبطل، وكذا إن عاد إليه جاهلاً في الأصح، ويسجد للسهو عنها. ودليل عدم العود للتشهد: حديث ابن بحينة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم صلى، فقام في الركعتين فسبَّحوا به، فمضى، فلما فرغ من صلاته، سجد سجدتين ثم سلم» (¬1). والذي يقتضي سجود السهو أمران: زيادة ونقصان، وتنحصر أسباب سجود السهو في ستة أمور: تيقن ترك بعض من الأبعاض، تيقن فعل منهي عنه سهواً مما يبطل عمده فقط، الشك في ترك بعض معين، الشك في فعل منهي عنه مع احتمال الزيادة، نقل مطلوب قولي إلى غير محله بنيته، الاقتداء بمن يترك أحد الأبعاض. ¬
الأول ـ ترك الإمام أو المنفرد عمدا أو سهوا سنة مؤكدة
الأول ـ ترك الإمام أو المنفرد عمداً أو سهواً سنة مؤكدة: وهي التي تسمى بأبعاض الصلاة، وهي ستة: وهي التشهد الأول، وقعوده، والقنوت في الصبح وفي آخر الوتر في النصف الثاني من رمضان، والقيام للقنوت، والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم في التشهد الأول، والصلاة على الآل في التشهد الأخير (¬1). الثاني ـ نقل ركن قولي لغير محله: كأن يعيد الفاتحة في الجلوس، وأن يسلم في غير موضع السلام ناسياً، وكذلك نقل السنة القولية كأن يقرأ السورة في غير موضع القراءة، فيسجد للسهو؛ لأنه قول في غير موضعه، فصار كالسلام. ويستثنى من ذلك قراءة السورة قبل الفاتحة، فلا يسجد لها. الثالث ـ فعل شيء سهواً، يبطل عمده فقط: كتطويل الركن القصير في الأصح، بأن يطيل الاعتدال أو الجلوس بين السجدتين. ومثله الكلام القليل سهواً، بدليل أن النبي صلّى الله عليه وسلم سلَّم من اثنتين وكلم ذا اليدين، وأتم صلاه، وسجد سجدتين (¬2). وأما ما يبطل عمده وسهوه ككلام كثير وأكل، فيبطل الصلاة ولا يسجد له في الأصح. ¬
الرابع ـ الشك في الزيادة
وأما ما لا يبطل عمده ولا سهوه كالتفات بالعنق ومشي خطوتين، فلا يسجد لسهوه ولا لعمده. الرابع ـ الشك في الزيادة: فلو شك أصلَّى ثلاثاً أم أربعاً، أتى بركعة وسجد، والأصح أنه يسجد، وإن زال شكه قبل سلامه. وكذلك يسجد لما يصليه متردداً، واحتمل كونه زائداً، للتردد في زيادته، وإن زال شكه قبل سلامه. ولو شك بعد السلام في ترك فرض لم يؤثر على المشهور. ودليل السجود للشك في صلاته: حديث عبد الرحمن بن عوف قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر أواحدةً صلى أم ثِنْتين، فليجعلها واحدة، وإذا لم يدر ثنتين صلى أم ثلاثاً، فليجعلها ثنتين، وإذا لم يدر ثلاثاً صلى أم أربعاً فليجعلها ثلاثاً، ثم يسجد إذا فرغ من صلاته وهوجالس، قبل أن يسلم سجدتين» (¬1) وعليه إذا شك المصلي في عدد ما أتى به من الركعات، كمن شك هل صلى ثلاثاً أو أربعاً، بنى على اليقين وهو الأقل كالثلاثة في هذا المثال وأتى بركعة، ويسجد للسهو، ولا ينفعه غلبة الظن أنه صلى أربعاً ولا يعمل بقول غيره له: إنه صلى أربعاً، ولوبلغ ذلك القائل عدد التواتر. الخامس ـ الشك في ترك بعض معين من أبعاض الصلاة: كأن شك في ترك القنوت لغير النازلة، أو ترك بعض مبهم (غير معين) كأن لم يدر: هل ترك القنوت أو الصلاة على النبي في القنوت. السادس ـ الاقتداء بمن في صلاته خلل: ولوفي اعتقاد المأموم، كالاقتداء بمن ¬
ترك القنوت في الصبح، أو بمن يقنت قبل الركوع، أو بمن يترك الصلاة على النبي في التشهد الأول، فيسجد بعد سلام الإمام وقبل سلام نفسه. والخلاصة: الزيادة الموجبة للسهو نوعان: قول وفعل، فالقول كالسلام في غير موضعه ناسياً، أوالكلام ناسياً. والفعل: كأن يزيد سهواً في صلاته ركعة أو ركوعاً أو سجوداً أو قياماً أو قعوداً، أويطيل القيام بنية القنوت في غير موضع القنوت، أو يقعد للتشهد في غير موضع القعود على وجه السهو، فيسجد للسهو، بدليل ما روى ابن مسعود رضي الله عنه: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم صلى الظهر خمساً، فقيل له: أزيدَ في الصلاة؟ فقال: وما ذلك؟ فقالوا: صليت خمساً، فسجد سجدتين بعدما سلم» (¬1). وأما النقصان: فهو أن يترك سنة مقصودة، وهو أمران: الأول: أن يترك التشهد الأول ناسياً فيسجد للسهو، لحديث ابن بحينة المتقدم. والثاني: أن يترك القنوت ساهياً، فيسجد للسهو؛ لأنه سنة مقصودة في محلها، فتعلق السجود بتركها، كالتشهد الأول. وإن ترك سنة غير مقصودة كالتكبيرات والتسبيحات، والجهر والإسرار والتورك والافتراش، وما أشبهها، لم يسجد؛ لأنه ليس بمقصود في موضعه، فلم يتعلق بتركه الجبران. ويلاحظ أن التشهد الأخير إلى قوله: «وأن محمداً رسول الله، أوعبده ورسوله، أو رسوله» هو الواجب، وهذا هو السنة مع الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم في التشهد الأول، أما الصلاة على الآل في التشهد الأخير فهي سنة، وفي التشهد ¬
مذهب الحنابلة
الأول خلاف الأولى على المعتمد، وقيل: مكروهة، فلا يسجد للسهو لترك ذلك، ولا لفعله (¬1). مذهب الحنابلة: أسباب السهو ثلاثة: زيادة، ونقص، وشك في بعض صوره (¬2)، كالشافعية، إذا حصل ذلك سهواً، فإن حصل عمداً تبطل الصلاة به إن كان فعلياً، ولا تبطل إن كان قولياً في غير محله. ولا سجود للسهو في صلاة جنازة، وسجود تلاوة، وشكر. 1 - أما الزيادة في الصلاة: فمثل أن يزيد المصلي سهواً فعلاً من جنس الصلاة، قياماً أو قعوداً ولو قدر جلسة الاستراحة في غير موضع الاستراحة، أو ركوعاً، أو سجوداً، أو أن يقرأ الفاتحة مع التشهد أو يقرأ التشهد مع الفاتحة، فيسجد للسهو وجوباً في الزيادة الفعلية وندباً في الزيادة القولية، لقوله صلّى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود: «فإذا زاد الرجل أو نقص في صلاته، فليسجد سجدتين» (¬3)، ولأن الزيادة سهو، فتدخل في قول الصحابي: «سها النبي صلّى الله عليه وسلم فسجد» بل هي نقص في المعنى، فشرع لها السجود، لينجبر النقص. ومتى ذكر من زاد في صلاته، عاد إلى ترتيب الصلاة بغير تكبير، لإلغاء الزيادة، وعدم الاعتداد بها. وإن زاد ركعة كثالثة في صبح أورابعة في مغرب أو خامسة في ظهر أو عصر أو عشاء، قطع تلك الركعة، بأن يجلس في الحال متى ذكر بغير تكبير، وبنى على فعله قبل تلك الزيادة، ولا يتشهد، إن كان تشهد، ثم سجد للسهو، وسلم، ولا تحتسب الركعة الزائدة من صلاة مسبوق. ¬
2 - وأما النقص في الصلاة
وإن كان الذي زاد إماماً أو منفرداً، فنبهه ثقتان فأكثر ـ ويلزمهم تنبيه الإمام على ما يجب السجود لسهوه، لارتباط صلاتهم بصلاته، بحيث تبطل ببطلانها ـ لزمه الرجوع، سواء نبهوه لزيادة أو نقص، ولو ظن خطأهما؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم رجع إلى قول أبي بكر وعمرفي قصة ذي اليدين. والمرأة كالرجل في تنبيه الإمام. فإن لم يرجع إمام إلى قول الثقتين المنبهين له: أـ فإن كان عدم رجوعه لجبران نقص، بأن قام قبل أن يتشهد التشهد الأول، لم تبطل صلاته، لحديث المغيرة بن شعبة: «أنه نهض في الركعتين، فسبَّح به من خلفه، فمضى، فلما أتم صلاته وسلم، سجد سجدتي السهو، فلما انصرف، قال: رأيت النبي صلّى الله عليه وسلم يصنع كما صنعت» (¬1). ب ـ وإن لم يرجع عمداً لغير جبران نقص: بطلت صلاته وصلاة المأموم. وإن كان عدم رجوع الإمام إلى قول الثقتين لغير جبران نقص سهواً، بطلت صلاته وصلاةالمأموم الذي اتبعه عالماً ببطلان صلاته ذاكراً؛ لأنه اقتدى بمن يعلم بطلان صلاته، كما لو اقتدى بمن يعلم حدثه. ولا تبطل صلاة المأموم الذي اتبعه جاهلاً أو ناسياً؛ لأن الصحابة تابعوا النبي صلّى الله عليه وسلم في الخامسة حيث لم يعلموا، أو توهموا النسخ، ولم يؤمروا بالإعادة. ووجبت مفارقة الإمام القائم إلى زائدة على من علم ذلك، لاعتقاده خطأه، ويتم المفارق صلاته لنفسه للعذر. 2 - وأما النقص في الصلاة: فمثل ترك الركوع أو السجود أو قراءة الفاتحة ¬
3 - وأما الشك في الصلاة الذي يقتضي سجود السهو في بعض صوره
ونحو ذلك سهواً، ويجب عليه تداركه والإتيان به إذا تذكره، ويجب أن يسجد للسهو في آخر صلاته. وإن نسي التشهد الأول، لزمه الرجوع والإتيان به جالساً، ما لم ينتصب قائماً، وهذا متفق عليه، لما روى المغيرة بن شعبة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا قام أحدكم من الركعتين، فلم يستتم قائماً، فليجلس ويسجد سجدتي السهو» (¬1). ولأنه أخل بواجب وذكره قبل الشروع في ركن، فلزمه الإتيان به، كما لو لم تفارق ركبتاه الأرض. ويلزم المأمومين متابعته، ولو بعد قيامهم وشروعهم في القراءة، لحديث «إنما جعل الإمام ليؤتم به» (¬2). وإن استتم قائماً، ولم يقرأ، فعدم رجوعه أولى، لحديث المغيرة السابق، ويتابعه المأموم، ويسقط عنه التشهد. وإن قرأ ثم ذكر التشهد، لم يجز له الرجوع، لحديث المغيرة، ولأنه شرع في ركن مقصود، كما لو شرع في الركوع، وتبطل صلاة الإمام إذا ركع بعد شروعه فيها، إلا أن يكون جاهلاً أو ناسياً. وعليه سجود السهو لذلك، لحديث المغيرة، ولقوله صلّى الله عليه وسلم سابقاً: «إذا سها أحدكم فليسجد سجدتين». وكذلك حكم التسبيح في الركوع والسجود، ودعاء (رب اغفر لي) بين السجدتين، وكل واجب تركه سهواً، ثم ذكره، فيرجع إلى تسبيح الركوع قبل الاعتدال لا بعده. 3 - وأما الشك في الصلاة الذي يقتضي سجود السهو في بعض صوره: فهو مثل أن يشك في ترك ركن من الأركان، أو في عدد الركعات، فيبني على ¬
قصة ذي اليدين فيمن سلم من نقصان، وأن كلام الناسي لا يبطل الصلاة
المتيقن، ويأتي بما شك في فعله، ويتم صلاته، ويسجد للسهو وجوباً، لحديث أبي سعيد السابق أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر: كم صلى؟ وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم» (¬1). ولا يسجد للسهوحالة الشك في ترك واجب كتسبيح الركوع أوالسجود، وإنما يسجد لترك الواجب سهواً. كما لا يسجد للسهو إذا أتم الركعات، وشك وهو في التشهد في زيادة الركعة الأخيرة؛ لأن الأصل عدم الزيادة. أما إن شك في زيادة الركعة الأخيرة قبل التشهد، فإنه يجب عليه سجود السهو. ومثل ذلك الشك في زيادة سجدة، علي هذا التفصيل. قصة ذي اليدين فيمن سلم من نقصان، وأن كلام الناسي لا يبطل الصلاة: استدل جمهور العلماء (¬2) من السلف والخلف بقصة ذي اليدين على أن نية الخروج من الصلاة وقطعها إذا كانت بناء على ظن التمام، لا يوجب بطلانها، ولو سلم التسليمتين، وأن كلام الناسي لا يبطل الصلاة، وكذا كلام من ظن التمام. والقصة هي ما يأتي: «عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: صلى النبي صلّى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العَشِي (¬3) ركعتين، ثم سلم، ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد، فوضع يده عليه وفي القوم ¬
اجتماع سهوين أو أكثر
أبو بكر وعمر، فهابا أن يكلماه، وخرج سَرْعانُ الناس (¬1) فقالوا: أقصرت الصلاة؟ ورجل يدعوه النبي صلّى الله عليه وسلم ذا اليدين (¬2)، فقال: يا رسول الله، أنسيت أم قصرت الصلاة؟ فقال: لم أنس ولم تُقْصر (¬3)، فقال: بلى، قد نسيت، فصلى ركعتين، ثم سلم، ثم كبر ثم سجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه فكبر، ثم وضع رأسه فكبر، فسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبر» (¬4). اجتماع سهوين أو أكثر: لاخلاف بين العلماء في أنه إذا سها المصلي سهوين أو أكثر، كفاه للجميع سجدتان؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم سلم من اثنتين، وكلم ذا اليدين، واقتصر على سجدتين، وللحديث السابق: «إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين» وهذا يتناول السهو في موضعين. النافلة كالفرض: حكم النافلة حكم الفرض في سجود السهو، في قول جمهور أهل العلم، لعموم الحديث السابق: «إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين»، ولأنها صلاة ذات ركوع وسجود، فيسجد لسهوها كالفريضة. تنبيه الإمام على السهو: قال مالك وأبو حنيفة: من سها يسبح له، وقال الشافعي وأحمد: التسبيح للرجال والتصفيق للنساء، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء» (¬5) وهذا يرجح الرأي الثاني. ¬
ثالثا ـ محل سجود السهو وصفته
ثالثاً ـ محل سجود السهو وصفته: سجود السهو عند الحنفية بعد السلام، وعند الشافعية على العكس قبل السلام، وعند المالكية قد يكون قبل السلام وقد يكون بعده، ويتخير المصلي بين الأمرين لدى الحنابلة. قال الحنفية: محل سجود السهو المسنون بعد السلام مطلقاً، سواء أكان السهو بسبب زيادة أم نقصان في الصلاة، ولو سجد قبل السلام أجزأه ولا يعيده. وصفته: أن يسجد سجدتين بعد أن يسلم عن يمينه التسليمة الأولى فقط، ثم يتشهد بعدهما وجوباً، ويأتي بالصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم والدعاء في قعدة السهو على الصحيح؛ لأن الدعاء موضعه آخر الصلاة. استدلوا على محله بعد السلام بحديث المغيرة السابق: أنه لما فرغ من صلاته سلم ثم سجد سجدتين وسلم، كما صنع رسول الله صلّى الله عليه وسلم (¬1)، وحديث ابن مسعود المتقدم: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم صلى الظهر خمساً، فقيل له: أزيدَ في الصلاة؟ فقال: وما ذلك؟ فقالوا: صليت خمساً، فسجد سجدتين بعد ما سلم» (¬2). ودليلهم على صفته: «حديث عمران بن حصين: أن النبي صلّى الله عليه وسلم صلى بهم، فسها، فسجد سجدتين، ثم تشهد ثم سلم» (¬3)، وحديث ثوبان السابق: «لكل سهو سجدتان بعد السلام» (¬4). والمذكور في هذا الموضوع هو الصحيح الراجح عند الحنفية. ¬
قال المالكية
وقال المالكية: محل السجود المسنون قبل السلام إن كان سببه النقصان، أو النقصان والزيادة معاً. وبعد السلام إن كان سببه الزيادة فقط، وينوي وجوباً للسجود البعدي، ويكبر في خفضه ورفعه، ويسجد سجدتين جالساً بينهما، ويتشهد استناناً، ولا يدعو ولا يصلي على النبي صلّى الله عليه وسلم خلافاً للحنفية، ثم يسلم وجوباً، فتكون واجباته خمسة: وهي النية، والسجدة الأولى، والثانية، والجلوس بينهما، والسلام، لكن السلام واجب غير شرط، وأما التكبير والتشهد بعده فسنة. وإن أخر السجود القبلي عمداً كره ولا تبطل الصلاة، وإن قدم السجود البعدي على السلام أجزأه على المذهب، وأثم أي يحرم تقديمه عمداً، وتصح الصلاة، فإن لم يتعمد التأخير أو التقديم لم يكره ولم يحرم. وقال الشافعية في الجديد: محل سجود السهو بين التشهد والسلام، فإن سلم عمداً فات في الأصح، وإن سلم سهواً وطال الفصل فات أيضاً، في الجديد، وإن لم يطل الفصل، فلا يفوت، ويسجد، وإذا سجد صار عائداً إلى الصلاة في الأصح. ولو سها إمام الجمعة وسجدوا فبان فوت وقتها، أتموا ظهراً وسجدوا، ولو ظن سهواً فسجد فبان عدمه، سجد في الأصح. وصفته: سجدتان كسجود الصلاة في واجباته ومندوباته كوضع الجبهة والطمأنينة والتحامل والتنكيس (رفع الأسافل) والافتراش في الجلوس بينهما، والتورك بعدهما. ويحتاج لنية بقلبه، فإن نوى بلسانه بطلت صلاته. وحكى بعضهم أنه يندب أن يقول فيهما: (سبحان من لا ينام ولا يسهو) وقال بعضهم: والظاهر أنه كالذكر (التسبيح) في سجود الصلاة.
قال الحنابلة
ودليلهم على محله قبل السلام حديث أبي سعيد الخدري السابق عند مسلم وأحمد: «ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم» وحديث ابن بحينة المتقدم عند النسائي: «فلما فرغ من صلاته سجد سجدتين ثم سلم». ودليلهم على صفته: اقتصاره صلّى الله عليه وسلم على السجدتين في قصة ذي اليدين، وغيرها من الأحاديث. وقال الحنابلة (¬1): لا خلاف في جواز السجود قبل السلام وبعده، وإنما الخلاف عندهم في الأفضل والأولى، والأفضل أن يكون قبل السلام؛ لأنه إتمام للصلاة، فكان فيها كسجود صلبها، إلا في حالتين: إحداهما ـ أن يسجد لنقص ركعة فأكثر، وكان قد سلم قبل إتمام صلاته، لحديث عمران بن حصين وأبي هريرة في قصة ذي اليدين (¬2) ففي حديث عمران: «فصلى ركعة ثم سلم، ثم سجد سجدتين، ثم سلم». الثانية ـ أن يشك الإمام في شيء من صلاته، ثم يبني على غالب ظنه، فإنه يسجد للسهو بعد السلام ندباً نصاً؛ لحديث علي وابن مسعود مرفوعاً: «إذا شك أحدكم في صلاته فليتحرَّ الصواب، فليتم ما عليه، ثم ليسجد سجدتين» (¬3) وفي البخاري: (بعد التسليم). وصفته: أن يكبر للسجود والرفع منه، سواء أكان قبل السلام أم بعده، ثم يسجد سجدتين كسجود الصلاة، فإن كان السجود بعدياً يأتي بالتشهد كتشهد الصلاة قبل السلام ثم يسلم، وإن كان قبلياً لم يتشهد، ويسلِّم عقبه. ¬
المطلب الثاني ـ سجدة التلاوة
ويقول في سجود السهو ما يقول في سجود صلب الصلاة، لأنه سجود مشروع في الصلاة، فأشبه سجود صلب الصلاة. ومن ترك السجود الواجب للسهو عمداً، بطلت صلاته بترك ما محله قبل السلام؛ لأنه ترك الواجب عمداً كغيره من الواجبات، ولا تبطل بترك ما محله بعد السلام؛ لأنه جبر للعبادة خارج منفرد عنها، فلم تبطل بتركه، كجبرانات الحج. وإذا نسي سجود السهو حتى طال الفصل، لم تبطل الصلاة؛ لأنه جابر للعبادة بعدها، فلم تبطل بتركه كجبرانات الحج. وإن طال الفصل لم يسجد، وإلا سجد. المطلب الثاني ـ سجدة التلاوة: الكلام فيها في دليل مشروعيتها، وحكمها، وشروطها، مفسداتها، أسبابها وصفتها، المواضع التي تطلب فيها من القرآن، هل تتكرر السجدة بتكرر التلاوة، ما يتعلق بها من أحكام فرعية. أولاً ـ دليل مشروعية سجدة التلاوة: ذم الله تعالى تارك السجود بقوله: {وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون} [الانشقاق:21/ 84]، وثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلم في شأنها أحاديث كثيرة منها: خبر ابن عمر رضي الله عنه: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقرأ علينا السورة، فيقرأ السجدة، فيسجد ونسجد معه، حتى ما يجد أحدنا مكاناً لموضع جبهته» (¬1) وخبره أيضاً: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يَقْرأ علينا القرآن، فإذا مر بالسجدة، كبر وسجد وسجدنا معه» (¬2). ¬
ثانيا ـ حكمها الفقهي
وسجودها دليل الإيمان، وطريق الجنة، روى أبو هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: «إذا قرأ ابن آدم السجدة، فسجد، اعتزل الشيطان يبكي، يقول: ياويله، أمر ابن آدم بالسجود، فسجد، فله الجنة، وأمرت بالسجود، فعصيت، فلي النار» (¬1). ويسجد القارئ والسامع، لخبر ابن مسعود: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قرأ: «والنجم، فسجد فيها، وسجد معه الجن والإنس، إلا أمية بن خلف، فقتل يوم بدر مشركاً» (¬2). وطلب السجود في القرآن العظيم: إما أن يكون بصيغة الأمر الصريح، مثل {واسجد واقترب} [العلق:19/ 96]، وإما أن يكون حكاية عن امتثال الأنبياء، أو سائر المخلوقات، مثل قوله سبحانه: {إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خرّوا سُجَّداً وبكياً} [مريم:58/ 19]، وقوله تعالى: {ولله يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً} [الرعد:15/ 13]. ثانياً ـ حكمها الفقهي: سجدة التلاوة واجبة بالتلاوة على القارئ والسامع عند الحنفية، سنة عند بقية الفقهاء (¬3)، سواء عند الحنفية والشافعية قصد السامع سماع القرآن أو لم ¬
يقصد، أي فتطلب من القارئ والمستمع (وهو قاصد السماع) والسامع (وهو من لم يقصد السماع)، أما الحائض والنفساء، فلا تطلب منهما بالاتفاق، وأما عند المالكية والحنابلة فإن السجود يسن فقط للتالي والمستمع، دون السامع غير القاصد للسماع، فلا يستحب له. استدل الحنفية على الوجوب بحديث: «السجدة على من سمعها، وعلى من تلاها» (¬1) وهي كلمة إيجاب وهو غير مقيد بالقصد، وبقوله تعالى: {فمالهم لايؤمنون، وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون} [الانشقاق:20/ 84 - 21] ولايذم إلا على ترك واجب: ولأنه سجود يفعل في الصلاة، فكان واجباً، كسجود الصلاة. ودليل الجمهور على سنية التلاوة: ما روى زيد بن ثابت قال: «قرأت على النبي صلّى الله عليه وسلم النجم، فلم يسجد منا أحد» (¬2)، ولأنه إجماع الصحابة، وروى البخاري والأثرم عن عمر: «أنه قرأ يوم الجمعة على المنبر بسورة النحل، حتى إذا جاء السجدة نزل، فسجد، وسجد الناس، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها، حتى إذا جاءت السجدة قال: يا أيها الناس، إنما نمر بالسجود، فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه، ولم يسجد عمر» وفي لفظ: «إن الله لم يفرض علينا السجود، إلا إن نشاء» (¬3). وعلى هذا فمن سجد فحسن، ومن ترك فلا شيء عليه. أما دليل طلب السجدة من السامع: فهو حديث ابن عمر السابق، ولأنه ¬
هل تجب عند الحنفية على الفور أو على التراخي؟
سامع للسجدة، فكان عليه السجود كالمستمع، وإن كان السجود للمستمع آكد. ودليل المالكية والحنابلة على عدم مطالبة السامع بالسجدة: فعل عثمان وابن عباس وعمران، وقال عثمان: «إنما السجدة على من استمع». هل تجب عند الحنفية على الفور أو على التراخي؟ تجب سجدة خارج الصلاة على التراخي، في وقت غير معين، إذا كان التالي أو السامع أهلاً للوجوب، سواء قصد سماع القرآن أو لم يقصد، بشرط كون المسموع منه آدمياً عاقلاً يقظان، ولو جُنُباً أو حائضاً أو نفساء، أو كافراً، أو صبياً مميزاً أو سكران، فلو سمعها من طير كالببغاء أو صدى كآلات التسجيل لا تجب عليه، ولو سمعها من نائم أو مغمى عليه، أو مجنون أو غير مميز، فالأصح من الروايتين لا تجب عليه، لعدم صحة التلاوة بفقد التمييز. أما في الصلاة فتجب وجوباً مضيقاً؛ لأنها وجبت بما هو من أفعال الصلاة وهو القراءة، فالتحقت بأفعال الصلاة، وصارت جزءاً منها. فإن أنهى قراءته بآية السجدة: فإما أن يسجد بها سجوداً مستقلاً، ثم يعود للقراءة، وإما أن يضمنها في ركوعه أو سجوده، إن نواها في ركوعه، وسواء نواها أو لم ينوها في سجوده. وإذا لم ينه قراءته بآية السجدة، وتابع فقرأ بعدها ثلاث آيات فأكثر، وجب أن يسجد لها مستقلاً، غير سجود الصلاة، ويستحب أن يعود للقراءة، فيقرأ ثلاث آيات فأكثر، ثم يركع، ويتم صلاته. متابعة الإمام في السجدة وسماعها من غير المصلي: قال الحنفية: إذا تلا الإمام آية السجدة، سجدها معه المأموم، لالتزامه متابعته. وإن تلا المأموم لم يسجد الإمام ولا المأموم، لا في الصلاة ولا خارجها، لأن المقتدي محجوز عن القراءة لنفاذ تصرف الإمام عليه.
ثالثا ـ شروط سجود التلاوة
وإن سمع المصلي وهو في الصلاة آية سجدة من رجل في غير الصلاة لم يسجد لها في الصلاة، وسجدها بعد الصلاة، فإن سجدها في الصلاة لم يجزه، ولم تفسُد صلاته؛ لأن مجرد السجدة لا ينافي إحرام الصلاة. وكذلك قال غير الحنفية: يلزم متابعة الإمام في السجدة، فإن سجد الإمام فتخلف المقتدي، أو سجد المأموم دون إمامه، بطلت صلاته ولا يسجد المصلي لقراءة غيره بحال، ولا يسجد مأموم لقراءة نفسه، فإن فعل بطلت صلاته؛ لأنه زاد فيها سجوداً. ثالثاً ـ شروط سجود التلاوة: 1 ً - شرائط الوجوب: يشترط لوجوب سجدة التلاوة عند الحنفية: أهلية وجوب الصلاة من الإسلام والعقل والبلوغ، والطهارة من الحيض والنفاس، فلا تجب على الكافر والصبي والمجنون والحائض والنفساء. ولا تسن عند المالكية للمستمع إلا إن صلح القارئ للإمامة، بأن يكون ذكراً بالغاً عاقلاً، وإلا فلا سجود عليه، بل على القارئ وحده. وتسن عند الشافعية ولو كان القارئ صبياً مميزاً، والمستمع رجلاً، أو محدثاً، أو كافراً، ولا تسن لقراءة جنب وسكران؛ لأنها غير مشروعة لهما. ويشترط لسجود المستمع عند الحنابلة: أن يكون القارئ يصلح إماماً للمستمع له، أي يجوز اقتداؤه به، أي كما قال المالكية، لما روى عطاء: «أن رجلاً من الصحابة قرأ سجدة، ثم نظر إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: إنك كنت إمامنا، فلو
- شرائط الجواز أو الصحة
سجدت، سجدنا معك» (¬1)، وقال ابن مسعود لتميم بن حَذْلم وهو غلام: اقرأ، فقرأ عليه سجدة، فقال: «اسجد، فإنك إمامنا فيها» (¬2)، فلا يسجد المستمع قُدَّام القارئ، ولا عن يساره، مع خلو يمينه، ولا يسجد رجل لتلاوة امرأة وخنثى؛ لأن القارئ لا يصلح إماماً له في هذه الأحوال. ويسجد المستمع لتلاوة أمي وزمِن (مريض) وصبي؛ لأن اقتداء الرجل بالصبي يصح في النفل، وقراءة الفاتحة والقيام ليسا بواجب في النفل. 2ً - شرائط الجواز أو الصحة: يشترط لصحة سجدة التلاوة ما يشترط لصحة الصلاة: من طهارة الحدث (وهي الوضوء والغسل) وطهارة النجس (وهي طهارة البدن والثوب ومكان السجود والقيام والقعود)، وستر العورة، واستقبال القبلة والنية. وهذه شروط متفق عليها، واختلفوا فيما عداها. فقال الحنفية: لا يشترط لها التحريمة ونية تعين الوقت، كما لا يشترط لها السلام كالصلاة. وتجب آية السجدة على خطيب الجمعة والعيدين، وعلى السامعين، لكن يكره للإمام الإتيان بها فوق المنبر، فينزل ويسجد ويسجد الناس معه. وقال المالكية أيضاً: لا إحرام ولا تسليم. ويشترط في المستمع شروط ثلاثة، كما قدمنا: أولاً ـ أن يكون القارئ صالحاً للإمامة في الفريضة: بأن يكون ذكراً بالغاً ¬
الشافعية
عاقلاً مسلماً متوضئاً. فلو كان القارئ امرأة أو مجنوناً أو صبياً أو كافراً أو غير متوضئ، فلا يسجد المستمع ولا السامع، ويسجد القارئ فقط إن كان امرأة أو صبياً. ثانياً ـ ألا يقصد القارئ إسماع الناس حسن صوته: فإن كان ذلك فلا يسجد المستمع. ثالثاً ـ أن يكون قصد السامع من السماع أن يتعلم من القارئ القراءة أو أحكام التجويد من مدّ وقصر وإخفاء وإدغام ونحو ذلك. ولا سجود في صلاة الجنازة، ولا في خطبة الجمعة. وقال الشافعية: يشترط مع النية تكبيرة الإحرام على الصحيح، كماأخرجه أبو داود، لكن بإسناد ضعيف، وقياساً على الصلاة، ويشترط السلام أيضاً في الأظهر بعد القعود كالصلاة، ولا يشترط التشهد في الأصح. وتشترط شروط أخرى في المصلي وغيره: أولاً ـ أن تكون القراءة مشروعة: فإن كانت محرمة كقراءة الجنب، أو مكروهة كقراءة المصلي في حال الركوع مثلاً، فلا يسن السجود للقارئ ولا للسامع. ثانياً ـ أن تكون مقصودة: فلو صدرت من ساهٍ ونحوه كالطير وآلة التسجيل، فلا يشرع السجود. ثالثاً ـ أن يكون المقروء كل آية السجدة: فلو قرأ بعضها، لم يسجد. رابعاً ـ أن تكون قراءة آية السجدة بدلاً من قراءة الفاتحة لعجزه عنها. خامساً ـ ألا يطول الفصل بين قراءة الآية والسجود، وألا يعرض عنها: فإن
الحنابلة
طال وأعرض عنها، فلا سجود. والطول: أن يزيد على مقدار صلاة ركعتين بقراءة متوسطة. سادساً ـ أن تكون قراءة آية السجدة من شخص واحد: فلو قرأ واحد بعض الآية، وكملها آخر، فلا سجود. سابعاً ـ يشترط لها ما يشترط للصلاة من طهارة وغيرها كما بينا مما هو متفق عليه. وبناء عليه: لا يسجد السامع لقراءة النائم والجنب والسكران والساهي والطيور المعلمة. ويشترط في المصلي شرطان آخران: أولاً ـ ألا يقصد بقراءة الآية السجود، فإن قصده بطلت الصلاة، إلا قراءة سورة السجدة في صبح الجمعة، فإنها سنة، وإلا المأموم فيسجد إن سجد إمامه. وكما لا يصح قصد آية السجدة في الصلاة بقصد السجود، لا يصح قصد قراءتها في وقت الكراهة، فإن قصدها فلا يسجد لحرمتها. ثانياً ـ أن يكون هو القارئ: فإن كان القارئ غيره وسجد فلا يسجد، فإن سجد بطلت صلاته، إن كان عالماً عامداً. ولا سجود في صلاة الجنازة، ويسجد خطيب الجمعة لما يقرأ، دون المصلين، فيحرم عليهم السجود، للإعراض عن الخطبة. ويشترط للسامع سماع الآية بكاملها كالقراءة، فلا يكفي كلمة السجدة ونحوها، فلو سجد قبل الانتهاء إلى آخر السجدة، ولو بحرف واحد لم يجز. وقال الحنابلة: يزاد على الشروط المتفق عليها في المستمع شرطان كما قدمنا: أولاً ـ أن يصلح القارئ للإمامة: فلو سمع الآية من امرأة أو غير آدمي كالببغاء وآلة التسجيل لا يسن له السجود.
رابعا ـ مفسدات سجود التلاوة
ثانياً ـ أن يسجد القارئ: فإذا لم يسجد فلا يسن للمستمع. رابعاً ـ مفسدات سجود التلاوة: يبطل سجدة التلاوة كل ما يبطل الصلاة: من الحدث والعمل الكثير، والكلام والقهقهة، وعليه إعادتها. إلا عند الحنفية: لا وضوء عليه في القهقهة، ولا يفسدها محاذاة المرأة الرجل فيها، وإن نوى إمامتها، لانعدام الشركة، إذ هي مبنية على التحريمة، ولا تحريمة لهذه السجدة عندهم. وبناء عليه: يشترط بالاتفاق الكف عن مفسدات الصلاة، كالأكل ودخول وقت السجود، بأن يكون قد قرأ الآية أو سمعها. خامساً ـ أسباب سجدة التلاوة وصفتها: تتردد أسباب سجود التلاوة لآية سجدة، والسماع لها، والاستماع، كما هو موضح في المذاهب. فقال الحنفية: أسباب سجدة التلاوة ثلاثة أمور: الأول ـ التلاوة: فتجب على التالي، ولو لم يسمع نفسه كأن كان أصم. الثاني ـ سماع آية سجدة أو الاستماع إليها، والاستماع يكون بقصد دون السماع. الثالث ـ الاقتداء، فلو تلاها الإمام، وجبت على المقتدي، وإن لم يسمعها. وصفة السجود عندهم: أن يكبر للوضع، دون رفع يديه كسجدة الصلاة، ويسجد بين كفيه، واضعاً جبهته على الأرض للسجود، ثم يكبر للرفع، وكل من هاتين التكبيرتين سنة، ويرفع رأسه. ولا يقرأ التشهد، ولا يسلم، لعدم وجود التحريمة.
المالكية
ويقول في سجوده ما يقول في سجود الصلاة، على الأصح وهو: سبحان ربي الأعلى ثلاثاً. وقال المالكية: سبب سجدة التلاوة أمران فقط: التلاوة والاستماع بشرط أن يقصده، كما ذكر في شروطها. وصفتها: هي سجدة واحدة، بلا تكبير إحرام ولا سلام، بل يكبر للسجود، ثم للرفع منه استحباباً في كل منهما. ويكبر القائم من قيام ولا يجلس، والجالس من جلوس، وينزل لها الراكب، إلا إذا كان مسافراً، فيسجدها صوب سفره بالإيماء؛ لأنها نافلة. ويسبح فيها كالصلاة: سبحان ربي الأعلى ثلاثاً. فيكون مذهب المالكية قريباً في بيان الصفة من الحنفية. ويزيد في سجوده ما ورد في الحديث الصحيح: «اللهم اكتب لي بها أجراً، وضع عني بها وزراً، واجعلها لي عندك ذخراً، وتقبلها مني كما قبلتها من عبدك داود» (¬1) وقال الشافعية: سبب سجود التلاوة: التلاوة والسماع والاستماع، كما قال الحنفية، بالشروط المتقدمة. ولها ركنان: النية لغير المأموم، أما المأموم فتكفيه نية الإمام. وسجدة واحدة، كسجدة الصلاة. والمصلي ينوي بالقلب. وغير المصلي: يزاد له ثلاثة أركان: تكبيرة الإحرام، والجلوس بعد السجدة، والسلام. ويسن له التلفظ بالنية. وصفتها: أن يكبر للهُوي، وللرفع، ولا يسن له رفع يديه في الصلاة، ويسن الرفع خارج الصلاة، ولا يجلس للاستراحة في الصلاة. ويقول في سجوده: ¬
الحنابلة
(سبحان ربي الأعلى ثلاثاً)، ويضيف قائلاً: (سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره بحوله وقوته، فتبارك الله أحسن الخالقين) ويقول أيضاً: «اللهم اكتب لي بها عندك أجراً، واجعلها لي عندك ذخراً، وضع عني بها وزراً، واقبلها مني كما قبلتها من عبدك داود» (¬1). ويندب كما ثبت عن الشافعي: أن يقول: (سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولاً) ولو قال ما يقوله في سجوده فقط، جاز وكفى. ويقوم مقام سجود التلاوة ما يقوم مقام تحية المسجد، فمن لم يرد فعلها قال أربع مرات: (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله، والله أكبر). وقال الحنابلة: سببها: التلاوة والاستماع بالشروط المتقدمة. وبشرط ألا يطول الفصل عرفاً بينها وبين سببها. فإن كان القارئ أو السامع محدثاً، ولا يقدر على استعمال الماء تيمم. ولا يسجد المقتدي إلا لمتابعة إمامه. ويكره للإمام سجوده لقراءة سجدة في صلاة سرية، لئلا يخلط على المأمومين، فإن فعل خير المأموم بين المتابعة وتركها؛ لأنه ليس بتال ولا مستمع، والأولى السجود متابعة للإمام. وأركانها ثلاثة: السجود والرفع منه، والتسليمة الأولى، أما الثانية فليست بواجبة، أما التكبير للهوي والرفع من السجود والذكر في السجود فهو واجب، كما في سجود صلب الصلاة. والجلوس للتسليم مندوب. والأفضل سجوده عن قيام، لما روى إسحاق بن راهويه عن عائشة: «أنها كانت تقرأ في المصحف، فإذا انتهت إلى السجدة، قامت، فسجدت» وتشبيهاً له بصلاة النفل. ¬
سادسا ـ المواضع التي تطلب فيها السجدة
وصفتها: أن يكبر إذا سجد وإذا رفع، ويرفع يديه مع تكبيرة السجود إن سجد في غير الصلاة؛ لأنها تكبيرة افتتاح، كما قال الشافعية. أما في الصلاة فقياس المذهب ألا يرفع يديه، لأن في حديث ابن عمر «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان لا يفعله في السجود» (¬1) يعني رفع يديه، ويسلم إذا رفع. ويقول في سجوده ما يقول في سجود الصلاة، ويزيد ما زاده الشافعية (سجد وجهي ... ) (اللهم اكتب لي بها عندك أجراً ... ) 0. ولا يقوم الركوع مقام السجود عند غير الحنفية؛ لأنه سجود مشروع، فلا ينوب عنه الركوع، كسجود الصلاة. سادساً ـ المواضع التي تطلب فيها السجدة: عدد السجدات عند المالكية (¬2) في المشهور: إحدى عشرة، منها عشر بالإجماع: وهي في سورة الأعراف الآية (206)، والرعد (15)، والنحل (49)، والإسراء (107)، ومريم (58)، وفي أول الحج (18)، وفي الفرقان (60)، وفي النمل (25)، وفي الم السجدة (15)، وفي فصّلت (38)، وفي ص (24). واتفق الحنفية (¬3) مع المالكية على سجدة (ص) وهي عندهم أربع عشرة، بإضافة ثلاث أخر: في سورة النجم (62)، وإذا السماء انشقت (21)، واقرأ باسم ربك الذي خلق (19). أما سجدة الحج الثانية فإنها للأمر بالصلاة بدليل اقترانها بالركوع. والأحاديث الواردة بتفضيل سورة الحج بسجدتين فيها راويان ضعيفان. ¬
وقال الشافعية والحنابلة (¬1): السجدات أربع عشرة، منها سجدتان في سورة الحج، وفي أولها وآخرها (77)، أما سجدة ص فهي سجدة شكر تستحب في غير الصلاة، وتحرم في الصلاة على الأصح وتبطلها، لما روى البخاري عن ابن عباس، قال: «ص ليست من عزائم السجود، وقد رأيت النبي صلّى الله عليه وسلم يسجد فيها» وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «سجدها داود توبة، ونحن نسجدها شكراً» (¬2). ويؤيد هذا الرأي حديث عمرو بن العاص: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن، منها ثلاث في المفصَّل، وفي الحج سجدتان» (¬3) فدل على أن السجدات خمس عشرة، منها سجدتان في الحج، وفي ص. وحجة المالكية على نفي سجدات المفصل (النجم، الانشقاق، العلق): حديث ابن عباس عند أبي داود وابن السكن في صحيحه بلفظ: «لم يسجد النبي صلّى الله عليه وسلم في شيء من المفصَّل منذ تحول إلى المدينة» (¬4). واستدل الجمهور (غير المالكية) على إثبات سجدات المفصل بحديث أبي هريرة قال: «سجدنا مع النبي صلّى الله عليه وسلم في: {إذا السماء انشقت} [الانشقاق:1/ 84]، و {اقرأ باسم ربك} [العلق:1/ 96] (¬5) علماً بأن إسلام أبي هريرة كان سنة سبع من الهجرة. واستدلوا بحديث ابن مسعود المتقدم أيضا: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قرأ والنجم، فسجد ¬
سابعا ـ هل تتكرر السجدة بتكرر التلاوة؟
فيها، وسجد من كان معه، غير أن شيخاً من قريش أخذ كفاً من حصى أو تراب، فرفعه إلى جبهته، وقال: يكفيني هذا، قال عبد الله: فلقد رأيته بعدُ قتل كافراً» (¬1). سابعاً ـ هل تتكرر السجدة بتكرر التلاوة؟ تتكرر السجدة بتكرر التلاوة عند الجمهور، ولا تتكرر عند الحنفية إن كانت التلاوة لآية في مجلس واحد. قال الحنفية (¬2): من كرر تلاوة آية سجدة واحدة في مجلس واحد، أجزأته سجدة واحدة، وفعلها بعد الأولى أولى، وقيل: التأخير أحوط، أي أنه يشترط اتحاد الآية والمجلس. أما إن كرر آية السجدة في عدة أماكن، أي اختلف المجلس، فيجب تكرار السجود. فإن قرأ عدة آيات فيها سجدات مختلفة، فيجب لكل آية سجدة سواء اتحد المجلس أم اختلف. ويتبدل المجلس بالانتقال منه بثلاث خطوات في الصحراء والطريق، وبالانتقال من غصن شجرة إلى غصن، وبسباحة في نهر أو حوض كبير في الأصح. ولا يتبدل بزوايا البيت الصغير، والمسجد ولو كان كبيراً، ولا بسير سفينة أو سيارة، ولا بركعة وبركعتين، وشربة وأكل لقمتين، ومشي خطوتين، ولا باتكاء وقعود وقيام وركوب ونزول في محل تلاوته، ولا بسير دابته مصلياً. ¬
ويتكرر الوجوب على السامع بتبديل مجلسه، وإن اتحد مجلس القارئ، فلو كررها راكباً يصلي، وغلامه يمشي، تتكرر على الغلام، لا الراكب، ولا تتكرر على السامع في عكسه وهو تبدل مجلس القارئ دون السامع على المفتى به (¬1)، ومن تلا آية سجدة، فلم يسجد لها، حتى دخل في الصلاة، فتلاها، وسجد لها، أجزأته السجدة عن التلاوتين. وإن تلاها في غير الصلاة، فسجد لها، ثم دخل في الصلاة، فتلاها، سجد لها، ولم تُجْزه السجدة الأولى. وإذا تلا آية سجدة في الصلاة ثم أعادها بعد سلامه، يسجد سجدة أخرى. ولا تقضى السجدة التي تتلى في الصلاة خارجها؛ لأن لها مزية، فلا تتأدى بناقص، وعليه التوبة. وقال المالكية: إذا كرر المعلم أو المتعلم آية السجدة، فيسن السجود لكل منهما عند قراءتها أول مرة فقط دفعاً للمشقة. ويسجد إن تجاوز آية السجدة تجاوزاً يسيراً كآية أو آيتين، فإن كان التجاوز كثيراً أعاد آية السجدة وسجد، ولو كان في صلاة فرض، ولكن لا يسجد في الفرض إذا لم ينحن للركوع. وقال الشافعية: لو كرر آية في مجلسين، أوفي مجلس في الأصح، سجد لكل من المرتين عقبها، والركعة كمجلس واحد، والركعتان كمجلسين. فإن لم يسجد وطال الفصل عرفاً ولو بعذر، لم يسجد أداء؛ لأنه من توابع القراءة. وقال الحنابلة: إذا كرر تلاوة الآية أو استماعها، يسن له تكرار السجود بمقدار ذلك، لتعدد السبب. ¬
ثامنا ـ أحكام فرعية لسجدة التلاوة
ثامناً ـ أحكام فرعية لسجدة التلاوة: قال الحنفية (¬1): أـ يكره تحريماً ترك آية سجدة، وقراءة باقي السورة؛ لأن فيه قطع نظم القرآن وتغيير تأليفه الإلهي، واتباع النظم والتأليف مأمور به. ولا يكره عكسه: وهو قراءة آية السجدة من بين السورة؛ لأنها من القرآن، وقراءة ما هو من القرآن طاعة، كقراءة سورة من بين السور، ولكن يندب ضم آية أو آيتين إليها قبلها أو بعدها، لدفع وهم التفضيل، إذ الكل من حيث إنه كلام الله في رتبة واحدة، وإن كان لبعضها زيادة فضيلة باشتماله على صفاته تعالى. ب ـ يستحسن إخفاء آية السجدة عن سامع غير متهيء للسجود. والراجح وجوب السجود على متشاغل بعمل، وقد سمع آية السجدة، زجراً له عن تشاغله عن كلام الله. ويكره للإمام أن يقرأ آية سجدة في صلاة سرية لئلا يشتبه على المقتدين، وفي نحو جمعة وعيد، إلا أن تكون بحيث تؤدى بركوع الصلاة أو سجودها، ولو تلا على المنبر آية سجدة سجد الإمام فوق المنبر مع الكراهة أو تحته وسجد السامعون. جـ - لو سمع شخص آية السجدة من قوم، من كل واحد منهم حرفاً، لم يسجد لأنه لم يسمعها من تال، لأن اتحاد التالي شرط. د ـ يندب القيام ثم السجود لآية السجدة، ويندب ألا يرفع السامع رأسه من السجود قبل رفع رأس التالي لآية السجدة، ولا يؤمر التالي بالتقدم، ولا السامعون بالاصطفاف، وإنما يسجدون كيف كانوا. ¬
المالكية
هـ ـ قيل: من قرأ آي السجدة كلها في مجلس، وسجد لكل منها، كفاه الله ما أهمه. وظاهره أنه يقرؤها ولاء، ثم يسجد، ويحتمل أن يسجد لكل آية بعد قراءة الكل، وهو غير مكروه. وقال المالكية (¬1): أـ يكره الاقتصار على قراءة الآية للسجود، كما قال الحنفية؛ كأن يقرأ {إنما يؤمن بآياتنا}. [السجدة:15/ 32] وعلى القول بالكراهة: لو قرأها لا يسجد. ب ـ يكره لمصلٍ تعمد السجدة، بأن يقرأ ما فيه آيتها، بفريضة، ولو صبح جمعة على المشهور، لا في نفل، فلا يكره. فإن قرأها بفرض عمداً أو سهواً سجد لها، ولو بوقت نهي، أما إن قرأها في خطبة جمعة أو غيرها فلا يسجد لها، لاختلال نظامها. جـ ـ يندب لإمام الصلاة السرية كالظهر الجهر بآية السجدة، ليسمع المأمومون فيتبعوه في سجوده، فإن لم يجهر بها، بل قرأها سراً وسجد، اتبعه المقتدون؛ لأن الأصل عدم السهو، فإن لم يتبعوه صحت صلاتهم؛ لأن اتباعه واجب غير شرط؛ لأن السجدة ليست من الأفعال المقتدى به فيها أصالة، وترك الواجب الذي ليس بشرط لا يوجب البطلان. د ـ من تجاوز السجدة في القراءة بآية أو آيتين، يسجد، بلا إعادة القراءة لمحل السجدة. وإن تجاوز بكثير يعيدها، أي يعيد القراءة لآية السجدة، سواء في الصلاة ولو بفرض أم في غيرها. ويسجد لها ما لم ينحن بقصد الركوع في نفل أو فرض، فإن ركع بالانحناء فات تداركها. ويندب إعادة القراءة بالنفل لافي الفرض في ¬
الحنابلة
الركعة الثانية، إذا لم تكن قراءتها في الثانية. والظاهر إعادتها قبل الفاتحة لتقدم سببها. هـ ـ يندب لساجد السجدة في الصلاة قراءة شيء من القرآن قبل الركوع ولو من سورة أخرى، ليقع ركوعه عقب قراءة. ولو قصد أداء السجدة بعد قراءة محلها، وانخفض بنيتها، فركع ساهياً صح ركوعه عند الإمام مالك، بناء على أن الحركة للركن لا تشترط، ثم يسجد للسهو لهذه الزيادة بعد السلام إن اطمأن بركوعه، فإن لم يطمئن سجدها، ولا سجود سهو عليه. وقال الحنابلة (¬1): أـ لا يسجد المرء سجدة التلاوة في الأوقات المنهي عنها التي لا يجوز فيها التطوع بالصلاة، خلافاً للشافعية، لعموم قوله عليه السلام: «لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس» وهذا مروي عن ابن عمر، وعن أبي بكر وعمر وعثمان. ب ـ إن قرأ السجدة في الصلاة في آخر السورة: فإن شاء ركع، وإن شاء سجد، ثم قام فركع، قال ابن مسعود: «إن شئت ركعت، وإن شئت سجدت». جـ ـ إن كان القارئ على الراحلة في السفر، جاز أن يومئ بالسجود حيث كان اتجاهه، كصلاة النافلة. وهذا متفق عليه بين المذاهب (¬2). لما روى ابن عمر «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قرأ عام الفتح سجدة، فسجد الناس كلهم، منهم الراكب، والساجد في ¬
المطلب الثالث ـ سجدة الشكر
الأرض، حتى إن الراكب ليسجد على يده» (¬1). د ـ يكره اختصار السجود: وهو أن ينتزع الآيات التي فيها السجود، فيقرؤها ويسجد فيها؛ لأنه ليس بمروي عن السلف فعله، بل كراهته. وقد قدمنا جوازه عند الحنفية. هـ ـ يكره للإمام السجدة في صلاة سرية، وإن قرأ لم يسجد؛ لأن فيها إبهاماً على المأموم. وهذا متفق مع رأي الحنفية، ولم يكرهه الشافعي؛ لحديث ابن عمر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم سجد في الظهر، ثم قام فركع، فرأى أصحابه أنه قرأ سورة السجدة» (¬2). وذكر المالكية أن الإمام يجهر بالسجدة حينئذ كما أسلفنا. المطلب الثالث ـ سجدة الشكر: تستحب سجدة الشكر عند الجمهور، وتكره عند المالكية، وعبارات الفقهاء في شأنها ما يأتي: قال الحنفية (¬3): هي مكروهة عند أبي حنيفة لعدم إحصاء نعم الله تعالى. وهي قربة يثاب عليها، لما روى الأئمة الستة إلا النسائي عن أبي بكرة «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا أتاه أمر يسره، أو بشر به، خر ساجداً» وهيئتها: مثل سجدة التلاوة. والمفتى به أنها مستحبة، لكنها تكره بعد الصلاة؛ لأنه الجهلة يعتقدونها سنة أو واجبة، وكل مباح يؤدي إلى هذا الاعتقاد فهو مكروه. وعلى هذا ما يفعل عقب الصلاة من السجدة مكروه إجماعاً؛ لأن العوام يعتقدون أنها واجبة أو سنة، وكل ¬
جائز أدى إلى اعتقاد ذلك كره. وإذا نواها ضمن ركوع الصلاة أو سجودها، أجزأته. ويكره أن يسجد شكراً بعد الصلاة في الوقت الذي يكره فيه النفل، ولا يكره في غيره. وقال المالكية (¬1): يكره سجود الشكر عند سماع بشارة، والسجود عند زلزلة، وإنما المستحب عند حدوث نعمة أو اندفاع نقمة: صلاة ركعتين؛ لأن عمل أهل المدينة على ذلك. وأجاز ابن حبيب المالكي سجد ة الشكر لحديث أبي بكر السابق (¬2). وقال الشافعية (¬3): سجدة الشكر لا تدخل في الصلاة. وتسن لهجوم نعمة، كحدوث ولد أو جاه أو اندفاع نقمة كنجاة من حريق أو غريق، أو رؤية مبتلى في بدنه أو غيره، أو رؤية عاص يجهر بمعصيته، ويظهرها للعاصي، لا للمبتلى. وهي كسجدة التلاوة، والأصح جوازهما على الراحلة للمسافر بالإيماء لمشقة النزول، فإن سجد الراكب لتلاوة صلاة، جاز الإيماء على الراحلة قطعاً تبعاً للنافلة كسجود السهو. وأدلتهم في حالة تجدد نعمة أو اندفاع نقمة: حديث أبي بكرة السابق، وحديث عبد الرحمن بن عوف، قال: خرج النبي صلّى الله عليه وسلم، فتوجه نحو صَدَفَته (¬4)، ¬
المبحث الثاني ـ قضاء الفوائت
فدخل، فاستقبل القبلة، فخر ساجداً، فأطال السجود، ثم رفع رأسه، وقال: إن جبريل أتاني، فبشرني، فقال: إن الله عز وجل يقول لك: «من صلى عليك صليت عليه، ومن سلّم عليك سلمت عليه، فسجدت شكراً لله» (¬1). وروى أبو داود بإسناد حسن «أنه صلّى الله عليه وسلم قال: سألت ربي، وشفعت لأمتي، فأعطاني ثلث أمتي، فسجدت شكراً لربي، ثم رفعت رأسي، فسألت ربي، فأعطاني ثلث أمتي، فسجدت شكراً لربي، ثم رفعت رأسي، فسألت ربي فأعطاني الثلث الآخر، فسجدت شكراً لربي». ودليلهم لحالة رؤية المبتلى: حديث رواه البيهقي، وشكر الله على سلامته. وأما حالة رؤية العاصي: فلأن المصيبة في الدين أشد منها في الدنيا، قال صلّى الله عليه وسلم: «اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا»، وعند رؤية الكافر أولى. وقال الحنابلة (¬2): يستحب سجود الشكر عند تجدد النعم، واندفاع النقم لحديث أبي بكرة السابق، وسجد الصديق حين فتح اليمامة. ويشترط لسجود الشكر ما يشترط لسجود التلاوة. ولا يسجد للشكر وهو في الصلاة؛ لأن سبب السجدة ليس منها، فإن فعل بطلت صلاته، إلا أن يكون ناسياً أو جاهلاً بتحريم ذلك. المبحث الثاني ـ قضاء الفوائت: معناه وحكمه شرعاً، أعذار سقوط الصلاة وتأخيرها، كيفية القضاء سفراً ¬
أولا ـ معنى القضاء وحكمه شرعا
وحضراً سراً وجهراً، الترتيب في قضاء الفوائت، متى يسقط الترتيب، القضاء إن جهل العدد، القضاء في وقت النهي عن الصلاة. أولاً ـ معنى القضاء وحكمه شرعاً: الأداء: فعل الواجب في وقته، وبإدراك التحريمة يكون أداء عند الحنفية والحنابلة، أما عند الشافعية والمالكية: فبإدراك ركعة من الصلاة، كما بينا في بحث أوقات الصلاة. والإعادة: فعل مثل الواجب في وقته، لخلل غير الفساد، قال الحنفية: كل صلاة أديت مع كراهة التحريم تعاد وجوباً في الوقت، وخارج الوقت. والقضاء: فعل الواجب بعد وقته (¬1). أو إيقاع الصلاة بعد وقتها. والشأن في المسلم ديناً وعقلاً أن يبادر إلى أداء الصلاة في وقتها، ويأثم بتأخيرها عن وقتها بغير عذر، كما بينا في فضل الصلاة، لقوله تعالى: {فإذا اطمأننتم، فأقيموا الصلاة، إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً} [النساء:103/ 4]. وتأخير الصلاة من غير عذر معصية كبيرة لا تزول بالقضاء وحده، بل بالتوبة أو الحج بعد القضاء. ومن أخر الصلاة عن وقتها لعذر مشروع فلا إثم عليه، ومن العذر: خوف العدو، وخوف القابلة موت الولد، أو خوف أمه إذا خرجه رأسه، لأنه عليه السلام أخر الصلاة يوم الخندق: قال ابن مسعود: «إن المشركين شغلوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن أربع صلوات يوم الخندق، حتى ذهب من الليل ما شاء الله، فأمر بلالاً ¬
فأذن، ثم أقام، فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أقام فصلى العشاء» (¬1). ومن شغلت ذمته بأي تكليف لا تبرأ إلا بتفريغها أداء أو قضاء، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «فدين الله أحق أن يقضى» (¬2). فمن وجبت عليه الصلاة، وفاتته بفوات الوقت المخصص لها، لزمه قضاؤها (¬3) فهو آثم بتركها عمداً، والقضاء عليه واجب، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا رقد أحدكم عن الصلاة، أو غفل عنها، فليصلها إذا ذكرها، فإن الله عز وجل يقول: {أقم الصلاة لذكري} [طه:14/ 20] (¬4) وللبخاري: «من نسي صلاة، فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك» ومجموع الحديث المتفق عليه بين البخاري ومسلم: «من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها» فمن فاتته الصلاة لنوم أو نسيان قضاها، وبالأولى من فاتته عمداً بتقصير يجب عليه قضاؤها. وعليه: يجب القضاء بترك الصلاة عمداً أو لنوم أو لسهو، ولوشكاً. ولا يجب القضاء عند المالكية لجنون أو إغماء أو كفر، أو حيض أو نفاس، أو لفقد الطهورين. ¬
ثانيا ـ أعذار سقوط الصلاة وتأخيرها
ولا يأثم من أخر الصلاة لعذر النوم أو النسيان، لحديث أبي قتادة قال: ذكروا للنبي صلّى الله عليه وسلم نومهم عن الصلاة، فقال: إنه ليس في النوم تفريط، إنما التفريط في اليقظة، فإذا نسي أحدكم صلاة أو نام عنها، فليصلها إذا ذكرها» (¬1). ثانياً ـ أعذار سقوط الصلاة وتأخيرها: أـ أعذار سقوط الصلاة: اتفق العلماء على أن الصلاة تسقط عن المرأة أيام الحيض والنفاس، فلا يجب عليها قضاء ما فاتها من الصلوات أثناء الحيض أو النفاس، كما لاقضاء على الكافر الأصلي والمجنون اتفاقاً. وذكر الحنفية (¬2): أن الصلاة تسقط عن المجنون والمغمى عليه إذا استمر الجنون أو الإغماء أكثر من خمس صلوات، أما إن استمر أقل من ذلك، خمس صلوات فأقل، وجب عليهما القضاء لصلاة ذلك الوقت إذا بقي من الوقت ما يسع أكثر من التحريمة. فلو لم يبق من الوقت ما يسع قدر التحريمة، لم تجب عليهما صلاة ذلك الوقت. وأما المرتد: فلا يقضي ما فاته زمن الردة ولا ما قبلها إلا الحج؛ لأنه بالردة يصير كالكافر الأصلي. ويعذر حربي أسلم بدار الحرب بالجهل، فلا يقضي ما عليه إذا مكث مدة؛ لأن العلم بالخطاب شرط التكليف. وبينا أن المالكية قالوا: لا يجب القضاء في حال الجنون والإغماء والكفر والحيض والنفاس وفقد الطهورين (¬3). ¬
وقال الشافعية (¬1): لا تجب الصلاة على الحائض والنفساء كغيرهم من المذاهب، أما الكافر الأصلي إذا أسلم فلا يخاطب بقضاء الصلاة، لقوله عز وجل: {قل للذين كفروا: إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال:38/ 8] ولأن في إيجاب ذلك عليه تنفيراً عن الإسلام، فعفي عنه. وأما المرتد إذا أسلم: فيلزمه قضاء الصلاة، لأنها وجبت عليه، واعتقد وجوبها، وقدر على التسبب إلى أدائها فهو كالمحدث، حتى إنه إن جن حال الردة ففاته صلوات، لزمه قضاؤها. ومن زال عقله بجنون أو إغماء أو مرض أو بسب مباح: فلا تجب عليه الصلاة ولا قضاء عليه لقوله صلّى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاثة» فنص على المجنون، وقيس عليه كل من زال عقله بسب مباح. أما من زال عقله بسبب محرم كمن شرب المسكر، أو تناول دواء من غير حاجة، فزال عقله، فيجب عليه القضاء إذا أفاق؛ لأنه زال عقله بمحرم، فلم يسقط عنه الفرض .. وقال الحنابلة (¬2): لا تجب الصلاة على صبي ولا كافر ولا حائض أو نفساء. أما الكافر الأصلي فلا يلزمه قضاء ما تركه من العبادات في حال كفره، بغير خلاف للآية السابقة: {قل للذين كفروا .. } [الأنفال:38/ 8] وأسلم في عصر النبي صلّى الله عليه وسلم خلق كثير وبعده، فلم يؤمر أحد منهم بقضاء، ولأن في إيجاب القضاء عليه تنفيراً عن الإسلام، فعفي عنه، كما قال الشافعية. وأما المرتد: ففي وجوب القضاء عليه روايتان عن أحمد: إحداهما كالحنفية: لا يلزمه؛ لأن عمله قد حبط بكفره بدليل قوله تعالى: {لئن أشركت ليَحْبطنَّ عملُك} [الزمر:65/ 39]، ولو حج لزمه استئناف حجه. فصار كالكافر الأصلي في جميع أحكامه. ¬
والثانية كالشافعية: يلزمه قضاء ما ترك من العبادات في حال ردته، وإسلامه قبل ردته، ولا يجب عليه إعادة الحج؛ لأن العمل إنما يحبط بالإشراك مع الموت، لقوله تعالى: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة} [البقرة:217/ 2]. والمجنون غير مكلف، ولا يلزمه قضاء ما ترك في حال جنونه، إلا أن يفيق في وقت الصلاة، فيصير كالصبي يبلغ، ولا خلاف في ذلك، للحديث السابق: «رفع القلم عن ثلاثة، عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يشب، وعن المعتوه حتى يعقل» (¬1)، ولأن مدته تطول غالباً، فوجوب القضاء عليه يشق، فعفي عنه. والمغمى عليه: يقضي جميع الصلوات التي كانت عليه في حال إغمائه، فحكمه حكم النائم، لا يسقط عنه قضاء شيء من الواجبات التي يجب قضاؤها كالصلاة والصيام. بدليل ما روى الأثرم أن عماراً أغمي عليه ثلاثاً، فقضى ما عليه، وأن سمرة بن جندب سئل عن صلاة المغمى عليه فقال: «ليصليهن جميعاً» وهذا الرأي خلاف ما عليه الحنفية والمالكية والشافعية كما بينا. ومن شرب دواء فزال عقله به نظر: فإن كان زوالاً لا يدوم كثيراً فهو كالإغماء، وإن كان يتطاول فهو كالجنون. وأما السكر ومن شرب محرماً يزيل عقله وقتاً دون وقت: فلا يؤثر في إسقاط التكليف، وعليه قضاء ما فاته في حال زوال عقله، بلا خلاف، ولأنه إذا وجب عليه القضاء بالنوم المباح، فبالسكر المحرم أولى. ¬
إسقاط الصلاة والصوم وغيرهما عن المريض العاجز الذي مات
إسقاط الصلاة والصوم وغيرهما عن المريض العاجز الذي مات: قال الحنفية (¬1): إذا مات المريض الذي عجز في الحياة عن الصلاة بالإيماء برأسه، لا يلزمه الإيصاء بها، وإن قلت. وكذا المسافر والمريض إن أفطرا في الصوم، وماتا قبل الإقامة والصحة، فلا يلزمهما الإيصاء به. لكن تكون الوصية مستحبة بفدية الصلاة والصيام ونحوها. ومن مات وعليه صلوات فائتة بغير عذر بأن كان يقدر على أدائها ولو بالإيماء، فيلزمه الإيصاء بالكفارة عنها، وإلا فلا يلزمه وإن قلّت بأن كانت دون ست صلوات، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «فإن لم يستطع فالله أحق بقبول العذر منه». وكذلك من أفطر في رمضان ولو بغير عذر، يلزمه الوصية بفدية ما عليه بما قدر عليه، ويبقى في ذمته، ويخرجه عنه وليه من ثلث تركته. وللولي التبرع بالفدية إن لم يوص أو لم يترك مالاً. ومقدار الكفارة عن الصلاة ومنها الوتر عند الحنفية، والصوم: أن يعطى لكل صلاة وصوم يوم نصف صاع من بُرّ (ربع مد دمشقي من غير تكريم، بل قدر مَسْحة)، كفطرة الصيام لكل من الصلاة والصوم على حدة، وتقدر بـ 1087,5غم. وتؤخذ الكفارة وفدية الصوم: من ثلث مال المتوفى. فإن لم يكن له مال يستقرض وارثه نصف صاع مثلاً، ويهبه للفقير، ثم يهبه الفقير لولي الميت ويقبضه، ثم يدفعه الولي للفقير، فيسقط من الصلاة والصوم بقدره، وهكذا حتى يتم إسقاط ما كان عليه من صلاة وصوم. ¬
ب ـ أعذار تأخير الصلاة عن وقتها
لكن يلاحظ أن مثل هذه الحيلة غير مقبولة؛ لأن الصلاة عبادة بدنية، ولا تسقطها شكليات فارغة وطقوس جوفاء. ويجوز إعطاء فدية صلوات لواحد جملة، بخلاف كفارة اليمين، كما يجوز إعطاء الفقير أقل من نصف صاع. ولا يصح للمرء في حال حياته أن يفدي عن صلاته في مرضه، فلا فدية في الصلاة حال الحياة بخلاف الصوم فإنه يجوز بل تجب الفدية عنه. ولا يجوز للورثة قضاء الصلاة عن الميت بأمره؛ لأن الصلاة عبادة بدنية شخصية، بخلاف الحج فإنه يقبل النيابة. ب ـ أعذار تأخير الصلاة عن وقتها: عرفنا سابقاً أن تأخير الصلاة بعذر كالنوم والنسيان والغفلة، يوجب القضاء ويسقط الإثم، للحديث السابق عن أبي قتادة «إنه ليس في النوم تفريط، إنما التفريط في اليقظة» إلا أن الشافعية قالوا: يكون النسيان عذراً إذا لم يكن ناشئاً عن تقصير، فإن نسي الصلاة لاشتغاله بلعب مثلاً فلا يكونن معذوراً ويأثم بتأخير الصلاة عن وقتها. ثالثاً ـ كيفية قضاء الفائتة أو صفتها: قال الحنفية (¬1): تقضى الصلاة على الصفة السابقة التي فاتت عليها حضراً أو سفراً، فمن فاتته صلاة مقصورة في السفر، قضاها ركعتين ولو في الحضر. ومن فاتته صلاة تامة في الحضر، قضاها أربعاً ولو في السفر. أما صفة القراءة في القضاء سراً أو جهراً، فيراعى نوع الصلاة: فإن كانت ¬
سرية كالظهر، يسر في القراءة، وإن كانت جهرية يجهر فيها إن كان إماماً، ويخير بين الجهر والإسرار إن كان منفرداً. ويجب القضاء فوراً، ويجوز تأخيره لعذر السعي على العيال وفي الحوائج على الأصح، كما أن أداء سجدة التلاوة خارج الصلاة والنذر المطلق وقضاء رمضان موسع يجوز تأخيره للعذر السابق. وقال المالكية (¬1) كالحنفية: يقضيها بنحو ما فاتته سفراً أو حضراً، جهراً أو سراً، فوراً، ويحرم عليه تأخير القضاء، ولو كان وقت نهي كطلوع شمس وغروبها وخطبة جمعة، إلا وقت الضرورة كوقت الأكل والشرب والنوم الذي لا بد منه، وقضاء حاجة الإنسان، وتحصيل ما يحتاج له في معاشه. وعلى هذا تقضى الحضرية كاملة ولو قضاها في السفر، وتقضى النهارية سراً ولو قضاها ليلاً، وتقضى الليلية جهراً ولو قضاها نهاراً؛ لأن القضاء يحكي ما كان أداء. وقال الشافعية والحنابلة (¬2): ينظر لمكان القضاء ووقت القضاء، فيقضي المسافر الصلاة الرباعية ركعتين، سواء فاتته في السفر أم في الحضر، فإن كان في الحضر فيقضي الرباعية أربعاً، وإن فاتته في السفر، لأن الأصل الإتمام، فيرجع إليه في الحضر، ولأن سبب القصر هو السفر وليس متوفراً في الحضر. وفائتة السفر تقضى قصراً في السفر دون الحضر، في الأظهر عند الشافعية، نظراً لوجود السبب. ¬
قضاء الفائتة بجماعة، وقضاء السنن
ويسر ويجهر في الصلاة بحسب الوقت، فإن صلى في النهار من طلوع الشمس إلى غروبها أسر، وإن صلى في الليل من مغيب الشمس إلى طلوعها جهر. إلا أن الحنابلة قالوا: إن كان القضاء ليلاً يجهر الإمام لتشابه القضاء مع الأداء، فإن كان منفرداً أسر مطلقاً، قال الإمام أحمد: إنما الجهر للجماعة. قضاء الفائتة بجماعة، وقضاء السنن: وأضاف الحنابلة: أنه يستحب قضاء الفوائت في جماعة، كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلم يوم الخندق، حينما فاتته صلوات أربع، فقضاهن في جماعة. ولا يكره قضاء السنن الرواتب قبل الفرض، ويستحب أن يقضي ركعتي الفجر قبل الفريضة، لما روى أبو هريرة قال: عرَّسْنا ـ نزلنا ليلاً ـ مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلم نستيقظ حتى طلعت الشمس، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ليأخذ كل رجل منكم برأس راحلته، فإن هذا منزل حضر فيه الشيطان، قال: ففعلنا، ثم دعا بالماء فتوضأ، ثم سجد سجدتين، ثم أقيمت الصلاة، فصلى الغداة (¬1). القضاء على الفور: ويجب أن يكون القضاء فوراً باتفاق الفقهاء، سواء فاتت الصلاة بعذر أم بغير عذر. إلا أن الشافعية فصلوا في الأمر فقالوا: يبادر بالفائت ندباً إن فاته بعذر كنوم ونسيان، ووجوباً إن فاته بغير عذر، على الأصح فيهما، تعجيلاً لبراءة ذمته، ودليل إيجاب الفورية قوله تعالى: {وأقم الصلاة لذكري} [طه:14/ 20] ولأن تأخير الصلاة بعد الوقت معصية يجب الإقلاع عنها فوراً. ¬
رابعا ـ الترتيب في قضاء الفوائت ومتى يسقط الترتيب؟
رابعاً ـ الترتيب في قضاء الفوائت ومتى يسقط الترتيب؟ يجب ترتيب قضاء الفوائت عند الجمهور، وهو سنة عند الشافعية، على التفصيل التالي: قال الحنفية (¬1): الترتيب بين الفروض الخمسة والوتر وبين الفائتة والوقتية مستحق لازم إلا أن يخاف فوات صلاة الوقت، فيقدم صلاة الوقت ثم يقضي الفائتة. بدليل قول ابن عمر: «من نام عن صلاة أو نسيها، فلم يذكرها إلا وهو مع الإمام، فليصل التي هو فيها، ثم ليصل التي ذكرها، ثم ليعد التي صلى مع الإمام» (¬2). ومن فاتته صلوات رتبها في القضاء، كما وجبت عليه في الأصل؛ لأن النبيصلّى الله عليه وسلم شغل عن أربع صلوات يوم الخندق، فقضاهن مرتباً، ثم قال «صلوا كما رأيتموني أصلي» (¬3) إلا أن تزيد الفوائت على ست صلوات غير الوتر، فيسقط الترتيب بينها، كما سقط فيما بينها وبين الوقتية؛ لأن الفوائت قد كثرت، ولخروج وقت الصلاة السادسة، ولا يعود الترتيب بعودها إلى القلة، على المختار. وقال صاحب الهداية: يعود الترتيب عند البعض، وهو الأظهر. وبناء عليه: لو صلى فرضاً ذاكراً فائتة، ولو كانت وتراً، فسد فرضه فساداً موقوفاً، فلو فاتته صلاة الصبح، ثم صلى الصبح، ثم صلى الظهر بعدها، وهو ¬
ذاكر فسدت صلاة الظهر فساداً موقوفاً، ولو صلى العصر قبل قضاء الصبح وقعت صلاة العصر فاسدة فساداً موقوفاً كذلك، وهكذا إلى خروج وقت صلاة صبح اليوم التالي، فإن قضى فائتة صبح اليوم الأول قبل ذلك، فسدت فرضية كل ما صلاه، وانقلب نفلاً عند أبي حنيفة وأبي يوسف، ولزمه إعادته (¬1). وتوضيح الأمر: أن فساد أصل الصلاة بترك الترتيب موقوف عند أبي حنيفة سواء ظن وجوب الترتيب أو لا، وعند الصاحبين: الفساد بات. وعلى رأي أبي حنيفة: إن كثرت الفوائت، وصارت الفواسد مع الفائتة ستاً، ظهر صحتها، بخروج وقت الخامسة التي هي سادسة الفوائت. وإن لم تصر ستاً، لا تظهر صحتها، بل تصير نفلاً. فإذا فاتته صلاة ولو وتراً، فكلما صلى بعدها، وهو ذاكر لتلك الفائتة، فسدت تلك الوقتية فساداً موقوفاً على قضاء تلك الفائتة، فإن قضاها قبل أن يصلي بعدها خمس صلوات، صار الفساد باتاً، وانقلبت الصلوات التي صلاها قبل قضاء المقضية نفلاً. وإن لم يقضها حتى خرج وقت الخامسة، وصارت الفواسد مع الفائتة ستاً، انقلبت صحيحة؛ لأنه ظهرت كثرتها، ودخلت في حد التكرار المسقط للترتيب. ويسقط الترتيب بأحد ثلاثة أمور: الأول ـ أن تصير الفوائت ستاً، كما بينا، ولا يدخل الوتر في العدد المذكور. الثاني ـ ضيق الوقت المستحب عن أن يسع الفائتة والوقتية الحاضرة. ¬
المالكية
الثالث ـ نسيان الفائتة وقت الأداء، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه» (¬1). وقال المالكية (¬2): يجب الترتيب مع التذكر والقدرة بأن لا يكره على عدمه. والترتيب شرط في صلاتين حاضرتين مشتركتي الوقت وهما الظهران والعشاءان، فمن تذكر الظهر وهو في أثناء العصر، فالعصر باطلة، وكذا العشاء مع المغرب؛ لأن ترتيب الحاضرة واجب شرطاً. ويقطع الحاضرة إن لم يتم ركعة، ويندب أن يضم إليها ركعة أخرى إن أتم ركعة ويجعلها نفلاً. ويجب الترتيب مع الشرطين السابقين (التذكر والقدرة) بين الفوائت اليسيرة والصلاة الحاضرة، فتقدم الفائتة على الحاضرة، كمن عليه المغرب والعشاء والصبح، يجب تقديمها على الصبح الحاضرة، وإن خرج وقت الحاضرة، بتقديمه يسير الفوائت الواجب تقديمه عليها. وهذا واجب لا شرط، فلو خالفه لا تبطل المُقدَّمة على محلها، ولكنه يأثم، ولا إعادة عليه لخروج وقتها بمجرد فعلها، فإن قدمها ناسياً أو مكرهاً صحت ولا إثم عليه. ويندب إعادة الحاضرة لو قدمها على يسير الفائتة ولو عمداً، بوقت ضروري (وهو في الظهرين للاصفرار، وفي العشاءين لطلوع الفجر). ويسير الفوائت: خمس فأقل، فيصليها قبل الحاضرة ولو ضاق وقتها. ولو تذكر المصلي اليسير من الفوائت في أثناء فرض الصلاة، ولو صبحاً أو ¬
الحنابلة
جمعة، إماماً أو غيره، قطع صلاته وجوباً إذا لم يتم ركعة بسجدتيها، إذا كان منفرداً أو إماماً، ويتبعه المأموم. فإن كان مأموماً فلا يقطع الفوائت في وقت ضروري. فإن كان قد أتم ركعة بسجدتيها، ندب له أن يضم إليها ركعة أخرى بنية النفل، وسلم، ورجع للفائتة. وإن تذكر بعد ركعتين من الثنائية، أو الثلاثية، أو بعد ثلاث من الرباعية أتمها؛ لأن ما قارب الشيء يعطى حكمه، ثم صلى الفوائت، ثم يعيد الحاضرة ندباً في وقتها إن كان باقياً. وإن تذكر يسير الفوائت وهو في نفل أتمه مطلقاً، إلا إذا خاف خروج وقت الصلاة الحاضرة، ولم يكن قد أكمل ركعة، فيقطعه حينئذ، ويصلي الفرض. وإذا كانت الفوائت كثيرة أكثر من خمس، فلا يجب تقديمها على الحاضرة، بل يندب تقديم الحاضرة إن اتسع وقتها، فإن ضاق قدمها وجوباً. وقال الحنابلة على الصحيح من المذهب (¬1): الترتيب بين الفوائت في نفسها كثيرة أو قليلة، أو بينها وبين الحاضرة واجب إن اتسع الوقت لقضاء الفائتة، فإن لم يتسع سقط الترتيب. ولايسقط الترتيب في ظاهر المذهب من أجل إدراك الجماعة للصلاة الحاضرة، لأنه آكد من الجماعة، بدليل اشتراطه لصحة الصلاة، بخلاف الجماعة، كما لايسقط الترتيب بجهل وجوبه؛ لأنه ترتيب واجب في الصلاة، ولا عذر بالجهل بالأحكام الشرعية. فإن صلى العصر قبل الظهر الفائتة، لم تصح المتقدمة على محلها. وإن تذكر ¬
الشافعية
الأولى في أثناء الثانية، بطلت الثانية، لكن من ذكر أن عليه صلاة وهو في أخرى، أتمها، وقضى المذكورة، وأعاد التي كان فيها إذا كان الوقت باقياً، وذلك سواء أكان إماماً أم مأموماً أم منفرداً. والدليل على إتمامها قوله تعالى: {ولاتبطلوا أعمالكم} [محمد:33/ 47]. ودليل إيجاب الترتيب: ما روي «أن النبي صلّى الله عليه وسلم فاته يوم الخندق أربع صلوات، فقضاهن مرتبات». وإذا كثرت عليه الفوائت يتشاغل بالقضاء ما لم يلحقه مشقة في بدنه أو ماله. ومن نسي صلاة من يوم لا يعلم عينها، أعاد صلاة يوم وليله، عند أكثر أهل العلم؛ لأن التعيين شرط في صحة الصلاة المكتوبة، ولا يتوصل إلى ذلك إلا بإعادة الصلوات الخمس. ويندب عموماً تقديم صلاة الظهر؛ لأنها أول فريضة ظهرت في الإسلام، ما لم يعلم أن أول ما تركه غير الظهر. وقال الشافعية (¬1): يسن ترتيب الفائت، وتقديمه على الحاضرة التي لا يخاف فوت وقتها، عملاً بفعل النبي صلّى الله عليه وسلم يوم الخندق، وخروجاً من خلاف من أوجبه، فترتيب الفائتة وتقديمها على الحاضرة مشروط بشرطين: الأول ـ ألا يخشى فوات الحاضرة، بعدم إدراك ركعة منها في الوقت. الثاني ـ أن يكون متذكراً للفوائت قبل الشروع في الحاضرة. فإن لم يتذكرها حتى شرع في الحاضرة، وجب إتمامها، ضاق الوقت أو اتسع، ولو شرع في فائتة معتقداً سعة الوقت، فبان ضيقه عن إدراكها أداء، وجب قطعها لئلا تصير فائتة، ¬
خامسا ـ القضاء إن جهل عدد الفوائت
والأفضل أن يقلبها نفلاً بعد أداء ركعتين. ولو خاف فوت جماعة حاضرة، فالأفضل الترتيب، للخلاف في وجوبه. وترتيب الحاضرتين المجموعتين تقديماً واجب، وأما تأخيراً فهو سنة. خامساً ـ القضاء إن جهل عدد الفوائت: قال الحنفية (¬1): من عليه فوائت كثيرة لا يدري عددها، يجب عليه أن يقضي حتى يغلب على ظنه براءة ذمته. وعليه أن يعين الزمن، فينوي أول ظهر عليه أدرك وقته ولم يصله، أو ينوي آخر ظهر عليه أدرك وقته ولم يصله، وذلك تسهيلاً عليه. وقال المالكية والشافعية والحنابلة (¬2): يجب عليه أن يقضي حتى يتيقن براءة ذمته من الفروض، ولا يلزم تعيين الزمن، بل يكفي تعيين المنوي كالظهر أو العصر مثلاً. سادساً ـ القضاء في وقت النهي عن الصلاة: قال الحنفية: ثلاثة أوقات لا يصح فيها شيء من الفرائض والواجبات التي لزمت في الذمة قبل دخولها: عند طلوع الشمس إلى أن ترتفع وتبيضّ قدر رمح أو رمحين. وعند استواء الشمس في وسط السماء إلى أن تزول أي تميل إلى جهة المغرب. وعند اصفرار الشمس إلى أن تغرب، لقول عقبة بن عامر رضي الله عنه: ثلاثة أوقات نهانا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن نصلي فيها، وأن نقبر موتانا: عند طلوع ¬
الشمس حتى ترتفع، وعند زوالها حتى تزول، وحين تتضيف للغروب حتى تغرب» (¬1). وما عدا ذلك يجوز فيه القضاء ولو بعد العصر والصبح. ويصح أداء ما وجب في هذه الأوقات كجنازة حضرت، وسجدة آية تليت فيها، كما صح عصر اليوم عند الغروب مع الكراهة كما بينا. لكن ـ كما بينا سابقاً ـ يكره تحريماً صلاة النافلة ولو كان لها سبب كالمنذورة وركعتي الطواف في الأوقات الثلاثة. كما يكره التنفل بعد الفجر بأكثر من سنته وبعد صلاته، وبعد صلاة العصر، وقبل صلاة المغرب، وعند خروج الخطيب إلى الخطبة حتى يفرغ من الصلاة. وعند إقامة الصلاة إلا سنة الفجر، وقبل صلاة العيد ولو تنفل في المنزل، وكذا يكره التنفل بعد العيد في المسجد، وبين الجمعين في عرفة ولو بسنة الظهر، وجمع مزدلفة ولو بسنة المغرب على الصحيح؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم لم يتطوع بينهما. وعند ضيق وقت المكتوبة لتفويته الفرض عن وقته، وفي حال مدافعة الأخبثين، وحضور طعام تتوقه نفسه، وما يشغل البال ويخل بالخشوع (¬2). وقال المالكية والشافعية والحنابلة (¬3): يجوز قضاء الفرائض الفائتة في جميع أوقات النهي وغيرها، روي ذلك عن علي رضي الله عنه وغير واحد من الصحابة، وللحديث السابق: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها» (¬4) ولحديث ¬
أبي قتادة السابق: «إنما التفريط في اليقظة على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الأخرى، فمن فعل ذلك فليصلها حين ينتبه لها» (¬1). وخبر النهي عن الصلاة في الأوقات الخمسة السابقة مخصوص بالقضاء في الوقتين الآخرين، وبعصر يومه، فنقيس محل النزاع على المخصوص. ولو طلعت الشمس وهو في صلاة الصبح، أتمها، لحديث أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا أدرك سجدة من صلاة العصر، قبل أن تغيب الشمس، فليتم صلاته، وإذا أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس، فليتم صلاته» (¬2). وهذا نص في المسألة يقدم على عموم غيره. وقال الحنفية: تفسد الصلاة حينئذ؛ لأنها صارت في وقت النهي. ¬
الفصل العاشر: أنواع الصلاة
الفَصْلُ العَاشِر: أَنْواعُ الصَّلاة وفيه مباحث ثمانية: المبحث الأول ـ صلاة الجماعة وأحكامها (الإمامة والاقتداء): وفيه بحث صلاة المسبوق، والاستخلاف والبناء على الصلاة. الكلام في هذا المبحث يتناول المطالب الخمسة الآتية: الجماعة، الإمامة، القدوة، الأمور المشتركة بين الإمام والمأموم، الاستخلاف في الصلاة. المطلب الأول ـ الجماعة: تعريفها، مشروعيتها وفضلها وحكمتها، حكمها، أقل الجماعة أو من تنعقد به الجماعة، أفضل الجماعة، إدراك ثوابها، إدراك الفريضة، المشي للجماعة والمبادرة إليها مع الإمام، تكرار الجماعة في المسجد، الإعادة مع الجماعة، وقت استحباب القيام للصلاة، أعذار ترك الجماعة والجمعة.
أولا ـ تعريف الجماعة
أولاً ـ تعريف الجماعة: الجماعة: هي الارتباط الحاصل بين صلاة الإمام والمأموم. وقد شرع الإسلام عدة مناسبات ولقاءات اجتماعية بين المسلمين لأداء العبادة في أوقات معلومة، منها أداء الصلوات الخمس في اليوم والليلة، ومنها صلاة الجمعة في الأسبوع، ومنها صلاة العيدين في السنة مرة لأهل كل بلد، ومنها عام للبلاد كلها وهو الوقوف بعرفة في السنة مرة، لأجل التواصل والتوادد وعدم التقاطع. ثانياً ـ مشروعية الجماعة وفضلها وحكمتها: الجماعة مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب: فقوله تعالى: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة .. } [النساء:102/ 4] الآية. أمر الله بالجماعة في حالة الخوف أثناء الجهاد، ففي الأمن أولى، ولو لم تكن مطلوبة لرخص فيها حالة الخوف، ولم يجز الإخلال بواجبات الصلاة من أجلها. وأما السنة: فقوله صلّى الله عليه وسلم: «صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ، بسبع وعشرين درجة» (¬1) وفي رواية: «بخمس وعشرين درجة» (¬2) وأما الإجماع: فقد أجمع الصحابة على مشروعيتها بعد الهجرة. جاء في الإحياء للغزالي عن أبي سليمان الداراني أنه قال: لا يفوِّت أحد صلاة الجماعة إلا بذنب أذنبه، وكان السلف يعزون أنفسهم ثلاثة أيام إذا فاتتهم التكبيرة الأولى، وسبعة أيام إذا فاتتهم الجماعة. ¬
فضلها
وفضلها: كما ذكر في الحديث السابق أنها أفضل من صلاة المنفرد بسبع وعشرين درجة، وأن بكل خطوة إليها حسنة ورفع درجة، كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه: «من سره أن يلقى الله تعالى غداً مسلماً، فليحافظ على هؤلاء الصلوات، حيث ينادى بهن، فإن الله تعالى شرع لنبيكم صلّى الله عليه وسلم سنن الهدى، وأنهن من سُنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم، كما يصلي هذا المتخلف في بيته، لتركتم سنة نبيكم صلّى الله عليه وسلم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطُّهور، ثم يَعْمَد إلى مسجد من هذه المساجد، إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يُهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف» (¬1). وأنها أيضاً نور المسلم يوم القيامة، كما في قوله صلّى الله عليه وسلم: «بشر المشاءين في الظُلَم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة» (¬2). وآكد الجماعات في غير الجمعة: جماعة الصبح ثم العشاء (¬3) ثم العصر، للحديثين الآتيين: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه، لاستهموا عليه، ولو يعلمون ما في التهجير، لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتَمة والصبح لأتوهما، ولو حَبْوا» (¬4). ¬
حكمتها
وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «من صلى العشاء في جماعة، فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح جماعة، فكأنما صلى الليل كله» (¬1). أما العصر فلأنها الصلاة الوسطى. وحكمتها: تحقيق التآلف والتعارف والتعاون بين المسلمين، وغرس أصول المحبة والود في قلوبهم، وإشعارهم بأنهم إخوة متساوون متضامنون في السراء والضراء، دون فارق بينهم في الدرجة أو الرتبة أو الحرفة أو الثروة والجاه، أو الغنى والفقر. وفيها تعويد على النظام والانضباط وحب الطاعة في البر والمعروف، وتنعكس آثار ذلك كله على الحياة العامة والخاصة، فتثمر الصلاة جماعة أطيب الثمرات، وتحقق أبعد الأهداف، وتربي الناس على أفضل أصول التربية، وتربط أبناء المجتمع بأقوى الروابط؛ لأن ربهم واحد، وإمامهم واحد، وغايتهم واحدة، وسبيلهم واحدة. قال في الدر المختار: ومن حِكَمها: نظام الألفة وتعلم الجاهل من العالم. والألفة بتحصيل التعاهد باللقاء في أوقات الصلوات بين الجيران. ثالثاً ـ حكم صلاة الجماعة: صلاة الجماعة إما سنة مؤكدة أو فرض. فقال الحنفية والمالكية (¬2): الجماعة في الفرائض غير الجمعة سنة ¬
مؤكدة، للرجال العاقلين القادرين عليها من غير حرج، فلا تجب على النساء والصبيان والمجانين والعبيد والمقعد والمريض والشيخ الهرم ومقطوع اليد والرجل من خلاف. وكونها سنة؛ لأن ظاهر الحديث السابق «صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة، أو بسبع وعشرين درجة» يدل على أن الصلاة في الجماعات من جنس المندوب إليه، وكأنها كمال زائد على الصلاة الواجبة، فكأنه قال عليه الصلاة والسلام: صلاة الجماعة أكمل من صلاة المنفرد، والكمال إنما هو شيء زائد على الإجزاء. ويؤكده ما روي من حديث آخر: «الجماعة من سنن الهدى، لا يتخلف عنها إلا منافق» (¬1). وهذا الرأي ليسره أولى من غيره، خصوصاً في وقتنا الحاضر، حيث ازدحمت الأشغال والارتباط بمواعيد عمل معينة، فإن تيسر لواحد المشاركة في الجماعة، وجب تحقيقاً لشعائر الإسلام. وقال الشافعية في الأصح المنصوص (¬2): الجماعة فرض كفاية، لرجال أحرار مقيمين، لا عراة، في أداء مكتوبة، بحيث يظهر الشعار أي شعار الجماعة بإقامتها، في كل بلد صغير أو كبير. فإن امتنعوا كلُّهم من إقامتها قوتلوا (أي قاتلهم الإمام أو نائبه دون آحاد الناس)، ولا يتأكد الند ب للنساء تأكده للرجال في الأصح. بدليل قوله صلّى الله عليه وسلم: «ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الجماعة إلا استحوذ عليهم الشيطان (¬3)، فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية» (¬4). ¬
وقال الحنابلة (¬1): الجماعة واجبة وجوب عين، للآية السابقة: {وإذا كنت فيهم .. } [النساء:102/ 4] ويؤكده قوله تعالى: {واركعوا مع الراكعين} [البقرة:43/ 2]، وحديث أبي هريرة: «أثقل صلاة على المنافقين: صلاة العشاء وصلاة الفجر ... »، وفي حديثه أي أبي هريرة أيضاً: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده، لقد هممت أن آمر بحطب ليحتطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلاً، فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة، فأحرِّق عليهم بيوتهم» (¬2)، وحديث الأعمى المشهور: وهو «أن رجلاً أعمى، قال: يا رسول الله، ليس لي قائد يقودني إلى المسجد!! فسأل النبي صلّى الله عليه وسلم أن يرخص له، فيصلي في بيته، فرخص له، فلما ولَّى دعاه، فقال: هل تسمع النداء؟ فقال: نعم، قال: فأجب» (¬3)، وحديث ابن مسعود السابق: «لقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق .. » وحديث جابر وأبي هريرة: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» (¬4). ويعضد وجوب الجماعة: أن الشارع شرعها حال الخوف على صفة لا تجوز إلا في الأمن، وأباح الجمع لأجل المطر، وليس ذلك إلا محافظة على الجماعة، ولو كانت سنة لما جاز ذلك. لكن ليست الجماعة شرطاً لصحة الصلاة، كما نص الإمام أحمد. ¬
رابعا ـ أقل الجماعة أو من تنعقد به الجماعة
رابعاً ـ أقل الجماعة أو من تنعقد به الجماعة: أقل الجماعة اثنان: إمام ومأموم ولو مع صبي عند الشافعية والحنفية (¬1)، ولا تنعقد الجماعة مع صبي مميز عند المالكية والحنابلة (¬2)؛ لكن عند الحنابلة في فرض لانفل فتصح به؛ لأن الصبي لا يصلح إماماً في الفرض، ويصح أن يؤم صغيراً في نفل؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أمَّ ابن عباس، وهو صبي في التهجد. ودليلهم على أقل الجماعة: قوله صلّى الله عليه وسلم: «الاثنان فما فوقها جماعة» (¬3). خامساً ـ أفضل الجماعة، وحضور النساء المساجد: الجماعة في المسجد لغير المرأة أو الخنثى أفضل منها في غير المسجد، كالبيت وجماعة المرأة (¬4)، لخبر الصحيحين: «صلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة» أي فهي في المسجد أفضل؛ لأن المسجد مشتمل على الشرف والطهارة وإظهار الشعائر وكثرة الجماعة. وقد رتب الفقهاء أفضلية المساجد التي تقام فيها الجماعة: فقال الحنابلة (¬5): إن كان البلد ثغراً؛ وهو المكان المخوف، فالأفضل لأهله ¬
الاجتماع في مسجد واحد؛ لأنه أعلى للكلمة، وأوقع للهيبة. والأفضل لغيرهم: الصلاة في المسجد الذي لا تقام فيه الجماعة إلا بحضوره؛ لأن فيه تحصيل ثواب عمارة المسجد، وتحصيل الجماعة لمن يصلي فيه، وذلك معدوم في غيره، أو تقام فيه الجماعة بدون حضوره، لكن فيه جبر قلوب الإمام أو الجماعة. ثم المسجد العتيق؛ لأن الطاعة فيه أسبق. ثم الأفضل من المساجد: ما كان أكثر جماعة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «صلاة الرجل مع الرجل أولى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أولى من صلاته مع الرجل، وما كان أكثر فهو أحب إلى الله» (¬1). ثم المسجد الأبعد أفضل من الصلاة في الأقرب، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن أعظم الناس في الصلاة أجراً أبعدهم فأبعدهم ممشى» (¬2) ولكثرة حسناته بكثرة خطاه. وفضيلة أول الوقت أفضل من انتظار كثرة الجمع. وتقدم الجماعة مطلقاً على أول الوقت؛ لأنها واجبة، وأول الوقت سنة، ولا تعارض بين واجب ومسنون. وقال الشافعية (¬3): الجماعة للرجال في المساجد أفضل إلا إذا كانت الجماعة في البيت أكثر. وما كثرت جماعته أفضل، إلا إذا تعطل عن الجماعة مسجد قريب، فالجماعة القليلة أفضل. وقال المالكية (¬4): لا نزاع في أن الصلاة مع العلماء والصلحاء والكثير من أهل الخير أفضل من غيرها، لشمول الدعاء وسرعة الإجابة وكثرة الرحمة وقبول الشفاعة. ¬
حضور النساء إلى المساجد
حضور النساء إلى المساجد: أما حضور النساء إلى المساجد: فيجوز للعجوز، ويكره للشابة خوفاً من الفتنة والأولى للمرأة مطلقاً الصلاة في بيتها، وتتلخص آراء الفقهاء فيما يأتي: قال أبو حنيفة وصاحباه (¬1): يكره للنساء الشوابّ حضور الجماعة مطلقاً، لما فيه من خوف الفتنة، وقال أبو حنيفة: ولا بأس بأن تخرج العجوز في الفجر والمغرب والعشاء؛ لأن فرط الشبق حامل (باعث) فتقع الفتنة، وفي غير هذه الأوقات الفساق نائمون في الفجر والعشاء، ومشغولون بالطعام في المغرب، وأجاز الصاحبان لها أن تخرج في الصلوات كلها؛ لأنه لا فتنة، لقلة الرغبة فيهن. والمذهب المفتى به لدى المتأخرين: أنه يكره للنساء حضور الجماعة ولو لجمعة وعيد ووعظ، مطلقاً، ولو عجوزاً ليلاً، لفساد الزمان، وظهور الفسق. وقال المالكية (¬2): يجوز خلافاً للأولى خروج امرأة متجالَّة لا أرب للرجال فيها للمسجد ولجماعة العيد والجنازة والاستسقاء والكسوف، كما يجوز خروج شابة غير مُفتنة لمسجد وجنازة قريب من أهلها، أما مخشية الفتنة فلا يجوز لها الخروج مطلقاً. قال ابن رشد: تحقيق القول في هذه المسألة عندي: أن النساء أربع: أـ عجوز انقطعت حاجة الرجال منها: فهذه كالرجل، فتخرج للمسجد للفرض، ولمجالس الذكر والعلم، وتخرج للصحراء للعيدين والاستسقاء ولجنازة أهلها وأقاربها ولقضاء حوائجها. ¬
ب ـ ومتجالة لم تنقطع حاجة الرجال منها بالجملة: فهذه تخرج للمسجد للفرائض ومجالس العلم والذكر، ولا تكثر التردد في قضاء حوائجها، فيكره لها ذلك. وكلام العلامة خليل: أن هذه كالأولى. جـ ـ وشابة غير فارهة في الشباب والنجابة: تخرج للمسجد لصلاة الفرض جماعة، وفي جنازة أهلها وأقاربها، ولا تخرج لعيد ولا استسقاء ولا لمجالس ذكر أو علم. د ـ وشابة فارهة في الشباب والنجابة: فهذه لها الاختيار، فلها ألا تخرج أصلاً. وقال الشافعية والحنابلة (¬1): يكره للحسناء أو ذات الهيئة شابة أو غيرها حضور جماعة الرجال؛ لأنها مظنة الفتنة، وتصلي في بيتها. ويباح الحضور لغير الحسناء إذا خرجت تَفِلة (غير متطيبة) بإذن زوجها، وبيتها خير لها، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لاتمنعوا النساء أن يخرجن إلى المساجد، وبيوتهن خير لهن» وفي لفظ «إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد، فأذنوا لهن» (¬2) أي إذا أمن المفسدة. ولقوله صلّى الله عليه وسلم في هيئة خروجها: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وليخرجن تَفِلات» (¬3) أي غير متطيبات. وعن أم سلمة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «خير مساجد النساء قعر بيوتهن» (¬4). والخلاصة: لاتخرج المرأة الجميلة للمساجد، وتخرج العجوز. ¬
سادسا ـ إدراك ثواب الجماعة
سادساً ـ إدراك ثواب الجماعة: الثواب الأكمل يحصل لمن أدرك الصلاة مع الإمام من أولها إلى آخرها، فإن إدراك تكبيرة الإحرام مع الإمام فضيلة، لحديث رواه الترمذي عن أنس: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من صلى لله أربعين يوماً في جماعة، يدرك التكبيرة الأولى، كتب له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق» (¬1)، وروي: «لكل شيء صفوة، وصفوة الصلاة: التكبيرة الأولى، فحافظوا عليها» (¬2) ولحديث: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا سجد فاسجدوا» (¬3) إذ الفاء للتعقيب. والصحيح عند الشافعية: إدراك فضيلة الجماعة ما لم يسلِّم الإمام، وإن لم يقعد معه، بأن انتهى سلامه عقب تحرّمه، وإن بدأ بالسلام قبله، لإدراكه ركناً معه، لكنه دون فضل من يدركها من أولها. واستثنوا صلاة الجمعة فإن جماعتها لا تدرك إلا بإدراك ركعة كاملة مع الإمام. وقال الحنابلة والحنفية (¬4): من كبر قبل سلام الإمام التسليمة الأولى، أدرك الجماعة، ولو لم يجلس معه؛ لأنه أدرك جزءاً من صلاة الإمام، فأشبه ما لو أدرك ركعة. وقال المالكية (¬5): إنما يحصل فضل الجماعة الوارد به الخبر المتضمن كون ثوابها بخمس أو بسبع وعشرين درجة، بإدراك ركعة كاملة يدركها مع الإمام، بأن يمكّن يديه من ركبتيه أو مما قاربهما قبل رفع الإمام وإن لم يطمئن إلا بعد رفعه. أما ¬
سابعا ـ إدراك الفريضة مع الإمام
مدرك ما دون الركعة فلا يحصل له فضل الجماعة، وإن كان مأموراً بالدخول مع الإمام، وأنه مأجور بلا نزاع. والخلاصة: تدرك صلاة الجماعة عند الجمهور بالتحريمة، وبركعة عند المالكية. سابعاً ـ إدراك الفريضة مع الإمام: اتفق أئمة المذاهب (¬1) على أن من أدرك الإمام راكعاً في ركوعه، فإنه يدرك الركعة مع الإمام، وتسقط عنه القراءة كما بينا سابقاً، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام، فقد أدرك الصلاة» (¬2) فإن ركع بعد رفع الإمام رأسه من الركوع، لم تحسب الركعة. لكن المالكية قالوا: إنما تدرك الركعة مع الإمام بانحناء المأموم في أول ركعة له مع الإمام قبل اعتدال الإمام من ركوعه، ولو حال رفعه، ولو لم يطمئن المأموم في ركوعه إلا بعد اعتدال الإمام مطمئناً، ثم يكبر لركوع أو سجود بعد تكبيرة الإحرام، ولايؤخر الدخول مع الإمام في أي حالة من الحالات حتى يقوم للركعة التي تليها، وإن شك هل ركع قبل اعتدال الإمام أو بعده لم تحسب له الركعة. وقال الحنابلة: من أدرك الإمام راكعاً، أجزأته تكبيرة الإحرام عن تكبيرة الركوع نصاً، لأنه فعل زيد بن ثابت وابن عمر، ولا يعرف لهما مخالف في الصحابة، ولأنه اجتمع عبادتان من جنس واحد، فأجزأ الركن عن الواجب، كطواف الزيارة والوداع. ¬
هل يركع من أدرك الإمام راكعا دون الصف؟
واشترط الشافعية كالمالكية تكبيرة الركوع عدا تكبيرة الإحرام ليدرك جزءاً من القيام. وهل يركع من أدرك الإمام راكعاً دون الصف؟ قال المالكية (¬1): يحرم (أي يكبر تكبيرة الإحرام) من خشي فوات ركعة برفع الإمام من ركوعه إن لم يحرم، دون الصف، إن ظن إدراكه قبل رفع رأس الإمام من الركوع. فإن لم يظن إدراك الصف قبل رفع الإمام، تابع مشيه بلا خَبَب (هرولة)، إلا أن تكون الركعة الأخيرة من صلاة الإمام، فإنه يحرم في مكانه دون الصف، لئلا تفوته الصلاة، ثم مشى، حتى يدخل في الصف. وقال الحنابلة وغيرهم من بقية الفقهاء (¬2): لا يركع دون الصف إلا إذا مشى ودخل في الصف قبل رفع الإمام رأسه من الركوع، أو يأتي آخر فيقف معه. وجملة ذلك: أن من ركع دون الصف ثم دخل فيه لايخلو من ثلاثة أحوال: آـ إذا صلى ركعة كاملة، فلا تصح صلاته، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «لا صلاة لفرد خلف الصف» (2). ب ـ أن يمشي راكعاً حتى يدخل في الصف قبل رفع الإمام رأسه من الركوع، أو أن يأتي آخر، فيقف معه قبل أن يرفع الإمام رأسه من الركوع، فإن صلاته تصح، لأنه أدرك مع الإمام في الصف ما يدرك به الركعة. جـ ـ إذا دخل في الصف بعد رفع رأسه من الركوع: فمتى كان جاهلاً بتحريم ذلك، صحت صلاته، وإن علم لم تصح، بدليل ما روى البخاري وغيره: «أن ¬
ثامنا - المشي للجماعة
أبا بكرة انتهى إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، وهو راكع، فركع قبل أن يصل إلى الصف، فذكر ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: زادك الله حرصاً، ولا تعد» (¬1)، فلم يأمره بإعادة الصلاة ونهاه عن العود. ثامناً - المشي للجماعة والمبادرة إليها مع الإمام: المشي للجماعة: يستحب لمن قصد الجماعة أن يمشي إليها، وعليه السكينة والوقار (¬2)، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا سمعتم الإقامة، فامشوا إلى الصلاة، وعليكم السكينة والوقار، ولاتسرعوا، فما أدركتم فصلّوا، وما فاتكم فأتموا» (¬3). وذكر المالكية (¬4): أنه يجوز الإسراع لإدراك الصلاة مع الجماعة، بلا خَبَب (أي هرولة: وهي ما دون الجري) وتكره الهرولة؛ لأنها تذهب الخشوع، والجري أولى. المبادرة للاقتداء مع الإمام: يبادر المصلي للاقتداء بالإمام، سواء أكان قائماً أم راكعاً أم ساجداً أم نحوه. وهل له أن يصلي النافلة؟ ¬
قال المالكية (¬1): يحرم على المتخلف ابتداء صلاة، فرضاً أو نفلاً بجماعة أو لا، بعد إقامة الصلاة لإمام راتب. وإن أقيمت تلك الصلاة بمسجد، والمصلي في صلاة فريضة أو نافلة بالمسجد أو رحبته: فإن خشي فوات ركعة مع الإمام، قطع صلاته، ودخل مع الإمام مطلقاً، سواء أكانت نافلة أم فرضاً غير الصلاة المقامة، وسواء عقد ركعة أم لا، ويقطع صلاته بسلام أو مناف للصلاة ككلام ونية إبطال. وإن لم يخش فوات ركعة: فإن كانت الصلاة نافلة أتمها ركعتين، ويندب أن يتمها جالساً. وإن كانت الصلاة التي هو بها هي المقامة نفسها ـ بأن كان في العصر، فأقيمت للإمام ـ انصرف عن شفع ولا يتمها، فلو صلى ركعة ضم لها أخرى، وإن كان في الثانية كملها، وإن كان في الثالثة قبل كمالها بسجودها، رجع للجلوس فتشهد، وسلم. هذا إن كان في صلاة رباعية. فإن كان في صلاة صبح أو مغرب، فأقيمت، قطع صلاته، ودخل مع الإمام، لئلا يصير متنفلاً بوقت نهي. وإن أتم ثانية المغرب، أو الثالثة، أو ثانية الصبح، كملها بنية الفريضة. وقال الشافعية (¬2): إن كان المصلي في صلاة نافلة، ثم أقيمت الجماعة: فإن لم يخش فوات الجماعة، أتم النافلة، ثم دخل في الجماعة. وإن خشي فوات الجماعة، قطع النافلة؛ لأن الجماعة أفضل. وإن دخل في فرض الوقت ثم أقيمت الجماعة: فالأفضل أن يقطع، ويدخل في الجماعة. وفي المذهب الجديد وهو الأصح: له أن ينوي الدخول في الجماعة من غير أن يقطع صلاته؛ لأنه لما جاز أن يصلي بعض صلاته منفرداً، ثم يصير إماماً، ¬
بأن يجيء من يأتم به، جاز أن يصلي بعض صلاته منفرداً، ثم يصير مأموماً، ومن المقرر عندهم أنه يجوز أن يغير ترتيب صلاته بالمتابعة، كالمسبوق بركعة. وإن حضر وقد أقيمت الصلاة، لم يشتغل عنها بنافلة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا أقيمت الصلاة، فلا صلاة إلا المكتوبة» (¬1). وقال الحنابلة (¬2): إذا شرع المؤذن في إقامة الصلاة التي يريد الصلاة مع إمامها، عملاً برواية ابن حبان بلفظ «إذا أخذ المؤذن في الإقامة»، فلا صلاة إلا المكتوبة، فلا يشرع في نفل مطلق ولا سنة راتبه من سنة فجر أو غيرها، في المسجد أو غيره ولو ببيته، لعموم الحديث السابق: «إذا أقيمت الصلاة ... »، فإذاشرع في نافلة بعد الشروع في الإقامة، لم تنعقد، لما روي عن أبي هريرة «وكان عمر يضرب على كل صلاة بعد الإقامة». وإن أقيمت الصلاة، وهو في النافلة، ولو كان خارج المسجد، أتمها خفيفة، ولو فاتته ركعة، لقوله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم} [محمد:33/ 47] ولا يزيد على ركعتين، فإن كان شرع في الركعة الثالثة، أتمها أربعاً، لأنها أفضل من الثلاث. فإن سلَّم من ثلاث ركعات، جاز نصاً في المسألتين، إلا أن يخشى المتنفل فوات ما تدرك به الجماعة، فيقطعها؛ لأن الفرض أهم. وللحنفية تفصيل خاص، يشبه في قطع الفريضة مذهبي المالكية والشافعية في الجملة، ويستقل في ضرورة صلاة سنة الفجر، وهو ما يأتي (¬3): ¬
إذا شرع المصلي في أداء فرض أو قضائه منفرداً، ثم أقيمت الجماعة: فإن شرع في صلاة الفجر أو المغرب: فإن كان في الركعة الأولى، ولو بعد السجود، فعليه أن يقطع صلاته بتسليمة، ثم يدخل في الجماعة. وإن كان في الركعة الثانية، قطعها أيضاً إن كان قبل السجود، وأتمهامنفرداً إن كان بعد السجود. وإن شرع في صلاة رباعية كالظهر أو العصر: فإن كان المنفرد قبل السجود في الركعتين الأولى (¬1)، قطع صلاته ولحق الإمام. وإن كان بعد السجود أتم الركعتين أي صلى شفعاً وسلم، ودخل مع الجماعة إحرازاً لفضيلة الجماعة، وصار ما صلاه نفلاً، صيانة للمؤدى عن البطلان. وإن قام للثالثة، فأقيمت الجماعة قبل سجوده، قطع قائماً بتسليمة واحدة. أما إن أتم الركعة الثالثة من الرباعية أو من المغرب، فإنه يتم صلاته منفرداً؛ لأن للأكثر حكم الكل. ثم يصلي مع الجماعة نافلة؛ لأن الفرض لا يتكرر في وقت واحد، بدليل ما قال يزيد بن الأسود: شهدت مع النبي صلّى الله عليه وسلم حَجَّتَه، فصليت معه صلاة الصبح في مسجد الخيف، فلما قضى صلاته، انحرف، فإذا هو برجلين في أخرى القوم لم يصليا، فقال: عليَّ بهما، فجيء بهما تُرعَد فرائصُهما (¬2)، فقال: ما منعكما أن تصليا معنا؟ فقالا: يا رسول الله، إنا كنا قد صلينا في رحالنا، قال: فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة، فصلِّيا معهم، فإنها لكما نافلة (¬3). ¬
ومن دخل المسجد، والصلاة تقام، اشترك مع الجماعة ويترك السنة، لأنه يؤديها بعد الفرض والسنة البعدية، إلا سنة الفجر، فإنه يصليها عند باب المسجد، ثم يدخل، إذا لم يخف فوت الجماعة، لأنه أمكنه الجمع بين الفضيلتين. فإن خشي فوت الجماعة، دخل مع الإمام في الفريضة؛ لأن ثواب الجماعة أعظم، والوعيد بالترك ألزم. وإذا فاتته ركعتا الفجر، لا يقضيهما قبل طلوع الشمس؛ لأنه يبقى نفلاً مطلقاً، وهو مكروه بعد الصبح، ولا بعد ارتفاع الشمس عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن الأصل في السنة ألا تقضى، لاختصاص القضاء بالواجب، والرسول صلّى الله عليه وسلم إنما قضى السنة تبعاً للفرض غداة طلوع الشمس عليه ليلة التعريس (¬1) في الوادي، فبقي ما عداه على الأصل: وهو عدم القضاء، وعلى هذا فلا تقضى سنة الفجر إلا تبعاً للفرض إذا فاتت مع الفرض. وقال محمد: أحب إلي أن يقضيهما (أي ركعتي الفجر) إلى وقت الزوال، لأنه عليه السلام قضاهما بعد ارتفاع الشمس غداة ليلة التعريس. وإن شرع في سنة الظهر القبلية، فأقيمت الجماعة، أو في سنة الجمعة فصعد الخطيب المنبر، سلم بعد ركعتين وهو الأوجه، ثم قضى السنة أربعاً بعد أداء الفرض والسنة البعدية، حتى لا يفوت فرض الاستماع والأداء على وجه أكمل. وهذا رأي أبي حنيفة وأبي يوسف. وعند محمد: تقضى قبل السنة البعدية. قال الشلبي (¬2): والأولى تقديم الركعتين أي السنة البعدية؛ لأن الأربع أي السنة القبلية فاتت عن الموضع المسنون، فلا تفوت الركعتان أيضاً عن موضعهما قصداً بلا ضرورة. ¬
تاسعا ـ تكرار الجماعة في المسجد
تاسعاً ـ تكرار الجماعة في المسجد: عرفنا في مكروهات الصلاة سابقاً أن الحنفية (¬1) قالوا: يكره تكرار الجماعة بأذان وإقامة في مسجد مَحِلِّة، إلا إذا صلى بهما فيه أولاً غير أهله، أو أهله لكن بمخافته الأذان، أو كرر أهله الجماعة بدون الأذان والإقامة، أو كان مسجد طريق، أو مسجداً لا إمام له ولا مؤذن، ويصلي الناس فيه فوجاً فوجاً، والأفضل أن يصلي كل فريق بأذان وإقامة على حدة. والمراد بمسجد المحلة: ما له إمام وجماعة معلومون. والكراهة إذا تكرر الأذان، فلو صلى جماعة في مسجد المحلة بغير أذان أبيح، لكن ظاهر الرواية عند الحنفية أنه مكروه، فما يفعل في بعض المساجد من الصلاة بأئمة متعددة وجماعات مترتبة مكروه عندهم. ودليلهم: أنه عليه الصلاة والسلام كان قد خرج، ليصلح بين قوم، فعاد إلى المسجد، وقد صلى أهل المسجد، فرجع إلى منزله، فجمع أهله وصلى. ولو جاز ذلك لما اختار الصلاة في بيته على الجماعة في المسجد. ولأن ذلك حامل على تكثير الجماعة، فلو أبيح التكرار بدون كراهة لا يجتمع الناس، لعلمهم أن الجماعة لا تفوتهم. أما مسجد الشارع، فالناس فيه سواء، لا اختصاص له بفريق دون فريق. وعلى هذا لا يكره تكرار الجماعة في مساجد الطرق: وهي ما ليس لها إمام وجماعة معينون. وقال المالكية (¬2): يكره تكرار الجماعة في مسجد له إمام راتب، وكذلك ¬
يكره إقامة الجماعة قبل الإمام الراتب، ويحرم إقامة جماعة مع جماعة الإمام الراتب. والقاعدة عندهم: أنه متى أقيمت الصلاة مع الإمام الراتب، فلا يجوز إقامة صلاة أخرى فرضاً أو نفلاً، لا جماعة ولا فرادى. ومن صلى جماعة مع الإمام الراتب، وجب عليه الخروج من المسجد، لئلا يؤدي إلى الطعن في الإمام. وإذا دخل جماعة مسجداً، فوجدوا الإمام الراتب قد صلى، ندب لهم الخروج ليصلوا جماعة خارج المسجد، إلا المساجد الثلاثة (المسجد الحرام ومسجد المدينة والمسجد الأقصى)، فيصلون فيها فرادى، إن دخلوها؛ لأن الصلاة المنفردة فيها أفضل من جماعة غيرها. وإذا تعدد الأئمة الراتبون، بأن يصلي أحدهم بعد الآخر، كره على الراجح. ويكره تعدد الجماعات في وقت واحد، لما فيه من التشويش. ولا يكره تكرار الجماعة في المساجد التي ليس لها إمام راتب. وقال الشافعية (¬1): يكره إقامة الجماعة في مسجد بغير إذن من الإمام الراتب مطلقاً قبله أو بعده أو معه، ولا يكره تكرار الجماعة في المسجد المطروق في ممر الناس، أو في السوق، أو فيما ليس له إمام راتب، أو له وضاق المسجد عن الجميع، أو خيف خروج الوقت؛ لأنه لا يحمل التكرار على المكيدة. وقال الحنابلة (¬2): يحرم إقامة جماعة في مسجد قبل إمامه الراتب إلا بإذنه، لأنه بمنزلة صاحب البيت، وهو أحق بها، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يؤمَّنَّ الرجل الرجل في بيته إلا بإذنه» (¬3)، ولأنه يؤدي إلى التنفير عنه، وكذلك يحرم إقامة جماعة أخرى ¬
عاشرا ـ إعادة المنفرد الصلاة جماعة
أثناء صلاة الإمام الراتب، ولا تصح الصلاة في كلتا الحالتين. وعلى هذا فلا يحرم ولا تكره الجماعة بإذن الإمام الراتب؛ لأنه مع الإذن يكون المأذون نائباً عن الراتب، ولا تحرم ولا تكره أيضاً إذا تأخر الإمام الراتب لعذر، أو ظن عدم حضوره، أو ظن حضوره ولم يكن يكره أن يصلي غيره في حال غيبته. ولا يكره تكرار الجماعة بإمامة غير الراتب بعد انتهاء الإمام الراتب، إلا في مسجدي مكة والمدينة فقط، فإنه تكره إعادة الجماعة فيهما، رغبة في توفير الجماعة، أي لئلا يتوانى الناس في حضور الجماعة مع الراتب في المسجدين إذا أمكنهم الصلاة في جماعة أخرى، وذلك إلا لعذر كنوم ونحوه عن الجماعة، فلا يكره لمن فاتته إعادتها بالمسجدين. ويكره تعدد الأئمة الراتبين بالمسجدين المذكورين، لفوات فضيلة أول الوقت لمن يتأخر، وفوات كثرة الجمع، وإن اختلفت المذاهب. ويكره للإمام إعادة الصلاة مرتين، بأن يؤم بالناس مرتين في صلاة واحدة، بأن ينوي بالثانية عن فائتة أو غيرها، وبالأولى فرض الوقت. والأئمة متفقون على أنه بدعة مكروهة. عاشراً ـ إعادة المنفرد الصلاة جماعة: اتفق الفقهاء على أنه يجوز لمن صلى منفرداً أن يعيد الصلاة في جماعة وتكون الثانية نفلاً، عملاً بما ثبت في السنة في حديث يزيد بن الأسود السابق، وفي حديث آخر: أن رجلاً جاء إلى المسجد بعد صلاة النبي صلّى الله عليه وسلم العصر، فقال: «من يتصدق على هذا، فيصلي معه؟ فصلى معه رجل من القوم» (¬1). ¬
ولكن للفقهاء تفصيل في إعادة الصلاة: قال الحنفية (¬1): يجوز للمنفرد إعادة الصلاة مع إمام جماعة، وتكون صلاته الثانية نفلاً بدليل حديث يزيد بن الأسود السابق في بحث إدراك الفريضة. والذي قال فيه النبي صلّى الله عليه وسلم لرجلين في أخريات الصفوف، لم يصليا معه صلاة الظهر: «إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة، فصليا معهم فإنها لكما نافلة». وإذا كانت نفلاً، أعطيت حكم النافلة، فتكره إعادة صلاة العصر؛ لأن النفل ممنوع بعد العصر، وتكره صلاة النفل خلف النفل إذا كانت الجماعة أكثر من ثلاثة، وإلا فلا تكره إن أعادوها بدون أذان، وتكره مطقاً إن أعادوها بأذان. وتجوز إذا كان إمامه يصلي فرضاً، لا نفلاً؛ لأن صلاة النافلة خلف الفرض غير مكروهة. وقال المالكية (¬2): من صلى في جماعة لم يعد في أخرى إلا إذا دخل أحد المساجد الثلاثة فيندب له الإعادة. ومن صلى منفرداً جازت له الإعادة في جماعة: اثنين فأكثر، لا مع واحد، إلا إذا كان إماماً راتباً بمسجد، فيعيد معه؛ لأن الراتب كالجماعة، ويعيد كل الصلوات غير المغرب، والعشاء بعد الوتر، فتحرم إعادتها لتحصيل فضل الجماعة، أما المغرب فلا تعاد؛ لأنها تصير مع الأول شفعاً؛ لأن المعادة في حكم النفل، والعشاء تعاد قبل الوتر، ولا تعاد بعده؛ لأنه إن أعاد الوتر يلزم مخالفة قوله صلّى الله عليه وسلم: «لا وتران في ليلة»، وإن لم يعد، لزم مخالفة: «اجعلوا آخر صلاتكم من الليل وتراً». ولكل منفرد إعادة الصلاة إلا من صلى منفرداً في أحد المساجد الثلاثة، فلا يندب له إعادتها جماعة خارجها، ويندب إعادتها جماعة فيها. ¬
ويعيد إذا كان مأموماً، ولا يصح أن يكون إماماً، كما قال الحنفية. وينوي المعيد الفرض، مفوضاً لله تعالى في قبول أي الصلاتين. وقال الشافعية (¬1): يسن للمصلي وحده، وكذا للجماعة في الأصح: إعادة الفرض بنية الفرض في الأصح مع منفرد أو جماعة يدركها في الوقت ولو ركعة فيه على الراجح، ولو كان الوقت وقت كراهة، وتكون الإعادة مرة واحدة على الراجح، ولا يندب أن يعيد الصلاة المنذروة ولا صلاة الجنازة، إذ لا يتنفل بها، ويشترط أن تكون الصلاة الثانية صحيحة وإن لم تغن عن القضاء، وألا ينفرد وقت الإحرام بالصلاة الثانية من قيام لقادر، وأن تكون الجماعة مطلوبة في حق من يعيدها، فإن كان عارياً فلا يعيدها في غير ظلام. ويصح أن يكون المعيد إماماً. وإذا صلى وأعاد مع الجماعة، فالفرض هو الأول في المذهب الجديد، لخبر يزيد بن الأسود السابق، إذ اعتبر النبي فيه الصلاة الثانية نافلة، ولأنه أسقط الفرض بالصلاة الأولى، فوجب أن تكون الثانية نفلاً. وينوي إعادة الصلاة المفروضة، حتى لا تكون نفلاً مبتدءاً. وقال الحنابلة (¬2): يستحب لمن صلى فرضه منفرداً أو في جماعة أن يعيد الصلاة إذا أقيمت الجماعة وهو في المسجد، ولو كان وقت الإعادة وقت نهي، سواء أكانت الإعادة مع الإمام الراتب أو غيره، إلا المغرب، فلا تسن إعادتها؛ لأن المعادة تطوع، وهو لا يكون بوتر. وتكون صلاته الأولى فرضه، لحديث يزيد ابن الأسود السابق. وينوي بالثانية كونها معادة؛ لأن الأولى أسقطت الفرض. وإن نوى المعادة نفلاً صح، لمطابقته الواقع، وإن نواها ظهراً مثلاً، صحت، وكانت نفلاً. ¬
الحادي عشر ـ وقت استحباب القيام للجماعة أو الصلاة
أما من كان خارج المسجد، فوجد جماعة تقام: فإن كان الوقت وقت نهي، لم يستحب له الدخول، حتى تفرغ الصلاة، وتحرم عليه الإعادة ولم تصح، سواء قصد بدخوله المسجد تحصيل الجماعة أم لا. وأما إذا لم يكن الوقت وقت نهي، وقصد المسجد للإعادة، فلا تسن له الإعادة، وإن لم يقصد ذلك، كانت الإعادة مسنونة. الحادي عشر ـ وقت استحباب القيام للجماعة أو الصلاة: عرفنا في بحث أحكام الإقامة للصلاة أن للفقهاء آراء أربعة في وقت استحباب القيام لصلاة الجماعة، نوجزها هنا: ذهب الحنفية: إلى أن المصلي يقوم عند «حي على الفلاح» وبعد قيام الإمام. وذهب الحنابلة: إلى أنه يقوم عند «قد قامت الصلاة». ورأي الشافعية: أنه يقوم بعد انتهاء المقيم من الإقامة. وقال المالكية: ذلك موكول إلى قدر طاقة الناس، حال الإقامة أو أولها أو بعدها، إذ ليس في هذا شرع مسموع إلا حديث أبي قتادة السابق: أنه عليه الصلاة والسلام قال: «إذ أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني» قال ابن رشد: فإن صح هذا ـ وقد بينا أنه حديث متفق عليه ـ وجب العمل به، وإلا فالمسألة باقية على أصلها المعفو عنه، أعني أنه ليس فيها شرع، وأنه متى قام كل واحد، فحسن (¬1). الثاني عشر ـ أعذار ترك الجماعة والجمعة: يعذر المرء بترك الجمعة والجماعة، فلا تجبان للأسباب الآتية (¬2): ¬
1ً - المرض الذي يشق معه الحضور كمشقة المطر، وإن لم يبلغ حداً يسقط القيام في الفرض، بخلاف المرض الخفيف كصداع يسير وحمى خفيفة فليس بعذر. ومثله تمريض من لا متعهد له ولو غير قريب ونحوه؛ لأن دفع الضرر عن الآدمي من المهمات، ولأنه يتألم على القريب أكثر مما يتألم بذهاب المال. وغير القريب كالزوجة والصهر والصديق والأستاذ. ودليل عذر المرض: قوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج:78/ 22] وأنه صلّى الله عليه وسلم لما مرض تخلف عن المسجد، وقال: «مروا أبا بكر فليصل بالناس» (¬1) ويعذر في ذلك خائف حدوث المرض، لما روى ابن عباس: أن النبي صلّى الله عليه وسلم فسر العذر: بالخوف والمرض (¬2). فلا تجب الجماعة على مريض ومقعد وزمِن ومقطوع يد ورجل من خلاف أو رجل فقط، ومفلوج وشيخ كبير عاجز وأعمى وإن وجد قائداً في رأي الحنفية، ولا يعذر حينئذ عند الحنابلة والمالكية والشافعية في ترك الجمعة دون الجماعة كما سيأتي. 2ً - أن يخاف ضرراً في نفسه أو ماله أو عرضه أو مريضاً يشق معه الذهاب كما ذكر، بدليل ما روى ابن عباس رضي الله عنه: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من سمع النداء، فلم يجبه، فلا صلاة له إلا من عذر، قالوا: يارسول الله، وما العذر؟ قال: خوف أو مرض». فلا تجب الجماعة والجمعة بسبب خوف ظالم، وحبس معسر، أو ملازمة غريم معسر، وعُرْي، وخوف عقوبة يرجى تركها كتعزير لله تعالى، أو لآدمي، وقَوَد (قصاص) وحد قذف مما يقبل العفو إن تغيب أياماً، وخوف زيادة المرض أو ¬
تباطئه. فإن لم يتضرر المريض بإتيانه المسجد راكباً أو محمولاً أو تبرع أحد بأن يركبه أو يحمله أو يقوده إن كان أعمى، لزمته عند الحنابلة والمالكية والشافعية الجمعة لعدم تكررها دون الجماعة. ولا تجب الجماعة والجمعة بسبب الخوف عن الانقطاع عن الرفقة في السفر ولو سفر نزهة. أو بسبب الخوف من تلف مال كخبز في تنور، وطبيخ على نار ونحوه، أو الخوف من فوات فرصة كالخوف من ذهاب شخص يدله على ضائع في مكان ما. 3ً - المطر، والوَحَل (الطين) والبرد الشديد، والحر ظهراً، والريح الشديدة في الليل لا في النهار، والظلمة الشديدة، بدليل ما روى ابن عمر رضي الله عنه، قال: «كنا إذا كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في سفر، وكانت ليلة مظلمة أو مطيرة، نادى مناديه: أن صلوا في رحالكم» (¬1)، والثلج والجليد كالمطر. 4ً - مدافعة الأخبثين (البول والغائط) أو أحدهما، لأن ذلك يمنعه من إكمال الصلاة وخشوعها. وحضور طعام تتوقه نفسه، أي جوع وعطش شديدان، لخبر أنس في الصحيحين: «لا تعجلن حتى تفرغ منه»، وإرادة سفر، ويخشى أن تفوته القافلة أي تأهب لسفر مع رفقة ترحل، أما السفر نفسه فليس بعذر، وغلبة نعاس ومشقة؛ لأن رجلاً صلى مع معاذ، ثم انفرد، فصلى وحده عند تطويل معاذ، فلم ينكر عليه النبي صلّى الله عليه وسلم حين أخبره. لكن الصبر والتجلد على دفع النعاس، والصلاة جماعة أفضل، لما فيه من نيل فضل الجماعة. وأضاف الحنفية: واشتغاله بالفقه لابغيره. ¬
5ً - أكل منتن نيء إن لم يمكنه إزالته، ويكره حضور المسجد لمن أكل ثوماً أو بصلاً أو فجلاً ونحوه، حتى يذهب ريحه، لتأذي الملائكة بريحه، ولحديث: «من أكل ثوماً أو بصلاً، فليعتزلنا، وليعتزل مسجدنا، وليقعد في بيته» (¬1). ومثله جزار له رائحة منتنة، ونحوه من كل ذي رائحة منتنة، لأن العلة الأذى. وكذا من به برص أو جذام يتأذى به قياساً على أكل الثوم ونحوه بجامع الأذى. 6ً - الحبس في مكان، لقوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} [البقرة:286/ 2]. 7ً - أضاف الشافعية: تقطير سقوف الأسواق والزلزلة، والسموم: وهي ريح حارة ليلاً أو نهاراً، والبحث عن ضالة يرجوها، والسعي في استرداد مغصوب، والسمن المفرط، والهم المانع من الخشوع، والاشتغال بتجهيز ميت، ووجود من يؤذيه في طريقه أو في المسجد، وزفاف زوجته إليه في الصلاة الليلية، وتطويل الإمام على المشروع، وترك سنة مقصودة، وكونه سريع القراءة والمأموم بطيئاً، أو ممن يكره الاقتداء به، وكونه يخشى وقوع فتنة له أو به. وأيدهم الحنابلة في عذر تطويل الإمام، وزفاف الزوجة أو العرس. وتسقط الجمعة والجماعة عند المالكية لمدة ستة أيام بسبب الزفاف، ولا تسقط عن العروس في السابع على المشهور. وأضافوا كالشافعية: يعذر من عليه قصاص (قَوَد) إن رجا العفو عنه، ومن عليه حد القذف، إن رجا العفو أيضاً؛ لأنه حق آدم. أما من عليه حد لله تعالى كحد الزنا وشرب الخمر وقطع السرقة، فلا يعذر في ترك الجمعة ولا الجماعة؛ لأن الحدود لا يدخلها المصالحة، بخلاف القصاص. ¬
المطلب الثاني ـ الإمامة
وخلاصة ما يسقط به حضور الجماعة عند الحنفية: واحد من ثمانية عشر أمراً: مطر، وبرد، وخوف، وظلمة، وحبس، وعمى، وفلج، وقطع يد ورجل، وسقام، وإقعاد، ووحل، وزمانة، وشيخوخة، وتكرار فقه بجماعة تفوته، وحضور طعام تتوقه نفسه، وإرادة سفر، وقيامه بمريض، وشدة ريح ليلاً لا نهاراً. وإذا انقطع عن الجماعة لعذر من أعذارها المبيحة للتخلف يحصل له ثوابها. المطلب الثاني ـ الإمامة: تعريفها، نوعاها، شروط الأئمة أو من تصح إمامته، الأحق بالإمامة، مكروهات الإمامة ومن تكره إمامته، متى تفسد صلاة الإمام دون المؤتم، ما تفسد به صلاة الإمام والمأمومين، ما يحمله الإمام عن المأموم، الأحكام الخاصة بالإمام. أولاً ـ تعريف الإمامة ونوعاها: كل من يقتدى به ويتبع في خير أو شر، فهو إمام، قال الله تعالى: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا} [الأنبياء:73/ 21]، وقال: {وجعلناهم أئمة يَدْعون إلى النار} [القصص:41/ 28]. والإمامة نوعان (¬1): كبرى وصغرى. فالكبرى: استحقاق تصرف عام على الأنام أي على الخلق، والمقصود بالتصرف العام: طاعة الإمام. أو هي رياسة عامة في الدين والدنيا، خلافة عن النبي صلّى الله عليه وسلم. قال الماوردي (¬2): الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا. ¬
ثانيا ـ شروط صحة الإمامة أو الجماعة
وتعيين الإمام واجب شرعي من أهم الواجبات باتفاق العلماء (¬1)، ويشترط كونه مسلماً حراً ذكراً عاقلاً بالغاً، قادراً، قرشياً، ولا يشترط كونه هاشمياً علوياً (أي من أولاد علي كما قال به بعض الشيعة) معصوماً كما قالت الإمامية والإسماعيلية. ويكره تقليد الفاسق، ويعزل بالفسق إلا لفتنة، ويجب أن يدعى له بالصلاح. وتصح الإمامة بأحد أمور ثلاثة: اختيار أهل الحل والعقد، والوراثة (الإمامة بالعهد)، والغلبة والقهر للضرورة، بلا مبايعة أهل الحل والعقد (¬2). والإمامة الصغرى: هي إمامة الصلاة، وهي ارتباط صلاة المؤتم بالإمام. ثانياً ـ شروط صحة الإمامة أو الجماعة: تصح إمامة الإمام بالشروط التالية (¬3): 1 - الإسلام: فلا تصح إمامة الكافر بالاتفاق. وذكر الحنابلة (¬4): إذا صلى خلف من شك في إسلامه، أو كونه خنثى، فصلاته صحيحة، ما لم يبن كفره، وكونه خنثى مشكلاً؛ لأن الظاهر من المصلين الإسلام، لاسيما إذا كان إماماً، والظاهر السلامة من كونه خنثى، لاسيما من يؤم الرجال. فإن تبين بعد الصلاة أنه كان كافراً أو خنثى مشكلاً فعليه الإعادة. ويحكم بإسلام الشخص ¬
2 - العقل
بالصلاة، سواء أكان في دار الحرب أم في دار الإسلام، وسواء صلى جماعة أو منفرداً، فإن أقام بعد ذلك على الإسلام، فلا كلام، وإن لم يقم عليه، فهو مرتد، يجري عليه أحكام المرتدين. وإن مات قبل ظهور ما ينافي الإسلام فهو مسلم، يرثه ورثته المسلمون دون الكافرين. وكذلك قال الشافعية (¬1): لو بان كون الإمام كافراً أو امرأة، وجبت إعادة الصلاة. 2 - العقل: فلا تصح الصلاة خلف مجنون؛ لأن صلاته لنفسه باطلة. فإن كان جنونه متقطعاً، صحت الصلاة وراءه حال إفاقته، ولكن يكره الاقتداء به، لئلا يعرض الصلاة للإبطال في أثنائها، لوجود الجنون فيها، والصلاة صحيحة؛ لأن الأصل السلامة، فلا تفسد بالاحتمال. ويلاحظ أن عدَّ هذين الشرطين من شروط الإمام مسامحة، إذ هما شرطان في الصلاة مطلقاً. والمعتوه والسكران مثل المجنون لاتصح الصلاة خلفهما، كما لاتصح صلاتهما. 3 - البلوغ: فلا تصح إمامة المميز عند الجمهور للبالغ، في فرض أو نفل عند الحنفية، وفي فرض فقط عند المالكية والحنابلة، أما في النفل ككسوف وتراويح فتصح إمامته لمثله، لأنه متنفل يؤم متنفلاً، ودليلهم ما روى الأثرم عن ابن مسعود وابن عباس: «لا يؤم الغلام حتى يحتلم» ولأن الإمامة حال كمال، والصبي ليس من أهل الكمال، ولأنه لا يؤمن الصبي لإخلاله بشروط الصلاة أو القراءة. وقال الشافعية: يجوز اقتداء البالغ بالصبي المميز، لما روي عن عمرو بن ¬
4 - الذكورة المحققة إذا كان المقتدي به رجلا أو خنثى
سلمة قال: «أممت على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأنا غلام ابن سبع سنين» (¬1) والأصح صحة إمامة الصبي عندهم في الجمعة أيضاً، مع الكراهة. 4 - الذكورة المحققة إذا كان المقتدي به رجلاً أو خنثى: فلا تصح إمامة المرأة والخنثى للرجال، لا في فرض ولا في نفل. أما إن كان المقتدي نساء فلا تشترط الذكورة في إمامهن عند الشافعية والحنابلة، فتصح إمامة المرأة للنساء عندهم، بدليل ما روي عن عائشة وأم سلمة وعطاء: أن المرأة تؤم النساء، وروى الدارقطني عن أم ورقة: أنه صلّى الله عليه وسلم «أذن لها أن تؤم نساء دارها». ولا تكره عند الشافعية جماعة النساء، بل تستحب وتقف وسطهن (¬2)، وروي عن أحمد روايتان (¬3): رواية أن ذلك مستحب، ورواية أن ذلك غير مستحب. ولا تصح إمامة النساء عند المالكية، وتشترط الذكورة في الإمام (¬4). وقال الحنفية (¬5): يكره تحريماً جماعة النساء وحدهن بغير رجال ولو في التراويح، في غير صلاة الجنازة، فلاتكره فيها؛ لأنها فريضة غير مكررة، فإن فعلن وقفت الإمام وسطهن كما يصلى للعراة. ودليل الكراهة: قوله صلّى الله عليه وسلم: «صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها» (¬6)، ولأنه يلزمهن أحد محظورين: إما قيام الإمام وسط ¬
5 - الطهارة من الحدث والخبث
الصف، وهو مكروه، أو تقدم الإمام، وهو أيضاً مكروه في حقهن، فصرن كالعراة لم يشرع في حقهن الجماعة أصلاً، ولهذا لم يشرع لهن الأذان، وهو دعاء إلى الجماعة، ولولا كراهية جماعتهن لشرع. كما يكره عندهم حضورهن الجماعة مطلقاً ولو الجمعة والعيد والوعظ ليلاً، أما نهاراً فجائز إن أمنت الفتنة، على المذهب المفتى به كما بينا سابقاً، وتكره أيضاً إمامة الرجل لهن في بيت ليس معهن رجل غيره، ولا محرم منه كأخته أو زوجته، فإذا كان معهن واحد ممن ذكر، أو أمهن في المسجد، لا يكره، وهذا موافق لمذهب الحنابلة؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم «نهى أن يخلو الرجل بالأجنبية» ولما فيه من مخالطة الوسواس. 5 - الطهارة من الحدث والخبث: فلا تصح إمامة المحدث، أو من عليه نجاسة لبطلان صلاته، سواء عند الجمهور أكان عالماً بذلك أم ناسياً. وقال المالكية: الشرط: عدم تعمد الحدث، وإن لم يعلم الإمام بذلك إلا بعد الفراغ من الصلاة، فإن تعمد الإمام الحدث، بطلت صلاته وصلاة من اقتدى به، وإن كان ناسياً، فصلاته صحيحة إن لم يعلم بالنجاسة إلا بعد الفراغ من الصلاة؛ لأن الطهارة من الخبث شرط لصحة الصلاة مع العلم فقط عندهم، ولا يصح الاقتداء بالمحدث أو الجنب إن علم ذلك، وتصح صلاة المقتدين، ولهم ثواب الجماعة باتفاق المذاهب الأربعة إلا في الجمعة عند الشافعية والحنابلة إذا كان المصلون بالإمام أربعين مع المحدث أو المتنجس، إن علموا بحدث الإمام أو بوجود نجاسة عليه، بعد الفراغ من الصلاة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا صلى الجنب بالقوم، أعاد صلاته، وتمت للقوم صلاتهم» (¬1). ¬
6 - إحسان القراءة والأركان
وقال الشافعية: لا يصح الاقتداء بمن تلزمه إعادة الصلاة كمقيم تيمم لفقد الماء، ومن على بدنه نجاسة يخاف من غسلها، ومحدث صلى لفقد الطهورين. 6 - إحسان القراءة والأركان: أي أن يحسن الإمام قراءة ما لا تصح الصلاة إلا به، وأن يقوم بالأركان، فلا يصح اقتداء قارئ بأمي (¬1) عند الجمهور، وتجب الإعادة على القارئ المؤتم به، كما لاتصح الصلاة خلف أخرس ولو بأخرس مثله، ولا خلف عاجز عن ركوع أو سجود أو قعود أو استقبال القبلة، أو اجتناب النجاسة، إلا بمثله، فتصح الصلاة خلف المماثل، إلا ثلاثة عند الحنفية: الخنثى المشكل والمستحاضة والمتحيرة (¬2) لاحتمال الحيض. وقال المالكية: يشترط في الإمام القدرة على الأركان، فإن عجز عن ركن منها، قولي كالفاتحة أوفعلي كالركوع أو السجود أو القيام، لم يصح الاقتداء به، إلا إذا تساوى الإمام والمأموم في العجز، فيصح اقتداء أمي بمثله إن لم يوجد قارئ على الأصح، ويصح اقتداء أخرس بمثله، وعاجز عن القيام صلى جالساً بمثله، إلا المومئ أي الذي فرضه الإيماء من قيام أو جلوس أو اضطجاع، فلا يصح له على المشهور الاقتداء بمثله. 7 - كونه غير مأموم: فلا يصح الاقتداء بمأموم (مقتد) بغيره، في حال قدرته؛ لأنه تابع لغيره يلحقه سهوه، ومن شأن الإمام الاستقلال، وأن يتحمل هو سهو غيره، فلا يجتمعان، وهذا إجماع. أما الاقتداء بمن كان مقتدياً بالإمام (وهو المسبوق) بعد انقطاع القدوة: ففيه آراء. ¬
قال الحنفية (¬1): لا يجوز اقتداء المسبوق بغيره ولا الاقتداء به، لأنه في الأصل تبع لغيره، فهو في موضع الاقتداء، والاقتداء بناء التحريمة على التحريمة، فالمقتدي عقد تحريمته لما انعقدت له تحريمة الإمام، فكلما انعقدت له تحريمة الإمام، جاز البناء من المقتدي، وما لا فلا. وكذلك قال المالكية (¬2): لا يجوز الاقتداء بمسبوق قام لقضاء ما عليه، فاقتدى به غيره، ولو لم يعلم بأن إمامه مأموم، إلا بعد الفراغ من صلاته. أما المدرك: وهو من أدرك مع الإمام ما دون ركعة، فيصح الاقتداء به إذا قام لصلاته، وينوي المدرك الإمامية بعد أن كان ناوياً المأمومية؛ لأنه منفرد لم يثبت له حكم المأمومية. وقال الحنابلة (¬3): إن سلم الإمام، فائتم أحد المصلين بصاحبه في قضاء ما فاتهما، صح، أو ائتم مقيم بمثله فيما بقي من صلاتهما إذا سلم إمام مسافر، صح ذلك؛ لأنه انتقال من جماعة إلى جماعة أخرى، لعذر، فجاز كالاستخلاف، بدليل قصة أبي بكر: وهي أن النبي صلّى الله عليه وسلم جاء وأبو بكر في الصلاة، فتأخر أبو بكر، وتقدم النبي صلّى الله عليه وسلم، فأتم بهم الصلاة وفعل هذا مرة أخرى، وكلا الحديثين صحيح متفق عليهما. كما يصح الاقتداء بمن كان مسبوقاً بعد أن سلم إمامه، أو بعد أن نوى مفارقة الإمام، وتصح عندهم نية المفارقة، في غير الجمعة، أما فيها فلا يصح الاقتداء. وقال الشافعية (¬4): تنقطع القدوة بمجرد خروج الإمام من صلاته بسلام من ¬
- اشتراط الحنفية والحنابلة: السلامة من الأعذار
حدث أو غيره، لزوال الرابطة، وحينئذ فيسجد لسهو نفسه، ويقتدي بغيره، وغيره به. والخلاصة: إن الحنفية والمالكية لا يجيزون الاقتداء بمن كان مقتدياً بعد سلام إمامه، ويصح عند الشافعية والحنابلة، وهو أولى. 8 - اشتراط الحنفية والحنابلة (¬1): السلامة من الأعذار: كالرعاف الدائم، وانفلات الريح، وسلس البول، ونحوها، فلا تصح إمامة من قام به عذر من هذه الأعذار إلا لمعذور مثله، بشرط أن يتحد عذرهما؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم «صلى بأصحابه في المطر بالإيماء»، فإن اختلف العذر لم يجز، فيصلي من به سلس البول خلف مثله، أما إذا صلى خلف من به السلس وانفلات الريح، لا يجوز؛ لأن الإمام صاحب عذرين، والمؤتم صاحب عذر واحد. والذي يصح هو اقتداء ذي عذرين بذي عذر، ولا عكسه. ولم يشترط المالكية هذا الشرط، وإنما يكره أن يؤم صاحب العذر من ليس به عذر، لأنه يصح عندهم إمامة من به سلس البول إذا لازمه ولو نصف الزمن، وكذا من به انفلات ريح أو غير ذلك مما لا ينقض الوضوء عندهم. وكذلك لم يشترط الشافعية هذا الشرط، فتصح إمامة صاحب العذر الذي لاتجب معه إعادة الصلاة لمقتد سليم. 9 - أن يكون الإمام صحيح اللسان، بحيث ينطق بالحروف على وجهها، فلا تصح إمامة الألثغ وهو من يبدل الراء غيناً، أو السين ثاء، أو الذال زاياً، لعدم المساواة، إلا إذا كان المقتدي مثله في الحال. ¬
الصلاة وراء المخالف في المذهب
ويعد كالألثغ عند الحنفية: التمتام: وهو الذي يكرر التاء في كلامه، والفأفاء وهو الذي يكرر الفاء، لا تصح إمامتهما عندهم إلا لمن يماثلهما. واستثنى الحنابلة: من يبدل ضاد المغضوب والضالين بظاء، فتصح إمامته بمن لا يبدلها ظاء، لأنه لا يصير أمياً بهذا الإبدال. والأرت: وهو من يدغم في غير موضع الإدغام، كقارئ المستقيم بتاء أو سين مشددة فيقول: المتقيم، ومن يخل بحرف أو تشديدة من الفاتحة، يعدان كالألثغ عند الشافعية، لا تصح إمامتهما إلا للمثل. وقال الجمهور غير الحنفية: تصح إمامة التمتام والفأفاء ولو لغير المماثل مع الكراهة. الصلاة وراء المخالف في المذهب: 10 - اشتراط الحنفية والشافعية: أن تكون صلاة الإمام صحيحة في مذهب المأموم: فلو صلى حنفي خلف شافعي سال منه دم، ولم يتوضأ بعده، أو صلى شافعي خلف حنفي لمس امرأة مثلاً، فصلاة المأموم باطلة؛ لأنه يرى بطلان صلاة إمامه. وزاد الحنفية (¬1) أنه تكره الصلاة خلف شافعي. وقال الشافعية (¬2): الأفضل الصلاة خلف إمام شافعي، لا حنفي أو غيره ممن لا يعتقد وجوب بعض الأركان والشروط، وإن علم الإتيان بها؛ لأنه مع ذلك لا يعتقد وجوب بعض الأركان. وقال المالكية والحنابلة (¬3): ما كان شرطاً في صحة الصلاة، فالعبرة فيه ¬
11 - اشتراط الحنابلة أن يكون الإمام عدلا
بمذهب الإمام فقط، فلو اقتدى مالكي أو حنبلي بحنفي أو شافعي لم يمسح جميع الرأس في الوضوء، لأنه شرط عند الأولين، فصلاته صحيحة، لصحة صلاة الإمام في مذهبه. وأما ما كان شرطاً في صحة الاقتداء، فالعبرة فيه بمذهب المأموم، فلو اقتدى مالكي أو حنبلي في صلاة فرض بشافعي يصلي نفلاً، فصلاته باطلة، لأن صلاة المفترض بالمتنفل باطلة عند المالكية والحنابلة، وشرط الاقتداء: اتحاد صلاة الإمام والمأموم. وأرى لزوم الأخذ بمذهبي المالكية والحنابلة في الشق الأول، لأنه الأصح منطقاً، وتكون الصلاة خلف المخالفين في الفروع المذهبية صحيحة غير مكروهة؛ إذ العبرة بمذهب الإمام؛ لأن الصحابة والتابعين ومن بعدهم لم يزل بعضهم يأتمّ ببعض مع اختلافهم في الفروع، فكان ذلك إجماعاً، وبه تنتهي آثار العصبية المذهبية. 11 - اشتراط الحنابلة أن يكون الإمام عدلا ً، فلا تصح إمامة الفاسق (¬1) ولو بمثله، فلو صلى شخص خلف الفاسق، ثم علم بفسقه، وجبت عليه إعادة الصلاة، إلا في صلاة الجمعة والعيدين، فإنهما تصحان خلف الفاسق إن لم تتيسر الصلاة خلف عدل. واشتراط المالكية: أن يكون الإمام سليماً من الفسق المتعلق بالصلاة، كأن يتهاون في شرائطها أو فرائضها، كمن يصلي بلا وضوء أو يترك قراءة الفاتحة. أما إن كان الفسق لا يتعلق بالصلاة كالزاني، أو شارب الخمر، فتصح إمامته مع الكراهة على الراجح. ¬
12 - اشتراط المالكية والحنفية والحنابلة: ألا يكون الإمام معيدا صلاته لتحصيل فضيلة الجماعة،
12 - اشتراط المالكية والحنفية والحنابلة: ألا يكون الإمام معيداً صلاته لتحصيل فضيلة الجماعة، فلا يصح اقتداء مفترض بمعيد؛ لأن صلاة المعيد نفل، ولا يصح فرض وراء نفل، وأن يكون الإمام عالماً بكيفية الصلاة على الوجه الذي تصح به، وعالماً بكيفية شرائطها، كالوضوء والغسل على الوجه الصحيح، وإنه لم يميز الأركان من غيرها. ثالثاً - الأحق بالإمامة: أحق الناس بالإمامة في ظروفنا الحاضرة: هو الأفقه الأعلم بأحكام الصلاة، وهذا هو المفهوم فقهاً، إلا أن الفقهاء ذكروا ترتيباً يحسن بيانه في كل مذهب على حدة. مذهب الحنفية (¬1): الأحق بالإمامة: الأعلم بأحكام الصلاة فقط صحة وفساداً بشرط اجتنابه الفواحش الظاهرة، وحفظه من القرآن قدر فرض: أي ما تجوز به الصلاة. ثم الأحسن تلاوة وتجويداً للقراءة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنة .. » (¬2). ثم الأورع أي الأكثر اتقاء للشبهات، والتقوى: اتقاء المحرمات، لقوله عليه السلام: «إن سركم أن تقبل صلاتكم، فليؤمكم علماؤكم، فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم» (¬3). ¬
مذهب المالكية
ثم الأسن: أي أكبرهم سناً؛ لأنه أكثر خشوعاً ولأن في تقديمه تكثير الجماعة، لقوله عليه السلام لابن أبي مليكة: «وليؤمكما أكبركما» (¬1). ثم الأحسن خلُقاً (إلفة بالناس)، ثم الأحسن وجهاً (أي أكثرهم تهجداً)، ثم الأشرف نسباً، ثم الأنظف ثوباً. فإن استووا في ذلك كله يُقْرَع بينهم، أو الخيار إلى القوم، وإن اختلفوا اعتبر الأكثر. فإن كان بينهم سلطان، فالسلطان مقدَّم، ثم الأمير، ثم القاضي، ثم صاحب المنزل، ولو مستأجراً، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من زار قوماً فلا يؤمهم، وليؤمَّهم رجل منهم» (¬2). ويقدم القاضي على إمام المسجد. وعلى هذا يقدم السلطان أو القاضي، فإن لم يوجد أحدهما يقدم صاحب البيت، ومثله إمام المسجد الراتب، فهذا أولى بالإمامة من غيره مطلقاً. مذهب المالكية (¬3): يندب تقديم سلطان أو نائبه ولو بمسجد له إمام راتب، ثم الإمام الراتب في المسجد، ثم رب المنزل فيه، ويقدم المستأجر على المالك؛ لأنه مالك لمنافعه. وإن كان صاحب المنزل امرأة أنابت من يصلح للإمامة؛ لأن إمامتها لا تصح، والأولى لها استخلاف الأفضل. ثم الأفقه (الأعلم بأحكام الصلاة)، ثم الأعلم بالسنة أو الحديث حفظاً ورواية، ثم الأقرأ، أي الأدرى بطرق القرآن أو بالقراءة والأمكن من غيره في ¬
مذهب الشافعية
مخارج الحروف، ثم الأعبد، أي الأكثر عبادة من صوم وصلاة وغيرهما، ثم الأقدم إسلاماً، ثم الأرقى نسباً كالقرشي، ومعلوم النسب يقدم على مجهوله، ثم الأحسن خلقاً، ثم الأحسن لباساً، أي الأجمل وهو لابس الجديد المباح غير الحرير، واللباس الحسن شرعاً: هو البياض خاصة، جديداً أو لا. فإن تساووا قدم الأورع (¬1) والزاهد والحر على غيرهم، ويقدم الأعدل على مجهول الحال، والأب على الابن، والعم على ابن أخيه، فإن تساووا في كل شيء، أقرع بينهم، إلا إذا رضوا بتقديم أحدهم. مذهب الشافعية (¬2): أحق الناس بالإمامة: الوالي في محل ولايته، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يُؤمَّنَّ الرجلُ الرجلَ في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه» (¬3). قال الشوكاني: والظاهر أن المراد به السلطان الذي إليه ولاية أمور الناس لاصاحب البيت ونحوه. فيتقدم أو يقدم غيره ولو في ملك غيره، ولو كان غيره أكثر منه قرآناً وفقهاً وورعاً وفضلاً، فالوالي في محل ولايته أولى من الأفقه والمالك. ثم الإمام الراتب، ثم الساكن بحق إن كان أهلاً لها (ومالك المنفعة أولى بالإمامة من الأفقه، والأصح تقديم المكتري على المكري، والمعير على المستعير)، فإن لم يكن أهلاً فله التقديم. ثم يقدم الأفقه، فالأقرأ، فالأورع، فالأقدم هجرة، ثم الأسبق إسلاماً، فالأفضل نسباً، فالأحسن سيرة، فالأنظف ثوباً، ثم نظيف البدن، ثم طيّب الصَّنْعة، ثم الأحسن صوتاً، فالأحسن صورة، أي وجهاً، فالمتزوج. ¬
مذهب الحنابلة
فإن استووا في جميع ما ذكر وتنازعوا، أقرع بينهم، والعدل أولى من الفاسق (وإن كان أفقه أو أقرأ)، والبالغ أولى من الصبي (وإن كان أفقه أو أقرأ)، والحر أولى من العبد، والمقيم أولى من المسافر، وولد الحلال أولى من ولد الزنا، والأعمى مثل البصير؛ لأن الأعمى لا ينظر إلى ما يشغله فهو أخشع، والبصير ينظر إلى الخبث فهو أحفظ لتجنبه، أي أبعد عن النجاسة. مذهب الحنابلة (¬1): الأولى بالإمامة الأجود قراءة الأفقه، لحديث أبي سعيد الخدري: «إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم، وأحقهم بالإمامة أقرؤهم» (¬2)، وقدم النبي صلّى الله عليه وسلم أبا بكر لأنه كان حافظاً للقرآن وكان مع ذلك من أفقه الصحابة رضي الله عنهم. ومذهب أحمد تقديم القارئ على الفقيه، لحديث أبي مسعود السابق: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله»، وهذا خلاف مذاهب الأئمة الآخرين، فإنه يقدم عندهم الأفقه كما بينا، لأن الأقرأ من الصحابة كان هو الأفقه ضرورة، بخلاف ما عليه الناس اليوم، ولأن الحاجة إلى الفقه في الإمامة أمس من الحاجة إلى القراءة. ثم الأجود قراءة الفقيه، ثم الأجود قراءة فقط، وإن لم يكن فقيهاً، إذا كان يعلم أحكام الصلاة وما يحتاجه فيها، ثم الأفقه والأعلم بأحكام الصلاة، ويقدم قارئ لا يعلم فقه صلاته على فقيه أمي لا يحسن الفاتحة؛ لأنها ركن في الصلاة، بخلاف معرفة أحكامها، فإن استووا في عدم القراءة قدم الأعلم بأحكام الصلاة. فإن استووا في القراءة والفقه، قدم أكبرهم سناً، لحديث مالك بن الحويرث المتقدم: «وليؤمكم أكبركم»، ثم الأشرف نسباً: وهو من كان قرشياً، قياساً على ¬
رابعا ـ من تكره إمامته ومكروهات الإمامة
الإمامة الكبرى، لقوله صلّى الله عليه وسلم «الأئمة من قريش» (¬1)، ثم الأقدم هجرة بسبقه إلى دار الإسلام مسلماً (¬2)، ومثله الأسبق إسلاماً، لحديث أبي مسعود المتقدم: «فإن كانوا في الهجرة سواء، فأقدمهم مسلماً» أي إسلاماً. ثم الأتقى لقوله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات:13/ 49]. فإن استووا فيما تقدم أقرع بينهم. ويقدم السلطان مطلقاً على غيره، كما يقدم في المسجد الإمام الراتب، وفي البيت صاحبه إن كان صالحاً للإمامة. رابعاً ـ من تكره إمامته ومكروهات الإمامة: تكره إمامة بعض الأشخاص الآتية (¬3) وهم: 1ً - الفاسق العالم، ولو لمثله عند المالكية والشافعية والحنابلة، لعدم اهتمامه بالدين. واستثنى الحنابلة صلاة الجمعة والعيد، فتصح إمامته للضرورة، وأجاز الحنفية إمامته لمثله. ودليل الكراهة ما روى ابن ماجه عن جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لاتؤمَّنَّ امرأة رجلاً، ولا أعرابي مهاجراً، ولا يؤمن فاجر مؤمناً إلا أن يقهره بسلطان يخاف سيفه أو سوطه». ¬
وإنما صحت إمامته، لما روى الشيخان: أن ابن عمر كان يصلي خلف الحجاج، وروي «صلوا خلف كل بر وفاجر» (¬1). 2ً - المبتدع الذي لا يكفر ببدعته: كالفاسق، بل أولى. والمبتدع: صاحب البدعة: وهي اعتقاد خلاف المعروف عن الرسول صلّى الله عليه وسلم، لا بمعاندة، بل بنوع شبهة، كمسح الشيعة على الرجلين، وإنكارهم المسح على الخفين ونحو ذلك. ويلاحظ: أن كل من كان من أهل قبلتنا لا يكفر بالبدعة المبنية على شبهة، حتى الخوارج الذين يستحلون دماءنا وأموالنا وسب الرسول صلّى الله عليه وسلم، وينكرون صفاته تعالى، وجواز رؤيته، لكونه عن تأويل وشبهة، بدليل قبول شهادتهم. فإن أنكر المبتدع بعض ما علم من الدين بالضرورة (البداهة) كفر، كقوله: إن الله تعالى جسم كالأجسام، وإنكاره صحبة الرسول عليه السلام الصديق، لما فيه من تكذيب قوله تعالى: {إذ يقول لصاحبه} [التوبة:40/ 9]، فلا يصح الاقتداء به أصلاً. 3ً - الأعمى: تكره إمامته تنزيهاً عند الحنفية والمالكية والحنابلة، لأنه لا يتوقى النجاسة، واستثنى الحنفية حالة كونه أعلم القوم، فهو أولى. وأجاز الشافعية إمامته بدون كراهة، فهو كالبصير، إذ الأعمى أخشع، والبصير يتجنب النجاسة، ففي كلٍ مزية ليست في الآخر، وتصح إمامته عند الكل؛ لأن الصحيح عن ابن عباس: أنه كان يؤم وهو أعمى. وقال أنس: «إن ¬
النبي صلّى الله عليه وسلم استخلف ابن أم مكتوم، يؤم الناس، وهو أعمى» (¬1)، ولأن العمى فقد حاسة لايخل بشيء من أفعال الصلاة ولا بشروطها، فأشبه فقد الشم. والأعشى وهو سيء البصر ليلاً ونهاراً كالأعمى، والأصم كالأعمى عند الحنابلة والشافعية، الأولى صحة إمامته. وكذلك أقطع اليدين تصح إمامته في رواية اختارها القاضي أبو يعلى، وفي رواية مرجوحة: لاتصح إمامته. ولا يصح الائتمام بأقطع الرجلين. 4ً - أن يؤم قوماً هم له كارهون: والكراهة تحريمية عند الحنفية، لحديث: «لايقبل الله صلاة من تقدم قوماً، وهم له كارهون» (¬2). 5ً - يكره تطويل الصلاة على القوم تطويلاً زائداً على قدر السنة في قراءة وأذكار، والكراهة تحريمية عند الحنفية، سواء رضي القوم أم لا. واستثنى الشافعية والحنابلة: حالة الرضا بالتطويل من جماعة محصورين فإنه تستحب الإطالة، لزوال علة الكراهة، وهي التنفير. ودليل كراهة التطويل: أحاديث: منها حديث أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف، فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير، فإذا صلى لنفسه، فليطوِّل ما شاء» (¬3) وعن أبي مسعود الأنصاري وعقبة بن عامر قالا: «جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: إني لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلان، مما ¬
يطيل بنا، قال: فما رأيت النبي صلّى الله عليه وسلم غضب في موعظة قط أشد مما غضب يومئذ، فقال: ياأيها الناس، إن منكم منفِّرين، فأيكم أم بالناس فليوجز، فإن فيهم الضعيف، والكبير، وذا الحاجة» (¬1) ومعناه أن يقتصر على أدنى الكمال من التسبيح وسائر أجزاء الصلاة. 6ً - انتظار الداخل: قال الجمهور غير الشافعية (¬2): يكره للإمام انتظار الداخل لأن انتظاره تشريك في العبادة، فلا يشرع كالرياء، ودفعاً للمشقة عن المصلين؛ لأنه يبعد أن يكون فيهم من لا يشق عليه، والذين مع الإمام أعظم حرمة من الداخل، فلا يشق على من معه لنفع الداخل. وقال الشافعية (¬3): يستحب على المذهب للإمام والمنفرد انتظار الداخل لمحل الصلاة مريداً الاقتداء به في الركوع غير الثاني من صلاة الكسوف، وفي التشهد الأخيرمن صلاة تشرع فيها الجماعة، بشرط ألا يطول الانتظار بحيث لو وزع على جميع الصلاة لظهر أثره، ولا يميز بين الداخلين لصداقة أو شرف أو سيادة ونحو ذلك، للإعانة على إدراك الركعة، أو إدراك فضل الجماعة. وقد ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يطيل الركعة الأولى حتى لا يسمع وقع قدم، ولأن منتظر الصلاة في صلاة، وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلم ينتظر الجماعة، وشرع الانتظار في صلاة الخوف لتدركه الطائفة الثانية. ووافق ابن قدامة الحنبلي الشافعية، وقال القاضي من الحنابلة: الانتظار جائز غير مستحب، وإنما ينتظر من كان ذا حرمة، كأهل العلم ونظرائهم من أهل الفضل. ¬
7ً - تكره إمامة اللّحّان (كثير اللحن) الذي لا يحيل المعنى كجر دال (الحمد) ونصب هاء (الله) ونصب ياء (الرب) ونحوه من الفاتحة، وتصح صلاته بمن لا يلحن؛ لأنه أتى بفرض القراءة. 8ً - تكره إمامة من لا يفصح ببعض الحروف كالضاد والقاف، وتصح إمامته، سواء أكان أعجمياً أم عربياً. وتكره عند الجمهور غير الحنفية كما بينا: إمامة التمتام (وهو من يكرر التاء) والفأفاء (وهو من يكرر الفاء)، وتصح الصلاة خلفهما؛ لأنهما يأتيان بالحروف على الكمال، ويزيدان زيادة، وهما مغلوبان عليها، فعفي عنها، ويكره تقديمهما لهذه الزيادة. 9ً - تكره إمامة الأعرابي (وهو ساكن البادية) لغيره من أهل الحاضرة ولو بسفر لا لمثله. وذكر الحنفية أن التركمان والأكراد والعامي كالأعرابي، لما فيه من الجفاء والإمام شافع، فينبغي أن يكون ذا لين ورحمة، وبسبب الجهل، وإمامة الجاهل سواء أكان بدوياً أم حضرياً مكروهة مع وجود العالم. وقال الحنابلة: لا بأس بالصلاة وراء الأعرابي إذا صلح دينه. 10ً - يكره أن يكون الإمام أعلى من المأمومين بقدر ذراع فأكثر، سواء أراد تعليمهم الصلاة أو لم يرد، لحديث حذيفة وأبي مسعود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا أم الرجل القوم، فلا يقومن في مكان أرفع من مقامهم» (¬1) وكان ابن مسعود ينهى عن ذلك. ويكره أيضاً عند الحنفية والمالكية والشافعية ارتفاع المقتدين عن مكان الإمام بقدر ذراع أيضاً، وتتقيد الكراهة عندهم بما إذا لم يكن في الحالتين مع الإمام في موقفه واحد على الأقل من المقتدين، فإ ن وجد معه واحد فأكثر لم يكره، واستثنى المالكية من ذلك صلاة الجمعة فإنها على سطح المسجد باطلة، كما ¬
مكروهات الإمامة في المذاهب
استثنوا مع الشافعية العلو لأجل ضرورة أو حاجة أو قصد تعليم للمأمومين كيفية الصلاة، فيجوز، وبطلت صلاة الإمام والمأموم إن قصد بعلوه الكبر، لمنافاته الصلاة. وتختص الكراهة عند الحنابلة بمن هو أسفل من الإمام، لا بمن يساويه أو هو أعلى منه؛ لأن المعنى وجد بمن هو أسفل دون غيرهم. ولا بأس عند الحنابلة والمالكية بالعلو اليسير مثل درجة المنبر، أي حوالي الشبر أو الذراع، كما استثنى المالكية العلو لضرورة كتعليم الناس الصلاة، لحديث سهل أن النبي صلّى الله عليه وسلم صلَّى على الدرجة السفلى من المنبر (¬1). 11ً - تكره الصلاة عند غير الحنابلة خلف ولد الزنا إن وجد غيره يؤم الناس؛ إذ ليس له أب يربيه ويؤدبه ويعلمه، فيغلب عليه الجهل، ولنفرة الناس عنه. وقيد الحنفية كراهة إمامته بحالة كونه جاهلاً، إذ لو كان عالماً تقياً لا تكره إمامته؛ لأن الكراهة للنقائص لا لذاته، كما قيد المالكية كراهة إمامته فيما إذا جعل إماماً راتباً، وأجاز الشافعية إمامته لمثله. مكروهات الإمامة في المذاهب: مذهب الحنفية (¬2): يكره تنزيهاً إمامة الأمرد الصبيح الوجه، وإن كان أعلم القوم، إن كان يخشى من إمامته الفتنة والشهوة، وإلا فلا كراهة على الأظهر. وتكره إمامة السفيه (وهو الذي لا يحسن التصرف على مقتضى الشرع أو العقل) والمفلوج، والأبرص الذي ¬
مذهب المالكية
انتشر برصه، والمجذوم، والمجبوب، والحاقن بالبول، والأعرج الذي يقوم ببعض قدمه، ومقطوع اليد، وشارب الخمر (¬1)، وآكل الربا، والنمام: (وهو من ينقل الكلام بين الناس على جهة الإفساد، والنميمة من الكبائر، ويحرم على الإنسان قبولها)، والمرائي: (وهو من يقصد أن يراه الناس، سواء تكلف تحسين الطاعات أو لا) والمتصنع: (من يتكلف تحسين الطاعات). ومن أمَّ الناس بأجر إلا إذا شرط الواقف له أجراً، فلا تكره إمامته؛ لأنه يأخذه كصدقة ومعونة. ويكره تنزيهاً قيام الإمام الراتب في غير المحراب إذا أم جماعة كثيرة، لئلا يلزم عدم قيامه في الوسط، فلو لم يلزم ذلك لا يكره. ويكره تحريماً جماعة النساء، كما بينا سابقاً. مذهب المالكية (¬2): تكره إمامة ذي سلس كبول ونحوه، وذي قَرْح أي دمل سائل لصحيح، ومثلهما كل من تلبس بنجاسة معفو عنها لسالم منها، لا لمثله. وكره إمامة أقلف أو أغلف (غير المختون)، ومجهول أي لم يعلم حاله أهو عدل أو فاسق، ومثله مجهول النسب. وتكره إمامة بعض الأشخاص في حالة دون حالة: يكره جعل الخصي ومن يتكسر في كلامه كالنساء وولد الزنا إماماً راتباً في فرض أو سنة كعيد، ولا يكره إذا لم يجعل إماماً راتباً. وتكره الصلاة بين الأساطين أي الأعمدة، وصلا ة المأموم أمام أو قُدَّام الإمام بلا ضرورة، وإلا لم تكره. ¬
ويكره اقتداء من بأسفل السفينة بمن بأعلاها، لعدم تمكنهم من ملاحظة الإمام، وقد تدور، فيختل عليهم أمر الصلاة، بخلاف العكس، أي اقتداء الأعلى بالأسفل. كما يكره اقتداء من بأبي قبيس بمن يصلي بالمسجد الحرام، وهو جبل عال تجاه ركن الحجر الأسود، لعدم تمام التمكن من أفعال الإمام. وكره صلاة رجل بين نساء وعكسه أي امرأة بين رجال. وكره إمامة بمسجد بلا رِداء يلقيه الإمام على كتفيه، بخلاف المأموم والمنفرد، فلا يكره لهما عدم الرداء، بل هو خلاف الأولى، مما يدل على أن الرداء يندب لكل مصل، والندب للإمام أوكد. وكره تنفل الإمام بالمحراب؛ لأنه لا يستحقه إلا حال كونه إماماً، ولأنه قد يوهم غيره أنه في صلاة فرض، فيقتدي به. وكره صلاة جماعة في المسجد قبل الإمام الراتب، وحرم معه، كما يكره صلاة جماعة بعد صلاة الإمام الراتب، وإن أذن لغيره في ذلك، كما بينا سابقاً في تكرار الجماعة. وتجوز إمامة بعض الأشخاص مع كونها خلاف الأولى في كل ما يأتي: فتجوز كما بينا إمامة الأعمى، وإمامة مخالف في الفروع، وإمامة ألكن: وهو من لايكاد يخرج بعض الحروف من مخارجها لعجمة أو غيرها، مثل أن يقلب الحاء هاء، أو الراء لاماً، أو الضاد دالاً. وإمامة محدود لقذف أو شرب أو غيرها، وإمامة عنِّين (¬1)، وإمامة أقطع يداً ¬
أو رجلاً، وأشل، على الراجح فيهما، ومجذوم (أي من قام به داء الجذام) لكن إن اشتد جذامه، وجب تنحيته عن الإمامة، بل عن الاجتماع بالناس. وجاز إمامة صبي بمثله، وجاز إسراع لإدراك الصلاة جماعة بلا خبب (هرولة) كما بينا. وجاز بمسجد قتل عقرب وحية وفأرة. وجاز إحضار صبي شأنه لا يعبث، أو ينكف إذا نهي، وإلا منع إحضاره. وجاز البصق القليل في مسجد فيه حصباء أو تراب أو تحت حصيرة، ويمنع الكثير أو البصق في المسجد المبلَّط، أو فوق الحصيرة، أو على حائط المسجد لتقذيره. ويندب البصق في الثوب، وجهة اليسار أو تحت القدم اليسرى، فإن تعسر عليه ذلك بصق جهة يمينه، فإن تعسر بصق أمامه. وجاز كما بينا خروج امرأة متجالَّة (لا أرب للرجال فيها) لمسجد الجماعة والعيد ونحوه، على التفصيل السابق في خروج النساء للمساجد. وجاز فصل مأموم عن إمامه بنهر صغير أو طريق أو زرع، لا يمنع من رؤية أفعال الإمام أو سماعه، للأمن من الخلل في صلاته. وجاز مع خلاف الأولى كما بينا علو مأموم على إمامه ولو بسطح في غير جمعة، لأن الجمعة لا تصح بسطح المسجد. ويكره علو إمام على المأموم إلا العلو اليسير أو لضرورة أو لقصد تعليم المأمومين كيفية الصلاة، وبطلت الصلاة إن قصد بالعلو الكبر. وجاز التبليغ خلف الإمام واقتداء الناس بسبب سماع المبلِّغ. وجاز اقتداء برؤية الإمام أو المأموم، وإن كان المأموم بدار مثلاً، والإمام بمسجد، ولا يشترط إمكان التوصل إليه.
مذهب الشافعية
مذهب الشافعية (¬1): تكره إمامة المتغلب على الإمامة ولايستحقها، ومن لا يتحرز عن النجاسة، ومن يحترف حرفة دنيئة كالحجام، ومن يكرهه أكثر القوم لأمر مذموم كإكثار الضحك، ومجهول الأب وولد الزنا إلا لمثله، كما بينا، وتكره إمامة الأقلف ولو بالغاً، كما تكره إمامة الصبي ولو أفقه من البالغ، كما ذكرنا، وإمامة الفأفاء والوأواء والتمتام واللاحن بما لم يغير المعنى كضم هاء (لله)، وضم صاد الصراط، وهمزة {اهدنا} [الفاتحة:6/ 1] ونحوه، فإن لحن لحناً غيَّر المعنى كضم تاء {أنعمت} [الفاتحة:7/ 1] أو كسرها أبطل صلاة من أمكنه التعلم، فإن عجز لسانه أو لم يمض زمن إمكان تعلمه: فإن كان في الفاتحة فهو كالأمي ولا تصح قدوة قارئ بأمي في الجديد، أما في غير الفاتحة، كما إذا قرأ بجر اللام لرسوله في قوله تعالى: {أنَّ الله بريء من المشركين ورسولُه} [التوبة:3/ 9] فتصح صلاته والقدوة به إذا كان عاجزاً، أو جاهلاً لم يمض زمن إمكان تعلمه، أو ناسياً؛ لأن الكلام اليسير بهذه الشروط لا يقدح في الصلاة. وتكره كما بينا إمامة مخالف في الفروع، وارتفاع مكان الإمام عن مكان المأموم وعكسه من غير حاجة كضيق المسجد. ولا تكره إمامة الأعمى. مذهب الحنابلة (¬2): بينا أنه تكره عندهم إمامة الأعمى والأعشى والأصم، والأقلف ولو بالغاً (¬3)،ومقطوع اليدين أو إحداهما، ولا تصح إمامة مقطوع الرجلين إلا بمثله؛ ¬
لأنه ميؤوس من قيامه، فلم تصح إمامته كالمريض الزمِن، وتصح على الأصح مع الكراهة إمامة مقطوع الرجلين أو إحداهما الذي يمكنه القيام؛ لأنه يسجد على الباقي من رجله أو حائلها، بأن يتخذ له رجلين من خشب أو نحوه. وتكره إمامة مقطوع الأنف ومن تُضحك رؤيته أو صورته، ومن اختلف في صحة إمامته، والموسوس في رأي لئلا يقتدي به عامي، وظاهر كلامهم: لا يكره. وتكره كما ذكرنا إمامة الفأفاء والتمتام، ومن لا يفصح ببعض الحروف كالضاد والقاف، واللحان الذي يلحن ولا يغير المعنى كجر دال {الحمد لله} [الفاتحة:2/ 1]، وتصح صلاته بمن لا يلحن؛ لأنه أتى بفرض القراءة. ويكره كما بينا أيضاً ارتفاع مكان الإمام عن المأموم ذراعاً فأكثر، لا العكس فلا كراهة في ارتفاع مكان المأموم، ولا يعيد الجمعة من يصليها فوق سطح المسجد، روى الشافعي عن أبي هريرة: «أنه صلى على ظهر المسجد بصلاة الإمام» ورواه سعيد بن منصور عن أنس. ويكره أن يؤم قوماً أكثرهم يكرهه بحق، لخلل في دينه أو فضله، فإن كرهه نصفهم لم يكره، والأولى ألا يؤمهم، إزالة لذلك الاختلاف، ولا يكره الائتمام به؛ لأن الكراهة في حقه دونهم. وتكره إمامة الرجل للنساء الأجنبيات، ولا رجل معهن، لأنه صلّى الله عليه وسلم «نهى أن يخلو الرجل بالأجنبية» (¬1) ولما فيه من مخالطة الوسواس. ولا بأس أن يؤم بذوات محارمه، أو أجنبيات معهن رجل فأكثر؛ لأن النساء كن يشهدن مع النبي صلّى الله عليه وسلم الصلاة. ¬
خامسا ـ متى تفسد صلاة الإمام دون المؤتم؟
وتكره إمامة المفضول مع وجود الأفضل، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا أمَّ الرجل القوم، وفيهم من هو خير منه، لم يزالوا في سَفال» (¬1). ولا بأس بإمامة ولد زنا ولقيط، ومنفي بلعان، وخصي، وجندي، وأعرابي إذا سلم دينهم وصلحوا للإمامة، لعموم قوله صلّى الله عليه وسلم: «يؤم القوم أقرؤهم»، وصلى السابقون خلف ابن زياد، وهو ممن في نسبته نظر، وقالت عائشة: «ليس عليه من وزر أبويه شيء» قالت: قال تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الإسراء:17/ 15]، ولأن كلاً منهم حر مرضي في دينه، يصلح لها كغيره. خامساً ـ متى تفسد صلاة الإمام دون المؤتم؟ قال الحنفية (¬2): إن كان بالإمام حدث أو جنابة أو مفسد للصلاة سابق على تكبيرة الإمام، أو مقارن لتكبيرة المقتدي، أو سابق عليها بعد تكبيرة الإمام، بطلت صلاة الإمام والمقتدي، لتضمن صلاة الإمام صلاة المؤتم صحة وفساداً، أي أن صلاة الإمام متضمنة لصلاة المقتدي، فإذا صحت صلاة الإمام صحت صلاة المقتدي، إلا لمانع آخر، وإذا فسدت صلاته فسدت صلاة المقتدي؛ لأنه متى فسد الشيء فسد ما في ضمنه. فمن اقتدى بإمام ثم علم المقتدي أن الإمام على غير وضوء، أعاد الصلاة اتفاقاً، لظهور بطلانها. أما لو طرأ المفسد أو خلل الشرط أو الركن، فإن الصلاة تنعقد أولاً ثم تبطل صلاة الإمام عند وجود الخلل أو الحدث مثلاً، ولا يعيد المقتدي صلاته، كما لو ارتد الإمام، أو سعى إلى الجمعة بعد ما صلى الظهر بجماعة فسدت صلاته فقط. وكذا لو عاد إلى سجود التلاوة بعد ما تفرق المقتدون، ولو سلم القوم قبل الإمام، بعدما قعد قدر التشهد، ثم عرض له الحدث، فإنها تبطل صلاته وحده. ¬
ففي هذه المسائل تفسد صلاة الإمام، وتصح صلاة المؤتم، ولاتنتقض القاعدة السابقة (صلاة الإمام متضمنة لصلاة المؤتم) بذلك؛ لأن هذا الفساد طارئ على صلاة الإمام بعد فراغ الإمامة، فلا إمام ولا مؤتم في الحقيقة. وقال المالكية (¬1): إذا صلى الإمام بجنابة أو على غير وضوء، بطلت صلاته اتفاقاً في العمد والنسيان. وتبطل صلاة المأموم في العمد دون النسيان. وقال الشافعية (¬2): إذا بان الإمام امرأة أو كافراً، وجب على المقتدي إعادة الصلاة، لأنه مقصر بترك البحث عن الإمام الصالح، ولعدم أهلية الإمام للإمامة. أما لو بان كون الإمام جنباً أو محدثاً أو ذا نجاسة خفية في ثوبه أو بدنه، فلا تجب على المقتدي إعادة الصلاة لانتفاء التقصير، إلا في الجمعة إذا كان المصلون مع الإمام أربعين فقط مع المحدث أو ذي النجاسة. وتجب الإعادة على المقتدي إذا كانت النجاسة ظاهرة، لتقصيره في هذه الحالة. والنجاسة الظاهرة: ما تكون بحيث لو تأمَّلها المأموم لرآها. والخفية بخلافها. وقال الحنابلة (¬3): إذا بان الإمام امرأة أو كافراً، وجبت إعادة الصلاة على المؤتم كما قال الشافعية، إذ تمتاز المرأة بالصوت والهيئة وغيرهما، والكفر لا يخفى غالباً، فالجاهل بذلك مفرط. ولا تصح إمامة محدث أو متنجس يعلم ذلك؛ لأنه أخل بشرط الصلاة مع القدرة، فأشبه المتلاعب، ويجب على المقتدي في حال علم الإمام بحدثه أو نجسه أن يعيد صلاته، وإن كان جاهلاً بحال الإمام. أما لو كان الإمام جاهلاً بالحدث أو ¬
سادسا ـ ما تفسد به صلاة الإمام والمأمومين
النجس، وكذلك المأمومون يجهلون ذلك، حتى قضوا الصلاة، فتصح صلاة المأموم وحده، دون الإمام، للحديث السابق: «إذا صلى الجنب بالقوم أعاد صلاته، وتمت للقوم صلاتهم». وعليه إذا صلى الإمام بالجماعة محدثاً أو جنباً غير عالم بحدثه، فلم يعلم هو ولا المأمومون، حتى فرغوا من الصلاة، فصلاتهم صحيحة اتفاقاً وصلاة الإمام باطلة. سادساً ـ ما تفسد به صلاة الإمام والمأمومين: تبين من الفقرة السابقة: أن العلماء اتفقوا على أنه إذا طرأ الحدث في الصلاة على الإمام، فتفسد صلاته، وتظل صلاة المأمومين صحيحة. أما لو صلى الإمام بالناس وهو جنب أو محدث، وعلم بذلك المأمومون بعد الصلاة، فهل تفسد صلاتهم أم لا؟ أجيب عنه في الفقرة السابقة (¬1) وموجزه ما يأتي: فقال الحنفية: صلاتهم فاسدة مطلقاً. وقال المالكية: تبطل صلاتهم في حال العمد دون النسيان. وقال الشافعية والحنابلة: صلاتهم صحيحة، إلا في الجمعة إذا كان المصلون مع الإمام أربعين فقط، فتفسد حينئذ. وسبب الاختلاف: هل صحة انعقاد صلاة المأموم مرتبطة بصحة صلاة الإمام، أم ليست مرتبطة؟ فمن رآها مرتبطة وهم الحنفية، قال: صلاتهم فاسدة. ومن رآها غير مرتبطة وهم الشافعية والحنابلة، قال: صلاتهم صحيحة. ومن فرق بين السهو والعمد، وهم المالكية، أخذ بظاهر الأثر الآتي: عن أبي ¬
سابعا ـ ما يحمله الإمام عن المأموم
بكرة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم استفتح، فكبَّر ثم أومأ إليهم: أن مكانكم، ثم دخل، ثم خرج ورأسه يقطر، فصلى بهم، فلما قضى الصلاة، قال: إنما أنا بشر مثلكم، وإني كنت جُنُباً» (¬1) فظاهر هذا أنهم بنوا على صلاتهم. ورأى الشافعية والحنابلة أنه لو كانت الصلاة مرتبطة، للزم أن يبدؤوا بالصلاة مرة ثانية. سابعاً ـ ما يحمله الإمام عن المأموم: يتحمل الإمام سهو المأموم، واتفق الفقهاء على أنه لا يحمل الإمام من فرائض الصلاة شيئاً عن المأموم ما عدا القراءة، فإنهم اختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال (¬2): أحدها ـ للمالكية والحنابلة: أن المأموم يقرأ مع الإمام فيما أسر فيه، ولا يقرأ معه فيما جهر به. وكذلك يقرأ عند الحنابلة في الجهرية إذا لم يسمع، ولا يقرأ إذا سمع (¬3). والثاني ـ للحنفية: أنه لا يقرأ معه أصلاً. والثالث ـ للشافعية: أنه يقرأ فيما أسر أم الكتاب (الفاتحة) وغيرها، وفيما جهر أم الكتاب فقط. ¬
والسبب في اختلافهم اختلاف الأحاديث في هذا الموضوع، وهي أربعة أحاديث سبق ذكرها في أركان الصلاة وهي: 1 - حديث «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب». 2 - حديث مالك عن أبي هريرة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة، فقال: هل قرأ معي منكم أحد آنفاً؟ فقال رجل: نعم، أنا يا رسول الله، فقال رسول الله: إني أقول ما لي أنازع القرآن؟ فانتهى الناس عن القراءة فيما جهر فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم. 3 - حديث عبادة بن الصامت، قال: صلى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم صلاة الغداة، فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف، قال: إني لأراكم تقرؤون وراء الإمام؟ قلنا: نعم، قال: فلا تفعلوا إلا بأم القرآن (¬1). 4 - حديث جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من كان له إمام، فقراءته له قراءة» وفي معناه حديث خامس صححه أحمد بن حنبل وهو: «إذا قرأ الإمام فأنصتوا». اختلف الفقهاء في الجمع بين هذه الأحاديث، فالشافعية استثنوا من النهي عن القراءة فيما جهر فيه الإمام قراءة أم القرآن فقط عملاً بحديث ابن الصامت. والمالكية والحنابلة: استثنوا من عموم حديث «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» المأموم فقط في صلاة الجهر، للنهي الوارد عن القراءة فيما جهر فيه الإمام في حديث أبي هريرة، وأكد ذلك بظاهر قوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} [الأعراف:204/ 7] قا لوا: وهذا إنما ورد في الصلاة. والحنفية: استثنوا القراءة الواجبة على المصلي المأموم فقط، سراً كانت ¬
ما ذكره الحنابلة فيما يتحمله الإمام عن المأموم
الصلاة أو جهراً، وجعلوا الوجوب الوارد في القراءة في حق الإمام والمنفرد فقط، عملاً بحديث جابر، فصار حديث جابر مخصصاً لقوله عليه الصلاة والسلام: «واقرأ ما تيسر معك فقط» لأنهم لا يرون وجوب قراءة أم القرآن في الصلاة، وإنما يرون وجوب القراءة مطلقاً، لقوله تعالى: {فاقرؤوا ما تيسر من القرآن} [المزمل:20/ 73]. ما ذكره الحنابلة فيما يتحمله الإمام عن المأموم: قال الحنابلة (1): يتحمل الإمام عن المأموم ثمانية أشياء: الفاتحة، وسجود السهو إذا دخل معه في الركعة الأولى (وهو اللاحق)، والسترة قدَّامه، لما تقدم «سترة الإمام سترة لمن خلفه»، والتشهد الأول إذا سبقه بركعة من رباعية لوجوب المتابعة، وسجود تلاوة أتى بها المأموم في الصلاة خلف الإمام، وفيما إذا سجد الإمام لتلاوة سجدة قرأها في صلاة سرية، وقول: سمع الله لمن حمده، وقول: ملء السموات وملء الأرض ... الخ بعد التحميد، ودعاء القنوت إن كان يسمع المأموم، فيؤمن فقط، وإلا قنت. ويوافقهم الحنفية والمالكية في الفاتحة وقول سمع الله لمن حمده، وقول: ملء السموات كما يوافقهم سائر المذاهب في الباقي. ثامناً ـ الأحكام الخاصة بالإمام: هناك أربع مسائل خاصة بالإمام وهي: هل يؤمن الإمام إذا فرغ من قراءة الفاتحة، أو المأموم هو الذي يؤمن فقط، ومتى يكبر الإمام تكبيرة الإحرام، وهل يفتح على الإمام إذا أرتج عليه أو لا، وهل يجوز أن يكون موضعه أرفع من موضع المأمومين؟
المسألة الأولى ـ هل يؤمن الإمام إذا فرغ من قراءة الفاتحة، أو المأموم هو الذي يؤمن فقط؟
قد عرفنا أحكام هذه المسائل في المذاهب ما عدا الثانية منها، ونوجز هنا الكلام فيها (¬1). المسألة الأولى ـ هل يؤمن الإمام إذا فرغ من قراءة الفاتحة، أو المأموم هو الذي يؤمن فقط؟ ذهب مالك إلى أنه لا يؤمن. وذهب جمهور الفقهاء إلى أنه يؤمن كالمأموم سواء. وسبب اختلافهم حديثان متعارضان في الظاهر: أحدهما ـ حديث أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا أمَّن الإمام فأمِّنوا، فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه» (¬2). والثاني ـ حديث أبي هريرة أيضاً قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا قال الإمام: غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فقولوا: آمين (¬3). فالحديث الأول نص في تأمين الإمام. والحديث الثاني: يستدل منه على أن الإمام لا يؤمن؛ لأنه لو كان يؤمن، لما أمر المأموم بالتأمين عند الفراغ من الفاتحة قبل أن يؤمن الإمام؛ لأن الإمام، كما قال عليه الصلاة والسلام إنما جعل ليؤتم به. فرجح مالك الحديث الثاني الذي رواه، لكون السامع هو المؤمن، لا القارئ الداعي. ورجح الجمهور الحديث الأول لكونه نصاً في الموضوع؛ لأنه ليس فيه شيء ¬
المسألة الثانية ـ متى يكبر الإمام تكبيرة الإحرام؟
من حكم الإمام، وإنما الخلاف بينه وبين الحديث الآخر في موضع تأمين المأموم فقط، لا في: هل يؤمن الإمام أو لا يؤمن. المسألة الثانية ـ متى يكبر الإمام تكبيرة الإحرام؟ قال الجمهور: لا يكبر الإمام إلا بعد تمام الإقامة واستواء الصفوف. وقال الحنفية: إن موضع التكبير هو قبل أن يتم الإقامة، واستحسنوا تكبيره عند قول المؤذن: قد قامت الصلاة. وسبب الخلاف تعارض ظاهر حديث أنس وحديث بلال. أما حديث أنس: فقال: أقبل علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبل أن يكبر في الصلاة، فقال: أقيموا صفوفكم وتراصوا، فإني أراكم من راء ظهري (¬1). وظاهر هذا أن الكلام منه كان بعد الفراغ من الإقامة، مثلما روي عن عمر: أنه كان إذا تمت الإقامة، واستوت الصفوف، حينئذ يكبر. وأما حديث بلال: فإنه روى أنه كان يقيم للنبي صلّى الله عليه وسلم، فكان يقول له: يا رسول الله، لا تسبقني بآمين (¬2). فهذا يدل على أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يكبر، والإقامة لم تتم. المسألة الثالثة ـ هل يفتح على الإمام إذا أرتج عليه أو لا؟ ذكر البحث فيها في مبطلات الصلاة، وقد عرفنا أن المذاهب الأربعة وغيرها ¬
المسألة الرابعة ـ ارتفاع الإمام عن المأمومين
أجازوا الفتح على الإمام إذا أرتج عليه وهو مشهور عن ابن عمر. ومنعه بعض العلماء وهو مشهور عن علي. وسبب الخلاف: اختلاف الآثار، فقد روي أنه «صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فترك آية، فقال له رجل: يا رسول الله، آية كذا وكذا، قال: فهلا ذكرتنيها؟!» (¬1)، وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «يا علي، لاتفتح على الإمام في الصلاة» (¬2). والرأي الأول أصح رواية وعملاً. المسألة الرابعة ـ ارتفاع الإمام عن المأمومين: بينا سابقاً أنه يجوز في المذاهب الأربعة ارتفاع الإمام عن المأمومين مع الكراهة، إلا الارتفاع اليسير فلا كراهة فيه عند المالكية والحنابلة، وإلا حالة الضرورة أو قصد التعليم عند الشافعية. ومنع قوم ذلك. وسبب الخلاف فيه حديثان متعارضان: أحدهما ـ الحديث الثابت أنه عليه الصلاة والسلام أمَّ الناس على المنبر ليعلمهم الصلاة، وأنه كان إذا أراد أن يسجد نزل من على المنبر (¬3). والثاني ـ ما رواه أبو داود أن حذيفة أمَّ الناس على دكَّان (¬4) فأخذ ابن مسعود بقميصه، فجذبه، فلما فرغ من صلاته، قال: ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك (¬5). ¬
مسألة خامسة ملحقة ـ هل يجب على الإمام أن ينوي الإمامة أو لا؟
مسألة خامسة ملحقة ـ هل يجب على الإمام أن ينوي الإمامة أو لا؟ ذهب قوم إلى أنه ليس ذلك بواجب عليه، لحديث ابن عباس أنه قام إلى جنب رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد دخوله في الصلاة. ورأى قوم أن هذا محتمل، وأنه لا بد من ذلك؛ إذ كان يحمل بعض أفعال الصلاة عن المأمومين. وسنعود لهذا البحث. المطلب الثالث ـ القدوة: شروط القدوة، نية مقارنة الإمام وقطع القدوة، أحوال المقتدي (المدرك، اللاحق، المسبوق)، ما يفعله المقتدي بعد فراغ إمامه من واجب وغيره. أولاً ـ شروط صحة القدوة: ذكر الشافعية (¬1) سبعة شروط لصحة القدوة يمكن فهمها من فروع المطلب الثاني السابق وهي ما يأتي: 1ً - ألا يعلم المقتدي بطلان صلاة إمامه بحدث أو غيره، وألا يعتقد بطلانها من حيث الاجتهاد في غير اختلاف المذاهب في الفروع: كمجتهدين اختلفا في القبلة أو في إناءين من الماء: طاهر ونجس، بأن أدى اجتهاد أحدهما إلى غير ما أدى إليه اجتهاد الآخر في المسألتين. فإن تعدد الطاهر من الآنية: كأن كانت الأواني ثلاثة، والطاهر منها اثنان والمجتهدون ثلاثة، وظن كل منهم طهارة إنائه فقط، فالأصح صحة اقتداء بعضهم ببعض، ما لم يتعين إناء الإمام للنجاسة. ¬
ثانيا ـ نية مفارقة الإمام وقطع القدوة
فإن ظن واحد باجتهاده طهارة إناء غيره، جاز له الاقتداء به قطعاً. أما اختلاف المذاهب في الفروع: فلو اقتدى شافعي بحنفي مسَّ فرجه، أو افتصد، فالأصح الصحة في الفصد، دون المس، اعتباراً باعتقاد المقتدي لأنه محدث عنده بالمس، دون الفصد. 2ً - ألا يعتقد وجوب قضاء الصلاة: كمقيم تيمم، لفقد ماء بمحل يغلب فيه وجوده. 3ً - ألا يكون مأموماً، فلا تصح قدوة بمقتد في حال قدوته؛ لأنه تابع لغيره يلحقه سهوه، ومن شأن الإمام الاستقلال، وأن يتحمل هو سهو غيره، فلا يجتمعان، وهذا إجماع. 4ً - ألا يكون مشكوكاً في كونه إماماً أو مأموماً: فإن شك لم يصح اقتداؤه به. 5ً - ألا يكون أمياً: وهو من لا يحسن حرفاً من الفاتحة، أو يخل بتشديدة منها، إلا إذا اقتدى به مثله. 6ً - ألا يقتدي الرجل بالمرأة. فلو صلى خلفه ثم تبين كفره أو جنونه أو كونه امرأة أو مأموماً أو أمياً، أعادها، إلا إن بان محدثاً أو جنباً أو عليه نجاسة خفية، أو قائماً بركعة زائدة فاقتدى به، فلا إعادة عليه. ولو نسي حدث إمامه، ثم تذكره، أعاد. ثانياً ـ نية مفارقة الإمام وقطع القدوة: عرفنا سابقاً أنه عند الشافعية: تنقطع القدوة بمجرد خروج الإمام من صلاته، بحدث أو غيره.
ثالثا ـ أحوال المقتدي (المدرك
وقال الشافعية والحنابلة (¬1): إن أحرم الشخص مأموماً، ثم نوى مفارقة الإمام وإتمام صلاته منفرداً، جاز عند الشافعية سواء أكان لعذر، أم لغير عذر مع الكراهة، لمفارقته للجماعة المطلوبة وجوباً أو ندباً مؤكداً. وجاز لعذر فقط عند الحنابلة، أما لغير عذر ففيه روايتان: إحداهما: تفسد صلاته وهي الأصح والثانية: تصح. واستثنى الشافعية الجمعة فلا تصح نية المفارقة في الركعة الأولى منها، والصلاة التي يريد إعادتها جماعة، فلا تصح نية المفارقة في شيء منها، وكذا الصلاة المجموعة تقديماً. ومن العذر: تطويل الإمام، أو تركه سنة مقصودة، كتشهد أول وقنوت، فله فراقه ليأتي بتلك السنة، أو المرض، أو خشية غلبة النعاس أو شيء يفسد صلاته، أو خوف فوات ماله أو تلفه، أو فوت رفقته، أو من يخرج من الصف ثم لا يجد من يقف معه. ودليلهم مافي الصحيحين: «أن معاذاً صلى بأصحابه العشاء، فطوَّل عليهم، فانصرف رجل، فصلى، ثم أتى النبي صلّى الله عليه وسلم، فأخبره بالقصة، فغضب وأنكر على معاذ، ولم ينكر على الرجل، ولم يأمره بالإعادة». وأجاز الحنفية (¬2) فقط مع الكراهة سلام المقتدي قبل الإمام، ولا تجوز المفارقة. وقال المالكية (¬3): من اقتدى بإمام لم يجز له مفارقته. ثالثاً ـ أحوال المقتدي (المدرك، اللاحق، المسبوق): للمقتدي أحوال ثلاثة: مدرك، ولاحق، ومسبوق، ولأحكامهم تفصيل في المذاهب. ¬
مذهب الحنفية
مذهب الحنفية (¬1): المدرك: من صلى جميع الصلاةكاملة مع الإمام. وهذا صلاته تامة لا شيء فيها. واللاحق: من فاتته الركعات كلها أو بعضها مع الإمام، على الرغم من ابتدائه الصلاة معه، كأن عرض له عذر كغفلة أو نوم أو زحمة (¬2) أو سبق حدث، أو صلاة خوف (أي في الطائفة الأولى، وأما الثانية فمسبوقة) أو كان مقيماً ائتم بمسافر، أو بلا عذر: كأن سبق إمامه في ركوع وسجود، فإنه يقضي ركعة. وحكمه: أنه كمؤتم حقيقة فيما فاته، فلا تنقطع تبعيته للإمام، فلا يقرأ في قضاء مافاته من الركعات، ولا يسجد للسهو لأنه لا سجود على المأموم فيما يسهو به خلف إمامه، ولا يتغير فرضه، فيصير أربعاً، بنية الإقامة إن كان مسافراً، ويبدأ بقضاء ما فاته أثناء صلاة الإمام، ثم يتابعه فيما بقي إن أدركه ويسلم معه، فإن لم يدركه، مضى في صلاته إلى النهاية. وإذا كان اللاحق مسبوقاً بأن بدأ مع الإمام في الركعة الثانية، ثم فاتته ركعة فأكثر خلف الإمام، فعليه القراءة في قضاء ما سبق به. والمسبوق: من سبقه الإمام بكل الصلاة أو ببعضها (¬3). وحكمه أنه كالمنفرد بعد البدء بقضاء ما فاته، فيأتي بدعاء الثناء، والتعوذ لأنه للقراءة، ويقرأ؛ لأنه ¬
يقضي أول صلاته في حق القراءة، فلو ترك القراءة، فسدت صلاته، كما يقضي آخر صلاته في حق التشهد. ومحل إتيانه بالثناء: إن كان في ركعة سرية أتى بالثناء بعد تكبيرة الإحرام، وإن أدرك الإمام في ركعة جهرية، لا يأتي به مع الإمام على الصحيح، بل يأتي به عند قضاء ما فاته، وعندئذ يتعوذ ويبسمل للقراءة كالمنفرد. والمسبوق: إن أدرك الإمام وهو راكع، كبر للإحرام قائماً، ثم ركع معه، وتحسب له هذه الركعة. وإن أدركه بعد الركوع، كبر للإحرام قائماً، ثم تابعه فيما هو فيه من أعمال الصلاة، ولا تحسب الركعة، ثم يقضي ما فاته بعد سلام الإمام، ويقرأ الفاتحة وسورة بعدها في قضاء كل من الركعتين الأولى والثانية من صلاته، فلو فاتته هاتان الركعتان قرأ فيما يقضيه الفاتحة وسورة، ولو فاته ركعة مثلاً قضى ركعة وقرأ فيها الفاتحة والسورة. والمسبوق كالمنفرد إلا في أربع مسائل فهو كمقتد: إحداها ـ لا يجوز اقتداؤه بغيره ولا الاقتداء به. ثانيها ـ لو كبَّر ناوياً استئناف صلاة جديدة وقطعها، صار مستأنفاً وقاطعاً للصلاة الأولى، بخلاف المنفرد. ثالثها ـ لو قام إلى قضاء ما سبق به، وعلى الإمام سجدتا سهو، ولو قبل اقتدائه، فعليه أن يعود فيسجد معه، ما لم يقيد الركعة التي قام لقضائها بسجدة، فإن لم يعد حتى سجد، يمضي في صلاته، وعليه إن يسجد في آخر صلاته، بخلاف المنفرد، فإنه لا يلزمه السجود لسهو غيره. كذلك يلزمه متابعة الإمام في قضاء سجدة التلاوة، على التفصيل المذكور.
مذهب المالكية
رابعها ـ يأتي بتكبيرات التشريق (¬1) اتفاقاً بين الحنفية، بخلاف المنفرد، حيث لا يأتي بها عند أبي حنيفة. ومن أحكام المسبوق: أنه يكره تحريماً أن يقوم المسبوق لقضاء ما فاته قبل سلام إمامه إذا قعد قدر التشهد، إلا في مواضع تعتبر عذراً: الأول: إذا خاف المسبوق الماسح زوال مدته إذا انتظر سلام الإمام. الثاني: إذا خاف خروج الوقت، وكان صاحب عذر، حتى لا ينتقض وضوءه. الثالث: إذا خاف في الجمعة دخول وقت العصر، إذا انتظر سلام الإمام. الرابع: إذا خاف المسبوق دخول وقت الظهر في العيدين، أو خاف طلوع الشمس في الفجر، إذا انتظر سلام الإمام. الخامس: إذا خاف المسبوق أن يسبقه الحدث. السادس: إذا خاف أن يمر الناس بين يديه إذا انتظر سلام الإمام، ففي هذه المواضع كلها للمسبوق أن يقوم فيها لإكمال صلاته قبل سلام إمامه. مذهب المالكية (¬2): المدرك: الذي أدرك جميع الصلاة مع الإمام، صلاته تامة، ولاقضاء عليه بعد سلام إمامه؛ لأنه لم يفته شيء من الصلاة. ¬
معنى قضاء القول
واللاحق: الذي فاته شيء من الصلاة بعد الدخول مع الإمام لعذر كزحمة أو نعاس لا ينقض الوضوء، له أحوال ثلاثة: أن يفوته ركوع أو اعتدال منه، أن تفوته سجدة أو سجدتان، أن تفوته ركعة فأكثر. الحالة الأولى ـ وهي أن يفوت المأموم الركوع أو الرفع منه مع الإمام، فإما أن يكون ذلك في الركعة الأولى أو غيرها. فإن كان في الركعة الأولى اتبع الإمام فيما هو فيه من الصلاة، وألغى هذه الركعة، وقضى ركعة بعد سلام الإمام. وإن كان ذلك الفوات في غير الركعة الأولى: فإن أمكنه تدارك الإمام في السجود ولو في السجدة الثانية، فعل مافاته ليدرك الإمام، وإن لم يتمكن من تدارك الإمام في السجود، فإنه يلغي هذه الركعة، ويقضيها بعد سلام الإمام. الحالة الثانية ـ أن يفوته سجدة أو سجدتان: فإن أمكنه السجود وإدراك الإمام في ركوع الركعة التالية، فعل ما فاته ولحق الإمام وتحسب له الركعة. وإن لم يمكنه السجود على النحو المذكور، ألغى الركعة واتبع الإمام فيما هو فيه، وأتى بركعة بعد سلام الإمام، ولا يسجد للسهو، لأن الإمام يتحمل عنه سهوه. الحالة الثالثة ـ أن تفوته ركعة أو أكثر بعد الدخول مع الإمام: فيقضي مافاته بعد سلام الإمام، على النحو الذي فاته بالنسبة للقراءة والقنوت. أما المسبوق: الذي فاته ركعة أو أكثر قبل الدخول مع الإمام، فحكمه أنه يجب عليه أن يقضي بعد سلام الإمام ما فاته من الصلاة. والمشهور أنه يقضي القول، ويبني على الأفعال، علماً بأن المراد بالقول هو القراءة، والمراد بالفعل هو ماعدا القراءة، فيشمل التسميع والتحميد والقنوت. ومعنى قضاء القول: أن يجعل ما فاته المسبوق قبل دخوله مع الإمام بالنسبة
معنى البناء على الفعل
إليه هو أول صلاته، وما أدركه معه هو آخرها، فيأتي بالقراءة على صفتها من سر أو جهر. ومعنى البناء على الفعل (¬1): أن يجعل ما أدركه مع الإمام أول صلاته، ومافاته آخر صلاته، فيكون كالمصلي وحده. فهو عكس البناء على القول. وتوضيح ذلك: إن أدرك المسبوق الركعة الرابعة فقط من العشاء، فإذا سلم الإمام، أتى بركعة يقرأ فيها جهراً بالفاتحة والسورة؛ لأنها أولى صلاته بالنسبة للقراءة، ثم يجلس بعدها للتشهد؛ لأنها ثانية له بالنسبة للجلوس. ثم يقوم فيأتي بركعة، يقرأ فيها جهراً بالفاتحة والسورة؛ لأنها ثانية له بالنسبة للقراءة، ولا يجلس بعدها للتشهد لأنها ثالثة له بالنسبة للجلوس. ثم يأتي بركعة ثالثة يقرأ فيها سراً، ثم يجلس للتشهد الأخير؛ لأنها رابعة بالنسبة للأفعال، ثم يسلم. ومدرك الركعة الثانية في صلاة الصبح مع الإمام، يقنت في ركعة القضاء؛ لأنها الثانية بالنسبة للفعل، الذي منه القنوت، ويجمع بين التسميع والتحميد؛ لأن الركعة الثانية آخرته، وهو فيها كالمصلي وحده. أما إن سجد الإمام سجود سهو: فإن كان قبلياً سجد معه، وإن كان بعدياً أخره حتى يفرغ من قضاء ما عليه. وأما التكبير أثناء نهوض المسبوق لقضاء ما عليه: فإن أدرك مع الإمام ركعتين أو أقل من ركعة، كبر حال القيام؛ لأن جلوسه في محله، فيقوم بتكبير، وإلا فلا يكبر حال القيام، بل يقوم ساكتاً؛ لأن جلوسه في غير محله، وإنما هو لموافقة الإمام. ¬
الشافعية
وإن أدرك المسبوق ركوع الإمام، فمكن من ركبتيه قبل أن يرفع الإمام رأسه من الركوع، فقد أدرك الركعة. وإن لم يدرك المسبوق ركوع الركعة الأخيرة، فدخل في السجود أو الجلوس، فقد فاتته الصلاة كلها، فيقوم فيصليها كاملة؛ فإن جرى له ذلك في صلاة الجمعة، صلاها ظهراً أربعاً. الشافعية (¬1): المقتدي: إما موافق أو مسبوق. والموافق: هو من أدرك مع الإمام قدر الفاتحة، سواء الركعة الأولى وغيرها. والمسبوق: هو من لم يدرك مع الإمام من الركعة الأولى أو غيرها قدراً يسع الفاتحة. والموافق: إن تخلف عن الإمام بركن فعلي عامداً بلا عذر، بأن فرغ الإمام منه، وهو فيما قبله، لم تبطل صلاته في الأصح؛ لأنه تخلف يسير، سواء أكان طويلاً، كأن ابتدأ الإمام رفع الاعتدال، والمأموم في قيام القراءة، أم قصيراً، كأن رفع الإمام رأسه من السجدة الأولى، وهوى من الجلسة بعدها للسجود، والمأموم في السجدة الأولى. وإن تخلف بركنين فعليين، بأن فرغ الإمام منهما، وهو فيما قبلهما، كأن ابتدأ الإمام هويّ السجود، والمأموم في قيام القراءة. أ - فإن لم يكن عذر، كأن تخلف لقراءة السورة أو لتسبيحات الركوع والسجود، بطلت صلاته، لكثرة المخالفة. ب ـ وإن كان عذر: بأن اشتغل بدعاء الافتتاح، أو ركع إمامه فشك في ¬
الفاتحة، أو تذكر تركها أو أسرع الإمام قراءته مثلاً، أو كان المأموم بطيء القراءة لعجز، لا لوسوسة، وركع أي الإمام قبل إتمام المأموم الفاتحة، فالصحيح أن المأموم يتم فاتحته، ويسعى خلف إمامه على نظم صلاة نفسه، ما لم يسبق بأكثر من ثلاثة أركان مقصودة في نفسها، طويلة أي ما لم يسبق بثلاثة فما دونها، وهي الركوع والسجودان، أخذاً من صلاته صلّى الله عليه وسلم بعُسْفان، فلا يعد منها القصير: وهو الاعتدال والجلوس بين السجدتين. فإن سبق بأكثر من الأركان الثلاثة، بأن لم يفرغ من الفاتحة إلا والإمام قائم عن السجود، أو جالس للتشهد، فالأصح أنه لا تلزمه المفارقة، بل يتبع الإمام فيما هو فيه، ثم يتدارك بعد سلام الإمام ما فاته، كالمسبوق، لما في مراعاة نظم صلاته في هذه الحالة من المخالفة الفاحشة. وهذا كله مفرع على شرط متابعة المقتدي للإمام. أما المسبوق: فيسن له ألا يشتغل بسنة بعد التحرم، بل بالفاتحة، إلا أن يظن إدراكها مع اشتغاله بالسنة. فإن لم يشتغل بسنة، تبع إمامه في الركوع وجوباً، وسقط عنه ما بقي من الفاتحة، فإن تخلف لإتمام قراءته، حتى رفع الإمام من الركوع، فاتته الركعة، ولا تبطل صلاته، إلا إذا تخلف عنه بركنين فعليين بلا عذر. وإن اشتغل المسبوق بسنة كدعاء الافتتاح أو التعوذ، قرأ بقدرها من الفاتحة وجوباً، ثم إن فرغ مما عليه، وأدرك الركوع مطمئناً يقيناً مع الإمام أدرك الركعة. وإن فرغ مما عليه، والإمام في الاعتدال، وافقه فيه وفاتته الركعة. وإن لم يفرغ مما عليه واستمر في القراءة وأراد الإمام الهويّ للسجود، تعينت نية المفارقة؛ لأنه إن هوى الإمام للسجود، ولم ينو المفارقة، بطلت صلاته، وإن هوى معه، بطلت صلاته أيضاً.
وإن لم يشتغل بسنة، قطع القراءة، وركع مع الإمام. ولو علم المأموم في ركوعه أنه ترك الفاتحة، لم يعد إليها، بل يصلي ركعة بعد سلام الإمام. ولو علم المأموم ترك الفاتحة أو شك فيه، وقد ركع الإمام، ولم يركع هو، قرأها وجوباً لبقاء محلها، ويعد متخلفاً بعذر، ويطبَّق عليه حكم بطيء القراءة، في الموافق. والمسبوق الذي فاته بعض ركعات الصلاة مع الإمام: إن أدرك مع الإمام مقدار الركوع الجائز بأن أدركه راكعاً واطمأن معه، فقد أدرك الركعة، وإن لم يدرك ذلك أو أدركه في ركوع زائد أو في الثاني من صلاة الكسوفين، لم يدرك الركعة، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من أدرك الركوع من الركعة الأخيرة يوم الجمعة، فليضف إليها أخرى، ومن لم يدرك الركوع، فليصل الظهر أربعاً» (¬1). وإن أدركه ساجداً، كبر للإحرام، ثم سجد من غير تكبير، على المذهب. وإن أدركه في آخر الصلاة، كبر للإحرام، وقعد، وحصل له فضيلة الجماعة، فإن أدرك معه الركعة الأخيرة، كان ذلك أول صلاته، لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: «ما أدركت فهو أول صلاتك» وعن ابن عمر أنه قال: «يكبر، فإذا سلم الإمام قام إلى ما بقي من صلاته» وبه تقررت قاعدة المذهب وهي: ما أدركه المسبوق أول صلاته، وما يتداركه آخرها، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ما أدركتم ¬
الحنابلة
فصلوا، وما فاتكم فأتموا» (¬1). وهذا بخلاف مذاهب الأئمة الآخرين فعندهم: ما أدركه آخر صلاته وما يتداركه أول صلاته، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا» (¬2). وإن كانت الصلاة فيها قنوت، فقنت مع الإمام أعاد القنوت في آخر صلاته؛ لأن مافعله مع الإمام فعله للمتابعة، فإذا بلغ إلى موضعه، أعاد كما لو تشهد مع الإمام، ثم قام إلى ما بقي، فإنه يعيد التشهد. ويسن للمسبوق الذي فاتته الركعتان الأوليان أو إحداهما أن يقرأ سورة بعد الفاتحة في الركعتين الأخيرتين أو الأولى منهما، لئلا تخلو صلاته من سورة. الحنابلة (¬3): المسبوق يشمل عندهم (اللاحق) عند الحنفية والمالكية، فمن اقتدى بالإمام من أول الصلاة، أو بعد ركعة فأكثر وفاته شيء منها فهو في الحالتين مسبوق. أما اللاحق الذي بدأ صلاته مع الإمام من أولها، وتخلف عنه بركن أو ركنين لعذر من نوم لا ينقض الوضوء أوغفلة أو سهو أوعجلة ونحوه كزحام، فيجب عليه أن يفعله ويلحق به إذا لم يخش فوت الركعة التالية؛ لأنه أمكنه استدراكه من غير محذور، فلزمه، وتصح الركعة التي أتى بها. وإن لم يأت بها أو خشي فوت الركعة التالية مع الإمام، وجب عليه متابعة إمامه، ولغت الركعة، ووجب عليه قضاؤها على صفتها بعد سلام الإمام. ¬
والإتيان بها على صفتها معناه: أنه لو فاتته الركعة الأولى، أتى بها بالاستفتاح والتعوذ وقراءة سورة بعد الفاتحة. وإن كانت الثانية قرأ سورة بعد الفاتحة، وإن كانت الثالثة أو الرابعة قرأ الفاتحة فقط. وإن تخلف عن السجود مع الإمام لعذر، تابع إمامه في السجود الثاني وتمت له الركعة، على أن يقضي ما فاته على صفته بعد سلام الإمام. وإن تخلف عن إمامه بركعة فأكثر، لعذر من نوم أو غفلة أو نحوه، تابعه فيما بقي من صلاته، وقضى المأموم ما تخلف به بعد سلام إمامه، كمسبوق. وأما إن تخلف المقتدي عن إمامه بركن بلا عذر، فهو كسبق الإمام بركن: إن فعل ذلك عامداً عالماً، بطلت صلاته، لأنه ترك فرض المتابعة متعمداً. وإن فعل ذلك جاهلاً أو ناسياً، بطلت تلك الركعة إذا لم يأت بما فاته مع إمامه؛ لأنه لم يقتد بإمامه في الركوع، وتصح صلاته، لحديث «عفي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه». وأما المسبوق: فإن سبق بالركوع أو بركنين عمداً بطلت صلاته مطلقاً، وإن سبقه بغير ركوع كالهوي للسجود، أو سبقه سهواً لم تبطل صلاته، لكن يجب إعادة ما أتى به بعد إمامه، فإن لم يأت به، ألغيت الركعة. وما أدرك المسبوق مع الإمام فهو آخر صلاته، كما بينا، فإن أدركه فيما بعد الركعة الأولى كالثانية أو الثالثة، لم يستفتح ولم يستعذ، ومايقضيه المسبوق هو أول صلاته، فيستفتح له، ويتعوذ، ويقرأ السورة، لحديث أبي هريرة السابق أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فاقضوا» (¬1). ¬
رابعا: ما يفعله المقتدي بعد فراغ إمامه من واجب وغيره
ويتورك المسبوق مع إمامه في موضع توركه؛ لأنه آخر صلاته، وإن لم يعتد به، كما يتورك المسبوق فيما يقضيه للتشهد الثاني، فلو أدرك ركعتين من رباعية، جلس مع الإمام متوركاً متابعة له للتشهد الأول، وجلس بعد قضاء الركعتين أيضاً متوركاً؛ لأنه يعقبه سلامه. ويندب أن يكرر التشهد الأول، حتى يسلم إمامه التسليمتين؛ لأنه تشهد واقع في وسط الصلاة، فلم تشرع فيه الزيادة على الأول. وإذا سلم المسبوق مع إمامه سهواً، وجب عليه أن يسجد للسهو في آخر صلاته. وكذا يسجد للسهو إن سها فيما يصليه مع الإمام، وفيما انفرد بقضائه، ولو شارك الإمام في سجوده لسهوه. وإذا لم يسجد الإمام لسهو، وجب على المسبوق سجود السهو بعد قضاء ما فاته. ويعتبر المسبوق مدركاً للجماعة متى أدرك تكبيرة الإحرام قبل سلام إمامه التسليمة الأولى، ولا يكون مدركاً للركعة إلا إذا ركع مع الإمام قبل رفع رأسه من الركوع، غير شاكّ في إدراك الإمام راكعاً، ولو لم يدرك معه الطمأنينة إذا اطمأن هو، ثم لحق إمامه، لحديث أبي هريرة مرفوعاً: «إذا جئتم إلى الصلاة، ونحن سجود، فاسجدوا، ولا تعدوها شيئاً، ومن أدرك الركوع فقد أدرك الركعة» (¬1). رابعاً: ما يفعله المقتدي بعد فراغ إمامه من واجب وغيره: ذكر الحنفية (¬2) بعض الأحكام الفرعية المتعلقة بالمقتدي بعد فراغ إمامه وهي: أـ لو سلم الإمام قبل فراغ المقتدي من قراءة التشهد، فعليه أن يتمه، ثم يسلم. ¬
المطلب الرابع ـ الأمور المشتركة بين الإمام والمأموم
ب ـ لو سلم الإمام قبل فراغ المقتدي من الصلوات الإبراهيمية أو الدعاء، يتركها، ويسلم مع الإمام. جـ ـ إذا قام الإمام قبل فراغ المقتدي من قراءة التشهد الأول، أتمه ثم تابع إمامه. د ـ إذا رفع الإمام رأسه من الركوع أو السجود قبل فراغ المقتدي من إتمام ثلاث تسبيحات، تابعه، وتركها. هـ ـ إذا زاد الإمام سجدة، أو قام بعد القعود الأخير ساهياً، لا يتبعه المقتدي ولو تابعه فسدت صلاته، بل ينتظره، ويسبح لتنبيه الإمام لخطئه، فإن عاد الإمام قبل تقييده الزائدة بسجدة، سجد الإمام للسهو، وسلم المقتدي معه، فإن أتى بسجدة بعد الزائد، سلم المقتدي وحده، لخروج الإمام إلى غير صلاته. وإن سلم المقتدي قبل أن يقيد الإمام ما زاده بسجدة، فسد فرضه. وـ يكره سلام المقتدي بعد تشهد الإمام قبل سلامه، لتركه المتابعة، وصحت صلاته، كما صحت صلاة الإمام على الصحيح. ز ـ يكره تحريماً الخروج من مسجد بعد الأذان، حتى يصلي الشخص، إلا إذا كان إماماً أو مؤذناً لمسجد آخر، أو خرج بعد صلاته منفرداً. ح ـ لو ظن الإمام السهو، فسجد له، فتابعه المقتدي، فبان أن لا سهو، فالأشبه الفساد لصلاة المقتدي، لاقتدائه في موضع الانفراد. المطلب الرابع ـ الأمور المشتركة بين الإمام والمأموم: شروط الاقتداء بالإمام، موقف الإمام والمأموم، أمر الإمام بتسوية الصفوف، صلاة المنفرد عن الصف.
أولا ـ شروط الاقتداء بالإمام
أولاً ـ شروط الاقتداء بالإمام: عرفنا شروط كل من الإمام والمقتدي الخاصة بهما، ونبحث هنا شروط ارتباط المقتدي بالإمام أو شروط صحة الجماعة وهي ما يأتي (¬1): 1 - نية المؤتم الاقتداء باتفاق المذاهب: أي ينوي المأموم مع تكبيرة الإحرام الاقتداء أو الجماعة أو المأمومية، فلو ترك هذه النية أو مع الشك فيها، وتابعه في الأفعال، بطلت صلاة المقتدي، ولا يجب تعيين الإمام باسمه، فإن عينه وأخطأ بطلت صلاته عند الشافعية. لكن لابد من تعيين إمام معين بصفة الإمامة، فلو نوى الائتمام بأحد رجلين يصليان، لا بعينه، لم يصح، حتى يعين الإمام بوصفه، لأن تعيينه شرط، ولا يجوز الائتمام بأكثر من واحد، فلو نوى الائتمام بإمامين لم يجز؛ لأنه لا يمكن اتباعهما معاً. وشرط النية: أن تكون مقارنة للتحريمة عند الشافعية، وأجاز الحنفية أن تكون متقدمة على التحريمة بشرط ألا يفصل بينها وبين التحريمة فاصل أجنبي (¬2)، والأفضل عندهم وعند الحنابلة: أن تكون مقارنة خروجاً من الخلاف. واشترط المالكية المقارنة للتحريمة أو قبلها بزمن يسير، كما تقدم في بحث اشتراط النية في الصلاة. وبناء على هذا الشرط: لو شرع امرؤ في الصلاة منفرداً، لم يجز له الانتقال ¬
للجماعة إلا في حالة الاستخلاف، كما سيأتي، كما لا يجوز عكسه عند الحنفية والمالكية، وهو أن ينتقل للانفراد، بأن ينوي مفارقة الإمام، وأجاز الشافعية والحنابلة كما بينا نية مفارقة الإمام، وإتمام الصلاة منفرداً، لعذر عند الحنابلة، أو لغير عذر مع الكراهة عند الشافعية، كما بينا سابقاً. أما نية الإمام الإمامة: فلا تشترط عند الجمهور غير الحنابلة، بل تستحب ليحوز فضيلة الجماعة، فإن لم ينو لم تحصل له، إذ ليس للمرء من عمله إلا ما نوى. واستثنى الشافعية والمالكية الصلاة التي تتوقف صحتها على الجماعة، كالجمعة، والمجموعة للمطر، والمعادة، وصلاة الخوف، فلا بد فيها من نية الإمام الإمامة. واستثنى الحنفية اقتداء النساء بالرجل، فإنه يشترط نية الرجل الإمامة لصحة اقتداء النساء به. وقال الحنابلة: تشترط أيضاً نية الإمامة، فينوي الإمام أنه إمام، والمأموم أنه مأموم، وإلا فسدت الصلاة. لكن لو أحرم الشخص منفرداً، ثم جاء آخر، فصلى معه، فنوى إمامته، صح في النفل، عملاً بحديث ابن عباس، وهو أنه قال: «بتُ عند خالتي ميمونة، فقام النبي صلّى الله عليه وسلم متطوعاً من الليل، فقام إلى القربة، فتوضأ، فقام، فصلى، فقمت لما رأيته صنع ذلك، فتوضأت من القربة، ثم قمت إلى شقه الأيسر، فأخذ بيدي من وراء ظهره يعدلني كذلك إلى الشق الأيمن» (¬1). أما في الفريضة: فإن كان المصلي ينتظر أحداً، كإمام المسجد، فإنه يُحرم ¬
2 ـ اتحاد صلاتي الإمام والمأموم
وحده، وينتظر من يأتي، فيصلي معه، فيجوز ذلك أيضاً عند الحنابلة؛ لأن النبيصلّى الله عليه وسلم أحرم وحده، ثم جاء جابر وجبارة، فأحرما معه، فصلى بهما، ولم ينكر فعلهما. والظاهر أنها كانت صلاة مفروضة؛ لأنهم كانوا مسافرين. أما في غير هذه الحالة، فلا يصح الاقتداء لمن لم ينو الإمامة. 2 ـ اتحاد صلاتي الإمام والمأموم: للفقهاء آراء في تحديد هذا الاتحاد، فقال الحنفية (¬1): الاتحاد أن يمكنه (أي المقتدي) الدخول في صلاة بنية صلاة الإمام، فتكون صلاة الإمام متضمنة لصلاة المقتدي. فلا يصلي المفترض خلف المتنفل؛ لأن الاقتداء بناء، ووصف الفرضية معدوم في حق الإمام، فلا يتحقق البناء على المعدوم، ولا من يصلي فرضاً خلف من يصلي فرضاً آخر؛ لأن الاقتداء شركة وموافقة، فلا بد من الاتحاد سبباً وفعلاً ووصفاً. لأن الاقتداء بناء التحريمة على التحريمة، كما بينا أي أن الاتحاد في الفرضية ونوع الفريضة. ويصلي المتنفل خلف المفترض؛ لأن فيه بناء الضعيف على القوي، وهو جائز، إلا التراويح في الصحيح؛ فلا يصح الاقتداء فيها بالمفترض لأنها سنة على هيئة مخصوصة، فيراعى وضعها الخاص للخروج عن العهدة أي التبعة أو المسؤولية. ويصح اقتداء متنفل بمتنفل ومنه ناذر نفل بناذر آخر، ومن يرى الوتر واجباً (وهم الحنفية) بمن يراه سنة، ومن اقتدى في العصر، وهو مقيم، بعد الغروب، بمن أحرم قبله، لاتحاد صلاة الإمام مع صلاة المقتدي في الصور الثلاث. ¬
ويصح اقتداء متوضئ بمتيمم، وغاسل بماسح على خف أو جبيرة، وقائم بقاعد يركع ويسجد، لا مومئ؛ فالمومئ يصلي خلف مثله، إلا أن يومئ المؤتم قاعداً، والإمام مضطجعاً؛ لأن القعود معتبر، فتثبت به القعدة، أما صلاة القائم بالقاعد فلأنه صلّى الله عليه وسلم صلى آخر صلاته قاعداً، والناس قيام (¬1)، وأبو بكر يبلغهم تكبيره، كما يصح اقتداء قائم بأحدب الظهر، وإن بلغ حدبه الركوع على المعتمد، وكذا الاقتداء بأعرج. ويصح اقتداء مومئ بمثله إلا أن يومئ الإمام مضطجعاً، والمؤتم قاعداً أو قائماً فإنه لا يجوز، على المختار، لقوة حال المأموم. وقال المالكية (¬2): يشترط الاتحاد في ذات الصلاة، فلا يصح اقتداء بصلاة ظهر خلف عصر مثلاً، وفي صفة الصلاة أداء وقضاء، فلا يصح أداء خلف قضاء ولا عكسه، وفي زمن الصلاة، وإن اتفقا في القضاء، فلا يصح ظهر يوم السبت خلف ظهر يوم الأحد، ولا عكسه، ولا يصح اقتداء في صلاة صبح بعد طلوع شمس بمن أدرك ركعة قبل طلوع الشمس؛ لأنها للإمام أداء، وللمأموم قضاء. ويصح اقتداء نفل خلف فرض كركعتي الضحى، خلف صبح بعد الشمس، وركعتي نفل خلف صلاة سفرية، أو أربع خلف صلاة حضرية. وقال الحنابلة (¬3): الاتحاد في نوع الفرض وقتاً واسماً، فلا يصح ائتمام من يصلي الظهر بمن يصلي العصر، أو غيرهما كالعشاء، وعكسه، كما لا تصح صلاة مفترض خلف مفترض بفرض غيره وقتاً واسماً؛ لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه»،ولا يصح اقتداء مفترض بمتنفل، لهذا الحديث، ولأن ¬
صلاة المأموم لا تؤدى بنية الإمام، فأشبه صلاة الجمعة خلف من يصلي الظهر. ولا يصح أن يؤم من عدم الماء والتراب، أو به قروح لا يستطيع معها مس البشرة بأحدهما بمن تطهر بأحدهما. ولا يصح الاقتداء في صلاة تخالف الأخرى في الأفعال، كصلاة الكسوف أو الجمعة خلف من يصلي غيرهما، وصلاة غيرهما وراء من يصليهما؛ لأنه يفضي إلى مخالفة إمامه في الأفعال، وهو منهي عنه. ويصح اقتداء متنفل بمفترض، بدليل قوله صلّى الله عليه وسلم في إعادة الصلاة جماعة: «من يتصدق على هذا؟ فقام رجل فصلى معه» ويصح ائتمام متوضئ بمتيمم؛ لأنه أتى بالطهارة على الوجه الذي يلزمه، والعكس أولى. ويصح ائتمام ما سح على حائل بغاسل، لأن الغسل رافع للحدث. ويصح ائتمام من يؤدي الصلاة بمن يقضيها، وعكسه؛ لأن الصلاة واحدة، وإنما اختلف الوقت. ويصح ائتمام قاضي ظهر يوم، بقاضي ظهر يوم آخر، لأن الصلاة واحدة، وإنما اختلف الوقت. ويلاحظ أن هاتين الحالتين خلاف مذهب المالكية. ويجوز للعاجز عن القيام أن يؤم مثله. ولا يؤم القاعد من يقدر على القيام إلا بشرطين: أحدهما: أن يكون إمام الحي؛ لأنه لا حاجة بالناس إلى تقديم عاجز عن القيام إذا لم يكن الإمام الراتب، فلا يتحمل إسقاط ركن في الصلاة لغير حاجة، والنبي صلّى الله عليه وسلم حيث فعل ذلك، كان هو الإمام الراتب. الثاني: أن يكون مرضه يرجى زواله، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يرجى برؤه، ولأن
اتخاذ الزَّمِن ومن لا يرجى قدرته على القيام إماماً راتباً، يفضي إلى تركهم القيام، ولا حاجة إليه. وعليه لا تصح الصلاة خلف عاجز عن القيام؛ لأنه عجز عن ركن من أركان الصلاة، فلم يصح الاقتداء به، كالعاجز عن القراءة إلا بمثله، إلا إمام الحي، المرجو زوال علته: وهو كل إمام مسجد راتب. وإذا صلى إمام الحي جالساً، صلى من وراءه جلوساً، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعون» (¬1)، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «صلى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم في بيته، وهو شاكٍ، فصلى جالساً، وصلى وراءه قوم قياماً، فأشار إليهم: أن اجلسوا، فلما انصرف قال: إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا صلى جالساً، فصلوا جلوساً أجمعون» (¬2)، ولأنها حالة قعود الإمام، فكان على المأمومين متابعته كحال التشهد. فإن صلوا قياماً خلف إمام الحي المرجو زوال علته، صحت صلاتهم؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم لم يأمر من صلى خلفه قائماً بالإعادة، ولأن القيام هو الأصل. والأفضل لهذا الإمام إذا مرض أن يستخلف؛ لأن الناس اختلفوا في صحة إمامته، فيخرج من الخلاف، ولأن صلاة القائم أكمل، فيستحب أن يكون الإمام كامل الصلاة. ¬
3 - ألا يتقدم المأموم على إمامه بعقبه (مؤخر قدمه)، أو بأليته (عجزه) إن صلى قاعدا أو بجنبه إن صلى مضطجعا.
واكتفى الشافعية (¬1) باشتراط توافق نظم صلاتي الإمام والمقتدي، فإن اختلف نظم صلاتيهما كصلاة مكتوبة وصلاة كسوف، أو مكتوبة وصلاة جنازة، لم تصح القدوة فيها على الصحيح؛ لتعذر المتابعة باختلاف فعلهما. وتصح قدوة المؤدي بالقاضي (الأداء خلف القضاء) وعكسه، والمفترض بالمتنفل، وعكسه، والظهر خلف العصر وعكسه، وكذا الظهر بالصبح والمغرب، ويكون المقتدي حينئذ كالمسبوق، يتم صلاته بعد سلام إمامه، ولا تضر في هذه الحالة متابعة الإمام في القنوت والجلوس الأخير في المغرب، وللمقتدي فراق الإمام إذا اشتغل بالقنوت والجلوس، مراعاة لنظم صلاته. وتجوز صلاة الصبح خلف الظهر في الأظهر، فإذا قام الإمام للركعة الثالثة، فإن شاء فارقه وسلم، وإن شاء انتظره ليسلِّم معه، وانتظاره أفضل. وإن أمكنه أي المقتدي القنوت في الركعة الثانية قنت وإلا تركه، وله فراق الإمام ليقنت. والخلاصة: إن أشد المذاهب في شرط اتحاد صلاتي الإمام والمؤتم هو المالكي، ثم الحنفي، ثم الحنبلي، ثم الشافعي، ولايجيز المالكية خلافاً للجمهور صلاة القائم خلف القاعد، ويصلي المأموم قاعداً عند الحنابلة خلف الجالس. 3 - ألا يتقدم المأموم على إمامه بعقبه (مؤخر قدمه)، أو بأليته (عجزه) إن صلى قاعداً أو بجنبه إن صلى مضطجعاً. فإن ساواه جاز وكره، ويندب تخلفه عنه قليلاً، وإن تقدم عليه لم تصح صلاته، وهذا شرط عند الجمهور (الحنفية والشافعية والحنابلة) (¬2)، لقوله عليه الصلاة والسلام: «إنما جعل الإمام ليؤتم به» ولأنه يحتاج في الاقتداء إلى الالتفات إلى ورائه، ولأن ذلك لم ينقل عن النبي صلّى الله عليه وسلم ولا هو في معنى المنقول. ¬
4 ـ اتحاد مكان صلاة الإمام والمقتدي برؤية أو سماع ولو بمبلغ،
والعبرة في ذلك التقدم بالعقب، فإن تقدمت أصابع المقتدي لكبر قدمه على قدم الإمام، ما لم يتقدم أكثر القدم، صحت صلاته. وأجاز الحنفية والحنابلة التقدم على الإمام في الصلاة حول الكعبة. وكذلك أجاز الشافعية التقدم على الإمام إذا كان المأموم في غير جهة إمامه، فإن كان المأموم والإمام في جهة واحدة، لم يصح تقدمه عليه، ويكره التقدم لغير ضرورة كضيق المسجد، وإلا فلا كراهة. وتبطل الصلاة في الجديد إن تقدم المأموم على إمامه؛ لأنه وقف في موضع ليس بموقف مؤتم بحال، فأشبه إذا وقف في موضع نجس. وقال المالكية: لا يشترط هذا الشرط، فلو تقدم المأموم على إمامه ولو كان المتقدم جميع المأمومين، صحت الصلاة على المعتمد، لكن يكره التقدم لغير ضرورة، لأن ذلك لايمنع الاقتداء به، فأشبه من خلفه. 4 ـ اتحاد مكان صلاة الإمام والمقتدي برؤية أو سماع ولو بمبلِّغ، فلو اختلف مكانهما لم يصح الاقتداء، على تفصيل بين المذاهب. وهذا شرط عند الجمهور غير المالكية؛ لأن الاقتداء يقتضي التبعية في الصلاة، والمكان من لوازم الصلاة، فيقتضي التبعية في المكان ضرورة، وعند اختلاف المكان تنعدم التبعية في المكان، فتنعدم التبعية في الصلاة، لانعدام لازمها. أما المالكية فقالوا: لا يشترط هذا الشرط، فاختلاف مكان الإمام والمأموم لا يمنع صحة الاقتداء، ووجود حائل من نهر أو طريق أو جدار لا يمنع الاقتداء، متى أمكن ضبط أفعال الإمام برؤية أو سماع، ولا يشترط إمكان التوصل إليه، إلا الجمعة، فلو صلى المأموم في بيت مجاور للمسجد مقتدياً بإمامه، فصلاته باطلة؛ لأن الجامع شرط في صحة الجمعة.
رأي الحنفية
وأما تفصيل رأي الحنفية (¬1): فهو أن اختلاف المكان بين الإمام والمأموم مفسد للاقتداء، سواء اشتبه على المأموم حال إمامه أو لم يشتبه على الصحيح. فلو اقتدى راجل براكب، أو بالعكس، أو راكب براكب دابة أخرى، لم يصح الاقتداء لاختلاف المكان، فلو كانا على دابة واحدة صح الاقتداء لاتحاد المكان. ومن كان بينه وبين الإمام طريق عام يمر فيه الناس، أو نهر عظيم، أو خلاء (أي فضاء) في الصحراء، أو في مسجد كبير جداً كمسجد القدس يسع صفين فأكثر، أوصف من النساء بلا حائل قدر ذراع أو بغير ارتفاعهن قدر قامة الرجل، لا يصح الاقتداء؛ لأن ذلك يوجب اختلاف المكانين عرفاً، مع اختلافهما حقيقة، فيمنع صحة الاقتداء، لقول عمر رضي الله عنه: «من كان بينه وبين الإمام نهر أو طريق أو صف من النساء، فلا صلاة له». ومقدار الطريق العام الذي يمنع صحة الاقتداء: هو مقدار ما تمر فيه العجلة (العربة) أو تمر فيه الأحمال على الدواب. والمراد بالنهر: ما يسع زورقاً يمر فيه. فإن كانت الصفوف متصلة على الطريق، كما يحصل في الحرمين أو في المساجد المزدحمة بالمصلين، جاز الاقتداء؛ لأن اتصال الصفوف أخرجه من أن يكون ممر الناس، فلم يبق طريقاً، بل صار مصلى في حق هذه الصلاة. وكذلك إن كان على النهر جسر وعليه صف متصل. والحائل كجدار كبير لا يمنع الاقتداء إن لم يشتبه حال إمامه بسماع من الإمام أو مبلِّغ عنه أو رؤية ولو لأحد المقتدين ولو من باب مشبك يمنع الوصول، ولم يختلف المكان حقيقة كمسجد، وبيت، فإن المسجد مكان واحد، إلا إذا كان المسجد كبيراً جداً، وكذا البيت حكمه حكم المسجد في ذلك لاحكم الصحراء. ¬
الشافعية
وبه تبين أن الحائل لا يمنع الاقتداء بشرط عدم الاشتباه وعدم اختلاف المكان، ولا يشترط إمكان الوصول إلى الإمام وعدمه. فالاقتداء بالإمام في أقصى المسجد، والإمام في المحراب، يجوز؛ لأن المسجد على تباعد أطرافه، جعل في الحكم كمكان واحد. ولو قصد المبلِّغ بتكبيرة الإحرام مجرد التبليغ، فتبطل صلاة من يقتدي بتبليغه. ولو وقف المقتدي على سطح المسجد أو على سطح بناء بجنب المسجد متصل به ليس بينهما طريق، واقتدى بالإمام: فإن كان وقوفه خلف الإمام أو بحذائه، أجزأه؛ لأن أبا هريرة رضي الله عنه وقف على سطح، واقتدى بالإمام، وهو في جوفه، ولأن سطح المسجد تبع للمسجد، وحكم التبع حكم الأصل، فكأنه في جوف المسجد. وهذا إذا كان لا يشتبه عليه حال إمامه، فإن كان يشتبه لا يجوز. وإن كان وقوفه متقدماً على الإمام لا يجزئه، لانعدام معنى التبعية. أما لو اقتدى رجل في داره بإمام المسجد، وكانت داره منفصلة عن المسجد بطريق ونحوه، فلا يصح الاقتداء لاختلاف المكان. والخلاصة: إن اختلاف المكان يمنع صحة الاقتداء، سواء اشتبه على المأموم حال إمامه أو لم يشتبه، واتحاد المكان في المسجد أو البيت مع وجود حائل فاصل يمنع الاقتداء إن اشتبه حال الإمام. أما وجود فاصل يسع صفين أو أكثر في الصحراء أو في المسجد الكبير جداً، فيمنع الاقتداء. وأما الشافعية (¬1) فقالوا: يشترط لصحة القدوة أن يعلم المتقدي بانتقالات إمامه، بأن يراه أو يرى بعض صف، أو يسمعه، ولو من مبلِّغ، وإن لم يكن مصلياً. ¬
أـ فإن كان الإمام والمأموم مجتمعين في مسجد، صح الاقتداء، وإن بعدت المسافة بينهما فيه أكثر من ثلاث مئة ذراع، أو حالت بينهما أبنية كبئر وسطح ومنارة، أو أغلق الباب أثناء الصلاة، فلو صلى شخص في آخر المسجد والإمام في أوله، صح الاقتداء بشرط إمكان المرور بأن لا يوجد بينهما حائل يمنع وصول المأموم إلى الإمام كباب مسمَّر قبل الدخول في الصلاة. ولا فرق في إمكان الوصول إلى الإمام بين أن يكون الشخص مستقبلاً القبلة أو مستدبراً لها. ويعد سطح المسجد ورحبته ونحوهما في حكم المسجد. ب ـ أما إن كان الإمام والمأموم في غير مسجد، كصحراء: فتصح الصلاة بشرط ألا يكون بينهما، وبين كل صفين، أكثر من ثلاث مئة ذراع تقريباً (¬1)، فلا يضر زيادة ثلاثة أذرع مثلاً، وألا يكون بينهما جدار أو باب مغلق أو مردود أو شباك. ولو كان الإمام في المسجد والمأموم خارجه، فالثلاث مئة ذراع محسوبة من آخر المسجد. ولا يضر على الصحيح وجود فاصل أو تخلل الشارع، أو النهر الكبير الذي تجري فيه السفن ويسبح فيه السباحون، ولا تخلل البحر بين سفينتين. وإن كان الإمام والمأموم في بناءين كغرف المدارس، أو العمارتين، صح الاقتداء في أصح الطريقين على النحو التالي: فإن كان بناء المأموم يميناً أو شمالاً، وجب اتصال صف من أحد البناءين بالآخر، ولا تضر في الأصح فُرجة لا تسع واقفاً. وإن كان بناء المأموم خلف بناء الإمام، فالصحيح صحة القدوة بشرط ألا يكون بين الصفين أكثر من ثلاث مئة ذراع. وإن صح اقتداء الشخص في بناء آخر، صح اقتداء من خلفه أو بجنبه، وإن حال بينه وبين الإمام جدار. ¬
الحنابلة
ولو وقف المقتدي في علو في غير المسجد، كالشرفة في وسط دار مثلاً، وإمامه في سفل، كصحن تلك الدار، أو عكسه أي كان الوقوف عكس الوقوف المذكور، يشترط بالإضافة لشرط اتصال صف من أحدهما بالآخر، محاذاة (موازاة) بعض بدن المأموم بعض بدن الإمام، بأن يحاذي رأس الأسفل قدم الأعلى، مع اعتدال قامة الأسفل. وأما الحنابلة (¬1) فلهم تفصيل آخر مستقل قالوا فيه: اختلاف مكان الإمام والمأموم يمنع صحة الاقتداء على النحو التالي: أـ إن كان الإمام والمأموم في المسجد، صح الاقتداء، ولو كان بينهما حائل أو لم ير الإمام، متى سمع تكبيرة الإحرام، ولو لم تتصل الصفوف عرفاً؛ لأن المسجد بني للجماعة، فكل من حصل فيه حصل في محل الجماعة، بخلاف خارج المسجد، فإنه ليس معداً للاجتماع فيه، فلذلك اشترط الاتصال فيه. ب ـ وإن كانا خارج المسجد، فيصح الاقتداء بشرط رؤية الإمام أو مشاهدة من وراء الإمام، ولو في بعض أحوال الصلاة كحال القيام أو الركوع، ولو كان بينهما أكثر من ثلاث مئة ذراع، ولو كانت الرؤية مما لا يمكن النفاذ منه كشباك ونحوه، فإن لم ير المأموم الإمام أو بعض من وراءه، لم يصح اقتداؤه به، ولو سمع التكبير، لقول عائشة لنساء كن يصلين في حجرتها: «لا تصلين بصلاة الإمام، فإنكن دونه في حجاب»، ولأنه لا يمكن الاقتداء به في الغالب. ودليل اشتراط الرؤية حديث عائشة قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلي من الليل، وجدار الحجرة قصير، فرأى الناس شخص رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقام أناس يصلون بصلاته، وأصبحوا يتحدثون بذلك، فقام الليلة الثانية، فقام معه أناس يصلون بصلاته» (¬2) والظاهر أنهم كانوا يرونه في حال قيامه. ¬
5 - متابعة المأموم إمامه
ولا يشترط اتصال الصفوف خارج المسجد، لعدم الفارق بين المسجد وخارجه، إذا حصلت الرؤية المعتبرة وأمكن الاقتداء أي المتابعة. جـ ـ إن كان بينهما نهر تجري فيه السفن، لم تصح القدوة، كما لا تصح إن كان بينهما طريق، ولم تتصل فيه الصفوف عرفاً، وكان الصلاة مما لا تصح في الطريق كصلاة الجمعة والعيد والاستسقاء والكسوف والجنازة. فإن اتصلت الصفوف في الطريق، صحت القدوة وصلاة المأموم. أما إن انقطعت الصفوف في الطريق مطلقاً، سواء أكانت تلك الصلاة مما تصح في الطريق أم لا، لم تصح صلاة المأموم؛ لأن الطريق ليست محلاً للصلاة، فصار ذلك كوجود النهر. ولا تصح أيضاً صلاة من بسفينة وإمامه في أخرى غير مقرونة بها؛ لأن الماء طريق، وليست الصفوف متصلة، إلا في شدة الخوف، فلا يمنع ذلك الاقتداء للحاجة. ويأتم بالإمام من في أعلى المسجد وغير المسجد إذا اتصلت الصفوف، فالعلو لا يمنع الاقتداء بالإمام. 5 - متابعة المأموم إمامه: هذا شرط لصحة القدوة؛ لأن الاقتداء يقتضي التبعية في أفعال الصلاة، وتتحقق التبعية بأن يصير المقتدي مصلِّياً ما صلاَّه الإمام. لخبر الصحيحين: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا». وللمذاهب آراء في تحقيق معنى هذا الشرط، الذي لولاه لفسدت صلاة المقتدي، ويتصور تنفيذ المتابعة بإحدى صور ثلاث: المقارنة، بأن يقارن
قال الحنفية
فعل المأموم فعل إمامه، كأن يقارنه في التحريمة أو الركوع ونحوه، والتعقيب: بأن يكون فعل المأموم الفعل عقب فعل إمامه مباشرة، والتراخي في الفعل: بأن يأتي به بعد إتيان الإمام بفعله متراخياً عنه، ويدركه قبل الدخول في ركن آخر بعده. قال الحنفية: المتابعة بإحدى صورها الثلاث المذكورة تكون فرضاً في فروض الصلاة، وواجبة في الواجب، وسنة في السنة. فلو ترك الركوع مع الإمام بأن ركع قبله أو بعده، ولم يشاركه فيه، أو سجد قبل الإمام أو بعده ولم يشاركه في السجود، تلغى الركعة التي لم تتحقق فيها المتابعة، ويجب عليه قضاؤها بعد سلام الإمام وإلا بطلت صلاته. ولو ترك المتابعة في القنوت أثم؛ لأنه ترك واجباً، ولو ترك المتابعة في تسبيح الركوع مثلاً فقد ترك السنة. ولا تلزم المتابعة في أمور أربعة: الأول: إذا زاد الإمام عمداً في صلاته سجدة. الثاني: إذا زاد في تكبيرات العيد. الثالث: إذا زاد في تكبيرات الجنازة، كأن كبر خمساً. الرابع: أن يقوم الإمام سهواً إلى ركعة زائدة عن الفرض بعد القعود الأخير، فإن عاد بعد تنبيه المقتدي له، صحت الصلاة، ووجب سجود السهو، وإن قيّد ركعته الزائدة بسجدة، سلم المقتدي وحده. وإن قام الإمام قبل القعود الأخير وقيد ركعته الزائدة بسجدة، بطلت صلاتهم جميعاً. وللمقتدي أن يأتي بأمور تسعة ولا يتابع في تركها وهي:
قال المالكية
رفع اليدين في التحريمة، وقراءة الثناء، وتكبيرات الركوع، وتكبيرات السجود، والتسبيح فيهما، والتسميع، وقراءة التشهد، والسلام، وتكبير التشريق. ويتابع المقتدي الإمام في ترك أمور خمسة وهي: تكبيرات العيد، والقعدة الأولى، وسجدة التلاوة، وسجود السهو، والقنوت إذا خاف فوت الركوع، فإن لم يخف ذلك فعليه القنوت. والمتابعة في تكبيرة الإحرام أفضل، فإن كبر قبل الإمام فلا تصح صلاته، وإن تراخى في التكبير، فقد فاته إدراك وقت فضيلة التحريمة، وإن كبر مع تكبيرة الإمام جاز، فإن فرغ قبله لم يجزه. وكذلك المتابعة في السلام أفضل: بأن يسلم المأموم مع إمامه، إن أتم تشهده، لا قبله، ولا بعده، فإن سلم قبله بعد أن أتم تشهده صحت صلاته مع الكراهة إن كان بغير عذر، وإن سلم بعده فقد ترك الأفضل. وإن لم يتم المقتدي تشهده، أتمه، ثم سلم. وقال المالكية (¬1): المتابعة: أن يكون فعل المأموم عقب فعل الإمام، فلا يسبقه ولا يساويه ولا يتأخر عنه. والمتابعة للإمام بهذا المعنى شرط في الإحرام والسلام فقط، بأن يكبر للإحرام بعده، ويسلم بعده. فلو ساواه بطلت صلاته، ويصح أن يبتدئ بعد الإمام ويختم بعده قطعاً أو معه على الصحيح، ولا يصح أن يختم قبله. ¬
وأما المتابعة في غير الإحرام والسلام، فليست بشرط، فلو ساوى المأموم إمامه في الركوع أو السجود مثلاً، صحت صلاته مع الكراهة، وحرم عليه أن يسبق الإمام في غير الإحرام والسلام من سائر الأركان، لكن إن سبقه لا تبطل به الصلاة إن اشترك مع الإمام. فإن سبقه في الركوع أو السجود وانتظر الإمام فيه حتى ركع أو سجد صحت صلاته، وأثم إن كان متعمداً لهذا السبق. وإن لم ينتظره، بل رفع قبله، بطلت صلاته. وإن رفع ساهياً، عاد إليه وصحت صلاته. وإذا تأخر عن إمامه، كأن ركع بعد أن رفع الإمام من الركوع، فإن حصل ذلك في الركعة الأولى عمداً، بطلت صلاته، لإعراضه عن المأمومية. وإن حصل ذلك سهواً، ألغى هذه الركعة، وقضاها بعد سلام إمامه. أما إن رفع قبل إمامه في غير الركعة الأولى، فلا تبطل الصلاة، وأثم إن كان عامداً. وإن ترك المأموم القنوت في الصبح، مع إتيان الإمام به، فلا إثم عليه، لأن القنوت مندوب. ولا يتابع المأموم الإمام في أمور هي: أن يزيد الإمام في تكبيرات العيد، ولو كانت الزيادة بحسب مذهب الإمام. وأن يزيد في تكبير الجنازة عن أربع. وأن يقوم الإمام لركعة زائدة سهواً، فعلى المأموم أن يجلس، وإن تابعه فيها عمداً بطلت صلاته.
قال الشافعية
وللمقتدي أن يفعل أموراً ولو تركها الإمام وهي: رفع اليدين في تكبيرة الإحرام لأنه مندوب، وتكبيرات الصلاة، لأنها سنة، وتكبيرات التشريق عقب الصلاة، لأنها مندوبة، وسجود السهو عن إمامه بشرط أن يدرك معه ركعة وإلا بطلت صلاته، لأنه سنة، وتكبيرات العيد؛ لأنها سنة. ويتابع المقتدي إمامه في ترك الجلوس الأول، والعودة له قبل أن يفارق الأرض بيديه وركبتيه، كما يتابعه في ترك سجود التلاوة إن تركه. وتبطل الصلاة إن ترك الإمام السلام، ولو أتى به المأموم لأنه ركن لا بد منه لكل مصلٍ. وقال الشافعية (¬1): تجب المتابعة في أفعال الصلاة لا في أقوالها، بأن يتأخر ابتداء فعل المأموم عن ابتداء فعل الإمام، ويتقدم ابتداء فعل المأموم على فراغ الإمام من الفعل، وتندب المتابعة في الأقوال، لما في الصحيحين: «إنما جعل الإمام ليؤتم به»، فإن قارنه في فعل أو قول، لم يضر أي لم يأثم؛ لأن القدوة منتظمة لا مخالفة فيها، بل هي مكروهة ومفوِّتة لفضيلة الجماعة، لا رتكابه المكروه. إلا تكبيرة الإحرام، فإن قارن المأموم الإمام فيها، بطلت. وكذا تبطل الصلاة إن تقدم المأموم على إمامه أو تأخر بركنين فعليين بلا عذر أي أنه يشترط تيقن تأخر جميع تكبيرته للإحرام عن جميع تكبيرة إمامه، وألا يتقدم أو يتأخر عن إمامه بركنين فعليين لغير عذر وألا يتقدم سلامه عن سلام الإمام. ¬
قال الحنابلة
وعلى هذا لا تبطل الصلاة إن قارنه في غير التحرم، أو تقدم عليه بركن فعلي، أو تأخر عنه به، في الأصح، لكن المقارنة في السلام مكروهة فقط، والسلام قبل الإمام مبطل للصلاة، وإن سبق الإمام بركنين فعليين بلا عذر كأن سجد والإمام في القراءة، بطلت الصلاة. ولا يضر السبق بركنين غير فعليين كتشهد وصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم، ولكن يكره بلا عذر، ولا يضر السبق بركنين أحدهما قولي والآخر فعلي كقراءة الفاتحة والركوع ولكن يحرم الركن الفعلي. فيحرم على المقتدي تقدمه على الإمام بركن فعلي تام، كأن ركع أو رفع والإمام قائم، لخبر الصحيح: «أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار، أو يجعل صورته صورة حمار» (¬1). وإن تخلف المقتدي عن الإمام بعذر كبطء قراءة بلا وسوسة، واشتغال الموافق بدعاء الافتتاح أو ركع إمامه، فشك في الفاتحة، أو تذكر تركها، أو أسرع الإمام قراءته، عذر إلى ثلاثة أركان طويلة، كما بينا في بحث الموافق، فإن زاد، فالأصح يتبعه فيما هو فيه، ثم يتدارك بعد سلام الإمام. وقال الحنابلة (¬2): المتابعة: ألا يسبق المأموم إمامه بفعل من أفعال الصلاة، أو بتكبيرة الإحرام أو بالسلام، وألا يتخلف عنه بفعل من الأفعال. ويستحب أن يشرع المأموم في أفعال الصلاة بعد فراغ الإمام مما كان فيه، للحديث السابق: «إنما جعل الإمام ليؤتم به .. ». فإن سبقه بالركوع عمداً بأن ركع ورفع قبل ركوع الإمام، بطلت صلاته. ¬
وإن سبقه بركن غير الركوع كالهوي للسجود، أو القيام للركعة التالية، لم تبطل صلاته، ولكن يجب عليه الرجوع ليأتي بما فعله بعد إمامه. أما إن فعل شيئاً من ذلك سهواً أو جهلاً، فصلاته صحيحة، لكن يجب عليه إعادة ما فعله بعد إمامه. ويحرم سبق الإمام عمداً بشيء من أفعال الصلاة، للحديثين السابقين: «إنما جعل الإمام .. » «أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه .. » ولا يكره للمأموم سبق الإمام ولا موافقته بغير الإحرام والسلام، كالقراءة والتسبيح والتشهد. وإن سبقه بركنين عمداً بطلت صلاته، وإن سبقه سهواً لم تبطل لكنه يعيد ما أتى به، فإن لم يعده، ألغيت الركعة. ومقارنة المقتدي لإمامه في أفعال الصلاة مكروهة كالشافعية. وإن سبقه أو ساواه في تكبيرة الإحرام، بطلت صلاته، عمداً أو سهواً. وإن سبقه في السلام عمداً بطلت صلاته، وإن كان سهواً، أتى به بعد سلام إمامه، وإلا بطلت صلاته. ولو تأخر المقتدي عن إمامه بركن عمداً: فإن كان الركن ركوعاً، بطلت صلاته، وإن كان غير الركوع أو كان التأخر سهواً أو جهلاً، وجب عليه الإتيان به، ما لم يخف فوات الركعة التالية، فإن خاف ذلك، تابع الإمام، ولغت الركعة، وعليه الإتيان بها بعد سلام إمامه. ولو كان التأخر عن الإمام بركنين عمداً، بطلت صلاته، وإن كان سهواً وجب عليه الإتيان بهما إذا لم يخف فوات الركعة التالية، وإلا ألغيت الركعة، وأتى بها بعد سلام الإمام. وإن تخلف المأموم عن إمامه بركن بلا عذر فهو كتفصيل حكم السبق به، وإن
6 - اشترط الشافعية أيضا: الموافقة للإمام في سنة تفحش المخالفة بها،
تخلف عنه بعذر من نوم أو غفلة ونحوهما، فعله ولحق بإمامه وجوباً، وإن لم يأت به، لم تصح الركعة، ويأتي بها بعد سلام الإمام. ولو سبق الإمام المأموم بالقراءة، وركع الإمام، تبعه المأموم وقطع القراءة، لأنها في حقه مستحبة، والمتابعة واجبة، ولا تعارض بين واجب ومستحب. أما التشهد: فإن سبق به الإمام، أتمه المأموم، ثم سلم، لعموم الأوامر بالتشهد. والخلاصة: إن المقارنة مع تكبيرة الإمام جائزة عند الحنفية والحنابلة، مبطلة للصلاة عند المالكية والشافعية، كما أن السبق بها مبطل اتفاقاً، أما من رفع رأسه قبل الإمام، فقد أساء عند الجمهور (منهم أئمة المذاهب) ولكن صلاته جائزة، وأنه يجب عليه أن يرجع، فيتبع الإمام. 6 - اشترط الشافعية أيضاً: الموافقة للإمام في سنة تفحش المخالفة بها، فلو ترك الإمام سجدة التلاوة، وسجدها المأموم، أو عكسه، أو ترك الإمام التشهد الأول، وأتى به المأموم، بطلت صلاته إن علم وتعمد. وإن تشهد الإمام، وقام المأموم عمداً، لم تبطل صلاته؛ لأنه انتقل إلى فرض آخر، وهو القيام، لكن يندب له العود، خروجاً من خلاف من أوجبه. فالموافقة في سنة تنحصر في ثلاث سنن: سجدة التلاوة في صبح يوم الجمعة، وسجود السهو، والتشهد الأول. أما القنوت، فلا يجب على المقتدي متابعة إمامه فيه، فعلاً ولا تركاً. واشترط الشافعية أيضاً: أن يكون الإمام في صلاة لا تجب إعادتها، فلا يصح الاقتداء بفاقد الطهورين؛ لأن صلاته تجب إعادتها.
7 - اشترط الحنفية أيضا عدم محاذاة المرأة ولو كانت محرما في الصف،
7 - اشترط الحنفية أيضاً عدم محاذاة المرأة ولو كانت محرماً في الصف، وإلا بطلت صلاة ثلاثة: المحاذي يميناً وشمالاً ومن خلفها بالشروط الستة الآتية (¬1) عملاً بما وردت به النصوص: الأول ـ أن تكون المرأة المحاذية مشتهاة، بأن كانت بنت سبع سنين وهي ضخمة تصلح للجماع، أو ثمان أو تسع فأكثر، ولا تفسد بالمجنونة لعدم جواز صلاتها. الثاني ـ أن تكون الصلاة مطلقة أي كاملة الأركان، وهي التي لها ركوع وسجود، وإن كانا يصليان إيماء، أو لم تتحد صلاتهما كصلاة ظهر بمصلي عصر على الصحيح. وخرج بالمطلقة صلاة الجنازة، فلا تبطل بالمحاذاة للمرأة. الثالث ـ أن تكون الصلاة مشتركة بينهما تحريمة وأداء: ومعنى المشتركة تحريمة: أن يكونا بانيين تحريمتهما على تحريمة الإمام. ومعنى المشتركة أداء: أن يكون لهما إمام فيما يؤديانه تحقيقاً أو تقديراً (¬2)، وذلك يشمل المدرك: الذي أدرك أول الصلاة مع الإمام وأدرك جميع الصلاة كاملة مع الإمام، واللاحق: وهو الذي أدرك أول الصلاة، وفاته من آخرها شيء بسبب النوم أو الحدث. أما المسبوق فلا تفسد صلاته فيما يقضيه أو يتمه مما فاته من صلاته. وأما المحاذاة في الصلاة بدون اشتراك فمكروه. الرابع ـ ألا يكون بينهما حائل: بمقدار ذراع في غلظ إصبع على الأقل، أو فرجة تسع رجلاً. ¬
قال الجمهور غير الحنفية
الخامس ـ أن تكون المحاذاة في ركن كامل، فلو تحرمت في صف، وركعت في آخر، وسجدت في ثالث، فسدت صلاة من عن يمينها ويسارها وخلفها من كل صلاة. السادس ـ أن تتحد الجهة: فإن اختلفت كالصلاة في جوف الكعبة، وصلاة التحري في الليلة المظلمة، فلا تبطل. وجامع هذه الشروط: أن يقال: محاذاة مشتهاة، منوية الإمامة، في ركن، صلاة مطلقة، مشتركة تحريمة وأداء، مع اتحاد مكان وجهة، دون حائل ولا فرجة. والمرأة الواحدة: تفسد صلاة ثلاثة: واحد عن يمينها، وآخر عن شمالها، وآخر خلفها إلى آخر الصفوف، ليس غير، لأن من فسدت صلاته يصير حائلاً بينها وبين الذي يليه. والمرأتان تفسدان صلاة أربعة: وهم اثنان خلفهما إلى آخر الصفوف، واثنان عن يمين وشمال. والثلاث في الصحيح يفسدن صلاة واحد عن يمينهن، وآخر عن شمالهن، وثلاثة ثلاثة إلى آخر الصفوف. ومحاذاة الأمرد الصبيح المشتهى، لا يفسد الصلاة على المذهب؛ لأن الفساد في المرأة غير معلل بالشهوة، بل بترك فرض المقام. وقال الجمهور غير الحنفية (¬1): إن وقفت المرأة في صف الرجال، لم تبطل صلاة من يليها ولاصلاة من خلفها، فلا يمنع وجود صف تام من النساء اقتداء من خلفهن من الرجال، ولا ¬
تبطل صلاة من أمامها، ولا صلاتها، كما لو وقفت في غير صلاة، والأمر بتأخير المرأة «أخروهن من حيث أخرهن الله» (¬1) لا يقتضي الفساد مع عدمه؛ لأن ترتيب الصفوف سنة نبوية فقط، والمخالفة من الرجال أو النساء لا تبطل الصلاة، بدليل أن ابن عباس وقف على يسار النبي صلّى الله عليه وسلم، فلم تبطل صلاته، وأحرم أبو بكرة خلف الصف وركع ثم مشى إلى الصف، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم: «زادك الله حرصاً ولا تَعُد». واشترط الحنفية أيضاً لصحة الاقتداء: ألا يفصل بين الإمام والمأموم صف من النساء، فإن كن ثلاثاً فسدت صلاة ثلاثة من الرجال إلى آخر الصفوف، وإن كن اثنتين فسدت صلاة اثنين من الرجال خلفهما إلى آخر الصفوف، وإن كانت واحدة، فسدت صلاة محاذيها يميناً وشمالاً، ومن كان خلفها أي صلاة رجل واحد إلى آخر الصفوف. وقال غير الحنفية: يكره أن يصلي وأمامه امرأة أخرى تصلي لحديث: «أخروهن من حيث أخرهن الله» أما في غير الصلاة فلايكره، لخبر عائشة، وروى أبو حفص عن أم سلمة، قالت: «كان فراشي حيال مصلى النبي صلّى الله عليه وسلم». وذكر الحنفية شرطاً آخر لصحة الاقتداء وهو كما قدمنا شرط في الإمام: وهو صحة صلاة الإمام، فلو تبين فسادها فسقاً من الإمام، أو نسياناً لمضي مدة المسح على الخف، أو لوجود الحدث أو غير ذلك، لم تصح صلاة المقتدي، لعدم صحة البناء على صلاة الإمام. كذلك لا يصح الاقتداء إن كانت الصلاة صحيحة في زعم الإمام، فاسدة في ¬
- اشترط الحنابلة أن يقف المأموم إن كان واحدا عن يمين الإمام،
زعم المقتدي، لبنائه على الفاسد في زعمه، فلا يصح. أما لو فسدت الصلاة في زعم الإمام وهو لا يعلم به، وعلمه المقتدي، صحت الصلاة في قول الأكثر، وهو الأصح؛ لأن المقتدي يرى جواز صلاة إمامه، والمعتبر في حقه رأي نفسه (¬1). 8 - اشترط الحنابلة (¬2) أن يقف المأموم إن كان واحداً عن يمين الإمام، فإن خالف ووقف عن يساره أو خلفه مع خلو يمينه، وصلى ركعة كاملة، بطلت صلاته إن كان ذكراً أو خنثى، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أدار ابن عباس وجابراً إلى اليمين وهو في الصلاة. فإن كان امرأة، فلا تبطل صلاتها بالوقوف خلف الإمام؛ لأنه موقفها المشروع. وإذا وقف المأموم عن يسار الإمام، أحرم أو لا، سُنَّ للإمام أن يديره من ورائه إلى يمينه، ولم تبطل تحريمته، لفعله صلّى الله عليه وسلم السابق بابن عباس وجابر. ثانياً: موقف الإمام والمأموم: للصلاة جماعةً كيفية منظمة على نحو مرتب معين ثابت في السنة النبوية، بحيث يتقدم الإمام، ويقف المأمومون خلفه رجالاً كانوا أو نساء؛ لفعله صلّى الله عليه وسلم: «كان إذا قام إلى الصلاة قام أصحابه خلفه» (¬3) ويتقدم الإمام إلا إمام العراة، فيقف وجوباً وسطهم عند الحنابلة وندباً عند غيرهم، وإلا إمامة النساء فيستحب للمرأة أن تقف وسطهن، لما روي عن عائشة، ورواه سعيد بن منصور عن أم سلمة أنهما أمتا نساء وسطهن (¬4)، ولأنه يستحب لها التستر، وهذا أستر للمرأة الإمام. ¬
وكيفية وقوف المأمومين على النحو التالي (¬1): أـ إذا كان مع الإمام رجل واحد أو صبي مميز، استحب أن يقف عن يمين الإمام، مع تأخره قليلاً بعقبه. وتكره عند الجمهور مساواته له، أو الوقوف عن يساره أو خلفه لمخالفته السنة، وتصح الصلاة ولا تبطل. وقال الحنابلة كما بينا: تبطل الصلاة إن صلى على هذا النحو المخالف ركعة كاملة. ودليل هذه الكيفية ما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: «بت عند خالتي ميمونة، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلي، فقمت عن يساره، فجعلني عن يمينه» (¬2). ب ـ إن كان رجل وامرأة، قام الرجل عن يمين الإمام، والمرأة خلف الرجل. وقال الحنابلة: إن أم الرجل خنثى مشكلاً وحده، فالصحيح أن يقف عن يمين الإمام احتياطاً لاحتمال أن يكون رجلاً. فإن كان مع الخنثى رجل، وقف الرجل عن يمين الإمام، والخنثى عن يساره، أو عن يمين الرجل، ولا يقفان خلفه، لجواز أن يكون امرأة، وإن كان رجلاً وخنثى وقف الثلاثة صفاً خلف الإمام. جـ ـ إن كان رجلان أو رجل وصبي، صفَّا خلف الإمام، وكذا إن كان امرأة أو نسوة، تقوم أو يقمن خلفه بحيث لا يزيد ما بينه وبين المقتدين عن ثلاثة أذرع، لخبر مسلم عن جابر قال: «صليت خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقمت عن يمينه، ثم جاء جابر ابن صخر، فقام عن يساره، فأخذ بأيدينا جميعاً حتى أقامنا خلفه» (¬3). ¬
أما الرجل والصبي والمرأة والنسوة، فلما في الصحيحين عن أنس: «أنه عليه الصلاة والسلام صلى في بيت أم سليم، فقمت أنا ويتيم خلفه، وأم سليم خلفنا» (¬1)، فلو حدثت مخالفة لما ذكر كره. وقال الحنابلة في الصبي والرجل: يقف الرجل عن يمين الإمام والصبي يقف عن يمينه أو يساره، لا خلفه. وقال الحنفية في هذا: لا تكره المساواة مع الإمام. د ـ إذا اجتمع رجال وصبيان وخناثى وإناث: صف الرجال ثم الصبيان، ثم الخناثى ولو منفردة، ثم النساء، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ليلني منكم أولو الأحلام والنُّهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، وإياكم وهيشات الأسواق» (¬2)، وعلى هذا: السنة أن يتقدم في الصف الأول أولو الفضل والسن، ويلي الإمام أكملهم، ويؤخر الصبيان والغلمان، ولا يلون الإمام. والزائد يقف خلف الصف، ولو قام واحد بجنب الإمام، وخلفه صف، كره إجماعاً. هـ ـ يقف الإمام وسط القوم في الصف، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «وسطوا الإمام وسدّوا الخلل» (¬3)، والسنة أن يقوم في المحراب ليعتدل الطرفان لأن المحاريب نصبت وسط المساجد، وقد عينت لمقام الإمام فإن وقف عن يمينهم أو يسارهم، فقد أساء بمخالفة السنة، والإساءة عند الحنفية دون كراهة التحريم، وأفحش من كراهة التنزيه (¬4). قال أبو حنيفة وقوله هو الأصح: أكره أن يقوم الإمام بين الساريتين، أو في زاويةأو في ناحية المسجد، أو إلى سارية؛ لأنه خلاف عمل الأمة. ¬
فضل الصف الأول
فضل الصف الأول: المستحب أن يتقدم الناس في الصف الأول (¬1)، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لو يعلمون ما في الصف المقدم لكانت قرعة» (¬2) وروى البراء رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول» (¬3)، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها» (¬4) وهذا التصريح بأفضلية الصف الأول للرجال وأنه خيرها لما فيه من إحراز الفضيلة، وكون شرها آخرها لما فيه من ترك الفضيلة الحاصلة بالتقدم إلى الصف الأول. وكون خيرها آخرها للنساء للبعد عن مخالطة الرجال. والمستحب أن يعتمدوا يمين الإمام، لما روى البراء قال: «كان يعجبنا عن يمين رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ لأنه كان يبدأ بمن عن يمينه، فيسلم عليه» (¬5). فإن وجد في الصف الأول فرجة استحب أن يسدها، لما روى أنس رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أتموا الصف الأول، فإن كان نقص ففي المؤخر» (¬6). وـ محاذاة المرأة الرجل في الصلاة: يرى الحنفية أنه إذا صلت امرأة في صف ¬
ثالثا ـ أمر الإمام بتسوية الصفوف وسد الثغرات
الرجال أو رجل في صف النساء، فسدت صلاة من حاذته المرأة من الرجال، ولا تفسد صلاة المرأة. وذهب الجمهور إلى كراهة ذلك، وقالوا: لا تفسد صلاة أحد من الرجال ولامن النساء (¬1). ثالثاً ـ أمر الإمام بتسوية الصفوف وسد الثغرات: يستحب للإمام أن يأمر بتسوية الصفوف، وسد الخلل (الثغرات) (¬2)، وتسوية المناكب (¬3)، لحديث أَنس: «اعتدلوا في صفوفكم، وتراصوا، فإني أراكم من وراء ظهري، قال أنس: فلقد رأيت أحدنا يلصق منكبه بمنكب صاحبه، وقدمه بقدمه» (¬4) ويقول الإمام: «لا تختلفوا فتختلف قلوبكم» لحديث أبي هريرة قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتخلل الصف من ناحية إلى ناحية، يمسح صدورنا ومناكبنا، ويقول: «لا تختلفوا فتختلف قلوبكم» (¬5). رابعاً ـ صلاة المنفرد عن الصف: اختلف الفقهاء في صحة الصلاة خلف الصفوف منفرداً على رأيين (¬6): فقال الجمهور غير الحنابلة: إذا صلى إنسان خلف الصف وحده، فصلاته تجزئ، بدليل ¬
حديث أنس المتقدم المتضمن قيام العجوز وحدها خلف الصف، وحديث أبي بكرة: «أنه انتهى إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وهو راكع فركع قبل أن يصل إلى الصف، فذكر ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: زادك الله حرصاً، ولا تعُد» (¬1) وحديث ابن عباس قال: «أتيت النبي صلّى الله عليه وسلم من آخر الليل، فصليت خلفه، فأخذ بيدي، فجرَّني حتى جعلني حِذَاءه» (¬2). إلا أن الشافعية والحنفية قالوا: الصلاة صحيحة مع الكراهة، وقال الشافعية: فإن لم يجد المصلي سعة أحرم، ثم جرَّ واحداً من الصف إليه، ليصطف معه، خروجاً من الخلاف، وحملوا الحديثين الآتيين الواردين بالإعادة على الاستحباب جمعاً بين الأدلة، وقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا صلاة للذي خلف الصف» أي لا صلاة كاملة، كقوله صلّى الله عليه وسلم «لا صلاة بحضرة طعام» وهذا أولى الآراء، لقوة دليله. لكن ذكر الحنفية: أنه لو انفرد ثم مشى ليلحق بالصف، فإن مشى في صلاته مقدار صف واحد لا تفسد، وإن مشى أكثر من ذلك فسدت. ولم يوافق المالكية الشافعية فقالوا: من لم يجد مدخلاً في الصف، صلى وراءه، ولم يجذب إليه رجلاً. وقال الحنابلة: صلاة المنفرد إذا صلى ركعة كاملة خلف الصف وحده فاسدة غير مجزئة، وتجب إعادتها، بدليل حديث وابصة بن معبد: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي خلف الصف وحده، فأمره أن يعيد صلاته» (¬3) وحديث علي بن شيبان: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي خلف الصف، فوقف، حتى انصرف الرجل، فقال له: استقبل صلاتك، فلا صلاة لمنفرد خلف الصف» (¬4). ¬
المطلب الخامس ـ الاستخلاف
المطلب الخامس ـ الاستخلاف في الصلاة: الاستخلاف: إنابة الإمام غيره من المقتدين إذا كان صالحاً للإمامة، لإتمام الصلاة بدل الإمام لعذر قام به. فيصير الثاني إماماً، ويخرج الأول عن الإمامة، ويصبح في حكم المقتدي بالثاني. وطريقته: أن يأخذ الإمام بثوب المقتدي ولو مسبوقاً، ويجره إلى المحراب، لكن استخلاف المدرك أولى. ويتأخر الإمام محدود باً واضعاً يده على أنفه، موهماً أنه قد رعف قهراً. ويتم الاستخلاف بالإشارة لا بالكلام، ويشير بأصبعه لعدد الركعات الباقية. ويضع يده على ركبته لترك ركوع، وعلى جبهته لترك سجود، وعلى فمه لقراءة. وسببه: طروء عذر للإمام من حدث أو مرض شديد أو عجز عن القراءة الواجبة كالفاتحة ونحو ذلك. وفي أحكامه وأسبابه وشروطه تفصيل بين المذاهب: ف قال الحنفية (¬1): الاستخلاف جائز، بدليل حديث عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من أصابه قيء أو رعاف، أو قَلَس (¬2)، أو مذي، فلينصرف، فليتوضأ، ثم ليبن على صلاته، وهو في ذلك لا يتكلم» (¬3) وذكره الكاساني في البدائع عن أبي هريرة بلفظ لم أجده: «إذا صلى أحدكم، فقاء أو رعف في صلاته، فليضع يده على فمه، وليقدم ¬
من لم يسبق بشيء من صلاته، ولينصرف وليتوضأ، وليبن على صلاته، ما لم يتكلم». والأصح من ذلك: حديث عائشة في استخلاف النبي صلّى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه: «مروا أبا بكر فليصل بالناس»، ثم تأخر أبي بكر، وصلاة النبي صلّى الله عليه وسلم بالناس، وافتتاحه القراءة من الموضع الذي انتهى إليه أبو بكر (¬1). وعن عمر رضي الله عنه أنه سبقه الحدث فتأخروقدم رجلاً. وعن عثمان رضي الله عنه مثله، ولأن بالناس حاجة إلى إتمام صلاتهم بالإمام، وقد التزم الإمام بذلك، فإذا عجز عن الوفاء بما التزم بنفسه، استعان بمن يقدر عليه، رعاية لمصلحة المأمومين، كيلا تبطل صلاتهم بالمنازعة. وبناء عليه: إن سبق الإمام الحدث، انصرف، فإن كان إماماً استخلف وتوضأ وبنى على صلاته، واستئناف الصلاة في حق جميع المصلين أفضل، خروجاً من الخلاف لمن منعه. ويتعين الاستئناف إن لم يكن قعد قدر التشهد الأخير بسبب الجنون أو الحدث عمداً أو الاحتلام بنوم أو تفكير أو نظر أو مس بشهوة، أو إغماء أو قهقهة، لأنه يندر وجود هذه العوارض، فلم يكن في معنى ما ورد به النص، ويستأنف الوضوء والصلاة. وسبب الاستخلاف: إما سبق حدث اضطراري، لا اختيار للإمام فيه ولا في سببه ومنه الحدث من نحو عطاس، أو عجز عن قراءة قدر المفروض في رأي أبي حنيفة، لحديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فإنه لما أحس بالنبي صلّى الله عليه وسلم حَصِر عن القراءة، فتأخر، وتقدم النبي صلّى الله عليه وسلم وأتم الصلاة. ¬
ولا يستخلف بسبب حصر بول أو غائط، أو بسبب عجز عن الركوع السجود، لأن له أن يتم قاعداً، أو بسبب خوف أو نسيان قراءة أصلاً؛ لأنه صار أمياً، فتفسد صلاة القوم، أو بسبب إصابة نجاسة من غيره كبول كثير من غير سبق حدثه، أو كشف عورته في صلاته بقدر ركن؛ لأن صلاته حينئذ تفسد، ويفسد معها صلاة المأمومين. ويشترط لصحة الاستخلاف عند الحنفية شروط ثلاثة: أولها ـ توافر شروط البناء على الصلاة السابقة؛ لأن الاستخلاف في الحقيقة بناء من الخليفة على ما صلاه الإمام، وهي ثلاثة عشر شرطاً: كون الحدث قهرياً، من بدنه لا من نجاسة غيره، وكونه غير موجب للغسل كإنزال بتفكر، وغير نادر كالإغماء والجنون والقهقهة، وألا يؤدي ركناً مع الحدث، أو يمشي، ولم يفعل منافياً عمداً كأن يحدث باختياره، ولا ما لا حاجة له به كالذهاب لماء بعيد مع وجود القريب، وألا يتراخى قدر ركن بغير عذر كزحمة، وألا يتبين أنه كان محدثاً سابقاً قبل الدخول في الصلاة، وألا يتذكر فائتة إن كان صاحب ترتيب مطلوب منه (بأن خرج وقت الصلاة السادسة بعد الفائتة) لأنه تفسد الصلاة الوقتية التي يصليها بذلك السبب، وألا يُتم المؤتم في غير مكانه، فمن سبقه الحدث إماماً أو مأموماً وجب عليه أن يعود بعد الوضوء ليصلي مع الإمام إذا لم يكن قد فرغ إمامه من صلاته، فلو أتم في مكانه فسدت صلاته، أما المنفرد فله أن يتم في مكانه أوغيره، وألا يستخلف الإمام غير صالح للإمامة كصبي وامرأة وأمي، فإذا استخلف أحدهم فسدت صلاته وصلاة القوم. ثانيها ـ ألا يخرج الإمام من المسجد أو المصلى العام في الصحراء، أو الدار التي كان يصلي فيها قبل الاستخلاف، لأنه على إمامته ما لم يجاوز هذا الحد، فإن
قال المالكية
خرج بطلت الصلاة، أي صلاة القوم والخليفة دون الإمام في الأصح، ما لم يتقدم أحد المصلين بنفسه ناوياً الإمامة. ثالثها ـ ألا يجاوز الصفوف قبل الاستخلاف إن ذهب يمنة أو يسرة، وألا يجاوز السترة قدامه، أو موضع السجود إن لم تكن له سترة على المعتمد، إن كان يصلي في الصحراء. وإذا لم يحصل استخلاف، وأتم القوم الصلاة فرادى، بطلت صلاة الجميع. ولو استخلف الإمام مسبوقاً أو لاحقاً أو مقيماً وهو مسافر، صح لكن المدرك أولى. فلو أتم المسبوق صلاة الإمام قدم غيره مدركاً ليقوم بالسلام أي ليسلم بالقوم. ولو كان الخليفة مسبوقاً بركعتين، فرضت عليه القعدتان؛ لأن القعدة الأولى فرض على إمامه، وهو قائم مقامه، والثانية فرض عليه. ولو جهل الخليفة المقدار الباقي من الصلاة، قعد في كل ركعة احتياطاً، للاحتمال في كل ركعة أنها آخر صلاة الإمام. وقال المالكية (¬1): الاستخلاف: هو استنابة الإمام غيره من المأمومين لتكميل الصلاة بهم لعذر قام به. وحكمه: الندب في غير الجمعة، والوجوب فيها. وطريقته: أن يستخلف بالإشارة أو بالكلام واحداً من الجماعة ليتم الصلاة بالقوم. وندب استخلاف الأقرب للإمام من الصف الذي يليه، لأنه أدرى بأفعاله ولتيسر تقدمه، فيقتدون به. وندب تقدم المستخلف إلى موضع الإمام الأصلي إن ¬
قرب كالصفين، وندب ترك كلام في حالة الحدث وتذكره، ورعاف يقطع الصلاة. ويندب للإمام إذا خرج من الصلاة أن يمسك بأنفه، موهماً أنه راعف ستراً على نفسه. وشرطه: أن يكون الخليفة قد دخل في الصلاة قبل طروء العذر. فإن لم يستخلف، قدم الجماعة واحداً منهم، فإن لم يقدموا تقدم واحد منهم، فإن لم يفعلوا صلوا فرادى، وصحت صلاتهم إلا في الجمعة. أما الجمعة فتبطل إن أتموها فرادى لاشتراط الجماعة فيها. ويبدأ الخليفة من حيث وقف الإمام الأول. وأعذار أو أسباب الاستخلاف ثلاثة: الأول ـ الخوف على مال للإمام أو لغيره، أو على نفس من التلف لو استمر في صلاته. فإذا خاف الإمام سرقة أوغصباً، أو خاف على صبي الوقوع في بئر أو نار، فيهلك أو يحصل له شدة أذى، وجب عليه قطع الصلاة لحفظ المال، وإنقاذ النفس من الهلاك. الثاني ـ أن يطرأ على الإمام ما يمنعه من الإمامة، كالعجز عن ركن كالقيام أو الركوع، أو قراءة الفاتحة، أو حصول رعاف مانع للإمامة وهو ماكان دون درهم، أما رعاف القطع أي قطع الصلاة فهو من موانع الصلاة بأن زاد عن درهم وسال ولطخ المكان أو خاف تلويث المسجد، فيندب فيه للإمام الاستخلاف وإن وجب عليه قطع الصلاة، ولا تبطل الصلاة بسببه على المأمومين على المعتمد، ومثله سقوط النجاسة على الإمام أو تذكره لها فيها على المعتمد. الثالث ـ أن يطرأ على الإمام ما يبطل الصلاة: كأن يسبقه الحدث من بول أو
قال الشافعية
ريح أو غيرهما، وهو يصلي، أو يتذكر أنه كان محدثاً قبل الصلاة، أو غلبت عليه القهقهة أو طرأ عليه جنون أو إغماء أو موت، أو رعف رعافاً تبطل به الصلاة على المشهور، أو طرأ عليه شك هل دخل الصلاة بوضوء أو لا، أو تحقق الطهارة والحدث وشك في السابق منهما، أما إن شك هل انتقض وضوءه فلا يقطع الصلاة ويستمر فيها، ثم إن بان الطهر لم يعد الصلاة، وإلا أعاد الإمام فقط. وينتظر المسبوق سلام المستخلف، فإن لم ينتظره بطلت صلاته، وإن كان المستخلف مسبوقاً، أشار لهم جميعاً بأن يجلسوا، وقام لقضاء ما عليه. وإن جهل الخليفة المسبوق ما صلى الأول، أشار لهم، فأفهموه بالإشارة أوالكلام إن لم يفهم الإشارة. وإن قيل للخليفة: أسقطت ركوعاً مثلاً، عمل بذلك إن لم يعلم خلافه. وعلى الخليفة أن يراعي نظم صلاة الإمام، ويندب أن يقرأ من انتهاء قراءة الإمام إن علم بانتهاء قراءته، وإلا ابتدأ القراءة وجلس في محل الجلوس، وهكذا بحسب كون الصلاة سرية أو جهرية. وقال الشافعية (¬1): يجوز الاستخلاف في المذهب الجديد، فإذا خرج الإمام من صلاة الجمعة أو غيرها بحدث تعمده أو سبقه أو نسيه، أو غيره كرعاف وتعاطي فعل مبطل للصلاة، أو بلا سبب، جاز الاستخلاف في الأظهر الجديد، لأنها صلاة بإمامين، وهي جائزة، وصح «أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه كان يصلي بالناس، فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فجلس إلى جنبه، فاقتدى به أبو بكر، والناس» (¬2)، وقد استخلف عمر رضي الله عنه حين طعن (¬3). ¬
والاستخلاف مندوب للإمام، ولو تقدم واحد بنفسه جاز، واستخلاف المصلين أولى من استخلاف الإمام، لأن الحق في ذلك لهم، إلا في الركعة الأولى من الجمعة، فإنه واجب عليهم أن يستخلفوا واحداً منهم لتدرك بها الجمعة، دون الركعة الثانية، فلا يلزم الاستخلاف، لإدراكهم مع الإمام ركعة كالمسبوق، فيتمونها فرادى جمعة. ويشترط لصحة الاستخلاف في الجمعة شرطان: أحدهما ـ أن يستخلف الإمام للجمعة مقتدياً به قبل حدثه، فلا يصح استخلاف من لم يكن مقتدياً بالإمام. ولا يشترط كون المقتدي حضر الخطبة لا الركعة الأولى في الأصح فيهما. والثاني ـ أن يستخلف عن قرب، بألا يمضي زمن قبل الاستخلاف يسع ركناً قصيراً من أركان الصلاة. فإن كان الخليفة قد أدرك الركعة الأولى من الجمعة مع الإمام، تمت الجمعة مطلقاً للخليفة والمأمومين. وإن لم يدرك الركعة الأولى تمت الجمعة للمقتدين دونه في الأصح فيهما. ولا يلزم المقتدين في الجمعة وغيرها استئناف نية القدوة في الأصح. أما في غير الجمعة فلا يشترط شيء لصحة الاستخلاف، بل يجوز أن يستخلف غير مقتد، وأن يستخلف بعد طول الفصل، لكن يحتاج المقتدون لنية الاقتداء بالقلب إن كان الخليفة غير مقتد قبل الاستخلاف، وكانت صلاته مخالفة لصلاة الإمام، كأن كان في الركعة الأولى مثلاً، والإمام في الثانية. كما يحتاجون لنية القدوة إذا طال الفصل بأن مضى زمن يسع ركناً فأكثر.
قال الحنابلة
وعلى الخليفة أن يراعي نظم صلاة الإمام وجوباً في الواجب وندباً في المندوب. وعلى المسبوق أيضاً أن يراعي نظم صلاة الإمام، فإذا صلى ركعة تشهد، وأشار إليهم ليفارقوه أو ينتظروا. وإذا لم يستخلف أحد في غير الجمعة نوى المقتدون المفارقة، وأتموا صلاتهم فرادى، وصحت. أما الجمعة فلهم نية المفارقة إذا أدركوا الركعة الأولى جماعة، وأتموا فرادى في الثانية إذا بقي العدد أربعين إلى آخر الصلاة. وقال الحنابلة (¬1): يجوز الاستخلاف لعذر كخوف ومرض شديد، وعجز عن ركن قولي كالفاتحة أو واجب قولي كتسبيحات الركوع والسجود. ولا يجوز الاستخلاف لسبق الحدث للإمام، لأن صلاته تبطل به، ويلزمه استئنافها، خلافاً لبقية الأئمة، ودليلهم حديث علي بن طلق: «إذا فسا أحدكم في صلاته، فلينصرف، فليتوضأ، وليعد الصلاة» (¬2) ورأي الجمهور أصح بدليل استخلاف عمر لعبد الرحمن بن عوف لما طعن. والمستخلف ولو كان من غير المقتدين كما قال الشافعية يبني على ما مضى من صلاة الإمام من قراءة أو ركعة أو سجدة، ويقضي من سبق ببعض الصلاة بعد فراغ صلاة المأمومين. فإذا كان مسبوقاً استخلف قبل السلام من يسلم بهم، وقام لقضاء ما سبقه به الإمام، فإن لم يستخلف كان للمصلي الخيار بين أن يسلموا لأنفسهم، أو ينتظروه جالسين حتى يقضي ما فاته، ويسلم بهم. ¬
وإذا لم يستخلف الإمام، جاز للقوم أن يستخلفوا بدله، ليتم بهم الصلاة، كما جاز لهم أن يتموها فرادى. وإن قدمت كل طائفة من المأمومين لهم إماماً يصلي بهم، جاز عندهم كالشافعية. وقال الحنفية: تفسد صلاتهم كلهم. ويبني الخليفة الذي كان مع الإمام في الصلاة على فعل: أي ترتيب الإمام؛ لأنه نائبه، حتى في القراءة يأخذ من حيث بلغ الإمام؛ لأن قراءة الإمام قراءة له. أما الخليفة الذي لم يكن مع الإمام في الصلاة، فإنه يبتدئ الفاتحة، ولا يبني على قراءة الإمام؛ لأنه لم يأت بفرض القراءة، ولم يوجد ما يسقطه عنه؛ لأنه لم يصر مأموماً بحال، لكن يسرّ ما كان قرأه الإمام من الفاتحة، ثم يجهر بما بقي من القراءة ليحصل البناء على فعل الإمام. فإن لم يعلم الخليفة المسبوق، أو الذي لم يدخل مع الإمام في الصلاة، ماصلى الإمام الأول، بنى الخليفة على اليقين، كالمصلي يشك في عدد الركعات. فإن سبَّح له المأموم للتنبيه، رجع إليه، ليبني على ترتيب الأول. والخلاصة: إن أكثر المذاهب سعة في قضية الاستخلاف هو مذهب الشافعية إذ إنهم أجازوه لغير سبب، وبالكلام من الإمام، ثم المالكية، ثم الحنفية، ثم الحنابلة.
المبحث الثاني ـ صلاة الجمعة
المبحث الثاني ـ صلاة الجمعة فرضيتها ومنزلتها، وفضل السعي إليها وحكمتها، ومن تجب عليه، كيفيتها ومقدارها، شروط صحتها، سنن الخطبة ومكروهاتها، سنن الجمعة ومكروهاتها، مفسدات الخطبة، صلاة الظهر يوم الجمعة، ففي هذا المبحث تسعة مطالب. وسميت جمعة لاجتماع الناس لها، وقيل: لما جمع في يومها من الخير، وقيل: لأن خلق آدم جمع فيه، أو لاجتماعه فيه مع حواء في الأرض. واسمها القديم في الجاهلية يوم العروبة: أي المبين المعظم، وقيل: يوم الرحمة. المطلب الأول ـ فرضية الجمعة ومنزلتها: صلاة الجمعة فرض عين (¬1)، يكفر جاحدها لثبوتها بالدليل القطعي، وهي فرض مستقل ليست بدلاً عن الظهر، لعدم انعقادها بنية الظهر ممن لا تجب الجمعة عليه كالمسافر والمرأة، وهي آكد من الظهر، بل هي أفضل الصلوات، ويومها أفضل الأيام، وخير يوم طلعت فيه الشمس، يعتق الله فيه ست مئة ألف عتيق من النار، من مات فيه كتب الله له أجر شهيد، ووقي فتنة القبر، ودليل فضل يومها حديث مرفوع: «يوم الجمعة سيد الأيام وأعظمها، وأعظم عند الله من يوم الفطر، ويوم الأضحى (¬2). ¬
وأخرج الترمذي من حديث أبي هريرة وقال: حسن صحيح: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه دخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة». وأدلة فرضيتها العينية المستقلة، لا الكفائية: القرآن: وهو قوله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة، فاسعوا إلى ذكر الله، وذروا البيع} [الجمعة:9/ 62] أي امضوا إلى ذكر الله، فأمر بالسعي، والأمر يقتضي الوجوب، ولا يجب السعي إلا إلى واجب، ونهى عن البيع لئلا يشتغل به عنها، فلو لم تكن واجبة لما نهي عن البيع من أجلها، والمراد بالسعي ههنا: الذهاب إليها، لا الإسراع. والسنة: وهو قوله صلّى الله عليه وسلم: «لينتهين أقوام عن وَدْعهم الجُمعات، أو ليختِمَنَّ الله على قلوبهم، ثم ليكونُنَّ من الغافلين» (¬1) وقوله: «رواح الجمعة واجب على كل محتلم» (¬2) وقوله عليه السلام أيضاً: «من ترك الجمعة ثلاث جمع تهاوناً، طبع الله على قلبه» (¬3). وتاركها يستحق العقاب، لقوله صلّى الله عليه وسلم لقوم يتخلفون عن الجمعة: «لقد هممت أن آمُر رجلاً يُصلّي بالناس، ثم أحّرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم» (¬4). ¬
المطلب الثاني ـ فضل السعي إلى الجمعة وحكمتها
والإجماع: فقد أجمع المسلمون على وجوب الجمعة. وفرضت بمكة قبل الهجرة، لما روى الدارقطني عن ابن عباس قال: «أذن للنبي صلّى الله عليه وسلم في الجمعة قبل أن يهاجر، فلم يستطع أن يجمع بمكة، فكتب إلى مصعب بن عمير: «أما بعد، فانظر إلى اليوم الذي تجهر فيه اليهود بالزبور لسبتهم، فاجمعوا نساءكم وأبناءكم، فإذا مال النهار عن شطره عند الزوال من يوم الجمعة، فتقربوا إلى الله بركعتين». فأول من جمّع مصعب بن عمير حتى قدم النبي صلّى الله عليه وسلم المدينة، فجمع عند الزوال من الظهر. وكان أسعد بن زرارة هو الذي جمع الناس، وكان مصعب نزيلهم، وكان يصلي بهم، ويقرئهم ويعلمهم الإسلام، وكان يسمى المقرئ، فأسعد دعاهم، ومصعب صلى بهم. والدليل على أن الجمعة فرض مستقل، وأنها ليست ظهراً مقصوراً، وإن كان وقتها وقت الظهر، وتدرك به: هو أن الظهر لايغني عنها، ولقول عمر رضي الله عنه: «الجمعة ركعتان، تمام غير قصر، على لسان نبيكم صلّى الله عليه وسلم، وقد خاب من افترى» (¬1). المطلب الثاني ـ فضل السعي إلى الجمعة وحكمتها: حكمتها: الجمعة شرعت لدعم الفكر الجماعي، وتجمع المسلمين وتعارفهم وتآلفهم، وتوحيد كلمتهم، وتدريبهم على طواعية القائد، والتزام متطلبات القيادة، وتذكيرهم بشرع الإسلام دستوراً وأحكاماً وأخلاقاً وآداباً وسلوكاً، وتنفيذاً لأوامر الجهاد، وما تتطلبه المصلحة العامة في الداخل والخارج، والأمر ¬
السعي إليها
بالمعروف والنهي عن المنكر. والخلاصة: إن تكرار الوعظ والتذكير الدائم كل أسبوع له أثر واضح في إصلاح الفرد والجماعة لقوله تعالى: {وذكِّر، فإنّ الذكرى تنفع المؤمنين} [الذاريات:55/ 51]. السعي إليها: ومن أجل تلك الأهداف والغايات السامية، ولكسب الثواب الأخروي، كان السعي للجمعة واجباً، حكمه حكم الجمعة؛ لأنه ذريعة إليها لقوله سبحانه: {فاسعَوْا إلى ذكر الله} [الجمعة:9/ 62]، والتبكير إليها فضيلة، وكان ترك أعمال التجارة من بيع وشراء ومختلف شؤون الحياة أمراً لازماً لئلا يتشاغل عنها ويؤدي ذلك إلى إهمالها أو تعطيلها. ويبدأ وجوب السعي إليها عند الجمهور بالنداء إليها بالأذان الذي بين يدي الخطيب، وعند الحنفية بالأذان الأول عند الزوال، إلا إذا كان بعيد الدار عن المسجد، فيجب عليه السعي بقدر ما يدرك الفريضة (¬1). وللتبكير إلى الجمعة درجات في الثواب، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح، فكأنما قرَّب بَدَنة، ومن راح في الساعة الثانية، فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة، فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرّب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر» (¬2). وقت الرواح المرغب فيه إلى الجمعة: اعتقد جماعة منهم الجمهور غير المالكية: أن هذه الساعات هي من أول النهار إلى الزوال، وتنقسم إلى خمس، فندبوا الرواح من أول النهار، لكن الأظهر ما ذكرته المالكية: أنها أجزاء ساعة قبل ¬
ساعة الإجابة
الزوال؛ لأن الساعة شرعاً ولغة هي الجزءمن أجزاء الزمان، ولم ينقل عند أحد من الصحابة أنه ذهب إلى الجمعة قبل طلوع الشمس أو بعدها بقليل (¬1). وأداء الجمعة بآدابها يغفر للمؤمن ما بين الجمعتين، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفِّرات ما بينهن إذا اجتُنِبت الكبائر» (¬2) ولقوله عليه السلام: «من اغتسل ثم أتى الجمعة حتى يفرغ الإمام من خطبته، ثم يصلِّي معه، غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى، وفضلُ ـ أي زيادة ـ ثلاثة أيام» (¬3). ساعة الإجابة: وفيها ساعة يستجاب الدعاء فيها، «عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة، فقال: فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم، وهو قائم يصلي، يسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطاه إياه، أشار ـ أي النبي صلّى الله عليه وسلم ـ بيده يقللها» (¬4)، وفي تحديد وقت هذه الساعة أقوال أصحها ـ كما ثبت عن أبي بردة في صحيح مسلم ـ: أنها فيما بين أن يجلس الإمام على المنبر إلى أن يقضي الصلاة. خصوصيات الجمعة: وللجمعة مزايا متعددة هي مئة مزية أوضحها الإمام السيوطي في كتاب خاص بعنوان (خصوصيات يوم الجمعة) (¬5)، ومنها أنه تجتمع الأرواح فيها، وتزار القبور، ويأمن الميت من عذاب القبر، ومن مات فيه أو ¬
التشريك في العبادة
في ليلته أمن فيه من عذاب القبر، ولا تسجر فيه جهنم، وفيه يزور أهل الجنة ربهم تعالى (¬1). التشريك في العبادة: ومن سعى يريد الجمعة، وحوائجه، وكان معظم مقصوده الجمعة، نال ثواب السعي إليها، قال الحنفية (¬2): وبهذا يعلم أن من شرَّك في عبادته، فالعبرة للأغلب. البيع وقت النداء لصلاة الجمعة: يجب السعي لأداء الجمعة كما بينا عند الجمهور عند الأذان الثاني الذي يكون بين يدي الخطيب على المنبر، وقال الحنفية في الأصح: يجب السعي بعد الأذان الأول، وإن لم يكن في زمن الرسول صلّى الله عليه وسلم، بل في زمن عثمان رضي الله عنه. ويكره تحريماً عند الحنفية، ويحرم عند غيرهم التشاغل عن الجمعة بالبيع وغيره من العقود من إجارة ونكاح وصلح وسائر صنايع الأعمال، وذلك عند الجمهور بعد الشروع في الأذان بين يدي الخطيب، مما فيه تشاغل عن السعي إلى الجمعة، لقوله تعالى: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة، فاسعوا إلى ذكر الله، وذروا البيع} [الجمعة:9/ 62]، فورد النص على البيع، وقيس عليه غيره، سواء أكان عقداً أم لا، لأن كل ذلك يمنع عن تحقيق الغاية المطلوبة وهي أداء الجمعة (¬3). وأضاف الشافعية أنه يكره البيع ونحوه قبل الأذان بعد الزوال. ¬
المطلب الثالث ـ من تجب عليه الجمعة أو شروط وجوب الجمعة
وقال الحنابلة (¬1): لا يحرم غير البيع من العقود كالإجارة والصلح والنكاح؛ لأن النهي مختص بالبيع، وغيره لا يساويه في الشغل عن السعي، لقلة وجوده، فلا يصح قياسه على البيع. غير أني لا أتردد في تصويب الرأي الأول، وعدم الالتفات للرأي الثاني، لأن الأمور بمقاصدها، ولأن الحنابلة القائلين بسد الذرائع يلزمهم سد كل الوسائل المؤدية إلى إهمال الجمعة. وتحريم البيع ووجوب السعي يختص بالمخاطبين بالجمعة، أما غيرهم من النساء والصبيان والمسافرين، فلا يثبت في حقهم ذلك. وهل البيع إذا وقع وقت النداء صحيح، أو باطل يفسخ (¬2)؟ قال الحنفية: البيع صحيح مكروه تحريماً؛ لأن الأمر بترك البيع ليس لعين البيع، بل لترك استماع الخطبة، ويقرب من قولهم قول الشافعية: البيع صحيح حرام. وقال المالكية: إنه من البيوع الفاسدة، ويفسخ على المشهور، وكذلك قال الحنابلة: لا يصح هذا البيع. وسبب اختلافهم: هل النهي عن الشيء الذي أصله مباح إذا تقيد النهي بصفة يعود بفساد المنهي عنه، أو لا؟. المطلب الثالث ـ من تجب عليه الجمعة أو شروط وجوب الجمعة: الجمعة كغيرها من الصلوات الخمس في الأركان والشروط والآداب، وتختص بشروط لوجوبها وصحتها ولزومها، وبآداب. ¬
يزاد عليها أربعة شروط
تجب الجمعة على كل مكلف (بالغ عاقل) حر، ذكر، مقيم غير مسافر، بلا مرض ونحوه من الأعذار، سمع النداء، فلا تجب على صبي ومجنون ونحوه، وعبد، وامرأة ومسافر، ومريض، وخائف وأعمى وإن وجد قائداً عند أبي حنيفة، ويجب عليه إن وجد من يقوده عند المالكية والشافعية، والحنابلة والصاحبين من الحنفية، ومن لم يسمع النداء، على تفصيل آتٍ، ولا على معذور بمشقة مطر ووَحَل وثلج. لكن إن حضر هؤلاء وصلوا مع الناس، أجزأهم ذلك عن فرض الوقت،؛ لأنهم تحملوا المشقة، فصاروا كالمسافر إذا صام، ولأن كل من صحت ظهره ممن لا تلزمه الجمعة صحت جمعته بالإجماع، لأنها إذا أجزأت عمن لا عذر له، فصاحب العذر أولى، وإنما سقطت عنه رفقاً به، فترك الجمعة للمعذور رخصة، فلو أدى الجمعة سقط عنه الظهر، وتقع الجمعة فرضاً، وترك الترخص يعيد الأمر إلى العزيمة، أي أنه إن تكلف حضورها وجبت عليه، وانعقدت به، ويصح أن يكون إماماً فيها. روى أبو داود عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة: عبد مملوك، أو امرأة، أو صبي، أو مريض». وبه يتبين أن شروط وجوب الجمعة هي ما يأتي: يشترط لوجوب الجمعة شروط وجوب الطهارة والصلاة، وهي ثلاثة عند الجمهور: (الإسلام والبلوغ والعقل) وعشرة عند المالكية وهي: الإسلام والبلوغ والعقل، وعدم الحيض والنفاس، ودخول الوقت، وعدم النوم، وعدم النسيان، وعدم الإكراه، ووجود الماء أو الصعيد، والقدرة على الفعل بقدر الإمكان. ويزاد عليها أربعة شروط (¬1): ¬
1 - الذكورة
1 - الذكورة: فلا تجب الجمعة على أنثى. 2 - الحرية: فلا تجب على عبد. 3 - الإقامة في محل الجمعة: فلا تجب على مسافر لم ينو الإقامة (¬1) لحديث «لاجمعة على مسافر» (¬2)، وفي هذا تفصيل المذاهب: قال الحنفية: يشترط الإقامة في مصر أي بلد كبير: وهو ما لا يسع أكبر مساجدها أهلها المكلفين بالجمعة، والقرية بخلافها. فلا تجب الجمعة على مقيم بقرية. وتجب الجمعة أيضاً على من كان في فِناء المصر أي ما امتد من جوانبها، وقدروه بفرسخ (5544 م) في المختار للفتوى. أما من كان خارج المصر: فتجب عليه الجمعة إن كان يسمع النداء من المنائر بأعلى صوت. وهو قول محمد، وبه يفتى، لحديث أبي داود: «الجمعة على كل من سمع النداء». ولا جمعة على من يقيم في أطراف المصر، ويفصل بينه وبينها مسافة من مزارع ونحوها، وإن بلغه النداء. وتقدير البعد بغَلوة سهم أي مقدار رمية وهي (أربع مئة ذراع) أو ميل، ليس بشيء. والخلاصة: تجب الجمعة على من يسكن المصر، أو ما يتصل به، فلا تجب على أهل السواد (القرى) ولو كان قريباً، وتجب الجمعة على مسافر نوى الإقامة لمدة خمسة عشر يوماً، وليس الاستيطان (دوام الإقامة) شرطاً لوجوب الجمعة. ¬
وروى الدارقطني وغيره عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فعليه الجمعة إلا امرأة ومسافراً وعبداً ومريضاً». وقال المالكية: تجب الجمعة على مسافر نوى الإقامة أربعة أيام صحاح فأكثر، وإن لم تنعقد به. وتجب الجمعة على مقيم ببلد الجمعة، وعلى المقيم بقرية أو خيمة بعيدة عن بلد الجمعة بنحو فرسخ أو ثلاثة أميال وثلث، لا أكثر، وتقدر المسافة من المنارة التي في طرف البلد. ولا يشترط في بلد الجمعة أن يكون مصراً، فتصح في القرية، وفي الأخصاص (وهي بيوت الجريد أو القصب)، ولا تصح ولا تجب في بيوت الشعر؛ لأن الغالب عليهم الارتحال، إلا إذا كانوا قريبين من بلد الجمعة، كما لا تصح ولا تجب على من أقام مؤقتاً في مكان ولو لشهر مثلاً، إذ لا بد من الاستيطان: وهو الإقامة في بلد على التأبيد. وقال الشافعية: تجب الجمعة على المقيم في بلد، مصر أو قرية، سمع النداء أو لم يسمعه، وعلى من في خارجه إن سمع النداء، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «الجمعة على من سمع النداء» (¬1) فلا جمعة على الحصادين، إلا إذا سمعوا النداء. والاعتبار في سماع النداء: أن يقف المؤذن في طرف البلد، والأصوات هادئة، والريح ساكنة، وهو مستمع، فإذا سمع النداء لزمه، وإن لم يسمع لم يلزمه. وتجب الجمعة على مسافر نوى الإقامة أربعة أيام، أو سافر يوم الجمعة بعد فجر يومها، فإن سافر قبل الفجر فلا جمعة عليه، ولكن لا تنعقد الجمعة بالعدد المطلوب وهوأربعون بالمسافر، بل لا بد من كون الأربعين متوطنين، فالاستيطان شرط الانعقاد لا شرط الوجوب للجمعة، كما أن شرط صحة الجمعة هو وقوعها في بناء لا صحراء. روى البيهقي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: «مضت السنة أن في كل أربعين فما فوق ذلك جمعة» وروى أبو داود عن كعب بن مالك ¬
رضي الله عنه: «أن أول من جمَّع بهم ـ أي في المدينة ـ أسعد بن زرارة رضي الله عنه، وكانوا يومئذٍ أربعين». ومذهب الحنابلة: تجب الجمعة على مستوطنين ببناء أو ماقاربه من الصحراء، مقيم في بلد وإن لم يكن مصراً تقام فيه الجمعة، ولو كان بينه وبين موضع إقامة الجمعة فرسخ، ولو لم يسمع النداء؛ لأنه بلد واحد، فلا فرق بين البعيد والقريب، ولأن بُعد الفرسخ في مظنة القرب. كما تجب الجمعة على من كان خارج البلد الذي تقام فيه الجمعة إذا كان بينه وبين موضعها فرسخ تقريباً فأقل كما قال المالكية؛ لأنه من أهل الجمعة، ويسمع النداء كأهل المصر، والعبرة بسماعه من المنارة، لا بين يدي الإمام. والمعتبر مظنة السماع غالباً، كما قال الشافعية: إذا كان المؤذن صيِّتاً، والرياح ساكنة، والأصوات هادئة، والعوارض منتفية. وتجب على المسافر إذا نوى الإقامة أربعة أيام فأكثر، أو كان سفره معصية، لئلا تكون المعصية سبباً للتخفيف عنه، أو كان بينه وبين بلد إقامته فرسخ فأقل، أو سافر مسافة دون مسافة القصر. ولا تجب الجمعة على من كان في قرية لا يبلغ عددهم أربعين، أو كان مقيماً في خيام (ما يبنى من عيدان الشجر) ونحوها كبيوت الشعر، أو كان مسافراً سفراً لمسافة القصر (98كم)، أو كان بينه وبين موضع الجمعة أكثر من فرسخ، أو مقيم في قرية يظعن أهلها عنها في الشتاء دون الصيف أو في بعض السنة؛ لأنهم ليسوا من أهلها، ولا يسمعون نداءها، ولأنه صلّى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يسافرون في الحج وغيره، فلم يصل أحد منهم الجمعة في السفر. ولا جمعة بمنى وعرفة نصاً؛ لأنه لم ينقل فعلها هناك.
السفر يوم الجمعة
السفر يوم الجمعة: للفقهاء رأيان في مشروعية السفر يوم الجمعة بعد الفجر (¬1)، فأجازه الحنفية والمالكية، ومنعه الشافعية والحنابلة إن خيف فوت الجمعة، واتفقوا على منعه بعد دخول وقت الظهر (أي بعد الزوال) وقبل أداء صلاتها. قال الحنفية: لابأس بالسفر يوم الجمعة إذا خرج عن عمران المصر قبل دخول وقت الظهر، والصحيح أنه يكره السفر بعد الزوال وقبل أن يصلي الجمعة، ولا يكره قبل الزوال. وكذلك قال المالكية: يجوز السفر يوم الجمعة قبل الزوال، ولكنه يكره لمن لا يدركها في طريقه، ويحرم ويمنع بعد الزوال وقبل الصلاة اتفاقاً. ودليلهم قول عمر: «الجمعة لا تحبس عن سفر». وقال الشافعية والحنابلة: يحرم على من تجب عليه الجمعة السفر قبل الزوال وبعده، إلا أن تمكنه الجمعة في طريقه أو يتضرر بتخلفه عن الرفقة أو كان السفر واجباً كالسفر لحج ضاق وقته وخاف فوته، لما روى ابن عمر: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: من سافر من دار إقامة يوم الجمعة، دعت عليه الملائكة، لا يُصحَب في سفره، ولا يعان على حاجته» (¬2)، وهذا وعيد لا يلحق بالمباح، ولأن الجمعة قد وجبت عليه، فلم يجز له الاشتغال بما يمنع منها كاللهو والتجارة. كذلك كره الشافعية السفر ليلة الجمعة، جاء في الإحياء للغزالي: «من سافر ليلة الجمعة دعا عليه ملكان». ¬
4 - السلامة من الأعذار
وفي تقديري أن رأي المالكية والحنفية أصح، تيسيراً على الناس، ومنعاً للحرج، ولضعف حديث الفريق الثاني. 4 - السلامة من الأعذار: فلا بد لمن تجب عليه الجمعة من الصحة، والأمن، والحرية، والبصر، والقدرة على المشي، وعدم الحبس، وعدم المطر الشديد والوحل والثلج ونحوها، كما بينا في بحث أعذار مسقطات الجماعة والجمعة. فلا تجب الجمعة على مريض لعجزه عن ذلك، وممرِّض إن بقي المريض ضائعاً، وشيخ فانٍ، وخائف على نفسه أو ماله أو لخوف غريم أو ظالم أو فتنة، وعبد؛ لأنه مشغول بخدمة مولاه، وأعمى عند أبي حنيفة، ويجب عليه عند الحنابلة والصاحبين والمالكية والشافعية إذا وجد، أي الأعمى قائداً، ولا يجب عليه إن وجد قائداً عند أبي حنيفة، ولا تجب على مفلوج الرِّجل ومقطوعها وزَمِن، ومحبوس، ومعذور بمشقة مطر ووحل وثلج. ولا تجب على قروي عند الحنفية. سقوط الجمعة عمن حضر العيد إلا الإمام عند الحنابلة: قال الحنابلة (¬1): كما تسقط الجمعة عن ذوي الأعذار أو الأشغال كمريض ونحوه، تسقط عمن حضر العيد مع الإمام إن اتفق عيد في يوم جمعة إسقاط حضور، لا إسقاط وجوب، إلا الإمام، فإنها لا تسقط عنه، إلا أن لايجتمع له من يصلي به الجمعة، ويصح أن يؤم فيها، والأفضل حضورها خروجاً من الخلاف. ودليلهم: حديث زيد بن أرقم: «من شاء أن يُجمِّع فليُجمِّع» (¬2)، وحديث ¬
المطلب الرابع ـ كيفية الجمعة ومقدارها
أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «اجتمع في يومكم هذا عيدان، فمن شاء أجزأه من الجمعة، وإنا مجمِّعون» (¬1)، ولأن الجمعة إنما زادت عن الظهر بالخطبة، وقد حصل سماعها في العيد، فأجزأه عن سماعها ثانياً، ولأن وقتها واحد، فسقطت إحداهما بالأخرى كالجمعة مع الظهر. وقوله: (إنا مجمعون) يدل على أن الإمام لاتسقط عنه، ولأنه لو تركها، لامتنع فعل الجمعة في حق من تجب عليه ومن يريدها ممن سقطت عنه، بخلاف غيره من الناس. المطلب الرابع ـ كيفية الجمعة ومقدارها: الجمعة: ركعتان وخطبتان قبلها (¬2)، قال عمر: «صلاة الجمعة ركعتان، تمام غير قصر، وقد خاب من افترى» (¬3) فلها ركنان: الصلاة والخطبة، والصلاة ركعتان بقراءة جهرية إجماعاً، والخطبة: فرض وهي خطبتان قبل الصلاة، وشرط في صحة الجمعة على الأصح، وأقل ما يسمى خطبة عند العرب، تشمل على حمد لله تعالى وصلاة على رسوله، ووعظ في أمور الدين والدنيا، وقرآن. ويسن قبلها أربع ركعات اتفاقاً، وبعدها عند الجمهور غير المالكية أربع أيضاً. المطلب الخامس ـ شروط صحة الجمعة: يشترط لصحة الجمعة زيادة على شروط صحة الصلاة الإحدى عشرة المتقدمة ¬
1 - وقت الظهر
سبعة شرائط عند الحنفية والشافعية، وخمسة شرائط عند المالكية وأربعة لدى الحنبلية (¬1). 1 - وقت الظهر: فتصح فيه فقط، ولا تصح بعده، ولا تقضى جمعة، فلو ضاق الوقت، أحرموا، بالظهر، ولا تصح عند الجمهور غير الحنابلة قبله، أي قبل وقت الزوال، بدليل مواظبة النبي صلّى الله عليه وسلم على صلاة الجمعة إذا زالت الشمس، قال أنس رضي الله عنه: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلي الجمعة حين تميل الشمس» (¬2) أي إلى الغروب، وهو الزوال، وعلى ذلك جرى الخلفاء الراشدون فمن بعدهم، ولأن الجمعة والظهر فرْضا وقت واحد، فلم يختلف وقتهما، كصلاة الحضر وصلاة السفر. وقال الحنابلة: يجوز أداء الجمعة قبل الزوال، وأول وقتها أول وقت صلاة العيد، لقول عبد الله بن سَيْدان السُّلَمي، «شهدت الجمعة مع أبي بكر، فكانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار، ثم شهدتها مع عمر، فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول: انتصف النهار، ثم شهدتها مع عمر، فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول: انتصف النهار، ثم شهدتها مع عثمان، فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول: زال النهار، فما رأيت أحداً عاب ذلك، ولا أنكره» (¬3) فكان كالإجماع، ولأنها صلاة عيد، أشبهت العيدين. ¬
متى تدرك الصلاة جمعة؟
وتفعل قبل الزوال جوازاً أو رخصة، وتجب بالزوال، وفعلها بعد الزوال أفضل لما روى سلمة بن الأكوع قال: «كنا نجمِّع مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس، ثم نرجع نتتبَّع الفيء» (¬1). وآخر وقت الجمعة: آخر وقت الظهر بغير خلاف، ولأنها بدل منها، أو واقعة موقعها، فوجب الإلحاق بها، لما بينهما من المشابهة. متى تدرك الصلاة جمعة؟ للفقهاء رأيان في إدراك جزء من صلاة الجمعة مع الإمام. فقال الحنفية على الراجح (¬2): من أدرك الإمام يوم الجمعة في أي جزء من صلاته، صلى معه ما أدرك، وأكمل الجمعة، وأدرك الجمعة، حتى وإن أدركه في التشهد أو في سجود السهو. وهو رأي أبي حنيفة وأبي يوسف، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ماأدركتم فصلوا، وما فاتكم فاقضوا» (¬3). وقال الجمهور (¬4): إذا أدرك الركعة الثانية مع الإمام، فقد أدرك الجمعة، وأتمها جمعة، وإن لم يدرك معه الركعة الثانية، أتمها ظهراً، لإطلاق قوله صلّى الله عليه وسلم: «من أدرك ركعة من الجمعة فليصل إليها أخرى» وفي لفظ: «من أدرك ركعة من الصلاة، فقد أدرك الصلاة» وفي رواية: «من أدرك في الجمعة ركعة فقد أدرك الصلاة» (¬5). ¬
2 - البلد
2 - البلد: أي كونها في مصر جامع، أو في مصلى المصر عند الحنفية: وهو كل موضع له أمير وقاض ينفذ الأحكام ويقيم الحدود، هذا في مشهور المذهب الحنفي، لكن المفتى به عند أكثر الحنفية، أن المصر كما قدمنا: هو ما لا يسع أكبر مساجدها أهلها المكلفين بالجمعة. وهذا شرط وجوب وصحة، فلا يصح أداء الجمعة إلا في المصر وتوابعه، ولا تجب على أهل القرى التي ليست من توابع المصر، ولا يصح أداء الجمعة فيها. ودليلهم على اشتراط المصر: ما رواه عبد الرزاق عن علي موقوفاً: «لا جمعة، ولا تشريق إلا في مصر جامع». وقال المالكية: كونها في موضع الاستيطان، وهو إما بلد أو قرية، مبنية بأحجار ونحوها، أو بأخصاص من قصب أو أعواد شجر، لا خيم من شعر أو قماش؛ لأن الغالب على أهلها الارتحال، فأشبهوا المسافرين. وهذا شرط صحة ووجوب عند المالكية؛ لأن الصحيح عندهم أن الشروط الأربعة وهي الإمام والجماعة والمسجد وموضع الاستيطان هي شروط وجوب وصحة معاً، ولا بد أن تستغني القرية بأهلها عادة، بالأمن على أنفسهم، والاكتفاء في معاشهم عن غيرهم. ولا يحدون بحد كمئة أو أقل أو أكثر. وقرر الشافعية: أن تقام الجمعة في خِطّة بلد أو قرية، وإن لم تكن في مسجد. ولا تلزم الجمعة في الأظهر أهل الخيام وإن استقروا في الصحراء أبداً؛ لأنهم على هيئة المسافرين أو المستوفزين للسفر، وليس لهم أبنية المستوطنين، ولأن قبائل العرب الذين كانوا مقيمين حول المدينة ما كانوا يصلونها، وما أمرهم النبي صلّى الله عليه وسلم بها. والمراد بالخِطَّة: الأرض التي خُطَّ عليها أعلام للبناء فيها. ويقصد بها هنا
3 - الجماعة
الأمكنة المعدودة من البلد. وهي تشبه المخطط التنظيمي لكل بلد في عصرنا. ولا بد أن تكون الأبنية مجتمعة بحسب العرف. واشترط الحنابلة: أن يكون المكلفون بالجمعة وهم أربعون فأكثر مستوطنين أي مقيمين بقرية مجتمعة البناء، بما جرت العادة بالبناء به، من حجر أو لبن أو طين أو قصب أو شجر؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم «كتب إلى قرى عُرينة أن يصلوا الجمعة» ولا جمعة على أهل الخيام وبيوت الشعر والحركات، ولا تصح منهم؛ لأن ذلك لا ينصب للاستيطان غالباً. والخلاصة: لا بد لإقامة الجمعة عند الجمهور من كونها في مدينة أو قرية، ولابد أن تكون القرية كبيرة عند الحنفية، فلا تجب على سكان القرى الصغيرة، أي لا بد من المصر عندهم، أما عند غيرهم فلا يشترط المصر، والقرية والبلد سواء. 3 - الجماعة: الجماعة شرط، لما رواه أبو داود: «الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة .. » وانعقد الإجماع على ذلك. وأقل الجماعة عند أبي حنيفة ومحمد في الأصح: ثلاثة رجال سوى الإمام، ولو كانوا مسافرين أو مرضى؛ لأن أقل الجمع الصحيح إنما هو الثلاث، والجماعة شرط مستقل في الجمعة، لقوله تعالى: {فاسعوا إلى ذكر الله} [الجمعة:9/ 62] والجمعة مشتقة من الجماعة، ولا بد لهم من مذكر وهو الخطيب. فإن تركوا الإمام أو نفروا بعد التحريمة قبل السجود، فسدت الجمعة، وصليت الظهر. وإن عادوا وأدركوا الإمام راكعاً، أو بقي ثلاثة رجال يصلون مع الإمام. أو نفروا بعد الخطبة وصلى الإمام بآخرين، صحت الجمعة، فوجود الجماعة: شرط انعقاد الأداء، لا شرط دوام وبقاء إلى آخر الصلاة، ولا يتحقق الأداء إلا بوجود تمام الأركان وهي القيام والقراءة والركوع
والسجود، فلو نفروا بعد التحريمة قبل السجود فسدت الجمعة، ويستقبل (يستأنف) لظهر، كما بينا. وقال المالكية: يشترط حضور اثني عشر رجلاً للصلاة والخطبة، لما روي عن جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يخطب قائماً يوم الجمعة، فجاءت عِير (إبل تحمل التجارة) من الشام، فانفتل الناس إليها، حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلاً، فأنزلت هذه الآية التي في الجمعة: {وإذا رأ وا تجارة أو لهواً، انفضوا إليها، وتركوك قائماً} (¬1) [الجمعة:11/ 62]. ويشترط لهذا الشرط شرطان أيضاً: الأول ـ أن يكون العدد من أهل البلد، فلا تصح من المقيمين به لنحو تجارة، إذا لم يحضرها العدد المذكور من المستوطنين بالبلد. الثاني ـ أن يكونوا باقين مع الإمام من أول الخطبة حتى السلام من صلاتها، فلو فسدت صلاة واحد منهم، ولو بعد سلام الإمام، بطلت الجمعة، أي أن بقاء الجماعة إلى كمال الصلاة شرط على المشهور. وقال الشافعية والحنابلة: تقام الجمعة بحضور أربعين فأكثر بالإمام من أهل القرية المكلفين الأحرار الذكور المستوطنين، بحيث لا يظعن منه أحدهم شتاء ولاصيفاً إلا لحاجة، ولو كانوا مرضى أو خرساً أو صماً، لا مسافرين، لكن يجوز كون الإمام مسافراً إن زاد العدد عن الأربعين، ولا تنعقد الجمعة بأقل من أربعين، لحديث كعب المتضمن أن عدد المصلين في أول صلاة جمعة بالمدينة مع أسعد بن زرارة كانوا أربعين رجلاً (¬2). وروى البيهقي عن ابن مسعود أنه صلّى الله عليه وسلم جمع بالمدينة ¬
4 - كون الأمير أو نائبه هو الإمام، والإذن العام من الإمام بفتح أبواب الجامع للواردين عليه.
وكانوا أربعين رجلاً. ولم يثبت أنه صلّى الله عليه وسلم صلى بأقل من أربعين، فلا تجوز بأقل منه. فلو انفض الأربعون أو بعضهم في الخطبة، لم تصح الجمعة؛ لأن سماع الأربعين جميع أركان الخطبة مطلوب، والمقصود من الخطبة إسماع الناس، فإن نقصوا عن الأربعين قبل إتمام الجمعة استأنفوا ظهراً ولم يتموها جمعة؛ لأن العدد شرط، فاعتبر في جميعها كالطهارة. ويظهر لي أن الجمعة تتطلب الاجتماع، فمتى تحققت الجماعة الكثيرة عرفاً، وجبت الجمعة وصحت، وليس هناك نص صريح في اشتراط عدد معين. والجماعة في الجمعة شرط بالاتفاق، إذ كان معلوماً من الشرع أنها حال موجودة في الصلاة. فإن سبق أحد المصلين بركعة، صحت جمعته، وأتى بركعة ثانية، فإن لم يدرك مع الإمام ركوع الركعة الثانية، أتم صلاته ظهراً، والدليل ما رواه النسائي وابن ماجه والدارقطني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من أدرك ركعة من صلاة الجمعة وغيرها، فليضف إليها أخرى، وقد تمت صلاته». 4 - كون الأمير أو نائبه هو الإمام، والإذن العام من الإمام بفتح أبواب الجامع للواردين عليه. اشترط الحنفية هذين الشرطين: الأول ـ أن يكون السلطان ولو متغلباً أو نائبه، أو من يأذن له بإقامة الجمعة كوزارة الأوقاف الآن هو إمام الجمعة وخطيبها؛ لأنها تقام بجمع عظيم، وقد تقع منازعة في شؤون الجمعة، فلا بد منه تتميماً لأمره، ومنعاً من تقدم أحد. والثاني ـ الإذن العام: وهو أن تفتح أبواب الجامع ويؤذن للناس بالدخول إذناً عاماً، بأن لا يمنع أحد ممن تصح منه الجمعة عن دخول الموضع الذي تصلى فيه؛
5 - أن تكون بالإمام وفي الجامع
لأن كل تجمع يتطلب الإذن بالحضور، ولأنه لا يحصل معنى الاجتماع إلا بالإذن، ولأنها من شعائر الإسلام، وخصائص الدين، فلزم إقامتها على سبيل الاشتهار والعموم. ولم يشترط غير الحنفية هذين الشرطين، فلا يشترط إذن الإمام لصحة الجمعة، ولا حضوره؛ لأن علياً صلى بالناس، وعثمان محصور، فلم ينكره أحد، وصوبه عثمان (¬1)، ولأن الجمعة فرض الوقت، فأشبهت الظهر في عدم هذين الشرطين (¬2). 5 - أن تكون بالإمام وفي الجامع: اشترط المالكية هذين الشرطين وهما: أن تصلى بإمام مقيم، فلا تصح أفراداً، وأن يكون مقيماً غير مسافر، ولو لم يكن متوطناً، وأن يكون هوالخطيب إلا لعذر يبيح الاستخلاف كرعاف ونقض وضوء، وأن يكون حراً فلا تصح إمامة العبد. ولا يشترط أن يكون الإمام والياً، خلافاً للحنفية. وأن تكون الصلاة بجامع يجمع فيه على الدوام، فلا تصح في البيوت ولا في رحبة دار، ولا في خان، ولا في ساحة من الأرض، وفي الجملة: لا تصح المواضع المحجورة كالدور والحوانيت. وللجامع شروط أربعة: أن يكون مبنياً، وأن يكون بناؤه بحسب العادة والعرف فيجوز بالقصب ونحوه، وأن يكون متحداً، ومتصلاً بالبلد، فالجمعة لا تكون إلا متحدة في البلد، وإذا تعددت الجمع، فالذي تصح الجمعة فيه هو الجامع العتيق الأقدم؛ دون غيره، والمراد بالعتيق: ما أقيمت فيه الجمعة ابتداء، ولو تأخر بناؤه عن غيره. ¬
6 - عدم تعدد الجمع لغير حاجة
ولا يشترط كون الجامع مسقفاً على الراجح، ولا قصد تأبيد إقامة الجمعة فيه، ولا قصد إقامة الصلوات الخمس فيه. وتصح الجمعة في رحاب المسجد: وهي ما زيد خارج محيطه لتوسعته، وتصح في طرق المسجد المتصلة به من غير فصل ببيوت أو حوانيت أو أشياء محجورة، سواء ضاق المسجد أو اتصلت الصفوف أم لا، وتكره في الرحاب والطرق من غير ضرورة. ولا تجوز الجمعة على سطح المسجد، ولو ضاق بالناس، ولا في الأماكن المحجورة كالدور والحوانيت. 6 - عدم تعدد الجمع لغير حاجة: اشترط الشافعية لصحة الجمعة ألا يسبقها ولا يقارنها جمعة في البلد أو القرية، إلا لكبر البلد وعسر اجتماع الناس في مكان، وتعسر الاجتماع: إما لكثرة الناس، أو لقتال بينهم، أو لبعد أطراف البلد، بأن يكون من بطرفها لا يبلغهم صوت المؤذن بالشروط السابقة في وجوب الجمعة. ودليل هذا الشرط أنه صلّى الله عليه وسلم وصحبه والخلفاء الراشدين والتابعين لم يقيموا سوى جمعة واحدة، ولأن الاقتصار على واحدة أدعى لتحقيق المقصود من إظهار شعار الاجتماع، واجتماع الكلمة. فإن سبقت إحدى الجمع غيرها فهي الصحيحة، وما بعدها باطل؛ لأنه لا يزاد على واحدة وإن تقارنتا فهما باطلتان. والعبرة في السبق والمقارنة: بالراء من تكبيرة إحرام الإمام. فإن علم السابق ثم نسي، وجبت الظهر على الجميع، لالتباس الصحيحة بالفاسدة، وإن علمت المقارنة أو لم يعلم سبق ولا مقارنة، أعيدت الجمعة إن اتسع الوقت، لعدم وقوع جمعة مجزئة.
صلاة الظهر بعد الجمعة
وإن تعددت الجمعة لحاجة، بأن عسر اجتماع بمكان، جاز التعدد، وصحت صلاة الجميع على الأصح، سواء وقع إحرام الأئمة معاً أو مرتباً، وسن صلاة الظهر احتياطاً، فالاحتياط لمن صلى ببلد تعددت فيه الجمعة لحاجة، ولم يعلم سبق جمعته: أن يعيدها ظهراً، خروجاً من خلاف من منع التعدد، ولو لحاجة. وينوي آخر ظهر بعد صلاة الجمعة أو ينوي الظهر احتياطاً، خروجاً عن عهدة فرض الوقت بأداء الظهر. وصلاة الظهر بعد الجمعة: إما واجبة إن تعددت الجمع لغير حاجة، أو مستحبة إذا كان التعدد بقدر الحاجة فقط، أو زائداً عليها ولم يدر هل التعدد لحاجة أو لا، أو حرام فيما إذا كان بالبلد جمعة واحدة فقط كبعض قرى الأرياف. وكذلك قرر المالكية على الراجح: أنه يمنع تعدد الجمعة في مسجدين أو أكثر في مصر واحد، ولا تكون الجمعة إلا متحدة في البلد، فإن تعددت صحت جمعة الجامع الأقدم أو العتيق: وهو المسجد الذي أقيمت فيه أول جمعة في البلد، ولو تأخر بناؤه عن غيره، كما بينا (¬1). والحنابلة مع الشافعية والمالكية فيما ذكر (¬2): وهو إن كان البلد كبيراً يحتاج إلى جوامع أو في حال خوف الفتنة بأن يكون بين أهل البلد عداوة، أو في حال سعة البلد وتباعد أطرافه، فصلاه الجمعة في جميعها جائزة؛ لأنها صلاة شرع لها الاجتماع والخطبة، فجازت فيما يحتاج إليه من المواضع كصلاة العيد، وقد ثبت أن علياً رضي الله عنه كان يخرج يوم العيد إلى المصلى، ويستخلف على ضعَفَة الناس أبا مسعود البدري فيصلي بهم. وأما ترك النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه إقامة ¬
جمعتين، فلعدم الحاجة إليه، ولأن الصحابة كانوا يؤثرون سماع خطبته عليه السلام، وشهود جمعته، وإن بعدت منازلهم، لأنه المبلغ عن الله تعالى. ولما دعت الحاجة إلى تعدد الجمعات في الأمصار، صليت في أماكن، ولم ينكر أحد، فكان إجماعاً. وإن تحققت الحاجة بجمعتين اثنتين، لم تجز الجمعة الثالثة لعدم الحاجة إليها، وهكذا الرابعة والخامسة. ويحرم إقامة الجمعة والعيد بأكثر من موضع من البلد لغير حاجة، ويحرم إذن الحاكم في إقامة جمعة زائدة عند عدم الحاجة إليها، كما يحرم الإذن فيما زاد على قدر الحاجة. فإن أقيمت الجمعة في موضعين فأكثر مع عدم الحاجة، فجمعة الإمام (الحاكم) التي باشرها أو أذن فيها: هي الصحيحة؛ لأن في تصحيح غيرها افتياتاً عليه، وتفويتاً لجمعته. فإن استويا في الإذن وعدم إذن الإمام، فالسابقة هي الصحيحة، والثانية باطلة. والسبق يكون بتكبيرة الإحرام، كما قال الشافعية، لا بالشروع في الخطبة ولا بالسلام. وإن تقارنتا معاً، واستوتا في الإذن أو عدمه، بطلتا؛ لأنه لا يمكن تصحيحهما. وإن جهلت الجمعة الأولى ببلد لغير حاجة، أو لم يعلم سبق إحداهما، أو علم الحال ثم أنسي، صلوا ظهراً. والخلاصة: إن رأي الجمهور (المالكية على المشهور، والشافعية والحنابلة) والكاساني من الحنفية: هو عدم جواز التعدد إلا لحاجة.
أما الحنفية (¬1) على المذهب وعليه الفتوى فقالوا: يؤدى أكثر من جمعة في مصر واحد بمواضع كثيرة دفعاً للحرج؛ لأن في إلزام اتحاد الموضع حرجاً بيناً، لتطويل المسافة على أكثر الحاضرين، ولم يوجد دليل على عدم جواز التعدد، والضرورة أو الحاجة تقضي بعدم اشتراطه، لا سيما في المدن الكبرى. والحق: رجحان هذا الرأي، لاتساع البنيان، وكثرة الناس، وللحاجة في التيسير عليهم في أداء الجمعة، ولأن منع التعدد لم يقم عليه دليل صحيح، قال ابن رشد (¬2): لو كان شرط عدم التعدد، واشتراط المصر والسلطان واشتراط مالك المسجد شروطاً في صحة صلاة الجمعة، لما جاز أن يسكت عنها عليه الصلاة والسلام، ولا أن يترك بيانها، لقوله تعالى: {لتبين للناس ما نزل إليهم} [النحل:44/ 16]، ولقوله تعالى: {إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه} [النحل:64/ 16]، وتعدد الجمع اليوم يتفق مع مبدأ يسر الإسلام ودفع الحرج عن المصلين، ولا تجب صلاة الظهر على أحد من المصلين، كما قرر بعض الشافعية كالرملي في المدن الكبرى كالقاهرة وبغداد ودمشق، وأما كون الجمعة لمن سبق فمعناه زيادة الأجر لمن بكر في المجيء للمسجد. قال ابن تيمية: إقامة الجمعة في المدينة الكبيرة في موضعين للحاجة يجوز عند أكثر العلماء، ولهذا لما بنيت بغداد ولها جانبان أقاموا فيها جمعة في الجانب الشرقي، وجمعة في الجانب الغربي، وجوز ذلك أكثر العلماء (¬3). ¬
7 - الخطبة قبل الصلاة
7 - الخطبة قبل الصلاة: اتفق الفقهاء على أن الخطبة شرط في الجمعة، لا تصح بدونها (¬1)، لقوله تعالى: {فاسعوا إلى ذكر الله} [الجمعة:9/ 62] والذكر: هو الخطبة، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يصل الجمعة بدون الخطبة (¬2)، وقد قال: «صلوا كما رأيتموني أصلي»، وعن عمر وعائشة رضي الله عنهما أنهما قالا: قصرت الصلاة لأجل الخطبة. والأصح عند الحنفية: أن الخطبة ليست قائمة مقام ركعتين، بل كشطرها في الثواب، لما ورد به الأثر من أن الخطبة كشطر الصلاة. وهي خطبتان قبل الصلاة اتفاقاً، واختلف الفقهاء في شروط الخطبة. فقال الحنفية (¬3): يخطب الإمام بعد الزوال قبل الصلاة خطبتين خفيفتين بقدر سورة من طوال المفصل، يفصل بينهما بقَعْدة قدر قراءة ثلاث آيات، ويخفض جهره بالثانية عن الأولى، ويخطب قائماً، مستقبل الناس، على طهارة من الحدثين، وستر عورة، ولو كان الحاضرون صُمَّاً أو نياماً. ¬
ولو خطب قاعداً أو على غير طهارة، جاز لحصول المقصود، إلا أنه يكره لمخالفته الموروث، وللفصل بينها وبين الصلاة لتجديد طهارته، فالطهارة والقيام سنةعندهم، والسبب في ذلك أنها لا تقوم مقام الركعتين في الأصح؛ لأنها تنافي الصلاة، لما فيها من استدبار القبلة والكلام، فلا يشترط لها شرائط الصلاة. ولو اقتصر الخطيب على ذكر الله تعالى كتحميدة أو تهليلة أو تسبيحة، فقال: الحمد لله، أو سبحان الله، أو لا إله إلا الله، جاز عند أبي حنيفة مع الكراهة، لقوله تعالى: {فاسعَوْا إلى ذكر الله} [الجمعة:9/ 62] والمراد به الخطبة باتفاق المفسرين، وقد أطلق عليها الذكر، من غير فصل بين قليل وكثير، فالزيادة عليها نسخ، وروي أن «عثمان رضي الله عنه: لما صعد المنبر أول جمعة ولّي، قال: الحمد لله، فأرتج (أي أغلق)، فنزل، وصلى» وكان بمحضر من علماء الصحابة، ولم ينكر عليه أحد، فدل على أن هذا المقدار كاف. وقال الصاحبان: لا بد من ذِكْر طويل يسمى خطبة، وأقله قدر التشهد؛ لأن الخطبة هي الواجبة، والتسبيحة أو التحميدة لا تسمى خطبة. وشروط الخطبة عند الحنفية ستة: أن تكون قبل الصلاة، وبقصد الخطبة، وفي الوقت، وأن يسمعها واحد ممن تنعقد بهم الجمعة على الأقل في الصحيح، فيكفي حضور عبد أو مريض أو مسافر ولو جنباً، ولا تصح بحضور صبي أو امرأة فقط، ولا يشترط سماع جماعة. ويشترط أيضاً ألا يفصل فاصل كثير أجنبي كتناول غداء أو غسل بين الخطبة والصلاة، فإن وجد أعيدت الخطبة، لبطلان الخطبة الأولى. ولا يشترط اتحاد الإمام والخطيب، لكن لا ينبغي أن يصلي غير الخطيب؛ لأنهما كشيء واحد. وأجازوا الخطبة، بغير العربية ولو لقادر عليها، سواء أكان القوم عرباً أم غيرهم.
المالكية
ويبدأ قبل الخطبة الثانية بالتعوذ سراً، ثم يحمد الله تعالى والثناء عليه، ويأتي بالشهادتين، والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم، والعظة والتذكير، ويندب ذكر الخلفاء الراشدين والعمّين (حمزة والعباس)، ولا يندب الدعاء للسلطان، وجوزه بعضهم، فقد ثبت أن أبا موسى الأشعري أمير الكوفة دعا لعمر، ويكره تحريماً وصفه بما ليس فيه. واشترط المالكية (¬1) تسعة شروط لخطبتي الجمعة هي: الأول ـ أن يكون الخطيب قائماً، والأظهر أن هذا واجب غير شرط، فإن جلس أتم خطبته وصحت. الثاني ـ أن تكون الخطبتان بعد الزوال، فإن تقدمتا عليه، لم يجز. الثالث ـ أن يكونا مما تسميه العرب خطبة، ولو سجعتين نحو: اتقوا الله فيما أمر، وانتهوا عما نهى عنه وزجر، فإن سبح أو هلل أو كبر، لم يجزه. وندب ثناء على الله، وصلاة على نبيه، وأمر بتقوى، ودعا بمغفرة وقراءة شيء من القرآن، فإذا قال: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أما بعد: أوصيكم بتقوى الله وطاعته، وأحذركم عن معصيته ومخالفته، قال تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} [الزلزلة:7/ 99 - 8]. ثم يجلس ويقول بعد قيامه بعد الثناء والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم: أما بعد، فاتقوا الله فيما أمر، وانتهوا عما نهى عنه وزجر، يغفر الله لنا ولكم، لكان آتياً بالخطبة على الوجه الأكمل باتفاق العلماء. الرابع ـ كونهما داخل المسجد كالصلاة، فلو خطبهما خارجه، لم يصحا. ¬
الشافعية
الخامس ـ أن يكونا قبل الصلاة، فلا تصح قبلهما، فإن أخرهما عنهما، أعيدت الصلاة إن قرب الزمن عرفاً، ولم يخرج من المسجد، فإن طال الزمن أعيدتا؛ لأنهما مع الصلاة كركعتين من الظهر. السادس ـ أن يحضرهما الجماعة: الاثنا عشر، فإن لم يحضروا من أولهما، لم يجزيا؛ لأنهما كركعتين. السابع والثامن والتاسع ـ أن يجهر بهما، وأن يكونا بالعربية، ولو للأعاجم، واتصال أجزائهما ببعض وأن تتصل الصلاة بهما، وليس من شرط الخطبتين الطهارة على المشهور، لكن كره فيهما ترك الطهر من الحدثين الأصغر والأكبر، ووجب انتظاره لعذر قرب زواله بالعرف كحدث حصل بعد الخطبة، أو رعاف يسير والماء قريب. ولا يصلي غير من يخطب إلا لعذر، فيشترط اتحاد الإمام والخطيب إلا لعذر طرأ عليه كجنون ورعاف مع بعد الماء. وقال الشافعية (¬1): للخطبة خمسة أركان أو فروض: حمد الله تعالى، والصلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، والوصية بالتقوى، وتجب هذه الثلاثة في كل من الخطبتين، وقراءة آية مفهمة في إحدى الخطبتين، والدعاء للمؤمنين والمؤمنات بأمر أخروي. أما الأول وهو الحمد فلما رواه مسلم، وأما الثاني فلأن الخطبة عبادة، فتفتقر إلى ذكر الله تعالى وذكر رسوله، كالأذان والصلاة، وأما الثالث فلما رواه مسلم، ولأن المقصود من الخطبة الوعظ والتحذير، ولا يتعين لفظ الوصية بالتقوى ¬
الصحيح؛ لأن الفرض الوعظ والحمل على طاعة الله تعالى، فيكفي ما دل على الموعظة، طويلاً كان أو قصيراً كأطيعوا الله وراقبوه. وأما الرابع: فلما رواه الشيخان، سواء أكانت الآية وعداً أم وعيداً أم حكماً أم قصة. وأما الخامس: فلنقل الخلف له عن السلف. وكون الدعاء في الثانية؛ لأنه يليق بالخواتم. والأصح أن ترتيب الأركان ليس بشرط، وإنما هو سنة. وشروط كل من الخطبتين خمسة عشر هي ما يأتي: كونهما قبل الصلاة، عدم الانصراف عنهما بصارف، القيام لمن قدر عليه اتباعاً للسنة، وكونهما بالعربية، وفي الوقت بعد الزوال، والجلوس بينهما بالطمأنينة كالجلوس بين السجدتين بقدر سورة الإخلاص استحباباً، أما القاعد فيفصل بسكتة، وإسماع العدد الذي تنعقد به الجمعة: بأن يرفع الخطيب صوته بأركانهما حتى يسمعها تسعة وثلاثون غيره كاملون، فلا بد من الإسماع والسماع بالفعل، لا بالقوة، فلو كانوا صُماً أو بعضهم لم تصح كبعدهم. وإلا كان الخطيب من الأربعين فيشترط أن يسمع نفسه، فلو كان أصم لم يكف. والولاء بين كلمات كل من الخطبتين، وبينهما وبين الصلاة اتباعاً للسنة، فلا يجوز الفصل الطويل بين الخطبة والصلاة، كما قال الحنفية. وطهارة الحدثين وطهارة النجس في الثوب والبدن والمكان، وستر العورة، اتباعاً للسنة؛ لأن الخطبة قائمة مقام الركعتين، فتكون بمنزلة الصلاة، حتى يشترط لها دخول الوقت، فيشترط لها سائر شروط الصلاة من ستر العورة وطهارة الثوب والبدن والمكان. وأن تقع الخطبتان في مكان تصح فيه الجمعة، وأن يكون الخطيب ذكراً، وأن
الحنابلة
تصح إمامته بالقوم، وأن يعتقد العالم الركن ركناً والسنة سنة، وغير العالم ألا يعتقد الفرض سنة. وقال الحنابلة (¬1): يشترط للجمعة أن يتقدمها خطبتان، للأدلة السابقة، وهما بدل ركعتين لما تقدم عن عمر وعائشة، ولا يقال: إنهما بدل ركعتين من الظهر؛ لأن الجمعة ليست بدلاً عن الظهر، بل الظهر بدل عنها إذا فاتت. ويشترط لصحة كل من الخطبتين ما يأتي: حمد الله بلفظ: الحمد لله، فلا يجزئ غيره، لحديث أبي هريرة مرفوعاً: «كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم» (¬2) أي أقطع، وعن ابن مسعود قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا تشهد قال: الحمد لله» (¬3). والصلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم بلفظ الصلاة؛ لأن كل عبادة افتقرت إلى ذكر الله تعالى، افتقرت إلى ذكر رسوله، كالأذان. ولا يجب السلام عليه مع الصلاة عليهصلّى الله عليه وسلم. وقراءة آية كاملة لقول جابر: «كان صلّى الله عليه وسلم يقرأ آيات، ويذكِّر الناس» (¬4)، ولأن الخطبتين أقيمتا مقام ركعتين، والخطبة فرض، فوجبت فيها القراءة كالصلاة، ولا تتعين آية، وإنما يقرأ ما شاء، ولو قرأ: {ثم نظر} [المدثر:21/ 74]، و {مدهامتان} [الرحمن:64/ 55] لم يكف. ¬
والوصية بتقوى الله تعالى؛ لأنه المقصود، ولا يتعين لفظها، وأقلها: اتقوا الله، وأطيعوا الله ونحوه، وهذه الشروط أو الأركان الأربعة متفقة مع الشافعية. وإن أراد الخطيب الدعاء لإنسان دعا، فالدعاء للمسلمين والمسلمات سنة، ولا بأس بالدعاء لمعين حتى السلطان والدعاء له مستحب في الجملة؛ لأن سلطان المسلمين إذا صلح كان فيه صلاح لهم، وكان أبو موسى يدعو لعمر وأبي بكر، كما قدمنا. ولو اقتصر على (اطيعوا الله، واجتنبوا معاصيه) فالأظهر لا يكفي، والتسبيح والتهليل لا يسمى خطبة ولا بد من اسم الخطبة عرفاً. وتبطل الخطبة بكلام محرم في أثنائها ولو يسيراً، كما يبطل الأذان من باب أولى. ويشترط في الخطبة اثنا عشر شرطاً هي ما يأتي: الشروط السابقة، والقيام لمن قدر، فإن قعد لعجز عن القيام أو لعذر من مرض، فلا بأس، كما تصح الصلاة من القاعد العاجز عن القيام، والراجح أن القيام سنة لا واجب. والموالاة بين الخطبتين وبين أجزائها، وبين الصلاة، فلا يصح الفصل الطويل بين ما ذكر، فإن فصل بكلام طويل أو سكوت طويل نحوه، استؤنفت الخطبة. والمرجع في طول الفصل وقصره إلى العادة. وإن احتاج إلى الطهارة تطهر وبنى على خطبته ما لم يطل الفصل. وتشترط النية، لحديث «إنما الأعمال بالنيات» فلو خطب بغير النية، لم يعتد بها عندهم وعند الحنفية، ولم يشترط المالكية النية، كما لم يشترطها الشافعية، وإنما اشترطوا عدم الصارف، فلو حمد الله للعطاس لم يكف للخطبة. ورفع الصوت بحيث يسمع العدد المعتبر وهو أربعون، إن لم يعرض مانع من السماع، كنوم أوغفلة أو صمم بعضهم، فإن لم يسمعوا الخطبة لخفض صوت
الخطيب أوبُعده عنهم، لم تصح الخطبة لعدم حصول المقصود بها. فإن كان عدم السماع لنوم أو غفلة أو مطر ونحوه كصمم وطرش أو كان أعاجم والخطيب سميع عربي، صحت الخطبة والصلاة. وأن تكون بالعربية، فلا تصح الخطبة بغير العربية مع القدرة عليها، كقراءة القرآن، فإنها لا تجزئ بغير العربية، وتصح الخطبة لا القراءة بغير العربية مع العجز عنها. وإسماع العدد المعتبر للجمعة: وهو أربعون فأكثر، لسماع القدر الواجب؛ لأنه ذكْر اشترط للصلاة، فاشترط له العدد كتكبيرة الإحرام. وأن تكون الخطبة في الوقت، وأن يكون الخطيب ممن تجب عليه الجمعة، فلا تجزئ خطبة عبد أو مسافر. ولا تشترط للخطبتين الطهارة عن الحدثين: الأصغر والأكبر، ولا ستر العورة وإزالة النجاسة، وإنما السنة أن يخطب متطهراً مزيلاً النجاسة ساتر العورة، وقال ابن قدامة: والأشبه بأصول المذهب اشتراط الطهارة من الجنابة. ولا يشترط أن يتولى الخطبتين من يتولى الصلاة؛ لأن الخطبة منفصلة عن الصلاة، وإنما السنة أن يتولى الصلاة من يتولى الخطبة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يتولاهما بنفسه، وكذلك خلفاؤه من بعده. وإن خطب رجل، وصلى آخر لعذر، جاز. كما لا يشترط أن يتولى الخطبتين رجل واحد، لأن كلاً منهما منفصلة عن الأخرى، بل يستحب ذلك، خروجاً من الخلاف في كل ما ذكر. ويستحب أن يجلس بين الخطبتين جلسة خفيفة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يفعل
المطلب السادس ـ سنن الخطبة ومكروهاتها
ذلك (¬1). فإن خطب جالساً لعذر فصل بين الخطبتين بسكتة. ويسن أن يستقبل الخطيب الناس بوجهه؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، ولأنه أبلغ في سماع الناس، وأعدل بينهم. ولو خالف هذا واستدبر الناس واستقبل القبلة، صحت الخطبة لحصول المقصود بدونه. المطلب السادس ـ سنن الخطبة ومكروهاتها: أما سنن الخطبة فهي عند الحنفية ثماني عشرة سنة، وهي ما يأتي، مع بيان آراء الفقهاء الآخرين (¬2). 1 - الطهارة وستر العورة سنة عند الجمهور، شرط لصحة الخطبة عند الشافعية كما بينا، والطهارة من الجنابة شرط عند الحنابلة. 2 - كونها على منبر، بالاتفاق، اتباعاً للسنة كما روى الشيخان، ويسن أن يكون المنبر على يمين المحراب (أي مصلى الإمام) إذ هكذا وضع منبره صلّى الله عليه وسلم، وينبغي أن يكون بين المنبر والقبلة قدر ذراع أو ذراعين. فإن لم يتيسر المنبر فعلى موضع مرتفع، لأنه أبلغ في الإعلام، فإن تعذر استند إلى نحو خشبة كما كان يفعل صلّى الله عليه وسلم قبل إيجاد المنبر، وكان النبي قد خطب إلى جذع، فلما اتخذ المنبر تحول إليه، فحن الجذع، فأتاه النبي صلّى الله عليه وسلم فالتزمه أو مسحه. ¬
وكان منبره صلّى الله عليه وسلم ثلاث درجات غير درجة المستراح. ويستحب أن يقف على الدرجة التي تليها، كما كان يفعل النبي عليه السلام. 3 - الجلوس على المنبر قبل الشروع في الخطبة، عملاً بالسنة لحديث ابن عمر السابق عند أبي داود، وهو متفق عليه. 4 - استقبال القوم بوجهه دون التفات يميناً وشمالاً، سنة بالاتفاق، لما روى ابن ماجه عن عدي بن ثابت عن أبيه عن جده قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا قام على المنبر استقبله الناس بوجوههم. 5 - أن يسلم على الناس إذا صعد المنبر، اتباعاً للسنة، عند الشافعية والحنابلة، وحال خروجه للخطبة عند المالكية، لما روى ابن ماجه عن جابر قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر سلم» (¬1)؛ لأنه استقبال للناس بعد استدبار في صعوده، أشبه من فارق قوماً، ثم عاد إليهم. ويجب رد السلام. ولا يسلم على القوم عند الحنفية؛ لأنه يلجئهم إلى ما نهوا عنه من الكلام، والحديث الثاني غير مقبول. 6 - أن يؤذن مؤذن واحد، لا جماعة، بين يدي الخطيب، إذا جلس على المنبر، وهذا هو الأذان الذي كان على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وهذا متفق عليه، روى البخاري عن السائب بن يزيد أنه قال: «النداء يومَ الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر، على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فلما كان عثمان وكثُر الناس زاد ¬
النداء الثالث على الزَّوراء (¬1)، ولم يكن للنبي صلّى الله عليه وسلم مؤذن غير واحد» (¬2). 7 - البداءة بحمد الله والثناء عليه، والشهادتين، والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم، والعظة والتذكير، وقراءة آية من القرآن، وخطبتان، والجلوس بين الخطبتين. وإعادة الحمد والثناء، والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم في ابتداء الخطبة الثانية، والدعاء فيها للمؤمنين والمؤمنات بالمغفرة لهم وإجراء النعم ودفع النقم، والنصر على الأعداء، والمعافاة من الأمراض والأدواء، والاستغفار. وهذا كله سنة عند الحنفية، مندوب عند المالكية، ومنها أركان خمسة عند الشافعية، وهي شروط أربعة ما عدا الدعاء عند الحنابلة، بيناها. وروي أنه صلّى الله عليه وسلم كان يقرأ في الخطبة: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً .. } [الأحزاب:33/ 70] إلى قوله تعالى {فوزاً عظيماً} (¬3) [الأحزاب:33/ 71] ويندب عند المالكية ختم الخطبة الأولى بشيء من القرآن، وختم الثانية بقول: يغفر الله لنا ولكم. كما يندب الترضي على الصحابة، والدعاء لولي الأمر بالنصر على الأعداء وإعزاز الإسلام به. وقال الشافعية: يسن أن يختم الخطبة الثانية بقوله: أستغفر الله لي ولكم. 8 - إسماع القوم الخطبة، ورفع الصوت بها: سنة عند الجمهور، مندوب عند المالكية؛ لأنه أبلغ في الإعلام، روى مسلم عن جابر، قال: «كان رسول الله ¬
صلّى الله عليه وسلم إذا خطب احمرَّت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول: صبَّحكم ومسَّاكم، ويقول: أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله ... ». 9 - اعتماد الخطيب بيساره أثناء قيامه على نحو عصا أو سيف أو قوس: سنة عند الجمهور، مندوب عند المالكية، لما روى الحكم بن حزن قال: «وفدت على النبي صلّى الله عليه وسلم، فشهدنا معه الجمعة، فقام متوكئاً على سيف أو قوس أو عصا، مختصراً» (¬1)، ولأنه أمكن له، فالاستناد إلى شيء يعطي قوة للخطيب. كما أنه يجعل يمناه على المنبر. 10 - تقصير الخطبتين، وكون الثانية أقصر من الأولى: سنة عند الجمهور، مندوب عند المالكية، لما روى مسلم عن عمار مرفوعاً: «إن طول صلاة الرجل، وقصر خطبته مئنة فقهه، فأطيلوا الصلاة، وقصِّروا الخطبة» (¬2). ويسن أيضاً كون الخطبة بليغة مفهومة بلا تمطيط كالأذان، وأن يتعظ الخطيب بما يعظ به الناس، ليحصل الانتفاع بوعظه، ولقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون، كبُر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} [الصف:2/ 61 - 3] (¬3). 11 - الإنصات أثناء الخطبة: سنة عند الشافعية (¬4) للحاضرين، ويكره لهم الكلام فيها، وفي الجديد: لا يحرم عليهم الكلام، لقوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} [الأعراف:204/ 7] ذكر كثير من المفسرين أنه ورد في الخطبة. ¬
وكراهة الكلام، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا قلت لصاحبك: أنصت يوم الجمعة، والإمام يخطب، فقد لغوت» (¬1) وقوله عليه السلام: «ومن قال: صَهْ، فقد لغا، ومن لغا فلا جمعة له» (¬2) قال العلماء: معناه لا جمعة له كاملة للإجماع على سقوط فرض الوقت عنه. وروى أحمد عن ابن عباس حديثاً: «من تكلم يوم الجمعة، والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفاراً، والذي يقول له: أنصت، ليست له جمعة». وعدم حرمه الكلام في الخطبة: للأخبار الدالة على جوازه، كخبر الصحيحين عن أنس: «بينما النبي صلّى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فقام أعرابي، فقال: يا رسول الله، هلك المال، وجاع العيال، فادع الله لنا، فرفع يديه ودعا» فلم ينكر عليه الكلام، ولم يبين له وجوب السكوت، والحاضرون كلهم في ذلك سواء. واستثنى الشافعية ومثلهم الحنابلة من الإنصات أموراً: منها إنذار أعمى من الوقوع في بئر، أو من دب إليه عقرب مثلاً، ويستحب أن يقتصر على الإشارة إن أغنت، ومنها: تحية المسجد للداخل بركعتين خفيفتين يقتصر فيهما على الواجبات، ومنها تشميت العاطس إذا حمد الله تعالى، وحمد العاطس إذا عطس خفية، ومنها رد السلام، وإن كان البدء به للداخل مكروهاً، لأن رد السلام واجب، ومنها: الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم عند سماع ذكره. وأباح الحنابلة أيضاً: الكلام إذا شرع الخطيب في الدعاء؛ لأنه يكون قد فرغ من أركان الخطبة، والدعاء لا يجب الإنصات له، وأباحوا لمن بعد عن الخطيب ولم يسمعه الاشتغال بالقراءة والذكر والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم خفية، وفعله أفضل من ¬
سكوته لتحصيل الأجر، ويسجد للتلاوة لعموم الأدلة، وليس له الجهر بصوته، ولا إقراء القرآن، ولا المذاكرة في الفقه، لئلا يشتغل غيره عن الاستماع، ولا أن يصلي؛ لأنه يحرم ابتداء غير تحية مسجد بعد خروج الإمام، ولا أن يجلس في حلقة؛ لأنه يكره التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «نهى عن التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة» (¬1). ويجب الإنصات من حين يأخذ الإمام في الخطبة عند المالكية والحنابلة، وبمجرد صعود الإمام المنبر عند أبي حنيفة (¬2)، ويحرم الكلام عند المالكية والحنابلة من غير الخطيب، ولا يسلم ولا يرد السلام ولا يشمِّت العاطس عند المالكية، ويكره تحريماً عند الحنفية الكلام من قريب أو بعيد، ورد السلام، وتشميت العاطس، وكل ما حرم في الصلاة حرم في الخطبة، فيحرم أكل وشرب وكلام ولو تسبيحاً أو أمراً بمعروف، بل يجب عليه أن يستمع ويسكت. وإشارة الأخرس المفهومة ككلام لقيامها مقامه في البيع وغيره. ويباح الكلام قبل البدء في الخطبة وبعد الفراغ منها اتفاقاً، وفي أثناء الجلوس بين الخطبتين عند الحنابلة والشافعية وأبي يوسف، ويحرم في أثناء الجلوس المذكور عند المالكية ومحمد بن الحسن. ويندب عند المالكية حمد الله تعالى سراً لعاطس حال الخطبة، ويجوز عندهم مع خلاف الأولى ذكر الله تعالى كتسبيح وتهليل سراً إذا قل، حال الخطبة، ومنع الكثير جهراً؛ لأنه يؤدي إلى ترك واجب، وهو الاستماع. ¬
الترقية بين يدي الخطيب
ولا يحرم الكلام على الخطيب، ولا على من سأله الخطيب، كأن يأمر إنساناً لغا أو خالف السنة أو ينهاه، فيقول: أنصت، أو لا تتكلم، أو لا تتخط أعناق الناس ونحو ذلك، وجاز للمأمور إجابته إظهاراً لعذره؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «سأل سليكاً الداخل، وهو يخطب: أصليت؟ قال: لا» (¬1) وعن ابن عمر: «أن عمر بينا هو يخطب يوم الجمعة، إذ دخل رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فناداه عمر: أية ساعة هذه قال: إني شغلت اليوم، فلم أتقلب إلى أهلي، حتى سمعت النداء، فلم أزد على أن توضأت، قال عمر: الوضوء أيضاً؟! وقد علمت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يأمر بالغسل» (¬2)،ولأن تحريم الكلام علته الاشتغال عن الإنصات الواجب وسماع الخطبة، ولا يحصل ههنا. وكذلك من كلم الإمام لحاجة، أو سأله عن مسألة، بدليل الخبر المذكور. الترقية بين يدي الخطيب: وهي قراءة: {إن الله وملائكته يصلون على النبي} [الأحزاب:56/ 33] وإيراد الحديث المتفق عليه: «إذا قلت لصاحبك أنصت فقد لغوت». وحكمها أنها بدعة لحدوثها بعد الصدر الأول، قيل: لكنها حسنة لما فيها من التذكير بمضمون الحديث والآية، غير أنها مكروهة تحريماً عند أبي حنيفة لحرمة أي كلام بعد صعود الإمام المنبر، وجائزة عند الصاحبين، وبدعة مكروهة عند المالكية إلا إذا شرطها الواقف في كتاب وقفه، وقال الشافعية: هي بدعة حسنة فيها تذكير بخير، وأجاز الحنابلة الكلام قبل الخطبة وفي الجلوس بين الخطبتين. 21 - تحية المسجد للداخل والإمام يخطب: سنة عند الشافعية والحنابلة (¬3) لما ¬
روى جابر قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وهو يخطب الناس، فقال: «وصليت يا فلان؟» قال: لا، قال: «قم فاركع» وفي رواية: «فصل ركعتين» (¬1) وقال صلّى الله عليه وسلم في رواية: «إذا جاء أحدكم والإمام يخطب، فليصل ركعتين» (¬2) وماعدا التحية تحرم الصلاة بمجرد صعود الخطيب المنبر، حتى وإن لم يباشر بالخطبة. وقال أبو حنيفة ومالك (¬3): إذا خرج الإمام إلى المنبر فلا صلاة ولا كلام، فلا تصلى تحية المسجد وتكره، وإنما يجلس الداخل ولا يركع؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال للذي جاء يتخطى رقاب الناس: «اجلس، قد آذيت» (¬4) وأجاز المالكية التحية لداخل يقتدى به من عالم أو سلطان أو إمام، لا لغيرهم. 13 - نزول الإمام عن المنبر: قال الشافعية: يبادر الخطيب بالنزول عن المنبر ليبلغ المحراب، مع فراغ المؤذن من الإقامة، مبالغة في تحقيق الموالاة ما أمكن بين الخطبة والصلاة. وقال الحنابلة: إذا فرغ الإمام من الخطبة، نزل عند قول المؤذن: قد قامت الصلاة، كما يقوم إلى الصلاة عندهم غير الخطيب حينئذ. ويستحب أن يكون حال صعود الخطيب على تؤدة، وإذا نزل يكون مسرعاً من غير عجلة، مبالغة في الموالاة بين الخطبتين والصلاة. ¬
مكروهات الخطبة
والجمهور غير الشافعية الذين لم يشترطوا الطهارة في الخطبتين، جعلوها سنة. مكروهات الخطبة: مكروهات الخطبة عند الحنفية والمالكية: هي ترك سنة من السنن المتقدمة، ومن أهمها تطويل الخطبة وترك الطهارة، فكلاهما مكروه، ومنها عند الحنفية: أن يسلم الخطيب على القوم إذا استوى على المنبر. ويكره باتفاق العلماء تخطي الرقاب (¬1) أثناء الخطبة لغير الإمام ولغير فرجة؛ لأنه يؤذي الجالسين، ولنهي النبي صلّى الله عليه وسلم عنه في حديث عبد الله بن بُسْر المتقدم: «اجلس فقد آذيت» (¬2) والكراهة تحريمية عند الحنفية والشافعية على المختار، ويجوز إن كان هناك فُرْجة لتقصير القوم بإخلاء فرجة، مع كونه خلاف الأولى عند المالكية، وكراهة التخطي عند الشافعية والحنابلة مطلقة، سواء أكان قبل الخطبة أم أثناءها، لأن العلة هي إيذاء الجالسين، ويكره التخطي عند المالكية قبل جلوس الخطيب على المنبر لغير فرجة، لأنه يؤذي الجالسين، ولكنهم أجازوا التخطي بعد الخطبة للصلاة، وقبل الصلاة لفرجةأو غيرها، كما أجازوا مع غيرهم المشي بين الصفوف مطلقاً ولو حال الخطبة؛ لأنه ليس من التخطي. وأجاز الحنابلة التخطي لفرجة لمن عادته الصلاة في موضع، كذلك أجاز الشافعية التخطي لفرجة، وأضافوا أنه يجوز التخطي إذا كان المتخطي ممن لا يتأذى به كرجل صالح أو عظيم، أو كانت الصفوف الأولى ممن لا تنعقد بهم الجمعة كالصبيان، فيجب التخطي في هذه الحالة. ¬
وقال الحنفية: لا بأس بالتخطي بشرطين: الأول ـ ألا يؤذي أحداً به بأن يطأ ثوبه أو يمس جسده، والثاني ـ أن يكون ذلك قبل شروع الإمام في الخطبة، وإلا كره تحريماً، إلا إذا كان التخطي لضرورة كأن لم يجد مكاناً إلا بالتخطي. فلا بأس بالتخطي عندهم ما لم يأخذ الإمام في الخطبة، ولم يؤذ أحداً. وليس ترك السنن المتقدمة عند الشافعية والحنابلة مكروهاً على إطلاقه، بل منه ما هو مكروه، ومنه ما هو خلاف الأولى. فمن المكروه في الخطبة عند الشافعية: أن يتكلم سامعها أثناءها، وأن يؤذّن جماعة بين يدي الخطيب وهو مكروه أيضاً عند الحنابلة، وأن يلتفت الإمام في الخطبة الثانية، وأن يشير بيده أو غيرها، وأن يدق درج المنبر. ويكره الاحتباء (¬1) للحاضرين في الخطبة، لما صح من النهي عنه (¬2)، ولأنه يجلب النوم. ومن خلاف الأولى عند الشافعية: أن يغمض السامع والإمام عينيه لغير حاجة حال الخطبة. ومن نعس سن انتقاله من مكانه إن لم يتخط أحداً في انتقاله، لحديث الترمذي وصححه وأبي داود: «إذا نعس أحدكم في مجلسه، فليتحول إلى غيره» فالسنة مطاردة النعاس ومغالبته. ومن المكروه عند الحنابلة (¬3): استدبار الخطيب القوم حال الخطبة، ورفع يديه حال الدعاء في الخطبة، وفاقاً للمالكية والشافعية وغيرهم. وأجاز الحنابلة الاحتباء مع ستر العورة، لأنه فعله جماعة من الصحابة، ¬
التصدق وقت الخطبة
وضعّفوا حديث النهي عنه، كما أجازوا القرفصاء: وهي الجلوس على أليتيه رافعاً ركبتيه إلى صدره، مفضياً بأخمص قدميه إلى الأرض. وكان الإمام أحمد يقصد هذه الجلسة، ولا جلسة أخشع منها. ويكره عند الحنابلة والشافعية التشبيك في المساجد، ومن حين يخرج المصلي من بيته قاصداً المسجد، لخبر أبي سعيد أنه صلّى الله عليه وسلم: «إذا كان أحدكم في المسجد، فلا يشبكنَّ، فإن التشبيك من الشيطان، وإن أحدكم لا يزال في صلاة ماكان في المسجد حتى يخرج منه» (¬1) قال بعض العلماء: إذا كان ينتظر الصلاة، جمعاً بين الأخبار، فإنه ورد أنه «لما انفتل صلّى الله عليه وسلم من الصلاة التي سلم قبل إتمامها، شبك بين أصابعه». وأما كراهةالتشبيك أثناء الذهاب للمسجد: فلحديث كعب بن عُجرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه، ثم خرج عامداً إلى المسجد، فلا يشبِّك بين أصابعه، فإنه في صلاة» (¬2). ويكره العبث حال الخطبة، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «من مس الحصى فقد لغا» (¬3)، ويكره الشرب مالم يشتد عطشه. التصدق وقت الخطبة: قال الحنفية (¬4): يكره تحريماً التخطي للسؤال بكل حال. واختاربعض الحنفية: جواز السؤال والإعطاء إن كان لا يمر السائل بين يدي المصلي، ولا يتخطى الرقاب، ولا يسأل إلحافاً. ¬
المطلب السابع ـ سنن الجمعة ومكروهاتها
وكذلك قال الحنابلة (¬1) وغيرهم: ولا يتصدق على سائل وقت الخطبة؛ لأن السائل فعل ما لا يجوز له فعله، فلا يعينه المرء على مالا يجوز، قال أحمد: وإن حصب السائل كان أعجب إلي؛ لأن ابن عمر فعل ذلك لسائل سأل، والإمام يخطب يوم الجمعة، ولا ينال السائل الصدقة حال الخطبة؛ لأنه إعانة على محرم. فإن سأل أحد الصدقة قبل الخطبة، ثم جلس للخطبة، جاز التصدق عليه ومناولته الصدقة. وأجاز الحنابلة الصدقة حال الخطبة على من لم يسأل، وعلى من سألها الإمام له. والصدقة على باب المسجد عند الدخول والخروج أولى من الصدقة حال الخطبة. المطلب السابع ـ سنن الجمعة ومكروهاتها: يسن لصلاة الجمعة ما يأتي (¬2): 1ً - الاغتسال والتطيب ولبس أحسن الثياب لمن يأتي الجمعة: سنة عند الجمهور، مستحب عند المالكية، لحديث أبي هريرة السابق في التبكير إلى الجمعة: «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح، فكأنما قرب بَدَنة .. » ولخبر البيهقي بسند صحيح: «من أتى الجمعة من الرجال والنساء، فليغتسل، ومن لم يأتها فليس ¬
عليه غسل». وقد سبق ذكر حديثين في الأغسال المسنونة وهما: «غسل الجمعة واجب على كل محتلم» والوجوب محمول على السنية، للحديث الثاني: «من توضأ يوم الجمعة، فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل». وروى البخاري ومسلم: «إذا جاء أحدكم إلى الجمعة فليغتسل». ووقت الغسل من فجر الجمعة إلى الزوال، وتقريبه من ذهابه للصلاة أفضل؛ لأنه أبلغ في المقصود من انتفاء الرائحة الكريهة، ويشترط عند المالكية: اتصاله بالرواح إلى المسجد، ولا يضر الفصل اليسير، فإن فصل كثيراً أو تغذى خارج المسجد، أو نام خارجه اختياراً أو اضطراراً، أعاده لبطلانه فلا يجزئ الغسل عندهم قبل الفجر، ولا غير متصل بالرواح. ويفتقر الغسل إلى النية؛ لأنه عبادة محضة، فاحتاج إلى النية كتجديد الوضوء، فإن اغتسل للجمعة والجنابة غسلاً واحداً، ونواهما، أجزأه بلا خلاف. والغسل سنة مؤكدة. وأما التطيب ولبس أحسن الثياب أو التجمل فلحديث: «من اغتسل يوم الجمعة، ومسَّ من طيب إن كان عنده، ولبس من أحسن الثياب ثم خرج وعليه السكينة، حتى يأتي المسجد، فيركع إن بَدَا له ولم يؤذ أحداً، ثم أنصت إذا خرج إمامه، حتى يصلي، كانت له كفارة لما بينها وبين الجمعة الأخرى» (¬1) والمندوب لبس الأبيض يوم الجمعة، فالثياب البيض أفضل الثياب لحديث «البسوا الثياب البيض، فإنها أطهر وأطيب، وكفنوا فيها موتاكم» (¬2). 2ً - التبكير للجمعة ماشياً بسكينة ووقار والاقتراب من الإمام. والاشتغال في طريقه بقراءة أو ذكر؛ لما ثبت في السنة، كحديث أبي هريرة السابق، وخبر: ¬
«من غَسَل يوم الجمعة واغتسل، وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام، فاستمع، ولم يلغ، كان له بكل خطوة عمل سنة، أجر صيامها وقيامها» (¬1). وقال المالكية: الذهاب للجمعة وقت الهاجرة، وتبتدئ بقدر ساعة قبل الزوال. وفي حديث آخر مفاده أن الاقتراب من الإمام مطلوب: «احضروا الذِّكْر، وادنوا من الإمام، فإن الرجل لا يزال يتباعد، حتى يؤخر في الجنة، وإن دخلها (¬2)» والمشي بالسكينة، لحديث الصحيحين: «إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة يجوز الركوب لعذر في الذهاب والإياب.» والاشتغال بالقراءة أو الذِّكر: لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مجلسه، تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه ما لم يحدث، وإن أحدكم في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه» (¬3) فدل أن شأن المصلي الاشتغال بالقراءة والذكر. والتبكير للجمعة سنة لغير الإمام، أما هو فلا يسن له التبكير ...... 3ً - تنظيف الجسد وتحسين الهيئة قبل الصلاة: بتقليم الأظفاروقص الشارب ونتف الإبط وحلق العانة ونحو ذلك كإزالة الرائحة الكريهة بالسواك للفم وغيره من مواطن الرائحة في الجسم. ويسن للإمام أن يزيد في حسن الهيئة والعِمَّة والارتداء، اتباعاً للسنة، ولأنه منظور إليه. ¬
وكما يسن أخذ الظفر إن طال يوم الجمعة، يسن أيضاً يوم الخميس، ويوم الاثنين، دون بقية الأيام. ودليل كون التحسين يوم الجمعة ما روى البغوي بسنده عن عبد الله بن عمرو ابن العاص أن النبي صلّى الله عليه وسلم «كان يأخذ أظفاره وشاربه كل جمعة». وقال الحنفية (¬1): الأفضل حلق الشعر وقلم الظفر بعدها أي بعد الجمعة، ويكره ذلك في يوم الجمعة قبل الصلاة، لما فيه من معنى الحج، والحلق ونحوه قبل الحج غير مشروع. 4ً - قراءة سورة الكهف يوم الجمعة وليلتها: لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين» (¬2) وفي رواية: «من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أو ليلتها، وقي فتنة الدجال» وقراءتها نهاراًآكد، والحكمة من قراءتها: أن الساعة تقوم يوم الجمعة، كما ثبت في صحيح مسلم، والجمعة مشبهة بها لما فيها من اجتماع الخلق، وفي الكهف ذكر أهوال القيامة. 5ً - الإكثار من الدعاء يومها وليلتها: أما يومها فلرجاء أن يصادف ساعة الإجابة؛ «لأنه صلّى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة، فقال: فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم، وهو قائم يصلي، يسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطاه إياه، وأشار بيده يقللها» (¬3) وفي رواية لمسلم: «وهي ساعة خفيفة» والصواب في ساعة الإجابة ـ كما بينا ـ ما ثبت في صحيح مسلم: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: هي ما بين أن يجلس الإمام، إلى أن يقضي الصلاة». ¬
6ً -الإكثار من الصلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم يومها وليلتها: لخبر: «إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي» (¬1) وخبر: «أكثروا علي من الصلاة ليلة الجمعة ويوم الجمعة، فمن صلى علي صلاة، صلى الله عليه بها عشراً» (¬2). وصيغة الصلاة أن يقول: (اللهم صل على محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي) أو (اللهم صل على محمد، كلما ذكرك الذاكرون، وصل على محمد وعلى آل محمد، كلما غفل عن ذكره الغافلون). 7ً - يقرأ الإمام جهراً بعد الفاتحة في الركعة الأولى «الجمعة» وفي الثانية «المنافقون» اتباعاً للسنة ـ رواه مسلم. وروي أيضاً أنه صلّى الله عليه وسلم كان يقرأ في الجمعة: سبح اسم ربك الأعلى، و: «هل أتاك حديث الغاشية». 8ً - قراءة: الم. السجدة، و: هل أتى على الإنسان: سنة في صلاة الصبح يوم الجمعة: لما روى ابن عباس وأبو هريرة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة: الم. تنزيل و: هل أتى على الإنسان حين من الدهر» (¬3) ولا تستحب المداومة عليها؛ لأن لفظ الخبر يدل عليها، وخشية ظن افتراضها. 9ً - صلاة أربع ركعات قبل الجمعة، وأربع بعدها، كالظهر مستحب عند الجمهور: لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «كان يركع من قبل الجمعة أربعاً» (¬4) وكان الصحابة يصلون قبل الجمعة أربع ركعات، وكان ابن مسعود يصلي قبل الجمعة أربع ركعات، وبعدها أربع ركعات (¬5). ¬
وروى الجماعة إلا البخاري عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا صلى أحدكم ركعتين» (¬1). وأكثر السنة بعدها ست ركعات لقول ابن عمر: «كان صلّى الله عليه وسلم يفعله» (¬2)، أو أربع ركعات لما رواه مسلم عن أبي هريرة. والتنفل قبل الجمعة ما لم يخرج الإمام إلى المنبر إلا تحية المسجد، لما رواه أحمد عن نبيشة الهذلي عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن المسلم إذا اغتسل يوم الجمعة، ثم أقبل إلى المسجد، لا يؤذي أحداً، فإن لم يجد الإمام خرج، صلى ما بدا له، وإن وجد الإمام قد خرج، جلس، فاستمع وأنصت، حتى يقضي الإمام جمعته، إن لم يُغفر له في جمعته تلك ذنوبُه كلها: أن تكون كفارة للجمعة التي تليها». وقال المالكية (¬3): يكره التنفل عند الأذان الأول، لا قبله، لجالس في المسجد، لا داخل يقتدي به من عالم أو سلطان أو إمام، لا لغيرهم، خوف اعتقاد العامة وجوبه. ويكره التنفل بعد صلاة الجمعة أيضاً إلى أن ينصرف الناس. ويسن لمن صلى السنة: أن يصليها عند الحنابلة في مكانه في المسجد، وأن يفصل عند الشافعية والحنابلة بينها وبين الجمعة بكلام أو انتقال من مكانه، أوخروج إلى منزله، لما روى السائب بن يزيد، قال: «صليت مع معاوية الجمعة في المقصورة، فلما سلَّم الإمام قمت في مقامي، فصليت، فلما دخل أرسل إلي، فقال: لا تعُد لما فعلت، إذا صليت الجمعة، فلا تصليها بصلاة حتى تتكلم أو تخرج، فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمرنا بذلك ألا نوصل صلاة حتى نتكلم أو نخرج» قال الشافعية (¬4): يسن ألا يصل صلاة الجمعة بصلاة، للاتباع، ورواه مسلم، ويكفي الفصل بينهما بكلام أو تحول أو نحوه. ¬
مكروهات الجمعة
10ً - قراءة الفاتحة والإخلاص والمعوذتين بعد الجمعة: روى ابن السني من حديث أنس مرفوعاً: «من قرأ إذا سلم الإمام يوم الجمعة قبل أن يثني رجليه فاتحة الكتاب، وقل هو الله أحد، والمعوذتين سبعاً، غفر له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر، وأعطي من الأجر بعدد من آمن بالله ورسوله». 11ً - يستحب لمن نعس يوم الجمعة أن يتحول عن موضعه، لما روى ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «إذا نعس أحدكم يوم الجمعة في مجلسه، فليتحول إلى غيره» (¬1). مكروهات الجمعة: يكره يوم الجمعة ما يأتي بالإضافة لمكروهات الخطبة السابقة: 1ً - قال الحنفية (¬2): يكره تحريماً صلاة الظهر يوم الجمعة بجماعة، في مكان إقامة الجمعة وهو المصر، في سجن أو غير سجن، كما روي عن علي رضي الله عنه. 2ً - وقال الحنفية أيضاً: يكره تحريماً البيع والشراء يوم الجمعة إذا صعد الإمام المنبر، وأذن المؤذنون بين يديه، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة، فاسعوا إلى ذكر الله، وذروا البيع} [الجمعة:62/ 9]، والأمر بترك البيع يكون نهياً عن مباشرته، وأدنى درجات النهي الكراهة. 3ً - يكره التخطي باتفاق العلماء، على التفصيل المذكور في مكروهات الخطبة. ¬
السجود على الظهر ونحوه في الزحمة
4ً - يحرم أن يقيم إنساناً من مكانه، ويجلس فيه (¬1)، لما روى ابن عمر قال: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يقيم الرجل ـ يعني أخاه ـ من مقعده، ويجلس فيه» (¬2)، ولأن المسجد بيت الله، والناس فيه سواء، قال الله تعالى: {سواء العاكف فيه، والباد} [الحج:25/ 22]، فمن سبق إلى مكان فهو أحق به، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه، فهو أحق به» (¬3). وإن وجد مصلىً مفروشاً في موضع، فليس لغيره عند الحنابلة على الراجح رفعه؛ لأنه كالنائب عنه، ولما فيه من الافتيات على صاحبه، والتصرف في غير ملكه بغير إذنه، ولأنه ربما أفضى إلى الخصومة، ولأنه سبق إليه، فكان كمتحجر الموات، وذلك ما لم تحضر الصلاة، فله حينئذ رفعه والصلاة مكانه؛ لأنه لا حرمة له بنفسه، وإنما الحرمة لصاحبه، ولم يحضر. ويكره الجلوس والصلاة عليه. 5ً - قال المالكية (¬4): يكره ترك العمل يوم الجمعة لأجله، لما فيه من التشبه باليهود والنصارى في السبت والأحد. ويحرم السلام من داخل أو جالس على أحد، ويحرم رد السلام ولو بالإشارة، وتشميت عاطس والرد عليه، ونهي لاغ أو إشارة له بأن ينكف عن اللغو. السجود على الظهر ونحوه في الزحمة: قال الحنفية والشافعية والحنابلة (¬5): متى قدر المزحوم على السجود على ظهر ¬
المطلب الثامن ـ مفسدات الجمعة
إنسان أو قدميه، لزمه ذلك وأجزأه، لما روي عن عمر: «إذا اشتد الزحام، فليسجد على ظهر أخيه» (¬1)، ولأنه أتى بما يمكنه حال العجز، فصح، كالمريض يسجد على المِرْفقة. ولا يحتاج هنا إلى إذنه؛ لأن الأمر فيه يسير. وقال المالكية: لا يفعل، وتبطل الصلاة، إن فعل، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم «ومكِّن جبهتك من الأرض». المطلب الثامن ـ مفسدات الجمعة: تفسد الجمعة بما تفسد به سائر الصلوات الأخرى، ويضاف إليها مفسدات أخرى خاصة بها هي ما يلي (¬2): 1 - خروج وقت الظهر في خلال الصلاة عند الجمهور، وقال المالكية لاتفسد؛ لأن الجمعة كغيرها فرض مؤقت بوقت، وهو وقت الظهر، وخروج الوقت لا يفسد. وكذا تفسد عند أبي حنيفة بخروج الوقت بعدما قعد قدر التشهد، ولا تفسد عند الصاحبين. 2 - فوت الجماعة الجمعة قبل أن يقيد الإمام الركعة بالسجدة، بأن نفر الناس عنه عند أبي حنيفة. وعند الصاحبين: لا تفسد. أما فوت الجماعة أي انفضاضها بعد تقييد الركعة بالسجدة، فلا تفسد باتفاق أبي حنيفة وصاحبيه. ¬
المطلب التاسع ـ صلاة الظهر يوم الجمعة
فإن فسدت الجمعة بسبب خروج الوقت أو بفوت الجماعة، تصلى ظهراً. وإن فسدت بما تفسد به عامة الصلوات من الحدث العمد والكلام وغير ذلك، تصلى جمعة عند وجود شرائطها. المطلب التاسع ـ صلاة الظهر يوم الجمعة: بالرغم من أن صلاة الجمعة هي الفريضة الأصلية، فإنه قد تصلى الظهر بدلاً عنها في حالات: صلاتها بعد الجمعة، وصلاتها في المنزل قبل الجمعة بغير عذر، وصلاتها بجماعة من أصحاب الأعذار، وتعجيلها ممن لا تجب عليه الجمعة، وصلاة الظهر بسبب خروج الوقت، أو بسبب اختلال شرط من شرائط صحة الجمعة. أولاً ـ صلاة الظهر بعد الجمعة: إن كانت الجمعة في البلد موحدة، فهي صحيحة باتفاق الفقهاء، ولا تطلب الظهر من أحد، بل تحرم. أما إن تعددت الجمع في أجزاء متعددة من كل بلد، كما هو المشاهد في عصرنا، فجمعة الجامع العتيق الذي صليت فيها أول جمعة هي الصحيحة عند المالكية، وعلى المصلين في الجوامع الأخرى أداء الظهر. وجمعة الحاكم التي اشترك فيها هي الصحيحة عند الحنابلة، وعلى الجوامع الأخرى صلاة الظهر. والجمعة السابقة براء تكبيرة الإحرام: هي المنعقدة عند الشافعية، وعلى أرباب الجمعات الأخرى صلاة الظهر، والظهر واجبة على من تأخر، أو في حال
ثانيا ـ صلاة الظهر في المنزل يوم الجمعة بغير عذر
العلم بسبق جمعة ولم تتعين، أو تعينت ونسيت، إن كان التعدد لغير حاجة، كما هو الغالب في المدن الإسلامية. وتستحب الظهر احتياطاً إن تعددت الجمع لحاجة. وهذا الافتراض يصعب ضبطه الآن بغير إحصاء شامل. وتصح الجمعات كلها في البلد الواحد في المذهب الحنفي دفعاً للحرج، ويكره تحريماً صلاة الظهر بعد الجمعة بجماعة. وقد سبق بيان ذلك كله في شرط عدم تعدد الجمعة لغير حاجة. والحق أن الجمعة هي فرض الوقت الأصلي، وليس لمن اشترط عدم تعدد الجمع إلا الواقع العملي في صدر الإسلام، وهو لا يصلح دليلاً، وإن كان الأفضل وحدة الجمعة، ولمن شاء أن يصلي الظهر منفرداً فلا مانع، وينبغي العمل على منع الظهر بجماعة بعد الجمعة حفاظاً على وحدة المسلمين، ولا يصح قياس حالة البلدان الكبرى وكثرة سكانها على حالة (المدينة) في صدر الإسلام حيث كان المسلمون قلة، والخليفة خطيب المسلمين، ومنبره وسيلة إعلام لجميع المسلمين في شؤون الجهاد وعلاج أزمة القحط والوباء ونحو ذلك من الأحداث الكبرى. وبما أن الجمعة كانت واحدة في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين والصحابة والتابعين، فلم يكن هناك مجال لإعادة صلاة الظهر بعد الجمعة، ولا مجال أيضاً على سبيل الإيجاب إقامة صلاة الظهربجماعة بعد الجمعة بسبب كون تعدد الجمعة في المدن الكبرى والقرى المتسعة لحاجة واضحة، فيبقى الأمر القرآني بأداء صلاة الجمعة هو الواجب فعله فقط دون غيره. ثانياً ـ صلاة الظهر في المنزل يوم الجمعة بغير عذر: قال الحنفية (¬1): من صلى الظهر في منزله يوم الجمعة، قبل صلاة الإمام، ¬
ولاعذر له، حرم ذلك، وجازت صلاته جوازاً موقوفاً: فإن بدا له، ولو بمعذرة على المذهب أن يحضر الجمعة، فتوجه إليها، والإمام إليها، والإمام فيها، ولم تُقَم بعد، بطلت صلاة الظهر، وصارت نفلاً عند أبي حنيفة بالسعي، وإن لم يدركها؛ لأن السعي إلى الجمعة من خصائص الجمعة، فينزل منزلتها في حق ارتفاض الظهر احتياطاً، بخلاف ما بعد الفراغ منها؛ لأنه ليس يسعى إليها. وقال الصاحبان: لا تبطل حتى يدخل مع الإمام؛ لأن السعي دون الظهر، فلا ينقضه بعد تمامه، والجمعة فوق الظهر، فينقضها، وصار كما لو توجه إلى الجمعة بعد فراغ الإمام. واتفق أبو حنيفة وصاحباه على أن السعي إذا كان بعدما فرغ الإمام من الجمعة، لم يبطل ظهره اتفاقاً. وقال الجمهور (المالكية والشافعية في الجديد والحنابلة) (¬1): لا تصح للمرء صلاته الظهر قبل أن يصلي الإمام الجمعة، ويلزمه السعي إلى الجمعة إن ظن أنه يدركها؛ لأنها المفروضة عليه، فإن أدركها معه صلاها، وإن فاتته فعليه صلاة الظهر، وإن ظن أنه لا يدركها، انتظر حتى يتيقن أن الإمام قد صلى، ثم يصلي الظهر، والخلاصة: إنه إن صلى الظهر قبل الجمعة لا تصح وتجب عليه الجمعة، فإن كان بعد صلاة الجمعة أجزأه مع عصيانه. ودليلهم: أنه صلى ما لم يخاطب به، وترك ما خوطب به، فلم تصح، كما لو صلى العصر مكان الظهر، ولا نزاع في أنه مخاطب بالجمعة، فسقطت عنه الظهر، كما لو كان بعيداً، ولا خلاف في أنه يأثم بتركه، وترك السعي إليها. ¬
ثالثا ـ صلاة الظهر جماعة من أصحاب الأعذار
ثالثاً ـ صلاة الظهر جماعة من أصحاب الأعذار: قال الحنفية (¬1): يكره تحريماً أن يصلي المعذورون من مسافر ومسجون ومريض وغيرهم الظهر بجماعة يوم الجمعة في موطن إقامة الجمعة (في المصر) قبل الجمعة وبعدها؛ لما فيه من الإخلال بالجمعة، إذ هي جامعة للجماعات، وربما يتطرق غير المعذور إلى الاقتداء بهم، ولما فيه من صورة معارضة الجمعة بإقامة غيرها. أما أهل القرى ممن لا جمعة عليهم فلهم صلاة الظهر بجماعة، ويكره أيضاً لمن فاتتهم الجمعة من أهل المصر صلاة الظهر جماعة، وإنما يصلونها فرادى بغير جماعة ولا أذان ولا إقامة، ويستحب للمريض تأخير الظهر إلى فراغ الإمام، وكره إن لم يؤخر على الصحيح. وقال الجمهور غير الحنفية (¬2): يجوز لمن فاتتهم الجمعة لعذر أو لمن لا تجب عليه الجمعة أن يصلوها ظهراً في جماعة، تحصيلاً لثواب الجماعة المذكور في الحديث: «صلاة الجماعة تفضل صلاة الفرد بخمس وعشرين درجة» وروي عن ابن مسعود أنه فاتته الجمعة، فصلى بعلقمة والأسود. لكن قال المالكية: تكره صلاة الظهر جماعة يوم الجمعة لغير أرباب الأعذار الكثيرة الوقوع، والأولى الجماعة لأرباب الأعذار الكثيرة الوقوع. ورأى الحنابلة أنه: لا يستحب إعادتها جماعة في مسجد النبي صلّى الله عليه وسلم، ولا في مسجد تكره إعادة الجماعة فيه، وتكره أيضاً في المسجد الذي أقيمت فيه الجمعة؛ لأنه يؤدي إلى التهمة كالرغبة عن الجمعة، أو أنه لا يرى الصلاة خلف الإمام، أو ¬
رابعا ـ تعجيل صلاة الظهر ممن لا تجب عليه الجمعة
يعيد الصلاة معه فيه، وربما أفضى إلى فتنة أو لحوق ضرر به وبغيره، وإنما يصليها في منزله أو في موضع لاتحصل هذه المفسدة بصلاتها فيه. واتفق الجمهور مع الحنفية على أنه يستحب لمن يرجو زوال عذره أن يؤخر الظهر إلى اليأس عن إدراك الجمعة؛ لأنه قد يزول عذره، فإن زال عذره بعد الفراغ من الظهر كأن قدم من السفر، أو شفي من المرض، أو انفك من وثاقه، أعاد الجمعة إن أدركها. كذلك الصبي يعيد الجمعة إذا بلغ بعد أن صلى الظهر. رابعاً ـ تعجيل صلاة الظهر ممن لا تجب عليه الجمعة: قال أكثر أهل العلم (¬1): من لا تجب عليه الجمعة كالمسافر والعبد والمرأة والمريض المزمن وسائر المعذورين، له أن يصلي الظهر قبل صلاة الإمام في الجمعة؛ لأنه لم يخاطب بالجمعة، فصحت منه الظهر، كما لو كان بعيداً من موضع الجمعة. فإن صلاها، ثم سعى إلى الجمعة، لم تبطل ظهره عند الجمهور، وكانت الجمعة نفلاً في حقه، سواء زال عذره، أو لم يزل. وقال أبو حنيفة كما قال في الحالة الأولى: تبطل ظهره بالسعي إليها. خامساً ـ صلاة الظهر بسبب خروج وقت الظهر: إذا انتهى وقت الظهر أو ضاق عن الجمعة بأن لم يبق منه ما يسع الخطبة والركعتين، سقطت الجمعة، فلا تقضى جمعة باتفاق العلماء (¬2)، وإنما تصلى ظهراً، لأن القضاء على حسب الأداء، والأداء فات بشرائط مخصوصة، يتعذر تحصيلها على فرد، فتسقط، بخلاف سائر المكتوبات إذا فاتت عن أوقاتها. ¬
سادسا ـ صلاة الظهر بسبب اختلال شرط من شرائط الجمعة
سادساً ـ صلاة الظهر بسبب اختلال شرط من شرائط الجمعة: إذا لم يتوافر شرط من شرائط صحة الجمعة الأخرى غير دخول الوقت، كأن نقص عدد المصلين عن المطلوب، أو لم يدرك المسبوق ركعة مع الإمام عند الجمهور، أو أي جزء من الصلاة ولو سجود السهو عند الحنفية، أو لم يتوافر البنيان وغير ذلك، صلى الناس الظهر بدلاً عن الجمعة (¬1). ¬
المبحث الثالث ـ صلاة المسافر (القصر والجمع)
المبحث الثالث ـ صلاة المسافر (القصر والجمع) وفيه مطلبان: الأول ـ قصر الصلاة، مشروعيته، وسببه، وشروطه، حالة اقتداء المسافر بالمقيم وبالعكس، ما يمنع القصر، قضاء الصلاة الفائتة في السفر، وصلاة السنن في السفر. الثاني ـ الجمع بين الصلاتين، أسبابه، وشروطه. المطلب الأول ـ قصر الصلاة الرباعية: أولاً ـ مشروعية القصر، وهل القصر عزيمة أو رخصة؟ القصر جائز بالقرآن والسنة والإجماع (¬1). أما القرآن: فقوله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض، فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة، إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} [النساء:101/ 4] والقصر جائز سواء في حالة الخوف أم الأمن، لكن تعليق القصر على الخوف في الآية، كان لتقرير الحالة الواقعة؛ لأن غالب أسفار النبي صلّى الله عليه وسلم لم تخل منه. قال يعلى بن أمية لعمر بن الخطاب: «ما لنا نقصر وقد أمنا؟ فقال: سألت النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته» (¬2). ¬
الأحكام المتعلقة بالسفر
وأما السنة: فقد تواترت الأخبار أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يقصر في أسفاره حاجاً ومعتمراً وغازياً محارباً، وقال ابن عمر: «صحبت النبي صلّى الله عليه وسلم، فكان لا يزيد في السفر على ركعتين، وأبو بكر وعمر وعثمان كذلك» (¬1). وأجمع أهل العلم على أن من سافر سفراً تقصر في مثله الصلاة، سواء كان السفر واجباً كسفر الحج إلى المسجد الحرام والجهاد والهجرة والعمرة، أو مستحباً كالسفر لزيارة الإخوان، وعيادة المرضى، وزيارة أحد المسجدين: مسجد المدينة والأقصى، وزيارة الوالدين أو أحدهما، أو مباحاً كالسفر لنزهة أو فرجة أو تجارة، أو مكرهاً على السفر، كأسير أوزانٍ مغرَّب: وهو الزاني غير المحصن الذي ينفى سنة بعد الجلد، أو مكروهاً كسفر المنفرد بنفسه دون جماعة. والقصر: هو اختصار الصلاة الرباعية إلى ركعتين. والذي يقصر إجماعاً (¬2): هو الصلاة الرباعية من ظهر وعصر وعشاء، دون الفجر والمغرب؛ لأنه إذا قصر الفجر، بقي منه ركعة، ولا نظير لها في الفرض، وإذا قصر المغرب الذي هو وتر النهار، بطل كونه وتراً. روى أحمد عن عائشة رضي الله عنها: «فرضت الصلاة ركعتين، إلا المغرب، فإنه وتر النهار، ثم زيدت في الحضر، وأقرت في السفر على ما كانت عليه». وروى علي بن عاصم عن عائشة حديثاً يتضمن استثناء صلاة المغرب وصلاة الغداة (الصبح) وصلاة الجمعة من جواز القصر. والأحكام المتعلقة بالسفر: هي القصر، والجمع، والمسح على الخف ثلاثة أيام، وإباحة الفطر في رمضان، وهذه الأربعة تختص بالسفر الطويل، وحرمة ¬
حكم القصر أو هل القصر رخصة أو عزيمة واجب؟
خروج المرأة بغير محرم، وسقوط الجمعة والعيدين والأضحية، وإباحة أكل الميتة للمضطر، والصلاة على الراحلة، والتيمم وإسقاط الفرض به، وهذه متعلقة بالسفر القصير، إلا أن أكل الميتة والتيمم لا يختصان بالسفر (¬1). حكم القصر أو هل القصر رخصة أو عزيمة واجب؟ وبعبارة أخرى: هل المسافر ملزم شرعاً بالقصر، أم أنه مخير بينه وبين الإتمام، وأيهما أفضل: القصر أم الإتمام؟ تتردد أقوال الفقهاء المعتمدة بين آراء ثلاثة: إنه فرض، إنه سنة، إنه رخصة مخير فيها المسافر (¬2). قال الحنفية: القصر واجب ـ عزيمة، وفرض المسافر في كل صلاة رباعية ركعتان، لا تجوز له الزيادة عليهما عمداً، ويجب سجود السهو إن كان سهواً، فإن أتم الرباعية وصلى أربعاً، وقد قعد في الركعة الثانية مقدار التشهد، أجزأته الركعتان عن فرضه، وكانت الركعتان الأخريان له نافلة، ويكون مسيئاً، وإن لم يقعد في الثانية مقدار التشهد، بطلت صلاته، لاختلاط النافلة بها قبل إكمالها. ودليلهم أحاديث ثابتة، منها حديث عائشة: «فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر» (¬3) وحديث ابن عباس: ¬
«فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربع ركعات، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة» (¬1). وقال المالكية على المشهور الراجح: القصر سنة مؤكدة؛ لفعل النبيصلّى الله عليه وسلم، فإنه لم يصح عنه في أسفاره أنه أتم الصلاة قط، كما في الحديث المتقدم عن ابن عمر وغيره. وقال الشافعية والحنابلة: القصر رخصة على سبيل التخير، فللمسافر أن يتم أو يقصر، والقصر أفضل من الإتمام مطلقاً عند الحنابلة؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم داوم عليه، وكذا الخلفاء الراشدون من بعده، وهو عند الشافعية على المشهور أفضل من الإتمام إذا وجد في نفسه كراهة القصر، أو إذا بلغ ثلاث مراحل عند الحنفية تقدر بـ 69 كم اتباعاً للسنة، وخروجاً من خلاف من أوجبه كأبي حنيفة. لكن الصوم في السفر أفضل من الفطر إن لم يتضرر به لقوله تعالى: {وأن تصوموا خير لكم} [البقرة:184/ 2]. ودليلهم: 1ً - الآية السابقة: {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} [النساء:101/ 4]، وهذا يدل على أن القصر رخصة مخير بين فعله وتركه كسائر الرخص. 2ً - والحديث السابق عن عمر: «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» وقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه» (¬2). ¬
ثانيا ـ سبب مشروعية القصر
3ً - وثبت في صحيح مسلم وغيره أن الصحابة كانوا يسافرون مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فمنهم القاصر، ومنهم المتم، ومنهم الصائم ومنهم المفطر، لا يعيب بعضهم على بعض (¬1). 4ً - وقالت عائشة: «خرجت مع النبي صلّى الله عليه وسلم في عُمْرة في رمضان، فأفطر وصُمتُ، وقصر وأتممت، فقلت: بأبي وأمي، أفطرتَ وصمتُ، وقصرتَ وأتممتُ، فقال: أحسنت ياعائشة» (¬2). يظهر من هذه الأدلة الأربعة أن القصر رخصة، وهو الراجح المتبادر للذهن. ثانياً ـ سبب مشروعية القصر: الحكمة من القصر: هو دفع المشقة والحرج الذي قد يتعرض له المسافر غالباً، والتيسير عليه في حقوق الله تعالى، والترغيب في أداء الفرائض، وعدم التنفير من القيام بالواجب، فلا يبقى لمقصر أو مهمل حجة أوذريعة في ترك فرض الصلاة. وسبب مشروعية القصر: هو السفر الطويل، المباح عند الجمهور غير الحنفية. والكلام عن السفر المبيح للقصر الذي تتغير به الأحكام الشرعية يتطلب بحث أمور أربعة وهي: المسافة التي يجوز فيها القصر، نوع السفر الذي تقصر فيه الصلاة: المباح أم أي سفر، الموضع الذي يبدأ منه المسافر بالقصر (أول السفر)، مقدار الزمان الذي يقصر فيه إذا أقام المسافر في موضع. ¬
الموضوع الأول - المسافة التي يجوز فيها القصر
الموضوع الأول - المسافة التي يجوز فيها القصر: اختلف الفقهاء في تقدير مسافة السفر التي يقصر فيها، فقال الحنفية (¬1): أقل ما تقصر فيه الصلاة مسيرة ثلاثة أيام ولياليها من أقصر أيام السنة في البلاد المعتدلة (¬2)، بسير الإبل ومشي الأقدام، ولا يشترط سفر كل يوم إلى الليل، بل أن يسافر في كل يوم منها من الصباح إلى الزوال (الظهر)، فالمعتبر هو السير الوسط مع الاستراحات العادية، فلو أسرع وقطع تلك المسافة من أقل من ذلك كما في وسائل المواصلات الحديثة، جاز له القصر. فإذا قصد الإنسان موضعاً بينه وبين مقصده مسيرة ثلاثة أيام، جاز له القصر، فإن لم يقصد موضعاً، وطاف الدنيا من غير قصد إلى قطع مسيرة ثلاثة أيام لا يترخص بالقصر. والتقدير بثلاث مراحل قريب من التقدير بثلاثة أيام؛ لأن المعتاد من السير في كل يوم مرحلة واحدة، خصوصاً في أقصر أيام السنة. ولا يصح القصر في أقل من هذه المسافة، كما لا يصح التقدير عندهم بالفراسخ (¬3) على المعتمد الصحيح، ودليلهم القياس على مدة المسح على الخف المقدرة بالسنة، وهي نص حديث: «يمسح المقيم كمال يوم وليلة، والمسافر ثلاثة أيام ولياليها» (¬4). والمعتبر في البحر والجبل: مايناسبه أو ما يليق بحاله لقطع المسافة، ففي البحر تعتبر تلك المسافة بحسب اعتدال الريح، لا ساكنة ولا عالية، وفي الجبل يعتبر ¬
السير فيه بثلاثة أيام ولياليها بحسب طبيعته، وإن كانت تلك المسافة في السهل تقطع بما دونها. ومجموع مدة الثلاثة الأيام بالساعات يختلف بحسب كل بلد، ففي مصر وما ساواها من العرض عشرون ساعة وربع، في كل يوم سبع ساعات إلا ربعاً، ومجموع الثلاثة الأيام في الشام عشرون ساعة إلا ثلث ساعة تقريباً في كل يوم ست ساعات وثلثي ساعة إلا درجة ونصفاً. وقال الجمهور غير الحنفية (¬1): السفر الطويل المبيح للقصر المقدر بالزمن: يومان معتدلان أو مرحلتان بسير الأثقال ودبيب الأقدام، أي سير الإبل المثقلة بالأحمال على المعتاد من سير وحط وترحال وأكل وشرب وصلاة كالمسافة بين جدة ومكة أو الطائف ومكة أو من عُسفان إلى مكة، ويقدر بالمسافة ذهاباً: بأربعة بُر ُد أو ستة عشر فرسخاً، أو ثمانية وأربعين ميلاً هاشمياً، والميل: ستة آلاف ذراع (¬2)، كما ذكر الشافعية والحنابلة، وقال المالكية على الصحيح: الميل ثلاثة آلاف وخمس مئة ذراع، وتقدر بحوالي (89 كم) وعلى وجه الدقة:88.704 كم ثمان وثمانين كيلو وسبع مئة وأربعة أمتار، ويقصر حتى لو قطع تلك المسافة بساعة واحدة، كالسفر بالطائرة والسيارة ونحوها؛ لأنه صدق عليه أنه سافر أربعة برد. والمسافة في البحر كالمسافة في البر. ودليلهم: قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «يا أهل مكة، لا تقصروا في أقل من أربعة برد، ¬
من مكة إلى عُسْفان» (¬1) وما روي عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما: كانا يصليان ركعتين ويفطران في أربعة بُرُد، فما فوق، ولأن في هذا القدر تتكرر مشقة الشد والترحال، وفيما دونه لا تتكرر. وهذه المسافة عند الشافعية محددة تماماً، فيضر نقص المسافة مهما قل. وهي تقريباً لا تحديداً عند الحنابلة والمالكية، فلا يضر عند الحنابلة نقصان المسافة عن هذا المقدار بشيء قليل كميل أو ميلين، ولا يضر عند المالكية نقصان ثمانية أميال. واستثنى المالكية خلافاً لغيرهم (الجمهور) من هذه المسافة أهل مكة ومنى ومزدلفة والمُحَصَّب إذا خرجوا في الحج للوقوف بعرفة، فإنه عملاً بالسنة يسن لهم القصر في الذهاب والإياب إذا بقي عليهم شيء من أعمال الحج التي تؤدى في غير وطنهم، وإلا بأن وصلوا وطنهم أتموا الصلاة. وناقش ابن قدامة (¬2) أدلة الجمهور: بأنه روي عن ابن عباس وابن عمر خلاف المذكور، وأنه معارض لظاهر القرآن؛ لأن ظاهره إباحة القصر لكل من ضرب في الأرض بدون تحديد مسافة، وأنه مخالف لسنة النبي صلّى الله عليه وسلم، قال أنس: «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال، أو ثلاثة فراسخ، صلى ركعتين» (¬3)،وقال ابن قدامة في نهاية نقاشه: الحجة مع من أباح القصر لكل مسافر، إلا أن ينعقد الإجماع على خلافه. ¬
الثاني ـ نوع السفر الذي تقصر فيه الصلاة
الثاني ـ نوع السفر الذي تقصر فيه الصلاة: قال الحنفية (¬1): يجوز القصر في كل سفر، سواء أكان قربة أم مباحاً أم معصية، فيجوز القصر لقاطع الطريق ونحوه ممن كان عاصياً بسفره؛ لأن القبح المجاور لشيء مشروع لا يعدم المشروعية، والقبح المجاور: هو ما يقبل الانفكاك كالبيع وقت النداء لصلاة الجمعة، فإنه قبُح لترك السعي، وهو قابل للانفكاك، إذ قد يوجد ترك السعي للجمعة، بدون البيع، وبالعكس، فكذا السفر، فإنه يمكن قطع الطريق والسرقة مثلاً بلا سفر، وبالعكس. أما القبح لعينه كالكفر، أو القبح شرعاً كبيع الحر، فإنه يعدم المشروعية. ودليلهم بعبارة أخرى على أن العاصي والمطيع في سفرهما سواء في الرخصة: هو إطلاق النصوص وهو: {وإذا ضربتم في الأرض .. } [النساء:101/ 4] ولأن نفس السفر ليس بمعصية، وإنما المعصية ما يكون بعده أو يجاوره، فلا يؤثر على رخصة القصر. وقال الجمهور غير الحنفية (¬2): لا تباح الرخص المختصة بالسفر من القصر والجمع والفطر والمسح ثلاثاً والصلاة على الراحلة تطوعاً في سفر المعصية كالإباق، وقطع الطريق، والتجارة في الخمر والمحرمات، وهذا هو العاصي بسفره أي الذي أنشأ سفراً لأجل المعصية أو يقصد محلاً لفعل محرم، فلا يقصر الصلاة، ويحرم عليه القصر؛ لأن السفر سبب الرخصة، فلا تناط بالمعصية، فيكون المبدأ عندهم: (الرخص لا تناط بالمعاصي) حتى أكل الميتة، لقوله تعالى: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد، فلا إثم عليه} [البقرة:173/ 2]، أباح الأكل إن لم يكن عادياً ولا باغياً، فلا يباح لباغ ولاعاد، ولأن الترخص شرع للإعانة على تحصيل المقصد ¬
الثالث ـ الموضع الذي يبدأ منه المسافر بالقصر ـ أول السفر
المباح توصلاً إلى المصلحة، فلو شرع ههنا، لشرع إعانة على المحرم، تحصيلاً للمفسدة، والشرع منزه عن هذا. وذكر المالكية أنه يكره القصر للاهٍ بالسفر. أما العاصي في السفر: وهو الذي قصد سفراً لغرض مشروع، لكنه ارتكب في أثناء السفر معصية كزنا أو سرقة أو غصب، أو قذف أو غيبة، فيجوز له الترخص من قصر وغيره؛ لأنه لم يقصد السفر لذلك أي للمعصية، وإنما لغرض مشروع، فهو كالمقيم العاصي. قال النووي الشافعي: لو أنشأ امرؤ سفراً مباحاً ثم جعله معصية فلا ترخص في الأصح، ولو أنشأه عاصياً ثم تاب، فمنشئ للسفر من حين التوبة. الثالث ـ الموضع الذي يبدأ منه المسافر بالقصر ـ أول السفر: لا تكفي نية السفر لقصر الصلاة قبل مباشرة السفر وتجاوز حدود البلد، بل لا بد من مباشرة السفر حتى يحق له القصر والفطر، وقد اتفق الفقهاء (¬1) على أن أول السفر الذي يجوز به القصر ونحوه: هو أن يخرج المسافر من بيوت البلد التي خرج منها ويجعلها وراء ظهره، أو يجاوز العمران من الجانب الذي خرج منه، وإن لم يجاوزها من جانب آخر؛ لأن الإقامة تتعلق بدخولها، فيتعلق السفر بالخروج عنها، لقوله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض، فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} [النساء:101/ 4] ولا يكون ضارباً في الأرض حتى يخرج. وسيأتي تفصيل المذاهب في هذا الموضوع. ¬
الرابع ـ مقدار الزمان الذي يقصر فيه إذا أقام المسافر في موضع
ولا يُتم صلاته حتى يدخل أول بيوت البلد الذي يقصده للإقامة فيه. ولا يزال المسافر على حكم السفر حتى ينوي الإقامة مدة معينة سنذكرها. الرابع ـ مقدار الزمان الذي يقصر فيه إذا أقام المسافر في موضع: يظل للمسافر حق القصر ما لم ينو الإقامة في بلد مدة معينة، وقد اختلف الفقهاء على رأيين في تقدير هذه المدة (¬1). فقال الحنفية: يصير المسافر مقيماً، ويمتنع عليه القصر إذا نوى الإقامة في بلد خمسة عشر يوماً، فصاعداً، فإن نوى تلك المدة، لزمه الإتمام، وإن نوى أقل من ذلك قصر. ودليلهم: القياس على مدة الطهر للمرأة؛ لأنهما مدتان موجبتان العودة إلى الأصل، فإن مدة الطهر توجب إعادة ما سقط بالحيض، والإقامة توجب إعادة ما سقط بالسفر، فكما قدر مدة الطهر بخمسة عشر يوماً، فكذلك يقدر أدنى مدة الإقامة. وهذا التقرير مأثور عن ابن عباس وابن عمر، قالا: إذا دخلت بلدة وأنت مسافر، وفي عزمك أن تقيم بها خمسة عشر يوماً، فأكمل الصلاة، وإن كنت لا تدري متى تظعن فاقصر. وإن كان ينتظر قضاء حاجة معينة، له القصر ولو طال الترقب سنين، فمن دخل بلداً، ولم ينو أن يقيم فيه خمسة عشر يوماً، وإنما يترقب السفر، ويقول: أخرج غداً أو بعد غد مثلاً، حتى بقي على ذلك سنين، صلى ركعتين أي قصر؛ ¬
لأن ابن عمر أقام بأذربيجان ستة أشهر، وكان يقصر، وروي عن جماعة من الصحابة مثل ذلك. وإذا دخل العسكر أرض الحرب، فنووا الإقامة بها خمسة عشر يوماً، أو حاصروا فيها مدينة أو حصناً، قصروا، ولم يتموا الصلاة، لعدم صحة النية؛ لأن الداخل قلق غير مستقر، فهو متردد بين أن يَهزِم العدو فيَقر، أو يُهزَم من عدوه فيفر. وهذا موافق لمذهب المالكية أيضاً. وقال المالكية والشافعية: إذا نوى المسافر إقامة أربعة أيام بموضع، أتم صلاته؛ لأن الله تعالى أباح القصر بشرط الضرب في الأرض، والمقيم والعازم على الإقامة غير ضارب في الأرض، والسنة بينت أن ما دون الأربع لا يقطع السفر، ففي الصحيحين: «يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثاً» وأقام النبي صلّى الله عليه وسلم بمكة في عمرته ثلاثاً يقصر (¬1). وقدر المالكية المدة المذكورة بعشرين صلاة في مدة الإقامة، فإذا نقصت عن ذلك قصر. ولم يحسب المالكية والشافعية يومي الدخول والخروج على الصحيح عند الشافعية؛ لأن في الأول حط الأمتعة، وفي الثاني الرحيل، وهما من أشغال السفر. وقال الحنابلة: إذا نوى أكثر من أربعة أيام أو أكثر من عشرين صلاة، أتم، لحديث جابر وابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلم قدم مكة صبيحة رابعة ذي الحجة، فأقام بها ¬
ثالثا ـ شروط القصر
أما حديث الصحيحين فهو أن النبي صلّى الله عليه وسلم حرم الإقامة بمكة على المهاجرين، ثم رخص لهم أن يقيموا ثلاثة أيام (المجموع: 243/ 4). الرابع والخامس والسادس، وصلى الصبح في اليوم الثامن، ثم خرج إلى منى، وكان يقصر الصلاة في هذه الأيام، وقال أنس: «أقمنا بمكة عشراً نقصر الصلاة» (¬1)، قال ابن حجر في الفتح: ولاشك أنه خرج من مكة صبح الرابع عشر، فتكون مدة الإقامة بمكة ونواحيها عشرة أيام بلياليها، كما قال أنس، وتكون مدة إقامته بمكة أربعة أيام، لا سواها، لأنه خرج منها في اليوم الثامن، فصلى بمنى. ويحسب من المدة عند الحنابلة يوم الدخول والخروج. فإن كان ينتظر قضاء حاجة يتوقعها كل وقت أو يرجونجاحها أو جهاد عدو أو على أهبة السفر يوماً فيوماً، جاز له القصر عند المالكية والحنابلة، مهما طالت المدة، ما لم ينو الإقامة، كما قرر الحنفية. وقال الشافعية: له القصر ثمانية عشر يوماً غير يومي الدخول والخروج؛ لأنهصلّى الله عليه وسلم أقامها بمكة عام الفتح لحرب هوازن، يقصر الصلاة (¬2). ثالثاً ـ شروط القصر: اشترط الفقهاء لصحة القصر الشروط الآتية (¬3): ¬
1 - أن يكون السفر طويلاً مقدراً بمسيرة مرحلتين أو يومين أو ستة عشر فرسخاً عند الجمهور، أو ثلاث مراحل أو ثلاثة أيام بلياليها عند الحنفية، على الخلاف السابق بيانه. 2 - أن يكون السفر مباحاً غير محرم أو محظور كالسفر للسرقة أو لقطع الطريق، ونحو ذلك، في رأي الجمهور غير الحنفية. فإن قصر المرء في سفر المعصية لا تنعقد صلاته عند الشافعية والحنابلة؛ لأنه فعل ما يعتقد تحريمه كمن صلى وهو يعتقد أنه محدث، ويصح القصر مع الإثم عند المالكية. ولا يقصر عند الحنابلة لسفر مكروه، ويقصر عند المالكية والشافعية. ويرى الحنفية: أنه يجوز القصر في السفر المحرم والمكروه والمباح كما بينا ويقصر لسفر التجارة والتنزه والتفرج، ولزيارة المساجد والآثار، والقبور، وهو الصحيح عند الحنابلة في زيارة القبور. 3 - مجاوزة العمران من موضع إقامته: كما بينا، وللفقهاء تفريعات في توضيح هذا الشرط. فقال الحنفية (¬1): أن يجاوز بيوت البلد التي يقيم فيها من الجهة التي خرج منها، وإن لم يجاوزها من جانب آخر. وأن يجاوز كل البيوت ولو كانت متفرقة متى كان أصلها من البلد، وأن يجاوز ما حول البلد من مساكن، والقرى المتصلة بالبلد. ويشترط أن يجاوز الساحة (الفناء) المتصلة بموضع إقامته: وهو المكان المعد لصالح السكان كركض الدواب ودفن الموتى وإلقاء التراب. ولا يشترط أن تغيب البيوت عن بصره، ولا مجاوزة البيوت الخربة، ولا ¬
مجاوزة البساتين؛ لأنها لا تعتبر من العمران، وإن اتصلت بالبناء أو سكنها أهل البلدة. وإذا كان ساكناً في الأخبية (الخيام) فلا بد من مجاوزتها، وإذا كان مقيماً على ماء أو محتطب فلا بد من مفارقته، ما لم يكن المحتطب واسعاً جداً، والنهر بعيد المنبع أو المصب، وإلا فالعبرة بمجاوزة العمران. وقال المالكية (¬1): المسافر إما حضري، أو بدوي، أو جبلي. فالحضري: الساكن في مدينة أو بلد أو قرية ولولا جمعة فيها، لا يقصر إلا إذا جاوز بنيانها والفضاء الذي حولها والبساتين المتصلة بها ولو حكماً: بأن يرتفق أو ينتفع سكانها بها بنار أو خبز أو طبخ، والمسكونة بأهلها ولو في بعض العام. ولا يشترط مجاوزة المزارع والبساتين المنفصلة، أو غير المسكونة في وقت من العام. والبدوي: ساكن البادية أو الخيام، لا يقصر إلا إذا جاوز جميع خيام أو بيوت القبيلة أو القبائل المتعاونة فيما بينها، ولو كانت متفرقة، حيث جمعهم اسم الحي والدار (¬2)، أو الدار فقط. والجبلي: ساكن الجبال يقصر إذا جاوز محله أو مكانه. وساكن القرية التي لا بساتين فيها مسكونة: يقصر إذا جاوز بيوت القرية والأبنية الخرا ب التي في طرفها. وساكن البساتين: يقصر بمجرد انفصاله عن مسكنه، سواء أكانت تلك البساتين متصلة بالبلد أم منفصله عنها. ¬
وقال الشافعية (¬1): إن كان للبلد أو القرية سور، فأول السفر مجاوزة السور، وإن كان وراءه عمارة في الأصح. وإن لم يكن للبلد أو القرية سور: فأول السفر مجاوزة آخر العمران، وإن تخلله نهر أو بستان أو خراب، حتى لا يبقى بيت متصل أو منفصل عن محل الإقامة، ولا يشترط مجاوزة الخراب المهجور الخارج عن العمران؛ لأنه ليس محل إقامة، كما لا يشترط مجاوزة البساتين والمزارع، وإن اتصلت بما سافر منه. ولا بد من مجاوزة المقابر المتصلة بالقرية التي لا سور لها. وساكن الخيام: يقصر إن جاوز الحِلَّة، أي البيوت التي يجتمع أهلها فيها للسمر، ويستعير بعضهم من بعض، سواء أكانت مجتمعة أم متفرقة، وجاوز أيضاً مرافق الخيام كمطرح الرماد وملعب الصبيان ومرابط الخيل؛ لأنها معدودة من مواضع إقامتهم. ويعتبر مع مجاوزة المرافق عرض الوادي إن سافر في عرضه، ومجاوزة المهبط إن كان في ربوة (مرتفع)، والمصعد إن كان في وَهْدة (منخفض)، هذا إن اعتدلت الثلاثة (الوادي والمهبط والمصعد)، فإن اتسعت اكتفي بمجاوزة الحلة عرفاً. وساكن غير الأبنية والخيام يبتدئ سفره بمجاوزة محل رحله ومرافقه. هذا كله في سفر البر، أما السفر في البحر: فيبتدئ من أول تحرك أو جري السفينة أو الزورق، فإن جرت السفينة محاذية للأبنية التي في البلدة فلا بد من مجاوزة تلك الأبنية. ¬
وينتهي السفر بوصوله سور وطنه، أو عمرانه إن كان غير مسور. وقال الحنابلة (¬1): يقصر المسافر إذا فارق خيام قومه، أو بيوت قريته العامرة، سواء أكانت داخل السور أم خارجه، بما يعد مفارقة عرفاً؛ لأن الله تعالى إنما أباح القصر لمن ضرب في الأرض، وسواء اتصل بها بيوت خربة أو صحراء، فإن اتصل بالبيوت الخربة بيوت عامرة أو بساتين يسكنها أهلها ولو ضيفاً مثلاً وقت النزهة، فلا يقصر إلا بمفارقة الجميع من الخراب والعامر والبساتين المسكونة. ولو كان للبلد محال، كل محلة منفردة عن الأخرى، كبغداد في الماضي، فمتى خرج من محلته، أبيح له القصر إذا فارق أهله. وإن كان بعضها متصلاً ببعض كاتصال أحياء المدن المعاصرة، لم يقصر حتى يفارقها جميعها. ولو كانت قريتان متدانيتين (متقاربتين)، واتصل بناء إحداهما بالأخرى، فهما كالواحدة، وإن لم يتصل بناؤهما، فلكل قرية حكم نفسها. والملاح الذي يسير بسفينته وليس له بيت سوى سفينته، فيها أهله وتنوره وحاجته، لا يباح له الترخص. 4 - أن يقصد من ابتداء السفر موضعاً معيناً، ويعزم أن يقطع مسافة القصر من غير تردد فلا قصر ولا فطر لهائم: وهو من خرج على وجهه لا يدري أين يتوجه، ولا لمن خرج يطلب آبقاً أو حيواناً هارباً، أو غريماً يرجع متى وجده، ولا لسائح لا يقصد مكاناً معيناً، كما لا قصر لمن طاف الأرض كلها من غير قصد إلى قطع مسافة القصر المطلوبة؛ لأنه لم يقصد قطع المسافة، وكذلك لا يقصر عند الجمهور إذا نوى قطع المسافة ونوى الإقامة أثناءها بما يقطع السفر، كما سنبين. ¬
وقال الحنفية: له أن يقصر حتى يقيم بالفعل، ولا تضر نية الإقامة السابقة، وهذا هو المعقول الأولى بالاتباع. 5 - الاستقلال بالرأي: فمن كان تابعاً غيره ممن هو مالك أمره كالزوجة مع زوجها، والجندي مع أميره، والخادم مع سيده والطالب مع أستاذه، ولا يعرف كل واحد منهم مقصده، لا يقصر؛ لأن شرط قصد موضع معين لم يتحقق. وهذا الشرط عند الشافعية مقيد بما قبل قطع مسافة القصر، فإن قطعوا مسافة القصر، قصروا، وإن لم يقصر المتبوعون لتيقن طول سفرهم. وأضاف الشافعية: أن التابع إن نوى الرجوع من سفره متى تخلص من التبعية، كالجندي إذا شطب اسمه، والخادم إذا ترك الخدمة، لا يقصر حتى يقطع مسافة القصر وهي المرحلتان أو اليومان. أما عند الحنفية فهذا الشرط مطلق، فليس للتابع القصر ما لم ينو متبوعه السفر. ولا يلزم التبع بإتمام الصلاة إلا إن علم بنية المتبوع الإقامة في الأصح، فلو صلى مخالفاً له قبل علمه صحت في الأصح. 6 - ألا يقتدي من يقصر بمقيم أو بمسافر يتم الصلاة، أو بمشكوك السفر عند الشافعية والحنابلة: فإن فعل ذلك وجب عليه إتمام الصلاة، ولو اقتدى به في التشهد الأخير. لكن الحنفية لم يجيزوا اقتداء المسافر بالمقيم إلا في الوقت، فيتم صلاته؛ لأن فرضه يتغير من اثنين إلى أربع. أما بعد خروج الوقت فلا يجوز له الاقتداء بالمقيم؛ لأن فرضه استقر في ذمته ركعتين فقط، فلا يتغير فرضه إلى أربع بعد خروج الوقت، فإن خالف واقتدى به بطلت صلاته.
خلاصة آراء الفقهاء في شروط القصر
7 - أن ينوي القصر عند الإحرام بالصلاة: وهذا شرط عند الشافعية والحنابلة؛ لأن الأصل الإتمام، وإطلاق النية ينصرف إليه، فكان لا بد من نية القصر. واكتفى المالكية باشتراط نية القصر في أول صلاة يقصرها في السفر، ولا يلزم تجديدها فيما بعدها من الصلوات كنية الصيام أول رمضان، فإنها تكفي عن باقي الشهر. أما الحنفية: فاكتفوا بنية السفر قبل الصلاة، فمتى نوى السفر، كان فرضه القصر ركعتين، فلا ينويه عند الإحرام لكل صلاة. 8 - البلوغ: شرط عند الحنفية، فلا يقصر الصبي الصلاة في السفر. ولم يشترطه جمهور الفقهاء، فيصح للصبي القصر؛ لأن كل من له قصد صحيح، ونوى سفراً يبلغ المسافة المقررة يقصر. 9 - اشترط الشافعية أن يدوم سفره من أول الصلاة إلى آخرها: فإن انتهت به سفينته إلى محل إقامته، أو سارت به منها، أو شك هل نوى الإقامة، أو هل هذه البلدة التي وصلها هي بلده أو لا، وهو في أثناء الصلاة في الجميع، أتم صلاته، لزوال سبب الرخصة، أو الشك في زواله. خلاصة آراء الفقهاء في شروط القصر: مذهب الحنفية: يقصر من نوى السفر، وقصد موضعاً معيناً، ولو عاصياً بسفره، متى جاوز بيوت محل إقامته، وجاوز ما اتصل به من فناء البلد، والفناء: المكان المعد لمصالح البلد، كركض الدواب ودفن الموتى. كما يشترط أن يجاوز ربض البلد: وهو ماحول المدينة من بيوت ومساكن، فإنه في حكم المصر، وكذا يشترط في الصحيح مجاوزة القرى المتصلة بربض البلد.
مذهب المالكية
ويشترط لصحة نية السفر ثلاثة أمور: الاستقلال بالحكم على الأوضاع من إقامة وسفر، والبلوغ، وعدم نقصان السفر عن ثلاثة أيام. مذهب المالكية: شروط القصر ستة: طول السفر وهي ثمانية وأربعون ميلاً على المشهور، وأن يعزم من أول سفره على قطع المسافة من غير تردد، وأن يقصد جهة معينة، وأن يكون السفر مباحاً، وأن يجاوز البلد وما يتصل به من الأبنية والبساتين المعمورة، وألا يعزم في خلال سفره على إقامة أربعة أيام بلياليها. مذهب الشافعية: شروط القصر ثمانية: أن يكون السفر طويلاً وهو ثمانية وأربعون ميلاً هاشمية (¬1)، أو مرحلتان وهما سير يومين بلا ليلة معتدلين، أو ليلتين بلا يوم معتدلتين، أو يوم وليلة معتدلين، بسير الأثقال، والبحر كالبر؛ وقصد موضع معين أول سفره ليعلم أنه طويل، فيقصر أو لا؛ وأن يكون السفر مباحاً فلا قصر لعاص بسفره، ولا لناشزة من زوجها؛ والعلم بجواز القصر، فلو قصر جاهلاً به لم تصح صلاته لتلاعبه؛ وأن ينوي القصر في الإحرام للصلاة؛ وأن يتحرز عما ينافي نية القصر في أثناء دوام الصلاة، كنية الإتمام، فلو نواه بعد نية القصر أتم؛ وألا يقتدي ولو لحظة بمتم ولا بمشكوك السفر ولا بإمام محدث، فإن اقتدى به في أي جزء من صلاته، لزمه الإتمام، لخبر الإمام أحمد بإسناد صحيح عن ابن عباس: «سئل: ما بال المسافر يصلي ركعتين إذا انفرد، وأربعاً إذا ائتم بمقيم؟ فقال: تلك السنة». ¬
مذهب الحنابلة
ويشترط أخيراً كونه مسافراً في جميع صلاته، فلو نوى الإقامة فيها، أو بلغت سفينته دار إقامته، أتم. مذهب الحنابلة: شروط القصر ثمانية: إذا كان السفر طويلاً وهو ثمانية وأربعون ميلاً هاشمية، وواجباً أو مباحاً؛ وأن يجاوز بيوت قريته، ويجعلها وراء ظهره بما يعد مفارقة عرفاً، وأن ينوي سفراً يبلغ تلك المسافة، والمعتبر نية المسافر سفر المسافة، لا حقيقتها، فمن نوى ذلك قصر، ولو رجع قبل استكمال المسافة؛ وأن يقصد موضعاً معيناً في ابتداء السفر؛ وأن ينوي القصر عند أول الصلاة؛ وألا يقتدي بمقيم ولا بمشكوك في سفره ولا بمن تلزمه إعادة الصلاة كمن يقتدي بمقيم يحدث في أثناء الصلاة، فيلزمه إعادتها تامة؛ لأنها وجبت عليه تامة في الابتداء، فلا يجوز أن تعاد مقصورة؛ وكونه مسافراً في جميع الصلاة، كما قال الشافعية. ويرى ابن تيمية في مقدار السفر عدم تحديده بمسافة معينة، فكل ما يسمى سفراً عن الأماكن في عادات الناس يجوز فيه القصر، وليس للسفر حد مقدر في الشرع ولا في اللغة، بل ما سموه سفراً فهو سفر (¬1). رابعاً ـ اقتداء المسافر بالمقيم وعلى العكس: اقتداء المسافر بالمقيم: اتفق الفقهاء (¬2) على أنه يجوز اقتداء المسافر بالمقيم، مع الكراهة عند المالكية، لمخالفة المسافر سنته من القصر، وعلى أنه إذا اقتدى ¬
اقتداء المقيم بالمسافر
المسافر بالمقيم، يجب عليه إتمام الصلاة أربعاً، متابعة للإمام، ويتغير فرضه عند الحنفية إلى الأربع، كما يتغير بنية الإقامة. واشترط الحنفية لجواز الاقتداء بقاء الوقت، ولو قدر ما يسع التحريمة، أما عند خروج الوقت فلا يصح اقتداء المسافر بالمقيم؛ لأن فرضه لا يتغير بعد الوقت، لانقضاء السبب، كما لا يتغير عندهم بنية الإقامة. والدليل على وجوب الإتمام من السنة: هو ما ذكرناه عن ابن عباس أنه قيل له: «ما بال المسافر يصلي ركعتين في حال الانفراد، وأربعاً إذا ائتم بمقيم؟ فقال: تلك السنة» (¬1)، وقال نافع: «كان ابن عمر إذا صلى مع الإمام، صلاها أربعاً، وإذا صلى وحده صلاها ركعتين» (¬2)، وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه». وأضاف الشافعية والحنابلة: أنه لو رَعَف الإمام المسافر، واستخلف غيره، أتم المقتدون دون الإمام. اقتداء المقيم بالمسافر: اتفق الفقهاء (¬3) أيضاً على أنه يجوز اقتداء المقيم بالمسافر، مع الكراهة عند المالكية، لمخالفة نية إمامه، فإذا صلى المسافر بالمقيمين ركعتين سلم، ثم أتم المقيمون صلاتهم. ويستحب للمسافر الإمام أن يقول عقب التسليمتين: أتموا صلاتكم، فإني مسافر، لدفع توهم أنه سها، ولئلا يشتبه على الجاهل عدد ركعات الصلاة، فيظن أن الرباعية ركعتان. ¬
خامسا ـ ما يمنع القصر
وذكر الحنفية أنه ينبغي أن يقول ذلك قبل شروعه في الصلاة، وإلا فبعد سلامه. ودليل الجواز: ما رواه عمران بن حصين قال: «ما سافر رسول الله صلّى الله عليه وسلم سَفَراً إلا صلى ركعتين، حتى يرجع، وإنه أقام بمكة زمن الفتح ثمان عشرة ليلة، يصلي بالناس ركعتين ركعتين، إلا المغرب، ثم يقول: يا أهل مكة، قوموا فصلوا ركعتين أخريين، فإنا قوم سَفْر» (¬1). وإذا قام الإمام للإتمام سهواً أو جهلاً بعد نية القصر، سبّح له المأموم، بأن يقول: سبحان الله، فإن رجع سجد لسهوه، وإن لم يرجع فلا يتبعه، بل يجلس حتى يسلم إمامه. خامساً ـ ما يمنع القصر: ينتهي سفر المسافر، ويمتنع القصر، ويجب الإتمام بنية الإقامة في موضع أثناء سفره مدة معينة بيناها (51 يوماً عند الحنفية، و4 أيام عند المالكية والشافعية، وأكثر من 4 أيام عند الحنابلة)، وبالرجوع فعلاً إلى محل إقامته المعتادة، وبغيرها من حالات أخرى مقررة في المذاهب. 1 - أن ينوي المسافر الإقامة مدة معينة: لما روي عن أبي هريرة أنه «صلى مع النبي صلّى الله عليه وسلم إلى مكة في المسير والمُقام بمكة إلى أن رجعوا ركعتين» (¬2) وبما أنه لم يحدد النص مدة الإقامة فقد اختلف الفقهاء في تقدير المدة: ¬
الحنفية
فقال الحنفية (¬1): يمتنع القصر بنية الإقامة ولو في الصلاة ما لم يخرج وقتها ولم يكن لاحقاً مدة نصف ظهر (15 يوماً) كاملة فأكثر، فإن نوى الإقامة أقل من هذه المدة ولو بساعة، أو نواها بعد أن خرج الوقت وهو فيها، أو كان لاحقاً مدركاً الإمام أول الصلاة، والإمام مسافر، فأحدث أو نام، فانتبه بعد فراغ الإمام، ونوى الإقامة، لم يتم الصلاة، وإنما يقصرها ولو بقي سنين مسافراً؛ لأن الإقامة لا تتحقق بأقل من نصف الشهر، ولأن الواجب بعد خروج الوقت استقر في الذمة كما هو في الوقت، ولأن اللاحق في الحكم كأنه خلف الإمام. ولا تمنع نية الإقامة القصر إلا بشروط أربعة: الأول ـ أن يترك السير بالفعل: فلو نوى الإقامة وهو ما يزال مسافراً يسيراً، لايكون مقيماً، ويجب عليه القصر. الثاني ـ أن يكون موضع الإقامة صالحاً لها كمدينة أو قرية لكل الناس، أو برية لأهل الخيام، فلو نوى الإقامة في موضع غير صالح كبحر أو جزيرة مهجورة أو صحراء خالية من الناس، قصر. الثالث ـ أن يكون الموضع واحداً غير متعدد: فلو نوى الإقامة خمسة عشر يوماً ببلدتين مستقلتين كمكة ومنى، لم تصح نيته ويقصر؛ إذ لا بد من نية الإقامة تلك المدة في موضع واحد. الرابع ـ أن يكون ناوي الإقامة مستقلاً بالرأي: أما لو كان تابعاً لغيره كالمرأة والخادم وإن نوى الإقامة، فيقصر ولا يتم، إلا إن علم نية متبوعه الإقامة في الأصح، فيتم الصلاة مثله، كما سبق. ¬
المالكية
ومن ترقب السفر غداً أو بعده، أو انتظر قادماً أو قافلة مثلاً ما لم يعلم تأخرها نصف شهر، أو كان مع العسكر الذين نووا الإقامة في دار الحرب، أو حاصر حصناً في دار الحرب، قصر الصلاة، ولم يتمها، كما بينا سابقاً. وقال المالكية (¬1): يمتنع القصر بنية الإقامة أربعة أيام صحاح غير يومي الدخول والخروج، تستلزم عشرين صلاة، وإلا فلا، أو العلم بإقامة الأربعة الأيام عادة في محل ما، بأن كانت عادةالقافلة أن تقيم في ذلك المحل أربعة أيام، فإنه يتم. فإن لم تجب عليه العشرون صلاة، كأن دخل بلداً قبل فجر السبت مثلاً، ونوى الإقامة إلى غروب يوم الثلاثاء، وخرج قبل العشاء، قصر، ولم ينقطع حكم سفره؛ لأنه وإن كانت الأربعة الأيام صحاحاً، إلا أنه لم يجب عليه عشرون صلاة. وإن لم يقم أربعة أيام كأن دخل بلداً قبل العصر، ولم يكن صلى الظهر، ونوى الارتحال بعد صبح اليوم الخامس، لم ينقطع حكم سفره؛ لأنه وإن وجب عليه عشرون صلاة، إلا أنه لم يقم إلا ثلاثة أيام صحاح. فلا بد من الأمرين أو الشرطين معاً: إقامة أربعة أيام صحاح، ووجوب عشرين صلاة. ومن أقام لحاجة متى قضيت سافر، فلا ينقطع القصر، ولو طالت المدة، إلا إذا علم أنها لا تقضى حاجته إلا بعد الأربعة الأيام. ومثله من لم ينو الإقامة وأقام مدة طويلة، له أن يقصر. ومن نوى الإقامة وهو في الصلاة، قطع الصلاة، وندب أن يشفع إن صلى ¬
الشافعية
ركعة بسجدتيها، ولا تجزئ صلاة تامة إن أتمها، ولا مقصورة إن قصرها. وإن نوى الإقامة بعد الفراغ من الصلاة، أعادها بوقت اختياري أي وقتها المعتاد. ولا يشترط في محل الإقامة: أن يكون صالحاً للإقامة فيه. ويستثنى من نية الإقامة حالة العسكر في دار الحرب الذي ينوي إقامة أربعة أيام فأكثر، فلا ينقطع حكم سفره، ويقصر. وقال الشافعية (¬1): يمتنع القصر إذا نوى المسافر إقامة أربعة أيام تامة بلياليها، أو نوى الإقامة مطلقاً، غير يومي الدخول والخروج، على الصحيح، بموضع صالح للإقامة أو غير صالح كصحراء على الأصح، فإن نوى أقل من أربعة أيام، قصر. وإن كانت له حاجة وجزم بأنها لا تقضى في أربعة أيام، أتم ولم يقصر، سواء نوى الإقامة أم لا. أما إن أقام ببلد بنية أن يرحل إذا تحققت حاجة يتوقعها كل وقت، فله القصر إلى ثمانية عشر يوماً، كما ذكرت. وقال الحنابلة (¬2): يمتنع القصر لو نوى المسافر إقامة مطلقة بأن لم يحدها بزمن معين، ولو في مكان غير صالح للإقامة كبادية ودار حرب، أو نوى إقامة أكثر من عشرين صلاة، أو أكثر من أربعة أيام مع يومي الدخول والخروج، وأتم صلاته. لكن إن أقام لحاجة يتوقع قضاءها، فله القصر، ولو استمر سنين، وهذا هو رأي الجمهور، وقصره الشافعية على ثمانية عشر يوماً كما بينا. ¬
2 - العودة إلى محل الإقامة الدائمة، أو نية العودة
2 - العودة إلى محل الإقامة الدائمة، أو نية العودة: سأبحث هذه الحالة في ضوء المصطلحات الحديثة للإقامة والوطن بالاعتماد على اصطلاح الفقهاء في الماضي، والاصطلاحات الحديثة هي ما يلي: أـ الوطن: هو إقليم الدولة التي ينتمي إليها ويحمل جنسيتها بحسب التقسيم الإقليمي للدول المعاصرة. وهذا المفهوم لا صلة له ببحثنا. ب - محل الإقامة الدائمة: هو محل العمل الذي يسكن فيه، أو محل المعيشة. جـ ـ محل الميلاد: هو البلد الذي ولد ونشأ فيه، وفيه أهله وعشيرته، ويشمل هذين الاثنين عند الحنفية: الوطن الأصلي إذ هو موطن الولادة، أو التزوج، أو التوطن. د ـ محل الإقامة المؤقتة: هو المكان الذي يقيم فيه لفترة زمنية مؤقتة أو لمهمة قد تطول وقد تقصر، ويقابله عند الحنفية «وطن الإقامة» إذا كانت نصف شهر فأكثر، ووطن السكنى إذا أقام دون نصف شهر. هـ ـ بلد الزوجة: هو البلد الذي له فيه زوجة إما الزوجة الوحيدة أو الثانية ويدخل تحت مفهوم الوطن الأصلي. وبحثنا يتردد بين هذه المصطلحات الأربعة الأخيرة. قال الحنفية (¬1): الوطن ثلاثة أنواع: ¬
متى يتم المسافر الصلاة عادة؟
الوطن الأصلي: هو الذي ولد فيه أو تزوج، أو لم يتزوج وقصد التعيش فيه، لا الارتحال عنه. ووطن الإقامة: موضع نوى الإقامة فيه نصف شهر فما فوقه. ووطن السكنى: هو ما ينوي الإقامة فيه دون نصف شهر، وهذا لم يعتبره المحققون في حالة تغيير الموطن. متى يتم المسافر الصلاة عادة؟ إذا دخل المسافر بلده أي محل إقامته الدائمة، أتم الصلاة، وإن لم ينو الإقامة فيه، كأن دخله لقضاء حاجة؛ لأنه معين للإقامة، وقد زال سبب الرخصة وهو السفر. هذا إن سار مدة السفر (3 أيام بلياليها)، وإلا بأن رجع إلى بلده قبل قطع مسافة السفر، أتم بمجرد نية العودة، لعدم تحقق السفر المجيز للقصر. وإذن فيجب عليه الإتمام في هاتين الحالتين: العودة للوطن، ونية العودة قبل قطع مسافة القصر، فإن عاد بعد قطع مسافة القصر، يقصر حتى يعود لبلده بالفعل. متى يتم المسافر الصلاة ومتى يقصر حالة الانتقال عن الوطن؟ أـ الانتقال عن الوطن الأصلي: يتم الصلاة إذا انتقل من محل الإقامة الدائمة كمركز الوظيفة اليوم إلى موطن آخر له فيه زوجة، أو إلى محل الميلاد الذي بقي له فيه أهل أي زوجة، كالريف، فمن كان موظفاً في دمشق مثلاً ثم سافر إلى قريته الأصلية في الريف لزيارة الأهل (الزوجة)، أتم الصلاة، سواء أكانت المسافة بين مقر العمل أو الوظيفة وبين الريف مسافة القصر أم لا؛ لأنه في هذه الحالة يكون له موطنان، وكل منهما وطن أصلي له. فإن لم يبق له أهل في الريف، وإن بقي فيه عقار (أرض أو دار)، قصر
قال المالكية
الصلاة؛ لأن محل الميلاد وإن كان وطناً أصلياً له، إلا أنه بطل بمثله وهو مقر عمله، وبه يتبين أن الوطن الأصلي للإنسان يبطل إذا هاجر بنفسه وأهله ومتاعه إلى بلد آخر، فإن عاد إلى بلده الأول لعمل مثلاً، وجب عليه قصر الصلاة. كذلك يقصر الصلاة إن عاد إلى بلد مقر الوظيفة، بعد أن انتقل عنها بكل أهله، واستوطن بلداً غيرها؛ لأنه لم يبق له وطناً، إذ إن الوطن الأصلي يبطل بمثله، دون السفر عنه، بدليل أنه عليه السلام بعد الهجرة عد نفسه بمكة من المسافرين، أما لو سافر عنه إلى بلد آخر مدة مؤقتة كأن ترك دمشق إلى حلب، ثم عاد إليه فيتم الصلاة؛ لأن الوطن الأصلي لا يبطل حكمه بوطن الإقامة ولا بالسفر؛ لأن الشيء لا يبطل بما هو دونه، بل بما هو مثله أو فوقه. ب ـ الانتقال عن محل الإقامة المؤقتة (وطن الإقامة): من تنقل في البلدان فأقام في بلد نصف شهر مثلاً، ثم عاد إليه، قصر الصلاة فيه مالم ينو الإقامة مجدداً نصف شهر؛ لأن وطن الإقامة يبطل حكمه بمثله، وبالسفر عنه أي بإنشاء السفر منه، كما يبطل بالوطن الأصلي. ولا يبطل وطن الإقامة بإنشاء السفر من غيره، مادام المسافر يمرّ عليه، ومادامت المسافة بينه وبين المكان الذي أنشأ السفر منه دون مسافة القصر. وقال المالكية (¬1): يمتنع القصر على المسافر وعليه الإتمام إن عاد إلى بلدته الأصلية التي نشأ فيها وينتسب إليها، أو مرّ فيها، أو إلى البلد التي نوى فيها إقامة دائمة، أو إلى بلد الزوجة التي دخل بها وكانت غير ناشز وإن لم ينو إقامة أربعة أيام، أو إلى البلد ¬
قال الشافعية
التي نوى فيها الإقامة أربعة أيام فأكثر. أما دخول بلد الزوجة التي لم يدخل بها أو كانت ناشزاً، فلا يمنع القصر. أما في أثناء الرجوع، فإن الرجوع في حقه سفر مستقل، فإن كان هناك مسافة قصر، قصر الصلاة، وإلا فلا، ويتم الصلاة حينئذ. ويمتنع القصر أيضاً بنية دخوله وطنه أو مكان زوجته في أثناء الطريق، إن لم يكن بينه وبين المحل المنوي دخوله مسافة القصر الشرعية. وقال الشافعية (¬1): الوطن: هو محل الإقامة الدائمة صيفاً وشتاءً. ويمتنع القصر برجوعه إلى وطنه، وإلى موضع نوى الإقامة فيه مطلقاً، أو أربعة أيام صحيحة، أو لحاجة لا تنقضي إلا في المدة المذكورة، كما يمتنع القصر بنية الرجوع إلى وطنه أو بالتردد فيه وهو ماكث غير سائر، ومستقل غير تابع، ولو بمحل لا يصلح للإقامة كمفازة، من دون مسافة القصر، فإن نوى الرجوع وهو سائر أو تابع لغيره كالزوجة لزوجها فيقصر حتى يرجع فعلاً. وكذلك يقصر إذا كان قاصداً المرور بوطنه فقط دون الإقامة، كما أنه يقصر في بلد أقام فيها إن كان يتوقع قضاء حاجة كل وقت إلى ثمانية عشر يوماً، ويقصر أيضاً بالرجوع إلى غير وطنه (وهو غير محل الإقامة الدائمة) وإن كان له فيه أهل أو عشيرة، ولا يقصر بنية الرجوع إلى غير وطنه إذا كان الرجوع لغير حاجة، فإن كان لحاجة كتطهر فيقصر. ¬
قال الحنابلة
وقال الحنابلة (¬1): من رجع إلى الوطن الذي سافر منه، أو نوى الرجوع قبل قطع مسافة القصر، فلا يقصر وإنما يتم الصلاة، كما إنه يتمها إذا مرّ (أي مسافر) بوطنه، ولو لم يكن له حاجة سوى المرور؛ لأنه في حكم المقيم إذ ذاك. أو مر ببلد له فيه امرأة، ولو لم يكن وطنه، حتى يفارقه، لأنه كما سبق في حكم المقيم إذ ذاك. أو مر ببلد تزوج فيه، حتى يفارقه، لحديث عثمان، سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: «من تأهل في بلد، فليصل صلاة المقيم» (¬2) وظاهره: ولو بعد فراق الزوجة، أما لو كان له به أقارب كأم وأب أو ماشية أو مال، لم يمتنع عليه القصر، إذا لم يكن مما سبق. خلاصة آراء المذاهب في الحالات التي يمتنع فيها القصر ويصبح المسافر فيها في حكم المقيم: الحنفية (¬3): يمتنع القصر بنية الإقامة نصف شهر ببلد أو قرية واحدة، لا ببلدتين لم يعين المبيت بإحداهما، وبالعودة إلى وطنه (محل إقامته الدائمة)، إن قطع مسافة القصر عن بلده، وباقتداء المسافربالمقيم، وبعدم الاستقلال بالرأي، وبعدم قصد جهة معينة. المالكية (¬4): يقطع القصر أحد أمور خمسة: ¬
الشافعية
الأول ـ دخول بلدِه الراجع هو إليه، سواء أكانت وطنه أم لا، وإن لم ينو إقامة أربعة أيام إلا مقيماً ببلد إقامة مؤقتة تركه ناوياً السفر، ثم عاد إليه، فله القصر. والمراد ببلده الذي سافر منه: هو وطنه أو محل زوجته الكائن في أثناء المسافة. وإنما كان دخول البلد قاطعاً للقصر؛ لأن دخول البلد مظنة للإقامة، فإذا كفت نية الإقامة في قطع القصر، ففعل الإقامة أولى. الثاني ـ الرجوع إلى وطنه أو محل زوجته المدخول بها قبل أن يقطع مسافة القصر، ومجرد الأخذ في الرجوع يقطع حكم السفر. الثالث ـ دخول وطنه أثناء المرور عليه، بأن كان بمحل آخر غير وطنه، وسافر منه إلى بلد آخر. الرابع ـ نية الإقامة أربعة أيام صحاح تستلزم عشرين صلاة، أو العلم مسبقاً بإقامة الأربعة الأيام عادة في محل، اعتادت القافلة أن تقيم فيه. الخامس ـ دخول مكان زوجة دخل بها فقط؛ لأنه في حكم الوطن. أما دخول مكان الأقارب كأم أو أب، فلا يقطع السفر ولا يمنع القصر. الشافعية (¬1): يمتنع القصر بنية الإقامة أربعة أيام صحيحة، وبالعودة لوطنه (محل الإقامة الدائمة)، وباقتداء المسافر بالمقيم أو بمشكوك السفر، وبعدم قصد جهة معينة، وبعدم الاستقلال بالرأي دون مسافة القصر، وبسفر المعصية، وبانقطاع السفر أثناء الصلاة، وبعدم نية القصر أثناء الإحرام. الحنابلة (¬2): يمنع القصر ويجب الإتمام في إحدى وعشرين صورة: ¬
الأولى ـ مرور المسافر بوطنه ولو لم يكن له حاجة سوى المرور عليه. الثانية ـ المرور ببلد له فيه امرأة، ولو لم يكن وطنه. الثالثة ـ المرور ببلد تزوج فيه، وقد سبق ذكر هذه الحالات قريباً. الرابعة ـ إن أحرم مقيماً في حضر، ثم سافر. الخامسة ـ إن دخل عليه وقت صلاة في الحضر، ثم سافر. السادسة ـ إن أحرم بالصلاة الرباعية في سفر، ثم أقام، كراكب سفينة وصلت إلى وطنه أثناء الصلاة، تغليباً لحكم الحضر. السابعة والثامنة ـ إن ذكر صلاة حضر في سفر، أوعكسه: أي صلاة سفر في حضر، لزمه أن يتم؛ لأنه الأصل، فغلِّب حكم الحضر. التاسعة والعاشرة ـ ائتم بمقيم أو بمن يلزمه الإتمام. الحادية عشرة ـ ائتم بمن يشك في كونه مسافراً، أو بمن يغلب على ظنه أنه مقيم، ولو بان بعدئذ كونه مسافراً، لعدم الجزم بكونه مسافراً عند الإحرام. الثانية عشرة ـ أحرم بصلاة يلزمه إتمامها، ففسدت وأعادها: كمن يقتدي بمقيم فيحدث في أثناء الصلاة، فيلزمه إعادتها تامة؛ لأنها وجبت عليه أولاً تامة، فلا يجوز أن تعاد مقصورة. الثالثة عشرة ـ إن لم ينو القصر عند دخوله الصلاة أي عند إحرامه، فيلزمه أن يتم؛ لأنه الأصل، وإطلاق النية ينصرف إليه. الرابعة عشرة ـ إن شك في الصلاة: هل نوى القصر أم لا، ولو تذكر بعدئذ في أثناء الصلاة، لزمه أن يتم، لوجود ما أوجب الإتمام في بعضها، فغلب؛ لأنه الأصل.
سادسا ـ قضاء الصلاة الفائتة في السفر
الخامسة عشرة ـ إن تعمد ترك صلاة أو بعضها في سفر، بأن أخرها بلا عذر، حتى خرج وقتها، فيلزمه أن يتم، قياساً على السفر المحرَّم، لأنه صار عاصياً بتأخيرها متعمداً من غير عذر. السادسة عشرة ـ العزم على قلب السفر لمعصية كقطع الطريق، ونية الرجوع في مكان بينه وبين موطنه دون مسافة القصر. السابعة عشرة ـ إن تاب في الصلاة من سفر المعصية، لزمه أن يتم، وكذلك يتم إن قصر معتقداً تحريم القصر، ولو أنه مخطئ في اعتقاده. الثامنة عشرة ـ إن نوى المسافر في الصلاة الإتمام، بعد أن نوى القصر، أتم وجوباً؛ لأنه رجع إلى الأصل. التاسعة عشرة ـ إن نوى إقامة مطلقة: بأن لم يحدها بزمن، في بلد، ولو في دار حرب، أو في بادية لا يقام فيها، لزوال السفر المبيح للقصر بنية الإقامة. العشرون ـ إن نوى إقامة أكثر من عشرين صلاة، أتم. الحادية والعشرون ـ إن شك في نيته: هل نوى إقامة ما يمنع القصر أم لا، أتم؛ لأن الإتمام هو الأصل، فلا ينتقل عنه مع الشك في مبيح الرخصة. سادساً ـ قضاء الصلاة الفائتة في السفر: سبق بيانه في بحث قضاء الفوائت، وأوجز هنا آراء الفقهاء فيه: قال الحنفية والمالكية (¬1): من فاتته صلاة في السفر قضاها في الحضر ركعتين، كما فاتته في السفر، ¬
سابعا ـ صلاة السنن في السفر
ومن فاتته صلاة في الحضر قضاها في السفر أربعاً؛ لأنه بعدما تقرر لا يتغير؛ ولأن القضاء بحسب الأداء. وقال الشافعية والحنابلة (¬1): الصلاة الفائتة في الحضر، تقضى أربعاً سواء في السفر أم في الحضر؛ لأن القصر رخصة من رخص السفر، فيبطل بزواله كالمسح ثلاثة أيام، ولأنها ثبتت في ذمته تامة، وفائتة السفر تقضى مقصورة في السفر دون الحضر، في الأظهر عند الشافعية؛ لأنها وجبت في السفر، فينظر إلى وجود السبب. وقد تعادل في نظري الرأيان، وللمرء الأخذ بأحدهما، ويختار بحسب ما يراه أحوط ديناً. سابعاً ـ صلاة السنن في السفر: قال النووي (¬2): قد اتفق الفقهاء على استحباب النوافل المطلقة في السفر، واختلفوا في استحباب النوافل الراتبة، فتركها ابن عمر وآخرون، واستحبها الشافعي وأصحابه والجمهور. ودليلهم أولاً ـ الأحاديث العامة الواردة في ندب مطلق الرواتب، وحديث صلاته صلّى الله عليه وسلم الضحى في يوم الفتح، وركعتي الصبح، حين ناموا حتى طلعت الشمس، وأحاديث أخر ذكرها أصحاب السنن. وثانياً ـ القياس على النوافل المطلقة. ¬
المطلب الثاني ـ الجمع بين الصلاتين
وأما ما في الصحيحين عن ابن عمر، أنه قال: صحبت النبي صلّى الله عليه وسلم، فلم أره يُسبِّح ـ أي يتنفل ـ في السفر، وفي رواية: صحبت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكان لا يزيد في السفر على ركعتين، وأبا بكروعمر وعثمان كذلك، فقال النووي: لعل النبي صلّى الله عليه وسلم كان يصلي الرواتب في رحله، ولا يراه ابن عمر، فإن النافلة في البيت أفضل، ولعله تركها في بعض الأوقات تنبيهاً على جواز تركها. وقال الحنفية (¬1): ويأتي المسافر بالسنن الرواتب إن كان في حال أمن وقرار أي نازلاً مستقراً، وإلا بأن كان في حال خوف وفرار، أي في السير، لا يأتي بها، وهو المختار. وحرر ابن تيميمة الموضوع قائلاً: فعل السنن الرواتب في السفر جائز، فمن شاء فعلها، ومن شاء تركها باتفاق الأئمة، والفعل أحياناً أفضل لحاجة الإنسان إليها، والترك أحياناً أفضل إذا اشتغل الإنسان بما هو أفضل منها، لكن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يكن يصلي من الرواتب إلا ركعتي الفجر والوتر. أما الصلاة قبل الظهر وبعدها، وبعد المغرب، فلم ينقل أحد عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه فعل ذلك في السفر (¬2). المطلب الثاني ـ الجمع بين الصلاتين: أولاً ـ مشروعية الجمع: يجوز عند الجمهور غير الحنفية (¬3) الجمع بين الظهر والعصر تقديماً في وقت الأولى، وتأخيراً في وقت الثانية، والجمعة كالظهر في جمع التقديم، وبين المغرب والعشاء تقديماً وتأخيراً أيضاً في السفر الطويل كما في القصر (89كم). ¬
فالصلوات التي تجمع: الظهر والعصر، والمغرب والعشاء في وقت إحداهما ويسمى الجمع في وقت الصلاة الأولى: جمع التقديم، والجمع في وقت الصلاة الثانية: جمع التأخير. والأفضل عدم الجمع خروجاً من الخلاف، ولعدم مداومة النبي صلّى الله عليه وسلم عليه، ولو كان أفضل لأدامه كالقصر. ودليل جمع التأخير: الثابت في الصحيحين عن أنس وابن عمررضي الله عنهما، أما حديث الأول، فقال أنس: كا ن رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا رحل قبل أن تزيغ ـ تميل ظهراً ـ الشمس، أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل يجمع بينهما، فإن زاغت قبل أن يرتحل صلى الظهر، ثم ركب (¬1). وأما حديث ابن عمر فهو: أنه استُغيث على بعض أهله، فجدَّ به السير، فأخر المغرب حتى غاب الشَّفَق، ثم نزل، فجمع بينهما، ثم أخبرهم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك إذا جدَّ به السير (¬2). ودليل جمع التقديم: الصحيح من حديث معاذ رضي الله عنه: أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك إذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء فصلاها مع المغرب» (¬3). وقال الحنفية (¬4): لا يجوز الجمع إلا في يوم عرفة للمحرم بالحج جمع تقديم بين الظهر والعصر بأذان واحد وإقامتين؛ لأن العصر يؤدى قبل وقته المعهود، فيفرد بالإقامة إعلاماً للناس. وفي ليلة المزدلفة جمع تأخير بين المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامة واحدة؛ لأن العشاء في وقتها فلم تحتج للإعلام. ¬
ثانيا ـ أسباب الجمع بين الصلاتين وشروطه
واحتجوا بأن مواقيت الصلاة تثبت بالتواتر، فلا يجوز تركها بخبر الواحد. وقال ابن مسعود فيما يرويه الشيخان: «والذي لا إله غيره، ما صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم صلاة قط إلا لوقتها، إلا صلاتين، جمع بين الظهر والعصر بعرفة، وبين المغرب والعشاء بجَمْع» أي بالمزدلفة. والحق: جواز الجمع لثبوته بالسنة، والسنة مصدر تشريعي كالقرآن. ثانياً ـ أسباب الجمع بين الصلاتين وشروطه: اتفق مجيزو الجمع تقديماً وتأخيراً على جوازه في أحوال ثلاثة: هي السفر، والمطر ونحوه من الثلج والبرد، والجمع بعرفة والمزدلفة، واختلفوا فيما سواها، وفي شروط صحة الجمع. فقال المالكية (¬1): أسباب الجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء تقديماً وتأخيراً ستة: هي السفر، والمطر، والوحل مع الظلمة، والمرض كالإغماء ونحوه، وجمع عرفة، ومزدلفة، وكلها يرخص لها الجمع جوازاً للرجل أو المرأة، إلا جمع عرفة ومزدلفة، فهو سنة. أما السفر: فيجوز فيه الجمع مطلقاً، سواء أكان طويلاً أم قصيراً في مسافة القصر، إذا كان في البرّ لا في البحر، قصراً للرخصة على موردها، وكان غير عاص بالسفر وغير لاه. ويشترط لجواز جمع التقديم في السفر شرطان: 1ً - أن تزول عليه الشمس (يدخل الظهر) وهو مسافر في مكان نزوله للاستراحة. ¬
2ً - أن ينوي الارتحال قبل وقت العصر، والنزول للاستراحة بعد غروب الشمس فإن نوى الاستراحة قبل اصفرار الشمس، صلى الظهر فقط، وأخر العصر وجوباً لوقتها الاختياري، فإن قدمه أجزأته الصلاة. وإن نوى الاستراحة بعد الاصفرار وقبل الغروب، صلى الظهر في وقته، وخُيِّر في العصر إن شاء قدمها، وإن شاء أخَّرها حتى ينزل للاستراحة. وإن دخل وقت الظهر (أي بزوال الشمس) وهو سائر: فإن نوى النزول وقت الاصفرار أو قبله، أخر الظهر، وجمعها مع العصر جمع تأخير، وإن نوى النزول بعد الغروب، فيجمع بين الصلاتين جمعاً صورياً، فيصلي الظهر في آخر وقتها الاختياري، والعصر في أول وقتها الاختياري. والمغرب والعشاء له حكم هذا التفصيل، مع ملاحظة أن غروب الشمس ينزل منزلة الزوال عند الظهر، وطلوع الفجر كالغروب، وابتداء الثلثين الأخيرين من الليل كاصفرار الشمس. وأما المرض كالمبطون أوغيره فيجيز الجمع الصوري: بأن يصلي الفرض المتقدم في آخر وقته الاختياري، والفرض الثاني في أول وقته الاختياري، وفائدته عدم الكراهة. أما الصحيح فله الجمع الصوري مع الكراهة. ومن خاف إغماء أو دَوْخة أو حمى عند دخول وقت الصلاة الثانية (العصر أو العشاء) فله تقديم الثانية عند الأولى؛ جوازاً على الراجح. والخلاصة: إن المريض يجمع إن خاف أن يغيب على عقله أو إن كان الجمع أرفق به، ووقته في وقت الأولى. وأما المطر أو البرد أو الثلج، أو الطين مع الظلمة الواقع أو المتوقع: فيجيز
جمع التقديم فقط لمن يصلي العشاءين (المغرب والعشاء) بجماعة في المسجد، إذا كان المطر غزيراً يحمل أوساط الناس على تغطية رؤوسهم، والوحل أو الطين كثيراً يمنع أواسط الناس من لبس المداس. ولا يجوز الجمع إلا باجتماع الوحل مع الظلمة، لا بأحدهما فقط. ولو انقطع المطر بعد الشروع في الجمع، جاز الاستمرار فيه. والمشهور أن يكون هذا الجمع بأذان وإقامة لكل واحدة من الصلاتين ويكون الأذان الأول للمغرب على المنارة بصوت مرتفع والثاني بصوت منخفض في المسجد، لا على المنارة، ويؤخر البدء بالمغرب ندباً بعد الأذان بقدر ثلاث ركعات، ثم ينصرف الناس إلى منازلهم من غير تنفل في المسجد؛ لأن النفل حينئذ مكروه، فلا نفل بعد الجمع في المسجد، ولا وتر حتى يغيب الشفق. ولا يتنفل بين الصلاتين، والنفل مكروه لا يمنع صحة الجمع، ولا يجوز هذا الجمع لجار المسجد، ولو كان مريضاً يشق عليه الخروج للمسجد، أو كان امرأة ولا يخشى منها الفتنة. وكذلك لا يجوز هذا الجمع لمن صلى منفرداً في المسجد إلا أن يكون إماماً راتباً له منزل ينصرف إليه، فإنه يجمع وحده، وينوي الجمع والإمامة؛ لأنه ينزل منزلة الجماعة. وتجب نية الجمع في الصلاة الأولى كنية الإمامة. وأما الجمع في الحج فهو سنة اتفاقاً، فيسن للحاج أن يجمع بين الظهر والعصر جمع تقديم بعرفة، سواء أكان من أهلها أم أهل غيرها من أماكن النسك كمنى ومزدلفة، أو من أهل الآفاق، ويقصر من لم يكن من أهل عرفة للسنة، وإن لم تكن المسافة مسافة قصر.
الشافعية
ويسن أيضاً للحاج أن يصلي المغرب والعشاء جمع تأخير بمزدلفة، ويسن قصر العشاء لغير أهل مزدلفة؛ لأن القاعدة أن الجمع سنة لكل حاج، والقصر خاص بغير أهل المكان الذي فيه وهو عرفة ومزدلفة. الشافعية (¬1): أجازوا الجمع فقط في السفر والمطر والحج بعرفة ومزدلفة. أما الجمع بسبب المطر أو الثلج والبرد الذائبين: فالأظهر جوازه تقديماً لمن صلى بجماعة في مسجد بعيد، وتأذى بالمطر في طريقه، والمذهب الجديد منع جمع التأخير فيه؛ لأن استدامة المطر غير متيقنة فقد ينقطع، فيؤدي إلى إخراج الصلاة عن وقتها من غير عذر. ودليلهم على جواز جمع التقديم: ما في الصحيحين عن ابن عباس «صلى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالمدينة الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً» زاد مسلم «من غير خوف ولا سفر». وشرط جواز التقديم: وجود المطر عند السلام من الصلاة الأولى، ليتصل المطر بأول الثانية، فلا بد من امتداده بينهما، ولا يضر انقطاعه فيما عدا ذلك. ويجمع العصر مع الجمعة في المطر جمع تقديم، وإن لم يكن موجوداً حال الخطبة؛ لأنها ليست من الصلاة. والمشهور في المذهب عدم جواز الجمع بسبب الوحل والريح والظلمة والمرض لحديث مواقيت الصلاة، ولايجوز مخالفته إلا بنص صريح. و «لأن النبي صلّى الله عليه وسلم مرض أمراضاً كثيرة، ولم ينقل جمعة بالمرض صريحاً». ¬
يشترط لجمع التقديم ستة شروط
ولأن من كان ضعيفاً ومنزله بعيداً عن المسجد بعداً كثيراً، لا يجوز له الجمع، مع المشقة الظاهرة، فكذا المريض. ويندب جمع التقديم للحاج بعرفة، وجمع التأخير بمزدلفة، كما قال المالكية. وأما الجمع بسبب السفر فيجوز تقديماً وتأخيراً إذا كان السفر طويلاً كما في القصر. ويشترط لجمع التقديم ستة شروط: الأول ـ نية الجمع: أي أن ينوي جمع التقديم، في أول الصلاة الأولى، وتجوز في أثنائها في الأظهر، ولو مع السلام منها. الثاني ـ الترتيب أي البُداءة بالأولى صاحبة الوقت: وهو أن يقدم الأولى، ثم يصلي الثانية؛ لأن الوقت للأولى، وإنما يفعل الثانية تبعاً للأولى، فلا بد من تقديم المتبوع، فلو صلاهما مبتدئاً بالأولى، فبان فسادها بفوات شرط أو ركن، فسدت الثانية أيضاً، لانتفاء شرطها من البداءة بالأولى، ولكن تنعقد الثانية نافلة على الصحيح. الثالث ـ الموالاة أي التتابع بألا يفصل بينهما فاصل طويل؛ لأن الجمع يجعلهما كصلاة واحدة، فوجب الولاء كركعات الصلاة أي فلا يفرق بينهما، كما لا يجوز أن يفرق بين الركعات في صلاة واحدة، فإن فصل بينهما بفصل طويل ولو بعذر كسهو وإغماء، بطل الجمع، ووجب تأخير الصلاة الثانية إلى وقتها، لفوات شرط الجمع، وإن فصل بينهما بفصل يسير، لم يضر، كالفصل بينهما بالأذان والإقامة والطهارة، لما في الصحيحين عن أسامة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم لما جمع بنمرة، أقام للصلاة بينهما».
يشترط لجمع التأخير شرطان فقط
ويعرف طول الفصل بالعرف؛ لأنه لا ضابط له في الشرع ولا في اللغة. وللمتيمم الجمع بين الصلاتين على الصحيح، كالمتوضئ، فلايضر تخلل طلب خفيف للماء؛ لأن ذلك من مصلحة الصلاة، فأشبه الإقامة، بل أولى؛ لأنه شرط دونها. ويلاحظ أن هذه الشروط الثلاثة (نية الجمع، والترتيب والموالاة) لا تجب في جمع التأخير على الصحيح. الرابع ـ دوام السفر إلى الإحرام بالصلاة الثانية، حتى ولو انقطع سفره بعد ذلك أثناءها. أما إذا نقطع سفره قبل الشروع في الثانية، فلا يصح الجمع، لزوال السبب. الخامس ـ بقاء وقت الصلاة الأولى يقيناً إلى عقد الصلاة الثانية. السادس ـ ظن صحة الصلاة الأولى: فلو جمع العصر مع الجمعة في مكان تعددت فيه لغير حاجة، وشك في السبق والمعية، لا يصح جمع العصر معها جمع تقديم. ويشترط لجمع التأخير شرطان فقط: الأول ـ نية التأخير قبل خروج وقت الصلاة الأولى، ولو بقدر ركعة: أي بزمن لو ابتدئت فيه، كانت أداء. وإلا فيعصي، وتكون قضاء. ودليل اشتراط النية: أنه قد يؤخر للجمع، وقد يؤخر لغيره، فلا بد من نية يتميز بها التأخير المشروع عن غيره. الثاني ـ دوام السفر إلى تمام الصلاة الثانية، فإن لم يدم إلى ذلك بأن أقام ولو في أثنائها، صارت الأولى (وهي الظهر أو المغرب) قضاء؛ لأنها تابعة للثانية في الأداء للعذر، وقد زال قبل تمامها.
أما سنة الصلاة
أما الترتيب: فليس بواجب؛ لأن وقت الثانية وقت الأولى، فجاز البداية بما شاء منهما. وأما التتابع: فلا يجب أيضاً؛ لأن الأولى مع الثانية كصلاة فائتة مع صلاة حاضرة، فجاز التفريق بينهما. وإنما الترتيب والتتابع سنة، وليس بشرط. أما سنة الصلاة: فإذا جمع الظهر والعصر قدم سنة الظهر التي قبلها، وله تأخيرها، سواء أجمع تقديماً أم تأخيراً، ولو توسيطها إن جمع تأخيراً، سواء قدم الظهر أم العصر. وإذا جمع المغرب والعشاء، أخر سنتهما، وله توسيط سنة المغرب إن جمع تأخيراً، وقدم المغرب، وتوسيط سنة العشاء إن جمع تأخيراً وقدم العشاء. وما سوى ذلك ممنوع. الحنابلة (¬1): يجوز جمع التقديم والتأخير في ثمان حالات: إحداها ـ السفر الطويل المبيح للقصر، أي قصر الصلاة الرباعية: بأن يكون السفر غير حرام ولا مكروه، ويبلغ مسافة يومين، لأنه أي الجمع رخصة تثبت لدفع المشقة في السفر، فاختصت بالطويل كالقصر والمسح ثلاثاً. الثانية ـ المرض: الذي يؤدي إلى مشقة وضعف بترك الجمع، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «جمع من غير خوف ولا مطر» وفي رواية «من غير خوف ولا سفر» (¬2)، ولا عذر بعد ذلك إلا المرض، واحتج أحمد بأن المرض أشد من السفر. والمريض مخير في التقديم والتأخير كالمسافر، فإن استوى عنده الأمران فالتأخير أولى. الثالثة ـ الإرضاع: يجوز الجمع لمرضع، لمشقة تطهير النجاسة لكل صلاة، فهي كالمريضة. ¬
الرابعة ـ العجز عن الطهارة بالماء أو التيمم لكل صلاة: يجوز الجمع لعاجز عنهما، دفعاً للمشقة؛ لأنه كالمسافر والمريض. الخامسة ـ العجز عن معرفة الوقت: يجوز الجمع لعاجز عن ذلك كالأعمى. السادسة ـ الاستحاضة ونحوها: يجوز الجمع لمستحاضة ونحوها كصاحب سلس بول أو مذي أو رعاف دائم ونحوه، لما جاء في حديث حَمْنة السابق حين استفتت النبي صلّى الله عليه وسلم في الاستحاضة، حيث قال فيه: «فإن قويت على أن تؤخري الظهر، وتعجلي العصر، فتغتسلين وتجمعين بين الصلاتين، فافعلي» (¬1) ومن به سلس البول ونحوه في معناها. السابعة والثامنة: العذر أو الشغل: يجوز لمن له شغل، أو عذر يبيح ترك الجمعة والجماعة، كخوف على نفسه أو حرمته أو ماله، أو تضرر في معيشة يحتاجها بترك الجمع ونحوه. وهذا منفذ يلجأ إليه العمال وأصحاب المزارع للسقي في وقت النوبة (أو الدور). والجمع للمطر: جائز بين المغرب والعشاء، كما قال المالكية، لما قال أبو سلمة ابن عبد الرحمن: «إن من السنة إذا كان يوم مطير أن يجمع بين المغرب والعشاء» (¬2) وهذا ينصرف إلى سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ولا يجوز الجمع بين الظهر والعصر، لقول أبي سلمة السابق، فلم يرد إلا في المغرب والعشاء. والجمع للمطر يكون في وقت الأولى، لفعل السلف، ولأن تأخير الأولى إلى وقت الثانية يفضي إلى لزوم المشقة والخروج في الظلمة، أو طول الانتظار في المسجد إلى دخول وقت العشاء. وإن اختار الناس تأخير الجمع جاز. والمطر المبيح للجمع: هو ما يبل الثياب، وتلحق المشقة بالخروج فيه. ¬
والثلج والبرد كالمطر في ذلك. أما الطل والمطر الخفيف الذي لا يبل الثياب فلا يبيح. وأما الوحل بمجرده فهو عذر في الأصح؛ لأن المشقة تلحق بذلك في النعال والثياب، كما تلحق بالمطر؛ لأن الوحل يلوث الثياب والنعال، ويعرض الإنسان للزلق فيتأذى به بنفسه وثيابه، وذلك أعظم من البلل. وأما الريح الشديدة في الليلة المظلمة الباردة: فيبيح الجمع في الأصح؛ لأن ذلك عذر في الجمعة والجماعة، روى نافع عن ابن عمر، قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم ينادي مناديه في الليلة المطيرة أو الليلة الباردة ذات الريح: صلوا في رحالكم» (¬1). وهذه الأعذار كلها تبيح الجمع تقديماً وتأخيراً، حتى لمن يصلي في بيته، أو يصلي في مسجد ولو كان طريقه مسقوفاً، ولمقيم في المسجد ونحوه كمن بينه وبين المسجد خطوات يسيرة، ولو لم ينله إلا مشقة يسيرة. وفعل الأرفق من جمع التقديم أو التأخير لمن يباح له أفضل بكل حال، لحديث معاذ السابق، المتضمن التخيير بحسب الحاجة بين التقديم والتأخير (¬2)، وروى مالك عن معاذ: «وأخر النبي صلّى الله عليه وسلم الصلاة يوماً في غزوة تبوك، ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعاً، ثم دخل ثم خرج، فصلى المغرب والعشاء جميعاً» (¬3)، فإن استويا فالتأخير أفضل لأنه أحوط، وفيه خروج من الخلاف، وعمل بالأحاديث كلها. ¬
قال ابن تيمية: جمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم بين الصلاتين في السفر والحضر أيضاً لئلا يحرج أمته، روى مسلم وغيره عن ابن عباس أنه قال: «صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً من غير خوف ولا سفر» (¬1). لكن الجمع في أثناء الحج يكون تقديماً بين الظهر والعصر في عرفة، وتأخيراً في المزدلفة بين المغرب والعشاء، لفعله صلّى الله عليه وسلم، لاشتغاله وقت العصر بعرفة بالدعاء، ووقت المغرب ليلة المزدلفة بالسير إليها. شروط الجمع: يشترط لصحة الجمع مطلقاً تقديماً وتأخيراً: مراعاة الترتيب بين الصلوات، فيقدم الأولى على الثانية، ولا يسقط ـ على الصحيح في المذهب ـ الترتيب هنا بالنسيان، كما يسقط في قضاء الفوائت. ويشترط لصحة جمع التقديم شروط أربعة أخرى: الأول ـ نية الجمع عند الإحرام بالصلاة الأولى: لحديث «إنما الأعمال بالنيات». الثاني ـ الموالاة: فلا يفرق بين المجموعتين إلا بقدر الإقامة والوضوء الخفيف؛ لأن معنى الجمع المتابعة والمقارنة، ولا يحصل ذلك مع التفريق الطويل، والخفيف أمر يسير وهو معفو عنه، وهما من مصالح الصلاة. الثالث ـ وجود العذر المبيح للجمع من سفر أو مرض ونحوه عند افتتاح الصلاتين المجموعتين، وعند سلام الأولى؛ لأن افتتاح الأولى من موضع النية وفراغها، وافتتاح الثانية موضع الجمع، فلو انقطع المطر، ولم يوجد وحل بعده قبل ذلك، بطل الجمع. ¬
الرابع ـ دوام العذر إلى فراغ الثانية شرط في السفر والمرض: فلو انقطع السفر قبل ذلك، بطل الجمع. ولا يشترط دوام العذر إلى فراغ الثانية في جمع مطر ونحوه كثلج وبرد إن خلفه وحل. ويشترط لجمع التأخير شرطان: الأول ـ نية الجمع في وقت الصلاة الأولى ما لم يضق وقتها عن فعلها، فإن ضاق وقت الأولى عن فعلها، لم يصح الجمع؛ لأن تأخيرها إلى القدر الذي يضيق عن فعلها حرام، ويأثم بالتأخير. الثاني ـ استمرار العذر إلى دخول وقت الثانية؛ لأن المجوِّز للجمع العذر، فإذا لم يستمر، وجب ألا يجوز، لزوال المقتضي، كالمريض يبرأ، والمسافر يقدم، والمطر ينقطع. ولا أثر لزوال العذر بعد دخول وقت الثانية؛ لأنهما صارتا واجبتين في ذمته، فلا بد له من فعلهما. ويشترط الترتيب في كل من الجمعين، كما قدمنا. ولا تشترط الموالاة في جمع التأخير، فلا بأس بالتطوع بينهما، كما لا تشترط نية الجمع في الثانية؛ لأنها مفعولة في وقتها، فهي أداء بكل حال. ولا يشترط في نوعي الجمع اتحاد إمام ولا مأموم، فلو تنوع الإمام في صلاتي الجمع، أو نوى الجمع إماماً بمن لا يجمع، صح الجمع؛ لأن لكل صلاة حكم نفسها، وهي منفردة بنيتها. وإذا بان فساد الأولى بعد الجمع بنسيان ركن أو غيره، بطلت الأولى والثانية.
السنن: إذا جمع في وقت الأولى: فله أن يصلي سنة الثانية منهما، ويوتر قبل دخول وقت الثانية؛ لأن سنتها تابعة لها، فيتبعها في فعلها ووقتها. وبما أن وقت الوتر: ما بين صلاة العشاء إلى صلاة الصبح، وقد صلى العشاء، فإن وقته يدخل بعد صلاة العشاء جمعاً.
المبحث الرابع ـ صلاة العيدين
المبحث الرابع ـ صلاة العيدين سبب التسمية: سمي العيد بهذا الاسم؛ لأن لله تعالى فيه عوائد الإحسان أي أنواع الإحسان العائدة على عباده في كل عام، منها الفطر بعد المنع عن الطعام وصدقة الفطر، وإتمام الحج بطواف الزيارة، ولحوم الأضاحي وغيرها؛ ولأن العادة فيه الفرح والسرور والنشاط والحبور غالباً بسبب ذلك، وأصل معنى (عيد) لغةً: عود، والعود هو الرجوع، فهو يعود ويتكرر بالفرح كل عام. مضمون البحث: الكلام عن صلاة العيد يتناول أدلة مشروعيتها، وحكمها الفقهي، ووقتها وموضعها، وكيفيتها أو صفتها، وخطبتها، وحكم التكبير في العيدين، وسنن العيد أو مستحباته أو وظائفه، والتنفل قبل العيد وبعده، كيفية صلاته صلّى الله عليه وسلم صلاة عيد الفطر والأضحى وكيفية خطبته. أولاً ـ أدلة مشروعية صلاة العيد: شرعت صلاة العيد في السنة الأولى من الهجرة، بدليل ما روى أنس: «قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم المدينة، ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: ما هذان اليومان؟ قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إن الله قد أبدلكما خيراً منهما: يوم الأضحى، ويوم الفطر». وأدلة مشروعيتها: الكتاب والسنة والإجماع (¬1). ¬
ثانيا ـ حكمها الفقهي
أما الكتاب: فقوله تعالى: {فصل لربك وانحر} [الكوثر:108/ 2] المشهور في التفسير: أن المراد بذلك صلاة العيد أي صلاة الأضحى والذبح. وأما السنة: فثبت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالتواتر كان يصلي صلاة العيدين. وأول عيد صلاه صلّى الله عليه وسلم: عيد الفطر في السنة الثانية من الهجرة. قال ابن عباس: «شهدت صلاة الفطر مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فكلهم يصليها قبل الخطبة» وعنه «أن النبي صلّى الله عليه وسلم صلى العيد بغير أذان ولا إقامة» (¬1). ثانياً ـ حكمها الفقهي: يتردد حكم صلاة العيد بين آراء ثلاثة: كونها فرض كفاية، أو واجباً، أو سنة. فقال الحنابلة في ظاهر المذهب (¬2): صلاة العيد فرض كفاية، إذا قام بها من يكفي سقطت عن الباقين، أي كصلاة الجنازة، للآية السابقة {فصل لربك وانحر} [الكوثر:108/ 2] وهي صلاة العيد في المشهور في السِّيَر، وكان النبي صلّى الله عليه وسلم والخلفاء بعده يداومون عليها، ولأنها من أعلام الدين الظاهرة، فكانت واجبة كالجهاد، ولم تجب عيناً على كل مسلم، لحديث الأعرابي الآتي: «إلا أن تطَّوع» المقتضي نفي وجوب صلاة، سوى الخمس، وإنما وجب العيد بفعل النبي صلّى الله عليه وسلم، ومن صلى معه. فإن تركها أهل بلد يبلغون أربعين بلا عذر، قاتلهم الإمام كالأذان؛ لأنها من شعائر الإسلام الظاهرة، وفي تركها تهاون بالدين. ¬
وقال الحنفية في الأصح (¬1): تجب صلاة العيدين على من تجب عليه الجمعة بشرائطها المتقدمة سوى الخطبة، فإنها سنة بعدها. ودليلهم على الوجوب: مواظبة النبي صلّى الله عليه وسلم عليها. وقال المالكية والشافعية (¬2): هي سنة مؤكدة تلي الوتر في التأكيد، لمن تجب عليه الجمعة: وهو الذكر البالغ الحر المقيم ببلد الجمعة، أو النائي عنه كبعد فرسخ (5544م) منه، ولا تندب عند المالكية لصبي وامرأة وعبد ومسافر لم ينو إقامة تقطع حكم السفر، وندبت لغير المرأة الشابة، ولا تندب لحاج ولا لأهل منى، ولو غير حاجين. وتشرع عند الشافعية للمنفرد كالجماعة، والعبد والمرأة والمسافر والخنثى والصغير، فلا تتوقف على شروط الجمعة من اعتبار الجماعة والعدد وغيرهما. وهي أفضل في حق غير الحاج بمنى من تركها بالإجماع. ودليلهم على سنيتها: قوله صلّى الله عليه وسلم للأعرابي السائل عن الصلاة: «خمس صلوات كتبهن الله تعالى على عباده، قال له: هل علي غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطَّوع» (¬3) وكونها مؤكدة: لمواظبته صلّى الله عليه وسلم عليها. والتهنئة بالعيد والأعوام والأشهر مشروعة مباحة، لا سنة فيها ولا بدعة (¬4). ¬
شرائط وجوبها وجوازها
شرائط وجوبها وجوازها: قال الحنفية (¬1): كل ما هو شرط وجوب الجمعة وجوازها فهو شرط وجوب صلاة العيدين، وجوازها، من الإمام والجماعة، والمصر، والوقت، إلا الخطبة فإنها سنة بعد الصلاة، ولو تركها جازت صلاة العيد. أما الإمام أي حضور السلطان أو الحاكم أو نائبه: فهو شرط أداء العيد كالجمعة، لما ثبت في السنة، ولأنه لو لم يشترط السلطان، لأدى إلى الفتنة، بسبب تجمع الناس، وتنازعهم على التقدم للإمامة لما فيها من الشرف والعلو والرفعة. وأما المصر: فلقول علي موقوفاً عليه: «لا جمعة ولا تشريق، ولا صلاة فطر، ولا أضحى، إلا في مصر جامع أو مدينة عظيمة» (¬2). وأما الجماعة: فلأنها ما أديت إلا بجماعة. وأما الوقت: فإنها لا تؤدى إلا في وقت مخصوص، كما جرى به التوارث عن السلف. والذكورة والعقل والبلوغ والحرية وصحة البدن والإقامة من شرائط وجوبها، كما هي من شرائط وجوب الجمعة، فلا تجب على النسوان والصبيان والمجانين والعبيد بدون إذن مواليهم، ولا على الزمنى والمرضى والمسافرين، كما لاتجب عليهم الجمعة. أما الحنابلة (¬3) فقالوا: يشترط لصحة صلاة العيد استيطان أربعين عدد الجمعة ولا يشترط لها إذن، ويفعلها المسافر والعبد والمرأة والمنفرد تبعاً لأهل وجوبها. ¬
خروج النساء إلى صلاة العيد
خروج النساء إلى صلاة العيد: اتفق الفقهاء منهم الحنفية والمالكية (¬1) على أنه لا يرخص للشابات من النساء الخروج إلى الجمعة والعيدين وشيء من الصلاة، لقوله تعالى: {وقَرْن في بيوتكن} [الأحزاب:33/ 33] والأمر بالقرار نهي عن الانتقال، ولأن خروجهن سبب الفتنة بلا شك، والفتنة حرام، وما أدى إلى الحرام فهو حرام. وأما العجائز: فلا خوف في أن يرخص لهن الخروج في الفجر والمغرب والعشاء، والعيدين، واختلفوا في الظهر والعصر والجمعة، كما بينا سابقاً. وهذا التفصيل بين الشابة والعجوز هو مذهب الآخرين أيضاً. وعبارة الشافعية والحنابلة (¬2): لا بأس بحضور النساء مصلى العيد غير ذوات الهيئات فلا تحضر المطيبات، ولا لابسات ثياب الزينة أو الشهرة، لما روت أم عطية، قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يخرج العَواتِق والحُيَّض، وذوات الخدور في العيد، فأما الحُيَّض فكن يعتزلن الصلاة، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين» (¬3). وإذا أراد النساء الحضور تنظفن بالماء، ولا يتطيبن، ولا يلبسن الشهرة من الثياب، أي الثياب الفاخرة، ويعتزلن الرجال فلا يختلطن بهم، ويعتزل الحُيَّض المُصلَّى للحديث السابق، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وليخرجن ¬
ثالثا ـ وقتها
تَفِلات» (¬1) أي غير عطرات، ولأن المرأة إذا تطيبت ولبست الشهرة من الثياب، دعا ذلك إلى الفساد. ثالثاً ـ وقتها: اتفق الفقهاء على أن وقت صلاة العيد: هو ما بعد طلوع الشمس قدر رمح أو رمحين، أي بعد حوالي نصف ساعة من الطلوع، إلى قبيل الزوال، أي قبل دخول وقت الظهر، وهو وقت صلاة الضحى؛ للنهي عن الصلاة عند طلوع الشمس، فتحرم عند الشروق، وتكره بعدها عند الجمهور، فإذا صلوا قبل ارتفاع الشمس قدر رمح لا تكون عند الحنفية صلاة عيد، بل نفلاً محرماً (¬2). تعجيل الصلاة وتأخيرها: يسن تعجيل صلاة الأضحى في أول وقتها بحيث يوافق الحجاج بمنى في ذبحهم، وتأخير صلاة الفطر عن أول وقتها قليلاً، لما روى الشافعي مرسلاً أن النبي صلّى الله عليه وسلم كتب إلى عمرو بن حزم، وهو بنجران: «أن عجِّل الأضحى، وأخر الفطر، وذكِّر الناس» ولأنه يتسع لذلك وقت الأضحية، ووقت صدقة الفطر. هل تقضى صلاة العيد وهل تصلى منفرداً؟ للفقهاء رأيان: قال الحنفية والمالكية (¬3): من فاتته صلاة العيد مع الإمام، لم يقضها؛ لفوات وقتها، والنوافل لا تقضى، ولأنها لم تعرف قربة إلا بشرائط لا تتم بالمنفرد، فلو ¬
المدرك عند الشافعية والحنابلة
أمكنه الذهاب لإمام آخر فعل، لأنها تؤدى بمواضع اتفاقاً. ولا تجوز للمنفرد وإنما تصلى جماعة. وقال الشافعية والحنابلة (¬1): من فاتته صلاة العيد مع الإمام، سنَّ له قضاؤها على صفتها، لفعل أنس، ولأنه قضاء صلاة، فكان على صفتها كسائر الصلوات. وله قضاؤها متى شاء في العيد وما بعده متى اتفق، والأفضل قضاؤها في بقية اليوم. وتجوز صلاة العيد للمنفرد والعبد والمسافر والمرأة، كما بينا. المدرك عند الشافعية والحنابلة: إن أدرك المصلي الإمام في الخطبة، صلى تحية المسجد ثم جلس فسمعها، ولو كان بمسجد، ثم صلى العيد متى شاء، قبل الزوال أو بعده على صفتها، ولو منفرداً أو بجماعة دون أربعين؛ لأنها عند الشافعية نفل، فجاز للمنفرد فعلها كصلاة الكسوف، وتصير عند الحنابلة القائلين بفرضيتها تطوعاً لسقوط فرض الكفاية بالطائفة الأولى (¬2). وإن أدرك المرء الإمام في التشهد، جلس معه، فإذا سلم الإمام، قام فصلى ركعتين، يأتي فيهما بالتكبير؛ لأنه أدرك بعض الصلاة التي ليست مبدلة من أربع، فقضاها على صفتها كسائر الصلوات. صلاتها في اليوم الثاني إذا تأخر إثبات العيد لما بعد الزوال: إذا لم يعلم قوم بالعيد إلا بعد زوال الشمس (أي ظهر العيد)،أو غُمَّ الهلال على الناس، فشهدوا عند الإمام برؤية الهلال بعد الزوال، أو حصل عذر مانع كمطر شديد، ففي جواز صلاة العيد في اليوم التالي رأيان: ¬
قال المالكية (¬1): لا تصلى من الغد، ولا تنوب عن صلاة الجمعة؛ لفوات وقتها. وقال الجمهور (¬2): تصلى في اليوم التالي من الغد، وفي عيد الأضحى إلى ثلاثة أيام، لما روى أبو عمير بن أنس عن عمومة له من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قال: «غمَّ علينا هلال شوال، فأصبحنا صياماً، فجاء ركب في آخر النهار، فشهدوا أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمر النبي صلّى الله عليه وسلم الناس أن يفطروا من يومهم، وأن يخرجوا غداً لعيدهم» (¬3) أي إلى المصلى كما في رواية البيهقي. وهذا هو الراجح، قال أبو بكر الخطيب: «سنة النبي صلّى الله عليه وسلم أولى أن تتبع»، وحديث أبي عمير صحيح، فالمصير إليه واجب، وكالفرائض. وإن شهد اثنان برؤية هلال شوال ليلة الحادي والثلاثين صلوا بالاتفاق في الغد، ولا يكون ذلك قضاء؛ لأن فطرهم غداً، لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «فطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون، وعرفتكم يوم تعرفون» (¬4). ¬
رابعا ـ موضع أداء صلاة العيد
رابعاً ـ موضع أداء صلاة العيد: للفقهاء رأيان متقاربان (¬1)، فقال الجمهور غير الشافعية: موضعها في غير مكة: المصلى (الصحراء خارج البلد، على أن يكون قريباً من البلد عرفاً عند الحنابلة) لا المسجد، إلا من ضرورة أو عذر، وتكره في المسجد، بدليل فعل النبي صلّى الله عليه وسلم، والكراهة لمخالفة فعله عليه السلام. فإن كان عذر لم تكره، لقول أبي هريرة: «أصابنا مطر في يوم عيد، فصلى بنا النبي صلّى الله عليه وسلم في المسجد» (¬2) وروي أن عمر وعثمان رضي الله عنهما صليا في المسجد في المطر. أما في مكة: فالأفضل فعلها في المسجد الحرام، لشرف المكان، ومشاهدة الكعبة، وذلك من أكبر شعائر الدين. وقال الشافعية: فعل صلاة العيد في المسجد أفضل؛ لأنه أشرف وأنظف من غيره، إلا إذا كان مسجد البلد ضيقاً، فالسنة أن تصلى في المصلى، لما روي أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يخرج إلى المصلى (¬3)، ولأن الناس يكثرون في صلاة العيد، وإذا كان المسجد ضيقاً تأذى الناس. قال الشافعية رحمه الله: فإن كان المسجد واسعاً، فصلى في الصحراء فلا بأس، وإن كان ضيقاً، فصلى فيه ولم يخرج إلى المصلى، كرهت. فإن كان في الناس ضعفاء، استخلف الإمام في مسجد البلد من يصلي بهم، ¬
خامسا ـ كيفية صلاة العيد أو صفتها
لما روي أن علياً رضي الله عنه استخلف أبا مسعود الأنصاري رضي الله عنه، ليصلي بضعَفة الناس في المسجد (¬1). وقال الحنفية: ولا يخرج المنبر إلى المصلى (الجبانة) يوم العيد، ولا بأس ببنائه دون إخراجه. خامساً ـ كيفية صلاة العيد أو صفتها: صلاة العيد ركعتان بالاتفاق، لقول عمر رضي الله عنه: «صلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة السفر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم، وقد خاب من افترى» (¬2) وهي تشمل بعد الإحرام على تكبيرات: ثلاث عند الحنفية، وست في الأولى وخمس في الثانية عند المالكية والحنابلة، وسبع في الأولى وخمس في الثانية عند الشافعية قبل القراءة في الركعتين إلا عند الحنفية في الركعة الثانية يكون التكبير بعد القراءة، ويندب بعد الفاتحة قراءة سورتين هما عند الجمهور: {سبح اسم ربك الأعلى} [الأعلى:87/ 1] و {الغاشية} [الغاشية:88]، ولكن عند المالكية يقرأ في الثانية سورة {والشمس} [الشمس:91] ونحوها، وعند الشافعية: {ق} [ق:50/ 1] و {اقتربت} [القمر:54/ 1]. ولا يؤذَّن لها ولا يقام، لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «شهدت العيد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومع أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فكلهم صلى قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة» (¬3) والسنة أن ينادى ¬
كيفيتها في المذاهب
لها: «الصلاة جامعة» لما روي عن الزهري أنه كان ينادَى به (¬1) وقياساً على صلاة الكسوف. ويبدأ بها عند الجمهور غير المالكية بالنية بقلبه ولسانه فيقول: (أصلي صلاة العيد لله تعالى) إماماً أو مقتدياً، ويأتي بعد الإحرام بدعاء الافتتاح أو الثناء. كيفيتها في المذاهب: الحنفية (¬2): ينادى (الصلاة جامعة)، ثم ينوي المصلي إماماً أو مقتدياً صلاة العيد بقلبه ولسانه قائلاً: (أصلي صلاة العيد لله تعالى) إماماً للإمام، ومقتدياً للمؤتمين، ثم يكبر تكبيرة الإحرام ثم يضع يديه تحت سرته، ثم يقرأ الإمام والمؤتم الثناء: (سبحانك اللهم وبحمد ك .. الخ)، ثم يكبر الإمام والقوم ثلاثاً تسمى تكبيرات الزوائد، لزيادتها على تكبيرة الإحرام والركوع، رافعاً يديه في كل منها، ثم يرسلها، ويسكت بعد كل تكبيرة مقدار ثلاث تسبيحات، ولا يسن ذِكْر معين، ولابأس بأن يقول: (سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)، ثم توضع اليدان تحت السرة. ثم يتعوذ الإمام ويسمي سراً، ثم يقرأ جهراً الفاتحة، وسورة بعدها، وندب أن تكون سورة {الأعلى} [الأعلى:6/ 87] تماماً، ثم يركع الإمام والقوم. ¬
فإذا قام للركعة الثانية: ابتدأ بالبسملة، ثم بالفاتحة، ثم بالسورة ليوالي بين القراءتين، وهو الأفضل عندهم، وندب أن تكون سورة {الغاشية} [الغاشية:1/ 88] (¬1). ثم يكبر الإمام والقوم تكبيرات الزوائد ثلاثاً مع رفع اليدين كما في الركعة الأولى، لأثر ابن مسعود، قال: «يكبر تكبيرة، ويفتتح به الصلاة، ثم يكبر بعدها ثلاثاً، ثم يقرأ، ثم يكبر تكبيرة، يركع بها، ثم يسجد، ثم يقوم، فيقرأ، ثم يكبر ثلاثاً، ثم يكبر تكبيرة، يركع بها» (¬2)، ثم تتم الركعة الثانية إلى السلام. فإن قدم التكبيرات في الثانية على القراءة جاز، وكذا إذا كبر زيادة على الثلاث إلى ست عشرة تكبيرة، فإذا زاد لا يلزم المؤتم المتابعة. وإن نسي الإمام التكبيرات وركع، فإنه يعود ويكبر، ولا يعيد القراءة، ويعيد الركوع. أما المسبوق الذي سبقه الإمام: فإن كان قبل التكبيرات الزوائد، يتابع الإمام على مذهبه، ويترك رأيه. وإن أدركه بعدما كبر الإمام الزوائد وشرع في القراءة، فإنه يكبر تكبيرة الافتتاح، ويأتي بالزوائد برأي نفسه لا برأي الإمام؛ لأنه مسبوق. وإن أدرك الإمام في الركوع: فإن لم يخف فوت الركعة مع الإمام، يكبر للافتتاح قائماً، ويأتي بالزوائد، ثم يتابع الإمام في الركوع. وإن خاف إن كبر أن يرفع الإمام رأسه من الركوع، كبر للافتتاح، ثم كبر للركوع، وركع؛ لأنه لو لم ¬
المالكية
يركع يفوته الركوع والركعة، وهذا لايجوز. ثم إذا ركع يكبر تكبيرات العيد في الركوع عند أبي حنيفة ومحمد؛ لأن للركوع حكم القيام. وقال أبو يوسف. لا يكبر؛ لأنه فات عن محله، وهو القيام، فيسقط كالقنوت. وعلى الرأي الأول الراجح: إن أمكنه الجمع بين التكبيرات والتسبيحات جمع بينهما، وإن لم يمكنه الجمع بينهما يأتي بالتكبيرات دون التسبيحات؛ لأن التكبيرات واجبة، والتسبيحات سنة، والاشتغال بالواجب أولى. فإن رفع الإمام رأسه من الركوع قبل أن يتمها رفع رأسه؛ لأن متابعة الإمام واجبة، وسقط عنه ما بقي من التكبيرات؛ لأنه فات محلها. هذا إذا أدرك الإمام في الركعة الأولى. فإن أدركه في الركعة الثانية، كبر للافتتاح، وتابع إمامه في الركعة الثانية، فإذا فرغ الإمام من صلاته، قام إلى قضاء ما سبق به، متبعاً رأي نفسه؛ لأنه منفرد فيما يقضي، بخلاف اللاحق؛ لأنه في الحكم كأنه خلف الإمام. وتقدم صلاة العيد على صلاة الجنازة إذا اجتمعتا، وتقدم صلاة الجنازة على الخطبة. المالكية (¬1): كالحنفية في أداء صلاة العيد ركعتين جهراً بلا أذان ولا إقامة، واستحباب قراءة {سبح} [الأعلى:87] ونحوها، وسورة {والشمس} [الشمس:91] ونحوها، إلا أن التكبير في الركعة الأولى ست بعد تكبيرة الإحرام، وفي الثانية ¬
خمس غير تكبيرة القيام، قبل القراءة ندباً، فإن أخر التكبير عن القراءة صح، وخالف المندوب. ولا يتبع المؤتم الإمام في التأخير عن القراءة ولا في الزيادة عن هذا القدر. ودليلهم على عدد التكبير عمل أهل المدينة، وقول ابن عمر: «شهدت الأضحى والفطر مع أبي هريرة، فكبر في الأولى سبع تكبيرات قبل القراءة، وفي الآخرة خمساً قبل القراءة». ويندب موالاة التكبير إلا الإمام فيندب له الانتظار بعد كل تكبيرة، حتى يكبر المقتدون به، ويرفع يديه في تكبيرة الإحرام فقط، ولا يرفع يديه مع التكبيرات في المشهور، ويكره الرفع. ويسكت المكبر. ويكره أن يقول شيئاً من تسبيح أو تحميد أو تهليل أو غيرها. والتكبيرات سنة مؤكدة، فلو نسي الإمام شيئاً منها، وتذكره في أثناء قراءته أوبعدها، كبَّر، ما لم يركع، وأعاد القراءة، وسجد بعد السلام سجود السهو، لزيادة القراءة الأولى. وإن تذكره بعد أن ركع، استمرَ في صلاته وجوباً، ولا يرجع له، إذ لا يرجع من فرض لنفل، وإلا بطلت الصلاة، ويسجد الإمام للسهو ولو لترك تكبيرة واحدة، إذ كل تكبيرة منها سنة مؤكدة. وأما المؤتم فالإمام يحمله عنه. وإذا لم يسمع المقتدي تكبير الإمام تحرّى تكبيره وكبر. والمسبوق: لا يكبر ما فاته أثناء تكبير الإمام، ويكمل ما فاته بسبب تأخر اقتدائه بعد فراغ الإمام منه، وإذا اقتدى بالإمام أثناء القراءة بعد التكبير، فإنه يأتي بالتكبير بعد إحرامه، سواء في الركعة الأولى أو الثانية. ويأتي بست تكبيرات في الأولى، وبخمس في الثانية. وإذا فاتته الركعة الأولى يقضيها ستاً غير تكبيرة القيام، وإن أدرك مع الإمام أقل من ركعة، قضى ركعتين بعد سلام الإمام، يكبر في الأولى ستاً، وفي الثانية خمساً.
الشافعية
الشافعية (¬1): هم كالحنفية في دعاء الافتتاح والتعوذ والجهر بالقراءة، إلا أن التكبير عندهم سبع في الأولى، خمس في الثانية، قبل القراءة مع رفع اليدين في الجميع، يقف بين كل ثنتين كآية معتدلة، يهلل ويكبر ويمجِّد (أي يعظم الله)، واضعاً يمناه على يسراه بينهما، تحت صدره، ويحسن في ذلك الباقيات الصالحات: (سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) (¬2) ثم يتعوذ ويقرأ. والتكبير ليس فرضاً ولا بعضاً من أبعاض الصلاة، وإنما هو سنة أو هيئة كالتعوذ ودعاء الافتتاح، فلا يسجد للسهو لتركهن عمداً ولا سهواً، وإن كان الترك لكلهن أو بعضهن مكروهاً. ولو نسيها المصلي وتذكرها قبل الركوع، وشرع في القراءة، ولو لم يتم الفاتحة، لم يتداركها، وفاتت في المذهب الجديد لفوات محله، فلو عاد لم تبطل صلاته، ولو عاد إلى القيام في الركوع أوبعده ليكبر، فإن صلاته تبطل إن كان عالماً متعمداً. والجهل كالنسيان. ولو زاد الإمام عن عدد التكبير لا يتابعه المأموم، وإذا ترك الإمام التكبير تابعه المأموم في تركه، فإن فعل بطلت صلاته إذا رفع يديه ثلاث مرات متوالية؛ لأنه فعل كثير تبطل به الصلاة، وإلا فلا تبطل. وإذا كبر الإمام أقل من هذا العدد تابعه المؤتم. والمسبوق ببعض الصلاة يكبر إذا فرغ من قضاء ما فاته. ¬
ودليلهم على عدد التكبير: ما رواه الترمذي وحسنه (¬1): «أنه صلّى الله عليه وسلم كبَّر في العيدين في الأولى سبعاً قبل القراءة، وفي الثانية خمساً قبل القراءة». ودليلهم على التسبيح والتحميد بين التكبيرات: ما رواه البيهقي عن ابن مسعود قولاً وفعلاً، وقال أبو موسى الأشعري وحذيفة: صدق. وهي الباقيات الصالحات، قال تعالى: {والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً} [الكهف:18/ 46] وهي عند ابن عباس وجماعة. ودليلهم على رفع اليدين: ما روي أن عمر رضي الله عنه «كان يرفع يديه في كل تكبيرة في العيد» (¬2). والسنة أن يقرأ بعد الفاتحة في الركعة الأولى: {ق} [ق:1/ 50]، وفي الثانية: {اقتربت} [القمر:54/ 1]، بكمالهما جهراً، بدليل ما رواه أبو واقد الليثي: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقرأ في الفطر والأضحى بـ {ق والقرآن المجيد} [ق:50/ 1]، و {اقتربت الساعة} [القمر:54/ 1] (¬3)، والجهر بالقراءة لنقل الخلف عن السلف. ولو قرأ في الأولى: {سبح اسم ربك الأعلى} [الأعلى:87/ 1]، وفي الثانية: {هل أتاك حديث الغاشية} [الغاشية:1/ 88]، كان سنة أيضاً، لثبوته أيضاً في صحيح مسلم. وله أن يقرأ أيضاًَ في الأولى (الكافرون) [الكافرون:109/ 1] وفي الثانية (الإخلاص) [الإخلاص:112]. ¬
الحنابلة
الحنابلة (¬1): هم كالجمهور غير المالكية في دعاء الافتتاح والتعوذ قبل القراءة، وكالمالكية في عدد التكبير: في الأولى ستاً زوائد، وفي الثانية خمساً، لما روى أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كبر في عيد ثنتي عشرة تكبيرة، سبعاً في الأولى، وخمساً في الآخرة» (¬2) وعدوا السبع مع تكبيرة الإحرام، خلافاً للشافعية. ويرفع يديه مع كل تكبيرة، لحديث وائل بن حجر: «أنه صلّى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في التكبير» ويقول بين كل تكبيرتين زائدتين: «الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليماً كثيراً» لحديث ابن مسعود السابق في رأي الشافعية. وإن أحب قال غير ذلك من الذكر؛ إذ ليس فيه ذِكْر مؤقت أي محدود. ولا يأتي بعد التكبيرة الأخيرة في الركعتين بذكر أصلاً. والتكبير والذكر بين التكبيرات كما قال الشافعية: سنة، وليس بواجب، ولا تبطل الصلاة بتركه عمداً ولا سهواً. فإن نسي التكبير وشرع في القراءة، لم يعد إليه، لأنه سنة فات محلها، كما لو نسي الاستفتاح أو التعوذ، حتى شرع في القراءة، أو نسي قراءة سورة حتى ركع. ¬
سادسا ـ خطبة العيد
كذلك لا يأتي بالتكبير إن أدرك الإمام قائماً بعد التكبير الزائد أو بعضه، لفوات محله، كما لو أدرك الإمام راكعاً. والمسبوق ولو بنوم أو غفلة ببعض صلاته يكبر إذا فرغ من قضاء ما فاته، وهو قول أكثر أهل العلم، ويعمل في القضاء بمذهبه، ودليلهم عموم قوله صلّى الله عليه وسلم: «ما أدركتم فصلوا، ومافاتكم فاقضوا». ويقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة بسبح، وفي الثانية بعد الفاتحة بالغاشية لحديث سمرة بن جندب «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقرأ في العيدين بسبح اسم ربك الأعلى، وهل أتاك حديث الغاشية» (¬1)؛لأن في سورة {الأعلى} [الأعلى:87] حثاً على الصدقة والصلاة في قوله {قد أفلح من تزكى، وذكر اسم ربه فصلى} [الأعلى:87/ 14 - 15] (¬2). ويجهر بالقراءة، لما روى الدارقطني عن ابن عمر قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يجهر بالقراءة في العيدين والاستسقاء». سادساً ـ خطبة العيد: تسن عند الجمهور وتندب عند المالكية خطبتان للعيد كخطبتي الجمعة في الأركان والشروط والسنن والمكروهات، بعد صلاة العيد خلافاً للجمعة، بلا خلاف بين المسلمين، يذكِّر الإمام في خطبة عيد الفطر بأحكام زكاة الفطر (¬3)، ¬
لقوله صلّى الله عليه وسلم: «أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم» (¬1)، وفي عيد الأضحى بأحكام الأضحية وتكبيرات التشريق ووقوف الناس بعرفة وغيرها، تشبهاً بالحجاج، وما يحتاجون إليه في يومهم، ويحسن تعليمهم ذلك في خطبة الجمعة السابقة على العيد. وإذا صعد على المنبر لا يجلس عند الحنفية، ويجلس عند الحنابلة والمالكية والشافعية ليستريح. ودليل سنية الخطبة: التأسي بالنبي صلّى الله عليه وسلم وبخلفائه الراشدين فلا يجب حضورها ولا استماعها، لما روى عطاء عن عبد الله بن السائب قال: «شهدت مع النبي صلّى الله عليه وسلم العيد، فلما انقضت الصلاة، قال: إنا نخطب، فمن أحب أن يجلس للخطبة، فليجلس، ومن أحب أن يذهب فليذهب» (¬2) ولو ترك الخطبة جازت صلاة العيد. وكونها بعد الصلاة اتباعاً للسنة أيضاً، فإن ابن عمر قال: «إن النبي صلّى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يصلون العيدين قبل الخطبة» (¬3) فلو خطب الإمام قبل الصلاة صح عند الحنفية وأساء، لترك السنة، لأن التأخير سنة. ويبدأ الخطيب خطبته بالتكبير، كما يكبر في أثنائها، من غير تحديد عند المالكية، وقيل عندهم: سبعاً في أولها. وعند الجمهور: يكبر في الخطبة الأولى تسع تكبيرات متوالية، وفي الثانية: يكبر في الثانية بسبع متوالية أيضاً، لما روى سعيد بن منصور عن عبيد الله بن عتبة، قال: «كان يكبر الإمام يومي العيد قبل أن ¬
تختلف خطبة العيد عن خطبة الجمعة في أمور
يخطب تسع تكبيرات، وفي الثانية: سبع تكبيرات» ويستحب عند الحنفية أيضاً أن يكبر الإمام قبل نزوله من المنبر أربع عشرة مرة، ويندب للإمام بعد فراغه من الخطبة أن يعيدها لمن فاته سماعها، ولو نساء، اتباعاً للسنة، رواه الشيخان. ويلاحظ أن الخطب المشروعة عشر: خطبة الجمعة، والعيدين، والكسوفين، والاستسقاء، والزواج، وأربع في الحج عند الشافعية، وثلاث عند الحنفية، وكلها بعد الصلاة إلا خطبتي الجمعة وعرفة فقبلها، وخطبة الزواج لا تقترن بصلاة، وكل منها ثنتان إلا الثلاثة الباقية في الحج عند الشافعية ما عدا خطبة عرفة، وخطبة النكاح، ففرادى، ويبدأ بالتحميد في ثلاث: خطبة الجمعة والاستسقاء والزواج، ويبدأ بالتكبير في خمس أوست: خطبة العيدين، وثلاث أو أربع خطب الحج. إلا التي بمكة وعرفة، يبدأ فيها بالتكبير ثم بالتلبية، ثم بالخطبة. وتختلف خطبة العيد عن خطبة الجمعة في أمور: منها ـ أن خطبة الجمعة تكون قبل الصلاة، وخطبة العيد بعد الصلاة، فإذا قدمها لم تصح عند غير الحنفية، ويندب إعادتها بعد الصلاة. ومنها ـ أن خطبتي الجمعة تبدآن بالحمد لله، وهو شرط أو ركن عند الشافعية والحنابلة، سنة عند الحنفية، مندوب عند المالكية، أما خطبتا العيدين فيسن افتتاحهما بالتكبير. ومنها ـ يسن بالمستمع خطبة العيد عند الحنفية والحنابلة والمالكية أن يكبر سراً عند تكبير الخطيب، أما خطبة الجمعة فيحرم الكلام فيها، ولو ذكراً عند الجمهور، وقال الحنفية: لا يكره الذكر في خطبة الجمعة والعيد على الأصح. ويحرم الكلام غير التكبير عند الحنابلة في كل من خطبة العيد والجمعة. وقال الشافعية: الكلام مكروه لا محرم في خطبة الجمعة والعيد، ولا يكبر الحاضرون في حال الخطبة، بل يستمعونها.
سابعا ـ حكم التكبير في العيدين
ومنها ـ أن الخطيب عند الحنفية خلافاً للجمهور لايجلس إذا صعد المنبر، ويجلس في خطبة الجمعة. ومنها ـ أن الخطيب عند المالكية إذا أحدث في أثناء خطبة العيد يستمر ولا يستخلف، بخلاف خطبة الجمعة، فإنه إذا أحدث فيها يستخلف. ومنها ـ أن خطبة العيد عند الشافعية لا يشترط فيها شروط خطبة الجمعة من قيام وطهارة وستر عورة وجلوس بين الخطبتين، وإنما يسن ذلك فقط. سابعاً ـ حكم التكبير في العيدين: اتفق الفقهاء على مشروعية التكبير في العيدين في الغدو إلى الصلاة، وفي إدبار الصلوات أيام الحج. أما التكبير في الغدو إلى صلاة العيد: فقال أبو حنيفة (¬1): يندب التكبير سراً في عيد الفطر في الخروج إلى المصلى لحديث «خير الذكر الخفي، وخير الرزق ما يكفي» (¬2)، ويقطعه إذا انتهى إلى المصلى في رواية، وفي رواية: إلى الصلاة. وقال الصاحبان: يكبر جهراً، واتفقوا على التكبير جهراً في عيد الأضحى في الطريق. وقال الجمهور (¬3): يكبر في المنازل والمساجد والأسوق والطرق أي عند الغدو إلى الصلاة جهراً، إلى أن تبدأ الصلاة، وعند الحنابلة: إلى فراغ الخطبة، ¬
صيغة التكبير
وهو في الفطر آكد من تكبير ليلة الأضحى لقوله تعالى: {ولتكملوا العدة، ولتكبروا الله على ما هداكم، ولعلكم تشكرون} [البقرة:185/ 2] ولما فيه من إظهار شعائر الإسلام، وتذكير الغير. ويندب التكبير المطلق (وهو ما لا يكون عقب الصلاة) عند الشافعية والحنابلة: من غروب شمس ليلة عيد الفطر، لا ما قبلها: ولا يسن التكبير المقيد (وهو المفعول عقب الصلاة) ليلة الفطر عند الحنابلة وفي الأصح عند الشافعية، لعدم وروده. وصيغة التكبير: عند الحنفية والحنابلة شفعاً: (الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر (ثنتين)، ولله الحمد) عملاً بخبر جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلم الآتي، وهو قول الخليفتين الراشدين، وقول ابن مسعود. وصيغته عند المالكية والشافعية في الجديد ثلاثاً: (الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر)، وهذا هو الأحسن عند المالكية، فإن زاد (لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد) فهو حسن، عملاً بما ورد عن جابر وابن عباس رضي الله عنهم، ويستحب أن يزيد عند الشافعية بعد التكبيرة الثالثة: (الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً) كما قاله النبي صلّى الله عليه وسلم على الصفا. ويسن أن يقول أيضاً بعد هذا: (لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون، لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله والله أكبر). وهذه الزيادة إن شاءها عند الحنفية، ويختمها بقوله: (اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، وعلى أصحاب محمد، وعلى أزواج محمد، وسلم تسليماً كثيراً).
التكبير في إدبار الصلوات أيام الحج في عيد الأضحى
وأما التكبير في إدبار الصلوات أيام الحج في عيد الأضحى: ف قال الحنفية (¬1): يجب على الرجال والنساء تكبير التشريق (¬2) في الأصح مرة، وإن زاد عليها يكون فضلاً، عقب كل فرض عيني بلا فصل يمنع البناء على الصلاة (كالخروج من المسجد أو الكلام أو الحدث عامداً) ويؤدى بجماعة أو منفرداً، ولو قضاء، ويكون التكبير للرجال جهراً، وتخافت المرأة بالتكبير، ولا يكبر عقب الوتر وصلاة العيد. ومدته: من فجر يوم عرفة إلى عصر يوم العيد عند أبي حنيفة، وإلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق عند الصاحبين، وبقولهما يفتى، فهي ثلاث وعشرون صلاة. والتكبير واجب عقيب الصلوات المفروضات على كل من صلى المكتوبة، ولو منفرداً أو مسافراً أو مقتدياً؛ لأنه تبع لها، على المفتى به من قول الصاحبين. والمسبوق يكبر وجوباً كاللاحق، بعد قضاءما فاته من الصلاة مع الإمام، ولو ترك الإمام التكبير يكبر المقتدي. ويبدأ المحرم بالتكبير، ثم بالتلبية (¬3)،ولا يفتقر التكبير للطهارة، ولا لتكبير الإمام، فلو تركه الإمام كبر المقتدي. ¬
قال المالكية
ودليلهم على إيجاب التكبير ومدته: قوله تعالى: {واذكروا الله في أيام معدودات} [البقرة:203/ 2] وحديث جابر: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يكبر في صلاة الفجر يوم عرفة، إلى صلاة العصر، من آخر أيام التشريق، حين يسلِّم من المكتوبات» وفي لفظ: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح من غداة عرفة، أقبل على أصحابه، فيقول: على مكانكم، ويقول: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، فيكبر من غداة عرفة إلى صلاة العصر، من آخر أيام التشريق» (¬1). وقال المالكية (¬2): يندب للجماعة والفرد التكبير إثر كل صلاة من الصلوات المكتوبات من خمس عشرة فريضة وقتية، من ظهر يوم النحر إلى صبح اليوم الرابع، لقوله تعالى: {ويذكروا اسم الله في أيام معلومات} [الحج:28/ 22] وهذا الخطاب وإن كان مقصوداً به أهل الحج، فإن الجمهور رأوا أنه يعم الحجاج وغيرهم، وتلقى الناس ذلك بالعمل، والناس تبع للحجيج وهم يكبرون من الظهر. ولا يكبر بعد نافلة، ولا مقضية من الفرائض، وإن نسي التكبير كبَّر إذا تذكر إن قرب الزمن، لا إن خرج من المسجد أو طال عرفاً. وكبّر مؤتم ندباً ترك إمامه التكبير، وندب تنبيه الناسي ولو بالكلام. ¬
قال الشافعية في الأظهر
وقال الشافعية في الأظهر (¬1): يكبّر الحاج عقب الصلوات من ظهر النحر، لأنها أول صلاته بمنى ووقت انتهاء التلبية ويختم بصبح آخر التشريق لأنها آخر صلاة يصليها بمنى، كما قال المالكية؛ وغير الحاج كالحاج في الأظهر والمشهور في المذهب؛ لأن الناس تبع للحجيج، ولإطلاق حديث مسلم: «أيام منى أيام أكل وشرب وذكر الله تعالى» وقيل: من صبح عرفة إلى عصر آخر التشريق، والعمل على هذا في الأمصار، وصح من فعل عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم، واختاره النووي، وقال: إنه الأصح. ولا يكبر الحاج ليلةالأضحى، بل يلبي؛ لأن التلبية شعاره، والمعتمر يلبي إلى أن يشرع في الطواف. والأظهر أنه يُكَّبر في هذه الأيام للفائتةوالراتبة والمنذورة والنافلة المطلقة أو المقيدة، وذات السبب كتحية المسجد؛ لأنه شعار الوقت. والتكبير سنة في العيدين في المنازل والطرق والمساجد والأسواق برفع الصوت، لما روى نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يخرج في العيدين مع الفضل بن عباس وعبد الله بن عباس، وعلي وجعفر، والحسن والحسين وأسامة بن زيد وزيد بن حارثة وأيمن بن أم أيمن، رافعاً صوته بالتهليل والتكبير، ويأخذ طريق الحدادين حتى يأتي المصلَّى (¬2). ويكبر لرؤية الأنعام (وهي الإبل والبقر والغنم) في الأيام المعلومات وهي عشر ذي الحجة، لقوله تعالى: {ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} [الحج:28/ 22]. ¬
قال الحنابلة
وقال الحنابلة (¬1): يسن التكبير مطلقاً في العيدين، ويسن إظهاره في المساجد والمنازل والطرق، حضراً وسفراً، في كل موضع يجوز فيه ذكر الله، ويسن الجهر به لغير أنثى، من كل من كان من أهل الصلاة من مميز وبالغ، حر أوعبد، ذكر أو أنثى، من أهل القرى والأمصار، عقب كل فريضة ولو مقضية، تصلى في جماعة في المشهور، في ثلاث وعشرين فريضة من فجر يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق، لحديث جابر السابق أن النبي صلّى الله عليه وسلم صلى الصبح يوم عرفة، وأقبل علينا، فقال: «الله أكبر، الله أكبر» ومد التكبير إلى العصر من آخر أيام التشريق (¬2)، وفي بعضها «الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، ولله الحمد». والمسافر كالمقيم، والحاج المحرم كغير الحاج في مدة التكبير؛ لأنه قبل ذلك مشغول بالتلبية، ويبدأ بالتكبير ثم يلبي. لأن التكبير من جنس الصلاة. ولا يكبر من صلى وحده، لقول ابن مسعود: «إنما التكبير على من صلى جماعة» (¬3)، ولأنه ذكر مختص بوقت العيد، فأشبه الخطبة. ويكبر مأموم نسي إمامه التكبير ليحوز الفضيلة، كقول: آمين. ويأتي بالتكبير الإمام مستقبل الناس، لحديث جابر السابق أن النبي صلّى الله عليه وسلم «كان يقبل بوجهه على أصحابه، ويقول: على مكانكم، ثم يكبر» ويكبر غير الإمام مستقبل القبلة؛ لأنه ذكر مختص بالصلاة، أشبه الأذان والإقامة. ويجزئ التكبير مرة واحدة، وإن زاد على مرة فلا بأس، وإن كرره ثلاثاً فحسن. والأولى أن يُكبَّر ¬
ثامنا ـ سنن العيد أو مستحباته أو وظائفه
عقب صلاة العيد؛ لأنها صلاة مفروضة في جماعة، فأشبهت صلاة الفجر، ولأن هذه الصلاة أخص بالعيد، فكانت أحق بتكبيره. ويستحب التكبير أيضاً في أيام العشر من ذي الحجة وهي الأيام المعلومات، لقوله تعالى: {ويذكروا اسم الله في أيام معلومات} [الحج:28/ 22]. ثامناً ـ سنن العيد أو مستحباته أو وظائفه: يستحب في مقدمات عيد الأضحى الاجتهاد في عمل الخير، أيام عشر ذي الحجة، من ذِكْر الله تعالى والصيام والصدقة وسائر أعمال البر؛ لأنها أفضل الأيام، لحديث «مامن أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله عز وجل من هذه الأيام، يعني أيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله، ثم لم يرجع بشيء من ذلك» (¬1). ويندب الامتناع عن تقليم الأظفار وحلق الرأس في عشر ذي الحجة، لما ورد في صحيح مسلم، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا دخل العشر، وأراد بعضكم أن يضحي، فلا يأخذن شعراً، ولا يقلمن ظفراً». ويندب في العيد عدا التكبير ما يأتي (¬2): 1ً - إحياء ليلتي العيد بطاعة الله تعالى أي بالعبادة من ذكر وصلاة وتلاوة ¬
قرآن، وتكبير وتسبيح واستغفار، ويحصل ذلك بالثلث الأخير من الليل، والأولى إحياء الليل كله، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من أحيا ليلة الفطر وليلة الأضحى محتسباً، لم يمت قلبه يوم تموت القلوب» (¬1). ويقوم مقام ذلك: صلاة العشاء والصبح في جماعة. والدعاء في ليلتي العيد مستجاب، فيستحب كما يستحب في ليلة الجمعة وليلتي أول رجب ونصف شعبان. 2ً - الغسل والتطيب والاستياك ولبس الرجال أحسن الثياب، قياساً على الجمعة، وإظهاراً لنعمة الله وشكره. ويدخل وقت الغسل عند الشافعية بنصف الليل، وعند المالكية: بالسدس الأخير من الليل، ويندب كونه بعد صلاة الصبح، وعند الحنفية والحنابلة بعد الصبح قبل الذهاب إلى المصلى، وهو غسل عند الحنفية للصلاة؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم كان يغتسل يوم الفطر ويوم النحر (¬2)، وكان علي وعمر رضي الله عنهما يغتسلان يوم العيد. وكان عليه السلام يتطيب يوم العيد، ولو من طيب أهله. وكان للنبي صلّى الله عليه وسلم بردة حمراء يلبسها يوم العيد (¬3). وتخرج النساء كما بينا ببذلة بلا طيب خشية الافتتان بها. ويتنظف ويتزين بإزالة الظفر والريح الكريهة كالجمعة، والإمام بذلك آكد؛ لأنه منظور إليه من بين سائر الناس. ¬
3ً - تبكير المأموم ماشياً إن لم يكن عذر إلى الصلاة بعد صلاة الصبح ولو قبل الشمس بسكينة ووقار: ليحصل له الدنو من الإمام من غير تخط للرقاب، وانتظار الصلاة فيكثر ثوابه، لقول علي: «من السنة أن يخرج إلى العيد ماشياً» (¬1)، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم ما ركب في عيد ولا جنازة. وأما الإمام فيسن له التأخر إلى وقت الصلاة، لحديث أبي سعيد عند مسلم: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى، فأول شيء يبدأ به: الصلاة». ولا بأس بالركوب في العود، لقول علي: «ثم تركب إذا رجعت»؛ لأنه غير قاصد إلى قربة. وقال الحنفية: لا بأس بالركوب في الجمعة والعيدين، والمشي أفضل في حق من يقدر عليه. وعبر الحنفية عن هذا بمندوبين: التبكر: وهو سرعة الانتباه أول الوقت أو قبله لأداء العبادة بنشاط، والابتكار: وهو المسارعة إلى المصلى لينال فضيلته والصف الأول. ويذهب الإمام وغيره ندباً إلى المصلى كمافي صلاة الجمعة من طريق، ويرجع من أخرى، اتباعاً للسنة، كما روى البخاري (¬2) لتشهد له الطريقان، أو لزيادة الأجر، ويخص الذهاب بأطولهما تكثيراً للأجر، ويرجع في أقصرهما. ويندب للإمام الإسراع في الخروج إلى صلاة الأضحى والتأخر قليلاً في الخروج إلى صلاة الفطر، لما ورد مرسلاً من أمره صلّى الله عليه وسلم بذلك، وليتسع الوقت للتضحية ولإخراج الفطرة، كما سبق. ¬
4ً - أن يأكل في عيد الفطر قبل الصلاة، وأن يكون المأكول تمرات وتراً، ويؤخر الأكل في الأضحى حتى يرجع من الصلاة، والأكل في الفطر آكد من الإمساك في الأضحى، لحديث أنس: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات» (¬1) وزاد في رواية منقطعة «ويأكلهن وتراً» وحديث بريدة: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان لا يخرج يوم الفطر حتى يأكل، وكان لا يأكل يوم النحر، حتى يصلي» (¬2) ليأكل من الأضحية إن ضحى، والأولى من كبدها؛ لأنه أسرع هضماً وتناولاً. فإن لم يضح خير عند الحنابلة بين الأكل قبل الصلاة وبعدها. ويندب تأخير الأكل في الأضحى مطلقاً، ضحى أم لا. 5ً - أن يؤدي صدقة الفطر قبل خروج الناس إلى الصلاة، ولا بأس بأدائها قبل العيد بأيام، تمكيناً للفقير من الانتفاع بها في العيد، قال ابن عباس: فرض رسول الله صلّى الله عليه وسلم زكاة الفطر طُهرة للصائم من اللغو والرَّفَث، وطعْمه للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة، فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات» (¬3). 6ً - التوسعة على الأهل، وكثرة الصدقة النافلة بحسب الطاقة زيادة عن عادته، ليغنيهم عن السؤال. 7ً - إظهار البشاشة والفرح في وجه من يلقاه من المؤمنين، وزيارة الأحياء من الأرحامـ والأصحاب، إظهاراً للفرح والسرور، وتوثيقاً لرابطة الأخوة والمحبة. 8ً - قال الحنفية: يندب صلاة الصبح في مسجد الحي، لقضاء حقه، ثم ¬
تاسعا ـ التنفل قبل العيد وبعده
يذهب إلى المصلى. ورأى جمهور الفقهاء أنه يندب إيقاع الصلاة في المصلى في الصحراء لا في المسجد، والسنة عند الشافعية أيضاً أن تصلى صلاة العيد في المصلى إذا كان المسجد ضيقاً، وإلا فالمسجد أفضل، كما بينا في موضع صلاة العيد. تاسعاً ـ التنفل قبل العيد وبعده: للفقهاء رأيان: رأي الجمهور: لا يصلى قبل صلاة العيد ولا بعدها، وهو الأصح لدي، ورأي الشافعية: يصلى قبلها بعد ارتفاع الشمس لغير الإمام، وبعدها أيضاً. وتفصيل الآراء ما يأتي: رأي الحنفية (¬1): يكره التنفل قبل صلاة العيد مطلقاً في المصلى والبيت وبعدها في المصلى فقط، ويجوز في البيت، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما: «خرج النبي صلّى الله عليه وسلم يوم عيد، فصلى ركعتين، لم يصل قبلهما ولا بعدهما» (¬2) وحديث أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «أنه كان لا يُصلِّي قبل العيد شيئاً، فإذا رجع إلى منزله صلى ركعتين» (¬3). ¬
المالكية في المشهور
المالكية في المشهور (¬1): يكره التنفل قبل صلاة العيد وبعدها في المصلى لحديث ابن عباس وابن عمر لا في المسجد، ففي المسجد لا يكره قبلها ولا بعدها، أما عدم كراهته قبلها فلأن السنة الخروج بعد الشمس، والتحية حينئذ مطلوبة اتفاقاً، وأما عدم كراهته بعد صلاتها، فلندور حضور أهل البدع لصلاة الجماعة في المسجد. الحنابلة (¬2): يكره التنفل قبل صلاة العيد وبعدها للإمام والمأموم في موضع الصلاة، سواء أكان في المصلى أم المسجد، لحديث ابن عباس السابق، ونحوه عن ابن عمر، ولنهي الصحابة عنه وعملهم به، ولأنه وقت نهي عن التنفل فيه كسائر أوقات النهي. ويكره أيضاً قضاء فائتة في مصلى العيد قبل مفارقته، إماماً كان أو مأموماً، في صحراء أو في مسجد، لئلا يقتدي به. ولا بأس بالتنفل إذا خرج من المصلى في منزل أو غيره، لما روى حرب عن ابن مسعود «أنه كان يصلي يوم العيد إذا رجع إلى منزله أربع ركعات أو ركعتين». فهذا كالحنفية تماماً. ولا بأس أن يقول الرجل للرجل يوم العيد: تقبل الله منا ومنك. الشافعية (¬3): لا يكره النفل قبل صلاة العيد بعد ارتفاع الشمس لغير الإمام، لانتفاء ¬
عاشرا ـ كيفية صلاته صلى الله عليه وسلم صلاة عيد الفطر والأضحى وكيفية خطبته
الأسباب المقتضية للكراهة، فهو ليس بوقت منهي عن الصلاة فيه، ولما روي عن أبي بردة وأنس والحسن وجابر بن زيد أنهم كانوا يصلون يوم العيد قبل خروج الإمام. أما قبل ارتفاع الشمس: فإنه وقت كراهة. وأما الإمام فيكره له النفل قبلها وبعدها لاشتغاله بغير الأهم، ولمخالفته فعل النبي صلّى الله عليه وسلم. وأما غير الإمام بعد صلاة العيد فإن كان يسمع الخطبة فيكره له، وإلا فلا. ومن دخل والخطيب يخطب، فإن كان في مسجد بدأ بالتحية، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا جاء أحدكم المسجد فليركع ركعتين»، كما بينا في النوافل، ثم بعد فراغ الخطبة يصلي في المسجد صلاة العيد، فلو صلى فيه بدل تحية العيد، وهو أولى، حصل له ثواب التحية والعيد. ولو دخل وعليه مكتوبة يفعلها ويحصل بها التحية. وإن كانت الصلاة في صحراء: سن له الجلوس ليستمع الخطبة؛ إذ لا تحية، وأخر صلاة العيد إلا إن خشي الداخل فواتها، فيقدمها على الاستماع. وإذا أخرها فهو مخير بين أن يصليها في المصلى، وبين أن يصليها بغيره إلا إن خشي الفوات بالتأخير. عاشراً ـ كيفية صلاته صلّى الله عليه وسلم صلاة عيد الفطر والأضحى وكيفية خطبته: يحسن ختم هذا المبحث ببيان هذه الكيفية، كما رواها الثقات. عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال نبي الله صلّى الله عليه وسلم: «التكبير في الفطر ـ أي صلاته ـ سبع في الأولى، وخمس في الأخرى، والقراءة ـ الحمد وسورة ـ بعدهما كلتيهما» (¬1). ¬
حادي عشر - صلاة الجمعة في يوم العيد
وعن أبي سعيد قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى، وأول شيء يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف، فيقوم مقابل الناس، والناس على صفوفهم، فيعظهم ويأمرهم» (¬1). وعن جابر رضي الله عنه قال: «شهدت مع النبي صلّى الله عليه وسلم يوم العيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة، ثم قام متوكئاً على بلال، فأمر بتقوى الله، وحث على الطاعة، ووعظ الناس وذكرَّهم، ثم مضى حتى أتى النساء، فوعظهن وذكرهن» (¬2). وعن سعد المؤذن رضي الله عنه قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يكبر بين أضعاف الخطبة، يكثر التكبير في خطبة العيدين» (¬3). وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة رضي الله عنه قال: «السنة أن يخطب الإمام في العيدين خطبتين، يفصل بينهما بجلوس» (¬4). حادي عشر - صلاة الجمعة في يوم العيد: إن صادف وجود العيد في يوم جمعة، سقط حضور الجمعة عمن صلى العيد إلا الإمام، فإنها لا تسقط عنه إلا أن لا يجتمع له من يصلي به الجمعة. وهذا مذهب الحنابلة، لما رواه أبو داود والإمام أحمد عن إياس بن أبي رملة الشامي (¬5) قال: ¬
«شهدت معاوية يسأل زيد بن أرقم، هل شهدت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم عيدين اجتمعا في يوم واحد؟ قال: نعم، قال: فكيف صنع؟ قال: صلى العيد، ثم رخص في الجمعة» فقال: «من شاء أن يصلي فليصل» أو «من شاء أن يجمّع فليجمِّع» وروى ابن ماجه عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «اجتمع في يومكم هذا عيدان، فمن شاء أجزأه من الجمعة، وإنا مجمّعون». ولأنه تحقق المقصود بسماع خطبة العيد، فأجزأ ذلك عن سماعها ثانياً، ولأن وقتها واحد في رأيهم وهو الساعة السادسة، فسقطت إحداهما بالأخرى، كالجمعة مع الظهر. وقال الجمهور (بقية المذاهب): تجب الجمعة، لعموم الآية الآمرة بها، والأخبار الدالة على وجوبها؛ ولأنهما صلاتان واجبتان، فلم تسقط إحداهما بالأخرى، كالظهر مع العيد (¬1). ¬
المبحث الخامس ـ صلاة الكسوف والخسوف
المبحث الخامس ـ صلاة الكسوف والخسوف معنى الكسوف والخسوف، مشروعية صلاة الكسوفين ونحوها، صفتها (كيفيتها، الجهر والإسرار بالقراءة فيها، وقتها، هل من شرطها الخطبة؟، الجماعة فيها وموضعها. هل خسوف القمر مثل كسوف الشمس؟) متى يدركها المسبوق؟، هل تقدم صلاة الكسوف على غيرها عند اجتماعها معها؟. أولاً ـ معنى الكسوف والخسوف: الكسوف والخسوف: شيء واحد، ويقال لهما كسوفان وخسوفان، والأشهر في تعبير الفقهاء: تخصيص الكسوف بالشمس والخسوف بالقمر. والكسوف: هو ذهاب ضوء الشمس أو بعضه في النهار لحيلولة ظلمة القمر بين الشمس والأرض. والخسوف: هو ذهاب ضوء القمر أو بعضه ليلاً لحيلولة ظل الأرض بين الشمس والقمر. ولا يحدث عادة كسوف الشمس إلا في الاستسرار آخر الشهر إذا اجتمع النيِّران، كما لا يحدث خسوف القمر إلا في الإبدار، إذا تقابل النيِّران.
ثانيا ـ مشروعية صلاة الكسوفين ونحوها وحكمها الفقهي
ثانياً ـ مشروعية صلاة الكسوفين ونحوها وحكمها الفقهي: صلاة الكسوف والخسوف سنة (¬1) ثابتة مؤكدة باتفاق الفقهاء (¬2)، بدليل قوله تعالى: {ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر، لا تسجدوا للشمس ولا للقمر، واسجدوا لله الذي خلقهن} [فصلت:37/ 41] أي أنه يصلى عند كسوفهما. وقوله صلّى الله عليه وسلم يوم مات ابنه إبراهيم: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك، فصلوا وادعوا، حتى ينكشف ما بكم» (¬3). وهي مشروعة حضراً وسفراً للرجال والنساء، أي في حق كل من هو مخاطب بالمكتوبات الخمس؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم فعلها لكسوف الشمس، كما رواه الشيخان، ولخسوف القمر، كما رواه ابن حبان في كتابه الثقات، وللصبيان والعجائز حضورها كالجمعة والعيدين. ويؤمر بها من تجب عليه الجمعة اتفاقاً. وإنما لم تجب لخبر الصحيحين المتقدم: «هل علي غيرها؟ ـ أي الخمس ـ قال: لا، إلا أن تطَّوّع». وتشرع بلا أذان ولا إقامة وتسن فيها الجماعة، ويندب أن ينادى لها: «الصلاة جامعة»؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «بعث منادياً ينادي: الصلاة جامعة» (¬4). ¬
الصلاة عند الفزع
وتصلى جماعة أو فرادى، سراً أو جهراً، بخطبة أو بلا خطبة، على التفصيل الآتي بين المذاهب، لكن فعلها في مسجد الجمعة والجماعة أفضل؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم صلى في المسجد (¬1). ولا يشترط لها إذن الإمام، كصلاة الاستسقاء؛ لأن كلاً منهما نافلة، وليس إذنه شرطاً في نافلة. ويسن الغسل لها (¬2)، كما تقدم بيانه في بحث الأغسال المسنونة؛ لأنها صلاة يشرع لها الاجتماع، والخطبة عند الشافعية، والوعظ ندباً عند المالكية، فيسن لها الغسل، كصلاة الجمعة والعيدين. الصلاة عند الفزع: قال المالكية (¬3): لا يؤمر المرء بالصلاة عند الزلازل والمخاوف والآيات التي هي عبرة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يصل لغير الكسوفين، وقد كان في عصره بعض هذه الآيات، وكذلك خلفاؤه من بعده، لم يصلوا. وقال الجمهور (¬4): يصلى للزلزلة فرادى لا جماعة، لفعل ابن عباس (¬5)، ولا يصلى عند الحنابلة لغيرها من سائر الآيات، كالصواعق والريح الشديدة والظلمة بالنهار، والضياء بالليل، لعدم نقل ذلك عنه صلّى الله عليه وسلم وأصحابه، مع أنه وجد في زمانهم انشقاق القمر، وهبوب الرياح والصواعق. ¬
ثالثا ـ صفة صلاة الكسوف
وأضاف الحنفية والشافعية: أنه يندب أن يصلي الناس فرادى ركعتين مثل كيفية الصلوات، لا على هيئة الخسوف لنحو الزلازل، كالصواعق والظلمة الهائلة نهاراً، والريح الشديدة مطلقاً ليلاً أو نهاراً، والفزع بانتشار الكواكب والضوء الهائل ليلاً، والثلج والأمطار الدائمة، وعموم الأمراض، والخوف الغالب من العدو ونحو ذلك من الأفزاع والأهوال؛ لأنها آيات مخوفة للعباد، ليتركوا المعاصي ويرجعوا إلى طاعة الله تعالى التي بها فوزهم وصلاحهم، قياساً على صلاة الكسوف (¬1)، وصلاة الكسوف التجاء إلى الله تعالى لكشف الغمة، وهكذا شأن المؤمن يلجأ إلى الله سبحانه كلما ألم به مكروه، واشتد به الضر، وأحدق به الخطر، لذا يسن لكل أحد أن يتضرع بالدعاء عند الزلازل والرياح الشديدة والصواعق والخسف، لئلا يكون غافلاً؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم كان إذا عصفت الريح قال: «اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها، وشر ما فيها، وشر ما أرسلت به. ثالثاً ـ صفة صلاة الكسوف: اختلف الفقهاء في أمور ستة تتعلق بصفة صلاة الكسوف وهي ما يلي: 1ً ـ كيفيتها: للفقهاء في كيفية صلاة الكسوف رأيان: رأي الحنفية (¬2): صلاة الكسوف ركعتان كهيئة الصلوات الأخرى من صلاة العيد والجمعة ¬
رأي الجمهور
والنافلة، بلا خطبة ولا أذان ولا إقامة، ولا تكرار ركوع في كل ركعة، بل ركوع واحد، وسجدتان، لما رواه أبو داود في سننه: «أنه عليه الصلاة والسلام صلى ركعتين، فأطال فيهما القيام، ثم انصرف، وانجلت الشمس، فقال: إنما هذه الآيات يخوف الله تعالى بها عباده، فإذا رأيتموها فصلوا، كأحدث صلاة صليتموهامن المكتوب» (¬1) قال الكمال بن الهمام: وهي الصبح، فإن كسوف الشمس كان عند ارتفاعها قيد رمحين. رأي الجمهور (¬2): صلاة الكسوف ركعتان، في كل ركعة قيامان، وقراءتان وركوعان، وسجودان. والسنة أو الأكمل أن يقرأ في القيام الأول بعد الفاتحة سورة البقرة أو نحوها في الطول، وفي القيام الثاني بعد الفاتحة دون ذلك أي بقدر مئتي آية مثل آل عمران، وفي القيام الثالث بعد الفاتحة دون ذلك، أي بقدر مئة وخمسين آية، مثل النساء، وفي القيام الرابع بعد الفاتحة دون ذلك بقدر مئة تقريباً مثل المائدة. فيقرأ أولاً المقدار الأول، ثم يركع، ثم يرفع، ويقرأ المقدار الثاني، ثم يركع ثم يرفع، ثم يسجد كما يسجد في غيرها، ويطيل الركوع، والسجود في الصحيح عند الشافعية، ويكرر ذلك في الركعة الثانية. ¬
ويسبح في الركوع الأول قدر مئة من البقرة، وفي الثاني ثمانين، والثالثة سبعين، والرابع خمسين تقريباً. وأخيراً ذكر الحنابلة أنه يجوز فعل صلاة الكسوف على كل صفة وردت عن الشارع، إن شاء أتى في كل ركعة بركوعين وهو الأفضل؛ لأنه أكثر في الرواية، وإن شاء صلاها بثلاثة ركوعات في كل ركعة. لما روى مسلم عن جابر: أن النبي صلّى الله عليه وسلم «صلى ست ركعات بأربع سجدات» أو أربعة ركوعات في كل ركعة، لما روى ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلم: «صلى في كسوف: قرأ، ثم ركع، ثم قرأ ثم ركع، ثم قرأ ثم ركع، ثم قرأ ثم ركع، والأخرى مثلها» (¬1). أوخمسة ركوعات في كل ركعة، لما روى أبو العالية عن أبي بن كعب قال: «انكسفت الشمس على عهد النبي صلّى الله عليه وسلم وأنه صلى بهم، فقرأ سورة من الطوال، ثم ركع خمس ركعات، وسجد سجدتين، ثم قام إلى الثانية، فقرأ سورة من الطوال، وركع خمس ركعات، وسجد سجدتين، ثم جلس كما هو مستقبل القبلة يدعو حتى انجلى كسوفها» (¬2)، ولا يزيد على خمسة ركوعات في كل ركعة؛ لأنه لم يرد به نص، والقياس لا يقتضيه. وإن شاء فعل صلاة الكسوف كنافلة بركوع واحد؛ لأن ما زاد عليه سنة. ومهما قرأ به جاز، سواء أكانت القراءة طويلة أم قصيرة، وقد روي عن عائشة: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يصلي في كسوف الشمس والقمر أر بع ركعات وأربع سجدات، وقرأ في الأولى بالعنكبوت والروم، وفي الثانية بيس» (¬3). ¬
ودليل الجمهور على تعدد الركوع اثنين: حديث عبد الله بن عمرو، قال: «لما كُسفت الشمس على عهد النبي صلّى الله عليه وسلم نودي أن «الصلاة جامعة»، فركع النبي صلّى الله عليه وسلم ركعتين في سجدة، ثم قام فركع ركعتين في سجدة، ثم جُلِي عن الشمس، قالت عائشة: ما ركعت ركوعاً قط، ولا سجدت سجوداً قط، كان أطول منه» (¬1). وحديث عائشة رضي الله عنها قالت: «خَسَفَت الشمس على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فبعث منادياً: الصلاة جامعةً، فقام فصلى أربع رَكَعات في ركعتين، وأربع سَجَدات» (¬2). وهذان الحديثان ونحوهما ثابتة في الصحيحين، فهي أشهر وأصح، فقدمت على بقية الروايات. قال ابن عبد البر: هذان الحديثان من أصح ما روي في هذا الباب. ودليلهم على إطالة القراءة والركوع والقيام: حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «خَسَفت الشمس، فصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقام قياماً طويلاً نحواً من سورة البقرة، ثم ركع ركوعاً طويلاً، ثم رفع فقام قياماً طويلاً، وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعاً طويلاً، وهو دون الركوع الأول، ثم سجد، ثم قام قياماً طويلاً، وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعاً طويلاً، وهو دون الركوع الأول، ثم رفع فقام قياماً طويلاً، وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعاً طويلاً، وهو دون الركوع الأول، ثم سجد، ثم انصرف، وقد تجلَّت الشمس ... الخ» (¬3). ¬
ـ الجهر والإسرار بالقراءة في صلاة الكسوفين
ودليلهم على تطويل السجود: حديث ثبت في الصحيحين في صلاته صلّى الله عليه وسلم لكسوف الشمس من حديث أبي موسى. 2ً ـ الجهر والإسرار بالقراءة في صلاة الكسوفين: للفقهاء آراء ثلاثة في الجهر بالقراءة أو الإخفات والإسرار في صلاتي الكسوف والخسوف. فقال أبو حنيفة (¬1): يخفي الإمام القراءة في صلاة الكسوف، لحديث ابن عباس وسمرة رضي الله عنهما، أما حديث الأول فقال: «صليت مع النبي صلّى الله عليه وسلم الكسوف فلم أسمع منه حرفاً من القراءة» (¬2)، وأما حديث سمرة فقال: «صلى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم في كسوف، لا يسمع له صوتاً» (¬3)، والأصل في صلاة النهار الإخفاء. وأما صلاة الخسوف فتصلى فرادى سراً. وقال الصاحبان: يجهر الإمام في صلاة الكسوف، لحديث عائشة: أنه صلّى الله عليه وسلم جهر فيها (¬4). ¬
ـ وقت صلاة الكسوف والخسوف
وقال المالكية والشافعية (¬1): يسر الإمام في صلاة الكسوف، لحديثي ابن عباس وسمرة المتقدمين، ولأنها صلاة نهارية، كما قال الحنفية، ويجهر في صلاة خسوف القمر؛ لأنها صلاة ليل أو ملحقة بها، وقد جهر النبي صلّى الله عليه وسلم في صلاة الخسوف بقراءته، في حديث عائشة المذكور. وقال الحنابلة (¬2): يجهر في صلاتي الكسوف والخسوف، لقول عائشة: «إن النبي صلّى الله عليه وسلم جهر في صلاة الخسوف بقراءته، فصلى أربع ركعات في ركعتين، وأربع سجدات» (¬3) وفي لفظ: «صلى صلاة الكسوف فجهر بالقراءة فيها» (¬4). والخلاصة: الإسرار في صلاة الكسوف مذهب الجمهور، ولكني أرجح مذهب الحنابلة والصاحبين في الجهر بصلاة الكسوف والخسوف، قال الشوكاني: الجهر أولى من الإسرار، لأنه زيادة. 3ً ـ وقت صلاة الكسوف والخسوف: تصلى هذه الصلاة وقت حدوث الكسوف والخسوف. وهل تصلى في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها؟ الجمهور: لا تصلى فيها؛ لأن تلك الأوقات تختص بجميع أجناس الصلاة، والشافعية: تصلى فيها؛ لأن تلك الأحاديث الواردة في النهي عن الصلاة في أوقات خمسة تختص بالنوافل، وصلاة الكسوف سنة، فتجوز في أي وقت. ¬
تفصيل آراء المذاهب
وتفصيل آراء المذاهب كما يأتي، قال الحنفية (¬1): وقت صلاة الكسوف هو الوقت الذي يستحب فيه أداء سائر الصلوات دون الأوقات المكروهة؛ لأن أداء النوافل أو الواجبات في هذه الأوقات مكروهة، كسجدة التلاوة وغيرها. وقال المالكية (¬2): لا يصلى لكسوف الشمس إلا في الوقت الذي تجوز فيه النافلة، فوقتها كالعيد والاستسقاء من حلّ النافلة إلى الزوال، وهذه رواية المدونة عن مالك، فإذا كسفت بعد الزوال لم تُصلَّ. وعلى رواية غير المدونة: يصلى لها حالاً، ويصلى لها بعد العصر. وأما صلاة الخسوف: فيندب تكرارها حتى ينجلي القمر، أو يغيب في الأفق، أو يطلع الفجر، فإن حصل واحد من هذه الثلاثة فلا صلاة. وقال الشافعية (¬3): تصلى صلاة الكسوفين في جميع الأوقات؛ لأنها ذات سبب، وتفوت صلاة كسوف الشمس، بالانجلاء لجميع المنكسف، وبغروب الشمس كاسفة، دليل الأول خبر: «إذا رأيتم ذلك ـ أي الكسوف ـ فادعوا الله وصلوا حتى ينكشف مابكم» (¬4) فدل على عدم الصلاة بعد ذلك. ودليل الثاني: أن الانتفاع بالصلاة يبطل بغروبها نيرة أو مكسوفة لزوال سلطانها. وتفوت صلاة خسوف القمر: بالانجلاء لحصول المقصود، وبطلوع الشمس ¬
قال الحنابلة
وهو ـ أي القمرـ منخسف لعدم الانتفاع حينئذ بضوئه. ولا تفوت في الجديد بطلوع الفجر لبقاء ظلمة الليل والانتفاع به، كما لاتفوت بغروب القمر خاسفاً، لبقاء محل سلطنته وهو الليل، فغروبه كغيبوبته تحت السحاب خاسفاً. وقال الحنابلة (¬1): وقتها: من حين الكسوف إلى حين التجلي، لحديث المغيرة السابق وغيره، وإن تجلى الكسوف وهو فيها أتمها خفيفة على صفتها، لقوله صلّى الله عليه وسلم في حديث أبي مسعود: «فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم» (¬2)، ولأن المقصود التجلي وقد حصل. ولا يقطع الصلاة، لقوله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم} [محمد:33/ 47] ولكن شرع تخفيفها حينئذ لزوال السبب. وإن شك في التجلي لنحو غيم أتمها من غير تخفيف؛ لأن الأصل عدمه، فيعمل بالأصل في حال بقاء الكسوف، ويعمل بالأصل في وجود الكسوف إذا شك فيه، فلا يصلي؛ لأن الأصل عدمه. وتفوت صلاة الكسوفين بالتجلي قبل الصلاة، أو بغيبوبة الشمس كاسفة، أو بطلوع الشمس والقمر خاسف، أو بطلوع الفجر والقمر خاسف؛ لأنه ذهب وقت الانتفاع بهما (¬3). وإن وقع الكسوف في وقت نهي عن الصلاة، دعا الله وذكره بلا صلاة، لعموم أحاديث النهي. ويؤيده ما روى قتادة قال: «انكسفت الشمس بعد العصر، ونحن بمكة، فقاموا يدعون قياماً، فسألت عن ذلك فقال: هكذا كانوا يصنعون» (¬4). ¬
- هل لصلاة الكسوف خطبة؟
4ً - هل لصلاة الكسوف خطبة؟ ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلم لما انصرف من صلاة الكسوف وقد تجلت الشمس، حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته ... » الحديث (¬1). فقال جماعة: إنه خطب؛ لأن من سنة هذه الصلاة الخطبة، كالحال في صلاة العيدين والاستسقاء. وقال آخرون: إن خطبة النبي صلّى الله عليه وسلم إنما كانت يومئذ؛ لأن الناس زعموا أن الشمس إنما كسفت لموت إبراهيم ابنه عليه السلام. وتفصيل آراء المذاهب هو مايأتي (¬2): قال الحنفية والحنابلة: لا خطبة لصلاة الكسوف؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «أمر بالصلاة دون الخطبة» وإنما خطب بعد الصلاة ليعلمهم حكمها، وهذا مختص به، وليس في الخبر ما يدل على أنه خطب كخطبتي الجمعة. وكذلك قال المالكية: لا يشترط لهذه الصلاة خطبة، وإنما يندب وعظ بعدها مشتمل على الثناء على الله، والصلاة والسلام على نبيه، لفعله عليه الصلاة والسلام ذلك. ¬
ذكر الله تعالى والدعاء
وقال الشافعية: السنة أن يخطب الإمام لصلاة الكسوفين خطبتين بعد الصلاة، كخطبة العيد والجمعة بأركانهما، اتباعاً للسنة، قالت عائشة: «إن النبي صلّى الله عليه وسلم لما فرغ من صلاته، قام، فخطب الناس فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: إن الشمس والقمر ... » (¬1) ويحث فيهما السامعين على التوبة من الذنوب، وعلى فعل الخير كصدقة ودعاء واستغفار، للأمر بذلك في البخاري وغيره، ويحذرهم الاغترار والغفلة، ويذكر في كل وقت من الحث والزجر ما يناسبه. لكن لا يخطب الإمام ببلد فيها وال إلا بأمر الوالي، وإلا فيكره. ذكر الله تعالى والدعاء: اتفق الفقهاء على أنه يستحب ذكر الله تعالى والدعاء والاستغفار والصدقة والتقرب إلى الله تعالى بما استطاع من القرب، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وتصدقوا وصلوا» وفي لفظ: «إذا رأيتم شيئاً من ذلك فافزعوا إلى ذكر الله ودعائه واستغفاره» (¬2) ولأنه تخويف من الله تعالى، فينبغي أن يبادر إلى طاعة الله تعالى ليكشفه عن عباده. والدعاء يكون بعد الصلاة، يدعو الإمام جالساً مستقبل القبلة إن شاء، أو قائماً مستقبل الناس. 5ً ـ الجماعة في صلاة الكسوف وموضعها: اتفق الفقهاء (¬3) على أن صلاة الكسوف تسن جماعةً في المسجد، وينادى لها (الصلاة جامعة)، اتباعاً للسنة كما في الصحيحين، قالت عائشة: «خرج النبي ¬
وأما صلاة خسوف القمر
صلّى الله عليه وسلم إلى المسجد، فقام وكبر، وصف الناس وراءه» (¬1). ويصلي بالناس الإمام الذي يصلِّي بهم الجمعة. وأجاز الحنابلة والشافعية: صلاتها فرادى؛ لأنها نافلة، ليس من شرطها الاستيطان، فلم تشترط لها الجماعة كالنوافل. وقال الحنفية: إن لم يحضر إمام الجمعة صلاها الناس فرادى ركعتين أو أربعاً، في منازلهم. وأما صلاة خسوف القمر، ففيها رأيان: قال الحنفية والمالكية: إنها تصلى فرادى (أفذاذاً) كسائر النوافل؛ لأن الصلاة بجماعة في خسوف القمر لم تنقل عن النبي صلّى الله عليه وسلم، مع أن خسوفه كان أكثر من كسوف الشمس، ولأن الأصل أن غير المكتوبة لا تؤدى بجماعة، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «صلاة الرجل في بيته أفضل إلا المكتوبة» إلا إذا ثبت بالدليل كما في العيدين وقيام رمضان وكسوف الشمس، ولأن الاجتماع بالليل متعذر، أو سبب الوقوع في الفتنة. وتصلى عند الشافعية والحنابلة صلاة الخسوف جماعة كالكسوف، لما روي عن ابن عباس أنه صلى بالناس في خسوف القمر، وقال: صليت كما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم (¬2)، ولحديث محمود بن لبيد: «فإذا رأيتموها كذلك فافزعوا إلى المساجد» (¬3). وهذا الرأي أولى؛ إذ لا فرق بين الخسوف والكسوف، وتسقط عمن له عذر في التخلف عن أداء الجماعة. أما سبب الاختلاف بين الرأيين: فهو اختلافهم في مفهوم قوله صلّى الله عليه وسلم: «إن ¬
ـ هل صلاة خسوف القمر مثل صلاة الكسوف؟
الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد، ولا لحياته، فإذا رأيتموها، فادعوا الله، وصلوا، حتى يكشف مابكم، وتصدقوا» (¬1) فالفريق الثاني الذي فهم من الأمر بالصلاة فيهما معنى واحداً: وهي الصفة التي فعلها في كسوف الشمس، رأى أن الصلاة فيها جماعة. والفريق الأول الذي فهم من ذلك معنى مختلفاً؛ لأنه لم يرو عنه عليه الصلاة والسلام أنه صلى في خسوف القمر مع كثرة دورانه، قال: المفهوم من ذلك أقل ما ينطلق عليه اسم صلاة في الشرع، وهي النافلة فذاً. ولا تقضى صلاة الخسوف والكسوف؛ لأنها مقرونة بسببها، فإذا زال السبب، فات موجبها، وهو انجلاء الشمس وغياب القمر أو الشمس كاسفاً. 6ً ـ هل صلاة خسوف القمر مثل صلاة الكسوف؟ قال الحنفية (¬2): تصلى صلاة الخسوف ركعتين أو أربعاً فرادى، كالنافلة، في المنازل. وقال المالكية (¬3): يندب لخسوف القمر ركعتان جهراً كالنوافل بقيام وركوع فقط على العادة. وقال الشافعية والحنابلة (¬4): صلاة الخسوف كالكسوف، بجماعة، بركوعين وقيامين وقراءتين وسجدتين في كل ركعة، لكنها تؤدى جهراً لا سراً عند ¬
رابعا ـ متى يدركها المسبوق؟
الشافعية، كما هو المقرر فيهما عند الحنابلة، لقول عائشة: «إن النبي صلّى الله عليه وسلم جهر في صلاة الخسوف بقراءته، فصلى أربع ركعات في ركعتين، وأربع سجدات» (¬1). رابعاً ـ متى يدركها المسبوق؟ عرفنا أن لهذه الصلاة هيئة مخصوصة تتميز عند غير الحنفية بركوعين في كل ركعة، فهل يدركها المسبوق بالركوع الأول أو بالثاني؟ قال المالكية (¬2): تدرك الركعة من ركعتي الكسوف مع الإمام بالركوع الثاني، فيكون هو الفرض، وأما الأول فهو سنة، والراجح أن الفاتحة فرض مطلقاً. وقال الشافعية (¬3): من أدرك الإمام في ركوع أول، أدرك الركعة، كما في سائر الصلوات، أما من أدركه في ركوع ثان أو قيام ثان، فلا يدرك الركعة في الأظهر؛ لأن الأصل هو الركوع الأول وقيامه، والركوع الثاني وقيامه في حكم التابع. وهذا هو الراجح لدي، لأنه المتبادر للذهن، والثاني استثناء. وقال القاضي أبو يعلى من الحنابلة (¬4): إذا أدرك المأموم الإمام في الركوع الثاني، احتمل أن تفوته الركعة؛ لأنه قد فاته من الركعة ركوع، كما لو فاته الركوع من غير هذه الصلاة. ويحتمل أن صلاته تصح؛ لأنه يجوز أن يصلي هذه الصلاة بركوع واحد، فاجتزئ به في حق المسبوق. ¬
خامسا ـ هل تقدم صلاة الكسوف على غيرها عند اجتماعها معها؟
خامساً ـ هل تقدم صلاة الكسوف على غيرها عند اجتماعها معها؟ إذا اجتمع صلاتان كالكسوف مع غيره من الجمعة أو فرض آخر أو العيد، أو الجنازة أو الوتر فأيهما يقدم؟ قال الشافعية والحنابلة (¬1):يقدم الفرض إن خيف فوته، لضيق وقته، وإلا بأن لم يخف فوت الفرض، يقدم الكسوف، ثم يخطب للجمعة متعرضاً للكسوف، ثم تصلى الجمعة، وتكفي عند الشافعية خطبة الجمعة عن خطبة الكسوف. ولو اجتمع عيد أوكسوف مع صلاة جنازة، قدمت الجنازة على الكسوف والعيد إكراماً للميت، ولأنه ربما يتغير بالانتظار، كما تقدم الجنازة على صلاة الجمعة إن لم يخف فوتها. وتقدم صلاة الكسوف على صلاة العيد والمكتوبة إن أمن الفوت. ويقدم الخسوف على الوتر باتفاق الشافعية والحنابلة، كما يقدم عند الشافعية على التراويح، وإن خيف فوت الوتر أو التراويح؛ لأنه آكد، ولأن الوتر يمكن تداركه بالقضاء. وتقدم التراويح على الخسوف عند الحنابلة إذا تعذر فعلهما؛ لأنها تختص برمضان وتفوت بفواته. ¬
المبحث السادس ـ صلاة الاستسقاء
المبحث السادس ـ صلاة الاستسقاء تعريف الاستسقاء وسببه، مشروعية صلاة الاستسقاء، صفة الصلاة، ووقتها والمكلف بها، والجهر بالقراءة فيها، خطبتها والدعاء فيها وبعدها، ما يستحب في الاستسقاء قبل الصلاة وبعدها (وظائف الاستسقاء)، الدعاء عند المطر وغيره من الأحداث، التنفل في المصلى. أولاً ـ تعريف الاستسقاء وسببه: الاستسقاء: لغة: طلب السقيا، وشرعاً: طلب السقي من الله تعالى بمطر عند حاجة العباد إليه على صفة مخصوصة (¬1) أي بصلاة وخطبة واستغفار وحمد وثناء. وسببه: قلة الأمطار: وشح المياه، والشعور بالحاجة لسقي الزرع وشرب الحيوان، ويحدث الجفاف عادة ابتلاء من الله تعالى، بسبب غفلة الناس عن ربهم، وتفشي المعاصي بينهم (¬2)، فيحتاج الأمر للتوبة والاستغفار والتضرع إلى الله ¬
ثانيا ـ مشروعية صلاة الاستسقاء
تعالى، فإذا فعل العباد ذلك، تفضل عليهم خالقهم وأنعم عليهم بإنزال المطر، كما قص علينا القرآن الكريم من دعاء الأنبياء نوح وموسى وهود عليهم السلام لإغاثة أقوامهم، قال تعالى عن نوح: {فقلت: استغفروا ربكم، إنه كان غفاراً، يرسل السماء عليكم مدراراً، ويمددكم بأموال وبنين، ويجعل لكم جنات، ويجعل لكم أنهاراً} [نوح:71/ 10 - 11 - 12] وقال عن موسى: {وإذ استسقى موسى لقومه، فقلنا: اضرب بعصاك الحجر .. } [البقرة:60/ 2] وقال عن موسى: {ويا قوم استغفروا ربكم، ثم توبوا إليه، يرسل السماء عليكم مدراراً، ويزدكم قوة إلى قوتكم} [هود:52/ 11]. ثانياً ـ مشروعية صلاة الاستسقاء: قال أبو حنيفة رحمه الله (¬1): ليس في الاستسقاء صلاة مسنونة في جماعة، فإذا صلى الناس فرادى أو وُحداناً، جاز من غير كراهة؛ لأنها نفل مطلق، وإنما الاستسقاء: دعاء واستغفار؛ لأنه السبب لإرسال الأمطار، بلا جماعة مسنونة، وبلا خطبة، وبلا قلب رداء، وبلا حضور ذمي، لقوله تعالى: {فقلت: استغفروا ربكم إنه كان غفاراً، يرسل السماء عليكم مدراراً} [نوح:71/ 10]، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم استسقى، ولم يرو عنه الصلاة. ورد الحافظ الزيلعي فقال (¬2): أما استسقاؤه عليه السلام، فصحيح ثابت، وأما إنه لم يرو عنه الصلاة، فهذا غير صحيح، بل صح أنه صلى فيه، كما سيأتي، وليس في الحديث أنه استسقى، ولم يصل، بل غاية ما يوجد ذكر الاستسقاء، دون ذكر الصلاة، ولا يلزم من عدم ذكر الشيء عدم وقوعه. ¬
وقال جمهور الفقهاء منهم الصاحبان (¬1): صلاة الاستسقاء سنة مؤكدة حضراً وسفراً، عند الحاجة، ثابتة بسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وخلفائه، رضي الله عنهم. وتكرر في أيام ثانياً وثالثاً وأكثر، إن تأخر السقي، حتى يسقيهم الله تعالى، فإن الله يحب الملحين في الدعاء (¬2). ودليل سنيتها أحاديث متعددة، منها حديث ابن عباس: أن النبي صلّى الله عليه وسلم صلى في الاستسقاء ركعتين، كصلاة العيد (¬3). وحديث عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلم خطب في الاستسقاء «ثم نزل فصلى ركعتين ... » (¬4) وحديث أبي هريرة وعبد الله بن زيد وعباد بن تميم عن عمه (¬5). وإن تأهب الناس لصلاة الاستسقاء، فسقوا وأمطروا قبلها، صلوها عند المالكية لطلب سعة، واجتمعوا عند الشافعية (¬6) للشكر والدعاء، ويصلون صلاة الاستسقاء المعروفة شكراً أيضاً، على الصحيح، كما يجتمعون للدعاء ونحوه، والأصح أنه يخطب بهم الإمام أيضاً، ولو سقوا في أثنائها أتموها، جزماً. وعند الحنابلة (¬7): لا يخرج الناس حينئذ للصلاة، وشكروا الله على نعمته، ¬
ثالثا ـ صفة صلاة الاستسقاء ووقتها والمكلف بها والقراءة فيها
وسألوه المزيد من فضله. أما إن خرجوا فأمطروا قبل أن يصلوا، صلوا شكراً لله تعالى، وحمدوه ودعوه. ثالثاً ـ صفة صلاة الاستسقاء ووقتها والمكلف بها والقراءة فيها: اتفق الجمهور غير أبي حنيفة (¬1) على أن صلاة الاستسقاء ركعتان بجماعة في المصلى بالصحراء خارج البلد، بلا أذان ولا إقامة، وإنما ينادى لها (الصلاة جامعة)؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم لم يقمها إلا في الصحراء، وهي أوسع من غيرها في المصلى، ويجهر فيهما بالقراءة، كصلاة العيد، بعدد تكبيراته عند الشافعية والحنابلة بعد الافتتاح قبل التعوذ، سبعاً في الركعة الأولى، وخمساً في الثانية برفع يديه ووقوفه بين كل تكبيرتين كآية معتدلة، قال ابن عباس: «سنة الاستسقاء سنة العيدين» فتسن في الصحراء، مع تكبير العيد، بلا أذان ولا إقامة لأنها صلاة شرع لها الاجتماع والخطبة. ويجعل عند المالكية والشافعية، والصاحبين من الحنفية في المشهور الاستغفار بدل التكبير، فليس في الاستسقاء تكبير، بل فيه الاستغفار بدل التكبير. ويقرأ في الصلاة ما شاء جهراً، كما في صلاة العيدين، والأفضل أن يقرأ فيهما عند المالكية بسبح، والشمس وضحاها، وعند الحنابلة والصاحبين مثلما يقرأ في صلاة العيد بسبح اسم ربك الأعلى، وهل أتاك حديث الغاشية، كما في حديث ابن عباس المتقدم وحديث أنس عند ابن قتيبة في غريب الحديث، وإن شاء قرأ في الركعة الأولى بـ {إنا أرسلنا نوحاً} [نوح:71/ 1] لمناسبتها الحال، وفي الركعة الثانية سورة أخرى من غير تعيين. ¬
وقتها
وعند الشافعية: يقرأ في الأولى جهراً بسورة {ق} [ق:50/ 1] وفي الثانية: {اقتربت} [القمر:54/ 1] في الأصح، أو بسبح والغاشية، قياساً لا نصاً. ودليل الجهر بالقراءة حديث عبد الله بن زيد وغيره: «ثم صلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة» (¬1)، وكما تفعل جماعة ـ وهو الأفضل ـ تفعل فرادى. والمستحب الخروج إلى الصحراء، إلا في مكة والمدينة وبيت المقدس ففي المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى، فيخرج الناس ثلاثة أيام مشاة في ثياب خَلِقة غَسِيلة، متذللين متواضعين، خاشعين لله تعالى، ناكسين رؤوسهم، مقدمين الصدقة كل يوم قبل خروجهم، ويجددون التوبة، ويستسقون بالضَّعَفة والشيوخ والعجائز والأطفال. ولا يشترط إذن الإمام لصلاة الاستسقاء عند أبي حنيفة؛ لأن المقصود هو الدعاء فلا يشترط له إذن الإمام، ويشترط ذلك عند الشافعية، وعن الإمام أحمد روايتان (¬2). وأما وقتها: فليس لها وقت معين، ولا تختص بوقت العيد، إلا أنها لا تفعل في وقت النهي عن الصلاة، بغير خلاف؛ لأن وقتها متسع، فلا حاجة إلى فعلها في وقت النهي. ويسن فعلها أول النهار، وقت صلاة العيد، لحديث عائشة: «أنه صلّى الله عليه وسلم خرج حين بدا حاجب الشمس» (¬3)، ولأنها تشبه صلاة العيد في الموضع والصفة، فكذلك في الوقت؛ لأن وقتها لا يفوت بزوال الشمس؛ لأنها ليس لها يوم معين، فلا يكون لها وقت معين. ¬
ولا تتقيد بزوال الشمس ظهراً، فيجوز فعلها بعده، كسائر النوافل (¬1). وإن استسقى الناس عقب صلواتهم أو في خطبة الجمعة، أصابوا السنة، فيجوز الاستسقاء بالدعاء من غير صلاة لحديث عمر رضي الله عنه أنه خرج يستسقي، فصعد المنبر فقال: «استغفروا ربكم إنه كان غفاراً، يرسل السماء عليكم مدراراً، ويمددكم بأموال وبنين، ويجعل لكم جنات، ويجعل لكم أنهاراً، استغفروا ربكم، إنه كان غفاراً، ثم نزل، فقيل: يا أمير المؤمنين، لو استسقيت؟ فقال: لقد طلبت بمجاديح السماء التي يستنزل بها القطر» (¬2). والمكلف بها (¬3): الرجال القادرون على المشي، ولا يؤمر بها النساء والصبيان غير المميزين على المشهور عند المالكية، وقال الشافعية والحنفية: يندب خروج الأطفال والشيوخ والعجائز، ومن لا هيئة لها من النساء، والخنثى القبيح المنظر؛ لأن دعاءهم أقرب إلى الإجابة، إذ الكبير أرق قلباً، والصغير لا ذنب عليه، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «وهل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم» (¬4). ويكره خروج الشابات والنساء ذوات الهيئة، خوف الفتنة. ¬
إخراج الدواب
إخراج الدواب: ولا يستحب عند المالكية والحنابلة إخراج البهائم والمجانين؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يفعله. ويستحب إخراجها مع أولادها عند الحنفية، والشافعية في الأصح، ويباح ذلك عند الحنابلة؛ لأن الرزق مشترك بين الكل (¬1)، وليحصل التحنّن، ويظهر الضجيج بالحاجات، روى البزار مرفوعاً بسند ضعيف: «لولا أطفال رُضَّع، وعباد رُكَّع، وبهائم رُتَّع، لصب عليكم العذاب صباً». وروي أن سليمان عليه السلام «خرج يستسقي، فرأى نملة مستلقية، وهي تقول: اللهم إنا خلق من خلقك، ليس بنا غنى عن رزقك، فقال سليمان: ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم» (¬2). التوسل بذوي الصلاح: ويستحب إخراج أهل الدين والصلاح، لأنه أسرع لإجابتهم، وقد استسقى عمر بالعباس، ومعاوية بيزيد بن الأسود الجرشي، واستسقى به الضحاك بن قيس مرة أخرى، فلابأس بالتوسل بالصالحين، قال ابن عمر: استسقى عمر عام الرمادة بالعباس، فقال: اللهم إن هذا عمُّ نبيك صلّى الله عليه وسلم نتوجه إليك به، فاسقنا، فما برحوا حتى سقاهم الله عز وجل. وقال معاوية: اللهم إنا نستشفع إليك بخيرنا وأفضلنا يزيد بن الأسود، يايزيد، ارفع يديك، فرفع يديه، ودعا الله تعالى، فثارت في الغرب سحابة مثل الترس، وهب لها ريح، فسقوا، حتى كادوا لايبلغون منازلهم (¬3). ¬
وهل يخرج أهل الذمة؟
وهيئة الخارج للاستسقاء كما بينا: أن يكون متضرعاً لله تعالى، متبذلاً أي في ثياب البذلة، لافي ثياب الزينة، ولا يتطيب؛ لأنه من كمال الزينة، ويكون متخشعاً في مشيه، وجلوسه في خضوع، متضرعاً إلى الله تعالى، متذللاً له، راغباً إليه. قال ابن عباس: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم متواضعاً متبذلاً متخشعاً متضرعاً (¬1). وهل يخرج أهل الذمة؟ قال الحنفية: لا يحضر أهل الذمةلاستسقاء؛ لأن الخروج للدعاء، وقد قال تعالى: {وما دعاء الكافرين إلا في ضلال} [الرعد:14/ 13]، ولأنه لاستنزال الرحمة، وإنما تنزل عليهم اللعنة، وإن كان الراجح أن دعاء الكافر قد يستجاب استدراجاً. وأما الآية السابقة {وما دعاء} [الرعد:14/ 13] ففي الآخرة. وقال الجمهور: لا يمنع أهل الذمة من الخروج مع المسلمين، وأمروا أن يكونوا منفردين لا يختلطون بنا في مصلانا، ولا عند الخروج، ويكره اختلاطهم بنا، كما يكره خروجهم عند الشافعي، ولا يؤمن على دعائهم؛ لأن دعاء الكافر غير مقبول. وكونهم لا يمنعون الحضور؛ لأنهم يسترزقون ويطلبون أرزاقهم من ربهم، وفضل الله واسع، وقد يجيبهم الله تعالى استدراجاً، وطعمة في الدنيا، قال تعالى: {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون} [الأعراف:182/ 7] والله ضمن أرزاقهم في الدنيا كما ضمن أرزاق المؤمنين. وانفرادهم عن المسلمين؛ لأنه لا يؤمن أن يصيبهم عذاب، فيعم من حضرهم، فإن قوم عاد استسقوا، فأرسل الله عليهم ريحاً صرصراً فأهلكتهم. ¬
رابعا ـ خطبة الاستسقاء
رابعاً ـ خطبة الاستسقاء: قال أبو حنيفة (¬1) لاخطبة للاستسقاء؛ لأنها تبع للجماعة، ولا جماعة لها عنده، وإنما دعاء واستغفار يستقبل فيهما الإمام القبلة. قال ابن عباس حينما سئل عن صلاة الاستسقاء: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم متواضعاً متبذلاً (¬2)، متخشعاً، متضرعاً، فصلى ركعتين، كما يُصلَّى في العيد، لم يخطب خطبتكم هذه (¬3). وقال الصاحبان: يصلي الإمام بالناس ركعتين يجهر فيهما بالقراءة، ثم يخطب، ويستقبل القبلة بالدعاء. ويخطب خطبتين بينهما جلسة كالعيد عند محمد، وخطبة واحدة عند أبي يوسف، ويكون معظم الخطبة الاستغفار. وقال الجمهور (¬4): يخطب الإمام للاستسقاء بعد الصلاة على الصحيح خطبتين كصلاة العيد عند المالكية والشافعية، لقول ابن عباس: صنع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الاستسقاء كما صنع في العيدين، وخطبة واحدة عند الحنابلة؛ لأنه لم ينقل أنهصلّى الله عليه وسلم خطب بأكثر منها. ودليلهم على طلب الخطبة وكونها بعد الصلاة: حديث أبي هريرة: «خرج نبي الله صلّى الله عليه وسلم يوماً يستسقي، فصلى بنا ركعتين بلا أذان ولا إقامة، ثم خطبنا، ودعا الله عز وجل، وحول وجهه نحو القبلة رافعاً يديه، ثم قلب رداءه، فجعل الأيمن على الأيسر، والأيسر على الأيمن» (¬5). ¬
وتجوز عند الشافعية الخطبة قبل الصلاة، لحديث عبد الله بن زيد: «رأيت النبي صلّى الله عليه وسلم يوم خرج يستسقي، فحوَّل إلى الناس ظهره، واستقبل القبلة يدعو، ثم حول رداءه، ثم صلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة» (¬1). وتختلف عن خطبة العيد في رأي المالكية والشافعية أن الإمام يستغفر الله تعالى بدل التكبير، فيقول: (أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه) ويكثر فيها بالاتفاق الاستغفار؛ لأنه سبب لنزول الغيث، روى سعيد: «أن عمر خرج يستسقي، فلم يزد على الاستغفار، فقالوا: ما رأيناك استسقيت فقال: لقد طلبت الغيث بمجاديح السماء الذي يُستنزَل به المطر، ثم قرأ: استغفروا ربكم، إنه كان غفاراً، يرسل السماء عليكم مدراراً» (¬2). ولا حد للاستغفار عند المالكية في أول الخطبة الأولى والثانية. ويستغفر الخطيب في الخطبة الأولى عند الشافعية تسعاً، وفي الثانية سبعاً، ويستحب أن يكثر من الاستغفار، لقوله تعالى: {استغفروا ربكم، إنه كان غفاراً، يرسل السماء عليكم مدراراً} [نوح:71/ 10 - 11]. ويفتتح الإمام عند الحنابلة الخطبة بالتكبير تسعاً نسَقاً كخطبة العيد، ويكثر فيها عندهم الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم؛ لأنها معونة على الإجابة، قال عمر: «الدعاء موقوف بين السماء والأرض، لا يصعد منه شيء حتى تصلي على نبيك» (¬3)، ويقرأ كثيراً: {استغفروا ربكم إنه كان غفاراً} [نوح:71/ 10] وسائر الآيات التي فيها الأمر به، فإن الله تعالى وعدهم بإرسال الغيث إذا استغفروه. ¬
الدعاء بالخطبة
الدعاء بالخطبة: ويدعو الإمام في الخطبة الأولى: اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً، هنيئاً مريئاً مَريعاً، غَدَقاً، مجلِّلاً، سَحَّاً، طَبَقاً دائماً، لحديث ابن عباس (¬1). اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين (أي الآيسين بتأخير المطر)،اللهم إن بالعباد والبلاد والخلق من اللأواء (شدة الجوع)، والجَهد (قلة الخير وسوء الحال)، والضنك (أي الضيق)، ما لا نشكو إلا إليك. اللهم أنبت لنا الزرع، وأدرّ لنا الضرع، واسقنا من بركات السماء، وأنبت لنا من بركات الأرض. اللهم ارفع عنا الجهد والعُرْي والجوع، واكشف عنا من البلاء، ما لا يكشفه غيرك. اللهم إنا نستغفرك، إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً أي دراً، والمراد مطراً كثيراً. وكل ذلك ثابت بحديث واحد عن عبد الله بن عمر. ويبالغ في الدعاء سراً وجهراً لقوله تعالى: {ادعوا ربكم تضرعاً وخفية} [الأعراف:55/ 7] ويؤمن القوم على دعائه، فيقول: اللهم إنك أمرتنا بدعائك، ووعدتنا إجابتك، وقد دعوناك كما أمرتنا، فاستجب لنا كما وعدتنا، إنك لا تخلف الميعاد (¬2). وكان من دعائه صلّى الله عليه وسلم: «الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت الله، لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغاً إلى حين» (¬3). ¬
رفع الأيدي في الدعاء
أما الناس فيسرون بالدعاء إن أسر الإمام، ويجهرون به إن جهر. ويستحب للخطيب استقبال القبلة في أثناء الدعاء، لحديث عبد الله بن زيد المتقدم. وهذا ما قرره الصاحبان، وهو أن الإمام يستقبل القبلة بالدعاء في الخطبة. وقال المالكية: يستقبل القبلة بوجهه قائماً بعد الفراغ من الخطبتين، ويبالغ في الدعاء برفع الكرب والقحط وإنزال الغيث والرحمة وعدم المؤاخذة بالذنوب، ولا يدعو لأحد من الناس. وقال الشافعية: يستقبل الإمام القبلة بعد صدر (نحو ثلث) الخطبة الثانية، ثم يدعو (¬1) سراً وجهراً، ثم يستقبل الناس بوجهه ويحثهم على الطاعة، ويصلي على النبي صلّى الله عليه وسلم ويقرأ آية أو آيتين، ويدعو للمؤمنين والمؤمنات، ويختم بقوله: أستغفر الله لي ولكم. وقال الحنابلة: يستقبل القبلة في أثناء الخطبة. رفع الأيدي في الدعاء: ويستحب رفع الأيدي في دعاء الاستسقاء، لحديث أنس: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء، فإنه كان يرفع يديه، حتى يُرى بياض إبطيه» (¬2) وفي حديث أيضاً لأنس: فرفع النبي صلّى الله عليه وسلم ورفع الناس أيديهم. قلب الرداء أو تحويله: قال الصاحبان أبو يوسف ومحمد: يقلب الإمام رداءه عند الدعاء، لما روي أنه صلّى الله عليه وسلم: «لما استسقى حوَّل ظهره إلى الناس، واستقبل القبلة، وحوَّل رداءه» (¬3). ¬
وصفة القَلْب: إن كان مربَّعاً جعل أعلاه أسفله، وإن كان مُدَوَّراً كالجبة، جعل الجانب الأيمن على الأيسر. ولا يقلب القوم أرديتهم؛ لأنه لم ينقل أنه عليه السلام أمرهم بذلك ولا يسن القلب عند أبي حنيفة؛ لأن الاستسقاء دعاء عنده، فلا يستحب تحويل الرداء فيه كسائر الأدعية. وقال الجمهور: يحول الإمام رداءه عند استقبال القبلة، على الخلاف السابق في وقت الاستقبال، ويحول الناس الذكور مثله أي مثل الإمام، وهم جلوس، لحديث عبد الله بن زيد، وحديث عائشة، وحديث أبي هريرة كما تقدم (¬1) وليقلب الله ما بهم من الجدب إلى الخصب، وجاء هذا المعنى في بعض الحديث، روي «أن النبي صلّى الله عليه وسلم حول رداءه ليتحول القحط» (¬2). وصفة التحويل: أن يجعل يمينه يساره وعكسه أي يجعل الأيمن على الأيسر، والأيسر على الأيمن، بلا تنكيس للرداء عند المالكية والحنابلة، أي فلا يجعل الحاشية السفلى التي على رجليه على أكتافه. ومع التنكيس في المذهب الجديد للشافعي، فيجعل أعلاه أسفله وعكسه، لحديث: «أنه صلّى الله عليه وسلم استسقى، وعليه خميصة له سوداء، فأراد أن يأخذ أسفلها فيجعله أعلاها، فثقُلت عليه، فقلَبها الأيمن على الأيسر، والأيسر على الأيمن» (¬3). ¬
خامسا ـ ما يستحب في الاستسقاء أو وظائف الاستسقاء
ودليل التحويل للناس: حديث عبد الله بن زيد: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين استسقى لنا، أطال الدعاء، وأكثر المسألة، ثم تحول إلى القبلة، وحول رداءه، فقلبه ظهراً لبطن، وتحول الناس معه» (¬1). قال الحنابلة: ويظل الرداء محولاً حتى يُنزغ مع الثياب بعد الوصول إلى المنزل، لعدم نقل إعادته. والخلاصة: إن تحويل الرداء للتفاؤل بتحويل الحال من الشدة إلى الرخاء، و «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يحب الفأل الحسن» (¬2). خامساً ـ ما يستحب في الاستسقاء أو وظائف الاستسقاء: يستحب للاستسقاء ما يأتي (¬3) بالإضافة لما ذكر سابقاً في الخطبة والخروج للصلاة: 1ً - يأمر الإمام الناس بالتوبة من المعاصي، والتقرب إلى الله تعالى بوجوه البر والخير من صدقة وغيرها، والخروج من المظالم وأداء الحقوق؛ لأن ذلك أرجى للإجابة، قال تعالى: {ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه، يرسل السماء عليكم مدراراً} [هود:52/ 11]، ولأن المعاصي والمظالم سبب القحط ومنع القطر، والتقوى سبب البركات، لقوله تعالى: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض} [الأعراف:7/ 96] ويأمرالإمام أيضاً بصيام ¬
ثلاثة أيام متتابعة قبل صلاة الاستسقاء، ويخرج الناس في يوم آخر صياماً، أو في اليوم الرابع إلى الصحراء صياماً فتصير أيام الصيام أربعة؛ لأنه وسيلة إلى نزول الغيث لما فيه من الرياضة والخشوع، وقد روي: «ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، والمظلوم» (¬1). قال الشافعية: ويلزم الناس امتثال أمر الإمام. وقال الحنابلة: ولا يلزم الصيام والصدقة بأمره. ويأمرهم الإمام أيضاً بالصدقة؛ لأنها متضمنة للرحمة المفضية إلى رحمتهم بنزول الغيث. كما يأمرهم بترك التشاحن من الشحناء وهي العداوة؛ لأنها تحمل على المعصية والبهت، وتمنع نزول الخير بدليل قوله صلّى الله عليه وسلم: «خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان، فرفعت» (¬2) ويعين الإمام يوماً يخرج الناس فيه (¬3). 2ً - أن يخرج الإمام والناس مشاة إلى الاستسقاء في الصحراء ثلاثة أيام متتابعة، إلا في مكة والمدينة وبيت المقدس، فيجتمعون في المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى، كما قدمنا. وإن لم يخرج الإمام خرج الناس لصلاة الاستسقاء عند الحنفية، وإذا خرجوا، اشتغلوا بالدعاء، ولم يصلوا بجماعة إلا إذا أمر الإمام إنساناً أن يصلي بهم جماعة؛ لأن هذا دعاء، فلا يشترط له حضور الإمام. وإن خرجوا بغير إذن الإمام، جاز؛ لأنه دعاء، فلا يشترط له إذن الإمام. ¬
وقال الشافعية: إذا كان الوالي بالبلد لا يخرج الناس إلى الصحراء حتى يأذن لهم، لخوف الفتنة. وعند الحنابلة روايتان: إحداهما ـ لا يستحب إلا بخروج الإمام أو نائبه، فإذا خرجوا دعوا وانصرفوا بلا صلاة ولا خطبة. وفي رواية أخرى: إنهم يصلون لأنفسهم، ويخطب بهم أحدهم. 3ً - التنظيف للاستسقاء بغسل وسواك وإزالة رائحة وتقليم أظفار ونحوه، لئلا يؤذي الناس، وهو يوم يجتمعون له كالجمعة. ولا يستحب التطيب؛ لأنه يوم استكانة وخضوع، ولأن الطيب للزينة وليس هذا وقت زينة. 4ً - يخرج المرء إلى المصلى متواضعاً متذللاً، متخشعاً (خاضعاً) متضرعاً (مستكيناً) متبذلاً (في ثياب بَذْلة)، لحديث ابن عباس السابق: «خرج النبي صلّى الله عليه وسلم للاستسقاء متذللاً متواضعاً متخشعاً، حتى أتى المصلى» (¬1). 5ً - التوسل بأهل الدين والصلاح والشيوخ والعلماء المتقين والعجائز والأطفال والدواب، تحصيلاً للتحنن، وإظهار الضجيج بالحاجات، كما بينا سابقاً (¬2)، ويسن لكل من حضر أن يستشفع سراً بخالص عمله. 6ً - الخروج إلى المصلى في الصحراء: لحديث عائشة: «شكا الناس إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم قحوط المطر، فأمر بمنبر، فوضع له في المصلى» (¬3)، ولأن الجمع يكثر، فكان المصلى أرفق بهم. ¬
ويكره أن يقول: مطرنا بنوء كذا
7ً - الدعاء بالمأثور في الخطبة كما بينا، وعند نزول الغيث، لما روى البيهقي «أن الدعاء يستجاب في أربعة مواطن: عند التقاء الصفوف، ونزول الغيث، وإقامة الصلاة ورؤية الكعبة» ولما روى البخاري عن عائشة «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا رأى المطر، قال: صيباً نافعاً» أي مطراً شديداً. ومجموع الدعاء عند نزول المطر من أحاديث متفرقة: «اللهم صيّباً هنيئاً، وسيباً ـ أي عطاء ـ نافعاً، مطرنا بفضل الله ورحمته» ويقول عند التضرر بكثرة المطر: «اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب، وبطون الأودية ومنابت الشجر» (¬1) «اللهم سقيا رحمة ولا سقيا عذاب، ولا محق ولا بلاء، ولا هَدْم ولا غَرَق» (¬2). ويكره أن يقول: مطرنا بنَوْء كذا: أي بوقت النجم الفلاني على عادة العرب في إضافة الأمطار إلى الأنواء، لإيهامه أن النوء ممطر حقيقة. فإن اعتقد أنه الفاعل له حقيقة كفر، وعليه يحمل ما في الصحيحين، حكاية عن الله تعالى: «أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذاك مؤمن بي كافر بالكواكب، ومن قال: مطرنا بنوء كذا، فذاك كافر بي، مؤمن بالكوكب». ويكره سب الريح، بل يسن الدعاء عندها لخبر: «الريح من روح الله ـ أي رحمته ـ تأتي بالرحمة، وتأتي بالعذاب، فإذا رأيتموها فلا تسبوها، واسألوا الله خيرها، واستعيذوا بالله من شرها» (¬3) بل يقول كما قدمنا: «اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ¬
ويسبح عند الرعد والصواعق
ما أرسلت به» (¬1) «اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عذاباً، اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً» (¬2). ويسبح عند الرعد والصواعق، فيقول: «سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته» (¬3) وعند البرق يقول: «سبحان من يريكم البرق خوفاً وطمعاً» ويستحب ألا يُتْبع بصرَه البرقَ؛ لأن السلف الصلاح كانوا يكرهون الإشارة إلى الرعد والبرق ويقولون عند ذلك: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، سُبُّوح قُدُّوس» فيختار الاقتداء بهم في ذلك. ويقول عند انقضاض الكوكب: «ما شاء الله، لا قوة إلا بالله» (¬4). وإذا سمع نهيق حمار، استعذ بالله من الشيطان الرجيم، لخبر الشيخين. وإذا سمع نُباح كلب، استعاذ، فيقول: أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، لحديث أبي داود. وإذا سمع صياح الديكة، سأل الله من فضله، لخبر الشيخين. 8ً - يستحب لأهل الخصب أن يدعو لأهل الجدب؛ لأنه من التعاون على البر والتقوى. 9ً - وقال الشافعية: يستحب لكل أحد أن يبرز (يظهر) لأول مطر السنة، ¬
وأول كل مطر ويكشف من جسده غير عورته ليصيبه شيء من المطر تبركاً. وروى مسلم «أنه صلّى الله عليه وسلم حسر عن ثوبه حى أصابه المطر، وقال: إنه حديث عهد بربه» (¬1) أي بخلقه وتنزيله وتكوينه، ويستحب أيضاً أن يغتسل أو يتوضأ بماء السيل، لما روى الشافعي في الأم، بإسناد منقطع: «أنه صلّى الله عليه وسلم كان إذا سال السيل قال: اخرجوا بنا إلى هذا الذي جعله الله طهوراً، فنتطهر به، ونحمد الله عليه». 10ً - قال المالكية: جاز التنفل في المصلى أو المسجد قبل صلاة الاستسقاء وبعدها؛ لأن المقصود من الاستسقاء الإقلاع عن الخطايا، والاستكثار من فعل الخير. وذلك بخلاف العيد، فإنه - كما قدمنا- يكره عند الجمهور غير الشافعية التنفل قبل صلاته وبعدها بالمصلى، لا في المسجد عند المالكية، وفي المسجد أيضاً عند الحنفية والحنابلة، لكن لا بعدها عند الحنفية. والدعاء يكون ببطن الكف إذا كان لطلب شيء وتحصيله، وبظهر الكف إلى السماء إذا أريد به رفع البلاء (¬2). 11 - تعاد صلاة الاستسقاء ثانياً وثالثاً إن لم يُسْقَوْا، فإن تأهبوا للصلاة، فسقوا قبلها اجتمعوا للشكر والدعاء بالزيادة، ويصلون صلاة الاستسقاء المعروفة شكراً لله تعالى، كما يجتمعون للدعاء ونحوه. جاء في الصحيحين: «يستجاب لأحدكم ما لم يعجّل، يقول: دعوت، فلم يستجب لي» وقال تعالى: {لئن شكرتم لأزيدنكم} [إبراهيم:7/ 14]. حكي عن أصبغ أنه قال: استُسقي للنيل بمصر خمسة وعشرين يوماً متوالية. ¬
المبحث السابع ـ صلاة الخوف
المبحث السابع ـ صلاة الخوف مشروعيتها، سببها وشروطها، كيفيتها أو صفتها، صفة ما يقضيه المسبوق فيها، متى تفسد؟ الصلاة عند التحام القتال واشتداد الخوف. أولاً ـ مشروعية صلاة الخوف: صلاة الخوف مشروعة عند جمهور الفقهاء (¬1)، هي سنة ثابتة بالكتاب والسنة في أثناء قتال الكفار: أما الكتاب: فقول الله تعالى: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة. فلتقم طائفة منهم معك، وليأخذوا أسلحتهم، فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم، ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك، وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم، ودَّ الذين كفروا لو تغفُلون عن أسلحتكم وأمتعتكم، فيميلون عليكم ميلة واحدة .. } الآية (¬2) وماثبت في حقه عليه السلام ثبت في حق أمته، مالم يقم دليل على اختصاصه؛ لأن الله تعالى أمر باتباعه، وتخصيصه بالخطاب: {وإذا كنت} [النساء:102/ 4] لا يقتضي تخصيصه بالحكم، بدليل قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} [التوبة:103/ 9]. وأما السنة: فقد ثبت وصح أنه صلّى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف في أربعة مواضع: ¬
في غزوة ذات الرِّقاع التي حدثت بعد الخندق على الصواب، وبطن نخل (اسم موضع في نجد بأرض غطفان) وعُسْفان (يبعد عن مكة نحو مرحلتين)، وذي قَرَد (ماء على بريد من المدينة، وتعرف بغزوة الغابة، في ربيع الأول سنة ست قبل الحديبية) (¬1) وصلاها النبي صلّى الله عليه وسلم أربعاً وعشرين مرة. وقد وردت بها الأحاديث الآتية في صفة صلاتها، مع خبر «صلوا كما رأيتموني أصلي». وأجمع الصحابة على فعلها، وصلاها علي وأبو موسى الأشعري وحذيفة، وهي عند الجمهور والمشهور من المذهب المالكي جائزة في السفر والحضر، وقصرها ابن الماجشون من المالكية على حالة السفر. وقال أبو يوسف: إن صلاة الخوف مختصة بالنبي صلّى الله عليه وسلم، فكانت مشروعة في حياته عليه السلام، لقوله تعالى: {وإذا كنت فيهم} [النساء:102/ 4]، وحكمة مشروعيتها في حياته صلّى الله عليه وسلم أن ينال كل فريق فضيلة الصلاة خلفه، وهم كانوا حراصاً على درك هذه الفضيلة، وقد ارتفع بعده عليه الصلاة والسلام، وكل طائفة تتمكن من أداء الصلاة بإمام خاص، فلا يجوز أداؤها بصفة فيها ذهاب ومجيء ونحوهما مما يخالف صفة الصلاة. ولا تصلى صلاة الخوف بعد النبي صلّى الله عليه وسلم بإمام واحد، وإنما تصلى بعده بإمامين، يصلي واحد منهما بطائفة ر كعتين، ثم يصلي الآخربطائفة أخرى وهي الحارسة ركعتين أيضاً، وتحرس التي قد صلت. ورد هذا الاستدلال: بأن الصحابة قد أقاموها بعده عليه الصلاة والسلام، وهم أعرف بانتهاء الجواز أو بقائه. والغاية من تشريعها: هو حرص الإسلام على أداء الصلاة جماعة، لتظل رابطة التجمع قوية صلبة دائمة، حتى في أشد أوقات المحن والمخاطر والأزمات. ¬
ثانيا ـ سبب صلاة الخوف وشروطها
وتأثير الخوف في تغيير هيئة الصلاة وصفتها، لا في تغيير عدد ركعاتها، فلا يغيره الخوف، في قول الأكثرين. ثانياً ـ سبب صلاة الخوف وشروطها: إن الخوف من هجوم العدو سبب لهذه الصلاة، كما رأى ابن عابدين (¬1)، وحضور العدو شرط، كما في صلاة المسافر، فإن المشقة سبب لها، والسفر الشرعي شرط. والمراد بالخوف: حضرة العدو، لا حقيقة الخوف، فإن حضرة العدو أو وجوده أقيمت مقام الخوف. ولا تختص صلاة الخوف بالقتال، بل تجوز في كل خوف، كهرب من سيل أو حريق أوسبع أو جمل أو كلب ضار أو صائل أو لص أو حية ونحو ذلك، ولم يجد معدلاً عنه (¬2). ويشترط لصلاة الخوف ما يأتي (¬3): 1ً - أن يكون القتال مباحاً: أي مأذوناً فيه، سواء أكان واجباً كقتال الكفار الحربيين، والبغاة، والمحاربين (قطاع الطرق) القاصدين سفك الدماء وهتك الحرمات، لقوله تعالى: {إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} [النساء:101/ 4]، أم جائزاً كقتال من أراد أخذ مال المسلمين. فلا تصح صلاة الخوف من البغاة والعصاة بالسفر؛ لأنها رحمة وتخفيف ¬
ثالثا ـ كيفية أداء صلاة الخوف أو صفتها
ورخصة، فلا يجوز أن تتعلق أو تباح بالمعاصي، أي أن صلاة الخوف لا تجوز في القتال المحظور أو الحرام، كقتال أهل العدل وقتال أصحاب الأموال لأخذ أموالهم. 2ً - حضور العدو أو السبع، أو خوف الغرق أو الحَرَق: فمن خاف العدو أو الخطر، سواء أكان الخوف على النفس أم المال، جاز له صلاة الخوف عند الجمهور والمشهور من مذهب المالكية في السفر والحضر وفي البحر والبر، في القتال أوغيره، لعموم قوله تعالى: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة} [النساء:102/ 4] فهو عام في كل حال. فلو رأوا سواداً ظنوه عدواً، فصلوها، فإن تبين الأمر كما ظنوا صحت صلاتهم، وإن ظهر خلافه، لم تجز، فإذا كانت الصلاة من غير خوف فسدت، قال الشافعية والحنابلة: من أمن وهو في الصلاة أتمها صلاة آمن، ومن كان آمناً فاشتد خوفه أتمها صلاة خائف. وقال المالكية: من أمن صلى صلاة أمان. وتكون صلاة الحضر تامة، وصلاة السفر الرباعية مقصورة؛ لأن الخوف كما قدمنا لا يؤثر في عدد الركعات، ففي السفر الذي يبيح القصر (98كم) يصلي الإمام بكل طائفة ركعة، وفي الحضر يصلي الإمام بكل طائفة ركعتين. ثالثاً ـ كيفية أداء صلاة الخوف أو صفتها: اتفق الفقهاء على ناحيتين مهمتين: أولاهما ـ أنه يجوز للجيش أن يصلوا بإمامين، كل طائفة بإمام. وثانيتهما ـ أنه في اشتداد الخوف وتعذر الجماعة، يجوز للجنود أن يصلوا فرادى ركباناً وراجلين، في مواقعهم وخنادقهم، يومئون إيماء بالركوع والسجود إلى أي جهة شاءوا، إلى القبلة وإلى غيرها، يبتدئون تكبيرة الإحرام إلى القبلة إن قدروا، أو إلى غيرها؛ لأن هذه صلاة للضرورة، تسقط بها الأركان والتوجه إلى القبلة.
الأولى ـ صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في عسفان
وأما صلاة الخوف جماعة لكل الجنود، بإمام واحد: فتجوز صلاتها على أي صفة صلاها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقد جاءت الأخبار بأنها على ستة عشر نوعاً، في صحيح مسلم بعضها، ومعظمها في سنن أبي داود، وفي صحيح ابن حبان منها تسعة، ففي كل مرة كان صلّى الله عليه وسلم يفعل ما هو أحوط للصلاة وأبلغ في الحراسة. والمشهور من ذلك سبع صفات، اختار الجمهور منها أقواها وأصحها لديهم، وأجازها كلها الحنابلة، واختار الإمام أحمد منها حديث سهل، وهي ما يأتي (¬1): الأولى ـ صلاة النبي صلّى الله عليه وسلم في عسفان (¬2): اعتمدها الشافعية والحنابلة إذا كان العدو في جهة القبلة: وهي أن يصف الإمام الناس خلفه صفين فأكثر، ويصلي بهم جميعاً ركعة إلى أن يسجد، فإذا سجد سجد معه الصف الذي يليه، وحرس الصف الآخر حتى يقوم الإمام إلى الركعة الثانية، فإذا قام سجد الصف المتخلف، ولحقوه. وفي الركعة الثانية سجد معه الصف الذي حرس أولاً في الركعة الأولى، وحرس الصف الآخر. فإذا جلس الإمام للتشهد سجد من حرس، وتشهد بالصفين، وسلم بهم جميعاً. فهي صلاة مقصورة لكونها في السفر. وقد اشترط الحنابلة لهذه الصفة: ألا يخاف المسلمون كميناً يأتي من خلف المسلمين، وألا يخفى بعض الكفار عن المسلمين، وأن يكون في المصلين كثرة يمكن تفريقهم ¬
الثانية ـ صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع
طائفتين، كل طائفة ثلاثة فأكثر؛ لأن الله تعالى ذكر الطائفة بلفظ الجمع {فإذا سجدوا .. } [النساء:102/ 4] وأقل الجمع ثلاثة. فإن خاف المسلمون كميناً (يكمن في الحرب)، أو خفي بعضهم عن المسلمين، أو كان المسلمون أقل من ستة أشخاص، صلوا على غير هذا الوجه. الثانية ـ صلاة النبي صلّى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع (¬1): وهي التي اختارها الشافعية (¬2) والحنابلة إذا كان العدو في غير جهة القبلة، كما اختارها المالكية مطلقاً في مشهور المذهب، سواء أكان العدو في جهة القبلة أم لا. وهي أن يقسم الإمام العسكر طائفتين: طائفة معه، وأخرى تحرس العدو، فيصلي بأذان وإقامة بالطائفة الأولى التي معه في الصلاة الثنائية ركعة، وفي الثلاثية والرباعية ركعتين، ثم يتمون لأنفسهم ويسلمون، ثم يذهبون ويحرسون. وتأتي الطائفة الثانية، فيقتدون، ويصلي بهم الإمام الركعة الثانية في الثنائية، والركعتين الأخريين في الرباعية، والثالثة في المغرب، ويسلم الإمام، ويتمون صلاتهم بفاتحة وسورة، ولكن بعد سلامه عند المالكية، وينتظر الإمام في التشهد عند الشافعية والحنابلة ثم يسلم بهم، كما هو نص الحديث، ويقرأ الإمام بعد قيامه للركعة الثانية الفاتحة وسورة بعدها في زمن انتظاره الفرقة الثانية، ويكرر التشهد أو يطيل الدعاء فيه. ولا يسلم قبلهم عند الشافعية والحنابلة لقوله تعالى: {ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا، فليصلوا معك} [النساء:102/ 4] فيدل على أن صلاتهم كلها معه، وتحصل المعادلة بين الفرقتين، فإن الأولى أدركت مع الإمام فضيلة الإحرام، والثانية فضيلة السلام. ¬
الثالثة ـ صلاة النبي صلى الله عليه وسلم كما رواها ابن عمر
الثالثة ـ صلاة النبي صلّى الله عليه وسلم كما رواها ابن عمر (¬1)، وهي التي اختارها الحنفية: أن يجعل الناس طائفتين: طائفة في وجه العدو، وطائفة خلفه، فيصلي بهذه الطائفة ركعة وسجدتين وتتمم صلاتها عند الجمهور بقراءة سورة الفاتحة وتسلم وتذهب للحراسة. وقال الحنفية: ثم تمضي إلى وجه العدو للحراسة بدون إتمام الصلاة. وتأتي الطائفة الأخرى، فيصلي بهم الإمام ركعة وسجدتين، ويتشهد ويسلم وحده لتمام صلاته، ولم يسلموا عند الحنفية لأنهم مسبوقون، وإنما يذهبون مشاة للحراسة في وجه العدو. وتتم هذه الطائفة صلاتها عند الجمهور بقراءة سورة مع الفاتحة ثم تعود لمواقعها. وقال الحنفية: ثم تجيء الطائفة الأولى إلى مكانها الأول، أو تصلي في مكانها تقليلاً للمشي، فتتم صلاتها وحدها بغير قراءة عند الحنفية؛ لأنهم في حكم اللاحقين، وتشهدوا وسلموا، وعادوا لحراسة العدو. ثم تأتي الطائفة الثانية، فتتم صلاتها بقراءة سورة مع الفاتحة؛ لأنهم لم يدخلوا مع الإمام في أول الصلاة، فاعتبروا في حكم السابقين. ومذهب أشهب تلميذ مالك موافق في هذه الكيفية لمذهب الحنفية. كيفية أداء الصلوات الخمس حال الإقامة: فإن كان الإمام مقيماً صلى بالطائفة الأولى ركعتين من الرباعية، وبالطائفة الثانية ركعتين، تسوية بينهما. ويصلي ـ في المذاهب الأربعة ـ بالطائفة الأولى ركعتين من المغرب، وبالثانية ركعة؛ لأنه إذا لم يكن بدّ من التفضيل فالأولى أحق به، وما فات الثانية ينجبر بإدراكها السلام مع الإمام. ويصلي الصبح بكل طائفة ركعة. ¬
الرابعة ـ صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في بطن نخل (مكان من نجد بأرض غطفان)
الرابعة ـ صلاة النبي صلّى الله عليه وسلم في بطن نخل (مكان من نجد بأرض غطفان) (¬1)، واعتمدها الشافعية بعد صلاة ذات الرقاع إذا كان العدو في غير جهة القبلة: وهي أن يصلي الإمام مرتين صلاة كاملة، بكل طائفة مرة، ويسلم بكل طائفة. وصفتها حسنة قليلة الكلفة لا تحتاج إلى مفارقة الإمام ولا إلى تعريف كيفية الصلاة، وليس فيها أكثر من أن الإمام في الصلاة الثانية متنفل يؤم مفترضين، وهو جائز اتفاقاً، وعند الحنابلة والحنفية جائز في صلاة الخوف فقط، ممنوع في غيرها. الخامسة ـ صلاة النبي صلّى الله عليه وسلم في ذات الرقاع كما رواها جابر (¬2): وهي أن يصلي الإمام الصلاة الرباعية تامة أربعاً بالنسبة إليه، وتصلي معه كل طائفة صلاة مقصورة ركعتين، بلا قضاء للركعتين، فكان للإمام أربع تامة، وللقوم ركعتان مقصورة. السادسة ـ صلاة النبي صلّى الله عليه وسلم بذي قَرَد (ماء على بريد:22176 م من المدينة). رواها ابن عباس، وحذيفة، وزيد بن ثابت (¬3) وغيرهم، ومنعها أكثر الفقهاء، فقال الشافعي عن حديث ابن عباس: «لا يثبت»؛ لأن الخوف لا يؤثر في نقص الركعات، وأجازها الإمام أحمد والمحدثون لصحة الأحاديث فيها: وهي أن يصف الإمام الناس صفين: صفاً خلفه، وصفاً موازي العدو، ويصلي الرباعية الجائز قصرها بكل طائفة ركعة فقط، بلا قضاء ركعة أخرى. السابعة ـ صلاته صلّى الله عليه وسلم بأصحابه عام غزوة نجد، رواها أبو هريرة (¬4): وهي ¬
حمل السلاح في أثناء الصلاة
أن تقوم مع الإمام طائفة، وتبقى طائفة أخرى تجاه العدو، وظهرها إلى القبلة، ثم يحرم وتحرم معه الطائفتان، وتصلي معه إحدى الطائفتين ركعة، ثم يذهبون فيقومون في وجه العدو، ثم تأتي الطائفة الأخرى، فتصلي لنفسها ركعة، والإمام قائم، ثم يصلي بهم الركعة التي بقيت معه. ثم تأتي الطائفة القائمة في وجه العدو، فيصلون لأنفسهم ركعة، والإمام قاعد، ثم يسلم الإمام ويسلمون جميعاً، أي أن ابتداء الصلاة وانتهاءها تم باشتراك الطائفتين مع الإمام. حمل السلاح في أثناء الصلاة: يسن للمصلي عند الشافعية والحنابلة (¬1) في صلاة شدة الخوف حمل السلاح في أثناء الصلاة احتياطاً، ليدفع به العدو عن نفسه، لقوله تعالى: {وليأخذوا أسلحتهم} [النساء:102/ 4] وقوله {ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر، أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم} [النساء:102/ 4] فدل على الجناح (الإثم) عند عدم ذلك، لكن لا يحمل في الصلاة سلاحاً نجساً، ولا ما يتأذى به الناس من الرمح في وسط الناس. صلاة الجمعة في حال الخوف: قال الشافعية والحنابلة (¬2): تصلى الجمعة في حال الخوف ببلد حضراً لا سفراً، بشرط كون كل طائفة أربعين رجلاً فأكثر ممن تصح بهم الجمعة، ويسمعون الخطبة. وتكون الصلاة كصلاة عسفان وكذات الرقاع، لا كصلاة بطن نخل التي تتعدد في صلاة الإمام مرتين بكل طائفة مرة؛ إذ لا تقام جمعة بعد أخرى، ولا يجوز أن يخطب بإحدى الطائفتين، ويصلي بالأخرى، حتى يصلي معه من حضر الخطبة. ¬
سهو الإمام في صلاة الخوف
سهو الإمام في صلاة الخوف: قال المالكية والشافعية والحنابلة (¬1): إذا فرق الإمام العسكر فرقتين كما حدث في صلاة ذات الرقاع أو صلاة عسفان، فسهو الإمام في الركعة الأولى يلحق الجميع، فيسجد المفارقون للسهو عند تمام صلاتهم؛ لأن صلاة الإمام ذاتها نقص في صلاتهم، إلا أن المالكية قالوا: تسجد الفرقة الأولى للسجود القبلي قبل السلام، والبعدي بعده، وتسجد الفرقة الثانية السجود القبلي مع الإمام، وتسجد السجود البعدي بعد قضاء ما عليها. أما بعد المفارقة في الركعة الثانية: فلا يلحق سهو الإمام الأولين؛ لمفارقتهم الإمام قبل السهو. وتسجد الفرقة الثانية مع الإمام آخر صلاته، ويلحقهم سهوه في حال انتظارهم. أما سهو كل فرقة في الركعة الأولى للفرقة الأولى، وفي الركعة الثانية للفرقة الثانية، فيتحمله الإمام، لاقتداء الفرقة الأولى بالإمام حقيقة في الركعة الأولى، واقتداء الفرقة الثانية حكماً في الركعة الثانية. رابعاً ـ صفة ما يقضيه المسبوق في صلاة الخوف، هل هو أول صلاته أو آخرها؟ سبق بحث هذا الموضوع في صلاة الجماعة ـ بحث المسبوق، وملخصه (¬2): أن الشافعي قال: ما يدركه المسبوق أول صلاته، وما يقضيه آخر صلاته لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا» وهذا هو المتبادر للذهن المتفق مع ترتيب ما ¬
خامسا ـ متى تبطل صلاة الخوف؟
أنجز من أعمال الصلاة، فمن أدرك ركعة في صلاة المغرب، قام إلى ركعة واحدة، فقرأ الفاتحة وسورة، ثم جلس للتشهد، ثم أتى بركعة يقرأ فيها الفاتحة فقط. وقال الحنفية والحنابلة في ظاهر المذهب: ما يقضيه المسبوق أول صلاته، وما يدركه مع الإمام آخرها، أي عكس ترتيب ما أنجز من أعمال الصلاة، لخبر «ماأدركتم فصلوا، وما فاتكم فاقضوا»، فيقرأ دعاء الافتتاح ويتعوذ، ويقرأ السورة بعد الفاتحة، وإذا أدرك مع الإمام ركعة من المغرب فقط، صلى ركعتين من غير أن يجلس بينهما، ثم قام. وقال المالكية: يفرق بين الأقوال والأفعال، فيقضي في الأقوال أي القراءة، كالحنفية والحنابلة، ويبني في الأفعال أي الأداء كالشافعية. خامساً ـ متى تبطل صلاة الخوف؟ قال الحنفية (¬1): تفسد صلاة الخوف بمشي لغير اصطفاف، وسبق حدث، وركوب مطلقاً أي لاصطفاف أو غيره؛ لأن الركوب عمل كثير، وهو مما لا يحتاج إليه، بخلاف المشي، فإنه أمر لا بد منه، حتى يصطفوا بإزار العدو. كما تفسد بقتال كثير، لا بقليل كرَمْية سهم، فلا يقاتل المصلون حال الصلاة لعدم الضرورة إليه، فإذا فعلوا ذلك، وكان كثيراً، بطلت صلاتهم لمنافاته للصلاة من غير ضرورة إليه، بخلاف المشي، فإنه ضروري لأجل الاصطفاف. قال النووي (¬2): لا يجوز الصياح ولا غيره من الكلام بلا خلاف، فإن صاح فبان منه حرفان، بطلت صلاته بلا خلاف؛ لأنه ليس محتاجاً إليه، بخلاف المشي وغيره. ¬
سادسا ـ الصلاة عند التحام القتال واشتداد الخوف
ولا تضر الأفعال اليسيرة بلا خلاف؛ لأنها لا تضر في غير الخوف ففيه أولى. وأما الأفعال الكثيرة: فإن لم تتعلق بالقتال، بطلت الصلاة بلا خلاف. وإن تعلقت به كالطعنات والضربات المتوالية، فإن لم يحتج إليها أبطلت بلا خلاف أيضاً؛ لأنها عبث. وإن احتاج إليها فالأصح عند الأكثرين: أن الصلاة لا تبطل؛ قياساً على المشي، ولأن مدار القتال على الضرب، ولا يحصل المقصود غالباً بضربة وضربتين، ولا يمكن التفريق بين الضربات. سادساً ـ الصلاة عند التحام القتال واشتداد الخوف: اتفق الفقهاء ـ كما أشرنا - على أنه ليس للصلاة كيفية معينة عند اشتداد الخوف من العدو، ويصلي العسكر إيماء. وعبارات الفقهاء في ذلك ما يأتي: قال الحنفية (¬1): إن اشتد خوف العسكر بحيث لا يدعهم العدو يصلون وعجزوا عن النزول، صلوا ركباناً فرادى؛ لأنه لا يصح الاقتداء لاختلاف المكان بين الإمام والمأمومين، ويومئون بالركوع والسجود إلى أي جهة شاؤوا، إذا لم يقدروا على التوجه إلى القبلة، لقوله تعالى: {فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً} [البقرة:239/ 2]، وسقط التوجه للقبلة للضرورة، كما سقطت أركان الصلاة. والسابح في البحر: إن أمكنه أن يرسل أعضاءه ساعة صلى بالإيماء، وإلا لاتصح صلاته، كصلاة الماشي والسائف، وهو يضرب بالسيف، فلا يصلي أحد حال المسايفة. ¬
قال الجمهور
وقال الجمهور: تجوز الصلاة إيماء عند اشتداد الخوف وفي حال التحام القتال، وهي صلاة المسايفة. وعبارة المالكية (¬1): تجوز الصلاة عند اشتداد الخوف، وفي حال المسايفة أو مناشبة الحرب، في آخر الوقت المختار، إيماء بالركوع والسجود إن لم يمكنا، ويخفض للسجود أكثر من الركوع، فرادى (وُحداناً)، بقدر الطاقة، مشاة أو ركباناً، وقوفاً أو ركضاً، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها. فيحل للمصلي صلاة الالتحام للضرورة مشي وهرولة وجري وركض، وضرب وطعن للعدو، وكلام من تحذير وإغراء، وأمر ونهي، وعدم توجه للقبلة، ومسك سلاح ملطخ بالدم. فإن أمنوا في صلاة الالتحام أتموا صلاة أمن بركوع وسجود. وعبارة الشافعية (¬2): إذا التحم القتال أو اشتد الخوف يصلي كل واحد كيف أمكن راكباً وماشياً، وأومأ للركوع والسجود، إن عجز عنهما، والسجود أخفض. ويعذر في ترك القبلة، وكذا الأعمال الكثيرة لحاجة في الأصح، ولا يعذر في الصياح بل تبطل به الصلاة، ويُلقي السلاح إذا دُمي دماً لا يعفى عنه، حذراً من بطلان الصلاة، فإن احتاج إلى إمساكه بأن لم يكن له منه بد، أمسكه للحاجة. ولاقضاء للصلاة حينئذ في الأظهر. وله أن يصلي هذه الصلاة (أي شدة الخوف) حضراً وسفراً، في كل قتال وهزيمة مباحين وهرب من حريق وسيل وسبع وغريم عند الإعسار، وخوف حبسه. ¬
عبارة الحنابلة
وعبارة الحنابلة (¬1): إذا كان الخوف شديداً، وهم في حال المسايفة، صلوا رجالاً وركباناً، إلى القبلة وإلى غيرها، يومئون إيماء بالركوع والسجود على قدر الطاقة، ويكون سجودهم أخفض من ركوعهم كالمريض، يبتدئون تكبيرة الإحرام إلى القبلة إن قدروا أو إلى غيرها. ويتقدمون ويتأخرون، ويضربون ويطعنون، ويكرون ويفرون، ولا يؤخرون الصلاة عن وقتها. ويصح أن يصلوا في حال شدة الخوف جماعة، بل تجب، رجالاً وركباناً، بشرط إمكان المتابعة، فإن لم تمكن لم تجب الجماعة ولا تنعقد. ولا يضر تأخر الإمام عن المأموم في شدة الخوف، للحاجة إليه. ولا يضر تلويث سلاحه بدم ولو كان كثيراً، وتبطل الصلاة بالصياح والكلام لعدم الحاجة إليه. وتجوز هذه الصلاة لمن هرب من عدو هرباً مباحاً كخوف قتل أو أسر محرَّم بأن يكون الكفار أكثر من مثلي المسلمين، أو هرب من سيل أو سبع ونحوه، كنار أو غريم ظالم، أو خاف على نفسه أو أهله أو ماله من شيء مما سبق. ¬
المبحث الثامن ـ صلاة الجنازة، وأحكام الجنائز والشهداء والقبور
المبحث الثامن ـ صلاة الجنازة، وأحكام الجنائز والشهداء والقبور وفيه أربعةمطالب، علماً بأن المراد بالجنازة ـ بفتح الجيم أو كسرها ـ الميت في النعش: المطلب الأول ـ ما يطلب من المسلم قبل الموت، وما يستحب حالة الاحتضار وبعد الموت من التجهيز. المطلب الثاني ـ حقوق الميت (الغسل، والتكفين، والصلاة عليه، وحمل الجنازة والدفن). المطلب الثالث ـ التعزية والبكاء على الميت. المطلب الرابع ـ الشهادة في سبيل الله. وفي كل مطلب فروع كثيرة، أبحث كل مطلب منها على حدة. المطلب الأول ـ مايطلب من المسلم قبل الموت، وما يستحب حالة الاحتضار وبعد الموت من التجهيز: الاستعداد للموت: الموت جسر بين حياتين: حياة الدنيا الفانية، وحياة الآخرة الخالدة، والدنيا مزرعة للآخرة، فمن عمل صالحاً في دنياه، نجا من سوء الحساب والعذاب في الآخرة، وكان من الخالدين في جنان الله، ومن عمل سوءاً كان من المعذبين في نار جهنم إلا أن يعفو الله عنه.
والموت انتقال من عالم لآخر، وليس فناء، وإنما هو مفارقة الروح للبدن، والروح عند جمهور المتكلمين: جسم لطيف مشتبك بالبدن اشتباك الماء بالعود الأخضر، وهو باق لايفنى عند أهل السنة. وقوله تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين موتها} [الزمر:39/ 42] تقديره عند موت أجسادها. والمستحب لكل إنسان ذكر الموت والاستعداد له (¬1)، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «أكثروا من ذكر هاذم اللذات» (¬2) يعني الموت، والهاذم: القاطع. زاد البيهقي والنسائي: «فإنه ما ذكر في كثير إلا قلله، ولا قليل إلا كثره» أي كثير من الدنيا، وقليل من العمل. ولحديث ابن مسعود: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لأصحابه: استحيوا من الله حق الحياء، قالوا: نستحيي يانبي الله، والحمد لله، قال: ليس كذلك، ولكن من استحيا من الله حق الحياء، فليحفظ الرأس وما وعى، وليحفظ البطن وما حوى، وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، ومن فعل ذلك، فقد استحيا من الله حق الحياء» (¬3). والاستعداد للموت: بالخروج من المظالم، والتوبة من المعاصي، والإقبال على الطاعات، لقوله تعالى: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً، ولايشرك بعبادة ربه أحداً} [الكهف:18/ 110] ولما روى البراء بن عازب أن النبي صلّى الله عليه وسلم أبصر جماعة يحفرون قبراً، فبكى حتى بلَّ الثرى بدموعه، وقال: «إخواني لمثل هذا فأعدوا» (¬4) أي تأهبوا واتخذوا له عُدة، وهي ما يعد للحوادث. ¬
عيادة المريض
ويسن للمريض عند الاحتضار أن يحسن الظن بالله تعالى، متناسياً آثامه وسيئاته، معتقداً أنه مقبل على رب كريم غفار للذنوب كلها، ما دام مؤمناً، للحديث القدسي الصحيح الذي أخرجه البخاري ومسلم: «أنا عند ظن عبدي بي». عيادة المريض: تسن عيادة المريض (¬1)، قال البراء: «أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم باتباع الجنائز وعيادة المريض» (¬2)، وعن أبي هريرة مرفوعاً: «حق المسلم على المسلم ست، إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمِّته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتْبعه» (¬3)، وعن علي رضي الله عنه: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: ما من مسلم يعود مسلماً غدوة إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عاده عشية إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح، وكان له خريف في الجنة» (¬4). الرقية: إذا دخل الرجل على مريض دعا له بالصلاح والعافية ورقاه، قال ثابت لأنس: يا أبا حمزة اشتكيت، قال أنس: أفلا أرقيك برقية رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ قال: بلى، قال: «اللهم رب الناس، مذهب الباس، اشف أنت الشافي، شفاء لا يغادر سقماً»، وروى أبو سعيد قال: «بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس، وعين حاسدة، الله يشفيك» (¬5). ¬
مجاملة المريض
والمستحب أن يقول: (أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك) سبع مرات، لما روي أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من عاد مريضاً لم يحضره أجله، فقال عنده سبع مرات: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك، عافاه الله تعالى من ذلك المرض» (¬1). ويستحب أن يقرأ عنده فاتحة الكتاب، لقوله صلّى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «وما يدريك أنها رقية؟»، وأن يقرأ عنده سورة الإخلاص والمعوذتين. فقد ثبت ذلك عنه صلّى الله عليه وسلم، وروى أبو داود: «أنه صلّى الله عليه وسلم قال: إذا جاء رجل يعود مريضاً، فليقل: اللهم اشف عبد ك ينكأ بك عدواً، أو يمشي لك إلى صلاة»، وصح أن جبريل عاد النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: «بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس، أو عين حاسد، الله يشفيك، باسمه أرقيك» وأنه صلّى الله عليه وسلم كان إذا دخل على من يعوده، قال: «لا بأس، طهور إن شاء الله». مجاملة المريض: ويسأل العائد المريض عن حاله، وينفِّس له في الأجل بما يطيب نفسه، إدخالاً للسرور عليه، ولقولهصلّى الله عليه وسلم: «إذا دخلتم على المريض فنفِّسوا له في الأجل، فإنه لا يرد من قضاء الله شيئاً، وإنه يطيب نفس المريض» (¬2) ويرغِّبه في التوبة والوصية، لحديث «ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين وله شيء يوصي فيه، إلا ووصيته مكتوبة عنده» (¬3). ولا يطيل العائد الجلوس عند المريض خوفاً من الضجر، وتكره العيادة وسط النهار، ويعاد بكرة أوعشياً، ويعاد في رمضان ليلاً، لأنه ربما رأى من المريض مايضعفه. ¬
الشكوى والصبر وحسن الظن بالله تعالى
الشكوى والصبر وحسن الظن بالله تعالى: ويخبر المريض عن حاله من الوجع، ولو لغير طبيب بلا شكوى، بعد أن يحمد الله، لحديث ابن مسعود مرفوعاً: «إذا كان الشكر قبل الشكوى فليس بشاكٍ» ويستحب أن يصبَّر المريض وكل مبتلى، للأمر به في قوله تعالى: {واصبر وما صبرك إلا بالله} [النحل:16/ 127] وقوله: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} [الزمر:39/ 10] وقوله صلّى الله عليه وسلم: «والصبر ضياء» (¬1)، وروي أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالت: «يارسول الله، ادع الله أن يشفيني، فقال: إن شئت دعوت الله فشفاك، وإن شئت فاصبري ولا حساب عليك، فقالت: أصبر ولا حساب علي» (¬2). والصبر الجميل: صبر بلا شكوى إلى المخلوق، والشكوى إلى الخالق لا تنافي الصبر، بل هي مطلوبة، ومن الشكوى إلى الله قول أيوب: «رب إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين» وقول يعقوب: «إنما أشكو بثي وحزني إلى الله». وينبغي كما تقدم أن يكون المريض حسن الظن بالله تعالى، لما روى جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى» (¬3) ومعناه: أن يظن أن الله تعالى يرحمه، ويرجو ذلك كرماً ورحمة ومسامحة؛ لأنه أكرم الأكرمين يعفو عن السيئات، ويقيل العثرات، فيقدم الرجاء على الخوف، كما في الحديث الصحيح: «أنا عند حسن ظن عبدي بي» (¬4). ¬
كراهة تمني الموت
كراهة تمني الموت: يكره تمني الموت لضر نزل بالمرء في بدنه أو ضيق في دنياه أو نحو ذلك، جاء في الصحيحين: «لا يتمنين أحدكم الموت لضر أصابه، فإن كان لا بد فاعلاً، فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني ما كانت الوفاة خيراً لي. » ولا يكره تمني الموت لضرر بدينه أو خوف فتنة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «وإذا أردت بعبادك فتنة، فاقبضني إليك غير مفتون». وتمني الشهادة في سبيل الله ليس من تمني الموت المنهي عنه: التداوي: قال الشافعية: ويسن للمريض التداوي، لخبر: «إن الله لم يضع داء إلا وضع له دواء، غير المحرَّم» (¬1)، وخبر ابن مسعود: «ما أنزل الله داء إلا وأنزل له دواء، جهله من جهله، وعلمه من علمه، فعليكم بألبان البقر، فإنها تُرِمُّ من كل الشجر» (¬2) أي تأكل. وخبر أبي الدرداء: «إن الله تعالى أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا ولا تداووا بالحرام» (¬3) ويكره إكراه المريض على التداوي وعلى الطعام، لما في ذلك من التشويش عليه. قال النووي في المجموع (¬4): إن ترك التداوي توكلاً، فهو فضيلة. وكذلك قال الحنابلة (¬5): ترك الدواء أفضل؛ لأنه أقرب إلى التوكل. ولا يجب التداوي ولو ظن نفعه، لكن يجوز اتفاقاً، ولا ينافي التوكل، لخبر ¬
عيادة الذمي
أبي الدرداء السابق. ويحرم التداوي بسُمْ لقوله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة:195/ 2]. عيادة الذمي: قال الحنابلة (¬1): تحرم عيادة الذمي كبداءته بالسلام. وقال الشافعية (¬2): لا تستحب عيادة الذمي، لكن تجوز إن كان هناك جوار أو قرابة أو نحوهما كرجاء إسلامه، وفاء بصلة الرحم وحق الجوار. جاء في صحيح البخاري عن أنس قال: «كان غلام يهودي يخدم النبي صلّى الله عليه وسلم فمرض، فأتاه النبي صلّى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له: أسلم، فنظر إلى أبيه، وهو عنده، فقال له: أطع أبا القاسم، فأسلم، فخرج النبي صلّى الله عليه وسلم وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار». توبة اليأس وإيمان اليأس (¬3): اتفق العلماء على أن إيمان اليأس لا يقبل، لقوله تعالى: {فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا} [غافر:40/ 85] واليأس: معاينة أسباب الموت بحيث يعلم قطعاً أن الموت يدركه لا محالة. وقال الأشاعرة: إن توبة اليأس لا تقبل كإيمان اليأس، لعدم الاختيار، وعدم توافر ركن التوبة: وهو العزم بطريق التصميم على ألا يعود في المستقبل إلى ما ارتكب من المعاصي. والمختار عند الحنفية: أن توبة اليأس مقبولة، لا إيمان اليأس؛ لأن الكافر غير عارف بالله تعالى، ويبدأ إيماناً وعرفاناً جديداً، والفاسق عارف، وحاله حال البقاء، والبقاء أسهل من الابتداء، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم ¬
موت الفجأة وهيئة البعث
يغرغر» (¬1) والغرغرة تكون قرب كون الروح في الحلقوم، وحينئذ فلا يمكن النطق. موت الفجأة وهيئة البعث: صح أن الميت يبعث بالحالة التي يموت فيها من الأعمال، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «يبعث كل عبد على مامات عليه» (¬2). وصح أن موت الفجأة أخذة أسف، وروي أنه صلّى الله عليه وسلم استعاذ من موت الفجأة. والتوفيق بين الأمرين: أن يحمل الأول على من له تعلقات يحتاج بسببها إلى الإيصاء والتوبة، أما المتيقظون فإنه تخفيف ورفق بهم، روي عن ابن مسعود وعائشة: أن موت الفجأة راحة للمؤمن، وأخذة غضب للكافر (¬3). ما يستحب حال الاحتضار: يستحب للمحتضر وهو من حضره الموت ولم يمت ما يأتي (¬4)، علماً بأن علامة الاحتضار: استرخاء قدميه، واعوجاج منخره، وانخساف صد غيه، والاحتضار: هو ظهور دلائل الموت على المريض. أ - إضجاعه على جنبه الأيمن إلى القبلة، اتباعاً للسنة، لقوله صلّى الله عليه وسلم عن البيت الحرام: «قبلتكم أحياء وأمواتاً» (¬5)، ولقول حذيفة: «وجهوني» وقول فاطمة الزهراء لأم رافع: «استقبلي بي القبلة» (¬6). ¬
ب - تلقينه الشهادة مرة
فإن تعذر ذلك لضيق المكان ونحوه يوضع مستلقياً على قفاه ووجهه وقدماه نحو القبلة؛ لأنه أيسر لخروج روحه. وإن شق عليه ترك على حاله. ويسن تجريع المحتضر بماء بارد بملعقة أو قطنة مثلاً. ب - تلقينه الشهادة مرة: وهي «لا إله إلا الله» بأن يقول القريب عنده ذلك، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لقنوا موتاكم لا إله إلا الله» (¬1) وزيد في رواية: «فإنه ليس مسلم يقولها عند الموت إلا أنجته من النار» وروى أبو داود والحاكم حديثاً عن معاذ: «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله، دخل الجنة». وقال الحنفية المالكية: يلقن ندباً الشهادتين قبل الغرغرة، لأن الأولى لا تقبل بدون الثانية. وذلك عند الجميع في لطف ومداراة. من غير إلحاح عليه ولا تكرار ولا أمر، لئلا يضجر، فإن تكلم بشيء فيعيد تلقينه لتكون «لا إله إلا الله» آخر كلامه. وأضاف الحنفية: لا يلقن بعد تلحيده: وضعه في القبر، وإن فعل فالتلقين مشروع عند أهل السنة، ويكفي أن يقال: «يا فلان ابن فلان، أو يا عبد الله بن عبد الله، اذكر دينك الذي كنت عليه في دار الدنيا، من شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وقل: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً» (¬2). ويغتفر في حق المحتضر ما ظهر منه من كلمات كفرية، ويعامل معاملة موتى المسلمين، حملاً على أنه في حال زوال عقله. ¬
جـ ـ قراءة القرآن عند المحتضر
وقد أجمع أهل السنة على أن سؤال الملكين في القبر حق، وأن كل ذي روح من بني آدم يسأل في القبر. والأرجح عند ابن عبد البر والسيوطي: أن الآثار دلت على أنه لا يكون السؤال إلا لمؤمن أو منافق، ممن يكون منسوباً إلى أهل القبلة بظاهر الشهادة، دون الكافر الجاحد. وذكر السيوطي أن من لايسأل ثمانية: الشهيد والمرابط، والمطعون، والميت زمن الطاعون إذا كان صابراً محتسباً، والصدِّيق، والأطفال، والميت يوم الجمعة أو ليلتها، والقارئ كل ليلة: تبارك الملك. وضم بعضهم إليها السجدة، والقارئ في مرض موته: قل هو الله أحد. جـ ـ قراءة القرآن عند المحتضر: قال المالكية: تكره القراءة عند الموت إن فعله استناناً كما يكره القراءة بعد الموت، وعلى القبر؛ لأنه ليس من عمل السلف، لكن المتأخرون على أنه لا بأس بقراءة القرآن والذكر وجعل ثوابه للميت، ويحصل له الأجر إن شاء الله. وقال الجمهور: يندب قراءة {يس} لحديث «اقرؤوا على موتاكم يس» (¬1) واستحسن بعض متأخري الحنفية والشافعية قراءة {الرعد} أيضا ً، لقولجابر: «إنها تهون عليه خروج روحه» .والحكمة من قراءة {يس} أن أحوال القيامة والبعث مذكورة فيها، فإذا قرئت عنده، تجدد له ذكر تلك الأحوال. د ـ أن يتولى أرفق أهل المريض به، وأعلمهم بسياسته، وأتقاهم لربه تعالى إذا مات لا قبل الموت: إغماض عينيه، وشد لَحْييه (الفك السفلي) بعصابة من أسفلهما، وتربط فوق رأسه، تحسيناً له، ويقول: «بسم الله، وعلى ملة رسول الله، اللهم يسِّر عليه أمره، وسهِّل عليه ما بعده، وأسعده بلقائك، واجعل ما خرج ¬
هـ ـ النعي
إليه خيراً مما خرج عنه» قال الحنفية: ويخرج من عنده الحائض والنفساء والجنب، لامتناع حضور الملائكة بسببهم. ويحضر عنده الطيب كبخور، وتلين مفاصله (¬1) من اليدين والرجلين، وتلين أصابعه، ويستر جميع بدنه بثوب خفيف كما فعل بالنبي صلّى الله عليه وسلم إذ سُجِّي (غطي) ببُرد حِبرة (ثوب في أعلام)، ويوضع على بطنه شيء ثقيل من أنواع الحديد، لئلا ينتفخ فيقبح منظره، ويوضع على سرير ونحوه مما هو مرتفع لئلا تسرع له هوام الأرض، وتنزع ثيابه عنه لئلا يسرع فساده، ويوجه للقبلة كمحتضر، كما تقدم، وتوضع يداه بجنبيه، ولا يجوز وضعهما على صدره؛ لأنه من عمل الكفار، وتكره عند الحنفية قراءة القرآن عنده حتى يغسل. وجاز تقبيل الميت تبركاً ومودة واحتراماً؛ لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبَّل عثمان بن مظعون، وقبل أبو بكر النبي بعد موته (¬2) وإن أحب أهل الميت أن يروه لم يمنعوا، لقول جابر: لما قتل أبي جعلت أكشف الثوب عن وجهه وأبكي. هـ ـ النعي: قال الجمهور غير الحنابلة (¬3): لا بأس بإعلام الناس بموت إنسان للصلاة وغيرها، لما روى الشيخان: أنه صلّى الله عليه وسلم نعى لأصحابه النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وأنه نعى جعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة. واستحسن بعض متأخري الحنفية وهو الأصح النداء في الأسواق لجنازة الشخص إن كان عالماً أوزاهداً، أو ممن يتبرك به. ¬
وـ الإسراع بالتجهيز
وهذا هو الأولى لا سيما في عصرنا لتعلق حقوق معينة بالميت، والتزامه بالواجبات. ويكره نعي الجاهلية: وهو النداء بذكر مفاخر الميت ومآثره، للنهي عنه، كما صححه الترمذي. وهو أمر يخالف مجرد الإعلام بالموت. وقال الحنابلة (¬1): يكره النعي: وهو أن يبعث منادياً ينادي في الناس: أن فلاناً قد مات، ليشهدوا جنازته، لما روى حذيفة قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم ينهى عن النعي (¬2)، وقال حذيفة: إذا مت فلا تؤذنوا بي أحداً، فإني أخاف أن يكون نعياً، وقال ابن عمر: «الإيذان بالميت نعي الجاهلية». وقد قرر صاحب المهذب عند الشافعية كراهة نعي الميت، إلا أن المعتمد هو ما ذكره النووي أولاً. وـ الإسراع بالتجهيز: إذا تيقنا من الموت يستحب الإسراع في أمور ثلاثة: التجهيز، وقضاء الديون، وتفريق وصيته. أما التجهيز: فيستحب المسارعة فيه، خوفاً من تغير الميت، قال الإمام أحمد: «كرامة الميت تعجيله» لما روي أن طلحة بن البراء مرض، فأتاه النبي صلّى الله عليه وسلم يعوده، فقال: «إني لا أرى طلحة إلا قد حدث فيه الموت، فآذنوني به وعجِّلوا، فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن يُحبَس بين ظهري أهله» (¬3). وتؤيده أحاديث الإسراع بالجنازة، مثل حديث علي: «ثلاث يا علي لا يؤخرن: الصلاة إذا آنت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت كفؤاً» (¬4). ¬
المطلب الثاني ـ حقوق الميت
ولا بأس أن ينتظر بالجنازة مقدار ما يجتمع لها جماعة، للدعاء له في الصلاة عليه، ما لم يخف عليه، أو يشق على الناس. وأما الإسراع بقضاء الدين: فلتخفيف المسؤولية عن الميت، قال صلّى الله عليه وسلم: «نفس المؤمن معلّقة بدينه، حتى يقضى عنه» (¬1) هذا إذا كان له مال يقضى منه دينه. وأما من لا مال له، ومات عازماً على القضاء، فقد ورد في الأحاديث ما يدل على أن الله تعالى يقضي عنه، مثل حديث أبي أمامة: «من دان بدين، في نفسه وفاؤه، ومات، تجاوز الله عنه، وأرضى غريمه بما شاء، ومن دان بدين وليس في نفسه وفاؤه، ومات، اقتص الله لغريمه منه يوم القيامة» (¬2) وحديث ابن عمر: «الدين دينان، فمن مات وهو ينوي قضاءه، فأنا وليه، ومن مات ولا ينوي قضاءه، فذلك الذي يؤخذ من حسناته، ليس يومئذ دينار ولا درهم» (¬3). وأما المسارعة إلى تفريق وصيته: فذلك ليعجل له ثوابها، بانتفاع الموصى له بها، علماً بأن الوصية بعد الدين، وقبل حقوق الورثة. المطلب الثاني ـ حقوق الميت: للميت على ذويه وإخوانه حقوق أربعة، هي فروض كفائية بالإضافة إلى حق أو واجب التجهيز السابق ذكره: وهي الغسل والتكفين والصلاة عليه، ودفنه وحمل جنازته واتباعه، لإجماع العلماء، وللأمر به في الأخبار الصحيحة في غير الدفن، إلا أن اتباعه سنة كما سيأتي، فلو دفن قبل غسله أو تكفينه لزم نبشه، ثم يتدارك ما حدث: ¬
الفرض الأول ـ تغسيل الميت
الفرض الأول ـ تغسيل الميت: حكم الغسل، وصفة الغاسل، وحالة المغسول وشروطه، وكيفية الغسل ومقداره ومندوباته، هل يوضأ الميت؟ (¬1). أولاً ـ حكم الغسل: غسل الميت فرض كفاية، لقوله في الذي سقط من بعيره: «اغسلوه بماء وسِدْر، وكفنوه في ثوبيه» (¬2). وتسن المبادرة لغسل الميت عند التيقن من موته، ولو دفن قبل الغسل، لزم نبشه ويغسل. فإن لم يوجد إلا بعض الميت يغسل ويصلى عليه عند الشافعية والحنابلة، لفعل الصحابة. وقال أبو حنيفة ومالك: إن وجد الأكثر، صلي عليه، وإلا فلا. ويقوم التيمم مقام غسل الميت عند فقد الماء أوتعذر الغسل، كما إذا خيف تقطع بدنه إذا غسل، وإلا فإنه يغسل بصب الماء عليه. ثانياً ـ صفة الغاسل: 1 ً - من هو الأولى بالغسل؟ يغسل الرجل الرجل، وتغسل المرأةُ المرأةَ، فكل منهما أولى بجنسه اتفاقاً، حتى لو حضر الميت الرجل كافر ومسلمة أجنبية غسله الكافر عند الجمهور، والمرأة الأجنبية أولى بالغسل من الزوج خروجاً من الخلاف. وهل يغسل الرجل زوجته وبالعكس؟ قال الحنفية: لا يجوز للرجل غسل زوجته ومسها لانقطاع النكاح، ويجوز ¬
له النظر إليها في الأصح؛ لأن النظر أخف من المس، فجاز لشبهة الاختلاف. ويجوز للمرأة أن تغسل زوجها، ولو كانت معتدة من طلاق رجعي لبقاء العدة، أو كانت ذمية، بشرط بقاء الزوجية إلى وقت الغسل. وقال الجمهور: يجوز لكل من الزوجين غسل الآخر بعد الموت، ويلفان خرقة على اليد، ولا مس، سواء أكانت المرأة مسلمة أم ذمية خلافاً للحنابلة في الذمية، إذا اتصلت الرابطة الزوجية إلى الموت، اتفاقاً، وكذا للمرأة غسل زوجها وإن انقطعت الرابطة الزوجية عند الشافعية بأن انقضت عدتها وتزوجت، عملاً بحديث عائشةالثاني الآتي. وقال غير الشافعية: المرأة البائنة كالأجنبية، والمطلقة الرجعية كالزوجة فعلاً. وينظر أحد الزوجين إذا غسل الآخر غير العورة. ودليلهم على غسل أحد الزوجين الآخر: حديث عائشة: قالت: رجع إلي رسول الله صلّى الله عليه وسلم من جنازة بالبقيع، وأنا أجد صداعاً في رأسي، وأقول: وارأساه، فقال: بل أنا وارأساه، ما ضرَّك لو متِّ قبلي، فغسَّلتكِ وكفنتكِ، ثم صليت عليك ودفنتكِ (¬1). وكانت عائشة تقول: «لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ، ما غسَّل رسولَ الله صلّى الله عليه وسلم إلا نساؤه» (¬2). وغسَّل علي فاطمة رضي الله عنهما، وأوصى الصديق زوجته أسماء أن تغسله فغسلته. ويغسل الرجل ذوات محارمه من فوق ثوب. ¬
ويجوز اتفاقاً للرجل والمرأة تغسيل صبي وصبية لم يشتهيا؛ لحل النظر والمس له. ويصح عند الحنابلة مع الكراهة كون الغاسل صبياً مميزاً. وأولى الناس بغسل الميت الرجل: أولاهم بالصلاة عليه، وأولى الناس بالمرأة: قراباتها، ويقدّمن على زوج، في الأصح عند الشافعية والحنابلة. وقال المالكية: يقدم الزوجان على العصبة وعلى قرابة المرأة من المحارم، بحكم الحاكم عند التنازع. فأولى الناس بالرجل: هم الرجال العصبات من النسب، فيقدم الأب ثم الجد، ثم الابن ثم ابن الابن، ثم الأخ ثم ابن الأخ، ثم العم ثم ابن العم؛ لأنهم أحق بالصلاة عليه، فكانوا أحق بالغسل، ويقدم الأفقه على الأسن، ثم الزوجة بعدهم في الأصح عند الشافعية والحنابلة، فالأجانب أولى من الزوجة خروجاً من الخلاف. ثم المرأة المحرم كأم وبنت وأخت وعمة وخالة عند المالكية، فإن لم توجد امرأة محرم ولو بمصاهرة يممته امرأة أجنبية. وقدم الحنابلة على العصبات: وصي الميت إن كان عدلاً، فهو أولى الناس بغسل الميت؛ لأنه حق للميت، فقدم فيه وصيه على غيره، كباقي حقوقه، ولأن أبا بكر أوصى أن تغسله زوجته أسماء، وأوصى أنس أن يغسله محمد بن سيرين. وأولى الناس بالمرأة: ذات القرابة المحرمية: وهي كل امرأة لو كانت رجلاً، لم يحل له نكاحها بسبب القرابة؛ لأنهن أشد في الشفقة، ثم ذوات الأرحام غير المحارم كبنت العم، ثم المرأة الأجنبية، ثم الزوج في الأصح عند الشافعية والحنابلة، فالأجنبية أولى من زوج، خروجاً من الخلاف، ثم رجال القرابة المحارم كترتيب أولويتهم في الصلاة، وابن العم كالأجنبي.
- شروط الغاسل
فإن ماتت امرأة بين رجال فقط، أو مات رجل بين نساء فقط، يممه المَحْرم، فإن لم يكن يممه الأجنبي عند الحنفية والحنابلة والشافعية بخرقة أو حائل، وقال المالكية: يمم الرجل المرأة الأجنبية إلى كوعيها، وتيممه إلى مرفقيه. 2ً - شروط الغاسل: يشترط في الغاسل عند الحنابلة ما يأتي: أ - الإسلام: فلا يصح كون الغاسل كافراً؛ لأن الغسل عبادة، وليس الكافر من أهلها. ب ـ النية: لحديث «إنما الأعمال بالنيات». جـ ـ العقل: لأن غير العاقل ليس أهلاً للنية. ولم يشترط الجمهور شرطي الإسلام والنية، فيصح غسل الكافر، ويجزئ الغسل بدون نية، لكن يجب غسل الغريق، فيحرك في الماء بنية الغسل ثلاثاً؛ لأنا مأمورون بغسل الميت. لكن قال الحنفية: النية ليست لصحة الطهارة، بل شرط لإسقاط الفرض عن المكلفين. 3ً - ما يستحب في الغاسل: يستحب أن يكون الغاسل ثقة أميناً عارفاً بأحكام الغسل، لقول ابن عمر: «لا يغسل موتاكم إلا المأمونون» (¬1). وينبغي للغاسل ولمن حضر غض أبصارهم إلا من حاجة، وأن يستر ما يطلع عليه من عيب يحب الميت أن يستره ولا يحدث به، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة» (¬2) وقوله: «من غسَّل ميتاً، فأدى فيه الأمانة، ولم يُفْش عليه ما يكون منه عند ذلك، خرج من ذنوبه كيومَ ولدته أمه، وقال: ليله أقربكم إن كان ¬
يعلم، فإن لم يكن يعلم، فمن ترون عنده حظاً من ورع وأمانة» (¬1) وقوله: «من غسل ميتاً وكتم عليه، غفر الله له أربعين مرة» (¬2)، وإن رأى الغاسل حسناً، مثل أمارات الخير من وضاءة الوجه والتبسم ونحو ذلك، استحب إظهاره، ليكثر الترحم عليه، ويحصل الحث على مثل طريقته، والتشبه بجميل سيرته. ويستحب أن يستر الميت عن العيون؛ لأنه قد يكون في بدنه عيب كان يكتمه، كما ذكرت، لحديث «اذكروا محاسن موتاكم، وكفوا عن مساويهم» (¬3). ويستحب ألا يغسل تحت السماء، ولايحضره إلا من يعين في أمره ما دام يغسل، فيغسل في بيت. ويستحب ألا يستعين بغيره إن كان فيه كفاية، وإن احتاج إلى معين، استعان بمن لا بد له منه، ويكره حضور غير المعين للغسل. ويستحب أن يكون بقربه مجمرة بخور، حتى إن كانت له رائحة لم تظهر ولا يجوز للغاسل أن ينظر إلى عورة الميت ابن سبع فأكثر، لقوله صلّى الله عليه وسلم لعلي: «لا تنظر إلى فخذ حي أو ميت» (¬4) ولا يجوز أن يمس عورته؛ لأنه إذا لم يجز النظر، فالمس أولى. ويستحب ألا ينظر إلى سائر بدنه إلا فيما لابد منه، ويستحب ألا يمس سائر بدنه؛ لأن علياً رضي الله عنه غسل النبي صلّى الله عليه وسلم وبيده خرقة يتبع بها ماتحت القميص. فالواجب استعمال خرقة أو نحوها حال غسل العورة، والمندوب استعمالها لغسل سائر الجسد. ¬
ثالثا ـ حالة المغسول
والأفضل أن يغسل الميت مجاناً، ويكره عند الحنابلة أخذ الأجرة على شيء من الغسل والتكفين والحمل والدفن. وأجاز الحنفية أخذ الأجر على تلك الأمور، فالحمال والحفار كالغاسل، إن وجد غيره، وإلا بأن لم يوجد غيره فلا يجوز أخذ الأجرة لتعينه عليه، أي لأنه صار واجباً عليه عيناً، ولا يجوز أخذ الأجرة على الطاعة. وهذا رأي المتقدمين، وأجاز المتأخرون أخذ الأجرة على الطاعات للضرورة. ويستحب عند الجمهور لمن غسل ميتاً أن يغتسل بعد فراغه من غسله، لما روى أبو هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من غسل ميتاً فليغتسل» (¬1). ثالثاً ـ حالة المغسول (¬2): الأكمل وضع الميت بموضع خال عن الناس مستور على لوح، والأفضل أن يكون تحت سقف؛ لأنه أستر له. وإن كان الميت مقطوع الرأس، أو كانت أعضاؤه مقطوعة، لفق أو ربط بعضها إلى بعض بالتقميط والطين الحر، حتى لايتبين تشويهه، فإن سقط من الميت شيء كأسنانه غسل وجعل معه في الكفن. والمستحب أن يجلسه الغاسل إجلاساً رفيقاً مائلاً إلى ورائه، واضعاً يمينه على كتفه، وإبهامه في نقرة قفاه، مسنداً ظهره إلى ركبته اليمنى، ويمسح بطنه ¬
رابعا ـ شروط إيجاب الغسل
مسحاً بليغاً ليخرج ما فيه، وكلما أمرَّ اليد على البطن، صب عليه ماء كثيراً، حتى لا تظهر رائحة ما قد يخرج منه، ثم يضجعه مستلقياً إلى قفاه. ويجب ستر عورة المغسول، إلا من له دون سبع سنين، فلا بأس بغسله مجرداً، كما ذكر الحنابلة، ثم يجرد عند الجمهور من ثيابه ندباً، لأنه أمكن في تغسيله، وأبلغ في تطهيره، وأشبه بغسل الحي، وأصون له من التنجيس، إذ يحتمل خروج النجاسة منه. ولو غسله في قميص خفيف واسع الكمين، جاز. وقال الشافعية: لا يجرد وإنما يغسل ندباً في قميص؛ لأنه أستر له، وقد غسل صلّى الله عليه وسلم في قميص (¬1). رابعاً ـ شروط إيجاب الغسل: أما شروط إيجاب غسل الميت فهي ما يلي (¬2): 1 ً - أن يكون مسلماً: فلا يجب غسل الميت الكافر: بل يحرم عند الجمهور، وأجاز الشافعية غسله؛ لأن غسل الميت للنظافة، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم «أمر علياً، فغسل والده وكفنه» (¬3)، والأصح عند الشافعية وجوب تكفين الميت ودفنه. 2 ً - أحكام السِّقط: أن يكون معلوم الحياة: فلا يصلى عند المالكية على مولود ولا سِقْط (الولد الميت أو غير التام الأشهر) إلا أن علمت حياته بارتضاع أو حركة أو استهلال (صراخ) ولو لحظة، لحديث: «الطفل لا يصلى عليه ولا يرث ¬
ولا يورث حتى يَستَهِلَّ» (¬1). وروى ابن ماجه عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «إذا استهلّ السِّقْطَ صُلِّي عليه وورث». وقال الحنفية: يغسل المولود ويصلى عليه ويرث ويورث إن استهل: أي وجد منه ما يدل على حياته بعد خروج أكثره. وإن لم يستهل يغسل ويسمى عند أبي يوسف وهو الأصح، فيفتى به على خلاف ظاهر الرواية، إكراماً لبني آدم، أي أنه إذا نزل حياً فهو كالكبير، وإن لم يظهر منه صراخ، فإن نزل ميتاً فيغسل إن كان تام الخَلْق، ولا يغسل إن لم يكن تام الخلق، بل ظهر بعض خلقه، وإنما يصب عليه الماء ويلف في خرقة ويدفن ويسمى، لأنه يحشر يوم القيامة. وقال الشافعية: إن ظهرت أمارات الحياة كاختلاج، غُسِّل، وصلي عليه في الأظهر لاحتمال الحياة وللاحتياط، وإن لم تظهرعليه أمارات الحياة لم يُصَلَّ عليه وإن بلغ أربعة أشهر في الأظهر، لعدم ظهور حياته، ولكن يجب غسله وتكفينه ودفنه، في الحالة الأخيرة، ولا يغسل على المذهب قبل أربعة أشهر. وقال الحنابلة: إذا ولد السقط لأكثر من أربعة أشهر، غسل وصلي عليه. لحديث: «والسقط يصلى عليه» (¬2). والخلاصة: إن الفقهاء اتفقوا على وجوب غسل السقط إن خرج حياً واستهل، ويصلى عليه. فإن لم تظهر عليه أمارات الحياة غسل وكفن ودفن مطلقاً عند الحنفية، وعند الشافعية إن بلغ أربعة أشهر، ولم يصل عليه. ويغسل ويصلى عليه عند الحنابلة إذا ولد لأكثر من أربعة أشهر، فالشافعية والحنابلة متفقون على عدم غسله قبل أربعة أشهر. ¬
خامسا ـ هل يوضأ الميت؟
3 ًً - أن يوجد جسد الميت، أو أكثره عند الحنفية والمالكية، بأن وجد عند الحنفية أكثر البدن أو نصفه مع الرأس، وإن وجد عند المالكية ثلثا بدنه ولو مع الرأس، وإلا كان غسله مكروهاً. وقال الشافعية والحنابلة: إن لم يوجد إلا بعض الميت ولو كان قليلاً غسل وصلي عليه، لفعل الصحابة. 4 ً - ألا يكون شهيداً قتل في معركة لإعلاء كلمة الله: فالشهيد ـ كما سيأتي ـ لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه، ويدفن بثيابه وينزع عنه سلاحه عند الجمهور، وقال أبو حنيفة: لا يغسل ولكن يصلى عليه. والدليل على عدم الغسل قوله صلّى الله عليه وسلم في قتلى أحد: «لا تغسلوهم، فإن كل جرح أو كل دم يفوح مسكاً يوم القيامة، ولم يصل عليهم» (¬1). خامساً ـ هل يوضأ الميت؟ اتفق أئمة المذاهب على أن الغاسل يوضئ الميت غير الصغير كالحي بعد إزالة ما به من نجس أو وسخ، بالسدر أو الصابون، وغسل سوأتيه بخرقة، لكن بدون مضمضة واستنشاق عند الحنفية والحنابلة، للحرج، لأنه إذا دخل الماء في الفم والأنف، فوصل إلى جوفه حرك النجاسة. وبهما قليلاً عند المالكية والشافعية بأن يضع الغاسل الماء في فمه عند إمالة رأسه. فإن كان الميت جنباً أو حائضاً أو نفساء، فُعلا اتفاقاً، تتميماً للطهارة. وعلى هذا فيبدأ بالوضوء في غسل الميت، لقول رسول الله صلّى الله عليه وسلم للنساء اللاتي غسلن ابنته: «ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها» (¬2) وفي حديث أم عطية: «فإذا ¬
سادسا ـ كيفية الغسل ومقداره ومندوباته
فرغت من غسل سفلتها غسلاً نقياً بماء وسدر، فوضئيها وضوء الصلاة، ثم اغسليها» (¬1). سادساً ـ كيفية الغسل ومقداره ومندوباته: غسل الميت كغسل الجنابة الواجب فيه كونه مرة واحدة، يعمم فيها الجسد، بعد إزالة النجس، بشرط كون الماء طهوراً، فيوضع الميت على سرير، وتستر عورته ما بين سرته وركبته، بعد تجريده عن ثيابه عند الجمهور، وبقميص عند الشافعية، وتغسل عورته بخرقة ملفوفة على يد الغاسل، ثم يوضأ، كما سبق بيانه. ثم يغسل الرأس ثم اللحية بسدر (ورق النبق يستعمل في التنظيف) أو خطْمي، بأن يسحق ويضرب بماء قليل في إناء حتى تبدو له رغوة، ثم يعرك به الموضع، لإزالة الوسخ، ثم يصب عليه الماء الطهور، الذي هو شرط لصحة الغسل، فإن لم يوجد سدر فيستعمل الصابون أو نحوه من أشنان، أوغاسول يعرك به الموضع، ثم يفاض عليه الماء للتنظيف. ويدخل أصبعه في فيه، ويسوك بها أسنانه، ولا يفتح فاه، وينظف ما تحت أظفاره. ثم يغسل الشق الأيمن إلى القدم بعد إضجاعه على شقه الأيسر، ثم الأيسر، بالصابون ونحوه، ثم يصب عليه الماء الخالص. فهذه هي الغسلة الأولى الواجبة. ويندب تكرار الغسل ثلاثاً، فتزاد غسله ثانية وثالثة، ثم ينشف في ثوب، ويجعل الحنوط (وهو العطر المركب من الأشياء الطيبة غير زعفران وورس) على رأسه ولحيته، ويوضع الكافور على مواضع سجوده (¬2). سواء فيه المحرم بالحج أو ¬
هل يسرح شعر الميت ويؤخذ ظفره وشعره
العمرة وغيره عند الحنفية والمالكية، فيطيب المحرم ويغطى رأسه عندهم، لعموم الأمر بالغسل مطلقاً. وقال الشافعية والحنابلة: لا يغطى رأس المحرم إذا مات، ولا يمس طيباً، لحديث ابن عباس، قال: «أُتي النبي صلّى الله عليه وسلم برجل وقصته (رمته فكسرت عنقه) راحلته، فمات، وهو محرم، فقال: كفنوه في ثوبين، واغسلوه بماء وسدر، ولا تخمِّروا رأسه ولا تقربوه طيباً، فإنه يبعث يوم القيامة يلبي» (¬1) فالمحرم الميت كالمحرم الحي لبقاء إحرامه عندهم. ويغسل بالماء البارد الخالص، مع قليل كافور لغير المحرم عند الشافعية والحنابلة لأمره صلّى الله عليه وسلم (¬2)، ولأنه يقوي البدن ويدفع الهوام، لكن قال الحنفية: يسخن الماء إن تيسر؛ لأنه أبلغ في التنظيف، وقال الحنابلة: ولا بأس بغسله في حمام، بماء حار، إن احتيج إليه لشدة برد أو وسخ لا يزول إلا به، فإن لم تكن حاجة كره. ويكون الغسل وتراً، لحديث «إن الله وتر يحب الوتر» (¬3) من غير إعادة وضوء، فإن لم ينق الميت بالثلاث الغسلات، غسل إلى سبع، فإن لم ينق بسبع غسلات، فالأولى غسله حتى ينقى، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً أو أكثر من ذلك إن رأيتن» (¬4). هل يسرح شعر الميت ويؤخذ ظفره وشعره (¬5): قال الحنفية والمالكية: لا يسرح ولا يحلق شعره ولا يقص ظفره إلا المكسور، ¬
استعمال القطن
ولا شعره من رأسه ولحيته، ولا يختن، إذ لاحاجة إليه، لأنه للزينة وقد استغني عنها، فهذا مكروه، والكراهة عند الحنفية تحريمية. فلو قطع ظفره أو شعره، أدرج معه في الكفن. وهذا هو الرأي الأولى؛ لأن الميت يحتاج للستر بكل ماله وما عليه. وقال الشافعية في الجديد: يسرح شعر رأسه ولحيته بمشط واسع الأسنان برفق، ويرد المنتوف إليه. والأظهر كراهة أخذ شعر رأسه، وظفره وشعر إبطه وعانته وشاربه؛ لأن أجزاء الميت محترمة، ولم يثبت فيه شيء فهو محدث، وصح النهي عن محدثات الأمور، ولا يختن الميت إذا كان أقلف. وقال الحنابلة في أرجح الروايتين عن أحمد: ويقص شارب غير مَحْرم، ويقلم أظفاره إن طالا، ويؤخذ شعر إبطيه؛ لأن ذلك تنظيف لا يتعلق بقطع عضو، فأشبه إزالة الأوساخ والأدران، ويعضد ذلك العمومات في سنن الفطرة، ويجعل ما أخذ من الشارب والأظفار وشعر الإبطين مع الميت، كعضو ساقط، لما روى أحمد من حديث أم عطية قالت: «يغسل رأس الميتة، فما سقط من شعرها في أيديهم، غسلوه، ثم ردوه في رأسها». ولأن دفن الشعر والظفر مستحب في حق الحي، ففي حق الميت أولى. ويعاد غسل ما أخذ من الميت من شعر وظفر، لقول أم عطية: «غسلوه ثم ردوه»، ولأنه جزء من الميت كعضو من أعضائه. أما المرأة فالمعتمد عن المالكية والحنفية وباقي المذاهب: أنه يندب ضَفْر شعرها. استعمال القطن: قال الحنفية: ليس في الغسل استعمال القطن في الروايات الظاهرة، لكن قال الزيلعي وصاحب الدر المختار: لا بأس بأن يجعل القطن على وجه الميت وأن يحشى به مخارقه كالدبر والقبل والأذنين والأنف والفم.
خلاصة مندوبات الغسل
وكذلك قال فقهاء المذاهب الأخرى: لا بأس أن يحشى بقطن مخرجه وغيره، حتى لا يخرج منه شيء من نجاسة أو دم، ويجعل على رأسه قطن عند الحنابلة. خلاصة مندوبات الغسل: يندب في غسل الميت ما يأتي: 1 - أن يوضأ كوضوء الحي في أول الغسلات، بعد إزالة ما عليه من نجاسة أو وسخ بالسدر أو الصابون. 2 - ستر العورة لأحد الزوجين بغسل صاحبه، أي إذا غسل أحدهما الآخر ..... 3 - تجريد الميت من ثيابه بعد ستر عورته عند الجمهور، وعند الشافعي: يغسل بقميص ونحوه. ويسن ستر الميت حالة الغسل عن العيون، منعاً من الاطلاع على عورته أو عيب فيه، ويكره النظر إلى الميت ولو من غاسل، لغير حاجة، لأن جميعه صار عورة إكراماً له. 4 - استعمال السدر أو الصابون في الغسلات، والكافور في الغسلة الأخيرة، وعند الشافعية: أن يجعل في كل غسلة قليل كافور، وذلك إن تيسر وإلا فماء خالص بارد، أو ساخن عند الحاجة. 5 - إيتار الغسل: أي جعله وتراً ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً، ولا يتكرر الوضوء بتكرر الغسل، ويستحب كون الغسل ثلاثاً، والواجب فيه مرة واحدة. وإن خرج من الميت شيء من أحد السبيلين أو غيرهما بعد الغسلات الثلاث أعيد وضوءه وغسله عند الحنابلة، ويكتفى بإزالة النجس عند غيرهم. 6 - عصر بطنه حال الغسل برفق، لإخراج ما في بطنه من النجاسة. 7 - كثرة صب الماء في حال غسل مخرجيه لإزالة النجاسة، وتقليل العفونة؛ لأن الشأن في الأموات كثرة ذلك، ثم ينشف لئلا تبتل الأكفان.
8 - لف خرقة كثيفة على يد الغاسل حال غسل العورة من تحت السرة، ويستحب للغاسل ألا يمس سائر بدن الميت إلا بخرقة. 9 - تعهد أسنانه وأنفه بخرقة نظيفة عند المضمضة والاستنشاق في رأي المالكية والشافعية، وكذلك عند الحنابلة: تنظف أسنانه ومنخراه بخرقة مبلولة، دون أن يدخل الماء في الفم والأنف. وينظف ما تحت أظفاره أيضاً. 10 - إمالة رأسه برفق للتمكن من غسل الفم والأنف في حال المضمضة والاستنشاق، لئلا يدخل الماء في جوفه. وندب تنشيق الميت بخرقة طاهرة قبل التكفين. 11 - عدم حضور غير مساعد أو معين للغاسل. 12 - التيامن في الغسل: بأن يغسل الشق الأيمن ثم الأيسر، ثم يحرّفه الغاسل إلى شقه الأيسر فيغسل شقه الأيمن من القفا والظهر إلى القدم، ثم يفعل كذلك بشقه الأيمن. ويصب عليه الماء عند كل إضجاع ثلاث مرات، أو أكثر بحسب الحاجة، كما أبنت ..... 13 - يستحب عند الحنابلة خضب لحية رجل ورأس امرأة، ولو غير شائبين بحناء، لقول أنس: «اصنعوا بموتاكم ما تصنعون بعرائسكم». 14 - يجعل الحَنُوط (العطر المركب من الأشياء الطيبة) على رأسه ولحيته، والكافور على مساجده (وهي مواضع سجوده وهي الجبهة والأنف واليدان والركبتان والقدمان) كرامة لها، سواء فيه عند المالكية والحنفية وغيره، فيطيب ويغطى رأسه. ويبخر (يجمر) سريره وتراً، إخفاء لكريه الرائحة، وتعظيماً للميت.
الفرض الثاني ـ تكفين الميت
الفرض الثاني ـ تكفين الميت: حكمه والملزم بالكفن، ومقدار الكفن وصفته وكيفيته، وما يندب فيه (¬1): أولاً ـ حكم التكفين والملزم بالكفن: تكفين الميت فرض كفاية على جماعة المسلمين، لقوله صلّى الله عليه وسلم في المحرم «كفِّنوه في ثوبيه» (¬2). ونفقات التكفين ومؤنة التجهيز من حمل للمقبرة ودفن ونحوه: من تركة الميت، أي ماله الخاص الذي لم يتعلق به حق الغير كالمرهون، ويقدم على الدين والوصية، فإن لم يكن له مال فعلى من تلزمه نفقته في حال الحياة، وعلى الزوج تكفين زوجته عند الحنفية، والشافعية في الأصح؛ لأنها في نفقته في الحياة، أما عند المالكية والحنابلة فلا يلزم الزوج كفن امرأته ولا مؤنة تجهيزها؛ لأن النفقة والكسوة وجبا في حال الزواج للتمكين من الاستمتاع، بدليل سقوطها بالنشوز والبينونة، وقد انقطع ذلك بالموت، فأشبهت غير الزوجة (الأجنبية). ولا شك أن المقبول هو الرأي الأول إذ لا يعقل التفريق في هذا بين الموت والحياة، وأما سقوط النفقة بالنشوز ونحوه فلحملها على العودة لبيت الزوجية. فإن لم يوجد أحد تلزمه نفقة الميت، فنفقة تكفينه وتجهيزه من بيت المال إن وجد، وإلا فعلى جماعة المسلمين المستطيعين. ¬
ثانيا ـ صفة الكفن ومقداره وكيفيته
ثانياً ـ صفة الكفن ومقداره وكيفيته: يكفن الميت بعد غسله بما يحل له لبسه في حال الحياة (¬1) فيكفن في الجائز من اللباس، ولا يكفن الرجل بالحرير، وتكفن المرأة به عند الجمهور، ولا تكفن به عند الحنابلة. ويشترط في الكفن ألا يصف البشرة؛ لأن ما يصفها غير ساتر، فوجوده كعدمه. ويجب أن يكون الكفن طاهراً، فلا يجوز تكفينه بالمتنجس مع القدرة على الطاهر. ويجب أن يكفن الميت عند الحنابلة، وندباً عند المالكية والحنفية في ملبوس مثله في الجمع والأعياد مالم يوص بدونه فتتبع وصيته، لأمر الشارع بتحسينه. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا كفن أحدكم أخاه، فليُحْسن كفنه» (¬2) وتحسين الكفن واجب عند الحنابلة، مستحب عند غيرهم. وأقل الكفن: ثوب واحد يستر جميع البدن، إلا رأس المحرم عند الشافعية والحنابلة، ولا تُنفَّذ وصيته بإسقاطه. وأكثره سبع. والأفضل للرجل ثلاثة، وللمرأة خمسة. أما الرجل فلقول عائشة رضي الله عنها: «كُفِّن رسول الله صلّى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سَحُولية (¬3) جُدَد يمانية، ليس فيها قميص ولا عمامة، أُدرج فيها إدراجاً» (¬4). وأما المرأة: فلزيادة الستر في حقها، ولحديث ليلى الثقفية الآتي. وللفقهاء تفصيلات في ذلك: ¬
قال الحنفية
قال الحنفية: الكفن ثلاثة أنواع: كفن الضرورة، وكفن الكفاية، وكفن السنة، كل منها إما للرجل أو للمرأة، فأقل ما يكفن فيه الرجل عادة ثوبان، والسنة فيه ثلاثة أثواب، وأقل ما تكفن فيه المرأة ثلاثة أثواب، والسنة خمسة أثواب. 1 - كفن الضرورة للرجل والمرأة: هو مقدار ما يوجد حال الضرورة أو العجز، أما الذي يسقط به الفرض عن المكلفين فهو أقل الكفن، وأقله ما يعم البدن؛ لأن مصعب بن عمير رضي الله عنه حين استشهد، كفن في ثوب واحد (¬1). 2 - كفن الكفاية: وهو أدنى ما يلبس حال الحياة، وكفنه: كسوته بعد الوفاة. وهو ثوبان للرجل: إزار ولفافة، في الأصح، وللمرأة: ثوبان وخمار، ويكره أقل من ذلك. أما الرجل: فلقول أبي بكر حين حضره الموت: «كفنوني في ثوبيّ هذين اللذين كنت أصلي فيهما، واغسلوهما، فإنهما للمُهل والتراب» (¬2)،ولأنه أدنى لباس الأحياء. والإزار: خلاف إزار الحي من الفَرْق (أعلى الرأس) إلى القدم، واللِّفافة مثله: من القَرْن (الخُصلة من الشعر) إلى القدم أي من الرأس إلى القدم. وقال ابن الهمام: أنا لا أعلم وجه مخالفة إزار الميت إزا ر الحي من السنة. وأما المرأة: فلسترها بالخمار: وهو غطاء الوجه والرأس. 3 - وكفن السنة: هو أكمل الأكفان، وهو للرجل: ثلاثة أثواب: إزار، ¬
وقميص، ولِفافة. والقميص: من أصل العُنُق إلى القدمين بلا دِخْرِيص (ما يضاف لتوسعة القميص من الجانبين) ولا كمين. وللمرأة خمسة أثواب: إزار، وقميص (درع)، وخمار، وخِرْقة يُربط بها ثَدْياها، وعرضها من الثدي إلى السرة، ولفافة. أما الرجل: فلحديث ابن عباس: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كُفِّن في ثلاثة أثواب: قميصه الذي مات فيه، وحُلَّة نجرانية، الحلة: ثوبان» (¬1) وهذا دليل للحنفية والمالكية الذين قالوا باستحباب القميص. وذهب الجمهور إلى أنه غير مستحب، لحديث عائشة السابق: «ليس فيها قميص ولاعمامة». وتكره العِمَامة للميت عند الحنفية في الأصح، وهي ما يلف على الرأس، لحديث عائشة المذكور. واستحسنها المتأخرون للعلماء والأشراف. ولا بأس بالزيادة على الثلاثة، إلى خمسة. وأما المرأة: فلحديث ليلى بنت قانف الثقفية، المتضمن تكفين أم كُلْثوم بنت الرسول صلّى الله عليه وسلم عند وفاتها بخمسة أثواب (¬2). ويكره التكفين للرجال بالحرير والمعصفر والمزعفر ونحوها إلا إذا لم يوجد غيرها، ويجوز ذلك للنساء. وكيفية التكفين: أن يبسط للرجل اللفافة أولاً، ثم يبسط عليها الإزار، ثم يقمص، ثم يطوى الإزار عليه، ويبتدأ بالجانب الأيسر، فيلقى عليه، ثم بالأيمن ليكون على الأيسر، كما في حالة الحياة، ثم اللفافة. ¬
قال المالكية
وأما المرأة: فتبسط لها اللفافة والإزار، ثم توضع على الإزار وتلبس القميص، ويجعل شعرها ضفيرتين على صدرها فوق القميص، ثم يجعل الخمار فوق الشعر، تحت اللفافة، ثم يطوى الإزار واللفافة، ثم تربط الخرقة فوق الأكفان، وفوق القدمين. وقال المالكية: أقله ثوب واحد، وأكثره سبع، ويستحب الوتر في الكفن، فالثلاثة أفضل من الاثنين، ومن الأربعة، والواجب من الكفن للذكر ما يستر العورة، والباقي سنة، ومازاد عن ذلك مندوب. وأما المرأة فيجب ستر جميع بدنها. والأفضل في مشهور المذهب أن يكفن الرجل بخمسة أثواب: إزار (من سرته لركبته) وقميص له أكمام، وعمامة، ولفافتان؛ لأن المقصود بحديث عائشة: هو الإباحة لا التقدير. والأفضل أن تكفن المرأة بسبعة أثواب: بزيادة لفافتين، فتكون اللفائف أربعة؛ لأن المقصود من حديث ليلى الثقفية بيان الإباحة لا التقدير، كما في الرجل. وندب خمار (¬1) يلف على رأس المرأة ووجهها، بدل العمامة للرجل. وندب عَذَبة قدر ذراع تجعل على وجه الرجل. ويكره التكفين بالحرير والخز (¬2) والنجس إن وجد غيره، وإلا فلا يكره. وقال الشافعية: أقل الكفن ثوب ساتر للعورة، وهي في الرجل: ما بين السرة ¬
قال الحنابلة
والركبة، وفي المرأة: غير الوجه والكفين. أما بالنسبة لحق الميت، فيجب ثوب يعم به جميع البدن، إلا رأس المحرم، ووجه المحرمة، تكريماً له، وستراً لما يعرض له من التغير. ويحرم تكفين الرجل بالحرير والمزعفر إذا وجد غيرهما، ويجوز مع الكراهة تكفين المرأة بهما. والأفضل للرجل ثلاث لفائف عملاً بحديث عائشة المتقدم، وكما قال الحنفية، والأفضل ألا يكون فيه قميص ولا عمامة، لحديث عائشة المذكور، ويجوز بلا كراهة رابع وخامس بزيادة قميص وعمامة تحتهن؛ لأن ابن عمر كفن ابناً له في خمسة أثواب: قميص وعمامة، وثلاث لفائف (¬1). والأفضل للمرأة والخنثى خمس لفائف: إزار، ثم قميص، ثم خمار، ثم لفافتان، لزيادة الستر في حقها، وتكره الزيادة على ذلك. وكيفية التكفين: أن يبسط أحسن اللفائف وأوسعها، وتوضع الثانية فوقها، وكذا الثالثة، ويوضع على كل واحدة حنوط وكافور (¬2)، ويوضع الميت فوقها مستلقياً، وعليه حنوط وكافور، ويُشد ألياه، ويجعل على منافذ بطنه قطن، ويلف عليه اللفائف وتشد، فإذا وضع في قبره نزعت الأربطة ولا يلبس المحرم الذكر مخيطاً، ولا يستر رأسه ولا وجه المحرمة. وقال الحنابلة: الكفن الواجب: ثوب يستر جميع بدن الميت، رجلاً أو امرأة. والأفضل ـ كما قال الشافعية ـ أن يكفن الرجل في ثلاثة أثواب بيض، يدرج فيها إدراجاً، ويجعل الحنوط (الطيب) فيما بينهما، وليس فيها قميص ولا عمامة ¬
لا يزاد عليها، ولا ينقص، لحديث عائشة السابق. ويجوز التكفين في ثوبين، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم في المحرم الذي وقصته دابته: «اغسلوه بماء وسِدْر، وكفنوه في ثوبين» (¬1) وتكره الزيادة على الثلاث، لما فيه من إضاعة المال المنهي عنه. والمحرم بناء على هذا الحديث يغسل بماء وسدر، ولا يقرب طيباً، ويكفن في ثوبيه، ولا يغطى رأسه ولا رجلاه. ويكفن الصبي في خرقة، وإن كفن في ثلاثة فلا بأس. فإن لم يجد الرجل ثوباً يستر جميعه، ستر رأسه، وجعل على رجليه حشيشاً أو ورقاً. والأفضل أن تكفن المرأة في خمسة أثواب: قميص، ومئزر، ولفافة، وقناع (أي خمار للرأس والوجه)، وخامسة تشد بها فخذاها، لحديث ليلى الثقفية، ولما روت أم عطية أن النبي صلّى الله عليه وسلم ناولها إزاراً، ودرعاً (قميصاً) وخماراً، وثوبين. وكيفية التكفين: كما تقدم عند الشافعية، علماً بأن الخمار يجعل على الرأس والإزار في الوسط، والقميص يلبس، وتبخر الأكفان، ولا يوضع شيء من الحنوط على ظهر اللفافة العليا، لكراهة عمر وابنه وأبي هريرة ذلك، ولا يوضع الحنوط أيضاً على الثوب الذي يجعل على النعش؛ لأنه ليس من الكفن، ويوضع الطيب على مواضع سجوده كجبهته وأنفه وركبتيه وأطراف قدميه، تشريفاً لها، لكنها مختصة بالسجود، وعلى مغابنه كطي ركبتيه، وتحت إبطيه، وكذا سرته؛ لأن ابن عمر كان يُتبع مغابن الميت ومرافقه بالمسك. ويطيب رأسه ولحيته، ويكره أن يطيب داخل عينيه؛ لأنه يفسدهما. ويرد طرف اللفافة العليا من الجانب الأيسر على شقه الأيمن، ثم يرد طرفها ¬
ثالثا - ما يندب في الأكفان
الأيمن على شقه الأيسر؛ لأنه عادة لبس الحي في قباء ورداء ونحوهما. ثم ترد اللفافة الثانية والثالثة كذلك. ويجعل ما عند رأس الميت من فاضل الكفن أكثر مما عند رجليه لشرفه، ولأنه أحق بالستر. ويجعل الفاضل عن وجهه ورجليه عليهما، ليصير الكفن كالكيس فلا ينتشر، ثم تعقد اللفائف إن خف انتشارها، ثم تحل العُقَد في القبر؛ لقول ابن مسعود: «إذا أدخلتم الميت اللحد، فحلوا العُقَد» (¬1). وإن كفن الميت في قميص كقميص الحي بكمين ودخاريص، وفي إزار ولفافة، جاز من غير كراهة؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم «ألبس عبد الله بن أبي قميصه لما مات» (¬2)،ولا يزرُّ القميص على الميت، لعدم الحاجة. ويحرم التكفين للرجل والمرأة بحرير ومنسوج بذهب أو فضة إلا عند الضرورة، بأن لم يوجد غيره، والتحريم للمرأة لأنه إنما أبيح لها في حال الحياة، لأنه محل الزينة والشهوة، وقد زال ذلك بموتها. ثالثاً - ما يندب في الأكفان: يندب ما يأتي، مع ما ذكر من صفة الكفن ومقداره في البحث السابق: 1ً - بياض الكفن من كتان، أو قطن وهو أولى، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «البَسوا من ثيابكم البياض، فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم» (¬3). ¬
2ً - تجمير الكفن (أي تبخيره بالعود ونحوه) وتراً: أي ثلاثاً، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا أجمرتم الميت ـ أي بخرتموه ـ فأجمروه ثلاثاً» (¬1). إلا المحرم فلا يُطيَّب عند الشافعية والحنابلة، لقوله صلّى الله عليه وسلم في الرجل الذي وقصته ناقته بعرفة: «اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تحنِّطوه، ولا تجمروا رأسه، فإن الله تعالى يبعثه يوم القيامة ملبياً» (¬2). وخالف المالكية والحنفية في ذلك، وقالوا: إن قصة هذا الرجل واقعة عين لا عموم لها، فتختص به. واعتذر الداودي عن مالك فقال: إنه لم يبلغه الحديث. وأجيب بأن الحديث ظاهر في أن العلة كونه في النسك، وهي عامة في كل محرم، والأصل أن كل ما ثبت لواحد في زمن النبي صلّى الله عليه وسلم ثبت لغيره، حتى يثبت التخصيص. ويندب أيضاً وضع الحنوط (الطيب) من كافور أو غيره داخل كل لفافة من الكفن، ويجعل على قطن يلصق بمنافذه (عينيه وأنفه وفمه وأذنيه ومخرجه) ويجعل أيضاً على مساجده (جبهته وكفيه وركبتيه وأصابع رجليه) ومغابنه (إبطيه وباطن ركبتيه ومنخره وخلف أذنيه). 3ً - الزيادة على الكفن الواحد: فالاثنان أفضل من الواحد، وإن كان وتراً، تكريماً وستراً للميت. 4ً - كون الكفن وتراً: فالثلاثة أفضل من الاثنين ومن الأربعة. 5ً - تحسين الكفن من غير مغالاة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا ولي أحدكم أخاه فليحسن ¬
الفرض الثالث ـ الصلاة على الميت
كفنه» (¬1) وتحسين الكفن عند المالكية والحنفية بأن يكون ندباً، بثياب كالثياب الشرعية التي يلبسها في الجمعة، لحصول البركة بثياب مشاهد الخير. وعند الحنابلة يجب أن يكفن في ملبوس مثله في الجمع والأعياد، لأمر الشارع بتحسينه. وعند الشافعية: المستحب أن يبسط أحسن الأكفان وأوسعها، لأن المراد بإحسان الكفن: بياضه ونظافته وسبوغه وكثافته، لا ارتفاعه، إذ تكره المبالغة فيه للنهي عنه، فيكون المغسول أفضل من الجديد؛ لأن مآله للبلا، والقطن أفضل من غيره؛ لأنه كفنه كان كذلك. واتفق الكل على عدم المغالاة في الكفن، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لاتغلوا في الكفن، فإنه يسلب سلباً سريعاً» (¬2). الفرض الثالث ـ الصلاة على الميت: حكمها، من الأولى بها، حالة اجتماع الجنائز، أركانها، مكان وقوف الإمام من الجنازة، حالة المسبوق، شروطها، كيفيتها وسننها، وقتها، الصلاة على الميت بعد الدفن، الصلاة على الغائب، الصلاة على الميت في المسجد والمقبرة، الصلاة على المولود. ¬
أولا ـ حكم الصلاة على الميت
أولاً ـ حكم الصلاة على الميت: الصلاة على الميت غير الشهيد فرض كفاية على الأحياء بالإجماع، كالتجهيز والغسل والتكفين والدفن (¬1)، إذا فعلها البعض ولو واحداً سقط الإثم عن الباقين، وهي من خصائص هذه الأمة، كالإيصاء بالثلث. وقد صلى الصحابة على النبي، وأمر النبي بالصلاة على السقط والطفل، وصلى النبي على النجاشي (¬2). وإذا أريدت الصلاة، نودي «الصلاة على الميت». وهي عند الحنفية (¬3) فرض على مسلم مات إلا أربعة: هم البغاة وقطاع الطرق، إذا قتلوا في الحرب، وأهل العُصْبة، أو أهل العصبية، والمكابر في مصر ليلاً بسلاح، أو بخناق (وهو من تكرر منه الخنِق في المصر). أما البغاة: وهم قوم مسلمون خرجوا على طاعة الإمام بغير حق، فلا يغسلون ولا يصلى عليهم، إهانة لهم، وزجراً لغيرهم عن فعلهم، وذلك إذا قتلوا في أثناء حربهم. أما إذا قتلوا بعد استيلاء السلطة الحاكمة عليهم، فإنهم يغسلون ويصلى عليهم؛ لأن قتلهم حينئذ للسياسة أو لكسر شوكتهم، فهو في حكم الحد، لعود نفعه إلى الجماعة. وأما قطاع الطرق: وهم جماعة من المسلمين خرجوا على المارة بقصد أخذ ¬
أموالهم، فلايغسلون ولا يصلى عليهم كالبغاة إذا قتلوا في الحرب، ويغسلون ويصلى عليهم إذا قتلوا بعد ثبوت يد الإمام عليهم؛ لأن قتل قاطع الطريق في هذه الحالة حد أو قصاص، ومن قتل بذلك يغسل ويصلى عليه. ويكون قتله قصاصاً في حالة سقوط الحد كقطع الطريق على قريب محرم. فلو مات واحد من البغاة أو القطاع حتف أنفه قبل الأخذ أو بعده، يصلى عليه. وأما أهل العُصْبة أو العصبية: وهم الذين يتعاونون على الظلم، ويغضبون للقوم أو القبيلة (¬1)، فحكم المقتولين منهم في العصبية كحكم أهل البغي على التفصيل السابق. ومنهم الواقفون الناظرون إليهم إن أصابهم حجر أو غيره، وماتوا في تلك الحالة. أما لو ماتوا بعد تفريقهم فيصلى عليهم. وأما المكابر في مصر بسلاح أو خنق: فهو قاطع طريق على الرأي المفتى به عند الحنفية، وهو قول أبي يوسف، إذا كان في المصر ليلاً مطلقاً، أو نهاراً بسلاح أو بتكرر الخنق منه، يقتل سياسة لسعيه بالفساد، ولدفع شره. وحكمه كقاطع الطريق، أو البغاة، لا يغسل ولا يصلى عليه. ولا يصلى على قاتل أحد أبويه إهانة له إذا قتله الإمام قصاصاً، فإن مات حتف أنفه يصلى عليه. ومن قتل نفسه عمداً يغسل ويصلى عليه، على المفتى به عند الحنفية، وعند الشافعية، وإن كان أعظم وزراً من قاتل غيره؛ لأنه فاسق غير ساع في الأرض بالفساد، وإن كان باغياً على نفسه كسائر فساق المسلمين. ¬
ثانيا ـ من الأولى بالصلاة على الجنازة؟
ورأى قوم كأبي يوسف وابن الهمام أنه لا يصلى عليه، لما في صحيح مسلم أنه عليه السلام أتي برجل قتل نفسه، فلم يصل عليه (¬1). وقال المالكية (¬2): ولا يصلي الإمام على من قتله في حد أو قصاص، ويصلي عليه غيره، لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يصل على ماعز، ولم ينه عن الصلاة عليه (¬3). وقال المالكية أيضاً: وينبغي لأهل الفضل أن يجتنبوا الصلاة على المبتدعة، ومظهري الكبائر، ردعاً لأمثالهم. واستثنى الحنابلة من فرضية صلاة الجنازة الشهيد والمقتول ظلماً، كما استثنى الجمهور غير الحنفية الشهيد كما سيأتي. وقد ثبت أنه صلّى الله عليه وسلم ترك الصلاة على الغالّ (الخائن) من الغنيمة، وقاتل نفسه (¬4). ثانياً ـ من الأولى بالصلاة على الجنازة؟ للفقهاء آراء ثلاثة (¬5): الرأي الأول ـ للحنفية: السلطان إن حضر أو نائبه أحق بالصلاة على الميت بسبب السلطنة، ولأن في التقدم عليه ازدراء به، فإن لم يحضر فالقاضي؛ لأنه ¬
صاحب ولاية، فإن لم يحضر فيقدم إمام الحي؛ لأنه رضيه في حياته، فكان أولى بالصلاة عليه في مماته، ثم يقدم الولي الذكر المكلف بترتيب عصوبة أو أولياء النكاح إلا الأب فيقدم على الابن، ويقدم الأقرب فالأقرب كترتيبهم في ولاية الزواج. ولمن له حق التقدم أن يأذن لغيره. ومن له ولاية التقدم أحق ممن أوصى له الميت بالصلاة عليه على المفتى به؛ لأن الوصية باطلة. فإن صلى عليه غير الولي والسلطان ونائبه، فللولي إعادة الصلاة، ولو على قبره إن شاء، لأجل حقه، لا لإسقاط الفرض. وإن صلى الولي لم يجز لأحد أن يُصلي عليه بعده؛ لأن الفرض تأدى بالأول، والتنفل بالصلاة على الجنازة غير مشروع. فإن دفن ولم يُصَلَّ عليه، صلِّي على قبره، ما لم يغلب على الظن تفسخه، لاختلاف الحال والزمان والمكان. الرأي الثاني ـ للمالكية والحنابلة: أحق الناس بالصلاة على الميت: من أوصى الميت أن يصلي عليه، عملاً بفعل الصحابة، فقد أوصى أبو بكر أن يصلي عليه عمر، وعمر أوصى أن يصلي عليه صهيب، وعائشة أوصت أن يصلي عليها أبو هريرة، وأم سلمة أوصت أن يصلي عليها سعيد بن زيد ... إلخ، ثم الوالي أو الأمير، للحديث السابق: «لا يؤم الرجل الرجل في سلطانه»، ثم الأولياء العصبات على ترتيب ولايتهم في النكاح، فيقدم الأب وإن علا، ثم الابن وإن سفل، ثم الأقرب فالأقرب من العصبات، فيقدم الأخ، ثم العم ثم ابن العم، وهكذا. لكن يقدم الأخ وابنه عند المالكية على الجد؛ لأنه يدلي بالبنوة، والجد يدلي
بالأبوة. ويصلي النساء في المذهب المالكية عند عدم الرجال دفعة واحدة أفذاذاً، إذ لا تصح إمامتهن لديهم. ويقدم الأفضل فالأفضل، فيقدم الرجال على النساء، والكبار على الصغار، ومن له مزية دينية، فإن استووا قدم بالسن، فإن استووا قدم بالقرعة أو التراضي. هذا قول المالكية. وعبارة الحنابلة: يقدم الأحق بالإمامة في المكتوبات، لعموم قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله». الرأي الثالث ـ للشافعية في الجديد: أن الولي أولى بالإمامة من الوالي، وإن أوصى الميت لغير الولي، لأن الصلاة حقه، فلا تنفذ وصيته بإسقاطها كالإرث، لأن المقصود من الصلاة على الجنازة هو الدعاء للميت، ودعاء القريب أقرب إلى الإجابة لتألمه وانكسار قلبه. وأما وصايا الصحابة بالصلاة عليهم، فمحمولة على أن أولياءهم أجازوا الوصية. فيقدم الأب، ثم الجد وإن علا، ثم الابن، ثم ابنه وإن سفل، ثم الأخ، والأظهر تقدم الأخ الشقيق على الأخ لأب، ثم ابن الأخ الشقيق، ثم لأب، ثم بقية العصبة النسبية على ترتيب الإرث، فيقدم عم شقيق ثم لأب، ثم ابن عم شقيق ثم لأب. ثم ذوو الأرحام، يقدم الأقرب فالأقرب، فيقدم أبو الأم، ثم الأخ لأم، ثم الخال، ثم العم لأم. ولو اجتمع وليان في درجة كابنين أو أخوين، وكلاهما صالح للإمامة، فالأسن في الإسلام العدل أولى من الأفقه ونحوه.
ثالثا ـ حالة اجتماع الجنائز
ثالثاً ـ حالة اجتماع الجنائز: اتفقت المذاهب (¬1) على جواز الصلاة على الجنائز المتعددة دفعة واحدة، وعلى أن إفراد كل جنازة بصلاة أفضل، ويقدم الأفضل فالأفضل؛ لأن الإفراد أكثر عملاً وأرجى قبولاً. وفي حال اجتماع الجنائز قال الحنفية: تصف صفاً عريضاً، ويقوم الإمام عند أفضلهم، أو تصف صفاً طويلاً مما يلي القبلة، بحيث يكون صدر كل واحد منهم قدام الإمام، محاذياً له. رابعاً ـ أركان صلاة الجنازة وسننها وكيفيتها: لصلاة الجنازة ركنان عند الحنفية، وخمسة عند المالكية، وسبعة عند الشافعية والحنابلة. أما مذهب الحنفية (¬2): فللصلاة عندهم ركنان: التكبيرات الأربع، والقيام. والتكبيرة الأولى ـ تكبيرة الإحرام ركن لا شرط، فلم يجز بناء تكبيرة أخرى عليها. والتكبيرات أربع، كل تكبيرة قائمة مقام ركعة. ويجب السلام مرتين بعد التكبيرة الرابعة. فالواجب عندهم شيء واحد هو السلام، والركن: اثنان: التكبير والقيام. والنية شرط لا ركن، ولا تجوز الصلاة على الجنازة راكباً ولا قاعداً عذر استحساناً. وسنن الصلاة: ثلاث: التحميد والثناء، والدعاء فيها، والصلاة على النبي ¬
كيفيتها
صلّى الله عليه وسلم، أما التحميد والثناء: فهو (سبحانك اللهم وبحمدك) بعد التكبيرة الأولى، والصلاة على النبي بعد الثانية، والدعاء للميت بعد الثالثة. ويندب أن تكون صفوف المصلين ثلاثة للحديث الآتي: «من صلى عليه ثلاثة صفوف غفر له». وكيفيتها: أن يرفع المصلي يديه في التكبيرة الأولى فقط، ويدعو بعدها بدعاء الثناء: وهو (سبحانك اللهم وبحمدك)، ثم يصلي على النبي صلّى الله عليه وسلم، كما في التشهد بعد التكبيرة الثانية؛ لأن تقديمها سنة الدعاء (¬1)، ثم يكبر تكبيرة يدعو فيها لنفسه وللميت وللمسلمين، ثم يكبر الرابعة ويسلم؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم كبر أربعاً في آخر صلاة صلاها (¬2)، فنسخت ما قبلها، فكان ما بعد التكبيرة الرابعة أوان التحلل، وذلك بالسلام. وليس بعد هذه التكبيرة دعاء إلا السلام في ظاهر الرواية. واختار بعض مشايخ الحنفية أن يقال: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} [البقرة:2/ 201] أو {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا .. الآية} [آل عمران:3/ 8]. ولا قراءة ولا تشهد فيها، ولو كبر الإمام خمساً، لم يتبع، فيمكث المؤتم حتى يسلم معه إذا سلم. ولا يتعين للدعاء شيء معين، والدعاء بالمأثور بعد التكبيرة الثالثة أحسن وأبلغ لرجاء قبوله، ومنه: «اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نُزُله، ووسِّع مَدْخله، واغسله بالماء والثلج والبَرَد، ونقِّه من الخطايا كما يُنقَّى الثوب الأبيض من الدَّنَس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً ¬
من أهله (¬1) وأدخله الجنة، وقه فتنة القبر وعذاب النار» (¬2). ومن المأثور أيضاً: «اللهم اغفر لحيِّنا وميتنا وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا (¬3) وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفَّيته منا، فتوفَّه على الإيمان، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تضلَّنا بعده» (¬4). ولا يستغفر لمجنون وصبي، إذ لا ذنب لهما، ويقول في الدعاء: «اللهم اجعله لنا فَرَطاً، واجعله لنا أجراً وذخراً، واجعله لنا شافعاً ومشفعاً» (¬5). وأما مذهب المالكية (¬6): فلصلاة الجنازة عندهم خمسة أركان: أولها - النية: بأن يقصد الصلاة على هذا الميت، أو على من حضر من أموات المسلمين، ولا يشترط معرفة كونه ذكراً أو أنثى، ولا يضر عدم استحضار أنها فرض كفاية، ولا اعتقاد الذكورة أو الأنوثة، إذ المقصود هذا الميت. وثانيها - أربع تكبيرات، لا يزاد عليها ولاينقص عن الأربعة، كل تكبيرة بمنزلة ركعة في الجملة. ¬
فإن زاد الإمام خامسة عمداً أو سهواً لم ينتظر، بل يسلّمون قبله، وصحت لهم وله أيضاً، إذ التكبير ليس كالركعات من كل وجه. فإن انتظروا سلموا معه وصحت الصلاة. وإن نقص عن الأربع سبِّح له، فإن رجع، وكبر الرابعة كبروا معه وسلموا بسلامه، وإلا يرجع كبروا لأنفسهم وسلموا وصحت. وإنما خالفت صلاة الجنازة غيرها؛ لأن بعض السلف كان يرى أنها أكثر من أربع تكبيرات، وبعضهم يرى أنها أقل. ويرى الشيعة الإمامية (¬1) أنها خمس تكبيرات بينها أربعة أدعية، ولا يتعين دعاء. ودليل القائلين بالزيادة على أربع حديث حذيفة: أنه صلى على جنازة فكبر خمساً، ثم التفت، فقال: ما نسيت ولاوَهِمت، ولكن كبرت كما كبر النبي صلّى الله عليه وسلم، صلى على جنازة فكبر خمساً (¬2). ورجح جمهور أهل السنة كون التكبير أربعاً بمرجحات منها: أنها في الصحيحين، ولإجماع الصحابة على العمل بها، وأنها آخر ما وقع منه صلّى الله عليه وسلم (¬3). وثالثها: الدعاء للميت بين التكبيرات بما تيسر، ولو: «اللهم اغفر له» ويدعو بعد التكبيرة الرابعة إن أحب، وإن أحب لم يدع وسلم، والمشهور عدم وجوب الدعاء، والمختار عند الدردير: وجوب الدعاء بعد هذه التكبيرة، وليس في الصلاة قراءة الفاتحة، لكن من الورع مراعاة الخلاف. ¬
ويثنِّي إن كان الميت اثنين، ويجمع إن كانوا جماعة، فيقول في حال التثنية: «اللهم إنهما عبداك وابنا عبيدك، وابنا أمتيك كانا يشهدان» ويقول للجماعة: «اللهم إنهم عبيدك، وأبناء عبيدك، وأبناء إمائك كانوا يشهدون» ويغلَّب الذكر على الأنثى إن اجتمع ذكور وإناث. ودليل مشروعية الدعاء للميت حديث: «إذا صليتم على الميت، فأخلصوا له الدعاء» (¬1). والدعاء من الإمام والمأموم بعد كل تكبيرة، وأقله: «اللهم اغفر له» أو ارحمه وما في معناه. وأحسنه دعاء أبي هريرة رضي الله عنه وهو أن يقول بعد الثناء على الله تعالى، والصلاة على نبيه: «اللهم إنه عبدك وابن عبادك، وابن أمتك، كان يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبدك ورسولك، وأنت أعلم به، اللهم إن كان محسناً فزد في إحسانه، وإن كان مسيئاً فتجاوز عن سيئاته، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده» (¬2). ويقول في المرأة: «اللهم إنها أمتك وبنت عبدك، وبنت أمتك» وفي الطفل الذكر: «اللهم إنه عبدك وابن عبدك، أنت خلقته ورزقته وأنت أمتَّه وأنت تحييه، اللهم اجعله لوالديه سلفاً وذخراً وفرطاً (¬3)، وأجراً، وثقِّل به موازينهما، وأعظم به أجورهما، ولا تفتنا وإياهما بعده، اللهم ألحقه بصالح سلف المؤمنين في كفالة إبراهيم، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وعافه من فتنة القبر، وعذاب جهنم». ¬
مندوباتها
وخامسها: قيام لها لقادر على القيام، لا لعاجز عنه. ومندوباتها: 1 - رفع اليدين حذو المنكبين عند التكبيرة الأولى فقط. 2 - وابتداء الدعاء بحمد الله والصلاة على نبيه صلّى الله عليه وسلم، بأن يقول: «الحمد لله الذي أمات وأحيا، والحمد لله الذي يحيي الموتى، وهو على كل شيء قدير، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما صليت وباركت على إبراهيم، وعلى آل براهيم، في العالمين إنك حميد مجيد». 3 - وإسرار الدعاء. 4 - ووقوف إمام وسط الميت الذكر، وحذو منكبي غيره من أنثى أو خنثى، جاعلاً رأس الميت عن يمين الإمام، إلا في الروضة الشريفة، فتجعل رأسه على يسار الإمام تجاه رأس النبي صلّى الله عليه وسلم، وإلا لزم قلة الأدب. ودليلهم حديث سمرة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم صلى على امرأة ماتت في نفاسها، فقام عليها وسطها» (¬1) قال الحافظ ابن حجر في الفتح: أورد المصنف (البخاري) الترجمة، وأراد عدم التفرقة بين الرجل والمرأة، وأشار إلى تضعيف ما رواه أبو داود والترمذي عن أنس بن مالك أنه صلى على رجل، فقام عند رأسه، وصلى على امرأة فقام عند عجيزتها. ¬
وكيفية الصلاة على المشهور: أن يكبر، ثم يبتدئ بحمد الله والصلاة على رسوله ـ الصلاة الإبراهيمية، ويدعو للميت، يقول هذا إثر كل تكبيرة، ويقول بعد الرابعة: اللهم اغفر لحينا وميتنا وحاضرنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثاناً، إنك تعلم متقلبنا ومثوانا، ولوالدينا ولمن سبقنا بالإيمان وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات. اللهم من أحييته منا فأحيه على الإيمان، ومن توفيته منا، فتوفه على الإسلام، وأسعدنا بلقائك، وطيبنا للموت وطيبه لنا، واجعل فيه راحتنا ومسرتنا. ثم يسلّم. وقال الشافعية والحنابلة (¬1): لصلاة الجنازة أركان سبعة إلا أن النية عند الحنابلة شرط لا ركن، كما قال الحنفية. 1ً - النية كسائر الصلوات، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات» وصفة النية: أن ينوي الصلاة على هذا الميت، أو هؤلاء الموتى إن كانوا جماعة. وتكفي نية مطلق الفرض. ولا يجب تعيين الميت، فإن عين وأخطأ، بطلت الصلاة عند الشافعية. ويضع يمينه على شماله بعد حطهما، أوفراغ التكبير، ويجعلهما عند الحنابلة تحت سرته، وعند الشافعية: ما بين سرته وصدره. ويتعوذ ويبسمل قبل الفاتحة، ولايستفتح أي لا يقرأ دعاء الافتتاح؛ لأنها صلاة مبنية على التخفيف، ولذلك لم يشرع فيها قراءة سورة بعد الفاتحة. 2ً - أربع تكبيرات بتكبيرة الإحرام: لما في الصحيحين عن أنس وغيره: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كبر على الجنازة أربعاً» وفي صحيح مسلم: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم نعى النجاشي ¬
في اليوم الذي مات فيه، فخرج إلى المصلى، وكبر أربع تكبيرات» وفي مسلم أيضاً عن ابن عباس: «أنه صلّى الله عليه وسلم صلى على قبر بعدما دفن، وكبر أربعاً» (¬1) وقد قال صلّى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي» فإن خمَّس الإمام لم تبطل الصلاة، في الأصح عند الشافعية، ولا يتابعه المأموم، بل يسلِّم أو ينتظره ليسلم معه. وقال الحنابلة: إن كبر الإمام خمساً كبر المقتدي بتكبيره، ولا تجوز الزيادة على سبع تكبيرات، ولا أنقص من أربع، والأفضل ألا يزيد على أربع خروجاً من الخلاف. 3ً - قراءة الفاتحة بعد التكبيرة الأولى: كغيرها من الصلوات، ولخبر البخاري وغيره: «أن ابن عباس قرأ بها في صلاة الجنازة، وقال: لتعلموا أنها سنة». ومحلها بعد التكبيرة الأولى، كما روى البيهقي. والمعتمد لدى الشافعية أنه تجزئ الفاتحة بعد غير التكبيرة الأولى من الثانية والثالثة والرابعة. 4ً - الصلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم (الصلاة الإبراهيمية) بعد الثانية، لفعل السلف، والصحيح عند الشافعية أن الصلاة على الآل لا تجب. وتجب عند الحنابلة وتكون كما في التشهد، ولا يزاد عليه. 5ً - الدعاء للميت بعد الثالثة بخصوصه؛ لأنه المقصود الأعظم من الصلاة، وما قبله مقدمة له، للحديث السابق: «إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء» وأقله: «اللهم ارحمه، واللهم اغفر له» والأكمل ما سيأتي. ولا يكفي الدعاء للمؤمنين والمؤمنات. ويجب أن يكون الدعاء بعد التكبيرة الثالثة، اتباعاً للسنة، ولا يجب بعد الرابعة. ¬
سننها
6ً - السلام بعد التكبيرات وهو في صلاة الجنازة تسليمتان كغيرها من الصلوات في كيفيته وتعدده. روى البيهقي بإسناد جيد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يفعل التسليم على الجنازة مثل التسليم في الصلاة». 7ً - القيام إن قدر عليه، كغيرها من الفرائض، ولا خلاف بين العلماء في أنه لا يجوز لأحد أن يصلي على الجنازة، وهو راكب؛ لأنه يفوت القيام الواجب. وسننها: رفع اليدين في التكبيرات حذو المنكبين، ووضعهما بعد كل تكبيرة تحت صدره عند الشافعية، وتحت سرته عند الحنابلة. وإسرار القراءة. والأصح عند الشافعية، والحنابلة: ندب التعوذ دون الافتتاح، والتأمين بعد الفاتحة. وتسوية الصف في الصلاة على الجنازة، كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلم في الصلاة على النجاشي، وأضاف الشافعية: التحميد قبل الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم، والدعاء للمؤمنين والمؤمنات بعد الصلاة على النبي، والتسليمة الثانية. وأضاف الحنابلة: ويسن وقوف المصلي مكانه حتى ترفع الجنازة، كما روي عن ابن عمر ومجاهد، ويستحب في المذهبين ثلاثة صفوف، لحديث: «من صلى عليه ثلاثة صفوف فقد أوجب» (¬1). واتفق الفقهاء على أنه تسن صلاة الجنازة جماعة، لحديث «ما من مسلم يموت فيصلي عليه ثلاثة صفوف من المسلمين إلا وجبت» (¬2) وتجوز فرادى لأن النبي صلّى الله عليه وسلم مات فصلى عليه الناس فوجاً فوجاً. كيفية الصلاة: يقرأ بعد التكبيرة الأولى الفاتحة فقط من غير سورة سراً ولو ¬
ليلاً، لفعل النبي صلّى الله عليه وسلم (¬1)، كما تقدم، ثم يصلي سراً على النبي صلّى الله عليه وسلم بعد التكبيرة الثانية، لما روى الشافعي والأثرم بإسنادهما عن أبي أمامة بن سهل أنه أخبره رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم «أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام، ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى سراً في نفسه، ثم يصلي على النبي صلّى الله عليه وسلم، ويخلص الدعاء للميت، ثم يسلم» (¬2). وتكون الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم، كما في التشهد؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم لما سألوه: «كيف نصلي عليك؟ علمهم ذلك» كما تقدم، ولا يزيد على ما في التشهد. ويدعو للميت في التكبيرة الثالثة سراً بأحسن ما يحضره، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء» ولا تحديد في الدعاء للميت، ويسن الدعاء بالمأثور، فيقول: «اللهم اغفر لحينا وميتنا ... » و «اللهم اغفر له وارحمه .. » الخ مما سبق ذكره عند الحنفية، و «اللهم هذا عبدك وابن عبدك، خرج من روح الدنيا وسعتها، ومحبوبه وأحباؤه فيها، إلى ظلمة القبر وما هو لا قيه، كان يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبدك ورسولك وأنت أعلم به، اللهم إنه نزل بك، وأنت خير منزول به، وأصبح فقيراً إلى رحمتك، وأنت غني عن عذابه، وقد جئناك راغبين إليك شفعاء له، اللهم إن كان محسناً فزد في إحسانه، وإن كان مسيئاً فتجاوز عن سيئاته، ولقه برحمتك رضاك، وقه فتنة القبر وعذابه، وافسح له قبره، وجاف الأرض عن جنبيه، ولقه برحمتك الأمن من عذابك، حتى تبعثه إلى جنتك يا أرحم الراحمين» (¬3). ¬
ويقول في الطفل: «اللهم اجعله فَرَطاَ لأبويه، وسلفاً وذخراً، وعظة واعتباراً، وشفيعاً، وثقِّل به موازينَهما، وأفرغ الصبر على قلوبهما» لأن ذلك مناسب للحال. ويقول عند الشافعية بعد التكبيرة الرابعة: «اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنَّا بعده، واغفر لنا وله» ويسن أن يطول الدعاء بعد هذه التكبيرة الرابعة، لثبوته عنه صلّى الله عليه وسلم (¬1) ويقرأ آية: {الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به .. } [غافر:7/ 40] الآية. ويقف عند الحنابلة بعد التكبيرة الرابعة قليلاً. لما روى الجوزجاني عن زيد بن أرقم أن النبي «كان يكبر أربعاً، ثم يقف ما شاء الله، فكنت أحسب هذه الوقفة لتكبير آخر الصفوف» ولا يشرع بعدها دعاء. والخلاصة: إن صلاة الجنازة تبدأ بالنية وتشتمل على أربع تكبيرات ودعاء للميت حال القيام، وصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم وفاتحة وسلام إلا أن النية شرط لا ركن عند الحنفية والحنابلة، ومحل الدعاء عند الجمهور بعد التكبيرة الثالثة، وعقب كل تكبيرة حتى الرابعة على المعتمد عند المالكية، والصلاة على النبي مسنونة عند الحنفية، مندوبة عند المالكية، ركن عند الآخرين، والسلام واجب عند الحنفية ركن عند الجمهور، وقراءة الفاتحة مكروهة تحريماً بنية التلاوة جائزة بنية الدعاء عند الحنفية، ومكروهة تنزيهاً عند المالكية وركن عند الآخرين. ولو زاد الإمام عن أربع تكبيرات لا يتابعه المقتدي في الزيادة، وإنما ينتظره ليسلم معه عند الحنفية والشافعية، ويسلم عند المالكية، ويتابعه إلى سبع تكبيرات عند الحنابلة. ¬
خامسا ـ مكان وقوف الإمام من الجنازة
خامساً ـ مكان وقوف الإمام من الجنازة: اختلف الفقهاء في تحديد مكان وقوف الإمام أمام الجنازة على آراء (¬1): فقال الحنفية: يندب أن يقوم الإمام بحذاء الصدر مطلقاً للرجل والمرأة؛ لأنه محل الإيمان، والشفاعة لأجل إيمانه، وعملاً بما روي عن ابن مسعود. وقال المالكية: يقف الإمام عند وسط الرجل، وعند منكبي المرأة. وقال الشافعية: يندب أن يقف المصلي إماماً أو منفرداً عند رأس الرجل، وعند عجز الأنثى، أي ألياها، اتباعاً للسنة، كما روى الترمذي وحسنه، وحكمة المخالفة: المبالغة في ستر الأنثى. أما المأموم فيقف في الصف حيث كان. وقال الحنابلة: يقوم الإمام عند صدر الرجل ووسط المرأة. ومنشأ الخلاف: اختلاف الآثار في ذلك: ففي حديث سمرة بن جندب قال: «صليت وراء رسول الله صلّى الله عليه وسلم على امرأة ماتت في نفاسها، فقام عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الصلاة وسطها» (¬2) وفي حديث أبي غالب الحنَّاط قال: «شهدت أنس بن مالك صلى على جنازة رجل، فقام عند رأسه، فلما رُفِعت أُتي بجنازة امرأة، فصلى عليها، فقام وسطها، وفينا العلاء بن زياد العلوي، فلما رأى اختلاف قيامه على الرجل والمرأة، قال: يا أبا حمزة: هكذا كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقوم من الرجل حيث قمتُ، ومن المرأة حيث قمتُ، قال: نعم» (¬3) وفي لفظ لأبي داود: «فقال العلاء بن زياد: هكذا كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلي على الجنازة كصلاتك يكبر عليها أربعاً، ويقوم عند رأس الرجل، وعَجيزة المرأة، قال: نعم». ¬
سادسا ـ حالة المسبوق في صلاة الجنازة
فمنهم من أخذ بحديث سمرة للاتفاق على صحته، وقال: المرأة في ذلك والرجل سواء؛ لأن الأصل أن حكمهما واحد، إلا أن يثبت في ذلك فارق شرعي. ومنهم من صحح حديث أبي غالب، وقال: فيه زيادة على حديث سمرة، فيجب المصير إليها، وليس بينهما تعارض أصلاً. سادساً ـ حالة المسبوق في صلاة الجنازة: اتفق الفقهاء على أن المسبوق يتابع الإمام فيما لحقه، ويتم ما فاته، ولكن لهم تفصيلات في كيفية الإتمام (¬1). فقال الحنفية: المسبوق ببعض التكبيرات يكبر للتحريمة ثم لا يكبر في الحال، بل ينتظر تكبير الإمام ليكبر معه للافتتاح؛ لأن كل تكبيرة ركعة، كما سبق، ثم يكبر ما فاته كالمدرك الحاضر، بعد فراغ الإمام، تكبيراً متتابعاً، بلا دعاء إن خشي رفع الميت على الأعناق. أما لو جاء المسبوق بعد تكبيرة الإمام الرابعة فقد فاتته الصلاة، لتعذر الدخول في تكبيرة الإمام. وكذلك قال المالكية: يكبر المسبوق للتحريمة، ثم يصبر وجوباً إلى أن يكبر الإمام، فإن كبر صحت صلاته، ولا يعتد بها عند أكثر المشايخ، ثم يدعو المسبوق بعذ فراغ الإمام إن تركت الجنازة، وإلا بأن رفعت والى التكبير بلا دعاء وسلم. فالمالكية كالحنفية تماماً. ¬
سابعا ـ شروط الصلاة على الميت
وقال الشافعية: يكبر المسبوق ويقرأ الفاتحة، وإن كان الإمام في تكبيرة أخرى غير الأولى، فإن كبر الإمام تكبيرة أخرى قبل شروع المأموم في الفاتحة بأن كبر عقب تكبيره، كبر معه، وسقطت القراءة، وتابعه في الأصح، كما لو ركع الإمام عقب تكبير المسبوق، فإنه يركع معه، ويتحملها عنه. وإذا سلم الإمام وجب على المسبوق تدارك باقي التكبيرات بأذكارها. وقال الحنابلة: من فاته شيء من التكبير قضاه متتابعاً، فإن سلم مع الإمام ولم يقض، فلا بأس وصحت صلاته، أي أن المسبوق بتكبير الصلاة في الجنازة يسن له قضاء ما فاته منها على صفته، عملاً بقول ابن عمر: إنه لا يقضي. ولما روي عن عائشة أنها قالت: «يا رسول الله، إني أصلي على الجنازة، ويخفى علي بعض التكبير؟ قال: ما سمعت فكبري، وما فاتك فلا قضاء عليك» (¬1). فإن خشي المسبوق رفع الجنازة، تابع بين التكبير من غير قراءة ولا صلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم ولا دعاء للميت، سواء رفعت الجنازة أم لا. ومتى رفعت الجنازة بعد الصلاة عليها لم توضع لأحد يريد أن يصلي عليها، تحقيقاً للمبادرة إلى مواراة الميت، أي يكره ذلك. سابعاً ـ شروط الصلاة على الميت: يشترط في المصلي لصحة صلاة الجنازة شروط الصلاة (¬2) من إسلام وعقل وتمييز وطهارة وستر عورة (مع أحد العاتقين عند الحنابلة) وطهارة أو اجتناب نجاسة في البدن والثوب والمكان، واستقبال القبلة، والنية، وغيرها من الشروط إلا ¬
الوقت، لأنها صلاة، فهي كغيرها من الصلوات، سوى الوقت، والجماعة فلا يشترطان فيها، أما الوقت فمطلق غير مقيد بزمن معين، وأما الجماعة فلا تشترط فيها كالمكتوبة، بل تسن لخبر مسلم: «ما من رجل مسلم يموت، فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً، إلا شفعهم الله فيه» ويسقط فرض الصلاة بواحد؛ لأن الجماعة لا تشترط فيها، ولا يسقط الفرض بالنساء، وهناك رجال، في الأصح عند الشافعية؛ لأن فيه استهانة بالميت. وإنما صلت الصحابة على النبي صلّى الله عليه وسلم فرادى (¬1) ـ كما رواه البيهقي وغيره ـ لعظم أمره، وتنافسهم في ألا يتولى الإمامة في الصلاة عليه أحد، أو لأنه لم يكن قد تعين إمام يؤم القوم، فلو تقدم واحد في الصلاة، لصار مقدماً في كل شيء وتعين للخلافة. ويشترط على المذهب عند الشافعية ألا يتقدم المصلي على الجنازة الحاضرة، ولا على القبر إذا صلي عليه، اتباعاً لفعل السلف، ولأن الميت كالإمام. ويشترط في الميت لفرضية الصلاة عليه ما يأتي (¬2): 1ً - أن يكون الميت مسلماً: ولو بطريق التبعية لأحد أبويه، أو للدار، فلا يصلى على كافر أصلاً لقوله تعالى: {ولا تصل على أحد منهم مات أبداً} [التوبة:9/ 84]، ويصلى على سائر المسلمين من أهل الكبائر والمرجوم في الزنا وغيرهم. 2َ - أن يكون جسده هو أو أكثره موجوداً، وهذا شرط عند الحنفية والمالكية. فلا يصلى على عضو. ¬
3ً - أن يكون حاضراً موضوعاً على الأرض أمام المصلي، في اتجاه القبلة: وهذا شرط عند الحنفية، فلا يصلى على غائب، محمول على نحو دابة، وموضوع خلف الإمام، ووافقهم المالكية على اشتراط كون الميت حاضراً. وأما الصلاة على النجاشي فهي خصوصية له. وأما وضع الميت أمام المصلي فمندوب عند المالكية. وتجوز الصلاة عند الشافعية والمالكية على الميت المحمول على دابة أو أيدي الناس أو أعناقهم. 4ً - أن يكون قبل الصلاة عليه معلوم الحياة: وهذا شرط عند الجمهور خلافاً للحنابلة، فلا يصلى على مولود ولا سِقْط، إلا إن علمت حياته بارتضاع أو حركة، أو يستهل صارخاً، كما سأبين. 5ً - طهارة الميت: فلا تجوز الصلاة عليه قبل الغسل أو التيمم. 6ً - ألا يكون شهيداً: وهو من مات في معترك الجهاد، وهذا شرط عند الجمهور، فلايغسل ولا يكفن، ولا يصلى عليه، ويدفن بثيابه، وينزع عنه السلاح. وقال الحنفية: يكفن الشهيد ويصلى عليه، ولا يغسل. فإن قتل المسلم في غير الجهاد ظلماً أو أخرج من المعترك حياً، ولم تنفذ مقاتله، ثم مات، غسل، وصلي عليه في المشهور عند المالكية، ولدى بقية الفقهاء. ومن قتل في المعترك في قتال المسلمين غسل وصلي عليه عند المالكية والشافعية، وقال الحنفية كما أبنت: لا يغسل ولا يصلى عليه. وقال الحنابلة: يغسل الباغي ويكفن ويصلى عليه، وأما أهل العدل فلا يغسلون ولا يكفنون ولا يصلى عليهم؛ لأنهم كالشهداء في معركة المشركين (¬1). ¬
ثامنا ـ وقت الصلاة على الجنازة
ثامناً ـ وقت الصلاة على الجنازة: سبق الكلام عن ذلك في بحث الأوقات التي تكره فيها الصلاة، وملخصه (¬1): قال الحنفية: يكره تحريماً ولا يصلى على الجنازة في الأوقات الخمسة التي ورد النهي عن الصلاة فيها، وهي عند طلوع الشمس، وغروبها، واستوائها في منتصف النهار، ومابعد صلاة الصبح حتى الطلوع، وما بعد صلاة العصر حتى الغروب. وقال المالكية والحنابلة: تحرم ولا يصلى على الجنازة في الأوقات الثلاثة التي ورد النهي عن الصلاة فيها، وهي وقت الطلوع والغروب وزوال الشمس لظاهر حديث عقبة بن عامر: «ثلاث ساعات كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيها وأن نقبر موتانا .. » الحديث. وتجوز الصلاة في الوقتين الآخرين وهما ما بعد صلاتي الصبح والعصر إلى الطلوع والغروب. وقال الشافعية: يجوز فعل صلاة الجنازة في جميع الأوقات؛ لأنها صلاة لها سبب، فجاز فعلها في كل وقت. وأرى الأخذ بمذهب الشافعية في حال الضرورة أو الحاجة، ويمتنع من الصلاة في الأحوال الأخرى، رعاية للخلاف. تاسعاً ـ الصلاة على الميت بعد الدفن وتكرار الصلاة عليه قبل الدفن: يكره عند الحنفية والمالكية تكرار الصلاة على الجنازة حيث كانت الأولى في ¬
قال الحنفية
جماعة، فإن لم تكن في جماعة أعيدت ندباً بجماعة قبل الدفن (¬1). وأجاز الشافعيةوالحنابلة تكرار الصلاة على الجنازة مرة أخرى، لمن لم يصل عليها أولاً، ولو بعد الدفن (¬2)، بل يسن ذلك عند الشافعية، فقد فعله عدد من الصحابة، وفي حديث متفق عليه عن ابن عباس قال: «انتهى النبي صلّى الله عليه وسلم إلى قبر رطب، فصفوا خلفه، وكبرأربعاً». أما الصلاة على الميت بعد الدفن: فجائزة باتفاق الفقهاء إذا لم يكن صلي عليه؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم صلى على قبر امرأة من الأنصار (¬3). ويحسن ذكر عبارات الفقهاء لمعرفة القيود الشرعية للصلاة: قال الحنفية (¬4): إن دفن الميت ولم يصل عليه، صلي على قبره، استحساناً ما لم يغلب على الظن تفسخه، والمعتبر في معرفة عدم التفسخ أكبر الرأي من غير تقدير في الأصح، لاختلاف الحال والزمان والمكان. وقال المالكية (¬5): إن كان لم يصل على الميت، أخرج للصلاة عليه مالم يفرغ من دفنه، فإن دفن صلي على القبر، ما لم يتغير. ¬
قال الشافعية
وقال الشافعية (¬1): إذا دفن الميت قبل الصلاة، صلي على القبر؛ لأن الصلاة تصل إليه في القبر. وإن دفن من غير غسل أو إلى غير القبلة، ولم يخش عليه الفساد في نبشه، نبش وغسل ووجه إلى القبلة؛ لأنه واجب مقدور على فعله، فوجب فعله. وإن خشي عليه الفساد، لم ينبش؛ لأنه تعذر فعله، فسقط كما يسقط وضوء الحي واستقبال القبلة في الصلاة إذا تعذر. وإن أدخل القبر ولم يهل التراب عليه، يخرج ويصلى عليه. وقال الحنابلة (¬2): إذا دفن الميت غير متوجه إلى القبلة، أو قبل الصلاة عليه، نبش ووجه إليها، تداركاً لذلك الواجب، وصلي عليه، ليوجد شرط الصلاة. كذلك يخرج ليكفن إن دفن قبل تكفينه. ودليلهم على الصلاة: أن النبي صلّى الله عليه وسلم ذكر رجلاً مات، فقال: «فدلوني على قبره، فأتى قبره، فصلى عليه» (¬3). لكن لا يصلى على القبر بعد شهر، لما روى سعيد بن المسيب «أن أم سعد ماتت والنبي صلّى الله عليه وسلم غائب، فلما قدم صلى عليها، وقد مضى لذلك شهر» (¬4) قال أحمد: أكثر ما سمعنا أن النبي صلّى الله عليه وسلم صلى على قبر أم سعد بن عبادة بعد شهر. ولأنها مدة يغلب على الظن بقاء الميت فيها، فجازت الصلاة عليه فيها كما قبل الثلاث، وكالغالب. وقبر النبي صلّى الله عليه وسلم لا يصلى عليه؛ لأنه لا يصلى على القبر بعد شهر (¬5). ¬
عاشرا ـ الصلاة على الغائب
عاشراً ـ الصلاة على الغائب: للفقهاء رأيان في الصلاة على الغائب عن البلد (¬1): رأي الحنفية والمالكية: عدم جواز الصلاة على الغائب، وصلاة النبي على النجاشي لغوية أو خصوصية، وتكون الصلاة حينئذ مكروهة. ورأى الشافعية والحنابلة: جواز الصلاة على الميت الغائب عن البلد، وإن قربت المسافة، ولم يكن في جهة القبلة، لكن المصلي يستقبل القبلة، لما روى جابر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم صلى على أصحمة النجاشي، فكبر عليه أربعاً» (¬2). وتتوقت الصلاة على الغائب عند الحنابلة بشهر، كالصلاة على القبر؛ لأنه لا يعلم بقاؤه من غير تلاش أكثر من ذلك. الحادي عشر ـ الصلاة على المولود: يصلى على المولود أو السقط عند الحنابلة (¬3) إذا ولد لأكثر من أربعة أشهر، ويغسل أيضاً، والسقط: الولد تضعه المرأة ميتاً، أو لغير تمام، فأما إن خرج حياً واستهل فإنه يغسل ويصلى عليه بغير خلاف. واستدلوا بقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «والسقط يصلى عليه، ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة» (¬4) وفي لفظ رواية النسائي والترمذي: «والطفل يصلى عليه» وقال ¬
أبو بكر الصديق رضي الله عنه: «ما أحد أحق أن يصلى عليه من الطفل»، ولأنه نسمة نفخ فيه الروح، فيصلي عليه كالمستهل، فإن النبي صلّى الله عليه وسلم أخبر في حديثه الصادق المصدوق أنه ينفخ فيه الروح لأربعة أشهر. وقال الجمهور (¬1): يصلى على المولود إن ظهرت عليه أمارات الحياة. وعباراتهم ما يأتي: قال الحنفية: إن استهل المولود سمي وغسل وصلي عليه، واستهلال الصبي: أن يرفع صوته بالبكاء عند الولادة، أو أن يوجد منه ما يدل على حياته بعد خروج أكثره. وإن لم يستهل غسل وسمي في الأصح المفتى به على خلاف ظاهر الرواية، ويدرج في خرقة إكراماً لبني آدم، ولم يصل عليه. ودليلهم حديث علي: أنه سمع سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول في السقط: «لا يصلى عليه حتى يستهل، فإذا استهل صلي عليه، وعُقل، وورِّث، وإن لم يستهل لم يصل عليه، ولم يورث ولم يُعقل» (¬2) أي لادية له وهي خمسون ديناراً. وقال الشافعية: السقط إن استهل أو بكى ككبير، فيغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن لتيقن موته بعد حياته. وإن لم يستهل أو لم يبك: فإن ظهرت أمارة الحياة كاختلاج صلِّي عليه في الأظهر، لاحتمال الحياة بهذه القرينة الدالة عليها وللاحتياط. وإن لم تظهر لم يصل عليه، وإن بلغ أربعة أشهر في الأظهر. ¬
الثاني عشر ـ مكان الصلاة
والسقط: هو الذي لم يبلغ تمام أشهره، أما من بلغها فيصلى عليه مطلقاً. ودليلهم حديث المغيرة بن شعبة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «السقط يصلى عليه، ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة» (¬1) وحديث «صلوا على أطفالكم فإنها من أفراطكم» (¬2). وقال المالكية: يصلى على المولود أو السقط إن علمت حياته بارتضاع أو حركة أو يستهل صارخاً. ويكره غسله والصلاة عليه إن لم يستهل صارخاً، ولو تحرك أو بال أو عطس إن لم تتحقق حياته. ويغسل دم السقط ويلف بخرقة ويوارى وجوباً فيهما، وندباً في الأول: وهو الغسل. الثاني عشر ـ مكان الصلاة: يصلى على الميت في المصلى، كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلم حينما برز للمصلى في صلاته على النجاشي. وأما الصلاة في المقبرة على الجنازة فهي ـ كما بينا في مكروهات الصلاة ـ مكروهة عند الحنفية والشافعية للنهي الوارد عن الصلاة فيها: «نهي صلّى الله عليه وسلم عن الصلاة في سبعة مواطن: في المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق، وفي الحمام، وفي معاطن الإبل، وفوق بيت الله العتيق» ولقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام» (¬3). وأجاز المالكية والحنابلة الصلاة على الجنازة في المقبرة، لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً». ¬
الصلاة على الجنازة في المسجد
واستثنى الشافعية من الكراهة مقابر الأنبياء وشهداء المعركة لأنهم أحياء في قبورهم (¬1). ويكره استقبال القبر في الصلاة لخبر مسلم: «لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها» ويحرم استقبال قبره صلّى الله عليه وسلم وقبور سائر الأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام (¬2). ورأي المالكية والحنابلة أقوى في تقديري لعدم صحة حديث النهي عن الصلاة في الأماكن السبعة. وأما الحديث الثاني فيحتمل تخصيص صلاة الجنازة منه. وأما الصلاة على الجنازة في المسجد: ففيها رأيان: الكراهة عند الحنفية والمالكية، والجواز عند الشافعية والحنابلة (¬3). أما الاتجاه الأول وهو كراهة الصلاة، سواء أكانت الجنازة في المسجد أم خارجه، فلحديث أبي هريرة: «من صلى على ميت في المسجد، فلا شيء له» (¬4)، ولأن المسجد بني لأداء المكتوبات وتوابعها كنافلة وأذكار وتدريس علم، ولأنه يحتمل تلويث المسجد، والكراهة تحريمية عند الحنفية، تنزيهية عند المالكية. وكما تكره الصلاة على الجنازة في المسجد، يكره إدخالها فيه. وأما الاتجاه الثاني: وهو إباحة الصلاة على الجنازة في المسجد، بل إنه ¬
الفرض الرابع ـ دفن الميت
يستحب ذلك عند الشافعية إن لم يخش تلويثه، فلأن المسجد أشرف، وعملاً بما ثبت في السنة عن عائشة: «والله لقد صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم على ابني بيضاء في المسجد: سهيل وأخيه» وفي رواية: «ما صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم على سهيل بن البيضاء إلا في جوف المسجد» (¬1)، وصلي على أبي بكر وعمر في المسجد» (¬2). ويظهر لي أن الاتجاه الثاني أقوى؛ لأن حديث أبي هريرة غير ثابت، أو غير متفق على ثبوته، قال النووي: إنه ضعيف لا يصح الاحتجاج به. وقال أحمد بن حنبل: حديث ضعيف تفرد به صالح مولى التوءمة، وهو ضعيف. الفرض الرابع ـ دفن الميت: وفيه بحث ما يأتي: أولاً ـ حمل الميت لغير بلد موته، ثانياً ـ حمل الجنازة، ثالثاً ـ سنن الجنازة، رابعاً ـ وجوب الدفن وندب تعجيله، خامساً ـ مكروهات الجنازة، سادساً ـ صفة القبور واحترامها والجلوس عليها والاتكاء عليها، وما يوضع على القبر من آس ونحوه، وما يكتب عليه وعلى الكفن، سابعاً ـ أحكام الدفن (كيفيته، مكانه، زمنه، ما يقال عند الدفن، التلقين بعد الدفن، ستر القبر، الدفن في تابوت)، ثامناً ـ زيارة القبور للرجال والنساء والسلام على الميت، واجتماع الأرواح. أولاً ـ حمل الميت لغير بلد موته: للفقهاء آراء ثلاثة في نقل الميت لغير بلد موته: الكراهة لغير غرض صحيح، والإباحة، والتحريم (¬3): ¬
فقال الحنابلة: السنة دفن الميت في مكان صرعه أو موته، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «تدفن الأجساد حيث تفيض الأرواح» (¬1)، وحمل الميت إلى غير بلده لغير حاجة مكروه، لما نقل عن عائشة أنه «لما مات عبد الرحمن بن أبي بكر بالحبَش ـ وهو مكان بينه وبين المدينة اثنا عشر ميلاً ـ ونقل إلى مكة، أتت قبره، وقالت: والله لو حضرتك مادفنتك إلا حيث مت، ولو شهدتك ما زرتك» (¬2) وهو محمول على أنها لم تر غرضاً في نقله، وأنه تأذى به. فإن كان النقل لغرض صحيح فلا كراهة، لما في الموطأ عن مالك أنه سمع غير واحد يقول: «إن سعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد ماتا بالعقيق، فحملا إلى المدينة، ودفنا بها» وقال سفيان بن عيينة: مات ابن عمر ههنا، وأوصى أن لا يدفن ههنا، وأن يدفن بسَرَف (¬3). وقال الحنفية والمالكية: لا بأس بنقل الميت من بلد إلى آخر إن كان لم يدفن، والنقل عند الحنفية جائز قدر ميل أو ميلين، لكن يندب دفنه في جهة موته، أي في مقابر أهل المكان الذي مات فيه أو قتل، للحديث السابق أنه صلّى الله عليه وسلم أمر بدفن قتلى أُحد في مضاجعهم، مع أن مقبرة المدينة قريبة، ودفنت الصحابة الذين فتحوا دمشق عند أبوابها، ولم يدفنوا كلهم في محل واحد. وقال الشافعية: يحرم نقل الميت قبل دفنه إلى بلد آخر، ليدفن فيه، وإن لم يتغير، لما فيه من تأخير دفنه، ومن التعريض لهتك حرمته. ¬
ثانيا ـ حمل الجنازة وكيفيته
ثانياً ـ حمل الجنازة وكيفيته: حمل الجنازة فرض كفاية بلا خلاف، وهو بر وطاعة وإكرام للميت. وقال الشافعية: لا بأس باتباع المسلم جنازة قريبه الكافر، لأنه عليه الصلاة والسلام ـ فيما رواه أبو داود ـ أمر علياً رضي الله عنه أن يواري أبا طالب. وقالوا أيضاً: يحرم حمل الجنازة على هيئة مزرية كحمله في قفة أو غِرارة (جوالق) ونحو ذلك، ويحمل على سرير أو لوح أو محمل، ولا خلاف في أنه لا يحمل الجنازة إلا الرجال، سواء أكان الميت ذكراً أم أنثى؛ لأن النساء يضعفن عن الحمل، وربما انكشف منهن شيء لو حملن. وللفقهاء آراء ثلاثة في كيفية حمل الميت: التربيع عند الحنفية والحنابلة، وما بين العمودين عند الشافعية، وعدم ترتيب وضع معين على المشهور عند المالكية (¬1). أما الحنفية والحنابلة فقالوا: يوضع الميت على النعش بعد أن يغسل ويكفن، مستلقياً على ظهره؛ لأنه أمكن، ويسن أن يحمله أربع؛ لأنه يسن التربيع في حمله، والتربيع أفضل من الحمل بين العمودين، لحديث أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه، قال: «من اتبع جنازة فليحمل بجوانب السرير كلها، فإنها من السنة، ثم إن شاء فليطَّوَعْ، وإن شاء فليدع» (¬2). ¬
وصفة التربيع: أن يضع النعش اليسرى على كتفه اليمنى، ثم ينتقل إلى قائمة السرير المؤخرة، فيضعها على كتفه اليمنى أيضاً، ثم يدعها لغيره، ثم يضع قائمته اليمنى على كتفه اليسرى، ثم يدعها لغيره، وينتقل إلى قائمة السرير اليمنى، فيضعها على كتفه اليسرى. فتكون البداءة من الجانبين بالرأس، والختام من الجانبين بالرجلين، لما فيها من الموافقة لكيفية غسله. ويمشي في كل مرة عشر خطوات، لحديث: «من حمل جنازة أربعين خطوة، كفرت عنه أربعين كبيرة» (¬1). وإن حمل الميت بين العمودين وهما القائمتان، كل عمود على عاتق رجل كره عند الحنفية، وكان حسناً، ولم يكره عند الحنابلة، لرواية ابن منصور، ولأنه صلّى الله عليه وسلم «حمل جنازة سعد بن معاذ بين العمودين» (¬2)، وروي عن عثمان وابن الزبير وابن عمر وأبي هريرة «أنهم فعلوا ذلك» (¬3). وقال الشافعية: الحمل بين العمودين أفضل من التربيع، وهو أن يجعل الحامل رأسه بين عمودي مقدمة النعش، ويجعلهما على كاهله. ويجوز الحمل من الجوانب الأربعة، لكن الأول أفضل؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم حمل جنازة سعد بن معاذ بين العمودين، ولفعل الصحابة المذكورين. وقال المالكية: ليس في حمل الجنازة ترتيب معين على المشهور، فيجوز البدء في حمل السرير بأي ناحية بلا تعيين، قال خليل: والمعين مبتدع؛ لأنه عين ما لا أصل له في الشرع، ويجوز أن يحمل النعش اثنان أو ثلاثة أو أربعة. ¬
ثالثا ـ سنن تشييع الجنازة
ثالثاً ـ سنن تشييع الجنازة: يسن في حمل الجنازة ما يأتي: 1 - الإسراع بالجنازة: يستحب الإسراع بالجنازة (أي فوق المشي المعتاد، ودون الخَبَب ـ أي العَدْو السريع ـ لكراهته) بحيث لا يضطرب الميت على الجنازة، لما روى أبو هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أسرعوا بالجنازة، فإن تكن صالحة فخير تقدمونها، وإن تكن سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم» (¬1)، وكراهة الخبب لما روى عبد الله بن مسعود، قال: «سألنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن السير بالجنازة، فقال: دون الخبب، فإن يكن خيراً يعجل إليه، وإن يكن شراً، فبعداً لأصحاب النار» (¬2). واستحباب الإسراع باتفاق العلماء إلا أن يخاف من الإسراع انفجار الميت أو تغيره ونحوه، فيتأنى (¬3). 2 - اتباع الجنازة: يستحب اتباع الجنازة اتفاقاً (¬4)، لما روى البراء قال: «أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم باتباع الجنازة، وعيادة المريض، وتشميت العاطس، وإجابة الداعي، ونصر المظلوم» (¬5). واتباع الجنازة سنة للرجال، كما في الحديث المتقدم، مكروه للنساء، لما رواه البخاري ومسلم عن أم عطية رضي الله عنها قالت: «نهينا عن اتباع الجنائز ولم يُعزَم علينا» أي لم يشدد علينا في النهي، ولم يحرم علينا ¬
3 - الخشوع والتفكر بالموت
الاتباع. وروى ابن ماجه عن علي رضي الله عنه قال: «خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإذا نسوة جلوس، فقال: ما يجلسكن؟ قلن: ننتظر الجنازة، قال: هل تغَسِّلن؟ قلن: لا، قال: هل تَحمِلْنَ؟ قلن: لا، قال: هل تُدْلينَ فيمن يُدْلي؟ أي هل تنزلن الميت في القبر ـ قلن: لا، قال: فارجِعْن مأزورات غير مأجورات» أي عليكن الإثم، ولا أجر لكنّ. ويتطلب اتباع الجنازة أموراً ثلاثة: أـ أن يصلي عليها: قال زيد بن ثابت: إذا صليت فقد قضيت الذي عليك. ب ـ أن يتبعها إلى القبر، ثم يقف حتى تدفن، لحديث أبي هريرة: «من تبع جنازة فصلى عليها فله قيراط، وإن شهد دفنها فله قيراطان، القيراط مثل أحد» (¬1). جـ ـ أن يقف بعد الدفن، فيستغفر له، ويسأل الله له التثبيت، ويدعو له بالرحمة، فإنه روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه كان إذا دفن ميتاً، وقف، وقال: «استغفروا له، واسألوا الله له التثبيت، فإنه الآن يسأل» (¬2) وروي عن ابن عمر أنه كان يقرأ عنده بعد الدفن أول البقرة وخاتمتها. وروى مسلم عن عمرو بن العاص أنه قال: «إذا دفنتموني، فأقيموا بعد ذلك حول قبري ساعة قدر ما تنحر جزور، ويفرّق لحمها حتى أستأنس بكم، وأعلم ماذا أراجع رسل ربي». 3 - الخشوع والتفكر بالموت: يستحب لمتبع الجنازة (¬3) أن يكون متخشعاً، متفكراً في مآله، متعظاً بالموت، وبما يصير إليه الميت، ولا يتحدث بأحاديث ¬
4 - ستر نعش المرأة
الدنيا، ولا يضحك. قال سعد بن معاذ: «ما تبعت جنازة فحدثت نفسي بغير ما هو مفعول بها» ورأى بعض السلف رجلاً يضحك في جنازة، فقال: أتضحك وأنت تتبع الجنازة؟ لا كلمتك أبداً. 4 - ستر نعش المرأة: يندب عند المالكية والشافعية والحنابلة (¬1) ستر نعش المرأة بقُبَّة تجعل فوق ظهر النعش، تعمل من خشب أو جريد نخل أو قصب، لأنه أبلغ في الستر، قال بعضهم: أول من اتخذ له ذلك زينب بنت جحش أم المؤمنين، وقال ابن عبد البر: فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم أول من غُطِّي نعشها في الإسلام، ثم زينب بنت جحش. 5 - المشي أمام الجنازة: يسن عند فقهاء الحديث (مالك والشافعي وأحمد) (¬2) المشي أمام الجنازة، وبقربها بحيث يراها إن التفت لأنه إذا بعد لم يكن معها، والمشي أمامها، لما روى ابن عمر: «أنه رأى النبي صلّى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر يمشون أمام الجنازة» (¬3) ولأن المشيع شفيع للميت، والشفيع يتقدم على المشفوع له. وأضاف الحنابلة: ولا يكره كون المشاة خلف الجنازة؛ لأنها متبوعة، ولا أن يمشوا حيث شاؤوا عن يمينها أو يسارها بحيث يعدّون تابعين لها. وذكر المالكية على المشهور: أن الراكب يسير خلف الجنازة. وقال فقهاء الرأي منهم الحنفية (¬4): يندب المشي خلف الجنازة؛ لأنها ¬
6 - القيام للجنازة
متبوعة (¬1)، إلا أن يكون خلفها نساء فالمشي أمامها حسن، ولو مشى أمامها جاز، وفيه فضيلة أيضاً، لكن إن تباعد عنها أو تقدم الكل أو ركب أمامها، أو فيها كره. ودليلهم حديث ابن مسعود المتقدم: «سألنا النبي صلّى الله عليه وسلم عن المشي خلف الجنازة، فقال: ما دون الخبب» فقرر قولهم: خلف الجنازة، ولم ينكره، وحديث طاوس أنه قال: «ما مشى رسول اصلّى الله عليه وسلم حتى مات خلف الجنازة» (¬2). ويظهر أن كلاً من المشي أمام الجنازة أو خلفها جائز، لحديث المغيرة بن شعبة: عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «الراكب خلف الجنازة، والماشي أمامها قريباً منها عن يمينها أو عن يسارها، والسِقْط يُصلَّى عليه، ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة» (¬3). 6 - القيام للجنازة: قال النووي وجماعة: يخير المسلم بين القيام والقعود (¬4)، روى ابن عمر عن عامر بن ربيعة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتم الجنازة، فقوموا لها حتى يُخلّفكَم أو توضع» (¬5). وقال الجمهور منهم أئمة المذاهب الأربعة (¬6): لا يقام للجنازة؛ لأن القيام منسوخ، بدليل قول علي رضي الله عنه: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمرنا بالقيام في الجنازة، ثم جلس بعد ذلك، وأمرنا بالجلوس» (¬7) وسبب القعود مخالفة اليهود، ¬
7 - عدم جلوس المشيعين حتى توضع الجنازة
قال عبادة بن الصامت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقوم في الجنازة حتى توضع في اللحد، فمر حَبْر (عالم) من اليهود، فقال: هكذا نفعل، فجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقال: اجلسوا خالفوهم» (¬1)، وصرح المالكية بكراهة القيام للجنازة؛ لأنه ليس من عمل السلف. 7 - عدم جلوس المشيعين حتى توضع الجنازة: المستحب لمن يتبع الجنازة ألا يجلس حتى توضع عن أعناق الرجال؛ لأنه قد تقع الحاجة إلى التعاون، والقيام أمكن منه (¬2)، ولحديث: «إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها، فمن اتَّبعها فلا يجلس حتى توضع» (¬3) أي في الأرض، كما في رواية أبي داود. ولا مانع ولا كراهة من تشييع المسلم جنازة قريبه الكافر. رابعاً ـ مكروهات الجنازة: ذكر الفقهاء طائفة من مكروهات الجنازة، أهمها ما يأتي (¬4): 1 - تأخير الصلاة والدفن، لزيادة المصلين أو ليصلي عليه جمع عظيم بعد صلاة الجمعة، إلا إذا خيف فوتها بسبب دفنه، للخبر الصحيح: «أسرعوا بالجنازة» ولا بأس بانتظار الولي عن قرب ما لم يخش تغير الميت، وقال المالكية: ويكره ¬
للمشيعين الانصراف عن الجنازة بلا صلاة عليها ولو بإذن أهلها، والانصراف بعد الصلاة بلا إذن من أهلها إن لم يطولوا، فإن أذنوا أو طولوا جاز الانصراف. 2 - الجلوس قبل وضع الجنازة على الأرض، والقيام بعده. ولايقوم أحد في المصلى إذا رأى الجنازة، ولا من مرت عليه، كما بينت في البحث السابق. 3 - الركوب: السنة ألا يركب؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «ما ركب في عيد، ولاجنازة» (¬1) وقال ثوبان: «خرجنا مع النبي صلّى الله عليه وسلم في جنازة، فرأى ناساً رُكباناً، فقال: ألا تستحيون، إن ملائكة الله على أقدامهم، وأنتم على ظهور الدواب» (¬2). أما الركوب في الرجوع فلا بأس به، لحديث جابر بن سمرة أن «النبي صلّى الله عليه وسلم أُتي بفرس مُعْرَوْر (أي عريان)، فركبه حين انصرفنا من جنازة ابن الدحداح، ونحن نمشي حوله» (¬3). 4 - اللَّغَط أي رفع الصوت بذكر أو قراءة والصياح خلف الجنازة، كقول: «استغفروا لها» ونحوه، لما روى البيهقي أن الصحابة كرهوا رفع الصوت عند الجنائز عند القتال وعند الذكر، وسمع ابن عمر قائلاً يقول: «استغفروا له غفر الله لكم، فقال: لا غفر الله لك» (¬4) وكره الحسن وغيره قولهم: «استغفروا لأخيكم». والصواب ما كان عليه السلف من السكوت في حال السير مع الجنازة والاشتغال بالتفكر في الموت وما يتعلق به، كما أبنت. وما يفعله جهلة القراء بالتمطيط وإخراج الكلام عن موضوعه، فحرام يجب إنكاره. ¬
5 - اتباع الجنازة بنار في مجمرة بخور أو غيرها، لما فيه من التشاؤم القبيح بأنه من أهل النار، ولخبر أبي داود: «لا تتبع الجنازة بصوت ولا نار». ويكره أيضاً اتباعها بنائحة وتزجر، لما روى عمرو بن العاص قال: «إذا أنا مت، فلا تصحبني نار ولا نائحة» (¬1) وعن أبي موسى رضي الله عنه أنه وصى: لاتتبعوني بصارخة ولا بمجمرة، ولا تجعلوا بيني وبين الأرض شيئاً (¬2). ويكره اجتماع نساء لبكاء سراً، ومنع جهراً، كالقول القبيح مطلقاً. 6 - اتباع النساء الجنائز، الكراهةعند الجمهور تنزيهية، لما روي عن أم عطية قالت: «نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا» (¬3) أي أنه نهي تنزيه، وعند الحنفية الكراهة تحريمية، لحديث «ارجعن مأزورات غير مأجورات» (¬4) ويعضده المعنى الحادث باختلاف الزمان الذي أشارت إليه عائشة بقولها: «لو أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم رأى ما أحدث النساء بعده، لمنعهن كما منعت نساء بني إسرائيل». وأجاز المالكية خروج امرأة متجالَّة: عجوز لا أرب للرجل فيها، أو شابة لم يخش فتنتها في جنازة من عظُمت مصيبته عليها كأب وأم وزوج وابن وبنت وأخ وأخت. وحرم على مخشيَّة الفتنة مطلقاً. وخروج الزوجة المتجالة وغير مخشية الفتنة مستثنى من أحكام العدة والإحداد. 7 - قال المالكية: يكره تكبير نعش لميت صغير، لما فيه من المباهاة والنفاق، ويكره فرش النعش بحرير أو خز، أي منسوج من الصوف والحرير. ¬
خامسا ـ حكم الدفن وتعجيله
8 - قال الحنابلة: مس الجنازة بالأيدي والأكمام والمناديل محدث مكروه، وقد منع العلماء مس القبر، فمس الجسد مع خوف الأذى أولى بالمنع. ويكره تقليد غير المسلمين في حمل أكاليل الورد لما فيه من إتلاف المال والمفاخرة والمباهاة. خامساً ـ حكم الدفن وتعجيله: أجمع الفقهاء على أن دفن الميت فرض على الكفاية (¬1)؛ لأن في تركه على وجه الأرض هتكاً لحرمته، ويتأذى الناس من رائحته، والأصل فيه قوله تعالى: {ألم نجعل الأرض كفاتاً، أحياء وأمواتاً} [المرسلات:77/ 25 - 26] والكفت: الجمع، وقوله سبحانه في دفن هابيل: {فبعث الله غراباً يبحث في الأرض، ليريه كيف يواري سوأة أخيه} [المائدة:5/ 31]، وقوله: {ثم أماته فأقبره} [عبس:21/ 80] 0 والأفضل أن يعجل بتجهيز الميت ودفنه من حين موته، للحديث المتقدم: «أسرعوا بالجنازة، فإن كانت صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن كانت غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم» واستثنى المالكية الغريق فإنه يستحب عندهم تأخير دفنه مخافة بقاء حياته. والدفن في المقبرة أفضل؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يدفن الموتى بالبقيع (¬2)، ولأنه يكثر الدعاء له ممن يزوره، ولأنه أقل ضرراً على الأحياء من ورثته، وأشبه بمساكن الآخرة (¬3). ¬
الدفن في البيوت
الدفن في البيوت: يجوز ولا يحرم الدفن في البيت؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم دفن في حجرة عائشة رضي الله عنها (¬1). لكن الدفن في البيوت لغير النبي ولو للسقط مكروه، لاختصاصه بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام. ويكره الدفن في القباب ونحوها من البيوت المعقودة لجماعة، لمخالفته السنة. الدفن في البقاع الشريفة: يستحب الدفن في أفضل مقبرة: وهي التي يكثر فيها الصالحون والشهداء لتناله بركتهم، وكذلك في البقاع الشريفة، روى البخاري ومسلم أن موسى عليه السلام لما حضره الموت، سأل الله تعالى أن يدنيه إلى الأرض المقدسة رمية بحجر، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «لو كنتم ثَمَّ لأريتكم قبره عند الكثيب الأحمر»، ولأن عمر رضي الله عنه استأذن عائشة رضي الله عنها أن يدفن مع صاحبيه (¬2): أي النبي صلّى الله عليه وسلم وأبي بكر. جمع الأقارب في موضع واحد: يستحب أن يجمع الأقارب في موضع واحد، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «ترك عند رأس عثمان بن مظعون صخرة، وقال: أتعلم بها قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي» (¬3)، ولأن ذلك أسهل لزيارتهم، وأكثر للترحم عليهم. ¬
سادسا ـ صفة القبور واحترامها
سادساً ـ صفة القبور واحترامها: للقبور صفات مستمدة من السنة النبوية ومما تقتضيه الحاجة وهي ما يلي (¬1): 1ً - أقل القبر حفرة تمنع الرائحة والسبع عن نبش تلك الحفرة لأكل الميت؛ لأن الحكمة في وجوب الدفن عدم انتهاك حرمته بانتشار رائحته، واستقذار جيفته وأكل السباع له. 2ً - ويندب عند الجمهور غير المالكية أن يوسع طولاً وعرضاً ويعمَّق بأن يزاد في نزوله، لقوله صلّى الله عليه وسلم في قتلى أحد: «احفروا وأوسعوا وأعمقوا» (¬2)، ولأن تعميق القبر أنفى لظهور الرائحة التي تستضر بها الأحياء، وأبعد لقدرة الوحش على نبشه، وآكد لستر الميت، وروى البيهقي أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لحفار: «أوسع من قبل الرأس، ومن قبل الرجلين». والتعميق عند الشافعية وأكثر الحنابلة: قدر قامة وبسطة من رجل معتدل، يأن يقوم باسطاً يديه مرفوعتين؛ لأن عمر رضي الله عنه وصى بذلك، ولم ينكر عليه أحد، وهما أربعة أذرع ونصف. وقال أحمد رحمه الله: يعمق القبر إلى الصدر، الرجل والمرأة في ذلك سواء. وعند الحنفية: مقدار نصف قامة، أو إلى حد الصدر، وإن زاد مقدار قامة فهو أحسن. فالأدنى نصف القامة، والأعلى القامة. وطوله: على قدر طول الميت، وعرضه: على قدر نصف طوله. ¬
وقال المالكية: وندب عدم تعميق القبر جداً، بل قدر الذراع فقط إذا كان لحداً. 3ً - واللَّحْد باتفاق الفقهاء أفضل من الشَّق: والمراد باللحد: أن يحفر في جانب القبر القبلي مكان يوضع فيه الميت بقدر ما يسعه ويستره. أما الشق: فهو أن يحفر قعر القبر كالنهر، أو يبنى جانباه بلبن أو غيره غير ما مسته النار، ويجعل بينهما شق يوضع فيه الميت، ويسقف عليه ببلاط أو حجارة أو لبن أو خشب ونحوها، ويرفع السقف قليلاً بحيث لا يمس الميت. ويكره الشق عند الحنابلة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «اللحد لنا والشق لغيرنا» (¬1). وفصل الحنفية والمالكية والشافعية فقالوا: إن اللحد أفضل إن كانت الأرض صلبة، لقول سعد بن أبي وقاص في مرض موته: «الحدوا لي لحداً، وانصبوا على اللبِن نصباً، كما فعل برسول الله صلّى الله عليه وسلم» (¬2). فإن كانت الأرض رخوة فالشق أفضل خشية الانهيار. ويجب عند الشافعية والحنابلة ويندب عند المالكية والحنفية أن يوضع الميت في القبر مستقبل القبلة، ويسند وجهه إلى جدار القبر ويسند ظهره بلبنة ونحوها ليمنعه من الاستلقاء على قفاه، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «قبلتكم أحياء وأمواتاً» ولأن ذلك طريقة المسلمين، بنقل الخلف عن السلف، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم هكذا دفن. ويسن - كما سأبين - أن يسلَّ الميت من قبل رأسه، بعد أن يوضع عند أسفل القبر، ويمدد برفق في القبر. ويسن أن ينزله في القبر أقرب الناس إليه من الذكور، وأن يقول الذي يلحده: «بسم الله وعلى سنة رسول الله» اتباعاً لأمر الرسول صلّى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود والترمذي عن ابن عمر. ¬
ويوضع اللبِن (الطوب النيء) على اللحد، بأن يسد من جهة القبر، ويقام اللبن فيه، اتقاءً لوجهه، عن التراب، لقول سعد: «وانصبوا علي اللبن نصباً». ويكره الآجُرّ (الطوب المُحرَق) والخشب؛ لأنهما لإحكام البناء، وهو لا يليق بالميت؛ لأن القبر موضع اللبِن. ولا بأس بالقصب مع اللبِن. ثم يهال التراب على القبر، سَتْراً له وصيانة. 4ً - يسن لكل من حضر عند القبر أن يحثو التراب في القبر من قبل رأسه أو غيره ثلاث حَثَيات باليد، قبل إهالة التراب عليه، لحديث أبي هريرة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم صلى على جنازة، ثم أتى قبر الميت، فحثى عليه من قبل رأسه ثلاثاً» (¬1)، وعن عامر بن ربيعة أن النبي صلّى الله عليه وسلم «صلى على عثمان بن مظعون، فكبر عليه أربعاً، وأتى القبر، فحثى عليه ثلاث حثيات، وهو قائم عند رأسه» (¬2)، ولأن مواراته فرض كفاية، وبالحثي يصير ممن شارك فيها، وفي ذلك أقوى عبرة وتذكار، فاستحب لذلك. 5ً - يرفع القبر قدر شبر فقط، ليعرف أنه قبر، فيتوقى، ويترحم على صاحبه، ولأن قبره صلّى الله عليه وسلم رفع نحو شبر (¬3)، وروى الشافعي عن جابر «أن النبي صلّى الله عليه وسلم رفع قبره عن الأرض قدر شبر» وعن القاسم بن محمد قال: «قلت لعائشة: يا أماه، اكشفي لي عن قبر النبي صلّى الله عليه وسلم وصاحبيه، فكشفت لي عن ثلاثة قبور، لا مشرفة ولا لاطئة، مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء» (¬4). 6ً - تسنيم القبر عند الجمهور أفضل من تسطيحه أي تربيعه، لقول سفيان ¬
التَّمار: «رأيت قبر النبي صلّى الله عليه وسلم مسنماً» (¬1) وكذلك قبور الصحابة من بعده، ولأن التسطيح أشبه بأبنية أهل الدنيا، واستثنى الحنابلة دار الحرب إذا تعذر نقل الميت، فالأولى تسوية القبر بالأرض وإخفاؤه، خوفاً من أن ينبش، فيمثل به. وقال الشافعية: الصحيح أن تسطيح القبر أولى من تسنيمه، كما فعل بقبره صلّى الله عليه وسلم وقبري صاحبيه رضي الله تعالى عنهما (¬2). 7ً - يكره تجصيص القبر والبناء، والكتابة عليه والمبيت عنده، واتخاذ مسجد عليه، وتقبيله والطواف به وتبخيره، والاستشفاء بالتربةمن الأسقام، وكذا يكره التطيين عند الحنفية والمالكية. أما التجصيص: أي التبييض أي الطلاء بالجص وهوا لجبس، ومثله تزويقه ونقشه، والبناءعليه كقبة أو بيت، فمكروه للنهي عنهما في صحيح مسلم الآتي. وإن كان البناء على القبر للمباهاة أو في أرض مسبلة (مخصصة للدفن بحسب العادة) أو موقوفة، فيحرم ويهدم، لأنه في حالة المباهاة من الإعجاب والكبر المنهي عنهما، وفي الموقوفة والمسبلة، فلما في ذلك من التضييق والتحجير على الناس. وذكر ابن عبد الحكم تلميذ مالك أنه لا تنفذ وصية من أوصى بالبناء على قبره، أي بناء بيوت، وعليه يجب هدم ما بني على القبور من القباب والسقائف والروضات. لكن لا بأس عند اللخمي من المالكية ببناء حاجز بين القبور ليعرف به. وقيل عند الحنفية: لابأس بتطيين القبر، واليوم اعتاد الناس التسنيم باللبن ¬
صيانة للقبر عن النبش، ورأوا ذلك حسناً، وفي الأثر: «ما رآه المسلمون حسناً فهوعند الله حسن». ولا بأس عند الحنابلة أيضاً من تطيين القبر. وكره أحمد الفسطاط والخيمة على القبر، عملاً بوصية أبي هريرة كما روى أحمد في مسنده، وبأمر ابن عمر بنزع فسطاط على قبر عبد الرحمن. وأما الكتابة على القبر فمكروهة عند الجمهور، سواء اسم صاحبه أوغيره، عند رأسه أم في غيره، أو كتابة الرقاع إليه ودسها في الأنقاب، وتحرم عند المالكية كتابة القرآن على القبر، ودليلهم: ما روى جابر: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن تجصيص القبور، وأن يكتب عليها، وأن يبنى عليها» (¬1). وقال الحنفية: لا بأس بالكتابة على القبر إن احتيج إليها حتى لا يذهب الأثر ولا يمتهن؛ لأن النهي عنها وإن صح، فقد وجد الإجماع العملي بها (¬2)، فقد أخرج الحاكم النهي عنها من طرق، ثم قال: هذه الأسانيد صحيحة، وليس العمل عليها، فإن أئمة المسلمين من المشرق إلى المغرب مكتوب على قبورهم، وهو عمل أخذ به الخلف عن السلف، ويتقوى بما أخرجه أبو داود بإسناد جيد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم «حمل حجراً، فوضعها عند رأس عثمان بن مظعون، وقال: أتعلم بها قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي»، فإن الكتابة طريق تعرف القبر بها. ويباح عندهم أيضاً أن يكتب على الكفن «بسم الله الرحمن الرحيم» أو «يرجى أن يغفر الله للميت». والخلاصة: إن النهي عن الكتابة محمول على عدم الحاجة،، وأن الكتابة بغير عذر، أو كتابة شيء من القرآن أو الشعر أو إطراء مدح له ونحو ذلك فهو مكروه. ¬
وأما اتخاذ المساجد على القبور فهو مكروه، حرام عند بعض المحدثين والحنابلة لقوله صلّى الله عليه وسلم: «قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (¬1) ظاهره أنهم كانوا يجعلونها مساجد يصلون فيها، لكن ذكر ابن القاسم تلميذ مالك أنه لابأ س بالمسجد على القبور العافية (المندرسة) ويكره على غير العافية. وتكره أيضاً الصلاة إلى القبر، لحديث «لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها» (¬2). وأما التقبيل والاستشفاء بالتربة ونحوه فلأن ذلك كله من البدع، لكن لا بأس كما ذكر الشافعية على الصحيح من تطييب القبر. 8ً - يوضع على القبر حصى، وعند رأسه حجر أو خشبة: أما وضع الحصى فلما رواه الشافعي مرسلاً «أنه وضعه على قبر ابنه إبراهيم» وروي أنه رأى على قبره فرجة فأمر بها فسدت، وقال: «إنها لا تضر ولا تنفع، وإن العبد إذا عمل شيئاً، أحب الله منه أن يتقنه». وأما وضع الحجر ونحوه لتعليم القبر، فللحديث المتقدم: «أنه صلّى الله عليه وسلم وضع عند رأس عثمان بن مظعون صخرة، وقال: أتعلم بها قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي». 9ً - لا يجوز اتخاذ السرج على القبور، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «لعن الله زوارات القبور، والمتخذين عليها السرج» (¬3). ¬
احترام القبور
احترام القبور: أما احترام القبور فهو أمر مقرر في السنة ولدى جميع الفقهاء (¬1)، ومظاهر الاحترام ما يأتي: 1 - يكره الجلوس على القبر، والمشي عليه، والنوم وقضاء الحاجة من بول أوغائط، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها» (¬2)، وقوله: «لأن يجلس أحدكم على جمرة، فتخلص إلى جلده، خير له من أن يجلس على قبر» (¬3)، والكراهة عند الحنفية تحريمية إذا كان الجلوس لقضاء الحاجة، تنزيهية لغير ذلك، إلا أنهم قالوا على المختار: لا يكره الجلوس على القبر للقراءة، لتأدية القراءة بالسكينة والتدبر والاتعاظ، ولم يجز الشافعية والحنابلة الجلوس إلا لضرورة، وجعلوا الاتكاء أو الاستناد إلى القبر مكروهاً كالجلوس. وأما المالكية فقالوا: يكره المشي على القبر بشرطين: إن كان مسنماً أو مسطباً، والحال أن الطريق بجانبه، فإن زال تسنيمه أو لم تكن هناك طريق، جاز المشي عليه. أما الجلوس على القبر لغير بول أو غائط فيجوز، وحملوا حديث النهي عن الجلوس على المقابر على التخلي (قضاء الحاجة). وعن علي كرم الله وجهه أنه كان يجلس على المقابر ويتوسدها. 2 - يحرم نبش القبر ما دام يظن فيه شيء من عظام الميت فيه: فلا تنبش عظام الموتى عند حفر القبور، ولا تزال عن موضعها، ويتقى كسر عظامها، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «كسر عظم الميت ككسر عظم الحي في الإثم» أو «كسر عظم الميت ككسره ¬
حياً» (¬1) ويستثنى من ذلك حالات تقتضيها الضرورة أو الحاجة والغرض الصحيح وأهمها ما يأتي (¬2): أـ إذا دفن من غير كفن أو غير غسل أو إلى غير القبلة، ولم يتغير حاله أو لم يخش عليه الفساد في نبش وكفن وغسل ووجه إلى القبلة؛ لأنه واجب مقدور على فعله، فوجب عليه، وروى سعيد في سننه أن رجالاً قبروا صاحباً لهم، لم يغسلوه ولم يجدوا له كفناً، ثم لقوا معاذ بن جبل، فأمرهم أن يخرجوه فأخرجوه من قبره، ثم غسِّل وكفِّن، وحُنِّط، ثم صلي عليه (¬3). ولم يجز الشافعية في الأصح نبش القبر لتكفين الميت؛ لأن المقصود حصل وهو ستره بالتراب. فإن خشي عليه الفساد أو التغير، لم ينبش؛ لأنه تعذر فعله، فسقط كما يسقط وضوء الحي واستقبال القبلة في الصلاة إذا تعذر. أما الصلاة على الميت إذا دفن قبلها، فتصلى على القبر؛ لأنها تصل إليه في القبر. وينبش عند المالكية، وعند الحنابلة، ويصلى عليه في رواية عن أحمد، ولاينبش عند الحنفية لوضعه لغير القبلة أوعلى يساره، وينبش لغير ذلك مما سيأتي. ¬
ب ـ إذا كان الكفن مغصوباً وأبى صاحبه أن يأخذ القيمة، أو كانت الأرض مغصوبة، ولم يرض مالكها ببقائه. جـ ـ لضيق المسجد الجامع، أو دفن معه آخر عند الضيق. وإذا نبش للدفن أو اتخاذ مسجد محل القبر جاز، ولا يجوز عند المالكية للزرع والبناء، وأجاز الحنفية الزرع والبناء في محل قبر إذا بلي وصار تراباً. د ـ إذا دفن معه مال من حلي أوغيره، أو وقع في القبر مال لآدمي قليل أو كثير، وطالب به صاحبه، لما روي أن المغيرة بن شعبة طرح خاتمه في قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: خاتمي، ففتح موضعاً فيه، فأخذه (¬1). ولم يجز المالكية نبش القبر لمال قليل للميت، أو إذا تغير الميت، ويعطى صاحبه مثله أو قيمته من التركة (المثل في المثلي، والقيمة في القيمي). هـ ـ إذا بلع الشخص جوهرة لغيره، ومات وطالب صاحبها، شق جوفه، وردت الجوهرة. فإن كانت الجوهرة للميت شق أيضاً عند الحنفية وسحنون المالكي وفي الأصح عند الشافعية، ولم يشق عند أحمد وابن حبيب المالكي وفي وجه آخر عند الشافعية. شق بطن الحامل: وـ إذا ماتت الحبلى، وفي بطنها جنين حي يضطرب، شق جوفها عند أكثر الفقهاء؛ لأنه استبقاء حي، بإتلاف جزء من الميت، فأشبه إذا اضطر إلى أكل الميت. ¬
3 - نقل الميت بعد الدفن
والمذهب عند الحنابلة: أنه لا يشق بطن الميتة لإخراج ولدها، مسلمة كانت أو ذمية، وتخرجه القوابل إن علمت حياته بحركة. 3 - نقل الميت بعد الدفن: للفقهاء رأيان: رأي المالكية والحنابلة بالجواز لمصلحة، ورأي الشافعية بعدم الجواز إلا لضرورة، وعدم الجواز مطلقاً عند الحنفية، على التفصيل الآتي (¬1): قال المالكية: يجوز نقل الميت من مكان إلى آخر، أو من بلد إلى آخر، أو من حضر لبدو، بشرط ألا ينفجر حال نقله، وألا تنتهك حرمته، وأن يكون لمصلحة كأن يخاف عليه أن يأكله البحر أو السبع، أو ترجى بركة الموضع المنقول إليه، أو ليدفن بين أهله، أو لأجل قرب زيارة أهله. وقال الحنابلة: يجوز نقل الميت لغرض صحيح كدفنه في بقعةخير من بقعته التي دفن فيها، ولمجاورة صالح لتعود عليه بركته، إلا الشهيد إذا دفن بمصرعه، فلا ينقل عنه لغيره، حتى لو نقل منه رد إليه ندباً؛ لأن دفنه في مصرعه (مكان قتله) سنة، فقد أمر النبي صلّى الله عليه وسلم بقتلى أحد أن يردوا إلى مصارعهم، وكانوا نقلوا إلى المدينة (¬2). وقال الشافعية: نبش الميت بعد دفنه للنقل وغيره حرام إلا لضرورة بأن دفن بلا غسل ولا تيمم. أو في أرض أو ثوب مغصوبين، ووقع فيه مال، أو دفن لغير القبلة، لا للتكفين في الأصح؛ لأن غرض التكفين الستر، وقد حصل بالتراب، مع ما في النبش من هتك حرمته، كما أبنت. ¬
- قال الشافعية: لا بأس بتطييب القبر،
وقال الحنفية: لا يجوز النقل بعد الدفن مطلقاً، وأما نقل يعقوب ويوسف عليهما السلام من مصر إلى الشام ليكونا مع آبائهما الكرام، فهو شرع من قبلنا، ولم يتوافر فيه شروط كونه شرعاً لنا، وعليه: لا يجوز كسر عظامه ولا تحويلها ولو كان الميت ذمياً، ولا ينبش وإن طال الزمان. وفي الجملة: تلتقي هذه الأقوال في ضرورة احترام الميت، وتحرص على إبقائه في مكانه، فهو الأصل، ويجوز النقل عند الجمهور لضرورة أو مصلحة أو غرض صحيح، ولا يجوز عند الحنفية مطلقاً. 4 - قال الشافعية (¬1): لا بأس بتطييب القبر، وقالوا أيضاً مع الحنابلة والحنفية: ويندب أن يرش القبر بماء، ويسن وضع الجريد الأخضر والريحان ونحوه من الشيء الرطب على القبر حفظاً لترابه من الاندراس، ولا يجوز للغير أخذه من على القبر قبل يبسه؛ لأن صاحبه لم يعرض عنه إلا عند يبسه، لزوال نفعه الذي كان فيه وقت رطوبته، وهو الاستغفار. ودليلهم على رش الماء: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم رش على قبر ابنه إبراهيم ووضع عليه حصباء (¬2)». وكذلك قال الحنفية (¬3): يكره قطع النبات الرطب والحشيش من المقبرة، دون اليابس؛ لأنه مادام رطباً يسبح الله تعالى، فيؤنس الميت، وتنزل بذكره الرحمة. ويندب وضع الجريد والآس ونحوهما على القبور. والدليل: ما ورد في الحديث الصحيح من وضعه عليه الصلاة والسلام الجريدة الخضراء، بعد شقها نصفين على ¬
5 - جمع أكثر من ميت في قبر واحد
القبرين اللذين يعذبان، وتعليله بالتخفيف عنهما ما لم ييبسا أي يخفف عنهما ببركة تسبيحهما؛ إذ هو أكمل من تسبيح اليابس، لما في الأخضر من نوع حياة. فكراهة قطع ذلك وإن نبت بنفسه، لما فيه من تفويت حق الميت. 5 - جمع أكثر من ميت في قبر واحد: اتفقت كلمة الفقهاء على أنه لا يجوز أن يدفن اثنان في قبر واحد إلا لضرورة (¬1) قال جابر: دفن مع أبي رجل، فلم تطب نفسي حتى أخرجتُه، فجعلته في قبر على حدة (¬2) ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يدفن في كل قبر إلا واحداً. والضرورة: كأن كثر الأموات وعسر إفراد كل ميت بقبر، أو لضيق المكان أو تعذر الحافر، ولو كانوا ذكوراً وإناثاً أجانب. ويقدم حينئذ الأفضل كترتيبهم في الإمامة، فيقدم الأحق بالإمامة إلى جدار القبر القبلي، فيكون الرجل مما يلي القبلة، والمرأة خلفه، والصبي خلفهما؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم كان يسأل في قتلى أحد عن أكثرهم قرآناً، فيقدمه إلى اللحد، لكن لا يقدم فرع على أصله من جنسه، وإن علا، حتى يقدم الجد ولو من قبل الأم، وكذا الجد، فيقدم الأب على الابن وإن كان أفضل منه لحرمة الأبوة، وتقدم الأم على البنت وإن كانت أفضل. ويجعل بين كل اثنين حاجز من التراب، كما أمر النبي صلّى الله عليه وسلم في بعض الغزوات. ¬
سابعا ـ أحكام الدفن
ولو بلي الميت وصار تراباً، جاز دفن غيره في قبره، ويرجع فيه إلى أهل الخبرة بتلك الأرض. ولا ينبش قبر ميت باق. سابعاً ـ أحكام الدفن: 1 - كيفيته: للفقهاء آراء ثلاثة في كيفية إنزال الميت القبر (¬1). فقال الحنفية: يُدخل الميت مما يلي القبلة إن أمكن كما أدخل النبي صلّى الله عليه وسلم، وهو أن توضع الجنازة في جانب القبلة من القبر، ويحمل الميت، فيوضع في اللحد، فيكون الآخذ له مستقبل القبلة لشرف القبلة، وهذا إذا لم يُخشَ على القبر أن ينهار، وإلا فيسل من قبل رأسه أو رِجْليه. وقال المالكية: لا بأس أن يدخل الميت في قبره من أي ناحية كان، والقبلة أولى. وقال الشافعية والحنابلة: يستحب أن يدخل القبر من عند رجليه، إن كان أسهل عليهم، ثم يسل سلاً إلى القبر، لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم سُلَّ من قبل رأسه سلاً (¬2)، ولأن ذلك أسهل. وتحل عُقد الأكفان من عند رأسه ورجليه؛ لأن عقدها كان لخوف الانتشار، ¬
وقد أمن من ذلك بدفنه، وقد روي أن النبي صلّى الله عليه وسلم لما أدخل نعيم بن مسعود الأشجعي القبر، نزع الأخلّة (¬1) بفيه، وعن ابن مسعود وسمرة بن جندب نحو ذلك. ويوجه الميت إلى القبلة على جنبه الأيمن. ويضع الرجل في قبره الرجال، بدون تقدير عدد معين، وأولى الناس بدفنه أولاهم بالصلاة عليه من أقاربه، والمرأة يُدخلها زوجها أو محرمها: وهو من كان يحل له النظر إليها في حياتها، ولها السفر معه، فإن لم يكن فالنساء فإن لم يكن فصالحو المؤمنين من الشيوخ القادرين على الدفن. وتمد يده اليمنى مع جسده، قال المالكية: ويعدل رأسه ورجلاه بالتراب حتى يستوي، وقال الشافعية: يستحب أن يوسد رأسه لبنة أو حجر أو نحوهما، واتفقوا على أنه لا يفرش تحته شيء، ويكره أن يجعل تحته فرش أو مضربة أو مخدة، أو ثوب، أو حصير، لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: «إذا أنزلتموني في اللحد، فأفضوا بخدي إلى الأرض» وعن أبي موسى: «لا تجعلوا بيني وبين الأرض شيئاً» وينصب اللبن على اللحد نصباً، لما روي عن سعد بن أبي وقاص قال: «اصنعوا بي كما صنعتم برسول الله صلّى الله عليه وسلم، انصبوا عليَّ اللبن، وأهيلوا علي التراب» (¬2)، ويكره الآجر (الطوب المحرق) والخشب، فلا يدخل القبر آجراً ولا خشباً ولا شيئاً مسته النار (¬3)، ولا بأس عند الحنفية والحنابلة بالقصب ثم يهال التراب عليه. ويستحب لكل من دنا على شفير القبر - كما أوضحت - أن يحثو ثلاث ¬
2 - مكان الدفن والدفن في البحر
حثيات من التراب؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم حثا في قبر ثلاث حثيات من التراب (¬1). ويستحب كما تقدم أن يقف جماعة على القبر بعد الدفن بساعة يدعون للميت بعد دفنه، ويقرؤون بقدر ما ينحر الجزور ويفرق لحمه، لما روى عثمان رضي الله عنه قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت، يقف عليه، وقال: «استغفروا لأخيكم، واسألوا الله له التثبيت، فإنه الآن يسأل» (¬2). 2 - مكان الدفن والدفن في البحر: الدفن في المقبرة أفضل منه في غيرها، لما يلحقه من دعاء الزوار والمارين (¬3)، ولأنه صلّى الله عليه وسلم كان يدفن أهله وأصحابه بالبقيع، ولا بأس بشرائه موضع قبره، ويوصي بدفنه فيه، كما فعل عثمان وعائشة. ولا يدفن كافر في مقبرة المسلمين، ولا مسلم في مقبرة الكفار (¬4). ولو ماتت ذمية (يهودية أو نصرانية) وهي حامل من مسلم، ومات جنينها في جوفها، فالصحيح عند الشافعية، والحنابلة (¬5): أنها تدفن بين مقابر المسلمين والكفار، ويكون ظهرها إلى القبلة؛ لأن وجه الجنين إلى ظهر أمه، فتدفن منفردة، لأن ولدها مسلم، فيتأذى بعذابهم، ولا تدفن في مقابر المسلمين؛ لأنها كافرة. أما لو مات إنسان في سفينة في البحر: فاتفق الفقهاء (¬6) على أنه يغسل ¬
3 - زمان الدفن
ويكفن ويصلى عليه، وينتظر به الوصول إلى البر إن رجوا الوصول في يوم أو يومين ليدفنوه فيه، ما لم يخافوا عليه الفساد. فإن كان البر بعيداً أو خيف عليه التغير، شدت عليه أكفانه، ويوضع بتابوت عند الحنفية، ويثقل بشيء كحجر ليرسب عند الحنابلة، ولا يثقل عند المالكية، ويلقى في الماء مستقبل القبلة على الشق الأيمن. وقال الشافعية: يجعل بين لوحين ويلقى في البحر، لأنه ربما وقع في ساحل فيدفن، فإن كان أهل الساحل كفاراً، ألقي في البحر. ورأي الجمهور أولى؛ لأنه يحصل به الستر المقصود من دفنه، والقاؤه بين لوحين تعريض له للتغير والهتك، وربما بقي على الساحل مهتوكاً عرياناً. 3 - زمان الدفن: الأفضل الدفن نهاراً، وفي غير الأوقات التي تكره صلاة النوافل فيها، ويجوز ولايكره الدفن ليلاً، وهو المختار عند الحنفية، والشافعية والحنابلة، وأجاز الشافعية الدفن في وقت كراهة الصلاة ما لم يتحرَّه، فإن تحراه وتعمده كره (¬1). ودليل جواز الدفن ليلاً: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم دفن ليلاً، كما ذكر أحمد عن عائشة، ودفن أبو بكر بالليل، كما ذكر البخاري تعليقاً في باب الدفن بالليل (¬2)، ودفن الصحابة إنساناً بالليل في حال حياة الرسول عليه السلام (¬3). ¬
4 - ما يقال عند الدفن
4 - ما يقال عند الدفن: يندب لواضع الميت في القبر أن يقول حين يضعه في قبره (¬1): «بسم الله، وعلى ملة رسول الله صلّى الله عليه وسلم»، اتباعاً للسنة (¬2)، وفي رواية «سنة» بدل «ملة». ويسن أن يزيد في الدعاء ما يناسب الحال. روى ابن ماجه عن ابن عمر أنه كان يقول أثناء تسوية اللبن على اللحد: «اللهم أجرها ـ أي الجنازة ـ من الشيطان، ومن عذاب القبر، اللهم جافِ الأرض عن جنبيها، وصعد روحها، ولقها منك رضواناً» وروى ابن المنذر أن عمر كان إذا سوى على الميت قال: «اللهم، أَسْلَمه إليك الأهل والمال والعشيرة، وذنبه عظيم فاغفر له». 5 - التلقين بعد الدفن: يستحب عند الشافعية والحنابلة (¬3) تلقين الميت المكلف بعد الدفن، ويقعد الملقن عند رأس القبر، فيقال له: «يا عبد الله ابن أمة الله، اذكر ما خرجت عليه من دار الدنيا: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن الجنة حق، والنار حق، وأن البعث حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأنك رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلّى الله عليه وسلم نبياً، وبالقرآن إماماً، وبالكعبة قبلة، وبالمؤمنين إخواناً» لحديث ورد فيه (¬4). قال النووي في الروضة: والحديث وإن كان ضعيفاً، لكنه اعتضد بشواهد من الأحاديث الصحيحة، ولم ¬
6 - ستر القبر
تزل الناس على العمل به من العصر الأول في زمن من يقتدى به، وقد قال تعالى: {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} [الذاريات:55/ 51]، وأحوج ما يكون العبد إلى التذكير في هذه الحالة. والحق ـ في تقديري ـ مع القائلين بعدم سنية التلقين، والظاهر أن المستحب لذلك هم الصحابة، بدليل ما روي عن راشد بن سعد، وضَمْرة بن حبيب، وحكيم ابن عمر قالوا: «إذا سوِّي على الميت قبره، وانصرف الناس عنه، كانوا يستحبون أن يقال للميت عند قبره: يا فلان، قل: لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، ثلاث مرات، يا فلان قل: ربيَ الله، ودينيَ الإسلام، ونبيّي محمد صلّى الله عليه وسلم، ثم ينصرف» (¬1). وقد عرفنا أنه يندب عند الحنفية والمالكية تلقين المحتضر الشهادتين ولا يلقن بعد الدفن. 6 - ستر القبر: لا خلاف بين أهل العلم في استحباب ستر قبر المرأة بغطاء؛ لأن المرأة عورة، ولا يؤمن أن يبدو منها شيء، فيراه الحاضرون، فإن كان الميت رجلاً كره ستره عند الحنابلة، ولا يستر عند المالكية والحنفية إلا لعذر، ودليل الستر للمرأة فعل عمر وعلي وغيرهما (¬2). واستحب الشافعية ستر القبر مطلقاً عند إدخال الميت فيه، وإن كان الميت رجلاً؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم ستر قبر سعد بن معاذ، ولأنه أستر لما عساه أن ينكشف مما كان يجب ستره، وهو للأنثى آكد منه لغيرها (¬3). ¬
7 - الدفن في تابوت أو صندوق
7 - الدفن في تابوت أو صندوق: الدفن في التابوت (أي السِحْلية: وهو أن يجعل في وعاء كالصندوق) هو من سنة النصارى لدفن أمواتهم، ويستعمل عندنا لحالة العذر فقط، كما يبين من كلام فقهائنا (¬1). قال الحنفية: لا بأس باتخاذ التابوت ولو من حجر أو حديد للميت عند الحاجة كرخاوة الأرض، وكونها ندية، أو لميت البحر، أو للمرأة مطلقاً، ويسن أن يفرش فيه التراب. وقال المالكية: الأولى عدم الدفن في التابوت، وإنما يندب سد اللحد بلبن (طوب نيء)، فلوح خشب، فقَرْمود (طوب على صورة وجوه الخيل)، فآجر (طوب محروق)، فتراب يلتُّ بالماء ليتماسك. وقال الشافعية: يكره دفن الميت في تابوت إلا في أرض ندية أو رخوة، أو كان في الميت تهرية بحريق، أو لذع، بحيث لا يضبطه إلا التابوت، أو كانت امرأة لامحرم لها، لئلا يمسها الأجانب عند الدفن أو غيره. وقال الحنابلة: لا يستحب الدفن في تابوت؛ لأنه لم ينقل عن النبي صلّى الله عليه وسلم ولاأصحابه، وفيه تشبه بأهل الدنيا، والأرض أنشف لفضلاته. ثامناً ـ زيارة القبور: مذهب أهل السنة: أن الروح: هي النفس الناطقة المستعدة للبيان، وفهم الخطاب، ولا تفنى بفناء الجسد، وأنه جوهر لا عَرَض. وتجتمع أرواح الموتى، ¬
حكم زيارة القبور
فينزل الأعلى إلى الأدنى، لا العكس. ومذهب سلف الأمة وأئمتها: أن العذاب أو النعيم يحصل لروح الميت وبدنه، وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعمة أو معذبة، وتتصل أيضاً بالبدن أحياناً، فيحصل له معها النعيم أو العذاب. وهناك لأهل السنة قول آخر: أن النعيم والعذاب يكون للبدن دون الروح. واستفاضت الآثار بمعرفة الميت بأحوال أهله وأصحابه في الدنيا، وأن ذلك يعرض عليه، وجاءت الآثار بأنه يرى أيضاً، وبأنه يدري بما فعل عنده، ويسر بما كان حسناً، ويتألم بما كان قبيحاً. ويعرف الميت زائره يوم الجمعة قبل طلوع الشمس. وهذا الوقت آكد، وينتفع بالخير، ويتأذى بالمنكر عنده (¬1). أما حكم زيارة القبور فللفقهاء فيه رأيان (¬2) بالنسبة للنساء. أما الرجال فلا خلاف بين أهل العلم في إباحة زيارتهم القبور: أـ رأي الحنفية: تندب زيارة القبور، للرجال والنساء على الأصح، لما روى ابن أبي شيبة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم «كان يأتي قبور الشهداء بأحد، على رأس كل حول، فيقول: السلام عليكم بما صبرتم، فنعم عقبى الدار» وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يخرج إلى البقيع لزيارة الموتى، ويقول: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لا حقون، أسأل الله لي ولكم العافية» وقال عليه الصلاة والسلام: ¬
«كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، فإنها تذكركم الموت» (¬1) وفي لفظ «فإنها تذكِّر الآخرة». والأفضل أن تكون الزيارة يوم الجمعة والسبت والاثنين والخميس. والسنة زيارتها قائماً، والدعاء عندها قائماً، كما كان يفعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الخروج إلى البقيع. ويستحب للزائر أن يقرأ سورة {يس} لما ورد عن أنس أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من دخل المقابر فقرأ يس ـ أي وأهدى ثوابها للأموات ـ خفف الله عنهم يومئذ، وكان له بعدد ما فيها حسنات» (¬2) وقال عليه السلام: «اقرؤوا على موتاكم يس» (¬3). ويقرأ أيضاً من القرآن ما تيسر له من الفاتحة، وأول البقرة إلى «المفلحون» وآية الكرسي، وآمن الرسول، وتبارك الملك، وسورة التكاثر، والإخلاص اثنتي عشرة مرة أو إحدى عشرة مرة، أو سبعاً أو ثلاثاً، والمعوذتين ثلاث مرات، ثم يقول: «اللهم أوصل ثواب ما قرأناه إلى فلان أو إليهم». وروى الدارقطني: «من مر على المقابر، فقرأ: قل هو الله إحدى عشرة مرة، ثم وهب أجرها للأموات، أعطي من الأجر بعدد الأموات». ¬
ب ـ رأي الجمهور
وزيارة النساء إن كانت لتجديد الحزن والبكاء والندب على ما جرت به عادتهن لا تجوز، وعليه حمل حديث «لعن الله زائرات القبور» فإن كانت للاعتبار والترحم من غير بكاء، فلا بأس. والأفضل لمن يتصدق نفلاً أن ينوي لجميع المؤمنين والمؤمنات؛ لأنها تصل إليهم، ولا ينقص من أجره شيء. ويستحب إهداء ثواب القراءة للنبي صلّى الله عليه وسلم، لأنه أنقذنا من الضلالة، ففي ذلك نوع شكر، وإسداء جميل له. ب ـ رأي الجمهور: تندب زيارة القبور للرجال للاعتبار والتذكر وتكره للنساء، وكانت زيارتها منهياً عنها، ثم نسخت، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها» وفي رواية: «ولا تقولوا هُجْراً» أي كلاماً قبيحاً، ولا تدخل النساء في ضمير الرجال على المختار. وزيارة قبور الكفار مباحة. وأما وقت الزيارة فقال مالك: بلغني أن الأرواح بفناء المقابر، فلا تختص زيارتها بيوم بعينه، وإنما يختص يوم الجمعة لفضله والفراغ فيه. وسبب كراهتها للنساءلأنها مظنة لطلب بكائهن ورفع أصواتهن، لما فيهن من رقة القلب، وكثرة الجزع، وقلة احتمال المصائب، وإنما لم تحرم لما روى مسلم عن أم عطية: «نهينا عن زيارة القبور، ولم يعزم علينا» وكراهة زيارتهن لحديث: «لعن الله زوَّارات القبور» (¬1). ولكن يسن لهن زيارة قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ويلحق بذلك قبور بقية الأنبياء والصالحين، بشرط عدم التبرج والاختلاط ورفع الأصوات. لكن قال المالكية: هذا في حق الشابة، أما المتجالة التي لا أرب للرجال بها فكالرجال. ويكره الأكل والشرب والضحك وكثرة الكلام، وكذا قراءة القرآن بالأصوات المرتفعة، واتخاذ ذلك عادة لهم. ¬
ويندب أن يسلِّم الزائر على قبور المسلمين، ويقرأ، ويدعو. أما السلام فيكون مستقبلاً وجه الميت، قائلاً ما علَّمه النبي صلّى الله عليه وسلم لأصحابه إذا خرجوا للمقابر: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله (¬1) بكم لاحقون». أو «السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله تعالى بكم لا حقون، أسأل الله لنا ولكم العافية» رواهما مسلم، زاد أبو داود: «اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم» لكن بسند ضعيف. ويقرأ عنده ما تيسر من القرآن، وهو سنة في المقابر، فإن الثواب للحاضرين، والميت كحاضر يرجى له الرحمة. ويدعو للميت عقب القراءة، رجاء الإجابة؛ لأن الدعاء ينفع الميت، وهو عقب القراءة أقرب إلى الإجابة. وعند الدعاء يستقبل القبلة. وكان النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: «اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد» والغرقد: شجر له شوك، والبقيع: مدفن أهل المدينة. ويستحب ـ كما ذكر الشافعية ـ الإكثار من الزيارة، وأن يكثر الوقوف عند قبور أهل الخير والفضل، ويقف الزائر أمام القبر كما يقف أمام الحي. ويكره تقبيل التابوت الذي يجعل على القبر، وتقبيل القبر واستلامه، وتقبيل الأعتاب عند الدخول لزيارة الأولياء، فإن هذا كله من البدع التي ارتكبها الناس: {أفمن زين له سوء عمله، فرآه حسناً} [فاطر:8/ 35]. ويستحب عند الحنابلة خلع النعال إذا دخل المقابر، للأمر به في حديث بُشَير ¬
المطلب الثالث ـ التعزية وتوابعها
ابن الخَصَّاصية (¬1)، ولم ير أكثر العلماء بذلك بأساً لإقرار النبي صلّى الله عليه وسلم ذلك، في حديث رواه البخاري. المطلب الثالث ـ التعزية وتوابعها: أولاً ـ تعريفها وحكمها (¬2): هي أن يسلِّي أهل الميت ويحملهم على الصبر بوعد الأجر، ويرغبهم في الرضا بالقضاء والقدر، ويدعو للميت المسلم وتكون إلى ثلاث ليال بأيامها، وتكره بعدها إلا لغائب، حتى لا يجدد له الحزن، ولإذن الشارع في الإحداد في الثلاث، بقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحدَّ على ميت فوق ثلاثة أيام، إلا على زوجها أربعة أشهر وعشراً» (¬3). ويكره عند غير المالكية تكرار التعزية، فلا يعزي عند القبر من عزى قبل ذلك، وهي بعد الدفن أفضل منها قبله؛ لأن أهل الميت مشغولون بتجهيزه، ووحشتهم بعد الدفن لفراقه أكثر. ويكره عند الشافعية والحنابلة الجلوس للتعزية بأن يجلس المصاب في مكان أو في السرادقات على الطريق ليعزوه، أو يجلس المعزي عند المصاب للتعزية، لما في ذلك من استدامة الحزن. وقال الحنفية: لا بأس بالجلوس للتعزية في غير المسجد ثلاثة أيام، وأولها أفضلها، وقال في الفتاوى الظهيرية: لا بأس بها لأهل الميت في البيت أو المسجد، والناس يأتونهم ويعزونهم. ويكره المبيت عند أهل ¬
ثانيا ـ البكاء والرثاء والنياحة واللطم والشق
الميت وتكون التعزية في بيت المصاب، وليس في ألفاظ التعزية شيء محدد، فيقول المعزي للمسلم: «أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك، وغفر لميتك» وإن عزى مسلماً بكافر يقول: «أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك» ويمسك عن الدعاء للميت؛ لأن الدعاء والاستغفار له منهي عنه. وإن عزى كافراً بمسلم قال: «أحسن الله عزاءك، وغفر لميتك» وإن عزى كافراً بكافر قال: «أخلف الله علينا وعليك، ولانقص عددك». وقال الحنابلة: تحرم تعزية الكافر؛ لأن فيها تعظيماً للكافر كبداءته بالسلام، ويقول المعزَّى: «استجاب الله دعاءك، ورحمنا وإياك» ولا تكره المصافحة أو أخذ المعزي بيد من عزاه. والتعزية تستحب للرجال والنساء اللاتي لا يفتن، في الصغير والكبير، والذكر والأنثى، بلا خلاف بين العلماء، إلا أن الثوري قال: لا تستحب التعزية بعد الدفن، لأنه خاتمة أمره. وتكره تعزية الرجل لامرأة حسناء أجنبية غير محرم له، خشية الفتنة. ودليل استحباب التعزية أحاديث، منها: «من عزى مصاباً فله مثل أجره» (¬1) ومنها: «من عزى أخاه بمصيبة، كساه الله من حلل الكرامة يوم القيامة» (¬2). ثانياً ـ البكاء والرثاء والنياحة واللطم والشق: يجوز بالاتفاق البكاء على الميت قبل الدفن وبعده؛ بلا رفع صوت أوقول قبيح، أو ندب أو نواح (¬3)، لما روى جابر: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «يا إبراهيم، إنا ¬
لا نغني عنك من الله شيئاً، ثم ذرفت عيناه، فقال له عبد الرحمن بن عوف: يارسول الله، أتبكي، أو لم تنه عن البكاء؟ قال: لا، ولكن نهيت عن النوح» (¬1). وورد في الصحيحين: «أنه صلّى الله عليه وسلم لما فاضت عيناه، لما رفع إليه ابن بنته، ونفسه تقعقع كأنها في شَنَّة (¬2) ـ أي لها صوت وحشرجة كصوت ما ألقي في قربة بالية ـ قال له سعد: ما هذا يا رسول الله؟ قال: هذه رحمة، جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء». والبكاء لا ينافي الرضا، بخلاف البكاء عليه لفوات حظه منه. وأما حديث «إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه» (¬3) فمؤول عند جمهور العلماء على من وصى أهله أن يبكى عليه، ويناح بعد موته، فنفذت وصيته، فهذا يعذب ببكاء أهله عليه، ونوحهم؛ لأنه بسببه ومنسوب إليه، وكان من عادة العرب الوصية بذلك، ومنه قول طَرَفة بن العبد: إذا متّ فانعيني بما أنا أهله وشقي علي الجيب ياابنة معبد أما من بكى عليه أهله وناحوا عليه من غير وصية منه، فلا يعذب ببكائهم ونوحهم، لقوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الأنعام:164/ 6]. ولا بأس ـ كما ذكر الحنفية ـ برثاء الميت بشعر أو غيره، لكن يكره الإفراط في مدحه، لا سيما عند جنازته، لحديث «من تعزى بعزاء الجاهلية، فأعضّوه بهَنِ أبيه ¬
ولا تكْنوا» (¬1) وهذا أمر تأديب ومبالغة في الزجر عن دعوى الجاهلية. ويحرم الندب بتعديد شمائله، والنوح، والجزع بضرب صدر أو رأس وشق جيب ونحوهما. أما الندب: فهو تعداد محاسن الميت، وما يَلْقون بفقده بلفظـ النداء، بالواو بدل الياء، مثل قولهم: وارجلاه، واجبلاه، وانقطاع ظهراه، واكهفاه، ياعزي، ياسندي ونحوه، لحديث: «ما من ميت يموت فيقدم باكيهم، فيقول: واجبلاه، واسنداه، أو نحو ذلك، إلا وكل به ملكان يلهَزانه، أهكذا كنت» (¬2) وذلك إن أوصى بما ذكر، أو كان كافراً. وأما النوح: فهو رفع الصوت بالندب، لخبر «النائحة إذا لم تتب تقام يوم القيامة، وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب» (¬3) وخبر «لعن الله النائحة والمستمعة» (¬4). وأما الجزع: بضرب الصدر ونحوه كشق جيب ونشر شعر، وتسويد وجه، وإلقاء رماد على رأس، ورفع صوت بإفراط في البكاء، فهو حرام أيضاً، لخبر الشيخين: «ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية» وفي الصحيحين «أنه صلّى الله عليه وسلم برئ من الصالقة، والحالقة، والشاقة» فالصالقة: التي ترفع صوتها عند المصيبة، والحالقة: التي تحلق شعرها عند المصيبة، والشاقة: التي تشق ثيابها. ¬
ثالثا ـ ما ينبغي للمصاب والثواب على المصيبة
ثالثاً ـ ما ينبغي للمصاب والثواب على المصيبة (¬1): ينبغي للمصاب أن يستعين بالله تعالى ويتعزى بعزائه، ويمتثل أمره في الاستعانة بالصبر والصلاة، ويتنجز ما وعد الله به الصابرين حيث يقول سبحانه: {وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون. أولئك عليهم صلوات} ـ أي مغفرة ـ {من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} [البقرة:155/ 2 - 156 - 157]. وعليه يسن للمصاب أن يسترجع، فيقول: {إنا لله وإنا إليه راجعون} [البقرة:156] (أي نحن عبيده يفعل بنا ما يشاء، ونحن مقرّون بالبعث والجزاء على أعمالنا) و «اللهم أْجُرْني في مصيبتي، وأخلف لي خيراً منها»، ويصلي ركعتين، كما فعل ابن عباس، وقرأ {واستعينوا بالصبر والصلاة} [البقرة:45/ 2]، وقال حذيفة: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا حَزَ به أمر صبر» (¬2) وروى مسلم عن أم سلمة مرفوعاً: «إذا حضرتم المريض أو الميت، فقولوا خيراً، فإن الملائكة يؤمِّنون على ما تقولون» فلما مات أبو سلمة قال: «قولي: اللهم اغفر لي وله، وأعقبني عقبة حسنة» (¬3). ويسن للمصاب أن يصبر، والصبر: الحبس، قال تعالى: {واصبروا إن الله مع الصابرين} [الأنفال:46/ 8]، وقال صلّى الله عليه وسلم: «والصبر ضياء» (¬4). ¬
وفي الصبر على موت الولد أجر كبير، لأخبار، منها ما في الصحيحين: أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «لايموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار، إلا تحلَّة القسم» يشير إلى قوله تعالى: {وإن منكم إلا واردها} [مريم:71/ 19] والصحيح: أن المراد به المرور على الصراط. وأخرج البخاري أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن من جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا، ثم احتسبه، إلا الجنة». وثبت في الصحيحين عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما، قال: «أرسلت إحدى بنات النبي صلّى الله عليه وسلم إليه تدعوه وتخبره أن صبياً لها أو ابناً في الموت، فقال للرسول: ارجع إليها، فأخبرها أن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب» (¬1). والثواب على المصيبة: في الصبر عليها، لا على المصيبة نفسها، فالمصائب نفسها لا ثواب فيها، لأنها ليست من كسب العبد وإرادته، وإنما يثاب على كسبه، والصبر من كسبه أو فعله. وهذا قول الحنابلة والعز بن عبد السلام. والرضا بالقضاء والقدر فوق الصبر، فإنه يوجب رضا الله سبحانه وتعالى. وصرح الشافعي رحمه الله بأن كلاً من المجنون والمريض المغلوب على عقله مأجور، مثاب، مكفر عنه بالمرض، فحكم بالأجر مع انتفاء العقل المستلزم لانتفاء الصبر، ويؤيده خبر الصحيحين: «ما يصيب المسلم من نَصَب - تعب - ولا ¬
رابعا ـ ضيافة أهل الميت وصنع الطعام لهم
وَصَب ـ مرض ـ ولا همّ ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفَّر الله بها من خطاياه» والحديث الصحيح: «إذا مرض العبد أو سافر، كتب له مثل ما كان يعمله صحيحاً مقيماً». فمن أصيب وصبر يحصل له ثوابان: لنفس المصيبة، وللصبر عليها. ومن انتفى صبره، فإن كان لعذر كجنون فكذلك، أو لنحو جزع لم يحصل من ذينك الثوابين شيء. رابعاً ـ ضيافة أهل الميت وصنع الطعام لهم: يستحب لأقرباء الميت وجيرانه أن يصنعوا طعاماً لأهل الميت (¬1)، لما روي أنه لما قتل جعفر بن أبي طالب كرم الله وجهه، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «اصنعوا لآل جعفر طعاماً، فإنه قد جاءهم أمر يشغلهم عنه» (¬2). ويبعث بهم إليهم إعانة لهم، وجبراً لقلوبهم، فإنهم ربما اشتغلوا بمصيبتهم، وبمن يأتي إليهم عن إصلاح طعام لأنفسهم، ويكون الطعام بحيث يشبعهم في يومهم وليلتهم. أما صنع أهل البيت طعاماً للناس، فمكروه وبدعة لا أصل لها؛ لأن فيه زيادة على مصيبتهم، وشغلاً لهم إلى شغلهم، وتشبهاً بصنع أهل الجاهلية. وإن كان في الورثة قاصر دون البلوغ، فيحرم إعداد الطعام وتقديمه، قال جرير بن عبد الله: «كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعهم الطعام من النياحة» وإن دعت الحاجة إلى ¬
خامسا ـ القراءة على الميت وإهداء الثواب له
ذلك، جاز، فإنه ربما جاءهم من يحضر ميتهم من القرى والأماكن البعيدة، ويبيت عندهم ولا يمكنهم إلا أن يضيفوه. خامساً ـ القراءة على الميت وإهداء الثواب له: ههنا مسائل للفقهاء (¬1): أـ أجمع العلماء على انتفاع الميت بالدعاء والاستغفار بنحو «اللهم اغفر له، اللهم ارحمه»، والصدقة، وأداء الواجبات البدنية ـ المالية التي تدخلها النيابة كالحج، لقوله تعالى: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون: ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} [الحشر:10/ 59] وقوله سبحانه: {واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} [محمد:19/ 47]، ودعا النبي صلّى الله عليه وسلم لأبي سلمة حين مات، وللميت الذي صلى عليه في حديث عوف بن مالك، ولكل ميت صلى عليه. وسأل رجل النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: «يا رسول الله، إن أمي ماتت، فينفعها إن تصدقت عنها؟ قال: نعم» (¬2)، وجاءت امرأة إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقالت: «يا رسول الله، إن فريضة الله في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً، لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم، قال: فدين الله أحق أن يقضى» (¬3) وقال للذي سأله: «إن أمي ماتت وعليها صوم شهر، أفأصوم عنها؟ قال: نعم». ¬
قال ابن قدامة: وهذه أحاديث صحاح، وفيها دلالة على انتفاع الميت بسائر القرب؛ لأن الصوم والدعاء والاستغفار عبادات بدنية، وقد أوصل الله نفعها إلى الميت، فكذلك ما سواها. ب ـ اختلف العلماء في وصول ثواب العبادات البدنية المحضة كالصلاة وتلاوة القرآن إلى غير فاعلها على رأيين: رأي الحنفية والحنابلة ومتأخري الشافعية والمالكية بوصول القراءة للميت إذا كان بحضرته، أو دعا له عقبها، ولو غائباً؛ لأن محل القراءة تنزل فيه الرحمة والبركة، والدعاء عقبها أرجى للقبول. ورأي متقدمي المالكية والمشهور عند الشافعية الأوائل: عدم وصول ثواب العبادات المحضة لغير فاعلها. قال الحنفية: المختار عدم كراهة إجلاس القارئين ليقرؤوا عند القبر، وقالوا في باب الحج عن الغير: للإنسان أن يجعل ثواب عمله لغيره: صلاة كان عمله، أو صوماً أو صدقة أوغيرها، وأن ذلك لا ينقص من أجره شيئاً. وقال الحنابلة: لا بأس بالقراءة عند القبر، للحديث المتقدم: «من دخل المقابر، فقرأ سورة يس، خفف عنهم يومئذ، وكان له بعدد من فيها حسنات» وحديث «من زار قبر والديه، فقرأ عنده أو عندهما يس، غفر له» (¬1). وقال المالكية: تكره القراءة على الميت بعد موته وعلى قبره؛ لأنه ليس من عمل السلف، لكن المتأخرون على أنه لا بأس بقراءة القرآن والذكر وجعل ثوابه للميت، ويحصل له الأجر إن شاء الله. وقال متقدمو الشافعية: المشهور أنه لا ينفغ الميت ثواب غير عمله، كالصلاة ¬
المطلب الرابع ـ الشهادة في سبيل الله
عنه قضاء أو غيرها وقراءة القرآن. وحقق المتأخرون منهم وصول ثواب القراءة للميت، كالفاتحة وغيرها. وعليه عمل الناس، وما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن. وإذا ثبت أن الفاتحة تنفع الحي الملدوغ، وأقر النبي صلّى الله عليه وسلم ذلك بقوله: «وما يدريك أنها رقية؟» كان نفع الميت بها أولى. وبذلك يكون مذهب متأخري الشافعية كمذاهب الأئمة الثلاثة: أن ثواب القراءة يصل إلى الميت، قال السبكي: والذي دل عليه الخبر بالاستنباط أن بعض القرآن إذا قصد به نفع الميت وتخفيف ما هو فيه، نفعه، إذ ثبت أن الفاتحة لما قصد بها القارئ نفع الملدوغ نفعته، وأقره النبي صلّى الله عليه وسلم بقوله: «وما يدريك أنها رقية» وإذا نفعت الحي بالقصد، كان نفع الميت بها أولى. وقد جوز القاضي حسين الاستئجار على قراءة القرآن عند الميت. قال ابن الصلاح: وينبغي أن يقول: «اللهم أوصل ثواب ما قرأنا لفلان» فيجعله دعاء، ولا يختلف في ذلك القريب والبعيد، وينبغي الجزم بنفع هذا؛ لأنه إذا نفع الدعاء وجاز بما ليس للداعي، فلأن يجوز بما له أولى، وهذا لا يختص بالقراءة، بل يجري في سائر الأعمال. المطلب الرابع ـ الشهادة في سبيل الله: فضل الشهادة في سبيل الله، تعريف الشهيد، أحكامه، شهداء غير المعركة. فضل الشهادة في سبيل الله: التضحية بالنفس أسمى درجات الإخلاص والتفاني في سبيل المبدأ والعقيدة، وأصدق برهان على صحة الإيمان، وطريق الخلود في جنان الله والفوز برضوان الله تعالى، والأمة أو الجماعة بأمس الحاجة في كل زمان إلى تضحيات العديد من أبنائها دفاعاً عن النفس والبلاد، وحفاظاً على المقدسات والحرمات،
ولا يكتب لها العزة والكرامة والهيبة إلا بجسور من الضحايا في سبيل تحقيق غاياتها، ودماء تضرج من أجل كرامتها ووجودها. لهذا كتب الله الحياة والخلود للشهداء، وغفر للشهيد كل ذنوبه إلا الدين لتعلقه بحقوق الناس المادية، وبوأه المنزلة العالية في الجنة مع الأنبياء والمرسلين، كما دلت عليه النصوص الشرعية. فقال تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً، بل أحياء عند ربهم يُرزقون، فرحين بما آتاهم الله من فضله، ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون، يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين} [آل عمران:169/ 3 - 171] عن مسروق رضي الله عنه، قال: سأل عبد الله - أي ابن مسعود - عن هذه الآية: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً، بل أحياء عند ربهم يُرزقون؟} [آل عمران:169/ 3] فقال: أما أنا فقد سألت عن ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: «أرواحهم في جوف طير خُضْر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل ... » الحديث (¬1). والمعنى أن الله تعالى أحياهم وأعطاهم القدرة على التمتع بثمار الجنة، والتفكه بها والتنقل في أرجائها، قال تعالى: {ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات، بل أحياء، ولكن لا تشعرون} [البقرة:154/ 2] إلا أن حياتهم ليست بالجسد، وإنما هي من نوع خاص لا يدرك بالعقل، بل بالوحي. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا، وإن له ما على الأرض من شيء إلا الشهيد، فإنه يتمنى أن يرجع إلى الدنيا، فيقتل عشر مرات، لما يرى من الكرامة» (¬2). ¬
تعريف الشهيد
وقال عليه الصلاة والسلام: «والذي نفس محمد بيده: لودِدْت أن أغزو في سبيل الله فأُقتل، ثم أغزو فأُقتل» (¬1)، «يُغفر للشهيد كلُ ذنب إلا الدَّيْن» (¬2). تعريف الشهيد: سمي الشهيد شهيداً؛ لأنه مشهود له بالجنة، أو لأنه حي عند ربه حاضر شاهد، أو تشهد موته الملائكة (¬3). والشهيد الذي يستحق الفضائل السابقة ونحوها هو شهيد المعركة مع العدو. وقد أورد الفقهاء تعريفات متقاربة له بحسب رأيهم في بعض المسائل المتعلقة به. فقال الحنفية (¬4): الشهيد من قتله أهل الحرب، أو أهل البغي، أو قطاع الطريق، أو اللصوص في منزله ليلاً أو نهاراً بأي آلة: مثقل أو محدد، أو وجد في المعركة وبه أثر كجرح وكسر وحرق وخروج دم من أذن أو عين، أو قتله مسلم ظلماً عمداً بمحدد، وكان مسلماً مكلفاً (بالغاً عاقلاً) طاهراً (خالياً من حيض أو نفاس أو جنابة)، ولم يرتث بعد انقضاء الحرب، أي لا يموت عقب الإصابة. والارتثاث: أن يأكل أو يشرب أو يُداوى، أو يبقى حياً حتى يمضي عليه وقت صلاة وهو يعقل، أو ينقل من المعركة حياً، أي وهو يعقل. أما المقتول حداً أو قصاصاً، فإنه يغسل ويصلى عليه، لأنه لم يقتل ظلماً، وإنما قتل بحق، وأما من قتل من البغاة أو قطاع الطرق فلا يغسل ولا يصلى عليه. وبه يتبين أن شروط تحقيق الشهادة عندهم: هي الإسلام والعقل والبلوغ، والطهارة من الحدث الأكبر، وأن يموت عقب الإصابة. ¬
وأن كل مقتول في المعركة مع العدو، أو قتل ظلماً، أو دفاعاً عن النفس أو المال فهو شهيد. أما من خرج حياً من المعركة، أو كان جنباً فلا تطبق عليه أحكام الشهيد. ويلاحظ أن هذا المذهب ومذهب الحنابلة أوسع الآراء في تحديد المقصود من الشهيد ماعدا اشتراط الطهارة من الحدث الأكبر. وقال المالكية (¬1): الشهيد: من مات في معترك المشركين، ومن أخرج من المعركة في حكم الأموات وهو من رفع من المعركة حياً منفوذ المقاتل، أو مغموراً (أي يعاني غمرات الموت: شدائده): وهو من لم يأكل ولم يشرب ولم يتكلم إلى أن مات، فإن قتل في غير المعركة ظلماً، أو أخرج من المعترك حياً، ولم تنفذ مقاتله، ثم مات، غسل وصلي عليه في المشهور، كما أن من قتل في المعترك في قتال المسلمين غسل وصلي عليه، ويغسل الجنب. وقال الشافعية (¬2): الشهيد: هو من مات من المسلمين في جهاد الكفار بسبب من أسباب قتالهم قبل انقضاء الحرب، كأن قتله كافر، أو أصابه سلاح مسلم خطأ، أو عاد إليه سلاحه، أو تردى في بئر أو وهدة، أو رفسته دابته فمات، أو قتله مسلم باغٍ استعان به أهل الحرب. فإن مات لا بسبب القتال، أو بعد انقضاء المعركة، أو في حال قتال البغاة، فغير شهيد في الأظهر. ولا تشترط الطهارة من الحدث الأكبر عند المالكية والشافعية، فمن مات جنباً فإنه لا يغسل. ¬
فالشهيد عند المالكية والشافعية: هو من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا (¬1). وقاتل نفسه كغيره في الغسل والصلاة عليه، لحديث: «الصلاة واجبة على كل مسلم براً كان أو فاجراً، وإن عمل الكبائر» (¬2). هذا رأي الجماهير، لكن مذهب عمر بن عبد العزيز والأوزاعي: لا يصلى على قاتل نفسه لعصيانه، بدليل ماروى مسلم عن جابر بن سمرة قال: أتي النبي صلّى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه بمشاقِص ـ سهام عراض ـ فلم يصل عليه. وقال الحنابلة (¬3): الشهيد: هو من مات بسبب القتال مع الكفار وقت قيام القتال، أو هو المقتول بأيدي العدو من الكفار، أو البغاة، أو المقتول ظلماً، ولو كان غير مكلف رجلاً أو امرأة. أو كان غالاًّ (خائناً): كتم من الغنيمة شيئاً. ومن عاد إليه سلاحه فقتله فهو كالمقتول بأيدي العدو، لكن تشترط الطهارة من الحدث الأكبر كالحنفية، فمن قتل جنباً غسل. كذلك يغسل ويصلى عليه من حمل وبه رمق أي حياة مستقرة، وإن كان شهيداً. ودليلهم على غير المكلف: عموم حديث جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلم «أمر بدفن قتلى أحد في دمائهم، ولم يغسلهم، ولم يصل عليهم» (¬4)، وقد كان في شهداء أحد حارثة بن النعمان، وهو صغير، وليس هذا خاصاً بهم؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم علل ذلك ¬
أحكام الشهداء
بعلة توجد في سائر الشهداء، فقال: «والذي نفسي بيده لا يُكلَم أحد في سبيل الله ـ والله أعلم بمن يكلم في سبيله ـ إلا جاء يوم القيامة، اللون لون الدم، والريح ريح المسك» (¬1). ودليلهم على أن من قتل مظلوماً ملحق بشهيد المعركة: حديث: «من قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد» (¬2)، ولأن هؤلاء مقتولون بغير حق، فأشبهوا قتلى الكفار، فلا يغسلون. وأما من قتل من أهل العدل في المعركة مع البغاة: فحكمه في الغسل والصلاة عليه حكم من قتل في معركة المشركين؛ لأن علياً رضي الله عنه لم يغسل من قتل معه، وعمار أوصى ألا يغسل، وقال: ادفنوني في ثيابي، فإني مخاصم. قال أحمد: قد أوصى أصحاب الجمل، إنا مستشهدون غداً، فلا تنزعوا عنا ثوباً، ولا تغسلوا عنا دماً، ولأنه شهيد المعركة، فأشبه قتيل الكفار. أما الباغي: فقال الخرقي: من قتل منهم غسل وكفن وصلي عليه، ويحتمل إلحاقه بأهل العدل؛ لأنه لم ينقل إلينا غسل أهل الجمل وصفين من الجانبين، ولأنهم يكثرون في المعترك، فيشق غسلهم، فأشبهوا أهل العدل. أحكام الشهداء: للشهداء أحكام استثنائية من الدفن والغسل والتكفين والصلاة عليهم كما يتبين من آراء الفقهاء الآتية (¬3)، علماً بأن للحنفية رأياً، وللجمهور رأياً آخر. قال الحنفية: يكفن الشهيد بثيابه، ويصلي عليه، ولا يغسل إذا كان مكلفاً ¬
قال الجمهور
طاهراً، وأما الجنب والحائض والنفساء إذا استشهد، فيغسل عند أبي حنيفة، كما يغسل الصبي والمجنون. وقال الصاحبان: لا يغسَّلان. استدل أبو حنيفة على وجوب غسل الجنب ونحوه بما صح عنه صلّى الله عليه وسلم أنه لما قتل حنظلة بن أبي عامر الثقفي، قال: إن صاحبكم حنظلة تُغسِّله الملائكة، فسألوا زوجته، فقالت: خرج وهو جنب، فقال عليه الصلاة والسلام: لذلك غسلته الملائكة (¬1). وأورد الصاحبان: أنه لو كان الغسل واجباً، لوجب على بني آدم، ولما اكتفي بفعل الملائكة. ورد عليهما بالمنع بأنه يحصل بفعلهم؛ لأن الواجب نفس الغسل، أما الغاسل فيجوز أن يكون أياً كان. ولا يغسل عن الشهيد دمه، ولا ينزع عنه ثيابه، وإنما يدفن بدمه وثيابه بعد نزع الفرو والحشو والخف والسلاح مما لا يصلح للكفن، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «زمّلوهم بدمائهم» (¬2). وقال الجمهور: لا يغسل الشهيد ولا يكفن ولا يصلى عليه إبقاء لأثر الشهادة عليهم وتعظيمهم باستغنائهم عن دعاء الناس لهم. ولكن تزال النجاسة الحاصلة من غير الدم؛ لأنها ليست من أثر الشهادة، بدليل حديث جابر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر بدفن شهداء أحد في دمائهم، ولم يغسلهم، ولم يصل عليهم» (¬3) وروى البخاري ومسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «والذي نفس محمد بيده، ما من كَلْم يُكْلَم في سبيل الله إلا جاء كهيئته حين كُلِم: اللون لون الدم، والريح ريح مسك». ¬
شهداء غير المعركة
ويدفن الشهيد بثيابه بعد تنحية الجلود والسلاح عنه، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «ادفنوهم بثيابهم» (¬1)، لكن ليس هذا عند الحنابلة بحتم، ولكنه الأولى. ويستحب دفن الشهيد في مصرعه الذي قتل فيه، للحديث المتقدم المتضمن أمر النبي صلّى الله عليه وسلم بدفن شهداء أحد في مصارعهم. والبالغ وغيره سواء؛ لأنه مسلم قتل في معترك المشركين بقتالهم، فأشبه البالغ، وهذا ما يقتضيه العدل، وتؤيده السنة في فعل النبي صلّى الله عليه وسلم بشهداء أحد، وفيهم صغير، وهو حارثة بن النعمان. ولكن لا يغسل الجنب ونحوه عند المالكية والشافعية؛ لأن حنظلة بن الراهب قتل يوم أحد، وهو جنب، ولم يغسله النبي صلّى الله عليه وسلم، وقال: «رأيت الملائكة تغسله» (¬2) وهذا هو الحق؛ إذ لو كان الغسل واجباً لم يسقط إلا بفعلنا، ولأنه طهر عن حدث، فسقط بالشهادة كغسل الميت، فيحرم. شهداء غير المعركة: الشهيد الذي تكلمنا عنه: هو المختص بثواب خاص، وهو شهيد الدنيا والآخرة. وهناك شهداء آخرون في حكم الآخرة، وفي حكم الدنيا فقط، فالشهداء ثلاثة: 1 - شهيد في حكم الدنيا والآخرة: وهو شهيد المعركة، أما حكم الدنيا فلا يغسل ولا يصلى عليه عند الجمهور كما أبنت، وأما حكم الآخرة فله ثواب خاص وهو الشهيد الكامل الشهادة. ¬
2 - وشهيد في حكم الدنيا فقط
2 - وشهيد في حكم الدنيا فقط: وهو عند الشافعية: من قتل في قتال الكفار بسببه، وقد غل من الغنيمة، أو قتل مدبراً، أو قاتل رياء أو نحوه، أي لايغسل ولايصلى عليه، ولا ثواب له في الآخرة. 3 - شهيد في حكم الآخرة فقط: كالمقتول ظلماً من غير قتال، والمبطون إذا مات بالبطن، والمطعون إذا مات بالطاعون، والغريق إذا مات بالغرق، والغريب إذا مات بالغربة، وطالب العلم إذا مات على طلبه، أو مات عشقاً (¬1) أو بالطلق أو بدار الحرب أو نحو ذلك (¬2). قال الحنابلة (¬3): الشهداء غير شهيد المعركة بضعة وعشرون، وعدهم السيوطي نحو الثلاثين: المطعون أي الميت بالطاعون، والمبطون، والغريق، والشريق، والحريق، وصاحب الهدم، أي من مات بانهدام شيء عليه، كمن ألقي عليه حائط ونحوه، لقول صلّى الله عليه وسلم: «والشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الهَدْم، والشهيد في سبيل الله» (¬4) وصاحب ذات الجنب، وصاحب السِّل، وصاحب داء في الوجه، والصابر في الطاعون، والمتردي من رؤوس الجبال بغير فعل الكفار، ومن مات في سبيل الله كمن مات في الحج ومن مات في طلب العلم، ومن طلب الشهادة بنية صادقة، وموت المرابط (حارس الحدود والثغور)، وأمناء الله في الأرض وهم العلماء، والمجنون والنفساء واللديغ، ومن قتل دون دينه أو دمه، أو ماله، أو أهله، أو مظلِمته، وفريس ¬
المعصية والشهادة
السبع، ومن خر عن دابته، والغريب (¬1)، والعاشق إذا عف وكتم، والميت ليلة الجمعة، والمرتث: وهو من نقل من المعركة حياً، أو من أكل أو شرب أو نام أو تداوى بعد طعنه، وبقي حياً وقت صلاة. والخلاصة: إن كل من مات. بسبب مرض أو حادث أو دفاع عن النفس، أو نقل من قلب المعركة حياً، أو مات في أثناء الغربة، أو طلب العلم، أو ليلة الجمعة، فهو شهيد آخرة. وحكم هؤلاء الشهداء في الدنيا، أي شهداء الآخرة: أن الواحد منهم يغسل ويكفن ويصلى عليه اتفاقاً كغيره من الموتى. أما في الآخرة فله ثواب الآخرة فقط، وله أجر الشهداء يوم القيامة. المعصية والشهادة: المعصية لا تمنع الاتصاف بالشهادة، فيكون الميت شهيداً عاصياً؛ لأن الطاعة لا تلغي المعصية إلا في الصغائر، قال تعالى: {إن الحسنات يذهبن السيئات} [هود:114/ 11] أي إن الحسنات بامتثال الأوامر، خصوصاً في العبادات التي أهمها الصلاة يذهبن السيئات، قال صلّى الله عليه وسلم: «وأتبع السيئة الحسنة تمحها» (¬2). قال بعض الفقهاء: من غرق في قطع الطريق فهو شهيد، وعليه إثم معصيته، وكل من مات بسبب معصيته فليس بشهيد، وإن مات في معصية بسبب من أسباب الشهادة، فله أجر شهادته، وعليه إثم معصيته.،ولو قاتل على فرس مغصوب أو كان قوم في معصية فوقع عليهم البيت، فلهم الشهادة، وعليهم إثم المعصية. ¬
وهذا يعني أنه إذا مات في حالة من حالات الشهادة أثناء معصية فهو شهيد عاص، وإذا مات بسبب المعصية فليس بشهيد. فالمرأة التي تموت بالولادة من الزنا الظاهر أنها شهيدة، أما لو تسببت امرأة في إلقاء حملها فليست بشهيدة للعصيان بالسبب. ومن ركب البحرلمعصية أو سافر آبقاً (هارباً) أو ناشزة، فمات فليس بشهيد (¬1). انتهى الجزء الثاني ويتبعه الجزء الثالث (الصيام، الاعتكاف، الزكاة، الحج والعمرة) ¬
الباب الثالث: الصيام والاعتكاف
البَابُ الثَّالث: الصِّيامُ والاعتكاف وفيه فصلان: الأول عن الصيام، والثاني عن الاعتكاف
الفصل الأول: الصيام
الفَصْلُ الأوَّل: الصِّيام وفيه ثمانية مباحث: المبحث الأول ـ تعريف الصوم، وركنه وزمنه وفوائده، وفضل رمضان، وليلة القدر، وأهم الأحداث التاريخية الواقعة في رمضان. المبحث الثاني ـ فرضية الصيام وأنواعه (الصوم المفروض وصوم التطوع). المبحث الثالث ـ متى يجب الصوم؟ وكيفية إثبات الشهر واختلاف المطالع. المبحث الرابع ـ شروط الصوم ـ شروط الوجوب وشروط الصحة. المبحث الخامس ـ سنن الصوم وآدابه ومكروهاته. المبحث السادس ـ الأعذار المبيحة للفطر. المبحث السابع ـ ما يفسد الصوم ومالا يفسده. المبحث الثامن ـ قضاء الصوم وكفارته وفديته. ملحق ـ ما يلزم الوفاء به من المنذور. وأبدأ بالأول فالأول فيما يأتي:
المبحث الأول ـ تعريف الصوم وزمنه وفوائده، وفضل رمضان وليلة القدر، وأهم الأحداث التاريخية في رمضان
المبحث الأول ـ تعريف الصوم وزمنه وفوائده، وفضل رمضان وليلة القدر، وأهم الأحداث التاريخية في رمضان: وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول ـ تعريف الصوم، وركنه وزمنه وفوائده: تعريف الصوم: الصوم لغة: الإمساك والكف عن الشيء، قال: صام عن الكلام، أي أمسك عنه، قال تعالى إخباراً عن مريم: {إني نذرت للرحمن صوماً} [مريم:26/ 19] أي صمتاً وإمساكاً عن الكلام، وقال العرب: صام النهار: إذا وقف سير الشمس وسط النهار عند الظهيرة (¬1). وشرعاً: هو الإمساك نهاراً عن المفطِّرات بنية من أهله من طلوع الفجر إلى غروب الشمس (¬2). أي أن الصوم امتناع فعلي عن شهوتي البطن والفرج، وعن كل شيء حسي يدخل الجوف من دواء ونحوه، في زمن معين: وهو من طلوع الفجر الثاني أي الصادق إلى غروب الشمس، من شخص معين أهل له: وهو المسلم العاقل غير الحائض والنفساء، بنية وهي عزم القلب على إيجاد الفعل جزماً بدون تردد، لتمييز العبادة عن العادة. وركن الصوم: الإمساك عن شهوتي البطن والفرج، أو الإمساك عن المفطرات، وزاد المالكية والشافعية ركناً آخر وهو النية ليلاً. ¬
زمن الصوم
وزمن الصوم: من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، ويؤخذ في البلاد التي يتساوى الليل والنهار فيها، أو في حالة طول النهار أحياناً كبلغاريا بتقدير وقت الصوم بحسب أقرب البلاد منها، أو بتوقيت مكة. ودليله قوله تعالى: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} [البقرة:187/ 2] وعبر بالخيط مجازاً، يعني بياض النهار من سواد الليل، وهذا يحصل بطلوع الفجر. قال ابن عبد البر: في قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم» دليل على أن الخيط الأبيض هو الصباح، وأن السحور لا يكون الا قبل الفجر، بالإجماع. وفوائد الصيام كثيرة من الناحيتين الروحية والمادية: فالصوم طاعة لله تعالى، يثاب عليها المؤمن ثواباً مفتوحاً لا حدود له، لأنه لله سبحانه، وكرم الله واسع، وكرم الله واسع، وينال بها رضوان الله، واستحقاق دخول الجنان من باب خاص أعد للصائمين يقال له الريان (¬1) ويبعد نفسه عن عذاب الله تعالى بسبب ما قد يرتكبه من معاص، فهو كفارة للذنوب من عام لآخر، وبالطاعة يستقيم أمر المؤمن على الحق الذي شرعه الله عز وجل، لأن الصوم يحقق التقوى التي هي امتثال للأوامر الإلهية واجتناب النواهي، قالله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم، لعلكم تتقون} [البقرة:183/ 2]. والصوم مدرسة خلقية كبرى يتدرب فيها المؤمن على خصال كثيرة، فهو جهاد للنفس، ومقاومة للأهواء ونزعات الشيطان التي قد تلوح له، ويتعود به ¬
الإنسان خلق الصبر على ما قد يُحرَم منه، وعلى الأهواء والشدائد التي قد يتعرض لها، إذ يجد الطعام الشهي يطبخ أمامه، والروائح تهيج عصارات معدته، والماء العذب البارد يترقرق في ناظريه، فيمتنع منه، منتظراً وقت الإذن الرباني بتناوله. والصوم يعلِّم الأمانة ومراقبة الله تعالى في السر والعلن؛ إذ لا رقيب على الصائم في امتناعه عن الطيبات إلا الله وحده. والصوم يقوي الإرادة، ويشحذ العزيمة، ويعلِّم الصبر، ويساعد على صفاء الذهن، واتقاد الفكر، وإلهام الآراء الثاقبة إذا تخطى الصائم مرحلة الاسترخاء، وتناسى ما قد يطرأ له من عوارض الارتخاء والفتور أحياناً، قال لقمان لابنه: «يا بني، إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة، وخرست الحكمة، وقعدت الأعضاء عن العبادة». والصوم يعلِّم النظام والانضباط؛ لأنه يجبر الصائم على تناول الطعام والشراب في وقت محدد وموعد معين. والصوم يشعر بوحدة المسلمين الحسية في المشارق والمغارب، فهم جميعاً يصومون ويفطرون في وقت واحد؛ لأن ربهم واحد، وعبادتهم موحدة. وينمي الصوم في الإنسان عاطفة الرحمة والأخوة، والشعور برابطة التضامن والتعاون التي تربط المسلمين فيما بينهم، فيدفعه إحساسه بالجوع والحاجة مثلاً إلى صلة الآخرين، والمساهمة في القضاء على غائلة الفقر والجوع والمرض، فتتقوى أواصر الروابط الاجتماعية بين الناس، ويتعاون الكل في معالجة الحالات المرضية في المجتمع. والصوم فعلاً يجدد حياة الإنسان بتجدد الخلايا وطرح ماشاخ منها، وإراحة المعدة وجهاز الهضم، وحمية الجسد، والتخلص من الفضلات المترسبة والأطعمة
غير المهضومة، والعفونات أو الرطوبات التي تتركها الأطعمة والأشربة، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «صوموا تصحوا» (¬1)، وقال طبيب العرب: الحارث بن كَلْدة: «المعدة بيت الداء، والحِمْية رأس كل دواء». والصيام جهاد للنفس، وتخليصها مما علق بها من شوائب الدنيا وآثامها، وكسر حدة الشهوة والأهواء، وتهذيبها وضبطها في طعامها وشرابها، بدليل قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب: من استطاع منكم الباءة، فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» (¬2) وقال الكمال بن الهمام (¬3): الصوم ثالث أركان الإسلام بعد «لا إله إلا الله، محمد رسول الله» والصلاة، شرعه سبحانه لفوائد أعظمها كونه موجباً أشياء: منها: سكون النفس الأمارة، وكسر سورتها في الفضول المتعلقة بجميع الجوارح من العين واللسان والأذن والفرج، فإن به تضعف حركتها في محسوساتها، ولذا قيل: إذا جاعت النفس شبعت جميع الأعضاء، وإذا شبعت جاعت كلها. ومنها: كونه موجباً للرحمةوالعطف على المساكين، فإنه لما ذاق ألم الجوع في بعض الأوقات، ذكر من هذا حاله في عموم الأوقات، فتسارع إليه الرقة عليه، فينال بذلك ما عند الله تعالى من حسن الجزاء. ومنها: موافقة الفقراء بتحمل ما يتحملون أحياناً، وفي ذلك رفع حاله عند الله تعالى. ¬
المطلب الثاني ـ فضل رمضان وليلة القدر
وقال في الإيضاح: اعلم أن الصوم من أعظم أركان الدين وأوثق قوانين الشرع المتين، به قهر النفس الأمارة بالسوء، وإنه مركب من أعمال القلب، ومن المنع عن المآكل والمشارب والمناكح عامة يومه، وهو أجمل الخصال، غير أنه أشق التكاليف على النفوس (¬1)، وقد مدحه الله بآية {إن المسلمين والمسلمات} ... {والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات} [الأحزاب:35/ 33]. المطلب الثاني ـ فضل رمضان وليلة القدر: رمضان سيد الشهور، فيه بدأ نزول القرآن، وهو شهر الطاعة والقربة والبر والإحسان، وشهر المغفرة والرحمة والرضوان، فيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وبه عون المؤمن على أمر دينه وطلب إصلاح دنياه، وهو موسم تكثر فيه مناسبات إجابة الدعاء. وقد ورد في السنة النبوية ما يدل على فضل رمضان وفضل الصوم فيه. من ذلك ما يأتي: 1ً - «سيد الشهور شهر رمضان، وسيد الأيام يوم الجمعة» (¬2) «ولو يعلم العباد ما في شهر رمضان لتمنى العباد أن يكون شهر رمضان سنة» (¬3). وروى الطبراني عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال يوماً وقد حضر رمضان: ¬
«أتاكم رمضان شهر بركة، يغشاكم الله فيه، فيُنزل الرحمة، ويحُطُّ الخطايا، ويستجيب فيه الدعاء، ينظر الله تعالى إلى تنافسكم فيه، ويباهي بكم ملائكته، فأروا الله من أنفسكم خيراً، فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله عز وجل». 2ً - «إذا جاء رمضان فتِّحت أبواب الجنة، وغلِّقت أبواب النار، وصُفِّدت الشياطين» (¬1). 3ً - «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفِّرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر» (¬2). 4ً - «كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنةُ بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضَعْف، قال الله تعالى: إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخُلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك» (¬3). وفي رواية للترمذي، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إن ربكم يقول: «كل حسنة بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضِعْف، والصوم لي وأنا أجزي به، والصوم جُنَّة (¬4) من النار، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وإن جَهِل على أحدكم جاهل وهو صائم، فليقل: إني صائم، إني صائم». ¬
5ً - «من قام رمضان إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه» (¬1) أي من أحيا لياليه بصلاة التراويح أوغيرها بالذكر والاستغفار وتلاوة القرآن تصديقاً لما وعده الله على ذلك من أجر، محتسباً ومدخراً أجره عند الله تعالى لا غيره، بخلوص عمله لله، لم يشرك به غيره، غفرت له ذنوبه غير حقوق العباد، فتتوقف على إبراء الذمة، أو المسامحة. 6ً - عن سلمان رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم في آخر يوم من شعبان، قال: «يا أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، شهر جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوّعاً، من تقرب فيه بخصلة من الخير، كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فريضة فيه، كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه. وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزاد في رزق المؤمن فيه، من فطَّر فيه صائماً، كان مغفرة لذنوبه وعتقَ رقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء. قالوا: يا رسول الله، ليس كلُّنا يجدُ ما يفطر الصائم؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعطي الله هذا الثواب من فطر صائماً على تمرة، أو على شَرْبة ماء، أو مَذْقة (¬2) لبن. وهو شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، من خفف عن مملوكه فيه غفر الله له، وأعتقه من النار. ¬
ليلة القدر
واستكْثِروا فيه من أربع خصال: خصلتين ترضون بهما ربكم، وخصلتين لا غِنَاء بكم عنهما، فأما الخصلتان اللتان تُرضون بهما ربكم: فشهادة أن لا إله إلا الله، وتستغفرونه. وأما الخصلتان اللتان لا غناء بكم عنهما: فتسألون الله الجنة، وتعوذون به من النار. ومن سقى صائماً، سقاه الله من حوضي شَرْبة لا يظمأ حتى يدخل الجنة» (¬1). ليلة القدر: يستحب طلب ليلة القدر؛ لأنها ليلة شريفة مباركة معظمة مفضلة، ترجى إجابة الدعاء فيها، وهي أفضل الليالي حتى ليلة الجمعة (¬2)، قال تعالى: {ليلة القدر خير من ألف شهر} [القدر:3/ 97] أي قيامها والعمل فيها خير من العمل في ألف شهر خالية منها، وقال صلّى الله عليه وسلم: «من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه» (¬3) وعن عائشة أن النبي كان إذا دخل العشر الأواخر أحيا الليل، وأيقظ أهله وشد المئزر» (¬4) أي اعتزل النساء، ولأحمد ومسلم: كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها. وهي مختصة بالعشر الأواخر في ليالي الوترمن رمضان، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «التمسوها في العشر الأواخر من شهر رمضان، في كل وتر» (¬5). وأرجح الأقوال عند العلماء أنها في ليلة السابع والعشرين من رمضان، قال ¬
الحكمة في إخفائها
أبي بن كعب: «والله لقد علم ابن مسعود أنها في رمضان، وأنها في ليلة سبع وعشرين، ولكن كره أن يخبركم فتتكلوا» (¬1)، وعن معاوية «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال في ليلة القدر: ليلة سبع وعشرين» (¬2) ويرجحه قول ابن عباس: «سورة القدر: ثلاثون كلمة، السابعة والعشرون فيها: هي» (¬3) وروى أحمد بإسناد صحيح عن ابن عمر حديثاً نصه: «من كان متحرّيها فليتحرها ليلة سبع وعشرين، أو قال: تحروها ليلة سبع وعشرين». والحكمة في إخفائها: أن يجتهد الناس في طلبها، ويجدّوا في العبادة طمعاً في إدراكها، كما أخفيت ساعة الإجابة يوم الجمعة، وأخفي اسمه الأعظم في أسمائه، ورضاه في الحسنات، إلى غير ذلك. والمستحب أن يدعو المؤمن فيها بأن يقول: «اللهم إنك عفو، تحب العفو، فاعف عني» لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، أرأيت إن وافقت ليلة القدر، ماذا أقول فيها؟ قال: «قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو، فاعف عني» (¬4). وأما علاماتها: فالمشهور فيها ما ذكره أبي بن كعب عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن الشمس تطلع في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها» (¬5) وفي بعض الأحاديث: ¬
المطلب الثالث ـ أهم الأحداث التاريخية الواقعة في رمضان
« بيضاء مثل الطست» وروي أيضاً عنه صلّى الله عليه وسلم: «إن أمارة ليلة القدر: أنها ليلة صافية بلجة، كأن فيها قمراً ساطعاً، ساكنة ساجية، لا برد فيها ولاحر، ولا يحل لكوكب أن يرمى به فيها حتى تصبح، وإن أمارتها أن الشمس صبيحتها تخرج مستوية، ليس فيها شعاع، مثل القمر ليلة البدر، لايحل للشيطان أن يخرج معها يومئذ» وروى ابن خزيمة من حديث ابن عباس مرفوعاً: «ليلة القدر طلقة لا حارّة ولا باردة، تصبح الشمس يومها حمراء ضعيفة» ولأحمد من حديث عبادة: «لا حر فيها ولا برد، وإنها ساكنة صاحية، وقمرها ساطع»، وورد في علامتها أحاديث منها عن جابر بن سمرة عند ابن أبي شيبة، وعن جابر بن عبد الله عند ابن خزيمة، وعن أبي هريرة عنده، وعن ابن مسعود عند ابن أبي شيبة وعن غيرهم (¬1). المطلب الثالث ـ أهم الأحداث التاريخية الواقعة في رمضان: إن أهم حدث في رمضان هو نزول القرآن الكريم في ليلة الخامس والعشرين. ثم وقعت أحداث تاريخية فاصلة كبرى في شهر رمضان، تدل على أن الإسلام يقدر الأمور حق قدرها، وأن شعار الصوم هو القوة والجهاد والعمل، لا الضعف والهروب والفتور والكسل، فالمسلم يتفاعل مع واقع الحياة، ويتكيف مع الظروف، فلا يثنيه واجب ديني عن واجب معيشي أو حياتي، ولا تحد من عزيمته وهمته أهواء الدنيا، ومغريات الطعام والشراب، ولا يصح لمسلم أن يقول: إن الصوم يعطل الأعمال، ويؤخر المجتمعات، فسبيل الإسلام معروف وهو الجهاد، ودين الله وشرعه يسر لا عسر، فقد أباح الفطر وحضَّ عليه في السفر والحرب، وحكم بأن الصائمين حينئذ متنطعون متشددون، وبأن المفطرين في الجهاد ذهبوا ¬
1 - معركة بدر الكبرى
بالأجر كله، كما بيَّن النبي صلّى الله عليه وسلم في فتح مكة، وكان أول المفطرين. ودليل ما نقول: هذه الأحداث الكبرى التي وقعت في رمضان ونكتفي بذكر أشهرها، للاستدلال على أن النصر مرتبط بتطهير النفوس وصفائها وسموها وترفعها عن أدران المادة، وأن أيام رمضان مباركة ينتهز فيها الخير والنصر والفضل الإلهي، إذا توجهت القلوب لرب الأرض والسماء، قال الله تعالى:: {وما النصر إلا من عند الله} [آل عمران:126/ 3]. 1 - معركة بدر الكبرى: وهي يوم الفرقان الذي فرق الله فيه بين الحق والباطل، فانتصر فيه الإسلام ـ رمز القيم العليا في التوحيد والتفكير والحياة السوية والأخلاق الصحيحة ـ واندحر الشرك والوثنية ـ رمز الانحدار والتخلف والتعقيد وإهدار الكرامة الإنسانية. والمعركة حدثت في يوم الجمعة في السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة، قال تعالى: {ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة، فاتقوا الله لعلكم تشكرون} [آل عمران:123/ 3]، وقال ابن عباس: كانت يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان، وفيها قتل فرعون الأمة أبو جهل أكبر أعداء الإسلام. 2 - فتح مكة: وهو الفتح الأكبر لقوله تعالى: {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً} [الفتح:1/ 48] حدث في يوم الجمعة في العشرين أو الحادي والعشرين من رمضان من السنة الثامنة للهجرة، وقد تم به القضاء على فلول الوثنية، وتم به تحطيم الأصنام حول الكعبة. وفي رمضان من السنة الخامسة كان استعداد المسلمين لغزوة الخندق التي وقعت في شوال من العام نفسه. 3 - وقعت بعض أحداث غزوة تبوك في رمضان سنة 9هـ، وفي رمضان كانت معركة القادسية، ومعركة البويب، وفتح رودس.
4 - انتشر الإسلام في اليمن
4 - انتشر الإسلام في اليمن في السنة العاشرة في رمضان، وأرسل النبي صلّى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب على رأس سرية إلى اليمن، وحمل معه كتاباً إليهم. 5 - هدم خالد بن الوليد لخمس بقين من رمضان في السنة الثامنة البيت الذي كانت تعبد فيه العزى في نخلة، وقال للرسول صلّى الله عليه وسلم: «تلك العزى ولا تعبد أبداً» (¬1). ووجه الرسول صلّى الله عليه وسلم السرايا لهدم الأصنام. 6 - قدم في السنة التاسعة في رمضان وفد ثقيف من الطائف إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يريدون الإسلام، وهدم فيها صنم اللات الذي كانت تعبده ثقيف (¬2). 7 - في صبيحة يوم الجمعة في 25 من رمضان479 هـ حدثت موقعة الزلاَّقة (سهل يقع على مقربة من البرتغال الحالية) أو يوم العروبة والإسلام، وانتصر فيها جيش المرابطين المسلمين في الأندلس بقيادة يوسف بن تاشفين على جيش الفرنجة البالغ ثمانين ألف مقاتل بقيادة الفونس السادس ملك قشتالة. 8 - موقعة عين جالوت: (قرية بين بيسان ونابلس) حدثت في صبيحة يوم الجمعة في الخامس عشر من رمضان سنة 658 هـ الموافق 3 أيلول (سبتمبر) 1260م، بقيادة السلطان قُطُز سلطان المماليك في مصر، بعد أن صاح بأعلى صوته «وإسلاماه»، وانتصر فيها على المغول الذين ولوا الأدبار لا يلوون على شيء (¬3)، وتم فيها توحيد مصر وبلاد الشام (¬4). وإنقاذ الإسلام والمسلمين من ¬
9 - فتح الأندلس
همجية المغول، كما أن البطل صلاح الدين خاض معارك حاسمة ضد الصليبيين في رمضان. 9 - فتح الأندلس: في رمضان كانت معركة طريف تمهيداً لفتح الأندلس، وكانت معركة الزلاَّقة، ثم حدث فتح الأندلس في 28 رمضان سنة 92هـ/19 يوليو (تموز) 711 م بقيادة طارق بن زياد بعد أن هزم روذريق قائد القوط في موقعة حاسمة تعرف بـ «موقعة البحيرة» بعد أن استولى على مضيق جبل طارق وأحرق سفنه، وقال كلمته المشهورة: «البحر من ورائكم والعد ومن أمامكم»، ثم تم بعدها فتح قرطبة وغرناطة وطليطلة العاصمة السياسية للأندلس (¬1). وفي رمضان كانت آخر المعارك مع الصليبيين لتطهير أرضنا وديارنا من أرجاسهم. وفي العاشر من رمضان سنة 1393هـ/1973م كانت معركة العبور، أي عبور القوات المصرية المسلحة قناة السويس من الضفة الغربية إلى الضفة الشرقية، بعد احتلال اليهود لها مدة نحو سبع سنوات في الخامس من شهر حزيران سنة 1967م، ووصلت في العاشر من شهر رمضان القوات السورية إلى شواطئ بحيرة طبرية. ولقّن الفلسطينيون العدو الصهيوني في رمضان في معركة الكرامة في نيسان (أبريل) سنة 1968م درساً لا ينساه مع قلتهم وتمكن العدو في موقع استراتيجي رائع. المبحث الثاني ـ فرضية الصيام وأنواعه: فرضية الصيام وتاريخها: صوم شهر رمضان ركن من أركان الإسلام وفرض ¬
من فروضه (¬1)، بدليل القرآن والسنة والإجماع: أما القرآن: فقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام، كما كتب على الذين من قبلكم، لعلكم تتقون} [البقرة:183/ 2] إلى قوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} [البقرة:185/ 2]. وأما السنة: فقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً» (¬2)، وعن طلحة بن عبيد الله أن رجلاً جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلم ثائر الرأس فقال: يا رسول الله، أخبرني ماذا فرض الله عليّ من الصيام؟ قال: شهررمضان، قال: هل علي غيره؟ قال: لا، إلا أن تطوع شيئاً. قال: فأخبرني ماذا فرض الله علي من الزكاة؟ فأخبره رسول الله صلّى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام، قال: والذي أكرمك لا أتطوع شيئاً، ولا أنقص مما فرض الله علي شيئاً، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «أفلح إن صدق، أو دخل الجنة إن صدق» (¬3). وأجمع المسلمون على وجوب صيام شهر رمضان. وفُرض صوم رمضان بعد صرف القبلة إلى الكعبة لعشر من شعبان في السنة الثانية من الهجرة بسنة ونصف إجماعاً، وصام النبي صلّى الله عليه وسلم تسعة رمضانات في تسع سنين، وتوفي النبي صلّى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة (¬4). ¬
أنواع الصيام
وجاحد وجوب صوم رمضان كافر يعامل كالمرتد، فيستتاب، فإن تاب قبل منه، وإلا قتل حداً إذا لم يكن قريب عهد بالإسلام أو نشأ بعيداً عن العلماء. أما تارك الصيام كسلاً بغير عذر،،ولم يكن جاحداً لوجوبه، فهو فاسق، وليس بكافر. أنواع الصيام: الصوم أنواع: واجب، وتطوع، وحرام، ومكروه (¬1). وقال الحنفية: الصوم ثمانية أنواع: فرض معين كصوم رمضان أداء، وغير معين كقضاء رمضان وصوم الكفارات، وواجب معين كنذر معين، وغير معين كالنذر المطلق، ونفل مسنون كصوم عاشوراء وتاسوعاء، ونفل مندوب أو مستحب كأيام البيض من كل شهر، ومكروه تحريماً كصوم العيدين، ومكروه تنزيهاً كعاشوراء وحده، وسبت وحده، ونيروز ومهرجان. النوع الأول ـ الواجب: وهو ثلاثة أقسام: منه ما يجب للزمان نفسه وهو صوم شهر رمضان، ومنه ما يجب لعلة وهو صيام الكفارات، ومنه ما يجب بإيجاب الإنسان ذلك على نفسه، وهو صيام النذر. والصوم اللازم عند الحنفية نوعان: فرض وواجب. والفرض نوعان: معين ¬
النوع الثاني ـ الصوم الحرام
كصوم أداء، وغير معين كصوم رمضان قضاء، وصوم الكفارات، ولكنه أي الأخير فرض عملاً، لا اعتقاداً، ولذا لايكفر جاحده. والواجب نوعان: معين كالنذر المعين، وغير المعين كالنذر المطلق، وكقضاء ما أفسده من صوم النفل. النوع الثاني ـ الصوم الحرام عند الجمهور أو المكروه تحريماً عند الحنفية: وهو ما يأتي: 1ً - صيام المرأة نفلا ًبغير إذن زوجها أو علمها برضاه إلا إذا لم يكن محتاجاً لها كأن كان غائباً أو محرماً بحج أو عمرة أو معتكفاً، لخبر الصحيحين: «لا يحل لامرأة أن تصوم، وزوجها شاهد إلا بإذنه» ولأن حق الزوج فرض، لا يجوز تركه لنفل، فلوصامت بغير إذنه صح، وإن كان حراماً كالصلاة في دار مغصوبة، وللزوج أن يفطرها، لقيام حقه واحتياجه. وهذا الصوم مكروه تنزيهاً عند الحنفية. 2ً - صوم يوم الشك: وهو يوم الثلاثين من شعبان إذا تردد الناس في كونه من رمضان، وللفقهاء عبارات متقاربة في تحديده، واختلفوا في حكمه، مع اتفاقهم على عدم الكراهة وإباحة صومه إن صادف عادة للمسلم بصوم تطوع كيوم الاثنين أو الخميس. فقال الحنفية (¬1): هو آخر يوم من شعبان يوم الثلاثين إذا شك بسبب الغيم أمن رمضان هو أم من شعبان. فلو كانت السماء صحواً ولم ير هلال أحد فليس بيوم شك. وحكمه: أنه مكروه تحريماً إذا نوى أنه من رمضان أو من واجب آخر. ويكره ¬
المالكية
أيضاً صوم ما قبل رمضان بيوم أو يومين، لحديث: «لا تَقدَّموا رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا رجل كان يصوم صوماً، فيصومه» (¬1) فيكره صومه إلا أن يوافق صوماً كان يصومه المسلم، خوفاً من أن يظن أنه زيادة على صوم رمضان، ولا يكره صوم نفل جزم به بلا ترديد بينه وبين صوم آخر، فلا يصام يوم الشك إلا تطوعاً. وقال المالكية على المشهور (¬2): إنه يوم الثلاثين من شعبان إذا كان بالسماء في ليلته (أي ليلة الثلاثين) غيم، ولم ير هلال رمضان. فإن كانت السماء صحواً لم يكن يوم شك؛ لأنه إذا لم تثبت رؤية هلال رمضان، كان اليوم من شعبان جزماً. وهذا كمذهب الحنفية. والراجح عند الدردير والدسوقي وغيرهما أن يوم الشك: صبيحة الثلاثين من شعبان إذا كانت السماء صحواً أو غيماً، وتحدث بالرؤية من لا تقبل شهادته كعبد أو امرأة أو فاسق. أما يوم الغيم فهو من شعبان جزماً؛ لخبر الصحيحين: «فإن غم عليكم، فأكملوا عدة شعبان ثلاثين». وحكمه: أنه يكره صومه للاحتياط على أنه من رمضان، ولا يجزئه صومه عن رمضان، فمن أصبح فلم يأكل ولم يشرب، ثم تبين له أن ذلك اليوم من رمضان، لم يجزه، وجاز صومه لمن اعتاد الصوم تطوعاً سرداً أو يوماً معيناً كيوم الخميس مثلاً، فصادف يوم الشك، كما جاز صومه تطوعاً، وقضاء عن رمضان سابق، وكفارة عن يمين أوغيره، ولنذر يوم معين أو يوم قدوم شخص مثلاً، فصادف يوم الشك. ويندب الإمساك (الكف عن المفطر) يوم الشك ليتحقق الحال، فإن ثبت رمضان وجب الإمساك لحرمة الشهر، ولو لم يكن أمسك أولاً. ¬
الشافعية
وقال الشافعية (¬1): يوم الشك: هو يوم الثلاثين من شعبان في حال الصحو، إذا تحدث الناس برؤية الهلال ليلته، ولم يعلم من رآه، ولم يشهد برؤيته أحد، أو شهد بها صبيان أو عبيد أو فسقة أو نساء، وظن صدقهم، أو شهد شخص عدل ولم يكتف به. وليس إطباق الغيم بشك، كما أنه إذا لم يتحدث أحد من الناس بالرؤية فليس بشك، بل هو يوم من شعبان، وإن أطبق الغيم، لخبر الصحيحين المتقدم: «فإن غم عليكم، فأكملوا عدة شعبان ثلاثين». وحكمه: أنه يحرم ولا يصح التطوع بالصوم يوم الشك، ولقول عمار بن ياسر رضي الله عنه: «من صام يوم الشك، قد عصى أبا القاسم صلّى الله عليه وسلم» (¬2). وحكمة التحريم: توفير القوة على صوم رمضان، وضبط زمن الصوم وتوحيده بين الناس، دون زيادة. وكذلك يحرم صوم يوم أو يومين قبل رمضان، والأظهر أنه يلزم الإمساك من أكل يوم الشك، ثم ثبت كونه من رمضان، لأن صومه واجب عليه، إلا أنه جهله. ويجوز صوم يوم الشك عن القضاء والنذر والكفارة، ولموافقة عادة تطوعه، ونحوه مما له سبب يقتضي الصوم، على الأصح مسارعة لبراءة الذمة، فيما عدا الاعتياد، وعملاً في الاعتياد بالحديث المتقدم: « ... إلا رجل كان يصوم صوماً، فليصمه» ويجب الإمساك على من أصبح يوم الشك مفطراً، ثم تبين أنه من رمضان، ثم يقضيه بعد رمضان فوراً، وإن صامه متردداً بين كونه نفلاً من شعبان أو فرضاً من رمضان، لم يصح فرضاً ولا نفلاً إن ظهر أنه من رمضان. ¬
الحنابلة
وقال الحنابلة (¬1): يوم الشك: هو يوم الثلاثين من شعبان إذا لم ير الهلال ليلته، مع كون السماء صحواً لا علة فيها من غيم أو قَتَر ونحوهما، أو شهد برؤية الهلال من ردت شهادته لفسق ونحوه، فهم في تحديده كالشافعية. وحكمه كما قال المالكية: يكره ويصح صوم يوم الشك بنية الرمضانية احتياطاً، ولا يجزئ إن ظهر منه، إلا إذا وافق عادة له، أو وصله بصيام قبله، فلا كراهة، للحديث المتقدم: «لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا رجل كان يصوم صوماً، فليصمه» وإلا أن يصومه عن قضاء أو نذر أو كفارة، فلا كراهة؛ لأن صومه واجب إذاً. وإن صامه موافقة لعادة ثم تبين أنه من رمضان، فلا يجزئه عنه، ويجب عليه الإمساك فيه، وقضاء يوم بعده. والخلاصة: إن صوم يوم الشك مكروه عند الجمهور، حرام عند الشافعية. 3ً - صوم عيد الفطر والأضحى وأيام التشريق بعده: مكروه تحريماً عن الحنفية، حرام لا يصح عند باقي الأئمة (¬2)، سواء أكان الصوم فرضاً أم نفلاً، ويكون عاصياً إن قصد صيامها، ولا يجزئه عن الفرض لما روى أبو هريرة: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عن صيام يومين: يوم فطر، ويوم أضحى» (¬3) والنهي عند غير الحنفية يقتضي فساد المنهي عنه وتحريمه. وروى مسلم في صحيحه عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «أيام منى أيام أكل وشرب وذكْر الله تعالى». وقصر المالكية تحريم صوم التشريق على يومين بعد الأضحى، وقال الجمهور: ثلاثة أيام بعده، وأما صوم اليوم الرابع عند المالكية فمكروه فقط. ¬
- صوم الحائض والنفساء
وتحريم الصوم في أيام العيدين عند الشافعية، ولو لمتمتع بالحج والعمرة، للنهي عن صيامها كما رواه أبو داود بإسناد صحيح. واستثنى الجمهور (الحنفية والمالكية والحنابلة) حالة الحج للمتمتع والقارن، فأجازوا لهما صيامهما، لقول ابن عمر وعائشة: «لم يرخص في أيام التشريق أن يُصَمْنَ إلا لمن لم يجد الهدي» (¬1). 4ً - صوم الحائض والنفساء حرام ولا يصح ولا ينعقد، كما أبنت في مبحث الحيض والنفاس، وعليهما قضاء الصوم دون الصلاة. 5ً - قال الشافعية: يحرم صوم النصف الأخير من شعبان الذي منه يوم الشك، إلا لوِرْد بأن اعتاد صوم الدهر أو صوم يوم وفطر يوم أو صوم يوم معين كالاثنين فصادف ما بعد النصف، أو نذر مستقر في ذمته، أو قضاء لنفل أو فرض، أو كفارة، أو وصل صوم ما بعد النصف بما قبله، ولو بيوم النصف. ودليلهم حديث: «إذا انتصف شعبان، فلا تصوموا» (¬2) ولم يأخذ به الحنابلة وغيرهم لضعف الحديث في رأي أحمد. 6ً - صيام من يخاف على نفسه الهلاك بصومه. النوع الثالث ـ الصوم المكروه: هو كصوم الدهر (¬3)، وإفراد يوم الجمعة بالصوم، وإفراد يوم السبت، ¬
الحنفية
وصوم يوم الشك وصوم يوم أو يومين قبل رمضان عند الجمهور، ويحرم الأخيران عند الشافعية، والراجح عند المالكية عدم كراهة صوم الدهر وإفراد الجمعة بالصوم. والكراهة فيهما عند غير المالكية تنزيهية. وللفقهاء تفصيلات في بيان الصوم المكروه: فقال الحنفية (¬1): الصوم المكروه قسمان: مكروه تحريماً، ومكروه تنزيهاً. والمكروه تحريماً: هو صوم أيام العيدين والتشريق وصوم يوم الشك، لورود النهي السابق عن صيامها، فإذا صامها انعقد صومه مع الإثم، ولا يلزم القضاء لمن شرع في صومه وأفسده، لأن المبدأ الأصولي عندهم هو أن النهي المتوجه إلى وصف من أوصاف العمل اللازم له يقتضي فساد الوصف فقط، ويبقى أصل العمل على مشروعيته. والمكروه تنزيهاً: هو إفراد صيام يوم عاشوراء (العاشر من المحرم) عن التاسع أوعن الحادي عشر، وإفراد يوم الجمعة في قول البعض، ويوم السبت، ويوم النيروز (يوم في طرف الربيع) والمهرجان (يوم في طرف الخريف) بالصوم إلا أن يوافق ذلك عادته، فتزول علة الكراهة، أما الجمعة فلقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تختصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم» (¬2). وأما السبت: فلقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم، فإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنبة أو عود شجرة، فليمضغه» (¬3). وأما النيروز والمهرجان فلأن فيه تعظيم أيام نهينا عن تعظيمها. ¬
المالكية
ويكره تنزيهاً أيضاً صوم الدهر؛ لأنه يضعفه، ولحديث «لا صام من صام الأبد» (¬1) ويكره صوم الصمت: وهو أن يصوم ولا يتكلم بشيء، وعليه أن يتكلم بخير وبحاجة دعت إليه. ويكره صوم الوصال ولو بين يومين فقط، وهو ألا يفطر بعد الغروب أصلاً حتى يتصل صوم الغد بالأمس، للنهي عنه، قال صلّى الله عليه وسلم: «إياكم والوصال» (¬2) وقالت عائشة: «نهاهم النبي صلّى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم، فقالوا: إنك تواصل؟ قال: إني لست كهيئتكم، إني يطعمني ربي ويسقيني» (¬3). ويكره صوم المسافر إذا أجهده الصوم، وصوم المرأة تطوعاً بغير رضا زوجها، وله أن يفطرها، لقيام حقه واحتياجه، إلا أن يكون مريضاً أو صائماً أو محرماً بحج أو عمرة. وقال المالكية (¬4): قال العلامة خليل: يندب صوم الدهر ولا يكره، للإجماع على لزومه لمن نذره، ولو كان مكروهاً أو ممنوعاً لما لزم على القاعدة، ويندب صوم يوم الجمعة ولا يكره لأن محل النهي عن ذلك على خوف فرضه، وقد انتفت هذه العلة بوفاته عليه الصلاة والسلام، وقال ابن جزي: المكروه: صوم الدهر، وصوم يوم الجمعة خصوصاً إلا أن يصوم يوماً قبله، أو يوماً بعده، وصوم السبت خصوصاً، وصوم يوم عرفة بعرفة، وصوم يوم الشك: وهو آخر يوم من شعبان احتياطاً إذا لم يظهر الهلال. وصوم اليوم الرابع من النحر، إلا لقارن أو متمتع أو لمن لزمه هدي لنقص في الحج، أو في حالة النذر والكفارات، فلا يكره. ¬
الشافعية
ويكره صوم التطوع لمن عليه صوم واجب كالقضاء، وصوم الضيف بدون إذن المضيف، وصوم يوم المولد النبوي، لأنه شبيه بالأعياد. ويكره نذر صوم يوم مكرر ككل خميس، لأن التزام يوم متكرر أو دائم يؤدي إلى التثاقل والندم، فيكون لغير الطاعة أقرب. ويكره تطوع بصوم قبل صوم واجب غير معيَّن، كقضاء رمضان وكفارة. أما المعين فلا يكره التطوع فيه. ويكره تعيين صوم الثلاثة البيض من كل شهر وهي الثالث عشر وتالياه، فراراً من التحديد، كما يكره صوم ستة من شوال إن وصلها بالعيد مظهراً لها، ولا يكره إن فرقها أو أخرها أو صامها سراً، لانتفاء علة اعتقاد الوجوب. وقال الشافعية (¬1): يكره إفراد الجمعة بالصوم، وإفراد السبت والأحد بالصوم، وصوم الدهر غير العيد والتشريق لمن خاف به ضرراً أو فوت حق واجب أو مستحب، للنهي المتقدم عنها في الأحاديث السابقة، ولخبر البخاري: «إن لربك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، ولجسدك عليك حقاً»، وعليه حمل خبر الصحيحين: «لا صام من صام الأبد». ويستحب صوم الدهر لمن لم يخف ضرراً أو فوت حق، لإطلاق الأدلة، ولأنه صلّى الله عليه وسلم قال: «من صام الدهر ضيقت عليه جهنم هكذا، وعقد تسعين» (¬2). وهذا موافق لمذهب الحنابلة أيضاً. ويكره صوم المريض والمسافر والحامل والمرضع والشيخ الكبير إذا خافوا مشقة ¬
النوع الرابع ـ صوم التطوع أو الصوم المندوب
ورأى الجمهور أن الحديث في صوم الدهر على ظاهره، وحملوه على من صام الأيام المنهي عنها. شديدة، وقد يحرم صومهم إذا خافوا الهلاك أو تلف عضو بترك الغذاء. ولا يكره صوم يوم النيروز والمهرجان. وقال الحنابلة (¬1): مثل الشافعية؛ وزادوا أنه يكره صوم الوصال: وهو ألا يفطر بين اليومين، وتزول الكراهة بأكل تمرة ونحوها، ويكره صوم بسفر قصر ولو بلا مشقة، فلو سافر ليفطر حرم السفر والفطر. ويكره إفراد رجب بالصوم؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «نهى عن صيامه» (¬2)، ولأن فيه إحياء لشعار الجاهلية بتعظيمه، وتزول الكراهة بفطره فيه، ولو يوماً، أو بصومه شهراً آخر من السنة، ولايكره إفراد شهر غير رجب بالصوم. ويكره إفراد يوم نيروز (اليوم الرابع من الربيع) ويوم مهرجان (اليوم التاسع عشر من الخريف) بالصوم، وهما عيدان للكفار، لما فيه من موافقة الكفار في تعظيمهما. ويكره أيضاً صوم يوم الشك، كما سبق، وتقدم رمضان بصوم يوم أو يومين، ولا يكره تقدمه بأكثر من يومين. النوع الرابع ـ صوم التطوع أو الصوم المندوب: التطوع: التقرب إلى الله تعالى بما ليس بفرض من العبادات، مأخوذ من قوله تعالى: {ومن تطوع خيراً} [البقرة:158/ 2]، وقد يعبر عنه بالنافلة كما في الصلاة، لقوله تعالى: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك} [الإسراء:79/ 17]. ولا ¬
شك أن الصوم ـ كما أبنت ـ من أفضل العبادات، ففي الصحيحين: «من صام يوماً في سبيل الله، باعد الله تعالى وجهه عن النار سبعين خريفاً» وفي الحديث المتقدم: «كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به». وأيام صوم التطوع بالاتفاق ما يلي: 1 - صوم يوم وإفطار يوم: أفضل صوم التطوع صيام يوم، وإفطار يوم، لخبر الصحيحين: «أفضل الصيام صوم داود، كان يصوم يوماً، ويفطر يوماً» وفيه «لاأفضل من ذلك» (¬1). 2 - صوم ثلاثةأيام من كل شهر، والأفضل أن تكون الأيام البيض أي أيام الليالي البيض، وهي الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، وسميت بيضاً لابيضاضها ليلاً بالقمر، نهاراً بالشمس، وأجرها كصوم الدهر، بتضعيف الأجر، الحسنة بعشر أمثالها من غير حصول المضرة أو المفسدة التي في صيام الدهر. ودليلها ما روى أبو ذر أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال له: «إذا صمت من الشهر ثلاثة أيام، فصم ثالث عشرة، ورابع عشرة، وخامس عشرة» (¬2) وروي «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يصوم عدة ثلاثة أيام من كل شهر» (¬3). ¬
3 - صوم يوم الاثنين والخميس من كل أسبوع، لقول أسامة بن زيد إن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يصوم يوم الاثنين والخميس، فسئل عن ذلك فقال: «إن أعمال الناس تعرض يوم الاثنين ويوم الخميس» (¬1)، وفي لفظ: «وأحب أن يُعْرَض عملي وأنا صائم». 4 - صوم ستة أيام من شوال، ولو متفرقة، ولكن تتابعها أفضل عقب العيد مبادرة إلى العبادة، ويحصل له ثوابها ولو صام قضاء أو نذراً أو غير ذلك، فمن صامها بعد أن صام رمضان، فكأنما صام الدهر فرضاً، لما روى أبو أيوب «من صام رمضان، ثم أتبعه ستاً من شوال، فذاك صيام الدهر» (¬2) وروى ثوبان: «صيام شهر بعشرة أشهر، وصيام ستة أيام بشهرين، فذلك سنة» (¬3) يعني أن الحسنة بعشر أمثالها، الشهر بعشرة أشهر، والستة بستين، فذلك سنة كاملة. 5 - صوم يوم عرفة: هو تاسع ذي الحجة لغير الحاج، لخبر مسلم: «صيام يوم عرفة أحتسب على الله أنه يكفر السنة التي قبلها، والسنة التي بعده» وهو أفضل الأيام لخبر مسلم: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه من النار من يوم عرفة»، وأما قوله صلّى الله عليه وسلم: «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة» فمحمول على غير يوم عرفة بقرينة ما ذكر (¬4). أما الحاج فلا يسن له صوم يوم عرفة، بل يسن له فطره وإن كان قوياً، ليقوى على الدعاء، واتباعاً للسنة، كما روى الشيخان، فصومه له خلاف الأولى، قال ¬
أبو هريرة رضي الله عنه: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة بعرفات» (¬1). ولا بأس بصومه للحاج عند الحنفية إذا لم يضعفه الصوم. 6 - صوم الأيام الثمانية من ذي الحجة قبل يوم عرفة للحاج وغيره، لقول حفصة: «أربع لم يكن يدعُهنَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم: صيام عاشوراء، والعشر، وثلاثة أيام من كل شهر، والركعتين قبل الغداة» (¬2) وقد تقدم في بحث «صلاة العيدين» أحاديث تدل على فضيلة العمل في عشر ذي الحجة عموماً، والصوم مندرج تحتها. 7 - صوم تاسوعاء وعاشوراء: وهما التاسع والعاشر من شهر المحرم، ويسن الجمع بينهما، لحديث ابن عباس مرفوعاً: «لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع والعاشر» (¬3) ويتأكد صيام عاشوراء لقوله صلّى الله عليه وسلم فيه: «أحتسب على الله تعالى أن يكفر السنة التي قبله» (¬4)، وإنما لم يجب صومه لخبر الصحيحين: «إن هذا اليوم يوم عاشوراء، ولم يكتب عليكم صيامه، فمن شاء فليصم، ومن شاء فليفطر» وحملوا الأخبار الواردة بالأمر بصومه على تأكد الاستحباب. والحكمة من صيام عاشوراء: ما بينه ابن عباس، قائلاً: «قدم النبي صلّى الله عليه وسلم، ¬
فرأى اليهود تصوم عاشوراء، فقال: ما هذا؟ قالوا: يومٌ صالح، نجَّى الله فيه موسى وبني إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى، فقال: أنا أحق بموسى منكم، فصامه، وأمر بصيامه» (¬1). فإن لم يصم مع عاشوراء تاسوعاء، سن عند الشافعية أن يصوم معه الحادي عشر، بل نص الشافعي في الأم والإملاء على استحباب صوم الثلاثة. وذكر الحنابلة أنه إن اشتبه على المسلم أول الشهر، صام ثلاثة أيام، ليتيقن صومها. وتاسوعاء وعاشوراء آكد شهر الله المحرم. ولا يكره عند الجمهور غير إفراد العاشر بالصوم. 8 - صيام الأشهر الحرم ـ وهي أربع: ثلاثة متوالية؛ وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرَّم، وواحد منفرد وهو رجب، وهي أفضل الشهور للصوم بعد رمضان، وأفضل الأشهر الحرم: المحرم، ثم رجب، ثم باقي الحرم، ثم بعد الحرم شعبان. واستحباب صوم هذه الأشهر هو عند المالكية والشافعية (¬2)، واكتفى الحنابلة باستحباب صوم المحرم، فهو عندهم أفضل الصيام بعد صيام شهر رمضان، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «أفضل الصلاة بعد المكتوبة جوف الليل، وأفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرَّم» (¬3)، وأفضل المحرم يوم عاشوراء، كما تقدم. وقال الحنفية: المندوب في الأشهر الحرم أن يصوم ثلاثة أيام من كل منها، وهي الخميس والجمعة والسبت. ¬
آراء المذاهب في الصوم المندوب
9 - صوم شعبان: لحديث أم سلمة: أن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يكن يصوم من السنة شهراً تاماً إلا شعبان يصل به رمضان (¬1)، وعن عائشة قالت: «لم يكن النبي صلّى الله عليه وسلم يصوم أكثر من شعبان، فإنه كان يصومه كله» (¬2) وكره قوم صوم النصف الآخر من شعبان، وقال الشافعية: لا يصح صومه، للحديث المتقدم: «إذا انتصف شعبان فلا تصوموا». آراء المذاهب في الصوم المندوب: للفقهاء تصنيفات لأيام الصوم المتطوع بها، هي ما يأتي: قال الحنفية (¬3): صوم التطوع أنواع ثلاثة: مسنون، ومندوب، ونفل: والمسنون: هو ما واظب عليه النبي صلّى الله عليه وسلم، والمندوب أو المستحب: هو مالم يواظب عليه صلّى الله عليه وسلم، وإن لم يفعله بعدما رغب إليه. والنفل: ما سوى ذلك وهو ما رغب فيه الشرع من مطلق الصوم. أما المسنون: فهو صوم عاشوراء مع التاسع. وأما المندوب: فهو صوم ثلاثة أيام من كل شهر، ويندب كونها الأيام البيض: وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، وصوم الاثنين والخميس، وصوم ست من شوال ولا يكره التتابع على المختار، وكل صوم ثبت طلبه والوعد عليه بالسنة كصوم داود عليه السلام. ومنه صوم يوم الجمعة ولو منفرداً، فلا بأس بصيامه عند أبي حنيفة ومحمد، لما روي عن ابن عباس أنه كان يصومه ولا يفطر. ¬
قال المالكية
ومنه صوم يوم عرفة، ولو لحاج لم يضعفه عن الوقوف بعرفات، ولا يخل بالدعوات، فلو أضعفه كره. وأما النفل: فهو ما سوى ذلك مما لم يثبت كراهيته. وذكر الحنفية تصنيفاً آخر، فقالوا: أنواع الصوم اللازم ثلاثة عشر: سبعة متتابعة: وهي رمضان، وكفارة ظهار وقتل، ويمين، وإفطار رمضان بلا عذر، ونذر معين، وصوم اعتكاف واجب، وستة يخير فيها بين التتابع والتفريق وهي: صوم النفل، وقضاء رمضان، وصوم القران والتمتع في الحج إذا عجز عن الذبح، وفدية حلق، وجزاء صيد، ونذر مطلق عن التقييد بشهر كذا وعن التتابع أو نيته. وقال المالكية (¬1): التطوع ثلاثة أنواع: سنة ومستحب ونافلة، فهم كالحنفية. فالسنة: صيام يوم عاشوراء: وهو عاشر المحرم. والمستحب: صيام الأشهر الحرم وشعبان والعشر الأول من ذي الحجة، ويوم عرفة، وستة أيام من شوال، وثلاثة أيام من كل شهر، ويوم الاثنين والخميس. والنافلة: كل صوم لغير وقت ولا سبب في غير الأيام التي يجب أو يمنع. وذكر الشافعية (¬2): أن صوم التطوع المؤكد قسمان: قسم لا يتكرر كصوم الدهر. وقسم يتكرر، وهو أنواع ثلاثة: الأول ـ ما يتكرر بتكرر السنين: وهو صوم يوم عرفة لغير الحاج والمسافر، ¬
سرد الحنابلة
وعشر ذي الحجة، وعاشوراء وتاسوعاء، والحادي عشر من المحرم، وست من شوال ويسن تواليها واتصالها بالعيد. وسن صوم الأشهر الحرم (وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب) وكذا يسن صوم شعبان. الثاني ـ مايتكرر بتكرر الشهور: وهي الأيام البيض: وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر، والأيام السود: وهي الثامن والعشرون وتالياه، وعند نقص الشهر يعوض عنه أول الشهر، ويسن أن يصوم معها السابع والعشرين احتياطاً. وخصت أيام البيض وأيام السود بذلك لتعميم ليالي الأولى بالنور والثانية بالسواد، فناسب صوم الأولى شكراً، والثانية لطلب كشف السواد، ولأن الشهر ضيف قد أشرف على الرحيل، فناسب تزويده بذلك. الثالث ـ ما يتكرر بتكرر الأسابيع: وهو الاثنين والخميس. وسرد الحنابلة (¬1) أوقات صوم التطوع فقالوا: أفضل صوم التطوع يوم ويوم، ولا يكره صوم الدهر إلا لخائف ضرراً أو فوت حق. وسن ثلاثة من كل شهر، وكونها أيام البيض أفضل: وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، وذلك كصيام الدهر، فإن الحسنة بعشر أمثالها. ويسن صوم الاثنين والخميس، وستة من شوال، والأولى تتابعها وعقب العيد، إلا لمانع كقضاء، ومن صامها مع رمضان، كأنما صام الدهر. ¬
هل يلزم التطوع بالشروع فيه؟
ويسن صوم المُحرَّم، وهو أفضل الصيام بعد رمضان، وآكده عاشوراء وهو كفارة سنة (¬1)، ثم تاسوعاء، ولا يكره إفراد العاشر بالصوم. ويسن صوم أيام عشر ذي الحجة، وهي أفضل من العشر الأخير من رمضان، وآكده يوم عرفة، وهو كفارة سنتين، والمراد كفارة الصغائر، فإن لم تكن رُجي تخفيف الكبائر، فإن لم تكن فرفع درجات. ولا يستحب صيام يوم عرفة لمن كان بعرفة من الحاج، بل فطره أفضل، لما روت أم الفضل بنت الحارث «أنها أرسلت إلى النبي صلّى الله عليه وسلم بقدح لبن، وهو واقف على بعيره بعرفة، فشرب» (¬2)، وأخبر ابن عمر أنه «حج مع النبي صلّى الله عليه وسلم، ثم أبي بكر، ثم عمر، ثم عثمان، فلم يصمه أحد منهم» ولأنه يُضعف عن الدعاء، فكان تركه أفضل. ويكره إفراد رجب بالصوم، لما تقدم سابقاً في الصوم المكروه. ولا يكره إفراد شهر غير رجب بالصوم؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم «كان يصوم شعبان ورمضان» أي أحياناً، إذ لم يداوم على غير رمضان. هل يلزم التطوع بالشروع فيه؟ للفقهاء نظريتان في هذا الموضوع، الأولى للحنفية والمالكية، والثانية للشافعية والحنابلة: ¬
قال الفريق الأول (¬1): من دخل في صوم التطوع أو في صلاة التطوع، لزمه إتمامه، فإن أفسده قضاه وجوباً، كما أنه إذا سافر عمداً فأفطر لسفره، فعليه القضاء، لأن المؤدى قربة وعمل صار لله تعالى، فتجب صيانته بالمضي فيه عن الإبطال، ولا سبيل إلى صيانة ما أداه إلا بلزوم الباقي، وإذا وجب المضي وجب القضاء، ولأن الوفاء بالعقد مع الله واجب، وحله حرام في كل عبادة يتوقف أولها على آخرها، لقوله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم} [محمد:33/ 47] وقال مالك: لا ينبغي أن يفطر من صام متطوعاً، إلا من ضرورة، وبلغني أن ابن عمر قال: من صام متطوعاً، ثم أفطر من غير ضرورة، فذلك الذي يلعب بدينه، وقياساً على النذر، فإن النفل ينقلب واجباً بالنذر، ويجب أداؤه، لكن ذكر الحنفية أنه إذا شرع متطوعاً في خمسة أيام: يومي العيدين وأيام التشريق، فلا يلزمه قضاؤها في ظاهر الرواية. وقال الفريق الثاني (¬2): من دخل في تطوع غير حج وعمرة كأن شرع في صوم أو صلاة أو اعتكاف أو طواف أو وضوء أو قراءة سورة الكهف ليلة الجمعة أو يومها، أو التسبيحات عقب الصلاة، فلا يلزمه إتمامه، وله قطعه، ولا قضاء عليه، ولا مؤاخذة في قطعه لكن يستحب له إتمامه، لأنه تكميل العبادة، وهو مطلوب، ويكره الخروج منه بلا عذر، لظاهر قوله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم} [محمد:33/ 47] وللخروج من خلاف من أوجب إتمامه، ولما فيه من تفويت الأجر. ¬
المبحث الثالث ـ متى يجب الصوم، وكيفية إثبات هلال الشهر واختلاف المطالع؟
فإن وجد عذر كمساعدة ضيف في الأكل إذا عز عليه امتناع مضيفه منه، أو عكسه، فلا يكره الخروج منه، بل يستحب لخبر: «وإن لزَوْرك عليك حقاً» والزور: الزائرون، وخبر «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ضيفه» (¬1). ودليلهم على عدم لزوم النفل بالشروع فيه في الصوم: قوله صلّى الله عليه وسلم: «الصائم المتطوع أمير نفسه، إن شاء صام، وإن شاء أفطر» (¬2) وتقاس الصلاة وبقية النوافل غير الحج والعمرة على الصوم، ولأن أصل مشروعية النفل غير لازم، والقضاء يتبع المقضي عنه، فإذا لم يكن واجباً، لم يكن القضاء واجباً، بل يستحب، وروي جواز قطع صوم التطوع عن ابن عمر وابن عباس وابن مسعود. أما التطوع بالحج أو العمرة فيحرم قطعه، لمخالفته غيره في لزوم الإتمام، والكفارة بالجماع، لأن الوصول إليهما لا يحصل في الغالب إلا بعد كلفة عظيمة، ومشقة شديدة، وإنفاق مال كثير، ففي إبطالهما تضييع لماله، وإبطال لأعماله الكثيرة. المبحث الثالث ـ متى يجب الصوم، وكيفية إثبات هلال الشهر واختلاف المطالع؟: وفيه مطالب ثلاثة: المطلب الأول ـ متى يجب الصوم؟ يجب الصوم بأحد أمور ثلاثة (¬3). ¬
الأول ـ النذر: بأن ينذر المرء صوم يوم أو شهر تقرباً إلى الله تعالى، فيجب عليه بإيجابه على نفسه، ويكون سبب صوم المنذور هو النذر، فلو عين شهراً أو يوماً، وصام شهراً أو يوماً قبله عنه، أجزأه، لوجود السبب، ويلغو التعيين. الثاني ـ الكفارات: عن معصية ارتكبها المرء، كالقتل الخطأ، وحنث اليمين، وإفطار رمضان بالجماع نهاراً، والظهار، ويكون سبب الصوم هو القتل أو الحنث أو الإفطار، أو المظاهرة. الثالث ـ شهود جزء من شهر رمضان من ليل أو نهار على المختار عند الحنفية، فيكون السبب شهود الشهر. ويجب صوم رمضان: إما برؤية هلاله إذا كانت السماء صحواً، أو بإكمال شعبان ثلاثين يوماً إذا وجد غيم أوغبار ونحوهما، لقوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} [البقرة:185/ 2] وقوله صلّى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غمّ عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين» (¬1) وفي لفظ البخاري: «الشهر تسع وعشرون ليلة، فلا تصوموا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين» وفي لفظ لمسلم: «أنه ذكر رمضان، فضرب بيده، فقال: الشهر هكذا وهكذا وهكذا، ثم عقد إبهامه في الثالثة، صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فاقدُروا ثلاثين» وقد يقع نقص الشهر أي تسعة وعشرين يوماً مدة شهرين أو ثلاثة أو أربعة فقط، كما في شرح مسلم للنووي، ولا تثبت بقية توابع رمضان كصلاة التراويح ووجوب الإمساك على من أصبح مفطراً إلا برؤية الهلال، أو إكمال شعبان ثلاثين يوماً. ¬
المطلب الثاني ـ كيفية إثبات هلال رمضان وهلال شوال
المطلب الثاني ـ كيفية إثبات هلال رمضان وهلال شوال: تتردد أقوال الفقهاء في طريق إثبات هلال رمضان وشوال بين اتجاهات ثلاثة: رؤية جمع عظيم، ورؤية مسلمين عدلين، ورؤية رجل عدل واحد. أما الحنفية (¬1) فقالوا: أـ إذا كانت السماء صحواً: فلا بد من رؤية جمع عظيم لإثبات رمضان، والفطر أو العيد، ومقدار الجمع: من يقع العلم الشرعي (أي غلبة الظن) بخبرهم، وتقديرهم مفوض إلى رأي الإمام في الأصح؛ واشتراط الجمع لأن المَطْلع متحد في ذلك المحل، والموانع منتفية، والأبصار سليمة، والهمم في طلب الهلال مستقيمة، فالتفرد في الرؤية من بين الجم الغفير ـ مع ذلك ـ ظاهر في غلط الرأي. ولا بد من أن يقول الواحد منهم في الإدلاء بشهادته: «أشهد». ب ـ وأما إذا لم تكن السماء صحواً بسبب غيم أو غبار ونحوه، فيكتفي الإمام في رؤية الهلال بشهادة مسلم واحد عدل عاقل بالغ، (والعدل: هو الذي غلبت حسناته سيئاته) أو مستور الحال في الصحيح، رجلاً كان أو امرأة، حراً أم غيره، لأنه أمر ديني، فأشبه رواية الأخبار. ولا يشترط في هذه الحالة أن يقول: «أشهد» وتكون الشهادة في مصر أمام القاضي، وفي القرية في المسجد بين الناس. وتجوز الشهادة على الشهادة، فتصح الشهادة أمام القاضي بناء على شهادة شخص آخر رأى الهلال. ومن رأى الهلال وحده، صام، وإن لم يقبل الإمام شهادته، فلو أفطر وجب عليه القضاء دون الكفارة. ¬
المالكية
ولا يعتمد على ما يخبر به أهل الميقات والحساب والتنجيم، لمخالفته شريعة نبينا عليه أفضل الصلاة والتسليم؛ لأنه وإن صح الحساب أو الرصد، فلسنا مكلفين شرعاً إلا بالرؤية العادية. وقال المالكية (¬1): يثبت هلال رمضان بالرؤية على أوجه ثلاثة هي ما يأتي: 1ً - أن يراه جماعة كثيرة وإن لم يكونوا عدولاً: وهم كل عدد يؤمن في العادة تواطؤهم على الكذب. ولا يشترط أن يكونوا ذكوراً أحراراً عدولاً. 2ً - أن يراه عَدْلان فأكثر: فيثبت بهما الصوم والفطر في حالة الغيم أو الصحو. والعدل: هو الذكر الحر البالغ العاقل الذي لم يرتكب معصية كبيرة ولم يصر على معصية صغيرة، ولم يفعل ما يخل بالمروءة. فلا يجب الصوم في حالة الغيم برؤية عدل واحد أو امرأة أو امرأتين على المشهور، ويجب الصوم قطعاً على الرائي في حق نفسه. وتجوز الشهادة بناء على شهادة العدلين إذا نقل الخبر عن كل واحد اثنان، ولا يكفي نقل واحد. ولا يشترط في إخبار العدلين أو غيرهم لفظ «أشهد». 3ً - أن يراه شاهد واحد عدل: فيثبت الصوم والفطر له في حق العمل بنفسه أو في حق من أخبره ممن لا يعتني بأمر الهلال، ولا يجب على من يعتني بأمر الهلال الصوم برؤيته، ولا يجوز الإفطار بها، فلا يجوز للحاكم أن يحكم بثبوت الهلال برؤية عدل فقط. ولا يشترط في الواحد الذكورة ولا الحرية. فإن كان الإمام هو الرائي وجب الصوم والإفطار. ويجب على العدل أو العدلين رفع الأمر للحاكم أنه رأى الهلال ليفتح باب الشهادة، ولأنه قد يكون الحاكم ممن يرى الثبوت بعدل. ¬
الشافعية
أما هلال شوال: فيثبت برؤية الجماعة الكثيرة التي يؤمن تواطؤها على الكذب ويفيد خبرها العلم أو برؤية العدلين كما هو الشأن في إثبات هلال رمضان. ولا يثبت الهلال بقول منجّم أي حاسب يحسب سير القمر، لا في حق نفسه ولا غيره؛ لأن الشارع أناط الصوم والفطر والحج برؤية الهلال، لا بوجوده إن فرض صحة قوله، فالعمل بالمراصد الفلكية وإن كانت صحيحة لا يجوز، ولايطلب شرعاً، كما تقدم. وقال الشافعية (¬1): تثبت رؤية الهلال لرمضان أو شوال أو غيرهما بالنسبة إلى عموم الناس برؤية شخص عدل، ولو مستور الحال، سواء أكانت السماء مصحية أم لا، بشرط أن يكون الرائي عدلاً مسلماً بالغاً عاقلاً حراً ذكراً، وأن يأتي بلفظ «أشهد» فلا تثبت برؤية الفاسق والصبي والمجنون والعبد والمرأة. ودليلهم: أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما رأى الهلال، فأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بذلك، فصام وأمر الناس بصيامه (¬2). وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «جاء أعرابي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت هلال رمضان، فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم، قال: تشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، قال: يا بلال، أذن في الناس، فليصوموا غداً» (¬3) والمعنى في ثبوته بالواحد الاحتياط للصوم. أما الرائي نفسه فيجب عليه الصوم، ولو لم يكن عدلاً (أي فاسقاً) أو كان صبياً أو امرأة أو كافراً، أو لم يشهد عند القاضي، أو شهد ولم تسمع شهادته، كما يجب الصوم على من صدقه ووثق بشهادته. ¬
الحنابلة
وإذا صمنا برؤية عدل، ولم نر الهلال ثلاثين، أفطرنا في الأصح، وإن كانت السماء صحواً، لكمال العدد بحجة شرعية. وقال الحنابلة (¬1): يقبل في إثبات هلال رمضان قول مكلف عدل واحد ظاهراً وباطناً ذكراً أو أنثى حراً أو عبداً، ولو لم يقل: أشهد أو شهدت أني رأيته، فلا يقبل قول مميز ولا مستور الحال لعدم الثقة بقوله في الغيم والصحو، ولو كان الرائي في جمع كثير ولم يره منهم غيره. ودليلهم الحديث المتقدم أنه صلّى الله عليه وسلم صوَّم الناس بقول ابن عمر، ولقبوله خبر الأعرابي السابق به، ولأنه خبر ديني وهو أحوط، ولا تهمة فيه، بخلاف آخر الشهر، ولاختلاف حال الرائي والمرئي، فلو حكم حاكم بشهادة واحد، عمل بها وجوباً. ولا يعتبر لوجوب الصوم لفظ الشهادة، ولايختص بحاكم، فيلزم الصوم من سمعه من عدل. ولا يجب على من رأى الهلال إخبار الناس أو أن يذهب إلى القاضي أو إلى المسجد. ويجب الصوم على من ردت شهادته لفسق أو غيره، لعموم الحديث: «صوموا لرؤيته» ولا يفطر إلا مع الناس؛ لأن الفطر لا يباح إلا بشهادة عدلين. وإن رأى هلال شوال وحده لم يفطر لحديث أبي هريرة يرفعه قال: «الفطر يوم يفطرون، والأضحى يوم يضحون» (¬2) ولاحتمال خطئه وتهمته، فوجب الاحتياط. وتثبت بقية الأحكام إذا ثبتت رؤية هلال رمضان بواحد من وقوع الطلاق المعلق به، وحلول آجال الديون المؤجلة إليه، وغيرها كانقضاء العدة والخيار المشروط ومدة الإيلاء ونحوها تبعاً للصوم. ولا يجب الصوم - كما تقدم - بالحساب والنجوم ولو كثرت إصابتها، لعدم استناده لما يعول عليه شرعاً. ¬
ولا يقبل في إثبات بقية الشهور كشوال (من أجل العيد) وغيره إلا رجلان عدلان، بلفظ الشهادة؛ لأن ذلك مما يطلع عليه الرجال غالباً، وليس بمال ولا يقصد به المال. وإنما ترك ذلك في إثبات رمضان احتياطاً للعبادة. وإذا صام الناس بشهادة اثنين: ثلاثين يوماً، فلم يروا الهلال، أفطروا، سواء في حال الغيم أو الصحو، لحديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب السابق أن النبي صلّى الله عليه وسلم: «وإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا» (¬1). ولا يفطروا إن صاموا الثلاثين يوماً بشهادة واحد، لأنه فطر، فلا يجوز أن يستند إلى واحد، كما لو شهد بهلال شوال. وإن صاموا ثمانية وعشرين يوماً، ثم رأوا الهلال، قضوا يوماً فقط. وإن صاموا لأجل غيم ونحوه كقَتر ودخان، لم يفطروا؛ لأن الصوم إنما كان احتياطاً، فمع موافقته، للأصل: وهو بقاء رمضان، أولى. وإن رأى هلال شوال عدلان، ولم يشهدا عند الحاكم، جاز لمن سمع شهادتهما الفطر إذا عرف عدالتهما، وجاز لكل واحد منهما أن يفطر بقولهما إذا عرف عدالة الآخر، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا» فإن لم يعرف أحدهما عدالة الآخر، لم يجز له الفطر لاحتمال فسقه إلا أن يحكم بذلك حاكم، فيزول اللبس. وإن شهد شاهدان عند الحاكم برؤية هلال شوال: فإن رد الحاكم شهادتهما، لجهله بحالهما، فلمن علم عدالتهما الفطر؛ لأن رده ههنا ليس بحكم منه بعدم قبول شهادتهما، إنما هو توقف لعدم علمه بحالهما، فهو كالتوقف عن الحكم انتظاراً للبينة، فلو ثبتت عدالتهما بعد ذلك ممن زكاهما حكم بها، لوجود المقتضي، وأما إن رد الحاكم شهادتهما لفسقهما، فليس لهما ولا لغيرهما الفطر بشهادتهما. ¬
طلب رؤية الهلال
وإذا اشتبهت الأشهر على أسير أو سجين أو من بمفازة أو بدار حرب ونحوهم، اجتهد وتحرى في معرفة شهر رمضان وجوباً؛ لأنه أمكنه تأدية فرضه بالاجتهاد، فلزمه كاستقبال القبلة، فإن وافق ذلك شهر رمضان أو ما بعد رمضان، أجزأه. وإن تبين أن الشهر الذي صامه ناقص، ورمضان الذي فاته كامل تمام، لزمه قضاء النقص؛ لأن القضاء يجب أن يكون بعدد المتروك. وإن وافق صومه شهراً قبل رمضان كشعبان لم يجزئه؛ لأنه أتى بالعبادة قبل وقتها، فلم يجزئه، كالصلاة، فلو وافق بعضه رمضان، فما وافقه أوبعده، أجزأه، دون ما قبله. وإن صام من اشتبهت عليه الأشهر، بلا اجتهاد، فكمن خفيت عليه القبلة، لا يجزيه مع القدرة على الاجتهاد. والخلاصة: إن الحنفية يشترطون لإثبات هلال رمضان وشوال رؤية جمع عظيم إذا كانت السماء صحواً، وتكفي رؤية العدل الواحد في حال الغيم ونحوه. ولا بد عند المالكية من رؤية عدلين أو أكثر، وتكفي رؤية العدل الواحد عندهم في حق من لا يهتم بأمر الهلال. وتكفي رؤية عدل واحد عند الشافعية والحنابلة، ولو مستور الحال عند الشافعية، ولا يكفي المستور عند الحنابلة، كما لا بد عند الحنابلة والمالكية من رؤية هلال شوال من عدلين لإثبات العيد. وتقبل شهادة المرأة عند الحنفية والحنابلة، ولا تقبل عند المالكية والشافعية. طلب رؤية الهلال: قال الحنفية (¬1): يجب للناس أن يلتمسوا الهلال في اليوم التاسع والعشرين من شعبان، وكذا هلال شوال لأجل إكمال العدة، فإن ¬
المطلب الثالث ـ اختلاف المطالع
رأوه صاموا، وإن غم عليهم، أكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً، ثم صاموا؛ لأن الأصل بقاء الشهر، فلا ينتقل عنه إلا بدليل، ولم يوجد. وقال الحنابلة (¬1): يستحب ترائي الهلال احتياطاً للصوم، وحذاراً من الاختلاف، قالت عائشة: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يتحفظ في شعبان ما لا يتحفظ في غيره، ثم يصوم لرؤية رمضان» (¬2) وروى أبو هريرة مرفوعاً: «أحصوا هلال شعبان لرمضان» (¬3). ويسن إذا رأى المرء الهلال كبَّر ثلاثاً، وقال: «اللهم أهلّه علينا باليُمن والإيمان، والأمن والأمان، ربي وربك الله» ويقول ثلاث مرات: «هلال خير ورشد» ويقول: «آمنت بالذي خلقك» ثم يقول: «الحمد لله الذي ذهب بشهر كذا، وجاء بشهر كذا» وروى الأثرم عن ابن عمر، قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا رأى الهلال قال: الله أكبر، اللهم أهلّه علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والتوفيق لما تحب وترضى، ربي وربك الله». وإذا رئي الهلال يكره عند الحنفية أن يشير الناس إليه، لأنه من عمل الجاهلية. المطلب الثالث ـ اختلاف المطالع: اختلف الفقهاء على رأيين في وجوب الصوم وعدم وجوبه على جميع المسلمين في المشارق والمغارب في وقت واحد، بحسب القول باتفاق مطالع القمر ¬
قال الحنفية
أو اختلاف المطالع، ففي رأي الجمهور: يوحد الصوم بين المسلمين، ولا عبرة باختلاف المطالع. وفي رأي الشافعية يختلف بدء الصوم والعيد بحسب اختلاف مطالع القمر بين مسافات بعيدة. ولا عبرة في الأصح بما قاله بعض الشافعية: من ملاحظة الفرق بين البلد القريب والبعيد بحسب مسافة القصر (89 كم). هذا مع العلم بأن اختلاف المطالع نفسه لانزاع فيه، فهو أمر واقع بين البلاد البعيدة كاختلاف مطالع الشمس، ولا خلاف في أن للإمام الأمر بالصوم بما ثبت لديه؛ لأن حكم الحاكم يرفع الخلاف، وأجمعوا أنه لا يراعى ذلك في البلدان النائية جداً كالأندلس والحجاز، وأندونيسيا والمغرب العربي (¬1). وأذكر أولاً عبارات الفقهاء في هذا الموضوع المهم. قال الحنفية (¬2): اختلاف المطالع، ورؤية الهلال نهاراً قبل الزوال وبعده غير معتبر، على ظاهر المذهب، وعليه أكثر المشايخ، وعليه الفتوى، فيلزم أهل المشرق برؤية أهل المغرب، إذا ثبت عندهم رؤية أولئك، بطريق موجب، كأن يتحمل اثنان الشهادة، أو يشهدا على حكم القاضي، أو يستفيض الخبر، بخلاف ما إذا أخبر أهل بلدة كذا رأوه؛ لأنه حكاية. وقال المالكية (¬3): إذا رئي الهلال، عمَّ الصوم سائر البلاد، قريباً أو بعيداً، ولا يراعى في ذلك مسافة قصر، ولا اتفاق المطالع، ولا عدمها، فيجب الصوم ¬
قال الحنابلة
على كل منقول إليه، إن نقل ثبوته بشهادة عدلين أو بجماعة مستفيضة، أي منتشرة. وقال الحنابلة (¬1): إذا ثبتت رؤية الهلال بمكان، قريباً كان أو بعيداً، لزم الناس كلهم الصوم، وحكم من لم يره حكم من رآه. وأما الشافعية فقالوارين فرسخاً (¬2): إذا رئي الهلال ببلد لزم حكمه البلد القريب لا البعيد، بحسب اختلاف المطالع في الأصح، واختلاف المطالع لا يكون في أقل من أربعة وعشرين فرسخاً (¬3). وإذا لم نوجب على البلد الآخر وهو البعيد، فسافر إليه من بلد الرؤية من صام به، فالأصح أنه يوافقهم وجوباً في الصوم آخراً، وإن كان قد أتم ثلاثين؛ لأنه بالانتقال إلى بلدهم، صار واحداً منهم، فيلزمه حكمهم، وروي أن ابن عباس أمر كُرَيْباً بذلك كما سيأتي. ومن سافر من البلد الآخر الذي لم ير فيه الهلال إلى بلد الرؤية، عيَّد معهم وجوباً، لأنه صار واحداً منهم، سواء أصام ثمانية وعشرين يوماً، أم تسعة وعشرين بأن كان رمضان تاماً عندهم، وقضى يوماً إن صام ثمانية وعشرين؛ لأن الشهر لا يكون كذلك. ومن أصبح معيِّداً، فسارت سفينته أو طائرته إلى بلدة بعيدة أهلها صيام، فالأصح أن يمسك بقية اليوم وجوباً؛ لأنه صار واحداً منهم. ¬
الأدلة
الأدلة: أدلة الشافعية: استدلوا على اعتبار اختلاف المطالع بالسنة والقياس والمعقول: 1ً - السنة: استدلوا بحديثين: أولهما حديث كُرَيب، وثانيهما حديث ابن عمر: أ - حديث كريب: أن أم الفضل بعثته إلى معاوية بالشام، فقال: فقدمتُ الشام، فقضيت حاجتها، واستُهلَّ علي رمضان ُ وأنا بالشام، فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمتُ المدينةفي آخر الشهر، فسألني عبد الله بن عباس، ثم ذكر الهلال، فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة، فقال: أنت رأيتَه؟ فقلت: نعم، ورآه الناس وصاموا، وصام معاوية، فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نُكْمِل ثلاثين أو نراه، فقلت: ألا نكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمَرَنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم (¬1). فدل على أن ابن عباس لم يأخذ برؤية أهل الشام، وأنه لا يلزم أهل بلد العمل برؤية أهل بلد آخر. ب ـ حديث ابن عمر: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إنما الشهر تسع وعشرون، فلا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غُمّ عليكم فاقدُروا له» (¬2) وهو يدل على أن وجوب الصوم منوط بالرؤية، لكن ليس المراد رؤية كل واحد، بل رؤية البعض. ¬
أدلة الجمهور
2ً - القياس: قاسوا اختلاف مطالع القمر على اختلاف مطالع الشمس المنوط به اختلاف مواقيت الصلاة. 3ً - المعقول: أناط الشرع إيجاب الصوم بولادة شهر رمضان، وبدء الشهر يختلف باختلاف البلاد وتباعدها، مما يقتضي اختلاف حكم بدء الصوم تبعاً لاختلاف البلدان. أدلة الجمهور: استدلوا بالسنة والقياس. أما السنة: فهو حديث أبي هريرة وغيره: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين» (¬1) فهو يدل على أن إيجاب الصوم على كل المسلمين معلق بمطلق الرؤية، والمطلق يجري على إطلاقه، فتكفي رؤية الجماعة أو الفرد المقبول الشهادة. وأما القياس: فإنهم قاسوا البلدان البعيدة على المدن القريبة من بلد الرؤية، إذ لا فرق، والتفرقة تحكُّم، لا تعتمد على دليل. هذا ... وقد ذكر ابن حجر في الفتح ستة أقوال في الموضوع، وقال الصنعاني: والأقرب لزوم أهل بلد الرؤية وما يتصل بها من الجهات التي على سَمْتها (¬2) أي على خط من خطوط الطول: وهي ما بين الشمال إلى الجنوب إذ بذلك تتحد المطالع، وتختلف المطالع بعدم التساوي في طول البلدين أو باختلاف درجات خطوط العرض. وقال الشوكاني: إن الحجة إنما هي في المرفوع من رواية ابن عباس، لا في ¬
اجتهاده الذي فهم عنه الناس، والمشار إليه بقوله: «هكذا أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم» وقوله: «فلا نزال نصوم حتى نكمل الثلاثين». والأمر الوارد في حديث ابن عمر، لا يختص بأهل ناحية على جهة الانفراد، بل هو خطاب لكل من يصلح له من المسلمين، فالاستدلال به على لزوم رؤية أهل بلد لغيرهم من أهل البلاد، أظهر من الاستدلال به على عدم اللزوم؛ لأنه إذا رآه أهل بلد، فقد رآه المسلمون، فيلزم غيرهم ما لزمهم. والذي ينبغي اعتماده هو ماذهب إليه المالكية وجماعة من الزيدية واختاره المهدي منهم، وحكاه القرطبي عن شيوخه: أنه إذا رآه أهل بلد، لزم أهل البلاد كلها (¬1). وهذا الرأي (رأي الجمهور) هو الراجح لدي توحيداً للعبادة بين المسلمين، ومنعاً من الاختلاف غير المقبول في عصرنا، ولأن إيجاب الصوم معلق بالرؤية، دون تفرقة بين الأقطار. والعلوم الفلكية تؤيد توحيد أول الشهر الشرعي بين الحكومات الإسلامية، لأن أقصى مدة بين مطلع القمر في أقصى بلد إسلامي وبين مطلعه في أقصى بلد إسلامي آخر هو نحو 9 ساعات، فتكون بلاد الإسلام كلها مشتركة في أجزاء من الليل تمكنها من الصيام عند ثبوت الرؤية والتبليغ بها برقياً أو هاتفياً (¬2). والاحتياط هو الاكتفاء بتوحيد الأعياد في حدود البلاد العربية بدءاً من عمان في الشرق إلى المغرب الأقصى. ¬
المبحث الرابع ـ شروط الصوم
المبحث الرابع ـ شروط الصوم: فيه مطلبان: الأول ـ في شروط الوجوب، والثاني ـ في شروط صحة الأداء. المطلب الأول ـ شروط وجوب الصوم: اشترط الفقهاء لوجوب الصوم شروطاً خمسة هي ما يأتي (¬1): 1 - الإسلام: شرط وجوب عند الحنفية: شرط صحة عند الجمهور، فلا يجب الصوم على الكافر، ولا يطالب بالقضاء عند الأولين، ولا يصح صوم الكافر بحال ولو مرتداً عند الآخرين، وليس عليه القضاء عندهم أيضاً. ومنشأ الخلاف: مخاطبة الكفار بفروع الشريعة، فعند الحنفية: إن الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة التي هي عبادات، وعند الجمهور: الكفار مخاطبون بفروع الشريعة في حال كفرهم بمعنى أنه يجب عليهم الإسلام، ثم الصوم، إذ لا يصح الصوم لأنه عبادة بدنية محضة تفتقر إلى النية، فكان من شرطه الإسلام كالصلاة، ويزاد في عقوبتهم في الآخرة بسبب ذلك؛، ولكن لا يطالبون بفعلها في حال كفرهم، فتنحصر ثمرة الخلاف في مضاعفة العذاب في الآخرة، فعند الحنفية: العذاب واحد على الكفر، وعند الجمهور يضاعف العذاب على الكفر وعلى ترك التكاليف الشرعية (¬2). ¬
2 - 3 - البلوغ والعقل
فإن أسلم الكافر في شهر رمضان، صام ما يستقبل من بقية شهره، وليس عليه قضاء ما سبق بالاتفاق، لقوله تعالى: {قل للذين كفروا: إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال:38/ 8]، ولأن في إيجاب قضاء ما فات في حال الكفر تنفيراً عن الإسلام. والردة تمنع صحة الصوم، لقوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك} [الزمر:65/ 39]. أما إن أسلم الكافر في أثناء النهار، فيلزمه عند الحنابلة إمساك بقية اليوم، وقضاؤه، لأنه أدرك جزءاً من وقت العبادة، فلزمته، كما لو أدرك جزءاً من وقت الصلاة، ويستحب الكف عن الأكل عندالحنفية والمالكية والشافعية مراعاة لحرمة أو لحق الوقت بالتشبه بالصائمين، كما يستحب القضاء عند المالكية، ولا يلزم عند الحنفية. ولا قضاء عليه في الأصح عند الشافعية لعدم التمكن من زمن يسع الأداء، ولا يلزمه إمساك بقية النهار في الأصح؛ لأنه أفطر لعذر فأشبه المسافر والمريض. لكن إن أسلم المرتد، وجب عليه عند الشافعية والحنابلة قضاء ما تركه في حال الكفر؛ لأنه التزم ذلك بالإسلام، فلم يسقط ذلك بالردة كحقوق الآدميين. 2 - 3 - البلوغ والعقل: فلا يجب الصوم على صبي ومجنون ومغمى عليه وسكران، لعدم توجه الخطاب التكليفي لهم بعدم الأهلية للصوم، المفهوم من قوله صلّى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ» فمن زال عقله غير مخاطب بالصوم في حال زوال العقل، ولا يصح الصوم من المجنون والمغمى عليه والسكران لعدم إمكان النية منه. ويصح الصوم من الصبي المميز أو المميزة كالصلاة، ويجب عند الشافعية
والحنفية والحنابلة على وليه أمره به إذا أطاقه بعد بلوغه سبع سنين، وضربه حينئذ على الصوم بعد بلوغه عشر سنين، إذا تركه ليعتاده، كالصلاة، إلا أن الصوم أشق، فاعتبرت له الطاقة، لأنه قد يطيق الصلاة من لا يطيق الصيام. وقال المالكية: لا يؤمر الصبيان بالصوم بخلاف الصلاة، فلا صيام على الصبيان حتى يحتلم الغلام وتحيض الفتاة، وبالبلوغ لزمتهم أعمال الأبدان فريضة. فإذا بلغ الصبي أثناء اليوم أمسك عند الحنفية بقية اليوم، كما لو أسلم الكافر، وصام ما بعده من الأيام، لتحقق السببية والأهلية، ولم يقض اليوم الذي تأهل فيه، ولا ما مضى قبله من الشهر، لعدم الخطاب بعدم الأهلية له. ومن أغمي عليه في رمضان، لم يقض عند الحنفية اليوم الذي حدث فيه الإغماء، لوجود الصوم، وهو الإمساك المقرون بالنية، إذ الظاهر وجودها منه؛ لأن ظاهر حال المسلم في ليالي رمضان عدم الخلو عن النية. وقضى ما بعده من الأيام لانعدام النية. وإن أغمي عليه أول ليلة قضاه كله غير يوم تلك النية، لأن ظاهر حال المسلم نية الصوم. ومن أغمي عليه رمضان كله، قضاه؛ لأنه نوع مرض يُضعف القُوى، ولا يزيل الحجا، فيصير عذراً في التأخير، لا في الإسقاط. وإذا أفاق المجنون في بعض رمضان، قضى ما مضى منه؛ لأن السبب ـ وهو شهود الشهر ـ قد وجد، وأهلية نفس الوجوب بالذمة وهي متحققة بلا مانع، فإذا تحقق الوجوب بلا مانع، تعين القضاء. وإن استوعب الجنون جميع ما يمكنه فيه إنشاء الصوم، لا يقضي للحرج، بخلاف الإغماء؛ لأنه لا يستوعب الوقت عادة، وامتداده نادر، ولا حرج في ترتيب الحكم على ما هو من النوادر.
والخلاصة: إن الإغماء والجنون المتقطع لا يمنع إيجاب الصوم وقضاءه، وأما الجنون المستوعب لجميع الشهر، فلا قضاء على صاحبه، وأما الإغماء ففيه القضاء، والسكر كالإغماء. وقال المالكية: لا يصح صوم المجنون، ويجب عليه القضاء مطلقاً في المشهور، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «وعن المجنون حتى يفيق» قال ابن رشد: وفيه ضعف، ولا يصح أيضاً صوم المغمى عليه مطلقاً، ويجب عليه القضاء إن بقي مغمى عليه يوماً فأكثر، فإن أغمي عليه يسيراً كنصف اليوم فأقل بعد الفجر، لم يقض. وإن أغمي عليه ليلاً، فأفاق بعد طلوع الفجر، فعليه قضاء الصوم، لفوات محل النية، وهو ليس بعاقل، ولا يقضي من الصلوات إلا ما أفاق في وقتها، ويختلف الإغماء عن النوم لكونه بين رتبتي الجنون والنوم. ولا يقضي النائم مطلقاً ولو نام كل النهار، والسكر كالإغماء إلا أنه يلزمه الإمساك في يومه، ومن سكر ليلاً وأصبح ذاهب العقل، لم يجز له الفطر، ويلزمه القضاء. وقال الشافعية: إذا بلغ الصبي أو أفاق المجنون في أثناء النهار، فكما لو أسلم الكافر، لا قضاء عليهم في الأصح، ولا يلزمهم إمساك بقية النهار في الأصح. ويجب قضاء ما فات بالإغماء والردة والسكر، دون الكفر الأصلي والصِّبا والجنون إلا إذا كان متعدياً بجنونه بأن تناول ليلاً عامداً شيئاً أزال عقله نهاراً، فعليه قضاء ما جن فيه من الأيام، فلا يجب قضاء ما فات على الكافر، لما في وجوبه من التنفير عن الإسلام، ولقوله تعالى {قل للذين كفروا: إن ينتهوا يُغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال:38/ 8]، ولا على الصبي والمجنون لارتفاع قلم التكليف عنهما.
ولو ارتد، ثم جن أو سكر، فالأصح قضاء جميع أيام الجنون، وأيام السكر، لأن حكم الردة مستمر، بخلاف السكر. ويجب القضاء على الحائض والمفطر بلا عذر، وتارك النية، والمسافر والمريض، كما سيأتي. وقال الحنابلة: إن بلغ الصغير صائماً ذكراً كان أو أنثى في أثناء نهار رمضان بتمام سن الخامسة عشرة أو باحتلام (أي إنزال مني بسبب حلم)، أتم صومه بغير خلاف، ولاقضاء عليه إن كان نوى ليلاً، ولا مانع أن يكون أول الصيام نفلاً وباقيه فرضاً، كنذر إتمام نفل. وإذا أفاق المجنون في أثناء الشهر، فعليه صوم ما بقي من الأيام بغير خلاف، ولا يلزمه سواء أكان متعدياً بجنونه أم لا قضاء ما مضى خلافاً للمالكية، وخلافاً للحنفية إن أفاق في أثناء الشهر؛ لأن الجنون معنى يزيل التكليف، فلم يجب القضاء في زمانه كالصغر والكبر. وأما قضاء اليوم الذي أسلم فيه الكافر أو بلغ الصغير أو أفاق فيه المجنون، وإمساكه فيه، ففيه روايتان، أصحهما لزوم إمساك ذلك اليوم وقضاؤه، لحرمة الوقت، ولقيام البينة فيه بالرؤية، ولإدراكه جزءاً من وقته كالصلاة. وكذا يلزم الإمساك والقضاء على كل من أفطر لغير عذر، ومن أفطر ظاناً أن الفجر لم يطلع وقد كان طلع، أو ظن الشمس قد غابت ولم تغب، أو الناسي النية، أو طهرت الحائض والنفساء، أو تعمدت مكلفة الفطر، ثم حاضت أو نفست، أو تعمد الفطر مقيم ثم سافر، أو قدم مسافر أو أقام مدة تمنع القصر، أو برئ مريض مفطر. أما النوم فلا يؤثر في الصوم، سواء وجد في بعض النهار أو جميعه. والخلاصة: أن الجنون المستمر لا يوجب القضاء عند الجمهور، ويوجبه عند المالكية على المشهور. أما الإغماء فيوجب القضاء بالاتفاق. ويصح صوم المغمى عليه عند الشافعية والحنابلة إن أفاق لحظة من النهار، فإن أطبق الإغماء جميع
4 - 5 - القدرة (أو الصحة من المرض)، والإقامة
النهار لم يصح الصوم، ويصح صوم المغمى عليه مطلقاً عند الحنفية، ولا يصح صومه عند المالكية إلا إذا أغمي يسيراً كنصف اليوم فأقل. 4 - 5 - القدرة (أو الصحة من المرض)، والإقامة: فلا يجب الصوم على المريض والمسافر، ويجب عليهما القضاء إن أفطرا إجماعاً، ويصح صومهما إن صاما، والدليل قوله تعالى: {أياماً معدودات، فمن كان منكم مريضاً أو على سفر، فعدة من أيام أخر، وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين، فمن تطوع خيراً فهو خير له، وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون} [البقرة:184/ 2] وإذا قدم المسافر أمسك عن الطعام والشراب بقية يومه، كما إذا طهرت الحائض في بعض النهار. كما لايجب الصوم على من لم يطقه للكبر، ولا على نحو حائض لعجزها شرعاً، ولا على حامل أو مرضع لعجزهما حساً. ويشترط لعدم وجوب الصوم على المسافر أن يكون السفر سفر قصر، وأن يكون عند الجمهور (غير الحنفية) مباحاً؛ لأن الرخص لا تناط بالمعاصي، ولا يشترط كونه مباحاً عند الحنفية؛ لأن سبب وجود الترخص وهو السفر قائم، وأن يكون السفر عند الجمهور (غير الحنابلة) قبل الفجر، فلو أصبح المقيم صائماً، فسافر، فلا يفطر؛ لأن الصوم عبادة اجتمع فيها الحضر والسفر، فغلب جانب الحضر؛ لأنه الأصل. لكن لو أصبح صائماً فمرض، أفطر لوجود المبيح للإفطار، ولو أقام المسافر، وشفي المريض، حرم الفطر. ولم يشترط الحنابلة هذا الشرط، لكن الأفضل لمن سافر في أثناء يوم نوى صيامه إتمام الصوم، خروجاً من خلاف من لم يبح له الفطر، تغليباً لحكم الحضر، كالصلاة.
المطلب الثاني ـ شروط صحة الصوم
وأضاف الحنفية شرطاً آخر لوجوب الصوم وهو مفهوم أصولياً: وهو العلم بالوجوب لمن أسلم بدار الحرب، أو الكون بدار الإسلام لمن نشأ فيها. المطلب الثاني ـ شروط صحة الصوم: اشترط الحنفية (¬1) لصحة الصوم شروطاً ثلاثة: هي النية، والخلو عما ينافي الصوم من حيض ونفاس، وعما يفسده. فإذا حاضت المرأة أفطرت وقضت. واشترط المالكية (¬2) أربعة شروط هي النية، والطهارة عن الحيض والنفاس، والإسلام، والزمان القابل للصوم، فلا يصح في يوم العيد، واشترطوا أيضاً لصحة الصوم: العقل: فلا يصح من مجنون ولا مغمى عليه، ولا يجب عليهما أيضاً. واشترط الشافعية (¬3) أربعة شروط أيضاً: وهي الإسلام، والعقل، والنقاء عن الحيض والنفاس جميع النهار، وكون الوقت قابلاً للصوم، فلا يصح صوم الكافر والمجنون والصبي غير المميز والحائض والنفساء. أما النية فهي ركن عندهم. واشترط الحنابلة (¬4) شروطاً ثلاثة: هي الإسلام، والنية، والطهارة عن الحيض والنفاس. ويظهر من ذلك أن الفقهاء اتفقوا على اشتراط النية، والطهارة من الحيض والنفاس جميع النهار. وأما الإسلام فهو شرط صحة عند الجمهور وشرط وجوب عند الحنفية كما بينا. وسنبحث شرط النية تفصيلاً. ¬
شرط الطهارة
شرط الطهارة: اتفق الفقهاء على أنه لا يشترط الخلو عن الجنابة، حتى يتمكن من إزالتها، ولضرورة حصولها ليلاً وطروء النهار، ولما روت عائشة وأم سلمة: أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يصبح جُنُباً من جماع غير احتلام، ثم يصوم في رمضان (¬1). وعن أم سلمة قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصبح جنباً من جماع لا حُلُم، ثم لا يفطر ولا يقضي (¬2). فمن أصبح جنباً ولم يتطهر، أو امرأة حائض طهرت قبل الفجر، فلم يغتسلا إلا بعد الفجر، أجزأهما صوم ذلك اليوم. أما النية فأذكر في الصوم تعريفها وهل هي شرط أو ركن، ومحلها، وشروطها، وصفتها، وأثرها. تعريف النية: القصد وهو اعتقاد القلب فعل شيء وعزمه عليه، من غير تردد. والمراد بها هنا: قصد الصوم، فمتى خطر بقلبه في الليل أن غداً من رمضان وأنه صائم فيه، فقد نوى. هل النية شرط أو ركن؟ اتفق الفقهاء على أن النية مطلوبة في كل أنواع الصيام، فرضاً كان أوتطوعاً، إما على سبيل الشرطية أو الركنية، علماً بأن الشرط: ما كان خارج ماهية أو حقيقة الشيء، والركن عند الحنفية: ما كان جزءاً من الماهية. لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات» (¬3) وقوله أيضاً: «من لم يُجمع الصيام قبل الفجر، فلا صيام له» (¬4) وعن ¬
محل النية
عائشة مرفوعاً إلى النبي صلّى الله عليه وسلم: «من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر، فلا صيام له» (¬1) ولأن الصوم عبادة محضة، فافتقر إلى النية كالصلاة. واعتبرها الحنفية والحنابلة وكذا المالكية على الراجح، شرطاً (¬2)؛ لأن صوم رمضان وغيره عبادة، والعبادة: اسم لفعل يأتيه العبد باختياره خالصاً لله تعالى بأمره، والاختيار والإخلاص لا يتحققان بدون النية، فلا يصح أداء الصوم إلا بالنية، تمييزاً للعبادات عن العادات. وهي عند الشافعية (¬3) ركن كالإمساك عن المفطرات. ومحل النية: القلب، ولا تكفي باللسان قطعاً، ولا يشترط التلفظ بها قطعاً (¬4). لكن يسن عند الجمهور (غير المالكية) التلفظ بها، والأولى عند المالكية ترك التلفظ بها. شروط النية: يشترط في النية ما يأتي: 1 - تبييت النية: أي إيقاعها ليلاً، وهو شرط متفق عليه (¬5)، للحديث السابق: «من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر، فلا صيام له» ولأن النية عند ابتداء العبادة كالصلاة. لكن تساهل بعض الفقهاء أحياناً في تحديد وقت النية لبعض أنواع الصيام. ¬
الحنفية
فقال الحنفية (¬1): الأفضل في الصيامات كلها أن ينوي وقت طلوع الفجر إن أمكنه ذلك، أو من الليل؛ لأن النية عند طلوع الفجر تقارن أول جزء من العبادة حقيقة، ومن الليل تقارنه تقديراً. وإن نوى بعد طلوع الفجر: فإن كان الصوم ديناً، لا يجوز بالإجماع، وإن كان عيناً وهو صوم رمضان، وصوم التطوع خارج رمضان، والمنذور المعين، يجوز. فالصوم نوعان: أـ نوع يشترط له تبييت النية وتعيينها: وهو ما يثبت في الذمة: وهو قضاء رمضان، وقضاء ما أفسده من نفل، وصوم الكفارات بأنواعها ككفارة اليمين وصوم التمتع والقران، والنذر المطلق، كقوله: إن شفى الله مريضي، فعلي صوم يوم مثلاً، فحصل الشفاء. فلا يجوز صوم ذلك إلا بنية من الليل. ب ـ ونوع لا يشترط في تبييت النية وتعيينها: وهو ما يتعلق بزمان بعينه، كصوم رمضان، والنذر المعين زمانه، والنفل كله مستحبه ومكروهه، يصح بنية من الليل إلى ما قبل نصف النهار على الأصح، ونصف النهار: من طلوع الفجر إلى وقت الضحوة الكبرى. وقال المالكية (¬2): يشترط لصحة النية إيقاعها في الليل من الغروب إلى آخر جزء منه، أو إيقاعها مع طلوع الفجر، ولايضر في الحالة الأولى ماحدث بعد النية ¬
الشافعية
من أكل أو شرب أو جماع، أو نوم، بخلاف الإغماء والجنون، فيبطلانها إن استمرا للفجر، وإلا فلا. فلو نوى نهاراً قبل الغروب لليوم المستقبل، أو قبل الزوال لليوم الذي هو فيه، لم تنعقد ولو نفلاً. وقال الشافعية (¬1): يشترط لفرض الصوم من رمضان، أو غيره كقضاء أو نذر تبييت النية ليلاً، والصحيح أنه لا يشترط النصف الآخر من الليل، وأنه لا يضر الأكل والجماع بعدها، وأنه لا يجب تجديد النية إذا نام ثم تنبه. ويصح صوم النفل بنية قبل الزوال؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم قال لعائشة يوماً: «هل عندكم من غداء؟ قالت: لا، قال: فإني إذن أصوم، قالت: وقال لي يوماً آخر: أعندكم شيء؟ قلت: نعم، قال: إذن أفطر، وإن كنت فرضت الصوم» (¬2) واختص بما قبل الزوال للخبر، إذ الغداء: اسم لما يؤكل قبل الزوال، والعشاء: اسم لما يؤكل بعده، ولأنه مضبوط بيِّن، ولإدراك معظم النهار به. وبدهي أنه يشترط لصحة الصوم الامتناع عن المفطرات من أول النهار. وقال الحنابلة (¬3) كالشافعية: الصوم الواجب أو الفرض لا يصح إلا بنية من الليل، للحديث المتقدم: «من لم يجمع الصيام قبل الفجر، فلا صيام له»، وأما صوم التطوع فيصح بنية قبل النهار، وبعده خلافاً للشافعية، إذا لم يكن طعم بعد الفجر، لحديث عائشة المتقدم، قالت: «دخل علي النبي صلّى الله عليه وسلم ذات يوم، فقال: هل عندكم شيء؟ فقلنا: لا، قال: فإني إذاً صائم» (¬4) ويدل عليه أيضاً حديث عاشوراء: «هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب الله عليكم صيامه، وأنا صائم، فمن ¬
2 - تعيين النية في الفرض
شاء فليصم، ومن شاء فليفطر» (¬1)، ولأن الصلاة خفف نفلهاعن فرضها، بدليل أنه لا يشترط القيام لنفلها، وتجوز الصلاة في السفر على الراحلة إلى غير القبلة، فكذا الصيام، ولما فيه من تكثيره لكونه يَعنّ له، فعفي عنه. وهذا قول أبي الدرداء وأبي طلحةومعاذ وابن مسعود وحذيفة وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والنخعي وأصحاب الرأي. ويبدو لي أنه الرأي الأرجح، وحديث عائشة مخصص لحديث «لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل» بل الحديث الأول أصح من الثاني، كما قال ابن قدامة. 2 - تعيين النية في الفرض: هذا شرط عند الجمهور، وليس بشرط عند الحنفية. قال الحنفية (¬2) كما تقدم في الشرط السابق: لا يشترط تعيين النية في الصوم، المتعلق بزمان معين كصوم رمضان ونذر معين زمانه ونفل مطلق، لأن الزمن المخصص له وهو شهر رمضان ونحوه من نذر يوم محدد بذاته وقت مضيق أو معيار، لا يسع إلاصوم رمضان. ويصح أداء رمضان بنية واجب آخر لمن كان صحيحاً مقيماً، أما المسافر فإنه يقع عما نواه من الواجب. وأما المريض: فكذلك يقع عما نواه عند أبي حنيفة إذا نوى واجباً آخر؛ لأنه شغل الوقت بالأهم لتحتمه للحال، وتخيره في صوم رمضان إلى إدراك العدة. ورجح هذا الرأي صاحب «الهداية» وأكثر مشايخ بخارى، لعجزه المقدور. ولا فرق بين المسافر والمقيم والصحيح والسقيم عند أبي يوسف ومحمد في وقوع صومه عن رمضان إذا نوى عن واجب آخر؛ لأن الرخصة إنما ثبتت حتى لاتلزم المعذور مشقة، فإذا تحملها التحق بغير المعذور. ¬
3 - الجزم بالنية
وقال الجمهور (¬1): يجب تعيين النية في الصوم الواجب: وهو أن يعتقد أنه يصوم غداً من رمضان، أو من قضائه، أو من كفارته، أو نذره. فلا يجزئ نية الصوم المطلق؛ لأن الصوم (¬2) عبادة مضافة إلى وقت، فوجب التعيين في نيتها كالصلوات الخمس، والقضاء. وإن نوى في رمضان صيام غيره، لم يجزه عن واحد منهما. 3 - الجزم بالنية: هذا شرط أيضاً عند الجمهور، وليس بشرط عند الحنفية. أما الحنفية (¬3): فيرون أنه لا يشترط في الصوم المقيد بزمن معين أن تكون النية جازمة، فإن نوى الصوم ليلة الثلاثين من شعبان، على أنه إن ظهر كونه من رمضان، أجزأ عن رمضان ماصامه بأي نية كانت، إلا أن يكون مسافراً أو نواه عن واجب آخر، فيقع عما نواه عنه. ويكره تحريماً عندهم كما أبنت، في يوم الشك كل صوم من فرض وواجب، وصوم تردد فيه بين نفل وواجب، إلا صوم نفل جزم به، بلا ترديد بينه وبين صوم آخر، فإنه لا يكره. ورأى الجمهور (¬4) أنه لا بد أن تكون النية جازمة، فلو نوى ليلة الشك إن كان غداً من رمضان، فأنا صائم فرضاً، وإلا فهو نفل، أو واجب آخر عينه بنيته، كأن ينويه عن نذر أو كفارة، لم يجزئه عن واحد منهما، لعدم جزمه بالنية لأحدهما، إذ لم يعين الصوم من رمضان جزماً. ¬
نية الفرضية
ومن قال: أنا صائم غداً إن شاء الله، فإن قصد بالمشيئة الشك والتردد في العزم والقصد، فسدت نيته لعدم الجزم بها، وإن لم يقصد ذلك بل نوى التبرك أو لم ينو شيئاً، لم تفسد نيته، إذ قصده أن فعله للصوم بمشيئة الله وتوفيقه وتيسيره. كما لايفسد الإيمان بقوله: أنا مؤمن إن شاء الله، وكذا سائر العبادات لا تفسد بذكر المشيئة في نيتها. لكن لا يضر التردد بعد حصول الظن باستصحاب كآخر رمضان، أو حصول الظن بشهادة أو باجتهاد كالأسير، فلو نوى ليلة الثلاثين من رمضان صوم غد إن كان من رمضان، أجزأه وصح صومه إن كان منه، لأن الأصل بقاء رمضان، وصومه مبني على أصل لم يثبت زواله، ولا يؤثر تردده لأنه حكم صومه مع الجزم، بخلاف ما إذا نواه ليلة الثلاثين من شعبان؛ لأنه لا أصل معه يبنى عليه. ومن نوى الصوم غداً معتقداً كونه من رمضان بشهادة موثوقة، صح صومه. ولو اشتبه رمضان على أسير أو محبوس أو نحوه، صام شهراً بالاجتهاد، كما يجتهد للصلاة في القبلة والوقت، وذلك بأمارة كالربيع والخريف والحر والبرد، فلو صام بلا اجتهاد، فوافق رمضان، لم يجزئه لتردده في النية. فلو اجتهد وتحير، فلم يظهر له شيء، فيرى النووي في المجموع أنه لا يلزمه أن يصوم. أما نية الفرضية: فليست بشرط باتفاق المذاهب، وهو المعتمد عند الشافعية (¬1) بخلاف المقرر في الصلاة؛ لأن صوم رمضان من البالغ لا يقع إلا فرضاً، بخلاف الصلاة، فإن المعادة نفل. ¬
4 - تعدد النية بتعدد الأيام
وكذلك لا يشترط بالاتفاق تعيين السنة، ولا الأداء، ولا الإضافة إلى الله تعالى، وهو الصحيح عند الشافعية؛ لأن المقصود متحقق بنية الصوم، والتعيين بجزئ عن ذلك. 4 - تعدد النية بتعدد الأيام: هذا شرط عند الجمهور، وليس بشرط عند المالكية (¬1)، فيشترط عند الجمهور النية لكل يوم من رمضان على حدة؛ لأن صوم كل يوم عبادة على حدة، غير متعلقة باليوم الآخر، بدليل أن ما يفسد أحدهما لا يفسد الآخر، فيشترط لكل يوم منه نية على حدة. وقال المالكية: تجزئ نية واحدة لرمضان في أوله، فيجوز صوم جميع الشهر بنية واحدة، وكذلك في صيام متتابع مثل كفارة رمضان وكفارة قتل أو ظهار ما لم يقطعه بسفر أو مرض أو نحوهما، أو لم يكن على حالة يجوز له الفطر كحيض ونفاس وجنون، فيلزمه استئناف النية، أي تجديدها فلا تكفي النية الواحدة، وإن لم يجب استئناف الصوم، فالصوم السابق صحيح لا ينقطع تتابعه، ولكن تجدد النية، وتندب النية كل ليلة فيما تكفي فيه النية الواحدة. ودليلهم أن الواجب صوم الشهر، لقوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} [البقرة:185/ 2]، والشهر: اسم لزمان واحد، فكان الصوم من أوله إلى آخره عبادة واحدة، كالصلاة والحج، فيتأدى بنية واحدة. صفة النية وأثرها: قال الحنفية (¬2): يصح صوم رمضان ونحوه كالنذر المعين زمانه بمطلق النية، وبنية النفل، وبنية واجب آخر، كما أبنت، ولا يجب تبييت نية صوم رمضان. ¬
وقال المالكية (¬1): صفة النية: أن تكون معينة مبيتة جازمة. وقال الشافعية (¬2): كمال النية في رمضان: أن ينوي صوم غد عن أداء فرض رمضان هذه السنة لله تعالى. والمعتمد أنه لا يجب في التعيين نية الفرضية. وقال الحنابلة (¬3): من خطر باله أنه صائم غداً، فقد نوى، ويجب تعيين النية بأن يعتقد أنه يصوم غداً من رمضان أو من قضائه أو من نذره أو كفارته، ولا يجب مع التعيين نية الفريضة. واتفق غير الحنفية على وجوب تبييت النية، كما اتفق غير الشافعية على أن الأكل والشرب بنية الصوم أو التسحر نية، إلا أن ينوي معه عدم الصيام. ولا يقوم مقام النية عند الشافعية التسحر في جميع أنواع الطعام، إلا إذا خطر له الصوم عند التسحر ونواه، كأن يتسحر بنية الصوم، أو امتنع من الأكل عند الفجر خوف الإفطار. وأثر النية: هو تحقيق الثواب، فيحكم بالصوم الشرعي المثاب عليه من وقت النية؛ لأن ما قبله لم يوجد فيه قصد القربة، فلا يقع عبادة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «وإنما لكل امرئ ما نوى»، فيصح تطوع حائض أو نفساء طهرت في يوم بصوم بقيته، وتطوع كافر أسلم في يوم بصوم بقية اليوم، ولم يكن كل من الحائض والكافر قد أكلا من طلوع الفجر (¬4). ¬
خلاصة آراء المذاهب في شروط الصوم
خلاصة آراء المذاهب في شروط الصوم: الحنفية (¬1): شروط الصوم عندهم ثلاثة أنواع: شروط وجوب، وشروط وجوب الأداء، وشروط صحة الأداء. أما شروط الوجوب، فهي أربعة: الإسلام، والعقل، والبلوغ، والعلم بالوجوب لمن أسلم بدار الحرب، أو الكون بدار الإسلام، ومن جن رمضان كله لم يقضه، وإن أفاق المجنون في بعضه قضى ما مضى، أما من أغمي عليه في رمضان كله قضاه، ومن أغمي عليه في أثناء يوم في رمضان لم يقضه لوجود الصوم فيه وهو الإمساك المقرون بالنية، وقضى ما بعده. وأما شروط وجوب الأداء، فهي اثنان: الصحة من مرض وحيض ونفاس، فلا يجب الأداء على المريض، والإقامة، فلا يجب الأداء على مسافر، ولكن يجب عليهما القضاء. وأما شروط صحة الأداء، فهي ثلاثة: النية فلا يصح أداء الصوم إلا بالنية، والخلو عن ما نع الحيض والنفاس، فلا يصح أداء الصوم منهما، وعليهما القضاء، والخلو عما يفسد الصوم بطروء مفسد عليه. المالكية (¬2): شروط الصوم أنواع ثلاثة: شروط وجوب، وشروط صحة، وشروط وجوب وصحة معاً، ومجموعها سبعة: الإسلام، والبلوغ، والعقل، والطهارة من دم الحيض والنفاس، والصحة، والإقامة، والنية. ¬
ويلاحظ أن النية شرط على الراجح كما في حاشية الدسوقي، واعتبرها الدردير في الشرح الصغير ركناً، وما قد يذكر من أن النية ركن فهو تسامح. أما شروط الوجوب فهي ثلاثة: البلوغ، والصحة، والإقامة، فلا يجب الصوم على صبي ولو كان مراهقاً، ولكن يجوز صيامه، ولا يندب، ولا يجب على الولي أمره به، ولا يجب على المريض أوالعاجز ومنه المكره، ولا على المسافر ويجب عليهما القضاء. وأما شروط الصحة: فهي اثنان: الإسلام، فلا يصح من الكافر، وإن كان واجباً عليه، ويعاقب على تركه زيادة على عقاب الكفر، والزمان القابل للصوم، فلا يصح في يوم العيد. وأما شروط الوجوب والصحة معاً فهي ثلاثة: الأول ـ الطهارة من دم الحيض والنفاس: فلا يجب عليهما، ولا يصح منهما، وعليهما القضاء بعد زوال المانع. ويجب عليهما المباشرة في الأداء بمجرد الطهارة. والثاني ـ العقل: لأن من زال عقله غير مخاطب بالصوم في حال العقل، فلا يجب على المجنون والمغمى عليه، ولا يصح منهما. أما القضاء فيجب على المجنون مطلقاً في المشهور إذا أفاق من جنونه، وعلى المغمى عليه إن استمر إغماؤه يوماً فأكثر، أو أغمي عليه معظم اليوم، ولا يجب عليه إن أغمي عليه يسيراً بعد الفجر بأن دام نصف اليوم فأقل. والسكران كالمغمى عليه في وجوب القضاء، إلا أنه يلزمه الإمساك بقية يومه. وأما النائم: فلا يجب عليه قضاء ما فاته مطلقاً، متى بيت النية أول الشهر. والثالث ـ النية: فهي شرط صحة الصوم على الراجح الأظهر؛ لأن النية القصد إلى الشيء، ومعلوم أن القصد للشيء خارج عن ماهية الشيء، وتكفي نية
الشافعية
واحدة لكل صوم يجب تتابعه كرمضان وكفارته وكفارة قتل أو ظهار إذا لم ينقطع تتابعه بنحو مرض أو سفر، وندبت كل ليلة فيما تكفي فيه النية الواحدة. والخلاصة: أن الصوم يسقط وجوبه عن اثني عشر: الصبي، والمجنون، والحائض، والنفساء، والمغمى عليه، والمسافر، والصحيح الضعيف البنية العاجز عن القيام به، والمتعطش، والمريض، والحامل، والمرضع، والشيخ الكبير. الشافعية (¬1): شروط الصوم لديهم نوعان: شروط وجوب وشروط صحة. أما شروط الوجوب فأربعة هي ما يأتي: 1ً - الإسلام: فلا يجب على الكافر الأصلي وجوب مطالبة في الدنيا كالصلاة، وإنما يعاقب في الآخرة على تركه، ويجب على المرتد وجوب مطالبة أي قضاء مافاته بعد إسلامه. 2ً - البلوغ: فلا يجب على الصبي لا أداء ولا قضاء، ويؤمر به لسبع، ويضرب على تركه لعشر. 3ً - العقل: فلا يجب على المجنون لا أداء ولاقضاء إلا إذا زال عقله بتعديه، فيلزمه قضاؤه. ومثله السكران المتعدي بسكره يلزمه القضاء، أما غير المتعدي بسكره، كما في حالة الغلط، فلا يطالب بقضاء زمن السكر. 4ً - الإطاقة: فلا يجب على العاجز بنحو هرم أو مرض لا يرجى برؤه، ولا على حائض لعجزها شرعاً. وضابط المرض: هو ما يبيح التيمم وهو ما يصعب معه الصوم أو يناله به ضرر شديد. وأما شروط الصحة فأربعة أيضاً، هي ما يأتي: ¬
الحنابلة
1ً - الإسلام حال الصيام: فلا يصح من كافر أصلي أو مرتد. 2ً - التمييز: أو العقل في جميع النهار: فلا يصح صوم الطفل غير المميز، والمجنون، لفقدان النية، ويصح من صبي مميز. ولا يصح من سكران أو مغمى عليه، لكن لا يضر في الأظهر السكر والإغماء إن أفاق لحظة في النهار. وكذلك لا يضر النوم المستغرق لجميع النهار على الصحيح، لبقاء أهلية الخطاب. 3ً - النقاء عن الحيض والنفاس في جميع النهار: فلا يصح صوم الحائض والنفساء بالإجماع، ولو طرأ في أثناء النهار حيض أونفاس أو ردة أو جنون، بطل الصوم. 4ً - كون الوقت قابلاً للصوم: فلا يصح صوم العيدين، ولا أيام التشريق، وكذلك لا يصح صوم يوم الشك، ولا النصف الأخير من شعبان إلا لورد بأن اعتاد صوم الدهر أو صوم يوم وفطر يوم معين كالاثنين، فصادف ما بعد النصف أو يوم الشك، وإلا إذا صام فيهما لنذر أو قضاء أو كفارة أو وصل ما بعد النصف بما قبله. وأما النية: فهي ركن، وتشترط لكل يوم، ويجب التبييت في الفرض دون النفل، فتجزئه نيته قبل الزوال، ويجب التعيين أيضاً، ولا تجب نية الفرضية في الفرض. وكذلك الإمساك عن الجماع عمداً وعن الاستمتاع وعن الاستقاءة وعن دخول عين جوفاً ركن أيضاً، كما سأبين في مبطلات الصوم. الحنابلة (¬1): شروط الصوم عندهم نوعان: شروط وجوب، وشروط صحة. أما شروط الوجوب فهي أربعة: ¬
1 - الإسلام: فلا يجب الصوم على كافر ولو مرتداً، لأنه عبادة بدنية تفتقر إلى النية، فكان من شرطه الإسلام كالصلاة، ولا يصح منه أيضاً، فلو ارتد في يوم وهو صائم فيه، بطل صومه، لقوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك} [الزمر:65/ 39] فإن عاد إلى الإسلام قضى ذلك اليوم. 2 - البلوغ: فلا يجب الصوم على صبي ولو كان مراهقاً، لحديث «رفع القلم عن ثلاث». ويجب على ولي المميز أمره به إذا أطاقه، وضربه عليه إذا تركه، ليعتاده كالصلاة. 3 - العقل: فلا يجب الصوم على مجنون، للحديث السابق «رفع القلم عن ثلاث» ولا يصح منه، لعدم إمكان النية منه. ولا يجب على الصبي غير المميز، ويصح من المميز كالصلاة. ومن جن في أثناء اليوم، لزمه إمساك ذلك اليوم وقضاؤه لحرمة الوقت، ولإدراكه جزءاً من وقته كالصلاة. أما إذا جن يوماً كاملاً فأكثر، فلا يجب عليه قضاؤه، بخلاف المغمى عليه، فإنه يجب عليه القضاء، ولو طال زمن الإغماء، لأنه مرض غير رافع للتكليف، ويصح الصوم ممن جن أو أغمي عليه إذا أفاق جزءاً من النهار، حيث نوى ليلاً، وكذا يصح ممن نام كل النهار، فمن نام جميع النهار، صح صومه، لأنه معتاد ولا يزيل الإحساس بالكلية، ويجب القضاء على السكران، سواء أكان متعدياً بسكره أم لا. 4 - القدرة على الصوم: فلا يجب على العاجز عنه لكبر أو مرض لا يرجى برؤه، لأنه عاجز عنه، فلا يكلف به، لقوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} [البقرة:286/ 2]. وأما المرض الذي يرجى برؤه فيوجب أداء الصوم إذا برأ منه، وقضاء ما فاته من رمضان. وأما شروط الصحة فهي أربعة أيضاً:
المبحث الخامس ـ سنن الصوم وآدابه ومكروهاته
1 - النية: أي النية المعينة لما يصومه من الليل لكل يوم واجب، ولا تسقط بسهو أوغيره، ولا يضر لو أتى بعدها ليلاً بأكل أو شرب أو جماع ونحوه، ولا تجب نية الفرضية في الفرض، ولا الوجوب في الواجب، لأن التعيين يجزئ عن ذلك، وتصح النية نهاراً في النفل ولو بعد الزوال إذا كان ممسكاً عن المفطر من طلوع الفجر. 2 - الطهارة من الحيض والنفاس، فلا يصح صوم الحائض والنفساء ويحرم فعله، ويجب عليهما الأداء بمجرد انقطاع الدم ليلاً، والقضاء لما فاتهما. 3 - الإسلام: فلا يصح من الكافر ولو كان مرتداً. 4 - العقل أي التمييز: فلا يصح من غير المميز وهو الذي لم يبلغ سبع سنين. المبحث الخامس ـ سنن الصوم وآدابه ومكروهاته: فيه مطلبان: المطلب الأول ـ سنن الصوم وآدابه: يستحب للصائم ما يأتي (¬1): .... 1ً - السحور على شيء وإن قل ولو جرعة ماء، وتأخيره لآخر الليل، أما السحور: فللتقوي به على الصوم، كما دل عليه خبر الصحيحين: «تسحروا فإن في السَّحور بركة» وخبر الحاكم في صحيحه: «استعينوا بطعام السحر على صيام ¬
النهار، وبقيلولة النهار على قيام الليل» وخبر أحمد رحمه الله: «السحور بركة، فلا تدَعوه، ولو أن يجرع أحدكم جرعة ماء، فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين» (¬1). وأما تأخير السحور ما لم يقع في شك في الفجر، فلحديث الطبراني: «ثلاث من أخلاق المرسلين: تعجيل الإفطار، وتأخير السحور، ووضع اليمين على الشمال في الصلاة» ولخبر الإمام أحمد: «لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور» (¬2) وحديث: «دع ما يريبك إلى ما لايريبك». 2ً - تعجيل الفطرعند تيقن الغروب وقبل الصلاة، ويندب أن يكون على رطب، فتمر، فحلو، فماء، وأن يكون وتراً ثلاثة فأكثر لحديث: «لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر» (¬3)، والفطر قبل الصلاة أفضل، لفعله صلّى الله عليه وسلم (¬4). وكونه وتراً، لخبر أنس: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يفطر على رُطَبات قبل أن يصلي، فإن لم تكن رطبات فتَمَرات، فإن لم تكن تمرات، حَسَا حَسَوات من ماء» (¬5)، ويمكن التعجيل في غير يوم غيم، وفي حالة الغيم ينبغي تيقن الغروب والاحتياط حفظاً للصوم عن الإفساد، ورأى الشافعية أنه يحرم الوصال في الصوم: وهو صوم يومين فأكثر من غير أن يتناول بينهما في الليل مفطراً، للنهي عنه في الصحيحين، وعلة ذلك: الضعف، مع كون الوصال من خصوصياته صلّى الله عليه وسلم. 3ً - الدعاء عقب الفطر بالمأثور: بأن يقول: «اللهم إني لك صمت، وعلى ¬
رزقك أفطرت، وعليك توكلت، وبك آمنت، ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله تعالى. يا واسع الفضل اغفر لي، الحمد لله الذي أعانني فصمت، ورزقني فأفطرت». وسنية الدعاء؛ لأن للصائم دعوة لا ترد، لحديث: «للصائم عند فطره دعوة لاتُرد» (¬1)، وصيغة الدعاء ثابتة هكذا في السنة (¬2). 4ً - تفطير صائمين ولو على تمرة أو شربة ماء أوغيرهما، والأكمل أن يشبعهم، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من فطَّر صائماً كان له مثل أجره، غير أنه لا ينقُص من أجر الصائم شيء» (¬3). 5ً - الاغتسال عن الجنابة والحيض والنفاس قبل الفجر، ليكون على طهر من أول الصوم، وليخرج من خلاف أبي هريرة حيث قال: لا يصح صومه، وخشيةمن وصول الماء إلى باطن أذن أو دبر أو نحوه. وبناء عليه: يكره عند الشافعية للصائم دخول الحمام من غير حاجة، لجواز أن يضره، فيفطر، ولأنه من الترفه الذي لايناسب حكمة الصوم. فلو لم يغتسل مطلقاً صح صومه، وأثم من حيث الصلاة. ولو طهرت الحائض أو النفساء ليلاً، ونوت الصوم وصامت، أو صام الجنب ¬
بلا غسل، صح الصوم، لقوله تعالى: {فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم} [البقرة:187/ 2] ولخبر الصحيحين المتقدم: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يصبح جنباً من جماع، غير احتلام، ثم يغتسل، ويصوم» وأما خبر البخاري: «من أصبح جنباً فلا صوم له» فحملوه على من أصبح مجامعاً واستدام الجماع. 6ً - كف اللسان والجوارح عن فضول الكلام والأفعال التي لا إثم فيها. وأما الكف عن الحرام كالغيبة والنميمة والكذب فيتأكد في رمضان، وهو واجب في كل زمان، وفعله حرام في أي وقت، وقال عليه السلام: «من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» (¬1)، «رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر» (¬2) فإن شتم، سن في رمضان قوله جهراً: إني صائم، لحديث الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعاً: «إذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث ولا يصخب، فإن شاتمه أحد أو قاتله، فليقل: إني صائم» أما في غير رمضان فيقوله سراً يزجر نفسه بذلك، خوف الرياء. 7ً - ترك الشهوات المباحة التي لا تبطل الصوم من التلذذ بمسموع ومبصر وملموس ومشموم كشم ريحان ولمسه والنظر إليه، لما في ذلك من الترفه الذي لايناسب حكمة الصوم، ويكره له ذلك كله، كدخول الحمام. 8ً - يسن عند الشافعية: ترك الفصد والحجامة لنفسه ولغيره خروجاً من خلاف من فطَّر بذلك، ويسن بالاتفاق ترك مضغ البان (العلك غير المصحوب بسكر) وغيره لأنه يجمع الريق، ويؤدي للعطش، وترك ذوق الطعام أو غيره خوف وصول شيء إلى الحلق، وترك القبلة، وتحرم القبلة إن خشي فيها الإنزال. ¬
أما كون الحجامة لا تفطر عند الشافعية فلأنه صلّى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم (¬1). وأما حديث: «أفطر الحاجم والمحجوم» (¬2) فهو منسوخ، وتفطر الحجامة عند الحنابلة. 9ً - التوسعة على العيال (الأسرة) والإحسان إلى الأرحام، والإكثار من الصدقة على الفقراء والمساكين، لخبر الصحيحين: «أنه صلّى الله عليه وسلم كان أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل» والحكمة في ذلك تفريغ قلوب الصائمين والقائمين للعبادة بدفع حاجاتهم. 10ً - الاشتغال بالعلم وتلاوة القرآن ومدارسته، والأذكار والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم، كلما تيسر له ذلك ليلاً أو نهاراً. لخبر الصحيحين: «كان جبريل يلقى النبي صلّى الله عليه وسلم في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن» ومثله كل أعمال الخير؛ لأن الصدقة في رمضان تعدل فريضة فيما سواه، فتضاعف الحسنات به. 11ً - الاعتكاف لا سيما في العشر الأواخر من رمضان، لأنه أقرب إلى صيانة النفس عن المنهيات، وإتيانها بالمأمورات، ولرجاء أن يصادف ليلة القدر إذ هي منحصرة فيه، وروى مسلم أنه صلّى الله عليه وسلم كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره. وقالت عائشة: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأواخر أحيا الليل، وأيقظ أهله، وشد المئزر» (¬3) أي اعتزل النساء. والسنة في ليلة القدر كما أبنت أن يقول: «اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني» ويكتمها ويحييها ويحيي يومها كليلتها. ¬
المطلب الثاني ـ مكروهات الصيام
هذه هي سنن الصوم، أفاض في بيانها الشافعية والحنابلة وغيرهم، واقتصر الحنفية على القول باستحباب ثلاثة أمور: السحور، وتأخيره، وتعجيل الفطر في غير يوم غيم. وقال المالكية: سننه السحور وتعجيل الفطر، وتأخير السحور، وحفظ اللسان والجوارح، والاعتكاف في آخر رمضان. وفضائله: عمارته بالعبادة، والإكثار من الصدقة، والفطر على حلال دون شبهة، وابتداء الفطر على التمر أو الماء، وقيام لياليه وخصوصاً ليلة القدر. المطلب الثاني ـ مكروهات الصيام: يكره في الصوم ما يأتي: 1ً - صوم الوصال: وهو ألا يفطر بين اليومين بأكل وشرب، وهو مكروه عند أكثر العلماء (¬1)، ومحرم عند الشافعية، كما تقدم، إلا للنبي صلّى الله عليه وسلم فمباح له، لحديث ابن عمر: «واصل رسول الله صلّى الله عليه وسلم في رمضان، فواصل الناس، فنهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الوصال، فقالوا: إنك تواصل؟ قال: إني لست كأحدكم، إني أظل يطعمني ربي ويسقيني» (¬2) وهذا يقتضي اختصاصه بذلك، ومنع إلحاق غيره به. ولا يحرم عند الجمهور؛ لأن النهي وقع رفقاً ورحمة، ولهذا واصل رسول الله صلّى الله عليه وسلم بهم، وواصلوا بعده. ويحرم عند الشافعية للنهي عنه، كما سبق. 2ً - القبلة، ومقدمات الجماع ولو فكراً أو نظراً، لأنه ربما أداه للفطر بالمني، وهذا إن علمت السلامة من ذلك وإلا حرم. ¬
قال الحنفية
3ً - الترفه بالمباحات كالتطيب نهاراً وشم الطيب والحمام. 4ً - ذوق الطعام والعلك، خوفاً من وصول شيء إلى الجوف بالذوق، ولأن العلك يجمع الريق، فإن ابتلعه أفطر في رأي، وإن ألقاه عطشه. خلاصة المكروهات في المذاهب: قال الحنفية (¬1): يكره للصائم سبعة أمور: 1ً - ذوق شيء ومضغه بلا عذر، لما فيه من تعريض الصوم للفساد. 2ً - مضغ العلك غير المصحوب بسكر (¬2)؛ لأنه يتهم بالإفطار بمضغه، سواء المرأة والرجل. 3ً و 4ً - القبلة، والمس والمعانقة والمباشرة الفاحشة، إن لم يأمن فيها على نفسه الإنزال أو الجماع، في ظاهر الرواية، لما في ذلك من تعريض الصوم للفساد بعاقبة الفعل. ويكره التقبيل الفاحش بمضغ شفتها. وإن أمن المفسد لا بأس. 5ً - 6ً - جمع الريق في الفم قصداً، ثم ابتلاعه، تحاشياً له عن الشبهة. 7ً - ما ظن أنه يضعفه كالفصد والحجامة. ولا يكره للصائم تسعة أمور: 1، 2 - القبلة والمباشرة مع الأمن من الإنزال والوقاع، لما روت عائشة أنه عليه الصلاة والسلام كان يقبل ويباشر، وهو صائم (¬3). ¬
قال المالكية
3، 4 - دهن الشارب بالطيب، والكحل. 5، 6 - الحجامة والفصد إذا لم يضعفه كل منهما عن الصوم. 7 - السواك آخر النهار، بل هو سنة في أول النهار وآخره، ولو كان رطباً أو مبلولاً بالماء. 8 - المضمضة والاستنشاق لغير وضوء. 9 - الاغتسال والالتفاف بثوب مبتل للتبرد، على المفتى به. وقال المالكية (¬1): يكره للصائم ما يأتي: 1 - إدخال الفم كل رطب له طعم وإن مجه، وذوق شيء له طعم كملح وعسل وخل، لينظر حاله، ولو لصانعه، مخافة أن يسبق لحلقه شيء منه. 2 - مضغ عِلْك كلبان وتمرة لطفل، فإن سبقه شيء منهما لحلقه فيجب القضاء. 3 - الدخول على المرأة والنظر إليها، ومقدمة جماع ولو فكراً أو نظراً؛ لأنه ربما أداه للفطر بالمذي أو المني، وهذا إن علمت السلامة من ذلك، وإلا حرم. 4 - تطيب نهاراً وشم الطيب نهاراً. 5 - الوصال في الصوم. 6 - المبالغة في المضمضة والاستنشاق. 7 - مداواة نخر الأسنان نهاراً إلا لخوف ضرر في تأخيره لليل بحدوث مرض أو زيادته أو شدة تألم. فإن ابتلع من الدواء شيئاً قهراً، قضى اليوم. ¬
قال الشافعية
8 - الإكثار من النوم بالنهار. 9 - فضول القول والعمل. 10 - الحجامة. وقال الشافعية (¬1): تكره الحجامة والفصد، والقبلة وتحرم إن خشي فيها الإنزال، ويكره ذوق الطعام، والعلك، ودخول الحمام، والتلذذ بمسموع ومبصر وملموس ومشموم كشم الريحان ولمسه، والنظر إليه، لما في ذلك من الترفه الذي لا يناسب حكمة الصوم. والأصح أن كراهة القبلة إن حركت شهوته تحريمية. ويكره أيضاً السواك بعد الزوال إلى الغروب، للخبر الصحيح المتقدم: «لخُلوف فم الصائم يوم القيامة أفضل عند الله من ريح المسك» أي التغير، واختص بما بعد الزوال؛ لأن التغير ينشأ غالباً قبله من أثر الطعام وبعده من أثر العبادة. ومعنى أطيبيته عند الله تعالى: ثناؤه تعالى عليه، ورضاه به. وتكره المبالغة في المضمضة والاستنشاق، مخافة وصول شيء إلى الحلق. وقال الحنابلة (¬2): يكره للصائم ما يأتي: 1 - أن يجمع ريقه ويبتلعه، لأنه قد اختلف في الفطر به، فإن فعله قصداً لم يفطر، لأنه يصل إلى جوفه من معدنه. وإن أخرجه لما بين شفتيه أو انفصل عن فمه، ثم ابتلعه، أفطر؛ لأنه فارق معدنه، مع إمكان التحرز منه في العادة. ولا بأس بابتلاع الصائم ريقه بحسب المعتاد، بغير خلاف؛ لأنه لا يمكن التحرز منه ¬
كغبار الطريق. ويحرم على الصائم بلع نخامة، ويفطر بها إذا بلعها، سواء أكانت من جوفه أم صدره أم دماغه، بعد أن تصل إلى فمه، لأنها من غير الفم كالقيء. 2 - المبالغة في المضمضة والاستنشاق، لقوله صلّى الله عليه وسلم للقيط بن صبرة: «وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماًَ» وقد تقدم في الوضوء. ولا يفطر بالمضمضة والاستنشاق المعتادين بلا خلاف، سواء كان في الطهارة أوغيرها. 3 - ذوق طعام بلا حاجة؛ لأنه لا يأمن أن يصل إلى حلقه، فيفطره، فإن وجد طعم المذوق في حلقه، أفطر لإطلاق الكراهة. 4 - مضغ العلك الذي لا يتحلل منه أجزاء؛ لأنه يجمع الريق، ويجلو الفم، ويورث العطش، فإن وجد طعمه في حلقه أفطر، لوصول شيء أجنبي يمكن التحرز منه. ويحرم مضغ ما يتحلل منه أجزاء من علك وغيره، ولو لم يبتلع ريقه إقامة للمظِنة مقام المئِنة. 5 - القبلة لمن تحرك شهوته فقط، لقول عائشة السابق: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يُقبِّل، وهو صائم، ويباشر وهو صائم، وكان أملككم لإربه» (¬1) «ونهى النبي صلّى الله عليه وسلم عنها شاباً ورخص لشيخ» (¬2). وإن ظن الإنزال مع القبلة لفرط شهوته، حرم بغير خلاف. ولا تكره القبلة، ولا مقدمات الوطء كلها من اللمس وتكرار النظر ممن لا تحرك شهوته. 6 - ترك الصائم بقية طعام بين أسنانه، خشية أن يجري ريقه بشيء منه إلى جوفه. ¬
المبحث السادس - الأعذار المبيحة للفطر
7 - شم ما لا يأمن أن تجذبه أنفاسه إلى حلقه، كسحيق مسك، وكافور ودهن وبخور وعنبر ونحوها. ولا بأس أن يغتسل الصائم، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يغتسل من الجنابة ثم يصوم (¬1)، ولا بأس بالسواك للصائم، قال عامر بن ربيعة: رأيت النبي صلّى الله عليه وسلم ما لا أحصي يتسوك وهو صائم (¬2). المبحث السادس - الأعذار المبيحة للفطر: يباح الفطرلأعذار أهمها سبع أو تسع هي ما يأتي (¬3)، وقد نظمها بعضهم بقوله: وعوارض الصوم التي قد يغتفر للمرء فيها الفطر تسع تستطر حبل وإرضاع وإكراه سفر مرض جهاد جَوْعةعطش كبر 1 - السفر: لقوله تعالى: {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر} [البقرة:185/ 2] والسفر في عرف اللغة: عبارة عن خروج يُتكلف فيه مؤنة، ويفصل فيه بُعْد في المسافة. ولم يرد فيه من الشارع نص، لكن ورد فيه تنبيه، وهو قوله عليه السلام في الصحيح: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر مسيرة يوم وليلة إلا معها ذو مَحْرم منها». ¬
أـ والسفر المبيح للفطر: هو السفر الطويل الذي يبيح قصر الصلاة الرباعية وذلك لمسافة تقدر بحوالي 89 كم، وبشرط عند الجمهور: أن ينشئ السفر قبل طلوع الفجر ويصل إلى مكان يبدأ فيه جواز القصر وهو بحيث يترك البيوت وراء ظهره، إذ لا يباح له الفطر بالشروع في السفر بعد ما أصبح صائماً، تغليباً لحكم الحضر على السفر إذا اجتمعا. فإذا شرع بالسفر بأن جاوز عمران بلدة قبل طلوع الفجر، جاز له الإفطار، وعليه القضاء. وإن شرع في الصوم، ثم تعرض لمشقة شديدة لا تحتمل عادة، أفطر وقضى، لحديث جابر: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم خرج إلى مكة عام الفتح، فصام حتى بلغ كُرَاع الغميم (¬1)، وصام الناس معه، فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام، وإن الناس ينظرون فيما فعلت، فدعا بقدح من ماء بعد العصر، فشرب والناس ينظرون إليه، فأفطر بعضهم، وصام بعضهم، فبلغه أن ناساً صاموا، فقال: أولئك العصاة» (¬2) قال الشوكاني: فيه دليل على أنه يجوز للمسافر أن يفطر بعد أن نوى الصيام من الليل، وهو قول الجمهور. وأجاز الحنابلة للمسافر الإفطار ولو سافر من بلده في أثناء النهار ولو بعد الزوال، لأن السفر معنى لو وجد ليلاً واستمر في النهار، لأباح الفطر، فإذا وجد في أثنائه أباحه كالمرض، وعملاً بما رواه أبو داود عن أبي بصرة الغفاري الذي أفطر بعد شروعه في السفر، وقال: إنها سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلم. واشترط الشافعية شرطاً ثالثاً: وهو ألا يكون الشخص مديماً للسفر، فإن كان مديماً له كسائقي السيارات، حرم عليه الفطر، إلا إذا لحقه بالصوم مشقة، كالمشقة التي تبيح التيمم: وهي الخوف على نفس أو منفعة عضو من التلف، أو الخوف من طول مدة المرض، أو حدوث شين قبيح في عضو ظاهر: وهو ما لا يعد كشفه هتكاً للمروءة، بأن يبدو في المهنة غالباً. ¬
وهناك شرطان آخران عند الجمهور غير الحنفية: أن يكون السفر مباحاً، وألا ينوي إقامة أربعة أيام في خلال سفره، وأضاف المالكية شرطاً آخر: هو أن يبيِّت الفطر قبل الفجر في السفر، فإن السفر لا يبيح قصراً ولا فطراً إلا بالنية والفعل، كما سيأتي في الفقرة التالية. وأجاز الحنفية الفطر في السفر ولو بمعصية. والخلاصة: أن المالكية يبيحون الفطر بسبب السفر بأربعة شروط: أن يكون السفر سفر قصر، وأن يكون مباحاً، وأن يشرع قبل الفجر إذا كان أول يوم، وأن يبيت الفطر. ب ـ ولو أصبح المسافر صائماً، ثم بدا له أن يفطر، جاز له ذلك ولا إثم عليه عند الشافعية والحنابلة، عملاً بحديث صحيح متفق عليه عن ابن عباس، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم أفطر في أثناء فتح مكة (¬1). ويحرم الفطر ويأثم عند الحنفية والمالكية، وعليه القضاء فقط عند الجمهور، والقضاء والكفارة عند المالكية، لأنه أفطر في صوم رمضان، فلزمه ذلك، كما لو كان مقيماً أو حاضراً. والصوم عند الحنفية والمالكية والشافعية أفضل للمسافر إن لم يتضرر، أو لم تكن عند الحنفية عامة رفقته مفطرين، ولا مشتركين في النفقة، فإن كانوا مشتركين في النفقة أو مفطرين، فالأفضل فطره موافقة للجماعة، ويجب الفطر ويحرم الصوم في حال الضرر. ودليلهم عموم قوله تعالى دون تقييده بحال الكبير الذي لايطيق الصوم: {وأن تصوموا خير لكم} [البقرة:184/ 2] والتضرر: هو الخوف من التلف أو تلف عضو منه أو تعطيل منفعة. وقال الحنابلة: يسن الفطر ويكره الصوم في حالة سفر القصر، ولو بلا مشقة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال عن الصائمين عام الفتح: «أولئك العصاة» ولقوله صلّى الله عليه وسلم ¬
في الصحيحين: «ليس من البر الصوم في السفر». والرأي الأول هو المعقول عملاً بظاهر الآية: {وأن تصوموا خير لكم} [البقرة:184/ 2] ولأن الفطر عام الفتح من أجل القتال. جـ ـ وليس للمسافر أن يصوم في رمضان عن غيره كالنذر والقضاء؛ لأن الفطر أبيح رخصة عنه، فإذا لم يرد التخفيف عن نفسه، لزمه أن يأتي بالأصل. فإن نوى المسافر أو المريض صوماً غير رمضان، لم يصح صومه عند الجمهور لا عن رمضان ولا عما نواه؛ لأنه أبيح له الفطر للعذر، فلم يجز له أن يصومه عن غير رمضان كالمريض. وقال الحنفية: يقع عما نواه إذا كان واجباً، لا تطوعاً؛ لأنه زمن أبيح له فطره، فكان له صومه عن واجب عليه كغير شهر رمضان. د ـ وإن صام المسافر ومثله المريض أجزأه باتفاق المذاهب الأربعة عن فرضه، وقال الظاهرية: لا يجزيه. ومنشأ الاختلاف هو المفهوم من قوله تعال: {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر، فعدة من أيام أخر} [البقرة:185/ 2] فقال الجمهور: الكلام محمول على المجاز، وتقديره: (فأفطر فعدة من أيام أخر) وهذا الحذف هو المعروف بلحن الخطاب. وقال الظاهرية: الكلام محمول على الحقيقة، لا المجاز، وفرض المسافر هو عدة من أيام أخر، فمن قدر وأفطر، ففرضه عدة من أيام أخر إذا أفطر. وتأيد مذهب الجمهور بحديث أنس: «كنا نسافر مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم» (¬1). وتأيد مذهب أهل الظاهر بما ثبت عن ابن عباس: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم خرج ¬
2 - المرض
إلى مكة عام الفتح في رمضان، فصام حتى بلغ الكَديد (وهو ماء بين عُسْفان وقُديد) فأفطر، وأفطروا» (¬1) وكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث أو بالآخر فالآخر من أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم. 2 - المرض: معنى يوجب تغير الطبيعة إلى الفساد، وهو يجيز الفطر كالسفر، للآية السابقة: {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر، فعدة من أيام أخر} [البقرة:185/ 2]. أـ وضابط المرض المبيح الفطر: هوالذي يشق معه الصوم مشقة شديدة أو يخاف الهلاك منه إن صام، أو يخاف بالصوم زيادة المرض أو بطء البرء أي تأخره (¬2). فإن لم يتضرر الصائم بالصوم كمن به جرب أو وجع ضرس أو إصبع أو دمل ونحوه، لم يبح له الفطر. والصحيح الذي يخاف المرض أوالضعف بغلبة الظن بأمارة أو تجربة أو بإخبار طبيب حاذق مسلم مستور العدالة، كالمريض عند الحنفية. والصحيح الذي يظن الهلاك أو الأذى الشديد كالمريض عند المالكية. وليس الصحيح كالمريض عند الشافعية والحنابلة. وإن غلب على الظن الهلاك بسبب الصوم، أو الضرر الشديد كتعطيل حاسة من الحواس، وجب الفطر. ¬
وأضاف الحنفية أن المحارب الذي يخاف الضعف عن القتال، وليس مسافراً، له الفطر قبل الحرب، ومن له نوبة حمى أو عادة حيض، لابأس بفطره على ظن وجوده. فالجهاد ولو بدون سفر سبب من أسباب إباحة الفطر، للتقوي على لقاء العدو، وعملاً بالثابت في السنة عام فتح مكة. ب ـ ولا يجب عند الجمهور على المريض أن ينوي الترخص بالفطر، ويجب ذلك عند الشافعية وإلا كان آثماً. وإن صام المريض في مرضه، أجزأه صومه؛ لصدوره من أهله في محله، كما لو أتم المسافر. جـ ـ وللفقهاء آراء في فطر المريض: فقال الحنفية والشافعية: المرض يبيح الفطر. وقال الحنابلة: يسن الفطر حالة المرض ويكره الصوم، لآية {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر، فعدة من أيام أخر} [البقرة:185/ 2]، أي فليصم عدد ما أفطره. وقال المالكية: للمريض أحوال أربعة: الأولى: ألا يقدر على الصوم بحال، أو يخاف الهلاك من المرض أو الضعف إن صام، فالفطر عليه واجب. الثانية: أن يقدر على الصوم بمشقة فالفطر له جائز، فهم كالحنفية والشافعية، وقال ابن العربي: يستحب (¬1). الثالثة: أن يقدر بمشقة ويخاف زيادة المرض، ففي وجوب فطره قولان. الرابعة: ألا يشق عليه ولا يخاف زيادة المرض، فلا يفطر عند الجمهور، خلافاً لابن سيرين. ¬
3 - 4 - الحمل والرضاع
د ـ إذا أصبح المريض أو المسافر على نية الصيام، ثم زال عذره، لم يجز له الفطر. وإن أصبح على نية الفطر ثم زال عذره، جاز له الأكل بقية يومه، وكذلك من أصبح مفطراً لعذر مبيح، ثم زال عذره في بقية يومه، عند الجمهور خلافاً لأبي حنيفة. هـ ـ لا يصح بالاتفاق لمريض ولا لمسافر أن يصوم تطوعاً في رمضان. وكذا لا يصح عند الجمهور أن يصوم واجباً آخر، ويصح ذلك عند الحنفية على الراجح، كما تبين في عذر السفر. وعلى المريض والمسافر في رأي الشافعية الكفارة مع القضاء إذا جاء رمضان آخر، ولم يقض، والكفارة: هي إطعام مد من غالب قوت البلد عن كل يوم. وتتكرر الكفارة بتكرر السنين. لكن إن استمر العذر حتى دخل رمضان آخر، فلا شيء عليه سوى القضاء. وإن مات قبل التمكن من القضاء، فلا شيء عليه. وإن مات بعد التمكن من القضاء، صام عنه وليه ندباً، فإن لم يصم عنه وليه، أطعم من تركته عن كل يوم مداً من طعام غالب قوت البلد؛ لما روى الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «من مات وعليه صيام شهر، فليُطعَم عنه مكان كل يوم مسكيناً» وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «من مات وعليه صيام، صام عنه وليه». 3 - 4 - الحمل والرضاع: يباح للحامل والمرضع الإفطار إذا خافتا على أنفسهما أو على الولد، سواء أكان الولد ولد المرضعة أم لا، أي نسباً أو رضاعاً، وسواء أكانت أماً أم مستأجرة، وكان الخوف نقصان العقل أو الهلاك أو المرض، والخوف المعتبر: ما كان مستنداً لغلبة الظن بتجربة سابقة، أو إخبار طبيب مسلم حاذق عدل.
5 - الهرم
ودليل الجواز لهما: القياس على المريض والمسافر، وقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة، وعن الحبلى والمرضع الصوم» (¬1) ويحرم الصوم إن خافت الحامل أوالمرضع على نفسها أو ولدها الهلاك. وإذا أفطرتا وجب القضاء دون الفدية عند الحنفية، ومع الفدية إن خافتا على ولدهما فقط عند الشافعية والحنابلة، ومع الفدية على المرضع فقط لا الحامل عند المالكية، كما سيأتي. 5 - الهرم: يجوز إجماعاً الفطر للشيخ الفاني والعجوز الفانية العاجزين عن الصوم في جميع فصول السنة، ولا قضاء عليهما، لعدم القدرة، وعليهما عن كل يوم فدية طعام مسكين، وتستحب الفدية فقط عند المالكية، لقوله تعالى: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} [البقرة:184/ 2] قال ابن عباس: ليست بمنسوخة، هي للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما، فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً (¬2). ومثلهما: المريض الذي لا يرجى برؤه، لقوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج:78/ 22]. أما من عجز عن الصوم في رمضان ولكن يقدر على قضائه في وقت آخر، فيجب عليه القضاء ولا فدية عليه. 6 - إرهاق الجوع والعطش: يجوز الفطر لمن حصل له أو أرهقه جوع أو عطش شديد يخاف منه الهلاك أو نقصان العقل أو ذهاب بعض الحواس، بحيث لم يقدر معه على الصوم، وعليه القضاء. فإن خاف على نفسه الهلاك، حرم عليه الصيام، لقوله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة:195/ 2]. ¬
7 - الإكراه
وإذا أفطر المرهق بالجوع أو العطش، فاختلف: هل يمسك بقية يومه، أو يجوز له الأكل. 7 - الإكراه: يباح الفطر للمستكره، وعليه عند الجمهور القضاء، وعند الشافعية لا يفطر المستكره. وإذا وطئت المرأة مكرهة أو نائمة، فعليها القضاء. هذه أهم الأعذار المبيحة للفطر، أما الحيض والنفاس والجنون الطارئ على الصائم فيبيح الفطر، بل ولا يوجب الصوم ولا يصح معه، كما تقدم في الشروط. صاحب العمل الشاق: قال أبو بكر الآجري (¬1): من صنعته شاقة، فإن خاف بالصوم تلفاً، أفطر وقضى إن ضره ترك الصنعة، فإن لم يضره تركها، أثم بالفطر، وإن لم ينتف التضرر بتركها، فلا إثم عليه بالفطر للعذر. وقرر جمهور الفقهاء أنه يجب على صاحب العمل الشاق كالحصاد والخباز والحداد وعمال المناجم أن يتسحر وينوي الصوم، فإن حصل له عطش شديد أو جوع شديد يخاف منه الضرر، جاز له الفطر، وعليه القضاء، فإن تحقق الضرر وجب الفطر، لقوله تعالى: {ولاتقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً} [النساء:29/ 4]. إنقاذ الغريق ونحوه: قال الحنابلة (¬2): يجب الفطر على من احتاجه غيره لإنقاذ آدمي معصوم من مهلكة كغرق ونحوه، ولا يفدي، فإن قدر بدون فطر حرم، فإن دخل الماء حلقه، لم يفطر. صوم التطوع: ولا يجوز الفطر بلا عذر للمتطوع بالصوم عند الحنفية القائلين بلزوم النفل في الشروع بالعبادة في الرواية الصحيحة، والضيافة عذر في الأظهر للضيف والمضيف قبل الزوال لا بعده، إلا أن يكون في عدم الفطر بعد الزوال عقوق لأحد الأبوين، لا غيرهما، لتأكد الصوم. ¬
الحنفية
وإذا أفطر المتطوع على أي حال، وجب عليه عند الحنفية القضاء، إلا إذا شرع متطوعاً في خمسة أيام: يومي العيد، وأيام التشريق، فلا يلزمه قضاؤها بإفسادها في ظاهر الرواية، كما بان سابقاً. الإمساك بعد الفطر بعذر: اختلف الفقهاء على رأيين بوجوب الإمساك بقيةالنهار أو استحبابه على من أفطر في رمضان بعذر من الأعذار، فقال الحنفية والحنابلة بالوجوب، وقال الشافعية بالاستحباب، وقال المالكية بعدم الوجوب وعدم الاستحباب إلا في حالتين، وتفصيل الحالات والآراء يظهر فيما يأتي. قال الحنفية (¬1): يجب الإمساك بقية اليوم على من فسد صومه ولو بعذر ثم زال، وعلى حائض ونفساء طهرتا بعد طلوع الفجر، وعلى مسافر أقام، ومريض برئ، ومجنون أفاق، وعلى صبي بلغ وكافر أسلم، لحرمة الوقت بالقدر الممكن، وعليهم القضاء إلا الأخيرين (الصبي والكافر) لعدم توافر الخطاب التكليفي لهما عند طلوع الفجر عليهما. وقد عرفنا أن الجنون المتقطع، لا المستوعب جميع الشهر يوجب القضاء، بخلاف الإغماء، فإنه يوجب القضاء ولو استوعب جميع الشهر؛ لأنه نوع مرض، إلا أنه لا يقضي اليوم الذي حدث فيه الإغماء أو حدث في ليلته، لوجود شرط الصوم وهو النية. وقال المالكية (¬2): إمساك بقية اليوم يؤمر به من أفطر في رمضان خاصة أو في نذر واجب عمداً أو إكراهاً أو نسياناً، لا من أفطر لعذر مبيح، فمن أفطر لأجل عذر يباح له الفطر، ثم زال عذره، لا يستحب له الإمساك، كأن زال الحيض أو النفاس في أثناء نهار رمضان، أو انقضى السفر، أو زال الصبا وبلغ في أثناء نهار ¬
الشافعية
رمضان، أو زال الجنون أو الإغماء، أو قوي المريض المفطر، أو زال اضطرار المضطر للأكل أو الشرب، فلا يستحب لهم الإمساك، ويجوز لهم التمادي في تعاطي الفطر. لكن يندب إمساك يوم الشك بقدر ما جرت العادة فيه بثبوت الشهر من المارين في الطريق من السفارة، وذلك بارتفاع النهار. ويجب الإمساك أيضاً في حال الإفطار نسياناً في صوم النفل، لا في العمد الحرام على المعتمد، ولا في الصوم الذي يجب فيه التتابع ككفارة الظهار والقتل. ويرى الشافعية (¬1): أنه يلزم الإمساك من تعدى بالفطر كأن أكل، عقوبة له ومعارضة لتقصيره، أو من نسي النية من الليل؛ لأن نسيانه يشعر بترك الاهتمام بأمر العبادة، فهو نوع من التقصير، وفي يوم الشك إن تبين كونه من رمضان، لما في فطره من نوع تقصير لعدم الاجتهاد في الرؤية، ويجب قضاؤه على الفور على المعتمد. ولا يلزم الإمساك بقية النهار في الأصح إذا بلغ الصبي مفطراً، أو أفاق المجنون، أو أسلم الكافر، في أثناء النهار، لعدم التمكن من زمن يسع الأداء، لكن يندب القضاء لمن أفاق أو أسلم في أثناء النهار، خروجاً من الخلاف. كما لا يلزم الإمساك مسافراً أو مريضاً زال عذرهما بعد الفطر، كأن أكلا؛ لأن زوال العذر بعد الترخص لا يؤثر، كما لو قصر المسافر، ثم أقام، والوقت باق، لكن يستحب لهم الإمساك لحرمة الوقت، ويستحب أيضاً للحائض أو النفساء إذا طهرت. وإنما لم يجب الإمساك؛ لأن الفطر مباح لهم مع العلم بحال اليوم، وزوال العذر بعد الترخص لا يؤثر. ¬
الحنابلة
ويرى الحنابلة (¬1): أنه يلزم الإمساك من أفطر بغير عذر، أو أفطر يظن أن الفجر لم يطلع وقد كان طلع، أو يظن أن الشمس قد غابت ولم تغب، أو الناسي لنية الصوم ونحوهم، بلا خلاف بين العلماء. ويلزم الإمساك أيضاً على الراجح كل من زال عذره في أثناء النهار، وعليه القضاء، كالصبي والمجنون والكافر، والمريض والمسافر، والحائض والنفساء، إذا زالت أعذارهم في النهار، فبلغ الصبي، وأفاق المجنون، وأسلم الكافر، وصح المريض المفطر، وأقام المسافر، وطهرت الحائض والنفساء. ولهم ثواب إمساك، لاثواب صيام. فإن بلغ الصغير صائماً بسن، أو احتلام، وقد نوى من الليل، أتم وأجزأ، كنذر إتمام نفل، وإن علم مسافر أنه يقدم غداً أهله، لزمه الصوم. المبحث السابع ـ ما يفسد الصوم وما لا يفسده: اختلف الفقهاء في هذا المبحث من ناحيتي الشكل (الصياغة) والموضوع، اختلافاً يقتضي بياناً مستقلاً في كل مذهب على حدة. الحنفية (¬2): ما يفسد الصوم نوعان: نوع يوجب القضاء فقط، ونوع يوجب القضاء والكفارة. أولاً ـ مايفسد الصوم ويوجب القضاء فقط دون الكفارة: وهو سبعة وخمسون شيئاً تقريباً، يمكن تصنيفها في ثلاثة أشياء: ¬
الأول ـ أن يتناول ما ليس بغذاء ولا في معنى الغذاء وهو الدواء: وهو تناول كل شيء لا يقصد به التغذي عادة ولا يميل إليه الطبع، كأن أكل الصائم أرزاً نيئاً، أو عجيناً أو دقيقاً غير مخلوط بشيء يؤكل عادة كالسمن والدبس والعسل والسكر، وإلا وجبت به الكفارة، أو أكل ملحاً كثيراً دفعة واحدة، فإن أكل ملحاً قليلاً، وجبت به الكفارة، أو أكل ثمرة قبل نضجها، أو أكل ما بقي بين أسنانه، وكان قدر الحمصة، فإن كان أقل، فلا يفسد، أو أكل جوزة رطبة. أو أكل طيناً غير أرمني لم يعتد أكله، أما أكل الطين الأرمني (وهو معروف عند العطارين) فيوجب الكفارة. أو أكل نواة (بزرة) أو قطناً أو ورقاً، أو جلداً، أو ابتلع حصاة أو حديداً أو تراباً أو حجراً أو درهماً أو ديناراً ونحو ذلك، أو أدخل دخاناً بصنعه، أو أدخل ماء أو دواء في جوفه بواسطة الحقنة في قبل المرأة أو الدبر مطلقاً أو الأنف أو الحلق، أو استعط في أنفه شيئاً (¬1) أو قطر في أذنه دهناً، لا ماء على الصحيح لعدم سريان الماء، ولضرر الدماغ به، أو دخل حلقه مطر أو ثلج في الأصح، ولم يبتلعه بصنعه. والخلاصة: اتفق الحنفية على أنه لو أنزل قطرة في قبل المرأة، فسد صومها؛ لأن القطرة كالحقنة. وأما القطرة في إحليل الرجل فلا تفطر في الأظهر، أو على المذهب وهو قول أبي حنيفة ومحمد كما سيأتي في بحث مالا يفسد الصوم ـ رقم11 وقال أبو يوسف: يفطر الصائم. أو استقاء (تعمد إخراج القيد) من جوفه، أو خرج كرهاً وأعاده بصنعه، إذا ¬
كان القيء عمداً ملء الفم أو ولو كان أقل من ملء الفم في حالة الإعادة بقدر حمصة منه فأكثر على الصحيح، وكان ذاكراً لصومه، فإن ذرعه (غلبه) القيء، أو كان القيء حال الاستقاءة أقل من ملء الفم، أو كان ناسياً لصومه، أو كان القيء بلغماً لا طعاماً، لم يفطر في جميع هذه الحالات اتفاقاً، والدليل حديث: «من ذرعه القيء، فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمداً فليقض» (¬1). الثاني ـ أن يتناول غذاء، أو دواء لعذر شرعي كمرض أو سفر أو إكراه أو خطأ أو إهمال أو شبهة: كأن سبق خطأ ماء المضمضة إلى جوفه، أو داوى جرحاً في رأسه أو بطنه، فوصل الدواء إلى دماغه أو جوفه، أو صب أحد ماء في جوف إنسان نائم، أو أفطرت امرأة خوفاً على نفسها من أن تمرض من الخدمة. أو أكل أو جامع عمداً لشبهة شرعية بعد أن أكل ناسياً أو جامع ناسياً، أو أكل بعدما نوى نهاراً، ولم يكن قد بيت نيته ليلاً، أو أكل المسافر الذي نوى الصوم ليلاً بعد أن نوى الإقامة، أو أكل أو جامع في حالة السفر بعد أن أصبح مقيماً ناوياً الصوم من الليل، ثم بدأ السفر نهاراً، لشبهة السفر، وإن لم يحل له الفطر. أو أكل أو شرب أو جامع شاكاً في طلوع الفجر، وهو طالع، ولا كفارة عليه للشبهة؛ لأن الأصل بقاء الليل أو أفطر ظاناً الغروب، والشمس باقية؛ ولا كفارة عليه لغلبة الظن بحدوث الغروب. ومن جامع قبل طلوع الفجر أو أكل، ثم طلع عليه الفجر، فإن نزع فوراً، أو ألقى ما في فمه، لم يفسد صومه. الثالث - إذا قضى شهوة الفرج غير كاملة: كأن أنزل المني بوطء ميتة أو بهيمة ¬
ثانيا ـ ما يفسد الصوم ويوجب القضاء والكفارة معا
أو صغيرة لا تشتهى، أو بمفاخذة أو تبطين، أو قبلة أو لمس، أو عبث بباطن الكف، أو وطئت المرأة وهي نائمة، أو قطرت في فرجها دهناً ونحوه. ويلحق به ما إذا أدخل أصبعه مبلولة بماء أو دهن في دبره، أواستنجى فوصل الماء إلى داخل دبره، أو أدخل في دبره قطنة أو خرقة أو طرف حقنة ولم يبق منه شيء، أو أدخلت المرأة أصبعها مبلولة بماء أودهن في فرجها الداخل، أو أدخلت قطنة أو خشبة أو عوداً وغيبته؛ لأنه تم الدخول، بخلاف ما لو بقي طرفه خارجاً؛ لأن عدم تمام الدخول كعدم دخول شيء بالمرة، فلا يفسد الصوم إذا بقي منه في الخارج شيء بحيث لم يغب كله. وعلى هذا لايفسد عندهم الصوم بالفحص النسائي بإدخال آلة منظار وبقاء طرفها خارجاً، ويفسد بإدخال الإصبع ونحوها، خلافاً للحنابلة في إدخال الإصبع، كما سيأتي. ومما يلحق به: ما إذا أفسد صوماً غير أداء رمضان بجماع أو غيره، لعدم هتك حرمة الشهر. ثانياً ـ ما يفسد الصوم ويوجب القضاء والكفارة معاً: وهو اثنان وعشرون شيئاً تقريباً، إذا فعل الصائم المكلف منها شيئاً، مبيتاً النية في أداء رمضان، متعمداً، طائعاً، غير مضطر، ولم يطرأ ما يبيح الفطر بعده كمرض، أو قبله كسفر. فلو فعلها صبي، أو لم يبيت النية، أو كان في قضاء ما فاته من رمضان أو في صوم آخر غير رمضان، أو كان ناسياً أو مخطئاً، أو مستكرهاً، أو مضطراً، أو طرأ عليه سفر أو مرض، فلا كفارة عليه، وإنما عليه القضاء فقط. ويمكن تصنيفها بشيئين:
الأول ـ أن يتناول غذاء أو ما في معناه بدون عذر شرعي: كالأكل والشرب، والدواء، والدخان المعروف، والأفيون والحشيش ونحوهما من المخدرات، لأن الشهوة فيه ظاهرة. والأكل يشمل كل ما هم مأكول عادة، من أنواع الشحوم واللحوم المختلفة، النيئ والمطبوخ والقديد، والفواكه والخضروات ومنها أكل ورق الكرم وقشر البطيخ , والنشويات، ومنها حب الحنطة وقضمها, ولو حبة أو سمسمة أو نحوها من خارج فمه في المختار، إلا إذا مضغت فتلاشت، ولم يصل منها شيئ الى جوفه. ومنها الأكل عمداً بعد أن يغتاب آخر ظناً منه أنه أفطر بالغيبة , أو بعد حجامة أو مس أو قبلة بشهوة أو بعد مضاجعة من غير إنزال، أو دهن شاربه، ظاناً أنه أفطر بذلك، إلا إذا أفتاه فقيه ومن هذا النوع ابتلاع مطر دخل الى فمه، وابتلاع ريق زوجته أو حبيبه للتلذذ به. ومنه اكل الطين الأرمني (مهم معروف عند العطارين)، والطين غير الأرمني، وهذا معروف كما في حالة الذي اعتاد أكل الطين، ومنه تناول قليل الملح في المختار. والدليل حديث (الفطر مما دخل) (¬1) الثاني ـ أن يقضي شهوة الفرج كاملة: وهو الجماع في القبل أو الدبر، سواء الفاعل والمفعول به، ولو بمجرد التقاء الختانين وإن لم ينزل، بشرط أن يكون المفعول به آدمياً حياً يشتهى. وتجب الكفارة اتفاقاً إن مكنت المرأة من نفسها صغيراً أو مجنوناً. والدليل: حادثة الأعرابي الذي جامع امرأته في نهار رمضان، وإلزام النبي صلّى الله عليه وسلم له بالكفارة (عتق رقبة، ثم صوم شهرين متتابعين إن لم يجد الرقبة، ثم إطعام ستين مسكيناً عند العجز عن الصوم) (¬2). ¬
ما لا يفسد الصوم عند الحنفية
ما لا يفسد الصوم عند الحنفية: هو أربعة وعشرون شيئاً تقريباً: 1ً - الأكل أو الشرب أو الجماع ناسياً، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من نسي وهو صائم، فأكل أو شرب، فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه» (¬1) وفي لفظ: «من أفطر يوماً من رمضان ناسياً فلا قضاء عليه ولا كفارة» والجماع في معناهما، فإن تذكر نزع فوراً، فإن مكث بعده، فسد صومه. ولو نزع خشية طلوع الفجر، فأمنى بعد الفجر والنزع، ليس عليه شيء، وإن حرك نفسه ولم ينزع، أو نزع ثم أولج، لزمته الكفارة. ويجب تذكير الناسي القادر على الصوم ليترك الأكل، ويكره عدم تذكيره، والأولى عدم تذكير العاجز الذي لا قوة له لطفاً به. 2ً - إنزال المني بنظر أو فكر، وإن أدام النظر والفكر؛ لأنه لم يوجد منه صورةالجماع ولا معناه، وهو الإنزال عن مباشرة وإن كان آثماً. وفعل المرأتين (السحاق) بلا إنزال منهما لا يفسد الصوم، لكن الفاعل يأثم، ولا يلزم من الحرمة فيما ذكر الإفطار. وكذا لا يفطر بالاحتلام نهاراً. 3ً - القطرة أو الاكتحال في العين، ولو وجد الصائم الطعم أو الأثر في حلقه؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم اكتحل في رمضان، وهو صائم (¬2). 4ً - الحجامة: لأن النبي صلّى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم، واحتجم وهو صائم (¬3). ¬
5ً - السواك ولو كان مبلولا ً بالماء؛ لأنه سنة. 6ً - المضمضة والاستنشاق، ولو فعلهما لغير الوضوء، لكن لا يبالغ فيهما لئلا يدخل شيء إلى الجوف. 7ً - الاغتسال أو السباحة، أو التلفف بثوب مبتل، للتبرد لدفع الحر، وإدخال عود إلى الأذن. 8ً - الاغتياب، ونية الفطر، ولم يفطر. 9ً - دخول الدخان، أوالغبار ولو غبار الطاحون، أو الذباب، أوأثر طعم الأدوية إلى الحلق، بلا صنع الصائم أي رغماً عنه وهو ذاكر الصوم؛ لأنه لا يمكن الاحتراز أو الامتناع عنها. لكن لو تبخر ببخور، فآواه إلى نفسه، واشتم دخانه، ذاكراً لصومه، أفطر، لإمكان التحرز عنه. ولا يتوهم أنه كشم الورد ومائه، والمسك، لوجود الفرق بين هواء تطيب بريح المسك وشبهه، وبين جوهر دخان وصل إلى جوفه بفعله. 10ً - خلع الضرس، ما لم يبتلع شيئاً من الدم أو الدواء، فيفطر. 11ً - صب ماء أو دهن أو حقنة في الإحليل (مجرى البول في قبل الرجل)، أو دخول ماء في الأذن بسبب خوض نهر، أو إدخال العود في الأذن وإخراج درن الصماخ؛ لأن الإحليل ليس بمنفذ مفتوح، ودخول الماء في الأذن للضرورة، ولعدم وصول المفطر إلى الدماغ بإدخال العود للأذن، والأولى ترك ذلك كله. 12ً - ابتلاع النخامة، واشتنشاق المخاط عمداً وابتلاعه، لنزوله من الدماغ، لكن الأولى رميه لقذارته، وخروجاً من خلاف من أفسد الصوم بابتلاعه.
13 - القيء قسراً عنه، أو عودته قهراً ولو كان ملء الفم، في الصحيح، والاستقاءة عمداً بما هو أقل من ملء الفم على الصحيح، لكن لو أعاد ما قاء أو قدر حمصة منه، وكان أصل القيء ملء الفم، أفطر باتفاق الحنفية ولا كفارة، على المختار، وإن عاد قسراً، لم يفطر، سواء أكان القيء العائد قليلاً أم كثيراً (¬1). والخلاصة: أن القيء عامداً ملء الفم أو إعادة القيء مفطر يوجب القضاء فقط دون الكفارة، أما القيء قهراً أو عودة القيء بنفسه أو القيء أقل من ملء الفم فلا يفطر. 14ً - أكل ما بين الأسنان، وكان دون الحمصة، لأنه تبع لريقة. أو مضغ مثل سمسمة من خارج فمه، حتى تلاشت ولم يجد لها طعماً في حلقه، لعدم ابتلاع شيء. 15ً - إذاأصبح جنباً، ولو استمر يوماً بالجنابة؛ لأن الجنابة لا تؤثر في صحة الصوم للزومها الصوم للضرورة، كما تقدم سابقاً، وإن كان الغسل فرضاً للصلاة، لقوله تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} [المائدة:6/ 5] ولأنه من آداب الإسلام، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة، ولا كلب، ولا جنب» (¬2). 16ً - الحُقَن في العضل أو تحت الجلد أو في الوريد، والأولى عند الإمكان تأخيرها إلى المساء، أما الحقن الشرجية فتفطر. 17ً - شم الروائح العطرية كالورد أو الزهر والمسك أو الطيب. ¬
المالكية
المالكية (¬1): ما يفسد الصيام نوعان: أحدهما ـ يوجب القضاء فقط، والثاني ـ يوجب القضاء والكفارة. الأول ـ ما يفسد الصوم ويوجب القضاء فقط: هو ما يأتي: 1ً - الإفطار متعمداً في صيام فرض غير رمضان، كقضاء رمضان، والكفارات والنذر غير المعين، وصوم المتمتع والقارن إذا لم يجد الهدي. أما النذر المعين، كما لو نذر صوم يوم معين، أو أيام معينة، أو شهر معين، فإن أفطر فيه لعذر مانع من صحته كحيض ونفاس وإغماء وجنون، أو لعذر مانع من أدائه كمرض واقع، أو شدة ضرر أو زيادته أو تأخر برئه، فلا يقضى لفوات وقته، وإن زال عذره وبقي منه شيء، وجب صومه. 2ً - الإفطار متعمداً في صيام فرض رمضان إذا لم تتوافر شروط الكفارة، كالإفطار لعذر مبيح كالمرض والسفر، أو لعذر يرفع الإثم كالنسيان والخطأ والإكراه، والإفطار بسبب خروج المذي، أو خروج المني بنظر أو فكر مع لذة معتادة بلا استدامة نظر وكانت عادته الإنزال عند الاستراحة. وفي الجملة: كل فرض أفطر فيه يجب عليه قضاؤه إلا النذر المعين لعذر. 3ً - الإفطار متعمداً في صوم التطوع؛ لأن الشروع في النفل ملزم عندهم، كما تقدم. فإن أفطر فيه ناسياً أو بعذر مبيح، فلا قضاء عليه. والخلاصة: إن من أفطر عامداً في جميع أنواع الصيام، فعليه القضاء، ولا يكفِّر إلا في رمضان، ومن أفطر في جميعها ناسياً، فعليه القضاء دون الكفارة، إلا في التطوع فلا قضاء ولا كفارة. ¬
أما المفطرات فهي خمسة: 1 - الجماع الذي يوجب الغسل. 2 - إخراج المني أو المذي بالتقبيل أو المباشرة أو النظر أو الفكر المستديمين. 3 - الاستقاءة (تعمد القيء) سواء ملأ الفم أم لا، بخلاف ما إذا غلبه القيء إلا إذا رجع شيء منه ولو غلبة، فيفسد صومه. 4 - وصول مائع إلى الحلق من فم أو أنف أو أذن، عمداً أو سهواً أو خطأ أو غلبة كماء المضمضة أو السواك، وفي حكم المائع: البخور وبخار القِدْر إذا استنشقهما، فوصلا إلى حلقه، والدخان المعروف، والاكتحال نهاراً ودهن الشعر نهاراً إذا وجد طعمهما في الحلق، فإن تحقق عدم وصول الكحل والدهن للحلق فلاشيء عليه، كأن حدث ذلك ليلاً. 5 - وصول أي شيء إلى المعدة، سواء أكان مائعاً أم غيره من فم أو أنف أو أذن أو عين أو مسام رأس، إذا كان وصوله عمداً أو خطأ أوسهواً أو غلبة. أما الحقنة في الإحليل (وهو ثقبة الذكر) فلا تفسد الصوم، وكذا نبش الأذن بنحو عود لا شيء فيه، ولا يضر ابتلاع ما بين الأسنان من طعام ولو عمداً فلا يفطر. وهكذا: كل ما وصل للمعدة من منفذ عال سواء أكان مائعاً أم غير مائع موجب للقضاء، سواء أكان ذلك المنفذ واسعاً أم ضيقاً، بخلاف ما يصل للمعدة من منفذ سافل، فإنه يشترط كونه واسعاً كالدبر وقبل المرأة والثقبة. لا كإحليل رجل وجائفة: وهي الخرق الصغير جداً الواصل للبطن، وصل للمعدة أو لا، ويشترط كونه مائعاً لا جامداً، فوصول المائع للمعدة مفسد مطلقاً، سواء أكان المنفذ عالياً أم من الأسفل، ووصول الجامد لها لا يفسد إلا إذا كان المنفذ عالياً.
الثاني ـ ما يفسد الصوم ويوجب القضاء والكفارة معا بالفطر في رمضان فقط دون غيره
ويجب القضاء على من أفطر في صوم الفرض مطلقاً، أي سواء حدث الفطر عمداً أو سهواً أوغلبة أو إكراهاً، وسواء أكان الفطر حراماً أم جائزاً أم واجباً كمن أفطر خوف هلاك، وسواء وجبت الكفارة أم لا، أو كان الفرض أصلياً أم نذراً. الثاني ـ ما يفسد الصوم ويوجب القضاء والكفارة معاً بالفطر في رمضان فقط دون غيره: هو ما يأتي: 1ً - الجماع عمداً: أي إدخال الحشفة في فرج مطيق ولو بهيمة، وإن لم ينزل المني، إذا انتهك حرمة رمضان بأن كان غير مبال بها بأن تعمدها اختياراً بلا تأويل قريب، احترازاً من الناسي والجاهل والمتأول، وذلك سواء أتى زوجته أو أجنبية، فإن طاوعته المرأة فعليه الكفارة وعليها، وإن وطئها نائمة أو مكرهة كفر عنه وعنها، وإن جامع ناسياً أو مكرهاً أو متأولاً، فلا كفارة عليه. 2ً - إخراج المني أو المذي يقظة مع لذة معتادة بتقبيل أو مباشرة فيما دون الفرج، أو بنظر أو تفكر عند الاستدامة أو كانت عادته الإنزال عند الاستدامة، أو كانت عادته الإمناء بمجرد النظر، فمن قبَّل فأمنى فقد أفطر اتفاقاً، وإن أمذى فيفطر عند مالك وأحمد دون غيرهما. ولا كفارة على الراجح إذا أمنى بتعمد النظر أو الفكر، ولم تكن عادته الإنزال بهما، أو أمنى بمجرد الفكر أو النظر من غير استدامة لهما (¬1). 3ً - الأكل والشر ب عمداً، ومثلهما بلع كل ما يصل إلى الحلق من الفم خاصة، ولو لم يغذ كنحو حصاة وصلت الجوف، وتعمد القيء وابتلاع شيء منه ¬
ولو غلبة، وتعمد الاستياك بجوزاء (¬1) نهاراً وابتلاعه ولوغلبة، وذلك قياساً على الجماع والإنزال، لانتهاك حرمة شهر رمضان. ولا تجب الكفارة بالإفطار ناسياً، ولا بما يصل إلى الجوف من غير الفم كالأنف والأذن؛ لأن الكفارة معللة بالانتهاك الذي هو أخص من العمد. 4ً - تجب الكفارة بالإصباح بنية الفطر، ولو نوى الصيام بعده على الأصح، وبفرض النية أي رفعها نهاراً على الأصح. 5ً - تعمد الفطر لغير عذر، ثم مرض أو سافر، أو حاضت المرأة، فتجب الكفارة على المشهور. ولا تجب الكفارة إلا بالشروط السبعة الآتية المفهومة مما سبق بيانه وهي: أولاً ـ أن يكون الفطر في أداء رمضان، فلا تجب الكفارة في غيره، كقضاء رمضان وصوم منذور، وصوم كفارة أو نفل. ثانياً ـ أن يتعمد الفطر: فلا كفارة على ناس، أو مخطئ، أو معذور بعذر كمرض أو سفر. ثالثاً ـ أن يكون مختاراً: فلا كفارة على مستكره، أو مفطر غلبة. رابعاً ـ أن يكون عالماً بحرمة الفطر، فلا كفارة على جاهلها، كحديث عهد بالإسلام، ظن أن الصوم لا يحرم معه الجماع، فجامع، فلا كفارة عليه. ولا كفارة على من جهل حلول رمضان، كمن أفطر يوم الشك قبل ثبوت الهلال. خامساً ـ أن ينتهك حرمة شهر رمضان أي لا يبالي بها: فلا كفارة على متأول ¬
ما لا يفسد الصوم
تأويلاً قريباً: وهو المستند في فطره لأمر موجود، مثل أن يفطر ناسياً أو مكرهاً، ثم أكل أو شرب عمداً، ظاناً عدم وجوب الإمساك عليه، فلا كفارة عليه لاستناده لأمر موجود سابقاً وهوالفطر نسياناً أو بإكراه. ومثل من أفطر بسبب سفر أقل من مسافة القصر، ظاناً أن الفطر مباح له، لظاهر قوله تعالى: {ومن كان مريضاً أو على سفر، فعدة من أيام أخر} [البقرة:184/ 2 - 185] ونحو من تعمد الفطر يوم الثلاثين من رمضان منتهكاً للحرمة، ثم تبين أنه يوم العيد، وكذلك الحائض تفطر متعمدة، ثم تعلم أنها حاضت قبل فطرها، فلا كفارة عليها على المعتمد. أما المتأول تأويلاً بعيداً كمن اعتاد الحُمَّى أو الحيض في يوم معين، فبيت نية الفطر، ولم يحدث العارض، فعليه الكفارة. ومثله من اغتاب ظاناً بطلان صومه فأفطر متعمداً، فعليه الكفارة. سادساً ـ أن يكون الواصل من الفم: فلو وصل شيء من الأذن أو العين فلا كفارة، وإن وجب القضاء، كما أبنت. سابعاً ـ أن يكون الوصول للمعدة: فلو وصل شيء إلى حلق الصائم، ورده، فلا كفارة عليه. ما لا يفسد الصوم: لا يفسد الصوم بأحوال قد يتوهم فيها وهي: 1ً - من غلبه القيء، ولم يرجع منه شيء لحلقه، أو غلبه الذباب أو البعوض، أوغبار الطريق، أو غبار الدقيق لصانعه وهو الطحان والناخل والمغربل والحامل ونحوه في أثناء مزاولة المهنة كحافر القبر وناقل التراب لغرض، لأنه لا يمكن الاحتراز عنه، ولضرورة الصنعة. أما غير الصانع فعليه القضاء.
الشافعية
2ً - الحقنة في الإحليل أي ثقبة الذكر، ولو بمائع، لأنه لا يصل عادة للمعدة. 3ً - دهن الجائفة بالدواء: أي دهن الجرح في البطن أو الجنب الواصل للجوف، لأنه لا يصل لمحل الأكل والشرب، وإلا لمات من ساعته. 4ً - نزع المأكول أو المشروب أو الفرج عند طلوع الفجر، فإن ظن النازع إباحة الفطر، فأفطر، فلا كفارة عليه، لأن فطره بتأويل قريب. 5ً - من غلبه المني أو المذي بمجرد النظر أو الفكر أي غير المستديم. 6ً - من ابتلع ريقه، أو ما بين أسنانه من بقايا الطعام، إلا إذا كان كثيراً عرفاً. 7ً - المضمضة للعطش، والإصباح بالجنابة، والسواك في كل النهار لمقتض شرعي من وضوء وصلاة وقراءة وذكر الله تعالى. 8ً - الحجامة لا تفطر، ولكنها تكره. الشافعية (¬1): ما يفسد الصوم نوعان: نوع يوجب القضاء فقط، ونوع يوجب القضاء والكفارة. الأول ـ ما يفسد الصوم ويوجب القضاء فقط: يفسد الصوم ويجب القضاء فقط دون الكفارة بالأمور الآتية، ويجب الإمساك بقية النهار على من أفطر بغير عذر؛ لأنه أفطر بغير عذر. 1 - وصول شيء مادي (عين) إلى الجوف وإن قل كسمسمة، أو لم يؤكل ¬
عادة كحصاة أو تراب، من منفذ مفتوح كالفم والأنف والأذن والقُبُل (الإحليل) والدبر وجرح الدماغ، إذا كان عمداً؛ لأن الصوم هو الإمساك عن كل ما يصل إلى الجوف، وهذا ما أمسك، فمن أكل أو شرب ناسياً، أو مكرهاً، أو جاهلاً بأن ذلك مفطر بسبب قرب عهده بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة عن العلماء، لم يفطر، سواء أكان المأكول قليلاً أم كثيراً، لعدم توافر العمد. وعدم الفطر بالإكراه هو الأظهر. ولو وصل جوفَه ذباب أو بعوضة، أو غبار الطريق، ولو تعمد فتح فمه حتى دخل التراب جوفه، أو غربلة الدقيق، أو وصول الأثر كوصول الريح بالشم إلى دماغه، لم يفطر، لعدم توافر القصد، ولما فيه من المشقة الشديدة، ولأنه معفو عن التراب في حال تعمد فتح الفم. لكن لو استخدم مريض الربو بخاخة الهواء عند ضيق النِّفَس، فإنه يفطر؛ لأن ما يعفى عن جنسه كالتراب والهواء مقصور على حالة الابتلاء العام، فإن كان الشيء خاصاً، كتعمد ابتلاع رائحة شواء لحم، فيفطر، لسهولة الاحتراز عنه. ومثل ذلك تناول حب تصلب الشرايين عند الإحساس بالضيق. ولا يفطر ببلع ريقه الطاهر الخالص من معدنه (وهو الفم جميعه الذي فيه قراره ومنه ينبع) ولو بعد جمْعه ثم ابتلاعه في الأصح وإن أخرجه على لسانه لعسر الاحتراز عنه، ولأنه في حال جمعه لم يخرج عن معدنه، فهوكابتلاعه متفرقاً من معدنه. فإن خرج الريق عن فمه ثم رده وابتلعه؛ أو بلّ خيطاً بريقه، ورده إلى فمه، وعليه رطوبة تنفصل، وابتلعها؛ أو ابتلع ريقه مخلوطاً بغيره، أو متنجساً، أفطر في الحالات الثلاث، أما الأولى فلخروجه عن معدنه فصار كالأعيان الخارجة، وأما الثانية فلأنه لا ضرورة إليه، وأما الثالثة فلأنه أجنبي عن الريق. وكذلك لا يفطر بابتلاع ما بقي من الطعام بين الأسنان من غير قصد إن عجز عن تمييزه ومجه، لأنه معذور فيه غير مقصر، فإن قدر على تمييزه ومجه وابتلعه
ولو قليلاً دون الحمصة، فإنه يفطر، فيفطر بجري الريق بما بين الأسنان لقدرته على مجه، ويفطر - كما سيأتي - بالنخامة أيضاً وهي التي تنزل من الرأس أو الجوف، ووصلت إلى حد الظاهر من الفم، فأجراها هو. أما لو جرت بنفسها وعجز عن مجها فلا يفطر للعذر، كما لا يفطر إذا لم تصل إلى حد الظاهر، كأن نزلت من دماغه إلى حلقه، وهي في حد الباطن، ثم إلى جوفه، وإن قدر على مجها، لأنها نزلت من جوف إلى جوف. ويفطر بتناول الدخان المعروف ونحوه كالتمباك والنشوق، وبوصول شيء إلى باطن الدماغ، والبطن، والأمعاء، والمثانة، وبالحقنة في الإحليل (مخرج البول من الذكر، واللبن من الثدي)، وبالتقطيرفي باطن الأذن، وبإدخال عود ونحوه لباطن الأذن؛ لأن كل ذلك جوف، وقد وصل إليه من منفذ مفتوح. ولا يضر وصول الدهن إلى الجوف بتسرب المسام (وهي ثقب البدن) ولا الاكتحال وإن وجد طعم الكحل في حلقه؛ لأن الواصل إليه ليس من منفذ وإنما من المسام، وقد روى البيهقي أنه صلّى الله عليه وسلم «كان يكتحل بالإثمد وهو صائم» فلا يكره الاكتحال للصائم. 2 - ابتلاع النُّخامة: وهي ما ينزل من الرأس أو الجوف، أما لو جرت بنفسها وعجز عن مجها، فلا يفطر، وإن تركها مع القدرة على لفظها، فوصلت الجوف، أفطر في الأصح لتقصيره، كما تقدم بيانه أيضاً. 3 - سبق ماء المضمضة أوالاستنشاق المشروع إلى جوفه، في حال المبالغة في ذلك؛ لأن الصائم منهي عن المبالغة. فإن لم يبالغ فلا يفطر، لأنه تولد من مأمور به بغير اختياره. وإن سبق الماء غير المشروع إلى جوفه، كما في حال التبرد، أو العبث، أو في
المرة الرابعة من المضمضة أو الاستنشاق، أفطر؛ لأنه غير مأمور بذلك، بل منهي عنه في الرابعة. 4 - الاستقاءة أي تعمد القيء، حتى لو تيقن على الصحيح أنه لم يرجع شيء إلى جوفه، لأن المفطر عينها، لظاهر خبر ابن حبان وغيره: «من ذرَعه القيء (¬1)، وهو صائم، فليس عليه قضاء، ومن استقاء فليقض» هذا إذا كان عالماً بالتحريم عامداً مختاراً لذلك، فإن كان جاهلاً لقرب عهده بالإسلام، أو نشأ بعيداً عن العلماء، أو ناسياً أو مكرهاً، فإنه لا يفطر. 5 - الاستمناء (وهو إخراج المني بغير جماع، محرَّماً كأن أخرجه بيده، أو غير محرَّم كإخراجه بيد زوجته)، وخروج المني بلمس وقبلة ومضاجعة بلا حائل؛ لأنه إنزال بمباشرة. ولا يفطر بإنزال المني بفكر (وهو إعمال الخاطر في الشيء)، أو نظر بشهوة، أو بضم امرأة بحائل بشهوة؛ إذ لا مباشرة، فأشبه الاحتلام، مع أنه يحرم تكريرها وإن لم ينزل. 6 - أن يتبين الغلط بالأكل نهاراً بسبب طلوع الفجر، أو لعدم غروب الشمس، إذ لا عبرة بالظن البيِّن خطؤه. ويحل الإفطار آخر النهار بالاجتهاد بسبب قراءة ورد أو غيره كوقت الصلاة، والاحتياط ألا يأكل آخر النهار إلا بيقين، ويجوز الأكل آخر الليل إذا ظن بقاء الليل أوشك؛ لأن الأصل بقاء الليل. ولو طلع الفجر، وفي فمه طعام، فلفظه، صح صومه، وكذا يصح لو كان مجامعاً فنزع في الحال، فإن مكث بطل الصوم. ¬
الثاني - ما يوجب القضاء والكفارة والتعزير
7 - يفطر بطروء الجنون والردة والحيض والنفاس، لمنافاة ذلك مع شروط صحة الصوم من العقل والإسلام والطهارة من الدماء الطارئة، أخرج البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال في المرأة، وقد سئل عن نقصان دينها: «أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟». الثاني - ما يوجب القضاء والكفارة والتعزير: يجب القضاء والكفارة مع التعزير وإمساك بقية اليوم، بشيء واحد، وهو الجماع الذي يفسد صوم يوم من رمضان بشروط أربعة عشر وهي: 1ً - أن يكون ناوياً للصوم ليلاً: فلو ترك النية لم يصح صومه، ويجب عليه الإمساك. 2ً، 3ً، 4ً - أن يكون متعمداً مختاراً، عالماً بالتحريم: فلا كفارة على ناس أو مكره، أو جاهل التحريم بسب قرب إسلامه. 5ً - أن يحدث الجماع في نهار رمضان: فلا كفارة على جماع مفسد غير رمضان من نفل أو نذر أو قضاء، أو كفارة، والجماع في نهار رمضان حرام لقوله تعالى: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن} ... {فالآن باشروهن} ـ إلى قوله تعالى: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} [البقرة:187/ 2]. 6ً - أن يفسد الصوم بالجماع وحده: فإن أكل ثم جامع، لا كفارة عليه، ولا كفارة بغير الجماع كالأكل والشرب والاستمناء باليد، والمباشرة فيما دون الفرج المفضية إلى الإنزال.
7ً - أن يكون آثماً بهذا الجماع: فلا كفارة على صبي، ولا على صائم مسافر أو مريض جامع بنية الترخص أو بغيرها في الأصح، لإباحة الفطر له، ولا على من زنى ناسياً للصوم؛ لأنه ناسٍ، ولا على مسافر أفطر بالزنا مترخصاً بالفطر؛ لأن الفطر جائز له. 8ً - أن يكون معتقداً صحة صومه: فلا كفارة على من جامع عامداً بعد الأكل ناسياً وظن أنه أفطر بالأكل، لأنه يعتقد أنه غير صائم، وإن كان الأصح بطلان صومه بهذا الجماع. 9ً - ألا يكون مخطئاً: فلا كفارة على من جامع ظاناً وقت الجماع بقاء الليل، أو دخول المغرب، فتبين أنه جامع نهاراً، لانتفاء الإثم. 10ً - ألا يجن أو يموت بعد الوطء في أثناء النهار الذي جامع فيه قبل الغروب: فلا كفارة على من جن أو مات حينئذ لعدم الأهلية، فحدوث الجنون أو الموت يسقط الكفارة قطعاً، لأنه تبين بطروء ذلك أنه لم يكن في صوم، لمنافاته له، أي أن صوم هذا اليوم خرج عن كونه مستحقاً، فلم يجب بالوطء فيه كفارة، كصوم المسافر، أو كما لو قامت البينة أنه من شوال. 11ً - أن يكون الوطء منسوباً إليه: فلو عَلَتْه امرأة وأنزل بالإدخال، فلا كفارة عليه، إلا إن أغراها بذلك. 12ً - أن يكون الجماع بإدخال الحشفة، أو قدرها من مقطوعها، فلا كفارة على من لم يتحقق منه الإيلاج بالقدر المذكور، ولكن يجب عليه الإمساك. 13ً - أن يتم الجماع في فرج ولو دبراً، أو ميتة أو بهيمة: فلا كفارة على من وطئ في غير فرج. ووطء المرأة في الدبر، واللواط، كالوطء في الفرج.
ما لا يفسد الصوم عند الشافعية
14ً - أن يكون واطئاً لا موطوءاً: فلا كفارة على المفعول به مطلقاً وإنما الكفارة على الفاعل، وتلزم المرأة بالقضاء فقط. وحدوث السفر أو المرض أو الإغماء أو الردة بعد الجماع لا يسقط الكفارة، لتحقق هتك حرمة الصوم قبل ذلك؛ لأن المرض والسفر لا ينافيان الصوم، فيتحقق هتك حرمته، وأما طروء الردة فلا يبيح الفطر. ويجب قضاء اليوم الذي أفسده (يوم الإفساد) على الصحيح مع الكفارة. وتتعدد الكفارة بتعدد الفساد، فمن جامع في يومين لزمه كفارتان؛ لأن كل يوم عبادة مستقلة، فلا تتداخل كفارتاهما، كحجتين جامع فيهما، ولو جامع في جميع أيام رمضان لزمه كفارات بعددها. وتلزم الكفارة من انفرد برؤية الهلال، وجامع في يومه. ما لا يفسد الصوم عند الشافعية: لا يفسد الصوم بوصول شيء إلى الجوف بنسيان أو إكراه أو جهل يعذر به شرعاً، ولا بما عجز عن مجه كالنخامة وما بين الأسنان من الطعام، ولا بما يشق الاحتراز عنه كغبار الطريق وغربلة الدقيق والذباب والبعوض. ولا يفسد الصوم أيضاً بالفصدِ، إذ لا خلاف فيه، ولا بالحجامة؛ «لأنه صلّى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم، واحتجم وهو محرِم» (¬1)، لكنها تكره إلا لحاجة. ولا يفسد بالاكتحال ولكنه خلاف الأولى على الراجح، ولا بالتقبيل ولكنه ¬
الحنابلة
يكره لمن حركت القبلة شهوته، ولا بالمعانقة والمباشرة، ولا بالإنزال بفكر ونظر بشهوة، ولا بمضغ العلك (اللبان غير المشوب بشيء) أو ذوق الطعام، ولكنهما يكرهان إلا لحاجة، ولا بالسواك، ولكنه يكره بعد الزوال إلا لسبب يقتضيه كأكل بصل نسياناً، ولا بالتمتع بالشهوات من المبصرات والمشمومات والمسموعات، ولكنه يكره. الحنابلة (¬1): إفساد الصوم إما أن يوجب القضاء أو القضاء والكفارة. الأول ـ ما يفسد الصوم ويوجب القضاء فقط: هو مايأتي: 1ً - دخول شيء مادي من منفذ إلى الجوف أو الدماغ عمداً واختياراً، مع تذكر الصوم، ولو جهل التحريم، سواء أكان مغذياً كالأكل والشرب أم غير مغذٍّ كالحصاة وابتلاع النخامة والسعوط (النشوق) والدواء أو الدهن الذي يصل إلى الحلق أو الدماغ، والحقنة في الدبر، وابتلاع الدخان قصداً، لأنه واصل إلى جوفه باختياره، فأشبه الأكل. فلا يفطر بوصول شيء غير قاصد الفعل، أو ناسياً أو نائماً أو مكرهاً، لحديث: «عفي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» وحديث «من نسي وهو صائم ... ». 2ً - الاكتحال بكحل يتحقق معه وصوله إلى الحلق؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «أمر بالإثمد المروح عند النوم، وقال: ليتقه الصائم» (¬2)، ولأن العين منفذ، لكنه غير معتاد، كالواصل من الأنف. فإن لم يتحقق وصوله إلى حلقه، فلا فطر، لعدم تحقق ما ينافي الصوم. ¬
3ً - الاستقاءة أي استدعاء القيء عمداً، فقاء طعاماً أو مراراً، أو بلغماً أو دماً أوغيره، ولو قل، لحديث أبي هريرة المرفوع: «من ذَرَعه القيء فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمداً فليقض» (¬1) 4ً - الحجامة: يفطر بها الحاجم والمحجوم إذا ظهر دم، وإلا لم يفطر، لحديث «أفطر الحاجم والمحجوم» (¬2) وقالوا: إن حديث الجمهور القاضي بعدم الإفطار بالحجامة منسوخ بهذا الحديث، بدليل ما روى ابن عباس أنه قال: احتجم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالقاحة بقرن وناب، وهو محرم صائم، فوجد لذلك ضعفاً شديداً، فنهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يحجم الصائم (¬3). 5ً - التقبيل والاستمناء واللمس والمباشرة دون الفرج فأمنى، أو أمذى، وتكرار النظر فأمنى لا إن أمذى، إذ فعل ذلك عامداً، وهو ذاكر لصومه: يوجب القضاء بلا كفارة إذا كان صوماً واجباً، لما روى أبو داود عن عمر: أنه قال: «هششت، فقبلت وأنا صائم، فقلت: يا رسول الله، إني فعلت أمراً عظيماً، قبّلت وأنا صائم، قال: أرأيت لو تمضمضت من إناء وأنت صائم؟ قلت: لا بأس به، قال: فَمهْ» فشبه القبلة بالمضمضة من حيث إنها من مقدمات الفطر، فإن القبلة إذا كان معها نزول، أفطر وإلا فلا، فلا فطر بدون إنزال، لقول عائشة: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم، وكان أملككم لإربه» (¬4). والإفطار بتكرار النظر والإمناء، لأنه إنزال بفعل يلتذ به، ويمكن التحرز منه، ¬
الثاني ـ ما يوجب القضاء والكفارة معا
فأشبه الإنزال باللمس. أما عدم الإفطار بتكرار النظر والإمذاء، فلأنه لانص فيه، والقياس على إنزال المني، لمخالفته إياه في الأحكام. 6ً - الردة مطلقاً، لقوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك} [الزمر:65/ 39]. 7ً - الموت يفسد صوم اليوم الذي مات فيه الصائم في صوم النذر والكفارة، فيطعم من تركته مسكين. 8ً - تبين الغلط في الأكل نهاراً: فإن أكل أو شرب شاكاً في غروب الشمس أفطر وقضى؛ لأن الأصل بقاء النهار، أو أكل أو شرب ظاناً بقاء النهار مالم يتحقق أنه كان بعد الغروب؛ لأن الله تعالى أمر بإتمام الصوم إلى الليل، ولم يتمه، أو أكل ظاناً أنه ليل، فبان نهاراً؛ لأن الله تعالى أمر بإتمام الصوم، ولم يتمه. ويقضي أيضاً لو أكل ونحوه ناسياً فظن أنه أفطر، فأكل ونحوه عمداً. ولا يقضي إن أكل ونحوه ظاناً غروب الشمس، ودام شكه، ولم يتبين له الحال؛ لأن الأصل براءته. أو إن أكل وبان أن أكله كان ليلاً؛ لأنه أتم صومه. الثاني ـ ما يوجب القضاء والكفارة معا ً: وهو شيء واحد وهو الجماع في نهار رمضان، بلا عذر سابق كمن به مرض، في فرج: قبل أو دبر من آدمي أو غيره كبهيمة، من حي أو ميت، أنزل أم لا. إذا كان عامداً أو ساهياً، أو مخطئاً، أو جاهلاً، أو مختاراً أو مكرهاً، سواء أكره في حال اليقظة أم في حال النوم، لحديث أبي هريرة المتفق عليه في إيجاب الكفارة على المجامع، وأما كون الساهي أو الناسي كالعامد في ظاهر المذهب،
والمكره كالمختار، النائم كالمستيقظ، فلأنه صلّى الله عليه وسلم لم يستفصل الأعرابي، ولو اختلف الحكم بذلك لاستفصله؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، والسؤال معاد في الجواب، كأنه قال: إذا واقعت في صوم رمضان فكفِّر، ولأنه عبادة يحرم الوطء فيه، فاستوى عمده وغيره كالحج. وأما كونه لا فرق بين أن ينزل أو لا، فلأنه في مظنة الإنزال، وأما الكفارة في حالة الإكراه: فلأن الإكراه على الوطء لا يمكن؛ لأنه لا يطأ حتى ينتشر، ولا ينتشر إلا عن شهوة، فكان كغير المكره. وأما كونه لا فرق بين كون الفرج قبلاً أو دبراً، من ذكر أو أنثى، فلأنه أفسد صوم رمضان بجماع في الفرج، فأوجب الكفارة. وأما الوطء في فرج البهيمة فلأنه وطء في فرج موجب للغسل مفسد للصوم، فأشبه وطء الآدمية، ويفسد صوم المرأة كالرجل بالجماع، لأنه نوع من المفطرات، فاستوى فيه الرجل والمرأة كالأكل، وتلزمها الكفارة إذا جومعت بغير عذر؛ لأنها هتكت حرمة صوم رمضان بالجماع، فتلزمها الكفارة كالرجل. ولا تلزمها الكفارة مع العذر، كنوم أو إكراه، أو نسيان، أو جهل؛ لأنها معذورة، ويفسد صومها بذلك، فيلزمها القضاء. لكن لو استدخلت صائمة ذكر نائم أو صبي أو مجنون، بطل صومها للجماع، فيجب عليها القضاء والكفارة، إن كان في نهار رمضان. وإن تساحقت امرأتان وإن أنزلا، أوأنزل مجبوب بالسحاق، فسد الصوم: لأنه إذا فسد الصوم باللمس مع الإنزال، ففيما ذكر بطريق الأولى، ولا كفارة عليهما ولا على المجبوب في الأصح؛ لأن ذلك ليس بمنصوص، ولا في معنى المنصوص عليه، فيبقى على الأصل. وإن جامع في يومين من رمضان واحد، ولم يكفر لليوم الأول، فعليه كفارتان؛ لأن كل يوم عبادة، وكالحجتين، وكيومين من رمضانين، وأما إن جامع
ثم جامع في يوم واحد قبل التكفير، فعليه كفارة واحدة بغير خلاف. وإن جامع ثم كفر، ثم جامع في يومه، فعليه كفارة ثانية، لأنه وطء محرم، وقد تكرر فتتكرر هي كالحج. وتلزم الكفارة إذا وطئ كل من لزمه الإمساك، كمن لم يعلم برؤية الهلال إلا بعد طلوع الفجر، أو نسي النية، أو أكل عامداً، ثم جامع، لهتكه حرمة الزمن به، ولأنها تجب على المستديم للوطء. وإذا طلع الفجر وهو مجامع فاستدام الجماع، فعليه القضاء والكفارة، لأنه ترك صوم رمضان بجماع، أثم به لحرمة الصوم، فوجبت به الكفارة، كما لو وطئ بعد طلوع الفجر. وإن نزع في الحال مع أول طلوع الفجر، فعليه القضاء والكفارة، فالنزع جماع، فلوطلع عليه الفجر وهو مجامع، فنزع في الحال، مع أول طلوع الفجر الثاني، فعليه القضاء والكفارة؛ لأنه يلتذ بالنزع، كما يلتذ بالإيلاج. ولو جامع يعتقد بقاء الليل، فبان نهاراً وأن الفجر كان قد طلع، وجب عليه القضاء والكفارة؛ لأنه لا فرق بين العامد والمخطئ، كما بينا. ولو جامع في أول النهار، ثم مرض أو جن، أو كانت امرأة فحاضت أو نفست في أثناء النهار، لم تسقط الكفارة؛ لأنه معنى طرأ بعد وجوب الكفارة، فلم يسقطها كالسفر، ولأنه أفسد صوماً واجباً في رمضان بجماع تام، فاستقرت الكفارة عليه، كما لولم يطرأ عذر. وإن جامع دون الفرج عمداً، فأنزل ولومذياً، فسد الصوم، ولا كفارة، لأنه ليس بجماع، وإن لم ينزل لم يفسد صومه، كاللمس والقبلة.
مالا يفسد الصوم
ولا تجب الكفارة بالفطر في غير رمضان، باتفاق أكثر العلماء، لأنه جامع في غير رمضان، فلم تلزمه كفارة، كما لو جامع في صيام الكفارة، ويفارق القضاء الأداء، لأنه متعين بزمان محترم، فالجماع فيه هتك له، بخلاف القضاء. ومن به شبق يخاف أن ينشق ذكره أو أنثياه أو مثانته، جامع وقضى ولا يكفر للضرورة مثل أكل الميتة للمضطر، وإن اندفعت شهوته بغير الجماع كالاستمناء بيده أو يد زوجته ونحوه كالمفاخذة، لم يجز له الوطء، كالصائل يندفع بالأسهل، لا ينتقل إلى غيره. وحكم المريض الذي ينتفع بالجماع في مرضه حكم من خاف تشقق فرجه في جواز الوطء. وفي حال الضرورة إلى وطء حائض وصائمة بالغ، يكون وطء الصائمة أولى من وطء الحائض؛ لأن تحريم وطء الحائض بنص القرآن. وإن لم تكن الزوجة بالغاً، وجب اجتناب الحائض، للاستغناء عنه بلا محذور، فيطأ الصغيرة وكذا المجنونة. وإن تعذر قضاء ذي الشبق لدوام شبقه، فهو ككبير عجز عن الصوم، فيطعم لكل يوم مسكيناً، ولا قضاء إلا مع عذر معتاد كمرض أو سفر. مالا يفسد الصوم: لا يفطر الصائم بما يأتي: 1ً - بما لا يمكن الاحتراز عنه: كابتلاع الريق وغبار الطريق وغربلة الدقيق والتقطير في إحليل ولو وصل مثانته، لعدم المنفذ، وكذا إن جمع الريق ثم ابتلعه قصداً، لم يفطر؛ لأنه يصل إلى جوفه من معدنه (أي فمه)، فإن خرج ريقه إلى
ثوبه، أو بين أصابعه، أو بين شفتيه، ثم عاد فابتلعه، أو بلع ريق غيره، أفطر؛ لأنه ابتلعه من غير فمه، فأشبه ما لو بلع غيره. ولا يفطر ببصق النخامة بلا قصد من مخرج الحاء المهملة، فإن ابتلعها أفطر. 2ً - بالمضمضة والاستنشاق بغير خلاف، سواء أكان في الطهارة أم غيرها وسواء بالغ أم زاد عن الثلاث، بدليل حديث عمر السابق في القبلة، وقياسها على المضمضة، لكن تكره المضمضة عبثاً ولحر أو عطش. 3ً - بمضغ العلك: وهو الذي لا يتحلل منه أجزاء، وإنما الذي يصلب ويقوى كلما مضغه، ولكن يكره مضغه ولا يحرم؛ لأنه يجمع الريق، ويورث العطش. 4ً - بالقبلة واللمس والمفاخذة ونحوها بدون إنزال: فإن أنزل فسد صومه، ولا كفارة عليه؛ لأنه ليس بجماع. 5ً - الإمذاء بتكرار النظر، لأنه لا نص فيه، والإمناء بغير تكرار النظر، لعدم إمكان التحرز من النظرة الأولى، وتكرار النظر بغير إنزال. ولا يفطر إن فكر فأمنى أو أمذى، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «عفي لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به» (¬1). كما لا يفطر إن حصل الإنزال بفكر غالب أي غير اختياري، بأن لم يتسبب فيه، أو احتلم أو أنزل لغير شهوة، كالذي يخرج منه المني لمرض أو لسقطة من موضع عال، أو خروجاً منه لهيجان شهوة من غير أن يمس ذكره بيد، أو أمنى نهاراً من وطء ليل، لأنه لم يتسبب إليه في النهار، أو أمنى ليلاً من مباشرته نهاراً. ¬
6ً - الفصد والشرط، وإخراج الدم برعاف، وجرح الصائم نفسه أو جرحه غيره بإذنه ولم يصل إلى جوفه شيء من آلة الجرح، ولو كان الجرح بدل الحجامة، لأنه لا نص فيه، والقياس لا يقتضيه. 7ً - دخول شيء إلى الجوف غير قاصد الفعل: بأن فعل ذلك ناسياً أو مكرهاً أو نائماً، لأنه لا قصد للنائم، وللحديث المتقدم: «من نسي وهو صائم فأكل أو شرب، فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه». ويجب على من رأى الصائم إعلامه إذا أراد الأكل أو الشرب ناسياً أو جاهلاً، كإعلام نائم إذا ضاق وقت الصلاة. 8ً - الشك في طلوع الفجر: من أكل أو شرب أو جامع شاكاً في طلوع الفجر، ودام شكه؛ لأن الأصل بقاء الليل، فيكون زمانه الشك منه، ولظاهر الآية: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} [البقرة:187/ 2]. لكن يفطر وعليه القضاء إن أكل ظاناً أن الفجر لم يطلع وقد كان طلع، أو أفطر يظن أن الشمس قد غابت ولم تغب، لأنه يمكن التحرز منه. 9ً - غلبة القيء: فمن ذرعه القيء (¬1) فلا شيء عليه، بخلاف من استقاء فعليه القضاء. 10ً - السواك كل النهاروعدم الاغتسال من الجنابة، لكن يستحب الغسل ليلاً قبل طلوع الفجر الثاني لكل من لزمه الغسل من جنابة وحائض ونفساء انقطع دمها، وكافر أسلم، خروجاً من الخلاف. ¬
11ً - الكحل إن لم يجد طعمه في الحلق، وتلطيخ باطن القدم بالحناء، مع وجود طعمه بالحلق. 12ً - إدخال المرأة أصبعها أو غيرها في فرجها ولو مبتلة. وخلاصة آراء المذاهب في أهم المواضع السابقة: أن الجماع في نهار رمضان موجب للقضاء والكفارة والإمساك بقية النهار، وكذلك الأكل والشرب عمداً عند الحنفيةوالمالكية خلافاً لغيرهم قياساً على الجماع، بجامع انتهاك حرمة الشهر. ويفطر الصائم بالاتفاق بالقيء عمداً أو بتناول أي شيء مادي يصل إلى الجوف عمداً، سواء أكان مغذياً أم غير مغذٍّ، ولا يفطر بالفصد اتفاقاً كما لا يفطر عند الجمهور بالأكل ونحوه ناسياً، ويفطر عند المالكية، ولا يفطر بالأكل مكرهاً عند الشافعية والحنابلة، ويفطر عند المالكية والحنفية، ولا يفطر عند الحنابلة بغلبة ماء المضمضة ويفطر بها عند المالكية، وأما عند الشافعية فيفطر في حالة المبالغةأو العبث والتبرد أو الزيادة على الثلاث. ولا يفطر بالاكتحال عند الشافعية والحنفية، ويفطر به عند المالكية والحنابلة، إن وجد طعم الكحل في الحلق. ولا يفطر عند الجمهور بالحقنة في الإحليل، ويفطر بها عند الشافعية. ولا يفطر عند الجمهور بنبش الأذن بعود أو إدخاله فيها، ويفطر به عند الشافعية. ولا يفطر بالحجامة عند الجمهور وإنما تكره، ويفطر بها عند الحنابلة. ولا يفطر بإنزال المذي عند الحنفية والشافعية، ويفطر به عند المالكية والحنابلة في حال التقبيل أو المباشرة فيما دون الفرج، أما في حال تكرار النظر فلا يفطر به عند الحنابلة، ويفطر في رأي المالكية به أو بالتفكر عند الاستدامة، أو الاعتياد.
المبحث الثامن ـ قضاء الصوم وكفارته وفديته
وتتداخل الكفارة فلا تجب إلا واحدة بتكرر الإفطار في أيام عند الحنفية، وتتعدد الكفارة بتعدد الإفطار في أيام مختلفة عند الشافعية والحنابلة والمالكية (الجمهور). المبحث الثامن ـ قضاء الصوم وكفارته وفديته: وفيه مطالب ثلاثة: المطلب الأول ـ قضاء الصوم: أولاً ـ لوازم الإفطار: قال المالكية: يترتب على الإفطار سبعة أمور هي: القضاء، والكفارة الكبرى، والكفارة الصغرى (وهي الفدية)، والإمساك، وقطع التتابع، والعقوبة، وقطع النية (¬1). ثانياً ـ حكم القضاء: يجب باتفاق الفقهاء القضاء على من أفطر يوماً أو أكثر من رمضان، بعذر كالمرض والسفر والحيض ونحوه، أو بغير عذر كترك النية عمداً أو سهواً (¬2)، لقوله تعالى: {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر} [البقرة:184/ 2 - 185] والتقدير: فأفطر فعدة. وقالت عائشة في حديث سابق: «كنا نحيض على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فنؤمر بقضاء الصوم». ويأثم المفطر بلا عذر، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من أفطر يوماً من رمضان من غير ¬
وقت قضاء رمضان
رخصة (¬1)، ولا مرض، لم يقضه (¬2) صوم الدهر كله، وإن صامه» (¬3). والمقضي وجوباً: هو رمضان، وأيام الكفارة، والنذر، وحالة الشروع في التطوع في رأي الحنفية والمالكية، لكن المالكية أوجبوا القضاء على من أفطر في التطوع متعمداً، أما من أفطر فيه ناسياً، أتم ولا قضاء عليه إجماعاً، وإن أفطر فيه بعذر مبيح فلا قضاء. ووقت قضاء رمضان: ما بعد انتهائه إلى مجيء رمضان المقبل، ويندب تعجيل القضاء إبراء للذمة ومسارعة إلى إسقاط الواجب، ويجب العزم على قضاء كل عبادة إذا لم يفعلها فوراً، ويتعين القضاء فوراً إذا بقي من الوقت لحلول رمضان الثاني بقدر ما فاته، ويرى الشافعية وجوب المبادرة بالقضاء أي القضاء فوراً إذا كان الفطر في رمضان بغير عذر شرعي، ويكره لمن عليه قضاء رمضان أن يتطوع بصوم. وأما إذا أخر القضاء حتى دخل رمضان آخر، فقال الجمهور: يجب عليه بعد صيام رمضان الداخل القضاء والكفارة (الفدية). وقال الحنفية: لا فدية عليه سواء أكان التأخير بعذر أم بغير عذر. وتتكرر الفدية عند الشافعية بتكرر الأعوام. ولكن لا يجزئ القضاء في الأيام المنهي عن صومها كأيام العيد، ولا في الوقت المنذور صومه كالأيام الأولى من ذي الحجة، ولا في أيام رمضان الحاضر؛ لأنه متعين للأداء، فلا يقبل صوماً آخر سواه. ويجزئ القضاء في يوم الشك لصحة صومه تطوعاً، كما تقدم. ¬
تتابع القضاء
والقضاء يكون بالعدد، فإذا كان رمضان تسعة وعشرين يوماً، وجب قضاء ذلك المقدار فقط من شهر آخر. تتابع القضاء: اتفق أكثر الفقهاء (¬1) على أنه يستحب موالاة القضاء أو تتابعه، لكن لا يشترط التتابع والفور في قضاء رمضان، فإن شاء فرقه وإن شاء تابعه، لإطلاق النص القرآني الموجب للقضاء، إلا إذا لم يبق من شعبان المقبل إلا ما يتسع للقضاء فقط، فيتعين التتابع لضيق الوقت، كأداء رمضان في حق من لاعذر له. ودليل عدم وجوب التتابع ظاهر قوله تعالى: {فعدة من أيام أخر} [البقرة:184/ 2 - 185] فإنه يقتضي إيجاب العدد فقط، لا إيجاب التتابع. وشرط الظاهرية والحسن البصري التتابع، لما روي عن عائشة أنها قالت: «نزلت: فعدة من أيام أخر متتابعات» فسقط: متتابعات. صوم الولي عن الميت قضاء: من مات وعليه صيام شيء من رمضان فله حالان (¬2): أحدهما ـ أن يموت قبل إمكان الصيام، إما لضيق الوقت أو لعذر من مرض أو سفر أو عجز عن الصوم، فلا شيء عليه عند أكثر العلماء لعدم تقصيره، ولا إثم عليه؛ لأنه فرض لم يتمكن منه إلى الموت، فسقط حكمه إلى غير بدل كالحج. وبناء عليه: إن مات المريض أو المسافر، وهما على حالهما، لم يلزمهما القضاء. ¬
وهل يجب الإطعام عنه من التركة؟
الحال الثاني ـ أن يموت بعد إمكان القضاء، فلا يصوم عنه وليه أي لم يجب صومه عند أكثر الفقهاء، ولم يصح صومه عنه عند الشافعية في الجديد؛ لأنه عبادة بدنية محضة، وجبت بأصل الشرع فلم تدخلها النيابة في الحياة وبعد الموت كالصلاة، ولحديث: «لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد، ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مدّ من حنطة» (¬1) ويستحب عند الحنابلة للولي أن يصوم عن الميت؛ لأنه أحوط لبراءة الميت. وهل يجب الإطعام عنه من التركة؟ قال الحنفية والمالكية: إن أوصى بالإطعام، أطعم عنه وليه لكل يوم مسكيناً نصف صاع (¬2) من تمر أوشعير؛ لأنه عجز عن الأداء في آخر عمره، فصار كالشيخ الفاني، ولا بد من الإيصاء. وقال الشافعية في الجديد والحنابلة على الراجح: الواجب أن يطعم عنه لكل يوم مد طعام (¬3) لكل مسكين، للحديث السابق، ولقول عائشة أيضاً: «يطعم عنه في قضاء رمضان، ولا يصام عنه» (¬4) ولحديث ابن عمر: «من مات وعليه صيام شهر، فليطعم عنه مكان كل يوم مسكيناً» (¬5). هذا ... ويرى أصحاب الحديث وجماعة من محدثي الشافعية وأبو ثور ¬
المطلب الثاني ـ الكفارة
والأوزاعي والظاهرية وغيرهم أنه يصوم الولي عن الميت إذا مات، وعليه صوم، أي صوم كان من رمضان أو نذراً، والولي على الأرجح: هو كل قريب، ودليلهم أحاديث ثابتة، منها حديث عائشة المتفق عليه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «من مات وعليه صيام، صام عنه وليه» (¬1) وقيد ابن عباس والليث وأبو عبيد وأبو ثور ذلك بصوم النذر. المطلب الثاني ـ الكفارة: وأما الكفارة: فالكلام في موجبها وحكمها ودليلها، وأنواعها وتعددها (¬2): فموجبها: إفساد صوم رمضان خاصة، عمداً قصداً، لانتهاك حرمة الصوم من غير مبيح للفطر، فلا كفارة على من أفطر في قضاء رمضان عند الجمهور، ولا كفارة على الناسي والمكره، ولا تجب في القبلة، ولا على الحائض والنفساء والمجنون والمغمى عليه؛ لأنه من غير فعلهم، ولاعلى المريض والمسافر، والمرهق بالجوع والعطش، والحامل، لعذرهم، ولا على المرتد؛ لأنه هتك حرمة الإسلام، لا حرمة الصيام خصوصاً. وقد سبق بحث الحالات الموجبة للكفارة في المذاهب، وأهمها الجماع بالاتفاق، والإفطار المتعمد بالأكل ونحوه عند الحنفية والمالكية. وحكمها: أنها واجبة بالفطر في رمضان فقط دون غيره إن أفطر فيه ـ لدى الحنفية والمالكية ـ منتهكاً لحرمته، أي غير مبال بها، بأن تعمدها اختياراً، بلا تأويل ¬
دليل إيجابها
قريب ـ على حد تعبير المالكية ـ احترازاً من الناسي والجاهل والمتأول، فلا كفارة عليهم، كما أبنت، وكان الفطر بجماع ونحوه، وبأكل ونحوه عند الحنفية والمالكية. واشترط الشافعية لإيجاب هذه الكفارة أن يكون المجامع ذاكراً لصومه، عالماً بالحرمة، غير مترخص بسفر أو مرض. فمن جامع ناسياً أو جاهلاً بالحرمة، أو أفسد صوماً غير صوم رمضان، أو أفطر متعمداً بغير الجماع، أو كان مسافراً، فلا كفارة عليه، وعليه القضاء فقط. ودليل إيجابها: حديث أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: هلكتُ يا رسول الله، قال: وما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان، قال: هل تجد ما تعتق رقبة؟ قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: فهل تجد ما تطعم ستين مسكيناً؟ قال: لا. قال: ثم جلس، فأُتي النبي صلّى الله عليه وسلم بعَرَق (¬1) فيه تمر، قال: تصدق بهذا، قال: فهل على أفقر منا، فما بين لابتيها (¬2) أهلُ بيت أحوج إليه منا؟! فضحك النبي صلّى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، وقال: اذهب فأطعمه أهلك (¬3). وفي لفظ ابن ماجه قال: أعتق رقبة؟ قال: لا أجدها، قال: صم شهرين متتابعين؟ قال: لا أطيق، قال: أطعم ستين مسكيناً. وفي لفظ لابن ماجه وأبي داود في رواية: «وصم يوماً مكانه». ¬
أنواع الكفارة
قال الشوكاني: استدل به على سقوط الكفارة بالإعسار لما تقرر أنها لا تصرف في النفس والعيال، ولم يبين صلّى الله عليه وسلم استقرارها في ذمته إلى حين يساره، وهو أحد قولي الشافعي، وجزم به عيسى بن دينار من المالكية، وقال الجمهور: لاتسقط بالإعسار، قالوا: وليس في الخبر ما يدل على سقوطها عن المعسر، بل فيه ما يدل على استقرارها عليه، والذي أذن له في التصرف فيه ليس على سبيل الكفارة (نيل الأوطار: 216/ 4). قال ابن تيمية الجد: وفيه دلالة قوية على الترتيب. وظاهر لفظ الدارقطني: أن المرأة كانت مكرهة. ويجب قضاء اليوم مع الكفارة. ويجب القضاء على الزوجة الموطوءة إن لم تجب عليها الكفارة. أنواع الكفارة: ثلاثة: عتق، وصيام، وإطعام، مثل كفارة الظهار والقتل الخطأ في الترتيب عند الجمهور، فإن عجز عن العتق بأن لم يجد رقبة فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع صومهما أطعم ستين مسكيناً. والإطعام عند المالكية أفضل الخصال، والكفارة واجبة عندهم على التخيير لا على الترتيب (¬1). قال الشوكاني: في حديث أبي هريرة دليل على أنه يجزئ التكفير بواحدة من الثلاث الخصال. وظاهر الحديث أيضاً أن الكفارة بالخصال الثلاث على الترتيب. قال البيضاوي: لأن ترتيب الخصال بالفاء. وأضاف الشوكاني قائلاً: وقد وقع في الروايات ما يدل على الترتيب والتخيير، والذين رووا الترتيب أكثر، ومعهم الزيادة (¬2)، فيكون دليل المالكية العمل برواية أخرى فيها التخيير. والخلاصة: إن الكفارة مرتبة في رأي الجمهور، وقال المالكية: الكفارة واجبة في ثلاثة أنواع على التخيير، إما إطعام ستين مسكيناً وهو الأفضل، وصيام شهرين متتابعين، أوعتق رقبة. فالعتق: تحرير رقبة مؤمنة عند الجمهور غير الحنفية: سليمة من العيوب أي عيوب فوات منفعة البطش والمشي والكلام والنظر والعقل، قياساً في اشتراط الإيمان على كفارة القتل الخطأ، وقال الحنفية: ولو كانت غير مؤمنة، لإطلاق نص الحديث السابق. ¬
والصيام عند العجز عن الرقبة: صيام شهرين متتابعين، ليس فيهما يوم عيد، ولا أيام التشريق، ولا يجزئه الصوم إن قدر على العتق قبل البدء بالصوم، فلو قدر على العتق في أثناء الصوم ولو في آخر يوم، لزمه العتق عند الحنفية، ولم يلزمه عند الجمهور الانتقال عن الصوم إلى العتق، إلا أن يشاء أن يعتق، فيجزئه، ويكون قد فعل الأولى أي يندب له عتق الرقبة. فلو أفطر ولو لعذر إلا لعذر الحيض استأنف عند الحنفية الصوم من جديد، ويستأنف الصوم عند المالكية إن أفطر متعمداً. ولا يستأنف إن أفطر ناسياً أو لعذر، أو لغلط في العدد. وقال الشافعية: لو أفسد يوماً ولو اليوم الأخير ولو بعذر كسفر ومرض وإرضاع ونسيان نية، استأنف الشهرين، لكن لا يضر الفطر بحيض ونفاس وجنون وإغماء مستغرق؛ لأن كلاً منها ينافي الصوم مع كونه اضطرارياً، وقال الحنابلة: لا ينقطع التتابع بالفطر لمرض أو حيض. والإطعام عند عدم استطاعة الصوم: إطعام ستين مسكيناً، لكل مسكين عند الجمهور مد من القمح بمد النبي صلّى الله عليه وسلم أو نصف صاع من تمر أوشعير، وعند الحنفية: مدان، أو يغذيهم ويعشيهم غداء وعشاء مشبعين، أو غداءين أو عشاءين، أو عشاء وسحوراً. والمدان أو نصف الصاع: هما من بُر أو دقيقه أو سويقه، أو يعطي كل فقير صاع تمر أوصاع شعير أوزبيب أو يعطي عند الحنفية قيمة نصف الصاع من البر، أو الصاع من غيره من غير المنصوص عليه، ولو في أوقات متفرقة، لحصول الواجب. ولا يجوز للفقير صرف الكفارة إلى عياله، كالزكاة وسائر الكفارات، وأما خبر «أطعمه أهلك» فهو خصوصية، أو أن لغير المكفر الذي تطوع بالتكفير عن
تعدد الكفارة أو تداخلها بتعدد الإفطار في أيام
غيره صرف الكفارة للمكفر عنه تطوعاً. والأصح عند الشافعية أن له العدول عن الصوم إلى الإطعام لغُلمة (أي شدة الحاجة للنكاح)؛ لأن حرارة الصوم وشدة الغلمة قد يفضيان به إلى الوقاع، ولو في يوم واحد من الشهرين، وذلك يقتضي استئنافها لبطلان التتابع، وهو حرج شديد. وتشترط النية عند أداء الكفارة في رأي الشافعية، بأن ينوي العتق أو الصوم أو الإطعام عن الكفارة؛ لأنها حق مالي أو بدني يجب تطهيراً كالزكاة والصيام، فلا بد لصحتها من النية. تعدد الكفارة أو تداخلها بتعدد الإفطار في أيام: إن تكرر الجماع، أو الإفطار بأكل ونحوه في رأي الحنفية والمالكية، قبل التكفير عن الأول، فإما أن يكون في يوم واحد، أو في يومين: أـ فإن كان في يوم واحد، فكفارة واحدة تجزئه، بالاتفاق. ب ـ وإن كان في يومين أو أكثر من رمضان: فعليه كفارتان أو أكثر، عند الجمهور؛ لأن كل يوم عبادة منفردة، فإذا وجبت بإفساده، لم تتداخل، كرمضانين وكالحجتين. وتجزئ كفارة واحدة عند الحنفية عن جماع وأكل متعمد متعدد في أيام لم يتخلله تكفير، ولو من رمضانين على الصحيح، فإن تخلل تكفير لا تكفي كفارة واحدة في ظاهر الرواية؛ لأن الكفارة جزاء عن جناية تكرر سببها قبل استيفائها، والمقصود بها الزجر، فيجب أن تتداخل كالحد، ويحصل بها مقصودها، وفي حال تخلل التكفير لم يحصل الزجر بعوده لانتهاك حرمة الشهر. ومن عجز عن الكفارة، استقرت في ذمته، والمعتبر حاله حين التكفير، فإن قدر على خصلة فعلها.
طروء العذر بعد الإفطار عمدا
طروء العذر بعد الإفطار عمدا ً: إن حدوث السفر أو المرض بعد الجماع، أو الأكل المقيس عليه عند القائلين به، لا يسقط الكفارة عند الشافعية والمالكية والحنابلة؛ لأن العذر معنى طرأ بعد وجوب الكفارة، فلم يسقطها، ولأن السفر المنشأ في أثناء النهار لا يبيح الفطر عند غير الحنابلة، فلا يؤثر فيما وجب من الكفارة، ولأن المرض، لا ينافي الصوم، فيتحقق هتك حرمته. ورأى الحنفية أن الكفارة تسقط بعد الإفطار بطروء حيض أو نفاس أو مرض مبيح للفطر في يومه الذي أفسده؛ لأن اليوم لا يتجزأ ثبوتاً وسقوطاً للكفارة، فتمكنت الشبهة في عدم استحقاقه من أوله بعروض العذر في آخره، ولا تسقط عمن سوفر به كرهاً أو سافر اختياراً، بعد لزومها في ظاهر الرواية، والفرق بين الحالين أنه في السفر المكره عليه لم يجئ العذر من قبل صاحب الحق، وفي غير السفر تمكنت الشبهة في عدم استحقاق الكفارة من أول اليوم بعروض العذر في آخره؛ لأن الكفارة إنما تجب في صوم مستحق، وهو لا يتجزأ ثبوتاً وسقوطاً. المطلب الثالث ـ الفدية: أما الفدية: فالكلام في حكمها، وسببها، وتكررها بتكرر السنين (¬1): ف حكم الفدية: الوجوب، لقوله تعالى: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} [البقرة:184/ 2] أي على الذين يتحملون الصوم بمشقة شديدة الفدية. والفدية عند الحنفية: نصف صاع من بُرّ، أي قيمته، بشرط دوام عجز الفاني والفانية إلى ¬
سببها
الموت. ومد من الطعام من غالب قوت البلد عن كل يوم عند الجمهور، بقدر ما فاته من الأيام. ومصارف الفدية والنذور المطلقة والكفارات والصدقات الواجبة: هي مصارف الزكاة. وسببها: 1 - العجز عن الصيام، فتجب باتفاق الفقهاء على من لا يقدر على الصوم بحال، وهو الشيخ الكبير والعجوز، إذا كان يجهدهما الصوم ويشق عليهما مشقة شديدة، فلهما أن يفطرا ويطعما لكل يوم مسكيناً، للآية السابقة: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} [البقرة:184/ 2] وقول ابن عباس: «نزلت رخصة للشيخ الكبير» ولأن الأداء صوم واجب، فجاز أن يسقط إلى الكفارة كالقضاء. والشيخ الهمّ (¬1) له ذمة صحيحة، فإن كان عاجزاً عن الإطعام أيضاً فلا شيء عليه، و {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} [البقرة:286/ 2] وقال الحنفية: يستغفر الله سبحانه، ويستقبله أي يطلب منه العفو عن تقصيره في حقه. وأما المريض إذا مات فلا يجب الإطعام عنه؛ لأن ذلك يؤدي إلى أن يجب على الميت ابتداء، بخلاف ما إذا أمكنه الصوم فلم يفعل، حتى مات؛ لأن وجوب الإطعام يستند إلى حال الحياة. 2 - وتجب الفدية أيضاً بالاتفاق على المريض الذي لا يرجى برؤه، لعدم وجوب الصوم عليه، كما تقدم، لقوله عز وجل: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج:78/ 22]. 3 - وتجب الفدية كذلك عند الجمهور (غير الحنفية) مع القضاء على الحامل ¬
تكرر الفدية
والمرضع إذا خافتا على ولدهما، أما إن خافتا على أنفسهما، فلهما الفطر، وعليهما القضاء فقط، بالاتفاق. ودليله الآية السابقة: {وعلى الذين يطيقونه فدية .. } [البقرة:184/ 2] وهما داخلتان في عموم الآية، قال ابن عباس: «كانت رخصة الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة، وهما يطيقان الصيام أن يفطرا، ويطعما مكان كل يوم مسكيناً، والحبلى والمرضع إذا خافتا على أولادهما أفطرتا وأطعمتا» (¬1)، ولأنه فطر بسبب نفس عاجزة من طريق الخلقة، فوجبت به الكفارة كالشيخ الهرم. ولا تجب عليهما الفدية مطلقاً عند الحنفية، لحديث أنس بن مالك الكعبي: «إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة، وعن الحامل والمرضع الصوم ـ أو الصيام ـ والله لقد قالها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أحدهما أو كليهما» (¬2) فلم يأمر بكفارة، ولأنه فطر أبيح لعذر، فلم يجب به كفارة كالفطر للمرضى. ورأي الجمهور أقوى وأصح لدي؛ لأنه نص في المطلوب، وحديث أنس مطلق لم يتعرض للكفارة. 4 - وتجب الفدية أيضاً مع القضاء عند الجمهور (غير الحنفية) على من فرط في قضاء رمضان، فأخره حتى جاء رمضان آخر مثله بقدر ما فاته من الأيام، قياساً على من أفطر متعمداً؛ لأن كليهما مستهين بحرمة الصوم، ولا تجب على من اتصل عذره من مرض أو سفر أو جنون أو حيض أو نفاس. تكرر الفدية: ولا تتكرر الفدية عند المالكية والحنابلة بتكرر الأعوام وإنما ¬
باقي لوازم الإفطار
تتداخل كالحدود، والأصح في رأي الشافعية: أنها تتكرر بتكرر السنين؛ لأن الحقوق المالية لا تتداخل (¬1). وقال الحنفية: لا فدية بالتأخير إلى رمضان آخر، لإطلاق النص القرآني. {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر} [البقرة:184/ 2 - 185] فكان وجوب القضاء على التراخي، حتى كان له أن يتطوع، فلا يلزمه بالتأخير شيء ولأنه القياس في الكفارات، غير أنه تارك للأولِى من المسارعة في القضاء. والفدية والكفارة والنذر وقتها العمر كله، والأولى التعجيل بقدر الإمكان وأن تكون الفدية في رمضان، لأن الثواب فيه أكثر. ويرى الحنابلة أن النذر والكفارة واجبان على الفور؛ لأنه مقتضى الأمر. باقي لوازم الإفطار: أما إمساك بقية اليوم وعقوبة منتهك حرمة صوم رمضان فقد سبق الكلام عليهما. وأما قطع التتابع: فهو عند المالكية لمن أفطر متعمداً في صيام النذر والكفارات المتتابعات كالقتل والظهار، فيستأنف، بخلاف من قطع الصوم ناسياً أو لعذر، أو لغلط في العدة، فإنه يبني على ما كان معه. وقد عرفنا رأي بقية المذاهب الأخرى. وأما قطع النية: فإنها تنقطع بإفساد الصوم أو تركه مطلقاً لعذر أو لغير عذر، ولزوال تحتم الصوم كالسفر، وإن صام فيه، وإنما ينقطع استصحابها حكماً. وهذا عند المالكية الذين يكتفون بنية واحدة أول شهر رمضان. ¬
ملحق ـ ما يلزم الوفاء به من منذور الصوم والصلاة وغيرهما
ملحق ـ ما يلزم الوفاء به من منذور الصوم والصلاة وغيرهما: قال الحنفية (¬1): إذا نذر الإنسان شيئاً لزمه الوفاء به بشروط أربعة: 1ً - أن يكون من جنسه واجب: فلا تلزم عيادة المريض أو قراءة المولد النبوي، إذ ليس من جنسها واجب، وإيجاب الإنسان شيئاً على نفسه معتبر بإيجاب الله تعالى، إذ له الاتباع، لا الابتداع. وأجاز الحنفية نذر صوم يوم العيد، لأن صومه عندهم حرام بوصفه، لا بأصله، أي لما يترتب عليه من الإعراض عن ضيافة الله، أما أصل الصوم فمشروع. 2ً - أن يكون مقصوداً لذاته، لا لغيره: فلا يلزم الوضوء بنذره، ولا قراءة القرآن، لكون الوضوء ليس مقصوداً لذاته، لأنه شرع شرطاً لغيره، كحل الصلاة. 3ً - ألا يكون واجباً: فلا يصح نذر الواجبات كالصلوات الخمس؛ لأن إيجاب الواجب محال، ولا يصح نذر الوتر وسجدة التلاوة عند الحنفية القائلين بوجوبهما؛ لأنها واجبة بإيجاب الشارع. 4ً - ألا يكون المنذور محالاً كقوله: لله علي صوم الأمس أو البارحة، إذ لايلزمه. وبناء عليه يصح نذر الاعتكاف، والصلاة غير المفروضة، والصوم والتصدق بالمال، والذبح، لوجود شيء من جنسها شرعاً كالأضحية. ويصح ـ كما تقدم ـ عند الحنفية نذر صوم العيدين وأيام التشريق في المختار، لكن يجب فطرها وقضاؤها، وإن صامها أجزأه مع الحرمة. ¬
وإن نذر شيئاً مطلقاً كصلاة ركعتين، أو معلقاً بشرط، مثل إن رزقني الله غلاماً، فعلي إطعام عشرة مساكين، ووجد الشرط، لزمه الوفاء به، لقوله تعالى: {وليوفوا نذورهم} [الحج:29/ 22] ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله، فلا يعصه» (¬1). ويلغى عند الحنفية ماعدا زفر تعيين الزمان والمكان والدرهم والفقير، فيجزئه صوم رجب عن نذره صوم شعبان، ويجزئه صلاة ركعتين بأي بلد، وقد كان نذر أداءهما بمكة، أو المسجد النبوي، أو الأقصى، لأن صحة النذر باعتبار القربة، لا المكان؛ لأن الصلاة تعظيم الله تعالى بجميع البدن، والأمكنة كلها في هذا المعنى سواء، وإن تفاوت الفضل. ويجزئه التصدق بدرهم عن درهم عينه له، والصرف لزيد الفقير بنذره لعمر؛ لأن المقصود من الصدقة سد خلة المحتاج، أو ابتغاء وجه الله، وهذا المعنى حاصل بدون مراعاة زمان ومكان وشخص. وإن علق النذر بشرط، مثل «إن قدم فلان فلله علي أن أتصدق بكذا» لا يجزئه عنه ما فعله قبل وجود شرطه؛ لأن المعلق بالشرط عدم قبل وجوده، وإنما يجوز الأداء بعد وجود السبب الذي علق النذر به. وسيأتي في بحث النذر تفصيل آراء المذاهب الأخرى. ¬
الفصل الثاني: الاعتكاف
الفَصْلُ الثَّاني: الاعتِكَاف فيه مباحث ستة وهي: المبحث الأول ـ تعريف الاعتكاف ومشروعيته والهدف منه، ومكانه وزمانه. المبحث الثاني ـ حكم الاعتكاف وما يوجبه النذر على المعتكف. المبحث الثالث ـ شروط الاعتكاف. المبحث الرابع ـ ما يلزم المعتكف وما يجوز له. المبحث الخامس ـ آداب المعتكف، ومكروهات الاعتكاف ومبطلاته. المبحث السادس ـ حكم الاعتكاف إذا فسد. وأبدأ ببحثها على الترتيب المذكور. المبحث الأول ـ تعريف الاعتكاف ومشروعيته والهدف منه، ومكانه وزمانه: تعريفه: الاعتكاف لغة: اللبث وملازمة الشيء أو الدوام عليه خيراً كان أو شراً. ومنه قوله تعالى: {يعكفون على أصنام لهم} [الأعراف:138/ 7] وقوله:
{ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون} [الأنبياء:53/ 21] وقوله سبحانه: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} [البقرة:187/ 2]. وشرعاً له تعاريف متقاربة في المذاهب، قال الحنفية (¬1): هو اللبث في المسجد الذي تقام فيه الجماعة، مع الصوم، ونية الاعتكاف، فاللبث ركنه؛ لأنه ينبئ عنه، فكان وجوده به، والصوم في الاعتكاف المنذور والنية من شروطه. ويكون من الرجل في مسجد جماعة: وهو ماله إمام ومؤذن، أديت فيه الصلوات الخمس أو لا، ومن المرأة: في مسجد بيتها: وهو محل عينته للصلاة، ويكره في المسجد، ولا يصح في غير موضع صلاتها من بيتها. وقال المالكية (¬2): هو لزوم مسلم مميز مسجداً مباحاً لكل الناس، بصوم، كافاً عن الجماع ومقدماته، يوماً وليلة فأكثر، للعبادة، بنية. فلا يصح من كافر، ولا من غير مميز، ولا في مسجد البيت المحجور عن الناس، ولا بغير صوم، أي صوم كان: فرض أو نفل، من رمضان أو غيره، ويبطل بالجماع ومقدماته ليلاً أو نهاراً، وأقله يوم وليلة ولا حد لأكثره، بقصد العبادة بنية، إذ هو عبادة، وكل عبادة تفتقر للنية. وعبارة الشافعية (¬3): هو اللبث في المسجد من شخص مخصوص بنية. وعبارة الحنابلة (¬4): هو لزوم المسجد لطاعة الله، على صفة مخصوصة، من مسلم عاقل ولو مميزاً، طاهر مما يوجب غسلاً، وأقله ساعة، فلا يصح من كافر ولو مرتداً، ولا من مجنون ولا طفل، لعدم النية، ولا من جنب ونحوه ولو متوضئاً، ولا يكفي العبور، وإنما أقله لحظة. ¬
أدلة مشروعيته
وأدلة مشروعيته (¬1): الكتاب والسنة والإجماع، فمن الكتاب: قوله تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} [البقرة:187/ 2] ومثله {أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين} [البقرة:125/ 2] فالإضافة في الآية الأولى إلى المساجد المختصة بالقربات، وترك الوطء المباح لأجله، دليل على أنه قربة. والسنة: لما روى ابن عمر وأنس وعائشة أن «النبي صلّى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الأواخر من رمضان، منذ قدم المدينة إلى أن توفاه الله تعالى» (¬2) وقال الزهري: «عجباً من الناس، كيف تركوا الاعتكاف، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يفعل الشيء ويتركه، وما ترك الاعتكاف حتى قبض». وهو من الشرائع القديمة، قال الله تعالى: {وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين} [البقرة:125/ 2]. والهدف منه: صفاء القلب بمراقبة الرب والإقبال والانقطا ع إلى العبادة في أوقات الفراغ، متجرداً لها، ولله تعالى، من شواغل الدنيا وأعمالها، ومسلِّماً النفس إلى المولى بتفويض أمرها إلى عزيز جنابه والاعتماد على كرمه والوقوف ببابه، وملازمة عبادته في بيته سبحانه وتعالى والتقرب إليه ليقرب من رحمته، والتحصن بحصنه عز وجل، فلا يصل إليه عدوه بكيده وقهره، لقوة سلطان الله وقهره وعزيز تأييده ونصره. فهو من أشرف الأعمال وأحبها إلى الله تعالى إذا كان عن إخلاص لله سبحانه؛ لأنه منتظر للصلاة، وهو كالمصلي، وهي حالة قرب. فإذا انضم إليه الصوم عند مشترطيها ازداد المؤمن قرباً من الله بما يفيض على الصائمين من طهارة القلوب، وصفاء النفوس. ¬
زمانه
وأفضله في العشر الأواخر من رمضان ليتعرض لليلة القدر التي هي خير من ألف شهر. وزمانه: أنه مستحب كل وقت في رمضان وغيره، وأقله عند الحنفية (¬1) نفلاً: مدة يسيرة غير محدودة، وإنما بمجرد المكث مع النية، ولو نواه ماشياً على المفتى به؛ لأنه متبرع، وليس الصوم في النفل من شرطه، ويعد كل جزء من اللبث عبادة مع النية بلا انضمام إلى آخر. ولا يلزم قضاء نفل شرع فيه على الظاهر من المذهب؛ لأنه لا يشترط له الصوم. وأقله عند المالكية (¬2): يوم وليلة، والاختيار: ألا ينقص عن عشرة أيام، بمطلق صوم من رمضان أو غيره، فلا يصح من مفطر، ولو لعذر، فمن لا يستطيع الصوم لا يصح اعتكافه. والأصح عند الشافعية (¬3):أنه يشترط في الاعتكاف لبث قدر يسمى عكوفاً أي إقامة، بحيث يكون زمنها فوق زمن الطمأنينة في الركوع ونحوه، فلا يكفي قدرها، ولا يجب السكون، بل يكفي التردد فيه. وأقله عند الحنابلة (¬4): ساعة أي ما يسمى به معتكفاً لابثاً، ولو لحظة. فالجمهور على الاكتفاء بمدة يسيرة، والمالكية يشترطون لأقله يوماً وليلة. ومكانه: عند الحنفية (¬5) للرجل أو المميز في مسجد الجماعة: وهو ما له إمام ومؤذن، سواء أديت فيه الصلوات الخمس أو لا، وأما الجامع فيصح فيه مطلقاً ¬
اتفاقاً، بدليل قول ابن مسعود: «لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة» (¬1)،وللمرأة في مسجد بيتها: وهو المعد لصلاتها، الذي يندب لها ولكل أحد اتخاذه. وعند الحنابلة (¬2): لا يجوز الاعتكاف من رجل تلزمه الصلاة جماعة إلا في مسجد تقام فيه الجماعة، فلا يصح بغير مسجد بلا خلاف، لقوله تعالى: {ولاتباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} [البقرة:187/ 2] فلو صح في غيرها لم تختص بتحريم المباشرة؛ إذ هي محرمة في الاعتكاف مطلقاً. وإنما اشترط كون المسجد مما يجمع فيه؛ لأن الجماعة واجبة، واعتكاف الرجل في مسجد لا تقام فيه الجماعة يفضي إلى أحد أمرين: إما ترك الجماعةالواجبة، وإما خروجه إليها، فيتكرر ذلك منه كثيراً مع إمكان التحرز منه، وذلك مناف للاعتكاف: وهو لزوم المعتكف والإقامة على طاعة الله فيه. ويصح الاعتكاف في كل مسجد في الحالات التالية: 1ً - إن كان الاعتكاف مدة غير وقت الصلاة كليلة، أو بعض يوم، لعدم المانع. وإن كانت الجماعة تقام في مسجد في بعض الزمان، جاز الاعتكاف فيه في ذلك الزمان دون غيره. 2ً - إن كان المعتكف ممن لا تلزمه الجماعة كالمريض والمعذور والمرأة والصبي ومن هو في قرية لا يصلي فيها سواه، فله أن يعتكف في كل مسجد؛ لأن الجماعة غير واجبة عليه. ولا يصح للمرأة الاعتكاف في مسجد بيتها؛ لأنه ليس بمسجد حقيقة ولا حكماً، ولوجاز لفعلته أمهات المؤمنين، ولو مرة، تبييناً للجواز. وإذا اعتكفت المرأة في المسجد، استحب لها أن تستتر بشيء؛ لأن أزواج ¬
النبي صلّى الله عليه وسلم لما أردن الاعتكاف أمرن بأبنيتهن، فضربن في المسجد، ولأن المسجد يحضره الرجال، وخير لهم وللنساء ألا يرونهن ولا يرينهم. ولا يصح الاعتكاف ممن تلزمه الجماعة في مسجد تقام فيه الجمعة دون الجماعة إذا كان يأتي عليه وقت صلاة، حتى لا يترك الجماعة. ويلاحظ أن سطح المسجد ورحبته المحطوطة به وعليها باب، ومنارته التي تكون فيه أو التي بابها فيه من المسجد، بدليل منع الجنب من الدخول فيما ذكر. وكذا كل ما زيد في المسجد حتى في الثواب يعد من المسجد، ولو المسجد الحرام ومسجد المدينة، لما روي عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لو بني هذا المسجد إلى صنعاء، كان مسجدي» (¬1) وقال عمر لما زاد المسجد: «لو زدنا فيه حتى يبلغ الجبانة، كان مسجد النبي صلّى الله عليه وسلم». ولو اعتكف من لا تلزمه الجمعة كالمسافر والمرأة في مسجد لا تصلى فيه الجمعة، بطل اعتكافه بخروجه إليها إن لم يشترط الخروج إليها؛ لأنه خروج لازم لا بد له منه. والأفضل الاعتكاف في المسجد إذا كانت الجمعة تتخلله، لئلا يحتاج إلى الخروج إليها، فيترك الاعتكاف، مع إمكان التحرز منه. ومن نذر الاعتكاف أو الصلاة في مسجد غير المساجد الثلاثة، فله فعل المنذور من اعتكاف أو صلاة في غيره؛ لأن الله تعالى لم يعين لعبادته موضعاً، فلم يتعين بالنذر، ولو تعين لا حتاج إلى شد رحل. وإن نذر الاعتكاف أو الصلاة في أحد المساجد الثلاثة: المسجد ¬
الحرام، ومسجد النبي صلّى الله عليه وسلم، والمسجد الأقصى، لم يجزئه في غيرها، لفضل العبادة فيها على غيرها، فتتعين بالتعيين. وله شد الرحال إلى المسجد الذي عينه من الثلاثة، لحديث أبي هريرة: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا» (¬1). وأفضلها المسجد الحرام، ثم مسجد النبي صلّى الله عليه وسلم، ثم المسجد الأقصى (¬2)، فإن عين الأفضل منها وهو المسجد الحرام في نذره، لم يجزئه الاعتكاف ولا الصلاة فيما دونه، لعدم مساواته له. وقال المالكية (¬3): مكان الاعتكاف هو المساجد كلها، ولايصح في مسجد البيوت المحجورة، ومن نوى الاعتكاف مدة يتعين عليه إتيان الجمعة في أثنائها، تعين الجامع، لأنه إن خرج إلى الجمعة، بطل اعتكافه. ويلزم الوفاء بالنذر في المكان الذي عينه الناذر، فإذا عين مسجد مكة أو المدينة في نذر الصلاة أو الاعتكاف، وجب عليه الوفاء فيهما. والمدينة عند المالكية أفضل من مكة، ومسجدها أفضل من المسجد الحرام، ويليهما المسجد الأقصى، لما رواه الدارقطني والطبراني من حديث رافع بن خديج: «المدينة خير من مكة» ولما ورد في دعائه صلّى الله عليه وسلم: «اللهم كما أخرجتني من أحب البلاد إلي، فأسكني في أحب البلاد إليك» وروى الطبراني عن بلال بن الحارث المزني: «رمضان بالمدينة خير من ألف رمضان ¬
فيما سواها من البلدان، وجمعة بالمدينة خير من ألف جمعة فيما سواها من البلدان». وكذلك قال الشافعية (¬1): إنما يصح الاعتكاف في المسجد، سواء في سطحه أو غيره التابع له، والجامع (¬2) أولى بالاعتكاف فيه من غيره، للخروج من خلاف من أوجبه، ولكثرة الجماعة فيه، وللاستغناء عن الخروج للجمعة. ويجب الجامع للاعتكاف فيه إن نذر مدة متتابعة فيها يوم الجمعة، وكان ممن تلزمه الجمعة، ولم يشترط الخروج لها. والجديد أنه لايصح اعتكاف امرأة في مسجد بيتها: وهو المعتزل المهيأ للصلاة؛ لأنه ليس بمسجد بدليل جواز تغييره ومكث الجنب فيه، ولأن نساء النبي صلّى الله عليه وسلم ورضي عنهن كن يعتكفن في المسجد، ولو كفى بيوتهن لكان لهن أولى. وإن نذر أن يعتكف في مسجد غير المساجد الثلاثة بعينه، جاز - كما قال الحنابلة - أن يعتكف في غيره؛ لأنه لا مزية لبعضها على بعض، فلم يتعين. وإن نذر أن يعتكف في أحد المساجد الثلاثة (المسجد الحرام ومسجد المدينة والأقصى) تعين، ولزمه أن يعتكف فيه، لما روى عمر رضي الله عنه، قال: «قلت لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم: أوف بنذرك» (¬3) ويقوم المسجد الحرام مقامهما لمزيد فضله عليهما وتعلق النسك به، ولا عكس، فلا يقومان مقام المسجد الحرام؛ لأنهما دونه في الفضل، ويقوم مسجد المدينة مقام الأقصى؛ لأنه أفضل منه، ولا عكس، لأنه دونه في الفضل. والخلاصة: إن المالكية والشافعية يجيزون الاعتكاف في أي مسجد، والحنفية ¬
المبحث الثاني ـ حكم الاعتكاف وما يوجبه النذر على المعتكف
والحنابلة يشترطو ن كونه في المسجد الجامع، ولا يجوز عند الجمهور الاعتكاف في مسجد البيوت، ويجوز ذلك للمرأة عند الحنفية. المبحث الثاني ـ حكم الاعتكاف وما يوجبه النذر على المعتكف: وفيه مطلبان: المطلب الأول ـ حكم الاعتكاف: الاعتكاف غير المنذور مستحب باتفاق العلماء، ولكن يحسن بيان الآراء المذهبية لتحديد رتبة السنة على وجه الدقة. فقال الحنفية (¬1): الاعتكاف ثلاثة أنواع: واجب، وسنة مؤكدة، ومستحب. أما الواجب: فهو المنذور، كقوله: «لله علي أن أعتكف يوماً» أو أكثر مثلاً. وأما السنة المؤكدة على سبيل الكفاية: فهي اعتكاف العشر الأواخر من رمضان، لاعتكافه صلّى الله عليه وسلم العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه بعده. وأما المستحب: فهو في أي وقت سوى العشر الأخير، ولم يكن منذوراً، كأن ينوي الاعتكاف عند دخول المسجد، وأقله: مدة يسيرة، ولو كانت ماشياً على المفتى به. والصوم شرط لصحة الاعتكاف المنذور فقط وغير شرط في التطوع، وأقله يوم، فلو نذر اعتكاف ليلة لم يصح، وإن نوى معها اليوم لعدم محليتها للصوم، أما لو نوى بها اليوم صح، والفرق أنه في الحالة الأولى جعل اليوم تبعاً لليلة، ولما بطل نذره في المتبوع وهو الليلة، بطل في التابع وهو اليوم، وأما في الحالة الثانية، ¬
المطلب الثاني ـ ما يوجبه النذر على المعتكف
فقد أطلق الليلة، وأراد اليوم مجازاً مرسلاً، باستعمال الليلة في مطلق الزمن وهو اليوم، فكان اليوم مقصوداً. ولو نذر الاعتكاف ليلاً ونهاراً، وإن لم يكن الليل محلاً للصوم، لأنه يدخل الليل تبعاً. وقال المالكية (¬1): الاعتكاف قربة ونافلة من نوافل الخير ومندوب إليه بالشرع أو مرغب فيه شرعاً للرجال والنساء، لا سيما في العشر الأواخر من رمضان، ويجب بالنذر. وقال الشافعية والحنابلة (¬2): الاعتكاف سنة أو مستحب كل وقت، إلا أن يكون نذراً، فيلزم الوفاء به؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم فعله وداوم عليه، تقرباً إلى الله تعالى، واعتكف أزواجه بعده معه. فإن نذره وجب الوفاء به على الصفة التي نذرها من تتابع وغيره، لحديث: «من نذر أن يطيع الله فليطعه» (¬3) وعن عمر أنه قال: «يا رسول الله: إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، فقال: أوف بنذرك» (¬4). المطلب الثاني ـ ما يوجبه النذر على المعتكف: إذا نذر المسلم نذر يوم أو أيام، فهل يدخل معه الليل، وهل يجب التتابع بين الأيام أو لا، ومتى يدخل المعتكف هل قبل الغروب أو قبل طلوع الفجر؟. ¬
الجمهور يرون دخول الليل مع اليوم، ويجب التتابع بين الأيام المنذورة كأسبوع وشهر، ويدخل المعتكف قبل غروب شمس ذلك اليوم، ويخرج بعد الغروب من آخر يوم. والشافعية لا يرون دخول الليلة مع اليوم إلا في العشر الأخير من رمضان، ولا يلزمه التتابع فيه على الأظهر إلا بشرط، ويدخل المعتكف قبل طلوع الفجر، ويخرج منه بعد غروب الشمس (¬1). وعبارة الحنفية: من أوجب على نفسه اعتكاف يومين فأكثر، لزمه اعتكافها بلياليها؛ لأن الليالي تدخل تبعاً؛ لأن ذكر الأيام بلفظ الجمع يدخل فيها لياليها، ويلزمه تتابعها وإن لم يشترط التتابع؛ لأن مبنى الاعتكاف على التتابع، بخلاف الصوم فإن مبناه على التفرق؛ لأن الليالي غير قابلة للصوم، فيجب على التفرق، أما الاعتكاف فالأوقات كلها قابلة له. وتدخل الليلة الأولى، ويدخل المسجد قبل الغروب من أول ليلة، ويخرج منه بعد الغروب من آخر أيامه. ومن نذر اعتكاف الليالي لزمته الأيام، وتلزمه الليالي بنذر اعتكاف أيام متتابعة، ويلاحظ أن الليالي تابعة للأيام التالية إلا ليلة عرفة وليالي النحر فتبع للنُهُر الماضية رفقاً بالناس. وعبارة المالكية: ولزم المعتكف يوم بليلته المنذورة، وإن نذر ليلة فقط، فمن نذر ليلة الخميس، لزمه ليلته وصبيحتها، ولا يتحقق الصوم الذي هو من شروط الاعتكاف غير المنذور، فيلزم مانواه قل أو كثر بدخوله معتكفه. ¬
ولزم دخول المعتكف قبل الغروب أو معه، ليتحقق له كمال الليلة. ولزم خروجه من معتكفه بعد الغروب ليتحقق له كمال النهار. وعبارة الحنابلة: من نذر اعتكاف شهر، لزمه التتابع، ودخلت فيه الليالي، ودخل معتكفه قبل غروب شمس ليلته الأولى، ولا يخرج إلا بعد غروب شمس آخر أيامه. وإن نذر اعتكاف يوم لم يجز تفريقه، ولم تدخل ليلته، ويلزمه أن يدخل معتكفه قبل طلوع الفجر، ويخرج منه بعد غروب الشمس؛ لأن الليلة ليست من اليوم، وهي من الشهر، وإطلاق اليوم يفهم منه التتابع فيلزمه، كما لو قال متتابعاً، وكذا إطلاق الشهر يقتضي التتابع، كما لو حلف: «لا يكلم زيداً شهراً» وكمدة الإيلاء والعُنَّة والعدة، بخلاف الصيام. فإن أتى بشهر بين هلالين أجزأه ذلك، وإن كان الشهر ناقصاً، وإن اعتكف ثلاثين يوماً من شهرين جاز؛ وتدخل فيه الليالي؛ لأن الشهر عبارة عنهما، ولا يجزئه أقل من ذلك. وعبارة الشافعية: إذا نذر اعتكاف يوم لم يلزمه معه ليلة، بلا خلاف، فالليلة ليست من اليوم، بل يلزمه أن يدخل معتكفه قبل طلوع الفجر، ويخرج منه بعد غروب الشمس؛ لأن حقيقة اليوم: ما بين الفجر وغروب الشمس. وإن نذر اعتكاف شهر بعينه، لزمه اعتكافه ليلاً ونهاراً أي دخلت لياليه، سواء أكان الشهر تاماً أم ناقصاً؛ لأن الشهر عبارة عما بين الهلالين أي جميع الشهر، تم أو نقص إلا أن يستثنيها لفظاَ. وإن نذر اعتكاف نهار الشهر، لزمه النهار دون الليل؛ لأنه خص النهار، فلا يلزمه الليل. وهذا موافق للحنابلة. والراجح عند الأكثرين من الشافعية أنه إن نوى التتابع أو صرح به، لزمته الليلة، وإلا فلا.
المبحث الثالث ـ شروط الاعتكاف
والصحيح أنه لا يجب التتابع بلا شرط، وأنه لو نذر يوماً لم يجز تفريق ساعاته، وأنه لو عين مدة كأسبوع وتعرض للتتابع فيها لفظاً وفاتته، لزمه التتابع في القضاء، وإن لم يتعرض للتتابع لم يلزمه في القضاء جزماً؛ لأن التتابع فيه لم يقع مقصوداً، بل لضرورة تعين الوقت، فأشبه التتابع في شهر رمضان. ولو قال: لله علي أن أعتكف العشر الأخير من رمضان، دخلت لياليه، حتى الليلة الأولى، ويجزئه وإن نقص الشهر، لأن هذا الاسم يقع على ما بعد العشرين إلى آخر الشهر، بخلاف قوله: عشرة أيام من آخر الشهر، وكان ناقصاً لا يجزئه؛ لأنه جرَّد القصد إليها، فيلزمه أن يعتكف بعده يوماً. ولو نذر اعتكاف يوم معين ففاته فقضاه ليلاً، أجزأه. ولو نذر اعتكاف يوم قدوم زيد فقدم ليلاً، فالمعتمد أن يقضي يوماً كاملاً، وذلك إذا قدم حياً مختاراً، فلو قدم فيه ميتاً أو قدم مكرهاً، فلا شيء عليه. المبحث الثالث ـ شروط الاعتكاف يشترط لصحة الاعتكاف ما يلي (¬1): 1ً - الإسلام: فلا يصح الاعتكاف من الكافر؛ لأنه من فروع الإيمان. 2ً - العقل أو التمييز: فلا يصح من مجنون ونحوه، ولا من صبي غير مميز؛ لأنه ليس من أهل العبادات، فلم يصح منه الاعتكاف كالكافر، ويصح اعتكاف الصبي المميز. ¬
3ً - كونه في المسجد: فلا يصح في البيوت، كما تقدم، إلا أن الحنفية أجازوا للمرأة الاعتكاف في مسجد بيتها: وهو محل عينته للصلاة فيه. 4ً - النية اتفاقاً: فلا يصح الاعتكاف إلا بالنية، للحديث المتقدم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» ولأنه عبادة محضة، فلم تصح من غير نية كالصوم والصلاة وسائر العبادات. وأضاف الشافعية: إن كان الاعتكاف فرضاً، لزمه تعيين النية للفرض، لتميزه عن التطوع. 5ً - الصوم: شرط مطلقاً عند المالكية، وشرط عند الحنفية في الاعتكاف المنذور فقط دون غيره من التطوع، وليس بشرط عند الشافعية والحنابلة فيصح بلا صوم، إلا أن ينذره مع الاعتكاف، ويصح عند الجمهور غير المالكية اعتكاف الليل وحده إذا لم يكن منذوراً. ودليل المشترطين حديث: «لا اعتكاف إلا بصوم» (¬1). ودليل غير المشترطين حديث عمر أنه قال: «يا رسول الله، إني نذرت أن أعتكف في المسجد الحرام ليلة، فقال له: أوف بنذرك» (¬2) وفي رواية أنه جعل على نفسه أن يعتكف يوماً .. الخ فلم يشترط له الصيام، ولصحة اعتكاف الليل، لأنه لاصيام فيه، ولحديث ابن عباس: «ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه» (¬3). 6ً - الطهارة من الجنابة والحيض والنفاس: شرط عند الجمهور، إلا أن الخلو ¬
المبحث الرابع: ما يلزم المعتكف وما يجوز له
من الجنابة شرط عند المالكية لحل المكث في المسجد، لا لصحة الاعتكاف، فإذا احتلم المعتكف وجب عليه الغسل إما في المسجد إن وجد فيه ماء، أوخارج المسجد. وكذلك قال الحنفية: الخلو من الجنابة شرط لحل الاعتكاف، لا لصحته، فلو اعتكف الجنب، صح اعتكافه مع الحرمة. وأما الخلو عن الحيض والنفاس فهو شرط لصحة الاعتكاف الواجب 7ً - إذن الزوج لزوجته: شرط عند الحنفية والشافعية والحنابلة، فلا يصح اعتكاف المرأة بغير إذن زوجها، ولو كان اعتكافها منذوراً. ورأى المالكية أن اعتكاف المرأة بغير إذن زوجها صحيح مع الإثم. وأضاف ابن جزي المالكي شرطاً آخر: وهو الاشتغال بالعبادة على قدر الاستطاعة ليلاً ونهاراً، من الصلاة والذكر والتلاوة خاصة، عند ابن القاسم، ومن سائر أعمال الآخرة عند ابن وهب، فعلى الأول، وهو الراجح، لا يشهد جنازة ولا يعود مريضاً، ولا يدرس العلم، وعلى الثاني: يفعل ذلك. المبحث الرابع: ما يلزم المعتكف وما يجوز له اتفق الفقهاء على أنه يلزم المعتكف في الاعتكاف الواجب البقاء في المسجد، لتحقيق ركن الاعتكاف وهو المكث والملازمة والحبس، ولا يخرج إلا لعذر شرعي أو ضرورة أو حاجة. قال الحنفية (¬1): يجوز للمعتكف الخروج في اعتكاف النفل أو السنة المؤكدة، لأن الخروج ¬
ينهي الاعتكاف ولا يبطله، لكن لو شرع في المسنون وهو العشر الأواخر من رمضان بنيته، ثم أفسده، يجب عليه قضاؤه: أي قضاء العشر كله في رأي أبي يوسف، وقضاء اليوم الذي أفسده لاستقلال كل يوم بنفسه، في رأي جمهور الحنفية. وحرم على المعتكف اعتكافاً واجباً الخروج إلا لعذر شرعي كأداء صلاة الجمعة والعيدين، فيخرج في وقت يمكنه إدراكها مع صلاة سنة الجمعة قبلها، ثم يعود، وإن أتم اعتكافه في الجامع صح وكره. أو لحاجة طبيعية: كالبول والغائط وإزالة النجاسة، والاغتسال من جنابة باحتلام؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان لا يخرج من معتكفه إلا لحاجة. أو لحاجة ضرورية: كانهدام المسجد، أو أداء شهادة تعينت عليه، أو خوف على نفسه أو متاعه من المكابرين، أو إخراج ظالم له كرهاً وتفرق أهله. وعليه أن يدخل مسجداً آخر غيره من ساعته. فإن خرج ولو ناسياً ساعة بلا عذر، فسد الواجب، وانتهى به غيره، وعليه قضاء الواجب الذي أفسده إلا إذا أفسده بالردة؛ لأنها تسقط ما وجب عليه قبلها. وإن خرج لعذر يغلب وقوعه: وهو الحاجة الطبيعية الشرعية لم يفسد اعتكافه. وإن خرج لعذر نادر كإنجاء غريق وانهدام مسجد، فلا يأثم، لكن يبطل اعتكافه، إذا لم يخرج إلى مسجد آخر مباشرة. ويفسد اعتكافه بالخروج لعيادة مريض أو تشييع جنازة، وإن تعينت عليه، إلا أنه لا يأثم، كما في المرض. قالت عائشة: «السنة على المعتكف ألا يعود مريضاً، ولا يشهد جنازة، ولا يمسَّ امرأة ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه،
ولا اعتكاف إلا بصوم، ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع» (¬1). والأكل والشرب والنوم والعقد المحتاج إليه لنفسه أوعياله كبيع ونكاح ورجعة يكون في معتكفه؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يكن له مأوى إلا المسجد، ولأنه يمكن قضاء هذه الحاجة في المسجد، فلا ضرورة إلى الخروج. فلا بأس بأن يبيع ويبتاع في المسجد من غير أن يحضر السلعة، لأنه قد يحتاج إلى ذلك بأن لا يجد من يقوم بحاجته، لكن يكره تحريماً البيع لتجارة وإحضار المبيع أو السلعة إلى المسجد، ومبايعة غير المعتكف فيه مطلقاً؛ لأن المسجد محرر عن حقوق العباد، وفيه انشغال بها، وورد حديث: «جنبوا مساجدكم ـ أو مساجدنا ـ صبيانكم ومجانينكم، وشراءكم، وبيعكم، وخصوماتكم ... الحديث» (¬2)، وثبت أنه «صلّى الله عليه وسلم نهى عن الشراء والبيع في المسجد، وأن ينشد فيه ضالة، أو ينشد فيه شعر، ونهى عن التحلق قبل الصلاة يوم الجمعة» (¬3). وأما الأكل والشرب والنوم لغير المعتكف في المسجد، فمكروه إلا لغريب، كما في أشباه ابن نجيم، وقال ابن كمال: لايكره الأكل والشرب والنوم فيه مطلقاً مقيماً كان أوغريباً، مضطجعاً أو متكئاً، رجلاه إلى القبلة أو إلى غيرها. وقال المالكية (¬4): لا يخرج من معتكفه إلا لأربعة أمور: لحاجة الإنسان، ولما لابد منه من شراء معاشه، وللمرض، والحيض، وإذا خرج لشيء من ذلك، فهو ¬
في حكم الاعتكاف حتى يرجع. فلا يخرج لعيادة مريض وصلاة جنازة وصعود لأذان أو سطح للمسجد، ويجوز سلامه على من بقربه، وتطيبه بأنواع الطيب وإن كره للصائم غير المعتكف، لأن معه مانعاً يمنعه من إفساد اعتكافه وهو بالمسجد، وجاز له أن يزوج ويتزوج، ويستصحب ثوباً غير الذي عليه، لأنه ربما احتاج له. وقال الشافعية (¬1): لايجوز للمعتكف أن يخرج من المسجد لغير عذر، لقول عائشة: «إن كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليدخل علي رأسه وهو في المسجد، فأرِّجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان، إذا كان معتكفاً» (¬2) فيجوز أن يخرج رأسه وأرجله أو يخرج للحاجة الطبيعية، ولا يبطل اعتكافه لحديث عائشة هذا. فإن خرج من غير عذر بطل اعتكافه؛ لأنه فعل ما ينافي الاعتكاف: وهو اللبث في المسجد. وله أن يخرج إلى منارة المسجد ليؤذن فيها، ولو كانت على الراجح خارج المسجد وخارج رحبته (وهي ما كان مضافاً إلى المسجد محجراً عليه) ولا يبطل اعتكافه، ويجوز أن يمضي إلى البيت للأكل، ولا يبطل اعتكافه، في النصوص؛ لأن الأكل في المسجد ينقص المروءة، فلم يلزمه. كما له الخروج لشرب الماء إن عطش ولم يجد الماء في المسجد. ويخرج لصلاة الجنازة وعيادة المريض في اعتكاف التطوع، ولا يخرج في اعتكاف الفرض، فإن خرج في الحالين بطل اعتكافه. ويلزمه الخروج لصلاة الجمعة إن كان من أهل الفرض، والاعتكاف في غير الجامع؛ لأن الجمعة فرض في الشرع، فلا يجوز تركها بالاعتكاف، ويبطل ¬
اعتكافه وتتابعه في الأصح المشهور من نصوص الشافعي؛ لأنه كان يمكنه الاحتراز من الخروج، بأن يعتكف في غير الجامع، فإن لم يفعل بطل اعتكافه. ويلزمه الخروج لأداء شهادة إن تعين عليه؛ لأنه تعين لحق آدمي، فقدم على الاعتكاف، ولا يبطل اعتكافه على الراجح؛ لأنه مضطر إلى الخروج. وللمعتكفة أن تخرج إذا طلقت لتعتد، ولا يبطل اعتكافها أيضاً، لاضطرارها إلى الخروج. ومن مرض مرضاً لا يؤمن معه تلويث المسجد كإطلاق الجوف وسلس البول، خرج كما يخرج لحاجة الإنسان ولا ينقطع التتابع على المشهور الصحيح. وإن كان مرضاً يسيراً يمكن معه المقام في المسجد من غير مشقة كالصداع ووجع الضرس والعين ونحوها لم يخرج، فإن خرج بطل اعتكافه. وإن كان مرضاً يشق معه الإقامة في المسجد لحاجته إلى الفراش والخادم وتردد الطبيب ونحو ذلك، فيباح له الخروج، والأصح أنه لا ينقطع به التتابع. وإن أغمي عليه، فأخرج من المسجد، لم يبطل اعتكافه؛ لأنه لم يخرج باختياره وإن سكر فسد اعتكافه. وإن ارتد ثم أسلم بنى على اعتكافه. وإن حاضت المعتكفة، خرجت من المسجد؛ لأنه لا يمكنها المقام في المسجد، ولم يبطل اعتكافها إن كان في مدة لا يمكن حفظها من الحيض، وإذا طهرت بنَت عليه، كما لو حاضت في صوم شهرين متتابعين. ويبطل اعتكافها إن كان في مدة يمكن حفظهامن الحيض، كما لوحاضت في صوم ثلاثة أيام متتابعة. ويبطل الاعتكاف بالخروج إلى الحج الذي أحرم به؛ لأن الخروج حدث باختياره لأنه كان يسعه أن يؤخره.
وإن خاف من ظالم فخرج واستتر، لم يبطل اعتكافه؛ لأنه مضطر إلى الخروج بسبب هو معذرو فيه. وإن خرج من المسجد ناسياً أو مكرهاً محمولاً أو أكره حتى خرج بنفسه، أو أخرجه السلطان ظلماً لم يبطل اعتكافه، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (¬1) فإن أخرجه السلطان بحق، كأن وجب عليه حق وهو يماطل به مع قدرته عليه، أو أخرجه ليقيم عليه عقوبة شرعية من حد أو قصاص أو تعزير ثبت عليه بإقراره، بطل اعتكافه. وإن ثبت عليه بالبينة لم يبطل ولا ينقطع به التتابع، فإذا عاد بنى. وإن خرج لعذر، ثم زال العذر، وتمكن من العود، فلم يعد، بطل اعتكافه؛ لأنه ترك الاعتكاف من غير عذر، فأشبه إذا خرج من غير عذر. ويجور للمعتكف أن يلبس ما يلبسه في غير الاعتكاف؛ لأنه لم ينقل عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه غيَّر شيئاً من ملابسه. ويجوز أن يتطيب ويتزين؛ لأنه لو حرم التطيب عليه لحرم ترجيل الشعر كالإحرام، وقد روى الشيخان أن عائشة كانت ترجِّل شعر رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الاعتكاف، فدل على أنه لا يحرم عليه الطيب. ويجوز أن يتزوج ويزوج قياساً على جواز الطيب. ويجوز دراسة العلم وتدريسه، لأن ذلك كله زيادة خير، ويجوز أن يأمر بالأمر الخفيف في ماله وضيعته، ويبيع ويبتاع، لكنه لا يكثر منه؛ لأن المسجد ينزه عن أن يتخذ موضعاً للبيع والشراء، فإن أكثر من ذلك كره لأجل المسجد، ولم يبطل به الاعتكاف. ويجوز أن يأكل في المسجد؛ لأنه عمل قليل لا بد منه، ويجوز أن يضع فيه المائدة؛ لأن ذلك أنظف للمسجد، ويغسل فيه اليد، وإن غسل في الطست فهو أحسن. ¬
وقال الحنابلة (¬1): المعتكف الذي لزمه تتابع الاعتكاف كمن نذر شهراً أو أياماً متتابعة ونحوه، لم يجز له الخروج من المسجد إلا لحاجة الإنسان أو لما لا بد له منه، أو لصلاة الجمعة، لحديث عائشة السابق: «السنة للمعتكف ألا يخرج إلا لما لا بد له منه» كحاجة الإنسان من بول وغائط وقيء بغتةً وغسل متنجس يحتاجه، والطهارة عند الحدث كغسل جنابة ووضوء لحدث؛ لأن الجنب يحرم عليه اللبث في المسجد، والمحدث لا تصح صلاته بدون وضوء. ويخرج المعتكف ليأتي بمأكول ومشروب يحتاجه إن لم يكن له من يأتيه به. ولا يجوز خروجه لأجل أكله وشربه في بيته، لعدم الحاجة، لإباحة ذلك في المسجد، ولا نقص فيه. ويخرج للجمعة إن كانت واجبة عليه؛ لأنه خروج لواجب فلم يبطل اعتكافه، كالمعتدة، أو شرط الخروج إليها، وإن لم تكن واجبة، للشرط، وله التبكير إليها؛ لأنه خروج جائز، فجاز تعجيله، كالخروج لحاجة الإنسان، وله إطالة المقام بعد الجمعة، ولا يكره لصلاحية الموضع للاعتكاف. ويخرج لنفير متعين إن احتيج إليه؛ لأن ذلك واجب كالجمعة، ولشهادة تعيَّن عليه أداؤها، ولخوف من فتنة على نفسه أو حرمته، أو ماله نهباً أو حريقاً ونحوه كالغرق؛ لأنه عذر في ترك الواجب بأصل الشرع كالجمعة، ولمرض يتعذر معه المقام، أو لا يمكنه المقام معه إلا بمشقة شديدة، بأن يحتاج إلى خدمة فراش، ولا يبطل اعتكافه بخروجه لشيء مما تقدم للحاجة إليه. ولا يجوز له الخروج إن كان المرض خفيفاً كصداع وحمى خفيفة ووجع ضرس؛ لأنه خروج لما له منه بد، فأشبه المبيت ببيته. ¬
ولا يبطل اعتكافه أيضاً إن أكرهه السلطان أو غيره على الخروج من معتكفه، بأن حمل وأخرج، أو هدده قادر بسلطنة، أو تغلب كلص وقاطع طريق، فخرج بنفسه؛ لأن مثل ذلك يبيح ترك الجمعة والجماعة، فهو كالمريض والحائض. ولا يبطل اعتكافه إن خرج من المسجد ناسياً، للحديث السابق «عفي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه»، ويبني على اعتكافه إذا زال العذر في كل ما تقدم مما لا يبطل فيه الاعتكاف. وتخرج المرأة المعتكفة من المسجد لوجود حيض ونفاس، فإذا طهرت رجعت إلى المسجد؛ لأن اللبث معهما في المسجد حرام. وتخرج أيضاً لعدة وفاة في منزلها، لوجوبها شرعاً كالجمعة، وهو حق لله ولآدمي، لا يستدرك إذا ترك، بخلاف الاعتكاف، ولا يبطل بذلك. ولا تمنع المستحاضة الاعتكاف؛ لأن الاستحاضة لا تمنع الصلاة، ويجب عليها أن تتحفظ لئلا تلوث المسجد. ولا يعود المعتكف مريضاً ولا يشهد جنازة، ولا يجهزها خارج المسجد إلا بشرط بأن يشترط ذلك؛ أو وجوب بأن يتعين ذلك عليه، لعدم غيره؛ لأنه لا بد منه إذن. وإن شرط الوطء في اعتكافه أو الخروج للفرجة أو النزهة أوالبيع للتجارة، أو التكسب بالصناعة في المسجد؛ لم يجز الشرط؛ لأن الله تعالى قال: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} [البقرة:187/ 2] فاشتراط ذلك اشتراط لمعصية الله تعالى، والصناعة في المسجد منهي عنها في غير الاعتكاف، ففي الاعتكاف أولى، وسائر ما ذكر يشبه ذلك، ولا حاجة إليه.
الخروج المباح في الاعتكاف الواجب أربعة أنواع
ولا يجوز للمعتكف أن يتجر أو يتكسب بالصنعة، إلا ما لابد له منه، للنهي السابق عن البيع والشراء في المسجد. ولا بأس أن يتزوج (يعقد عقد الزواج) في المسجد، ويشهد النكاح؛ لأن الاعتكاف عبادة لا تحرم الطيب، فلم تحرم النكاح كالصوم، ولأن عقد النكاح طاعة، وحضوره قربة، ومدته لا تتطاول، فيتشاغل به عن الاعتكاف، فلم يكره فيه، كتشميت العاطس ورد السلام. ولا بأس أن يتنظف بأنواع التنظيف؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «كان يرجل رأسه وهومعتكف» وله أن يتطيب ويلبس الرفيع من الثياب، ولكن ليس ذلك بمستحب. ولا بأس أن يأكل المعتكف في المسجد، ويضع سُفْرة كيلا يلوث المسجد، ويغسل يده في الطست، ولا يجوز أن يخرج لغسل يده؛ لأن من ذلك بداً. والخلاصة: إن الخروج المباح في الاعتكاف الواجب أربعة أنواع: أحدها: ما لا يوجب قضاء ولا كفارة: وهو الخروج لحاجة الإنسان وشبهه مما لا بد منه. والثاني: ما يوجب قضاء بلا كفارة: وهو الخروج للحيض. والثالث: ما يوجب قضاء وكفارة يمين: وهو الخروج لفتنة خاف منها على نفسه إن قعد في المسجد، أو على ماله نهباً أو حريقاً. فإذا أمن بنى على ما مضى إذا كان نذر أياماً معلومة، وقضى ما ترك، وكفر كفارة يمين. والرابع: ما يوجب قضاء، وفي الكفارة وجهان: وهو الخروج الواجب كالخروج في النفير أو العدة أو أداء الشهادة، ففي قول القاضي أبي يعلى: لا كفارة عليه؛ لأنه واجب لحق الله تعالى، فأشبه الخروج للحيض. وظاهر كلام الخرقي: وجوبها؛ لأنه خروج غير معتاد، فأوجب الكفارة، كالخروج لفتنة.
المبحث الخامس ـ آداب المعتكف ومكروهات الاعتكاف ومبطلاته
المبحث الخامس ـ آداب المعتكف ومكروهات الاعتكاف ومبطلاته: آـ آداب المعتكف (¬1): 1 ً - يستحب للمعتكف التشاغل على قدر الاستطاعة ليلاً ونهاراً بالصلاة، وتلاوة القرآن، وذكر الله تعالى نحو لا إله إلا الله، ومنه الاستغفار، والفكر القلبي في ملكوت السموات والأرض ودقائق الحكم، والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم، وتفسير القرآن ودراسة الحديث، والسيرة، وقصص الأنبياء وحكايات الصالحين، ومدارسة العلم، ونحو ذلك من الطاعات المحضة. وعد المالكية ذلك من شروط الاعتكاف على سبيل الندب، لكنهم مع الحنابلة كرهوا اشتغال المعتكف بعلم ولو شرعياً، تعليماً أو تعلماً إن كثر لا إن قل؛ لأن المقصود من الاعتكاف صفاء القلب بمراقبة الرب، وهو إنما يحصل غالباً بالأذكار وعدم الاشتغال بالناس، والكتابة ولو كان المكتوب مصحفاً، لما فيها من اشتغال عن ملاحظة الرب تعالى، وليس المقصود من الاعتكاف كثرة الثواب، بل صفاء مرآة القلب الذي به سعادة الدارين. 2ً - يسن الصيام للمعتكف عند الجمهور (غير المالكية) الذين لا يشترطونه، والمالكية يشترطون الصوم، والحنفية يشترطونه في الاعتكاف المنذور. 3ً - يندب أن يكون الاعتكاف في المسجد الجامع عند المالكية والشافعية الذين لا يشترطون ذلك، كما اشترطه الحنفية والحنابلة، وأفضل المساجد لذلك: المسجد الحرام ثم المسجد النبوي، ثم المسجد الأقصى. ¬
4ً - يند ب الاعتكاف في رمضان، لأنه من أفضل الشهور، لا سيما في العشر الأخير من رمضان بالاتفاق؛ لأن فيها ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر؛ لما بينت وهو ما روي عن عائشة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر الأواخر أحيا الليل، وأيقظ أهله، وشد المئزر» (¬1). 5ً - يندب مكث المعتكف ليلة العيد إذا اتصل اعتكافه بها، ليخرج منه إلى المصلى، فيوصل عبادة بعبادة، ولما ورد من فضل إحياء هذه الليلة: «من قام ليلتي العيد، محتسباً لله تعالى، لم يمت قلبه يوم تموت القلوب» (¬2) أي أن الله يثبِّته على الإيمان عند النزع وعند سؤال الملكين وسؤال القيامة. 6ً - يجتنب المعتكف كل مالا يعنيه من الأقوال والأفعال، ولا يكثر الكلام؛ لأن من كثر كلامه كثر سَقَطه، وفي الحديث: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» (¬3). ويجتنب الجدال والمراء والسباب والفحش، فإن ذلك مكروه في غير الاعتكاف، ففيه أولى، ولا يبطل الاعتكاف بشيء من ذلك؛ لأنه لما لم يبطل بمباح الكلام لم يبطل بمحظور. ولا يتكلم المعتكف إلا بخير، ولا بأس بالكلام لحاجته، ومحادثة غيره، فإن صفية زوج النبي صلّى الله عليه وسلم قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم معتكفاً، فأتيته أزوره ليلاً، فحدثته، ثم قمت، فانقلبت، أي رجعت فقام معي ليقلبني ـ وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد ـ فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلّى الله عليه وسلم أسرعا، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: ¬
ب ـ مكروهات الاعتكاف
«على رِسْلكما، إنها صفية بنت حيي، فقالا: سبحان الله، يا رسول الله، فقال: إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شراً، أو قال: شيئاً» (¬1)، وقال علي رضي الله عنه: «أيما رجل اعتكف فلا يساب ولا يرفث في الحديث، ويأمر أهله بالحاجة ـ أي وهو يمشي ـ ولا يجلس عندهم» (¬2). ب ـ مكروهات الاعتكاف: إن ترك بعض الآداب المذكورة مكروه، وكذلك يكره ما يلي في المذاهب الفقهية: يكره تحريماً عند الحنفية (¬3): إحضار المبيع في المسجد؛ لأن المسجد محرر من حقوق العباد، فلا يجعله كالدكان. ويكره عقد ما كان للتجارة، لأن المعتكف منقطع إلى الله تعالى، فلا يشتغل بأمور الدنيا. ويكره الصمت إن اعتقده قربة؛ لأنه منهي عنه؛ لأنه صوم أهل الكتاب، وقد نسخ. ويكره عند المالكية ما يأتي (¬4): 1ً - أن ينقص عن عشرة أيام أو يزيد عن شهر. ¬
2ً -أكله بفناء المسجد أو رحبته التي زيدت لتوسعته، وإنما يأكل فيه على حدة. 3ً - أن يعتكف القادر بدون أكل أو شرب أو لباس حتى لايخرج، فإن اعتكف غير مكفي، خرج لأقرب مكان لشراء ما يحتاجه، وإلا فسد اعتكافه. ويكره اعتكاف ما ليس عنده ما يكفيه. 4ً - دخوله بمنزل به أهله (أي زوجته) أثناء خروجه لقضاء حاجة، لئلا يطرأ عليه منهما ما يفسد اعتكافه. 5ً - الاشتغال بعلم إن كثر ولو شرعياً، تعليماً أوتعلماً؛ أو بكتابة وإن كان المكتوب مصحفاً؛ لأن المقصود من الاعتكاف رياضة النفس وصفاء القلب بمراقبة الرب، وذلك يحصل بالذكر والصلاة. وأجاز العلامة خليل للمعتكف إقراء القرآن على غيره أو سماعه من الغير، لا على وجه التعليم والتعلم. 6ً - الاشتغال بكل فعل غير ذكر وتلاوة وصلاة، كأن يشتغل بعيادة مريض، وصلاة جنازة ولو لاصقت المعتكف، وصعود لأذان بمنار أو سطح، وإقامة الصلاة، أما الإمامة فلا بأس بها، بل مستحبة، لأنه صلّى الله عليه وسلم كان يعتكف ويصلي إماماً. 7ً - السلام على الغير إن بعد، وجاز سلامه على من بقربه. ويكره عند الشافعية (¬1): الإكثار من اتخاذ موضع للبيع والشراء، أو العمل الصناعي، والحجامة والفصد إن أمن تلويث المسجد، وإلا حرم. ويكره عند الحنابلة (¬2): الاشتغال بإقراء القرآن وتدريس العلم ودرسه ¬
جـ ـ مبطلات الاعتكاف
ومناظرة الفقهاء ومجالستهم وكتابة الحديث ونحو ذلك مما يتعدى نفعه. والخوض فيما لا يعنيه من جدال ومراء وكثرة كلام ونحوه، والصمت عن الكلام؛ لأنه ليس من شريعة الإسلام، لحديث علي: «لا صمات يوم إلى الليل» (¬1) و «دخل أبو بكر على امرأة من أحمس يقال لها: زينب، فرآها لا تتكلم، فقال: ما لها لا تتكلم؟ فقالوا: حجت مصمتة، فقال لها: تكلمي، فإن هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية، فتكلمت» (¬2). جـ ـ مبطلات الاعتكاف: يبطل الاعتكاف أو يفسد بما يأتي (¬3): 1ً - الخروج بلا عذر شرعي كالخروج للبيع والشراء، أو لغير حاجة طبيعية التي هي كالبول أو الغائط، أو لغير ضرورة التي هي كانهدام المسجد، على التفصيل المذكور في «ما يلزم المعتكف» ويبطل الاعتكاف بالخروج المتعين عند المالكية وإن وجب كالخروج للجهاد المتعين والحبس في دين. فإن خرج لضرورة كشراء مأكول أو مشروب ولطهارة أو قضاء حاجة أو غسل جنابة، أو عذر شرعي كالخروج لصلاة الجمعة، فلا يبطل اعتكافه، من غير زيادة على قدر الضرورة، وإلا بطل. ¬
2ً -الجماع، ولو كان عند الجمهور ناسياً أو مكرهاً ليلاً أو نهاراً؛ لأن الوطء في الاعتكاف حرام بالإجماع، لقوله تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد، تلك حدود الله فلا تقربوها} [البقرة:187/ 2] فإن وطئ في الفرج عمداً أفسد اعتكافه بالإجماع. وكذا في غير العمد عند الجمهور؛ لأن ما حرم في الاعتكاف استوى عمده وسهوه في إفساده كالخروج من المسجد، ولا كفارة في الوطء عند الحنابلة في ظاهر المذهب، وفي باقي المذاهب، لأن الاعتكاف عبادة لا تجب بأصل الشرع، فلم تجب بإفسادها كفارة كالنوافل. وقال الشافعية: الجماع المفسد هو المتعمد مع العلم والاختيار، فلا يفسد الاعتكاف بالجماع ناسياً أوجاهلاً أو مكرهاً، كالخروج في هذه الحالات، ولأنها مباشرة لا تفسد الصوم، فلم تفسد الاعتكاف كالمباشرة فيما دون الفرج، ولعموم قوله صلّى الله عليه وسلم: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه». 3ً - الإنزال في حال المباشرة بشهوة كالقبلة واللمس والتفخيذ، بالاتفاق، لعموم قوله تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} [البقرة:187/ 2]. أما لو أمنى بالتفكير أو بالنظر، أو باشر ولم ينزل، فلا يفسد اعتكافه عندالجمهور؛ لأنها مباشرة لا تفسد صوماً ولا حجاً، فلم تفسد الاعتكاف، كالمباشرة لغير شهوة، لكن الشافعية قيدوا ذلك بما إذا لم يكن عادة له، فإن كان ذلك عادة له فيفسد الاعتكاف. وقال المالكية: الإمناء بالفكرأو النظر، والمباشرة وإن لم ينزل يفسد الاعتكاف؛ لأنها مباشرة محرمة، فأفسدت الاعتكاف كما لو أنزل، ولا بأس
بالمباشرة لغير شهوة اتفاقاً كأن تغسل رأسه أو تناوله شيئاً؛ لأن «النبي صلّى الله عليه وسلم كان يدني رأسه إلى عائشة وهو معتكف فترجله» (¬1). 4ً - الردة: إذا ارتد المعتكف، بطل اعتكافه لقوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك} [الزمر:65/ 39] ولأنه خرج بالردة عن كونه من أهل الاعتكاف، ولا يقضي عند الجمهور إذا عاد للإسلام ترغيباً له في الإسلام. ويجب عليه القضاء عند الحنابلة في النذر، وعليه كفارة يمين في نذر أيام معينة كالعشر الأواخر من رمضان. 5ً - السكر نهاراً، وكذا ليلاً إن تعمده عند الجمهور، وإن دخل في الاعتكاف عند الشافعية، لعدم أهليته للعبادة، لكن قيد الشافعية السكر بأن يحصل بسبب تعديه. 6ً - الإغماء والجنون الطويلان: فإذا جن المعتكف أو أغمي عليه أياماً بطل اعتكافه عند الجمهور إذا كان متعدياً بالجنون عند الشافعية، لعدم أهليته للعبادة، ويحسب عند الشافعية زمن الإغماء من الاعتكاف، دون زمن الحيض والنفاس والجنابة والجنون. وقال الحنابلة: لا يبطل الاعتكاف بالإغماء كما لا يبطل بالنوم، بجامع بقاء التكليف. 7ً- الحيض والنفاس: فإذا حاضت المرأة أو نفست بطل اعتكافها. 8ً - الأكل عمداً عند المالكية والحنفية مشترطي الصوم، فإذا أكل المعتكف عمداً بطل اعتكافه، ولا يبطل بالأكل ناسياً. 9ً - الوقوع في كبيرة كالغيبة والنميمة والقذف يبطل الاعتكاف عند المالكية ¬
المبحث السادس ـ حكم الاعتكاف إذا فسد
في أحد قولين مشهورين، ولا يبطله عند الجمهور وفي قول مشهور آخر عند المالكية. المبحث السادس ـ حكم الاعتكاف إذا فسد: للفقهاء تفصيلات في ذلك. ف قال الحنفية (¬1): الاعتكاف إذا فسد لا يخلو إما أن يكون واجباً أي منذوراً، وإما أن يكون تطوعاً. أـ فإن كان واجباً: أي إذا فسد الاعتكاف الواجب، وجب قضاؤه إلا إذا فسد بالردة خاصة، فإن كان اعتكاف شهر بعينه يقضي قدر ما فسد ليس غير، ولا يلزمه الاستئناف أي البدء من أول الشهر، كصوم رمضان. وإذا كان اعتكاف شهر بغير عينه، يلزمه الاستئناف من أوله؛ لأنه يلزمه متتابعاً، فيراعى فيه صفة التتابع، وذلك سواء فسد بصنعه من غير عذر كالخروج والجماع والأكل والشرب في النهار، إلا في الردة، أو فسد بصنعه بعذر، كما إذا مرض فاحتاج إلى الخروج، أو بغير صنعه كالحيض والجنون والإغماء الطويل؛ لأن القضاء يجب جبراً للفائت. وأما دليل سقوط القضاء في الردة: فقوله تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال:38/ 8] وقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «الإسلام يجب ما كان قبله» (¬2). ومن نذر اعتكاف شهر بعينه كالمحرم، ثم فات كله، قضى الكل متتابعاً؛ لأنه صار الاعتكاف ديناً في ذمته. وإن قدر على قضائه فلم يقضه حتى أيس من حياته، ¬
قال المالكية
يجب عليه أن يوصي بالفدية لكل يوم طعام مسكين لأجل الصوم، لا لأجل الاعتكاف، كما في قضاء رمضان والصوم المنذور في وقت بعينه. وإن كان مريضاً وقت النذر، فذهب الوقت وهو مريض حتى مات، فلا شيء عليه. ب ـ وأما اعتكاف التطوع إذا قطعه قبل تمام اليوم، فلا شيء عليه في رواية الأصل. وقال المالكية (¬1): مبطلات الاعتكاف الواجب قسمان: الأول ـ ما يبطل ما فعل منه ويوجب استئنافه: كالخروج برجليه معاً بغير ضرورة أو لمرض أحد أبويه، أو لصلاة الجمعة وكان معتكفاً في مسجد غير جامع، وكتعمد الفطر أو السكر، والوطء والقبلة بشهوة واللمس ليلاً. فمن نذر أياماً معينة كأسبوع أو ثلاثة أيام، ثم حدث منه ما ذكر مما يبطل اعتكافه، لزمه القضاء واستئناف الاعتكاف من أوله. الثاني ـ ما يخص زمنه ولا يبطل ما قبله: وهو ثلاثة أنواع: أـ مايمنع الصوم فقط: وهو وجود العيد وطروء مرض خفيف، فمن نذر شهر ذي الحجة، فلا يخرج يوم الأضحى، وإلا بطل اعتكافه من أصله، ومن أفطر ناسياً، أو طرأ له مرض خفيف منعه من الصوم، فإنه بعد مضي يوم الفطر، يجب عليه البناء على ما فعله سابقاً. ب ـ ما يمنع المكث في المسجد: كسلس البول وإسالة جرح أو دمل يخشى معه تلوث المسجد، فيجب عليه الخروج والعودة فوراً بمجرد زوال عذره المانع من البقاء في المسجد، وبنى على اعتكافه السابق. ¬
قال الشافعية
جـ ـ ما يمنع الصوم والمكث في المسجد معاً: كالحيض والنفاس، وحكمه كالحالة السابقة تماماً. فإن أخر الرجوع ولو لعذر من نسيان أو إكراه، بطل اعتكافه واستأنفه، إلا إن أخر الرجوع ليلة العيد ويومه، فلا يبطل، لعدم صحة صومه لكل أحد، فإذا حصل للشخص المعتكف حيض أو نفاس أو إغماء أو مرض شديد في أثناء الاعتكاف، فخرج من المسجد للبيت، ثم زال ذلك العذر ليلة العيد، فأخر الرجوع للمسجد حتى مضى يوم العيد، وتالياه في عيد الأضحى، فإن اعتكافه لا يبطل. أما لوطهرت الحائض أو صح المريض وأخر كل منهما الرجوع، فيبطل الاعتكاف لصحة الصوم بعد زوال العذر. وقال الشافعية (¬1): إذا فعل المعتكف في الاعتكاف ما يبطله من خروج أو مباشرة، أو مقام في البيت بعد زوال العذر: أـ فإن كان ذلك في التطوع، لم يبطل ما مضى من الاعتكاف؛ لأن ذلك القدر لو أفرده واقتصر عليه أجزأه، ولا يجب عليه إتمامه؛ لأنه لا يجب عليه المضي في فاسده، فلا يلزمه بالشروع كالصوم. ب ـ وإن كان اعتكافه منذوراً: فإن لم يشرط فيه التتابع، لم يبطل ما مضى من اعتكافه، لما ذكر في التطوع، لكن يلزمه هنا أن يتمم المدة المنذورة؛ لأن الجميع قد وجب عليه، وقد فعل البعض، فوجب الباقي. وإن كان قد شرط التتابع، بطل التتابع، ويجب عليه أن يستأنف ليأتي به على ¬
قال الحنابلة
الصفة التي وجبت عليه. وعلى هذا يقطع التتابع السكر والكفر وتعمد الجماع وتعمد الخروج من المسجد، لا لقضاء الحاجة، ولا الأكل ولا الشرب إن تعذر الماء في المسجد، ولا للمرض إن شق لبثه فيه، أو خشي تلويثه، ولا الإغماء والجنون إذا حصل أحدهما للمعتكف، ولا إن أكره بغير حق على الخروج، ولا يقطع التتابع الحيض إن لم تسعه مدة الطهر: بأن طالت مدة الاعتكاف بحيث لا ينفك عن الحيض غالباً بأن يكون أكثر من خمسة عشر يوماً. ولا يقطعه أيضاً خروج مؤذن راتب (متخصص) إلى منارة المسجد المنفصلة عنه لكنها قريبة منه للأذان، لإلفه صعودها للأذان، وإلف الناس صوته، ولا يقطعه الخروج لإقامة حد ثبت عليه بغير إقراره، ولا لأجل عدة ليست بسببها، ولا لأجل أداء شهادة تعين عليها تحملها وأداؤها، للعذر في جميع ذلك، بخلاف أضداده. وإن خرج المعتكف من المسجد لغير قضاء الحاجة لزمه استئناف النية، فإن خرج لها لا يلزمه استئناف النية. وقال الحنابلة (¬1): إن كان الاعتكاف تطوعاً وخرج من المسجد، لعذر غير معتاد كنفير وشهادة واجبة، وخوف من فتنة ومرض ونحوه وطال خروجه، خيِّر بين الرجوع وعدمه، لعدم وجوبه بالشروع. وإن كان الاعتكاف واجباً وجب عليه الرجوع إلى معتكفه لأداء ما وجب عليه. ولا يخلو النذر من ثلاثة أحوال بالاستقراء: أحدها ـ نذر اعتكاف أيام غير متتابعة ولا معينة، كنذر عشرة أيام مثلاً: ¬
وحكمه أنه يلزمه أن يتم ما بقي عليه من الأيام محتسباً بما مضى، ويبتدئ اليوم الذي خرج فيه من أوله، ليكون متتابعاً، ولا كفارة عليه؛ لأنه أتى المنذور على الوجه المطلوب. الثاني ـ نذر أيام متتابعة غير معينة، بأن قال: لله علي أعتكف عشرة متتابعة، فاعتكف بعضها، ثم خرج للعذر السابق، وطال خروجه. وحكمه: أنه يخير بين البناء على ما مضى، بأن يقضي ما بقي من الأيام، وعليه كفارة يمين، جبراً لفوات التتابع، وبين الاستئناف بلا كفارة؛ لأنه أتى بالمنذور على وجهه المطلوب، فلم يلزمه شيء. الثالث ـ نذر أيام معينة، كالعشر الأخير من رمضان: وحكمه أن عليه قضاء ما ترك ليأتي بالواجب، وعليه كفارة يمين، لفوات المحل المنذور. وإن خرج المعتكف جميعه (¬1) لما له منه بد مختاراً عمداً، أو مكرهاً بحق كمن عليه دين يمكنه وفاؤه ولم يفعل، فأخرج له، بطل اعتكافه، وإن قل زمن خروجه لذلك؛ لأنه خرج من معتكفه لغير حاجة، كما لو طال. ثم إن كان في نذر متتابع بشرط أو نية: بأن نذر عشرة أيام متتابعة أو نواها كذلك، ثم خرج لذلك، استأنف؛ لأنه لا يمكنه فعل المنذور على وجهه إلا به، ولا كفارة عليه، لإتيانه بالمنذور على وجهه. وإن كان خرج من معتكفه مكرهاً بغير حق أو ناسياً، لم يبطل اعتكافه ويبني على اعتكافه السابق، لحديث: «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه». ¬
وإن كان المعتكف في نذر معين متتابع كنذر شعبان متتابعاً، أو في نذر معين كشعبان ولم يقيد هـ بالتتابع، استأنف، لتضمن نذره التتابع، وكفر كفارة يمين، لتركه المنذور في وقته المعين بلا عذر. ويكون القضاء في الكل والاستئناف في الكل على صفة الأداء فيما يمكن، فإن كان الأول مشروطاً فيه الصوم، أو في أحد المساجد الثلاثة، أو نحو ذلك، فإن المقضي أو المستأنف يكون كذلك. أما ما لا يمكن، كما لو عين زمناً ومضى، فإنه لا يمكن تداركه.
الباب الرابع: الزكاة وأنواعها
البَابُ الرَّابع: الزَّكاةُ وأنْواعِها وفيه فصول ثلاثة: الأول - فريضة الزكاة الثاني - صدقة الفطر الثالث - صدقة التطوع
الفصل الأول: الزكاة
الفَصْلُ الأوَّل: الزَّكاةُ وفيه مباحث سبعة: المبحث الأول ـ تعريف الزكاة وحكمتها وفرضيتها وعقاب ما نع الزكاة. المبحث الثاني ـ سبب الزكاة وركنها وشرطها. المبحث الثالث ـ وقت وجوب الزكاة ووقت أدائها. المبحث الرابع ـ أنواع الأموال التي تجب فيها الزكاة. المبحث الخامس ـ هل تجب الزكاة في العمارات والمصانع وكسب العمل والمهن الحرة؟ المبحث السادس ـ مصارف الزكاة. المبحث السابع ـ آداب الزكاة وممنوعاتها. وأبدأ بالبيان على وفق الترتيب المذكور.
المبحث الأول ـ تعريف الزكاة وحكمتها وفرضيتها وعقاب مانع الزكاة
المبحث الأول ـ تعريف الزكاة وحكمتها وفرضيتها وعقاب مانع الزكاة: أولاً ـ تعريف الزكاة: الزكاة لغة: النمو والزيادة يقال: زكا الزرع: إذا نما وزاد، وزكت النفقة: إذا بورك فيها، وقد تطلق بمعنى الطهارة، قال تعالى: {قد أفلح من زكاها} [الشمس:9/ 91] أي طهرها عن الأدناس، ومثله قوله سبحانه: {قد أفلح من تزكى} [الأعلى:14/ 87]، وتطلق أيضاً على المدح، قال تعالى: {فلا تزكوا أنفسكم} [النجم:32/ 53] وعلى الصلاح، يقال: رجل زكيّ، أي زائد الخير، من قوم أزكياء، وزكّى القاضي الشهود: إذا بين زيادتهم في الخير. وسمي المال المخرج في الشرع زكاة؛ لأنه يزيد في المخرج منه، ويقيه الآفات، قال تعالى: {وآتوا الزكاة} [البقرة:43/ 2]. وتتمثل هذه المعاني اللغوية في قوله سبحانه: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} [التوبة:103/ 9] فهي تطهر مؤديها من الإثم وتنمي أجره وماله. والزكاة شرعاً (¬1): حق يجب في المال، وعرفها المالكية بأنها: إخراج جزء مخصوص من مال بلغ نصاباً، لمستحقه، إن تم الملك، وحول، غير معدن وحرث. وعرفها الحنفية بأنها: تمليك جزء مال مخصوص من مال مخصوص لشخص مخصوص، عينه الشارع لوجه الله تعالى. فقولهم «تمليك» ¬
احترز به عن «الإباحة» فلو أطعم يتيماً ناوياًالزكاة، لا يجزيه، إلا إذا دفع إليه المطعوم، كما لو كساه، ولكن بشرط أن يعقل القبض، إلا إذا حكم عليه بنفقة الأيتام. وقولهم «جزء مال» خرج المنفعة، فلو أسكن فقيراً داره سنة، ناوياً الزكاة، لا يجزيه. والجزء المخصوص: هو المقدار الواجب دفعه، والمال المخصوص: هو النصاب المقدر شرعاً، والشخص المخصوص: هم مستحقو الزكاة. وقولهم «عينه الشارع» هو ربع عشر نصاب معين مضى عليه الحول، فأخرج صدقة النافلة والفطرة. وقولهم «لله تعالى» أي بقصد مرضاة الله تعالى. وعرفها الشافعية بأنها اسم لما يخرج عن مال وبدن على وجه مخصوص. وتعريفها عند الحنابلة هو أنها حق واجب في مال مخصوص لطائفة مخصوصة في وقت مخصوص. والطائفة: هم الأصناف الثمانية المشار إليهم بقوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} ـ الآية [التوبة:60/ 9] والوقت المخصوص: هو تمام الحول في الماشية والنقود (الأثمان) وعروض التجارة، وعند اشتداد الحب في الحبوب، وعند بدو صلاح الثمرة التي تجب فيها الزكاة، وعند حصول ما تجب فيه الزكاة من العسل، واستخراج ما تجب فيه من المعادن، وعند غروب الشمس من ليلة الفطر، لوجوب زكاة الفطر. وخرج بقوله «واجب» الحق المسنون كابتداء السلام واتباع الجنائز. وبقوله «في مال» رد السلام ونحوه، وبقوله «مخصوص» ما يجب في كل الأموال كالديون والنفقات، وبقوله: «لطائفة مخصوصة» نحو الدية؛ لأنها لورثة المقتول، وبقوله «في وقت مخصوص» نحو النذر والكفارة. وبه يتبين أن الزكاة أطلقت في عرف الفقهاء على فعل الإيتاء نفسه، أي أداء
ثانيا ـ حكمة الزكاة
الحق الواجب في المال، وأطلقت أيضاً على الجزء المقدر من المال الذي فرضه الله حقاً للفقراء. وتسمى الزكاة صدقة، لدلالتها على صدق العبد في العبودية وطاعة الله تعالى. ثانياً ـ حكمة الزكاة: التفاوت بين الناس في الأرزاق والمواهب وتحصيل المكاسب أمر واقع طارئ يحتاج في شرع الله إلى علاج، قال الله تعالى: {والله فضل بعضكم على بعض في الرزق} [النحل:71/ 16] أي أن الله تعالى فضل بعضنا على بعض في الرزق، وأوجب على الغني أن يعطي الفقير حقاً واجباً مفروضاً، لا تطوعاً ولا مِنَّة؛ لقوله تعالى: {وفي أموالهم حق للسائل والمحروم} [الذاريات:19/ 51]. وفريضة الزكاة أولى الوسائل لعلاج ذلك التفاوت، وتحقيق التكافل أو الضمان الاجتماعي في الإسلام. فهي أولاً ـ تصون المال وتحصنه من تطلع الأعين وامتداد أيدي الآثمين والمجرمين، قال صلّى الله عليه وسلم: «حصِّنوا أموالكم بالزكاة، وداووا مرضاكم بالصدقة، وأعدّوا للبلاء الدعاء» (¬1). وهي ثانياً ـ عون للفقراء والمحتاجين، تأخذ بأيديهم لاستئناف العمل والنشاط إن كانوا قادرين، وتساعدهم على ظروف العيش الكريم إن كانوا عاجزين، فتحمي المجتمع من مرض الفقر، والدولة من الإرهاق والضعف. والجماعة مسؤولة بالتضامن عن الفقراء وكفايتهم، فقد روي: «إن الله فرض على ¬
أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الذي يسع فقراءهم، ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا أوعروا إلا ما يصنع أغنياؤهم، ألا وإن الله يحاسبهم حساباً شديداً ويعذبهم عذاباً أليماً» (¬1) وروي أيضاً «ويل للأغنياء من الفقراء يوم القيامة، يقولون: ربنا ظلمونا حقوقنا التي فرضت لنا عليهم، فيقول الله تعالى: وعزتي وجلالي لأدنينكم ولأباعدنهم، ثم تلا صلّى الله عليه وسلم: واللذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم» [المعارج:24/ 70 - 25] (¬2). والمصلحة في أداء الزكاة تعود في النتيجة على أرباب الأموال؛ لأنهم بأدائها يسهمون في تنمية ودعم القوة الشرائية للفقراء، فتنمو بالتالي أموال المزكين ويربحون بكثرة المبادلات. وهي ثالثاً ـ تطهر النفس من داء الشح والبخل، وتعوِّد المؤمن البذل والسخاء، كيلا يقتصر على الزكاة، وإنما يساهم بواجبه الاجتماعي في رفد الدولة بالعطاء عند الحاجة، وتجهيز الجيوش، وصد العدوان، وفي إمداد الفقراء إلى حد الكفاية، إذ عليه أيضاً الوفاء بالنذور، وأداء الكفارات المالية بسبب (الحنث في اليمين، والظهار، والقتل الخطأ، وانتهاك حرمة شهر رمضان). وهناك وصايا الخير والأوقاف، والأضاحي وصدقات الفطر، وصدقات التطوع والهبات ونحوها. وكل ذلك يؤدي إلى تحقيق أصول التكافل الاجتماعي بين الفقراء والأغنياء، ويحقق معاني الأخوة والمحبة بين أبناء المجتمع الواحد، ويسهم في التقريب بين فئات الناس، ويحفظ مستوى الكفاية للجميع. وهي رابعاً ـ وجبت شكراً لنعمة المال، حتى إنها تضاف إليه، فيقال: زكاة المال، والإضافة للسببية كصلاة الظهر وصوم الشهر وحج البيت. ¬
ثالثا ـ فرضية الزكاة
ثالثاً ـ فرضية الزكاة: الزكاة ركن من أركان الإسلام الخمسة، وفرض من فروضه، وفرضت في المدينة في شوال السنة الثانية من الهجرة بعد فرض رمضان وزكاة الفطر، ولكن لا تجب على الأنبياء إجماعاً؛ لأن الزكاة طهرة لمن عساه أن يتدنس، والأنبياء مبرؤون منه، ولأن ما في أيديهم ودائع لله، ولأنهم لا ملك لهم، ولا يُورَثون أيضاً، وقرنت بالصلاة في القرآن الكريم في اثنين وثمانين موضعاً، مما يدل على كمال الاتصال بينهما. وهي واجبة بكتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلم، وإجماع الأمة. أما الكتاب: فقوله تعالى: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} [البقرة:43/ 2] وقوله: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} [التوبة:103/ 9] وقوله سبحانه: {وآتوا حقه يوم حصاده} [الأنعام:141/ 6] وآي سوى ذلك. وأما السنة: فقوله صلّى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس ... منها إيتاء الزكاة» (¬1) وبعث النبي صلّى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن، فقال: «أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، فترد على فقرائهم» (¬2) وأخبار أخرى. وأجمع المسلمون في جميع الأعصار على وجوب الزكاة، واتفق الصحابة رضي الله عنهم على قتال مانعيها، فمن أنكر فرضيتها كفر وارتد إن كان مسلماً ناشئاً ببلاد الإسلام بين أهل العلم، وتجري عليه أحكام المرتدين ويستتاب ثلاثاً، ¬
رابعا ـ عقاب مانع الزكاة
فإن تاب وإلا قتل. ومن أنكر وجوبها جهلاً به إما لحداثة عهده بالإسلام، أو لأنه نشأ ببادية نائية عن الأمصار، عُرِّف وجوبها ولا يحكم بكفره؛ لأنه معذور. رابعاً ـ عقاب مانع الزكاة: لمانع الزكاة عقاب في الآخرة وعقاب في الدنيا، أما عقاب الآخرة فهو العذاب الأليم، لقوله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله، فبشرهم بعذاب أليم. يوم يحمى عليها في نار جهنم، فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، هذا ما كنزتم لأنفسكم، فذوقوا ما كنتم تكنزون} [التوبة:34/ 9 - 35]. ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «من آتاه الله مالاً، فلم يؤد زكاته، مُثِّل له شجاعاً أقرع، له زبيبتان، يطوقه يوم القيامة، يأخذ بلهزمتيه يعني شدقيه، ثم يقول: أنا مالك أنا كنزك». ثم تلا: {ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم، بل هو شر لهم سَيُطَوَّقون ما بخلوا به يوم القيامة، ولله ميراث السموات والأرض والله بما تعملون خبير}» [آل عمران:180/ 3] (¬1). وفي رواية: «مامن صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها ـ أي زكاتها ـ إلا إذا كان يوم القيامة، صُفِّحت صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما ردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار». وأما العقاب الدنيوي للفرد بسبب التقصير والإهمال فهو أخذها منه والتعزير والتغريم المالي وأخذ الحاكم شطر المال قهراً عنه، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من أعطاها ¬
المبحث الثاني ـ سبب الزكاة
ـ أي الزكاة ـ مؤتجراً فله أجرها، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر إبله عَزْمة من عزمات ربنا تبارك وتعالى، لا يحل لآل محمد منها شيء» (¬1). فإن كان مانع الزكاة جاحداً لوجوبها فقد كفر، كما تبين، وقتل كما يقتل المرتد؛ لأن وجوب الزكاة معلوم من دين الله عز وجل ضرورة (بداهة)، فمن جحد وجوبها فقد كذَّب الله تعالى، وكذَّب رسوله صلّى الله عليه وسلم، فحكم بكفره. وتقاتل الجماعة مانعة الزكاة جحوداً، كما فعل الصحابة في عهد الخليفة الأول ـ أبي بكر رضي الله عنهم، قال أبو بكر: «والله لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عَنَاقاً (¬2) كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها» (¬3) وفي لفظ مسلم والترمذي وأبي داود: «لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه» وبناء عليه قال العلماء بالاتفاق: إذا منع واحد أو جمع الزكاة وامتنعوا بالقتال، وجب على الإمام قتالهم، وإن منعها جهلاً بوجوبها أو بخلاً بها لم يكفر. المبحث الثاني ـ سبب الزكاة وشروطهاوركنها: قال الحنفية (¬4): سبب الزكاة: ملك مقدار النصاب النامي ولو تقديراً بالقدرة على الاستنماء بشرط حولان الحول القمري لا الشمسي، وبشرط عدم الدين الذي له مطالب من جهة العباد، وكونه زائداً عن حاجته الأصلية. ¬
ويلاحظ أن السبب والشرط يتوقف عليهما وجود الشيء، إلا أن السبب يضاف إليه الوجوب، دون الشرط، فمن لم يملك النصاب لا زكاة عليه، فلا زكاة في الأوقاف، لعدم الملك، ولا فيما أحرزه العدو في ديارهم؛ لأنهم ملكوه بالإحراز. والمقصود بالنصاب: هو ما نصبه الشارع علامة على وجوب الزكاة من المقادير الآتية في بحث أموال الزكاة، كمائتي درهم أوعشرين ديناراً. وبناء عليه لا زكاة على مال اشتراه للتجارة قبل قبضه، لعدم الملك التام، ولازكاة باتفاق المذاهب على الحوائج الأصلية من ثياب البدن والأمتعة ودور السكنى (العقارات) وأثاث المنزل، ودواب الركوب، وسلاح الاستعمال، والكتب العلمية وإن لم تكن لأهلها إذا لم ينو بها التجارة، وآلات المحترفين؛ لأنها مشغولة بالحاجة الأصلية، وليست بنامية أصلاً. ولا زكاة عند الحنفية أيضاً لعدم النمو في مال مفقود أوضال وجده بعد سنين، ولا في ساقط في بحر استخرجه بعد سنين، ولا في مغصوب لابينة عليه، فلو كانت له بينة تجب الزكاة بعد قبضه من الغاصب لما مضى من السنين، ولا في مدفون ببرية نسي مكانه ثم تذكره، ولا في وديعة منسية عند غير معارفه، أي عند الأجانب، فلو كانت منسية عند معارفه تجب الزكاة لتفريطه بالنسيان في غير محله. ولا في دين جحده المديون سنين ولا بينة له عليه، ثم توافرت له بينة بأن أقر بعدها عند قوم، ولا على ما أخذه مصادرة، أي ظلماً ثم وصل إليه بعد سنين. أما لو كان الدين على مقر مليء أوعلى معسر أو مفلس (محكوم بإفلاسه) أو على جاحد عليه بينة، فعليه الزكاة على ما مضى، على المعتمد في حالة الجاحد، إن وصل إلى ملكه.
ركن الزكاة
ودليل الحنفية على عدم وجوب الزكاة في هذه الأحوال: حديث «لا زكاة في مال الضِّمار» (¬1) أي ما لا يمكن الانتفاع به مع بقاء الملك. ولا زكاة بالاتفاق على ما لم يحل عليه الحول، أي يمضي عليه سنة، كما بينت السنة النبوية الآتي بيانها في الشروط. ولا زكاة بالاتفاق على سائر الجواهر واللآلئ ونحوها كالياقوت والزبرجد والفيروزج والمرجان، لعدم ورود ما يوجبها في الشرع، ولأنها معدة للاستعمال، إلا أن تكون للتجارة. ولا زكاة عندالجمهور على المواشي العلوفة والعوامل، وإنما الزكاة على السائمة، وأوجب المالكية الزكاة على المعلوفة والعوامل. وأما ركن الزكاة: فهو إخراج جزء من النصاب بإنهاء يد المالك عنه، وتمليكه إلى الفقير وتسليمه إليه أو إلى من هو نائب عنه وهو الإمام أو المصدِّق (الجابي) (¬2). شروط الزكاة: للزكاة شروط وجوب وشروط صحة، فتجب بالاتفاق على الحر المسلم البالغ العاقل إذا ملك نصاباً ملكاً تاماً، وحال عليه الحول، وتصح بالنية المقارنة للأداء اتفاقاً. ¬
شروط وجوب الزكاة أي فرضيتها
أما شروط وجوب الزكاة أي فرضيتها، فهي ما يأتي (¬1): 1 - الحرية: فلا تجب الزكاة اتفاقاً على العبد؛ لأنه لا يملك، والسيد مالك لما في يد عبده، والمكاتب ونحوه وإن ملك، إلا أن ملكه ليس تاماً. وإنما تجب الزكاة في رأي الجمهور على سيده لأنه مالك لمال عبده، فكانت زكاته عليه كالمال الذي في يد الشريك المضارب والوكيل. وقال المالكية: لا زكاة في مال العبد لا على العبد ولا على سيده؛ لأن ملك العبد ناقص، والزكاة إنما تجب على تام الملك، ولأن السيد لايملك مال العبد. 2 - الإسلام: فلا زكاة على كافر بالإجماع؛ لأنها عبادة مطهرة وهو ليس من أهل الطهر. وأوجب الشافعية خلافاً لغيرهم على المرتد زكاة ماله قبل ردته، أي في حال الإسلام، ولاتسقط عنه، خلافاً لأبي حنيفة فإنه أسقطها عنه، لأنه يصير كالكافر الأصلي. وأما زكاة ماله حال الردة، فالأصح عند الشافعية أن حكمها حكم ماله، وماله موقوف، فإن عاد إلى الإسلام وتبينا بقاء ماله فتجب عليه، وإلا فلا. ولم يوجب الفقهاء على الكافر الأصلي الزكاة إلا في حالتين: إحداهما ـ العشور: قال المالكية والحنابلة والشافعية: يؤخذ العشر من تجار أهل الذمة والحربيين إذا اتجروا إلى بلد من بلاد المسلمين من غير بلادهم، وإن تكرر ذلك مراراً في السنة، سواء بلغ ما بأيديهم نصاباً أم لا. ¬
3 - البلوغ والعقل
ويؤخذ عند المالكية نصف العشر منهم مما حملوا إلى مكة والمدينة وقراهما من القمح والزيت خاصة. واشترط أبو حنيفة فيه النصاب، وقال: إنما يؤخذ من الذمي نصف العشر خاصة، ومن الحربي العشر، على أساس المجازاة أو المعاملة بالمثل. وقال الشافعي، لا يؤخذ منهم شيء إلا بالشرط، فإن شرط على الحربي العشر حال أخذه أخذ وإلا فلا. والثانية ـ قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد: تضاعف الزكاة على نصارى بني تغلب خاصة (¬1)؛ لأنها بديل عن الجزية، وعملاً بفعل عمر رضي الله عنه. ولا يحفظ عن مالك في ذلك نص. 3 - البلوغ والعقل: شرط عند الحنفية، فلا زكاة على صبي ومجنون في مالهما؛ لأنهما غير مخاطبين بأداء العبادة كالصلاة والصوم. وقال الجمهور: لا يشترطان، وتجب الزكاة في مال الصبي والمجنون، ويخرجها الولي من مالهما لحديث «من ولي يتيماً له مال فليتجر له، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة» وفي رواية: «ابتغوا في مال اليتامى، لا تأكلها الزكاة» (¬2)، ولأن الزكاة تراد لثواب المزكي، ومواساة الفقير، والصبي والمجنون من أهل ¬
4 - كون المال مما تجب فيه الزكاة
الثواب، ومن أهل المواساة، ولهذا يجب عليهما نفقة الأقارب. وهذا الرأي أولى لما فيه من تحقيق مصلحة الفقراء، وسد حاجتهم، وتحصين المال من تطلَّع المحتاجين إليه، وتزكية النفس، وتدريبها على خلُق المعونة والجود. 4 - كون المال مما تجب فيه الزكاة: وهو خمسة أصناف: النقدان ولو غير مضروبين وما يحل محلهما من الأوراق النقدية، والمعدن والركاز، وعروض التجارة، والزروع والثمار، والأنعام الأهلية السائمة عند الجمهور، وكذا المعلوفة عند المالكية. ويشترط كون المال نامياً؛ لأن معنى الزكاة وهو النماء لا يحصل إلا من المال النامي، وليس المقصود حقيقة النماء، وإنما كون المال معداً للاستنماء بالتجارة أو بالسوم أي الرعي عند الجمهور؛ لأن الإسامة سبب لحصول الدر والنسل والسمن، والتجارة سبب لحصول الربح، فيقام السبب مقام المسبب. فلا زكاة في الجواهر واللآلئ والمعادن غير الذهب والفضة، ولا في الأمتعة وأصول الأملاك والعقارات، ولا في الخيل والبغال والحمير والفهود والكلاب المعلمة، والعسل والألبان وآلات الصناعة وكتب العلم إلا أن تكون للتجارة. وأوجب أبو حنيفة الزكاة في الخيل السائمة للتناسل، والمفتى به عدم الزكاة فيها، وأوجبها الحنفية والحنابلة والظاهرية في العسل، ولم يوجبها فيه المالكية والشافعية. 5 - كون المال نصاباً أو مقداراً بقيمة نصاب: وهو ما نصبه الشرع علامة على توفر الغنى ووجوب الزكاة من المقادير الآتية. وسيأتي في بحث أنواع أموال الزكاة بيان الأنصبة الشرعية، وخلاصتها: نصاب الذهب عشرون مثقالاً أو ديناراً، ونصاب الفضة مائتا درهم، ونصاب الحبوب، والثمار بعد الجفاف عند
6 - الملك التام للمال
غير الحنفية خمسة أوسق (653 كغ)، وأول نصاب الغنم أربعون شاة، والإبل خمس، والبقر ثلاثون. 6 - الملك التام للمال: واختلف الفقهاء في المراد بالملك، أهو ملك اليد (الحيازة) أم ملك التصرف أم أصل الملك؟ فقال الحنفية (¬1): المقصود أصل الملك وملك اليد (¬2)، بأن يكون مملوكاً، فلا زكاة في سوائم الوقف والخيل الموقوفة، لعدم الملك، ولا تجب الزكاة في المال الذي استوى عليه العدو وأحرزه بداره؛ لأن الأعداء في رأي الحنفية ملكوه بالإحراز، فزال ملك المسلم عنه، ولا في الزرع النابت في أرض مباحة لعدم الملك، ولا على المدين الذي في يده مال للغير لعدم الملك، وإنما زكاة هذا المال على المالك الأصلي. وأيضاً أن يكون مملوكاً في اليد أي مقبوضاً، فلو ملك شيئاً ولم يقبضه، كصداق المرأة قبل قبضه، فلا زكاة عليها فيه. ولا زكاة في المال الضمار: وهو كل مال غير مقدور الانتفاع به، مع قيام أصل الملك، كالحيوان الضال، والمال المفقود والمال الساقط في البحر، والمال الذي أخذه السلطان مصادرة، والدين المجحود إذا لم يكن للمالك بينة وحال الحول ثم صار له بينة، بأن أقر عند الناس، والمال المدفون في الصحراء إذا خفي على المالك مكانه، فإن كان مدفوناً في البيت تجب فيه الزكاة بالإجماع. وعلى هذا لا زكاة في رأي الحنفية على مايقابل الدين من مال المزكي؛ لأن مقدار الدين هو في الواقع مملوك للدائن لا للمدين. ¬
المالكية
وقال المالكية (¬1): المقصود أصل الملك والقدرة على التصرف فيما ملك، فلا زكاة على المرتهن فيما تحت يده من شيء غير مملوك له، لعدم الملك، ولا زكاة في مال مباح لعموم الناس، كالزرع النابت وحده في أرض غير مملوكة لأحد، لعدم الملك، ولا زكاة على غير مالك كغاصب ووديع وملتقط. وتجب الزكاة على المرأة في صداقها بعد قبضه ومضي حول عليه، وتجب الزكاة على الواقف في ملكه إن بلغ نصاباً، أو نقص عن النصاب وكان عند الواقف ما يكمل به النصاب، إن تولى المالك القيام به بأن كان النبات تحت يد الواقف يزرعه ويعالجه حتى يثمر ثم يفرقه؛ لأن الوقف لا يخرج العين عندهم عن الملك. وتجب الزكاة في المغصوب والمسروق والمجحود والمدفون في محل والضال (الضائع)، وإذا قبضه زكاة لحول واحد، أما الوديعة إذا مكثت أعواماً عند الوديع، فتزكى بعد قبضها لكل عام مضى مدة إقامتها عند الأمين. وتجب الزكاة على المدين في مال النقود الذي بيده لغيره، متى مضى حول عليه، إن كان عنده ما يمكنه أن يوفي الدين منه من عقار أو غيره؛ لأنه بالقدرة على دفع قيمته صار مملوكاً له. فإن كان المال الذي عنده حرثاً (زرعاً أو ثمراً) أو ماشية أو معدناً، فتجب عليه زكاته، ولو لم يكن عنده ما يوفي به الدين. وقال الشافعية (¬2): المطلوب توافر أصل الملك التام والقدرة على التصرف، فلا زكاة على السيد في مال المكاتب؛ لأنه لا يملك التصرف فيه، فهو كمال الأجنبي، ولا زكاة في الأوقاف؛ لأنها في الأصح على ملك الله تعالى، ولا على المال المباح لعموم ملك الناس كزرع نبت بفلاة وحده، دون أن يستنبته أحد؛ لعدم الملك الخاص. ¬
الحنابلة
وتجب الزكاة على المستأجر لأرض الوقف المأجورة، مع أجرة الأرض، وعلى الموقوف عليه المعين في ثمار الأشجار الموقوفة من نخل وعنب. وفي الجديد تجب الزكاة في المال المغصوب والضال، واللقطة في السنة الأولى، والمسروق والساقط في البحر والمال الغائب والشيء المودع بعد عود المال إلى يد المالك؛ لأنه مال مملوك لصاحبه يملك المطالبة به، ويجبر الغاصب على تسليمه إليه، كالمال الذي في يد وكيله. والصحيح أنه تجب الزكاة على الملتقط إذا مضى عليه حول من حين ملك اللقطة؛ لأنه ملك مضى عليه حول في يد مالكه. والأصح أن الدين لا يمنع وجوب الزكاة؛ لأن الزكاة تتعلق بعين المال، والدين يتعلق بالذمة، فلا يمنع أحدهما الآخر، كوجود الدين وأرش الجناية. ويؤيده ما رواه مالك في الموطأ: أن عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يقول: «هذا شهر زكاتكم، فمن كان عليه دين، فليؤدّ زكاته، حتى تحْصُلَ أموالكم، فتؤدون منه الزكاة». ويجب على المرأة زكاة صداقها وتخرجها بعد قبضه؛ لأنه في يد زوجها قبيل الدين. وعلى المدين زكاة المال الذي استدانه من غيره: إذا حال عليه الحول وهو في ملكه؛ لأنه ملكه بالاستقراض ملكاً تاماً. وقال الحنابلة (¬1): لا بد من توافر أصل الملك والقدرة على التصرف حسب اختياره. فلا تجب الزكاة في الموقوف على غير معين كالمساجد والمدارس والمساكين ¬
7 - مضي عام أو حولان حول قمري على ملك النصاب
ونحوها، وتجب الزكاة في الموقوف على معين كأرض أو شجر. وتجب على الراجح في المغصوب والمسروق والمجحود والضال إذا قبضه كالدين. وتجب في اللقطة على الملتقط إذ صارت بعد الحول كسائر أمواله، إذا مضى عليها حول بعد تعريفها. والمرأة إذا قبضت صداقها زكته لما مضى؛ لأنه دين، وحكمه كزكاة الديون على مامضى، فإن قبضت صداقها قبل الدخول ومضى عليه حول، فزكته، ثم طلقها الزوج قبل الدخول، رجع فيها بنصفه، وكانت الزكاة من النصف الباقي لها. 7 - مضي عام أو حَوَلان حول قمري على ملك النصاب: لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لازكاة في مال حتى يحول عليه الحول» (¬1) ولإجماع التابعين والفقهاء. وحول الزكاة قمري لا شمسي بالاتفاق كباقي أحكام الإسلام من صوم وحج. ولفقهاء المذاهب آراء متقاربة في حولان الحول. فقال الحنفية (¬2): يشترط كون النصاب كاملاً في طرفي الحول، سواء بقي في أثنائه كاملاً أم لا، فإذا ملك إنسان نصاباً في بدء الحول، ثم استمر كاملاً لنهاية الحول، من غير أن ينقطع تماماً في الأثناء، أو يذهب كله في أثناء العام، وجبت الزكاة، وتجب أيضاً إن نقص في أثناء الحول، ثم تم في آخره؛ فنقصان النصاب في الحول لا يضر إن كمل في طرفيه. والمستفاد ولو بهبة أو إرث في وسط الحول يضم إلى أصل المال، وتجب فيه ¬
المالكية
الزكاة؛ لأنه يعسر مراعاة وضبط الحول لكل مستفاد، وفي ذلك حرج لا سيما إذا كان النصاب دراهم وهو صاحب غلة يستفيد كل يوم درهماً أو درهمين، والحول ما شرط إلا تيسيراً للمزكي. وحولان الحول شرط في غير زكاة الزرع والثمار، أما فيهما فتجب الزكاة عند ظهور الثمرة والأمن عليها من الفساد إذا بلغت حداً ينتفع بها، وإن لم يستحق الحصاد. وقال المالكية (¬1): حولان الحول شرط في العين (الذهب والفضة) والتجارة، والأنعام، وليس بشرط في المعدن والركاز والحرث (¬2) (الزرع والثمار)، وإنما تجب في ذلك بطيبه (¬3) ولو لم يحل الحول. أما المال المستفاد في أثناء الحول غير ماتجدد من الحيوان: فإن كان من هبة أو ميراث، أو من بيع أو غير ذلك، لم تجب عليه زكاة حتى يحول عليه الحول. وإن كان ربح مال أو تجارة، زكاة لحول أصله، سواء أكان الأصل نصاباً، أم دونه إذا أتم نصاباً بربحه؛ لأن ربح المال مضموم إلى أصله، فإذا نقص النصاب من الذهب أو الفضة في أثناء الحول ثم ربح فيه أو اتجر فربح، وجبت الزكاة، وخلاصة القاعدة عندهم: أن حول ربح المال حول أصله، وكذلك حول نسل الأنعام حول الأمهات. ¬
الشافعية
ويشترط أيضاً مجيء الساعي مع الحول في الماشية، فلا تجب الزكاة فيها قبل مجيئه. وقال الشافعية (¬1): مثل المالكية: حولان الحول شرط في زكاة الأثمان (النقود) وعروض التجارة والماشية، وليس بشرط في الثمار والزرع والمعادن والركاز. ويشترط مضي حول كامل متوال، فلو نقص النصاب في أثناء الحول ولو لحظة لم تجب الزكاة إلا في نتاج الماشية، فيتبع الأمهات في الحول وإلا في ربح التجارة فيزكى على حول أصله إذا كان الأصل نصاباً، فمتى تخلل زوال الملك أثناء الحول بمعاوضة أو غيرها كالبيع والهبة، استأنف الحول، وإذا كان النصاب كاملاً في بدء الحول ثم نقص في أثنائه، ثم كمل بعد ذلك، لم تجب الزكاة إلا مضي حول كامل من يوم التمام. وأما المستفاد في أثناء الحول بالبيع أو الهبة أو الإرث أوالوقت ونحوها مما يستفاد لا من نفس المال، فله حول جديد مستقل عن الأصل أي في غير النتاج وربح التجارة كما تقدم، فيستأنف له الحول لتجدد الملك، ولا يجمع إلى ما عنده في الحول. ويكره، وقيل: يحرم وعليه كثيرون أن يزيل ملكه عما تجب الزكاة في عينه بقصد رفع وجوب الزكاة؛ لأنه فرار من القربة. وقال الحنابلة (¬2): يشترط حولان الحول في زكاة الأثمان (الذهب والفضة) والمواشي وعروض التجارة، ولايشترط في غيرها من الثمار والزروع والمعادن والركاز. والمعتبر وجود النصاب في جميع الحول، ولا يضر النقص اليسير كنصف ¬
الحنفية
يوم أو ساعات. فلو نقص النصاب في أثناء الحول وجب بدء حول جديد إلا في النتاج وأرباح التجارة، فإنها تضم إلى أصلها؛ هأنها تبع له ومتولدة منه، والأرباح تكثر وتتكرر في الأيام والساعات، ويعسر ضبطها، وكذلك النتاج، وقد يوجد ولا يشعر به، فالمشقة أتم لكثرة تكرره. أما المستفاد في أثناء الحول من غير ربح مال التجارة ونتاج السائمة بالبيع أو الهبة أو الميراث أو الاغتنام ونحو ذلك، فله حول مستقل، لا تجب زكاته إلا بمضي حول تام عليه، لأنه يندر ولا يتكرر، فلا يشق ضبط حول له، فإن شق فهو دون المشقة في النتاج والأرباح، فيمتنع قياسه عليها. والخلاصة: إن حولان الحول شرط متفق عليه، وأن نتاج الماشية وأرباح التجارة تضم إلى أصل النصاب بالاتفاق، أما المستفاد في أثناء الحول من جنس المال غير النتاج والأرباح فيضم إليه ويزكى معه عند الحنفية، تيسيراً على المزكي، ودفعاً للمشقة والعسر عنه، إذ يعسر حساب الحول لكل مستفاد، والحول ما شرط إلا تيسيراً على الناس في إخراج الزكاة. ويحسب لكل مستفاد حول جديد عند الجمهور، لأنه مقتضى العدل، ولتجدد الملك، فيشترط له الحول كالمستفاد من غير جنس المال الأصلي الذي بدئ به النصاب، ولحديث: «من استفاد مالاً فلا زكاة فيه حتى يحول عليه الحول» (¬1). 8 - عدم الدين: شرط عند الحنفية في زكاة ماعدا الحرث (الزروع والثمار)، وعند الحنابلة في كل الأموال، وعند المالكية في زكاة العين (الذهب والفضة) دون ¬
الحنابلة
زكاة الحرث والماشية والمعادن. وليس بشرط عند الشافعية (¬1). وتفصيل الآراء فيما يأتي: قال الحنفية: الدين الذي له مطالب من جهة العباد يمنع وجوب الزكاة سواء أكان لله كزكاة وخراج (ضريبة الأرض)، أم كان لإنسان، ولو دين كفالة؛ لأن للدائن المكفول له أخذ الدين من أيهم شاء من المدين أو الكفيل، ولو ديناً مؤجلاً، ولو صداق زوجته المؤجل للفراق، أو كان نفقة لزمته بقضاء القاضي أو بالتراضي. أما الدين الذي ليس له مطالب من جهة العباد كدين النذر والكفارة والحج، فلا يمنع وجوب الزكاة. ولا يمنع الدين وجوب العشر (زكاة الزروع والثمار) والخراج، والكفارة، أي أن الدين لا يمنع وجوب التكفير بالمال على الأصح. وقال الحنابلة: الدين يمنع وجوب الزكاة في الأموال الباطنة وهي الأثمان (النقود) وعروض التجارة، لقول عثمان بن عفان: «هذا شهر زكاتكم، فمن كان عليه دين، فليؤده، حتى تخرجوا زكاة أموالكم» (¬2) وفي رواية: «فمن كان عليه دين، فليقض دينه، وليترك بقية ماله» قال ذلك بمحضر من الصحابة، فلم ينكروه، فدل على اتفاقهم عليه. وكذلك يمنع الدين الزكاة في الأموال الظاهرة: وهي الأنعام السائمة والحبوب والثمار، فيبتدئ بالدين فيقضيه، ثم ينظر ما بقي عنده بعد إخراج النفقة، فيزكي ما بقي، لما ذكر في الأموال الباطنة. ¬
المالكية
ويمنع الدين الزكاة إذا كان يستغرق النصاب أو ينقصه، ولا يجد ما يقضيه سوى النصاب، أو ما لا يستغني عنه، مثل أن يكون عليه عشرون مثقالاً، وعليه مثقال أو أكثر أو أقل مما ينقص به النصاب إذا قضاه به، ولا يجد قضاء له من غير النصاب. فإن كان له ثلاثون مثقالاً وعليه عشرة، فعليه زكاة العشرين، وإن كان عليه أكثر من عشرة، فلا زكاة عليه، أي أن مقدار الدين لا يمنع الزكاة إذا زاد ماله عن الدين، فإن كان الدين مساوياً نصاب الزكاة أو ينقصه، فهذا هو الذي يمنع الزكاة. وقال المالكية: الدين يسقط زكاة العين (الذهب والفضة) إذا لم يكن عروض تفي به، ولو كان الدين مؤجلاً، أو كان مهراً عليه لامرأته، أو مؤخراً، أو مقدماً، أو نفقة متجمدة عليه لزوجة أو أب أو ابن، أو دين زكاة عليه، لا دين كفارة ليمين أو ظهار أو صوم، ولا دين هدي وجب عليه في حج أو عمرة، فلا يسقطان زكاة العين. فإن كانت له عروض تفي بدينه، لم تسقط الزكاة عنه، ويجعل ذلك في نظير الدين الذي عليه، ويزكي ما عليه من العين. ولا تسقط عنه الزكاة إلا بشرطين: أولهما ـ إن حال حول العرض عنده: والثاني ـ أن يكون العرض مما يباع على المفلس، كثياب ونحاس وماشية ولو دابة ركوب أو ثياب جمعة أو كتب فقه، فإن كان ثوب جسده أو دار سكناه فلا يباع، إلا أن يكون ذلك فاضلاً عن حاجته الضرورية. وتعتبر قيمة العرض وقت وجوب الزكاة آخر الحول.
الشافعي في الجديد
وإن كان له دين مرجو الحصول ولو مؤجلاً، فإنه يجعله فيما عليه، ويزكي ماعنده من العين. أما إن كان غير مرجو، كما لو كان على معسر أو ظالم لا تناله الأحكام فلا يجعل بدلاً عن الدين الواجب عليه. ولا يسقط الدين زكاة الحرث (الزرع والثمر) والماشية والمعدن؛ لأن الزكاة تجب في أعيانها. ولو وُهب الدين للمدين أو أبرأه الدائن (صاحب الدين) منه، فلا زكاة في الموهوب حتى يحول عليه الحول في يد الموهوب له؛ لأن الهبة إنشاء لملك النصاب الذي بيده، فلا تجب الزكاة فيه إلا إذا استأنف حولاً من الهبة. وقال الشافعي في الجديد: الدين الذي يستغرق أموال الزكاة أو ينقص المال عن النصاب لا يمنع وجوب الزكاة، فتجب الزكاة على مالك المال؛ لأن الزكاة تتعلق بالعين، والدين يتعلق بالذمة، فلا يمنع أحدهما الآخر كالدين وأرش الجناية. 9 - الزيادة عن الحاجات الأصلية: اشترط الحنفية (¬1) كون المال الواجب فيه الزكاة فارغاً عن الدين وعن الحاجة الأصلية لمالكه؛ لأن المشغول بها كالمعدوم، وفسر ابن ملك الحاجة الأصلية: بأنها ما يدفع الهلاك عن الإنسان تحقيقاً كالنفقة ودار السكنى وآلات الحرب والثياب المحتاج إليها لدفع الحر أو البرد، أو تقديراً كالدين، فإن المديون محتاج إلى قضاء دينه بما في يده من النصاب، دفعاً عن نفسه الحبس الذي هو كالهلاك، وكآلات الحرفة وأثاث المنزل، ودواب الركوب وكتب العلم لأهلها؛ فإن الجهل عندهم كالهلاك، فإذا كانت له دراهم مستحقة بصرفها ¬
شروط صحة أداء الزكاة
إلى تلك الحوائج، صارت كالمعدومة، كما أن الماء المستحق صرفه إلى العطش، كان كالمعدوم، وجاز عنده التيمم. شروط صحة أداء الزكاة: 1 ً - النية: اتفق الفقهاء (¬1) على أن النية شرط في أداء الزكاة، تمييزاً لها عن الكفارات وبقية الصدقات، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات» وأداؤها عمل، ولأنها عبادة كالصلاة فتحتاج إلى نية لتمييز الفرض عن النفل. وللفقهاء تفصيلات في النية. قال الحنفية: لا يجوز أداء الزكاة إلا بنية مقارنة للأداء إلى الفقير، ولو حكماً، كما لو دفع بلا نية ثم نوى، والمال في يد الفقير، أو نوى عند الدفع للوكيل، ثم دفع الوكيل بلا نية، أو مقارنة لعزل مقدار الواجب؛ لأن الزكاة عبادة، فكان من شرطها النية، والأصل فيها الاقتران بالأداء، إلا أن الدفع للفقراء يتفرق فاكتفي بوجودها حالة العزل، تيسيراً على المزكي، كتقديم النية في الصوم. فلو عزل الزكاة ثم ضاعت أو سرقت أو تلفت، لم تسقط عنه، ويغرم بدلها؛ لأنه يمكن إخراج الزكاة من بقية المال، ولو مات ورثت عنه وأخرجت. ومن تصدق بجميع ماله، لا ينوي الزكاة، سقط فرضها عنه استحساناً، بشرط ألا ينوي بها واجباً آخر من نذر أوغيره؛ لأن الواجب جزء منه، فكان متعيناً فيه، فلا حاجة إلى التعيين، وعلى هذا لو كان له دين على فقير، فأبرأه عنه، سقط زكاة المبلغ المبرأ عنه، سواء نوى به عن الزكاة أو لم ينو، لأنه كالهلاك. ¬
ولو تصدق ببعض النصاب لم تسقط زكاة ما تصدق به عند أبي يوسف وهو المختار عند صاحب الهداية، فتجب زكاته وزكاة الباقي؛ لأن البعض المؤدى لم يتعين لأداء الواجب. وقال محمد: تسقط زكاة الجزء المؤدى، كما في حالة التصدق بكل المال، للتيقن بإخراج الجزء الذي هو الزكاة. وقال المالكية: تشترط النية لأداء الزكاة عند الدفع، ويكفي عند عزلها، والصحيح أنها تجزئ من دفعها كرهاً عنه كالصبي والمجنون، وتجزئ نية الإمام أو من يقوم مقامه عن نية المزكي. وقال الشافعية: تجب النية بالقلب، ولا يشترط النطق بها، فينوي: «هذا زكاة مالي» ولو بدون ذكر الفرض؛ لأن الزكاة لا تكون إلا فرضاً، ونحو ذلك، كهذا فرض صدقة مالي أو صدقة مالي المفروضة، أو الصدقة المفروضة، أو فرض الصدقة. ويجوز تقديم النية على الدفع بشرط أن تقارن عزل الزكاة، أو إعطاءها للوكيل أو بعده، وقبل التفرقة، كما تجزئ بعد العزل وقبل التفرقة وإن لم تقارن أحدهما، ويجوز تفويضها للوكيل إن كان من أهلها بأن يكون مسلماً مكلفاً لأن الزكاة حق مالي، ويجوز التوكيل في أداء الحقوق المالية، كالتوكيل في دفع الديون والأثمان، وإعادة الودائع والعواري إلى أصحابها، أما نحو الصبي والكافر فيجوز توكيله في أدائها، لكن بشرط أن يعين له المدفوع إليه. وتجب نية الولي في زكاة الصبي والمجنون والسفيه وإلا ضمنها لتقصيره. ولو دفعها المزكي للإمام بلا نية لم تجزئه نية الإمام في الأظهر. وإذا أخذت قهراً من المزكي نوى عند الأخذ منه، وإلا وجب على الآخذ النية. فإذا لم تتوافر النية عند دفع الزكاة، لم تفد نية الإمام الذي جباها، ولا يعتبر المال المدفوع للفقراء مجزئاً عن الزكاة، وإنما هو صدقة عادية.
2 - التمليك
وكذلك قال الحنابلة: النية أن يعتقد أنها زكاته، أو زكاة ما يخرج عنه كالصبي والمجنون، ومحلها القلب؛ لأن محل الاعتقادات كلها القلب. ويجوز تقديم النية على الأداء بالزمن اليسير كسائر العبادات، وإن دفع الزكاة إلى وكيله ونوى هو دون الوكيل، جاز، إذا لم تتقدم نيته الدفع بزمن طويل. فإن تقدمت النية بزمن طويل لم يجز، إلا إذا نوى حال الدفع إلى الوكيل، ونوى الوكيل عند الدفع إلى المستحق. لكن إن أخذ الإمام الزكاة قهراً أجزأت من غير نية؛ لأن تعذر النية في حقه أسقط وجوبها عنه كالصغير والمجنون. ولو تصدق الإنسان بجميع ماله تطوعاً، ولم ينو به الزكاة، لم يجزئه عند الجمهور غير الحنفية؛ لأنه لم ينو به الفرض، كما لو تصدق ببعضه، وكما لو صلى مئة ركعة، ولم ينو الفرض بها. وقال الحنفية: تسقط عنه الزكاة استحساناً خلافاً للقياس. 2 - التمليك: يشترط التمليك لصحة أداء الزكاة (¬1) بأن تعطى للمستحقين، فلا يكفي فيها الإباحة أو الإطعام إلا بطريق التمليك، ولا تصرف عند الحنفية إلى مجنون وصبي غير مراهق (مميز) إلا إذا قبض لهما من يجوز له قبضه كالأب والوصي وغيرهما. وذلك لقوله تعالى: {وآتوا الزكاة} [البقرة:43/ 2] والإيتاء هو التمليك، وسمى الله تعالى الزكاة صدقة بقوله عز وجل: {إنما الصدقات للفقراء} [التوبة:60/ 9] والتصدق تمليك، واللام في كلمة «للفقراء» ـ كما قال الشافعية ـ لام التمليك، كما يقال: «هذا المال لزيد». ¬
المبحث الثالث ـ وقت وجوب الزكاة ووقت أدائها
واشترط المالكية (¬1) لأداء الزكاة شروطاً ثلاثة أخرى: 1 - إخراجها بعد وجوبها بالحول أو الطيب أو مجيء الساعي، فإن أخرجها قبل وقتها، لم تجزه خلافاً لجمهور الفقهاء. وتأخيرها بعد وقتها مع التمكن من إخراجها سبب للضمان والعصيان. 2 - دفعها لمن يستحقها لا لغيره. 3 - كونها من عين ما وجبت فيه. المبحث الثالث ـ وقت وجوب الزكاة ووقت أدائها: وفيه مطالب أربعة: المطلب الأول ـ وقت وجوب الزكاة: اتفق الفقهاء (¬2) في المفتى به عند الحنفية (¬3) على وجوب الزكاة فوراً بعد استيفاء شروطها من ملك النصاب وحولان الحول ونحوهما، فمن وجبت عليه الزكاة وقدر على إخراجها لم يجز له تأخيرها، ويأثم بالتأخير بلا عذر، وترد شهادته عند الحنفية، لأنه حق يجب صرفه إلى الآدمي توجهت المطالبة بالدفع إليه، والأمر بالصرف إلى الفقير ومن معه قرينه الفور؛ لأنها لدفع حاجته، فإذا لم ¬
المطلب الثاني ـ وقت أداء الزكاة
تجب معجلة لم يحصل المقصود من الإيجاب على وجه التمام. والإخراج على الفور بشرطين: أولاً ـ أن يتمكن من إخراجها، بأن كان المال حاضراً عنده، ثانياً ـ أن يحضر الأصناف المستحقون لها أو نوابهم أو الإمام أو وكيله الساعي. فإن أخرها وهو قادر على أدائها ضمنها؛ لأنه أخر ما وجب عليه مع إمكان الأداء، كالوديعة إذا طالب بها صاحبها، ويأثم بالتأخير، لحبسه مال الفقراء عنده بغير حق، وهو حرام، إلا إذا أخر في رأي الشافعية لانتظار قريب أو جار أو من هو أحوج من الحاضرين، بشرط ألا يتضرر الحاضرون بالتأخير ضرراً بليغاً. وعليه لايجوز للجمعيات الخيرية تأخير صرف الزكاة كرصيد مدور لحساب الجمعية؛ لأن دفع الزكاة واجب على الفور. المطلب الثاني ـ وقت أداء الزكاة: تؤدى الزكاة بحسب نوع المال الذي تجب فيه. أـ فزكاة الأموال من النقدين (الذهب والفضة) وعروض التجارة (¬1)، والسوائم تدفع منها بعد تمام الحول مرة واحدة في كل عام. ب ـ وزكاة الزروع والثمار تدفع من غلاتها عند تكرر الإنتاج ولو تكرر مراراً في العام الواحد، فلا يشترط حولان الحول، ولا بلوغ النصاب عند الحنفية، ويشترط النصاب عند الجمهور. أما وقت وجوب العشر في الثمار فمختلف فيه: ¬
قال أبو حنيفة وزفر (¬1): يجب عند ظهور الثمرة والأمن عليها من الفساد، وإن لم يستحق الحصاد إذا بلغت حداً ينتفع بها (¬2). وقال الدردير المالكي (¬3): وجوب الزكاة بإفراك الحب، أي طيبه وبلوغه حد الأكل منه واستغنائه عن السقي، لا باليبس ولا بالحصاد ولا بالتصفية؛ وبطيب الثمر: وهو الزهو في بلح النحل، وظهور الحلاوة في العنب. وقال الشافعية (¬4): تجب الزكاة ببدو صلاح الثمر، واشتداد الحب؛ لأن الثمر حينئذ ثمرة كاملة، وهو قبل ذلك حصرم وبلح، والحب حينئذ طعام وهو قبل ذلك بَقْل أي طري. وليس المر اد بوجوب الزكاة بما ذكر وجوب إخراجها في الحال، بل انعقاد سبب وجوب إخراج التمر والزبيب والحب المصفى عند الصيرورة كذلك. علماً بأن مؤنة الجفاف والتصفية والجذاذ والدياس والحمل وغيرها مما يحتاج إلى مؤنة على المالك ليست من مال الزكاة. والحنابلة (¬5) كالشافعية: تجب الزكاة عند اشتداد الحب في الحبوب، وعند بدو صالح الثمرة التي تجب فيها الزكاة. جـ ـ تجب زكاة العسل في رأي الحنفية والحنابلة عند حصول ما تجب فيه، وزكاة المعادن عند استخراج ما تجب فيه. وزكاة الفطر في رأي غير الحنفية عند غروب الشمس من ليلة الفطر. ¬
المطلب الثالث ـ تعجيل الزكاة قبل الحول
المطلب الثالث ـ تعجيل الزكاة قبل الحول: اتفق العلماء على أنه لا يجوز تعجيل الزكاة قبل ملك النصاب؛ لأنه لم يوجد سبب وجوبها، فلم يجز تقديمها كأداء الثمن قبل البيع، والدية قبل القتل (¬1). أما تعجيل الزكاة متى وجد سبب وجوب الزكاة، وهو النصاب الكامل، ففيه رأيان للفقهاء. 1 - قال الجمهور (¬2): يجوز تطوعاً تقديم الزكاة على الحول، وهو مالك للنصاب، لأنه أدي بعد سبب الوجوب، ولما روى علي كرم الله وجهه أن العباس رضي الله عنه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليعجل زكاة ماله قبل محلها، فرخص له في ذلك (¬3)، ولأنه حق مال أجِّل للرفق، فجاز تعجيله قبل أجله أو محله، كالدين المؤجل ودية الخطأ، فهي تشبه الحقوق المالية المؤجلة. وذكر الشافعية أن شرط إجزاء المعجل: أن يبقى المالك أهلاً للوجوب إلى آخر الحول في الحول، ودخول شوال في الفطرة، وأن يكون القابض في آخر الحول أو عند دخول شوال مستحقاً. وإذا لم يجزئه المعجل لفوات أحد هذين الشرطين، استرد من القابض إن علم القابض أنها زكاة معجلة. وإن مات المالك أو القابض قبل ذلك أو ارتد القابض أو غاب أو استغنى بمال غير المعجل كزكاة أخرى ولو معجلة، أو نقص النصاب أو زال عن ملكه وليس مال تجارة، لم يجزئه المعجل لخروجه عن الأهلية عند الوجوب. ¬
المبحث الرابع ـ هلاك المال بعد وجوب الزكاة
2 - وقال الظاهرية والمالكية (¬1): لا يجوز إخراج الزكاة قبل الحول؛ لأنها عبادة تشبه الصلاة، فلم يجز إخراجها قبل الوقت (¬2)، ولأن الحول أحد شرطي الزكاة، فلم يجز تقديم الزكاة عليه، كالنصاب. المبحث الرابع ـ هلاك المال بعد وجوب الزكاة: للفقهاء رأيان في سقوط الزكاة بعد وجوبها وهلاك المال: 1 - فقال الحنفية (¬3): إن هلك المال بعد وجوب الزكاة، سقطت الزكاة؛ كما أنه يسقط العشر وخراج المقاسمة؛ لأن الواجب جزء من النصاب، وتحقيقاً للتيسير، فإن الزكاة وجبت بقدرة مُيسِّرة أي بقاء اليسر إلى وقت أداء الزكاة، فيسقط الواجب بهلاك محله، سواء تمكن من الأداء أم لا؛ لأن الشرع علق الوجوب بقدرة ميسرة، والمعلق بقدرة ميسرة لا يبقى بدونها، والقدرة الميسرة هنا هي وصف النماء، لا النصاب. ولا تسقط الزكاة بالاستهلاك، وإن انتفت القدرة الميسرة، لوجود التعدي. وإن هلك البعض يسقط بقدر الهالك اعتباراً للبعض بالكل. أما زكاة الفطر ومثلها مال الحج: فلا تسقط بهلاك المال بعد الوجوب، كما لا يبطل الزواج بموت الشهود. وسبب التفرقة أن الزكاة تتعلق بالنماء، فشرطت له القدرة الميسرة (وهي ما ¬
يوجب يسر الأداء على العبد) تيسيراً على الناس إذ الإنسان إنما يخاطب بأداء ما يقدر عليه، ويجوز ألا يكون له مال سواه، أما الفطرة ومثلها مال الحج فلم تتعلق بالنماء وإنما تجب في الذمة فشرطت له القدرة الممكِّنة (وهي ما يشترط للتمكن من الفعل وإحداثه). ويلاحظ أن هلاك المال بعد الإقراض والإعارة واستبدال مال التجارة بمال التجارة: هلاك، فلا يضمن الزكاة، وأما استبدال مال التجارة بغير مال التجارة واستبدال الماشية السائمة بالسائمة فهو استهلاك، فيضمن زكاته. 2 - قال الجمهور (¬1): إن هلك المال بعد وجوب الزكاة لم تسقط الزكاة، وإنما يضمنها، فيكون إمكان الأداء شرطاً في الضمان لا في الوجوب؛ لأن من تقرر عليه الواجب لا يبرأ عنه بالعجز عن الأداء كما في صدقة الفطر والحج وديون الناس، والزكاة حق متعين على رب المال، فإن تلف قبل وصوله إلى مستحقه لم يبرأ منه بذلك، كدين الآدمي. ولو عزل قدر الزكاة، فنوى أنه زكاة فتلف، فهو في ضمان رب المال، ولا تسقط الزكاة عنه بذلك، سواء قدر على أن يدفعها إليه أو لم يقدر. واستثنى المالكية زكاة الماشية؛ لأن وجوبها عندهم إنما يتم بشرط خروج الساعي، مع الحول، فإن تلفت فلا تضمن زكاتها. هذا وقد ذكر ابن رشد خمسة أقوال فيما إذا أخرج الزكاة فضاعت كأن تسرق أو تحترق: وهي قول: إنه لا يضمن بإطلاق، وقول: إنه يضمن بإطلاق، وقول: ¬
المبحث الخامس ـ أنواع الأموال التي تجب فيها الزكاة
وما بعدها. إن فرط ضمن وإن لم يفرط لم يضمن، وهو مشهور مذهب مالك، وقول: إن فرط ضمن، وإن لم يفرط زكى ما بقي، وبه قال أبو ثور والشافعي. والقول الخامس: يعد الذاهب من الجميع ويكون المساكين ورب المال شريكين في الباقي بقدر حظهما من حظ رب المال (¬1). المبحث الخامس ـ أنواع الأموال التي تجب فيها الزكاة: تجب الزكاة في أنواع خمسة من المال وهي: النقود، والمعادن والركاز، وعروض التجارة، والزروع والثمار، والأنعام وهي الإبل والبقر والغنم. وأوجب أبو حنيفة خلافاً لصاحبيه الزكاة في الخيل والمفتى به هو رأيهما، وبحثها في المطالب الستة الآتية: المطلب الأول ـ زكاة النقود (الذهب والفضة والورق النقدي): اتفق الفقهاء (¬2) على وجوب الزكاة في النقود سواء أكانت سبائك أم مضروبة أم آنية، أم كانت حلياً عند الحنفية، للأدلة السابقة من الكتاب والسنة والإجماع في وجوب الزكاة مطلقاً، ونبحث هنا ما يأتي: ¬
أولا ـ نصابها والمقدار الواجب فيها
أولاً ـ نصابها والمقدار الواجب فيها: نصاب الذهب: عشرون مثقالاً (¬1) أو ديناراً (¬2)، كانت تعادل أربع عشرة ليرة ذهبية عثمانية تقريباً، أو خمس عشرة ليرة ذهبية افرنسية، واثنتي عشرة ليرة إنكليزية (¬3) وتساوي بالمثقال العراقي مئة غرام تقريباً وبالمثقال العجمي ستة وتسعين غراماً، وعند الجمهور 91 و 25/ 23 غراماً. والفرق بين نوعي المثقال (2،0) إذ المثقال العجمي (8،4 غم) والمثقال العراقي (5 غرامات)، ولنعتمد على الأقل من باب الاحتياط، وهو التقدير بـ 85 غراماً باعتبار الدرهم العربي (2.975 غم) وهو الأولى. ونصاب الفضة: مئتا درهم تساوي عند الحنفية (700) غراماً تقريباً، وعند الجمهور (642) غراماً تقريباً (¬4)، والأدق (595 غم). ويضم عند الجمهور (غير الشافعية) أحد النقدين إلى الآخر في تكميل النصاب، فيضم الذهب إلى الفضة وبالعكس بالقيمة، فمن له مئة درهم وخمسة مثاقيل قيمتها مئة، عليه زكاتها؛ لأن مقاصدها وزكاتهما متفقة، فهما كنوعي الجنس الواحد. وقال الشافعية: لا يضم أحدهما إلى الآخر كالإبل والبقر، وإنما يكمل النوع ¬
سعر الصرف
بالنوع من الجنس الواحد وإن اختلفا جودة ورداءة، والرأي الأول هو الواجب الاتباع اليوم في العملات الورقية، وضم نوع منها إلى آخر أصبح ضرورياً ومتعيناً. سعر الصرف: يجب تقدير نصاب الزكاة في كل زمان بحسب القوة الشرائية للنقد المعاصر، وبحسب سعر الصرف لكل من الذهب والفضة في كل سنة وفي بلد المزكي وقت إخراج الزكاة، فقد أصبح متقلباً غير ثابت دائماً، والشرع حدد مبلغين متعادلين: إما عشرون ديناراً (مثقالاً) أو مئتا درهم، وكانا شيئاً واحداً ولهما سعر واحد. ويجب أيضاً اعتبار النصاب الحالي كما كان هو المقرر في أصل الشرع، دون النظر إلى تفاوت السعر القائم الآن بين الذهب والفضة. وتقدر الأوراق النقدية في الأرجح دليلاً بسعر الذهب؛ لأنه هو الأصل في التعامل، ولأن غطاء النقود هو بالذهب، ولأن المثقال كان في زمن النبي صلّى الله عليه وسلم وعند أهل مكة هو أساس العملة (¬1)، وهو أساس تقدير الديات. ويسأل الصراف عن سعر الذهب بالعملة المحلية الرائجة في كل بلد، مثلاً يعادل الجنية المصري ذهباً في وقت من الأوقات (2.5587) غم، ويساوي غرام الذهب في سوريا الآن حوالي 500 ليرة سورية (¬2). أما غرام الفضة فيساوي الآن حوالي عشر ليرات سورية. ويرى كثير من علماء العصر أن النقود تقدر بسعر الفضة احتياطاً لمصلحة الفقراء، ولأن ذلك أنفع لهم. وأرى الأخذ بهذا الرأي؛ لأنه يفتى بما هو أنفع للفقراء. وينبغي لفت النظر إلى أن دفع الزكاة للجمعيات يجب إيصالها بأعيانها ¬
مقدار الزكاة
للمستحقين، ولا يجوز للقائمين على الجمعيات أن يشتروا بأموال الزكاة أغذية أو ألبسة ونحوها يقدمونها للفقراء، لأنهم لم يوكلوهم في هذا، كما لا يجوز لجمعيات المعاهد العلمية الشرعية شراء شيء كالكتب وغيرها من أموال الزكاة، وعلى إدارة الجمعيات أن يحصلوا على تفويض أو توكيل من طلاب العلم، بصرف أموال الزكاة على حوائجهم من طعام وشراب وكتب وأوراق ونحو ذلك، لأن تمليك الزكاة للمستحقين شرط أساسي، ثم يتصرف المستحق بما يحقق مصلحته. ولا يجوز لجمعية أن تقوم بنفسها ببناء مبان أو معامل من أموال الزكاة لصرف ريعها على المستحقين إذ لا وكالة لدى الجمعية من المستحقين في هذا. لكن يجوز للضرورة إيجاد مراكز صحية وتوزيع أدوية للفقراء مثلاً على ألا تأخذ صفة الوقف، حتى يجوز بيعها وتوزيع أثمانها للمستحقين. مقدار الزكاة: المقدار الواجب في النقدين (الذهب والفضة) ربع العشر أي (2.50%) فإذا ملك الإنسان مئتي درهم، وحال عليها الحول، ففيها خمسة دراهم، وفي العشرين مثقالاً نصف دينار. والدليل: هو أحاديث ثابتة، منها حديث علي عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا كانت لك مئتي درهم، وحال عليها الحول، ففيها خمسة دراهم، وليس عليك شيء يعني في الذهب حتى يكون لك عشرون ديناراً، فإذا كانت لك عشرون ديناراً، وحال عليها الحول، ففيها نصف دينار» (¬1). ومنها حديث أبي سعيد الخدري: «ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة، وليس فيما دون خمس أواق من الوَرِق صدقة، وليس فيما دون خمس ¬
ثانيا ـ ما نقص عن النصاب وما زاد عليه
ذَوْد من الإبل صدقة» (¬1) وروى البخاري: «وفي الرِّقة: ربع العشر» والرقة والورِق: الفضة. ويدفع عن الذهب ذهباً وعن الفضة فضة، فإن أراد أن يدفع ذهباً عن فضة أو فضة عن ذهب، جاز في الحالتين عند المالكية، ويكون الدفع بالقيمة في المشهور، ولم يجز ذلك عند الشافعية. ثانياً ـ ما نقص عن النصاب وما زاد عليه: تجب الزكاة كما عرفنا بالإجماع في الذهب إذا كان عشرين مثقالاً (ديناراًً) قيمتها مئتا درهم. أما ما دون العشرين مثقالاً، فلا زكاة فيه إلا أن يتم بورِق (فضة) أو عروض تجارة. وأجمع العلماء على أنه إذا كان أقل من عشرين مثقالاً، ولا يبلغ مئتي درهم، فلا زكاة فيه لعدم بلوغ النصاب، وقال عامة الفقهاء: نصاب الذهب عشرون مثقالاً من غير اعتبار قيمتها ولا تقديرها بالفضة (¬2)، قال صلّى الله عليه وسلم: «ليس في أقل من عشرين مثقالاً من الذهب، ولا في أقل من مئتي درهم صدقة» (¬3). أما الزيادة على النصاب: فلا شيء فيها عند أبي حنيفة (¬4) حتى تبلغ أربعين درهماً، فيكون فيها درهم، ثم في كل أربعين درهماً درهم، ولا شيء فيما بينهما. ¬
ثالثا ـ حكم المغشوش أو المخلوط بغيره
كذلك لا زكاة في زيادة الدنانير حتى تبلغ أربعة دنانير. وهذا هوالصحيح عند الحنفية، لقول عليه السلام: «من كل أربعين درهماً درهم» (¬1). وقال الصاحبان وجمهور الفقهاء (¬2): ما زاد على المئتين فزكاته بحسابه، وإن قلَّت الزيادة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «هاتوا ربع العشر من كل أربعين درهماً درهماً، وليس عليكم شيء حتى يتم مئتين، فإذا كانت مئتي درهم ففيها خمسة دراهم، فما زاد فبحساب ذلك» (¬3) وهذا هو المعقول. ثالثاً ـ حكم المغشوش أو المخلوط بغيره: المغشوش: هو المخلوط بما هو أدون منه كذهب بفضة، وفضة بنحاس. وللفقهاء في زكاته آراء ثلاثة (¬4): 1 - قال الحنفية: غالب الفضة فضة، وغالب الذهب ذهب، وإذا كان الغالب عليهما الغش، فهي في حكم العروض التجارية، ولا بد من أن تبلغ قيمتها نصاباً، ولا بد فيها من نية التجارة كسائر العروض، إلا إذا كان يخلص منها فضة تبلغ نصاباً، لأنه لا تعتبر في عين الفضة القيمة، ولا نية التجارة. واختلف في الغش المساوي، والمختار: لزوم الزكاة احتياطاً. ¬
رابعا ـ زكاة الحلي
2 - وقال المالكية: المعتبر هو الرواج، فتجب الزكاة في الكاملة الوزن، والمغشوشة (المخلوطة بنحو نحاس)، وناقصة الوزن إن راجت كل منهما رواجاً كرواج الكاملة الوزن، فإن لم ترج حُسب الخالص على تقدير التصفية في المغشوشة، واعتبر الكمال في الناقصة بزيادة دينار أو أكثر، فمتى كملت زكيت وإلا فلا. وعلى هذا فإن كانت الدراهم أو الدنانير مخلوطة بالنحاس أو غيره، أسقط وزكي عن الصافي. 3 - وقال الشافعية والحنابلة: لاشيء في المغشوش حتى يبلغ خالصه نصاباً كاملاً، فمن ملك ذهباً أو فضة مغشوشة أو مختلطاً بغيره، فلا زكاة فيه حتى يبلغ قدر الذهب والفضة نصاباً، لقوله عليه السلام: «ليس فيما دون خمس أواق من الورِق صدقة» فإن لم يعلم قدر ما فيه منهما، وشك هل بلغ نصاباً أو لا، عمل بالأظهر بحيث يتيقن أن ما أخرجه من الذهب محيط بقدر الزكاة، أو بسبكهما (أي التمييز بينهما بالنار) ليعلم ما فيه منهما، ويخرج الزكاة ليسقط الفرض بيقين. ولو اختلط إناء من الذهب والفضة، بأن أذيبا وصيغ منهما الإناء، كأن كان وزنه ألف درهم، أحدهما ست مئة والآخر أربع مئة، وجهل أكثرهما، زكى كلاً منهما بفرضه، الأكثر ذهباً أو فضة، احتياطاً. ولا يجوز افتراض كله ذهباً؛ لأن أحد الجنسين لا يجزئ عن الآخر، وإن كان أعلى منه، أو ميَّز بينهما بالنار، ويحصل ذلك بسبك قدر يسير إذا تساوت أجزاؤه. رابعاً ـ زكاة الحلي: اتفق الفقهاء على وجوب الزكاة ـ كما أبنت ـ في النقدين في المسكوك وغيره، كالسبائك والتبر والأواني والحلي الحرام كحلي الرجل عدا خاتم الفضة وأدوات الاستعمال والزينة في المنزل. ولا زكاة في الحلي من غير الذهب والفضة كالماس واللؤلؤ والياقوت.
والحلي الذي تجب فيه الزكاة عند المالكية (¬1): هو المتخذ للتجارة بالإجماع، ويعتبر بحسب وزنه دون قيمة صياغته، وكذلك الأواني والمباخر للتجارة والمكحلة والمِرْوَد ولو لامرأة، والمتخذ للادخار ونوائب الزمن وحوادثه لا للاستعمال، وحلي المرأة إذا انكسر في خمس صور: أحدها ـ أن يتكسر بحيث لا يرجى عوده إلى ما كان عليه إلا بسكبه مرة أخرى. ثانيها ـ التهشم ونية عدم إصلاحه. ثالثها ـ التهشم مع نية إصلاحه. رابعها ـ التهشم مع عدم نية شيء أصلاً، لا إصلاحه ولا عدم إصلاحه. خامسها ـ عدم التهشم مع نية عدم إصلاحه. ولا زكاة في الحلي إذا اتخذه الإنسان لأجل الكراء، سواء أكان المتخذ له رجلاً أم امرأة. ولا في الحلي المباح للمرأة كالسوار، ولا في الحلي الجائز للرجل كقبضة السيف المعد للجهاد والخاتم الفضي والأنف والأسنان وحلية المصحف والسيف، والمتخذ لمن يجوز له استعماله كزوجته وابنته الموجودتين عنده حالاً، وكانتا صالحتين للتزين لكبرهن، فإن اتخذه لمن سيوجد أو لمن سيصلح للتزين لصغره الآن فتجب الزكاة. والحلي الذي تجب فيه الزكاة عند الشافعية (¬2): هو الذي يقصد كنزه وادخاره، والأواني، وما يتحلى به الرجل من حلي المرأة، وما تتحلى به المرأة من ¬
حلي الرجل كسيف، والتبر المغصوب المصوغ حلياً، وحلي النساء الذي بالغن في الإسراف فيه بأن بلغ مئتي مثقال (حوالي 850 غم) وكذلك ما يكره استعماله قياساً على المحرم كضبة الإناء الكبيرة للحاجة، أو الصغيرة للزينة (¬1). جاء في إعانة الطالبين (158/ 2 ومابعدها): ويحل الذهب والفضة بلاسرف لامرأة وصبي إجماعاً في نحو السوار والخلخال والطوق، ولا تجب الزكاة فيها. أما مع السرف فلا يحل شيء من ذلك كخلخال وزن مجموع فردتيه مئتا مثقال، فتجب فيه الزكاة. والتقدير بمئتي مثقال مأخوذ من أثر عن صحابي. وتجب الزكاة أيضاً على الراجح في حلي المرأة إذا انكسر بحيث يمنع الاستعمال، ويحتاج إلى سبك وصوغ. ولا زكاة في الأظهر في الحلي المباح للمرأة، كخلخال وسوار ونحوهما؛ لأنه معدّ لاستعمال مباح، فأشبه العوامل من النعم. وأما الحلي الذي تجب فيه الزكاة عند الحنابلة (¬2): فهو المتخذ للتجارة، والحلي المحرم للمرأة الذي ليس لها اتخاذه، كما إذا اتخذت حلية الرجال المحرَّمة، كحلية السيف والمِنْطقة (النطاق) وسوار الرجل وخاتمه الذهب، وحلية مراكب الحيوان، ولباس الخيل كاللجم والسروج، وقلائد الكلاب، وحلية الركاب، والمرآة والمشط والمكحلة، والميل والمسرحة، والمروحة والمشربة والمدهنة والمسعط والمجمرة والمعلقة والقنديل، والآنية، وحلية كتب العلم بخلاف المصحف، وحلية الدواة والمقلمة، وما أعد للكراء، أو للقُنية والادخار أو النفقة إذا احتاج إليها، أو لم يقصد به شيئاً. ¬
وكذا حلي المرأة إذا انكسر واحتاج إلى صوغ، فإن لم يحتج إلى صوغ ونوت إصلاحه، فلا زكاة فيه، ولا زكاة فيما إذا انكسر الحلي كسراً لايمنع الاستعمال واللبس، فهو كالصحيح، إلا أن تنوي كسره وسبكه، ففيه الزكاة حينئذ؛ لأنها نوت صرفه عن الاستعمال. وليس في حلي المرأة زكاة في ظاهر المذهب إذا كان مما تلبسه أو تعيره، ولا ممن يحرم عليه، كرجل يتخذ حلي النساء لإعارتهن، وامرأة تتخذ حلي الرجال لإعارتهم. والخلاصة أن الجمهور لا يرون الزكاة في حلي المرأة المعتاد، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ليس في الحلي زكاة» (¬1) وهو قول ابن عمر وعائشة وأسماء بنتي أبي بكر، ولأنه مرصد للاستعمال المباح، فلم تجب فيه الزكاة، كالعوامل من الأنعام، وثياب القنية (الاستعمال الشخصي) ولأن الإسلام أوجب الزكاة في المال النامي المغل فقط: وهو ما من شأنه أن ينمى ولو عطله صاحبه، والحلي المباح لا نماء فيه، بخلاف ما إذا اتخذ كنزاً أو كان فيه سرف ظاهر ومجاوزة للمعتاد، أواستعمله الرجال حلية لهم أو استعمل في الآنية والتحف والتماثيل ونحوها، فتجب في كل ذلك الزكاة. وقال الحنفية (¬2): الزكاة واجبة في الحلي للرجال والنساء تبراً كان أو سبيكة، آنية أو غيرها؛ لأن الذهب والفضة مال نام، ودليل النماء موجود: وهو الإعداد للتجارة خِلْقة، بخلاف الثياب، ولأنهما خُلقا أثماناً، فيزكيهما المالك كيف كانا. ¬
ويؤيدهم حديث «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لامرأة في يدها سواران من ذهب: هل تعطين زكاة هذا؟ قالت: لا، قال: أيسرك أن يسوِّرك الله بسوارين من نار؟! (¬1)». والمعتبر عند غير الشافعية في نصاب الحلي الذي تجب فيه الزكاة: الوزن لا القيمة، فلو ملك حلياً قيمته مئتا درهم، ووزنه دون المئتين، لم يكن عليه زكاة، وإن بلغ مئتين وزناً، ففيه الزكاة، وإن نقص في القيمة، للحديث المتقدم: «ليس فيما دون خمس أواق من الورِق صدقة». واستثنى الحنابلة أن يكون الحلي للتجارة، فيقوم، فإذا بلغت قيمته بالذهب والفضة نصاباً، ففيه الزكاة؛ لأن الزكاة متعلقة بالقيمة، ومالم يكن للتجارة، فالزكاة في عينه، فيعتبر بلوغ قيمته ووزنه نصاباً، وهو مخير بين إخراج ربع عشر حلية مشاعاً أو دفع ما يساوي ربع عشرها من جنسها. فإن كان في الحلي جوهر ولآلئ مرصعة، فالزكاة في الحلي من الذهب والفضة دون الجوهر؛ لأنها لا زكاة فيها عند أحد من أهل العلم، كما أبنت، فإن كان الحلي للتجارة قومه بما فيه من الجواهر؛ لأن الجواهر لو كانت مفردة عن الذهب والفضة، وهي للتجارة، لقومت وزكيت، فكذلك إذا كانت في حلي التجارة. وقال الشافعية: حيث أوجبنا الزكاة في الحلي، واختلفت قيمته ووزنه، فالعبرة بقيمته لا وزنه، بخلاف المحرم لعينه كالأواني، فالعبرة بوزنه لا قيمته، فلو كان له حلي وزنه مئتا درهم، وقيمته ثلاث مئة، تخير بين أن يخرج ربع عشره مشاعاً، ثم يبيعه الساعي بغير جنسه، ويفرق ثمنه على المستحقين، أو يخرج ¬
خامسا ـ زكاة الدين
خمسة مصوغة قيمتها سبعة ونصف نقداً، ولا يجوز كسره ليعطي منه خمسة مكسرة؛ لأن فيه ضرراً عليه وعلى المستحقين. خامساً ـ زكاة الدين: المال البالغ نصاباً والذي هو دين لإنسان في ذمة آخر، وحال عليه الحول، تجب زكاته بشروط مفصلة في المذاهب. قال الحنفية (¬1): الدين عند الإمام أبي حنيفة ثلاثة أنواع: قوي، ومتوسط، وضعيف. فالقوي: هو بدل القرض ومال التجارة كثمن العروض التجارية، إذا كان على مقرٍّ به ولو مفلساً، أو على جاحد عليه بينة، تجب فيه الزكاة إذا قبضه، لما مضى من الأعوام، كلما قبض أربعين درهماً، ففيه درهم واحد؛ لأن مادون الخمس من النصاب عفولا زكاة فيه، وما زاد عن ذلك فزكاته بحسابه. والمتوسط: هو بدل ما ليس للتجارة أي ما ليس دين تجارة كثمن دار السكنى وثمن الثياب المحتاج إليها، لا يجب فيه الزكاة إلا إذا قبض منه نصاباً (مئتي درهم) فإن قبض مئتي درهم زكى لما مضى، ويعتبر الماضي من الحول من وقت لزومه لذمة المشتري، في صحيح الرواية. فالدين المتوسط مثل الدين القوي في حولان الحول عليه، فيعتبر حوله من وقت التزام المدين به، لا من وقت القبض في الأصح. والضعيف: هو بدل ما ليس بمال، كالمهر والميراث والوصية وبدل الخلع والصلح عن دم العمد، والدية، فإن المهر ليس بدلاً عن مال أخذه الزوج من ¬
المالكية
زوجته، وكذا بدل الخلع ليس بدلاً عن مال تدفعه الزوجة لزوجها. ومثله دين الوصية، والدية وبدل الصلح، والميراث. لا تجب فيه الزكاة مالم يقبض نصاباً ويحول عليه الحول بعد القبض. والخلاصة: أن الزكاة تجب في كل أنواع الدين المذكورة، لكن الأداء يكون عند القبض، قبض خُمْس النصاب في القوي، وقبض كامل النصاب في المتوسط والضعيف، وبما أن الدين الضعيف كسب جديد، فيجب حولان الحول. وقال الصاحبان: الديون كلها سواء، وكلها قوية، تجب الزكاة فيها قبل القبض إلا الدية على العاقلة (العصبة)، فإنه لا تجب الزكاة فيها أصلاً ما لم تقبض ويحول عليها الحول، لأن تلك الديون ما عدا الدية ملك لصاحبها، لكن لا يطالب بالأداء للحال، وإنما عند القبض. وقال المالكية (¬1): الديون ثلاثة أنواع: 1 - ما يحتاج لحولان الحول بعد القبض: مثل ديون المواريث والهبات والأوقاف والصدقات، والصداق والخلع، وأرش (تعويض) الجناية، والدية، لا زكاة فيه حتى يقبضه ويحول عليه الحول عنده من يوم القبض، فمن ورث مالاً من أبيه عينت له المحكمة حارساً قبل أن يقبضه لسبب ما، واستمر ديناً له أعواماً كثيرة، فإنه لا زكاة عليه في كل تلك الأعوام، حتى يقبضه ويمضي عليه عام عنده بعد قبضه. وهذا هو الدين الضعيف عند الحنفية. ومنه ثمن بيع العروض المقتناة كبيع متاع أو عقار، وهو الدين المتوسط عند الحنفية، فإذا باع دار سكناه بثمن مؤجل للمستقبل، فإنه يزكي على ما قبضه إذا كان المقبوض نصاباً فأكثر وحال عليه الحول. ¬
الشافعية
2 - ما يزكى لعام واحد فقط: وهو دين القرض وديون التجارة، وهو الدين القوي عند الحنفية، تجب فيه الزكاة بشروط أربعة: أولها ـ أن يكون أصل الدين الذي أعطاه للمدين ذهباً أو فضة، أو ثمن عروض تجارية محتكرة كثياب مثلاً. ثانيها ـ أن يقبض شيئاً من الدين، فإن لم يقبض شيئاً فلا زكاة عليه. ثالثها ـ أن يكون المقبوض نقداً (ذهباً أو فضة): فإن قبض عروضاً تجارية كثياب أو قمح فلا زكاة عليه. رابعها ـ أن يكون المقبوض نصاباً على الأقل، ولو قبضه لعدة مرات، أو يكون المقبوض أقل من نصاب، ولكن عنده ما يكمل النصاب من ذهب أو فضة حال الحول عليها. 3 - دين المدير: وهو التاجر الذي يبيع ويشتري بالسعر الحاضر. فإذا كان أصل الدين عروض تجارة، فإنه يزكي الدين كل عام، مع إضافته إلى قيم العروض التي عنده، وإلى ما باع به من الذهب والفضة. وقال الشافعية (¬1): على الدائن زكاة الدين عن الأعوام الماضية عند التمكن من أخذ دينه، إذا كان الدين من نوع الدراهم والدنانير، أو عروض التجارة. فإن كان الدين ماشية أو مطعوماً كالتمر والعنب، فلا زكاة فيه. ورأى الحنابلة (¬2): أنه تجب زكاة الدين، سواء أكان الدين حالاً أم مؤجلاً، وسواء أكان المدين معترفاً به باذلاً له، أم معسراً أم جاحداً أم مماطلاً به، إلا أنه لا ¬
سادسا ـ زكاة الأوراق النقدية
يجب إخراج زكاته إلا إذا قبضه، فيؤدي لما مضى فوراً؛ لأنه دين ثابت في الذمة، فلم يلزمه الإخراج قبل قبضه، ولأن الزكاة للمواساة، وليس من المواساة أن يخرج زكاة مال لا ينتفع به، ولأن هذا المال في جميع الأحوال على حال واحد، فوجب أن يتساوى في وجوب الزكاة أو سقوطها، كسائر الأموال. أما الوديعة فهي بمنزلة ما في يده، لأن الوديع نائب عن المودع في حفظه، ويده كيده، ويزكيه لما مضى؛ لأنه مملوك له يقدر على الانتفاع به، فلزمته زكاته كسائر أمواله. والخلاصة: إن كان الدين حياً: وهو ما كان الدين معترفاً به مستعداً لسداده في وقته أو عند طلبه، فعند جمهور الأئمة: على الدائن زكاته. وإن كان الدين على معسر لا يرجى منه السداد، أو على مماطل أو جاحد له، غير معترف به، فعند أكثر الأئمة: لا زكاة فيه. وأما زكاة التأمين النقدي: فهي على مالكه، والتأمين النقدي هو الذي يدفعه المستأجر للمالك، فهو مال مملوك للمستأجر عند المالك ضماناً لسداد الأجرة في مواعيدها، تجب زكاته على مالكه لا على المؤجر، إذا توافرت شروط الوجوب. سادساً ـ زكاة الأوراق النقدية: الأوراق النقدية والنقود المعدنية: هي التي يتم التبادل بها بدلاً عن الذهب والفضة، وتعد بمثابة حوالة مصرفية على المصرف المركزي للدولة بما يعادلها ذهباً من الرصيد الذهبي المخزون الذي يغطي العملة المتداولة، إلا أن أغلب الدول حرمت التعامل بالذهب، فلم تعد تسمح بسحب الرصيد المقابل لكل ورقة نقدية أو نقد معدني مصنوع من خلائط معدنية معينة كالبرونز والنحاس وغيرهما، حفاظاً على الرصيد الذهبي في خزانة الدولة.
وبما أن هذا النظام ظهر حديثاً بعد الحرب العالمية الأولى، فلم يتكلم فيه فقهاؤنا القدامى، وقد بحث فقهاء العصر حكم زكاة هذه النقود الورقية (¬1)، فقرروا وجوب الزكاة فيها عند جمهور الفقهاء (الحنفية والمالكية والشافعية)؛ لأن هذه النقود إما بمثابة دين قوي على خزانة الدولة، أو سندات دين، أو حوالة مصرفية بقيمتها ديناً على المصرف. ولم ير أتباع المذهب الحنبلي الزكاة فيها حتى يتم صرفها فعلاً بالمعدن النفيس (الذهب أو الفضة) قياساً على قبض الدين. والحق وجوب الزكاة فيها؛ لأنها أصبحت هي أثمان الأشياء، وامتنع التعامل بالذهب، ولم تسمح أي دولة بأخذ الرصيد المقابل لأي فئه من أوراق التعامل، ولا يصح قياس هذه النقود على الدين؛ لأن هذا الدين لا ينتفع به صاحبه وهو الدائن، ولم يوجب الفقهاء زكاته إلا بعد قبضه لاحتمال عدم القبض، أما هذه النقود فينتفع بها حاملها فعلاً كما ينتفع بالذهب الذي اعتبر ثمناً للأشياء، وهو يحوزها فعلاً، فلا يصح القول بوجود اختلاف في زكاة هذه النقود. والقول بعدم الزكاة فيها لاشك بأنه اجتهاد خطأ؛ لأنه يؤدي في النتيجة البينة ألاّ زكاة على أخطر وأهم نوع من أموال الزكاة، فيجب قطعاً أن تزكى النقود الورقية زكاة الدين الحالّ على مليء، كما هو المقرر لدى الشافعية، ويجب فيها ربع العشر (2.50%). ويقدر نصابها ـ كما أبنت ـ بسعر صرف نصاب الذهب المقرر شرعاً وهو عشرون ديناراً أو مثقالاً، ونختار أن يكون وزنها ذهباً 85غراماً، ومن الفضة (595 غراماً) عملاً بالدرهم العربي وهو (975،2 غم)، والأصح تقدير النصاب الورقي بالذهب؛ لأنه المعادل لنصاب الأنعام (الإبل والبقر والغنم)، ولارتفاع ¬
السندات
مستوى المعيشة وغلاء الحاجيات، وإن كان يرى كثير من علماء العصر تقدير النصاب بالفضة؛ لأنه أنفع للفقراء، وللاحتياط في الدين، ولأن نصاب الفضة مجمع عليه، وثابت بالسنة الصحيحة، وكان يساوي في الماضي ستة وعشرين ريالاً مصرياً وتسعة قروش وثلثي قرش، ونحو خمسين ريالاً في السعودية ودولة الإمارات، ونحو 60 أو 55 روبية في باكستان والهند. ولا تجب الزكاة على الأوراق النقدية إلا ببلوغها النصاب الشرعي، وبحولان الحول، وبالفراغ من الدين وهو الحق والعدل، وزاد الحنفية: وبأن يكون النصاب فاضلاً عن الحاجات الأصلية لمالكه من نفقة وكسوة وأجرة سكنى وآلة حرب (¬1). والسندات جمع سند، والسند تعهد مكتوب بمبلغ من الدين (القرض) لحامله في تاريخ معين، نظير فائدة مقدرة. والسهم: النصيب في رأس المال. والسهم يمثل جزءاً من رأس مال الشركة، وصاحبه مساهم، والسند يمثل جزءاً من قرض على شركة أو دولة، وحامله مقرض أو دائن. والتعامل بالأسهم جائز شرعاً، أما التعامل بالسندات فحرام لاشتمالها على الفائدة الربوية. وبالرغم من تحريم السندات (¬2)، فإنه تجب زكاتها، لأنها تمثل ديناً لصاحبها، وتؤدى زكاتها عن كل عام، عملاً برأي جمهور الفقهاء غير المالكية؛ لأن الدين ¬
الأسهم
المرجو (وهو ما كان على مقر موسر) تجب زكاته في كل عام. وأما سندات الاستثمار فالأولى أن تزكى كزكاة النقود أي بنسبة 5،2% من قيمتها. وأما الأسهم: فتجب زكاتها أيضاً بحسب قيمتها الحقيقية في البيع والشراء، كزكاة العروض التجارية، أي تؤدى زكاتها على رأس المال مع أرباحها في نهاية العام بنسبة (5،2% في المئة) إذا كان الأصل والربح نصاباً أو يكمل مع مال مالكها نصاباً، ويعفى الحد الأدنى للمعيشة إذا لم يكن لصاحب الأسهم مورد رزق آخر سواها، كأرملة ويتيم ونحوهما. هذا في الشركات التجارية، أما في الشركات الصناعية كشركات السكر والنفط ونحوها كالمطابع والمصانع، فتقدر الأسهم بقيمتها الحالية مع حسم قيمة المباني والآلات وأدوات الإنتاج. والخلاصة: أنه تجب زكاة الأسهم والسندات بمقدار ربع العشر أي 5،2% من قيمتها مع ربحها في نهاية كل عام، على ما لكها الذي حال عليه الحول بعد تملكها. أو تؤدى الزكاة جملة واحدة عن غلة الشركة وإيرادها بمقدار العشر من صافي الأرباح قياساً على نصاب الزروع والثمار، باعتبار أن أموال الشركة نامية بالصناعة ونحوها. ففي الحالة الأولى نعتبر صاحب الأسهم له وصف التاجر، وفي الحالة الثانية نعتبر الشركة لها وصف المنتج. سابعاً ـ تفصيل آراء العلماء في زكاة الأسهم في الشركات: سبب وجود التعامل بالأسهم والسندات: إن الإنسان حريص دائماً على تحقيق الأرباح وابتغاء فضل الله من خلال التجارة الفردية أو الخاصة، والجماعية أو العامة، وذلك عملاً بترغيب الشريعة واستجابة لحب النفس الفطري في تنمية المال واستثماره، كيلا تأكله الصدقة، وتستأصل الزكاة أصل رأس المال مع مرور السنوات والأعوام.
وقد لا يتمكن رأس المال الخاص في الغالب من تمويل المشروعات الصناعية والزراعية والتجارية الكبرى، التي تحتاج إلى رؤوس أموال ضخمة، كالشركات المساهمة التي تتطلب أموالاً كثيرة لوجودها، فظهر في العصر الحديث طريقة تجزئة رأس المال الكبير بواسطة ما يسمى بالأسهم التي تطرح في الحياة الاقتصادية، وتسدد قيمتها من المئات أو آلاف الناس. وقد تحتاج الشركة القائمة إلى الاقتراض من الأفراد، فتلجأ إلى ما يسمى بالسندات في مقابل دفع فائدة مقطوعة معينة. وكل من الأسهم والسندات تسمى في العرف الاقتصادي الحديث بالأوراق المالية، التي يتداولها الناس عامة فيما بينهم، إما بواسطة الاعلان في الجرائد أو الصحف اليومية، وإما في أسواق خاصة تسمى (بورصات الأوراق المالية). وقد تساءل الناس منذ ظهور الشركات المساهمة في الربع الثاني من القرن العشرين عن حكم التعامل بالأسهم والسندات حلاً وحرمة، وعن حكم الزكاة الواجبة فيها، ومن تجب عليه الزكاة؟ وأفتى علماء العصر بفتاوى متشابهة في مشروعية التعامل بالأسهم وحرمة التعامل بالسندات، لما تشتمل عليه من الربا بسبب دفع فائدة مقطوعة على مبالغ الديون المدونة فيها. واختلفوا في نسبة الواجب في الزكاة أهي ربع العشر أم العشر، كما اختلفوا فيمن تجب عليه زكاة الأسهم، أهو مالك السهم أم الشركة، ولكنهم اتفقوا على وجوب الزكاة في كل من الأسهم والسندات إذا بلغت قميتها النصاب الشرعي، وإن اختلطت السندات بالحرام وصاحبها الربا وخبث الكسب، لأن الحرمة المصاحبة لجزء من المال لا تمنع من فرض الزكاة، بل إنه على العكس لا سبيل إلى التخلص من المال الحرام إلا بالصدقة به.
الأسهم تتصف بالخصائص التالية
تعريف الأسهم والسندات: الأسهم: عبارة عن صكوك متساوية القيمة، غير قابلة للتجزئة، وقابلة للتداول بالطرق التجارية، وتمثّل حقوق المساهمين في الشركات التي أسهموا في رأس مالها. فالسهم يمثل جزءاً من رأس مال الشركة، وصاحبه مساهم، والأسهم تتصف بالخصائص التالية (¬1): أـ أنها متساوية القيمة الاسمية: فلا يجوز إصدار أسهم بقيمة مختلفة، والقيمة المتساوية هي القيمة الاسمية التي يصدر بها السهم، والتي يحددها القانون بنسبة تتراوح في بعض البلاد كالإمارات بين درهم ومئة درهم. والقيمة الاسمية للسهم تختلف عن كل من قيمته التجارية والحقيقية، فالقيمة الاسمية هي القيمة المبينة في الصك والتي تدون عليه، ويحسب على أساسها مجموع رأس مال الشركة. أما القيمة التجارية: فهي قيمة السهم في السوق أو البورصة، وهي قيمة متغيرة بحسب العرض والطلب وأحوال السوق وسمعة الشركة وسلامة مركزها المالي. وأما القيمة الحقيقية للسهم: فهي القيمة المالية التي يمثلها السهم فيما لو تمت تصفية الشركة وقسمة موجوداتها على عدد الأسهم. ب ـ أنها غير قابلة للتجزئة: أي لا يمكن أن تتمثل في صورة كسور حين يتعدد مالكو السهم في مواجهة الشركة. ¬
السندات
جـ ـ أنها قابلة للتداول بالطرق التجارية: أي يمكن انتقال ملكية الأسهم من شخص إلى آخر بالطرق التجارية المعروفة، ودونما حوالة مدنية من قبل الشركة. وإن كان السهم إذنياً (أي يصدر لإذن أو أمر المساهم) فإن تداوله يتم بطريق التظهير. وإن كان السهم لحامله (أي يصدر من دون ذكر صاحبه) فإن تداوله يتم بمجرد التسليم أي المناولة اليدوية. ومعظم القوانين تستلزم أن تصدر الأسهم اسمية، وبعضها يجيز إصدار الأسهم لحاملها بشروط. والخلاصة: إن الأسهم تمثل حصصاً في شركة أموال. أما السندات فهي جمع سند، والسند: صك مالي قابل للتداول يُمنح للمكتتب لقاء المبالغ التي أقرضها، ويخوّله استعادة مبلغ القرض، علاوة على الفوائد المستحقة، وذلك بحلول أجله. وبعبارة أخرى: السند: تعهد مكتوب بمبلغ من الدين (القرض) لحامله في تاريخ معين، نظير فائدة مقدرة. والسند يشبه السهم من حيث وجود قيمة اسمية لكل منهما، ومن حيث قابليتهما للتداول بالطرق التجارية، وعدم قابليتهما للتجزئة. والفارق الأساسي بين السهم والسند: أن السهم يمثل حصة في الشركة، بمعنى أن صاحبه شريك، في حين أن السند يمثّل ديناً على الشركة، أو يمثل جزءاً من قرض شركة أو دولة، بمعنى أن صاحبه مقرض أو دائن. وبناء عليه، يحصل صاحب السهم على أرباح حين تحقق الشركة أرباحاً فقط، أما صاحب السند فيتلقى فائدة ثابتة سنوياً، سواء ربحت الشركة أم لا.
التعامل بالأوراق المالية التجارية
وتكون الأسهم في الغالب اسمية، ضماناً لرقابة الدولة على حاملي الأسهم، أما السندات فتكون إما اسمية أو لحاملها. التعامل بالأوراق المالية التجارية: التعامل بالأسهم جائز شرعاً، لأن أصحاب الأسهم شركاء في الشركة بنسبة ما يملكون من أسهم، عشرة أو عشرين أو مئة مثلاً، أما التعامل بالسندات فحرام شرعاً، لاشتمالها على الفائدة الربوية المقطوعة بغض النظر عن الربح والخسارة، فهي قروض بفائدة، وقد جاء في المؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي بالكويت عام 1403 هـ / 1983 م أن ما يسمى بالفائدة في اصطلاح الاقتصاديين الغربيين ومن تابعهم هوعين الربا المحرم شرعاً، وجاء في الاجتماع الأول للفتوى والرقابة الشرعية للبنوك الإسلامية بالقاهرة عام 1403 هـ /1983 م أنه بإجماع الآراء لايصح للبنك الإسلامي استثمار جزء من أمواله في شراء أسهم الشركات التي يكون هدفها التعامل بالربا، لكون موارد تلك الشركات ونفقاتها تشتمل على فوائد مدفوعة وفوائد مقبوضة. زكاة السندات: أشير هنا إلى حكم زكاة السندات، لأنه ليس من موضوع بحثي، فأقول: بالرغم من تحريم السندات، فإنه تجب زكاتها، لأنها تمثل ديناً لصاحبها، وتؤدى زكاتها عن كل عام، عملاً برأي جمهور الفقهاء غير المالكية، لأن الدين المرجو (وهو ما كان على مقر موسر) تجب زكاته في كل عام. وشهادات الاستثمار أو سندات الاستثمار هي في الحقيقة سندات، وتجب فيها الزكاة، وإن كان عائدها خبيثاً وكسبها حراماً، وتزكى السندات كزكاة النقود أو عروض التجارة، أي بنسبة 5،2% من قيمتها.
زكاة أسهم الشركات
وذلك لأن تحريم التعامل بالسندات لا يمنع من وجود التملك التام، فتجب فيها الزكاة. أما المال الحرام كالمغصوب والمسروق ومال الرشوة والتزوير والاحتكار والغش والربا ونحوها، فلا زكاة فيه، لأنه غير مملوك لحائزه، ويجب رده لصاحبه الحقيقي، منعاً من أكل الأموال بالباطل، فإن بقي في حوزة حائزه وحال عليه الحول، ولم يرد لصاحبه، فتجب فيه زكاته، رعاية لمصالح الفقراء. زكاة أسهم الشركات: يتناول هذا الموضوع بحث أمور ثلاثة: هي وجوب الزكاة في الأسهم، والنسبة أو المقدار الواجب إخراجه، ومن تجب عليه الزكاة، أهو صاحب السهم أم الشركة؟. آراء العلماء المعاصرين في زكاة الأسهم: من الطبيعي أنه ليس للعلماء القدامى رأي في زكاة الأسهم، لأنه موضوع معاصر حديث، وإنما تكلم فيه العلماء المعاصرون، ولم أجد في كلام واحد منهم صواباً شاملاً فيما اجتهد فيه، وإنما وجدت جانباً من الصواب والحق في كل اجتهاد، فلكل عالم بحث هذا الموضوع إصابة في جهة وخطأ في جهة أخرى، وسأعرض هذه الآراء وأبين مدى الإصابة والخطأ فيها، ثم أذكر رأيي نهائياً في الموضوع. 1 - رأي الشيخ عبد الرحمن عيسى: يقسم الشيخ عبد الرحمن عيسى في كتابه «المعاملات الحديثة وأحكامها» الأسهم إلى نوعين بحسب موضوع استثمارها (¬1): ¬
أـ أسهم الشركات الصناعية. ب ـ أسهم الشركات التجارية. أما أسهم الشركات الصناعية المحضة التي لا تمارس عملاً تجارياً كشركات الصباغة، وشركات التبريد، وشركات الفنادق، وشركات الإعلانات، وشركات السيارات، والمركبات الكهربائية (الترام)، وشركات النقل البري والبحري، وشركات الطيران، فلا تجب الزكاة فيها، إلا فيما تنتجه هذه الأسهم من ربح، يضم إلى مال المساهم، ويزكيه معها زكاة المال، بعد حولان الحول عليه، وبلوغه النصاب الشرعي، لأن قيمة هذه الأسهم موضوعة في الآلات والإدارات والمباني ونحوها. وأما أسهم الشركات التجارية وهي التي تشتري البضائع وتبيعها كشركات التجارة الخارجية، وشركات الاستيراد والتصدير، وشركات بيع المصنوعات الوطنية، أو التي تقوم بتصنيع بعض المواد الخام أو تشتريها، مثل شركات البترول وشركات الغزل والنسيج، وشركات الحديد والصلب، والشركات الكيماوية، فتجب الزكاة فيها، لأنها تمارس عملاً تجارياً، سواء معه صناعة أو لا، وتقدر الأسهم بقيمتها الحالية، بعد حسم قيمة المباني والالآت والأدوات المملوكة لهذه الشركات، وتقدر هذه القيمة للأصول الثابتة إما بالربع أو أكثر أو أقل. وهذا يعني أن الشركات التجارية المحضة تجب زكاة أسهمها بحسب قيمتها التجارية في الأسواق، مع أرباحها المقررة لها في نهاية العام، كزكاة العروض التجارية بنسبة 5،2% إذا كان أصل رأس المال والربح نصاباً شرعياً، ولا زكاة على المحل التجاري من حيث البناء والتجهيزات التي فيه. أما الشركات الصناعية ـ التجارية كشركات السكّر والنفط والمطابع وصناعة
السفن والطائرات والسيارات، فتقدر الأسهم بقيمتها التجارية الحالية، مع حسم قيمة المباني والالآت وأداوت الإنتاج. وهذا الرأي يناسب المقرر في المذاهب الأربعة، وهو أن المصانع والعمارات الاستغلالية لا زكاة فيها، وإنما الزكاة على أرباحها السنوية إذا بلغت النصاب الشرعي وحال الحول عليها (أي مضى عام عليها في يد صاحبها) وهو الرأي الذي أخذ به مجمع الفقه الإسلامي في جدة في دورته الثانية لعام 1406 هـ /1985 م. وقرر فقهاء المذاهب أنه لا زكاة على سلاح الاستعمال وكتب العالم وآلات المحترفين، لأنها مشغولة بالحاجة الأصلية، وليست بنامية أصلاً، وسبب الزكاة ملك النصاب النامي ولو تقديراً بالقدرة على الاستنماء. وجاء في المعيار المعرب 402/ 1 لأبي العباس الونشريسي: وسئل عن الصناع يمر عليهم الحول، وبأيديهم من مصنوعاتهم ما إذا قوموها وأضافوها إلى مالهم من النقد، اجتمع فيه نصاب، هل يجب عليهم التقويم، ويزكون ما حضر بأيديهم أم لا؟. فأجاب بقوله: الحكم في ذلك أن الصناع يزكون ما حال الحول على أصله من النقد الذي بأيديهم إذا كان نصاباً، ولا يقومون صناعاتهم، ويستقبلون بأثمانها الحول، لأنها فوائد كسبهم استفادوها وقت بيعهم، إلا أن ما وضع فيه الصانع صناعته، من جلد أو خشب أو حديد أو نحو ذلك، يقومه المدير، مجرداً من الصناعة، إذا كان اشتراه للتجارة. وهي فتوى في غاية الدقة، والتيسير على الصناع، كصناع الأحذية والمفروشات والخزائن الحديدية ونحوها.
2 - رأي الأساتذة عبد الوهاب خلاف وعبد الرحمن حسن ومحمد أبو زهرة
وإني لمؤيد رأي الشيخ عبد الرحمن عيسى المذكور آنفاً، مع ملاحظة إيجاب الزكاة على الشركات الصناعية إذا كانت منتوجاتها تجارية، معدّة للبيع أو التصدير، بعد استقطاع قيمة الآلة والبناء، فالمطابع مثلاً تزكي كل ما تنتجه في آخر العام من أوراق وكتب مملوكة لها، كما أنها تزكي أرباحها المستفادة من أجور ما تطبعه لحساب المتعاملين معها، وتحسم قيمة آلة الطباعة وآلة التجليد ونحوهما من مجموع رأس المال. لكن الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي لم يرتض هذا الرأي وأوجب الزكاة في أسهم الشركات جميعها، صناعية وتجارية، وقال عن تفرقة الشيخ عبد الرحمن عيسى بين نوعي الأسهم: هي نتيجة يأباها عدل الشريعة التي لا تفرق بين متماثلين، ثم استصوب الرأي الثاني للأستاذ الشيخ محمد أبي زهرة ومن وافقه الذي لا يفرق بين نوعي الأسهم تبعاً لنوع شركاتها، ورأى أنه أوفق بالنظر إلى الأفراد، وأيسر في الحساب، ثم قال: بخلاف ما إذا قامت دولة مسلمة، وأرادت جمع الزكاة من الشركات، فقد أرى الاتجاه الأول (رأي الشيخ عيسى) أولى وأرجح، والله أعلم (¬1). 2 - رأي الأساتذة عبد الوهاب خلاف وعبد الرحمن حسن ومحمد أبو زهرة (¬2): يرى هؤلاء الأساتذة أن الأسهم والسندات ـ الأوراق المالية ـ إذا كانت قد اتخذت للتجارة، فإنها تكون عروضاً تجارية، يجب فيها ما يجب في عروض ¬
التجارة من زكاة أي 5،2%، وتكون الزكاة ربع العشر من الأصل والنماء، على حسب ما قرره جمهور الفقهاء. ورجح الدكتور القرضاوي هذا الاتجاه قائلاً: ولعل هذا الاتجاه والإفتاء أوفق بالنظر إلى الأفراد من الاتجاه الأول، فكل مساهم يعرف مقدار أسهمه، ويعرف كل عام أرباحها، فيستطيع أن يزكيها بسهولة، بخلاف الاتجاه الأول وما فيه من تفرقة بين أسهم في شركة، وأسهم في أخرى، فبعضها تؤخذ الزكاة من إيرادها، وبعضها تؤخذ زكاته من الأسهم نفسها بحسب قيمتها، مضافاً إليها الربح، وفي هذا شيء من التعقيد بالنظر إلى الفرد العادي. ولكني أرى أن الاتجاه الأول هو المقرر فقهاً، وهو الذي جرى عليه العمل منذ ظهور الشركات المساهمة وبدء انتشارها في الأربعينات، ولا تعقيد في الأمر، فالمسلم يعرف أن الالآت الصناعية لا زكاة فيها، فإذا وظف ماله بطريق الأسهم في شركات صناعية، يحسم ما يقابل تلك الالآت، وإذا وظف ماله في أسهم شركات تجارية، زكاها كزكاة الأموال التجارية. وللأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة رأي قديم فيه تفصيل، ورد في تقرير حلقة الدراسات الاجتماعية لجامعة الدول العربية المنعقدة بدمشق سنة 1952، وهو الرأي الذي أعلنه أيضاً في المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية سنة 1965، ومفاده: أن الأسهم والسندات إذا اتخذت للتجارة، أو بغرض المضاربة، وإعادة بيعها في أسواق الأوراق المالية، والكسب من تجارتها، تعتبر من عروض التجارة، ويؤخذ منها الزكاة بتقدير قيمتها في أول العام، وقيمتها في آخره، بنسبة 5،2% ربع العشر من الأصل والنماء متى بلغت نصاباً. أما إذا كانت بغرض الاستثمار وتوظيف الأموال، لا المضاربة والكسب من
3 - فتوى هيئة الرقابة الشرعية لبنك فيصل الإسلامي السوداني
البيع والشراء، وإنما تقتنى للكسب من عائدها، وما تدرّه عليه من ربح سنوي، فإن الزكاة الواجبة على الشركة، تكفي عن الزكاة على حملة الأسهم (¬1). وهذا الرأي ينظر إلى الأسهم من جهة الشخص الذي يمتلكها، وعلى وفق نيته فيها، هل يقصد الاتجار أم الاستثمار؟ وهو رأ ي ينسجم مع الوقت الذي لم تكن الشركات فيه تزكي أموالها أو تسأل عن كيفية الزكاة. ولا أرى حاجة لهذا التفصيل، لأن الهدف من شراء الأسهم واحد وهو الاتجار والاسترباح، وأن هذه الأسهم تزكى مثل زكاة عروض التجارة. 3 - فتوى هيئة الرقابة الشرعية لبنك فيصل الإسلامي السوداني: جاء في الفتوى رقم (17) حول أسس زكاة أسهم بنك فيصل الإسلامي السوداني لهيئة الرقابة الشرعية من غير أن تستفتى، ما يلي: رأت الهيئة بأغلبية الأعضاء (¬2) أن يخرج البنك زكاة أسهمه على الأسس التالية: 1 - يخرج البنك زكاة الأسهم عند حولان الحول بمقدار ربع العشر 5،2% من النقود الموجودة من المدفوع من قيمة الأسهم، زائداً قيمة عروض التجارة الخاصة بالأسهم، ولا زكاة في عروض القنية (الأصول الثابتة) زائداً ربح الأسهم. 2 - العقارات التي يشتريها البنك بمال الأسهم إن كان اشتراها للتجارة فيها بالبيع والشراء، زكاها زكاة عروض التجارة، أي يضيف قيمتها إلى النقود ¬
الموجودة من الأسهم، وإن كان اشتراها ليؤجرها، فإنه يزكيها زكاة الأصول الثابتة بإخراج العشر 10% من أجرتها عندما يتسلمها. 3 - إذا كان البنك أعطى بعض مال الأسهم لمن يعمل فيه مضاربة ـ التمويل، زكى رأس المال الذي مول به المضارب ونصيبه من الربح. 4 - إذا كان على البنك ديون تجارة حالّة من مال الأسهم، وله ديون على غيره تزيد على الديون التي عليه، فإنه يطرح الديون التي عليه من الديون الموجودة التي له، ويزكي الباقي، وإذا كانت الديون التي على البنك تزيد عن الديون التي له، طرح الزائد من النقود التي عنده وزكى الباقي، وإذا كانت ديون التجارة التي للبنك مؤجلة ومرجوة، فإنها تقوّم بعرض، ثم يقوّم العرض بنقد حال، وتزكى هذه القيمة. 5 - إذا كان للبنك ديون (قرض) زكاها زكاة النقود الموجودة مادام سدادها مرجواً. 6 - يستفسرمن أصحاب الأسهم الصغيرة التي لا تبلغ النصاب، هل يجب عليهم فيها زكاة إذا ضمت إلى غيرها؟ فإن قالوا: لا تجب فيها الزكاة، لأنهم لايملكون ما يكملها نصاباً، استبعدت قيمتها من جملة الأسهم. هذه الأسس تتفق في جملتها مع الرأي القائل: إن الأسهم تزكى زكاة عروض التجارة، ولكنها تختلف عنها في بعض التفصيلات، حيث إنه في هذه الأسس اعتبرت قيمة الأسهم الحقيقية أي الاسمية، لا القيمة السوقية كما يرى القائلون باعتبارها عروض تجارة، لأن القيمة السوقية تقديرية، والقيمة الحقيقية تمثل الواقع فعلاً، ولا يصح اللجوء إلى التقدير ما دامت معرفة الحقيقة ممكنة، كما
مع تأييدي لهذه الفتوى في الجملة، فإني أعارضها في الأمور التالية
أخرجت العقارات المتخذة للاستغلال، وجعلت الزكاة من أجرتها، لا من قيمتها، لأنها ليست عروض تجارة في الواقع. ومن الواضح أن المدفوع من القسط الأول من الأسهم قد حال عليه الحول، ووجبت زكاته، وعلى البنك أن يستخرجها على الأسس المتقدمة. وإذا كان تطبيق هذه الأسس متعذراً في الوقت الحاضر، فإنه يجوز أن يخرج البنك بالنسبة للقسط الأول 5،2% من المبالغ المدفوعة عنه، بعد طرح قيمة الأثاثات الثابتة، والأسهم التي لا تبلغ النصاب حتى ترد إفادة أصحابها .. على أن يفكر في الطريقة التي تمكن من تطبيق هذه الأسس كاملة مستقبلاً. وهذا الحل المؤقت لا يختلف عن الرأي القائل باعتبار الأسهم عروض تجارة تؤخذ الزكاة من قيمتها في السوق، مضافاً إليها الربح بعد طرح قيمة الأثاثات الثابتة إلا في ناحيتين: الأولى ـ اعتبار القيمة الاسمية للسهم. الثانية: عدم إضافة الربح، لأنه غير معروف، وعدم طرح المنصرفات وإن كانت معروفة، لأن المفروض أن تغطى المنصرفات من الربح، لا من رأس المال، ومادام الربح لم يؤخذ في الاعتبار، فمن العدل ألا تؤخذ المنصرفات أيضاً في الاعتبار، والله أعلم. ومع تأييدي لهذه الفتوى في الجملة، فإني أعارضها في الأمور التالية: أولاً ـ العقارات المستغلة تزكى من أرباحها بنسبة 5،2%، وليس العشر من أجرتها حينما يتسلمها، وذلك بعد حولان الحول عليها وهي قائمة في يد أصحابها أو لدى البنك.
المقدار الواجب إخراجه في زكاة الأسهم
ثانياً ـ تزكى الأسهم في الشركات زكاة الخليطين، ولو كانت أسهم المساهم لا تبلغ نصاباً شرعياً وحدها بالنسبة إليه، كما سيأتي. ثالثاً ـ تقدر الأسهم بالقيمة التجارية الموجودة في الأسواق (بورصات الأوراق المالية) فإنها أصبحت معروفة، وقد تتجاوز القيمة الاسمية عشرات أو مئات المرات، كما حدث فعلاً في بعض الأسواق. فإذا لم تعرف حالياً تجب زكاتها بمجرد معرفتها. رابعاً ـ تضاف الأرباح عند معرفتها إلى أصل قيمة الأسهم، إذ ما من شركة إلا وتضع ميزانية شاملة في آخر كل عام، تبين فيها الأصول والخصوم بالتعبير التجاري، أو رأس المال والأرباح والديون. المقدار الواجب إخراجه في زكاة الأسهم: تزكى الأسهم ـ كما عرفنا ـ زكاة عروض التجارة، فيكون مقدار الواجب فيها هو ربع العشر 5،2% من الأصل والنماء أو الربح. وإذا كنا قد استبعدنا التفصيل المذكور في الرأي القديم للأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة، واعتمدنا رأي الشيخ عبد الرحمن عيسى، مع ضرورة التمييز بين ما هو تجاري وما هو صناعي، فإن ما قرره المرحوم أبو زهرة من زكاة الأسهم التجارية بنسبة 5،2%، وزكاة الأسهم المتخذة للاستثمار كزكاة الأصول الثابتة 10%، غير مناسب، ومخالف لما قرره فقهاؤنا في رأيهم المشهور من أن نسبة الزكاة في عروض التجارة هي 5،2%. فيكون جعله نسبة زكاة أسهم الاستثمار 10% غير متفق مع المذاهب الفقهية، ولاداعي للتفرقة بين أسهم التجارة وأسهم الاستثمار، وبخاصة فإنه في رأيه الأخير لم يذكر هذا التفصيل، واكتفى بالقول بوجوب الزكاة على الأسهم مثل زكاة عروض التجارة.
من تجب عليه زكاة الأسهم
والخلاصة: تجب زكاة الأسهم والسندات بنسبة ربع العشر 5،2% من قيمتها التجارية مع ربحها في نهاية كل عام، ولا تزكى الأصول الثابتة من صافي الأرباح 10%. من تجب عليه زكاة الأسهم: يرى الأساتذة أبو زهرة ومن معه أن ما يؤخذ من الأسهم والسندات لمن يتجر فيها غير ما يؤخذ من الشركات نفسها، لأن الشركات التي تؤخذ منها الزكاة تكون باعتبار أن أموال الشركة نامية بالصناعة ونحوها، أما الأسهم للمتّجر فيها فهي أموال نامية باعتبارها عروض تجارة. وقد انتقد الدكتور القرضاوي بحق هذا الازدواج، لإيجاب الزكاة على الأسهم ذاتها مرتين، باعتبار صاحب الأسهم مرة بوصفه تاجراً، فأخذنا من أسهمه وربحها جميعاً ربع العشر، ثم مرة أخرى بوصفه منتجاً، فأخذنا من ربح أسهمه أو من إيراد الشركة العشر، والراجح أن نكتفي بإحدى الزكاتين: إما الزكاة عن قيمة الأسهم مع ربحها بمقدار ربع العشر، وإما الزكاة عن غلة الشركة وإيرادها بمقدار العشر من الصافي، منعاً للثنيا أو الازدواج. وأرى أن زكاة الأسهم هي فقط ربع العشر 5،2% من الأصل مع الربح السنوي، وتقوَّم الأسهم كما تقوم عروض التجارة في آخر كل عام بحسب سعرها في السوق وقت إخراج الزكاة، لا بحسب سعر شرائها، وتضم الأسهم التجارية إلى بعضها عند التقويم، ولو اختلفت أجناسها في التجارة، والصناعة بعد حسم قيمة الآلات الصناعية. وتزكي الشركات جميع الأسهم، لأن للشركة ربحاً من الأسهم، فهي شريك
للمساهم، ولأن الشركة المساهمة لها شخصية اعتبارية مستقلة (¬1)، وبما أن الزكاة تكليف متعلق بالمال نفسه، فإنها تجب على الشخص الاعتباري، حيث لا يشترط فيها التكليف الذي أساسه البلوغ مع العقل، وقياساً على زكاة الماشية في مذهب الشافعية الجديد القائلين بتأثير الخلطة في المواشي وغيرها، وهومذهب المالكية والحنابلة أيضاً في المواشي (¬2)، عملاً بعموم الحديث النبوي الثابت في الزكاة: «لا يجمع بين متفرّق ولا يفرّق بين مجتمع خشية الصدقة» ولأن السهم يعبر عن قيمة مالية أو مبلغ من مال، فهو مال تجب فيه الزكاة، فأثرت الخلطة في زكاتها كالماشية، ولأن المالين كالمال الواحد في المؤن (التكليف) من مخزن وناطور وغيرهما، فهي أي غير المواشي من النقود والحبوب والثمار وعروض التجارة، كالمواشي، فتخف المؤونة إذا كان المخزن والميزان والبائع واحداً. وحينئد لا يعفى من زكاة الأسهم في الشركات المساهمة أحد من المساهمين، ولو كانت حصته سهماً واحداً، وتؤدى الزكاة من صافي مال الشركة المساهمة النامي ونمائه، بنسبة 5،2% ربع العشر، فلا تحتسب قيمة الأموال والأصول الثابتة ـ عروض القنية ـ كالأراضي والمباني والالآت وغيرها، لأن السهم يمثل حصة في صافي الشركة المساهمة من أموال وأصول ثابتة وأموال وأصول متداولة (نقود وعروض تجارة). أما القول بزكاة الأسهم كزكاة الأصول الثابتة بنسبة 10% من الأرباح، فهو رأي ضعيف لا تقره آراء فقهائنا القدامى. ثم إن في إلزام الشركة المساهمة بإخراج زكاة الأسهم جميعها نفعاً محققاً للفقراء. ¬
ويؤيد هذا الرأي أن أستاذنا الشيخ محمد أبو زهرة رأى في المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية سنة 1965م كما تقدم أنه إذا كانت الأسهم تتخذ للاستثمار، وهي ممثلة في رأس مال شركة مساهمة، فإن دفع الشركة للزكاة يغني عن دفع حامل السهم. إلا أن مجمع البحوث الإسلامية أوصى بأنه في الشركات المساهمة التي يساهم فيها عدد من الأفراد لا ينظر في تطبيق هذه الأحكام إلى مجموع أرباح الشركات، وإنما ينظر إلى ما يخص كل شريك على حدة. لكني أخالف هذا الاتجاه للأسباب السابقة، أما في حال تفرقة الزكاة وتوزيعها فلا مانع من إعطاء صاحب الأسهم زكاته ليتولى تفرقتها بالنيابة عن الشركة، وأصالة عن نفسه. وقد قررت الجمعية العمومية لحاملي أسهم دار المال الإسلامي في المملكة العربية السعودية إعطاء الحق لمن يريد من المساهمين بسحب الزكاة المستحقة على حصته من الأسهم لتوزيعها بمعرفته الشخصية، وكان القرار ينص على استمرار الدار في مباشرة خصم (حسم) مبالغها (الزكاة) والمستحقة شرعاً. وعلى كل مساهم يرغب في القيام بصرف ما يخصه من مبالغ طلب ذلك قبل ثلاثة أشهر من نهاية السنة المالية، وذلك حتى تقوم الدار بتسليمها له على وفق الإجراءات التي تقرها هيئة الرقابة الشرعية للدار. والخلاصة: أرى أن تكون زكاة الأسهم في الشركات بحسب قيمتها التجارية المعلن عنها في الأسواق لا بقيمتها الاسمية فقط، وأن تزكى زكاة عروض التجارة بنسبة 5،2% إذا كانت الشركة تجارية، فإن كانت الشركة صناعية محضة لا تتاجر ولا تنتج سلعاً تجارية، فلا تزكى الأسهم، أما إن نتجت سلعاً تجارية كشركة نتاج
المطلب الثاني ـ زكاة المعادن والركاز
الثلاّجات فتزكى الأسهم بعد استقطاع ما يقابل قيمة الآلات الصناعية والمباني. وتقوم الشركة نفسها بتقدير زكاة الأسهم جميعها وتزكيها هي، لا أصحاب الأسهم، ويمكنها أثناء توزيع الزكاة إعطاء صاحب الأسهم زكاتها ليقوم هو بإعطائها للفقراء، والله أعلم. المطلب الثاني ـ زكاة المعادن والركاز: اختلف الفقهاء في معنى المعدن، والركاز أو الكنز، وفي أنواع المعادن التي تجب فيها الزكاة، وفي مقادير الزكاة في كل من المعدن والركاز. فالمعدن هو الركاز عند الحنفية، وهما مختلفان عند الجمهور، والمعدن الواجب فيه الزكاة: هو الذهب والفضة عند المالكية والشافعية، وهو كل ما ينطبع بالنار عند الحنفية، ويشمل كل أنواع المعادن الجامدة والسائلة عند الحنابلة. وفي المعادن: الخمس لدى الحنفية، وربع العشر عند الشافعية والمالكية والحنابلة، وفي الركاز الخمس بالاتفاق، ويظهر ذلك من التفصيل الآتي، علماً بأن الواجب في المعادن زكاة عند الجمهور، غنيمة عند الحنفية، وأن الواجب في الركاز عند الجمهورغنيمة للمصالح العامة، ويصرف مصارف الزكاة عند الشافعية، ويشترط في المعدن بلوغ النصاب بالاتفاق، ولا يشترط في الركاز بلوغ النصاب عند الجمهور ويشترط ذلك عند الشافعية. والمعدن والركاز وإن كانا من الذهب والفضة إلا أنهما اعتبرا نوعاً مستقلاً، لتعلق أحكام خاصة بهما، كاشتراط الحول والنسبة المئوية التي تدفع للمستحقين. 1 - مذهب الحنفية (¬1): المعدن، والركاز أو الكنز بمعنى واحد: وهو كل مال مدفون تحت الأرض، ¬
المعادن ثلاثة أنواع
إلا أن المعدن هو ما خلقه الله تعالى في الأرض يوم خلق الأرض، والركاز أوالكنز: هوالمال المدفون بفعل الناس الكفار. والمعادن ثلاثة أنواع: أـ جامد يذوب وينطبع بالنار كالنقدين (الذهب والفضة) والحديد والنحاس والرصاص، ويلحق به الزئبق، وهذا هو الذي يجب فيه الزكاة وهي الخمس، وإن لم يبلغ نصاباً. ب ـ جامد لا يذوب ولا ينطبع بالنار كالجص والنورة (حجر الكلس) والكحل، والزرنيخ وسائر الأحجار كالياقوت والملح. جـ ـ مائع ليس بجامد: كالقار (الزفت) والنفط (البترول). ولا يجب الخمس إلا في النوع الأول، سواء وجد في أرض خراجية أو عشرية (¬1)، ويصرف الخمس مصارف خمس الغنيمة، ودليلهم الكتاب والسنة الصحيحة والقياس. أما الكتاب: فقوله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه} [الأنفال:41/ 8] ويعد المعدن غنيمة؛ لأنه كان في محله من الأرض في أيدي الكفرة، وقد استولى عليه المسلمون عنوة. وأما السنة: فقوله صلّى الله عليه وسلم: «العجماء جُبَار ـ أي هدر لا شيء فيه ـ والبئر جبار، ¬
المعدن
والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس» (¬1) والركاز يشمل المعدن والكنز؛ لأنه من الركز أي المركوز، سواء من الخالق أو المخلوق. وأما القياس: فهو قياس المعدن على الكنز الجاهلي، بجامع ثبوت معنى الغنيمة في كل منهما، فيجب الخمس فيهما. والزائد عن الخمس: إن وجد في أرض مملوكة فهو لمالكه. وإن وجد في أرض غير مملوكة لأحد كالصحراء والجبل فهو للواجد. ووجوب الخمس في الركاز: هو إن كان عليه علامة الجاهلية كوثن أو صليب ونحوهما، فإن كان عليه علامة الإسلام مثل كلمة الشهادة؛ أو اسم حاكم مسلم، فهو لقطة لا يجب فيه الخمس. وكذلك لا يجب الخمس عند أبي حنيفة إن وجد المعدن أو الركاز في دار مملوكة؛ لأنه جزء من أجزاء الأرض مركب فيها، ولا مؤنة (ضريبة) في سائر الأجزاء، فكذا في هذا الجزء. وقال الصاحبان: فيه الخمس، لإطلاق الحديث السابق: «وفي الركاز الخمس» من غير تفرقة بين الأرض والدار. وفرق أبو حنيفة بينهما بأن الدار ملكت خالية عن المؤن (التكاليف) دون الأرض، بدليل وجوب العشر والخراج في الأرض دون الدار، فتكون هذه المؤنة (الخمس) واجبة مثلهما في الأرض دون الدار. ولا زكاة في النوعين الآخرين من المعادن (ما لا ينطبع بالنار، والمائع) إلا الزئبق من المائع، فإنه يجب فيه الخمس؛ لأنه كالرصاص. ¬
الكنز أو الركاز
ولا زكاة في الفيروزج الذي يوجد في الجبال، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا خمس في الحجر» (¬1). ولا زكاة في اللؤلؤ (مطر الربيع) والعنبر (حشيش يطلع في البحر، أو خثي دابة) ولا في جميع ما يستخرج من البحر من الحلي ولو ذهباً كنزاً؛ لأنه لم يرد عليه القهر، فلم يكن غنيمة، إلا إذا أعد للتجارة. وأما الكنز أو الركاز: فيجب فيه الخمس إذا وجد في أرض لا مالك لها، للحديث السابق: «وفي الركاز الخمس» ويلحق به كل ما يوجد تحت الأرض من الأمتعة من سلاح وآلات وثياب ونحو ذلك؛ لأنه غنيمة بمنزلة الذهب والفضة. ومن دخل دار الحرب بأمان، فوجد في دار بعضهم ركازاً، رده عليهم تحرزاً عن الغدر؛ لأن ما في الدار في يد صاحبها خاصة، وإن لم يرده وأخرجه من دار الحرب ملكه ملكاً خبيثاً، فيتصدق به. وإن وجده في صحراء في دار الحرب، فهو للواجد؛ لأنه ليس في يد أحد على الخصوص، فلا يعد غدراً، ولا شيء فيه؛ لأنه بمنزلة المتلصص في دار الحرب غير المجاهر إذا أخذ شيئاً من أموال الحربيين، وأحرزه بدار الإسلام. 2 - مذهب المالكية (¬2): المعدن غير الركاز، والمعدن: هو ما خلقه الله في الأرض من ذهب أو فضة أو غيرهما كالنحاس والرصاص والكبريت، ويحتاج إخراجه إلى عمل وتصفية. ملكية المعادن: المعادن أنواع ثلاثة: ¬
الواجب في المعدن
الأول ـ أن تكون في أرض غير متملكة: فهي للإمام (الدولة) يقطعها لمن شاء من المسلمين، أو يجعلها في بيت المال لمنافعهم، لا لنفسه. الثاني ـ أن تكون في أرض مملوكة لشخص معين: هي للإمام أيضاً، ولايختص بها رب الأرض. وقيل: لصاحبها. الثالث ـ أن تكون في أرض ممتلكة لغير شخص معين كأرض العنوة والصلح: أرض العنوة للإمام، ومعادن أرض الصلح لأهلها، ولا نتعرض لهم فيها ماداموا كفاراً، فإن أسلموا رجع الأمر للإمام. والخلاصة: أن حكم المعدن مطلقاً للإمام (أي السلطان أو نائبه) إلا أرض الصلح ما دام أهلها كفاراً. الواجب في المعدن: تجب الزكاة في المعدن، وهي ربع العشر إن كان نصاباً، وبشرط الحرية والإسلام كما يشترط في الزكاة، لكن لا حول في زكاة المعدن، بل يزكى لوقته كالزرع، والمعدن الذي تجب فيه الزكاة هو الذهب والفضة فقط، لا غيرهما من المعادن من نحاس ورصاص وزئبق وغيرها إلا إذا جعلت عروض تجارة. وسبب الاختلاف بينهم وبين الحنفية في مقدار الواجب: هو هل اسم الركاز يتناول المعدن أو لا يتناوله؟ الحنفية قالوا: يتناوله، فيعمل بالحديث السابق: «وفي الركاز الخمس» والمالكية قالوا: لا يتناوله فتجب فيه زكاة النقدين ربع العشر، وتصرف مصارف الزكاة. ويضم في الزكاة المعدن المستخرج ثانياً لما استخرج أولاً، متى كان العِرْق واحداً، أي متصلاً بما خرج أولاً، فإن بلغ الجميع نصاباً فأكثر، زكاه، وإن تراخى العمل. ولا يضم عِرْق لآخر، كما لا يضم معدن لآخر، وتخرج الزكاة من كل واحد على انفراده. ويستثنى من ذلك ما يسمى بالنَّدْرَة: وهي القطعة الخالصة من الذهب أو الفضة التي يسهل تصفيتها من التراب، فلا تحتاج إلى عناء في التخليص، ويخرج
الركاز أوالكنز
منها الخمس، ولو دون نصاب، وتصرف مصارف الغنيمة وهو مصالح المسلمين، كما قال الحنفية في المعدن الذي ينطبع بالنار. وأما الركاز أوالكنز: فهو دفين الجاهلية من ذهب أو فضة أو غيرهما، فإن شك في المال المدفون، أهو جاهلي أم غيره، اعتبر جاهلياً. ملكيته: يختلف حكم ملكية الركاز باختلاف الأرض التي وجد فيها، وهو أربعة أنواع: الأول ـ أن يوجد في الفيافي، ويكون من دفن الجاهلية: فهو لواجده. الثاني ـ أن يوجد في أرض مملوكة: فهو لمالك الأرض الأصلي بإحياء أو بإرث منه، لا لواجده، ولا لمالكها بشراء أو هبة، بل للبائع الأصلي أوالواهب إن علم، وإلا فلقطة. الثالث ـ أن يوجد في أرض فتحت عنوة: فهو لواجده. الرابع ـ أن يوجد في أرض فتحت صلحاً: فهو لواجده. هذا كله مالم يكن بطابع المسلمين، فإن كان بطابع المسلمين، فحكمه حكم اللقطة: يُعرَّف عاماً ثم يكون لواجده. زكاته: يجب الخمس في الركاز مطلقاً، سواء أكان ذهباً أم فضة أم غيرهما، وسواء وجده مسلم أو غيره. ويصرف الخمس كالغنائم في المصالح العامة، إلا إذا احتاج إخراجه إلى عمل كبير أو نفقة عظيمة، فيكون الواجب فيه ربع العشر، ويصرف في مصارف الزكاة. ولا يشترط في الواجب في الركاز في الحالين بلوغ النصاب، والباقي من الركاز بعد إخراج الواجب يكون للواجد، إلا إذا كان في أرض مملوكة، فيكون لمالك الأرض الأصلي، كما بينت. ولا زكاة فيما لفظه (طرحه) البحر مما لم يكن مملوكاً لأحد، كعنبر ولؤلؤ
الركاز
ومرجان وسمك (¬1)، ويكون لواجده الذي وضع يده عليه أولاً، بلا تخميس؛ لأن أصله الإباحة. فإن سبق ملكه لأحد من أهل الجاهلية، فهو لواجده بعد تخميسه؛ لأنه من الركاز. وإن علم أنه لمسلم أو ذمي فهو لقطة، يعرَّف عاماً. 3 - مذهب الشافعية (¬2): المعدن غير الركاز، فالمعدن: ما يستخرج من مكان خلقه الله تعالى فيه، وهو خاص بالذهب والفضة، كما قال المالكية. ويجب فيه ربع العشر إن كان ذهباً أو فضة، لا غيرهما كياقوت وزبرجد ونحاس وحديد، سواء وجد في أرض مباحة أو مملوكة لحر مسلم، لعموم أدلة الزكاة السابقة، كخبر: «وفي الرِّقَة ربع العشر»، بشرط كونه نصاباً، كما قال باقي الأئمة، ولا يشترط حولان الحول على المذهب؛ لأن الحول إنما يعتبر لأجل تكامل النماء، والمستخرج من المعدن نماء في نفسه، فأشبه الثمار والزروع. ويضم بعض المستخرج إلى بعض إن اتحد المعدن المخرج، وتتابع العمل، كما يضم المتلاحق من الثمار، ولا يشترط بقاء الأول على ملك المستخرج، ويشترط اتحاد المكان المستخرج منه، فلو تعدد لم يضم؛ لأن الغالب في اختلاف المكان استئناف العمل. وإذا قطع العمل بعذر كإصلاح الآلة وهرب الأجراء والمرض والسفر، ثم عاد إليه، ضُمَّ، وإن طال الزمن عرفاً لعدم إعراضه. وإذا قطع العمل بلا عذر فلا يضم، لإعراضه عن العمل. ويضم الخارج الثاني إلى الأول، كما يضم إلى ما ملكه بغير المعدن في إكمال النصاب، وتخرج زكاته عقب تخليصه وتنقيته، فلو أخرج قبل تصفيته لا تجزئ. وأما الركاز فهو دفين الجاهلية (¬3)، ويجب فيه الخمس، كما قرر الحنفية، ¬
المعدن
حالاً بشروط الزكاة من حرية وإسلام وبلوغ نصاب، وكونه من النقدين (الذهب والفضة المضروب منهما والسبيكة)؛ لأنه مال مستفاد من الأرض، فاختص بما تجب فيه الزكاة قدراً ونوعاً ك المعدن، ولا يشترط حولان الحول، ويصرف مصرف الزكاة على المشهور. ودليل قدر الواجب فيه حديث أبي هريرة المتقدم: «وفي الركاز الخمس». فإن لم يكن دفين الجاهلية: بأن كان إسلامياً بوجود علامة عليه تدل على إسلاميته، أو لم يعلم أهو جاهلي أو إسلامي: فهو لمالكه أو وارثه إن علم؛ لأن مال المسلم لا يملك بالاستيلاء عليه. وإن لم يعلم مالكه، فلقطة، يعرّفه الواجد، كما يعرّف اللقطة الموجودة على وجه الأرض. وإذا وجد الركاز في أرض مملوكة لشخص أو لموقوف عليه، فللشخص إن ادعاه، يأخذه بلا يمين، كأمتعة الدار، وإن لم يدعه بأن نفاه أو سكت، فلمن سبقه من المالكين، حتى ينتهي الأمر إلى محيي الأرض. وإذا وجد الركاز في مسجد أو شارع، فلقطة على المذهب، يفعل فيه ما يفعل باللقطة مما سبق؛ لأن يد المسلمين عليه، وقد جهل مالكه، فيكون لقطة. ولو تنازع في ملك الركاز بائع ومشتر، أو مُكْر ومكتر، أو معير ومستعير، صُدِّق ذو اليد (أي المشتري والمكتري والمستعير) بيمينه؛ كما لو تنازعا في أمتعة الدار. 4 - مذهب الحنابلة (¬1): المعدن غير الركاز، والمعدن: هو مااستنبط من الأرض مما خلقه الله تعالى وكان من غير جنسها، فليس هو شيء دفن، سواء أكان جامداً أم مائعاً. ملكيته: المعادن الجامدة كالذهب والفضة والنحاس تملك بملك الأرض التي هي فيها؛ لأنها جزء من أجزاء الأرض، فهي كالتراب والأحجار الثابتة، بخلاف ¬
صفة المعدن الذي تجب فيه الزكاة
الركاز، فإنه ليس من أجزاء الأرض. فعلى هذا ما يجده الواجد في ملك أو في موات، فهو أحق به، وإن سبق اثنان إلى معدن في موات فالسابق أولى به مادام يعمل، فإذا تركه جاز لغيره العمل فيه، وما يجده في مملوك يعرف مالكه، فهو لمالك المكان. أما المعادن السائلة كالنفط والزرنيخ ونحو ذلك، فهي مباحة على كل حال، إلا أنه يكره له دخول ملك غيره إلا بإذنه. صفة المعدن الذي تجب فيه الزكاة: هو كل ما خرج من الأرض مما يخلق فيها، فإذا أخرج من المعادن من الذهب عشرون مثقالاً، أو من الفضة مئتا درهم (نصاب الزكاة)، أو قيمة ذلك من الحديد والرصاص والنحاس والزئبق والياقوت والزبرجد والبلور والعقيق والكحل والزرنيخ، وكذلك المعادن السائلة كالقار (الزفت) والنفط والكبريت ونحو ذلك، مما يستخرج من الأرض، ففيه الزكاة فوراً أي من وقت الإخراج. ودليلهم عموم قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم، ومما أخرجنا لكم من الأرض} [البقرة:267/ 2] وأنه معدن، فتعلقت الزكاة بالخارج منه كالأثمان (الذهب والفضة). وأما الطين فليس بمعدن؛ لأنه تراب، والمعدن: ما كان في الأرض من غير جنسها. قدر الواجب وصفته: قدر الواجب في المعدن هو ربع العشر، وصفته أنه زكاة، كما قال الشافعية، لما روى أبو عبيد: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث المزني معادن القَبَلية (¬1) في ناحية الفُرْع، قال: فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلا الزكاة إلى اليوم» ولأنه حق يحرم على أغنياء ذوي القربى، فكان زكاة كالواجب في الأثمان التي كانت مملوكة له. ¬
نصاب المعادن
نصاب المعادن: هو ما يبلغ من الذهب عشرين مثقالاً، ومن الفضة مئتي درهم، أو قيمة ذلك من غيرهما، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ليس فيما دون خمس أواق صدقة» وقوله: «ليس في تسعين ومئة شيء» وقوله: «ليس عليكم في الذهب شيء حتى يبلغ عشرين مثقالاً». ولا يشترط له الحول لحصوله دفعة واحدة، فأشبه الزروع والثمار. ويعتبر إخراج النصاب دفعة واحدة، أو دفعات لا يترك العمل بينهن ترك إهمال. وترك العمل ليلاً أو للاستراحة أو لعذر من مرض أو لإصلاح الأداة ونحوه لا يقطع حكم العمل. ويضم ما خرج في العملين بعضه إلى بعض في إكمال النصاب. ولا يضم أحد الأجناس إلى جنس آخر، ويعتبر لكل معدن نصاب مستقل بانفراده؛ لأن المعادن أجناس، فلا يكمل نصاب أحدهما بالآخر كغير المعدن، إلا في الذهب والفضة، فيضم كل منهما إلى الآخر في تكميل النصاب، كما يضم إلى كل منهما معدن آخر، وكما تضم عروض التجارة إلى الأثمان (الذهب والفضة). وقت الوجوب: تجب الزكاة في المعدن حين الإخراج وبلوغ النصاب، ولا يعتبر له حول باتفاق المذاهب الأربعة؛ لأنه مال مستفاد من الأرض، فلا يعتبر في وجوب حقه حول، كالزرع والثمار والركاز. شروط إخراج الزكاة في المعادن: يشترط شرطان: الأول ـ أن يبلغ بعد سبكه وتصفيته نصاباً إن كان ذهباً أو فضة أو تبلغ قيمته نصاباً إن كان غيرهما، كما أوضحت. الثاني ـ أن يكون مخرجه ممن تجب عليه الزكاة، فلا تجب على الذمي أو الكافر أو المدين أو نحو ذلك.
معادن البحر
معادن البحر: لا زكاة في المستخرج من البحر كاللؤلؤ والمرجان والعنبر والسمك ونحوه، كما قرر باقي المذاهب، لقول ابن عباس: «ليس في العنبر شيء، إنما هو شيء ألقاه البحر» وعن جابر نحوه (¬1)، ولأنه قد كان يخرج على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وخلفائه، فلم يأت فيه سنة، ولا عن أحد من خلفائه، ولأن الأصل عدم الوجوب فيه، ولا يصح قياسه على معدن البر؛ لأن العنبر إنما يلقيه البحر، فيوجد ملقى في البر على الأرض من غير تعب، فأشبه المباحات المأخوذة من البر، وأما السمك فهو صيد، فلم يجب فيه زكاة كصيد البر. وأما الركاز: فهو دفين الجاهلية، أي مال الكفار المأخوذ في عهد الإسلام، قل أو كثر، ويلحق به ما وجد على وجه الأرض وكان عليه علامة الكفار. وفيه الخمس، كما قرر الحنفية والشافعية والمالكية، للحديث السابق المتفق عليه: «العجماء جُبَار، وفي الركاز الخمس». فإن وجد عليه أو على بعضه علامة الإسلام كآية قرآن أو اسم النبي صلّى الله عليه وسلم أو أحد من خلفاء المسلمين أو وال لهم، فهو لقطة، تجري عليه أحكامها؛ لأنه ملك مسلم لم يعلم زواله عنه. وخمس الركاز يوضع في بيت المال ويصرف في المصالح العامة، وباقيه لواجده إن وجده في أرض مباحة، ولمالك الأرض إن وجد في أرض مملوكة، وهو للواجد إن وجده في ملك غيره إن لم يدّعه المالك، فإن ادعاه مالك الأرض فهو له مع يمينه. وإن وجد الركاز في دار الحرب: فإن لم يقدر إلا بجماعة من المسلمين، فهو ¬
صفة الركاز الذي فيه الخمس
غنيمة لهم، وإن قدر عليه بنفسه، فهو لواجده، كما لو وجده في موات في أرض المسلمين. صفة الركاز الذي فيه الخمس: هو كل ما كان مالاً على اختلاف أنواعه من الذهب والفضة والحديد والرصاص والنحاس والآنية وغير ذلك، لعموم الحديث: «وفي الركاز الخمس». قدر الواجب في الركاز ومصرفه: أما قدره فهو الخمس، للحديث المتقدم والإجماع، وأما مصرفه على الأصح من الروايتين عن أحمد فهو مصرف الفيء للمصالح العامة، عملاً بفعل عمر في هذا الشأن، ولأنه مال مخمس زالت عنه يد الكافر، فأشبه خمس الغنيمة. من يجب عليه الخمس: هو كل من وجده من مسلم وذمي وحر وغيره وكبير وصغير وعاقل ومجنون، وهو رأي الجمهور لعموم حديث «وفي الركاز الخمس»، وقال الشافعية: لا يجب الخمس إلا على من تجب عليه الزكاة؛ لأنه زكاة. ويجوز أن يتولى الإنسان تفرقة الخمس بنفسه، وهو رأي الفقهاء الآخرين؛ لأن علياً أمر واجد الكنز بتفرقته على المساكين. المطلب الثالث ـ زكاة عروض التجارة: أبحث فيه المقصود بعروض التجارة، وشروط الزكاة فيها، وتقويم العروض ومقدار الواجب، وحكم ضم الربح والنماء ومال غير التجارة إلى أصل المال، وكيفية زكاة التجارة عند المالكية، وزكاة شركة المضاربة. أولاً ـ معنى عروض التجارة: العروض جمع عَرَض (بفتحتين): حطام الدنيا، وبسكون الراء: هي ما عدا
ثانيا ـ شروط زكاة العروض التجارية
النقدين (الدراهم الفضية والدنانير الذهبية) من الأمتعة والعقارات وأنواع الحيوان والزروع والثياب ونحو ذلك مما أعد للتجارة. ويدخل فيها عند المالكية الحلي الذي اتخذ للتجارة. والعقار الذي يتجر فيه صاحبه بالبيع والشراء حكمه حكم السلع التجارية، ويزكى زكاة عروض التجارة. أما العقار الذي يسكنه صاحبه أو يكون مقراً لعمله كمحل للتجارة ومكان للصناعة، فلا زكاة فيه. ثانياً ـ شروط زكاة العروض التجارية: اشترط الفقهاء لوجوب زكاة عروض التجارة شروطاً، أربعة عند الحنفية، وخمسة عند المالكية، وستة عند الشافعية، وشرطين فقط عند الحنابلة (¬1)، منها ثلاثة شروط متفق عليها وهي بلوغ النصاب، وحولان الحول، ونية التجارة، ومنها شروط زوائد في بعض المذاهب، وهي ما يأتي: 1ً - بلوغ النصاب: أن تبلغ قيمة أموال التجارة نصاباً من الذهب أو الفضة المضروبين، وتعتبر في البلد الذي فيه المال، فإن كان في مفازة اعتبرت قيمتها في أقرب الأمصار إلى تلك المفازة. ودليلهم على هذا الشرط أحاديث مرفوعة وموقوفة تتضمن تقويم مال التجارة، فيؤدى من كل مئتي درهم خمسة دراهم (¬2). ¬
- حولان الحول
وقال المالكية في هذا الشرط: إن كان التاجر محتكراً وجب أن يبيع من عروض التجارة بنصاب من الذهب أو الفضة. وإن كان مديراً لزم أن يبيع من ذلك بأي شيء منهما ولو درهماً. والمدير: هو الذي يبيع ويشتري ولا ينتظر وقتاً ولا ينضبط له حول كأهل الأسواق، فيجعل لنفسه شهراً في السنة ينظر فيه ما معه من النقود، ويقوِّم مامعه من العروض ويضمه إلى النقود، ويؤدي زكاة ذلك إن بلغ نصاباً بعد إسقاط الدين إن كان عليه. وأما المحتكر أو غير المدير: فهو الذي يشتري السلع، وينتظر بها الغلاء. فلا زكاة عليه فيها حتى يبيعها، فإن باعها بعد حول أو أحوال، زكى الثمن لسنة واحدة. والخلاصة: إن الجمهور غير المالكية قالوا: المدير وغير المدير لهما حكم واحد، وأن من اشترى عرضاً للتجارة فحال عليه الحول، قومه وزكاه، فلا يجب على المدير شيء عند الجمهور؛ لأن الحول إنما يشترط في عين المال، لا في نوعه. وأما مالك فأوجب على المدير الزكاة، وإن لم يحل الحول على عين المال، ويكفي حولانه على نوع المال، لئلا تسقط الزكاة رأساً عن المدير، وهذا أخذ بمبدأ المصالح المرسلة التي لا يشترط فيها عند مالك استنادها إلى أصول منصوص عليها. 2ً - حولان الحول: أن يحول على الأموال (أي القيمة) الحول من وقت ملك العروض، لا على السلعة نفسها. والمعتبر في ذلك عند الحنفية، والمالكية (في غير المدير): طرفا الحول لا وسطه، أما في الابتداء فلتحقق الغنى، وأما في الانتهاء فللوجوب، فمن ملك في أول الحول نصاباً، ثم نقص في أثنائه، ثم كمل في آخره، وجبت فيه الزكاة، أما لو نقص في أوله أو في آخره فلا تجب فيه الزكاة.
- نية التجارة حال الشراء
والمعتبر عند الشافعية: بلوغ النصاب آخر الحول من البدء بالمتاجرة؛ لأنه وقت الوجوب، لا بطرفيه معاً أي أوله وآخره، وبناء عليه إذا كان مع تاجر في أول الحول ما يكمل به النصاب كمئة درهم اشترى بخمسين منها عرضاً للتجارة، فبلغت قيمته في آخر الحول مئة وخمسين، فإنه تلزمه زكاة الجميع آخر الحول. والمعتبر عند الحنابلة: بلوغ النصاب في جميع الحول، ولا يضر النقص اليسير في أثنائه كنصف يوم مثلاً، أي أنه لا زكاة قبل اكتمال النصاب في البدء والأثناء والانتهاء. 3ً - نية التجارة حال الشراء: أن ينوي المالك بالعروض التجارة حالة شرائها، أما إذا كانت النية بعد الملك، فلا بد من اقتران عمل التجارة بنية، ويشترط أيضاً عند الحنفية أن يكون الشيء المتجر فيه صالحاً لنية التجارة، فلو اشترى أرضاً خراجية للتجارة، ففيها الخراج لا الزكاة، ولو اشترى أرضاً عشرىة وزرعها، وجب في الزرع الناتج العشر، دون الزكاة. واشترط الشافعية أن ينوي بالعروض التجارة حال المعاوضة في صلب العقد أو في مجلسه، فإن لم ينو على هذا الوجه فلا زكاة فيها. ويشترط تجديد نية التجارة عند كل معاوضة حتى يفرغ رأس المال. 4ً - ملك العروض بمعاوضة: اشترط الجمهور غير الحنفية أن تملك العروض بمعاوضة كشراء وإجارة ومهر، فإن ملكت بغير معاوضة كإرث أو خلع أو هبة أو وصية أو صدقة مثلاً، كأن ترك شخص لورثته عروض تجارة، فلا زكاة فيها حتى يتصرفوا فيها بنية التجارة. وزاد المالكية أن يكون ثمن العروض ممتلكاً بمعاوضة مالية أيضاً، لا بنحو هبة أو إرث، ومن كان يبيع العروض بالعرض ولا ينض (يتحول نقداً) له من ثمن ذلك نقد، فلا زكاة عليه عند المالكية إلا أن يفعل ذلك فراراً من الزكاة فلا تسقط، وعليه الزكاة عند المذاهب الأخرى.
- ألا يقصد بالمال القنية
5 ً - ألا يقصد بالمال القِنْية (أي إمساكه للانتفاع به وعدم الاتجار به): هذا شرط ذكره الشافعية والحنابلة والمالكية، فإن قصد ذلك انقطع الحول، وإذا أراد التجارة بعدئذ، احتاج لتجديد نية التجارة. 6 ً - ألا يصير جميع مال التجارة في أثناء الحول نقداً وهو أقل من النصاب: هذا شرط آخر عند الشافعية، فإن صار جميع المال نقداً مع كونه أقل من نصاب، انقطع الحول. ولم يشترط غير الشافعية هذا الشرط. 7ً - ألا تتعلق الزكاة بعين العرض: هذا شرط عند المالكية، فإن تعلقت الزكاة بعينه كحلي الذهب أو الفضة، وكالماشية (الإبل والبقر والغنم) والحرث (الزرع والثمر) وجبت زكاته إن بلغ نصاباً مثل زكاة النقدين والأنعام والحرث، فإن لم تتعلق الزكاة بعين المال كالثياب والكتب وجبت زكاة التجارة. والخلاصة: إن الحنابلة اشترطوا لوجوب الزكاة في عروض التجارة شرطين (¬1): الأول ـ أن يملكها بفعله كالشراء، وهو الشرط الرابع لدينا. الثاني ـ أن ينوي التجارة حال التملك، وهو الشرط الثالث السابق. والحنفية اشترطوا أربعة شروط: الأول ـ بلوغ النصاب. ¬
والثاني ـ حولان الحول. والثالث ـ نية التجارة مصحوبة بعمل التجارة فعلاً؛ لأن مجرد النية لا يكفي. والرابع ـ أن تكون الأموال صالحة لنية التجارة. والمالكية اشترطوا خمسة شروط: الأول ـ ألا تتعلق الزكاة في عينه كالثياب والكتب. الثاني ـ أن يملك العرض بمعاوضة أو مبادلة كشراء، لا بإرث وهبة ونحوهما. الثالث ـ أن ينوي بالعرض التجارة حال شرائه. الرابع ـ أن يكون ثمن الشراء الذي اشترى به العرض مملوكاً بمعاوضة مالية أي بشراء، لا بنحو إرث أو هبة مثلاً. الخامس ـ أن يبيع المحتكر من ذلك العرض نصاباً فأكثر، أو بأي شيء ولو درهماً إذا كان مديراً. والشافعية اشترطوا ستة شروط: الأول ـ أن تملك العروض بمعاوضة كشراء، لا بإرث مثلاً. الثاني ـ أن ينوي بالعروض التجارة في صلب عقد المعاوضة أو في مجلسه، وإلا احتاج لتجديد نية التجارة. الثالث ـ ألا يقصد بالمال القنية. الرابع ـ مضي الحول من وقت ملك العروض أي من الشراء. الخامس ـ ألا يصير جميع مال التجارة نقوداً وكان أقل من نصاب، وعبر عنه
ثالثا ـ تقويم العروض ومقدار الواجب في هذه الزكاة وطريقة التقويم
الشافعية بقولهم: ألا ينضّ المال في الأظهر أي يصير الكل نقداً من نقود البلد ببيع أو إتلاف من شخص معتد. السادس ـ أن تبلغ قيمة العروض آخر الحول نصاباً. ثالثاً ـ تقويم العروض ومقدار الواجب في هذه الزكاة وطريقة التقويم: يقوِّم التاجر العروض أو البضائع التجارية في آخر كل عام بحسب سعرها في وقت إخراج الزكاة، لا بحسب سعر شرائها، ويخرج الزكاة المطلوبة، وتضم السلع التجارية بعضها إلى بعض عند التقويم ولو اختلفت أجناسها، كثياب وجلود ومواد تموينية، وتجب الزكاة بلا خلاف في قيمة العروض، لا في عينها؛ لأن النصاب معتبر بالقيمة، فكانت الزكاة منها، وواجب التجارة هو ربع عشر القيمة كالنقد باتفاق العلماء، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن في العروض التي يراد بها التجارة: الزكاة إذا حال عليها الحول (¬1). وأدلة وجوب زكاة التجارة ما يأتي (¬2): 1ً - قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم} [البقرة:267/ 2] قال مجاهد: نزلت في التجارة. 2ً - وقوله صلّى الله عليه وسلم: «في الإبل صدقتها، وفي البقر صدقتها، وفي الغنم صدقتها، وفي البَزّ (¬3) صدقته» (¬4) وقال سمرة بن جندب: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم ¬
يأمرنا أن نخرج الزكاة مما نعده للبيع» (¬1) وعن أبي عمرو بن حماس عن أبيه قال: «أمرني عمر، فقال: أدّ زكاة مالك، فقلت: ما لي مال إلا جعاب وأدم، فقال: قوّمها، ثم أدّ زكاتها» (¬2) قال ابن قدامة صاحب المغني: وهذه قصة يشتهر مثلها، ولم تنكر، فيكون إجماعاً. وأما ما حكي عن مالك وداود أنه لا زكاة في التجارة لحديث: «عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق» فالمراد به زكاة العين فلا زكاة في عين الخيل، لازكاة القيمة، بدليل الأخبار التي ذكرتها، ثم إن هذا الخبر عام، والأخبار المذكورة خاصة، فيجب تقديمها. والمقرر عند المالكية هو وجوب زكاة التجارة. وطريقة تقويم العروض (¬3): هي عند الجمهور غير الشافعية أن تقوم السلع إذا حال الحول بالأحظ للمساكين من ذهب أو فضة احتياطاً لحق الفقراء، ولا تقوم بما اشتريت به. فإذا حال الحول على العروض، وقيمتها بالفضة نصاب، ولا تبلغ نصاباً بالذهب، قومناها بالفضة ليحصل للفقراء منها حظ، ولو كانت قيمتها بالفضة دون النصاب، وبالذهب تبلغ نصاباً قومناها بالذهب لتجب الزكاة فيها، ولا فرق بين أن يكون اشتراؤها بذهب أو فضة أو عروض. وقال الشافعية: تقوم العروض بما اشتراها التاجر به من ذهب أو فضة؛ لأن نصاب العروض مبني على ما اشتراه به، فيجب أن تجب الزكاة فيه، وتعتبر به، كما لو لم يشتر به شيئاً. وعلى هذا إن ملك العرض بنقد قوِّم به إن ملك بنصاب أو دونه في الأصح، سواء أكان ذلك النقد هو الغالب أم لا، وسواء أبطله السلطان أم ¬
هل يجوز إخراج الزكاة من عروض التجارة؟
لا، لأنه أصل ما بيده، فكان أولى من غيره. وإن ملك العرض بعرض آخر للقنية أو بخلع أو نكاح أو صلح عن دم عمد، فيقوَّم بغالب نقد البلد، من الدراهم والدنانير؛ لأنه لما تعذر التقويم بالأصل، رجع إلى نقد البلد، على قاعدة التقويمات في الإتلاف ونحوه. فإن حال الحول بمحل لا نقد فيه، كبلد يتعامل فيه بالفلوس أو نحوها، اعتبر أقرب البلاد إليه. ولو ملك بدين في ذمة البائع أو بنحو سبائك، قوِّم بجنسه من النقد. فإن غلب نقدان على التساوي في التعامل بالبلد، وبلغ مال التجارة بأحدهما دون الآخر نصاباً، قوم به، لبلوغه نصاباً بنقد غالب. فإن بلغ نصاباً بكل من النقدين الغالبين، قوم بالأنفع منهما للفقراء. وإن ملك العرض بنقد وعرض آخر، كأن اشترى بمئتي درهم وعرض قنية، قوم ما قابل النقد به، والباقي بغالب نقد البلد، كما لو انفرد الشراء بواحد منهما. ورأي الجمهور أولى لسهولته ومراعاته مصالح الفقراء. وعلى هذا يجب على كل تاجر أن يجرد آخر كل عام ما لديه من بضائع، ويقدر قيمتها وقت الجرد عند الجمهور بالنقود الرائجة، فإن بلغت نصاباً، وجب عليه إخراج ربع عشر قيمة هذه الأموال 5،2%، ويضم الربح إلى رأس المال، ولا يقوَّم الأثاث وموجودات المحل وأدوات التجارة والصناعة والكسب وفروغ المحل. هل يجوز إخراج الزكاة من عروض التجارة؟ اختلف الفقهاء على رأيين (¬1): ¬
رابعا ـ حكم ضم الربح والنماء ومال غير التجارة إلى أصل المال
فقال الحنفية: يخير التاجر بين العين أو القيمة، فللمالك الخيار عند حولان الحول بين الإخراج من قيمة التجارة، فيخرج ربع عشر القيمة، وبين الإخراج من عينها، فيخرج ربع عشر العين التجارية؛ لأن التجارة مال تجب فيه الزكاة، فجاز إخراجها من عينه كسائر الأموال، وعلى هذا يصح لتاجر القماش مثلاً إخراج الزكاة من أعيان الأقمشة على أن يراعى اختيار الوسط من كل نوع، ويدفع الزكاة من كل نوع، لا أن يخرج الكاسد أو يخرج نوعاً واحداً عن جميع الأنواع. وقال الجمهور: يجب إخراج القيمة، ولا يجوز الإخراج من عين العروض التجارية؛ لأن النصاب معتبر بالقيمة، فكانت الزكاة منها كالعين في سائر الأموال، ولا نسلم أن الزكاة تجب في المال، وإنما وجبت في قيمته. رابعاً ـ حكم ضم الربح والنماء ومال غير التجارة إلى أصل المال: اتفق فقهاء المذاهب على أنه تضم أرباح التجارة إلى أصل رأس المال في الحول، كما يضم أيضاً عند الحنفية خلافاً لغيرهم المال المستفاد من غير التجارة كعطية وإرث إلى أصل المال، ويتضح ذلك فيما يأتي: قال الحنفية (¬1): يضم الربح الناتج عن التجارة، والولد أو النماء في الماشية، والمال المستفاد من غير التجارة كالإرث والهبة إلى أصل رأس المال، إذا كان مالكاً للنصاب، في أول الحول الذي هو وقت انعقاد سبب إيجاب الزكاة، وبقي في أثناء الحول شيء من النصاب الذي انعقد عليه الحول، ليضم المستفاد إليه، وكان آخر الحول بمقدار النصاب، ويزكى الجميع في تمام الحول؛ لأن المستفاد من جنس الأصل وتبع له؛ لأنه زيادة عليه؛ إذ الأصل يزداد به ويتكثر، والزيادة تبع للمزيد ¬
عليه، والتبع لا يفرد بالحكم حتى لا ينقلب أصلاً. أما المستفاد بعد الحول، فلا يضم إلى الأصل في حق الماضي بلا خلاف. والسوائم المختلفة الجنس كالإبل والغنم لا تضم إلى بعضها. والنقدان كما بينت سابقاً يضم أحدهما إلى الآخر في تكميل النصاب. وقال المالكية (¬1): يضم الربح الناتج عن التجارة، وغلة المكترى للتجارة لأصل المال الذي نتج عنه في أثناء الحول، ولو كان الأصل أقل من نصاب. وأما المستفاد بدون تجارة كالإرث والهبة، فلا يضم إلى أصل رأس المال في الحول، ولو كان نصاباً، بل يبدأ به حولاً جديداً من يوم ملكه. ¬
خامسا ـ كيفية زكاة التجارة عند المالكية
وأما الماشية المستفادة بإرث أو هبة ونحوهما فتضم إلى الماشية التي عنده إن كانت نصاباً، ولا تضم لها إن كانت أقل من نصاب. ورأى الشافعية (¬1) في الأصح: أن الربح وولد العرض وثمره كثمر الشجرة وأغصانها وورقها وصوف الحيوان ووبره وشعره، هو مال تجارة يضم لأصل رأس المال، وأن حوله حول الأصل؛ ولو كان الأصل دون نصاب؛ لأن الربح ونحوه جزء من الأصل، فحوله حول الأصل تبعاً كنتاج الماشية السائمة. وأما المال المستفاد من غير التجارة: فلا يضم إلى مال التجارة في الحول، وإنما له حول مستقل من يوم ملكه. ومذهب الحنابلة (¬2) كالشافعية تقريباً إلا في اشتراط كون الأصل نصاباً، فقالوا: إذا كان في ملك إنسان نصاب للزكاة، فاتجر فيه، فنمى، أدى زكاة الأصل مع النماء إذا حال الحول، فحول النماء مبني على حول الأصل؛ لأنه تابع له في الملك، فتبعه في الحول كنتاج الماشية. وأما المال المستفاد من غير التجارة فلا يضم إلى حول الأصل، بل له حول مستقل من يوم ملكه. خامساً ـ كيفية زكاة التجارة عند المالكية: التاجر عند المالكية إما محتكر أو مدير، أو محتكر ومدير معاً (¬3). أـ أما المحتكر: وهو الذي يشتري السلع، وينتظر بها الغلاء، وحكمه: أنه لا زكاة عليه فيها حتى يبيعها، فإن باعها بعد عام أو أعوام بالنقود، زكى الثمن لسنة واحدة، وإن بقي عنده منها شيء، ضم الثمن إلى ما عنده منها. وهذا مخالف لرأي الجمهور غير المالكية، فإنهم يقولون: يزكي المحتكر كل عام وإن لم يبع، ويخير عند الحنفية بين إخراج الزكاة من عين العروض أو قيمتها. ولا يجوز عند الشافعية في الجديد، والحنابلة الإخراج من عين العروض، كما تقدم سابقاً. ويعتبر مبدأ حول المحتكر عند المالكية: يوم ملك الأصل أو يوم زكاته إن كان قد زكَّاه. وأما ديون المحتكر التي له من التجارة: فلا يزكيها إلا إذا قبضها، ويزكيها لعام واحد فقط. ¬
ب ـ وأما المدير
ب ـ وأما المدير: فهو الذي يبيع ويشتري ولا ينتظر وقتاً، ولا ينضبط له حول، كأهل الأسواق، فيجعل لنفسه شهراً في السنة، ينظر فيه ما معه من النقود، ويقوَّم ما معه من العروض، ويضمه إلى النقود، ويؤدي زكاة ذلك إن بلغ نصاباً بعد إسقاط الدين إن كان عليه. فحكم زكاته: أن يقوم في كل عام ما عنده من عروض، ولو كسد سوقها وبقيت عنده أعواماً، ثم يضم قيمتها إلى ما عنده من النقود، ويزكي الجميع. ويعتبر مبدأ حول المدير من وقت تملك الثمن الذي اشترى به عروض التجارة، أي أن حوله حول أصل المال الذي اشترى به السلع، فيبتدئ الحول من يوم ملك الأصل أو من يوم زكاته، ولو تأخرت الإدارة عنه، كما لو ملك نصاباً أو زكاة في شهر المحرم، ثم أداره في رجب، أي شرع في التجارة على وجه الإدارة في رجب، فحوله من المحرم. وأما الديون التي للمدير من التجارة: فإن كانت حالة الأداء بأن كانت واجبة الدفع في الحال، أو حل أجل دفعها، وكانت مرجوة الخلاص (أي الدفع) ممن هي عليه، فيضم مقدار الدين إلى أصل المال، ويزكي الكل. وإن كان الدين عرضاً تجارياً أو مؤجلاً مرجو الخلاص، فإنه يقومه ويضم القيمة إلى أصل المال، ويزكي الجميع. أما إذا كان الدين على فقير معدم لا يرجى خلاصه منه، فلا تجب عليه زكاته إلا إذا قبضه من المدين، فإذا قبضه زكاه لعام واحد فقط. ولا يقوَّم على المدير الأواني التي توضع فيها سلع التجارة ولا آلات العمل. جـ ـ وأما إذا كان التاجر محتكراً لبعض السلع، ومديراً للبعض الآخر: فإن
سادسا ـ زكاة شركة المضاربة
تساويا أو كان الأقل للإدارة والأكثر للاحتكار، زكى المحتكر على حكم الاحتكار، يعني يزكي ثمنه بعد قبضه لعام واحد، وزكى المدير على حكم الإدارة، يعني يقوِّمه كل عام. وإن كان الأكثر للإدارة والأقل للاحتكار، فالجميع إدارة، وبطل حكم الاحتكار، أي يقوَّم الجميع كل عام، تغليباً لجانب الإدارة على حكم الاحتكار. سادساً ـ زكاة شركة المضاربة: يزكي رب المال (المالك) رأس المال وحصته من الربح، ويزكي العامل حصته من الربح، على النحو الآتي عند الفقهاء (¬1): قال أبو حنيفة: يزكي كل واحد من المالك والعامل بحسب حظه أو نصيبه، كل سنة، ولا يؤخر إلى المفاصلة، أي التصفية. وقال الحنابلة: يزكي رب المال رأس المال والربح الحاصل؛ لأن ربح التجارة حوله حول أصله، فمن دفع إلى رجل ألفاً مضاربة على أن الربح بينهما نصفان، فحال الحول، وقد صار ثلاثة آلاف، فعلى رب المال زكاة ألفين. وأما العامل: فليس عليه زكاة في حصته حتى يتم اقتسام الربح، ويستأنف حولاً من حينئذ؛ لأن ملك المضارب غير تام، فإذا تحاسب المضارب مع المالك، زكى المضارب إذا حال عليه الحول من حين الحساب؛ لأنه علم مقدار ماله في مال الشركة، ولأنه إذا حدثت خسارة بعد ذلك كانت الخسارة (الوضيعة) على رب المال. ¬
المطلب الرابع ـ زكاة الزروع والثمار (أو زكاة النبات أو الخارج من الأرض)
وقال الشافعية: يلزم المالك زكاة رأس المال وحصته من الربح؛ لأنه مالك لهما. والمذهب أنه يلزم العامل زكاة حصته من الربح؛ لأنه متمكن من التوصل إليه متى شاء بالقسمة، فأشبه الدين الحالّ على مليء، ويبتدئ حول حصته من حين ظهور الربح، ولا يلزمه إخراج الزكاة قبل القسمة على المذهب. وقال المالكية: إذا كان مال القراض حاضراً ببلد رب المال، ولو حكماً بأن علم حاله في غيبته، تجب عليه زكاته زكاة إدارة، أي يقوم مالديه كل عام من رأس مال وربح، ويزكي رأس ماله وحصته من الربح، قبل المفاصلة أي الحساب والتصفية في ظاهر المذهب، لكن المعتمد أنه لا يزكي إلا بعد المفاصلة، ويزكي حينئد عن السنوات الماضية كلها. وكذلك إن غاب المال ولم يعلم حاله من بقاء أو تلف ومن ربح أو خسران، يزكيه عن السنوات الماضية. وأما العامل: فإنما يزكي حصته من الربح بعد المفاصلة لسنة واحدة. المطلب الرابع ـ زكاة الزروع والثمار (أو زكاة النبات أو الخارج من الأرض): الكلام في هذا المطلب يتناول فرضية زكاة الزروع والثمار وسبب الفرضية، وشروطها، وما تجب فيه هذه الزكاة، والنصاب الذي تبدأ به الزكاة، ومقدار الواجب وصفته، ووقت الوجوب وإخراج الزكاة، وما يضم بعضه إلى بعض، وزكاة الثمار الموقوفة، وزكاة الأرض المستأجرة، وزكاة الأرض الخراجية ـ (الأراضي العشرية والخراجية ونوعا الخراج) العاشر وضريبة العشور، إخراج زكاة الزرع والثمر وإسقاطها.
أولا ـ فرضية زكاة الزروع والثمار وسبب الفرضية
أولاً ـ فرضية زكاة الزروع والثمار وسبب الفرضية (¬1): هذه الزكاة واجبة بدليل من القرآن والسنة والإجماع والمعقول: أما القرآن: ققوله تعالى: {وآتوا حقه يوم حصاده} [الأنعام:141/ 6] قال ابن عباس: حقه: الزكاة المفروضة، وقال مرة: العشر، ونصف العشر، وقوله: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم، ومما أخرجنا لكم من الأرض} [البقرة:267/ 2] والزكاة تسمى نفقة، بدليل قوله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة، ولا ينفقونها في سبيل الله} [التوبة:34/ 9]. وأما السنة: فقوله صلّى الله عليه وسلم: «فيما سقت السماء والعيون أو كان عَثَرياً (¬2) العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر» (¬3) وقوله: «فيما سقت الأنهار والغَيْم: العشور، وفيما سقي بالسانية (¬4) نصف العشور» (¬5). وأما الإجماع: فقد أجمعت الأمة على فرضية العشر. وأما المعقول: فكما ذكرت في حكمة مشروعية الزكاة؛ لأن إخراج العشر إلى الفقير من باب شكر النعمة، وإقدار العاجز، وتقويته على القيام بالفرائض، ومن باب تطهير النفس عن الذنوب وتزكيتها، وكل ذلك لازم عقلاً وشرعاً. وأما سبب فرضية هذه الزكاة: فهو الأرض النامية بالخارج منها، حقيقة في ¬
ثانيا ـ شروط زكاة الزروع والثمار
حق العشر، أو تقديراً في حق الخراج، فلوأصاب الخارج آفة، فهلك لا يجب فيه العشر في الأرض العشرية، ولا الخراج في الأرض الخراجية، لفوات النماء حقيقة وتقديراً. ولو كانت الأرض عشرية فتمكن من زراعتها، فلم تزرع، لا يجب العشر، لعدم الخارج حقيقة. ولو كانت أرضاً خراجية يجب الخراج، لوجود الخارج تقديراً. ولا تجب زكاة الزروع إلا بعد انعقاد الحب واشتداده، ولو بعضه. ولا تثبت الزكاة في الثمار إلا بعد بدو صلاحها، أي ظهور نضجها باحمرار أو اصفرار أو تموه أوتلون، بحسب المعهود في كل ثمر، ويكفي ظهور الصلاح في بعض الثمر من جنس واحد، كما سأبين. ثانياً ـ شروط زكاة الزروع والثمار: هناك شروط عامة في كل زكاة، ذكرتها سابقاً كالأهلية من البلوغ والعقل، فلا تجب الزكاة عند الحنفية في مال الصبي والمجنون إلا زكاة الخارج من الأرض، وكالإسلام، فلا تجب على الكافر؛ لأن فيها معنى العبادة، والكافر ليس من أهل التكليف بها. ويضاف لها شروط خاصة بها، مفصلة في المذاهب. فعند الحنفية (¬1) يشترط زيادة على الشروط العامة ما يأتي: 1ً - أن تكون الأرض عشرية: فلا تجب الزكاة في الأرض الخراجية؛ لأن العشر والخراج لا يجتمعان في أرض واحدة عندهم. ¬
المالكية
2ً - وجود الخارج: فلو لم تخرج الأرض شيئاً، لم يجب العشر؛ لأن الواجب جزء من الخارج. 3ً - أن يكون الخارج مما يقصد بزراعته نماء الأرض واستثمارها أواستغلالها، فلا تجب هذه الزكاة في الحطب والحشيش ونحوهما؛ لأن الأرض لا تنمو بزراعة ذلك، بل تفسد بها. ولا يشترط عند أبي حنيفة النصاب لوجوب العشر، فيجب العشر في كثير الخارج وقليله. واشترط المالكية (¬1) شرطين: 1ً - أن يكون الناتج من الحبوب، ومن الثمار (التمر والزبيب والزيتون) ولازكاة في الفواكه كالتفاح والرمان، ولا في الخضروات والبقول. وذلك سواء في الأرض الخراجية كأرض مصر والشام التي فتحت عنوة، وخراجها لا يسقط عنها الزكاة، وغير الخراجية: وهي أرض الصلح التي أسلم أهلها عليها، وأرض الموات. 2ً - أن يكون الناتج نصاباً وهو خمسة أوسق (653 كغ)، والوسق ستون صاعاً، والصاع أربعة أمداد بمد النبي صلّى الله عليه وسلم، وهو اثنا عشر قنطاراً أندلسية. واشترط الشافعية ثلاثة شروط (¬2): 1ً - أن يكون الناتج الذي تخرجه الأرض مما يقتات ويدخر وينبته الآدميون: فمن الحب: الحنطة والشعير والدُخن والذرة والأرز والعدس والحمص وما أشبه ¬
الحنابلة
ذلك، ومن الثمار: التمر والزبيب. ولا زكاة في الخضروات والبقول والفواكه كالقثاء والبطيخ والرمان والقصب. والزكاة على الحبوب بعد تصفيتها من القش والتبن. 2ً - أن يكون الناتج نصاباً كاملاً، وهو خمسة أوسق وهي ألف وست مئة رطل بغدادية، وبالدمشقي في الأصح ثلاث مئة واثنان وأربعون رطلاً وستة أسباع رطل، وهي تساوي 653 كغ. 3ً - أن يكون مملوكاً لمالك معين: فلا زكاة في الموقوف على المساجد على الصحيح، إذ ليس لها مالك معين، ولا زكاة في نخيل الصحراء المباح إذ ليس له مالك معين. واشترط الحنابلة شروطاً ثلاثة (¬1): 1ً - أن يكون الناتج قابلاً للادخار والبقاء مما يجمع هذه الأوصاف: الكيل والبقاء واليبس في الحبوب والثمار، مما ينبته الآدميون إذا نبت في أرضه، سواء أكان قوتاً كالحبوب، أم من القطنيات كالعدس والحمص والباقلا (الفول)، أم من المقبِّلات كالكمون والكراويا وحب القثاء وحب الخيار، أم من حب البقول كحب الفجل والقرطم والترمس والسمسم، وسائر الحبوب. وتجب أيضاً في الثمار مما جمع هذه الأوصاف كالتمر والزبيب واللوز والفستق والبندق. ولا زكاة في الفواكه كالخوخ والدراق والكمثرى والتفاح، ولا في الخضر، كالقثاء والخيار والباذنجان واللفت والجزر. ¬
ثالثا ـ ما تجب فيه الزكاة
2ً - أن يبلغ الناتج نصاباً وهو خمسة أوسق بعد التصفية في الحبوب والجفاف في الثمار، وهي (1428و7/ 4) رطلاً مصرياً أو (50 كيلة) أو 4 أرادب، والأردب المصري 128 لتر ماء، أو 96 قدحاً. 3ً - أن يكون النصاب مملوكاً للحر المسلم وقت وجوب الزكاة فيه: وهو وقت اشتداد الحب وبدو صلاح الثمر، فتجب الزكاة فيما نبت بنفسه مما يزرعه الآدمي، كمن سقط له حب في أرضه، فنبت؛ لأنه يملكه وقت الوجوب، وفعل الزرع ليس شرطاً، ولا زكاة فيما يكتسبه اللقاط، أو يوهب له بعد بدو صلاحه، أو يشتريه ونحوه بعد ذلك، أو يأخذه الحصَّاد ونحوه أجرة لحصاده ودياسه ونحوه، كأجرة تصفيته أو نطارته، ولا فيما يملك من زرع وثمرة بعد بدو صلاحه بشراء أو إرث أو غيرهما كصداق وعوض خلع وإجارة وعوض صلح؛ لأنه لم يكن مالكاً له وقت الوجوب. ولا زكاة فيما يجتنيه من مباح، سواء نبت في أرضه أو أخذه من موات؛ لأنه لا يملك إلا بأخذه، فلم يكن وقت الوجوب في ملكه. ثالثاً ـ ما تجب فيه الزكاة: للفقهاء رأيان في زكاة ما تخرجه الأرض، رأي يعمم في كل خارج، ورأي يخصص الخارج فيما يقتات ويدخر (¬1). الرأي الأول ـ لأبي حنيفة: تجب الزكاة في قليل ما أخرجته الأرض وكثيره إلا الحطب والحشيش والقصب الفارسي (وهو ما يتخذ منه الأقلام، أما قصب السكر ¬
الرأي الثاني ـ للصاحبين وجمهور الفقهاء
ففيه العشر) والسعف والتبن، وكل ما لا يقصد به استغلال الأرض ويكون في أطرافها. أما إذا اتخذ أرضَه مَقْصَبة أو مَشْجَرة أو مَنْبِتا للحشيش، وساق إليه الماء، ومنع الناس عنه، فيجب فيه العشر. وأطلق الوجوب فيما أخرجته الأرض لعدم اشتراط الحول؛ لأن فيه معنى المؤنة (الضريبة)، ولذا كان للإمام أخذ هذه الزكاة (العشر) جبراً، ويؤخذ من التركة، ويجب مع الدين، وفي أرض الصغير والمجنون والوقف. ودليله: حديث «ما أخرجته الأرض ففيه العشر» (¬1) عمم الواجب في كل خارج، والصحيح عند الحنفية ما قاله الإمام، ورجح الكل دليله. الرأي الثاني ـ للصاحبين وجمهور الفقهاء: لا تجب زكاة الزروع والثمار إلا فيما يقبل الاقتيات والادخار وعند الحنابلة: فيما ييبس ويبقى ويكال، ولا زكاة في الخَضروات (بفتح الخاء) والفواكه. وهذا هو الراجح. أما الصاحبان من الحنفية فقالا: لا يجب العشر إلا فيما له ثمرة باقية إذا بلغ خمسة أوسق، وليس في الخضروات (الفواكه كالتفاح والكمثرى وغيرهما، أو البقول كالكراث والكرفس ونحوهما) عندهما عُشْر، لعدم الثمرة الباقية. وأما المالكية فقالوا: تجب الزكاة في عشرين صنفاً: أما الحبوب فسبعة عشر: القطاني السبعة (وهي الحمص ـ بكسر الميم وفتحها، والفول، واللوبيا والعدس، والتُرمس، والجُلْبان، والبسيلة) والقمح، والسُلت (نوع من الشعير لا قشر له)، والعلس، والذرة، والدُخن، وأُرْز، وذوات الزيوت الأربعة: وهي الزيتون والسمسم، والقِرطِم (حب العصفر)، وحب الفجل الأحمر، أما الفجل الأبيض فلا زكاة في حبه، إذ لا زيت له. ¬
الشافعية
وأما الثمار فثلاثة: التمر والزبيب والزيتون، لقول عمر: «وفي الزيتون العشر». ولا تجب الزكاة في الفواكه كالتين والرمان والتفاح ونحوها، ولا في بزر الكتان، والسَّلْجَم (اللفت)، ولا في جوز ولوز، ولا غير ذلك. وأما الشافعية: فقرروا أن الزكاة تختص بالقوت، وهو من الثمار: التمر والزبيب (¬1)، ومن الحب: الحنطة والشعير والأرزُّ والعدس والماش، وسائر المقتات اختياراً كالحِمِّص، والباقلا (الفول) والذرة، والهرطمان: (حب متوسط بين الحنطة والشعير) وهو الجُلْبانة والكِرْسنة والحِلْبة والخشخاش والسمسم. ولا زكاة في القثَّاء والبطيخ والرمان، والقَضْب (البرسيم)؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلم عفا عنه. ولا زكاة في الفواكه كخوخ ورمان وتين ولوز وجوز هند وتفاح ومِشْمِشِ، ولا زكاة في حبوب البوادي كحب الحنظل، ولا في الوحشيات من الظباء ونحوها، ولا في الموقوف على المساجد والقناطر والرباطات (الثغور) والفقراء والمساكين، على الصحيح؛ إذ ليس له مالك معين، ولا في الزيتون والزعفران والورس والقِرْطِمُ (حب العصفر) ولا في العسل، في المذهب الجديد. وقال الحنابلة: تجب الزكاة في كل مقتات مكيل مدخر من الحبوب، كالحنطة والشعيروالسُلت (وهو نوع من الشعير لونه لون الحنطة، وطبعه كالشعير في البرودة) والذرة والقطنيات (¬2)، كالباقلاء (الفول) والحمص واللوبيا والعدس والماش والتُرْمس (حب عريض أصغر من الفول) والدخن والأرز والهرطمان ¬
(وهو الجلبانة والكرسنة والحلبة والخشخاش والسمسم) والعلس (نوع من الحنطة يدخر في قشره). وتجب الزكاة في بزر البقول كلها: كالهندبا والكرفس والبصل وبزر قَطُونا ونحوها، وبزر الرياحين جميعاً، وبزر الكزبرة والكمون والكراويا والشونيز (يقال له: الحبة السوداء)، وحب الرازيانج (وهو الشمروالأنيسون وحب القضب) والخَرْدل وبزر الكتان، وبزر القطن واليقطين (وهو القرع) وبزر البقلة والحمقاء، وبزر الباذنجان والخس والجزر. وفي حب البقول: كالرَّشَاد (¬1)، وحب الفجل، والقرطم (حب العصفر). وتجب الزكاة في كل ثمر يكال ويدخر، كالتمر والزبيب واللوز والفستق والبندق والسماق. والخلاصة: أن الزكاة تجب في الحبوب والبزور والثمار المدخرة. والأظهر كما في كتاب الفروع وجوب الزكاة في العُنَّاب والتين والمشمش والتوت؛ لأنه يدخر كالتمر، والمعتمد لا زكاة فيها؛ لأن العادة لم تجر بادخاره وتجب الزكاة في صعتر وأشنان وحب ذلك، وكل ورق مقصود، كورق سدر وخطمي وآسي؛ لأنه نبات مكيل مدخر. ولا تجب الزكاة في قطن وكتان وقنب وزعفران وورس ونيل وجوز الهند، وسائر الفواكه كالخوخ والتفاح أو الإجاص والكمثرى، والسفرجل والرمان والنبق والزعرور والموز؛ لأنها ليست مكيلة، ولا في الجوز؛ لأنه معدود، ولا في قصب السكر. ولا زكاة في الخضر كبطيخ وقثاء وخيار وباذَنجان ولِفت وسلق وكُرنْب وقنبيط وبصل وثوم وكراث وجزر وفجل ونحوه، لحديث علي: أن النبي صلّى الله عليه وسلم ¬
زكاة العسل
قال: «ليس في الخضروات صدقة» (¬1). ولا في البقول كالهندَبا والكرَفْس والنعناع والرشاد وبقلة الحمقاء والقرظ والكزبرة والجرجير ونحوه. ولا في المسك والزهر، كالورد والبنفسج والنرجس واللينوفر والخيري: وهو المنثور، ونحوه كالزنبق، ولافي طلع الفُحَّال (وهو ذكر النخل)، ولا في السُّعُف (وهو أغصان النخل، أي جريد النخل الذي لم يجرد عنه خوصه، فإن جرد عنه خوصه فجريد) ولا في الخوص (وهو ورق السعف)، ولا في قشور الحب والتبن والحطب والخشب وأغصان الخلاف، وورق التوت والكلأ، والقصب الفارسي، ولبن الماشية وصوفها ونحو ذلك كالوبر والشعر، وكذا الحرير ودود القز؛ لأن ذلك كله ليس منصوصاً عليه، ولا في معنى المنصوص عليه، فبقي على أصل العفو. والخلاصة بالنسبة للزيتون: أنه لا زكاة فيه عند الشافعية في الجديد والمعتمد عند الحنابلة، وفيه الزكاة عند أبي حنيفة والمالكية (¬2) ونصابه عند المالكية خمسة أوسق زيتون. زكاة العسل: اختلف الفقهاء في حكم زكاة العسل على رأيين (¬3): فقال الحنفية والحنابلة: فيه العشر، إلا أن أبا حنيفة قال: يجب فيه العشر إذا أخذ من أرض العشر، قل المأخوذ أو كثر وليس في أرض الخارج من أرض الخراج عشر، وقال الحنابلة: نصاب العسل عشرة أفراق، وهي جمع فَرْق، والفرق ¬
عندهم ستة عشر رطلاً، فيكون النصاب مئة وستين رطلاً بالبغدادي أو 34و7/ 2 رطل دمشقي، ومئة وأربعة بالمصري، والرطل عند الحنفية: 130 درهماً، والدرهم الوسطي (975،2 غم). ودليلهم على وجوب الزكاة في العسل آثار منها: ما رواه أبو سيَّارة المُتَعي قال: قلت: «يا رسول الله، إن لي نحلاً، قال: فأدِّ العشور» (¬1). وما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «أنه أخذ من العسل العشر» (¬2) وعن عمر رضي الله عنه أنه كان يأخذ عن العسل العشر من كل عشر قِرَب قربة. وروى العقيلي في الضعفاء من طريق عبد الرزاق عن أبي هريرة حديثاً: «في العسل العشر» (¬3). وقال المالكية والشافعية: لا زكاة في العسل، بدليل أمرين: الأول ـ ما قاله الترمذي: «لا يصح عن النبي صلّى الله عليه وسلم في هذا كبير شيء» وما قاله ابن المنذر: «إنه ليس في وجوب الصدقة فيه خبر يثبت ولا إجماع». الثاني ـ أنه مائع خارج من حيوان، فأشبه اللبن، واللبن لا زكاة فيه بالإجماع. ورجح أبو عبيد أن يكون أربابه يؤمرون بأداء صدقته، ويُحثُّون عليها، ويكره ¬
رابعا ـ النصاب الذي يبدأ به زكاة الزرع والثمر
لهم منعها، ولا يؤمن عليهم المأثم في كتمانها، من غير أن يكون ذلك فرضاً عليهم. رابعاً ـ النصاب الذي يبدأ به زكاة الزرع والثمر: قال أبو حنيفة (¬1): النصاب ليس بشرط لوجوب العشر، فيجب العشر في كثير الخارج وقليله، لعموم قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم، ومما أخرجنا لكم من الأرض} [البقرة:267/ 2] وقوله عز وجل: {وآتوا حقه يوم حصاده} [الأنعام:141/ 6] وقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «ما سقته السماء ففيه العشر، وما سقي بغَرْب أو دالية، ففيه نصف العشر» (¬2) من غير تفصيل بين القليل والكثير. ولأن سبب الوجوب وهي الأرض النامية بالخارج لا يميز بين القليل والكثير، وكل شيء أخرجته الأرض مما فيه العشر لا يحتسب فيه أجر العمال ونفقة الزرع من أدوات الحراثة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم حكم بتفاوت الواجب بتفاوت المؤنة (التكاليف)؛ لأنه قال: «ما سقته السماء ففيه العشر وما سقي بغَرْب ففيه نصف العشر» وعلى هذا تكون النفقات على الزارع، وتجب الزكاة في كل الخارج بدون أن تحسم منه النفقات. وقال الصاحبان وجمهور الفقهاء (¬3): النصاب شرط، فلا تجب فيه الزكاة في شيء من الزروع والثمار حتى تبلغ خمسة أوسق وهي (653 كغ) أو 50 ¬
كيلة مصرية، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» (¬1) والوسق ستون صاعاً، وهذا حديث خاص بهذه الزكاة، يجب تقديمه، وتخصيص عموم أدلة أبي حنيفة، كما خصص قوله: «في سائمة الإبل الزكاة» بقوله في نهاية هذا الحديث: «ليس فيما دون خمسة ذَوْد صدقة»،وقوله: «في الرِّقة العشر» بقوله «ليس فيما دون خمس أواق صدقة»، ولأنه مال تجب فيه الصدقة، فلم تجب في يسيره كسائر الأموال الزكائية، ولأن الصدقة تجب على الأغنياء، ولا يحصل الغنى بدون النصاب، كسائر الأموال الزكائية. وهذا هو الراجح لدي لصحة الحديث. وإنما لم يعتبر الحول؛ لأنه يكمل نماؤه باستحصاده لا ببقائه، واعتبر الحول في غيره من الزكوات؛ لأنه مظنة لكمال النماء في سائر الأموال. والنصاب معتبر بالكيل، فإن الأوساق مكيلة، وكان الصاع مكيال أهل المدينة في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم وقدره أربعة أمداد، والصاع خمسة أرطال وثلث رطل، والرطل (675غم) وذكر الشافعية والحنابلة أنه يعتبر النصاب تمراً أو زبيباً إن تتمر وتزبب، لحديث مسلم «ليس في حب ولا تمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق» وإن لم يتتمر الرطب ولم يتزبب العنب، بأن لم يأت منه تمر ولا زبيب جيدان في العادة، أو كانت تطول مدة جفافه كسنة، اعتبر نصاباً رطباً وعنباً، فيوسق رطباً وعنباً؛ لأن ذلك وقت كماله. فيكمل به نصاب ما يجف من ذلك، وتخرج الزكاة من كل منهما في الحال؛ لأن ذلك أكمل أحوالهما. ويعتبر الحب خمسة أوسق حال كونه مصفى من تبنه؛ لأنه لا يدخر فيه ولا يؤكل معه. وأما ما ادخر في قشره كالأَرُزّ والعلس، فنصابه عشرة أوسق، اعتباراً بقشره ¬
خامسا ـ مقدار الواجب وصفته
الذي يكون ادخاره فيه أصلح له أو أبقى بالنصف، ولا يضم ثمر عام إلى ثمر عام آخر في إكمال النصاب، ولا زرع عام إلى زرع عام آخر كذلك، ويضم ثمر العام بعضه لبعض، وكذلك زرع العام بعضه لبعض، وإن اختلف إدراكه لاختلاف أنواعه وبلاده حرارة وبرودة. والمراد بالعام هنا: اثنا عشر شهراً عربية. وذكر المالكية أن المعتبر كون الحب منقى من تبنه وصوانه الذي لا يخزن به، مقدر الجفاف، وكون الرطب تمراً والعنب زبيباً، فإن بيع رطباً أوعنباً فيجب نصف عشر القيمة، ونصف عشر ثمن فول أخضر وحمص مما شأنه ألا ييبس. ويؤخذ نصف العشر من زيت ماله زيت. ويحسب في النصاب الشرعي قشر الأرز والعلس والشعير الذي يخزن به. فلو كان الأرز مثلاً مقشوراً أربعة أوسق، وبقشره خمسة أوسق زكي، وإن كان أقل فلا زكاة. واتفق الجمهور مع الحنفية على أنه لا ينقص النصاب بمؤنة الحصاد والدياس وغيرهما من نفقات الزرع. خامساً ـ مقدار الواجب وصفته: اتفق الفقهاء (¬1) على أن العشر يجب فيما سقي بغير مؤنة (مشقة) كالذي يشرب من السماء (الأمطار)، وما يشرب بعروقه: وهوالذي يشرب من ماء قريب منه. ويجب نصف العشر فيما سقي بالمؤن كالدوالي (النواعير) النواضح. والدليل لهم قول النبي صلّى الله عليه وسلم المتقدم: «فيما سقت السماء والعيون، أو كان ¬
هل تحسم النفقات التي تصرف على المزروعات؟
عَثَرياً العشر، وما سقي بالنضح نصف العشر» (¬1)، وانعقد الإجماع على ذلك، كما قال البيهقي وغيره. فإن سقي نصف السنة بكلفة ونصفها بغير كلفة ففيه ثلاثة أرباع العشر، عملاً بمقتضى كل واحد منهما. وإن سقي بأحدهما أكثر من الآخر، اعتبر الأكثر، فوجب مقتضاه، وسقط حكم الآخر. وسبب التفرقة واضح وهو كثرة المؤنة في أرض السقي، وخفتها في أرض البعل (¬2)، كما هو الفرق بين الماشية المعلوفة والسائمة. ولا وقص (لا عفو) في نصاب الحبوب والثمار، بل مهما زاد على النصاب أخرج منه بالحساب، فيخرج العشر أو نصفه، فإنه لا ضرر في تبعيضه، بخلاف الماشية ففي تبعيضها ضرر. وأما صفة الواجب: فهو جزء من الخارج أو قيمته عند الحنفية. وأما عند الجمهور: الواجب عين الجزء ولا يجوز غيره. هل تحسم النفقات التي تصرف على المزروعات؟ ينفق المزارع عادة على زراعته نفقات مثل ثمن البذار والسماد وأجور الحرث (الفلاحة) والري والتنقية والحصاد وغير ذلك. جاء في الفتوى رقم (15) في ندوة البركة السادسة في جدة أن هناك آراء ثلاثة في الموضوع، رأي بحسم جميع النفقات، ورأي بعدم حسم التكاليف، ورأي متوسط بإسقاط الثلث من المحصول، ثم إخراج الزكاة من الباقي، وقد ¬
سادسا ـ وقت الوجوب
اختار الحاضرون الرأي الثالث المتوسط، ثم يتم حساب الزكاة بإخراج العشر إن كان الريّ بماء السماء، ونصف العشر إن كان بآلة. وهذا مستمد من كلام ابن العربي في شرح الترمذي، عملاً بحديث النبي صلّى الله عليه وسلم: «دعوا الثلث أو الربع» والذي عليه عمل المسلمين والمذاهب الأربعة كما ذكر ابن حزم في المحلى (258/ 5) وصرح به الفقهاء أنه لايجوز إسقاط شيء من النفقة؛ لأن الزكاة تعلقت بعين الخارج لقوله تعالى: {وآتوا حقه يوم حصاده} [الأنعام:141/ 6] وهذا ما أرجحه (¬1). سادساً ـ وقت الوجوب: وقت الوجوب عند أبي حنيفة (¬2): وقت خروج الزرع، وظهور الثمر، لقوله تعالى: {أنفقوا من طيبات ما كسبتم، ومما أخرجنا لكم من الأرض} [البقرة:267/ 2] أمر الله تعالى بالإنفاق مما أخرجه من الأرض، فدل أن الوجوب متعلق بالخروج. فإن استهلكها صاحبها بعد الوجوب يضمن عشره، وأما قبل الوجوب فلا يضمن، ولو هلك الخارج بنفسه فلا عشر في الهالك. ووقت الوجوب عند المالكية: في الثمار الطيب (وهو الزهو في بلح النخل، وظهور الحلاوة في العنب)، وفي الزرع: إفراك الحب، أي طيبه وبلوغه حد الأكل منه، واستغناؤه عن السقي، لا باليبس ولا بالحصاد ولا بالتصفية (¬3). وأما عند الشافعية والحنابلة (¬4): فتجب الزكاة ببدو صلاح الثمر؛ لأنه حينئذ ثمرة كاملة، ¬
سابعا ـ ما يضم بعضه إلى بعض
وهو قبل ذلك حصرم وبلح، وببدو اشتداد الحب؛ لأنه حينئذ طعام، وهو قبل ذلك بقل. وليس المراد بوجوب الزكاة بما ذكر: إخراجها في الحال، بل انعقاد سبب وجوب إخراج الثمر والزبيب والحب المصفى عند الصيرورة كذلك. وبناء على الرأي الأخير إن أتلفها صاحبها أو تلفت بتفريطه أو عدوانه بعد الوجوب، لم تسقط عنه الزكاة. وإن كان قبل الوجوب سقطت، إلا أن يقصد بذلك الفرار من الزكاة، فيضمنها ولا تسقط عنه. وإن جذَّها وجعلها في الجرين (موضع تجفيف التمر)، أو جعل الزرع في البيدر، استقر الوجوب عليه. وإن تلفت بعد ذلك لم تسقط الزكاة عنه، وعليه ضمانها، كما لو تلف نصاب الماشية السائمة أو الأثمان (النقود) بعد الحول. وإن تلفت الثمرة قبل بدو الصلاح أو الزرع قبل اشتداد الحب، فلا زكاة فيه. ويصح تصرف المالك في النصاب قبل الخرص وبعده بالبيع والهبة وغيرهما، فإن باعه أو وهبه بعد بدو صلاحه، فصدقته على البائع والواهب. وهذا قول الحنابلة والمالكية. وقال الحنفية: إذا باع الزرع قبل إدراكه، وجبت الزكاة على المشتري. وقال الشافعية: تجب الزكاة على مالك الزرع عند الوجوب. سابعاً ـ ما يضم بعضه إلى بعض: لا خلاف بين أهل العلم في غير الحبوب والثمار: أنه لا يضم جنس إلى جنس آخر في تكميل النصاب، فالماشية ثلاثة أجناس: الإبل، والبقر، والغنم، لا
يضم جنس منها إلى آخر. والثمار لا يضم جنس إلى غيره، فلا يضم التمر إلى الزبيب، ولا إلى اللوز، والفستق، والبندق. ولا يضم شيء من هذه إلى غيره، ولا تضم الأثمار إلى شيء من السائمة، ولا من الحبوب والثمار. ولا خلاف بينهم في أن أنواع الأجناس يضم بعضها إلى بعض في إكمال النصاب. ولا خلاف بينهم أيضاً في أن العروض التجارية تضم إلى الأثمان (النقود)، وتضم الأثمان إليها، إلا أن الشافعي لا يضمها إلا إلى جنس ما اشتريت به؛ لأن نصابها معتبر به (¬1). ولا خلاف عند الجمهور غير المالكية في ضم الحنطة إلى العلس؛ لأنه نوع منها، ومثله السلت يضم إلى الشعير؛ لأنه منه، فيضم إليه عند غير الشافعية. واختلف العلماء في ضم الحبوب بعضها إلى بعض، وفي ضم أحد النقدين إلى الآخر. فقال الحنفية والشافعية: لا يضم جنس منها إلى غيره، ويعتبر النصاب في كل جنس منها منفرداً؛ لأنها أجناس، فاعتبر النصاب في كل جنس منها منفرداً كالثمار أيضاً والمواشي. لكن يلاحظ أن أبا حنيفة يوجب الزكاة في كل ما أخرجت الأرض، ولا يشترط النصاب، فلا تثور مشكلة الضم لديه. وقال المالكية والقاضي من الحنابلة: إن الحنطة تضم إلى الشعير، وتضم القطنيات بعضها إلى بعض؛ لأن هذا كله مقتات، فيضم بعضه إلى بعض كأنواع الحنطة. ¬
قال المالكية (¬1): تضم القطاني السبعة (الحمص والفول واللوبيا والعدس والترمس والجُلْبان والبسيلة) لبعضها بعضاً؛ لأنها جنس واحد في الزكاة، فإذا اجتمع من جميعها أو من اثنين منها ما فيه الزكاة، زكاه، وأخرج من كل صنف منها ما ينوبه. والقمح والشعير والسلت صنف واحد، فتضم لبعضها. ويجزئ إخراج الأعلى من الأدنى لا عكسه، كقمح وسلت وشعير؛ لأن الثلاثة جنس واحد. ولا يضم شيء منها لعلس (حب طويل يشبه البُرّ باليمن)؛ لأنه جنس منفرد، ولا يضم شيء منها لذرة ولا دخن ولا أرز؛ لأن كل واحد منها جنس على حدة، فلا يضم واحد منها لآخر، بل يعتبر كل واحد منها جنساً على حدة. وذوات الزيوت الأربع: وهي الزيتون والسِّمسِم، وبذر الفُجل الأحمر، والقرطم: أجناس، لا يضم بعضها إلى بعض. وتضم أنواع الجنس الواحد لبعضها، فالزبيب بأصنافه جنس واحد، ولا يضم هو لغيره، والتمر بأصنافه جنس واحد، والقمح بأصنافه الجيد منها والرديء جنس واحد. وقال الشافعية (¬2): لا يكمل جنس بجنس، ويضم النوع إلى النوع، ويخرج من كل من النوعين بقسطه، لعدم المشقة فيه بخلاف المواشي، فإن الأصح أن المزكي يخرج نوعاً منها، بشرط اعتبار القيمة والتوزيع، ولا يؤخذ البعض من هذا والبعض من هذا، ¬
لما فيه من المشقة، فإن عسر إخراج جزء من كل نوع لكثرة الأنواع وقلة الحاصل من كل نوع، أخرج الوسط منها، لا أعلاها ولا أدناها، رعاية للجانبين. ويضم العلس إلى الحنطة؛ لأنه نوع منها، وهو قوت صنعاء اليمن. والسُلْت جنس مستقل، فلا يضم إلى غيره كالشعير. ولا يضم ثمرة عام وزرعه إلى آخر، ويضم ثمر العام بعضه إلى بعض، وإن اختلف وقت إدراكه، لاختلاف أنواعه وبلاده حرارة أو برودة. والأظهر في الضم وقوع حصاديهما في سنة. وقال ابن قدامة من الحنابلة (¬1): الصحيح عند القاضي أبي يعلى من الروايات الثلاث عن أحمد: أن الحنطة تضم إلى الشعير، وتضم القطنيات بعضها إلى بعض، وكذلك يضم الذهب والفضة. وتضم أنواع الجنس من حبوب أو ثمار من عام واحد بعضها إلى بعض في تكميل النصاب، كأنواع الماشية والنقدين. فالسلت نوع من الشعير، فيضم إليه، والعلس: نوع من الحنطة، فيضم إليها. ويضم زرع العام الواحد، وثمرة العام الواحد إلى بعض، في تكميل النصاب، سواء اتفق وقت زرعه وإدراكه أو اختلف، وسواء اتفق وقت ظهور الثمرة وإدراكها أو اختلف. وقال البُهوتي في كشاف القناع: تضم أنواع الجنس الواحد من حبوب وثمار من عام واحد، ولا يضم جنس إلى آخركبُر إلى شعير، أو د ُخن أو ذرة أو عدس ¬
ثامنا ـ زكاة الثمار الموقوفة
ونحوه؛ لأنها أجناس يجوز التفاضل فيها، فلم يضم بعضها إلى بعض، كأجناس الثمار وأجناس الماشية، ولا يصح القياس على ضم العلس إلى الحنطة؛ لأنه نوع منها. ولا تضم النقود أو الأثمان من الذهب والفضة إلى بعضها، ولا إلى شيء من الحبوب أو الثمار أو الماشية؛ لأنها أجناس مختلفة، إلا إلى عروض التجارة، فتضم النقود (الأثمان) إلى قيمتها. وهذا هو المعتمد لدى الحنابلة، فيتفق رأيهم مع المذاهب الأخرى. والخلاصة: أن الحنطة تضم مع الشعير لدى المالكية والقاضي من الحنابلة، ولا يضمان عند الشافعية وفي المعتمد عند الحنابلة، وأما القطاني فتضم لبعضها عند المالكية والحنابلة، ولا تضم عند الشافعية وفي رواية أخرى عن الإمام أحمد. ثامناً ـ زكاة الثمار الموقوفة: للفقهاء رأيان في زكاة الموقوف بالنظر لاشتراط ملك الأرض أو عدم اشتراطه، رأي يوجب الزكاة، ورأي يعفي منها (¬1). قال الحنفية: الشرط ملك الخارج من الأرض، فيجب العشر في الأراضي التي لا مالك لها، وهي الأراضي الموقوفة، لعموم قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم، ومما أخرجنا لكم من الأرض} [البقرة:267/ 2] وقوله عز وجل: {وآتوا حقه يوم حصاده} [الأنعام:141/ 6] وقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «ما سقته السماء ففيه العشر، وماسقي بغرب أو دالية، ففيه نصف العشر» ولأن العشر يجب في الشيء الخارج، لا في الأرض نفسها، فكان ملك الأرض وعدمه بمنزلة واحدة. ¬
قال المالكية
وقال المالكية كالحنفية: يجب على الواقف أو متولي الوقف زكاة عين: ذهب أو فضة وقفت للسلف أي القرض، إن مر عليها حول من يوم ملكها، أو كانت هي مع ما لم يوقف نصاباً؛ إذ وقفها لا يسقط زكاتها عليه منها كل عام. كما يزكى نبات وقف ليزرع كل عام في أرض مملوكة أو مستأجرة، ويزكى حيوان من الأنعام وقف ليفرق لبنه أو صوفه أو ليحمل عليه أو يركب، ونسله تبع له، ولو سكت عنه، على مساجد أو على فقراء غير معينين أو معينين، إن تولى المالك تفرقته وسقيه وعلاجه بنفسه أو نائبه. فإن لم يتول المالك القيام به، وإنما تولاه المعينون الموقوف عليهم الذين وضعوا أيديهم عليه وحازوه، وصاروا يزرعون النبات ويفرقون ما حصل على أنفسهم، فعليهم الزكاة إن حصل لكل واحد منهم نصاب، وإلا فلا، ما لم يكن عنده ما يضمه له ويكمل به النصاب. وقال الشافعية: لا تجب الزكاة على الصحيح في ثمار البستان وغلة القرية الموقوفين على المساجد والقناطر والرباطات (¬1) والفقراء والمساكين، إذ ليس لها مالك معين. وفصل الحنابلة، فأوجبوا الزكاة في موقوف على معين من سائمة أو غلة أرض وشجر، إن بلغت حصة كل واحد نصاباً، ولم يوجبوها في موقوف على غير معين أو مسجد. تاسعاً ـ زكاة الأرض المستأجرة: اختلف الفقهاء على رأيين في هذه الزكاة، أهي على المؤجر، أم على المستأجر (¬2). ¬
أبو حنيفة
قال أبو حنيفة: زكاة الأرض على المؤجر؛ لأنه من مؤنتها فهي كالخراج الموظَّف؛ لأن بدله وهو الأجرة له، فصار كأنه زرع بنفسه، ولأن الأرض أصل الوجوب. وخالفه الصاحبان، فقالوا: الزكاة على المستأجر؛ لأن العشر يجب في الخارج، والخارج ملك المستأجر، فكان العشر عليه كالمستعير. لكن الفتوى على قول الإمام، وعليه العمل؛ لأنه ظاهر الرواية. فإن كان إيجاب الزكاة على المستأجر أنفع للفقراء، وجبت عليه، وبه أفتى المتأخرون. وقال الجمهور: إذا استأجر إنسان أرضاً، فزرعها، أو استعار أرضاً فزرعها، أو غرسها ثمراً تجب فيه الزكاة، فالعشر على المستأجر والمستعير دون مالك الأرض؛ لأنه واجب في الزرع، فكان على مالكه، وهو المستأجر أو المستعير، لقوله تعالى: {وآتوا حقه يوم حصاده} [الأنعام:141/ 6] وقوله صلّى الله عليه وسلم: «فيما سقت السماء العشر ـ الحديث» وفي إيجاب الزكاة على المالك إجحاف ينافي المواساة، وهي من حقوق الزرع، بدليل أنها لا تجب إن لم تزرع، وتتقيد بقدره. عاشراً ـ زكاة الأرض الخراجية: نوعا الأرض: الأراضي نوعان: عشرية وخراجية (¬1). أما العشرية: فهي التي يجب فيها العشر الذي فيه معنى العبادة، وتشمل ما يأتي: أـ أرض العرب من العُذَيب (قرية من قرى الكوفة) إلى أقصى حدود اليمن ¬
الخراجية
وعدن؛ لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين بعده لم يأخذوا من أرض العرب خراجاً، فدل أنها عشرية. ب ـ والأرض التي أسلم عليها أهلها طوعاً؛ لأنها أرض إسلامية يناسبها ما في معنى العبادة. جـ ـ والأرض التي فتحت عنوة وقهراً، وقسمت بين الغانمين المسلمين؛ للعلة السابقة. د ـ دار المسلم إذا اتخذها بستاناً، وكان يسقى بماء العشر، فإن كان يسقى بماء الخراج فهو خراجي. وأما ماأحياه المسلم من الأرض الميتة بإذن الإمام عند الحنفية والمالكية، فقال أبو يوسف: إن كانت من حيز أرض العشر، فهي عشرية، وإن كانت من حيز أرض الخراج، فهي خراجية، والبصرة عنده عشرية، بإجماع الصحابة رضي الله عنهم. وقال محمد: إن أحياها بماء السماء، ببئر استنبطها، أو بماء الأنهار العظام التي لاتملك مثل دجلة والفرات، فهي عشرية. وإن شق لها نهراً من أنهار الأعاجم، فهي خراجية. وأما الخراجية: فهي التي يجب فيها الخراج، لأنها في الأصل أرض الكفار، وهي الأراضي التي فتحت عنوة وقهراً، فمنَّ الإمام على أهلها، وتركها في يد أربابها، بعد أن وضع على أشخاصهم الجزية إذا لم يسلموا، وعلى أراضيهم الخراج، أسلموا أو لم يسلموا، مثل أرض سواد العراق والشام ومصر والهند.
رأي الحنفية
هذا رأي الحنفية. وقال الجمهور (¬1): الأرض الخراجية ثلاثة أنواع: 1ً - ما فتحت عنوة ولم تقسم بين الغانمين. 2ً - ما جلا عنها أهلها خوفاً منا. 3ً - ما صولح أهلها عليها على أنها لنا، ونقرها معهم بالخراج الذي يفرضه الإمام عليهم. والأرض العشرية التي لا خراج عليها؛ لأنها ملك أهلها، وهي الأرض المملوكة خمسة أنواع: 1ً - التي أسلم أهلها عليها كالمدينة المنورة ونحوها كجُواثى من قرى البحرين. 2ً - ما أحياه المسلمون واختطوه، كالبصرة التي بنيت في خلافة عمر رضي الله عنه، في سنة ثمان عشرة، بعد وقف سواد العراق، فدخلت في حده، دون حكمه. 3ً - ماصولح أهلها على أنها لهم بخراج يضرب عليها كاليمن. 4ً - ما أقطعها الخلفاء الراشدون من سواد العراق إقطاع تمليك. 5ً - ما فتح عنوة وقسم بين الغانمين، كنصف خيبر (على نحو أربع مراحل من المدينة إلى جهة الشام). ¬
نوعا الخراج
نوعا الخراج: والخراج نوعان: خراج وظيفة، وخراج مقاسمة (¬1). أما خراج الوظيفة: فهو الضريبة المفروضة على الأرض، سواء استغلها صاحبها أم تركها. وقد وظفه عمر رضي الله عنه، وكان في كل جريب أرض بيضاء تصلح للزراعة قفيز مما يزرع فيها ودرهم (¬2). ومبنى هذا الخراج على الطاقة. وأما خراج المقاسمة: فهو الضريبة المقطوعة من الناتج الزراعي، كأن يؤخذ نصف الخراج أو ثلثه أو ربعه، وقد فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فتح خيبر، ويكون ذلك في الخراج كالعشر، إلا أنه يوضع موضع الخراج؛ لأنه خراج حقيقة. واتفق العلماء على أن الأرض الخراجية إذا كانت ملكاً لغير مسلم، وجب فيها الخراج، ولا عشر فيها، وعلى أن العشرية إذا كانت لغير مسلم، وجب فيها العشر. زكاة الأرض الخراجية: اختلف الفقهاء في الأرض الخراجية إذا صارت ملكاً لمسلم، هل تبقى وظيفتها الخراج فقط، أو يجتمع فيها العشر والخراج أو يبدل خراجها بعشر؟ 1 - قال الحنفية (¬3): إن كانت الأرض خراجية يجب فيها الخراج، ولا يجب في الخارج منها العشر، فالعشر والخراج لا يجتمعان في أرض واحدة. ¬
2 - وقال الأئمة الثلاثة
2 - وقال الأئمة الثلاثة (¬1): يجتمع في الخارج من أرض الخراج العشر والخراج. الأدلة: استدل الحنفية بما يأتي: أـ ما روي عن ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يجتمع عشر وخراج في أرض مسلم» (¬2). ب ـ لم يأخذ أحد من أئمة العدل وولاة الجور من أرض سواد العراق عشراً، فالقول بوجوب العشر مع الخراج يخالف الإجماع، فيكون باطلاً. جـ ـ إن سبب كل من الخراج والعشر واحد، وهو الأرض النامية، فلا يجتمعان في أرض واحدة، كما لا يجتمع زكاتان في مال واحد، وهي زكاة السائمة والتجارة. واستدل الجمهور بما يأتي: أـ بعموم الآيات والأحاديث المتقدمة التي ذكرتها في فرضية زكاة الأرض، والتي تدل على الوجوب، سواء أكانت الأرض خراجية أم عشرية. ب ـ بأن الخراج والعشر حقان مختلفان ذاتاً ومحلاً وسبباً ومصرفاً ودليلاً، أما اختلافهما ذاتاً فلأن العشر فيه معنى العبادة، والخراج فيه معنى العقوبة، وأما ¬
أحد عشر ـ العاشر
اختلافهما محلاً فلأن العشر يجب في الخارج، والخراج يتعلق بالذمة. أما اختلافهما سبباً فلأن سبب العشر نفس الخارج، فلا يجب بدونه، وسبب الخراج: الأرض النامية أي الصالحة للزراعة، بدليل وجوبه وإن لم تزرع الأرض. وأما اختلافهما مصرفاً: فلأن مصرف العشر الفقراء، ومصرف الخراج المصالح العامة أو المقاتلة. وأما اختلافهما دليلاً، فلأن دليل العشر النص، ودليل الخراج الاجتهاد المبني على مراعاة المصالح. وإذا ثبت اختلافهما من هذه الوجوه، فلا مانع من اجتماعهما، فوجوب أحدهما لا يمنع وجوب الآخر، كاجتماع الجزاء والقيمة في الصيد الحرمي المملوك. والراجح هو رأي الجمهور بسبب ضعف حديث الحنفية، ولأن الخراج واجب اجتهادي لتقوية جماعة المسلمين وسد الحاجات العامة، وأن العشر واجب ديني على المسلمين، فلا تنافي بينهما. وليس في الخراج معنى العقوبة، إذ لو كان عقوبة لما وجب على المسلم كالجزية. وصرح الحنفية كابن عابدين (رد المحتار 67/ 2) وغيره بأن الأراضي الخراجية في مصر والشام، حيث صارت لبيت المال سقط عنها الخراج، لعدم من يجب عليه، والمأخوذ منها الآن أجرة لا خراج، ويصير العشر هو الواجب فيها. أحد عشر ـ العاشر وضريبة العشور (¬1): العاشر: من نصبه الإمام على الطريق ليأخذ الصدقات من التجار. فإذا حدث اختلاف بينه وبين التجار، فأنكر أحدهم تمام الحول، أو الفراغ من الدين، كان منكراً لوجوب الزكاة، والقول قول المنكر بيمينه. ¬
وكذا إذا قال: أديتها إلى عاشر آخر، أو أديتها أنا إلى الفقراء في بلدي، صدق بيمينه. وما صدق فيه المسلم، صدق فيه الذمي، تخفيفاً عنه. ومقدار ما يأخذه العاشر من المسلم: ربع العشر، ومن الذمي نصف العشر ومن الحربيين العشر، بدليل ما رواه محمد بن الحسن عن زياد بن حَدير، قال: «بعثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عين التمر مصدِّقاً، فأمرني أن آخذ من المسلمين من أموالهم إذا اختلفوا بها للتجارة ربع العشر، ومن أموال أهل الذمة نصف العشر، ومن أموال أهل الحرب العشر». والأصل المقرر عند الحنفية في الأخذ من الحربيين: هو المعاملة بالمثل، فإن كانوا لا يأخذون أصلاً لا نأخذ منهم شيئاً، ليتركوا الأخذ من تجارنا، ولأنا أحق بمكارم الأخلاق، وإن مر حربي بخمسين درهماً لم يؤخذ منه شيء إلا أن يكونوا يأخذون منا من مثلها؛ لأن المأخوذ زكاة أو ضعفها، فلا بد من النصاب. وإن مر حربي بمئتي درهم (وهو نصاب الزكاة) ولا يعلم كم يأخذون منا، نأخذ منه العشر، لقول عمر رضي الله عنه: «فإن أعياكم فالعشر». وإن مر حربي على عاشر، فعشره، ثم مرَّ مرة أخرى، لم يعشره حتى يحول الحول؛ لأن الأخذ في كل مرة استئصال المال، وحق الأخذ لحفظه، ولأن حكم الأمان الأول باق، وأما بعد الحول فيتجدد الأمان؛ لأنه لا يمكن من الإقامة في دارنا إلا حولاً، والأخذ بعده لا يستأصل المال. فإن عشره، فرجع إلى دار الحرب، ثم خرج من يومه ذلك، عشره أيضاً؛ لأنه رجع بأمان جديد، وكذا الأخذ بعده لا يفضي إلى استئصال المال.
اثنا عشر ـ إخراج الزكاة وإسقاطها
وإن مر ذمي بخمر أو خنزير بنية التجارة وتبلغ القيمة مئتي درهم، عشر عند أبي حنيفة ومحمد الخمر من قيمتها دون الخنزير؛ لأن حق الأخذ للحماية، والمسلم يحمي خمر نفسه للتخليل، فكذا يحميها على غيره، ولا يحمي خنزير نفسه، بل يجب تسييبه بالإسلام، فكذا لا يحميه على غيره. وقال أبو يوسف: يعشرهما إذا مر بهما جملة، كأنه جعل الخنزير تبعاً للخمر، فإن مر بكل واحد على الانفراد، عشر الخمر دون الخنزير. وقال الشافعي: لا يعشرهما؛ لأنه لا قيمة لهما. وإن مر الحربي المضارب بمال غيره بمئتي درهم على العاشر، لم يعشرها؛ لأنه ليس بمالك ولا نائب عن المالك في أداء الزكاة، إلا أن يكون في المال ربح يبلغ نصيبه نصاباً، فيؤخذ منه؛ لأنه مالك له. اثنا عشر ـ إخراج الزكاة وإسقاطها: أبحث هنا موضوعات: الأول ـ ركن الإخراج: هو التمليك، لقوله تعالى: {وآتوا حقه يوم حصاده} [الأنعام:141/ 6] والإيتاء هو التمليك، لقوله تعالى: {وآتوا الزكاة} [البقرة:277/ 2] فلا تتأدى بطعام الإباحة، وبما ليس بتمليك من بناء المساجد ونحو ذلك (¬1). الثاني ـ كيفية الإخراج: لا خلاف بين العلماء في أنه إذا كان المال الذي فيه الزكاة نوعاً واحداً، أخذ ¬
الثالث ـ وقت إخراج الزكاة
منه، جيداً كان أو رديئاً؛ لأن حق الفقراء يجب على طريقة المواساة، فهم بمنزلة الشركاء. وإن كان أنواعاً، أخذ من كل نوع ما يخصه، في رأي الحنابلة والحنفية، وقال مالك: يؤخذ من الوسط، لا من الأعلى ولا من الأدنى، ولا من كل نوع، للمشقة، إلا أن يتطوع المزكي بدفع الأعلى. وقال الشافعي: يؤخذ من كل نوع جزء منه، فإن عسر أخرج الوسط. ولا يجوز اتفاقاً إخراج الرديء، لقوله تعالى: {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} [البقرة:267/ 2] (¬1). ولا يجوز أخذ الجيد عن الرديء، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «إياك وكرائم أموالهم» (¬2) إلا أن يتطوع رب المال بذلك. الثالث ـ وقت إخراج الزكاة: لا تؤخذ زكاة الحبوب إلا بعد التصفية، ولا زكاة الثمار إلا بعد الجفاف، بالاتفاق (¬3)؛ لأنه أوان الكمال وحال الادخار، ومؤنة التصفية والحصاد والجفاف إلى حين الإخراج على المالك، ولا يحسب شيء منها من الزكاة بالاتفاق، لأن الثمرة كالماشية، ومؤنة الماشية وحفظها ورعيها والقيام عليها إلى حين الإخراج على صاحبها. ¬
الرابع - تقدير الواجب في الثمار ب الخرص
فإن أخذ الساعي الزكاة قبل التجفيف فقد أساء، ويرده إن كان رطباً بحاله، وإن تلف رد مثله، وإن جففه وكان قدر الزكاة، فقد استوفى الواجب، وإن كان دونه أخذ الباقي، وإن كان زائداً رد الفضل. وإن كان المخرج لها رب المال، لم يجزه، ولزمه إخراج الفضل بعد التجفيف؛ لأنه أخرج غير الفرض، فلم يجزه، كما لو أخرج الصغير من الماشية عن الكبار. الرابع - تقدير الواجب في الثمار ب الخرص: الخرص: الحزر والتخمين أي التقدير الظني بواسطة رجل عدل خبير. وقد أنكر الحنفية الخرص؛ لأنه رجم بالغيب، وظن وتخمين لا يلزم به حكم، كما أنكروا القرعة، وإنما كان الخرص تخويفاً للأكره (الحراثين) لئلا يخونوا (¬1). وقال الجمهور (¬2): يسن خرص الثمار (التمر والعنب) دون غيرهما كالزيتون، إذا بدا صلاحها أو طيبها، لا قبله، وينبغي للإمام أن يبعث ساعيه إذا بدا صلاح الثمار ليخرصها ويعرف قدر الزكاة، ويعرِّف المالك ذلك. فإن لم يبعث الإمام أحداً فللمالك أن يأتي بعارف يخرص ما في بستانه من التمر والعنب، سواء أكان من شأنهما اليبس أم لا، كرطب وعنب مصر، ليضبط ما تجب الزكاة فيه منهما. ¬
ترك الثلث أو الربع
ودليلهم: أن النبي صلّى الله عليه وسلم «كان يبعث على الناس من يخرُص عليهم كرومهم وثمارهم» وقال عَتَّاب بن أسيد: «أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يُخْرَص العنب، كما يخرص النخل، فتؤخذ زكاته زبيباً، كما تؤخذ صدقة النخل تمراً» (¬1). ترك الثلث أو الربع: ويدخل جميع الثمر في الخرص، ويترك الخارص عند الشافعية والحنابلة الثلث أو الربع توسعة على أرباب الأموال، لقوله صلّى الله عليه وسلم في حديث سهل بن أبي حثمة: «إذا خرصتم فخذوا، ودعوا الثلث، فإن لم تدَعوا الثلث، فدعوا الربع» (¬2) ولا يترك عند الحنفية والمالكية شيء؛ لأن في إسناد حديث سهل راوياً لا يعرف حاله، كما قال ابن القطان. الاكتفاء بخارص واحد: ويجزئ خارص واحد؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يبعث عبد الله بن رَوَاحة، فيخرُص النخل حين يطيب (¬3)، ولم يذكر معه غيره، ولأن الخارص يفعل ما يؤديه اجتهاده إليه، فهو كالحاكم والقائف. شروط الخارص - شرط الخارص: العدالة أو الأمانة؛ لأن الفاسق لا يقبل قوله، والحرية والذكورة؛ لأن الخرص ولاية، وليس الرقيق والمرأة من أهلها. ولابد أن يكون عالماً بالخرص؛ لأن الخرص اجتهاد، والجاهل بالشيء ليس من أهل الاجتهاد فيه. صفة الخرص - صفة الخرص تختلف باختلاف الثمر: فإن كان نوعاً واحداً، فإنه يطيف بكل نخلة أو شجرة، وينظركم في الجميع رطباً أو عنباً، ثم يقدر ¬
ما يجيء منها تمراً. وإن كان أنواعاً، خرص كل نوع على حدته؛ لأن الأنواع تختلف، فمنها ما يكثر رطبه ويقل تمره، ومنها ما يكون بالعكس، وهكذا العنب. فإذا خرص على المالك وعرَّفه قدر الزكاة، خيره الخارص بين أن يضمن قدر الزكاة، ويتصرف فيها بما شاء من أكل وغيره، وبين حفظها إلى وقت الجداد والجفاف. فإن اختار حفظها ثم أتلفها بتفريطه، فعليه ضمان نصيب الفقراء بالخرص. وإن أتلفها أجنبي، فعليه قيمة ما أتلف. وإن تلفت بجائحة سماوية، سقط عن الملاك الخرص؛ لأنها تلفت قبل استقرار زكاتها، ويسقط من الزكاة بمقدار التالف، ويزكى الباقي إن لم يتلف الكل، وكان الباقي بمقدار النصاب. وإن ادعى المالك هلاك الثمار أو تلفها بغير تفريطه، بسبب خفي كالسرقة، أو ظاهر كحريق أو برد أو نهب، صدق قوله بيمينه عند الشافعية، وبغير يمين عند الحنابلة. خطأ الخارص: إذا أخطأ الخارص التقدير: فزاد أو نقص، يلزم المالك عند الإمام مالك بما قال الخارص، زاد أو نقص، إذا كانت الزكاة متقاربة؛ لأنه حكم واقع لا نقض له (¬1). وقال الشافعية (¬2): إن ادعى المالك حيف الخارص أو غلطه بما يبعد، أي لا يقع عادة من أهل المعرفة بالخرص كالربع مثلاً، لم يقبل قوله إلا ببينة. وإن كان بمحتمل، قبل في الأصح، وحط عنه ما ادعاه؛ لأنه أمين، فوجب الرجوع إليه في دعوى نقصه عند كيله؛ لأن الكيل يقين، والخرص تخمين، فالإحالة عليه أولى. ¬
الخامس ـ ما تسقط به زكاة النبات
وقال الحنابلة (¬1): إن ادعى رب المال غلط الخارص، وكان ما ادعاه محتملاً، قبل قوله بغير يمين، وإن لم يكن محتملاً مثل أن يدعي غلط النصف ونحوه، لم يقبل منه؛ لأنه لا يحتمل، فيعلم كذبه. وإن قال: لم يحصل في يدي غير هذا، قبل منه بغير يمين؛ لأنه قد يتلف بعضها بآفة لا نعلمها. الخامس ـ ما تسقط به زكاة النبات: قال الحنفية وغيرهم (¬2): تسقط هذه الزكاة بعد الوجوب بهلاك الخارج من غير صنع المالك؛ لأن الواجب في الخارج، فإذا هلك هلك بما فيه، كهلاك نصاب الزكاة بعد الحول. وإن استهلك الثمر أو الزرع: فإن استهلكه غير المالك، أخذ الضمان منه، وأدي عشره. وإن استهلك بعضه، أدى عشر القدر المستهلك من الضمان. وإن استهلك المالك أو استهلك البعض، بأن أكله، ضمن عشر الهالك، وصار ديناً في ذمته في قول أبي حنيفة. وتسقط الزكاة عند الحنفية خلافاً لغيرهم بالردة؛ لأن في العشر معنى العبادة، والكافر ليس من أهل العبادة. وكذلك تسقط هذه الزكاة عند الحنفية خلافاً للجمهور بموت المالك من غير وصية، إذا كان استهلك الخارج، كما في بقية أنواع الزكاة. أما إن كان الخارج قائماً بعينه، فيؤدى العشر منه في ظاهر الرواية عند الحنفية. ¬
المطلب الخامس ـ زكاة الحيوان أو الأنعام
المطلب الخامس ـ زكاة الحيوان أو الأنعام: مشروعيتها، وشروطها، وأنواعها ونصاب كل نوع، وزكاة الخليطين في الماشية وغيرها، وأحكام متفرقة في زكاة الحيوان (هل تجب الزكاة في العين أم في الذمة؟ دفع القيمة في الزكاة، ضم أنواع الأجناس إلى بعضها، كون الفرع أو النتاج يتبع الأصل في الزكاة، المستفاد في أثناء الحول، الزكاة في النصاب دون العفو، ما يأخذه الساعي العامل أو الجابي). أولاً ـ مشروعية زكاة الحيوان: تقررت فرضية زكاة الحيوان في السنة النبوية في أحاديث صحاح أو حسنة أشهرها اثنان: الأول ـ حديث أبي بكر (¬1) المتضمن مقدار زكاة الإبل ونصابها، ومقدار زكاة الماشية ونصابها، وكيفية زكاة الخليطين، وما يخرج من زكاة المواشي وهو أوسط الأنواع، لا الهَرِمة والعوراء، والذكر إلا أن يشاء المصدِّق (¬2)، وما يجوز أخذ بعضه عن بعض في الإبل، وكون زكاة الفضة (الرِّقة) ربع العشر. والثاني ـ حديث معاذ المتضمن نصاب زكاة البقر (¬3). وأجمع العلماء على فرضية الزكاة في الأنعام (¬4): الإبل والبقر والغنم ¬
ثانيا ـ شروط وجوب زكاة الحيوان
الإنسية، لا في الخيل والرقيق والبغال والحمير والظباء، وأوجب أبو حنيفة الزكاة في الخيل، خلافاً للصاحبين، فإنهما قالا: لا زكاة في الخيل، وبرأيهما يفتى. ثانياً ـ شروط وجوب زكاة الحيوان: اشترط الفقهاء لوجوب زكاة الحيوان خمسة شروط، على خلاف في بعضها، وهي ما يأتي (¬1): 1ً - أن تكون الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم إنسية، لا وحشية، أما المتولد بين الإنسي والوحشي، كالمتولد من الشاة والظبي أو المتولد من البقر الأهلي والوحشي: فلا زكاة فيه عند الشافعية وفي المشهور عند المالكية؛ لأن الأصل عدم الوجوب، ولا نص ولا إجماع في ذلك إذ لا يطلق عليه اسم الشاة، وهو متولد من وحشي، فأشبه المتولد من وحشيين. وقال الحنابلة: تجب فيه الزكاة كالمتولد بين سائمة ومعلوفة. وقال الحنفية: إن كانت الأم أهلية، وجبت فيه الزكاة ويكمل به النصاب، وإلا فلا؛ لأن ولد البهيمة يتبع أمه (¬2). 2ً - أن تكون الأنعام بالغة نصاباً شرعياً على النحو المبين في السنة، كما سيوضح في زكاة كل نوع. ¬
3ً، 4ً - أن يحول عليها حول كامل في ملك صاحبها: بأن يمضي على تملكها عام كامل من بدء الملكية، ويبقى الملك فيها جميع الحول، فلو لم يمض الحول في ملكه، لم تجب عليه الزكاة، لحديث: «لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول» (¬1)، ولأنه لا يتكامل نماء المال قبل تمام الحول، وذلك إلا في النتاج فإنه يتبع الأمهات في الحول. ولو زال الملك عن الماشية في الحول عن النصاب أو بعضه، ببيع أو غيره، فعاد بشراء أوغيره، أو بادل بمثله مبادلة صحيحة لا للتجارة، كإبل بإبل، أو بجنس آخر كإبل ببقر، استأنف الحول أي بدأ حولاً جديداً لانقطاع الحول الأول بما فعله، فصار ملكاً جديداً، فلا بد من حول جديد للحديث المتقدم. 5ً - كونها سائمة أي راعية في معظم الحول، لا معلوفة، ولا عاملة في حرث ونحوه، وهذا شرط عند الجمهور غير المالكية، لحديث: «في كل سائمة إبل في أربعين بنت لبون» (¬2) وحديث «وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومئة: شاة» (¬3) وتقاس البقر على الإبل والغنم. والسائمة عندالحنفية والحنابلة: هي التى ترعى العشب المباح في البراري في أكثر العام، بقصد الدر أو النسل أو التسمين، فإن أسامها (رعاها) للذبح أو الحمل أو الركوب أو الحرث، فلا زكاة فيها. وإن أسامها للتجارة ففيها زكاة التجارة. ولا يضر العلف اليسير؛ لأن للأكثر حكم الكل. ولو علفها نصف السنة أو أكثر من نصفها، فلا زكاة فيها. ¬
أما إن سامت (رعت) بنفسها بدون أن يقصد مالكها ذلك، فلا زكاة فيها عند الحنفية، وفيها الزكاة عند الحنابلة. والسائمة عند الشافعية: أن يرسلها صاحبها للمرعى في كلأ مباح في جميع الحول أو في الغالبية العظمى منه، ولا يضر علف يسير تعيش بدونه بلا ضرر بيِّن كيوم أو يومين؛ لأن الماشية تصبر اليومين ولا تصبر الثلاثة غالباً، فإن علفت معظم العام، أو في مدة لا تعيش بدونه، أو تعيش في تلك المدة ولكن بضرر بيِّن، فلا تجب زكاتها، لوجود المؤنة (النفقة والمشقة). ولو سامت بنفسها، أوبفعل الغاصب أو المشتري شراء فاسداً، أو كانت عوامل في حَرْث ونَضْح (حمل الماء للشرب) ونحوه، فلا زكاة في الأصح، لعدم إسامة المالك، وإنما اعتبر قصده دون قصد الاعتلاف؛ لأن السوم يؤثر في وجوب الزكاة، فاعتبر فيه قصده، والاعتلاف يؤثر في سقوطها، فلا يعتبر قصده؛ لأن الأصل عدم وجوبها. وبذلك يشترط عند الشافعية: أن يكون كل السوم من المالك، فلا زكاة فيما سامت بنفسها أو أسامها غير المالك. ومذهب المالكية (¬1): أن الزكاة تجب في الأنعام، سواء أكانت سائمة (راعية) أم معلوفة، أم عوامل، لعموم حديث أبي بكر المتقدم في الإبل: «في كل خمس شاة». ومنشأ الخلاف بين الرأيين كما بين ابن رشد: معارضة المطلق للمقيد، ومعارضة دليل الخطاب للعموم، ومعارضة القياس لعموم اللفظ، أما المطلق فحديث: «في كل أربعين شاة شاة» وأما المقيد فحديث «في سائمة الغنم الزكاة» ¬
ثالثا ـ أنواع الأنعام التي تجب فيها الزكاة ونصاب كل نوع منها
فمن غلب المطلق على المقيد، وهم المالكية، قال: الزكاة في السائمة وغير السائمة. ومن غلَّب المقيد وهم الجمهور قال: الزكاة في السائمة منها فقط، وتغليب المقيد علي المطلق أشهر من تغليب المطلق على المقيد. وأما دليل الخطاب (مفهوم المخالفة) فحديث «في سائمة الغنم» يقتضي ألا زكاة في غير السائمة، وعموم حديث «في أربعين شاةً شاةٌ» يقتضي أن السائمة في هذا بمنزلة غير السائمة، وقد أخذ المالكية بمبدأ أن عموم اللفظ أقوى من دليل الخطاب. وأما القياس المعارض لعموم حديث «في أربعين شاة شاة»: فهو أن السائمة هي التي يتحقق مقصود الزكاة فيها وهو النماء والربح، وهو الموجود فيها أكثر ذلك، والزكاة إنما هي فضلات الأموال، والفضلات إنما توجد في الأموال السائمة، ولذلك اشترط فيها الحول، فالجمهور خصصوا بهذا القياس ذلك العموم، فلم يوجبوا الزكاة في غير السائمة. والمالكية لم يخصصوا ذلك، ورأوا أن العموم أقوى، فأوجبوا الزكاة في الصنفين جميعاً. ورأيي أن قول الجمهور أصح، لاشتمال آخر الحديث صراحة على كون الماشية سائمة، وهو الذي يجب حمل أول الحديث عن الإبل عليه، إذ لا يعقل تعارض آخر الحديث مع أوله، فحديث أنس المتضمن كتاب أبي بكر في فرائض صدقة المواشي ذكر فيه أولاً مقادير زكاة الإبل، ثم ذكر فيه زكاة الغنم بلفظ «وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين ففيها شاة إلى عشرين ومئة». ثالثاً ـ أنواع الأنعام التي تجب فيها الزكاة ونصاب كل نوع منها: تجب الزكاة في الإبل والبقر والغنم، وأوجب أبو حنيفة خلافاً لصاحبيه
زكاة الإبل
الزكاة في الخيول، والفتوى على قولهما أنه لا زكاة في الخيل إلا إذا كانت للتجارة ..... زكاة الإبل: الإبل: الذكور والإناث، الكبار والصغار، والصغار تبع للكبار، والمقصود منها السوائم عند غير المالكية، وكذا المعلوفة عند المالكية: لا زكاة فيما دون خمس من الإبل بإجماع المسلمين، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل، فليس عليه فيها صدقة، إلا أن يشاء ربها» وقال: «ليس فيما دون خمس ذَوْدٍ صدقة» (¬1) وأجمع العلماء على أن في خمس من الإبل شاةً، وفي العشر شاتين، وفي الخمس عشرة ثلاث شياه، وفي العشرين أربع شياه (¬2)، لحديث أبي بكر المتقدم. ولا يجزئ في الغنم المخرجة في الزكاة إلا الجَذَع من الضأن والثني من المعز (¬3)، فيخرج أحدهما بحسب غالب غنم البلد من المعز والضأن عند المالكية، ولا يتعين عند الجمهور غالب غنم البلد، لخبر «في كل خمس شاة» والشاة تطلق على الضأن والمعز. وأجمعوا على أنه إذا بلغت خمساً وعشرين إلى خمس وثلاثين (25 - 35) ففيها بنت مخاض (وهي التي لها سنة من الإبل ودخلت في الثانية)، وأضاف الشافعية والمالكية: أو ابن لبون له سنتان إن فقدها. ¬
وفي ست وثلاثين إلى خمس وأربعين (36 - 45) بنت لبون (وهي ماأتمت سنتين ودخلت في الثالثة. وفي ست وأربعين إلى ستين (46 - 60) حِقَّة (وهي ما أتمت ثلاث سنين ودخلت في الرابعة). وفي إحدى وستين إلى خمس وسبعين (61 - 75) جَذَعة (وهي ما أتمت أربع سنين ودخلت في الخامسة) (¬1). وفي ست وسبعين إلى تسعين (76 - 90) بنتا لبون. وفي إحدى وتسعين إلى مئة وعشرين (91 - 120) حقتان، كما دلت كتب السنة في حديث أبي بكر .. وفي مئة وإحدى وعشرين إلى مئة وتسع وعشرين (121 - 129) ثلاث بنات لبون عند الجمهور. وعند الحنفية: حقتان وشاة؛ لأنه إذا زادت عن مئة وعشرين تستأنف عندهم الفريضة، فيكون في الخمس من الإبل شاة مع الحقتين، وفي العشر شاتان، وفي خمس عشرة ثلاث شياه، وفي العشرين أربع شياه، وفي خمس وعشرين بنت مخاض مع الحقتين، فإذا بلغت مئة وخمسين فيكون فيها ثلاث حِقاق، فإذا زادت عن ذلك تستأنف الفريضة أيضاً على النحو المذكور، ففي الخمس شاة مع ثلاث حقاق إلخ. ويخير الساعي لا المالك عند المالكية في (121 - 129) بين حقتين وبين ثلاث ¬
بنات لبون إذا وجد الصنفان عند المزكي، أو فقدا، ويتعين عليه أخذ ما وجد عند رب المال من الحقتين أو ثلاث بنات اللبون. وفي مئة وثلاثين فأكثر: في كل أربعين عند الجمهور بنت لبون، وفي كل خمسة حقة، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «فإذا زادت على عشرين ومئة، ففي كل أربعين بنت لبون» (¬1) وفي رواية الدارقطني: «إلى عشرين ومئة، فإذا زادت واحدة ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقه». وأما الحنفية فقالوا كما تقدم: إذا زادت عن مئة وعشرين تستأنف الفريضة في مواضع ثلاثة، أي أنه لا يجب فيما زاد على مئة وعشرين حتى تبلغ الزيادة خمساً، فإذا بلغت خمساً كان فيها شاة مع الواجب المتقدم، وهو الحقتان. الموضع الأول: تستأنف الفريضة بعد الـ 121: ففي 121 - 129 تجب حقتان وشاة. وفي 130 - 134 تجب حقتان وشاتان. وفي 135 - 139 تجب حقتان وثلاث شياه. وفي 140 - 144 تجب حقتان وأربع شياه. وفي 145 - 149 تجب حقتان وبنت مخاض. والموضع الثاني: تستأنف الفريضة من 150. ففي 150 - 154 يجب الفريضة من150. وفي 155 - 159 يجب ثلاث حقاق وشاة. ¬
حالة مصادفة الفرضين
وهكذا مع الثلاث حقاق يكون في الخمس شاة، وفي العشر شاتان، وفي خمس عشرة ثلاث شياه، وفي عشرين أربع شياه، وفي خمس وعشرين بنت مخاض، وفي ست وثلاثين بنت لبون، فإذا بلغت مئة وستاً وتسعين (196) ففيها أربع حقاق، إلى مئتين (200). والموضع الثالث: بعد المئتين تستأنف الفريضة أبداً كما تستأنف في الخمسين بعد المئة والخمسين (150) حتى يجب في كل خمسين حقة. ولا تجزئ عندهم ذكور الإبل إلا بالقيمة للإناث، بخلاف البقر والغنم، فإن المالك مخير. ودليلهم على استئناف الفريضة: ما وجد في كتاب أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم المتضمن ما يخرج من فرائض الإبل حتى عشرين ومئة: «فإذا كانت أكثر من عشرين ومئة، فإنها تعاد إلى أول فريضة الإبل» (¬1). اتفق الفقهاء على أن ما بين الفريضتين من الفرائض المتقدمة وهو ما يسمى الأوقاص معفو عنه، فالخمس إلى التسع من الإبل فيها شاة واحدة، ولا شيء في مقابل الزائد عن الخمس، لما روى أبو عبيد عن يحيى بن الحكم أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن الأوقاص لا صدقة فيها» ولأن العفو مال ناقص عن نصاب. حالة مصادفة الفرضين: ذكر الشافعية (¬2): أنه لو اتفق فرضان في الإبل كمئتي بعير، ففيها أربع حقاق أو خمس بنات لبون، فالمذهب عندهم: لا يتعين أربع حقاق، بل هن، أو خمس بنات لبون؛ لأن المئتين أربع خمسينات أو خمس أربعينات، لحديث أبي داود وغيره عن كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «فإذا كانت مئتين ¬
الجبران حالة فقد أحد الفروض
ففيها أربع حقاق أو خمس بنات لبون، أيّ السنَّين وجدت أخذت» فإن وجد المالك بماله أحدهما أخذ منه، وإن لم يجد فله تحصيل ما شاء من النوعين بشراء أو غيره. وإن وجد الفرضين معاً في ماله تعين الأغبط (أي الأنفع للمستحقين بزيادة قيمة أوغيرها)، ولا يجزىء غير الأغبط إن دلّس الدافع في إعطائه بأن أخفي الأغبط، وقصر الساعي، وإن لم يدلس الدافع ولم يقصر الساعي، فيجزئ المدفوع عن الزكاة مع وجوب قدر التفاوت بينه وبين قيمة الأغبط؛ لأنه لم يدفع الفرض بكماله، فوجب جبر نقصه. الجبران حالة فقد أحد الفروض: من فقد واجبه، كأن لزمه بنت مخاض، فلم يجدها عنده، صعد إلى أعلى منه وأخذ من المدفوع له شاتين (¬1) أو عشرين درهماً (¬2)، عملاً بما روى البخاري عن أنس في كتاب أبي بكر المتقدم، أو نزل إلى أسفل من الواجب بدرجة وأعطى على حسب اختياره شاتين أو عشرين درهماً. وهذا رأي الشافعية والحنابلة (¬3)، وقال الحنفية: يدفع المالك في هذه الحالة قيمة ما وجب عليه، أو يدفع ما دون السن الواجبة والفرق المطلوب من الدراهم، أو أخذ الساعي أعلى منها ورد الفضل (¬4). وله صعود درجتين وأخذ جبرانين، كإعطاء بنت مخاض بدل الحقة بشرط تعذر وجود الدرجة القربى في تلك الجهة، فلا يصعد عن بنت المخاض إلى الحقة، أو ينزل عن الحقة إلى بنت المخاض إلا عند تعذر بنت اللبون، لإمكان الاستغناء عن الجبران الزائد. ¬
زكاة البقر
واتفق الفقهاء على أنه يجوز أن يخرج المالك عن الواجب سناً أعلى من جنسه؛ لأنه زاد على الواجب من جنسه. زكاة البقر: ثبتت فرضية زكاة البقر كما تقدم بالسنة والإجماع، أما السنة فمنها حديث معاذ: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن، وأمره أن يأخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعاً أو تبيعة، ومن كل أربعين مُسِنَّة، أو عَدْله مَعَافرياً» (¬1) والتبيع: ذو الحول ذكراً كان أو أنثى، والمسنة: ذات الحولين، والمعافر: الثياب الممعافرية، نسبة إلى حي في اليمن تنسب إليهم هذه الثياب. ومنها حديث أبي ذر: «ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا تؤدى زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت، وأسمن، تنطحه بقرونها، وتطؤه بأخفافها، كلما نفذت أخراها، عادت عليها أولاها، حتى يقضى بين الناس» (¬2). ولا زكاة فيما دون الثلاثين من البقر، لحديث معاذ السابق، ولا زكاة عند الجمهور في غير السائمة، وعند المالكية: تجب الزكاة في المعلوفة والعوامل، كالإبل. والأرجح كما تقدم رأي الجمهور، لحديث: «ليس في البقر العوامل صدقة» (¬3). ولأن صفة النماء معتبرة في الزكاة، ولا يوجد إلا في السائمة. واتفق الفقهاء (¬4) عملاً بحديث معاذ على أن أول نصاب البقر ومثله ¬
العفو
الجاموس ثلاثون، ففي ثلاثين إلى تسع وثلاثين (30 - 39) بقرة: تبيع أو تبيعة، وهو عند الجمهور: ما أتم السنة ودخل في الثانية، وعند المالكية: ما أتم سنتين ودخل في الثالثة، وذلك إذا حال عليها الحول. وأوجب الحنفية الزكاة في البقر والجاموس ولو متولداً من وحشي وأهلية بخلاف عكسه، أي المتولد من أهلي ووحشية، كما بينت. وفي أربعين إلى تسع وخمسين (40 - 59): مسنّة: وهي عند الجمهور ما أتمت السنتين ودخلت في الثالثة، وهي الثنية. وقال المالكية: هي ما أوفت ثلاث سنين ودخلت في الرابع. وأجاز الحنفية في هذا النصاب دفع مُسنِّ ذكر أو مسنة. ثم في كل ثلاثين بدءاً من الستين تبيع، وفي كل أربعين مسنة. ففي (60 - 69): تبيعان أو تبيعتان، وفي (70 - 79):مسنة وتبيع، يدفع عن 40 مسنة وعن 30 تبيع، وفي (80 - 89) مسنتان، وفي (90 - 99) ثلاثة أتبعة، وفي مئة تبيعتان ومسنة، عن 60 تبيعان، وعن 40مسنة، وهكذا يتغير الفرض في كل عشرة من تبيع إلى مسنة، عملاً بحديث معاذ. وقال المالكية: في مئة وعشرين، يخير الساعي (آخذ الزكاة) بين أخذ ثلاث مسنات أو أربعة أتبعة إذا وجد الصنفان معاً أو فقدا معاً. فإذا وجد أحدهما فقط عند المالك تعين أخذه. العفو: وما بين الفريضتين عفو إلا فيما زاد على الأربعين إلى الستين، فيجب عند أبي حنيفة في الزيادة بقدر ذلك، ففي الواحدة: ربع عشر مُسِنَّة، وفي الاثنين: نصف عشر مسنة، وفي الثلاثة: ثلاثة أرباع عُشْر مسنة، وفي الأربع: عُشْر مسنَّة.
زكاة الغنم
وقال الصاحبان: وعلى رأيهما الفتوى، وقولهما هو المختار: لا شيء في الزيادة على الأربعين، حتى تبلغ إلى ستين، فيكون فيها تبيعان أو تبيعتان ولا خلاف في أن الجواميس والبقر سواء لاتحاد الجنسية، إذ هو نوع منه. ولا يخرج الذكر في الزكاة أصلاً إذا كانت الحيوانات ذكوراً وإناثاً؛ لأن الأنثى أفضل، لما فيها من الدر والنسل، إلا في البقر، لنص حديث معاذ السابق. فإن كان النصاب كله ذكوراً، أجزأ الذكر في جميع أنواع زكاة الحيوان من إبل أو بقر أو غنم؛ لأن الزكاة وجبت مواساة، فلا يكلفها من غير ماله ..... زكاة الغنم: تشمل الضأن والمعز، ذكوراً وإناثاً: وهي أيضاً واجبة بالسنة والإجماع كما تقدم، أما السنة فحديث أنس في كتاب أبي بكر المذكور فيه: «وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومئة شاةٍ: شاةٌ، فإذا زادت على عشرين ومئة إلى مئتين، ففيها شاتان، فإذا زادت على مئتين إلى ثلاث مئة، ففيها ثلاث شياه، فإذا زادت على ثلاث مئة، ففي كل مئةٍ: شاة». فإذا كانت سائمة الرجل ناقصةً عن أربعين شاةً: شاةً واحدةً، فليس فيها صدقة، إلا أن يشاء ربها. ولا يُجمع بين مُتفرِّق، ولا يُفرَّق بين مُجتَمِِع خشية الصدقة (¬1). وما كان من ¬
خليطين، فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية (¬1). ولا يُخرج في الصدقة هَرِمة ولا ذات عُوار، ولا تيس إلا أن يشاء المصدِّق (¬2). وبناء عليه اتفق الفقهاء (¬3) على أنه ليس فيما دون أربعين من الغنم السائمة أكثر السنة صدقة، لعدم بلوغ النصاب، ولا زكاة عند الجمهور في المعلوفة والعوامل؛ لأنها من الحوائج الأصلية. وسوى المالكية بين المعلوفة والسائمة في وجوب الزكاة. فإذا كانت أربعين إلى مئة وعشرين (40 - 120): شاة، وحال عليها الحول، ففيها شاة واحدة. وفي مئة وإحدى وعشرين إلى مئتين (121 - 200): شاتان. وفي مئتين وواحدة إلى ثلاث مئة وتسع وتسعين (201 - 399): ثلاث شياه. وفي أربع مئة (400): أربع شياه. ثم في كل مئة: شاة. ولا خلاف في أن الضأن والمَعِز سواء في النصاب والوجوب وأداء الواجب، ¬
زكاة الخيل والبغال والحمير
ولا يؤخذ إلا الثني وهو ما تمت له سنة عند الجمهور، وشرط الشافعية في المعز أن يكون له سنتان، واكتفى الحنابلة في جذع الضأن أن يكون مما له ستة أشهر، فإن تطوع المالك بأفضل منها في السن، جاز، ودليل الحنابلة: ما رواه مالك عن سويد ابن غفلة قال: «أتانا مصدّق رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقال: أمرنا أن نأخذ الجذعة من الضأن، والثنية من المعز» قال إبراهيم الحربي: إنما أجزأ الجذع من الضأن لأنه يلقح، والمعز لايلقح، إلا إذا كان ثنياً. واتفق الفقهاء على أن ما بين الفريضتين في كل الأحوال عفو، لا زكاة فيه. والأصح عند الشافعية: أنه يجوز إخراج ضأن عن معز أو عكسه، بشرط رعاية القيمة، كأن تساوي ثنية المعز في القيمة جَذَعة الضأن، وعكسه، لاتحاد الجنس. وأجاز الحنابلة أيضاً إخراج ثنية المعز (وهي ما لها سنة كاملة) عن جذع الضأن، وإخراج جذع الضأن (وهو ما له ستة أشهر فأكثر) عن ثنية المعز، ولا يجبر أحدهما عن الآخر بالقيمة، لعدم وروده. زكاة الخيل والبغال والحمير: لا شيء من الزكاة في البغال إجماعاً إلا أن تكون للتجارة؛ لأنها تصير من العروض التجارية، وتجب الزكاة أيضاً في الخيل إن كانت للتجارة بلا خلاف. وأما الخيل غير التجارية: فقال أبو حنيفة (¬1): إذا كانت سائمة ذكوراً وإناثاً، أو إناثاً فقط، من أجل الدر والنسل، فتجب فيها الزكاة، وصاحبها بالخيار: إن ¬
شاء أعطى عن كل فرس ديناراً، وإن شاء قوَّمها، وأعطى عن كل مئتي درهم خمسة دراهم كعروض التجارة، وأما ذكور الخيل السائمة منفردة فلا زكاة فيها، لعدم الرواية في السنة. ودليله: حديث جابر: «في كل فرس سائمة دينار أو عشرة دراهم» (¬1)، وروي أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما في صدقة الخيل: أن خيّر أربابها، فإن شاؤوا أدوا من كل فرس ديناراً، وإلا قوِّمْها، وخذ من كل مئتي درهم خمسة دراهم (¬2). وقال الصاحبان، وبقولهما يفتى: لا زكاة في الخيل ولا في شيء من البغال والحمير إلا أن تكون للتجارة. وهذا موافق لرأي بقية الأئمة (¬3). بدليل حديث «ليس على المسلم صدقة في عبده ولا فرسه» (¬4)، وقال أبو هريرة: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الحمير، فيها زكاة، فقال: ما جاءني فيها شيء إلا هذه الآية الفاذّة: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} [الزلزلة:7/ 99 - 8] (¬5) وروى علي حديث «عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق» (¬6). وأما عمر فإنما أخذ منهم شيئاً تبرعوا به، وسألوا أخذه، وعوضهم عنه برزق عبيدهم. وهذا الرأي هو الصحيح. وبه يتبين أن ليس في الإسلام زكاة خيل وبغال وحمير. ¬
رابعا ـ زكاة الخليطين في الماشية وغيرها
رابعاً ـ زكاة الخليطين في الماشية وغيرها: لا يتأثر وجوب الزكاة عند الحنفية بالخلطة أي الشركة؛ لأن ملك كل واحد دون النصاب، كما لو لم يختلط بغيره، فإذا اختلطا في نصابين بأن كان كل واحد منهما يملك أربعين من الغنم، وجبت على كل واحد منهما شاة، للحديث النبوي: «في أربعين شاةً شاةٌ». وقال الجمهور: للخلطة في الماشية تأثير في الزكاة، فيزكى الخليطان زكاة المالك الواحد، إلا أن المالكية قالوا: إن اجتمع نصاب من مجموع حصة كليهما فلا زكاة عليهما، والخلطة إنما تؤثر إذا كان لكل واحد من الشركاء نصاب. وتفصيل مذاهب الجمهور ما يأتي: قال المالكية (¬1): خلطاء الماشية المتحدة النوع يكون حكمهم حكم المالك الواحد في الزكاة، كثلاثة لكل واحد أربعون من الغنم، فعليهم شاة واحدة، على كل ثلثها، فالخلطة أثرت فأوجذت التخفيف، أما لو كانوا متفرقين فعلى كل واحد شاة. وقد تؤدي الخلطة إلى التثقيل، كما لو كان لأحدهما مئة وشاة وللآخر مئة من الغنم وشاة، فعليهما ثلاث شياه، ولولا الخلطة لكان على كل منهما شاة واحدة، فالخلطة أوجبت الثالثة، فلا يفرق بين مجتمع، ولا يجمع بين مفترق، خشية الزكاة. ولا تؤثر الخلطة إلا إذا كان لكل واحد من الخليطين مقدار النصاب لو انفرد بنفسه، فإن اجتمع نصاب من مجموع الحصتين، فلا زكاة عليهما. وإن لم يكمل من مجموعهما نصاب فلا زكاة عليهما إجماعاً. وإن كان لأحدهما نصاب وللآخر أقل من نصاب، فيزكي صاحب النصاب وحده زكاة المنفرد. ¬
الشافعية والحنابلة
والاختلاط المؤثر يكون بتوافر شروط أربعة: أولها ـ عدم نية الفرار من الزكاة بالاشتراك. ثانيها ـ أن تكون ماشية كل واحد من الخليطين مما يضم بعضه إلى بعض كالضأن والمعز. ثالثها ـ أن يكون كل واحد من الشريكين مخاطباً شرعاً بالزكاة: بأن يكون حراً، مسلماً، ملك نصاباً، تم حوله. فإن كان أحدهما تجب عليه الزكاة فقط والآخر كافر مثلاً، وجبت على الأول وحده، حيث توفرت الشروط. وإن حال الحول على ماشية أحدهما دون الآخر، زكى الآخر زكاة المنفرد. رابعها ـ أن يتم الاختلاط في الراعى والفحل والدلو والمسرح والمبيت. بأن يكن لهما راع واحد أو أكثر، فيشتركان في الرعي، أو يتعاونان ولو لم يحتج لهما، ويتم التلقيح في الجميع بفحل واحد بإذنهما، وتشرب من ماء واحد مملوك لهما أو لأحدهما ولا يمنع الآخر، وتسرح معاً، وتبيت معاً، إلا أنه إذا تعدد المسرح أو المبيت بشرط الحاجة فلا يضر. وقال الشافعية والحنابلة (¬1): إما أن تكون الخلطة أي الشركة في المواشي، أو في غيرها من الأموال. أـ أما في غير المواشي وهي النقود (الأثمان) والحبوب والثمار وعروض التجارة، فلا تؤثر الخلطة فيها عند الحنابلة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يجمع بين متفرق خشية الصدقة» لأنه إنما تكون الخلطة في الماشية، لأن فيها منفعة أحياناً وضرراً ¬
أحياناً، أما غير الماشية فلا يتصور فيها غير الضرر برب المال، لأنه تجب فيها الزكاة فيما زاد على النصاب بحسابه، فلا أثر لجمعها، أي لا يعفى منها شيء بعد النصاب، وعليه فتؤخذ من كل واحد منهم زكاته على انفراد إذا كان ما يخصه تجب فيه الزكاة. وتؤثر الخلطة على الجديد في مذهب الشافعية في غير المواشي، لعموم الحديث السابق: «لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة»،ولأنه مال تجب فيه الزكاة فأثرت الخلطة في زكاتها كالماشية، ولأن المالين كالمال الواحد في المؤن (التكاليف) من مخزن وناطور وغيرهما، فهي كالمواشي، فتخف المؤونة إذا كان المخزن والميزان والبائع واحداً. والخلاصة: إن الحنابلة قالوا: لا منفعة للشركاء في الشركة في غير الماشية، وقال الشافعية: المنفعة متوفرة، فيزكى المالان كالمال الواحد. ب ـ أما الخلطة في المواشي: بأن اشترك أهل الزكاة في ماشية، فلها تأثير عند الشافعية والحنابلة في الزكاة إيجاباً وإسقاطاً وتشديداً وتخفيفاً، فتصير الأموال كالمال الواحد، للحديث السابق: «لا يجمع بين متفرِّق ولا يُفَرَّق بين مجتمع .. » نهى المالك عن التفريق وعن الجمع خشية وجوب الزكاة أو كثرتها، ونهى الساعي عنها خشية سقوطها أو قلتها. والخلطة الجائزة المؤثرة نوعان: خلطة شيوع أو أعيان، وخلطة مجاورة أو أوصاف. أما خلطة الأعيان: فهي أن يشترك أهل الزكاة في ماشية من جنس واحد بإرث أوشراء أو هبة أو غيره، وهي نصاب، أو أقل ولأحدهما نصاب فأكثر وداما على ذلك كإرث أخوين أربعين غنمة، أو شراء اثنين معاً ثلاثين بقرة. أو هي أن
تكون الماشية مشتركة بينهما لكل واحد منهما منها نصيب مشاع، أي أن المالين هنا ممتزجان امتزاج شيوع، فلا يتميز أحدهما عما يملكه الآخر، وإنما لكل منهما جزء غير متعين من المال المملوك بنسبة ما يملك. وأما خلطة المجاورة أو الأوصاف: وهي أن يكون مال كل واحد منهما مميزاً، فخلطاه واشتركا في الأوصاف التي نذكرها، سواء تساويا في الحصة أو اختلفا، مثل أن يكون لرجل شاة، ولآخر تسعة وثلاثون، أو يكون لأربعين رجلاً أربعون شاة، لكل واحد منهم شاة، أي أن المالين هنا غير ممتزجين، بل هما منفصلان متميزان. فلا يشترط عندهم خلافاً للمالكية أن تكون حصة كل منهم قبل الاشتراك نصاباً، ولا تشترط نية الخلطة؛ لأن خفة المؤنة على الشركاء باتحاد المواقف لا تختلف قصداً وعدمه، أي أن المقصود بالخلطة من الارتفاق يحصل بدونها، ولأن النية لا تؤثر في الخلطة، فلا تؤثر في حكمهما. وإنما اشترط الاتحاد في أمور ليجمع المالان كالمال الواحد، ولتخف المؤنة على المحسن بالزكاة. وهذه الشركة بنوعيها قد تفيد الشريكين تخفيفاً كالاشتراك في ثمانين شاة على السواء، أو تثقيلاً كالاشتراك في أربعين، أو تخفيفاً على أحدهما وتثقيلاً على الآخر، كأن ملكا ستين لأحدهما ثلثاها وللآخر ثلثها، وقد لا تفيد تخفيفاً ولا تثقيلاً كمئتين على السواء. وتجب الزكاة في مال الشركة كما تجب في مال الرجل الواحد بشروط: 1ً - أن يكون الشريكان من أهل وجوب الزكاة، ومن المعلوم أنه لا تجب الزكاة إلا على حر مسلم تام الملك.
2ً - أن يكون المال المختلط نصاباً، فلا زكاة على ما لم يبلغ مقدار النصاب. 3ً - أن يمضي عليهما حول كامل، وإلا زكى كل منهما على انفراد بحسب مضي حوله، فإن كان لرجل أربعون شاة، ومضى عليهما بعض الحول، ثم باع بعضها مشاعاً، انقطع حول البائع فيما لم يبع، ويستأنفان حولاً جديداً من حين البيع. 4ً - ألا يتميز مال أحدهما عن الآخر في ستة أوصاف: المسرح، والمبيت (المُراح) والمشرب (مكان الشرب فقط)، والمحلب (موضع الحلب)، والفحل (¬1)، والراعي؛ لأنه إذا تميز مال كل واحد منهم بشيء مما ذكر، لم يصيرا كمال واحد، والقصد بالخلطة (الشركة): أن يصير المالان كمال واحد لتخف المؤنة (النفقة). ويجوز تعدد الرعاة قطعاً بشرط ألا تنفرد هذه عن هذه براع. والأصل في هذه الشروط الحديث السابق: «لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، وما كان من خليطين، فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية» ولأن المالين صارا كمال واحد في المؤن، فوجب أن تكون زكاته زكاة المال الواحد ويؤيد ذلك حديث آخر: «والخليطان: ما اجتمعا على الفحل والرعي والحوض» (¬2) فنص على هذه الثلاثة، ونبّه على ما سواها. ¬
ما يأخذه الساعي من مال الشركة (الخلطة) والتراجع فيما بينهم بالحصص
ما يأخذه الساعي من مال الشركة (الخلطة) والتراجع فيما بينهم بالحصص: قال الشافعية في الأصح والحنابلة في ظاهر كلام أحمد (¬1): يأخذ الساعي فرض الزكاة من مال أي الخليطين إن شاء، سواء دعت الحاجة إلى ذلك أم لا، مثال الحاجة: أن تكون الفريضة عيناً واحدة، لا يمكن أخذها إلا من أحد المالين، ومثال عدم الحاجة: أن يجد فرض كل واحد من المالين فيه؛ لأن المالين بالخلطة جعلا كالمال الواحد في وجوب الزكاة، فوجب أن يجوز الأخذ منهما. ودليل ذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة» وهما خشيتان: خشية رب المال من زيادة الصدقة، وخشية الساعي من نقصانها، فليس لأرباب الأموال أن يجمعوا أموالهم المتفرقة التي كان الواجب في كل واحد منها شاة، ليقل الواجب فيها، ولا أن يفرقوا أموالهم المجتمعة التي كان فيها باجتماعها فرض، ليسقط عنها بتفرقتها، وليس للساعي أن يفرق بين الخلطاء لتكثر الزكاة، ولا أن يجمعها إذا كانت متفرقة لتجب الزكاة. ومتى أخذ الساعي الفرض من مال أحدهما، رجع على شريكه بقدر حصته من الفرض، وهذا رأي المالكية أيضاً (¬2)، عملاً بالحديث السابق عن أنس: «ما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بالسوية» فإذا كان لأحدهما ثلث المال، وللآخر ثلثاه، فأخذ الفرض من مال صاحب الثلث، رجع بثلثي قيمة المخرج على صاحبه، وإن أخذه من الآخر، رجع على صاحب الثلث بثلث قيمة المخرج. ¬
خامسا ـ أحكام متفرقة في زكاة الحيوان
والقول قول المرجوع عليه مع يمينه إذا اختلفا، وعدمت البينة؛ لأنه غارم، فكان القول قوله، كالغاصب إذا اختلف مع المالك في قيمة المغصوب بعد تلفه. وإن أخذ الساعي أكثر من الفرض بغير تأويل، مثل أن يأخذ شاتين مكان شاة، أو يأخذ جذعة مكان حقة، لم يكن للمأخوذ منه الرجوع إلا بقدر الواجب دون الزيادة؛ لأنه ظلمه، فلا يرجع به على غير الظالم. وإن أخذ أكثر من الحق بتأويل سائغ، كأن يأخذ الصحيحة عن المراض، والكبيرة عن الصغار، فإنه يرجع على شريكه بنصف ما أخذ منه؛ لأن ذلك اجتهاد من السلطان، فلا ينقض ما فعله باجتهاده. وكذلك يرجع عليه إن أخذ منه قيمة الفرض؛ لأنه أخذها باجتهاده. خامساً ـ أحكام متفرقة في زكاة الحيوان: 1 - هل تجب الزكاة في العين أو في الذمة؟ للفقهاء رأيان (¬1): أـ قال الحنفية والمالكية والشافعي في مذهبه الجديد: الزكاةتجب في العين دون الذمة، فإذا هلك المال بعد وجوب الزكاة، ولو بعد مَنْع الساعي في الأصح عند الحنفية، سقطت الزكاة عنه، لأنه حق يتعلق بالمال، فيسقط بهلاكه، فيتعلق بعينه، كحق المضارب. وإذا هلك بعض المال سقط حظه من الزكاة. أما الاستهلاك فلا يسقط الزكاة؛ لأنها بعد الوجوب بمنزلة الأمانة، فإذا استهلكها صاحبها ضمنها كالوديعة. ¬
2 - دفع القيمة في الزكاة
ب ـ وقال الحنابلة: تجب الزكاة في الذمة بحلول الحول، وإن تلف المال فرط أو لم يفرط، وإذا حال الحول على مال ولم يؤد زكاته، وجب أداؤها لما مضى. وفرع الشافعية أيضاً على مبدأ تعلق الزكاة بالعين دون الذمة: أنه إذا باع المالك مال الزكاة بعد وجوبها فيه، سواء أكان تمراً أم حباً أم ماشية أم نقداً أم غيره، قبل إخراجها، كان البيع باطلاً في قدر فرض الزكاة، وقدر الفرض للمساكين، فلا يجوز بيعه بغير إذنهم؛ لأنهم شركاء فيه. وأجاز الحنفية والحنابلة بيع مال الزكاة، على أن يضمن البائع قدر الزكاة. 2 - دفع القيمة في الزكاة: أـ قال الحنفية (¬1) تفريعاً على مبدئهم أن الواجب في الزكاة جزء من النصاب إما صورة ومعنى، أو معنى فقط: يجوز دفع القيمة في الزكاة، وكذا في العشر والخراج وزكاة الفطرة والنذر والكفارة غير الإعتاق، وتعتبر القيمة يوم الوجوب عند الإمام أبي حنيفة، وعند الصاحبين: يوم الأداء، وفي السوائم يوم الأداء بالاتفاق بينهم، ويُقوَّم الواجب في البلد الذي فيه المال، فإن كان في مفازة ففي أقرب الأمصار إليه. ودليلهم أن الواجب أداء جزء من النصاب من حيث المعنى، وهو المالية، وأداء القيمة مثل أداء الجزء من النصاب من حيث إنه مال، ولأن في ذلك تيسيراً على المزكي، وتوفيراً لحرية الفقير في التصرف بالمال بحسب الحاجة. وقد روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم رأى في إبل الصدقة ناقة كوماء (¬2)، فغضب على المصدِّق (العامل)، وقال: ألم أنهكم عن أخذ كرائم أموال الناس (¬3)؟ فقال: ¬
أخذتها ببعيرين من إبل الصدقة، وفي رواية: ارتجعتها، فسكت رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فأخذ البعير ببعيرين يكون باعتبار القيمة (¬1). ب ـ وقال الجمهور (¬2): لا يجزئ إخراج القيمة في شيء من الزكاة؛ لأن الحق لله تعالى، وقد علقه على ما نص عليه، فلا يجوز نقل ذلك إلى غيره، كالأضحية لما علقها على الأنعام، لم يجز نقلها إلى غيرها. وبعبارة أخرى: إن الزكاة قربة لله تعالى، وكل ما كان كذلك، فسبيله أن يتبع فيه أمر الله تعالى. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «في أربعين شاة شاة، وفي مئتي درهم خمسة دراهم» وهو وارد بياناً لمجمل قوله تعالى: {وآتوا الزكاة} [البقرة:277/ 2] فتكون الشاة المذكورة هي الزكاة المأمور بها، والأمر يقتضي الوجوب، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: «خذ الحب من الحب، والشاة من الغنم، والبعير من الإبل، والبقرة من البقر» (¬3) وهو نص يجب التزامه، ولا يتجاوز عنه إلى القيمة؛ لأنه يكون أخذاً من غير المأمور به في الحديث، ولأن مخرج القيمة قد عدل عن المنصوص، فلم يجزئه، كما لو أخرج الرديء مكان الجيد، وهذا كله يدل على أن الزكاة واجبة في العين. قال الشافعية: لا يجوز أخذ القيمة في الزكاة إلا في خمس مسائل: زكاة التجارة، والجُبران (وهو شاتان أوعشرون درهماً في الإبل في حال عدم وجود الواجب)، وفي حالة إخراج الشاة عن الإبل دون الخمسة والعشرين، علماً بأن ¬
3 - ضم أنواع الأجناس إلى بعضها
الشاة وإن لم تكن قيمة فهي بمعناها، وفي حالة جبر التفاوت بين الأغبط وغيره بنقد أو جزء من الأغبط فيما لو أخذ الساعي في اجتماع فرضين غير الأغبط باجتهاده بلا تقصير منه، ولا تدليس من المالك. وفي حالة صرف الإمام للمستحقين ما أخذه من النقد من المستحق الذي استغنى بدلاً عن زكاة تعجلها، ولم يقع المعجل الموقع المطلوب لاستغناء المستحقين. وأرجح رأي الحنفية؛ لأن المقصود من الزكاة إغناء الفقير وسد حاجة المحتاج، وهذا يتحقق بأداء القيمة، كما يحصل بأداء جزء من عين المال المزكى، ولأن الفقير يرغب الآن في القيمة أكثر من رغبته في أعيان الأموال، ولأن إعطاء القيمة أهون على الناس وأيسر في الحساب. 3 - ضم أنواع الأجناس إلى بعضها: لا خلاف بين أهل العلم في ضم أنواع الأجناس، بعضها إلى بعض في إيجاب الزكاة (¬1)، فيضم المعز إلى الضأن، والجواميس إلى البقر، والبُخْت (¬2) من الإبل إلى العِرَاب. ويخرج المزكي عند الجمهور الزكاة من أي الأنواع أحبَّ، سواء دعت الحاجة إلى ذلك: بأن يكون الواجب واحداً، أو لا يكون أحد النوعين موجباً لواحد، أو لم تدع الحاجة: بأن يكون كل واحد من النوعين يجب فيه فريضة كاملة؛ لأنهما نوعا جنس واحد، من الماشية، فجاز الإخراج من أيهما شاء. ¬
4 - كون الفرع أو النتاج يتبع الأصل في الزكاة
فإن كانت عشرين ضأناً، وعشرين معزاً، أخذ من أحدهما ما يكون قيمته نصف شاة ضأن ونصف معز. وقال الشافعية: إن اتحد نوع الماشية أخذ الفرض منه، كأن كانت إبله كلها من صفة واحدة أو بقرة كلها جواميس، ويجوز في الأصح أخذ ضأن عن معز أو عكسه بشرط رعاية القيمة. وإن اختلف النوع كضأن ومعز، فالأظهر أن يخرج المالك ما شاء من النوعين، مقسَّطاً عليهما بالقيمة، فإذا وجد ثلاثون عنزاً وعَشْر نَعَجات من الضأن، أخذ الساعي عنزاً، أو نعجة بقيمة ثلاثة أرباع عنز ورُبُع نعجة، وفي عنز بقيمة ثلاثة أرباع نعجة وربع عنز. وبه يكون الشافعية في الحقيقة كباقي المذاهب إلا في مراعاة فرق القيمة بين المعز والضأن. 4 - كون الفرع أو النتاج يتبع الأصل في الزكاة: اتفق أئمة المذاهب الأربعة (¬1) على أن النتاج أو الفرع ـ أولاد الأنعام يتبع الأمهات في الحول، فكل ما نُتج أو تولد من الأمهات وتم انفصاله قبل تمام حول النصاب الأصلي ولو بلحظة، يزكى بحول الأصل، لقول عمر رضي الله عنه لساعيه: «اعتد عليهم بالسخلة (¬2) يروح بها الراعي على يديه، ولا تأخذها منهم» (¬3)، ولأن الحول إنما اشترط لتكامل النماء الحاصل، والنتاج نماء في نفسه، فيجب أن يضم إليه في الحول كأموال التجارة. ¬
زكاة الصغار
فعلى هذا إذا كان عنده مئة وعشرون من الغنم، فولدت واحدة منها سخلة قبل الحول بلحظة، والأمهات كلها باقية، لزمه شاتان. أما لو انفصل النتاج بعد الحول أو قبله، ولم يتم انفصاله إلا بعده، كجنين خرج بعضه في الحول، ولم يتم انفصاله إلا بعد تمام الحول، لم يكن حول النصاب الأصلي حوله، لانقضاء حول أصله، ولأن الحول الثاني أولى به. زكاة الصغار: يرى أبو حنيفة ومحمد أنه ليس في الفُصلان والحُملان والعجاجيل زكاة إلا أن يكون معها كبار ولو واحداً، ويجب ذلك الواحد مالم يكن جيداً، فيلزم الوسط، وعلى هذا فإنه يشترط أن تبلغ الماشية سناً يجزئ مثله في الزكاة وهو السنة، بأن تكون كلها أو بعضها مسانّ، لأن السن يتغيربه الفرض، فكان لنقصانه تأثير في الزكاة كالعدد. وخالفهما باقي الأئمة فأوجبوا فيها الزكاة، لأن السخال تعد مع غيرها، فتعد منفردة كالأمهات، والعدد تزيد الزكاة بزيادته بخلاف السن. 5 - الحيوان المستفاد في أثناء الحول: قال الحنفية والمالكية (¬1): من كان له نصاب، فاستفاد في أثناء الحول شيئاً من جنسه بشراء أو هبة أو صدقة، ضمه إليه أي إلى النصاب، وزكاه معه، كربح مال التجارة ونتاج السائمة، ويعتبر حوله حول أصله، لأنه تبع له من جنسه، فأشبه النماء المتصل، وهو زيادة قيمة عروض التجارة. وإن لم يكن من جنسه لا يضم اتفاقاً. وقال الشافعية والحنابلة (¬2): لا يضم المملوك بشراء أو غيره كهبة أو إرث أو ¬
6 - الزكاة في النصاب دون العفو (الأوقاص)
وصية إلى ما عنده، في الحول، وإنما يبدأ له حول جديد؛ لأنه ليس في معنى النتاج؛ لأن الدليل قد قام على اشتراط الحول، واستثني النتاج لقول عمر المتقدم، فبقي ما عداه على الأصل. ثم إن الأولاد والنتاج تابعة في الملك، فتملك بملك الأصل، بخلاف المستفاد. ويتفرع على الخلاف: من كان عنده نصاب من النعم كخمس من الإبل، وثلاثين من البقر، وأربعين من الغنم فأكثر، فاستفاد بهبة أو صدقة، أو استحقاق في وقف، أو دين، أو بشراء قدر نصاب آخر أو ما يكمل نصاباً آخر، فإنه على رأي الحنفية والمالكية يضم للأول الذي كان عنده، ويزكيه معه، فيكون عليه شاتان بعد أن كان عليه واحدة مثلاً، أو تبيعان بعد أن كان عليه تبيع، أو حقة مثلاً. ومثله: من كان عنده نصاب نقدي في بدء الحول، ثم قبض رواتب شهرية، فيضم ما يدخره ولو من آخر راتب إلى أصل النصاب، ويزكيه معه. أما عند الشافعية والحنابلة، فإنه يكون للمستفاد أو المتجدد من الدخل حول مستقل على حدة، كل متجدد أو مدخر جديد له حوله. 6 - الزكاة في النصاب دون العفو (الأوقاص): الأوقاص: جمع وقص: وهو ما بين الفريضتين من كل الأنعام. لا زكاة في الأوقاص، وهي عفو أي معفو عنها باتفاق المذاهب (¬1)، فلا تتعلق به الزكاة، بل تتعلق بالنصاب المقرر شرعاً فقط، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن الأوقاص لا صدقة فيها» (¬2)، ولأن العفو مال ناقص عن نصاب، يتعلق به فرض مبتدأ، فلم يتعلق به الوجوب قبله، كما لو نقص عن النصاب الأول. ¬
7 - ما يأخذه الساعي
فما دون النصاب عفو، وما فوقه إلى حد آخر عفو، فلو هلك العفو، وبقي النصاب، بقي كل الواجب، كأن كان له تسع من الإبل، أو مئة وعشرون من الغنم، فهلك بعد الحول من الإبل أربع، ومن الغنم ثمانون، لم يسقط من الزكاة شيء. 7 - ما يأخذه الساعي: الساعي أو العامل أو المصدِّق: هو الموظف المخصص من الحاكم لجمع الزكاة وجبايتها من المالكين. فإن كان في المال المزكى كرائم ولئام (¬1)، وسمان ومهازيل، وصحاح ومراض، وكبار وصغار، وجب الوسط بقدر قيمة المالين، طلباً للتعديل بينهما، وهو عند الحنفية أعلى الأدنى وأدنى الأعلى، فلا يؤخذ من خيار الأموال ولا من شرارها، ولا من الأولاد، فإن كانت كلها جياداً فجيد عند الحنفية (¬2)، لقوله صلّى الله عليه وسلم في حديث معاذ المتقدم: «فإياك وكرائم أموالهم» وقوله أيضاً: «إن الله تعالى لم يسألكم خيره، ولم يأمركم بشره» (¬3)، ولأن مبنى الزكاة على المواساة، وأخذ الصحيحة عن المراض مثلاً إخلال بالمواساة، ولأن فيه مراعاة لجانبي المالك والمستحق. ¬
وقد فرع الفقهاء بناء على هذا المبدأ تفريعات: فقال الحنفية (¬1): ليس للساعي أن يأخذ الجيد ولا الرديء إلا من طريق التقويم برضا صاحب المال. ولا يؤخذ الرُّبَّى (التي وضعت وهي تربي ولدها، يعني قريبة العهد بالولادة)، ولا الماخض (التي قد حان ولادها أي في بطنها ولد)، ولا الأكولة (التي تسمن للأكل). ويأخذ الساعي الوسط، سواء أكان النصاب من نوع واحد، أم من نوعين كالضأن والمعز، والبقر والجواميس، والعراب والبخت، والوسط: هو أن يكون أدنى من الأرفع، وأرفع من الأدون. ولا يأخذ الذكر في زكاة الإبل، فتتعين الأنوثة في الواجب في الإبل من جنسها من بنت المخاض وبنت اللبون والحقة والجذعة، ولا يجوز الذكور منها وهو ابن المخاض وابن اللبون والحق والجذع، إلا بطريق التقويم؛ لأن الواجب المنصوص عليه هو الإناث، ودفع القيمة في الزكاة جائز عندهم. أما في البقر فيجوز فيها الذكر والأنثى، لورود النص بذلك، كما تقدم. وليس في الصغار والذكور وحدها زكاة، فإذا وجدت الصغار والكبار عدّت مع بعضها، ويجب فيها ما يجب في الكبار وهو المسنة. وإذا فقد الساعي في مال المالك ما يجب أخذه، بأن وجب عليه سن فلم توجد عنده، أخذ أعلى منها وردّ الفضل (قيمة الزيادة عن المدفوع)، أو أخذ أدنى منها وأخذ الفضل، ولا يقدر عندهم بشيء؛ لأنه بحسب الأوقات غلاء ورخصاً (¬2). ¬
المالكية
وقال المالكية: يتعين على الساعي أخذ الوسط من الواجب، فلا يؤخذ من خيار الأموال ولا من شرارها، حتى ولو كان عند المزكي خيار فقط أو شرار فقط، إلا أن يرى الساعي أن أخذ المعينة أحظ للفقراء لكثرة لحمها مثلاً. ولا يؤخذ من الأولاد. وإذا تساوى عدد الضأن والمعز أو غيرهما، خيّر الساعي، فإن لم يتساويا أخذ من الأكثر، كثلاثين من الضأن وعشرة من المعز أو عكس ذلك، وكعشرين من البقر وعشرة من الجواميس، فيأخذ من الأكثر؛ لأن الحكم للغالب. وقال الشافعية: لا تؤخذ مريضة، ولا معيبة، إلا من مثلها بأن كانت ماشيته كلها منها، ولا يؤخذ ذكر؛ لأن النص ورد في الإناث إلا إذا وجب كابن اللبون والتبيع في البقر، أو كانت ماشيته كلها ذكوراً في الأصح، كما تؤخذ المريضة والمعيبةمن مثلها. ويؤخذ من الصغار صغيرة في المذهب الجديد. ولا تؤخذ الرُّبَّى (الحديثة العهد بالنتاج) ولا الأكولة (المسمنة للأكل) ولا ماخض (حامل)، ولا فحل الغنم، ولا خِيار، لحديث معاذ السابق «إياك وكرائم أموالهم» ولقول عمر رضي الله عنه: «ولا تؤخذ الأكولة، ولا الربى، ولا الماخض، ولا فحل الغنم» إلا برضا المالك في جميع ما ذكر؛ لأنه محسن بالزيادة، وقد قال تعالى: {ما على المحسنين من سبيل} [التوبة:91/ 9]. وقد عرفنا أنه بالنسبة للجبران: إذا لم يجد الساعي الفرض المطلوب في الإبل كان للمالك الصعود والنزول درجة أو درجتين، فدفع الأعلى أو الأدنى مع أخذ الدافع شاتين أو عشرين درهماً، وذلك تخفيفاً على المالك، حتى لايكلف الشراء، والخيار في الشاتين أو العشرين درهماً للدافع سواء أكان مالكاً أم ساعياً، لحديث أنس في كتاب أبي بكر عند البخاري. وقال الحنابلة: لايؤخذ في الصدقة تيس (ذكر) ولا هَرِمة، ولا ذات عوار
((معيبة) إلا ما شاء المصدِّق أي العامل، بأن يرى ذلك بأن يكون جميع النصاب من جنس المذكورات، فيكون له أن يأخذ من جنس المال، فيأخذ هرمة (كبيرة) من الهرمات، وذات عوار من أمثالها، وتيساً من التيوس، كما قرر الشافعية، ودليلهم حديث أبي بكر عن أنس المتقدم. ولا يجوز إخراج المعيبة عن الصحاح، وإن كثرت قيمتها، للنهي عن أخذها، ولما فيه من الإضرار بالفقراء. ولا تؤخذ الرُّبَّى ولا الماخض ولا الأكولة، كما بينت في مذهب الشافعية، ولا تؤخذ السخلة الصغيرة إلا إذا كانت الماشية كلها صغاراً، فيجوز أخذ الصغيرة في الصحيح من المذهب، كما قرر الشافعية. ورأيهم في الجبران كالشافعية أيضاً، فمن وجبت عليه سن في الزكاة فعدمها، خيِّر المالك دون الساعي، أو الفقير ونحوه في الصعود إلى ما يليها في ملكه، ثم إلى ما يليه إن عدمه، وفي النزول إلى ما يليها في ملكه ثم إلى ما يليه، إلى درجة ثالثة من فوق أو من أسفل، مع شاتين أو عشرين درهماً ويتضاعف الجبران مع زيادة الدرجة، ولا مدخل للجبران في غير الإبل؛ لأن النص إنما ورد فيها، فيقتصر عليه، وليس غيرها في معناها، لكثرة قيمتها، ولأن الغنم لا تختلف فريضتها باختلاف سنها، وما بين الفريضتين في البقر يخالف ما بين الفريضتين في الإبل، فامتنع القياس. فمن عدم فريضة البقر أو فريضة الغنم، ووجد دونها، حرم إخراجها، ولزمه تحصيل الفريضة وإخراجها، وإن وجد أعلى منها فدفعها بغير جبران، قبلت منه، وإن لم يفعل أي يدفع الأعلى عن الواجب كُلِّف شراء الفريضة من غير ماله، لكونه طريقاً إلى أداء الواجب.
المبحث السادس ـ هل تجب الزكاة في العمارات والمصانع، وكسب العمل والمهن الحرة؟
المبحث السادس ـ هل تجب الزكاة في العمارات والمصانع، وكسب العمل والمهن الحرة؟ أوضحت في بحث زكاة النقود حكم زكاة الأسهم والسندات، ويخصص هذا المبحث لزكاة الدخل أو المورد الذي يحصل عليه الإنسان من طريق المباني المؤجرة والمعامل الصناعية، والأعمال والمهن الحرة. وفيه مطلبان: المطلب الأول ـ زكاة العمارات والمصانع ونحوها: اتجه رأس المال في الوقت الحاضر لتشغيله في نواحٍ من الاستثمارات غير الأرض والتجارة، وذلك عن طريق إقامة المباني أو العمارات بقصد الكراء، والمصانع المعدة للإنتاج، ووسائل النقل من طائرات وبواخر (سفن) وسيارات، ومزارع الأبقار والدواجن وتشترك كلها في صفة واحدة هي أنها لا تجب الزكاة في عينها وإنما في ريعها وغلتها أو أرباحها. وبالرغم من أن جمهور فقهائنا لم ينصوا على وجوب الزكاة في هذا النوع من المستغلات، وقالوا: لا زكاة في دور السكنى وأثاث المنزل وأدوات الحرفة ودواب الركوب، كما ذكرت سابقاً، فإني أرى ضرورة الزكاة في غلة العقارات بشروطها الآتية، لوجود علة وجوب الزكاة فيها وهي النماء، والحكم يدورمع علته وجوداً وعدماً، ولتوفر حكمة تشريع الزكاة فيها أيضاً وهي التزكية والتطهير لأرباب المال أنفسهم، ومواساة المحتاجين، والمساهمة في القضاء على الفقر الذي يشغل أنظمة العالم الحاضرة. وقد قرر مؤتمر علماء المسلمين الثاني ومؤتمر البحوث الإسلامية الثاني عام 1385هـ /1965 م: أن الأموال النامية التي لم يرد نص ولا رأي فقهي بإيجاب الزكاة فيها حكمها كالآتي:
المطلب الثاني ـ زكاة كسب العمل والمهن الحرة
لا تجب الزكاة في أعيان العمائر الاستغلالية والمصانع والسفن والطائرات وما أشبهها، بل تجب في صافي غلتها عند توافر شروط النصاب، وحولان الحول. ومقدار الزكاة: هو ربع العشر في نهاية الحول، أي ربع عشر صافي الغلة في نهاية الحول (أي 5،2%) كزكاة التجارة والنقود. وفي الشركات لا ينظر إلى مجموع أرباح الشركات، وإنما ينظر إلى ما يخص كل شريك على حدة. وهذا القرار يتفق مع المروي عن الإمام أحمد الذي يرى أنه تزكى هذه المستغلات من غلتها وإيرادها، ومع رأي بعض المالكية الذين يرون تزكية فوائد المستغلات عند قبضها (¬1). ويرى ابن عقيل الحنبلي والهادوية من الزيدية وجوب الزكاة في المستغل من كل شيء لأجل الاستغلال، فيشمل العقار المعد للكراء، وكل سلعة تؤجر وتعد للإجارة أي يقوم رأس المال في كل عام ويزكى زكاة التجارة (¬2). المطلب الثاني ـ زكاة كسب العمل والمهن الحرة: العمل: إما حر غير مرتبط بالدولة كعمل الطبيب والمهندس والمحامي والخياط والنجار وغيرهم من أصحاب المهن الحرة. وإما مقيد مرتبط بوظيفة تابعة للدولة أو نحوها من المؤسسات والشركات العامة أو الخاصة، فيعطى الموظف راتباً شهرياً كما هو معروف. والدخل الذي يكسبه كل من صاحب العمل الحر أو الموظف ينطبق عليه فقهاً وصف «المال المستفاد» (¬3). ¬
المبحث السابع ـ مصارف الزكاة
والمقرر في المذاهب الأربعة أنه لا زكاة في المال المستفاد حتى يبلغ نصاباً ويتم حولاً، ويزكى في رأي غير الشافعية المال المدخر كله ولو من آخر لحظة قبل انتهاء الحول بعد توفر أصل النصاب. ويمكن القول بوجوب الزكاة في المال المستفاد بمجرد قبضه، ولو لم يمض عليه حول، أخذاً برأي بعض الصحابة (ابن عباس وابن مسعود ومعاوية) وبعض التابعين (الزهري والحسن البصري ومكحول) ورأي عمر بن عبد العزيز، والباقر والصادق والناصر، وداود الظاهري. ومقدار الواجب: هو ربع العشر، عملاً بعموم النصوص التي أوجبت الزكاة في النقود وهي ربع العشر، سواء حال عليها الحول، أم كانت مستفادة. وإذا زكى المسلم كسب العمل أو المهنة عند استفادته أو قبضه لايزكيه مرة أخرى عند انتهاء الحول. وبذلك يتساوى أصحاب الدخل المتعاقب مع الفلاح الذي تجب عليه زكاة الزروع والثمار بمجرد الحصاد والدياس. المبحث السابع ـ مصارف الزكاة: فيه مطلبان: الأول ـ مستحقو الزكاة، والثاني ـ أحكام متفرقة في توزيع الزكاة. المطلب الأول ـ من هم مستحقو الزكاة؟ أولاً ـ دليل تحديدهم: نصت الآية القرآنية 60 من سورة التوبة على أصناف ثمانية تستحق الزكاة وهي قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة
ثانيا ـ هل يجب تعميم الأصناف الثمانية؟
قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل، فريضة من الله، والله عليم حكيم} [التوبة:60/ 9] فدلت على أنه تصرف الزكاة إلى الأصناف الثمانية. وروى الجماعة عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل حينما بعثه إلى اليمن « .. فإن هم أطاعوك لذلك ـ أي الإقرار بوجوب الزكاة عليهم ـ فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، فترد على فقرائهم .. » دل على أن الزكاة تؤخذ من قبل الإمام من أغنياء المسلمين، وتصرف في فقرائهم، وكونها في فقرائهم استدل به لمذهب مالك وغيره بأنه يكفي إخراج الزكاة في صنف واحد. ثانياً ـ هل يجب تعميم الأصناف الثمانية؟ قال الشافعية (¬1): يجب صرف جميع الصدقات الواجبة سواء الفطرة وزكاة الأموال إلى ثمانية أصناف، عملاً بالآية الكريمة {إنما الصدقات .. } [التوبة:60/ 9] أضافت الآية جميع الصدقات إلى هذه الأصناف بلام التمليك، وشركت بينهم بواو التشريك، فدلت على أن الصدقات كلها مملوكة لهم، مشتركة بينهم. فإن كان الذي يفرق الزكاة هو الإمام، قسمها على ثمانية أسهم، منها سهم العامل، وهو أول ما يبدأ به؛ لأنه يأخذه على وجه العوض، وأما غيره فيأخذه على وجه المواساة. وإن كان مفرق الزكاة هو المالك أو وكيله سقط نصيب العامل، وصرفت إلى الأصناف السبعة الباقية إن وجدوا، وإلا فللموجودين منهم، والمستحب أن يعم كل صنف إن أمكن، ولا يجوز أن يصرف لأقل من ثلاثة من كل صنف؛ لأن أقل الجمع ثلاثة، فإن دفع لاثنين ضمن نصيب الثالث إلا العامل، فإنه يجوز أن يكون واحداً إن حصلت به الكفاية. ¬
الفقراء
والغالب وجوده الآن في البلاد أربعة: الفقير والمسكين والغارم وابن السبيل. وأجاز جمع من الشافعية دفع زكاة الفطر لثلاثة فقراء أو مساكين، واختار الرُّوياني من الشافعية صرف الزكاة إلى ثلاثة من أهل السهمان، قال: وهو الاختيار من حيث الفتوى لتعذر العمل بمذهبنا. ومذهب الجمهور (الحنفية والمالكية والحنابلة) (¬1): جواز صرف الزكاة إلى صنف واحد، وأجاز الحنفية والمالكية صرفها إلى شخص واحد من أحد الأصناف. وندب عند المالكية صرفها إلى المضطر أي أشدهم حاجة على غيره. ويستحب صرفها في الأصناف الثمانية خروجاً من الخلاف وتحصيلاً للإجزاء يقيناً، ولا يجب الاستيعاب. ودليلهم أن الآية تعني عدم جواز صرفها لغير هذه الأصناف، وأما فيهم فهي تدل على التخيير، أي إنها لبيان الأصناف التي يجوز الدفع إليهم، لا لتعيين الدفع فيهم. وأما دليل جواز الاقتصار على شخص واحد من أحد الأصناف فهو أن الجمع المعرف بأل «الفقراء .. » ينبغي حملها على المجاز، وهو جنس الفقير، الذي يتحقق بواحد، لتعذر حملها على الحقيقة: وهو الاستغراق، أي الشمول لجميع الفقراء، إذ يصير المعنى أن كل صدقة لكل فقير، وهو غير معقول. ثالثاً ـ بيان الأصناف الثمانية: مستحقو الزكاة هم ثمانية أصناف: وهم الفقراء والمساكين والعاملون عليها، ¬
المساكين
والمؤلفة قلوبهم، وفي الرقاب، والغارمون، وفي سبيل الله، وابن السبيل (¬1). 1 - أما الفقراء: أصحاب السهم الأول: فهم جمع فقير، والفقير في رأي الشافعية والحنابلة: هو من ليس له مال ولا كسب يقع موقعاً من كفايته، أو حاجته. فليس له زوج ولا أصل ولا فرع يكفيه نفقته، ولا يحقق كفايته مطعماً وملبساً ومسكناً كمن يحتاج إلى عشرة ولا يجد إلا ثلاثة، حتى وإن كان صحيحاً يسأل الناس أو كان له مسكن وثوب يتجمل به. 2 - وأما المساكين أصحاب السهم الثاني فهم جمع مسكين: والمسكين: هو الذي يقدر على كسب ما يسد مسداً من حاجته، ولكن لا يكفيه، كمن يحتاج إلى عشرة وعنده ثمانية لا تكفيه الكفاية اللائقة بحاله من مطعم وملبس ومسكن. فالفقير عند الشافعية والحنابلة: أسوأ حالاً من المسكين، فالفقير: هو من لا مال له ولا كسب أصلاً، أو كان يملك أو يكتسب أقل من نصف ما يكفيه لنفسه ومن تجب عليه نفقته (ممونه) من غير إسراف ولا تقتير. والمسكين: هو من يملك أو يكتسب نصف ما يحتاجه فأكثر، ولكن لم يصل إلى قدر كفايته. والمراد بالكفاية في حق المكتسب: كفاية يوم بيوم، وفي حق غيره: ما بقي من عمره الغالب وهو اثنان وستون سنة. ودليلهم على أن الفقير أسوأ حالاً من المسكين: بداءة الله تعالى بذكر الفقراء، وإنما يبدأ عادة بالأهم فالأهم. وقال تعالى: {أما السفنية فكانت لمساكين ¬
العاملون عليها
يعملون في البحر} [الكهف:79/ 18] فأخبر أن لهم سفينة يعملون فيها، وقد سأل النبي المسكنة واستعاذ من الفقر، فقال: «اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين» (¬1)، ولا يجوز أن يسأل شدة الحاجة، ويستعيذ من حالة أصلح منها. ولأن الفقير هو المفقور لغة: وهو الذي نزعت فقرة من فقار ظهره، فانقطع صلبه. وقال الحنفية والمالكية: المسكين أسوأ حالاً من الفقير، كما نقل عن بعض أئمة اللغة، ولقوله تعالى: {أو مسكيناً ذا متربة} [البلد:16/ 90] أي ألصق جلده بالتراب ليواري به جسده، مما يدل على غاية الضرر والشدة (¬2)، ولأن المسكين: هو الذي يسكن حيث يحل، لأنه لا مسكن له، مما يدل على شدة الضرر والبؤس. 3 - والصنف الثالث ـ العاملون عليها: وهم السعاة لجباية الصدقة، ويشترط فيهم العدالة والمعرفة بفقه الزكاة، ويدخل العاشر والكاتب وقاسم الزكاة بين مستحقيها وحافظ المال، والحاشر: الذي يجمع أرباب الأموال، والعريف: الذي يعرف أرباب الاستحاق. وعدّاد المواشي والكيال والوزان والراعي، وكل من يحتاج إليه في الزكاة لدخولهم في مسمّى «العامل» غير قاض ووال لاستغنائهما بمالهما في بيت المال. أما أجرة الكيل والوزن في حال تسليم الزكاة من المالك ومؤنة دفعها، فعلى المالك؛ لأن تسليمها عليه، فكذلك مؤنته. أما مؤنة ذلك حال الدفع إلى جباة الزكاة، فمن سهم العمال. ¬
المؤلفة قلوبهم
والذي يعطى للعامل: هو بمثابة الأجرة على العمل، فيعطاها ولو كان غنياً، أما لو اعتبرت زكاة أو صدقة لما حلت للغني. 4 - والصنف الرابع ـ المؤلفة قلوبهم: منهم ضعفاء النية في الإسلام، فيعطون ليتقوى إسلامهم. وهم نوعان: مسلمون وكفار. أما الكفار فصنفان: صنف يرجى خيره، وصنف يخاف شره. وقد ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلم أعطى قوماً من الكفار، يتألف قلوبهم ليسلموا، ففي صحيح مسلم: أنه صلّى الله عليه وسلم أعطى أبا سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس، وعباس بن مرداس، كل إنسان منهم مئة من الإبل. وأعطى أيضاً علقمة ابن علاثة من غنائم حنين (¬1). واختلف العلماء في إعطاء المؤلفة قلوبهم من الزكاة حال كونهم كفاراً، فقال الحنابلة والمالكية: يعطون ترغيباً في الإسلام؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «أعطى المؤلفة من المسلمين والمشركين». وقال الحنفية والشافعية: لا يعطى الكافر من الزكاة لا لتأليف ولا لغيره، وقد كان إعطاؤهم في صدر الإسلام في حال قلة عدد المسلمين وكثرة عدوهم، وقد أعز الله الإسلام وأهله، واستغنى بهم عن تألف الكفار، ولم يعطهم الخلفاء الراشدون بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قال عمر رضي الله عنه: «إنا لا نعطي على الإسلام شيئاً، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر». وأما المسلمون من المؤلفة: فهم أصناف يعطون بسبب احتياجنا إليهم: 1 - ضعفاء النية في الإسلام: يعطون ليتقوى إسلامهم. ¬
2 - الشريف المسلم في قومه الذي يتوقع بإعطائه إسلام نظرائه، فقد أعطى النبي صلّى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب وجماعة ممن ذكر، وأعطى الرسول صلّى الله عليه وسلم الزبرقان بن بدر وعدي بن حاتم، لشرفهما في قومهما. 3 - المقيم في ثغر في ثغور المسلمين المجاورة للكفار، ليكفينا شر من يليه من الكفار بالقتال. 4 - من يجبي الصدقات من قوم يتعذر إرسال ساع إليهم، وإن لم يمنعوها. وقد ثبت أن أبا بكر أعطى عدي بن حاتم حين قدم عليه بزكاته وزكاة قومه عام الردة. وقد اختلف العلماء في بقاء سهم المؤلفة قلوبهم بعد النبي صلّى الله عليه وسلم: فقال الحنفية ومالك: قد سقط سهم المؤلفة بانتشار الإسلام وغلبته؛ لأن الله تعالى أعز الإسلام، وأغنى عنهم وعن استمالتهم إلى الدخول فيه. فيكون عدد الأصناف سبعة لا ثمانية، وذلك بإجماع الصحابة. قال مالك: لا حاجة إلى المؤلفة الآن لقوة الإسلام. وقال الجمهور منهم خليل من المالكية: حكم المؤلفة باق لم ينسخ، فيعطون عند الحاجة، ويحمل ترك عمر وعثمان وعلي إعطاءهم: على عدم الحاجة إلى إعطائهم في خلافتهم، لا لسقوط سهمهم، فإن الآية من آخر ما نزل، وأعطى أبو بكر عدي بن حاتم والزبرقان بن بدر، كما ذكرت، ولأن المقصود من دفعها إليهم ترغيبهم في الإسلام لأجل إنقاذ مهجهم من النار، لا لإعانتهم لنا حتى يسقط بفشو الإسلام.
في الرقاب
5 - والصنف الخامس ـ في الرقاب: وهم عند الحنفية والشافعية: المكاتبون (¬1) المسلمون الذي لا يجدون وفاء ما يؤدون، ولو مع القوة والكسب؛ لأنه لا يمكن الدفع إلى الشخص الذي يراد فك رقبته إلا إذا كان مكاتباً، ولو اشتري بالسهم عبيد، لم يكن الدفع إليهم، وإنما هو دفع إلى سادتهم، ولم يتحقق التمليك المطلوب في أداء الزكاة، ويؤكده قوله تعالى: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} [النور:33/ 24] وفسر ابن عباس «في الرقاب» بأنهم المكاتبون. وقال المالكية والحنابلة: يشترى بسهمهم رقيق، فيعتق؛ لأن كل موضع ذكرت فيه الرقبة، يراد بها عتقها، والعتق والتحرير لا يكون إلا في القن (العبد الخالص العبودية) كما في الكفارات. وشرط إعطاء المكاتب هو كونه مسلماً، محتاجاً. وبما أنه لا يوجد الآن في العالم رقيق، لإلغائه وتحريمه دولياً، فإن هذا السهم لا وجود له حقيقة، وما قد يوجد ليس له طريق شرعي جائز. 6 - والصنف السادس ـ الغارمون: وهم المدينون، سواء استدان المدين عند الشافعية والحنابلة لنفسه أم لغيره، وسواء أكان دينه في طاعة أم معصية. فإن استدان لنفسه لم يعط إلا إذا كان فقيراً، وإن استدان لإصلاح ذات البين ولو بين أهل ذمة، بسبب إتلاف نفس أو مال أو نهب، فيعطى من سهم الغارمين، ولو كان غنياً، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تحل الصدقة لغني إلا خمسة: لغاز في سبيل الله، أو لعامل عليهم، أو لغارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو لرجل له جار مسكين، فتصدق على المسكين، فأهدى المسكين إليه» (¬2). ¬
في سبيل الله
وقال الحنفية: الغارم: من لزمه دين، ولا يملك نصاباً فاضلاً عن دينه. وقال المالكية: الغارم: هو من فدحه الدين للناس في غير سفه ولا فساد، أي من ليس عنده ما يوفي به دينه، إذا كان الدين في غير معصية كشرب خمر وقمار، ولم يستدن لأخذ الزكاة، كأن يكون عنده ما يكفيه وتوسع في الإنفاق بالدين لأجل أن يأخذ من الزكاة، فلا يعطى منها؛ لأنه قصد مذموم، بخلاف فقير استدان للضرورة، ناوياً الأخذ من الزكاة، فإنه يعطى قدر دينه منها لحسن قصده. لكن إن تاب من استدان لمعصية، أو بقصد ذميم، فإنه يعطى على الأحسن. 7 - والصنف السابع - في سبيل الله: وهم الغزاة المجاهدون الذين لا حق لهم في ديوان الجند؛ لأن السبيل عند الإطلاق هو الغزو، ولقوله تعالى: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً} [الصف:4/ 61] وقوله: {وقاتلوا في سبيل الله} [البقرة:190/ 2] وغير ذلك، فيدفع إليهم لإنجاز مهمتهم وعونهم ولو كانوا عند الجمهور أغنياء؛ لأنه مصلحة عامة. وأما من له شيء مقدر في الديوان فلا يعطى؛ لأن من له رزق راتب يكفيه، فهو مستغن به. لكن لا يحج أحد بزكاة ماله، ولا يغزو (يجاهد) بزكاة ماله، ولا يُحَج بها عنه، ولا يُغْزى بها عنه لعدم الإيتاء المأمور به. وقال أبو حنيفة: لا يعطى الغازي في سبيل الله إلا إذا كان فقيراً. والحج عند الحنابلة وبعض الحنفية من السبيل، فيعطى مريد الحج من الزكاة، لما روى أبو داود عن ابن عباس: «أن رجلاً جعل ناقة في سبيل الله، فأرادت امرأته الحج، فقال لها النبي صلّى الله عليه وسلم: اركبيها، فإن الحج من سبيل الله» فيأخذ مريد
ابن السبيل
الحج من الزكاة إن كان فقيراً، ما يؤدي به فرض حج أو فرض عمرة، أو يستعين به في أداء الفرضين؛ لأنه يحتاج إلى إسقاط الفرض. وأما التطوع فله عنه مندوحة. 8 - والصنف الثامن ـ ابن السبيل: هو المسافر أو من يريد السفر في طاعة غير معصية، فيعجز عن بلوغ مقصده إلا بمعونة، والطاعة: مثل الحج والجهاد وزيارة مندوبة. يعطى ابن السبيل ما يبلغ به مقصده، إذا كان محتاجاً في سفره، ولو كان غنياً في وطنه. رابعاً ـ هل تعطى الزكاة لغير هذه الأصناف؟ اتفق جماهير فقهاء المذاهب (¬1) على أنه لا يجوز صرف الزكاة إلى غير من ذكر الله تعالى من بناء المساجد والجسور والقناطر والسقايات وكري الأنهار وإصلاح الطرقات، وتكفين الموتى، وقضاء الدين، والتوسعة على الأضياف، وبناء الأسوار وإعداد وسائل الجهاد، كصناعة السفن الحربية وشراء السلاح، ونحو ذلك من القرب التي لم يذكرها الله تعالى مما لا تمليك فيه؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {إنما الصدقات للفقراء} [التوبة:60/ 9] وكلمة «إنما» للحصر والإثبات، تثبت المذكور وتنفي ماعداه، فلا يجوز صرف الزكاة إلى هذه الوجوه؛ لأنه لم يوجد التمليك أصلاً. لكن فسر الكاساني في البدائع سبيل الله. بجميع القرب، فيدخل فيه كل ¬
خامسا ـ مقدار ما يعطى لمستحقي الزكاة
من سعى في طاعة الله وسبيل الخيرات إذا كان محتاجاً؛ لأن «في سبيل الله» عام في الملك، أي يشمل عمارة المساجد ونحوها مما ذكر، وفسر بعض الحنفية «سبيل الله بطلب العلم ولو كان الطالب غنياً». قال أنس والحسن: «ما أعطيت في الجسور والطرق، فهي صدقة ماضية». وقال مالك: سبل الله كثيرة، ولكني لا أعلم خلافاً في أن المراد بسبيل الله ههنا الغزو. خامساً ـ مقدار ما يعطى لمستحقي الزكاة: اختلف الفقهاء في مقدار ما يعطى للفقير والمسكين (¬1): فقال الشافعية والحنابلة: يجوز أن يدفع إلى كل منهما ما تزول به حاجته أو كفايته من أداة يعمل بها إن كان فيه قوة، أو بضاعة يتجر فيها، حتى ولو احتاج إلى مال كثير للبضاعة التي تصلح له، ويحسن التجارة فيها؛ لأن الله أثبت الصدقات لهؤلاء الأصناف دفعاً لحاجتهم وتحصيلاً لمصلحتهم، فالمقصود من الزكاة سد الخلة ودفع الحاجة، فيعطى الفقير والمسكين ما يحقق حاجته وهو كفاية سنة. وقال صلّى الله عليه وسلم في حديث قبيصة عند مسلم: «فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش، أو سِداداً من عيش» والسداد: الكفاية. وكره أبو حنيفة إعطاء إنسان نصاب الزكاة وهو قدر مئتي درهم، ويجزئ إعطاء أي قدر. ¬
سادسا ـ من سأل الزكاة وكان غير مستحق
وأجاز مالك إعطاء نصاب، ويرد الأمر إلى الاجتهاد، فإن الغرض إغناء الفقير حتى يصير غنياً. لكن لا يعطى عند المالكية أكثر من كفاية سنة. ودليل أبي حنيفة ومالك أن الآية ليس فيها تحديد مقدار ما يعطى كل واحد من الأصناف. وأما مقدار ما يعطى للعامل: فاتفق الفقهاء (¬1) على أنه يدفع إليه الإمام بقدر عمله، أي ما يسعه أو يكفيه وأعوانه بالوسط، مدة ذهابهم وإيابهم، لكن قيد الحنفية ذلك بألا يزاد على نصف ما يقبضه. وأما ما يعطى للغارم: فبقدر ما عليه من الدين إذا كان في طاعة وفي غير سرف، بل في أمر ضروري. وكذلك ابن السبيل: يعطى ما يوصله إلى بلده (¬2). سادساً ـ من سأل الزكاة وكان غير مستحق: هذه مسألة تشترك فيها الأصناف الثمانية كلها (¬3)، وهي من سأل الزكاة وعلم الإمام أنه ليس مستحقاً، لم يجز له صرف الزكاة إليه. وإن علم استحقاقه، جاز الصرف إليه بلا خلاف. وإن لم يعرف حاله فالصفات قسمان: خفية وجلية: فالخفي: الفقر والمسكنة، فلا يطالب مدعيها ببينة لعسرها، فلو عرف له ¬
سابعا ـ شروط المستحقين أو أوصافهم
مال، وادعى هلاكه، لم يقبل إلا ببينة، ولو ادعى عيالاً فلا بد من البينة في الأصح. والجلي: نوعان: أحدهما ـ يتعلق الاستحقاق فيه بمعنى في المستقبل، وذلك في الغازي وابن السبيل، فيعطيان بقولهما بلا بينة ولا يمين. ثم إن لم يحققا ما ادعيا، ولم يخرجا، استرد منهما ما أخذا، ويترصد للخروج بحسب المعتاد على وجه التقريب. والثاني ـ يتعلق الاستحقاق فيه بمعنى في الحال، وهذا النوع يشترك فيه بقية الأصناف، فالعامل إذا ادعى العمل طولب بالبينة، وكذلك المكاتب والغارم. وأما المؤلف قلبه: فإن قال: نيتي ضعيفة في الإسلام، قبل قوله؛ لأن كلامه يصدقه، وإن قال: أنا شريف مطاع في قومي، طولب بالبينة. قال الرافعي من الشافعية: واشتهار الحال بين الناس قائم مقام البينة في كل من يطالب بها من الأصناف، لحصول العلم أو الظن بالاستفاضة. سابعاً ـ شروط المستحقين أو أوصافهم: اشترط الفقهاء في مستحق الزكاة شروطاً خمسة هي ما يأتي (¬1): 1 - أن يكون فقيرا ً إلا العامل فإنه يعطى ولو كان غنياً لأنه يستحقه أجرة ولأنه فرغ نفسه لهذا العمل، فيحتاج إلى الكفاية، وإلا ابن السبيل إذا كان له في ¬
وطنه مال، فهو بمنزلة الفقير؛ لأن الحاجة هي المعتبرة، وهو الآن فقير يداً، وإن كان غنياً ظاهراً، وإلا المؤلف والغازي في رأي الشافعية والحنابلة. والفقر شرط عام لصرف جميع الصدقات المفروضة والواجبة كالعشور والكفارات والنذور وصدقة الفطر، لعموم قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء} [التوبة:60/ 9]. وعليه لا يجوز صرف الزكاة وغيرها من الواجبات لغني، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لاتحل الصدقة لغني، ولا ذي مِرّة سوي» (¬1) وجاز دفع الزكاة لأربعة أو خمسة من الأغنياء: وهم العامل، والمؤلف، والغازي، والغارم لإصلاح ذات البين عند الشافعية والحنابلة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لعامل، أو رجل اشتراها بماله، أوغاز في سبيل الله، أو لغارم، أو مسكين تُصدِّق عليه منها فأهدى منها لغني» (¬2). والغني عند الحنفية (¬3): هو من ملك قدر نصاب فارغ عن حاجته الأصلية من أي مال. فيعطى من الزكاة من كان يملك أقل من نصاب شرعي، ولو كان صحيحاً قوياً قادراً على الكسب؛ لأنه فقير والفقراء هم المصارف، ولأن حقيقة الحاجة لا يوقف عليها، فأدير الحكم على دليلها وهو فقد النصاب، فلا بأس أن يعطى من الزكاة من له مسكن وما يتأثث به في منزله وخادم وفرس وسلاح وثياب البدن، ¬
وكتب العلم إن كان من أهله؛ لأن هذه الأشياء من الحوائج الأصلية اللازمة التي لابد منها للإنسان، فإن كان له فضل عن ذلك تبلغ قيمته مئتي درهم، حرم عليه أخذ الصدقة. ويجوز أداء الزكاة للمكاتب وإن حصل نصاباً زائداً عن بدل الكتابة، ولا يجوز دفع الزكاة إلى من يملك نصاباً من أي مال كان؛ لأن الغنى الشرعي مقدر به. والغني عند المالكية (¬1): هو من ملك كفايته لمدة سنة، والفقير: هو من ملك من المال أقل من كفاية السنة، فيعطى من الزكاة ولو ملك نصاباً فأكثر لكنه لا يكفيه لعامه، ولو كان قوياً قادراً على الكسب أي كسب ما يكفيه بصنعة تارك لها وغير مشتغل بها، ولو كان تركه التكسب بها اختياراً على المشهور. ومن لم يجد كفاية سنة ويقوم بالإنفاق عليه نحو والد أو بيت مال بمرتب لا يكفيه من أكل وكسوة، أو من صنعة لا تكفيه، فيعطى من الزكاة. والغني عند الشافعية (¬2): من كانت عنده الكفاية في عمره الغالب وهو اثنان وستون سنة، إلا إذا كان له مال يتجر فيه، فيعتبر ربحه في كل يوم، فإن كان أقل من نصف الكفاية في ذلك اليوم، فهو فقير. وكذا إذا جاوز العمر الغالب فالعبرة بكل يوم على حدة، فإن كان له مال أو كسب لا يكفيه في نصف اليوم فهو فقير. والفقير: هو من لا مال له أصلاً ولا كسب حلال، وله مال أو كسب حلال لا يكفيه بأن كان أقل من نصف الكفاية، ولم يكن له منفق يعطيه ما يكفيه كالزوج بالنسبة للزوجة. والمعتبر: كسب يليق بحاله ومروءته، وأما ما لا يليق به فهو كالمعدوم. وتحل الزكاة لطالب العلوم الشرعية؛ لأن تحصيل العلم فرض كفاية، ويخاف من الإقبال على الكسب الانقطاع عن التحصيل. ¬
والمسكين: هو من قدر على مال أو كسب حلال يساوي نصف ما يكفيه في العمر الغالب. ولا يعطى الفقير أو المسكين من الزكاة إذا كان قادراً على الكسب، للحديث السابق عند أبي داود بإسناد صحيح: «لا حظ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب». لكن تعطى الزكاة للعبد المكاتب ولو مع القدرة والكسب. والخلاصة: لا يمنع الفقير مسكنه وثيابه وماله الغائب في مسافة مرحلتين (مسافة القصر) ودينه المؤجل وكسب لا يليق به، ولايشترط فيه الزمانة ولا التعفف عن المسألة في الجديد، والمكفي بنفقة قريب أو زوج ليس فقيراً في الأصح. ولو اشتغل بعلم والكسب يمنعه من اشتغاله بذلك، فهو فقير. والغني عند الحنابلة (¬1) في أظهر الروايتين عن أحمد: هو من ملك خمسين درهماً أو قيمتها من الذهب، أو وجود ما تحصل به الكفاية على الدوام من كسب أو تجارة أو عقار أو نحو ذلك، لحديث أبي داود والترمذي: «الغنى: خمسون درهماً أو قيمتها من الذهب» والفقير: من لا يجد شيئاً البتة (أي قطعاً)،أو يجد شيئاً يسيراً من الكفاية دون نصفها من كسب أو غيره، مما لا يقع موقعاً من كفايته، كدرهمين من عشرة. والمسكين: من يجد معظم الكفاية أو نصفها من كسب أو غيره. فيعطى كل منهما كفايته مع عائلته سنة. ولا يعطى كل منهما من الزكاة إذا كان قادراً على الاكتساب إذ إنه لاحظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب، كما روى أبو داود. لكن إذا تفرغ القادر على التكسب لطلب العلم، وتعذر الجمع بين طلب العلم والتكسب، يعطى من الزكاة، ولا يعطى إذا تفرغ للعبادة، لقصور نفعها. ¬
الإعلام بكون المدفوع زكاة
والخلاصة: أن المانع من الصدقة وهو الغنى: هو أقل ما ينطلق عليه الاسم عند الشافعية والحنابلة أخذاً بالمعنى اللغوي للكلمة، وهو ملك النصاب عند الحنفية أخذاً بالمعنى الشرعي؛ لأن الشرع اعتبر في حديث معاذ مالك النصاب هو الغني. وقال مالك: ليس في ذلك حد إنما هو راجع إلى الاجتهاد، وذلك يختلف باختلاف الحالات والحاجات والأشخاص والأمكنة والأزمنة. ويحرم سؤال الزكاة أو صدقة التطوع أو الكفارة ونحوها، وله ما يغنيه أي يكفيه؛ لأنه لا يحل له أخذها إذن، ووسائل المحرم محرمة. الإعلام بكون المدفوع زكاة: إذا دفع المسلم الزكاة إلى من يظنه فقيراً أو رآه ظاهر الحاجة، لم يحتج إلى إعلامه أنها زكاة. إذا ظهر كونه غنياً أو غير مستحق: إن دفعت إلى من ظاهره الفقر أو يظنه فقيراً، فبان غنياً، أو ظنه مسلماً، فبان كافراً، لم يجزه ذلك عن الفرض ويجب ردها منه، في رأي المالكية والشافعية وفي الراجح عند الحنابلة (¬1)؛ لأنه دفع الواجب إلى غير مستحقه، فلم يخرج من عهدته، كما لو دفعها إلى كافر أو ذي قرابة، كديون الآدميين. ثم إن كان المال باقياً، استرجع منه، ودفع إلى فقير، وإن كان فائتاً، أخذ البدل، وصرف إلى فقير. فإن لم يكن للمدفوع إليه مال، لم يجب على رب المال ضمانه؛ لأنه إذا دفعه إلى الإمام، سقط الفرض عنه بذلك، ولا يضمنه الإمام؛ لأنه أمين غير مفرط. وإن كان الدافع هو رب المال نفسه، فإن لم يبين عند الدفع أنه زكاة واجبة، لم يكن له أن يرجع، لأنه قد يدفع عن زكاة واجبة وعن تطوع. وإن كان قد بين أنها زكاة، رجع فيها. ¬
2 - أن يكون مستحق الزكاة مسلما
والخلاصة: إن الجمهور يقررون أنه لا تجزئ الزكاة إذا دفعت لغير مستحق إلا الإمام، ومثله عند المالكية نائب القاضي والوصي، فإنها تجزئ إن تعذر ردها؛ لأنهم يدفعونها بالاجتهاد. واستثنى الحنابلة حالة الدفع لغني ظنه فقيراً، فإنها تجزئه. وقال الحنفية (¬1): إذا دفع الزكاة لإنسان ثم بان أنه غني أو ذمي، أو أنه أبوه أو ابنه أو امرأته أو هاشمي، لا يعيد الدفع؛ لأنه أتى بما في وسعه، أي أتى بالتمليك الذي هو ركن الأداء على قدر وسعه، إذ ليس مكلفاً بأكثر من التحري والبحث، فلو دفع بلا تحرٍ، لم يجز؛ لأنه أخطأ. 2 - أن يكون مستحق الزكاة مسلما ً: إلا المؤلفة قلوبهم في رأي المالكية والحنابلة: فلا يجوز صرف الزكاة إلى الكافر بلا خلاف، لحديث معاذ رضي الله عنه المتقدم: «خذها من أغنيائهم وردها في فقرائهم» أمر بوضع الزكاة في فقراء من يؤخذ من أغنيائهم وهم المسلمون، فلا يجوز وضعها في غيرهم. وأما ما سوى الزكاة من صدقة الفطر والكفارات والنذور، فلا شك في أن صرفها إلى فقراء المسلمين أفضل؛ لأن الصرف إليهم يقع إعانة لهم على الطاعة. وهل يجوز صرفها إلى أهل الذمة؟ قال أبو حنيفة ومحمد: يجوز، لقوله تعالى: {إن تبدوا الصدقات فنعما هي، وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء، فهو خير لكم، ويكفر عنكم من سيئاتكم} [البقرة:271/ 2] من غير تفرقة بين فقير وفقير، وعموم هذا النص يقتضي جواز صرف الزكاة إليهم، إلا أنه خص منه الزكاة لحديث معاذ، وقوله تعالى في ¬
3 - ألا يكون المستحق من بني هاشم
الكفارات: {فكفارته إطعام عشرة مساكين .. } [المائدة:89/ 5] من غير تفرقة بين مسكين ومسكين، إلا أنه خص منه الحربي بدليل حتى لا يكون ذلك إعانة لهم على قتالنا، ولأن صرف الصدقة إلى أهل الذمة من باب إيصال البر إليهم، وما نهينا عن ذلك، قال تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم ... } [الممتحنة:8/ 60]. وقال أبو يوسف وزفر والشافعي والجمهور: لا يجوز صرف غير الزكاة أيضاً إلى الذميين قياساً على الزكاة، وعلى الحربي. 3 - ألا يكون المستحق من بني هاشم: لأن آل البيت تحرم عليهم الزكاة؛ لأنها أوساخ الناس، ولهم من خمس الخمس في البيت ما يكفيهم، بدليل قوله صلّى الله عليه وسلم: «إن هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد، ولا لآل محمد» (¬1). وبنو هاشم الذين تحرم عليهم الصدقات عند الكرخي من الحنفية والحنابلة (¬2): آل العباس، وآل علي وآل جعفر وآل عقيل بني أبي طالب، وآل الحارث بن عبد المطلب، لعموم الحديث المتقدم (¬3) وكذلك قال الشافعية (¬4): هم ¬
4 - ألا يكون ممن تلزم المزكي نفقته
بنو هاشم وبنو المطلب لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن بني هاشم وبني المطلب شيء واحد، وشبك بين أصابعه» (¬1). وقال أبو حنيفة والمالكية (¬2): هم بنو هاشم فقط، وأما بنو المطلب أخو هاشم فليسوا عندهم من آل البيت، فيعطون من الزكاة على المشهور. هذا ... وقد نقل عن أبي حنيفة وعن المالكية وبعض الشافعية: جواز إعطاء الهاشميين من الزكاة، لأنهم حرموا من بيت المال سهم ذوي القربي، منعاً لتضييعهم ولحاجتهم، عملاً بالمصالح المرسلة. وإعطاؤهم ـ كما قال الدسوقي المالكي ـ حينئذ أفضل من إعطاء غيرهم. وتحل صدقة التطوع لهم عند الأكثرين. 4 - ألا يكون ممن تلزم المزكي نفقته من الأقارب والزوجات ولو في العدة: لأن ذلك يمنع وقوع الأداء تمليكاً للفقير من كل وجه، بل يكون صرفاً إلى نفسه من وجه، فهو يجلب لنفسه نفعاً، وهو منع وجوب النفقة عليه. فلا تدفع الزكاة إلى الوالدين وإن علوا (أي الأجداد) والمولودين وإن سفلوا (أي الأحفاد والأسباط)، ولا إلى الزوجات (حتى ولو كانت الزوجة مبانة في العدة ولو بثلاث في مذهب الحنفية)؛ بصفة الفقر أو المسكنة؛ لأن نفقتهم واجبة على المزكي، والزكاة للحاجة،،ولا حاجة مع وجوب النفقة، ولأن أحدهم ينتفع بمال الآخر، بل ولا يجوز دفعها عند الشافعية لشخص لا تلزم المزكي نفسه نفقته، وإنما تلزم غيره؛ لأنه غير محتاج، كمكتسب كل يوم قدر كفايته. وأجاز الحنفية دفع الزكاة لامرأة فقيرة وزوجها غني؛ لأنها لا تستحق على زوجها إلا مقدار النفقة، فلا تعد بذلك القدر غنية، ولا يجوز عندهم دفع زكاة الزاني لولده من الزنا إلا إذا كان الولد من ذات زوج معروف. ¬
لكن يجوز دفعها لمن ذكر بصفة كونهم غارمين أو غزاة مجاهدين مثلاً. وأجاز الشافعية كما في المجموع للنووي والمالكية وابن تيمية إعطاء الزكاة لولد أو والد لاتلزم المزكي نفقته، إذا كان فقيراً؛ لأنه حينئذ كالأجنبي، وأباح المالكية للمرأة دفع زكاة فطرها - لا الزكاة الواجبة - إلى زوجها الفقير. قال الأستاذ أبو إسحاق الشيرازي في المهذب: «ولا يجوز دفع الزكاة إلى من تلزمه نفقته من الأقارب والزوجات من سهم الفقراء؛ لأن ذلك إنما جعل للحاجة، ولا حاجة بهم مع وجوب النفقة». وقال النووي عن الأصحاب: ويجوز أن يدفع إلى ولده ووالده من سهم العاملين والمكاتبين والغارمين والغزاة إذا كانوا بهذه الصفة. ولا يجوز أن يدفع إليه من سهم المؤلفة إن كان ممن يلزمه نفقته؛ لأن نفعه يعود إليه، وهو إسقاط النفقة، فإن كان ممن لا يلزمه نفقته، جاز رفعه إليه (¬1). وعلى هذا من استقل من الأولاد بكسب لا يكفيه، وليس في منزل أبيه، يجوز إعطاؤه من الزكاة عند الشافعية. وهل يجوز دفع الزوجة إلى زوجها زكاتها؟ قال أبو حنيفة، والحنابلة على الراجح (¬2): لا يجوز؛ لأن الزكاة تعود إليها بإنفاقه عليها. وقال الصاحبان والشافعية، والمالكية على الصحيح (¬3): يجوز له ولأولادها، لحديث زينب امرأة ابن مسعود: «زوجُك وولدك أحق من تصدقت ¬
عليهم به» (¬1)، ولأن نفقة الزوج والأولاد غير واجبة على الزوجة والأم. ويجوز دفع الزكاة إلى بقية الأقارب الفقراء غير المذكورين كالأخ والأخت والعمة والعم والخالة والخال ونحوهم، لحديث الطبراني عن سلمان بن عامر: «الصدقة على المسكين صدقة وهي لذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة» بل إن القرابة أحق بزكاة المزكي، قال مالك: أفضل من وضعت فيه زكاتك قرابتك الذين لا تعول. ويجوز دفع الزكاة لزوجة أبيه وابنه وزوج ابنته (الصهر). ولم يجز المالكية دفع الزكاة لمن كانت نفقته لازمة عليه أو كان له مرتب في بيت المال يكفيه. وكذلك لم يجز الحنابلة دفع الزكاة إلى عمودي النسب في حال تجب نفقتهم فيه عليه أو لا تجب نفقتهم فيه، ورثوا أو لم يرثوا، حتى ذوي الأرحام منهم، كأبي الأم وولد البنت. أما صدقات التطوع (¬2): فيجوز دفعها للأصول والفروع والزوجات والأزواج، والدفع إليهم أولى؛ لأن فيه أجرين: أجر الصدقة وأجر الصلة. وتجوز صدقة التطوع للأغنياء والكفار، ولهم أخذها، وفيه أجر، لقوله تعالى: {ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً} [الإنسان:8/ 76] ولم يكن الأسير يومئذ إلا كافراً، وكسى عمر خاله مشركاً حلة كان النبي صلّى الله عليه وسلم كساه إياها، وقال النبي صلّى الله عليه وسلم لأسماء بنت أبي بكر التي استفتته في صلة أمها وهي مشركة: «صلي أمك» (¬3)، لكن يستحب للغني عن السؤال، مع وجود حاجتهم، ¬
5 - أن يكون بالغا عاقلا حرا
فقال: {يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف} [البقرة: 273/ 2] فإن أخذها الغني مظهراً للفاقة، حرم عليه ذلك، وإن كانت تطوعاً، لما فيه من الكذب والتغرير. وإذا أخطأ المزكي كأن دفع الزكاة في ظلمة مثلاً، فأداها إلى أحد أصوله أو فروعه، من غير أن يعلم، فلا إعادة عليه عند أبي حنيفة ومحمد، وعليه الإعادة عند أبي يوسف والشافعي وأحمد. 5 - أن يكون بالغاً عاقلاً حراً: فلا تجزئ لعبد اتفاقاً، ولا تجزئ عند الحنفية (¬1) لصغير غير مراهق (ما دون السابعة) ولا مجنون إلا إذا قبض عن الصغير والمجنون لهما من يجوز له قبضه كالأب والوصي وغيرهما، وتجوز عندهم لصبيان أقاربه المميزين في مناسبة عيد أوغيره، ولا يجوز دفع الزكاة لولد الغني إذا كان صغيراً، لأن الولد الصغير يعد غنياً بغنى أبيه، ويجوز إعطاؤها له إذا كان كبيراً فقيراً؛ لأنه لايعد غنياً بمال أبيه، فكان كالأجنبي، كما لا يعد الأب غنياً بغنى ابنه، ولا الزوجة بغنى زوجها، ولا الطفل بغنى أمه. واشترط الشافعية (¬2) أن يكون قابض الزكاة رشيداً: وهو البالغ العاقل حسن التصرف، فلا تجزئ لصبي أو مجنون أو سفيه ديانة كتارك الصلاة إلا أن يقبضها له وليه لسفهه أو قصوره. واشترط المالكية (¬3) أن يكون عامل الزكاة بالغاً، فلا تعطى الزكاة لقاصر. أما الحنابلة (¬4): فأجازوا دفع الزكاة إلى الكبير والصغير، سواء أكل الطعام ¬
المطلب الثاني ـ أحكام متفرقة في توزيع الزكاة
أو لم يأكل، والمجنون، لكن يقبضها ولي الصغير والمجنون عنهما، أو القيِّم عليهما، روى الدارقطني عن أبي جحيفة قال: «بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم ساعياً، فأخذ الصدقة من أغنيائنا، فردها في فقرائنا، وكنت غلاماً يتيماً لا مال لي، فأعطاني قَلُوصاً» أي ناقة شابة. وبناء على هذه الشروط: لا يجوز دفع الزكاة لغني بمال أو كسب، ولا لعبد، ولا لبني هاشم، وبني المطلب عند الجمهور غير المالكية وأبي حنيفة في الأخير، ولا لكافر، ولا لمن تلزم المزكي أو غيره نفقته، ولا للصغار والمجانين بأنفسهم، ولا لمن ليس في بلد الزكاة كما سأبين في مسألة نقل الزكاة. وأضاف الحنفية: لا يجوز صرف الزكاة لأهل البدع كالمشبهة في ذات الله أو في الصفات. وأجاز الحنفية دفع الزكاة للفقراء في المواسم والأعياد، أو لمن يأتيه ببشارة ونحوها. المطلب الثاني ـ أحكام متفرقة في توزيع الزكاة: أولاً ـ دفع الزكاة إلى الإمام وإخراج الإنسان زكاة نفسه: دل قوله تعالى: {والعاملين عليها} [التوبة:60/ 9] على أن أخذ الزكوات إلى الإمام، إذ لو جاز للمالك أداء الزكاة إلى المستحقين، لما احتيج إلى عامل لجبايتها. ويؤكده قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} [التوبة:103/ 9]. ويجب على الإمام (¬1) أن يبعث السعاة لأخذ الصدقة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده كانوا يبعثون السعاة، ولأن في الناس من يملك المال، ولا يعرف ما يجب عليه، وفيهم من يبخل، فوجب أن يبعث من يأخذ. ¬
ولا يبعث الإمام إلا ساعياً حراً عدلاً ثقة؛ لأن هذا ولاية وأمانة، والعبد والفاسق ليسا من أهل الأمانة والولاية. ولا يبعث إلا فقيهاً؛ لأنه يحتاج إلى معرفة ما يؤخذ وما لا يؤخذ، ويحتاج إلى الاجتهاد فيما يعرض له من مسائل الزكاة وأحكامها. وهناك آية تجيز لأرباب الأموال دفع الزكاة بأنفسهم إلى المستحقين وهي قوله تعالى: {والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم} [المعارج:24/ 70 - 25] لأنه إذا كان ذلك الحق حقاً للسائل والمحروم، وجب أن يجوز دفعه إليهما مباشرة. وعملاً بما دلت عليه الآيات فصل العلماء في بيان تفرقة الزكاة. أـ فإن كان مال الزكاة خفياً أو باطناً: وهو الذهب والفضة وأموال التجارة في مواضعها، جاز للمالك أن يفرقها بنفسه، أو أن يدفعها إلى الإمام، لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم طالب بزكاته، وتبعه في ذلك أبو بكر وعمر، ثم طالب بها عثمان لمدة، ولما كثرت أموال الناس ورأى أن في تتبعها حرجاً على الأمة، فوض الأداء إلى أربابها. ودفعها إلى الإمام لأنه نائب عن الفقراء، فجاز الدفع إليه كولي اليتيم، ولأن الإمام أعلم بمصارفها، ودفعها إليه يبرئه ظاهراً وباطناً، لاحتمال أن يكون غير مستحق لها، ولأنه يخرج من الخلاف وتزول التهمة عنه. ب ـ وإن كان مال الزكاة ظاهراً: وهو المواشي والزروع والثمار والمال الذي يمر به التاجر على العاشر، فيجب عند الجمهور منهم الحنفية والمالكية (¬1) دفعها إلى الإمام، فإن فرقها بنفسه، لم يحتسب له ما أدى، لقوله تعالى: {خذ من أموالهم ¬
صدقة} [التوبة:103/ 9] أمر الله نبيه بأخذ الزكاة، فدل أن للإمام المطالبة بذلك والأخذ. ودل ذكر «العاملين عليها» في المصارف على أن للإمام مطالبة أرباب الأموال بالصدقات. وكان النبي يبعث المصدِّقين (الجباة) إلى أحياء العرب والبلدان والآفاق لأخذ الصدقات من الأنعام والمواشي في أماكنها (¬1). وتابعه على ذلك الخلفاء الراشدون، وقال أبو بكر رضي الله عنه لما امتنعت العرب عن أداء الزكاة: «والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، لحاربتهم عليه» (¬2). لكن المالكية قالوا: إذا كان الإمام عدلاً، وجب دفع الزكاة إليه، وإن كان غير عدل، فإن لم يتمكن المزكي صرفها عنه، دفعت إليه وأجزأت. وإن تمكن صرفها عنه دفعها صاحبها لمستحقها. ويستحب ألا يتولى دفعها بنفسه خوف الثناء. وقال الشافعي في الجديد (¬3): يجوز للمزكي أن يفرق زكاة الأموال الظاهرة بنفسه كزكاة الباطن؛ لأنها زكاة، فجاز أن يفرقها بنفسه كزكاة المال الباطن. وقال الحنابلة (¬4): يستحب للإنسان أن يلي تفرقة الزكاة بنفسه، ليكون على يقين من وصولها إلى مستحقها، سواء أكانت من الأموال الظاهرة أم الباطنة. قال أحمد: أعجب إلي أن يخرجها، وإن دفعها إلى السلطان فهو جائز. ودليلهم أن ¬
ثانيا ـ التوكيل في أداء الزكاة
المزكي دفع الحق إلى مستحقه الجائز تصرفه، فأجزأه، كما لو دفع الدين إلى غريمه، وكزكاة الأموال الباطنة، ولأن المال الظاهر أحد نوعي الزكاة، فأشبه النوع الآخر، ولتوفير أجر العُمالة (رزق العامل). ولكن للإمام أخذها، وهذا لا خلاف فيه، لدلالة الآية: {خذ من أموالهم صدقة} [التوبة:103/ 9]، ومطالبة أبي بكر لهم بها بكونهم لم يؤدوها إلى أهلها، ولو أدوها إلى أهلها لم يقاتلهم عليها. وعلى كل حال فالواقع أن إخراج الزكاة أصبح منوطاً بأرباب الأموال، ويطلب اليوم سن تشريعات فريضة الزكاة، وقيام الدولة بجبايتها، بسبب تقصير الكثير عن أدائها، على أن تصرف في المصارف الشرعية، وأن يكون الحاكم عادلاً أميناً على مصالح المسلمين. ثانياً ـ التوكيل في أداء الزكاة: اتفق الفقهاء (¬1) على أنه يجوز التوكيل في أداء الزكاة، بشرط النية من الموكل أو المؤدي، فلو نوى عند الأداء أو الدفع للوكيل عند الحنفية والشافعية، أو قبل الأداء بزمن يسير عند الحنابلة، أو عند العزل لدى المالكية والحنفية والشافعية، ثم أداها الوكيل إلى الفقير بلا نية جاز؛ لأن تفرقة الزكاة من حقوق المال، فجاز أن يوكل في أدائه كديون الآدميين. وللوكيل أن يوكل غيره بلا إذن ولو نوى الوكيل ولم ينو الموكل، لم يجز؛ لأن الفرض يتعلق به، والإجزاء يقع عنه، وإن دفعها إلى الإمام ناوياً ولم ينو الإمام حال دفعها إلى الفقراء، جاز. ¬
ثالثا ـ شرط المال المؤدى
وبناء عليه يجوز في رأي الحنفية توكيل الذمي غير المسلم بأداء الزكاة للفقراء؛ لأن المؤدي في الحقيقة هو المسلم. ولو قال الموكل: هذا تطوع أوعن كفارتي، ثم نواه عن الزكاة قبل دفع الوكيل، صح. وللوكيل أن يدفع الزكاة لولده الفقير أو زوجته الفقيرة إذا لم يأمره بالدفع إلى شخص معين، ولا يجوز له أن يأخذ الزكاة لنفسه إلا إذا قال له الموكل: ضعها حيث شئت. وإن أمره بالدفع إلى شخص معين، فدفعها الوكيل لغيره، فيه قولان عند الحنفية: قول بأنه لا يضمن، كمن نذر أن يتصدق على فلان معين، له أن يتصدق على غيره، وقول رجحه ابن عابدين: يضمن؛ لأن الوكيل يستمد سلطته بالتصرف من الموكل، وقد أمر بالدفع إلى فلان، فلا يملك الدفع إلى غيره، كمن أوصى لزيد بكذا، ليس للوصي الدفع إلى غيره. ثالثاً ـ شرط المال المؤدى: يشترط أن يكون المؤدى مالاً متقوماً على الإطلاق، سواء أكان عند الحنفية (¬1) منصوصاً عليه أم لا، من جنس المال الذي وجبت فيه الزكاة أم من غير جنسه، والأصل عندهم أو القاعدة: أن كل مال يجوز التصدق به تطوعاً، يجوز أداء الزكاة منه، ومالا فلا. وعليه: لو أعطى الفقير سلعة من السلع كقماش أوخبز أوسكر أو سمن أو حذاء، ناوياً الزكاة صح. وعند غير الحنفية: يتعين أداء المنصوص عليه، وقد بحث الموضوع في إخراج القيمة في الزكاة. رابعاً ـ نقل الزكاة لبلد آخر غير بلد المزكي: القاعدة العامة أن تفرَّق صدقة كل قوم فيهم، لحديث معاذ المتقدم: «خذها ¬
من أغنيائهم وردها في فقرائهم»، والمعتبر عند الحنفية والشافعية والحنابلة في زكاة المال: المكان الذي فيه المال، والمعتبر في صدقة الفطر: المكان الذي فيه المتصدق اعتباراً بسبب الوجوب فيهما، وللفقهاء تفصيل في نقل الزكاة من بلد إلى آخر (¬1). قال الحنفية: يكره تنزيهاً نقل الزكاة من بلد إلى بلد آخر إلا أن ينقلها إلى قرابته المحاويج ليسد حاجتهم، أو إلى قوم هم أحوج إليها أوأصلح أو أورع أو أنفع للمسلمين، أو من دار الحرب إلى دار الإسلام، أو إلى طالب علم، أو إلى الزهاد، أو كانت معجلة قبل تمام الحول، فلا يكره نقلها. ولو نقلها لغير هذه الأحوال جاز؛ لأن المصرف مطلق الفقراء. وقال المالكية: لا يجوز نقل الزكاة لبلد لمسافة القصر، فأكثر، إلا لمن هو أحوج إليها، ويجوز نقلها لمن هو دون مسافة القصر (89 كم)؛ لأنه في حكم موضع الوجوب، ويتعين تفرقتها فوراً بموضع الوجوب: وهو في الحرث (الزرع والثمر) والماشية: الموضع الذي جبيت منه، وفي النقود وعروض التجارة: موضع المالك، حيث كان، ما لم يسافر، ويوكل من يخرج عنه ببلد المال. وقال الشافعية: الأظهر منع نقل الزكاة، ويجب صرفها إلى الأصناف في البلد الذي فيه المال، لحديث معاذ المتقدم، فإن لم توجد الأصناف في البلد الذي وجبت فيه الزكاة، أو لم يوجد بعضهم، أو فضل شيء عن بعض وجد منهم، نقلت إلى أقرب البلاد لبلد الوجوب. وقال الحنابلة: المذهب أنه لا يجوز نقل الصدقة من بلد مال الزكاة إلى بلد ¬
خامسا ـ أخذ البغاة والخوارج الزكاة
مسافة القصر، أي يحرم نقلها إلى مسافة القصر، ولكن تجزئه. ويجوز نقلها لأقل من مسافة القصر من البلد الذي فيه المال. والمستحب تفرقة الصدقة في بلدها، ثم الأقرب فالأقرب من القرى والبلدان. خامساً ـ أخذ البغاة والخوارج الزكاة: إذا تغلبت فئة الخوارج والبغاة على بلد إسلامي، فأخذوا زكواتهم وعشور أراضيهم وخراجها، ثم استعادها الإمام منهم أو أخذ السلطان الجائر الزكاة، أجزأ المدفوع عن أصحابه ولا يثنّى عليهم، وأجزأ دفع الخراج عن المكلف به، سواء عدل الآخذ فيما أخذ أو جار، وسواء أخذها قهراً أو دفعت إليه اختياراً. وذلك عملاً بفعل الصحابة، ولأن المعطي دفعها إلى أهل الولاية، ولأن حق الأخذ للإمام لأجل الحفظ والحماية، ولم يوجد ذلك منه، فجاز دفعها لغيره (¬1). لكن قال الحنفية: إلا أن المعطين يفتون فيما بينهم وبين ربهم أن يؤدوا الزكاة والعشور ثانياً. وقالوا أيضاً: لو أخذ السلطان الصدقات أو الجبايات أو أخذ مالاً مصادرة إن نوى المأخوذ منه الصدقة عند الدفع، جاز وبه يفتى، أو إذا دفع إلى كل جائر بنية الصدقة يجزئ، والأحوط الإعادة. سادساً ـ الحيلة لإسقاط الزكاة: يحرم التحايل لإسقاط الزكاة كأن يهب المال المزكى لفقير ثم يشتريه منه، أو يهبه لقريب قبل حولان الحول ثم يسترده منه فيما بعد. ولو أبدل النصاب بغير جنسه كإبدال الماشية بدراهم، فراراً من الزكاة، أو أتلف جزءاً من النصاب قصداً للتنقيص لتسقط عنه الزكاة، أو جعل السائمة ¬
سابعا ـ هل تجزئ الضريبة المدفوعة للدولة عن الزكاة؟
علوفة، لم تسقط عنه الزكاة عند الحنابلة والمالكية (¬1) سداً للذرائع، لأنه قصد إسقاط نصيب من انعقد سبب استحقاقه، ولقوله تعالى: {إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة، إذ أقسموا ليصرمُنَّها مصبحين، ولا يستثنون، فطاف عليها طائف من ربك، وهم نائمون، فأصبحت كالصريم} [القلم:17/ 68 - 20] فعاقبهم الله تعالى بذلك، لفرارهم من الصدقة. قال أبو يوسف: لا يحتال في إبطال الصدقة بوجه ولا سبب. وقال أبو حنيفة والشافعي: تسقط عنه الزكاة؛ لأنه نقص قبل تمام حوله، فلم تجب فيه الزكاة، كما لو أتلف لحاجته. سابعاً ـ هل تجزئ الضريبة المدفوعة للدولة عن الزكاة؟ لا تجزئ أصلاً الضريبة عن الزكاة؛ لأن الزكاة عبادة مفروضة على المسلم شكراً لله تعالى وتقرباً إليه، والضريبة التزام مالي محض خال عن كل معنى للعبادة والقربة، ولذا شرطت النية في الزكاة ولم تشرط في الضريبة، ولأن الزكاة حق مقدر شرعاً، بخلاف الضريبة فإنها تخضع لتقدير السلطة، ولأن الزكاة حق ثابت دائم، والضريبة مؤقتة بحسب الحاجة، ولأن مصارف الزكاة هي الأصناف الثمانية: الفقراء والمساكين المسلمون إلخ، والضريبة تصرف لتغطية النفقات العامة للدولة. وللزكاة أهداف روحية وخلقية واجتماعية إنسانية، أما الضريبة فلا يقصد بها تحقيق شيء من تلك الأهداف (¬2). ¬
ثامنا ـ حكم من مات وعليه زكاة أمواله، أو هل تسقط الزكاة بالموت؟
ثامناً ـ حكم من مات وعليه زكاة أمواله، أو هل تسقط الزكاة بالموت؟ اختلف الفقهاء في ذلك (¬1)، فقال المالكية والشافعية والحنابلة: من وجبت عليه زكاة وتمكن من أدائها، فمات قبل أدائها، عصى، ووجب إخراجها من تركته، وإن لم يوص بها، ولا تسقط بموته؛ لأنها حق واجب تصح الوصية به، أو حق مال لزمه في حال الحياة، فلم يسقط بالموت كدين الآدمي. ولكن تنفذ من ثلث التركة كالوصية في مشهور مذهب المالكية، ومن رأس مال التركة كلها في رأي الشافعي وأحمد. وإذا اجتمع في تركة الميت دين لله تعالى ودين لآدمي، مثال الأول: زكاة وكفارة ونذر وجزاء صيد حرمي وغير ذلك، فالأصح عند الشافعية تقديم دين الله تعالى. وقال أبو حنيفة: تسقط عنه الزكاة بالموت، إلا أن يوصي بها وصية، فتخرج من الثلث، ويزاحم بها أصحاب الوصايا، وإذا لم يوص بها سقطت؛ لأنها عبادة من شرطها النية، فسقطت بموت من هي عليه كالصوم. فتكون مسقطات الزكاة عند الحنفية ثلاثة: موت من عليه الزكاة من غير وصية، والردة، وهلاك النصاب بعد الحول قبل التمكن من الأداء وبعده، خلافاً للشافعي وغيره في الأمور الثلاثة. تاسعاً ـ إسقاط الدين لا يقع عن الزكاة: يترتب على اشتراط تمليك الزكاة للفقراء ونحوهم (¬2) أن المسامحة بالدين لا ¬
عاشرا ـ الإبراء من الدين على مستحق الزكاة واحتسابه منها واعتبار ما أخرج، على ظن الوجوب، زكاة معجلة
تجزئ عند الحنفية عن الزكاة، وإنما يجب إعطاء الزكاة للفقير، ويمكن استيفاء الدين منه بعد ذلك فيعطيه الزكاة، ثم بعد أن يستلمها يقول له: أعطني ديني، وكذلك أجاز الحنابلة الإعطاء للمدين ثم يستوفي منه حقه، ما لم يكن حيلة أي بأن شرط عليه أن يردها عليه من دينه. ولو اشترى بالزكاة طعاماً، فأطعم الفقراء غداء وعشاء، ولم يدفع عين المال إليهم لايجوز، لعدم التمليك، ولو دفع الزكاة للفقير لا يتم الدفع ما لم يقبضها بنفسه أو يقبضها له وليه أو وصيه. ولو قضى دين ميت فقير بنية الزكاة، لم يصح عن الزكاة؛ لأنه لم يوجد التمليك من الفقير، لعدم قبضه، لكن لو قضى دين فقير حي بأمره، جاز عن الزكاة، لوجود التمليك من الفقير؛ لأنه لما أمره به، صار وكيلاً عنه في القبض، فصار كأن الفقير قبض الصدقة بنفسه، وملكها للغريم الدائن. عاشراً ـ الإبراء من الدين على مستحق الزكاة واحتسابه منها واعتبار ما أخرج، على ظن الوجوب، زكاة معجلة: هذا الموضوع: «الإبراء من الدين» ليقع عن الزكاة يثار البحث حوله من قديم، وتبرز الحاجة إلى معرفة حكمه بنحو متميز في عصرنا حيث تلكأ الناس عن دفع الزكاة المفروضة، وأهملوا إخراجها، ولجأ بعضهم إلى بعض الحيل للتخلص من أدائها. وقبل التعرف على الحكم الواجب الاتباع، يجب التذكر بأن منهج العالم وإفتائه يكون بما ترجح دليله، وظهر وجه الحق فيه، كما قرر العلماء، كما أن ما أيدته القواعد الشرعية الكثيرة، واطمأن إليه العقل وارتاحت له النفس، أو قال به أكثر العلماء، يكون مرجحاً الأخذ به.
آراء العلماء في الإبراء من الدين واحتسابه من الزكاة
ويفرح بعض الناس اليوم كلما وجد رأياً في رحاب وزوايا الفقه الإسلامي، فيدعو للأخذ به، وإن كان شاذاً أو ضعيفاً، من غير حاجة ملحة أو ضرورة ملجئة، علماً بأنه ما أكثر الآراء والخلافات! فلا تكاد تخلو مسألة من قولين فأكثر قد تصل إلى عشرة أقوال، وليس التجديد أو الترجيح أو الاجتهاد بإحياء الآراء الشاذة. وهذه المسألة موضوع البحث قد يبدو فيها لأول وهلة دون مراعاة قواعد الشريعة، الميل للأخذ بما تيسر على الناس، فيؤدي الغني زكاة ماله عن طريق إبراء ما له من ديون في ذمم الآخرين المستحقين، واعتبار المدفوع زكاة معجلة على رأي جمهور الفقهاء غير الظاهرية والمالكية، الذين يجيزون تعجيل الزكاة قبل الحول، ولعام واحد لا لعامين، وبعد ملك النصاب الشرعي؛ لأنه أداء بعد سبب الوجوب. وهبة الدين لمن هو عليه يسمى إبراء؛ لأن الهبة الحقيقية تكون لغير من عليه الدين (¬1). وأبين في هذا البحث آراء العلماء وأدلتهم، وما ترجح لدي منها بعد مناقشتها. آراء العلماء في الإبراء من الدين واحتسابه من الزكاة: للفقهاء رأيان في هذا الموضوع، رأي بالجواز والإجزاء، ورأي بعدم الجواز والإجزاء. أما الرأي الأول: فهو للظاهرية وبعض التابعين (الحسن البصري وعطاء) والشيعة الجعفرية. ¬
الرأي الثاني
وأما الرأي الثاني: فهو للجمهور الأعظم: أئمة المذاهب الأربعة، والإباضية والزيدية وسفيان الثوري وأبي عبيد. وأبدأ ببيان الرأي الأول ذاكراً مقولة أنصاره وأدلتهم: أـ فقال ابن حزم الظاهري: من كان له دين على بعض أهل الصدقات فتصدق عليه بدينه قبله، ونوى بذلك أنه من زكاته، أجزأه ذلك، وكذلك لو تصدق بذلك الدين على من يستحقه، وأحاله به على من هو له عنده، ونوى بذلك الزكاة، فإنه يجزئه. برهان ذلك: أنه مأمور بالصدقة الواجبة، وبأن يتصدق على أهل الصدقات من زكاته الواجبة بما عليه منها، فإذا كان إبراؤه من الدين يسمى صدقة، فقد أجزأه. ويؤيد ذلك ما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: «أصيب رجل على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها، فكثر دينه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: تصدّقوا عليه .. » (¬1). لكن الحديث واضح في بذل الصدقات وأداء المال بالفعل من القادرين الأغنياء لهذا الرجل المديون الذي استغرقت الديون ماله، سواء أكان المتصدق دائناً له أم لا. ولا شك بأن دفع المال صدقة يختلف عن الإبراء من الدين الذي هو إسقاط الدين، فإن الصدقات سبيل للإغناء، وتمكين من وفاء الديون، وعون للمدين على التخلص من أزمة الدين أو الإفلاس، بسداد الديون لأصحابها مما تجمع لديه من الصدقات، والإبراء من الدين إسقاط لا تمليك عند أكثر الفقهاء كما سيأتي، وهو إن اعتبر صدقة تطوع على المدين المعسر، إلا أنه يتعذر اعتباره زكاة؛ لاشتراط كون النية عند أداء الزكاة مقارنة للأداء، كما سيأتي: ¬
ب ـ وقال بعض التابعين (الحسن البصري وعطاء): يجزئ جعل الدين عن الزكاة لمدين معسر؛ لأنه لو دفعه إليه، ثم أخذه منه، جاز، فكذا إذا لم يقبضه، كما لو كانت له عنده دراهم وديعة، ودفعها عن الزكاة، فإنه يجزئه، سواء قبضها أم لا، فمن أراد ترك الدين الذي هو عليه، وأن يحسبه من زكاة ماله الذي في يده، أجزأه عن الزكاة، بشرط أن يكون الذي عليه الدين من أهل الزكاة الذين يصح دفعها إليهم. قيل لعطاء بن أبي رباح: لي على رجل دين، وهو معسر، أفأدعه له، وأحتسب به من زكاة مالي؟ فقال: نعم. وكان الحسن لا يرى بذلك بأساً إذا كان ذلك من قرض، ثم قال: فأما بيوعكم هذه فلا (¬1)، أي إذا كان الدين ثمناً لسلعة، فلا يراه الحسن مجزئاً، حتى لا يكون ذلك ذريعة للتجار باحتساب ما تعذر اقتضاؤه من الدين، وجعله من الزكاة. لكن ناقش الحافظ أبو عبيد هذا الرأي قائلاً: وإنما نرى الحسن وعطاء كانا يرخصان في ذلك، أي في احتساب الدين من الزكاة، لمذهبهما الخاص في الزكاة، وذلك أن عطاء كان لا يرى في الدين زكاة، وإنْ على المليء، وإن الحسن كان ذلك رأيه في الدين الضمار، وهذا الذي على المعسر هو ضمار: وهو الغائب الذي لا يرجى وصوله، فإذا رجي فليس بضمار (¬2)، وهذا الذي على المعسر هو ضمار، لايرجوه، فاستوى قولهما ههنا، فلما رأيا أنه لا يلزم ربّ المال حقّ الله في ماله هذا. ¬
قال علي رضي الله عنه: «لا زكاة في المال الضمار» ولأن السبب هو المال النامي، ولا نماء إلا بالقدرة على التصرف، ولا قدرة عليه. الغائب، جعلاه كزكاة قد كان أخرجها، فأنفذها إلى هذا المعسر، وبانت من ماله، فلم يبق عليه إلا أن ينوي بها الزكاة، وأن يبرئ صاحبه منها، فرأياه مجزئاً عنه إذا جاءت النية والإبراء. وهذا مذهب لا أعلم أحداً يعمل به، ولا يذهب إليه أحد من أهل الأثر وأهل الرأي (¬1). وإذا كان في هذا القول تيسير على صاحب الدين وعلى المدين جميعاً، فإن محل التيسير وحالته شرط ضروري لكل يسر، فالصلاة تقصر في حال السفر، مثلاً، والصيام لا يطلب من المسافر والمريض، لوجود ظرف السفر والمرض، فإن لم يتوافر للتيسير مجال أو محل أو حالة مقبولة شرعاً كما في هذا الإبراء عن دين المعسر، كان ذلك عبثاً في شرع الله ودينه، كما أن فيه إخلالاً بأحكام الزكاة وشروطها. جـ ـ وقال الشيعة الإمامية (الجعفرية): إذا كان على إنسان دين، ولا يقدر على قضائه، وهو مستحق للزكاة، جاز له أن يقاصّه من الزكاة، وكذلك إن كان الدين على ميت، جاز له أن يقاصّه منها. سأل رجل جعفر الصادق قائلاً: لي دين على قوم قد طال حبسه عندهم، لا يقدرون على قضائه، وهم مستوجبون للزكاة: هل لي أن أدعه، فأحتسب به عليهم من الزكاة؟ قال: نعم (¬2). وهذا رأي يحتاج إلى الدليل، وقواعد الشرع تأباه؛ لأنه لا يعدو أن يكون دين المعسر مالاً ساقطاً ضائعاً يتعذر الوفاء به، فيجعل أداة لإجزائه عن الزكاة، وحيلة لإغنائه عنها، وهو في جميع الأحوال مال ميؤوس من الحصول عليه. ¬
وأما أنصار الرأي الثاني وهم الجمهور الأعظم فيقولون: إن الإبراء من الدين عن المدين المعسر أو إسقاط الدين أو المسامحة بالدين لا يقع عن الزكاة بحال، ولا يجزئ عنها، وإنما يجب إعطاء الزكاة فعلاً للفقير، كما لو قضى دين ميت فقير بنية الزكاة، لم يصح عن الزكاة، لأنه لا يوجد التمليك من الفقير، لعدم قبضه. لكن لو قضى دين فقير حي بأمره، جاز عن الزكاة، لوجود التمليك من الفقير؛ لأنه لما أمره به، صار وكيلاً عنه في القبض، فصار كأن الفقير قبض الصدقة لنفسه، وملّكها للغريم الدائن. وأذكر عبارة كل مذهب من هؤلاء: أـ قال الحنفية: تتعلق الزكاة بعين المال المزكى، كتعلق حق الرهن بالمال المرهون، ولا يزول هذا الحق إلا بالدفع إلى المستحق (¬1). ولا يجوز أداء الزكاة إلا بنية مقارنة للأداء أو مقارنة لعزل مقدار الواجب؛ لأن الزكاة عبادة، فكان من شرطها النية، والأصل فيها الاقتران، إلا أن الدفع يتفرق، فاكتفي بوجودها ـ أي النية ـ حالة العزل تيسيراً كتقديم النية في الصوم. وعلى هذا لو كان لشخص دين على فقير، فأبرأه عنه، ناوياً به الأداء عن الزكاة، لم يجزئه؛ لأن الإبراء إسقاط، والساقط ليس بمال، فلا يجزئ أن يكون الساقط عن المال الواجب في الذمة، وبناء عليه قالوا: لا يجوز الأداء في صورتين، يهمنا منهما الصورة الأولى: الأولى ـ أداء الدين عن العين، كجعله ما في ذمة مديونه زكاة لماله الحاضر ¬
بخلاف ما إذا أمر فقيراً بقبض دين له على آخر عن زكاة دين عنده، فإنه يجوز: لأنه عند قبض الفقير يصير عيناً، فكان عيناً عن عين، أي فكان قبض الدين الذي تحول بالقبض إلى شيء معين مجزئاً عن قبض عين مال الزكاة المستحق للفقير في مال الغني. الثانية ـ أداء دين عن دين سيقبض: كما لوأبرأ الفقير عن بعض النصاب ناوياً به الأداء عن الباقي؛ لأن الباقي يصير عينا بالقبض، فيصير مؤدياً بالدين عن العين (¬1). ب ـ وكذلك قال المالكية: تجب نية الزكاة عند الدفع إلى الفقير، ويكفي عند عزلها، ولا يجب إعلام الفقير، بل يكره، لما فيه من كسر قلب الفقير، وأضافوا أنه لا يجوز إخراج الزكاة قبل الحول؛ لأنها عبادة تشبه الصلاة، فلم يجز إخراجها قبل الوقت، ولأن الحول أحد شرطي الزكاة، فلم يجز تقديم الزكاة عليه، كالنصاب، ويكره تقديم الزكاة أو تعجيلها قبل وجوبها بنحو شهر فقط، لا أكثر في عين (ذهب أو فضة) وما شية، لا ساعي لها، فتجزئ مع الكراهة، بخلاف ما لها ساع، وبخلاف الحرث، فلا تجزئ. وقالوا أيضاً: لو سرق مستحق بقدر الزكاة، فلا تكفي، لعدم النية (¬2). وجاء في المعيار المعرب للونشريسي بعنوان: لا يقتطع الدين الذي على الفقراء في الزكاة: وسئل عمن له دين على فقراء، هل يقطعه عليهم فيما وجب له عليهم من زكاته، أم لا؟ فأجاب: لا يجوز فعله، ولا يجزئ إن فعل (¬3). ¬
جـ ـ وقال الشافعية أيضاً: تجب النية عند الدفع إلى الفقير أو عند التفريق، ولو عزل مقدار الزكاة، ونوى عند العزل، جاز، فإن لم ينو المالك عند الدفع للسلطان، لم يجزئ على الصحيح (¬1). وجاء في المجموع للنووي (¬2): إذا كان لرجل على معسر دين، فأراد أن يجعله عن زكاته، وقال له: جعلته عن زكاتي، فوجهان حكاهما صاحب البيان: أصحهما: لا يجزئه، وبه قطع الصيمرى، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد: لأن الزكاة في ذمته، فلا يبرأ إلا بإقباضها. والثاني يجزئه، وهو مذهب الحسن البصري وعطاء؛ لأنه لو دفعه إليه، ثم أخذه منه جاز، فكذا إذا لم يقبضه ... الخ ما ذكر سابقاً. أما إذا دفع الزكاة إليه بشرط أن يردها إليه عن دينه، فلا يصح الدفع، ولا تسقط الزكاة بالاتفاق، ولا يصح قضاء الدين بذلك بالاتفاق، ممن صرح بالمسأله القفّال في الفتاوى وصاحب التهذيب في باب الشرط في المهر، وصاحب البيان هنا، والرافعي وآخرون. ولو نويا ذلك، ولم يشرطاه، جاز بالاتفاق، وأجزأه عن الزكاة، وإذا رده إليه عن الدين برئ منه. قال البغوي: ولو قال المدين: ادفع إلي عن زكاتك حتى أقضيك دينك، ففعل أجزأه عن الزكاة، وملكه القابض، ولا يلزمه دفعه إليه عن دينه، فإن دفعه أجزأه. قال القفال: ولو قال رب المال للمدين: اقض ما عليك على أن أرده عليك عن زكاتي، فقضاه، صح القضاء، ولا يلزمه رده إليه، وهذا متفق عليه. وذكر ¬
الرُّوياني في البحر: أنه لو أعطى مسكيناً زكاة، وواعده أن يردها إليه ببيع أو هبة أو ليصرفها المزكي في كسوة المسكين ومصالحه، ففي كونه قبضاً صحيحاً احتمالان: قلت ـ أي النووي ـ الأصح لا يجزئه، كما لو شرط أن يرد إليه عن دينه عليه. قال القفال: ولو كانت له حنطة عند فقير وديعة، فقال: كُلْ منها لنفسك كذا، ونوى ذلك عن الزكاة، ففي إجزائه عن الزكاة وجهان: وجه المنع: أن المالك لم يَكِلْه، وكَيْل الفقير لا يعتبر، ولو كان وكّله بشراء ذلك القدر، فاشتراه وقبضه، ثم قال له الموكل: خذه لنفسك، ونواه زكاة، أجزأه؛ لأنه لا يحتاج إلى كيله. والله تعالى أعلم. د ـ وقال الحنابلة: تشترط النية في أداء الزكاة، ويجوز تقديمها على الأداء بالزمن اليسير كسائر العبادات فلا بد من نية مقارنة أو مقاربة، ويجب إعطاء الزكاة للفقير، لكن لو أعطى المدين، ثم استوفى منه حقه، جاز، ما لم يكن حيلة، أي بأن شرط عليه أن يردها عليه من دينه (¬1)، كما ذكر النووي. قال في كشاف القناع: ولا يكفي إبراء من دينه بنية الزكاة، سواء كان المخرج عنه ديناً أو عيناً، ولا تكفي الحوالة بها؛ لأن ذلك ليس إيتاء لها، وكذا الحوالة عليها؛ لأنه لا دين له يحيل عليه، إلا أن تكون بمعنى الإذن في القبض (¬2). هـ ـ وقال الإباضية: إن قال الدافع أي الذي لزمته الزكاة، وكان بصدد دفعها للمدين: قضيت لك مالي عليك من دين أو تباعة، فاقبله ولا تعطه ـ أي الدين ـ لي، أو على فلان، فخذه منه في زكاة مالي أي لزكاة أو بدل زكاة مالي، لم تجزه أيضاً عند بعض؛ إذ ذلك كبيع دين بدين، وهو لا يجوز إن شاء الله تعالى، وإن ¬
قضاه ثم تصدق به عليه جاز. وقيل: يجزيه إذ هي كالهبة لما في الذمة، وهبة ما في الذمة جائزة، والأول مختار «الديوان» وقيل: يجزيه إذا قال: قضيت ما لي عليك، بشرط أن يجد من أين يتخلص مما عليه، وإن لم يجد فقولان أيضاً (¬1). وـ وقال الزيدية: ولا يجوز ولا يجزئ الإبراء للفقير عن دين عليه لرب المال بنية جعل الدين زكاة المبري، بل يقبضه رب المال من الفقير، ثم يصرفه فيه، أو يوكله بقبضه من نفسه، ثم يصرفه في نفسه أو يوكل الفقير رب المال بأن يقبض له زكاة من نفسه، ثم يقبضه عن دينه، ويحتاج إلى قبضين: الأول للزكاة، والثاني للقضاء. والعلة في عدم إجزاء الإبراء: أنه أخرج من غير العين، ومن شرطه أيضاً التمليك، ولأن الدين ناقص، فلا يجزئ عن الكامل، يعني لا تصير زكاة. وأما الفقير فقد برئ من الدين، ولا يقال: هو على غرض ولم يحصل، لأن الغرض من جهة نفسه لا يمنع حصوله من صحة البراءة. وقيل: هو لا يبرأ إذ هو في مقابلة الإجزاء ولم يحصل، إلا أن يبرئه عالما ًبعدم الإجزاء، فتصح البراءة. وشرطوا في صرف رب المال ما يقبضه من الفقير المدين في الدين: أن يكون المقبوض من جنس الدين، وأما إذا كان من غير جنسه، فهو بيع، فلا يصح أن يتولى الطرفين واحد. وقيل: يصح مطلقاً، وغايته: أن يكون فاسداً، وهو يملك بالقبض (¬2). ز ـ كان سفيان الثوري يكره احتساب الدين من الزكاة، ولا يراه مجزئاً، كما ذكر أبو عبيد (¬3). ¬
الترجيح
ح ـ كذلك لم ير أبو عبيد إجزاء الزكاة بجعلها عن الدين، واستدل على ذلك بأدلة ثلاثة هي: الأول ـ أن سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الصدقة (الزكاة) كانت على خلاف هذا الفعل؛ لأنه إنما كان يأخذها من أعيان المال عن ظهر أيدي الأغنياء (أي مقبوضاً منهم) ثم يردها في الفقراء. وكذلك كانت الخلفاء بعده، ولم يأتنا أحد منهم أنه أذن لأحد في احتساب دين من زكاة، وقد علمنا أن الناس قد كانوا يتداينون في دهرهم. الثاني ـ أن هذا مال تاو (والتوى: الهلاك والضياع والخسارة) غير موجود قد خرج من يد صاحبه على معنى القرض والدين، ثم هو يريد تحويله بعد التواء إلى غيره بالنية، فهذا ليس بجائز في معاملات الناس بينهم، حتى يقبض ذلك الدين، ثم يستأنف الوجه الآخر، فكيف يجوز فيما بين العباد وبين الله عز وجل؟ أي لأن حقوق العباد مبنية على المشاحّة، وحقوق الله عز وجل مبناها على المسامحة. الثالث ـ أن هذا المزكي لا يؤمن أن يكون إنما أراد أن يقي ماله بهذا الدين الذي قد يئس منه، فيجعله ردءاً لماله يقيه به، إذا كان منه يائساً، وليس يقبل الله تبارك وتعالى إلا ما كان له خالصاً (¬1). الترجيح: تبين لنا ضعف الأدلة التي اعتمد عليها أنصار الرأي الأول الذين يرون احتساب الدين من الزكاة، وأدركنا قوة أدلة الرأي الثاني الذين يرون أن إسقاط الدين أو الإبراء منه لا يقع عن الزكاة، ويمكن تلخيص أدلتهم فيما يأتي: 1 - كون الدين في الذمة غير مملوك للمزكي الدائن؛ لأن الدين لا يملك إلا بالقبض. ¬
2 - عدم توافر القبض الذي يحقق معنى إعطاء الزكاة للمستحقين. 3 - يشترط في الزكاة وغيرها مقارنة النية للأداء دائماً. 4 - التمليك شرط لصحة أداء الزكاة بأن تعطى للمستحقين، فلا يكفي فيها الإباحة أو الإطعام إلا بطريق التمليك، لقوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء} [التوبة:60/ 9] والتصدق تمليك، واللام في كلمة «للفقراء» لام التمليك. والدّين لا يملك إلا بالقبض، كما قال الإمامية أنفسهم (¬1). والإبراء عند الحنفية والحنابلة إسقاط لا تمليك، وإذا كان الإبراء عند المالكية نقلاً للملك، وتمليكاً للمدين ما في ذمته في الجديد عند الشافعية، فإن هذا لا ينطبق عندهم على حالة الإبراء من الدين لاحتسابه من الزكاة، كما قرروا فيما سبق؛ لأن المسامحة بالدين لا تعد تمليكاً. 5 - إن هذا الإبراء يعد حيلة للتهرب من الزكاة، وطريقاً للتخلص من حقوق الفقراء. 6 - يعد هذا الإبراء مثل بيع دين في دين، كما ذكر الإباضية، وهو لا يجوز. 7 - هذا عمل مخالف للسنة النبوية ولفعل الخلفاء الراشدين والصحابة والتابعين. 8 - إن المال الموجود عند المدين مال تاو، أي تالف ضائع هالك. 9 - أراد المزكي وقاية ماله بهذا الدين الذي صار ميئوساً منه. ¬
المبحث الثامن ـ آداب الزكاة وممنوعاتها
10 - قد تتحول صفة القبض كالهبة للوديع أو المستعير دون حاجة لتجديد القبض كماذكر الحنفية، لكن يتعذر القول بهذا في الزكاة لفوات وقت النية، وهو مقارنتها للأداء والإقباض. والله أعلم، والحمد لله رب العالمين. المبحث الثامن ـ آداب الزكاة وممنوعاتها: قال ابن جزي المالكي (¬1): ممنوعات الزكاة ثلاثة: 1 - أن تبطل بالمن والأذى؛ لأن المن بالصدقة يحبطها أي يمنع ثوابها لآية: {ياأيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} [البقرة:264/ 2] كذلك لا يستعظم مقدارها؛ لأن ذلك محبط للأعمال. 2 - وأن يشتري الرجل صدقته. 3 - وأن يحشر المصدِّق (الساعي) الناس إليها، بل يزكيهم بمواضعهم. ووافق الحنابلة المالكية في الممنوع الثاني قائلين (¬2): ليس لمخرج الزكاة شراؤها ممن صارت إليه، لما روي عن عمر أنه قال: «حَمَلتُ على فرس في سبيل الله، فأضاعه الذي كان عنده، وظننت أنه باعه برخص، فأردت أن أشتريه» فسألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: «لا تبتعه، ولا تعد في صدقتك ولو أعطاكه بدرهم، فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه» (¬3). وقال الشافعي وغيره: يجوز استرداد الزكاة بالشراء وغيره؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلم ¬
السابق: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: رجل ابتاعها بماله ... » (¬1) قال النووي (¬2) عن حديث عمر: هذا نهي تنزيه لا تحريم، فيكره لمن تصدق بشيء أو أخرجه في زكاة أو كفارة أو نذر أو نحو ذلك من القربات أن يشتريه ممن دفعه هو إليه أو يهبه أو يتملكه باختياره منه، فأما إذا ورثه منه، فلا كراهة فيه. وأضاف ابن جزي قائلاً: إن آداب الزكاة ستة: 1 - أن يخرجها طيبة بها نفسه. 2، 3 - وأن تكون من أطيب كسبه ومن خياره، أي أحله وأجوده وأحبه إليه، لكن يأخذ الساعي ـ كما بينت ـ أوسط المال. 4 - أن يسترها عن أعين الناس، وهذا رأي الحنفية أيضاً، فالإسرار بإخراجها أفضل، لكونه أبعد عن الرياء، وعن إذلال الفقير، إلا إذا كان غنياً، ليقتدي به غيره من الأغنياء. وقال الشافعية والحنابلة (¬3): الأفضل في الزكاة: إظهار إخراجها، ليراه غيره، فيعمل عمله، ولئلا يساء الظن به وذلك بالنسبة للمالك في غير الأموال الباطنة، وللإمام مطلقاً. أما صدقة التطوع فالأفضل الإسرار بها اتفاقاً، لحديث السبعة الذين يستظلون بظل العرش، والذي منهم: «من أخفى صدقته حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» (¬4) وأضاف الشافعية: إنْ أظهرها مقتدى به ليقتدى به، ولم يقصد رياء ولا سمعة ولا تأذى به الآخذ، كان الإظهار أفضل. ¬
5 - وأن يوكل في إخراجها، خوف الثناء. 6 - وأن يدعو المزكي عند دفعها، فيقول: «اللهم اجعلها مغنماً، ولا تجعلها مغرماً» ويقول الآخذ والعامل: «آجَرَك الله فيما أعطيت، وبارك لك فيما أبقيت، وجعله لك طهوراً». ويمكن إضافة آداب أخرى منها (¬1). 7 - أن يختار لأداء الزكاة من اتصف بالتقوى والعلم وإخفاء الفقر والقرابة أو الرحم؛ لأن في إعطاء المال عوناً على طاعة الله، وتحصيل العلم، وتحقيق التعفف، ولأن الصدقة على الأقارب فيها أجران لكونها صدقة وصلة. 8 - المبادرة لإخراج الزكاة، امتثالاً لأمر الله، علماً بأنها تجب على الفور، فلو أخرها ليدفعها إلى من هو أحق بها من ذي قرابة أو ذي حاجة شديدة، قال الحنابلة: فإن كان شيئاً يسيراً، فلا بأس، وإن كان كثيراً، لم يجز. قال أحمد: «لا يجزي على أقاربه من الزكاة في كل شهر» يعني لا يؤخر إخراجها حتى يدفعها إليهم متفرقة في كل شهر شيئاً. فإن عجلها فدفعها إليهم أو إلى غيرهم متفرقة أو مجموعة، جاز؛ لأنه لم يؤخرها عن وقتها. 9 - يندب عند الحنفية الدفع إلى الفقير بما يغنيه عن سؤال جميع ما يحتاجه في يومه لنفسه وعياله. 10 - لا حاجة لإعلام الفقير بكون المدفوع له هو زكاة، كما ذكر سابقاً. ¬
مبحثان ملحقان بمصارف الزكاة
مبحثان ملحقان بمصارف الزكاة: (¬1) 1 ً - سهم المؤلفة قلوبهم من الزكاة: إن من الثمار اليانعة للصحوة الإسلامية المباركة العناية بفريضة الزكاة وترشيد صرفها إلى المستحقين المحتاجين أو الذين هم نتاج نمو الدعوة الإسلامية في أرجاء العالم، للدلالة على إسهام شريعة الله تعالى في تحقيق التكافل أو التضامن الاجتماعي، وحل مشكلات الاقتصاد العالمية والمحلية، على أساس من الوعي الديني الصحيح، والدافع الذاتي القوي المتفاعل مع تطلعات واحتياجات المجتمع، دون حاجة إلى الإجبار والإكراه، أو القسر والضغط والتهديد بعقوبات رادعة زاجرة. وإذا كان من أصول السياسة الشرعية الحكيمة وجود قواعد الاستحسان والاستصلاح وسد الذرائع، فإن من أهم تطبيقاتها تخصيص أحد مصارف الزكاة الثمانية، وهو سهم المؤلفة قلوبهم، لعلاج ظاهرة اجتماعية وهي الحاجة إلى تثبيت الإيمان والإسلام في قلوب الذين يدخلون حديثاً في الإسلام، أو استمالة نفوس بعض المترددين في الاعتقاد الذي ينتظرون من يقدم لهم شيئاً من الأموال والمنافع والخدمات، أو تسخير طاقاتهم المادية والمعنوية في سبيل الدفاع عن حرمات الإسلام ومبادئه وقضايا الأمة المصيرية في معركتها المستمرة مع الأعداء الحاقدين، والكتاب المغرضين، وأصحاب المواقف المشبوهة. وإني أبين هنا بكل وضوح حقيقة مصرف «المؤلفة قلوبهم» أحد مصارف الزكاة الثمانية التي نصت عليها الآية (60) من سورة التوبة، وهي: {إنما الصدقات للفقراء، والمساكين، والعاملين عليها، والمؤلفة قلوبهم، وفي الرقاب، ¬
والغارمين، وفي سبيل الله، وابن السبيل، فريضةً من الله، والله عليم حكيم} [التوبة:60/ 9]. خطة البحث: 1 - معنى المؤلف قلوبهم، وهل نسخ سهمهم بعد موت الرسول صلّى الله عليه وسلم، أو مازال باقياً لم ينسخ؟ 2 - الأحوال التي يستعمل فيها هذا السهم، ومدى حاجة الإسلام والمسلمين إليه في هذا الزمان. 3 - تأليف قلوب الذين يؤمل إسلامهم أو تأثيرهم في توجيه المجتمع لصالح الدعوة الإسلامية. 4 - استخدام هذا المصرف في إيجاد مؤسسات لرعاية المسلمين الجدد. 5 - تأليف قلوب بعض الحكومات والدول غير الإسلامية، والتي تحوي جاليات إسلامية لتحقيق الأمن لها، أو بعض الدول غير الإسلامية التي تعارض إقامة مشاريع إسلامية على أرضها. 6 - المشاركة في سهم المؤلفة قلوبهم في التبرعات التي تجمع للكوارث والنكبات التي تصيب بعض الدول غير الإسلامية كالزلازل والفيضانات. 7 - صرف جزء من سهم المؤلفة قلوبهم في الأمور الدعائية لتحسين النظرة إلى الإسلام والمسلمين. وأبدأ ببيان هذه العناصر تباعاً.
1 - معنى المؤلفة قلوبهم، وهل نسخ سهمهم بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم، أو مازال باقيا لم ينسخ؟
1 - معنى المؤلفة قلوبهم، وهل نسخ سهمهم بعد موت الرسول صلّى الله عليه وسلم، أو مازال باقياً لم ينسخ؟ المؤلفة قلوبهم: هم قوم من الكفار يراد بإغراء المال استمالة قلوبهم إلى الإسلام فيرجى خيرهم، أو منع أذاهم وضررهم بسبب الخوف من شرهم، أو جماعة من المسلمين ضعفاء النية في الإسلام يعطون من الزكاة لتقوية إسلامهم وتثبيتهم على الدين، أو ترغيب نظرائهم في الإسلام، أو لجباية الصدقات من قومهم، أو لقتال من يليهم ويجاورهم من الكفار (¬1). أو هم كما قال الحسن وابن جريح: الذين كانوا يتألفون بالعطية، ولا حسبة لهم في الإسلام (¬2). وعرفهم الطبري بأنهم قوم كانوا يتألفون على الإسلام، ممن لم تصح نصرته، استصلاحاً به نفسه وعشيرته، كأبي سفيان بن حرب، وعيينة بن بدر، والأقرع بن حابس ونظرائهم من رؤساء القبائل، وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل (¬3). وعرفهم القرطبي بقوله: هم قوم كانوا في صدر الإسلام ممن يظهر الإسلام، يتألفون بدفع سهم من الصدقة إليهم لضعف يقينهم (¬4). وقد ورد في السنة النبوية أحاديث كثيرة تدل على جواز التأليف لمن لم يرسخ إيمانه من مال الله عز وجل، منها إعطاؤه صلّى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية وعيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، وعباس بن مرداس، ومالك بن عوف ¬
النضري وحكيم بن حزام وغيرهم، كل إنسان منهم مئة من الإبل (¬1) إلا عبد الرحمن بن يربوع وحويطب بن عبد العزى، فإنه أعطى كل رجل منهما خمسين. وهؤلاء جميعاً قوم من رؤساء قريش وصناديد العرب الطلقاء لهم شوكة وقوة وأتباع كثيرون، بعضهم أسلم حقيقة، وبعضهم أسلم ظاهراً لا حقيقة وكان من المنافقين، وبعضهم كان من المسالمين. وروي أيضاً أنه صلّى الله عليه وسلم أعطى عَلْقمة بن عُلاَثة مئة من الإبل، ثم قال للأنصار لما عتبوا عليه، «ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاء والإبل، وتذهبون برسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟» ثم قال لما بلغه أنهم قالوا: يعطي صناديد نجد ويدعنا؟ «إنما فعلت ذلك لأتألفهم» كما في صحيح مسلم (¬2). وأخرج الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أنس رضي الله عنه: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يكن يُسأل شيئاً على الإسلام إلا أعطاه، قال: فأتاه رجل فسأله، فأمر له بشاء كثير بين جبلين من شاء الصدقة، قال فرجع إلى قومه، فقال: يا قوم أسلموا، فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة». وأخرج أحمد والبخاري عن عمرو بن تَغْلِب: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أتي بمال أو سبي، فقسمه، فأعطى رجالاً، فبلغه أن الذين ترك عتبوا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فوالله، إني لأعطي الرجل، وأدع الرجل، والذي أدع أحب إلي من الذي أعطي، ولكني أعطي أقواماً لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع، وأكل أقواماً إلى ما جعل في قلوبهم من الغنى والخير منهم عمرو بن تغلب، فوالله ما ¬
الحنفية
أحب أن لي بكلمة رسول الله صلّى الله عليه وسلم حُمْر النعم». وقال الزهري حينما سئل عن المؤلفة قلوبهم: هم من أسلم من يهودي أو نصراني، وإن كان غنياً (¬1). تدل هذه الأحاديث وغيرها دلالة واضحة على أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يعطي بعض الكفار ومن لم يرسخ الإيمان في قلبه من الزكاة مال الله عز وجل. ثم امتنع أبو بكر وعمر رضي الله عنهما من إعطاء المؤلفة قلوبهم، أما أبو بكر فامتنع من إعطاء أبي سفيان وعيينة والأقرع وعباس بن مرداس، وقال عمر: «إنا لا نعطي على الإسلام شيئاً، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر». وفي ضوء هذا الواقع برز خلاف بين العلماء في مدى بقاء سهم المؤلفة قلوبهم، هل ما زال باقياً لم ينسخ، أو أنه نسخ بعد وفاة الرسول صلّى الله عليه وسلم؟ انقسم العلماء في هذا الشأن فريقين: فريق يقول بالنسخ: وأنه لا سهم لأحد في الصدقة المفروضة إلا لذي حاجة إليها. وفريق آخر يقول بأن حكم المؤلفة باق لم ينسخ، فهم في كل زمان ولهم حق في الصدقات (¬2). ويحتاج الأمر إلى إيراد آراء المذاهب، كل مذهب على حدة، لوجود الخلاف أحياناً في المذهب الواحد، ووجود تفصيل في بعض المذاهب. ذهب الحنفية (¬3) إلى سقوط سهم المؤلفة قلوبهم، وانتساخ سهمهم وذهابه بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلم، إما لزوال علة الحكم وهي إعزاز الدين والحاجة إليهم في صدر الإسلام حال ضعف المسلمين، فبعد أن اعتز الإسلام زالت الحاجة، فهو من قبيل انتهاء الحكم لانتهاء علته الغائية التي كان لأجلها الدفع أو الإعطاء، فإن الدفع ¬
كان لإعزاز الدين، وقد أعز الله الإسلام وأغنى عنهم، كما قال ابن عابدين نقلاً عن البحر الرائق. وقال المرغيناني في الهداية: وقد سقط سهم المؤلفة قلوبهم، لأن الله تعالى أعز الإسلام، وأغنى عنهم، وعلى ذلك انعقد الإجماع. أو سقط سهمهم، لأن الحكم نسخ بقوله صلّى الله عليه وسلم لمعاذ في آخر الأمر عن الزكاة: «خذها من أغنيائهم، وردها في فقرائهم» (¬1). أو لأن الناسخ كما ذكر الكاساني هو إجماع الصحابة على ذلك، فإن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ما أعطيا المؤلفة قلوبهم شيئاً من الصدقات، ولم ينكر عليهما أحد من الصحابة رضي الله عنهم، فإنه روي أنه لما قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم جاؤوا إلى أبي بكر، واستبدلوا الخط منه لسهامهم (أي إصدار كتاب رسمي بحقوقهم) فبدل لهم الخط، ثم جاؤوا إلى عمر رضي الله عنه، وأخبروه بذلك، فأخذ الخط من أيديهم ومزقه، وقال: «إن رسول الله كان يعطيكم ليؤلفكم على الإسلام، فأما اليوم، فقد أعز الله دينه، فإن ثَبَتُّم على الإسلام، وإلا فليس بيننا وبينكم إلا السيف» فانصرفوا إلى أبي بكر، فأخبروه بما صنع عمر رضي الله عنهما، وقالوا: «أنت الخليفة أم هو؟ فقال: إن شاء الله هو»، ولم ينكر أبو بكر قوله وفعله، وبلغ ذلك الصحابة، فلم ينكروا، فيكون إجماعاً منهم على ذلك، ولأنه ثبت باتفاق الأمة أن النبي صلّى الله عليه وسلم إنما كان يعطيهم ليتألفهم على الإسلام، ولهذا سماهم الله «المؤلفة قلوبهم» والإسلام يومئذ في ضعف، وأهله قلة، وأولئك كثير، ذوو قوة وعدد، واليوم بحمد الله عزّ الإسلام وكثر أهله، واشتدت دعائمه، ورسخ بنيانه، وصار أهل الشرك أذلاّء. والحكم متى ثبت معقولاً بمعنى خاص ينتهي بذهاب ذلك المعنى. ¬
بعض المالكية
يعني: ليس اليوم مؤلفة. وأخرج ابن أبي شيبة عن الشعبي قال: «إنما كانت المؤلفة على عهد النبي صلّى الله عليه وسلم، فلما ولّي أبو بكر انقطعت». ويرى بعض المالكية (القاضي عبد الوهاب وصححه ابن بشير وابن الحاجب واعتمده العلامة خليل في مختصره: «أن حكم المؤلَّف قلبه (وهو كافر يعطى من الزكاة ليسلم، وقيل: مسلم حديث عهد بإسلام ليتمكن إسلامه) باق لم ينسخ، أي أن تأليفه بالدفع إليه ما يزال معمولاً به، لأن المقصود من دفع الزكاة إليه ترغيبه في الإسلام لأجل إنقاذ مهجته من النار». والمشهور من المذهب والراجح انقطاع سهم المؤلفة قلوبهم، بعزة الإسلام، لأن المقصود من دفع الزكاة إليهم ترغيبهم في الإسلام لأجل إعانتهم لنا. هذا إذا كان المؤلف كافراً يعطى ترغيباً له في الإسلام، فإن كان حديث عهد بإسلام، فحكمه باق اتفاقاً، ليتمكن إسلامه (¬1). وعليه، فإن المالكية يوافقون الحنفية في القول بنسخ سهم المؤلفة للكفار، ويخالفونهم فيما إذا كانوا حديثي العهد بالإسلام، فالحكم باق فيهم. وهو قول عمروالحسن البصري والشعبي وغيرهم، فإنهم قالوا: (نقطع هذا الصنف بعز الإسلام وظهوره) (¬2)، وهو أيضاً رأي الإباضية الذين قالوا: هو عندنا سقوطه ما دام الإمام قوياً، وعنهم غنياً، وجاز إن نزل قوم بالإسلام منزلة خيف منهم ضعفه، تألفهم لدفع شرهم عنه وجلب نفعهم له (¬3). ¬
الشافعية
ومذهب الشافعية كالمالكية في التفصيل، فإنهم قالوا: إن المؤلفة قلوبهم من الكفار لا يعطون شيئاً من الزكاة بلا خلاف لكفرهم، والصحيح أنهم لا يعطون شيئاً البتة من خمس الخمس الآتي من الغنائم والفيء، والمرصد للمصالح العامة؛ لأن الله تعالى قد أعز الإسلام وأهله عن تألف الكفار، والنبي صلّى الله عليه وسلم إنما أعطاهم حين كان الإسلام ضعيفاً، وقد زال ذلك، والله أعلم. وأما مؤلفة الإسلام، فصنف دخلوا في الإسلام، ونيتهم ضعيفة، فيعطون تألفاً ليثبتوا، وصنف آخر لهم شرف في قومهم نطلب بتأليفهم إسلام نظائرهم، وصنف إن أعطوا جاهدوا من يليهم أو يقبضوا الزكاة من مانعيها، والمذهب أنهم يعطون، والله أعلم (¬1). وذهب الحنابلة إلى أن حكم المؤلف باق: وهو السيد المطاع في عشيرته ممن يرجى إسلامه أو يخشى شره كخوارج، أو يرجى بعطيته قوة إيمانه أو إسلام نظيره، أو جبايتها ممن لا يعطيها، أو دفع عن المسلمين، أو نصح في الجهاد، ويعطى ما يحصل به التأليف، ويقبل قوله في ضعف إسلامه، أي أنه يعطى عند الحاجة. ودليلهم واضح وهو العمل بنص الآية في مصارف الزكاة، والنبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى حكم فيها، فجزأها ثمانية أجزاء» وكان يعطي المؤلفة كثيراً في أخبار مشهورة، ولم يزل كذلك حتى مات، ولا يجوز ترك كتاب الله وسنة رسوله إلا بنسخ، والنسخ لا يثبت بالاحتمال، كما لا يصح النسخ بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلم. ويحمل ترك عمر وعثمان وعلي إعطاءهم على عدم الحاجة إلى إعطائهم في خلافتهم، لا لسقوط سهمهم، فإن الآية من آخر ما نزل، وأعطى أبو بكر عدي بن حاتم والزِّبْرِقان بن بدر، ولأن المقصود من دفعها إليهم ترغيبهم في الإسلام لأجل ¬
الشيعة الجعفرية والزيدية
إنقاذ مهجهم من النار، لا لإعانتهم لنا حتى يسقط بفشو الإسلام (¬1). قال الزهري: لا أعلم شيئاً نسخ حكم المؤلفة. ويوافق الشيعة الجعفرية والزيدية على هذا الرأي وهو أن حكم المؤلفة باق لم ينسخ ولم يبدل (¬2). والخلاصة: أن المؤلفة الكفار يعطون من الزكاة في رأي، ولا يعطون منها في رأي آخر، وأما المؤلفة المسلمون فيعطون من الزكاة اتفاقاً إذا كانوا حديثي عهد بإسلام ليتمكن الإسلام في نفوسهم كما ذكر الدسوقي، لكن يلاحظ أن هذا الاتفاق منقوض بمخالفة الحنفية الذين قالوا بنسخ سهم المؤلفة قلوبهم مطلقاً كما تقدم. والراجح لدي أن سهم المؤلفة باق لم ينسخ، ويعطون من الزكاة أو من سهم المصالح عند الحاجة، سواء أكانوا مسلمين أم كفاراً. قال أبو عبيد في كتاب الأموال: وأما ما قال الحسن وابن شهاب، فعلى أن الأمر ماض أبداً، وهذا هو القول عندي، لأن الآية محكمة، لا نعلم لها ناسخاً من كتاب ولا سنة (¬3). وقال الشوكاني رحمه الله: والظاهر جواز التأليف عند الحاجة إليه، فإذا كان في زمن الإمام قوم لا يطيعونه إلا للدنيا، ولا يقدر على إدخالهم تحت طاعته بالقسر والغلب، فله أن يتألفهم، ولا يكون لفشو الإسلام تأثير؛ لأنه لم ينفع في خصوص هذه الواقعة، وقد عدّ ابن الجوزي أسماء المؤلفة قلوبهم في جزء مفرد، فبلغوا نحو الخمسين نَفْساً (¬4). ¬
2 - الأحوال التي يستعمل فيها هذا السهم، ومدى حاجة الإسلام والمسلمين إليه في هذا الزمان
وقال الطبري بعد أن أورد الخلاف بين العلماء في بقاء أو نسخ سهم المؤلفة: والصواب من القول في ذلك عندي أن الله جعل الصدقة في معنيين: أحدهما ـ سد خَلَّة المسلمين، والآخر ـ معونة الإسلام وتقويته، فما كان في معرفة الإسلام وتقوية أسبابه، فإنه يعطاه الغني والفقير، لأنه لا يعطاه من يعطاه بالحاجة منه إليه، وإنما يعطاه معونة للدين، وذلك كما يعطاه بالجهاد في سبيل الله، فإنه يعطى ذلك غنياً كان أو فقيراً للغزو ـ الجهاد ـ لا لسد خلته، وكذلك المؤلفة قلوبهم يعطون ذلك، وإن كانوا أغنياء، بإعطائهموه أمر الإسلام وطلب تقويته وتأييده، وقد أعطى النبي صلّى الله عليه وسلم من أعطى من المؤلفة قلوبهم بعد أن فتح الله عليه الفتوح وفشا الإسلام وعز أهله، فلا حجة لمحتج بأن يقول: لا يتألف اليوم على الإسلام أحد لامتناع أهله بكثرة العدد ممن أرادهم، وقد أعطى النبي صلّى الله عليه وسلم من أعطى منهم في الحال التي وصفت (¬1). 2 - الأحوال التي يستعمل فيها هذا السهم، ومدى حاجة الإسلام والمسلمين إليه في هذا الزمان: المؤلفة قلوبهم كما ذكر النووي وغيره قسمان: مسلمون وكفار (¬2). أما الكفار فنوعان: نوع يرجى خيره، وآخر يخاف شره. وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلم يعطيهم، وقد أوضحت أن الراجح دوام إعطائهم عند الحاجة بعد النبي صلّى الله عليه وسلم، إذ لم يثبت النسخ بدليل معتبر، والحاجة تتكرر في كل زمان، وتقتضيها أحوال النفوس في القوة والضعف. ¬
وأما المسلمون فهم أربعة أنواع: أحدها ـ قوم لهم شرف وهم السادة المطاعون في عشائرهم: فيعطون ليرغب نظراؤهم في الإسلام؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أعطى الزبرقان بن بدر وعدي بن حاتم. والثاني ـ قوم أسلموا، ونيتهم في الإسلام ضعيفة: فيعطون لتقوى نيتهم، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أعطى أبا سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية، والأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن، لكل منهم مئة من الإبل، كما تقدم. ويعطون بعد النبي صلّى الله عليه وسلم؛ لأن المعنى الذي به أعطوا قد يوجد بعد النبي صلّى الله عليه وسلم. والثالث ـ قوم يليهم قوم من الكفار أن أعطوا قاتلوهم. والرابع ـ قوم يليهم قوم من أهل الصدقات أن أعطوا جبوا الصدقات. والخلاصة: يكون مجموع الفريقين ستة أصناف. يتبين من هذا أن أحوال استعمال سهم المؤلفة قلوبهم كثيرة، ويقدر ولي الأمر المسلم المصلحة في إعطائهم في كل زمان أخذاً برأي الحنابلة والشيعة مطلقاً، وعملاً باتفاق الفقهاء إذا كانوا مسلمين حديثي عهد بالإسلام، ليتمكن الإسلام في قلوبهم. ويمكن إيراد أمثلة واقعية في عصرنا لأحوال المؤلفة: أولاً ـ درء المخاطر والمفاسد عن المسلمين: إذا كان بعض غير المسلمين في موقع استراتيجي حيوي يمكن أن ينفذ منه الأعداء، ويدخلوا إلى بلاد الإسلام، فيجوز إعطاؤهم من الزكاة لدفع الأخطار وحماية البلاد ورعاية المصالح الإسلامية. فقد نص الفقهاء على إعطاء المؤلفة إذا كان يرجى بعطائهم النصح في الجهاد، أو الدفع عن المسلمين، بأن كانوا في الثغور أطراف بلاد الإسلام، أو كف شرهم كالخوارج ونحوهم.
ثانياً ـ الاستعانة بغير المسلمين في الجهاد: إذا احتاج المسلمون إلى الاستعانة بغيرهم في الحروب، إما لضعف في المسلمين، أو لتوافر خبرة فنية عسكرية في غيرهم، أو لأغراض حربية أخرى، فيجوز صرف جزء من الزكاة في هذا المجال، للضرورة والمصلحة. ثالثاً ـ جباية الصدقات ونحوها: إذا تعذرت جباية الصدقات ونحوها من ضرائب الخراج والعشور (الرسوم الجمركية) وأمكن استيفاؤها من طريق بعض الكفار، فلا مانع من إعطائهم شيئاً من الزكاة، لأن بهذا العطاء يحصل المسلمون على أموال أخرى متعذرة التحصيل أو ميئوسة الدفع. والفقهاء نصوا على إعطاء المؤلفة إذا كان لهم قوة على جباية الزكاة ممن لا يعطيها إلا بالتخويف والتهديد. رابعاً ـ نشر الدعوة الإسلامية ومقاومة وسائل التبشير: إن إرساليات التبشير بالنصرانية وحملات التنصير في بعض البلاد الإسلامية كأفريقيا وأندونيسيا وغيرها، تحتاج لمزيد من المقاومة والحد منها وإيقاف أنشطتها بمختلف الوسائل، وحينئذ يمكن صرف جزء كبير من الزكاة في هذا المجال، كما يجوز إعطاء الزكاة في سبيل نشر الدعوة الإسلامية بمختلف الطرق، سواء بالمبعوثين المتخصصين، أم بطباعة الكتب الصغيرة التي تعرّف بالإسلام وترد على اتهامات ودسائس وشبهات المغرضين، لأن الهدف الأصلي من تشريع سهم المؤلفة هو الترغيب في الإسلام وتثبيت عقيدته بين الناس. خامساً ـ الإسهام في تخفيف ويلات الكوارث من زلازل وفيضانات ومجاعات على أن تكون مقرونة بالدعوة إلى الإسلام: إذا كان المبشرون وبعض الدول النصرانية يستغلون هذه الحالات، ويبادرون إلى تقديم بعض المساعدات المادية والغذائية للمحتاجين، فأولى بنا نحن المسلمين أن نسهم بأقصى ما وسعنا من
3 ـ تأليف قلوب الأفراد الذين يؤمل إسلامهم أو تأثيرهم في توجيه المجتمع لصالح الدعوة الإسلامية
الدعم المادي المقرون ببيان سريع لفضائل الإسلام وبساطة عقيدته ويسر أحكامه في أوقات الشدة والرخاء، لأن المقصود من الزكاة سد حاجة المحتاجين، وإعانة المسلمين وتقوية الإسلام. سادساً ـ إغراء رؤساء الدول الفقيرة أو الأقوام المتخلفة، أو القبائل والعشائر البائسة ببعض المنح والمبالغ المالية أو الهدايا، لتأليف قلوبهم أو رجاء إسلامهم أو كف شرهم، أو تقليد رعاياهم واتِّباعهم لهم في الدخول بالإسلام، كما كان يفعل النبي صلّى الله عليه وسلم مع رؤساء قريش وصناديد العرب، كما تقدم. وقد نص الفقهاء على إعطاء المؤلفة رجاء إسلام نظرائهم، وأعطى أبو بكر عدي بن حاتم والزبرقان بن بدر، مع حسن نياتهما وإسلامهما، رجاء إسلام نظرائهما. سابعاً ـ تقوية ضعاف الإيمان: نص فقهاؤنا ومنهم الحنابلة على أنه يعطى سهم المؤلفة لمسلم يرجى بعطيته قوة إيمانه، لما روى أبو بكر في كتاب التفسير عن ابن عباس في قوله تعالى: {والمؤلفة قلوبهم} [التوبة:60/ 9] قال: «هم قوم كانوا يأتون رسول الله صلّى الله عليه وسلم وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يرضخ لهم من الصدقات، فإذا أعطاهم من الصدقة قالوا: هذا دين صالح، وإن كان غير ذلك عابوه» (¬1). 3 ـ تأليف قلوب الأفراد الذين يؤمل إسلامهم أو تأثيرهم في توجيه المجتمع لصالح الدعوة الإسلامية: إن الهدف الأصلي من تخصيص سهم المؤلفة في مصارف الزكاة هو نشر الدعوة الإسلامية بإغراءات مالية تجتذب بعض النفوس الضعيفة التي يستهويها ¬
4 - استخدام هذا المصرف في إيجاد مؤسسات لرعاية المسلمين الجدد
المال وحب النفع المادي، ويكثر هذا الصنف في المجتمعات الفقيرة أو الضعيفة أو قليلة الإنتاج أو محدودة الدخل. فإذا لوحظ وجود هذا الميل عند بعض الأفراد الذين يرجى إسلامهم، أو كان لهم شيء من النفوذ والتأثير في مجتمعاتهم لصالح الدعوة الإسلامية، لزمت المبادرة لإعطائهم شيئاً من مال الله تعالى، سواء على مستوى بعض الحكومات غير المسلمة، أو بعض الهيئات والتجمعات والقبائل، أو بعض الأفراد العاديين، أو الخطباء والكتاب ونحوهم ممن يرجى تأثيرهم في توجيه المجتمع نحو دعوة الله للحق والخير والتوحيد. ونص فقهاؤنا كما تقدم على أن من أنواع المؤلفة: من يعطى ليقوى إيمانه، أو إسلام نظيره، أو نصحه في الجهاد، أو الدفع عن المسلمين ونحوه، وكان النبي صلّى الله عليه وسلم يعطي من الزكاة صنفاً أسلموا ونيتهم في الإسلام ضعيفة، فيتألفون لتقوى نيتهم ويثبتوا (¬1). 4 - استخدام هذا المصرف في إيجاد مؤسسات لرعاية المسلمين الجدد: يجوز للمزكي دفع الزكاة لوكيل عنه يتولى صرفها في بعض أو جميع مستحقيها أو مصارفها المنصوص عليهم في القرآن الكريم، لكن يجب دفع الزكاة على الفور باتفاق الفقهاء. وبناء عليه يمكن تخصيص أو إيجاد مؤسسات عامة ينفق عليها من سهم العاملين، وتتولى تفقد أحوال المسلمين الجدد في أنحاء العالم، وإمدادهم بما يحتاجون، ورعايتهم مادياً ومعنوياً، صحياً وثقافياً، بإعطائهم شيئاً من أموال ¬
5 - تأليف قلوب بعض الحكومات والدول غير الإسلامية
الزكاة، لتثبيتهم على الدين وتشجيعهم وإشعارهم بالنصرة والعون أمام أقوامهم، لأن المهم هو رعاية من أسلم والحفاظ عليه. قال أبو عبيد: فإذا كان قوم، هذه حالهم، لا رغبة لهم في الإسلام إلا للنيل، وكان في ردتهم ومحاربتهم إن ارتدوا ضرر على الإسلام، لما عندهم من العز والمنعة، فرأى الإمام أن يرضخ لهم من الصدقة، فعل ذلك لخلال ثلاث ـ إحداهن ـ الأخذ بالكتاب والسنة. والثانية ـ البقيا على المسلمين. والثالثة ـ أنه ليس بيائس أن تمادى بهم الإسلام أن يفقهوه وتحسن فيه رغبتهم (¬1). وقال السيد رشيد رضا: الأولى من المرابطين في الثغور وحدود بلاد الأعداء بالتأليف في زماننا، قوم من المسلمين يتألفهم الكفار ليدخلوهم تحت حمايتهم، أو في دينهم، فإننا نجد دول الاستعمار الطامعة في استعباد جميع المسلمين وفي ردهم عن دينهم، يخصصون من أموال دولهم سهماً للمؤلفة قلوبهم من المسلمين، فمنهم من يؤلفون لأجل تنصيره وإخراجه من حظيرة الإسلام، ومنهم من يؤلفونه لأجل الدخول في حمايتهم ومشاقة الدول الإسلامية أو الوحدة الإسلامية، ككثير من أمراء جزيرة العرب وسلاطينها!! أفليس المسلمون أولى بهذا منهم (¬2). 5 - تأليف قلوب بعض الحكومات والدول غير الإسلامية، والتي تحوي جاليات إسلامية لتحقيق الأمن لها، أو بعض الدول غير الإسلامية التي تعارض إقامة مشاريع إسلامية على أرضها: إن أي دعم للإسلام والمسلمين أمر مطلوب شرعاً، سواء فيما يتعلق باعتناق الإسلام ديناً، أو رعاية المسلمين، والحفاظ على وجودهم وأمنهم وهويتهم ¬
الشخصية الذاتية، أو حماية المصالح الإسلامية بنشر الدعوة إلى الله، وإقامة المساجد والمراكز الإسلامية، وتوفير مختلف الإمكانات لتعليم القرآن، ونشر التربية الإسلامية، وتوعية الشباب والفتيات، وتحذيرهم من مخاطر ذوبان الشخصية الإسلامية، والتأثر بتقاليد وعادات غير المسلمين. لذا كان مشروعاً إنفاق المال في هذا السبيل، وإعطاء شيء من المساعدات من الزكاة وغيرها لبعض الحكومات والدول غير الإسلامية لحماية الجاليات الإسلامية وتحقيق الأمن لها وتمكينها من ممارسة شعائر الإسلام، وإبقاء الصبغة الإسلامية في الأسماء، والممارسات السلوكية، وتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في قضايا الزواج والطلاق والأيمان والنذور ونحوها من الأمور الخاصة اللصيقة بالشخصية، والمميزة لأوضاع المسلمين عن غيرهم. كما يكون مشروعاً تقديم بعض المعونات لبعض الدول غير الإسلامية للسماح للمسلمين بإقامة بعض المشاريع الإسلامية على أرضها، كبناء المساجد والمراكز والمدارس الإسلامية، ففي ذلك حماية للمسلمين أنفسهم من الضياع والانحراف وتشوه الصبغة الإسلامية النقية، وحفظ الطابع الإسلامي والعقيدة الإسلامية في نفوس أبنائها، فإن أخطر ما يهدد وجود الجاليات الإسلامية في أمريكا وأوربا وغيرهما من بلاد العالم هو ذوبان الصبغة الإسلامية من نفوس الجيل الثاني الذي ولد أو تربى في تلك البلاد غير الإسلامية. أما الآباء والأمهات الذين هاجروا إلى تلك البلاد (المغتربون) وهم الجيل الأول، فيغلب عليهم تمسكهم بشيء من الدين والأخلاق الإسلامية أو العربية، والاعتزاز باللغة العربية في كلامهم وكتاباتهم.
6 - المشاركة في سهم المؤلفة قلوبهم في التبرعات التي تجمع للكوارث والنكبات التي تصيب بعض الدول غير الإسلامية كالزلازل والفيضانات
6 - المشاركة في سهم المؤلفة قلوبهم في التبرعات التي تجمع للكوارث والنكبات التي تصيب بعض الدول غير الإسلامية كالزلازل والفيضانات: إن تحسين العلاقات بين المسلمين وغيرهم في مختلف البلاد غير الإسلامية أمر محمود في مضمار السياسة الشرعية؛ لأن تحسن العلاقات يخدم المصالح الإسلامية، وتعكر العلاقات وتوترها يضر بمصلحة المسلمين، وعلى التخصيص في حال الضعف، وفي ظروفنا الراهنة. وإذا كان الهدف من الجهاد في الإسلام هو الوصول إلى توطيد العلاقات السلمية، وحماية الأوضاع والظروف الأمنية، وإقرار المصالح المشروعة عن طريق المعاهدات، فإن كل ما يؤدي إلى هذه الغاية يكون جائزاً شرعاً. لكن نظراً لكون فريضة الزكاة ذات صلة وثقى وأصيلة برعاية أحوال المسلمين المحتاجين وتحقيق التكافل الاجتماعي بين المسلمين، وكونها مصبوغة بصبغة العبادات، فإنه يقتصر بقدر الإمكان على هذه النواحي وعلى مصارف الزكاة المنصوص عليها صراحة في القرآن الكريم، ولا يصح حينئذ دفع شيء من أموال الزكاة لتخفيف كوارث الأمم الأخرى. لكن لا مانع شرعاً من دفع شيء من أموال المسلمين العامة من غير الزكاة لغيرهم لدفع شرهم ورفع ضررهم ورجاء خيرهم، كما صرح الفقهاء، فيجوز أن ندفع شيئاً من أموالنا بصفة تبرعات في أوقات المحن والأزمات، والكوارث والنكبات كالزلازل والفيضانات، ففي ذلك نوع من الوقاية وسد الذرائع. وقد أجاز بعض الشافعية إعطاء الكفار من موارد بيت المال العامة، لتأليف قلوبهم، وهو خمس الخمس من الفيء وغيره، لأنه مرصد للمصالح العامة، وهذا منها. وأما غير الشافعية الذين أجازوا دفع الزكاة للكفار لتأليف قلوبهم عند
7 - صرف جزء من سهم المؤلفة قلوبهم في الأمور الدعائية لتحسين النظرة إلى الإسلام والمسلمين
الحاجة، فلا ينطبق قولهم على هذه الأحول، وإنما أرادوا أن يكون التأليف مؤدياً بطريق مباشر أو غير مباشر إلى الدخول في الإسلام، قال قتادة: «المؤلفة قلوبهم: هم أناس من الأعراب ومن غيرهم كان نبي الله صلّى الله عليه وسلم يتألفهم بالعطية كيما يؤمنوا» (¬1). ويبعد في تصور المنكوبين وحكوماتهم المعاصرة في الغالب الاتجاه نحو الإسلام من قريب أو بعيد في مثل هذه الأحوال، كل ما في الأمر أنهم يقدرون الدوافع الإنسانية الخيِّرة في المشاركة في التبرعات من أجل تخفيف وطأة الكوارث العامة، وتوجه عادة خطابات شكر دبلوماسية على تلك المبادرات الطيبة المصحوبة بالشعور الإنساني الكريم والعاطفة الأخوية بين أبناء المجتمع الإنساني، لأن الخلْق كلهم عيال الله، وأحبهم إلى الله تعالى أنفعهم لعياله، كما ثبت في السنة النبوية، ولأن الإسلام دين الرحمة العامة للعالمين. 7 - صرف جزء من سهم المؤلفة قلوبهم في الأمور الدعائية لتحسين النظرة إلى الإسلام والمسلمين: نحن اليوم في العالم المعاصر نتأثر كثيراً بأساليب الدعاية والإعلام وبما يكتبه مشاهير الكتاب، وتتصدره الصحف اليومية والمجلات المتداولة، لذا كان لزاماً علينا أن نتفاعل بمعطيات العصر، ونستفيد منها في الإيجابيات والسلبيات، فنعرض أجمل ما لدينا من أفكار ومبادئ ونظريات وقيم خلقية شخصية واجتماعية، إنسانية ومادية، ونحارب كل مايحاك ضد شريعتنا وأخلاقنا ونظمنا من مؤامرات، ويوجه إليها من مفتريات واتهامات، ويعرض في ثناياها من شبهات وتأويلات باطلة. ونكون في الحالين إيجاباً وسلباً في حركة جهاد يمليه علينا الواجب ويقتضيه ¬
- مصرف الزكاة (في الرقاب)
الدين، أخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم». ولا مانع بالإضافة لما تجود به نفوس المسلمين بالتبرع بالأموال في سبيل الله، من صرف جزء من أموال الزكاة من سهم «في سبيل الله» أو من سهم «المؤلفة قلوبهم» لأصحاب الأقلام والألسنة لتحسين النظرة إلى الإسلام والمسلمين، وبيان حكمة التشريع، والدفاع عن الإسلام وقضايا المسلمين الوطنية والاجتماعية في أنحاء العالم ضد الافتراءات والاتهامات، ولتفنيد الشبهات، وصد التيارات وغزوات الفكر والثقافة المشوهة، وقد تبين سابقاً أن الطبري أجاز صرف سهم المؤلفة لتقوية الإسلام. ويفضل شرعاً أن يكون صرف شيء من أموال المسلمين في الجانب الدعائي أو الإعلامي من موارد بيت المال العامة؛ لأن تلك الموارد مرصدة للمصالح العامة. والخلاصة: إن صرف شيء من أموال الزكاة في أي مجال يحتاج لتقدير واع من ولي الأمر العادل، واستشارة العلماء المتخصصين أهل الرأي والمشورة. وإذا أهملت الحكومات هذا الجانب، جاز للجمعيات أو المؤسسات الإسلامية العامة، لا للأفراد، القيام بهذا الواجب وتأليف غير المسلمين بالأساليب المختلفة للدفاع عن الإسلام ونشر الدعوة الإسلامية ورعاية أموال المسلمين الجدد. 2ً - مصرف الزكاة (في الرقاب): إن لفريضة الزكاة شأناً كبيراً في الإسلام، وهي تقترن دائماً بفريضة الصلاة، لتصلح العلاقة مع الله تعالى بالصلاة، والعلاقة مع أبناء المجتمع المسلم بالزكاة، ولا يكون أداء الزكاة محقِّقاً الهدف المنشود منها ما لم يلتزم المزكي صرفها حسبما
أمر الله تعالى به في قوله: {إنما الصدقات للفقراء، والمساكين، والعاملين عليها، والمؤلفة قلوبهم، وفي الرقاب، والغارمين، وفي سبيل الله، فريضةً من الله والله عليم حكيم} [التوبة:60/ 9]. ومصرف «وفي الرقاب» هو المصرف الخامس من مصارف الزكاة الثمانية التي حددتها الآية، وأبانت أوصاف مستحقي الزكاة. وبالرغم من أن الغالب وجوده الآن في عصرنا في البلاد الإسلامية أربعة أنواع وهم الفقير والمسكين والغارم وابن السبيل، فإن هناك حاجة ماسة للتعرف على مصرف «في الرقاب» بعد إلغاء الرق من العالم في العصر الحديث، ووجود حالات تقتضي صرف الزكاة فيها مثل استعباد الشعوب الإسلامية، وإنقاذ المسلمين من أشكال الاستعمار المختلفة، ومن أهمها الاستعمار الاستيطاني، ومساعدة الأسرى على الافتداء من براثن العدو، وإطلاق سراح السجناء والمسلمين من معتقلات الأعداء الجماعية والفردية وما فيها من معاملة وحشية منافية لأبسط مبادئ الإنسانية وحقوق الإنسان، كما في فلسطين المحتلة من قبل اليهود الذين أقاموا فيها على حساب الشعب الفلسطيني دولة إسرائيل بالتعاون مع الدول الكبرى، وبالدعم المتواصل لها. خطة البحث: يمكن بحث مصرف «في الرقاب» في ضوء الخطة التالية: 1 - معنى: في الرقاب. 2 - غياب الرق في العصر الحالي.
1 - معنى في الرقاب
3 - السوابق التاريخية في العهود الإسلامية لاستخدام هذا المصرف في غير المكاتبين. 4 - من مصارف «في الرقاب» في هذا الزمان «فكاك الأسرى» وتفصيل المذاهب الفقهية في سهم «في الرقاب». 5 - التطبيق الأصلي لهذا المصرف في إعانة المكاتب لتحرير نفسه من الرق. 6 - هل تعطى الشعوب الإسلامية التي تئن تحت وطأة الحكومات الكافرة لتحرير نفسها من الاحتلال الذي تخضع له؟ 1 - معنى في الرقاب: إن ظاهر الكلمة وإطلاقها يقتضي تعميم المعنى بحيث يشمل تحرير الأنفس البشرية وعتقها وتخليصها من قيد العبودية للبشر، وفك الرقاب من الكتابة أو الرق أو الأسر، كما ذكر الزمخشري في الكشاف (¬1).وقال الزجاج في قوله تعالى: «وفي الرقاب»: وفيه محذوف، والتقدير: وفي فك الرقاب (¬2). وإنما عبر الله تعالى في الأصناف الأربعة الأولى باللام: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم} [التوبة:60/ 9] وفي الأصناف الأربعة الأخيرة بـ «في»: {وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل} [التوبة:60/ 9] للإيذان بأن الأربعة الأخيرة أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره؛ لأن «في» كما جاء في الكشاف للوعاء، فنبّه على ¬
أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات، ويجعلوا مظنّة لها ومصبّاً (¬1). وكذلك في فك الغارمين من الغرم تخليص لهم وإنقاذ، وهكذا الشأن في مصرف: «في سبيل الله» إنقاذ جماعي للأمة بالجهاد، وكذا «ابن السبيل» ننقذه من أزمة وقوعه في الإفلاس، وانقطاعه في أثناء السفر إلى بلده. وقال البجيرمي الشافعي: أضاف الله تعالى في الآية الكريمة الصدقات إلى الأصناف الأربعة بلام الملك، وإلى الأربعة الأخيرة بـ «في» الظرفية للإشعار بإطلاق الملك في الأربعة الأولى، وتقييده في الأربعة الأخيرة، حتى إذا لم يحصل الصرف في مصارفها، استرجع، بخلافه في الأولى (¬2). وقال الرازي في تفسيره: ولما ذكر الله تعالى الرقاب أبدل بحرف اللام حرف «في» فقال: «وفي الرقاب» فلا بد لهذا الفرق من فائدة، وتلك الفائدة هي أن تلك الأصناف الأربعة المتقدمة يدفع إليهم نصيبهم من الصدقات حتى يتصرفوا فيها كما شاؤوا، وأما «في الرقاب» فيوضع نصيبهم في تخليص رقبتهم عن الرق، ولا يدفع إليهم، ولا يمكنوا من التصرف في ذلك النصيب كيف شاؤوا، بل يوضع «في الرقاب» بأن يؤدى عنهم. وكذا القول في الغارمين يصرف المال في قضاء ديونهم، وفي الغزاة يصرف المال إلى إعداد ما يحتاجون إليه في الغزو، وابن السبيل كذلك. والحاصل: أن في الأصناف الأربعة الأولى يصرف المال إليهم حتى يتصرفوا فيه كما شاؤوا، وفي الأربعة الأخيرة لا يصرف المال إليهم، بل يصرف إلى جهات الحاجات المعتبرة في الصفات التي لأجلها استحقوا سهم الزكاة (¬3) أي أنه لا يشترط التمليك. ¬
وأكثر العلماء على أن المراد بقوله تعالى: {وفي الرقاب} [التوبة:60/ 9] المكاتبون (¬1) المسلمون الذين لا يجدون وفاء ما يؤدون، ولو مع توافر القدرة والقوة والكسب، لأنه لا يمكن الدفع إلى الشخص الذي يراد فك رقبته إلا إذا كان مكاتباً، ولو اشتري بالسهم عبيد، لم يكن الدفع إليهم وإنما هو دفع إلى سادتهم، ولم يتحقق التمليك المطلوب في أداء الزكاة، ويؤكده تعالى: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} [النور:33/ 24] وفسر ابن عباس «في الرقاب» بأنهم المكاتبون. ويرى الإمامان مالك وأحمد وغيرهما أنه يشترى بسهم «في الرقاب» رقيق، فيتعين، لأن كل موضع ذكرت فيه الرقبة، يراد بها عتقها. والعتق والتحرير لا يتصور إلا في القن (العبد الخالص العبودية) كما في الكفارات. وشرط إعطاء المكاتب: هو كونه مسلماً محتاجاً، كما تقدم بيانه. وتخصيص سهم للرقاب في الزكاة دليل واضح على تشوف وتعطش الإسلام إلى التحرير والحرية أو فك الرقاب من قيد العبودية؛ ومن حكمة الله تعالى أنه نص في القرآن على التحرير أو العتق، ولم ينص على الاسترقاق، لأن الإسلام أول من نادى بتخليص العالم من ظاهرة الرق بفتح منافذ العتق والترغيب فيه؛ لأن الإنسان خلق حراً، فإذا طرأ في الماضي بعض الأحوال العارضة التي تقتضي المصلحة العامة فيها أن يكون الأسير رقيقاً، جاز الرق على سبيل المعاملة بالمثل مع الأعداء، إذ لا يعقل ألا يسترق المسلمون أحياناً بعض الأسرى، والأعداء يسترقون أسرى المسلمين. ¬
2 - غياب الرق في العصر الحالي
2 - غياب الرق في العصر الحالي: كان الرق مشروعاً عند الأمم القديمة والفلاسفة وأهل الكتاب من اليهود والنصارى، وكان الرومان أول من استعبد الأسرى وسخر الشعوب المغلوبة، وكانت وجوه الاسترقاق عندهم بالذات متعددة. وكان الرق عماد الحركة التجارية والزراعية، وعدّ نظاماً أساسياً في حياة الشعوب القديمة ودعامة في كيانها الاقتصادي والاجتماعي. ولم ير أهل الإسلام المجتهدون ـ والحالة هذه - إلغاء الرق في العالم، حتى لا تصطدم دعوة الإسلام مع مألوف النفوس، ولئلا تضطرب الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، فيكثر المجادلون والمعارضون، وينتشر الفقر والعوز في المجتمع، وتتعدد حينئذ جرائم العبيد قبل تحريرهم. وبما أن الأصل في الإنسان وفي تشريع الإسلام هو الحرية، وأن الحرية مما يحرص الإسلام على وجودها وحمايتها، فإن الإسلام عالج قضية الرق بالتدريج، وهيأ أسباباً للقضاء على الرق، ومنع سائر مصادره ما عدا رق الأسر بسبب الحرب العادلة لدفع العدوان وحفظ التوازن مع الأمم الأخرى، ومعاملة بالمثل، وما عدا الرق بسبب الوراثة، ثم فتح منافذ عديدة لإنهاء الرق ورغَّب فيها من طريق العتق والتحرير إما قربة مجردة لله تعالى وطريق نجاة في الآخرة، وإما كفارة عن كثير من الجرائم والذنوب كالقتل واليمين التي حنث بها الحالف، والظهار من الزوجة، وجعل مصير الأسرى في الغالب إما المن (إطلاق السراح بدون مقابل) وإما الفداء أو المفاداة (تبادل الأسرى). وأوصى بمعاملة الرقيق بالحسنى، وخصص سهماً من الصدقات التي تجبى لتنفق في سبيل تحرير الرقاب. وأثمرت توجيهات الإسلام في تهيئة الضمير البشري للإحساس بهذه
3 - السوابق التاريخية في العهود الإسلامية لاستخدام هذا المصرف في غير المكاتبين
الظاهرة المرضية والعمل على القضاء عليها تدريجاً، بدلاً من مفاجأة العالم بالتحريم الفوري البات. وأدى هذا إلى إثبات حقيقة واضحة ماثلة للعيان هي أن الإسلام لا يتعارض مع إلغاء الرق من العالم، بل يحض عليه، ويرغب في استئصال موارده، علماً بأنه لا يجوز استرقاق حر أصلاً، ويمقت ما عرف بتجارة الرقيق والنخاسة، ويحرم كل ما كان حاصلاً في أواسط أفريقيا من اصطياد الرقيق ومعاملتهم أسوأ المعاملة، ولا يقر بحالٍ استعبادَ الشعوب واستعمارها الذي حل بصفة جماعية محل الرق الفردي، كما لا يجيز بديلاً آخر لدى أمريكا وبريطانيا وهو التفرقة العنصرية بين الأبيض والأسود. وهكذا ظل نظام الرقيق معمولاً به في العصور الوسطى وما بعدها إلى أن استنكرت الدول الأوربية الإتجار في الرقيق بصفة عامة في مؤتمر فيينا سنة 1815م، ووقعت اتفاقيات كثيرة بعد هذا التاريخ، آخرها اتفاقية جنيف الإضافية في 7 أيلول (سبتمبر) 1956 التي ألغت الرق وتجارة الرقيق والحالات المماثلة للرق (¬1). 3 - السوابق التاريخية في العهود الإسلامية لاستخدام هذا المصرف في غير المكاتبين: رغب الإسلام في العتق وتحرير الرقاب بصفة عامة، وجعل أساس النجاة في الآخرة فك رقبة، قال الله تعالى: {فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة؟ فك رقبة} [البلد:11/ 90 - 13]. وروى ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ¬
4 - من مصارف «في الرقاب» في هذا الزمان «فكاك الأسرى» وتفصيل المذاهب الفقهية في سهم «في الرقاب»
أنه قال: «أيما مؤمن أعتق مؤمناً في الدنيا، أعتق الله تعالى بكل عضو منه عضواً من النار» (¬1). وبادر الصحب الكرام كأبي بكر الصديق إلى إعتاق نفوس المسلمين المستضعفين الذين كانوا يعذبون من قبل زعماء قريش في صدر الإسلام، مثل بلال الحبشي وكذلك فعل عبد الله بن عمر، فإنه ما مات حتى أعتق ألف رقبة. ولجأ بعض الخلفاء المسلمين إلى استخدام مصرف «في الرقاب» في إعتاق الرقيق غير المكاتبين، كما حدث في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز، قال يحيى بن سعيد: بعثني عمر بن عبد العزيز على صدقات إفريقية، فاقتضيتها، وطلبت فقراء نعطيها لهم، فلم نجد بها فقيراً، ولم نجد من يأخذها مني، قد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس، فاشتريت بها رقاباً، فأعتقتهم، وولاؤهم للمسلمين (¬2). ولا شك بأن هذا الفعل أصبح في تقديري قدوة فعلية سار على منواله أئمة المسلمين وعامتهم في العصور المختلفة. وسيأتي بيان وقائع أخرى في هذا الموضوع في بحث أدّلة المذاهب على كيفية صرف سهم «في الرقاب». 4 - من مصارف «في الرقاب» في هذا الزمان «فكاك الأسرى» وتفصيل المذاهب الفقهية في سهم «في الرقاب»: يحسن في هذا الموضوع بيان آراء العلماء من الصحابة والتابعين وغيرهم بصفة عامة، ثم بيان المذاهب الفقهية وأدلتها. ¬
آراء العلماء في بيان المقصود من الرقاب بصفة عامة
آراء العلماء في بيان المقصود من الرقاب بصفة عامة: للعلماء أقوال أربعة في تفسير الرقاب (¬1): القول الأول: إن المراد بقوله «في الرقاب» في فك الرقاب، فهذا السهم موضوع لعتق الرقاب، يشترى به عبيد فيعتقون، وهو قول ابن عباس وابن عمر والحسن، وأبي عبيد، ومذهب مالك وأحمد وإسحاق وعبيد الله بن الحسن العنبري، فيجوز للإمام أن يشتري رقاباً من مال الصدقة، يعتقها عن المسلمين، ويكون ولاؤهم لجماعة المسلمين في رأي المالكية. وإن اشتراهم صاحب الزكاة وأعتقهم جاز. والقول الثاني: إن سهم الرقاب موضوع في المكاتبين ليعتقوا به، فلا يبتاع من الرقاب صاحب الزكاة نسمة يعتقها بجرّ ولاء. وهذا قول أبي موسى الأشعري ومقاتل وسعيد بن جبير والليث بن سعد وابن وهب وابن زيد، وهو مذهب الشافعي وأبي ثور، ورواية عن مالك. واحتجوا بما روي عن ابن عباس رضي الله عنها أنه قال: قوله تعالى {وفي الرقاب} [التوبة:60/ 9] يريد المكاتب، وتأكد هذا بقوله تعالى: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} [النور:33/ 24]. قال القرطبي: والصحيح الأول: لأن الله عز وجل قال: {وفي الرقاب} [التوبة:60/ 9] فإذا كان للرقاب سهم من الصدقات، كان له أن يشتري رقبة، فيعتقها، ولا خلاف بين أهل العلم أن للرجل أن يشتري الفرس فيحمل عليه في ¬
سبيل الله، فإذا كان له أن يشتري فرساً بالكمال من الزكاة، جاز أن يشتري رقبة بالكمال، لا فرق بين ذلك. والقول الثالث: قول أبي حنيفة وأصحابه وقول سعيد بن جبير والنخعي: أنه لا يعتق من الزكاة رقبة كاملة، ولكن يعتق منها في رقبة، ويعان بها مكاتب، أي أنها لإعتاق العبد المبعض والمكاتب؛ لأن قوله تعالى: {وفي الرقاب} [التوبة:60/ 9] يقتضي أن يكون له فيه مدخل، وذلك ينافي كونه تاماً فيه. والأولى جعل القولين الثاني والثالث قولاً واحداً. والقول الرابع: قول الزهري، قال: سهم الرقاب نصفان: نصف للمكاتبين من المسلمين، ونصف يشترى به رقاب ممن صلوا وصاموا، وقدم إسلامهم، فيعتقون من الصلاة. وهو رأي أبي عبيد. وأضاف الشافعية أصحاب القول الثاني إلى ما سبق قولهم: والاحتياط في سهم الرقاب دفعه إلى السيد بإذن المكاتب، والدليل عليه أنه تعالى أثبت الصدقات للأصناف الأربعة الذين تقدم ذكرهم بلام التمليك، وهو قوله: {إنما الصدقات للفقراء ... } [التوبة:60/ 9]. والخلاصة: إن العلماء ما عدا المالكية والحنابلة اتفقوا على صرف سهم «في الرقاب» في إعتاق العبد المكاتب، واختلفوا في أمرين: إعتاق الرقاب، وفك الأسارى. أما إعتاق الرقاب فقال الكيا الطبري: إن العتق إبطال ملك، وليس بتمليك، وما يدفع إلى المكاتب تمليك، ومن حق الصدقة ألا تجزي إلا إذا جرى فيها التمليك. وهذا رأي الحنفية والشافعية، فلا يصرف شيء من الزكاة في إعتاق العبد القن (الخالص العبودية) ورأى المالكية والحنابلة أنه يمكن المساهمة بشيء من الزكاة في إعتاق الرقاب مطلقاً. وإليه مال البخاري وابن المنذر.
تفصيل المذاهب الفقهية في سهم «في الرقاب» وأدلتهم
قال القرطبي: قد ورد حديث ينص على جواز عتق الرقبة، وإعانة المكاتب معاً، أخرجه أحمد والدارقطني عن البراء بن عازب قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: «دلَّني على عمل يقربني من الجنة ويباعدني من النار، قال: لئن كنت أقصرت الخطبة، لقد أعرضت المسألة، أعتق النسمة وفك الرقبة: فقال: يا رسول الله، أوليستا واحدة؟ قال: لا، عتق النسمة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة: أن تعين في ثمنها». وناقشه الحنفية بقولهم: ليس فيه ما يستلزم كون هذا هو معنى «وفي الرقاب» المذكور في الآية. ويؤيده في المكاتب حديث آخر رواه الخمسة إلا أبا داود (¬1) عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف». وأما فك الأسارى: فقال أصبغ وابن القاسم: لا يجوز صرف الزكاة في فكاك الأسرى. والمشهور عند المالكية أنه لا تجزئ الزكاة في فك أسير، وهذا قول الحنفية والشافعية. وقال ابن حبيب وابن عبد الحكم: يجوز؛ لأنها رقبة ملكت بملك الرق، فهي تخرج من رق إلى عتق، وكان ذلك أحق وأولى من فك الرقاب الذي بأيدينا؛ لأنه إذا كان فك المسلم عن رق المسلم عبادة، وجائزاً من الصدقة، فأحرى وأولى أن يكون ذلك في فك المسلم عن رق الكافر وذله. وهذا قول الحنابلة. تفصيل المذاهب الفقهية في سهم «في الرقاب» وأدلتهم: اتجهت المذاهب الفقهية اتجاهين في بيان سهم «في الرقاب» الاتجاه الأول المضيق للحنفية والشافعية: وهو قصر صرف هذا السهم على المكاتبين، والاتجاه الثاني الموسع ـ للمالكية والحنابلة: وهو صرف هذا السهم في تحرير الرقاب وإعتاق ¬
العبيد مطلقاً، سواء في مذهب الحنابلة أكانوا مكاتبين أم خالصي العبودية. أما صرف شيء منه في فكاك الأسرى فأجازه الحنابلة دون المالكية في المشهور لديهم. وأذكر خلاصة رأي كل مذهب على حدة ثم أعقبه بأدلة الاتجاهين: 1 - قال الحنفية (¬1): الصنف الخامس «في الرقاب» هم المكاتبون غير الهاشميين، فيعان المكاتبون من الزكاة في فك رقابهم، وإن ملك المكاتب نصاباً زائداً على بدل الكتابة. 2 - وقال الشافعية (¬2): الصنف الخامس: الرقاب: وهم المكاتبون كتابة صحيحة لغير مزك، فيعطون، ولو بغير إذن ساداتهم، أو قبل حلول النجوم (الأقساط) ما يعينهم على العتق، إن لم يكن معهم ما يفي بنجومهم. أما مكاتب المزكي فلا يعطى من زكاته شيئاً لعود الفائدة إليه مع كونه ملكه. 3 - وقال المالكية (¬3): تصرف الزكاة لرقيق مؤمن لا كافر، يعتق منها، بأن يشترى منها رقيق فيعتق، أو يكون عنده عبد أو أمة يقوِّمه قيمة عدل ويعتقه عن زكاته، وهذا معنى قوله تعالى: {وفي الرقاب} [التوبة:60/ 9]. ويشترط في الرقيق أن يكون خالصاً، لم تنعقد حرىة فيه كمكاتب، ومدبر، ومعتق لأجل، وأم ولد، وإلا فلا يجزئ، والمشهور أن العتق صحيح، وإن لم يجزئ عن الزكاة. ¬
ويشترط أيضاً ألا يعتق الرقيق بالملك نفسه على رب المال، كالأبوين والأولاد والحواشي القريبة: الإخوة والأخوات، لقوله صلّى الله عليه وسلم ـ فيما رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم عن سمرة ـ «من ملك ذا رحم محرم فهو حر». فإن اشترى رب المال من زكاته من يعتق عليه فلا يجزئه إلا أن يدفعها الإمام، فيشتري بها والد ربّ المال ولده، ويعتقه، فيجزئ حيث لا تواطؤ. ويكون ولاء المعتق إذا عتق من الزكاة للمسلمين، سواء صرح المعتق بذلك أو سكت، بل ولو شرطه لنفسه، وأما لو قال: أنت حر عني وولاؤك للمسلمين، فلا تجزئه عن الزكاة، والعتق لازم، والولاء له؛ لأن الولاء لمن أعتق. والمشهور عند المالكية أنه لا تجزئ الزكاة في فك الأسير، وقال ابن حبيب: هو أحق وأولى من فك الرقاب التي بأيدينا، ووافقه ابن عبد الحكم. 4 - ومذهب الحنابلة (¬1) كما ذكروا في كتبهم المعتمدة: أن الصنف الخامس: الرقاب: وهم المكاتبون المسلمون الذين لا يجدون وفاء ما يؤدون، ولو مع القوة والكسب، لعموم قوله تعالى: {وفي الرقاب} [التوبة:60/ 9]. قال في المبدع: لا يختلف المذهب أنهم، أي المكاتبون من الرقاب، بدليل قوله: أعتقت رقابي، فإنه يشملهم؛ وفي قوله تعالى: {فكاتبوهم} [النور:33/ 24] إشعار به ولأنه يملك المال على سيده، ويصرف إليه أرش جنايته، فكان الإعطاء له إعطاء لسيده، لا في الرقاب. وللمكاتب الأخذ قبل حلول نجم (قسط) لئلا يؤدي إلى فسخ الكتابة عند حلول النجم، ولا شيء معه. ¬
أدلة المذاهب
والأولى دفع الزكاة إلى سيد المكاتب، من دفع الزكاة إلى المكاتب. ويجوز أن يشتري المزكي من الزكاة رقبة لا تعتق عليه. فيعتقها، لقول ابن عباس. ويجوز أن يعتق قِنّه أو مكاتَبه عنها؛ لأنه فك رقبة الأسير، فهو كفك رقبة العبد من الرق، ولأن فيه إعزازاً للدين، أشبه ما يدفع إلى الغارم لفك رقبته من الدين. والولاء عند الحنابلة للمعتق: لما رواه الشيخان عن عائشة رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إنما الولاء لمن أعتق». أما ما أعتقه الساعي من الزكاة أو الإمام منها، فولاؤه للمسلمين، لأنه نائب عنهم. أدلة المذاهب: أدلة الاتجاه الأول للحنفية والشافعية ومن وافقهم من السلف: استدل هؤلاء على أن سهم «في الرقاب» يصرف في مساعدة المكاتبين على تحرير أنفسهم بما يلي: 1 - إن قوله عز وجل: {وفي الرقاب} [التوبة:60/ 9]، كقوله تعالى: {وفي سبيل الله} [التوبة:60/ 9] وهناك يجب الدفع إلى المجاهدين، فكذا يجب هنا الدفع إلى الرقاب، ولا يكون دفعاً إليهم إلا على مذهبنا أي للمكاتبين. وأما من قال: يشترى به عبيد، فليس بدفع إليهم، وإنما هو دفع إلى ساداتهم، ولأن في جميع الأصناف يسلم السهم إلى المستحق ويملكه إياه، فينبغي أن يكون كذلك هنا، ولأن ما قالوه يؤدي إلى تعطيل هذا السهم في حق كثير من الناس؛ لأن من الناس من لا يجب عليه من الزكاة لهذا السهم ما يشتري به رقبة يعتقها، وإن أعتق بعضها قوِّم عليه الباقي، ولا يلزمه صرف زكاة الأموال الباطنة
إلى الإمام بالإجماع، فيؤدي إلى تفويته. وأما على مذهبنا فيمكنه صرفه إليهم، ولو كان درهماً. وتخصص كلمة «في الرقاب» بالمكاتبين لعدم وجود قرينة لصرف الزكاة إلى القن، وقد وجدت القرينة في الكفارة بالعبد القن، وهي أن التحرير لا يكون إلا في القن، ولم توجد هذه القرينة في مسألتنا، فحملناه على المكاتبين لما ذكرناه أولاً (¬1). وخلاصة هذا الدليل اشتراط التمليك لمستحق الزكاة، وهذا يتصور في المكاتب دون العبد القن (الخالص العبودية) فلا تصرف الزكاة في الإعتاق، أي إعتاق الرقبة من الزكاة، وإنما يعان المكاتبون من الزكاة على الكتابة. ويلاحظ أن اختلاف التعبير بين الأصناف الأربعة الأولى وبين الأربعة الأخيرة دليل على عدم اشتراط التمليك المطلق في الأخيرة كما ذكر الرازي. 2 - إن عتق الرقبة لا يسمى صدقة، وما أعطي في ثمن الرقبة فليس بصدقة، لأن بائعها أخذه ثمناً لعبد، فلم تحصل بعتق الرقبة صدقة، والله تعالى إنما جعل الصدقات في الرقاب، فما ليس بصدقة فهو غير مجزئ (¬2). وأيضاً فإن الصدقة تقتضي تمليكاً، والعبد لم يملك شيئاً بالعتق، وإنما سقط عن رقبته، وهو ملك للمولى، ولم يحصل ذلك الرق للعبد، لأنه لو حصل له، لوجب أن يقوم فيه مقام المولى، فيتصرف في رقبته، كما يتصرف المولى، فثبت أن الذي حصل للعبد إنما هو سقوط ملك المولى، وإنه لم يملك بذلك شيئاً، فلا يجوز أن يكون ذلك مجزياً من الصدقة، إذ شرط الصدقة وقوع الملك للمتصدق عليه. ¬
وأيضاً فإن العتق واقع في ملك المولى غير منتقل إلى الغير، ولذلك ثبت ولاؤه منه، فغير جائز وقوعه عن الصدقة. ولما قامت الحجة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن الولاء لمن أعتق، وجب ألا يكون الولاء لغيره، فإذا انتفى أن يكون الولاء إلا لمن أعتق، ثبت أن المراد به المكاتبون (¬1). والجواب عن اشتراط التمليك ذكر سابقاً. 3 - روى عبد الرحمن بن سهل بن حنيف عن أبيه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «من أعان مكاتباً في رقبته أو غازياً في عسرته، أو مجاهداً في سبيله، أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله» فثبت بذلك أن الصدقة على المكاتبين معونة لهم في رقابهم حتى يعتقوا، وذلك موافق لقوله تعالى: {وفي الرقاب} [التوبة:60/ 9]. فلما قال: {وفي الرقاب} [التوبة:60/ 9] كان الأولى أن يكون في معونتها بأن يعطى المكاتب حتى يفك العبد رقبته من الرق، وليس هو ابتياعها وعتقها؛ لأن الثمن حينئذ يأخذه البائْع، وليس في ذلك قربة (¬2)، وإنما القربة في أن يعطى العبد نفسه حتى يفك به رقبته، وذلك لا يكون إلا بعد الكتابة، لأنه قبلها يحصل للمولى، وإذا كان مكاتباً فما يأخذه لا يملكه المولى، وإنما يحصل للمكاتب، فيجزي من الزكاة (¬3). 4 - إن عتق الرقبة يسقط حق المولى عن رقبته من غير تمليك، ولا يحتاج فيه إلى إذن المولى، فيكون بمنزلة من قضى دين رجل بغير أمره، فلا يجزي من زكاته، وإن دفعه إلى الغارم، فقضى به دين نفسه، جاز، كذلك إذا دفعه إلى المكاتب، ¬
أدلة الاتجاه الثاني للمالكية والحنابلة ومن وافقهم من السلف
فملكه، أجزأه عن الزكاة، وإذا أعتقه لم يجزه؛ لأنه لم يملكه، وحصل العتق بغير قبوله ولا إ ذنه (¬1). 5 - أخرج عن الحسن البصري والزهري وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم قالوا: في الرقاب هم المكاتبون (¬2). 6 - أخرج الطبري في تفسيره من طريق محمد بن إسحاق عن الحسن بن دينار عن الحسن البصري أن مكاتباً قام إلى أبي موسى الأشعري، وهو يخطب يوم الجمعة، فقال له: أيها الأمير، حث الناس عليّ، فحث عليه أبو موسى، فألقى الناس عليه، هذا يلقي عمامة، وهذا يلقي ملاءة، وهذا يلقي خاتماً حتى ألقى الناس عليه سواداً كبيراً، فلما رأى أبو موسى ما ألقي عليه قال: اجمعوه، ثم أمر به فبيع، فأعطى المكاتب مكاتبته، ثم أعطى الفضل في الرقاب، ولم يرد على الناس. وقال: إن هذا الذي أعطوه في الرقاب. وهذا في تقديري لا يمنع من صرف الزكاة في إعتاق الرقبة. أدلة الاتجاه الثاني للمالكية والحنابلة ومن وافقهم من السلف: استدل هؤلاء على صرف سهم «في الرقاب» في إعتاق الرقيق بما يأتي: 1 - أن الرقاب أعم من أن يعطى المكاتب أو يشتري المزكي رقبة فيعتقها استقلالاً، فهو تعبير مطلق يؤخذ فيه على إطلاقه. 2 - لو اختصت الرقاب بالمكاتب لدخل في حكم الغارمين؛ لأنه غارم. ¬
الرأي الراجح
3 - إن شراء الرقبة لتعتق أولى من إعانة المكاتب؛ لأنه قد يعان ولا يعتق، لأن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم، ولأن الشراء يتيسر في كل وقت، بخلاف الكتابة. الرأي الراجح: يتبين من مقارنة أدلة المذاهب المتقدمة رجحان رأي أصحاب الاتجاه الثاني؛ لأن قوله تعالى: {وفي الرقاب} [التوبة:60/ 9] مطلق، والمطلق يجري على إطلاقه. والذي أرجحه من الآراء هو قول ابن عباس وابن عمر والحسن البصري والزهري وأبي عبيد ومذهب الحنابلة: وهو جعل «في الرقاب» في معونةالمكاتبين وفي عتق الأرقاء جميعاً وفي فكاك الأسرى، عملاً بإطلاق التعبير القرآني: «في الرقاب». قال ابن عباس: الرقاب أعم من المكاتبين، فلا بأس أن تعتق الرقبة من الزكاة. ولا خوف من أن يصير إلى المزكي ميراث عتيقة بالولاء، لأن صاحب الولاء يتحمل دية وأرش وتعويض الجنايات التي يرتكبها المعتَق، فيكون أحدهما بالآخر، أي الغنم بالغرم. وإذا كان يجوز عود الزكاة إلى الأقارب ميراثاً للمزكي في سنة النبي صلّى الله عليه وسلم، فلا مانع من رجوع الولاء للمزكي، قال أبو عبيد: فإذا كانت السعة منه صلّى الله عليه وسلم في رجوع الصدقة بعينها ميراثاً للمزكي، فرجوع وراثة الولاء أوسع وأحرى بالجواز (¬1). وهذا الاتجاه يجمع بين الآراء المختلفة، وهو الظاهر وهو الحق، لأن الآية تحتمل الأمرين (المكاتب والرقيق القن) وحديث البراء المتقدم فيه دليل على أن فك الرقاب غير عتقها، وعلى أن العتق وإعانة المكاتبين على مال الكتابة من الأعمال المقربة من الجنة، والمبعدة من النار. ¬
5 - التطبيق الأصلي لهذا المصرف في إعانة المكاتب لتحرير نفسه من الرق
5 - التطبيق الأصلي لهذا المصرف في إعانة المكاتب لتحرير نفسه من الرق: رغب الله تعالى في كتابة العبد على أقساط معينة مؤجلة ليتمكن من عتق نفسه واسترداد حريته، في قوله تعالى: {والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً، وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} [النور:33/ 24] وقد أخرج النسائي من حديث علي رضي الله عنه مرفوعاً أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «في الآية ربع الكتابة» (¬1). وقد فسر قوله تعالى: {وفي الرقاب} [التوبة:60/ 9] بإعانة المكاتبين. وأخرج ابن جرير وغيره عن علي رضي الله عنه أنه قال: أمر الله السيد أن يدع الربع للمكاتب من ثمنه. وهذا تعليم من الله وليس بفريضة، ولكن فيه أجر. وقد أوردتُ أحاديث في أدلة المذاهب لعون المكاتب. وعملاً بهذا الأمر الإلهي والأحاديث الواردة في ترغيب السيد بمكاتبة عبده، بادر الناس في الماضي إلى مساعدة المكاتب من الزكاة وغيرها لتحرير رقبته من العبودية، حتى وإن ملك نصاباً زائداً على بدل الكتابة، كما يرى الحنفية، وبشرط ألا يكون مع المكاتب ما يفي بنجومه (أقساطه) كما يرى الشافعية والحنابلة، فيعطى المكاتب وفاء دينه لعجزه عن وفاء ما عليه، ولو مع قدرته على التكسب ولو قبل حلول أجل ميعاد تسديد النجم (القسط). ويعطى من الصدقات غير الزكاة في مذهب المالكية. والتطبيق الفعلي لسهم «في الرقاب» وصرفه في المكاتبين كان في الغالب يتم بإعطائهم من الزكاة النقدية أو العينية، كالزروع والثمار والأنعام، أو من الصدقات، كما دل عليه الحديث السابق في أدلة المذاهب عن الحسن البصري أن مكاتباً قام إلى أبي موسى الأشعري، وهو يخطب يوم الجمعة، عارضاً حاجته، ¬
6 - هل تعطى الشعوب الإسلامية التي تئن تحت وطأة الحكومات الكافرة لتحرير نفسها من الاحتلال الذي تخضع له؟
وطلب حث الناس على مساعدته، فاستجاب أبو موسى لطلبه، وأمر الناس بمعاونته، فبادروا إلى إلقاء بعض أمتعتهم عليه، فجمعت ثم بيعت وأعطى ـ أبو موسى ـ المكاتب مكاتبته، ثم أعطى الفضل الزائد في مكاتبين آخرين، ولم ترد الأمتعة على الناس. والقصد من المساعدة واضح وهو تمكين المكاتب من تحرير نفسه من الرق، وتصفية آثار العبودية؛ لأن الإسلام شجع على العتق، وتخليص الأرقاء من الرق. ولا سبيل إلى التحرير إذا لم يعتقه سيده إلا بالمعاوضة، أي الكتابة على أقساط معينة، أخرج أبو داود بإسناد حسن عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «المكاتب عبد ما بقي عليه من مكاتبته درهم». 6 - هل تعطى الشعوب الإسلامية التي تئن تحت وطأة الحكومات الكافرة لتحرير نفسها من الاحتلال الذي تخضع له؟ الاصطلاح الشرعي لكلمة «الرقاب» واضح في أن المراد بهم تحرير الأرقاء من العبودية، فردا كانوا أو جماعة. أما الاستعمار وأشكاله العنصرية البغيضة فلا ينطبق عليه مفهوم الاسترقاق أو الرق المعروف، لذا يصعب القول بأن الاستعمار كالاسترقاق، أو أن تعطى الشعوب المستعمرة من سهم «الرقاب» لتحرير نفسها من الاستعمار. ولكن رأينا السيد الشيخ رشيد رضا يجيز إعطاء الشعوب المستعمرة من الزكاة للتحرر من الاستعباد وإعادة مجد الإسلام، بل لإعادة ما سلبه الأجانب من دار الإسلام، إذا لم يكن مصرف «في الرقاب» مستعملاً في تحرير الأفراد بسبب إلغاء الرق من العالم (¬1). وتابعه على ذلك أستاذنا المرحوم الشيخ محمود شلتوت في كتابه: «الإسلام عقيدة وشريعة» وسبب هذا الاتجاه أن الصرف حينئذ ¬
خاتمة البحث
يعد إنقاذاً للمسلمين من رق الكفار، وما الزكاة المعطاة إلا بذل العشر أو ربع العشر مما فضل عن حاجة الأغنياء. وهذا توسع في فهم مدلول «الرقاب» ومجاز في توجيه الكلمة نحو نظام مستحدث يختلف شرعاً وعملاً عن الرق المألوف، وإن أشبهه في عيوبه ومثالبه، فليس للمستعمرين أي حكم شرعي من أحكام الرق يمكن تطبيقه ما عدا وجوب جهادهم وطردهم من البلاد. ويمكن مساعدة الشعوب المضطهدة أو المستعمرة أو التي احتلت أراضيها بالقوة والظلم والاغتصاب من مصرف «في سبيل الله» أي مصرف الجهاد، ولكن بقدر محدود ومن الصدقات الأخرى الحرة، ومن موارد الدولة العامة التي تنفق على المصالح العامة وتجبى على أساس آخر غير الزكاة. خاتمة البحث تبين من البحث أن مصرف «في الرقاب» أحد مصارف الزكاة يشمل بإطلاقه تحرير الأرقاء من الرق، ومعونة المكاتبين على تحرير أنفسهم، وفكاك الأسرى المسلمين من قيد الأسر وأغلال الحبس في بلاد الكفار. وبما أن الرق انتهى ولله الحمد من العالم، فيمكن تخصيص جزء من الزكاة لفك الأسرى المسلمين أخذاً بمذهب الإمام أحمد رضي الله عنه؛ لأنه فيه فك رقبة من الأسر. كما يمكن إعانة الشعوب المستعمرة من مصرف الجهاد: «في سبيل الله» لتتمكن من طرد المستعمرين وتحرير البلاد من رجسهم، وتخليصهم من ويلات الاستعمار.
الفصل الثاني: صدقة الفطر
الفَصْلُ الثَّاني: صَدَقَةُ الفِطْرِ وفيه مباحث خمسة: المبحث الأول ـ مشروعيتها وحكمها ومن يؤمر بها. المبحث الثاني ـ وقت وجوبها وحكم تعجيلها وتأجيلها. المبحث الثالث ـ جنس الواجب وصفته ومقداره. المبحث الرابع ـ مندوباتها ومباحاتها. المبحث الخامس ـ مصرفها أو من يأخذها. المبحث الأول ـ مشروعية صدقة الفطر وحكمها ومن يؤمر بها: شرعت زكاة الفطر في شعبان في السنة الثانية من الهجرة، عام فرض صوم رمضان، قبل الزكاة، وأدلة وجوبها أخبار، منها: 1 - خبر ابن عمر: فيما رواه الجماعة إلا ابن ماجه: «فرض رسول الله صلّى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان على الناس صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، على كل حر أو عبد، ذكر أو أنثى من المسلمين» والصاع قدح وثلث بالكيل المصري الحالي، وبالقديم قدحان، أو ثُمن مد دمشقي وهو المعروف بالثمنية ويساوي (2751 غم) وعند الحنفية (3800 غم)، وفي الخبر دليل على اشتراط الإسلام في وجوب الفطرة، فلا تجب على الكافر.
2 - وخبر أبي سعيد: «كنا نخرج زكاة الفطر إذ كان فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم صاعاً من طعام، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من زبيب، أو صاعاً من أَقِط، فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه ما عشت» (¬1) والمراد بالطعام هنا الحنطة، والأقط: لبن يابس غير منزوع الزبد، كما فسره الشوكاني. والمشهور أنه منزوع الزبد. 3 - وخبر ابن عباس: «فرض رسول الله صلّى الله عليه وسلم زكاة الفطر طُهْرة للصائم من اللغو والرَّفَث، وطُعْمة للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أدَّاها بعد الصلاة فهي صدقة من الصَّدَقات» (¬2). والرفث: الفحش من الكلام، والطعمة: هو الطعام الذي يؤكل. وفيه دليل على أن الفطرة تصرف في المساكين دون غيرهم من مصارف الزكاة. 4 - وخبر عبد الله بن ثعلبة: «خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبل يوم الفطر بيوم أو يومين، فقال: أدّوا صاعاً من بُرّ أو قمح أو صاعاً من تمر أو شعير عن كل حر أو عبد صغير أو كبير» (¬3). وهي تدل على أن مقدار الفطرة صاع من حنطة أو شعير أو تمر، وخصص بعضهم هذه الأخبار بأحاديث أخرى تدل على الاكتفاء بنصف صاع من قمح، منها حديث ابن عباس مرفوعاً عند الحاكم، بلفظ: «صدقة الفطر: مدان من قمح» وأخرج نحوه الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعاً أيضاً، وغير ذلك (¬4). ¬
حكمتها
وحكمتها: جبر نقص الصوم، وإغناء الفقراء عن السؤال يوم العيد، قال وكيع بن الجراح: (زكاة الفطر لشهر رمضان كسجدة السهو للصلاة)، تجبر نقصان الصوم، كما يجبر السجود نقصان الصلاة) وورد (أغنوهم عن الطوف في هذا اليوم) (¬1) أي أغنوا الفقراء عن السؤال في يوم العيد. وحكمها: الوجوب على كل حر مسلم، قادر عليها وقته (¬2)، للأوامر السابقة في الأحاديث، قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن صدقة الفطر فرض. وقال إسحاق: هو كالإجماع من أهل العلم. وقال بعض الحنفية (¬3): واجبات الإسلام سبعة: الفطرة، ونفقة ذي الرحم، ووتر، وأضحية، وعمرة، وخدمة أبويه، والمرأة لزوجها. والمعنى أن هذه السبعة من واجبات الإسلام، وهناك واجبات أخرى كصلاة الجماعة والعيدين وغيرهما. والمأمور بها أو من تجب عليه: هو عند الحنفية (¬4): كل حر مسلم صغير أو كبير ذكر أو أنثى، عاقل أو مجنون، إذا كان مالكاً لمقدار النصاب (من أي مال كان) الفاضل عن حاجته الأصلية: (من مسكن وثياب وأثاث ـ متاع البيت ـ وفرس وسلاح وخادم، ومن حوائج عياله أيضاً، ومن دينه كذلك). وعلى الجد أن يخرج صدقة الفطر عن أولاد ابنه دون أولاد ابنته إذا كانوا فقراء عند فقد أبيهم. فيشترط لوجوبها أمور ثلاثة (¬5): الإسلام والحرية وملك النصاب الفاضل ¬
الجمهور
عن حاجته الأصلية، أما الأمران الأول والثاني فللأحاديث السابقة، وأما ملك النصاب، فلقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا صدقة إلا عن ظهر غنى» (¬1) وقدر اليسار بالنصاب؛ لأن الشرع قدره به، فاضلاً عما ذكر من الحوائج الأصلية؛ لأن المستحق بالحاجة الأصلية كالمعدوم. ويؤديها من وجبت عليه عن نفسه وأولاده الصغار، والمعتوهين والمجانين الفقراء، وعن مماليكه للخدمة، لا للتجارة، ويؤدي المولى المسلم الفطرة عن عبده الكافر؛ لأن السبب قد تحقق، والمولى من أهل الوجوب. ولا يجب عليه أن يؤديها عن أبيه وأمه، وإن كانا في عياله؛ لأن لا ولاية له عليهم كالأولاد الكبار. ولا يجب أن يؤدي عن إخوته الصغار؛ ولا عن قرابته، وإن كانوا في عياله. ولا يؤدي عن زوجته ولا عن أولاده الكبار، وإن كانوا في عياله، لكن لو أدى عنهم أو عن زوجته بغير أمرهم، أجزأهم استحساناً. وعدم أدائها عن الزوجة لقصور الولاية والمؤنة، فإنه لا يليها في غير حقوق الزواج، ولا يمونها في غير النفقات الدورية كالمداواة، والأصل العام عندهم: أن صدقة الفطر متعلقة بالولاية والمؤنة، فكل من كان عليه ولايته ومؤنته ونفقته، فإنه تجب عليه صدقة الفطر فيه، وإلا فلا. وقال الجمهور (¬2): زكاة الفطر على كل حر صغير أو كبير، ذكر أو أنثى من المسلمين، أي كما قال الحنفية، فلا فطرة على كافر، إلا عند الشافعية والمالكية في عبده وقريبه المسلم في الأصح، ولا فطرة عند المالكية والشافعية على رقيق، لا عن ¬
نفسه ولا عن غيره، لعدم ملكه. وعليه الفطرة عند الحنابلة، لعموم الحديث السابق: «فرض رسول الله صلّى الله عليه وسلم زكاة الفطر على كل حر أو عبد، ذكر أو أنثى من المسلمين» وتجب عند الجمهور خلافاً للحنفية على كل من ملك قوته وقوت من تلزمه نفقته ليلة العيد ويومه، فمن ملك فاضلاً عما يحتاجه لنفسه ولمن تلزمه مؤنته من مسكن وخادم يحتاج إليه ودابة وثياب ونحوها من الحاجات الأصلية، وجبت عليه الفطرة، حتى عند المالكية لو كان قادراً على الفطرة بالاستدانة مع رجاء الوفاء؛ لأنه قادر حكماً. ومن لزمه فطرة نفسه، لزمه فطرة من تلزمه نفقته بقرابة كوالديه الفقيرين، أو زوجية أو ملك رقيق إذا كانوا مسلمين ووجد ما يؤدي عنهم، لحديث مسلم: «ليس على المسلم في عبده صدقة إلا صدقة الفطر» والباقي بالقياس عليها، ولا تلزم المسلم فطرة القريب والزوجة والعبد الكفار، لقوله صلّى الله عليه وسلم في الخبر السابق: «من المسلمين» وذلك خلافاً للحنفية في العبد الكافر. ويظل الأب ملزماً بفطرة أولاده الصغار حتى البلوغ، وعند المالكية: يستمر الإلزام للإناث حتى وقت الدخول بالأزواج أو طلب الدخول من غير مانع. وذكر الحنابلة أن الفطرة تجب في مال الصغير إذا لزمته مؤنة نفسه لغناه بمال أو كسب، ويخرجها أبوه منه. ويشمل ذلك عند المالكية والحنابلة زوجة الأب الفقير وخادمه أيضاً، وخادم الزوجة إن لزمته نفقته: لأن الفطرة تابعة للنفقة، لعموم حديث ابن عمر عند الدارقطني: «أمرنا النبي صلّى الله عليه وسلم بصدقة الفطر: عن الصغير والكبير، والحر والعبد، ممن تمونون». وقال الشافعية: لا يلزم في الأصح الابن فطرة زوجة أبيه، وإن وجبت نفقتها على الولد؛ لأن الولد يتحمل ما يلزم الأب حال إعساره وهو
هل تجب زكاة الفطر عند الحنفية بقدرة ممكنة أو ميسرة؟
النفقة، أما الفطرة فلا تلزم حال الإعسار، ولو أخرج الرجل من ماله فطرة ولده الصغير الغني جاز، كأجنبي أذن، أما الكبير فلا بد من إذنه. ولا خلاف في أن من وجبت فطرته على غيره كالزوجة عند غير الحنفية تؤدى عنها ولو من غير إذن، سواء أكان حاضراً أم غائباً علمت حياته. هل تجب زكاة الفطر عند الحنفية بقدرة ممكّنة أو ميسِّرة؟ القدر الممكِّنة: هي ما يجب بمجرد التمكن من الفعل، فلا يشترط بقاؤها لبقاء الوجوب. والقدر الميسرة: هي ما يجب بعد التمكن بصفة اليسر، فيشترط بقاؤها لبقاء الوجوب. قال الحنفية (¬1): تجب الفطرة والأضحية، ونفقة المحارم على الراجح بقدرة ممكنة، فلا يشترط بقاء هذه القدرة وهي النصاب الشرعي هنا لبقاء الوجوب؛ لأنها شرط محض، لا بقدرة ميسرة، فلا تسقط الفطرة وكذا الحج بهلاك المال بعد الوجوب، فلو هلك المال بعد فجر يوم الفطر لا تسقط الفطرة، بخلاف الزكاة والعشر والخراج فإنها تسقط بهلاك المال، لاشتراط بقاء القدرة الميسرة: وهي وصف النماء. لكن إذا مات من عليه زكاة أو فطرة أو كفارة أو نذر، لم يؤخذ من تركته إلا أن يتبرع ورثته بذلك، وهم من أهل التبرع، فإن امتنعوا لم يجبروا عليه، وإن أوصى بذلك يجوز، وينفذ من ثلث ماله. ¬
المبحث الثاني ـ وقت وجوب زكاة الفطر وحكم تعجيلها وتأجيلها
وقال الجمهور (¬1): إن مات من وجبت عليه الفطرة قبل أدائها، أخرجت من تركته؛ لأن حق الله سبحانه وحق الآدمي إذا تعلقا بمحل واحد، فكانا في الذمة أو كانا في العين، تساويا في الاستيفاء، أي إن الزكاة حق مال لزم في حال الحياة، فلم يسقط بالموت كدين الآدمي. وهذا هو الراجح عندي. المبحث الثاني ـ وقت وجوب زكاة الفطر وحكم تعجيلها وتأجيلها: للفقهاء رأيان في وقت وجوب الفطرة وما يتبعه، ف قال الحنفية (¬2): تجب الفطرة بطلوع الفجر من يوم عيد الفطر؛ لأن الصدقة أضيفت إلى الفطر، والإضافة للاختصاص، والاختصاص للفطر باليوم دون الليل؛ إذ المراد فطر يضاد الصوم، وهو في اليوم دون الليل؛ لأن الصوم فيه حرام. فمن مات قبل ذلك أي طلوع الفجر، لم تجب فطرته، ومن أسلم أو ولد بعد طلوع الفجر لم تجب فطرته. ويصح تعجليها وتأخيرها، فيجوز أداء صدقة الفطر إذا قدمه بعد دخول رمضان على وقت الوجوب وهو يوم الفطر، أو تأخيره عنه، أما جواز التقديم فلوجود سبب الوجوب، فصار كأداء الزكاة بعد وجوب النصاب، ولا تفصيل فيه بين مدة ومدة. وأما جواز الأداء بعد يوم الفطر فلأنه قربة مالية معقولة المعنى، فلا تسقط بعد الوجوب إلا بالأداء كالزكاة. والخلاصة: أنه يجوز تقديمها قبل يوم الفطر ولو قبل دخول رمضان، وإن أخروها عن يوم الفطر لم تسقط، وكان عليهم إخراجها، وكونها قبل دخول رمضان هو ظاهر الرواية، لكن المفتى به اشتراط دخول رمضان، فلا يجوز تقديمها عن رمضان. ¬
قال الجمهور
وقال الجمهور (¬1): تجب زكاة الفطر بغروب شمس ليلةعيد الفطر، أي أول ليلة العيد؛ لأنها مضافة في الأحاديث المتقدمة إلى الفطر من رمضان، فكانت واجبة به؛ لأن الإضافة تقتضي الاختصاص، وأول فطر يقع من جميع رمضان ولا صوم بعده بمغيب الشمس من ليلة الفطر، وانقضاء الصوم بغروب الشمس، وسبب الخلاف بين الجمهور والحنفية: هل زكاة الفطر عبادة متعلقة بيوم العيد؛ أو بخروج شهر رمضان؛ لأن ليلة العيد ليست من شهر رمضان. فمن مات بعد الغروب تجب عليه، أما من ولد أو أسلم بعد الغروب أو كان معسراً وقت الوجوب ثم أيسر بعده، فلا فطرة عليه عند الجمهور، لعدم وجود سبب الوجوب وعليه الفطرة عند الحنفية. ولا تسقط عند الجمهور بعد وجوبها بموت ولا غيره، وتبقى في ذمته أبداً حتى يخرجها. أما تعجيلها: فيجوز عند الشافعية تقديم الفطرة من أول شهر رمضان؛ لأنها تجب بسببين: صوم شهر رمضان، والفطر منه، فإذا وجد أحدهما، جاز تقديمها على الآخر، كزكاة المال بعد ملك النصاب وقبل الحول، ولا يجوز تقديمها على شهر رمضان؛ لأنه تقديم على السببين، فلا يجوز كإخراج زكاة المال قبل الحول والنصاب. ويجوز عند المالكية والحنابلة تقديمها قبل العيد بيوم أو يومين، لا أكثر من ذلك، لقول ابن عمر: «كانوا يعطونها قبل الفطر بيوم أو يومين» (¬2) ولا تجزئ قبل ¬
تأخيرها عن صلاة العيد
ذلك، لفوات الإغناء المأمور به في قوله صلّى الله عليه وسلم: «أغنوهم عن الطلب هذا اليوم» (¬1)، بخلاف زكاة المال. وأما تأخيرها عن صلاة العيد: فقال الشافعية: المستحب ألا تؤخر عن صلاة العيد، للأمر بها قبل الخروج إليها في الصحيحين، فإن أخرت استحب الأداء أول النهار للتوسعة على المستحقين، ويحرم تأخيرها عن يوم العيد بلا عذر، كغيبة ماله أو المستحقين، لفوات المعنى المقصود، وهو إغناؤهم عن الطلب في يوم السرور، فلو أخر بلا عذر، عصى وقضى، لخروج الوقت على الفور، لتأخيره من غير عذر. أما تأخير زكاة المال عن التمكين فتكون أداء، والفرق أن الفطرة مؤقتة بزمن محدود كالصلاة. وقال الحنابلة مثل الشافعية: آخر وقت الفطرة: غروب الشمس يوم الفطر، للحديث المتقدم: «أغنوهم عن الطلب هذا اليوم» فإن أخرها عن يوم العيد، أثم لتأخيره الواجب عن وقته، ولمخالفته الأمر، وعليه القضاء؛ لأنها عبادة، فلم تسقط بخروج الوقت، كالصلاة. والأفضل إخراج الفطرة يوم العيد قبل الصلاة أو قدرها في موضع لا يصلى فيه العيد، كما سأوضح. وقال المالكية: يجوز إخرجها بعد صلاة العيد يوم الفطر، ولا تسقط الفطرة بمضي زمنها، بل هي باقية في الذمة أبداً حتى يخرجها، كغيرها من الفرائض، وأثم إن أخرها عن يوم الفطر مع القدرة، فإن مضى زمنها مع العسر تسقط عنه. ¬
المبحث الثالث ـ جنس الواجب وصفته ومقداره
المبحث الثالث ـ جنس الواجب وصفته ومقداره: قال الحنفية (¬1): تجب زكاة الفطر من أربعة أشياء: الحنطة والشعير والتمر والزبيب، وقدرها نصف صاع من حنطة أو صاع من شعير أو تمر أو زبيب، والصاع عند أبي حنيفة ومحمد ثمانية أرطال بالعراقي، والرطل العراقي مئة وثلاثون درهماً، ويساوي 3800 غراماً؛ لأنه عليه السلام كان يتوضأ بالمد رطلين، ويغتسل بالصاع ثمانية أرطال (¬2)، وهكذا كان صاع عمر رضي الله عنه (¬3) وهو أصغر من الهاشمي، وكانوا يستعملون الهاشمي. ودليلهم على تقدير الفطرة بصاع أو نصفه: حديث ثعلبة بن صعير العذري أنه قال: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: «أدوا عن كل حر وعبد نصف صاع من بُرّ، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير» (¬4). دفع القيمة عندهم: يجوز عند الحنفية أن يعطي عن جميع ذلك القيمة دراهم أو دنانير أو فلوساً أو عروضاً أو ما شاء؛ لأن الواجب في الحقيقة إغناء الفقير، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «أغنوهم عن المسألة في مثل هذا اليوم» والإغناء يحصل بالقيمة، بل أتم وأوفر وأيسر؛ لأنها أقرب إلى دفع الحاجة، فيتبين أن النص معلل بالإغناء. ¬
قال الجمهور
وقال الجمهور (¬1): تؤدى زكاة الفطر من الحبوب والثمار المقتاتة وهي صاع، وتفصيل كلامهم ما يأتي. يرى المالكية: أنها تجب من غالب قوت البلد من أصناف تسعة فقط: قمح أو شعير أو سُلت (نوع من الشعير) أو ذرة أو دَخَن أو تمر أو زبيب أو أقط: وهو يابس اللبن المخرج زبده، فيتعين الإخراج مما غلب الاقتيات منه من هذه الأصناف التسعة، ولا يجزئ الإخراج من غيرها، ولا منها إن كان غالب القوت غيره، إلا أن يخرج الأحسن، كالقمح بدل الشعير. وزكاة الفطر صاع (أربعة أمداد) والمد: حفنة ملء اليدين المتوسطتين. وذهب الشافعية إلى أنها تجب من غالب قوت البلد أو المحل؛ لأن ذلك يختلف باختلاف النواحي، والمعتبر في غالب القوت غالب قوت السنة، ويجزئ الأعلى عن الأدنى، لا العكس، وذلك بزيادة الاقتيات في الأصح لا بالقيمة، فالبُرّ خير من التمر والأرُزّ، والأصح أن الشعير خير من التمر، وأن التمر خير من الزبيب، ولا يبعَّض الصاع المخرج عن الشخص الواحد من جنسين، ولو كان في بلد أقوات لا غالب فيها تخير، والأفضل أشرفها، والواجب: الحب السليم، فلا يجزئ المسوس والمعيب وإن كان يقتاته. ومقدارها صاع وهو في الأصح ست مئة درهم وخمسة وثمانون درهماً وخمسة أسباع درهم (685 و 8/ 5) أو خمسة أرطال وثلث بالبغدادي، وأربعة أرطال ونصف وربع رطل وسبع أوقية بالمصري. وقرر الحنابلة: أنه يجب المنصوص عليه من البر والشعير والتمر والزبيب والأقط، فإن لم توجد هذه الأصناف يجزئه كل مقتات من الحبوب والثمار، ¬
دفع القيمة
ولايجزئ المقتات من غيرها كاللحم واللبن. وظاهر المذهب أنه لا يجوز له العدول عن هذه الأصناف مع القدرة عليها، سواء كان المعدول إليه قوت بلده أو لم يكن، ويجوز إخراج الدقيق والسويق. ولا يجوز إخراج الخبز، ومن أي الأصناف المنصوص عليها أخرج جاز، وإن لم يكن قوتاً له، أو كان قوته غالب قوت البلد. ومقدارها صاع عراقي وهو أربع حفنات بكفي رجل معتدل القامة؛ لأنه الذي أخرج به في عهده صلّى الله عليه وسلم، ويقدر كما سبق عند الجمهور بـ (1572 غم) وعند جماعة: (6712 غم) وهو ما اعتمدته في تقدير الأوسق الخمسة. ودليل الجمهور: الأحاديث السابقة، وهي أصح من أحاديث الحنفية، ومنها حديث أبي سعيد الخدري: «كنا نخرج زكاة الفطر، إذ كان فينا النبي صلّى الله عليه وسلم صاعاً من طعام، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من تمر، أوصاعاً من زبيب، أوصاعاً من أقط» وروى الدارقطني عن مالك بن أنس أن صاع النبي صلّى الله عليه وسلم خمسة أرطال وثلث بالعراقي. دفع القيمة عندهم: لا يجزئ عند الجمهور إخراج القيمة عن هذه الأصناف، فمن أعطى القيمة لم تجزئه، لقول ابن عمر: «فرض رسول الله صلّى الله عليه وسلم صدقة الفطر صاعاً من تمر، وصاعاً من شعير» (¬1) فإذا عدل عن ذلك فقد ترك المفروض. المبحث الرابع ـ مندوباتها ومباحاتها: اتفق الفقهاء (¬2) على أنه يستحب إخراج صدقة الفطر يوم الفطر بعد الفجر ¬
قبل الصلاة، لحديث ابن عمر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة» (¬1) ولحديث ابن عباس: «من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات» (¬2) والمراد بالزكاة: صدقة الفطر، والمراد بالصدقة: أنها التي يتصدق بها في سائر الأوقات، وأمر القبول فيها متوقف على مشيئة الله تعالى. إلا أن أكثرية الفقهاء ذهبوا إلى أن إخراجها قبل صلاة العيد إنما هو مستحب فقط، وجزموا بأنها تجزئ إلى آخر يوم الفطر، فمن أخرها عن الصلاة، ترك الأفضل؛ لأن المقصود منها الإغناء عن الطواف والطلب في هذا اليوم، لحديث: «أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم» فمتى أخرها لم يحصل إغناؤهم في جميعه، لا سيما في وقت الصلاة، فدل على أن تأخيرها عن الصلاة مكروه تنزيهاً، وأن الأمر بإخراجها قبل الصلاة للندب. ويحرم بالاتفاق تأخيرها عن يوم العيد؛ لأنها زكاة، فوجب أن يكون في تأخيرها إثم، كما في إخراج الصلاة عن وقتها. وذكر المالكية أنه يندب إخراجها من قوته الأحسن من قوت أهل البلد. وندب عدم زيادة على الصاع، بل تكره الزيادة؛ لأن الشارع إذا حدد شيئاً كان ما زاد عليه بدعة، والبدعة تارة تقتضي الفساد، وتارة تقتضي الكراهة، ومحل الكراهة إن تحققت الزيادة، وإلا فيتعين أن يزيد ما يزيل به الشك. ¬
المبحث الخامس ـ مصرفها أو من يأخذها
المبحث الخامس ـ مصرفها أو من يأخذها: اتفق الفقهاء (¬1) على أن مصرف زكاة الفطر هو مصارف الزكاة المفروضة؛ لأن صدقة الفطر زكاة، فكان مصرفها مصرف سائر الزكوات؛ ولأنها صدقة، فتدخل في عموم قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} [التوبة:60/ 9] ولا يجوز دفعها إلى من لا يجوز دفع زكاة المال إليه، ولا يجوز عند الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) دفعها إلى ذمي؛ لأنها زكاة، فلم يجز دفعها إلى غير المسلمين، كزكاة المال، ولا خلاف في أن زكاة المال لا يجوز دفعها إلى غير المسلمين، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على ألا يجزئ أن يعطى من زكاة المال أحد من أهل الذمة. وقال الحنفية: صدقة الفطر كالزكاة في المصارف وفي كل حال، إلا في جواز الدفع إلى الذمي مع الكراهة، وعدم سقوطها بهلاك المال، لكن الفتوى على قول أبي يوسف وهو عدم جواز صرفها للذمي، كزكاة الأموال، للحديث المتقدم في الزكاة: «صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم». وعليه: تدفع صدقة الفطر بالاتفاق لكل حر مسلم فقير، غير هاشمي لشرفه وتنزهه عن أوساخ الناس، لكن في الوقت الحاضر تعطى الزكوات للهاشمي لانقطاع موردهم من بيت المال. فإن لم يقدرالمسلم إلا على بعض الصاع ـ بعض الفطرة، أوبعض ما وجب عليه إن وجب أكثر من فطرة، أخرجه وجوباً، محافظة على الفطرة بقدر الإمكان، ¬
ويبدأ بنفسه، ثم بمن يعول، ويقدم ممن يعول عند الجمهور الزوجة لأن نفقتها آكد، والأظهر عند المالكية والحنابلة تقديم الوالد على الولد، ودليل الترتيب قوله عليه السلام: «ابدأ بنفسك، ثم بمن تعول» (¬1) ولأن الفطرة تنبني على النفقة، فكما يبدأ بنفسه في النفقة، فكذلك في الفطرة. ويقدم عند الشافعية نفسه ثم زوجته، ثم ولده الصغير، ثم الأب، ثم الأم، ثم الولد الكبير، لخبر مسلم: «ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك». ويجوز أن يعطي من أقاربه من يجوز أن يعطيه من زكاة ماله، ولا يعطي منها غنياً، ولا ذا قربى تجب عليه نفقته، ولا أحداً ممن منع أخذ زكاة المال. ويجوز صرفها في الأصناف الثمانية؛ لأنها صدقة، فأشبهت صدقة المال. وظاهر المذهب الشافعي أنه يجب دفعها للأصناف الثمانية، وفيه عسر، واختار بعض الشافعية صرفها إلى واحد، ولا بأس بتقليده في زماننا هذا، كما قال الباجوري، وقال بعضهم: لو كان الشافعي حياً لأفتى به. وأجازالفقهاء دفع صاع واحد لمساكين يقتسمونه، وأباح غير الشافعي دفع آصع متعددة لواحد من الفقراء، ودفع كل شخص فطرته إلى مسكين أو مساكين، أي إن الجمهور أجازوا إعطاء الواحد ما يلزم الجماعة، والجماعة ما يلزم الواحد، أي دفع صدقة جماعة إلى مسكين واحد، لكن لا خلاف بين الفقهاء في إعطاء ¬
الجماعة ما يلزم الواحد؛ لأنه صرف صدقته إلى مستحقها، فبرئ منها كما لو دفعها إلى واحد. أما إعطاء الواحد صدقة الجماعة: فإن الشافعي أوجب تفرقة الصدقة على ستة أصناف، ودفع حصة كل صنف إلى ثلاثة منهم، كما ذكر في مصارف الزكاة. والراجح رأي الجمهور؛ لأنها صدقة لغير معين، فجاز صرفها إلى واحد، فيجوز أن يأخذ الواحد زكاة أكثر من واحد.
الفصل الثالث: صدقة التطوع
الفَصْلُ الثَّالث: صَدَقَةُ التَّطوّع الكلام عن أحكام صدقة التطوع: يشمل استحبابها، الإسرار بها، التصدق بجميع المال، الأولى في الصدقة، المتصدق عليه (الغني، الكافر، القريب، صاحب الحاجة الشديدة، الصدقة على الميت) صدقة المديون ومن عليه نفقة، نية جميع المؤمنين، التصدق من المال الحرام، كراهة استرداد الصدقة بشراء أو غيره، وحرمة السؤال لغير حاجة، وكراهة السؤال بوجه الله تعالى. أولاً ـ حكم صدقة التطوع: صدقة التطوع مستحبة في جميع الأوقات، وسنة بدليل الكتاب والسنة (¬1). أما الكتاب: فقوله تعالى: {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً، فيضاعفه له أضعافاً كثيرة} [البقرة:245/ 2] وأمر الله سبحانه بالصدقة في آيات كثيرة. وأما السنة: فأحاديث عديدة منها قوله صلّى الله عليه وسلم: «من أطعم جائعاً أطعمه الله من ثمار الجنة، ومن سقى مؤمناً على ظمأ، سقاه الله عز وجل يوم القيامة من الرحيق المختوم، ومن كسا مؤمناً عارياً، كساه الله من خُضْر الجنة» (¬2). ¬
ثانيا ـ الإسرار بها ودفعها في رمضان
ومنها قوله عليه السلام: «إن العبد إذا تصدَّق من طيِّب، تقبلها الله منه، وأخذها بيمينه، فرباها كما يُربِّي مُهْره أو فصيله، وإن الرجل ليتصدق بالُّلقْمة فتربُو في يد الله، أو في كف الله، حتى تكون مثل الجبل، فتصدقوا» (¬1) وقد تصبح الصدقة حراماً: كأن يعلم أن آخذها يصرفها في معصية. وقد تجب الصدقة: كأن وجد مضطراً، ومعه ما يطعمه فاضلاً عن حاجته. ثانياً ـ الإسرار بها ودفعها في رمضان: صدقة السر أفضل من صدقة العلانية أو الجهر، فالأفضل الإسرار بصدقة التطوع بخلاف الزكاة، لقوله تعالى: {إن تبدوا الصدقات فنعمَّا هي، وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم، ويكفر عنكم من سيئاتكم} [البقرة:271/ 2]، ولما في الصحيحين عن أبي هريرة في خبر السبعة الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله: «ورجل تصدق بصدقة، فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» وروى الطبراني في الصغير: «صدقة السر تطفئ غضب الرب». ودفعها في رمضان أفضل من دفعها في غيره، لما رواه الترمذي عن أنس رضي الله عنه: «سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أي الصدقة أفضل؟ قال: صدقة في رمضان» ولأن الفقراء فيه يضعفون ويعجزون عن الكسب بسبب الصوم، ولأن الحسنات تضاعف فيه. وتتأكد في الأيام الفاضلة كعشر ذي الحجة وأيام العيد، وكذا في الأماكن ¬
ثالثا ـ التصدق بجميع المال
الشريفة كمكة والمدينة، وفي الجهاد والحج، وعند الأمور المهمة كالكسوف والمرض والسفر. وتتأكد الصدقة بالماء إن كان الاحتياج إليه أكثر من الطعام؛ لخبر أبي داود: «أي الصدقة أفضل؟ قال: الماء»، فإن كانت الحاجة إلى الطعام فهو أفضل، وتتأكد أيضاً بالمنيحة: وهي الشاة اللبون ونحوها يعطيها المحتاج يشرب لبنها ما دامت لبوناً ثم يردها إليه، لما في ذلك من مزيد البر والإحسان. ويستحب الإكثار من الصدقة في أوقات الحاجات، لقوله تعالى: {أو إطعام في يوم ذي مسغبة} [البلد:14/ 90]. ويسن التصدق عقب كل معصية، وتسن التسمية عند التصدق؛ لأن الصدقة عبادة (¬1). ثالثاً ـ التصدق بجميع المال: إن كان الرجل وحده، أو كان مسؤولاً عمن يمون كفايتهم، فأراد الصدقة بجميع ماله، وكان ذا مكسب، أو كان واثقاً من نفسه بحسن التوكل، والصبر على الفقر، والتعفف عن المسألة، فهو حسن، وإلا فلا يجوز بل يكره (¬2)؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم سئل: «أي الصدقة أفضل؟ قال: سرّ إلى فقير أو جَهْد من مُقلّ» (¬3)، وروي عن عمر رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن نتصدق، فوافق ذلك مالاً عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً، فجئته بنصف مالي، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك؟ قلت: أبقيت لهم مثله، فأتاه أبو بكر بكل ¬
رابعا ـ الأولى في الصدقة
ماعنده، فقال له: ما أبقيت لأهلك؟ قال: الله ورسوله، فقلت: لا أسابقك إلى شيء بعده أبداً (¬1). فهذا كان فضيلة في حق أبي بكر رضي الله عنه، لقوة يقينه وكمال إيمانه، وكان أيضاً تاجراً ذا مكسب. رابعاً ـ الأولى في الصدقة: الأولى أن يتصدق المرء من الفاضل عن كفايته وكفاية من يمونه على الدوام، وإن تصدق بما ينقص من مؤنة من يمونه أثم (¬2)، لقوله صلّى الله عليه وسلم في الأولى: «خير الصدقة: ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول» (¬3) أي عن غنى النفس وصبرها على الفقر، ولقوله عليه السلام في حالة الإثم: «كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت» (¬4). خامساً ـ استحباب التصدق بما فضل عن الحاجة: يستحب أن يتصدق بما فضل عما يلزمه من النفقات (¬5)، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ليتصدق الرجل من ديناره، وليتصدق من درهمه، وليتصدق من صاع بره، وليتصدق من صاع تمره» (¬6). ¬
سادسا ـ التصدق بما تيسر
سادساً ـ التصدق بما تيسر: يستحب أن يتصد ق بما تيسر، ولا يستقله، ولا يمتنع من الصدقة به لقلته وحقارته، فإن قليل الخير كثير عند الله تعالى، وما قبله الله تعالى وبارك فيه، فليس هو بقليل (¬1)، قال الله تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره} [الزلزلة:7/ 99]، وفي الصحيحين عن عدي بن حاتم: «اتقوا النار ولو بشق تمرة» وفي الصحيحين أيضاً عن أبي هريرة: «يا نساء المسلمات لا تحقرِنَّ جارة أن تهدي لجارتها ولو فِرْسن شاة» والفرسن من البعير والشاة كالحافر من غيرهما. وروى النسائي وابن خزيمة وابن حبان عن أبي هريرة: «سَبَق درهم مئة ألف درهم، فقال رجل: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال: رجل له مال كثير أخذ من عُرْضه - جانبه- مئة ألف درهم تصدق بها، ورجل ليس له إلا درهمان، فأخذ أحدهما، فتصدق به». سابعاً ـ التصدق على الصلحاء: يستحب أن يخص بصدقته الصلحاء، وأهل الخير والمروءات والحاجات (¬2). ثامناً ـ المتصدق عليه (¬3): أـ الأقارب: الأفضل أن يخص بالصدقة الأقارب، ثم الجيران، فهم أولى من الأجانب، لقوله تعالى: {يتيماً ذا مقربة} [البلد:15/ 90] ولقوله صلّى الله عليه وسلم لزينب ¬
ب ـ صاحب الحاجة الشديدة
امرأة عبد الله بن مسعود: «زوجك وولدك أحق من تصدقت عليهم» (¬1)، ولقوله عليه السلام في حديث حسن رواه أحمد وابن ماجه والترمذي: «الصدقةعلى المسكين صدقة، وهي على ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة»» ولخبر البخاري عن عائشة: «إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ فقال: إلى أقربهما منك باباً» وهكذا الحكم في الزكوات والكفارات والنذور والوصايا والأوقاف وسائر جهات البر، يستحب فيها تقديم الأقارب إذا كانوا مستحقين. ويستحب أن يقصد بصدقته من أقاربه أشدهم له عداوة ليتألف قلبه ويرده إلى المحبة والألفة. ب ـ صاحب الحاجة الشديدة: تستحب الصدقة على من اشتدت حاجته لقول الله تعالى: {أو مسكيناً ذا متربة} [البلد:16/ 90]. جـ ـ الغني والهاشمي والكافر والفاسق: تحل الصدقة لغني ولو من ذوي القربى، لقول جعفر بن محمد عن أبيه: أنه كان يشرب من سقايات بين مكة والمدينة، فقيل له: أتشرب من الصدقة؟ فقال: «إنما حرَّم الله علينا الصدقة المفروضة» (¬2)، وأقر النبي صلّى الله عليه وسلم في حديث الصحيحين عن أبي هريرة صدقة رجل على سارق وزانية وغني، وفيه: «أما صدقتك على سارق فلعله أن يستعف عن سرقته، وأما الزانية فلعلها تستعف عن زناها، وأما الغني فلعله يعتبر، وينفق مما آتاه الله تعالى». لكن يستحب للغني التنزه عنها، ويكره له التعرض لأخذها. ¬
د ـ الصدقة على الميت
وأما الصدقة على الهاشمي: فقد عرفنا في الزكاة جوازها في رأي أكثرية العلماء، فهي تحل للهاشميين دونه صلّى الله عليه وسلم تشريفاً له. وتحل الصدقة أيضاً على فاسق، وكافر من يهودي أو نصراني أو مجوسي، ذمي أو حربي، لقوله تعالى: {ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً} [الإنسان:8/ 76] ومعلوم أن الأسير حربي. ولقوله صلّى الله عليه وسلم في الصحيحين عن أبي هريرة فيمن سقى الكلب العطشان: «في كل كبد رطبة أجر» وأما حديث: «لا يأكل طعامك إلا تقي» فأريد به الأولى. د ـ الصدقة على الميت: ينفع الميت ـ كما قدمنا في الجنائز ـ صدقة عليه من أكل أو شرب أو كسوة أو درهم أو دينار، وينفعه أيضاً دعاء له بنحو: «اللهم اغفر له» «اللهم ارحمه» بالإجماع، ولا يتصدق عليه بالأعمال البدنية كأن تهب له ثواب صلاة أو صوم (¬1)، وأما قراءة القرآن كالفاتحة، فقال مالك والشافعي، لا ينتفع بها، ورأي الأكثرين: أنه ينتفع. تاسعاً ـ صدقة المديون ومن عليه نفقة (¬2): يستحب ألا يتصدق من عليه دين، أو من تلزمه نفقة لنفسه أو عياله، حتى يؤدي ما عليه. والأصح عند الشافعية تحريم الصدقة من مدين لا يجد لدينه وفاء، أو من ملزم بنفقة بما يحتاج إليه لنفقته أو نفقة من عليه نفقته في يومه وليلته؛ لأنه ¬
عاشرا ـ نية جميع المؤمنين
حق واجب، فلم يجز تركه بصدقة التطوع، فيقدم الدين لأن أداءه واجب، فيتقدم على المسنون، فإن رجا له وفاء من جهة أخرى ظاهرة، فلا بأس بالتصدق به، إلا إن حصل بذلك تأخير، وكان الواجب وفاء الدين على الفور بمطالبة أو غيرها. وأما تقديم ما يحتاجه للنفقة، فللحديث السابق: «كفى بالمرء إثماً أن يضيِّع من يقوت، وابدأ بمن تعول» (¬1)، ولأن كفاية العيال فرض، وهو مقدم على النفل، والضيافة كالصدقة. وأما خبر الأنصاري الذي نزل به الضيف، فأطعمه قوته وقوت صبيانه، فمحمول على أن الصبيان لم يكونوا محتاجين حاجة شديدة حينئذ إلى الأكل. وأما الرجل والمرأة فتبرعا بحقهما، وكانا صابرين، وإنما قال فيه لأمّهم: نوميهم خوفاً من أن يطلبوا الأكل على عادة الصبيان في الطلب من غير حاجة. عاشراً ـ نية جميع المؤمنين: الأفضل أن ينوي بالصدقة النافلة جميع المؤمنين والمؤمنات؛ لأنها تصل إليهم، ولا ينقص من أجره شيء (¬2). أحد عشر ـ التصدق من المال الحرام: قال الحنفية (¬3): إذا تصدق بالمال الحرام القطعي، أو بنى من الحرام بعينه مسجداً ونحوه مما يرجو به التقرب، مع رجاء الثواب الناشئ عن استحلاله، كفر؛ لأن استحلال المعصية كفر، والحرام لا ثواب فيه. ولا يكفر إذا أخذ ظلماً من إنسان مئة، ومن آخر مئة، وخلطهما، ثم تصدق به؛ لأنه ليس بحرام بعينه قطعاً لاستهلاكه بالخلط، ولأنه ملكه بالخلط، ثم يضمنه. والخلاصة: أن شرط الكفر ¬
اثنا عشر ـ ما يحرم وما يكره وما يستحب في الصدقة
شيئان: قطعية الدليل، وكونه حراماً لعينه مثل لحم الميتة، أما مال الغير فهو حرام لغيره، لا لعينه، فلا يكون أخذه عند الحنفية حراماً محضاً، وإن كان لا يباح الانتفاع به قبل أداء البدل. اثنا عشر ـ ما يحرم وما يكره وما يستحب في الصدقة: يحرم السؤال على الغني بمال أو كسب، ويحرم عليه إظهار الفاقة وإن لم يسأل (¬1)، وعلى هذا المعنى الأخير حملوا خبر الذي مات من أهل الصُّفة، وترك دينارين، فقال صلّى الله عليه وسلم: «كيَّتان من نار». والمن بالصدقة يحبطها، أي يمنع ثوابها، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لاتبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} [البقرة:264/ 2]. ويكره تعمد الصدقة بالرديء، لقول الله تعالى: {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} [البقرة:267/ 2]، ويستحب تعمد أجود ماله وأحبه إليه (¬2)، لقوله سبحانه: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [آل عمران:92/ 3]. وتكره الصدقة بما فيه شبهة، ويستحب أن يختار أجل ماله وأبعده عن الحرام والشبهة (¬3)، لحديث أبي هريرة المتقدم في الصحيحين: «من تصدق بعِدْل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله يقبلها بيمينه، ثم يربِّيها لصاحبها كما يربي أحدكم فَلُوَّه حتى تكون مثل الجبل». ويستحب أن تكون الصدقة مقرونة بطيب نفس وبشر، لما فيه من تكثير الأجر وجبر القلب. وتسن التسمية عند الرفع إلى المتصدق عليه؛ لأنها عبادة، قال ¬
العلماء: ولا يطمع المتصدق في الدعاء من المتصدق عليه، لئلا ينقص أجر الصدقة، فإن دعا له استحب أن يرد عليه مثلها لتسلم له صدقته (¬1). ويكره لمن تصدق بصدقةأو دفع لغيره زكاة أو كفارة أو عن نذر وغيرها من وجوه الطاعات: أن يأخذ صدقته أو يتملك ممن أعطاه ببيع أو معاوضة أو هبة، أو غيره، ولا يكره تملكه منه بالإرث، ولا يكره أيضاً أن يتملكه من غيره إذا انتقل إليه، لحديث عمر السابق في الصحيحين: «حَمَلتُ على فرس في سبيل الله، فأضاعه الذي كان عنده، فأردت أن أشتريه منه، وظننت أنه بائعه برخص، فسألت النبي صلّى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: لا تشتره، وإن أعطاكه بدرهم، فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه». ويلاحظ أن من دفع إلى وكيله أو ولده أوغلامه أو غيرهم شيئاً يعطيه لسائل أو غيره صدقة تطوع، لم يزل ملكه عنه حتى يقبضه المبعوث إليه، فإن لم يدفعه إلى من عينه، استحب له ألا يعود فيه، بل يتصدق به على غيره، فإن استرده وتصرف فيه، جاز؛ لأنه باق على ملكه (¬2). ويكره للإنسان أن يسأل بوجه الله غير الجنة، وأن يمنع من سأل بالله، وتشفع به (¬3)، لخبر «لا يسأل بوجه الله إلا الجنة» (¬4) وخبر: «من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سألكم بالله فأعطوه، ومن استجار بالله فأجيروه، ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا فادعوا له، حتى تعلموا أن قد كافأتموه» (¬5) أي جازيتموه. ¬
الباب الخامس: الحج والعمرة
البَابُ الخامسُ: الحجّ والعُمْرة فيه فصول ثلاثة: الفصل الأول ـ أحكام الحج والعمرة. الفصل الثاني ـ خصائص الحرمين ـ مكة والمدينة. الفصل الثالث ـ آداب السفر للحج وغيره وآداب الحاج العائد بعد رجوعه من سفره. ويلاحظ أنني أخرت بحث الحج عن الصلاة والزكاة والصوم؛ لأن الصلاة عماد الدين ولشدة الحاجة إليها لتكررها كل يوم خمس مرات، ثم الزكاة لكونها قرينة لها في أكثر المواضع في القرآن، ثم الصوم لتكرره كل سنة، وأما الحج ففي العمر مرة.
الفصل الأول: أحكام الحج والعمرة
الفَصْلُ الأوَّل: أحكامُ الحجّ والعُمرة وهو يشتمل على أمور ثلاثة: الأول ـ بيان مقدمات هذه العبادة بمعرفة حكم كل من الحج والعمرة وشروطهما. والثاني ـ مقومات الحج والعمرة وهي الأفعال المطلوبة والمتروكات بالإحرام، وفيه توضيح الأركان والواجبات والسنن. والثالث ـ اللواحق وهي أحكام الأفعال التابعة للإحرام، من إحصار وفوات، وجزاء جنايات، وهدي. وهذا الفصل هو صلب موضوع هذا الباب الذي خصصته لبيان الدعامة الرابعة من دعائم الإسلام بعد بيان الدعامات الثلاث: وهي الصلاة والصوم والزكاة. ويمكن بحث موضوعاته في المباحث الثلاثة عشر التالية: المبحث الأول ـ تعريف الحج والعمرة ومكانتهما في الإسلام وحكمتهما وحكمهما. المبحث الثاني ـ شروط الحج والعمرة (شروط الوجوب والصحة أو الأداء) وموانعهما.
أولا ـ تعريف الحج والعمرة
المبحث الثالث ـ مواقيت الحج والعمرة الزمانية والمكانية. المبحث الرابع ـ أعمال الحج والعمرة وصفة حجة النبي صلّى الله عليه وسلم وعمرته. المبحث الخامس ـ أركان الحج والعمرة. المبحث السادس ـ واجبات الحج. المبحث السابع ـ سنن الحج والعمرة. المبحث الثامن ـ كيفية أداء الحج والعمرة. المبحث التاسع ـ كيفية التحلل من الحج. المبحث العاشر ـ محظورات الإحرام ومباحاته. المبحث الحادي عشر ـ جزاء الجنايات في الحج أو العمرة. المبحث الثاني عشر ـ الإحصار والفوات. المبحث الثالث عشر ـ الهدي. وأبدأ ببيانها على الترتيب المذكور. المبحث الأول ـ تعريف الحج والعمرة ومكانتهما في الإسلام وحكمتهما وحكمهما: أولاً ـ تعريف الحج والعمرة: الحج لغة: القصد مطلقاً، وعن الخليل قال: الحج: كثرة القصد إلى من تعظمه. وشرعاً: قصد الكعبة لأداء أفعال مخصوصة، أو هو زيارة مكان مخصوص
تاريخ مشروعيته
في زمن مخصوص بفعل مخصوص. والزيارة: هي الذهاب. والمكان المخصوص: الكعبة وعرفة. والزمن المخصوص: هو أشهر الحج: وهي شوال وذو القعدة وذو الحجة، والعشر الأوائل من ذي الحجة، ولكل فعل زمن خاص، فالطواف مثلاً عند الجمهور: من فجر النحر إلى آخر العمر، والوقوف بعرفة: من زوال الشمس يوم عرفة لطلوع فجر يوم النحر. والفعل المخصوص: أن يأتي مُُحْرماً بنية الحج إلى أماكن معينة (¬1). وتاريخ مشروعيته على الصحيح: أن الحج فرض في أواخر سنة تسع من الهجرة، وأن آية فرضه هي قوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت} [آل عمران:97/ 3] نزلت عام الوفود أواخر سنة تسع وهو رأي أكثر العلماء، وأنه صلّى الله عليه وسلم لم يؤخر الحج بعد فرضه عاماً واحداً، وإنما أخره عليه السلام للسنة العاشرة لعذر، وهو نزول الآية بعد فوات الوقت (¬2)، فكان حجه بعد الهجرة حجة واحدة سنة عشر، كما روى أحمد ومسلم. والعمرة لغة: الزيارة، وقيل: القصد إلى مكان عامر، وسميت بذلك؛ لأنها تفعل في العمر كله. وشرعاً: قصد الكعبة للنسك وهو الطواف والسعي (¬3). ولايغني عنها الحج وإن اشتمل عليها. ثانياً ـ مكانة الحج والعمرة في الإسلام وحكمتهما: الحج: هو الركن الخامس من أركان الإسلام، فرضه الله تعالى على المستطيع، والعمرة مثله، فهما أصلان عند الشافعية والحنابلة، لقوله تعالى: ¬
هل الحج أفضل من الجهاد؟
{وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة:196/ 2] وهي سنة عند المالكية والحنفية، كما سأبين، وقد اعتمر النبي صلّى الله عليه وسلم أربع عُمَر، كلهن في ذي القعْدة إلا التي مع حَجَّته (¬1): الأولى من الحديبية سنة ست من الهجرة، والثانية سنة سبع وهي عمرة القضاء، والثالثة سنة ثمان عام الفتح، والرابعة مع حجته سنة عشر، وكان إحرامها في ذي القعدة وأعمالها في ذي الحجة. قال القاضي حسين من الشافعية: الحج أفضل العبادات لاشتماله على المال والبدن، وقال الحليمي: الحج يجمع معاني العبادات كلها، فمن حج فكأنما صام وصلى واعتكف وزكى ورابط في سبيل الله وغزا، ولأنا دعينا إليه، ونحن في أصلاب الآباء كالإيمان الذي هو أفضل العبادات. والراجح عند الشافعية والحنابلة أن الصلاة أفضل منه (¬2)؛ لأن الصلاة عماد الدين. وهل الحج أفضل من الجهاد؟ اختلفت الأحاديث المشتملة على بيان فاضل الأعمال من مفضولها، فتارة تجعل الأفضل الجهاد، وتارة الإيمان، وتارة الصلاة، وتارة غير ذلك، من هذه الأحاديث: حديث الشيخين عن أبي هريرة قال: «سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله وبرسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: ثم الجهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: ثم حج مبرور»،ومنها حديث الجماعة إلا أبا داود عن أبي هريرة أيضاً: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» والمبرور: المقبول، ورجح النووي أنه الذي لا يخالطه شيء من الإثم. ¬
حكمة المشروعية
قال الشوكاني (¬1): وأحق ما قيل في الجمع بين الأحاديث: أن بيان الفضيلة يختلف باختلاف المخاطب، فإذا كان المخاطب ممن له تأثير في القتال، وقوة مقارعة الأبطال، قيل له: أفضل الأعمال: الجهاد، وإذا كان كثير المال، قيل له: أفضل الأعمال: الصدقة، ثم كذلك يكون الاختلاف على حسب اختلاف المخاطبين. وقال المالكية (¬2): الحج ولو تطوّعاً أفضل من الجهاد، إلا في حالة الخوف من العدو، فيفضل الجهاد على حج التطوع. حكمة المشروعية: يتحقق بالحج والعمرة فرض الكفاية وهو إحياء الكعبة كل سنة بالعبادة، وتمتاز العمرة عن الحج بإمكانها في كل أيام العام أو العمر، فهي أيسر من الحج الذي يتقيد بأيام معلومات. وللحج فوائد شخصية وجماعية، أما أهم فوائده الشخصية فهي ما يأتي: يكفِّر الحج الذنوب الصغائر ويطهر النفس من شوائب المعاصي، وقال بعض العلماء كبعض الحنفية: والكبائر أيضاً، بدليل الحديث السابق: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» فلا يقتصر لصاحبه من الجزاء على تكفير بعض ذنوبه، بل لا بد أن يدخل الجنة، ولقوله صلّى الله عليه وسلم أيضاً: «من حج، فلم يرفُث، ولم يفسُق، رجع من ذنوبه كيومَ ولدته أمُّه» (¬3) أي بغير ذنب. ¬
وقال عليه السلام: «الحجاج والعُمَّار وفد الله، إن دعوه أجابهم، وإن استغفروه غفر لهم» (¬1) وقال أيضاً: «يُغْفَر للحاج، ولمن استغفر له الحاج» (¬2). قال القاضي عياض: أجمع أهل السنة أن الكبائر لا يكفرها إلا التوبة، ولا قائل بسقوط الدين، ولو حقاً لله تعالى، كدين الصلاة والزكاة. فالحج يغفر الذنوب، ويزيل الخطايا إلا حقوق الآدميين، فإنها تتعلق بالذمة، حتى يجمع الله أصحاب الحقوق، ليأخذ كل حقه، ومن الجائز أن الله تعالى يتكرم، فيرضي صاحب الحق بما أعد له من النعيم وحسن الجزاء، فيسامح المدين تفضلاً وتكرماً، فلا بد من أداء حقوق الآدميين، أما حقوق الله فمبنية على تسامح الكريم الغفور الرحيم. والحج يطهر النفس، ويعيدها إلى الصفاء والإخلاص، مما يؤدي إلى تجديد الحياة، ورفع معنويات الإنسان، وتقوية الأمل وحسن الظن بالله تعالى. ويقوي الحج الإيمان، ويعين على تجديد العهد مع الله، ويساعد على التوبة الخالصة الصدوق، ويهذب النفس، ويرقق المشاعر ويهيج العواطف نحو بيت الله العتيق. ويذكر الحج المؤمن بماضي الإسلام التليد، وبجهاد النبي صلّى الله عليه وسلم والسلف الصالح الذين أناروا الدنيا بالعمل الصالح. والحج كغيره من الأسفار يعوِّد الإنسان على الصبر وتحمل المتاعب، ويعلم ¬
فوائد الحج الجماعية
الانضباط والتزام الأوامر، فيستعذب الألم في سبيل الله تعالى، ويدفع إلى التضحية والإيثار. وبالحج يؤدي العبد لربه شكر النعمة: نعمة المال، ونعمة العافية، ويغرس في النفس روح العبودية الكاملة، والخضوع الصادق الأكيد لشرع الله ودينه، قال الكاساني (¬1): في الحج إظهار العبودية وشكر النعمة، أما إظهار العبودية فهو إظهار التذلل للمعبود، وفي الحج ذلك؛ لأن الحاج في حال إحرامه يظهر الشعث ويرفض أسباب التزين والارتفاق، ويظهر بصورة عبد سخط عليه مولاه، فيتعرض بسوء حاله لعطف مولاه. وأما شكر النعمة: فلأن العبادات بعضها بدنية وبعضها مالية، والحج عبادة لا تقوم إلا بالبدن والمال، ولهذا لا يجب إلا عند وجود المال وصحة البدن، فكان فيه شكر النعمتين، وشكر النعمة ليس إلا استعمالها في طاعة المنعم، وشكر النعمة واجب عقلاً وشرعاً. وأما أهم فوائد الحج الجماعية: فهو أنه يؤدي بلا شك إلى تعارف أبناء الأمة على اختلاف ألوانهم ولغاتهم وأوطانهم، وإمكان تبادل المنافع الاقتصادية الحرة فيما بينهم، والمذاكرة في شؤون المسلمين العامة، وتعاونهم صفاً واحداً أمام أعدائهم، وغير ذلك مما يدخل في معنى قوله تعالى: {ليشهدوا منافع لهم} [الحج:28/ 22]. ويُشعر الحج بقوة الرابطة الأخوية مع المؤمنين في جميع أنحاء الأرض المعبر عنها في قوله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} [الحجرات:10/ 49] ويحس الناس أنهم حقاً متساوون، لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى. ¬
ثالثا ـ حكم الحج والعمرة
ويساعد الحج على نشر الدعوة الإسلامية ودعم نشاط الدعاة في أنحاء المعمورة، على النحو الذي بدأ به النبي نشر دعوته بلقاء وفود الحجيج كل عام. وأما الاعتماد على موسم الحج ليكون مؤتمراً شعبياً عاماً لمخاطبة المؤمنين، فهو غير مطلوب شرعاً؛ لأن المعول في السياسة الإسلامية على رأي أهل الخبرة والاختصاص والمشورة، فهم المرجع والمقصد، ولأن كثرة المسلمين الهائلة تمنع تحقيق الفائدة المرجوة، ولأن تخطيط السياسة ووضع المنهج الإسلامي منوط برأي الحكام المسلمين، ولم يعد بيد أحد من الأفراد العاديين شيء من النفوذ أو السلطة لتحقيق شيء يذكر. ثالثاً ـ حكم الحج والعمرة: اتفق العلماء على فرضية الحج مرة في العمر، بدليل الكتاب والسنة. أما الكتاب: فقول الله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً، ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} [آل عمران:97/ 3] روي عن ابن عباس: «ومن كفر باعتقاده أنه غير واجب» وقال تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة:196/ 2] وقال سبحانه: {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً، وعلى كل ضامر، يأتين من كل فج عميق، ليشهدوا منافع لهم، ويذكروا اسم الله في أيام معلومات} [الحج:27/ 22 - 28]. وأما السنة: فقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقامِ الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان» (¬1). ¬
كون فريضة الحج مرة
كون فريضة الحج مرة: الدليل على فرضية الحج مرة واحدة في العمر بأصل الشرع: هو حديث أبي هريرة، قال: «خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: يا أيها الناس، قد فرض الله عليكم الحج فحجُّوا، فقال رجل: أكلَّ عام يا رسول الله؟ فسكت، حتى قالها ثلاثاً، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: لو قلت: نعم، لوجَبَت ولما استطعتم» (¬1) وحديث ابن عباس بمعناه، وفيه تعيين الرجل وهو الأقرع بن حابس، وفيه أيضاً «من زاد فهو تطوع» (¬2)، ويؤكده أن الأمر لا يقتضي التكرار، فلا يكون الأمر القرآني مفيداً تكرار الحج. وأما حديث البيهقي وابن حبان الآمر بالحج في كل خمسة أعوام فمحمول على الندب، ونصه عن الخدري: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: يقول الله عز وجل: إن عبداً صحّحت له جسمه، ووسَّعت عليه في المعيشة، تمضي عليه خمسة أعوام، لا يَفِد إلي لمحروم» أي من جمع له الصحة والقوة واليسار مندوب له الحج كل خمس سنين، وإلا كان محروماً من الأجر ومطروداً من رضوان الله تعالى. وأجمع العلماء على أن الحج لا يجب إلا مرة (¬3)، والزائد عن ذلك تطوع، قال صلّى الله عليه وسلم: «تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خَبَث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة» (¬4). وقد يجب الحج أكثر من مرة لعارض: كنذر بأن يقول: لله علي حجة؛ لأن النذر من أسباب الوجوب في العبادات والقرب المقصودة، وكذلك يجب في حالة القضاء عند إفساد التطوع. ¬
نوع الفرضية
وقد يحرم الحج كالحج بمال حرام، وقد يكره كالحج بلا إذن ممن يجب استئذانه (¬1)، كأحد أبويه المحتاج إلى خدمته، والأجداد والجدات كالأبوين عند فقدهما، وكالدائن الغريم لمدين لا مال له يقضي به، وكالكفيل لصالح الدائن، فيكره خروجه بلا إذنهم أي الأب والدائن. والكراهة عند الحنفية تحريمية. وذكر المالكية والشافعية والحنفية أنه مع عصيان الحاج بمال حرام، فإنه يصح الحج فرضاً أو نفلاً بالمال الحرام كالصلاة في الأرض المغصوبة، ويسقط عنه الفرض والنفل، إذ لا منافاة بين الصحة والعصيان. وخالف الحنابلة فلم يجيزوا الحج بالمال الحرام، إذ لا تصح عندهم الصلاة في الأرض المغصوبة. نوع الفرضية: النُسُك إما فرض عين، وهو على من لم يحج بالشروط الآتية، وإما فرض كفاية: وهو إحياء الكعبة كل سنة بالحج والعمرة، وإما تطوع محض، ولا يتصور إلا في الأرقاء والصبيان، وإما مندوب كل خمس سنوات. تكرار العمرة: لا بأس عند الشافعية والحنابلة والحنفية أن يعتمر في السنة مراراً (¬2)؛ لأن عائشة اعتمرت في شهر مرتين بأمر النبي صلّى الله عليه وسلم عمرة مع قرانها، وعمرة بعد حجها، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال فيما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما». وكره المالكية تكرار العمرة في السنة، وقال النخعي: ما كانوا يعتمرون في السنة إلا مرة، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يفعله. ¬
هل وجوب الحج على الفور أو على التراخي؟
هل وجوب الحج على الفور أو على التراخي؟ للعلماء في ذلك اتجاهان: قال أبو حنيفة وأبو يوسف والمالكية في أرجح القولين والحنابلة (¬1): يجب الحج بعد توافر الاستطاعة وبقية الشروط الآتية على الفور في العام الأول، أي في أول أوقات الإمكان، فيفسق وترد شهادته بتأخيره سنيناً؛ لأن تأخيره معصية صغيرة، وبارتكابه مرة لا يفسق إلا بالإصرار، لأن الفورية ظنية، بسبب كون دليلها ظنياً كما قال الحنفية، ويدل عليه أنه لو تراخى كان أداء، وإن أثم بموته قبله، وقالوا: لو لم يحج حتى أتلف ماله، وسعه أن يستقرض ويحج، ولو غير قادر على وفائه، ويرجى ألا يؤاخذه الله بذلك إذا كان ناوياً الوفاء لو قدر. وذكر الحنابلة أن من فرط فيه حتى توفي أخرج عنه من جميع ماله حجة وعمرة. واستدلوا بقوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً} [آل عمران:97/ 3] وقوله: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة:196/ 2] والأمر على الفور عندهم. واستدلوا أيضاً بأحاديث منها: «حجوا قبل أن لا تحجوا» (¬2) وحديث «تعجَّلوا إلى الحج يعني الفريضة، فإن أحدكم لا يدري ما يعرِض له» (¬3) وحديث «من لم يحبسه مرض أو حاجة ظاهرة أو مشقة ظاهرة أو سلطان جائر، فلم يحج، فليمت ¬
إن شاء يهودياً، وإن شاء نصرانياً» (¬1) ورواية الترمذي: «من ملك زاداً وراحلة تبلغه إلى بيت الله، ولم يحج فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً، وذلك لأن الله تعالى قال في كتابه: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} (¬2) [آل عمران:97/ 3] وهي مع غيرها تدل على وجوب الحج على الفور، فإنه ألحق الوعيد بمن أخر الحج عن أول أوقات الإمكان؛ لأنه قال: «من ملك .. فلم يحج» والفاء للتعقيب بلا فصل، أي لم يحج عقب ملك الزاد والراحلة، بلا فاصل. وقال الشافعية (¬3) ومحمد من الحنفية: وجوب الحج على التراخي، وليس معناه تعين التأخير، بل بمعنى عدم لزوم الفور، ويسن لمن وجب عليه الحج أوالعمرة بنفسه أو بغيره ألا يؤخر ذلك عن سنة الإمكان، مبادرة إلى براءة ذمته، ومسارعة إلى الطاعات، لقوله تعالى: {فاستبقوا الخيرات} [البقرة:148/ 2] ولأنه إذا أخره عرّضه للفوات ولحوادث الزمان. ويجوز أن يؤخره من سنة إلى سنة؛ لأن فريضة الحج نزلت على المشهور عندهم سنة ست، فأخر النبي صلّى الله عليه وسلم إلى سنة عشر من غير عذر، فلو لم يجز التأخير لما أخره. وهذا الرأي أولى ليسره على الناس وعدم الحكم بالتأثيم، ولأن الأحاديث التي احتج بها الجمهور كلها ضعيفة، والحج فرض سنة ست عند نزول سورة آل عمران، كما حقق الشافعية، ومن قال: إنه فرض سنة عشر فقد أخطأ؛ لأن السورة نزلت قبلها قطعاً، لكن تعجيل الحج ضروري للاحتياط. ¬
حكم العمرة
حكم العمرة: قال الحنفية على المذهب والمالكية على أرجح القولين (¬1): العمرة سنة (مؤكدة) مرة واحدة في العمر؛ لأن الأحاديث المشهورة الثابتة الواردة في تعداد فرائض الإسلام لم يذكر منها العمرة، مثل حديث ابن عمر: «بني الإسلام على خمس» فإنه ذكر الحج مفرداً، وروى جابر أن أعرابياً جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: «يا رسول الله، أخبرني عن العمرة، أواجبة هي؟ فقال: لا، وأن تعتمر خير لك» (¬2) وفي رواية «أولى لك». وروى أبو هريرة: «الحج جهاد والعمرة تطوع» (¬3). وقال الشافعية في الأظهر، والحنابلة (¬4): العمرة فرض كالحج، لقوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة:196/ 2] أي ائتوا بهما تامين ومقتضى الأمر الوجوب، ولخبر عائشة رضي الله عنها قالت: «قلت: يا رسول الله، هل على النساء جهاد؟ قال: نعم، جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة» (¬5). ويظهر لي أن الرأي الثاني أصح، لدلالة هذه الآية، ولضعف أحاديث الفريق الأول. ¬
المبحث الثاني ـ شروط الحج والعمرة وموانعهما
وذكر الحنابلة عن أحمد: أنه ليس على أهل مكة عمرة، بدليل أن ابن عباس كان يرى العمرة واجبة، ويقول: يا أهل مكة، ليس عليكم عمرة، إنما عمرتكم طوافكم بالبيت. وروي أيضاً عن عطاء، لأن ركن العمرة ومعظمها بالطواف بالبيت، وهم يفعلونه، فأجزأ عنهم. المبحث الثاني ـ شروط الحج والعمرة وموانعهما: وفيه مطلبان: المطلب الأول ـ شروط الحج والعمرة: الشروط: إما عامة للرجال والنساء، أو خاصة بالنساء، وهي إن توفرت وجب الحج وأداؤه، وإلا فلا. أما الشروط العامة: فمنها ما هو شرط وجوب وصحة أو أداء: وهو الإسلام والعقل، ومنها ما هو شرط للوجوب والإجزاء وليس بشرط للصحة: وهو البلوغ والحرية، ومنها ما هو شرط للوجوب فقط: وهو الاستطاعة. وهذه الشروط هي ما يأتي (¬1): 1 - الإسلام: فلا يجب الحج على الكافر وجوب مطالبة به في الدنيا حال كفره، ولا يصح منه، لعدم أهليته لأداء العبادة، فلو حج الكافر، ثم أسلم يجب ¬
2 - التكليف أي البلوغ والعقل
عليه حجة الإسلام، ولا يعتد بما حج في حال الكفر. وكذا لا يجب عند الحنفية على الكافر في حق أحكام الآخرة، فلا يؤاخذ بالترك، لعدم خطاب الكافر بفروع الشريعة، ويؤاخذ عند الجمهور، لأنه مخاطب بالفروع. ويرى المالكية أن الإسلام شرط صحة لا وجوب، فيجب الحج على الكافر ولا يصح منه إلا بالإسلام. والشافعية أوجبوا الحج على المرتد ولا يصح منه إلا إذا أسلم، أما الكافر الأصلي فلا يجب عليه. 2 - التكليف أي البلوغ والعقل: فلا يجب على الصغير والمجنون؛ لأنهما غير مطالبين بالأحكام الشرعية، فلا يلزمهما الحج، ولا يصح الحج أو العمرة أيضاً من المجنون؛ لأنه ليس أهلاً للعبادة، ولو حجّا ثم بلغ الصغير، وأفاق المجنون، فعليهما حجة الإسلام، وما فعله الصبي قبل البلوغ يكون تطوعاً. قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يشب، وعن المعتوه حتى يعقل» (¬1)، وقال أيضاً: «أيُّما صبي حج به أهله، فمات أجزأت عنه، فإن أدرك فعليه الحج، وأيما رجل مملوك حج به أهله، فمات، أجزأت عنه، فإن أُعتق فعليه الحج» (¬2). ولا يبطل الإحرام بالجنون والإغماء والموت والسكر والنوم كالصوم. ولو حج الصبي، صح حجه، ولم يجزئه عن حجة الإسلام. ولو حج المجنون والصبي الذي لا يعقل (غير المميز) لم يصح أداؤه منهما، لأن أداءه يتوقف على العقل. ¬
إحجاج الصغير والمجنون
إحجاج الصغير والمجنون: أـ قال الشافعية والمالكية والحنابلة (¬1): للولي من أب أو جد مثلاً حلالاً كان أو محرماً، حج عن نفسه أم لا، أن يحرم عن الصغير المميز أو عن غير المميز، أو عن المجنون، فينوي الولي بقلبه جعل كل منهما محرماً، أو يقول: أحرمت عنه، ولا يشترط حضورهما ولا مواجهتهما بالإحرام، ولا يصير الولي بذلك محرماً. ولا يجوز الإحرام عن المغمى عليه والمريض. والدليل على جواز الإحرام عن الصغير والمجنون: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم لقي رَكْباً بالرَّوْحاء، فقال: من القوم؟ قالوا: المسلمون، فقالوا: من أنت؟ فقال: رسول الله، فرَفَعت إليه امرأة صبياً، فسألت: ألهذا حج؟ قال: نعم، ولكِ أجر» (¬2). إذن الولي: لا يجوز للصبي المميز أن يحرم إلا بإذن وليه وهو الأب، أو الجد عند عدم الأب، والوصي والقيم كالأب على الصحيح عند الشافعية، ولا يتولاه الأخ والعم والأم على الأصح عندهم إذا لم يكن له إيصاء ولا ولاية من الحاكم. وللولي أن يأذن لمن يحرم عن الصبي. وحيث صار الصبي غير المميز أو المجنون محرماً فعل الولي ما لا يتأتى منه، ولا يكفي فيه فعل الولي فقط، بل لابد من استصحابه معه، فيطوف به ويسعى، ¬
ولكن يركع عنه ركعتي الإحرام والطواف، وإن أركبه الولي في الطواف والسعي، فليكن سائقاً أو قائداً للدابة، فإن لم يفعل لم يصح طوافه. ويجب على الصغير طهارة الخبث وستر العورة في الطواف، ولا يشترط طهارة الحدث (الوضوء). ويحضر الولي الصغير والمجنون المواقف، وجوباً في الواجبة، وندباً في المندوبة، فإن قدر الصغير ونحوه على الرمي رمى وجوباً، وإن عجز عن تناول الأحجار، ناولها له وليه. وإن عجز عن الرمي، استحب للولي أن يضع الحجر في يده، ثم يرمي به بعد رميه عن نفسه، فإن لم يكن رمى عن نفسه، وقع الرمي عن نفسه، وإن نوى به الصبي. والخلاصة: إن كل ما أمكن الصبي فعله بنفسه، لزمه فعله، ولا ينوب غيره عنه، كالوقوف والمبيت بمزدلفة ونحوهما، وما عجز عنه، عمله الولي عنه. ولو فرَّط المميز في شيء من أعمال الحج، كان وجوب الدم في مال الولي، ويجب عليه منعه من محظورات الإحرام. أما غير المميز فلا فدية في ارتكابه محظوراً على أحد. والنفقة الزائدة بسبب السفر في مال الولي في الأصح؛ لأنه المورط له في ذلك. وإذا جامع الصبي في حجه، فسد وقضى ولو في حال الصبا، كالبالغ المتطوع بجامع صحة إحرام كل منهما، فيعتبر فيه لفساد حجه ما يعتبر في البالغ، من كونه عامداً عالماً بالتحريم، مختاراً مجامعاً قبل التحللين. ويكتب للصبي ثواب ما عمل من الطاعات، ولا يكتب عليه معصية بالإجماع.
3 - الحرية
ب ـ وقال أبو حنيفة في المشهور عنه: لا يصح حج الصبي، للحديث السابق: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ .. » الخ وقياساً على النذر، فإنه لا يصح منه، ولأنه لا يجب عليه، ولا يصح منه، ولأنه لو صح منه لوجب عليه قضاؤه إذا أفسده، ولأنه عبادة بدنية، فلا يصح عقدها من الولي للصبي كالصلاة. 3 - الحرية: فلا يجب الحج على العبد؛ لأنه عبادة تطول مدتها، وتتعلق بقطع مسافة، وتشترط لها الاستطاعة بالزاد والراحلة، ويضيع حقوق سيده المتعلقة به، فلم يجب عليه كالجهاد. حكم الحج حال الصبا والرق: وبناء على هذا الشرط وما قبله (¬1): من حج وهو غير بالغ، فبلغ، أو كان عبداً فعتق، بعد انتهاء وقت عرفة، فعليه الحج كما تقدم، للحديث السابق: «أيما صبي حج به أهله ... فإن أدرك فعليه الحج، وأيما مملوك حج به أهله ... فإن أعتق فعليه الحج». وإن بلغ الصبي، أو عتق العبد قبل الوقوف بعرفة، فأحرما ووقفا بعرفة، وأتما المناسك، أجزأهما عن حجة الإسلام، بلا خلاف؛ لأنه لم يفتهما شيء من أركان الحج، ولا فعلا شيئاً منها قبل وجوبه. وإن حدث البلوغ قبل الوقوف بعرفات أو في حال الوقوف، وهما محرمان، أجزأهما الحج عند الشافعية والحنابلة أيضاً عن حجة الإسلام؛ لأن الواحد منهما أدرك الوقوف حراً بالغاً، فأجزأه، كما لو أحرم تلك الساعة. ولم يجزئهما عند المالكية والحنفية؛ لأنه يشترط لأداء الحج أن يكون المحرم ¬
الإذن للصبي وللعبد وللزوجة
وقت الإحرام حراً مكلفاً (أي بالغاً عاقلاً)، وإحرامهما انعقد لأداء النفل، فلا ينقلب لأداء الفرض. لكن قال الحنفية: لو جدد الصبي الإحرام قبل الوقوف بأن لبى أو نوى حجة الإسلام وأتم أعمال الحج من وقوف وطواف زيارة وسعي وغيرها، جاز، أما العبد لو فعل ذلك فلم يجز؛ لأن إحرام الصبي وقع صحيحاً غير لازم، لعدم الأهلية، فكان محتملاً للانتقاض، فإذا جدد الإحرام بحجة الإسلام، انتقض. وأما إحرام العبد فإنه وقع لازماً، لكونه أهلاً للخطاب، فانعقد إحرامه تطوعاً، فلا يصح إحرامه الثاني إلا بفسخ الأول، وإنه لايحتمل الانفساخ. وبه يختلف إحرامهما عن الكافر والمجنون، فإنه لا ينعقد إحرامهما أصلاً لعدم الأهلية. الإذن للصبي وللعبد وللزوجة: ليس للصبي المميز الإحرام بالحج إلا بإذن وليه ولا يصح إحرامه بغير إذنه؛ لأنه يؤدي إلى لزوم ما لم يلزم، فلم ينعقد عند غير الحنفية بنفسه كالبيع. وليس للعبد أن يحرم بغير إذن سيده بلا خلاف، لأنه يفوت به حقوق سيده الواجبة عليه بالتزام ما ليس بواجب، فإن فعل انعقد إحرامه صحيحاً؛ لأنها عبادة بدنية، فصح من العبد الدخول فيها بغير إذن سيده، كالصلاة والصوم، ولسيده تحليله في الأصح عند الشافعية والحنابلة (¬1)؛ لأن في بقائه عليه تفويتاً لحقه من منافعه بغير إذنه، فلم يلزم ذلك سيده كالصوم المضر ببدنه، ويكون حينئذ كالمحصر. وليس للزوجة الإحرام نفلاً (تطوعاً) إلا بإذن زوج، لتفويت حقه، وللزوج ¬
4 - الاستطاعة البدنية والمالية والأمنية الموجبة للحج
إن أحرمت زوجته بغير إذنه تحليلها منه؛ لأن حقه لازم، فملك إخراجها من الإحرام كالاعتكاف، وتكون كالمحصر؛ لأنها في معناه. وليس للوالدين منع ولدهما من حج الفرض والنذر، ولا تحليله منه، ولا يجوز للولد طاعتهما فيه، أي في ترك الحج الواجب أو التحليل، وكذا في كل ما وجب، كصلاة الجماعة، والجُمَع، والسفر للعلم الواجب؛ لأنها فرض، فلم يعتبر إذن الأبوين فيها، كالصلاة. 4 - الاستطاعة البدنية والمالية والأمنية الموجبة للحج: وهي القدرة على الوصول إلى مكة، لقوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً} [آل عمران:97/ 3]، لكن للفقهاء بعض الاختلافات في حدود ووجوه الاستطاعة. قال الحنفية (¬1): الاستطاعة أنواع ثلاثة: بدنية ومالية وأمنية، أما الاستطاعة البدنية: فهي صحة البدن، فلا حج على المريض والزَّمِن والمُقْعَد والمفلوج والأعمى وإن وجد قائداً، والشيخ الكبير الذي لا يثبت على الراحلة بنفسه، والمحبوس، والممنوع من قبل السلطان الجائر عن الخروج إلى الحج؛ لأن الله تعالى شرط الاستطاعة لوجوب الحج، والمراد منها استطاعة التكليف: وهي سلامة الأسباب ووسائل الوصول. ومن جملة الأسباب: سلامة البدن عن الآفات المانعة من القيام بما لا بد منه في سفر الحج، فسر ابن عباس {من استطاع إليه سبيلاً} [آل عمران:97/ 3] أن السبيل أن يصح بدن العبد، ويكون له ثمن زاد وراحلة، من غير أن يحجب. ¬
وأما الاستطاعة المالية: فهي ملك الزاد والراحلة، بأن يقدر على الزاد ذهاباً وإياباً، وعلى الراحلة ـ وسيلة الركوب، زائداً ذلك عن حاجة مسكنه وما لا بد منه كالثياب وأثاث المنزل والخادم ونحو ذلك؛ لأنها مشغولة بالحاجة الأصلية، وزائداً أيضاً عن نفقة عياله الذين تلزمه نفقاتهم إلى حين عودته. ويشترط في القدرة على الراحلة شروط: أـ أن تكون مختصة به، فلا يكفي القدرة على راحلة مشتركة يركبها مع غيره على التعاقب. والقدرة اليوم بالاشتراك في السيارات أو البواخر أو الطائرات. ب ـ أن تكون بحسب أحوال الناس: فمن لا يستطيع الركوب على القتَب (وهو الرَّحْل أو الإكاف الصغير حول سنام البعير) ولم يجد شيئاً آخر كالهودج أو المحمل، لايجب عليه الحج. جـ ـ أن تطلب بالنسبة للآفاقي: وهو من كان بعيداً عن مكة بثلاثة أيام فأكثر. أما المكي أو القريب من مكة (وهو من كان بينه وبين مكة أقل من ثلاثة أيام)، فيجب عليه الحج متى قدر على المشي. وأما الاستطاعة الأمنية: فهي أن يكون الطريق آمناً بغلبة السلامة ولو بالرشوة؛ لأن استطاعة الحج لا تثبت بدونه، وهو شرط وجوب، في المروي عن أبي حنيفة. وقال بعضهم: إنه شرط أداء. وأمن المرأة: أن يكون معها أيضاً مَحْرم بالغ عاقل أو مراهق مأمون غير فاسق، برحم أو صِهْريّة، أو زوج، يحج بها على نفقتها، ويكره تحريماً أن تحج المرأة بغير المحرم أو الزوج، إذا كان بينها وبين مكة مدة سفر: وهي مسيرة ثلاثة أيام ولياليها فصاعداً، فلو حجت بلا محرم جاز مع الكراهة، والأصح أنه لا يجب
قال المالكية
عليها التزوج عند فقد المحرم، ووجود المحرم شرط وجوب، وقيل: شرط أداء. لكن لاتسافر المرأة مع أخيها رضاعاً في زماننا لغلبة الفساد، لكراهة الخلوة بها كالصهرة (الحماية) الشابة. والذي اختاره الكمال بن الهمام في الفتح أن وجود المحرم مع توافر الصحة وأمن الطريق شروط وجوب الأداء، فيجب الإيصاء إن منع المرض أو خوف الطريق، أو لم يوجد زوج ولا محرم. ثم إن شرط وجوب الحج من الزاد والراحلة وغير ذلك يعتبر وجودها وقت خروج أهل بلده، فإن جاء وقت الخروج والمال في يده، فليس له أن يصرفه في غيره. وقال المالكية (¬1): الاستطاعة: هي إمكان الوصول إلى مكة بحسب العادة، إما ماشياً أو راكباً، أي الاستطاعة ذهاباً فقط، ولا تعتبر الاستطاعة في الإياب إلا إذا لم يمكنه الإقامة بمكة أو في أقرب بلد يمكنه أن يعيش فيه، ولا يلزم رجوعه لخصوص بلده. وتكون الاستطاعة بثلاثة أشياء، وهي: أـ قوة البدن: أي إمكان الوصول لمكة إمكاناً عادياً بمشي أو ركوب، ببرّ أو بحر، بلا مشقة فادحة، أي عظيمة خارجة عن العادة، أما المشقة المعتادة فلا بد منها، إذ السفر قطعة من العذاب. والاستطاعة بالقدرة على المشي مما تفرد به المالكية. حتى إن الأعمى القادر على المشي يجب عليه الحج إذا وجد قائداً يقوده. ويكره للمرأة الحج بمشي بعيد. ¬
ب ـ ووجود الزاد المبلِّغ بحسب أحوال الناس وبحسب عوائدهم، ويقوم مقام الزاد الصنعة إذا كانت لا تزري بصاحبها وتكفي حاجته. ويدل ذلك على أن المالكية لم يشترطوا وجود الزاد والراحلة بالذات، فالمشي يغني عن الراحلة لمن قدر عليه، والصنعة التي تدر ربحاً كافياً تغني عن اصطحاب الزاد أو النفقة عليه. وتتحقق الاستطاعة بالقدرة على الوصول إلى مكة، ولو بثمن شيء يباع على المفلس من ماشية وعقار وكتب علم وآلة صانع ونحوها، أو حتى ولو صار فقيراً بعد حجه، أو ولو ترك أولاده ومن تلزمه نفقته للصدقة عليهم من الناس إن لم يخش عليهم هلاكاً أو أذىً شديداً، بأن كان الشأن عدم الصدقة عليهم أو عدم من يحفظهم. ولا يجب الحج بالاستدانة ولو من ولده إذا لم يرج وفاء، وبالعطية من هبة أو صدقة بغير سؤال، ولا بالسؤال مطلقاً أي سواء أكانت عادته السؤال أم لا، لكن الراجح أن من عادته السؤال بالحضر، وعلم أو ظن الإعطاء في السفر ما يكفيه، يجب عليه الحج، أي أن معتاد السؤال في بلده يجب عليه الحج بشرط ظن الإعطاء، وإلا فلا يجب عليه. جـ ـ توافر السبيل: وهي الطريق المسلوكة بالبر أو بالبحر متى كانت السلامة فيه غالبة، فإن لم تغلب فلا يجب الحج إذا تعين البحر طريقاً. ويكره للمرأة الحج في ركوب بحر إلا أن تختص بمكان في السفينة. وهذا يتطلب كون الطريق آمناً على النفس والمال من غاصب وسارق وقاطع طريق: إذا كان المال ذا شأن بالنسبة للمأخوذ منه، فقد يكون الدينار ذا بال بالنسبة لشخص، ولا شأن له بالنسبة لآخر.
قال الشافعية
ويزاد في حق المرأة: أن يكون معها زوج أو محرم بنسب أو رضاع أو صهرية (¬1) من محارمها، أو رفقة مأمونة عند عدم الزوج أو المحرم في حج الفرض ومنه النذر والحنث، سواء أكانت الرفقة نساء فقط، أم مجموعاً من الرجال والنساء. وإذا كانت المرأة معتدة من طلاق أو وفاة وجب عليها البقاء في بيت العدة، فلو فعلت صح حجها مع الإثم. وقال الشافعية (¬2): للاستطاعة المباشرة بالنفس بحج أو عمرة لمن كان بعيداً عن مكة مسافة القصر (89 كم) شروط سبعة تشمل أنواع الاستطاعة الثلاثة السابقة: الأول ـ القدرة البدنية: بأن يكون صحيح الجسد، قادراً أن يثبت على الراحلة بلا ضرر شديد أو مشقة شديدة، وإلا فهو ليس بمستطع بنفسه. وعلى الأعمى الحج والعمرة إن وجد قائداً يقوده ويهديه عند نزوله، ويركبه عند ركوبه. والمحجور عليه بسفه يجب عليه الحج كغيره، لكن لا يدفع المال إليه لئلا يبذره، بل يخرج معه الولي بنفسه إن شاء لينفق عليه في الطريق بالمعروف، أو يرسل معه شخصاً ثقة ينوب عن الولي، ولو بأجرة مثله، إن لم يجد متبرعاً كافياً، لينفق عليه بالمعروف. الثاني ـ القدرة المالية: بوجود الزاد وأوعيته، ومؤنة (كلفة) ذهابه لمكة وإيابه (أي رجوعه منها إلى بلده، وإن لم يكن له فيها أهل وعشيرة). فإن كان يكتسب كل يوم ما يفي بزاده، وسفره طويل (مرحلتان فأكثر أي 98 كم)، لم يكلف الحج، حتى ولو كسب في يوم كفاية أيام؛ لأنه قد ينقطع عن ¬
الكسب لعارض، وإذا قدر عدم الانقطاع، فالجمع بين تعب السفر والكسب، فيه مشقة عظيمة. وذلك خلافاً لمذهب المالكية السابق في الاكتفاء بالصنعة أثناء السفر. أما إن كان السفر قصيراً، كأن كان بمكة، أو على دون مرحلتين منها، وهو يكتسب في يوم كفايةأيام، كُلِّف الحج، لقلة المشقة حينئذ. الثالث ـ وجود الراحلة (وسيلة الركوب) الصالحة لمثله بشراء بثمن المثل، أو استئجار بأجرة المثل، لمن كان بينه وبين مكة مرحلتان فأكثر، قدر على المشي أم لا، خلافاً للمالكية، ولكن يستحب للقادر على المشي الحج خروجاً من خلاف من أوجبه. وهذا الشرط من القدرة المالية أيضاً. ومن كان بينه ومن مكة دون مرحلتين، وهو قوي على المشي، يلزمه الحج، فإن ضعف عن المشي، بأن عجز أو لحقه ضرر ظاهر، فهو كالبعيد، فيشترط في حقه وجود الراحلة. ويشترط كون الزاد والراحلة فاضلين عن دينه الحال أو المؤجل، لآدمي أم لله تعالى كنذر وكفارة، وعن مؤنة (¬1) أي نفقة من تلزمه نفقته مدة ذهابه وإيابه، لئلا يضيعوا، وقد قال صلّى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت» (¬2). والأصح كون الزاد والراحلة فاضلين أيضاً عن مسكنه اللائق به وعن خادمه المحتاج إليه لمنصب أو عجز، لاحتياجه لهما في الحال. والأصح أنه يلزم المرء صرف مال تجارته إلى الزاد والراحلة وتوابعهما. ويلزم من له مستغلات (أماكن أو دور للاستثمار) يحصل منها نفقته أن يبيعها ويصرفها لما ذكرفي الأصح، كما يلزمه صرفها لوفاء دينه. ¬
الرابع ـ وجود الماء والزاد وعلف الدابة في المواضع المعتاد حمله منها، بثمن المثل: وهو القدر المناسب به في ذلك الزمان والمكان، وإن غلت الأسعار. فإن لم يوجدوا، أو وجد أحدهم، أو وجد بأكثر من ثمن المثل، لم يلزمه النسك (الحج والعمرة). وهذا شرط أيضاً في القدرة المالية. الخامس ـ الاستطاعة الأمنية: أمن الطريق ولو ظناً على نفسه وماله في كل مكان بحسب ما يليق به، والمراد هو الأمن العام، فلو خاف على نفسه أو زوجه أو ماله سبعاً أو عدواً أو رَصديّاً (وهو من يرصد أي يرقب من يمر ليأخذ منه شيئاً)، ولا طريق له سواه، لم يجب الحج عليه، لحصول الضر. وإذا تحقق الأمن بالخفارة أو الحراسة في غالب الظن، وجب استئجار الحارس على الأصح، إن كان قادراً على أجر المثل. السادس ـ أن يكون مع المرأة زوج، أو مَحْرم بنسب أو غيره، أو نسوة ثقات؛ لأن سفرها وحدها حرام، وإن كانت في قافلة أو مع جماعة، لخوف استمالتها وخديعتها، ولخبر الصحيحين: «لا تسافر المرأة يومين إلا ومعها زوجها أو ذو محرم» ولا يشترط كون الزوجة والمحرم ثقة؛ لأن الوازع الطبيعي أقوى من الشرعي. وأما النسوة فيشترط فيهن الثقة لعدم الأمن، والبلوغ، لخطر السفر، ويكتفى بالمراهقات في رأي المتأخرين، وأن يكنَّ ثلاثاً غير المرأة؛ لأنه أقل الجمع، ولا يجب الخروج مع امرأة واحدة. وهذا كله شرط للوجوب. أما الجواز فيجوز للمرأة أن تخرج لأداء حجة الإسلام (الفرض) مع المرأة الثقة على الصحيح. والأصح أنه لا يشترط وجود محرم لإحداهن، والأصح أنه يلزم المرأة أجرة المحرم إذا لم يخرج إلا بها.
قال الحنابلة
أما حج التطوع وغيره من الأسفار التي لا تجب، فليس للمرأة أن تخرج إليه مع امرأة، بل ولا مع النسوة الخلص، لكن لو تطوعت بحج، ومعها محرم، فمات، فلها إتمامه، ولها الهجرة من بلاد الكفر وحدها. السابع ـ إمكان المسير: وهو أن يبقى من وقت الحج بعد القدرة بأنواعها ما يكفي لأدائه. وتعتبر الاستطاعة عند دخول وقته وهو شوال إلى عشر ذي الحجة، فلا يجب الحج إذا عجز في ذلك الوقت. وقال الحنابلة (¬1): الاستطاعة المشترطة: هي القدرة على الزاد والراحلة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم فسر الاستطاعة بالزاد والراحلة، فوجب الرجوع إلى تفسيره: «سئل النبي صلّى الله عليه وسلم ما السبيل؟ قال: الزاد والراحلة» (¬2) روى ابن عمر: «جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، مايوجب الحج؟ قال: الزاد والراحلة» (¬3). واتفق الشافعية في الأصح والحنابلة على أنه لا يلزم الحج إذا بذل المال ولد أو أجنبي، ولا يجب قبوله، لما في قبول المال من المنة. ورأى الحنابلة كالشافعية أن من تكلف الحج ممن لا يلزمه، وأمكنه ذلك من غير ضرر يلحق بغيره، مثل أن يمشي ويكتسب بصناعة ونحوها، ولايسأل الناس، استحب له الحج، لقوله تعالى: {يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر} [الحج:27/ 22] فقدم الرجال أي المشاة، ولأن في ذلك مبالغة في طاعة الله عز وجل، وخروجاً من الخلاف. ويكره الحج لمن حرفته السؤال. والزاد المشروطة عند الحنابلة كالشافعية: وهو ما يحتاج إليه في ذهابه ¬
ورجوعه، من مأكول ومشروب وكسوة، ويلزمه شراؤه بثمن المثل، أو بزيادة يسيرة لا تجحف بماله. ويلزمه حمل الزاد والماء وعلف البهائم إن لم يجده في طريقه، فإن وجده في المنازل المعتادة، لم يلزمه حمله؛ لأن هذا يشق عليه ولم تجر العادة به. ويشترط أيضاً القدرة على وعاء الزاد والماء؛ لأنه لا بد منه. ويعتبر الزاد مع قرب المسافة وبعدها إن احتاج إليه؛ لأنه لا بد منه، فإن لم يحتج إليه لم يعتبر. وأما الراحلة أو المركوب: فيشترط أن تكون صالحة لمثله، إما بشراء أو بكراء لذهابه ورجوعه، وأن يجد ما يحتاج إليه من آلتها التي تصلح لمثله. ويطلب وجود الراحلة مع بعد المسافة فقط عن مكة، ولو قدر على المشي، لأن الاستطاعة هي الزاد والراحلة، وبعد المسافة: ما تقصر فيه الصلاة، أي مسيرة يومين معتدلين، ولا تعتبر الراحلة فيما دون مسافة القصر، من مكي وغيره بينه وبين مكة دون المسافة، ويلزمه المشي للقدرة على المشي فيها غالباً، ولأن مشقتها يسيرة، ولا يخشى فيها المشي للقدرة على المشي فيها غالباً، ولا يخشى فيها عطب إذا حدث انقطاع بها، إلا مع عجز لكبر ونحوه كمرض، فتعتبر الراحلة، حتى فيما دون المسافة للحاجة إليها إذن. ولا يلزمه السير حبواً وإن أمكنه لمزيد مشقته. ويشترط أن يكون الزاد والراحلة فاضلاً عما يحتاج إليه لنفقة عياله الذين تلزمه مؤونتهم في مضيه ورجوعه، دون ما بعد رجوعه؛ لأن النفقة متعلقة بحقوق الآدميين، وهم أحوج، وحقهم آكد، وقد قال صلّى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت» (¬1). ¬
وأن يكون ذلك فاضلاً عما يحتاج هو وأهله إليه من مسكن وخادم وما لابد منه، وأن يكون فاضلاً عن قضاء دينه؛ لأن قضاء الدين من حوائجه الأصلية، ويتعلق به حقوق الآدميين، فهو آكد. وإن احتاج إلى الزواج وخاف على نفسه العنت (الإثم والأمر الشاق) قدم التزويج، لأنه واجب عليه ولا غنى به عنه، فهو كنفقته، وإن لم يخف قدم الحج؛ لأن الزواج تطوع، فلا يقدم على الحج الواجب. ومن له عقار يحتاج إليه لسكناه، أو سكنى عياله، أو يحتاج إلى أجرته، لنفقة نفسه أو عياله، أو بضاعة متى نقصها اختل ربحها، لم يكفهم، أو سائمة يحتاجون إليها، لم يلزمه الحج، فإن كان له من ذلك شيء فاضل عن حاجته، لزمه بيعه في الحج. وإن كان له كتب يحتاج إليها، لم يلزمه بيعها في الحج، وإن كانت مما لا يحتاج إليها، باع منها ما يكفيه للحج. وإن كان له دين على مليء باذل له يكفيه للحج، لزمه الحج؛ لأنه قادر، وإن كان على معسر أو تعذر استيفاؤه عليه، لم يلزمه. ويشترط أيضاً أمن الطريق بحيث لا يوجد مانع من عدو ونحوه. ووجود زوج أو محرم للمرأة، فلا يجب عليها الحج ما لم يكن معها أحدهما. وإمكان المسير وهو أن تكمل فيه هذه الشرائط والوقت متسع يمكنه الخروج إلى الحج (¬1). وهذا موافق لمذهبي الحنفية والشافعية أيضاً، لكن عند الحنابلة روايتان في هذين الشرطين: رواية أنهما من شرائط الوجوب كالحنفية والشافعية، فلا يجب الحج بدونهما، ورواية أنهما من شرائط لزوم السعي إلى الحج، فمن مات يجب الحج ¬
الشروط الخاصة بالنساء
عنه بعد موته لثبوته في ذمته، أما على الرواية الأولى فلم يجب عليه شيء، وهذا هو المذهب. وليس للرجل منع امرأته من حجة الإسلام عند أكثر العلماء، وهو قول للشافعي؛ لأنه فرض، فلم يكن له منعها منه، كصوم رمضان والصلوات الخمس. ويستحب أن تستأذنه في ذلك، فإن أذن وإلا خرجت بغير إذنه. فأما حج التطوع فله منعها منه. وقال الشافعية: للزوج منع الزوجة من الحج الفرض والمسنون؛ لأن حقه على الفور، والنسك على التراخي، وليس له منعها من الصوم والصلاة، والفرق: طول مدة الحج، بخلافهما. الشروط الخاصة بالنساء: أما الشروط الخاصة بالنساء فهي اثنان تفهم مما سبق بيانه في المذاهب وهما: أحدهما ـ أن يكون معها زوجها أو مَحْرم لها، فإن لم يوجد أحدهما لا يجب عليها الحج. وهذا متفق عليه للحديث السابق: «لا تسافر المرأة ثلاثة إلا ومعها ذو محرم» (¬1) ولحديث: «لا تحجن امرأة إلا ومعها زوج» (¬2)، وأوجب الشافعية على المرأة الحج مع نسوة ثقات، لا مع واحدة فقط، وأوجب المالكية عليها الحج مع رفقة مأمونة من النساء فقط أو الرجال فقط، أو المجموع من الجنسين. ودليل الشافعية والمالكية عموم آية: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً} [آل عمران:97/ 3] فإذا أمنت المرأة الفساد على نفسها لزمها الحج. ¬
وضابط المحرم عند العلماء: من حرم عليه نكاحها على التأبيد بسبب مباح لحرمتها أي بنسب أو رضاع أو مصاهرة. فخرج بالتأبيد: زوج الأخت وزوج العمة، وخرج بالمباح: أم الموطوءة بشبهة وبنتها، وخرج بحرمتها: الزوجة الملاعنة (¬1) هذا ويلاحظ أن الخلاف بين الشافعية والمالكية وبين باقي الفقهاء محصور في سفر الفريضة ومنه سفر الحج، فلا يقاس عليه سفر الاختيار بالإجماع، خطب النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: «لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، فقام رجل، فقال: يا رسول الله، إن امرأتي خرجت حاجة، وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، فقال: انطلق، فحج مع امرأتك» (¬2). والثاني ـ ألا تكون معتدة عن طلاق أو وفاة؛ لأن الله تعالى نهى المعتدات عن الخروج بقوله عز وجل: {لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن} [الطلاق:1/ 65] ولأن الحج يمكن أداؤه في وقت آخر، فأما العدة فإنها تجب في وقت مخصوص وهو ما بعد الطلاق أو الوفاء مباشرة، فكان الجمع بين الأمرين أولى. ويلاحظ أن هذين الشرطين مع شروط سلامة البدن من الآفات المانعة من السفر كالمرض والعمى، وزوال المانع الحسي كالحبس، وأمن الطريق هي شروط وجوب الأداء عند الحنفية وهي خمسة، أما شروط الوجوب أو الفرضية فهي ثمانية عندهم: وهي الإسلام والعقل والبلوغ والحرية والوقت والقدرة على الزاد ولو بمكة، والقدرة على الراحلة والقوة بلا مشقة. ولو تكلف واحد ممن له عذر فحج عن نفسه، أجزأه عن حجة الإسلام إذا ¬
النيابة في الحج والحج عن الغير
كان عند الحنفية بالغاً عاقلاً حراً؛ لأنه من أهل الفرض، إلا أنه لم يجب عليه، دفعاً للحرج عنه، فإذا تحمل الحرج وقع الحج موقعه. ومنع الحنابلة خروج المرأة إلى الحج في عدة الوفاة، وأجازوا لها الخروج في عدة الطلاق المبتوت؛ لأن لزوم المنزل والمبيت فيه واجب في عدة الوفاة، والطلاق المبتوت لا يجب فيه ذلك. وأما عدة الرجعية إن خرجت للحج فتوفي زوجها، رجعت لتعتد في منزلها إن كانت قريبة، ومضت في سفرها إن كانت بعيدة. النيابة في الحج والحج عن الغير (¬1): بحث هذا الموضوع يقتضي ما يأتي: أولاً ـ ما يقبل النيابة من العبادات وما لا يقبلها: العبادات أنواع ثلاثة (¬2): أـ عبادة مالية محضة كالزكاة والكفارة وتوزيع الأضاحي: يجوز النيابة فيها بالاتفاق في حالتي الاختيار والضرورة؛ لأن المقصود انتفاع أهلها بها، وذلك حاصل بأي شخص، أصيل أو نائب. ¬
ثانيا ـ إهداء ثواب الأعمال للميت
ب ـ عبادة بدنية محضة كالصلاة والصوم: لا تجوز النيابة فيها؛ لأن المقصود وهو إتعاب النفس لا يحصل بالإنابة. جـ ـ عبادة مركبة ـ بدنية ومالية معاً ـ كالحج: يجوز فيها عند الجمهور (غير المالكية) النيابة عند العجز أو الضرورة؛ لأن المشقة المقصودة تحصل بفعل النفس، وتحصل أيضاً بفعل الغير إذا كان بماله، فهذه العبادة تختلف عن الصلاة باشتمالها على القربة المالية غالباً بالإنفاق في الأسفار. وقال المالكية على الصحيح: لا تجوز النيابة عن الحي في حج الفرض أو النفل، بأجرة أو لا، والإجارة فيه فاسدة، لأنه عمل بدني لا يقبل النيابة، كالصلاة والصوم، إذ المقصود منه تأديب النفس بمفارقة الأوطان وتهذيبها بالخروج عن المعتاد، من لبس المخيط وغيره لتذكر المعاد والآخرة والقبر، وتعظيم شعائر الله في تلك البقاع، وإظهار الانقياد من الإنسان لما لم يعلم حقيقته، كرمي الجمار، والسعي بين الصفا والمروة وغيرهما، وهذه مصالح ومقاصد لا تتحقق إلا لمن باشرها بنفسه. أما الميت إذا أوصى بالحج فيصح عنه مع الكراهة، ويكره التطوع عنه بالحج. ثانياً ـ إهداء ثواب الأعمال للميت: اتفق العلماء على وصول ثواب الدعاء والصدقة والهدي للميت، للحديث السابق: «إذا مات الإنسان، انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، وولد صالح يدعو له» (¬1). ¬
وقال جمهور أهل السنة والجماعة (¬1): للإنسان أن يجعل ثواب عمله لغيره صلاة أو صوماً أو صدقة أو تلاوة قرآن، بأن يقول: اللهم اجعل ثواب ما أفعل لفلان، لما روي أن النبي صلّى الله عليه وسلم «ضحى بكبشين أملحين، أحدهما عن نفسه، والآخر عن أمته، ممن أقر بوحدانية الله تعالى، وشهد له بالبلاغ» (¬2) فإنه جعل تضحية إحدى الشاتين لأمته. ولما روي أن رجلاً سأل النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: «كان لي أبوان أبرهما حال حياتهما، فكيف لي ببرهما بعد موتهما؛ فقال له عليه الصلاة والسلام: إن من البر بعد البر: أن تصلي لهما مع صلاتك وأن تصوم لهما مع صيامك» (¬3). وأما قوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} [النجم:39/ 53] فيراد به: إلا إذا وهبه له، كما حققه الكمال بن الهمام، أو أنه ليس له من طريق العدل، وله من طريق الفضل، ويؤكده مضمون آية أخرى: {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذ ريتَهم} [الطور:21/ 52]. وأما حديث «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث» فلا يدل على انقطاع عمل غيره. وأما حديث: «لا يصوم أحد عن أحد، ولا يصلي أحد عن أحد» فهو في حق الخروج عن العهدة، لا في حق الثواب. وليس في ذلك شيء مما يستبعد عقلاً، إذ ليس فيه إلا جعل ما له من الأجر ¬
ثالثا ـ مشروعية النيابة في الحج وأقوال الفقهاء فيما يجوز منها
لغيره، والله تعالى هو الموصل إليه، وهو قادر عليه، ولا يختص ذلك بعمل دون عمل. وقال المعتزلة: ليس للإنسان أن يجعل ثواب عمله لغيره، ولا يصل إليه، ولاينفعه، لقوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى} [النجم:39/ 53 - 40] ولأن الثواب هو الجنة، وليس في قدرة العبد أن يجعلها لنفسه فضلاً عن غيره. وقال مالك والشافعي: يجوز جعل ثواب العمل للغير في الصدقة والعبادة المالية وفي الحج، ولا يجوز في غيره من الطاعات كالصلاة والصوم وقراءة القرآن وغيره. ثالثاً ـ مشروعية النيابة في الحج وأقوال الفقهاء فيما يجوز منها: يجوز الحج عن الغير الذي مات ولم يحج، أو عن المريض الحي الذي عجز عن الحج لعذر وله مال، وآراء الفقهاء هي ما يأتي (¬1): قال الحنفية: من لم يجب عليه الحج بنفسه لعذر كالمريض ونحوه، وله مال، يلزمه أن يُحج رجلاً عنه، ويجزئه عن حجة الإسلام، أي أنه تجوز النيابة في الحج عند العجز فقط لا عند القدرة، بشرط دوام العجز إلى الموت. وأما المقصر الذي مات فتصح منه بل تجب الوصية بالإحجاج عنه ويكون من بلده، إن لم يعين مكاناً آخر، فهما حالتان: العجز وبعد الموت بالوصية. ¬
المالكية
والمعتمد عند المالكية: أن النيابة عن الحي لا تجوز، ولا تصح مطلقاً إلا عن ميت أوصى بالحج، فتصح مع الكراهة وتنفذ من ثلث ماله. ولا حج على المعضوب إلا أن يستطيع بنفسه، للآية {من استطاع إليه سبيلاً} [آل عمران:97/ 3] وهذا غير مستطيع. وأجاز الشافعية الحج عن الغير في حالتين: أـ حالة المعضوب: وهو العاجز عن الحج بنفسه لكبر أو زمانة أو غير ذلك، الذي لا يثبت على الراحلة. بل يلزمه الحج إن وجد من يحج عنه بأجرة المثل بشرط كونها فاضلة عن حاجاته المذكورة فيمن حج بنفسه، لكن لا يشترط نفقة العيال ذهاباً وإياباً؛ لأنه مستطيع بغيره؛ لأن الاستطاعة كما تكون بالنفس تكون ببذل المال وطاعة الرجال، فيجب على من عجز عن الحج بنفسه لهرم أو مرض لا يرجى برؤه الاستنابة إن قدر عليها بماله أو بمن يطيعه بأن كان متبرعاً موثوقاً به. ب ـ وحالة من يأتيه الموت ولم يحج، فيجب على ورثته الإحجاج عنه من تركته، كما يقضى منها دينه، ويلزمهم أن يخرجوا من ماله بما يحج به عنه، بالنفقة الكافية ذهاباً وإياباً. والخلاصة: إن الاستطاعة للحج نوعان عند الشافعية: استطاعة مباشرة بنفسه، واستطاعة تحصيله بغيره، أما الأولى فيشترط لها الأمور السابقة: الراحلة لمن كان بينه وبين مكة مسافة القصر (مرحلتان) فصاعداً، والزاد، وأمن الطريق، وصحة البدن، وإمكان المسير: وهو أن يبقى من الزمان بعد وجود الزاد والراحلة ما يمكن فيه السير المعهود إلى الحج. وأما الثانية: فهي أن يعجز عن الحج بنفسه بموت أو كبر، أو زمانة أو مرض
لايرجى زواله أو هرم بحيث لا يستطيع الثبوت على الراحلة إلا بمشقة شديدة. وهذا العاجز الحي يسمى معضوباً. وتجب الاستنابة عن الميت إذا كان قد استطاع في حياته، ولم يحج، إذا كان له تركة، وإلا فلا يجب على الوارث. ويجوز للوارث والأجنبي الحج عنه سواء أوصى به أم لا. وأما المعضوب فلا يصح عنه الحج بغير إذنه، وتلزمه الاستنابة إن وجد مالاً يستأجر به من يحج عنه فاضلاً عن حاجته يوم الاستئجار خاصة، سواء وجد أجرة راكب أو ماش، بشرط أن يرضى بأجر المثل. وإن لم يجد مالاً ووجد من يتبرع عنه بالحج من أولاده الذكور أو الإناث، لزمه استنابته. وتجوز الاستنابة في حج التطوع للميت والمعضوب على الأصح. ولو استناب المعضوب من يحج عنه، ثم زال العضب وشفي، لم يجزه على الأصح، بل عليه أن يحج (¬1). وعلى هذا: من وجب عليه الحج فلم يحج حتى مات ينظر: إن مات قبل أن يتمكن من الأداء سقط فرضه، ولم يجب القضاء. وإن مات بعد التمكن من الأداء، لم يسقط الفرض، ويجب قضاؤه من تركته، ويجب قضاؤه عنه من الميقات؛ لأن الحج يجب من الميقات، ويجب من رأس المال؛ لأنه دين واجب، فكان من رأس المال كدين الآدمي. وإن اجتمع الحج ودين الآدمي، والتركة لا تتسع لهما، الأصح أنه يقدم الحج (¬2). ¬
الحنابلة
وأجاز الحنابلة كالشافعية الحج عن الغير في حالتين أيضاً: 1 - المعضوب: وهو من عجز عن السعي إلى الحج والعمرة لكبر أو زمانة، أو مرض لا يرجى برؤه، أو ثقل لا يقدر معه الركوب على الراحلة إلا بمشقة غير محتملة، أو أيست المرأة من محرم. يلزم كل من هؤلاء الحج إن وجد من ينوب عنه حراً، ومالاً يستنيبه به، فيحج عنه ويعتمر على الفور من بلده، أو من الموضع الذي أيسر منه إن كان غير بلده. ويجوز أن يكون النائب رجلاً عن امرأة وبالعكس: امرأة عن رجل، بلا خلاف بين العلماء، لكن يكره عند الحنفية إحجاج المرأة لاشتمال حجها عادة على نوع من النقصان، فإنها لا ترمل في الطواف وفي السعي بين الصفا والمروة، ولاتحلق. وإن لم يجد مالاً يستنيب به، فلا حج عليه بغير خلاف؛ لأن الصحيح (غير المريض) لو لم يجد ما يحج به، لم يجب، فالمريض أولى. وإن وجد مالاً ولم يجد من ينوب عنه، فعلى الروايتين السابقتين في إمكان المسير: هل هو من شرائط الوجوب وهو المذهب، فلا يجب عليه شيء بعد الموت. أم من شرائط لزوم السعي للحج، فيجب الحج عنه بعد موته. ومن يرجى زوال مرضه وفك حبسه، ليس له أن يستنيب، فإن فعل لم يجزئه؛ لأنه يرجو القدرة على الحج بنفسه، فلم يكن له الاستنابة، ولا تجزئه إن فعل كالفقير. وإن عوفي المعضوب قبل إحرام النائب لم يجزئه حج النائب عنه اتفاقاً للقدرة على المبدل قبل الشروع في البدل، كالمتيمم يجد الماء.
ومتى أحج المعضوب عن نفسه، ثم عوفي، لم يجب عليه حج آخر؛ لأنه أتى بما أمر به، فخرج عن العهدة، كما لو لم يبرأ. وقال الشافعية والحنفية: يلزمه حج آخر؛ لأن هذا بدل إياس، فإذا برأ تبينا أنه لم يكن مأيوساً منه، فلزمه الأصل، كالآيسة إذا اعتدت بالشهور، ثم حاضت، لا تجزئها تلك العدة. ولا يجوز الحج والعمرة عن حي إلا بإذنه فرضاً كان أو تطوعاً؛ لأنها عبادة تدخلها النيابة، فلم تجز عن البالغ العاقل إلا بإذنه كالزكاة. 2 - الميت الذي وجب عليه الحج: من وجب عليه الحج، لاستكمال الشرائط السابقة المطلوبة، ثم توفي قبله، فرّط في الحج بأن أخره لغير عذر، أو لم يفرط كالتأخير لمرض يرجى برؤه أو لحبس أو أسر أو نحوه، أخرج عنه من جميع ما له حجة وعمرة، ولو لم يوص به. ويكون الإحجاج عنه من حيث وجب عليه، لا من حيث مكان موته؛ لأن القضاء يكون بصفة الأداء، بل يجب ألا يكون النائب من خارج بلده التي تبعد فوق مسافة القصر، ويجوز من نائب من بلد آخر دون مسافة القصر؛ لأن ما دونها في حكم الحاضر. وإن مات من وجب عليه الحج في الطريق أو مات نائبه في الطريق، حج عنه من حيث مات هو أو نائبه، فيما بقي مسافة وقولاً وفعلاً. ويسقط الحج عن الميت بحج أجنبي عنه، ولو بلا إذن وليه؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم شبَّهه بالدين، أي إن الحج عن الميت يجوز عنه بغير إذنه واجباً كان أو تطوعاً، بخلاف الحي؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم أمر بالحج عن الميت، مع العلم أنه لا إذن له، وما جاز فرضه جاز نفله كالصدقة. وإن وصى المسلم بحج نفل ولم يعين محل الاستنابة، جاز أن يحج عنه من الميقات أي ميقات بلد الموصي، ما لم تمنع منه قرينة بأن يوصي أن يحج بقدر يكفي
أدلة المشروعية
للنفقة من بلده، فيتعين منها، فإن ضاق ماله عن الحج من بلده بأن لم يخلف مالاً يفي به، أو كان عليه دين، أخذ للحج بحصته، وحج به من حيث يبلغ، لشبهه بالدين. والخلاصة: إن المالكية والحنفية يجيزون الحج عن الميت إذا أوصى وتنفذ الوصية من ثلث المال، وأجاز الجمهور غير المالكية عن الحي العاجز لمرض ونحوه. وحج النائب يكون عند الحنفية والحنابلة من بلد المنوب عنه، وعند الشافعية من الميقات. وتنفذ الوصية عند الشافعية والحنابلة من رأس المال، لا من الثلث فقط. وحج النائب عن الميت يكون على الفور عند الجمهور، لقوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة:196/ 2] {ولله على الناس حج البيت} [آل عمران:97/ 3] والأمر على الفور، وعند الشافعي: على التراخي، وللنائب تأخيره؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أمّر أبا بكر على الحج وتخلف بالمدينة، لا محارباً ولا مشغولاً بشيء وتخلف أكثر الناس قادرين على الحج، فدل على أن وجوبه على التراخي. أدلة المشروعية: استدل الفقهاء على مشروعية النيابة في الحج بحديث ابن عباس وغيره: «أن امرأة من خَثْعَم، قالت: يا رسول الله، إن أبي أدركته فريضة الله في الحج شيخاً كبيراً، لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره؟ قال: فحُجِّي عنه» (¬1) فدل على جواز الحج عن الوالد غير القادر على الحج، علماً بأن ذلك كان في حجة الوداع. ¬
رابعا ـ الاستئجار على الحج
وعن ابن عباس أيضاً: «أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فقالت: إن أمي نذرت أن تحج، فلم تحج، حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: نعم، حُجِّي عنها، أرأيتِ لو كان على أمِّك دين أكنت قاضيتَه؟ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء» (¬1). ورواه الدارقطني بلفظ: «أتى النبي صلّى الله عليه وسلم رجل، فقال: إن أبي مات، وعليه حجة الإسلام، أفأحج عنه؟ قال: أرأيت لو أن أباك ترك ديناً عليه، أقضيتَه عنه؟ قال: نعم، قال: فاحجُجْ عن أبيك». دل على إجزاء الحج عن الميت من الولد، وشبَّهه بالدين، ودلت روايات أخرى على صحة الحج عن الميت من الوارث وغيره، إذ فيها «إن أختي نذرت أن تحج» ولم يستفصله أوارث هو أم لا؟ ودلت السنة أيضاً على اشتراط كون النائب قد حج عن نفسه، عن ابن عباس: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: لبّيك عن شُبْرمة، قال: من شُبْرمة؟ قال: أخ لي، أوقريب لي، قال: حججت عن نفسك؟ قال: لا، قال: حجَّ عن نفسك، ثم حج عن شبرمة» (¬2). رابعاً ـ الاستئجار على الحج: لم يجز متقدمو الحنفية (¬3) الاستئجار على الحج والأذان وتعليم القرآن والفقه ونحوه من القربات الدينية لاختصاص فاعلها بها، فلو قال رجل لآخر: «استأجرتك على أن تحج عني بكذا» لم يجز حجه، والمذهب وقوع الحج عن ¬
المحجوج عنه. وإنما يقول: أمرتك أن تحج عني، بلا ذكر إجارة، وتكون له نفقة مثله بطريق الكفاية؛ لأنه فرغ من نفسه لعمل ينتفع به المستأجر. وإنما جاز الحج عنه؛ لأنه لما بطلت الإجارة، بقي الأمر بالحج. والزائد عن نفقة المثل في الطريق وغيره يرد على الآمر إلا إذا تبرع به الورثة، أو أوصى الميت بأن الفضل للحاج. ودليلهم على عدم جواز الإجارة على الحج وبقية الطاعات: أن أبي بن كعب كان يعلِّم رجلاً القرآن، فأهدى له قوساً، فسأل النبي صلّى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال له: «إن سرك أن تتقلد قوساً من نار، فتقلدها» (¬1)، وقال النبي صلّى الله عليه وسلم لعثمان بن أبي العاص: «واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً» (¬2) ولأنها عبادة يختص فاعلها أن يكون من أهل القربة، فلم يجز أخذ الأجرة عليها كالصلاة والصوم. وأجاز جمهور الفقهاء (¬3) ومتأخرو الحنفية: الإجارة على الحج وبقية الطاعات، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتابُ الله» (¬4)، وأخذ أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم الجُعْل على الرُّقية بكتاب الله، وأخبروا بذلك النبي، فصوبهم فيه (¬5)، ولأنه يجوز أخذ النفقة على الحج، كما أقر متقدمو الحنفية أنفسهم، فجاز الاستئجار عليه، كبناء المساجد والقناطر. وفائدة الخلاف بين الرأيين: أنه متى لم يجز أخذ الأجرة على الحج، فلا يكون إلا نائباً محضاً، وما يدفع إليه من المال، يكون نفقة لطريقه، فلو مات أو ¬
الإجارة على الحج عند المالكية
أحصر أو مرض أو ضل الطريق، لم يلزمه الضمان لما أنفق؛ لأنه إنفاق بإذن صاحب المال. وما يلزم من الدماء للنائب بفعل محظور، فعليه في ماله؛ لأنه لم يؤذن له في الجناية، فكان موجبها عليه، كمالو لم يكن نائباً. وإن أفسد الحجة فالقضاء عليه، ويرد ما أخذ؛ لأن الحجة لم تجزئ عن المستنيب لتفريطه وجنايته، وكذلك إن فاته الحج بتفريطه. أما إن فاته بغير تفريط احتسب له بالنفقة؛ لأنه لم يفت بفعله، فلم يكن مخالفاً، كما لو مات. وإن مات في بعض الطريق فإنه يحج عنه من حيث انتهى، وما فضل معه من المال، رده، إلا أن يؤذن له في أخذه، وينفق على نفسه بقدر الحاجة ولاتقتير. وإذا سلك النائب طريقاً يمكنه سلوك أقرب منه، ففاضل النفقة في ماله، وإن أقام بمكة مدة القصر، بعد إمكان السفر راجعاً، أنفق من مال نفسه. وإن جاز الاستئجار على الحج عن حي أو ميت، اعتبر فيه شروط الإجارة من معرفة الأجرة، وعقد الإجارة، وما يأخذه أجرة له يملكه، ويباح له التصرف فيه، والتوسع به في النفقة وغيرها، وما فضل فهو له. وإن أحصر أو ضل الطريق، أو ضاعت النفقة منه، فهو في ضمانه والحج عليه. وإن مات انفسخت الإجارة؛ لأن المعقود عليه تلف، فانفسخ العقد، كما لو ماتت البهيمة المستأجرة، ويكون الحج أيضاً من موضع بلغ إليه النائب، وما لزمه من الدماء فعليه؛ لأن الحج عليه. الإجارة على الحج عند المالكية: هؤلاء وإن أجازوا الإجارة على الحج عن الميت الذي أوصى به، لكنهم قالوا بكراهة إجارة الإنسان نفسه في عمل لله تعالى، حجاً أو غيره، كقراءة وإمامة وتعليم علم، إلا تعليم كتاب الله تعالى، وتصح إن أجر نفسه. والإجارة على الحج عندهم نوعان: الأول ـ إجارة بأجرة معلومة تكون ملكاً للأجير، كسائر الإجارات، فما عجز عن كفايته، وفاه من ماله، وما فضل كان له.
خامسا ـ شروط الحج عن الغير
الثاني ـ البلاغ: وهو أن يدفع إليه المال ليحج عنه، فإن احتاج إلى زيادة، أخذها من المستأجر، وإن فضل شيء رده إليه. وإذا أوصى الميت أن يحج عنه من ماله، وكان صَرُورة (لم يحج)، نفذت الوصية من ثلث ماله، وإن لم يوص سقط عنه. وينوي الأجير الحج لمن حج عنه، ويجوز أن يكون الأجير على الحج لم يحج حجة الفريضة عندهم وعند الحنفية، خلافاً للشافعية والحنابلة، كما سأبيِّن في الشروط. خامساً ـ شروط الحج عن الغير: اشترط الحنفية (¬1) عشرين شرطاً للحج عن الغير أذكرها مع آراء الفقهاء الآخرين: 1 - نية النائب عن الأصيل عند الإحرام؛ لأن النائب يحج عن الأصيل لاعن نفسه، فلا بد من نيته، والأفضل أن يقول بلسانه: أحرمت عن فلان، ولبيت عن فلان، فيقول مثلاً: نويت الحج عن فلان وأحرمت به لله تعالى، ولبيك عن فلان، كما إذا حج عن نفسه، ولو نسي اسمه فنوى عن الأصيل صح، وتكفي نية القلب. وهذا الشرط متفق عليه ..... 2 - أن يكون الأصيل عاجزاً عن أداء الحج بنفسه، وله مال. فإن كان قادراً على الأداء، بأن كان صحيح البدن، وله مال، لا يجوز حج غيره عنه. وهذا ¬
باتفاق الجمهور غير المالكية، أما المالكية فلم يجيزوا الحج عن الحي مطلقاً، وعليه: لا يجوز أن يستنيب في الحج الواجب من يقدر على الحج بنفسه إجماعاً. وأجاز الكل الحج عن الميت، لكن إذا أوصى عند الحنفية والمالكية، أو وإن لم يوص عند الآخرين، ويجب الحج عنه إن كان قادراً ومات مفرطاً عند الشافعية والحنابلة. 3 - أن يستمر العجز كالحبس والمرض إلى الموت: وهذا باتفاق الحنفية والشافعية؛ فلو زال العجز قبل الموت، لم يجزئه حج النائب؛ لأن جواز الحج عن الغير ثبت بخلاف القياس لضرورة العجز الذي لا يرجى برؤه، فيتقيد الجواز به. وقال الحنابلة: يجزئه؛ لأنه أتى بما أمر به، فخرج عن العهدة، كما لو لم يزل عذره. 4 - وجوب الحج: فلو أحج الفقير أو غيره ممن لم يجب عليه الحج عن الفرض، لم يجز حج غيره، وإن وجب بعد ذلك. 5 - وجود العذر قبل الإحجاج: فلو أحج صحيح غيره، ثم عجز، لا يجزيه. وهذان الشرطان مفهومان بداهة. 6 - أن تكون النفقة من مال الأصيل، كلها أو أكثرها عند الحنفية، إلا الوارث إذا تبرع بالحج عن مورثه، تبرأ ذمة الميت، إذا لم يكن قد أوصى بالإحجاج عنه. فإن تطوع النائب بالحج من مال نفسه، لم يقع عند الحنفية عن الميت، وكذا إذا أوصى الميت المورث أن يحج عنه بماله، ومات، فتطوع عنه وارثه بمال نفسه، لايجزئ الميت؛ لأن الفرض تعلق بماله، فإذا لم يحج بماله، لم يسقط عنه الفرض.
وأجاز الشافعية والحنابلة التطوع بالحج من الوارث أو الأجنبي عن الغير مطلقاً، سواء أوصى الميت أم لم يوص أو لم يأذن الوارث للأجنبي، كمن يتبرع بقضاء دين غيره. 7 - أن يحرم من الميقات على النحو الذي طالب به الأصيل: فلو اعتمر، وقد أمره بالحج، ثم حج من مكة، لا يجوز، ويضمن، أي لو أمره بالإفراد بالحج، فتمتع بالعمرة، لم يقع حجه عنه، ويضمن باتفاق الحنفية، ولو أمره بالإفراد فقرن بالحج والعمرة فهو مخالف ضامن للنفقات عند أبي حنيفة، ويجوز ذلك عند الصاحبين عن الأصيل استحساناً. وإن أوصى الميت بالحج، وحدد المال أو المكان، فالأمر على ما حدده وعينه، وإن لم يحدد شيئاً فيحج عنه من بلده قياساً لا استحساناً، والعمل على القياس. وقال الشافعية: يجب على النائب الحج من ميقات الأصيل؛ لأن الحج يجب من الميقات. ولو أمره بالإفراد فقرن عن الآمر، فيقع ذلك عن الآمر كما قال الصاحبان. أما إذا أمره بالإفراد فتمتع عن الآمر، لم يقع حجه عنه، ولايجوز ذلك عن حجة الإسلام، كما قال الحنفية. وسوى المالكية بين القران والتمتع إذا فعلا، وكان الإفراد يجزئ، إن كان الشرط من الوصي لا الأصيل وقال الحنابلة: يجب على النائب الحج من بلد الأصيل؛ لأن الحج واجب على العاجز أو الميت من بلده، فوجب أن ينوب عنه منه؛ لأن القضاء يكون على وفق الأداء، كقضاء الصلاة والصيام. وكذلك الحكم في حج النذر والقضاء. وصحح الحنابلة الحج عن الأصيل في كل الحالات إفراداً وقراناً وتمتعاً، ويرجع على الأجير بفرق أجرة المسافة، أو توفير الميقات. فإن كان للأصيل وطنان، استنيب من أقربهما. وإن خرج الشخص للحج، فمات في الطريق، حج عنه من
حيث مات؛ لأنه أسقط بعض ما وجب عليه، فلم يجب ثانياً. وكذلك إن مات نائبه، استنيب من حيث مات كذلك. ولو أحرم شخص بالحج، ثم مات، صحت النيابة عنه فيما بقي من النسك؛ سواء أكان إحرامه لنفسه أم لغيره؛ لأنها عبادة تدخلها النيابة، فإذا مات بعد فعل بعضها، قضى عنه باقيها كالزكاة. فإن لم يخلف الميت تركة تفي بالحج من بلده، حج عنه من حيث تبلغ. وإن أوصى ميت بحج تطوع، فلم يف ثلثه بالحج من بلده، حج به من حيث بلغ، أو يعان به في الحج. ويستناب عن الميت ثقة بأقل ما يوجد، إلا أن يرضى الورثة بزيادة، أو يكون قد أوصى بشيء، فيجوز ما أوصى به ما لم يزد على الثلث. 8 - الأمر بالحج: شرط الحنفية أن يأمر الأصيل بالحج عنه، فلا يجوز الحج عن الغير بغير إذنه، إلا الوارث، فإنه يجوز أن يحج عن المورث بغير إذنه، وتبرأ ذمة الميت إذا لم يكن أوصى بالحج عنه، ودليلهم حديث الخثعمية السابق. وفي نطاق المشيئة الإلهية: لو حج عنه أجنبي تسقط عنه حجة الإسلام إن شاء الله تعالى؛ لأنه إيصال للثواب، وهو لا يختص بأحد من قريب أو بعيد، قال أبو حنيفة: يجزيه إن شاء الله، وبعد الوصية يجزيه من غير المشيئة 9 - وشرط الحنفية أيضاً عدم اشتراط الإجرة، فلا يجوز كما تقدم عندهم الاستئجار على الحج، فلو استأجر رجلاً، بأن قال: استأجرتك على أن تحج عني بكذا، لم يجز حجه عنه والمعتمد أنه يقع عنه، وإنما يقول: أمرتك أن تحج عني، بلا ذكر إجارة. وأجاز الجمهور كما بينا الاستئجار على الحج.
حج الصرورة
وأبان الحنابلة أنه يستحب أن يحج الإنسان عن أبويه إذا كانا ميتين أو عاجزين؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر أبا رزين فقال: «حج عن أبيك واعتمر» و «سألت امرأة رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن أبيها مات ولم يحج، فقال: حج عن أبيك» وعن جابر: «من حج عن أبويه أو قضى عنهما مغرماً، بعث يوم القيامة مع الأبرار». (¬1) ويستحب البداءة بالحج عن الأم إن كان تطوعاً أو واجباً عليهما؛ لأن الأم مقدمة في البر، قال أبو هريرة: «جاء رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أُمُّك، قال: ثم من؟ قال: أُمُّك، قال: ثم من؟ قال: أمُّك، قال: ثم من؟ قال: أبوك» (¬2). وإن كان الحج واجباً على الأب دون الأم، بدأ به؛ لأنه واجب، فكان أولى من التطوع. وقال الحنفية: من أهل بحجة عن أبويه، يجزيه أن يجعله عن أحدهما؛ لأن من حج عن غيره بغير إذنه، يجعل ثواب حجه له بعد أداء الحج، فلغت نيته قبل أدائه، وصح جعل ثوابه لأحدهما بعد الأداء، بخلاف المأمور بالحج، كما تقدم. 10 - أهلية النائب لصحة الحج: بأن يكون مكلفاً (بالغاً عاقلاً) بالاتفاق وأجاز الحنفية كون النائب مميزاً (مراهقاً) فلا يصح عندهم إحجاج صبي غير مميز. حج الصَّرُورة: الصرورة: من لم يحج عن نفسه، أجاز الحنفية مع الكراهة التحريمية حج الصرورة ولم يشترطوا أن يكون النائب قد حج عن نفسه، عملاً بإطلاق حديث الخثعمية: «حجي عن أبيك» من غير استفسار عن سبقها الحج عن نفسها، وترك الاستفصال في وقائع الأحوال ينزل منزلة عموم المقال أو الخطاب. أما سبب الكراهة فهو أنه تارك فرض الحج. ¬
وكذلك قال المالكية: يكره الحج عن غيره أي في حالة الوصية بالحج قبل أن يحج عن نفسه، بناء على أن الحج واجب على التراخي، وإلا منع على القول بأنه على الفور وهو المعتمد عندهم. وقال الشافعية والحنابلة: لا يصح الحج عن الغير ما لم يكن النائب قد حج عن نفسه حجة الإسلام، للحديث السابق الذي أمر به النبي صلّى الله عليه وسلم رجلاً يلبي عن شبرمة، فقال له: «حج عن نفسك، ثم عن شبرمة» ويحمل ترك الاستفصال في حديث الخثعمية على علمه عليه السلام بأنها حجت عن نفسها أولاً، وإن لم يرو لنا طريق علمه بذلك، جمعاً بين الأدلة كلها، كما قال الكمال بن الهمام. ويؤيده حديث آخر: «لا صرورة في الإسلام» (¬1). كذلك لا يجوز أن يتنفل بالحج والعمرة، وعليه فرضهما، ولا يحج ولا يعتمر عن النذر، وعليه فرض حجة الإسلام؛ لأن النفل والنذر أضعف من حجة الإسلام، فلا يجوز تقديمهما عليها، كحج غيره على حجه. فإن أحرم عن غيره، وعليه فرضه، انعقد إحرامه لنفسه عما عليه، للرواية السابقة عن ابن عباس: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لمن يحج عن شبرمة: حججت عن نفسك؟ قال: لا، قال: فاجعل هذه عن نفسك، ثم احجج عن شبرمة». وعليه لو اجتمع على إنسان حجة الإسلام وقضاء ونذر، قدمت حجة الإسلام، ثم القضاء ثم النذر، ولو أحرم بغيرها وقع عنها، لا عما نوى. 11 - أن يحج النائب راكباً؛ لأن المفروض عليه هو الحج راكباً، فينصرف ¬
مطلق الأمر بالحج إليه، فإذا حج ماشياً فقد خالف، فيضمن النفقة، فمن أمر غيره بالحج عنه، فحج ماشياً، ضمن النفقة. والمعتبر عند الحنفية: ركوب أكثر الطريق، إلا إن ضاقت النفقة، فحج ماشياً، جاز. وكون وجوب الحج راكباً هو رأي الجمهور غير المالكية. أما المالكية فيوجبون الحج ماشياً بلا مشقة شديدة، كما عرفنا. 12 - أن يحج النائب عن الأصيل من وطنه إن اتسع ثلث التركة، في حالة الوصية بالحج، وإن لم يتسع يحج عنه من حيث يبلغ. هذا رأي الحنفية. ورأى الشافعية والحنابلة أنه يحج عنه من جميع مال الميت؛ لأنه دين واجب، فكان من رأس المال، كدين الآدمي. 13 - أن يحج النائب بنفسه إن عينه الأصيل، بأن قال: يحج عني فلان، لا غيره، فلا يجوز حج غيره، ولا يقع الحج عن الميت، ويضمن الحاج الأول والثاني نفقة الحج. أما إن فوض الأصيل النائب، فقال له: اصنع ماشئت، فله حينئذ أن يدفع المال إلى غيره، ويقع الحج عن الآمر. 14 - ألا يفسد النائب حجه: فلو أفسده، لم يقع عن الآمر، وإن قضاه عند الحنفية، كما سأبين؛ لأنه أمره بحجة صحيحة: وهي الخالية عن الجماع، ولم يفعل ذلك، فصار مخالفاً، فيضمن ما أنفق، ويقع الحج له لا عن الأصيل؛ لأن من أفسد حجة يلزمه قضاؤه. 15 - عدم المخالفة: فلو أمره بالإفراد، فقرن أو تمتع، ولو عن الميت، لم يقع عنه، ويضمن النفقة. ولو أمره بالعمرة فاعتمر، ثم حج عن نفسه، أو بالحج، فحج، ثم اعتمر عن نفسه، جاز، إلا أن نفقة إقامته للحج أو العمرة عن نفسه في ماله، فإذا فرغ عادت في مال الميت، وإن عكس لم يجز.
الحج النفل عن الغير
16 - أن يحرم بحجة واحدة: فلو أهل بحجة عن الآمر، ثم بأخرى عن نفسه، لم يجز، إلا إن رفض الثانية. 17 - أن يفرد الحج عن واحد لو أمره رجلان بالحج، فلو أهل عنهما، ضمن. 18، 19 - إسلام النائب والأصيل وتوفر العقل لديهما، فلا يصح الحج من المسلم للكافر، ولا من المجنون لغيره، ولا عكسه، لكن لو وجب الحج عن المجنون قبل طروء جنونه، صح الإحجاج عنه. 20 - عدم الفوات أي عدم تفويت الوقوف بعرفة، كما سيأتي. الحج النفل عن الغير: هذه الشرائط كلها عند الحنفية في الحج الفرض، أما الحج النفل عن الغير، فلا يشترط فيه شيء منها إلا الإسلام والعقل والتمييز، وكذا الاستئجار عليه، لاتساع باب النفل، فإنه يتسامح في النفل ولا يتسامح في الفرض (¬1). سادساً ـ مخالفة النائب: الأصل في النائب بالحج عن الغير أن يلتزم ما وكله به الأصيل أو أمره به، فإذا خالف الأمر، ما الحكم؟ قال الحنفية (¬2): يصير المأمور بالحج مخالفاً في الحالات التالية: أـ إذا أمره بحجة مفردة أو بعمرة مفردة، فقرن بينهما: فهو مخالف ضامن ¬
عند أبي حنيفة؛ لأنه لم يأت بالمأمور به؛ لأنه أمر بسفر على نحو معين، لا غير، ولم يأت به، فخالف أمر الآمر، فضمن. وقال الصاحبان: يجزئ ذلك عن الآمر استحساناً، ولا يُضمن فيه دم القران على الحاج؛ لأنه فعل المأمور به، وزاد خيراً، فكان مأذوناً في الزيادة دلالة، فلم يكن مخالفاً، فهي مخالفة إلى خير. ب ـ لو أمره بالحج عنه، فاعتمر: ضمن؛ لأنه خالف. ولو اعتمر، ثم حج من مكة، يضمن النفقة باتفاق الحنفية، لأمره له بالحج بسفر، وقد أتى بالحج من غير سفر. جـ ـ لوأمره أن يعتمر، فأحرم بالعمرة واعتمر، ثم أحرم بالحج عن نفسه، لم يكن مخالفاً؛ لأنه فعل ما أمر به: وهو أداء العمرة بالسفر، وحجه عن نفسه بعدئذ كاشتغاله بعمل آخر من التجارة وغيرها، لكن النفقة في حجه تكون من ماله، لأنه عمل لنفسه. د - إذا أمره أن يحج عنه، فحج عنه ماشياً، يضمن؛ لأنه خالف؛ لأن الأمر بالحج ينصرف إلى الحج المتعارف في الشرع وهوالحج راكباً؛ لأن الله تعالى أمر بذلك، فعند الإطلاق ينصرف إليه. فإذا حج ماشياً، فقد خالف. هـ ـ لو أمره اثنان بالحج عنهما، فأحرم عنهما معاً، فهو مخالف، ويقع الحج عنه، ويضمن النفقة لهما إن أنفق من مالهما؛ لأن كل واحد منهما أمره بحج تام ولم يفعل، فصار مخالفاً لأمرهما، فلم يقع حجه عنهما، فيضمن لهما. ووقع الحج عن الحاج؛ لأن الأصل أن يقع كل فعل عن فاعله، وإنما يقع لغيره بجعله، فإذا خالف لم يصر لغيره، فبقي فعله له. وإن أحرم بحجة عن أحدهما بعينه، وقع عنه، ويضمن للآخر النفقة، وإن أحرم بحجة عن أحدهما بغير تعيين، فله أن يجعله عن أحدهما أيهما شاء، ما لم
جزاء المخالفة
يتصل بها الأداء. وكذلك لو أحرم الابن بالحج عن أحد أبويه، صح وإن لم يكن معيناً، ثم يعين أحدهما؛ لأن الإحرام ليس من الأداء، بل هو شرط جواز أداء أفعال الحج. وإن أمره أحدهما بحجة، وأمره الآخر بعمرة: فإن أذنا له بالجمع وهو القران، فجمع، جاز. وإن لم يأذنا له بالجمع، فجمع، جاز عند الكرخي، ولم يجز عند القدوري وهو الأرجح؛ لأنه خالف؛ لأنه أمره بسفر ينصرف كله إلى الحج، وقد صرفه إلى الحج والعمرة، فصار مخالفاً. جزاء المخالفة: إذا فعل المأمور بالحج ما يوجب الدم (ذبح شاة مثلاً) أو غيره، فهو عليه. ولو قرن عن الآمر بأمره، فدم القران عليه. والحاصل: أن جميع الدماء المتعلقة بالإحرام في مال الحاج، إلا دم الإحصار خاصة، فإنه في مال المحجوج عنه؛ لأنه هو الذي أدخل الحاج في هذه العهدة، فكان من جنس النفقة والمؤنة، وذلك من مال المحجوج عنه. فإن جامع الحاج القائم بالحج عن غيره قبل الوقوف بعرفة، فسد حجه، ويمضي فيه، والنفقة في ماله، ويضمن ما أنفق من مال المحجوج عنه قبل ذلك، وعليه القضاء من مال نفسه. وـ من حج عن غيره، فمرض في الطريق، لم يجز له أن يدفع النفقة إلى من يحج عن الميت إلا أن يكون أذن له في ذلك؛ لأنه مأمور بالحج، لا بالإحجاج. ز ـ لو أحج رجلاً يؤدي الحج، ويقيم بمكة، جاز؛ لأن فرض الحج، صار مؤدىً بالفراغ عن أفعاله. والأفضل أن يحج، ثم يعود إليه، لأنه كلما كانت النفقة أكثر، كان الثواب للآمر أكثر وأوفر.
وإذا فرغ المأمور بالحج من الحج، ونوى الإقامة خمسة عشر يوماً فصاعداً، أنفق من مال نفسه؛ لأن نية الإقامة قد صحت، فصار تاركاً للسفر، فلم يعد مأذوناً بالإنفاق من مال الآمر، ولو أنفق ضمن؛ لأنه أنفق مال غيره بغير إذنه. فإن أقام أياماً بمكة من غير نية الإقامة: فإن أقام إقامة معتادة كثلاثة أيام، فالنفقة في مال المحجوج عنه، وإن زاد على المعتاد، فالنفقة من ماله. والإقامة للتجارة والإجارة لا يمنعان جواز الحج، ويجوز حج التاجر والأجير والمكاري، لقوله عز وجل: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم} [البقرة:198/ 2]. وقال الحنابلة (¬1): أـ إذا أمره بحج، فتمتع أو اعتمر لنفسه من الميقات، ثم حج: فإن خرج إلى الميقات فأحرم منه بالحج، جاز ولا شيء عليه، وهو مذهب الشافعي أيضاً؛ لأنه إذا أحرم من الميقات، فقد أتى بالحج صحيحاً من ميقاته. وإن أحرم بالحج من مكة، فعليه دم لترك ميقاته، ويرد من النفقة بقدر ما ترك من إحرام الحج فيما بين الميقات ومكة؛ لأن إخلاله كان بما يجبره الدم، فلم تسقط نفقته، كما لو تجاوز الميقات غير محرم، فأحرم دونه. ب ـ وإن أمره بالإفراد، فقرن، لم يضمن شيئاً عند الحنابلة والشافعية، وهو رأي الصاحبين، خلافاً لرأي أبي حنيفة المتقدم؛ لأنه مخالف. ودليلهم أنه أتى بما أمر به وزيادة، فصح ولم يضمن، كما لو أمره بشراء شاة بدينار فاشترى شاتين تساوي إحداهما ديناراً. ¬
ثم إن كان أمره بالعمرة بعد الحج، ففعلها، فلا شيء عليه، وإن لم يفعل رد من النفقة بقدرها. جـ ـ وإن أمره بالتمتع، فقرن، وقع عن الآمر عند الحنابلة والشافعية؛ لأنه أمر بهما، وإنما خالف في أنه أمره بالإحرام بالحج من مكة، فأحرم به من الميقات، ولا يرد شيئاً من النفقة. وإن أفرد، وقع عن الأصيل أيضاً، ويرد نصف النفقة؛ لأنه أخل بالإحرام بالعمرة من الميقات، وقد أمره به، وإحرامه بالحج من الميقات زيادة لا يستحق به شيئاً. د ـ إن أمره بالقران، فأفرد أو تمتع، صح،،ووقع النسكان عن الآمر، ويرد من النفقة بقدر ما ترك من إحرام النسك الذي تركه من الميقات. هـ ـ إن استنابه رجلان: أحدهما للحج والآخر للعمرة، وأذنا له في القران، ففعل، جاز؛ لأنه نسك مشروع. وإن قرن من غير إذنهما، صح ووقع عنهما، خلافاً للحنفية، ويرد من نفقة كل واحد منهما نصفها؛ لأنه جعل السفر عنهما بغير إذنهما، وقد أتى بما أمر به، وإنما خالف في صفته، لا في أصله، فأشبه من أمر بالتمتع فقرن. وإن أذن أحدهما دون الآخر، رد على غير الآمر نصف نفقته وحده. ودم القران على النائب إذا لم يؤذن له فيه، لعدم الإذن في سببه. ويكون الدم على من وكلاه، إن أذنا، لوجود الإذن في سببه. فإن أذن أحدهما دون الآخر، فعلى الآذن نصف الدم، ونصفه على النائب. وـ إن أمر بالحج، فحج، ثم اعتمر لنفسه، أو أمره بعمرة، فاعتمر، ثم حج عن نفسه، صح، ولم يرد شيئاً من النفقة؛ لأنه أتى بما أمر به على وجهه.
المطلب الثاني ـ موانع الحج
وإن أمره بالإحرام من ميقات، فأحرم من غيره، جاز؛ لأنهما سواء في الإجزاء. وإن أمره بالإحرام من بلده، فأحرم من الميقات، جاز؛ لأنه الأفضل. وإن أمره بالإحرام من الميقات، فأحرم من بلده، جاز؛ لأنه زيادة لا تضر. وإن أمره بالحج في سنة، أو بالاعتمار في شهر، ففعله في غيره، جاز؛ لأنه مأذون فيه في الجملة. ز ـ إن استنابه اثنان في نسك، فأحرم به عنهما، وقع عن نفسه دونهما، كما قال الحنفية؛ لأنه لا يمكن وقوعه عنهما، وليس أحدهما بأولى من صاحبه. وإن أحرم عن نفسه وغيره، وقع عن نفسه؛ لأنه إذا وقع عن نفسه أيضاً، ولم ينوها، فمع نيته أولى. وإن أحرم عن أحدهما غير معين، احتمل أن يقع عن نفسه أيضاً؛ لأن أحدهما ليس أولى من الآخر، فأشبه ما لو أحرم عنهما. واحتمل أن يصح؛ لأن الإحرام يصح بالمجهول، فصح عن المجهول، وإلا صرفه إلى من شاء منهما. فإن لم يفعل حتى طاف شوطاً، وقع عن نفسه، ولم يكن له صرفه إلى أحدهما؛ لأن الطواف لا يقع عن غير معين. المطلب الثاني ـ موانع الحج: يفهم من المطلب السابق في شروط الحج أن هناك موانع للحج هي ما يأتي (¬1): ¬
1 ً - الأبوة: للأبوين وإن علا أحدهما منع الولد غير المكي من الإحرام بتطوع حج أو عمرة، وليس لهما المنع من الفرض؛ لأن خدمة الأبوين جهاد كما في الصحيحين. ويسن استئذانهما في الفرض أيضاً. 2 ً - الزوجية: للزوج عند الشافعية منع الزوجة من الحج الفرض والمسنون؛ لأنه حقه على الفور، والنسك عندهم على التراخي، ويسن لها أن تحرم بغير إذنه. وقال الجمهور: ليس للزوج منع الزوجة من الفرض؛ لأنه واجب على الفور، ولو أحرمت بالفرض لم يكن له تحليلها إلا أن يضر ذلك به. 3 ً - الرق: للسيد منع عبده من الحج الفرض والمسنون، ويتحلل إذا منعه كالمحصر، وليس له منعه من الإتمام إذا أحرم بإذنه، ودليل جواز المنع أن منافع العبد مستغرقة للسيد. 4 ً - الحبس ظلماً أو بدين وهو معسر، فله التحلل. 5 ً - استحقاق الدين: للمستحق الدائن منع الموسر من السفر، وليس له التحليل، وليس للمدين أن يتحلل، بل يؤدي الدين. فإن كان الدين مؤجلاً لم يمنعه الدائن من السفر. 6 ً - الحجر: فلا يحج السفيه إلا بإذن وليه أو وصيه. وقد ذكر المالكية دون غيرهم هذه الحالة. 7 ً - الإحصار بسبب عدو بعد الإحرام: بأن يمنع المحرم عن المضي في نسكه من جميع الطرق إلا بقتال أو بذل مال، فللمحصر التحلل إجماعاً بعد أن ينتظر مدة يرجى فيها كشف المانع. فإذا يئس تحلل بموضعه حيث كان من الحرم وغيره، ولا هدي عليه عند المالكية، وإن كان معه هدي نحره.
وقال الجمهور: يتحلل بذبح ما يجزئ في الأضحية: شاة أو سُبْع بقرة أو سُبْع بدنة، ويحلق أو يقصر عند الشافعية، ولا قضاء عليه عندهم، ولا عمرة، فإن كان صرورة (لم يحج) فعليه حجة الإسلام. وعليه الحلق إن كان في الحرم، ولا حلق عليه إن كان الإحصار في الحل عند الحنفية، وعليه القضاء عندهم وعند المالكية والحنابلة، كما سيأتي بيانه، ولا حلق عليه في الراجح عند الحنابلة. ويتحلل بالنية أيضاً عند الشافعية والحنابلة. وللمحصر خمس حالات كما ذكر المالكية: يصح الإحلال في ثلاث: وهي أن يكون العذر طارئاً بعد الإحرام، أو متقدماً ولم يعلم به، أوعلم وكان يرى أنه لايصده. ويمتنع الإحلال في حالة رابعة، وهي إن صد عن طريق وهو قادر على الوصول من غيره. ويصح في حالة خامسة: وهي إن شرط التحلل لفراغ زاد، أو مرض أو شك هل يصدونه أو لا، أو غير ذلك. 8 ً - المرض: من أصابه المرض بعد الإحرام، لزمه عند المالكية والحنابلة والشافعية أن يقيم على إحرامه حتى يبرأ، وإن طال ذلك. وأجاز الحنفية التحلل بالمرض كالمحصر بالعدو.
المبحث الثالث ـ مواقيت الحج والعمرة الزمانية والمكانية
المبحث الثالث ـ مواقيت الحج والعمرة الزمانية والمكانية: وفيه مطلبان: المطلب الأول ـ وقت الحج والعمرة: 1 - وقت الحج: للحج وقت معين، أشار إليه القرآن الكريم في آية: {يسألونك عن الأهلة قل: هي مواقيت للناس والحج} [البقرة:189/ 2] وقوله تعالى: {الحج أشهرٌ معلومات} [البقرة:179/ 2] أي معظمه في أشهر معلومات. وأشهر الحج عند المالكية (¬1): هي الأشهر الثلاثة كلها: وهي شوال وذو القعدة وذو الحجة (¬2)، فهي كلها محل للحج، لعموم قوله سبحانه: {الحج أشهرٌ معلومات} [البقرة:197/ 2] فوجب أن يطلق على جميع أيام ذي الحجة؛ لأن أقل الجمع ثلاثة. ويبتدئ وقت الإحرام من أول شوال في أول ليلة عيد الفطر، ويمتد لفجر يوم النحر (الأضحى)، فمن أحرم قبل فجر الأضحى بلحظة، وهوبعرفة، فقد أدرك الحج، وبقي عليه طواف الإفاضة والسعي بعدها؛ لأن الركن عندهم الوقوف بعرفة ليلاً، وقد حصل. ويكره الإحرام قبل بدء شوال، لكنه ينعقد ويصح عندهم، كما يكر هـ الإحرام قبل مكانه المخصص له الآتي بيانه. والسبب في صحة الإحرام قبل ميقاته الزماني والمكاني: أنه وقت كمال، لا وقت وجوب. ¬
ويجزئ تأخر طواف الإفاضة إلى آخر شهر ذي الحجة. فالمدة من بدء شوال لما قبيل فجر يوم الأضحى: وقت لجواز ابتداء الإحرام بالحج. ومن طلوع فجر الأضحى لآخر ذي الحجة: وقت لجواز التحلل من الحج. والأفضل لأهل مكة الإحرام من أول ذي الحجة على المعتمد. وأشهر الحج عند الحنفية والحنابلة (¬1): شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، لما روي عن العبادلة الأربعة (ابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير) ولقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «يوم الحج الأكبر: يوم النحر» (¬2)، فكيف يجوز أن يكون يوم الحج الأكبر ليس من أشهره؟ ولأن يوم النحر فيه ركن الحج، وهو طواف الزيارة، وفيه كثير من أفعال الحج، كرمي جمرة العقبة والنحر والحلق والطواف والسعي والرجوع إلى منى، ولأن الحج يفوت بمضي عشر ذي الحجة، ومع بقاء الوقت لا يتحقق الفوات. وهذا يدل على أن المراد من قوله تعالى: {الحج أشهرٌ معلومات} [البقرة:197/ 2] شهران وبعض الثالث، لا كله. وما بعد عشر ذي الحجة ليس من أشهره؛ لأنه ليس بوقت لإحرامه ولا لأركانه، فهو كالمحرَّم. ولا يمتنع التعبير بلفظ الجمع عن شيئين وبعض الثالث، كالقروء الثلاثة يحتسب منها الطهر الذي طلقها فيه، وقوله تعالى في الآية السابقة: {فمن فرض فيهن الحج} أي في أكثرهن. فإن قدم الإحرام بالحج على هذه الأشهر، جاز إحرامه، وانعقد حجاً، ولا ينقلب عمرة، لعموم قوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة:196/ 2] ¬
2 - وقت العمرة
لكن لا يجوز له شيء من أفعال الحج إلا في أشهره، فمتى أحرم انعقد إحرامه؛ لأنه مأمور بالإتمام، ولأن الإحرام عند الحنفية شرط، فأشبه الطهارة في جواز التقديم على الوقت، ولأن الإحرام تحريم أشياء وإيجاب أشياء، وذلك يصح في كل زمان، فصار كتقديم الإحرام على الميقات المكاني، فهم شبهوا ميقات الزمان بميقات المكان، وعلى كل: يكره الإحرام بالحج قبل أشهر الحج، لما أخرجه البخاري عن ابن عباس: «من السنة ألا يُحرَم بالحج إلا في أشهر الحج». وأما الشافعية (¬1) فقالوا كالحنفية والحنابلة: أشهر الحج: شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة: وهو إلى أن يطلع الفجر من يوم النحر، لكنهم رأوا أنه إن أحرم شخص بالحج في غير أشهره، انعقد إحرامه بالعمرة؛ لأنها عبادة مؤقتة، فإذا عقدها في غير وقتها، انعقد غيرها من جنسها، كصلاة الظهر إذا أحرم بهاقبل الزوال، فإنه ينعقد إحرامه بالنفل، فهم شبهوا ميقات الزمان بوقت الصلاة، فلا يقع الحج قبل الوقت. ودليلهم الآية: {الحج أشهرٌ معلومات} [البقرة:197/ 2] تقديره وقت الحج أشهر، أو أشهر الحج أشهر معلومات، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، ومتى ثبت أنه وقته، لم يجز تقديم إحرامه عليه كأوقات الصلوات. ولا يصح في السنة الواحدة أكثر من حجة؛ لأن الوقت يستغرق أفعال الحجة الواحدة، فلا يمكن أداء الحجة الأخرى. 2 - وقت العمرة: اتفق العلماء (¬2) على أن العمرة تجوز في أي وقت من أوقات السنة، في أشهر الحج وغيرها، أي إن ميقات العمرة الزماني جميع العام، فهو وقت لإحرام العمرة، لعدم المخصص لها بوقت دون آخر، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم ¬
تفصيل القول في تكرار العمرة
اعتمر عمرتين في ذي القعدة وفي شوال (¬1)، وقال عليه الصلاة والسلام: «عمرة في رمضان تعدل حجة» (¬2) وقال فيما رواه مسلم: «دخلت العمرة في الحج ـ مرتين، لا بل لأبد أبد» ومعناه في أصح الأقوال أن العمرة يجوز فعلها في أشهر الحج إلى يوم القيامة، والمقصود به إبطال ماكانت الجاهلية تزعمه من امتناع العمرة في أشهر الحج. تفصيل القول في تكرار العمرة: لا يكره عند الجمهور تكرار العمرة في السنة، فلا بأس أن يعتمر في السنة مراراً، لحديث عائشة السابق من اعتماره عليه السلام عمرتين في ذي القعدة وشوال، أي في آخر شوال وأول ذي القعدة. وحديث أنس في الصحيحين: «اعتمر صلّى الله عليه وسلم أربع عمر، كلهن في ذي القعدة التي مع حجته» وحديث أبي هريرة في الصحيحين أيضا: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما» وبناء عليه قال الشافعية: يسن الإكثار من العمرة، ولو في اليوم الواحد، إذ هي أفضل من الطواف على المعتمد، لكن حديث عائشة هو أقوى الأدلة، وأما الأحاديث الأخرى فليست دلالاتها ظاهرة من سنة واحدة. وقال المالكية: تكره العمرة في السنة أكثر من مرة؛ لأنها عبادة تشتمل على الطواف والسعي، فلا تفعل في السنة إلا مرة، كالحج. ونوقش ذلك بأن الحج مؤقت لا يتصور تكراره في السنة، والعمرة غير مؤقتة، فتصور تكرارها كالصلاة. متى تكره العمرة؟ يكره فعل العمرة كراهة تحريم عند الحنفية في يوم عرفة (الوقفة) ويوم النحر (العيد) وأيام التشريق الثلاثة عقب العيد؛ لأنها أيام الحج، فكانت متعينة له. ¬
المطلب الثاني ـ ميقات الحج والعمرة المكاني
وقال المالكية: يستثنى المحرم بحج من كون وقت العمرة جميع العام، فلا يصح إحرامه بعمرة إلا إذا فرغ من جميع أفعال الحج من طواف وسعي ورمي لجميع الجمرات، إن لم يتعجل، وبقدر رميها من اليوم الرابع بعد الزوال إن تعجل، أي إنه لا يصح إحرامه بالعمرة إلا بعد الفراغ بالفعل من رمي اليوم الرابع إن لم يتعجل، أو بقدره إذا تعجل بأن قدم طوافه وسعيه. وكره الإحرام بعد رميه اليوم الرابع إلى الغروب منه، فإن أحرم بها بعد الرمي في اليوم الرابع وقبل الغروب صح إحرامه ووجب عليه تأخير طوافه وسعيه بعد الغروب، وإلا لم يعتد بفعله على المذهب، وأعادهما بعده، وإلا فهو باق على إحرامه أبداً. وقال الشافعية: يمتنع على الحاج الإحرام بالعمرة، ما دام عليه شيء من أعمال الحج، كالرمي؛ لأن بقاء حكم الإحرام كبقاء الإحرام نفسه، ولا تكره في وقت، ولا يكره تكرارها كما تقدم بيانه. ورأى الحنابلة: أنه لا كراهة للعمرة بالإحرام بها يوم النحر ويوم عرفة وأيام التشريق، كالطواف المجرد؛ إذ الأصل عدم الكراهة، ولا دليل عليها. المطلب الثاني ـ ميقات الحج والعمرة المكاني: الميقات لغة: الحد، وشرعاً: موضع وزمان معين لعبادة مخصوصة. ولا يجوز للإنسان أن يجاوز الميقات إلا محرماً بحج أو عمرة، وإلا وجب عليه دم أو العودة إليه. فإن قدم الإحرام على الميقات جاز بالاتفاق. وهو أفضل عند الحنفية إن أمن اقتراف المحظورات. ودليل الجواز والأفضلية قوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة:196/ 2] وإتمامهما أن يحرم بهما من دويرة أهله، كما قال علي وابن مسعود، ولأن إتمام الحج مفسر به، والمشقة فيه أكثر والتعظيم أوفر.
أولا ـ ميقات من كان مقيما بمكة
ويختلف نوع الميقات بين من كان بمكة وبين الآفاقي: القادم لمكة من غير أهلها (¬1). أولاً ـ ميقات من كان مقيماً بمكة: من كان بمكة مكياً أو آفاقياً فميقاته في الحج: الحَرم ـ مكة نفسها؛ لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يحرموا بالحج من جوف مكة، فقال: «حتى أهل مكة يهلّون منها» (¬2) ومثله من منزله في الحرم خارج مكة، وندب إحرامه في المسجد الحرام. وميقاته في العمرة: من أدنى الحِلّ ولو بأقل من خطوة من أي جانب شاء، ليتحقق وقوع السفر؛ لأن أداء الحج في عرفة، وهي في الحل، فيكون الإحرام من الحرم، وأداء العمرة في الحرم. فيكون الإحرام من الحِلّ ليجمع في إحرامه بين الحل والحرم، إذ هو شرط في كل إحرام. فإن أحرم بها في الحرم، انعقد وعليه دم إلا إن خرج بعد إحرامه إليه. وأفضل بقاع الحل للإحرام بالعمرة: الجِعْرانة عند الشافعية؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم اعتمر منها، كما روى الشيخان، ثم التنعيم لأمره صلّى الله عليه وسلم عائشة بالاعتمار منه، ثم الحديبية (¬3). وأفضلها عند الحنفية والحنابلة: التنعيم؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «أمر ¬
ثانيا ـ أهل الحل
عبد الرحمن بن أبي بكر أن يُعمر عائشة من التنعيم» (¬1) لأنها أقرب الحل إلى مكة، ثم الجعرانة، ثم الحديبية. وللشخص عند المالكية: أن يحرم من الجعرانة أو التنعيم. ثانياً ـ أهل الحل: وهم الذين منازلهم داخل المواقيت الخمسة كأهل بستان بني عامر وغيرهم، فهم داخل المواقيت وخارج الحرم. قال المالكية: من كان منزله أقرب إلى مكة من الميقات، فميقاته من منزله في الحج أو العمرة. وقال الشافعية والحنابلة: من سلك طريقاً لا ينتهي إلى ميقات، أحرم من محاذاته في بر أو بحر، فإن حاذى ميقاتين أحرم من محاذاة أقربهما إليه، فإن استويا في القرب إليه أحرم من محاذاة أبعدهما من مكة، وإن لم يحاذ ميقاتاً أحرم على مرحلتين من مكة. ومن مسكنه بين مكة والميقات، فيمقاته مسكنه. ومن جاوز ميقاتاً وهو غير مريد للنسك، ثم أراده، فميقاته موضعه. وقال الحنفية: ميقات أهل الحل للحج أو العمرة دويرة أهلهم، أو من حيث شاؤوا من الحل الذي بين دويرة أهلهم وبين الحرم، لقوله عز وجل: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة:196/ 2] وقد فسرها علي وابن مسعود بأن تحرم بهما من دويرة أهلك. فلا يجوز لهم أن يجاوزوا ميقاتهم للحج أو العمرة إلا محرمين. والحل الذي بين دويرة أهلهم وبين الحرم كشيء واحد، فيجوز إحرامهم إلى آخر أجزاء الحل. ¬
ثالثا ـ الآفاقي أو أهل الآفاق
والخلاصة: إن ميقات الحج والعمرة لمن كان داخل المواقيت هو بالاتفاق: الحل وذلك من أماكنهم، ويجوز لهم عند الحنفية دخول مكة لحاجة من غير إحرام. ثالثاً ـ الآفاقي أو أهل الآفاق: وهم الذين منازلهم خارج المواقيت التي وقَّت لهم ولمن مر عليها من غيرهم ممن أراد الحج أو العمرة رسول ُ الله صلّى الله عليه وسلم وهي خمسة، كما في حديث الصحيحين عن ابن عباس: «أنه صلّى الله عليه وسلم وقَّت لأهل المدينة ذا الحُلَيفة، ولأهل الشام الجُحْفة، ولأهل نجد قَرْن المنازل، ولأهل اليمن يَلَمْلَم، وقال: فهنّ لهنّ، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن، لمن كان يريد الحج والعمرة، فمن كان دونهن فمهَلُّه من أهله، وكذلك حتى أهل مكة يُهلُّون منها» (¬1) فإنه شمل أربعة مواقيت. وأما ذات عرق: ففي صحيح مسلم عن جابر مرفوعاً قال: «مَهَلّ أهل المدينة من ذي الحليفة والطريقِ الآخر من الجحفة، ومَهلُّ أهل العراق من ذات عِرْق» (¬2). هذه هي المواقيت الخمسة لغير المقيم بمكة، منقسمة بحسب جهات الحرم، ولا يجوز أن يتجاوزها الإنسان مريداً مكة بالحج أو بالعمرة، إلا محرماً بأحد هذين النسكين وهي ما يأتي: 1 - ميقات أهل المدينة: ذو الحليفة (آبار علي): مكان على ستة أميال من المدينة، وعشر مراحل من مكة، فهو أبعد المواقيت (460 كم). 2 - ميقات أهل الشام ومصر والمغرب كله: الجُحفة (رابغ): موضع على ¬
من حاذى الميقات ومن لم يحاذه
ثلاث مراحل من مكة (187 كم). وبما أن أهل الشام الآن يمرون بميقات أهل المدينة وبهذا الميقات، فيخيرون بالإحرام منهما؛ لأن الواجب على من مرّ بميقاتين ألا يتجاوز آخرهما إلا محرماً، ومن الأول أفضل. 3 - ميقات أهل العراق وغيرهم من أهل المشرق: ذات عِرْق: قرية على مرحلتين من مكة مشرفة على وادي العقيق، في الشمال الشرقي من مكة (194كم). 4 - ميقات أهل اليمن وتهامة والهند: يَلَمْلَم: جبل جنوبي مكة على مرحلتين منها. 5 - ميقات أهل نجد والكويت والإمارات والطائف: قَرْن المنازل: جبل على مرحلتين من مكة، ويقال له أيضاً قرن الثعالب. وهو قريب من المكان المسمى الآن بالسيل (94 كم). ومن تجاوز الميقات دون إحرام وجب عليه الدم إلا إذا عاد إليه، ولا يسقط عنه الدم عند المالكية، وإن رجع إليه بعد إحرامه، على تفصيل سيأتي. وإذا تجاوز الميقات بنية الإقامة في مكان غير الحرم، جاز له ذلك إذا نوى الإقامة مدة خمسة عشر يوماً عند الحنفية، فهي أقل مدة الإقامة في مذهبهم؛ لأن حكم الوطن لا يثبت إلا بنية الإقامة لتلك المدة. من حاذى الميقات ومن لم يحاذه: من سلك طريقاً في بر أو بحر أو جو بين ميقاتين، فإنه يجتهد حتى يكون إحرامه بحذو الميقات الذي هو إلى طريقه أقرب، ويحرم من محاذاة أقرب الميقاتين إليه، وإن كان الآخر أبعد إلى مكة. فإن استويا في القرب إليه، أحرم من محاذاة أبعدهما من مكة. وإن لم يعرف حذو الميقات المقارب لطريقه، احتاط فأحرم من بعد، بحيث يتيقن أنه لم يجاوز الميقات إلا
حكم الداخل إلى مكة بعد أن حج واعتمر
محرماً؛ لأن الإحرام قبل الميقات جائز، وتأخيره عنه لا يجوز، فالاحتياط فعل ما لا شك فيه. وإن لم يحاذ ميقاتاً مما سبق، أحرم على مرحلتين (89 كم) من مكة، إذ لا ميقات أقل مسافة من هذا القدر. حكم الداخل إلى مكة بعد أن حج واعتمر: قال الشافعية (¬1): من حج واعتمر حجة الإسلام وعمرته، ثم أراد دخول مكة لحاجة لا تتكرر، كزيارة أوتجارة أو رسالة، أو كان مكياً مسافراً، فأراد دخولها عائداً من سفره، فهل يلزمه الإحرام بحج أو عمرة؟ فيه تفصيل: أـ إن دخلها لقتال بغاة أو قطاع طريق أو غيرهما من القتال الواجب أوالمباح، أو دخلها خائفاً من ظالم أو غريم يمسه، وهو معسر لا يمكنه الظهور لأداء النسك إلا بمشقة ومخاطرة، لم يلزمه الإحرام بلا خلاف؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح بغير إحرام (¬2)؛ لأنه كان لا يأمن أن يقاتل. ب ـ يستحب لكل داخل إلى مكة لا يتكرر دخوله الإحرام، ويكره الدخول بغير إحرام، فمن دخل مكة لحاجة لا تتكرر كالتجارة والزيارة وعيادة المريض، فالأصح عند الشافعية أنه يستحب له الإحرام، ولا يجب مطلقاً. وقال مالك وأحمد: يلزمه، وقال أبو حنيفة: إن كانت داره في الميقات أو أقرب إلى مكة، جاز دخوله بلا إحرام، وإلا فلا. جـ ـ من كان يتكرر دخوله كالحطاب والحشاش والصياد والسقّاء والبريد والسائقين ونحوهم، يجوز دخوله بغير نسك، لما روى ابن عباس: «لا يدخل أحد ¬
مكة إلامحرماً، ورخص للحطابين» (¬1) ولأن في إيجاب الإحرام على هؤلاء مشقة. وأما أهل الحرم: فلا إحرام عليهم بالدخول إلى مكة بلا خلاف، كما لا تشرع تحية المسجد لمن انتقل من موضع منه إلى موضع آخر منه. ومن أراد دخول الحرم ولم يرد دخول مكة، فحكمه حكم دخول مكة، على التفصيل والخلاف السابق. وإذا وجب الإحرام لدخول الحرم، فدخل بغير إحرام، عصى، ولا يلزمه القضاء عند الشافعية على المذهب، خوفاً من التسلسل، قال بعض الشافعية: كل عبادة واجبة إذا تركها لزمه القضاء أو الكفارة إلا الإحرام لدخول مكة، وإمساك يوم الشك إذا ثبت أنه من رمضان، فمن ترك مع أنه يجب عليه إمساكه، لم يلزمه قضاء الإمساك ولا الكفارة. وقال أبو حنيفة: يلزمه القضاء؛ إذ يجب قضاء كل الواجبات. د ـ من لا يكلف الحج كالعبد والصبي والكافر إذا أعتق العبد أو بلغ الصبي أو أسلم الكافر، وأرادوا الإحرام: فإنهم عند الحنابلة والمالكية يحرمون من موضعهم ولا دم عليهم؛ لأنهم أحرموا من الموضع الذي وجب عليهم الإحرام معه، فأشبهوا المكي ومن قريته دون الميقات إذا أحرم منها. ويجب على جميعهم الدم عند الشافعية؛ لأن كل واحد منهم ترك الواجب عليه. وقال الحنفية: لا دم على الكافر الذي يسلم، والصبي الذي يبلغ، وأما العبد فعليه دم. ¬
هل الإحرام من الميقات أفضل أو من دار أهله؟
هل الإحرام من الميقات أفضل أو من دار أهله؟ قال الحنفية (¬1): الإحرام من بلده أفضل إن كان في أشهر الحج، وأمن على نفسه، لقوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة} [البقرة:196/ 2] قال علي وابن مسعود: إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «من أحرم من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام بحج أوعمرة، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أو وجبت له الجنة» (¬2)، ولأنه أكثر عملاً، وأحرم عمر من إيليا (القدس)، وقال للضبِّي بن معبد الذي أحرم من داره: «هديت لسنة نبيك صلّى الله عليه وسلم» (¬3). وقال جمهور الفقهاء (¬4): الإحرام من الميقات أفضل، لأنه الموافق للأحاديث الصحيحة، ولفعل النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه، فإنهم أحرموا من الميقات، ولا يفعلون إلا الفضل، وأحرم النبي بحجة الوداع من الميقات بالإجماع، وكذا في عمرة الحديبية، كما رواه البخاري في المغازي، ولأن في مصابرة الإحرام بالتقدم عن الميقات عسراً وتغريراً بالعبادة، وإن كان جائزاً. ويدل له قوله صلّى الله عليه وسلم: «يستمتع أحدكم بحله ما استطاع، فإنه لا يدري ما يعرض له في إحرامه» (¬5)، وروى الحسن «أن عمران بن حصين أحرم من مصره، فبلغ ذلك عمر، فغضب: وقال: يتسامع الناس أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم أحرم من مصره» وقال: «إن عبد الله بن عامر أحرم من خراسان، فلما قدم ¬
جزاء من تجاوز الميقات بدون إحرام
على عثمان، لامه فيما صنع، وكرهه له» (¬1) قال البخاري: «كره عثمان أن يحرم من خراسان أو كرمان». وهذا هو الأرجح لدي دفعاً للمشقة عن النفس، وبعداً عن التعرض لفعل محظورات الإحرام. وأما حديث الإحرام من بيت المقدس فيه ضعف، وأما قول عمر للضبي: «هديت لسنة نبيك» فإنه يعني في القران بين الحج والعمرة، لا في الإحرام من قبل الميقات، فإن سنة النبي صلّى الله عليه وسلم الإحرام من الميقات. وأما قول عمر وعلي: «إتمام العمرة أن تنشئها من بلدك» فمعناه أن تنشئ لها سفراً من بلد ك، تقصد له، ليس أن تحرم بها من دويرة أهلك. وهذا ما فسره به سفيان وأحمد، ولا يصح أن يفسر بالإحرام نفسه، فإن النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه ما أحرموا بها من بيوتهم. جزاء من تجاوز الميقات بدون إحرام: لو جاوز الشخص ميقاتاً من المواقيت الخمسة، يريد الحج أو العمرة، بغير إحرام، ثم عاد قبل أن يحرم، وأحرم من الميقات، وجاوزه محرماً، لا يجب عليه دم بالإجماع؛ لأنه لما عاد إلى الميقات قبل أن يحرم، وأحرم، التحقت تلك المجاوزة بالعدم، وصار هذا ابتداء إحرام منه. أما لو أحرم بعدما جاوز الميقات قبل أن يعمل شيئاً من أفعال الحج، ثم عاد إلى الميقات، ففيه آراء للفقهاء (¬2)، علماً بأن هذه الآراء تنطبق عند الحنفية على المكي الذي ترك ميقاته، فأحرم للحج من الحل، والعمرة من الحرم: 1 - قال أبو حنيفة: إن عاد إلى الميقات، ولبى، سقط عنه الدم، وإن لم يلب ¬
لا يسقط، لقول ابن عباس للذي أحرم بعد الميقات: «ارجع إلى الميقات، فلبّ، وإلا فلا حج لك» أوجب التلبية من الميقات، فلزم اعتبارها. 2 - قال الصاحبان والشافعية والحنابلة: من جاوز الميقات، فأحرم، لزمه دم إن لم يعد، وإن أحرم ثم عاد قبل تلبسه بنسك كالطواف سقط عنه الدم، لبى أو لم يلب، علم تحريم ذلك أو جهله؛ لأن حق الميقات في مجاوزته إياه محرماً، لا في إنشاء الإحرام منه، وسقوط الدم عنه لما روى ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «من ترك نسكاً، فعليه دم» (¬1). وإن تجاوز الميقات بغير إحرام لزمه العود ليحرم منه، إلا إذا ضاق الوقت أو كان الطريق مخوفاً. وينطبق هذا على المكي بالحرم إن لم يخرج إلى الميقات، وأتى بأفعال العمرة، عليه دم، وأجزأته، فلو خرج إلى الحل بعد إحرامه سقط الدم، كما لو جاوز الميقات ثم عاد إليه محرماً. ولو أفسد المحرم من دون الميقات حجه، لم يسقط عنه الدم عند الحنابلة والشافعية. وقال الحنفية: يسقط؛ لأن القضاء واجب. 3 - وقال المالكية: من تجاوز الميقات وأحرم، لم يلزمه الرجوع إليه، وعليه الدم، لتعديه الميقات حلالاً، ولا يسقط عنه رجوعه له بعد الإحرام، لتعديه. فإن لم يكن أحرم وجب الرجوع للميقات إلا لعذر كخوف فوات لحجة لو رجع، أو فوات رفقة، أو خاف على نفس أو مال أو عدم قدرة على الرجوع، فلا يجب عليه الرجوع حينئذ، ويجب عليه الدم لتعديه الميقات حلالاً. ¬
المبحث الرابع ـ أعمال الحج والعمرة وصفة حجة النبي وعمرته
المبحث الرابع ـ أعمال الحج والعمرة وصفة حجة النبي وعمرته: أولاً ـ أعمال الحج: عشرة وهي ما يأت (¬1): 1 - الإحرام: نية الحج أو العمرة أو هما، بأن يقول: نويت الحج أو العمرة وأحرمت به أو بها لله تعالى. وإن حج أو اعتمر عن غيره، قال: نويت الحج أو العمرة عن فلان، وأحرمت به أو بها لله تعالى. ثم يلبي عقيب صلاة ركعتي الإحرام. 2 - دخول مكة من أعلاها وهي كَدَاء، ثم دخول المسجد الحرام من باب بني شيبة، ثم طواف القدوم بالابتداء بالركن الأسود. 3 - الطواف: وهو ثلاثة: طواف القدوم، وطواف الإفاضة، وطواف الوداع. 4 - السعي بين الصفا والمروة. 5 - الوقوف بعرفة وبمنى: يخرج إلى منى في اليوم الثامن من ذي الحجة وهو يوم التروية (¬2)، فيصلي فيها الظهر والعصر، ويبيت بها، ثم يروح إلى عرفة بعد طلوع الشمس، فيجمع في اليوم التاسع بين الظهر والعصر مع الإمام في مسجد نمرة أو في غيره، ثم يقف بعرفة حيث يقف الناس. 6 - المبيت بمزدلفة: وهي ما بين منى وعرفة، ويجمع الحجاج بالمزدلفة بين ¬
ثانيا ـ أعمال العمرة
المغرب والعشاء مقصورة بعد مغيب الشفق في ليلة العيد. ويصلون الفجر في المشعر الحرام: وهو آخر أرض المزدلفة، ويقفون للتضرع والدعاء، ثم يدفعون منها قبل طلوع الشمس إلى منى. 7 - رمي الجمار: يرمي الحاج يوم النحر بمنى جمرة العقبة (وهي الجمرة الكبرى) بعد طلوع الشمس قدر رمح، بسبع حصيات. ويرمي سائر الجمرات الثلاث في أيام منى: وهي ثاني العيد وثالثه ورابعه، كل جمرة سبع حصيات، مبتدئاً بالجمرة الأولى (الصغرى) وهي التي تلي مسجد الخيف من جهة عرفات، ثم الوسطى، ثم جمرة العقبة، بين الزوال والغروب. 8 - الحلق أو التقصير، والأول أفضل للرجال. وتقص المرأة ولا تحلق، وتقطع من جميع شعرها نحو الأنملة، ويدعو عند الحلق، وذلك يوم النحر بعد رمي جمرة العقبة والذبح إن كان معه هدي. ثم يأتي مكة، فيطوف طواف الإفاضة وهو المفروض. 9 - الذبح: يذبح بعد رمي الجمرة الكبرى، ويجوز الحلق قبل الذبح، والذبح قبل الجمرة. ويجوز ذبح الهدي قبل طلوع الشمس. 10 - طواف الوداع: مستحب عند المالكية، واجب عند الجمهور. ولا يؤمر به أهل مكة ولا من أقام بها من غير أهلها. وإذا حاضت المرأة بعد الإفاضة خرجت قبل الوداع عند المالكية. ثانياً ـ أعمال العمرة: أربعة وهي: الإحرام، والطواف، والسعي بين الصفا والمروة، والحلق أو التقصير.
ثالثا ـ عمرة النبي صلى الله عليه وسلم
ثالثاً ـ عمرة النبي صلّى الله عليه وسلم: روى الشيخان وأحمد عن أنس: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم اعتمر أربع عُمَر (¬1) في ذي القَعْدة إلا التي اعتمر مع حَجَتَّه: عُمرَته من الحُدَيْبِية، ومن العام المُقْبل، ومن الجِعْرانة حيث قسم غنائم حنين، وعمرته مع حَجته» فهي أربع عمر: عمرة الحديبية لزيارة البيت الحرام في السنة السادسة من الهجرة، وعمرة القضاء من السنة السابعة، وعمرة الجعرانة في السنة الثامنة في وادي حنين بين مكة والطائف، على بعد ثلاث ليال من مكة، والعمرة التي مع حجة الوداع في السنة التاسعة. رابعاً ـ حجة النبي صلّى الله عليه وسلم ـ حجة الوداع: روى مسلم وغيره (¬2) صفة حجة النبي صلّى الله عليه وسلم، وهو حديث عظيم مشتمل على جمل من الفوائد، ونفائس من مهمات القواعد، وأحكام الفقه التي بلغت نيفاً وخمسين نوعاً، كما ذكر الإمام النووي رحمه الله عن أبي بكر بن المنذر رحمه الله. ونص الحديث: قال جعفر بن محمد عن أبيه: دخلنا على جابر بن عبد الله، فسأل عن القوم حتى انتهى إليّ، فقلت: أنا محمد بن علي بن حسين، فأهوى بيده إلى رأسي، فنزع زِرِّي الأعلى، ثم نزع زري الأسفل، ثم وضع كفه بين ثَدْيي، وأنا يؤمئذ غلام شاب، فقال: مرحباً بك ياابن أخي، سل عما شئت، فسألته: وهو أعمى، وحَضَر وقت الصلاة، فقام في نَسَاجة (¬3) ملتحفاً بها كلما وضعها على مَنْكبه، رجع طرفاها إليه من صغَرها، ورداؤه إلى جَنْبه على المِشْجَب (¬4)، ¬
فصلى بنا (¬1) فقلت: أخبرني عن حَجَّة رسول الله صلّى الله عليه وسلم (¬2)، فقال بيده، فعقد تِسْعاً فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحج، ثم أذَّن في الناس في العاشرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم حاجٌّ، فقدِم المدينةَ بشر كثير، يلتمس أن يأتمَّ برسول الله صلّى الله عليه وسلم، ويعمل مثل عمله (¬3). فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماءُ بنت عُمَيس محمد بن أبي بكر، فأرسلتْ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، كيف أصنع؟ قال: اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي (¬4). فصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم في المسجد (¬5)، ثم ركب القَصْواء (¬6)، حتى إذا استوت به ناقته على البيداء، نظرتُ إلى مدّ بصري بين يديه من راكب وماشٍ، وعن يمينه مثلَ ذلك، وعن يساره مثلَ ذلك، ومن خلفه مثلَ ذلك، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل به من شيء عملنا به. فأهَلَّ بالتوحيد (¬7): لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد ¬
والنعمة لك والمُلك، لا شريك لك. وأهلَّ الناس بهذا الذي يُهلُّون به، فلم يردَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم شيئاً منه، ولزم رسول لله صلّى الله عليه وسلم تلبيته (¬1). قال جابر: لسنا ننوي إلا الحج، لسنا نعرف العمرة (¬2)، حتى إذا أتينا البيت معه، استلم الركن (¬3)، فَرَمل ثلاثاً، ومشى أربعاً (¬4)، ثم نَفَذ إلى مَقَام إبراهيم عليه السلام، فقرأ: {واتخِذوا من مقام إبراهيم مُصَلَّى} [البقرة:125/ 2]، فجعل المَقَام بينه وبين البيت (¬5). فكان أبي يقول ـ ولا أعلم ذكَره إلا عن النبي صلّى الله عليه وسلم ـ كان يقرأ في الركعتين: {قل: هو الله أحد} [الإخلاص:1/ 112] و {قل: يا أيها الكافرون} [الكافرون:1/ 109]. ثم رجع إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من الباب إلى الصفا (¬6)، فلما دنا من الصفا قرأ: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} [البقرة:2/ 158]، أبدأ بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا، فرَقَى عليه، حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة، فوحّد الله وكبَّره، قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهوعلى كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، ¬
وهزم الأحزاب وحده (¬1)، ثم دعا بين ذلك، قال مثلَ هذا ثلاثَ مرات. ثم نزل إلى المَرْوة، حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي، سعى، حتى إذا صعدتا، مشى حتى أتى المروة، ففعل على المروة كما فعل على الصفا (¬2). فقال: لو أني استقبلت من أمري ما استدبرتُ، لم أسق الهدي (¬3)، وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هَدْي، فلَيحِلَّ وليَجْعلْها عمرة. فقام سراقة بن مالك بن جُعْشم، فقال: يا رسول الله، ألعامنا هذا أم لأبد؟ فشبَّك رسول الله صلّى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى، وقال: دخلت العمرة في الحج (¬4) ـ مرتين، لا بل لأبد أبد. وقدم علي من اليمن ببُدْن النبي صلّى الله عليه وسلم، فوجد فاطمة ممن حَلَّ، ولبست ثياباً صبيغاً واكتحلت، فأنكر ذلك عليها (¬5). فقالت: إن أبي أمرني بهذا، قال: فكان علي يقول بالعراق: فذهبت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم مُحَرِّشاً على فاطمة، للذي صنعت، مستفتياً لرسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما ذَكَرت عنه، فأخبرتُه أني أنكرت ذلك عليها، فقالت: صَدقَتْ صدقت، ماذا قلتَ حين فَرَضْتَ الحج (¬6)؟ قال: قلتُ: اللهم إني أُهِلُّ بما أَهَلَّ به رسولك (¬7)،قال: فإن معي الهدي، فلا تحِلَّ. ¬
قال: فكان جماعةُ الهدي الذي قدم به علي من اليمن، والذي أتى به النبي صلّى الله عليه وسلم مئةً، قال: فحلَّ الناس كلُّهم، وقصَّروا (¬1)، إلا النبي صلّى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي. فلما كان يوم التروية (¬2)، توجَّهوا إلى منى، فأهلُّوا بالحج (¬3)، وركب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فصلَّى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر (¬4)، ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس، وأمر بقُبَّة من شَعَر تضرب له بنمِرة (¬5). فسار رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام، كما كانت قريش تصنع في الجاهلية (¬6)، فأجاز رسول الله صلّى الله عليه وسلم (¬7) حتى أتى عرفة (¬8)، فوجد القبَّة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها (¬9)، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرُحِلَت له (¬10)، فأتى بطن الوادي (¬11)، فخطب الناس (¬12) وقال: ¬
إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا (¬1)، ألا كلُّ شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضَع من دمائنا: دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مُسْتَرضَعاً في بني هُذَيل، فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا ـ ربا عبَّاس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله (¬2). فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله (¬3)، واستحللتم فروجهن بكلمة الله (¬4)، ولكم عليهن ألا يُوطئن فُرُشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرِّح (¬5)، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف (¬6). وقد تركت فيكم ما لَنْ تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتابُ الله، وأنتم تُسألون عني، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلَّغت وأديت ونصحت. فقال بإصبِعَه السبَّابة يرفعها إلى السماء، وينكُتُها إلى الناس (¬7): اللهم اشهد، ثلاث مرات. ثم أذَّن، ثم أقام، فصلى الظهر، ثم أقام، فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئاً (¬8). ¬
ثم ركب رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف (¬1)، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخَرَات (¬2)، وجعل حَبْل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة (¬3)، فلم يَزَل واقفاً حتى غَرَبت الشمسه (¬4)، وذهبت الصُّفْرة قليلاً حتى غاب القُرْص، وأردف أسامة خلفه (¬5)، ودفَع رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقد شَنَق للقصواء الزِّمام، حتى إن رأسها ليُصيب مَوْرِك رَحْله (¬6)، ويقول بيده اليمنى: أيها الناس، السكينةَ السكينةَ، كلما أتى حَبْلاً من الحبال (¬7)، أرخى لها قليلاً حتى تَصْعَد. حتى أتى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبِّح بينهما شيئاً (¬8). ثم اضطجع رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر (¬9)، وصلى الفجر حتى تبيَّن له الصبح بأذان وإقامة. ¬
ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام (¬1)، فاستقبل القبلة، فدعاه وكبَّره وهلَّله ووحدَّه، فلم يزل واقفاً حتى أسفر (¬2) جداً، فدفع قبل أن تطلع الشمس، وأردف الفضل بن عبَّاس، وكان رجلاً حسن الشَّعْر أبيض وسيماً (¬3)، فلما دفع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، مرَّت به ظُعُن (¬4) يجرين، فطفِق الفضل ينظر إليهن، فوضع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل (¬5)، فحوَّل الفضل وجهه إلى الشق الآخر، فحوَّل رسول الله صلّى الله عليه وسلم يده من الشق الآخر على وجه الفضل، يصرف وجهه من الشق الآخر ينظر، حتى أتى بطن مُحَسِّر (¬6)، فحرَّك قليلاً. ثم سلك الطريق الوسطى (¬7) التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة (¬8). فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الخَذْف (¬9)، رمى من بطن الوادي. ثم انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثاً وستين بيده، ثم أعطى علياً، فنحر ما ¬
خامسا ـ أحكام أعمال الحج عند الفقهاء
غبرَ (¬1)، وأشركه في هَدْيه (¬2)، ثم أمَر من كل بَدَنة بِبضْعة، فجعلت في قِدْر، فطبخت، فأكلا من لحمها، وشربا من مَرَقها (¬3). ثم ركب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأفاض إلى البيت (¬4)، فصلى بمكة الظهر، فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم، فقال: انزِعوا بني عبد المطلب (¬5)، فلولا أن يغلِبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم (¬6)، فناولوه دَلْواً فشرب منه (¬7). خامساً ـ أحكام أعمال الحج عند الفقهاء: للحج عند الفقهاء: أركان وواجبات وسنن، أذكرها هنا بإيجاز ثم أعقبها بجدول مقارن بين المذاهب. ¬
المذهب الأول ـ قال الحنفية
المذهب الأول ـ قال الحنفية (¬1): ركن الحج نوعان: الوقوف بعرفة، وهو الركن الأصلي للحج، وطواف الإفاضة (الزيارة). وفوت الركن يوجب الفساد والبطلان، والركن أو الفرض: هو ما ثبت بدليل مقطوع به. أما الواجب: فهو ما ثبت بدليل ظني، فإن تركه لعذر فلا شيء عليه، وإن تركه لغير عذر لزمه دم. وواجبات الحج كثيرة أهمها خمسة: السعي بين الصفا والمروة، والوقوف بمزدلفة ولو بمقدار لحظة في النصف الثاني من الليل، ورمي الجمار، والحلق أو التقصير، وطواف الصَّدَر (الوداع). علماً بأن الحلق والطواف بالبيت بعد الذبح، والذبح يختص بأيام النحر لا يجوز قبلها. وسنن الحج: غسل الإحرام والتطيب له (¬2)، والنطق بما نوى بأن يقول المفرد: اللهم إني أريد الحج فيسره لي وتقبله مني، ويقول المعتمر: اللهم إني أريد العمرة فيسرها لي، وتقبلها مني، ويقول القارن: اللهم إني أريد العمرة والحج فيسرهما لي وتقبلهما مني. والتلبية عقب كل صلاة فريضة أو نافلة بأن يقول: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك» وهي تلبية رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ودخول مكة ليلاً أو نهاراً، ثم دخول المسجد الحرام من باب بني شيبة، والقول عند رؤية الكعبة في الخفاء: «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، اللهم هذا بيتك عظمته وشرفته وكرمته فزده تعظيماً وتشريفاً وتكريماً». ¬
ويبدأ غير المكي المفرد أو القارن بطواف القدوم من الحجر الأسود، مستقبلاً له، مكبراً رافعاً يديه كما يرفعهما في الصلاة، حذو منكبيه، والأفضل أن يقبله اتباعاً للنبي صلّى الله عليه وسلم إن أمكنه من غير أن يؤذي أحداً، وإلا استقبله وكبر وهلل وحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلّى الله عليه وسلم كما يصلي عليه في الصلاة. ثم يطوف سبعة أشواط يرمل في الثلاثة الأول، ويمشي على هيئته في الأربعة الباقية، ويستلم الحجر في كل شوط يفتتح به إن استطاع من غير أن يؤذي أحداً، ولَيس استلام الركن اليماني سنة، لكن إن استلمه فحسن، أي فهو مستحب وليس بسنة عند أبي حنيفة خلافاً لمحمد. ثم يصلي ركعتين في نهاية المطاف عند مقام إبراهيم أو حيث تيسر عليه من المسجد، وركعتا الطواف صلاة واجبة عند الحنفية خلافاً لغيرهم. ومن السنن: خطبة الإمام في ثلاثة مواضع: في اليوم السابع قبل يوم التروية، ويوم عرفة، وفي اليوم الحادي عشر من ذي الحجة، وهي خطبة واحدة بعد صلاة الظهر إلا خطبة عرفة فهي خطبتان بعد الزوال قبل الصلاة. وصفة الخطبة: هي أن يحمد الله تعالى، ويثني عليه، ويكبر ويهلل، ويعظ الناس، فيأمرهم بما أمر الله عز وجل وينهاهم عما نهاهم الله عنه، ويعلمهم مناسك الحج من الوقوف بعرفة والإفاضة منها والوقوف بمزدلفة. ثم يصلي الإمام بالناس الظهر والعصر مقصورتين مجموعتين جمع تقديم بأذان واحد وإقامتين، ولم يتنفل قبلهما ولا بعدهما، كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلم. ويخفي الإمام القراءة فيهما بخلاف الجمعة والعيدين، فإنه يجهر فيهما بالقراءة، وذلك سواء المكي المحرم وغيره.
ثم يروح الإمام والناس إلى عرفات، عقيب الصلاة، يقفون فيها حتى غروب الشمس، يكبرون ويهللون ويحمدون الله تعالى ويثنون عليه ويصلون على النبي صلّى الله عليه وسلم، ويسألون الله تعالى حوائجهم ويتضرعون إليه بالدعاء. ومن السنن: البقاء في المزدلفة حتى يسفر ضوء النهار. ومنها المبيت بمنى ليلة الثامن من ذي الحجة (يوم عرفة) وأداء خمس صلوات فيها، كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلم في حجة الوداع. وكذلك المبيت بمنى ليلتين: ليلة الأول من أيام التشريق والثاني من أيام الرمي، ويكره أن يبيت في غير منى من أيام منى، فإن فعل لا شيء عليه، ويكون مسيئاً؛ لأنه البيتوتة بمنى ليست واجبة، بل هي سنة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أرخص للعباس أن يبيت بمكة للسقاية (¬1). والسنة أن يرمي جمرة العقبة بعد طلوع الشمس من يوم النحر قبل الزوال بسبع حصيات مثل حصى الخذف، بوضع كل حصاة على السبابة والإبهام، كأنه يخذف بها. وترمى الجمرات الثلاث بعد الزوال من اليوم الثاني والثالث، ويكبر مع كل حصاة، مبتدئاً بالجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف، ثم الوسطى، ثم الكبرى جمرة العقبة، فإذا فرغ منها عند كل جمرة يقف عندها فيكبر ويهلل ويحمد الله تعالى، ويثني عليه، ويصلي على النبي صلّى الله عليه وسلم ويسأل الله تعالى حوائجه. وتؤخذ الجمار من مزدلفة أو من الطريق، اتباعاً لفعل النبي صلّى الله عليه وسلم، وإن رمى بحصاة أخذها من الجمرة أجزأه وقد أساء، لقوله صلّى الله عليه وسلم ـ فيما يرويه البخاري ومسلم ـ «ارم ولا حرج» مطلقاً. ¬
أعمال العمرة
وتقطع التلبية مع أول حصاة يرمي بها جمرة العقبة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم قطع التلبية عند أول حصاة رمى بها جمرة العقبة (¬1). ومن السنن: التحصيب: وهو النزول بوادي المحصب أو الأبطح، وهو موضع بين منى ومكة عند مدخل مكة بين الجبلين، إلى المقبرة المسماة بالحجون، ينزل به ساعة، فإنه سنة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم نزلوا بالأبطح (¬2). أعمال العمرة: وأما العمرة عند الحنفية (¬3): فركنها الطواف، لقوله تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} [الحج:29/ 22]. وواجباتها اثنان: السعي بين الصفا والمروة، والحلق أو التقصير. وسنتها: أن يقطع التلبية إذا استلم الحجر عند أول شوط من الطواف. المذهب الثاني ـ مذهب المالكية (¬4): للحج أركان وواجبات وسنن ومندوبات. والركن أو الفرض: هو ما لاتحصل حقيقة الحج أو العمرة إلا به، والواجب: ما يحرم تركه اختياراً لغير ضرورة، ولا يفسد النسك بتركه وينجبر بالدم. ¬
أركان الحج أربعة
أركان الحج أربعة: 1 - الإحرام: وهو النية المقترنة بقول أو فعل متعلق بالحج، كالتلبية والتوجه إلى الطريق. والأرجح أنه ينعقد بمجرد النية. 2 - السعي بين الصفا والمروة سبعة أشواط: وهو كما ذكر الأجهوري أفضل من الوقوف بعرفة، لقربه من البيت، وتبعيته للطواف الأفضل من الوقوف، لتعلقه بالبيت المقصود بالحج. 3 - الحضور بعرفة ليلة النحر، ولو بالمرور بها، إن علم أنه عرفة ونوى الحضور الركن. 4 - طواف الإفاضة سبعة أشواط بالبيت. وأركان العمرة ثلاثة: إحرام من المواقيت أو من الحل، وطواف بالبيت سبعاً، وسعي بين الصفا والمروة سبعاً. وأما حلق الرأس فهو واجب، ويكره تكرارها في العام الواحد. وللإحرام واجبات وسنن ومندوبات، علماً بأنه لا دم في ترك السنن: أما واجباته: فهي التجرد من المخيط وكشف الرأس للذكر، والتلبية، ووصلها بالإحرام، فمن تركها رأساً أو فصل بينها وبين الإحرام بفاصل طويل، فعليه دم. وسنن الإحرام: غسل متصل به، ولبس إزار وسطه، ورداء على كتفيه، ونعلين في رجليه، فلو التحف برداء أو كساء أجزأ وخالف السنة. ويسن ركعتان بعد الغسل وقبل الإحرام، ويجزئ عنهما الفرض، وفاته الأفضل.
ويندب للراكب الإحرام إذا استوى على ظهر دابته، وللماشي إذا مشى. ويندب للمحرم إزالة شعثه قبل الغسل، بأن يقص أظفاره وشاربه ويحلق عانته، وينتف شعر إبطه، ويرجل شعر رأسه أو يحلقه إذا كان من أهل الحلق، ليستريح بذلك من ضررها، وهو محرم. ويندب الاقتصار على تلبية الرسول صلّى الله عليه وسلم، وهي «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك، والملك، لا شريك لك» (¬1). ويندب تجديدها لتغير حال، كقيام وقعود وصعود وهبوط ورحيل وحط ويقظة من نوم أو غفلة، وخلف صلاة ولو نافلة، وعند ملاقاة رفاق. وندب توسط في علو صوته، فلا يسرُّها، ولا يرفع صوته جداً. وندب توسط في تردادها، فلا يترك حتى تفوته الشعيرة، ولا يوالي حتى يلحقه الضجر. ويلبي المحرم من مكة في المكان الذي أحرم منه، سواء في المسجد أم في غيره. ويلبي الآفاقي المعتمر من الميقات وكذا المعتمر الذي فاته الحج لإحصار أو مرض إلى أن يصل إلى الحرم المكي العام. ويلبي المعتمر من دون الميقات كالجعرانة إلى أن يصل لبيوت مكة. ¬
واجب السعي
ويلبي المحرم من الميقات بالحج ولو قارناً حتى يصل لبيوت مكة أو حتى يبدأ بطواف القدوم. وواجب السعي: أن يسعى بعد طواف واجب كالقدوم والإفاضة. وأن يقدمه على الوقوف بعرفة إن وجب عليه طواف القدوم، وإلا أخره عقب طواف الإفاضة. ويجب طواف القدوم بشروط ثلاثة: على المفرد أو القارن المحرم من الحِلّ، إذا لم يزاحمه الوقت وخشي فوات الحج لو اشتغل به، ولم يردف الحج على العمرة بحرم، أي لم ينو الحج بعد الإحرام بالعمرة قبل الشروع في طوافها. ويعذر الحائض والنفساء والمغمى عليه والمجنون في ترك طواف القدوم، كما في حالةالخوف من فوات الحج. وواجب الطواف: ركعتان بعد الفراغ منه، يقرأ فيهما ندباً بعد الفاتحة بالكافرون في الركعة الأولى، وبالإخلاص في الثانية. وندب إيقاع الركعتين في مقام إبراهيم. ويجب ابتداء الطواف من الحجر الأسود، والمشي لقادر عليه كالسعي، وإلا لزمه دم. وندب دعاء بعد تمام الطواف قبل الركعتين بالملتزم: حائط البيت بين الحجر الأسود وباب البيت، يضع صدره عليه، ويفرش ذراعيه عليه، ويدعو بما شاء، ويسمى الحطيم أيضاً. وندب كثرة شرب ماء زمزم، لأنه بركة، بنية حسنة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ماء زمزم لما شرب له» (¬1)، وندب نقله إلى بلده وأهله للتبرك به. ¬
سنن الطواف
وسنن الطواف: 1 - تقبيل الحجر، بلا صوت، ندباً، أوله قبل الشروع فيه إذا لم تكن زحمة، وإلا لمس باليد أو بالعود، ووضعا على الفم، ويندب أن يكبر مع كل تقبيل ونحوه قائلاً: (بسم الله والله أكبر، اللهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعاً لسنة نبيك محمد) ص (^*^). 2 - واستلام الركن اليماني أول شوط، بأن يضع يده اليمنى عليه، ويضعها على فمه. 3 - ورمَل ذَكَر ولوغير بالغ في الأشواط الثلاثة الأول فقط في غير زحمة، لمن أحرم من الميقات، والرمل: الإسراع في المشي دون الجري، وذلك في طواف القدوم وطواف العمرة إن أحرم من الميقات. فإن لم يحرم من الميقات فيندب الرمل في طواف الإفاضة لمن لم يطف طواف القدوم لعذر أو نسيان. 4 - الدعاء بما يحب من طلب عافية وعلم وتوفيق وسعة رزق بما يفتح عليه، دون تحديد في ذلك. والأولى الدعاء بقوله تعالى: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} [البقرة:201/ 2] وبالمأثور مثل «اللهم إني آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت، فاغفر لي ما قدمت وماأخرت» (¬1). وسنن السعي أربع: 1ً - تقبيل الحجر الأسود قبل الخروج له وبعد صلاة ركعتي الطواف. 2ً - الصعود على الصفا والمروة. وتصعد المرأة إن خلا الموضع من الرجال. ¬
مندوبات الطواف
3ً - الإسراع بين الميلين الأخضرين فوق الرمَل ودون الجري، في الذهاب إلى المروة، وفي العودة إلى الصفا. 4ً - الدعاء على الصفا والمروة، سواء رقي أو لم يرقَ، قام أو جلس. ومندوبات الطواف: رمل في الثلاثة الأول لمحرم من دون المواقيت كالتنعيم والجعرانة، في طواف الإفاضة إن لم يطف طواف القدوم لعذر أو نسيان. وتقبيل الحجر الأسود واستلام الركن اليماني في غير الشوط الأول. ومندوبات السعي: شروط الصلاة من طهارة وستر عورة، ووقوف على الصفا والمروة، والجلوس مكروه أو خلاف الأولى. وواجب الوقوف بعرفة: طمأنينة، أي استقرار بقدر الجلسة بين السجدتين، قائماً أو جالساً أو راكباً، والركوب أفضل. وسنن الوقوف بعرفة: 1 ً - خطبتان كالجمعة بعد الزوال بمسجد نمرة، يعلمهم الخطيب بهما بعد الحمد والشهادتين ما عليهم من المناسك، قبل الأذان للظهر، من جمع وقصر ورمي الجمار وطواف الإفاضة والتقاط الجمرات من المزدلفة والمبيت بها وصلاة الصبح فيها، والنفر إلى الوقوف بالمشعر الحرام إلى قرب طلوع الفجر، ثم السير لمنى لرمي جمرة العقبة، والإسراع ببطن محسر، ثم الحلق أو التقصير، والذبح أو نحر الهدايا. 2ً - الجمع بين الصلاتين جمع تقديم بين الظهر والعصر في نمرة وقصرهما ما عدا أهل عرفة فيتمون. والجمع بين المغرب والعشاء جمع تأخير في مزدلفة وقصرهما إلا أهل مزدلفة، فيتمون.
مندوبات الوقوف بعرفة
والحاصل أن أهل مكة ومنى ومزدلفة وعرفة يتمون الصلاة في محلهم ويقصر غيرهم. ومندوبات الوقوف بعرفة: 1 ً - الوقوف بجبل الرحمة: مكان معلوم شرقي عرفة عند الصخرات العظام. 2ً - الوقوف مع الناس؛ لأن في جمعهم مزيد الرحمة والقبول. 3ً - الركوب حال الوقوف، ثم القيام على القدمين إلا لتعب فيجلس. 4ً - الدعاء بما أحب من خيري الدنيا والآخرة، والتضرع إلى الله، أي الخشوع والابتهال، حتى الغروب؛ لأنه أقرب للإجابة. أما الوقوف بالمزدلفة فواجب بقدر حط الرحال وصلاة العشاءين، وتناول شيء فيها من أكل أو شرب، فإن لم ينزل فدم. ومندوباته: 1 - المبيت بها، وارتحاله منها بعد صلاة الصبح فيها بغلس قبل أن تتعارف الوجوه. 2 - والوقوف بالمشعر الحرم (محل يلي مزدلفة جهة منى) للدعاء بالمغفرة وغيرها والثناء على الله للإسفار مستقبلاً للبيت جهة المغرب؛ لأن هذه الأماكن كلها شرقي مكة. 3 - والإسراع ببطن مُحَسِّر (واد بين المشعر الحرام ومنى، بقدر رمية الحجر بالمقلاع من قويّ).
مندوبات الرمي بمنى وما بعده
ومندوبات الرمي بمنى وما بعده: 1 - رمي العقبة ولو راكباً بمجرد الوصول لها أول يوم النحر من طلوع الشمس إلى الزوال، بسبع حصيات يلتقطها من المزدلفة مثل حصى الخذف، ورمي غير العقبة إثر الزوال قبل صلاة الظهر متوضئاً، مبتدئاً بالجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف، ثم الوسطى، ثم العقبة، فإن خالف هذا الترتيب لم يصح الرمي. 2 - مشي الرامي في غير جمرة العقبة يوم النحر. 3 - التكبير بأن يقول: (الله أكبر) أو (بسم الله، الله أكبر، رغماً للشيطان وحزبه، ورضاء الرحمن) مع رمي كل حصاة من العقبة أوغيرها، والوقوف على يسار الجمرة الوسطى والدعاء والثناء على الله مستقبلاً القبلة قدر قراءة سورة البقرة إثر رمي الجمرتين الأولى والوسطى، والانصراف بعد جمرة العقبةلضيق محلها. 4 - تتابع الحصيات بالرمي: فلا يفصل بينهما شاغل من كلام أو غيره. 5 - التقاط الحصى بنفسه أو غيره من أي مكان، إلا حصى العقبة فمن المزدلفة. 6 - ذبح الهدي والحلق قبل الزوال إن أمكن. 7 - تأخير الحلق أو التقصير عن الذبح. أما التقصير بقدر الأنملة فللمرأة من جميع شعرها، ويجزئ الرجل إما قريباً من أصل الشعر، أو من الأطراف، بنحو الأنملة. ولا يجزئ حلق بعض شعر الرأس للذكر، ولا تقصير البعض للأنثى. 8 - التحصيب: نزول غير المتعجل بعد رمي جمار اليوم الثالث بالمحصب (بطحاء خارج مكة) ليصلي فيه أربع صلوات: الظهر والعصر والمغرب والعشاء، كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلم، وأما المتعجل فلا يندب له ذلك.
واجبان في رمي العقبة
فإذا رمى العقبة ونحر وحلق أو قصر، نزل من منى لمكة لطواف الإفاضة. ولا تسن صلاة العيد بمنى ولا بالمسجد الحرام؛ لأن الحاج لا عيد له. وما يقع الآن من صلاة العيد بالمسجد الحرام بعد رمي جمرة العقبة، فعلى غير مذهب المالكية. واجبان في رمي العقبة: الواجب تقديم رمي العقبة على الحلق؛ لأنه إذا لم يرمها لم يحصل له تحلل، فلا يجوز له حلق ولا غيره من محرمات الإحرام. ويجب تقديم الرمي المذكور أيضاً على طواف الإفاضة. فإن أخر الرمي عن الحلق أو على الإفاضة فعليه دم. أما تقديم الرمي على النحر، وتقديم النحر أو الحلق على الإفاضة، فليس بواجب بل مندوب. والحاصل أن الذي يفعل يوم النحر أربعة: الرمي، فالنحر، فالحلق، فالإفاضة. ومندوبات طواف الإفاضة: أن يفعل في ثوبي إحرامه، ليكون جميع أركان الحج بهما. وأن يفعل عقب الحلق بلا تأخير إلا بقدر قضاء حاجته. المذهب الثالث ـ مذهب الشافعية (¬1): أعمال الحج ثلاثة أنواع: أركان وواجبات وسنن. أما الأركان: فلا يتم الحج ولا يجزئ حتى يأتي بجميعها، ولا يحل من إحرامه مهما بقي منها شيء، حتى لو أتى بالأركان كلها إلا أنه ترك طوفة من السبع، أو مرة من السعي، لم يصح الحج، ¬
الواجبات
ولم يحصل التحلل الثاني، وكذا لو حلق شعرتين لم يتم حجه، ولا يحل حتى يحلق أو يقصر شعرة ثالثة. ولا يجبر شيء من الأركان بدم ولا غيره، بل لا بد من فعلها. والطواف والسعي والحلق: لا آخر لوقتها، بل لا تفوت مادام حياً، ولا يختص الحلق بمنى والحرم، بل يجوز في الوطن وغيره. والترتيب بين الأركان واجب، فيقدم الإحرام على جميعها، والوقوف على طواف الإفاضة والحلق، ويشترط كون السعي بعد طواف صحيح، ويصح السعي بعد طواف القدوم. ولا يجب الترتيب بين الطواف والحلق. وأما الواجبات: فمن ترك شيئاً منها لزمه دم، ويصح الحج بدونه، سواء تركها عمداً أوسهواً، لكن يأثم العامد. وأما السنن: فمن تركها لا شيء عليه، لا إثم ولا دم ولا غيره، لكن فاته الكمال والفضيلة وعظيم ثوابها. 1 - الأركان: أركان الحج خمسة: الإحرام، والوقوف بعرفة، والطواف، والسعي، والحلق أو التقصير (¬1). وأركان العمرة أربعة: الإحرام والطواف والسعي والحلق أو التقصير. 2 - الواجبات: واجبات الحج خمسة: أولها ـ الإحرام من الميقات الزماني والمكاني، فميقات الحج الزماني: (شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة)، وميقات العمرة: جميع السنة، فإن كل أجزاء العام وقت لإحرامها. والميقات ¬
سنن الحج
المكاني للحج: مكة نفسها للمقيم بها مكياً كان أو آفاقياً، وأما غير المقيم فيحرم من أحد المواقيت الخمسة السابق ذكرها (ذو الحليفة لأهل المدينة، والجحفة لأهل الشام ومصر والمغرب، ويلملم لأهل اليمن، وقَرْن المنازل لأهل نجد، وذات عِرْق لأهل المشرق). وثانيها ـ رمي الجمار الثلاث: يبدأ بالأولى الصغرى (¬1) وهي التي تلي مسجد الخيف، ثم الوسطى، ثم جمرة العقبة (وهي التي تلي مكة)، في كل يوم من أيام التشريق. ورمي جمرة العقبة فقط يوم النحر. وثالثها ـ المبيت في المزدلفة، وهذا على الراجح في المذهب أنه واجب لا سنة. رابعها ـ المبيت بمنى، وهذا على الراجح في المذهب. خامسها ـ طواف الوداع عند إرادة الخروج من مكة لسفر، حاجاً كان أو لا، طويلاً كان السفر أو قصيراً، والقول بوجوبه هو الأظهر. 3 - السنن: سنن الحج العامة ثمانٍ أو أكثر: وهي كل ما عدا الأركان والواجبات: أحدها ـ الإفراد: وهو تقديم الحج على العمرة، بأن يحرم أولاً بالحج من ميقاته ثم يفرغ منه، ثم يحرم بالعمرة من أدنى الحل، وأفضل بقاعه ـ كما تقدم ـ الجعرانة، ثم التنعيم، ثم الحديبية. ثانيها ـ التلبية: ولفظها: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن ¬
الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) (¬1) ومن لا يحسنها بالعربية يأتي بها بغيرها، وتجوز الترجمة عنها بغير العربية، مع القدرة على العربية، على الأوجه. ويسن الإكثار منها في أثناء الإحرام، ويرفع الرجل صوته بها. وإذا فرغ من التلبية صلى على النبي صلّى الله عليه وسلم، وسأل الله الجنة ورضوانه، واستعاذ به من النار. ثالثها ـ طواف القدوم: للحاج الذي دخل مكة قبل الوقوف بعرفة. أما المعتمر إذا طاف للعمرة أجزأه عن طواف القدوم. رابعها ـ ركعتا الطواف بعد الفراغ منه، خلف المقام، يسر بالقراءة فيهما نهاراً، ويجهر بهما ليلاً. فإذا لم يصلهما خلف المقام ففي الحِجْر (حجر إسماعيل)، وإلا ففي المسجد، وإلا ففي أي موضع شاء من الحرم وغيره. خامسها ـ التجرد عند إرادة الإحرام (¬2) عن المخيط من الثياب وعن منسوجها ومعقودها ولو بعضو من أعضاء البدن، وعن غير الثياب من خف ونعل ساتر أصابع الرجلين، بخلاف ما لا يستر ذلك. ثم لبس إزار ورداء أبيضين جديدين وإلا فنظيفين، لخبر «البسوا من ثيابكم البياض» وخبر أبي عوانة في صحيحه: «ليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين». سادسها ـ إلقاء الإمام أربع خطب (¬3): الأولى ـ يوم السابع من ذي الحجة، يخطب عند الكعبة بعد صلاة الظهر. والثانية ـ يوم عرفات ببطن عرنة، وتحدث ¬
عادة في مسجد نمرة، والثالثة ـ يوم النحر. والرابعة ـ في اليوم الثاني من أيام التشريق بعد صلاة الظهر، يعلمهم فيها فيها جواز النفر وما بعدها من طواف الوداع وغيره، ويودعهم ويحثهم على طاعة الله تعالى، وعلى أن يختموا حجهم بالاستقامة، والثبات على طاعة الله تعالى، وأن يكونوا بعد الحج خيراً منهم قبله، وألا ينسوا ما عاهدوا الله عليه من خير. ويعلمهم في كل خطبة من هذه ما يحتاجون إليه إلى الخطبة الأخرى. وكل هذه الخطب أفراد أي خطبة واحدة، وبعد صلاة الظهر، إلا التي يوم عرفات، فإنها خطبتان قبل الصلاة. سابعها ـ الأغسال المسنونة في الحج وهي سبعة: يسن الغسل لأحد أمور سبعة: 1 - للإحرام (¬1)، فإن عجز مريد الإحرام عن الغسل لفقد الماء أو عدم قدرته على استعماله تيمم. 2، 3 - ولدخول الحرم ولدخول مكة ولو حلالاً (¬2). 4 - وللوقوف بعرفة، والأفضل كونه بنمرة. 5 - وللوقوف بمزدلفة عند المشعر الحرام بعد فجر يوم النحر. 6 - ولكل يوم من أيام التشريق الثلاثة بعد الزوال للرمي لآثار وردت فيها، ولأنها مواضع اجتماع كغسل الجمعة. 7 - ولدخول المدينة. ثامنها ـ شرب ماء زمزم ولو لغير حاج ومعتمر، والتضلع منه واستقبال القبلة عند شربه، وأن يقول: (اللهم إنه بلغني عن نبيك صلّى الله عليه وسلم أن ماء زمزم لما شرب له، وأنا أشربه لسعادة الدنيا والآخرة، اللهم فافعل). ¬
سنن أخرى خاصة في كل عمل من أعمال الحج
وكان ابن عباس إذا شرب يقول: «اللهم إني أسألك علماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، وشفاء من كل داء» (¬1) ويسن أن يسمي الله تعالى ويشرب ويتنفس ثلاثاً، وأن ينضح منه على رأسه ووجهه وصدره. وهناك سنن أخرى خاصة في كل عمل من أعمال الحج: أولاً ـ سنن الإحرام (¬2): يسن الغسل له كما تقدم، وتطييب البدن، وكذا الثوب في الأصح، وأن تخضِّب المرأة يديها، وأن يصلي ركعتين للإحرام قبله، اتباعاً لفعل النبي صلّى الله عليه وسلم كما روى الشيخان، يقرأ في الأولى «الكافرون» وفي الثانية الإخلاص، والأفضل أن يحرم الشخص بمجرد التحرك بسير الدابة ونحوها إذا كان راكباً، وببدء المشي إذا كان ماشياً، والإكثار من التلبية ورفع الصوت بها وعند تغاير الأحوال كركوب ونزول وصعود وهبوط واختلاط رُفْقة. ويسن عند الشافعيةاستقبال القبلة عند بدء الإحرام، ويقول: (اللهم أحرم لك شعري وبشري ولحمي ودمي). ثانياً ـ سنن الطواف (¬3): أن يطوف ماشياً ولو امرأة اتباعاً للسنة كما روى مسلم، ويستلم أول طوافه وفي كل طوفة الحجر الأسود بيده اليمنى ويقبّله ويضع جبهته عليه، اتباعاً للسنة كما روى الشيخان، فإن عجز أشار إليه بيده. ولا يستلم الركنين الشاميين (وهما اللذان عند الحِجْر) ولا يقبلهما، لما في الصحيحين عن ابن عمر: «أنه صلّى الله عليه وسلم كان لا يستلم إلا الحجَر والركن اليماني» ويستلم بيده الركن اليماني ولا يقبله؛ لأنه لم ينقل. ¬
ويقول عند بدء الطواف مقابل الحجَر: (بسم الله، والله أكبر، اللهم إيماناً بك وتصديقاً بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعاً لسنة نبيك محمد صلّى الله عليه وسلم). ويقول قبالة باب الكعبة: (اللهم إن البيت بيتك، والحرم حرمك، والأمن أمنك. وهذا مقام العائذ بك من النار) أي هذا الملتجئ المستعيذ بك من النار. ويقول بين الركنين اليمانيين، أي اليماني وركن الحجَر: «اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار». ويدعو في جميع طوافه بما شاء، ومأثور الدعاء أفضل من غير المأثور، والقرآن أفضل الذكر. ويرمل في الأشواط الثلاثة الأولى في كل طواف يعقبه سعي، بأن يسرع الطائف مشيه مقارباً خطاه، ويمشي في الباقي من طوافه على هينته، لما روى الشيخان عن ابن عمر: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا طاف بالبيت طواف الأول خبَّ ثلاثا، ومشى أربعاً» وليقل أثناء الرمل: «اللهم اجعله حجاً مبروراً، وذنباً مغفوراً، وسعياً مشكوراً». ويضطبع الذَّكَر ولو صبياً في الطواف، والسعي على الصحيح اتباعاً للسنة كما رواه أبو داود: وهو جعل وسط ردائه تحت منكبه الأيمن وطرفيه على الأيسر. ولا ترمل المرأة ولا تضطبع. ويوالي بين الطوفات السبع خروجاً من خلاف من أوجبها، فيكره التفريق بلا عذر، ومن الأعذار: إقامة الجماعة وعروض حاجة لا بد منها، ويكره قطع الطواف المفروض لصلاة جنازة أو سنة راتبة. ويقرب من البيت لشرفه، ولأنه أيسر في الاستلام والتقبيل. والقرب من البيت بلا رمَل عند الزحمة أولى من البعد عنه، والرمل مع البعد أولى من القرب.
ثالثا ـ سنن السعي
ويصلي بعد الطواف ركعتين خلف المقام، لما ثبت في الصحيحين «أنه صلّى الله عليه وسلم صلاهما خلف المقام، وقال: خذوا عني مناسككم» يقرأ في الركعة الأولى «الكافرون» وفي الثانية «الإخلاص» ويجهر ليلاً بهما. ويكثر من دخول الحِجْر والصلاة فيه والدعاء. وتسن النية في طواف النسك، وتجب في طواف لم يشمله نسك وفي طواف الوداع. ثالثاً ـ سنن السعي: يسن أن يستلم الساعي بيده الحجر الأسود بعد انتهاء الطواف وصلاة ركعتيه (¬1)، ثم يخرج من باب الصفا للسعي بين الصفا والمروة (¬2). ويستحب أن يرقى الذكَر على الصفا والمروة قدر قامة إنسان معتدل، وأن يشاهد البيت؛ لأنه «صلّى الله عليه وسلم رقى على كل منهما حتى رأى البيت» (¬3). فإذا رقى قال: (الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر على ما هدانا، والحمد لله على ما أولانا، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير) (لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون). ثم يدعو بما يشاء ديناً ودنيا، ويعيد الذِّكْر والدعاء السابقين، ثانياً وثالثاً (¬4). ¬
رابعا ـ سنن الوقوف بعرفة
ويسن أن يمشي أول السعي وآخره، ويعدو الذكَر (يسعى سعياً شديداً فوق الرمل) في الوسط الذي بين الصفا والمروة بين الميلين الأخضرين (¬1). ويقول الذكر في عدوه: (رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم، إنك أنت الأعز الأكرم). رابعاً ـ سنن الوقوف بعرفة (¬2): يسن أن يخطب الإمام بعد زوال اليوم التاسع (أي بعد الظهر) خطبتين، ثم يصلي بالناس الظهر والعصر قصراً وجمع تقديم اتباعاً للسنة كما رواه مسلم. ويسن الوقوف إلى الغروب (¬3)، والأفضل كونه بعد الغروب حتى تزول الصفرة قليلاً. ويسن أن يذكر الحجاج الله تعالى ويدعونه، وأن يكثروا التهليل لقوله صلّى الله عليه وسلم: «خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون قبلي: لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير» (¬4) وزاد البيهقي: «اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي سمعي نوراً، وفي بصري نوراً، اللهم اشرح لي صدري، ويسر لي أمري». ويسن الإكثار من الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم، ولا يتكلف السجع في الدعاء، ولا بأس بالسجع إذا كان محفوظاً، أو كان من غير قصد له. ¬
ويسن قراءة القرآن. ويستحب أن يكثر من قراءة سورة الحشر في عرفة، وقراءة سورة الإخلاص، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ قل هو الله أحد ألف مرة يوم عرفة، أُعطي ماسأل» (¬1). ويسن رفع اليدين في الدعاء (¬2)، وأن يقف مستقبل القبلة متطهراً، ولا يُفرط في الجهر بالدعاء أو غيره. والأفضل للرجل أن يقف راكباً، على الأظهر. ولا فضيلة في صعود جبل الرحمة. ومن أدعية عرفة المختار: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم. اللهم انقلني من ذلّ المعصية إلى عز الطاعة، واكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمن سواك، ونور قلبي وقبري، واهدني وأعذني من الشر كله، واجمع لي الخير، اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى). وينبغي أن يستغفر للمؤمنين في دعائه، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «اللهم اغفر للحاج، ولمن استغفر له الحاج» (¬3). ¬
خامسا ـ سنن الوقوف بمزدلفة
يجب المبيت بمزدلفة بعد الدفع من عرفة اتباعاً للسنة (¬1)، فإن لم يكن بها في النصف الثاني أراق دماً، ويسن جمع المغرب والعشاء فيها جمع تأخير (¬2) اتباعاً للسنة (¬3). خامساً ـ سنن الوقوف بمزدلفة: ويسن تقديم النساء والضَّعَفة بعد نصف الليل إلى منى، ويبقى غيرهم حتى يصلوا الصبح مُغلِّسين، اتباعاً للسنة (¬4)، ثم يدفعون إلى منى، ويأخذون من مزدلفة حصى الجمار وهي سبعون حصاة، لما روى النسائي والبيهقي بإسناد صحيح عن الفضل بن العباس: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال له غداة يوم النحر: التقط لي حصى، قال: فلقطت له حصيات مثل حصى الخذف»، ولأن بها جبلاً في أحجاره رخاوة، ولأن السنة أنه إذا أتى إلى منى لا يعرج على غير الرمي، فسنَّ له أن يأخذ الحصى من مزدلفة، حتى لا يشغله عنه. ويسن الوقوف عند المشعر الحرام في الطريق إلى منى، مع ذكر الله تعالى، والدعاء إلى الإسفار مستقبلين القبلة للاتباع (¬5)، ويكثرون من قولهم: (اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار) ويضيف له: (اللهم كما أوقفتنا فيه وأريتنا إياه، فوفقنا لذكرك كما هديتنا، واغفر لنا وارحمنا كما ¬
سادسا ـ سنن الرمي في منى
وعدتنا بقولك وقولك الحق: {فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام، واذكروه كما هداكم، وإن كنتم من قبله لمن الضالين. ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله، إن الله غفور رحيم} [البقرة:198/ 2 - 199]). ويقول أيضاً: (الله أكبر ـ ثلاثاً ـ لا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد). ثم يسير الحجاج قبل طلوع الشمس بسكينة ووقار، وشعارهم التلبية والذكر، ويكره تأخير السير حتى تطلع الشمس. ويسرعون في وادي مُحَسِّر (¬1) سواء أكان الحاج ماشياً أم راكباً. سادساً ـ سنن الرمي في منى: يرمي كل شخص بعد طلوع شمس يوم النحر سبع حصيات جمرة العقبة (الجمرة الكبرى) (¬2). ويقطع التلبية عند ابتداء الرمي، وهذا الرمي تحية منى، فلا يبتدئ فيها بغيره. والسنة لرامي هذه الجمرة أن يستقبلها، ويجعل مكة عن يساره، ومنى عن يمينه، كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلم، ويكبر مع كل حصاة بدل التلبية (¬3)، فيقول: (الله أكبر ـ ثلاثاً ـ لا إله إلا الله والله أكبر، ولله الحمد). ويسن أن يرمي بيده اليمنى رافعاً لها حتى يرى بياض إبطيه، ولا ترفع المرأة، ولا يقف الرامي للدعاء عند هذه الجمرة. ¬
المذهب الرابع ـ مذهب الحنابلة
ويسن الترتيب في يوم العيد بين هذه الأمور الأربعة: الرمي للعقبة، ثم الذبح (ذبح الهدي)، ثم الحلق أو التقصير، ثم طواف الإفاضة، ويدخل وقت هذه الأمور بنصف ليلةالنحر، ويبقى وقت الرمي إلى آخر يوم النحر. ويختص الذبح بوقت الأضحية. ولا آخر لوقت الحلق والطواف والسعي. ويرمي الحاج أيضاً الجمرات الثلاث كل جمرة سبع حصيات في أيام التشريق الثلاثة، وهي حادي عشر الحجة وتالياه (¬1)، بعد زوال الشمس من كل يوم إلى الغروب، مبتدئاً بالأولى ثم الوسطى ثم جمرة العقبة، التي هي ليست من منى، بل منى تنتهي إليها. والسنة أن يرمي بقدر حصى الخذف: وهو دون الأنملة طولاً وعرضاً في قدر الباقلاء، فلو رمى بأكبر منه أو بأصغر، كره، وأجزأه. المذهب الرابع ـ مذهب الحنابلة (¬2): أركان الحج أربعة: 1 - إحرام وينعقد بمجرد النية 2 - ووقوف بعرفة 3 - وطواف زيارة، فلو تركه وخرج من مكة، رجع معتمراً 4 - وسعي بين الصفاة والمروة. وأركان العمرة ثلاثة: 1 - إحرام، 2 - وطواف، 3 - وسعي. فمن ترك ركناً لم يصح الحج أو العمرة أو لم يتم نسكه إلا به، ومن ترك الإحرام لم ينعقد نسكه. ¬
واجبات الحج سبعة
وواجبات الحج سبعة: إحرام من الميقات، ووقوف بعرفة نهاراً للغروب، ومبيت بمزدلفة لبعد نصف الليل إن وافاها قبله، ومبيت بمنى، ورمي الجمرات مرتباً يبدأ بالأولى، ثم الثانية (الوسطى) ثم الثالثة (جمرة العقبة)، وحلق أو تقصير، وطواف وداع (وهو طواف الصَّدر) (¬1). وواجبات العمرة: شيئان: حلق أو تقصير، وإحرام من الحل أو الميقات. فمن ترك واجباً ولو سهواً أو جهلاً، فعليه دم، فإن عجز عنه صام عشرة أيام كالمتمتع. والسنن: كمبيت بمنى ليلة عرفة، وطواف قدوم، ورمل، واضطباع، وتلبية، واستلام الركنين (الأسود واليماني)، وتقبيل الحجر، ومشي وسعي في مواضعهما، وخطب وأذكار، ودعاء، ورقي بصفا ومروة، واغتسال، وتطيب في بدن، وصلاة ركعتين قبل الإحرام، وعقب طواف، واستقبال قبلة عند رمي. ولا شيء في ترك ذلك كله، ويجب بالنذر. وسنن الإحرام (¬2): الغسل، أو التيمم عند العجز أو العذر كما ذكر في غاية المنتهى، وأخذ الشعر ¬
والظفر وقطع الرائحة الكريهة، وتطيب بنحو مسك وعود وماء ورد، وخضاب للمرأة بحناء. ولبس إزار ورداء أبيضين نظيفين، ونعلين، بعد تجرد الذكَر عن المخيط، والإحرام بعد صلاة فرض أو ركعتين نفلاً. والتلبية عقب الإحرام على الأصح، والإكثار منها (¬1) في الارتفاع والهبوط ودبر الصلوات المكتوبات، وعند إقبال الليل وإدبار النهار، ولقاء الرفقة، ورفع الصوت بها (¬2)، ولكن لا يجهد نفسه في رفعه زيادة عن الطاقة خشية ضرر يصيبه. ويسن الدعاء بعد التلبية، فيسأل الله الجنة، ويعوذ به من النار (¬3)، ويدعو بما أحب، ويسن عقبها الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم؛ لأنه موضع يشرع فيه ذكر الله تعالى، فشرعت فيه الصلاة عليه صلّى الله عليه وسلم كالصلاة، ولا يرفع صوته بالدعاء والصلاة على النبي عقب التلبية، لعدم وروده. وكره لأنثى الجهر بها بأكثر مما تسمع رفيقتها، ولطائف بالبيت. وصفة التلبية بالإجماع: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) ولا تستحب الزيادة عليها، اتباعاً لفعل النبي صلّى الله عليه وسلم. ولا تشرع التلبية بغير العربية لقادر على العربية، لأنه ذكر مشروع، فإن عجز عن العربية، لبى بلغته كالتكبير في الصلاة. ¬
سنن الطواف
وسنن الطواف (¬1): استلام الحجر بيده اليمنى، وتقبيله ونحوه، واضطباع، ورمل في الأشواط الثلاثة الأولى (وهو سرعة المشي ومقاربة الخطا)، ومشي في مواضعه ودعاء وذكر ودنو من البيت، وصلاة ركعتين بعده. والرمل أولى من الدنو للبيت، ولا يسن رمل ولا اضطباع في غير طواف الإفاضة. فإن شق تقبيل الحجر استلمه بيده اليمنى وقبلها، فإن شق الاستلام أشار إليه بيده أو بشيء ولا يقبله. ويسن استقبال الحجر بوجهه، ويقول: «بسم الله والله أكبر، اللهم إيماناً بك وتصديقاً بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعاً لسنة نبيك محمد صلّى الله عليه وسلم» يقول ذلك كلما استلمه، وزاد جماعة «الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد». ويقرب طائف جانبه الأيسر للبيت. ويستلم الركن اليماني (¬2) ولا يقبله، وذلك في كل شوط، ولا يستلم الشامي والغربي. ويقول بين الركنين اليماني والأسود: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار} [البقرة:201/ 2]. ويقول في بقية طوافه: (اللهم اجعله حجاً مبروراً، وسعياً مشكوراً، وذنباً مغفوراً، ربنا اغفر وارحم، واهدني السبيل الأقوم، وتجاوز عما تعلم، وأنت الأعز الأكرم)، ويذكر ويدعو بما أحب، وسن قراءة فيه. ¬
سنن السعي
وسنن السعي (¬1): كما ذكر عند الشافعية، يخرج للسعي من باب الصفا (وهو طرف جبل أبي قبيس) ويرقى الذكَرالصفا ليرى البيت، فيستقبله، ويكبر ثلاثاً، ويقول ثلاثاً: (الحمد لله على ما هدانا، لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. إلخ) المذكور سابقاً ويدعو بما أحب، ثم ينزل من الصفا، ويمشي ثم يرمل بين الميلين الأخضرين. ثم يرقى المروة، ويقول عليها ما قال على الصفا. ولا ترقى المرأة ولا ترمل. وخلاصة سننه: طهارة حدث وخبث وستر عورة، وذكر ودعاء، وإسراع ومشي بمواضعه، ورقي، وموالاة بينه وبين طواف. فإن طاف بيوم، وسعى في آخر، فلا بأس. وسنن الوقوف بعرفة (¬2): كالمذكور عند الشافعية أيضاً، وأهمها خطبة الإمام بنمرة (قبيل عرفة) خطبة قصيرة (¬3) مفتتحة بالتكبير، يعلمهم فيها الوقوف بعرفة ووقته، والدفع منه، والمبيت بمزدلفة ونحوه، والجمع تقديماً بين الظهر والعصر. ويسن الوقوف راكباً بخلاف سائر المناسك، مستقبل القبلة عند الصخرات الكبار المفترشة أسفل جبل الرحمة، ولا يشرع صعوده. ويكثر من الدعاء مع رفع الأيدي، والاستغفار، والتضرع، والخشوع، وإظهار الضعف، والافتقار، والإلحاح في الدعاء، وتكرار الدعاء ثلاثاً. ويكثر من قول: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. إلخ» المذكور عند الشافعية. ¬
سنن الوقوف بمزدلفة
وسنن الوقوف بمزدلفة (¬1): الدفع إليها بعد غروب اليوم التاسع بسكينة واستغفار، علماً بأنه يجب المبيت بها لنصف الليل، وجمع العشاءين بها جمع تأخير، وصلاة الصبح بها بغلس، ثم إتيان المشعر الحرام (¬2)، فيرقى عليه أو يقف عنده مع حمد الله وتكبيره، والدعاء إليه إلى الإسفار جداً، كما ذكر عند الشافعية: (اللهم كما وقفتنا فيه وأريتنا إياه، فوفقنا لذكرك كما هديتنا .. إلخ). والإسراع في وادي محسِّر، ماشياً أو راكباً. ويأخذ الحاج من المزدلفة سبعين حصاة أكبر من الحمص ودون البندق، كحصى الخَذْف، ويكره أخذ الحصى من منى وسائر الحرم. ولا يسن غسل غير نجس، وتجزئ حصاة نجسة مع الكراهة. وسنن الرمي في منى (¬3): البدء برمي جمرة العقبة بسبع حصيات وهو تحية منى، بعد نصف ليلة النحر كالطواف. ويندب الرمي بعد الشروق، وأن يكبر مع كل حصاة قائلاً: (اللهم اجعله حجاً مبروراً، وذنباً مغفوراً، وسعياً مشكوراً) وأن يستبطن الوادي، ويستقبل القبلة، ويرمي على جانبه الأيمن، ويرفع يده حتى يرى بياض ¬
إبطه، ولا يقف عندها، بل يرميها ماشياً، وله رميها من فوقها، ويقطع التلبية عند أول الرمي. ويسن الحلق بعد ذبح الهدي، والحلق أفضل من التقصير، والسنة ترتيب أربعة أمور يوم النحر: الرمي، ثم النحر، ثم الحلق، ثم الطواف، كما وصف جابر في حج النبي صلّى الله عليه وسلم (¬1)، فإن أخل بترتيبها ناسياً أو جاهلاً بالسنة، فلا شيء عليه في قول أكثر العلماء، خلافاً لأبي حنيفة، فإنه يوجب الدم إن قدم الحلق على الرمي، أو على النحر. ويسن أخذ ظفر وشارب وشعر إبط وأنف وعانة، وتطيب عند تحلل من الحج. وتسن الخطبة يوم عرفة. ويندب أن يخطب الإمام بمنى يوم النحر خطبة يفتتحها بالتكبير ويعلمهم فيها النحر والإفاضة والرمي. ويسن رمي الجمرات في أيام التشريق قبل أداء صلاة الظهر، مع وجوب البدء بالجمرة الأولى وهي التي تلي مسجد الخيف وأبعدهن عن مكة، فيجعلها عن يساره مستقبلاً القبلة، ويرمي، ثم يتقدم قليلاً، لئلا يصيبه حصى. ثم يقف يدعو دعاء طويلاً رافعاً يديه. ثم يرجم الجمرة الوسطى، فيجعلها عن يمينه مستقبلاً القبلة، ثم يقف عندهم فيدعو. ثم يرجم جمرة العقبة ويجعلها عن يمينه مستقبلاً القبلة، ويستبطن الوادي، ولا يقف عندها. وترتيب رجمها شرط. ¬
ويندب أن يخطب الإمام ثاني أيام التشريق، خطبة يعلمهم حكم التعجيل والتأخير، وتوديعهم، ويحثهم. ويجوز لغير الإمام التعجيل في اليوم الثاني، وهو النفر الأول، فإن غربت الشمس وهو في منى لزمه مبيت ورمي من غد. ويسقط رمي اليوم الثالث عن متعجل، ويدفن حصاه في المرمى. ويسن إذا نفر من منى النزول بالأبطح (وهو المحصَّب: وهو مابين الجبلين إلى المقبرة) فيصلي به الظهرين والعشاءين، ويهجع يسيراً، ثم يدخل مكة.
جدول بأهم أحكام أعمال الحج في المذاهب
جدول بأهم أحكام أعمال الحج في المذاهب المبحث الخامس - أركان الحج والعمرة: أركان الحج: عرفنا أن للحج عند الحنفية ركنين فقط هما: الوقوف بعرفة وطواف الإفاضة. وأركان الحج عند المالكية والحنابلة أربعة: الإحرام والوقوف بعرفة، وطواف الإفاضة، والسعي. وأركانه عند الشافعية خمسة: الإحرام، والوقوف بعرفة، والطواف والسعي، والحلق أو التقصير. أركان العمرة: ركن العمرة عند الحنفية: الطواف بالبيت. وللعمرة عند المالكية والحنابلة أركان ثلاثة: الإحرام، والطواف، والسعي. وأركانها عند الشافعية أربعة: الإحرام والطواف والسعي والحلق أو التقصير. ويلاحظ أن الحلق أو التقصير عند الجمهور غير الشافعية واجب لا ركن. وأبحث هذه الأمور تفصيلاً: المطلب الأول ـ الإحرام: حقيقته: الدخول في الحرمة، والمراد هنا نية الدخول في النسك من حج أو عمرة، أو الدخول في حرمات مخصوصة أي التزامها. وإذا تم الإحرام لا يخرج عنه إلا بعمل النسك الذي أحرم به، فإن أفسده وجب قضاؤه، وإن فاته الوقوف بعرفة أتمه عمرة، وإن أحصر أي منع عن إكماله، ذبح هدياً وقضاه. والكلام فيه يشمل ما يصير به الشخص محرماً، صفة الإحرام، والإحرام كإحرام فلان، مكان الإحرام وزمانه، ومايفعله مريد الإحرام، ومايحرم به من
أولا - مايصير به الشخص محرما
حج أو عمرة أو بهما، وإضافة الإحرام إلى الإحرام، وإدخال العمرة على الحج وعلى العكس، وفسخ الإحرام. أولاً - مايصير به الشخص محرماً: لا خلاف في أنه إذا نوى حجاً أو عمرة، وقرن النية بقول أو فعل من خصائص الإحرام، يصير محرماً، بأن لبى ناوياً به الحج، أو العمرة، أو بهما معاً. ولا خلاف بين الشافعية والحنابلة وفي الأرجح عند المالكية أن الإحرام ينعقد بمجرد النية، لكن يلزمه عند المالكية دم في ترك التلبية، والتجرد من المخيط ونحوه، حين النية. أما قرن النية بقول أو فعل، فقال الحنفية: لا يصيرشارعاً في الإحرام بمجرد النية، ما لم يأتِ بالتلبية، أي أن الإحرام لايثبت بمجرد النية ما لم يقترن بها قول أوفعل هو من خصائص الإحرام أو دلائله، والنية ليست بركن عندهم، بل هي شرط، وإذا لبى ناوياً فقد أحرم عندهم. وعبارة المالكية: الإحرام: ينعقد بالنية المقترنة بقول أو فعل متعلق بالحج، كالتلبية والتوجه إلى الطريق، لكن الأرجح أنه ينعقد بمجرد النية، ويلزمه دم في ترك التلبية والتجرد من المخيط حين النية. وعبارة الشافعية والحنابلة: الإحرام: بأن ينوي الدخول في النسك، فلا ينعقد بدون النية، فإن اقتصر على النية، ولم يلب، أجزأه، وإن لبى بلا نية لم ينعقد إحرامه ولا يشترط قرن النية بالتلبية؛ لأنها من الأذكار، فلم تجب في الحج كسائر الأذكار. والحاصل أن الإحرام ينعقد بالنية عند الجمهور، ولا ينعقد بمجردها عند
الحنفية وإنما لا بد من قرنه بقول أوفعل من خصائص الإحرام، كالتلبية أو التجرد من المخيط ونحوه (¬1). ولا يصح الإحرام إلا بالنية، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» (¬2) ولأنه عبادة محضة، فلم تصح من غير نية، كالصوم والصلاة. ومحل النية: القلب، والإحرام: النية بالقلب، والأفضل عند أكثر العلماء أن ينطق بما نواه؛ لما روى أنس رضي الله عنه قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: لبيك بحجة وعمرة» (¬3) ولأنه إذا نطق به كان أبعد عن السهو. فيقول: نويت الحج أو العمرة وأحرمت به أو بها لله تعالى، أو يقول: اللهم إني أريد الحج أو العمرة، فيسره لي وتقبله مني. وإن أراد القران قال: اللهم إني أريد العمرة والحج، ثم يجب أن يلبي عند الحنفية عقيب صلاته، لأنه صلّى الله عليه وسلم «لبى في د ُبُر صلاته» ويستحب التلبية عند الجمهور بعد الإحرام أي مع النية. وإن حج أو اعتمر عن غيره قال: «نويت الحج أو العمرة عن فلان وأحرمت به أو بها لله تعالى». وإن كان مفرداً الإحرام بالحج نوى بتلبيته الحج؛ لأنه عبادة، والأعمال بالنيات. ¬
ثانيا ـ صفة الإحرام تعيينا وإطلاقا وإحالة واشتراطا
والتلبية كما بينت في المبحث السابق أن يقول: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والمُلْك، لا شريك لك» وهي المنقولةعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ولا ينبغي أن يخل بشيء من هذه الكلمات، لأنه هو المنقول باتفاق الرواة، فلا ينقص عنه، فإن زاد عليها جاز بلا كراهة. ثانياً ـ صفة الإحرام تعييناً وإطلاقاً وإحالة واشتراطاً (¬1): الأفضل أن يعين المحرم ما أحرم به من حج أو عمرة أو هما معاً، فالتعيين أفضل من الإطلاق؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالإحرام بنسك معين، فقال فيما روته عائشة: «من شاء منكم أن يهل بحج وعمرة فليهل، ومن أراد أن يهل بحج فليهل، ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل» (¬2). ورأى الحنفية: أنه لو أحرم بالحج، ولم يعين حجة الإسلام، وعليه حجة الإسلام، يقع عنها استحساناً؛ لأن الظاهر من حاله أنه لا يريد بإحرام الحج حجة التطوع، ويبقي نفسه في عهدة الفرض، فيحمل على حجة الإسلام بدلالة حاله، فكان الإطلاق فيه تعييناً كما في صوم رمضان. ولو نوى التطوع يقع عن التطوع؛ لأن دلالة حاله لا تفيد مع التعيين الصريح. وكذلك قال الشافعية: ليس التعيين شرطاً في انعقاد النسك، فلو أحرم بنسك نفل وعليه نسك فرض، انصرف إلى الفرض. ¬
وينعقد الإحرام معيناً: بأن ينوي حجاً أو عمرة أو كليهما بالإجماع، ولحديث عائشة المتقدم، وينعقد أيضاً مطلقاً بألا يزيد على الإحرام نفسه، بأن ينوي الدخول في النسك الصالح للأنواع الثلاثة، أو يقتصر على قوله: «أحرمت»، بدليل ما روى الشافعي: «أنه صلّى الله عليه وسلم خرج هو وأصحابه مهلِّين ينتظرون القضاء (أي نزول الوحي) فأمر من لا هدي معه أن يجعل إحرامه عمرة، ومن معه هدي أن يجعله حجاً». وفي حالة الإطلاق هذه قال الحنفية: يمضي في أيهما شاء ما لم يطف بالبيت شوطاً، فإن طاف شوطاً، كان إحرامه عن العمرة؛ لأن الطواف ركن في العمرة، وطواف القدوم سنة، فإيقاعه عن الركن أولى، وتتعين العمرة بفعله كما تتعين بقصده. وقال المالكية: إن أبهم نية الإحرام بأن لم يعين شيئاً بأن نوى النسك لله تعالى من غير ملاحظة حج أو عمرة أو هما، ندب صرفه أي تعيينه لحج فيكون مفرداً، والقياس صرفه لقران؛ لأنه أحوط لاشتماله على النسكين كالناسي لما عينه. وقال الشافعية والحنابلة: إن أحرم مطلقاً في أشهر الحج، صرفه بالنية إلى ما شاء من الأنساك، ثم اشتغل بالأعمال، فلو طاف ثم صرفه للحج وقع طوافه عند الشافعية عن القدوم، وإن أطلق الإحرام في غير أشهر الحج، فالأصح عند الشافعية انعقاده عمرة، فلا يصرفه إلى الحج في أشهره. والأولى عند الحنابلة: صرف الإحرام إلى العمرة؛ لأنه إن كان في غير أشهر الحج، فالإحرام بالحج مكروه أو ممتنع، والأول أرجح عندهم، وإن كان في أشهر الحج، فالعمرة أولى؛ لأن التمتع عندهم أفضل، وقد أمر النبي صلّى الله عليه وسلم أبا موسى حين أحرم بما أهل به رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يجعله عمرة.
تعليق الإحرام أو الإحرام بما أحرم به فلان أو إبهام الإحرام
تعليق الإحرام أو الإحرام بما أحرم به فلان (¬1) أو إبهام الإحرام: يصح إبهام الإحرام: وهو أن يحرم به بما أحرم به فلان، لما روى أبو موسى قال: «قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: كيف أهللت؟ قال: قلت: لبيك بإهلال كإهلال رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قال: أحسنت، فأمرني فطفت بالبيت وبالصفا والمروة، ثم قال: حل» (¬2). فإن لم يكن فلان محرماً، انعقد إحرامه مطلقاً، وإن كان محرماً بنسك معين انعقد إحرامه كإحرامه، وإن تعذر معرفة إحرامه بموته كان حكمه كالناسي. حكم نسيان ما عينه: إذا أحرم بنسك، ثم نسي ما عينه، أهو حج أو عمرة أو هما، قبل الطواف، فله عند الحنابلة صرفه إلى أي نسك شاء. ويكون قراناً عند المالكية والحنفية والشافعية في الجديد؛ لأنه تلبس بالإحرام يقيناً، فلا يتحلل إلا بيقين الإتيان بالمشروع فيه، فيعمل أعمال النسكين ليتحقق الخروج عما شرع فيه، فتبرأ ذمته من الحج بعد إتيانه بأعماله، ولا تبرأ ذمته من العمرة لاحتمال أنه أحرم بالحج، ويمتنع إدخالها عليه ولا دم عليه، فيبرأ من الحج فقط، وعليه عند المالكية تجديد نية الحج. ومنشأ الخلاف بين الرأيين: هو فسخ الحج إلى العمرة، فإنه جائز عند الحنابلة، وغير جائز عند الجمهور. الاشتراط في الإحرام (¬3): أجاز الشافعية والحنابلة الاشتراط في الإحرام، وهو التحلل لمانع مرضي ونحوه، ولا يجوز التحلل مع عدم الاشتراط، بدليل حديث ابن عباس: «أن ضُبَاعة بنت الزبير قالت: يا رسول الله، إني امرأة ¬
من أحرم بحجتين أو عمرتين
ثقيلة (¬1)، وإني أريد الحج، فكيف تأمرني؟ فقال: أَهِلِّي واشتراطي أن مَحِلِّي (¬2) حيث حبستني، قال: فأدْركَت» (¬3). وقال أبو حنيفة ومالك: لا يصح الاشتراط، عملاً برأي ابن عمر، وقالا عن الأحاديث: إنها قصة عين، وإنها مخصوصة بضباعة. ومنشأ الخلاف: هل خطابه صلّى الله عليه وسلم لواحد يكون غيره فيه مثله أو لا؟ من أحرم بحجتين أو عمرتين: إن أحرم، انعقد بإحداهما، ولغت الأخرى عند الحنابلة؛ لأنهما عبادتان لا يلزمه المضي فيهما، فلم يصح الإحرام بهما كالصلاتين، فلو أفسد حجته أو عمرته، لم يلزمه إلا قضاؤها. وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: ينعقد بهما، وعليه قضاء إحداهما، لأنه أحرم بها ولم يتمها، وإن أفسد ما نواه يلزمه قضاؤهما معاً بناء على صحة إحرامه بهما. ثالثاً ـ مكان الإحرام وزمانه: مكان الإحرام: هو المسمى بالميقات. وزمان الإحرام هو وقت الحج والعمرة وقد بحثت الأمرين في المبحث الثالث. وتبيَّن فيه أن وقت العمرة بالاتفاق: جميع أجزاء السنة ما عدا يوم العيد (عيد النحر) وأيام التشريق عند الحنفية والمالكية. ¬
الصنف الأول ـ أهل الآفاق
ووقت الحج في أشهر ثلاثة معينة: هي شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة عند الجمهور، وذو الحجة كله عند المالكية. والناس في حق المواقيت أصناف ثلاثة (¬1): الصنف الأول ـ أهل الآفاق: وهم الذين منازلهم خارج المواقيت التي وقَّت لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهي خمسة ثابتة في السنة، وهي ذو الحليفة لأهل المدينة، والجحفة لأهل الشام، وقرن المنازل لأهل نجد، ويلملم لأهل اليمن، وذات عرق لأهل العراق. والصنف الثاني ـ أهل الحل: وهم الذين منازلهم داخل المواقيت الخمسة خارج الحرم كأهل بستان بني عامر وغيرهم، وميقاتهم دويرة أهلهم، أو حيث شاؤوا من الحل الذي بين دويرة أهلهم وبين الحرم. والصنف الثالث ـ أهل مكة الحرم: وميقاتهم للحج الحرم، وللعمرة الحل، فيحرم المكي من دويرة أهله للحج، أو حيث شاء من الحرم، ويحرم للعمرة من الحل وهو التنعيم أوغيره. رابعاً ـ ما يفعله مريد الإحرام: إذا أراد الشخص الإحرام يفعل السنن المذكورة سابقاً في بحث أعمال الحج وأهمها ما يأتي (¬2). أما ما يجتنبه المحرم من اللباس والحذاء وغيرهما فيعرف في بحث محظورات الإحرام. ¬
1 - يغتسل تنظفاً، أو يتوضأ، والغسل أفضل؛ لأنه أتم نظافة، ولأنه عليه الصلاة والسلام اغتسل لإحرامه (¬1)، وهو للنظافة لا للطهارة، ولذا تفعله المرأة الحائض والنفساء، لما روى ابن عباس مرفوعاً إلى النبي صلّى الله عليه وسلم: «أن النفساء والحائض تغتسل وتُحرم، وتقضي المناسك كلها، غير أن لا تطوف بالبيت» (¬2) وأمر النبي صلّى الله عليه وسلم أسماء بنت عميس، وهي نفساء أن تغتسل (¬3). فدل على أن الاغتسال مشروع للنساء عند الإحرام، كما يشرع للرجال؛ لأنه نسك، وهو في حق الحائض والنفساء آكد، لورود الخبر فيهما. وهذا متفق عليه. فإن لم يجد ماء تيمم عند الشافعية؛ لأن الغسل يراد للقربة والنظافة، فإذا تعذر أحدهما يبقى الآخر، ولأن التيمم ينوب عن الغسل الواجب، فعن المندوب أولى. ولو وجد ماء لا يكفيه للغسل ويكفيه للوضوء، توضأ به وتيمم عن الغسل. ولا يسن له التيمم في رأي ابن قدامة؛ لأنه غسل مسنون، فلم يستحب التيمم عند عدمه كغسل الجمعة، والفرق بين الواجب والمسنون؛ أن الواجب يراد لإباحة الصلاة، والتيمم يقوم مقامه في ذلك، والمسنون يراد للتنظيف وقطع الرائحة، والتيمم لا يحصِّل هذا، بل يزيد شعثاً وتغييراً، والراجح عند الحنابلة جواز التيمم كما في غاية المنتهى. ويستحب التنظيف أيضاً بأزالة الشَّعَث (الوسخ من غبار وغيره) وقطع ¬
الرائحة، ونتف الإبط، وقص الشارب، وقلم الأظفار، وحلق العانة وترجيل الشعر؛ لأن الإحرام أمر يسن له الاغتسال والطيب، فيسن له هذا كالجمعة. 2 - يتجرد الذكر من المخيط، ويلبس ثوبين نظيفين: إزاراً ورداءاً جديدين ثم مغسولين، ونعلين، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «وليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين، فإن لم يجد نعلين فلْيلبَس خُفَّين، ولْيَقْطَعهما أسفل من الكعبين» (¬1)، ولا يلزم قطعهما في المشهور عن أحمد، لحديث ابن عباس: «ومن لم يجد نعلين فليلبس خفين» (¬2). والمرأة: إحرامها في كشف وجهها باتفاق الفقهاء، فإن احتاجت إلى ستر وجهها لمرور الرجال قريباً منها، فإنها عند الحنابلة تسدل الثوب من فوق رأسها على وجهها؛ لفعل عائشة ومحرمات أخريات مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم (¬3). 3 - يتطيب في بدنه قبل الإحرام عند الجمهور، لا في الثوب عند الحنفية والحنابلة، لأنه مباين له، وكذا في ثوبه في الأصح عند الشافعية، لحديث عائشة: «كنت أطيِّب النبي صلّى الله عليه وسلم عند إحرامه بأطيبِ ما أجد» (¬4) أي في وقت إحرامه. ولابأس باستدامة أثر الطيب بعد الإحرام، لحديث الصحيحين عن عائشة: «كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفرق رسول الله صلّى الله عليه وسلم» والوبيص: هو البريق، والمفرق: وسط الرأس. ¬
ولا يتطيب عند المالكية، ويكره الطيب قبل الغسل أو بعده بما تبقى رائحته، لما روي أن رجلاً أتى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، كيف ترى في رجل أحرم بعمرة وهو متضمخ بطيب؟ فسكت النبي صلّى الله عليه وسلم، يعني ساعة، ثم قال «: اغسل الطيب الذي بك ـ ثلاث مرات ـ وانزع عنك الجبة، واصنع في عمرتك ما تصنع في حجتك» (¬1)، ولأنه يمنع من ابتداء الطيب، فمنع استدامته كاللبس. والظاهر جواز التطيب قبل الإحرام؛ لأن قصة صاحب الجبة كانت عام حنين بالجعرانة سنة ثمان، وحديث عائشة في حجة الوداع سنة عشر، فيكون ناسخاً للحديث الأول، وفعل النبي صلّى الله عليه وسلم حجة على ابن عمر الذي كان ينهى عن الطيب عند الإحرام. ويسن عند الشافعية والحنابلة أن تخضب المرأة للإحرام يديها إلى الكوع (الرسغ) بالحناء، لما روى ابن عمر أن ذلك من السنة. 4 - يصلي صلاة ركعتي الإحرام بعد الغسل وقبل الإحرام بالاتفاق، أو يكون الإحرام عند المالكية والحنابلة عقب صلاة مفروضة، أما الأول فلما روى الشيخان أنه «صلّى الله عليه وسلم صلى بذي الحليفة ركعتين، ثم أحرم» (¬2). ويحرمان في وقت الكراهة في غير حرم مكة، ويسن أن يقرأ في الركعة الأولى: {قل يا أيها الكافرون} [الكافرون:1/ 109] وفي الثانية: (الإخلاص). وأما الإحرام عقب صلاة مكتوبة وهو الأولى عند الحنابلة، فلما روى أبو داود والأثرم عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس قال: «أوجب رسول الله صلّى الله عليه وسلم الإحرام حين فرغ من صلاته .. ». ¬
ويجوز عند الحنابلة على السواء الإحرام عقيب الصلاة، أو إذا استوت به راحلته، أو بدأ بالسير، فإذا استوى على راحلته لبى. والأفضل عند المالكية والشافعية أن يحرم إذا سارت به راحلته، لما رواه الشيخان، أو إذا توجه لطريقه ماشياً، لما روى مسلم عن جابر: «أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما أهللنا ـ أي أردنا أن نهل ـ أن نحرم إذا توجهنا». 5 - يلبي، والتلبية عقيب الصلاة عند الحنفية، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «لبى في دُبُر صلاته» (¬1) وهو الأفضل، ويلبي بعد ما استوت به راحلته، ثم ينوي، فإن كان مفرداً الإحرام بالحج، نوى بتلبيته الحج؛ لأنه عبادة، والأعمال بالنيات. ويلبي عند الشافعية مع النية، لخبر مسلم: «إذا توجهتم إلى منى، فأهلوا بالحج» والإهلال: رفع الصوت بالتلبية، والعبرة بالنية لا بالتلبية، فلو لبى بغير مانوى، فالعبرة بما نوى. ويلبي عند المالكية والحنابلة إذا استوى على راحلته، وأخذ في المشي، لما روى البخاري عن أنس وابن عمر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم لما ركب راحلته، واستوت به أهلَّ» وقال ابن عباس: «أوجب رسول الله صلّى الله عليه وسلم الإحرام حين فرغ من صلاته، فلما ركب راحلته، واستوت به قائمة، أهل» يعني لبى، ومعنى الإهلال: رفع الصوت بالتلبية. ويجدد التلبية عند كل هبوط وصعود، وحدوث حادث ولقاء رفقة، وخلف الصلوات، وعند سماع من يلبي. ويستحب إكثار التلبية، ورفع الصوت بها أثناء إحرامه دون إسراف إلا ¬
متى يقطع التلبية؟
للنساء، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «أفضل الحج: العج والثج» (¬1) فالعج: رفع الصوت بالتلبية، والثج: إراقة الدم. وصيغة التلبية كما سبق: (لبيك اللهم (¬2) لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) والمستحب ألا يزيد عليها، فإن زاد فيها، جاز. فإذا لبى ناوياً فقد أحرم عند الحنفية. متى يقطع التلبية؟ يقطع التلبية عند المالكية إذا أخذ في الطواف، ويعاودها بعد الفراغ من السعي، إلى أن يقطعها إذا زالت الشمس من يوم عرفة، عملاً بما روي عن علي وأم سلمة: أنهما كانا يلبيان حتى تزول الشمس يوم عرفة. ويقطع التلبية عند الجمهور (غير المالكية) عند ابتداء الرمي لجمرة العقبة يوم العيد بأول حصاة يرميها؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم لم يزل ملبياً حتى رماها (¬3)، ولأنه يتحلل بالرمي. هذا عند الحنفية إن رمى قبل الحلق، فإن حلق قبل الرمي، قطع التلبية؛ لأنها لا تثبت مع التحلل. أما المعتمر فيقطع التلبية عند الشروع بالطواف. خامساً ـ ما يحرم به من حج أو عمرة أو بهما: اتفق الفقهاء على أن أوجه أداء الحج والعمرة، أو ما يحرم به في الأصل، ¬
المتمتع
ثلاثة أنواع: الإفراد، والتمتع، والقران، أي أداء الحج وحده، والعمرة وحدها، والعمرة مع الحج، والأشخاص المحرمون ثلاثة: مفرد بالحج، ومفرد بالعمرة، وجامع بينهما، الأول: هو المفرد، والثاني: المتمتع، والثالث: القارن. والمفرد بالحج: هو الذي يحرم بالحج لا غير، فيؤدي الحج أولاً، ثم يحرم بالعمرة. والمتمتع: هو الذي يحرم بالعمرة أولاً في أشهر الحج ويتمها، ثم يحرم بالحج في سنته وأشهره. والقارن: هو الآفاقي (غير المكي) الذي يجمع بين إحرام العمرة وإحرام الحج قبل وجود ركن العمرة وهو الطواف، فيأتي بالعمرة أولاً، ثم يأتي بالحج قبل أن يحل من العمرة بالحلق أو التقصير، سواء جمع بين الإحرامين بكلام موصول أو مفصول، فلو أحرم بالعمرة، ثم أحرم بالحج بعد ذلك قبل الطواف للعمرة (أو أكثره عند الحنفية) كان قارناً، لوجود معنى القران: وهو الجمع بين الإحرامين، ولو كان إحرامه للحج بعد طواف العمرة أو أكثره لا يكون قارناً، بل يكون متمتعاً، لوجود معنى التمتع: وهو أن يكون إحرامه بالحج بعد وجود ركن العمرة كله عند الحنفية وهو الطواف، والسعي بعده عند الجمهور، والحلق أو التقصير أيضاً عند الشافعية على المعتمد (¬1). واختلف فقهاء المذاهب في الأفضل من هذه الأوجه على أقوال ثلاثة: 1 - فقال الحنفية (¬2): القران (وهو الجمع بين إحرام العمرة والحج في سفر ¬
المالكية والشافعية
واحد) أفضل من التمتع والإفراد؛ لأن فيه استدامة الإحرام بهما من الميقات إلى أن يفرغ منهما، ولا كذلك التمتع، فكان القران أولى منه، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «أهلُّوا يا آل محمد بعمرة في حجة» (¬1). وقال أنس: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يلبي بالحج والعمرة يقول: لبيك عمرة وحجة» (¬2). 2 - وقال المالكية والشافعية (¬3): الإفراد بالحج أفضل من القران والتمتع، إن اعتمر عامه؛ لأنه لا يجب معه هدي، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم حج مفرداً على الأصح، قالت عائشة: «خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، فمنا من أهَلَّ بعمرة، ومنا من أّهل بحج وعمرة، وأهل رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالحج» (¬4)، وروي الإفراد عن النبي صلّى الله عليه وسلم عن جابر بن عبد الله من طرق شتى متواترة صحاح، وهو قول أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة وجابر. ثم القران عند المالكية يلي الإفراد في الفضل، وللقران صورتان: أولاهما ـ بأن ينوي القران أو العمرة والحج بنية واحدة، ويجب تقديم العمرة في النية والملاحظة إن رتب بينهما، ويندب تقديمها في اللفظ إن تلفظ. والثانية ـ أن ينوي العمرة، ثم يبدو له فيردف الحج عليها، ولا يصح إرداف عمرة على حج، لقوته، فلا يقبل غيره. والتمتع عند الشافعية بعد الإفراد، ثم القران؛ لأن المتمتع يأتي بعملين كاملين غير أنه لا ينشئ لهما ميقاتين. وأما القارن فإنه يأتي بعمل واحد من ميقات واحد. فالشافعية ينظرون لكثرة الأعمال. ¬
الحنابلة
3 - وقال الحنابلة (¬1): التمتع أفضل، فالإفراد، فالقران، أي عكس الترتيب عند الشافعية بين الأول والثاني. والتمتع: أن يحرم بعمرة في أشهر الحج، ثم يحرم بالحج في عامه من أين شاء بعد فراغه منها. ودليلهم أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان متمتعاً، لما قال ابن عمر: «تمتع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في عام حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وأهدى وساق الهدي معه من ذي الحليفة» (¬2). وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة» (¬3). هذه هي أقوال الفقهاء في بيان الأفضلية بين هذه الأنواع، والسبب في اختلافهم: اختلافهم فيما فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم من ذلك، ولكل رأي ما يؤيده من الروايات الصحيحة، وأرجح الرأي الثاني؛ لأن رواة أحاديثه أكثر، ولأن جابراً منهم أقدم صحبة وأشد عناية بضبط المناسك، وبالإجماع على أنه لا كراهة في الإفراد، وبأن التمتع والقران يجب فيهما بالدم جبراً للنقص، بخلاف الإفراد. قال النووي في المجموع (¬4): والصواب الذي نعتقده أنه صلّى الله عليه وسلم أحرم بحج، ثم أدخل عليه العمرة، فصار قارناً، وإدخال العمرة على الحج جائز على أحد القولين عندنا، وعلى الأصح لا يجوز لنا، وجاز للنبي صلّى الله عليه وسلم تلك السنة للحاجة، وأمر به في قوله: «لبيك عمرة في حجة» (¬5). ¬
سادسا ـ إضافة الإحرام إلى الإحرام
سادساً ـ إضافة الإحرام إلى الإحرام وإدخال الحج على العمرة وبالعكس وفسخ الحج إلى العمرة: إضافة الإحرام إلى الإحرام: قال الحنفية (¬1): إضافة الإحرام إلى الإحرام من المكي ونحوه جناية، وكذلك إضافة إحرام العمرة إلى إحرام الحج من الآفاقي جناية أيضاً توجب الدم. أما إضافة الحج إلى العمرة فجائز لا جناية فيه. وتفصيل الكلام كما يأتي: 1 - ضم الحج إلى العمرة: إذا أحرم المكي بعمرة، فأدخل عليها إحرام حجة، فهناك ثلاثة احتمالات: أـ إما أن يدخله قبل أن يطوف، فترتفض عمرته اتفاقاً بين أئمة الحنفية، ولو فعل هذا آفاقي (غير مكي) كان قارناً. ب ـ أو يدخله بعد أن يطوف أكثر الأشواط، فترتفض حجته اتفاقاً، ولو فعل هذا آفاقي كان متمتعاً إن كان الطواف في أشهر الحج. جـ ـ أو يدخله بعد أن يطوف الأقل من الأشواط كثلاثة مثلاً، فهي محل خلاف بين الإمام وصاحبيه، قال أبو حنيفة: يرفض الحج، لما يلزم رفض العمرة من إبطال العمل، وقد تأكد إحرام العمرة بأداء شيء من أعمالها، وإحرام الحج لم يتأكد، ورفض غير المتأكد أيسر. وقال الصاحبان: ترفض العمرة، لأنها أدنى حالاً، إذ ليس من جنسها فرض، بخلاف الحج، ولأن العمرة أقل أعمالاً، وأيسر قضاء لعدم توقيتها وقلة أعمالها. ¬
2 - ضم الحج لحجة أخرى
ولو فعل هذا آفاقي كان قارناً. وكل من رفض نسكاً فعليه دم، لما روى أبو حنيفة عن عبد الملك بن عمير عن عائشة رضي الله عنها: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر لرفضها العمرة بدم». وفي رفض العمرة قضاؤها فقط، وفي رفض الحج قضاء الحج والعمرة جميعاً، أما قضاء الحج فلأنه صح شروعه فيه ثم رفضه، وأما العمرة فهي في معنى فائت الحج، وفائت الحج يتحلل بأفعال العمرة، وقد تعذر التحلل بأفعالها ههنا؛ لأنه في العمرة، والجمع بين العمرتين منهي عنه، فيجب عليه قضاء الحج والعمرة جميعاً. وإذا لم يرفض المكي ومن بمعناه العمرة أو الحج، ومضى عليهما وأداهما، أجزأه؛ لأنه أدى أفعالهما كما التزمهما، غير أنه منهي عنهما، أي عن إحرام الحج وإحرام العمرة جميعاً؛ لأن الجمع بين إحرامي الحج أو إحرامي العمرة بدعة، والنهي لا يمنع تحقق الفعل، وعليه دم لجمعه بينهما، لارتكابه المنهي عنه ووجود النقصان في عمله. 2 - ضم الحج لحجة أخرى: من أحرم بالحج، ثم أحرم يوم النحر بحجة أخرى: أـ فإن حلق في الحجة الأولى، لزمته الأخرى ولا شيء عليه؛ لأنه حل من الأول وأحرم للثاني بعده. ب ـ وإن لم يحلق في الأولى، لزمته الأخرى ويقضيها، وعليه دم لصحة شروعه فيه سواء عند أبي حنيفة حلق بعد الإحرام الثاني أو لم يحلق؛ لأنه إن حلق يكون جانياً على الإحرام الثاني، وإن لم يحلق يكون مؤخراً للحلق في الحج الأول عن أيام النحر، وهو يوجب الدم عنده.
3 - ضم العمرة إلى العمرة
وقال الصاحبان: إن لم يحلق أو يقصر بعد ما أحرم بالحج الثاني، فلا شيء عليه؛ لأن تأخير الحلق عندهما عن أيام النحر لا يوجب شيئاً عندهما، وإن حلق بعد الإحرام بالثاني يجب عليه الدم، لجنايته عليه. 3 - ضم العمرة إلى العمرة: من فرغ من عمرته إلا التقصير، فأحرم بأخرى، فعليه دم باتفاق الحنفية، لإحرامه قبل الوقت؛ لأن وقته بعد الحلق للإحرام الأول، ولم يوجد، ولأنه جمع بين إحرامي العمرة، وهكذا مكروه، فيلزمه دم، وهو دم جبر وكفارة. 4 - ضم العمرة إلى الحج: من أهل بالحج، ثم أحرم بالعمرة، لزمه الاثنان، لأن الجمع بينهما مشروع في حق الآفاقي، فيصير قارناً، لكنه أخطا السنة فيصير مسيئاً؛ لأن السنة إدخال الحج على العمرة، لا إدخال العمرة على الحج، قال الله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج ... } [البقرة:2/ 196] الآية، جعل الحج آخر الغايتين، لكن لما لم يؤد الحج صح. ومن أحرم بحج، ثم بعمرة، ثم وقف بعرفات قبل أن يدخل مكة، فقد رفض عمرته بالوقوف، وإن لم يقف بعرفة لا يصير رافضاً؛ لأنه يصير قارناً بالجمع بين الحج والعمرة، وهو مشروع في حق الآفاقي، لكنه مسيء بتقديم إحرام الحج على إحرام العمرة، لكونه أخطأ السنة؛ لأن السنة في القران: أن يحرم بهما معاً، أو يقدم إحرام العمرة على إحرام الحج. وإن طاف للحج طواف القدوم، ثم أحرم بعمرة، ومضى عليهما بأن يقدم أفعال العمرة على أفعال الحج، وجب عليه دم، لجمعه بينهما؛ لأنه قارن، ولكنه أساء أكثر من الأول حيث أخر إحرام العمرة عن طواف الحج. ويستحب أن يرفض عمرته؛ لأن إحرام الحج قد تأكد بشيء من أعماله، وإذا رفض عمرته يقضيها لصحة الشروع فيها، وعليه دم لرفضها.
رأي الجمهور في إدخال الحج على العمرة وبالعكس
وإن أهلَّ الحاج بعمرة يوم النحر أو في أيام التشريق، لزمته العمرة، ولزمه رفضها: لأنه قد أدى ركن الحج، فيصير بانياً أفعال العمرة على أفعال الحج من كل وجه، فكان خطأ محضاً لكراهة العمرة في هذه الأيام تعظيماً لأمر الحج، فترفض العمرة، وإذا رفضها وجب عليه دم للتحلل منها قبل أوانه. ويجب عليه قضاؤها لصحة الشروع فيها. فإن مضى على العمرة التي أحرم لها يوم النحر وأدى أفعالها أجزأه، وعليه دم لجمعه بين أعمالها وأعمال الحج الباقية إن كان الإحرام بها بعد الحلق، أو لجمعه بينهما في الإحرام إن كان الإحرام بها قبل الحلق. ومن فاته الحج، فأحرم بعمرة أو بحجة، فإنه يرفض التي أحرم بها؛ لأن فائت الحج يتحلل بأفعال العمرة، من غير أن ينقلب إحرامه إحرام العمرة، فيصير جامعاً بين العمرتين في الأفعال، وهو بدعة، فيرفضها، كما لو أحرم بحجتين، وعليه قضاؤها لصحة الشروع فيها، وعليه دم لرفضها بالتحلل قبل أوانه. رأي الجمهور في إدخال الحج على العمرة وبالعكس: أجاز جمهور الفقهاء (¬1) إدخال الحج على العمرة بشرط أن يكون الإدخال قبل الشروع في طواف العمرة، وبشرط كونه عند الحنفية قبل أداء أربعة أشواط من طواف العمرة، ويكون قارناً بلا خلاف. فإن أدخله على العمرة بعد الطواف فليس له ذلك ولا يصير قارناً؛ لأنه شارع في التحلل من العمرة، فلم يجز إدخال الحج عليها. ودليلهم: فعل ابن عمر الذي أحرم بعمرة، ثم جمع معها حجة، ثم قال: هكذا صنع النبي صلّى الله عليه وسلم (¬2). ¬
فسخ الحج إلى العمرة
ولا يجوز إدخال العمرة على الحج، كما أبنت في مذهب الحنفية، لكنه عندهم يصير قارناً، وعند الجمهور: لا يصح الإدخال ولا يصير قارناً؛ لما رواه الأثرم أن علياً منع من أراد ذلك، ولأن إدخال العمرة على الحج لا يفيد إلا ما أفاده الإحرام الأول كتكرر الاستئجار على عمل في المدة. فسخ الحج إلى العمرة: أي تحويل النية من الإحرام بالحج إلى العمرة. اتفق العلماء على أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمر أصحابه عام حجه بفسخ الحج إلى العمرة وقال: «أحلوا من إحرامكم، فطوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة، وقصِّروا وأقيموا حلالاً .. إلى أن قال: لولا أني سُقْت الهدي، لفعلت مثل الذي أمرتكم به، ولكن لا يَحِلّ مني حَرام حتى يبلغ الهدي مَحِلَّه» (¬1) والرواية المشهورة: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة» فإنه عليه السلام أمر من لم يسق الهدي من أصحابه أن يفسخ إهلاله بالحج إلى العمرة. ثم اختلف العلماء في هذا الفسخ، هل هو خاص للصحابة في تلك السنة خاصة، أم باق لهم ولغيرهم إلى يوم القيامة (¬2)؟. فقال الحنابلة والظاهرية: ليس خاصاً، بل هو باق إلى يوم القيامة، فيجوز لكل من أحرم بحج، وليس معه هدي أن يقلب إحرامه عمرة، ويتحلل بأفعالها. وقال الجمهور، منهم (المالكية والحنفية والشافعية): هو مختص بهم في تلك السنة، لا يجوز بعدها، وإنما أمروا به تلك السنة ليخالفوا ما كانت عليه الجاهلية من تحريم العمرة في أشهر الحج، بدليل حديث أبي ذر عند مسلم: «كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم» يعني فسخ الحج إلى العمرة. ¬
المطلب الثاني ـ الطواف
وفي كتاب النسائي عن الحارث بن بلال عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله، فسخ الحج لنا خاصة أم للناس عامة؟ فقال: بل لنا خاصة. وقال عمر: متعتان على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنا أنهى عنهما، وأعاقب عليهما: متعة النساء (زواج المتعة)، ومتعة الحج. وقال عثمان أيضاً: متعة الحج كانت لنا، وليست لكم. وقال أبو ذر: ما كان لأحد بعدنا أن يحرم بالحج، ثم يفسخه في عمرة. ويؤكد ذلك ظاهر قوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة:196/ 2]. المطلب الثاني ـ الطواف أنواعه وحكم كل نوع، وشروطه (ومنها مكانه، وزمانه، ومقداره) وسننه. أولاً ـ أنواع الطواف وحكم كل نوع (¬1): الأطوفة المشروعة في الحج ثلاثة: طواف القدوم، وطواف الإفاضة (أو الزيارة، أو طواف الركن)، وطواف الوداع (أو طواف الصَّدَر) وهو طواف آخر العهد بالبيت، سمي بذلك لأنه يودّع البيت ويصدُرُ به. وما زاد على هذه ¬
طواف القدوم
الأطوفة فهو نفل. أما السعي فواحد، ولا يكون السعي إلا بعد طواف، فإن سعى مع طواف القدوم لم يسْع بعده، وإن لم يسْع معه، سعى مع طواف الزيارة. هذا .. وقد أجمعوا على أن المكي ليس عليه إلا طواف الإفاضة. كما أجمعوا على أنه ليس على المعتمر إلا طواف العمرة، فليس عليه طواف قدوم. وأجمعوا على أن المتمتع عليه طوافان: طواف للعمرة لحله منها، وطواف للحج، يوم النحر. أما المفرد للحج فليس عليه إلا طواف واحد يوم النحر، ويجب عليه عند المالكية القدوم أيضاً إن اتسع الوقت له، ويسن ذلك عند الجمهور. وأما القارن فيجزئه عند الجمهور طواف واحد وسعي واحد، عملاً بمذهب ابن عمر وجابر، وقال الحنفية: على القارن طوافان وسعيان عملاً بمذهب علي وابن مسعود. وأجمعوا على أن الواجب من هذه الأطوفة الثلاثة الذي يفوت الحج بفواته: هو طواف الإفاضة، لقوله تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} [الحج:92/ 22] وأنه لا يجزئ عنه دم. وأجمعوا ما عدا طائفة من المالكية على أنه لا يجزئ طواف القدوم عن طواف الإفاضة إذا نسي طواف الإفاضة، لكونه قبل يوم النحر. ورأى جمهور العلماء أن طواف الوداع يجزئ عن طواف الإفاضة إن لم يكن طاف طواف الإفاضة؛ لأنه طواف بالبيت معمول في وقت الوجوب الذي هو طواف الإفاضة، بخلاف طواف القدوم الذي هو قبل وقت طواف الإفاضة. والحاصل أن العمرة ليس فيها طواف قدوم، وإنما فيها طواف واحد، يقال له
طواف الفرض وطواف الركن، وإذا طاف للعمرة أجزأه عن طواف القدوم وطواف الفرض. والقارن والمفرد بالحج يطوف ثلاثة أطوفة: طواف القدوم، وطواف الإفاضة، وطواف الوداع. وهناك طواف رابع متطوع به غير ما ذكر، ولا يكفي القارن عند الحنفية طواف واحد، بل عليه طوافان للعمرة وللحج وطواف القدوم للمفرد والقارن إذا كانا قد أحرما من غير مكة ودخلاها قبل الوقوف بعرفة. أما طواف القدوم: فهو سنة عند جمهور الفقهاء لحاج دخل مكة قبل الوقوف بعرفة، سواء أكان مفرداً أم قارناً، وليس على أهل مكة طواف القدوم، لانعدام القدوم في حقهم، وأما غير أهل مكة فسنة لهم بدليل الثابت في خبر الصحيحين، ولا يسن للحاج بعد الوقوف بعرفة، ولا للمعتمر؛ لأنه دخل وقت طوافهما المفروض. وعليه فيسقط طواف القد وم عن ثلاثة: المكي ومن في حكمه وهو من كان منزله دون المواقيت، والمعتمر والمتمتع ولو آفاقياً، ومن قصد عرفة رأساً للوقوف. وقال المالكية: يجب على من أحرم من الحِلّ ولو كان مكياً، وتجب الفدية على من قصد عرفة وترك طواف القدوم وكان الوقت متسعاً، وقال الحنابلة: يطوف المتمتع للقدوم قبل طواف الإفاضة، ثم يطوف طواف الإفاضة. ويسن أيضاً عند الشافعية طواف القدوم للحلال (غير المحرم) الداخل إلى مكة؛ لأنه يسمى طواف القادم والورود والوارد والتحية. والحكمة منه: أن الطواف تحية البيت، لا المسجد، فيبدأ به لا بصلاة تحية المسجد؛ لأن القصد من إتيان المسجد البيت، وتحيته الطواف.
ولا يبدأ بالطواف إذا خاف فوات الصلاة المفروضة، أو السنة المؤكدة، أو وجد جماعة قائمة، أو تذكر فائتة مكتوبة، فإنه يقدم ذلك على الطواف. ولو أقيمت الصلاة وهوفي أثناء الطواف قطعه وصلى، وكذا لو حضرت جنازة قطعه إن كان نفلاً. ويستحب للمحرم أول دخوله مكة ألا يعرج على استئجار منزل أو غيره قبل أن يطوف طواف القدوم. لكن لو قدمت امرأة نهاراً هي ذات جمال أو شرف، وهي التي لا تبرز للرجال، سنَّ لها أن تؤخره إلى الليل. ولو دخل المسجد الحرام وقد منع الناس من الطواف، صلى تحية المسجد. ولا يفوت طواف القدوم بالجلوس في المسجد، كما تفوت به تحية المسجد، لكنه يفوت بالوقوف بعرفة، لا بالخروج من مكة. ويطوف القارن عند الحنفية طواف القدوم بعد إنهاء أعمال العمرة، أي بعد طواف العمرة والسعي بين الصفا والمروة. وقال المالكية: يجب طواف القدوم لمن دخل المسجد الحرام، وينوي وجوبه ليقع واجباً، فإن نوى بطوافه نفلاً، أعاده بنية الوجوب، وأعاد السعي الذي سعاه بعد النفل ليقع بعد واجب، وذلك ما لم يخف فوتاً لحجه إن اشتغل بالإعادة، فإن خاف الفوات ترك الإعادة لطوافه وسعيه، وأعاد السعي بعد الإفاضة، وعليه دم لفوات طواف القدوم إن كان الوقت متسعاً، فإن خشي فوات الوقوف لو اشتغل بطواف القدوم سقط عنه ولا فدية عليه. والحاصل: أن طواف القدوم واجب عند المالكية بشروط ثلاثة: إن أحرم
طواف الإفاضة أوالزيارة
المفرد أو القارن من الحل ولو كان مقيماً بمكة؛ ولم يزاحمه الوقت بحيث يخشى فوات الحج إن اشتغل بالقدوم، فإن خشيه خرج لعرفة وتركه؛ ولم يُردف الحج على العمرة في حرم. فإن اختل شرط من الثلاثة لم يجب عليه طواف القدوم ولادم عليه. ووجوب الدم على من ترك طواف القدوم بشرطين: أولهما ـ أن يقدم السعي بعد ذلك الطواف على الإفاضة. وثانيهما ـ ألا يعيد سعيه بعد الإفاضة حتى رجع لبلده. فإن أعاده بعد الإفاضة، فلا دم عليه. وأما طواف الإفاضة أوالزيارة (¬1): فهو ركن باتفاق الفقهاء، لا يتم الحج إلا به، لقوله عز وجل: {وليطًّوفوا بالبيت العتيق} [الحج:29/ 22] قال ابن عبد البر: هو من فرائض الحج، لا خلاف في ذلك بين العلماء. وقالت عائشة: «حججنا مع النبي صلّى الله عليه وسلم، فأفضنا يوم النحر، فحاضت صفية، فأراد النبي صلّى الله عليه وسلم منها ما يريد الرجل من أهله، فقلت: يا رسول الله، إنها حائض، قال: أحابستنا هي؟ قالوا: يا رسول الله، إنها قد أفاضت يوم النحر، قال: اخرجوا» (¬2) فدل على أن هذا الطواف لا بد منه، وأنه حابس لمن لم يأت به، ولأن الحج أحد النسكين، فكان الطواف ركناً كالعمرة. فمن ترك طواف الزيارة، رجع من بلده متى أمكنه محرماً، لا يجزئه غير ذلك، لقصة صفية المتقدمة، فإنه صلّى الله عليه وسلم قال بعد أن حاضت: «أحابستنا هي؟ قيل: إنها قد أفاضت يوم النحر، قال: فلتنفر إذاً». فهذا يدل على أن هذا الطواف لا بد منه، وأنه حابس لمن لم يأت به، فإن نوى التحلل ورفض إحرامه، لم يحل بذلك؛ لأن الإحرام لا يخرج منه بنية الخروج. وعلى هذا فإذا فات طواف الإفاضة عن أيام النحر لا يسقط، بل يجب أن يأتي به؛ لأن سائر الأوقات وقته. ¬
طواف الوداع
وأما طواف الوداع (¬1) لمن أراد الخروج من مكة: فهو مندوب عند المالكية؛ لكل من خرج من مكة ولو كان مكياً؛ لأنه لا يجب على الحائض والنفساء، ولو كان واجباً لوجب عليهما كطواف الزيارة. وواجب عند باقي المذاهب يجبر تركه بدم، لما قال ابن عباس: «أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن الحائض» (¬2) وفي لفظ لمسلم «كان الناس ينصرفون من كل وجه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لا ينفرن أحد، حتى يكون آخر عهده بالبيت»، وأخرج الترمذي عن عمر: «من حج البيت فليكن آخر عهده بالبيت، إلا الحيَّض، ورخص لهن رسول الله صلّى الله عليه وسلم» (¬3)، وليس في سقوطه عن المعذور ما يجوِّز سقوطه لغيره، كالصلاة تسقط عن الحائض، وتجب على غيرها، بل تخصيص الحائض بإسقاطه عنها دليل على وجوبه على غيرها. جزاء ترك الوداع: إذا ثبت وجوبه، فإنه ليس بركن بغير خلاف، ويجبر تركه بدم كسائر الواجبات، فلو خرج الحاج من مكة أو منى بلا وداع عامداً أو ناسياً أو جاهلاً بوجوبه، وعاد بعد خروجه قبل مسافة القصر من مكة، وطاف للوداع، سقط وجوبه عند الشافعية والحنابلة؛ لأن من دون مسافة القصر في حكم الحاضر في أنه لا يقصر ولا يفطر، وهو معدود من حاضري المسجد الحرام، وروي أن عمر «رد رجلاً من مَرّ الظهران إلى مكة ليكون آخر عهده بالبيت» (¬4) وعليه أن ¬
شرائطه
يرجع إن كان قريباً من مكة، والقريب: هو الذي بينه وبين مكة دون مسافة القصر، وإن كان بعيداً بعث بدم، والبعيد: من بلغ مسافة القصر. شرائطه: لطواف الوداع شرائط وجوب، وصحة أو جواز. فمن أهم شرائط الوجوب اثنان: 1 - أن يكون من أهل الآفاق: فليس عند الحنفية على أهل مكة ومن في حكمهم وهو من كان منزله داخل المواقيت طواف وداع إذا حجوا؛ لأن هذا الطواف إنما وجب توديعاً للبيت. وقال الحنابلة: من كان منزله في الحرم فهو كالمكي لا وداع عليه، ومن كان منزله خارج الحرم قريباً منه فلا يخرج حتى يودع، لعموم الحديث السابق: «لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت» (¬1) وقال الشافعية: يجب الوداع لكل من أراد الخروج من مكة لسفر ولو مكياً سواء أكان السفر طويلاً أم قصيراً، لحديث ابن عباس المتقدم: «لا ينفرن أحد .. ». ولحديث أنس: «أنه صلّى الله عليه وسلم لما فرغ من أعمال الحج طاف للوداع» وهذا العموم للمكي مندوب عند المالكية كما عرفنا. 2 - الطهارة من الحيض والنفاس: فلا يجب على الحائض والنفساء، ولا يجب عليهما الدم بتركه، للحديث السابق: «رخص للحيَّض» ترك هذا الطواف، لا إلى بدل، فدل على أنه ليس واجباً عليهن، إذ لو كان واجباً لما جاز تركه إلا إلى بدل، وهو الدم، فإذا حاضت المرأة قبل أن تودع، خرجت ولا وداع عليها ولا فدية بالاتفاق، لحديث عائشة المتقدم: أن صفية حاضت، فأمرها النبي صلّى الله عليه وسلم أن تنصرف بلا وداع. ¬
شرطا صحة
ولم يشترط لوجوب هذا الطواف الطهارة عن الحدث والجنابة، وإنما يجب على المحدث والجنب؛ لأنه يمكنهما إزالة الحدث والجنابة. وشرطا صحة طواف الوداع: 1ً - النية؛ لأنه عبادة، فلا بد له من النية. لكن تعيين النية ليس بشرط عند الحنفية، فلو طاف بعد طواف الزيارة، دون أن يعين شيئاً، أو نوى تطوعاً، كان طواف صدر؛ لأن الوقت تعين له، فينصرف مطلق النية إليه كصوم رمضان. 2ً - أن يكون بعد طواف الزيارة: فلو طاف بعد النفر من عرفات لا ينوي شيئاً، أو نوى تطوعاً أو نوى طواف الصدر، وقع عن الزيارة لا عن الصدر؛ لأن الوقت له، وطواف الصدر مرتب عليه. ويتأدى طواف الوداع عند المالكية بطواف الإفاضة وطواف العمرة، وحصل له ثوابه إن نواه بهما كتحية المسجد تؤدى بالفرض. قدره وكيفيته وسننه: كسائر الأطوفة التي سأذكرها. وقته: بعد فراغ المرء من جميع أمور الحج، وحين إرادته السفر من مكة، ليكون آخر عهده بالبيت. وهذا عند الحنفية بيان الوقت المستحب أو الأفضل، فلو أطال الإقامة بمكة ولم يستوطنها صح طوافه وإن أقام سنة بعد الطواف، ويجوز طواف الوداع عند الحنفية في أيام النحر وبعدها، ويكون أداء لا قضاء. وقال الجمهور (غير الحنفية): يكون طواف الوداع عند خروج الحاج ليكون آخر عهده بالبيت، فإن طاف للوداع، ثم اشتغل بتجارة وإقامة، فعليه إعادته،
مكانه
للحديث المتقدم: «لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت»، ولأنه إذا أقام بعده، خرج عن أن يكون وداعاً في العادة، فلم يجزه، كما لو طافه قبل حل النفر. فأما إن قضى حاجة في طريقه، أو اشترى زاداً أو شيئاً لنفسه في طريقه، لم يعد؛ لأن ذلك ليس بإقامة تخرج طوافه عن أن يكون آخر عهده بالبيت. مكانه: حول البيت، لا يجوز إلا به، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من حج هذا البيت، فليكن آخر عهده به الطواف» والطواف بالبيت: هو الطواف حوله، فإن نفر ولم يطف، يجب عليه أن يرجع ويطوف ما لم يجاوز الميقات عند الحنفية، ومن دون مسافة القصر عند الشافعية والحنابلة؛ لأنه ترك طوافاً واجباً، وأمكنه أن يأتي به من غير حاجة إلى تجديد الإحرام. وإن جاوز الميقات عند الحنفية أو مسافة القصر عند الشافعية والحنابلة، لا يجب عليه الرجوع، والأولى ألا يرجع، ويريق دماً مكان الطواف؛ لأن هذا أنفع للفقراء وأيسر عليه، لما فيه من دفع مشقة السفر، وضرر التزام الإحرام بعمرة، لأنه إذا رجع أحرم بعمرة، فطاف طواف العمرة، وسعى، ثم يطوف الوداع، ولا شيء عليه عند الحنفية، والحنابلة في الأصح، لتأخيره عن مكانه. ولا يسقط عنه الدم على الصحيح عند الشافعية والقاضي أبي يعلى الحنبلي. إن عاد بعد مسافة القصر؛ لأنه قد استقرعليه الدم بالسفر الطويل، أي بلوغه مسافة القصر. صلاة ركعتين، والوقوف في الملتزم والحطيم والدعاء وشرب ماء زمزم وتقبيل الحجر بعد طواف الوداع: إذا فرغ المودع من طوافه سبعاً ومن جميع أموره، صلى ركعتين كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلم، ويستحب أن يقف المودع في الملتزم (وهو ما بين الركن ـ الحجر الأسود ـ
والباب قدر أربعة أذرع) فيلتزمه ملصقاً به صدره ووجهه ويبسط يديه عليه، ويجعل يمينه نحو الباب ويساره نحو الحجر، ويدعو الله عز وجل، كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلم (¬1). ويأتي الحطيم أيضاً: وهو تحت الميزاب، ثم يشرب من زمزم، ويستلم الحجر ويقبله. قال منصور: سألت مجاهداً إذا أردتُ الوداع كيف أصنع؟ قال: تطوف بالبيت سبعاً، وتصلي ركعتين خلف المقام، ثم تأتي زمزم، فتشرب من مائها، ثم تأتي الملتزم ما بين الحجَر والباب، فتستلمه، ثم تد عو، ثم تسأل حاجتك، ثم تستلم الحجر، وتنصرف. وقال الفقهاء (¬2): يقول في دعائه عند الملتزم: «اللهم هذا بيتُك وأنا عبدك وابن عبدك، حملْتني على ما سخَّرت لي من خلْقِك، وسيرتني في بلادك، حتى بلَّغتني بنعمتك إلى بيتك، وأعنْتَني على أداء نُسُكي، فإن كنت رضيتَ عني، فازدد عني رضاً، وإلا فمُنَّ الآن قبل أن تنأى عن بيتك داري، فهذا أوان انصرافي، إن أذنت لي، غير مستَبدِل بك ولا ببَيْتك، ولا راغبٍ عنك ولا عن بيتك، اللهم فأصْحِبني العافيةَ في بدني، والصحة في جسمي، والعصمة في ديني، وأحسن منقلبي، وارزقني طاعتك أبداً ما أبقيتني، واجمع لي بين خيري الدنيا والآخرة، إنك على كل شيء قدير». أما المرأة إذا كانت حائضاً، فلا تدخل المسجد، ووقفت على بابه، فدعت بذلك. ¬
كيفية الرجوع
كيفية الرجوع: المذهب الصحيح عند الشافعية وباقي المذاهب: أن المودع يخرج ويولي ظهره إلى الكعبة، ولا يمشي قهقرى، كما يفعله كثير من الناس، قالوا: بل المشي قهقرى مكروه، فإنه ليس فيه سنة مروية ولا أثر محكي، وما لا أصل له لا يعرج عليه. قال مجاهد: إذا كدت تخرج من باب المسجد، فالتفت، ثم انظر إلى الكعبة، ثم قل: اللهم لا تجعله آخر العهد. وكان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا انصرف من حج أو عمرة أو غزو يقول: «آيبون تائبون عابدون، لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده». أخذ شيء من الحرم: لا يجوز أخذ شيء من تراب الحرم وأحجاره معه إلى بلاده ولا إلى غيره من الحل، ولا يجوز أخذ شيء من طيب الكعبة، لا للتبرك ولا لغيره، ومن أخذ شيئاً من ذلك لزمه رده إليها؛ ولا يجوز قطع شيء من سترة الكعبة ولا نقله ولا بيعه ولا شراؤه ولا وضعه بين أوراق المصحف، ومن حمل من ذلك شيئاً لزمه رده. ويحرم إتلاف صيد الحرم على الحلال والمحرم وتملكه وأكله. ويجوز إخراج ماء زمزم من جميع مياه الحرم ونقله إلى جميع البلدان؛ لأن الماء يستخلف، بخلاف التراب والحجر. ثانياً ـ شروط الطواف أو واجباته: يشترط لصحة الطواف خمسة شروط عند الحنفية، وسبعة شروط عند المالكية، وثمانية شروط عند الشافعية، وأربعة عشر شرطاً عند الحنابلة: أما شروط الطواف عند الحنفية، فهي ما يلي (¬1): ¬
1ً - نية الطواف: يشترط توافر أصل النية بالطواف دون حاجة لتعيين النية حال وجود الطواف في وقته، فلو لم ينو أصلاً، بأن طاف هارباً، أو طالباً لغريم، لم يجز. والفرق بين الطواف وبين الوقوف بعرفة في اشتراط النية للأول دون الثاني: هو أن الوقوف ركن يقع في حال قيام الإحرام نفسه، فتكفيه النية السابقة وهي نية الحج، كالركوع والسجود في الصلاة. أما الطواف فلا يؤتى به في حال قيام الإحرام نفسه، لأنه يقع به التحلل من الحج، ولا إحرام حال وجود التحلل. 2ً - أن يطوف القادر ماشياً، لا راكباً إلا من عذر: فلو طاف راكباً من غير عذر فعليه الإعادة ما دام بمكة، وإن عاد إلى أهله يلزمه دم، لقوله تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} [الحج:29/ 22] والراكب ليس بطائف حقيقة، فأوجب ذلك نقصاً فيه، فوجب جبره بالدم. 3ً - مكانه: أن يقع حول البيت في المسجد، لقوله تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} [الحج:29/ 22] والطواف بالبيت هو الطواف حوله، فيجوز الطواف في المسجد الحرام قريباً من البيت أو بعيداً عنه، بشرط أن يكون في المسجد، فلو طاف من وراء زمزم قريباً من حائط المسجد، أجزأه، لوجود الطواف بالبيت. ولو طاف حول المسجد وبينه وبين البيت حيطان المسجد، لم يجز؛ لأن حيطان المسجد حاجزة، فلم يطف بالبيت، لعدم الطواف حوله. ويطوف من خارج الحطيم؛ لأن الحطيم من البيت على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلم. 4ً - زمانه: زمان طواف الإفاضة يبدأ حين يطلع الفجر الثاني من يوم النحر، فلا يجوز قبله، وليس لآخره زمان معين موقت به فرضاً، بل جميع الليالي والأيام وقته فرضاً، فلو أخره عن يوم النحر لا شيء عليه، لإطلاق حديث: «افعل ولا حرج»، لكن عليه لتأخيره عن أيام النحر دم عند أبي حنيفة. وإن رجع إلى أهله رجع إلى مكة بإحرامه الأول، ولا يحتاج إلى إحرام جديد، وعليه دم لتأخيره.
وأما إنه لا يجوز قبل فجر النحر فلأن ليلة النحر وقت ركن آخر وهو الوقوف بعرفة، فلا يكون وقتاً للطواف؛ لأن الوقت الواحد لا يكون وقتاً لركنين. 5ً - مقداره المفروض منه هو أكثر الأشواط: وهو ثلاثة أشواط وأكثر الشوط الرابع، فأما الإكمال إلى سبعة أشواط فواجب، وليس بفرض. أما الطهارة عن الحدث والجنابة والحيض والنفاس فليست بشرط عند الحنفية لجواز الطواف، وليست بفرض، بل واجبة، حتى يجوز الطواف بدونها، لقوله تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} [الحج:29/ 22] أمر بالطواف مطلقاً عن شرط الطهارة، ولايجوز تقييد مطلق الكتاب بخبر الواحد، فيحمل حديث: «الطواف صلاة إلا أن الله تعالى أباح فيه الكلام» (¬1) على التشبيه، كما في قوله تعالى: {وأزواجه أمهاتهم} [الأحزاب:6/ 33] أي كأمهاتهم، ومعناه الطواف كالصلاة، إما في الثواب، أو في أصل الفرضية. فإذا طاف من غير طهارة فما دام بمكة تجب عليه الإعادة، لجبر الشيء بجنسه، وإن أعاد في أيام النحر فلا شيء عليه، وإن أخره عنها فعليه دم عند أبي حنيفة. وإن لم يعد ورجع إلى أهله فعليه الدم، غير أنه إن كان محدثاً فعليه شاة لكون النقصان يسيراً، وإن كان جنباً فعليه بدنة، لكون النقصان فاحشاً. وأما الموالاة في الطواف فليست بشرط عند الحنفية، فلو صلى الطائف صلاة جنازة أو مكتوبة أو ذهب لتجديد الوضوء، ثم عاد، بنى على طوافه، ولا يلزمه الاستئناف، لقوله تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} [الحج:29/ 22] مطلقاً عن شرط الموالاة. ¬
شروط الطواف عند المالكية
وليس الابتداء من الحجر الأسود بشرط أيضاً عند الحنفية، بل هو سنة في ظاهر الرواية، فلو افتتح من مكان آخر من غير عذر، أجزأه مع الكراهة، لقوله تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} [الحج:29/ 22] مطلقاً عن شرط الابتداء بالحجر الأسود. ولا بأس أن يطوف وعليه خفاه أو نعلاه إذا كانا طاهرتين، لما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه طاف مع نعليه، كما ذكر الكاساني. وشروط الطواف عند المالكية سبعة هي ما يلي (¬1): 1ً - الطهارة من الحدث والنجس وستر العورة كالصلاة، إلا أنه يباح فيه الكلام. 2ً - الموالاة بلا فصل كثير بين الأشواط، فإن فصل كثيراً لحاجة أو لغيرها ابتدأه من أوله. ويجب أن يقطع طوافه لإقامة صلاة فريضة مع إمام راتب: وهو إمام مقام إبراهيم، وهو المعروف بمقام الشافعي. ولا يقطعه مع إمام غير راتب. وإذا أقيمت الصلاة أثناء شوط، ندب له كمال الشوط الذي هو فيه، بأن ينتهي للحجَر ليبني على طوافه المتقدم من أول الشوط، فإن لم يكمله ابتدأ من موضع خروجه، ويبني على ما فعله من طوافه بعد سلامه، وقبل تنفله. والحاصل: أن صلاة الفريضة لا تبطل الطواف، وتبطله النافلة والجنازة، ولايبطله الفصل لعذر كرعاف، فإنه يبني على ما سبق بعد غسل الدم بشرط ألا يتعدى موضعاً قريباً لأبعد منه، وألا يبعد المكان في نفسه، وألا يطأ نجاسة. ¬
واجبات الطواف عند الشافعية
3ً - الترتيب: وهو أن يجعل البيت عن يساره ويبتدئ بالحجر الأسود. 4ً - أن يكون بجميع بدنه خارجاً عن البيت، فلا يمشي على الشاذروان ولا على الحِجْر. 5ً - أن يطوف بداخل المسجد: فلا يجزئ خارجه. 6ً - كون الطواف سبعة أشواط من الحجر الأسود إلى الحجر، فلا يجزئ أقل من سبعة، فلو اقتصر على ستة مثلاً لم تجزه. فإن شك في عدد الأشواط هل طاف ثلاثة أو أربعة، بنى على الأقل. 7ً - صلاة ركعتين بعد الطواف. أما المشي لقادر عليه: فهو واجب عند المالكية كالمشي في السعي، فإن لم يمش بأن ركب أو حمل، فعليه دم إن لم يُعدْه وقد خرج من مكة، فإن أعاده ماشياً بعد رجوعه له من بلده، فلا دم عليه. ولا دم على العاجز عن المشي ولا إعادة عليه. وكذلك الابتداء من الحجر الأسود واجب عند المالكية، فإن ابتدأ من غيره لزمه دم. وأما وقت طواف الإفاضة عند المالكية فهو من طلوع فجر يوم النحر، كما قال الحنفية، فلا يصح قبله، كما لا يصح رمي جمرة العقبة قبل فجر النحر. وواجبات الطواف عند الشافعية بما يشمل الشروط والأركان ثمان وهي ما يأتي (¬1): ¬
1ً - ستر العورة كسترها في الصلاة: لما في الصحيحين: «لا يطوف بالبيت عريان». فإن عجز عنها، طاف عارياً، وأجزأه كما لو صلى كذلك. 2ً و 3ً - طهارة الحدث والنجس في الثوب والبدن والمكان؛ لأن الطواف في البيت صلاة، كما نطق به الخبر المتقدم، فلو أحدث أو تنجس بدنه أو ثوبه أو مطافه بغير معفو عنه، أو عري مع القدرة على الستر في أثناء الطواف، تطهر وستر عورته، وبنى على طوافه، حتى وإن تعمد ذلك وطال الفصل، إذ لا تشترط الموالاة فيه عندهم كالوضوء، ويسن الاستئناف. لكن غلبة النجاسة في المطاف أصبحت مما عمت به البلوى، فيعفى عما يشق الاحتراز عنه أيام الموسم وغيره، بشرط ألا يتعمد المشي عليها، وألا يكون فيها رطوبة. والأوجه أن للمتيمم والعاجز عن الماء طواف الركن ليستفيدا به التحلل، ثم إن عادا إلى مكة، لزمتهما إعادته. 4ً - أن يجعل الطائف البيت عن يساره، مارّاً تلقاء وجهه إلى جهة الباب، اتباعاً للسنة كما رواه مسلم، مع خبر: «خذوا عني مناسككم» فإن خالف ذلك لم يصح طوافه لمعارضته الشرع. ولو طاف مستلقياً على ظهره، أو على وجهه، مع مراعاة كون البيت عن يساره، صح. 5ً - الابتداء من الحجر الأسود: اتباعاً للسنة كما رواه مسلم، ومحاذاته له بجميع بدنه، أي جميع شقه الأيسر بحيث لا يتقدم من الشق الأيسر على جزء من الحجر، فلو لم يحاذه أو لم يحاذ بعضه بجميع شقه، كأن جاوزه ببعض شقه إلى جهة الباب، لم يصح طوافه.
فإذا انتهى إليه، ابتدأ منه. ويشترط أن يكون الطواف خارج البيت وحجر إسماعيل والشاذَرْوَان (¬1)، فلو مشى على الشاذَرْوَان أو مسّ الجدار الكائن في موازاته، أوأدخل جزءاً منه في هواء الشاذروان أو دخل من إحدى فتحتي الحِجْر (¬2) وخرج من الفتحة الأخرى، أو خلف منه قدر الذي من البيت وهو ستة أذرع، واقتحم الجدار، وخرج من الجانب الآخر، لم يصح طوافه. أما كون الطواف في غير الحجر، فلقوله تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} [الحج:29/ 22] وإنما يكون طائفاً به إذا كان خارجاً عنه، وإلا فهو طائف فيه. وأما الحِجْر: فلأنه صلّى الله عليه وسلم إنما طاف خارجه، وقال: «خذوا عني مناسككم» ولخبر مسلم عن عائشة رضي الله عنها: «سألت رسول الله عن الحِجْر، أمن البيت هو؟ قال: نعم، قلت: فما بالهم لم يدخلوه في البيت؟ قال: إن قومك قصرت بهم النفقة، قلت: فما شأن بابه مرتفعاً؟ قال: فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاؤوا، ويمنعوا من شاؤوا، ولولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية، فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدار في البيت، وأن ألصق بابه بالأرض لفعلت» وظاهر الخبر أن الحِجرجميعه من البيت، لكن الصحيح أنه ليس كذلك، بل الذي هو من البيت قدر ستة أذرع تتصل بالبيت، ومع ذلك يجب الطواف خارجه؛ لأن الحج باب اتباع. ¬
وبعبارة أخرى: هو الجزء الأسفل اللاصق لجدار البيت والذي هو محاذٍ لجدارها كالرصيف، وهو ما فضل منها عند بنائها. ويلاحظ أن من قبَّل الحجر الأسود، فرأسه في حال التقبيل في جزء من البيت، فيلزمه أن يقر قدميه في محلهما حتى يفرغ من التقبيل ويعتدل قائماً. 6ً - أن يطوف بالبيت سبعاً ولو في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها للاتباع، فلو ترك من السبع شيئاً، وإن قل، لم يجزه، فلو شك في العدد أخذ بالأقل، كعدد ركعات الصلاة. 7ً - أن يكون الطواف داخل المسجد: للاتباع أيضاً، فلا يصح حوله بالإجماع. ويصح داخل المسجد وإن وسِّع، وحال حائل بين الطائف والبيت كالسواري، ويصح على سطح المسجد، وإن كان سقف المسجد أعلى من البيت، كالصلاة على جبل أبي قبيس، مع ارتفاعه عن البيت، وهذا هو المعتمد. 8ً - نية الطواف إن استقل: بأن لم يشمله نسك كسائر العبادات، كالطواف المنذور والمتطوع به. أما الذي شمله نسك وهو طواف الركن للحج أو العمرة وطواف القدوم، فلا يحتاج إلى نية، لشمول نية النسك له. ولا بد لطواف الوداع من نية؛ لأنه يقع بعد التحلل، ولأنه ليس من المناسك عند الشيخين (الرافعي والنووي). ولا بد في النية من التعيين. أما وقت طواف الإفاضة ومثله رمي العقبة والذبح والحلق فيدخل بنصف ليلة النحر؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم «أرسل أم سلمة ليلة النحر فرمت قبل الفجر، ثم أفاضت» (¬1). وأما المشي في الطواف فليس عند الشافعية شرطاً بل هو سنة، كما رواه مسلم، ويسن أن يكون حافياً في طوافه عند عدم العذر. وأما صلاة ركعتي الطواف فسنة عندهم. وللطواف واجبات دينية: منها أن ¬
شروط الطواف عند الحنابلة
يصون نفسه عن كل مخالفة في وقت الطواف، ومنها ـ أن يصون قلبه عن احتقار من يراه، ومنها ـ أن يلتزم الأدب، ومنها ـ أن يحفظ يده وبصره عن كل معصية. وشروط الطواف عند الحنابلة: أربعة عشر (¬1): إسلام وعقل، ونية معينة، ودخول وقت، وستر عورة لقادر، وطهارة حدث لا لطفل، وطهارة خبث، وتكميل السبْع يقيناً، فإن شك أخذ باليقين، ويقبل في بيان عدد الأشواط قول عدلين، وجعل البيت عن يساره، غير متقهقر، ومشي لقادر، وموالاته، وكونه داخل المسجد لا يخرج عنه، وأن يبتدئه من الحجر الأسود فيحاذيه، وألا يدخل في شيء من البيت كالحِجْر والشاذروان. أما وقت طواف الإفاضة: فيدخل من نصف ليلة النحر، كما قال الشافعية. وأما ركعتا الطواف فسنة كما قرر الشافعية. خلاصة آراء الفقهاء في شروط الطواف: يمكن تلخيص ماسبق من بيان الآراء الفقهية في شروط الطواف على النحو التالي: 1 - الطهارة عن الحدث والنجس ليست بشرط عند الحنفية، وإنما هي واجب، وشرط عند باقي المذاهب. 2 - نية الطواف: أصل النية لا تعيينها شرط عند الحنفية، وليست بشرط عند المالكية، والنية مع التعيين شرط عند الشافعية إن استقل الطواف عن نسك يشمله، والنية المعينة شرط عند الحنابلة. ¬
حج المرأة الحائض
3 - المشي للقادر شرط عند الحنفية والحنابلة، واجب عند المالكية، وليس بشرط عند الشافعية، وإنما هو سنة. 4 - كون الطواف في المسجد شرط بالاتفاق. 5 - الابتداء بالحجر الأسود: ليس بشرط وإنما هو واجب عند الحنفية، وعند المالكية، وشرط عند الشافعية والحنابلة. وترك الواجب يوجب الدم فيما لو ابتدأ من غير الحجر. 6 - الترتيب أو جعل البيت عن يسار الطائف: واجب لدى الحنفية يلزم دم بتركه، وشرط عند باقي المذاهب؛ لأن الطائف كالمؤتم بالكعبة، والواحد يقف عن يمين الإمام، ويساره له. 7 - الموالاة: ليست شرطاً عند الحنفية والشافعية، وشرط عند المالكية والحنابلة. 8 - كون الطواف سبعة أشواط: شرط عند الجمهور (غير الحنفية) واجب لاشرط عن الحنفية، وإنما الفرض أكثر الأشواط. 9 - زمان طواف الإفاضة: بعد فجر يوم النحر في مذهبي الحنفية والمالكية، ويجوز بعد منتصف ليلة النحر في مذهبي الشافعية والحنابلة. 10 - صلاة ركعتي الطواف: واجب عند المالكية، وواجب في وقت مباح فيه الصلاة لا كراهة فيه، عند الحنفية. وسنة عند الشافعية والحنابلة. حج المرأة الحائض: إذا حاضت المرأة أو نفست عند الإحرام اغتسلت للإحرام وأحرمت وصنعت كما يصنعه الحاج، غير أنها لا تطوف بالبيت حتى تطهر، وإذا حاضت المرأة أو
نفست فلا غسل عليها بعد الإحرام، وإنما يلزمها أن تشد الحفاظ الذي تضعه كل أنثى على محل الدم، لمنع تسربه للخارج. ثم تفعل سائر مناسك الحج إلا الطواف بالبيت؛ لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمر عائشة رضي الله عنها أن تصنع ما يصنع الحاج غير الطواف بالبيت (¬1). وقال في حديث صحيح لأسماء بنت عميس: «اصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت». وعلى هذا فلا تلزم بطواف القدوم ولا بقضائه؛ لأنه سنة عند الجمهور (غير المالكية) وإذا كانت متمتعة ثم حاضت قبل الطواف للعمرة، لم يكن لها أن تطوف بالبيت؛ لأن الطواف بالبيت صلاة، وهي ممنوعة من دخول المسجد، فإن خشيت فوات الحج أحرمت بالحج مع عمرتها، وتصير قارنة عند الجمهور، وقال أبو حنيفة: ترفض العمرة وتهل بالحج، عملاً بحديث عائشة عند مسلم: «انقضي رأسك، وامتشطي، وأهلي بالحج، ودعي العمرة» ثم قال عليه السلام لها بعد أن اعتمرت من التنعيم: «وهذه عمرة مكان عمرتك» فدل كل هذا على أنها رفضت عمرتها وأحرمت بحج. وحجة الجمهور: حديث جابر أنه صلّى الله عليه وسلم أمر عائشة أن تهل بالحج، فأصبحت قارنة، حتى إذا طهرت طافت بالكعبة، وبالصفا والمروة. ثم قال لها: «قد حللت من حجتك وعمرتك» والاعتمار من التنعيم لم يأمرها به النبي صلّى الله عليه وسلم، وإنما فعلت ذلك زيارة زارت بها البيت، وإدخال الحج على العمرة جائز بالإجماع من غير خشية الفوات، فمع خشية الفوات أولى. ولا يصح الخروج من الحج أو العمرة بعد الإحرام بنية الخروج، وإنما يخرج منها بالتحلل بعد فراغها. ومعنى «دعي ¬
ثالثا ـ سنن الطواف
العمرة» أي ارفضي العمل فيها، وإتمام أفعالها التي هي الطواف والسعي وتقصير شعر الرأس، فإنها تدخل في أفعال الحج. وإذا حاضت المرأة بعد الوقوف بعرفة وطواف الزيارة، انصرفت من مكة، ولاشيء عليها لطواف الصدَر، فليس على المرأة الحائض وداع ولا فدية إذا حاضت قبل أن تودع، باتفاق فقهاء الأمصار، بدليل حديث صفية المتقدم حين قالوا: «يارسول الله، إنها حائض! فقال: أحابستنا هي؟ قالوا: يا رسول الله، إنها قد أفاضت يوم النحر، قال: فلتنفر إذاً» ولم يأمرها بفدية ولا غيرها. وفي حديث ابن عباس السابق: «إلا أنه ـ أي طواف الوداع ـ خفف عن المرأة الحائض» والنفساء مثل الحائض في الحكم؛ لأن أحكام النفاس أحكام الحيض فيما يوجب ويسقط. وإذا اضطرت المرأة اضطراراً شديداً لمغادرة مكة قبل انتهاء مدة الحيض أو النفاس، ولم تكن قد طافت طواف الإفاضة، فتغتسل وتشد الحفاظ الموضوع في أسفل البطن شداً محكماً، ثم تطوف بالبيت سبعاً طواف الإفاضة، ثم تسعى بين الصفا والمروة سبعاً، وعليها ذبح بدنة (وهي ما أتم خمس سنين من الإبل أو أتم سنتين من البقر) وذلك تقليداً للحنفية الذين يقولون بصحة الطواف حينئذ، مع الحرمة، ووجوب إهداء البدنة (¬1). ثالثاً ـ سنن الطواف: أبنت سنن الحج في كل مذهب على حدة، وألخص هنا منها سنن الطواف (¬2): ¬
- استلام الحجر الأسود
1ً - استلام الحجر الأسود (أي لمسه بيده اليمنى أو بكفيه) أول طوافه وفي بدء كل شوط وتقبيله بلا صوت، ووضع جبهته عليه عند الشافعية بلا إيذاء، إذا لم تكن زحمة، فإن لم يتمكن من الاستلام باليد استلم بعود ونحوه مع استقباله بجميع بدنه، فإن عجز أشار بيده، ثم وضع العود أو يده على فيه بعد اللمس بأحدهما بلا صوت، فإذا أظهر الصوت جاز على الأرجح عند المالكية، وكره مالك السجود وتمريغ الوجه على الحجر، ويسن عند الشافعية أن يكون التقبيل ووضع الجبهة ثلاثاً. ويكبر ويهلل ويحمد الله تعالى، ويصلي على النبي صلّى الله عليه وسلم. ودليل التقبيل فعل الرسول صلّى الله عليه وسلم، كما رواه الشيخان، ودليل وضع جبهته عليه اتباع السنة كما رواه البيهقي. ودليل الاستلام باليد دون إيذاء: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: ياعمر، إنك رجل قوي، لا تزاحم على الحجر، فتؤذي الضعيف، إن وجدت خلوة، وإلا فهلل وكبر (¬1)». ولأن ترك الإيذاء واجب، وتقبيل ما استلمه به من يد أو نحو عصا، لخبر الصحيحين: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» ولما روى مسلم بن نافع قال: «رأيت ابن عمر يستلم الحجر بيده، ويقول: ما تركته منذ رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يفعله». وتكرار الاستلام والتقبيل في كل طوفة من الطوفات السبع، لحديث «أنه صلّى الله عليه وسلم كان لا يدع أن يستلم الركن اليماني والحجر الأسود في كل طوفة» (¬2). ولو استقبل الحجر مطلقاً، ونوى الطواف عند من اشترط النية وهم الحنفية والحنابلة، كفى في تحقيق المقصود الذي هو الابتداء من الحجر. ¬
- الدعاء
ولا يستلم بيده الركنين الشاميين (وهما اللذان عندهما الحِجْر) ولا يقبلهما، ويستلم الركن اليماني (وهو الذي يسبق ركن الحجر) في آخر كل شوط، ولايقبله، لأنه لم ينقل، لما في الصحيحين عن ابن عمر: «أنه صلّى الله عليه وسلم كان لا يستلم إلا الحَجَر والركن اليماني». ويستحب للمرأة عند الحنابلة إذا قدمت مكة نهاراً تأخير الطواف إلى الليل ليكون أستر لها، ولا يستحب لها مزاحمة الرجال لاستلام الحجر، لكن تشير بيدها إليه كالذي لا يمكنه الوصول إليه. 2ً - الدعاء: وليس بمحدود ويدعو بما يشاء. وأفضله الدعاء المأثور، فيقول في أول كل طوفة: (بسم الله والله أكبر، اللهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك ووفاء بعهدك (¬1)، واتباعاً لسنة نبيك محمد صلّى الله عليه وسلم. وليقل قبالة باب الكعبة: (اللهم إن البيت بيتك، والحرمَ حرمك، والأمن أمنك، وهذا مقام العائذ بك من النار (¬2)). وليقل بين الركنين اليمانيين: (اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار). ومأثور الدعاء أفضل من قراءة القرآن، للاتباع، والقراءة أفضل من غير مأثور الدعاء؛ لأن الموضع موضع ذكر، والقرآن أفضل الذكر، وفي الحديث القدسي يقول الرب سبحانه وتعالى: «من شغله ذكري عن مسألتي، أعطيته أفضل ماأعطي السائلين، وفضلُ كلام الله تعالى على سائر الكلام كفضل الله تعالى على سائر خلقه» (¬3)، لكن تكره القراءة عند المالكية. ¬
- الرمل للرجال أو الصبيان
ويسن الإسرار بالذكر والقراءة؛ لأنه أجمع للخشوع. ويراعي ذلك أيضاً في كل طوفة اغتناماً للثواب، والدعاء في الأولى ثم في الأوتار آكد، كتقبيل الحجر واستلامه، لحديث: «إن الله وتر يحب الوتر». ويكره إنشاد الشعر، والتحدث في الطواف للحديث السابق: «الطواف بالبيت صلاة فأقلوا في الكلام» وفي رواية «فمن نطق فيه فلا ينطق إلا بخير» ولأن ذلك يشغله عن الدعاء. 3 ً - الرَّمَل (¬1) للرجال أو الصبيان دون النساء في الأشواط الثلاثة الأُوَل، وهو عند الحنفية والشافعية سنة في كل طواف يعقبه سعي بأن يكون بعد طواف قدوم أو ركن يعقبه سعي، وهذا هو المشهور، ولا يرمل إذا كان طاف طواف القدوم أو اللقاء، وسعى عقيبه. فإن كان لم يطف طواف القدوم أو كان قد طاف لكنه لم يسع عقبيه، فإنه يرمل من طواف الزيارة، وطواف العمرة. وقال المالكية: يسن الرمل لمحرم بحج أو عمرة في طواف القدوم وطواف العمرة؛ لأن ما رمل فيه النبي صلّى الله عليه وسلم كان للقدوم وسعى عقبه. ومحل استنان الرمل إن أحرم بحج أو عمرة أو بهما من الميقات بأن كان آفاقياً أو كان من أهله، وإلا فيندب. أي يندب لمحرم بحج أو عمرة من دون المواقيت كالتنعيم والجعرانة، وفي طواف الإفاضة لمن لم يطف طواف القدوم لعذر أو نسيان، وأحرم من الميقات. ولا يندب الرمل في طواف تطوع ووداع. ¬
- الاضطباع
وكذلك قال الحنابلة مثل المالكية: لا يسن الرمل في غير طواف القدوم أو طواف العمرة. ويمشي في الأشواط الباقية من طوافه على هينته، لما رواه الشيخان عن ابن عمر قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا طاف بالبيت الطواف الأول خبَّ ثلاثاً، ومشى أربعاً» وروى مسلم عنه قال: «رمل النبي صلّى الله عليه وسلم من الحَجَر ومشى أربعاً». فإن طاف راكباً أو محمولاً، حرك الدابة، ورمل به الحامل، ويكره ترك الرمل بلا عذر، ولو تركه في شيء من الثلاثة، لم يقضه في الأر بعة الباقية؛ لأن هيئتها السكون، فلا يغير، كما لو ترك الجهر في الركعتين الأوليين، فلا يقضى بعدهما لتفويت سنة الإسرار. وليقل في أثناء الرمل: «اللهم اجعله حجاً مبروراً، وذنباً مغفوراً، وسعياً مشكوراً». 4ً - الاضطباع عند الجمهور غير مالك: وهو جعل وسط الرداء تحت كتفه اليمنى، ورد طرفيه على كتفه اليسرى، وإبقاء كتفه اليمنى مكشوفة. لما روى يعلى ابن أمية: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم طاف مضطبعاً» (¬1)، وروى ابن عباس: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من الجِعْرانة، فرملوا بالبيت وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم، ثم قذفوها على عواتقهم اليسرى» (¬2). وهو سنة عند الحنفية والشافعية والحنابلة كالرمل في جميع كل طواف يرمل فيه، ولا يسن في طواف لا رمل فيه، وكذا يضطبع عند الشافعية على الصحيح في ¬
- الدنو أو القرب من البيت للذكور
السعي قياساً على الطواف بجامع قصد مسافة مأمور بتكريرها، سواء اضطبع في الطواف قبله أم لا. ولا يستحب في الأصح في ركعتي الطواف، لكراهة الاضطباع في الصلاة، فيزيله عند إرادتها، ويعيده عند إرادة السعي. ولا يضطبع عند الحنفية والحنابلة في غير الطواف، فإن فرغ من الطواف سوى رداءه؛ لأن الاضطباع غير مستحب في الصلاة، ولا في السعي، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يضطبع فيه، والسنة في الاقتداء به. ولا ترمُل المرأة ولا تضطبع، أي لا يطلب منها ذلك؛ لأن بالرمل تتبين أعطافها، وبالاضطباع ينكشف ما هو عورة منها. وليس على أهل مكة رمل، عملاً بقول ابن عباس وابن عمر. 5ً - الدنو أو القرب من البيت للذكور: لشرفه ولأنه المقصود، ولأنه أيسر في الاستلام والتقبيل. والأولى كما قال بعضهم أن يجعل بينه وبين البيت ثلاث خطوات ليأمن مرور بعض جسده على الشاذَرْوان. وإن تأذى غيره بنحو زحمة، فالبعد أولى. أما المرأة والخنثى فيكونان في حاشية المطاف، فإن طافا خاليين فكالرجل في استحباب القرب. وهذا مستحب عند الشافعية والحنابلة، لكن الرمل عند الشافعية مع البعد أولى من الدنو، فإن كان لا يتمكن من الرمل أيضاً أو يخاف صدم النساء أو الاختلاط بهن، فالدنو أولى. ومن سنن الطواف المؤكدة أيضاً عند الشافعية والحنابلة: المشي لقادر عليه، وصلاة ركعتي الطواف بعده خلف مقام إبراهيم، ثم في الحِجْر تحت الميزاب، ثم في المسجد الحرام، ثم في الحرم حيث شاء من الأمكنة في أي زمان.
المطلب الثالث ـ السعي
وهذان واجبان عند المالكية والحنفية. وإذا صلى المكتوبة بعد طوافه أجزأته عن ركعتي الطواف عند الحنابلة؛ لأنهما ركعتان شرعتا للنسك، فأجزأت عنهما المكتوبة كركعتي الإحرام، ولا تجزئ عنهما المكتوبة عند الحنفية والمالكية كركعتي الفجر. ومن سننه أيضاً الموالاة بين الأشواط عند الحنفية والشافعية، وهي شرط عند المالكية والحنابلة. وتسن النية عند الشافعية في طواف النسك، وتجب في طواف لم يشمله نسك وفي طواف وداع. المطلب الثالث ـ السعي: السعي واجب عند الحنفية، ركن عند باقي الأئمة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي» و «كتب عليكم السعي فاسعوا» (¬1) وأما قوله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله، فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطَّوف بهما} [البقرة:158/ 2] فهو لرفع الإثم على من تطوف بهما، رداً على ما كان في الجاهلية من التحرج من السعي بينهما، لأنه كان عليهما صنمان. وأبحث هنا واجباته، وسننه وحكم تأخره عن وقته الأصلي (¬2). أولاً ـ واجبات السعي أو شروطه: للسعي بين الصفا والمروة شروط أو واجبات هي: ¬
1 ً - أن يتقدمه طواف صحيح بحيث لا يتخلل بينهما الوقوف بعرفة، اتباعاً للسنة، وقد قال صلّى الله عليه وسلم: «خذوا عني مناسككم» ولأن السعي تبع للطواف. ومن سعى بعد طواف قدوم لم يُعده، والأفضل للقارن عند الحنفية تقديم السعي. وأجاز الحنفية أن يكون السعي بعد وجود أكثر الطواف قبل تمامه؛ لأن للأكثر حكم الكل. ويصح كونه بعد طواف مطلقاً ولو مسنوناً عند الجمهور، وأن يكون بعد طواف ركن أو قدوم عند الشافعية. 2 ً - الترتيب: بأن يبدأ بالصفا ويختم بالمروة؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم بدأ بالصفا، وقال: «ابدؤوا بما بدأ الله به» (¬1) وهو قوله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} [البقرة:158/ 2] فإذا بدأ بالمروة إلى الصفا لا يعتد بذلك الشوط. 3 ً - أن يكون سبعة أشواط: بأن يقف على الصفا أربع مرات، وعلى المروة أربعاً ويختم بها، ويحسب الذهاب إلى المروة مرة، والعود منها إلى الصفا مرة أخرى. فإن شك في العدد بنى على الأقل. ودليل هذا المقدار: إجماع الأمة، وفعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم (¬2). 4 ً - استيعاب ما بين الصفا والمروة: يجب أن يقطع جميع المسافة بين الصفا والمروة، فلو بقي منها بعض خطوة لم يصح سعيه، اقتداء بفعل النبي صلّى الله عليه وسلم. 5 ً - الموالاة بين الأشواط: شرط عند المالكية والحنابلة، سنة عند غيرهم، كالطواف. ¬
ثانيا ـ سنن السعي
وأضاف الحنابلة شروطاً أخرى فتصبح شروط السعي عندهم تسعة وهي: إسلام، وعقل، ونية معينة، ومشي لقادر. وأما الطهارة عن الجنابة والحيض: فليست بشرط للسعي كالوقوف بعرفة، فيجوز سعي الجنب والحائض بعد أن كان طوافه بالبيت في حال طهارة عن الجنابة والحيض؛ لأن هذا نسك غير متعلق بالبيت. ثانياً ـ سنن السعي: يسن للسعي بين الصفا والمروة ما يأتي: 1ً - استلام الحجر الأسود وتقبيله بعد الانتهاء من الطواف وصلاة ركعتي الطواف، ثم الخروج من باب الصفا (وهو الباب المقابل لما بين الركنين اليمانيين) للسعي بين الصفا والمروة، اتباعاً للسنة كما رواه مسلم. 2ً - اتصاله بالطواف: أي الموالاة بين الطواف والسعي، وكذا الموالاة في مرات السعي. ويكره للساعي أن يقف أثناء سعيه لحديث أو غيره، فإن طاف بيوم وسعى في آخر، جاز، ولا تسن عقبه صلاة. 3ً - الطهارة له من الحدث والخبث وستر العورة. 4ً - المشي للقادر لا الركوب. 5ً - الصعود للذكر دون غيره على الصفا والمروة بحيث يرى الكعبة من الباب، وذلك بقدر قامة عند الشافعية. ويسن الصعود للمرأة إن خلا الموضع من الرجال، وإلا وقفت أسفلهما.
6ً - الدعاء بما شاء والأذكار، وتكرارها ثلاثاً بعد كل مرة عند الشافعية، مستقبلاً البيت، داعياً بصوت مرتفع، رافعاً يديه إلى نحو السماء (¬1)، والدعاء بالمأثور أفضل، فيكبر ويهلل ويصلي على النبي صلّى الله عليه وسلم ويقول: «الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر على ما هدانا، والحمد لله على ما أولانا (¬2)، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له المُلْك وله الحمد، يحيي ويميت، بيده (¬3) الخير، وهو على كل شيء قدير. لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون» اتباعاً للسنة كما رواه مسلم. «اللهم اجعل في قلبي نوراً وفي بصري نوراً، اللهم اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، اللهم لك الحمد كالذي نقول، وخيراً مما نقول». ثم يدعو بما شاء من أمري الدين والدنيا، ويستحب فيه قراءة القرآن. 7ً - الإسراع (أو العَدْو) للذكور في وسط المسعى ما بين الميلين الأخضرين الملاصقين لجدار المسجد، فوق الرمَل، ودون الجري (¬4)، في ذهابه إلى الصفا، وعودته من المروة، اتباعاً للسنة كما رواه مسلم. وأما الأنثى والخنثى فتمشي في الكل. ويقول الذكر في عدوه، وكذا المرأة والخنثى في محله: (رب اغفر وارحم، وتجاوز عما تعلم، إنك أنت الأعز الأكرم) وإن كان راكباً، حرك المركوب من غير أن يؤذي أحداً. ¬
ثالثا ـ حكم تأخير السعي عن وقته الأصلي
8ً - الأفضل ـ كما ذكر النووي ـ أن يتحرى زمن الخلوة لسعيه وطوافه، وإذا كثرت الزحمة، فينبغي أن يتحفظ من إيذاء الناس، وترك هيئة السعي أهون من إيذاء المسلم ومن تعريض نفسه إلى الأذى. وإذا عجز عن السعي الشديد في موضعه بين الميلين للزحمة، تشبه في حركته بالساعي، كما هو الشأن في الرمل. ثالثاً ـ حكم تأخير السعي عن وقته الأصلي: إذا أخر السعي عن وقته الأصلي وهي أيام النحر، بعد طواف الزيارة (¬1): أـ فإن كان لم يرجع إلى أهله، فإنه يسعى، ولا شيء عليه؛ لأنه أتى بما وجب عليه، ولا يلزمه بالتأخير شيء؛ لأنه فعله في وقته الأصلي: وهو ما بعد طواف الزيارة. ولا يضره عند الحنفية إن كان قد جامع لوقوع التحلل بطوف الزيارة، إذ السعي ليس بركن عندهم حتى يمنع التحلل. ب ـ وإن كان رجع إلى أهله، فعليه عند الحنفية دم، لتركه السعي بغير عذر، والسعي عندهم واجب لا ركن، وإن أراد أن يعود إلى مكة، يعود بإحرام جديد؛ لأن إحرامه الأول قد ارتفع بطواف الزيارة لوقوع التحلل به، فيحتاج إلى تجديد الإحرام، وإذا عاد وسعى، سقط عنه الدم؛ لأنه تدارك الترك. والسعي ـ كما بينت ـ ركن عند الجمهور لا يتم الحج إلا به، ولا يجبر تركه بدم. ¬
المطلب الرابع ـ الوقوف بعرفة
المطلب الرابع ـ الوقوف بعرفة: حكمه، مكانه، زمانه، مقداره، سننه، حكمه إذا فات عن وقته (¬1). أولاً ـ حكم الوقوف بعرفة: أجمع العلماء على أنه الركن الأصلي من أركان الحج، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «الحج عرفة» (¬2) أي الحج: الوقوف بعرفة، وأجمعت الأمة على كون الوقوف ركناً في الحج، لا يتم إلا به. فمن فاته فعليه حج من عام قابل، والهدي في قول أكثرهم. ثانياً ـ مكان الوقوف: عرفة كلها موقف، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «قد وقفت ههنا، وعرفة كلها موقف» (¬3) فمن وقف بعرفة في أي مكان، والأفضل عند جبل الرحمة، فقد تم حجه مطلقاً من غير تعيين موضع دون موضع. إلا أنه ينبغي ألا يقف في بطن عرنة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، وأخبر أنه وادي الشيطان، قال النبي: «كل عرفة موقف وارفعوا عن بطن عرنة» (¬4) فليس وادي عُرَنة من الموقف، ولا يجزئ الوقوف قبل عرفة كنمرة مثلاً، قال ابن عبد البر: أجمع العلماء عل أن من وقف به لا يجزئه. ¬
حد عرفة
وحد عرفة: من الجبل المشرف على عرنة إلى الجبال المقابلة له إلى ما يلي حوائط بني عامر. وهي الآن معروفة بحدود معينة، وليس منها عرنة ولا نَمِرة ومسجد إبراهيم عليه السلام، فإن آخره منها وصدره عن عرنة. والمستحب أن يقف عند الصخرات الكبار المفترشة في أسفل جبل الرحمة، ويستقبل القبلة، لما جاء في حديث جابر المتقدم: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم جعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل منها جبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة». ثالثاً ـ زمان الوقوف: يقف الحاج بالاتفاق من حين زوال الشمس يوم عرفة إلى طلوع الفجر الثاني من يوم النحر، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم وقف بعرفة بعد الزوال وقال: خذوا عني مناسككم. وقال الحنابلة: يبدأ وقت الوقوف من طلوع الفجر يوم عرفة إلى طلوع فجر يوم النحر، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً، فقد تم حجه، وقضى تفثه» (¬1). فن وقف بعرفة قبل الزوال وأفاض منها قبل الزوال لا يعتد بوقوفه بالإجماع، وفاته الحج إن لم يرجع فيقف بعد الزوال أو جزءاً من ليلة النحر قبل طلوع الفجر. ومن وقف بعرفات ولو مروراً أو نائماً أو مغمى عليه، ولم يعلم أنها عرفة، في هذا الوقت، أجزأه ذلك عند الحنفية عن الوقوف. قال عبد الرحمن بن يَعْمُر الديلي: «أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعرفة، فجاء نفر من أهل نجد، فقالوا: يارسول ¬
الله، كيف الحج؟ قال: الحج عرفة. فمن جاء قبل صلاة الفجر ليلة جَمْع، فقد تم حجه» (¬1). واشترط المالكية في المار شرطين وهما أن يعلم أنه عرفة، وأن ينوي الحضور الركن، وأجازوا كون الواقف نائماً أو مغمى عليه كالحنفية. واشترط الشافعية والحنابلة كون الواقف عاقلاً أهلاً للعبادة، سواء فيه الصبي والنائم وغيرهما؛ لأن النائم في حكم المستيقظ. وأما المغمى عليه والسكران فلا يصح وقوفهما؛ لأنهما ليسا من أهل العبادة، وكل منهما زائل العقل بغير نوم، فمن كان من أهل العبادة وحصل في جزء يسير من أجزاء عرفات في لحظة لطيفة من وقت الوقوف المذكور (وهو ما بين زوال شمس يوم عرفة إلى طلوع الفجر من يوم النحر عند الجمهور، ومن طلوع فجر يوم عرفة عند الحنابلة) صح وقوفه، سواء حضر عمداً أو وقف مع الغفلة، أو مع البيع والشراء، أو التحدث واللهو، أو في حال النوم، أو اجتاز بعرفات ماراً في وقت الوقوف، وهو جاهل لا يعلم أنها عرفات، ولم يلبث أصلاً، بل اجتاز مسرعاً في طرف من أرضها المحدودة، أو اجتازها في طلب غريم هارب أو بهيمة شاردة أو كان نائماً على بعيره، فانتهى به البعير إلى عرفات، فمر بها البعير، أو غير ذلك مما هو في معناه، يصح وقوفه في جميع ذلك، ولكن يفوته كمال الفضيلة. ويجب عند الجمهور (الحنفية والمالكية والحنابلة) الوقوف إلى غروب الشمس، ليجمع بين الليل والنهار في الوقوف بعرفة، فإن النبي صلّى الله عليه وسلم وقف بعرفة حتى غابت الشمس، في حديث جابر السابق. وفي حديث علي وأسامة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم دفع حين غابت الشمس» فإن دفع قبل الغروب فحجه صحيح تام عند أكثر أهل العلم، وعليه دم. ¬
وقال الشافعية: يسن الجمع بين الليل والنهار فقط، اتباعاً للسنة، فلا دم على من دفع من عرفة قبل الغروب، وإن لم يعد إليها بعده، لما في الخبر الصحيح: «أن من أتى عرفة قبل الفجر ليلاً أو نهاراً، فقد تم حجه» (¬1) ولو لزمه دم لكان حجه ناقصاً، نعم، يسن له دم، وهو دم ترتيب وتقدير، خروجاً من خلاف من أوجبه. وقال المالكية: الركن الحضور بعرفة ليلة النحر، على أي حالة كانت، ولو بالمرور بها، إن علم أنه عرفة، ونوى الحضور، وهذان شرطان في المار فقط كما تقدم، أو كان مغمى عليه. فمن وقف بعرفة بعد الزوال، ثم دفع منها قبل غروب الشمس، فعليه حج قابل، إلا أن يرجع قبل الفجر. لكن إن دفع من عرفة قبل الإمام وبعد غروب الشمس أجزأه. وبهذا يكون شرط صحة الوقوف عندهم: هو أن يقف ليلاً، ودليلهم أنه صلّى الله عليه وسلم وقف بعرفة حين غربت الشمس، وروى ابن عمر: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من أدرك عرفات بليل، فقد أدرك الحج، ومن فاته عرفات بليل، فقد فاته الحج، فليحل بعمرة، وعليه الحج من قابل». ونوقش الدليل الأول بأن فعله عليه السلام على جهة الأفضل؛ لأنه كان مخيراً بين ذلك. وأن الحديث الثاني هو بيان آخر وقت الوقوف. والحاصل أن الجمهور يقولون: يجزئ الوقوف ليلاً أو نهاراً بعد الزوال، وقال المالكية: الواجب الوقوف ليلاً، فمن تركه فينجبر بالدم، كما أن الحنفية والحنابلة يوجبون الدم على من ترك الوقوف ليلاً، والشافعية قالوا: يسن له الدم فقط. ¬
رابعا ـ مقدار الوقوف
رابعاً ـ مقدار الوقوف: اتفق العلماء على أنه يكفي الوقوف في جزء من أرض عرفة، ولو في لحظة لطيفة، وأوجب المالكية الطمأنينة بعد الغروب في الوقوف أي الاستقرار بقدر الجلسة بين السجدتين قائماً أو جالساً أو راكباً. فالقدر المفروض من الوقوف: هو وجوده بعرفة ساعة من هذا الوقت، سواء أكان عالماً بها أم جاهلاً، نائماً أم يقظان مفيقاً، أم مغمى عليه أم سكران أم مجنوناً في رأي الحنفية والمالكية، وسواء وقف بها أو مرَّ، وهو يمشي أو على الدابة، أو محمولاً؛ لأنه أتى بالقدر المفروض: وهو وجوده كائناً بها، للحديث السابق: «من وقف بعرفة، فقد تم حجه». والمشي والسير لا يخلو عن وقفة، سواء نوى الوقوف أم لم ينو. ولا خلاف في أنه لا يشترط للوقوف طهارة ولا ستارة ولا استقبال القبلة ولانية، فيصح كون الواقف محدثاً أو جنباً أو حائضاً أو نفساء. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن من وقف الوقوف بعرفة غير طاهر مدرك للحج، ولا شيء عليه. بدليل قول النبي صلّى الله عليه وسلم لعائشة: «افعلي ما يفعله الحاج غير الطواف بالبيت» ووقفت عائشة بعرفة حائضاً بأمر النبي، لكن يستحب كما سأبين أن يكون طاهراً. خامساً ـ حكم الحاج إذا فاته الوقوف: إذا فات الوقوف بعرفة، فات الحج في تلك السنة، ولا يمكن استداركه فيها، لأن ركن الشيء ذاته، وبقاء الشيء مع فوات ذاته محال. وذكر النووي في الإيضاح (ص 54): إذا غلط الحجاج، فوقفوا في غير يوم عرفة نظر:
سادسا ـ سنن الوقوف بعرفة وآدابه
إن غلطوا بالتأخير، فوقفوا في العاشر من ذي الحجة، أجزأهم وتم حجهم، ولا شيء عليهم، سواء بان الغلط بعد الوقوف أو في حال الوقوف. ولو غلطوا فوقفوا في الحادي عشر، أو غلطوا في التقديم، فوقفوا في الثامن من ذي الحجة، أوغلطوا في المكان، فوقفوا في غير أرض عرفات، فلا يصح حجهم بحال. ولو وقع الغلط بالوقوف في العاشر لطائفة يسيرة، لا للحجيج العام، لم يجزهم على الأصح. ولو شهد واحد أو عدد برؤية هلال ذي الحجة، فردت شهادتهم، لزم الشهود الوقوف في التاسع عندهم، وإن كان الناس يقفون بعده. سادساً ـ سنن الوقوف بعرفة وآدابه: يسن الاتجاه أو الرواح إلى منى في يوم التروية ـ الثامن من ذي الحجة ـ والمكث أو المبيت بها إلى فجر عرفة، ثم الرواح إلى عرفات بعد طلوع الشمس، فيقيم الحجاج بنمرة قرب عرفات اتباعاً للسنة كما روى مسلم، ولا يدخلون عرفات، وقال الحنابلة: إن شاؤوا أقاموا بعرفة حتى تزول الشمس، ثم يخطب الإمام قبل صلاة الظهر خطبتين كالجمعة، يعلم الناس فيها مناسكهم من موضع الوقوف ووقته والدفع من عرفات، ومبيتهم بمزدلفة وأخذ الحصى لرمي الجمار، لحديث جابر المتقدم أن النبي صلّى الله عليه وسلم فعل ذلك. ثم يؤذن المؤذن، ويصلي الإمام بالناس الظهر والعصر جمع تقديم مع قصرهما اتباعاً للسنة كما روى مسلم، بأذان وإقامتين وقراءة سرية، دون أن يفصل بينهما بشيء، ولا يصلى عند الحنفية بعد أداء العصر في وقت الظهر.
سنن الوقوف وآدابه
وهذا الجمع نسك من أعمال الحج عند الحنفية، فيشمل المقيم والمسافر، لكن لو كان مقيماً كإمام مكة صلى بهم صلاة المقيمين، ولا يجوز له القصر، ولا للحجاج الاقتداء به. ورأى المالكية أيضاً أنه يسن الجمع بين الظهرين جمع تقديم حتى لأهل عرفة. ويسن قصرهما إلا لأهل عرفة بأذان ثان وإقامة للعصر من غير تنفل بينهما، ومن فاته الجمع مع الإمام جمع في رحله. وأجاز الحنابلة أيضاً الجمع لكل من بعرفة من مكي وغيره، أما قصر الصلاة فلا يجوز لأهل مكة. والحاصل أن الجمهور يرون جواز هذا الجمع لكل حاج، أما القصر فلا يجوز لأهل عرفة وأهل مكة، وأجاز المالكية القصر لأهل مكة. ورأى الشافعية: أن هذا الجمع والقصر وفي المزدلفة أيضاً للسفر لا للنسك، فهما جائزان للمسافر فقط، ويختصان بسفر القصر، فيأمر الإمام المكيين ومن لم يبلغ سفره مسافة القصر (89كم) بالإتمام وعدم الجمع، كأن يقول لهم بعد السلام: ياأهل مكة ومن سفره قصير أتموا، فإنا قوم سَفْر. وإذا دخل الحجاج مكة ونووا أن يقيموا بها أربعة أيام لزمهم الإتمام، فإذا خرجوا يوم التروية إلى منى، ونووا الذهاب إلى أوطانهم عنذ فراغ مناسكهم، كان لهم القصر من حين خرجوا؛ لأنهم أنشؤوا سفراً تقصر فيه الصلاة. ثم بعد الفراغ من الصلاة يذهبون إلى الموقف، ويعجلون السير إليه، وسنن الوقوف وآدابه: هي ما يأتي (¬1): 1ً - الاغتسال بنمرة. ¬
2ً - ألا يدخل أحد عرفات إلا بعد الزوال والصلاتين. 3ً - أن يخطب الإمام خطبتين ويجمع الصلاتين، كما تقدم. 4ً - تعجيل الوقوف عقب الصلاتين. 5ً - الأفضل كون الوقوف عند الصخرات الكبار في أسفل جبل الرحمة. 6ً - ينبغي أن يبقى في الموقف حتى تغرب الشمس، فيجمع في وقوفه بين الليل والنهار، بل هو واجب عند الجمهور غير الشافعية. 7ً - الأفضل أن يقف راكباً، وهو أفضل من الماشي، اقتداء برسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولأنه أعون على الدعاء، وهو المهم في هذا الموضع. 8ً - استقبال القبلة مع التطهير وستر العورة ونية الوقوف بعرفة (¬1)، فلو وقف محدثاً أو جنباً أو حائضاً أو عليه نجاسة، أو مكشوف العورة، صح وقوفه، وفاتته الفضيلة. 9ً - الأفضل للواقف ألا يستظل، بل يبرز للشمس، إلا لعذر، بأن يتضرر أو أن ينقص دعاؤه واجتهاده. 10ً - أن يكون مفطراً؛ لأن الفطر أعون على الدعاء، وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقف مفطراً. 11ً - أن يكون حاضر القلب، فارغاً من الشواغل عن الدعاء. ¬
12 - الحذر من المخاصمة والمشاتمة والمنافرة والكلام القبيح، بل ينبغي أن يحترز عن الكلام المباح ما أمكنه، فإنه تضييع للوقت المهم فيما لا يعني. 13 - الاستكثار من عمل الخير في يوم عرفة وسائر أيام ذي الحجة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ما العمل في أيام أفضل منه في هذه الأيام ـ يعني أيام العشر ـ قالوا: ولا الجهاد؟ قال: ولا الجهاد، إلا رجل خرج يخاطر بماله ونفسه، فلم يرجع بشيء» (¬1). 14 - الإكثار من الدعاء والتهليل وقراءة القرآن والاستغفار والتضرع والخشوع وإظهار الضعف والافتقار، والإلحاح في الدعاء، وتكرار الدعاء ثلاثاً، والتسبيح والتحميد والتكبير، ويكثر البكاء مع ذلك، فهنالك تسكب العبرات، وتقال العثرات. وأفضل ذلك ما رواه الترمذي وغيره عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «أفضل الدعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير». وفي كتاب الترمذي عن علي رضي الله عنه قال: أكثر ما دعا به النبي صلّى الله عليه وسلم يوم عرفة في الموقف: «اللهم لك الحمد كالذي نقول وخيراً مما نقول، اللهم لك صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي، وإليك مآبي، ولك ربي تراثي». ¬
اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ووسوسة الصدر وشتات الأمر. اللهم إني أعوذ بك من شر ما تجيء به الريح. ومن الأدعية المختارة: (اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم. اللهم اغفر لي مغفرة من عندك تصلح بها شأني في الدارين، وارحمني رحمة منك أسعد بها في الدارين، وتب علي توبة نصوحاً لا أنكثها أبداً، وألزمني سبيل الاستقامة لا أزيغ عنها أبداً، اللهم انقلني من ذل المعصية إلى عز الطاعة، وأغنني بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، ونور قلبي وقبري، وأعذني من الشر كله، واجمع لي الخير كله، استودعتك ديني وأمانتي وقلبي وبدني وخواتيم عملي، وجميع ما أنعمت به علي وعلى جميع أحبائي والمسلمين أجمعين). ويستحب أن يكثر من التلبية رافعاً بها صوته، ومن الصلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وينبغي أن يأتي بهذه الأنواع كلها، فتارة يدعو، وتارة يهلل، وتارة يكبر، وتارة يلبي، وتارة يصلي على النبي صلّى الله عليه وسلم، وتارة يستغفر ويدعو منفرداً، ومع جماعة. وليدع لنفسه ووالديه وأقاربه وشيوخه وأصحابه وأحبابه وأصدقائه وسائر من أحسن إليه وسائر المسلمين. ويستحب الإكثار من الاستغفار والتلفظ بالتوبة من جميع المخالفات، مع
الاعتقاد بالقلب، وأن يكثر من البكاء مع الذكر والدعاء، فهناك تسكب العبرات وتستقال العثرات وترتجى الطلبات. وإنه لمجمع عظيم وموقف جسيم يجتمع فيه خيار عباد الله المخلصين وخواصه المقربين، وهو أعظم مجامع الدنيا، وثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله تعالى فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه يباهي بهم الملائكة، يقول: ما أراد هؤلاء».
المبحث السادس - واجبات الحج
المبحث السادس - واجبات الحج: واجبات الحج والعمرة التي يجزئ الدم بتركها مختلف فيها بين الفقهاء كما عرفنا: فواجبات الحج عند الحنفية اثنان وعشرون وأوصلها في كتاب اللباب إلى خمسة وثلاثين، منها:: السعي، والوقوف بالمزدلفة ولو بمقدار لحظة في النصف الثاني من الليل، ورمي الجمار، والحلق أو التقصير، وطواف الوداع. وذلك عند الحنفية للآفاقي غير الحائض، أي من هو خارج المواقيت. وواجبات العمرة عندهم اثنان: السعي، والحلق أو التقصير. وواجبات الحج عند المالكية خمسة: طواف القدوم على الأصح، والوقوف بالمزدلفة، ورمي الجمار، والحلق أو التقصير على المشهور والمبيت بمنى، وواجب العمرة هو الحلق أو التقصير. وواجبات الحج عند الشافعية خمسة: الإحرام من الميقات الزماني والمكاني، ورمي الجمار، والمبيت في المزدلفة أي الوقوف فيها، والمبيت بمنى على الراجح، وطواف الوداع. وأعمال العمرة كلها أركان عندهم، إلا الإحرام من الحل فإنه واجب، كما أن الحلق أو التقصير ركن في الحج والعمرة على المشهور. وواجبات الحج عند الحنابلة ستة: إحرام من الميقات، ووقوف بعرفة نهاراً للغروب، ومبيت بمزدلفة لبعد نصف الليل، ومبيت بمنى، ورمي الجمرات مرتباً، وحلق أو تقصير، وطواف وداع. وواجبات العمرة اثنان: حلق أوتقصير، وإحرام من الحل. وقد بينت أحكام الإحرام من الميقات، والسعي، وأنواع الطواف، وبقي علينا بحث الواجبات الأخرى فيما يلي:
المطلب الأول ـ الوقوف بالمزدلفة
المطلب الأول ـ الوقوف بالمزدلفة: صفته الشرعية، ركنه، مكانه، زمانه، حكم فواته عن وقته، سننه (¬1). أولاً ـ صفة الوقوف بالمزدلفة: الوقوف بالمزدلفة واجب باتفاق المذاهب لا ركن، فمن تركه لزمه دم، والمبيت بها واجب عند الحنابلة، سنة عند الحنفية، والمالكية، وعند الشافعية قولان: واجب أو سنة، والراجح عند النووي والسبكي الوجوب، ومحل القولين: حيث لا عذر، أما المعذور فلا دم عليه جزماً، ومن المعذورين: من جاء عرفة ليلاً فاشتغل بالوقوف عنه، ومن أفاض من عرفة إلى مكة وطاف للركن وفاته الوقوف بمزدلفة، قال الأذرعي: وينبغي حمله على من لم يمكنه الدفع إلى المزدلفة، أي بلا مشقة، فإن أمكنه وجب جمعاً بين الواجبين. ومن المعذورين: ما لو خافت المرأة طروء الحيض أو النفاس فبادرت إلى مكة بالطواف. وفي كفاية الاختيار: المبيت بالمزدلفة سنة، وقدر الواجب عند الحنفية: ساعة ولو لطيفة ولو ماراً، كما في عرفة، وقدر السنة: امتداد الوقوف إلى الإسفار جداً. وعند الحنابلة: البقاء بها لما بعد منتصف الليل، فإن دفع بعد نصف الليل فلا شيء عليه، وعند الشافعية: الحصول بها لحظة فيما بعد منتصف الليل. وعند المالكية: بقدر حط الرحال وصلاة العشاءين، وتناول شيء من أكل أو ¬
ثانيا ـ ركن الوقوف بالمزدلفة
شرب فيها. ورأي الجمهور غير الحنابلة أيسر المذاهب الذي يسع الناس الآن لكثرة الحجيج وصعوبة المبيت. وأما إتيان المشعر الحرام: وهو جبل قُزَح في المزدلفة فهو مستحب عند الحنفية، سنة على المعتمد عند المالكية، وسنة عند الشافعية والحنابلة. ودليل وجوب المبيت بالمزدلفة: قوله تعالى: {فإذا أفضتم من عرفات، فاذكروا الله عند المشعر الحرام} [البقرة:198/ 2] وقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «من شهد صلاتنا هذه ـ أي صلاة الفجر ـ ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً، فقد تم حجه، وقضى تفثه» رواه الخمسة وصححه الترمذي. وللمزدلفة أسماء: مزدلفة وجَمْع والمشعر الحرام، وحد المزدلفة: من مأزمي عرفة إلى قرن محسِّر، وما على يمين ذلك وشماله من الشعاب، ففي أي موضع منها وقف أجزأه، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «المزدلفة موقف» (¬1). ثانياً ـ ركن الوقوف بالمزدلفة: قال الحنفية: ركنه: كينونته بمزد لفة، سواء أكان بفعل نفسه أم فعل غيره، بأن يكون محمولاً بأمره، أو بغير أمره وهو نائم أومغمى عليه، أو مجنون أو سكران، نواه أو لم ينو، علم بها أو لم يعلم، ولو ماراً كالوقوف بعرفة. وقال المالكية: يجب النزول بالمزدلفة بقدر حط الرحال وصلاة العشاءين، وتناول شيء من أكل أو شرب فيها، فإذا لم ينزل فدم، والوقوف بالمشعر الحرام سنة على المعتمد. ¬
ثالثا ـ مكان الوقوف بالمزدلفة
وقال الشافعية: الواجب الذي يكفي في المبيت بالمزدلفة الحصول بها لحظة، كالوقوف بعرفة، فيكفي المرور بها، وإن لم يمكث، ووقته بعد نصف الليل. ويسن تقديم النساء والضعََفَة بعد نصف الليل إلى منى، وشعارهم: التلبية والتكبير تأسياً به صلّى الله عليه وسلم (¬1)، ويبقى غيرهم حتى يصلوا الصبح مغلِّسين. وقال الحنابلة: المبيت بمزدلفة واجب، من تركه فعليه دم، ومن بات بها لم يجز له الدفع قبل منتصف الليل، فإن دفع بعده فلا شيء عليه، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «خذوا عني مناسككم» وإنما أبيح الدفع بعد نصف الليل بما ورد من الرخصة فيه، قال ابن عباس: «كنت فيمن قدم النبي صلّى الله عليه وسلم في ضَعَفة أهله من مزدلفة إلى منى» وكذلك رخص لأسماء (¬2). ولا تشترط الطهارة عن الجنابة والحيض، ولأنه عبادة لا تتعلق بالبيت، فتصح من غير طهارة كالوقوف بعرفة ورمي الجمار. ثالثاً ـ مكان الوقوف بالمزدلفة: المزدلفة (وهي ما بين منى وعرفة) كلها موقف إلا بطن مُحَسِّر (وهو واد بين منى ومزدلفة)، فيصح الوقوف في أي جزء من أجزاء مزدلفة، وينزل في أي موضع شاء منها إلا وادي محسر، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «عرفات كلها موقف، إلا بطن عُرَنة، ومزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر» (¬3). ¬
رابعا ـ زمان الوقوف بالمزدلفة
ويكره النزول في المحسر عند الحنفية، لكن لو وقف به أجزأ مع الكراهة. والأفضل أن يكون وقوفه خلف الإمام على الجبل الذي يقف عليه الإمام وهو جبل قُزَح (المشعر الحرام وهو آخر المزدلفة)؛ لأنه روي أنه صلّى الله عليه وسلم وقف عليه، وقال: «خذوا عني مناسككم» (¬1). رابعاً ـ زمان الوقوف بالمزدلفة: للفقهاء رأيان: 1 - رأي الحنفية: هو أن زمان الوقوف هو ما بين طلوع الفجر من يوم النحر وطلوع الشمس؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم في حديث جابر وابن عمر دفع قبل طلوع الشمس، فمن وقف بها قبل طلوع الفجر، أو بعد طلوع الشمس لا يعتد به. وقد ر الواجب منه ساعة ولو لطيفة، وقدر السنة: امتداد الوقوف إلى الإسفار جداً، والسنة أن يبيت ليلة النحر بمزدلفة، والبيتوتة ليست بواجبة، إنما الواجب هو الوقوف، والأفضل أن يكون وقوفه بعد الصلاة، فيصلي صلاة الفجر بغلس، ثم يقف عند المشعر الحرام، فيدعو الله تعالى، ويسأله حوائجه إلى أن يسفر، ثم يفيض منها قبل طلوع الشمس إلى منى، ولو أفاض بعد طلوع الفجر قبل صلاة الفجر، فقد أساء ولا شيء عليه لتركه السنة. 2 - ورأي الجمهور: هو أن زمان الوقوف هو الليل، وتفصيل ذلك ما يأتي: قال المالكية: زمان الوقوف في أي جزء من أجزاء الليل بقدر حط الرحال وصلاة العشاءين وتناول شيء من الأكل أو الشرب. والسنة: المبيت بالمزدلفة ليلة ¬
خامسا ـ حكم فوات الوقوف بالمزدلفة عن وقته
النحر، فإذا طلع الفجر صلوا الصبح بغلس، ثم نهضوا إلى المشعر الحرام (وهو آخر المزدلفة وجبل صغير فيها) وذلك سنة على المعتمد، فيقفون للتضرع والدعاء إلى الإسفار، ثم يدفعون منها قبل طلوع الشمس إلى منى، ويسرعون في وادي محسر. وقال الشافعية: وقت الوقوف بالمزدلفة بعد نصف الليل، فمن لم يكن فيها في النصف الثاني، أراق دماً. وقال الحنابلة: المبيت بالمزدلفة حتى يطلع الفجر واجب، من تركه فعليه دم، فإذا صلى الصبح في أول وقته وقف عند المشعر الحرام، فيرقى عليه إن أمكنه، وإلا وقف عنده فذكر الله تعالى ودعا واجتهد، لقوله تعالى: {فإذا أفضتم من عرفات، فاذكروا الله عند المشعر الحرام} [البقرة:198/ 2] وفي حديث جابر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أتى المشعر الحرام، فرقى عليه، فدعا الله، وهلله وكبره، ووحده». ومن بات بالمزد لفة لم يجز له الدفع قبل نصف الليل، فإن دفع بعده فلا شيء عليه. خامساً ـ حكم فوات الوقوف بالمزدلفة عن وقته: قال الحنفية: إن فات الوقوف فإن كان لعذر، فلا شيء عليه، لأنه صلّى الله عليه وسلم قدم ضعفة أهله، ولم يأمرهم بالكفارة، وإن كان فواته لغير عذر، فعليه دم؛ لأنه ترك الواجب من غير عذر، وإنه يوجب الكفارة. وقال الجمهور: ترك الوقوف بالمزدلفة يوجب الدم. سادساً ـ سنن الوقوف بالمزدلفة: يستحب في المزدلفة ما يأتي:
1ً - الاغتسال فيها بالليل للوقوف بالمشعر الحرام وللعيد، ولما فيها من الاجتماع، فمن لم يجد ماء تيمم، كما ذكر النووي في الإيضاح. 2ً - الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء جمع تأخير، بإقامة لكل صلاة، كجمع التقديم في نمرة، ويجمع منفرداً أو مع الإمام. 3ً - إحياء هذه الليلة بالعبادة من الصلاة والتلاوة والذكر والدعاء والتضرع. 4ً - التأهب بعد نصف الليل وأخذ حصى الجمار من المزدلفة، لجمرة العقبة يوم النحر وهي سبع حصيات، ولأيام التشريق الثلاثة ثلاثاً وستين حصاة، فصار المجموع سبعين حصاة، بقدر حصى الخَذْف وهي دون أنملة، نحو حبة الباقلا، ويكره أن يكون أكبر من ذلك، ويكره كسر الحجارة له إلا لعذر بل يلتقطها صغاراً، وقد ورد نهي عن كسرها ههنا، لأنه يفضي إلى الأذى. ومن أي موضع أخذ جاز، لكن يكره من المسجد ومن المواضع النجسة ومن الجمرات التي رمي بها، لقول ابن عباس: «ما تقبل منها رفع، وما لم يتقبل ترك، ولولا ذلك لسد ما بين الجبلين». ولا يكره غسل حصى الجمار، واستحب النووي وبعض الحنابلة أن يغسلها، لأنه روي عن ابن عمر أنه غسله، وقال في غاية المنتهى للحنابلة: لا يسن غسل غير نجس. 5ً - الوقوف بالمشعر الحرام، والصعود عليه إن أمكنه، وإلا وقف عنده أو تحته. 6ً - صلاة الصبح في أول وقتها، والمبالغة في التبكير بها في هذا اليوم آكد من باقي الأيام، اقتداء برسول الله صلّى الله عليه وسلم، وليتسع الوقت لوظائف أخرى، فإنها كثيرة في هذا اليوم، فليس في أيام الحج أكثر عملاً منه.
7ً - الوقوف عند المشعر الحرام بعد صلاة الفجر مستقبل الكعبة، فيدعو ويحمد الله تعالى ويكبره ويهلله ويوحده ويكثر من التلبية، ويستحب أن يقول في دعائه: (اللهم كما أوقفتنا فيه، وأريتنا إياه، فوفقنا لذكرك كما هديتنا، واغفر لنا وارحمنا كما وعدتنا بقولك، وقولك الحق: {فإذا أفضتم من عرفات، فاذكروا الله عند المشعر الحرام، واذكروه كما هداكم، وإن كنتم من قبله لمن الضالين. ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس، واستغفروا الله، إن الله غفور رحيم} [البقرة:198/ 2 - 199]، ويقول أيضاً: (الله أكبر ـ ثلاثاً ـ لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد). ويقف حتى يسفر جداً، لما في حديث جابر المتقدم: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يزل واقفاً حتى أسفر جداً» ثم يدفع قبل طلوع الشمس اتباعاً لفعل النبي صلّى الله عليه وسلم، وشعاره التلبية والذكر، للآية السابقة: {فإذا أفضتم من عرفات ... } [البقرة:198/ 2] ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى الجمرة (¬1). 8ً - تقديم الضَّعَفة من النساء وغيرهن قبل طلوع الفجر إلى منى ليرموا جمرة العقبة قبل زحمة الناس، ويكون تقديمهم بعد نصف الليل. وهذه هي السنة عند الشافعية. أما غيرهم فيمكثون حتى يصلوا الصبح بمزدلفة، كما سبق، فإذا صلوها، دفعوا متوجهين إلى منى. 9ً - الإسراع في وادي مُحَسِّر (وهو واد فاصل بين مزدلفة ومنى) (¬2) إن كان ¬
المطلب الثاني ـ رمي الجمار في منى وحكم المبيت فيها
ماشياً، وتحريك دابته من كان راكباً، بقدر رمية حجر، حتى يقطعوا عرض الوادي، للاتباع في الراكب، كما روى مسلم، ويقاس الماشي عليه، ولنزول العذاب فيه على أصحاب الفيل القاصدين هدم البيت. وفيما عدا ذلك المستحب الإتيان إلى المزدلفة والدفع منها بالسكينة والوقار لما في حديث جابر السابق: «أيها الناس السكينة السكينة» (¬1). المطلب الثاني ـ رمي الجمار في منى وحكم المبيت فيها: أما الرمي فأبين معناه، ووجوبه والإنابة فيه، ووقته، ومكانه، وشروطه، أو عدد الجمار وقدرها وجنسها ومأخذها، ومقدار ما يرمى كل يوم عند كل موضع، وكيفية الرمي وما يسن في ذلك وما يكره، وحكمه إذا تأخر عن وقته (¬2). ثم أبيّن حكم المبيت بمنى. أولاً ـ معنى رمي الجمار وحكمته وحد منى: رمي الجمار في اللغة: هو القذف بالأحجار الصغار وهي الحصى، إذ الجمار جمع جمرة، والجمرة: هي الحجر الصغير وهي الحصاة، وفي الشرع: هو القذف بالحصى في زمان مخصوص ومكان مخصوص وعدد مخصوص كما سيأتي. فلو وضع الحصى وضعاً لم يجزئ، لعدم الرمي وهو القذف. وإن طرحها طرحاً أجزأه، لوجود الرمي، إلا أنه رمي خفيف، يقصد به رجم إبليس. ¬
ثانيا ـ وجوب الرمي والإنابة فيه
وحكمته: أنه عمل رمزي يمثل مقاومة الشيطان الذي يريد إيقاع الناس بالمعاصي، بالفعل المادي، ليس في وقته فحسب وإنما في كل وقت؛ لأن المحسوس يدل على المعقول، وهو أيضاً اقتداء بفعل سيدنا إبراهيم عليه السلام وزوجته هاجر وابنه إسماعيل حينما أوحي إلى إبراهيم بذبح ولده، فكان كل منهم يرمي إبليس بحصيات لإنهاء وساوسه بألا يفعل الذبح، ولتحقيق امتثال أمر الله، دون تردد أو تثبيط عنه. وحد منى: ما بين وادي مُحْسِّر وجمرة العقبة، ومنى: شِعْب طوله نحو ميلين، وعرضه يسير، أما الجبال المحيطة به فما أقبل منها عليه فهو من منى، وما أدبر منها فليس من منى. والجمرات ثلاث: الأولى (أو الصغرى)، والوسطى، وجمرة العقبة (أو الكبرى أو الأخيرة)، والأولى تلي مسجد الخَيْف، ومسجد الخيف أو مسجد إبراهيم عليه السلام على أقل من ميل عن مكة. وجمرة العقبة: في آخر منى من جهة مكة، وليست العقبة التي تنسب إليها هذه الجمرة من منى، وهي الجمرة التي بايع رسول الله صلّى الله عليه وسلم الأنصار عندها قبل الهجرة وهي صخرة عظيمة في أول منى بالنسبة للآتي من مكة، وهي كلها تقع في وسط الشارع. وتبعد الأخيرة عن الوسطى نحو 551 متراً، ويبدأ الحاج بالأولى، ويختم بالثالثة. ثانياً ـ وجوب الرمي والإنابة فيه: رمي الجمار (جمرة العقبة يوم النحر، والجمار الثلاث أيام التشريق) واجب اتفاقاً، اتباعاً لفعل النبي صلّى الله عليه وسلم، قال جابر: «رأيت النبي صلّى الله عليه وسلم يرمي الجمرة على راحلته يوم النحر، ويقول: لتأخذوا عني مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحُجّ بعد حَجَّتي هذه» (¬1). ¬
ثالثا ـ وقت الرمي
وتجوز الإنابة في الرمي لمن عجز عن الرمي بنفسه لمرض أو حبس، أو كبر سن أو حمل المرأة، فيصح للمريض بعلة لا يرجى زوالها قبل انتهاء وقت الرمي، وللمحبوس وكبير السن والحامل أن يوكل عنه من يرمي عنه الجمرات كلها، ويجوز التوكل عن عدة أشخاص، على أن يرمي الوكيل عن نفسه أولاً كل جمرة من الجمرات الثلاث، ويستحب أن يناول النائب الحصى إن قدر، ويكبر هو، فيقول: (الله أكبر ـ ثلاثاً ـ لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد) كما نقل عن الشافعي رحمه الله. ولكن يجب عند المالكية على الموكل دم، وفائدة الاستنابة: سقوط الإثم عن الموكل، ويبقى ملزماً بإراقة دم. وتوكيل المرأة غيرها في حال الزحمة الشديدة أولى من المرض في تقديري. ثالثاً ـ وقت الرمي: أـ رمي جمرة العقبة (أو الكبرى): يدخل وقته عند الشافعية والحنابلة من نصف ليلة النحر، والأفضل أن يكون بعد طلوع الشمس؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر أم سلمة ليلة النحر، فرمت جمرة العقبة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت (¬1). ورميها هو تحية منى فلا يبتدأ فيها بغيره. ووقته عند المالكية والحنفية: بعد طلوع الشمس يوم العيد، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا ترموا حتى تطلع الشمس» (¬2) ويقطع المفرد بالحج والقارن التلبية عند الجمهور عند ابتداء رمي هذه الجمرة عند أول حصاة، لما رواه الجماعة عن الفضل بن عباس ¬
ب ـ رمي الجمرات الثلاث أيام التشريق
قال: «كنت رديف النبي صلّى الله عليه وسلم من جَمْع إلى منى، فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة» (¬1) والمعتمر يقطع التلبية عند بدء الطواف. وقال المالكية: تقطع التلبية إذا زالت الشمس من يوم عرفة إذا راح إلى الموقف. ويستمر وقت رمي هذه الجمرة إلى آخر النهار - نهار العيد، لما روى البخاري: «أن رجلاً قال للنبي صلّى الله عليه وسلم: إني رميت بعدما أمسيت، فقال: لا حرج» والمساء: بعد الزوال. ب ـ رمي الجمرات الثلاث أيام التشريق: بعد زوال الشمس في كل يوم أي بعد الظهر بالاتفاق، لقول ابن عباس: «رمى رسول الله صلّى الله عليه وسلم الجمار حين زالت الشمس» (¬2) فلا يجوز الرمي قبل الزوال، ويستمر الوقت للغروب. وإن أخر الرمي إلى الليل كان قضاء عند المالكية، لخروج وقت الأداء وهو النهار الذي يجب فيه الرمي، وعليه دم بالتأخير، والواجب دم واحد في تأخير حصاة فأكثر. وقال الحنفية: إن أخر الرمي إلى الليل، ورمى قبل طلوع الفجر، جاز، ولا شيء عليه؛ لأن الليل وقت الرمي في أيام الرمي. ويجوز عند أبي حنيفة الرمي في اليوم الثالث من أيام التشريق، وهو اليوم الرابع من أيام الرمي، قبل الزوال، لقول ابن عباس: «إذا افتتح النهار من آخر أيام التشريق جاز الرمي». وقال الحنابلة: لا يجزئ رمي إلا نهاراً بعد الزوال، غير سقاة ورعاة فيرمون ليلاً ونهاراً. ¬
وقال الشافعية: وقت الرمي: من الزوال إلى الغروب، فلو ترك رمي يوم تداركه في باقي الأيام، وعلى هذا يبقى وقت الرمي في أيام التشريق إ لى الغروب من كل يوم، ولكن لو أخر رمي يوم ومنه رمي جمرة العقبة إلى ما بعده من أيام الرمي يقع أداء، فلا يخرج وقت الرمي بالغروب على المعتمد. ولرعاء الإبل وأهل السقاية (¬1) تأخير الرمي عن وقت الاختيار يوماً فقط، ويؤدونه في تاليه قبل رميه، لا رمي يومين متواليين. وإذا رمى في اليوم الثاني من أيام التشريق بعد الزوال، فأراد أن ينفر من منى إلى مكة، وهو المراد من النفر الأول، فله ذلك، لقوله تعالى: {فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه} [البقرة:2/ 203] أي بترك الرمي في اليوم الثالث، والأفضل ألا يتعجل، بل يتأخر إلى آخر أيام التشريق، وهو اليوم الثالث منها، فيستوفي الرمي في الأيام كلها، ثم ينفر، وهو معنى النفر الثاني في قوله تعالى: {ومن تأخر فلا إثم عليه} [البقرة:203/ 2]. قال ابن عباس في هذه الآية: «فمن تعجل في يومين غفر له، ومن تأخر غفر له». وكذا قال ابن مسعود في قوله تعالى: {فلا إثم عليه} [البقرة:203/ 2]: رجع مغفوراً له، وذلك مشروط بالتقوى، لقوله تعالى: {لمن اتقى} [البقرة:203/ 2]. ووقت التعجيل عند الجمهور في ثاني أيام التشريق، وهو النفر الأول، يكون قبل غروب الشمس للآية السابقة، وحديث عبد الرحمن بن يعمر عند أبي داود ¬
رابعا ـ مكان الرمي
وابن ماجه: «أيام منى ثلاثة، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه» واليوم: اسم للنهار، فمن أدركه الليل، فما تعجل في يومين، فإن غربت الشمس وهو بها لم يخرج حتى يرمي من غد بعد الزوال. وقال الحنفية: للحاج أن ينفر ما لم يطلع الفجر من اليوم الرابع من أيام العيد، فإذا طلع الفجر، لم يكن له أن ينفر لدخول وقت الرمي (¬1). رابعاً ـ مكان الرمي: الرمي في يوم النحر: عند جمرة العقبة، وفي الأيام الأخر عند ثلاثة مواضع: عند الجمرة الأولى، والوسطى، والعقبة، بشروط وقوع ذلك كله مكان وقوع الجمرة، لا مكان الرمي، فلو رمى الجمرة من مكان بعيد، فوقعت الحصاة عند الجمرة، أجزأه، وإن لم تقع عندها، لم تجزئه، إلا إذا وقعت عند الحنفية بقرب منها؛ لأن ما يقرب من ذلك المكان، كان في حكمه، لكونه تبعاً له. خامساً ـ شروط الرمي: يشترط لصحة الرمي مطلقاً ما يأتي: 1ً - أن يكون الرمي بيد، ويكون المرمي عند الجمهور حجراً اتباعاً للسنة، فلا يكفي الرمي بقوس، ولا الرمي بالرجل ولا بالمقلاع، ولا بالطين، ولا بغير الحصى كجوهر وذهب وزبرجد وفيروزج وياقوت ونحاس وغير ذلك من المعادن. وقال الحنفية: يجوز الرمي بكل ما كان من جنس الأرض كالحجر والمدر والطين وكل ما يجوز التيمم به، ولو كفاً من تراب، فيقوم مقام حصاة واحدة، ولا يجوز بخشب ¬
وعنبر ولؤلؤ وجواهر؛ لأنه إعزاز لا إهانة، ولا بذهب وفضة، لأنه يسمى نثاراً لا رمياً، ولا بعر؛ لأنه ليس من جنس الأرض. 2ً - أن يكون الحصى كحصى الخذف (¬1): وهو أكبر من الحمص ودون البندق، كالفولة أو النواة، ولا يجزئ صغير جداً كالحمصة ويكره كبير ويجزئ. وهذا شرط عند المالكية، سنة عند غيرهم، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر الصحابة أن يرموا بمثل حصى الخذف (¬2). 3ً - أن يسمى الفعل رمياً: فلا يكفي الوضع في المرمى؛ لأنه لا يسمى رمياً، ولأنه خلاف الوارد، ويشترط قصد الجمرة (¬3) بالرمي، فلو رمى إلى غيرها كأن رمى في الهواء، فوقع في المرمى، لم يكف. ولو وقع الرمي على الحائط الذي بجمرة العقبة، كما يفعله كثير من الناس فأصابه، ثم وقع في المرمى لا يجزئ. كما لا يجزئ لو وقعت الحصاة دون الجمرة التي هي محل الرمي، ولم تصل الحصاة إليها، ولو وقعت الحصاة في شق من بناء الجمرات أجزأت على التحقيق. 4ً - أن يقع الحصى في المرمى، فإن وقع دونه، لم يجزئه بالاتفاق؛ لأنه مأمور بالرمي ولم يرم. 5ً - رمي السبع واحدة واحدة أي سبع رميات، وترتيب الجمرات بأن يبدأ بالجمرة التي تلي مسجد الخيف، وهي أولاهن من جهة عرفات، ثم الوسطى، ثم جمرة العقبة، اتباعاً للسنة، كما روى البخاري. وهذا عند الجمهور، فلو خالف الترتيب بأن قدم العقبة أو الوسطى، لم يجزئ؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم رتبها في الرمي، ¬
مأخذها
وقال: «خذوا عني مناسككم» وليس عدد السبع شرطاً عند الحنابلة، فإن نقص حصاة أو حصاتين فلا بأس. وقال الحنفية: الترتيب بين الجمرات سنة. وإن شك في عدد الحصيات السبع، بنى على الأقل، وحقق المطلوب يقيناً، وإن رمى دفعة واحدة لم يجزئ، وحُسب ذلك واحدة. 6ً - أن يكون الرمي من المُحرم بنفسه، ويستنيب لعجزه كما بينت، ويشترط في النائب أن يكون رمى عن نفسه أولاً، فلو لم يرم وقع عن نفسه كأصل الحج، ويندب أن يناول النائب الحصى، ويكبر إن أمكن، وإلا تناولها النائب وكبر بنفسه. ولا يشترط بقاء الحجر في المرمى، ولا كون الرامي خارجاً عن الجمرة، ولا الطهارة، ولا طهارة الحصى، فتجزئ حصاة نجسة مع الكراهة. مأخذها: وتؤخذ حصى الجمار من مزدلفة أو من الطريق من محسر وغيره أو من أي مكان غير نجس، لما روي أن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر ابن عباس رضي الله عنهما أن يأخذ الحصى من مزدلفة (¬1)، وعليه فعل المسلمين. وأخذ الحصى من مزدلفة: سنة فقط. ويكره عند الحنابلة أخذ الحصى من منى وسائر الحرم، ومن المرحاض. وإن رمى بحصاة أخذها من الجمرة أجزأه مع الكراهة عند الحنفية، لقوله صلّى الله عليه وسلم في الصحيحين: «ارم ولا حرج» مطلقاً، والكراهة لأنها مردودة لما روي: «من قبلت حجته رفعت جمرته». ¬
مقدار ما يرمى كل يوم عند كل موضع
ولا يجزئه في رأي الفقهاء الآخرين؛ لأنها حصى مستعملة، ولأن ما تقبِّل رفع، كما ورد وشوهد (¬1)، ولولا ذلك لسد الحصى على التوالي الأزمان المتطاولة ما بين الجبلين. مقدار ما يرمى كل يوم عند كل موضع: ترمى جمرة العقبة يوم النحر بسبع حصيات، وترمى كل جمرة من الجمرات الثلاث في أيام التشريق بسبع حصيات، فيكون المرمي في كل يوم إحدى وعشرين حصاة. ففي حديث جابر عند مسلم «أنه صلّى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة منها». وفي حديث ابن عمر عند البخاري «أنه صلّى الله عليه وسلم رمى كل جمرة بسبع حصيات، يكبر كلما رمى بحصاة». سادساً ـ كيفية الرمي وسننه: 1 - يرفع الرجل أو الصبي يده بالرمي حتى يرى بياض إبطه، بخلاف المرأة والخنثى. 2 - يكون الرمي باليد اليمنى. 3 - يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي، فيجعل مكة عن يساره ومنى عن يمينه، ويستقبل العقبة، ثم يرمي، ولا يقف عندها؛ لأنه لا رمي بعده، والأصل أن كل رمي بعده رمي يقف عنده، ويدعو، وما ليس بعده رمي لا يقف عنده، عملاً ¬
بفعل النبي صلّى الله عليه وسلم (¬1). ويستقبل القبلة في رمي الجمرات أيام التشريق، ويرمي الجمرتين الأوليين من علوّ، ويدنو من الجمرة في رمي أيام التشريق بحيث لا يبلغه حصى الرامين، وفي حال الاستقبال تكون مكة جهة يساره ومنى جهة يمينه. والحاصل أنه يرمي الجمرتين الأوليين من فوقهما، والعقبة من أسفلها، ويدعو بعد الجمرة الأولى والثانية وينصرف بعد جمرة العقبة من غير دعاء. 4 - يرمي عند الشافعية راجلاً، لا راكباً إلا في يوم النفر، فالسنة أن يرمي راكباً لينفر عقبه، وثبت في الصحيح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم «أنه يرمي راكباً إن كان أتى منى راكباً». وقال الحنابلة: يرميها راكباً أو راجلاً كيفما شاء؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «رماها على راحلته (¬2)». وقال الحنفية والمالكية: الأفضل الرمي ماشياً، أو راكباً. 5 - يكبر مع كل حصاة، فيقول: (الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير. لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون. لا إله إلا الله وحده صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله، والله أكبر) ودليل التكبير: ما ثبت في أحاديث جابر المتقدم وابن مسعود وابن عمر (¬3). وإن قال: «اللهم اجعله حجاً مبروراً، وذنباً مغفوراً، وعملاً مشكوراً» فحسن؛ لأن ابن مسعود وابن عمر كانا يقولان نحو ذلك. ثم يقف مستقبل القبلة ويدعو، ويذكر الله تعالى، ويهلل ويسبح بعد رمي ¬
سابعا ـ حكم تأخيرر الرمي عن وقته
بفعل النبي صلّى الله عليه وسلم (¬1). ويستقبل القبلة في رمي الجمرات أيام التشريق، ويرمي الجمرتين الأوليين من علوّ، ويدنو من الجمرة في رمي أيام التشريق بحيث لا يبلغه حصى الرامين، وفي حال الاستقبال تكون مكة جهة يساره ومنى جهة يمينه. والحاصل أنه يرمي الجمرتين الأوليين من فوقهما، والعقبة من أسفلها، ويدعو بعد الجمرة الأولى والثانية وينصرف بعد جمرة العقبة من غير دعاء. 4 - يرمي عند الشافعية راجلاً، لا راكباً إلا في يوم النفر، فالسنة أن يرمي راكباً لينفر عقبه، وثبت في الصحيح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم «أنه يرمي راكباً إن كان أتى منى راكباً». وقال الحنابلة: يرميها راكباً أو راجلاً كيفما شاء؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «رماها على راحلته (¬2)». وقال الحنفية والمالكية: الأفضل الرمي ماشياً، أو راكباً. 5 - يكبر مع كل حصاة، فيقول: (الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير. لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون. لا إله إلا الله وحده صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله، والله أكبر) ودليل التكبير: ما ثبت في أحاديث جابر المتقدم وابن مسعود وابن عمر (¬3). وإن قال: «اللهم اجعله حجاً مبروراً، وذنباً مغفوراً، وعملاً مشكوراً» فحسن؛ لأن ابن مسعود وابن عمر كانا يقولان نحو ذلك. ثم يقف مستقبل القبلة ويدعو، ويذكر الله تعالى، ويهلل ويسبح بعد رمي الجمرة الأولى، بقدر قراءة سورة البقرة، وكذا بعد رمي الثانية، لا الثالثة، بل يمضي في طريقه بعد رميها للاتباع في ذلك، كما روى البخاري، إلا بقدر سورة البقرة، فرواه البيهقي من فعل ابن عمر. 6 - يقطع التلبية عند الجمهور مع أول حصاة في رمي جمرة العقبة، إن رمى قبل الحلق، وإن حلق قبل الرمي قطع التلبية؛ لأنها لا تثبت مع التحلل كما ثبت في حديث جابر الطويل المتقدم وغيره. وقال المالكية كما بينا: يقطع التلبية من ظهر يوم عرفة. 7 - يستحب أن يكون الحجر عند الجمهور مثل حصى الخذف، لا أكبر ولا أصغر. وشرط المالكية ذلك، فلو رمى بأكبر منه كره وأجازه بالاتفاق، وكذا لو رمى بأصغر منه أجزأه مع الكراهة عند الجمهور، ولا يجزئ صغير جداً عند المالكية. 8 - ويستحب أن يكون الحجر طاهراً، فلو رمى بنجس كره وأجزأه. ويكره أن يرمي بما أخذه من المسجد أو من الحرم أو من الموضع النجس، أو بما رمى به غيره، ولو رمى بشيءٍ من ذلك أجزأه. ويندب عند المالكية وغيرهم تتابع الحصيات بالرمي، فلا يفصل بينها بشاغل من كلام أو غيره، ولا تجب موالاة الرمي. سابعاً ـ حكم تأخيرر الرمي عن وقته: رمي الجمار واجب كما عرفنا، فإن تأخرعن وقته أو فات، وجب دم، على النحو المقرر فقهاً، فقال الحنفية (¬4): إذا ترك من جمار يوم النحر حصاة أو حصاتين ¬
أو ثلاثاً إلى الغد، فإنه يرمي ما ترك أو يتصدق لكل حصاة نصف صاع من حنطة (¬1) إلا أن يبلغ قدر الطعام دماً فينقص ما شاء. والأصل أن ما يجب في جميعه دم يجب في أقله صدقة، فلو ترك الرمي كله إلى الغد، كان عليه دم عند أبي حنيفة، فإذا ترك أقله تجب عليه الصدقة إلا أن يبلغ دماً، وإن ترك الأكثر منها فعليه دم في قول أبي حنيفة؛ لأن في جميعه دماً عنده، فكذا في أكثره. وإن ترك الرمي كله في سائر الأيام إلى آخر أىام الرمي، وهو اليوم الرابع، فإنه يرميها فيه على الترتيب، وعليه دم عند أبي حنيفة؛ لأن الرمي مؤقت عنده. ولو ترك رمي الكل وهو الجمار الثلاث لزمه دم عند أبي حنيفة؛ لأن جنس الجناية واحد، حظرها إحرام واحد، فيكفيها دم واحد، كما لو حلق ربع رأسه، فإنه يجب عليه دم واحد، ولو حلق جميع رأسه يلزمه دم واحد أيضاً، وكذا لو طيب عضواً واحداً أو طيب أعضاءه كلها، أو لبس ثوباً واحداً أو لبس ثياباً كثيرة، لا يلزمه في ذلك كله إلا دم واحد. فإذا ترك رمي الكل حتى غربت الشمس من آخر أيام التشريق وهو آخر أيام الرمي، يسقط عنه الرمي، وعليه دم واحد باتفاق الحنفية، لفوات وقته، وتعذر القضاء، وتركه الواجب عن وقته. وقال المالكية (¬2): إذا أخر رمي حصاة فأكثر من الجمار لليل أو ليوم بعده، وجب عليه دم، لخروج وقت الأداء وهو النهار، ودخول وقت القضاء. ويقضي رمي جمرة العقبة أو اليوم الثاني أو الثالث قبل غروب شمس اليوم الرابع، سواء أخره لعذر أم لا، أو خالف ترتيب الجمرات، وعليه دم. ¬
ويفوت الرمي بغروب الرابع، وعليه دم. ويلزم الدم أيضاً العاجز إذا استناب في الرمي، ويأثم أيضاً إذا لم يستنب لتقصيره، وعلى النائب دم ثان إن أخر الرمي لليل لغير عذر. وقال الشافعية (¬1): إذا ترك رمي يوم أو رمي جمرة العقبة يوم النحر، تداركه في باقي الأيام من أيام التشريق في الأظهر، عملاً بنص الحديث المبيح لتأخير الرمي للرعاء وأهل السقاية، وبالقياس عليهم في غيرهم، إذ لا فرق بين المعذور وغيره، كما في الوقوف بعرفة والمبيت بالمزدلفة، ولا دم عليه إن تداركه لحصول الانجبار بالمأتي به، وإن لم يتداركه فعليه دم في رمي يوم أو يومين أو ثلاثة أو يوم النحر مع أيام التشريق، لاتحاد جنس الرمي، فأشبه حلق الرأس. والمذهب وجوب دم كامل في ترك ثلاث حصيات؛ لأن الثلاث أقل الجمع، كما لو أزال ثلاث شعرات متواليات، وروى البيهقي عن ابن عباس بإسناد صحيح أنه قال: «من ترك نسكاً فعليه دم» وفي ترك الحصاة الواحدة مدّ، وفي الثنتين مدّان. وقال الحنابلة (¬2): إذا أخر رمي يوم إلى ما بعده، أو أخر الرمي كله إلى آخر أيام التشريق، ترك السنة، ولا شيء عليه، كما قال الشافعية، إلا أنه يقدم بالنية رمي اليوم الأول ثم الثاني، ثم الثالث؛ لأن أيام التشريق وقت للرمي، فإن أخره من أول وقته إلى آخره، لم يلزمه شيء، كما لو أخر الوقوف بعرفة إلى آخر وقته، ولأنه وقت يجوز الرمي فيه، فجاز في آخره كاليوم الأول. ولا يكون رميه في اليوم الثاني قضاء وإنما هو أداء، مع ترك الأفضل؛ لأنه وقت واحد. ¬
حكم المبيت بمنى
فإن ترك الرمي أو خالف ترتيب الجمرات، وجب دم. وإن نقص حصاة أو حصاتين فلا بأس، ولا ينقص أكثر من ذلك، قال ابن عمر: «ما أبالي رميت بست أو سبع». حكم المبيت بمنى: المبيت بمنى ليلة الثامن من ذي الحجة سنة اتفاقاً، لكن للفقهاء رأىان في المبيت بمنى في ليالي التشريق: رأي أنه سنة، ورأي أنه واجب (¬1). أما الرأي الأول فهو للحنفية، فإنهم قالوا: المبيت بمنى ليلة الثامن من ذي الحجة سنة، وكذلك المبيت بمنى ليلتي الحادي عشر والثاني عشر من ذي الحجة سنة أيضاً، فإن أقام بمنى لأجل الرمي فعل الأفضل، وإن تركه لا شيء عليه، ويكون مسيئاً؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أرخص للعباس أن يبيت بمكة للسقاية، كما أوضحت سابقاً. وأما الرأي الثاني فهو للجمهور: وهو أن المبيت بمنى ليلتي التشريق واجب، فمن تركه كان عليه دم عند المالكية والشافعية، وتفصيل رأي كل مذهب ما يأتي: قال المالكية: المبيت ليلة الحادي عشر والثاني عشر واجب، لكن رخص مالك جوازاً لراعي الإبل فقط بعد رمي العقبة يوم النحر أن ينصرف إلى رعيه، ويترك المبيت في هاتين الليلتين، ويأتي اليوم الثالث من أيام النحر، فيرمي لليومين، اليوم الثاني الذي فاته، وهو في رعيه، والثالث الذي حضر فيه، ثم إن شاء أقام لرمي الثالث من أيام الرمي. ¬
وكذا رخص لصاحب السقاية في ترك المبيت خاصة، فلا بد من أن يأتي نهاراً للرمي، ثم ينصرف؛ لأن ذا السقاية ينزع الماء من زمزم ليلاً، ويفرغه في الحياض. وقال الشافعية: المبيت بمنى ليلتي التشريق واجب اتباعاً للسنة مع خبر «خذوا عني مناسككم» والواجب معظم الليل، خلافاً للمبيت بمزدلفة الذي يكتفى فيه بساعة في النصف الثاني بمزدلفة، للتخفيف في أداء المناسك في تلك الليلة، فمن ترك المبيت في منى وجب عليه دم. ويسقط مبيت منى ومزدلفة والدم عن المعذورين وهم الرِّعاء وأهل السقاية؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم رخص لرعاء الإبل أن يتركوا المبيت بمنى، وقيس بمنى مزدلفة، ولأنه صلّى الله عليه وسلم رخص للعباس أن يبيت بمكة ليالي منى، لأجل السقاية، كما روى الشيخان. ويسقط مبيت منى ومزدلفة أيضاً عمن له عذرآخر كمن له مال يخاف ضياعه لو اشتغل بالمبيت أو يخاف على نفسه أو مال معه أو له مريض يحتاج إلى تعهده، أو يكون به مرض يشق معه المبيت أو نحو ذلك. ويسقط مبيت مزدلفة لوانتهى ليلة العيد إلى عرفات، فاشتغل بالوقوف عن المبيت فيها، وإنما يؤمر بالمبيت المتفرغون. وقال الحنابلة: السنة لمن أفاض يوم النحر أن يرجع إلى منى؛ لأن «النبي صلّى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر، ثم رجع، فصلى الظهر بمنى» (¬1) وقالت عائشة: «أفاض رسول الله صلّى الله عليه وسلم من آخر يومه حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى، فمكث بها ليالي أيام التشريق» (¬2). ¬
المطلب الثالث ـ الحلق أو التقصير
والمبيت بمنى ليالي منى واجب، لكن إن ترك المبيت بمنى، فلا شيء عليه كما قال الحنفية؛ لأن الشرع لم يرد فيه بشيء. وروي عن أحمد أيضاً: في الليالي الثلاث دم، لقول ابن عباس: «من ترك من نسكه شيئاً، أو نسيه فليهرق دماً». المطلب الثالث ـ الحلق أو التقصير: هو إزالة شعر الرأس أو التقصير في حج أو عمرة في وقته. وأبحث هنا وجوبه، مقدار الواجب، زمانه ومكانه، أثره المترتب عليه، حكم تأخيره عن زمانه ومكانه (¬1). أولاً ـ وجوب الحلق أو التقصير: رأى الجمهور: أن الحلق أو التقصير نسك واجب، لقوله تعالى: {ثم ليقضوا تفثهم} [الحج:29/ 22] والتفث ـ كما قال ابن عمر: «حلاق الشعر ولبس الثياب وما يتبع ذلك»، ولما روى أنس: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أتى منى، فأتى الجمرة، فرماها، ثم أتى منزله بمنى ونحر، ثم قال للحلاق: خذ، وأشار إلى جانبه الأيمن، ثم الأيسر، ثم جعل يعطيه الناس» (¬2)، وقال أبو هريرة: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اللهم اغفر للمُحلِّقين، قالوا: يا رسول الله، وللمقصرين؟ قال: اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: يا رسول الله، وللمقصرين؟ قال: وللمقصرين (¬3)». ورأى الشافعية: أن الحلق أو التقصير ركن في الحج والعمرة؛ لأنه نُسُك ¬
على المشهور؛ لأن الحلق أفضل من التقصير للذكر، والتفضيل إنما يقع في العبادات دون المباحات، وروى ابن حبان في صحيحه أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «لكل من حلق رأسه، بكل شعرة سقطت: نور يوم القيامة». ولا حلق على المرأة بالاتفاق، وإنما عليها التقصير، فهو سنة المرأة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ليس على النساء الحلق، إنما على النساء التقصير» (¬1) وأخرج الترمذي عن علي حديث: «نهى أن تحلق المرأة رأسها» (¬2) وتقصيرها بأن تأخذ من أطراف شعرها قدر أنملة، لما روي عن عمر رضي الله عنه حينما قيل له: «كم تقصر المرأة؟ فقال: مثل هذه»، وأشار إلى أنملته. وليس على الحاج عند الحنفية إذا حلق أن يأخذ شيئاً من لحيته؛ لأن الواجب حلق الرأس بالنص وهو قوله تعالى: {لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخُلُنَّ المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلِّقين رؤوسكم ومقصرين} [الفتح:27/ 48] وقال الشافعية: يسن أن يأخذ من شاربه أو لحيته شيئاً، ليكون قد وضع من شعره شيئاً لله تعالى. والأصلع الذي لا شعر على رأسه يجب عند الحنفية أن يُمر الموسى على رأسه، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «وما أمرتكم به، فأتوا منه ما استطعتم» (¬3) فصاحب الشعر يجب عليه إزالته، وإمرار الموسى على رأسه، فإذا سقط أحدهما لتعذره وجب الآخر، فإذا عجز عن تحقيق الحلق، فلم يعجز عن التشبه بالحالقين. ويستحب عند الجمهور إمرار الموسى على رأس الأصلع، لقول ابن عمر: «من جاء يوم النحر، ولم يكن على رأسه شعر، أجرى الموسى على رأسه». ¬
ثانيا ـ مقدار الواجب
ثانياً ـ مقدار الواجب: الأفضل حلق جميع الرأس بالاتفاق، لقوله تعالى: {مُحَلِّقين رؤوسكم ومقصرين} [الفتح:27/ 48] فإن العرب تبدأ بالأهم والأفضل، ولحديث أبي هريرة المتقدم، الذي جعل فيه التقصير في المرتبة الثالثة بعد الحلق. والرأس يقع على جميعه، فإن حلق بعض الرأس لم يجزه عند الحنفية أقل من الربع، وإن حلق ربع الرأس أجزأه مع الكراهة؛ لأن ربع الرأس يقوم مقام كله في القربات المتعلقة بالرأس، كمسح ربع الرأس في الوضوء، والكراهة لترك المسنون: وهو حلق جميع الرأس. وأما تقدير التقصير: فهو عند المالكية والحنابلة بقدر الأنملة أو أزيد أو أنقص بيسير، والأنملة: رأس الأصبع من المفصل الأعلى. وأوجب الحنفية ما يزيد على قدر الأنملة، حتى يحقق التقصير من جميع الشعر، ويتيقن من استيفاء قدر الواجب، فيخرج عن العهدة بيقين. وقال الشافعية: أقل إزالة شعر الرأس أو التقصير: ثلاث شعرات، لقوله تعالى: {محلِّقين رؤوسكم} [الفتح:27/ 48] أي شعر رؤوسكم؛ لأن الرأس لا يحلق، والشعر جمع، وأقله ثلاث، أو أن يقدر لفظ الشعر منكراً فيكتفى في الوجوب بمسمى الجمع. ولو لم يكن هناك إلا شعرة وجب إزالتها. والإزالة: إما حلقاً أو تقصيراً وإحراقاً أو نتفاً. ومن لا شعر برأسه يستحب إمرار الموسى عليه، وعند الحنفية: يجب كما تقدم.
ثالثا ـ زمان الحلق ومكانه
ثالثاً ـ زمان الحلق ومكانه: يرى أبو حنيفة: أن الحلق يختص بالزمان والمكان، فزمانه: أيام النحر، ومكانه الحرم، فلو أخر الحلق عن أيام النحر أو حلق خارج الحرم، يجب عليه دم؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم حلق في أيام النحر في الحرم، فصار فعله بياناً لمطلق الكتاب، ويجب عليه بتأخيره دم؛ لأن تأخير الواجب بمنزلة الترك في حق وجوب الجابر. وقال المالكية: لو أخر الحلق ولو سهواً لبلده، ولو قربت، فعليه دم. أما لو أخر الحلق عن أيام الرمي الثلاثة بعد يوم النحر، ففي قول ضعيف عليه دم، والمقرر في المدونة ألا دم عليه، فإن حلق بمكة أيام التشريق، أو بعدها، أو حلق في الحل في أيام منى، فلا شيء عليه. وقال الشافعية، والحنابلة في الراجح من الروايتين عندهم: يدخل وقت الرمي والذبح والحلق بنصف ليلة النحر، لكن السنة تقديم رمي، فنحر، فحلق، فطواف إفاضة. والحلق والطواف والسعي لا آخر لوقتها، فلا دم على من أخر الحلق عن أيام منى أو قدمه على رمي، أو نحر أو طاف قبل رمي ولو كان عالماً، ودليلهم أن الله تعالى بيَّن أول وقت الحلق بقوله: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي مَحِلَّه} [البقرة:196/ 2]،ولم يتبين آخره، فمتى أتى به أجزأه كطواف الزيارة والسعي، ولأن الأصل عدم التأقيت، ويبقى الحاج محرماً حتى يأتي بما عليه من الحلق والطواف والسعي، لكن الأفضل فعلها يوم النحر، ويكره تأخيرها عن يوم النحر، ويكون تأخيرها عن أيام التشريق أو عن خروجه عن مكة أشد كراهة.
رابعا ـ الأثر المترتب على الحلق أو التقصير أو حكمه
رابعاً ـ الأثر المترتب على الحلق أو التقصير أو حكمه: حكم الحلق أو التقصير: صيرورة المحرم حلالاً، فيحل له كل شيء إلا النساء عند الحنفية، أي إن المحرم إذا رمى جمرة العقبة ثم حلق، حل له كل ما كان محظوراً بالإحرام إلا النساء، فيبقى ما كان محرماً عليه من النساء من الوطء والقبلة واللمس لشهوة، وعقد الزواج عند الجمهور غير الحنفية، ويحل له ماسواه، فإن حلق أو قصر ورمى العقبة، حل له عندهم كل شيء إلا النساء، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا رميتم وحلقتم، فقد حل لكم الطيب والثياب، وكل شيء إلا النساء» (¬1) وفي لفظ «إذا رمى أحدكم جمرة العقبة، وحلق رأسه، فقد حل له كل شيء إلا النساء» (¬2)، أي الوطء والمباشرة فيما دون الفرج. وقال الشافعية والحنابلة: يحل كل شيء بالرمي والحلق إلا عقد النكاح (¬3)، والوطء، والمباشرة فيما دون الفرج، لحديث: «إذا رميتم الجمرة، فقد حل لكم كل شيء إلا النساء» (¬4). وقال المالكية: يحل بالرمي والحلق كل شيء إلا النساء والصيد والطيب، ولا يحل شيء من هذه الأمور إلا بطواف الإفاضة. ويقال للتحلل بعد الحلق: التحلل الأول، وبعد الطواف: التحلل الأكبر كما سنبين. ¬
خامسا ـ حكم تأخير الحلق عن الزمان والمكان
خامساً ـ حكم تأخير الحلق عن الزمان والمكان: إذا أخر الحلق عن زمانه أو مكانه، وجب الدم عند أبي حنيفة، ويجب الدم عند المالكية فقط إذا رجع إلى بلده جاهلاً أو ناسياً، والراجح ألا يجب شيء بالتأخير عن أيام التشريق الثلاثة بعد يوم النحر، ما لم يرجع لبلده. وقال الشافعية والحنابلة وأبو يوسف: لا يجب الدم بتأخير الحلق عن أيام الرمي، أو لما بعد العودة إلى البلد، كما تقدم. المبحث السابع ـ سنن الحج والعمرة: ذكرت تفصيلاً سنن الحج والعمرة في كل مذهب، وأهم هذه السنن إجمالاً: 1ً - الغسل، والتطيب للإحرام، وركعتا الإحرام. 2ً - التلبية عقب الإحرام وبعد كل صلاة. 3ً - طواف القدوم عند الجمهور، وقال المالكية: إنه واجب. 4ً - ركعتا الطواف عند الشافعية والحنابلة، وأداؤها واجب عند الحنفية والمالكية. 5ً - المبيت بمنى ليلة يوم عرفة وأداء خمس صلوات بمنى يوم التروية، وهي الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، اتباعاً للسنة. 6ً - المبيت بالمزدلفة ليلة يوم النحر والإسفار بها قبل طلوع الشمس سنة عند الحنفية، وإنما الواجب عندهم الوقوف بالمزدلفة بعد الفجر، اتباعاً للسنة في حديث جابر المتقدم. وقال الحنابلة: المبيت واجب، وقال المالكية: الوجوب بمقدار حط
الرحال، وقال الشافعية: يكفي في المبيت بالمزدلفة لحظة في النصف الثاني من الليل. 7ً - المبيت بمنى ليالي التشريق سنة عند الحنفية، واجب عند الأئمة الآخرين، لغير ذوي الأعذار، اتباعاً لفعل النبي صلّى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود. 8ً - التحصيب: وهو النزول بوادي المحصَّب بعد النفر من منى إلى مكة فيما بين الجبلين عن طريق مقبرة الحجون، سنة عند الحنفية والحنابلة، مستحب عند غيرهم، مع الاتفاق أنه ليس من المناسك التي يلزم فعلها. ودليل السنية: قول أسامة بن زيد في حجة النبي صلّى الله عليه وسلم: «قلت: يا رسول الله، أين تنزل غداً؟ قال: هل ترك لنا عقيل منزلا ً؟» ثم قال: «نحن نازلون بخيف بني كنانة حيث قاسمت قريش على الكفر» (¬1) والخيف: هو المحصب أي الوادي. ودليل الاستحباب حديث عائشة: «إنما نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلم المحصب ليكون أسمح لخروجه، وليس بسنة، فمن شاء نزله، ومن شاء لم ينزله» (¬2). 9ً - خطب الحج: هي خطبة واحدة بعد الظهر، إلا خطبة عرفة فهي خطبتان بعد الزوال قبل الصلاة. وللفقهاء رأيان في عدد خطب الحج (¬3): رأي إنها ثلاثة، ¬
الخطبة الأولى
ورأي إنها أربعة. أما الرأي الأول فهو للحنفية والمالكية والحنابلة: أن الخطب ثلاثة: الخطبة الأولى ـ في السابع من ذي الحجة: تسن هذه الخطبة في مكة عند الكعبة في سابع ذي الحجة بعد صلاة الظهر، وهي خطبة واحدة لا يجلس فيها بالاتفاق، وهي أول الخطب، يعلمهم فيها الإمام مناسك الحج. وكون هذه الخطبة هي الأولى هو مذهب الجمهور، بدليل حديث ابن عمر: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا كان قبل التروية بيوم، خطب الناس وأخبرهم بمناسكهم» (¬1). واعتبر الحنابلة خطبة يوم عرفة هي الأولى. وإذا كان يوم التروية يوم جمعة، خرج بهم الإمام عند الشافعية قبل الفجر؛ لأن السفر يومها بعد الفجر وقبل الزوال حرام، وإذا كان يوم عرفة يوم جمعة، جاز خروج الحجاج بعد الفجر، ولم يصل النبي صلّى الله عليه وسلم الجمعة بعرفة، مع أنه قد ثبت في الصحيحين أن يوم عرفة الذي وقف فيه النبي صلّى الله عليه وسلم كان يوم جمعة. وجاز الخروج مطلقاً يوم التروية وغيره عند الحنابلة، سواء قبل الفجر أم قبل الزوال، فإن شاء الحاج خرج، وإن شاء أقام حتى يصلي. الخطبة الثانية ـ يوم عرفة: وهي خطبتان خفيفتان بعرفات قبل الصلاة اتفاقاً، يجلس بينهما الخطيب كما في الجمعة، يعلمهم في الأولى المناسك من موضع الوقوف بعرفة ووقته والدفع ¬
الخطبة الثالثة
من عرفات، ومبيتهم في المزدلفة، وأخذ الحصى لرمي الجمار، ويحثهم على إكثار الذكر والدعاء بالموقف، لحديث جابر المتقدم أن النبي صلّى الله عليه وسلم فعل ذلك. قال المالكية والشافعية: يبدأ المؤذن والإمام يخطب أو بعد فراغه من الخطبة، ويفرغ من الخطبة الثانية مع فراغ المؤذن، وقال الحنابلة: يأمر الإمام بالأذان بعد الخطبة. ثم يصلي الإمام بالناس الظهر والعصر قصراً وجمع تقديم، اتباعاً للسنة كما روى مسلم، وذلك بأذان واحد وإقامتين وقراءة سرية، دون أن يصلي بينهما شيئاً من السنن، ولا بعد أداء العصر في وقت الظهر عند الحنفية. الخطبة الثالثة عند الشافعية وهي الثانية عند الحنابلة: يوم النحر (العيد) بمنى: وهي خطبة واحدة، يعلم الإمام فيها الناس مناسكهم من النحر والإفاضة والرمي، لما روى ابن عباس: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم خطب الناس يوم النحر، يعني بمنى» (¬1). وعن رافع بن عمرو المزني قال: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يخطب الناس بمنى، حين ارتفع الضحى على بغلة شهباء، وعلى بعير عنه، والناس بين قائم وقاعد» (¬2). ولأن يوم النحر تكثر فيه أفعال الحج، ويحتاج الناس إلى تعلم أحكام ذلك، فكانت الخطبة محتاجاً إليها لأجل هذا الغرض، كيوم عرفة. ¬
المبحث الثامن ـ كيفية أداء الحج والعمرة
الخطبة الثالثة عند الجمهور، وهي الرابعة عند الشافعية: ثاني أيام منى: وهي خطبة واحدة متفق عليها، يعلم الإمام فيها الناس حكم التعجيل والتأخير وتوديعهم، لما روي عن رجلين من بني بكر قالا: «رأينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم يخطب بين أوساط أيام التشريق، ونحن عند راحلته» (¬1)، ولأن بالناس حاجة إلى أن يعلمهم: كيف يتعجلون، وكيف يودعون، بخلاف اليوم الأول من أيام منى. والخلاصة: إن الخطب أربعة عند الشافعية وهي خطبة السابع، وخطبة التاسع من ذي الحجة يوم عرفة، ويوم العيد بمنى، وفي اليوم الحادي عشر: ثاني أيام التشريق بمنى. وهي ثلاثة عندالحنابلة: يوم عرفة، ويوم النحر، وثاني أيام منى. وكذلك هي ثلاثة عند الحنفية والمالكية: سابع ذي الحجة في المسجد الحرام، ويوم عرفة بعد الزوال قبل الصلاة، وفي اليوم الحادي عشر. وكلها مفردة إلا خطبة يوم عرفة فهي خطبتان، ومتفق عليها كما يلاحظ. المبحث الثامن ـ كيفية أداء الحج والعمرة: عرفنا أن أداء الحج والعمرة له حالات ثلاث: الإفراد، التمتع، القران (¬2)، وبينت الأفضل منها في المذاهب في بحث أركان الحج والعمرة. أولاً ـ كيفية الإفراد: الإفراد أن يحرم بالحج وحده، ثم لا يعتمر حتى يفرغ من حجه. ¬
وكيفيته: أن يغتسل أو يتوضأ قبل الإحرام، والغسل أفضل منه، ويلبس ثوبين جديدين أوغسيلين إزاراً ورداء، ويتطيب، ويصلي ركعتي الإحرام، في غير وقت الكراهة، ويقول: (اللهم إني أريد الحج فيسِّره لي وتقبله مني)، ثم يلبي عقب صلاته، ناوياً بتلبيته الحج، ويكثر من التلبية عقيب الصلوات، وفي الصعود والنزول والركوب ولقاء الرفقة، وبالأسحار. فإذا لبى ناوياً فقد أحرم، فيمتنع عما نهى الله عنه من الرَّفث والفسوق والجدال (¬1)، ولا يقتل صيداً ولا يشير إليه، ولا يدل عليه، ولا يلبس مخيطاً ولا خفاً، ولا يغطي رأسه ولا وجهه، ولا يمس طيباً، ولا ينتف أو يقص شعراً ولا ظفراً. ولا بأس أن يغتسل بغير صابون؛ لأنه نوع طيب، وله أن يستظل بالبيت والمظلة، وأن يشد في وسطه الهِمْيان (وهو ما يجعل فيه الدراهم ويشد على الوسط) ومثله المنطقة. فإذا دخل مكة ابتدأ بالمسجد الحرام بعد تأمين أمتعته، داخلاً ـ كماذكر الحنفية ـ من باب السلام خاشعاً متواضعاً، ملاحظاً عظمة البيت وشرفه، فإذا عاين البيت كبر الله تعالى وهلل ثلاثاً ودعا بما أحب، فإنه من أرجى مواضع الإجابة. ثم يطوف غير المكي طواف القدوم؛ لأنه تحية البيت، مبتدئاً بالحجر الأسود، مستقبلاً له، مكبراً مهللاً (¬2)، رافعاً يديه كرفعهما للصلاة، مستلماً له بباطن كفيه، ثم مقبِّلاً له إن استطاع من غير أن يؤذي مسلماً (¬3)، ثم يدور حول الكعبة عن ¬
يساره، ويطوف بالبيت سبعة أشواط، من وراء الحطيم (الحِجْر)، ويستلم الحجَر والركن اليماني في كل شوط يمر بهما، ويختم الطواف بالاستلام كما ابتدأ به، ثم يصلي عند مقام إبراهيم أو حيث تيسر من المسجد، في وقت مباح غير مكروه. وليس على أهل مكة طواف القدوم، وإذا لم يدخل المحرم مكة وتوجه إلى عرفات ووقف بها، سقط عنه طواف القدوم، ولا شيء عليه لتركه. ثم يسعى بين الصفا والمروة سبعاً، يصعد على كل منهما، ويستقبل البيت، مكبراً مهللاً، مصلياً على النبي صلّى الله عليه وسلم، داعياً الله تعالى بحاجته، ويرمل بين الميلين الأخضرين، مبتدئاً بالصفا، مختتماً بالمروة. ثم يقيم بمكة محرماً، يطوف بالبيت كلما بدا له، ثم يخرج في ثامن ذي الحجة إلى منى، فيبيت فيها، ويصلي فيها خمس صلوات (الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر). وفي اليوم التاسع يتوجه إلى عرفات، فيصلي مع الإمام أو منفرداً في مسجد نمرة صلاة الظهر والعصر مقصورتين مجموعتين جمع تقديم، مستمعاً للخطبة بأذان واحد وإقامتين. ويستحب أن يغتسل قبل الوقوف. ثم يتوجه إلى الموقف، فيقف بقرب الجبل، وعرفات كلها موقف إلا بطن عُرَنة، وينبغي للإمام أن يقف بعرفة على راحلته، ويدعو، ويعلم الناس المناسك، ويستحب أن يجتهد في الدعاء. ومن أدرك الوقوف بعرفة ما بين زوال الشمس من يوم عرفة إلى طلوع الفجر من يوم النحر، فقد أدرك الحج. ومن مرَّ بعرفة وهو نائم أو مغمى عليه، أو لم يعلم أنها عرفة، أجزأه ذلك عند الحنفية عن الوقوف. فإذا غربت الشمس، أفاض الإمام والناس معه على هينتهم على طريق المأزمين، حتى يأتوا المزدلفة، فينزلوا بها. والمستحب أن ينزل بقرب جبل قُزَح وهو
المشعر الحرام. ويصلي الإمام بالناس المغرب والعشاء جمع تأخير مع قصر العشاء، بأذان واحد، وإقامة واحدة عند الحنفية، ولا يجوز عند أبي حنيفة ومحمد أن يصلي المغرب في الطريق إلى المزدلفة، وعليه إعادتها ما لم يطلع الفجر. فإذا طلع الفجر يوم النحر، صلى الإمام بالناس الفجر بغَلَس لأجل الوقوف، ثم وقف بمزدلفة وجوباً عند الحنفية ولو لحظة، ووقته من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، ووقف الناس معه، فدعا وكبر وهلل ولبى وصلى على النبي صلّى الله عليه وسلم، ويلتقط حصى الرمي سبعين من المزدلفة. والمزدلفة كلها موقف إلا بطن مُحَسِّر (وهو وادٍ بين منى ومزدلفة). ثم أفاض الإمام والناس معه قبل طلوع الشمس حتى يأتوا منى، فيرمي جمرة العقبة من بطن الوادي بسبع حَصَيات مثل حصى الخذف، ويكبر مع كل حصاة، ولا يقف عندها؛ لأنه لا رمي بعدها، ويقطع التلبية مع أول حصاة (¬1)،إن رمى قبل الحلق، فإن حلق قبل الرمي قطع التلبية؛ لأنها لا تثبت مع التحلل. ثم يذبح تطوعاً إن أحب لأنه مفرد، ثم يحلق أو يقصر بمقدار الأنملة، والحلق أفضل من التقصير، فيحل له حينئذ كل شيء إلا النساء، وإلا الصيد والطيب عند المالكية. ثم يأتي مكة يوم العيد أو بعده بيوم أو يومين، فيطوف طواف الزيارة (وهو طواف الفرض) سبعة أشواط، ثم يسعى بين الصفا والمروة، إن لم يكن سعى عقيب طواف القدوم، ويرمل الذكر في الأشواط الثلاثة الأولى من الطواف، ¬
ويضطبع (¬1) فيه إن سعى الآن؛ لأن الرمل والاضطباع مشروعان في كل طواف بعده سعي. ويكره تأخير الطواف عن الأيام الثلاثة (وهي يوم العيد ويومان بعده)، فإن أخره عنها، لزمه دم عند أبي حنيفة. ثم يعود إلى منى، فيقيم بها لأجل الرمي ووقته ما بعد الزوال من اليوم الثاني من أيام النحر، مبتدئاً برمي الجمرة التي تلي مسجد الخَيْف بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ويقف عندها ويدعو؛ لأن بعده رمي، ثم يرمي الجمرة الوسطى، ويقف عندها ويدعو، ثم يرمي جمرة العقبة، ولكنه لا يقف عندها؛ لأنه ليس بعدها رمي. ثم يرمي في اليوم الثالث الجمار الثلاث بعد زوال الشمس، وله أن يتعجل النفر إلى مكة بعدئذ أو يقيم لرمي الجمار الثلاث في اليوم الرابع بعد الزوال بعد طلوع الفجر. وينزل بالمُحَصَّب (¬2) عند نفره إلى مكة. وإذا أراد الحاج مغادرة مكة، طاف بالبيت سبعة أشواط لا يرمل فيها طواف الوداع أو الصَّدَر، وهو واجب عند الجمهور غير المالكية إلا على أهل مكة، ثم يعود إلى أهله، لفراغه من أعمال الحج. والمرأة والخنثى المشكل في جميع ماسبق كالرجل، غير أنها لا تكشف رأسها، وتكشف وجهها، ولا ترفع صوتها بالتلبية، ولا ترمُل في الطواف، ¬
ثانيا ـ كيفية التمتع
ولاتهرول بين الميلين الأخضرين، ولا تحلق رأسها، ولكن تقصِّر، وتلبس المخيط والخفين. وإذا كانت حائضاً أو نفساء فعلت كل أفعال الحج غير الطواف بالبيت، فإنها تنتظر حتى تطهر. وإن حاضت المرأة عند الإحرام اغتسلت وأحرمت، وإن حاضت بعد الوقوف بعرفة وطواف الزيارة، انصرفت من مكة، ولا شيء عليها لترك طواف الصدر. ثانياً ـ كيفية التمتع: التمتع لغة: الانتفاع، وشرعاً عند الحنفية: الجمع بين إحرام العمرة وأفعالها، أو أكثرها، وإحرام الحج وأفعاله، في أشهر الحج، من غير إلمام صحيح بأهله. والمتمتع نوعان عند الحنفية: متمتع يسوق الهدي، ومتمتع لا يسوق الهدي. وحكم الأول كالقارن إذا دخل مكة طاف وسعى، ولا يتحلل بعد العمرة، بل يظل محرماً، حتى يحرم بالحج يوم التروية، وينحر الهدي يوم النحر، لقوله صلّى الله عليه وسلم في حديث جابر المتقدم: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة» فهذا يفيد أن التحلل لا يتأتى إلا بإفراد العمرة، وعدم سوق الهدي، ولو كان التحلل يجوز مع سوق الهدي لاكتفى بقوله: «لجعلتها عمرة» وتحللت (¬1). وإذا أراد المتمتع أن يسوق الهدي، أحرم، وساق هديه. وصفة التمتع: أن يبتدئ من الميقات، فيحرم بعمرة، ويدخل مكة، فيطوف للعمرة، ويسعى، ويحلق أو يقصر، ويتحلل من عمرته بما فعل، ويقطع التلبية إذا ابتدأ بالطواف، ويقيم بمكة حلالاً. ¬
بطلان التمتع
فإذا كان يوم التروية (الثامن من ذي الحجة) أحرم بالحج من المسجد الحرام ندباً، ويشترط أن يحرم من الحرم؛ لأن المتمتع في معنى المكي، وميقات المكي في الحج: الحرم، كما تقدم في المواقيت. ثم يفعل ما يفعله الحاج المنفرد. والأفضل أن يقدم الإحرام قبل يوم التروية، لما فيه من المسارعة وزيادة المشقة. وعليه دم التمتع (¬1)، فإن لم يجد الدم، صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع، أي فرغ من أداء نسكه، ولو قبل وصوله إلى أهله. فإذا حلق يوم النحر، فقد حل من الإحرامين جميعاً؛ لأن الحلق مُحلِّل في الحج كالسلام في الصلاة، فيتحلل به عنهما. وليس لأهل مكة عند الجمهور تمتع ولا قران، وإنما لهم الإفراد خاصة، وقال الحنفية: يكره القران للمكي. بطلان التمتع: يبطل تمتع المتمتع إذا عاد إلى بلده بعد فراغه من العمرة، ولم يكن ساق الهدي؛ لأنه ألم بأهله بين النسكين إلماماً صحيحاً. أما إذا كان قد ساق الهدي، فلا يكون إلمامه صحيحاً، ولا يبطل تمتعه عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأنه يجب عليه عند الأول، ويندب عند الثاني العود إلى الحرم لأجل الحلق؛ لأنه مقيد بالحرم، والعود يمنع صحة الإلمام. أما القارن فلا يبطل قرانه بالعود إلى بلده باتفاق الحنفية. فيكون الفرق بين القران والتمتع عند الحنفية: هو أن التمتع يشترط فيه عدم الإلمام بأهله، والقران لايشترط فيه عدم الإلمام بأهله. ¬
متى يكون المحرم بالعمرة قبل أشهر الحج متمتعا؟
متى يكون المحرم بالعمرة قبل أشهر الحج متمتعاً؟ قال الحنفية: من أحرم بالعمرة قبل أشهر الحج، فطاف لعمرته أقل من أربعة أشواط ثم لم يتمها حتى دخلت أشهر الحج، فتمَّمها في أشهره، وأحرم بالحج، كان متمتعاً؛ لأن الإحرام عندهم شرط لا ركن، فيصح تقديمه على أشهر الحج كما بينت، وإنما يعتبر أداء الأفعال في أشهر الحج، وقد وجد الأكثر، وللأكثر حكم الكل. أما إن طاف لعمرته قبل أشهر الحج أربعة أشواط فصاعداً، ثم حج من عامه ذلك، لم يكن متمتعاً؛ لأنه أدى الأكثر قبل أشهر الحج، فصار كما إذا تحلل منها قبل أشهر الحج. والحاصل أن الأكثر له حكم الكل عند الحنفية، فإذا حصل الأكثر قبل أشهر الحج، فكأنها حصلت كلها، والمتمتع: هو الذي يتم العمرة والحج في أشهر الحج. ثالثاً ـ كيفية القران: القران لغة: الجمع بين الشيئين مطلقاً، وشرعاً: الجمع بين إحرام العمرة والحج في سفر واحد. وصفة القران: أن يهل بالعمرة والحج معاً من الميقات، إما حقيقة بنية الأمرين معاً، وإما حكماً عند الحنفية خلافاً لغيرهم: بأن أحرم بالعمرة أولاً، ثم بالحج قبل أن يطوف لها أكثر الطواف؛ لأن الجمع قد تحقق؛ لأن الأكثر منها قائم، ويصح العكس عند الجمهور: بأن يحرم بالحج، ثم يدخل العمرة عليه، لكنه مكروه عند الحنفية. وإدخال الحج على العمرة عند الجمهور (غير الحنفية) يكون قبل شروع المحرم في الطواف، فإن شرع فيه ولو بخطوة، فلايجوز إدخال الحج على العمرة.
ويلحق القران عند الحنفية التمتع إذاساق المتمتع الهدي، كما أوضحت، فلا يتحلل بعد العمرة، كما هو شأن المتمتع، بل يظل محرماً حتى ينحر الهدي يوم النحر. ويقول القارن عقيب صلاة ركعتي الإحرام: (اللهم إني أريد الحج والعمرة، فيسرهما لي، وتقَّبلهما مني) لبيك اللهم لبيك ... إلخ. فإذا دخل القارن مكة، طاف بالبيت سبعة أشواط، يرمل في الثلاث الأُول منها، ويسعى بعدها بين الصفا والمروة. وهذه أفعال العمرة. ثم يشرع عند الحنفية بأفعال الحج كالمُفرِد، ويطوف بعد السعي المذكور طواف القدوم، ويطوف طواف الإفاضة للحج، ويسعى أيضاً بين الصفا والمروة كالمفرد، لقوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة:196/ 2] وتمامها أن يأتي بأفعالهما على الكمال، ولم يفرق بين القارن وغيره. ويدل له أن صبيّ بن معبد لما طاف طوافين وسعى سعيين، قال له عمر: «هديت لسنة نبيك» (¬1)، وقال علي في القارن: «إذا أهللت بالحج والعمرة، فطف لهما طوافين، واسع لهما سعيين بالصفا والمروة». (¬2). وقال الجمهور (¬3): يكفي للقارن طواف واحد وسعي واحد، لما روى الترمذي وصححه أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف واحد، ¬
اختلف الفقهاء في وقت ذبح دم التمتع والقران
وسعي واحد، حتى يحل منهما جميعاً» (¬1) لكن يطوف القارن كالمفرد طواف القدوم قبل طواف الإفاضة، ويسعى بعده إن لم يكن سعى عقب طواف القدوم. وقالت عائشة: « ... وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة، فإنما طافوا طوافاً واحدا» (¬2) وقال صلّى الله عليه وسلم لعائشة لما جمعت بين الحج والعمرة: «يجزئ عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك» (¬3). دم التمتع والقران: اتفق العلماء على أن المتمتع والقارن يلزمهما إذا أحرما بالحج الهدي (¬4)، لقوله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج، فما استيسر من الهدي} [البقرة:196/ 2]. ودم القران والتمتع: دم شكر فيأكل منه صاحبه عند الحنفية، ولا يأكل منهما عند الشافعية. وإن لم يدخل القارن مكة، وتوجه إلى عرفات، فقد صار عند الحنفية رافضاً لعمرته بالوقوف، وسقط عنه دم القران، وعليه دم لرفضه عمرته، وهو دم جبر لا يجوز أكله منه، ووجب عليه قضاؤها؛ لأنه بشروعه فيها أوجبها على نفسه، ولم يوجد منه الأداء، فلزمه القضاء. ويسقط عند الشافعية دم التمتع إن عاد لإحرام الحج إلى الميقات. واختلف الفقهاء في وقت ذبح دم التمتع والقران (¬5): فقال الجمهور: يجب ذبح شاة أو بقرة أو بدنة أو سُبْع بدنة أيام النحر بمنى بعد رمي جمرة العقبة يوم العيد وقبل الحلق؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم نحر هديه على هذه الصفة. ¬
للفقهاء آراء في وقت الصيام البديل عن الهدي عند العجز عنه، وفي تتابع الأيام وغير ذلك
وقال الشافعية: الأفضل الذبح يوم النحر للاتباع وخروجاً من خلاف الأئمة الثلاثة، لكن وقت وجوب الدم هو الإحرام بالحج؛ لأنه حينئذ يصير متمتعاً بالعمرة إلى الحج، والأصح جواز ذبحه إذا فرغ من العمرة. ويختص ذبح الهدي بالحرم، والقدرة على الذبح في الحرم أيضاً، سواء أقدر عليه في بلده أم في غيره أم لا. فإن لم يجد هَدْياً يجب عليه صيام ثلاثة أيام في الحج، آخرها يوم عرفة، ثم يصوم سبعة أيام إذا رجع إلى أهله، وإن صامها بمكة بعد فراغه من الحج، جاز. وللفقهاء آراء في وقت الصيام البديل عن الهدي عند العجز عنه، وفي تتابع الأيام وغير ذلك: فقال الحنفية (¬1): يجوز الصوم ولو كانت الأيام متفرقة، فلا يشترط تتابعها، ووقت صيام الأيام الثلاثة وقت أشهر الحج بعد الإحرام بالعمرة، لقوله تعالى: {فصيام ثلاثة أيام في الحج} [البقرة:196/ 2] أي في أشهره؛ لأن نفس الحج لا يصلح ظرفاً للصيام، لكن الأفضل أن يصوم قبل يوم التروية بيوم، ويجوز قبل يوم عرفة، فإن فاته صوم الأيام الثلاثة في أيام الحج، حتى جاء يوم النحر، لم يُجْزه إلا الدم؛ لأن الصوم بدل عن الهدي، والآية خصت الصوم بوقت الحج، فمن تأخر عن الصيام إلى يوم النحر، تحلل، ولزمه دمان: دم التمتع ودم التحلل قبل نحر الهدي. وله أن يصوم الأيام السبعة بعد تمام أيام الحج في أي مكان شاء، لقوله تعالى: {وسبعة إذا رجعتم} [البقرة:196/ 2] أي فرغتم من أفعال الحج، لكن في غير أيام التشريق. ¬
المالكية
وجاز صوم الأيام الثلاثة قبل الشروع في أعمال الحج. وقال المالكية (¬1): تجب متابعة الأيام الثلاثة وكذا السبعة في الصوم، وصوم الثلاثة يكون في أيام الحج آخرها يوم عرفة. ومن جهل أو نسي، صام أيام منى الثلاثة. ويكون صوم السبعة بعد ذلك إن شاء تعجلها في طريقه لأهله، وإن شاء أخرها إلى بلده. ولا يجوز صوم الثلاثة قبل الشروع في أعمال الحج. وقال الشافعية (¬2): يندب تتابع صوم الثلاثة وكذا السبعة. ولو فاتته الثلاثة في الحج، فالأظهر أنه يلزمه قضاؤها؛ لأنه صوم مؤقت، فيقضى كصوم رمضان، ويلزمه أن يفرق في قضائها بينها وبين السبعة، بقدر أربعة أيام (يوم النحر وأيام التشريق) وبقدر إمكان السير إلى أهله على العادة الغالبة، كما في الأداء، فلو صام عشرة أيام ولاء، حصلت الثلاثة، ولا يعتد بالبقية لعدم التفريق. والصوم يكون عند العجز عن الهدي حساً بأن فقده، وفقد ثمنه، أو للعجز عنه شرعاً بأن وجده بأكثر من ثمن مثله، أو كان محتاجاً إليه، أو إلى ثمنه أوغاب عنه ماله أو نحو ذلك. ووقت صوم الأيام الثلاثة: بعد الإحرام بالحج، للآية: {فصيام ثلاثة أيام في الحج} [البقرة:196/ 2] فلا يجوز تقديمها على الإحرام بخلاف الدم؛ لأن الصوم عبادة بدنية، فلا يجوز تقديمها على وقتها كالصلاة، والدم عبادة مالية فأشبه الزكاة. وتستحب قبل يوم عرفة؛ لأن صومه في الحج مكروه، ويصوم بعد الثلاثة سبعة إذا رجع إلى وطنه وأهله في الأظهر، إن أراد الرجوع إليهم، لقوله تعالى: ¬
الحنابلة
{وسبعة إذا رجعتم} [البقرة:196/ 2] ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله» (¬1)،فلا يجوز صومها في الطريق لذلك. فإن أراد الإقامة بمكة، صامها بها. وفصل الحنابلة رأيهم في الصوم فقالوا (¬2): لا يجب التتابع في صوم الأيام. ولكل من صوم الثلاثة والسبعة وقتان: وقت جواز، ووقت استحباب. فوقت الاستحباب أو الاختيار لصوم الثلاثة: هو أن يصومها ما بين إحرامه بالحج ويوم عرفة، ويكون آخر الثلاثة يوم عرفة، للحاجة إلى الصوم في هذا الوقت، وإن كان صومه غير مستحب. وأما وقت جواز صوم الثلاثة: فهو إذا أحرم بالعمرة، كما قال الحنفية، خلافاً للمالكية والشافعية القائلين بأنه لا يجوز الصوم إلا بعد الإحرام بالحج. ودليل الأولين: أن إحرام العمرة أحد إحرامي التمتع، فجاز الصوم بعده كإحرام الحج كتقديم الكفارة على الحنث. ودليل الآخرين آية: {فصيام ثلاثة أيام في الحج} [البقرة:196/ 2]. وأما وقت الاختيار لصوم السبعة: فهو إذا رجع إلى أهله، للآية والحديث المتقدمين. وأما وقت الجواز: فمنذ تمضي أيام التشريق سواء في الطريق أو بمكة كيف شاء؛ لأن كل صوم لزمه وجاز في وطنه، جاز قبل ذلك كسائر الفروض، وأما الآية {إذا رجعتم} [البقرة:196/ 2] فإن الله تعالى جوز له تأخير الصيام الواجب، فلا يمنع ذلك الإجزاء قبله، كتأخير صوم رمضان في السفر والمرض بقوله سبحانه: {فعدة من أيام أخر} [البقرة:184/ 2]، ولأن الصوم وجد من أهله بعد وجود سببه، فأجزأه كصوم المسافر والمريض. ¬
المبحث التاسع ـ كيفية التحلل من الحج
وإذا لم يصم المتمتع الأيام الثلاثة في الحج، صامها بعد ذلك ولو في أيام منى، كما قال المالكية والشافعية خلافاً للحنفية؛ لأنه صوم واجب، فلا يسقط بخروج وقته كصوم رمضان، والآية تدل على وجوبه لا على سقوطه، ويصح الصوم في أيام منى لقول عمر وعائشة: «لم يرخص في أيام التشريق أن يُصَمن إلا لمن لم يجد الهدي» (¬1) وهذا ينصرف إلى ترخيص النبي صلّى الله عليه وسلم، ولأن الله تعالى أمر بصيام الثلاثة في الحج، ولم يبق من أيام الحج إلا هذه الأيام، فيتعين الصوم فيها، فإذا صام هذه الأيام، فحكمه حكم من صام قبل يوم النحر. وإذا صام عشرة أيام، لم يلزمه التفريق بين الثلاثة والسبعة، خلافاً للشافعية؛ لأنه صوم واجب في زمن يصح الصوم فيه، فلم يجب تفريقه، كسائر الصوم. ووقت وجوب الصوم: وقت وجوب الهدي؛ لأن الصوم بدل، فكان وقت وجوبه وقت وجوب المبدل، كسائر الأبدال. المبحث التاسع ـ كيفية التحلل من الحج: اتفق الفقهاء على أن في الحج تحللين: تحلل أصغر أو أول، وتحلل أكبر أو ثاني، لكنهم اختلفوا فيما يباح ب التحلل الأول على النحو الآتي (¬2): أما التحلل الأول: فيحصل بفعل اثنين من ثلاثة: رمي جمرة العقبة والحلق وطواف الإفاضة، ويحل به كل شيء إلا النساء أي جماعهن ودواعيه عند الحنفية ¬
التحلل الثاني أو الأكبر
والشافعية والحنابلة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا رميتم وحلقتم، فقد حل لكم الطيب والثياب وكل شيء إلا النساء» (¬1) فيبقى ما كان محرماً عليه من النساء من الوطء والقبلة واللمس لشهوة، وكذا عقد النكاح عند الشافعية والحنابلة، ويحل له ما سواه، كالصيد وحلق الشعر وتقليم الأظفار. ويحل بهذا التحلل عند المالكية كل شيء إلا النساء والصيد والطيب لقول عمر: «إذا رميتم الجمرة، وذبحتم وحلقتم، فقد حل لكم كل شيء إلا الطيب والنساء» (¬2) ولقول الله تعالى: {لاتقتلوا الصيد وأنتم حرم} [المائدة:95/ 5] وهذا حرام. وأما التحلل الثاني أو الأكبر: فيحصل بفعل الشيء الثالث من الأشياء السابقة، فإذا كان قد رمى الجمرة وحلق، ثم طاف طواف الإفاضة، حل له كل شيء من المحرَّمات، وخرج عن إحرامه بالكلية بالإجماع، ويجب عليه الإتيان بما بقي من أعمال الرمي بالاتفاق، والمبيت بمنى عند الجمهور غير الحنفية، مع أنه غير محرم، كما أنه يخرج من الصلاة بالتسليمة الأولى، ويطلب منه التسليمة الثانية، لكن المطلوب في الحج على سبيل الوجوب، وفي الصلاة على سبيل الندب. ويستحب تأخير الوطء عن باقي أيام الرمي ليزول عنه أثر الإحرام. ¬
المبحث العاشر ـ محظورات الإحرام أو ممنوعاته، ومباحاته
المبحث العاشر ـ محظورات الإحرام أو ممنوعاته، ومباحاته: المحظورات: هي ما يحرم على المحرم بحج أوعمرة حتى يحلق رأسه بمنى. وهي أنواع كثيرة ترجع إلى أصول أربعة: هي لبس المخيط، وترفيه البدن وتنظيفه، والصيد، والنساء. وهي أيضاً نوعان: نوع لا يوجب فساد الحج وهي الأصول الثلاثة الأولى، ونوع يوجب فساد الحج وهو الجماع. وتفصيل الكلام في هذه المحظورات وآراء الفقهاء فيها على النحو التالي (¬1): الأصل الأول ـ لبس المخيط: يختلف الحكم بحسب كون المحرم رجلاً أو امرأة. أـ أما الرجل: فيحرم عليه بمجرد الإحرام ستر جميع رأسه أو بعضه بكل ما يعد ساتراً، سواء أكان مخيطاً أم غيره، فلا يجوز أن يضع على رأسه ووجهه عمامة ولا خرقة ولا قلنسوة، ولا يغطيه بثوب وإن بدت البشرة من ورائه، ولا يعصبه بعصابة ونحوها، لخبر الصحيحين: «أنه صلّى الله عليه وسلم قال في المحرم الذي خر عن بعيره ميتاً: لا تختمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً» (¬2). وذلك كله إلا لحاجة كمداواة أو حر أو برد، فيجوز التغطية، وتجب الفدية. أما ما لا يعد ساتراً فلا بأس به، مثل أن يتوسد عمامة أو وسادة أو ينغمس في ماء أو يستظل بمحمل أو نحوه. ولا يضر وضع يده على رأسه ولو طال، ولا يضر ¬
شد خيط عليه لصداع أو غيره. ولو وضع على رأسه حملاً أو زنبيلاً ونحوه، كره، ولا يحرم في الأصح عند الشافعية. ويجوز الاستظلال بمظلة أو بيت أو سيارة أو شجر أو خيمة. ومنع الحنابلة من الاستظلال بمحمل ونحوه، وبنحو ثوب، ويجوز لعذر ويفدي. ويحرم أيضاً ستر الوجه وباقي الجسد بغير إزار ورداء، فلا يلبس جبة ولا قميصاً ولا سراويل ولا خفاً ولا نعلاً مخيطاً، وإنما يلبس نعلاً (¬1) غير مخيطة أو قبقاباً ونحوه بحيث يظهر أغلب الأصابع، فإن لم يجدها أو لم يجد ثمنها فليلبس السراويل إذا لم يجد الإزار، والخفين بعد أن يقطعهما أسفل من الكعبين في رأي الحنفية والمالكية. وقال الحنابلة في المشهور والشافعية: لا يلزمه قطع الخفين. ودليل جواز لبس السراويل والخفين عند العذر: ما رواه ابن عباس قال: «سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يخطب بعرفات يقول: من لم يجد نعلين فليلبس خفين، ومن لم يجد إزاراً فليلبس سراويل» (¬2) ولا فدية عليه في لبسهما عند الحنابلة والشافعية وعليه الفدية عند الحنفية والمالكية لحديث ابن عمر: «أن رجلاً سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ما يلبس المحرم من الثياب؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لا يلبس القميص ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس، ولا الخفاف، إلا أحداً لا يجد نعلين، فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا يلبس من الثياب شيئاً مسَّه الزعفران ولا الورس» (¬3). ¬
ضابط ما يحرم لبسه
ودليل الحنابلة والشافعية على عدم لزوم قطع الخفين (¬1): حديث ابن عباس السابق: «من لم يجد نعلين، فليلبس خفين» وهو متأخر عن حديث ابن عمر المتقدم، لكونه في خطبة عرفات، فيكون ناسخاً له؛ لأنه لو كان القطع واجباً لبينه للناس، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه، والمفهوم من إطلاق لبسِهما لبسُهما على حالهما من غير قطع، والأولى قطعهما عملاً بالحديث الصحيح، وخروجاً من الخلاف وأخذاً بالاحتياط. ودليل الحنابلة على إسقاط الفدية بلبس السراويل والخفين: خبر ابن عباس أيضاً، لأنه أمر بلبسه، ولم يذكر فدية. وضابط ما يحرم لبسه: هو الملبوس والمعمول على قدر البدن أو قدر عضو منه بحيث يحيط به، إما بخياطة، وإما بغير خياطة، فيشمل القميص والسراويل والجبة والقباء والخف، والقميص المنسوج غير المخيط، والدرع والجورب والملزق بعضه ببعض، والمعقود في سائر أجزاء بدنه. والأصح عند الشافعية تحريم المداس: وهو الذي لا يستر الكعبين ويستر مقدم الرِجْل. والمعتبر في اللبس: العادة في كل ملبوس، إذ به يحصل الترفه، فلو ارتدى بالقميص أو القباء أو التحف بهما أو اتزر بالسراويل فلا بأس ولا فدية. ولو ألقى على جسده قَباء (¬2) أو عباءة وكان بحيث لو قام أو قعد، لم يستمسك عليه إلا بمزيد عناية، لم تلزمه الفدية، فله أن يجعل المخيط على ظهره من غير لباس، ملتحفاً به أو مرتدياً. ويمنع عند المالكية غير المخيط إذا كان فيه رفاهية كجلد حيوان مسلوخ. ¬
ب ـ وأما المرأة
ولا يجوز عند الشافعية عقد الرداء ولا أن يزره ولا يخله بخلال أو مسلة ولا يربط خيطاً في طرفه، ثم يربطه في طرفه الآخر، فلو زرَّ الإزار أو خاطه، حرم ولزمه الفدية. وله أن يعقد إزاره لستر العورة، لا رداءه، وله أن يغرز طرف ردائه في إزاره. وقال الحنفية: يكره أن يخلل الإزار بالخلال وأن يعقد الإزار. وله عند الشافعية والحنفية والحنابلة أن يتقلد السيف للحاجة (¬1)، ويشد على وسطه الهِمْيان (¬2) والمِنْطقة، ويلبس الخاتم والساعة. ولا يلبس ثوباً مصبوغاً بوَرْس (¬3) ولا زعفران ولا عُصْفُر (¬4)، للحديث الصحيح: «ولا يلبس من الثياب ما مسه ورس أو زعفران». ومن أحرم وعليه قميص، فنزعه في الحال فلا فدية عليه، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم لرجل أحرم بعمرة في جبة بعد ما تضمخ بطيب: «أما الطيب الذي بك فاغسله، وأما الجبة فانزعها، ثم اصنع في عمرتك ما تصنع في حجك» (¬5) فلم يأمر الرجل بفدية، أما إن استدام اللبس بعد إمكان نزعه، فعليه الفدية؛ لأن استدامة اللبس محرم كابتدائه، بدليل أن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر الرجل بنزع جبته (¬6). ب ـ وأما المرأة: فتستر بالمخيط رأسها وسائر بدنها سوى الوجه، فالوجه في ¬
حقها كرأس الرجل، وإحرامها في وجهها، فيحرم عليها تغطيته في إحرامها، كما يحرم على الرجل تغطية رأسه باتفاق العلماء، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ولا تنتقب المرأة ولاتلبس القفازين» (¬1) وقوله: «إحرام المرأة في وجهها». لكن قال الحنابلة: ولا خلاف في أن المرأة إذا احتاجت أحياناً إلى ستر وجهها لمرور الرجال قريباً منها، فإنها تسدل الثوب من فوق رأسها على وجهها (¬2). لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه» (¬3)، ولأن بالمرأة حاجة إلى ستر وجهها، فلم يحرم عليها ستره على الإطلاق كالعورة. وأباح المالكية للمرأة ستر وجهها عند الفتنة بلا غرز للساتر بإبرة ونحوها، وبلا ربط له برأسها، بل المطلوب سدله على رأسها ووجهها، أو تجعله كاللثام وتلقي طرفيه على رأسها بلا غرز ولا ربط (¬4). وأجاز الشافعية والحنفية (¬5) ذلك بوجود حاجز عن الوجه فقالوا: للمرأة أن تسدل على وجهها ثوباً متجافياً عنه بخشبة ونحوها، سواء فعلته لحاجة من حر أو برد أو خوف فتنة ونحوها، أو لغير حاجة، فإن وقعت الخشبة فأصاب الثوب وجهها بغير اختيارها ورفعته في الحال، فلا فدية. وإن كان عمداً وقعت بغير اختيارها فاستدامت، لزمتها الفدية. وقال الشافعية: وإن ستر الخنثى المشكل ¬
لبس المعذور
وجهه فقط أو رأسه فقط، فلا فدية عليه، وإن سترهما معاً، لزمته الفدية. والصحيح عند الشافعية ألا فدية على المرأة إن اختضبت ولفت على يدها خرقة أو لفتها بلا خضاب. ويحرم على الرجل لبس القفازين في يده، ويحرم ذلك أيضاً على المرأة، على الأصح عند الشافعية، ويلزمهما بلبسه الفدية. لبس المعذور: يلاحظ أن تحريم اللبس والستر هو إذا لم يكن عذر، فإذا لبس أو ستر شيئاً مما يجب كشفه، أثم ولزمته الفدية. أما المعذور الذي يحتاج لستر رأسه أو لبس المخيط لحر أو برد أو مداواة أو نحوها، أو احتاجت المرأة إلى ستر وجهها، فيجوز له وعليه الفدية. والخلاصة: يحرم على الرجل لبس ما يحيط بالبدن أو الكف أو أي عضو إلا الخاتم والمنطقة والساعة ونحوها، وحكم المرأة في ذلك كله كالرجل إلا في ثلاثة أمور تجوز لها السترة وهي لبس المخيط والخفين وتغطية رأسها. الأصل الثاني ـ ترفيه البدن بالطيب وإزالة الشعر وتقليم الظفر ونحوهما مما يجري مجرى الطيب: أما الطيب: فيحرم على المحرم استعماله في ثوب أو بدن، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ولايلبس من الثياب ما مسه ورس أو زعفران» والورس طيب. وكذا يحرم عند الشافعية دهن الرأس أو اللحية ولو من امرأة، ولو كان الدهن غير مطيب كزيت وشمع مذاب، لما فيه من التزين المنافي لحال المحرم فإنه أشعث أغبر، كما ورد في الخبر: «المحرم: الأشعث الأغبر» (¬1) ولقوله صلّى الله عليه وسلم في المحرم الذي وقصت به ناقته: «لا تخمروا رأسه، ولا تقربوه طيباً» فإن تطيب أو ادهن فعليه فدية. ¬
ضابط حرمة الطيب
وقال أبو حنيفة: لو ادهن بدهن مطيب كدهن البنفسج والورد والزئبق، فعليه دم إذا بلغ عضواً كاملاً، وكذا لو ادهن بغير مطيب كالزيت والشيرج. وضابط حرمة الطيب عند الحنفية: هو مس الطيب بحيث يلزَق شيء منه بثوبه أو بدنه كاستعمال ماء الورد والمسك وغيرهما. ولابأس عند الحنفية أن يغتسل المحرم ويدخل الحمام لأنه طهارة، فلا يمنع منها، وله أن يكتحل؛ لأن الكحل ليس له رائحة طيبة، فلا يكون طيباً، ولكن لا يغسل رأسه ولا لحيته بالخِطمي؛ لأنه نوع طيب، ولأنه يقتل هوام الرأس. وضابط حرمة الطيب عند المالكية كالحنفية: هو مس الطيب، ويكره شمه بلا مسّ له ولا يدهن مطلقاً بطيب لغير علة، وإلا جاز؛ لأن الضرورات تبيح المحظورات، ولابدهن غير مطيب، ولا يكتحل إلا من ضرورة، فيكتحل بما لا طيب فيه، ولا يأكل طعاماً فيه طيب لم تمسه النار، ولا يصحب طيباً فيكره، ولا يستديم شمه فيكره. ولا يدخل الحمام للتنظيف، ويجوز للتبرد أو الجنابة، وعليه الفدية ك الشافعية وأبي حنيفة بدهن شيء من جسده أو شعره بدهن ولو بغير مطيب لغير ضرورة كعلة مرضية، فإن وجدت علة جاز الادهان ببطن كف أو بطن رجل ولا فدية اتفاقاً، وهناك قولان بالفدية وعدمها في دهن ظاهر الجسد (¬1). ورأي الشافعية كالحنفية والمالكية في الاستعمال المحرم للطيب: وهو أن يلصق الطيب ببدنه أو ثوبه على الوجه المعتاد في ذلك الطيب، فلو طيب جزءاً من بدنه بمسك أو نحوه لزمته الفدية، سواء في ظاهر البدن أو باطنه، بأن أكله أو احتقن به أو استعط. ولا يحرم أن يجلس في حانوت عطار أو موضع يبخر أو عند ¬
الكعبة وهي تبخر. ويكره في الأصح قصد اشتمام الرائحة. ولا فدية في الأصح إن مس طيباً فلم يعلق به شيء من عينه (ذات الطيب) ولو شم الورد فقد تطيب، ولوشم ماء الورد فليس متطيباً. ولو حمل مسكاً في زجاجة مغلقة، أو خرقة مشدودة أو كيس، فلا إثم عليه ولافدية، وإن وجد رائحته. وتحريم استعمال الطيب هو في حالة القصد، فإن تطيب ناسياً لإحرامه أو جاهلاً بتحريم الطيب أو مكرهاً، فلا إثم ولا فدية. وكذا لا إثم ولا فدية إذا جهل كون المستعمل طيباً، والأظهر عدم وجوب الفدية لو مس طيباً يظنه يابساً لا يعلق منه شيء، فكان رطباً. ومتى ألصق طيباً ببدنه أو ثوبه على وجه يقتضي التحريم، عصى ولزمه الفدية، ووجب عليه المبادرة إلى إزالته. وإن استهلك الطيب في المخالط له بأن لم يبق له ريح ولا طعم ولا لون، كأن استعمل في دواء وأكله، جاز ولا فدية، فإن بقيت له رائحة في المستهلك فدى، ويجوز أكل ما فيه ريح طيبة كالتفاح والأترج. وإن بقي اللون دون الرائحة والطعم لم يحرم الدهن المستهلك على الأصح. ويحرم كما بينت عندهم دهن شعر الرأس واللحية بكل دهن، سواء أكان مطيباً أم غير مطيب كالزيت والسمن ودهن الجوز واللوز. ولا بأس أن يدهن الأقرع رأسه، أو يدهن الأمرد ذقنه. ويجوز استعمال هذا الدهن في جميع البدن سوى الرأس واللحية، ولو شعرة أو بعضها، وبقية شعور الوجه كاللحية على المعتمد. ولا يكره عند الشافعية غسل البدن والرأس بخطمي ونحوه كسدر وصابون من غير نتف، والأولى تركه، وترك الاكتحال الذي لا طيب فيه.
الحنابلة
والمعتمد عندهم كراهة ترجيل (تسريح) الشعر، وحك الشعر بالظفر. وتشدد الحنابلة فقالوا: يحرم تعمد الطيب مساً وشماً واستعمالاً، فمتى طيب محرم ثوبه أو بدنه، أو استعمل في أكل أو شرب أو ادهان أواكتحال أو استعاط أو احتقان طيباً يظهر طعمه أو ريحه، أو قصد شم دهن مطيب أو مسك أو عنبر أو زعفران أو ورس أو بخور عود أو نحوه، أو ما ينبته آدمي لطيب ويتخذ منه كورد وبنفسج ومنثور وياسمين وزنبق، وشمه أو مس ما يعلق به كماء ورد، حرم وعليه الفدية. ولا يحرم إن شم بلا قصد، أو مس ما لا يعلق بالجسد كقطع المسك، أو شم الفواكه أو النباتات الصحراوية كالخزامى والقيصوم والنرجس والإذخر، أو ما ينبته آدمي لا بقصد طيب كحناء وعصفر وقرنفل، أو ادهن للحاجة بغير مطيب كزيت وشيرج، ولو في رأسه أو بدنه؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم فعله (¬1)، أو شم بلا قصد بسبب الجلوس عند عطار. وإذا تطيب ناسياً أو عامداً لزمه إزالته بما أمكن من الماء وغيره من المائعات. ولا يضر بقاء اللون دون الرائحة والطعم من الدهن المطيب في أكل أو شرب، لذهاب المقصود. وللمحرم غسل رأسه وبدنه في حمام وغيره، بلا تسريح؛ لأن تسريحه تعريض لقطع الشعر، وله مع الكراهة الغسل بسدر وخطمي ونحوهما كصابون وأشنان. وله غسل ثياب الإحرام. والخلاصة: تحريم مسّ الطيب بالاتفاق، وكذا قصد شمه عند الحنابلة، ويكره عند غيرهم، وتحريم الادهان بالزيوت مطلقاً عند أبي حنيفة والمالكية، وبالدهن ¬
إزالة الشعر
المطيب عند الحنابلة، دون غير المطيب، ودهن الشعر والرأس فقط مطلقاً عند الشافعية ولو بغير مطيب. ويجوز الاغتسال ولو بالصابون عند الشافعية والحنابلة، ولا يجوز بالصابون ونحوه عند الحنفية، ويغتسل عند المالكية للتبرد لا للتنظيف. وأما إزالة الشعر من جميع بدنه ولو من أنفه بالحلق أو النتف وتقليم الأظفار: فحرام بالاتفاق لقوله تعالى: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله} [البقرة:196/ 2] وقيس سائر البدن على الرأس؛ لأنه في معناه، إذ حلقه يؤذن بالرفاهية، وهو ينافي الإحرام، والمحرم أشعث أغبر. وقيس النتف والقلع على الحلق؛ لأنهما في معناه، وإنما عبر النص بالحلق لأنه الغالب. فلا يقلم أظفاره ولا ينتف إبطه ولا يحلق عانته ولا شاربه وغيرهما من شعور البدن، ولا يقص شعره وشعر غيره، ولا يزيل الشعث والوسخ، ولا يطرح التفث (وهو الظفر المنكسر والشعر المنتوف وشبهه) ولا يقتل قملة ولا برغوثاً ولا يطرحهما عن نفسه، ولا يطرح القراد عن دابته، ولا يحك ما لا يراه من بدنه حكاً عنيفاً لئلا يكون فيه قملة فتقع، وذلك كله بغير عذر، فإن كان بعذر فلا إثم. أما الفدية ففيها تفصيل آراء الفقهاء: قال الحنفية: إن حلق رأسه أو ربع رأسه أو ثلثه من غير عذر، فعليه دم لا يجزئه غيره؛ لأنه ارتفاق كامل من غير ضرورة، وإن حلقه لعذر، فعليه أحد الأشياء الثلاثة، لقوله عز وجل: {فمن كان منكم مريضاً أوبه أذى من رأسه، ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} [البقرة:196/ 2]. وإن حلق دون الربع فعليه الصدقة عند أبي حنيفة. وإن حلق شاربه فعليه صدقة؛ لأن الشارب تبع للحية. وإذا نتف أحد الإبطين أو كليهما فعليه كفارة واحدة وهو الدم. وإذا قلم ظفراً عليه نصف صاع
المالكية
لكل ظفر، وإن قلم أظافير يد أو أو رجل من غير عذر وضرورة، فعليه دم؛ لأنه ارتفاق كامل، فتكاملت الجناية، فتجب كفارة كاملة. ويجب الجزاء بالحلق والتقليم العمد والسهو والطوع والكره. وقال المالكية: في إزالة الشعر والظفر الواحد والشعرات الأظفار العشرة لغير إماطة الأذى: حفنة من طعام، وفي قتل القَمْلة والقَملات إلى العشرة أو طرحها بلا قتل لا لإماطة الأذى حفنة من طعام يعطيها لفقير، فإن زاد عن العشرة ففدية تلزمه. ولا شيء في طرح بُرْغوث ونحوه من كل ما يعيش بالأرض كدود ونمل وبعوض وقراد، إذا لم يقتله، ولا شيء في دخول حمام ولو طال مكثه فيه، إلا أن يزيل الوسخ عن جسده، فتلزمه الفدية حينئذ. ولا يحرم إزالة ما تحت أظفاره وغسل يديه بمزيل الوسخ كالأشنان. ولا شيء بتساقط شعر من لحية أو رأس أو غيرهما بسبب وضوء أو غسل. والأظهر عند الشافعية أن في الشعرة الواحدة مد طعام، وفي الشعرتين مدين، وتكمل الفدية في ثلاث شعرات أو ثلاثة أظفار، ولو كان ناسياً أوجاهلاً على الأصح، ولو بواسطة كحجامة وحك بنحو ظفر وتحريك رجل راكب على برذعة أو قتَب، وامتشاط، فيحرم ذلك إن علم إزالة الشعر به. وتجب الفدية، وإلا فيكره ولا فدية. ومنع الحنفية والمالكية الامتشاط مطلقاً. وللمعذور في الحلق لإيذاء أو وسخ أو حر أو جراحة أو نحو ذلك أن يحلق ويفدي، لقوله تعالى: {فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه، ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} [البقرة:196/ 2]، وفي الصحيحين عن كعب بن عُجْرة قال: «فيَّ نزلت هذه الآية، أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: ادن فدنوت، فقال:
الحنابلة
أيؤذيك هوام رأسك؟ قال ابن عوف: وأظنه قال: نعم، قال: فأمرني بفدية من صيام أو صدقة أو نسك» (¬1). ولكن يجوز قلع شعرة نبتت داخل جفنه وتأذى بها، ولا فدية، وكذا يجوز قطع شعر حاجبه أو رأسه إذا غطى عينه، ولا فدية، وكذا قطع ما انكسر من ظفره وتأذى به، ولا يقطع معه من الصحيح شيئاً. والمعتمد كراهة ترجيل (تسريح الشعر) وحك الشعر بالظفر، ولا يكره كما بينت غسل بدنه ورأسه بخطمي وسدر من غير نتف شعر؛ لأن ذلك ليس للتزين، بل لإزالة الوسخ، لكن الأولى تركه، وللمحرم الاحتجام والفصد ما لم يقطع بهما شعراً، والأولى ترك الاكتحال الذي لا طيب فيه، وأما ما فيه طيب فهو حرام. ولا شيء بسقوط الشعر وحده دون نتف أو إزالة أو حك بنحو ظفر أو أثناء حجامة أو امتشاط. وقال الحنابلة كالشافعية: يجب إطعام مسكين فيما دون ثلاث من شعر أو ظفر، وتجب الفدية في ثلاث منها أو في التطيب واللبس، ولو في أثناء التمشيط أو تخليل اللحية، أو كان ناسياً أو مكرهاً. ويباح حك بدنه برفق بلا قطع شعره. ولا فدية إن تفلى أو قتل قملاً، فإن كعب بن عجرة حين حلق رأسه قد أذهب قملاً كثيراً، ولم يجب عليه لذلك شيء، وإنما وجبت الفدية بحلق الشعر، ولأن القمل لا قيمة له، فأشبه البعوض والبراغيث، ولأنه ليس بصيد ولا هو مأكول. وله قلم الظفر إذا انكسر بقدر المنكسر من غير فدية تلزمه، قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن للمحرم أن يزيل ظفره بنفسه إذا انكسر، ولأن ¬
الأصل الثالث ـ النساء
ما انكسر يؤذيه ويؤلمه، فأشبه الشعر النابت في عينه، والصيد الصائل عليه. فإن قص أكثر مما انكسر فعليه الفدية لذلك الزائد. ولا ينظر في المرآة لإصلاح شيء كإزالة شعث أو تسوية شعر أو شيء من الزينة، لحديث «إن المحرم الأشعث الأغبر» وفي حديث آخر: «إن الله يباهي بأهل عرفة ملائكته، فيقول: يا ملائكتي انظروا إلى عبادي قد أتوني شعثاً غبراً ضاحين» أو كما جاء لفظ الحديث. ولافدية عليه بالنظر في المرآة على كل حال، وإنما ذلك أدب لا شيء على تاركه. وله النظر في المرآة لحاجة كمداواة جرح أو إزالة شعر نبت في جفنه ونحو ذلك مما أباح الشرع له فعله. والخلاصة: يكره النظر لزينة، ويجوز لحاجة. الأصل الثالث ـ النساء: وهذا يشمل أمرين: عقد الزواج، والجماع ومقدماته. أما عقد الزواج: فيحرم ولا يصح عند الجمهور إلا في حق النبي صلّى الله عليه وسلم ـ إن ثبت تزوجه ميمونة وهو محرم ـ ولا فدية فيه، فلا يتزوج المحرم ولو بوكيل غير محرم، ولا يزوج بولاية أو وكالة، فإن فعل فالزواج باطل. لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يَنْكح المحرم ولا يُنكح، ولا يخطب» (¬1)، ولأن الإحرام يحرم الطيب، فيحرم النكاح كالعدة. ومتى تزوج المحرم أو زوج، أو زُوِّجت محرمة، فالنكاح باطل؛ لأنه منهي عنه. وتكره الخطبة للمحرم، وخطبة المحرمة، ويكره للمحرم أن يخطب لحلال (غير محرم)، للحديث السابق «ولا يخطب» ولأنه تسبب إلى الحرام، فأشبه الإشارة إلى الصيد. ¬
الجماع ومقدماته
والإحرام الفاسد كالصحيح في منع النكاح وسائر المحظورات؛ لأن حكمه باق في وجوب ما يجب في الإحرام، فكذلك ما يحرم به. وأجاز الحنفية الزواج والخطبة للمحرم، لما روى ابن عباس: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم» (¬1). ورد الجمهور بحديث ميمونة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم تزوجها حلالاً، وبنى بها حلالاً، وماتت بسَرف في الظلة التي بنى بها فيها» (¬2) وبحديث أبي رافع قال: «تزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلم ميمونة وهو حلال، وبنى بها وهو حلال، وكنت أنا الرسول بينهما» (¬3) وميمونة وأبو رافع أعلم بذلك من ابن عباس، وأولى بالتقديم لو كان ابن عباس كبيراً، فكيف وقد كان صغيراً لا يعرف حقائق الأمور، ولا يقف عليها، وقد أنكر عليه هذا القول، وقال سعيد بن المسيب: «وَهِم ابن عباس، ما تزوجها النبي صلّى الله عليه وسلم إلا حلالاً». ثم إن حديث «لا ينكح المحرم ... » قول، فيقدم على الفعل المروي عن ابن عباس، وهو آكد، لأن الفعل يحتمل أن يكون مختصاً بما فعله عليه السلام. وأما الجماع ومقدماته: فيحرم بالاتفاق ولو لبهيمة، ويحرم على المرأة الحلال تمكين زوجها المحرم من الجماع؛ لأنه إعانة على معصية، ويحرم على الرجل الحلال جماع زوجته المحرمة. وبناء عليه: يحرم على المحرم الوطء في الفرج، ومقدمات الجماع من تقبيل ولمس بشهوة ومباشرة وجماع فيما دون الفرج، لقوله تعالى: {الحج أشهر ¬
الرفث والفسوق والجدال
معلومات، فمن فرض فيهن الحج، فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} [البقرة:197/ 2] والرفث: ما يكنى به عن الجماع وجميع حاجات الرجال إلى النساء. الرفث والفسوق والجدال ويتوقى المحرم في إحرامه ما نهاه الله عنه في هذه الآية من الرفث (الجماع) والفسوق وهو السباب، والجدال: وهو المراء والمجادلة. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «من حج فلم يرفُث ولم يفسُق، خرج من ذنوبه كيومَ ولدته أمه» (¬1). فإن جامع قبل الوقوف بعرفة أفسد حجه ومضى في فاسده وعليه القضاء فوراً من العام القادم، حتى وإن كان نسكه تطوعاً، وعليه بدنة، لقضاء الصحابة رضي الله تعالى عنهم بذلك، كما سأبين. وإن جامع بين التحللين، أو جامع ثانياً بعد جماعه الأول قبل التحللين، فعليه شاة. وإن جامع فيما دون الفرج أنزل أو لم ينزل، أو قبل أو لمس بشهوة أو باشر، فعليه دم، لكن لا يفسد حجه عند الجمهور غير المالكية، قال ابن عمر: «إذا باشر المحرم امرأته، فعليه دم» وذلك سواء فعل ما ذكر من الجماع ومقدماته عامداً أو ناسياً أو مكرهاً. أما لو نظر إلى فرج امرأته عن شهوة، فأمنى، فلا شيء عليه، بخلاف المس عن شهوة، إنه يوجب الدم، أمنى أو لم يمن، والفرق: أن اللمس: استمتاع بالمرأة وقضاء للشهوة، أما النظر فليس استمتاعاً ولا قضاء للشهوة، بل هو سبب لزرع الشهوة في القلب، والمحرم ليس ممنوعا عما يزرع الشهوة كالأكل. ورأى الشافعية أنه إن باشر فيما دون الفرج ناسياً فلا شيء عليه، سواء أنزل ¬
ما يفسد الحج، وحكمه إذا فسد
أم لا. والاستمناء باليد يوجب الفدية. ولو كرر النظر إلى امرأة فأنزل من غير مباشرة ولا استمناء، فلا فدية عليه، كما قال الحنفية. وكذلك قال الحنابلة: إن فكر أو نظر فأنزل فلا شيء عليه؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم كان ينظر إلى نسائه وهو محرم. وإن كرر النظر حتى أمذى أو أمنى، فعليه دم عندهم. أما المالكية فقالوا: إن إنزال المني مفسد الحج والعمرة مطلقاً، حتى وإن حدث بنظر أو فكر مستديمين، لا بمجردهما، بخلاف الإنزال بغيرهما لا يشترط فيه الإدامة. وبه يلتقي الحنابلة مع المالكية في إيجاب الدم في حال الاستدامة، لكن يختلف المذهبان في مجرد النظر أو الفكر، فعند المالكية: يجب دم، وعند الحنابلة: لا شيء عليه. وللمحرم بالاتفاق أن يتجر ويصنع الصنائع ويرتجع زوجته مادامت في عدتها، لقوله تعالى: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاًمن ربكم} [البقرة:198/ 2] أي في مواسم الحج، والمرأة الرجعية زوجة، والرجعة إمساك، لقوله تعالى: {فأمسكوهن بمعروف} [البقرة:231/ 2] فأبيح ذلك كالإمساك قبل الطلاق. ما يفسد الحج، وحكمه إذا فسد: أولاً ـ شروط كونه مفسداً: يشترط في الجماع المفسد للحج شرطان عند الحنفية وغيرهم: الأول ـ أن يكون الجماع في الفرج: وهذا متفق عليه، فلو جامع فيما دون الفرج، أو لمس بشهوة، أو عانق، أو قبل، أو باشر، لا يفسد حجه، لكن تلزمه عند الحنفية الكفارة، سواء أنزل أو لم ينزل.
الثاني ـ أن يكون الجماع عند الحنفية قبل الوقوف بعرفة
وقال المالكية: وكذا الإنزال بالوطء أو بغيرالوطء إلا الاحتلام يوجب الدم. ورأى الشافعية: أن الاستمناء باليد والمباشرة فيما دون الفرج حرام، لا يفسد الحج، ويوجب الدم إن أنزل. وشرطوا لإفساد الحج بالجماع أن يكون المجامع عالماً بالتحريم، فإن كان ناسياً أو جاهلاً بالتحريم أو جومعت المرأة مكرهة، لم يفسد الحج ولا فدية أيضاً في الأصح. والجماع وحده هو الذي يفسد الحج، سواء للرجل والمرأة، حتى لو استدخلت المرأة ذكر نائم، فسد حجها وعمرتها. وذهب الحنابلة إلى أنه إن وطئ دون الفرج، فلم ينزل، فعليه دم، وإن أنزل، فعليه بدنة، ولا يفسد حجه في الرواية الصحيحة. وقالوا: على الرجل المحرم بدنة إن وطئ في الفرج واستكرهها، فإن كانت طاوعته فعلى كل واحد منهما بدنة. وإذا تكرر الجماع، فإن كفر عن الأول، فعليه للثاني كفارة ثانية كالأول، وإن لم يكن كفر عن الأول، فكفارة واحدة. والخلاصة: إن الجماع وحده مفسد للحج عند الجمهور، ويضم إليه الإنزال عند المالكية. والثاني ـ أن يكون الجماع عند الحنفية قبل الوقوف بعرفة، فمن جامع بعد الوقوف بعرفة، لم يفسد حجه. وعليه بدنة إن جامع بعد الوقوف قبل الحلق، لأن الركن الأصلي هوالوقوف بعرفة، لحديث: «الحج عرفة» أي الوقوف بعرفة، وعليه مع فساد الحج شاة إن جامع قبل الوقوف، لما روي أن الصحابة قالوا: عليه هدي. وقال الجمهور غير الحنفية: يفسد الحج إن وقع قبل التحلل الأول (¬1)،ولو ¬
ثانيا ـ حكم الحج إذا فسد
بعد الوقوف؛ لأنه وطء صادف إحراماً صحيحاً لم يحصل في التحلل الأول، فأشبه ما قبل الوقوف. وعليه بدنة عند الشافعية والحنابلة، لقضاء الصحابة بذلك، وهدي عند المالكية في زمن القضاء، وأفضله الإبل، ثم البقر ثم الضأن، ثم المعز أما العمرة: فتفسد عند الحنفية (¬1) إن جامع قبل أن يطوف أربعة أشواط، وعليه قضاوها، وشاة. وإن وطئ بعدما طاف أربعة أشواط فلا تفسد، ولا يلزمه قضاؤها، وعليه شاة. وتفسد عند المالكية والحنابلة (¬2) إن جامع قبل تمام السعي، قبل الحلق، وعليه لإفسادها هدي عند المالكية، وشاة عند الحنابلة، ولا فدية على مكرهة، ولا يفسد بعد تمام السعي وقبل الحلق. وتفسد عند الشافعية (¬3) إن جامع قبل التحلل أو الفراغ منها، وعليه لإفسادها بدنة كالحج، لتغليظ الجناية. ثانياً ـ حكم الحج إذا فسد: إذا فسد الحج بالجماع يجب المضي في فاسده، ويجب القضاء اتفاقاً على الفور من العام التالي، وإن كان نسكه تطوعاً؛ لأنه يلزم بالشروع فيه، فصار فرضاً، بخلاف باقي العبادات عند غير الحنفية. وفورية قضاء الفاسد؛ لأنه وإن كان وقت الحج موسعاً، يضيق بالشروع فيه، ولقول الصحابة بقضائه من قابل. ويستوي في ذلك الرجل والمرأة لاستوائهما في المعنى الموجب للفساد. ¬
الأصل الرابع ـ الصيد
ويجب عليه بدنة عند الشافعية والحنابلة، سواء حدث الإفساد قبل الوقوف أم بعده، لقضاء الصحابة بذلك، بدون تفرقة بين ما قبل الوقوف وبعده، ولأنه جماع صادف إحراماً تاماً، فوجب به كما بعد الوقوف، والقضاء واجب على الصبي إن أفسد نسكه بالجماع. وعليه عند المالكية هدي زمن القضاء، لقول ابن عمر لمن واقع امرأته: « .. فإذا كان في العام المقبل فاحجج أنت وامرأتك واهديا هدياً .. ». وأوجب الحنفية عليه شاة إن جامع قبل الوقوف وفسد حجه، وبدنة إن جامع بعد الوقوف قبل الحلق وحجه صحيح؛ لأنه قبل الوقوف معنى يوجب القضاء، فلم يجب به بدنة كفوات الوقوف، ولأن ابن عباس أوجب البدنة في موضعين في الحج: أحدهما إذا طاف للزيارة جنباً ورجع إلى أهله ولم يعد، والثاني إذا جامع بعد الوقوف. وإذا كان المحرم قارناً فجامع قبل الوقوف فسد حجه وعمرته، وعليه دمان لكل واحد منهما شاة، وعليه المضي فيهما وإتمامهما على الفساد، وعليه قضاؤهما، ويسقط عنه دم القران، وأوجب الشافعية مع البدنة دم القران. الأصل الرابع ـ الصيد: لا يجوز للمحرم قتل صيد البر واصطياده أو الدلالة عليه، إلا المؤذي المبتدئ بالأذى غالباً كالأسد والذئب والحية والفأرة والعقرب والكلب العقور، والكلب عند المالكية: كل حيوان وحشي يخاف منه كالسباع. وعند أبي حنيفة: الكلب المعروف. ويجوز للمحرم صيد البحر مطلقاً، وذبح المواشي الإنسية كالأنعام من الإبل والبقر والغنم، وذبح الطير الذي لا يطير في الهواء كالدجاج، والدليل قوله
تفصيلات في الصيد الممنوع
تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة، وحرِّم عليكم صيد البر مادمتم حرماً} [المائدة:96/ 5]، وقوله سبحانه: {ياأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حُرُم} [المائدة:95/ 5]، وتحريم الإشارة إلى الصيد والدلالة عليه والأكل منه واضح من حديث أبي قتادة لما صاد الحمار الوحشي وأصحابه محرمون، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم لأصحابه: «هل أشار إليه إنسان أو أمره بشيء؟ قالوا: لا، قال: فكلوه» (¬1) وهذا دليل الحنفية القائلين: يجوز للمحرم أكل الصيد مطلقاً إذا صاده الحلال. وقال الجمهور: يحرم الأكل من لحم صيد البر على المحرم إذا صيد له، لحديث الصعب بن جَثَّامة: «أنه أهدى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم حماراً وحشياً وهو بالأبواء أو بودّان، فرده عليه، فلما رأى ما في وجهه قال: إنا لم نردَّه عليك، إلا أنا حُرُم» (¬2) وهذا الرأي أرجح؛ لأنه اقتصر في التعليل على كونه محرماً، كما قال الشوكاني، ولحديث آتٍ: «صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم». وللمذاهب تفصيلات في الصيد الممنوع، خلاصتها ما يأتي: قال الحنفية (¬3): لا يجوز للمحرم أن يتعرض لصيد البر المأكول وغير المأكول إلا المؤذي غالباً. والصيد الممنوع: كل حيوان بري متوحش بأصل الخلقة مباح أو مملوك، فلا يحرم على المحرم ذبح الإبل والبقر والغنم؛ لأنها ليست بصيد، لعدم الامتناع، والصيد هو الممتنع المتوحش، ولا يحرم الدجاج والبط الذي في المنازل. والكلب والسنَّور (القط) الأهلي ليس بصيد: لأنه مستأنس. ويحل صيد البحر ¬
للحلال والمحرم، للآية السابقة، والبحري: هو الذي توالده في البحر، سواء أكان لا يعيش إلا في البحر أم يعيش في البحر والبر. والبري: ما يكون توالده في البر، سواء أكان لا يعيش إلا في البر، أم يعيش في البر والبحر، فالعبرة للتوالد. ولا بأس بقتل البرغوث والبعوض والنملة والذباب والقراد والزنبور؛ لأنها ليست بصيد، لانعدام التوحش والامتناع، ولأن هذه الأشياء من المؤذيات المبتدئة بالأذى غالباً، فالتحقت بالمؤذيات المنصوص عليها من الحية والعقرب في حديث: «خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الحية والعقرب والفأرة والكلب العقور والغراب» (¬1). ولا يقتل القملة، لا لأنها صيد، بل لما فيها من إزالة التفث، لأنه متولد من البدن كالشعر، والمحرم منهي عن إزالة التفث من بدنه، فإن قتلها تصدق بشيء، كما لو أزال شعرة. وكذا لا يقتل الجرادة، لأنها صيد البر. ولا بأس له بقتل هوام الأرض من الفأرة والحية والعقرب والخنافس والجعلان وصياح الليل والصرصر ونحوها؛ لأنها ليست بصيد، بل من حشرات الأرض. وكذا القنفذ وابن عرس؛ لأنهما من الهوام. وله أن يقتل ما لا يبتدئ بالأذى غالباً كالضبع والثعلب وغيرهما من الضب واليربوع والقرد والفيل والخنزير إن عدا عليه، ولا شيء عليه إذا قتله في قول أئمة الحنفية ما عدا زفر. وإن ذبح المحرم صيداً، فذبيحته ميتة لا يحل أكلها لأحد من مُحرم أو حلال، ¬
قال المالكية
ولا بأس أن يأكل المحرم لحم صيد اصطاده حلال أوذبحه، إذا لم يدلَّه المحرم عليه، ولا أمره بصيد، سواء اصطاده لنفسه أو للمحرم، حيث لم يكن له فيه صنع. وقال المالكية (¬1): لايقتل المحرم شيئاً من صيد البر، ما أكل لحمه، ومالم يؤكل، كما قال الحنفية: سواء أكان ماشياً أم طائراً في الحرم أم في غيره، ولا يأمر به، ولا يدل عليه، ولا يشير إليه، فإن أمر أو دل، فقد أساء ولا كفارة عليه. ولا يأكل لحم صيد صيد له أو من أجله، خلافاً للحنفية، وإن صيد في الحل لحلال، جاز للمحرم أكله. وكل ما ذبحه المحرم من الصيد أو قتله عمداً أو خطأ، فهو ميتة، ولا يجوز له ولا لغيره أكله، كما قال الحنفية. ويجوز له ذبح المواشي الإنسية كالأنعام والطير الذي لا يطير في الهواء كالدجاج، وله صيد البحر مطلقاً، وهذا متفق عليه. وله قتل الحيوان المضر كالأسد ونحوه مما ذكر، وهذا متفق عليه. ولا يقتل ضبعاً ولا خنزيراً ولا قرداً إلا أن يخاف من عاديته. ويحرم قتل ما لا ضرر فيه من البعوضة فما فوقها. وقال الشافعية (¬2): يحرم بالإحرام اصطياد كل حيوان مأكول بري متوحش مباح أو مملوك، وكذا المتولد من المأكول وغيره، أو من الإنسي وغيره، كالمتولد من حمار وحشي وحمار أهلي، أو من شاة وظبي، ويجب به الجزاء احتياطاً. ¬
قال الحنابلة
ويحرم الجراد، ولا يحرم السمك وصيد البحر: وهو مالا يعيش إلا في البحر. أما ما يعيش في البر والبحر فحرام، وتحرم الطيور المائية التي تغوص في الماء وتخرج. ولا يحرم ما ليس مأكولاً كما قال الحنابلة، خلافاً للحنفية والمالكية. ولو ذبح المحرم صيداً، صار ميتة على الأصح، فيحرم على كل أحد أكله. ويحرم على المحرم أكل صيد ذبحه هو، أو صاد هـ غيره بإذنه، أوبغير إذنه، أو أعان عليه، أو كان له تسبب فيه، فإن أكل منه عصى، ولا جزاء عليه بسبب الأكل. ولو صاده حلال للمحرم ولا تسبب فيه، جاز له الأكل منه، ولا جزاء عليه، كما قال المالكية. وقال الحنابلة (¬1): يحرم على المحرم قتل صيد البر واصطياده والإعانة أو الدلالة عليه إذا كان وحشياً مأكولاً، أومتولداً منه ومن غيره، ويباح صيد غير المأكول كما قرر الشافعية. ويحرم عليه أكله من ذلك كله، وكذا ما ذبح أو صيد لأجله فلا يأكل المحرم ما صاده الحلال أو ذبحه لأجله، كما قال الشافعية، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم» (¬2) ويتعين حمل حديث الصعب بن جثَّامة على هذا، ويكون امتناع النبي صلّى الله عليه وسلم عن الأكل من الحمار الوحشي لعلمه أو ظنه أنه صيد من أجله. ويحمل حديث أبي قتادة الذي استدل به الحنفية على جواز الأكل من الصيد الذي صاده الحلال، لا من أجل المحرم. ويحرم قتل القمل وصئبانه؛ لأنه يترفه بإزالته كإزالة الشعر، ولو كان قتله ¬
هل يباح أكله لمحرم آخر لم يصد له؟
بزئبق ونحوه، ويحرم رميه أيضاً، ولا جزاء فيه، لأنه ليس بصيد ولا قيمة له. ويحرم قتل الجراد ويضمن بقيمته في مكانه. وما حرم على المحرم لكونه صيد من أجله أو دل عليه أو أعان عليه، لم يحرم على الحلال أكله، لقول علي: «أطعموه حلالاً» وهو محمول على أنه صيد من أجلهم، ولم ينه النبي صلّى الله عليه وسلم الصعب بن جثامة عن أكل الحمار الوحشي، ولأنه صيد حلال، فأبيح للحلال أكله، كما لو صيد لهم. وهل يباح أكله لمحرم آخر لم يصد له؟ فيه احتمالان: قال عثمان: يباح، لظاهر الحديث «صيد البر لكم حلال مالم تصيدوه أو يصد لكم» وروي «أنه أهدي لعثمان صيد وهو محرم، فقال لأصحابه: كلوا، ولم يأكل هو، وقال: إنما صيد من أجلي» ولأنه لم يصد من أجله، فحل له كما لو صاده الحلال لنفسه. وقال علي: يحرم عليه، لقوله: «أطعموه حلالاً، فإنا حُرُم» وهذا ما أرجحه. وإذا ذبح المحرم الصيد، صار ميتة يحرم أكله على جميع الناس. وهذا متفق عليه؛ لأنه حيوان حرم عليه ذبحه لحق الله تعالى، فلم يحل بذبحه كذبح المجوسي. والخلاصة يحرم عند الحنفية والمالكية الصيد المأكول وغيرالمأكول، ولا يحرم عند غيرهم إلا الصيد المأكول أو المتولد منه ومن غيره. وإذا اضطر المحرم فوجد صيداً وميتة، أكل الميتةعند الحنابلة والمالكية، وقال الشافعي: يأكل الصيد (¬1). ¬
مباحات الإحرام
وأضاف الحنابلة: ويباح قتل الفواسق كالحية والغراب ونحوهما، وقتل كل ما كان طبعه الأذى، وإن لم يوجد منه الأذى كالأسد والنمر والذئب والفهد وما في معناه، والحشرات المؤذية كالزنبور والبق والبعوض والبراغيث. ويباح صيد البحر والنهر إلا في الحرم، ولو للحلال. مباحات الإحرام: يتلخص مماسبق بيانه أنه يباح للمحرم ما يأتي مما ليس من المحرمات السابقة (¬1): 1 - للمحرم غسل الرأس بما ينظفه من الوسخ كالسدر والخطمي وغيرهما من غيرنتف شيء من شعره، لكن الأولى ألا يفعل؛ لأن ذلك نوع من الترفه، والحاج أشعث أغبر. وله أن يغتسل من الجنابة بالإجماع، وإذا اغتسل من الجنابة استحب أن يغسل رأسه ببطون أنامله برفق، حتى يتسرب الماء في أصول شعره، ولا يحكه بأظفاره. ويكره له عند المالكية والحنابلة غسل رأسه بالسدر والخطمي ونحوهما، لما فيه من إزالة الشعث والتعرض لقلع الشعر. ويجوز له أيضاً غسل البدن في الحمام وغيره ولا يكره. 2 - وله الاكتحال بما لا طيب فيه، ويكره بالإثمد إلا للحاجة فلا يكره. 3 - لا بأس بالاختتان والفصد والحجامةإذا لم يقطع الشعر؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم (¬2)، ويجوز قلع الضرس وجبر الكسر، وحك الرأس والبدن برفق بأظفاره على وجه لا ينتف شعراً، أو يسقط قملة، والمستحب ألا يفعل. فلو ¬
حك رأسه أو لحيته، فسقط بحكه شعرة أوشعرات، لزمته الفدية أو التصدق بما شاء. ولو سقط شعر وشك، هل كان زائلاً بنفسه، أم انتتف بحكه فلا فدية على الأصح عند الشافعية. وللمحرم عند الشافعية أن ينحي القمل من بدنه وثيابه ولا كراهة في ذلك، وله قتله ولا شيء عليه، بل يستحب للمحرم قتله، كما يستحب لغيره. وهذا هو الراجح خلافاً لمن منع ذلك، تحقيقاً للنظافة ومنع الأذى. ويكره للمحرم أن يفلي رأسه ولحيته، فإن فعل، فأخرج منهما قملة وقتلها، تصدق ولو بلقمة على ما عليه الشافعي، وهذا التصدق مستحب. ولا يتفلى المحرم ولا يقتل القمل عند الحنابلة، فإن خالف وتفلى أو قتل قملاً أو ألقاه أو قتله بالزئبق فلا فدية عليه. وقال الحنفية: يتصدق بما شاء من كف من طعام. 4 - للمحرم أن ينشد الشِعْر الذي لا يأثم فيه. 5 - ولا يكره للمحرم والمحرمة النظر في المرآة، خلافاً للحنابلة والمالكية فيكره. 6 - يباح قتل الفواسق كالحدأة والفأرة، بنص الحديث المتقدم، ويجوز قتل السباع، وقتل الحشرات المؤذية كالبعوض والبراغيث والذباب في رأي الجمهور غيرالمالكية. 7 - يجوز صيد البحر، وذبح الأنعام الإنسية، والطيور التي لا تطير كالدجاج والبط والإوز الأهلي. 8 - يباح الاستظلال بالبيت والمحمل والمظلة ونحوها مما لا يصيب رأسه أو وجهه. ويكره الاستظلال بالمحمل عند المالكية والحنابلة، فإن فعل فعليه دم، ولكن له أن يستظل بالسقف والحائط والشجرة والخباء.
المبحث الحادي عشر ـ جزاء الجنايات
9 - يجوز أن يشد على وسطه حزام النقود ولو كانت لغيره، ويجوز عقد الإزار لستر العورة، وكذا يجوز لبس حزام الفتق، وعليه الفدية. 10 - يحل حمل السلاح وقتال العدو للحاجة، ولبس الخاتم والساعة والحزام (الكمر). 11 - يباح الكلام، ولكن يستحب للمحرم قلة الكلام في كل حال إلا فيما ينفع، صيانة لنفسه عن اللغو والوقوع في الكذب، وما لا يحل؛ لأن من كثر كلامه كثر سقطه. ويستحب للمحرم أن يشتغل بالتلبية وذكر الله تعالى أو قراءة القرآن، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو تعليم لجاهل، أو يأمر بحاجته، أو يسكت. وإن تكلم بما لا مأثم فيه، أو أنشد شعراً لا يقبح، فهو مباح ولا يكثر. المبحث الحادي عشر ـ جزاء الجنايات تطرأ على المحرم عوارض: هي الجنايات، والإحصار، والفوات. أما الجنايات فهي جمع جناية، وهي لغة: ما تجنيه من شر، وشرعاً: ما حرم من الفعل بسبب الإحرام أو الحرم. والجنايات نوعان: 1ً - جناية على الإحرام: هي ارتكاب مخالفة لأعمال الحج أو العمرة، أو اقتراف محظور من محظورات الإحرام السابقة، وترك واجب من واجبات الحج، ولو كان الجاني ناسياً أو جاهلاً أو مكرهاً أو مخطئاً، أو مغمى عليه، بشرط أن يكون الجاني عند الحنفية محرماً بالغاً، فلا شيء على الصبي عند الحنفية والمالكية والحنابلة؛ لأن عمده خطأ، لكن لو وطئ يفسد حجه ويمضي في فاسده، وفي وجوب القضاء عليه عند الحنابلة وجهان: الأول: لا يجب لعدم تكليفه، والثاني: يجب كوطء البالغ.
- جناية على الحرم
وأوجب الشافعية في الأصح على الصبي الفدية والقضاء إذا ارتكب محظوراً من محظورات الإحرام وكان عامداً لا ناسياً أو مكرهاً، بناء على أن عمده عمد، وهو أحد القولين المشهورين (¬1). والحاصل أنه يفسد حج الصبي بالجماع بلا خلاف بين أئمة المذاهب الأربعة خلافاً لداود الظاهري، وقال الدسوقي المالكي: لا يفسد حجه. 2ً - جناية على الحرم: وهي التعرض لصيد الحرم وشجره، سواء من المحرم أو غيره، إذا كان الشخص مكلفاً (بالغاً عاقلاً) ولو ناسياً أو جاهلاً أو مكرهاً أو مخطئاً. وذلك يوجب ضمان المثل أو القيمة، وسوف أبينه في بحث خصوصيات الحرم. أما الجناية على الإحرام: فقد توجب دماً (¬2) واحداً أو أكثر، أو صدقة، أو دون ذلك، أو قيمة، على النحو التالي (¬3)، وهو يشمل بحث الفدية وجزاء الصيد. أولاً ـ الجناية التي توجب بدنة (ناقة أو بقرة) يوزع لحمها على فقراء الحرم: 1ً - الجماع في أثناء الإحرام قبل التحلل الأول وبعد وقوف عرفة: ويفسد حجه عند الجمهور، ولا يفسد حجه عند الحنفية، فإن جامع المحرم زوجته قبل ¬
ثانيا ـ الجناية التي توجب دمين
الوقوف فإنه يفسد حجه، وعليه شاة فقط عند الحنفية، ويمضي في فاسده من حج أو عمرة حتى التمام، ثم يقضيه بالاتفاق فوراً في العام المقبل إن كان حجاً، وبعد تمام الفاسد إن كان عمرة. وأوجب المالكية الهدي من الأنعام (الإبل ثم البقر ثم الضأن ثم المعز) بالجماع أو الإنزال بغير الاحتلام قبل الوقوف مطلقاً أو بعد الوقوف قبل طواف الإفاضة ورمي جمرة العقبة يوم النحر. 2ً - إذا طاف طواف الإفاضة جنباً أو حائضاً أو نفساء. ثانياً ـ الجناية التي توجب دمين: هي جناية القارن عند الحنفية، وهي كل جناية يجب بها على المفرد دم واحد، فعليه مثلاً دمان إذا حلق قبل الذبح، دم للتأخير ودم للقران على المذهب، وقال الشافعية والمالكية والحنابلة: القارن والمفرد في كفارات الإحرام واحد؛ لأن القارن كالمفرد في الأفعال، فكان كالمفرد في الكفارات، فتلزمه بالجماع بدنة واحدة بسبب الإفساد لاتحاد الإحرام، ويلزمه مع ذلك شاة للقران. والمتمتع كالقارن (¬1). ثالثاً ـ الجناية التي توجب دماً واحداً إما على سبيل التخيير أو الترتيب: 1 ً - لبس المخيط وتغطية الرأس والحلق وقص الأظفار والتطيب: قال الحنفية: إن لبس المحرم ثوباً مخيطاً أوغطى رأسه يوماً كاملاً، فعليه دم (شاة) يفرق لحمها على فقراء الحرم، وإن كان أقل من ذلك، فعليه صدقة. ¬
وإن حلق موضع الحجامة، فعليه دم عند أبي حنيفة، وقال الصاحبان: عليه صدقة؛ لأنه غير مقصود في ذاته. وإن حلق ربع الرأس فصاعداً أو ربع اللحية، فعليه دم، وإن حلق أقل من الربع فعليه صدقة؛ لأن حلق بعض الرأس ارتفاق كامل لأنه معتاد، فتتكامل به الجناية، ويتقاصر فيما دونه. وإن قص في مجلس واحد أظافر يديه ورجليه جميعاً، أو أظافر يديه فقط أو أظافر يد واحدة أو رجل واحدة، فعليه شاة. وإن تعدد المجلس بأن قص أظافر يديه في مجلس، ثم أظافر رجليه في مجلس واحد وجب عليه دمان. وإن قص أقل من خمسة أظافر متفرقة من يديه ورجليه، فعليه صدقة عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وإن طيب المحرم عضواً كاملاً كالرأس والفم واليد والرجل فأكثر أو جسمه كله، فعليه دم (شاة)؛ لأن المعتبر الكثرة، وحد الكثرة: هو العضو. وإن طيب المحرم ثوبه، لزمه دم بشرط لبسه يوماً كاملاً. وإن خضب رأسه أو يده أو لحيته بحناء وجب دم. وإن ادهن بزيت أو شيرج، لزمه دم، لأنهما أصل الطيب (¬1)، بخلاف بقية الأدهان كالسمن والشحم ودهن اللوز. أما لو أكل الزيت أو داوى به جرحه أو شقوق رجليه أو أقطر في أذنيه، فلا يجب عليه شيء، لا دم ولا صدقة باتفاق الحنفية، لأنه ليس بطيب من كل وجه، لكن لو استعمل المسك والعنبر والغالية ¬
والكافور ونحوهما مما هو طيب في نفسه، فإنه يلزمه الدم بالاستعمال ولو على وجه التداوي. ولو جعله في طعام وإن لم يطبخ فلا شيء فيه إذا كان مغلوباً، ويكره أكله، كما يكره شم الطيب والتفاح. وإن تطيب أو حلق أو لبس ثوباً لعذر فهو مخير: إن شاء ذبح شاة، وإن شاء تصدق على ستة مساكين بثلاثة أصوع (¬1) من طعام لكل مسكين نصف صاع، وإن شاء صام ثلاثة أيام، لقوله تعالى: {فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نُسُك} [البقرة:196/ 2]. وقال الجمهور غير الحنفية: من لبس أو حلق شعره أو قلم أظفاره أو تطيب أو ادهن أو أزال ثلاث شعرات متوالية عند الشافعية أو أزال أكثر من شعرتين أو ظفرين عند الحنابلة: يخير في الفدية بين ذبح شاة يتصدق بها، أو صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع، وذبح الشاة يسمى نسكاً، فالنسك أحد خصال الفدية، سواء فعل المحظور عمداً أو خطأ أو جهلاً، والتخيير ثابت مع العسر واليسر في أي مكان شاء، ودليل التخيير الآية السابقة: {ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} [البقرة:196/ 2] وقوله صلّى الله عليه وسلم لكعب بن عُجرة: «أيؤذيك هوامّ رأسك؟ قال: نعم، قال: انسك شاة، أو صم ثلاثة أيام، أو أطعم فَرقاً من الطعام (¬2) على ستة مساكين» وقيس بالحلق وبالمعذور غيرهما. فهذه الفدية عند الجمهور عامة للمعذور وغيره، وخاصة عند الحنفية بالمعذور. وشعر الرأس وغيره سواء في وجوب الفدية؛ لأن الشعر كله جنس واحد في البدن، ويجزئ البر والشعير والزبيب في الفدية، كما في الفطرة وكفارة اليمين. والواجب ¬
عند الحنابلة فدية واحدة مالم يكفر عن الأول، فإن كفر عن الأول ثم حلق ثانياً، فعليه كفارة ثانية. وإذا حلق المحرم رأس حلال أو قلم أظفاره،! فلا فدية عليه عند الجمهور، وقال أبو حنيفة: يلزمه صدقة؛ لأنه أتلف شعر آدمي، فأشبه شعر المحرم. وإن حلق رأس محرم بإذنه أو حلقه حلال بإذنه، فالفدية على المحلوق. وإن كان المحلوق مكرهاً أونائماً، فلا فدية على المحلوق رأسه عند المالكية والحنابلة، وقال أبو حنيفة: على المحلوق رأسه الفدية، وعن الشافعي كالمذهبين (¬1). وهذه الفدية عند الشافعية والحنابلة تجب في مقدمات الجماع بشهوة كإمناء بنظرة ومباشرة بغير إنزال، وإمذاء بتكرار نظر أو تقبيل أو لمس أو مباشرة. وتجب أيضاً في الجماع الثاني بعد الجماع الأول، وفي حالة الجماع بين التحللين. والإنزال بغير الاحتلام عند المالكية كالجماع يفسد الحج ويوجب الهدي. 2ً - الجماع ومقدماته: قال الحنفية: إن قبل أو لمس بشهوة أنزل أو لم ينزل في الأصح، أواستمنى بكفه، فعليه دم؛ لأن دواعي الجماع محرمة لأجل الإحرام مطلقاً، فيجب الدم مطلقاً. وإن جامع في أحد السبيلين من آدمي ولو ناسياً أو مكرهاً أو كانت نائمة، قبل الوقوف بعرفة، فسد حجه، ووجب عليه شاة أو سُبْع بدنة، ويمضي وجوباً في حجه الفاسد كغيره ممن لم يفسد حجه، ووجب عليه القضاء فوراً، ولو كان حجه نفلاً، لوجوبه بالشروع فيه، ولم يقع الموقع المطلوب. لكن ليس على صبي أو مجنون أفسد حجه دم ولا قضاء. ¬
فإن جامع بعد الوقوف بعرفة قبل الحلق أو الطواف، لم يفسد حجه، ويجب عليه بدنة، كما بينت؛ لأنه أعلى أنواع الجناية فغلظت عقوبتها. وإن جامع ثانياً فعليه شاة؛ لأنه وقع في إحرام مهتوك. وإن جامع بعد الوقوف والحلق، فعليه شاة، لبقاء إحرامه في حق النساء فقط أي بين التحللين الأول والثاني. ومن جامع في العمرة قبل أن يطوف لها أربعة أشواط، أفسدها؛ لأن الطواف في العمرة بمنزلة الوقوف في الحج، ومضى فيها، وقضاها فوراً، ووجب عليه شاة؛ لأنها عند الحنفية سنة. وإن وطئ بعد ما طاف لها أربعة أشواط، وقبل الحلق، فعليه شاة، ولا تفسد عمرته، ولا يلزمه قضاؤها. وقد سبق بيان رأي غير الحنفية في هذا المحظور، فعند الشافعية والحنابلة إن كان الوطء قبل التحلل الأول يجب عليه بدنة، فإن عدمها لزمه بقرة، فإن عدمها لزمه سبع شياه، فإن عدمها قوم البدنة بدراهم واشترى بقيمتها طعاماً وتصدق به، فإن عجز صام عن كل مد يوماً. فإن وطئ بين التحللين أو بعد الإفساد لزمه شاة، كما في الحلق ونحوه. 3ً - ترك واجب من واجبات الحج: قال الحنفية: إن طاف طواف القدوم جنباً فعليه شاة لغلظ الجنابة. وإن طاف طواف الزيارة محدثاً، فعليه شاة؛ لأنه أدخل النقص في الركن. وإن طاف للقدوم محدثاً فعليه صدقة، وإن طاف للزيارة جنباً، فعليه بدنة لغلظ الجنابة. والأفضل أن يعيد الطواف ما دام بمكة ولا ذبح عليه. ومن طاف طواف الصَّدَر (الوداع) محدثاً، فعليه صدقة، وإن طاف جنباً، فعليه شاة.
ومن ترك من طواف الزيارة ثلاثة أشواط فما دونها، فعليه شاة. وإن ترك أربعة أشواط، بقي محرماً أبداً حتى يطوفها. وإن ترك طواف الوداع أو أربعة أشواط منه، فعليه شاة، ومن ترك من طواف الوداع ثلاثة أشواط فعليه صدقة. ومن أعاد أي طواف على طهارة، سقط الدم، لإتيانه به على الوجه المشروع، والأصح وجوب الإعادة في حال الجنابة، وندبها في حال الحدث، ومن طاف وربع عضو من العورة مكشوف، أعاد الطواف ما دام بمكة، وإن لم يعد حتى خرج من مكة، فعليه دم. ومن ترك السعي بين الصفا والمروة، فعليه شاة، وحجه تام. ومن أفاض من عرفة قبل الإمام والغروب، فعليه دم، ويسقط بالعود قبل الغروب، لا بعده. ومن ترك الوقوف بالمزدلفة، فعليه دم. ومن ترك رمي الجمار في الأيام كلها بغروب شمس آخر أيام الرمي وهو اليوم الرابع، فعليه دم واحد، وإن ترك رمي يوم فعليه دم، وإن ترك رمي إحدى الجمار الثلاث. فعليه صدقة. وإن ترك رمي جمرة العقبة، فعليه دم. ومن أخر الحلق حتى مضت أيام النحر، فعليه دم عند أبي حنيفة، وكذا لو أخر طواف الزيارة عن أيام النحر، فعليه دم عنده. وقال الصاحبان: لا شيء عليه.
ويجب ذبح شاة على القارن والمتمتع بالاتفاق، كما بينت سابقاً. وكل ما وجب فيه دم على المفرد وجب فيه دمان على القارن: دم لحجته ودم لعمرته، إلا في حال تجاوز الميقات من غير إحرام عليه إن عاد دم واحد. وقال المالكية (¬1): دماء الحج أو العمرة ثلاثة: الفدية، وجزاء الصيد، والهدي، وقد عرفنا الفدية، أما الهدي فيجب في خمسة أنواع: جبر ما تركه من الواجبات كترك التلبية أو طواف القدوم أو رمي الجمار أو المبيت بمنى والمزدلفة وغير ذلك، وهدي المتعة والقران، وكفارة الوطء ونحوه كمذي وقبلة بفم، وجزاء الصيد، وهدي الفوات. والهدي مرتب، بخلاف الفدية وجزاء الصيد. وقال الشافعية: حاصل الدماء الواجبة في الحج أربعة أنواع: الأول - دم ترتيب وتقدير: ومعنى الترتيب: أنه يلزمه الذبح، ولايجوز العدول إلى غيره إلا إذا عجز عنه. ومعنى التقدير: أن الشرع قدر مايعدل إليه بما لايزيد ولاينقص. وهو دم التمتع والقران والفوات، والمنوط بترك مأمور: وهو ترك الإحرام من الميقات، والمبيت بمزدلفة ومنى، وطواف الوداع، والواجب ذبح شاة للموسر، فإن عجز صام عشرة أيام. والثاني - دم ترتيب وتعديل: بمعنى أن الشرع أمر فيه بالتقويم والعدول إلى غيره بحسب القيمة، ويلزمه في حال الجماع، فيجب فيه بدنة، ثم بقرة، ثم سبع شياه، فإن عجز قوم البدنة بدراهم، والدراهم طعاماً، وتصدق به، فإن عجز صام عن كل مد يوماً. ويلزم في حال الإحصار، فعليه شاة، ثم طعام بالتعديل، فإن عجز عن ¬
الطعام، صام عن كل مد يوماً، لقوله تعالى: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} [البقرة:196/ 2]. والثالث- دم تخيير وتقدير: أي إنه يجوز العدول إلى غيره مع القدرة عليه. فيتخير في حلق ثلاث شعرات أو قلم ثلاثة أظفار بالتتابع، بين ذبح وإطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، وصوم ثلاثة أيام. ويتخير أيضاً في حال التطيب ودَهْن الرأس أو اللحية وبعض شعور الوجه، واللبس، ومقدمات الجماع، والاستمناء، والجماع غير المفسد. والفدية تجب في حلق الشعر ولو ناسياً أو جاهلاً بالحرمة، لعموم الآية: {ولاتحلقوا رؤوسكم} [البقرة:196/ 2]، بخلاف الناسي والجاهل في التمتع باللبس والطيب والدهن والجماع ومقدماته: لاتجب الفدية عليه لاشتراط العلم والقصد فيه. والرابع ـ دم تخيير وتعديل: وهو دم جزاء الصيد والشجر، فيجب مثل الصيد، أوشراء حَبّ لأهل الحرم بقدر قيمته، يوزع على الفقراء، أو الصيام عن كل مد يوماً. فإن لم يكن للصيد مثل، خيِّر بين الإطعام أوالصيام إلا الحمام فيجب فيه شاة، والدليل آية المائدة 95: {يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حُرُم، ومن قتله منكم متعمداً، فجزاءٌ مِثْل ُما قتل من النَّعَم، يحكم به ذوا عدل منكم، هدياً بالغ الكعبة، أو كفارةٌ طعام مساكين، أو عَدْل ُ ذلك صياماً ليذوق وبال أمره .. } [المائدة:95/ 5] وأما شجر الحرم ونباته فيحرم قطعه ويجب ضمانه بالقطع أو القلع، سواء النبات الذي ينبت بنفسه والمستنبت، ففي الشجرة الكبيرة بقرة، وفي الصغيرة شاة، عملاً بما رواه الشافعي عن ابن الزبير. فإن صغرت الشجرة جداً، ففيها القيمة. وقال الحنابلة: الفدية: ما يجب بسبب نسك أو حرم، وله تقديماً على فعل محظور لمعذور، وهي نوعان: تخيير وترتيب.
رابعا ـ ما يوجب الصدقة
فالتخيير: يكون بين ذبح شاة، أو صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين مد بُر أو نصف صاع يجزئ في الفطرة. وذلك كفدية لبس المخيط، وطيب، وتغطية رأس، وإزالة أكثر من شعرتين أو ظفرين، ومقدمات الجماع كما تقدم، وجزاء صيد كما سأبين. والترتيب: أـ إما بذبح شاة حال اليسار، وصيام عشرة أيام حال الإعسار، وذلك كدم التمتع والقران، وترك واجب، وفوات، وإحصار، والصوم في غير الإحصار: ثلاثة في أيام الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله، ولا يجب تتابع ولا تفريق في الأيام، ومن لم يصم الثلاثة في أيام منى، صام بعدها عشرة، وعليه دم مطلقاً، وعلى المحصر دم، فإن لم يجد ثمنه أو عدمه، صام عشرة أيام بنية التحلل ثم حل، ولا إطعام فيه. ب ـ وإما بذبح بدنة ونحوها في الحج، وشاة في العمرة، فإن عجز صام عشرة أيام: ثلاثة في الحج، وسبعة إذا رجع، وذلك في حال الوطء وإنزال مني بمباشرة دون فرج، أو بتكرار نظر أو تقبيل أو لمس بشهوة، أواستمناء، ولو خطأ. والمرأة المطاوعة كالرجل، لا النائمة والمكرهة، ولا شيء على من فكر فأنزل أو احتلم أوأمذى بنظرة، ولا على من قتل القمل وعقد النكاح. رابعاً ـ ما يوجب الصدقة: الصدقة: نصف صاع من البر (¬1)، أو قيمة ذلك من الدراهم عند الحنفية. وتجب الصدقة عند الحنفية فيما يأتي من الحالات التي أشرت إليها سابقاً وهي: ¬
المالكية
أـ إن طيب المحرم أقل من عضو كامل. ب ـ إن حلق أقل من ربع الرأس أو اللحية أو حلق شاربه. جـ ـ إن لبس المخيط أو ستر رأسه أقل من يوم أو أقل من ليلة. د ـ إن قص أقل من خمسة أظافير متفرقة، فلكل ظفر صدقة. هـ ـ إن طاف للقدوم أو للوداع أو لكل طواف تطوع محدثاً، فإن طاف للقدوم جنباً أو طاف طواف الزيارة محدثاً فعليه شاة، وإن طاف للزيارة جنباً فعليه بدنة. وإن طاف للوداع جنباً فعليه شاة. وـ إن ترك شوطاً من أشواط طواف الوداع أو السعي، أو نقص حصاة من إحدى الجمار. ز ـ إن حلق المحرم رأس غيره، سواء أكان الغير محرماً أم حلالاً. ولا شيء عليه إن طيب عضو غيره أو ألبسه مخيطاً إجماعاً. وقال المالكية: في قلم الظفر ترفهاً أوعبثاً، لا لإماطة الأذى، حفنة من طعام. وفي إزالة الشعر والشعرات والقملة والقملات لعشر لغير إماطة الأذى: حفنة من طعام يعطيها لفقير، فإن قلم أكثر من ظفر مطلقاً أو قلم واحداً فقط لإماطة الأذى، أو أزال أكثر من عشر مطلقاً، أو قتل أو طرح أكثر من عشر قملات مطلقاً لإماطة الأذى، فتلزمه فدية. وقال الشافعية: الأظهر أن في الشعرة والظفر مد طعام، وفي الشعرتين والظفرين مدين أي نصف صاع، وفي ثلاث شعرات وثلاثة أظفار فدية كاملة (شاة).
الحنابلة
وقال الحنابلة كالشافعية: في كل شعرة أو ظفر مد من طعام، وفي قطع بعض الظفر أوبعض الشعرة مثل ما في جميعه. والمذهب وجوب الفدية الكاملة في حلق ثلاث شعرات وقلم ثلاثة أظفار. خامساً ـ ما يوجب أقل من نصف صاع: وهو التصدق بما شاء: قال الحنفية: إن قتل جرادة، أو قملة أو اثنتين أوثلاثاً أو ألقاها من بدنه أو ثوبه، أو ألقى ثوبه بالشمس لتموت، أو دل عليها غيره، يتصدق بما شاء ككف طعام؛ لأن القملة متولدة من التفث الذي على البدن. ولو قتل قملة وجدها على الأرض لم يكن عليه شيء. والجراد من صيد البر. زمان الفدية ومكانها: قال الحنفية (¬1): النسك: أي ذبح الشاة أو البدنة يختص بالحرم بالاتفاق؛ لأن الإراقة لم تعرف قربة إلا في زمان أو مكان، وهذا لم يختص بزمان، فتعين اختصاصه بالمكان. وأما الصوم: فيجزئ في أي موضع شاء؛ لأنه عبادة في كل مكان، ولا يشترط تتابع الأيام. وكذا الصدقة تصح في أي مكان شاء. وقال المالكية (¬2): الفدية: وهي كفارة ما يفعله المحرم من الممنوعات إلا الصيد والوطء، لا تختص بأنواعها الثلاثة (الصيام والصدقة والنسك) بمكان أو زمان، فيجوز تأخيرها لبلده أو غيره في أي وقت شاء. أما الهدي الواجب جزاء للصيد أو الوطء فمحله منى أو مكة، فإن وقف بالهدي بعرفة بجزء من الليل ذبحه بمنى، وإلا فبمكة. ¬
قال الشافعية
وقال الشافعية (¬1): الدم الواجب بفعل حرام كالحلق لعذر أو ترك واجب عليه غير ركن كدم الجبرانات ودم التمتع والقرآن والحلق: لايختص بزمان، ويختص ذبحه بالحرم في الأظهر، ويجب صرف لحمه إلى مساكين الحرم وفقرائه: القاطنين منهم والغرباء، فكل الدماء الواجبة وبدلها من الطعام تختص تفرقتها بالحرم على مساكينه، وكذا يختص به الذبح، إلا دم المحصر، فيذبح حيث أحصر. ودم الفوات يجزئ قبل دخول وقت الإحرام بالقضاء، كالتمتع إذا فرغ من عمرته، فإنه يجوز له أن يذبح قبل الإحرام بالحج على المعتمد. وقال الحنابلة (¬2): ما وجب لترك واجب، أو بفعل محظور من هدي أو إطعام يكون في الحرم. ويلزم ذبح هدي التمتع والقران والمنذور بالحرم، ويفرق لحمه على مساكينه. والأفضل نحر ما وجب بحج بمنى، وما وجب بعمرة بالمروة، ومن عجز عن إيصال المذبوح للحرم حتى بوكيله، ينحره حيث قدر، ويفرقه بمنحره. وتجزئ فدية أذى في الرأس، ولبس المخيط، وتغطية الرأس، والطيب، وفدية فعل المحظور غير الصيد: خارج الحرم، ولو بلا عذر. ويدخل وقت ذبح الفدية من حين فعل الجناية، وقبله بعد وجود سببه المبيح ككفارة يمين، ويكون جزاء الصيد بعد جرحه، وفدية ترك الواجب عند تركه. ويجزئ دم الإحصار حيث أحصر. ويصح الصوم في كل مكان. سادساً ـ الجناية التي توجب القيمة أو المثل (جزاء الصيد وقطع النبات): أوجب أبو حنيفة القيمة بقتل الصيد، وأوجب الجمهور المثل في المثلي أو القيمة. ¬
قال أبو حنيفة
قال أبو حنيفة (¬1): تجب القيمة بقتل الصيد أو الدلالة عليه. والصيد المقصود: هو كل حيوان بري متوحش بأصل خلقته، سواء أكان مباحاً أم مملوكاً مأكولاً أم غير مأكول كالأسد والنمر إذا لم يكن صائلاً، وكالنسر والبوم والغزال والنعام ونحوها، فلا يعد صيداً الكلب والهر والحية والعقرب والذباب والبعوض والبرغوث والقراد والسلحفاة، والفراشة والدجاج والبط ونحوها. وتجب القيمة على قاتله سواء أكان عامداً أم مخطئاً أم ناسياً لإحرامه، أم مبتدئاً بقتل الصيد أم عائداً إليه (أي تكرر منه)؛ لأنه ضمان إتلاف، فأشبه غرامات الأموال. وتقدر القيمة عند أبي حنيفة وأبي يوسف: بأن يقوم الصيد في المكان الذي قتله المحرم فيه، أو في أقرب المواضع منه إن كان في برية، يقوّمه ذوا عدل لهما خبرة في تقويم الصيد، لقوله تعالى: {فجزاءٌ مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم} [المائدة:95/ 5] وقال في الهداية: والواحد يكفي، والاثنان أولى؛ لأنه أحوط وأبعد من الغلط، كما في حقوق العباد. ثم يخير المحكوم عليه بالقيمة: إن شاء اشترى بها هدياً فذبح بمكة إن بلغت القيمة هدياً مجزئآً في الأضحية من إبل أو بقر أوغنم؛ وإن شاء اشترى بها طعاماً، فتصدق به على كل مسكين نصف صاع من بُر، أو صاعاً من تمر أوشعير؛ وإن شاء صام يوماً عن كل نصف صاع من بر أو صاع من تمر أو شعير. فإن فضل من الطعام أقل من نصف صاع فهو مخير: إن شاء تصدق به، وإن شاء صام عنه يوماً كاملاً. وتجب قيمة الحشيش والشجر النابت بنفسه الذي لا ينبته الناس في حرم مكة إذا قطعه الشخص البالغ إلا الإذخر والكمأة، سواء أكان محرماً أم حلالاً، وتوزع القيمة مثل توزيع جزاء صيد الحرم. ¬
قال المالكية
وقال المالكية (¬1): جزاء الصيد أحد ثلاثة أنواع على التخيير كالفدية، بخلاف الهدي، يحكم بالجزاء من غير المخالف ذوا عدل فقيهان اثنان، فلا يكفي واحد أو كون الصائد أحدهما، ولا يكفي كافر، ولا فاسق، ولامرتكب ما يخل بالمروءة، ولا جاهل غير عالم بالحكم في الصيد؛ لأن كل من ولّي أمراً، فلا بد من أن يكون عالماً بما وُلّي به. وأنواع الجزاء الثلاثة هي: النوع الأول: مثل الصيد الذي قتله من النَّعَم (الإبل والبقر والغنم) قدراً وصورة أو قدراً، بشرط كونه مجزئاً كما تجزئ الأضحية سناً وسلامة من العيوب. فلا يجزئ صغير ولا معيب. النوع الثاني ـ قيمة الصيد طعاماً: بأن يقوَّم بطعام من غالب طعام أهل ذلك المكان الذي يخرج فيه. وتعتبر القيمة يوم التلف بمحل التلف، ويعطى لكل مسكين بمحل التلف مدّ بمد النبي صلّى الله عليه وسلم، فإن لم يوجد فيه مساكين فيعطى لمساكين أقرب مكان له. النوع الثالث - عدل ذلك الطعام صياماً: لكل مد صوم يوم، في أي مكان شاء من مكة أو غيرها، وفي أي زمان شاء، ولايتقيد بكونه في الحج أو بعد رجوعه. وطريق تقدير الحكمين لجزاء الصيد: في النعامة أو الفيل بَدَنة، وفي حمار الوحش أو بقرة الوحش بقرة، وفي الضَّبْع والثعلب والظبي وحمام حرم مكة ¬
قال الشافعية
ويمامه شاة. وفيما دون ذلك كفارة طعام أو صيام بتقويم الحكمين. ولا جزاء عندهم فيما حرم قطعه من الشجر في حرمي مكة والمدينة. وكذلك قال الشافعية (¬1) مثل المالكية: إن أتلف المحرم صيداً له مثل من النعم ففيه مثله، وإن لم يكن له مثل ففيه قيمة، ويتخير في جزاء إتلاف الصيد المثلي بين ثلاثة أمور: ذبح مثله والتصدق به على مساكين الحرم، أو أن يقوم المثل بالدراهم ويشتري به طعاماً لمساكين الحرم، أو يصوم عن كل مد يوماً. وغير المثلي: يتصدق بقيمته طعاماً أو يصوم عن كل مد يوماً. ففي النعامة بدنة، وفي بقر الوحش وحماره بقرة، وفي الغزال عنز، وفي الأرنب عَنَآق، وفي اليَرْبوع جَفْرة (أنثى المعز إذا بلغت أربعة أشهر وفصلت عن أمها)، وفي الضبع كبش، وفي الثعلب شاة، وفي الضب: جدي. وما لا نقل فيه يحكم بمثله من النعم عدلان، لقوله تعالى: {يحكم به ذوا عدل منكم} [المائدة:95/ 5] ويجب فيما لا مثل له مما لا نقل فيه من السُّنة أو عن الصحابة كالجراد وبقية الطيور ما عدا الحمام: القيمة، عملاً بالأصل في القيميات. وتقدر القيمة بموضع الإتلاف أو التلف لا بمكة على المذهب. ويلزم في الكبير كبير، وفي الصغير صغير، وفي الذكر ذكر، وفي الأنثى أنثى، وفي الصحيح صحيح، وفي المعيب معيب إن اتحد جنس العيب، وفي السمين سمين، وفي الهزيل هزيل، ولو فدى المريض بالصحيح أو المعيب أو الهزيل بالسمين فهو أفضل، وما لا مثل له مما فيه نقل وهو الحمام في الواحدة منها شاة. والأظهر ضمان قطع نبات الحرم المكي الرطب الذي لا يستنبت، وقطع أشجاره، ففي قطع الشجرة الحرمية الكبيرة، بقرة لها سنة، وفي الصغيرة شاة، وفي الشجرة الصغير جداً: قيمتها. والمذهب وهو الأظهر أن النبات المستنبت وهو ¬
قال الحنابلة
ما استنبته الآدميون من الشجر كغيره في الحرمة والضمان، لكن يحل الإذخر والشوك وغيره كالعوسج من كل مؤذ، كالصيد المؤذي، فلا ضمان في قطعه، والأصح حل أخذ نبات الحرم من حشيش ونحوه لعلف البهائم وللدواء، وللتغذي، للحاجة إليه، ولأن ذلك في معنى الزرع، ولا يضمن في الجديد صيد المدينة مع حرمته. وقال الحنابلة (¬1) أيضاً مثل الشافعية: يخير في جزاء الصيد بين مثل له، أو تقويمه بمحل تلف أو قربه بدراهم يشتري بها طعاماً، فيطعم كل مسكين مد بُر، أو نصف صاع من غيره، أو يصوم عن طعام كل مسكين يوماً، وإن بقي دون طعام صام. ويخير فيما لا مثل له من القيميات بين إطعام وصيام، ولا يجب تتابع فيه. ويضمن نبات الحرم المكي وشجره حتى المزروع إلا الإذخر والكمأة والثمرة، فيجب في الشجرة الصغيرة شاة، وفيما فوقها بقرة، ويخير بين ذلك وبين تقويم الجزاء، وتوزع قيمته كجزاء الصيد، وتجب قيمة الحشيش. ولاجزاء في قطع ما حرم من صيد المدينة وشجرها. ضوابط جزاء الصيد: أفاض ابن قدامة في بيان أحكام جزاء الصيد (¬2)، أوجزها فيما يلي: أولاً ـ وجوب الجزاء على المحرم بقتل الصيد: أجمع أهل العلم على وجوبه، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حُرُم، ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم} [المائدة:95/ 5]. ¬
ثانيا ـ الجزاء واجب في الخطأ والعمد
وقتل الصيد نوعان: مباح ومحرم. فالمحرم: قتله ابتداء من غير سبب يبيح قتله، ففيه الجزاء. والمباح ثلاثة أنواع: أحدها: أن يضطر إلى أكله، فيباح له ذلك بغير خلاف نعلمه، لقوله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة:195/ 2] ومتى قتله ضمنه، سواء وجد غيره أم لم يجد. الثاني: إذا صال عليه صيد، فلم يقدر على دفعه إلا بقتله، فله قتله، ولا ضمان عليه، وهذا موافق لرأي الشافعي وأبي حنيفة، لأنه قتله لدفع شره، فلم يضمنه كالآدمي الصائل. الثالث: إذا خلص صيداً من سبع أو شبكة صياد، أو أخذه ليخلص من رجله خيطاً ونحوه، فتلف بذلك، فلا ضمان عليه؛ لأنه فعل أبيح لحاجة الحيوان، فلم يضمن ما تلف به. ثانياً ـ الجزاء واجب في الخطأ والعمد: وهذا متفق عليه بين أئمة المذاهب، لقول جابر: «جعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الضبع يصيده المحرم كبشاً» وقال عليه الصلاة والسلام: «في بيض النعام يصيبه المحرم: ثمنه، ولم يفرق» (¬1) ولأنه ضمان إتلاف استوى عمده وخطؤه كمال الآدمي. ثالثاً ـ الجزاء لا يجب إلا على المحرم: ولا فرق بين إحرام الحج وإحرام العمرة، سواء أكان مفرداً أم قارناً، لعموم النص فيهما، ولا خلاف في ذلك. رابعاً ـ الجزاء لا يجب إلا بقتل الصيد: لأنه الذي ورد به النص بقوله تعالى: {لا تقتلوا الصيد} [المائدة:95/ 5] والصيد: ما جمع ثلاثة أوصاف: وهو أن ¬
خامسا ـ وجوب الجزاء في صيد البر دون صيد البحر بغير خلاف
يكون مباحاً أكله، لا مالك له، ممتنعاً وحشياً، فلا جزاء فيما ليس بمأكول كسباع البهائم والمستخبث من الحشرات والطير وسائر المحرمات. وهذا قول أكثر أهل العلم، إلا أنهم أوجبوا الجزاء في المتولد بين المأكول وغيره، كالمتولد من الضبع والذئب، تغليباً لتحريم قتله. ولا جزاء اتفاقاً بذبح وأكل ما ليس بوحشي، كبهيمة الأنعام كلها والخيل والدجاج ونحوها. والاعتبار في ذلك بالأصل لا بالحال. خامساً ـ وجوب الجزاء في صيد البر دون صيد البحر بغير خلاف: لقوله تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة، وحرِّم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً} [المائدة:96/ 5]. ولا فرق بين حيوان البحر الملح، وبين ما في الأنهار والعيون، فإن اسم البحر يتناول الكل، لقوله تعالى: {وما يستوي البحران، هذا عذب فرات سائغ شرابه، وهذا ملح أجاج، ومن كلٍ تأكلون لحماً طرياً} [فاطر:12/ 35] وحيوان البحر: ماكان يعيش في الماء ويفرخ ويبيض فيه، كالسمك ونحوه، وإن كان مما يعيش في البر والبحر كالسلحفاة والسرطان فهو كالسمك لا جزاء فيه. أما طير الماء ففيه الجزاء باتفاق أهل العلم. وكذا الجراد فيه الجزاء في قول الأكثرين. سادساً ـ كيفية وجوب الجزاء بقتل الصيد: قال أبو حنيفة: الواجب القيمة؛ لأن الصيد ليس بمثلي. وقال الجمهور: الواجب المثل من النعم؛ لقوله تعالى: {فجزاء مثل ما قتل من النعم} [المائدة:95/ 5] وجعل النبي صلّى الله عليه وسلم في الضبع كبشاً، وأجمع الصحابة على إيجاب المثل، فقالوا: «في النعامة بدنة» وحكم ابن عباس وأبو عبيدة «في حمار الوحش ببدنة» وحكم عمر «فيه ببقرة»، فليس المراد حقيقة المماثلة، فإنها لاتتحقق بين النعم والصيد، لكن أريدت المماثلة من حيث الصورة، وهو الأرجح لدي.
سابعا ـ نوع الجزاء
والمتلف من الصيد قسمان: 1 - قسم قضت فيه الصحابة: فيجب فيه ما قضت، وبه قال الحنابلة والشافعية. وقال مالك: يستأنف الحكم فيه، لقوله تعالى: {يحكم به ذوا عدل} [المائدة:95/ 5] لكن مذهب المالكية موافق للرأي الأول كما تقدم. ويدل للحنابلة وموافقيهم ما روي عن جابر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم جعل في الضبع يصيدها المحرم كبشاً» (¬1) وروى جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلم: قال: «في الضبع كبش إذا أصاب المحرم، وفي الظبي شاة، وفي الأرنب عناق، وفي اليربوع جفرة» (¬2). 2 - وقسم لم تقض فيه الصحابة: فيرجع إلى قول عدلين من أهل الخبرة، لقوله تعالى: {يحكم به ذوا عدل منكم} [المائدة:95/ 5] فيحكمان فيه بأشبه الأشياء به من النعم من حيث الخلقة، لا من حيث القيمة، بدليل أن قضاء الصحابة لم يكن بالمثل في القيمة. ولم يشترط الحنابلة في الحاكم كونه فقيهاً خلافاً للمالكية، وإنما شرطوا فيه العدالة، للنص عليها. ويجوز عند الحنابلة والشافعية كون قاتل الصيد أحد العدلين، لعموم قوله تعالى: {يحكم به ذوا عدل منكم} [المائدة:95/ 5] والقاتل مع غيره ذوا عدل منا. سابعاً ـ نوع الجزاء: قال الحنابلة والشافعية: في كبير الصيد مثله من النعم، وفي الصغير: صغير، وفي الذكر: ذكر، وفي الأنثى أنثى، وفي الصحيح صحيح، وفي المعيب: معيب، لقوله تعالى: {فجزاء مثل ما قتل من النعم} [المائدة:95/ 5] مثل الصغير صغير. ¬
ضمان جزء الصيد
والجفرة: التي قد فطمت ورعت. وقال المالكية: يجب ما يجزئ في الأضحية، ففي الصغير كبير، وفي المعيب صحيح، لقوله تعالى: {هدياً بالغ الكعبة} [المائدة:95/ 5] ولا يجزئ في الهدي صغير ولا معيب. ضمان جزء الصيد: أضاف الحنابلة: إن أتلف جزءاً من الصيد وجب ضمانه؛ لأن جملته مضمونة، فكان بعضه مضموناً كالآدمي والأموال، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا ينفَّر صيدها» فالجرح أولى بالنهي، والنهي يقتضي التحريم، وما كان محرماً من الصيد وجب ضمانه كنفسه. ويضمن بمثله من مثله. هذا إن اندمل الصيد ممتنعاً، فإن اندمل غير ممتنع ضمنه جميعه؛ لأنه عطَّله، فصار كالتالف، ولأنه مفض إلى تلفه، فصار كالجارح له جرحاً يتيقن به موته. قال ابن قدامة: وهذا مذهب أبي حنيفة. ضمان مضاعفات الجرح: إن جرح المحرم صيداً، فوقع في شيء تلف به: ضمنه؛ لأنه تلف بسببه، وكذلك إن نفره فتلف في حال نفوره، ضمنه. فإن سكن في مكان وأمن من نفوره ثم تلف، لم يضمنه. ويجوز عند الحنابلة إخراج جزاء الصيد بعد جرحه وقبل موته. قاعدة الضمان: وكل ما يضمن به الآدمي يضمن به الصيد من مباشرة وتسبب. وما جنت عليه دابته بيدها أو فمها من الصيد. فالضمان على راكبها، أو قائدها أو سائقها، وما جنت برجلها، فلا ضمان عليه؛ لأنه لا يمكن حفظ رجلها. كيفية ضمان الطير: قال الجمهور: في النعامة بدنة، وفي الحمام شاة؛ لأن النعامة تشبه البعير في خلقته، فكانت البدنة مثلاً لها، وتوجب الآية المثل: {فجزاء مثل ما قتل من النعم} [المائدة:95/ 5] ولأن الآثار عن الصحابة ذكرت في الحمام شاة، وكذلك ما كان أكبر من الحمام كالحباري والكركي والكروان والحجل والأوز الكبير من طير الماء، فيه شاة.
ثامنا ـ التخيير في جزاء الصيد
وقال أبو حنيفة: الواجب هو القيمة. ولا خلاف في أن ضمان غير الحمام ونحوه من الطير هو القيمة في المكان الذي أتلفه فيه. وكذلك يضمن بيض الطير بقيمة الطير، لقول ابن عباس: «في بيض النعام قيمته». وقال المالكية (¬1): يجب في الجنين وفي البيض عُشر دية الأم. ثامناً ـ التخيير في جزاء الصيد: اتفقت المذاهب على أن قاتل الصيد مخير في الجزاء بين أحد أمور ثلاثة، بأيها شاء كفَّر، سواء أكان موسراً أم معسراً، والأمور الثلاثة: هي ذبح النظير، وتقويم النظير بدراهم ثم بطعام، لكل مسكين مد، وصيام يوم عن كل مد، لقوله تعالى: {هدياً بالغ الكعبة، أو كفارة طعام مساكين، أو عدل ذلك صياماً} [المائدة:95/ 5] و «أو» في الأمر للتخيير، بين المثل أو الإطعام أوالصيام. وإذا اختار المثل ذبحه، وتصدق به على مساكين الحرم، لقوله تعالى: {هدياً بالغ الكعبة} [المائدة:95/ 5] والهدي يجب ذبحه، ولا يجزئه أن يتصدق به حياً على المساكين، لتسميته هدياً، وله ذبحه في أي وقت شاء، ولا يختص ذلك بأيام النحر. كيفية تقدير الطعام ونوعه: قال الشافعية والحنابلة: متى اختار الإطعام: فإنه يقوم المثل بالدراهم، والدراهم بطعام ويتصدق به على المساكين؛ لأن المثل الواجب إذا قوم، لزمت قيمة مثله. ولا يجزئ إخراج القيمة؛ لأن الله تعالى خير بين ثلاثة أشياء ليست القيمة منها. ونوع الطعام المخرج: هو الذي يخرج في الفطرة وفدية الأذى: وهو الحنطة والشعير والتمر والزبيب. وقال مالك: يقوم الصيد لا المثل؛ لأن التقويم إذا وجب لأجل الإتلاف، قوم المتلف كالذي لا مثل له. ¬
تقدير الصيام
تقدير الصيام: في الصيام: يصوم عند الجمهور: عن كل مد يوماً؛ لأنها كفارة دخلها الصيام والإطعام، فكان في مقابلة المد ككفارة الظهار: المد فيها في مقابلة إطعام المسكين. وإذا بقي ما لا يعدل يوماً، صام يوماً كذلك. وقال أبو حنيفة: يصوم عن كل نصف صاع من بُرّ يوماً، إذ لا يجوز عنده أن يطعم المسكين أقل من نصف صاع؛ لأن الطعام المذكور ينصرف إلى ما هو المعهود في الشرع. تاسعاً ـ ما لا مثل له من الصيد كالجراد: يخير قاتله بين أن يشتري بقيمته طعاماً، فيطعمه للمساكين، وبين أن يصوم. ولا يجوز إخراج القيمة عند الحنابلة في الظاهر، والشافعية، وإنما يتخير بين إخراج طعام بقيمته والصيام بعدد الأمداد. عاشراً ـ تكرار قتل الصيد والاشتراك في القتل: كلما قتل صيداً حكم عليه، فيجب الجزاء بقتل الصيد الثاني، كما يجب عليه إذا قتله ابتداء؛ لأنه كفارة عن قتل، فاستوى فيه المبتدئ والعائد كقتل الآدمي، ولأن هذه الكفارة بدل متلف يجب به المثل أو القيمة، فأشبه بدل مال الآدمي. ولو اشترك جماعة في قتل صيد، فعليهم جزاء واحد في رأي الحنابلة على الصحيح والشافعية، لقوله تعالى: {فجزاء مثل ما قتل من النعم} [المائدة:95/ 5] والجماعة قد قتلوا صيداً، فيلزمهم مثله، والزائد خارج عن المثل، فلا يجب. وقال الحنفية (¬1) والمالكية: إذا اشترك المحرمان في قتل صيد، فعلى كل واحد منهما الجزاء كاملاً؛ لأن كل واحد منهما جنى على إحرام كامل. وإذا اشترك الحلالان في قتل صيد الحرم، فعليهما جزاء واحد؛ لأن الضمان هنا لحرمة الحرم، ¬
حادي عشر ـ تملك الصيد بالبيع ونحوه وزوال ملكيته عنه، وتملكه بالإرث
فجرى مجرى ضمان الأموال، كرجلين قتلا رجلاً خطأ، يجب عليهما دية واحدة، وعلى كل واحد منهما كفارة. وأضاف الحنابلة: إن كان شريك المحرم في قتل صيد مطلقاً حلالاً أو سبعاً، فلا شيء على الحلال، ويحكم على الحرام. وإن اشترك حرام وحلال في صيد حرمي، فالجزاء بينهما نصفان؛ لأن الإتلاف ينسب إلى كل واحد منهما نصفه. حادي عشر ـ تملك الصيد بالبيع ونحوه وزوال ملكيته عنه، وتملكه بالإرث: قال أكثر الفقهاء: إذا أحرم الرجل وفي ملكه صيد، لم يزل ملكه عنه، ولا يده الحكمية، مثل أن يكون في بلده أو في يد نائب له في غير مكانه. ولا شيء عليه إن مات، وله التصرف فيه بالبيع والهبة وغيرهما، ومن غصبه لزمه رده، ويلزمه إزالة يده المشاهدة عنه، فإذا كان في قبضته أو رحله أو خيمته أو قفص معه أو مربوطاً بحبل معه، لزمه إرساله. والدليل على بقاء يد المالك عليه: أنه لم يفعل في الصيد فعلاً، فلم يلزمه شيء، كما لو كان في ملك غيره. ولا يملك المحرم الصيد ابتداء بالبيع ولا بالهبة ونحوهما من الأسباب، بدليل حديث الصعب بن جثَّامة المتقدم أنه صلّى الله عليه وسلم رد الحمار الوحشي على صاحبه، لأنه محرم. فإن أخذه بأحد هذه الأسباب، ثم تلف فعليه جزاؤه، وإن كان مبيعاً فعليه القيمة أو رده إلى مالكه، فإن أرسله فعليه ضمانه كما لو أتلفه، وليس عليه جزاء، وعليه رد المبيع أيضاً. وإن ورث المحرم صيداً ملكه؛ لأن الملك بالإرث ليس بفعل من جهته وإنما يدخل في ملكه حكماً، سواء اختار ذلك أو كرهه.
جدول محظورات الإحرام
......... جدول محظورات الإحرام ............................... ..... المحرّمات ................. ما يترتب على فعل شيءٍ منها عمداً أو سهواً أو جهلاً أو لعذر 1 - لبس الرجل المخيط من .................... الفدية بذبح شاة ............................. الثياب أو الحذاء وستر بلا عذر ............................................................. 2 - تغطية رأس الرجل ووجه المرأة .............. الفدية بذبح شاة ............................. 3 - إزالة الشعر من الجسم بأي ... الفدية بذبح شاة بحلق ربع الرأس عند الحنفية، وإلا فعليه نوع في أي موضع .................... صدقة ................................ الفدية بذبح شاة بإزالة ما يزيد عن عشر شعرات عند المالكية ................................ وإلا فعليه حفنة من طعام. ................................ الفدية بذبح شاة بإزالة ثلاث شعرات فأكثر عند الشافعية ................................ والحنابلة، وإلا فعليه إطعام مسكين عند الحنابلة، ومد لشعرة ................................ ومدان لشعرتين عند الشافعية 4 - تقليم الأظافر ................ الفدية بالذبح بتقليم أظافر يد أو رجل عند الحنفية، وأما عند ................................ الأئمة الآخرين فعلى تفصيل إزالة الشعر. 5 - استعمال الطيب مطلقاً ...... الفدية بالذبح .............................................. 6 - صيد الحيوان أو التعرّض له ... جزاء عند الجمهور بالمثل أو التصدق بقيمته طعاماً، أو الصيام ................................ عن كل مد يوماً ............................................ ............................... جزاء بالقيمة عند أبي حنيفة، ويخير فيها بين شراء هدي وذبحه .............................. أو التصدق بطعام لكل
مسكين نصف صاع من حنطة، أو صوم .............................. يوم عن كل نصف صاع ..................................... 7 - قطع نبات حرم مكة أو شجرة ..... لا جزاء عند المالكي، وعليه القيمة عند أبي حنيفة، وعليه ...................................... شاة أو بقرة عند الشافعية والحنابلة بحسب كون الشجرة ...................................... صغيرة أو كبيرة، وقيمة النبات. 8 - الجماع ومقدماته التي فيها ....... فساد الحج بالجماع اتفاقاً، وكذا بالإنزال عند المالكية استمتاع بالنساء ..................... مع القضاء اتفاقاً، وذبح بدنة عند الشافعية والحنابلة، .................................... وهدي عند المالكية، وبدنة بعد الوقوف عند الحنفية .................................... وقبله شاة. ولافدية عند أحمد على المرأة النائمة والمكرهة، ................................... ولا شيء عند الشافعية على من باشر مقدمات الجماع ناسياً ................................... ولا على المجامع الناسي والجاهل بالتحريم والمرأة المكرهة، ................................... ولا يفسد الحج أيضاً بذلك عندهم.
المبحث الثاني عشر ـ الفوات
المبحث الثاني عشر ـ الفوات والإحصار: الفوات: ما يفوت به الحج، وحكم الفوات (¬1): ما يفوت به الحج: من أحرم بالحج مطلقاً فرضاً أو نفلاً، صحيحاً أوفاسداً، ثم فاته الوقوف بعرفة حتى طلع الفجر من يوم النحر، فقد فاته الحج؛ لأن وقت الوقوف يمتد إليه، ولأن الحج عرفة. قال ابن جزي المالكي: وكذلك يفوت الحج بفوات أعماله كلها، وإذا أقام بعرفة حتى طلع الفجر من يوم النحر، سواء أكان وقف بها أم لم يقف. والعمرة لا تفوت؛ لأنها غير مؤقتة بوقت. حكم الفوات: قال الحنفية: من فاته الحج وجب عليه أن يتحلل بأفعال العمرة: بأن يطوف ويسعى من غير إحرام جديد لها، ويحلق أو يقصر، ثم يقضي الحج من عام قابل، ولا دم عليه؛ لأن التحلل وقع بأفعال العمرة، فكانت في حق فائت الحج بمنزله الدم في حق المحصَر، فلا يجمع بينهما، فلو كان الفوات سبباً للزوم الهدي للزم المحرم هديان: للفوات والإحصار. وقال الجمهور: من فاته الحج تحلل بعمرة من طواف وسعي وحلق أوتقصير، وقضى على الفور من عام قابل، ولزمه الهدي في وقت القضاء، وسقط عنه ما بقي من المناسك كالنزول بمزدلفة والوقوف بالمشعر الحرام والرمي والمبيت بمنى. أما دليل الفوات: فهو أن آخر الوقوف آخر ليلة النحر، فمن لم يدرك الوقت حتى طلع الفجر يومئذ، فاته الحج، بلا خلاف بين العلماء؛ لقول جابر: «لا ¬
يفوت الحج حتى يطلع الفجر من ليلة جَمْع، قال أبو الزبير، فقلت له: أقال رسول الله ذلك؟ قال: نعم» (¬1)، وقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «الحج عرفة، فمن جاءقبل صلاة الفجر ليلة جَمْع، فقد تم حجه»: يدل على فواته بخروج ليلة جمع أي ليلة المزدلفة. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «من وقف بعرفات بليل فقد أدرك الحج، ومن فاته عرفات بليل، فليحل بعمرة، وعليه الحج من قابل» (¬2). ودليل التحلل بعمرة: هو ما روي عن الصحابة كعمر وابن عمر (¬3) وغيرهما، ولأنه يجوز فسخ الحج إلى العمرة من غير فوات، فمع الفوات أولى. ودليل لزوم القضاء من قابل، سواء أكان الفائت واجباً أم تطوعاً: هو ما روي عن الصحابة: عمر وابنه وابن عباس وابن الزبير ومروان، وقال صلّى الله عليه وسلم: «من فاته عرفات فاته الحج، فليحل بعمرة، وعليه الحج من قابل» (¬4)، ولأن الحج يلزم بالشروع فيه، فيصير كالمنذور، بخلاف سائر التطوعات. وأما لزوم الهدي عند الجمهور خلافاً للحنفية: فلقول الصحابة المذكورين، ولما روى عطاء: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من فاته الحج فعليه دم، وليجعلها عمرة، وليحج من قابل» (¬5)، ولأنه حل من إحرامه قبل إتمامه فلزمه هدي، كالمحرم لم يفت حجه، فإنه يحل قبل فواته. ¬
بقاء الفائت محرما لعام آخر
بقاء الفائت محرماً لعام آخر: إن اختار من فاته الحج البقاء إحرامه ليحج من قابل، فله ذلك؛ لأن تطاول المدة بين الإحرام وفعل النسك لا يمنع إتمامه، كالعمرة، والمحرم بالحج في غير أشهره. صفة القضاء: قال الجمهور: إذا فات القارن الحج حل، وعليه مثل ما أهل به من قابل؛ لأن القضاء يجب على حسب الأداء في صورته ومعناه، ويلزمه هديان: هدي للقران، وهدي فواته. وقال الحنفية: يطوف ويسعى لعمرته، ثم لا يحل حتى يطوف ويسعى لحجه. الخطأ في وقت الوقوف: إذا أخطأ الناس، فوقفوا في اليوم الثامن أو في اليوم العاشر أي في غير ليلة عرفة، أجزأهم ذلك، ولم يجب عليهم القضاء، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «يوم عرفة الذي يعرّف فيه الناس» (¬1)، ولأن الخطأ نجم عن شهادة الشاهدين برؤية الهلال قبل الشهر بيوم، فوقفوا يوم الثامن، أو غم عليهم الهلال، فوقفوا يوم العاشر، ومثل هذا لا يؤمن في القضاء، فسقط. فإن اختلفوا فأصاب بعض، وأخطأ بعض، وقت الوقوف، لم يجزئهم؛ لأنهم غير معذورين في هذا. ¬
الإحصار
الإحصار: معناه، أحكامه ومنها مكان ذبح دم الإحصار ووقته، ما يقضيه المحصر، زوال الإحصار (¬1). أولاً ـ معنى الإحصار: الإحصار لغة: المنع، وشرعاً عند الحنفية: منع المحرم عن أداء الركنين (الوقوف والطواف). وعند الجمهور: منع المحرم من جميع الطرق عن إتمام الحج أو العمرة. والمنع عند الحنفية: إما بعدو أو مرض أو ضياع نفقة أو حبس أو كسر أو عرج وغيرها من الموانع التي تمنع المحرم من إتمام ما أحرم به حقيقة أو شرعاً. ومن أحصر بمكة وهو ممنوع من الركنين: الوقوف والطواف، كان محصراً؛ لأنه تعذر عليه الإتمام، فصار كما إذا أحصر في الحل، وإن قدر على أحد الركنين، فليس بمحصر؛ لأنه إن قدر على الطواف تحلل به، وإن قدر على الوقوف فقد تم حجه، فليس بمحصر. والمنع الذي يعدّ به المحرم محصراً عند الجمهور: هو ما يكون بعدو، فالإحصار بعدو بعد الإحرام مبيح للتحلل إجماعاً. ولا يجوز التحلل بعذر المرض أوالحبس في دَين يتمكن من أدائه، أو ذهاب نفقة، فمن مرض يصبر حتى يبرأ، فإذا برئ أتم ما أحرم به من حج أو عمرة. وعلى المدين أن يؤدي الدين ويمضي في ¬
المحصر بمكة
حجه، فإن فاته الحج في الحبس لزمه المسير إلى مكة، ويتحلل بعمل عمرة، ويلزمه القضاء. ومن ذهبت نفقته بعث بهدي إن كان معه ليذبحه بمكة، وكان على إحرامه حتى يقدر على الوصول إلى البيت. وعليه، فكل من تعذر عليه الوصول إلى البيت بغير حصر العدو من مرض أو عرج أو ذهاب نفقة وضياع طرق ونحوه، لا يجوز له التحلل بذلك، بل يصبر حتى يزول عذره. المحصر بمكة: من حصر بمكة عن البيت بعدو أو مرض أو حبس ولو بحق، ووقف بعرفة، فقد أدرك الحج، ولا يحل إلا بطواف الإفاضة، ولو بعد سنين. شرط التحلل: لكن إن شرط المحرم التحلل بمرض، تحلل به، لما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: «دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم على ضُبَاعة بنت الزبير، فقال لها: أردت الحج، فقالت: والله، ما أجدني إلا وجعة، فقال: حجي واشترطي، وقولي: اللهم مَحِلِّي حيث حبستني» ويقاس عليه غيره. ولا يسقط عنه الدم عند الحنفية والشافعية إذا شرط عند الإحرام أنه يتحلل إذا أحصر. وقال الحنابلة: لاشيء عليه، لاهدي ولا قضاء ولاغيره، فإن للشرط تأثيراً في العبادات. الأدلة: استدل الحنفية: على عموم أسباب الإحصار بعموم قوله تعالى: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} [البقرة:196/ 2] والمنع كما يكون من العدو، يكون من المرض وغيره، والعبرة بعموم اللفظ لابخصوص السبب، إذ الحكم يتبع اللفظ لا السبب. وعن الكسائي وأبي معاذ أن الإحصار من المرض، والحصر من العدو، فعلى هذا كانت الآية خاصة في الممنوع بسبب المرض.
شروط التحلل عند المالكية
واستدل الجمهور: بأن آية الإحصار المذكورة: {فإن أحصرتم .. } [البقرة:196/ 2] نزلت في أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين أحصروا من العدو، وفي آخر الآية الشريفة دليل عليه، وهو قوله عز وجل: {فإذا أمنتم} [البقرة:196/ 2] والأمان: من العدو يكون (¬1). وروي عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما أنهما قالا: «لا حصر إلا من عدو». شروط التحلل عند المالكية: يرى المالكية أن للمحصر خمس حالات يصح له الإحلال في أربع منها: وهي أن يكون العذر طارئاً بعد الإحرام، أو متقدماً ولم يعلم به، أو علم وكان يرى أنه لا يصده، وأن يشرط الإحلال فيما إذا شك هل يصدونه أو لا؟ ويمتنع الإحلال في حالة واحدة، هي إن صد عن طريق، وهو قادر على الوصول من غيره. رفض الإحرام: إن قال المحرم: أنا أرفض الإحرام وأحل، فلبس الثياب، وذبح الصيد، وعمل ما يعمله الحلال، يظل محرماً، ويكون الإحرام باقياً في حقه، تلزمه أحكامه، ويلزمه جزاء كل جناية جناها عليه، فعليه في كل فعل فعله دم، وإن وطئ فعليه أيضاً للوطء بدنة، مع ما يجب عليه من الدماء، ويفسد حجه. وليس عليه لرفضه الإحرام شيء؛ لأنه مجرد نية لم تؤثر شيئاً. ¬
تحليل الزوجة من حج تطوع
تحليل الزوجة من حج تطوع: ذكر الشافعية والحنفية أن للزوج تحليل زوجته، كما له منعها ابتداء من حج أو عمرة تطوع أو فرض في الأظهر لم يأذن فيه، لئلا يتعطل حقه من الاستمتاع، كما له أن يخرجها من صوم النفل، وإن أذن لها، لم يجز لرضاه بالضرر. وتحليلها في الحال من غير ذبح هدي عند الحنفية، ومع الهدي عند الشافعية. والمراد بتحليله إياها: أن يأمرها بالتحلل، وتحللها كتحلل المحصر. فإن لم يأمرها، لم يجز لها التحلل. وليس للزوج تحليل الرجعية أو البائن، بل يحبسها للعدة، فإن انقضت عدتها أتمت عمرتها أو حجها إن بقي الوقت، وإلا تحللت بعمرة، ولزمها القضاء ودم الفوات. ثانياً ـ أحكام الإحصار: يتعلق بالمحصر أحكام، لكن الأصل فيه حكمان: أحدهما ـ جواز التحلل عن الإحرام، والثاني ـ وجوب قضاء ما أحرم به بعد التحلل. أما جواز التحلل من الإحرام وهو الحكم الأول: فيقتضي بيان معنى التحلل ودليل جوازه، وما يتحلل به، ومكان وزمان ذبح الهدي. أما معنى التحلل: فهو فسخ الإحرام والخروج منه بالطريق الموضوع له شرعاً. وأما دليل جوازه فقوله تعالى: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} [البقرة:196/ 2] وفيه إضمار، ومعناه: فإن أحصرتم عن إتمام الحج والعمرة، وأردتم أن تحلوا، فاذبحوا ما تيسر من الهدي، إذ الإحصار نفسه لا يوجب الهدي. وأما ما يتحلل به: فإن أمكنه الوصول إلى البيت، تحلل بعمل عمرة، وإن تعذر عليه ذلك ذبح الهدي، فيبعث عند الحنفية بالهدي أو بثمنه ليشتري به هدياً، فيذبح عنه، وما لم يذبح لا يحل، سواء عند الحنفية شرط الشخص عند الإحرام الإحلال بغير ذبح عند الإحصار أو لم يشترط.
والهدي: بدنة أو بقرة أو شاة. ورأي الجمهور: أن من أحصر تحلل بهدي، سواء أكان حاجاً أم معتمراً أم قارناً، للآية السابقة: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} [البقرة:196/ 2] والآية نزلت بالحديبية حين صدّ المشركون النبي صلّى الله عليه وسلم عن البيت، وكان معتمراً، فنحر ثم حلق، وقال لأصحابه: «قوموا فانحروا، ثم احلقوا» (¬1). وإن كان قارناً فعليه عند الشافعية والحنابلة دم واحد، وعند الحنفية دمان، بناء على أصل أن القارن عند الحنفية محرم بإحرامين، فلا يحل إلا بهذين، وعند الآخرين محرم بإحرام واحد، ويدخل إحرام العمرة في الحجة، فيكفيه دم واحد. فإن لم يكن مع المحصر هدي، وعجز عنه، انتقل عند الحنابلة إلى صوم عشرة أيام: ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، لأنه دم واجب للإحرام، فكان له بدل كدم التمتع والطيب واللباس، ويبقى على إحرامه حتى يصوم أو ينحر الهدي؛ لأنهما أقيما مقام أفعال الحج، فلم يحل قبلهما. وانتقل عند الشافعية في الأصح إلى الإطعام، فتقوَّم الشاة دراهم، ويخرج بقيمتها طعاماً، فإن عجز صام عن كل مد يوماً، وإذا انتقل إلى الصوم، له التحلل في الحال في الأظهر. وقال الحنفية والمالكية: ليس للهدي الواجب بالإحصار بدل؛ لأنه لم يذكر في القرآن. والتحلل عند الشافعية والحنابلة يكون بثلاثة أشياء: ذبح، ونية التحلل بالذبح، وحلق أو تقصير، لحديث «إنما الأعمال بالنيات» ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم حلق يوم الحديبية، وفعله في النسك دال على الوجوب. ¬
مكان ذبح الهدي عند الحنفية
والحلق شرط أيضاً عند المالكية، وليس بشرط للتحلل، وإنما يحل المحصر بالذبح بدون الحلق في قول أبي حنيفة ومحمد، لإطلاق نص الآية السابقة: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} [البقرة:196/ 2] فمن أوجب الحلق فقد جعله بعض الموجب، وهذا خلاف النص، ولأن الحلق للتحلل عن أفعال الحج، والمحصر لا يأتي بأفعال الحج، فلا حلق عليه، والحديث في الحلق بالحديبية محمول على الندب والاستحسان. وقال المالكية: المحصر بعدو أو فتنة في حج أو عمرة يتربص ما رجا كشف ذلك، فإذا يئس تحلل بموضعه حيث كان من الحرم وغيره، ولا هدي أو دم عليه. فإن كان معه هدي نحره وتحلل بالنية والحلق بشرطين: أولهما ـ إن لم يعلم بالمانع عند إرادة إحرامه. وثانيهما ـ أن ييأس من زوال المانع قبل الوقوف بعرفة، والمعتمد عند أشياخ المالكية أنه لا يتحلل إلا بحيث لو سار إلى عرفة من مكانه، لم يدرك الوقوف، فإن علم أو ظن أو شك أنه يزول المانع قبل الوقوف، فلا يتحلل حتى يفوت، فإن فات الوقوف فعل عمرة. وأما مكان ذبح الهدي عند الحنفية: فهو الحرم، لقوله تعالى: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله} [البقرة:2/ 196] ولو كان كل موضع محلاً له، لم يكن لذكر المحل فائدة، ولأنه عز وجل قال: {ثم مَحِلّها إلى البيت العتيق} [الحج:33/ 22] أي إلى البقعة التي فيها البيت. فلا يجوز عندهم ذبح دم الإحصار إلا في الحرم، فيبعث شاة تذبح في الحرم، ويواعد من يحملها يوماً بعينه يذبحها فيه، ثم يتحلل، أي يحل له ما كان محظوراً. ويجوز للمحصر بالعمرة أن يذبح متى شاء. أما الصدقة والصوم فيجزيان في أي مكان شاء. وأما زمان ذبح الهدي: فيجوز عند أبي حنيفة ذبح الهدي قبل يوم النحر،
حكم التحلل
لإطلاق النص، ولأنه لتعجيل التحلل. وقال الصاحبان: لا يجوز الذبح للمحصر بالحج إلا في يوم النحر كدم المتعة والقران. وعلى الرأي الأول وهو الراجح: يكون زمان ذبح الهدي مطلق الوقت، لا يتوقف بيوم النحر، سواء أكان الإحصار عن الحج أم عن العمرة. وحكم التحلل أي أثره: صيرورته حلالاً يباح له تناول جميع ما حظره الإحرام لارتفاع الحاظر، فيعود حلالاً كما كان قبل الإحرام. وقال الجمهور غير الحنفية: من تحلل ذبح شاة حيث أحصر في حل أو حرم وقت حصره، لإطلاق الآية السابقة: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} [البقرة:196/ 2] ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم حينما منعه كفار قريش نحر هديه وحلق رأسه بالحديبية، قبل يوم النحر، فله النحر في موضعه كما فعل النبي. لكن وإن جاز التحلل قبل يوم النحر، فالمستحب له عند الشافعية والحنابلة وأبي حنيفة مع ذلك الإقامة على إحرامه، رجاء زوال الحصر، فمتى زال قبل تحلله، فعليه المضي لإتمام نسكه، بغير خلاف. والخلاصة ألا هدي على المحصر إن لم يكن معه عند المالكية، وعليه الهدي عند الجمهور. وأما ما يقضيه المحصر وهو الحكم الثاني فهو مايأتي: قال الحنفية: إذا تحلل المحصر بالحج، فعليه حجة وعمرة قضاء عما فاته؛ لأنه في معنى فائت الحج الذي يتحلل بأفعال العمرة، فإن لم يأت بها قضاها. هذا إذا لم يحج من عامه، فإن حج منه فلا عمرة عليه؛ لأنه ليس في معنى فائت الحج.
وعلى المحصر بالعمرة القضاء لما شرع فيه، وعلى المحصر القارن حجة وعمرتان، أما الحج وإحدى العمرتين: فلما تبين أنه في معنى فائت الحج، وأما الثانية: فلأنه خرج منها بعد صحة الشروع فيها. والحاصل أنه يجب عند الحنفية على المحصر قضاء ما أحرم به بعد التحلل: أـ فإن كان أحرم بالحجة لاغير: فإن بقي وقت الحج عند زوال الإحصار وأراد أن يحج من عامه ذلك، أحرم وحج، وليس عليه نية القضاء، ولا عمرة عليه. وإن مضت السنة فعليه قضاء حجة وعمرة، ولا تسقط عنه تلك الحجة إلا بنية القضاء. ب ـ وإن كان إحرامه بالعمرة لا غير، قضاها، لوجوبها بالشروع في أي وقت شاء؛ لأنه ليس لها وقت معين. جـ ـ وإن كان قارناً فأحرم بالعمرة والحجة: فعليه قضاء حجة وعمرتين، أما قضاء حجة وعمرة فلوجوبها بالشروع، وأما العمرة الأخرى فلفوات الحج في عامه ذلك؛ لأن العمرة تتعين بالإحصار، لأنها أقل الواجبين، وهو شيء متيقن. ودليلهم في الجملة على وجوب القضاء: أن النبي صلّى الله عليه وسلم لما تحلل زمن الحديبية قضى من قابل، وسميت عمرة القضاء، ولأنه حل من إحرامه قبل إتمامه، فلزمه القضاء، كما لو فاته الحج. وقال المالكية: على المتحلل بفعل عمرة أو بالنية حجة الفريضة، ولا تسقط عنه بالتحلل المذكور. أما حجة التطوع: فيقضيها إذا كان التحلل لمرض أو خطأ عدد أو حبس بحق، وأما لو كان التحلل لعدو أو فتنة أو حبس ظلماً، فلا يطالب بالقضاء.
ثالثا - زوال الإحصار
وقال الشافعية: لا قضاء على المحصر المتطوع إن تحلل من إحصار عام أو خاص، لعدم وروده، وقد أحصر مع النبي صلّى الله عليه وسلم في الحديبية ألف وأربع مئة، ولم يعتمر معه في العام القابل إلا نفر يسير، أكثر ما قيل: إنهم سبع مئة. وإن لم يكن تطوعاً نظر: إن كان نسكه فرضاً مستقراً عليه، كحجة الإسلام فيما بعد السنة الأولى من سني الإمكان، أو كانت قضاء أو نذراً، بقي في ذمته، كما لو شرع في صلاة فرض ولم يتمها، فإنها تبقى في ذمته. وإن كان غير مستقر كحجة الإسلام في السنة الأولى من سني الإمكان، اعتبرت الاستطاعة بعد زوال الإحصار، إن وجدت وجب الحج، وإلا فلا. وكذلك قال الحنابلة في الصحيح من المذهب: لا قضاء على المحصر إن تحلل ولم يجد طريقاً أخرى إلا أن يكون واجباً، يفعله بالوجوب السابق؛ لأنه تطوع جاز التحلل منه مع صلاح الوقت له، فلم يجب قضاؤه، كما لو دخل في الصوم يعتقد أنه واجب، فلم يكن. وأما خبر قضاء العمرة الذي احتج به الحنفية، فلم ينقل إلينا أن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر أحداً بالقضاء، والذين اعتمروا مع النبي صلّى الله عليه وسلم كانوا نفراً يسيراً، كما تقدم في مذهب الشافعية. والخلاصة: إن الحنفية يوجبون القضاء، والجمهور لايوجبونه. ثالثاً - زوال الإحصار: قال الحنفية: إذا زال الإحصار قبل التحلل، فإن قدر على إدراك الهدي الذي بعثه، ليذبح في الحرم، وعلى الحج، لم يجز له التحلل، ولزمه المضي، لزوال العجز قبل حصول المقصود بالخلف، ويفعل بهديه مايشاء؛ لأنه ملكه، وقد كان مخصصاً لمقصود استغنى عنه.
المبحث الثالث عشر ـ الهدي
وإن قدر على إدراك الهدي دون الحج، تحلل، لعجزه عن الأصل. وإن قدر على إدراك الحج دون الهدي، جاز له التحلل استحساناً، لئلا يضيع عليه ماله مجاناً، إلا أن الأفضل التوجه لأداء الحج. وقال الجمهور: متى زال الحصر قبل تحلله، فعليه المضي لإتمام نسكه، وهذا لا خلاف فيه. وإن زال الحصر بعد فوات الحج، تحلل بعمل عمرة، فإن فات الحج قبل زوال الحصر، تحلل بهدي. ووجوب المضي لإتمام النسك فيما إذا كانت حجته حجة الإسلام، أو كانت الحجة واجبة؛ لأن الحج عند الأكثرين غير الشافعية يجب على الفور، فإن لم تكن الحجة واجبة، فلا شيء عليه، كمن لم يحرم. المبحث الثالث عشر ـ الهدي: معنى الهدي، أنواعه وشروط دم التمتع، صفته، الأكل منه، مكان ذبحه وزمانه، ذابح الهدي، التصدق بلحمه، الانتفاع به، تقليد الهدي وإشعاره، عطب الهدي في الطريق (¬1). أولاً ـ معنى الهدي: الهدي في اللغة: اسم لما يهدي أن يبعث وينقل، وفي الشرع: ¬
ثانيا ـ أنواع الهدي وصفته
هو ما يهدى إلى الحرم من الأنعام (الإبل والبقر والغنم). وسوق الهدي سنة لمن أراد أن يحرم بحج أو عمرة. ثانياً ـ أنواع الهدي وصفته: الهدي: بدنة أو بقرة أو شاة، وأدناه شاة. وقد يطلق الدم أو النسك على الهدي، والمراد بالنسك أو الدم هو الذبيحة وهي الشاة، لإجماع المسلمين على أن الشاة مجزئة في الفدية عن حلق الشعر أو قلم الظفر ونحو ذلك. وأفضل الهدي: البدنة ثم البقرة، ثم الضأن، ثم المعز، لما روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما أحصر بالحديبية، نحر البدن، وكان يختار من الأعمال أفضلها. والمجزئ من الهدي بالاتفاق: ما يجزئ في الأضحية، وهو الثَّني فصاعداً، وهو عند الحنفية مثلاً: من الإبل ما تم له خمس سنين، ومن البقر: سنتان، ومن الغنم سنة ومن المعز ما له سنتان، لكن يجزئ عندهم وعند الحنابلة الجذع من الضأن: وهو ما دون الثني، وهو ماله ستة أشهر، لحديث: «يجزئ الجذع من الضأن: أضحية» (¬1) والهدي مثله. ولا يجزئ في الهدي مقطوع الأذن أو أكثرها، ولا مقطوع الذَّنَب، ولا اليد ولا الرجل ولا الذاهبة العين، ولا العجفاء (كثيرة الهزال)، ولا العرجاء التي لا تمشي إلى المَنْسك (الموضع الذي تذبح النسائك فيه)؛ لأنها عيوب بينة. والذكر والأنثى في الهدي سواء، لأن الله تعالى قال: {والبدنَ جعلناها لكم من شعائر الله} [الحج:36/ 22] ولم يذكر ذكراً ولا أنثى. ¬
هدي التطوع
نوعا الهدي شرعاً: الهدي نوعان: واجب وتطوع. أما هدي التطوع: فهو ما يقدمه الإنسان قربة إلى الله تعالى بدون إيجاب سابق. ويستحب لمن قصد مكة حاجاً أو معتمراً أن يهدي إليها من بهيمة الأنعام، وينحره ويفرقه، لما روي «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أهدى مئة بدنة» (¬1). والأفضل عند الجمهور سوق الهدي من بلده، فإن لم يكن، فمن طريقه من الميقات أو غيره أو من مكة أو منى، ولا يشترط أن يجمع الهدي بين الحل والحرم، ولا أن يقفه بعرفة، ولكن يستحب ذلك. وقال مالك: أحب للقارن أن يسوق هديه من حيث يحرم، فإن ابتاعه من دون ذلك مما يلي مكة بعد أن يقفه بعرفة، جاز، وقال في هدي المجامع: إن لم يكن ساقه فليشتره من مكة، ثم ليخرجه إلى الحل، وليسقه إلى مكة. والمستحب أن يكون مايهديه سميناً حسناً، لقوله عز وجل: {ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} [الحج:32/ 22] (¬2) قال ابن عباس في تفسيرها: الاستسمان والاستحسان والاستعظام. والهدي الواجب نوعان: واجب بالنذر في ذمته للمساكين أو على الإطلاق، فإن نذر وجب عليه؛ لأنه قربة، فلزمه بالنذر. وواجب بغير النذر، كدم التمتع والقران، والدماء الواجبة تكون بترك واجب أو فعل محظور. وقد عرفنا أن الواجب بغير النذر عند المالكية خمسة أنواع: هدي المتعة والقران، وكفارة الوطء، وجبر ما تركه من الواجبات كرمي الجمار والمبيت بمنى والمزدلفة وغير ذلك، وهدي الفوات، وجزاء الصيد. ¬
جزاء الصيد
الهدي الواجب بغير النذر: ينقسم الهدي الواجب بغير النذر عند الشافعية والحنابلة قسمين: منصوص عليه في القرآن، ومقيس على المنصوص (¬1). أما المنصوص عليه: فهو أربعة أنواع: دم التمتع، وجزاء الصيد، وفدية دفع الأذى كحلق، وفدية الإحصار. ف إن عدم المتمتع الدم، فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله، للآية السابقة: {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم} [البقرة:196/ 2] والعبرة بالعدم في محل الذبح، وإن كان له مال غائب عن ذلك المحل. ولا يجب عليه تحصيل الدم بأكثر من ثمن المثل. وإن فاته صوم الثلاثة الأيام في الحج، فرق بينها وبين السبعة، بقدر تفريقه بينهما في الأداء، وهو أربعة أيام، ومدة إمكان السير إلى وطنه، على العادة الغالبة. وجزاء الصيد: إن كان له مثل خير بين أمور ثلاثة: إخراج مثله، بأن يذبحه ويتصدق به على مساكين الحرم، أو تقويمه بدراهم يشتري بها مثلاً طعاماً يجزئ في الفطرة، ويتصدق به على مساكين الحرم، لكل مسكين مد، أو أن يصوم عن كل مد يوماً، لآية: {فجزاءٌ مثلُ ما قتل من النعم} [المائدة:95/ 5] وهو صوم التعديل، لقوله تعالى: {أوعدل ذلك صياماً} [المائدة:95/ 5] وإن لم يكن له مثل خير بين أمرين: تقويمه وشراء طعام به والتصدق به، أو صوم يوم عن كل مد. والمعتبر في قيمة غير المثلي: بمحل الإتلاف، لا بمكة، وفي قيمة المثلي بمكة، لا بمحل الإتلاف. ¬
دم الإحصار
وفدية دفع الأذى كحلق وتقليم أظفار: يخير بين أمور ثلاثة: ذبح شاة بصفة الأضحية والتصدق بلحمها على مساكين الحرم، وصوم ثلاثة أيام، وتصدق باثني عشر مداً على ستة مساكين في الحرم، لكل مسكين مدان، لقوله تعالى: {فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ـ أي فحلق ـ ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} [البقرة:196/ 2]. ودم الإحصار: شاة بصفة الأضحية، لقوله تعالى: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} [البقرة:2/ 196] فإن عدمها وقت الإخراج، فيجب عند الشافعية بدلها كدم التمتع وغيره، وهو طعام بقيمتها، فإن عجز عنه صام عن كل مد يوماً، قياساً على الدم الواجب بترك مأمور به، وعند الحنابلة: لا إطعام فيه وينتقل إلى صيام عشرة أيام، وقال مالك وأبو حنيفة: لا بدل له؛ لأنه لم يذكر في القرآن. وأما المقيس على المنصوص عليه فهو نوعان: أحدهما ـ لترك نسك يجبر تركه وهو خمسة: ترك الإحرام من الميقات والمبيت بمزدلفة، وبمنى، والرمي وطواف الوداع، ويقاس على دم التمتع، ويقاس عليه أيضاً دم الفوات، وهو ذبح شاة، فإن عجز صام عشرة أيام. والثاني ـ الترفه: وهو خمسة أيضاً: الوطء في فرج أو غيره، واللمس بشهوة، والقبلة، والتطيب، واللباس، ويقاس على فدية الأذى: صيام أو صدقة أو نسك. ثالثاً ـ شروط هدي التمتع: من اعتمر في أشهر الحج، فطاف وسعى، ثم أحرم بالحج من عامه، ولم
الأول ـ أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج
يكن خرج من مكة إلى ما تقصر فيه الصلاة، فهو متمتع، عليه دم بالإجماع، لقوله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج، فما استيسر من الهدي، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم، تلك عشرة كاملة، ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام} [البقرة:196/ 2]. ويمكن تلخيص شروط وجوب الدم على المتمتع بما يأتي وهي خمسة: الأول ـ أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج: فإن أحرم بها في غير أشهره لم يكن متمتعاً، سواء وقعت أفعالها في أشهر الحج أو في غير أشهره. وهذا لا خلاف فيه إلا في شذوذ عن طاوس والحسن، إلا أن أبا حنيفة قال: إن طاف للعمرة أربعة أشواط في غير أشهر الحج، فليس بمتمتع، وإن طاف الأربعة في أشهر الحج، فهو متمتع؛ لأن العمرة صحت في أشهر الحج. الثاني ـ أن يحج من عامه: فإن اعتمر في أشهر الحج، ولم يحج ذلك العام، بل حج من العام القابل، فليس بمتمتع، وهذا لا خلاف فيه إلا في قول شاذ عن الحسن؛ لأن الله تعالى قال: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي} [البقرة:196/ 2] وهذا يقتضي الموالاة بينهما. الثالث ـ ألا يسافر بين العمرة والحج سفراً بعيداً تقصر في مثله الصلاة. وهذا رأي الحنابلة: لقول عمر: «إذا اعتمر في أشهر الحج، ثم أقام، فهو متمتع، فإن خرج ورجع فليس بمتمتع». وقال الشافعي وأحمد: إن رجع إلى الميقات فلا دم عليه. وقال الحنفية: إن رجع إلى مصره، بطلت متعته، وإلا فلا.
الرابع ـ أن يحل من إحرام العمرة قبل إحرامه بالحج
وقال المالكية: إن رجع إلى مصره أو إلى غيره مما هو أبعد منه، بطلت متعته، وإلا فلا. الرابع ـ أن يحل من إحرام العمرة قبل إحرامه بالحج: فإن أدخل الحج على العمرة قبل حله منها، كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلم والذين كان معهم الهدي من أصحابه، فهذا يصير قارناً، ولا يلزمه دم المتعة، لأمر النبي صلّى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن عائشة التي حاضت بالإهلال بالحج وترك العمرة، ولم يوجب عليها هدياً ولا صوماً ولاصدقة. ولكن عليه حينئذ دم للقران؛ لأنه صار قارناً، وترفه بسقوط أحد السفرين. الخامس ـ ألايكون من حاضري المسجد الحرام: وهذا متفق عليه، فلا يجب دم المتعة على حاضري المسجد الحرام، بنص القرآن الكريم: {ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام} [البقرة:196/ 2] ولأن حاضر المسجد الحرام ميقاته مكة، فلم يحصل له الترفه بترك أحد السفرين، ولأنه أحرم بالحج من ميقاته، فأشبه المفرد. من هم حاضرو المسجد الحرام؟ وحاضرو المسجد الحرام عند الحنفية: من دون الميقات، لأنه موضع شرع فيه النسك، فأشبه الحرم. وعند المالكية: هم أهل مكة وذي طوى. وعند الشافعية في الأصح: هم من دون مرحلتين (مسافة القصر) من الحرم؛ لأن كل موضع ذكر الله فيه المسجد الحرام فهو الحرم، إلا قوله تعالى: {فول وجهك شطر المسجد الحرام} [البقرة:149/ 2] فهو الكعبة نفسها، فإلحاق هذا بالأعم الأغلب أولى. والقريب من الشيء يقال: إنه حاضره.
الصيام بدل دم المتعة
وعند الحنابلة: هم أهل الحرم، ومن بينه وبين مكة دون مسافة القصر؛ لأن حاضر الشيء: من دنا منه، ومن دون مسافة القصر قريب في حكم الحاضر، كما قال الشافعية، بدليل أن من قصده لا يترخص رخص السفر. وإذا كان للمتمتع قريتان: قريبة وبعيدة، فهو من حاضري المسجد الحرام؛ لأن له أن يحرم من القريبة، فلم يكن بالتمتع مترفهاً بترك أحد السفرين. وعليه: إن دخل الآفا قي مكة متمتعاً ناوياً الإقامة بها، بعد تمتعه، فعليه دم المتعة. وإذا ترك الآفاقي الإحرام من الميقات، ثم نوى العمرة وحل منها، وأحرم بالحج من مكة من عامه، فهو متمتع، عليه دمان: دم المتعة، ودم ترك الإحرام من الميقات. الصيام بدل دم المتعة: إن لم يجد المتمتع الهدي، ينتقل إلى صيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى وطنه. وتعتبر القدرة على الهدي في موضعه، فمتى عدمه في موضعه، جاز له الانتقال إلى الصيام، وإن كان قادراً علىه في بلده؛ لأن وجوبه موقت، وما كان وجوبه موقتاً اعتبرت القدرة عليه في موضعه، كالماء في الطهارة إذا عدمه في مكانه، انتقل إلى التراب. ولا يجب التتابع في أيام الصوم، وإنما يندب. وإذا لم يصم المتمتع الأيام الثلاثة في الحج، فإنه يصومها بعد ذلك عند الجمهور غير الحنفية، وتعين عليه الدم عند الحنفية، ولا يجزيه الصوم في وطنه، والأظهر عند الشافعية أنه يلزمه أن يفرق في قضائها بينها وبين السبعة. ومن شرع في الصيام، ثم قدر على الهدي، لم يكن عليه عند الحنابلة
رابعا ـ الأكل من الهدي
والمالكية والشافعية الخروج من الصوم إلى الهدي، إلا إذا شاء، لأنه صوم دخل فيه لعدم الهدي. والمرأة إذا أحرمت متمتعة، فحاضت قبل طواف العمرة، لم يكن لها أن تطوف بالبيت؛ لأن الطواف بالبيت صلاة، ولأنها ممنوعة من دخول المسجد. فإن خشيت فوات الحج، أحرمت بالحج مع عمرتها، وتصير قارنة. وهذا قول الجمهور، بدليل رواية مسلم لقصة عائشة التي حاضت، فإنها حجت أولاً، ثم اعتمرت من التنعيم. وقال أبو حنيفة: ترفض العمرة، وتهل بالحج، بدليل حديث عائشة المتقدم حينما حاضت، أهلت بالحج، وتركت العمرة، بدليل أمور ثلاثة: قوله عليه السلام لها: «دعي عمرتك» وقوله: «انقضي رأسك وامتشطي» وقوله: «هذه عمرة مكان عمرتك». رابعاً ـ الأكل من الهدي: يرى الحنفية (¬1) أنه يجوز الأكل من هدي التطوع والمتعة والقران، إذا بلغ الهدي مَحِلَّه؛ لأنه دم نُسُك، فيجوز الأكل منه بمنزلة الأضحية. وما جاز لصاحبه الأكل منه، جاز للغني الأكل منه أيضاً. واشتراط بلوغ المحل، لأنه إذا لم يبلغ الحرم لا يحل الانتفاع منه لغير الفقير. ولا يجوز الأكل من بقية الهدايا كدماء الكفارات والنذور وهدي الإحصار، والتطوع إذا لم يبلغ مَحِلَّه، ومحله: منى أو مكة. ¬
قرر المالكية
وقرر المالكية (¬1) أن صاحب الهدايا يأكل منها كلها إلا من أربعة: جزاء الصيد، ونسك الأذى، ونذر المساكين أي (النذر المعين للمساكين وهدي التطوع للمساكين) وهدي التطوع إذا عَطِب قبل محله (منى أو مكة)، بأن عطب فنحره؛ لأنه يتهم بأنه تسبب في عطبه ليأكل منه، وليس عليه بدله. فإن أكل من هذه الأربعة، فعليه بدل البهيمة، إلا النذر المعين للمساكين يضمن فقط بقدر أكله منه. وكل ما يمنع الأكل منه، يختص بالمساكين. وما سوى هذه الأربعة يجوز لصاحبها الأكل منها مطلقاً؛ قبل المحل وبعده، وهو كل هدي وجب في حج أو عمرة، كهدي التمتع والقران، وتجاوز الميقات، وترك طواف القدوم أو الحلق، أو المبيت بمنى أو النزول بمزدلفة، أو الواجب بسبب المذي ونحوه، أو نذر مضمون لغير المساكين. ويأكل منها أيضاً الغني والقريب. ويعد رسول صاحب الهدي غير الفقير كصاحبه في الأكل وعدمه، أما الفقير فيجوز له الأكل مما لا يجوز لصاحبه الأكل منه. وقال الشافعية (¬2): الهدي نوعان: واجب ومتطوع به، أما الهدي الواجب: وهو ما يجب بفعل حرام، أو ترك واجب من واجبات الحج، أو بنذر، فلا يجوز للمهدي الأكل منه، بل يجب ذبحه في محله، وتفرقة جميعه على أهله من مكة أو غيرها، ويملكهم جملته ولو قبل سلخه. أما ما يقع الآن من ذبح الهدي ورميه، فلايجزئ ولا يقع هدياً. ¬
قال الحنابلة
كذلك لا يجوز الأكل لمن تلزم المهدي نفقته، ورفقته ولو فقراء قافلته، وإن كبرت كالحج المصري، ولا للأغنياء مطلقاً. ومحل عدم جواز الأكل من الهدي المنذور إذا كانت صيغة النذر صحيحة، كقوله: لله علي أن أهدي شاة للحرم. أما مايقع الآن من نذر شيء لسيدي أحمد البدوي وغيره، فيجوز لصاحبه الأكل منه، لعدم صحة نذره، لكن إن نذر ذلك لمجاوريه أو خدامه، ووجدوا في ذلك المكان، كان نذراً صحيحاً يمتنع الأكل منه (¬1). والخلاصة: لا يأكل من واجب؛ لأنه هدي وجب بالإحرام، فلم يجز الأكل منه كدم الكفارة، فلا يجوز الأكل من الهدي الواجب، وهدي القران والتمتع والمنذور ودم الجناية. وأما المتطوع به: فيجوز لصاحبه كالأضحية الأكل منه، ويلزمه التصدق بقدر ما ينطلق عليه الاسم: وهو أقل متمول. والأفضل إذا أراد تقسيمه أن يأكل منه ثلثه، ويهدي للأغنياء ثلثه، ويتصدق بثلثه، لقوله تعالى: {فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر} [الحج:36/ 22] والقانع: السائل أو الراضي بما عنده وبما يعطاه بلا سؤال، والمعتر: المتعرض للسؤال. وقال الحنابلة (¬2): لا يأكل الإنسان من كل واجب كالواجب بنذر أو بتعيين كأن يقول: هذا هدي أو يقلده أو يشعره، إلا من هدي التمتع والقران دون ما سواهما؛ لأن أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم تمتعن معه في حجة الوداع، وأدخلت عائشة الحج على العمرة، فصارت قارنة، ثم ذبح عنهن النبي صلّى الله عليه وسلم البقرة، فأكلن من لحومها، ¬
ولأن دم المتعة والقران دم نسك، فأشبه التطوع. ولا يجوز أن يأكل من غير دم التمتع والقران؛ لأنه يجب بفعل محظور، فأشبه جزاء الصيد. ويستحب أن يأكل من هدي التطوع: وهو ما أوجبه بالتعيين ابتداء من غير أن يكون عن واجب في ذمته، وما نحره تطوعاً من غير أن يوجبه، لقوله تعالى: {فكلوا منها} [الحج:36/ 22] وأقل أحوال هذا الأمر الأمر بالاستحباب، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم أكل من بُدْنه (¬1)، ويجوز التزود منه، لقول جابر: «كنا لا نأكل من بدننا فوق ثلاث، فرخص لنا النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: كلوا وتزودوا، فأكلنا وتزودنا» (¬2). وإن لم يأكل فلا بأس، فإن النبي صلّى الله عليه وسلم لما نحر البدنات الخمس، قال: «من شاء اقتطع» ولم يأكل منهن شيئاً. والمحتسب أن يأكل اليسير منها، كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلم، وله الأكل كثيراً والتزود، كما جاء في حديث جابر، وتجزئه الصدقة باليسير منها كما في الأضحية. فإن أكلها، ضمن المشروع للصدقة منها، كما في الأضحية. وإن أكل مما منع من أكله أو أعطى الجازر منها شيئاً أو باع شيئاً منها أو أتلفه، ضمنه بمثله لحماً. وإن أطعم غنياً مما يجوز له الأكل منه على سبيل الهدية جاز، كما يجوز له ذلك في الأضحية؛ لأن ما ملك أكله ملك هديته. والخلاصة: يجوز الأكل من دم التمتع والقران عند الجمهور، ولا يجوز عند الشافعية، ولا يجوز الأكل من المنذور ودم الجزاء اتفاقاً، ويجوز الأكل من المتطوع به بالاتفاق. ¬
خامسا ـ مكان ذبح الهدي وزمانه
خامساً ـ مكان ذبح الهدي وزمانه: سبق بيان الكلام عن هذا الموضوع فيما يخص دم الإحصار، وأوضحه هنا بصفة عامة. قال الحنفية (¬1): لا يجوز ذبح هدي المتعة والقران إلا في يوم النحر لأنه دم نسك، والصحيح أن يجوز ذبح دم التطوع قبل يوم النحر، وذبحه يوم النحر أفضل؛ لأن القربة في التطوعات باعتبار أنها هدايا، وذلك يتحقق ببلوغها إلى الحرم، فإذا وجد ذلك جاز ذبحها في غير يوم النحر، وفي أيام النحر أفضل؛ لأن معنى القربة في إراقة الدم فيه أظهر. ويجوز ذبح بقية الهدايا أيّ وقت شاء؛ لأنها دماء كفارات، فلا تختص بيوم النحر، لأنها وجبت لجبر النقصان. ولا يجوز ذبح الهدايا إلا في الحرم؛ لأن الهدي اسم لما يهدى إلى مكان، ومكانه الحرم. وقال المالكية (¬2): يجب على المعتمد نحر الهدي بمنى بشروط ثلاثة: إن سيق الهدي في إحرامه بحج، ووقف به (¬3) بعرفة كوقوفه هو في كونه بجزء من الليل، وكان النحر في أيام النحر. فإن انتفت هذه الشروط أو بعضها، بأن لم يقف به بعرفة، أو لم يسق في حج، بأن سيق في عمرة، أو خرجت أيام النحر، فمحل ذبحه مكة. فكان محل الذبح إما منى بالشروط الثلاثة، وإما مكة لا غير عند فقدها. ¬
قال الشافعية
والأفضل فيما ذبح بمنى أن يكون عند الجمرة الأولى، ولو ذبح في أي موقع منها كفى وخالف الأفضل. ونحر الهدي يوم النحر. أما فدية المحظور من لبس أو طيب ونحوهما: وهي الشاة أو إطعام ستة مساكين من غالب قوت البلد الذي أخرجها فيه، أو صيام ثلاثة أيام ولو أيام منى (وهي ثاني يوم النحر وتالياه) فلا تختص بأنواعها الثلاثة بمكان أو زمان، فيجوز تأخيرها لبلده أو غيره في أي وقت شاء. وقال الشافعية (¬1): وقت ذبح الهدي إن كان تطوعاً أو بنذر: وقت أضحية، أما إن كان بسبب فعل حرام أو ترك واجب، فلا يختص بوقت. ومكان الذبح للمحصر مكان حصره أو الحرم، ولغير المحصر: جميع الحرم، فالحرم كله منحر حيث نحر منه أجزأه في الحج والعمرة، لكن الأفضل للحاج ولو متمتعاً الذبح في منى، ولمعتمر غير متمتع الذبح في مكة عند المروة؛ لأنهما مكان تحللهما. وقال الحنابلة (¬2): فدية الأذى بحلق رأس أو غيره: في الموضع الذي حلق فيه؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «أمر كعب بن عجرة بالفدية بالحديبية» ولم يأمره ببعثه إلى الحرم. وما عدا فدية الشعر من الدماء يكون بمكة، وأما جزاء الصيد فهو لمساكين الحرم، لقوله تعالى: {هدياً بالغ الكعبة} [المائدة:95/ 5] وأما الصيام فيجزئه في كل مكان، بلا خلاف. والأفضل نحر ما وجب بحج بمنى، وما وجب بعمرة بالمروة، لما رواه أبو داود من قولهصلّى الله عليه وسلم: «كل منى منحر، وكل فجاج مكة منحر وطريق»، والعاجز عن إيصاله للحرم، حتى بوكيله، ينحره حيث قدر، ويفرقه بمنحره، ويجزئ ما وجب ¬
سادسا ـ ذابح الهدي
بفعل محظور غير صيد: خارج الحرم، ولو بلا عذر، حيث وجد السبب، وبالحرم أيضاً. ويدخل وقت ذبح فدية المحظور من حين فعله، وقبله بعد وجود سببه المبيح ككفارة يمين. ويكون وقت جزاء الصيد بعد جرحه، ووقت ترك الواجب عند تركه. ويجزئ دم إحصار حيث أحصر، وصوم وحلق بكل مكان، ووقت نحر الهدي والأضحية ثلاثة أيام: يوم النحر ويومان بعده. سادساً ـ ذابح الهدي: الأفضل عند الجمهور في البدن: النحر، وفي البقر والغنم، الذبح، والأولى بالاتفاق (¬1) أن يتولى الإنسان ذبح الهدي بنفسه إن كان يحسن ذلك؛ لأنه قربة، والعمل بنفسه في القربات أولى لما فيه من زيادة الخشوع، إلا أنه يقف عند الذبح إذا لم يذبح بنفسه؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم نحر هديه بيده. وقال جابر: «نحر رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثلاثاً وستين بدنة بيده، ثم أعطى علياً، فنحر ما غبر». وإن ذبح الهدي غير صاحبه أجزأه، والمستحب أن يشهد ذبحه، لما روي أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لفاطمة: «احضري أضحيتك يغفر لك بأول قطرة من دمها». والأفضل أن يتولى تفريق اللحم بنفسه؛ لأنه أحوط وأقل للضرر على المساكين، وإن خلى بينه وبين المساكين جاز، لقوله عليه السلام: «من شاء اقتطع». ويباح للفقراء الأخذ من الهدي إذا لم يدفع إليهم، إما بالإذن الصريح لفظاً لحديث «من شاء اقتطع» أو بالإذن دلالة كالتخلية بينهم وبينه. ¬
سابعا ـ التصدق بلحم الهدي
سابعاً ـ التصدق بلحم الهدي: أجاز الحنفية (¬1) أن يتصدق بلحم الهدي على مساكين الحرم وغيرهم؛ لأن الصدقة قربة معقولة، والصدقة على كل فقير قربة، وعلى مساكين الحرم أفضل، إلا أن يكون غيرهم أحوج. ويتصدق بجلال الهدايا وخطامها (¬2)، ولا يعطي الجزارة أجرة منها، لقوله صلّى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: «تصدَّق بجلالها وخُطُمها ولا تُعط الجزار منها». وقال المالكية (¬3) كالحنفية: يوزع لحم الهدي والخِطام والجِلال على المساكين. ويرى الشافعية (¬4): أن جزاء الصيد، وفدية الأذى كحلق وتقليم أظفار ودم التمتع والقران يذبح ويتصدق به على مساكين الحرم، لقوله تعالى: {ثم محلها إلى البيت العتيق} [الحج:33/ 22]. وأما رأي الحنابلة (¬5): فهو أن كل هدي أو إطعام لترك نسك أو فوات أو فعل محظور لمساكين الحرم، إن قدر على إيصاله إليهم، إلا أن فدية الأذى توزع على المساكين في الموضع الذي حلق فيه، لما تقدم من أمر كعب بن عجرة بالفدية في الحديبية، ولقول ابن عباس: «الهدي والطعام بمكة، والصوم حيث شاء»، ولأنه نسك يتعدى نفعه إلى المساكين، فاختص بالحرم كالهدي. ويصح تفرقة اللحم أو إعطاؤه لمساكين الحرم ميتاً أو حياً لينحروه، وإلا استرده ونحره، فإن أبى أو عجز، ضمنه. ¬
ثامنا ـ الانتفاع بالهدي
ومساكين الحرم: من كان فيه من أهله، أو وارد إليه من الحاج وغيرهم، وهم الذين يجوز دفع الزكاة إليهم، ويجوز إباحة الذبيحة لهم، لما روى أبو داود عن أنس: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم نحر خمس بدنات، ثم قال: من شاء فليقتطع». وما جاز تفريقه بغير الحرم، لم يجز دفعه إلى فقراء أهل الذمة في رأي الجمهور؛ لأن الذمي كافر فلم يجز الدفع إليه كالحربي. وأجاز الحنفية دفعه لأهل الذمة كالأضحية. ثامناً ـ الانتفاع بالهدي: يجوز الانتفاع بالهدي عند الضرورة أو الحاجة، فقال المالكية (¬1): يجوز له ركوبه إن احتاج إليه، ويندب عدم ركوبه والحمل عليه بلا عذر، بل يكره، فإن اضطر لركوبه لم يكره، ولا يشرب من اللبن وإن فضل عن الفصيل. وقال الحنفية (¬2): من ساق بَدَنة، فاضطر إلى ركوبها أو حمل متاعه عليها، ركبها وحملها، وإن استغنى عن ذلك لم يركبها، لأنه جعلها خالصاً لله، فلا ينبغي أن يصرف لنفسه شيئاً من عينها أو منافعها إلى أن تبلغ محلها، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهراً» (¬3). وإذا ركبها أو حملها، فانتقصت فعليه ضمان ما انتقص منها. وإن كان لها لبن لم يحلبها؛ لأن اللبن متولد منها، وينضح ضَرْعها بالماء البارد حتى ينقطع اللبن عنها، إن قرب محلها، وإلا حلبها وتصدق بلبنها كيلا يضر ذلك بها، وإن صرفه لنفسه، تصدق بمثله أو قيمته؛ لأنه مضمون عليه. ¬
تاسعا ـ تقليد الهدي وإشعاره
وقال الحنابلة (¬1): له ركوب الهدي على وجه لايضر به، لما روى أبو هريرة وأنس: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسوق بدنة، فقال: اركبها، فقال: يا رسول الله، إنها بدنة، فقال: اركبها، ويلك ـ في الثانية أو الثالثة» (¬2) وللمهدي شرب لبن الهدي؛ لأن بقاءه في الضرع يضرُّ به، فإذا كان ذا ولد لم يشرب إلا ما فضل عن ولده. وهذا هو الراجح لدي. وقال الشافعية (¬3): للمحتاج دون غيره أن يركب الهدي المنذور ويشرب من لبنه ما فضل عن ولده، ولو تصدق به، كان أفضل، ولو كان عليه صوف لا منفعةله في جزه، ولا ضرر عليه في تركه، لم يجز له جزه، وإن كان عليه في بقائه ضرر، جاز له جزه، وينتفع به، فلو تصدق به كان أفضل. تاسعاً ـ تقليد الهدي وإشعاره: التقليد: أن يعلق في عنق الهدي قلادة، مضفورة من حبل أو غيره، ويعلق بها نعلان أو نعل. والإشعار: أن يشق سنام البدنة الأيمن عند الشافعية والحنابلة، أو الأيسر عند المالكية، ويقول حينئذ: «بسم الله والله أكبر». والتقليد: هو المستحب بالاتفاق، أما الإشعار فمختلف فيه. فقال الحنفية (¬4): الإشعار مكروه، لأنه مُثْلة، فكان غير جائز؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن تعذيب الحيوان، ولأنه إيلام فهو كقطع عضو منه وهذا هو الحق. ¬
ولا يجب التعريف بالهدايا: وهو إحضارها عرفة، فإن عرَّف بهدي المتعة والقران والتطوع، فحسن؛ لأنه يتوَّقت بيوم النحر، فعسى ألا يجد من يُمسكه، فيحتاج إلى أن يعرّف به، ولأنه دم نسك، ومبناه على التشهير، بخلاف دماء الكفارات، فإنه يجوز ذبحها قبل يوم الجناية، فالستر بها أليق. ويُقلَّد هدي التطوع والمتعة والقران إذا كان من الإبل والبقر؛ لأنه دم نسك، فيليق به الإظهار والشهرة، تعظيماً لشعائر الإسلام. وأما الغنم فلا يقلد، وكل ما يقلد يخرج به إلى عرفات، وما لا فلا. ولا يقلد دم الإحصار؛ لأنه لرفع الإحرام، ولا دم الجنايات؛ لأنه دم جبر، فالأولى إخفاؤها وعدم إشهارها. وقال المالكية (¬1): يستحب تقليد الهدي وإشعاره، وتجليله: وهو أن تكسى بجل من أرفع ما يقدر عليه من الثياب، ويشق فيه موضع السنام، ويساق كذلك إلى موضع النحر، فيزال عنه الجل، وينحر قائماً وذلك يوم النحر. ويتصدق بالجل والخطام، وتترك القلادة في الدم. والإشعار والتقليد والتجليل كله في الإبل، وأما البقر فتقلد وتشعر، ولا تجلل، وأما الغنم فلا تقلد ولا تشعر ولا تجلل. وقال الشافعية (¬2): إن ساق هدياً تطوعاً ومنذوراً، فإن كان بدنة أو بقرة، استحب له أن يقلدها نعلين لهما قيمة ليتصدق بهما، وأن يشعرها أيضاً؛ لما روى ابن عباس رضي الله عنهما: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم صلى الظهر في ذي الحليفة، ثم أتى ببدنة، فأشعرها على صفحة سنامها الأيمن، ثم سلت الدم عنها، ثم قلدها ¬
نعلين» (¬1)، ولأنه ربما اختلط بغيره، فإذا أشعر وقلد تميز، وربما ندَّ (هرب) فيعرف بالإشعار والتقليد، فيرد. وإن ساق غنماً قلدها خُرَب القُرَب: وهي عراها وآذانها، لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلّى الله عليه وسلم: «أهدى مرة غنماً مقلدة» (¬2) ولأن الغنم يثقل عليها حمل النعال. ولا يشعرها؛ لأن الإشعار لا يظهر في الغنم لكثرة شعرها وصوفها، ولأنها ضعيفة. ويكون تقليد الجميع والإشعار وهي مستقبلة القبلة، والبدنة باركة. وإذا قلد النعم وأشعرها، لم تصر هدياً واجباً، على المذهب الصحيح المشهور، كما لو كتب الوقف على باب داره. وقال الحنابلة (¬3) كالشافعية: يسن تقليد الهدي، سواء أكان إبلاً أم بقراً أم غنماً، لحديث عائشة السابق بلفظ: «كنت أفتل القلائد للنبي صلّى الله عليه وسلم، فيقلد الغنم، ويقيم في أهله حلالاً». ويسن إشعار الإبل والبقر، لحديث عائشة المتفق عليه: «فتلت قلائد هد ي النبي صلّى الله عليه وسلم، ثم أشعرها وقلدها». والخلاصة: إن الإشعار عند الجمهور للإبل والبقر، وهو مكروه عند الحنفية، ولا تقلد الغنم عند المالكية والحنفية، وإنما تقلد الإبل والبقر، ويقلد الكل عند الشافعية والحنابلة. ¬
عاشرا ـ عطب الهدي في الطريق
عاشراً ـ عطب الهدي في الطريق: قال الحنفية (¬1): من ساق هدياً فعَطِب (أي هلك)، فإن كان تطوعاً فليس عليه غيره، وإن كان عن واجب، فعليه أن يقيم غيره مُقامه؛ لأن الواجب باق في ذمته حيث لم يقع موقعه، فصار كهلاك الدراهم المعدة للزكاة قبل أدائها. وإن أصابه عيب كبير، أقام غيره مقامه، لبقاء الواجب في ذمته، وصنع بالمعيب ما شاء. وإذا عطبت البدنة في الطريق (أي قاربت العطب): فإن كان تطوعاً نحرها، وصَبَغ نعلها (أي قلادتها) بدمها، وضرب بقلادتها المصبوغة بدمها صفحتها (أي أحد جانبيها)، ولم يأكل منها صاحبها، ولا غيره من الأغنياء، ليعلم الناس أنه هدي، فيأكل منه الفقراء دون الأغنياء. وإن كانت البدنة واجبة، أقام غيرها مُقامها، وصنع بها ما شاء؛ لأنها ملكه كسائر أملاكه. وقال المالكية (¬2): إذا عطب هدي التطوع قبل محله، ينحره، ويخلي بينه وبين الناس، ولا يأكل منه، فإن أكل منه، فعليه بدله. وأما ولد الهدي المولود: فإن ولد قبل التقليد فيستحب نحره، ولا يجب حمله إلى مكة. وإن ولد بعد التقليد أو الإشعار، فيجب حمله إلى مكة على غير أمه، إن لم يمكن سوقه. وكذلك قال الشافعية (¬3): إن عطب الهدي وخاف أن يهلك، نحره وغمس ¬
نعله التي قلده إياها في دمه، وضرب به صفحته وتركه موضعه، ليعلم من مر به أنه هدي، فيأكله. لما روى أبو قبيصة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يبعث بالهدي، ثم يقول: «إن عطب منها شيء، فخشيت عليه موتاً، فانحرها، ثم اغمس نعلها في دمها، ثم اضرب صَفْحتها، ولا تطعمها أنت، ولا أحد من رفقتك» (¬1). فإن كان تطوعاً: فله أن يفعل به ماشاء من بيع وذبح وأكل وإطعام لغيره، وتركه وغير ذلك؛ لأنه ملكه، ولا شيء في كل ذلك. وإن كان منذوراً: لزمه ذبحه، فإن تركه حتى هلك، لزمه ضمانه، كما لو فرط في حفظ الوديعة حتى تلفت. ولا يجوز للمهدي ولا لسائق هذا الهدي وقائده الأكل منه، بلا خلاف للحديث السابق، ولا يجوز للأغنياء الأكل منه بلا خلاف؛ لأن الهدي مستحق للفقراء، فلا حق للأغنياء منه، ويجوز للفقراء من غير رفقة صاحب الهدي الأكل منه بالإجماع، لحديث ناجية الأسلمي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «بعث معه بهدي، فقال: إن عطب فانحره، ثم اصبغ نعله في دمه، ثم خل بينه وبين الناس» (¬2). والأصح أنه لا يجوز للفقراء من رفقة صاحب الهدي الأكل منه. وإذا أتلف المهدي الهدي، لزمه على المذهب ضمانه بأكثر الأمرين من قيمته ومثله، كما لو باع الأضحية المعينة وتلفت عند المشتري. وإن أتلف الهدي أجنبي، وجبت عليه القيمة، ويشترى بها المثل. وإذا اشترى هدياً، ثم نذر إهداءه، ثم وجد به عيباً، لم يجز له رده بالعيب، لأنه تعلق به حق الله تعالى، فلا يجوز إبطاله. ¬
نعله التي قلده إياها في دمه، وضرب به صفحته وتركه موضعه، ليعلم من مر به أنه هدي، فيأكله. لما روى أبو قبيصة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يبعث بالهدي، ثم يقول: «إن عطب منها شيء، فخشيت عليه موتاً، فانحرها، ثم اغمس نعلها في دمها، ثم اضرب صَفْحتها، ولا تطعمها أنت، ولا أحد من رفقتك» (¬1). فإن كان تطوعاً: فله أن يفعل به ماشاء من بيع وذبح وأكل وإطعام لغيره، وتركه وغير ذلك؛ لأنه ملكه، ولا شيء في كل ذلك. وإن كان منذوراً: لزمه ذبحه، فإن تركه حتى هلك، لزمه ضمانه، كما لو فرط في حفظ الوديعة حتى تلفت. ولا يجوز للمهدي ولا لسائق هذا الهدي وقائده الأكل منه، بلا خلاف للحديث السابق، ولا يجوز للأغنياء الأكل منه بلا خلاف؛ لأن الهدي مستحق للفقراء، فلا حق للأغنياء منه، ويجوز للفقراء من غير رفقة صاحب الهدي الأكل منه بالإجماع، لحديث ناجية الأسلمي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «بعث معه بهدي، فقال: إن عطب فانحره، ثم اصبغ نعله في دمه، ثم خل بينه وبين الناس» (¬2). والأصح أنه لا يجوز للفقراء من رفقة صاحب الهدي الأكل منه. وإذا أتلف المهدي الهدي، لزمه على المذهب ضمانه بأكثر الأمرين من قيمته ومثله، كما لو باع الأضحية المعينة وتلفت عند المشتري. وإن أتلف الهدي أجنبي، وجبت عليه القيمة، ويشترى بها المثل. وإذا اشترى هدياً، ثم نذر إهداءه، ثم وجد به عيباً، لم يجز له رده بالعيب، لأنه تعلق به حق الله تعالى، فلا يجوز إبطاله. وإذا أتلف الهدي قبل بلوغ المنسك، أو بعده وقبل التمكين من ذبحه، فلاشيء عليه، لأنه أمانة لم يفرط فيها، كما لو ماتت أو سرقت الأضحية المعينة أو المنذورة المعينة قبل تمكنه من ذبحها يوم النحر. وإن ذبح الهدي أجنبي بغير إذن صاحبه، أجزأه عن النذر؛ لأن ذبحه لا يحتاج إلى قصده، ويلزم الذابح أرش نقصه: وهو ما بين قيمته حياً ومذبوحاً؛ لأنه لو أتلفه ضمنه، فإذا ذبحه ضمن نقصانه كشاة اللحم. وإذا ذبح الهدي المعين قبل المنسك، لزم التصدق بلحمه، ولزم البدل في وقته، كما لو ذبح الأضحية المعينة أو المنذورة قبل يوم النحر، يلزم التصدق بلحمها، ولا يجوز له أكل شيء منها، ويلزمه ذبح مثلها يوم النحر بدلاً عنها. وإذا ولد الهدي أو الأضحية المتطوع بهما، فالولد ملك لصاحبه كالأم، يتصرف فيه بما شاء من بيع وغيره كالأم. وأما ولد المنذور فيتبع الأم بلا خلاف. ومذهب الحنابلة (¬3) كالشافعية إجمالاً: إن كان الهدي تطوعاً، وخاف عطبه أو عجز عن المشي وصحبة الرفاق، نحره بموضعه، وخلى بينه وبين المساكين، ولم يبح له أكل شيء منه، ولا لأحد من صحابته، وإن كانوا فقراء. وليس عليه بدل عنه، لحديث أبي قبيصة السابق. وإن كان نذراً فعليه البدل، لقوله صلى الله عليه وسلم: «من أهدى تطوعاً، ثم ضلت، فليس عليه البدل، إلا أن يشاء، فإن كان نذراً فعليه البدل» (¬4). فإن أكل صاحب الهدي أو السائق أو رفقته منه، أو باع أو أطعم غنياً أو رفقته ¬
منها، ضمنه بمثله لحماً. وإن أتلفه أو تلف بتفريطه أو خاف عطبه، فلم ينحره حتى هلك، فعليه ضمانه بما يوصله إلى فقراء الحرم. وإن أطعم منه فقيراً أو أمره بالأكل منه، فلا ضمان عليه؛ لأنه أوصله إلى المستحق. وإن تعيب بفعل آدمي، فعليه ما نقصه من القيمة يتصدق به.
الفصل الثاني: خصائص الحرمين
الفَصْلُ الثَّاني: خَصَائِصُ الحَرَمَين وفيه مبحثان: حرم مكة، وحرم المدينة المبحث الأول ـ حرم مكة: حدود الحرم، بناء الكعبة ومزيتها وفضيلة المسجد الحرام، المجاورة بمكة، أيهما أفضل: مكة أم المدينة؟ آداب دخول مكة، محظورات الحرم المكي وخصائصه، زيارة أهم المعالم التاريخية في مكة. أولاً ـ حدود الحرم المكي: وهو الذي يحرم فيه الصيد والنبات، ويمنع أخذ ترابه وأحجاره، وبيان مايتعلق به من الأحكام وما يخالف غيره من الأرض. حد الحرم: من طريق المدينة على ثلاثة أميال من مكة عند بيوت بني نفار أو السقيا وتعرف الآن بمساجد عائشة، ومن طريق اليمن على سبعة أميال طرف أضاة لبِن في ثنيه لبن، ومن طريق العراق على سبعة أميال من مكة على ثنية جبل بالمنقطَع أو المقطع، ومن الطائف وبطن نمرة على طريق عرفات على سبعة أميال من مكة عند طرف عرفة، ومن طريق الجِعْرانة على تسعة أميال في شعب آل عبد الله
ثانيا ـ بناء الكعبة ومزيتها وفضيلة المسجد الحرام
ابن خالد، ومن جُدَّة على عشرة أميال من مكة عند منقطع الأعشاش. ومن بطن عرنة أحد عشر ميلاً. وأما وَجّ: وهو واد بالطائف فهو من الحل (¬1). ويلاحظ أن للحرم علامات من جوانبه كلها، ومنصوب عليه أنصاب، ذكر الأزرقي وغيره أن إبراهيم صلّى الله عليه وسلم عملها، وجبريل عليه السلام يريه مواضعها، ثم أمر النبي صلّى الله عليه وسلم بتجديدها، ثم عمر ثم عثمان ثم معاوية، وهي الآن بينة واضحة. وقد صارت المدينة حرماً بتحريم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد أن كانت حلالاً. والصحيح أن مكة حرم منذ القديم، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: «فإن هذا بلد حرمه الله تعالى يوم خلق السموات والأرض، وهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة» (¬2). ثانياً ـ بناء الكعبة ومزيتها وفضيلة المسجد الحرام: بنيت الكعبة المشرفة خمس مرات (¬3): بناء الملائكة أو آدم، أو شيث بن آدم كما قال السهيلي، وبناء إبراهيم على القواعد الأولى، وبناء قريش في الجاهلية بحضور الرسول صلّى الله عليه وسلم قبل البعثة، وبناء ابن الزبير، حين احترقت، وبناء الحجاج بن يوسف. وهذا البناء هو الموجود اليوم. وقد تم توسيع المسجد الحرام في عهد عمر بل إن عمر أول من بناه، ثم في عهد عثمان، ثم في عهد الوليد بن عبد الملك، ثم في عهد المهدي، واستقر الأمر على ذلك، إلى أن تم توسيعه الأخير عدة مرات في عهد السعوديين ويتم الآن أكبر ¬
توسعة، من جهة الغرب، قال الشافعي: أحب أن تترك الكعبة على حالها، فلا تهدم؛ لأن هدمها يذهب حرمتها ويصير كالتلاعب بها. وقد كساها النبي صلّى الله عليه وسلم ثياباً يمانية، ثم كساها أبو بكر وعمر وعثمان ومعاوية وابن الزبير ومن بعدهم. وكان الوليد بن عبد الملك أول من ذهَّب البيت في الإسلام. وأجاز الغزالي تزيين الكعبة بالذهب والحرير ما لم ينسب إلى الإسراف. ويجوز تطييب الكعبة ويحرم أخذ شيء منه للتبرك وغيره، ومن أخذه لزمه رده إليها، فإن أراد التبرك أتى بطيب من عنده فمسحها به، ثم أخذه كما قال النووي. والبيت الحرام: أول بيت من بيوت الله وجد على ظهر الأرض ليعبد الناس فيه ربهم، أولية شرف وزمان، لقوله سبحانه: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين، فيه آيات بينات مقام إبراهيم، ومن دخله كان آمناً} [آل عمران:96/ 3] فأول دلائله وعلائمه الظاهرة: مقام إبراهيم، وثانيها أنه يجب تعظيمه بنسبته إلى الله، حتى إنه كان اللاجئ إليه عند العرب يصير آمناً ما دام فيه، وقد أقر الله تعالى هذه المزية في قوله: {وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً، واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} [البقرة:125/ 2] {أو لم نمكن لهم حرماً آمناً} [القصص:57/ 28] {أو لم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم} [العنكبوت:67/ 29] لذا يكره عند مالك والشافعي حمل السلاح في مكة لغير ضرورة وحاجة، فإن كانت حاجة جاز، ثبت في صحيح مسلم عن جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يحل أن يحمل السلاح بمكة». وتضاعف في الحرم السيئات والحسنات، قال تعالى: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم، نذقه من عذاب أليم} [الحج:25/ 22] وثواب الصلاة فيه يعدل مئة ألف صلاة، قال صلّى الله عليه وسلم: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا
ثالثا ـ المجاورة بمكة وفضيلتها
المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة في مسجدي هذا بمئة صلاة» (¬1) وفي لفظ عند أحمد من حديث ابن عمر: «وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مئة ألف صلاة» وروى الطبراني عن أبي الدرداء: «الصلاة في المسجد الحرام بمئة ألف صلاة، والصلاة في مسجدي بألف صلاة، والصلاة في بيت المقدس بخمس مئة صلاة» وهذا يدل على أفضلية هذه المساجد الثلاثة: المسجد الحرام ثم المسجد النبوي ثم المسجد الأقصى، والمسجد الحرام أفضل المساجد على الإطلاق، ويقصد بالذات للعبادة فيه، ويجب أداء الصلاة فيه إذا نذرت، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لاتشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى» (¬2). ويطلق المسجد الحرام غالباً ويراد به هذا المسجد، وقد يراد به الحرم، وقد يراد به مكة، كما في قوله تعالى: {ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام} [البقرة:196/ 2] وقد ازدادت أهميته بجعله من أهم أماكن شعائر الحج في أيام معلومات (¬3). ثالثاً ـ المجاورة بمكة وفضيلتها: قال جماعة منهم النووي والزركشي (¬4): إن حرم مكة كالمسجد الحرام في ¬
المجاورة بمكة
مضاعفة ثواب الصلاة بل وسائر أنواع الطاعات، قال الحسن البصري: صوم يوم بمكة بمئة ألف، وصدقة درهم بمئة ألف، وكل حسنة بمئة ألف. قال صلّى الله عليه وسلم: «رمضان بمكة أفضل من ألف رمضان بغير مكة» (¬1) وقال أيضاً: «من حج من مكة ماشياً، حتى يرجع إليها كتب له بكل خطوة سبع مئة حسنة من حسنات الحرم، وحسنات الحرم بمئة ألف حسنة» (¬2). وقال جماعة من العلماء، منهم ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وأحمد بن حنبل: تضاعف السيئات بمكة كما تضاعف الحسنات. وقال بعض المتأخرين: القائل بالمضاعفة: أراد مضاعفة مقدارها أي غلظها لا كميتها في العدد، فإن السيئة جزاؤها سيئة، لكن السيئات تتفاوت، فالسيئة في حرم الله أكبر وأعظم منها في طرف من أطراف البلاد. ويعاقب فيها على الهم بالسيئات وإن لم يفعلها، قال تعالى: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} [الحج:25/ 22] وهذا مستثنى من قاعدة الهم بالسيئة وعدم فعلها، تعظيماً لحرمة الحرم. أما المجاورة بمكة: فذهب مالك وأبو حنيفة إلى كراهتها، خوفاً من التقصير في حرمتها، والتبرم واعتياد المكان والأنس به، وذلك يجر إلى قلة المهابة والتعظيم، ولتهييج الشوق بالمفارقة لتنبعث داعية العود، وخوفاً من ركوب الخطايا والذنوب بها، فإن ذلك محظور، والراجح عند الحنفية رأي الصاحبين وهو عدم كراهة المجاورة بمكة أو المدينة، واختار بعضهم أن المجاورة بالمدينة أفضل منها بمكة. ¬
رابعا ـ هل مكة أفضل أو المدينة
واستحب الشافعية والحنابلة وصاحبا أبي حنيفة المجاورة لمن لم يخف الوقوع في محظور بمكة أو المدينة (¬1)؛لأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال عن مكة: «إنك لأحب البقاع إلى الله عز وجل، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت» (¬2) قال أحمد: والمقام بالمدينة أحب إلي من المقام بمكة لمن قوي عليه؛ لأنها مهاجر المسلمين، وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «لا يصبر أحد على لأوائها وشدتها إلا كنت له شهيداً وشفيعاً يوم القيامة» (¬3). رابعاً ـ هل مكة أفضل أو المدينة (¬4)؟. قال القاضي عياض وغيره: انعقد الإجماع على أن أفضل بقع الأرض على الإطلاق المكان الذي ضم جسده صلّى الله عليه وسلم، وعلى أن مكة والمدينة أفضل بقاع الأرض بعده. واختلفوا في أيهما أفضل مكة أم المدينة؟ فقال مالك تبعاً لعمر وغيره من الصحابة المدنيين بتفضيل المدينة؛ لأنها موطن الهجرة، ومستقر الصحابة، ومثوى الرسول صلّى الله عليه وسلم، ولما ورد في فضلها من الأحاديث الصحيحة (¬5)، منها: «إنها طيبة ـ يعني المدينة ـ وإنها تنفي الخَبَث كما تنفي النار خبث الفضة» (¬6). ¬
خامسا ـ آداب دخول مكة
وذهب أكثر العلماء، منهم الأئمة الثلاثة إلى تفضيل مكة، للحديث السابق عن مكة: «والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت» (¬1). وحديث: «يامكة، والله، إنك لخير أرض الله، وأحب البلاد إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت» (¬2). وحديث الترمذي أيضاً عن ابن عباس: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لمكة: «ما أطيبك وأحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك». وذكر العز بن عبد السلام أوجه تفضيل مكة على المدينة، منها: 1 - وجوب قصدها للحج والعمرة، وهما واجبان لا يقع مثلهما بالمدينة. 2 - أن الله تعالى حرمها يوم خلق السموات والأرض. 3 - أن الله جعلها حرماً آمناً في الجاهلية والإسلام. 4 - لا يدخلها أحد إلا بحج أو عمرة وجوباً أو ندباً. خامساً ـ آداب دخول مكة: يستحب لمن دخل مكة ما يأتي (¬3): 1ً - ينبغي لمن أحرم بحج أو عمرة من الميقات أوغيره أن يتوجه إلى مكة، ومنها يكون خروجه إلى عرفات. ¬
2ً - إذا بلغ الحرم المكي دعا، فقال: «اللهم هذا حرمك وأمنك، فحرمني على النار، وآمني من عذابك يوم تبعث عبادك، واجعلني من أوليائك وأهل طاعتك». هذا ويستحضر من الخشوع والخضوع في قلبه وجسده ما أمكنه. 3ً - إذا بلغ مكة اغتسل بذي طوى (¬1) بنية غسل دخول مكة، فإن جاء من طريق آخر اغتسل في غيرها. وهذا الغسل مستحب لكل أحد حتى الحائض والنفساء والصبي. 4ً - السنة أن يدخل مكة من ثنية كَداء (¬2)، وإذا خرج راجعاً إلى بلده خرج من ثنية كُدا (¬3). 5ً - الأصح عند الشافعية أن يدخل مكة ماشياً لا راكباً. 6ً - يدخلها الإنسان ليلاً أونهاراً، فقد دخلها رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهاراً في الحج، وليلاً في عمرة له، والأفضل في الأصح عند الشافعية دخولها نهاراً. 7ً - ينبغي أن يتحفظ في دخوله من إيذاء الناس في الزحمة، ويتلطف بمن يزاحمه، ويلحظ بقلبه جلالة البقعة التي هو فيها والتي يتجه إليها. 8ً - ينبغي لمن يأتي من غير الحرم ألا يدخل مكة إلا محرماً بحج أو عمرة. والأصح عند الشافعية أن دخولها محرماً مستحب، وواجب عند غيرهم. 9ً - يستحب إذا وقع بصره على البيت أن يرفع يديه، فقد جاء أنه يستجاب دعاء المسلم عند رؤية الكعبة، ويقول: ¬
أي من جهة الجنوب. (اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتعظيماً وتكريماً ومهابة، وزد من شرفه وعظمه ممن حجه أو اعتمره تشريفاً وتكريماً وتعظيماً وبراً) ويضيف إليه: (اللهم أنت السلام، ومنك السلام، فحينا ربنا بالسلام). ويدعو بما أحب من مهمات الآخرة والدنيا، وأهمها سؤال المغفرة. وينبغي أن يستحضر عند رؤية الكعبة ما أمكنه من الخشوع والتذلل والخضوع، فهذه عادة الصالحين والعارفين. ويقول قبالة البيت: (اللهم إن هذا البيت بيتك، والحرم حرمك، والأمن أمنك، وهذا مقام العائذ بك من النار). 10ً - يستحب ألا يعرج أول دخوله على استئجار منزل وتغيير ثياب وغير ذلك إلا الطواف الذي هو طواف القدوم وهو سنة عند الجمهور واجب عند المالكية. ويترك بعض الرفقة عند متاعهم ورواحلهم حتى يطوفوا، ثم يرجعوا إلى رواحلهم ومتاعهم واستئجار المنزل. ويستحب للمرأة الجميلة أو الشريفة ألا تبرز للرجال، وتؤخر الطواف ودخول المسجد إلى الليل. ويستحب الدخول إلى البيت الحرام من باب بني شيبة، ويقدم رجله اليمنى في الدخول، ويقول: (أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم، بسم الله، والحمد لله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك).
وإذا خرج قدم رجله اليسرى، وقال هذا، إلا أنه يقول: (وافتح لي أبواب فضلك) وهذا الذكر والدعاء مستحب في كل مسجد. 11ً - إذا دخل المسجد ينبغي ألا يشتغل بصلاة تحية المسجد، ولا غيرها، بل يقصد الحجر الأسود، ويبدأ بطواف القدوم، وهو تحية المسجد الحرام، والطواف مستحب لكل داخل محرماً كان أوغير محرم، إلا لأداء الصلاة المكتوبة أو قضائها، أو فوات الجماعة فيها، أو فوات الوتر أو سنة الفجر وغيرها من السنن الراتبة، فيقدم كل ذلك على الطواف ثم يطوف. ولو دخل وقد منع الناس من الطواف صلى تحية المسجد. 12ً - يستحب لمن حج أن يدخل البيت، ويصلي فيه ركعتين، كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلم. ولا يدخل البيت بنعليه ولا خفيه، ولا يدخل حِجْر إسماعيل؛ لأنه من البيت، ولا يدخل الكعبة بسلاح. وثياب الكعبة إذا نزعت يتصدق بها، ولا يأخذ من طيب البيت شيئاً، ولا يخرج من تراب الحرم، ولا يدخل فيه من الحل، ولا يخرج من حجارة مكة وترابها إلى الحل.- 13ً - يستحب لمن دخل مكة حاجاً أو معتمراً أن يختم القرآن فيها قبل رجوعه. 14ً - يندب عند المالكية طواف الوداع، ويجب عند الأئمة الآخرين.
سادسا ـ الأحكام التي يخالف فيها الحرم غيره من البلاد (خصائصه ومحظوراته)
سادساً ـ الأحكام التي يخالف فيها الحرم غيره من البلاد (خصائصه ومحظوراته): للحرم المكي أحكام خاصة، أهمها ما يأتي (¬1): 1ً - ينبغي ألا يدخله أحد إلا بإحرام، وهو مستحب عند الشافعية، واجب عند غيرهم. 2ً - يحرم صيد الحرم بالإجماع على الحلال والمحرم إلا المؤذيات المبتدئة بالأذى غالباً، وهو مضمون بإتلافه خلافاً لداود الظاهري، لحديث: «لا ينفَّر صيده». 3ً - يحرم قطع شجر الحرم ونباته الرطب الذي ينبت بنفسه ولا يستنبته الناس كالشيح والشوك والعوسج، إلا ما فيه ضرورة كالإذْخر (نبات طيب الرائحة)، ويلحق به كما أبان المالكية ستة: السَّنَا (المعروف بالسنامكي) للحاجة إليه في التداوي، والهَشّ (قطع ورق الشجر بالمِحْجَن) (¬2)، والعَصَا، والسواك، وقطع الشجر للبناء والسكنى بموضعه، وقطعه لإصلاح الحوائط والبساتين. لقوله صلّى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: «إن هذا البلد حرَّمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يُعْضَد شوكه، ولا يُنَفَّر صيده، ولا يَلْتقط لقطته إلا من عرَّفها، ولا يُخْتَلى خلاه (¬3)، فقال العباس: يا رسول الله، إلا الإذخِر، فإنه ¬
لقَيْنهم وبيوتهم، فقال: إلا الإذخر» (¬1) ويجب عند الجمهور ضمان الشجر خلافاً للمالكية. والمستنبت الذي استنبته الآدميون من الشجر كغيره على المذهب عند الشافعية وهو الأظهر في الحرمة والضمان، لعموم الحديث السابق. ويحل الإذخر، والشوك كالعوسج (نوع من الشوك) وغيره من كل مؤذ كالصيد المؤذي، فلا ضمان في قطعه. والأصح عند الشافعية حل أخذ نبات الحرم من حشيش ونحوه بالقطع لعلف البهائم وللدواء كالحنظل، وللتغذي كالرِّجْلة والبقلة للحاجة إليه (¬2). ولا يحرم عند غير الشافعية قطع ما أنبته الآدمي من الشجر كالجوز واللوز والنخل ونحوه كشجر الأراك، والرمان والخس والبطيخ والحنطة، ولا بأس بقطع اليابس من الشجر والحشيش لأنه قد مات، وليس له أخذ ورق الشجر، ويباح أخذ الكمأة من الحرم لأنها ليست من جنس النبات، بل هي من ودائع الأرض، وكذا الفقع؛ لأنه لا أصل له، فأشبه الثمرة. ولا شيء بقتل غراب وحدأة وفأرة وحية وكلب عقور وبعوض ونمل وبرغوث وقراد وسلحفاة وما ليس بصيد، على الخلاف والتفصيل السابق. وأما صيد وَج (واد بالطائف) وشجره: فحرام لا يضمن عند الشافعية، لحديث: «ألا إن صيد وج وعضاهه ـ يعني شجره ـ حرام محرم» (¬3) وهو مباح حلال عند الحنابلة؛ لأن الأصل الإباحة، والحديث ضعفه أحمد، لكن لايضمن قطعاً عند الشافعية. ¬
4ً - يمنع إخراج تراب الحرم وأحجاره، والمعتمد عند أكثر الشافعية كراهة ذلك، والأصح عند النووي التحريم. وقال الحنفية: لا بأس بإخراج الأحجار وترابه. 5ً - يمنع عند الجمهور كل كافر من دخول الحرم، مقيماً كان أو ماراً. وأجازه أبو حنيفة ما لم يستوطنه. 6ً - لا تحل لقطة مكة وحرمها لمتملك، وإنما تحل لمنشد يحفظها ويعرفها بخلاف سائر البلاد، للحديث المتقدم: «ولا تلتقط لقطته إلا من عرفها». 7ً - تغلظ الدية على القاتل الذي قتل في حرم مكة، لقول تعالى: {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه} [البقرة:191/ 2] لأن للحرم تأثيراً في إثبات الأمن. وتغلظ وإن كان القتل خطأ، سواء أكان القاتل والمقتول معاً في الحرم، أم أحدهما فيه دون الآخر. وقدر التغليظ عند أحمد: هو الزيادة في العدد أي بمقدار الدية وثلث الدية. وعند الشافعي: التغليظ جاء في أسنان الإبل، لا الزيادة في العدد. ولا تغلظ الدية بالقتل في حرم المدينة، في الأصح عند الشافعية. ويجوز عند الجمهور خلافاً لجماعة قتال البغاة في حرم مكة على بغيهم إذا لم يمكن ردهم عن البغي إلا بالقتال؛ لأن قتال البغاة من حقوق الله تعالى التي لا يجوز إضاعتها، فحفظها في الحرم أولى من إضاعتها. وتقام الحدود والقصاص في الحرم عند المالكية والشافعية، لقوله تعالى: {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه} [البقرة:191/ 2] ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر بقتل ابن خَطَل لما وجد متعلقاً بأستار الكعبة، وأمر النبي بقتل الفواسق الخمس في الحل والحرم؛ لأنها مؤذيات طبعاً.
وروي عن أحمد وأبي حنيفة والظاهرية أن من وجب عليه الحد أو القصاص آمن ما دام في الحرم، لقوله تعالى: {ومن دخله كان آمناً} [آل عمران:97/ 3] ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً» (¬1). 8ً - تحريم دفن المشرك فيه ونبشه منه. 9ً - تخصيص ذبح دماء الجزاءات في الحج والهدايا في الحرم. 10ً- لا دم على المتمتع والقارن إذا كان من أهل الحرم. 11ً- لا يكره عند الشافعية صلاة النفل التي لا سبب لها في وقت من الأوقات في الحرم، سواء في مكة وسائر الحرم. 12ً- إذا نذر قصده، لزمه عند الشافعية الذهاب إليه بحج أوعمرة، بخلاف غيره من المساجد، فإنه لا يجب الذهاب إليه إذا نذره، إلا مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى، فإنهما يتعينان أيضاً، للحديث السابق: «لا تشد الرحال .. ». 13ً- إذا نذر النحر وحده بمكة، لزمه عند الشافعية النحر بها، وتفرقة اللحم على مساكين الحرم، ولو نذر ذلك في بلد آخر، لم ينعقد نذره في أصح الوجهين. 14ً- يحرم عند الشافعية استقبال الكعبة واستدبارها بالبول والغائط في الصحراء. 15ً- مضاعفة الأجر في الصلوات وسائر الطاعات بالمسجد الحرام. 16ً- يستحب لأهل مكة أن يصلوا العيد في المسجد الحرام، والأفضل ¬
سابعا ـ زيارة أهم المعالم التاريخية بمكة
لغيرهم الصلاة في المصلى، إذا كان المسجد عند الشافعية (¬1) ضيّقاً، فإن كان واسعاً فالمسجد أفضل من المصلى. 17ً- لا يجوز إحرام المقيم في الحرم بالحج خارجه. سابعاً ـ زيارة أهم المعالم التاريخية بمكة: قال ابن جزي (¬2): من المواضع التي ينبغي قصدها تبركاً: قبر إسماعيل عليه السلام وأمه هاجر وهما في الحِجْر، وقبر آدم عليه السلام في جبل أبي قبيس، والغار المذكور في القرآن وهو جبل أبي ثور، والغار الذي في جبل حراء حيث ابتدأ فيه نزول الوحي على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وزيارة قبور من بمكة والمدينة من الصحابة والتابعين والأئمة. وجبل حراء أو جبل النور: يقع في شمال مكة على بعد خمسة كيلو مترات منها، وعلى يسار الذاهب إلى عرفات، وارتفاعه نحو 200 م، وفيه ابتدأ نزول الوحي على النبي صلّى الله عليه وسلم بأول سورة العلق. وجبل ثور: أحد الجبال الكثيرة المحيطة بمكة، وارتفاعه نحو 500 م، يقع جنوبي مكة، وعلى مسافة ستة أميال منها، وهو ملجأ النبي عليه السلام وصاحبه أبي بكر أثناء الهجرة لمدة ثلاثة أيام. ومن الأماكن الأثرية: دار الأرقم، قرب الصفا، وقد أسلم الأرقم المخزومي بعد ستة من الصحابة، وكانت داره مقر الدعوة السرية إلى الإسلام في مبدأ الأمر، وفيها أسلم عمر. ¬
مقبرة المعلاة أو الحجون
ومنها مقبرة المُعَلاَّة أو الحجون: شمال شرقي مكة، وهي مقبرة المكيين منذ العصر الجاهلي إلى اليوم، وتضم قبور بني هاشم من أجداد الرسول صلّى الله عليه وسلم وأعمامه، وقبور بعض الصحابة والتابعين، ففيها قبور جدي الرسول: عبد مناف وعبد المطلب، وعمه أبي طالب، وقبر السيدة آمنة أم النبي صلّى الله عليه وسلم، والسيدة خديجة الكبرى زوجته، وقبر عبد الله بن الزبير، وأمه أسماء بنت أبي بكر. وأما منى: فقرية تقع على مسافة سبعة كيلو مترات من مكة، فيها الجمرات الثلاث: الصغرى والوسطى والكبرى، ومسجد الكبش نسبة إلى كبش فداء إسماعيل عليه السلام، ومسجد البيعة حيث بايع أهل المدينة الرسول عليه السلام، ومسجد الخيف الكبير. وأما عرفات: فجبل مرتفع بقدر (225 م) عن سطح البحر، ويقع على مسافة 25 كم في الجنوب الشرقي من مكة. وفي شماله يقع جبل الرحمة الذي وقف عنده الرسول صلّى الله عليه وسلم في السنة العاشرة من الهجرة يوم حجة الوداع، ونزل في هذا الموقف آية: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام ديناً} [المائدة:3/ 5]. المبحث الثاني ـ حرم المدينة: حدود الحرم، فضيلة المسجد النبوي، خصائص الحرم أو محظوراته وأوجه اختلاف حرم المدينة عن حرم مكة، زيارة المسجد وقبر النبي صلّى الله عليه وسلم، زيارة المعالم الأثرية في المدينة. أولاً ـ حدود الحرم المدني: حرم المدينة جنوباً وشمالاً: بريد في بريد، ما بين عائر إلى ثور، لخبر
ثانيا ـ فضيلة المسجد النبوي
الصحيحين: «المدينة حرم من عَيْر إلى ثَوْر» وعائر أوعير: اسم جبل مشهور بقرب المدينة، وثور: جبل صغير وراء أُحد من جهة الشمال، وجبل أحد من الحرم (¬1). وشرقاً وغرباً بريد في بريد أيضاً ما بين لابتيها، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «حرَّم رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما بين لابتي المدينة» (¬2) فمساحتها بريد في بريد من جهاتها الأربع، وسورها الآن هو طرفها في زمنه صلّى الله عليه وسلم. وجعل النبي صلّى الله عليه وسلم حول المدينة اثني عشر ميلاً. والأولى ألا تسمى «يثرب» لأنه اسم جاهلي قديم، اسمها طيبة وطابة والدار والمدينة ويثرب. ثانياً ـ فضيلة المسجد النبوي: بنى الرسول صلّى الله عليه وسلم مع الصحابة هذا المسجد بمساحة 70 × 60 ذراعاً، ثم وسعه عمر، وعثمان، وعبد الملك بن مروان وابنه الوليد (¬3)، وتم توسيعه الأخير على يد الملك عبد العزيز آل سعود، وضم إليه مساحة كبرى من جهة الغرب مصلى أثناء الحج. ويتم الآن إحداث أكبر توسعة له بحيث تشمل تقريباً المدينة القديمة. والصلاة في هذا المسجد تربو على الصلاة في غيره بألف صلاة، لحديث أبي هريرة المتقدم في الصحيحين: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام» قال النووي: وهذا التفضيل يعم الفرض والنفل كمكة. وقال العلماء: وهذا فيما يرجع إلى الثواب، فثواب صلاة فيه يزيد على ألف صلاة ¬
ثالثا ـ خصائص الحرم المدني
فيما سواه، ولا يتعدى ذلك إلى الإجزاء، حتى لو كان عليه صلاتان، فصلى في مسجد المدينة صلاة لم تجزئه عنهما، وهذا لاخلاف فيه. ورأى النووي أن هذه الفضيلة مختصة بنفس مسجده صلّى الله عليه وسلم الذي كان في زمانه، دون ما زيد فيه بعده، لقوله: «في مسجدي هذا» وذهب غيره إلى أنه لو وُسِّع ثبت له هذه الفضيلة، كما في مسجد مكة إذا وسع، فإن تلك الفضيلة ثابتة له، قال ابن عمر: «زاد عمر بن الخطاب في المسجد، قال: ولو زدنا فيه حتى بلغ الجبانة (¬1)، كان مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم» (¬2). وفي حديث يبين فضل الصلاة في هذا المسجد: «من صلى في مسجدي أربعين صلاة لا تفوته صلاة كتبت له براءة من النار، ونجاة يوم القيامة» (¬3) ولو نذر الذهاب إلى المسجد النبوي أو إلى المسجد الأقصى، فالأصح عند الشافعية أنه يستحب له الذهاب ولا يجب، ويتحقق النذر باعتكاف ساعة في الأصح، والأفضل صلاة ركعتين فيه. ثالثاً ـ خصائص الحرم المدني: حرم المدينة: ما بين لابيتها، واللابة: الحرة: وهي أرض فيها حجارة سود، كما قدمنا. ويمتاز هذا الحرم بأحكام منها ما يأتي (¬4). ¬
1 - تحريم صيد المدينة وشجرها على الحلال والمحرم كمكة عند الجمهور، خلافاً لأبي حنيفة، للحديث السابق: «إن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت المدينة، ما بين لابتيها لا يقطع عضاهها، ولا يصاد صيدها» (¬1) وإذا فعل استغفر الله ولاشيء عليه، ولا يضمن القيمة عند الجمهور في الجديد الأصح عند الشافعية للحديث الآتي: «يا أبا عمير» ولأنه ليس محلاً للنسك، لكن مكة يضمن صيدها وشجرها. ولعل أبا حنيفة يستدل بحديث «يا أبا عمير مافعل النغير» (¬2) لكن قال الجمهور: يحتمل أن يكون قبل تحريم المدينة، أو أن هذا الطائر من خارج حرم المدينة. 2 - يحرم في رأي النووي نقل تراب حرم المدينةأو أحجاره عن حرم المدينة. 3 - يستحب عند الشافعية والحنابلة المجاورة بالمدينة، لما يحصل في ذلك من نيل الدرجات ومزيد الكرامات، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من صبر على لأواء المدينة وشدتها، كنت له شهيداً وشفيعاً يوم القيامة» (¬3). والراجح عند الحنفية كما تقدم: أنه لا تكره المجاورة بالمدينة، وكذا بمكة لمن يثق بنفسه. 4 - يستحب عند الشافعية الصيام بالمدينة والصدقة على سكانها وبرهم، فهم جيران رسول الله صلّى الله عليه وسلم، خاصة أهل المدينة، وقد روى الطبراني بإسناد ضعيف أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «رمضان بالمدينة خير من ألف رمضان فيما سواه من البلدان». ¬
رابعا ـ الفرق بين حرم المدينة وحرم مكة
5 - يختص أهل المدينة بمزيد الشفاعة والإكرام، زائداً على غيرهم من الأمم، لحديث الصحيحين المتقدم عن أبي هريرة: «من صبر على لأواء المدينة .. » وفي حديث آخر: «أول من أشفع له من أمتي: أهل المدينة، ثم أهل مكة، ثم أهل الطائف» (¬1). 6 - إذا عاين حيطان المدينة صلى على النبي صلّى الله عليه وسلم، وقال: (اللهم هذا حرم نبيك فاجعله وقاية لي من النار، وأماناً من العذاب وسوء الحساب). رابعاً ـ الفرق بين حرم المدينة وحرم مكة: يختلف حرم المدينة عن حرم مكة في شيئين (¬2): أحدهما ـ أنه يجوز أن يؤخذ من شجر حرم المدينة ما تدعو الحاجة إليه للمساند والوسائد والرحل، ومن حشيشها ما تدعو الحاجة إليه للعلف، لما روى جابر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم لما حرم المدينة، قالوا: يا رسول الله، إنا أصحاب عمل وأصحاب نضح، وإنا لانستطيع أرضاً غير أرضنا، فرخص لنا، فقال: القائمتان والوسادة والعارضة والمسند، فأما غير ذلك فلا يعضد، ولا يخبط منها شيء» (¬3) فاستثنى ذلك وجعله مباحاً كاستثناءذلك وجعله مباحاً كاستثناء الإذخر بمكة. ولما روى علي: «المدينة حرام ما بين عائر إلى ثور، لا يختلى خلاها، ولا ينفر صيدها، ولا يصلح أن يقطع منها شجرة إلا أن يعلف رجل بعيره». وعن جابر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يخبط ولا يعضد حمى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ¬
خامسا ـ زيارة المسجد النبوي وقبر النبي صلى الله عليه وسلم
ولكن يهش هشاً رفيقاً» (¬1)،ولأن المدينة ذات شجر وزرع، فلو منعنا من احتشاشها مع الحاجة أفضى إلى الضرر، بخلاف مكة. ولا جزاء في مذهب المالكية خلافاً لغيرهم بقتل صيد المدينة وقطع شجرها، فإن فعل استغفر الله تعالى فقط. الثاني ـ أن من صاد صيداً خارج المدينة، ثم أدخله إليها، لم يلزمه إرساله؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقول: «يا أبا عمير، ما فعل النغير» وهو طائر صغير، فظاهر هذا أنه أباح إمساكه بالمدينة إذ لم ينكر ذلك. وحرمة مكة أعظم من حرمة المدينة، بدليل أنه لا يدخلها الداخل إلا محرماً. خامساً ـ زيارة المسجد النبوي وقبر النبي صلّى الله عليه وسلم: يستحب زيارة المسجد النبوي، لأنه كما تقدم في الحديث الصحيح أحد المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال، وزيارة قبر النبي صلّى الله عليه وسلم وصاحبيه؛ لأن موضع قبره عليه الصلاة والسلام أفضل بقاع الأرض. وآداب الزيارة وأحكامها ما يأتي (¬2): 1ً - تسن زيارة قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، لقوله عليه السلام: «من زار قبري وجبت له شفاعتي» (¬3) وقوله: «من جاءني زائراً لم تنزعه حاجة إلا زيارتي، كان ¬
حقاً على الله تعالى أن أكون له شفيعاً يوم القيامة» (¬1) وروى البخاري: «من صلى علي عند قبري، وكل الله به ملكاً يبلغني، وكفي أمر دنياه وآخرته، وكنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة». فزيارة قبره صلّى الله عليه وسلم من أفضل القربات وأنجح المساعي لقوله تعالى: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول، لوجدوا الله تواباً رحيماً} [النساء:64/ 4]، وتتأكد الزيارة للحاج والمعتمر أكثر من غيره، لأمرين: أحدهما ـ أن الغالب على الحجيج الورود من آفاق بعيدة، فإذا قربوا من المدينة يقبح تركهم الزيارة. والثاني ـ لحديث ابن عمر: «من حج، ولم يزرني، فقد جفاني» (¬2) وحديث «من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي» (¬3). 2ً - يستحب للزائر أن ينوي مع زيارته صلّى الله عليه وسلم التقرب إلى الله تعالى بالمسافرة إلى مسجده صلّى الله عليه وسلم والصلاة فيه. 3ً - يستحب في أثناء السفر لهذه الزيارة أن يكثر من الصلاة والتسليم على النبي صلّى الله عليه وسلم في طريقه، خصوصاً إذا رأى أشجار المدينة وحرمها. 4ً - يستحب أن يغتسل قبل دخوله ويلبس أنظف ثيابه. ¬
5ً - يستحضر في قلبه حينئذ شرف المدينة وأنها أفضل الدنيا بعد مكة. 6ً - ليقل عند باب مسجده صلّى الله عليه وسلم ما قدمناه عند المسجد الحرام وكل المساجد، ويقدم رجله اليمنى في الدخول، واليسرى في الخروج. ثم يقصد الروضة الكريمة (¬1): وهي ما بين المنبر والقبر، فيصلي تحية المسجد، بجنب المنبر، وتكون الدائرة التي في قبلة المسجد بين عينيه، فذلك موقف رسول الله صلّى الله عليه وسلم. 7ً - إذا صلى التحية في الروضة أو غيرها من المسجد، شكر الله تعالى على هذه النعمة، ويسأله إتمام ما قصده وقبول زيارته، ثم يأتي القبر الكريم، فيستدبر القبلة، ويستقبل جدار القبر، ويبعد من رأس القبر نحو أربعة أذرع، ويقف ناظراً إلى أسفل، خاشعاً، فارغ القلب من علائق الدنيا، مستحضراً قلبه جلالة موقفه صلّى الله عليه وسلم، ثم يسلم ولا يرفع صوته، فيقول: (السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا نبي الله، السلام عليك ياخيرة الله، السلام عليك يا خير خلق الله، السلام عليك يا حبيب الله، السلام عليك يا نذير، السلام عليك يا بشير، السلام عليك يا طُهر، السلام عليك يا طاهر، السلام عليك يا نبي الرحمة، السلام عليك يا نبي الأمة، السلام عليك يا أبا القاسم، السلام عليك يا رسول رب العالمين، السلام عليك يا سيد المرسلين وخاتم النبيين، السلام عليك يا خير الخلائق أجمعين، السلام عليك يا قائد الغر المحجلين، السلام عليك وعلى آلك وأهل بيتك وأزواجك وذريتك وأصحابك أجمعين، السلام عليك وعلى سائر الأنبياء وجميع عباد الله الصالحين. جزاك الله يا رسول الله عنا أفضل ما جزى نبياً ورسولاً عن أمته، وصلى الله عليك كلما ذكرك ذاكر، وغفل عن ذكرك غافل، أفضل وأكمل وأطيب ما صلى على أحد من الخلق أجمعين. ¬
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنك عبده ورسوله وخيرته من خلقه. وأشهد أنك قد بلغت الرسالة وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، وجاهدت في الله حق جهاده. اللهم وآته الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، وآته نهاية ما ينبغي أن يسأله السائلون. اللهم صل على محمد عبدك ورسولك النبي الأمي، وعلى آل محمد وأزواجه وذريته، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد النبي الأمي، وعلى آل محمد وأزواجه وذريته، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد). ومن أراد الاختصار، قال: (السلام عليك يا رسول الله صلى الله عليك وسلم). ثم يتأخر نحو يمينه إلى الشرق قدر ذراع، فيسلم على أبي بكر رضي الله عنه، فيقول: (السلام عليك يا أبا بكر صفي رسول الله، وثانيه في الغار، جزاك الله عن أمة نبيه صلّى الله عليه وسلم خيرا ً). ثم يتأخر نحو اليمين قدر ذراع، فيسلم على عمر رضي الله عنه، فيقول: (السلام عليك يا عمر، أعز الله بك الإسلام، جزاك الله عن أمة محمد صلّى الله عليه وسلم خيراً). ثم يرجع قدر نصف ذراع فيقول: (السلام عليكما يا ضجيعي رسول الله ورفيقيه ووزيريه ومشيريه والمعاونين له على القيام في الدين، القائمين بعده بمصالح المسلمين، جزاكما الله أحسن الجزاء). ثم يعود إلى رأس قبر النبي صلّى الله عليه وسلم، في زاوية الحجرة المسورة، ويستقبل القبلة، ويحمد الله تعالى ويمجده، ويدعو لنفسه بما أهمه وما أحبه، ولوالديه، ولمن شاء من أقاربه، وأشياخه وإخوانه وسائر المسلمين، ويبتدئ بقوله: (اللهم إنك قلت وقولك الحق: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله، واستغفر لهم الرسول، لوجدوا الله تواباً رحيماً} [النساء:64/ 4] وقد جئناك سامعين قولك،
طائعين أمرك، مستشفعين بنبيك، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين). ثم يأتي الروضة، فيكثر فيها من الدعاء، والصلاة، فقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قال: «ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي» ويقف عند المنبر ويدعو. ثم يأتي اسطوانة أبي لبابة التي ربط نفسه بها حتى تاب الله عليه، وهي بين القبر والمنبر، فيصلي ركعتين ويتوب إلى الله ويدعو بما شاء. ثم يأتي الأسطوانة الحنانة التي فيها بقية الجذع الذي حن إلى النبي صلّى الله عليه وسلم حين تركه، وخطب على المنبر، حتى نزل، فاحتضنه، فسكن. 8ً - لا يجوز أن يطاف بقبر النبي صلّى الله عليه وسلم، ويكره مسحه باليد وتقبيله، بل الأدب أن يبعد عنه كما يبعد منه لو حضر في حياته صلّى الله عليه وسلم. 9ً - ينبغي له مدة إقامته بالمدينة أن يصلي الصلوات كلها بمسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وينبغي له أن ينوي الاعتكاف فيه، كما ينويه في المسجد الحرام. وإذا أراد وداع المدينة صلى ركعتين وقال: (اللهم لا تجعله آخر العهد بحرم رسولك، وسهل لي العود إلى الحرمين سهلة، وارزقني العفو والعافية في الآخرة والدنيا، وردنا إليه سالمين غانمين). 10ً - كره مالك رحمه الله لأهل المدينة كلما دخل أحدهم المسجد وخرج الوقوف بالقبر، قال: وإنما ذلك للغرباء، أو لمن قدم من أهل المدينة من سفر أو خرج إلى سفر أن يقف عند قبر النبي صلّى الله عليه وسلم، فيصلي عليه ويدعو له ولأبي بكر وعمر رضي الله عنهما. والفرق أن أهل المدينة مقيمون بها، وقد قال عليه السلام: «اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد».
سادسا ـ زيارة أهم المعالم الأثرية في المدينة
سادساً ـ زيارة أهم المعالم الأثرية في المدينة: يسن أن يأتي المشاهد بالمدينة، وهي نحو ثلاثين موضعاً يعرفها أهل المدينة، وأهمها ما يأتي (¬1). 1 - زيارة مساجد المدينة الأخرى: يستحب زيارة المساجد الأخرى، مثل مسجد قباء وهو في الجنوب الغربي من المدينة، وهو أول مسجد أسس في المدينة، وذلك يوم السبت ناوياً التقرب بزيارته والصلاة فيه، لحديث: «صلاة في مسجد قباء كعمرة» (¬2)، وفي الصحيحين عن ابن عمر، قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأتي مسجد قباء راكباً وماشياً، فيصلي فيه ركعتين» وفي رواية صحيحة: «كان يأتيه كل سبت» ويدعو بما شاء من كشف الكرب والحزن كما كشف عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم حزنه وكربه في هذا المقام. ومثل مسجد المصلى أو مسجد الغمامة: في المكان الذي كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلي فيه صلاة العيدين. ومسجد الفتح: الواقع شمال البلدة الغربي على قطعة من جبل سَلْع، ويقع حيث كان الخندق. ومسجد القبلتين: وهو مسجد صغير أقيم على حافة وادي العقيق شمال غربي المدينة، وسمي بذلك لأن فيه قبلتين: الأولى منهما نحو الشمال لبيت المقدس، والثانية إلى الجنوب نحو مكة. 2 - زيارة البقيع: على بضع مئات من الأمتار من المسجد النبوي من جهة الشرق. فيه رفات أكثر من عشرة آلاف من كبار الصحابة رضي الله عنهم، منهم آل البيت وشهداء أحد، وبعض شهداء بدر. وتكون الزيارة خصوصاً يوم الجمعة أو يوم الخميس، بعد السلام على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ويقول الزائر: ¬
زيارة الأماكن الأثرية
(السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد، اللهم اغفر لنا ولهم). ويزور القبور الظاهرة كقبر إبراهيم بن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعثمان والعباس والحسن بن علي وعلي بن الحسين، وجعفر بن محمد وغيرهم، ويختم بقبر صفية عمة رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وفي فضل زيارة هذه القبور أحاديث صحيحة كثيرة. 3 - زيارة الأماكن الأثرية: يستحب أن يزور بئر أريس التي روي أن النبي صلّى الله عليه وسلم تفل فيها، فيشرب من مائها ويتوضأ منه، وهي عند مسجد قباء. ويأتي دار أبي أيوب الأنصاري شرقي المسجد النبوي من ناحيته الجنوبية. ودار عثمان بن عفان التي استشهد فيها، بجوار دار أبي أيوب، وفيها اليوم قبر أسد الدين شيركوه عم السلطان صلاح الدين الأيوبي، وقبر والد صلاح الدين الذي دفن مع أخيه. ودار عبد الله بن عمر بن الخطاب، ودار أبي بكر، ودار خالد بن الوليد، حول المسجد النبوي. وتزار قرية بدر في الجنوب الغربي من المدينة، على مسافة 156 كم، ففيها انتصر المسلمون على المشركين في السابع عشر من رمضان في السنة الثانية للهجرة، وعلى مسيرة ميل جنوب القرية توجد قبور شهداء بدر. ويزار جبل أحد: على بعد أربعة كيلو مترات شمال المدينة، وطوله من الشرق إلى الغرب 6 كم، وارتفاعه (1200م). وفيه قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أحد جبل يحبنا ونحبه» (¬1). وفي سفحه قبر سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه عم الرسول صلّى الله عليه وسلم الذي استشهد في غزوة أحد. وعلى مقربة منه مقابر الصحابة رضي الله عنهم الذين استشهدوا في هذه المعركة. ¬
الفصل الثالث: آداب السفر للحج وغيره، وآداب الحاج العائد
الفصل الثالث: آداب السفر للحج وغيره، وآداب الحاج العائد وفيه مبحثان: المبحث الأول ـ آداب السفر للحج وغيره: ذكر النووي آداباً عظيمة مفيدة للسفر وهي ما يأتي (¬1): 1ً - المشاورة: يستحب أن يشاور من يثق بدينه وخبرته وعلمه في حجه، وعلى المستشار أن يبذل له النصيحة، فإن المستشار مؤتمن والدين النصيحة. 2ً - الاستخارة: ينبغي إذا عزم على الحج أو غيره أن يستخير الله تعالى، فيصلي ركعتين من غير الفريضة، ثم يقول بعدها: (اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن ـ ذهابي إلى الحج في هذا العام ـ خير في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري وعاجله وآجله، فاقدره لي، ويسره لي، ثم بارك لي فيه. اللهم وإن كنت تعلم أنه شر لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري وعاجله وآجله، فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به). ويستحب أن يقرأ في هذه الصلاة بعد الفاتحة في الركعة الأولى (الكافرون) وفي الثانية (الإخلاص). ثم ليمض بعد الاستخارة لما ينشرح إليه صدره. 3ً - التوبة ورد المظالم والديون: إذا عزم على السفر تاب من جميع المعاصي ¬
ورد المظالم إلى أهلها، وقضى ما أمكنه من ديونه، ورد الودائع، وطلب المسامحة ممن كان يعامله أو يصاحبه، وكتب وصيته وأشهد عليها، ووكل من يقضي عنه ديونه ما لم يتمكن من وفائها، وترك لأهله ما يحتاجونه من نفقة. 4ً - إرضاء الوالدين والزوج: يجتهد في إرضاء والديه وكل من يبره، وتسترضي المرأة زوجها وأقاربها، ويستحب للزوج أن يحج مع امرأته. وليس للوالد منع الولد من حج الفريضة، وله المنع من حج التطوع، فإن أحرم فللوالد تحليله من هذا الحج على الأصح عند الشافعية. وللزوج أيضاً منع الزوجة من حج التطوع، وحج الفريضة على الأظهر عند الشافعية؛ لأن حقه على الفور. وإن كانت مطلقة حبسها للعدة وليس له التحليل إلا أن تكون رجعية، فيراجعها، ثم يحللها أي يأمرها بذبح شاة تنوي بها التحلل، وتقصر من رأسها ثلاث شعرات فأكثر. 5ً - كون النفقة حلالاً: ليحرص على أن تكون نفقته حلالاً خالصة من الشبهة، فإن حج بما فيه شبهة أو بمال مغصوب صح حجه عند الجمهور، لكنه ليس حجاً مبروراً. وقال أحمد: لا يجزيه الحج بمال حرام. 6ً - الاستكثار من الزاد الطيب والنفقة: يستحب الاستكثار منهما ليواسي منه المحتاجين، ولقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم، ومما أخرجنا لكم من الأرض، ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} [البقرة:267/ 2] والمراد بالطيب هنا: الجيد، وبالخبيث: الرديء. 7ً - ترك المماحكة في الشراء: يستحب ذلك بسبب الحج وكل ما يتقرب به إلى الله تعالى. 8ً - عدم المشاركة في الزاد والراحلة والنفقة: يستحب ذلك إيثاراً للسلامة من المنازعات.
9ً - تحصيل مر كوب قوي مريح: يستحب ذلك، والركوب في الحج أفضل من المشي في المذهب الصحيح للشافعية، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم حج راكباً، وكانت راحلته زاملته. والزاملة: البعير الذي يُحمل عليه الطعام والمتاع. 10ً - تعلم كيفية الحج: لا بد إذا أراد الحج أن يتعلم كيفيته، وهذا فرض عين، إذ لا تصح العبادة ممن لا يعرفها. ويستحب أن يستصحب معه كتاباً واضحاً في مناسك الحج، وأن يديم مطالعته، ويكررها في جميع طريقه لتصير محققة عنده. 11ً - اصطحاب الرفيق: ينبغي أن يطلب له رفيقاً موافقاً، راغباً في الخير، كارهاً للشر، إن نسي ذكَّره، وإن ذكر أعانه. ويحرص على رضا رفيقه في جميع طريقه، ويتحمل كل واحد صاحبه، ويرى لصاحبه عليه فضلاً وحرمة، ولا يرى ذلك لنفسه، ويصبر على ما وقع منه أحياناً من جفاء ونحوه. وقد كره الرسول صلّى الله عليه وسلم الوحدة في السفر، وقال: «الراكب شيطان، والراكبان شيطانان والثلاثة ركب» (¬1) وإذا ترافق ثلاثة أو أكثر أمَّروا على أنفسهم أفضلهم وأجودهم رأياً، لحديث «إذا كانوا ثلاثة فليؤمِّروا أحدهم» (¬2). 12ً - التفرغ للعبادة والإخلاص: يستحب أن يتفرغ للعبادة، خالياً عن التجارة؛ لأنها تشغل القلب، فإن اتجر مع ذلك صح حجه، لقوله تعالى: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم} [البقرة:198/ 2]، ويريد بعمله وجه الله تعالى، لقوله سبحانه {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} [البينة:5/ 98]. وقوله عليه السلام: «إنما الأعمال بالنيات». ¬
والأفضل في الحج عن الغير أن يكون متبرعاً، ولو حج بأجرة فقد ترك الأفضل، ويحصل لغيره العبادة، ويحصل له حضور تلك المشاهد الشريفة. 13 - كون السفر يوم الخميس والتبكير: يستحب أن يكون سفره يوم الخميس، «إذ قلما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم في سفر إلا يوم الخميس» (¬1)، فإن فاته فيوم الاثنين، إذ فيه هاجر الرسول من مكة. ويستحب أن يبكر لحديث صخر الغامدي: «اللهم بارك لأمتي في بكورها» (¬2). 14ً - صلاة سنة السفر: يستحب إذا أراد الخروج من منزله أن يصلي ركعتين، يقرأ في الأولى بعد الفاتحة (الكافرون) وفي الثانية: (الإخلاص) (¬3)، ويستحب أن يقرأ بعد سلامه آية الكرسي، ولإيلاف قريش (¬4)، وسورة الإخلاص والمعوذتين، ثم يدعو بحضور قلب وإخلاص بما تيسر من أمور الدنيا والآخرة، ويسأل الله تعالى الإعانة والتوفيق في سفره وغيره من أموره، فإذا نهض من جلوسه، قال مارواه أنس: «اللهم إليك توجهت، وبك اعتصمت، اللهم اكفني ما أهمني وما لم أهتم به، اللهم زودني التقوى، واغفر لي ذنبي». 15ً - الوداع: يستحب أن يودع أهله وجيرانه وأصدقاءه وأن يودعوه ويستسمحهم، ويقول كل واحد منهم لصاحبه: (أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك، زودك الله التقوى، وغفر ذنبك، ويسر لك الخير حيث كنت). 16ً - الدعاء عند الخروج من البيت: السنة إذا أراد الخروج من بيته أن يقول ما ¬
صح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اللهم إني أعوذ بك من أن أَضل أو أضل، أو أَزل أو أزل، أو أَظلم أو أظلم، أو أَجهل أو يجهل علي» وعن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا خرج الرجل من بيته، فقال: بسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، يقال: هديت وكفيت ووقيت». ويستحب له أن يتصدق بشيء عند خروجه، وكذا بين يدي كل حاجة يريدها. 17ً - الدعاء عند الركوب: يستحب إذا أراد الركوب أن يقول: (بسم الله) وإذا استوى على دابته قال: (الحمد لله، سبحان الذي سخر لنا هذا، وما كنا له مقرنين (¬1)، وإنا إلى ربنا لمنقلبون). ثم يقول: (الحمد لله) ثلاث مرات (الله أكبر) ثلاث مرات. ثم يقول: (سبحانك، اللهم إني ظلمت نفسي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) للحديث الصحيح في ذلك. ويستحب أن يضم إليه: «اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما تحب وترضى، اللهم هوِّن علينا سفرنا واطْوِعنا بُعْده، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل والمال. اللهم إنا نعوذ بك من وَعْثاء السفر وكآبة المنقلب، وسوء المنظر في الأهل والمال والولد» للحديث الصحيح في ذلك. 18ً - السفر بالليل والرفق بالدابة: يستحب إكثار السفر في الليل، لحديث أنس: «عليكم الدُّلْجة، فإن الأرض تطوى بالليل» (¬2)، وأن يريح دابته بالنزول عنها غدوة وعشية، ويتجنب النوم على ظهرها، للحديث الصحيح في النهي عن اتخاذ ظهور الدواب منابر، لكن يجوز للحاجة؛ لما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم خطب على راحلته. ¬
ويحرم عليه أن يحمل على الدابة فوق طاقتها، وأن يجيعها من غير ضرورة. ولا بأس بالارتداف على الدابة إذا أطاقته، فقد صحت الأحاديث في ذلك. 19ً - التقشف والرفق في السفر: أن يتجنب الشبع المفرط والزينة والترفه والتبسط في ألوان الأطعمة، فإن الحاج أشعث أغبر، روى الترمذي وابن ماجه عن ابن عمر قال: «قام رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: من الحاج؟ قال: الشَعِث التفِل». وينبغي أن يستعمل الرفق وحسن الخلق مع الناس، ويتجنب المخاصمة والمخاشنة ومزاحمة الناس في الطريق وموارد الماء إذا أمكنه ذلك. ويصون لسانه من الشتم والغيبة ولعن الدواب وجميع الألفاظ القبيحة، للحديث المتقدم: «من حج فلم يرفث، ولم يفسق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه». 20ً - عدم اصطحاب الكلب أو الجرس: يكره أن يستصحب كلباً أو جرساً، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن العير التي فيها الجرس لا تصحبها الملائكة» (¬1) وقوله: «لا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب أو جرس» (¬2) «الجرس مزمار الشيطان» (¬3). 21ً - التكبير والتسبيح: السنة التكبير عند العلو، والتسبيح عند الهبوط في وادٍ ونحوه، بدون رفع الصوت. 22ً - الدعاء عند رؤية بلد: يستحب إذا أشرف على قرية أو منزل يقول: «اللهم إني أسألك خيرها وخير أهلها وخير ما فيها، وأعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها». ¬
23ً - الدعاء عند نزول منزل: السنة إذا نزل منزلاً أن يقول: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) لحديث خولة بنت حكيم فيما رواه مسلم: «من نزل منزلاً ثم قال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء، حتى يرتحل من منزله ذلك». ويستحب أن يسبح في حال حطه الرحل، لقول أنس: «كنا إذا نزلنا سبحنا حتى نحط الرحال». ويكره النزول في قارعة الطريق، لحديث أبي هريرة: «لا تعرِّسوا على الطريق فإنها مأوى الهوام بالليل» (¬1). 24ً - الدعاء عند دخول الليل: السنة إذا جن عليه الليل أن يقول ما رواه أبو داود عن ابن عمر قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا سافر، فأقبل الليل، قال: يا أرض، ربي وربك الله، أعوذ بالله من شرك وشر ما فيك وشر ما خلق فيك، وشر ما يدب عليك، أعوذ بالله من أسد وْسْود، والحية والعقرب، ومن ساكن البلد (¬2)، ومن والد وما ولد». 25ً - الدعاء عند الخوف: إذا خاف قوماً أو إنساناً أوغيره، قال ما رواه أبو موسى الأشعري: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا خاف قوماً، قال: اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم» (¬3). ويستحب أن يكثر من دعاء الكرب هنا وفي كل موطن وهو: «لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلاالله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض، ورب العرش الكريم» (¬4). ¬
وكان صلّى الله عليه وسلم إذا كربه أمر قال: «يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث» (¬1). 26ً - أذكار المسافر في الأزمات: إذا استصعبت دابته، قرأ في أذنيها {أفغير دين الله يبغون، وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً، وإليه يرجعون} [آل عمران:83/ 3] وإذا انفلتت دابته نادى مرتين أو ثلاثاً: «يا عباد الله احبسوا». وإذا ركب سفينة قال: {بسم الله مجريها ومرساها، إن ربي لغفور رحيم} [هود:41/ 11]. {وما قدروا الله حق قدره .. } [الأنعام:91/ 6] الآية. 27ً - الدعاء في السفر: يستحب الإكثار من الدعاء في جميع سفره لنفسه ولوالديه وأحبائه وولاة المسلمين وسائر المسلمين بمهمات أمور الآخرة والدنيا، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ثلاث دعوات مستجابات، لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده» (¬2). 28ً - التزام الطهارة والصلاة: يستحب له المداومة على الطهارة والنوم على الطهارة، والمحافظة على الصلاة في أوقاتها المشروعة، وله عند الشافعية أن يقصر ويجمع، وله ترك الجمع والقصر، وله عند الشافعية فعل أحدهما وترك الآخر، لكن الأفضل أن يقصر وألا يجمع خروجاً من الخلاف؛ لأن أبا حنيفة رحمه الله يوجب القصر ويمنع الجمع، إلا في عرفات والمزدلفة. وإذا جمع أذَّن في وقت الأولى، وأقام لكل صلاة، كما تقدم في صلاة المسافر. ويستحب صلاة الجماعة في السفر، ولكن لا تتأكد كتأكدها في الحضر. وتسن السنن الراتبة مع الفرائض في السفر، كما تسن في الحضر. ¬
المبحث الثاني ـ آداب رجوع الحاج من سفره
المبحث الثاني ـ آداب رجوع الحاج من سفره: للحاج وكل مسافر عند عودته إلى بلده آداب أهمها ما يأتي (¬1): 1ً - السنة أن يقول ما ثبت في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان إذا قفل من غزو أو حج أو عمرة، كبر على كل شرف من الأرض ثلاث تكبيرات، ثم يقول: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، آيبون تائبون، عابدون ساجدون، لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» (¬2). 2ً - السنة إذا قرب من وطنه أن يبعث قدامه من يخبر أهله، كيلا يقدم عليهم بغتة. 3ً - يحسن أن يقول إذا أشرف على بلده: (اللهم إني أسألك خيرها، وخير أهلها، وخير ما فيها، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها) واستحب بعضهم أن يقول: «اللهم اجعل لنا بها قراراً ورزقاً حسناً، اللهم ارزقنا جناها، وأعذنا من وباها، وحببنا إلى أهلها، وحبب صالحي أهلها إلينا» رواه ابن السني في الأذكار. 4ً - إذا قدم، فلا يطرق أهله في الليل، بل يدخل البلدة غدوة، وإلا ففي آخر النهار، روى مسلم عن أنس «أنه صلّى الله عليه وسلم كان لا يطرق أهله ليلاً، وكان يأتيهم غدوة أو عشية». 5ً - إذا وصل منزله، فالسنة أن يبتدئ بالمسجد، فيصلي فيه ركعتين، وإذا دخل منزله صلى أيضاً ركعتين، ودعا وشكر الله تعالى. 6ً - يستحب لمن يسلم على الحاج أن يقول: (قبل الله حجك، وغفر ذنبك، ¬
وأخلف نفقتك) لقوله صلّى الله عليه وسلم: «اللهم اغفر للحاج، ولمن استغفر له الحاج» (¬1). هذا وإن قيام العوام بذبح الشاة بين رجلي الحاج يؤدي إلى تحريم أكلها، إذ إن الذبح بنية تعظيم فلان يحرم أكلها ولو ذكر اسم الله عليها، أما مظاهر الاستقبال الزائدة فهو رياء ينافي الإخلاص في العبادة. 7ً - يستحب أن يقول إذا دخل بيته ما كان يقوله النبي صلّى الله عليه وسلم فيما رواه ابن عباس: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا رجع من سفره، فدخل على أهله، قال: توباً توباً، لربنا أوباً، لا يغادر حوباً» توباً: أي نسألك توبة كاملة، ولا يغادر حوباً أي لا يترك إثماً. 8ً - ينبغي أن يكون رجوعه خيراً مما كان، فهذا من علامات قبول الحج، وأن يكون خيره مستمراً في ازدياد. انتهى الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع (الأيمان والنذور والكفارات، النظريات الفقهية وقرارات المجامع) ¬
الباب السادس: الأيمان والنذور والكفارات
المحتويات البَابُ السَّادس: الأيمان والنُّذور والكفَّارات الفَصْلُ الأوَّل: الأيمان المبحث الأول - تعريف اليمين ومشروعيتها وأنواعها وحكم كل نوع أنواع اليمين 1 - اليمين الغموس 2 - اليمين اللغو 3 - اليمين المنعقدة أو المؤكدة أنواع اليمين المنعقدة النوع الأول - اليمين على ما هو متصور الوجود عادة النوع الثاني - اليمين على ما هو مستحيل غير متصور الوجود أصلاً النوع الثالث - اليمين على ما هو مستحيل عادة المبحث الثاني - صيغة اليمين 1 - اليمين باسم من أسماء الله تعالى 2 - اليمين بصفة من صفات الله تعالى 3 - اليمين بالله تعالى بطريق الكناية 4 - اليمين بغير الله تعالى صورة ومعنى (الحلف بمخلوق) 5 - الحلف بغير الله تعالى صورة ولكنها يمين بالله معنى المبحث الثالث - شروط صحة اليمين 1ً - شروط الحالف
2ً - شروط المحلوف عليه 3ً - شرط ركن اليمين المبحث الرابع - أحوال اليمين التي يحلف عليها فعلاً المطلب الأول - الحلف على الدخول المطلب الثاني - الحلف على الخروج المطلب الثالث - الحلف على الكلام المطلب الرابع - الحلف على الأكل والشرب والذوق ونحوها المطلب الخامس - الحلف على اللبس والكسوة المطلب السادس - الحلف على الركوب المطلب السابع - الحلف على الجلوس المطلب الثامن - الحلف على السكنى المطلب التاسع - الحلف على الضرب والقتل المطلب العاشر - الحلف على مايضاف إلى غير الحالف بحثان ملحقان بهذا المطلب البحث الأول - الحلف على فعل صادر من غير الحالف البحث الثاني - فعل الغير بأمر الحالف المطلب الحادي عشر - الحلف على تصرفات شرعية الفصل الثاني - النذور تعريف النذر وركنه شروط النذر شروط المنذور به حكم النذر
1 - أصل حكم النذر 2 - وقت ثبوت حكم النذر 3 - كيفية ثبوت حكم النذر الفصل الثالث - الكفارات أنواع الكفارات كفارة اليمين ومشروعيتها وسبب وجوبها نوع الواجب في كفارة اليمين خصال الكفارة 1 - الإطعام 2 - الكسوة - صفتها وقدرها 3 - عتق الرقبة 4 - الصوم - مقداره وشرطه الباب السابع - الحظر والإباحة المبحث الأول - الأطعمة المطلب الأول - أنواع الأطعمة وحكم كل نوع منها المطلب الثاني - ما لا نص فيه - الاحتكام للذوق العربي المطلب الثالث - حالة الضرورة أولاً - تعريف الضرورة وحكمها ثانياً - شروط الضرورة أو ضوابطها ثالثاً - هل تشمل الضرورة حالة السفر والحضر جميعاً؟ رابعاً - جنس الشيء المستباح للضرورة خامساً - كيفية ترتيب الأفضلية بين مطعومات الضرورة
سادساً - مقدار الجائز تناوله للضرورة سابعاً - حكم أخذ طعام قهراً للضرورة ثامناً - حالات خاصة للضرورة أو الحاجة المطلب الرابع - إجابة الولائم وموائد المنكر وآداب الطعام أولاً - إجابة الولائم وموائد المنكر ثانياً - آداب الطعام والشراب المبحث الثاني - الأشربة أولاً - حكم الأشربة ثانياً - الانتباذ في الظروف والأواني ثالثاً - تخلل الخمر وتخليلها المبحث الثالث - اللبس والاستعمال والحلي المبحث الرابع - الوطء والنظر واللمس واللهو والتصوير والرسم والوشم وأحكام الشعر والنتف والتفليج والسلام أولاً - الوطء وأحكامه ثانياً - النظر الأول - نظر الرجل للمرأة الثاني - نظر المرأة للرجل الثالث - نظر الرجل إلى الرجل الرابع - نظر المرأة إلى المرأة ثالثاً - اللمس رابعاً - اللهو خامساً - التصوير
سادساً - وسم الحيوان سابعاً - أحكام الشعر ثامناً - الوشم والنمص والتفليج تاسعاً - الترجل والتخنث عاشراً - السلام المبحث الخامس - مسائل في البيع والتعامل أولاً - بيع السماد الطبيعي ثانياً - استيفاء دين المسلم من ثمن خمر الذمي ثالثاً - بيع العنب للخمار رابعاً - الإجارة للكنيسة أو حمل خمر الذمي خامساً - بيع بناء بيوت مكة وأرضها وإجارتها سادساً - دخول الكافر المساجد سابعاً - الاحتكار ثامناً - التسعير الباب الثامن - الأضحية والعقيقة الفصل الأول - الأضحية المبحث الأول - تعريف الأضحية ومشروعيتها وحكمها المطلب الأول - تعريف الأضحية ومشروعيتها المطلب الثاني - حكم الأضحية حالة تغير حكم الأضحية أو نوعا الأضحية المبحث الثاني - شروط الأضحية المطلب الأول - شروط إيجاب الأضحية أو سنيتها
المطلب الثاني - شروط صحة الأضحية المطلب الثالث - شروط المكلف بالأضحية المبحث الثالث - وقت التضحية المبحث الرابع - الحيوان المضحى به المطلب الأول - نوع الحيوان المضحى به المطلب الثاني - سن الحيوان المضحى به المطلب الثالث - قدر الحيوان المضحى أو ما يجزئ عنه المطلب الرابع - أوصاف الحيوان المضحى المبحث الخامس - مندوبات الأضحية ومكروهاتها وما يسن لمريد التضحية المبحث السادس - أحكام لحوم الضحايا الفصل الثاني - العقيقة وأحكام المولود المبحث الأول - العقيقة 1 - حكم العقيقة ومعناها وحكمتها 2 - جنسها وسنها وصفتها 3 - عددها 4 - وقتها 5 - حكم لحمها وجلدها المبحث الثاني - أحكام المولود الباب التاسع - الذبائح والصيد الفصل الأول - الذبائح مقدمة في تعريف الذبح وحكمه شرعاً المبحث الأول - الذابح
المبحث الثاني - الذبح أو التذكية المطلب الأول - عدد المقطوع المطلب الثاني - موضع القطع المطلب الثالث - الذبح من القفا المطلب الرابع - قطع النخاع المطلب الخامس - فورية الذبح المطلب السادس - شروط الذبح أو التذكية الشرعية المطلب السابع - سنن التذكية المطلب الثامن - مكروهات التذكية المطلب التاسع - أنواع التذكية المطلب العاشر - ما يحرم أكله من المذبوح المطلب الحادي عشر - أثر ذكاة الأم في الجنين المطلب الثاني عشر - أثر الذكاة في المشرف على الموت أو المريض أولاً - أثر الزكاة في المشرف على الموت أو المريض ثانياً - أثر الزكاة في الحيوان المريض المطلب الثالث عشر - أثر الذكاة في غير المأكول المبحث الثالث - آلة الذبح السكين الكالّة المبحث الرابع - الحيوان الذبيح النوع الأول - الحيوان المائي النوع الثاني - الحيوان البري النوع الثالث - الحيوان البرمائي
ملحق - حول طرق الذبح الحديثة في المسلخ الحديث الفصل الثاني - الصيد المبحث الأول - تعريف الصيد وحكمه أو مشروعيته المبحث الثاني - شروط إباحة الصيد المطلب الأول - شروط الصائد المطلب الثاني - شروط آلة الصيد شروط السلاح المصيد به شروط الحيوان الصائد هل يجب غسل معضّ الكلب؟ المطلب الثالث - شروط المصيد المبحث الثالث - ما يباح اصطياده من الحيوان عند الحنفية المبحث الرابع - متى يملك الصائد المصيد؟ حالة الاشتراك في الصيد القسْمُ الثَّاني: النّظَريّات الفقهيّة تقديم الفصل الأول - نظرية الحق المبحث الأول - تعريف الحق وأركانه المطلب الأول - تعريف الحق المطلب الثاني - أركان الحق المبحث الثاني - أنواع الحق التقسيم الأول - باعتبار صاحب الحق 1 - حق الله تعالى (الحق العام)
2 - حق الإنسان (العبد) تقسيم حق الشخص (العبد) الأول - حقوق تقبل الإسقاط وحقوق لاتقبل الإسقاط الثاني - حقوق تورث وحقوق لا تورث التقسيم الثاني - باعتبار محل الحق 1 - الحقوق المالية وغير المالية 2 - الحق الشخصي والحق العيني 3 - الحقوق المجردة وغير المجردة التقسيم الثالث - باعتبار المؤيد القضائي وعدمه المبحث الثالث - مصادر الحق أو أسبابه المبحث الرابع - أحكام الحق 1 - استيفاء الحق التسامح في الاستيفاء والأداء 2 - حماية الحق 3 - حق التأليف والنشر والتوزيع 4 - استعمال الحق بوجه مشروع نقل الحق انقضاء الحق الفصل الثاني - الأموال المبحث الأول - تعريف المال وإرثه الأشياء غير المادية - الحقوق والمنافع المبحث الثاني - أقسام المال
المطلب الأول - المال المتقوم وغير المتقوم المطلب الثاني - العقار والمنقول المطلب الثالث - المال المثلي والقيمي الذمة المالية وخصائصها المطلب الرابع - المال الاستهلاكي والاستعمالي الفصل الثالث - الملكية وخصائصها المطلب الأول - تعريف الملكية والملك المطلب الثاني - قابلية المال للتملك وعدمها 1 - مالا يقبل التمليك ولا التملك بحال 2 - مالا يقبل التملك إلا بمسوغ شرعي 3 - مايجوز تملكه وتمليكه مطلقاً بدون قيد المطلب الثالث - أنواع الملك المطلب الرابع - أنواع الملك الناقص 1 - ملك العين فقط 2 - ملك المنفعة الشخصي أو حق الانتفاع 3 - ملك المنفعة العيني أو حق الارتفاق المطلب الخامس - أسباب الملك التام 1 - الاستيلاء على المباح أولاً - إحياء الموات ثانياً - الاصطياد ثالثاً - الاستيلاء على الكلأ والآجام رابعاً - الاستيلاء على المعادن والكنوز
2 - العقود الناقلة للملكية 3 - الخلفية 4 - التولد من المملوك الفصل الرابع - نظرية العقد المبحث الأول - تعريف العقد والفرق بينه وبين التصرف والالتزام والإرادة المنفردة العقد والالتزام العقد والإرادة المنفردة الالتزام بإرادة واحدة المبحث الثاني - تكوين العقد المطلب الأول - ركن العقد تعريف الإيجاب والقبول المطلب الثاني - عناصر العقد العنصر الأول - صيغة العقد الفرع الأول - أساليب صيغة الإيجاب والقبول الفرع الثاني - شروط الإيجاب والقبول مجلس العقد هل تشترط الفورية في القبول صيغة العقد كيفية إبرام التعاقد بالهاتف واللاسلكي ونحوهما زمن إتمام العقد في التعاقد بين غائبين التعاقد حالة المشي أو الركوب
العنصر الثاني - العاقد أولاً - الأهلية 1 - أهلية الوجوب 2 - أهلية الأداء أدوار الأهلية عوارض الأهلية ثانياً - الولاية تعريف الولاية صلتها بالعقد والفرق بينها وبين الأهلية أنواع الولاية الأولياء ودرجاتهم مبدأ الولاية شروط الولي تصرفات الولي ومدى صلاحياته الوكالة أنواع الوكالة حكم تصرفات الوكيل الفرق بين الوكالة والرسالة حكم العقد وحقوقه في الوكالة التصرفات التي يمارسها الوكيل نوعان انتهاء الوكالة الفضالة
العنصر الثالث - محل العقد 1 - أن يكون موجوداً وقت التعاقد 2 - أن يكون المعقود عليه مشروعاً 3 - أن يكون مقدور التسليم وقت التعاقد 4 - أن يكون معيناً معروفاً للعاقدين العنصر الرابع - موضوع العقد السبب في النظرية الحديثة عند القانونيين موقف الفقهاء من نظرية السبب بالمعنى الحديث 1 - بيع العينة 2 - بيع العنب لعاصر الخمر 3 - بيع السلاح في الفتنة 4 - زواج المحلِّل المطلب الثالث - الإرادة العقدية الفرع الأول - صورية العقود الفرع الثاني - سلطان الإرادة العقدية الأولى - حرية التعاقد ورضائيته الثانية - حرية الاشتراط وترتيب آثار العقود والقوة الملزمة للعقد أولاً - مذهب الحنفية في الشروط ثانياً - مذهب الحنابلة في الشروط الفرع الثالث - عيوب الإرادة أو عيوب الرضا 1 - الإكراه 2 - الغلط
3 - التدليس أو التغرير 4 - الغبن مع التغرير المبحث الثالث - شروط العقد أولاً - شرائط الانعقاد ثانياً - شرائط الصحة ثالثاً - شرائط النفاذ رابعاً - شرائط اللزوم المبحث الرابع - آثار العقد المبحث الخامس - تصنيف العقود التقسيم الأول - بحسب وصف العقد شرعاً منشأ الخلاف بين الحنفية والجمهور العقد الباطل العقد الفاسد العقد المكروه تحريماً 1 - بيع النجش 2 - تلقي الركبان أو الجلب 3 - بيع الحاضر للبادي 4 - البيع وقت النداء لصلاة الجمعة أنواع العقد الصحيح أنواع العقد النافذ التقسيم الثاني - بالنظر إلى التسمية وعدمها التقسيم الثالث - بالنظر إلى غاية العقد وأغراضه
التقسيم الرابع - بالنظر إلى العينية وعدمها التقسيم الخامس - باعتبار اتصال الأثر بالعقد وعدم اتصاله 1 - العقد المنجز 2 - العقد المضاف للمستقبل 3 - العقد المعلق على شرط المبحث السادس - الخيارات خيار المجلس عند الشافعية والحنابلة خيار التعيين خيار الشرط مدة الخيار أثر خيار الشرط خيار العيب خيار الرؤية خيار النقد المبحث السابع - انتهاء العقد انتهاء العقد بالفسخ انتهاء العقد بالموت انتهاء العقد بعدم إجازة الموقوف الفصل الخامس - المؤيدات الشرعية أولاً - المؤيدات المدنية أهم الفروق بين البطلان والفساد ثانياً - المؤيدات التأديبية (أو العقوبات)
العقوبات غير المقدرة أو التعزيرات الشريعة أساس الحكم على الجريمة والعقاب الفصل السادس - نظرية الفسخ تعريف الفسخ لغة واصطلاحاً الفرق بين الفسخ والانفساخ الفرق بين الطلاق والفسخ الإبطال الفساد الفرق بين الفسخ والإفساد الحكم الإجمالي للفسخ ودليله شروط فسخ العقد أسباب الفسخ عدم لزوم العقد بطبيعته استحالة تنفيذ أحد الالتزامين المتقابلين الفسخ للفساد عند الحنفية أنواع الفسخ الفسخ باعتباره جزاءً لعدم تنفيذ العاقد الآخر التزامه الفسخ بسبب الخيار (الفسخ والقوة الملزمة للعقد) الفسخ للأعذار الطارئة الفسخ لاستحالة التنفيذ (الفسخ وتحمل تبعة الهلاك) الفسخ للإفلاس والإعسار والمماطلة الفسخ بسبب البطلان أو الفساد أو الردة في الزواج
الفسخ الرضائي والفسخ الجبري بطريق القضاء فرقة الفسخ: منها مايتوقف على القضاء، ومنها مالا يتوقف عليه الفسخ لعدم إجازة العقد الموقوف الفسخ بسبب الاستحقاق الاستحقاق بالنسبة لفسخ العقد نوعان: مايقبل الفسخ ومالا يقبل العقود اللازمة للطرفين العقود الجائزة غير اللازمة للطرفين العقد اللازم لطرف دون آخر حالات فسخ العقود وحالات عدم الفسخ فسخ عقد البيع: فسخ عقد الإيجار حالات عدم الفسخ فروق بين الفسخ وغيره بعض أسباب الفسخ متى يجوز عدم تنفيذ العقد أو ماهي شروط الدفع بعدم التنفيذ آثار الفسخ (أحكامه) 1 - انتهاء العقد بالفسخ 2 - أثر الفسخ في الماضي (الأثر المستند والمقتصر) والمستقبل ملحق - ما اقتبسه القانون المدني المعاصرمن الفقه الإسلامي مدى الاعتماد على الشريعة في القانونين المصري والسوري بعض المبادئ والنظريات العامة المقتبسة من الفقه الإسلامي
الجزء الرابع من كتاب الفقه الإسلامي وأدلته الباب السادس الأيمان والنذور والكفّارات الأيمان والنذور تشتمل لغة وفقهاً على معنى العقد والتصميم؛ لأن الأيمان: هي التي يعقدها الحالف بإرادته المنفردة قاصداً بها التصميم والعزم على فعل شيء أو تركه، وأما النذور: فهي التي يلتزم بها الناذر بقصد التوصل إلى تحقيق هدف معين. والكفارة: هي جزاء الحنث بالعقد الملتزم به. ومن الواضح أن في اليمين والنذور والكفارة معنى العبادة والتعظيم والطاعة لوجود الالتزام بها نحو الله عزوجل. وأبدأ ببحث الأيمان نظراً لأهميتها وخطورتها وشيوعها بين الناس وأصالتها بالنسبة لغيرها، وذلك في فصول ثلاثة:
الفصل الأول: الأيمان
الفَصْلُ الأوَّل: الأيمان الكلام عن الأيمان يتناول المباحث الأربعة الآتية: المبحث الأول ـ تعريف اليمين ومشروعيتها وأنواعها وحكم كل نوع. المبحث الثاني ـ صيغة اليمين. المبحث الثالث ـ شروط اليمين. المبحث الرابع ـ أحوال اليمين التي يحلف عليها فعلاً، وفيه أحد عشر مطلباً: المطلب الأول ـ الحلف على الدخول. المطلب الثاني ـ الحلف على الخروج. المطلب الثالث ـ الحلف على الكلام. المطلب الرابع ـ الحلف على الأكل والشرب. المطلب الخامس ـ الحلف على اللبس والكسوة. المطلب السادس ـ الحلف على الركوب. المطلب السابع ـ الحلف على الجلوس.
مشروعية اليمين
المطلب الثامن ـ الحلف على السكنى. المطلب التاسع ـ الحلف على الضرب والقتل. المطلب العاشر ـ الحلف على ما يضاف إلى غير الحالف. المطلب الحادي عشر ـ الحلف على أمور شرعية. المبحث الأول ـ تعريف اليمين ومشروعيّتها وأنواعها وحكم كل نوع: تعريف اليمين: اليمين في اللغة لها معان ثلاثة: أولها ـ القوة، ومنه قوله تعالى: {لأخذنا منه باليمين} [الحاقة:45/ 69] أي بالقوة، ثانيها ـ اليد اليمنى وقد سمي العضو باليمين لوفور قوته. ثالثها ـ القسم أو الحلف، وأطلقت اليمين على الحلف؛ لأن الناس كانوا إذا تحالفوا يأخذ كل واحد منهم بيمين صاحبه. وفي اصطلاح الفقهاء كما قال الحنفية: عبارة عن عقد قوي به عزم الحالف على الفعل أوالترك. وسمي هذا العقد باليمين؛ لأن العزيمة تتقوى بها (¬1). مشروعية اليمين: اليمين مشروعة؛ لأن الله تعالى أقسم وأمر نبيه صلّى الله عليه وسلم بالقسم، مثل قوله سبحانه: {والليل إذا يغشى} [الليل:1/ 92] {والشمس وضحاها} [الشمس:1/ 91] {والنجم إذا هوى} [النجم:1/ 53] {والتين والزيتون} [التين:1/ 95] أي وربِّ هذه الأشياء على اعتبار أن المحلوف به محذوف. والنبي أمر بالحلف في ثلاثة مواضع: فقال سبحانه: {ويستنبئونك ¬
أحق هو؟ قل: إي وربي، إنه لحق وما أنتم بمعجزين} [يونس:10/ 53]، وقال تعالى: {قل: بلى وربي لتأتينكم} [سبأ:3/ 34]، وقال عز وجل: {قل: بلى وربي لتبعثن} [التغابن:7/ 64]. وقد ثبت في السنة تشريع اليمين (¬1)، فقال صلّى الله عليه وسلم: «إني ـ والله ـ إن شاء الله، لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير، وتحللتها» (¬2) أي أديت كفارتها. لكن لايملك الحالف الرجوع عن اليمين والنذر والطلاق، وإنما تلزمه بمجرد النطق بها. واليمين وإن كانت في الأصل مباحة عند الفقهاء إلا أنه يكره الإفراط في الحلف بالله تعالى لقوله سبحانه: {ولا تطع كل حلاف مَهين} [القلم:10/ 68] وهذا ذم له يقتضي كراهة فعله. ولذا كان الإمام الشافعي رضي الله عنه يقول: «ما حلفت بالله تعالى صادقاً ولا كاذباً» (¬3)، وقد تقرر أن اليمين مكروهة للنهي عنها بقوله تعالى: {ولا تجعلوا الله عُرْضة لأيمانكم} [البقرة:224/ 2] أي لا تكثروا الحلف بالله، لأنه ربما يعجز الحالف عن الوفاء به، إلا أن تكون اليمين في طاعة من فعل واجب أو مندوب وترك حرام أو مكروه، فتكون طاعة. وعلى هذا ليس من الأدب مع الله تعالى اتخاذ اليمين طريقاً للإقناع والتأثير وإنفاق السلعة والترغيب في المعاملات، أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «الحلف مَنْفَقة للسلعة، مَمْحقة للبركة». ¬
أنواع اليمين
وذكر المالكية أن اليمين بغير الله مكروهة، وقيل: حرام، أما اليمين بنحو (اللات والعزى) فإن اعتقد تعظيمها فهو كفر، وإلا فهو حرام. وذكر الحنابلة أن الأيمان خمسة أنواع: أحدها ـ واجب: وهي التي ينجي بها إنساناً معصوماً من الهلاك. والثاني ـ مندوب: وهو الذي تتعلق به مصلحة من إصلاح بين متخاصمين، أو إزالة حقد من قلب مسلم عن الحالف أو غيره أو دفع شر. والثالث ـ المباح: مثل الحلف على فعل مباح أو تركه، والحلف على الإخبار بشيء هو صادق فيه أو يظن أنه فيه صادق. والرابع ـ المكروه: وهو الحلف على فعل مكروه أو ترك مندوب. والخامس ـ المحرم: وهو الحلف الكاذب، فإن الله تعالى ذمه بقوله: {ويحلفون على الكذب وهم يعلمون} [المجادلة:14/ 58] ولأن الكذب حرام. أنواع اليمين: اليمين بالله تعالى ثلاثة أنواع: يمين منعقدة، ويمين الغموس، ويمين اللغو، قال محمد في كتاب (الأصل): «الأيمان ثلاثة: يمين مكفَّرة، ويمين لا تكفَّر، ويمين نرجو ألا يؤاخذ الله بها صاحبها. وفسر الثالثة بيمين اللغو» (¬1). 1 - اليمين الغَموس: عرفها الحنفية والمالكية بأنها: اليمين الكاذبة قصداً في الماضي أو في الحال، أو هي الحلف على أمر ماض أو في الحال متعمداً الكذب فيه نفياً أو إثباتاً، مثل قول الحالف: (والله لقد دخلت هذه الدار) وهو يعلم أنه ما دخلها، أو قوله عن رجل: (والله إنه خالد) مع علمه أنه عامر ونحو ذلك. ¬
وحكمها عند الجمهور ومنهم الحنفية والمالكية والحنابلة على الراجح عندهم (¬1): أنه يأثم فيها صاحبها، ويجب عليه التوبة والاستغفار، ولا كفارة عليه بالمال. استدلوا بقول الرسول صلّى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين هو فيها فاجر، ليقتطع بها مال امرئ مسلم حرم الله عليه الجنة وأدخله النار» (¬2) وفي الصحيحين: «لقي الله وهو عليه غضبان». قال ابن مسعود: «كنا نعد من اليمين التي لا كفارة لها: اليمين الغموس» وعن سعيد بن المسيب قال: «هي من الكبائر، وهي أعظم من أن تُكفَّر»، يروى عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «من الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس واليمين الغموس» (¬3). والمعقول يؤيدهم وهو أن الذي أتى به الحالف أعظم من أن تكون فيه الكفارة، فلا ترفع الكفارة إثمها، ولا تشرع فيها، وقد سميت بالغموس؛ لأنها تغمس صاحبها في الإثم أو في النار. وقال الشافعية وجماعة: تجب الكفارة في اليمين الغموس، أي تسقط الكفارة الإثم فيها كما تسقطه في غير الغموس؛ لأنه وجدت من الحالف اليمين ¬
2 - اليمين اللغو
بالله تعالى والمخالفة مع القصد، فتلزمه الكفارة كما تلزمه في اليمين المنعقدة على أمر في المستقبل، والله تعالى يقول: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما عقَّدتم الأيمان} [المائدة:89/ 5] وهذا النص عام يعم الحلف في الماضي والمستقبل، فتكون الآية موجبة الكفارة في اليمين الغموس، لكونها من الأيمان المنعقدة، وتعلق الإثم في هذه اليمين لا يمنع الكفارة، كما أن الظهار منكر من القول وزور، وتتعلق به الكفارة (¬1). 2 - اليمين اللغو: اختلف العلماء في تحديد المراد منها، فقال الجمهور (¬2): هي أن يخبر عن الماضي أوعن الحال على الظن أن المخبر به كما أخبر، وهو بخلافه، في النفي والإثبات. وبعبارة أخرى: هي أن يحلف على شيء يظنه كما حلف، فلم يكن كذلك. مثل قول الحالف: (والله ماكلمت زيداً) وفي ظنه أنه لم يكلمه، و: (والله لقد كلمت زيدا ً) وفي ظنه أنه كلمه، وهو بخلاف الواقع. أو يقول: (والله إن هذا الطائر لغراب) وفي ظنه أنه كذلك، ثم تبين في الواقع أن الطائر حمام مثلاً. وقال الشافعي (¬3): لغو اليمين: ما لم تنعقد عليه النية. أو بعبارة أخرى: يمين اللغو: هي التي يسبق اللسان إلى لفظها بلا قصد لمعناها، أو يريد اليمين على شيء، فسبق لسانه إلى غيره، بدليل قوله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما عقَّدتم الأيمان} [المائدة:89/ 5] وروي عن ابن عمر وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم أنهم قالوا: «هو قول الرجل: لا والله، وبلى ¬
والله» (¬1) ولأن ما سبق إليه اللسان من غير قصد لا يؤاخذ به، كما لو سبق لسانه إلى كلمة الكفر. واتفق الفقهاء على أن يمين اللغو لا كفارة فيها، لقوله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} [المائدة:89/ 5]، ولأنها يمين غير منعقدة، فلم تجب فيها كفارة، ولأنها لا يقصد بها المخالفة، فأشبه ذلك ما لو حنث ناسياً (¬2). والشافعية يرون أن يمين اللغو تكون على أمر في الماضي أو الحال أو المستقبل؛ لأن الأدلة التي ذكروها لم تفرق بين الماضي والمستقبل، فكان الحلف لغواً على كل حال. والحنفية يقولون: لا لغو في المستقبل، بل اليمين على أمر في المستقبل تعتبر يميناً منعقدة، وتجب فيها الكفارة إذا حنث الحالف، سواء قصد اليمين أو لم يقصد، وإنما تختص يمين اللغو في الماضي أو الحال فقط (¬3) بدليل قوله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} [المائدة:89/ 5]، واللغو في اللغة: اسم للشيء الذي لا حقيقة له، بل على ظن من الحالف أن الأمر كما حلف عليه، والحقيقة بخلاف ذلك، وهكذا اليمين على أمر في الماضي أو الحال، فهو مما لا حقيقة له إذ ليس فيه قصد اليمين: وهو المنع عن شيء أو الحث على شيء، فكان لغواً. أما اليمين في المستقبل فهي يمين منعقدة، كما سيأتي بيانه في اليمين المعقودة. ¬
3 - اليمين المنعقدة أو المعقودة أو المؤكدة
3 - اليمين المنعقدة أو المعقودة أو المؤكدة: هي ما يحلف على أمر المستقبل أن يفعله أو لا يفعله، وحكم هذه اليمين وجوب الكفارة عند الحنث (¬1) لقوله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما عقَّدتم الأيمان، فكفارته ... } [المائدة:89/ 5]، الآية. والمراد به اليمين في المستقبل، بدليل قوله تعالى: {واحفظوا أيمانكم} [المائدة:89/ 5]، ولا يتصور الحفظ عن الحنث والمخالفة إلا في المستقبل، ولأنه تعالى قال: {ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها} [النحل:91/ 16]، والنقض إنما يتصور في المستقبل (¬2). ووجوب الكفارة في هذه اليمين أمر مقرر بالاتفاق بعد الحنث، سواء أكانت اليمين على فعل واجب، أم ترك واجب، أم فعل معصية، أم ترك مندوب أم ترك المباح أم فعله (¬3). فإن كانت اليمين على فعل واجب مثل قوله: (والله لأصلين صلاة الظهر اليوم) أو: (لأصومن رمضان) فإنه يجب عليه الوفاء بيمينه، ولا يجوز له الامتناع عنه لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه» (¬4) فإن امتنع عن البر يأثم ويحنث (¬5) ويلزمه الكفارة (¬6). ¬
وإن كانت اليمين على ترك الواجب أو على فعل المعصية كأن قال: (والله لا أصلي صلاة الفرض) أو: (لا أصوم رمضان) أو قال: (والله لأشربن الخمر) أو: (لأقتلن فلانا ً) أو: (لا أكلم والدي) ونحو ذلك، فإنه يجب عليه للحال الكفارة بالتوبة والاستغفار، ثم يجب عليه الحنث والكفارة بالمال؛ لأن عقد هذه اليمين معصية (¬1) وقد قال صلّى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين، فرأى غيرها خيراً منها، فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه» (¬2). وإن كانت اليمين على ترك المندوب مثل: (والله لا أصلي نافلة، ولا أصوم تطوعاً، ولا أعود مريضاً ولا أشيع جنازة) ونحو ذلك، أو على فعل المكروه مثل: (والله لألتفت في الصلاة) فالأفضل له ألا يفعل المكروه ويفعل المندوب أي يحنث، ويكفر عن يمينه، للحديث السابق: (من حلف على يمين .. ) ولقوله تعالى: {ولا يأتل (¬3) أولو الفضل منكم والسعة} .. [النور:22/ 24] الآية، نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقد حلف ألا يبرّ مِسْطحاً بسبب اشتراكه في حديث الإفك على عائشة (¬4). وإن كانت اليمين على مباح تركاً أو فعلاً، كدخول دار، وأكل طعام، ولبس ثوب ونحوه، فالأفضل له البر أي ترك الحنث، لما فيه من تعظيم الله تعالى، وقد ¬
حكم الناسي والمكره
قال سبحانه: {ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها} [النحل:91/ 16] وله أن يُحنث نفسه، ويكفر عن يمينه (¬1). حكم الناسي والمكره: الكفارة تجب في اليمين المنعقدة عند الحنفية والمالكية، سواء أكان الحانث عامداً أم ساهياً أم مخطئاً أم نائماً أم مغمى عليه أم مجنوناً أم مكرهاً (¬2) لأن الآية القرآنية وهي: {ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان} [المائدة:89/ 5] لم تفرق بين عامد وناس وغيره، ولقوله عليه الصلاة والسلام: «ثلاثة جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق واليمين» (¬3)، فمن حلف بعتق أو طلاق ألا يفعل شيئاً، ففعله ناسياً حنث؛ لأن هذا يتعلق به حق آدمي، فتعلق الحكم به مع النسيان كالإتلاف. وقال الشافعية والحنابلة (¬4): لا كفارة ولا حنث على غير المكلف كالصبي والمجنون والنائم، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» (¬5) ولا كفارة أيضاً على المغمى عليه ¬
شروط انعقاد اليمين
والسكران غير المتعدي بسكره، والساهي، إذ إنهم في معنى المذكورين في الحديث، فلا تنعقد اليمين منهم، كذلك لاتنعقد من المكرَه لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ليس على مقهور يمنين» (¬1) ولقوله عليه السلام: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ومااستكرهوا عليه» (¬2). شروط انعقاد اليمين: يشترط لانعقاد اليمين الشروط العامة التالية: 1ً - أن يكون الحالف بالغاً عاقلاً: فلا تنعقد يمين الصبي والمجنون، لرفع المؤاخذة عنهما، روى أبو داود عن علي رضي الله عنه، عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يَعْقِل». 2ً - ألا تكون اليمين لغواً: وهي مايجري على ألسنة الناس بغير قصد اليمين كما تقدم، مثل قولهم: (بلى والله، ولا والله). ¬
أنواع اليمين المنعقدة
3ً - أن يكون الحلف بذات الله تعالى مثل: أقسم بالله، أو بأحد أسمائه تعالى، مثل: أقسم بالرحمن أو برب العالمين، أو بصفة من صفاته تعالى مثل: أقسم بعزة الله، أو بعلمه أو بإرادته أو بقدرته. وسأبحث بعض الشروط المختلف فيها والمتفق عليها فيما سيأتي. أنواع اليمين المنعقدة: يشترط لانعقاد اليمين كما سيأتي أن يكون المحلوف عليه متصور الوجود حقيقة عند الحلف، ويشترط أيضاً لبقاء اليمين أن يكون المحلوف عليه متصور الوجود حقيقة بعد اليمين. وبناء على هذا الشرط عند الحنفية انقسمت اليمين المنعقدة إلى أنواع: النوع الأول - أن تكون اليمين على ماهو متصور الوجود عادة. النوع الثاني ــ أن تكون اليمين على ماهو غير متصور الوجود أصلاً. النوع الثالث ــ أن تكون اليمين على ماهو متصور الوجود في نفسه، لكن لايوجد على مجرى العادة. النوع الأول ــ أن تكون اليمين على ماهو متصور الوجود عادة: إذا كان المحلوف عليه أمراً يتصور حدوثه بحسب العادة والإمكان، فإما أن يكون الحلف في حالة الإثبات أي الإيجاب، أو في حالة النفي أي السلب. أولاً ـ إن كان الحلف في حالة الإثبات: فإما أن يكون الإثبات مطلقاً عن الوقت أو مؤقتاً (¬1). ¬
آـ فإن كان الحلف في الإثبات مطلقاً عن التأقيت: مثل: (والله لآكلن هذا الرغيف) أو: (لأدخلن الدار) أو: (لآتين دمشق) فما دام الحالف والمحلوف عليه قائمين، فاليمين باقية لا يحنث؛ لأن الحنث يتحقق عند عدم البر باليمين، وتصور البر ممكن في هذه الحالة: وهو فعل المحلوف عليه مرة في مدة العمر، فإذا هلك الحالف أو المحلوف عليه، حنث لحصول العجز عن تحقيق مقتضى البر، غير أنه إذا هلك المحلوف عليه يحنث وقت هلاكه، وإذا هلك الحالف يحنث في آخر جزء من أجزاء الحياة. ب ـ وإن كان الحلف في الإثبات مؤقتاً: مثل: (والله لآكلن هذا الرغيف اليوم) أو: (لأدخلن هذه الدار اليوم) فما دام الحالف والمحلوف عليه قائمين، والوقت باقياً لا يحنث؛ لأن البر في الوقت مرجو فتبقى اليمين. وإن كان الحالف والمحلوف عليه قائمين، ولكن مضى الوقت، فإنه يحنث باتفاق الحنفية؛ لأن اليمين كانت مؤقتة بوقت، فإذا لم يفعل المحلوف عليه حتى انتهى الوقت، فإنه يحنث. أما إذا هلك أحدهما في الوقت المحدد: فإن هلك الحالف في الوقت ثم مضى الوقت فلا يحنث باتفاق الحنفية والحنابلة؛ لأن الحنث في اليمين المؤقتة بوقت يقع في آخر أجزاء الوقت، وهو في تلك اللحظة ميت، والميت لا يوصف بالحنث. وإن هلك المحلوف عليه وهو الرغيف مثلاً قبل مضي الوقت، فتبطل اليمين عند أبي حنيفة ومحمد وزفر. وقال أبو يوسف والشافعية والحنابلة: لا تبطل اليمين، ويحنث، وتجب الكفارة. واختلفت الرواية عنه في وقت الحنث، روي عنه أنه يحنث عند غروب
ثانيا ـ إذا كان الحلف في حالة النفي
شمس اليوم المحدد فيه وقت اليمين، وروي عنه أنه يحنث للحال، قيل: وهو الصحيح من مذهبه. ثانياً ـ إذا كان الحلف في حالة النفي: فإما أن يكون النفي مطلقاً عن التأقيت أو مؤقتاً. آـ فإن كان الحلف في النفي مطلقاً عن الوقت: مثل: (والله لا آكل هذا الرغيف) أو: (لا أدخل هذه الدار) فإن فعل مرة حنث؛ لأنه لم يتحقق منه البر، وإذا هلك الحالف أو المحلوف عليه قبل الفعل: لا يحنث، لأنه تحقق منه شرط برّه في اليمين: وهو الامتناع عن الفعل. ب ـ وإن كان الحلف في النفي مؤقتاً: مثل: (والله لا آكل هذا الرغيف اليوم) فإن مضى اليوم قبل الأكل، والحالف والمحلوف عليه قائمان، فقد بر في يمينه، لأنه وجد منه شرط البر، وهو ترك الأكل في اليوم كله. وإن هلك الحالف أو المحلوف عليه في اليوم برَّ في يمينه أيضاً؛ لأن شرط البر عدم الأكل، وقد تحقق. وإن فعل المحلوف عليه في الوقت المحدد حنث، لوجود شرط الحنث، وهو الفعل في الوقت. النوع الثاني ـ أن تكون اليمين على ما هو مستحيل غير متصور الوجود أصلا ً: هذا هو المستحيل عقلاً مثل قول الشخص: (والله لأشربن الماء الذي في هذا الكوز وليس في الكوز ماء، أو قوله: «والله لأقضين دين فلان غداً» فقضاه اليوم، أو أبرأه صاحب الدين اليوم، ثم جاء الغد، وحكمه أنه لا تنعقد اليمين عند
أبي حنيفة ومحمد وزفر ومالك وأبي الخطاب من الحنابلة (¬1)؛ لأن اليمين إنما تعقد على متصورالوجود أو متوهم التصور، وليس ههنا واحد منهما، وإذا لم يكن البر باليمين متصوراً فلا يتصور الحنث، فلا فائدة في انعقاد اليمين. وقال أبو يوسف والشافعي والقاضي من الحنابلة (¬2): تنعقد اليمين موجبة للكفارة في الحال؛ لأن الحالف حلف على فعل نفسه في المستقبل، كما لو حلف ليطلقن امرأته، فماتت قبل طلاقها، ولا يشترط عند هؤلاء أن تكون اليمين على أمر متصور الوجود. وإن كان الحالف يعلم أنه لا ماء في الكوز، تنعقد اليمين عند أئمة الحنفية الثلاثة، وعند زفر: لا تنعقد. ويجري هذا الخلاف السابق فيما إذا قال الحالف: (والله لأقتلن فلاناً) وهو لا يعلم بموته، فلا تنعقد اليمين عند أبي حنيفة ومحمد وزفر ومن وافقهم. وقال أبو يوسف ومن معه: تنعقد اليمين (¬3). فإن كان الحالف عالماً بموت الشخص فإنه تنعقد اليمين عند الجمهور، وهو كالنوع الثالث وهو المستحيل عادة؛ لأنه لا يتصور أن يحييه الله، فيقتله، فيكون البر باليمين متصوراً، إلاأنه خلاف المعتاد. وقال زفر: لا تنعقد يمينه. ¬
النوع الثالث ـ أن تكون اليمين على ما هو مستحيل عادة
النوع الثالث ـ أن تكون اليمين على ما هو مستحيل عادة: إذا كان الأمر المحلوف عليه متصور الوجود في نفسه، ولكنه مستحيل بحسب العادة كالصعود في السماء، والطيران في الهواء، أو تحويل الحجر ذهباً، أو شرب ماء دجلة كله، أو قطع المسافة البعيدة في برهةوجيزة، فإنه تنعقد اليمين عند أبي حنيفة وصاحبيه وبقية أئمة المذاهب (¬1)؛ لأن البر متصور الوجود في نفسه بأن يقدر الله تعالى الحالف على ذلك، كما أقدر الملائكة والجن والأنبياء على صعود السماء، وكذلك انقلاب الحجر ذهباً ممكن بتحويل الله تعالى، وهكذا كل ما ذكر إلا أن الحالف عاجز عن الأمر عادة، فبالنظر لتصور وجود المحلوف عليه حقيقة انعقدت اليمين، وبالنظر للعجز عن تحقيق المحلوف عليه عادة حنث في الحال، ووجبت الكفارة، كما لو حلف ليطلقن امرأته، فماتت. وقال زفر رحمه الله تعالى: لاينعقد يمين هذا الحالف: لأنه مستحيل عادة فيلحق بالمستحيل حقيقة، وبما أن اليمين لا ينعقد في المستحيل حقيقة فلا ينعقد كذلك في المستحيل عادة (¬2). فإذا كانت هذه اليمين مؤقتة مثل: (والله لأصعدن السماء اليوم) فإنه عند أبي حنيفة ومحمد: يحنث في آخر اليوم؛ لأن البر يجب في المؤقتة في آخر اليوم عندهما، ويكون الوقت ظرفاً موسعاً. وقال أبو يوسف: يحنث في الحال، لتحقق عجزه عن البر في الحال. وهذا هو الصحيح من مذهبه (¬3). ¬
يمين الفور
يمين الفور: هناك نوع آخر من اليمين المنعقدة أي اليمين في المستقبل: وهو ما تكون اليمين مؤقتة دلالة أو معنى ومؤبدة لفظاً، وهي المسماة يمين الفور: وهي كل يمين خرجت جواباً لكلام، أو بناء على أمر، فتتقيد بذلك بدلالة الحال، مثل أن يقول شخص لآخر: (تعال تغد معي) فقال: (والله لا أتغدى) فلم يتغد معه، ثم رجع إلى منزله، فتغدى، وحكمها: أنه لا يحنث في يمينه استحساناً، والقياس أن يحنث وهو قول زفر. وجه القياس: أن الحالف منع نفسه عن الغداء في عموم الحالات، فتقييد اليمين في بعض الحالات دون بعض تخصيص للعموم. ووجه الاستحسان: أن كلام الحالف خرج جواباً للسؤال، فينصرف إلى ما وقع السؤال عنه، والسؤال وقع عن الغداء المدعو إليه، فينصرف الجواب إليه، كأنه أعاد السؤال وقال: (والله لا أتغدى الغداء الذي دعوتني إليه): يعني أن قصد الحالف متجه إلى الامتناع عن الغداء المدعو إليه بحسب عرف الناس، والأيمان مبنية على العرف عند الحنفية كما سيأتي بيانه. وهناك مثال آخر ليمين الفور وهو: إذا أرادت امرأة إنسان أن تخرج من الدار فقال لها زوجها: (إن خرجت فأنت طالق) فقعدت تاركة الخروج ساعة، ثم خرجت بعدئذ لا يحنث استحساناً؛ لأن دلالة الحال تدل على التقيد بذلك الخروج، كأنه قال: (إن خرجت هذه الخرجة فأنت طالق) فإن ذكر ما يدل على خلاف المقصود، كأن بين أن المراد الخروج مطلقاً في هذا اليوم، فيبطل اعتبار الفور، ويبطل أيضاً اعتبار الفور ويحنث بمطلق التغدي إن قال: (إن تغديت اليوم (¬1)). ¬
قضاء الحق قبل وقته
قضاء الحق قبل وقته: إذا حلف شخص أن يقضي حق غيره في وقت، فقضاه قبله، لم يحنث بيمينه عند الحنفية والحنابلة؛ لأن مقتضى هذه اليمين تعجيل القضاء قبل خروج الوقت، فإذا قضاه قبله، فقد قضى قبل خروج الوقت، وزاد خيراً، ولأن مبنى الأيمان على النية، ونية هذا بيمينه أداء الحق قبل خروج الوقت. وقال الشافعي ـ نقلاً عن ابن قدامة ـ: يحنث إذا قضاه قبله؛ لأنه ترك فعل ما حلف عليه مختاراً، فحنث كما لو قضاه بعده (¬1). فعل بعض المحلوف عليه: إن حلف ليفعلن شيئاً، لم يبر عند الحنابلة إلا بفعل جميعه، وإن حلف ألا يفعله وأطلق، ففعل بعضه، ففيه روايتان عند الحنابلة، أرجحهما أنه يحنث بفعل البعض (¬2). المبحث الثاني ـ صيغة اليمين: تنقسم اليمين بحسب اللفظ المقسم به إلى خمسة أنواع: 1 - يمين بالله تعالى صراحة باستعمال اسم من أسماء الله الحسنى. 2 - يمين بالله تعالى صراحة باستعمال صفة من صفات الله. 3 - يمين بالله تعالى بطريق الكناية. 4 - يمين بالله تعالى من حيث المعنى. 5 - يمين بغير الله تعالى صورة ومعنى. ¬
1 - اليمين باسم من أسماء الله تعالى
1 - اليمين باسم من أسماء الله تعالى: إن الحلف المباح: هو الحلف بالله تعالى، وإن الحالف بغير الله عاص، وقد اتفق العلماء على إباحة الأيمان بأسماء الله سبحانه، سواء أكان الاسم خاصاً لا يطلق إلا على الله تعالى نحو: الله، والرحمن، أم مشتركاً في الإطلاق على الله تعالى وعلى غيره كالعليم والحكيم والكريم والحليم ونحو ذلك؛ لأن هذه الأسماء وإن أطلقت على المخلوقات إلا أنها تنصرف إلى الخالق بدلالة القسم، إذ القسم بغير الله تعالى لا يجوز، فكان المراد بالاسم اسم الله تعالى. حروف القسم: هي الباء، والواو، والتاء، كأن يقول الحالف: بالله، أو والله، أوتالله، وهو بحسب استعمال العرب، وقد ورد الشرع بتأييد اللغة مثل قوله تعالى: {والله ربِّنا ما كنا مشركين} [الأنعام:23/ 6] {وتالله لأكيدن أصنامكم} [الأنبياء:57/ 21] {وأقسموا بالله} [فاطر:42/ 35] وقال صلّى الله عليه وسلم: «والله لأغزون قريشاً ـ ثلاث مرات، ثم قال في الثالثة: إن شاء الله» (¬1)، وقال عليه السلام فيما يرويه عمر: «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً فليحلف بالله، أو ليصمت» قال عمر: «فما حلفت بها بعد ذلك ذاكراً ولا آثراً» (¬2). ¬
2 - اليمين بصفة من صفات الله تعالى
والباء والواو يستعملان في جمع ما يقسم به من أسماء الله تعالى وصفاته. أما التاء فإنه لا يستعمل إلا في اسم الله تعالى، تقول: تالله، ولا تقول: تالرحمن، تعزة الله تعالى. ولو لم يذكر الحالف شيئاً من هذه الأدوات بأن قال: (اللهِ لا أفعل كذا) يكون يميناً عند الجمهور. وقال الشافعية: لو قال: (الله) ورفع أو نصب أو جر فليس بيمين إلا بنية (¬1). 2 - اليمين بصفة من صفات الله تعالى: صفات الله تعالى ثلاثة أقسام: أحدها ـ ما لا يستعمل في عرف الناس وعاداتهم إلا في الصفة نفسها، فالحلف بها يكون يميناً، مثل: «وعزة الله، وعظمته، وجلاله، وكبريائه» يكون حالفاً؛ لأن الحلف بهذه الصفات أمر متعارف بين الناس. الثاني ـ أن يحلف بصفة تستعمل صفة لله ولغيره على السواء، فالحلف بها يكون يميناً أيضاً، مثل (وقدرة الله تعالى، وقوته وإرادته، ومشيئته ورضاه، ومحبته، وكلامه) (¬2) فإنه يكون حالفاً؛ لأن هذه الصفات، وإن استعملت في غير صفة الله، لكن تعين المراد منها بقرينة القسم، إذ لا يجوز القسم بغير اسم الله تعالى وصفاته. ¬
ومما يلحق بهذا القسم: أن يقول الحالف: (وأمانة الله) في ظاهر الرواية عند الحنفية، وهو مذهب المالكية والحنابلة أيضاً. وذكر الطحاوي: أنه لايكون يميناً وإن نوى، دليله: أن أمانة الله فرائضه التي تعبد بها عباده من الصلاة والصوم وغيرهما. قال الله تعالى: {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال .. } [الأحزاب:72/ 33] الآية، فكان حلفاً بغير اسم الله عز وجل، فلا يكون يميناً. ودليل ظاهر الرواية: أن الأمانة المضافة إلى الله تعالى عند القسم يراد بها صفته، بدليل أن «الأمين» من أسماء الله تعالى، وهو مشتق من الأمانة، فكان المراد بها ـ لا سيما في حالة القسم ـ صفة الله. وقال المالكية: اليمين المنعقدة الموجبة للكفارة: الحلف بالله وبأسمائه كالعزيز والرحيم، وبصفاته كعلمه وقدرته وسمعه وبصره وكلامه ووحدانيته، وقدمه وبقائه وعزته وجلاله وعهده وميثاقه وذمته وكفالته وأمانته، وكذلك باسمه وحقه. ويلحق بذلك القرآن والمصحف على المشهور. وقال الشافعية في الراجح عندهم: لا ينعقد اليمين بأمانة الله إلا أن ينوي الحلف بصفة الله تعالى؛ لأن الأمانة تطلق على الفرائض والودائع والحقوق، كما في الآية السابقة. ومن هذا القسم: (وعهد الله) (¬1) فهو يمين، وهذا باتفاق الحنفية والمالكية والحنابلة، وفي وجه عند الشافعية؛ لأن العادة الحلف بها والتغليظ بألفاظها كالحلف بالله وصفات، وفي الوجه الثاني عند الشافعية وهو الراجح: لا تعتبر يميناً ما لم ينو الحالف بها اليمين؛ لأنها تحتمل أن المراد بالعهد: هو استحقاق الله ما ¬
تعبدنا به، فهو يمين، وتحتمل أن المراد بها ما أخذ علينا من العهد في العبادات، فليس بيمين، لأنه يمين بشيء محدث (¬1). ومن هذا القسم أيضاً: (ووجه الله) فهو يمين؛ لأنه الوجه المضاف إلى الله تعالى يراد به الذات، قال تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه} [القصص:88/ 28] أي ذاته. ولو قال الحالف: (وأيم الله) كان يميناً وكذلك إذا قال: (لعمر الله) (¬2). وقال الشافعية لو قال: (وأيم الله) أو (لعمر الله) ونوى به اليمين، كان يميناً (¬3). وقال المالكية والحنابلة كالحنفية: إذا قال الحالف: (وأيم الله) أو (أيمن الله) أي بركته، فهو يمين تجب كفارته؛ لأن الحلف بذلك متعارف، وكذا إذا حلف بقوله (لعمر الله) (¬4). الثالث ـ أن يحلف بصفة تستعمل لله تعالى، ولغيره، لكن استعمالها في غير الصفة هو الغالب، فالحلف بها لا يكون يميناً، مثل قول الحالف: (وعلم الله) (ورحمة الله)، (وكلام الله) أو غضبه أو سخطه أو رضاه (¬5)، لا يكون هذا يميناً؛ ¬
الحلف على المصحف
لأنه يراد بهذه الصفات آثارها عادة، لا نفسها، فالعلم يراد به المعلوم غالباً، والرحمة يراد بها الجنة، قال تعالى: {ففي رحمة الله هم فيها خالدون} [آل عمران:107/ 3] والغضب والسخط يراد به أثر الغضب والسخط عادة: وهو العذاب والعقوبة، لا الصفة نفسها، فلا يصير بذلك حالفاً إلا إذا نوى به الصفة، وكذا العرب لم تتعارف القسم بعلم الله تعالى، فلا يكون يميناً بدون النية (¬1). والخلاصة: أن المعول عليه هو العرف، فما تعارفه الناس أنه يمين فهو يمين وإلا فلا. وقال الشافعية والحنابلة: الحلف بكلام الله وعلمه وقدرته يمين إلا أن ينوي بالعلم المعلوم، وبالقدرة المقدور، كما يقال: (اللهم اغفر لنا علمك فينا) أي معلومك منا ومن زلاتنا. ويقال: انظر (قدرة الله) أي مقدوره (¬2). الحلف على المصحف: الحلف على القرآن أو المصحف يمين باتفاق العلماء من مالكية وشافعية وحنابلة، وكذا عند الحنفية على ما رجحه الكمال بن الهمام والعيني؛ لأن الحالف بالمصحف إنما قصد الحلف بالمكتوب فيه: وهو القرآن، فإنه ما بين دفتي المصحف بإجماع المسلمين. وذلك إلا أن يريد الحالف بقوله (القرآن) الخطبة أو الصلاة، أو يريد بقوله (المصحف) الورق أو الجلد أو النقوش. وقد كان الحنفية يرون أن الحلف بالقرآن أو المصحف ليس يميناً، لأنه حلف بغير الله تعالى. ولكن بما أن القرآن كلام الله فهو من صفاته تعالى، لذا قال ابن الهمام: ولا يخفى أن الحلف بالقرآن الآن متعارف، فيكون يميناً، وقال العيني: وعندي أن المصحف يمين، لا سيما في زماننا (¬3). ¬
الحلف بحق الله
ومن حلف بحق القرآن، لزمته عند الجمهور كفارة واحدة؛ لأن تكرر اليمين بالله سبحانه لا يوجب أكثر من كفارة واحدة، فالحلف بصفة من صفاته أولى أن تجزئه كفارة واحدة. ونص الإمام أحمد على أنه تلزمه بكل آية كفارة يمين، لما رواه الأثرم عن مجاهد من قوله صلّى الله عليه وسلم: «من حلف بسورة من القرآن، فعليه بكل آية كفارة يمين صبر، فمن شاء بر، ومن شاء فجر». الحلف بحق الله: اتفق المالكية والحنابلة، والشافعية في الأصح على أن الحلف بحق الله يعتبر يميناً مكفَّرة؛ لأن الحق اسم من أسماء الله تعالى، أو أن المراد به صفة لله تعالى؛ لأن لله حقوقاً يستحقها لنفسه من البقاء والعظمة والجلال والعزة، فكان الحلف بذلك كقوله: (وقدرة الله) (¬1). وأما مذهب الحنفية في الحلف بحق الله ففيه اختلاف: فقال أبو حنيفة ومحمد وفي رواية عن أبي يوسف: لا يكون يميناً؛ لأن حق الله يراد به طاعة الله ومفروضاته، وليست هذه صفة لله، إذ الطاعات حقوقه كما يتبادر إلى الفهم شرعاً وعرفاً، فيكون حلفاً بغير الله. وقالوا: فلو قال (والحق) يكون يميناً بالاتفاق. ولو قال: (حقاً) لا يكون يميناً؛ لأن الحق من أسماء الله تعالى، قال سبحانه: {ويعلمون أن الله هو الحق المبين} [النور:25/ 24] فذكره معرفاً بأل ينصرف إلىه، والحلف به متعارف. أما إذا ذكر منكَّراً بدون أل فهو مصدر منصوب بفعل مقدر، فكأنه قال: أفعل هذا الفعل لا محالة، فيراد به تحقيق الوعد، فقوله (حقاً) بمنزلة قوله: (صدقاً) وليس في ذلك شيء من معنى الحلف. ¬
الحلف بـ (لعمر الله)
والرواية الأخرى عن أبي يوسف: أن الحلف بحق الله يكون يميناً؛ لأن الحق من صفات الله تعالى، وهو حقّيته أي كونه تعالى ثابت الذات موجودها، فكأنه قال: (والله الحق) والحلف به متعارف، فوجب كونه يميناً (¬1) وهذا هو رأي بقية الأئمة كما عرفنا. الحلف بـ (لعمر الله): هي يمين موجبة الكفارة عند الجمهور؛ لأنه أقسم بصفة من صفات ذات الله، كالحلف ببقاء الله تعالى. وقال الشافعي: إن قصد اليمين فهي يمين وإلا فلا. وإن قال: (وأيم الله وأيمن الله) فهي عند الجمهور يمين موجبة للكفارة. وقال الشافعي: هي يمين إن قصد اليمين كما تقدم سابقاً (¬2) ..... الحلف بلفظ (أقسم بالله ونحوه): إذا قال الحالف: (أقسم بالله، أو أحلف بالله أو أشهد بالله أو أعزم بالله لأفعلن كذا)، يكون يميناً، سواء نوى اليمين أو أطلق عند الحنفية والحنابلة، وفي الأصح عند الشافعية في حالة الإطلاق. وقال المالكية: يكون يميناً إن نوى وأراد اليمين بالله، فإن لم يرد اليمين بالله فليست بيمين. والمراد بالنية: التقدير أي إن قدر أن هذا اللفظ يمين، فإذا لم يقدره ويلاحظه فلا يمين عليه. والدليل على أن الحلف بذلك يمين هو عرف الناس واستعمالهم، قال الله تعالى: {فيقسمان بالله} [المائدة:106/ 5] {وأقسموا بالله} [الأنعام:109/ 6] ويدل عليه أنه لو قال الحالف: بالله ولم يقل: أقسم أو أشهد: أي لم يذكر الفعل، كان يميناً، وإنما كان يميناً بتقدير الفعل قبله؛ لأن الباء تتعلق بفعل مقدر، فإذا ذكر الفعل ونطق بالمقدَّر كان أولى بثبوت حكمه. ¬
الحلف على الغير
وكذلك الحكم إن ذكر الفعل بلفظ الماضي، فقال: (أقسمت بالله أو حلفت بالله لأفعلن كذا)، يكون يميناً (¬1). الحلف على الغير: قال الشافعية وغيرهم (¬2): إذا قال شخص لغيره: (أقسم عليك بالله، أو أسألك بالله لتفعلن كذا)، وأراد يمين نفسه فهو يمين، ويسن للمخاطب أن يبر الحالف، لما روى البخاري «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر بإبرار المقسم» وهذا على سبيل الندب لا على سبيل الإيجاب، بدليل أن أبا بكر قال: «أقسمت عليك يا رسول الله لتخبرني بما أصبت مما أخطأت، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: لا تقسم يا أبا بكر» ولم يخبره، ولو وجب عليه إبراره لأخبره، فإن لم يبره فالكفارة على الحالف، وإن أراد يمين المخاطب أو لم يرد يميناً، بل أراد التشفع بالله عز وجل في الفعل لم يكن يميناً. الحلف بقوله (أقسم لأفعلن كذا): إذا ذكر الحالف القسم والخبر المقسم عليه، ولم يذكر المقسم به أي لفظ الجلالة بأن قال: (أشهد) أو (أحلف) أو (أقسم) أو (أعزم) لأفعلن كذا، كان يميناً عند جمهور الحنفية وفي رواية عن أحمد وهي الراجحة في مذهبه؛ لأن القسم لما لم يجز بغير الله تعالى، دل على أن هنالك مقسماً به محذوفاً: وهو اسم الله تعالى، مثل (واسأل القرية) أي أهلها، ولأن العرب تعارفت الحلف على هذا الوجه، قال الله تعالى: {يحلفون لكم لترضوا عنهم} [التوبة:96/ 9] ولم يقل: بالله، وقال عز وجل: {إذ أقسموا ليصرمُنَّها مصبحين} [القلم:17/ 68] ولم يذكر بالله. وقال سبحانه: {إذا جاءك المنافقون ¬
تكرار المقسم به
قالوا: نشهد إنك لرسول الله} ـ إلى قوله ـ {اتخذوا أيمانهم جنة} [المنافقون:1/ 63] فسماها الله يميناً. وقال المالكية مثل قولهم حالة ذكر المقسم به، وهي الرواية الثانية عن أحمد، وقول زفر عند الحنفية: إن نوى اليمين بالله كان يميناً وإلا فلا؛ لأنه يحتمل القسم بالله وبغيره، فلم تكن يميناً حتى يصرفه بنية إلى ما تجب به الكفارة، واستثنى المالكية من ذلك لفظ (أعزم) فإنه لا يكون يميناً وإن نوى، لأن معنى (أعزم): أقصد وأهتم. وقال الشافعية: لا يكون يميناً وإن نوى؛ لأن ذكر المقسم به ركن من أركان اليمين (¬1). تكرار المقسم به: إذا ذكر الحالف المقسم به مكرراً بدون حرف العطف مثل قوله: (والله الرحمن الرحيم الطالب الغالب المدرك): كان يميناً واحدة بلا خلاف. وإن كرر المقسم به بواسطة حرف عطف مثل قوله: (والله والله) أو (والله والرحمن) لا أفعل كذا: كان يمينين في أرجح الروايتين عن أئمة الحنفية ما عدا زفر؛ لأنه لما عطف أحد الاسمين على الآخر كان الثاني غير الأول؛ لأن المعطوف غير المعطوف عليه، فكان كل واحد منهما يميناً على حدة. أما إذا لم يعطف أحدهما على الآخر، فيجعل الثاني صفة للأول. وقال زفر وهي الرواية الثانية عن أبي حنيفة: يكون ذلك يميناً واحدة في الحالتين؛ لأن حرف العطف قد يستعمل للاستئناف، وقد يستعمل للصفة، فإنه ¬
تكرار الخبر المقسم عليه
يقال: فلان العالم والزاهد والجواد والشجاع، فاحتمل المغايرة، واحتمل الصفة، فلا تثبت يمين أخرى مع الشك (¬1). تكرار الخبر المقسم عليه: إذا كرر الحالف الخبر المقسم عليه بأن قال: (والله لا أفعل كذا، لا أفعل) أو قال: (والله لا أكلم فلاناً والله لا أكلمه) فإنه يكون عند الحنفية يمينين إلا إذا أراد بالكلام الثاني الإخبار عن الأول، فإنه يكون يميناً واحدة. والدليل على الحالة الأولى: أن الحالف لما أعاد المقسم عليه، علم أنه أراد به يميناً أخرى، إذ لو أراد الصفة أو التأكيد لما أعاد المقسم عليه (¬2). 3 - اليمين بالله تعالى بطريق الكناية: إذا حلف إنسان بالخروج من الإسلام مثل أن يقول: إن فعلت كذا فأنا يهودي أو نصراني أو مجوسي أو بريء من الإسلام أو من رسول الله أو من القرآن أو كافر، أو يعبد من دون الله أو يعبد الصليب أو نحوه مما يكون اعتقاده كفراً، فهذا ما اختلف فيه فقهاؤنا: فقال الحنفية (¬3) وفي رواية عن أحمد: يكون يميناً موجبة للكفارة إذا فعل الشيء المحلوف عليه؛ لأن الناس تعارفوا الحلف بهذه الألفاظ من لدن رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا من غير نكير، ولو لم يكن ذلك حلفاً لما تعارفوا؛ لأن الحلف بغير الله تعالى معصية، فدل تعارفهم على أنهم جعلوا المذكور كناية عن الحلف بالله عز وجل، وإن لم يعقل وجه الكناية فيه، كقول العرب: (لله علي أن أضرب ثوبي حطيم (¬4) الكعبة) فهذا جعل كناية عن النذر بالتصدق في عرفهم، وإن لم يعقل وجه الكناية فيه. ¬
وقال المالكية والشافعية والحنابلة في الرواية الصحيحة عندهم: لا يكون ذلك يميناً لخلوه عن ذكر اسم الله تعالى وصفته، ولا كفارة عليه بالحنث فيه، والحلف به معصية، والتلفظ به حرام. هذا إذا قصد بيمينه تبعيد نفسه عن المحلوف عليه، أما لو حلف على قصد الرضا بالتهود وما في معناه إذا فعل الفعل، كفر في الحال، فإن لم يعرف قصده، لا يحكم بكفره، كما رجح الشافعية (¬1). ويؤيد هذا الرأي ماروى بريدة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «من حلف أنه بريء من الإسلام، فإن كان كاذباً فقد قال، وإن كان صادقاً فلم يرجع إلى الإسلام سالماً» (¬2). هذا إذا أضاف اليمين إلى المستقبل، فأما إذا أضاف اليمين إلى الماضي بأن قال: (إني يهودي أو نصراني إن فعلت كذا في الماضي) كاذباً قصداً، فهذا يمين الغموس، ولا كفارة فيه عند جمهور الفقهاء، كما بان سابقاً. لكن هل يكفرُ بقوله هذا؟ اختلف مشايخ الحنفية في ذلك، والصحيح ما روى الحاكم الشهيد عن أبي يوسف أنه لا يكفر؛ لأنه ما قصد به الكفر، ولا اعتقده، وإنما قصد به ترويج كلامه وتصديقه فيه. وكذلك لا يكفُر في الصحيح إذا قال: (يعلم الله أني فعلت كذا) وهو يعلم ¬
الحلف بتحريم شيء من ماله
أنه لم يفعل. وقيل: إنه يكفر إذا علم أن قوله هذا مكفر؛ لأنه بالإقدام عليه صار مختاراً للكفر، واختيار الكفر كفر (¬1). الحلف بتحريم شيء من ماله: قال الحنابلة والحنفية (¬2) إن قال: (الحل علي حرام)، أو قال: (هذا حرام علي إن فعلت)، ثم فعل، فهو مخير إن شاء ترك ماحرمه على نفسه، وإن شاء كفَّر. وقال المالكية والشافعية: ليس بيمين ولا شيء عليه؛ لأنه قصد تغيير المشروع، فلغا ما قصده. والراجح الرأي الأول لقوله تعالى: {يا أيها النبي لِم تحرمُ ما أحل الله لك} ـ إلى قوله ـ {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} [التحريم:1/ 66]. هل اليمين بحسب نية الحالف أو المستحلف؟ اتفق الفقهاء على أن اليمين في الدعاوى تكون بحسب نية المستحلف، واختلفوا في مثل الأيمان على الوعود ونحوه، فقال قوم: بحسب نية الحالف، وقال قوم آخرون: بحسب نية المستحلف. أما المالكية فقالوا: اليمين على نية المستحلف، ولا تقبل نية الحالف؛ لأن الخصم كأنه قبل هذه اليمين عوضاً عن حقه، ولأنه ثبت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «اليمين على نية المستحلف» وفي رواية «يمينك على ما يصدقك به صاحبك» (¬3). ¬
4 - اليمين بغير الله تعالى صورة ومعنى (الحلف بمخلوق)
وأما الحنفية فقد فصلوا في رواية عن أبي حنيفة، فقالوا: اليمين على نية الحالف إذا كان مظلوماً، لأنه لا يقتطع بيمينه حقاً، فلا يأثم وإن نوى غير الظاهر من كلامه، وإن كان ظالماً فعلى نية المستحلف، لأنه يكون حينئذ آثماً إن نوى به غير ما حلف عليه. والمعول عليه عندهم هو أن اليمين على نية المستحلف إلا إذا كانت اليمين بالطلاق أو العتاق ونحوهما، فتعتبر نية الحالف إذا لم ينو خلاف الظاهر ظالماً كان الحالف أو مظلوماً، وكذلك إذا كانت اليمين بالله تعالى وكان الحالف مظلوماً، فإنه تعتبر نية الحالف أيضاً. والظالم: من يريد بيمينه إبطال حق الغير. ووافق الحنابلة أبا حنيفة، فمن حلف فتأول في يمينه أي قصد بكلامه محتملاً يخالف ظاهره، فله تأويله إن كان مظلوماً، وإن كان ظالماً لم ينفعه تأويله. وأما الشافعية فقالوا: العبرة في اليمين بنية الحالف؛ لأن المقصود من الأيمان هو المعنى القائم بالنفس، لا ظاهر اللفظ (¬1). 4 - اليمين بغير الله تعالى صورة ومعنى (الحلف بمخلوق): إذا حلف الإنسان بغير الله تعالى، كالإسلام أو بأنبياء الله تعالى أو بملائكته أو بالكعبة أو بالصلاة والصوم والحج، أو قال: (عليَّ سخط الله وعذابه) أو بالآباء أو الأمهات أو الأبناء، أو بالصحابة أو بالسماء أو بالأرض أو بالشمس أو بالقمر والنجوم ونحوها، ومثل: (لعمرك وحياتك وعيشك وحقك) فلا يكون يميناً ¬
5 - اليمين بغير الله تعالى صورة ولكنها يمين بالله معنى
بإجماع العلماء، وهو مكروه (¬1). قال الشافعي: أخشى أن يكون معصية ولا يجب عليه كفارة؛ لأنه حلف بغير الله تعالى، والناس وإن تعارفوا الحلف بالآباء ونحوهم لكن الشرع نهى عنه، وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تحلفوا بآبائكم ولا بالطواغيت» (¬2)، «فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليذر» (¬3) وقال عليه السلام: «من حلف بغير الله فقد أشرك» (¬4) ولأن هذا النوع من الحلف لتعظيم المحلوف به، وهذا التعظيم لايستحقه إلا الله تعالى. 5 - اليمين بغير الله تعالى صورة ولكنها يمين بالله معنى: وهي اليمين بغير القربات التي يتقرب بها إلى الله تعالى، وهي الحلف بالطلاق والعتاق، أو كالمشي إلى مكة، والصوم والصدقة وغيرها، وذلك بذكر ¬
كلما دخلت هذه الدار فأنت طالق
الشرط والجزاء (¬1)، وبما أنه مانع عن تحصيل الشرط، وحامل على البر، فهو بمنزلة ذكر اسم الله تعالى. ويتحقق هذا الحلف باستعمال أحد حروف الشرط وهي: إن، وإذا، وإذا ما، ومتى، ومتى ما، ومهما، وكلما. مثل قوله لامرأته: (إذا دخلت هذه الدار فأنت طالق) أو: (إن دخلت) أو: (متى دخلت) أو: (إذا مادخلت) أو: (متى مادخلت) فإن وجد الدخول طلقت؛ لأن هذه حروف الشرط، فإذا وجد الشرط، حنث في يمينه، فإن تكرر دخولها لاتطلق؛ لأن هذه الحروف لاتقتضي التكرار (¬2). وحكمها: أنه يلزمه تنفيذ ما حلف به، ولا كفارة فيه. ولو قال لامرأته: (كلما دخلت هذه الدار فأنت طالق) يحنث بدخولها الدار، فإن تكرر دخولها مرة ثانية أو ثالثة، تكرر وقوع الطلاق، فتطلق طلقة واحدة في كل مرة؛ لأن كلمة (كلما) تقتضي تكرار الأفعال، وهي قد دخلت على فعل الدخول. هذا إذا تكرر الدخول في حالة زوجية واحدة، فإن طلقت ثلاثاً، فتزوجت بزوج آخر، وعادت إليه، ثم دخلت الدار في المرة الرابعة، لايقع الطلاق عند أئمة الحنفية ماعدا زفر، لأن محل الجزاء قد فات (¬3). ولو قال: (كل امرأة أتزوجها فهي طالق) فتزوج امرأة، تطلق لوجود الشرط، ولو تزوجها ثانية لاتطلق؛ لأن الطلاق توقف على الزواج لا على طريق ¬
الجمع بين شرطين في يمين
التعليق بالشرط، بل لأنه أوقع الطلاق على امرأة متصفة بأنه تزوجها، ويحصل الاتصاف عند التزوج. ولو تزوج امرأة أخرى تطلق؛ لأن كلمة (كل) توجب عموم الأسماء أي كل ما يوصف بأنه امرأة، ولا توجب عموم الأفعال وتكرارها (¬1). الجمع بين شرطين في يمين: إذا جمع الحالف بين شرطين بأن عطف أحدهما على الآخر بحرف الواو لايقع الطلاق إلا عند وجود الشرطين، مثل قوله: (إن دخلت هذه الدار وهذه الدار) فلا يقع الطلاق إلا عند دخول الدارين جميعاً، سواء قدم الشرط أو أخره أو كان متوسطاً، ولايشترط الترتيب في دخول الدارين؛ لأن حرف الواو لمطلق الجمع، ولعطف الشيء على جنسه، فيكون الشرط معطوفاً على الشرط لا على الجزاء. وكذلك إن عطف بحرف (الفاء) لابد من تحقق الشرطين أيضاً بأن قال: (إن دخلت هذه الدار، فهذه الدار، فأنت طالق) إلا أنه يشترط هنا دخول الدارين على الترتيب والتعقيب بلا تراخ. وكذلك إن كان العطف بحرف (ثم) لابد من تحقق الشرطين بأن قال: (إن دخلت هذه الدار، ثم هذه الدار، فأنت طالق) فيقع الطلاق بدخول الدارين على الترتيب مع التراخي بأن يدخل الدارين الأولى ثم الثانية بعد مدة ساعة من الزمن أو أكثر منها؛ لأن حرف (ثم) للترتيب والتعقيب مع التراخي. والحكم لايختلف في الجمع بين الشرطين، سواء كرر حرف العطف بدون الفعل، كما تقدم، أو كرر حرف العطف مع الفعل بأن قال: (إن دخلت هذه الدار ودخلت هذه الدار) وذلك بالواو أو بالفاء أو بحرف (ثم) (¬2). ¬
تكرار الأيمان في مجلس واحد أو في مجلسين
فإن قال: (الأيمان تلزمني) يحمل على العرف الثابت عند المالكية، والمراد به في بعض البلاد الطلاق الثلاث، فيلزمه (¬1). تكرار الأيمان في مجلس واحد أو في مجلسين: إذا حلف إنسان فقال: (والله لا أكلم فلاناً) ثم قال في ذلك المجلس، أو في مجلس آخر: (والله لا أكلم فلاناً) أو قال لامرأته: (إن دخلت هذه الدار فأنت طالق) ثم قال بعدئذ: (إن دخلت هذه الدار فأنت طالق) فهنا ثلاثة احتمالات: إما ألا يكون له نية، أو نوى بالثانية التغليظ والتشديد، أو نوى بالثانية الأولى. آ - فإن لم يكن نية: فلا شك أنهما يمينان، حتى لو فعل كان عليه كفارتان، فلو كلم فلاناً لزمه كفارتان، وفي اليمين بالطلاق يقع طلقتان إن تحقق الشرط. ب - وإن نوى باليمين الثانية التغليظ: فكذلك عليه يمينان، ويلزمه كفارتان إذا كلم فلاناً، كما أنه يقع عليه طلاقان بدخول الدار. ودليل هاتين الحالتين هو أنه لما أعاد المقسم عليه مع المقسم به، علم أنه أراد به يميناً أخرى. جـ ــ وإن نوى باليمين الثانية الأولى: كان عليه يمين واحدة، لأنه نوى التكرار، وهو مستعمل في العرف للتأكيد، إلا أن في مسألة الطلاق لايصدق قضاء، ويصدق ديانة؛ لأن كلامه ظاهر في تكرار اليمين، فإن نوى خلاف الظاهر، صدق فيما بينه وبين الله تعالى (¬2). وقال المالكية (¬3) كالحنفية: إذا حلف الحالف على شيء واحد بعينه مراراً كثيرة، ففي كل يمين كفارة، إلا أن ينوي أو يريد التأكيد. ¬
المبحث الثالث ــ شروط صحة اليمين
وقال الحنابلة (¬1): إذا كرر الحالف اليمين على شيء واحد، مثل قوله: (والله لأغزون قريشاً، والله لأغزون قريشاً، والله لأغزون قريشاً)، فحنث، فليس عليه إلا كفارة واحدة. وعن الشافعي قولان (¬2): أحدهما كالحنابلة، والآخر كالمالكية، والراجح فيما يظهر أنهم كالمالكية. وسبب الاختلاف: هل الموجب للتعدد هو تعدد الأيمان بالجنس أو بالعدد، فمن قال: اختلافها بالعدد، قال: لكل يمين كفارة إذا كرر. ومن قال: اختلافها بالجنس، قال: في هذه المسألة يمين واحدة. المبحث الثالث ــ شروط صحة اليمين: اشترط الحنفية شروطاً لصحة اليمين بالله تعالى، سواء بالنسبة للحالف والمحلوف عليه وركن اليمين (¬3). 1ً - شروط الحالف: يشترط في الحالف شرطان: أولهما - أن يكون الحالف عاقلاً بالغاً قاصداً إلى اليمين: فلا يصح يمين الصبي والمجنون والنائم. ثانيهما - أن يكون مسلماً: فلا يصح يمين الكافر؛ لأن كفارة اليمين عبادة، والكافر ليس من أهلها. والدليل على أن الكفارة عبادة: أنها لاتتأدى بدون النية، وكذا لا تسقط بأداء الغير عن الحانث، وهذان حكمان مختصان بالعبادات، إذ غير ¬
العبادة لاتشترط فيه النية، ويسقط بأداء الغير مثل الديون ورد المغصوب ونحوها، والكافر ليس من أهل العبادات، فلاتجب بيمينه الكفارة. وقال غير الحنفية (¬1): تصح اليمين من الكافر، وتلزمه الكفارة سواء حنث في أثناء كفره، أو بعد إسلامه، بدليل أن عمر رضي الله عنه نذر في الجاهلية أن يعتكف في المسجد الحرام، فأمره النبي صلّى الله عليه وسلم بالوفاء بنذره (¬2)، ولأن الكافر من أهل اليمين بالله تعالى، بدليل قوله تعالى: {فيقسمان بالله} [المائدة:106/ 5]. وأما الحرية فليست بشرط، فتصح يمين العبد، وكفارته بالصوم حال رقه، وكذا الطواعية والاختيار ليس شرطاً عند الحنفية والمالكية، فتصح اليمين من المكره؛ لأنها من التصرفات التي لاتحتمل الفسخ، فلا يؤثر الإكراه في اليمين كالطلاق والنذر ونحوهما. وقال الشافعية والحنابلة: يشترط أن يكون الحالف مختاراً، فلا تنعقد يمين المكره؛ لأنها من التصرفات التي لاتحتمل الفسخ، فلا يؤثر الإكراه في اليمين كالطلاق والنذر ونحوهما. وقال الشافعية والحنابلة: يشترط أن يكون الحالف مختاراً، فلا تنعقد يمين المكره، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ليس على مقهور يمين» (¬3) ولأنه قول حمل عليه بغير حق، فلم يصح ككلمة الكفر، كما سبق بيانه في أنواع اليمين. ¬
- شرط المحلوف عليه
2ً - شرط المحلوف عليه: يشترط في المحلوف عليه عند أبي حنيفة ومحمد وزفر شرط واحد: وهو أن يكون متصور الوجود (¬1) حقيقة عند الحلف، وفي حال بقاء اليمين. وهو شرط انعقاد اليمين على أمر في المستقبل، وشرط لبقاء اليمين أيضاً، فلا ينعقد اليمين على ماهو مستحيل الوجود حقيقة، ولايبقى إذا صار بحال يستحيل وجوده. وقال أبو يوسف: ليس هذا بشرط لانعقاد اليمين ولا لبقائها، وإنما الشرط فقط أن تكون اليمين على أمر في المستقبل. واتفق أبو حنيفة وصاحباه على أن كون اليمين متصور الوجود عادة ليس بشرط لانعقاد اليمين، وقال زفر: هو شرط، لاتنعقد اليمين بدونه. ويتوضح الخلاف بالأمثلة التطبيقية على كل من الحالتين: المستحيل حقيقة، والمستحيل عادة، وذكر بعضها في بحث أنواع اليمين. أما أمثلة النوع الأول وهو المستحيل حقيقة فهي: لو قال إنسان: (والله لأشربن الماء الذي في هذا الكوز) فتبين أنه لا ماء فيه، لاتنعقد اليمين عند أبي حنيفة ومحمد وزفر، لعدم تحقق شرط انعقاد اليمين: وهو تصور شرب الماء الذي حلف عليه. وعند أبي يوسف: تنعقد اليمين لوجود الشرط بحسب رأيه: وهو مجرد إضافة اليمين إلى المستقبل. فإن كان الحالف يعلم أنه لا ماء في الكوز، فهو من المستحيل عادة: تنعقد اليمين عند أئمة الحنفية الثلاثة، وعند زفر: لاتنعقد. ويجري هذا الخلاف فيما لو وقَّت اليمين فقال: (والله لأشربن الماء الذي في هذا الكوز اليوم). ¬
المستحيل عادة
وإذا قال الحالف: (والله لأقتلن فلاناً): مع أن فلاناً هذا ميت، وهو لايعلم بموته، لاتنعقد اليمين عند أبي حنيفة ومحمد وزفر، وعند أبي يوسف: تنعقد. ويجري هذا الخلاف فيما إذا قال شخص: (والله لأقضين دين فلان غداً) فقضاه اليوم، أو أبرأه صاحب الدين قبل مجيء الغد، لايحنث في يمينه عند الطرفين وزفر والحنابلة. وعند أبي يوسف والشافعي: يحنث. وكذا إذا قال الزوج في اليمين بالطلاق: (إن لم أشرب هذا الماء اليوم فامرأتي طالق) ثم أهريق الماء قبل انقضاء اليوم: لايحنث عند الطرفين وزفر، وعند أبي يوسف: يحنث. وأما أمثلة النوع الثاني: وهو المستحيل عادة فهي: لو قال شخص: (والله لأمسن السماء) أو (لأصعدن السماء) أو (لأحولن هذا الحجر ذهباً) وحكمه: أنه تنعقد اليمين عند أئمة الحنفية الثلاثة. وعند زفر: لاتنعقد. الأدلة: استدل أبو يوسف على المستحيل حقيقة فقال: إن الحالف شرَط لحنثه عدم تحقق فعل من الأفعال: وهو القتل أو شرب الماء مثلاً، فإذا تحقق الشرط حنث، كما في المستحيل عادة. واستدل أبو حنيفة ومحمد وزفر: بأن اليمين تنعقد بقصد البر والوفاء بما حلف عليه، والكفارة تجب لستر الذنب الذي حصل بعدم البر وهو الحنث، فإذا لم يكن البر متصور الوجود حقيقة لايتصور الحنث، فلم يكن في انعقاد اليمين فائدة، فلاتنعقد. وهذا بخلاف المستحيل عادة، فإن البر متصور الوجود في نفسه حقيقة بأن يقدر الله تعالى الحالف على صعود السماء مثلاً، كما أقدر الملائكة والأنبياء عليهم السلام، إلا أنه عاجز عن ذلك عادة، فيحنث للعجز عن تحقيق مقتضى يمينه في العادة.
ــ شرط ركن اليمين
واستدل زفر على عدم انعقاد اليمين في المستحيل عادة بقوله: المستحيل عادة يلحق بالمستحيل حقيقة، وبما أنه لاتنعقد اليمين في المستحيل حقيقة، فلا تنعقد في المستحيل عادة. واستدل جمهور الحنفية على انعقاد اليمين في المستحيل عادة: بأن الذي ينبغي مراعاته هو حقيقة الشيء والعادة فيه، فإذا قررنا انعقاد اليمين فقد اعتبرنا الحقيقة والعادة معاً، وهو أولى من النظر إلى العادة فقط، أو إهدار الحقيقة كما يرى زفر. والخلاصة: إن زفر سوّى في الحكم بين المستحيل حقيقة والمستحيل عادة وهو عدم انعقاد اليمين، وأن أبا يوسف سوَّى في الحكم بين النوعين وهو انعقاد اليمين، وأن أبا حنيفة ومحمد فرقا بين المستحيل حقيقة والمستحيل عادة، فتنعقد اليمين في النوع الثاني دون الأول. ووافق بقية أئمة المذاهب رأي جمهور الحنفية في المستحيل عادة. وأما في المستحيل عقلاً فقد اتفق الشافعي والقاضي من الحنابلة مع أبي يوسف في الرأي. كما اتفق مالك وأبو الخطاب من الحنابلة مع أبي حنيفة ومحمد وزفر رحمهم الله جميعاً، وسبق ذكر ذلك كله. 3ً ــ شرط ركن اليمين: ركن اليمين بالله تعالى: هو اللفظ الذي يستعمل في اليمين بالله تعالى، وهو مركب من المقسم عليه والمقسم به. وقد تكلمت عن المقسم به تحت عنوان: صيغة اليمين. الاستثناء في اليمين: اشترط جميع الفقهاء (¬1) في ركن اليمين نفسه: ¬
أن يخلو عن الاستثناء (¬1)، مثل: إن شاء الله تعالى، أو إلا أن يشاء الله، أو ماشاء الله، أو إلا أن يبدو لي غير هذا، أو إلا أن أرى غير هذا، أو إلا أن أحب غير هذا، أو قال: إن أعانني الله، أو يسّر الله، أو قال: بمعونة الله، أو بتيسيره ونحو ذلك. فإن قال الحالف شيئاً مما ذكر متصلاً مع لفظ اليمين، لم تنعقد اليمين أي أن للاستثناء بالمشيئة تأثيراً في اليمين بالاتفاق. وإن فصل الاستثناء عن لفظ اليمين انعقدت. ودليله قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «من حلف فقال: إن شاء الله لم يحنث» (¬2) وروى أبو داود: «من حلف فاستثنى: فإن شاء رجع، وإن شاء ترك» (¬3) فقول النبي عليه الصلاة والسلام: «من حلف فاستثنى» يقضي كونه عَقِبه لا منفصلاً عنه. وذكر المالكية شروطاً ثلاثة لتعطيل اليمين بالاستثناء بالمشيئة أو بإلا وهي ما يأتي (¬4): أحدها ـ النطق باللسان، ولا يكفيه مجرد النية إلا في الاستثناء بمشيئة الله. الثاني ـ اتصاله باليمين من غير فصل إلا بنحو سعال أو عطاس أو تثاؤب وشبه ذلك. وقال الشافعي: لا بأس بالسكتة الخفيفة للتذكر أو للتنفس أو انقطاع الصوت. ¬
المبحث الرابع ـ أحوال اليمين التي يحلف عليها فعلا
الثالث ـ قصد حل اليمين: فلو قصد تأكيد اليمين أو التفويض إلى الله أو التأدب والتبرك، لم ينفعه الاستثناء. أما النذر فلا ينفع فيه الاستثناء بالمشيئة. ووافقهم بقية الفقهاء في الشرطين الأولين (¬1). وإن قال: إلا أن يشاء فلان، فإن لم تعلم مشيئته لغيبة أو جنون أو موت، انحلت اليمين، لأنه لم يوجد الشرط. وإن عرفت مشيئته فشاء، لزمه الفعل. المبحث الرابع ـ أحوال اليمين التي يحلف عليها فعلا ً: يحلف الإنسان عادة على الأحوال المحيطة به من أكل وشرب ودخول وخروج وجلوس وركوب وسكنى ولبس وكلام وضرب ونحوها، قاصداً حث نفسه أو غيره على فعل الشيء أو المنع منه، فإن خالف مقتضى يمينه حنث ووجبت عليه الكفارة. لهذا كان مناسباً أن يعنون لهذا المبحث بأحوال اليمين التي يكون الكلام عنها في أحد عشر مطلباً بحسب ما هو الأغلب وقوعه بين الناس. وقبل البدء بالكلام عن هذه المطالب أحقق هذه المسائل المهمة التي اختلف فيها الفقهاء، والتي يتوقف إصدار الحكم في أهم موضوعات هذه المطالب على معرفتها وهي: هل الأيمان مبنية على العرف أو النية أوصيغة اللفظ؟ قال الحنفية: الأيمان مبنية على العرف والعادة لا على المقاصد والنيات، لأن غرض الحالف: هو المعهود المتعارف عنده، فيتقيد بغرضه. هذا هو الغالب ¬
عندهم، وقد تبنى الأيمان عندهم على الألفاظ لا على الأغراض (¬1). وقال الشافعية: الأيمان مبنية على الحقيقة اللغوية أي بحسب صيغة اللفظ، لأن الحقيقة أحق بالإرادة والقصد، إلا أن ينوي شيئاً فيعمل بنيته، مثاله: لو حلف إنسان ألا يأكل رؤوساً، فأكل رؤوس حيتان (مفرده: حوت) فمن راعى العرف قال: لا يحنث، ومن راعى دلالة اللغة قال: يحنث. وكذلك يحنث من حلف لا يأكل لحماً، فأكل شحماً مراعاة لدلالة اللفظ، وقال الآخرون: لا يحنث. والخلاصة: أن الشافعي يتبع مقتضى اللغة تارة، وذلك عند ظهورها وشمولها، وهو الأصل العام، وتارة يتبع العرف إذا اشتهر واطرد ...... وقال مالك في المشهور من مذهبه: المعتبر في الأيمان التي لا يقضى (¬2) على حالفها بموجبها وكذلك النذور هو النية (أي نية الحالف في غير الدعاوى ففيها تعتبر نية المستحلف كما بان سابقاً)، فإن عدمت فقرينة الحال، فإن عدمت فعرف اللفط أي ماقصد الناس من عرف أيمانهم، فإن عدم فدلالة اللغة، وقيل: لايراعى إلا النية أو ظاهر اللفظ اللغوي فقط، وقيل: يراعى النية وبساط الحال أي السبب الحامل على اليمين (¬3)، أو المقام وقرينة السياق في اصطلاح علم المعاني. ولاينفع في النذر الاستثناء بالمشيئة. ¬
وأما الأيمان التي يقضى بها على صاحبها: ففي مجال الاستفتاء تراعى هذه الضوابط على هذا الترتيب، وإن كان مما يقضى بها عليه لم يراع فيها إلا اللفظ إلا أن يؤيد ما اد عاه من النية قرينة الحال أو العرف. قال الشاطبي: من مذهب مالك أن يترك الدليل للعرف، فإنه رد الأيمان إلى العرف، مع أن اللغة تقتضي في ألفاظها غير مايقتضيه العرف. كمن حلف لايدخل بيتاً: لايحنث بدخول المسجد، لأنه لا يسمى بيتاً في العرف (¬1). وقال الحنابلة: يرجع في الأيمان إلى النية أي نية الحالف، فإن نوى بيمينه مايحتمله اللفظ انصرفت يمينه إليه، سواء أكان مانواه موافقاً لظاهر اللفظ، أم مخالفاً له (¬2) لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ مانوى» (¬3) فإن لم ينو شيئاً رجع إلى سبب اليمين وما هيجها أو أثارها لدلالته على النية. فإن حلف لا يأوي مع امرأته في هذه الدار، فإن كان سبب يمينه غيظاً من جهة الدار لضرر لحقه منها أو منة عليه بها، اختصت يمينه بها. وإن كان لغيظ لحقه من المرأة يقضي جفاءها ولا أثر للدار فيه، تعلق ذلك بإيوائه معها في كل دار. هذا .. وقد عرفنا أنه ينقسم هذا المبحث إلى أحد عشر مطلباً أذكرها فيما يأتي: ¬
المطلب الأول ــ الحلف على الدخول
المطلب الأول ــ الحلف على الدخول: أبدأ ببيان الأفعال أو الأحوال التي يحلف عليها فعلاً، وأولها الدخول لمكان باعتباره من أهم الأسباب التي تثير المشكلات، وتستدعي الحلول بعد انعقاد الأيمان المحلوفة لمنع المرء نفسه أو غيره من الدخول إلى مكان من الأمكنة. معنى الدخول: الدخول: هو الانتقال من خارج المكان إلى داخله. فإن حلف إنسان لايدخل هذه الدار وهو فيها، فمكث بعد يمينه، لايحنث استحساناً، والقياس أن يحنث وهو قول غير الحنفية، ووجه ذلك أن المداومة على الفعل هي بحكم إنشاء الفعل. ووجه الاستحسان: أن معنى الدخول المذكور وهو (الانتقال من خارج الشيء إلى داخله) لايتحقق؛ لأن الدوام هو المكث، والمكث استقرار في الشيء فيستحيل أن يكون انتقالاً. ولو حلف ألا يدخل داراً أو بيتاً أو مسجداً أو حماماً، فعلى أي وجه دخل: من الباب أو غيره، حنث لوجود الدخول، فإن نزل على سطحها، حنث عند الجمهور غير الشافعية؛ لأن سطح الدار منها، إذ الدار اسم لما تدور عليه الدائرة، والدائرة أحاطت بالسطح. وكذا لو أقام على حائط من حيطانها؛ لأن الحائط مما تدور عليه الدائرة، فكان كسطحها، وهذا هو مذهب المالكية والحنابلة في أن سطح الدار منها، وحكمه كحكمها. وقال الشافعية: لايحنث بصعود سطح من خارج الدار، لأنه لايسمى داخل الدار لغة ولا عرفاً، لأنه حاجز يقي الدار الحر، والبرد، فهو كحيطانها.
ولو قام على ظلة للدار شارعة (¬1) أو كنيف شارع (¬2): فإن كان مفتح ذلك إلى الدار يحنث، لأنه ينسب إليها، فيكون من جملة الدار وإلا فلا يحنث. وإن قام على أسكفَّة (¬3) الباب: فإن كان الباب إذا أغلق كانت الأسكفة خارجة عن الباب لم يحنث لأنه خارج، وإن بقيت من داخل الدار حنث، لأنه داخل؛ لأن الباب يغلق على مافي داخل الدار، لا على ما في الخارج. ولو دخل دهليز (¬4) الدار حنث باتفاق الحنفية والشافعية؛ لأنه من داخل الدار. ولو دخل ظلة باب الدار لا يحنث، لأنها اسم للخارج. وإن أدخل الحالف إحدى رجليه في الدار، ولم يدخل الأخرى لا يحنث بالاتفاق؛ لأنه لم يوجد الدخول مطلقاً، وهو الانتقال بكله، وإنما دخل بعضه، وكذا إذا أدخل رأسه دون قدميه (¬5). ولو حلف لا يدخل داراً، فدخل داراً بعد انهدامها ولا بناء عليها لا يحنث. ¬
الحلف على عدم دخول مسجد
ولو عين المحلوف عليه، فقال: (والله لا أدخل هذه الدار) فذهب بناؤها بعد يمينه، ثم دخلها، يحنث. والفرق بين الصورتين: هو أنه إذا ذكر الحالف لفظ الدار منكَّراً، فإن النكرة تنصرف إلى المتعارف، وهي الدار المبنية، فما لم يوجد البناء وهو وصف الدار لا يحنث، وأما إذا قال: (هذه الدار) فهو إشارة إلى الشيء المعين الحاضر، فيراعى ذات المعين، لا صفته؛ لأن الوصف للتعريف، والإشارة كافية للتعريف، وذات الدار قائمة بعد الانهدام؛ لأن الدار في اللغة اسم للعَرْصة يقال: دار عامرة ودار غير عامرة، وقد شهدت أشعار العرب بذلك، والعرصة قائمة بعد انهدام الدار. ولو أعيد البناء فدخلها يحنث سواء ذكر الدار منكراً أو معيناً (¬1). وقال الشافعية والمالكية: إن حلف لا يدخل هذه الدار فانهدمت، وصارت ساحة، أو جعلت حانوتاً أو بستاناً أومسجداً أو حماماً، فدخلها، لم يحنث، لأنه زال عنها اسم الدار. ثم إن أعيدت بغير تلك الآلة أي بأدوات بناء جديدة من حجارة واسمنت ونحوها لم يحنث بدخولها، لأنها غير تلك الدار. وإن أعيدت بآلتها الأولى ففيه وجهان: أحدهما وهو الأصح: يحنث، والآخر: لا يحنث (¬2). الحلف على عدم دخول مسجد: لو قال شخص: (لا أدخل هذا المسجد) فهدم فصار صحراء ثم دخله، فإنه يحنث لأنه مسجد، وإن لم يكن مبنياً. وإذا دخل سطح المسجد يحنث، لأنه مسجد. ¬
الحلف على عدم دخول بيت
الحلف على عدم دخول بيت: ولو حلف: لا يدخل بيتاً أو هذا البيت، فدخله بعدما انهدم ولابناء فيه، لا يحنث؛ لأن البيت اسم لما يبات فيه، ولا يبات إلا في البناء، وكذلك لا يطلق اسم البيت إلا على المبنى المسقف. الحلف على عدم دخول الفسطاط: لو حلف: (لا يدخل هذا الفسطاط) وهو مضروب في مكان، فقلع وضرب في مكان آخر، فدخله، يحنث؛ لأن اليمين يقع على عين الشيء، والعين باقية لا تتبدل بنقلها من مكان إلى مكان. عدم الجلوس إلى الحائط أو الأسطوانة: إذا حلف: (لا يجلس إلى هذا الحائط، أو إلى هذه الأسطوانة) فهدما، ثم بنيا بأنقاضهما، فجلس إليه: لا يحنث؛ لأن الشيء الجديد غير القديم، فإن الحائط إذا هدم زال اسمه عنه، وكذا الأسطوانة. الحلف على القلم والمقص ونحوهما: إذا حلف: (لا يكتب بهذا القلم) فكسر القلم، بحيث لم تبق صورته، ثم براه، فكتب به، لم يحنث، لأنه إذا كسر، فقد زال عنه اسم القلم، فبطلت اليمين. وكذلك إذا حلف على مقص أو سكين أو سيف، فكسر، ثم أعيد ثانية: لا يحنث؛ لأن اسم الشيء قد زال بالكسر. ولو نزع الحالف مسمار المقص ونصاب السكين وجعل مكانه مسماراً آخر، أو نصاباً آخر: يحنث؛ لأن اسم الشيء لم يزل عنه، وإنما تغير وصف التركيب. الحلف على عدم دخول الدار ثم جعلها شيئاً آخر: لو حلف: (لا يدخل هذه الدار) فجعلها بستاناً أو حماماً أو مسجداً: لا يحنث، لأنها صارت شيئاً آخر من حيث الانتفاع بها والغرض من استعمالها (¬1). ¬
الحلف على عدم دخول باب الدار
وإن حلف: (لا يدخل بيتاَ) فدخل مسجداً أو بِيعة أو كنيسة أو بيت نار (¬1)، أو دخل الكعبة، أو حماماً أو دهليزاً وظلة باب دار: لم يحنث بالاتفاق؛ لأن البيت ما أعدَّ للبيتوتة، وهذه البقاع ما بنيت لها ولأن هذه الأشياء لا تسمى بيتاً في العرف والعادة، ومن المعلوم عند الحنفية أن الأيمان مبنية على العرف. وكذلك لا يحنث إن دخل صُفَّة (¬2) في عرفنا الحاضر؛ لأن الصُفَّة لا تسمى بيتاً في العرف والعادة (¬3). وهذا هو الحكم المقرر أيضاً عند الشافعية (¬4)؛ لأن هذه الأشياء لا تدخل في إطلاق اسم البيت، ولأن البيت اسم لما جعل للإيواء والسكنى، وهذه الأشياء لم تجعل لذلك، ولا تسمى بيتاً عرفاً. ويحنث عندهم بدخول أو سكنى كل بيت من طين أو حجر أو آجر أو خيمة أو بيت شعر أو جلد، لأن اسم البيت يقع على ذلك كله حقيقة في اللغة، سواء أكان الحالف حضرياً أم بدوياً. وخالفهم المالكية (¬5)، فقالوا: إن حلف ألا يدخل على فلان بيتاً، حنث إن دخل عليه في الحمام لا في المسجد. الحلف على عدم دخول باب الدار: لو حلف: (لا يدخل من باب هذه الدار)، فدخلها من غير الباب، لم يحنث بالاتفاق، لعدم الشرط وهو الدخول من الباب. ولو جُعل للدار باب آخر، فدخل منه يحنث؛ لأن الحلف على باب ¬
الحلف على عدم دخول دار فلان
منسوب إليها، فيستوي القديم والحادث إلا إن عين ذلك الباب في حلفه، ولو نواه ولم يعينه يدين فيما بينه وبين الله تعالى، لأن لفظه يحتمله، ولا يدين في القضاء، لأنه خلاف الظاهر، حيث أراد بالمطلق المقيد. ولو حلف: (لا يدخل من باب الدار): فمن أي باب دخل حنث إلا إذا أراد به الباب المعروف، فيدين فيما بينه وبين الله تعالى، دون القضاء (¬1). الحلف على عدم دخول دار فلان: وإن حلف لا يدخل دار فلان فدخل داراً بين فلان وبين آخر، فإن كان فلان ساكناً فيها بالإجارة حنث، وإذا كان مالكاً بعضها حنث من باب أولى. وإن لم يكن ساكناً فيها لا يحنث، لأن الدار مضافة إلى الشخصين إضافة ملك، وكل الدار ليست مضافة إلى أحدهما، لأن بعض الدار لا يسمى داراً، وحينئذ لا يقال: إن الدار لفلان. وهذا يفترق عما إذا حلف لا يزرع أرض فلان، فزرع أرضاً بين فلان وشخص آخر، فإنه يحنث، لأن كل جزء من الأرض يسمى أرضا، وبعض الدار لا يسمى داراً كما ذكرت. وكذلك قال المالكية والشافعية في الأظهر (¬2): من حلف لا يدخل على زيد، فدخل بيتاً فيه زيد وغيره حنث مطلقاً، لوجود صورة الدخول عليه. لكن لو حلف لا يسلم على فلان، فسلَّم على قوم هو فيهم واستثناه، لا يحنث، وإن أطلق حنث في الأظهر، كالدخول. الحلف على عدم دخول بيت فلان: لو حلف شخص لا يدخل بيت فلان، ¬
الحلف على عدم دخول الدار إلا مجتازا
ولا نية له، فدخل صحن داره، وفلان ساكن فيها لا يحنث حتى يدخل البيت؛ لأن البيت اسم لموضع يبات فيه عادة، ولا يبات في صحن الدار عادة، فإن نواه يصدق، لأنه شدد على نفسه. الحلف على عدم دخول الدار إلا مجتازا ً: لو حلف لا يدخل هذه الدار إلا مجتازاً أوعابر سبيل: فإن دخل وهو لا يريد الجلوس، لا يحنث، لأنه عقد يمينه على كل دخول، واستثنى دخولاً بصفة الاجتياز، وقد دخل على الصفة المستثناة. فإن دخل يعود مريضاً، ومن رأيه الجلوس عنده، يحنث، لأنه دخل لا على الصفة المستثناة. وإن دخل لايريد الجلوس، ثم بدا له بعد ما دخل فجلس، لا يحنث؛ لأنه لم يحنث بدخوله، والبقاء على الدخول ليس بدخول. وإن نوى بقوله: (لا يدخلها إلا مجتازاً) النزول فيها والدوام: لا يحنث بالجلوس، لأنه يقول: دخلت عابر سبيل: بمعنى أنه لم يدم على الدخول ولم يستقر (¬1). الحلف بالدخول على فلان: لو حلف إنسان لا يدخل على فلان، فدخل عليه في بيته: فإن كان يقصده بالدخول حنث، وإن لم يقصده لا يحنث، وكذلك إذا دخل عليه في بيت رجل آخر، ولم يقصده بالدخول، لا يحنث. وإنما اعتبر القصد حتى يصير داخلاً عليه؛ لأن الإنسان إنما يحلف ألا يدخل على غيره استخفافاً به وتركاً لإكرامه عادة، وهذا لا يكون إلا مع القصد. وذكر الكرخي عن ابن سماعة في نوادره خلاف هذا، فقال في رجل قال: (والله لا أدخل على فلان بيتاً) فدخل بيتاً على قوم، وفيهم فلان، ولم يعلم به الحالف، فإنه حانث بدخوله، فلم يعتبر القصد للدخول على فلان. ¬
ودليله أنه جعل شرط الحنث الدخول على فلان، وقد وجد الشرط، والعلم بشرط الحنث ليس بشرط في الحنث، كمن حلف لا يكلم زيداً، فكلمه وهو لا يعرف أنه زيد. ولكن ظاهر المذهب هو الرأي الأول. ولو علم الحالف أن فلاناً في القوم، فدخل ينوي الدخول على القوم لا عليه: لا يحنث فيما بينه وبين الله عز وجل، لأنه إذا قصد غيره لم يكن داخلاً عليه، ولا يصدق قضاء؛ لأن الظاهر دخوله على الجماعة وما في اعتقاده لا يعرفه القاضي. فإن دخل عليه في مسجد أو ظلة أو سقيفة أو دهليز دار: لم يحنث لأن الدخول يقع على الدخول المعتاد، وهو الذي يدخل الناس فيه بعضهم على بعض، ولا يكون هذا إلا في البيوت. فإن دخل في فسطاط (¬1) أو خيمة أو بيت شعر: لم يحنث إلا أن يكون المحلوف عليه من أهل البادية، لأنهم يسمون ذلك بيتاً، والتعويل في شأنه على العرف والعادة. ولو دخل عليه في داره، وفلان في بيت من الدار: لم يحنث، لأنه ليس بدخول عليه. وإن كان في صحن الدار، يحنث، لأنه يكون داخلاً عليه إذا شاهده. وإن دخل عليه في المسجد أو الكعبة أو الحمام، لا يحنث لأن المقصود بهذه اليمين الامتناع من الدخول في المواضع التي يُكرَّم الناس بالدخول عليهم فيها، وهذا لا يوجد في هذه المواطن. ¬
المطلب الثاني ـ الحلف على الخروج
ولو دخل الحالف داراً ليس فيها فلان، فدخل فلان تلك الدار: لا يحنث، لأنه ما دخل على فلان، بل فلان دخل عليه فلا يحنث (¬1). وذكر المالكية (¬2): أن من حلف ألا يدخل دار فلان، فدخل داراً مكتراة له، حنث عندهم وعند الحنفية والحنابلة إن لم ينو دار الملك لأن الدار تضاف إلى ساكنها. ومن حلف ألا يدخل دار فلان، فانتقلت عن ملكه، لم يحنث بدخولها. وإن قال: (هذه الدار) حنث. وقال الشافعية: لا يحنث إلا بدخول دار يملكها؛ لأن الإضافة إلى المالك. واتفق الفقهاء (¬3) على أن من حلف لايدخل داراً، فأكره على دخولها، ولم يمكنه الامتناع، لم يحنث؛ لأن الفعل غير موجود منه ولا منسوب إليه. المطلب الثاني ـ الحلف على الخروج: الخروج مقابل للدخول وهو: الانتقال من داخل الشيء إلى خارجه. فلا يكون المكث بعد الخروج خروجاً، كما لا يكون المكث بعد الدخول دخولاً، والخروج كما يكون من البلدان والدور والمنازل والبيوت، يكون من الأخبية والفساطيط والخيم والسفن لوجود تعريف الخروج، وذلك كالدخول. والخروج من الدور المسكونة: أن يخرج الحالف بنفسه ومتاعه وعياله، كما إذا حلف لا يسكن فيها. والخروج من القرى والبلدان: أن يخرج الحالف ببدنة خاصة. ¬
مذهب الحنفية
وهذا مبني عل العرف، فإن من خرج من الدار، وأهله ومتاعه فيها لا يعد خارجاً من الدار، ومن خرج من البلد يعد خارجاً منها، وإن كان أهله ومتاعه فيها (¬1). وهذا هو مذهب الحنابلة أيضاً (¬2)، فالحلف على الخروج يقتضي الخروج بنفسه وأهله، كما لو حلف لا يسكنها. أما من حلف على الخروج من هذه البلدة، فتتناول يمينه عند الحنابلة الخروج بنفسه؛ لأن الدار يخرج منها صاحبها عادة في اليوم مرات، فظاهر حاله أنه لم يرد الخروج المعتاد، أما الخروج من البلد فهو بخلاف ذلك. وقال الشافعية: يتحقق معنى الخروج بأن يخرج الحالف بنفسه بنية الانتقال، لأنه المحلوف عليه، ولا يضر بقاء أهله ومتاعه (¬3). ويترتب على مذهب الحنفية ما يأتي (¬4): الحلف على الخروج من البيت: لو قال رجل لامرأته: (إن خرجت من البيت فأنت طالق) فخرجت من البيت إلى صحن الدار، حنث، لأنه نوى ما يحتمله لفظه: وهو الانتقال من داخل الشيء إلى خارجه، ولأن البيت غير الدار، لأن البيت اسم لمسقف واحد، والدار اسم لحدود يجمع البيوت والمنازل، وبناء عليه إذا قال: (إن دخل فلان بيتك) فدخل صحن دارها، دون بيتها، لم يحنث. والحكم في هذين المثالين مبني على عرف الذين كانوا في عصر المجتهدين، ¬
الخروج من الباب
أما في عرف المتأخرين، فإن اسم البيت يطلق على الدار والمنزل، فيحنث في الثاني دون الأول. الحلف على الخروج من الدار: وإن قال: (إن خرجت من هذه الدار فأنت طالق) فخرجت من هذه الدار من أي باب كان، ومن أي موضع كان: من فوق حائط، أو سطح أو نقب: حنث، لوجود شرط الحنث، وهو الخروج من الدار. الخروج من الباب: ولو قال: (إن خرجت من باب هذه الدار فأنت طالق) فخرجت من أي باب كان، سواء من الباب القديم أو من الباب الحادث بعد اليمين، حنث في يمينه لوجود شرط الحنث: وهو الخروج من باب الدار. فلو خرجت من السطح أو من فوق حائط أو نقب: لا يحنث، لأنه ليس بباب. ولو عين باباً في يمينه فقال: (إن خرجت من هذا الباب) لا يحنث ما لم تخرج من الباب المعين. وإن خرجت من باب آخر، لا يحنث، لأنه قد يكون للتعيين فائدة أو غرض معين، فيعتبر ذلك. الخروج لأمر معين: لو قال: (إن خرجت من هذه الدار إلا في أمر كذا) فخرجت في ذلك الأمر مرة، ثم خرجت لأمر آخر: يحنث، لأنه حرم عليها جميع حالات الخروج إلا خروجاً مقيداً بصفة معينة، فإذا وجد منها الخروج المستثنى لا يحنث، وإن وجد خروج آخر يحنث. وإن عنى بيمينه الخروج مرة يصح. وتكون (إلا) بمعنى (حتى) مجازاً، كأنه قال: (إن خرجت من هذه الدار حتى تخرجي في أمر كذا) فإذا خرجت في ذلك الأمر يسقط اليمين، لتحقق الغاية من اليمين، ولكن هذا يثبت ديانة لا قضاء، لأنه مخالف لحقيقة اللفظ.
الخروج مع فلان
الخروج مع فلان: لو قال: (إن خرجت من الدار مع فلان فأنت طالق) فخرجت وحدها أو مع غير فلان، ثم خرج فلان ولحقها: لم يحنث، لأن حرف (مع) للمصاحبة والقران، فيقتضي مقارنتها في الخروج، ولم يوجد، لأن الدوام على الخروج ليس بخروج. بعض الحالات المتعلقة بالخروج من الدار: لو قال: (إن خرجت من هذه الدار فأنت طالق) فدخلت في صحن الدار أو في بيت علو أو كنيف شارع (¬1) إلى الطريق العام، فإنه لا يحنث، لأن هذا لا يسمى خروجاً من الدار. هل الدوام على الشيء بحكم ابتداء الشيء؟ لو قال لها وهي خارجة من الدار: (إذا خرجت من الدار فأنت طالق) لا يحنث. وكذلك إذا كانت في الدار، فقال: (إن دخلت هذه الدار .. إلخ) لا يحنث، ويقع اليمين على خروج ودخول مستأنف. أما لو قال: (إن قمت أو قعدت أو لبست أو ركبت) وهي قائمة أو قاعدة أو لابسة أو راكبة، فدامت على ذلك ساعة، يحنث. هذا هو مذهب الحنفية؛ لأن الخروج معناه الانتقال من الداخل إلى الخارج والدخول عكسه، وهذا مما لا دوام له، فلا يعتبر الدوام على الخروج خروجاً. أما الركوب ونظائره ففعل له دوام أي تتجدد أمثاله، فيكون له حكم الابتداء. ودليل التفرقة أنه يقال: ركبت أمس واليوم، ولبست أمس واليوم، ولا يقال: دخلت أمس واليوم إلا لدخول مبتدأ جديد (¬2). وزعم الحنفية أن مذهب الشافعي يعتبر الدوام على الدخول والخروج له حكم ¬
الأكل والضرب
ابتداء الفعل، وهذا غير صحيح، فإن نصوص المذهب الشافعي صريحة في أنه لو حلف إنسان ألا يدخل الدار وهو فيها، أو لا يخرج منها، وهو خارج، فلا حنث في الصورتين؛ لأن الدخول هو الانفصال من خارج إلى داخل، والخروج عكسه، ولم يوجد المعنى في الاستدامة، فلهذا لا يسمى دخولاً ولا خروجاً. أما الدوام على اللبس والركوب والقيام والقعود فله حكم الابتداء، فلو استمر في هذه الأحوال حنث (¬1) كما لاحظنا عند الحنفية. ومثل الركوب: الأكل والضرب: فلو قال لها وهي في الأكل والضرب: (إذا أكلت أو ضربت، فأنت طالق) فدامت على ذلك: يقع اليمين؛ لأن كل جزء من هذا الفعل يسمى أكلاًوضرباً. ومثل الدخول والخروج: (الحيض والمرض): فلو قال رجل لامرأته وهي حائض أو مريضة: (إن حضت أو مرضت، فأنت طالق) فإن اليمين يقع على ما يستجد ويحدث من الحيض والمرض، كما هو عرف الناس. ولو نوى ما يحدث من الحيض في هذه المدة أو يزاد من المرض: يصح، لأن الحيض ذو أجزاء، يحدث حالاً فحالاً، فتصح نيته. ولو قال: (إن حضت غدا ً) وهو لا يعلم أنها حائض، فإن اليمين يقع على الحيض المستجد الحادث. وإن كان يعلم أنها حائض، فإن اليمين يقع على هذه الحيضة إذا دام الحيض منها إلى أن يطلع الفجر واستمر ثلاثة أيام في رأي الحنفية، لأنه لما علم أنها حائض وقد حلف، فقد أراد استمرار الحيض، وما لم يكن ثلاثة أيام لا يكون حيضاً. ¬
الحلف على الخروج بدون إذن
الحلف على الخروج بدون إذن: قد يحلف الرجل بطلاق امرأته إذا لم يأذن لها بالخروج، بإحدى الصيغ الآتية: 1 - أن يقول: (أنت طالق إن خرجت من هذه الدار إلا بإذني أو برضاي) ونحوه. 2 - أن يقول: (أنت طالق إن خرجت من هذه الدار حتى آذن لك أو حتى أرضى). 3 - أن يقول: (أنت طالق إن خرجت من هذه الدار إلا أن آذن لك أو إلا أن أرضى). وأبدأ بالحالة الأولى وهي: 1 - أن يقول: (إلا بإذني أو برضاي): إذا قال رجل لامرأته: (أنت طالق إن خرجت إلا بإذني أو بأمري أو برضاي أو بعلمي) أو قال: (إن خرجت من هذه الدار بغير إذني، أو بغير أمري، أو بغير رضاي، أو بغير علمي) ففي هذه الحالات كلها يحنث إن خرجت بغير إذنه، ويشترط الإذن في كل مرة، حتى لو أذن لها مرة فخرجت، ثم عادت، ثم خرجت بغير إذنه مرة أخرى، حنث. وكذلك لو أذن لها مرة، فقبل أن تخرج نهاها عن الخروج، ثم خرجت بعدئذ يحنث. وإن وجد خروج بإذن فهو خروج مستثنى من يمينه، فلا يكون داخلاً تحت اليمين، فلا يحنث. والسبب فيه أنه جعل كل خروج شرطاً لوقوع الطلاق، واستثنى خروجاً موصوفاً بصفة: وهو أن يكون الخروج مصحوباً بالإذن؛ لأن الباء في اللغة للإلصاق، مثل كتبت بالقلم أي أنه التصقت الكتابة بالقلم، فكل خروج لايكون
بتلك الصفة، كان داخلاً في اليمين، وصار شرطاً للحنث. قال الله تعالى: {وما نتنزل إلا بأمر ربك} [مريم:64/ 19] أي لا يوجد نزول إلا بهذه الصفة. ونظيره: ما لو قال لامرأته: (إن خرجت إلا بملاءة، أو بقناع أو إلا راكبة فأنت طالق) فإن وجد الخروج المستثنى لا يحنث، وإن وجد لا على ذلك الوصف: يحنث؛ لأن المستثنى غير داخل في اليمين، وغير المستثنى داخل، فيحنث، لوجود الشرط. فإن أراد بقوله: (إلا بإذني) مرة واحدة: تصح نيته، ويعمل بمقتضى نيته ديانة فيما بينه وبين الله عز وجل. أما قضاء فيعمل أيضاً بموجب النية عند أبي حنيفة ومحمد، وفي رواية عن أبي يوسف. وقيل: لا يعمل بنيته قضاء، لأنه نوى خلاف الظاهر؛ لأن ظاهر هذا الكلام يقتضي تكرار الإذن في كل مرة كما تقدم، وهو الرأي الراجح الذي عليه الفتوى عند الحنفية. أما وجه قول الطرفين: فهو أن تكرار الإذن لم يثبت بظاهر اللفظ، وإنما ثبت بإضمار الخروج، فإذا نوى مرة واحدة، فقد نوى ما يقتضيه ظاهر كلامه. والحقيقة أن ظاهر الكلام: هو تكرار الإذن. وأما إذا أريد باليمين الإذن مرة واحدة، فهذا مما يحتمله الكلام فقط، ولذا كان المعول عليه في الفتيا، هو رأي أبي يوسف، فيصدق الحالف في أنه نوى مرة واحدة ديانة لا قضاء، لأنه نوى التخفيف عن نفسه، فلا يصدق في القضاء. والحيلة في هذه اليمين المتطلبة تكرار الإذن: أن يقول الزوج لامرأته: (أذنت لك الدهر كله) أو (أذنت لك أبداً) أو (كلما شئت الخروج فقد أذنت لك) فيثبت الإذن في كل مرة وجد فيها الخروج؛ لأن كلمة (كلما) توجب التعميم والتكرار.
أما لو أذن الزوج لامرأته إذنا عاما: ثم نهاها عن الخروج بعدئذ نهيا عاما عن جميع حالات الخروج، فهل يؤثر هذا النهي أو لا؟
وكذلك لا يحنث إذا قال الزوج: (أذنت لك عشرة أيام) فخرجت مراراً في مدة العشرة. ولو أذن الزوج لامرأته في قوله: (إلا بإذني) مرة واحدة، ثم نهاها عن الخروج بعد صدور الإذن الخاص يصح نهيه، حتى لو خرجت بعد ذلك بغير إذنه: يحنث في يمينه؛ لأنه صح رجوعه عن الإذن، واليمين باقية، فجعل كأنه لم يأذن. أما لو أذن الزوج لامرأته إذناً عاماً: ثم نهاها عن الخروج بعدئذ نهياً عاماً عن جميع حالات الخروج، فهل يؤثر هذا النهي أو لا؟ قال محمد: يعمل بموجب النهي، ويبطل إذنه الصادر منه بالخروج، حتى إنها لو خرجت بعدئذ بغير إذنه، يحنث، بدليل أنه لو أذن لها مرة، ثم نهاها يصح نهيه، فكذا إذا أذن لها في كل مرة، وجب العمل بنهيه، ويزول الإذن بالنهي. وقال أبو يوسف: لا يؤثر نهيه في الإذن السابق ويظل ساري المفعول، لأن الإذن العام بالخروج يرفع اليمين، لأنه بالإذن ألغى شرط وقوع الطلاق: وهو الخروج بدون إذن، فإذا وجد النهي العام عن الخروج فلا يؤثر، لأنه لا يمين هناك. وهذا بخلاف الإذن الخاص بالخروج مرة واحدة، فإنه لم ترتفع اليمين، فجاء النهي عن الخروج واليمين باقية، فصح النهي (¬1). 2 - أن يقول: (حتى آذن لك): إذا قال رجل لامرأته: (أنت طالق إن خرجت من هذه الدار حتى آذن لك أو آمر، أو أرضى أو أعلم) فيكفي الإذن مرة واحدة، وتسقط اليمين، حتى لو أذن لها مرة، فخرجت ثم عادت، ثم خرجت بغير إذن لا يحنث، وكذا إذا أذن لها مرة ثم نهاها قبل أن تخرج، ثم خرجت بعدئذ ¬
(إلا أن آذن لك)
لا يحنث؛ لأن كلمة (حتى) تفيد الغاية، وهي بمعنى (إلى) وكلمة (إلى) لانتهاء الغاية، فينتهي اليمين بانتهاء ما بعد (حتى) فيصير وجود الإذن من الحالف غاية لمنع الخروج، فلا تبقى اليمين بعد وجود الغاية. فإذا حدث خروج بعدئذ، لا يحنث إذ لا يمين هناك؛ لأن اليمين سقطت بالإذن، فلا يعتبر النهي بعده. أما قبل الإذن فاليمين باقية فيحنث بالخروج. ولو نوى بقوله: (حتى آذن لك) حصول الإذن في كل مرة: يصدق ديانة وقضاء، لأنه نوى التشديد على نفسه (¬1). 3 - أن يقول: (إلا أن آذن لك): إذا قال رجل لامرأته: (أنت طالق إن خرجت من هذه الدار إلا أن آذن لك، أو آمر أو أعلم، أو أرضى) فهذا بمنزلة قوله: (حتى آذن) عند عامة العلماء. فلو أذن لها مرة واحدة، فخرجت، ثم خرجت مرة أخرى بغير إذنه لم يحنث، لأن (إلا أن) كلمة تفيد معنى الغاية، فتنتهي اليمين بها، كما إذا قال: (حتى آذن لك). والسبب في أن كلمة (إلا أن) تفيد معنى الغاية، مع أنها من حروف الاستثناء: هو أن صدر الكلام الذي قبل أداة الاستثناء ليس من جنس الإذن، حتى يستثنى الإذن منه، فيجعل مجازاً عن كلمة (حتى) لمناسبة بينهما: وهو أن حكم ما قبل الغاية مخالف لما بعدها، كما أن حكم ما قبل الاستثناء يخالف ما بعده. وقال الفراء من علماء النحو: قول القائل: (إلا أن آذن لك) مثل قوله: (إلا بإذني) يتطلب تكرار الإذن في كل مرة من مرات الخروج، لأن المعنى (إلا خروجاً بإذني)، إذ (أن) والفعل المضارع بعدها في تأويل المصدر، فصار تقدير ¬
الكلام: (إن خرجت من الدار إلا خروجاً إذني) وهذا كلام غيرمستقيم، فلزم تقدير الباء، فيصير (إلا خروجاً بإذني) وإسقاط الباء في اللفظ مع ثبوتها في التقدير أمر جائز في اللغة، كما روي عن رؤبة بن العجاج أنه قيل له: كيف أصبحت؟ فقال: (خير، عافاك الله) أي بخير. وكذا يحذفون الباء في القسم، فيقولون: (الله) مكان قولهم: (بالله) وإذا كان حذف الباء جائزاً قدرت في الكلام لضرورة تصحيحه، والدليل عليه قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم} [الأحزاب:53/ 33] أي إلا بإذن لكم يتكرر بتكرار الدخول في كل مرة. ورد الحنفية بأن تصحيح الكلام بجعل (إلا) بمعنى (حتى) و (إلى) أولى من تصحيح الكلام بالتقدير الذي قاله الفراء؛ لأن التصحيح بجعل كلمة قائمة مقام أخرى أولى من التصحيح بطريق الإصنمار والتقدير، لأن الأول تغيير بتصرف في الوصف، والإضمار إثبات أصل الكلام، ولا شك أن التصرف في الوصف بالتغيير والتبديل أولى من إثبات أصل الكلام. وأما قوله عز وجل: {إلا أن يؤذن لكم} [الأحزاب:53/ 33] فإنه اقتضى تكرار الإذن في كل مرة لابمقتضى اللفظ، بل بدليل آخر: وهو أن دخول دار الغير بغير إذنه حرام، ولأن الله تعالى قال؛ {إن ذلكم كان يؤذي النبي} [الأحزاب:53/ 33] ومعنى الأذى موجود في كل ساعة، فشرط الإذن في كل مرة (¬1). وقال غير الحنفية (¬2): الحكم في أنواع الألفاظ الثلاثة السابقة واحد، وهو أنه متى خرجت بغير إذنه، طلقت وانحلت يمينه؛ لأن حرف (إن) لا يقتضي ¬
تعليق الخروج بإذن فلان
تكراراً، فإذا حنث مرة انحلت اليمين؛ لأنه علق الطلاق على شرط، وقد وجد فيقع الطلاق، كما لو لم تخرج بإذنه. لكن الحنابلة قالوا: لابد من تكرار الإذن، كما سيأتي بيانه. تعليق الخروج بإذن فلان: لو قال الرجل لامرأته: (إن خرجت إلا بإذن فلان) فمات فلان قبل الإذن، بطلت اليمين عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله. وقال أبو يوسف رحمه الله: اليمين باقية، حتى لو خرجت بعدئذ يحنث. وهذا الخلاف مفرع على اختلافهم فيمن حلف (ليشربن الماء الذي في هذا الكوز، ولا ماء فيه). فعند الطرفين: لا تنعقد اليمين؛ لأن تصور البر شرط لانعقاد اليمين ولبقائها في المستقبل عندهما. وعند أبي يوسف: تنعقد اليمين، لأنه لا يشترط هذا الشرط عنده، وإنما يكفي أن تكون اليمين على أمر في المستقبل. الإذن بالخروج دون أن تسمع المرأة: إن أذن الرجل لامرأته المحلوف عليها بالخروج من حيث لا تسمع عادة، فخرجت، بغير الإذن: يحنث عند أبي حنيفة ومحمد، لأن الإذن إعلام، قال الله تعالى: {وأذان من الله ورسوله} [التوبة:3/ 9] أي إعلام، والإذن بحيث لا تسمع يكون إعلاماً، فلا يكون إذناً، فلم يوجد مأذون فيه، فيحنث، ولأنه حرم عليها الخروج إلا خروجاً مأذوناً فيه مطلقاً بحيث يأذن وتسمع، والخروج الذي حصل مأذون فيه من جهة واحدة، فلم يكن هذا خروجاً مستثنى، فبقي داخلاً تحت الحرمة. وقال أبو يوسف: لا يحنث؛ لأن شرط الحنث وجود خروج غير مأذون فيه مطلقاً، والخروج الذي حصل مأذون فيه من وجه لوجود كلام الإذن فلم يوجد شرط الحنث، فلا يحنث بالشك. الحلف مقيد ببقاء الولاية: إذا حلف رجل على زوجته ألا تخرج من الدار،
مذاهب غير الحنفية في هذه الألفاظ
أو سلطان حلَّف رجلاً ألا يخرج من بلدة إلا بإذنه، ثم بانت المرأة من الزوج، أو عزل السلطان عن عمله، ثم خرجت المرأة والرجل بغير إذن: لم يحنث الحالف، وسقطت اليمين؛ لأن اليمين تقع على الحال التي يملك الحالف فيها الإذن: وهي بقاء الولاية، فإذا زالت الولاية زالت اليمين. وتنطبق هذه القاعدة على ما إذا حلَّف الدائن مدينه ألا يخرج من بلده إلا بإذنه، فاليمين مقيدة بحال قيام الدين، فإن خرج وعليه دين: يحنث. وإن خرج بعد أداء الدين أو إبراء المدين منه: لا يحنث؛ لأن اليمين سقطت، وإنما تتقيد اليمين ببقاء الدين. وهذا من تطبيقات يمين الفور التي تتقيد بدلالة الحال. ويترتب عليه أنه إن عاد الدين أو غيره على المدين لم تعد اليمين (¬1). والخلاصة: إن مذهب الحنفية يشترط تكرار الإذن في كل خروج في قول الحالف: (إلا بإذني). أما قوله: (حتى آذن) أو (إلا أن آذن) فلا يقتضي تكرار الإذن، وإنما يكفي الإذن مرة واحدة، ثم تسقط اليمين. مذاهب غير الحنفية في هذه الألفاظ: قال المالكية والشافعية: يكفي إذن واحد بالخروج في هذه الصور الثلاث: (إلا بإذني) و (حتى آذن لك) و (إلا أن آذن لك). فإذا أذن الحالف مرة واحدة تنحل اليمين، ولا يحنث بخروجها بعدئذ، لأن اليمين تعلقت بخروج واحد بحرف لا يقتضي التكرار، وإذا خرجت بغير إذن حنث. وإن خرجت بإذن بر في يمينه؛ لأن البر يتعلق بما يتعلق به الحنث. وقال الحنابلة: لا بد من تكرار الإذن في كل حالة من حالات الخروج في ¬
المطلب الثالث ـ الحلف على الكلام
الصور الثلاث السابقة؛ لأن الحالف علق الطلاق بشرط، فإذا وجد الشرط وقع الطلاق، وتنحل اليمين إن حنث مرة واحدة (¬1). المطلب الثالث ـ الحلف على الكلام: لا بد من وقوع الكلام من الإنسان، لأنه يحتاج إلى إيصال ما في نفسه إلى غيره للوصول إلى مقاصده وأغراضه. وللكلام أهميته في التوفيق أو التنازع بين اثنين. ويحتاج المرء في الغالب إلى القسم لحمل نفسه أو غيره على التكلم أو الامتناع من التكلم. وسأذكر أهم حالات الحلف على الكلام: وهو إما أن يكون مطلقاً أو مؤقتاً. أما المطلق: فهو أن يحلف ألا يكلم فلاناً، فيقع على الأبد، حتى لو كلمه ولو بالسلام في أي وقت وفي أي مكان وعلى أي حال، حنث. ومن حالاته ما يأتي: الحلف على عدم تكليم فلان: لو حلف شخص على ألا يكلم فلاناً فناداه من مكان بعيد: فإن كان فلان هذا في موضع بحيث يسمع مثله لو أصغى إليه أذنه، فإنه يحنث عند الحنفية والحنابلة وفي قول عند المالكية، وإن لم يسمعه. وإن كان في موضع لا يسمع في مثله عادة بسبب بعد المسافة، فإنه لا يحنث. وكذا إذا كان المخاطب أصم بحيث لو أصغى إليه أذنه لا يسمع: لا يحنث. والسبب: هو أن تكليم فلان: عبارة عن إسماع كلامه إياه، إلا أن الإسماع أمر باطن خفي، فأقيم السبب الظاهرالمؤدي إليه مقامه، وهو إمكان السماع في الموضع القريب. ¬
حلف ألا يكلم فلانا، فكلمه وهو نائم فأيقظه
ولو حلف ألا يكلم فلاناً، فكلمه وهو نائم فأيقظه: حنث، لأنه كلمه وأسمعه، ولو لم يوقظه لم يحنث، وهو المختار عند عامة مشايخ الحنفية خلافاً لما ذكر القدوري من أنه إذا كان بحيث يسمع لو لم يكن نائماً يحنث؛ لأنه قد كلمه ووصل إلى سمعه إلا أنه لم يفهم لنومه، فصار كما إذا ناداه وهو في مكان بحيث يسمع إلا أنه لم يفهم لاشتغاله بأمر آخر. ورأي عامة المشايخ هو الأرجح، لأنه إذا لم يوقظه كان كما إذا ناداه من بعيد، وهو بحيث لا يسمع صوته، ولأن الإنسان لا يعد مكلماً للنائم إذا لم يتيقظ بكلامه، كما لا يعد متكلماً مع الغائب. ولو مر الحالف على جماعة فيهم المحلوف عليه، فسلم عليهم: حنث لأنه كلمه وكلم غيره بالسلام، فإن قصد بالسلام الجماعة دونه لم يحنث وتصح نيته فيما بينه وبين الله تعالى، لأنه نوى تخصيص كلامه، وإطلاق الكل وإرادة البعض جائز، ولكن لا يقبل منه هذا الادعاء قضاء، لأنه خلاف الظاهر من كلامه (¬1). ولو سلم في الصلاة والمحلوف عليه معه في الصلاة: فإما أن يكون الحالف إماماً أو مقتدياً: 1 - فإن كان الحالف إماماً ينظر: إن كان المحلوف عليه خلفه، فسلم، لم يحنث بالتسليمة الأولى. وإن كان على يمينه: لا يحنث أيضاً؛ لأن التسلمية الأولى كلام في الصلاة؛ لأن المصلي يخرج بها عن الصلاة، فلا تكون من كلام الناس، بدليل أنها لا تفسد الصلاة. وإن كان شماله فقد اختلف المشايخ فيه: فقال بعضهم: يحنث، وقال بعضهم: لا يحنث. ¬
حلف لا يكلم فلانا، فكتب إليه كتابا،
2 - وإن كان الحالف مقتدياً: فكذلك لا يحنث عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن المقتدي لا يصير خارجاً عن الصلاة بسلام الإمام عندهما. وقال محمد: يحنث لأن المقتدي يصير خارجاً عن صلاته بسلام الإمام عنده، فقد تكلم كلاماً خارج الصلاة مع فلان، فيحنث. ولو حلف لا يكلم فلاناً، فكتب إليه كتاباً، فانتهى الكتاب إليه، أو أرسل إليه رسولاً، فبلغ الرسالة إليه، أو أشار إليه بالإصبع: لا يحنث؛ لأن هذا ليس بكلام، وذلك باتفاق الحنفية، والشافعية في الجديد. وقال الحنابلة والمالكية على الراجح: يحنث إلا أن يكون أراد ألا يشافهه (¬1). الحلف على عدم التكلم: من حلف لا يتكلم اليوم، فقرأ القرآن، أو صلى، أو سبح: لم يحنث، استحساناً، ومثله التهليل والتكبير، وهو يتناول القراءة والتسبيح في الصلاة وخارجها؛ لأن هذا لا يسمى كلاماً عرفاً، أما في الصلاة فليس بكلام عرفاً ولا شرعاً، قال عليه الصلاة والسلام: «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، وإنما هي التهليل والتسبيح وقراءة القرآن» (¬2) وقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث ألا نتكلم في الصلاة» (¬3)، ولأن الكلام مفسد، ولو كانت هذه الأشياء من كلام الناس لأفسدت. ¬
الحلف على الكلام مؤقتا
وأما في غير الصلاة فلا يحنث، لأنه لا يسمى متكلماً في عرفنا المتأخر بل قارئاً ومسبحاً، ومبنى الأيمان على العرف (¬1). وكذلك قال الشافعية والحنابلة: لا يحنث مطلقاً سواء قرأ في الصلاة أم في غيرها؛ لأن الكلام في العرف لا يطلق إلا على كلام الآدميين. وهذا هو مذهب الشافعية خلافاً لما زعم الحنفية من أن مذهب الشافعي مخالف لهم، فإنهم قالوا: لو حلف لا يتكلم فسبح الله تعالى أو حمده أو هلله أو كبره أو دعا أو قرأ قرآناً في الصلاة أو خارجها، ولو كان عليه حدث أكبر، فلا حنث بذلك، لانصراف الكلام إلى كلام الآدميين في محاوراتهم (¬2). وأما الحلف على الكلام مؤقتا ً: فهو نوعان: معين ومبهم. أما المعين: فنحو أن يحلف الرجل بالليل: لا يكلم فلاناً يوماً، فيحنث بكلامه من وقت الحلف إلى أن تغيب الشمس من الغد، فيدخل في يمينه بقية الليل. وكذلك لو حلف بالنهار لا يكلمه ليلة: إنه يحنث بكلامه من حين حلف إلى طلوع الفجر. ولو حلف في بعض النهار لا يكلمه يوماً فاليمين على بقية اليوم والليلة المستقبلة إلى مثل تلك الساعة التي حلف فيها من الغد. فإن قال في بعض اليوم: (والله لا أكلمك اليوم)، فاليمين على باقي اليوم، فإذا غربت الشمس سقطت اليمين. وكذلك إذا قال بالليل: (والله لا أكلمك الليلة)، فإذا طلع الفجر، سقطت اليمين. ولو حلف لايكلمه شهرا ً: يقع على ثلاثين يوماً تبتدئ من حين الحلف. ولو قال: الشهر، يقع على بقية الشهر، ولو حلف لايكلمه السنة، يقع على بقية السنة. ¬
: (والله لا أكلمك يوما ولا يومين)،
ولو قال: (والله لا أكلمك يوماً ولا يومين)، فهو مثل قوله: والله لا أكلمك ثلاثة أيام في قول أبي حنيفة ومحمد، وفي رواية عن أبي يوسف. وذكر محمد في الجامع الصغير أنه يقع على يومين. ودليله: أن كل واحد منهما يمين منفردة، فصار لكل يمين مدة على حدة، وبذلك أصبح على اليوم الأول يمينان، وعلى اليوم الثاني يمين واحدة. ودليل الرأي الأول: أن الحالف عطف اليومين على اليوم، والمعطوف غير المعطوف عليه، فاقتضى يومين آخرين غير الأول (¬1). وأما المبهم: فنحو أن يحلف ألا يكلم فلاناً زمناً أو حيناً أو الزمان أو الحين: فإنه يقع على ستة أشهر؛ لأن الحين يستعمل، ويراد به الوقت القصير: قال الله تعالى: {فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون} [الروم:17/ 30] وقد يراد به الوقت الطويل، وهو أربعون سنة، قال تعالى: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر} [الإنسان:1/ 76] وقد يراد به الوقت الوسط: وهو ستة أشهر، قال تعالى: {تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها} [إبراهيم:25/ 14] قيل: أي ستة أشهر، فحمل على الوسط، لأنا لا نعلم أنه يريد القليل أو الكثير. ولو قال: (لا أكلمه دهراً أو الدهر) فقال أبو حنيفة: إن كانت له نية فهو على ما نوى، وإن لم تكن له نية، فلا أدري ما الدهر. وقال الصاحبان: إذا قال: دهراً أي (منكَّراً) فهو ستة أشهر، وإذا قال: الدهر أي (معرفاً) فهو على الأبد. ¬
والله لا أكلمك يوم الجمعة
وقال بعض مشايخ الحنفية: لا خلاف في الدهر أنه الأبد، وإنما قال أبو حنيفة: (لا أدري ما الدهر) إذا قال: (دهرا ً) (¬1). وقال الشافعية والحنابلة (¬2): إن حلف ألا يكلمه زمناً أو وقتاً أو دهراً أو عمراً فإنه يقع على القليل والكثير، فيبر بالقليل والكثير؛ لأن هذه الأسماء لا حد لها في اللغة، وتقع على القليل والكثير، فوجب حمله على أقل ما يتناوله اسمه. أما إذا حلف ألا يكلمه الدهر أو الأبد أو الزمان، فذلك على الأبد، لأن ذلك بالألف واللام، وهي للاستغراق، فتقتضي الدهر كله. ولو قال: (والله لا أكلمك يوم الجمعة) فله أن يكلمه في غير يوم الجمعة؛ لأن الجمعة اسم ليوم مخصوص. وكذلك لو قال: (جمعاً) له أن يكلمه في غير يوم الجمعة، لأن الجُمَع جمع جمعة وهي يوم الجمعة فلا يتناول غيره، بخلاف ما إذا قال: (لا أكلمه أياما ً): إنه يدخل فيه الليالي. ثم إذا قال (والله لا أكلمك جمعا ً) فهو على ثلاث جمع؛ لأن أقل الجمع الصحيح ثلاثة، فيحمل عليه. وإذا قال: (الجمع) يقع اليمين على عشر جمع عند أبي حنيفة، وكذلك الأيام والأزمنة والأحايين والشهور والسنين: يقع اليمين على عشرة أيام، وعشرة أحايين أو أزمنة وعشرة أشهر وعشر سنين؛ لأن أكثر ما تناوله اسم الأيام ونحوه: هو عشرة؛ لأن بعد العشرة لا يقال: أيام، بل يقال: أحد عشر يوماً، ومئة يوم، وألف يوم. وقال الصاحبان: في الجُمَع والسنين يقع على الأبد، وكذا في الأحايين والأزمنة، وفي الأيام يقع على سبعة، وفي الشهور على اثني عشر؛ لأن الأصل ¬
حلف ألا يكلمه حينا
عندهما فيما دخل عليه حرف التعريف هو (اللام) من أسماء الجمع: أن ينظر إن كان هناك معهود ينصرف إليه كالسبعة في الأيام بحسب أيام الأسبوع، والاثني عشر في الشهور، وإن لم يكن هناك معهود ينصرف إلى جميع الجنس، فيستغرق العمر كالسنين والأحايين والأزمنة. أما الأصل عند أبي حنيفة فهو كما لاحظنا: أن ينصرف الاسم إلى أقصى ما يطلق عليه لفظ الجمع عند اقترانه بالعدد: وذلك عشرة (¬1). ومن حلف ألا يكلمه حينا ً، فكلمه قبل الستة أشهر، حنث عند الحنفية والحنابلة (¬2)؛ لأن الحين المطلق في كلام الله أقله ستة أشهر، قال تعالى: {تؤتي أكلها كل حين} [إبراهيم:25/ 14] فسره جماعة بستة أشهر. وقال مالك: الحين سنة؛ لأنه فسر بعام. وقال الشافعي وأبو ثور: لا قدر له، ويبر بأدنى زمن؛ لأن الحين اسم مبهم يقع على القليل والكثير. ولو حلف (لا يكلمه أياما ً) فهو على ثلاثة أيام وهو الصحيح، لأنه ذكر لفظ الجمع منكراً، فيقع على أدنى الجمع الصحيح: وهو ثلاثة. وفي رواية: يقع على عشرة أيام عند أبي حنيفة، وعند الصاحبين: على سبعة. ولو قال: (لا أكلمك سنين) فهو على ثلاث سنين باتفاق الحنفية والمالكية، لما ذكر أن أقل الجمع ثلاثة، فيحمل عليه (¬3). والخلاصة: أن أبا حنيفة وصاحبيه يقولون في الجمع المنكر: إنه يقع على أقل الجمع وهو ثلاثة، أما في الجمع المعرف: فالأصل عند أبي حنيفة: أن يقع على ¬
لايكمله العمر
أقصى ما يطلق عليه لفظ الجمع عند اقترانه بالعدد وهو العشرة. والأصل عند الصاحبين: أن يقع على المعهود إن كان هناك معهود، وإلا فيقع على جميع الجنس. ولو حلف (لايكمله العمر) فهو على جميع العمر إذا لم تكن له نية. ولو قال: عمراً: فعن أبي يوسف روايتان: في رواية وهي الأظهر: يقع على ستة أشهر كالحين. وفي رواية: يقع على يوم. ولو حلف (لا يكلم فلاناً أياماً كثيرة): فهو على عشرة أيام عند أبي حنيفة. وعند الصاحبين: يقع على سبعة أيام. ولو حلف (لا يكلمه إلى بعيد) يقع على شهر فصاعداً. ولو حلف (لا يكلمه إلى قريب) فهو على أقل من شهر. ولو حلف (لا يكلمه عاجلاً أو آجلاً) فالعاجل: يقع على أقل من شهر؛ لأن الشهر في حكم الكثير؛ لأنه يجعل زمناً آجلاً في الديون، فكان بعيداً. والآجل: يقع على الشهر فصاعداً. ولو حلف (لا يكلمه مليا ً) يقع على شهر كالبعيد. ولو حلف (ألا يكلمه الشتاء) فأوله إذا لبس الناس الألبسة الشتوية، وآخره إذا ألقوها بحسب البلد الذي حلف فيه، والصيف على ضده: وهو من حين خلع الألبسة الشتوية إلى لبسها. والخريف والربيع معروفان بحسب المعلوم في اللغة (¬1). ومن حلف ألا يفعل شيئاً ففعل بعضه حنث إلا إن أراد الكل، فمن حلف ألا ¬
المطلب الرابع ـ الحلف على الأكل
يزور شخصين أو لا يكلمهما فزار أو كلم أحدهما، إلا أن يكون أراد ألا يجتمع فعله بهما (¬1). المطلب الرابع ـ الحلف على الأكل والشرب والذوق ونحوها: الأكل: ـ هو إيصال ما يتأتى فيه المضغ بفمه إلى جوفه، مضَغه أو لم يمضغه، كالخبز واللحم والفاكهة ونحوها. والشرب: ـ هو إيصال ما لا يتأتى فيه المضغ إلى جوفه، مثل كل المائعات من الماء والنبيذ واللبن والعسل الممزوج بالماء ونحوها (¬2). والذَّوْق: ـ هو إيصال المذوق إلى الفم ابتلعه أو لا، بعد أن وجد طعمه، لأن الذوق أحد الحواس الخمس التي تعلم بها الأشياء، ولذا يتحقق العلم بالطعم سواء ابتلع الشيء المذاق أو مجه، فكل أكل فيه ذوق، وليس كل ذوق أكلاً. الحلف على الذَّوْق: بناء عليه: إذا حلف لا يأكل ولا يشرب فذاق، لم يحنث. وإذا حلف لا يذوق طعاماً أو شراباً، فأدخله في فمه وعرف طعمه، حنث لحصول الذوق، وتحقق معناه الذي ذكر. ولو حلف لا يذوق شيئاً وعنى به أكله وشربه: فإنه تصح نيته ويصدق ديانة بينه وبين الله عز وجل، ولا يصدق قضاء، ولا يحنث بالذوق، لأنه قد يراد بالذوق: الأكل والشرب في عرف الناس، يقول الرجل: ما ذقت اليوم شيئاً، وماذقت إلا الماء ـ يريد به الأكل والشرب. ¬
حلف لا يذوق ماء
وأما السبب في أنه يصدق ديانة، فلأنه نوى ما يحتمله كلامه، ولا يصدق قضاء لعدوله عن ظاهر الكلام إلى معنى آخر. ولو حلف لا يذوق ماء: فتمضمض في الوضوء: لا يحنث في يمينه، وإن حصل له العلم بطعم الماء؛ لأن ذلك لا يسمى ذوقاً عرفاً وعادة، لأن قصده التطهر، لا معرفة طعم المذوق (¬1). ولو حلف لا يشم شيئا ً، فالشم عند الحنابلة يشمل كل نبت أو زهر طيب الرائحة، مثل الورد والبنفسج والنرجس. وقال الشافعي: لا يحنث إلا بشم الريحان الفارسي؛ لأنه المتعارف (¬2). الحلف على الأكل: 1 - لو حلف لا يأكل الرمان أو العنب، فمصه ورمى تفله وبلع ماءه، لا يحنث في الأكل، ولا في الشرب؛ لأن المص ليس بأكل ولا شرب، بل هو مص. وإن ابتلع العنب أو الرمان من غير مضغ: يحنث لأنه أكل. 2 - مفهوم أكل الطعام: لو حلف لا يأكل طعاماً: فإن الطعام يقع بالاتفاق على الخبز، واللحم، والحلوى والفاكهة وما يؤكل على سبيل الإدام مع الخبز؛ لأن الطعام في اللغة: اسم لما يطعم، لقوله تعالى: {كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل إلا ما حرَّم إسرائيل على نفسه} [آل عمران:93/ 3] أما في العرف فقد اختص بما يؤكل بنفسه أو مع غيره عادة. ¬
3 - كيفية أكل اللبن والخل
وكذلك إذا حلف لا يأكل من طعام فلان، فأكل شيئاً مما ذكر من طعام فلان: يحنث. فإن أخذ من نبيذ فلان أو مائه، فأكل به بخبز نفسه: لا يحنث؛ لأن هذا لا يسمى طعاماً، لأنه لا يؤكل مع الخبز عادة، ولأن الشخص يسمى حينئذ طعام نفسه عادة. ولو حلف ألا يأكل قوتاً، فأكل خبزاً أوتمراً أو زبيباً أو لحماً أو لبناً، حنث؛ لأن كل واحد من هذه يقتات في بعض البلدان. 3 - كيفية أكل اللبن والخل: لو حلف لا يأكل هذا اللبن، فأكله مع الخبز أو التمر، أو حلف لا يأكل هذا الخل، فأكله مع الخبز: يحنث باتفاق الحنفية والشافعية؛ لأن أكل اللبن هكذا يكون عادة، وكذلك الخل لأنه من جملة الإدام، قال صلّى الله عليه وسلم: «نعم الإدام الخل» (¬1) ولو شربه لا يحنث، لأن هذا ليس بأكل (¬2). 4 - اليمين معلقة ببقاء العين لا بعد تغيرها: لو حلف لا يأكل هذا اللبن، فأكل مما يتخذ منه كالجبن والأقط (¬3) ونحوهما، لا يحنث بالاتفاق؛ لأنه قد تغير، فلا يبقى له اسم العين المحلوف عليها. ومثله: ما لو حلف ألا يأكل من هذه البيضة، فصارت فرخاً، فأكل من فرخ خرج منها، أو حلف لا يشرب من هذه الخمر، فصارت خلاً: لا يحنث، لأنه تغير عن أصله. ¬
وذكر الحنابلة (¬1) أن اللبن يتناول لبن الأنعام أوالصيد أو لبن الآدمية؛ لأن الاسم يتناوله حقيقة وعرفاً، وسواء أكان حليباً أم رائباً مائعاً أم مجمداً؛ لأن الجميع لبن. ومثله أيضاً لو حلف ألا يأكل من هذا البُسْر فصار رُطَباً (¬2) أو لا يأكل من هذا الرطب فصار تمراً، أو لا يأكل من هذا العنب شيئاً، فصار زبيباً فأكله: لم يحنث في جميع ما ذكر باتفاق الحنفية والشافعية والمالكية؛ لأن الأصل أن اليمين متى تعلقت بعين تبقى ببقاء العين، وتزول بزوالها، إلا أن العين في الرطب وإن لم تتبدل، لكن زال بعضها: وهو الماء بالجفاف، فإذا جف الرطب، فقد زال عنه الماء، فصار آكلاً بعض العين المشار إليها فلا يحنث، وذلك كما لو حلف لا يأكل هذا الرغيف، فأكل بعضه. وقال الحنابلة (¬3): لو حلف ألا يأكل هذا الرطب، فأكله تمراً حنث، كما يحنث من أكل كل ما تولد من ذلك الرطب. أما لو حلف ألا يأكل تمراً، فأكل رطباً، لم يحنث، وكذا لو حلف ألا يأكل عنباً، فأكل زبيباً أو دبساً، أو لا يكلم شاباً فكلم شيخاً، أو لا يشتري جدياً فاشترى تيساً لم يحنث؛ لأن اليمين تعلقت بالصفة دون العين، ولم توجد الصفة. ومن حلف لا يأكل طعاماً يشتريه فلان، فاشتراه فلان وغيره، فأكل منه ولم تكن له نية، حنث عند المالكية والحنفية والحنابلة (¬4) لأن فلاناً مشتر لنصفه وهو طعام وقد أكله، فيجب أن يحنث كما لو اشتراه فلان فخلطه بما اشتراه غيره، فأكل ¬
حلف لا يأكل من لحم هذا الحمل أو هذا الجدي فأكل منه بعدما صار كبشا أو تيسا
الجميع. وقال الشافعية: لا يحنث؛ لأن كل جزء لم ينفرد أحدهما بشرائه، فلم يحنث به، كما لو حلف لا يلبس ثوباً اشتراه زيد، فلبس ثوباً اشتراه زيد وغيره. وهذا بخلاف الحالات الآتية: لو حلف لا يأكل من لحم هذا الحَمل (¬1) أو هذا الجدي (¬2) فأكل منه بعدما صار كبشاً أو تيساً: فإنه يحنث عند الحنفية؛ لأن العين قائمة لم تتغير، واليمين وقعت على الذات المعينة. وإذا حلف ألا يكلم هذا الشاب، فكلمه بعدما شاخ: حنث لأن العين قائمة لم تتغير، وإنما الذي تغير هو الوصف، لا بعض الشخص المحلوف عليه. أما لو حلف لا يكلم شاباً، فكلم شيخاً: فإنه لا يحنث بالاتفاق؛ لأن اليمين وقعت على نكرة موصوفة بصفة الشباب، وذكر الصفة بمنزلة اشتراط الشرط، ومن المعلوم أن صفة الشباب لا تنطبق على الشيوخ. اختلاف الحنفية في حكم خلط اللبن بالماء: إذا حلف إنسان لا يذوق من هذا اللبن شيئاً، فصب فيه ماء فذاقه أو شربه: ينظر إذا كان اللبن غالباً: حنث، لأنه إذا كان غالباً يسمى لبناً، وإذا كان الماء غالباً لا يحنث، وهذا ينطبق على النبيذ إذا صبه في خل، أو الماء المالح إذا صب على ماء عذب، فالعبرة فيه للغلبة، وهذا باتفاق الصاحبين، غير أن أبا يوسف اعتبر الغلبة في اللون أو الطعم، لا في الأجزاء، فإن بقي لون اللبن أو طعمه يحنث وإن كان اللبن أقل. أما إذا ذهب طعم اللبن أو لونه فلا يحنث، وإن كانت أجزاء اللبن أكثر، لأنه إذا كان اللون والطعم كان اسم الشيء باقياً. ¬
اختلاط الشيء بجنسه
ونظر محمد إلى غلبة الأجزاء، فقال: إن كانت أجزاء المحلوف عليه غالبة يحنث، وإن كانت مغلوبة لا يحنث؛ لأن الحكم يتعلق بالأكثر ويكون الأقل تبعاً للأكثر. وذكر محمد: أنه لو حلف إنسان لا يأكل سمناً، فأكل سويقاً لتَّه (¬1) بسمن ولا نية له أخرى: إن كانت أجزاء السمن تستبين في السويق ويوجد طعمه يحنث. وإن كان لا يوجد طعمه، ولا يرى مكانه لم يحنث لأنها إذا استبانت لم تصر مستهلكة ضِمْن غيرها، فكأنه أكل السمن بنفسه منفرداً، وإذا لم تستبن أجزاء السمن، فقد صارت مستهلكة في غيرها، فلا يعتد بها. اختلاط الشيء بجنسه: إذا اختلط المحلوف عليه بجنسه كاللبن المحلوف عليه إذا اختلط بلبن آخر، قال أبو يوسف: حكمه حكم خلط اللبن بالماء تعتبر فيه الغلبة، فإن كانت الغلبة لغير المحلوف عليه، لم يحنث في يمينه، لأنه في معنى الشيء المستهلك في غيره. وقال محمد: يحنث وإن كان المحلوف عليه مغلوباً؛ لأن الشيء لا يصير مستهلكاً بجنسه، وإنما يصير مستهلكاً بغير جنسه، وحينئذ يعتبر كأنه غير مغلوب. ولكن يلاحظ أن الإمام محمد لم يجعل خلط الجنسين استهلاكاً أي (إعداماً لذات الشيء) إذا كان الجنس والنوع والصفة في كل منهما واحداً، فإذا اختلف النوع كلبن الضأن ولبن المعز، أو اختلفت الصفة كالماء العذب والماء المالح، فيجعل ¬
5 - الحلف على الإدام
خلطهما استهلاكاً، ويعتبر الحكم في الخليط للغلبة كما في حالة اختلاط الجنسين (¬1). 5 - الحلف على الإدام: لو حلف لا يأكل إداماً، فالإدام: كل مايصطبغ (¬2) به مع الخبز عادة كاللبن والزيت والمرق والخل والعسل ونحوها، وما لا يصطبغ به فليس بإدام مثل: اللحم والجبن والبيض، وهذا قول أبي حنيفة، وفي رواية عن أبي يوسف. وقال محمد وبقية الفقهاء وفي رواية أخرى عن أبي يوسف: إن كل ما يؤكل بالخبز: فهو إدام مثل اللحم والبيض والجبن، بدليل ما روي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «سيد إدام أهل الجنة اللحم» (¬3) ولأن الإدام من الائتدام وهو الموافقة، والموافقة بين هذه الأشياء وبين الخبز في الأكل أمرها ظاهر، فكانت إداماً، ولأن الناس يأتدمون بها عرفاً وعادة. وهذا هو الرأي الأظهر المفتى به عند الحنفية. وبناء عليه هناك ثلاثة أوجه في أكل الإدام: آـ إن أكل ما يؤتدم به كالزيت والخل يحنث بالاتفاق؛ لأن هذه الأشياء تصير تبعاً للخبز، ولا تؤكل مقصودة بنفسها، وهذا هو معنى الإدام. ب ـ إن أكل مع الخبزوالجبن واللحم والبيض: يحنث على الرأي المختار، وهو قول محمد. ولا يحنث على الرأي المرجوح وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف. ¬
6 - عدم أكل اللحم
وأما الأرز: فإن كان في بلد يؤكل تبعاً للخبز يكون إداماً عند محمد، فيحنث بأكله، وإن كان يؤكل مقصوداً بنفسه في عرف الناس كما في بلاد الشرق الأقصى، فلا يحنث، لأنه ليس إداماً عندهم. جـ ـ وإن أكل مع الخبز عنباً وسائر الفواكه أو البقول: لا يحنث بالاتفاق، لأنه تؤكل وحدها، ولا تؤكل إداماً مقصوداً، بل هي تبع للأكل مع الإدام، إلا في موضع تؤكل تبعاً للخبز غالباً مراعاة للعرف (¬1). 6 - عدم أكل اللحم: لو حلف لا يأكل لحماً، فأي لحم أكل من سائر الحيوان غير السمك حنث. أما إن أكل سمكاً فلا يحنث وإن سماه الله عز وجل لحماً في قوله تعالى: {لحماً طرياً} [فاطر:12/ 35] لأنه لا يسمى لحماً في العرف ولا يراد به عند الإطلاق اسم اللحم، فإن الرجل يقول: ما أكلت اللحم كذا يوماً، وإن كان قد أكل سمكاً، وإطلاق القرآن عليه مجرد تسمية. وهذا هو مذهب الشافعية أيضاً (¬2)، ولا يشمل الكَرْش والكَبِد والطِّحال والقلب في الأصح عند الشافعية، ويشمل لحم الرأس واللسان وشحم الظهر والجَنْب. وقال المالكية والحنابلة: يحنث بأكل شحم الظهر والجنب وبأكل السمك، لأن الله سماه لحماً في قوله سبحانه: {وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً} [النحل:14/ 16]، وقال: {ومن كلٍّ تأكلون لحماً طرياً} [فاطر:12/ 35]، ولأنه من جسم حيوان (¬3). ¬
7 - عدم أكل الشحم
واللحم عند الحنابلة لا يشمل الشحم والمخ والدماغ، إلا إن أراد اجتناب الدسم، فيحنث بأكل الشحم. ولو أكل شحم الظهر يحنث عند الحنفية؛ لأنه لحم سمين. ولو أكل شحم البطن والألية: لا يحنث، لأنه لا يسمى لحماً، ولا يباع مع اللحم أيضاً، فإن نواه يحنث؛ لأنه شدد على نفسه، ولأن فيه معنى اللحم من وجه وهو الدسومة. وكذلك يحنث إن نوى لحم السمك، لأنه لحم ناقص في معنى اللحمية. ولو أكل أحشاء البطن مثل الكرش والكبد والقلب والكلي والرئة والأمعاء والطحال: ذكر الكرخي أنه يحنث في عادة أهل الكوفة في زمن أبي حنيفة، لأن ذلك يباع مع اللحم، وأما في الموضع الذي لا يباع مع اللحم كما في عرفنا الحاضر فلا يحنث به. ولو أكل لحم الرأس من الحيوانات، سوى السمك: يحنث؛ لأن الرأس عضو من أعضاء الحيوان، فكان لحمه كلحم سائر الأعضاء، بخلاف ما إذا حلف لايشتري لحماً، فاشترى رأساً: إنه لا يحنث، لأن مشتريه لا يسمى مشتري لحم، وإنما يقال: اشترى رأساً (¬1). 7 - عدم أكل الشحم: ولو حلف لا يأكل شحماً فاشترى شحم الظهر لم يحنث عند أبي حنيفة والشافعي وأحمد؛ لأنه لا يسمى شحماً عرفاً وعادة، بل يسمى لحماً سميناً، فلا يتناوله اسم الشحم عند الإطلاق، وتسمية الله تعالى إياه شحماً لا يدل على دخوله تحت اليمين إذا لم يكن متعارفاً، والأيمان مبنية على العرف، وإنما يحنث بشحم البطن والأمعاء. ¬
8 - عدم أكل الرأس أو شرائه
وقال الصاحبان والمالكية: يحنث بأكل شحم الظهر أيضاً، لقوله تعالى: {ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما} [الأنعام:146/ 6] والمستثنى من جنس المستثنى منه، فدل أن شحم الظهر شحم حقيقة (¬1) وهذا ما يؤيده عرف اليوم أنه شحم. 8 - عدم أكل الرأس أو شرائه: لو حلف لا يأكل رأساً أو لا يشتري: إن نوى الرؤوس كلها انصرف إليها، لأنه نوى حقيقة كلامه وشدد على نفسه. وإن لم يكن له نية فإن اسم الرأس يتناول جميع ما يباع في بلد الحالف من الرؤوس. وكان أبو حنيفة رحمه الله يقول أولاً: يدخل فيه رأس الإبل والبقر والغنم، ثم رجع فقال: يحنث في رأس البقر والغنم خاصة. وقال الصاحبان: لا يحنث إلا في رأس الغنم خاصة. قال متأخرو الحنفية: وهذا اختلاف عصر وزمان وتبدل عادة لا اختلاف حجة وبرهان، إذ مسائل الأيمان مبنية على العرف، فتدورمعه (¬2). وقال الشافعية (¬3): من حلف لا يأكل الرؤوس، ولا نية له، حنث برؤوس تباع وحدها، وهي رؤوس الغنم قطعاً، وكذا الإبل والبقر على الصحيح؛ لأن ذلك هو المتعارف. ولا يحنث بأكل رؤوس طير وحوت وصيد وخيل إلا ببلد تباع فيه مفردة، لكثرتها واعتياد أهلها، فيحنث بأكلها فيه؛ لأنها كرؤوس الأنعام في حق غيرهم. ¬
9 - عدم أكل البيض
9 - عدم أكل البيض: إذا حلف لا يأكل بيضاً: فإن نوى بيض كل شيء، يقع عليه عند الحنفية؛ لأنه نوى حقيقة كلامه، وشدد على نفسه وإن لم تكن له نية فيقع على ماله قشر: وهو بيض الطير والدجاج والأوز، بدلالة العرف (¬1).ويقع اسم البيض عند الشافعية (¬2) على كل ما يفارق بائضه في الحياة كدجاجة ونعامة وحمام، لا سمك وجراد. 10 - عدم أكل الطبيخ: لو حلف لا يأكل طبيخاً: فإن نوى اللحم وغيره يقع عليه، لأنه طبيخ حقيقة، وفيه تشديد على نفسه. وإن لم ينو شيئاً ينصرف إلى المتعارف عليه وهو كل مطبوخ بالماء. وكان العرف السابق يعني بالطبيخ: اللحم المطبوخ بالماء ليسهل أكله، ويعني أيضاً المرقة المتخذة منه لما فيها من أجزاء اللحم. 11 - عدم أكل الشواء: لو حلف لا يأكل شواء ونوى أكل لحم مشوي بالنار: يحنث بأكل أي مشوي، لأنه نوى حقيقة كلامه وإن لم يكن له نية فإنما يقع على اللحم خاصة لتعارف الناس في السابق عليه، وأما اليوم فينصرف إلى ما يتعارفه الناس أيضاً. 12 - عدم أكل الحلو: إذا حلف لا يأكل حلواء أو حلواً أو حلاوة: فالأصل الذي كان مقرراً عند السابقين: هو أن الحلو: هو ما ليس من جنسه حامض. وغير الحلو: ما كان من جنسه حامض، والمرجع فيه إلى العرف. فيحنث بأكل الخبيص والعسل والسكر والرطب والتمر والتين وأشباهها، لأنه ليس من جنسها حامض، ولا يحنث بأكل العنب الحلو والبطيخ الحلو والرمان الحلو والإجاص الحلو والتفاح الحلو والزبيب؛ لأن من جنسها ما ليس بحلو، فلم يخلص معنى الحلاوة فيها. ¬
13 - عدم أكل الفاكهة
وأما الحلواء: فيقع على المصنوع من الحلاوة وحدها، أو مع غيرها كالخبيص والناطف: وهو ما يصنع من الطحينة والسكر (¬1). والحقيقة أن تفسير الحلوى وغيرها مرجعه إلى العرف كما قالوا، ففي عرفنا يراعى ما هو المقصود من الحلويات أو الحلاوة عند الناس. قال ابن عابدين: وفي زماننا، الحلو: كل ما يتحلى به من فاكهة وغيرها كتين وعنب وخبيصة وكنافة وقطائف، وأما الحلاوة والحلوى: فهي اسم لنوع خاص كالجوزية والسمسمية مما يعقد، وكذا ما يطبخ من السكر أوالعسل بطحين أو نشا (¬2). 13 - عدم أكل الفاكهة: الكلام في الحلف على ألا يأكل الفاكهة على النحو الذي ذكره فقهاء الحنفية بحسب عرفهم السابق يتناول أصنافاً ثلاثة أعرضها هنا عرضاً تاريخياً، ثم أذكر الحكم الفقهي الدائم: الصنف الأول: يحنث به باتفاق الحنفية: وهو أنه يقع على ثمرة كل شجرة سوى العنب والرطب والرمان، سواء منها الطري واليابس؛ لأنه ينطبق عليها اسم الفاكهة: وهو كل ما يتفكه به ويؤكل قبل الطعام وبعده، أي يتنعم به زيادة على المعتاد. الصنف الثاني: لا يحنث به بالاتفاق أيضاً: وهو أن يأكل القثاء والخيار والجزر؛ لأن معنى التفكه غير موجود فيها بحسب المعتاد، لأنها من البقول بيعاً وأكلاً. ¬
الصنف الثالث: اختلفوا فيه وهو العنب والرطب والرمان: فعند أبي حنيفة لا يحنث بها؛ لأن الفاكهة من التفكه: وهو التنعم بما لا يتعلق به البقاء زيادة على المعتاد، وهو مما لا يصلح غذاء ولا دواء، وهذه الأشياء مما يتغذى بها ويتداوى بها، لأن الرطب والعنب يؤكلان غذاء، ويتعلق بهما بقاء الجسد. وبعض الناس في بعض المواضع يكتفون بها. والرمان يؤكل للتداوي، فليس في هذه الأشياء معنى التفكه الكامل، فلا يتناولها اسم الفاكهة، ويؤيده قوله تعالى: {فأنبتنا فيها حباً، وعنباً وقضباً، وزيتوناً ونخلاً، وحدائق غُلْباً، وفاكهة وأبّا، متاعاً لكم ولأنعامكم} [عبس:27/ 80 - 32] فالله سبحانه عطف الفاكهة على العنب، والمعطوف غير المعطوف عليه. وقال الصاحبان: يحنث بأكل هذه الأشياء؛ لأن معنى التفكه موجود فيها عرفاً، فإنها أعز الفواكه، والتنعم بها يفوق التنعم بغيرها. هذا هو مذهب الحنفية في الفاكهة، والعبرة الآن للعرف، فيحنث الحالف بكل ما يعد فاكهة عرفاً. وأما قول أبي حنيفة بأن العنب والرطب والرمان ليس بفاكهة، فهذا اختلاف عرف وزمان، وكان في زمنه لا تعد هذه الأشياء من جملة الفواكه، فأفتى بحسب عرف زمانه، وقد تغير العرف في زمان الصاحبين، فكانت فتواهما مخالفة لفتوى الإمام رضي الله عنه. ولو حلف لا يأكل فاكهة يابسة فأكل الجوز واللوز والتين ونحوها: فإنه كان في الماضي يحنث؛ لأن اسم الفاكهة يطلق على الرطب واليابس منها، وأما في عرفنا فلا يحنث في الجوز واللوز، لأنه لا يتفكه بهما (¬1). ¬
14 - عدم أكل الحنطة
وقال المالكية والشافعية والحنابلة (¬1): يدخل في فاكهة: رُطَب النخيل وعنب ورمان وأتر ُجّ (نارنج) ورَطْب ويابس وليمون ونَبْق (ثمر حمل السدر)، وبِطّيخ ولبُّ فُسْتق وبُنْدق وغيرهما من اللبوب كلبّ لوز وجوز، في الأصح، ولا يشمل القثاء والخيار والجزر والباذنجان. 14 - عدم أكل الحنطة: لو حلف لا يأكل من هذه الحنطة يقع على أكل عينها مقلية (¬2) ومطبوخة، ولا يقع على الحنطة النيئة إلا بالنية، كما لا يقع على الخبز، وما يتخذ من الدقيق إلا أن ينويه فيحنث به، وهذا عند أبي حنيفة رضي الله عنه؛ لأن اسم الحنطة لا يقع على الخبز حقيقة، فحملها على الخبز يكون حملاً على المجاز، والحقيقة أولى. ورأى الشافعية (¬3) أنه يحنث بأكل الحنطة مطبوخة ونيئة ومقلية، ولا يحنث بأكل طحينها وسويقها وعجينها وخبزها. كذلك لا يتناول الرطب تمراً ولا بُسْراً (¬4)، ولا يتناول العنب زبيباً. وقال الصاحبان رحمهما الله والمالكية: إن أكل الحنطة خبزاً حنث أيضاً، كما لو أكل من عينها؛ لأن المتعارف في إطلاق أكل الحنطة هو أكل المتخذ منها وهو الخبز، لا أكل عينها، يقال: فلان يأكل من حنطة كذا أي من خبزها، ومطلق الكلام يحمل على المتعارف. ومنشأ الخلاف في هذه القضية راجع إلى اختلافهم في مسألة في أصول الفقه: وهي أن الكلام إذا كان له حقيقة مستعملة ومجاز متعارف، فعند أبي حنيفة: الحقيقة أولى من المجاز المتعارف. وعند الصاحبين: ¬
المجاز المتعارف أولى. فمن حلف لا يشرب من الفرات أو من هذا النهر فعند أبي حنيفة: يقع على الشرب كرعاً (¬1) حتى لو اغترف بإناء أو بيده: لا يحنث. وعند الصاحبين: يقع عليهما أخذاً بعموم المجاز. وعموم المجاز: معناه أن يكون للمجاز أفراد كثيرة، ومن جملة أفراده محل الحقيقة، فتدخل الحقيقة في المجاز، كمن حلف لا يدخل دار فلان، فإنه مجاز عن المسكن، وحقيقته الدار المملوكة لفلان، فيدخل في اليمين: ما يسكنه كيفما كان، سواء أكان مستأجراً أم عارية أم ملكاً لعموم المجاز اتفاقاً. عدم أكل الدقيق: ولو حلف لا يأكل من هذا الدقيق، فأكل مما يتخذ منه وهو الخبز: يحنث؛ لأن عينه لا يؤكل، وإنما يؤكل عادة خبزاً، ولا يستف إلا نادراً، والنادر ملحق بالعدم. فإن نوى لا يأكل عين الدقيق: لا يحنث بأكل ما يخبز منه، لأنه نوى حقيقة كلامه. عدم أكل الخبز: ولو حلف لا يأكل خبزاً فيمينه على حسب المعتاد عند أهل البلد فيما يعتبر أكله خبزاً، وذلك خبز الحنطة والشعير، لأنه هو المعتاد في غالب البلدان (¬2). والخبز في الحلف على أكله يتناول عند الشافعية (¬3) كل خبز كحنطة وشعير وأرز وباقلا (فول) وذ ُرة وحَمِّص. وبناء على مسألة الدقيق: إذا حلف لا يأكل من هذه الشجرة فأكل من ثمرتها: يحنث؛ لأن عينها لا تؤكل. ¬
15 - الحلف على عدم الأكل وقصد طعام خاص
15 - الحلف على عدم الأكل وقصد طعام خاص: لو حلف لا يأكل أو لا يشرب، أو لا يلبس، ونوى طعاماً خاصاً وشراباً خاصاً، وثوباً: فإنه لا يصدق؛ لأنه نوى خلاف مقتضى كلامه وهو لا عموم له، فلا يحتمل الخصوص، والنية إنما تعمل في الملفوظ لتعيين بعض محتملاته. أما لو قال: لا آكل طعاماً، أو لا ألبس ثوباً، ونوى طعاماً بعينه وثوباً بعينه: يصدق ديانة لا قضاء، لأنه نوى تخصيص كلامه الظاهر منه العموم ولكنه يحتمل الخصوص (¬1). وذكر المالكية (¬2): أن من حلف ألا يأكل رغيفاً، فأكل بعضه، فإنه يحنث في المشهور، ولو حلف أن يأكله، لم يبر إلا بأكل جميعه. والقاعدة عندهم أن من حلف على فعل يحمل على أكثر ما يحتمله اللفظ على المشهور. ومن حلف على فعل شيء حنث بأكل ما يشتق منه، فمن حلف ألا يأكل قمحاً، حنث بأكل خبزه، ومن حلف ألا يأكل لبناً، حنث بأكل الجبن، ومن حلف ألا يأكل عنباً، حنث بأكل الزبيب. الحلف على الشرب: عرفنا معنى الشرب: وهو إيصال مالا يحتمل المضغ من المائعات إلى الجوف، فلو حلف لا يشرب، فأكل: لا يحنث، كما لو حلف لا يأكل، فشرب: لا يحنث؛ لأن الأكل والشرب فعلان متغايران. وإذا حلف لا يشرب ولا نية له: فأي شراب شرب من ماء أو غيره يحنث، لأنه منع نفسه عن الشرب عموماً، وسواء شرب قليلاً أو كثيراً، لأن بعض الشراب يسمى شراباً. ولو حلف لا يشرب من دجلة أو من الفرات: قال أبو حنيفة: لا يحنث ما لم يشرب منه كرعاً: وهو أن يضع فاه عليه، فيشرب منه، فإن أخذ الماء بيده أو بإناء لم يحنث. ¬
الشرب من الجب أو البئر
وقال الصاحبان: يحنث سواء شرب كرعاً أو بإناء أو اغترف بيده. دليلهما: أن مطلق اللفظ ينصرف إلى المتعارف عند أهل اللغة. والمتعارف عندهم: أن من رفع الماء من النهر بيده أو بإناء أنه يسمى شارباً من النهر، فيحمل مطلق الكلام على غلبة المتعارف، وإن كان مجازاً بعد أن كان متعارفاً، كما ذكرت قريباً، وهو مثل ما لو حلف لا يأكل من هذه الشجرة، فإنه ينصرف إلى الثمرة. ودليل أبي حنيفة: أن مطلق الكلام محمول على الحقيقة، وحقيقة الشرب من النهر: هو أن يكرع منه كرعاً بأن يضع فاه عليه فيشرب منه. الشرب من الجب أو البئر: إن حلف لا يشرب من ماء هذا الجب (¬1) أو البئر فاغترف بإناء أو بيده من الأول واستقى من الثاني وشرب: يحنث بالاتفاق، لأنه لا يمكن الشرب منه كرعاً. فلو حلف لا يشرب من هذا الجب: فهو على الاختلاف الذي ذكرته في الحلف من دجلة أو الفرات، فلا يحنث عند أبي حنيفة ما لم يكرع منه. وعند الصاحبين: يحنث مطلقاً (¬2). الحلف على الغداء والعشاء والسحور: الغداء والعشاء والسحور عبارة عن أكل ما يقصد به الشبع عادة، ويعتبر غداء كل بلدة: ما تعارفه أهلها، فإن كان خبزاً فخبز، وإن كان لحماً فلحم، حتى إن الحضري إذا حلف على ترك الغداء، فشرب اللبن لم يحنث، والبدوي بخلافه، لأنه غداء في البادية أي أن المعتبر فيما يتغدى به عادة أهل بلد الحالف. ولا بد من أن يأكل أكثر من نصف الشبع في غداء وعشاء وسحور. ¬
الغداء في الماضي
والغداء في الماضي: هو الأكل من طلوع الفجر إلى الظهر. والعشاء في الماضي: هو الأكل من صلاة الظهر إلى نصف الليل؛ لأن مابعد الزوال يسمى عشاء، وعليه تسمى الظهر إحدى صلاتي العشاء في الحديث، فإنه ورد أن النبي صلّى الله عليه وسلم صلى إحدى صلاتي العشاء ركعتين: يريد به الراوي: الظهر أو العصر. وفي عرفنا اليوم يعتبر الأكل من طلوع الفجر إلى ارتفاع الضحى الأكبر فطوراً، ومابعده يدخل وقت الغداء وينتهي إلى العصر، لأنه أول وقت العشاء في عرفنا، وحينئذ يدخل وقت العشاء: وهو مابعد صلاة العصر، وهذا العرف يعمل به. والسحور: هو الأكل من بعد نصف الليل إلى طلوع الفجر، مأخوذ من السحر وهو الثلث الأخير من الليل، وقد أطلق على النصف الثاني من الليل لقربه من الثلث الأخير. وأما التضحي: فهو الأكل في وقت الضحى. ووقت الضحى: هو من بعد طلوع الشمس من الساعة التي تحل فيها الصلاة إلى نصف النهار؛ لأن هذا وقت صلاة الضحى. وأما التصبيح: فهو ما بين طلوع الشمس إلى ارتفاع الضحوة الكبرى لأنه من الإصباح، وهذا يعرف بتسمية أهل اللغة. ولو حلف ليأتينه غدوة: فهذا بعد طلوع الفجر إلى نصف النهار (¬1). وإن حلف ألا يأكل شيئاً فشربه أو لا يشربه فأكله، لا يحنث عند الجمهور، وعن الإمام أحمد روايتان: إحداهما ـ يحنث؛ لأن اليمين على ترك أكل شيء أو شربه يقصد بها في العرف اجتناب ذلك الشيء، فحملت اليمين عليه إلا أن ينوي. ¬
المطلب الخامس ـ الحلف على اللبس والكسوة
والثانية ـ لا يحنث؛ لأن الأفعال أنواع كالأعيان (¬1). المطلب الخامس ـ الحلف على اللبس والكسوة: من حلف ألا يلبس ثوباً وهو لابسه، نزعه في الحال، فإن لم يفعل حنث بالاتفاق (¬2). وإذا حلف إنسان (لا يلبس قميصاً أو سراويل أو رداء) فاتزر به: لا يحنث، وكذا إذا اعتم بشيء مما ذكر؛ لأن المطلق تعتبر فيه العادة، والاتزار والتعمم ليس بمعتاد في هذه الأشياء، فلا يحنث. ولو حلف (لا يلبس هذا القميص أو هذا الرداء) فعلى أي حال لبسه حنث بالاتفاق (¬3). حتى بالاتزار والتعمم؛ لأن اليمين إذا تعلقت بعين اعتبر فيها وجود اسم العين، ولا تعتبر فيها الصفة المعتادة. ولو حلف (لا يلبس من غزل فلانة شيئا ً) فلبس ثوباً قد غزلته فلانة: يحنث في يمينه؛ لأن الغزل عينه لا يلبس، فيقع على ما يصنع منه، وهو الثوب. ولو نوى الغزل بعينه: لا يحنث إذا لبس الثوب، لأنه نوى حقيقة كلامه. ولو حلف (لا يلبس ثوباً من غزل فلانة) يقع على الثوب، ولو نوى الغزل لايصدق. ولو حلف (لا يلبس ثوباً من غزل فلانة) فلبس ثوباً من غزلها وغزل غيرها: لايحنث باتفاق الحنفية والشافعية؛ لأن الثوب اسم لشيء مقدر، فلا يقع على بعضه. ¬
لا يلبس حليا
وعند الحنابلة روايتان: إحداهما: يحنث كالصورة الآتية بعدها، والثانية: لايحنث. ولو حلف (لا يلبس من غزل فلانة) فلبس ثوباً من غزلها وغزل غيرها: حنث بالاتفاق (¬1)، لأن البعض يسمى غزلاً. أما لو حلف (لا يلبس من غزل فلانة) ولم يقل ثوباً: لم يحنث في التكة والزر والعروة والطوق؛ لأن هذا ليس بلبس في العادة، فلو لبس ثوباً تلابيبه (¬2) من غزل فلانة: يحنث؛ لأن هذا القدر ملبوس من غزلها بلبس الثوب (¬3). ومن حلف (لا يلبس حليا ً) فلبس خاتم فضة لم يحنث؛ لأنه ليس بحلي عرفاً ولا شرعاً، حتى أبيح استعماله للرجال، وإن كان من ذهب حنث، لأنه حلي ولهذا لا يحل استعماله للرجال، ولو لبس عقد لؤلؤ يحنث عند الصاحبين، لأنه حلي حقيقة، والتحلي به معتاد، وهو الرأي المفتى به خلافاً لرأي أبي حنيفة القائل بأنه لا يحنث. وقال غير الحنفية: يحنث بلبس الفضة واللؤلؤ (¬4). ولو حلف (لا يكسو فلاناً شيئاً) ولا نية له، فكساه قلنسوة، أو خفين أو جوربين: حنث؛ لأن الكسوة اسم لما يكسى به، وذلك يوجد في القليل والكثير. ولو حلف (لا يكسو فلاناً ثوباً) فأعطاه دراهم يشتري بها ثوباً لم يحنث، لأنه لم يكسه، وإنما وهبه دراهم، وشاوره فيما يفعل بها. ¬
المطلب السادس ـ الحلف على الركوب
ولو أرسل له ثوب كسوة: حنث؛ لأن حقوق العقد أو اليمين لا تتعلق بالرسول، وإنما تتعلق بالمرسل (¬1). المطلب السادس ـ الحلف على الركوب: إذا حلف (لا يركب دابة) فهو يقع على الدواب التي يركبها الناس في حوائجهم في مواضع إقامتهم، كالفرس والحمار والبغل، فلو ركب ظهر إنسان أو بعيراً أو بقرة أو فيلاً: لا يحنث استحساناً إلا بالنية. والقياس أن يحنث في ركوب كل حيوان، لأن الدابة لفظ عام يشمل كل ما يدب على الأرض. قال تعالى: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} [هود:6/ 11] إلا أنهم استحسنوا وحملوا اليمين على ما يركبه الناس في حوائجهم غالباً: وهو الخيل والبغال والحمير تخصيصاً للعموم بالعرف والعادة. قال صاحب الدر: وينبغي حنثه بالبعير في مصر والشام أي (إذا كان ممن يركب البعير كالمسافر وأهل البدو) وبالفيل في الهند للتعارف. ولو حمل على الدابة مكرهاً فلا حنث. ولو حلف (لا يركب فرسا ً) فركب برذوناً، أو حلف لا يركب برذوناً (¬2) فركب فرساً: لم يحنث؛ لأن كل حيوان يختلف عن الآخر، فالفرس عربي، والبرذون أعجمي. ولو حلف (لا يركب) وقال: نويت الخيل: لا يصدق قضاء ولا ديانة، لأن المركوب ليس بمذكور، فلا يحتمل اللفظ التخصيص. ¬
المطلب السابع ـ الحلف على الجلوس
فإن حلف (لا يركب الخيل) فركب برذوناً أو فرساً: يحنث لأن الخيل اسم جنس، فيعم جميع أنواعه. ولو حلف (لا يركب دابة) وهو راكبها فمكث على حاله ساعة: حنث؛ لأن الركوب له أمثال تتجدد مع الزمن، فله حكم الابتداء، مثل ما لو حلف لا يلبس وهو لا بس، أو لا يجلس وهو جالس (¬1). المطلب السابع ـ الحلف على الجلوس: إذا حلف (لا يجلس على الأرض) فجلس على شيء حائل بينه وبين الأرض كحصير أو بساط أو كرسي: لم يحنث، لأنه لا يسمى جالساً على الأرض؛ لأن الجالس على الأرض: من باشر الأرض، ولم يحل بينه وبينها شيء، بخلاف ما إذا حال بينه وبين الأرض ثيابه، فإنه لا يعتبر حائلاً لأن الثياب تبع له. وإن حلف (لا يجلس على هذا الفراش) فجعل عليه فراشاً مثله، ثم جلس: لم يحنث؛ لأن الجلوس ينسب إلى الفراش الثاني دون الأول. وخالف أبو يوسف في الفراش خاصة فقال: إذا حلف لا ينام على هذا الفراش، فجعل فوقه فراشاً آخر ونام عليه: حنث، لأنه يحصل به زيادة توطئة ولين، فيكونان مقصودين بالنوم عليهما. واتفقوا على أنه لو حلف لا ينام على هذا الفراش فجعل فوقه ملاءة أي شرشفاً: حنث لأنه تبع للفراش، فلا يمنع أن يقال: نام على الفراش. ¬
لا يجلس على هذا السرير أو السطح
ولو حلف (لا يجلس على هذا السرير أو السطح) فجعل فوقه مصلى أو بساطاً، ثم جلس عليه: حنث؛ لأن السرير يجلس عليه هكذا غالباً، ويقال: نام على السطح، وإن كان نام على فراش. فلو جعل فوق السرير سريراً أو بنى فوق السطح سطحاً: لم يحنث؛ لأن الجلوس ينسب إلى الثاني دون الأول. ولو نوى الجلوس على ألواح هذا السرير مباشرة دون أن يكون فوقه شيء: يصدق ديانة فيما بينه وبين الله، لا قضاءً، لأنه خلاف المعتاد وإن كان حقيقة. ولو قال: (والله لا أنام على ألواح هذا السرير) فجلس على بساط فوقه: لم يحنث، لأنه ما نام على ألواح. ولو حلف (لا يجلس على الأرض) فجلس على السطح: يحنث لأنه يسمى أرض السطح (¬1). المطلب الثامن ـ الحلف على السكنى: إذا حلف (لا يسكن هذه الدار) فإن لم يكن ساكناً فيها فالسكنى: أن يسكنها بنفسه، وينقل إليها من متاعه ما يتأثث به، ويستعمله في منزله، فإذا فعل ذلك فهو ساكن، وحانث في يمينه؛ لأن السكنى هو الكون في المكان على طريق الاستقرار والمداومة، وهو يكون بما يسكن به عادة، ألا ترى أن من جلس في المسجد وبات فيه، لم يكن ساكناً في المسجد، ولو أقام فيه بما يتأثث به يسمى ساكن المسجد، فكان هذا معتبراً في اليمين. وقال الشافعية والحنابلة (¬2): إن استدامة السكنى كابتدائها في وقوع اسم ¬
كان الرجل ساكنا في الدار فحلف لا يسكنها
السكنى عليها، فإذا حلف ساكن الدار لايسكنها، فمتى أقام فيها بعد يمينه زمناً يمكنه فيه الخروج، حنث. وإن أقام لنقل متاعه لم يحنث؛ لأن الانتقال لايكون إلا بالأهل والمال، فيحتاج أن ينقل ذلك معه، حتى يكون منتقلاً. وإن أكره على المقام لم يحنث، لحديث العفو عن الاستكراه. وإن كان الرجل ساكناً في الدار فحلف لا يسكنها: فإنه لا يبر في يمينه ما لم ينتقل بنفسه وأهله وولده ومتاعه وخادمه ومن يقوم بشأنه في منزله، لأن السكنى في الدار بهذه الأشياء، فكان ترك السكنى فيها بضدها، فإذا لم يأخذ في النقلة من ساعته مع الإمكان: يحنث في يمينه. وهنا ثلاثة افتراضات: أحدها ـ إذا انتقل بأهله ومتاعه في الحال: لم يحنث عند أئمة الحنفية الثلاثة، ولا يؤثر وجود السكنى القليلة، لأنه لا يمكن الاحتراز عنه، فكان مستثنى دلالة. وقال زفر: يحنث لوجود شرط الحنث وهو السكنى. الثاني ـ لو انتقل بنفسه، ولم ينتقل بأهله ومتاعه: يحنث عند أئمة الحنفية والحنابلة؛ لأن السكنى في المكان ـ كما تقدم ـ هي الكون في الشيء على وجه الاستقرار، ولا يكون هذا إلا بما يسكن به عادة، فإذا حلف لا يسكنها وهو فيها، فالبر في إزالة ما كان به ساكناً، فإذا لم يفعل حنث، ولأن من حلف لا يسكن هذه الدار فخرج بنفسه، وأهله ومتاعه فيها يسمى في العرف والعادة ساكن الدار. هذا بخلاف ما إذا حلف لا يسكن في بلد فخرج منه وترك أهله فيه: لم يحنث؛ لأن العادة لا يقال لمن بدمشق وأهله بحلب: إنه ساكن بحلب. وقال الإمام الشافعي (¬1): لا يحنث، ويكفي أن يخرج ببدنه بنية التحول، لأن اليمين على سكناه، وقد ترك السكنى، فلم يحنث بترك أهله ومتاعه، كما لو ¬
منع من الخروج
حلف لا يسكن في بلد، فخرج بنفسه وترك أهله فيه. وقال الشافعي محتجاً على الحنفية: إذا خرجت من مكة، وخلَّفت دفيترات بها أفأكون ساكناً بمكة؟!. ومن حلف لا يسكن داراً معينة أو لا يقيم فيها، فليخرج في الحال، فإن مكث بلا عذر حنث، حتى ولو أخرج متاعه؛ لأن المحلوف عليه سكناه، وهو موجود، إذ السكنى تطلق على الدوام كالابتداء، أما إن اشتغل بأسباب الخروج كجمع متاع وإخراج أهل ولبس ثوب، فلم يحنث بمكثه لذلك؛ لأنه لا يعدّ ساكناً، وإن طال مقامه بسبب ذلك. وكذلك الدوام على التزوج أو التطهر أو اللبس أو الركوب أو القيام أو القعود، له حكم ابتداء هذه الأفعال عندهم. وهذا بعكس الوطء والصوم والصلاة وبقاء الطيب، الدوام فيها ليس كالابتداء باتفاق الفقهاء (¬1). الثالث ـ إذا انتقل بنفسه وأهله وماله ومتاعه وترك من أثاثه شيئاً يسيراً فإن أبا حنيفة قال: يحنث لأن السكنى قد ثبتت بكل ذلك فيبقى مابقي شيء منه. وقال أبو يوسف: يعتبرنقل الأكثر، لأن نقل الكل قد يتعذر في بعض الأوقات. وقال محمد: يعتبر ماتقوم به السكنى، قالوا: وهذا القول أحسن وأرفق بالناس. ولاشك أن من خرج على نية ترك المكان وعدم الرجوع إليه، ونقل من أمتعته مايقوم به أمر سكناه. وهو على نية نقل الباقي يقال عنه: ليس ساكناً فيه، بل انتقل منه، وسكن في مكان آخر، وبهذا يترجح قول محمد. فإن منع من الخروج والتحول بنفسه ومتاعه، وأوثقوه وقهروه: لايحنث وإن أقامـ على وضعه أياماً، لأنه ليس بساكن، إنما هو أسكن فيها عن إكراه، فلايحنث. ¬
هل الدوام على السكنى له حكم الابتداء؟
وقال محمد: إذا خرج الحالف من ساعته، وخلف متاعه كله في المسكن، ومكث في طلب المنزل أياماً ثلاثة، فلم يجد مايستأجره وكان يمكنه أن يخرج من المنزل ويضع متاعه خارج الدار: لايحنث؛ لأن هذا من عمل النقلة عادة، لأن المعتاد أن ينتقل من منزل إلى منزل لا أن يلقي متاعه على الطريق. وقال محمد أيضاً: وإن كان الساكن موسراً وله متاع كثير، وهو يقدر على أن يستأجر من ينقل متاعه في يوم، فلم يفعل، وجعل ينقل بنفسه الأول فالأول، ومكث في النقلة سنة وهو لايترك الاشتغال بالنقل: فإنه لايحنث، لأنه لا يلزمه الانتقال بأسرع الوجوه. وإن حلف لا يسكن هذه الدار وهو ساكن فيها، فتحول ببدنه فقط، وقال: ذلك عنيت بيميني: يصدق ديانة فيما بينه وبين الله تعالى ولايصدق قضاء، لأنه نوى خلاف الظاهر والعادة. وإن كان حلف وهو غير ساكن فيها وقال: نويت الانتقال ببدني فقط يصدق ديانة وقضاء، لأنه نوى مايحتمله كلامه، ولأنه شدد على نفسه (¬1). هل الدوام على السكنى له حكم الابتداء؟ قال الحنفية: دوام السكنى واللبس والركوب له حكم الابتداء، حتى لو حلف لايلبس هذا الثوب وهو لابسه أو لايركب هذه الدابة وهو راكبها، أو لايسكن هذه الدار وهو ساكنها، واستمر على ماكان عليه: حنث؛ لأن هذه الأفعال تتجدد بحدوث أمثالها. وذلك بعكس الدخول والخروج والتزوج والتطهر: لايعتبر الدوام عليها بمثابة إنشائها. ¬
المطلب التاسع ــ الحلف على الضرب والقتل
والضابط الفارق بينهما: أن مايمتد فلدوامه حكم الابتداء كالقعود والقيام والنظر ونحوه، ومالا يمتد لا دوام له كالخروج والدخول. وهذا هو مذهب الشافعية أيضاً (¬1). ويترتب على هذا أن الحالف على السكنى واللبس والركوب ونحوها إذا انتقل للحال أو نزع الثوب حالاً، أو نزل عن الدابة حالاً: لايحنث. وقال زفر: يحنث لوجود اللبس والركوب والسكنى بعد اليمين، وإن قل الانتظار، وهو كاف للحنث (¬2). المطلب التاسع ــ الحلف على الضرب والقتل: إذا حلف إنسان بطلاق زوجته ليضربنها حتى يقتلها أو حتى ترفع ميتة ولانية له، فإن ضربها ضرباً شديداً بر في يمينه، لأنه يراد بمثل هذا القول في العادة شدة الضرب دون الإماتة. وقال الشافعية: البر بما يسمى ضرباً، فلا يكفي وضع اليد عليها ورفعها، ولايشترط فيه إيلام لصدق الاسم بدونه إلا أن يقول: ضرباً شديداً. ولو حلف «ليضربن غلامه عشرة أسواط» فجمع عشرة أسواط، وضربه مرة واحدة، وأصاب كل سوط جلده: بر في يمينه ولايحنث عند الحنفية والشافعية، لأنه ضربه عشرة أسواط. فأما إذا لم يصب كل سوط جلده: فإنه يحنث، لأنه لايسمى ضارباً عشرة أسواط. وقال المالكية والحنابلة (¬3): من حلف أن يضرب غيره مئة سوط فجمعها ¬
: (والله لا أقتل فلانا بدمشق)
ضغثاً فيه عشرة أعواد، ثم ضربه بها ضربة واحدة لم يبر بيمينه؛ لأن معنى يمينه أن يضربه عشر ضربات، ولم يضربه إلا ضربة واحدة، فلم يبر، كما لو حلف ليضربنه عشر مرات بسوط. ولو قال: (والله لا أقتل فلاناً بدمشق) أو قال: (والله لا أتزوج فلانة بدمشق) فضرب فلاناً بحلب فمات بدمشق، أو زوجه الولي امرأة بحلب، فبلغها الخبر بدمشق، فأجازت العقد حنث في اليمينين جميعاً. وكذلك لو حلف على الزمان، فقال: (لا أفعل ذلك يوم الجمعة) فمات المحلوف عليه يوم الجمعة، أو أجازت المرأة النكاح يوم الجمعة: حنث الحالف. وهكذا يعتبر في القتل مكان زهوق الروح وزمانه، كما يعتبر في النكاح مكان الإجازة وزمانها. ويجري هذا في البيع والشراء: يعتبر مكان الإجازة ويوم الإجازة. وقال محمد: يعتبر في العقد مكان الفاعل وزمانه، وفي القتل كما قال أبو يوسف: يعتبر مكان زهوق الروح بالنسبة للمقتول وزمانه (¬1). ومن حلف (لا يضرب امرأته) ففعل بها أي فعل يوجعها كالعض وعصر الحلق وشد الشعر ولو ممازحاً: يحنث؛ لأن الضرب اسم لفعل مؤلم، وقد تحقق الإيلام. وقيل: لا يحنث في حال الملاعبة، لأنه يسمى في العرف ممازحة لا ضرباً. وإذا قال شخص: (إن لم أقتل فلاناً فامرأتي طالق) وفلان ميت: فإن كان الحالف عالماً بموته حين حلف حنث للحال؛ لأن يمينه تنعقد لتصور البر فيه، لأن ¬
إن لم أشرب الماء الذي في هذا الكوز فامرأتي طالق
الله تعالى قادر على إعادة الحياة فيه إذ الروح لا تموت، فيمكن قتله، ثم إنه يحنث في الحال للعجز عن البر في يمينه عادة مثل الحلف على صعود السماء. وإن لم يعلم بموته لا يحنث عند أبي حنيفة ومحمد، لأنه عقد يمينه على حياة كانت فيه، ولا يتصور إزالتها، وقال أبو يوسف: يحنث لأن تصور البر ليس بشرط عنده لانعقاد اليمين. وهذا الخلاف جرى كما ذكر سابقاً في مسألة الكوز إذا كان يعلم ألا ماء فيه، فحلف وقال: (إن لم أشرب الماء الذي في هذا الكوز فامرأتي طالق) (¬1). أما إن حلف أن يضرب فلاناً في غد، فمات الحالف في يومه، فلا حنث عليه عند الحنابلة والشافعية، وإن مات المحلوف عليه في الغد، حنث؛ لأنه لم يفعل ما حلف عليه في وقته من غير إكراه ولا نسيان، وهو من أهل الحنث (¬2). وينطبق هذا الحكم على من قال: والله لأشربن ماء هذا الكوز غداً، فاندفق اليوم، أو لآكلن هذا الخبز غداً، فتلف اليوم، يحنث. المطلب العاشر ـ الحلف على ما يضاف إلى غير الحالف: الحلف على ما في ملك فلان: إذا حلف إنسان على ما في ملك فلان: يحنث إذا كان الشيء مملوكاً له وقت فعل المحلوف عليه، سواء أكان ما في ملك فلان مملوكاً له وقت الحلف، أم لم يكن مملوكاً له حينذاك، كأن حلف (لا يأكل طعام فلان أو لا يشرب شراب فلان أو لا يدخل دار فلان، أو لا يركب دابة فلان، أو لا يلبس ثوب فلان) ولم يكن شيء منها في ملكه، ثم استحدث الملك فيها، ¬
فإن زال الملك عن فلان، فحدث الفعل المحلوف عليه: لا يحنث بالاتفاق. وأما في حال وجود الملك فيحنث وهو الحكم المقرر في ظاهر الرواية عند الحنفية؛ لأن هذه اليمين عقدت على المنع من الفعل في ملك فلان، فيعتبر الملك القائم يوم الفعل. وهناك رواية أخرى في النوادر عن محمد، ورواية أخرى أيضاً عن أبي يوسف. لكن إذا حلف (لا يكلم زوج فلانة أو امرأة فلان أو صديق فلان، أو ابن فلان، أو أخ فلان) فإنه يقع على ما كان متحققاً وقت الحلف، ولا يشمل ما يحدث من زوجية وصداقة وولد في المستقبل، فإن زال عقد النكاح ورابطة الصداقة، فكلم المحلوف عليه حنث بالاتفاق. وإذا حلف على ما في ملك فلان مع التعيين بالإشارة، كأن قال: (لا أدخل دار فلان هذا، أو لا أركب دابة فلان هذا، أو لا ألبس ثوب فلان هذا) فباع فلان داره أو دابته، أو ثوبه ثم دخل أو ركب أو لبس بعد زوال الملك عن فلان: لم يحنث عند أبي حنيفة وأبي يوسف إلا أن يعني ذات الشيء خاصة. وقال محمد: يحنث وإن زال ملك فلان إلا أن يعني ما دامت ملكاً لفلان، فأبو حنيفة وأبو يوسف اعتبرا الإشارة وإضافة الملك لفلان معاً وقت حدوث الفعل للحكم بالحنث فما لم يوجدا لا يحنث. ومحمد يعتبر الإشارة فقط. واتفقوا على أنه لو حلف (لا أكلم هذا الشخص) أو (لا أدخل هذه الدار) أو (لا أركب هذه الدابة) حنث بالمخالفة، لأنه تعتبر العين المشار إليها (¬1). ¬
بحثان ملحقان بهذا المطلب
بحثان ملحقان بهذا المطلب: البحث الأول ـ الحلف على فعل صادر من غير الحالف: إذا حلف إنسان (لا يلبس مما يشتريه فلان) فاشتراه فلان مع غيره: لم يحنث، لأنه لبس ثوباً اشترى فلان بعضه لا كله. ولو حلف (لا يأكل مما يشتريه فلان) فاشتراه فلان مع غيره فأكل منه حنث؛ لأنه قد أكل ما اشتراه فلان، لأن بعض الطعام طعام حقيقة، ويسمى أيضاً طعاماً عرفاً. وهذا بخلاف ما إذا حلف (لا يدخل دار فلان) فدخل داراً بينه وبين آخر، فإنه لا يحنث، لأن بعض الدار لا يسمى داراً. وكذلك لو حلف (لا يلبس ثوباً لفلان أو يشتريه فلان، أو نسجه فلان) فلبس ثوباً اشتراه فلان مع آخر، أو نسجه مع غيره، لأن بعض الثوب لا يسمى ثوباً. أما لو حلف (لا يلبس من نسج فلان) فنسجه فلان مع غيره، فإنه يحنث؛ لأنه يقال عنه: من نسج فلان. ولو حلف (لا يأكل من طبيخ فلان، أو من خبز فلان) فأكل مما طبخ فلان مع غيره أو من خبز مشترك بينه وبين غيره، حنث؛ لأن كل جزء من الطبيخ طبيخ، وكل جزء من الخبز يسمى خبزاً. أما لو حلف (لا يأكل من قِدْر طبخها فلان) فأكل مما طبخ فلان مع غيره فلا يحنث؛ لأن كل جزء من القِدْر ليس بقدر. وكذا لو حلف (لا يأكل لفلان رغيفاً) فأكل رغيفاً مشتركاً: لا يحنث، لأن بعضه لا يسمى رغيفاً. والمقصود من الخباز: هو الذي يضرب الخبز في التنور أو
البحث الثاني - فعل الغير بأمر الحالف
الفرن، دون من عجنه وبسطه. وأما الطابخ: فهو الذي يوقد النار، دون الذي ينصب القدر، ويصب الماء واللحم فيه؛ لأن ذلك من مقدمات الطبخ؛ لأن الطبخ ما ينضج به اللحم، وهو يحصل بإيقاد النار. ولو حلف (لا يأكل من كسب فلان) فالكسب: ما صار ملكاً للإنسان بفعله أو بقوله، مثل الاستيلاء على المباحات، والاصطياد، والبيع، والإجارة وقبول الهبة والصدقة والوصية ونحوها مما يحتاج إلى قبول لترتب الأثر الشرعي عليه. أما الميراث: فليس بكسب للوارث؛ لأنه يثبت له الملك فيه من غير إرادة منه. ولو مات المحلوف عليه، وقد كسب شيئاً فورثه رجل، فأكل الحالف منه: حنث؛ لأنه أكل من أكساب المحلوف عليه، وهو ليس كسباً للوارث، فيظل منسوباً للمورث. أما لو باع المحلوف عليه كسبه إلى رجل، فأكل منه الحالف فلا يحنث؛ لأن ملكيته انتقلت إلى المشتري، فلم يبق منسوباً إلى المالك الأصلي (¬1). البحث الثاني - فعل الغير بأمر الحالف: لو حلف إنسان على فعل، فقال: (والله لا أفعل كذا) ثم أمر غيره بأن يفعله، ففعل، ينظر في طبيعة المحلوف عليه: ¬
عقد الصلح
1 - إن كان فعلاً له حقوق (¬1) ترجع إلى الفاعل كالبيع والشراء والإجارة، والقسمة: لا يحنث؛ لأن حقوق هذه العقود تختص بالعاقد المباشر لها دون الآمر وحينئذ لا ينسب الفعل إلى الآمر، وإنما ينسب إلى الفاعل باعتبار أنه العاقد في الحقيقة. وأما ما يرجع للآمر فهو حكم العقد أي (الغرض والغاية من إنشائه) ففي البيع: الحكم هو انتقال ملكية المبيع للمشتري وملكية الثمن للبائع. ففي هذه الزمرة من العقود لا يحنث الحالف على فعلها كما بينت إلا إذا كان الحالف ممن لا يتولى القيام بهذه العقود بنفسه، كالقاضي والسلطان ونحوهما، فيحنث بمجرد أمر غيره بهذه الأفعال؛ لأن المعتاد أن تتم هذه العقود بواسطة غيره. وكذلك لو كان الوكيل هو الحالف فإنه يحنث؛ لأن حقوق العقد راجعة إليه، وأنه هو العاقد حقيقة، لا الآمر. 2 - وإن كان المحلوف عليه فعلاً ترجع حقوقه إلى الآمر، أو كان مما ليس له حقوق، كالنكاح والطلاق والهبة والصدقة والكسوة وقضاء الحقوق واقتضائها والادعاء أمام القضاء والشركة: بأن حلف لا يشارك رجلاً، فأمر غيره بأن يعقد عقد الشركة معه، وكالضرب والذبح والقتل والبناء والخياطة والنفقة ونحوها، فإذا فعل الحالف هذه الأفعال بنفسه، أو أمر غيره ففعل، حنث؛ لأن مالا حقوق له أو ترجع حقوقه إلى الآمر، لا إلى الفاعل ينسب إلى الآمر، لا إلى الفاعل. وأما عقد الصلح: ففيه روايتان عن أبي يوسف: في رواية إذا حلف لا يصالح، فوكل بالصلح لم يحنث؛ لأن الصلح عقد معاوضة كالبيع. وفي رواية: أنه يحنث؛ لأن الصلح إسقاط حق كالإبراء. ¬
المطلب الحادي عشر ـ الحلف على تصرفات شرعية
فإن قال الحالف في زمرة الأفعال التي ترجع الحقوق فيها إلى الآمر كالنكاح والطلاق: (نويت أن أباشر ذلك بنفسي) يصدق ديانة فيما بينه وبين الله تعالى، لا قضاء، لأنه نوى ما يحتمله كلامه إلا أنه خلاف الظاهر. ولو قال الحالف فيما لا حقوق له كالضرب والذبح: (عنيت أن أباشر ذلك بنفسي) يصدق ديانة وقضاء؛ لأنه نوى حقيقة كلامه؛ لأن الضرب والذبح من الأفعال الحقيقية لا الحكمية أو الاعتبارية، فكانت العبرة فيه لمباشرة الفعل (¬1). المطلب الحادي عشر ـ الحلف على تصرفات شرعية: الكلام في المطالب السابقة كان محصوراً في الحلف على الأمور العادية التي يمارسها الإنسان عادة بحكم تقلب شؤونه في هذه الحياة. وهذا المطلب مخصص للبحث عن أحوال اليمين التي يحلفها الحالف على الأمور الشرعية، باعتبار أن الشارع له حكم فيها من ناحية الصحة والفساد، مثل البيع والشراء والهبة والعارية والصدقة والقرض والتزويج والصلاة والصوم ونحوها. الحلف على عدم شراء الذهب والفضة: إذا حلف شخص (لايشتري ذهباً ولا فضة) فاشترى عملة نقدية فضية كالدراهم في الماضي، أو ذهبية كالدنانير، أو آنية أو سبيكة أو حلياً مصوغاً أو غيرها مما هو ذهب أو فضة: فإنه يحنث عند أبي يوسف. وقال محمد: لا يحنث في الدراهم والدنانير. وسبب الخلاف هو أن أبا يوسف يعتبر الحقيقة اللغوية في هذه الأمور. ومحمد: يعتبر العرف السائد عند الناس. ¬
عدم شراء الصوف
عدم شراء الصوف: لو حلف لا يشتري صوفاً، فاشترى شاة على ظهرها صوف: لم يحنث. والقاعدة في مثل هذا: أن من حلف لا يشتري شيئاً، فاشترى غيره، ودخل المحلوف عليه في البيع تبعاً: لم يحنث، وإن دخل مقصوداً يحنث. والصوف ههنا لم يدخل في العقد مقصوداً؛ لأن التسمية لم تتناول الصوف، وإنما دخل في العقد تبعاً للشاة (¬1). عدم الهبة والصدقة ونحوهما لو حلف لا يهب لفلان شيئاً، أو لا يتصدق عليه، أو لا يعيره، أو لا ينحل له أو لا يعطيه، ثم وهب له أو تصدق عليه، أو أعاره أو نحله أو أعطاه فلم يقبل المحلوف عليه: يحنث عند جمهور الحنفية. وعند زفر: لا يحنث. وأما القرض: فقد روي عن محمد أنه لا يحنث ما لم يقبل، وعن أبي يوسف روايتان: في رواية مثل قول محمد، وفي رواية: يحنث من غير قبول، وهو الأرجح؛ لأن القرض لا تتوقف صحته على تسمية عوض، فهو كالهبة. ووجه قول محمد: أن القرض يشبه البيع، لأنه تمليك بعوض. عدم البيع والإجارة ونحوهما: إن حلف الشخص على عقد فيه عوض كالبيع والإجارة والصرف والسلم ونحوها، ففعل الحالف، ولم يقبل الآخر: لا يحنث. والفرق بين عقود التبرعات كالهبة ونحوها، وعقود المعاوضات كالبيع ونحوه: هو أن التبرعات تفيد التمليك من جانب واحد وهو المتبرع، وأما القبول فهو شرط لثبوت الحكم في حق الجانب الآخر، أي أنه شرط فقط لترتب الأثر ¬
الحلف على عدم الزواج
الشرعي على العقد: وهو انتقال الملكية بالنسبة إليه، فإذا وجد مايطلق عليه اسم العقد لغة واصطلاحاً عند الفقهاء، يحنث. وأما المعاوضات: فلا تفيد التمليك إلا بإرادة المتعاقدين لغة وشرعاً فلا يتحقق وجود اسم العقد إلا بوجود الإيجاب من أحد المتعاقدين، والقبول من المتعاقد الآخر، وحينئذ يحنث. فإذا كان البيع صحيحاً وتم قبول المشتري: يحنث الحالف، وكذلك يحنث إن كان البيع فاسداً إن تحقق قبول المشتري وقبض المبيع فعلاً؛ لأن اسم البيع يتناول الصحيح والفاسد: وهو مبادلة شيء مرغوب فيه بشيء مرغوب فيه. ولو باع بيعاً فيه خيار للبائع أو للمشتري: حنث عند محمد، ولم يحنث عند أبي يوسف. وجه قول محمد: أن البيع كما يطلق على البيع البات، أي الذي لاخيار فيه، يطلق أيضاً على البيع الذي فيه خيار، فإن كل واحد منهما يسمى بيعاً في عرف الناس، إلا أن انتقال الملكية في بيع الخيار يتوقف على أمر آخر هو إجازة البيع أو سقوط الخيار فأشبه البيع الفاسد. ووجه قول أبي يوسف: أن وجود شرط الخيار يمنع نقل الملكية، فأشبه حالة وجود الإيجاب فقط من أحد المتعاقدين دون القبول (¬1). الحلف على عدم الزواج: لو حلف (لا يتزوج هذه المرأة) فيقع على الزواج الصحيح دون الفاسد، فلو تزوج المرأة بنكاح فاسد: لا يحنث؛ لأن المقصود من النكاح هو حل المرأة، ولا يثبت الحل بالفاسد، بخلاف البيع، فإن المقصود منه الملك، ويثبت الملك بالفاسد. ¬
الحلف على عدم الصلاة والصوم
وقال الشافعية (¬1): حلف لا يبيع أو لا يشتري، فعقد لنفسه أو غيره، حنث، ولا يحنث بعقد وكيله له. ولو حلف لا يُزوج أو لا يطلق أو لايضرب، فوكل من فعله لا يحنث، إلا أن يريد ألا يفعل هو ولا غيره. وإن حلف لا ينكح، حنث بعقد وكيله له، لا بقبوله هو لغيره. ورأى الحنابلة والمالكية (¬2) أن من حلف لا يفعل شيئاً كالشراء والضرب، فوكل في فعله حنث، إلا أن ينوي مباشرته بنفسه. الحلف على عدم الصلاة والصوم: وكذلك لو حلف لا يصلي ولا يصوم، فيقع على الصحيح دون الفاسد، حتى لو صلى بغير طهارة أو صام بغير نية: لا يحنث؛ لأن المقصود منه التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، ولا يحصل التقرب بالفاسد من الصلوات أو الصيام. أما إذا حلف في الماضي بأن قال: (والله ما تزوجت) أو (ما صليت) أو (ماصمت) فإنه يقع على الصحيح والفاسد؛ لأن القصد من كلامه هو الإخبار عن الصلاة وغيرها، واسم الصلاة أو النكاح أو الصوم يطلق على الصحيح والفاسد، فإن قصد الصحيح صدق قضاء. ولو حلف (لا يصلي) فكبر، ودخل في الصلاة: لم يحنث حتى يركع ويسجد سجدة استحساناً؛ لأن الصلاة أفعال مختلفة من القيام والقراءة والركوع والسجود، والمتركب من أجزاء مختلفة: لا يوجد ما لم يكتمل كله، فما لم توجد هذه الأفعال كلها لا يوجد فعل الصلاة، وبالتالي لا يسمى مصلياً. وهذا بخلاف الصوم: ففي صوم ساعة يحصل فعل الصوم. وبخلاف ما لو حلف (لا يصلي صلاة) لا يحنث، ما لم يصل ركعتين، لأن أدنى الصلاة ركعتان. ¬
لا يصلي الظهر
ولو حلف (لا يصلي الظهر): لا يحنث ما لم يتشهد التشهد الأخير: لأن صلاة الظهر مقدرة بأربع ركعات، فما لم توجد الأربع، لا توجد الظهر. ولو حلف (لا يصوم) فأصبح صائماً لمدة ساعة ثم أفطر: يحنث لأنه يسمى صائماً بصوم ساعة واحدة، إذ الصوم هو الإمساك عن المفطرات على قصد التقرب، وبه وجد شرط الحنث. ولو حلف (لا يصوم يوما ً): لا يحنث حتى يصوم يوماً كاملاً، لأنه جعل شرط الحنث صوماً مقدراً باليوم. ولو حلف (لا يصوم صوما ً): لم يحنث مالم يصم اليوم؛ لأن أقل الصوم الشرعي يوم كامل. ولو حلف (ليفطرن عند فلان) فأفطر بالماء في منزله، ثم تعشى عند فلان: حنث؛ لأن شرط بره هو الإفطار عند فلان، والإفطار اسم لما يضاد الصوم أي نقيض الصوم، وقد حصل المعنى بالإفطار في منزله بالماء. أما إن نوى بالإفطار تناول العشاء عند فلان: لا يحنث لأنه نوى به أمراً متعارفاً، يقال: (فلان يفطر عند فلان) إذا كان يتعشى عنده، حتى ولو كان أصل الإفطار يقع في منزله. الحلف على (عدم الحج): لو حلف (لا يحج) أو (لا يحج حجة): لا يحنث حتى يطوف طواف الزيارة؛ لأن الحج عبادة مركبة من أجناس أفعال من الوقوف بعرفة، والطواف والسعي وغيرها، فيكون اسم الحج واقعاً على كل الأفعال حقيقة، لا على البعض، وللأكثر حكم الكل، فإذا طاف أكثر الطواف: حنث. ولو حلف (لا يعتمر) فأحرم، وطاف أربعة أشواط: حنث؛ لأنه وجد
الأكثر، وللأكثر حكم الكل كما تقدم، فإن جامع الرجل امرأته في الحج: لايحنث؛ لأن الحج قربة إلى الله تعالى، فتنعقد اليمين على الحج الذي هو قربة أي عبادة: وهو الحج الصحيح لا الفاسد؛ لأن الفاسد ليس بقربة (¬1). ¬
الفصل الثاني: النذور
الفَصْلُ الثَّاني: النّذور خطة الموضوع: أذكر في هذا البحث ثلاثة أمور: تعريف النذر وشروط النذر، وحكم النذر. تعريف النذر وركنه: النذر لغة: الوعد بخير أو شر، وشرعاً: الوعد بخير خاصة. وقال بعضهم: هو التزام قربة لم تتعين (¬1). وركنه عند الحنفية: هو الصيغة الدالة عليه مثل قول الشخص: (لله علي كذا) و (علي كذا) أو (علي نذر) أو (هذا هدي) أو (صدقة) أو (مالي صدقة) أو (ما أملك صدقة) ونحوها (¬2). وللنذر عند الجمهور غير الحنفية أركان ثلاثة: الناذر، والمنذور، وصيغة النذر. فأما الناذر: فهو كل مكلف مسلم، فلا نذر للصبي والمجنون والكافر. وأما المنذور فنوعان: مبهم ومعين، فالمبهم: ما لا يبين نوعه كقوله: لله علي نذر، وحكمه أن فيه في رأي المالكية كفارة يمين. والمعين: أربعة أنواع: ¬
شروط النذر
الأول ـ قربة، فيجب الوفاء بها. الثاني ـ معصية، فيحرم الوفاء بها. الثالث ـ مكروه، فيكره الوفاء به. الرابع ـ مباح، فيباح الوفاء به وتركه، وليس على من تركه شيء. وأما الصيغة، فنوعان أيضاً: مطلق ومقيد. فأما المطلق فما كان شكراً لله على نعمة أو لغير سبب، مثل لله علي أن أصوم كذا أو أصلي كذا، وهو مستحب عند المالكية، ويجب الوفاء به. وأما المقيد: فهو المعلق بشرط، كقوله: إن قدم فلان أو شفى الله مريضي فعلي كذا. وحكمه: أنه يلزم الوفاء به بتحقق الشرط. وهو مباح عند المالكية وقيل: مكروه. شروط النذر: هناك شروط في الناذر وشروط في المنذور به، أما شروط الناذر فهي ما يأتي (¬1): أولاً ـ الأهلية من العقل والبلوغ: فلا ينعقد نذر المجنون والصبي غير المميز والصبي المميز؛ لأن هؤلاء غير مكلفين بشيء من الأحكام الشرعية، فليسوا أهلاً للالتزام. ثانياً ـ الإسلام: فلا يصح نذر الكافر، حتى لو نذر، ثم أسلم، لا يلزمه الوفاء بنذره لعدم أهليته للقربة أو التزامها. ¬
شروط المنذور به
وأما الحرية فليست بشرط لصحة النذر، فيصح نذر المملوك. وكذلك الاختيار أو الطواعية ليس بشرط عند الحنفية، وهو شرط عند الشافعية فلا يصح نذر المكره عندهم لخبر: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ومااستكرهوا عليه» (¬1). وأما شروط المنذور به فهي مايلي (¬2): أولاً ـ أن يكون المنذور به متصور الوجود في نفسه شرعاً: فلا يصح النذر بما لايتصور وجوده شرعاً كمن قال: (لله علي أن أصوم ليلاً) أو قالت المرأة: (لله علي أن أصوم أيام حيضي) لأن الليل ليس محل الصوم، والحيض مناف له شرعاً؛ إذ الطهارة عن الحيض والنفاس شرط وجود الصوم الشرعي. ثانياً ـ أن يكون المنذور به قربة: كصلاة وصيام وحج وصدقة، فلا يصح النذر بما ليس بقربة كالنذر بالمعاصي بأن يقول: (لله علي أن أشرب الخمر) أو (أقتل فلاناً) أو (أضربه) أو (أشتمه) وهذا باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم (¬3) لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لانذر في معصية الله، ولا فيما لا يملكه ابن آدم» (¬4) وقوله عليه السلام: «لا نذر إلا مايُبتغى به وجه الله تعالى» (¬5) وقوله أيضاً: «من نذر أن يطيع ¬
ثالثا ـ أن يكون قربة مقصودة
الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» (¬1) ولأن حكم النذر: وجوب المنذور به، ووجوب فعل المعصية محال، وعليه فإنه يحرم الوفاء بالمعصية، ولايجب عند الجمهور على الناذر شيء. وقال أبو حنيفة: عليه كفارة يمين، كما سيأتي. وكذلك لايلزم النذر بالمباحات من الأكل والشرب واللبس والركوب وطلاق المرأة؛ لأن هذه الأمور ليست قربة لله، فلا تلزم بالنذر. ثالثاً ـ أن يكون قربة مقصودة: فلا يصح النذر بعيادة المرضى وتشييع الجنائز والوضوء وتكفين الميت والاغتسال ودخول المسجد ومس المصحف والأذان وبناء الرباطات (¬2) والمساجد ونحوها؛ لأن هذه الأمور، وإن كانت قُرَباً لله إلا أنها ليست قرباً مقصودة لذاتها عادة. ومن المعلوم أن النذر قربة مقصودة لذاتها كاليمين، فلا يصح نذر ماليس عبادة أو طاعة مقصودة لنفسها (¬3)، وإنما يصح نذر الصلاة والصوم والحج والعمرة والاعتكاف ونحوها؛ لأنها عبادات مقصودة، ومن جنسها واجب شرعاً، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه». وقال الشافعية: الصحيح انعقاد النذر بكل قربة لاتجب ابتداء كعيادة مريض وتشييع جنازة والسلام على الغير أو على نفسه إذا دخل بيتاً خالياً، وتشميت العاطس، وزيارة القادم؛ لأن الشارع رغب فيها، والعبد يتقرب بها، فهي كالعبادات. وأما القرب التي يجب جنسها بالشرع كالصلاة والصوم والحج: فإنها ¬
لله علي أن أصوم يوم النحر، أو أيام التشريق
تلزم بالنذر قطعاً بدون خلاف، وكون الاعتكاف يلزم بالنذر وهو أنه يوجد من جنسه في الشرع ماهو واجب وهو الوقوف بعرفة والقعدة الأخيرة في الصلاة، فهذان يعتبران مكثاً كالاعتكاف (¬1). ولو قال شخص: (لله علي أن أصوم يوم النحر، أو أيام التشريق) يصح نذره عند أبي حنيفة وصاحبيه؛ لأنه نذر بقربة مقصودة، فيصح النذر، كما لو نذر الصوم في غير هذه الأيام. وقال جمهور العلماء وزفر من الحنفية: لايصح نذر يوم العيد أو أيام التشريق؛ لأنه نذر بما هو معصية؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن الصوم في هذه الأيام، فقال: «ألا لاتصوموا، فإنها أيام أكل وشرب» (¬2) والمنهي عنه يكون معصية، والنذر بالمعاصي لايصح بدليل قوله عليه السلام: «لانذر في معصية الله، ولا فيما لايملكه ابن آدم» (¬3). ولو قال: (لله علي أن أحج ماشيا ً) يلزمه الحج ماشياً باتفاق الفقهاء، لأنه التزم المشي، وفيه زيادة قربة، قال عليه السلام: «من حج ماشياً فله بكل خطوة حسنة من حسنات الحرم»، قيل: وما حسنات الحرم؟ قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «واحدة بسبع مئة» (¬4) فإن عجز عن المشي ركب، وعليه دم، أي شاة عند الحنفية والمالكية ¬
والشافعية، وفي رواية عن أحمد. وأضاف مالك رضي الله عنه أن الناذر يرجع عند العجز، ثم يمشي مرة أخرى من حيث عجز، والدم عنده أي الهدي هو بدنة أو بقرة، أو شاة إن لم يجد بقرة أو بدنة (¬1). ودليل هذه المسألة ماروي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن عقبة بن عامر أن أخته نذرت أن تمشي إلى بيت الله الحرام، فأتى النبي صلّى الله عليه وسلم، فسأله: فقال: «إن الله لغني عن نذر أختك، لتركب،، ولتهد ِ بدنة» (¬2) ولأن المشي صار بالنذر نسكاً واجباً، فوجب بتركه الدم كالإحرام من الميقات. والأرجح عند الحنابلة أنه إذا عجز عن المشي ركب، وعليه كفارة يمين، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لأخت عقبة بن عامر لما نذرت المشي إلى بيت الله: «لتمش ولتركب، ولتكفر عن يمينها» أخرجه أبو داود، وفي رواية الجوزجاني والترمذي وبقية أصحاب السنن: «فلتصم ثلاثة أيام» ولقوله عليه السلام: «كفارة النذر كفارة يمين» (¬3) ولأن المشي مما يوجبه الإحرام فلم يجب الدم بتركه، وحديث الهدي ضعيف كما أشرنا في الحاشية. ¬
رابعا ـ أن يكون المال المنذور به مملوكا للناذر وقت النذر،
رابعاً ـ أن يكون المال المنذور به مملوكاً للناذر وقت النذر، أو يكون النذر مضافاً إلى المِلْك، أو إلى سبب الملك: فلو نذر في الحال صدقة مالا يملكه لايصح بالاتفاق لقوله عليه الصلاة والسلام: «لانذر فيما لايملكه ابن آدم». ولو أضاف النذر إلى الملك مثل: كل مال أملكه في المستقبل فهو صدقة، أو أضافه إلى سبب الملك مثل: كل ما أشتريه أو أرثه فهو صدقة: يصح النذر عند الحنفيةخلافاً للشافعي رحمه الله لقوله عز وجل: {ومنهم من عاهد الله: لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين} [التوبة:75/ 9] إلى قوله تعالى: {فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون} [التوبة:77/ 9] فهذه الآية الشريفة تدل على صحة النذر المضاف إلى الملك (¬1). ودليل الشافعي على أنه لا يصح النذر بالتصدق بما لا يملكه الإنسان: هو حديث عمران بن الحصين أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا نذر في معصية الله، ولا فيما لايملكه ابن آدم» (¬2). خامساً ـ ألا يكون المنذور فرضاً أو واجباً: فلا يصح النذر بشيء من الفرائض، سواء أكان فرض عين كالصلوات الخمس وصوم رمضان، أم فرض كفاية كالجهاد وصلاة الجنازة، ولا بشيء من الواجبات سواء أكان عيناً كالوتر وصدقة الفطر والأضحية أم كفائياً كتجهيز الموتى وغسلهم ورد السلام، لأن إيجاب الواجب لا يتصور (¬3). ¬
حكم النذر
حكم النذر: هذا البحث يتطلب الكلام في أمور ثلاثة هي: أصل الحكم، وفيه تعرف أدلة مشروعية النذر، وقت ثبوت الحكم، وكيفية ثبوت الحكم. 1 - أصل حكم النذر: اختلف العلماء: هل النذر مكروه أو قربة؟ فقال الحنفية: النذر في الطاعات مباح، سواء أكان مطلقاً أم معلقاً على شرط. وقال جماعة: النذر تقرب. ورأى المالكية أن النذر المطلق مندوب، وهو ماليس بمعلق على شيء ولا مكرر بتكرر الأيام كنذر صوم كل يوم خميس، وهو ما أوجبه على نفسه شكراً لله تعالى على نعمة وقعت، كمن شفى الله مريضه أو رزق ولداً أو زوجة، فنذر. أما المكرر كنذر صوم كل يوم خميس فمكروه، وأما المعلق مثل إن شفى الله مريضي فعلي صدقة، ففي كراهته وإباحته تردد، قال الباجي بالكراهة، وقال ابن رشد بالإباحة، وهذا هو الراجح، لكن النذور المعلقة لاتغير من قضاء الله شيئاً، وإنما هي وسيلة لاستخراج الصدقة من البخيل. وقال الشافعية والحنابلة: إنه مكروه كراهة تنزيه لا تحريم، فلا يستحب بدليل ماروى ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه نهى عن النذر، وقال: «إنه لايرد شيئاً، وإنما يستخرج به من البخيل» وفي لفظ: «أنه لايأتي بخير وإنما (¬1) ... إلخ» ولأن ¬
فصل الحنفية حكم ما يجب الوفاء به بالنظر لتسمية المنذور به وعدم تسميته
النذر لو كان مستحباً لفعله النبي صلّى الله عليه وسلم وأفاضل أصحابه، لكن مع هذا من نذر طاعة لله عز وجل لزمه الوفاء بها بأدلة من القرآن والسنة والمعقول (¬1). أما القرآن: فقوله تعالى: {وليوفوا نذورهم} [الحج:29/ 22] {يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيرا} [الإنسان:7/ 76] {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة:1/ 5] {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا} [الإسراء:34/ 17] {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم} [النحل:91/ 16] والنذر نوع من العهد من الناذر مع الله عز وجل، والعقود: العهود. وأما السنة: ـ فقوله عليه السلام: «من نذر أن يطيع الله فليطعه» وقوله عليه الصلاة والسلام «من نذر وسمى (¬2) فعليه الوفاء بما سمى» (¬3) وكلمة «على» تفيد الإيجاب. وأما المعقول: فهو أن المسلم يحتاج إلى أن يتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بنوع من القرب المقصودة التي يجوز له تركها، طمعاً في نيل الدرجة العليا عند الله تعالى، وبما أن النذر يوجب فعل المنذور به، فيكون النذر طريقاً لإلزام النفس فعل الشيء ومنعها من الترك، فيتحقق المقصود للناذر. وقد فصل الحنفية حكم ما يجب الوفاء به بالنظر لتسمية المنذور به وعدم تسميته فقالوا: ¬
أولا ـ إن نذر الناذر وسمى المنذور به
أولاً ـ إن نذر الناذر وسمى المنذور به: مثل: (لله علي حج أو عمرة) أو قال: (إن شفى الله مريضي فعلي صدقة مئة ليرة) فيجب عليه الوفاء بما سمى، سواء ـ كما لاحظنا ـ أكان النذر مطلقاً أم معلقاً بشرط، ولا تجزئ عنه الكفارة. وقال المالكية: النذر نوعان: مطلق ومقيد، فأما المطلق: فهو ما كان شكراً لله على نعمة، أو لغير سبب كقوله: (لله علي أن أصوم كذا أو أصلي كذا)، وهو مستحب ويجب الوفاء به، سواء ذكر لفظ النذر أو لم يذكره إلا إن قصد الإخبار فلا يجب عليه شيء. وأما المقيد فهو المعلق بشرط كقوله: إن قدم فلان، أو شفى الله مريضي، أو إن قضى الله حاجتي فعلي كذا، وهو مباح، وقيل: مكروه ويلزم الوفاء به مطلقاً. ولا اعتبار باختلاف الوجوه التي يقع النذر عليها من لَجاج أو غضب أو غيرهما (¬1). وقال الشافعية (¬2): إذا كان النذر معلقاً بشرط يفرق بين ما يريد الناذر وقوعه، وبين ما لا يريد وقوعه أي يفرق بين نذر التبرر، ونذر اللَّجاج. ونذر التبرر (¬3): بأن يلتزم الإنسان قربة إن حدثت نعمة أو ذهبت نقمة، مثل: إن شفى الله مريضي فلله علي صوم أو نحوه، ففي هذا النوع يلزم الناذر بالوفاء بنذره إذا حصل الشرط المعلق عليه. ونذر اللَّجاج (¬4): ويسمى أيضاً يمين اللجاج، والغضب، ويمين الغَلَق: هو ¬
نذر اللجاج
الذي خرج مخرج اليمين بأن يقصد الناذر حث نفسه على فعل شيء أو منعها غير قاصد للنذر ولا القربة، مثل: إن كلمت فلاناً فلله علي صوم أو نحوه، فالأظهر في هذا النوع أن الناذر بالخيار: إن شاء وفى بما التزم، وإن شاء كفر كفارة يمين، وهذا هو المقصود بحديث: (كفارة النذر كفارة يمين) (¬1) فبما أنه لا كفارة في نذر التبرر قطعاً، فتعين أن يكون المراد بالحديث نذر اللجاج. وبه يتبين أن نذر اللجاج يكون حال الخصومة بدافع من الغضب، ونذر التبرر لا يكون بدافع الخصومة أو الغضب. والنذر المطلق: هو أن يلتزم الناذر قربة لله تعالى، دون تعليق على تحقق غرض معين أو بدافع من الخصومة أو الغضب، مثل: لله علي صيام يوم الخميس. وقال الحنابلة (¬2): حكم نذر اللجاج والغضب حكم اليمين ويخير كما قال الشافعية بين فعل المنذور وبين كفارة اليمين، قال عليه السلام: «لا نذر في غضب، وكفارته كفارة يمين» (¬3). وقال الإمام مالك: النذر لازم على أية جهة وقع (¬4). ثانياً ـ وإن كان النذر لا تسمية فيه: أي إن المنذور به غير مسمى، فحكمه وجوب مانواه الناذر إن نوى شيئاً، سواء أكان النذر مطلقاً عن الشرط أم مقيداً ¬
بشرط، بأن قال: (لله علي نذر) أو قال: (إن فعلت كذا فلله علي نذر) فإن نوى صوماً أو صلاة أو حجاً أو عمرة لزمه الوفاء به للحال حالة كون النذر مطلقاً، وعند وجود الشرط إذا كان النذر معلقاً بشرط، ولا تجزئ كفارة اليمين. وإن لم تكن هناك نية عند الناذر وهو النذر المبهم، فعليه كفارة اليمين. وهذه الكفارة تجب حالاً إذا كان النذر مطلقاً عن الشرط، فإن كان معلقاً على شرط فتجب الكفارة عند تحقق الشرط. والدليل قوله عليه الصلاة والسلام: «النذر يمين، وكفارته كفارة يمين» (¬1). ووجوب الكفارة مقرر عند الحنفية سواء أكان الشرط الذي علق به النذر مباحاً أم معصية، ويجب عليه أن يحنث نفسه ويكفر عن يمينه (¬2)، لقوله عليه الصلاة والسلام: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها، فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه» (¬3). وإذا كان النذر مبهماً ونوى الناذر فيه صياماً ولم ينو عدداً معيناً: فعليه صيام ثلاثة أيام. وإن نوى في قوله (لله علي نذر) طعاماً ولم ينو عدداً: فعليه طعام عشرة مساكين، لكل مسكين نصف صاع من حنطة، أي حوالي نصف رطل شامي. ¬
ولو قال: (لله علي صدقة) فعليه نصف صاع. ولو قال: (لله علي صوم) فعليه صوم يوم بالاتفاق. ولو قال: (لله علي صلاة) فعليه ركعتان بالاتفاق. والعلة في حكم هذه الصور: هو أن النذر لم يذكر فيه التقدير، فاعتبر أدنى ما ورد به الأمر في الشرع؛ لأن النذر يعتبر بحسب ما جاء به الأمر. وقال المالكية (¬1): من نذر صوم أيام لزمه الأيام التي نواها، وإن لم يعين عدداً كفاه يوم واحد. ولو نذر صوم الدهر لزمه، ولا شيء عليه في أيام العيد والحيض ورمضان، وله الفطر في المرض والسفر، ولا قضاء عليه، إذ لا يمكنه. وإن نذر صلاةً، لزمه ما نوى، وإلا كفته ركعتان. وإن نذر صدقة جميع ماله أو حلف بذلك، فحنث، كفاه الثلث. وإن عين مقداراً معيناً كالنصف أو الثلثين، لزمه ما نوى. وإن نذر المشي إلى مكة، فإن ذكر الحج أو العمرة، لزمه ذلك، وإن لم يذكر الحج أو العمرة ولا نواهما، وجب عليه الحج أو العمرة، كما بينت. ومن نذر أن يضحي ببدنة، لم تقم مقامها بقرة مع القدرة عليها، أما مع العجز فيجزئه بقرة في رأي مالك. وكذلك قال الشافعية (¬2): من نذر المشي إلى بيت الله أو إتيانه، فالمذهب وجوب إتيانه بحج أو عمرة. وإن نذر أن يحج أو يعتمر ماشياً، فالأظهر وجوب المشي، فإن قال: أحج ماشياً فمن حيث يحرم، وإن قال: أمشي إلى بيت الله تعالى، فمن دويرة أهله في الأصح. هذا إذا كان قادراً على المشي، لأنه التزم جعل ¬
نذر المباح ونذر المعصية
الشيء وصفاً للعبادة، أما إذا لم يكن قادراً على المشي، فلا يلزمه المشي، ويجوز له الركوب، لعجزه عن المشي. نذر المباح ونذر المعصية: إذا نذر الإنسان فعل مباح، كما إذا قال: (لله علي أن أمشي إلى بيتي) أو (أركب فرسي) أو (ألبس ثوبي) أو نذر ترك مباح كأن لا يأكل الحلوى: لم يلزمه الفعل ولا الترك لخبر أبي داود: «لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه الله تعالى» (¬1) ولخبر البخاري عن ابن عباس «بينما النبي صلّى الله عليه وسلم يخطب إذا رأى رجلاً قائماً في الشمس، فسأل عنه، فقالوا: هذا أبو إسرائيل، نذر أن يصوم ولا يقعد، ولا يستظل ولا يتكلم، قال: مروه فليتكلم وليستظل، وليقعد، وليتم صومه» (¬2) وعن أبي هريرة قال: «نذرت امرأة أن تمشي إلى بيت الله الحرام، فسئل نبي الله عن ذلك، فقال: إن الله لغني عن مشيها، مروها فلتركب» (¬3) وأجاب جمهور الفقهاء عن حديث المرأة التي قالت للنبي صلّى الله عليه وسلم حين قدم المدينة: «إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف، فقال لها: أوفي بنذرك» (¬4) بأنه صار ذلك من القرب لما حصل السرور للمسلمين بقدومه صلّى الله عليه وسلم وأغاظ الكفار، وأرغم المنافقين. ¬
إذا نذر الإنسان معصية
ولكن ناذر المباح إن خالف مقتضى نذره فهل عليه كفارة؟ قال الحنفية والمالكية والشافعية في الأصح: لا كفارة عليه لعدم انعقاد النذر. وقال الحنابلة: يتخير ناذر المباح بين فعله فيبر، لحديث المرأة التي نذرت أن تضرب بالدف السابق ذكره، وبين تركه وعليه كفارة يمين؛ لأنه ينعقد عندهم نذر المباح بدليل حديث الضرب بالدف (¬1). وأما إذا نذر الإنسان معصية مثل: (لله علي أن أشرب الخمر) و (أقتل فلاناً) أو (أضربه) أو (أشتمه) ونحوه: فلا يجوز الوفاء به إجماعاً؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا نذر في معصية الله» (¬2). وهل تجب الكفارة به؟ قال الحنفية والحنابلة: يجب على ناذر المعصية كفارة يمين، لا فعل المعصية، بدليل حديث عمران بن الحصين وحديث أبي هريرة الثابت عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «لا نذر في معصية الله، وكفارته كفارة يمين» (¬3). ¬
2 - وقت ثبوت حكم النذر
وقال المالكية والشافعية وجمهور العلماء: لايلزمه في ذلك شيء، فلا كفارة عليه، لحديث عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» وأما حديثُ عمران وأبي هريرة، فقال ابن عبد البر: ضعف أهل الحديث حديث عمران وأبي هريرة، وقالوا: لأن حديث أبي هريرة يدور على سليمان بن أرقم، وهو متروك الحديث، وحديث عمران يدور على زهير بن محمد عن أبيه، وأبوه مجهول، لم يرو عنه غير ابنه، وزهير أيضاً عنده مناكير، وأما حديث عقبة بن عامر: (كفارة النذر كفارة يمين) فهو محمول على نذر اللجاج والغضب (¬1). 2 - وقت ثبوت حكم النذر: أي الوقت الذي يجب فيه المنذور به، ووقت الوجوب يختلف بحسب ما إذا كان النذر مطلقاً عن الشرط، أو معلقا على شرط أو مقيداً بمكان، أو مضافاً إلى وقت في المستقبل. ومن المعلوم أن المنذور به: إما أن يكون قربة بدنية كالصوم والصلاة، أو قربة مالية كالصدقة (¬2). ف إن كان النذرمطلقا ً: أي غير معلق بشرط ولا مقيد بمكان أو زمان مثل: لله علي صوم شهر أو حجة أو صدقة أو صلاة ركعتين ونحوه: فيجب عليه في الحال مطلقاً عن الشرط والزمان والمكان؛ لأن سبب الوجوب وجد مطلقاً فيثبت مطلقاً، لكن يندب التعجيل. وإن كان النذر معلقاً بشرط: إن شفى الله مريضي أو إن قدم فلان الغائب، ¬
إن كان مقيدا بمكان
فلله علي صوم شهر أو صلاة ركعتين أوالتصدق بليرة ونحوه، فإذا وجد الشرط فعليه الوفاء بالنذر نفسه؛ لأن المعلق بالشرط كالمنجز، فلو فعل المشروط قبل وجود الشرط يكون نفلاً؛ لأن المعلق بالشرط غير موجود قبل وجود الشرط. وإن كان مقيداً بمكان بأن قال: (لله علي أن أصلي ركعتين في موضع كذا) أو (أتصدق على فقراء بلد كذا) يجوز أداؤه في غير ذلك المكان عند أبي حنيفة وصاحبيه؛ لأن المقصود من النذر: هو التقرب إلى الله عز وجل، وليس لذات المكان دخل في القربة. وإن نذر صلاة ركعتين في المسجد الحرام، فأداها في أقل شرفاً منه أو فيما لا شرف له أجزأه عند أئمة الحنفية المذكورين، وأفضل الأماكن: المسجد الحرام، ثم مسجد النبي صلّى الله عليه وسلم، ثم مسجد بيت المقدس، ثم الجامع، ثم مسجد الحي، ثم البيت؛ لأن المقصود هو القربة إلى الله، وهو يتحقق في أي مكان. وخالف زفر في الحالتين: في حالةالتصدق في مكان، وحالة الصلاة في مكان، فإنه يتعين عليه الوفاء بنذره في المكان المشروط؛ لأن الناذر أوجب على نفسه الأداء في مكان مخصوص، فإذا أدى في غيره لم يكن مؤدياً ما عليه، وفي الصلاة في مسجد، التزم الناذر زيادة قربة فيلزمه. وقال المالكية (¬1): إن نوى الصلاة أو الاعتكاف في مكان أو سمى المسجد كأحد المساجد الثلاثة لزمه الذهاب إليه دون غيرها. وقال الشافعية (¬2): إذا نذر إنسان التصدق بشيء على أهل بلد معين لزمه فيه الوفاء بالتزامه، ولو نذر صوماً في بلد لزمه الصوم؛ لأنه قربة، ولم يتعين مكان ¬
الصوم في تلك البلد، فله الصوم في غيره. ولو نذر صلاة في بلد لم يتعين لها ويصلي في غيرها؛ لأنها لا تختلف باختلاف الأمكنة إلا المسجد الحرام أي الحرم كله، ومسجد المدينة والمسجد الأقصى إذا نذر الصلاة في أحد هذه المساجد فيتعين لعظم فضلها، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى» (¬1). واستدلوا بدليل نقلي على تعيين مكان التصدق بالنذر: وهو ما روى عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده: «أن امرأة أتت النبي صلّى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله إني نذرت أن أذبح بمكان كذا وكذا ـ لمكان كان يذبح فيه أهل الجاهلية ـ قال: لصنم؟ قالت: لا، قال: لوثن؟ قالت: لا، قال: أوفي بنذرك» (¬2). وكذلك قال الحنابلة (¬3): يتعين الاعتكاف في أحد المساجد الثلاثة إن نذر الاعتكاف فيها. ¬
إن كان مضافا إلى وقت في المستقبل
وإن كان مضافاً إلى وقت في المستقبل: بأن قال: (لله علي أن أصوم رجب) أو: (أصلي ركعتين يوم كذا) أو: (أتصدق بدرهم في يوم كذا)، فوقت الوجوب في الصدقة: هو وقت النذر باتفاق الحنفية، حتى إنه يجوز تقديمها على الوقت المحدد. واختلف الحنفية في الصوم والصلاة: فقال أبو حنيفة وأبو يوسف: وقت الوجوب فيهما وقت النذر؛ لأن الوقت للتقدير، لا لتعين الواجب؛ لأن الأوقات في معنى العبادة سواء. وبناء عليه يجوز تقديم المنذور به على الوقت. وقال محمد: وقت الوجوب هو حين مجيء الوقت؛ لأن الناذر أوجب على نفسه الصوم في وقت مخصوص، فلا يجب عليه قبل مجيئه بخلاف الصدقة؛ لأنها عبادة مالية، لا تعلق لها بالوقت بل بالمال، فكان ذكر الوقت فيه لغواً بخلاف العبادة البدنية. ومن نذر أن يذبح ولده، نحر شاة عند أبي حنيفة، وجزوراً فداء عند مالك، وقال الشافعي: لا شيء عليه؛ لأنها معصية. وقال أحمد في رواية عنه: عليه كفارة يمين، وهذا قياس المذهب؛ لأن هذا نذر معصية أو نذر لجاج. وفي رواية ثانية كما قال أبو حنيفة: كفارته ذبح كبش ويطعمه المساكين، عملاً بفداء ولد إبراهيم حينما أمر بذبحه (¬1). ومن نذر ذبح نفسه أو أجنبي، ففيه أيضاً عن أحمد روايتان. 3 - كيفية ثبوت حكم النذر: النذر إما أن يضاف إلى وقت مبهم أو إلى وقت معين: ¬
إن أضيف إلى وقت مبهم
ف إن أضيف إلى وقت مبهم بأن قال: (لله علي أن أصوم شهراً) ولا نية له: فحكمه حكم الواجب المطلق عن الوقت (¬1). ومن المعروف أن علماء الأصول اختلفوا في وقت وجوب الواجب. فقال بعضهم: على الفور، وقال الأكثرون: على التراخي: ففي أي جزء من العمر يجوز القيام به ويتضيق الوجوب في آخر العمر إذا بقي من العمر في غالب الظن قدر ما يسع الأداء، ويسن تعجيل الوفاء بالنذر، وهذا هو الرأي الصحيح. وهو ينطبق على نذر الاعتكاف المضاف إلى وقت مبهم بأن قال: (لله علي أن أعتكف شهراً) ولا نية له .. ولكن هناك فرقاً بين الصوم والاعتكاف: في الصوم يخير الناذر بين متابعة الصوم وتفرقته، أما في الاعتكاف فيلزم الناذر عند الجمهور غير الشافعية بالتتابع في النهار والليل؛ لأن طبيعة الاعتكاف وهو اللبث على الدوام تتطلب القيام به على الاتصال، فلا بد من التتابع. وأما الصوم فليس مبنياً على التتابع لوجود فاصل الليل بين كل يومين. فإن قيد نذر الصوم بتفريق أو موالاة وجب. وإن أضيف النذر إلى وقت معين بأن قال: (لله علي صوم غد) فيجب عليه صوم الغد وجوباً مضيقاً ليس له تأخيره من غير عذر، وإذا قال: (لله علي صوم رجب) فيجب عليه صيام شهر، سواء أكان قبل مجيء رجب أم بمجرد مجيئه، ولا يجوز التأخير عن رجب من غير عذر. فإن صام رجب إلا يوماً يقضي ذلك اليوم من شهر آخر، ولو أفطر رجب كله قضى في شهر آخر، لأنه فوت الواجب عن وقته، فصار ديناً عليه (¬2)، والدين مقضي على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلم (¬3). ¬
وقال الشافعية: إن نذر صوم سنة معينة، صامها وأفطر العيد والتشريق، وصام رمضان عنه ولا قضاء، ولا تقضي المرأة في الأظهر أيام الحيض والنفاس. وإن أفطر يوماً بلا عذر وجب قضاؤه. فإن شرط التتابع وجب في الأصح. ويقضي رمضان والعيدين والتشريق؛ لأنه التزم صوم سنة ولم يصمها. وكذا تقضي المرأة في الأظهر أيام الحيض والنفاس. ومن شرع في صوم نفل، فنذر إتمامه، لزمه على الصحيح. ولو قال: (إن قدم زيد، فلله علي صوم اليوم التالي ليوم قدومه): لزمه صومه فيه.
الفصل الثالث: الكفارات
الفَصْلُ الثَّالث: الكفَّارات أنواع الكفارات: الكفارات أربعة أنواع: كفارة ظهار، وكفارة قتل خطأ (ويقاس عليه القتل العمد عند الشافعية) وكفارة جماع نهار رمضان عمداً (ويقاس عليه الأكل والشرب عمداً عند الحنفية والمالكية) (¬1) وكفارة يمين. والخصال الواجبة للكفارة في الأنواع الثلاثة الأولى مرتبة: (وهي إعتاق رقبة، فإن عجز عن الرقبة وجب صوم شهرين متتابعين، فإن عجز عن الصوم وجب إطعام ستين مسكيناً إلا القتل فلا إطعام فيه اقتصاراً على الوارد فيه النص). لكن كفارة إفساد الصوم بالجماع في نهار رمضان مخيرة الخصال عند المالكية، والإطعام أفضل الخصال عندهم. وأما خصال كفارة اليمين فهي مرتبة مخيرة: (وهي كما سنعلم إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة مؤمنة، فإن عجز عن ذلك وجب صوم ثلاثة أيام) (¬2) وسأفصل موضوع الكفارة الأخيرة محل البحث. وقد بينت في بحث الصيام أحكام أربع كفارات: كفارة إفساد صوم رمضان، وكفارة المسافر والمريض إذا لم يقضيا الصوم في عامهما، وكفارة الكبير العاجز عن الصوم، وكفارة الحامل والمرضع عند الشافعية إذا أفطرتا خوفاً على طفلهما. وأوضحت أيضاً في بحث الحج كفارات الحج. وذكرت في النذر كفارة نذر اللجاج وهي كفارة اليمين. وسأذكر في بحث الظهار والقتل كفارتيهما. وإقامة الحد عند الجمهور غير الحنفية كفارة للقتل، كما سيتضح في بحث الحدود. ¬
كفارة اليمين
كفارة اليمين خطة الموضوع: الكلام في هذه الكفارة عن الأصل في مشروعيتها، وسبب وجوبها، ونوع الواجب فيها، والخصال الواجبه فيها. مشروعية الكفارة: الكفارة مشتقة من الكفر بفتح الكاف أي الستر، فهي ستارة للذنب الحاصل بسبب الحنث في اليمين، فاليمين سبب للكفارة. والأصل في كفارة اليمين: الكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب: فقول الله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما عقَّدتم الأيمان، فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم، أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام، ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم، واحفظوا أيمانكم، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون} [المائدة:89/ 5]. وأما السنة: فقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها، فائت الذي هو خير، وكفر عن يمينك» (¬1). وأجمع المسلمون على مشروعية الكفارة في اليمين بالله تعالى (¬2). سبب وجوبها: تجب الكفارة بالحنث في اليمين، سواء أكانت في طاعة أم في ¬
تقديم الكفارة على الحنث
معصية أم مباح، ولا يجوز التكفير قبل اليمين باتفاق العلماء؛ لأنه تقديم للحكم قبل سببه، فلم يجز كتقديم الزكاة قبل ملك النصاب. تقديم الكفارة على الحنث: وهل الكفارة قبل الحنث أفضل أو بعده؟ قال الحنابلة: الكفارة قبل الحنث وبعده سواء في الفضيلة. وقال مالك والشافعية: الكفارة بعد الحنث أفضل لما فيه من الخروج من الخلاف، وحصول اليقين ببراءة الذمة، فيجوز تقديم الكفارة المالية للصوم. وقال أبو حنيفة: لا يجوز تقديم الكفارة على الحنث مطلقاً، إنما تجزئ إذا أخرجها بعد الحنث (¬1). وهذا أولى الآراء؛ لأن المسبب يكون عادة بعد السبب. نوع الواجب في الكفارة: الكفارة واجب مطلق، أي ليس له وقت محدد لأدائه، فيجوز القيام به بعد الحنث مباشرة أو بعده في أثناء العمر. ثم إن الواجب في الكفارة واجب مخير حالة اليسار: (توفر المقدرة المالية) يعني أن الموسر مخير بين أحد أمور ثلاثة: إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو إعتاق رقبة. وهذا بإجماع العلماء المستند إلى صريح الآية القرآنية السابق ذكرها: {فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة} [المائدة:89/ 5] لأن الله تعالى عطف بعض هذه الخصال على بعض بحرف (أو) وهو للتخيير (¬2). ¬
فإذا عجز الإنسان عن كل واحد من الخصال الثلاثة المذكورة، لزمه صوم ثلاثة أيام، للآية السابقة: {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام} [المائدة:89/ 5] والمراد بالعجز: ألا يقدر على المال الذي يصرفه في الكفارة، كمن يجد كفايته في يومه وليلته وكفاية من تلزمه نفقته فقط، ولا يجد ما يفضل عنها (¬1). وينظر إلى العجز وقت الأداء، أي أداء الكفارة عند الحنفية والمالكية والشافعية، فلو حنث الحالف، وكان موسراً وقت الحنث، ثم أعسر، جاز له الصوم عندهم؛ لأن الكفارة عبادة لها بدل، فينظر فيها إلى وقت الأداء، لا وقت الوجوب كالصلاة إذا فاتت في حال الصحة، فقضاها قاعداً أو بالإيماء حال المرض فإنه يجوز. ويشترط عند الحنفية استمرار العجز إلى الفراغ من الصوم، فلو شرع في الصوم ثم قدر على الإطعام أو الكسوة أو العتق، ولو قبل فراغه من صوم اليوم الثالث بساعة مثلاً: لا يجوز له الصوم، ويرجع إلى التكفير بالمال (¬2). كذلك ينظر عند المالكية والشافعية إلى العجز وقت إرادة التكفير. أما إذا شرع في الصوم، ثم قدر على المال فلا يلزمه عند هؤلاء الرجوع عن الصوم إلى الكفارة المالية؛ لأن الصوم بدل عن غيره، فلا يبطل بالقدرة على المبدل عنه، ولو وجبت الكفارة على موسر ثم أعسر لم يجزئه الصوم عند هؤلاء (¬3)، بعكس الحنفية في المسألتين. ¬
خصال الكفارة
والمعتبر عند الحنابلة وقت الوجوب أي حالة الحنث. خصال الكفارة: عرفنا أن كفارة اليمين هي إما الإطعام أو الكسوة أو العتق، فإن عجز عن أحد هذه الخصال صام ثلاثة أيام. فما هو الواجب في كل حالة؟ 1 - ما مقدار الإطعام وما المقصود به؟ قال الحنفية: إن المقصود من الإطعام هو مجرد الإباحة لا التمليك؛ لأن النص القرآني ورد بلفظ الإطعام: {فكفارته إطعام عشرة مساكين} [المائدة:89/ 5] والإطعام في متعارف اللغة: هو التمكين من المطعم أي (الآكل) لا التمليك، وكذا إشارة النص دليل على قولهم، لأن الله تعالى: {إطعام عشرة مساكين} [المائدة:89/ 5] والمسكنة: هي الحاجة، وهو محتاج إلى أكل الطعام دون تملكه، فكان في إضافة الإطعام إلى المساكين إشارة إلى أن الإطعام هو الفعل الذي يصير المسكين به متمكناً من الطعام لا التمليك، بخلاف الزكاة وصدقة الفطر والعشر الواجب على الزروع البعلية، لا بد فيها من التمليك؛ لأن النص ورد فيها بلفظ الإيتاء لا بلفظ الإطعام (¬1). وقال الجمهور: لا بد من تمليك الطعام للفقراء ككل الواجبات المالية؛ لأن الواجب المالي لا بد من أن يكون معلوم القدر ليتمكن المكلف من الإتيان به، والطعام المباح للغير ليس له قدر معلوم، لا سيما وأن كل مسكين يختلف عن الآخر صغراً وكبراً، جوعاً وشبعاً (¬2). والخلاصة: إن التمليك عند الحنفية ليس بشرط لجواز الإطعام، بل الشرط هو التمكين، فيكفي دعوة المساكين إلى قوت يوم: وهو غداء وعشاء، فإذا حضروا ¬
وتغدوا وتعشوا كان ذلك جائزاً. وعند غير الحنفية: لا بد من التمليك بالفعل أخذاً. ويجب أن يكون المخرج سالماً من العيب، فلا يكون الحب مسوساً، ولا متغيراً طعمه ولا فيه زوان أو تراب يحتاج إلى تنقية، وكذلك دقيقه وخبزه؛ لأنه مخرج في حق الله تعالى عما وجب في الذمة، فلم يجز أن يكون معيباً كالشاة في الزكاة. وأما مقدار الإطعام: فاختلف العلماء فيه بسبب اختلافهم في تأويل قوله تعالى: {من أوسط ما تطعمون أهليكم} [المائدة:89/ 5] فمن قال: المراد أكلة واحدة قال: المد وسط في الشبع، ومن قال: المراد قوت اليوم وهو غداء وعشاء قال: الواجب نصف صاع أي مدان (¬1). وبناء عليه قال الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة: يعطى لكل مسكين مد من الحنطة كصدقة الفطر إلا أن الإمام مالك قال: المد خاص بأهل المدينة فقط لضيق معايشهم، وأما سائر المدن فيعطون الوسط من نفقتهم. وقال ابن القاسم: يجزئ المد في كل مدينة (¬2). ويجوز عند الشافعية: مدّ حب من غالب قوت بلد الحانث. والأفضل بالاتفاق إخراج الحب؛ لأن فيه خروجاً من الخلاف. ولا يجوز عند الجمهور إخراج قيمة الطعام والكسوة، عملاً بنص الآية: {فكفارته إطعام عشرة مساكين ... } [المائدة:89/ 5]. ¬
وقال الحنفية: مقدار الإطعام نصف صاع من بر، أو صاع من تمر أو شعير أو من دقيق الحنطة أو الشعير أو قيمة هذه الأشياء من النقود: دراهم أو دنانير أو من عروض التجارة كما هو المقرر في صدقة الفطر. قالوا: وقد ثبت ذلك عن سادتنا عمر وعلي وعائشة، وبه قال جماعة من التابعين: سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وإبراهيم ومجاهد والحسن. وأما مقدار طعام الإباحة عند الحنفية: فأكلتان مشبعتان: غداء وعشاء، وكذلك إذا غداهم وسحرهم، أوعشاهم وسحرهم، أو غداهم غداءين ونحوهما؛ لأنهما أكلتان مقصودتان. وسواء أكان الطعام خبزاً مع الإدام، أم بغير الإدام: لأن الله تعالى لم يفصل بين الطعام المأدوم وغيره، في قوله سبحانه: {فكفارته إطعام عشرة مساكين} [المائدة:89/ 5]. وكذلك لو أطعم خبز الشعير أو تمراً أجزأه؛ لأنه قد يؤكل وحده في طعام الأهل. ولو أطعم مسكيناً واحداً عشرة أيام غداء وعشاء، أو أعطى مسكيناً واحداً عشرة أيام، كل يوم نصف صاع، جاز عند الحنفية؛ لأن المقصود سد حاجة عشرة مساكين، وقد تحقق. ولا يجوز ذلك عند المالكية والشافعية؛ لأنه لا بد من توزيع الطعام على عشرة مساكين فعلاً بالاتفاق. وقال الحنابلة: إذا وجد عشرة فقراء، لم يجزئه الصرف إلى فقير واحد في عشرة أيام، وإذا لم يجد غير فقير واحد أو خمسة مثلاً، أجزأه ذلك للضرورة. والخلاصة: لابد من إطعام عشرة مساكين فعلاً، والخلاف محصور فيما لو أطعم واحداً عشرة أيام، يجوز عند الحنفية ولا يجوز عند غيرهم.
ولو أطعم عشرة مساكين في يوم غداء، ثم أعطى كل واحد مداً من الحنطة جاز؛ لأنه جمع بين التمليك، وطعام الإباحة، ولأن كل وجبة طعام مقدرة بمد. وكذلك لو غدى رجلاً واحداً عشرين يوماً، أو عشى رجلاً في شهر رمضان عشرين يوماً جاز؛ لأن المقصود قد حصل. أما لو أعطى مسكيناً واحداً طعام عشرة، في يوم واحد، دفعة واحدة: لم يجز؛ لأن الله تعالى أمر بسد جوعة عشرة مساكين إما مرة واحدة أو موزعة على الأيام، وهذا لم يحصل هنا. وأجاز أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله إعطاء فقراء أهل الذمة من الكفارات والنذور لا الزكاة، لعموم قوله تعالى: {فكفارته إطعام عشرة مساكين} [المائدة:89/ 5] من غير تفرقة بين المؤمن والكافر. واستثنيت الزكاة بقول النبي صلّى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: «خذها من أغنيائهم وردها في فقرائهم» (¬1). وقال أبو يوسف: لا يجوز إعطاء الذميين من الأموال الإسلامية إلا النذور والتطوعات ودم التمتع في الحج؛ لأن الكفارة صدقة أوجبها الله، فلا يجوز صرفها إلى الكافر كالزكاة، بخلاف النذر، لأنه وجب بإيجاب الإنسان، والتطوع ليس بواجب أصلاً، والتصدق بلحم المتعة في الحج غير واجب؛ لأن التقرب إلى الله في إراقة الدم (¬2). ¬
المدفوع إليهم الطعام
المدفوع إليهم الطعام: الإطعام يكون لمن توافرت فيه أوصاف خمسة هي: الأول ـ أن يكونوا مساكين فلا يدفع إلى غيرهم؛ لأن الله تعالى أمر بإطعام المساكين، وخصهم بذلك. الثاني ـ أن يكونوا أحراراً، فلا يجزئ دفعه إلى عبد ومكاتب. الثالث ـ أن يكونوا مسلمين فلا يجوز عند الجمهور صرفه إلى كافر، ذمياً كان أو حربياً. وأجاز الحنفية دفعه إلى الذمي، لدخوله في اسم المساكين، فيدخل في عموم الآية. الرابع ـ أن يكونوا قد أكلوا الطعام في رأي الحنابلة والمالكية، فلا يجوز دفعه لطفل لم يطعم. وأجاز الحنفية والشافعية دفعه إلى الصغير الذي لم يطعم، ويقبضه عنه وليه. ويجوز بالاتفاق للمكفر أن يعطي من أقاربه من يجوز أن يعطيه من زكاة ماله. وكل من يمنع الزكاة من الغني والكافر والرقيق يمنع أخذ الكفارة. إلا أن الحنفية أجازوا دفعها لذمي. الخامس ـ أن يوزع الطعام على عشرة مساكين فعلاً، فلو أطعم واحداً طعام عشرة لم يجزئه باتفاق الفقهاء، واختلفوا فيما لو أطعم واحداً عشرة أيام، على النحو السابق بيانه. 2 - الكسوة، صفتها وقدرها: صفة الكسوة: هي أنها لا تجوز إلا على سبيل التمليك حتى عند الحنفية؛ لأن الكسوة للوقاية من الحر والبرد، وهذه الحاجة لا تتحقق إلا بالتمليك، بخلاف الإطعام، فإنه لدفع الجوع، وهو يحصل بتناول الطعام. وتكون الكسوة للمساكين كالإطعام.
قدر الكسوة
وأما قدر الكسوة: فاختلف فيه (¬1)، فقال الحنفية: أدنى الكسوة ما يستر عامة البدن، وقال الحنابلة: تتقدر الكسوة بما تجزئ الصلاة فيه: فإن كان رجلاً كساه ثوباً تجزئ الصلاة فيه، وإن كانت امرأة كساها قميصاً وخماراً؛ لأن الكسوة إحدى خصال الكفارة، فلم يجز فيها أدنى ما يطلق عليه اسم الكسوة، كما هو مقرر في الإطعام والإعتاق، ولأن اللابس حينما لا يستر العورة يسمى عرياناً لا مكتسياً. وقال المالكية: أقل ذلك للرجل ثوب يستر جميع جسده، وللمرأة: ما يجوز لها فيه الصلاة، وذلك ثوب وخمار. وقال الشافعية: يجزئ أقل ما يطلق عليه اسم الكسوة من إزار أو رداء أو جبة أو قميص أو ملحفة؛ لأنه يقع عليه اسم الكسوة، ولأن الله تعالى لم يذكر في الكسوة تقديراً، فكل ما يسمى لا بسه مكتسياً يجزئ. ولا تجزئ بالاتفاق القلنسوة (¬2) والخفان والنعلان والقفازان والمنطقة (¬3)؛ لأن لا بسها لا يسمى مكتسياً إذا لم يكن عليه ثوب، بل ولا تسمى هذه كسوة عرفاً (¬4). ولم يجز الحنفية على الصحيح عندهم الكسوة بالسراويل والعمامة؛ لأن أدنى الكسوة عندهم كما تقدم ما يستر عامة البدن، ولأن لا بسها لا يسمى مكتسياً عرفاً وعادة، بل يسمى عرياناً، فلو أمكن اتخاذ العمامة ثوباً أجزأه، كذا إذا بلغت قيمتها وقيمة السراويل قيمة المقدار الواجب من الطعام، فإنه يجزئ، ويقع ذلك ¬
3 - عتق الرقبة
عن الطعام بغير نية إذا نوى الكفارة عند محمد. وأما عند أبي يوسف فلا يقع عن الطعام ما لم ينو الكسوة عن الطعام. وأجاز الشافعية الكسوة بالسراويل والعمامة؛ لأنها تسمى كسوة. ويجزئ عند المالكية أقل ما يطلق عليه اسم قميص أو إزار، أو سراويل أو عمامة. 3 - عتق الرقبة: الكلام في إعتاق الرقبة في كفارة اليمين وغيرها تاريخي فقط بسبب عدم وجود الرقيق في عصرنا، وحينئذ يسقط هذا الواجب ويظل الخيار للحانث محصوراً بين الإطعام والكسوة. وأكتفي هنا بذكر ضابط الرقبة التي يجوز عتقها في الكفارة. قال الحنفية: يشترط أن تكون الرقبة مملوكة ملكاً كاملاً للمعتق، وأن تكون كاملة الرق، سليمة من العيوب التي تزيل جنساً من أجناس المنفعة، سواء أكانت الرقبة صغيرة أم كبيرة، ذكراً أم أنثى، مسلمة أم كافرة. فلا يجوز في الكفارة إعتاق عبد غيره، ولا أن يعتق عبداً مشتركاً بينه وبين غيره، ولا مدبَّراً أو أم ولد، إلا أنه يجوز تحرير المكاتب استحساناً، ولا يجوز أن يعتق عبداً مقطوع اليدين أو الرجلين أو مقطوع يد واحدة، أو رجل واحدة من جانب واحد، أو يابس الشق مفلوجاً، أو مقعداً أو زمِناً أو أشل اليدين، أو مقطوع الإبهامين من اليدين أو مقطوع ثلاثة أصابع من كل يد سوى الإبهامين، أو أعمى، أو مفقود العينين، أو معتوهاً يغلب العته عليه، أو أخرس لفوات جنس من أجناس المنفعة كمنفعة البطش باليدين، والمشي بالرجلين، والنظر في العينين، والكلام والعقل (¬1). ¬
4 - الصوم، مقداره وشرطه
واشترط المالكية والشافعية والحنابلة: أن تكون الرقبة مؤمنة، كما تشترط في كفارة الفطر في رمضان، وفي كفارة الظهار. وسبب الاختلاف بين الحنفية والجمهور في اشتراط الإيمان في الرقبة: هو اختلافهم في مسألة أصولية وهي: هل يحمل المطلق على المقيد في الأمور التي تنفق أحكامها وتختلف أسبابها ككفارة اليمين وكفارة القتل الخطأ، فقد ورد النص القرآني في كفارة اليمين مطلقاً بدون تقييد بشرط الإيمان وهو: {أو تحرير رقبة} [المائدة:89/ 5]، وورد النص مقيداً بشرط الإيمان في كفارة القتل الخطأ وهو: {ومن قتل مؤمناً خطأ فتحريررقبة مؤمنة} [النساء:92/ 4] فقال الجمهور: يحمل المطلق على المقيد، فيشترط الإيمان في كفارة اليمين حملاً على اشتراطه في كفارة القتل الخطأ؛ لأنهما يشتركان في ستر الذنب، كما حمل قوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} [البقرة:282/ 2] على المقيد في قوله تعالى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق:2/ 65]. وقال الحنفية: لا يحمل المطلق على المقيد، وإنما يجب أن يبقى موجب اللفظ في كفارة اليمين على إطلاقه، ويعمل بكل نص على حدة؛ لأن شرط الإيمان في كفارة القتل غير معقول المعنى، فيقتصر على مورد النص (¬1). 4 - الصوم، مقداره وشرطه: اتفق الفقهاء على أن الحانث إن لم يجد طعاماً ولا كسوة ولا عتقاً يجب عليه أن يصوم ثلاثة أيام، لقوله سبحانه: {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام} [المائدة:89/ 5]. واختلفوا في اشتراط تتابع الأيام الثلاثة في الصيام، فقال المالكية والشافعية ¬
في الأظهر عندهم: لا يشترط التتابع، ولكنه مستحب، لإطلاق الآية القرآنية: {فصيام ثلاثة أيام} [المائدة:89/ 5] فليس فيها اشتراط التتابع، وقد نسخت هذه الآية القراءة الشاذة لابن مسعود تلاوة وحكماً (¬1). وقال الحنفية والحنابلة: يشترط التتابع (¬2) بدليل قراءة أبي وعبد الله بن مسعود: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) (¬3). وهذا إن كان قرآناً فهو حجة، وإن لم يكن قرآناً فهو رواية عن النبي صلّى الله عليه وسلم فهو إذاً خبر واحد، وخبر الواحد حجة، وتجوز الزيادة في الجملة على الكتاب بخبر واحد (¬4). وبناء على اشتراط التتابع لو أفطر المكفر لعذر مرض أو سفر أو حيض، أو لغير عذر: فإنه عند الحنفية يستأنف الصوم من جديد مرة أخرى، كذلك يستأنف الصوم إذا أفطر في يوم العيد أو أيام التشريق، ويبطل التتابع؛ لأن الصوم في هذه ¬
الأيام لا يصلح لإسقاط ما في الذمة. وهذا بخلاف صوم شهرين متتابعين كفارة عن الجماع في نهار رمضان، فإن الحيض والمرض لا ينقطع التتابع بسببهما؛ لأن الغالب أن الشهرين لا يخلوان عنهما. وأما عند الحنابلة فلا ينقطع التتابع بالحيض والمرض في كفارة اليمين، وكفارة انتهاك حرمة رمضان (¬1). ¬
الباب السابع: الحظر والإباحة
البَابُ السّابع: الحَظر والإباحة أو الأطعمة والأشربة واللباس وغيره
تمهيد
تمهيد: هناك أمور تتردد بين الحل والحرمة تمس الإنسان والمجتمع، لتحقيق عافية المرء في صحته ودينه، أو لمنع الضرر المادي أو الأدبي عن المجتمع في المعاملات، يعبر عنها الحنفية إما بالحظر (المنع الشرعي) والإباحة (أي الإطلاق) أو بالكراهية (¬1)، أو بالاستحسان (أي ما حسَّنه الشرع وقبَّحه) أو بكتاب الزهد والورع؛ لأن كثيراً من مسائله أطلقه الشرع، والزهد والورع تركه. ويبحثها غير الحنفية تحت عنوان الأطعمة والأشربة، والآنية، وخصال الفطرة، ومقدمات عقد الزواج، وعبر عنها الشيخ خليل من المالكية بالمباح والمحرم والمكروه. والكلام عنها أو عن المهم منها في مباحث خمسة هي: المبحث الأول ـ الأطعمة. المبحث الثاني ـ الأشربة. المبحث الثالث ـ اللبس والاستعمال والحلي. المبحث الرابع ـ الوطء والنظر واللمس واللهو. المبحث الخامس ـ مسائل في البيع (بيع السماد الطبيعي، الاحتكار، التسعير، بيع العنب للخمار ونحوها). ¬
المبحث الأول ـ الأطعمة
المبحث الأول ـ الأطعمة وفيه مقدمة عن حكم الطعام والشراب، ومطالب أربعة: المطلب الأول ـ أنواع الأطعمة وحكم كل نوع منها (الحلال، والمكروه، والحرام. المطلب الثاني ـ ما لا نص فيه ـ الاحتكام إلى الذوق العربي. المطلب الثالث ـ حالة الضرورة. المطلب الرابع ـ إجابة الولائم، وموائد المنكر، وآدا ب الطعام.
مقدمة ـ مبدأ تناول الطعام والشراب
مقدمة ـ مبدأ تناول الطعام والشراب: عني الإسلام بالجسم والنفس، فأوجب تناول الحد الأدنى أو الضروري من الطعام والشراب للحفاظ على الحياة، ودفع الهلاك عن النفس (¬1)، وللقيام بالواجبات الدينية من صلاة وصيام ونحوهما، وما عدا قدر الضرورة يباح تناوله ما لم يصل إلى حد الإسراف، فالإسراف في الأكل والشرب فوق الطاقة الجسمية ضرر، وخطر، وحرام. والاعتدال هو المطلوب. واستثنى الحنفية من التحريم إذا لم يخش الضرر حالة قصد التقوي على صوم الغد أو لئلا يستحي ضيفه ونحو ذلك، قال تعالى: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد (¬2)، وكلوا واشربوا ولا تسرفوا، إنه لا يحب المسرفين} [الأعراف:31/ 7]. والملبوس والمأكول: هو الحلال، الطيب، فقد أحل الله للإنسان كل نافع في الأرض: {خلق لكم ما في الأرض جميعاً} [البقرة:29/ 2] وقد أردف الله تعالى الآية السابقة بقوله: {قل: من حرم زينة الله التي أخرج لعباده، والطيبات من الرزق} [الأعراف:32/ 7]. وتوالت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في تقرير هذا المباح، فقال تعالى: {ياأيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً} [البقرة:168/ 2] وقال أيضاً: {ويحل لهم الطيبات. ويحرم عليهم الخبائث} [الأعراف:157/ 7]. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «كلوا واشربوا، وتصدقوا، والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة ـ كبر وإعجاب بالنفس ـ فإن الله يحب أن يرى أثر نعمه على عبده» (¬3). ¬
المطلب الأول ـ أنواع الأطعمة وحكم كل نوع منها
وقال الحنفية: ولا تجوز الرياضة بتقليل الأكل حتى يضعف عن أداء العبادة (¬1). المطلب الأول ـ أنواع الأطعمة وحكم كل نوع منها: الغذاء الإنساني الذي يؤكل نوعان: نبات وحيوان. أما النبات المأكول: فكله حلال إلا النجس والضار والمسكر (¬2). أما النجس أو ما خالطته نجاسة (المتنجس)، فلا يؤكل، لقوله تعالى: {ويحرم عليهم الخبائث} [الأعراف:157/ 7] والنجس: خبيث. ولو تنجس طاهر كخل، ودبس ودهن ذائب، وزيت، حرم، لقوله صلّى الله عليه وسلم في الفأرة تقع في السمن، وتموت فيه: «إن كان جامداً فألقوها وما حولها، وكلوه، وإن كان مائعاً فأريقوه» (¬3) فلو حل أكله، لم يأمر بإراقته. وأما المسكر: فحرام لقوله تعالى فيه {رجس من عمل الشيطان، فاجتنبوه لعلكم تفلحون} [المائدة:90/ 5]. وأما الضار: فلا يحل أكله، كالسُّم والمخاط والمني والتراب والحجر، لقوله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم} [النساء:29/ 4] وقوله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة:195/ 2] وأكل هذه الأشياء تهلكة، فوجب ألا تحل. لكن قال المالكية: قيل: الطين مكروه. وقيل: حرام، وهو الأرجح. ¬
الحيوان
ويحل أكل ما لا يضر كالفواكه والحبوب، لقوله تعالى: {قل: من حرم زينة الله التي أخرج لعباده، والطيبات من الرزق} [الأعراف:32/ 7]. وأما الحيوان فنوعان: مائي، وبري. أذكر هنا الحلال والحرام باختصار، وأحيل التفصيل على بحث الحيوان الذبيح في الذبائح والصيد. أما المائي: فيحل منه السمك بالاتفاق، إلا الطافي منه فلا يحل عند الحنفية، ويحل عند غيرهم. وكره مالك خنزير الماء، والمعتمد عند المالكية أن خنزير الماء وكلب الماء مباح. ولا يحل أكل الضفدع عند الجمهور غير المالكية، لنهي النبي صلّى الله عليه وسلم عن قتل الضفدع. ولو حل أكله لم ينه عن قتله. وأباح المالكية أكل الضفادع، إذ لم يرد نص بتحريمها. وأما البري: فيحرم منه أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به (أي ما ذكر عند ذبحه اسم معبود غير الله)، والمنخنقة (التي ماتت خنقاً) والنطيحة (التي نطحها حيوان فماتت)، والموقوذة (التي ضربت فماتت)، والمتردية (التي سقطت من مرتفع فماتت)، وما بقر الحيوان المفترس بطنها، إلا إذا ذبحت، وفيها حياة، فيحل كل ما ذكر. ويحرم أكل الحيوانات المفترسة كالذئب والأسد والنمر عند الجمهور، وقال المالكية: هي مكروهة. كما يحرم أكل الطيور الجارحة كالصقر والباز والنسر ونحوها. وقال المالكية: هي مباحة، إلا الوطواط، فيكره أكله على الراجح. ويحرم أكل الكلاب والحمير الأهلية والبغال؛ لأن الكلب من الخبائث، بدليل قوله صلّى الله عليه وسلم: «الكلب خبيث، خبيث ثمنه» (¬1) ولنهي النبي صلّى الله عليه وسلم يوم خيبر عن ¬
الحُمُر والبغال (¬1) والمعتمد عند المالكية: أن الكلب الإنسي مكروه، وأن كلب الماء مباح. ويحرم أكل حشرات الأرض (صغار دوابها) كالعقرب والثعبان والفأرة والنمل والنحل لسُّميتها واستخباث الطباع السليمة لها. ويحرم المتولد من مأكول وغير مأكول كالبغل المتولد من الحمير والخيل، والحمار المتولد من حمار الوحش والحمار الأهلي؛ لأنه مخلوق مما يؤكل ومما لا يؤكل، فيغلب التحريم (¬2) عملاً بقاعدة تقديم الحاظر على المبيح. وقال المالكية: يباح بالذكاة أكل خَشاش الأرض كعقرب وخنفساء وبنات ورَدْان وجندب ونمل ودود وسوس. ويباح أيضاً أكل حية أمن سمها إن ذبحت بحلقها (¬3). ويحل أكل الخيل بأنواعها الأصيلة وغير الأصيلة عند الشافعية والحنابلة وصاحبي أبي حنيفة لإذن النبي صلّى الله عليه وسلم يوم خيبر بها (¬4). وقال أبو حنيفة بكراهتها كراهة تنزيهية، لورود حديث ينهى عن لحوم الخيل (¬5). والمشهور عند المالكية تحريم الخيل (¬6). ¬
خلاصة مذهب المالكية في المباح
وأباح الشافعية والحنابلة أكل الضَّب والضَّبُع. وعند الشافعية: والثعلب، وحرمه الحنابلة. وحرم الحنفية أكل ذلك كله. وأما المالكية فقد أباحوا مع الكراهة أكل كل السباع كما تقدم. ويجوز بالإجماع أكل الأنعام (الإبل والبقر والغنم) لإباحتها بنص القرآن الكريم، كما يجوز أكل الطيور غير الجارحة كالحمام والبط والنعامة والأوز، والسمان، والقنبر، والزرزور، والقطا، والكروان، والبلبل وغير ذلك من العصافير. ويحل أكل الوحوش غير الضارية، كالظباء، وبقر الوحش وحماره لإذن النبي صلّى الله عليه وسلم بأكلها (¬1). ويباح أكل الأرنب والجراد، لثبوت الإباحة في السنة النبوية. الدود وحده يحرم عند غير المالكية، لكن دود الطعام والفاكهة وسوس الحبوب، ودود الخل، إذا أكل معه ميتاً، وطابت به النفس ولم تعافه، يحل أكله لتعسر تمييزه (¬2). خلاصة مذهب المالكية في المباح والمحرم (¬3): يظهر مما سبق أن مذهب المالكية أوسع المذاهب في إباحة الأطعمة والأشربة، لذا أستحسن إعطاء خلاصة عنه: المباح: يباح حال الاختيار أكلاً أوشرباً كل طعام طاهر، والحيوان البحري، ولو آدميه وخنزيره، وإن كان البحري ميتاً، والطير بجميع أنواعه ولو كان ¬
جلاَّلة (¬1)، أو ذا مخلب كالباز والعقاب والرخم، إلا الوطواط، فيكره أكله على الراجح، والنَّعَم (الإبل والبقر والغنم ولو جلالة)، والوحش غير المفترس كغزال وحمر وحش ويربوع، وخُلْد، ووَبْر (¬2)، وأرنب، وقُنْفُذ، وضُرْبوب (¬3)، وحية أمن سمها (¬4) إن ذكيت بحلقها. ويباح أيضاً هوام الأرض كخنفساء وبنات وَرْدان، وجندب (¬5)، ونمل ودود وسوس. ويباح عصير ماء العنب أول عصره، وفُقَّآع، وعقيد وسوبيا (¬6) أمن سكره. ¬
المحرم
المحرم: ويحرم تناول النجس من جامد أو مائع، والخنزير البري، والبغل والفرس والحمار، ولو كان حمارا وحشياً تأنس. والأرجح تحريم أكل الطين والتراب والعظام والخبز المحروق بالنار، منعاً لأذى البدن. المكروه: ويكره سبع وضبع وثعلب وذئب، وهر ولو كان وحشياً، وفيل وفهد ودب ونمر ونمس (¬1)، وكلب إنسي على المعتمد. والأظهر كراهة أكل القرد والنسناس، والمشهور أن فأر البيوت الذي يصل إلى النجاسة يكره، فإن شك في وصوله لها، لم يكره، وإن لم يصل للنجاسة فهو مباح. لحم الجلالة: الجلالة كما عرفها الحنفية: هي التي تعتاد أكل الجيف والنجاسات فقط، ولا تخلط معها طعاماً غيره ويكون لها ريح منتنة. وهي عند غير الحنفية: هي التى أكثر طعامها النجاسة، وقد اختلف الفقهاء في حكم أكل لحمها. فأباح المالكية (¬2) كما تقدم أكل لحم الجلالة. وكرهها مالك، وأحمد في رواية عنه والحنفية والشافعية (¬3)، وحرمها الحنابلة (¬4). وسبب اختلافهم معارضة القياس للأثر. أما الأثر فهو ما روى ابن عمر: «نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة وألبانها» (¬5) وروى الخلال بإسناده عن عبد الله بن ¬
عمرو: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الإبل الجلالة أن يؤكل لحمها، ولا يحمل عليها إلا الأدمُ (الجلود المدبوغة)، ولا يركبها الناس حتى تعلف أربعين ليلة». وأما القياس المعارض لهذا: فهو أن ما يرد جوف الحيوان ينقلب إلى لحم، فالمالكية القائلون بالحل نظروا إلى الانقلاب أو التحول إلى لحم، كانقلاب الدم لحماً. والحنابلة أخذوا بظاهر النهي المقتضي للتحريم، ولأن اللحم يتولد من النجاسة، فيكون نجساً، كرماد النجاسة. والحنفية والشافعية حملوا الحديث على الكراهة التنزيهية. وعبارة الحنفية: يكره لحم الجلالة ولبنها، كما يكره لحم الأتان ولبنها ولبن الخيل، وبول الإبل، وأجازه (أي بول الإبل ولحم الفرس) أبو يوسف للتداوي به. وتحبس الجلالة حتى يذهب نتن لحمها، وقدر بثلاثة أيام لدجاجة، وأربعة لشاة، وعشرة لإبل وبقر على الأظهر. ولو أكلت الجلالة النجاسة وغيرها بحيث لم ينتن لحمها، حلت، كما حل أكل جدي غذي بلبن خنزير؛ لأن لحمه لا يتغير، وما غذي به يصير مستهلكاً لا يبقى له أثر. وعليه: لا بأس بأكل الدجاج، لأنه يخلط أكل النجس مع غيره، ولا يتغير لحمه (¬1). وعبارة الشافعية: يكره أكل الجلالة: وهي التي أكثر أكلها العَذِرَة (الغائط) من ناقة أو شاة، وبقرة، أو ديك، أو دجاجة؛ لحديث ابن عمر المتقدم: ولا يحرم أكلها، لأنه ليس فيها أكثر من تغيير لحمها، وهذا لا يوجب التحريم. فإن أطعم الجلالة طعاماً طاهراً لم يكره، لقول ابن عمر: «تعلف الجلالة علفاً طاهراً: إن كانت ناقة أربعين يوماً، وإن كانت شاة سبعة أيام، وإن كانت دجاجة ثلاثة أيام». ¬
المطلب الثاني ـ ما لا نص فيه ـ الاحتكام للذوق العربي
وعبارة الحنابلة: وتحرم الجلالة: وهي التي أكثر طعامها النجاسة، كما تحرم ألبانها وهي رواية عن أحمد، وفي رواية أخرى أنها مكروهة غير محرمة، وتزول الكراهة بحبسها اتفاقاً. واختلف في قدره فروي عن أحمد أنها تحبس ثلاثاً، سواء أكانت طائراً أم بهيمة. وروي عنه أيضاً: تحبس الدجاجة ثلاثاً، والبعير والبقرة ونحوهما يحبس أربعين. ويكره ركوب الجلالة. المطلب الثاني ـ ما لا نص فيه ـ الاحتكام للذوق العربي: قال الشافعية والحنابلة (¬1): الحيوان الذي لا نص فيه من كتاب أو سنة أو إجماع، لا خاص ولا عام بتحريم ولا تحليل، ولا ورد فيه أمر بقتله ولا بعدم قتله: إن استطابه أهل يسار (أي ثروة وخصب) وأهل طباع سليمة من أكثر العرب ـ سكان بلاد أو قرى، في حال رفاهية عند الشافعية، أو أهل الحجاز أهل الأمصار عند الحنابلة: حل أكله. لقوله تعالى: {ويحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث} [الأعراف:157/ 7] ولأن العرب هم الذين نزل عليهم الكتاب، وخوطبوا به، وبالسنة وفيهم بعث النبي صلّى الله عليه وسلم، فيرجع في مطلق ألفاظهما إلى عرفهم، دون غيرهم. وعليه تكون القاعدة: المحرم من الحيوان: ما نص الله تعالى عليه في كتابه. وما كانت العرب تسميه طيباً فهو حلال، وما كانت تسميه خبيثاً فهو محرم. ولا يعتبر قول الأجلاف من أهل البادية والفقراء وأهل الضرورة؛ لأنهم للضرورة والمجاعة، يأكلون ما وجدوا. وما لم يوجد عند أهل الحجاز عند الحنابلة، رد إلى أقرب ما يشبهه في ¬
الحجاز. فإن لم يشبه شيئاً منها، فهو مباح، لدخوله في عموم قوله تعالى: {قل: لا أجد في ما أوحي إليّ محرماً} .. [الأنعام:145/ 6] الآية، ولقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «وما سكت الله عنه فهو مما عفا عنه» (¬1). وقال الشافعية: إن جهل اسم حيوان، سئل العرب عنه، وعمل بتسميتهم له مما هو حلال أو حرام؛ لأن المرجع في ذلك إلى الاسم وهم أهل اللسان. وإن لم يكن له اسم عندهم، ألحق بالأشبه به من الحيوان، في الصورة، أو الطبع، أو الطعم في اللحم. فإن تساوى الشبهان، أو فقد ما يشبهه، حل على الأصح، لقوله تعالى: {قل: لا أجد فيما أوحي إليَّ محرماً .. } [الأنعام:145/ 6] الآية. وعملاً بهذا المبدأ أذكر بإيجاز ما يحرم وما يحل من الحيوان عند الشافعية: أما ما يحرم: فيشمل الحشرات كلها كالنمل والذباب والخنافس والحيَّات والدود والبق والقمل والصُّرصُر والوزع: وهو سام أبرص. ويَحرم ذوات السم وكل ما يندب قتله كالنحل والزنابير والعقارب والفئران والغربان والأفاعي والحِدأ. ويحرم من الطيور: الخُفَّاش (الوطواط) والخُطَّاف (طائر أسود الظهر أبيض البطن) والببَّغا) طائر أخضر يحاكي الأصوات) والطاوس، والرَّخمة (طائر يشبه النسر) والبُغَاثة (طائر أبيض بطيء الطيران أصغر من الحدأة) ويحرم كل ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير. ويحرم كل متنجس لا يمكن تطهيره كخل وزيت ودبس، وما يضر البدن كالحجر والتراب والزجاج والسم والأفيون. وأما ما يحل: فيشمل طيور النعامة والبط والحجل والإوَز والدجاج والقطا وغراب الزرع والحمام. ويشمل أيضاً كل طاهر لا ضرر فيه ولا تعافه النفس ¬
المطلب الثالث ـ حالة الضرورة
كالبيض والجبن، أما ما تعافه النفس وتستقذره كالمخاط والمني ونحوهما فحرام. وتحل ألبان الحيوانات المأكولة اللحم، ولا تحل ألبان الحيوانات غير المأكولة اللحم كلبن إناث الحمير، لكن لبن الإنسان طاهر. ويحرم كل ما استخبثه العرب في عصر النبي صلّى الله عليه وسلم كالحشرات ونحوها إلا ما أباحه الشرع كاليربوع (دابة كالفأرة لكن ذنبه أطول) والضَّب (دابة كالجرذون) والوَبْر (دابة أصغر من الهر) والسمُّور (دابة كالسنور) وابن عرس (دابة رقيقة تطارد الفئران). وتحل حيوانات البحر، لأن العرب استطابتها، وتباح الأنعام (الإبل والبقر والغنم والمعز) وحُمُر الوحش والظباء والأرانب ونحوها مما استطابته العرب، إلا ما حرمه الشرع كالبغال والحمر الأهلية. المطلب الثالث ـ حالة الضرورة: الضرورة نظرية متكاملة تشمل جميع أحكام الشرع، يترتب عليها إباحة المحظور، وترك الواجب. والكلام عنها يطول (¬1)، أجتزئ ببيان المهم منها وهو تعريفها وحكمها وشروطها، وهل تشمل حالة السفر والحضر جميعاً، وجنس المستباح أو ما يجوز تناوله، وكيفية ترتيب أفضلية الشيء المتناول، ومقدار الجائز تناوله، والتزود من الميتة، وحكم أخذ طعام الغير قهراً للضرورة، وحالات خاصة للحاجة (المار ببستان الفاكهة، والأكل من الزرع، وحلب الماشية لمن مر بهما) (¬2). ¬
أولا ـ تعريف الضرورة وحكمها
أولاً ـ تعريف الضرورة وحكمها: هي الخوف على النفس من الهلاك علماً (أي قطعاً) أو ظناً. فلا يشترط أن يصبر حتى يشرف على الموت. وحكمها في المذاهب الأربعة (¬1):وجوب الأكل من المحرَّم، بمقدار ما يسد رمَقَه (أي بقية حياته)، ويأمن معه الموت، لقوله تعالى: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد، فلا إثم عليه} [البقرة:173/ 2] وقوله: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة:195/ 2] وقوله: {ولا تقتلوا أنفسكم} [النساء:29/ 4]. فإن ترك الأكل والشرب حتى هلك، فقد عصى، لأن فيه إلقاء إلى التهلكة، وهو منهي عنه في محكم التنزيل، ولأنه قادر على إحياء نفسه بما أحله الله له، فلزمه، كما لو كان معه طعام حلال. بخلاف من امتنع عن التداوي حتى مات، لا يجب عليه، ولا يعصي بالترك، إذ لا يتيقن أن الدواء يشفيه. هذا وقد قرر الحنابلة أنه يجب على المضطر تقديم السؤال، أي الاستجداء على أكل الميتة. وقيل عند البعض كأبي يوسف وأبي إسحاق صاحب المهذب وفي وجه عند الحنابلة: لا يجب على المضطر الأكل من الميتة أو لحم الخنزير، بل يباح لأنه له غرضاً في تركه، وهو أن يجتنب ما حرم عليه، وربما لم تطب نفسه بتناول الميتة، ولما روي عن عبد الله بن حذافة السَّهْمي صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أن طاغية الروم حبسه في بيت، وجعل معه خمراً ممزوجاً بماء، ولحم خنزير مشوي ثلاثة أيام، فلم يأكل، ولم يشرب، حتى مال رأسه من الجوع والعطش، وخشوا موته، فأخرجوه، فقال: قد كان الله أحله لي، لأني مضطر، ولكن لم أكن لأشمتك بدين الإسلام» ولأن إباحة الأكل رخصة، فلا تجب عليه كسائر الرخص (¬2)، ¬
ثانيا ـ شروط الضرورة أو ضوابطها
ولأن قوله تعالى: {وقد فصَّل لكم ماحَرَّم عليكم إلا ما اضطررتم إليه} [الأنعام:119/ 6] استثناء من التحريم، والاستثناء من التحريم حل أو إباحة كما يقرر الأصوليون. وبهذا يظهر أن الإضراب عن الطعام في السجون ونحوها، لا يحل إذا أدى إلى الموت، على كلا الرأيين السابقين. ثانياً ـ شروط الضرورة أو ضوابطها: ليس كل من ادعى الضرورة يسلَّم له ادعاؤه، أو يباح له فعل الحرام، وإنما لابد من توافر شروط أو ضوابط للضرورة، وهي ما يأتي (¬1): 1ً - أن تكون الضرورة قائمة لا منتظرة في المستقبل، أي أن يحصل في الواقع خوف الهلاك على النفس أو المال بغلبة الظن بحسب التجارب، أو التحقق من خطر التلف، لو لم يأكل، ويكفي في ذلك الظن، كما في الإكراه على أكل الحرام، فلا يشترط فيه التيقن ولا الإشراف على الموت، بل لو انتهى إلى هذه الحالة لم يفد الأكل ولم يحل الأكل كما صرح الشافعية. 2ً - أن يتعين على المضطر ارتكاب المحظور الشرعي أي ألا يكون هناك وسيلة أخرى من المباحات لدفع الخطر إلا تناول الحرام؛ لأن سبب استعمال المحرمات في حال الاضطرار هو ضرورة التغذي أعني إذا لم يجد شيئاً حلالاً يتغذى به. وهذا لاخلاف فيه. 3ً - أن يتوافر عذر يبيح الإقدام على الحرام، كالحفاظ على النفس أو العضو بأن خاف التلف إما من جوع، أو يخاف إن ترك الأكل عجز عن المشي وانقطع عن ¬
الرفقة فيهلك، أو يعجز عن الركوب فيهلك، وبه يظهر أن كل ما يبيح التيمم ـ كماصرح الشافعية والحنابلة ـ يبيح تناول الحرام أو ارتكاب المحظور، فيعتبر خوف حصول الشين الفاحش في عضو ظاهر كخوف طول المرض، كل منهما يبيح الأكل من المحرمات. 4ً - ألا يخالف المضطر مبادئ الإسلام، فلا يحل الزنا والقتل والكفر والغصب بأي حال؛ لأنها مفاسد في ذاتها، وإن كان يرخص حال الإكراه في الكفر باللسان مع اطمئنان القلب بالإسلام، كما يرخص بأخذ طعام الغير ولو قهراً إذا لم يكن هو أيضاً مضطراً إليه. وبه يظهر أن الإباحة تختلف عن الرخصة؛ لأن الإباحة تقلب الحرام حلالاً، وتزيل عنه صفة الحرمة، وأما الرخصة فتمنع الإثم ويظل الفعل حراماً. ولا يباح أصلاً قتل آدمي وأكله، كما لايباح عند الجمهور غير الشافعية أكل آدمي ميت، كما سأبين، ويحرم على الراجح عند أئمة المذاهب الأربعة تناول الخمر إلا لإزالة غُصة عند عدم مايسيغها به من غيرها، ولايحل عند المالكية تناول شيء من الدم أو العَذِرة، أو ضالة الإبل. 5ً - أن يقتصر في رأي الجمهور على الحد الأدنى أو القدر اللازم لدفع الضرر، كما سأوضح؛ لأن إباحة الحرام ضرورة، والضرورة تقد ر بقدرها. 6ً - أن يصف المحرم ـ في حال ضرورة الدواء ـ طبيب عدل ثقة في دينه وعلمه، وألا يوجد من غير المحرَّم علاج آخر، يقوم مقامه. ولا يتقيد الاضطرار بزمن مخصوص لاختلاف الأشخاص في ذلك (¬1). ¬
ثالثا ـ هل تشمل الضرورة حالة السفر والحضر جميعا؟
ثالثاً ـ هل تشمل الضرورة حالة السفر والحضر جميعاً؟ تباح المحرمات عند الاضطرار إليها في الحضر والسفر جميعاً؛ لأن آية الضرورة {فمن اضطر} [البقرة:173/ 2] مطلقة غير مقيدة بحالة معينة من هاتين الحالتين، وهو لفظ عام في حق كل مضطر، ولأن الاضطرار يكون في الحضر في سنة المجاعة العامة، وسبب الإباحة: الحاجة إلى حفظ النفس عن الهلاك، وهو عام في الحالين (¬1). وهذا باتفاق المذاهب الأربعة، ولم يميز الحنفية (¬2) بين السفر المقصود به أصلاً المعصية، أو طروء المعصية في أثناء سفر مباح. وهو الراجح عند الحنابلة كما في الحاشية. والمشهور من مذهب مالك (¬3): أن المضطر يجوز له الأكل من الميتة ونحوها في سفر المعصية، ولايجوز له القصر والفطر لقوله تعالى: {غير باغ ولا عاد} [البقرة:173/ 2]. وفرق المالكية في المشهور والشافعية والحنابلة (¬4) بين المعصية بالسفر، والمعصية في السفر أي أثنائه. فمن أنشأ سفراً يعتبر في ذاته معصية كالمرأة الناشز، وقاطع الطريق، والمسافر لظلم الناس، لايباح له الأكل من الميتة، أو استعمال الرخص الشرعية؛ لأن الرخص لاتناط بالمعاصي، ولقوله تعالى: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد، فلا إثم عليه} [البقرة:173/ 2] قال مجاهد: غير باغ على المسلمين ولا عاد عليهم. ¬
رابعا ـ جنس الشيء المستباح للضرورة
ومن سافر سفراً مباحاً، وعصى أثناء سفره، كأن شرب الخمر، فهو عاص في سفره، تباح له الرخص الشرعية، لأنها منوطة بالسفر، ونفس السفر ليس معصية، ولا إثم به. رابعاً ـ جنس الشيء المستباح للضرورة: يستباح للضرورة في المذاهب الأربعة كل شيء محرم، يرد جوعاً أو عطشاً، كالميتة من كل حيوان والخنزير وطعام الغيرونحوه (¬1). واستثنى الحنابلة السم ونحوه مما يضر. واستثنى المالكية الآدمي والدم والخنزير والأطعمة النجسة كالعذرة والأشربة النجسة إلا الخمر، لإزالة الغُصة، ولا تباح لجوع ولا لعطش لأنها لا تدفعه، وقيل: تباح، ولا يحل التداوي بها ولو لخوف الموت في المشهور. كما استثنوا ضالة الإبل، إلا إن تعينت عند انفرادها، وتقدم عليها الميتة عند وجودهما. واتفق أئمة المذاهب على أنه لا يباح قتل إنسان مسلم أو كافر معصوم أو إتلاف عضو منه لضرورة الأكل، لأنه مُثلة، فلا يجوز أن يبقي نفسه بإتلافه. فلا يباح إذن الإنسان الحي. كما لا يباح الأكل من الإنسان الميت عند الجمهور غير الشافعية، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «كسر عظم الميت ككسره حياً» (¬2). وإن قال شخص لآخر ¬
مثلاً: اقطع يدي وكلها، لا يحل؛ لأن لحم الإنسان لا يباح في الاضطرار لكرامته. وأجاز الشافعية (¬1) للمضطر أكل آدمي ميت إذا لم يجد ميتة غيره؛ لأن حرمة الحي أعظم من حرمة الميت، إلا إذا كان الميت نبياً، فإنه لا يجوز الأكل منه قطعاً، أو كان الميت مسلماً والمضطر كافراً، فإنه لا يجوز له الأكل منه لشرف الإسلام. وقال الخطيب الشربيني شارح المنهاج: بل لنا وجه: أنه لا يجوز أكل الميت المسلم، ولو كان المضطر مسلماً. وبهذه الاستثناءات اقترب الشافعية من غيرهم. وأجاز الحنابلة أكل الآدمي غير المعصوم أي مباح الدم كالحربي والمرتد والزاني المحصن والقاتل في المحاربة (¬2). كذلك أجاز الشافعية والحنابلة للمضطر قتل حربي ومرتد وأكله، ولا يجوز له قطع بعض أعضائه، لأنهما ـ أي في حالة القتل ـ غير معصومين، فيباح قتلهما، إذ لا حرمة لهما، فكانا بمنزلة السباع، وللمضطر أكله بعد موته، لعدم حرمته. وللمضطر أيضاً عندهم (الشافعية والحنابلة) قتل الزاني المحصن، والمحارب (قاطع الطريق) ومن عليه قصاص، وإن لم يأذن الإمام في القتل؛ لأن قتلهم مستحق، وإنما يعتبر إذن الإمام في غير حال الضرورة تأدباً معه، وحال الضرورة ليس فيها رعاية أدب. ولا يجوز للمضطر قتل ذمي ومستأمن ومعاهد، لحرمة قتلهم. والأصح له حل قتل صبي حربي وامرأة حربية، لأنهما ليسا بمعصومين، ومنع قتلهما في غير الضرورة لا لحرمتهما، بل لحق الغانمين. ¬
تشريح الجثث ونقل الأعضاء
تشريح الجثث ونقل الأعضاء: يرى المالكية والحنابلة عملاً بحديث: «كسر عظم الميت ككسره حياً» أنه لا يجوز شق بطن الميتة الحامل لإخراج الجنين منه؛ لأن هذا الولد لا يعيش عادة، ولايتحقق أنه يحيا، فلا يجوز هتك حرمة متيقنة لأمر موهوم. وأجاز الشافعية شق بطن الميتة لإخراج ولدها، وشق بطن الميت لإخراج مال منه. كما أجاز الحنفية كالشافعية شق بطن الميت في حال ابتلاعه مال غيره، إذا لم تكن له تركة يدفع منها، ولم يضمن عنه أحد (¬1). وأجاز المالكية أيضاً شق بطن الميت إذا ابتلع قبل موته مالاً له أو لغيره إذا كان كثيراً: هو قدر نصاب الزكاة، في حال ابتلاعه لخوف عليه أو لعذر. أما إذا ابتلعه بقصد حرمان الوارث مثلاً، فيشق بطنه، ولو قل. وبناء على هذه الآراء المبيحة: يجوز التشريح عند الضرورة أو الحاجة بقصد التعليم لأغراض طبية، أو لمعرفة سبب الوفاة وإثبات الجناية على المتهم بالقتل ونحو ذلك لأغراض جنائية إذا توقف عليها الوصول إلى الحق في أمر الجناية، للأدلة الدالة على وجوب العدل في الأحكام، حتى لا يظلم بريء، ولا يفلت من العقاب مجرم أثيم. كذلك يجوز تشريح جثث الحيوان للتعليم؛ لأن المصلحة في التعليم تتجاوز إحساسها بالألم. وعلى كل حال ينبغي عدم التوسع في التشريح لمعرفة وظائف الأعضاء وتحقيق الجنايات، والاقتصار على قدر الضرورة أو الحاجة، وتوفير حرمة الإنسان ¬
التداوي بالخمر
الميت وتكريمه بمواراته وستره وجمع أجزائه وتكفينه وإعادة الجثمان لحالته بالخياطة ونحوها بمجرد الانتهاء من تحقيق الغاية المقصودة. كما يجوز عند الجمهور نقل بعض أعضاء الإنسان لآخر كالقلب والعين والكُلْية إذا تأكد الطبيب المسلم الثقة العدل موت المنقول عنه؛ لأن الحي أفضل من الميت، وتوفير البصر أو الحياة لإنسان نعمة عظمى مطلوبة شرعاً. وإنقاذ الحياة من مرض عضال أو نقص خطير أمر جائز للضرورة، والضرورات تبيح المحظورات، ولكن لا يقبل بيع هذه الأعضاء بحال، كما لا يجوز بيع الدم، وإنما يجوز التبرع بدفع عوض مالي على سبيل الهبة أو المكافأة عند نقل العضو أو التبرع بالدم في حالة التعرض لهلاك أو ضرر بالغ. فإن تحتم دفع العوض ولا يوجد متبرع من الأقارب أو غيرهم، جاز للدافع الدفع للضرورة. التداوي بالخمر: قال أئمة المذاهب الأربعة (¬1): يحرم على الراجح الانتفاع بالخمر وسائر المسكرات للمداواة وغيرها، كاستخدامها في دُهن أو طعام أو إذابة دواء أو بَلَّ طين، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم» (¬2)،وروى طارق ¬
ابن سويد أنه سأل النبي صلّى الله عليه وسلم عن الخمر، فنهاه، أو كره أن يصنعها، فقال: إنما أصنعها للدواء؟ فقال: «إنه ليس بدواء، ولكنه داء» (¬1). لكن قال الحنفية (¬2): يجوز التداوي بالمحرم إن علم يقيناً أن فيه شفاء، ولا يقوم غيره مقامه، أما بالظن فلا يجوز. وقول الطبيب لا يحصل به اليقين. ولايرخص التداوي بلحم الخنزير، وإن تعين. وقيد الشافعية (¬3) حرمة التداوي بالخمر إذا كانت صرفاً، غير ممزوجة بشيء آخر تستهلك فيه. أما الترياق المعجون بها ونحوه مما تستهلك فيه، فيجوز التداوي به عند فقد ما يقوم به، مما يحصل به التداوي من الطاهرات، كالتداوي بنجس كلحم حية وبول. وكذا يجوز التداوي بما ذكر لتعجيل شفاء بشرط إخبار طبيب مسلم عدل بذلك، أو معرفته للتداوي به. وبشرط أن يكون القدر المستعمل قليلاً لايسكر. قال العز بن عبد السلام (¬4): جاز التداوي بالنجاسات إذا لم يجد طاهراً يقوم مقامها؛ لأن مصلحة العافية والسلامة أكمل من مصلحة اجتناب النجاسة، ولا يجوز التداوي بالخمر على الأصح إلا إذا علم أن الشفاء يحصل بها، ولم يجد دواء غيرها. وأبان ابن العربي والقرطبي المالكيان (¬5) أنه يجوز الانتفاع بالخمر للضرورة، ¬
شرب الخمر حالة العطش
لقوله تعالى: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد} [البقرة:173/ 2] فرفعت الضرورة التحريم، وخصصت الضرورة الحرام؛ لأن إهمال تعاطي الدواء قد يسبب الوفاة. شرب الخمر حالة العطش: أجاز جمهور الفقهاء (¬1) شرب الخمر عند ضرورة العطش أو الغصص أو الإكراه قدر ما تندفع به الضرورة؛ لأن الحفاظ على الحياة يقتضي إباحة كل ما يطفئ الظمأ. وقيد الحنابلة (¬2) شرب الخمر لضرورة العطش بما إذا كانت ممزوجة بما يروي من العطش، فتباح حينئذ فقط. فإن شربها صرفاً أو ممزوجة بشيء يسير لا يروي من العطش، لم يبح له ذلك، وعليه عقوبة الحد المقررة. خامساً ـ كيفية ترتيب الأفضلية بين مطعومات الضرورة: إذا وجد المضطر ميتة وطعاماً لغيره وصيداً لمحرم أو مأكولاً غير مذبوح، فهل يقدم الميتة أو غيرها؟ للفقهاء رأيان: 1 - قال الجمهور (الحنفية، والشافعية في المعتمد عندهم، والحنابلة) (¬3): إنه يأكل الميتة؛ لأن أكل الميتة ثبت بالنص، وطعام الغير أو إباحة الصيد ثبت بالاجتهاد، والأخذ بالمنصوص عليه أولى، ولأن الميتة لا تبعة فيها لأحد من الناس ¬
في الدنيا ولا في الآخرة، فكان أكلها أخف من أكل طعام الغير، إذ حقوق الناس مبنية على التشديد، وحق الله تعالى أوسع. ولو حصل ضرر بأكل الميتة يرجى الشفاء منه بالمداواة. ويجب عند الحنابلة تقديم السؤال على آكل الميتة. وإن وجد المحرم صيداً حياً وميتة، أكل الميتة؛ لأن ذبح الصيد جناية لا تجوز له حال الإحرام. فإن لم يجد المضطر ميتة، ذبح الصيد وأكله. وإن لم يجد المضطر شيئاً يأكله، لم يبح له عند الحنابلة (¬1) أكل بعض أعضائه؛ لأن أكله من نفسه ربما قتله، فيكون قاتلاً لنفسه، ولا يتيقن حصول البقاء بأكل جزء من جسده. وقال النووي في المنهاج (¬2): الأصح جواز قطع بعضه، لا كله، لأنه إتلاف بعضه لاستبقاء كله. وشرط الجواز أمران: أحدهما ـ فقد الميتة ونحوها. والثاني ـ أن يكون الخوف في قطعه أقل من الخوف في ترك الأكل. فإن كان مثله أو أكثر، حرم جزماً. كما يحرم جزماً على شخص قطع بعض نفسه لغيره من المضطرين؛ لأن قطعه لغيره ليس فيه قطع البعض لاستبقاء الكل. ويحرم على مضطر أيضاً أن يقطع لنفسه قطعة من حيوان معصوم. 2 - وقال المالكية (¬3): تقدم الميتة وجوباً على أكل لحم الخنزير، لأنه حرام لذاته، وحرمة الميتة عارضة، كما تقدم الميتة للمضطر المحرم على الصيد الحي الذي صاده المحرم أو أعان عليه، ما لم تكن الميتة متغيرة يخاف على نفسه من أكلها، وإلا قدم الصيد المذكور. فإن كان المضطر حلالاً قدم صيد المحرم على الميتة. ¬
سادسا ـ مقدار الجائز تناوله للضرورة
ويقدم طعام الغير ندباً، لا وجوباً على أكل الميتة، إن لم يخف الأذى من قطع عضو، أو ضرب ونحوه؛ لأن الطعام طاهر، ولأن الغالب أن الإنسان يبذل طعامه للمضطر ولا يتلكأ في ذلك. وهذا المذهب هو المعقول، بل إني أرى وجوب تقديم طعام الغير على أكل الميتة، دفعاً للضرر. قال ابن كثير (¬1): إذا وجد المضطر ميتة وطعام الغير بحيث لا ضرر فيه ولا أذى، فإنه لا يحل له أكل الميتة، بل يأكل طعام الغير بغير خلاف (¬2). سادساً ـ مقدار الجائز تناوله للضرورة: هل يقتصر المضطر من تناول الحرام كالميتة على مقدار دفع الضرر، أو يباح له الشبع؟ رأيان للفقهاء: 1 - قال الجمهور (الحنفية، والأظهر عند الشافعية، وأصح الروايتين عند الحنابلة، وبعض المالكية كابن الماجشون وابن حبيب) (¬3): يأكل المضطر للغذاء، ويشرب للعطش، ولو من حرام أو ميتة ومال غيره، مقدار ما يدفع الهلاك عن نفسه أو يؤمن معه الموت: وهو مقدار ما يتمكن به من الصلاة قائماً، ومن الصوم، وهو لقيمات معدودة، ويمتد ذلك من حالة عدم القوت إلى حالة وجوده. لقوله تعالى: {فمن اضطر غير باغ ولاعاد، فلا إثم عليه} [البقرة:173/ 2] (¬4) ولأن (ما جاز للضرورة يتقدر بقدرها) ويكون المضطر بعد سد الرمق غير مضطر، فلم ¬
يحل له الأكل، فيصير بعد سد رمقه كما كان قبل أن يضطر، وحينئذ لم يبيح له الأكل، فكذا بعد زوال حالة الضرورة. 2 - وقال المالكية على المعتمد (¬1): يجوز للمضطر التناول من الحرام حتى يشبع، وله التزود (ادخار الزاد) من الميتة ونحوها، إذا خشي الضرورة في سفره، فإذا استغنى عنها طرحها، لأنه لا ضرر في استصحابها، ولا في إعدادها لدفع ضرورته وقضاء حاجته، ولكن لا يأكل منها إلا عند ضرورته. ودليلهم أن الضرورة ترفع التحريم، فتعود الميتة جميعها ونحوها مباحة لظاهر قوله تعالى: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد} [البقرة:173/ 2]. ومقدار الضرورة إنما هو في حالة عدم القوت إلى حالة وجوده، ولأن كل طعام يباح، جاز أن يأكل منه الإنسان قدر سد الرمق، جاز له أن يشبع منه كالطعام الحلال. هذا إذا كانت المخمصة نادرة في وقت ما، فإن كانت المجاعة عامة مستمرة، فلا خلاف بين العلماء في جواز الشبع من الميتة ونحوها من سائر المحظورات. ويتفق الشافعية، والحنابلة في أصح الروايتين (¬2) مع المالكية في جواز التزود من المحرَّمات، ولو رجا الوصول إلى الحلال. ويبدأ وجوباً بلقمة حلال ظفر بها، فلا يجوز له أن يأكل من الحرام حتى يأكلها لتتحقق الضرورة. وصرح الشافعية: لو عمَّ الحرام الأرض بحيث لا يوجد فيه حلال إلا نادراً، جاز استعمال ما يحتاج إليه، ولا يقتصر على الضرورة، بل على الحاجة. وعلل العز بن عبد السلام (¬3) جواز تناول الحرام حينئذ، دون أن يقتصر على الضرورات بقوله: لأن المصلحة العامة كالضرورة الخاصة. ¬
سابعا ـ حكم أخذ طعام قهرا للضرورة
سابعاً ـ حكم أخذ طعام قهراً للضرورة: لا خلاف بين الفقهاء (¬1) في أنه يجب على مالك الطعام أو المال، إذا لم يكن مضطراً إليه في الحال، أن يبذله إلى المحتاج إليه بقيمته، ليدفع عنه أذى الجوع أو العطش أو الحر أو البرد أو الضرر الذي قد يلحق به. فإن امتنع أو طلب أكثر من ثمن المثل، فيجوز قتاله ولو كان مسلماً؛ لأخذه جبراً عنه؛ لأن المسلمين متكافلون متعاونون على السراء والضراء، قال تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} [المائدة:2/ 5]، ولأن امتناع مالك المال أو الطعام من بذله للمضطر إليه إعانة على قتله، وقد ورد: «من أعان على قتل امرئ مسلم، ولو بشطر كلمة، جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه: آيس من رحمة الله» (¬2). وقد ذم الله على منع ذلك مطلقاً بقوله تعالى: {ويمنعون الماعون} [الماعون:7/ 107]. ولا يجوز للمضطر في هذه الحالة أن يأكل الميتة، لأنه غير مضطر، والتزامه بدفع قيمة الطعام أمر مقرر شرعاً؛ لأن الإباحة للاضطرار لا تنافي الضمان (¬3). وتنص القاعدة: (الاضطرار لا يبطل حق الغير). وأما في حال المجاعة العامة فلا يلزم المرء ببذل الطعام للمضطرين؛ لأن الضرر لا يزال بالضرر (¬4). ¬
ثامنا ـ حالات خاصة للضرورة أو الحاجة
ثامناً ـ حالات خاصة للضرورة أو الحاجة: هناك حالات خاصة بالمار ببستان الغير والأكل من الزرع أو الفاكهة، والمار بماشية الغير، هل يجوز التناول منه أو لا؟ 1ً ـ الأكل من ثمار البساتين: من مر في طريقه ببستان فيه أشجار مثمرة، فله أن يأكل من فاكهته الرطبة ولو كان هناك حائط عند الضرورة بشرط الضمان أي دفع القيمة. فإن لم يكن هناك ضرورة للأكل، فلا يجوز للمار عند جمهور الفقهاء (¬1) أن يأخذ منه شيئاً بغير إذن صاحبه، كما لا يجوز له أن يحمل معه شيئاً؛ لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه» (¬2) وقوله عليه السلام: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا» (¬3) وهذا الرأي أنزه وأورع وأحوط ديناً. وقال الحنابلة (¬4): يجوز في حال الجوع والحاجة لمن مر بثمرة أن يأكل منها، ولا يحمل. قال أحمد: إذا لم يكن للبستان حائط، يأكل الإنسان منها إذا كان جائعاً، وإذا لم يكن جائعاً، فلا يأكل. وقد فعله غير واحد من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم فإذا كان عليه حائط لم يأكل، لأنه قد صار شبه الحريم، ولقول ابن عباس: «إن ¬
كان عليها حائط فهو حريم، فلا تأكل، وإن لم يكن عليها حائط، فلا بأس»، ولأن إحراز الثمار بالحائط يدل على شح صاحبه به، وعدم المسامحة فيه. والدليل على جواز الأكل للحاجة في حال عدم وجود حائط للبستان قوله صلّى الله عليه وسلم: «ما أصاب منه من ذي حاجة غير متخذ خُبْنة (¬1)، فلا شيء عليه، ومن أخرج منه شيئاً، فعليه غرامة مثليه، والعقوبة» (¬2) وقوله أيضاً: «إذا أتيت على حائط ـ أي بستان ـ فناد صاحب البستان ثلاثاً، فإن أجابك، وإلا فكل، من غير أن تفسد» (¬3). وروي عن أبي زينب التميمي، قال: «سافرت مع أنس بن مالك وعبد الرحمن بن سمرة وأبي بردة، فكانوا يمرون بالثمار، فيأكلون في أفواههم» وهو قول عمر وابن عباس وأبي بردة، قال عمر: «يأكل ولا يتخذ خبنة» (¬4). وهناك رواية أخرى عن الإمام أحمد أنه أجاز الأكل من ثمار البساتين غير المحوطة مطلقاً، سواء أكان المار جائعاً، أم لا. جاء في متن الإقناع وكشاف القناع (¬5): من مر بثمر على شجر بستان، أو مر بثمر ساقط تحت الشجر، لا حائط عليه، ولا ناظر (حافظ) ولو كان المار به غير مسافر ولا مضطر، فله أن يأكل منه مجاناً، ولو لغير حاجة إلى أكله، وكذا لو أكله من غصونه من غير رميه بشيء ولا ضربه، ولا صعود شجرة، لحديث الخدري السابق: «إذا أتيت حائط بستان .. ». والحقيقة أن هذا كان سائداً بحسب العرف القائم بين الناس، فإنهم كانوا ¬
ـ الأكل من الزرع
يتسامحون عادة في الأكل للمار، وفي تناول الثمار الساقطة بلا إذن صاحبها، إلا إذا كان قائماً بالتقاطها، أو نهى الناس عن التناول منها (¬1). 2ً ـ الأكل من الزرع: روي عن أحمد روايتان فيمن مر بزرع الغير، فأراد الأكل منه (¬2)، أي للحاجة: إحداهما ـ قال: لا يأكل، إنما رخص في الثمار ليس في الزرع، وقال: ما سمعنا في الزرع أن يمس منه. والفرق بين الثمر والزرع: أن الثمار خلقها الله تعالى للأكل رطبة، والنفوس تتوق إليها، أما الزرع فهو بخلاف ذلك. والثانية ـ قال: يأكل من الفريك؛ لأن العادة جارية بأكله رطباً، فأشبه الثمر. قال ابن قدامة: والأولى في الثمار وغيرها ألا يأكل منها إلا بإذن صاحبها لما فيه من الخلاف والأخبار الدالة على التحريم. 3ً ـ حلب ماشية الغير: عن أحمد أيضاً روايتان في حلب لبن الماشية (¬3): إحداهما ـ يجوز ـ أي للمحتاج ـ أن يحلب ويشرب من ماشية الغير، ولكن لا يحمل معه شيئاً، لحديث سمرة: «إذا أتى أحدكم على ماشية، فإن كان فيها صاحبها، فليستأذنه، فإن أذن، فليحلب وليشرب، وإن لم يكن فيها، فليصوت ¬
المطلب الرابع ـ إجابة الولائم، وموائد المنكر، وآداب الطعام
ثلاثاً، فإن أجابه أحد، فليستأذنه، وإن لم يجبه أحد، فليحلب وليشرب، ولايحمل» (¬1). والثانية ـ لا يجوز له أن يحلب ولا يشرب، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه، أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته، فتكسر خزانته، فَيُنْتَقَل ُطعامه، فإنما تَخْزُن ُلهم ضروع مواشيهم أطعمتهم، فلا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه»، وفي لفظ: «فإن ما في ضروع مواشيهم، مثل ما في مشاربهم» (¬2). المطلب الرابع ـ إجابة الولائم، وموائد المنكر، وآداب الطعام: أولاً ـ إجابة الولائم وموائد المنكر: إجابة الوليمة مشروعة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «شر الطعام: طعام الوليمة، يُمنعها من يأتيها، ويدعى إليها من يأباها، ومن لا يجب الدعوة، فقد عصى الله ورسوله» (¬3) ولا خلاف في أن وليمة العرس سنة مشروعة لقول النبي صلّى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف حين تزوج: «أولم ولو بشاة» (¬4). والمنصوص لدى أصحاب الشافعي أنها واجبة، لهذا الحديث. ومنهم من قال: هي مستحبة، لأنه طعام لحادث سرور، فلم تجب كسائر الولائم. وهذا قول أكثر العلماء (¬5). ¬
مانع المنكر من إجابة الدعوة
وإجابة الدعوة سنة عند الحنفية (¬1)، وتجب الإجابة إذا لم يكن فيها منكر أو لهو عند الشافعية والحنابلة (¬2). وتجب الإجابة لوليمة النكاح عند المالكية وفاقاً للشافعية والحنابلة (¬3)، وتستحب إجابة ما يفعله الرجل بخواص إخوانه تودداً. وتجوز إجابته كدعوة العقيقة، وتكره إجابته: وهو ما يفعل للفخر والمباهاة. وتحرم إجابته: وهو ما يفعله الرجل لمن تحرم عليه هديته كالغريم (الدائن)، وأحد الخصمين للقاضي. وهذا تفصيل حسن لدى المالكية. والمستحب لمن فرغ من الطعام أن يدعو لصاحب الطعام، لما روى ابن ماجه عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، قال: «أفطر رسول الله صلّى الله عليه وسلم عند سعد بن معاذ رضي الله عنه، فقال: أفطر عندكم الصائمون، وصلت عليكم الملائكة، وأكل طعامكم الأبرار». مانع المنكر من إجابة الدعوة: إن علم المدعو بوجود منكر كلعب وغناء وملاهٍ ونصب تماثيل وصور مجسمة على الحيطان أو الأستار أو الوسائد، قبل حضوره، فلا يحضر، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الخمر والخنزير والخزَّ والمعازف» (¬4). وفي لفظ: ¬
«ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات (¬1)، يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم القردة والخنازير» (¬2). وإن حضر المدعو، ففوجئ بالمنكر: فإن كان على المائدة كالخمر، فلا يقعد، لقوله تعالى: {فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين} [الأنعام:68/ 6]. وروى أبو داود وابن ماجه والحاكم عن ابن عمر: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الجلوس على مائدة يشرب عليها الخمر، وأن يأكل الرجل وهو منبطح على بطنه». وإن كان في المنزل، لا على المائدة الجالس عليها: فإن قدر على المنع، منعهم، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» (¬3). وإن لم يقدر على المنع: فإن كان قدوة، خرج ولم يقعد؛ لأن في ذلك شين الدين، وفتح باب المعصية على المسلمين. وإن لم يكن قدوة، صبر، وقعد، وأكل، ولا يخرج؛ لأن إجابة الدعوة سنة (¬4). ¬
ثانيا ـ آداب الطعام والشراب
ثانياً ـ آداب الطعام والشراب: ورد في السنة آداب كثيرة للطعام والشراب منها ما يأتي (¬1): يسن للأكل أو الشرب البسملة عند أول الطعام، والحمدلة آخره، وللأكل غسل اليدين قبله وبعده بأن يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، فإن نسي البسملة فليقل: بسم الله على أوله، وعلى آخره. ويرفع الصوت بها لتلقين من معه، ولا يرفع بالحمد إلا إذا فرغ الحضور من الأكل، فيقول: «الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه» (¬2) أو: «الحمد لله الذي أطعمني وسقاني من غير حول مني ولا قوة». ويستحب الأكل والشرب باليمين، ودليل ما سبق قول النبي صلّى الله عليه وسلم لعمر بن أبي مسلمة: «بسم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك» (¬3) وقوله عليه السلام: «إذا أكل أحدكم، فليأكل بيمينه، وإذا شرب، فليشرب بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله» (¬4). والأكل مما يليه من موضع واحد، إلا أن يكون طبقاً فيه ألوان الثمار، فيأكل من حيث شاء، لأنه ألوان، كما ورد في الأثر. ويستحب الأكل بثلاث أصابع لما ثبت عن النبي (¬5).والتقليل من الأكل فيجعل ثلثاً للطعام، وثلثاً للشراب، وثلثاً للنَّفَس. وترك التبسط في الطعام، كما هو خلُق السلف. وألا يأكل متكئاً (¬6)، وقال الحنفية: لا بأس به. وألا ينفخ في ¬
المبحث الثاني ـ الأشربة
الطعام ولا في الشراب، ولا يتنفس في الإناء. وأن يوافق من يأكل معه في تصغير اللقم، وإطالة المضغ، والتمهل في الأكل، وألا يشرب من فم الإناء. ويجوز الشرب قائماً، والأفضل القعود. وإذا كان جماعة يدار عليهم ماء الشرب، يأخذ بعد الأول: الأيمن فالأيمن. ويسن تناول الحلو من الأطعمة، وكثرة الأيدي على الطعام، وإكرام الضيف، والحديث الحسن القليل على الأكل، ويكره السكوت، لأنه تشبه بالمجوس. ويكره ذم الطعام إذا كان الطعام لغيره، لما فيه من الإيذاء، فإن كان له فلا. ويسن أن يأكل من أسفل الصحفة، ويكره من أعلاها، أو وسطها، فإن البركة تنزل في وسطها (¬1). ومن السنةالبداءة بالملح والختم به؛ لأن فيه شفاء من سبعين داء. ويبسط رجله اليسرى، وينصب اليمنى، ولا يأكل الطعام حاراً، ولا يشمه. المبحث الثاني ـ الأشربة: البحث هنا في الأشربة يتناول حكم الحرام والحلال منها، والانتباذ في الظروف والأواني، وتخليل الخمر. أولاً ـ حكم الأشربة: اتفق العلماء على أن الأصل في الأشربة والأطعمة الإباحة، لقوله تعالى: ¬
خلط الخمر بغيرها
{هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} [البقرة:29/ 2] فكل ما نزل من السماء أو نبع من الأرض، أو عصر من التمر والزهر فهو حلال. واتفقت المذاهب (المفتى به ـ وهو رأي محمد ـ عند الحنفية، وغير الحنفية) (¬1) على تحريم جميع الأشربة المسكرة، قليلها وكثيرها، نيئها ومطبوخها، سواء أكانت خمراً (وهي عصير العنب المتخمر) أم غيرها من الأشربة الأخرى المتخذة من الزبيب أو التمر أو العسل والتين، أو الحبوب كالقمح والشعير والذرة، ونحوها، ويحد كما سأوضح في بحث الحدود شارب القليل أو الكثير منها عند غير الحنفية، ولا يحد إلا بالسكر من الأشربة غير الخمر، أو بشرب القليل أو الكثير من الخمر عند الحنفية، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام» (¬2)، «أنهاكم عن قليل ما أسكر قليله» «ما أسكر كثيره، فقليله حرام» (¬3) «إن من العنب خمراً، وإن من العسل خمراً، ومن الزبيب خمراً، ومن الحنطة خمراً، ومن التمر خمراً، وأنا أنهاكم عن كل مسكر» (¬4). ويحرم جميع ما هو ضار من الأشربة كالسم وغيره، وكل ما هو نجس كالدم المسفوح والبول، ولبن الحيوان غير المأكول عدا الإنسان، وكل ما هو متنجس كالمائع الذي وقعت فيه نجاسة لما فيه من الضرر على الإنسان. خلط الخمر بغيرها: يحرم بالاتفاق شرب الماء الممزوج بالخمر، لما فيه من ¬
ذرات الخمر، ويعزَّر الشارب، ويجب الحد إن كانت الخمر أكثر من الماء، لبقاء اسم الخمر ومعناها. كما يحرم شرب الخمر المطبوخة؛ لأن الطبخ لا يحل حراماً، ولو شربها يجب الحد، لبقاء اسم الخمر ومعناها (¬1). ويكره تحريماً عند الحنفية أكل الخبز المعجون بالخمر، لوجود ذرات الخمرفيه، وفيه التعزير. ويحرم ذلك عند غير الحنفية، ولا حد فيه عند الكل، والخلاف في التسمية والاصطلاح فقط. فما ثبت بدليل ظني كالقياس وخبر الآحاد يسميه الحنفية مكروهاً تحريماً يعاقب فاعله، والجمهور يسمونه حراماً. ويكره تحريماً أيضاً عند الحنفية (¬2) الاحتقان بالخمر (بأخذها حقنة شرجية) أو جعلها في سَعُوط (ما يصب في الأنف من دواء ونحوه)؛ لأنه انتفاع بالمحرَّم النجس، ولكن لا يجب الحد، لأن الحد مرتبط بالشُّرْب. كذلك لا يحد بالاحتقان والسَّعُوط عند الشافعية والمالكية. ولا يحد بالاحتقان بالخمر عند الحنابلة، لكن يحد إن استعط به، لأنه أوصله إلى باطنه من حلقه (¬3). ويكره تحريماً عند الحنفية (¬4) شرب دُرْدِي الخمر (¬5)، والامتشاط به، ليزيد بريقَ الشَّعَر؛ لأن فيه ذرات الخمر المتناثرة فيه، وقليله ككثيره، للأحاديث المتقدمة. ولكن لا يحد شاربه إلا إذا سكر منه، لأنه لا يسمى خمراً. ¬
الأدوية السامة
وقال غير الحنفية (¬1): يحرم شرب دردي الخمر، ويحد به، لأنه خمر بلا شك. الأدوية السامة: قال الحنابلة (¬2) في الأصح: ما فيه السموم من الأدوية: إن كان الغالب من شربه واستعماله الهلاك به أو الجنون، لم يبح شربه. وإن كان الغالب منه السلامة، ويرجى منه المنفعة، فالأولى إباحة شربه، لدفع ما هو أخطر منه كغيره من الأدوية، ولأن كثيراً من الأدوية يخاف منه، وقد أبيح لدفع ما هو أضر منه. المخدرات: تحرم جميع المخدرات وهي كل ما يضر بالجسم والعقل كالبنج والأفيون والحشيشة ونحوها، لحديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتِّر» (¬3) ولما فيها من الإضرار بالعقل والجسم، ولما تؤدي إليه من تعطيل الأعمال والكسل والاسترخاء والخمول. ما يستثنى من حكم المسكرات والمخدرات: يباح تناول شيء من المسكر للضرورة كإزالة اللقمة بالغصة إذا لم يوجد شراب آخر غير الخمر، ويباح التداوي بالأدوية الممزوجة بالكحول للضرورة أو الحاجة إذا لم يتوافر دواء آخر سواها. ويحل استعمال المخدر في العمليات الجراحية وتسكين الآلام الشديدة بحقنة أو شرب أو ابتلاع للضرورة. غير المسكر: يحل شرب كل الأشربة غير المسكرة؛ لأن الأصل في الأشياء الإباحة. ¬
لكن يكره تحريماً من غيرالمسكر (¬1): المنصَّف: وهو ما يعمل من تمر ورطب، والخليطان: وهو ما يعمل من بُسْر ورطب، أو تمر وزبيب، ما لم يغل، أو لم تأتِ عليه ثلاثة أيام، فإن قصرت المدة، فلا كراهة. فيباح الانتباذ (طرح التمر أو الزبيب أو الحبوب في الماء) إذا بقي مدة يسيرة كيوم أو ليلة ونحوها بحيث لا يحتمل توقع الإسكار فيها، بدليل ما روى أحمد ومسلم وأبو داود عن ابن عباس: أنه كان ينقع الزبيب للنبي، فيشربه اليوم والغد وبعد الغد إلى مساء الليلة الثالثة، ثم يأمر به فيهراق. ودليل الكراهة: أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن الخليطين، فقال: «لا تَنْبُذوا الزَّهْو (¬2) والرطب جميعاً، ولا تنبذوا الزبيب والرطب جميعاً، ولكن انبذوا كل واحد منهما على حدته» (¬3). وعن أبي سعيد «أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن التمر والزبيب أن يخلط بينهما، وعن التمر والبسر أن يخلط بينهما يعني في الانتباذ (¬4)». ولأن الإسكار يسرع إلى ذلك بسبب الخلط، قبل أن يتغير، فيظن الشارب أنه ليس بمسكر، ويكون مسكراً. وصرح المالكية والحنابلة (¬5) بأنه لابأس بالفُقَّاع (وهو شراب يتخذ من قمح وتمر، وقيل: ماجعل فيه زبيب ونحوه حتى انحل فيه) لأنه غير مسكر، وإنما يتخذ ¬
ثانيا ـ الانتباذ في الظروف والأواني
لهضم الطعام. ويحل عندهم شراب السوبيا: وهو مايتخذ من الأرز بطبخه طبخاً شديداً حتى يذوب في الماء، ويصفى ويوضع فيه السُّكَّر ليحلو به. ويحل عقيد العنب: وهو ماء العنب المغلي حتى يعقد ويذهب إسكاره الذي حصل في ابتداء غليانه، ويسمى الرُّب الصامت. ولاتحل هذه الأشربة إلا إذا أمن السكر منها. وبه يظهر أن الدبس ونحوه من المربَّيات مباح لعدم الإسكار. ثانياً ـ الانتباذ في الظروف والأواني: اتفق العلماء على أنه يجوز الانتباذ (اتخاذ النبيذ المباح) في الأوعية المصنوعة من جلد، وهي الأسقية، واختلفوا فيما عداها: فقال الحنفية (¬1): لابأس بالانتباذ في جميع الظروف والأواني، سواء الدُّبَّاء والحَنْتم والمُزفَّت والنَّقير (¬2)؛ لأن الشراب الحاصل ليست فيه شدة مطربة. والنهي عن الانتباذ في هذه الأوعية منسوخ بقوله صلّى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن الأشربة إلا في ظروف الأَدَم ـ الجلود المدبوغة ـ فاشربوا في كل وعاء، غير ألا تشربوا مسكراً» (¬3). وفي رواية: «نهيتكم عن الظروف، وإن ظرفاً لايحل شيئاً، ولايُحرِّمه، وكل مسكر حرام» (¬4). ¬
ثالثا ـ تخلل الخمر وتخليلها
وقال المالكية (¬1): يكره الانتباذ في الدباء والمزفت فقط، ولايكره في غير ذلك من الفخار وغيره من الظروف وإن طالت المدة مالم يظن به الإسكار. وعلة الكراهة خوف تعجيل الإسكار، لما ينبذ فيها، إذ شأنها ذلك بخلاف غيرها. وقال الشافعية والحنابلة (¬2) كالحنفية: يجوز الانتباذ في الأوعية كلها. ثالثاً ـ تخلل الخمر وتخليلها: اتفق الفقهاء على أن الخمر إذا تخللت بنفسها، جاز أكلها، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «نعم الأُدْم الخل» (¬3). وإذا نقلت الخمر من الظل إلى الشمس أو بالعكس، ولو بقصد التخليل، حل الخل عند الحنفية والشافعية والظاهرية، وفي احتمال عند الحنابلة؛ لأن الشدة المطربة (أي الإسكار) التي هي علة النجاسة والتحريم، قد زالت من غير أن تعقب نجاسة في الوعاء، فتطهر. ويحتمل في وجه آخر عند الحنابلة ألا تطهر، لأنها خللت بفعل، كما لو ألقي فيها شيء (¬4). ويعرف التخلل عند أبي حنيفة بالتغير من المرارة إلى الحموضة، بحيث لا ¬
تخليل الخمر
يبقى فيها مرارة أصلاً، فلو بقي فيها بعض المرارة، لا يحل شربها؛ لأن الخمر عنده لا تصير خلاً إلا بعد تكامل معنى الخلية فيه، كما لا يصير العصير عنده خمراً إلا بعد تكامل معنى الخمرية، كما سأذكر في حد الشرب. وقال الصاحبان: تصير الخمر خلاً بظهور قليل من الحموضة فيها، اكتفاء بظهور الخَلِّية فيها، كما أن العصير يصير خمراً بظهور دليل الخمرية عندهما. ويظهر أن هذا هو رأي بقية الفقهاء. وأما تخليل الخمر بعلاج بإلقاء جسم غريب عنها كالملح أو الخل أو السمك أوالخبز الحار، أو البصل، أو بإيقاد النار قربها، حتى صارت حامضاً، فيجوز، ويحل شربها عند الحنفية، لأنه إصلاح، والإصلاح مباح، قياساً على دبغ الجلد، فإن الدباغ يطهره، كما ثبت في السنة النبوية: «أيما إهاب دبغ، فقد طهر» (¬1). وقال صلّى الله عليه وسلم عن جلد الشاة الميتة: «إن دباغها يُحلِّه، كما يُحِلُّ خَلَّ الخمر» (¬2) فأجاز النبي التخليل، كما ثبت حل الخل شرعاً، بدليل قوله صلّى الله عليه وسلم: «خير خلكم خل خمركم» (¬3). والحديث السابق: «نعم الأدمْ الخل» لم يفرق بين التخلل بنفسه، والتخليل، فالنص مطلق. ولأن التخليل يزيل الوصف المفسد، ويجعل في الخمر صفة الصلاح، والإصلاح مباح، كما تقدم، لأنه يشبه إراقة الخمر. ¬
للمالكية
وإذا صارت الخمر خلاً، يطهر ما يجاورها من الإناء، كما يطهر أعلى الإناء (وهو الذي نقص منه الخمر) تبعاً. وللمالكية في تخليل الخمر بمعالجة أقوال ثلاثة: قول بالمنع أو التحريم؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر بإراقة راوية خمر، أهداها له رجل (¬1)، ولو جاز تخليلها، لما أباح له إراقتها، ولنبهه على تخليلها. وقول بالجواز مع الكراهة؛ لأن علة تحريم الخمر الشدة المطربة، فإذا زالت زال التحريم، كما لو تخللت بنفسها. وقول بالتفصيل: يجوز تخليل الخمر الذي تخمر عند صاحبه، بدون قصد الخمرية، ولا يجوز تخليل الخمر المتخذة خمراً. وقال الشافعية والحنابلة: لا يحل تخليل الخمر بالعلاج، ولا تطهر حينئذ؛ لأننا مأمورون باجتنابها، فيكون التخليل اقتراباً من الخمر على وجه التموُّل، وهو مخالف للأمر بالاجتناب، ولأن الشيء المطروح في الخمر يتنجس بملاقاتها، فينجسها بعد انقلابها خلاً، ولأن الرسول صلّى الله عليه وسلم أمر بإهراق الخمر بعد نزول آية المائدة بتحريمها. وعن أبي طلحة: أنه سأل النبي صلّى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمراً، فقال: «أهرقها» قال: «أفلا أخللها؟ قال: لا» (¬2) وهذا نهي يقتضي التحريم. ولو كان إلى استصلاحها سبيل مشروع لم تجز إراقتها، بل أرشدهم إليه، لاسيما وهي لأيتام، يحرم التفريط في أموالهم (¬3). ¬
المبحث الثالث ـ اللبس والاستعمال والحلي
المبحث الثالث ـ اللبس والاستعمال والحلي: الأصل في اللباس والزينة الحل والإباحة، سواء في الثوب والبدن والمكان، لقوله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} [البقرة:29/ 2] وقوله سبحانه: {قل: من حرم زينة الله التي أخرج لعباده، والطيبات من الرزق .. } [الأعراف:32/ 7] وقوله عز وجل: {يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم وريشاً .. } [الأعراف:26/ 7]. والريش كما قال ابن عباس: كل ما ظهر من الثياب والمتاع مما يلبس ويفرش. ويحرم استعمال الذهب والفضة للرجال والنساء في الآنية ووسائل الكتابة والزينة وغيرها في غير البيع والشراء باتفاق أئمة المذاهب (¬1)، فلا يجوز الأكل والشرب والادهان والاكتحال والتطيبُ والتوضؤ في آنية الذهب والفضة، كما لا يجوز استعمال الساعات والأقلام وأدوات المكتب والمرايا وأدوات الزينة الذهبية أو الفضية، ولا يجوز تزيين البيوت والمجالس بالذهب وبالفضة؛ لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما (¬2)، فإنها لهم ـ أي للمشركين ـ في الدنيا، ولكم في الآخرة» (¬3) وقوله: «الذي يشرب في إناء الفضة، إنما يجرجر في بطنه نار جهنم» (¬4). ¬
والجرجرة: صوت وقوع الماء في الجوف. وحرم الشافعية والحنابلة خلافاً للحنفية اتخاذ آنية الذهب والفضة أي اقتناءها؛ لأن اتخاذها يجر إلى استعمالها، وماحرم استعماله مطلقاً حرم اتخاذه على هيئة الاستعمال. وقال الشافعية: وظاهره حرمة الاتخاذ ولو للتجارة؛ لأن آنية الذهب والفضة ممنوع من استعمالها لكل أحد، بعكس الحرير، يجوز اتخاذه للتجارة فيه، لأنه ليس ممنوعاً من استعماله لكل أحد. ويستثنى من حرمة استعمال الذهب والفضة أمور للضرورة أو للحاجة: 1 - صناعة الأنف إذا قطع، والأسنان إذا سقطت، يجوز عملها من الذهب أو الفضة. وهذا رأي الجمهور ومنهم محمد، وفي رواية عن أبي يوسف من الحنفية. وقال أبو حنيفة: لا تشد الأسنان بالذهب، وتشد بالفضة، وأضاف الحنفية: لا بأس بمسمار الذهب لتثبيت حجر فص الخاتم، لأنه تابع له. وقال الشافعية: يحرم سن خاتم الذهب على الرجل وهي الشعبة التي يستمسك بها الفص. 2 - طلاء الأدوات بالذهب أو الفضة إذا كان قليلاً: بأن لم يحصل منه شيء بالعرض على النار، أو الذي لا يخلص، أي لا يمكن فصل شيء مادي منه. 3 - أجاز أبو حنيفة الشرب والوضوء في الإناء المفضض (المزين بالفضة)، والركوب على السَرْج المفضض، والجلوس على السرير المفضض. وأجاز أيضاً الإناء المضبب (الذي لحم كسره) بالذهب والفضة، والكرسي المضبب بهما، وكذا إذا جعل ذلك في السيف وحلقة المرآة، أو جعل المصحف مذهباً أو مفضضاً، ومثل ذلك اللجام والركاب، والثوب الذي كتب فيه بذهب أو فضة. ولا بأس بتحلية المصحف ونقش المسجد وزخرفته بماء الذهب إذا كان المقصود بذلك تعظيمه، ويكره إذا كان بقصد الرياء.
وقال المالكية: لا بأس بالفضة (لا الذهب) في حلية الخاتم أو السيف والمصحف، ولا يجعل ذلك في لجام ولا سرج ولا سكين ولا في غير ذلك. وفي الجملة عندهم قولان بالمنع أو الكراهة في المموه بالذهب والفضة، وفي الإناء المضبب. وقال الشافعية: يحرم الإناء المطلي بذهب أو فضة إن حصل من الطلاء شيء بعرضه على النار، ويحل إن لم يحصل منه شيء بالعرض على النار. ويحرم الإناء المضبب (¬1) بضَبة فضة كبيرة عرفاً لزينة، فإن كانت كبيرة للحاجة، جاز مع الكراهة، وإن كانت صغيرة عرفاً لزينة كرهت، أما لحاجة فلا تكره بدليل ما رواه البخاري عن عاصم الأحول قال: «رأيت قدح النبي عند أنس بن مالك، وكان قد انصدع، فسلسله بفضة .. ». أما ضبة الذهب فتحرم مطلقاً، كبيرة أو صغيرة لحاجة أو لزينة، كلها أو بعضها، ولو كمكحلة. ويجوز تحلية المصحف بالفضة للرجل والمرأة، وتحلية آلة الحرب كالسيف والرمح والمنطقة بالفضة للرجل لأنها تغيظ الكفار، ولا يحل ذلك للمرأة ولا يجوز تحلية ما لا يلبسه الرجل من آلات الحرب كالسرج واللجام. وللمرأة تحلية المصحف بالذهب أيضاً. والتحلية: وضع قطع رقيقة. ويحرم تمويه السقوف والجدران بالذهب والفضة، سواء أمكن استخراج شيء منها بالعرض على النار أم لا. ويحرم تحلية الكعبة وسائر المساجد بالذهب أو بالفضة، كما يحرم كسوتها بالحرير المزركش بالذهب أو بالفضة. ¬
لبس الحرير والتختم بالذهب والفضة
وقال الحنابلة مثل الشافعية: يحرم المضبب بضبة كثيرة من الذهب أو الفضة، لحاجة أو غيرها. ولا يباح اليسير من الذهب إلا للضرورة كأنف الذهب وما ربط به الأسنان، ويباح اليسير من الفضة؛ لحاجة الناس إليه. وعلل الفقهاء حرمة استعمال الذهب والفضة بالسرف والخيلاء، والأصح في التعليل: هو كون الذهب والفضة أثمان الأشياء، والنقد المتداول، فلو أبيح استعمالها لأثَّر ذلك في رواجهما في الأسواق، فيحل الاضطراب والقلق. ويجوز استعمال غير آنية الذهب والفضة من الأواني النفيسة كإناء ياقوت وزمّرد وزجاج وبلور وعقيق وزبرجد ومرجان ولؤلؤ، ونحاس ورصاص، ونحو ذلك؛ لأنها ليست في معنى الذهب والفضة، والأصل في الأشياء الإباحة، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم توضأ من إناء نحاس (¬1). لبس الحرير والتختم بالذهب والفضة: يحرم على الرجال لبس الحرير والتختم بالذهب، ويحل للنساء اللبس والتختم مطلقاً والتحلي بالحلي من الذهب والفضة (¬2)، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «الذهب ¬
والحرير حِلٌّ لإناث أمتي، حرام على ذكورها» (¬1) وعن علي «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن التختم بالذهب» (¬2) وعن ابن عباس «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم رأى في يد رجل خاتماً من ذهب، فنزعه فطرحه، وقال: يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده» (¬3)، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة» (¬4). واستثنى أئمة المذاهب الخاتم الفضي للرجل، فأباحوا له لبسه والتختم به إذا كان قليلاً، ومقداره عند الحنفية: بقدر مثقال (975،2 غم) فما دونه، وعند المالكية: إذا كان لا يزيد على درهمين بشرط الاقتداء بالنبي صلّى الله عليه وسلم. والصواب عند الشافعية: بما دون المثقال. والمعول في ذلك على العرف والعادة، سواء زاد عن مثقال أو نقص عنه، فمتى زاد على العادة حرم. ويلبس في خنصر اليد اليسرى. ولو لِبسه في غير الخنصر جاز مع الكراهة عند الشافعية. وقال الحنفية: ترك التختم لغير السلطان والقاضي وذي الحاجة إليه أولى، والحاجة مثل الختم به. ولا يحل للرجال بحال كالخطبة والزواج التختم بخاتم الذهب، لنهي النبي صلّى الله عليه وسلم عنه. ويشتد التحريم بقصد تقليد غير المسلمين. ولا بأس أيضاً عند الحنفية من استخدام المنطقة (ما ينتطق به الرجل ويشد وسطه) وحلية السيف، من الفضة، كالخاتم، بشرط ألا يضع يده على موضع الفضة، لورود الآثار في إباحة ذلك. ¬
الخاتم
أما الخاتم: فأخرج الأئمة الستة عن أنس بن مالك: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً من فضة، له فص حبشي، ونقش فيه: محمد رسول الله». وفي السيف وردت عدة أحاديث: منها مارواه أبو داود والترمذي عن أنس، قال: «كانت قبيعة ـ مقبض ـ سيف رسول الله صلّى الله عليه وسلم فضة». وأما المنطقة: ففي عيون الأثر لابن سيد الناس اليعمري قال: «وكان للنبي صلّى الله عليه وسلم منطقة من أديم منشور ثلاث، حَلَقها وإبزيمها (¬1)، وطرفها فضة» (¬2). ولابأس عند أبي حنيفة بتوسد الحرير (جعله وسادة أي مخدة)، وافتراشه والنوم عليه؛ لأن ذلك استخفاف به، فصار كالتصاوير على البساط، فإنه يجوز الجلوس عليه. وقال الصاحبان: يكره التوسد والافتراش والجلوس على الحرير، لعموم النهي عنه، ولأنه زي من لا خلاق له من الأعاجم. ولابأس عند الصاحبين للضرورة بلبس الديباج (وهو ماسداه ولحمته إبْريَسم أي أحسن الحرير) في الحرب؛ لأن الحاجة ماسة إليه، فإنه يردّ الحديد بقوته، ويكون رعباً في قلوب الأعداء، وهو أهيب في عين العدو لبريقه ولمعانه. وعن الحكم بن عمير، قال: «رخص رسول الله صلّى الله عليه وسلم في لباس الحرير عند القتال» (¬3) ويكره لبسه عند أبي حنيفة لعموم النهي، والضرورة تندفع بالمخلوط. وأباح الحنفية في الحرب وغيرها لبس الثوب المختلط بالحرير (المُلْحَم) بأن كان سداه حريراً ولحمته غير حرير كقطن أو كتان أو خز (صوف مخلوط بحرير: ¬
لحمته صوف، وسداه حرير)؛ لأن الصحابة كانوا يلبسون الخز، والخز مسدّى بالحرير، ولأن النسج باللحمة، فهي المعتبرة دون السدى. فإن انعكس الأمر بأن كانت لحمة الثوب حريراً، وسداه غير حرير، لايحل لبسه في غير الحرب، ولابأس به في الحرب باتفاق الحنفية. ويجوز عند الحنفية قليل الحرير، فالقليل عفو: وهو مقدار ثلاثة أو أربعة أصابع، كالأعلام، والمكفوف بالحرير، لما روى عمر، فقال: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن لبس الحرير، إلا موضع إصبعين أو ثلاث أو أربع» (¬1). وكان النبي صلّى الله عليه وسلم يلبس جبة مكفوفة بالحرير (¬2). ويجوز للضرورة لبس الحرير لستر عورة أو وقاية الجسم من الحر أو البرد حتى يجد غيره من الثياب المباحة، لأن الضرورات تبيح المحظورات، والضرورة تقدر بقدرها. ويباح للضرورة عند جمهور الفقهاء غير المالكية لبس الحرير لدفع أذى من قَمْل ونحوه، أو لدفع مرض كجرب وغيره، بدليل أن النبي صلّى الله عليه وسلم رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير في لبس الحرير لحكة كانت بهما (¬3). وقال المالكية: لا يحل ولو لذاك، ويلاحظ أن الحديث حجة عليهم. ويكره عند الحنفية للولي أن يلبس الصبيان الذكور الذهب والفضة والحرير؛ ¬
لأن التحريم ثبت في حق الذكور، وإذا حرم اللبس، حرم الإلباس، كالخمر لما حرم شربه حرم سقيه. وحرم الحنابلة في الأصوب على الولي أن يلبس الصبي الحرير، لعموم قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «حرِّم لباس الحرير على ذكور أمتي وأحل لنسائهم» وروى أبو داود عن جابر قال: «كنا ننزعه عن الغلمان ونتركه على الجواري». وحرم الجمهور غير الحنفية الجلوس على الحرير، أو الاستناد عليه، أو توسده وستر الجدران به، إلا أن المالكية أجازوا ستر النافذة به، وأجاز الحنابلة ستر الكعبة به، وأباح الشافعية الجلوس على الحرير بحائل (غطاء) كملاءة من قطن أو صوف أو كتان أو نحوها. ودليلهم على تحريم الجلوس على الحرير قول حذيفة: «نهانا النبي صلّى الله عليه وسلم أن نشرب في آنية الذهب والفضة، وأن نأكل فيها، وعن لبس الحرير والديباج، وأن نجلس عليه» (¬1). وأجاز الجمهور غير الحنفية كالحنفية لبس القليل من الحرير كالعَلَم (¬2) في الثوب الحريري المقدر بأربع أصابع، ولكن عند المالكية يجوز لباس الخز (غير الخالص) مع الكراهة للباس السلف له. ودليل الجمهور حديث عمر المتقدم، وحديث ابن عباس قال: «إنما نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الثوب المُصْمَت من قَزّ (¬3)». قال ابن عباس: «أما السَّدَى والعَلَم، فلا نرى به بأساً» (¬4). ¬
المبحث الرابع ـ الوطء والنظر واللمس واللهو والتصوير والوسم والوشم وأحكام الشعر والنتف والتفليج والسلام
والمنسوج من الحرير وغيره: الحكم فيه عند الشافعية والحنابلة للأغلب منهما فإن كان القطن ونحوه هو الأكثر، جاز؛ لأن الحرير مستهلك في غيره. وقال المالكية في الأصوب: يكره المختلط بغيره، كالخالص، سواء أكانت المختلط يسيراً أم كثيراً. ولا يجوز في الأصوب عند الحنابلة كالحنفية لولي الصبي أن يلبسه الحرير. وأجاز الشافعية إلباس الصبي أو المجنون حريراً؛ لأنه غير مكلف، ولأن خنوثة الحرير لا تتنافى مع الأولاد بعكس الرجال. وكره تنزيهاً عند الحنفية للرجال لبس المعصفر والمزعفر: الأحمر والأصفر، ولا يكره للنساء، ولا بأس لهن بسائر الألوان. المبحث الرابع ـ الوطء والنظر واللمس واللهو والتصوير والوسم والوشم وأحكام الشعر والنتف والتفليج والسلام: أولاً ـ الوطء: الاستمتاع واجب على الرجل للمرأة إذا انتفى العذر، بما يحقق الإعفاف والصون عن الحرام، وتباح كل وجوه الاستمتاع إلا الإتيان في الدبر فهو حرام. ومكان الوطء باتفاق المذاهب: هو القبل، لا الدبر (¬1)، لقوله تعالى: {نساؤكم حرث لكم، فأتوا حرثكم أنى شئتم} [البقرة:223/ 2] (¬2) أي على أية كيفية: ¬
قائمة، أو قاعدة، مقبلة، أو مدبرة، في أقبالهن (¬1). قال ابن عباس: إنما قوله: {فأتوا حرثكم أنى شئتم} [البقرة:223/ 2]. قائمة، وقاعدة، ومقبلة، ومدبرة، في أقبالهن، لا تعدو ذلك إلى غيره. وله عبارة أخرى في الآية: إن شئت فمقبلة، وإن شئت فمدبرة، وإن شئت فباركة، وإنما يعني ذلك موضع الولد للحرث، يقول: ائت الحرث حيث شئت. وقد ثبت تحريم الوطء في الدبر (¬2)، في السنة النبوية، بأحاديث كثيرة منها: «ملعون من أتى امرأة في دبرها» (¬3) «الذي يأتي المرأة في دبرها هي اللوطية الصغرى» (¬4) «من أتى حائضاً، أو امرأة في دبرها، أو كاهناً، فصدقه، فقد كفر بما أنزل على محمد» (¬5). ويجوز الاستمتاع بها فيما بين الأليتين، لقوله تعالى: {إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين} [المؤمنون:6/ 23] ويجوز وطؤها في القبل مدبرة لقول جابر: «يأتيها من حيث شاء مقبلة أو مدبرة إذا كان ذلك في الفرج». وربما كان أسوأ من الدبر: وضع الذكر في فم المرأة ونحوه، مما جاءنا من شذوذ الغربيين، فيكون ذلك حراماً لثبوت ضرره وقبحه شرعاً وذوقاً. ¬
وطء الحائض ونحوها
وطء الحائض ونحوها: ويحرم بالاتفاق إتيان الحائض، ومستحله كافر، لقوله تعالى: {ويسألونك عن المحيض، قل: هو أذى، فاعتزلوا النساء في المحيض، ولا تقربوهن حتى يطهرن، فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله، إن الله يحب التوابين، ويحب المتطهرين} [البقرة:222/ 2] والنفساء كالحائض. ويسن لمن وطئ الحائض أن يتصدق بدينار إن وطئها في إقبال الدم، وبنصفه في إدباره؛ لخبر أبي داود والحاكم وصححه: «إذا واقع الرجل أهله وهي حائض، إن كان دماً أحمر فليتصدق بدينار، وإن كان أصفر، فليتصدق بنصف دينار» (¬1). وأجاز أبو حنيفة إتيان المرأة إذا انقطع دم الحيض، ولو لم تغتسل بالماء إلا أنه إذا انقطع دمها بعد أكثر الحيض (عشرة أيام) حلت حينئذ، وإن انقطع دمها لأقل من عشرة أيام، لم تحل حتى يمضي وقت صلاة كامل أو تغتسل. ولم يجز الجمهور غير أبي حنيفة إتيانها حتى ينقطع الحيض، وتغتسل بالماء غسل الجنابة. وأما ما عدا الوطء في الفرج للحائض من الاستمتاع بالضم أو المس، أو القبلة أو غير ذلك، فتجوز المباشرة فيما فوق السرة وتحت الركبة باتفاق العلماء. ¬
وأما المباشرة فيما بين السرة والركبة ففيه أقوال ثلاثة (¬1): 1 - قول أكثر العلماء، منهم أبو حنيفة وأبو يوسف والمالكية والشافعية: وهو التحريم، سداً للذريعة، ولحديث عائشة: «كانت إحدانا إذا كانت حائضاً، فأراد رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يباشرها، أمرها أن تأتزر بإزار، في فور حيضتها، ثم يباشرها» (¬2). 2 - قول الحنابلة والأوزاعي ومحمد من الحنفية وغيرهم: الجواز، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «اصنعوا كل شيء إلا النكاح، وفي لفظ: إلا الجماع» (¬3) وهو صريح بتحليل كل شيء ما عدا النكاح. 3 - التفصيل: إن كان المباشر يضبط نفسه عن الفرج، إما لشدة ورع، أو لضعف شهوة، جاز، وإلا لم يجز. وأرجح العمل بالأحوط في الأحوال العادية، فإن كان المرء مسافراً ثم قدم، أو شديد الشَّبَق (¬4)، جاز له العمل بالقولين الآخرين، بشرط أن يضبط نفسه عن الفرج، منعاً من الوقوع في الحرام بالنظر إلى الأجنبيات وغيره، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا أراد من الحائض شيئاً، ألقى على فرجها شيئاً (¬5). ¬
العزل
العزل: الإيجاد والخلق في الحقيقة منوط بالإرادة الإلهية، ففي حديث حسن رواه الطبراني: «اعزلوا أو لاتعزلوا، ماكتب الله تعالى من نسمة هي كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة» ولا خلاف بين العلماء ما عدا ابن حزم الظاهري (¬1): أنه يجوز العزل (¬2) عن الزوجة، بشرط إذنها، بدليل قول جابر: «كنا نعزل على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فبلغه ذلك، فلم ينهنا» (¬3) ودليل اشتراط الإذن مارواه أحمد وابن ماجه عن عمر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن أن يعزل عن الحرة، إلا بإذنها» (¬4). إلا أن الشافعية والحنابلة وقوماً من الصحابة قالوا بكراهة العزل؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلم في حديث مسلم عن عائشة سماه الوأد الخفي، فحمل النهي على كراهة التنزيه. وأجاز الغزالي العزل لأسباب منها كثرة الأولاد. وبناء عليه يجوز استعمال موانع الحمل الحديثة كالحبوب وغيرها لفترة مؤقتة، دون أن يترتب عليه استئصال إمكان الحمل، وصلاحية الإنجاب، قال الزركشي: يجوز استعمال الدواء لمنع الحبل في وقت دون وقت كالعزل، ولايجوز التداوي لمنع الحبل بالكلية. أو ربط عروق المبايض إذا ترتب عليه امتناع الحمل في ¬
آداب الجماع
المستقبل، والعبرة في ذلك لغلبة الظن، أي احتمال مافوق 50%. وكذلك الحكم في تعقيم الرجل. آداب الجماع: للجماع آداب كثيرة ثابتة في السنة النبوية منها مايأتي (¬1): تستحب التسمية قبله، ويقرأ {قل هو الله أحد} [الإخلاص:1/ 112]، ويكبر، ويهلل، ويقول ولو مع اليأس عن الولد: «باسم الله العلي العظيم، اللهم اجعلها ذرية طيبة، إن كنت قدرت أن تخرج ذلك من صلبي» «اللهم جنِّبني الشيطان، وجنب الشيطان مارزقتني» رواه أبو داود. وينحرف عن القبلة، ولايستقبل القبلة بالوقاع، إكراماً للقبلة. وأن يتغطى نفسه هو وأهله بغطاء، وألا يكونا متجردين (¬2) فذلك مكروه كما سيأتي. وأن يبدأ بالملاعبة والضم والتقبيل. وإذا قضى وطره، فليتمهل لتقضي وطرها، فإن إنزالها ربما تأخر. ويكره الإكثار من الكلام حال الجماع، ولايخليها عن الجماع كل أربع ليال مرة بلا عذر. وتأتزر الحائض بإزار مابين السرة والركبة إذا أراد الاستمتاع بها. ¬
الإجهاض
ومن أراد أن يجامع مرة ثانية، فليغسل فرجه، ويتوضأ؛ لأن الوضوء يزيد نشاطاً ونظافة. وليس في السنة استحباب الجماع في ليال معينة كالاثنين أو الجمعة، ومن العلماء من استحب الجماع يوم الجمعة. ويكره الوطء وهما متجردان. لما روى ابن ماجه عن عتبة بن عبد الله قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إذا أتى أحدكم أهله فليستتر، ولا يتجردان تجرد العَيْرين» والعَيْر: حمار الوحش، شبههما به تنفيراً عن تلك الحالة. ويكره تحدثهما بما جرى بينهما، وحرمه بعضهم لما فيه من إفشاء السر، وهو حرام. ومن الآداب ألا يحلق شعره، ولا يقلم أظفاره، ولا يخرج دماً، وهو جنب. ويستحب في ليلة الزفاف قبل الجماع أن يأخذ الرجل بناصية المرأة ويقول: «اللهم إني أسألك من خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه» (¬1). الإجهاض: اتفق العلماء على تحريم الإجهاض دون عذر بعد الشهر الرابع أي بعد 120 يوماً من بدء الحمل، ويعد ذلك جريمة موجبة للغُرَّة (¬2)، لأنه إزهاق نفس وقتل إنسان. ¬
أقوال الفقهاء في الإجهاض
وأرجح عدم جواز الإجهاض بمجرد بدء الحمل، لثبوت الحياة، وبدء تكون الجنين إلا لضرورة كمرض عضال أو سار كالسل أو السرطان، أوعذر، كأن ينقطع لبن المرأة بعد ظهور الحمل. وله ولد، وليس لأبيه ما يستأجر الظئر (المرضع)، ويخاف هلاك الولد. وإني بهذا الترجيح ميَّال مع رأي الغزالي الذي يعتبر الإجهاض ولو من أول يوم كالوأد جناية على موجود حاصل (¬1). ومع هذا أذكر أقوال الفقهاء في الإجهاض: 1 - مذهب الحنفية (¬2): يباح الإسقاط بعد الحمل، ما لم يتخلق منه شيء، ولن يكون ذلك إلا بعد مئة وعشرين يوماً؛ لأنه ليس بآدمي. وهذا يقتضي أنهم أرادوا بالتخليق: نفخ الروح. وقيل عندهم: إن ذلك مكروه بغير عذر، فإذا أسقطت بغير عذر يلحقها إثم. ومن الأعذار: أن ينقطع لبنها بعد ظهور الحمل، وليس لأبي الصبي ما يستأجر به الظئر، ويخاف هلاكه. وحمل بعضهم إباحة الإسقاط المطلقة على حالة العذر؛ لأن الماء بعد ما وقع في الرحم مآله الحياة، فله حكم الحياة. وهذا التأويل معقول وضروري. 2 - مذهب المالكية (¬3): المعتمد أنه يحرم عندهم إخراج المني المتكون في الرحم، ولو قبل الأربعين يوماً. وقيل: يكره إخراجه قبل الأربعين. وإذا نفخت فيه الروح حرم إجماعاً، وهذا رأي الغزالي والظاهرية (¬4). ¬
3 - مذهب الشافعية
3 - مذهب الشافعية (¬1): يباح الإجهاض مع الكراهة إذا تم في فترة الأربعين يوماً (40 أو 42 أو 45 يوماً) من بدء الحمل، بشرط كونه برضا الزوجين، وألا يترتب على ذلك ضرر بالحامل. وبعد فترة الأربعين يحرم الإسقاط مطلقاً. ورجح الرملي جواز الإجهاض قبل نفخ الروح والتحريم بعد نفخ الروح مطلقاً، فيكون رأيه كالحنفية. وحرم الغزالي (¬2) الإجهاض مطلقاً، لأنه جناية على موجود حاصل. 4 - مذهب الحنابلة (¬3)، هو كالحنفية: المعتمد عندهم أنه يجوز الإسقاط في فترة الأربعة الأشهر الأولى ي في مدة الـ 120 يوماً من بدء الحمل قبل نفخ الروح، ويحرم قطعاً بعدها، أي بعد ظهور الحركة الإرادية. الإعقام أو التعقيم: جعل المرأة عقيماً، بمعالجة تمنع الإنجاب نهائياً. وقد صرح الفقهاء بأنه يحرم استعمال ما يقطع الحبل من أصله، لأنه كالوأد (¬4). وذلك إلا إذا كانت هناك ضرورة ملجئة كانتقال مرض خطير بالوراثة إلى الأولاد والأحفاد، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، ويرتكب أخف الضررين، ولا مانع من عقم المصابة ¬
التلقيح الصناعي
بمرض خبيث، وتكون من فئة النساء اللاتي تحققت فيهن مشيئة الله بالعقم: {لله ملك السموات والأرض، يخلق ما يشاء، يهب لمن يشاء إناثاً، ويهب لمن يشاء الذكور، أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً، ويجعل من يشاء عقيماً} [الشورى:42/ 49 - 50]. أما ما يبطئ الحبل مدة، ولا يقطعه من أصله، وهو المعروف بتنظيم الحمل، فلا يحرم، بل إن كان لعذر كتربية ولد، لم يكره أيضاً، وإلا كره عند الشافعية. التلقيح الصناعي: هو استدخال المني لرحم المرأة بدون جماع. فإن كان بماء الرجل لزوجته، جاز شرعاً، إذ لا محذور فيه، بل قد يندب إذا كان هناك ما نع شرعي من الاتصال الجنسي. وأما إن كان بماء رجل أجنبي عن المرأة، لا زواج بينهما، فهو حرام؛ لأنه بمعنى الزنا الذي هو إلقاء ماء رجل في رحم امرأة، ليس بينهما زوجية. ويعد هذا العمل أيضا منافياً للمستوى الإنساني، ومضارعاً للتلقيح في دائرة النبات والحيوان. خصاء البهائم: ولا بأس عند الحنفية بخصاء البهائم، وإنزاء الحمير على الخيل، لإنجاب البغال، ولأن الخصاء للنفع، إذ تسمن الدابة ويطيب لحمها. وقال المالكية: يجوز خصاء الغنم وسائر الدواب إلا الخيل؛ لأن خصاء الغنم يزيد في سمنها، وخصاء الخيل ينقص من قوتها ويقطع نسلها، ويكره الوسم في الوجه، ولا بأس به في غير ذلك (¬1). ¬
ثانيا ـ النظر
ثانياً ـ النظر: للنظر أربعة أقسام، لكل قسم حكم، وهي: نظر الرجل للمرأة، ونظر المرأة إلى الرجل، ونظر الرجل إلى الرجل، ونظر المرأة إلى المرأة (¬1). الأول ـ نظر الرجل للمرأة: أـ إذا كانت المرأة زوجة: جاز للزوج اللمس والنظر إلى جميع جسدها، حتى فرجها باتفاق المذاهب الأربعة، والفرج محل التمتع. ولكن يكره لكل منهما نظر الفرج من الآخر، ومن نفسه بلا حاجة، وإلى باطنه أشد كراهة، قالت عائشة رضي الله عنها: «ما رأيت منه، ولا رأى مني» أي الفرج (¬2). ب ـ وإذا كانت المرأة ذات مَحْرم كالأخت والخالة (¬3)، جاز عند الحنابلة النظر إلى ما يظهر غالباً كالرقبة والرأس والكفين والقدمين، وليس له النظر إلى ما يستتر غالباً كالصدر والظهر ونحوهما. ¬
ومذهب الحنفية قريب من الحنابلة مع تعديل: فعندهم يجوز النظر إلى الوجه والرأس والصدر والساقين (الساق: من الركبة إلى القدم) والعضدين (أي الساعدين، والساعد: من المرفق إلى الكتف)، ولا ينظر إلى ظهرها وبطنها؛ لأن الله تعالى حرم المرأة إذا شبّهها بظهر الأم، فيحرم النظر إليه، والبطن أولى من الظهر، لأنه أدعى للشهوة. وتشدد المالكية فقالوا: الأصح جواز رؤية وجهها ويديها، دون سائر جسدها. وتوسط الشافعية فحرموا نظر البالغ من محرمه الأنثى ما بين سرة وركبة، وأباحوا بغير شهوة نظر ما عدا ما بين السرة والركبة، فيجوز النظر إلى السرة والركبة، لأنهما ليسا بعورة بالنسبة لنظر المحرَم. جـ ـ وإن كانت المرأة أجنبية: حرم النظر إليها عند الحنفية إلا وجهها وكفَّيها، لقوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} [النور:31/ 24]. قال علي وابن عباس: ما ظهر منها الكحل والخاتم أي موضعهما وهو الوجه والكف، والمراد من الزينة في الآية موضعها، ولأن في إبداء الوجه والكف ضرورة لحاجتها إلى المعاملة مع الرجال أخذاً وعطاء. وإن وقع البصر على محرَّم من غير قصد، وجب أن يصرف عنه، وليس على المرء إثم في المرة الأولى غير المقصودة، فقد روى مسلم عن جرير بن عبد الله البجلي قال: «سألت النبي صلّى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة، فأمرني أن أصرف بصري». وروى أبو داود عن بُريدة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعلي: «يا علي لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليس لك الآخرة». وإن كان لا يأمن الشهوة: لا ينظر إلى وجهها إلا لحاجة ضرورية. وبه يظهر أن حل النظر مقيد بعدم الشهوة، وإلا فحرام. والواجب المنع في زماننا من نظر
الشابة. ويدل لحرمة النظر: حديث صحيح: «العينان تزنيان، وزناهما النظر، واليدان تزنيان، وزناهما البطش» (¬1). وحد الشهوة: تحرك الآلة. ويتفق المالكية مع الحنفية في ذلك، فإنهم أجازوا رؤية الوجه والكفين من العجوز، وحرموا ذلك من الشابة إلا لعذر من شهادة أو معالجة أو خطبة. والخصي في المذهبين في حرمة النظر إلى الأجنبي كالفحل. وكذلك قال الشافعية: يحرم نظر فحل بالغ عاقل مختار، ولو شيخاً كبيراً، وعاجزاً عن الوطء ومخنثاً (وهو المتشبه بالنساء) إلى المرأة الأجنبية، وكذا يحرم نظر وجهها وكفيها سواء عند خوف الفتنة أو عند الأمن من الفتنة فيما يظهر له من نفسه من غير شهوة، على الصحيح؛ لأن النظر مظنة الفتنة، ومحرّك للشهوة، وقد قال تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم} [النور:30/ 24] وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان» (¬2). والمنع من النظر، لا لأن الستر واجب عليهن في ذاته، بل لأن فيه مصلحة عامة. فقد حكى القاضي عياض عن العلماء أنه لا يجب على المرأة ستر وجهها في طريقها، وإنما ذلك سنة، وعلى الرجال غض البصر عنهن للآية. وحرم الحنابلة أيضاً نظر الرجل إلى الأجنبية من غير سبب، وعلى هذا فإن بدن الحرة كله عورة عند الشافعية والحنابلة. وأما عند الحنفية والمالكية فليس الوجه والكفان بعورة. وروي عن أبي حنيفة أن القدمين ليستا من العورة. وأباح بعض الحنابلة النظر إلى الوجه والكفين مع الكراهة، إذا أمن الفتنة ونظر لغير شهوة. ¬
الخطبة
وقالوا: لا بأس بالنظر إلى ما يظهر غالباً من العجوز التي لا يشتهى مثلها أو الشوهاء التي لا تشتهى، لقوله تعالى: {والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحاً} [النور:60/ 24]. وعندهم أن الخصي والمخنث الذي لا شهوة له والشيخ ومن ذهبت شهوته لكبر أو عُنَّة أو مرض لا يرجى برؤه: حكمه حكم ذوي المحارم في النظر لقوله تعالى: {أو التابعين غير أولي الإربة} [النور:31/ 24] أي غير ذوي الحاجة إلى النساء. والأحوال التي يجوز النظر فيها للمرأة لحاجة استثنائية هي عند الفقهاء: الخطبة، والمعالجة، والمعاملة كبيع وشراء، والشهادة أو القضاء، والتعليم، ونحو ذلك والنظر بقدر الحاجة، فلا يجوز أن يجاوز ما يحتاج إليه؛ لأن ما حل لضرورة يقدر بقدرها. ففي أثناء الخطبة يجوز النظر للوجه والكفين فقط دون ما عداهما، وللخاطب تكرير نظره، ولا ينظر غير الوجه والكفين، بلا مس شيء منها، لدلالة الوجه على الجمال، والكفين على خصوبة البدن. وفي المعالجة للطبيب: يجب أن يكون النظر إلى موضع المرض من المرأة للضرورة مع وجود مانع الخلوة كمحرم أو زوج، أو امرأة ثقة، وبشرط عدم وجود امرأة تحسن ذلك؛ لأن نظر الجنس إلى جنسه أخف وأسهل عاقبة، وألا يكون الطبيب غير أمين مع وجود أمين، وألا يكون ذمياً مع وجود مسلم، أو ذمية مع وجود مسلمة. ويعتبر في النظر إلى الوجه والكفين أدنى حاجة، وفيما عداهما: كل ما يبيح
الشهادة
التيمم يبيح النظر، إلا الفرج وقريبه، فيزاد على ذلك وهو أن تشتد الضرورة، حتى لا يعد الكشف عليه هتكاً للمروءة. وفي المعاملة من بيع وشراء يباح النظر للوجه فقط، للمطالبة بالثمن أو تسليم المبيع مثلاً. وفي الشهادة أداء وتحملاً للمرأة أو عليها، ولو كان النظر للفرج للشهادة بالزنا، أو الولادة، أو العَبَالة (كبر الذكر) أو الالتحام أو الإفضاء بين القبل والدبر، فإن تيسر وجود النساء أو المحارم للشهادة بذلك كان هو المتعين. ويجوز للقاضي النظر إلى المرأة إذا أراد أن يحكم عليها، فينظر إلى الوجه، وإن خاف أن يشتهى للحاجة إلى إحياء حقوق الناس بالقضاء. وفي التعليم لما يجب تعلمه وتعليمه كالفاتحة وما يتعين من الصنائع المحتاج إليها، يجوز النظر بشرط فقد وجود أحد من جنس النساء أو محرم صالح، وتعذره من وراء حجاب، ووجود مانع الخلوة من محرم ونحوه. الثاني ـ نظر المرأة للرجل: حكم نظر المرأة للرجل كحكم الأحوال الثلاث المتقدمة في نظر الرجل للمرأة، فإن كان زوجها، جاز أن ترى منه ما يرى منها. وإن كانت ذا ت محرم، جاز أن ترى منه جسده له إلا عورته. وإن كانت أجنبية عنه، جاز لها عند الحنفية إن أمنت الشهوة أن تنظر إلى جميع بدنه إلا ما بين سرته وركبته. وعند المالكية والحنابلة قولان: قول بأن لها النظر إلى ما ليس بعورة (ما بين
الثالث ـ نظر الرجل إلى الرجل
السرة والركبة) أي كما قال الحنفية، كالرجل مع ذوات محارمه، ويظهر أن هذا هو الراجح؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه قال لفاطمة بنت قيس: «اعتدي في بيت ابن أم مكتوم، فإنه رجل أعمى، تضعين ثيابك، فلا يراك» (¬1). وقول آخر، وهو الأصح عند الشافعية: يجوز لها النظر من الرجل، مثل ما ينظر إلىها الرجل؛ لأن الله تعالى أمر النساء بغض أبصارهن، كما أمر الرجال به. وروى أبو داود وغيره أن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر أم سلمة وحفصة بالاحتجاب من ابن أم مكتوم، قائلاً لهما: «أفعمياوان أنتما لا تبصرانه؟». الثالث ـ نظر الرجل إلى الرجل: يباح باتفاق المذاهب نظر الرجل للرجل ولو أمرد إذا أمن الشهوة إلى جميع بدنه إلا العورة: وهي ما بين السرة والركبة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «عورة المؤمن ما بين سرته وركبته» (¬2)، وقوله: «الفخذ عورة» (¬3). وستر العورة واجب حتى على الابن، وفي الحمام وغيرها (¬4). ويحرم نظر أمرد (وهو الشاب الذي لم تنبت لحيته) بشهوة، بالإجماع. كذلك يحرم النظر إلى الملتحي، وإلى النساء المحارم بشهوة. ¬
الرابع ـ نظر المرأة إلى المرأة
الرابع ـ نظر المرأة إلى المرأة: المرأة مع المرأة في النظر كالرجل مع الرجل، لوجود المجانسة وانعدام الشهوة غالباً، وقد تحققت الضرورة إلى الانكشاف فيما بين النساء. فيمنع النظر إلى العورة أى ما بين السرة والركبة، ويجوز ما سواها مع أمن الشهوة، ويحرم مع الشهوة وخوف الفتنة. والأصح عند الجمهور غير الحنابلة تحريم نظر كافرة (ذمية أو غيرها) غير مَحْرم إلى مسلمة، فتحتجب المسلمة عنها وترتدي خمارها أمامها، ما عدا الوجه والكفين، أي أنها كالرجل لقوله تعالى: {أو نسائهن} [النور:31/ 24]، فلو جاز لها النظر لم يبق للتخصيص بالنساء فائدة. وصح عن عمر أنه منع الكتابيات دخول الحمام مع المسلمات، ولأنها ربما تحكي أوصاف المسلمة للكافر. فالمراد بنسائهن: خصوص النساء المسلمات، أي المتفقات في الدين، وعلى هذا فلا يحل للمسلمة أن تبدي شيئاً من زينتها الباطنة للكافرة. والأصح عند الحنابلة: ألا فرق بين المسلمتين، وبين المسلمة والذمية، كما لافرق بين الرجلين المسلمين. وبين المسلم والذمي في النظر؛ لأن النساء الكوافر من اليهوديات وغيرهن، قد كن يدخلن على نساء النبي صلّى الله عليه وسلم، فلم يكنَّ يحتجبن، ولا أمرن بحجاب، ولأن الحجب بين الرجال والنساء لمعنى لا يوجد بين المسلمة والذمية، فوجب ألا يثبت الحجب بينهما، كالمسلم مع الذمي. فأما قوله: {أو نسائهن} [النور:31/ 24] فيحتمل أن يكون المراد جملة أو عموم النساء، ويكون المقصود بالآية عموم النساء: المسلمات أوالكافرات. ويترتب عليه، أنه يجوز للمرأة المسلمة أن تبدي من زينتها للمرأة الكافرة ما يحل لها أن تبديه للمسلمة (¬1). ¬
ثالثا ـ اللمس
وفي هذا الرأي سعة ويسر، يتناسب مع أوضاع العصر الحاضر. ثالثاً ـ اللمس: متى حرم النظر، حرم المس أي مس الشهوة؛ لأنه أبلغ منه في اللذة، وإثارة الشهوة، بدليل أنه لو مس فأنزل أفطر، ولو نظر فأنزل لم يفطر. ومتى جاز النظر، جاز مس الأعضاء، إذا أمن الشهوة على نفسه وعلى المرأة، لأنه عليه الصلاة والسلام كان يقبِّل رأس فاطمة. وإن لم يأمن اللامس ذلك أو شك، لم يحل له المس ولا النظر (¬1). وهذا في غير الأجنبية الشابة، أما الشابة فلا يحل مس وجهها وكفيها، وإن أمن الشهوة، لعدم الضرورة، بخلاف النظر. وتحرم مصافحة المرأة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إني لا أصافح النساء» (¬2). لكن الجمهور غير الشافعية أجازوا مصافحة العجوز التي لا تشتهى، ومس يدها، لانعدام خوف الفتنة، قال الحنابلة: كره أحمد مصافحة النساء، وشدد أيضاً حتى لمحرم، وجوزه لوالد، وأخذ يد عجوز شوهاء. وحرم الشافعية المس والنظر للمرأة مطلقاً، ولو كانت المرأة عجوزاً. وتجوز المصافحة بحائل يمنع المس المباشر. ¬
وصل الشعر
ومتى جاز المس، جاز سفر الرجل مع المرأة، ويخلو بها إذا أمن على نفسه وعليها، فالخلوة بالمحرم مباحة إلا الأخت رضاعاً والصهرة الشابة. ومتى حرم المس حرم السفر والخلوة، فلا يجوز أن يخلو رجل بامرأة ليست زوجته ولا ذات محرم منه، ولا السفر معها، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تسافر المرأة فوق ثلاث، إلا ومعها زوجها، أو ذو رحم محرم منها» (¬1) وقوله: «ألا لا يخلون رجل بامرأة، إلا كان ثالثهما الشيطان، عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد» (¬2). وكل ما حرم نظره متصلاً، حرم نظره منفصلاً، ولو بعد الموت، كشعر عانة (عورة) ولو من رجل، وشعر رأس امرأة، وعظم ذراع حرة ميتة وساقها، وقلامة ظفر رجلها دون يدها عند الحنفية، ولو من يديها عند الشافعية، فيندب مواراة ذلك لئلا ينظر إليه أحد، ويستثنى ما تناثر في الحمامات من امتشاط شعور النساء، وحلق عانات الرجال. ووصل الشعر بشعر الآدمي حرام ـ كما سأبين ـ سواء أكان شعر المرأة أم شعر غيرها، لما فيه من التزوير، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «لعن الله الواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة، والنامصة والمتنمصة» (¬3). ¬
إعفاء اللحية
وحيث منع النظر منعت المجالسة والمواكلة إلا لضرورة (¬1). وأما إعفاء اللحية: فلا شك بأنه سنة مطلوبه لقوله صلّى الله عليه وسلم: «خالفوا المشركين، أحْفُوا الشوارب، وأوفوا اللِّحى»، «جُزُّوا الشوارب وأرْخُوا اللحى، خالفوا المجوس» وروت عائشة: «عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك ... » الحديث، وعن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «أنه أمر بإحفاء الشوارب، وإعفاء اللحية» (¬2). ومعنى إحفاء الشوارب: قص ما طال على الشفتين، حتى يبين بياضهما. ومعنى إعفاء اللحية: توفيرها، خلافاً لما كان من عادة الفرس من قص اللحية، فنهى الشرع عن ذلك. وقد حرم المالكية والحنابلة حلقها، واعتبر الحنفية حلقها مكروهاً تحريمياً، والمسنون في اللحية هو القبضة، وأما الأخذ منها دون ذلك أو أخذها كلها فلا يجوز (¬3). وقال الشافعية بكراهية حلقها، فقد ذكر النووي أن العلماء ذكروا عشر خصال مكروهة في اللحية، بعضها أشد من بعض، منها حلقها إلا إذا نبت للمرأة لحية، فيستحب لها حلقها (¬4). وأما خصال الفطرة العشر (¬5) فهي بمقتضى حديث عائشة السابق: قص ¬
المضاجعة
الشارب وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البَرَاجم (¬1)، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء (الاستنجاء)، والمضمضة، والختان وكونه العاشر أولى، كما في رواية أبي هريرة. وأما المضاجعة: فلا يجوز أن يجتمع رجل وامرأة غير زوجته في مضجع واحد، لا متجردين، ولا غير متجردين، ولا يجوز أن يجتمع رجلان ولا امرأتان في مضجع واحد، وقد نهي عن المكامعة أو المكاعمة ومعناها المضاجعة التي لا ستر بينهما (¬2). وقد حرم الشافعية تلك المضاجعة بين رجلين أو امرأتين عاريين في ثوب واحد. ويجب التفريق بين الصبيان أو البنات في المضاجع بين ابن عشر سنين وإخوته وأخواته لخبر: «مروا أولادكم بالصلاة، وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم بالمضاجع» (¬3). وتسن مصافحة الرجلين والمرأتين لقوله عليه السلام فيما يرويه الطبراني والبيهقي: «إن المؤمن إذا لقي المؤمن، فسلم عليه وأخذ بيده، فصافحه، تناثرت خطاياهما، كما يتناثر ورق الشجر». ولخبر: «ما من مسلمين يلتقيان يتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا» (¬4) والسنة في المصافحة بكلتا يديه. قال النووي في الأذكار: اعلم أن المصافحة مستحبة عند كل لقاء، وأما ما اعتاده الناس من المصافحة بعد صلاة الصبح والعصر، فلا أصل له في الشرع على هذا الوجه، ¬
تقبيل
ولكن لا بأس به، فإن أصل المصافحة سنة، وتقييدها بما بعد الصبح والعصر عادة كانت في زمانه، وإلا فعقب الصلوات كلها كذلك. والراجح عند الحنفية جواز المصافحة مطلقاً ولو بعد الصلوات. وكره بعض الحنفية المصافحة بعد الصلاة. وتكره مصافحة من به عاهة كجذام أو برص (¬1). ويكره تحريماً عند الحنفية تقبيل الرجل فم الرجل، أو يده، أو شيئاً منه. وكذا تقبيل المرأة المرأة عند لقاء أو وداع، إذا كان عن شهوة، أما لو كان على وجه البر، فجائز. وتكره عند الشافعية المعانقة والتقبيل في الرأس، ولو كان أحدهما أو كلاهما صالحاً، للنهي عن ذلك في حديث رواه الترمذي، إلا لقادم من سفر، أو تباعُد لقاء عرفاً، فيكون سنة؛ لحديث رواه الترمذي أيضاً. ويكره حني الظهر مطلقاً لكل أحد من الناس، ويحرم تقبيل الأرض بين يدي العلماء والعظماء. ولا بأس بتقبيل يد العالم والسلطان العادل، وتقبيل رأس العالم أجود. ويسن القيام لأهل الفضل من علم أو صلاح أو شرف، أو نحو ذلك إكراماً، لا رياء وتفخيماً، قال النووي في الروضة: قد ثبت فيه أحاديث صحيحة. ¬
رابعا ـ اللهو
رابعاً ـ اللهو: اللعب: أـ يحرم بالاتفاق كل لعب فيه قمار (¬1): وهو أن يغنم أحدهما، ويغرم الآخر، لأنه من الميسر أي القمار الذي أمر الله باجتنابه في قوله تعالى: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان، فاجتنبوه} [المائدة:90/ 5]. ومن تكرر منه ذلك سقطت عدالته، وردت شهادته. وإن أخرج أحدهما مالاً على أنه إن غلب، أخذ ماله، وإن غلبه صاحبه، أخذ المال، لم يصح العقد؛ لأنه ليس من آلات الحرب، فلا يصح بذل العوض فيه، ولا ترد به الشهادة، لأنه ليس بقمار، كما أبنت معناه. ب ـ وما خلا من القمار، وهو اللعب الذي لا عوض فيه من الجانبين ولا من أحدهما، فمنه ما هو محرم، ومنه ما هو مباح، لكن لا يخلو كل لهو غير نافع من الكراهة؛ لما فيه من تضييع الوقت والانشغال عن ذكر الله وعن الصلاة وعن كل نافع مفيد. النرد: يحرم اللعب بالنرد، وترد به الشهادة. وعبر عنه الحنفية: بالمكروه تحريماً بحسب اصطلاحهم في كون دليل الحكم فيه ظنياً، لما روى أبو موسى الأشعري: «من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله» (¬2) وروى بريدة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من لعب بالنردشير، فكأنما غمس يده في لحم الخنزير ودمه» (¬3). ¬
الشطرنج
فمن تكرر منه اللعب به، لم تقبل شهادته، سواء لعب به قماراً أو غير قمار. وهذا باتفاق المذاهب الأربعة، لأنه إن لم يقامر، فهو عبث ولهو، وقال عليه السلام: «كل شيء ليس من ذكر الله، فهو لهو، ولعب، أو: وهو سهو ولغو، إلا أربعة: ملاعبة الرجل امرأته، وتأدي الرجل فرسه، ومشي الرجل بين الغرضين، وتعلم الرجل السباحة» (¬1) وقال صلّى الله عليه وسلم: «لست من دَد، ولا الدَّد مني» (¬2). ويحرم اللعب بالأربعة عشر؛ لأن المعول فيها على ما يخرجه الكعبان (¬3) فشابه الأزلام والنرد، لكن الحقيقة أن تحريم النرد (أي الطاولة) هو لأنه اللعب الذي كان يدور عليه قمار أهل فارس. الشطرنج: ويحرم عند الجمهور غير الشافعية أيضاً الشطرنج، قال علي رضي الله عنه: الشطرنج من الميسر. ومرّ علي رضي الله عنه بقوم يلعبون الشطرنج، فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ وقال الشافعية: يكره اللعب بالشطرنج، لأنه لعب لا ينتفع به في أمر الدين، ولا حاجة تدعو إليه، فكان تركه أولى. ولا يحرم، لأنه روي اللعب به عن ابن عباس وابن الزبير، وأبي هريرة، وسعيد بن المسيب رضي الله عنهم، إذ لم يرد نص بتحريمه، ولا هو في معنى المنصوص عليه، والأصل في الأشياء الإباحة. وقيل: فيه تشحيذ الخواطر، وتذكية الأفهام. ¬
الغناء وآلاته
وإن كان على عوض من الجانبين أو من جانب واحد يأخذه الغالب من المغلوب، فهو حرام، كما ذكرت في بدء بحث اللهو. الغناء وآلاته: قال بعض الحنفية وبعض الحنابلة: يحرم الغناء وسماعه من غير آلة مطربة، لما روى ابن مسعود أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «الغناء ينبت النفاق في القلب» (¬1). وقال بعض آخر من الحنفية والحنابلة، والمالكية: يباح الغناء المجرد من غير كراهة. ويظهر أن رأي هذا البعض هو الراجح. وقال الشافعية: يكره الغناء وسماعه من غير آلة مطربة، ولا يحرم، لما روي عن عائشة رضي الله عنها، قالت: «كانت عندي جاريتان تغنيان، فدخل أبو بكر، فقال: مزمار الشيطان في بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: دعهما، فإنها أيام عيد» (¬2). وقال عمر: الغناء زاد الراكب. والخلاصة: أن الغزالي في بعض تآليفه نقل الاتفاق على حل مجرد الغناء من غير آلة (¬3). وأما الآلات: فيحرم في المشهور من المذاهب الأربعة (الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة) استعمال الآلات التي تطرب كالعود والطنبور والمعزفة والطبل والمزمار والرباب وغيرها من ضرب الأوتار والنايات والمزامير كلها (¬4). ¬
فمن أدام استماعها، ردت شهادته، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الخمر والخنازير والخز والمعازف» (¬1) وفي لفظ: «ليشربن ناس من أمتي الخمر، يسمونها بغير اسمها، يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات، يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم القردة والخنازير» (¬2). واستدلوا على تحريم المعازف من القرآن بقوله تعالى: {ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله} [لقمان:6/ 31] قال ابن عباس: إنها الملاهي. وبالمعقول: وهو أن هذه الآلات تطرب، وتدعو إلى الصد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة، وإلى إتلاف المال، فحرمت كالخمر. ويكره عند الشافعية والحنابلة القضيب الذي يزيد الغناء طرباً، ولا يطرب إذا انفرد، لأنه تابع للغناء، فكان حكمه حكم الغناء، أي أنه مكروه إذا انضم إليه محرم أو مكروه كالتصفيق والغناء والرقص. وإن خلا عن ذلك لم يكره، لأنه ليس بآلة ولا يطرب، ولا يسمع منفرداً بخلاف الملاهي. وأباح مالك والظاهرية وجماعة من الصوفية السماع ولو مع العود واليراع. وهو رأي جماعة من الصحابة (ابن عمر، وعبد الله بن جعفر، وعبد الله بن الزبير، ومعاوية، وعمرو بن العاص وغيرهم) وجماعة من التابعين كسعيد بن المسيب. وأما الرقص الذي يشتمل على التثني والتكسر والتمايل والخفض والرفع بحركات موزونة فهو حرام ومستحله فاسق. ¬
اللعب المباح
وأما اللعب المباح: فهو ـ كما سأبين في بحث السبق ـ المسابقة المشروعة بالخيل وغيرها من الحيوانات، أو التدرب على السلاح. ويجوز ذلك على عوض من غير المتسابقين، أو من واحد منهما يأخذه السابق. ويجوز الغناء المباح وضرب الدف (¬1) في العرس والختان، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «أعلنوا النكاح، واضربوا عليه بالغربال». (¬2) وتحرم الأغاني المهيجة للشرور المشتملة على وصف الجمال والفجور ومعاقرة الخمور في الزفاف وغيره، ويحرم كل الملاهي المحرمة (¬3). وحكى الرُوياني عن القفال أن مذهب مالك بن أنس إباحة الغناء بالمعازف، وهو مذهب الظاهرية. ولا خلاف بين أهل المدينة في إباحة العود (¬4)، وبه قال بعض الشافعية. ودليلهم على الإباحة: أنه لم تصح عندهم أحاديث المنع. قال الفاكهاني: لم أعلم في كتاب الله، ولا في السنة حديثاً صحيحاً في تحريم الملاهي، وإنما هي ظواهر وعمومات يتأنس بها، لا أدلة قطعية (¬5). وأقول: إن الأغاني الوطنية أو الداعية إلى فضيلة، أو جهاد، لا مانع منها، بشرط عدم الاختلاط، وستر أجزاء المرأة ما عدا الوجه والكفين. وأما الأغاني المحرضة على الرذيلة فلا شك في حرمتها، حتى عند القائلين بإباحة الغناء، وعلى التخصيص منكرات الإذاعة والتلفاز الكثيرة في وقتنا الحاضر. ¬
ولا شك بأن الامتناع عن السماع في الوقت الحاضر أولى؛ لأن في ذلك شبهة؛ والمؤمنون وقافون عند الشبهات كما صرح به الحديث الصحيح، ومن ترك الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ولاسيما إذا كان مشتملاً على ذكر القدود والخدود، والجمال والدلال، والهجر والوصال، ومعاقرة الراح (الخمر)، كما ذكر الشوكاني (¬1). ولا بأس بسماع الموسيقا لعلاج بعض الأمراض النفسانية، أو العصبية. ضابط ما يجوز وما يحرم من اللهو واللعب عند الشافعية: الضابط المميز للهو واللعب عند الشافعية: هو أن كل ما لا يترك أثراً نافعاً فهو مباح، وكل ما يترك أثراً ضاراً فهو حرام. وأساس التفرقة في أنواع اللعب: هو أن ما يقوم على تشغيل الذهن وتحريك الفكر كالشطرنج فهو مكروه، وكل ما يقوم على المصادفة وحجب الفكر والعقل كالنرد فهو حرام. وعلى هذا يكون الاسترسال في مجالس اللهو والمزاح مكروهاً، فإن انضم إليه الكذب أو التهاون في الأخلاق فهو حرام. وتكون مجالس الغناء المقرونة بالآلات الموسيقية حراماً، والشطرنج مكروه لأنه رياضة للذهن، فإن فوت الواجبات الدينية فهو حرام، ولعب الشدَّة أو الورق مكر وه لأنه يلهي عن ذكرالله ويصبح حراماً إن كان على شرط المال. والنرد حرام ولو بغير قمار أو عوض مالي لاعتماده على المصادفة، وذلك يترك أثراً ضاراً في النفس؛ لأنه يجعل العقل يتخيل كون المصادفة مؤثرة في أعمال الحياة. ¬
الحداء والشعر
وتحريش الديكة على بعضها، ودفع المواشي إلى التناطح ومصارعة الثيران والمصارعة الحرة والملاكمة ونحوها حرام، لما تحدثه من أضرار في حياة الإنسان أو الحيوان، فإن لم يكن في الملاكمة أو المصارعة ضرر بأحد الطرفين كانت مباحة، وكذلك تباح إن كان فيها تعويد الإنسان على القوة والقتال والدفاع عن النفس، وقد صارع رسول الله صلّى الله عليه وسلم رُكانة وغلبه (¬1). فإن كان اللهو على مال مشروط من أحد الطرفين أو من الطرفين أو من أجنبي عنهما فهو حرام؛ لأنه من الميسر الذي يحرم تعاطيه. وأما ما رواه أبو داود في مراسيله: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم صارع ركانة إذ كان مشركاً، على شياه» فهذا كان في الجاهلية قبل إسلام ركانة، وقد رد النبي صلّى الله عليه وسلم الشياه الثلاث على ركانة قائلاً له: «ما كنا لنجمع عليك أن نصرعك فنغرمك، خذ غنمك». ويكره اللعب بالحمام عند جماعة من العلماء لأنه من اللهو الذي لم يؤذن فيه، وربما يكون حراماً؛ لما رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة: أن النبي صلّى الله عليه وسلم رأى رجلاً يتبع حمامة، فقال: «شيطان يتبع شيطانة». الحداء والشعر: وأما الحداء وهو الإنشاد الذي تساق به الإبل، فمباح، لا بأس في فعله واستماعه. وقد أقره النبي صلّى الله عليه وسلم، كما أقر نشيد الأعراب. فيجوز سائر أنواع الإنشاد ما لم يخرج إلى حد الغناء، وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلم يسمع إنشاد الشعر، فلا ينكره (¬2). ويجوز قول الشعر، لأنه كان للنبي صلّى الله عليه وسلم شعراء منهم حسان وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة، وقد مدحوه، وأعطى الرسول بردة كانت عليه كعب بن زهير لما أنشده القصيدة اللامية: بانت سعاد. ¬
تلحين القرآن
وحكم الشعر حكم الكلام في حظره وإباحته، وكراهيته واستحبابه ورد الشهادة به، فحسنه كحسنه، وقبيحه كقبيحه، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن من الشعر لحكماً» (¬1) وقال أيضاً: «الشعر بمنزلة الكلام: حسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام» (¬2). تلحين القرآن: لا بأس بقراءة القرآن من غير تلحين. والأفضل تحسين الصوت بالقرآن، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «زينوا القرآن بأصواتكم» أو «زينوا أصواتكم بالقرآن» (¬3). أما القراءة بالتلحين: فإن لم يفرط في التمطيط والمد وإشباع الحركات، فلا بأس به لأن النبي صلّى الله عليه وسلم قد قرأ ورجَّع ورفع صوته. فإن جاوز الحد في التطويل وإدغام بعضه في بعض، كان مكروهاً (¬4). خامساً ـ التصوير: التصوير في أصل اللغة العربية: معناه الإنشاء والترتيب والتمييز، ومنه «المصوِّر» أحد أسماء الله تعالى: وهو الذي صوَّر جميع الموجودات ورتَّبها، فأعطى كلَّ شيء منها صورة خاصة، وهيئة منفردة يتميز بها على اختلافها وكثرتها (¬5). ومنه قوله تعالى: {ثم صوَّرناكم} [الأعراف:7/ 11] {وصوَّركم ¬
الأحاديث الواردة في التصوير
فأحسن صوركم} [التغابن:3/ 64] {في أي صورة ما شاء ركَّبك} [الانفطار:8/ 82] {هو الذي يصوِّركم في الأرحام} [آل عمران:6/ 3]. ومنه قوله صلّى الله عليه وسلم: «خلق الله آدم على صورته، وطوله ستون ذراعاً» (¬1). قال الراغب الأصفهاني في مفردات القرآن: فالصورة: أراد بها ما خُصَّ الإنسان بها من الهيئة المدركة بالبصر والبصيرة، وبها فضَّله على كثير من خلقه (¬2). وكان التصوير الموجود في عهد النبوة الذي اتجه إليه النهي والتحريم هو الذي توافر فيه صفات ثلاث: صورة ماله روح من الإنسان والحيوان، وقصد التعظيم، ومضاهاة أو محاكاة خلق الله تعالى وفعله. والحكمة من التحريم: منع التشبه بعبادة الأوثان والأصنام، ومحاربة الشرك، وتوفير التعظيم لله وحده. وأهم الأحاديث الواردة في التصوير ما يلي: 1ً - حديث امتناع الملائكة من دخول البيت الذي فيه كلب أو تصاوير: أخرج مسلم عن ابن عباس يقول: سمعت أبا طلحة يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة» أي ملائكة الرحمة والتبريك والاستغفار. أما الحفظة فيدخلون في كل بيت، ولا يفارقون بني آدم في كل حال؛ لأنهم مأمورون بإحصاء أعمالهم وكتابتها. قال العلماء: سبب امتناعهم من بيت فيه صورة كونها معصية فاحشة، وفيها مضاهاة لخلق الله تعالى. وأما الكلب فلكثرة أكله النجاسات (¬3). ¬
- حديث القرام
وقال الخطابي: وإنما لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب أو صورة: مما يحرم اقتناؤه من الكلاب والصور، فأما ما ليس بحرام من كلب الصيد والزرع والماشية والصورة التي تمتهن في البساط والوسادة وغيرهما، فلا يمتنع دخول الملائكة بسببه. 2ً - حديث القرام: أخرج مسلم أيضاً عن عائشة قالت: دخل علي رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأنا متسترة بِقرَام (¬1) فيه صورة، فتلوَّن وجهه، ثم تناول الستر فهتكه، ثم قال: «إن من أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يُشَبِّهون بخَلْق الله» (¬2) وهذا الحكم المتعلق بالقرام كان في أول الأمر، ثم رُخِّص فيه بعدئذ، بدليل رواية أخرى كما ذكرها مسلم لخالد الجهني فيها زيادة: «إلا ما كان رقماً في ثوب» وكذلك رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) في حديث أبي طلحة: «إلا رقماً في ثوب». ويؤيد الترخيص المتأخرحديث آخر: هو ما أخرجه مسلم عن عائشة قالت: «كان لنا ستْر فيه تمثال طائر، وكان الداخل إذا دخل استقبله، فقال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم: حوِّلي هذا، فإني كلما دخلت فرأيته، ذكرت الدنيا» قالت: وكانت لنا قطيفة كنا نقول: عَلَمُها حرير، فكنا نَلْبَسُها. قال الطحاوي: إنما نهى الشارع أولاً عن الصور كلها، وإن كانت رقماً؛ لأنهم كانوا حديث عهد بعبادة الصور، فنهى عن ذلك جملة، ثم لما تقرر نهيه عن ذلك، أباح ما كان رقماً في ثوب للضرورة إلى اتخاذ الثياب، وأباح ما يمتهن؛ لأنه يأمن على الجاهل تعظيم ما يمتهن، وبقي النهي فيما لا يمتهن. 3 ً - حديث النُّمرقة (¬3): أخرج مسلم عن عائشة: «أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير، فلما رآها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قام على الباب، فلم يدخل، فعَرَفتُ ـ أو ¬
- تحدي المصورين
فعُرفت ـ في وجهه الكراهية، فقالت: يا رسول الله، أتوب إلى الله وإلى رسوله فماذا أذنبت؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ما بال هذه النمرقة؟ فقالت: اشتريتُها لك تقعُد عليها وتوَسَّدها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إن أصحاب هذه الصور يعذَّبون، ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم». ثم قال: «إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة» (¬1). وهذا واضح الدلالة في أن التحريم منصب على المصورين الذين يصورون صور الأجسام ذات الروح إذا كانت بحالة يضاهى بها خلق الله. 4ً - تحدي المصورين: أخرج مسلم عن أبي زُرعة قال: دخلت مع أبي هريرة في دار مروان، فرأى فيها تصاوير، فقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: قال الله عز وجل: «ومن أظلم ممن ذهب يخلُق خلقاً كخَلْقي، فليخلُقوا ذَرَّة، أو ليخلقوا حبَّة أو ليخلقوا شعيرة» (¬2). 5 ً - أخرج البخاري «أن النبي لمصلّى الله عليه وسلم يكن يترك في بيته شيئاً فيه تصاليب (¬3) إلا نفضه». آراء العلماء في التصوير: قال النووي مبيناً آراء العلماء (¬4): تصوير صورة الحيوان حرام شديد التحريم، وهو من الكبائر؛ لأنه متوعد عليه بهذا الوعيد الشديد المذكور في الأحاديث، وسواء صنعه بما يمتهن أو بغيره، فصنعته حرام بكل حال؛ لأن فيه مضاهاة لخلق الله تعالى، وسواء ما كان في ثوب أو بساط أو درهم أو دينار أو فلس أو إناء أو حائط أو غيرها. ¬
وأما تصوير صورة الشجر ورحال الإبل وغير ذلك مما ليس فيه صورة حيوان، فليس بحرام. هذا حكم التصوير نفسه. وأما اتخاذ المصور فيه صورة حيوان، أي تعليقه ونصبه في المنازل وغيرها، فإن كان معلقاً على حائط أو ثوباً ملبوساً أو عمامة ونحو ذلك مما لا يعد ممتهناً، فهو حرام. وإن كان في بساط يداس ومخدة ووسادة ونحوها مما يمتهن، فليس بحرام، ولافرق في هذا كله بين ما له ظل وما لا ظل له. وهذا رأي الشافعية وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وهو مذهب الثوري ومالك وأبي حنيفة وغيرهم. ووجود الصور يمنع دخول ملائكة الرحمة ذلك البيت إذا كان فيه كلب أو صورة مما يحرم اقتناؤه من الكلب والصور، دون غيره مما ليس بحرام من كلب الصيد والزرع والماشية والصورة التي تمتهن في البساط والوسادة وغيرهما، فلا يمتنع دخول الملائكة بسببه، كما تقدم بيانه. وقال بعض السلف: إنما ينهى عما كان له ظل، ولا بأس بالصورالتي ليس لها ظل، قال النووي: وهذا مذهب باطل، فإن الستر الذي أنكر النبي صلّى الله عليه وسلم الصورة فيه لا يشك أحد أنه مذموم، وليس لصورته ظل، مع باقي الأحاديث المطلقة في كل صورة. وقال الزهري: النهي في الصورة على العموم، وكذلك استعمال ما هي فيه، ودخول البيت الذي هي فيه، سواء كانت رقماً في ثوب أوغير رقم، وسواء كانت في حائط أو ثوب أو بساط ممتهن أو غير ممتهن، عملاً بظاهر الأحاديث، لا سيما حديث النمرقة الذي ذكره مسلم. قال النووي: وهذا مذهب قوي.
خلاصة الرأي في التصوير
وقال آخرون: يجوز منها ما كان رقماً في ثوب، سواء امتهن أم لا، وسواء علق في حائط أم لا، وكرهوا ما كان له ظل، أو كان مصوراً في الحيطان وشبهها، سواء كان رقماً أو غيره. واحتجوا بحديث «إلا ما كان رقماً في ثوب» وهذا مذهب القاسم بن محمد. وأجمعوا على منع ما كان له ظل ووجوب تغييره. قال القاضي عياض: إلا ما ورد في اللعب بالبنات لصغار البنات، والرخصة في ذلك. ونقل ابن حجر في فتح الباري شرح البخاري عن ابن العربي رأيه في اتخاذ الصور قائلاً: حاصل ما في اتخاذ الصور أنها إن كانت ذات أجسام حرم بالإجماع. وإن كانت رقماً فأربعة أقوال: الأول ـ يجوز مطلقاً، عملاً بحديث: «إلا رقماً في ثوب». الثاني ـ المنع مطلقاً. الثالث ـ إن كانت الصورة باقية الهيئة، قائمة الشكل حرم، وإن كانت مقطوعة الرأس أو تفرقت الأجزاء، جاز، قال ابن حجر: وهو الأصح. الرابع ـ إن كانت مما يمتهن جاز، وإلا لم يجز. خلاصة الرأي في التصوير: تحرم الصور ذات الظل وكل الصور المجسَّدة والتماثيل لكل ذي روح من إنسان أو حيوان، لإجماع العلماء على ذلك، ويحرم صنع التماثيل ونصبها في أي مكان، لما أخرجه الشيخان أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه تماثيل»، وتباح صور النباتات والمناظر الطبيعية الكونية من السماء والأرض
والحدائق والجبال والبحار والأنهار، والأشياء الجامدة من طائرات وسيارات وغير ذلك من الكائنات المخلوقة وليست بذات روح؛ لأنها ليست مما تناولها النص النبوي بإشارة «يشبِّهون بخلق الله» وبإشارة «يقال لهم: أحيوا ما خلقتم». أما الصور المجسَّمة على المخاد والوسائد والستائر والبسط والفرش والبطائن فلا مانع منها، لأنها ممتهنة. وتباح عند بعض العلماء اللوحات الزيتية ونقوش الحيطان، والرسوم على الورق، والصور المطبوعة أو المنسوجة في الملابس والستور، والمطرزات والموشّاة والمشغولة بأنواع الخيوط ونحو ذلك مما لا ظل له. وتباح صور لعب الأطفال المختلفة من أنواع الشموع والمعادن كالعرائس ونحوها، ويجوز بيعها، لما أخرجه البخاري وأبو داود عن عائشة قالت: «كنت ألعب بالبنات (¬1)، فربما دخل علي رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعندي الجواري (¬2)، فإذا دخل خرجن، وإذا خرج دخلن» وأخرج أبو داود والنسائي حديثاً آخر مشابهاً لهذا الحديث، أقر فيه الرسول صلّى الله عليه وسلم ما وجده عند عائشة من بنات لُعَب، بعد عودته من غزوة تبوك أو خيبر، قال ابن حزم: وجائز للصبايا خاصة اللعب بالصور ولا يحل لغيرهن، والصور محرمة إلا هذا، وإلا ما كان رقماً في ثوب. وتباح الصور إذا كانت بحالة لا تعيش بها كمقطوعة الرأس أو الصور النصفية، والأولى عدم إقامتها أو نصبها في أي مكان في المنزل وغيره. قال الكاساني من الحنفية (¬3):وتكره (أي كراهة تحريم) التصاوير في البيوت، لما روي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن سيدنا جبريل عليه الصلاة والسلام أنه قال: «لا ¬
تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب أو صورة» ولأن إمساكها تشبّه بعبدة الأوثان إلا إذا كانت على البسط أو الوسائد الصغار التي تلقى على الأرض ليجلس عليها، فلا تكره؛ لأن دوسها بالأرجل إهانة لها، فإمساكها في موضع الإهانة لا يكون تشبهاً بعبدة الأصنام إلا أن يسجد عليها، فيكره لحصول معنى التشبه. ويكره التصوير على الستور وعلى الأزر المضروبة على الحائط وعلى الوسائد الكبار وعلى السقف؛ لما فيه من تعظيمها، فإذا لم يكن لها رأس، فلا بأس؛ لأنها لا تكون صورة، بل نقشاً، فإن قطع الرأس بأن خاط على عنقه خيطاً، فذاك ليس بشيء؛ لأنها لم تخرج عن كونها صورة، بل ازدادت حلية كالطوق لذوات الأطواق من الطيور. ثم المكروه أي تحريماً: صورة ذي الروح، فأما صورة مالا روح له من الأشجار والقناديل ونحوها، فلا بأس به. أما التصوير الشمسي أو الخيالي فهذا جائز، ولا مانع من تعليق الصور الخيالية في المنازل وغيرها، إذا لم تكن داعية للفتنة كصور النساء التي يظهر فيها شيء من جسدها غير الوجه والكفين، كالسواعد والسيقان والشعور، وهذا ينطبق أيضاً على صور التلفاز وما يعرض فيه من رقص وتمثيل وغناء مغنيات، كل ذلك حرام في رأيي. وأما أعمال النحت والرسم للنساء العاريات التي يقوم بها طلاب كليات الفنون الجميلة فهي من أشد المحرمات والكبائر، ولا يصح قياس الرسم على تشريح الجثث في كليات الطب، لأن التشريح ضرورة علمية تحقق فائدة الحفاظ على حياة الإنسان، بعكس الرسم الذي هو مجرد عمل ترفيهي كمالي، كما أن التشريح يحدث بعد الموت، والرسم يتم في حال الحياة. والسبب في إباحة الصور الخيالية: أن تصويرها لا يسمى تصويراً لغة ولا
سادسا ـ وسم الحيوان
شرعاً، لما تقدم من بيان معنى التصوير في عهد النبوة، ولأن هذا التصوير يعد حبساً للظل أو الصورة، مثل الصورة في المرآة والصورة في الماء، كل مافي الأمر أن صورة المرآة أو الماء متحركة غير ثابتة، والصور الخيالية تثبَّت بالأحماض الكيمياوية ونحوها، وهذا لا يسمى تصويراً في الحقيقة، فإن الحمض هو المانع من الانتقال والتحرك (¬1). سادساً ـ وسم الحيوان: الوسم: وضع علامة على الحيوان بالكي أو شق الأذن أو ثقبها بمثقب. قال أهل اللغة: الوسم: أثر كية، يقال: بعير موسوم، وقد وسمه يسمه وسماً وسمة، والمِيسَم: الشيء الذي يوسم به، وجمعه مياسم ومواسم، وأصله كله من السمة: وهي العلامة، ومنه موسم الحج، أي معلم جمع الناس، وفلان موسوم بالخير وعليه سمة الخير، أي علامته، وتوسمت فيه كذا، أي رأيت فيه علامة. وحكم الوسم يتنازعه اتجاهان: قال أبو حنيفة: هو مكروه؛ لأنه تعذيب ومثلة، وقد نهي عن المثلة. وذهب الجمهور: إلى جواز وسم الحيوان غير الآدمي في غير الوجه، وندبه في نَعَم الزكاة والجزية، لأحاديث صحيحة صريحة ذكرها مسلم، وآثار كثيرة عن عمر وغيره من الصحابة رضي الله عنهم، ولأنها ربما شردت فيعرفها واجدها بعلامتها فيردها، والجواب عن النهي عن المثلة والتعذيب أنه عام، وحديث الوسم خاص، فوجب تقديمه. ¬
الأحاديث
وأما الأحاديث: فمنها ما أخرجه مسلم عن هشام بن زيد قال: «سمعت أنساً يحدِّث أن أمّه حين ولدت انطلقوا بالصبي إلى النبي صلّى الله عليه وسلم يُحنّكه، قال: فإذا النبي صلّى الله عليه وسلم في مِرْبَد (¬1) يَسِمُ غنماً، قال شعبة: وأكثر علمي أنه قال: في آذانها». وفي رواية أخرى: أن هشام بن زيد قال: سمعت أنساً يقول: «دخلنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم مِرْبَداً، وهو يَسِمُ غنماً، قال: أحسِبُه قال: في آذانها (¬2)». سابعاً ـ أحكام الشَّعر: تجوز إطالة شعر الرأس وحلقه جميعه، لما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي بإسناد صحيح عن ابن عمر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم رأى صبياً قد حلق بعض رأسه، وترك بعضه، فنهاهم عن ذلك، وقال: احلقوا كله، أو ذروا كله» وفيه دليل على جواز حلق الرأس جميعه، قال الغزالي: لا بأس به لمن أراد التنظيف. ويكره القَزَع: وهو حلق رأس الصبي وترك مواضع منه متفرقة غير محلوقة تشبيهاً بقزع السحاب، قال النووي: والقزع حلق بعض الرأس مطلقاً، وهو الأصح. ويجوز اتخاذ الشعر، لما روى الخمسة إلا النسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان شعر رسول الله صلّى الله عليه وسلم فوق الوَفرة ودون الجُمَّة» (¬3). ومن اتخذ شعراً يندب له ترجيله (تمشيطه) وإكرامه، روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من كان له شعر فليكرمه» وفيه دلالة على ¬
نتف الشيب
استحباب إكرام الشعر بالدهن والتسريح وإعفائه عن الحلق؛ لأنه يخالف الإكرام إلا أن يطول، أخرج مالك عن عطاء بن يسار قال: «أتى رجل النبي ثائر الرأس واللحية، فأشار إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم كأنه يأمره بإصلاح شعره ولحيته، ففعل، ثم رجع، فقال صلّى الله عليه وسلم: أليس هذا خيراً من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس (¬1) كأنه شيطان». ويكره نتف الشيب، لما رواه أحمد وأبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا تنتفوا الشيب، فإنه نور المسلم، ما من مسلم يشيب شيبة في الإسلام إلا كتب الله له بها حسنة، ورفعه بها درجة، وحط عنه بها خطيئة» قال النووي: لو قيل: يحرم النتف للنهي الصريح لم يبعد، وقال: ولا فرق بين نتفه من اللحية والرأس والشارب والحاجب والعذار من الرجل والمرأة. وأما خضاب الشعر بالأحمر والأصفر والأسود وغير ذلك من الألوان فهو جائز، إلا عند الشافعية، فإنه يحرم الخضاب بالسواد وقال غيرهم بالكراهة فقط، لما رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي عن جابر بن عبد الله قال: جيء بأبي قحافة (¬2) يوم الفتح إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكأن رأسه ثُغَامة (¬3)، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اذهبوا به إلى بعض نسائه، فلتغيره بشيء، وجنِّبوه السواد». وفي الحديث المتفق عليه بين أحمد والشيخين عن محمد بن سيرين قال: سئل أنس بن مالك عن خضاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يكن شاب إلا يسيراً، ولكن أبا بكر وعمر بعده خضّبا بالحِنَّاء والكَتَم» (¬4). ¬
وصل الشعر
واختلف السلف من الصحابة والتابعين في الخضاب وجنسه، فقال بعضهم: ترك الخضاب أفضل، لحديث في النهي عن تغيير الشيب، ولأنه صلّى الله عليه وسلم لم يغير شيبه (¬1). وقال آخرون: الخضاب أفضل، فقد خضب جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم للأحاديث الواردة في ذلك. ثم اختلف هؤلاء، فكان أكثرهم يخضب بالصفرة، أي الشقرة، منهم ابن عمرو وأبو هريرة وآخرون، وروي ذلك عن علي. وخضب جماعة منهم بالحناء والكتم، وبعضهم بالزعفران. وخضب جماعة بالسواد، روي ذلك عن عثمان والحسن والحسين ابني علي، وعقبة بن عامر وابن سيرين وأبي بردة وآخرين (¬2). والصواب جواز تغيير الشيب وجواز تركه، وجواز الخضاب بأي لون كان، مع كراهة الخضاب بالسواد. ويحرم كما تقدم وصل الشعر بشعر آدمي آخر على الرجال والنساء الأيامى والمتزوجين، للتجمل وغيره، بلا خلاف، سواء كان شعر رجل أو امرأة، وسواء شعر المَحْرم والزوج وغيرهما بلا خلاف، لعموم الأدلة، ولأنه يحرم الانتفاع بشعر الآدمي وسائر أجزائه لكرامته، بل يدفن شعره وظفره وسائر أجزائه. فإن وصلته بشعر غير آدمي: فإن كان شعراً نجساً، وهو شعر الميتة وشعر ما لا يؤكل لحمه إذا انفصل في حياته، فهو حرام أيضاً للحديث الآتي بلعن الواصلة والمستوصلة، ولأنه حمل نجاسة في صلاتها وغيرها عمداً. ¬
قص المرأة شعرها
وأما الشعر الطاهر من غير الآدمي، والشعر الصناعي: فإن لم يكن لها زوج ولا سيد، فهو حرام أيضاً، وإن كان لها زوج فإن فعلته بإذنه جاز، وإن فعلته بغير إذنه، لم يجز، وعلى هذا يكون ارتداء «الباروكة» جائزاً للرجل، وللمرأة بإذن زوجها. ويجوز عند الشافعية والليث والقاضي عياض وصل الشعر بخيوط من الحرير الملونة؛ لأنه لا يأخذ حكم الوصل، إنما هو لمجرد الزينة أو التجمل والتحسين، وقال مالك والطبري وكثيرون: الوصل ممنوع بكل شيء، سواء وصلته بشعر أو صوف أو خرق، لحديث جابرعند مسلم: «أن النبي زجر أن تصل المرأة برأسها شيئاً (¬1)». قال الكاساني من الحنفية: ويكره أي كراهة تحريم للمرأة أن تصل شعر غيرها من بني آدم بشعرها، لقوله عليه الصلاة والسلام: «لعن الله الواصلة والمستوصلة» ولأن الآدمي بجميع أجزائه مكرم، والانتفاع بالجزء المنفصل منه إهانة له، ولهذا كره بيعه. ولا بأس بذلك من شعر البهيمة وصوفها؛ لأنه انتفاع بطريق التزين بما يحتمل ذلك، ولهذا احتمل الاستعمال في سائر وجوه الانتفاع، فكذا في التزين (¬2). وأما قص المرأة شعرها فيجوز مادون الأذن، كيلا تتشبه بالرجال، كما تقدم. ولها تسريح شعرها بمختلف التسريحات في المنزل، وستره خارج المنزل. ¬
ثامنا ـ الوشم
ثامناً ـ الوشم والنمص والتفليج: الوشم حرام أيضاً: وهو أن تغرز إبرة أو نحوها في الجلد على ظهر الكف والمعصم أو الوجه أو الشفة وغير ذلك، حتى يسيل الدم، ثم يحشى محل الغرز بكحل ونحوه، فيخضر. والنمص: وهو نتف الشعر من الوجه حرام أيضاً إلا إذا نبت في وجه المرأة شعر كثير كلحية وشارب، فيندب إزالتهما. وتفليج الأسنان حرام أيضاً: وهو تفريق ما بين مقدمة الأسنان من الثنايا والرباعيات بالمبرد ونحوه، وتحرم أيضاً عمليات التجميل النسائية التي يراد بها تصغير المرأة الكبيرة (عمليات الشد) روى أحمد عن عائشة قالت: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يلعن القاشرة والمقشورة، والواشمة والموشومة، والواصلة والموصولة» وروى أحمد أيضاً عن ابن مسعود قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم ينهى عن النامصة والواشرة والواصلة والواشمة إلا من داء». والواشرة: التي تَشِر الأسنان حتى تكون لها أشْر، أي تحديد ورقّة، تفعله المرأة الكبير، تتشبه بالحديثة السن. والقاشرة: التي تعالج وجهها أو وجه غيرها بالغُمرة (طلاء يتخذ من الوَرْس) ليصفو لونها، والمقشورة: التي يفعل بها ذلك، كأنها تَقْشِر أعلى الجلد، ويبدو ما تحته من البشرة، وهو شبيه بفعل النامصة. والوشم والنمص والتفليج حرام على الرجال والنساء، الفاعل والمفعول به، لورود اللعن عليه، مما يدل على تحريمه.
تاسعا ـ الترجل والتخنث
ويصبح موضع الوشم متنجساً لانحباس الدم فيه، فإن أمكن إزالته بالعلاج وجب، وإن لم يمكن إلا بالجرح، فإن خيف منه الضرر أو العيب الفاحش في عضو ظاهر كالوجه والكفين، لم تجب إزالته، وتجب التوبة منه، وإن لم يكن ضرر، لزم إزالته. ودليل تحريم هذه الثلاثة (الوشم والنمص والتفليج): الحديث المتفق عليه بين أحمد والشيخين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «لعن الله الواشمات والمستوشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، المغيِّرات خلق الله تعالى» وقال: «ما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم». وهناك أحاديث أخرى عن ابن عمر وغيره في الموضوع (¬1) .. تاسعاً ـ الترجل والتخنث: يحرم أيضاً تشبه الرجال بالنساء في اللباس والزينة، كالأساور والعقود (الأطواق) والأقراط، وتشبه النساء بالرجال في الكلام، والمشي، وحلق الشعر وتكلف الخشونة والرجولة، وهن المترجلات: المتشبهات من النساء بالرجال. ويحرم التخنث أيضاً: وهو تشبه الرجال بالنساء في المشي والتكسر ولين الكلام ورقة الصوت والتزين بالحناء ونحو ذلك من أنواع «المكياج» والتحمير والتبييض وتطريف الأصابع، لكن يستحب الخضاب للنساء بالحناء ونحوه، وأما التحمير ونحوه فيجوز بإذن الزوج وفي داخل البيت، ويحرم بغير إذن الزوج وخارج المنزل. والدليل ما أخرجه أحمد والبخاري عن أنس قال: «لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال» وفي رواية: «لعن ¬
عاشرا ـ السلام
رسول الله صلّى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال، والمترجِّلات من النساء، وقال: أخرجوهم من بيوتكم، فأخرج النبي صلّى الله عليه وسلم فلانة، وأخرج عمر فلاناً». وأخرج أبو داود من حديث أبي هريرة قال: «أتي رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمخنث قد خضب يديه ورجليه بالحناء، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ما بال هذا؟ قالوا: يتشبه بالنساء، فأمر به فنفي إلى النقيع، فقيل: يا رسول الله، ألا تقتله؟ فقال: إني نهيت أن أقتل المصلين» (¬1). عاشراً ـ السلام: السلام: هو اسم من أسماء الله تعالى، ومعناه: اسم الله عليك أنت في حفظه، كما يقال: الله يصحبك، الله معك. وللسلام أحكام هي ما يأتي (¬2): ابتداء السلام سنة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «أفشوا السلام بينكم» (¬3) ورده من الفرد فرض عين ومن الجماعة فرض كفاية، لقوله تعالى: {وإذا حيِّيتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها} [النساء:86/ 4] وابتداء السلام من جماعة سنة كفاية، والأفضل السلام من جميعهم، ولو سلم جماعة على شخص، وقصد الرد عليهم جميعاً، جاز ذلك، وسقط الفرض في حق الجميع. ويجزئ «السلام عليكم» وفي الرد «وعليكم السلام» ويجب زيادة الواو في رد السلام. وقال جماعة: لا تجب وإنما تندب، وأكمله «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته» وفي الرد: «وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته» ولكل فقرة من هذه التحية عشر حسنات. ويكره تغيير صيغة السلام المشروعة هكذا، بمثل قول بعضهم: «سلام من الله .. » إلخ فذلك بدعة منكرة. ¬
ورفع الصوت بابتداء السلام سنة، ليسمعه المسلَّم عليه سماعاً محققاً، للحديث السابق: «أفشوا السلام بينكم» وإن كان هناك أيقاظ ونيام، خفض صوته، بحيث يسمع الأيقاظ، ولا يوقظ النيام، جمعاً بين الفرضين. ولو سلم على إنسان، ثم لقيه على قرب، سن أن يسلم عليه ثانياً وثالثاً وأكثر من ذلك، لعموم حديث «أفشوا السلام». ويسن أن يبدأ بالسلام قبل كل كلام، للخبر السابق. ولا يترك السلام إذا كان يغلب على ظنه أن المسلَّم عليه لا يرد السلام، لعموم «أفشوا السلام» ولا بأس بالسلام على الصبيان تأديباً لهم، ولا يجب الرد عليهم، فإن سلم الصبي على البالغ وجب عليه الرد. ورفع الصوت برد السلام واجب قدر الإبلاغ أو الإسماع أي للمسلِّم. ويكره الانحناء في السلام، ويكره أن يسلم على امرأة أجنبية (غير زوجة له ولا محرم) إلا أن تكون عجوزاً أي غير حسناء، أو ألا تشتهى لأمن الفتنة. ويكره السلام في الحمام، وعلى من يأكل أو يقاتل لاشتغاله، وعلى تال للقرآن وعلى ذاكر الله تعالى، وعلى ملبّ ومحدِّث (أي يحدث بحديث النبي صلّى الله عليه وسلم)، وخطيب وواعظ، وعلى من يستمع للمذكورين من التالي ومن بعده، وعلى مكرر فقه ومدرس في أي عمل كان، وعلى من يبحثون في العلم، وعلى من يؤذِّن أو يقيم (¬1)، وعلى من هو على حاجته، ويكره أيضاً رده منه، وعلى من يتمتع بأهله، أو مشتغل بالقضاء ونحوهم. ¬
المبحث الخامس ـ مسائل في البيع والتعامل
ومن سلم في حالة لا يستحب فيها السلام مما سبق، لم يستحق جواباً لسلامه. ويكره أن يخص بعض طائفة لقيهم أو دخل عليهم بالسلام، وأن يقول: سلام الله عليكم، لمخالفته الصيغة الواردة، وأن يقول: عليك سلام الله؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم كرهه. والهجر المنهي عنه (وهو هجر المسلم أخاه فوق ثلاثة أيام) يزول بالسلام؛ لأنه سبب التحابب، فيقطع الهجر، وروي مرفوعاً: «السلام يقطع الهجران». ويسن السلام عند الانصراف عن القوم، وإذا دخل على أهله، فإن دخل بيتاً خالياً، أو مسجداً خالياً، قال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، للخبر في كل ذلك. وإذا دخل بيته، قدم رجله اليمنى، وليقل: «اللهم إني أسألك خير المولج وخير المخرج، باسم الله ولجنا، وباسم الله خرجنا، وعلى الله ربنا توكلنا» ثم يسلّم على أهله، لخبر أبي مالك الأشعري مرفوعاً، رواه أبو داود. المبحث الخامس ـ مسائل في البيع والتعامل: أورد الحنفية فروعاً فقهية في المعاملات مشتملة على شبهة أو مانع شرعي أو معصية، يحسن ذكرها باختصار: أولاً ـ بيع السماد الطبيعي: لا بأس ببيع روث البهائم لتسميد الأرض بها، واستكثار الريع بها، فينتفع بها، وإن كان البيع في الأصل مكروهاً؛ لأن الروث نجس، ويكره بيع العَذِرة
ثانيا ـ استيفاء دين المسلم من ثمن خمر الذمي
(رجيع الآدمي) والصحيح عند الحنفية: هو جواز بيع المتنجس كالزيت الذي خالطته النجاسة (¬1). ثانياً ـ استيفاء دين المسلم من ثمن خمر الذمي: يجوز أخذ المسلم دينه على كافر، من ثمن خمر، أو خنزير، لصحة بيعهما من الكافر لغيره؛ لأنهما مال متقوم في حقه، بخلاف الدين على مسلم، لا يصح أخذه من ثمن خمر أو خنزير، لعدم صحة البيع، لكن أجاز أبو حنيفة خلافاً لصاحبيه أن يوكل المسلم ذمياً في بيع الخمر. وكذلك لا يجوز استيفاء الدين من كسب حرام كالمرابي والمرتشي والغصب والسارق والمغنية. ولا يحل للورثة أيضاً أخذ الميراث من كسب حرام، وعليهم رد ما أخذوه على أربابه إن عرفوهم، وإلا تصدقوا به؛ لأن سبيل الكسب الخبيث التصدق به إذا تعذر الرد على صاحبه (¬2). ثالثاً ـ بيع العنب للخمار: يجوز بيع العنب ممن يعلم أنه يتخذه خمراً؛ لأن المعصية لا تقوم بعين الموجود حالة البيع، وإنما تتحقق بعد تغييره. كذلك أجازوا بيع السلاح من أهل الفتنة، لأن المعصية تتحقق باستعماله، لا بحالته القائمة (¬3)، وهو رأي الشافعي أيضاً. لكن يكره هذا البيع، لأنه تسبب إلى ¬
رابعا ـ الإجارة للكنيسة أو حمل خمر الذمي
المعصية. بخلاف بيع العصير لمن يتخذه خمراً، لأن المعصية لا تقام بعينه، بل بعد تغييره. رابعاً ـ الإجارة للكنيسة أو حمل خمر الذمي: يجوز للشخص عند أبي حنيفة (¬1) أن يؤجر نفسه أو سيارته أو دابته بأجر لتعمير كنيسة، أو لحمل خمر ذمي، لا لعصرها؛ لأنه لا معصية في الفعل عينه، لأن عقد الإجارة على الحمل ليس بمعصية ولا سبب لها، وإنما تحصل المعصية باختيار الشارب، وقد يكون حملها للإراقة أو التخليل. أما عصرها بقصد الخمرية كمعاصر الخمور في بلادنا أو في أمريكا مثلاً من مسلم فيحرم؛ لأن المعصية في الفعل عينه. وأجاز أبو حنيفة أيضاً إجارة بيت لاتخاذه كنيسة أو لبيع الخمر فيه في بلاد غالب أهلها أهل الذمة؛ لأن الإجارة تقع على منفعة البيت، ولهذا تجب الأجرة بمجرد التسليم، ولا معصية فيه، وإنما المعصية بفعل المستأجر، وهو مختار فيه. ولا تجوز تلك الإجارة في بلاد غالب أهلها الإسلام؛ لأن أهل الذمة لايمكَّنون من اتخاذ الكنائس وإظهار بيع الخمور ونحو ذلك في الأصح. وقال الصاحبان والأئمة الثلاثة: لا ينبغي كل تلك الإجارات، وهي مكروهة؛ لأنها إعانة على المعصية، ولأنه عليه الصلاة والسلام لعن في الخمر عشرة، وعد منها «حاملها» (¬2). واعتبر أبو حنيفة الحديث محمولاً على الحمل المقرون بقصد المعصية. وعلى ¬
خامسا ـ بيع بناء بيوت مكة وأرضها، وإجارتها
كل حال فرأي أبي حنيفة قياس. ورأي الصاحبين استحسان. وهو المعول عليه في كثير من الفتاوى. خامساً ـ بيع بناء بيوت مكة وأرضها، وإجارتها: يجوز عند الحنفية والشافعية بلا كراهة بيع بناء بيوت مكة وأرضها؛ لأن البناء مملوك لبانيه، والأرض مملوكة لأهلها، لظهور آثار الملك فيها، وهو الاختصاص بها شرعاً. ويكره عند الحنفية إجارة بيوت مكة في أيام الموسم، في الحج، ويرخص لهم الإجارة في غير الموسم، لقوله تعالى: {سواء العاكف فيه والباد} [الحج:25/ 22] وهكذا كان عمر بن الخطاب ينادي أيام الموسم ويقول: يا أهل مكة، لا تتخذوا لبيوتكم أبواباً، لينزل البادي حيث شاء، ثم يتلو الآية (¬1). سادساً ـ دخول الكافر المساجد: أجاز أبو حنيفة (¬2) للكافر دخول المساجد كلها، حتى المسجد الحرام من غير إذن، ولو لغير حاجة. ومعنى آية {فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة:28/ 9] عنده: ألا يحجوا، ولا يعتمروا عراة بعد حج عامهم هذا، عام تسع من الهجرة، حين أمر الصديق، ونادى علي بهذه السورة، وقال: «ألا لا يحج بعد عامنا هذا مشرك، ولا يطوف عريان» (¬3). وقد دخل أبو سفيان مسجد المدينة لتجديد عقد صلح الحديبية، بعدما نقضته قريش، وكذلك دخل إليه وفد ثقيف، وربط ثمامة بن اثال في المسجد النبوي حينما أسر. ¬
سابعا ـ الاحتكار
وأجاز المالكية (¬1) لغير المسلم دخول الحرم المكي، دون البيت الحرام، بإذن أو أمان. ولا يجوز عندهم مطلقاً دخول الكافر مسجداً، ولا يمكَّن من دخوله، إلا لعذر، كالدخول للتقاضي أمام الحاكم المسلم، قياساً على منعه من دخول المسجد الحرام؛ لأن العلة وهي النجاسة موجودة في كل مشرك، والحرمة موجودة في كل مسجد. وقال الشافعية والحنابلة (¬2): يمنع غير المسلم، ولو لمصلحة من دخول حرم مكة، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس، فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة:28/ 9] وقد ورد في الأثر: «الحرم كله مسجد» (¬3). ويجوز عندهم للكافر لحاجة دخول المساجد الأخرى غير المسجد الحرام، بإذن المسلمين؛ لأن نص الآية في المسجد الحرام، والأصل في الأشياء الإباحة، ولم يرد في الشرع ما يخالف هذا الأصل، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم قدم عليه وفد أهل الطائف، فأنزلهم في المسجد قبل إسلامهم. وقال سعيد بن المسيب: قد كان أبو سفيان يدخل مسجد المدينة، وهو على شركه. وقدم عمير بن وهب، فدخل المسجد، والنبي صلّى الله عليه وسلم فيه ليفتك به، فرزقه الله الإسلام. سابعاً ـ الاحتكار: معناه: الاحتكار: هو الادخار للبيع، وطلب الربح بتقلّب الأسواق، أما الادخار للقوت فليس من الاحتكار. هذا تعريف المالكية (¬4). ¬
وعرفه الحنفية (¬1) بقولهم: الاحتكار لغة مصدر حكر أي حبس فهو احتباس الشيء انتظاراً لغلائه، والمراد به شرعاً: حبس الأقوات متربصاً للغلاء. أو هو اشتراء طعام ونحوه، وحبسه إلى الغلاء أربعين يوماً، لقوله عليه الصلاة والسلام: «من احتكر طعاماً أربعين ليلة، فقد برئ من الله، وبرئ الله منه، وأيُّما أهل عَرْصة ـ بقعة ـ بات فيهم امرؤ جائع، فقد برئت منهم ذمة الله» (¬2). وعرفه الشافعية (¬3) بأنه: إمساك ما اشتراه وقت الغلاء ليبيعه بأكثر مما اشتراه عند اشتداد الحاجة. بخلاف إمساك ما اشتراه وقت الرخص، لا يحرم مطلقاً، ولاإمساك غلة ضيعته، ولا ما اشتراه في وقت الغلاء لنفسه وعياله، أو ليبيعه بمثل ما اشتراه. وفي كراهة إمساك ما فضل عن كفايته وكفالة عياله سنة وجهان: أوجههما ـ عدم الكراهة، لكن الأولى بيعه. وقال الحنابلة (¬4): الاحتكار المحرم ما اجتمع فيه ثلاثة شروط: 1ً - أن يكون بطريق الشراء، لا الجلب، فلو جلب شيئان، أو أدخل من غلته شيئاً، فادخره، لم يكن محتكراً، لقوله عليه الصلاة والسلام: «الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون» (¬5). ¬
متى يتحقق الاحتكار وما نوع المحتكر؟
2ً - أن يكون المشترى قوتاً أي من الحبوب المقتاتة ونحوها؛ لأنه مما تعم الحاجة إليه. أما الإدام والحلواء والعسل والزيت وأعلاف البهائم، فليس فيها احتكار محرم. 3ً - أن يُضيَّق على الناس بشرائه بأمرين: أحدهما ـ بأن يكون في بلد يضيق بأهله الاحتكار، كالحرمين والثغور، أما البلاد الواسعة الكثيرة المرافق والجلب كبغداد ودمشق ومصر، فلا يحرم فيها الاحتكار؛ لأن ذلك لا يؤثر فيها غالباً. والثاني ـ أن يكون في حال الضيق: بأن يدخل البلد قافلة فيبادر ذوو الأموال لشرائها، ويضيقون على الناس، وفي هذا لا فرق بين البلد الصغير والكبير. أما الشراء في حال الاتساع والرخص على وجه لا يضيق على أحد، فليس بمحرم. متى يتحقق الاحتكار وما نوع المحتكَر؟ يظهر من تعاريف الفقهاء للاحتكار: أنهم اتفقوا على أن الاحتكار يكون في حال الضيق والضرورة لا في وقت السعة، وفي البلد الصغير عادة، ومن طريق الشراء والامتناع عن البيع مما يضر بالناس؛ لأن في الحبس ضرراً بالمسلمين. ولا يكون محتكراً بحبس غلة أرضه بلا خلاف لأنه خالص حقه، ولا ما جلبه من بلد آخر؛ لأن حق الناس بالموجود في البلد، والمختار عند الحنفية قول محمد وهو إن كان يجلب منه عادة كره تحريماً حبسه؛ لأن حق الناس تعلق به. واتفق الفقهاء أيضاً على أن الاحتكار حرام في كل وقت في الأقوات أو طعام الإنسان، مثل الحنطة والشعير والذرة والأرز، والتين والعنب والتمر والزبيب واللوز ونحوها مما يقوم به البدن، لا العسل والسمن، واللحم والفاكهة. وكذلك يحرم الاحتكار عند الحنفية والشافعية والحنابلة في طعام البهائم كتبن وفصفصة وهي الرطبة من علف الدواب.
المدة
ويحرم الاحتكار أيضاً عند المالكية وأبي يوسف في غير الطعام في وقت الضرورة، لا في وقت السعة، فلا يجوز عندهم الاحتكار في الطعام وغيره، من الكتان والقطن وجميع ما يحتاج إليه الإنسان، أو كل ما أضر بالناس حبسه، قوتاً كان أو لا ولو ثياباً أو دراهم. وقال السبكي من الشافعية: إذا كان الاحتكار في وقت قحط، كان في ادخار العسل والسمن والشيرج وأمثالها إضرار، فينبغي أن يقضى بتحريمه، وإذا لم يكن إضرار فلا يخلو احتكار الأقوات من كراهة (¬1). ويخرج الطعام من بلد إلى غيره إذا أضر بأهل البلد. والخلاصة: إن الجمهور خصوا الاحتكار بالقوتين (قوت الناس وقوت البهائم) نظراً للحكمة المناسبة للتحريم وهي دفع الضرر عن الناس، والأغلب في ذلك إنما يكون في القوتين، ومنعه المالكية مطلقاً. المدة: إذا قصرت مدة الاحتباس لا تكون احتكاراً لعدم الضرر، وإذا طالت تكون احتكاراً لتحقق الضرر. وقيل: يقدر طول المدة بأربعين ليلة للحديث السابق: «من احتكرطعاماً أربعين ليلة، فقد برئ من الله، وبرئ الله منه». وقيل: بالشهر؛ لأن ما دونه قليل عاجل، والشهر وما فوقه كثير عاجل. وقيل: المدة للمعاقبة في الدنيا، وأما الإثم فيحل وإن قلت المدة. حكم الاحتكار: للاحتكار أحكام أهمها ما يأتي: 1ً - الاحتكار ممنوع: وعبر أغلب الحنفية عن المنع بكراهته التحريمية، فقالوا: يكره الاحتكار في أقوات الآدميين، والبهائم، إذا كان ذلك في بلد يضر ¬
الاحتكار بأهله، كما يكره تلقي الركبان، أو الجلب، لنهي النبي صلّى الله عليه وسلم عن تلقي البيوع (¬1). فأما إذا كان لا يضر، فلا بأس به (¬2). وعبر الكاساني في البدائع عن منع الاحتكار بالحرمة (¬3)، وهو متفق عليه مع تعبير الأئمة الآخرين: الاحتكار حرام. وأدلة التحريم أحاديث كثيرة، منها ما ذكر سابقاً في البحث، ومنها قوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يحتكر إلا خاطئ» «من احتكر حُكرة يريد أن يغلي بها على المسلمين فهو خاطئ» «من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغليه عليهم، كان حقاً على الله أن يقعده بُعْظم من النار ـ مكان عظيم من النار ـ يوم القيامة» «من احتكر على المسلمين طعامهم، ضربه الله بالجذام والإفلاس» (¬4). 2ً - بيع المال المحتكر: قال الحنفية (¬5): يؤمر المحتكر من القاضي ببيع ما فضل عن قوته وقوت أهله، فإن لم يفعل وأصر على الاحتكار، ورفع أمره إلى الحاكم مرة أخرى، وهو مصر عليه، وعظه الحاكم وهدده. فإن لم يفعل ورفع إليه أمره للمرة الثالثة، حبسه وعزره، زجراً له عن سوء صنعه، ويجبره القاضي على البيع، ويبيعه القاضي عليه جبراً عنه إذا امتنع عن بيع طعامه بالاتفاق بين الحنفية على الصحيح، ويكون البيع بسعر المثل. ¬
ثامنا ـ التسعير
وكذلك قال المالكية (¬1): يباع الشيء المحتكر للمحتاج إليه بمثل ما اشتراه به، لا يزاد عنه شيء. وإن لم يعلم ثمنه، فبسعره يوم احتكاره. وأضاف الحنفية (¬2): لو خاف الحاكم على أهل بلد الهلاك، أخذ الطعام من المحتكرين، ووزعه عليهم، حتى إذا صاروا في سعة، ردوا مثله، وذلك للضرورة، ومن اضطر إلى مال غيره، وخاف الهلاك، تناوله بلا رضاه، ويضمن قيمته؛ لأن الاضطرار لا يبطل حق الغير، كما أبنت. ثامناً ـ التسعير: المبدأ الاقتصادي في الإسلام هو الحرية الاقتصادية التي يراعي فيها المسلم حدود النظام الإسلامي، ومن أهمها العدالة والقناعة والتزام قواعد الربح الطيب الحلال بأن كان في حدود الثلث، لقوله عليه الصلاة والسلام: «دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض» (¬3). وبناء عليه: الأصل عدم التسعير، ولا يسعر حاكم على الناس، وهذا متفق عليه بين الفقهاء. والتزم الشافعية والحنابلة (¬4) هذا الأصل، فقال الحنابلة: ليس للإمام أن يسعر على الناس، بل يبيع الناس أموالهم على ما يختارون. وقال الشافعية: يحرم التسعير، ولو في وقت الغلاء، بأن يأمر الوالي السوقة ألا يبيعوا أمتعتهم إلا بكذا، ¬
للتضييق على الناس في أموالهم، وذلك لا يختص بالأطعمة. ولو سعَّر الإمام، عُزِّر مخالفه، بأن باع بأزيد مما سعر، لما فيه من مجاهرة الإمام بالمخالفة، وصح البيع، إذ لم يعهد الحجر على الشخص في ملكه أن يبيع بثمن معين. وأجاز ابن الرفعة الشافعي وغيره التسعير في وقت الغلاء. واستدل ما نعو التسعير بحديث أنس قال: «غلا السعر على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله، لو سعرت، فقال: إن الله هو القابض الباسط الرازق المسعر، وإني لأرجو أن ألقى الله عز وجل، ولا يطلبني أحد بمَظْلَمة، ظلمتها إياه في دم، ولا مال» (¬1) فالنبي لم يسعر، ولو جاز، لأجابهم إليه، وعلل بكونه مظلمة، والظلم حرام، ولأنه ماله، فلم يجز منعه من بيعه بما تراضى عليه المتبايعان، كما اتفق الجماعة عليه، ولأن في التسعير إضراراً بالناس، إذا زاد تبعه أصحاب المتاع، وإذا نقص أضر بأصحاب المتاع. وأجاز المالكية والحنفية (¬2) للإمام تسعير الحاجيات، دفعاً للضرر عن الناس، بأن تعدى أصحاب السلعة عن القيمة المعتادة تعدياً فاحشاً، فلا بأس حينئذ بالتسعير بمشورة أهل الرأي والبصر، رعاية لمصالح الناس والمنع من إغلاء السعر عليهم، والإفساد عليهم. ومستندهم في ذلك القواعد الفقهية: (لا ضرر ولا ضرار) و (الضرر يزال) و (يتحمل الضرر الخاص لمنع الضرر العام). ولا يجبر الناس على البيع، وإنما يمنعون من البيع بغير السعر الذي يحدده ¬
الإمام على حسب ما يرى من المصلحة فيه للبائع والمبتاع، ولا يمنع البائع ربحاً، ولا يسوغ له منه ما يضر بالناس. ويجب أن يختص التسعير في قول ابن حبيب المالكي بالمكيل والموزون مأكولاً كان أو غير مأكول، دون غيره من المبيعات التي لا تكال ولا توزن؛ لأن المكيل والموزون من المثليات يرجع فيه إلى المثل، وغير ذلك من القيميات يرجع فيه إلى القيمة، وتختلف أغراض الناس في الأعيان، فلا يمكن حمل الناس فيه على سعر واحد. وليس في التسعير مخالفة لنص الحديث السابق، وإنما هو تطبيق للنص نفسه، وفهم اجتهادي لمناطه وحكمته في الواقع، وتفسير له بالمعنى المناسب أو المصلحة المتبادرة إلى الفهم من ذات النص، لا من خارجه (¬1). فامتناع الرسول من التسعير لا لكونه تسعيراً، وإنما لكون علة التسعير وهي ظلم التجار أنفسهم غير متوفرة، فهم كانوا يبيعون بسعر المثل، وإنما كان ارتفاع السعر ليس من قبل التجار، وإنما بسبب قانون العرض والطلب، فقد قل عرض البضاعة، فارتفع السعر. ولا تسعير إذا لم تدع الحاجة إليه، بأن كانت السلع متوفرة في الأسواق، وتباع بسعر المثل دون ظلم أو جشع (¬2). ¬
الباب الثامن: الأضحية والعقيقة
البَاب الثَّامن: الأُضحِية والعَقِيقَة وفيه فصلان: الفصل الأول ـ في الأضحية الفصل الثاني ـ في العقيقة وأحكام المولود الفصل الأول الأضحية
المبحث الأول ـ تعريف الأضحية ومشروعيتها وحكمها
الكلام عن الأضحية في المباحث الستة الآتية: المبحث الأول ـ تعريف الأضحية ومشروعيتها وحكمها. المبحث الثاني ـ شروطها (شروط إيجابها أو سنيتها، شروط صحتها، شروط المكلف بها). المبحث الثالث ـ وقت التضحية. المبحث الرابع ـ الحيوان المضحى به (نوعه، سنه، ما يجزئ عنه، صفاته). المبحث الخامس ـ آداب التضحية ـ مندوباتها ومكروهاتها، وما يسن لمريد التضحية. المبحث السادس ـ أحكام لحوم الضحايا ـ الأكل والتوزيع.
المطلب الأول ـ تعريف الأضحية ومشروعيتها
المبحث الأول ـ تعريف الأضحية ومشروعيتها وحكمها: وفيه مطلبان: المطلب الأول ـ تعريف الأضحية ومشروعيتها: الأضحية لغة: اسم لما يضحى به، أو لما يذبح أيام عيد الأضحى، فالأضحية ما يذبح في يوم الأضحى. وفقهاً: هي ذبح حيوان مخصوص بنية القربة في وقت مخصوص (¬1). أو هي ما يذبح من النَّعَم تقرباً إلى الله تعالى في أيام النحر (¬2). وقد شرعت في السنة الثانية من الهجرة كالزكاة وصلاة العيدين، وثبتت مشروعيتها بالكتاب والسنة والإجماع (¬3). أما الكتاب: فقوله تعالى: {فصلّ لربك وانحر} [الكوثر:2/ 108] (¬4) {والبدنَ جعلناها لكم من شعائر الله} [الحج:36/ 22] أي من أعلام دين الله. وأما السنة فأحاديث، منها حديث عائشة: «ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله تعالى من إراقة الدم، إنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها، وإن الدم ليقع من الله عز وجل بمكان قبل أن يقع على الأرض، فطيبوا بها نفساً» (¬5). ¬
المطلب الثاني ـ حكم الأضحية
ومنها حديث أنس قال: «ضحى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بكبشين أملحين، أقرنين، فرأيته واضعاً قدميه على صِفَاحها، يُسمِّي ويكبِّر، فذبحهما بيده» (¬1). وأجمع المسلمون على مشروعية الأضحية. ودلت الأحاديث على أنها أحب الأعمال إلى الله يوم النحر، وأنها تأتي يوم القيامة على الصفة التي ذبحت عليها، ويقع دمها بمكان من القبول قبل أن يقع على الأرض، وإنها سنة إبراهيم لقوله تعالى: {وفديناه بذبح عظيم} [الصافات:107/ 37]. والحكمة من تشريعها: هو شكر الله على نعمه المتعددة، وعلى بقاء الإنسان من عام لعام، ولتكفير السيئات عنه: إما بارتكاب المخالفة، أو نقص المأمورات، وللتوسعة على أسرة المضحي وغيرهم، فلا يجزئ فيها دفع القيمة، بخلاف صدقة الفطر التي يقصد منها سد حاجة الفقير. ونص الإمام أحمد على أن الأضحية أفضل من الصدقة بقيمتها. المطلب الثاني ـ حكم الأضحية: اختلف الفقهاء في حكم الأضحية، هل هي واجبة أو هي سنة؟ فقال أبو حنيفة وأصحابه: إنها واجبة مرة في كل عام على المقيمين من أهل الأمصار، وذكر الطحاوي وغيره: أن على قول أبي حنيفة: واجبة، وعلى قول الصاحبين (أبي يوسف ومحمد): سنة مؤكدة (¬2). ¬
وقال غير الحنفية (¬1): إنها سنة مؤكدة غير واجبة، ويكره تركها للقادر عليها. وذلك عند المالكية على المشهور لغير الحاج بمنى. والأكمل عندهم للقادر أن يضحي عن كل شخص عنده أضحية، فإن أراد إنسان أن يضحي بنفسه عن كل من عنده ممن تجب عليه نفقته جاز في المذهب. وهي عند الشافعية سنة عين للمنفرد في العمر مرة، وسنة كفاية إن تعدد أهل البيت، فإذا فعلها واحد من أهل البيت، كفى عن الجميع. ودليل الحنفية على الوجوب: هو قوله عليه السلام: «من وجد سعة، فلم يضح، فلا يقربن مصلانا» (¬2) قالوا: ومثل هذا الوعيد لا يلحق بترك غير الواجب، ولأن الأضحية قربة يضاف إليها وقتها، يقال: يوم الأضحى وذلك يؤذن بالوجوب؛ لأن الإضافة للاختصاص، والاختصاص بوجود الأضحية فيه، والوجوب هو المفضي إلى الوجود في الظاهر بالنسبة لمجموع الناس. واستدل الجمهور على السنية للقادر عليها بأحاديث: منها حديث أم سلمة: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: إذا رأيتم هلال ذي الحجة: وأراد أحدكم أن يضحي، فليمسك عن شعره وأظفاره» (¬3) ففيه تعليق الأضحية بالإرادة، والتعليق بالإرادة ينافي الوجوب. ومنها حديث ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «ثلاث هن علي ¬
فرائض، وهن لكم تطوع: الوتر، والنحر وصلاة الضحى» (¬1) وروى الترمذي: «أمرت بالنحر وهو سنة لكم». ويؤيد ذلك أن الأضحية ذبيحة لم يجب تفريق لحمها، فلم تكن واجبة كالعقيقة. وضعف أصحاب الحديث حديث الحنفية، أو هو محمول على تأكيد الاستحباب كغسل الجمعة في حديث: «غُسل الجمعة واجب على كل محتلم» (¬2). ويرشد إليه الأثر: «أن أبا بكر وعمر كانا لا يضحيان، مخافة أن ترى الناس ذلك واجباً (¬3) والأصل عدم الوجوب». ودليل الشافعية على أن الأضحية سنة كفاية لكل بيت: حديث مِخْنَف بن سُلَيم قال: «كنا وقوفاً مع النبي صلّى الله عليه وسلم، فسمعته يقول: يا أيها الناس، على كل أهل بيت في كل عام أضحية .. » (¬4)، ولأن الصحابة كانوا يضحون في عهده صلّى الله عليه وسلم، والظاهر اطلاعه، فلا يُنكر عليهم (¬5). وقد ضحى النبي صلّى الله عليه وسلم بكبشين سمينين أقرنين أملحين، أحدهما عن أمته، والثاني عن نفسه وآله (¬6). ودليل الشافعية على أن الأضحية سنة عين للمنفرد في العمر مرة هو أن الأمر عندهم لا يقتضي التكرار (¬7). ¬
حالة تغير حكم الأضحية أو نوعا الأضحية
حالة تغير حكم الأضحية أو نوعا الأضحية: الأضحية عند الحنفية نوعان: واجبة وتطوع (¬1). أما الواجبة: فهي أولاً ـ المنذورة كأن يقول المرء: لله علي أن أضحي شاة، أو بدنة (ناقة) أو هذه الشاة، أو هذه البدنة، أو جعلت هذه الشاة ضحية أو أضحية، سواء أكان القائل غنياً أم فقيراً. وثانياً ـ المشتراة للأضحية إذا كان المشتري فقيراً. فإن اشترى فقير شاة بنية الأضحية، صارت واجبة؛ لأن الشراء للأضحية ممن لا أضحية عليه، يجري مجرى الإيجاب، وهو النذر بالتضحية عرفاً. وثالثاً ـ المطلوبة من الغني دون الفقير في كل عيد، من غير نذر ولا شراء للأضحية، بل شكراً لنعمة الحياة، وإحياء لميراث الخليل عليه السلام حين أمره الله تعالى بذبح الكبش في أيام العيد، فداء عن ولده، ومطية على الصراط (¬2)، ومغفرة للذنوب، وتكفيراً للخطايا. وإن ولدت الأضحية ولداً يذبح ولدها مع الأم، وإن باعه يتصدق بثمنه، لأن الأم تعينت للأضحية. وأما التطوع: فأضحية المسافر، والفقير الذي لم يوجد منه النذر بالتضحية، ولا الشراء للأضحية، لانعدام سبب الوجوب وشرطه. وقال ابن جزي المالكي (¬3): تتعين الأضحية وتصبح واجبة بالذبح اتفاقاً، ¬
وبالنية قبله على خلاف في المذهب، وبالنذر إن عينها له اتفاقاً، فإذا قال: جعلت هذه أضحية، تعينت على أحد قولين، فإن ماتت فلا شيء عليه على كلا القولين، وإن باعها لزمه أن يشتري بثمنها كله أخرى. لكن قال الدردير والدسوقي المالكيان (¬1): المعتمد المشهور في المذهب: أن الأضحية لاتجب إلا بالذبح فقط، ولاتجب بالنذر. وقالا أيضاً: يندب ولايجب على المعتمد ذبح ولد الأضحية الذي ولد قبل ذبح أمه؛ لأن الأضحية لاتتعين عندهم إلا بالذبح، ولاتتعين بالنذر. وقال الشافعية في الصحيح والحنابلة (¬2): إن نوى الشراء للأضحية ولم يتلفظ بذلك لاتصير به أضحية؛ لأن إزالة الملك على سبيل القربة لاتحصل بذلك، وإنما تجب الأضحية إما بالنذر، مثل لله علي، أو علي أن أضحي بهذه الشاة، أو بالتعيين بأن يقول: هذه أضحية أو جعلتها أضحية، لزوال ملكه عنها بذلك. والجعل بمعنى النذر، فتصير واجبة، ويحرم حينئذ الأكل منها، ولايقبل القول بإرادة التطوع بها. فإن قال: أضحية إن شاء الله لم تتعين ولم تجب. وإشارة الأخرس المفهمة كنطق الناطق. ولايجوز تأخيرها للعام القابل، وتعين ذبحها وقت الأضحية. وإن ولدت الأضحية المعينة أو المنذورة، فولدها تابع لها، يذبح معها، وحكمه حكمها، سواء أكان حملاً عند التعيين أم حدث بعده. ولايشرب صاحبها من لبنها إلا الفاضل عن ولدها، فإن لم يفضل عنه شيء لم يكن له أخذه. ¬
المبحث الثاني ــ شروط الأضحية
المبحث الثاني ــ شروط الأضحية: وفيه مطالب ثلاثة: المطلب الأول ـ شروط إيجاب الأضحية أو سنيتها: يشترط لإيجاب الأضحية عند الحنفية، أو سنيتها عند الأئمة الآخرين: القدرة عليها، فلا تطلب من العاجز عنهافي أيام عيد الأضحى. والمقصود بالقدرة عند الحنفية، هو اليسار أي يسار الفطرة (¬1)، وهو أن يكون مالكاً مئتي درهم الذي هو نصاب الزكاة، أو متاعاً يساوي هذا المقدار زائداً عن مسكنه ولباسه، أو حاجته وكفايته هو ومن تجب عليه نفقتهم. والقادر عليها عند المالكية (¬2): هو الذي لا يحتاج إلى ثمنها لأمر ضروري في عامه. ولو استطاع أن يستدين استدان. والمستطيع عليها عند الشافعية (¬3): هو من يملك ثمنها زائداً عن حاجته وحاجة من يعوله يوم العيد وأيام التشريق، لأن ذلك وقتها، مثل زكاة الفطر، فإنهم اشترطوا فيها أن تكون فاضلة عن حاجته مَمونة يوم العيد وليلته فقط. والقادر عليها عند الحنابلة (¬4): هو الذي يمكنه الحصول على ثمنها ولو بالدين، إذا كان يقدر على وفاء دينه. ¬
المطلب الثاني ـ شروط صحة الأضحية
المطلب الثاني ـ شروط صحة الأضحية: يشترط لصحة الأضحية ما يأتي (¬1): 1 - سلامة الحيوان المضحى به من العيوب الفاحشة التي تؤدي عادة إلى نقص اللحم أو تضر بالصحة، كالعيوب الأربعة المتفق على كونها مانعة من الضحية، وهي: العور البين، والمرض البين، والعرج، والعَجَف (الهُزال)، فلا تجزئ العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ضَلَعُها، والعجفاء (أو الكسير) التي لا تُنْقي، بنص الحديث (¬2). وسيأتي مزيد بيان للعيوب المانعة في المذاهب في مبحث الحيوان المضحى به. 2 - كون التضحية في وقت مخصوص: وهو عند الحنفية: أيام النحر ولياليها وهما ليلتان: ليلة اليوم الثاني: وهي ليلة الحادي عشر من ذي الحجة، وليلة يوم الثالث: وهي ليلة الثاني عشر، ولا تصح التضحية في ليلة عيد الأضحى: وهي ليلة العاشر من ذي الحجة، ولا في ليلة اليوم الرابع، لقول جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم: أيام النحر ثلاثة. وذكر الأيام يشمل ذكر الليالي لغة. ولكن يكره تنزيهاً الذبح ليلاً. ¬
وسأوضح وقت الذبح في مبحث (وقت التضحية). واشترط المالكية أن يكون الذبح نهاراً، فلو ذبح ليلاً لم تصح أضحيته. والنهار بطلوع الفجر في غير اليوم الأول. وأضاف المالكية شرطين آخرين هما (¬1): 1 - إسلام الذابح: فلا تصح بذبح كافر، أنابه صاحب الأضحية فيه، ولو كان كتابياً، وإن جاز أكلها. ويستحب عند غير المالكية (¬2) ألا يذبح الأضحية إلا مسلم، ويكره أن يذبحها الذمي الكتابي، لأنها عمل هو قربة، وهو ليس من أهلها، فلو ذبحها بالنيابة عن المسلم جاز مع الكراهة. 2 - وعدم الاشتراك في ثمن الأضحية، فإن اشترك جماعة بالثمن أو كانت مملوكة شركة بينهم، فذبحوها ضحية عنهم، لم تجز عن واحد منهم. ويصح التشريك في الثواب قبل الذبح لا بعده، بين سبعة في بدنة أو بقرة لا شاة، بشروط ثلاثة على المشهور عندهم: أن يكون قريباً له كابنه وأخيه وابن عمه، ويلحق به الزوجة. وأن يكون ممن ينفق عليه، سواء أكانت النفقة واجبة عليه كأب وابن فقيرين، أم غير واجبة كالأخ وابن العم. وأن يكون ساكناً معه في دار واحدة. ويصح عند غير المالكية (¬3) الاشتراك في الأضحية إذا كانت من الإبل أو ¬
المطلب الثالث ـ شروط المكلف بالأضحية
البقر، فيصح اشتراك سبعة في بقرة أو ناقة إذا ساهم كل واحد منهم بالسُبع. ولا يصح أكثر من سبعة، ولا المساهمة بأقل من السُبع. المطلب الثالث ـ شروط المكلف بالأضحية: اتفق الفقهاء (¬1) على أن المطالب بالأضحية هو المسلم الحر البالغ العاقل المقيم المستطيع، واختلفوا في مطالبة المسافر والصغير بها. أما المسافر: فقال الحنفية (¬2): ليس عليه أضحية؛ لأن أبا بكر وعمر كانا لايضحيان إذا كانا مسافرين. وقال علي: «ليس على المسافر جمعة ولا أضحية» (¬3)، ولأن أداءها يختص بأسباب تشق على المسافر، وتفوت بمضي الوقت، فلا تجب عليه لدفع الحرج عنه، كالجمعة. وقال المالكية (¬4): تسن الأضحية لغيرالحاج، لأن سنته الهدي (¬5)، وغير الحاج تسن له الضحية مطلقاً، حاضراً في بلده أو مسافراً. وقال الشافعية والحنابلة (¬6): تسن الأضحية لكل مسلم، مسافر أو حاج أو غيرهما، «لأنه صلّى الله عليه وسلم ضحى في منى عن نسائه بالبقر» رواه الشيخان. وبه يرد على القائل بأن الأضحية لا تسن للحاج بمنى، وإن الذي ينحره بها هدي، لا أضحية. ¬
الصغير
والخلاصة أن غير الحنفية يقولون: تسن الأضحية للمسافر وغيره، وعند الحنفية: ليس عليه أضحية. وأما الصغير: فتجب عليه الأضحية من ماله على الأصح، في رأي الشيخين: أبي حنيفة وأبي يوسف، ويضحي عنه أبوه أو وصيه، ويأكل الصغير من أضحيته ما أمكنه، ويبتاع مما بقي ما ينتفع بعينه كالغربال والمنخل، لا ما يستهلك. ويذبح الولي عن كل واحد من أولاده الصغار شاة، أو يذبح ناقة أو بقرة عن سبعة، كما في صدقة الفطر. وقال محمد وزفر: يضحي الولي من مال نفسه، لا من مال الصغير. وفي ظاهر الرواية عند الحنفية، وهو الأظهر لدى بعضهم وعليه الفتوى (¬1): إن الأضحية تستحب ولا تجب عن الولد الصغير، وليس للأب أن يفعله من مال الصغير؛ لأنها قربة محضة، والأصل في العبادات ألا تجب على أحد بسبب غيره، بخلاف صدقة الفطر؛ لأن فيها معنى المؤونة (¬2)، والسبب فيها رأس يمونه (ينفق عليه) ويلي عليه. وهذا أرجح الآراء. وكذلك قال المالكية (¬3): تسن الأضحية للصغير. ¬
يشترط لجواز إقامة التضحية على المكلف بها
وقال الشافعية والحنابلة (¬1): لا تسن الأضحية للصغير. والخلاصة: إن الأضحية للصغير من مال وليه تستحب عند الحنفية والمالكية، ولا تستحب عند الشافعية والحنابلة. ويشترط لجواز إقامة التضحية على المكلف بها (¬2): نية الأضحية، فلا تجزئ الأضحية بدونها، لأن الذبح قد يكون للحم، وقد يكون للقربة، والفعل لا يقع قربة بدون النية، لقوله عليه الصلاة والسلام: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» (¬3) وقوله: «لا عمل لمن لا نية له». قال الكاساني: والمراد منه عمل هو قربة، فلا تتعين الأضحية إلا بالنية. واشترط الشافعية والحنابلة: أن تكون النية عند ذبح الأضحية؛ لأن الذبح قربة في نفسه. ويكفيه أن ينوي بقلبه، ولا يشترط أن يتلفظـ بالنية بلسانه؛ لأن النية عمل القلب، والذكر باللسان دليل عليها. واشترط الحنفية أيضاً: ألا يشارك المضحي فيما يصح فيه الشركة من لايريد القربة رأساً، وإنما أراد اللحم، فلو اشترك سبعة في بعير أو بقرة كلهم يريد القربة إلا واحداً منهم يريد اللحم، لا تجزئ الأضحية عن الجميع، لأن القربة في إراقة الدم، وذلك لا يتجزأ، لأنها فعل أو ذبح واحد. وأجاز الشافعية (¬4) هذا الاشتراك، وللشركاء قسمة اللحم، لأنها قسمة إفراز على الأصح. ¬
المبحث الثالث ـ وقت التضحية
المبحث الثالث ـ وقت التضحية: للفقهاء خلافات جزئية في أول وقت التضحية وآخره، وفي كراهية التضحية في ليالي العيد. لكنهم اتفقوا على أن أفضل وقت التضحية هو اليوم الأول قبل زوال الشمس؛ لأنه هو السنة، لحديث البراء بن عازب، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن أول مانبدأ به يومنا هذا: أن نصلي، ثم نرجع، فننحر، فمن فعل ذلك، فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل ذلك، فإنما هو لحم قدمه لأهله، ليس من النُسُك في شيء» (¬1). إنهم اتفقوا على أن الذبح قبل الصلاة، أو في ليلة العيد لا يجوز عملاً بالحديث السابق. وأذكر آراء الفقهاء فيما اختلفوا فيه: 1 - قال الحنفية (¬2): يدخل وقت التضحية عند طلوع فجر يوم الأضحى، ويستمر إلى قبيل غروب شمس اليوم الثالث، إلا أنه لا يجوز لأهل الأمصار المطالبين بصلاة العيد الذبح في اليوم الأول إلا بعد أداء صلاة العيد، ولو قبل الخطبة، أو بعد مضي مقدار وقت الصلاة في حال تركها لعذر. وأما أهل القرى الذين ليس عليهم صلاة العيد، فيذبحون بعد فجر اليوم الأول. وإن ضلت الشاة أو سرقت، فاشترى أخرى ثم وجدها فالأفضل ذبحهما، وإن ذبح الأولى جاز، وكذا الثانية لو قيمتها كالأولى أو أكثر. ¬
وإذا أخطأ الناس في تعيين يوم العيد، فصلوا وضحوا، ثم بان لهم أنه يوم عرفة (الوقفة)، أجزأتهم الصلاة والتضحية، لأنه لا يمكن التحرز عن مثل هذا الخطأ، فيحكم بالجواز، صيانة لجميع المسلمين. وأيام الذبح ثلاثة: يوم العيد (النحر) ويومان بعده. ويكره تنزيهاً الذبح ليلاً، لاحتمال الغلط في الذبح في ظلمة الليل، وذلك في الليلتين المتوسطتين: الثانية والثالثة، لا الأولى ولا الرابعة؛ لأنه لا تصح فيهما الأضحية أصلاً. ولو تركت التضحية حتى مضى وقتها، تصدق بها صاحبها حية إن كانت منذورة أوجبها على نفسه، أو مشتراة من فقير أو غني للأضحية؛ لأنها في حكم المنذورة عرفاً. وأما الغني إذا لم يشتر الأضحية، فيتصدق بقيمة شاة على الصحيح، كما في البدائع، وهو قول الإمام وصاحبيه؛ لأن الأضحية واجبة على الغني، وتجب على الفقير بالشراء بنية الأضحية. ودليل الحنفية على جواز الذبح بعد الصلاة ولو قبل الخطبة: حديث البراء بن عازب المتقدم: «من ضحى قبل الصلاة، فإنما ذبح لنفسه، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه، وأصاب سنة المسلمين» وحديث أنس عند البخاري: «من ذبح قبل الصلاة، فليُعد، ومن ذبح بعد الصلاة، فقد تم نُسكُه، وأصاب سُنة المسلمين» فقد رتب النبي صلّى الله عليه وسلم الذبح على الصلاة، لا على الخطبة، فدل على أن العبرة للصلاة، لا للخطبة. وأما دليلهم على تحديد الوقت بثلاثة أيام، فهو ما روي عن عمر وعلي وابن
2 - وقال المالكية
عباس أنهم قالوا: «أيام النحر ثلاثة، أفضلها أولها» (¬1). وكان ابن عمر يقول: «الأضحى يومان بعد يوم الأضحى» (¬2). 2 - وقال المالكية (¬3): يبتدئ وقت التضحية لإمام صلاة العيد بعد الصلاة والخطبة، فلو ذبح قبلها لم يجز. وغير الإمام يذبح في اليوم الأول، بعد ذبح الإمام، أو مضي زمن قدر ذبح الإمام أضحيته إن لم يذبح الإمام، فإن ذبح أحد قبل الإمام متعمداً لم يجزئه، ويعيد ذبح أضحية أخرى، وعليه فلا جزئ الذبح قبل الصلاة، ولا قبل ذبح الإمام، إلا من تحرى أقرب إمام ولم يبرز أضحيته وظن أنه ذبح فسبقه، أجزأه ذلك. وإن تأخر الإمام بعذر شرعي انتظره إلى قرب الزوال بحيث يبقى قدر ما يذبح قبله لئلا يفوته الوقت الأفضل. ودليلهم أن النبي صلّى الله عليه وسلم في حديث جابر (¬4) أمر من كان نحر قبله أن يعيد بنحر آخر، ولا ينحروا حتى ينحر النبي، مما يدل على أنه لا ذبح قبل ذبح الإمام. ودل حديث جُنْدَب بن سفيان البَجَلي (¬5) على أن الذبح يكون بعد الصلاة: «من كان ذبح قبل أن يصلي، فليذبح مكانها أخرى، ومن لم يكن ذبح، حتى صلينا، فليذبح باسم الله» وفي غير اليوم الأول ـ وهو الثاني والثالث يدخل وقت الذبح بطلوع الفجر، لكن يندب التأخير لارتفاع الشمس. وإذا لم يضح المسلم قبل زوال الشمس يوم النحر، الأفضل أن يضحي بقية النهار، وإن فاته ذلك في ¬
3 - وقال الشافعية
اليوم الثاني فالأفضل أن يؤخر إلى ضحى اليوم الثالث، وإن فاته التضحية في اليوم الثالث، فيضحي بعد الزوال، لأنه ليس له وقت ينتظر. ويستمر وقت الذبح لآخر (أي مغيب شمس) اليوم الثالث من أيام النحر، أي كما قال الحنفية، وهو رأي الحنابلة أيضاً كما سيأتي؛ لأن المشهور في تفسير (الأيام المعلومات): أنها يوم النحر ويومان بعده، في قوله تعالى: {ليشهدوا منافع لهم، ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} [الحج:28/ 22]. 3 - وقال الشافعية (¬1): يدخل وقت التضحية بمضي قدر ركعتين وخطبتين خفيفات بعد طلوع شمس يوم النحر، ثم ارتفاعها في الأفق كرمح (¬2) على الأفضل وهو بدء وقت صلاة الضحى، فإن ذبح قبل ذلك لم تقع أضحية لخبر الصحيحين عن البراء بن عازب المتقدم: «أول ما نبدأ به في يومنا هذا نصلي، ثم نرجع، فننحر .. » ويستثنى من ذلك ما لو وقف الحجاج بعرفة في الثامن غلطاً، وذبحوا في التاسع، ثم بان الخطأ، أجزأهم في رأي ضعيف تبعاً للحج (¬3). ويمتد وقت الذبح ليلاً ونهاراً إلى آخر أيام التشريق، وهي ثلاثة عند الشافعي رحمه الله بعد العاشر، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «عرفة كلها موقف، وأيام التشريق كلها منحر» (¬4) وفي رواية لابن حبان: «في كل أيام التشريق ذبح» (¬5). ¬
4 - وقال الحنابلة
لكن يكره الذبح والتضحية ليلاً للنهي عنه، إما خوفاً من الخطأ في المذبح، أو لأن الفقراء لا يحضرون للأضحية بالليل، كحضورهم بالنهار. ومن نذر أضحية معينة، فقال: لله علي أن أضحي بهذه البقرة مثلاً، لزمه ذبحها وقت الأضحية المذكور هنا، ولا يجوز تأخيرها للعام القابل، فإن تلفت قبل وقت الأضحية أو فيه قبل التمكن من ذبحها، فلا شيء عليه لعدم تقصيره وهي في يده أمانة. وإن أتلفها لزمه أن يشتري بقيمتها مثلها ويذبحها فيه، أي وقت التضحية المذكور. 4 - وقال الحنابلة (¬1): يبدأ وقت الذبح من نهار الأضحى بعد مضي قدر صلاة العيد والخطبتين في أخف ما يكون كما قال الشافعية، والأفضل أن يكون الذبح بعد الصلاة وبعد الخطبة وذبح الإمام إن كان، خروجاً من الخلاف، لا فرق في هذا بين أهل المصر وغيرهم، فإن فاتت صلاة العيد بالزوال، لعذر أو غيره، ضحى المضحي عند الزوال، فما بعده، لفوات التبعية بخروج وقت الصلاة. وإن ذبح قبل الصلاة لم يجزئه، ولزمه في الأضحية الواجبة بنذر أو تعيين البدل، لأنها نسيكة واجبة ذبحها قبل وقتها، فلزمه بدلها. والذبح في اليوم الثاني في أول النهار؛ لأن الصلاة فيه غير واجبة. ويستمر وقت الذبح إلى آخر اليوم الثاني من أيام التشريق، أي أن أيام النحر ثلاثة: يوم العيد، ويومان بعده، كما قال الحنفية والمالكية. والأفضل الذبح في النهار، ويجوز في الليل مع الكراهة، للخروج من ¬
المبحث الرابع ـ الحيوان المضحى به
الخلاف، روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «أنه نهى عن الذبح بالليل» (¬1) ولأن الليل تتعذر فيه تفرقة اللحم في الغالب، فلا يفرق طازجاً طرياً، فيفوت بعض المقصود. وإذا فات وقت الذبح، ذبح الواجب قضاء، وصنع به ما يصنع بالمذبوح في وقته. وهو مخير في التطوع، فإن فرق اللحم، كانت القربة بذلك دون الذبح؛ لأنها شاة لحم، وليست أضحية. وإذا وجبت الأضحية بإيجاب صاحبها، فضلَّت أو سرقت بغير تفريط منه، فلا ضمان عليه؛ لأنها أمانة في يده، فإن عادت إليه، ذبحها، سواء أكان في زمن الذبح، أم فيما بعده. المبحث الرابع ـ الحيوان المضحى به: وفيه مطالب أربعة: المطلب الأول ـ نوع الحيوان المضحى به: اتفق العلماء على أن الأضحية لا تصح إلا من نَعم: إبل وبقر (ومنها الجاموس) وغنم (ومنها المعز) بسائر أنواعها، فيشمل الذكروالأنثى، والخصي والفحل، فلا يجزئ غير النعم من بقر الوحش وغيره، والظباء وغيرها، لقوله تعالى: {ولكل أمة جعلنا منسكاً ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} [الحج:34/ 22] ولم ينقل عنه صلّى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه التضحية بغيرها، ¬
ولأن التضحية عبادة تتعلق بالحيوان، فتختص بالنَّعَم كالزكاة (¬1). والمولود من الأنعام وغيرها، كالمتولد من الأهلي والوحشي يتبع الأم؛ لأنها هي الأصل في التبعية، هذا رأي الحنفية والمالكية. وقال الشافعية: المتولد بين جنسين من النعم يجزئ في الأضحية، ويعتبر أعلى الأبوين سناً، فلا بد من بلوغه سنتين إذا كان متولداً بين الضأن والمعز. وقال الحنابلة: لا يجزئ المتولد من أهلي ووحشي. واختلف الفقهاء في الأفضل من أنواع الحيوان على رأيين: فقال المالكية: الأفضل الضأن، ثم البقر، ثم الإبل، نظراً لطيب اللحم، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم ضحى بكبشين، ولا يفعل إلا الأفضل، ولو علم الله خيراً منه لفدى إسحاق (أو إسماعيل) به. وعكس الشافعية والحنابلة فقالوا: أفضل الأضاحي: الإبل، ثم البقر، ثم الضأن، ثم المعز. نظراً لكثرة اللحم، ولقصد التوسعة على الفقراء، ولقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية، فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة، فكأنما قرب كبشاً أقرن .. » (¬2). ورأي الحنفية: الأكثر لحماً هو الأفضل. ¬
وتفصيل عبارات المذاهب ما يأتي: قال الحنفية (¬1): «الأصل أنه إذا استويا في اللحم والقيمة، فأطيبهما لحماً أفضل. وإذا اختلفا فيهما فالفاضل أولى» فالشاة أفضل من سبع البقرة إذا استويا في القيمة واللحم، وإن كان سبع البقرة أكثر لحماً فهو أفضل. والكبش أفضل من النعجة إذا استويا فيهما، وإلا فهي أفضل، والأنثى من المعز أفضل من التيس إذا استويا قيمةولم يكن خصياً (¬2). والأنثى من الإبل والبقر أفضل إذا استويا؛ لأن لحمها أطيب. وعلى هذا فالذكر الخصي أفضل، وإلا فالأنثى، والأبيض الأقرن أفضل من غيره. وقال المالكية (¬3): الأفضل الغنم: فحله، فخصيه، فأنثاه، ثم المعز، ثم البقر، ثم الإبل، لطيب اللحم. فالذكور عندهم أفضل من الإناث مطلقاً، والأبيض أفضل من الأسود، ويوافقهم الشافعية والحنابلة في تفضيل الأبيض على الأسود. وعبارة الشافعية والحنابلة (¬4): أفضل الأضاحي: البعير أو البدنة لأنه أكثر لحماً، ثم بقرة؛ لأن لحم البدنة أكثر من لحم البقرة غالباً، ثم ضأن، ثم معز، لطيب الضأن على المعز، وبعد المعز: المشاركة في بقرة أو بدنة، فسبع شياه أفضل من ¬
بعير أو بقرة؛ لأن لحم الغنم أطيب، وشاة أفضل من مشاركة في بعير إذا تساويا في القدر، للانفراد بإراقة الدم وطيب اللحم. فإن كان سبع البعير أكثر قدراً، كان أفضل. والكبش أفضل الغنم، لأنه أضحية النبي صلّى الله عليه وسلم، وهو أطيب لحماً (¬1)، وجذع الضأن أفضل من ثني المعز، لطيب اللحم، ولأنه يروى عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «نعم أو نعمت الأضحية: الجَذَع من الضأن» (¬2) أي قبل الثني. والذكر عند الشافعية أفضل على الأصح من الأنثى؛ لأن لحمه أطيب، والخصي أفضل من النعجة عند الحنابلة؛ لأن لحمه أوفر وأطيب. والفحل في المذهبين أفضل من الخصي. والسمينة أفضل من غير السمينة، لقول الله عز وجل: {ومن يعظم شعائر الله، فإنها من تقوى القلوب} [الحج:32/ 22] قال ابن عباس: تعظيمها: استسمانها واستحسانها. وهذا متفق عليه بين الفقهاء. والبيضاء أفضل من الغبراء والسوداء؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين، والأملح: الأبيض. وبه يكون ترتيب الألوان في مذهبي الشافعية والحنابلة ما يأتي، وهو متفق عليه بين الفقهاء: البيضاء أفضل، ثم الصفراء، ثم العفراء (وهي التي لايصفو بياضها أوليس بناصع)، ثم الحمراء ثم البلقاء (مختلط البياض والسواد) ثم السوداء (¬3)، روى أحمد والحاكم خبر أبي هريرة: «دم ُعفراءَ أحب إلى الله من دم سوداوين». ¬
المطلب الثاني - سن الحيوان المضحى به
المطلب الثاني - سن الحيوان المضحى به: اتفق الفقهاء على جواز التضحية بالثَّنِيّ فما فوقه من الإبل والبقر والغنم. واختلفوا في الجَذَع (¬1) من الضأن، فقال الحنفية والحنابلة (¬2): يجزئ الجذع العظيم أو السمين من الغنم ابن ستة أشهر ودخل في السابع، وهو رأي بعض المالكية (¬3)، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «يجزئ الجذع من الضأن أضحية» (¬4). وبيَّن الحنفية حالة سمنه بما إذا خلط بالثنايا يشتبه على الناظر من بعيد، فلا يمكن تمييزه مما له سنة. والفرق بين جذع الضأن والمعز: أن جذع الضأن ينزو، فيلقح، بخلاف الجذع من المعز. ويعرف كونه قد أجذع بنمو الصوف على ظهره. وقال الشافعية والمالكية على الراجح عندهم (¬5): يجزئ الجذع من الضأن إذا أتم السنة الأولى، ودخل في الثانية، لخبر أحمد وغيره: «ضحوا بالجذع من الضأن، فإنه جائز» (¬6). وأما أسنان بقية الأنعام المجزئة في الأضحية عند الفقهاء فهي ما يأتي (¬7): ¬
المطلب الثالث - قدر الحيوان المضحى أو مايجزئ عنه
قال الحنفية: المعز: ما أتم سنة وطعن (دخل في الثانية)، والبقر والجاموس ما أتم سنتين ودخل في الثالثة، والإبل: ما أتم خمس سنوات، ودخل في السادسة. وقال المالكية: المعز: ابن سنة عربية ودخل في الثانية دخولاً بيناً كشهر، بخلاف الضأن، فيكفي فيه مجرد الدخول. والبقر والجاموس: ابن ثلاث سنين، ودخل في الرابعة مجرد دخول، والإبل ابن خمس سنوات ودخل في السادسة. وقال الشافعية: شرط إبل أن يطعن في السنة السادسة، وبقر ومعز في السنة الثالثة، وضأن في السنة الثانية. وقال الحنابلة: المعز ابن سنة كاملة، والبقر ما له سنتان كاملتان، والإبل: ماكمل خمس سنين. وبه يظهر لدينا أن فقهاء المذاهب اتفقوا على تحديد سن الإبل بخمس، واختلفوا في البقر على رأيين، فعند الحنفية والحنابلة والشافعية: ما له سنتان. وعند المالكية: ما له ثلاث سنين. كما اختلفوا في المعز: فعند غير الشافعية: ما له سنة كاملة. وعند الشافعية: ما له سنتان كاملتان. المطلب الثالث - قدر الحيوان المضحى أو مايجزئ عنه: اتفق الفقهاء (¬1) على أن الشاة والمعز لا تجوز أضحيتهما إلا عن واحد، وتجزئ البدنة أو البقرة عن سبعة أشخاص، لحديث جابر: «نحرنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالحديبية: البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة» (¬2). وفي لفظ مسلم: «خرجنا مع ¬
المطلب الرابع ـ أوصاف الحيوان المضحى
رسول الله صلّى الله عليه وسلم مهلين بالحج، فأمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل، والبقر، كل سبعة منا في بدنة» (¬1). وأجاز الحنابلة أن يذبح الرجل عن أهل بيته شاة واحدة، أو بقرة، أو بدنة، عملاً بما رواه مسلم عن عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلم ضحى بكبش عن محمد وآل محمد، وضحى بكبشين أملحين أقرنين، أحدهما عن محمد وأمته (¬2)، وروى ابن ماجه والترمذي وصححه عن أبي أيوب: «كان الرجل في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم يضحي بالشاة عنه، وعن أهل بيته، فيأكلون، ويطعمون ... ». وكذلك أجاز المالكية أن يذبح الرجل الكبش أو البقرة أو البدنة مضحياً، عن نفسه وعن أهل بيته، ولو زادوا عن سبعة إذا كان الاشتراك في الثواب قبل الذبح بشروط ثلاثة: أن يكون قريباً له، ينفق عليه، وساكناً معه، وقد بينتها في شروط صحة الأضحية. وقال الشافعية أيضاً: تضحية واحد من أهل البيت تحصل به سنة الكفاية، وإن لم يصدر من بقيتهم إذن. المطلب الرابع ـ أوصاف الحيوان المضحى: صفات الحيوان المضحى به أو الأضحية ثلاثة أنواع: مستحبة، ومانعة الإجزاء، ومكروهة. ¬
الصفات المستحبة في الأضحية
فأما الصفات المستحبة في الأضحية باتفاق الفقهاء (¬1): فهي أن تكون كبشاً سميناً أقرن أملح (أبيض) فحلاً ـ هو أفضل من الخصي عند الجمهور، أو خصياً (موجوءاً) هو أفضل من الفحل عند الحنفية؛ لأن الكبش كما تقدم هو أفضل أجناس الغنم. وهذا الاستحباب عند الشافعية والحنابلة هو في حالة تفضيل الكبش عن سبع البدنة أو البقرة. والسبب في استحباب هذه الصفات هو أنها صفات أضحية النبي صلّى الله عليه وسلم، كما ثبت في أحاديث جابر وعائشة وأبي هريرة وأبي رافع، وأبي الدرداء الدالة على جواز التضحية بالخصي، وهي دليل الأفضل عند الحنفية، وحديث أبي سعيد الدال على التضحية بالفحل (¬2)، ونصه: «ضحى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بكبش أقرن فحيل، يأكل في سواد، ويمشي في سواد، وينظر في سواد» (¬3) وهو دليل الأفضل عند الجمهور. وأما الصفات المانعة الإجزاء: فهي ـ كما تقدم في بحث الشروط ـ أربعة باتفاق الفقهاء: وهي العور البيِّن، والمرض البين، والعرج، والعجف (الهزال). ودليلهم حديث البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البيِّن عَوَرُها، والمريضة البيِّن مرضها، والعرجاء البيِّن ضَلَعها، والكسير (أو العجفاء) التي لا تُنْقي» (¬4). ¬
الحنفية
وأضاف الفقهاء عيوباً أخرى بالقياس على هذه الأربعة، هي في معناها، أو أقبح منها، كالعمى وقطع الرجل، لما يترتب على ذلك من نقص اللحم، ويكون الحديث من باب الخاص الذي أريد به العموم. فصارت العيوب عند الحنفية (¬1) ما يأتي: لا يضحى بالعمياء (الذاهبة العينين)، والعوراء (الذاهبة عيناً)، والعرجاء (العاطلة إحدى القوائم، وهي التي لا تمشي إلى المذبح)، والعجفاء (المهزولة التي لا مخ في عظامها)، والهتماء (التي لا أسنان لها، ويكفي بقاء الأكثر)، والسَّكاء (التي لا أذن لها خلقة، فلو كان لها أذن صغيرة خلقة أجزأت)، والجَذَّاء (مقطوعة رؤوس ضرعها، أو يابستها)، والجَدْعاء (مقطوعة الأنف)، والمصرَّمة حلمات الضرع (التي عولجت حتى انقطع لبنها)، والتي لا ألية لها، والخنثى (لأن لحمها لا ينضج)، والجلاَّلة (التي تأكل العذرة ـ الغائط ـ دون غيرها)، ومقطوعة أكثر من ثلث الأذن أو الذنَب أو الألْية، أو التي ذهب أكثر نور عينها (لأن للأكثر حكم الكل بقاء وذهاباً، فيكفي بقاء الأكثر، ولأن العيب اليسير لا يمكن التحرز عنه، فجعل عفواً). وهذه العيوب تمنع من صحة الأضحية إذا كانت قائمة وقت الشراء. أما لو اشتراها سليمة ثم تعيبت، بعيب مانع: فإن كان غنياً غيّرها، وإن كان فقيراً تجزئه. وكذلك تجزئه لو كانت معيبة وقت الشراء لعدم وجوبها عليه، بخلاف الغني. ويجوز أن يُضحَّى بالجَمَّاء (وهي التي لا قرن لها، أو مكسورة القرن؛ لأن القرن لا يتعلق به مقصود)، والخَصي (لأن لحمه أطيب)، والجَرْباء السمينة (لأن ¬
المالكية
الجرب يكون في جلدها، ولا نقصان في لحمها، بخلاف المهزولة، لأن الهزال يكون في لحمها) والثَّوْلاء (¬1) (المجنونة) إذا كان ترعى، فإن امتنعت من الرعي، لم تجزئ. وعند المالكية (¬2): لا تجزئ العيوب المذكورة في الحديث وهي العوراء والعرجاء والمريضة والعجفاء، ولا العمياء والمجنونة جنوناً دائماً، ولا مقطوعة جزء من أجزائها الأصلية أو الزائدة كيد أو رجل، غير خُصْية (بيضة) لأنه يجزئ الخصي، ولا الجرباء والهَرِمة والبشْماء إذا كثر الجَرَب والهَرَم والتُّخَمة، ولا البَكْماء (فاقدة الصوت إلا لعارض كالناقة بعد أشهر من الحمل) والصَّماء (التي لا تسمع) والبَخْراء (منتنة رائحة الفم)، والصَمْعاء (صغيرة الأذنين جداً، كأنها خلقت بلا أذن، والبَتْراء (التي لا ذنب لها)، ويابسة الضرع جميعه ومكسورة قرن لم يبرأ، وفاقدة أكثر من سن بسبب ضرب أو مرض، لا بسبب كبر أو إثغار (تبديل أو تغيير في الصغر)، ومقطوعة ثلث ذنب فصاعدا، أو أكثر من ثلث أذن، لقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن، وألا نضحي بمقابَلة، ولا مدابَرَة، ولا شَرْقاء (¬3) ولا خَرْقاء». وتصح الأضحية بالجَمَّاء (المخلوقة بدون قرن)، وبالمُقْعدة (العاجزة عن القيام) لشحم كثر عليها، ومكسورة قرن من أصله، أو طرفه إن برئ. ¬
الشافعية
وعند الشافعية (¬1): لا تجزئ أيضاً العيوب المنصوص عليها في الحديث وهي العجفاء (أي ذاهبة المخ من شدة هزالها، والمخ: دهن العظام)، وذات العرج والعور والمرض البين، ومثلها ذات الجرب ولو كان يسيراً. ولا يضر اليسير في العيوب الأربعة الأولى لعدم تأثيره في اللحم. ولا تجزئ أيضاً العمياء والمجنونة (وهي التولاء التي تدور في المرعى ولا ترعى إلا قليلاً فتهزل)، ولا مقطوعة بعض الأذن أو بعض اللسان، ولو كان يسيراً لذهاب جزء مأكول، وهو نقص في اللحم. وشلل الأذن كفقدها. ولا تجزئ مقطوعة الألية قطعاً غير خلقة. ويجوز التضحية بالخصي لأنه «صلّى الله عليه وسلم ضحى بكبشين موجوءين لله» (¬2) أي خصيين، لكن الفحل أفضل منه إن لم يحصل منه ضراب. ولا يضرفقد قرن خلقة، وتسمى الجلحاء، ولا كسره ما لم يعب اللحم، وإن دمى بالكسر، لأن القرن لا يتعلق به كبير غرض، فإن عِيب اللحم ضر كالجرب وغيره. لكن ذات القرن أولى لخبر «خير الأضحية الكبش الأقرن» (¬3)، ولأنها أحسن منظراَ، بل يكره غيرها. ولا يضر ذهاب بعض الأسنان أو أكثرها، ويجزئ مكسور سن أو سنين؛ لأنه لا يؤثر في الاعتلاف ونقص اللحم، فلو ذهب الكل، ضر، لأنه يؤثر في ذلك. وكذا لا يضر شق أذن ولا خرقها، ولا ثقبها في الأصح بشرط ألا يسقط من الأذن شي بذلك، لأنه لا ينقص به من لحمها شيء. والخلاصة: إن كل ما ينقص اللحم لا يجوز، وما لا ينقص اللحم يجوز. ¬
الحنابلة
وعند الحنابلة (¬1): لا تصح الأضحية بالعجفاء والعوراء البين عورها، والعمياء، والعرجاء البين عرجها، والمريضة التي لا يرجى برؤها بمرض مفسد للحمها كجرب أو غيره، والعضباء (وهي التي ذهب أكثر من نصف الأذن أو القرن) (¬2)، ومثلها التي ذهب أكثر من نصف أليتها. ولا تجزئ الكسيرة كالمريضة، ولا الجداء أو الجدباء (جافة الضرع) ولا الهتماء (التي ذهبت ثناياها من أصلها)، ولا العَصماء (التي انكسر غلاف قرنها). ويجزئ الخصي (الذي قطعت خصيتاه أو سلتا، أو رضتا) لفعل النبي عليه السلام، ولايجزئ مقطوع الذكر مع قطع الخصيتين، وتجزئ الجماء (وهي التي خلقت بلا قرن)، والصمعاء (وهي الصغيرة الأذن، أو خلقت بلا أذن)، والبتراء (التي لا ذنب لها خلقة، أو كان مقطوعاً) لأن ذلك لايخل بالمقصود، وتجزئ التي بعينها بياض لايمنع النظر، لعدم فوات المقصود من البصر. وتجزئ الحامل من الإبل والبقر والغنم كالحائل. والخلاصة: إن هناك عيوباً متفقاً على كونها مانعة الإجزاء، وعيوباً خَلْقية غير مانعة، وعيوبا مختلفا فيها كمقطوعة بعض الأذن، فالمالكية والحنفية: لايجيزون مقطوعة الأكثر من الثلث، والحنابلة: الأكثر من النصف، والشافعية: لايجيزون قطع البعض وإن كان يسيرا. ومثل مكسورة القرن: تجزئ عند الحنفية مالم يصل الكسر إلى المخ أي رأس العظم، وعند المالكية: تجزئ إن برئ ولو كسر كله. وعند الشافعية: تجزئ مالم ينقص اللحم، وعند الحنابلة: تجزئ إن ذهب أقل من النصف. ¬
الصفات المكروهة في الحيوان المضحى به
والأفضل: ما كان كامل الخلقة، دون أي نقص فيه. وإذا أوجب المرء أضحية صحيحة سليمة من العيوب، ثم حدث بها عيب يمنع الإجزاء، ذبحها، وأجزأته عند غير الحنفية (¬1)، لما رواه ابن ماجه عن أبي سعيد قال: «ابتعنا كبشا نضحي به، فأصاب الذئب من أليته، فسألنا النبي صلّى الله عليه وسلم فأمرنا أن نضحي به» فالعيب المانع إذن هو القديم لا الطارئ، وعند الحنفية إن كان المضحي غنياً غيَّرها. وأما الصفات المكروهة في الحيوان المضحى به: فهي ما يأتي عند الفقهاء: قال الحنفية (¬2): تكره التضحية بالشرقاء (المشقوقة الأذن)، والخرقاء (التي يخرق أذنها الوسم) والمدابَرة (التي يقطع شيء من مؤخر أذنها) والمقابَلة (التي يقطع شيء من مقدم أذنها)، لحديث علي المتقدم، وفيه: «وألا نضحي بعوراء، ولا مقابلة، ولا مدابرة، ولا خرقاء ولا شَرقاء» والنهي فيها محمول على الندب، وفي الخرقاء على الكثير. وتكره المجزوزة (التي جز صوفها قبل الذبح لينتفع به)، والحَولاء (التي في عينها حول). وقال المالكية (¬3): تكره الشرقاء وما ذكر معها في الحديث السابق، وكل عيوب الأذن الأخرى، وهي السَّكاء (المخلوقة بغير أذن)، والجَذعاء (المقطوعة جزءاً يسيراً من أذنها) كما تكره عيوب القرن كالعضباء (وهي الناقصة الخلقة في قول، أو المكسورة القرن). وتكره ساقطة بعض الأسنان لكبر ونحوه. وفي ¬
المبحث الخامس - مندوبات الأضحية ومكروهاتها وما يسن لمريد التضحية
الجملة: يندب الجيد من أعلى النعم، والسالم من العيوب التي تجزئ معها، كخفيف مرض، وكسر قرن بريء. وقال الشافعية (¬1): يكره تنزيهاً المذكور في الحديث السابق بسبب شق الأذن أو خرقها أو ثقبها في الأصح؛ وتكره التضحية بالجلحاء (وهي التي لم يخلق لها قرن) وبالقصماء (وهي التي انكسر غلاف قرنها)، وبالعضباء (وهي التي انكسر قرنها)؛ لأن كل ذلك يشينها، وقد قال ابن عباس عن الأضاحي: تعظيمها استحسانها. وكذلك قال الحنابلة (¬2): تكره المشقوقة الأذن، والمثقوبة، وما قطع شيء منها، لحديث علي المنهي فيه عن تلك العيوب. وهذا نهي تنزيه، ويحصل الإجزاء بها، ولا خلاف في ذلك ما عدا الظاهرية، ولأن اشتراط السلامة من أي عيب يشق، إذ لا يكاد يوجد سالم من هذا كله. المبحث الخامس - مندوبات الأضحية ومكروهاتها وما يسن لمريد التضحية: هناك اتفاق بين الفقهاء في أغلب مواضع هذا المبحث. 1 ـ قال الحنفية (¬3) يستحب للمضحي قبل التضحية: ربط الأضحية قبل أيام النحر بأيام، لما فيه من الاستعداد للقربة وإظهار الرغبة فيها، فيكون له فيه أجر وثواب، وأن يقلدها (¬4) ويجللها كالهدي، ليشعر بتعظيمها، لقوله تعالى: {ومن ¬
حال التضحية
يعظم شعائر الله، فإنها من تقوى القلوب} [الحج:32/ 22] وأن يسوقها إلى المذبح سوقاً جميلاً لا عنيفاً، وألا يجرها برجلها. ويكره لمن اشترى أضحية أن يحلبها أو يجز صوفها، أو ينتفع بها، ركوباً أو حملاً، أو ينتفع بلحمها إذا ذبحها قبل وقتها؛ لأنه عينها للقربة، والانتفاع بها يوجب نقصاً فيها. وإن كان في ضرعها لبن، وهو يخاف عليها الهلاك إن لم يحلبها، نضح ضرعها بالماء البارد، حتى يتقلص اللبن. وإن حلبها تصدق باللبن؛ لأنه جزء من شاة متعينة للقربة. وإن ذبحها أو جزها تصدق باللحم أو بقيمته، وبالصوف والشعر والوبر. ويكره له بيعها لتعينها قربة بالشراء، وإن باعها، جاز عند أبي حنيفة ومحمد، وعليه مثلها أو أرفع منها (¬1)؛ لأنه بيع مال مملوك مقدور التسليم. ولم يجز البيع عند أبي يوسف، لأنها بمنزلة الوقف، ولا يجوز بيع الموقوف. وإن ولدت الأضحية ولداً، ذبح ولدها مع الأم. وإن باعه تصدق بثمنه، لأن الأم تعينت للأضحية، فيتبعها الولد. وفي حال التضحية: يستحب لمريد التضحية: أن يذبح بنفسه، إن قدر عليه، لأنه قربة، فمباشرتها بنفسه أفضل من توليتها غيره، كسائر القربات. بدليل أن النبي صلّى الله عليه وسلم ساق مئة بدنة هدية للحرم، فنحر منها نيفا وستين بيده الشريفة، ثم أعطى المُدية سيدنا علياً رضي الله عنه، فنحر الباقي (¬2). فإن لم يكن المضحي يحسن الذبح أناب عنه غيره مسلماً، لا كتابياً؛ لأن ذبح ¬
الكتابي مكروه ولأن الأضحيةقربة، وهو ليس من أهلها، لكن لو ذبح بالنيابة عن المسلم جاز؛ لأنه أهل للذكاة. وأما المجوسي فيحرم ذبحه لأنه ليس من أهله. ويستحب أن يتوجه الذابح إلى القبلة، كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلم في حديث أنس المتقدم الذي رواه الجماعة، وأن يضجع الذبيحة على جنبها الأيسر. ويستحب أن يحضر المضحي الذبح، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم لفاطمة: «قومي إلى أضحيتك، فاشهديها، فإنه يغفر لك عند أول قطرة من دمها كل ذنب عملتيه ... » (¬1). ويدعو المضحي، فيقول: اللهم منك، ولك صلاتي، ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت، وأنا من المسلمين، لما ثبت في حديث فاطمة السابق. ثم يقول: بسم الله، والله أكبر، اللهم تقبل مني، لحديث جابر: قال: «صليت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم عيد الأضحى، فلما انصرف، أتي بكبش، فذبحه، فقال: بسم الله، والله أكبر، اللهم هذا عني، وعمن لم يضح من أمتي» (¬2). والمستحب في الأضحية، كما تقدم أن تكون أسمنها وأحسنها وأعظمها؛ لأنها مطية الآخرة. وأفضل الشاء: أن يكون كبشاً أملح أقرن، موجوءاً: خصياً، لحديث جابر السابق. ¬
2 - وقال المالكية والشافعية وجماعة من الحنابلة
ويستحب أن تكون آلة الذبح حادة من الحديد. والمستحب بعد الذبح الانتظار قدر مايبرد الذبيح وتسكن جميع أعضائه، فلا يسلخ قبل أن يبرد. 2 - وقال المالكية والشافعية وجماعة من الحنابلة (¬1): المستحب لمريد التضحية إذا دخل عليه عشر ذي الحجة ألا يحلق شعره، ولا يقلم أظفاره، حتى يضحي، بل يكره له ذلك. وقال بعض الحنابلة: يحرم عليه ذلك. بدليل حديث أم سلمة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتم هلال ذي الحجة، وأراد أحدكم أن يضحي، فليمسك عن شعره وأظفاره» (¬2). ولا شك بأن هذا الرأي هو الأرجح لصحة الحديث. والدليل على عدم حرمة المذكور قول عائشة: «كنت أفتل قلائد هدي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم يقلدها بيده، ثم يبعث بها، ولا يحرم عليه شيء أحله الله له، حتى ينحر الهدي» (¬3). ولم ير الحنفية كراهة ما ذكر؛ لأن المضحي لا يحرم عليه الوطء واللباس، فلا يكره له حلق الشعر وتقليم الأظفار، كما لو لم يرد أن يضحي (¬4). ¬
وأضاف الجمهور كالحنفية: أنه يندب توجيه الذبيحة إلى القبلة على جنبها الأيسر إن كانت من البقر والغنم، ويقول الذابح: «بسم الله والله أكبر، اللهم هذا منك وإليك» لما روى ابن عمر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم ذبح يوم العيد كبشين، ثم قال حين وجهها: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً، وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونُسُكي (¬1) ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت، وأنا أول المسلمين، بسم الله، والله أكبر، اللهم هذا منك ولك» (¬2) فإن قال بعدئذ: «اللهم تقبل مني كما تقبلت من إبراهيم خليلك» فحسن. وإن اقتصر على التسمية فقد ترك الأفضل. وقد عدد الشافعية خمسة أشياء تستحب عند الذبح وهي: التسمية بالبسملة كلها أو بسم الله، والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم، واستقبال القبلة بالذبيحة، والتكبير قبل التسمية أو بعدها، والدعاء بالقبول فيقول الذابح: اللهم هذه منك وإليك، أي نعمة صادرة منك، تقربت بها إليك. والأفضل أن يذبح الرجل بنفسه إن أحسن الذبح، اتباعاً لفعل النبي صلّى الله عليه وسلم (¬3). والسنة للمرأة أن توكل عنها. وأن يحضر المضحي أضحيته بنفسه، عملاً بالسنة وطلباً للمغفرة، والمستحب أن يذبحها مسلم، لأنها قربة، فلا يليها غير أهل القربة، قال جابر: «لا يذبح النسك إلا مسلم». ويجوز توكيل مسلم بالذبح، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم وكل علياً رضي الله عنه بذبح ما بقي من المئة بدنة. ويكره استنابة ذمي (كتابي) وصبي وأعمى. وإن وكل ذمياً فذبح، جاز؛ لأنه يجوز للكافر أن يتولى ما كان قربة للمسلم كبناء المساجد والقناطر. ¬
وليس على الوكيل أن يقول عند الذبح عمن؛ لأن النية تجزئ، وإن ذكر من يضحي عنه، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم حينما ضحى، قال: «اللهم تقبل من محمد وآل محمد، وأمة محمد، ثم ضحى» (¬1) وقال الحسن: يقول: «بسم الله والله أكبر، هذا منك ولك، تقبل من فلان». وقال الحنفية: يكره أن يذكر الذابح اسم غير الله، لقوله تعالى: {وما أهلَّ لغير الله به} [المائدة:3/ 5]. وإن عين الشخص أضحية، فذبحها فضولي غيره بغير إذنه، أجزأت عن صاحبها، ولا ضمان عليه عند غير المالكية، لأنه فعل لا يفتقر إلى النية، فإذا فعله غير الصاحب أجزأ عنه، كغسل ثوبه من النجاسة. وقال مالك: هي شاة لحم، لصاحبها أرشها أي قيمتها، وعليه بدلها؛ لأن الذبح عبادة، فإذا فعلها غير صاحبها عنه، بغير إذنه، لم تقع الموقع كالزكاة (¬2). ويكره عند المالكية (¬3): جز صوف الأضحية قبل الذبح إلا إذا تضررت ببقاء الصوف لحر ونحوه، وشرب لبنها، لأنه نواها لله، والإنسان لا يعود في قربته. ويكره للإمام عدم إبراز الأضحية للمصلى، ولغيره يندب؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يذبح وينحر بالمصلى (¬4): وهو مكان صلاة العيد، والحكمة فيه أن يكون بمرأى من الفقراء فيصيبون من لحم الأضحية. ¬
وفصل الشافعية والحنابلة (¬1) في الأمر فقالوا: لا يشرب المضحى من لبن الأضحية المعينة إلا الفاضل عن ولدها، فإن لم يفضل عنه شيء، أو كان الحلب يضرّ بها، أو ينقص لحمها، لم يكن له أخذه. وإن لم يكن كذلك فله حلب اللبن والانتفاع به؛ لأن بقاء اللبن معها يضرها. ولو تصدق به كان أفضل، خروجاً من الخلاف. ودليل جواز الانتفاع، قول علي: «لا يحلبها إلا ما فضل عن تيسير ولدها» ولأنه انتفاع لا يضر بها ولا بولدها. ويجوز لصاحب الأضحية المعينة الركوب عليها لحاجة فقط، بلا ضرر؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «اركبها بالمعروف، إذا ألجئت إليها، حتى تجد ظهراً» (¬2)، ولأنه تعلق بها حق المساكين، فلم يجز ركوبها من غير ضرورة أو حاجة كملكهم. فإن تضررت بالركوب لم يجز؛ لأن الضرر لا يزال بالضرر، ويضمن النقص الحاصل بركوبه، لتعلق حق غيره بها. وأما صوفها: فإن كان جزه أنفع لها، كأن كان في وقت الصيف أو الربيع، وبقي إلى وقت النحر مدة طويلة، جاز جزه؛ لأنها تخف بجزه وتسمن، ويتصدق به وهو الأفضل، أو ينتفع به كاللبن. وإن كان لا يضر بها الصوف لقرب مدة الذبح، أو كان بقاؤه أنفع لها، كما في وقت الشتاء، لاحتياجها له للدفء، لم يجز جزه ولا أخذه؛ لأن الحيوان ينتفع به، في دفع البرد عنه، وينتفع به المساكين عند الذبح. ¬
المبحث السادس ـ أحكام لحوم الضحايا
المبحث السادس ـ أحكام لحوم الضحايا: يتحقق المقصود من الأضحية، وهو القربة بإراقة الدم (¬1)، وأما الأكل منها وتوزيعها ونحوهما ففيه خلاف يسير بين الفقهاء، الجمهور في جانب، والشافعية في جانب آخر، ورأي الجمهور أولى لاتفاقه مع ظاهر السنة النبوية. 1 - قال جمهور الفقهاء (الحنفية والمالكية والحنابلة) (¬2): يجوز الأكل من الأضحية المتطوع بها، أما المنذورة، أو الواجبة بالشراء عند الحنفية فيحرم الأكل منها، كما يحرم الأكل من ولد الأضحية التي تلده قبل الذبح، أو من المشتركة بين سبعة نوى أحدهم بحصته القضاء عن الماضي. أما عند المالكية والحنابلة فيجوز الأكل من المنذورة كالمتطوع بها. والمستحب أن يجمع المضحي في حالة التطوع، أو في حالة النذر عند المالكية والحنابلة بين الأكل منها، والتصدق، والإهداء، ولو أكل الكل بنفسه أو ادخره لنفسه فوق ثلاثة أيام، جاز مع الكراهة عند الحنفية والمالكية. وجاز أكل الأكثر عند الحنابلة، فإن أكل الكل ضمن أقل ما يطلق عليه اسم اللحم كالأوقية. وليس للجمع بين الأمور الثلاثة في المشهور عند المالكية حد مقدر في ذلك بثلث ولاغيره. والمستحب عند الحنفية والحنابلة أن تكون نسبة التوزيع أثلاثاً، فيأكل ثلث أضحيته، ويهدي ثلثها لأقاربه وأصدقائه ولو أغنياء، ويتصد ق بثلثها على ¬
المساكين، ودليلهم عليه: قوله تعالى: {فكلوا منها، وأطعموا القانع، والمعتر} (¬1) [الحج:36/ 22]، {وأطعموا البائس الفقير} [الحج:28/ 22] وأوجب الحنابلة الإطعام عملاً بالآيتين؛ لأن الأمر يقتضي الوجوب. ودليل نسبة التوزيع أثلاثاً عند غير المالكية: ما روى ابن عباس في صفة أضحية النبي صلّى الله عليه وسلم: «ويطعم أهل بيته الثلث، ويطعم فقراء جيرانه الثلث، ويتصدق على السُؤَّال بالثلث» (¬2). وجهات التوزيع ثلاثة: الأكل، والادخار، لما ثبت في الحديث، والإطعام لما ثبت في الآية، فانقسم عليها ثلاثاً. ودليل المالكية على عدم وجود نسبة للتوزيع، وأنها مطلقة: أحاديث عائشة وجابر، وسلمة بن الأكوع وأبي سعيد وبريدة وغيرهم، التي ورد فيها: «كلوا، وادخروا، وتصدقوا» أو: «كلوا وأطعموا، وادخروا» (¬3). والدليل على جواز ادخار لحوم الأضاحي عدا المذكور: قوله صلّى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث من أجل الدافَّة (¬4)، وقد جاء الله بالسعة، فادخروا ما بدا لكم» (¬5). ويحرم بيع جلد الأضحية وشحمها ولحمها وأطرافها ورأسها وصوفها وشعرها ووبرها ولبنها الذي يحلبه منها بعد ذبحها، واجبة كانت أو تطوعاً؛ لأن ¬
النبي صلّى الله عليه وسلم أمر بقسم جلودها ونهى عن بيعها، فقال: «من باع جلد أضحيته، فلا أضحية له» (¬1). ولا يجوز إعطاء الجزار أو الذابح جلدها أو شيئاً منها كأجرة للذبح، لما روى علي رضي الله عنه قال: «أمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن أقوم على بُدْنه (أي عند نحرها)، وأن أقسم جلودها، وجلالها (¬2)، وألا أعطي الجازر شيئاً منها» وقال: «نحن نعطيه من عندنا» (¬3). فإن أعطي الجزار شيئاً من الأضحية لفقره، أو على سبيل الهدية، فلا بأس؛ لأنه مستحق للأخذ فهو كغيره، بل هو أولى، لأنه باشرها، وتاقت نفسه إليها. وللمضحي أن ينتفع بجلد الأضحية لاستعماله في البيت كجراب وسقاء وفرو وغربال ونحوها، ولكن له استحساناً عند الحنفية خلافاً لغيرهم: أن يشتري به ما ينتفع بعينه مع بقائه أي مبادلته بعروض (أمتعة) أخرى؛ لأن للبدل حكم المبدل، والمعاوضة بالعروض من باب الانتفاع. ولا يجوز أن يشتري به شيئاً استهلاكياً كالدراهم والدنانير والمأكولات والمشروبات، أي فلا يجوز البيع بالنقود أو السلع الاستهلاكية. ودليل جواز الانتفاع بالجلد: أن عائشة رضي الله عنها اتخذت من جلد أضحيتها سقاء. ¬
2 - وقال الشافعية
ويكره عند المالكية أن يطعم منها يهودياً أو نصرانياً. وأجاز الحنابلة إهداء الكافر من أضحية التطوع، أما الواجبة فلا يجوز إهداء الكافر منها شيئاً (¬1). أما نقلها إلى بلد آخر: فقال الحنفية: يكره نقلها كالزكاة من بلد إلى بلد إلا أن ينقلها إلى قرابته أو إلى قوم هم أحوج إليها من أهل بلده، ولو نقل إلى غيرهم أجزأه مع الكراهة. وقال المالكية: ولا يجوز نقلها إلى مسافة قصر فأكثر إلا أن يكون أهل ذلك الموضع أشد حاجة من أهل محل الوجوب، فيجب نقل الأكثر لهم، وتفرقة الأقل على أهله. وقال الحنابلة والشافعية كالمالكية: يجوز نقلها لأقل من مسافة القصر، من البلد الذي فيه المال، ويحرم نقلها كالزكاة إلى مسافة القصر وتجزئه .. 2 - وقال الشافعية (¬2): الأضحية الواجبة ـ المنذورة أو المعينة بقوله مثلاً: «هذه أضحية» أو «جعلتها أضحية»: لا يجوز الأكل منها، لا المضحي ولا من تلزمه نفقته. ويتصدق بجميعها وجوباً. ويذبح ولد الأضحية المعينة كأمه، لكن يجوز للمضحي أكله كله قياساً على اللبن، إذ أن له شرب فاضل لبنها عن ولدها مع الكراهة. وأما الأضحية التطوع: فالمستحب للمضحي بها عن نفسه الأكل منها، أي أن الأفضل له تناول لقم يتبرك بأكلها، لقوله تعالى: {فكلوا منها، وأطعموا البائس الفقير} [الحج:28/ 22] وعند البيهقي: «أنه صلّى الله عليه وسلم كان يأكل من كبد أضحيته». وإنما لا يجب الأكل منها ـ كما قال الظاهرية عملاً بظاهر الآية ـ لقوله ¬
الأضحية عن الغير
تعالى: {والبدن جعلناها لكم من شعائر الله} [الحج:36/ 22] فجعلها لنا، وما جعل للإنسان فهو مخير بين تركه وأكله. وللمضحي أيضاً إطعام الأغنياء، لا تمليكهم منها شيئاً، بل يرسل إليهم على سبيل الهدية، دون أن يتصرفوا فيه بالبيع وغيره. والمضحي يأكل ثلثاً على المذهب الجديد، وفي قول قديم: يأكل نصفاً ويتصدق بالنصف الآخر. والأصح وجوباً التصدق ببعض الأضحية، ولو جزءاً يسيراً من لحمها، بحيث ينطلق عليه الاسم، على الفقراء المسلمين ولوواحداً. والأفضل التصدق بالكل إلا لقماً يتبرك بأكلها، كما تقدم. ويتصدق المضحي في أضحية التطوع بجلدها، أو ينتفع به، كما يجوز له الانتفاع بها، والتصدق به أفضل. أما الواجبة: فيجب التصدق بجلدها. ولا يجوز نقل الأضحية من بلدها لمسافة القصر فأكثر كما هو المقرر في نقل الزكاة. الأضحية عن الغير: قال الشافعية (¬1): لا يضحى عن الغير بغير إذنه، ولا عن ميت إن لم يوص بها، لقوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} [النجم:39/ 53] فإن أوصى بها جاز، وبإيصائه تقع له. ويجب التصدق بجميعها على الفقراء، وليس لمضحيها ولا لغيره من الأغنياء الأكل منها، لتعذر إذن الميت في الأكل. ¬
وقال المالكية (¬1): وكره فعلها عن ميت إن لم يكن عينها قبل موته، فإن عينها بغير النذر، ندب للوارث إنفاذها. وقال الحنفية والحنابلة (¬2): تذبح الأضحية عن ميت، ويفعل بها كعن حي من التصدق والأكل، والأجر للميت، لكن يحرم عند الحنفية الأكل من الأضحية التي ضحى بها عن الميت بأمره. ¬
الفصل الثاني: العقيقة وأحكام المولود
الفَصْلُ الثّاني: العَقِيقة وأحكامُ المولود وفيه مبحثان: المبحث الأول ـ العقيقة: الكلام عن العقيقة فيما يأتي: 1 - حكم العقيقة ومعناها وحكمتها: قال الحنفية (¬1): تباح العقيقة ولا تستحب؛ لأن تشريع الأضحية نسخ كل دم كان قبلها من العقيقة، والرجبية، والعتيرة، فمن شاء فعل، ومن شاء لم يفعل. والنسخ ثبت بقول عائشة: «نسخت الأضحية كل ذبح كان قبلها». والعقيقة: الذبيحة التي تذبح عن المولود، يوم أسبوعه. والأصل في معناها اللغوي: أنها الشعر الذي على المولود، ثم أسمت العرب الذبيحة عند حلق شعر المولود عقيقة، على عادتهم في تسمية الشيء باسم سببه، أو ما يجاوره. والرجبية: شاة كان العرب في الجاهلية يذبحونها في رجب، فيأكل منها أهل البيت، ويطبخون، ويطعمون. ¬
والعتيرة: أول ولد للناقة أو الشاة، يذبح، ويأكله صاحبه، ويطعم منه. وقيل: إنها الشاة التي تذبح في رجب، وفاء لنذر، أو إذا أنتجت الشاة عشراً، فتذبح واحدة منها. والصحيح أن العتيرة هي الرجبية، سواء بنذر أو بغير نذر، وهي سنة جاهلية (¬1). وقال جمهور الفقهاء (غير الحنفية) (¬2): لا تسن العتيرة، أو الرجبية، وتسن للأب من ماله العقيقة عن المولود، ولا تجب؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم، في حديث ابن عباس: «عق عن الحسن والحسين عليهما السلام كبشاً كبشاً» (¬3). وقال: «مع الغلام عقيقة، فأهريقوا عنه دماً، وأميطوا عنه الأذى» (¬4) «كل غلام رهينة بعقيقته، تُذبح عنه يوم سابعه، ويُسمى فيه، ويحلق رأسه» (¬5). وقال الشافعية: تسن لمن تلزمه نفقته. وحكمتها: شكر نعمة الله تعالى برزق الولد، وتنمية فضيلة الجود والسخاء وتطييب قلوب الأهل والأقارب والأصدقاء بجمعهم على الطعام، فتشيع المحبة والمودة والألفة. ¬
2 - جنسها وسنها وصفتها
2 - جنسها وسنها وصفتها: هي في الجنس والسن والسلامة من العيوب مثل الأضحية، من الأنعام: الإبل، والبقر، والغنم. وقيل: لا يعق (¬1) بالبقر ولا بالإبل. 3 - عددها: هي عند المالكية: شاة عن الذكر، أو الأنثى، لحديث ابن عباس السابق أنه عليه الصلاة والسلام: «عق عن الحسن شاة، وعن الحسين شاة» وهو المعقول والأيسر. وقال الشافعية والحنابلة: عن الغلام شاتان، وعن الأنثى شاة. لخبر عائشة: «عن الغلام شاتان مكافئتان، وعن الجارية شاة» (¬2) وحديث ابن عباس محمول على الجواز. وكالشاة: سُبْع أو بقرة، فلو ذبح بدنة أو بقرة عن سبعة أولاد، جاز. ولو كان المساهم في العقيقة عند الشافعية يريد اللحم فقط. وتتعدد العقيقة بتعدد الأولاد. وتتحقق السنة بشاة عن الغلام، وشاة عن الأنثى، لفعل النبي صلّى الله عليه وسلم المتقدم عن الحسن والحسين. وتتعدد العقيقة بتعدد الأولاد، فلو ولد له توأمان، كان لهما عقيقتان، ولا تكفي واحدة عنهما. 4 - وقتها: تذبح يوم سابع ولادة المولود، ويحسب يوم الولادة من السبعة. فإن ولدت ¬
ليلاً، حسب اليوم الذي يليه. وعند المالكية: يحسب يوم الولادة إن ولد قبل الفجر أو معه، ولا يعد اليوم الذي ولد فيه، إن ولد بعد الفجر. وقيل عندهم: يحسب إن ولد قبل الزوال لا بعده. ويندب الذبح ضحى إلى الزوال لا ليلاً. وصرح الشافعية والحنابلة: أنه لو ذبح قبل السابع أو بعده، أجزأه. وأضاف الحنابلة والمالكية: لا يعق غير الأب، ولا يعق المولود عن نفسه إذا كبر، لأنها مشروعة في حق الأب، فلا يفعلها غيره. واختار جماعة من الحنابلة: أن للشخص أن يعق عن نفسه استحباباً. ولا تختص العقيقة بالصغر، فيعق الأب عن المولود، ولو بعد بلوغه؛ لأنه لا آخر لوقتها. ويقول الذابح بعد التسمية: اللهم منك وإليك عقيقة فلان؛ لخبر ورد فيه رواه البيهقي بإسناد حسن، وروت عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين، وقال: «قولوا: بسم الله، اللهم لك وإليك عقيقة فلان». ويكره لطخ رأس المولود بدم العقيقة، خلافاً لما كان عليه الجاهلية من تلطيخ رأسه بدمها، قالت عائشة: «كانوا في الجاهلية يجعلون قطنة في دم العقيقة، ويجعلونها على رأس المولود، فأمرهم النبي صلّى الله عليه وسلم أن يجعلوا مكان الدم خَلوقاً» أي زعفراناً. ودليل كراهية التلطيخ أيضاً قوله صلّى الله عليه وسلم: «مع الغلام عقيقة، فأهريقوا عنه دماً، وأميطوا عنه الأذى» (¬1). ¬
5 - حكم لحمها وجلدها
5 - حكم لحمها وجلدها: حكم اللحم كالضحايا، يؤكل من لحمها، ويتصدق منه، ولا يباع شيء منها. ويسن طبخها، ويأكل منها أهل البيت وغيرهم في بيوتهم، وكره عند المالكية عملها وليمة يدعو الناس إليها. ويجوز عند المالكية: كسر عظامها، ولا يندب. وقال الشافعية والحنابلة: يجوز اتخاذ الوليمة، ولا يكره كسر العظام، إذ لم يثبت فيه نهي مقصود، بل هو خلاف الأولى، ويستحب أن تفصل أعضاؤها، ولا تكسر عظامها، تفاؤلاً بسلامة أعضاء المولود، لما روي عن عائشة، أنها قالت: «السنة شاتان مكافئتان عن الغلام، وعن الجارية شاة تطبخ جُدولاً (¬1)، ولا يكسر عظم، ويأكل ويطعم، ويتصدق، وذلك يوم السابع». وأجاز الإمام أحمد في رواية عنه بيع الجلد والرأس والتصدق به. ويستحب إعطاء القابلة من العقيقة؛ لما في مراسيل أبي داود أن النبي قال في العقيقة التي عقتها فاطمة عن الحسن والحسين: «أن يبعثوا إلى القابل برِجْل، وكلوا وأطعموا، ولا تكسروا منها عظماً». فيكون الفرق بين العقيقة والأضحية: أنه يسن طبخ العقيقة، ويستحب ألا تكسر عظامها، وأن تهدى القابلة رجل العقيقة نيئة غير مطبوخة؛ لأن فاطمة رضي الله عنها فعلت ذلك بأمر النبي صلّى الله عليه وسلم، كما روى الحاكم. المبحث الثاني ـ أحكام المولود: وهي كثيرة أهمها ما يأتي: ¬
يؤذن في أذن المولود اليمنى،
يستحب للوالد أن يؤذِّن في أذن المولود اليمنى، وتقام الصلاة في اليسرى حين يولد (¬1)، لما روى أبو رافع أن النبي صلّى الله عليه وسلم أذن في أذن الحسن، حين ولدته فاطمة (¬2)، ولخبر ابن السني عن الحسن بن علي مرفوعاً: «من ولد له مولود فأذن في أذنه اليمنى، وأقام في اليسرى، لم تضره أم الصبيان» أي التابعة من الجن. وعن ابن عباس: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أذن في أذن الحسن بن علي يوم ولد، وأقام في أذنه اليسرى» (¬3). وبما أن هذين الحديثين ضعيفان، فيقتصر في تقديري على الأذان الثابت في حديث أبي رافع، ليكون إعلام المولود بالتوحيد أول ما يقرع سمعه عند قدومه إلى الدنيا، كما يلقن عند خروجه منها، ولما فيه من طرد الشيطان عنه، فإنه يدبر عند سماع الأذان، كما ورد في الخبر. ويسن أن يقول في أذن المولود اليمنى: «إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم» ويقول ذلك، ولو كان المولود ذكراً على سبيل التلاوة، والتبرك بلفظ الآية، بتأويل إرادة (النسمة) وفي مسند ابن رَزِين أنه قرأ في أذن مولود (أي اليمنى) سورة الإخلاص. ويسن أن يُحنِّك المولود بتمرة، بأن تمضغ، ويدلك بها داخل فمه، ويفتح فمه، حتى ينزل إلى جوفه منها شيء. فإن لم يكن تمر، فيحنكه بحلو (¬4). لما في الصحيحين عن أبي موسى قال: «ولد لي غلام، فأتيت به النبي صلّى الله عليه وسلم، فسماه: ¬
يهنأ الوالد،
إبراهيم، وحنكه بتمرة» زاد البخاري: «ودعا له بالبركة، ودفعه إلي، وكان أكبر ولد أبي موسى». وروى أنس قال: «ذهبت بعبد الله بن أبي طلحة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، حين ولد، فقال: هل معك تمر؟ قلت: نعم، فناولته تمرات، فلاكهن، ثم فغر فاه، ثم مجّه فيه، فجعل يتلمظ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: حَب الأنصار: التمر، وسماه: عبد الله» (¬1). ويندب أن يُهنَّأ الوالد، بأن يقال له: «بارك الله لك في الموهوب لك، وشكرت الواهب، وبلغ أشده، ورزقت بره» ويرد هو على المهنئ، فيقول: «بارك الله لك، وبارك عليك» أو: «أجزل الله ثوابك» أو نحو ذلك (¬2). ويستحب حلق رأس المولود في اليوم السابع من ولادته، وأن يُسمى فيه، بعد ذبح العقيقة، ويُتَصدَّق بوزن شعره ذهباً أو فضة (¬3)، لأنه صلّى الله عليه وسلم أمر فاطمة، فقال: «زِني شعر الحسين، وتصدقي بوزنه فضة» (¬4)، كما قال لها لما ولدت الحسن: «احلقي شعر رأسه، فتصدقي بوزنه من الوَرِق» (¬5) أي الفضة. وقيس بالفضة: الذهب. ويكره الختان يوم الولادة ويوم السابع عند الحنفية؛ لأنه من فعل اليهود. ويستحب عند الشافعية أن يكون الختان في اليوم السابع من ولادته، لما أخرجه البيهقي عن عائشة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم ختن الحسن والحسين يوم السابع من ولادتهما». والختان للذكر بقطع الجلدة التي تغطي الحشفة: سنة مؤكدة عند ¬
تكره الأسماء القبيحة
المالكية والحنفية للذكور، والخفاض في النساء مكرمة وهي قطع أدنى جزء من الجلدة التي في أعلى الفرج، ويندب ألا تَنْهَك، أي لا تجور في قطع الجلدة التي في أعلى الفرج لأجل تمام اللذة في الجماع. وقال الشافعية: الختان فرض على الذكور والإناث، وقال أحمد: الختان واجب على الرجال، مكرمة في حق النساء (¬1)، ويجري هذا عادة في البلاد الحارة. ويستحب أن يؤخر عند المالكية حتى يؤمر الصبي بالصلاة، وذلك من السبع إلى العشر. وحكمة الختان: المبالغة في الطهارة والنظافة، وتمييز المسلم من غيره. ويسن أن يحسن الوالد اسم المولود (¬2) لخبر: «إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم، وأسماء آبائكم، فحسِّنوا أسماءكم» (¬3). وأفضل الأسماء: عبد الله، وعبد الرحمن، لخبر مسلم: «أحب الأسماء إلى الله تعالى: عبد الله، وعبد الرحمن»، زاد أبو داود: «وأصدقها: حارث وهمام، وأقبحها: حرب ومرة». ومثل ذلك كل ما أضيف إلى أسماء الله الحسنى. ومثله أسماء الأنبياء أو الملائكة لحديث: «تسموا باسمي، ولا تكنوا بكنيتي» (¬4). قال مالك: سمعت أهل المدينة يقولون: «ما من أهل بيت فيهم اسم محمد، إلا رزقوا رزق خير». فالتكني بأبي القاسم حرام (¬5). وتكره الأسماء القبيحة، كشيطان وظالم وشهاب وحمار وكليب، وما ¬
التسمية بأكثر من اسم واحد
يتشاءم بنفيه عادة، كنجيح وبركة، لخبر: «لا تسمين غلامك: أفلح ولا نجيحاً، ولا يساراً، ولا رباحاً، فإنك إذا قلت: أثمَّ هو؟ قال: لا»، ويسن أن تغير الأسماء القبيحة، وما يتطير بنفيه لخبر مسلم: «أنه صلّى الله عليه وسلم غيَّر اسم عاصية، وقال: أنت جميلة». وفي الصحيحين أنه غير اسم بَرّة إلى زينب، وهي زينب بنت جحش. ويجوز التسمية بأكثر من اسم واحد، والاقتصار على اسم واحد أولى، لفعله صلّى الله عليه وسلم بأولاده. ويكره كراهة شديدة التسمية ب ست الناس أو العلماء، أو القضاة، أو العرب، لأنه كذب. ولا تجوز التسمية بملك الأملاك وشاهان شاه، ومعناه: ملك الأملاك وليس ذلك إلا الله. والتسمية بعبد النبي قد تجوز إذا قصد به التسمية، لا النبي صلّى الله عليه وسلم، ومال الأكثرون إلى المنع منه، خشية التشريك لحقيقة العبودية، واعتقاد حقيقة العبودية. ولا تجوز التسمية بعبد الكعبة، وعبد العزى. ويحرم تلقيب الشخص بما يكره، وإن كان فيه، كالأعور والأعمش، ويجوز ذكره بنية التعريف لمن لم يعرفه إلا به. وتجوز الألقاب الحسنة، كألقاب الصحابة مثل عمر الفاروق، وحمزة أسد الله، وخالد سيف الله. ويحرم التسمية بما لا يليق إلا بالله، كقدوس، والبر، وخالق، والرحمن، لأن معنى ذلك لا يليق بغيره تعالى.
وتستحب كما تقدم التهنئة بالمولود بين الرجال وبين النساء، بأن يقال: بارك الله لك في الموهوب لك، وشكرت الواهب، وبلغ أشده، ورُزقت بِرَّه. ويجيب الوالد والوالدة: بارك الله لكم، وبارك عليكم، وأجزل ثوابكم.
الباب التاسع: الذبائح والصيد
البَاب التَّاسع: الذّبائح والصّيد وفيه فصلان: الفصل الأول ـ في الذبائح الفصل الثاني ـ في الصيد
الفصل الأول: الذبائح
الفَصْلُ الأوَّل: الذّبائح وفيه مقدمة في الذبح وحكمه، وأربعة مباحث: المبحث الأول ـ في الذابح أو المذكي. المبحث الثاني ـ في الذبح أو التذكية (صفة التذكية، شروطها، سننها، مكروهاتها، أنواعها، ما يحرم أكله من المذبوح ـ أثر ذكاة الأم في الجنين، أثر الذكاة في المشرف على الموت أو المريض، أثر الذكاة في غير المأكول). المبحث الثالث ـ في آلة الذبح. المبحث الرابع ـ في الذبيحة أو المذكى ـ ما يؤكل من الحيوان وما لا يؤكل.
المقدمة ـ تعريف الذبح وحكمه شرعا
المقدمة ـ تعريف الذبح وحكمه شرعا ً: الذبح أو الذكاة أو التذكية لغة: القطع أو الشق وإزهاق الحيوان. واصطلاحاً: يختلف بحسب الواجب قطعه في كل مذهب. فعند الحنفية والمالكية (¬1): هو فري العروق، والعروق التي تقطع في الذكاة أربعة: الحلقوم، والمريء، والودجان (¬2). ومحله ما بين الَّلبة والَّلحيين (عظمي الحنك)، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «الذكاة: ما بين الَّلبة والِّلحية» (¬3) أي محل الذكاة: ما بين اللبة واللحيين. واللبة: أسفل العنق. واللحية شعر الذقن. والنحر: فري الأوداج، ومحله: آخر الحلق، والذكاة الاضطرارية: جرح في أي موضع كان من البدن. وعند الشافعية والحنابلة (¬4): الذكاة: ذبح حيوان مقدور عليه مباح أكله بقطع الحلقوم والمري. ومحله الحلق: أعلى العنق، أو اللبة: أسفل العنق فيسمى نحراً (¬5)، أوعقر مزهق للروح عند التعذر في أي موضع كان. والخلاصة باتفاق المذاهب أن الذكاة: هي ذبح أو نحر أوعقر حيوان مباح الأكل. وحكمه: أنه شرط حل الأكل في الحيوان البري المأكول، فلا يحل شيء من الحيوان المأكول بغير ذكاة شرعية، لقوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم ¬
المبحث الأول ـ الذابح
الخنزير، وما أهل لغير الله به، والمنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع، إلا ما ذكيتم} [المائدة:3/ 5] فقد علق الحل بالتذكية. ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه، فكلوا ما لم يكن سناً أو ظفراً، وسأحدثكم عن ذلك: أما السن فعظم، وأما الظُّفر فمدى الحبشة» (¬1). والحكمة من الذبح: مراعاة صحة الإنسان العامة، ودفع الضرر عن الجسم، بفصل الدم عن اللحم وتطهيره من الدم؛ لأن تناول الدم المسفوح حرام بسبب إضراره بالإنسان، لأنه مباءة الجراثيم والمكروبات، ولكل دم زمرة أو فصيلة تناسبه، فيمنع الاختلاط بين الدماء، ويعد الدم نجساً تنفيراً منه. قال بعض العلماء: والحكمة في اشتراط الذبح وإنهار الدم تمييز حلال اللحم والشحم من حرامهما، وتنبيه على تحريم الميتة لبقاء دمها. المبحث الأول ـ الذابح الذابح أحد أصناف ثلاثة: صنف تحرم ذكاته بالاتفاق، وصنف تجوز تذكيته بالاتفاق، وصنف مختلف فيه (¬2). ف الذابح الذي لا تؤكل ذبيحته وتحرم بالاتفاق: هو الكافر من غير أهل الكتاب، كالمشرك أو الوثني عابد الأصنام، والملحد الذي لا يدين بدين، والمرتد وإن تدين بدين أهل الكتاب، والزنديق، لقوله تعالى: {وما ذُبح على النُّصُب} [المائدة:3/ 5] وقوله: {وما أهل لغير الله به} [المائدة:3/ 5] لأنه يحرم الاتجاه ¬
الذابح المتفق على ذكاته
بالذبح إلى غير الله تعالى، والمرتد لا يقر على الدين الذي انتقل إليه، وبناء عليه تحرم اللحوم المستوردة من البلاد الوثنية كاليابان، أو الشيوعية كروسيا والصين، أو التي لا تدين بدين سماوي كالهند. كماتحرم ذبيحة الباطنية إلا من ثبت إيمانه بالإسلام وترك ملته. والذابح المتفق على ذكاته: هو المسلم البالغ العاقل الذكر، الذي لا يضيع الصلاة، لقوله تعالى: {إلا ما ذكيتم} [المائدة:3/ 5] والخطاب فيه موجه للمسلمين. وأشهر المختلف في تذكيته بين الفقهاء: أهل الكتاب والمجوس والصابئون، والمرأة والصبي والمجنون والسكران، والسارق والغاصب. 1ً ـ ذبيحة الكتابي: فأما أهل الكتاب: فتجوز من حيث المبدأ ذبائحهم بالإجماع (¬1) لقوله تعالى: {وطعام الذين أوتوا الكتاب} ـ أي ذبائحهم ـ {حل لكم، وطعامكم حل لهم} [المائدة:5/ 5]. والجائز: هو ما يعتقدونه في شريعتهم حلالاً لهم، ولم يحرم عليهم، كلحم الخنزير، ولو لم يعلم أنهم سموا الله تعالى، أو كانت الذبيحة لكنائسهم وأعيادهم ولو اعتقدوا تحريمه كالإبل. قال ابن عباس: «وإنما أحلت ذبائح اليهود والنصارى من أجل أنهم آمنوا بالتوراة والإنجيل» (¬2). إلا أن الإمام مالك قال: ذبائحهم المحرمة عليهم مكروهة لنا، كالإبل والشحوم الخالصة، وهي المذكورة في قوله تعالى: {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ¬
ذي ظفر (¬1)، ومن البقر والغنم، حرمنا عليهم شحومهما، إلا ما حملت ظهورهما، أو الحوايا، أو ما اختلط بعظم} [الأنعام:146/ 6]. وأجازها الجمهور لأنها مسكوت عنها في شرعنا، فتبقى على أصل الإباحة. وكذلك تكره عند المالكية والشافعية وفي رواية عن أحمد المذبوحة لكنائسهم وأعيادهم، لما فيها من تعظيم شركهم، ولأن الذابح قصد بقلبه الذبح لغير الله، ولم يذكر اسم الله عليه. وهذا هو الأصوب. وأما إذا علم أن الذابح سمى على الذبيحة غير اسم الله، بأن ذبح النصراني باسم المسيح، واليهودي باسم العزير، فقال الجمهور بعدم الحل لقوله تعالى: {وما أهل لغير الله به} [المائدة:3/ 5] {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} [الأنعام:121/ 6] وهذا هو الأولى بالصحة؛ لأن المراد بحل ذبائحهم ما ذبحوه بشرطه كالمسلم. وقال المالكية: بكراهة ذلك في غير حرمة، لعموم آية {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} [المائدة:5/ 5] لأنه قد علم الله أنهم سيقولون على ذبائحهم مثل ذلك، ولأن تسميتهم باسم الإله حقيقة ليست على طريق العبادة، فكانت التسمية منهم وعدمها على سواء. وقيد الشافعية حل ذبيحة الكتابي وزواج الكتابية بشرط هو ما يأتي (¬2):إن لم يكن الكتابي إسرائيلياً: فالأظهر الحل إن علم دخول قومه (أي أول من تدين من آبائه) في ذلك الدين (أي دين موسى وعيسى عليهما السلام) قبل نسخه وتحريفه، لتمسكهم بذلك الدين حين كان حقاً. ¬
ـ ذبيحة المجوس
وإن كان الكتابي إسرائيلياً (¬1) فالشرط فيه: ألا يعلم دخول أول آبائه في ذلك الدين بعد بعثة تنسخه، بأن علم دخول أول آبائه في ذلك الدين قبل البعثة، أو شك. فإن علم دخوله فيه بعد تحريفه، أو بعد بعثه لا تنسخه، كبعثة بين موسى وعيسى، فإنه يحل ذبحه، وتزوج الأنثى (¬2). وفي علمي أنه لا دليل للشافعية على هذا الشرط؛ لأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم أكلوا من ذبائح الكتابيين وتزوجوا من نسائهم، ولم يبحثوا عن توافر هذا الشرط. 2ً ـ ذبيحة المجوس: لا تؤكل ذبيحة المجوس وصيدهم (¬3)؛ لأنهم مشركون ليسوا من أهل الكتاب، إذ يعتقد المجوسي بخالقين اثنين: للخير والشر، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم، ولا آكلي ذبائحهم» (¬4) وقد روى أحمد بإسناده عن قيس بن سكن الأسدي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنكم نزلتم بفارس من النَّبط، فإذا اشتريتم لحماً، فإن كان من يهودي أو نصراني، فكلوا، وإ ن كان ذبيحة مجوسي، فلا تأكلوا». 3ً ـ ذبيحة الصابئة: الصابئون إن وافقوا أهل الكتاب في أصول العقائد تؤكل ذبائحهم، وإن لم يوافقوهم وكان دينهم بين المجوسية والنصرانية، أو يعتقدون بتأثير النجوم، فلا تؤكل ذبائحهم (¬5). وهذا التفصيل وهو رأي الشافعية هو الأولى خلافاً لمن قال بالحل كأبي حنيفة، أو بالحرمة مطلقاً وهم المالكية. ¬
ـ ذبيحة المرأة والصبي
4ً ـ ذبيحة المرأة والصبي: تحل ذبيحة المرأة ولو حائضاً، والصبي المميز (¬1)؛ لأن للمرأة أهلية كاملة، لكن يستحب كون الذابح رجلاً؛ لأنه أقوى على الذبح من المرأة، ولأن للصبي قصداً صحيحاً، فأشبه البالغ. وتصح ذبيحة غير المميز مع الكراهة عند الشافعية؛ لأن له قصداً وإرادة في الجملة. ولا تصح ذبيحته عند جمهور الفقهاء لأنه لا قصد له، فلا يعقل التسمية، ولا يضبط الذبيحة، أي فلا يعلم شرائط الذبح من فري الأوداج والتسمية. 5ً ـ المجنون والسكران: لا تحل ذبيحتهما عند الجمهور، لأنه لا قصد لهم كالصبي غير المميز، وأجاز الشافعية في الأظهر مع الكراهة ذبيحتهما؛ لأن لهما قصداً وإرادة في الجملة (¬2). 6ً ـ السارق والغاصب: أجاز جمهور الفقهاء غير الظاهرية ذبيحتهما، وذبيحة المستكره؛ لأن لهما قصداً صحيحاً، ولأنه ليس وجود الملك شرطاً من شروط التذكية (¬3)، بدليل ما ثبت في السنة من إباحة ذبحهما مع الكراهية، في حديث الشاة المصلية (المشوية أو المطبوخة) التي ذبحت بغير إذن صاحبها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أطعموها الأسارى» (¬4). شروط الذابح: مما سبق تعرف شروط الذابح: وهي أن يكون مميزاً عاقلاً، مسلماً أو كتابياً: ذمياً أو حربياً أو من نصارى بني تغلب، قاصداً التذكية، ولو كان ¬
المبحث الثاني ـ الذبح أو التذكية
مكرهاً على الذبح، ذكراً أو أنثى، طاهراً أو حائضاً أو جنباً، بصيراً أوأعمى، عدلاً أو فاسقاً؛ لعموم الأدلة وعدم المخصص، فلا يصح ذبح غير المميز والمجنون والسكران عند الجمهور خلافاً للشافعي، ولا تؤكل ذبيحة المشرك والمجوسي والوثني والمرتد، وتكره عند الشافعية ذكاة الأعمى وغير المميز والمجنون والسكران. وتكره عند الكل ذبيحة النصراني أو اليهودي والفاسق وتارك الصلاة. ودليل إباحة ذبيحة المرأة: أن جارية لكعب بن مالك كانت ترعى غنماً بسَلْع، فأصيبت شاة منها، فأدركتها فذبحتها بحجر، فسأل النبي فقال: «كلوها» (¬1). المبحث الثاني ـ الذبح أو التذكية: وفيه ثلاثة عشر مطلباً: المطلب الأول - عدد المقطوع: اتفق العلماء على أن الذبح الذي يقطع فيه الودجان والمري والحلقوم مبيح للأكل. واختلفوا في الحد الأدنى الذي يجب قطعه: 1 - فقال أبو حنيفة (¬2): يجب قطع الأكثر من أربعة أي ثلاثة منها: وهي الحلقوم، والمري والودجان، فلو ترك الذابح واحداً منها يحل. لحديث «أفر الأوداج بما شئت» (¬3) والأوداج: اسم جمع، أقله ثلاثة. ¬
وقال أبو يوسف: لا بد من قطع الحلقوم والمري وأحد الودجين؛ لأن كل واحد من العروق يقصد بقطعه غير ما يقصد به الآخر؛ لأن الحلقوم مجرى النفَس، والمري: مجرى الطعام، والودجين مجرى الدم. وقال محمد: لا يحل حتى يقطع من كل واحد من الأربعة أكثره، لأنه إذا قطع الأكثر من كل واحد من الأربعة، فقد حصل المقصود بالذبح، وهو خروج الدم. 2 - وقال المالكية في المشهور عندهم (¬1): لا بد من قطع جميع الحلقوم وجميع الودجين. ولا يشترط قطع المري عندهم. فكان مذهبهم قريباً من الحنفية، ودليلهم المفهوم من حديث رافع بن خَديج: «ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه، فكل» (¬2) وحديث أبي أمامة: «ما أفرى الأوداج، ما لم يكن قرض سن، أو جزّ ظفر» (¬3) فالأول: يقتضي قطع بعض الأوداج فقط، وهو معنى إنهار الدم، والثاني: يقتضي قطع جميع الأوداج، ولا يمكن قطع الودجين بدون الحلقوم، لاحاطتهما به. وهذا أدق وأصح الآراء. 3 - وقال الشافعية والحنابلة (¬4): لا بد من قطع كل الحلقوم (مجرى النفَس) والمري (مجرى الطعام)؛ لأن الحياة تفقد بفقدهما. ويستحب قطع الودجين (وهما عرقان في صفحتي العنق)؛ لأنه من الإحسان في الذبح، وخروجاً من الخلاف. وإجزاء قطع الحلقوم والمري مشروط بوجود الحياة المستقرة عند أول قطعهما (بأن ¬
المطلب الثاني ـ موضع القطع
أسرع في الذبح فقطعهما دفعة، وإلا اشترطت عند آخر قطع)، فإن لم يسرع قطعهما (بأن أسرع في الذبح فقطعهما دفعة، وإلا اشترطت عند آخر قطع)، فإن لم يسرع قطعهما ولم تكن فيه حياة مستقرة، بل انتهى لحركة مذبوح، لم يحل؛ لأنه صار ميتة، فلا يفيده الذبح بعدئذ. المطلب الثاني ـ موضع القطع: لا خلاف في أنه إذا قطعت جوزة الحلقوم (أي العقدة التي في أعلى الحلق) في نصفها، وخرج بعضها إلى جهة البدن، وبعضها إلى جهة الرأس، حلت الذبيحة. فإن لم تقطع الجوزة في نصفها، وخرجت إلى جهة البدن، فقال جمهور الفقهاء غير الحنفية: لا تؤكل؛ لأن قطع الحلقوم شرط في الذكاة، فلا بد أن تقطع الجوزة، لأنه إذا قطع فوق الجوزة فقد خرج الحلقوم سليماً. وعلى هذا فلا بد من أن يبقى من الجوزة تدويرتان كاملتان: إحداهما من أعلى، والثانية من أسفل، وإلا لم يحل المذبوح، لأنه حينئذ يسمى مزعاً لا ذبحاً. وقال الحنفية وبعض المالكية: تؤكل، لأنه لا يشترط قطع الحلقوم ذاته، فإن قطع فوق الجوزة، جاز (¬1) لأنه يشترط فقط قطع أكثر الأوداج، وقد وجد. وعبارة الحنفية: المختار أن كل شيء ذبح وهو حي، أكل، وعليه الفتوى، لقوله تعالى: {إلا ما ذكيتم} [المائدة:3/ 5] من غير تفصيل. ¬
المطلب الثالث ـ الذبح من القفا
المطلب الثالث ـ الذبح من القفا: قال المالكية (¬1): لا يؤكل ما ذبح من القفا، ولا في صفحة العنق إذا وصل من ذلك إلى قطع ما يجب في الذكاة؛ لأن القاطع للعروق أعضاء الذكاة من القفا، لا يصل إليها بالقطع إلا بعد قطع النخاع الشوكي، وهو مقتل من المقاتل، فيحصل الذبح لحيوان قد أصيب مقتله. وقال جمهور الفقهاء (¬2): يكره ذبح الحيوان من القفا، أو من صفحة العنق، فلو فعل ذلك عصى لما فيه من التعذيب. لكن إن حدث القطع على وجه السرعة، وأتت السكين على موضع الذبح، وفي الحيوان حينئذ حياة مستقرة حتى تقطع العروق عند الحنفية، والحلقوم والمري عند الشافعية والحنابلة، جاز أكله، وإلا لم يحل لموته بلا ذكاة. ويعلم وجود الحياة المستقرة بوجود الحركة أو انفجار الدم بعد قطع موضع الذبح، فهي دليل بقاء الحياة المستقرة قبله. فإن لم يعلم وشك، هل توجد الحياة المستقرة قبل قطع موضع الذبح نظر: فإن كان الغالب بقاء ذلك لحدة الآلة وسرعة القطع، أبيح أكله، وإن كانت الآلة كالَّة (لا تقطع)، وأبطأ قطعه، وطال تعذيبه للحيوان لم يبح أكله؛ لأنه مشكوك في وجود ما يحله، وصار ميتة، فلا يفيده الذبح بعدئذ. المطلب الرابع ـ قطع النخاع: إن تمادى الذابح بالذبح حتى قطع النخاع (¬3)، أو قطع كل الرقبة (إبانة ¬
المطلب الخامس ـ فورية الذبح
الرأس)، كره الذبح عند جمهور الفقهاء غير الحنابلة (¬1)، لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه نهى عن النَّخْع (بلوغ السكين النخاع) ولأن فيه زيادة تعذيب، فإن فعل ذلك لم يحرم؛ لأن قطع النخاع يوجد بعد حصول الذكاة. وقال الحنابلة (¬2): لو أبان رأس الحيوان المأكول بالذبح أو بسيف، أبيح مطلقاً، لإفتاء علي وعمران بن حصين بأكله. المطلب الخامس ـ فورية الذبح: يشترط الإسراع أو الفورية في إكمال الذبح عند جمهور الفقهاء (¬3)، فإن رفع يده قبل تمام الذبح، ثم أعادها فوراً، تؤكل الذبيحة. فإن تباعد ذلك لم تؤكل، لأن الذكاة طرأت على منفوذة المقاتل، أي التي نفذ فيها أثر القتل قبل الذبح فصارت ميئوسة مقطوعاً بموتها. وقال الحنفية (¬4): يستحب التذفيف (الإسراع) في قطع الأوداج، ويكره الإبطاء فيه، للحديث: «وليرح ذبيحته» والإسراع نوع راحة له. المطلب السادس ـ شروط الذبح أو التذكية الشرعية: يشترط لجواز التذكية أو الذبح شروط أخرى عدا ما ذكر من قطع العروق، والفورية، وكون الذابح مسلماً أو كتابياً، وهي ما يأتي: ¬
أولا ـ النية أو القصد
أولاً ـ النية أو القصد: أي قصد الفعل لتؤكل لا مجرد إزهاق الروح: يشترط في الذبح باتفاق الفقهاء (¬1) قصد عين المذبوح بالفعل، وإن أخطأ في الظن، أو قصد الجنس، وإن أخطأ في الإصابة. فلو تم قطع العروق بغير نية الذبح، إذ لم يقصد أحد تحقيقه، لم تحل الذبيحة، كما لوضرب حيواناً بآلة، فأصابت منحره، أو أصابت صيداً، أو قصد مجرد إزهاق روحه من غير قصد تذكية، لم يؤكل (¬2). ثانياً ـ التسمية عند التذكية حالة التذكر: بأن يقول: (بسم الله) عند حركة يده بالذبح أو النحر أو العقر، ويسن التكبير مع التسمية بأن يقول: (بسم الله، والله أكبر). قال جمهور الفقهاء غير الشافعية (¬3): تشترط التسمية عند التذكية وعند الإرسال في العقر، فلا تحل الذبيحة، سواء أكانت أضحية أم غيرها، في حال ترك التسمية عمداً، وكانت ميتة. فلو تركها سهواً، أو كان الذابح المسلم أخرس أو مستكرهاً، تؤكل لقوله تعالى: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه، وإنه لفسق} [الأنعام:121/ 6] وأضاف الحنابلة: من ترك التسمية على الصيد عامداً أو ساهياً، لم يؤكل. وعلى هذا فتحقيق المذهب عندهم أن التسمية على الذبيحة تسقط بالسهو، وعلى الصيد لا تسقط. وقال الظاهرية: تشترط التسمية مطلقاً، ولا يؤكل متروك التسمية عمداً أو سهواً. ¬
وقال الشافعية (¬1): تسن التسمية ولا تجب وتركها مكروه، لقوله تعالى: {فكلوا مما ذكراسم الله عليه} [الأنعام:118/ 6] فلو ترك التسمية عمداً، أو سهواً، حل الأكل، ولأن الله تعالى في قوله: {إلا ما ذكيتم} [المائدة:3/ 5] أباح المذكى، ولم يذكر التسمية، وأباح الله تعالى ذبائح أهل الكتاب، وهم لا يسمون غالباً، فدل على أنها غير واجبة. أما الذبيحة التي يحرم أكلها، فهي التي ذكر اسم غير الله عليها، وهي التي كانت تذبح للأصنام. وهذا هو المقصود بآية {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} [الأنعام:121/ 6]. ويدل لمذهب الشافعية من السنة أحاديث منها: حديث عائشة رضي الله عنها: «إن قوماً قالوا: يا رسول الله: إن قومنا يأتوننا باللحم، لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال: سموا الله عليه أنتم، وكلوا» (¬2) وفي رواية لمالك: «وكانوا حديثي عهد بالكفر» ولو كانت التسمية واجبة، لما أجاز الأكل مع الشك. وحديث عدي بن حاتم، قال: «سألت النبي صلّى الله عليه وسلم عن الصيد؟ فقال: إذا رميت بسهمك، فاذكر اسم الله عليه» (¬3). وحديث الصلت السدوسي: «ذبيحة المسلم حلال، ذكر اسم الله، أو لم يذكر» (¬4) ويذكره الفقهاء بلفظ غريب: «المسلم يذبح على اسم الله تعالى، سمى أو ¬
المطلب السابع ـ سنن التذكية
لم يسم»، وسأل رجل النبي صلّى الله عليه وسلم: الرجل منا يذبح، وينسى أن يسمي الله، قال: اسم الله على كل مسلم» (¬1) وفي لفظ: «على فم كل مسلم» أو «اسم الله في قلب كل مسلم». والأحاديث الأخرى المطالبة بالتسمية مثل خبر أبي ثعلبة: «فما صدت بقوسك فاذكر اسم الله، ثم كل ... » محمولة على الندب. وهذا الرأي أيسر من غيره، لكن أدلة الجمهور وأحاديثهم أصح وأقوى ثبوتاً وأعم مراداً. المطلب السابع ـ سنن التذكية: يستحب في التذكية ما يأتي وهي سنن الذبح (¬2): 1 - التسمية عند من لا يوجبها وهم الشافعية، والتكبير، فيقول: بسم الله، والله أكبر. ولا يقل: باسم الله واسم محمد، وأضاف الشافعية: ويصلي على النبي صلّى الله عليه وسلم عند الذبح؛ لأنه محل طاعة. 2 - كون الذبح بالنهار، ويكره تنزيهاً عند الحنفية بالليل، قياساً على الأضحية، خشية الخطأ في الذبح، وقد روي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه نهى عن الأضحية ليلاً، وعن الحصاد ليلاً (¬3). ¬
3 - توجه الذابح والذبيحة نحو القبلة؛ لأن القبلة جهة معظمة وهي أشرف الجهات، والتذكية عبادة، وكان الصحابة إذا ذبحوا استقبلوا القبلة، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم لما ضحى، وجه أضحيته إلى القبلة، وقال: {وجهت وجهي .. } [الأنعام:79/ 6] الآيتين (¬1). فإن لم يستقبل ساهياً أو لعذر، أكلت. 4 - إضجاع الذبيحة على شقها الأيسر برفق، ورأسها مرفوع. ويأخذ الذابح جلد حلقها من اللحي الأسفل، فيمده، حتى تتبين البشرة، ثم يمر السكين على الحلق تحت الجوزة، حتى يقف في عظم الرقبة. فإن كان أعسر، جاز أن يجعلها على شقها الأيمن. ويكره ذبح الأعسر ويستحب أن يستنيب غيره. وتترك رجلها اليمنى تتحرك بعد الذبح لتستريح بتحريكها، إلا الإبل، فالأفضل أن تنحر قائمة معقولة ركبتها اليسرى، لقوله تعالى: {فاذكروا اسم الله عليها صوافّ} [الحج:36/ 22] كما سيأتي. 5 - نحر الإبل قائمة معقولة الركبة اليسرى، وذبح البقر والغنم مضجعة لجنبها الأيسر وتترك رجلها اليمنى، وتشد باقي القوائم، لقوله تعالى في الإبل: {فاذكروا اسم الله عليها صوافّ} [الحج:36/ 22] قال ابن عباس: «أي قياماً على ثلاث» (¬2) أما الشاة ففي الصحيحين: «أنه أضجعها» وقيس عليها البقر وغيره، لأنه أسهل على الذابح في أخذه السكين باليمين، وإمساك الرأس باليسار. ولا خلاف بين أهل العلم في استحباب نحر الإبل (¬3)، وذبح ما سواها، قال الله تعالى: {فصل لربك وانحر} [الكوثر:2/ 108] وقال تعالى: {إن الله ¬
يأمركم أن تذبحوا بقرة} [البقرة:67/ 2] قال مجاهد: أمرنا بالنحر، وأمر بنو إسرائيل بالذبح (¬1). وثبت «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نحر بدنة، وضحى بكبشين أقرنين ذبحهما بيده» (¬2). 6 - قطع الأوداج كلها والتذفيف أي الإسراع بالذبح، ويكره قطع البعض دون البعض، لما فيه من إبطاء فوات الحياة. ولايبلغ بالذبح النخاع (وهو العرق الأبيض الذي يكون في عظم الرقبة) ولا إبانة الرأس، ولو فعل ذلك يكره، لما فيه من زيادة إيلام من غير حاجة إليه، كما بان سابقاً. 7 - إحداد الشفرة (السكين العظيمة) قبل الإضجاع، لا بمرأى البهيمة؛ لأنها تعرف الآلة الجارحة كما تعرف المهالك، فتتحرز عنها، فإذا أحد الشفرة، وقد أضجعها، يزداد ألمها. قال النبيصلّى الله عليه وسلم: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم، فأحسنوا القِتْلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته» (¬3) وفي سنن البيهقي أن عمر رضي الله عنه «رأى رجلاً وقد أضجع شاة، ووضع رجله على صفحةوجهها، وهو يحد الشفرة، فضربه بالدِّرة» وعن ابن عباس قال: «مر رسول الله صلّى الله عليه وسلم على رجل واضع رجله على صفحة شاة، وهو يحد شفرته، وهي تلحظ إليه ببصرها، قال: أفلا قُتِل هذا، أو يريد أن يميتها موتتين» (¬4). ويستحب ألا يذبح شاة، وأخرى تنظر إليه لما روى ابن عمر: «أن رسول الله ¬
المطلب الثامن ـ مكروهات التذكية
صلّى الله عليه وسلم أمر أن تحد الشفار، وأن توارى عن البهائم» (¬1). 8 - الترفق بالبهيمة، فلا يضرب بها الأرض، ولا تجر برجلها إلى المذبح؛ لأنه إلحاق زيادة ألم بها من غير حاجة إليها في التذكية. المطلب الثامن ـ مكروهات التذكية: يكره في الذبح أو التذكية ترك السنن السابقة، فتكون مكروهات التذكية ما يأتي (¬2): 1 - ترك التسمية عند من لا يوجبها أو لا يشترطها، وهم الشافعية وبعض المالكية. أو قرن اسم الله باسم محمد أو غيره. ويكره عند الحنفية أن يقول الذابح عند الذبح: اللهم تقبل من فلان. وإن قال ذلك قبل التسمية والإضجاع أوبعد الذبح جاز. 2 - التوجه بالذبيحة لغير القبلة، لمخالفة السنة. 3 - نحر الشياه وذبح الإبل عند الحنفية، لمخالفة ما ثبت بالسنة، ولا يكره ذلك عند الشافعية والحنابلة، لعدم ورود نهي فيه. 4 - التعذيب أو زيادة الألم بلا فائدة مثل قطع الرأس، وكسر الرقبة، وبلوغ النخاع، والذبح من القفا (¬3)، وجر الحيوان برجله إلى المذبح، وحد الشفرة أمامه ¬
المطلب التاسع ـ أنواع التذكية
بعد الإضجاع، والذبح أمام بهيمة أخرى لمخالفة الثابت في السنة، والسلخ أو النخع (قطع النخاع) قبل أن يبرد الحيوان، لما روي «أن الفَرافِصَة قال لعمر رضي الله عنه: إنكم تأكلون طعاماً لا نأكله، قال: وما ذاك يا أبا حسان؟ فقال: تُعجلون الأنفس قبل أن تزهق (¬1). فأمر عمر رضي الله عنه منادياً ينادي: الذكاة في الحلق والَّلبة لمن قدر، ولا تعجلوا الأنفس حتى تزهق» (¬2). 5 ـ الذبح بالسن والظفر والعظم المنزوع عند الحنفية الذين يجيزون التذكية بها، مع الكراهة لما فيه من الضرر بالحيوان كذبحه بشفرة كليلة. أما الذبح بالقائم غير المنزوع من الظفر ونحوه فلا يحل. المطلب التاسع ـ أنواع التذكية: التذكية التي تحل الأكل عند المالكية (¬3) أربعة أنواع: 1 - إدماء أو صيد أو عقر في غير المقدور عليه، المتوحش، لا الإنسي الذي يكون من الأنعام، أما الحمام ونحوه فكله صيد، فلو توحش أكل بالعقر. 2 - وذبح في الحلق بقطع جميع الحلقوم وجميع الودجين للطيور ولو نعامة، والغنم. 3 - ونحر في اللبة: وهي وسط الصدر للإبل والزرافة (¬4). وأما البقر ¬
فيجوز فيها الذبح والنحر، لكن يندب فيها الذبح، أي أن الأنعام يشترط فيها الذبح أو النحر. 4 - فعل يزيل الحياة بأي وسيلة وهو تأثير بقطع أو غيره في الجراد؛ لأن المقرر عند المالكية خلافاً لعامة الفقهاء: أن الجراد لا يؤكل من غير ذكاة، وذكاته عندهم أن يقتل إما بقطع رأسه أو بغير ذلك. ويجب النحر في الإبل والزرافة، والذبح في غيرها. فإن ذبح ماينحر أو نحر ما يذبح ولو سهواً إن قدر، من غير ضرورة، لم تؤكل الذبيحة. ويجوز للضرورة الذبح في الإبل، والنحر في غيرها كوقوع الحيوان في هوة، أو لعدم وجود آلة الذبح أو النحر. والخلاصة: أن الأنعام إذا توحشت لاتؤكل بالصيد عندهم، لكن يؤكل بالصيد إن تأنس متوحش الأصل ثم هرب، أو توحش الحمام ونحوه؛ لأن كله صيد. وكذلك تنقسم التذكية عند الشافعية إلى ثلاثة أقسام: ذبح، ونحر، وعقر، أما الذبح: فهو قطع الحلق (أعلى العنق) والمري من الحيوان، وتذكى به جميع الحيوانات. وأما النحر: فهو قطع لَبّة الحيوان، وهي أسفل العنق، وهو المسنون في الإبل. وأما العقر: فهو ذكاة الضرورة، وهو جرح الحيوان، بأي فعل مزهق للروح. في أي مكان في جسمه. ويستعمل في تذكية الحيوان المأكول إذا ندَّ، ولم يتمكن صاحبه من القدرة عليه.
وعلى هذا يرى الجمهور غير المالكية (¬1) أن الذكاة نوعان: اختيارية، واضطرارية في معنى الصيد. أما الاختيارية: فهي الجرح في الحلق (الحلقوم) مابين اللبة واللحيين، عند القدرة على الحيوان. ولابد من ذبح المستأنس؛ لأن ذكاة الاضطرار إنما يصار إليها عند العجز عن ذكاة الاختيار. والاضطرارية: الجرح في أي موضع كان من البدن عند العجز عن الحيوان، أي كأنها صيد، فتستعمل للضرورة في المعجوز عنه من الصيد والأنعام، أي أنها تستعمل عند الجمهور غير المالكية في الحيوان المتوحش، أو الحيوان المستأنس إذا شرد، ولم يمكن الحصول عليه، لأن التكليف بحسب الوسع. وتسمى هذه الحالة: العقر أي إزهاق الروح في أي موضع كان. ويكون العقر أو ذكاة الضرورة بآلة جارحة لا بمثقل أو حجر أي بالجرح أو الطعن، أو إنهار الدم في أي موضع كان من البدن، بحيث يسيل دمه. ويشترط عند الشافعية: أن يكون الجرح مفضياً إلى الزهوق أي يؤدي إلى الموت. وأما عند المالكية: فلا يحل الحيوان بذكاة الضرورة إذا كان مستأنساً من الأنعام. فلو توحش حيوان أهلي بعد أن كان إنسياً أو مستأنساً، أو ندَّ بعير (شرد) أو تردى في بئر ونحوه، ولم تمكن الذكاة الاختيارية أي عجز عنها بذبحه في الحلق، فذكاته عند غير المالكية حيث يصاب بأي جرح من بدنه، ويحل حينئذ أكله، كصيد ¬
المطلب العاشر ـ ما يحرم أكله من المذبوح
الطائر أو الحيوان المتوحش، لحديث رافع بن خديج، قال: «كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في سفر، فندَّ بعير من إبل القوم، ولم يكن معهم خيل، فرماه رجل بسهم، فحبسه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إن لهذه البهائم أوابد، كأوابد الوحش، فما فعَل منها هذا، فافعلوا به هكذا (¬1)». وهذا هو الرأي الأرجح. وإن نحر ما يذبح، أو ذبح ما ينحر أكل مع الكراهة عند الحنفية (¬2)، وبلا كراهة عند الشافعية والحنابلة، لعدم ورود نهي فيه. المطلب العاشر ـ ما يحرم أكله من المذبوح: قال الحنفية (¬3): لا تؤكل سبعة أشياء من أجزاء الحيوان المأكول وهي: الدم المسفوح، والذكر، والأنثيان، والقبُل، والغدة (¬4)، والمثانة، والمرارة. لقوله عز شأنه: {ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث} [الأعراف:157/ 7] وهذه الأشياء السبعة مما تستخبثه الطباع السليمة. وروي عن مجاهد أنه قال: «كره رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الشاة: الذكر، والأنثيين، والقبل، والغدة، والمرارة، والمثانة والدم» والمراد منه كراهة التحريم، بدليل أنه جمع بين الأشياء الستة وبين الدم، في الكراهة، والدم المسفوح محرم. والمروي عن أبي حنيفة أنه قال: «الدم حرام، وأكره الستة» أطلق اسم الحرام على الدم المسفوح، لأنه ثبت بدليل مقطوع به، ¬
المطلب الحادي عشر ـ أثر ذكاة الأم في الجنين
وهو النص القرآني: {قل: لا أجد في ما أوحي إلي محرماً} ... إلى قوله: {أو دماً مسفوحاً} [الأنعام:6/ 145] وسمى ما سواه مكروهاً، لثبوته بدليل ظني. المطلب الحادي عشر ـ أثر ذكاة الأم في الجنين: لذكاة الجنين أربعة أحوال (¬1): الأول ـ أن تلقيه الأم ميتاً قبل الذبح، فلا يؤكل إجماعاً. الثاني ـ أن تلقيه حياً قبل الذبح، فلا يؤكل إلا أن يذكى (يذبح) وهو مستقر الحياة. الثالث ـ أن تلقيه حياً بعد تذكيتها، فإن ذبح وهو حي أكل، وإن لم تدرك ذكاته في حال الحياة، فهو ميتة، وقيل عند المالكية: ذكاته ذكاة أمه. الرابع ـ أن تلقيه الأم ميتاً بعد تذكيتها، وهذا موطن الخلاف بين الفقهاء: آـ فقال أبو حنيفة وزفر والحسن بن زياد: لا يؤكل بتذكية الأم؛ لأن الله تعالى حرم الميتة، وحرم المنخنقة، والجنين ميتة؛ لأنه لا حياة فيه، والميتة: كل حيوان مات من غير ذكاة، أو إن الجنين مات خنقاً، فيحرم بنص القرآن. ولا يجعل الجنين تبعاً لأمه؛ لأنه يتصور بقاؤه حياً بعد ذبح الأم، فوجب إفراده بالذبح ليخرج الدم عنه، فيحل به، ولا يحل بذكاة أمه، إذ المقصود بالذكاة إخراج دمه ليتميز من اللحم، فيطيب، فلا يكون تبعاً للأم. ¬
والمراد بحديث «ذكاة الجنين ذكاة أمه» هو التشبيه أي كذكاتها، فلا يدل على أنه يكتفى بذكاة الأم. والخلاصة: أن الجنين الميت لا يؤكل عند الحنفية، أشعر أو لم يشعر، أي تم خلقه، أو لم يتم، لأنه لا يشعر إلا بعد تمام الخلق. ب ـ وقال جمهور الفقهاء ومنهم صاحبا أبي حنيفة: يحل أكل الجنين إذا خرج ميتاً بذكاة أمه، أو وجد ميتاً في بطنها، أو كانت حركته بعد خروجه كحركة المذبوح. ويشترط فيه عند المالكية: أن يكون قد كمل خلقه: ونبت شعره، لما روي عن ابن عمر وجماعة من الصحابة، وقال كعب بن مالك: «كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقولون: إذا أشعر الجنين، فذكاته ذكاة أمه». وأجاز الشافعية والحنابلة أكل الجنين الميت، أشعر أم لم يشعر، لما روى ابن المبارك عن ابن أبي ليلى، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ذكاة الجنين ذكاة أمه، أشعر أو لم يشعر». ودليل الجمهور على الجواز حديث حسن: «ذكاة الجنين ذكاة أمه» (¬1)، ورأيهم بدليل الثابت في السنة هو الأصح عندي، بل القياس يقتضي أن تكون ذكاة الجنين في ذكاة أمه؛ لأنه جزء منها، فلا معنى لاشتراط الحياة فيه. قال ابن رشد المالكي: وعموم الحديث يضعف اشتراط أصحاب مالك نبات شعره، فلا يخصص العموم الوارد في ذلك بالقياس، أي قياسه على الأشياء التي تعمل فيها التذكية. ¬
المطلب الثاني عشر ـ أثر الذكاة في المشرف على الموت أو المريض
المطلب الثاني عشر ـ أثر الذكاة في المشرف على الموت أو المريض: إذا أشرف حيوان على الموت بسبب اعتداء عليه، أو مرض، ثم ذبح، فهل يحل أكله؟ أولاً ـ أثر الذكاة في المشرف على الموت بسبب اعتداء: إذا اعتدي على الحيوان المأكول بخنق، أو ضرب، أو جرح سبع كذئب، ثم أدركه صاحبه فذبحه، أو لم يدركه، فمات، فله أحوال أربعة (¬1): 1 - إن مات قبل الذكاة، لم يؤكل إجماعاً، لقوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به، والمنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع، إلا ما ذكيتم} [المائدة:3/ 5] (¬2) فهذه الحيوانات الخمسة المذكورة في الآية (ما بعد المهل به لغير الله) لم يحل أكلها إذا ماتت قبل إدراكها حية ولم تذبح. 2 ـ إن أدرك حياً أي غلب على الظن أنها تعيش، بأن يصاب لها مقتل، فذبح، أكل إجماعاً، لقوله تعالى: {إلا ما ذكيتم} [المائدة:3/ 5]. ¬
3 - إن نفذت مقاتل البهيمة: وهي المنفوذة المقاتل (¬1) (أي المقطوع بموتها)، لم تؤكل عند المالكية وأجاز على وابن عباس أكلها. وتعمل فيها الذكاة عند الشافعية والحنابلة متى كان فيها حياة مستقرة. وتؤثر فيها الذكاة عند الحنفية إن علمت حياتها، أو لم تدر حياتها فتحركت أو خرج الدم، وهذا يتأتى فيما اعتدى عليها الذئب فبقر بطنها، وفي المنخنقة والمتردية والنطيحة؛ لعموم قوله تعالى: {إلا ماذكيتم} [المائدة:3/ 5]. 4 - الميئوس من حياته ولم تنفذ مقاتله؛ أو المشكوك في أمره، تؤثر الذكاة في حل أكله عند الحنفية، وهو مشهور قول المالكية ما دامت حياته محققة. وقال بعض المالكية: لا تؤثر الذكاة فيه ولا يؤكل. وأجاز الشافعية والحنابلة ذبح الميئوس الذي تكون فيه حياة مستقرة، ولم يجز المشكوك في أمره. وعلى هذا فإذا غلب على الظن أن المعتدى عليها تهلك بإصابة مقتل أو غيره، فقال الحنفية والشافعية: تعمل الذكاة فيها، وقال قوم: لا تعمل الذكاة فيها، وعن مالك: الوجهان، وقال ابن القاسم: تذكى وتؤكل. ومنشأ الخلاف في الميئوس منها وفي منفوذة المقاتل: هو الاستثناء المذكور في الآية السابقة، هل هو استثناء متصل أو منقطع؟ فمن قال: إنه متصل، قال: تعمل الذكاة في هذه الأحوال. ومن قال: إنه منقطع أي ما ذكيتم من غيرها، لم يعمل الذكاة فيها. والمراد بالحياة المطلوب تحققها في هذه الحالة عند الحنفية والمالكية: هو وجود ¬
ثانيا ـ أثر الذكاة في الحيوان المريض
أمارة الحياة من حركة رجل أو طرفة عين أو جريان نفس، سواء عاشت من مثله أو لا تعيش، بقيت لمدة قصيرة أو طويلة، أي أن المطلوب بقدر حياة المذبوح بعد الذبح، وهو الحد الأدنى للحياة. وعند الشافعية والحنابلة: أن تبقى فيه حياة مستقرة يمكن زيادتها على حركة المذبوح، سواء انتهت إلى حال يعلم أنها لا تعيش معه أو تعيش. ثانياً ـ أثر الذكاة في الحيوان المريض: اتفق الفقهاء على تأثير الذكاة، وحل الأكل في الحيوان المريض الذي لم يشرف على الموت. واختلفوا في تأثير الذكاة في الحيوان الذي أشرف على الموت من شدة المرض (¬1). فقال الجمهور: وهو المشهور عن مالك: إن الذكاة تعمل فيه. وقال بعضهم: إن الذكاة لا تعمل فيه. وسبب الخلاف تعارض القياس مع الأثر. فالجمهور أخذوا بحديث كعب بن مالك المتقدم: أن جارية له كانت ترعى غنماً بسَلْع، فأبصرت شاة مشرفة على الموت، فأدركتها وذبحتها بحجر، فسئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: كلوها (¬2). والبعض أخذ بالقياس: وهو أن الذكاة إنما تؤثر في الحي، وهذا في حكم الميت. ¬
والحنفية من الجمهور على المفتى به فصَّلوا في المريضة، وفي الحالة الأخيرة من أحوال المنخنقة والمتردية والنطيحة، فقالوا (¬1): آـ إن عُلمت حياة الشاة، وإن كانت حياتها خفيفة على المفتى به، وقت الذبح، أكلت مطلقاً، وإن لم تتحرك ولم يخرج الدم. والحياة القليلة أو الخفيفة: هي أن يبقى في الشاة من الحياة بقدر ما يبقى في المذبوح بعد الذبح. ب ـ وإذا لم تعلم الحياة، فتحركت، أو خرج الدم، حلت، وإن لم تتحرك أو لم يخرج الدم، لم تحل. وعلامات الحياة والموت تعرف بما يأتي: فتح الفم، أو العين، ومد الرجل، ونوم الشعر: علامة الموت، لأنها استرخاء، والحيوان يسترخي بالموت. وعكس ذلك يدل على الحياة، فضم الفم والعين، وقبض الرجل، ووقوف الشعر علامةالحياة. وذكر المالكية علامات خمس على الحياة هي (¬2): سيلان الدم، لا خروج القليل منه، والركض باليد أو الرجل، وطرف العين، وتحريك الذنب، وخروج النفَس، فإن تحركت ولم يسل دمها، أكلت. وإن سال دمها ولم تتحرك، لم تؤكل؛ لأن الحركة أقوى في الدلالة على الحياة من سيلان الدم. وأما الاختلاج الخفيف فليس دليلاً على الحياة؛ لأن اللحم يختلج بعد السلخ. والحياة عند الشافعية والحنابلة ثلاثة أنواع (¬3): ¬
المطلب الثالث عشر ـ أثر الذكاة في غير المأكول
1 - الحياة المستمرة: وهي الطبيعية الباقية إلى خروجها بذبح، أو نحوه. والذكاة تؤثر فيها بالحل: 2 - الحياة المستقرة: هي ما يوجد معها الحركة الاختيارية بقرائن وأمارات تغلب على الظن بقاء الحياة. ومن أماراتها: انفجار الدم بعد قطع الحلقوم والمريء. والأصح الاكتفاء بالحركة الشديدة. ولايشترط العلم بوجود الحياة المستقرة عند الذبح، بل يكفي الظن بوجودها بقرينة كشدة الحركة أو انفجار الدم. وهذه تحل الذبيحة، فإن شك في وجودها، حرم تغليباً للتحريم. 3 - حياة المذبوح، أو حركة عيش المذبوح: وهي التي لا يبقى معها سمع لا إبصار، ولا حركة اختيار، وهذا النوع: إن وجد له سبب يحال عليه الهلاك، كما لو مرض الحيوان بأكل نبات مضر، حتى صار في آخر رمق، لم يحل على المعتمد. وإن لم يوجد سبب يحال عليه الهلاك، كأن مرض الحيوان، أو جاع حتى صار في آخر رمق، فذبحه، حل أكله. المطلب الثالث عشر ـ أثر الذكاة في غير المأكول: المقصود بهذا أن الذكاة أو الذبح، هل تؤثر في تحليل الانتفاع بجلود الحيوانات غير مأكولة اللحم، وسلب النجاسة عنها؟ للفقهاء رأيان في ذلك: 1 - فقال الحنفية والمالكية في المشهور (¬1): إذا ذبح ما لا يؤكل كالسباع ¬
وغيرها يطهر لحمه وشحمه وجلده إلا الآدمي والخنزير. أما الآدمي فلحرمته وكرامته، وأما الخنزير فلنجاسة عينه. وقال الدردير والصاوي: مشهور المذهب أن الذكاة لا تطهر محرَّم الأكل كالخيل والبغال والحمير، والكلب والخنزير. أما سباع الوحش وسباع الطير، فتطهر بذبحها على المشهور. وأصح ما يفتى به عند الحنفية: أن اللحم والشحم لا يطهر بالذكاة، والجلد يطهر به، وهذا التفصيل عندهم مخالف لما في متن الكنز والدر المختار والهداية من عدم التفصيل. ودليلهم: أن الذكاة مؤثرة في إزالة الرطوبات النجسة والدماء السيالة، فإذا زالت طهرت البهيمة كما في الدباغ، وليس الجلد واللحم من الرطوبات أو الدماء. وإذا ثبت تحريم تناول لحم غير المأكول، بقي ما سواه على الأصل: وهو التطهير، فتؤثر الذكاة فيه، كما يؤثر الدباغ في تطهير الجلود. وإذا طهر الجلد بعد الذبح، فلو وقع في الماء القليل لا ينجسه. ويجوز الانتفاع بالجلد في غير الأكل. وقيل بقول آخر عند الحنفية: لا يجوز قياساً على الأكل. 2 - وقال الشافعية والحنابلة (¬1): لا تؤثر الذكاة في شيء من الحيوان غير المأكول؛ لأن أثر الذكاة في إباحة اللحم هو الأصل، والجلد تبع للحم، فإن لم تعمل الذكاة في اللحم، لم تعمل فيما سواه، كذبح المجوسي أو الذبح غير المشروع. ولا يقاس الذبح على الدباغ، لكون الدبغ مزيلاً للخبث والرطوبات كلها، مطيباً للجلد على وجه يتهيأ به للبقاء على وجه لا يتغير، والذكاة لا يحصل بها ذلك، فلا يستغنى بها عن الدبغ. ¬
المبحث الثالث ـ آلة الذبح
هذا ... وقد صرح الشافعية بأنه يحرم ذبح الحيوان غير المأكول، ولو لإراحته، كالحمار الزمِن مثلاِ، لأنه تعذيب له (¬1)، ونهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن قتل الكلاب إلا الأسود البهيم، فإنه أمر بقتله (¬2). المبحث الثالث ـ آلة الذبح اتفق الفقهاء على أن كل ما أنهر الدم وفرى الأوداج من حديد أو صخر، أو عود، أو قضيب، أو زجاج تحل التذكية به. واختلفوا في ثلاثة في السن والظفر والعظم، على رأيين، فأجاز الحنفية، والمالكيةـ في الجملة ـ الذبح بها، ومنع الشافعية والحنابلة إجمالاً التذكية بها، كما سيأتي، والأولى أو الأصح عدم الذبح بها لصحة الحديث الذي استدل به الشافعية وغيرهم. 1 - قال الحنفية (¬3): يجوز الذبح بكل ما أفرى الأوداج، وأنهر الدم (أساله) ولو بنار أسالت الدم، أو بِليطَة (قشر القصب)، أو مَرْوة (حجر أبيض كالسكين يذبح بها)، أو ظفر وعظم وقرن وسن منزوع من مكانه غير قائم في محله، ولكن مع كراهة الذبح بهذه الأربعة الأخيرة لما فيه من الضرر بالحيوان، كذبحه بشفرة كليلة. ودليلهم قوله عليه الصلاة والسلام: «أنهر الدم بما شئت» (¬4) ويروى «أفر ¬
الأوداج بما شئت» (¬1)، ولأن هذه آلة جارحة، فيحصل بها ما هو المقصود، وهو إخراج الدم، وصار العظم ونحوه كالحجر والحديد. فإن كان الظفر أو العظم قائماً محله، فلا يحل الذبح به، وإن فرى الأوداج، وأنهر الدم بالإجماع للنص عليه في الحديث. واستثناء السن والظفر في حديث رافع بن خديج محمول على غير المنزوع، القائم محله؛ لأن الظفر القائم ونحوه يقتل بالثقل؛ لأنه يعتمد عليه. وكما كرهوا الذبح بالظفر ونحوه، كرهوه بغير الحديد والسلاح من غير حاجة أو ضرورة، مع وجود الحديد وأسلحته، لما فيه من تعذيب الحيوان بلا فائدة، للأمر بالحديث السابق بالإحسان في القتلة والذبحة. 2 - وقال المالكية (¬2): إن وجد الحديد أي الآلة الجارحة كالسكين ونحوها (¬3)، تعين. وإن وجد غير الحديد كالحجر والزجاج مع الظفر والسن، ففي الذبح بهما أربعة أقوال للإمام مالك: الأول ـ الجواز مطلقاً متصلاً أو منفصلاً، والثاني ـ المنع مطلقاً فلا يؤكل ما ذبح بهما، والثالث ـ التفصيل بالجواز عند الانفصال، والمنع عند الاتصال. والرابع ـ الكراهية بالسن مطلقاً، والجواز بالظفر مطلقاً. ¬
السكين الكالة
وإن لم يوجد غيرهما، أي غير السن والظفر جاز بهما جزماً. ولو تم الذبح بقطعة عظم محددة، فلا خلاف في الجواز. 3 - وقال الشافعية والحنابلة (¬1): يحل الذبح بكل محدَّد (له حد) يجرح (يقطع) أو يخرق بحده لا بثقله، كحديد ونحاس، وذهب، وخشب، وقصب، وحجر، وزجاج، إلا ظفراً وسناً، وعند الشافعية: وسائر العظام، متصلاً كان أو منفصلاً من آدمي أو غيره؛ لأن منع الذبح بالسن علل بكونه عظماً، فكل عظم وجدت العلة فيه، فيكون ممنوعاً. وأجاز الحنابلة الذبح بالعظم (¬2)، واستدلوا على السن والظفر بحديث رافع بن خديج عند الأئمة الستة وأحمد، قال: «قلت: يارسول الله، إنا نلقى العدو غداً، وليس معنا مُدىً (¬3)، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه، فكلوا، ما لم يكن سناً أو ظُفْراً، وسأحدثكم عن ذلك: أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة» (¬4). السكين الكالَّة: لو ذبح بسكين كالَّة، حل عند الشافعية بشرطين: ألا يحتاج القطع إلى قوة الذابح. وأن يقطع الحلقوم والمريء قبل انتهاء الحيوان إلى حركة ¬
المبحث الرابع ـ الحيوان الذبيح
مذبوح. ويقرب منه قول الحنابلة: إن كانت الآلة كالة، وأبطأ قطع الحيوان وطال تعذيبه، لم يبح أكله، لأنه مشكوك في وجود ما يحله. والخلاصة: إن الجمهور أجازوا التذكية بالعظم، وحرم الشافعية الذبح به. وأما السن والظفر فأجاز الحنفية الذبح بالمنزوع منهما، وحرم الشافعية والحنابلة الذبح بهما متصلين أو منفصلين. وصحح ابن رشد المالكي الذبح بهما عند الانفصال، ولا يجوز حالة الاتصال، أي كما قال الحنفية. المبحث الرابع ـ الحيوان الذبيح الكلام في هذا المبحث مجمل بالقدر المتصل بالذبائح، والتفصيل فيه سبق في مبحث مستقل عن «الأطعمة والأشربة». التذكية شرط لحل الأكل من الحيوان البري المأكول، فلا يحل أكله ـ كما تقدم ـ بدون الذكاة، لقوله تبارك وتعالى: {حرمت عليكم الميتة والدم} ـ إلى قوله: {إلا ماذكيتم} [المائدة:3/ 5] استثنى سبحانه المذكى من المحرم، والاستثناء من التحريم إباحة. والحيوان بالنسبة للذبح أو الذكاة الشرعية أنواع ثلاثة: مائي، وبري، وبرمائي (بري ـ مائي)؛ لأن منه مايؤكل بدون ذكاة، ومنه ما يؤكل بالذكاة، ومنه ما لا يؤكل وإن ذكي. النوع الأول ـ الحيوان المائي: الحيوان المائي: هو الذي لا يعيش إلا في الماء فقط. وللعلماء في أكله رأيان:
1 - مذهب الحنفية (¬1)، جميع مافي الماء من الحيوان محرم الأكل إلا السمك خاصة، فإنه يحل أكله بدون ذكاة إلا الطافي (¬2) منه، فإن مات وطفا على الماء لم يؤكل. وأدلتهم كثيرة منها قوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة} [المائدة:3/ 5] وقوله {ويحرِّم عليهم الخبائث} [الأعراف:157/ 7] وما سوى السمك: من الضفادع والسرطان والحية ونحوها: من الخبائث. ونهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن دواء يتخذ فيه الضفدع، ونهى عن قتل الضفادع (¬3)، وذلك نهي عن أكله؛ لأن النهي عن قتل الحيوان، إما لحرمته كالآدمي، وإما لتحريم أكله، كالصُّرَد (¬4)، والهدهد. وبما أن الضفدع ليس بمحترم، فكان النهي منصرفاً إلى الوجه الآخر، وهو تحريم الأكل. وأما دليل تحريم أكل السمك الطافي، فهو حديث جابر: «ما ألقاه البحر، أو جزر عنه، فكلوه، وما مات فيه، وطفا، فلا تأكلوه» (¬5). 2 - مذهب الجمهور غير الحنفية (¬6)، ورأيهم هو الأصح: حيوان الماء: ¬
السمك وشبهه مما لا يعيش إلا في الماء كالسرطان وحية الماء وكلبه وخنزيره ونحو ذلك، حلال يباح بغير ذكاة، كيف مات، حتف أنفه، أو بسبب ظاهر، كصدمة حجر، أو ضربة صياد، أو انحسار ماء، راسياً كان أو طافياً، وأخذه ذكاته، لكن إن انتفخ الطافي بحيث يخشى منه السقم يحرم للضرر. إلا أن الإمام مالك كره خنزير الماء، وقال: أنتم تسمونه خنزيراً. وقال الليث بن سعد: أما إنسان الماء، وخنزير الماء، فلا يؤكلان على شيء من الحالات. واستدل الجمهور بقوله تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه، متاعاً لكم وللسيارة} [المائدة:96/ 5] واسم «الصيد» يقع على ما سوى السمك من حيوان البحر، فيقتضي أن يكون الكل حلالاً. وبقوله صلّى الله عليه وسلم حين سئل عن التوضؤ بماءالبحر، فقال: «هو الطهور ماؤه، الحل ميتته» (¬1) وبقوله عليه السلام: «أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان: فالجراد والحوت، وأما الدمان: فالكبد والطحال» (¬2) وبحديث: «إن الله ذبح ما في البحر لبني آدم» (¬3) وبحديث صحيح عند الشيخين وأحمد في العنبر (¬4): «أن أبا عبيدة وأصحابه وجدوه بشاطئ البحر ميتاً، فأكلوا منه شهراً حتى سمنوا، وادهنوا، وقدموا منه للنبي صلّى الله عليه وسلم، فأكل منه (¬5)»؛ ولأنه لا دم لحيوان الماء. ¬
النوع الثاني ـ الحيوان البري
النوع الثاني ـ الحيوان البري: الحيوان البري: هو الذي لا يعيش إلا في البر. وهو أصناف ثلاثة: الأول: ما ليس له دم أصلا ً، كالجراد والذباب والنمل والنحل والدود والزنبور والعنكبوت والخنفساء والصرصار والعقرب وذوات السموم ونحوها، لايحل أكلها إلا الجراد خاصة؛ لأنها من الخبائث غير المستطابة، لاستبعاد الطباع السليمة إياها، وقد قال الله تعالى: {ويحرم عليهم الخبائث} [الأعراف:157/ 7]. لكن الجراد وشبهه الجندُب (نوع من الجراد تسميه العامة القبُّوط) خص من هذه الجملة بالحديث السابق: «أحلت لنا ميتتان» والميتتان: السمك والجراد. واشترط المالكية تذكية الجراد أو موته بسبب، بقطع عضو منه أو إحراقه أو جعله في الماء الحار، كما تبين في أنواع التذكية؛ لأن كل حيوان بري ليس له دم سائل يفتقر عندهم إلى الذكاة. ويكره عند الحنابلة بلع الجراد حياً؛ لأن فيه تعذيباً له، كما يحرم عندهم بلع السمك حياً (¬1). الثاني: ما ليس له دم سائل: كالحية والوَزَغ بأنواعها، وسام أبرص (¬2)، وجميع الحشرات، وهوام الأرض من الفأر والقُرَاد (دويبة تتعلق بالبعير ونحوه كالقمل للإنسان) والقنافذ والضب واليربوع وابن عرس والدود ونحوها، يحرم أكلها، لاستخباثها، ولأنها ذات سموم ولأنه صلّى الله عليه وسلم أمر بقتلها (¬3)، قال صلّى الله عليه وسلم: ¬
«خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الحية (¬1) والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور، والحدايا» وفي رواية «العقرب» بدل «الغراب» (¬2). وحرم الحنفية وفي قول عند المالكية الضب، لأنه صلّى الله عليه وسلم نهى عائشة حين سألته عن أكله (¬3). وأباح الجمهور غير الحنفية أكل الضب، لإقراره عليه الصلاة والسلام أكل الضب بين يديه، لما روى ابن عباس أنه أقر خالد بن الوليد على أكله أمامه وهو ينظر إليه، وقوله عليه الصلاة والسلام: «لا ـ أي ليس حراماً ـ ولكنه لم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه» (¬4). وأباح المالكية أكل الحلزون إذا سلق أو شوي، لا ما مات وحده. وأجاز الشافعية أكل القُنْفذ وابن عِرْس والثعلب واليَرْبوع والفَنَك والسَّمور (¬5)؛ لأن العرب تستطيب ذلك، وما كانت العرب (أي أهل الحجاز) تسميه طيباً فهو حلال، وما كانت تسميه خبيثاً، فهو محرم، لقول الله تعالى: {ويحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث} [الأعراف:157/ 7]. ¬
الثالث: ماله دم سائل
الثالث: ماله دم سائل: وهو إما مستأنس، أو متوحش. أما المستأنس من البهائم: فيحل منه الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم بالإجماع، لقوله تعالى: {والأنعام خلقها لكم فيها دفء، ومنها تأكلون} [النحل:5/ 16] {أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا مايتلى عليكم} [المائدة:1/ 5] واسم الأنعام يقع على هذه الحيوانات لغة. ويحرم أكل البغال والحمير، ويحل لحم الخيل، لكن مع الكراهة تنزيهاً عند أبي حنيفة (¬1)، لحديث جابر: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل» (¬2) والبغال متولدة من الحمير، والمتولد من الشيء له حكمه في التحريم. وهكذا يحرم عند الشافعية خلافاً للحنفية والحنابلة كل ماتولد من بين الإنسي والوحشي، تغليباً للتحريم. والآخرون قالوا: تغلب الإباحة لأنها الأصل، وعموم النصوص يقتضيها. والسبب في كراهة لحم الخيل عند أبي حنيفة: هو استخدامها للركوب والجهاد، ولاختلاف الأحاديث المروية في حلها وتحريمها، فتكره احتياطاً للحرمة (¬3). والمشهور عند المالكية تحريم الخيل. ¬
المتوحش
ويحل بالتذكية بالإجماع: المستأنس من الطير الذي لا مخلب له، كالدجاج والحمام والنعامة والبط والإوز. ويحرم المستأنس من السباع: وهو الكلب والسنور الأهلي (الهر) (¬1). وأما المتوحش: فيحرم عند الجمهور غير مالك أكل كل ذي ناب منه من السباع، وكل ذي مخلب من الطير لأنها تأكل الجيف أي الميتات. وذو الناب من سباع الوحش: مثل الأسد والذئب والضبع والنمر والفهد، والثعلب، والسنور البري، والسنجاب، والفنك، والسمور، والدب، والقرد والفيل، والدَّلَق (¬2) وابن آوى (فوق الثعلب ودون الكلب طويل المخلب). وذو المخلب من الطير: كالبازي والباشق، والصقر، والشاهين والحدأة والبومة والنعَّاب (فرخ الغراب لكثرة نعبه) وغراب البين (وهو أكبر الغربان والأبقع) والرَّخْم (طير يشبه النسر في الخلقة) والنسر والعقاب، والخُطَّاف (هو عرفاً طائر أسود الظهر أبيض البطن، يأوي إلى البيوت في الربيع، وهو السنونو) والخُفَّاش (أي الوطواط، وهو طائر صغير لا ريش له، يشبه الفأرة، يطير بين المغرب والعشاء) وما أشبه ذلك (¬3). وحرم الشافعية أكل الببَّغاء والطاووس لخبث لحمهما، كما حرموا أكل الهدهد والصُّرَد (وهو طائر فوق العصفور يصيد العصافير) وعند الحنابلة في ¬
الهدهد والصرد: روايتان عن أحمد، إحداهما: أنهما حلال لأنهما ليسا من ذوات المخلب ولا يستخبثان، والثانية: تحريمهما لنهي النبي صلّى الله عليه وسلم عن قتل الهدهد والصُّرَد، والنملة والنحلة. والدليل على تحريم ذي الناب والمخلب: أنه صلّى الله عليه وسلم يوم خيبر «نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير» (¬1). وروي عن مالك القول بأن السباع ذوات الأربع مكروهة وهو الراجح لديه، وقيل: جميعها محرمة، وذهب أصحابه إلى التحريم. وأما الطير فهو حلال عند المالكية سواء ذو المخلب وغيره، عملاً بظاهر الآية: {قل: لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه} [الأنعام:145/ 6] فما عدا المذكور في هذه الآية حلال. ويحمل النهي المذكور في الحديث على الكراهية. وقيد الشافعية تحريم ذي الناب بكونه ضارياً (عادياً) ذا ناب قوي، وذي المخلب بكونه قوياً يجرح به، فأباحوا كل ما نابه ضعيف كالضبع والثعلب والفنك والسمور واليربوع. والأصح عندهم حل غراب زرع (وهو أسود صغير يقال له: الزاغ)؛ لأنه يأكل الزرع. ورخص الحنابلة أيضاً في أكل الضبع، لما روى جابر، قال: «أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بأكل الضبع، قلت: صيد هي؟ قال: نعم» وفي لفظ قال: «سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الضبع، فقال: هو صيد، ويجعل فيه كبش إذا صاده المحرم» (¬2) ورويت الرخصة فيه عن سعد وابن عمر، وأبي هريرة، وعروة بن الزبير، وعكرمة وإسحاق، وقال عروة: مازالت العرب تأكل الضبع، ولا ترى بأكلها بأساً. ورخص أحمد أيضاً في أكل اليربوع؛ لأن الأصل الإباحة ما لم يرد فيه تحريم. ¬
وما عدا كل ذي ناب أو مخلب من الوحوش، يحل أكله، كالظباء وبقر الوحش، وحمار الوحش على اختلاف أنواعها كالوعل والمها وغيرها؛ لأنها كالمعز الأهلية، ومن الطيبات، ولما ثبت في الصحيحين أنه صلّى الله عليه وسلم قال في حمار الوحش: «كلوا من لحمه، وأكل منه». ويباح أكل الأرنب لأنه حيوان مستطاب، ليس بذي ناب كالظبي، وقد أباح النبي صلّى الله عليه وسلم أكله (¬1). ويباح أيضاً أكل كل ما لا مخلب له من الطير المتوحش كالحمام بأنواعه، والحُبارى (طائر أكبر من الدجاج وأطول عنقاً) والعصافير والكَركي (وهو طائر كبير معروف، كنيته أبو نعيم، يمشي برجل واحدة على الأرض، ويعلق الأخرى) والغراب (¬2) الذي يأكل الزرع والحب (وهو المعروف بالزاغ)، وكل ما على شكل العصفور، وإن اختلف لونه ونوعه كعندليب (وهو الهُزار) وصَعْوة (صغار العصافير، المحمرة الرأس) وزُرزور (عصفور صغير أحمر الأنف)، وبُلبل، وحُمَّرة. وأحل الحنفية في الأصح أكل العَقعق (وقال له القعقع وهو القاق: وهو طائر ذو لونين أبيض وأسود، طويل الذنب، قصير الجناح، عيناه يشبهان الزئبق، صوته العقعقة، كانت العرب تتشاءم بصوته) لأنه يخلط بين أكل الحب والجيف. وحرم ¬
النوع الثالث ـ الحيوان البرمائي
الشافعية أكله، وأكل الغدَّاف الكبير (ويسمى الغراب الجبلي، لأنه لا يسكن إلا الجبال) لخبثهما. واختلف الشافعية في الغداف الصغير (وهو أسود رمادي اللون): فقيل: يحرم، وقيل بحله وهو الظاهر، لأنه يأكل الزرع. وحرم الحنابلة أيضاً أكل العقعق، لأنه يأكل الجيف. قال أحمد: إن لم يكن يأكل الجيف، فلا بأس به. النوع الثالث ـ الحيوان البرمائي: وهو الذي يعيش في البر والماء معاً، كالضفدع والسلحفاة والسرطان، والحية والتمساح وكلب الماء ونحوها. وفيه آراء ثلاثة: 1 - قال الحنفية والشافعية (¬1): لا يحل أكلها؛ لأنها من الخبائث، وللسمية في الحية، ولأن «النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن قتل الضفدع» (¬2) ولو حل أكله، لم ينه عن قتله. 2 - وقال المالكية (¬3): يباح أكل الضفادع والحشرات والسرطانات والسلحفاة، إذ لم يرد نص في تحريمها. وتحريم الخبائث: هو ما نص عليه الشرع، فلا يحرم ما تستخبثه النفوس مما لم يرد فيه نص. 3 - وفصل الحنابلة فقالوا (¬4): كل ما يعيش في البر من دواب البحر، لا ¬
ملحق ـ حول طرق الذبح الحديثة في المسلخ الحديث
يحل بغير ذكاة كطير الماء، والسلحفاة، وكلب الماء، إلا مالا دم فيه كالسرطان، فإنه يباح في رأي أحمد بغير ذكاة؛ لأنه حيوان بحري يعيش في البر، وليس له دم سائل، فلاحاجة إلى ذبحه، خلافاً لما له دم، لا يباح بغير ذبح. والأصح كما في شرح المقنع لابن مفلح الحنبلي (214/ 9): أن السرطان لا يحل إلا بالذكاة. ولا يباح أكل الضفدع؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم ـ فيما رواه النسائي ـ نهى عن قتله، فيدل ذلك على تحريمه. كما لا يباح أكل التمساح. ملحق ـ حول طرق الذبح الحديثة في المسلخ الحديث: لا مانع من استخدام وسائل تضعف من مقاومة الحيوان، دون تعذيب له (¬1)، وبناء عليه: يحل في الإسلام استعمال طرق التخدير المستحدثة غير المميتة قبل الذبح، مثل استعمال ثاني أكسيد الفحم، إذا ذبح الحيوان، وكان الغالب على الظن وجود الحياة الطبيعية فيه عند ذبحه، لأنه لا يترتب عليه إيلام الحيوان، ويحرم الصرع بمسدس، أو بمثقل كخشب وقدوم وعصا، أو تيار كهربائي ونحوها من كل مخدر غير ضار، لما فيها من تعذيب الحيوان المنهي عنه شرعاً. ولكن استعمال ما ذكر لا يمنع من أكل الحيوان بعد ذبحه، إذا ظل حياً حياة مستقرة، وإن كان سيموت بعد مدة لو ترك بغير ذبح، ولو بعد استعمال هذه الوسائل التي يراد منها تسهيل عميلة الذبح. وأما إتلاف الجملة العصبية في المخ بالضرب، فيمنع من إباحة الأكل عند المالكية؛ لأن الحيوان يصبح منفوذ المقاتل، ومن المقاتل انتشار أو ¬
نثر الدماغ، لكن إذا كانت حياته محققة يؤكل عندهم. ويؤكل المذكور عند الشافعية والحنابلة إذا ذبح الحيوان وكان فيه حياة مستقرة، أي حركة اختيارية يدل عليها انفجار الدم، أو الحركة الشديدة. كذلك يؤكل عند الحنفية إذا أسرع الذابح بقطع العروق. ويتم الذبح الآن في المسالخ عادة بالآلات الحادة السريعة القطع. وقد نقل لنا أن عملية الذبح تعقب عملية التخدير أو الصرع بثوان معدودات. ولا مانع من الذبح من القفا عند غير المالكية، ولكن مع الكراهة، لما فيه من تعذيب الحيوان. ولا يجوز أكل الحيوان إذا نزف دمه بآلة، ثم ذبح قبل معرفة الحياة الطبيعية عنده. وقد بينت سابقاً أنه لا مانع من أكل الذبائح المستوردة من البلاد النصرانية، حتى وإن لم يسم عليها، بشرط كونها مذبوحة لا مخنوقة، ولا ممزوعة الرقبة. ولا تحل اللحوم المستوردة من البلاد الوثنية أو اللادينية كاليابان والهند والدول الشيوعية. ويكبر على ذبيحة النصراني أخذاً بمذهب المالكية في حل الأكل مع الكراهة من ذبائح أهل الكتاب إن سموا غير اسم الله. لكن الشافعية والشيعة يتشددون في مثل هذه اللحوم، فلا يبيحونها في الواقع العملي. وأما الطالب الذي يدرس في البلاد الشيوعية، فيجب عليه الامتناع من تناول الطعام المشتمل على اللحوم، ويكتفي بأكل أغذية النباتات والخضار، أو يستعين بالمعلبات من اللحوم المستوردة من أوربا مثلاً. ولا يحل بحال أكل تلك اللحوم الممنوعة، وبخاصة الخنزير في أي بلد، حتى مع ادعاء وجود الضرورة؛ لأن معنى الضرورة لايتوفر حينئذ، إذ يمكن الحفاظ على النفس من الهلاك، بتناول أطعمة غير ممنوعة شرعاً.
الفصل الثاني: الصيد
الفَصْلُ الثَّاني: الصَّيد وفيه مباحث أربعة: المبحث الأول ـ تعريف الصيد وحكمه أو مشروعيته. المبحث الثاني ـ شروط إباحة الصيد. المبحث الثالث ـ ما يباح اصطياده من الحيوان. المبحث الرابع ـ متى يملك الصائد المصيد؟
حكم الصيد
المبحث الأول ـ تعريف الصيد وحكمه أو مشروعيته: تعريف الصيد: الصيد أو الاصطياد لغة: مصدر «صاد» أي أخذ، فهو صائد، وذاك مصيد، ويسمى المصيد صيداً، ويجمع على صيود. والمصيد: هو كل حيوان متوحش طبعاً، ممتنع عن الآدمي، مأكولاً كان أو غير مأكول، لا يمكن أخذه إلا بحيلة. والصيد: اقتناص حيوان حلال متوحش، طبعاً غير مملوك، ولا مقدور عليه (¬1). حكم الصيد: الاصطياد مباح لقاصده إجماعاً في غير حرم مكة وحرم المدينة، لغير المحرم بحج أو عمرة. ويؤكل المصيد إن كان مأكولاً شرعاً (¬2) لقوله تعالى: {وإذا حللتم فاصطادوا} [المائدة:5/ 2] أمر بعد حظر، فيفيد الإباحة. ولقوله سبحانه: {وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً} [المائدة:5/ 96] {ياأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} [المائدة:5/ 95] {قل: أحل لكم الطيبات، وما علَّمتم من الجوارح مكلِّبين} [المائدة:4/ 5]. وثبت في السنة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لعدي بن حاتم: «إن أرسلت كلبك، وسميت، فأخذ، فقتل، فكل، وإن أكل منه فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه» (¬3). وعن أبي قتادة: أنه كان مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فرأى حماراً وحشياً، فاستوى على فرسه، وأخذ رمحه، ثم شد على الحمار، فقتله، فلما أدركوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، سألوه عن ذلك، فقال: «هي طُعْمة، أطعمكموها الله» (¬4). ¬
وعن أبي ثعلبة الخشني، أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ما صدت بقوسك، فذكرت اسم الله عليه، فكل، وما صدت بكلبك المعلم، فذكرت اسم الله عليه، فكل، وما صدت بكلبك غير المعلم، فأدركت ذكاته، فكل» (¬1). وأجمع العلماء على إباحة الاصطياد، والأكل من الصيد. ويكره الصيد لهواً، لأنه عبث لقوله عليه السلام: «لا تتخذوا شيئاً فيه الروح غرضاً» (¬2) أي هدفاً «من قتل عصفوراً عبثاً، عج إلى الله يوم القيامة يقول: يارب، إن فلاناً قتلني عبثاً، ولم يقتلني منفعة» (¬3). وهو حرام إن كان فيه ظلم الناس بالعدوان على زروعهم وأموالهم؛ لأن الوسائل لها أحكام المقاصد (¬4). والصيد أفضل مأكول؛ لأنه حلال لا شبهة فيه، كما أن الزراعة أفضل مكتسب؛ لأنها أقرب إلى التوكل من غيرها، وأقرب للحل. وفيها عمل اليد، والنفع العام للإنسان والحيوان (¬5). ومما يؤكد مشروعية الصيد: أنه نوع اكتساب، وانتفاع بما هو مخلوق للإنسان، ليتمكن من البقاء، وتنفيذ التكاليف الشرعية. هذا وقد قسم المالكية (¬6) أحكام الصيد خمسة أقسام: مباح للمعاش، ومندوب للتوسعة على العيال، وواجب لإحياء النفس عند ¬
المبحث الثاني ـ شروط إباحة الصيد
الضرورة، ومكروه للهو، وحرام إذا كان عبثاً لغير نية، للنهي عن تعذيب الحيوان لغير فائدة. المبحث الثاني ـ شروط إباحة الصيد: يشترط لإباحة الصيد خمسة عشر شرطاً عند الحنفية (¬1)، وستة عشر شرطاً عند المالكية (¬2)، وأجملها الشافعية والحنابلة (¬3) في شروط سبعة. وهذه الشروط هي في الصائد، وفي آلة الصيد، وفي المصيد. ويلاحظ أن مجموع هذه الشروط هو لحالة ما يحل أكله ولم يدركه حياً، فإن أدركه حياً وجب ذبحه، وهي شروط في صيد البر، أما صيد البحر فيجوز مطلقاً، سواء صاده مسلم أو كافر على أي وجه كان. المطلب الأول ـ شروط الصائد: شروط الصائد خمسة عند الحنفية، ستة أو سبعة عند المالكية وهي: 1 - أن يكون الصائد من أهل الذكاة أي ممن تقبل تذكيته شرعاً، كما تقدم في الذبائح وهذا شرط متفق عليه. فيجوز صيد المسلم اتفاقاً، ولا يجوز صيد الوثني والمرتد والمجوسي والباطني اتفاقاً؛ لأن الاصطياد أقيم مقام الذكاة، والجارحة آلة كالسكين، وعقر الصائد الحيوان بمنزلة إفراء الأوداج، ولا يجوز صيد المجنون عند الجمهور خلافاً للشافعية؛ لأن الصائد بمنزلة المذكي فتشترط الأهلية فيه. ويجوز ¬
صيد الكتابي (اليهودي والنصراني) في المذاهب الأربعة، لكن قيد الشافعية حل اصطياده وذبحه بألا يعلم تهود آباء اليهودي بعد مجيء الإسلام الناسخ لليهودية، وبأن يعلم تنصر آباء النصراني قبل الإسلام. فإن كان أبو الكتابي مجوسياً وأمه كتابية، أو بالعكس، فمالك يعتبر الوالد، والشافعي يعتبر الأم، وأبو حنيفة: يعتبر أيهما كان ممن تجوز تذكيته، فالمتولد بين مشرك وكتابي ككتابي؛ لأنه أخف؛ لأن الولد يتبع أخف الأبوين ضرراً. وأحمد: يعتبر المتولد من كتابي ومشرك كولد مجوسية من كتابي مثل المشرك لا يؤكل صيده (¬1). 2 - ألا يشاركه في الإرسال من لا يحل صيده: وهذا شرط اتفاق أيضاً. ويمكن جعل الشرط الأول والثاني واحداً. ودليل هذا الشرط حديث عدي بن حاتم الذي فيه: «ما لم يُشركها كلب ليس معها» فهو يدل على أنه لا يحل أكل ما شاركه كلب آخر في اصطياده. فلو شارك مجوسي مسلماً في اصطياد أو ذبح، أو اشتركا في إرسال كلبين أو سهمين، ولم يسبق كلب المسلم أو سهمه، فجرحا المصيد، أو جهل الجارح، لم يؤكل المصيد أو المذبوح؛ لأنه اجتمع المبيح والمحرِّم، فتغلب جهة المحرم احتياطاً، مما يدل على أن المبدأ في الأطعمة في المذاهب الأربعة هو تغليب التحريم (¬2). ويطبق ذلك أيضاً على حالة الاشتراك بين كلب معلم وغير معلم، أو كلب لم يذكر اسم الله تعالى عليه عمداً مع ما ذكر، عند الجمهور مشترطي التسمية. 3 - أن ينوي الاصطياد أو يوجد منه الإرسال ـ إرسال الجارحة على الصيد، ¬
وهو شرط متفق عليه، فإن استرسلت بنفسها، فقتلت، لم يبح، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم في حديث عدي بن حاتم المتقدم: «إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله عليه، فكل ما أمسك عليك»، ولأن إرسال الجارحة جعل بمنزلة الذبح، ولهذا اعتبرت التسمية معه. وإن استرسل الجارح بنفسه، فسمى صاحبه، وزجره، فزاد في عدْوه، أبيح صيده عند الحنابلة والحنفية؛ لأن الزجر مثل الإرسال، ولا يباح عند المالكية، والشافعي في الأصح، لاجتماع الإرسال بنفسه والإغراء، فغلب جانب المنع (¬1)، والأول أرجح في تقديري. 4 - ألا يترك التسمية عامداً، وهذا شرط عند الجمهور، وعند الشافعية ليس بشرط، والسنة أن يسمي الصائد الله تعالى عند الرمي أو إرسال الجارح، كما يسمي الذابح عند الذبح بأن يقول بسم الله، أو يضيف إليه: «والله أكبر»، للحديث السابق المذكور فيه التسمية. فإن ترك القانص التسمية عمداً لم يؤكل المصيد عند الجمهور، لقوله تعالى: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} [الأنعام:121/ 6] وقوله سبحانه: {فكلوا مما أمسكن عليكم، واذكروا اسم الله عليه} [المائدة:4/ 5]. وإن ترك التسمية سهواً يؤكل المصيد عند المالكية والحنفية، ولا يؤكل عند الحنابلة (¬2) بعكس الذبيحة تؤكل عندهم في حال ترك التسمية سهواً، لقول ابن عباس: «من نسي التسمية فلا بأس». وروى سعيد بن منصور بإسناده عن راشد بن ربيعة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ذبيحة المسلم حلال، وإن لم يسم ما لم يتعمد». وقوله تعالى: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} ¬
[الأنعام:121/ 6] محمول على ما تركت تسميته عمداً بدليل قوله: {وإنه لفسق} [الأنعام:121/ 6] والأكل مما نسيت التسمية عليه، ليس بفسق. وتختلف الذبيحة عن الصيد عند الحنابلة؛ لأن ذبح الصيد في غير محل، فاعتبرت التسمية تقوية له، والذبيحة بخلاف ذلك، ويرشد إلى وجوب التسمية مطلقاً حديث عدي بن حاتم قال: «قلت: يا رسول الله، إنى أرسل كلبي، وأسمِّي، قال: إن أرسلت كلبك، وسميت، فأخذ، فقتل، فكل، وإن أكل منه، فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه. قلت: إني أرسل كلبي، أجد معه كلباً آخر، لا أدري أيهما أخذه؟ قال: فلا تأكل، فإنما سميت على كلبك، ولم تسم على غيره» (¬1). وقال الشافعية (¬2): يباح أكل متروك التسمية عمداً أو سهواً، في الصيد والذبائح، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «المسلم يذبح على اسم الله، سمى أو لم يسم» (¬3) وعن أبي هريرة رضي الله عنه «أن النبي صلّى الله عليه وسلم سئل، فقيل: أرأيت الرجل منا يذبح، وينسى أن يسمي الله؟ فقال: اسم الله في قلب كل مسلم» (¬4). وأما النهي في قوله تعالى: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه، وإنه ¬
لفسق} [الأنعام:121/ 6] فمقيد بحال كون الذبح فسقاً، والفسق في الذبيحة مفسر في كتاب الله بما أهل لغير الله به؛ لأن جملة {وإنه لفسق} [الأنعام:121/ 6] لا تصلح أن تكون معطوفاً، للتباين بين الجملتين، إذ الأولى فعلية إنشائية، والثانية اسمية خبرية، فتعين أن تكون حالية. وأما الأحاديث المطالبة بالتسمية في خبر أبي ثعلبة وعدي بن حاتم ونحوهما، فمحمولة على الندب. 5 - ألا يشتغل الصائد بين الإرسال وأخذ المصيد بعمل آخر. وعبر المالكية عن ذلك بقولهم: أن يتبع الصائد الصيد عند الإرسال أو الرمي. والسبب في اشتراط هذا الشرط: أن الصائد مطالب بملاحقة المصيد، ليذبحه إن أدركه حياً فيه روح، فإن قصر في ذلك، ومات ولم يذكه، لم يؤكل، لأنه قدر على الذكاة الاختيارية، فلا تجزئ الذكاة الاضطرارية لعدم الضرورة. وللفقهاء آراء في إدراك المصيد حياً، قال الحنفية (¬1): إن أدرك المصيد، وكان فيه فوق حياة المذبوح، بأن يعيش مدة كاليوم أو نصفه، فوق ما يعيش المذبوح، وترك التذكية، حتى مات، لم يؤكل؛ لأنه مقدور على ذبحه، ولم يذبح، فصار كالميتة، والله تعالى يقول: {إلا ما ذكيتم} [المائدة:3/ 5] ولقوله عليه الصلاة والسلام لعدي: «إذا أرسلت كلبك، فاذكر اسم الله عليه، وإن أمسك عليك، فأدركته حياً، فاذبحه». أما لو أدرك به حياة مثل حياة المذبوح، فلا تلزم تذكيته، لأنه ميت حكماً، ¬
ولهذا لو وقع في الماء في هذه الحالة، لا يحرم، كما لو وقع وهو ميت. ولو أدرك الصيد حياً حياة فوق ما يكون في المذبوح، ولم يتمكن من ذبحه لفقد آلة، أو ضيق الوقت، لم يؤكل في ظاهر الرواية، وفي رواية أخرى عن أئمة الحنفية الثلاثة: إنه يؤكل استحساناً، وقيل: هذا أصح. أما إن لم يتمكن من ذبحه، لعدم قدرته عليه، أي عدم ثبوت يده عليه، فمات، أكل؛ لأن اليد لم تثبت عليه، ولم يوجد منه التمكن من الذبح. وقال المالكية (¬1): إن رجع الصائد بعد الإرسال أو الرمي، ثم أدرك المصيد غير منفوذ المقاتل، ذكاه. وإن لم يدركه إلا منفوذ المقاتل، لم يؤكل، إلا أن يتحقق أن مقاتله أنفذت بالمصيد به. وقال الشافعية والحنابلة (¬2): إن كانت حياة المصيد كحياة المذبوح، ليس فيه حياة مستقرة، بأن شق جوفه وخرجت الحشوة، أو أصاب العقر من الكلب مقتلاً، يباح من غير ذبح، باتفاق المذاهب؛ لأن الذكاة في مثل هذا لا تفيد شيئاً، لكن المستحب عند الشافعية أن يمر السكين على الحلق ليريحه، وإن لم يفعل حتى مات، حل؛ لأن عقر الكلب المرسل عليه، قد ذبحه، وبقيت فيه حركة المذبوح. وإن كانت فيه حياة مستقرة أدركها الصائد فينظر في الأمر: أـ إن تعذر ذبحه، بلا تقصير من الصائد، حل أكله، كأن سل السكين على الصيد، أو ضاق الزمان فلم يتسع الوقت لذكاته، حتى مات، أو مشى له على ¬
هينته ولم يأته عدواً، أو اشتغل بتوجيهه للقبلة أو بطلب المذبح (مكان الذبح)، أو بتناول السكين، أو منع منه سبع، فمات قبل إمكانه الذبح، أو امتنع منه بقوته، ومات قبل القدرة عليه، فيحل في الجميع كما لو مات، ولم يدرك حياته. ب ـ وإن مات لتقصيره، بأن لا يكون معه سكين، أو لم تكن محددة، أو ذبح بظهرها خطأ، أو أخذها منه غاصب، أو نشبت في الغمد (أي عسر إخراجها بأن تعلقت في الغلاف)، حرم الصيد، للتقصير، لحديث أبي ثعلبة الخشني المتقدم أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ما رد عليك كلبك المكلب، وذكرت اسم الله عليه، وأدركت ذكاته، فذكه، وكل، وإن لم تدرك ذكاته، فلا تأكل .. ». 6 - ألا يكون الصائد في صيد البر محرماً بحج أو عمرة، أما صيد البحر فحلال للمحرم لقوله تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه، متاعاً لكم وللسيارة، وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً} [المائدة:96/ 5]. وفي حديث صحيح: «صيد البر لكم حلال ـ وأنتم حرم ـ ما لم تصيدوه أو يُصَد لكم» (¬1) وحكمة التفرقة بين نوعي الصيد كما ورد في الآية هو توفير زاد للمسافرين والنائين عن البحر، ولأن صيد البر ترفه يتطلب مشقة ومطاردة تصرف المحرم عما فيه من عبادة. 7 - أن يرى الصائد الصيد ويعينه أو يحس به، ويرسل كلبه المعلم على صيد، وهذا شرط ذكره المالكية والشافعية والحنابلة (¬2)، ويمكن عده مع الشرط الثالث. ¬
حالة غيبة المصرع
فلو علم الصائد بالصيد، ولو كان أعمى، فأرسل كلبه أو بازه المعلم، فقتل المصيد، فإنه يؤكل، ويصح صيد الأعمى عند المالكية والحنابلة. أما لو أرسله على صيد، وهو لا يرى شيئاً، ولا يحس به، فأصاب صيداً، لم يبح في قول أكثر أهل العلم؛ لأنه لم يرسله على الصيد، وإنما استرسل بنفسه. وكذلك إن رمى سهماً لاختبار قوته أو إلى غرض، فأصاب صيداً، أو رمى به إلى أعلى، فوقع على صيد، فقتله، لم يُبح لأنه لم يقصد برميه عيناً، كما لو نصب سكيناً فانذبحت بها شاة. ولو أرسل الصائد الجارح في غار أو غيضة (مجتمع شجر)، لم يعلم أن فيهما صيداً، ونوى ذكاة ما وجده فيها، أو علم فيهما صيداً، ولم يره ببصره، فوجد صيداً، فقتله، فإنه يؤكل كما صرح المالكية، تنزيلاً للغالب منزلة المعلوم. واشترط الشافعية (¬1) أن يكون الصائد بصيراً، فلا يحل عندهم صيد الأعمى في الأصح لعدم صحة قصده؛ لأنه لا يرى الصيد، فصار كاسترسال الكلب بنفسه، لايحل به الصيد، ولو أرسل كلباً، وهو لا يراه صيداً، فأصاب صيداً لم يحل. وتطبيقاً على هذه الشروط أذكر حالتين: هما حالة غيبة مصرع المصيد، وحالة وقوعه في ماء أو ترديه من سطح بعد الصيد: حالة غيبة المصرع: إن رمى الصائد الصيد، فغاب عن عينه، فوجده ميتاً وليس به إلا أثر سهمه (¬2)، يباح أكله عند الحنفية، والحنابلة: إن تابع طلبه والبحث عنه، أو لم يتشاغل عنه بشيء آخر. فإن تشاغل عنه، ثم وجده، أو وجد به أثر سهم آخر، أوشك في سهمه لم يبح أكله، لاحتمال موته بسبب آخر. ولقول ابن ¬
حالة الوقوع في الماء أو التردي من مكان عال على الأرض
عباس: «كل ما أصميت، ودع ما أنميت» (¬1) والإصماء: ما رأيته، والإنماء: ما توارى عنك، مما يدل على أن الصيد يحرم بالتواري. ولقوله صلّى الله عليه وسلم في حديث عدي ابن حاتم: «إذا رميت فوجدته بعد يوم أو يومين، ليس به إلا أثر سهمك، فكل، وإن وقع في الماء فلا تأكل». وقال الشافعية في الأظهر: إن جرحه جرحاً يمكن إحالة الموت عليه، وغاب، ثم وجده ميتاً، ولم يظن أن سهمه قتله، حرم، لحديث عدي بن حاتم قال: «قلت: يا رسول الله، إنا أهل صيد، وإن أحدنا يرمي الصيد، فيغيب عنه الليلتين والثلاث، فيجده ميتاً، فقال: إذا وجدت فيه أثر سهمك، ولم يكن أثر سبع، وعلمت أن سهمك قتله، فكل» (¬2). وقال المالكية في المشهور: إن وجده ميتاً بعد يوم أو يومين منفوذ المقاتل لا يؤكل لاحتمال موته بشيء من الهوام مثلاً، ولحديث مسند عن أبي رَزين وعن عائشة، ومرسل عند أبي داود، مفاده «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كره أكل الصيد إذا غاب عن الرامي، وقال: لعل هوام الأرض قتلته». والخلاصة: إن الصيد الذي غاب بعد رميه، ولم يعلم أو يظن أنه مات بضربه، لا يؤكل في المذاهب. حالة الوقوع في الماء أو التردي من مكان عال على الأرض: إذا رمى الصائد صيداً، فوقع في ماء أو تردى من مكان عال كجبل أو سطح على الأرض، أو وطئه شيء فمات، لم يؤكل باتفاق المذاهب (¬3)، لكن إن وقع على الأرض مباشرة، ¬
المطلب الثاني ـ شروط آلة الصيد
أكل؛ لأنه لا يمكن الاحتراز عنه. بخلاف الحالة المتقدمة، فإنه يمكن الاحتراز عنه، وقد اجتمع فيه سبب الحل والحرمة معاً، فترجح جهة الحرمة احتياطاً، ولحديث عدي بن حاتم السابق: «وإن وقع في ماء، فلا تأكل». هذا مالم يكن سهم قد أنفذ مقاتله قبل الوقوع، فإن حدث ذلك لم يضره الغرق أو التردي. المطلب الثاني ـ شروط آلة الصيد: الآلة نوعان: سلاح، وحيوان. أـ أما السلاح: فيشترط أن يكون محدداً كالرمح والسهم والسيف والبارود ونحو ذلك. وإذا رمى الصيد بسيف أو غيره، فقطعه قطعتين أو قطع رأسه، أكل جميعه وأكل الرأس، عند الجمهور (¬1)، ولا يؤكل الجزء المبان منه إذا بقيت فيه حياة مستقرة؛ لأن «الجزء المقطوع من الحي كميتته». ويؤكل العضو المبان إذا لم تبق فيه حياة مستقرة ومات بالجرح. وكذلك قال الحنفية (¬2): إذا رمى إلى صيد، فقطع عضواً منه أكل المصيد، كوجود الجرح، ولا يؤكل العضو المقطوع بحال، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ما أبين من الحي فهو ميت» (¬3) والمبان منه حي حقيقة لوجود الحياة. وإن قطعه الرامي أثلاثاً أو أكثره مع عجزه، أو قطع نصف رأسه أو أكثره، أو قدَّه نصفين، أُكل كله؛ لأن هذه الصور لا يمكن فيها وجود حياة فوق حياة المذبوح، فلم يتناولها الحديث المذكور. أما لو كان الأكثر مع الرأس، أكل الأكثر، ولا يؤكل الأقل، لإمكان الحياة فوق حياة المذبوح، وأما الأقل فهو مبان من الحي. ¬
ولا يجوز الاصطياد بما لايجوز التذكية به، وهي السن والظفر والعظم على الخلاف السابق في التذكية به. ولا يجوز الصيد بمثقل (¬1) كالحجر، والبندقة (طينة مدورة يرمى بها)، والمعراض بعُرضه (سهم لا ريش ولا نصل، أو عصا محددة الرأس) إلا أن يكون له حد، ويوقن أنه أصاب به، لا بالرض؛ لأن ما قتله بحدة بمنزلة ما طعنه برمحه، ورماه بسهم، وما قتل بعُرْضه (جانبه) إنما يقتل بثقله، فهو موقوذ أو وقيذ (ميت بالضرب) ولما روي أن عدي بن حاتم قال للنبي صلّى الله عليه وسلمـ: إني أرمي الصيد بالمعراض (¬2)، فأصيب، فقال: «إذا رميت بالمعراض، فخزق (نفذ)، فكله، وإن أصاب بعُرْضه (بغير طرفه المحدد)، فلا تأكله» (¬3). وفي حديث عبد الله بن مغَفَّل قال: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الخَذْف، وقال: إنه لا يقتل الصيد، ولا ينكأ العدو، وإنه يفقأ العين، ويكسر السن» (¬4). وعليه: إذا قتل الصائد أو الذابح الحيوان بمُثْقّل (شيء ثقيل)، أو ثقل محدد كبندقة وسوط، وسهم بلا نصل ولا حد، أو سهم وبندقة معاً، أو جرحه نصل وأثر فيه عُرْض السهم (جانبه) في مروره، ومات بهما (أي الجرح والتأثير) أو انخنق بأحبولة أو شبكة، فهو محرم، بلا خلاف، لأنه قتله بما ليس له حد (¬5). وهكذا حكم سائر آلات الصيد حكم المعراض في أنها إذا قتلت بعُرْضها ولم تجرح، لم يبح الصيد، كالسهم يصيب الطائر بعُرْضه فيقتله، أو كالسيف بصفحه. ¬
ب ـ وأما الحيوان الجارح
ولا يؤكل ما يصطاد اليوم بالخردق أو الرصاص غير محدد الرأس إلا إذا أدركه الصائد حياً وذبحه ذبحاً اختيارياً. وأفتى الشيخ المفتي محمود حمزة في دمشق وغيره بجواز أكل ماصيد بالخردق أو الرصاص العادي، لأنه يقتل بسرعة شديدة. والخلاصة: أنه يؤكل المصيد بالرمي بأداة محددة كالرماح والسيوف والسهام ونحوها للنص عليها في القرآن والسنة. كما يؤكل المصيد بالمثقل إذا قتله بحده وخرق جسد الصيد، ولا يؤكل إذا قتله بالمثقل ولم يخرق لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «ما خزق فكل». وهذا التفصيل بالمثقل هو رأي الجماهير. ب ـ وأما الحيوان الجارح: فيحل الاصطياد بجوارح السباع والطير إذا كانت معلمة، ولم تأكل من الصيد عند غير المالكية. فالسبع مثل الكلب والفهد والنمر والأسد والهر، والطير مثل الباز أو البازي (نوع من الصقور) والشاهين (من جنس الصقر) والصقر والنسر والعقاب ونحوها من كل ما يقبل التعليم (¬1) لقوله تعالى: {أحل لكم الطيبات، وما علَّمتم من الجوارح مكلبين} [المائدة:5/ 4]، قال ابن عباس: هي الكلاب المعلمة، وكل طير تعلَّم الصيد والفهود والصقور وأشباهها، أي يحل لكم صيد ماعلمتم من الجوارح (¬2). ولحديث عدي بن حاتم، قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن صيد البازي، فقال: «إذا أمسك عليك، فكل» ولأنه جارح يصاد به عادة، ويقبل التعليم، فأشبه الكلب. ومثله كل سبع حتى الأسد. واستثنى أبو يوسف (¬3) من ذلك الأسد والدب، لأنهما لا يعملان لغيرهما: ¬
شروط الحيوان الصائد
الأسد لعلو همته، والدب لخساسته، وألحق بعضهم بهما الحدَأة لخساستها، والخنزير مستثنى؛ لأنه نجس العين، فلا يجوز الانتفاع به. واستثنى الإمام أحمد من الكلاب: الكلب الأسود البهيم (الذي لا يخالط لونه لون سواه كالبياض ونحوه)، لأنه كلب يحرم اقتناؤه، ويسن قتله بأمر النبي صلّى الله عليه وسلم، فلم يبح صيده، كغير المُعلَّم. ودليله قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «عليكم بالأسود البهيم ذي النُكْتتين، فإنه شيطان» (¬1) فقد سماه النبي شيطاناً، ولا يجوز اقتناء الشيطان. وإباحة الصيد المقتول بالجارح رخصة، فلا تستباح بمحرم كسائر الرخص، ويكون عموم الآية السابقة مخصصاً بهذا الحديث (¬2). ويسن أيضاً عند الحنابلة قتل الخنزير ويحرم الانتفاع به، ويجب قتل الكلب العقور ولو كان معلماً، ويحرم اقتناؤه لأذاه. شروط الحيوان الصائد - يشترط في الحيوان المصيد به ستة شروط (¬3): الأول - أن يكون معلما ً: بأن ينتقل عن طبعه الأصلي، حتى يصير تحت تصرف الصائد كالآلة، لا صائداً لنفسه. وشرط التعليم متفق عليه بنص القرآن. وتعليم الكلب عند الحنفية: أن يترك الأكل ثلاث مرات. وتعليم البازي ونحوه: أن يرجع ويجيب إذا دعوته، ولا يشترط فيه ترك الأكل من الصيد، وهو مأثور عن ابن عباس، ولأن آية التعليم: ترك ما هو مألوفه عادة، فيترك الكلب ونحوه من السباع الأكل والاستلاب مما يصيده، ويتعود الطائر الإجابة، أو الرجوع ¬
إذا دعوته. وفي رواية أخرى عن أبي حنيفة: لايقدر التعليم بالثلاث بل بحسب رأي المدرب. ويؤكل مااصطاده في المرة الثالثة عند أبي حنيفة، ولا يؤكل عند الصاحبين؛ لأنه إنما يصير معلماً بعد تمام الثلاث (¬1). ولابد من الإرسال، لكن لايشترط الزجر في حل الصيد. ولابد في التعليم عند الشافعية والحنابلة من أوصاف أو شروط ثلاثة: إذا أرسله صاحبه استرسل، وإذا زجره انزجر، وإذا أمسك الصيد لم يأكل منه. ويكفي عند المالكية توفر الشرطين الأولين (¬2). ويشترط تكرار هذه الأمور حتى يصير معلماً في حكم العرف بأن يظن تأدب الجارحة، ولايضبط ذلك بعدد عند المالكية والشافعية، بل يرجع في أمر التكرار إلى أهل الخبرة بالجوارح، وأقل ذلك أن يتكرر مرتين فأكثر، بحيث يغلب على الظن تعوده وتعلمه ذلك. وأقل المطلوب عند الحنابلة ثلاث مرات؛ لأن مااعتبر فيه التكرار اعتبر ثلاثاً، كالمسح في الاستجمار وغسلات الوضوء. ولايعتبر أيضاً عند بعض المالكية شرط: «إذا زجر انزجر» في الباز، لأنه لاينزجر. ودليل شرط عدم أكل الجارح من الصيد: هو حديث عدي بن حاتم المتقدم: «إذا أرسلت كلبك المعلم، وسميت، فأمسك وقتل، فكل، وإن أكل فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه». ¬
هل يجب غسل معض الكلب أي أثر فم الكلب؟
فإن ظهر كون الجارح معلماً، ثم أكل مرة من لحم صيد، لم يحل الصيد في الأرجح عند الجمهور غير المالكية، لحديث عدي السابق، ولأن عدم الأكل شرط في التعلم ابتداء ودواماً، فيشترط تعليم جديد. وأجاز الحنفية أكل ما أكل منه البازي؛ لأن ترك الأكل ليس شرطاً عندهم في تعليمه. وقال المالكية: يؤكل (¬1)، لعموم قوله تعالى: {فكلوا مما أمسكن عليكم} [المائدة:4/ 5] وحديث أبي ثعلبة: «ما صدت بقوسك، فذكرت اسم الله عليه، فكل، وما صدت بكلبك المُعلَّم، فذكرت اسم الله عليه، فكل، وما صدت بكلبك غير المعلم، فأدركت ذكاته فكل (¬2)» ولأن الأكل يحتمل أن يكون لفرط جوع، أوغيظ على الصيد. ويحل الصيد الذي صاده قبل الأكل، كما يحل في الراجح عند الحنابلة ما صاده الكلب بعد الصيد الذي أكل منه (¬3). وهل يجب غسل معضّ الكلب أي أثر فم الكلب؟ قال الشافعية وفي وجه عند الحنابلة (¬4): معض الكلب نجس، ولا يعفى عنه، لأنه ثبتت نجاسته، فيجب غسل ما أصابه كبوله، ويغسل سبعاً إحداهن بالتراب. وقال المالكية وهو الوجه الثاني عند الحنابلة: لا يجب غسله؛ لأن الله تعالى ورسوله أمرا بأكله، ولم يأمرا بغسله، والكلب طاهر في مذهب المالكية، فيؤكل موضع نابه. الثاني ـ أن يذهب على سنن الإرسال ولو من غير تعيين عند الحنفية. أما عند ¬
المالكية والشافعية والحنابلة فلا بد من أن يرسله الصائد من يده على الصيد بعد أن يراه ويعينه (¬1). فإن انبعث من نفسه لم يؤكل اتفاقاً. ومن سمع حساً ظنه حس صيد، فرماه، أو أرسل كلباً أو بازاً عليه، فأصاب صيداً ثم تبين أنه صيد، حل المصاب عند الحنفية، لأنه قصد الاصطياد. وإن زجره بعد انبعاثه من تلقاء نفسه، فرجع إليه، ثم أشلاه (أغراه)، أكل. وإن لم يرجع إليه، بعد أن انزجر، ثم زاد في عدوه، أبيح صيده عند الحنفية والحنابلة، وهو الأولى؛ لأن الزجر مثل الإرسال من حيث كونه فعل الصائد، فالزجر إرسال لأنه دليل الطاعة. ولم يبح عند المالكية والشافعية، كما ذكر سابقاً، تغليباً لجانب المنع؛ لأنه اجتمع إرسال بنفسه وإغراء، فغلب الأول (¬2). وإن أرسله على صيد بعينه، فصاد غيره، لم يؤكل عند غير الحنفية. فإن أرسل، ولم يقصد شيئاً معيناً، وإنما قصد ما يأخذ الجارح، أو ما تقتل الآلة في جهة محصورة كالغار وشبهه، جاز على المشهور عند المالكية. وإن كانت جهة غير معينة كالمتسع من الأرض والغياض أو كان الإرسال على كل صيد يعثر عليه، لم يجز ولم يبح المصيد عندهم. ولو اضطرب الجارح فأرسله الصائد، ولم ير شيئاً، وليس المكان محصوراً من غار أو غيضة، فصاد شيئاً، لم يؤكل لاحتمال أن يكون غير المضطرب عليه ولم ينوه، فإن نواه وغيره أكل. وقيل: لا يؤكل. ولا بد عند الشافعية والحنابلة: أن يقصد صيداً معيناً، لا مبهماً، فلو أرسل ¬
الثالث ـ ألا يشاركه في الأخذ ما لا يحل صيده
سهماً لاختبار قوته، أو إلى غرض يرمي إليه، فاعترضه صيد، فقتله، حرم، لأنه لم يقصد برميه معيناً. الثالث ـ ألا يشاركه في الأخذ ما لا يحل صيده، كالجارح غير المعلم، وهو شرط مجمع عليه. فإن تيقن أن المُعَلَّم هو المنفرد بالأخذ أو الجراح، أكل. وإن تيقن خلافه أوشك لم يؤكل، لأنه اجتمع المبيح والمحرم، فتغلب جهة المحرم احتياطاً. وإن غلب على ظنه أنه القاتل، ففيه خلاف (¬1)، فإن أدركه حياً فذكاه، حل اتفاقاً. ودليل هذا الشرط حديث عدي بن حاتم قال: «سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقلت: أرسل كلبي، فأجد معه كلباً آخر قال: لا تأكل، فإنك إنما سميت على كلبك، ولم تسم على الآخر» وفي لفظ: «فإن وجدت مع كلبك كلباً آخر، فخشيت أن يكون أخذ منه، وقد قتله، فلا تأكله، فإنك إنما ذكرت اسم الله على كلبك» وفي لفظ «فإنك لا تدري أيهما قتله؟» (¬2). الرابع ـ أن يقتله جَرْحاً، فإن خنقه أو قتله بصدمته، لم يبح عند الجمهور (¬3) غير الشافعية؛ لأن قتله بغير جَرْح أشبه بقتله بالحجر والبندق، ولأن الله تعالى حرم الموقوذة، وقول النبي صلّى الله عليه وسلم السابق: «ما أنهر الدم، وذكر اسم الله، فكل» يدل على أنه لا يباح ما لم ينهر الدم. فعلى هذا يكون الجرح شرطاً. وهذا أولى في نظري؛ لأن الوقيذ محرم بالقرآن والإجماع، والعقر ذكاة الصيد. ¬
الخامس ـ ألا يأكل من الصيد، فإن أكل منه لم يبح
وقال الشافعية (¬1): لو تحاملت الجارحة على صيد، فقتلته بثقلها، حل في الأظهر، لعموم قوله تعالى: {فكلوا مما أمسكن عليكم} [المائدة:4/ 5] ولأنه يعسر تعليمه ألا يقتل إلا بجرح، ولعموم حديث عدي: «ما علّمت من كلب أو باز، ثم أرسلته، وذكرت اسم اللهعليه، فكل ما أمسك عليك، قلت: وإن قتل؟ قال: وإن قتل، ولم يأكل منه شيئاً، فإنما أمسكه عليك» (¬2). الخامس ـ ألا يأكل من الصيد، فإن أكل منه لم يبح. ويمكن دمج هذا الشرط بالشرط الأول. وهذا الشرط عند الجمهور غير المالكية، وهو أصح الروايتين عند الحنابلة، وهو مذهب الحنفية في الكلب ونحوه من السباع. وقال مالك ومتأخرو المالكية (وهو مشهور بالذهب)، وفي رواية ثانية عن أحمد: يجوز الأكل مما أكل منه الكلب أو غيره من الطيور. وقال الحنفية وبعض المصنفين من الحنابلة كصاحب كشاف القناع (¬3): لايباح ما أكل منه الكلب عملاً بالحديث المتفق عليه: «فإن أكل فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون إ نما أمسك على نفسه»، ويباح ما أكل منه الطائر ذو المخلب كالبازي والصقر والعقاب والشاهين ونحوها، لأن تعليمه بأن يسترسل إذا أرسل، ويرجع إذا دعي، ولايعتبر ترك الأكل لقول ابن عباس: «إذا أكل الكلب فلا تأكل، وإن أكل الصقر، فكل». ¬
السادس ـ عند المالكية: ألا يرجع الجارح عن الصيد،
ودليل الجمهور: حديث عدي بن حاتم: «إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله تعالى، فكل ما أمسك عليك. قلت: وإن قتل؟ قال: وإن قتل، إلا أن يأكل الكلب، فإن أكل، فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه». وظاهر الكتاب يدل عليه وهو قوله تعالى: {فكلوا مما أمسكن عليكم} [المائدة:4/ 5] والإمساك يكون بعدم الأكل من الصيد، ولأن من أهم خواص التعليم عدم الأكل. واستدل المالكية في المشهور عندهم، وأحمد في رواية عنه بعموم قوله تعالى: {فكلوا مما أمسكن عليكم} [المائدة:4/ 5] وبحديث أبي ثعلبة الخشني: «إذا أرسلت كلبك المعلَّم، وذكرت اسم الله عليه، فكل، قلت: وإن أكل منه يارسول الله؟ قال: وإن أكل» وحملوا حديث عدي على الندب، وهذا على الجواز. ولأنه صيد جارح معلم، فأبيح، كما لو لم يأكل، فإن الأكل يحتمل أن يكون لفرط جوع أو غيظ على الصيد. ويلاحظ أن حديث عدي أصح من حديث أبي ثعلبة، لأنه متفق عليه، وعدي بن حاتم أضبط، ولفظه أبين، لأنه ذكر الحكم والعلة. ورد ابن رشد المالكي على متأخري المالكية بقوله (¬1): وهذا الذي قالوه خلاف النص في الحديث، وخلاف ظاهر الكتاب، وهو قوله تعالى: {فكلوا مما أمسكن عليكم} [المائدة:4/ 5] وللإمساك على سيد الكلب طريق تعرف به، وهو العادة. ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: «فإن أكل، فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه». السادس ـ عند المالكية (¬2): ألا يرجع الجارح عن الصيد، فإن رجع بالكلية، ¬
المطلب الثالث ـ شروط المصيد
لم يؤكل وكذلك لواشتغل بصيد آخر، أو بما يأكله، لا يؤكل. وهذه الشروط كلها إذا قتله الجارح، فإن لم يقتله، وأدركه القانص، ذكي، وأكل. المطلب الثالث ـ شروط المصيد: ذكر المالكية (¬1) خمسة شروط لحل المصيد، كما ذكر الحنفية (¬2) شروطاً خمسة له أيضاً، إلا أن الثلاثة المذكورة عند الحنفية منها يمكن عدها شرطاً واحداً. وسأذكر هذه الشروط بحسب منهج المالكية، لأنه أدق وأشمل. ويلاحظ أنه يجوز عند الحنفية (¬3) اصطياد ما يؤكل لحمه من الحيوان، وكذا ما لا يؤكل لأنه سبب للانتفاع بجلده أو شعره أو قرنه أو لاستدفاع شره. الأول ـ أن يكون المصيد مباح الأكل شرعا ً؛ لأن الحرام عند غير الحنفية والمالكية لا يؤثر فيه الصيد، ولا الذكاة. وقد عبر الحنفية عن هذا الشرط بألا يكون متقوياً بنابه أو بمخلبه، وألا يكون من الحشرات، وألا يكون من بنات الماء إلا السمك، لأنه لا يحل أكل شيء من حيوان الماء عندهم إلا السمك. الثاني ـ أن يكون متوحشا ً، بأن يعجز الإنسان عن أخذه في أصل خلقته كالوحوش والطيور، فإن كان مستأنساً كالإبل والبقر والغنم، ثم توحش، لم يؤكل بالصيد عند المالكية. ويؤكل به عند غير المالكية؛ لأن الصيد يعد حينئذ ذكاة اضطرارية، تباح للضرورة، كما تقدم في بحث أنواع التذكية. ¬
الثالث ـ أن يموت من الجرح،
وإن تأنس المتوحش الأصل، ثم ندَّ (هرب) أكل بالاصطياد عند المالكية، كما يؤكل بالعقر عندهم الحمام ونحوه إن توحش؛ لأن كله صيد. وقد عبر الحنفية عن هذا الشرط بقولهم: أن يمنع نفسه بجناحيه أو قوائمه. الثالث ـ أن يموت من الجَرح، لا من صدم الجارح، ولا من الرعب، أو الخوف من الجارح. وهذا شرط عند الجمهور غير الشافعية. وأجاز الشافعية أكل ما قتله الجارح بثقله، كأن صدمه بصدره أو جبهته، فقتله، ولم يجرحه، كما ذكر في شروط آلة الصيد. الرابع ـ ألا يشك في عين الصيد الذي أصابه في حالة غيبته عن عينه، هل هو، أو غيره؟ ولا يشك، هل قتلته الآلة، أولا؟ فإن شك لم يؤكل. ولو غاب عنه الصيد ليلة، ثم وجده غداً ميتاً لم يؤكل في المشهور عند المالكية. ويباح أكله عند غيرهم إن تابع طلبه. أو لم يتشاغل عنه بشيء آخر، وتأكد أنه صيده. الخامس ـ أن يذبحه إن أدركه حياً، وقدر على تذكيته؛ لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث عدي: «وإن أدركته حياً فاذبحه» فإن أدركه ميتاً، أو نفذت مقاتله، أو حياته كحياة المذبوح، أو عجز عن تذكيته بسبب مقاومته مثلاً حتى مات، ولم يذكه، أكل من غير ذبح باتفاق الفقهاء (¬1). وإن قتله الجارح المصيد به قبل أن يقدر عليه أكل أيضاً، بشرط أن يقتله جرحاً كما تقدم في شروط الآلة. وصرح الحنابلة بأن الصائد إن لم يكن معه ما يذكيه، ¬
المبحث الثالث ـ ما يباح اصطياده من الحيوان عند الحنفية
أشلى (أغرى) الصائد له عليه حتى يقتله، فيؤكل (¬1) عندهم لأنها حال تتعذر فيها الذكاة في الحلق واللبة غالباً. فجازت ذكاة الضرورة، ولا يؤكل في قول أكثر أهل العلم، لأنه صيد مقدور عليه، فلم يبح بقتل الجارح له كبهيمة الأنعام، وكما لو أخذه سليماً. المبحث الثالث ـ ما يباح اصطياده من الحيوان عند الحنفية: يباح عند الحنفية (¬2) اصطياد ما في البحر والبر، مما يحل أكله، وما لا يحل أكله. غير أن ما يحل أكله يكون اصطياده للانتفاع بلحمه وبقية أجزائه، وما لا يحل أكله، يكون اصطياده للانتفاع بجلده وشعره وعظمه، أو لدفع أذاه وشره، وهذا هو رأي المالكية كما ذُكر سابقاً فيما تعمل به الذكاة، إلا صيد الحرم (في مكة والمدينة) فإنه لا يباح اصطياده، باتفاق الفقهاء إلا المؤذي منه، لقوله عز شأنه: {أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً} [العنكبوت:67/ 29] وقول النبي صلّى الله عليه وسلم في صيد حرم مكة: «ولا ينفر صيده» (¬3). وكذلك قال في صيد المدينة: «لا ينفر صيدها» (¬4) وخص منه المؤذيات بقوله عليه الصلاة والسلام: «خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور» (¬5). ¬
المبحث الرابع ـ متى يملك الصائد المصيد؟
ويباح اصطياد ما في البحر للحلال (غير الحاج أو المعتمر) والمحرم (الحاج أو المعتمر)، ولا يباح اصطياد ما في البر للمحرم خاصة، لقوله تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة، وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً} [المائدة:96/ 5] ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «صيد البر لكم حلال، وأنتم حرم، مالم تصيدوه، أو يُصَد لكم» (¬1) وعن الصَعب بن جَثَّامة «أنه أهدى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم حماراً وحشياً، وهو (بالأبواء) أو بوَدَّان (مكان بين مكة والمدينة)، فرده عليه، فلما رأى ما في وجهه، قال: إنا لم نُردُّه عليك إلا أنا حُرُم» (¬2). المبحث الرابع ـ متى يملك الصائد المصيد؟ جاء في الدر المختار ورد المحتار (¬3): أن أسباب الملك ثلاثة: ناقل من مالك إلى مالك كبيع وهبة. وذو خلافة عن المالك كإرث. وذو أصالة: وهو الاستيلاء الحقيقي بوضع اليد ومنه إحياء الموات، والاستيلاء الحكمي بالتهيئة كنصب شبكة صيد على مباح خالٍ عن المالك. فإن كان المصيد أو المباح مملوكاً لم يتملك، فلو استولى رجل في مفازة على حطب غيره، لم يملكه. والاستيلاء الحكمي يتم باستعمال ما هو موضوع للاصطياد، فمن نصب شبكة، فتعلق بها صيد، ملكه، قصد بها الاصطياد، أو لا، فلو نصبها للتجفيف مثلاً، لا يملكه، لأنه قصد مغاير للاصطياد. ـ وإن نصب فسطاطاً (خيمة): إن قصد الصيد، يملكه، وإلا فلا، لأنه غير موضوع للصيد. ¬
ـ ولو دخل صيد دار إنسان، فلما رآه أغلق عليه الباب، وصار بحال يقدر على أخذه، بلا اصطياد بشبكة أوسهم، ملكه. وإن أغلق ولم يعلم به، لا يملكه. ـ ولو نصب حِبالة (مِصْيَدة)، فوقع فيها صيد، فقطعها، وانفلت الصيد، فأخذه آخر، ملكه. ولو جاء صاحب الحبالة ليأخذه، ودنا منه، بحيث يقدر على أخذه، فانفلت، لا يملكه الآخذ. وكذا لا يملكه الآخذ لو انفلت من الشبكة في الماء قبل الإخراج، فأخذه غيره، وإنما يملكه صاحب المصيدة. أما لو رمى به صاحب الشبكة خارج الماء، في موضع يقدر على أخذه، فوقع في الماء، فأخذه غيره، يملكه الآخذ؛ لأن الأمور بمقاصدها. ومن رمى صيداً، فأصابه، ولم يثخنه (يوهنه بالجراحة)، ولم يخرجه من حيِّز الامتناع عن الأخذ (أي ما يزال قابل الأخذ من الغير)، فرماه آخر، فقتله، أو أثخنه (أضعفه)، وأخرجه عن حيز الامتناع، فهو للرامي الثاني، لأنه الآخذ، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «الصيد لمن أخذه» (¬1). وإن كان الرامي الأول قد أثخنه بحيث أخرجه عن حيز الامتناع، فرماه الثاني، فقتله، لم يؤكل، لاحتمال الموت بالثاني، ولا يعد فعل الثاني ذكاة شرعية، للقدرة على ذكاة الاختيار. ويضمن الثاني قيمته للأول، لأنه بالرمي أتلف صيداً مملوكاً للغير؛ لأن الأول ملكه بالرمي المثخن، لكن تقدر قيمته وهو جريح؛ لأن المتعدي وهو الرامي الثاني أتلفه، وهو جريح، وقيمة المتلف تعتبر أو تقدر يوم الإتلاف (¬2). ¬
المالكية
والمالكية (¬1): قالوا مثل الحنفية: لا يستحق الصيد إلا بالأخذ أي بالصيد وقصد الاصطياد، أو بوضع اليد، فمن رأى صيداً وصاده آخر، كان لمن صاده، فإن صاده واحد، ثم ند (هرب) منه فصاده آخر، فاختلف: هل يكون للأول أو للثاني، إلا إن توحش بعد الأول، فهو للثاني. ومن طرد صيداً، فدخل دار إنسان، فإن كان اضطره، فهو له، وإن كان لم يضطره، فهولصاحب الدار. وقال الشافعية (¬2): مثلما قال المالكية والحنفية: يملك الصيد إما بالاستيلاء الفعلي أي بوضع اليد والأخذ، وإن لم يقصد تملكه، كسائر المباحات، وإما بصيده مع قصد الاصطياد. فوضع اليد: مثل ضبطه بيده، إن لم يكن به أثر ملك لغيره كخَضْب وقص جناح وقُرْط، وكان صائده غير محرم وغير مرتد، يكون سبباً للملكية، وإن لم يقصد تملكه. فلو أخذ صيداً لينظر إليه ملكه، لأنه مباح، فيملك بوضع اليد عليه كسائر المباحات. ويملك الصيد أيضاً باصطياده: بجُرْح مذفِّف (مسرع للهلاك) وبإزمان (إزالة امتناعه) وكسر جناح بحيث يعجز عن الطيران والعَدْو جميعاً، إن كان مما يمتنع بهما، وإلا فبإبطال واحد منهما، وإن لم يضع يده عليه. ويملكه أيضاً بوقوعه في شبكة نصبها للصيد، فيملكه، وإن لم يضع يده عليه، سواء أكان حاضراً أم غائباً، طرده إليها طارد أم لا، وسواء أكانت الشبكة مباحة أم مغصوبة، لأنه يعد بذلك مستولياً عليه. ¬
حالة الاشتراك في الصيد
ويملكه أيضاً بإلجائه إلى مضيق، ولو مغصوباً، لا يفلت منه، أي لا يقدر الصيد على التفلت منه كبيت لأنه صار مقدوراً عليه. ولا بد من قصد الاصطياد، فمن رأى صيداً، فظنه حجراً، أوحيواناً غير الصيد، فرماه، فقتله، حل أكله، وملكه، لأنه قتله بفعل قصده، وإنما جهل حقيقته، والجهل بها لا يؤثر. ولو قصد صيداً في ملكه، وصار مقدوراً عليه بتوحل (الوقوع في وحل) وغيره، لم يملكه في الأصح؛ لأن مثل هذا لا يقصد به الاصطياد، والقصد ضروري للتملك، لكن يصير أحق به من غيره. ومتى ملكه، لم يزل ملكه بانفلاته، فمن أخذه، لزمه رده، ولا يزول ملكه أيضاً بإرسال المالك له في الأصح؛ لأن رفع اليد عنه، لا يقتضي زوال الملك عنه، كما لو سيَّب بهيمته، فليس لغيره أن يصيده إذا عرفه. حالة الاشتراك في الصيد: لو جرح الصيد اثنان متعاقبان، فإن ذفف (قتل) الثاني منهما الصيد، أو أزمن (بأن أزال امتناعه)، دون الأول منهما، فهو للثاني؛ لأن جُرْحه هو المؤثر في امتناعه، ولا شيء له على الأول بجرحه، لأنه كان مباحاً حينئذ. وإن أزمن الأول، فإن انضم إليه فعل الثاني، بأن ذفف بقطع حُلقوم ومريء، فهو حلال الأكل، لحصول الموت بفعل ذابح، وعليه للأول مقدار ما نقص بالذبح. وإن ذفف الثاني لا بقطع الحلقوم والمريء، أو لم يذفف أصلاً، ومات بالجرحين فحرام، لأنه في حالة عدم القطع كان الصيد مقدوراً عليه، والمقدور عليه لا يحل إلا بذبحه، وفي الحالة الثانية (عدم التذفيف) فلاجتماع المبيح والمحرم، فيغلب المحرم. ويضمنه الثاني للأول لأنه أفسد ملكه. وهذا كما قال الحنفية سابقاً، وهو مذهب الحنابلة أيضاً فيه وفيما يأتي من مسائل.
الحنابلة
وإن جرحا معاً، وذففا بجرحهما، أو أزمنا به، فلهما الصيد، لاشتراكهما في سبب الملك بجرحهما. وإن ذفف أحدهما، أو أزمن من دون الآخر، فله، لانفراده بسبب الملك. ولو جهل كون التذفيف منهما أو من أحدهما، كان لهما، لعدم الترجيح. وإن ذفف واحد في غير مذبح، وأزمن الآخر على الترتيب بالإصابة لا بالرمي، وجهل السابق منها، حرم الصيد على المذهب، لاجتماع الحظر والإباحة، فيقدم الحظر. وقال الحنابلة (¬1): كالشافعية: يتملك الصيد إما بالاصطياد مع قصده، أو بوضع اليد (الأخذ)، فمن رمى طيراً على شجرة في دار قوم، فطرحه في دارهم، فهو للرامي؛ لأنه ملكه بإزالة امتناعه. ومن نصب خيمة أو شبكة أو فخاً للاصطياد، فوقع فيه صيد، ملكه للحيازة. وكذا لو ألجأ صيداً لمضيق لا يفلت منه أو أغلق باب داره عليه، ملكه بذلك، ولو لم يقصد تملكه للحيازة أو لأنه بمنزلة إثباته بوضع اليد. ومن صنع بِرْكة يصيد بها سمكاً، فما وقع فيها ملكه، كالصيد بالشبكة. وإن لم يقصد بالبركة صيد السمك، لم يملكه بحصوله فيها. ومن كان في سفينة، فوثبت سمكة، فوقعت في حِجْره، فهي له، دون صاحب السفينة؛ لأن السمكة من الصيد المباح، يملك بالسبق إليه. والصياد الذي يتعاطى سبباً للصيد في قوارب الصيد كضوء أوجرس يملكه ¬
بذلك. فإن لم يقصد الصيد بفعل منه، ووقعت سمكة في حجر راكب معه، فهي له، لاستيلائه على مباح، وإن وقعت في السفينة فلصاحب السفينة. ولو وقع صيد في شبكة إنسان، وأثبته (ثبتت يده عليه) ثم أخذه إنسان آخر، لزمه رده إلى رب الشبكة، لأنه أثبته بآلته. وإن لم تمسكه الشبكة وانفلت منها في الحال، أو خرقها وذهب منها، ولو بعد زمن، لم يملكه رب الشبكة، لأنه لم يثبته، فإذا صاده غيره ملكه. ولو ذهب الصيد بالشبكة، فصاده إنسان مع بقاء امتناعه، ملكه الصائد الثاني، ورد الشبكة لصاحبها؛ لأن الأول لم يملكه. فإن مشى الصيد بالشبكة على وجه لا يقدر على الامتناع فهو لصاحبها، لأنه أزال امتناعه، كما في حالة انفلاته منه.
القسم الثاني: النظريات الفقهية
القسْمُ الثَّاني: النّظَريّات الفقهيّة
تقديم
............................... تقديم ......................................... تقتضي طبيعة التدرج المنطقي الانتقال من الجزئيات إلى الكليات، ومن الإفراد إلى التركيب، ومن الأحكام الجزئية إلى النظريات العامة، كما هو منهج الدراسة القانونية الحديثة. لذا كان لزاماً علينا البحث عن نظريات الفقه الإسلامي، وما أكثرها، بالرغم مما يكتنف ذلك من صعوبات استقرائية في تتبع أحكام المسائل الفقهية في بحار الكتب القديمة المترعة بالثروة الفقهية الضخمة، التي تمتاز بخصوبتها ومرونتها وتغطيتها لاحتمالات متعددة، لا تقل عن أروع ما ابتكره الفكر القانوني الحديث، بل تفوقه أحياناً بالحرص على القيم الخلقية العالية والمصالح العامة. وحينما ندرس بدقة وإمعان طائفة من النظريات الفقهية، يتجلى لنا إحكام الربط بين الحكم الشرعي وبين مصدره وأصوله وقواعده والنظريات الفقهية التي أدركها المجتهدون من مصادر الشريعة واتخذوها نبراساً لهم في الاجتهاد. وقد أشرت لما يتفق مع القانون ويختلف فقهاً وقانوناً، ودعمت الحكم الشرعي بدليله النقلي المعتمد على القرآن الكريم أو السنة النبوية الشريفة، أو بالدليل العقلي المتجه نحو رعاية المصلحة ودرء المفسدة. هذا .. وقد بحثت في الأجزاء الأربعة الأولى القسم الأول من هذا الكتاب، وهو (العبادات).
وأتابع في هذا الجزء بحث القسم الثاني من الكتاب وهو أهم النظريات الفقهية ومدى الاستفادة منها في القوانين الوضعية، وذلك في فصول ستة وملحق، كما سأبحث في هذا الجزء أيضاً عقد البيع والخيارات من القسم الثالث وهو (العقود). أما موضوعات القسم الثاني أو فصوله فهي نظريات الحق، الأموال، نظرية الملكية، نظرية العقد، المؤيدات الشرعية، نظرية الفسخ، أهم ما اقتبسه القانون المدني من الفقه الإسلامي. والله أسأل أن يوفقنا جميعاً لإدراك عظمة الفقه الإسلامي وغناه وواقعيته وسداده، لنعود إليه عند وضع القوانين عن جدارة وتقدير، تاركين الاعتماد على الفقه الغربي ونظرياته وحلوله الغريبة عنا. .............................................................................. المؤلف
الفصل الأول: نظرية الحق
الفَصْلُ الأوَّل: نظريَّة الحقِّ النظرية: معناها المفهوم العام الذي يؤلف نظاماً حقوقياً موضوعياً تنطوي تحته جزئيات موزعة في أبواب الفقه المختلفة، كنظرية الحق، ونظرية الملكية، ونظرية العقد، ونظرية الأهلية، ونظرية الضمان، ونظرية الضرورة الشرعية، ونظرية المؤيدات الشرعية من بطلان وفساد وتوقف وتخيير ونحو ذلك مما أذكره هنا. ومن المعروف أن فقهاءنا لم يقرروا أحكام المسائل الفقهية على أساس النظريات العامة وبيان المسائل المتفرعة عنها، على وفق المنهاج القانوني الحديث، وإنما كانوا يتتبعون أحكام المسائل والجزئيات والفروع، مع ملاحظة ماتقتضيه النظرية أو المبدأ العام الذي يهيمن على تلك الفروع. ولكن بملاحظة أحكام الفروع يمكن إدراك النظرية وأصولها. وبذلك تختلف النظرية عن القاعدة الكلية مثل (المشقة تجلب التيسير) (والأمور بمقاصدها) في أن النظرية بناء عام لقضايا ذات مفهوم واسع مشترك. أما القاعدة فهي ضابط أومعيار كلي في ناحية مخصوصة من نواحي النظرية العامة. وأوضح نظرية الحق في أربعة مباحث: الأول ـ تعريف الحق وأركانه الثاني ـ أنواع الحق
المبحث الأول ـ تعريف الحق وأركانه
الثالث ـ مصادر الحق وأسبابه الرابع ـ أحكام الحق المبحث الأول ـ تعريف الحق وأركانه وفيه مطلبان: المطلب الأول ـ تعريف الحق: الحق في اللغة العربية له معان مختلفة تدور حول معنى الثبوت والوجوب مثل قوله تعالى: {لقد حقَّ القولُ على أكثرهم، فهم لا يؤمنون} [يس:7/ 36] أي ثبت ووجب. وقوله سبحانه: {ليُحِقَّ الحقَّ ويُبْطِلَ الباطِل َ} [الأنفال:8/ 8] أي يثبت ويظهر. وقوله عز وجل: {جاءَ الحقُّ وزَهَقَ الباطِل} [الإسراء:81/ 17] أي الأمر الموجود الثابت. وقوله تعالى: {وللمطلقاتِ متاعٌ بالمعروف حقاً على المتقين} [البقرة:241/ 2] أي واجباً عليهم. وتطلق كلمة الحق على النصيب المحدد لمثل قوله تعالى: {والذين في أموالهم حقٌّ معلومٌ، للسائل والمحروم} [المعارج:24/ 70 - 25]،كما تطلق على العدل في مقابلة الظلم مثل قوله تعالى: {والله يقضي بالحقِّ} [غافر:20/ 40]. وأما عند الفقهاء فقد ورد تعريف للحق عند بعض المتأخرين فقال: الحق: هو الحكم الثابت شرعاً (¬1). ولكنه تعريف غير جامع ولا شامل لكل ما يطلق عليه لفظ الحق عند الفقهاء. فقد يطلق الحق على المال المملوك وهو ليس حكماً، ويطلق ¬
على الملك نفسه، وعلى الوصف الشرعي كحق الولاية والحضانة والخيار، ويطلق على مرافق العقار كحق الطريق والمسيل والمجرى. ويطلق على الآثار المترتبة على العقود كالالتزام بتسليم المبيع أو الثمن. وعرفه بعض الأساتذة المعاصرين، فقال أستاذنا الشيخ علي الخفيف: الحق: هو مصلحة مستحقة شرعاً (¬1). لكنه تعريف بالغاية المقصودة من الحق، لا بذاتيته وحقيقته، فإن الحق: هو علاقة اختصاصية بين صاحب الحق والمصلحة التي يستفيدها منه. وقال الأستاذ مصطفى الزرقاء: الحق: هو اختصاص يقرر به الشرع سلطةً أو تكليفاً (¬2). وهو تعريف جيد؛ لأنه يشمل أنواع الحقوق الدينية كحق الله على عباده من صلاة وصيام ونحوهما، والحقوق المدنية كحق التملك، والحقوق الأدبية كحق الطاعة للوالد على ولده، وللزوج على زوجته، والحقوق العامة كحق الدولة في ولاء الرعية لها، والحقوق المالية كحق النفقة، وغير المالية كحق الولاية على النفس. ويتميز هذا التعريف بأنه أبان ذاتية الحق بأنه علاقة اختصاصية بشخص معين، كحق البائع في الثمن يختص به، فإن لم يكن هناك اختصاص بأحد، وإنما كان هناك إباحة عامة كالاصطياد والاحتطاب والتمتع بالمرافق العامة، فلا يسمى ذلك حقاً، وإنما هو رخصة عامة للناس. والسلطة: إما أن تكون على شخص كحق الحضانة والولاية على النفس، أو على شيء معين كحق الملكية. ¬
المطلب الثاني ـ أركان الحق
والتكليف: التزام على إنسان إما مالي كوفاء الدين، وإما لتحقيق غاية معينة كقيام الأجير بعمله. وأشار التعريف لمنشأ الحق في نظر الشريعة: وهو إرادة الشرع، فالحقوق في الإسلام منح إلهية تستند إلى المصادر التي تستنبط منها الأحكام الشرعية، فلا يوجد حق شرعي من غير دليل يدل عليه، فمنشأ الحق هو الله تعالى؛ إذ لا حاكم غيره، ولا تشريع سوى ما شرعه. وليس الحق في الإسلام طبيعياً مصدره الطبيعة أو العقل البشري، إلا أنه منعاً مما قد يتخوف منه القانونيون من جعل مصدر الحقوق إلهياً وبالتالي إطلاق الحرية في ممارسة الحق، منعاً من هذا الخطر، قرر الإسلام سلفاً تقييد الأفراد في استعمال حقوقهم بمراعاة مصلحة الغير وعدم الإضرار بمصلحة الجماعة، فليس الحق مطلقاً وإنما هو مقيد بما يفيد المجتمع ويمنع الضرر عن الآخرين، والحق في الشريعة يستلزم واجبين: واجب عام على الناس باحترام حق الشخص وعدم التعرض له. وواجب خاص على صاحب الحق بأن يستعمل حقه بحيث لا يضر بالآخرين. المطلب الثاني ـ أركان الحق: للحق ركنان: صاحب الحق وهو المستحق، ومحل الحق: وهو ما يتعلق به الحق ويرد عليه. وهو إما الشيء المعين الذي يتعلق به الحق كما في الحق العيني، أو الدين.
ويضاف للحق الشخصي كالعلاقة بين الدائن والمدين ركن ثالث: وهو المدين المكلف بالحق. ونوع التكليف إما أن يكون قياماً بعمل كأداء الدين أو الثمن، أو امتناعاً عن عمل، كالامتناع عن إضرار الجار أو غيره، والامتناع عن استعمال الوديعة أو الأمانة. والمكلف قد يكون معيناً فرداً أو جماعةً كالمدين بالنسبة للدين، أو غير معين كالواجبات العامة المكلف بها جميع الناس باحترام حقوق الآخرين وعدم الاعتداء عليها. صاحب الحق: هو الله تعالى في الحقوق الدينية، والشخص الطبيعي (الإنسان) أو الاعتباري (كالشركات والمؤسسات) في الحقوق الأخرى، الذي يتمتع بالسلطات التي يمارسها على محل الحق. وتبدأ الشخصية الطبيعية لكل إنسان ببدء تكون الجنين، بشرط ولادته حياً ولو حياة تقديرية. ويعتبر حياً عند الحنفية بظهور أكثر المولود حياً، وتعتبر الحياة تقديرية عندهم في حالة إسقاط الجنين بجناية، كما لو ضرب شخص امرأة حبلى فأسقط جنيناً ميتاً، فإنه يرث ويورث. وقال غير الحنفية: يشترط تمام الولادة لاعتبار الشخص حياً، وانفصاله عن أمه انفصالاً تاما. وبهذا الرأي أخذ قانون الأحوال الشخصية السوري. واكتفى غير الحنفية في حال إسقاط الجنين ميتاً بأن الجنين تورث عنه الغرة فقط (وهي دية الجنين أو التعويض المالي الواجب دفعه بسبب الاعتداء على الجنين وقدرت شرعاً بـ 05 ديناراً أو بـ 500 درهم). وتنتهي الشخصية الطبيعية بالوفاة الحقيقية (الموت) أو التقديرية كالحكم بوفاة المفقود أو الغائب الذي لا يعلم مكانه، ولا يدرى أهو حي أو ميت، وذلك بوفاة أقرانه في غالب الظن، أو ببلوغه تسعين سنة.
ولكن مع زوال الشخصية بالموت تظل ذمة الإنسان وأهلية وجوبه باقية افتراضاً بقدر ما تقتضيه تصفية الحقوق المتعلقة بتركته، وذلك للضرورة وبقدر الضرورة، كما سيتضح في بحث الأموال والذمة المالية، فيتملك الميت ما باشر سبب ملكيته في حياته كنصب شبكة للصيد وقع فيها المصيد، ويضمن ما باشر سبب ضمانه، كالالتزام بدفع قيمة ما يقع من حيوان في حفرة حفرها في الطريق العام. ويقر الفقه الإسلامي ما يسمى قانوناً: الشخصية الاعتبارية، أو المعنوية أو الشخصية المجردة عن طريق الاعتراف لبعض الجهات العامة كالمؤسسات والجمعيات والشركات والمساجد بوجود شخصية تشبه شخصية الأفراد الطبيعيين في أهلية التملك وثبوت الحقوق، والالتزام بالواجبات، وافتراض وجود ذمة مستقلة للجهة العامة بقطع النظر عن ذمم الأفراد التابعين لها، أو المكونين لها. والأدلة كثيرة على هذا الإقرار، سواء من النصوص أو من الاجتهادات الفقهية. فمن النصوص: الحديث النبوي: «ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم» (¬1) أي أن الأمان الصادر للعدو من أحدهم يسري على جماعة المسلمين. ومنها نصوص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي تقضي بجواز رفع ما يسمى بدعوى الحسبة من أي فرد لقمع غش وإزالة منكر أو أذى عن الطريق، وتفريق بين زوجين بينهما علاقة محرمة، وإن لم يكن للمدعي مصلحة شخصية. ومن الاجتهادات: فصل بيت المال عن مال الحاكم الخاص، وقولهم: بيت المال وارث من لا وارث له، واعتبار الحاكم نائباً عن الأمة في التصرف بالأموال العامة على وفق المصلحة، كما يتصرف الوصي بمال اليتيم. وهو نائب عن الأمة ¬
المبحث الثاني ـ أنواع الحق
أيضاً في إبرام المعاهدات التي تظل نافذة على الرغم من موته أو خلعه، وفي تعيين الموظفين أو العمال الذين لا ينعزلون بموت الحاكم، وفي إصدار الأحكام القضائية، فلا يضمن القاضي الدية إذا أخطأ في قضائه في حقوق الله كقطع يد السارق بشهود زور، وإنماضمانها في بيت المال. ومن اجتهاداتهم: جواز تمليك الوقف والتزامه بما يجب عليه من حقوق للآخرين، وجواز الوصية والوقف للمسجد، واعتبار ناظر الوقف مجرد نائب عنه لايتحمل شيئاً من ديون الوقف، ويشتري للوقف مايحتاجه، ويدفع ثمنه من غلات الوقف. فالوقف هو المالك والدائن والمدين، لا المتولي عليه. والناظر أمين على الوقف، فلو خان مصلحة الوقف أو أساء التصرف إليه أو خالف شروط الواقف، ضمن موجب فعله. المبحث الثاني ـ أنواع الحق ينقسم الحق عدة تقسيمات باعتبارات مختلفة بحسب المعنى الذي يدور عليه الحق، أذكر أهم هذه التقسيمات وأحكامها وما يترتب عليها من نتائج. التقسيم الأول ـ باعتبار صاحب الحق ينقسم الحق بهذا الاعتبار إلى ثلاثة أنواع: حق الله، وحق الإنسان، وحق مشترك: وهو ما اجتمع فيه الحقان ولكن قد يغلب حق الله أو حق الإنسان الشخصي (¬1). ¬
1 - حق الله تعالى (أو الحق العام)
1 - حق الله تعالى (أو الحق العام): وهو ما قصد به التقرب إلى الله تعالى وتعظيمه وإقامة شعائر دينه، أو تحقيق النفع العام للعالم من غير اختصاص بأحد من الناس. وينسب إلى الله تعالى لعظم خطره وشمول نفعه، أي أنه هو حق للمجتمع. مثال الأول: العبادات المختلفة من الصلاة والصيام والحج والزكاة والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنذر واليمين وتسمية الله عند الذبح وكل أمر ذي بال. ومثال الثاني: الكف عن الجرائم وتطبيق العقوبات من حدود (حد الزنا والقذف والسرقة والحرابة وشرب المسكرات) وتعزيرات على الجرائم المختلفة، وصيانة المرافق العامة من أنهار وطرقات ومساجد وغيرها مما لا بد منها للمجتمع. وتقسم حقوق الله تعالى عند الحنفية إلى ثمانية أقسام تعرف في أصول الفقه. وأحكام حق الله تعالى كثيرة: وهي لا يجوز إسقاطه بعفو أو صلح أو تنازل، ولا يجوز تغييره، فلا يسقط حد السرقة بعفو المسروق منه أو صلحه مع السارق بعد بلوغ الأمر إلى الحاكم. ولا يسقط حد الزنا بعفو الزوج أو غيره أو إباحة المرأة نفسها. ولا يورث هذا الحق، فلا يجب على الورثة ما فات مورثهم من عبادات، إلا إذا أوصى بإخراجها، ولا يسأل الوارث عن جريمة المورث. ويجري التداخل في عقوبة حقوق الله، فمن زنى مراراً، أو سرق مراراً ولم يعاقب في كل مرة، فيكتفى بعقوبة واحدة؛ لأن المقصود من العقوبة هو الزجر
2 - حق الإنسان (أو العبد)
والردع ويتحقق بذلك (¬1). واستيفاء عقوبة هذه الجرائم للحاكم، فهو الذي يؤدب على ترك العبادات أو التهاون بشأنها، وهو الذي يقيم الحدود والتعزيرات على العصاة منعاً من الفوضى وتثبيتاً من وقوع الجريمة. 2 - حق الإنسان (أو العبد): وهو ما يقصد منه حماية مصلحة الشخص، سواء أكان الحق عاماً كالحفاظ على الصحة والأولاد والأموال، وتحقيق الأمن، وقمع الجريمة، ورد العدوان، والتمتع بالمرافق العامة للدولة؛ أم كان الحق خاصاً، كرعاية حق المالك في ملكه، وحق البائع في الثمن والمشتري في المبيع، وحق الشخص في بدل ماله المتلف، ورد المال المغصوب، وحق الزوجة في النفقة على زوجها، وحق الأم في حضانة طفلها، والأب في الولاية على أولاده، وحق الإنسان في مزاولة العمل ونحو ذلك. وحكم هذا الحق أنه يجوز لصاحبه التنازل عنه، وإسقاطه بالعفو أو الصلح أو الإبراء أو الإباحة، ويجرى فيه التوارث، ولا يقبل التداخل، فتتكرر فيه العقوبة على كل جريمة على حدة، واستيفاؤه منوط بصاحب الحق أو وليه. 3 - الحق المشترك: وهو الحق الذي يجتمع فيه الحقان: حق الله وحق الشخص، لكن إما أن يغلب فيه حق الله تعالى أو حق الشخص. مثال الأول: عدة المطلقة، فيها حق الله: وهو صيانة الأنساب عن الاختلاط، وفيها حق الشخص، وهو المحافظة على نسب أولاده، لكن حق الله غالب؛ لأن في صيانة الأنساب نفعاً عاماً للمجتمع، وهو حمايته من الفوضى ¬
والانهيار. ومثاله أيضاً: صيانة الإنسان حياته وعقله وصحته وماله، فيها حقان، لكن حق الله غالب لعموم النفع العائد للمجتمع. ومثاله عند الحنفية (¬1) حد القذف (وهو ثمانون جلدة لمن يتهم غيره بالزنا) فيه حقان: حق للمقذوف بدفع العار عنه وإثبات شرفه وحصانته، وحق الله: وهو صيانة أعراض الناس وإخلاء العالم من الفساد، والحق الثاني أغلب (¬2). وحكمه: أنه يلحق بالقسم الأول، وهو حق الله تعالى باعتبار أنه هو الغالب. ومثال الثاني: حق القصاص الثابت لولي المقتول، فيه حقان: حق لله وهو تطهير المجتمع عن جريمة القتل النكراء، وحق للشخص: وهو شفاء غيظه وتطييب نفسه بقتل القاتل، وهذا الحق هو الغالب؛ لأن مبنى القصاص على المماثلة، بقوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} [المائدة:45/ 5] والمماثلة ترجح حق الشخص. وحكمه أنه يلحق بالقسم الثاني: وهو حق الشخص في جميع أحكامه، فيجوز لولي المقتول العفو عن القاتل، والصلح معه على مال، بل ندب الله تعالى إلى العفو والصلح، فقال: {فمن عفي له من أخيه شيء، فاتباع بالمعروف، وأداء إليه بإحسان، ذلك تخفيف من ربكم ورحمة} [البقرة:178/ 2]. وقال عز وجل: {ومن قُتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل، إنه كان منصوراً} [الإسراء:33/ 17]. ¬
تقسيم حق الشخص (أو العبد)
تقسيم حق الشخص (أو العبد): ينقسم حق الشخص الخاص باعتبار أنه صاحب الحق تقسيمين آتيين: الأول ـ حقوق تقبل الإسقاط وحقوق لاتقبل الإسقاط: 1 - الحق القابل للإسقاط: الأصل أن جميع الحقوق الشخصية تقبل الإسقاط بخلاف الأعيان، كحق القصاص وحق الشفعة وحق الخيار. وإسقاط الحق إما أن يكون بعوض أو بغير عوض. 2 - الحق الذي لا يقبل الإسقاط: هناك حقوق لا تقبل الإسقاط على سبيل الاستثناء من الأصل العام المتقدم وهي ما يأتي: أـ الحقوق التي لم تثبت بعد: كإسقاط الزوجة حقها في المبيت والنفقة المستقبلة، وإسقاط المشتري حقه في خيار الرؤية قبل الرؤية، وإسقاط الوارث حقه في الاعتراض على الوصية حال حياة الموصي، وإسقاط الشفيع (الشريك أو الجار) حقه في الشفعة قبل البيع. كل هذا لا يسقط؛ لأن الحق نفسه لم يوجد بعد. ب ـ الحقوق المعتبرة شرعاً من الأوصاف الذاتية الملازمة للشخص: كإسقاط الأب أو الجد حقهما في الولاية على الصغير، فإن الولاية وصف ذاتي لهما لا تسقط بإسقاطهما. ومثلها عند أبي يوسف: ولاية الواقف على وقفه، تثبت له سواء شرطها أو نفاها؛ لأنها أثر ملكه. ج ـ الحقوق التي يترتب على إسقاطها تغيير للأحكام الشرعية كإسقاط المطلق حقه في إرجاع زوجته، وإسقاط الواهب حقه في الرجوع عن الهبة، وإسقاط الموصي حقه في الرجوع عن الوصية. ومنها إسقاط مالك العين حقه في ملكها، لا يقبل الإسقاط؛ لأن معنى
الثاني ـ حقوق تورث وحقوق لا تورث
إسقاط حقه في ملكها إخراجها عن ملكه إلى غير مالك، فتكون سائبة لا مالك لها، وقد نهى الشرع عن السائبة التي كانت في الجاهلية بقوله تعالى: {ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ... } (¬1) [المائدة:5/ 103]، فأصبح المبدأ المقرر: (لا سائبة في الإسلام). وعليه فإن العين في حكم الشرع لا بد أن يثبت فيها وصف الملك لأحد من الناس، فإسقاط المالك حقه في ملكها يترتب عليه تغيير حكم الشرع الثابت، وهذا باطل إذ ليس لأحد من الناس ولاية تغيير حكم الشرع المقرر. د ـ الحقوق التي يتعلق بها حق الغير: كإسقاط الأم حقها في الحضانة، والمطلق حقه في عدة مطلقته، والمسروق منه حقه في حد السارق؛ لأن هذه الحقوق مشتركة، وإذا كان للإنسان ولاية على إسقاط حقه، فليس له ولاية على إسقاط حق غيره. الثاني ـ حقوق تورث وحقوق لا تورث: اتفق الفقهاء على وراثة الحقوق المقصود بها التوثق كحبس المرهون لوفاء الدين، وحبس المبيع لاستيفاء الثمن، وحق الكفالة بالدين لأنها من الحقوق اللازمة المؤكدة. واتفقوا أيضاً على وراثة حقوق الارتفاق كحق الشِّرب والمرور؛ لأنها حقوق تابعة للعقار ولازمة له. ¬
التقسيم الثاني ـ باعتبار محل الحق
وكذلك اتفقوا على إرث خيار التعيين والعيب؛ لأن البيع في خيار التعيين لازم، والحق محصور في اختيار أحد الأشياء. والبيع تم في خيار العيب على أساس سلامة المبيع من العيب، فيثبت ذلك الحق للورثة دفعاً للضرر والغبن. واختلف الفقهاء في إرث خيار الشرط وخيار الرؤية وأجل الدين وحق الغانم في الغنيمة بعد الإحراز، وقبل القسمة: فقال الحنفية: لا تورث الحقوق والمنافع؛ لأن الإرث يجري في المال الموجود وهو الأعيان، وهذه ليست أموالاً عندهم. أما الديون فما دامت في الذمة فليست مالاً لأنها أوصاف شاغلة لها، ولا يتصور قبضها حقيقة، وإنما يقبض ما يعادلها، لكنها تورث لأنها مال حكمي؛ أي شيء اعتباري يملكه الدائن، وهو موجود في ثروة المدين، فالدين مال من حيث المآل. وقال غير الحنفية: تورث الحقوق والمنافع والديون؛ لأنها أموال، ولقوله عليه السلام: «من ترك مالاً أو حقاً فلورثته، ومن ترك كَلاً أو عيالاً فإلي» (¬1). التقسيم الثاني ـ باعتبار محل الحق ينقسم الحق باعتبار محله المتعلق به إلى حق مالي وغير مالي، وإلى حق شخصي وحق عيني، وإلى حق مجرد وحق غير مجرد. 1 - الحقوق المالية وغير المالية: الحقوق المالية: هي التي تتعلق بالأموال ومنافعها أي التي يكون محلها المال ¬
2 - الحق الشخصي والحق العيني
أو المنفعة، كحق البائع في الثمن، والمشتري في المبيع، وحق الشفعة، وحقوق الارتفاق، وحق الخيار، وحق المستأجر في السكنى، ونحوها. والحقوق غير المالية: هي التي تتعلق بغير المال مثل حق القصاص، وحق الحرية بجميع أنواعها، وحق المرأة في الطلاق أو التفريق لعدم الإنفاق، أو بسبب العيوب التناسلية أو للضرر وسوء العشرة أو للغيبة أو الحبس، وحق الحضانة، وحق الولاية على النفس، ونحو ذلك من الحقوق السياسية والطبيعية. 2 - الحق الشخصي والحق العيني: الحق الشخصي: هو ما يقره الشرع لشخص على آخر. ومحله إما أن يكون قياماً بعمل كحق البائع في تسلم الثمن وحق المشتري في تسلم المبيع، وحق الإنسان في الدين وبدل المتلفات والمغصوبات، وحق الزوجة أو القريب في النفقة. وإما أن يكون امتناعاً عن عمل كحق المودع على الوديع في عدم استعمال الوديعة. وللحق الشخصي عناصر ثلاثة: هي صاحب الحق، ومحل الحق، والمكلف أو المدين، إلا أن العلاقة بين طرفي هذا الحق هي المتميزة أو البارزة، دون المحل وهو المال. والحق العيني: هو ما يقره الشرع لشخص على شيء معين بالذات. فالعلاقة القائمة بين صاحب الحق وشيء مادي معين بذاته، والتي بموجبها يمارس المستحق سلطة مباشرة على الشيء هي الحق العيني. مثل حق الملكية الذي به يستطيع المالك ممارسة أكمل السلطات على ما يملكه: وهي التصرف بالشيء واستثماره واستعماله. وحق الارتفاق المقرر لعقار على عقار معين كحق المرور أو المسيل أو تحميل الجذوع على الجدار المجاور. وحق احتباس العين المرهونة لاستيفاء الدين.
خصائص الحق العيني والحق الشخصي
وللحق العيني عنصران فقط هما: صاحب الحق، ومحل الحق. خصائص الحق العيني والحق الشخصي: يتميز كل من هذين الحقين بمميزات وخصائص أهمها ما يأتي: 1 - حق التتبع لصاحب الحق العيني دون الشخصي: لصاحب الحق العيني تتبع الشيء الذي تعلق به حقه في أي يد وجدت فيها العين مهما تغير واضع اليد عليها. فلو غصب شخص شيئاً ثم باعه أو غصب منه وتداولته الأيدي، جاز لمالكه رفع الدعوى على الحائز الأخير صاحب اليد. أما الحق الشخصي: فلا يطالب به إلا المكلف به أصالة وهو المدين أو نيابة وهو الكفيل أو المحال عليه. وسبب التفرقة: أن الحق العيني متعلق بعين معينة لا بذمة شخصية، والعين يمكن انتقالها من يد إلى أخرى. أما الحق الشخصي فمتعلق بذمة المكلف أو المدين، فلا يسأل عنه غيره إلا بإرادته كما في الكفالة والحوالة. 2 - حق الامتياز أو الأفضلية لصاحب الحق العيني: يكون لصاحب الحق العيني حق الأولوية أو الامتياز على سائر الدائنين العاديين إذا كان دينه موثقاً برهن. أما صاحب الحق الشخصي فليس له حق الامتياز إلا استثناء في أحوال معينة كحالة التهمة أو الشك، فتقدم ديون الصحة على ديون المرض، وحالة الضرورة، فتقدم نفقات التكفين والتجهيز على بقية الحقوق المتعلقة بالتركة ويقدم دين النفقة للزوجة والأولاد الصغار على الديون العادية. وحالة رعاية المصلحة العامة، فتقدم ديون الحكومة على ديون الناس العادية.
3 - الحقوق المجردة وغير المجردة
3 - سقوط الحق العيني بهلاك محله: إذا هلك محل الحق العيني سقط الحق وبطل العقد. فإذا هلك المبيع في يد البائع قبل قبض المشتري له بطل العقد، وسقط حق المشتري في تسلم المبيع. وإذا احترقت الدار المؤجرة بطل عقد الإجارة، وسقط حق المستأجر في الانتفاع بها. أما إذا هلك محل الحق الشخصي فلا يسقط الحق ولا يبطل العقد، فإذا هلكت أموال المدين، فلا يسقط حق الدائن بالدين؛ لأن الدين متعلق بالذمة لا بمال معين. وإذا هلك الشيء المسلَم فيه في عقد السلم وجب على البائع (المسلَم إليه) تسليم غيره. 3 - الحقوق المجردة وغير المجردة: الحق المجرد أو المحض: هو الذي لا يترك أثراً بالتنازل عنه صلحاً أو إبراء، بل يبقى محل الحق عند المكلف (أو المدين) بعد التنازل كما كان قبل التنازل. مثل حق الدين، فإن الدائن إذا تنازل عن دينه، كانت ذمة المدين بعد التنازل هي بعينها قبل التنازل، ولا يترتب على التنازل عن الحق أثر من الآثار. وكذلك حق الشفعة إذا أسقط الشفيع حقه في الشفعة، كانت ملكية المشتري للعقار بعد التنازل عن الشفعة هي بعينها قبل التنازل. ومثله حق المدعي في تحليف خصمه اليمين، وحق الخيار، والحق في وظائف الأوقاف. والحق غير المجرد: هو الذي يترك أثراً بالتنازل عنه، كحق القصاص فإنه يتعلق برقبة القاتل ودمه، ويترك فيه أثراً بالتنازل عنه، فيتغير فيه الحكم، فيصير معصوم الدم بالعفو بعد أن كان غير معصوم الدم، أي مباح القتل بالنسبة إلى ولي المقتول المستحق للقصاص، ولكن برأي الحاكم. ومثل حق استمتاع الزوج بزوجته، يتعلق بالزوجة، ويمنعها من إباحة نفسها لغير زوجها بالعقد عليها، فإذا
التقسيم الثالث ـ باعتبار المؤيد القضائي وعدمه
تنازل الزوج عن هذا الحق بالطلاق، استردت المرأة حريتها، فتتزوج بمن تشاء (¬1). وتظهر فائدة هذا التقسيم فيما يأتي: الحق غير المجرد تجوز المعاوضة عنه بالمال، كحق القصاص وحق الزوجة يجوز لكل من ولي المقتول والزوج أخذ العوض المالي في مقابل التنازل عن حقه بالصلح. أما الحق المجرد: فلا يجوز الاعتياض عنه كحق الولاية على النفس والمال وحق الشفعة، وهذا رأي الحنفية، ويجوز عند غير الحنفية أخذ العوض عنه. التقسيم الثالث ـ باعتبار المؤيد القضائي وعدمه ينقسم الحق باعتبار وجود المؤيد القضائي وعدمه إلى نوعين: حق دياني، وحق قضائي. فالحق الدياني: هو الذي لا يدخل تحت ولاية القضاء. فلا يتمكن القاضي من الإلزام به لسبب من الأسباب كالعجز عن إثباته أمام القضاء. وإنما يكون الإنسان مسؤولاً عنه أمام ربه وضميره. فالدين الذي عجز صاحبه عن إثباته أمام القضاء لا يعني أنه صار غير مستحق، بل يجب على المدين ديانة المبادرة إلى وفائه. والزواج العرفي غير المسجل في المحاكم الشرعية تكون فيه الزوجية ثابتة ديانة. وتترتب عليها الأحكام الشرعية من نفقة وثبوت نسب الأولاد وغير ذلك. والحق القضائي: هو ما يدخل تحت ولاية القاضي، ويمكن لصاحبه إثباته أمام القضاء. وتظهر ثمرة التقسيم في أن الأحكام الديانية تبنى على النوايا والواقع ¬
المبحث الثالث ـ مصادر الحق أو أسبابه
والحقيقة. وأما الأحكام القضائية فتبنى على ظاهر الأمر ولا ينظر فيها إلى النوايا وواقع الأمر وحقيقته. فمن طلق امرأته خطأ، ولم يقصد إيقاع الطلاق، يحكم القاضي بوقوع طلاقه عملاً بالظاهر واستحالة معرفة الحقيقة، ويكون الحكم بوقوع الطلاق حكماً قضائياً. وأما ديانة فالحكم عدم وقوع الطلاق، وللإنسان أن يعمل بذلك فيما بينه وبين الله تعالى، وللمفتي إفتاؤه بذلك؛ لأن الزوج لم يقصد الطلاق في الواقع. المبحث الثالث ـ مصادر الحق أو أسبابه عرفنا سابقاً أن منشأ الحق أو سببه الأساسي أو غير المباشر: هو الشرع. فالشرع هو المصدر الأساسي للحقوق، والسبب الوحيد لها، غير أن الشرع قد ينشئ الحقوق مباشرة من غير توقف على أسباب أخرى، كالأمر بالعبادات المختلفة، والأمر بالإنفاق على القريب، والنهي عن الجرائم والمحرمات، وإباحةالطيبات من الرزق، فإن أدلة الشرع هنا تعتبر أسباباً مباشرة للحقوق. وقد ينشئ الشارع الحقوق أو الأحكام مرتبة على أسباب أخرى يمارسها الناس، كعقد الزواج، فإنه ينشئ حق النفقة للزوجة والتوارث بين الزوجين وغير ذلك. وعقد البيع ينشئ ملك البائع للثمن والمشتري للمبيع. والغصب سبب للضمان عند هلاك المغصوب. وتعتبر العقود والغصب أسباباً مباشرة، وأدلة الشرع أسباباً غير مباشرة. والمقصود من الأسباب أو المصادر في هذا المبحث: الأسباب المباشرة، سواء أكانت أدلة الشرع أم الأسباب التي أقرتها وعينتها هذه الأدلة. فليس المراد من المصدر هنا: المصدر الآمر في إيجاب الالتزام، إذ تكون عندئذٍ جميع المصادر مردها إلى الشرع أو القانون.
ومصادر الحق بالنسبة للالتزامات (¬1) خمسة: هي الشرع، والعقد، والإرادة المنفردة، والفعل النافع، والفعل الضار. فالعقد كالبيع والهبة والإجارة. والإرادة المنفردة كالوعد بشيء والنذر. والشرع كالالتزام بالنفقة على الأقارب والزوجة، والتزام الولي والوصي، وإيجاب الضرائب. والفعل الضار بالغير كالتزام المتعدي بضمان الشيء الذي أتلفه أو غصبه. والفعل النافع أو الإثراء بلا سبب كأداء دين يظنه الشخص على نفسه، ثم يتبين أنه كان بريئاً منه، أو أداء دين الغير بأمره، أو شراء شيء ثم يتبين أنه ملك الغير، فيجوز لصاحب الحق الرجوع على الآخر بالدين، لعدم استحقاق الآخر له. ويمكن إدخال جميع هذه المصادر في الواقعة الشرعية. والواقعة الشرعية إما أن تكون طبيعية كالجوار والقرابة والمرض ونحوها، أو اختيارية. والواقعة الاختيارية إما أن تكون أعمالاً مادية ممنوعة وهي الفعل الضار، أو أعمالاً مشروعة من جانب واحد وهي الفعل النافع، وإما أن تكون تصرفات شرعية. والتصرفات الشرعية: إما وحيدة الطرف وهي الإرادة المنفردة، أو متعددة وهي العقد (¬2). ويلاحظ أن هذه المصادر هي الأسباب المباشرة للالتزم، وأما المصدر غير المباشر لكل التصرفات الشرعية والأفعال المادية فهو الشرع. وأما مصادر الحق العيني فهي أسباب الملك التام أو الناقص الآتي بيانها في بحث نظرية الملكية. ¬
المبحث الرابع ـ أحكام الحق
قال الدكتور السنهوري: إنه يمكن رد مصادر الحقوق في الفقه الإسلامي (سواء بالنسبة للالتزامات أم بالنسبة للحقوق العينية) إلى مصدرين اثنين، كما في الفقه الغربي أو القوانين الوضعية وهما: التصرف القانوني، والواقعة القانونية (¬1). والتصرف الشرعي أو القانوني يشمل العقد والإرادة المنفردة. والواقعة الشرعية أو القانونية تشمل الفعل الضار والفعل النافع. ويلاحظ أخيراً أن الإقرار لا يعد منشئاً للحق، وإنما هو إخبار بالحق على الرأي الراجح عند الفقهاء. كما أن قضاء القاضي لا يعد منشئاً للحق، وإنما هو مظهر للحق وكاشف له، إلا إذا قضى القاضي بشهادة زور، ولم يكتشف الزور فيها، فإن قضاءه يعد منشئاً للحق ظاهراً أي قضاء لا ديانة. وهذه هي المسألة المعروفة في الفقه الإسلامي بأن قضاء القاضي ينفذ ظاهراً وباطناً، أو ظاهراً فقط، وهي محل خلاف بين الفقهاء. المبحث الرابع ـ أحكام الحق أحكام الحق: هي آثاره المترتبة عليه بعد ثبوته لصاحبه، وأحكامه ما يأتي: 1 - استيفاء الحق: لصاحب الحق أن يستوفي حقه بكل الوسائل المشروعة. أـ واستيفاء حق الله تعالى في العبادة يكون بأدائها على الوجه الذي رسمه الله تعالى للعبادة إما في الأحوال العادية (العزيمة)، أو في الأحوال الاستثنائية (الرخصة) مثل قصر الصلاة، وإباحة الفطر في رمضان للمريض والمسافر، والتيمم بالتراب بدل الماء أثناء المرض أو فقد الماء، والنيابة في الحج للعاجز عنه، وإباحة النطق بالكفر مع اطمئنان القلب بالإيمان حال الإكراه عليه. ¬
فإن امتنع الشخص عن أداء العبادة: فإن كان الحق مالياً كالزكاة أخذه الحاكم جبراً عنه ووزعه في مصارفه الشرعية. وإن كان غير مال حمله الحاكم على فعله بما يملك من وسائل إن ترك الحق ظاهراً، وإلا عاقبه الله في الدنيا بالمحن والآلام، وفي الآخرة بالعذاب الأليم. واستيفاء حق الله تعالى في منع الجرائم والمنكرات يكون بامتناع الناس عنها، فإن لم يكفّ الناس عنها، كان حق الله إقامة العقوبة، ويستوفيها ولي الأمر أو نائبه بعد إصدار الحكم القضائي بها منعاً من التظالم وإثارة الفتن والعداوات، وشيوع الفوضى وانهيار المجتمع. ب ـ واستيفاء حق الإنسان (العبد): يكون بأخذه من المكلف به باختياره ورضاه، فإن امتنع من تسليمه: فإن كان الموجود تحت يده عين الحق كالمغصوب والمسروق والوديعة، أو جنس الحق كأمثال العين المغصوبة عند هلاكها، ولكن ترتب على أخذه من قبل صاحب الحق نفسه فتنة أو ضرر في الحالتين أو كان الموجود تحت يده من خلاف جنس الحق مطلقاً، فليس لصاحب الحق باتفاق الفقهاء استيفاؤه بنفسه، وإنما بواسطة القضاء. أما إذا كان الموجود تحت يد الآخذ مالاً من جنس الحق، ولم يترتب على الأخذ بطريق خاص فتنة أو ضرر، فالمشهور عند المالكية والحنابلة أن صاحب الحق يستوفيه بواسطة القضاء (¬1)، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك» (¬2)، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم قضى لهند زوجة أبي سفيان بأخذ حقها ولو لم يعلم زوجها بقوله: «خذي مايكفيك وولد ك بالمعروف» (¬3) فدل على أنه لا بد من القضاء لأخذ عين الحق أو جنسه. ¬
نوع المأخوذ
وقال الشافعية (¬1): لصاحب الحق استيفاء حقه بنفسه بأي طريق، سواء أكان من جنس حقه، أم من غير جنسه، لقوله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} [الشورى:40/ 42]، {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} [النحل:126/ 16] والمثلية ليست من كل وجه، وإنما في المال. ولقوله عليه السلام: «من وجد عين ماله عند رجل فهو أحق به» (¬2). ووافق الحنفية (¬3) على رأي الشافعية فيما إذا كان المأخوذ من جنس حقه لا من غيره، والمفتى به اليوم كما قال ابن عابدين جواز الأخذ من جنس الحق أو من غيره، لفساد الذمم والمماطلة في وفاء الديون. ويلاحظ أن هذا البحث المسمى فقهاً «الظفر بالحق» من أهم أحكام المعاملات التي يفرق فيها بين الأحكام القضائية والأحكام الديانية. والخلاصة: أن من وجد عين حقه عند آخر مالاً أو عروضاً (سلعاً) وكان مماطلاً في رده أو جاحداً الدين، فيباح له باتفاق الفقهاء أخذه ديانة لا قضاء للضرورة، عملاً بالحديث السابق: (من وجد عين ماله فهو أحق به) (¬4). نوع المأخوذ: الأصل في استيفاء الحق أن يكون بالعدل، فلا يزاد عليه فإن كان الحق معلوم النوع محدد المقدار كثمن دار وأجرتها وبدل قرض فلا تجوز الزيادة عليه في الاستيفاء وفي حكم القاضي. وإن كان الحق مطلقاً غير محدد النوع أو المقدار، فيحمل على الوسط ¬
التسامح في الاستيفاء والأداء
المتعارف عليه بين الناس، فيؤخذ المتوسط من أموال الزكاة. ولا تؤخذ كرائم الأموال أو خسيسها. والدليل على استيفاء الوسط نصوص كثيرة قرنت بالمعروف أو العرف، مثل قوله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} [البقرة:233/ 2] {وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلّمتم ما آتيتم بالمعروف} [البقرة:233/ 2] وفي كفارة اليمين صرح باعتبار الوسط في قوله تعالى: {فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم .. } [المائدة:89/ 5] والمراد بالأوسط: الوسط في نوع الطعام وعدد الوجبات. وعلى هذا فنفقة الزوجة والأقارب مقدرة بالوسط المتعارف عليه بالنص، وتجب زكاة الفطر من غالب قوت البلد: وهو الذي تعارف أهل البلد على تناوله. ويجوز التعزير للممتنع عن دفع الزكاة بأخذ أعلى الحق الواجب، أو تغريمه الضعف، لقوله عليه السلام: «من دفعها مؤتجراً بها فله أجرها، ومن منعها فإنّا آخذوها وشطر ماله، عَزْمة من عزمات ربنا تبارك وتعالى» (¬1). التسامح في الاستيفاء والأداء: الأصل أن يكون استيفاء الحق كاملاً، لكن الشارع ندب صاحب الحق إلى عدم استيفاء حقه كله أو بعضه تسامحاً وإحساناً وإيثاراً، وبخاصة إذا كان المكلف أو المدين في ضائقة، وذلك خير يثاب عليه فاعله، قال تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنظِرة إلى ميسرة، وأن تصدقوا خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون} [البقرة:280/ 2] والمراد بالتصدق في الآية: إبراء المدين من دينه. ¬
2 - حماية الحق
وفي تنازل المرأة عن شيء من حقوقها أو كل مهرها، قال تعالى: {وآتوا النساء صدُقاتهن نِحْلة، فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً} [النساء:4/ 4]. {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن، وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم، إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عُقْدة النكاح} [البقرة:237/ 2] وفي التنازل عن حق القصاص قال تعالى: {ومن قُتِل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل، إنه كان منصوراً} [الإسراء:33/ 17]. وهناك آية تقرر مبدءاً عاماً في التنازل عن الحقوق وهي قوله تعالى: {وجزاء سيئةٍ سيئةٌ مثلها، فمن عفا وأصلح فأجره على الله} [الشورى:40/ 42]. 2 - حماية الحق: قررت الشريعة حماية الحق لصاحبه من أي اعتداء بأنواع مختلفة من المؤيدات منها المسؤولية أمام الله، والمسؤولية المدنية، وتقرير حق التقاضي. فالعبادات التي هي نوع من حقوق الله تعالى حماها الشرع بوازع الدين ودافع الإيمان القائمين على الرهبة من عذاب الله، والرغبة في ثوابه ونعيم الدنيا. ولذا كثيراً ما بدئت آيات القرآن في التكاليف الشرعية بوصف الإيمان: {يا أيها الذين آمنوا} [البقرة:282/ 2]. وهناك نوع آخر من الحماية للعبادة وهو الحسبة (¬1): وهي الأمر بالمعروف إذا ظهر تركه، والنهي عن المنكر إذا ظهر فعله، وهو حق ثابت لكل فرد من أفراد ¬
حق التأليف والنشر والتوزيع
الأمة، وللمحتسب وهو والي الحسبة، فله مطالبة تارك الصلاة والزكاة، أو المفطر في رمضان بأداء ما تركه. ولكل مسلم رفع دعوى الحسبة على المعاصي إلى المحتسب أو القاضي ليؤدب العاصي بما يردعه ويزجره عن ترك العبادات وغيرها. وهكذا بقية حقوق الله تعالى كالكف عن الجرائم تكون حمايتها أيضاً بوازع الدين وبالحسبة. وأما حقوق الناس الخاصة (العباد) فحمايتها بوازع الدين الذي يوجب على كل فرد احترام حق غيره في ماله أو عرضه أو دمه، وبالمرافعة إلى القضاء لمطالبة من وجبت عليه. وهكذا حمت الشريعة كل أنواع الحقوق الدينية والمدنية، الخاصة والعامة باحترام الحق لصاحبه، وعدم الاعتداء عليه، وبمعاقبة المعتدي. حق التأليف والنشر والتوزيع: أ - أما حق المؤلف الذي يدخل تحت عنوان قانوني جديد وهو الحق الأدبي فهو حق مصون في تقديري شرعاً على أساس قاعدة الاستصلاح أو المصلحة المرسلة (وهي الأوصاف التي تلائم تصرفات الشرع ومقاصده، ولكن لم يشهد لها دليل معين من الشرع بالاعتبار أو الإلغاء، ويحصل من ربط الحكم بها جلب مصلحة أو دفع مفسدة عن الناس) فكل عمل فيه مصلحة غالبة أو دفع ضرر أو مفسدة يكون مطلوباً شرعاً. والمؤلف قد بذل جهداً كبيراً في إعداد مؤلْفه، فيكون أحق الناس به، سواء فيما يمثل الجانب المادي: وهوالفائدة المادية التي يستفيدها من عمله، أو الجانب المعنوي: وهو نسبة العمل إليه. ويظل هذا الحق خالصاً دائماً له، ثم لورثته لقول النبي صلّى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري وغيره: «من ترك مالاً أو حقاً فلورثته».
ب - وأما حق النشر أو التوزيع
وبناء عليه يعتبر إعادة طبع الكتاب أو تصويره اعتداء على حق المؤلف، أي أنه معصية موجبة للإثم شرعاً، وسرقة موجبة لضمان حق المؤلف في مصادرة النسخ المطبوعة عدواناً وظلماً، وتعويضه عن الضرر الأدبي الذي أصابه. وذلك سواء كتب على النسخ المطبوعة عبارة: (حق التأليف محفوظ للمؤلف) أم لا، لأن العرف والقانون السائد اعتبر هذا الحق من جملة الحقوق الشخصية، والمنافع تعد من الأموال المتقوّمة في رأي جمهور الفقهاء غير الحنفية، لأن الأشياء أو الأعيان تقصد لمنافعها لا لذواتها، والغرض الأظهر من جميع الأموال هو منفعتها كما قال شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام. بل إن متأخري الحنفية أفتوا بضمان منافع المغصوب في ثلاثة أشياء: المال الموقوف، ومال اليتيم، والمال المُعَدّ للاستغلال. والمؤلف حينما يطبع كتابه يقصد به أمرين: نشر العلم، واستثمار مؤلفه. ويكون لكل طبعة من طبعات الكتاب حق خاص للمؤلف. وتذرع بعض الناشرين بأنهم في إعادة الطبع أو التصوير إنما ينشرون العلم ويخدمون المؤلّف هو تحايل شيطاني وذريعة فاسدة، لأن الحرام لايكون ولايصح بحال طريقاً للحلال. ويُبطل زعمَهم، أنهم لولا قصد الربح المادي المنتظر من وراء شهرة كتاب انتشر تداوله لما أقدموا على الطبع أو التصوير. أما الكتب القديمة التي لم يَعُد يُعرَف ورثة مؤلّفها فلا مانع من طبعها بشرط عدم الاعتداء على جهد دار النشر الخاص الذي بذلته في إخراج الكتاب من تعليق وعلامات ترقيم وتصحيح ونحو ذلك. ب - وأما حق النشر أو التوزيع فيحكمه العقد أو الاتفاق الحاصل بين المؤلف والناشر أو الموزع، فيجب على طرفي الاتفاق الالتزام بمضمونه من حيث
جـ - كذلك الترجمة
عدد النسخ المطبوعة والمدة التي يسري فيها الاتفاق. والله تعالى أمر بالوفاء بالعقود {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة:1/ 5]، {وأوفوا بالعهد} [الإسراء:34/ 17]. وبناء عليه يحرم شرعاً نقض بنود الاتفاق، ولايجوز للمؤلف أن يقوم بإعطاء حق النشر أو التوزيع لغير الدار التي التزم معها في مدة معينة. وأما مايقال من جهد دار التوزيع أو النشر، فهذا قد استوفت الدار عوضه بما تأخذه من ربح، والشهرة كانت بالرواج النابع من موضوع الكتاب لا من شكله وإخراجه، فهذا له دور ثانوي، بدليل أن كثيراً من الكتب ذات إخراج بديع، ولكنها تافهة لم يكتب لها الرواج. كذلك لايصح القول: إن دار النشر أو التوزيع هي التي أضفت على المؤلف وكتابه شهرة، فذلك قد استوفت الدار عوضه مما أخذته من نسبة مئوية عالية تفوق فعلاً مايستفيده صاحب التأليف ذاته. جـ - كذلك الترجمة ينبغي أن يكون نشرها بإذن المؤلف وباتفاق معه، وحق المؤلف أو الناشر حينئذٍ يتجلى في المطالبة بما يحقق الكتاب من أرباح بنسبة مئوية بحسب الاتفاقات أو الأعراف الشائعة التي تُعرَفُ من مجموع اتفاقات المؤلفين والناشرين. والخلاصة: إن البرَّ: ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم: ما حاك في الصدر وكرهت أن يطلع عليه الناس. ولاشك أن حق المؤلف أصبح معترفاً به في القوانين والأعراف، وأن الطبع أو التصوير بغير حق عدوان وظلم على حق المؤلف، وأن فاعل ذلك يتهرب عادة من المسؤولية، ولايجرؤ على الاعتراف بفعله الآثم، مما يدل على أن عمله ظلم موجب لتعويض صاحب الحق، والمسلم أولى الناس برعاية الحقوق والوفاء بالذمم والعهود، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
3 - استعمال الحق بوجه مشروع
3 - استعمال الحق بوجه مشروع: على الإنسان أن يستعمل حقه وفقاً لما أمر به الشرع وأذن به. فليس له ممارسة حقه على نحو يترتب علىه الإضرار بالغير، فرداً أو جماعةً، سواء أقصد الإضرار أم لا. وليس له إتلاف شيء من أمواله أو تبذيره لأن ذلك غير مشروع. فحق الملكية يبيح للإنسان أن يبني في ملكه ما يشاء وكيف يشاء، لكن ليس له أن يبني بناء يمنع عن جاره الضوء والهواء، ولا أن يفتح في بنائه نافذة تطل على نساء جاره، لإضراره بالجار. واستعمال الإنسان حقه على وجه يضر به أو بغيره هو ما يعرف بالتعسف في استعمال الحق عند فقهاء القانون الوضعي. فإن مارس الإنسان ما ليس حقاً له فلا يسمى تعسفاً وإنما هو اعتداء على حق الغير، فالمستأجر الذي ينتفع بالدار على وجه يضر بها يعد متعسفاً، أما الغاصب فإنه يعد متعدياً. وتجاوز الحكام والموظفين حدود الشريعة وحدود صلاحياتهم كاغتصاب بعض الأموال، وجباية ضرائب ظالمة لا يعد تعسفاً في استعمال الحق، وإنما هو استعمال لغير الحق أو تجاوز عن الحق، المستوجب التأديب أو التعزير، فقد عزل عمر عمار بن ياسر عن ولاية الكوفة والمغيرة بن شعبة عن ولاية البصرة لما شكا إليه أهل الولايتين. وأنشأ عبد الملك بن مروان ولاية المظالم (كمجلس الدولة الآن) لمحاسبة الولاة والجباة وموظفي الدولة إذا ظلموا أحداً من الناس، أوتجاوزوا حدود سلطتهم أو صلاحيتهم. أدلة حرمة التعسف: هناك أدلة كثيرة على تحريم التعسف منها ما يأتي:
السبب في تحريم التعسف
1 - قال تعالى: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن، فأمسكوهن بمعروف، أو سرحوهن بمعروف، ولا تمسكوهن ضِراراً لتعتدوا} [البقرة:231/ 2] نهى الشرع عن استعمال حق المراجعة بقصد الإضرار، كما كان يفعل في الجاهلية حيث يطلق الرجل زوجته، ثم إذا قاربت عدتها على الانتهاء راجعها، ثم طلقها، فنهى الشرع عنه، والنهي يفيد التحريم، فيكون التعسف حراماً. 2 - قال تعالى بعد بيان أنصباء الورثة: {من بعد وصية يُوصى بها أو دين، غير مضار، وصيةً من الله} [النساء:12/ 4] نهى الله تعالى عن الوصية الضارة بالورثة كالوصية لوارث أو بأكثر من الثلث، والنهي للتحريم، فيكون التعسف حراماً. 3 - قال عز وجل: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً وارزقوهم فيها واكسوهم} [النساء:5/ 4] فقد أمر الله بالحجر على السفيه الذي يبذر ماله، إذ إنه تعسف في استعمال حق الإنفاق، فيكون التعسف ممنوعاً مستحقاً التأديب والحجر. 4 - حديث السفينة في التضامن بإزالة المنكر (¬1): أمر الرسول صلّى الله عليه وسلم بمنع من في أسفل السفينة من خرقها، لما فيه من الضرر، وهو هلاك الجميع، ففعلهم يكون تعسفاً حراماً. السبب في تحريم التعسف: هناك سببان في تحريم التعسف وهما: ¬
قواعد منع التعسف في استعمال الحق
أولاً ـ ليس لصاحب الحق حرية مطلقة في ممارسته، وإما هو مقيد بعدم الإضرار بالغير، للنصوص الشرعية التي تمنع الإضرار بالغير وتحريم الاحتكار وبيع مال المحتكر جبراً عنه عند الحاجة، وتحريم العدوان على الدماء والأموال والأعراض، سواء أكان الضرر ناشئاً عن استعمال حق مشروع أم عند اعتداء محض. ثانياً ـ نزعة الحقوق الجماعية: فلا تقتصر المصلحة المستفادة من الحق الخاص المالي على صاحبه فقط، وإنما تعود على المجتمع أيضاً؛ لأن ثروته جزء من ثروة الأمة التي يجب أن تبقى قوية استعداداً للطوارئ. بل إن للمجتمع في الظروف العادية نصيباً مفروضاً في المال الخاص عن طريق الزكاة والخراج والكفارات وصدقة الفطر وغيرها، ونصيباً مندوباً إليه عن طريق الصدقات والوصايا والأوقاف وسائر وجوه الخير والبر. وهذا ما يعبر عنه اليوم باشتراكية الحقوق. وإذا كان للمجتمع حق في مال الأفراد، فيجب ألا يتصرف الفرد في ماله تصرفاً ضاراً؛ لأن ذلك يعد اعتداءً على حق المجتمع، واعتداءً على نفسه. قواعد منع التعسف في استعمال الحق: القاعدة الأولى ـ قصد الإضرار: إذا قصد الإنسان من استعمال حقه الإضرار لا المصلحة المنشودة من الحق، كان استعماله تعسفاً محرماً، ووجب منعه. والدليل على ذلك تحريم الرجعة إضراراً بالزوجة، والوصية إضراراً بالورثة والدائنين، وسفر الزوج بزوجته بعيداً عن بلدها وأهلها إضراراً بها. ورفع الدعوى على الفضلاء بالتهم الباطلة للتشهير بهم. وإقرار مريض الموت بالدين لحرمان الورثة أو الدائنين. وطلاق مريض الموت زوجته فراراً من ميراثها. فكل ذلك تعسف حرام، وأساس هذه القاعدة هو قصد الضرر.
القاعدة الثانية ـ قصد غرض غير مشروع
ويترتب على التعسف في هذه الحالة ثلاثة أمور: تأديب صاحب الحق المتعسف وتعزيره بما يراه القاضي رادعاً لأمثاله، وبطلان التصرف إذا كان قابلاً للإبطال، وتعويض الضرر من هذا التعسف. ويعرف قصد الضرر بالأدلة والقرائن. القاعدة الثانية ـ قصد غرض غير مشروع: إذا قصد الشخص من استعمال حقه تحقيق غرض غير مشروع لا يتفق مع المصلحة المقصودة من الحق، وإنما يستتر وراء استعمال الحق المشروع، كاتخاذ عقد الزواج وسيلة لتحليل المطلقة ثلاثاً لزوجها الأول، ولا يقصد به الزواج الدائم، واتخاذ عقد البيع وسيلة للربا أو الفائدة، ومنه بيع العينة: وهو شراء شيء بثمن مؤجل ثم بيعه لنفس البائع الأول بثمن فوري أقل من الثمن الأول، قاصداً به الربا، فذلك كله تعسف حرام، لقوله عليه السلام: «لعن الله المحلل والمحلل له» (¬1) وقوله: «يأتي على الناس زمان يستحلون الربا بالبيع» (¬2) ولنهيه عليه السلام عن بيع العِينة صراحة (¬3). ومنه إسلام الزوجة غير المسلمة بقصد الإرث من زوجها، وهبة المال قبيل الحول بقصد إسقاط الزكاة الواجبة. وقد أخذت هذه القاعدة من مبدأ (سد الذرائع) وما يتفرغ عنه من بطلان الحيل المحرمة التي يقصد بها إباحة الحرام أو تحريم الحلال أو إسقاط الواجب. ¬
القاعدة الثالثة ـ ترتب ضرر أعظم من المصلحة
وأساس هذه القاعدة هو قصد الضرر أيضاً كالقاعدة الأولى، ويعرف ذلك بالأدلة والقرائن التي تعين القصد. القاعدة الثالثة ـ ترتب ضرر أعظم من المصلحة: إذا استعمل الإنسان حقه بقصد تحقيق المصلحة المشروعة منه، ولكن ترتب على فعله ضرر يصيب غيره أعظم من المصلحة المقصودة منه، أو يساويها، منع من ذلك سداً للذرائع، سواء أكان الضرر الواقع عاماً يصيب الجماعة، أو خاصاً بشخص أو أشخاص. والدليل على المنع قول الرسول صلّى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار» (¬1) وعلى هذا فإن استعمال الحق يكون تعسفاً إذا ترتب عليه ضرر عام، وهو دائماً أشد من الضرر الخاص، أو ترتب عليه ضرر خاص أكثر من مصلحة صاحب الحق أو أشد من ضرر صاحب الحق أو مساو لضرر المستحق. أما إذا كان الضرر أقل أو متوهماً فلا يكون استعمال الحق تعسفاً. من أمثلة الضرر العام بالأمة أو بالجماعة: الاحتكار: وهو شراء ما يحتاجه الناس وادخاره لبيعه وقت غلاء الأسعار وحاجة الناس إليه. وهو ممنوع للحديث النبوي: «الجالب مرزوق والمحتكر ملعون» «لا يحتكر إلا خاطئ» (¬2). ومنه تلقي الركبان: وهو تلقي التاجر للوافدين من الريف إلى المدينة لبيع محاصيلهم، وشراؤها بثمن أقل من السعر القائم، وبيعها لأهل المدينة بثمن مرتفع. وهذا حرام لأن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن تلقي الركبان (¬3). ¬
ومنه بيع السلاح أثناء الفتنة، وبيعه لقطاع الطرق، وبيع العنب للخمار، وبيع السلع بأكثر من ضعف القيمة، فذلك يضر الجماعة، فيمنع التاجر منه، ولولي الأمر عند الحنفية والمالكية تسعير السلع بالربح المعقول. فإن أبوا من ذلك بيعت السلع جبراً عنهم. كذلك لولي الأمر منع الناس من زراعة المخدرات، وزراعة أشياء لا تحتاج إليها الأمة أو تحتاج إلى غيرها. ومثال الضرر الخاص الأشد: فتح نافذة في بناء تطل على مقر نساء الجار إلا إذا كانت أعلى من مستوى النظر. وقد منع الرسول عليه السلام سمرة بن جندب من دخول بستان لأحد الأنصار لتفقد نخله بسبب تأذي الأنصاري من دخوله (¬1)؛ لأن الضرر في الدخول كان أشد من عدم تفقد صاحب النخل نخله. ومثال الضرر الخاص المساوي للمصلحة: أن يفعل مالك الدار فيها شيئاً يتضرر به جيرانه. رأى أبو حنيفة منعه من ذلك دفعاً للضرر الذي يصيب غيره، والضرر يجب رفعه لقوله عليه السلام: «لا ضرر ولا ضرار». وقال أبو يوسف ومحمد: لا يمنع صاحب الحق حينئذ من استعمال حقه مراعاة لحق المالك، لتساويهما في الضرر، فيرجح حق المالك عملاً بما يبيحه له ملكه من استعمال وانتفاع. ومثال الضرر القليل: بناء جدار أو غرس شجر في أرضه، مما يترتب عليه حجب الهواء عن جاره، لا يمنع منه المالك ولا يكون تعسفاً؛ إذ لا بد من مثل هذا الضرر القليل عادة أثناء الانتفاع بالحق. ¬
القاعدة الرابعة ـ الاستعمال غير المعتاد وترتب ضرر للغير
ومثال الضرر الموهوم: كثرة إنجاب النسل الذي قد يترتب عليه ضائقة اقتصادية، لا يمنع منه الإنسان؛ لأن الضرر هنا متوهم؛ فالله تعالى أودع في الأرض من الكنوز والموارد ما يكفي حاجة الإنسان إذا استخدمت الأيدي العاملة والعقول المفكرة، وتمت مراقبة الله وتقواه في هذه الموارد، كما قال تعالى: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض، ولكن كذبوا، فأخذناهم بما كانوا يكسبون} [الأعراف:96/ 7]. وقال سبحانه في شأن أهل الكتاب: {ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم، لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، منهم أمة مقتصدة، وكثير منهم ساء ما يعملون} [المائدة:66/ 5]. وأساس هذه القاعدة: هو مقدار الضرر الناشئ عن استعمال الحق. القاعدة الرابعة ـ الاستعمال غير المعتاد وترتب ضرر للغير: إذا استعمل الإنسان حقه على نحو غير معتاد في عرف الناس، ثم ترتب عليه ضرر للغير، كان متعسفاً، كرفع صوت المذياع المزعج للجيران والتأذي به، واستئجار دار، ثم ترك الماء في جدرانها وقتاً طويلاً، أو استئجار سيارة ثم يحملها أكثر من حمولتها، أودابة ثم يضربها ضرباً قاسياً أو يحملها ما لا تطيق. ففي كل ذلك يعتبر متعسفاً، فيمنع من تعسفه، ويعوض المتضرر عما أصابه من ضرر. كذلك يمنع من استعمال حقه، إذا استعمل حقه استعمالاً غير معتاد، ولم يترتب عليه ضرر ظاهر؛ لأن الاستعمال على هذا النحو لا يخلو من ضرر، وعدم ظهور الضرر لا يمنع من وجوده في الواقع، وإن كان يمنع من الحكم عليه بالتعويض لعدم وضوح الضرر، فإن كان الاستعمال معتاداً مألوفاً، ووقع الضرر فلا يعد
القاعدة الخامسة ـ استعمال الحق مع الإهمال أو الخطأ
تعسفاً، ولا يترتب على ذلك ضمان، كالطبيب الجراح الذي يجري عملية جراحية معتادة، ويموت المريض، فلا يضمن. ومثله من يوقد فرناً يتأذى الجيران بدخانه، أو يدير آلة يتضرر الجيران بصوتها المعتاد، فلا ضمان؛ لأن كل ذلك معتاد مألوف. وبناء عليه: من يشعل ناراً في أرضه، فطار منها شرر أحرق شيئاً لجاره، إن كان ذلك في أحوال عادية فلا ضمان عليه. وإن كان ذلك في وقت هبوب الرياح واشتدادها، فعليه الضمان. وكذلك سقاية الأرض، إن كان سقياً عادياً، فتسرب الماء إلى أرض الجار، فلا ضمان، وإن كان سقياً غير عادي بماء لا تحتمله الأرض عادة، فعليه ضمان الضرر اللاحق بالغير (¬1). والمقياس في ذلك هو العرف الذي يحدد كون التصرف معتاداً أو غير معتاد. وعليه تطبق أحكام التعامل مع الخباز والكواء إذا أحرق ما سلِّم له، يضمن إذا تصرف تصرفاً غير معتاد بزيادة وقود النار، وحرارة الكهرباء. القاعدة الخامسة ـ استعمال الحق مع الإهمال أو الخطأ: إذا استعمل الإنسان حقه على وجه ليس فيه احتياط واحتراس وتثبت، فأضر بالغير، وهذا ما يعرف بالخطأ، كان متعسفاً أو مسؤولاً مسؤولية تقصيرية. سواء أكان خطأ في القصد، كما إذا رأى الصياد شبحاً من بعيد، فظنه صيداً، فأطلق عليه النار، فإذا هو إنسان. أو كان خطأ في الفعل، كما إذا سدد الصائد الرمية على صيد، فانحرفت وأصابت إنساناً، أو تجاوزت الصيد إلى إنسان فقتلته. ¬
فذلك كله إساءة في استعمال الحق يترتب عليه تعويض الضرر الذي أصاب الغير؛ لأنه كان يجب عليه التثبت والانتباه أو الاحتراس في كل من القصد والفعل، فإذا قصد في ذلك تحمل نتيجة فعله صوناً لدماء الناس وأموالهم. والدليل أن الله تعالى أوجب تعويض الضرر في القتل الخطأ بالدية، ومنع النبي من الضرر في الحديث المتقدم: «لا ضرر ولا ضرار» ولا سبيل إلى رفع الضرر بعد وقوعه إلا بإيجاب الضمان أو التعويض. ومجال هذه القاعدة هو الضرر الناشئ عن الخطأ في استعمال الحق، سواء أكان هذا الحق ثابتاً بإذن الشارع، أم بالعقد أم بغيرهما من مصادر الحق؛ لأن استعمال الحقوق مقيد بشرط السلامة كما يقرر الفقهاء (¬1)، ولأن أموال الناس ودماءهم معصومة لا تهدر بحال، فيجب ضمانها وتعويض الضرر الواقع عليها. وأساس هذه القاعدة حصول الضرر، سواء أكان قليلاً أم كثيراً. ولا تطبق هذه القاعدة في حالتين: الأولى ـ إذا كان استعمال الحق لايمكن فيه الاحتراز أو التثبت عادة، كالطبيب الذي يجري عملية جراحية على النحو المعتاد، فأفضى ذلك إلى تلف عضو أو نفس، لا يكون ضامناً. الثانية ـ إذا اتخذ الشخص الاحتياطات، ومع ذلك وقع الضرر، فلا يضمنه كما إذا قام إنسان بالتدرب على إطلاق النار في ملكه، ووضع لافتات على أرضه بعدم الدخول، فلا ضمان عليه إذا أصاب أحداً دخل أرضه. كما لاضمان على من سلك طريقاً مخوفاً أو فيه سباع فوجد مقتولاً، لا تجب ديته (¬2). ¬
آثار أو أحكام التعسف
ومن تطبيقات هذه القاعدة: حوادث السير بدون قصد من قتل وإتلاف مال، وما يترتب على ممارسة حق التأديب للزوج والمعلم والأب والحاكم من إتلافات غير مقصودة. وحالات تجاوز حدود الدفاع الشرعي من الأخف إلى الأثقل، واستهلاك الأموال على الظن أنها مال الشخص، فكل ذلك يوجب تعويض الضرر. آثار أو أحكام التعسف: التعسف في استعمال الحق يندرج تحت (الفعل الضار) أحد مصادر الحق. أما ما ينشأ عن التعسف من حقوق أو آثار وأحكام فهي ما يأتي: 1 - إزالة الضرر عيناً كهدم البناء الذي بناه المالك ملاصقاً لجاره، فسد عليه النور والهواء، وسد النافذة التي فتحها المالك، وكانت تطل على نساء جاره. 2 - التعويض عن الضرر إذا كان تلف نفس أو عضو أو مال. 3 - إبطال التصرف كإبطال زواج التحليل وبيع العينة والوصية الضارة بالورثة. 4 - المنع من ممارسة الحق كمنع الزوج من السفر بزوجته إذا قصد بالسفر إيذاءها. 5 - التعزير كالدعاوى المرفوعة على الشرفاء للتشهير بهم. 6 - الإجبار على الفعل كإجبار التجار على البيع بسعر معين، وإجبار العمال على العمل بأجر المثل.
4 - نقل الحق
4 - نقل الحق: يجوز انتقال الحق بسبب ناقل له، سواء أكان الحق مالياً كحق الملكية في المبيع، فإنه ينتقل من البائع للمشتري بسبب عقد البيع، وحق الدين، فإنه ينتقل من ذمة الدائن إلى تركته بسبب الوفاة، أم كان الحق غير مالي كحق الولاية على الصغير، فإنه ينتقل من الأب إلى الجد بسبب وفاة الأب، وحق الحضانة، فإنه ينتقل من الأم إلى الجدة لأم إذا تزوجت الأم بغير محرم من الصغير. وأسباب انتقال الحق كثيرة منها: العقد، ومنها الالتزام الذي يتم من جانب واحد، ومنها الوفاة، ومنها حوالة الدين من مدين إلى مدين آخر. وهي نوع من العقد لا خلاف في مشروعيته بين الفقهاء. ومنها حوالة الحق من دائن إلى دائن كأن يحيل البائع دائنه على المشتري بالثمن، ويحيل المرتهن على الراهن بالدين، وتحيل الزوجة على زوجها بالمهر، وهي جائزة على التحقيق عند فقهاء المذاهب، حتى عند الحنفية في نطاق ما يسمى عندهم بالحوالة المقيدة: وهي أن يحيل شخص غيره بالدين الذي له على المحال عليه. 5 - انقضاء الحق: ينتهي الحق بسبب من الأسباب المقررة شرعاً لانتهائه، وهو يختلف بحسب نوع الحق، فحق الزواج ينتهى بالطلاق، وحق الابن في النفقة على أبيه ينتهي بقدرته على الكسب، وحق الملكية ينتهي بالبيع، وحق الانتفاع ينتهي بفسخ عقد الإجارة أو انتهاء المدة، أو بانفساخ العقد بالأعذار أو الظروف الطارئة كانهدام المنزل، وحق الدين ينتهي بالأداء أو بالمقاصة أو بالإبراء: وهو إسقاط صاحب الحق حقه ممن هو عليه. وتفاصيل ذلك تعرف في بحث نظرية العقد.
الفصل الثاني: الأموال
الفَصْلُ الثَّاني: الأموَال المال بطبيعته محل الملكية إلا إذا وجد مانع من الموانع، وهو في الغالب محل المعاملات المدنية كالبيع والإيجار والشركة والوصية ونحوها. وهو أيضاً عنصر ضروري من ضرورات الحياة أو المعيشة التي لا غنى عنها للإنسان. لذا سأذكر تعريف المال وأقسامه ومايقبل التملك منه ومالا يقبل، ثم أبين تعريف الملك وأقسامه وخصائص كل قسم. المبحث الأول ــ تعريف المال وإرثه: تعريف المال ــ المال في اللغة: كل مايقتنى ويحوزه الإنسان بالفعل سواء أكان عيناً أم منفعة، كذهب أو فضة أو حيوان أو نبات أو منافع الشيء كالركوب واللبس والسكنى. أما مالا يحوزه الإنسان فلا يسمى مالاً في اللغة كالطير في الهواء والسمك في الماء والأشجار في الغابات والمعادن في باطن الأرض. وأما في اصطلاح الفقهاء ففي تحديد معناه رأيان: أولاً ـ عند الحنفية: المال: هو كل ما يمكن حيازته وإحرازه وينتفع به عادة، أي أن المالية تتطلب توفر عنصرين:
1 - إمكان الحيازة والإحراز: فلا يعد مالاً: ما لايمكن حيازته كالأمور المعنوية مثل العلم والصحة والشرف والذكاء، وما لا يمكن السيطرة عليه كالهواء الطلق (¬1) وحرارة الشمس وضوء القمر. 2 - إمكان الانتفاع به عادة: فكل ما لا يمكن الانتفاع به أصلاً كلحم الميتة والطعام المسموم أو الفاسد، أو ينتفع به انتفاعاً لا يعتد به عادة عند الناس كحبة قمح أو قطرة ماء أو حفنة تراب، لا يعد مالاً، لأنه لا ينتفع به وحده. والعادة تتطلب معنى الاستمرار بالانتفاع بالشيء في الأحوال العادية، أما الانتفاع بالشيء حال الضرورة كأكل لحم الميتة عند الجوع الشديد (المخمصة) فلا يجعل الشيء مالاً، لأن ذلك ظرف استثنائي. وتثبت المالية بتمول الناس كلهم أو بعضهم (¬2)، فالخمر أو الخنزير مال لانتفاع غير المسلمين بهما. وإذا ترك بعض الناس تمول مال كالثياب القديمة فلا تزول عنه صفة المالية إلا إذا ترك كل الناس تموله. وقد ورد تعريف المال في المادة (621) من المجلة نقلاً عن ابن عابدين الحنفي (¬3) وهو: «المال: هو ما يميل إليه طبع الإنسان، ويمكن ادخاره إلى وقت الحاجة، منقولاً كان أو غير منقول». ولكنه تعريف منتقد؛ لأنه ناقص غير شامل، فالخضروات والفواكه تعتبر مالاً، وإن لم تدخر لتسرع الفساد إليها. وهو أيضاً بتحكيم الطبع فيه قلق غير مستقر؛ لأن بعض الأموال كالأدوية المرة والسموم تنفر منها الطباع على الرغم من ¬
ثانيا ـ وأما المال عند جمهور الفقهاء غير الحنفية
أنها مال. وكذلك المباحات الطبيعية قبل إحرازها من صيود ووحوش وأشجار في الغابات تعد أموالاً ولو قبل إحرازها أو تملكها. ثانياً ـ وأما المال عند جمهور الفقهاء غير الحنفية: فهو كل ما له قيمة يلزم متلفه بضمانه (¬1). وهذا المعنى هو المأخوذ به قانوناً، فالمال في القانون وهو كل ذي قيمة مالية. الأشياء غير المادية ـ الحقوق والمنافع: حصر الحنفية معنى المال في الأشياء أو الأعيان المادية أي التي لها مادة وجِرم محسوس. وأما المنافع والحقوق فليست أموالاً عندهم وإنما هي ملك لا مال. وغير الحنفية اعتبروها أموالاً؛ لأن المقصود من الأشياء منافعها لا ذواتها، وهذا هو الرأي الصحيح المعمول به في القانون وفي عرف الناس ومعاملاتهم، ويجري عليها الإحراز والحيازة. والمقصود بالمنفعة: هو الفائدة الناتجة من الأعيان، كسكنى الدار، وركوب السيارة، ولبس الثوب ونحو ذلك. وأما الحق: فهو ما يقرره الشرع لشخص من اختصاص يؤهله لممارسة سلطة معينة أو تكليف بشيء. فهو قد يتعلق بالمال كحق الملكية وحق الارتفاق بالعقار المجاور من مرور أو شرب أو تعلي، وقد لا يتعلق بالمال كحق الحضانة، والولاية على نفس القاصر. ¬
المبحث الثاني ـ أقسام المال
والمنافع، والحقوق المتعلقة بالمال، والحقوق المحضة كحق المدعي في تحليف خصمه اليمين ليست أموالاً عند الحنفية، لعدم إمكان حيازتها بذاتها، وإذا وجدت فلا بقاء ولا استمرار لها، لأنها معنوية، وتنتهي شيئاً فشيئاً تدريجياً. وقال جمهور الفقهاء غير الحنفية: إنها تعتبر مالاً، لإمكان حيازتها بحيازة أصلها ومصدرها، ولأنها هي المقصودة من الأعيان، ولولاها ما طلبت، ولا رغب الناس بها. ويترتب على هذا الخلاف بعض النتائج أو الثمرات في الغصب والميراث والإجارة. فمن غصب شيئاً وانتفع به مدة، ثم رده إلى صاحبه، فإنه يضمن قيمة المنفعة عند غير الحنفية، وعند الحنفية: لا ضمان عليه إلا إذا كان المغصوب شيئاً موقوفاً، أو مملوكاً ليتيم، أو معداً للاستغلال كعقار معد للإيجار كفندق أو مطعم؛ لأن هذه الأملاك بحاجة شديدة للحفظ ومنع العدوان عليها. وهذا المعنى في الواقع موجود في كل المنافع، فينبغي الإفتاء بالضمان في كل المغصوبات. والإجارة تنتهي بموت المستأجر عند الحنفية؛ لأن المنفعة ليست مالاً حتى تورث، وغير الحنفية يقولون: لا تنتهي الإجارة بموت المستأجر وتظل باقية حتى تنتهي مدتها. والحقوق لا تورث عند الحنفية كالحق في خيار الشرط أو خيار الرؤية. وتورث عند غير الحنفية. المبحث الثاني ـ أقسام المال: قسم الفقهاء المال عدة تقسيمات يترتب عليها أحكام مختلفة بحسب كل قسم، وأكتفي ببيان أربعة تقسيمات، أوضحها القانون المدني:
المطلب الأول ـ المال المتقوم وغير المتقوم
1 - باعتبار إباحة الانتفاع وحرمته إلى: متقوم وغير متقوم. 2 - باعتبار استقراره في محله وعدم استقراره إلى: عقارٍ ومنقول. 3 - باعتبار تماثل أحاده أو أجزائه وعدم تماثلها إلى: مثلي وقيمي. 4 - باعتبار بقاء عينه بالاستعمال وعدم بقائه إلى: استهلاكي واستعمالي. المطلب الأول ـ المال المتقوم وغير المتقوم: المال المتقوم: كل ما كان محرزاً بالفعل، وأباح الشرع الانتفاع به كأنواع العقارات والمنقولات والمطعومات ونحوها. وغير المتقوم: ما لم يحرز بالفعل، أو ما لا يباح الانتفاع به شرعاً إلا في حالة الاضطرار (¬1)، مثال الأول: السمك في الماء والطير في الهواء والمعادن في باطن الأرض ونحوها من المباحات كالصيد والحشيش فهي غير متقومة عرفاً. ومثال الثاني: الخمر والخنزير بالنسبة للمسلم غير متقومين شرعاً، فلا يباح للمسلم الانتفاع بهما إلا عند الضرورة وبقدر الضرورة كدفع خطر جوع شديد أو عطش شديد يخشى معه الهلاك، ولا يجد الإنسان شيئاً آخر سواهما، فيباح له الانتفاع بأحدهما بقدر ما يدفع الهلاك عن نفسه. أما بالنسبة لغير المسلم فهما من الأموال المتقومة عند فقهاء الحنفية؛ لأننا أمرنا بتركهم وما يدينون. فلو أتلفهما مسلم أو غير مسلم وجب عليه ضمانهما. وقال غير الحنفية: لا يعتبران مالاً متقوماً؛ لأن غير المسلمين المقيمين في بلادنا ملزمون بأحكام المعاملات الإسلامية، فلهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم. ¬
تظهر فائدة هذا التقسيم في موضعين
وتظهر فائدة هذا التقسيم في موضعين: الأول ـ صحة التعاقد عليه وعدمها: فالمتقوم يصح أن يكون محلاً لجميع العقود التي ترد على المال كالبيع والإيجار والهبة والإعارة والرهن والوصية والشركة ونحوها. وغير المتقوم: لا يصح التعاقد عليه بشيء من تلك العقود، فيعد بيع المسلم خمراً أو خنزيراً بيعاً باطلاً، ولو اشترى المسلم بخمر أو خنزير كان الشراء فاسداً، وسبب التفرقة بين الحالتين أن المبيع هو المقصود الأصلي من البيع، فتقومه شرط انعقاد. وأما الثمن فهو وسيلة لا يقصد لذاته، فتقومه شرط صحة. الثاني ـ الضمان عند الإتلاف: إذا أتلف إنسان مالاً متقوماً لغيره وجب عليه ضمان مثله إن كان مثلياً، أو قيمته إن كان قيمياً. أما غير المتقو م فلا يضمن بالإتلاف إذا كان لمسلم. فلو أراق أحد خمراً لمسلم أو قتل خنزيراً له، لا يضمنه. أما لو أتلفه أحد لذمي (أي غير مسلم مقيم في دار الإسلام) ضمن له قيمته عند الحنفية، لأنه مال متقوم عندهم، كما تقدم. التقوم وعدمه عند القانونيين: يختلف معنى التقوم وعدمه بين الشرعيين والقانونيين، فهو عند الشرعيين كما عرفنا: ما يباح الانتفاع بها، شرعاً، أو ما لا يباح ذلك. وأما عند القانونيين: فالتقوم: ما كان ذا قيمة بين الناس. وعدم التقوم: هو خروج الأشياء عن التعامل بطبيعتها أو بحكم القانون. فالأولى هي التي يشترك كل الناس في الانتفاع بها، ولا يستطيع أحد أن يستأثر بحيازتها، كالهواء والبحار وأشعة الشمس. والثانية: هي الأشياء الخارجة عن التعامل بحكم القانون كالمخدرات الممنوعة والمواد الحربية المتفجرة، وكل الأشياء المملوكة للدولة أو للأشخاص الاعتبارية العامة أو المخصصة للنفع العام بالفعل.
المطلب الثاني ـ العقار والمنقول
وقد أخذت فكرة التقوم وعدمه من مفهوم المادة (38) من القانون المدني التي تنص على ما يأتي: 1 - كل شيء غير خارج عن التعامل بطبيعته أو بحكم القانون يصح أن يكون محلاً للحقوق المالية. 2 - والأشياء التي تخرج عن التعامل بطبيعتها هي التي لا يستطيع أحد أن يستأثر بحيازتها، وأما الخارجة بحكم القانون فهي التي لا يجيز القانون أن تكون محلاً للحقوق المالية. يتبين من ذلك أن فكرة التقوم وعدمه تنبني في القانون على جواز التعامل في الشيء وعدم جوازه قانوناً. فالخمر مثلاً يجوز التعامل بها في القانون ولا يجوز التعامل بها في الشرع. المطلب الثاني ـ العقار والمنقول: للفقهاء اصطلاحان في بيان المقصود من العقار والمنقول، أحدهما للحنفية، والآخر للمالكية. رأي الحنفية ـ المنقول: هو ما يمكن نقله وتحويله من مكان إلى آخر، سواء أبقي على صورته وهيئته الأولى، أم تغيرت صورته وهيئته بالنقل والتحويل ويشمل النقود والعروض التجارية وأنواع الحيوان والمكيلات والموزونات (¬1). والعقار: هو الثابت الذي لا يمكن نقله وتحويله أصلاً من مكان إلى آخر كالدور والأراضي (¬2). ¬
رأي المالكية
ويلاحظ أن البناء والشجر والزرع في الأرض لا تعد عقاراً عند الحنفية إلا تبعاً للأرض، فلو بيعت الأرض المبنية أو المشجرة أو المزروعة طبقت أحكام العقار على ما يتبع الأرض من البناء ونحوه. أما لو بيع البناء وحده أو الشجر وحده من غير الأرض فلا يطبق عليهما حكم العقار. فالعقار عند الحنفية لا يشمل إلا الأرض خاصة. والمنقول يشمل ما عداها (¬1). رأي المالكية ـ ضيق المالكية من دائرة المنقول ووسعوا في معنى العقار فقالوا: المنقول: هو ما أمكن نقله وتحويله من مكان إلى آخر مع بقائه على هيئته وصورته الأولى كالملابس والكتب والسيارات ونحوها. والعقار عندهم: هو ما لا يمكن نقله وتحويله أصلاً كالأرض، أو أمكن تحويله ونقله مع تغيير صورته وهيئته عند النقل والتحويل كالبناء والشجر. فالبناء بعد هدمه يصير أنقاضاً، والشجر يصبح أخشاباً (¬2). وهذا الرأي هو المتفق مع القانون المدني السوري، كما نصت المادة 48/ 1: «كل شيء مستقر بحيزه ثابت فيه، لا يمكن نقله منه، دون تلف، فهو عقار، وكل ماعدا ذلك من شيء فهو منقول». لكن توسع القانون في معنى العقار في الفقرة الثانية من هذه المادة، فأدخل فيه المنقولات التي يضعها صاحبها في عقار يملكه لخدمة هذا العقار أو استثماره، حتى السماد والسمك، وسماها (عقاراً بالتخصيص) وهذا سائغ في مذهب المالكية. وأدخل فيه أيضاً في المادة (85) الحقوق العينية المترتبة على العقار كحقوق الارتفاق والتأمينات، حتى الدعوى المتعلقة بحق عيني على عقار. واعتبار هذه الدعوى عقاراً فيه إغراق في تصور معنى العقار. ¬
قد يتحول المنقول إلى عقار وبالعكس
هذا وقد يتحول المنقول إلى عقار وبالعكس، مثال الأول: الأبواب والأقفال وتمديدات الماء والكهرباء تصبح عقاراً باتصالها بالعقار على نحو ثابت. ومثال الثاني: أنقاض البناء وكل ما يستخرج من الأرض من معادن وأحجار وتراب، تصبح منقولاً بمجرد فصلها عن الأرض. وتظهر فائدة تقسيم المال إلى عقار ومنقول في طائفة من الأحكام الفقهية التالية: 1 - الشفعة (¬1): تثبت في المبيع العقار (¬2)، ولا تثبت في المنقول، إذا بيع مستقلاً عن العقار، فإن بيع المنقول تبعاً للعقار ثبت فيهما الشفعة. وكذلك بيع الوفاء (¬3): يختص بالعقار دون المنقول. 2 - الوقف: لا يصح عند الحنفية خلافاً لجمهور الفقهاء إلا في العقار. أما المنقول فلا يصح وقفه إلا تبعاً للعقار كوقف أرض وما عليها من آلات وحيوان، أو ورد بصحة وقفه أثر عن السلف كوقف الخيل والسلاح، أو جرى العرف بوقفه كوقف المصاحف والكتب وأدوات الجنازة. ويصح عند غير الحنفية وقف العقار والمنقول على السواء (¬4). 3 - بيع الوصي مال القاصر: ليس للوصي بيع عقار القاصر إلا بمسوغ ¬
شرعي كإيفاء دين أو دفع حاجة ضرورية أو تحقيق مصلحة راجحة. وقد أنيط ذلك بإذن القاضي في قانون الأحوال الشخصية؛ لأن بقاء عين العقار فيه حفاظ على مصلحة القاصر أكثر من حفظ ثمنه. أما المنقول: فله أن يبيعه متى رأى مصلحة في ذلك. وفي بيع مال المدين المحجوز عليه لوفاء دينه يبدأ أولاً ببيع المنقول، فإن لم يف ثمنه انتقل إلى العقار تحقيقاً لمصلحة المدين. 4 - يجوز عند أبي حنيفة وأبي يوسف خلافاً لبقية الفقهاء بيع العقار قبل قبضه من المشتري، أما المنقول فلا يجوز بيعه قبل القبض أو التسليم؛ لأن المنقول عرضة للهلاك كثيراً بعكس العقار. 5 - حقوق الجوار والارتفاق تتعلق بالعقار، دون المنقول. 6 - لا يتصور غصب العقار عند أبي حنيفة وأبي يوسف، إذ لا يمكن نقله وتحويله، ويرى محمد وسائر الفقهاء إمكان غصب العقار، والرأي الأول أخذت به المجلة (م 509 وما بعدها). أما المنقول فيتصور غصبه باتفاق الفقهاء (¬1). ¬
المطلب الثالث ـ المال المثلي
المطلب الثالث ـ المال المثلي والقيمي: المال المثلي: ما له مثل أو نظير في الأسواق من غير تفاوت في أجزائه أو وحداته تفاوتاً يعتد به في التعامل (¬1). والأموال المثلية أربعة أنواع هي: المكيلات (كالقمح والشعير) والموزونات (كالقطن والحديد) والعدديات المتقاربة في الحجم كالجوز والبيض، وبعض أنواع الذرعيات (التي تباع بالذراع أو المتر ونحوهما): وهي التي تتساوى أجزاؤها دون فرق يعتد به كأثواب الجوخ والقطن والحرير، وألواح البلور، والأخشاب الجديدة. أما إن تفاوتت أجزاء المذروع كالنسيج غير المتماثل الأجزاء وكالأراضي، فيصبح مالاً قيمياً لا مثلياً. وكما يعد المعدود المتقارب من المحصولات الطبيعية من المال المثلي، كذلك يعد المعدود المتماثل من المصنوعات من مادة واحدة وشكل واحد مالاً مثلياً كأواني الأكل والشرب، والسيارات المتحدة النوع، وأدوات غيارها، والكتب الجديدة المطبوعة. والمال القيمي: هو ما ليس له نظير أو مثل في السوق، أو له مثل ولكن مع التفاوت المعتد به بين وحداته في القيمة (¬2)، مثل أفراد الحيوان والأراضي والأشجار والدور وأنواع السجاد والبسط والأحجار الكريمة كالماس والياقوت والكتب المخطوطة أو المستعملة. ويدخل في المال القيمي: العدديات المتفاوتة القيمة في آحادها كالبطيخ والرمان عند اختلاف أحجامها وأنواعها. وقد ينقلب المال المثلي قيمياً وبالعكس، وحالات انقلاب المثلي قيمياً أربعة هي: ¬
1 - الانقطاع من السوق: إذا انقطع وجود المال المثلي من الأسواق انقلب قيمياً. 2 - الاختلاط: إذا اختلط مالان مثليان من جنسين مختلفين كحنطة وشعير، صار الخليط قيمياً. 3 - التعرض للخطر: إذا تعرض المال المثلي للخطر كالحريق أو الغرق، صار له قيمة خاصة. 4 - التعيب أو الاستعمال: إذا تعيب المال المثلي أو استعمل، صار له قيمة خاصة. وانقلاب المال القيمي إلى مثلي يكون في حال الكثرة بعد الندرة، فإذا كان المال نادر الوجود في السوق، ثم أصبح كثير الوجود، صار مثلياً بعد أن كان له قيمة خاصة. ويلاحظ أن المال المتقوم أعم من القيمي، فالمتقوم يشمل القيمي والمثلي. وتظهر فائدة التقسيم إلى مثلي وقيمي فيما يأتي: 1 - الثبوت في الذمة (¬1): يثبت المال المثلي ديناً في الذمة أي بأن يكون ثمناً في البيع، عن طريق تعيين جنسه وصفته. ويصح بالتالي وقوع المقاصة بين الأموال المثلية. أما القيمي: فلا يقبل الثبوت ديناً في الذمة، فلا يصح أن يكون ثمناً، ولا تجري المقاصة بين الأموال القيمية. وإذا تعلق الحق بمال قيمي كرأس غنم أو بقر، ¬
يجب أن يكون معيناً بذاته، متميزاً عن سواه، بالإشارة إليه منفرداً، لا مشاراً إليه بالوصف؛ لأن أفراد المال القيمي ولو من نوع واحد غير متماثلة، ولكل واحد منها صفة وقيمة معينة. 2 - كيفية الضمان عند التعدي أو الإتلاف: إذا أتلف شخص مالاً مثلياً، مثل كمية من القمح أو السكر، وجب عليه ضمان مثله، حتى يكون التعويض على أكمل وجه، والمثل أقرب إلى الشيء المتلف صورة ومعنى، أي مالية. أما القيمي فيضمن المتعدي قيمته؛ لأنه يتعذر إيجاب مثله صورة، فيكتفى بإيجاب مثله معنى، أي من ناحية المالية، وهي القيمة. 3 - القسمة الجبرية وأخذ النصيب: تدخل القسمة جبراً في المال المثلي المشترك، ولكل شريك أخذ نصيبه في غيبة الآخر دون إذنه. أما القيمي: فلا تدخل فيه القسمة الجبرية، ولا يجوز للشريك أخذ نصيبه في غيبة الآخر بدون إذنه؛ لأن القسمة فيها معنى الإفراز والمبادلة، فإذا كان المال مثلياً كانت جهة الإفراز هي الراجحة لتماثل أجزائه. وإذا كان قيمياً كانت جهة المبادلة هي الراجحة لعدم تماثل أجزائه، فكأنه أخذ بدل حقه لا عينه. 4 - الربا: الأموال القيمية لا يجري فيها الربا المحرم، فيجوز بيع غنمة بغنمتين، أي يجوز بيع القليل بالكثير من جنسه. أما الأموال المثلية فيجري فيها الربا الحرام الذي يوجب تساوي العوضين المتجانسين في الكمية والمقدار، وتكون الزيادة حراماً. فلا يجوز بيع قنطار من القمح بقنطار وربع مثلاً، لاشتمال البيع على ما يسمى بربا الفضل، وهذا الربا يختص شرعاً بالمقدرات المثلية من مكيل أو موزون فقط.
الذمة المالية وخصائصها
الذمة المالية وخصائصها: لا يتصور ثبوت دين على إنسان إلا بتصور محل اعتباري مفترض مقدر وجوده في كل إنسان. وهذا المحل المقدر المفترض هو الذمة، فالذمة تختلف عن الأهلية، إذ أن الأهلية: هي صلاحية الشخص لثبوت الحقوق له وتحمل الواجبات. وتحمل الواجبات أو الالتزامات يستلزم وجود محل في الشخص تستقر فيه تلك الواجبات أو الديون. وتبدأ الأهلية ناقصة منذ بدء تكون الجنين، وتكمل أهلية الوجوب بالولادة. وبالولادة تبدأ الذمة مع بدء تصور وجود العنصر الثاني من تلك الأهلية: وهو عنصر المديونية أو الالتزام، فالأهلية هي الصلاحية، والذمة محل الصلاحية. فالذمة: هي محل اعتباري في الشخص تقع فيه الديون أوالالتزامات (¬1). أولاً ـ خصائص الذمة: للذمة الخصائص التالية: 1 - الذمة من صفات الشخصية الطبيعية وهو الإنسان أو الاعتبارية كالشركات والمؤسسات والأوقاف والمساجد. فلا ذمة للجنين قبل ولادته، فلا تصح الهبة له، لكن تصح الوصية له بشرط ولادته حياً، ولا ذمة للحيوان، فلو أوصى شخص لدابة وقصد تمليكها فالوصية باطلة، لكن لو كان بقصد الإنفاق عليها صحت الوصية، ويكون المقصود بها مالكها. ولا يتعين صرف الموصى به للنفقة على الدابة عند الحنفية (¬2)، ويتعين ذلك لعلف الدابة عند الشافعية (¬3). ¬
ثانيا - انتهاء الذمة
2 - لا بد لكل شخص بعد ولادته من ذمة، حتى ولو كانت فارغة بريئة؛ لأن الذمة من توابع الشخصية، وتلازم العنصر الثاني من أهلية الوجوب، وهذه الأهلية مناطها الصفة الإنسانية، فتلازم الإنسان منذ وجوده. 3 - لا تتعدد الذمة، فلكل شخص ذمة واحدة، ولا اشتراك بين أشخاص في الذمة. 4 - الذمة لا حدّ لسعتها، فهي تتسع لكل الديون مهما عظمت؛ لأن الذمة ظرف اعتباري، يتسع لكل الالتزامات. 5 - الذمة متعلقة بالشخص، لا بأمواله وثروته، ليتمكن من ممارسة نشاطه الاقتصادي بحرية مطلقة تمكنه من تسديد ديونه، فله التجارة والبيع ولو كان مديناً بأكثر مما يملك. وله وفاء أي دين متقدم أو متأخر في الثبوت. ولا يحق للدائنين الاعتراض عليه. 6 - الذمة ضمان عام لكل الديون بلا تمييز لدين على آخر إلا إذا وجد لصاحب دين حق عيني كالرهن، أو كانت بعض الحقوق الشخصية ذات امتياز كنفقات التجهيز والتكفين، ودين النفقة للزوجة والأولاد الصغار، وديون الضرائب الحكومية ثانياً - انتهاء الذمة: تبدأ الذمة بالولادة وتنتهي بالوفاة، وللفقهاء آراء ثلاثة في انتهاء الذمة. الرأي الأول للحنابلة في رواية عندهم (¬1) ـ انهدام الذمة بمجرد الموت: لأن الذمة من خصائص الشخصية، والموت يعصف بالشخص وبذمته. وأما الديون فتتعلق عند أكثر الحنابلة بالتركة، فمن مات ولا تركة له سقطت ديونه. ¬
الرأي الثاني للمالكية والشافعية وبعض الحنابلة (¬1) ـ بقاء الذمة بعد الموت حتى إيفاء الديون وتصفية التركة: تبقى الذمة بعد الموت حتى تصفى الحقوق المتعلقة بالتركة. فيصح للميت اكتساب حقوق جديدة بعد موته كان سبباً لها، كمن نصب شبكة للاصطياد، فوقع فيها حيوان، فإنه يملكه، وتظل ذمة الميت باقية بعد موته حتى تسدد ديونه، لقوله عليه السلام: «نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه» (¬2). ويمكن أن تشغل ذمة الميت بعد موته بديون جديدة، كشغلها بثمن المبيع الذي رده المشتري على البائع بعد موته بسبب عيب ظهر فيه. وكالتزامه بضمان قيمة ما وقع في حفرة حفرها الشخص قبل موته، في الطريق العام. وتصح الكفالة بعد الموت بما على الميت المفلس من ديون؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم صحح هذه الكفالة. وتصح عند المالكية لا الشافعية والحنابلة الوصية لميت. ويقتصر أثر الموت في هذا الرأي على عدم مطالبة الميت بالحقوق وإنما يطالب ورثته بأداء الحقوق لأصحابها. الرأي الثالث للحنفية ـ ضعف الذمة: إن الموت لا يهدم الذمة، لكن يضعفها، فتبقى بقدر الضرورة لتصفية الحقوق المتعلقة بالتركة التي لها سبب في حال الحياة. فيكتسب الميت بعد موته ملكية جديدة كما في صورة نصب الشبكة للصيد، ويلتزم بالديون التي تسبب بها الشخص قبل موته، كرد المبيع المعيب عليه والتزامه بالثمن، وضمان ما وقع في حفرة حفرها في الطريق العام. لكن لا تصح كفالة دين على ميت مفلس عند أبي حنيفة خلافاً للصاحبين (¬3). ولا تصح الوصية للميت أو الهبة له. وبهذين الحكمين الأخيرين يفترق الرأي الثالث عن الرأي الثاني. ¬
المطلب الرابع ـ المال الاستهلاكي
المطلب الرابع ـ المال الاستهلاكي والاستعمالي: المال الاستهلاكي: هو الذي لا يمكن الانتفاع به إلا باستهلاك عينه، كأنواع الطعام والشراب والحطب والنفط والورق والنقود. فلا يمكن الانتفاع بهذه الأموال ما عدا النقود إلا باستئصال عينها. وأما النقود فاستهلاكها يكون بخروجها من يد مالكها، وإن كانت أعيانها باقية بالفعل. والمال الاستعمالي: هو ما يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه، كالعقارات والمفروشات والثياب والكتب ونحوها. وينظر إلى الانتفاع المميز بين النوعين لأول مرة، لا إلى حالات الاستعمال المتكررة. فإن زالت عين الشيء من أول انتفاع كان مالاً استهلاكياً، وإن بقيت عينه حينئذ كان مالاً استعمالياً. وتظهر فائدة التقسيم فيما يأتي: يقبل كل نوع من هذين المالين نوعاً معيناً من العقود. فالمال الاستهلاكي يقبل العقود التي غرضها الاستهلاك لا الاستعمال كالقرض وإعارة الطعام. والمال الاستعمالي يقبل العقود التي هدفها الاستعمال دون الاستهلاك كالإجارة والإعارة. فإن لم يكن الغرض من العقد هو الاستعمال وحده أو الاستهلاك وحده، صح أن يرد على كلا النوعين: الاستعمالي والاستهلاكي كالبيع والإيداع، يصح ورودهما على كل من النوعين على السواء.
الفصل الثالث: الملكية وخصائصها
الفَصْلُ الثَّالث: الملكيَّة وخصائِصُها ويشتمل على مطالب خمسة: المطلب الأول ـ تعريف الملكية والملك: الملكية أو الملك: علاقة بين الإنسان والمال أقرها الشرع (¬1) تجعله مختصاً به، ويتصرف فيه بكل التصرفات ما لم يوجد مانع من التصرف. والملك كما يطلق على هذه العلاقة، يطلق أيضاً على الشيء المملوك، تقول: هذا الشيء ملكي أي مملوك لي. وهذا المعنى هو المقصود في تعريف المجلة (م 521) للملك: بأنه ما ملكه الإنسان، سواء أكان أعياناً أو منافع. وعلى هذا المعنى يفهم قول الحنفية: إن المنافع والحقوق ملك وليست بمال. وعلى هذا، فالملك أعم من المال عندهم. والملك في اللغة: هو حيازة الإنسان للمال والاستبداد به أي الانفراد بالتصرف فيه. وقد عرف الفقهاء الملك بتعاريف متقاربة مضمونها واحد (¬2)، ولعل أفضلها هو ما يأتي: ¬
المطلب الثاني ـ قابلية المال للتملك وعدمها
الملك: اختصاص بالشيء يمنع الغير منه، ويمكن صاحبه من التصرف فيه ابتداء إلا لمانع شرعي. فإذا حاز الشخص مالاً بطريق مشروع أصبح مختصاً به، واختصاصه به يمكنه من الانتفاع به والتصرف فيه إلا إذا وجد مانع شرعي يمنع من ذلك كالجنون أو العته أو السفه أو الصغر ونحوها. كما أن اختصاصه به يمنع الغير من الانتفاع به أو التصرف فيه إلا إذا وجد مسوغ شرعي يبيح له ذلك كولاية أو وصاية أو وكالة. وتصرف الولي أو الوصي أو الوكيل لم يثبت له ابتداء، وإنما بطريق النيابة الشرعية عن غيره، فيكون القاصر أو المجنون ونحوهما هو المالك، إلا أنه ممنوع من التصرف بسبب نقص أهليته أو فقدانها، ويعود له الحق بالتصرف عند زوال المانع أو العارض. المطلب الثاني ـ قابلية المال للتملك وعدمها: المال في الأصل قابل بطبيعته للتملك، لكن قد يعرض له عارض يجعله غير قابل في كل الأحوال أو في بعضها للتملك، فيتنوع المال بالنسبة لقابليته للتملك إلى ثلاثة أنواع: 1 ً - ما لا يقبل التمليك ولا التملك بحال: وهو ما خصص للنفع العام كالطرق العامة والجسور والحصون والسكك الحديدية والأنهار والمتاحف والمكتبات العامة والحدائق العامة ونحوها. فهذه الأشياء غير قابلة للتملك لتخصيصها للمنافع العامة. فإذا زالت عنها تلك الصفة عادت لحالتها الأصلية، وهي قابلية التملك، فالطريق إذا استغني عنه أو ألغي جاز تملكه. 2 ً - ما لا يقبل التملك إلا بمسوغ شرعي: كالأموال الموقوفة وأملاك بيت
المطلب الثالث ـ أنواع الملك
المال أي الأموال الحرة في عرف القانونيين. فالمال الموقوف لا يباع ولا يوهب إلا إذا تهدم أو أصبحت نفقاته أكثر من إيراده، فيجوز للمحكمة الإذن باستبداله (¬1). وأملاك بيت المال (أو وزارة المالية، أو الحكومة) لا يصح بيعها إلا برأي الحكومة لضرورة أو مصلحة راجحة، كالحاجة إلى ثمنها، أو الرغبة فيها بضعف الثمن ونحو ذلك؛ لأن أموال الدولة كأموال اليتيم عند الوصي لا يتصرف فيها إلا للحاجة أو المصلحة. 3 ً - ما يجوز تملكه وتمليكه مطلقاً بدون قيد: وهو ما عدا النوعين السابقين. المطلب الثالث ـ أنواع الملك: الملك إما تام أو ناقص. ف الملك التام: هو ملك ذات الشيء (رقبته) ومنفعته معاً، بحيث يثبت للمالك جميع الحقوق المشروعة. ومن أهم خصائصه: أنه ملك مطلق دائم لا يتقيد بزمان محدود ما دام الشيء محل الملك قائماً. ولا يقبل الإسقاط، فلو غصب شخص عيناً مملوكة لآخر، فقال المالك المغصوب منه: أسقطت ملكي، فلا تسقط ملكيته ويبقى الشيء ملكاً له، وإنما يقبل النقل، إذ لا يجوز أن يكون الشيء بلا مالك. وطريق النقل إما العقد الناقل للملكية كالبيع، أو الميراث أو الوصية. ¬
الملك الناقص
ويمنح صاحبه الصلاحيات التامة وحرية الاستعمال والاستثمار والتصرف فيما يملك كما يشاء، فله البيع أو الهبة أو الوقف أو الوصية، كما له الإعارة والإجارة، لأنه يملك ذات العين والمنفعة معاً، فله التصرف بهما معاً، أو بالمنفعة فقط. وإذا أتلف المالك ما يملكه لا ضمان عليه؛ إذ لا يتصور مالك وضامن في شخص واحد، لكن يؤاخذ ديانة؛ لأن إتلاف المال حرام، وقد يؤاخذ قضاء فيحجر عليه إذا ثبت سفهه. والملك الناقص: هو ملك العين وحدها، أو المنفعة وحدها. ويسمى ملك المنفعة حق الانتفاع. وملك المنفعة قد يكون حقاً شخصياً للمنتفع أي يتبع شخصه لا العين المملوكة، وقد يكون حقاً عينياً أي تابعاً للعين دائماً، بقطع النظر عن الشخص المنتفع، وهذا يسمى حق الارتفاق، ولا يكون إلا في العقار. المطلب الرابع ـ أنواع الملك الناقص: وعلى هذا يكون الملك الناقص ثلاثة أنواع: 1ً - ملك العين فقط: وهو أن تكون العين (الرقبة) مملوكة لشخص، ومنافعها مملوكة لشخص آخر، كأن يوصي شخص لآخر بسكنى داره أو بزراعة أرضه مدة حياته، أو مدة ثلاث سنوات مثلاً، فإذا مات الموصي وقبل الموصى له، كانت عين الدار ملكاً لورثة الموصي بالإرث، وللموصى له ملك المنفعة مدة حياته أو المدة المحددة. فإذا انتهت المدة صارت المنفعة ملكاً لورثة الموصي، فتعود ملكيتهم تامة.
- ملك المنفعة الشخصي أو حق الانتفاع
وفي هذه الحالة: ليس لمالك العين الانتفاع بها، ولا التصرف بمنفعتها أو بالعين، ويجب عليه تسليم العين للمنتفع ليستوفي حقه من منافعها، فإذا امتنع أجبر على ذلك. وبه يظهر أن ملكية العين فقط تكون دائمة، وتنتهي دائماً إلى ملكية تامة، وملكية المنافع قد تكون مؤقتة؛ لأن المنافع لا تورث عند الحنفية أو دائمة كالوقف. 2ً - ملك المنفعة الشخصي أو حق الانتفاع (¬1): هناك أسباب خمسة لملك المنفعة: وهي الإعارة والإجارة، والوقف والوصية، والإباحة. أما الإعارة: فهي عند جمهور الحنفية والمالكية: تمليك المنفعة بغير عوض. فللمستعير أن ينتفع بنفسه، وله إعارة الشيء لغيره، لكن ليس له إجارته؛ لأن الإعارة عقد غير لازم (يجوز الرجوع عنه في أي وقت)، والإجارة عقد لازم، والضعيف لا يتحمل الأقوى منه، وفي إجارة المستعار إضرار بالمالك الأصلي. ¬
الإجارة
وعند الشافعية والحنابلة: هي إباحة المنفعة بلا عوض، فليس للمستعير إعارة المستعار إلى غيره. وأما الإجارة: فهي تمليك المنفعة بعوض. وللمستأجر استيفاء المنفعة بنفسه، أو بغيره مجاناً أو بعوض إذا لم تختلف المنفعة باختلاف المنتفعين، حتى لو شرط المؤجر على المستأجر الانتفاع بنفسه. فإن اختلف نوع المنفعة كان لا بد من إذن المالك المؤجر. وأما الوقف: فهو حبس العين عن تمليكها لأحد من الناس وصرف منفعتها إلى الموقوف عليه. فالوقف يفيد تمليك المنفعة للموقوف عليه، وله استيفاء المنفعة بنفسه، أو بغيره إن أجاز له الواقف الاستثمار، فإن نص على عدم الاستغلال أو منعه العرف من ذلك، فليس له الاستغلال. وأما الوصية بالمنفعة: فهي تفيد ملك المنفعة فقط في الموصى به، وله استيفاء المنفعة بنفسه، أو بغيره بعوض أو بغير عوض إن أجاز له الموصي الاستغلال. وأما الإباحة: فهي الإذن باستهلاك الشيء أو باستعماله، كالإذن بتناول الطعام أو الثمار، والإذن العام بالانتفاع بالمنافع العامة كالمرور في الطرقات والجلوس في الحدائق ودخول المدارس والمشافي. والإذن الخاص باستعمال ملك شخص معين كركوب سيارته، أو السكن في داره. وسواء أكانت الإباحة مفيدة ملك الانتفاع بالشيء بالفعل أو بإحرازه كما يرى الحنفية، أو مجرد الانتفاع الشخصي كما يرى المالكية، فإن الفقهاء متفقون على أنه ليس للمنتفع إنابة غيره في الانتفاع بالمباح له، لا بالإعارة ولا بالإباحة لغيره. والفرق بين الإباحة والملك: هو أن الملك يكسب صاحبه حق التصرف في الشيء المملوك ما لم يوجد
خصائص حق المنفعة أو الانتفاع الشخصي
مانع. أما الإباحة: فهي حق الإنسان بأن ينتفع بنفسه بشيء بموجب إذن. والإذن قد يكون من المالك كركوب سيارته، أو من الشرع كالانتفاع بالمرافق العامة، من طرقات وأنهار ومراعي ونحو ذلك. فالمباح له الشيء لا يملكه ولا يملك منفعته، بعكس المملوك. خصائص حق المنفعة أو الانتفاع الشخصي: يتميز الملك الناقص أو حق المنفعة الشخصي بخصائص أهمها ما يأتي: 1 - يقبل الملك الناقص التقييد بالزمان والمكان والصفة عند إنشائه، بعكس الملك التام، فيجوز لمن يعير سيارته لغيره أو يوصي بمنفعة داره أن يقيد المنتفع بمدة معينة كشهر مثلاً، وبمكان معين كالركوب في المدينة لا في الصحراء، وأن يركبها بنفسه لا بغيره. 2 - عدم قبول التوارث عند الحنفية خلافاً لجمهور الفقهاء: فلا تورث المنفعة عند الحنفية؛ لأن الإرث يكون للمال الموجود عند الموت، والمنافع لا تعد مالاً عندهم كما تبين. أما عند غير الحنفية فتورث المنافع في المدة الباقية؛ لأن المنافع عندهم أموال كما ذكرت، فتورث كغيرها من الأموال، فمن أوصى لغيره بسكنى داره مدة معلومة، ثم مات قبل انتهاء هذه المدة، فلورثته الحق بسكنى الدار إلى نهاية المدة. 3 - لصاحب حق المنفعة تسلم العين المنتفع بها ولو جبراً عن مالكها. ومتى تسلمها تكون أمانة في يده، فيحافظ عليها كما يحافظ على ملكه الخاص، وإذا هلكت أو تعيبت لا يضمنها إلا بالتعدي أو بالتقصير في حفظها. وما عدا ذلك لا ضمان عليه.
انتهاء حق المنفعة
4 - على المنتفع ما تحتاجه العين من نفقات إذا كان انتفاعه بها مجاناً، كما في الإعارة، فإن كان الانتفاع بعوض كما في الإجارة فعلى مالك العين نفقاتها. 5 - على المنتفع بعد استيفاء منفعته تسليم العين إلى مالكها متى طلبها إلا إذا تضرر المنتفع. كما إذا لم يحن وقت حصاد الزرع في أرض مستأجرة أو مستعارة، فله إبقاء الأرض بيده حتى موسم الحصاد، ولكن بشرط دفع أجر المثل. انتهاء حق المنفعة: حق المنفعة حق مؤقت كما عرفنا، فينتهي بأحد الأمور التالية: 1 - انتهاء مدة الانتفاع المحددة. 2 - هلاك العين المنتفع بها أو تعيبها بعيب لا يمكن معه استيفاء المنفعة، كانهدام دار السكنى أو صيرورة أرض الزراعة سبخة أو ملحة. فإن حصل ذلك بتعدي مالك العين ضمن عيناً أخرى، كالموصي بركوب سيارة ثم عطلها، فعليه تقديم سيارة أخرى. 3 - وفاة المنتفع عند الحنفية؛ لأن المنافع لا تورث عندهم. 4 - وفاة مالك العين إذا كانت المنفعة من طريق الإعارة أو الإجارة؛ لأن الإعارة عقد تبرع، وهو ينتهي بموت المتبرع، ولأن ملكية المأجور تنتقل إلى ورثة المؤجر. وهذا عند الحنفية، وقال الشافعية والحنابلة: الإعارة عقد غير لازم، فيجوز للمعير أو لورثته الرجوع عنها، سواء أكانت مطلقة أم مؤقتة. وقال المالكية: الإعارة المؤقتة عقد لازم، فمن أعار دابة إلى موضع كذا، لم يجز له أخذها قبل ذلك، وإلا لزمه إبقاؤها قدر ما ينتفع بالمستعار الانتفاع المعتاد. وبذلك يتبين
- ملك المنفعة العيني أو حق الارتفاق
أن الجمهور يقولون: إن الإعارة لا تنتهي بموت المعير أو المستعير، وكذلك الإجارة لا تنتهي بموت أحد العاقدين؛ لأنها عقد لازم كالبيع. أما إذا كانت المنفعة من طريق الوصية أو الوقف، فلا ينتهي حق المنفعة بموت الموصي؛ لأن الوصية تبدأ بعد موته، ولا بموت الواقف؛ لأن الوقف إما مؤبد، أو مؤقت فيتقيد بانتهاء مدته. 3ً - ملك المنفعة العيني أو حق الارتفاق: حق الارتفاق: هو حق مقرر على عقار لمنفعة عقار آخر، مملوك لغير مالك العقار الأول. وهو حق دائم يبقى ما بقي العقاران دون نظر إلى المالك. مثلحق الشِّرب، وحق المجرى، وحق المسيل، وحق المرور، وحق الجوار، وحق العلو. أما حق الشِّرب: فهو النصيب المستحق من الماء لسقي الزرع والشجر، أو نوبة الانتفاع بالماء لمدة معينة لسقي الأرض. ويلحق به حق الشفة: وهو حق شرب الإنسان والدواب والاستعمال المنزلي. وسمي بذلك لأن الشُّرب يكون عادة بالشفة. والماء بالنسبة لهذا الحق أربعة أنواع (¬1): أـ ماء الأنهار العامة كالنيل ودجلة والفرات ونحوها من الأنهار العظيمة: لكل واحد الانتفاع به، لنفسه ودوابه وأراضيه، بشرط عدم الإضرار بالغير، لحديث: «الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار» وحديث «لا ضرر ولا ضرار». ¬
حق المجرى
ب ـ ماء الجداول والأنهار الخاصة، المملوكة لشخص: لكل إنسان حق الشفة منه، لنفسه ودوابه، وليس لغير مالكه سقي أراضيه إلا بإذن مالك المجرى. ج ـ ماء العيون والآبار والحياض ونحوها المملوكة لشخص: يثبت فيها كالنوع الثاني حق الشفة دون حق الشرب. فإن أبى صاحب الماء، ومنع الناس من الاستقاء لأنفسهم ودوابهم، كان لهم قتاله حتى ينالوا حاجتهم، إذا لم يجدوا ماءً قريباً آخر. د ـ الماء المحرز في أوان خاصة: كالجرار والصهاريج، لا يثبت لأحد حق الانتفاع به بأي وجه إلا برضا صاحب الماء؛ لأن الرسول عليه السلام نهى عن بيع الماء إلا ما حمل منه. لكن المضطر إلى هذا الماء الذي يخاف على نفسه الهلاك من العطش، له أخذ ما يحتاجه منه، ولو بالقوة ليدفع عن نفسه الهلاك، ولكن مع دفع قيمته، لأن (الاضطرار لا يبطل حق الغير). وحق المجرى: هو حق صاحب الأرض البعيدة عن مجرى الماء في إجرائه من ملك جاره إلى أرضه لسقيها. وليس للجار أن يمنع مرور الماء لأرض جاره، وإلا كان له إجراؤه جبراً عنه، دفعاً للضرر عنه. وحق المسيل: هو مجرى على سطح الأرض، أو أنابيب تنشأ لتصريف المياه الزائدة عن الحاجة، أو غير الصالحة حتى تصل إلى مصرف عام أو مستودع، كمصارف الأراضي الزراعية أو مياه الأمطار أو الماء المستعمل في المنازل. والفرق بين المسيل والمجرى: أن المجرى لجلب المياه الصالحة للأرض، والمسيل لصرف الماء غير الصالح عن الأرض أو عن الدار. وحكمه مثل حق المجرى، ليس لأحد منعه إلا إذا حدث ضرر بين.
حق المرور
وحق المرور: هو حق صاحب عقار داخلي بالوصول إلى عقاره من طريق يمر فيه سواء أكان الطريق عاماً غير مملوك لأحد، أم خاصاً مملوكاً للغير. فالطريق العام يحق لكل إنسان المرور فيه. والطريق الخاص: يحق لأصحابه المرور فيه وفتح الأبواب والنوافذ عليه، وليس لهم سده أمام العامة للالتجاء إليه. وحق الجوار: الجوار نوعان: علوي وجانبي، وفيه حقان: أـ حق التعلي: وهو الثابت لصاحب العلو على صاحب السفل، أي الحق الطابقي أو حق العلو. ب ـ حق الجوار الجانبي: وهو الثابت لكل من الجارين على الآخر. ولصاحب حق التعلي حق القرار على الطبقة السفلى، وهو حق ثابت دائماً لصاحب العلو، لا يزول بهدم العقار كله أو انهدام السفل، وله ولورثته إعادة بنائه حين يريد، وليس لصاحب العلو أو السفل أن يتصرف في بنائه تصرفاً يضر بالآخر، وإذا انهدم السفل وجب على صاحبه إعادة بنائه، فإن امتنع أجبر على ذلك قضاء، فإن رفض كان لصاحب العلو البناء ويرجع على الآخر بالنفقات، إذا بني بإذن القاضي أو إذن صاحب السفل، فإن بني من غير إذن رجع بقيمة البناء وقت تمامه، لا بما أنفق؛ لأنه لم يكن وكيلاً بالإنفاق. وليس لصاحب الجوار الجانبي إلا حق واحد وهو ألا يضر أحدهما بصاحبه ضرراً فاحشاً بيِّناً: وهو كل ما يمنع المنفعة الأصلية المقصودة من البناء كالسكنى، أو يكون سبباً لهدم البناء أو وهن فيه. فالضرر في كل أنواع الجوار ممنوع، أما التصرفات التي يُشكل أمرها في الجوار العلوي فلا يعلم أيحصل منها ضرر أم لا، كفتح باب أو نافذة في الطابق
أمور ثلاثة متعلقة بحقوق الارتفاق
الأسفل، أو وضع متاع ثقيل في الطابق الأعلى قد يؤثر في السقف، فهذه مختلف في منعها (¬1). فقال أبو حنيفة: يمنع هذا التصرف إلا بإذن الجار؛ لأن الأصل في تصرفات المالك في ملكه، التي يتعلق بها حق الغير هو المنع والحظر، لأن ملكه ليس خالصاً، فلا يباح له إلا ما يتيقن فيه عدم الضرر، ويتوقف ما عداه على إذن صاحب الحق ورضاه. وهذا الرأي هو المفتى به عند الحنفية. وقال الصاحبان: الأصل في ذلك الإباحة؛ لأن صاحب العلو تصرف في ملكه، والمالك حر التصرف في ملكه مالم يكن فيه ضرر لغيره بيقين، فيمنع منه حينئذ، ويبقى ما عداه على الإباحة، وهذا الرأي في تقديري هو المعقول الواجب الاتباع. فيصبح حكم الجوار الجانبي والعلوي واحداً، وهو إباحة التصرف في الملك ما لم يترتب على ذلك ضرر فاحش بالجار، فإن وقع الضرر، وجب على المتعدي ضمانه، سواء أكان الضرر مباشراً أم بالتسبب. وهو رأي المالكية وباقي المذاهب أيضاً (¬2). أمور ثلاثة متعلقة بحقوق الارتفاق: الأول ـ الفرق بين حق الارتفاق وحق الانتفاع الشخصي: يفترق حق الارتفاق عن حق الانتفاع من نواحٍ أربع تالية: 1 - حق الارتفاق يكون دائماً مقرراً على عقار، فتنقص به قيمة العقار المقرر ¬
الثاني ـ خصائص حقوق الارتفاق
عليه، أما حق الانتفاع الشخصي فقد يتعلق بعقار كوقف العقار أو الوصية به أو إجارته أو إعارته. وقد يتعلق بمنقول كإعارة الكتاب وإجارة السيارة. 2 - حق الارتفاق مقرر لعقار إلا حق الجوار فقد يكون لشخص أو لعقار. أما حق الانتفاع فإنه دائماً مقرر لشخص معين باسمه أو بوصفه. 3 - حق الارتفاق حق دائم يتبع العقار وإن تعدد الملاك. وحق الانتفاع الشخصي مؤقت ينتهي بأحوال معينة كما تقدم. 4 - حق الارتفاق يورث حتى عند الحنفية الذين لا يعدونه مالاً؛ لأنه تابع للعقار. وأما حق الانتفاع فمختلف في إرثه بين الفقهاء كما سبق بيانه. الثاني ـ خصائص حقوق الارتفاق: لحقوق الارتفاق أحكام عامة وخاصة. فأحكامها العامة أنها إذا ثبتت تبقى ما لم يترتب على بقائها ضرر بالغير، فإن ترتب عليها ضرر أو أذى وجب إزالتها، فيزال المسيل القذر في الطريق العام، ويمنع حق الشرب إذا أضر بالمنتفعين، ويمنع سير السيارة في الشارع العام إذا ترتب عليها ضرر كالسير بالسرعة الفائقة، أو في الاتجاه المعاكس، عملاً بالحديث النبوي المتقدم «لا ضرر ولا ضرار» ولأن المرورفي الطريق العام مقيد بشرط السلامة فيما يمكن الاحتراز عنه (¬1). وأما الأحكام الخاصة فسأذكرها في بحث حقوق الارتفاق المخصص لكل نوع منها. ¬
الثالث ـ أسباب حقوق الارتفاق
الثالث ـ أسباب حقوق الارتفاق: تنشأ حقوق الارتفاق بأسباب متعددة منها: 1 - الاشتراك العام: كالمرافق العامة من طرقات وأنهار ومصارف عامة، يثبت الحق فيها لكل عقار قريب منها، بالمرور والسقي وصرف المياه الزائدة عن الحاجة، لأن هذه المنافع شركة بين الناس يباح لهم الانتفاع بها، بشرط عدم الإضرار بالآخرين. 2 - الاشتراط في العقود: كاشتراط البائع على المشتري أن يكون له حق مرور بها، أو حق شرب لأرض أخرى مملوكة له، فيثبت هذان الحقان بهذا الشرط. 3 - التقادم: أن يثبت حق ارتفاق لعقار من زمن قديم لا يعلم الناس وقت ثبوته، كإرث أرض زراعية لها حق المجرى أو المسيل على أرض أخرى؛ لأن الظاهر أنه ثبت بسبب مشروع حملاً لأحوال الناس على الصلاح، حتى يثبت العكس. المطلب الخامس ـ أسباب الملك التام: إن أسباب أو مصادر الملكية التامة في الشريعة أربعة هي: الاستيلاء على المباح، والعقود، والخلفية، والتولد من الشيء المملوك. وفي القانون المدني هي ستة: الاستيلاء على ما ليس له مالك من منقول أو عقار، والميراث وتصفية التركة، والوصية، والالتصاق بالعقار أو بالمنقول، والعقد، والحيازة والتقادم (¬1). ¬
1 - الاستيلاء على المباح
وهذه الأسباب تتفق مع الأسباب الشرعية (¬1) ما عدا الحيازة والتقادم (وضع اليد على مال مملوك للغير مدة طويلة)، فإن الإسلام لا يقر التقادم المُكسِب على أنه سبب للملكية، وإنما هو مجرد مانع من سماع الدعوى بالحق الذي مضى عليه زمن معين (¬2)، توفيراً لوقت القضاة، وتجنباً لما يثار من مشكلات الإثبات، وللشك في أصل الحق. أما أصل الحق فيجب الاعتراف به لصاحبه وإيفاؤه له ديانة. فمن وضع يده على مال مملوك لغيره لا يملكه شرعاً بحال. كذلك لا يقر الإسلام مبدأ التقادم المُسقِط على أنه مسقط للحق بترك المطالبة به مدة طويلة، فاكتساب الحقوق وسقوطها بالتقادم حكم ينافي العدالة والخلق، ويكفي في ذلك أن يصير الغاصب أو السارق مالكاً، إلا أن الإمام مالك في المدونة خلافاً لمعظم أصحابه يرى إسقاط الملكية بالحيازة، كما يرى تملك الشيء بالحيازة، ولكنه لم يحدد مدة للحيازة، وترك تحديدها للحاكم، ويمكن تحديدها عملاً بحديث مرسل رواه سعيد بن المسيب مرفوعاً إلى النبي صلّى الله عليه وسلم عن زيد بن أسلم: «من حاز شيئاً على خصمه عشر سنين، فهو أحق به منه» (¬3). 1 - الاستيلاء على المباح: المباح: هو المال الذي لم يدخل في ملك شخص معين، ولم يوجد مانع شرعي من تملكه كالماء في منبعه، والكلأ والحطب والشجر في البراري، وصيد البر والبحر. ويتميز هذا النوع بما يأتي: ¬
أولا ـ إحياء الموات
أـ أنه سبب منشئ للملكية على شيء لم يكن مملوكاً لأحد. أما بقية أسباب الملكية الأخرى (العقد، الميراث ونحوهما) فإن الملكية الحادثة مسبوقة بملكية أخرى. ب ـ أنه سبب فعلي لا قولي: يتحقق بالفعل أو وضع اليد، فيصح من كل شخص ولو كان ناقص الأهلية كالصبي والمجنون والمحجور عليه. أما العقد فقد لا يصح من هؤلاء أو يكون موقوفاً على إرادة أخرى، وهو سبب قولي. ويشترط للتملك بهذا الطريق أي إحراز المباح شرطان: أولهما ـ ألا يسبق إلى إحرازه شخص آخر، لأن «من سبق إلى ما لم يسبقه إليه مسلم فهو له» كما قال النبي عليه السلام. ثانيهما ـ قصد التملك: فلو دخل الشيء في ملك إنسان دون قصد منه لا يتملكه، كما إذا وقع في حِجْر إنسان، لا يتملكه. ومن نشر شبكته، فإن كان للاصطياد تملك ما يقع فيها، وإن كان للتجفيف لم يتملك ما يقع فيها؛ لأن «الأمور بمقاصدها». والاستيلاء على المباح له أنواع أربعة: أولاً ـ إحياء الموات: أي استصلاح الأراضي البور. والموات: ما ليس مملوكاً من الأرضين: ولا ينتفع بها بأي وجه انتفاع، وتكون خارجة عن البلد. فلا يكون مواتاً: ما كان ملكاً لأحد الناس، أو ما كان داخل البلد، أو خارجاً عنها، ولكنه مرفق لها كمحتطب لأهلها أو مرعى لأنعامهم. والإحياء يفيد الملك لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «من أحيا أرضاً ميتة فهي له» سواء أكان الإحياء بإذن الحاكم أم لا عند جمهور الفقهاء. وقال أبو حنيفة ومالك: لا بد من
ثانيا ـ الاصطياد
إذن الحاكم. وإحياء الأرض الموات يكون بجعلها صالحة للانتفاع بها كالبناء والغرس والزراعة والحرث وحفر البئر. وعمل مستصلح الأرض لإحيائها يسمى فقهاً «التحجير» وقد حدد بثلاث سنين، قال عمر «ليس لمحتجر بعد ثلاث سنين حق». ثانياً ـ الاصطياد: الصيد: هو وضع اليد على شيء مباح غير مملوك لأحد. ويتم إما بالاستيلاء الفعلي على المصيد، أو بالاستيلاء الحكمي: وهو اتخاذ فعل يعجز الطير أو الحيوان أو السمك عن الفرار، كاتخاذ الحياض لصيد الأسماك، أو الشباك، أو الحيوانات المدربة على الصيد كالكلاب والفهود والجوارح المعلمة (¬1). والصيد حلال للإنسان إلا إذا كان محرماً بالحج أو العمرة، أو كان المصيد في حرم مكة المكرمة أو المدينة المنورة، قال تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة، وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً} [المائدة:96/ 5]. والصيد من أسباب الملكية، لكن يشترط في الاستيلاء الحكمي لا الاستيلاء الحقيقي قصد التملك عملاً بقاعدة (الأمور بمقاصدها). فمن نصب شبكة فتعلق بهاصيد، فإن كان قد نصبها للجفاف، فالصيد لمن سبقت يده إليه، لأن نيته لم تتجه إليه. وإن كان قد نصبها للصيد، ملكه صاحبها، وإن أخذه غيره كان متعدياً غاصباً. ولو أفرخ طائر في أرض إنسان كان لمن سبقت إليه يده إلا إذا كان صاحب الأرض هيأها لذلك. وإذا دخل طائر في دار إنسان، فأغلق صاحبها الباب لأخذه، ملكه. وإن ¬
ثالثا ـ الاستيلاء على الكلأ والآجام
أغلقه صدفة، لم يملكه. وهكذا لو وقع الصيد في حفرة أو ساقية، المعوَّل في تملكه على نية صيده، وإلا فلمن سبقت إليه يده. ثالثاً ـ الاستيلاء على الكلأ والآجام: الكلأ: هو الحشيش الذي ينبت في الأرض بغير زرع، لرعي البهائم. والآجام: الأشجار الكثيفة في الغابات أو الأرض غير المملوكة. وحكم الكلأ: ألا يملك، وإن نبت في أرض مملوكة، بل هو مباح للناس جميعاً، لهم أخذه ورعيه، وليس لصاحب الأرض منعهم من ذلك؛ لأنه باق على الإباحة الأصلية، وهو الراجح في المذاهب الأربعة، لعموم حديث: «الناس شركاء في ثلاثة: الماء والكلأ والنار» (¬1). وأما الآجام فهي من الأموال المباحة إن كانت في أرض غير مملوكة. فلكل واحد حق الاستيلاء عليها، وأخذ ما يحتاجه منها، وليس لأحد منع الناس منها، وإذا استولى شخص على شيء منها وأحرزه صار ملكاً له. لكن للدولة تقييد المباح بمنع قطع الأشجار، رعاية للمصلحة العامة، وإبقاء على الثروة الشجرية المفيدة. أما إن كانت في أرض مملوكة فلا تكون مالاً مباحاً، بل هي ملك لصاحب الأرض، فليس لأحد أن يأخذ منها شيئاً إلا بإذنه؛ لأن الأرض تقصد لآجامها، بخلاف الكلأ، لا تقصد الأرض لما فيها من الكلأ. رابعاً ـ الاستيلاء على المعادن والكنوز: المعادن: ما يوجد في باطن الأرض من أصل الخِلقة والطبيعة، كالذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص ونحوها. ¬
حكم المعادن
والكنز: ما دفنه الناس وأودعوه في باطن الأرض من الأموال، سواء في الجاهلية أو في الإسلام. والمعدن والكنز يشملها عند الحنفية كلمة (الركاز): وهو ما ركز في باطن الأرض، سواء أكان خلق الله كفلزات الحديد والنحاس وغيرها، أم كان بصنع الناس كالأموال التي يدفنها الناس فيها. وحكمها واحد في الحديث النبوي: «وفي الركاز الخمس» (¬1). وقال المالكية والشافعية: الركاز: دفين الجاهلية. والمعدن: دفين أهل الإسلام. حكم المعادن: اختلف الفقهاء في تملك المعادن بالاستيلاء عليها، وفي إيجاب حق فيها للدولة إذا وجدت في أرض ليست مملوكة. أما تملك المعادن فللفقهاء فيه رأيان: قال المالكية في أشهر أقوالهم (¬2): جميع أنواع المعادن لا تملك بالاستيلاء عليها، كما لا تملك تبعاً لملكية الأرض، بل هي للدولة يتصرف فيها الحاكم حسبما تقضي المصلحة؛ لأن الأرض مملوكة بالفتح الإسلامي للدولة، ولأن هذا الحكم مما تدعو إليه المصلحة. وقال الحنفية والشافعية والحنابلة في أرجح الروايتين عندهم (¬3): المعادن تملك ¬
الجاهلي
بملك الأرض؛ لأن الأرض إذا ملكت بجميع أجزائها، فإن كانت مملوكة لشخص كانت ملكاً له، وإن كانت في أرض للدولة فهي للدولة، وإن كانت في أرض غير مملوكة فهي للواجد؛ لأنها مباحة تبعاً للأرض. وأما حق الدولة في المعادن فيه رأيان أيضاً: قال الحنفية: في المعادن الخمس؛ لأن الركاز عندهم يشمل المعادن والكنوز بمقتضى اللغة، والباقي للواجد نفسه. وذلك في المعادن الصلبة القابلة للطرق والسحب كالذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص. أما المعادن الصلبة التي لا تقبل الطرق والسحب كالماس والياقوت والفحم الحجري، والمعادن السائلة كالزئبق والنفط، فلا يجب فيها شيء للدولة؛ لأن الأولى تشبه الحجر والتراب، والثانية تشبه الماء، ولا يجب في ذلك شيء للدولة. وقال غير الحنفية: لا يجب في المعادن شيء للدولة، لا الخمس وغيره، وإنما يجب فيها الزكاة، لقول النبي: «العجماء جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس» فأوجب الخمس في الركاز: وهو دفين أهل الجاهلي ة، ولم يوجب في المعدن شيئاً؛ لأن (الجبار) معناه: لا شيء فيه. وإيجاب الزكاة عندهم هو بعموم أدلة الزكاة. حكم الكنز: وأما الكنز فهو ما دفنه الناس، سواء في الجاهلية أم في الإسلام. فهو نوعان: إسلامي وجاهلي: ف الإسلامي: ما وجد به علامة أو كتابة تدل على أنه دفن بعد ظهور الإسلام مثل كلمة الشهادة أو المصحف، أو آية قرآنية أو اسم خليفة مسلم.
المشتبه فيه
والجاهلي: ما وجد عليه كتابة أو علامة تدل على أنه دفن قبل الإسلام كنقش صورة صنم أو وثن، أو اسم ملك جاهلي ونحو ذلك. والمشتبه فيه: وهو مالم يتبين بالدليل أنه إسلامي أو جاهلي، قال فيه متقدمو الحنفية: إنه جاهلي. وقال متأخروهم: إنه إسلامي لتقادم العهد. وإن وجد كنز مختلط فيه علامات الإسلام والجاهلية فهو إسلامي؛ لأن الظاهر أنه ملك مسلم، ولم يعلم زوال ملكه. والكنز الإسلامي: يبقى على ملك صاحبه، فلا يملكه واجده، بل يعد كاللقطة، فيجب تعريفه والإعلان عنه. فإن وجد صاحبه سلم إليه وإلا تصدق به على الفقراء، ويحل للفقير الانتفاع به. هذا رأي الحنفية (¬1). وأجاز المالكية والشافعية والحنابلة (¬2) تملكه والانتفاع به، ولكن إن ظهر صاحبه بعدئذ وجب ضمانه. وأما الكنز الجاهلي: فاتفق أئمة المذاهب على أن خمسه لبيت المال (خزانة الدولة) وأما باقيه وهو الأربعة الأخماس ففيها اختلاف: فقيل: إنها للواجد مطلقاً سواء وجدها في أرض مملوكة أم لا. وقيل: إنها للواجد في أرض غير مملوكة أوفي أرض ملكها بالإحياء. فإن كان في أرض مملوكة فهي لأول مالك لها أو لورثته إن عرفوا، وإلا فهي لبيت المال. هذا وقد خصص القانون المدني السوري (م830) ثلاثة أخماس الكنز لمالك العقار الذي وجد فيه الكنز، وخمسه لمكتشفه، والخمس الأخير لخزينة الدولة. ¬
2 - العقود الناقلة للملكية
2 - العقود الناقلة للملكية: العقود كالبيع والهبة والوصية ونحوها من أهم مصادر الملكية وأعمها وأكثرها وقوعاً في الحياة المدنية؛ لأنها تمثل النشاط الاقتصادي الذي يحقق حاجات الناس من طريق التعامل. أما الأسباب الأخرى للملكية فهي قليلة الوقوع في الحياة. ويدخل في العقود التي هي سبب مباشر للملكية حالتان (¬1): الأولى: العقود الجبرية التي تجريها السلطة القضائية مباشرة، بالنيابة عن المالك الحقيقي، كبيع مال المدين جبراً عنه لوفاء ديونه، وبيع الأموال المحتكرة. فالمتملك يتملك عن طريق عقد بيع صريح بإرادة القضاء. الثانية: نزع الملكية الجبري: وله صورتان: أـ الشفعة: وهي عند الحنفية حق الشريك أو الجار الملاصق بتملك العقار المبيع جبراً على مشتريه بما بذل من ثمن ونفقات. وقصرها الجمهور على الشريك. ب ـ الاستملاك للصالح العام: وهو استملاك الأرض بسعرها العادل جبراً عن صاحبها للضرورة أو المصلحة العامة، كتوسيع مسجد، أو طريق ونحو ذلك. والمتملك من هذا الطريق يتملك بناء على عقد شراء جبري مقدر بإرادة السلطة. وعلى هذا فالعقد المسبب للملكية إما أن يكون رضائياً أو جبرياً، والجبري: إما صريح كما في بيع مال المدين، أو مفترض كما في الشفعة ونزع الملكية. ¬
3 - الخلفية
3 - الخَلَفية: وهي أن يخلف شخص غيره فيما كان يملكه، أو يحل شيء محل شيء آخر، فهي نوعان: خَلَفية شخص عن شخص وهي الإرث. وخلفية شيء عن شيء وهي التضمين. والإرث سبب جبري للتملك يتلقى به الوارث بحكم الشرع مايتركه المورث من أموال التركة. والتضمين: هو إيجاب الضمان أوالتعويض على من أتلف شيئاً لغيره، أو غصب منه شيئاً فهلك أو فقد، أو ألحق ضرراً بغيره بجناية أو تسبب. ويدخل فيه الديات وأروش الجنايات أي الأعواض المالية المقدرة شرعاً الواجبة على الجاني في الجراحات. 4 - التولد من المملوك: معناه أن ما يتولد من شيء مملوك يكون مملوكاً لصاحب الأصل؛ لأن مالك الأصل هو مالك الفرع، سواء أكان ذلك بفعل مالك الأصل، أم بالطبيعة والخلقة. فغاصب الأرض الذي زرعها يملك الزرع عند الجمهور غيرالحنابلة؛ لأنه نماء البذر وهو ملكه، وعليه كراء الأرض، ويضمن لصاحب الأرض نقصانها بسبب الزرع. وثمرة الشجر وولد الحيوان وصوف الغنم ولبنها لمالك الأصل. وقال الحنابلة: الزرع لمالك الأرض، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من زرع في أرض قوم بغير إذنهم، فليس له من الزرع شيء، وله نفقته» (¬1). ¬
الفصل الرابع: نظرية العقد
الفَصْلُ الرّابع: نظريَّةُ العقدِ تمهيد وتخطيط للبحث: التعاقد مع الآخرين وليد الحاجة إلى التعامل، والتعامل ضرورة اجتماعية قديمة ملازمة لنشوء المجتمعات، وتخطي مرحلة الانغلاق والانعزال التي كان يعيشها الإنسان البدائي، فأصبح لا غنى لكل إنسان لكونه مدنياً بالطبع من العيش المشترك مع الجماعة، لتأمين حاجياته، ولا يتم ذلك بدون التبادل والتعاون مع الآخرين. وللمبادلات صور متعددة، تخضع لما يعرف بنظرية العقد، التي تنظم حركة النشاط الاقتصادي، وتضبط أصول التعامل، وحرية التجارة، وتبادل الأعيان والمنافع، ولا تخلو الحياة اليومية لكل فرد من إبرام عقد من العقود، مما يجعل مسيرة الحياة مترعة بالعقود. فتكون نظرية العقد: هي البناء الشرعي الذي يقوم عليه نظام التعاقد. وقد وضع فقهاء الإسلام نظاماً على حدة لكل عقد معروف في عصرهم، ويمكن للباحث أن يستخلص نظرية عامة للعقد من جملة هذه الأنظمة، وبحوث الفقهاء حول تعريفات العقد، وأركانه وشروطه، وأحكامه التي قرروها لكل عقد. وبه يمكن الانتقال من الطابع الاستقرائي والتحليلي للقضايا الفردية الذي سار عليه فقهاؤنا إلى المنهج التركيبي أو النظريات العامة التي يسير عليها الآن فقهاء العصر الحديث في القانون وغيره.
والأصول العامة لنظرية العقد في الفقه الإسلامي تتضح في البحوث السبعة التالية: المبحث الأول: تعريف العقد، والفرق بينه وبين التصرف والالتزام، والإرادة المنفردة والوعد بالعقد. المبحث الثاني: تكوين العقد، وفيه مطالب ثلاثة: المطلب الأول ـ ركن العقد. المطلب الثاني ـ عناصر العقد. 1 - صيغة التعاقد (الألفاظ والإشارات والأفعال والكتابة). 2 - العاقدان 3 - المحل المعقود عليه (شروطه وآثارها في العقد). 4 - موضوع العقد (أو المقصد الأصلي للعقد) نظرية السبب أو (الباعث على العقد) ـ الإرادة الظاهرة والإرادة الباطنة في العقود. المطلب الثالث ـ الإرادة العقدية، ويشتمل على الفروع التالية: 1 - صورية العقد (السكر وما في معناه، الهزل، الخطأ، التلجئة، الإكراه، القصد غير المشروع). 2 - سلطان الإرادة العقدية (مدى الحرية في العقود والشروط). 3 - عيوب الإرادة أو الرضا. المبحث الثالث: شروط العقد
المبحث الأول ـ تعريف العقد
المبحث الرابع: آثار العقد (حكم العقد، النفاذ، الإلزام واللزوم) المبحث الخامس: تصنيف العقود (التقسيمات الخمسة) المبحث السادس: الخيارات (خيار المجلس، الشرط، العيب، الرؤية، التعيين، النقد). المبحث السابع: انتهاء العقد وأوضح هذه المباحث على وفق الترتيب المذكور: المبحث الأول ـ تعريف العقد، والفرق بينه وبين التصرف والالتزام والإرادة المنفردة: تعريف العقد: العقد في لغة العرب: معناه الربط (أو الإحكام والإبرام) بين أطراف الشيء، سواء أكان ربطاً حسياً أم معنوياً، من جانب واحد، أم من جانبين. جاء في المصباح المنير وغيره: عقد الحبل، أو البيع، أو العهد فانعقد. ويقال: عقد النية والعزم على شيء، وعقد اليمين، أي ربط بين الإرادة وتنفيذ ما التزم به. وعقد البيع والزواج والإجارة، أي ارتبط مع شخص آخر. وهذا المعنى اللغوي داخل في المعنى الاصطلاحي الفقهي لكلمة العقد. وللعقد عند الفقهاء معنيان: عام وخاص. أما المعنى العام: الأقرب إلى المعنى اللغوي والشائع عند فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة (¬1) فهو: كل ما عزم المرء على فعله، سواء صدر بإرادة منفردة ¬
المعنى الخاص
كالوقف والإبراء والطلاق واليمين، أم احتاج إلى إرادتين في إنشائه كالبيع والإيجار والتوكيل والرهن، أي أن هذا المعنى يتناول الالتزام مطلقاً، سواء من شخص واحد أو من شخصين، ويشمل حينئذ ما يسمى في المعنى الضيق أو الخاص عقداً، كما يشمل ما يسمى تصرفاً أو التزاماً. فالعقد بالمعنى العام ينتظم جميع الالتزامات الشرعية، وهو بهذا المعنى يرادف كلمة الالتزام. وأما المعنى الخاص الذي يراد هنا حين الكلام عن نظرية العقد فهو: ارتباط إيجاب بقبول على وجه مشروع يثبت أثره في محله (¬1). أو بعبارة أخرى: تعلق كلام أحد العاقدين بالآخر شرعاً على وجه يظهر أثره في المحل (¬2). وهذا التعريف هو الغالب الشائع في عبارات الفقهاء. فإذا قال شخص لآخر: بعتك الكتاب، فهو الإيجاب، وقال الآخر: اشتريت، فهو القبول، ومتى ارتبط القبول بالإيجاب، وكانا صادرين من ذوي أهلية معتبرة شرعاً، ثبت أثر البيع في محله (وهو الكتاب هنا): وهو انتقال ملكية المبيع للمشتري، واستحقاق البائع الثمن في ذمة المشتري. والإيجاب أو القبول: هو الفعل الدال على الرضا بالتعاقد. والتقييد بكونه (على وجه مشروع) لإخراج الارتباط على وجه غير مشروع، كالاتفاق على قتل فلان، أو إتلاف محصوله الزراعي، أو سرقة ماله، أو الزواج بالأقارب المحارم، فكل ذلك غير مشروع لا أثر له في محل العقد. والتقييد بكونه (يثبت أثره في محله) لإخراج الارتباط بين كلامين لا أثر له، كالاتفاق على بيع كل شريك حصته من دار أو أرض لصاحبه بالحصة الأخرى المساوية لها، فهذا لا فائدة منه ولا أثر له. ¬
والعقد قانوناً يلتقي مع هذا التعريف الثاني عند الفقهاء: وهو «توافق إرادتين على إحداث أثر قانوني من إنشاء التزام أو نقله، أو تعديله أو إنهائه» (¬1) فإنشاء الالتزام كالبيع والإجارة، ونقله كالحوالة، وتعديله كتأجيل الدين، وإنهاؤه كالإبراء من الدين، وفسخ الإجارة قبل أوانها، فالتعريفان متقاربان. وهذا التعريف وإن كان واضحاً سهلاً، إلا أن تعريف الفقهاء في نظر الشرعيين أدق؛ لأن العقد ليس هو اتفاق الإرادتين ذاته، وإنما هو الارتباط الذي يقره الشرع، فقد يحدث الاتفاق بين الإرادتين، ويكون العقد باطلاً لعدم توافر الشروط المطلوبة شرعاً، فالتعريف القانوني يشمل العقد الباطل. ثم إن مجرد توافق الإرادتين بدون واسطة للتعبير عنهما من كلام أو إشارة أو فعل لا يدل على وجود العقد، وتظل الإرادة حينئذ أمراً خفياً غير معروف. وبذلك يشمل التعريف القانوني الوعد بالعقد مع أنه ليس بعقد (¬2). والعقد في القانون المدني أحد أنواع الاتفاق، فليس كل اتفاق عقداً، وإنما يتخصص العقد بما يمثل التعارض بين مصلحتين، وبما ينصب على محل وقتي يستنفد وينتهي بالتنفيذ مرة واحدة، فالاتفاق على إنشاء منظمة لا يعتبر عقداً، لأنه لا يمثل تعارضاً في المصالح، ولأن محل العقد هو وضع دائم مستمر، وليس وضعاً وقتياً يستنفد مرة واحدة. أما العقد في الفقه الإسلامي فلا يعرف هذا التخصيص، فالزواج عقد، والإسلام عقد، والذمة عقد، مع أنها نظم دائمة، وقد لا تقوم على تحكيم المصلحة ¬
العقد والالتزام
والعقد في الإسلام: هو دائماً انضمام لنظام موجود من قبل، هو النظام النوعي للعقد المبرم الذي وضعه الشرع ليسير عليه الناس. وما على الأفراد إلا التقيد التام بأحكام الشرع التي نظم العقود عليها. والخلاصة: أن العقد في القانون أداة لإدراك مصلحة ذاتية شخصية لكل من المتعاقدين، وأما في الإسلام فهومعد لإدراك مقاصد شرعية عامة. العقد والالتزام: الالتزام: هو كل تصرف يتضمن إنشاء حق أو نقله أو تعديله أو إنهاءه سواء أكان صادراً من شخص واحد كالوقف والإبراء والطلاق على غير مال، أم من شخصين كالبيع والإجارة والطلاق على مال. فالالتزام يرادف كلمة العقد بالمعنى العام الذي ذكر، ويختلف عن كلمة العقد بالمعنى الخاص، فالعقد مقصور على نوع خاص من الالتزام وهو ماكان صادراً من شخصين كالبيع والإيجار والرهن ونحوه، والالتزام من ذلك فيشمل ما صدر من شخص واحد كالوقف والنذر واليمين ونحوه، كما يشمل ما صدر من شخصين أو وجد بإرادتين مزدوجتين كالبيع والإجارة. العقد والتصرف: التصرف: هو كل ماصدر عن الشخص بإرادته من قول أو فعل، يرتب عليه الشرع أثراً من الآثار، سواء أكان في صالح ذلك الشخص أم لا. فيشمل الأقوال الصادرة عن الشخص كالبيع والهبة والوقف والإقرار بحق، والأفعال كإحراز المباحات والاستهلاك والانتفاع، سواء أكان القول أو الفعل لصالح الشخص كالبيع والاصطياد، أم لغير صالحه كالوقف والوصية، والسرقة والقتل.
العقد والإرادة المنفردة
وبه يتبين أن التصرف نوعان: فعلي وقولي. أما التصرف الفعلي: فهو الواقعة المادية الصادرة عن الشخص كالغصب والإتلاف وقبض الدين وتسلم المبيع. أما التصرف القولي فهو نوعان: عقدي وغير عقدي. أما العقدي فهو اتفاق إرادتين كالشركة والبيع، وغير العقدي قد يكون مجرد إخبار بحق كالدعوى والإقرار، وقد يقصد به إنشاء حق أو إنهاءه كالوقف والطلاق والإبراء. وعلى هذا فإن التصرف أعم من العقد والالتزام إذ أنه يشمل الأقوال والأفعال، وينتظم الالتزام وغير الالتزام، وقد يكون التصرف القولي غير داخل في معنى العقد ولو بمعناه الواسع أو العام كالدعوى والإقرار. والخلاصة: أن التصرف أعم من العقد والالتزام. والعقد بالمعنى العام والالتزام مترادفان متساويان، والالتزام أعم من العقد بالمعنى الخاص، والعقد بمعناه الخاص نوع من الالتزام، وأخص من كلمة تصرف. فكل عقد هو تصرف، وليس كل تصرف عقداً. العقد والإرادة المنفردة: قد تستقل الإرادة الواحدة بإنشاء التزام، كما قد تنشئ أحياناً عقداً من العقود في أحوال استثنائية، عملاً بالنزعة الموضوعية للالتزام أو بالمذهب المادي الذي نلاحظه في الفقه الإسلامي، والذي يعد الالتزام فيه علاقة مالية أكثر منه علاقة شخصية بين طرفين: دائن ومدين. والالتزام بإرادة واحدة: معناه التعهد بشيء يصبح به المتعهد مديناً لآخر غير
1 - الجعالة
موجود حين إنشاء الالتزام كالوعد بالمكافأة أو بالجائزة للمتفوقين من الناجحين، أو لمن يصنع دواء لعلاج مرض معين مثلاً. وأمثلة الالتزام بإرادة واحدة في الفقه الإسلامي كثيرة منها: 1 - الجعالة: هي التزام جعل (¬1) أو أجر معين لمن يقوم بعمل معين، بدون تحديد أمد معين، وهي عقد جائز غير لازم كتقديم مكافأة لمن يرد متاعاً ضائعاً، أو يبني حائطاً أو يحفر بئراً يصل إلى الماء، أو ينجح نجاحاً متفوقاً في امتحان، أو يحقق نصراً حربياً على العدو، أو يشفي مرضاً معيناً، أو يبتكر علاجاً ناجعاً، أو يخترع اختراعاً صناعياً، أو يحفظ القرآن الكريم. وقد أجازها جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة (¬2) عملاً بقصة يوسف عليه السلام مع إخوته: {قالوا: نفقد صُواع (¬3) الملك، ولمن جاء به حمل بعير، وأنا به زعيم} [يوسف:12/ 72]، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام يوم حُنين: «من قتل قتيلاً فله سلبه» (¬4). ولم يجزها الحنفية (¬5)، لما فيها من الغرر والخطر أي الجهالة والاحتمال بالنسبة للملتزم وبالنسبة للقائم بالعمل الذي لا يدري ما يحتاجه من مجهود لإنجاز العمل. ¬
2 - الوقف
والقانون المدني السوري في المادة (163) نظم الوعد بجائزة: وهو تخصيص أجر لشخص لن يتعين إلا بتنفيذ الأداء الذي حدده الواعد. وأجاز الرجوع عنه إذا لم يعين الواعد أجلاً للقيام بالعمل. 2 - الوقف: هو حبس المال عن التصرف، وتخصيص ريعه لجهة بر، تقرباً إلى الله تعالى، كالوقف على دور العلم وجهات الخير كالمشافي والمدارس والمصانع الحربية، والوقف لفلان، ثم على جهة خير معينة. وينعقد الوقف بإرادة الواقف وحده، فإن كان على شخص فله حق الرد، فيصرف إلى جهة الخير أو البر التي عينها الواقف. 3 - الإبراء: إسقاط شخص ماله من حق لدى شخص آخر، كإسقاط الدائن دينه المستقر في ذمة مدينه. يتم بدون حاجة لقبول المدين، إلا أنه يرتد برده في مجلس الإبراء، لما فيه من معنى التمليك (أي تمليك الدين للمدين)، دفعاً للمِنَّة والجميل الذي يصنعه الدائن له، والإنسان لا يملّك شيئاً جبراً عنه. فهو من قبيل الإسقاطات عند جمهور الفقهاء غير المالكية. قال المالكية على ما هو راجح عندهم: يحتاج الإبراء إلى قبول المبرأ؛ لأنه من قبيل التمليكات التي يشترط فيها القبول كالهبة والصدقة. 4 - الوصية: تمليك مضاف إلى ما بعد الموت بطريق التبرع، سواء أكان المملك عيناً أم منفعة، كالوصية بمبلغ من المال أو بمنفعة دار لفلان أو لجهة خير بعد وفاة الموصي، فهي عقد يتم بإرادة واحدة هي إرادة الموصي، وتتحقق بإيجابه (أو عبارته أو كتابته أو إشارته المفهمة) فيكون ركن الوصية هو الإيجاب من الموصي فقط، إلا أنها ترتد بالرد عند الحنفية (¬1)؛ لأنه ليس له إلزامه على قبولها. ¬
5 - اليمين
واتفق الفقهاء على أن الوصية من العقود الجائزة غير اللازمة أي أن للموصي أن يرجع فيما أوصى به. فالإيجاب بالوصية هو ركن الوصية. وأما القبول من الموصى له بعد وفاة الموصي فليس بركن للوصية، ولكنه على الراجح عند فقهاء المالكية والحنفية والشافعية والحنابلة (¬1) شرط للزوم الوصية ودخول الموصى به في ملك الموصى له من بعد الموت. فالحقيقة الشرعية للوصية عندهم تكون بالإيجاب من الموصي فقط، ولا تتوقف على قبول الموصى له. وتنفذ الوصية من ثلث التركة، ولا وصية جائزة للوارث إلا بإجازة الورثة، كما لا تجوز الوصية لغير الوارث بما زاد عن ثلث التركة إلا بموافقة الورثة. 5 - اليمين: عقد قوي به عزم الحالف على الفعل أو الترك (¬2)، مثل والله لأكرمنَّ جاري، أو لأعلمنَّ هذا اليتيم على نفقتي، فيجب عليه ديانةً الوفاء بيمينه، فإن لم يوفّ به، حنث في يمينه ولزمته كفارة اليمين. 6 - الكفالة: عند غير الحنفية: ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه في التزام الحق أي في الدين، فيثبت الدين في ذمتهما معاً. واقتصر الحنفية على أن الضم محصور في المطالبة بالدين. فالكفالة: التزام الكفيل بالدين بأدائه إلى الدائن بدلاً من من المدين عند مطالبته. وهي توجد بمجرد التزام الكفيل بالدين ورضاه به عند المالكية والشافعية والحنابلة وأبي يوسف من الحنفية (¬3)، أي أن ركن الكفالة هو ¬
العقد بإرادة منفردة
الإيجاب وحده، وأما القبول من الدائن أو المدين فليس ركناً عند هؤلاء. فتكون التزاماً جانب واحد. وقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن (¬1): ركن الكفالة: الإيجاب من الكفيل، والقبول من الدائن. العقد بإرادة منفردة: الأصل العام في العقود أن يكون العاقد متعدداً، أي أن العقد ينشأ بإيجاب وقبول يعبر كل واحد منهما عن إرادة صاحبه؛ لأن العقد ينشئ آثاراً متعارضة وحقوقاً أو التزاماتٍ متضادة، مثل تسليم المبيع وتسلمه، والمطالبة بتسليم المبيع وقبض الثمن، ورد المبيع بالعيب، وفسخ العقد بالخيارات، ويستحيل أن يكون الشخص الواحد في زمان واحد مسلِّماً ومتسلماً، طالباً ومطالباً، مملكاً ومتملكاً، مما يوجب أن يكون العقد من طرفين، لكل منهما إرادته وعبارته والتزامه، لا من شخص واحد ليس له إلا إرادة واحدة. لكن استثناء من هذا الأصل يجوز عند بعض الفقهاء إبرام العقد بعاقد واحد في بعض حالات البيع والزواج. البيع بعاقد واحد: أجاز الحنفية ما عدا زفر (¬2) انعقاد البيع بإرادة شخص واحد متخذاً صفتين بالنيابة عن البائع وعن المشتري، في حالات نادرة هي شراء الأب، أو وصيه، أو الجد، مال الصغير لنفسه، أو بيع مال نفسه من الصغير، وبيع القاضي والرسول ¬
عن طرفي العقد؛ لأن القاضي لا ترجع إليه حقوق العقد أي (لا يلتزم بشيء من التزامات العقد كالتسليم ودفع الثمن)، فكان بمنزلة الرسول، والرسول بعكس الوكيل عن الجانبين لا تلزمه حقوق العقد؛ لأنه سفير ومعبر عن كلام الأصيل، فجاز لكل من القاضي والرسول تولي العقد عن الجانبين. ولا يجوز ذلك للوكيل من الجانبين. لكن تعامل الأب مع الصغير لنفسه مقيد بأن يكون السعر بمثل قيمة الشيء، أو بشيء يسير من الغبن المعتاد حدوثه بين الناس عادة؛ لأن الأب مفترض فيه كمال الشفقة والرحمة ووفرة الرعاية لمصلحة الصغير. وأما وصي الأب فمقيد تعامله مع الصغير عند أبي حنيفة وأبي يوسف بأن يكون تصرفه بمال الصغير لنفسه بمثل القيمة، أو بما فيه نفع ظاهر (أو خير بيّن) لليتيم (¬1)، لأنه مرضي الأب، والظاهر ما رضي به إلا لوفور شفقته على الصغير. ولم يجز محمد بن الحسن تصرف الوصي بمال الصغير لنفسه بمثل القيمة؛ لأن التساهل في الأب لكمال شفقته بخلاف الوصي. وأجاز الحنابلة أن يتولى عاقد واحد عن الجانبين كالوكيل عن الطرفين عقد البيع ونحوه من عقود المعاوضات الأخرى كالإجارة مثلاً؛ لأن حقوق العقد وآثاره أو التزاماته ترجع عندهم للموكل نفسه صاحب الشأن. كما أجازوا ذلك أيضاً في عقد الزواج، وفي الدعوى، فيصح أن يكون الشخص الواحد وكيلاً في الدعوى عن المدعي والمدعى عليه، ممثلاً مصلحة الطرفين ومقيماً الحجة أو الدفوع لكل منهما (¬2). ¬
الزواج بعاقد واحد
وروي عن الإمام مالك أن للوكيل والوصي أن يشتريا لأنفسهما من مال الموكل واليتيم، إذا لم يحابيا أنفسهما (¬1). الزواج بعاقد واحد: أجاز جمهور الحنفية ما عدا زفر للشخص الواحد أن يتولى طرفي عقد الزواج بإيجاب يقوم مقام القبول في خمس صور (¬2). 1 - إذا كان الشخص ولياً من الجانبين: كأن يزوج الجد بنت ابنه الصغيرة لابن ابنه الصغير. 2 - إذا كان وكيلاً من الجانبين: كأن يقول: زوجت موكلي فلاناً موكلتي فلانة. 3 - إذا كان أصيلاً من جانب وولياً من جانب آخر، كأن يتزوج ابن عم بنت عمه الصغيرة التي تحت ولايته، فيقول أمام الشهود: تزوجت بنت عمي فلانة. 4 - إذا كان أصيلاً من جانب ووكيلاً من جانب آخر، كما لو وكلت امرأة رجلاً ليزوجها من نفسه. 5 - إذا كان ولياً من جانب ووكيلاً من جانب، مثل زوجت بنتي من موكلي. والسبب في مشروعية انعقاد الزواج في هذه الأحوال أن العاقد ليس إلا سفيراً عن الأصيل ومعبراً عنه، فلا يتحمل شيئاً من التزامات العقد، والواحد يصلح أن يكون معبراً عن اثنين بصفتين مختلفتين. ¬
وقال الشافعي (¬1): «يجوز الزواج بعاقد واحد إذا كان ولياً من الجانبين وذلك في حالة الجد فقط، له أن يزوج حفيديه ببعضهما، ويتولى وحده العقد عن الطرفين، وذلك للضرورة لعدم وجود ولي آخر من درجته، ولقوة ولايته وشفقته دون سائر الأولياء». والخلاصة: إن العقد بالمعنى الخاص لا يتحقق بإرادة منفردة، بل لا بد لتحققه من توافق أواجتماع إرادتين. وأما انعقاد البيع أو الزواج في الحالات السابقة، وإن اقتصر فيه على شخص واحد، إلا أنه في الحقيقة يمثل صفتين، فقامت عبارة الشخص الواحد التي تدل على إرادتين متوافقتين مقام العبارتين من عاقدين مختلفتين (¬2). وهناك فرق ثان بينهما من ناحية الحكم (أي الأثر المترتب على العقد)، وهو أن العقد يلزم الوفاء به من العاقد ديانة وقضاء باتفاق الفقهاء، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة:1/ 5] وقوله سبحانه: {وأوفوا بالعهد} [الإسراء:34/ 17]. أما الوعد فلا يلزم الوفاء به قضاء، بل الوفاء به مندوب مطلوب ديانة ومن مكارم الأخلاق. فلو وعد شخص غيره ببيع أو قرض أو هبة مثلاً لا يجبر على الوفاء بوعده بقوة القضاء، بل يندب له تنفيذه ديانة؛ لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لمَ تقولون ما لا تفعلون، كبُر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} [الصف:2/ 61 - 3] وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» (¬3). ¬
هذا هو السائد عند الفقهاء، لكن توجد آراء قد تكون مخالفة للرأي السائد، وقد تكون ملطفة أحياناً بجعل الوعد ملزماً قضاء في بعض الحالات. قال ابن شبرمة (¬1): يلزم الواعد ويجبر على الوفاء بوعده قضاء. وقال الحنفية: يلزم الوعد إذا صدر معلقاً على شرط منعاً لتغرير الموعود. وعبروا عن ذلك بقاعدة فقهية: (المواعيد بصورة التعاليق تكون لازمة) (م 38 مجلة) وقال ابن نجيم: «لا يلزم الوعد إلا إذا كان معلقاً» مثل أن يقول شخص لآخر: إذا لم يعطك فلان ثمن المبيع، فأنا أعطيه لك. فيلزمه إعطاؤه حينئذ؛ لأن الوعد اكتسى صفة الالتزام والتعهد. وقال المالكية (¬2): يلزم الواعد بوعده قضاء إن أدخل الموعود في سبب أو وعده مقروناً بذكر السبب، كما قال أصبغ من فقهائهم لتأكد العزم على الدفع حينئذ. مثال الحالة الأولى أن يقول لآخر: اهدم دارك وأنا أقرضك ما تبني به الدار، أو اخرج إلى الحج وأنا أقرضك، أو اشتر سلعة، أو تزوج امرأة وأنا أسلفك، ففعل الموعود ذلك، فيجب عليه الإقراض لأنه أدخل الموعود في الالتزام. ومثال الحالة الثانية عند أصبغ: أن يقول شخص لآخر: تزوج أو اشتر، وأنا أقرضك، فيلزمه الوفاء بوعده ولو لم يباشر الموعود فعل الزواج أو الشراء أي سواء تزوج الموعود أو اشترى أم لا، يلزم الواعد بما وعد، دفعاً للضرر الحاصل للموعود من تغرير الواعد. فإن وعده بدون ذكر السبب، كأن يقول شخص لآخر: أسلفني كذا، فيقول ¬
المبحث الثاني ـ تكوين العقد
المخاطب: نعم، لا يلزمه الوعد. والقوانين الوضعية المدنية تتفق مع رأي ابن شبرمة وبعض المالكية على أن الوعد بعقد أو بعمل ملزم قانوناً. المبحث الثاني ـ تكوين العقد يشتمل هذا المبحث على مطالب ثلاثة: المطلب الأول ـ ركن العقد: الركن في اصطلاح علماء الأصول من الحنفية: هو ما يتوقف عليه وجود الشيء وكان جزءاً داخلاً في حقيقته. ففي العبادات يعد الركوع والسجود وقراءة القرآن أركاناً للصلاة. وفي المعاملات: الإيجاب والقبول أو ما يقوم مقامهما هو ركن العقد. فركن العقد: هو كل ما يعبر به عن اتفاق الإرادتين أو ما يقوم مقامهما من فعل أو إشارة أو كتابة (¬1). هذا هو مذهب الحنفية، وأما بقية العناصر أو المقومات التي يقوم عليها العقد من محل معقود عليه، وعاقدين، فهي لوازم لا بد منها لتكوين العقد، لأنه يلزم من وجود الإيجاب والقبول وجود عاقدين، ولا يتحقق ارتباط العاقدين إلا بوجود محل يظهر فيه أثر الارتباط. وغير الحنفية (¬2) يقولون: إن للعقد أركاناً ثلاثة هي عاقد ومعقود عليه وصيغة. فالعاقد في البيع هو البائع والمشتري، والمعقود عليه هو الثمن والمثمن، والصيغة هي الإيجاب والقبول، باعتبار أن الركن عند الجمهور: هو ما يتوقف عليه وجود الشيء وإن لم يكن جزءاً داخلاً في حقيقته. ¬
تعريف الإيجاب والقبول
وأياً كان هذا الاختلاف فهو اصطلاح لا تأثير له من حيث النتيجة. تعريف الإيجاب والقبول: الإيجاب والقبول يكوِّنان صيغة العقد، أي العبارات الدالة على اتفاق الطرفين المتعاقدين. وتعريفهما عند الحنفية (¬1) ما يأتي: الإيجاب: إثبات الفعل الخاص الدال على الرضا الواقع أولاً من كلام أحد المتعاقدين، أو ما يقوم مقامه، سواء وقع من المملك أو المتملك (¬2). فقول العاقد الأول في البيع هو الإيجاب، سواء صدر من البائع أو من المشتري. فإذا قال البائع أولاً (بعت) فهو الإيجاب. وإذا ابتدأ المشتري الكلام فقال: (اشتريت بكذا) فهو الإيجاب. والقبول: ما ذكر ثانياً من كلام أحد المتعاقدين، دالاً على موافقته ورضاه بما أوجبه الأول (¬3). فالمعتبر إذن: أولية الصدور وثانويته فقط، سواء أكان من جهة البائع أم من جهة المشتري في عقد البيع. وعند غير الحنفية (¬4): الإيجاب: هو ما صدر ممن يكون منه التمليك وإن جاء ¬
المطلب الثاني ـ عناصر العقد
متأخراً، والقبول: هو ما صدر ممن يصير له الملك، وإن صدر أولاً. ففي عقد البيع: إذا قال المشتري: اشتريت منك هذه البضاعة بكذا، وقال البائع: بعته لك بهذا الثمن، انعقد البيع، وكان الإيجاب ما صدر عن البائع، لأنه المملك، والقبول: ما صدر من المشتري، وإن صدر أولاً. والواقع أن تسمية إحدى عبارتي العاقدين إيجاباً، والأخرى قبولاً هي تسمية اصطلاحية، ليس لها أثر يذكر، والأصل العام في الإيجاب أن يقع من البائع أولاً، ويقع القبول من المشتري ثانياً. المطلب الثاني ـ عناصر العقد: عناصر العقد: هي مقوماته الذاتية التي ينشأ بها العقد، ولا يتحقق إلا بوجودها، وهي أربعة: صيغة التعاقد، والعاقدان، ومحل العقد، وموضوع العقد. العنصر الأول ـ صيغة العقد: صيغة العقد: هي ما صدر من المتعاقدين دالاً على توجه إرادتهما الباطنة لإنشاء العقد وإبرامه. وتعرف تلك الإرادة الباطنة بواسطة اللفظ أو القول أو ما يقوم مقامه من الفعل أو الإشارة أو الكتابة. وهذه الصيغة هي الإيجاب والقبول. وقد اتفقت الشرائع على أن مدار وجود العقد وتحققه هو صدور ما يدل على التراضي من كلا الجانبين بإنشاء التزام بينهما. وهذا هو ما يعرف بصيغة العقد عند فقهائنا. ويسمى عند القانونيين (التعبير عن الإرادة). والبحث فيها يكون ببيان أساليب الصيغة، وشروطها.
الفرع الأول ـ أساليب صيغة الإيجاب والقبول
الفرع الأول ـ أساليب صيغة الإيجاب والقبول: التعبير عن الإرادة العقدية الجازمة يكون بأي صيغة تدل عرفاً أو لغة على إنشاء العقد، سواء بالقول أو بالفعل أو بالإشارة أو بالكتابة، وقد نصت على هذه الأساليب المادة (173) و (174) من المجلة، كما نصت عليها المادة (1/ 93) من القانون المدني السوري. أولاً ـ اللفظ (أو القول): اللفظ: هو الأداة الطبيعية الأصلية في التعبير عن الإرادة الخفية وهو الأكثر استعمالاً في العقود بين الناس لسهولته وقوة دلالته ووضوحه، فيلجأ إليه متى كان العاقد قادراً عليه، وبأي لغة يفهمها المتعاقدان. ولا يشترط فيه عبارة خاصة، وإنما يصح بكل ما يدل على الرضا المتبادل بحسب أعراف الناس وعاداتهم؛ لأن الأصل في العقود هو الرضا، لقوله تعال: {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء:29/ 4] وقوله عليه الصلاة والسلام: «إنما البيع عن تراض». مادة اللفظ: وعليه فلا يشترط في العقود كالبيع والإيجار والرهن والهبة ونحوها لفظ معين أو عبارة مخصوصة، كأن يقول البائع: بعت بكذا، أو ملكته لك بكذا، أو أعطيته لك بكذا، أو وهبته بثمن كذا. ويقول المشتري: اشتريت، أو قبلت، أو رضيت، أو خذ الثمن وهات المبيع. أما عقد الزواج فاختلف الفقهاء في شأن الألفاظ المستعملة فيه، نظراً لخطورته وقداسته. فقال الحنفية والمالكية (¬1): يصح انعقاد الزواج بكل لفظ يدل على تمليك ¬
العين في الحال، كالتزويج والنكاح والتمليك، والجعل، والهبة والعطية والصدقة، بشرط توافر النية أو القرينة الدالة على أن المراد باللفظ هو الزواج، وبشرط فهم الشهود للمقصود؛ لأن عقد الزواج كغيره من العقود التي تنشأ بتراضي العاقدين، فيصح بكل لفظ يدل على تراضيهما وإرادتهما. وقد ورد لفظ (الهبة) في القرآن الكريم دالاً على صحة استعماله لإبرام الزواج، كما ورد في السنة النبوية استعمال عبارة (التمليك). أما الوارد في القرآن فقوله تعالى: {وامرأةً مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين} (¬1) الخصوصية للنبي صلّى الله عليه وسلمفيقولهتعالى {خالصة لك} [الأحزاب:50/ 33] ليست في انعقاد زواجه بلفظ «الهبة» وإنما في صحة زواجه بغير مهر. وأما الوارد في السنة فقوله عليه السلام لخاطب من الصحابة يحفظ سوراً من القرآن: «ملّكتكها بما معك من القرآن» (¬2). ولا يصح الزواج بلفظ لا يفيد الملك كإجارة وإعارة ووصية ورهن ووديعة ونحوها، ولا بالألفاظ المصحفة مثل تجوزت. وقال فقهاء الشافعية والحنابلة (¬3): يشترط لصحة عقد الزواج استعمال لفظي «زوج أو نكح» وما يشتق منهما لمن يفهم اللغة العربية. أما من لا يعرف اللغة العربية فيصح الزواج منه بالعبارة التي تؤدي الغرض المقصود، وتفهم هذا المعنى؛ لأن عقد الزواج له خطورة لوروده على المرأة وهي حرة، وشرع لأغراض سامية ¬
صيغة اللفظ أو نوع الفعل
منها تكثير النسل وبقاء النوع الإنساني، وتكوين الأسر، ففيه معنى التعبد لله، بتكثير عباد الله الذين يعبدونه، مما يوجب علينا التزام ما ورد به الشرع، ولم يرد في القرآن الكريم إلا هذان اللفظان فقط وهما (النكاح والتزويج) وذلك في أكثر من عشرين آية: منها: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} (¬1) [النساء4/ 3] ومنها {فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها} (¬2). ويمكن أن يكون رأي الحنفية والمالكية أرجح، لأن الزواج كغيره من العقود، فيصح بكل لفظ ينبئ عن الرضا والإرادة. صيغة اللفظ أو نوع الفعل: اتفق الفقهاء على صحة انعقاد العقد بالفعل الماضي، لأن صيغته أدل على المراد وأقرب إلى تحقيق مقصود وهو إنشاؤها في الحال، فينعقد بها العقد من غير توقف على شيء آخر كالنية أو القرينة، وقد تعارف الناس استعمال هذه الصيغة (¬3)، وأقرهم الإسلام عليها واستعملها الرسول صلّى الله عليه وسلم في جميع العقود، لإفادتها تنجيز العقد حالاً ودلالتها على الإرادة الجازمة وحدوث الشيء قطعاً من غيراحتمال معنى آخر، مثل بعت، واشتريت، ورهنت، ووهبت، وزوجت، وأعرت، وقبلت، ونحو ذلك. واتفق الفقهاء أيضاً على الانعقاد بصيغة المضارع إذا توافرت نية الحال أو دلت القرينة على إرادة إنشاء العقد حالاً؛ لأن المضارع يدل على الحال ¬
والاستقبال، ففيه احتمال الوعد والمساومة، فكان لا بد من النية لتعيين المراد في الحال، وإنشاء العقد حالاً، مثل أبيع وأشتري وأزوجك وأقبل وأرضى. وينعقد العقد بالجملة الاسمية على الأصح، مثل أنا بائع لك كذا، أو واهب لك كذا، فقال آخر: أنا قابل: أو قال: نعم. واختلف الفقهاء في انعقاد العقد بلفظ الأمر الذي يعبر به عن المستقبل، مثل: بعني أو اشتر مني، أو آجرني، أو خذه بكذا. فقال الحنفية (¬1): إن ماعدا عقد الزواج لا ينعقد عقده بلفظ الأمر، ولو نوى ذلك، ما لم يقل القائل الآمر مرة أخرى في المثال السابق: اشتريت، أو بعت، أو استأجرت؛ لأن لفظ الأمر مجرد طلب وتكليف، فلا يكون قبولاً ولا إيجاباً. أو كانت العبارة تنبئ عن إيجاب أو قبول مقدر (مفهوم ضمناً) يقتضيه المعنى ويستلزمه كأن يقول المشتري: اشتريت منك هذا بكذا، فقال البائع: خذه، والله يبارك لك، فكأنه قال: بعتك فخذه (المجلة: م 172). وأما عقد الزواج فيصح بصيغة الأمر مثل: زوجيني نفسك، فقالت: زوجتك، أو قال الرجل لولي المرأة أو وكيلها: زوجني فلانة، فأجاب: زوجتك، لأن لفظ الأمر للمساومة، وعقد الزواج يسبق عادة بالخطبة، فلا يقصد بهذا الأمر الوعد والمساومة، وإنما المقصود به إنشاء العقد، لا مقدمات العقد وهي الخطبة، فيحمل على الإيجاب والقبول. أما غير الزواج كالبيع مثلاً، فإنه يحصل فجأة بدون مقدمات غالباً، فيكون الأمر فيه مساومة، عملاً بحقيقة لفظ الأمر، ويكون المراد به العدة أو المساومة، ولا يعدل عن المعنى الحقيقي للفظ إلى شيء آخر إلا بدليل، ولم يوجد الدليل في البيع، بخلاف الزواج، كما تقدم. ¬
ثانيا ـ التعاقد بالأفعال (العقد بالمعاطاة)
وقال جمهور الفقهاء غير الحنفية (¬1): ينعقد العقد بلفظ الأمر بدون حاجة للفظ ثالث من الآمر، سواء أكان بيعاً أم زواجاً؛ لأن أساس العقد هو التراضي، وقد جرى العرف على استعمال صيغة الأمر في إنشاء العقود كالماضي والمضارع، فينعقد بها العقد، ويكون الآمر أو المستدعي عاقداً فعلاً: بائعاً أو مشترياً مثلاً، وهذا الرأي هو الأرجح لما فيه من تحقيق مصالح الناس ومراعاة أعرافهم وعاداتهم دون مصادمة النصوص الشرعية. واتفق الفقهاء على عدم انعقاد العقد بصيغة الاستقبال: وهي صيغة المضارع المقرون بالسين أو سوف مثل: سأبيعك؛ لأن ذكر السين يدل على إرادة العقد في المستقبل، فهو وعد بالعقد وليس عقداً، أي أنه يدل على عدم إرادة الحال، فلا ينعقد بها العقد، حتى ولو نوى بها العاقد الإيجاب والقبول. كذلك لا ينعقد العقد بصيغة الاستفهام، لدلالتها على المستقبل، لأنها سؤال الإىجاب والقبول، وليست إيجاباً ولا قبولاً، كأن يقول المشتري: أتبيع مني هذا الشيء؟ فقال البائع: بعت، لا ينعقد العقد إلا إذا انضم لذلك لفظ ثالث يقوله المشتري مرة أخرى: اشتريت؛ لأن لفظ الاستفهام لا يستعمل للحال حقيقة. ثانياً ـ التعاقد بالأفعال (العقد بالمعاطاة): قد ينعقد العقد بدون قول أو لفظ، وإنما بفعل يصدر من المتعاقدين ويسمى في الفقه بالمعاطاة أو التعاطي أو المراوضة: وهو التعاقد بالمبادلة الفعلية الدالة على التراضي دون تلفظ بإيجاب أو قبول (¬2). ¬
الأول ـ مذهب الحنفية والحنابلة
مثل أن يأخذ المشتري المبيع، ويدفع للبائع الثمن، أو يدفع البائع المبيع، فيدفع له الآخر ثمنه من غير تكلم ولا إشارة، سواء أكان المبيع حقيراً أم نفيساً. ففي البيع لو وجد الرجل سلعة مسعرة كتب عليها الثمن كساعة أو حلي، فناول الثمن للبائع وأخد السلعة دون إيجاب وقبول لفظيين، انعقد البيع لدلالته على التراضي في عرف الناس. كذلك ينعقد لو اقتصر المشتري على دفع عربون؛ لأنه جزء من الثمن. وفي الإجارة: لو ركب الإنسان سيارة من وسائل النقل، ثم دفع ثمن التذكرة إلى الجابي دون كلام متبادل صح الإيجار عرفاً. لكن الفقهاء اختلفوا في التعاقد بالتعاطي في العقود المالية على أقوال ثلاثة: الأول ـ مذهب الحنفية (¬1) والحنابلة (¬2): ينعقد العقد بالتعاطي فيما تعارفه الناس، سواء أكان الشيء يسيراً كالبيضة والرغيف والجريدة أم نفيساً (كثير الثمن) كالدار والأرض والسيارة؛ لأن تعارف الناس دليل ظاهر على التراضي، سواء تمت المبادلة الفعلية من الجانبين، أو من جانب واحد ومن الآخر اللفظ على الأصح المفتى به، وسواء في ذلك البيع والإجارة والإعارة والهبة والرجعة. وذلك بشرط أن يكون ثمن المعقود عليه معلوماً تماماً، وإلا فسد العقد، وألا يصرح العاقد مع التعاطي بعدم الرضا بالعقد. والقانون المدني السوري يتفق مع هذا الرأي، كما جاء في المادة (1/ 93). ¬
الثاني ـ مذهب مالك وأصل مذهب أحمد
الثاني ـ مذهب مالك وأصل مذهب أحمد (¬1): ينعقد العقد بالفعل أو بالتعاطي متى كان واضح الدلالة على الرضا، سواء تعارفه الناس أم لا، وهذا الرأي أوسع من سابقه وأيسر على الناس، فكل ما يدل على البيع أو الإجارة، أو الشركة أو الوكالة وسائر العقود الأخرى ما عدا الزواج ينعقد العقد به؛ لأن المعول عليه وجود ما يدل على إرادة المتعاقدين من إنشاء العقد وإبرامه والرضا به، وقد تعامل الناس به من عصر النبوة فما بعده. ولم ينقل عن النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه الاقتصار على الإيجاب والقبول، ولا إنكار التعاطي، فكانت القرينة كافية على الدلالة على الرضا. الثالث ـ مذهب الشافعية والشيعة والظاهرية (¬2): لا تنعقد العقود بالأفعال أو بالمعاطاة لعدم قوة دلالتها على التعاقد؛ لأن الرضا أمر خفي، لا دليل عليه إلا باللفظ، وأما الفعل فقد يحتمل غير المراد من العقد، فلا يعقد به العقد، وإنما يشترط أن يقع العقد بالألفاظ الصريحة أو الكنائية، أو ما يقوم مقامها عند الحاجة كالإشارة المفهمة أو الكتابة. ونظراً لما يشتمل عليه هذا المذهب من تشدد وشكلية محدودة ومجافاة لمبدأ المرونة والسماحة واليسر، فقد اختار جماعة من الشافعية منهم النووي والبغوي والمتولي، صحة انعقاد بيع المعاطاة في كل ما يعده الناس بيعاً، لأنه لم يثبت اشتراط لفظ، فيرجع للعرف كسائر الألفاظ المطلقة، وبعض الشافعية كابن سريج ¬
عقد الزواج
والرُّوياني خصص جواز بيع المعاطاة بالمحقَّرات أي غير النفيسة: هي ما جرت العادة فيها بالمعاطاة كرطل خبز، أو رغيف، وحزمة بقل ونحوها (¬1). عقد الزواج: وبغض النظر عن الاختلاف السابق في التعاقد بالمعاطاة، أجمع الفقهاء على أن الزواج لا ينعقد بالفعل، كإعطاء المهر مثلاً، بل لا بد من القول للقادر عليه؛ لأن عقد الزواج خطير مقدس له آثار دائمة على المرأة، فكان لا بد من الاحتياط له، وإتمامه بأقوى الدلالات على الإرادة: وهو القول، حفاظاَ على كرامة المرأة ومستقبلها، وصوناً لها عن الابتذال، ولأن عقد الزواج يتطلب الإشهاد عليه، تمييزاً له عن السفاح أو الزنا، ولا يتمكن الشهود من معرفة عقد الزواج إلا بسماع لفظ الإيجاب والقبول (¬2). وكالزواج عند الإمام الشافعي: الطلاق والخلع والرجعة، لا تجوز إلا بالقول. ثالثاً ـ التعاقد بالإشارة: الإشارة إما من الناطق أو من الأخرس. أـ إذا كان العاقد قادراً على النطق فلا ينعقد بإشارته، بل عليه أن يعبر عن إرادته بلسانه لفظاً أو كتابة؛ لأن الإشارة وإن دلت على الإرادة لا تفيد اليقين المستفاد من اللفظ أو الكتابة، فلا بد من العبارة، وإلا لم ينشأ العقد عند الحنفية والشافعية (¬3). ¬
رابعا ـ التعاقد بالكتابة
لكن القانون المدني السوري وغيره في المادة 1/ 93) أجاز انعقاد العقد بالإشارة المتداولة عرفاً، ولو كانت من الناطق، إذ لم يقيدها بالخرس. وهذا يتفق مع مذهب المالكية والحنابلة (¬1) الذين يجيزون التعبير عن الإرادة من الناطق بالإشارة المفهمة، لأنها أولى في الدلالة من الفعل الذي ينعقد به العقد، كما تقدم في المعاطاة. ب ـ وأما العاقد العاجز عن النطق كالأخرس ومعتقل اللسان، فإن كان يحسن الكتابة فلا بد منها على الرواية الراجحة عند الحنفية؛ لأن الكتابة أبلغ في الدلالة وأبعد عن الاحتمال من الإشارة، فيلجأ إليها. وإن كان لا يحسن الكتابة، وله إشارة مفهمة، فتقوم مقام النطق باللسان باتفاق الفقهاء للضرورة، حتى لايحرم من حق التعاقد، وعليه نصت القاعدة الفقهية: (الإشارات المعهودة للأخرس كالبيان باللسان) (م.70 من المجلة). هذا إذا كان الخرس أصلياً، بأن ولد أخرس، فأما إذا كان عارضاً بأن طرأ عليه الخرس، فلا تعتبر إشارته إلا إذا دام به الخرس حتى وقع اليأس من كلامه، وصارت الإشارة مفهومة، فيلحق بالأخرس الأصلي. رابعاً ـ التعاقد بالكتابة: يصح التعاقد بالكتابة بين طرفين، ناطقين أو عاجزين عن النطق، حاضرين في مجلس واحد، أو غائبين، وبأي لغة يفهمها المتعاقدان، بشرط أن تكون الكتابة مستبينة (بأن تبقى صورتها بعد الانتهاء منها) ومرسومة (مسطرة بالطريقة المعتادة بين الناس بذكر المرسل إليه وتوقيع المرسل)، فإذا كانت غير مستبينة كالرقم أو ¬
عقد الزواج
الكتابة على الماء أو في الهواء، أو غير مرسومة كالرسالة الخالية من التوقيع مثلاً، لم ينعقد بها العقد، وعليه نصت القاعدة الفقهية: (الكتاب كالخطاب) (م 96 مجلة) وهذا رأي الحنفية والمالكية (1). وذلك كأن يرسل شخص خطاباً لآخر يقول فيه: (بعتك سيارتي بكذا)، فإذا وصله الكتاب، فقال في مجلس قراءة الكتاب: قبلت، انعقد البيع. فإن ترك المجلس، أو صدر منه ما يدل على الإعراض عن الإيجاب، كان قبوله غير معتبر. وفي حال إرسال رسول إلى آخر مثل إرسال الكتاب، يعتبر مجلس وصول الرسول هو مجلس العقد، فيلزم أن يقبل فيه، فإن قام من المجلس قبل أن يقبل انتهى مفعول الإيجاب. فالمعتبر هو مجلس بلوغ الرسالة أو الكتابة. وصورة الإرسال: أن يقول شخص: بعت لفلان كذا، فاذهب يا فلان وقل له، فذهب الرسول، فأخبره، فقبل المشتري في مجلسه ذلك صح العقد (2). لكن عقد الزواج لا يصح انعقاده بالكتابة إذا كان العاقدان حاضرين في مجلس واحد، إلا حال العجز عن النطق كالخرس؛ لأن الزواج يشترط لصحته حضور الشهود وسماعهم كلام العاقدين، وهذا لا يتيسر في حال الكتابة. وقيد الشافعية والحنابلة (3) صحة التعاقد بالكتابة أو الرسالة فيما إذا كان العاقدان غائبين، أما في حال الحضور فلا حاجة إلى الكتابة؛ لأن العاقد قادر على النطق، فلا ينعقد العقد بغيره.
الفرع الثاني ـ شروط الإيجاب والقبول
الفرع الثاني ـ شروط الإيجاب والقبول: الشرط: ما يتوقف عليه وجود الشيء، ويكون جزءاً خارجاً عن حقيقته. كالوضوء أو الطهارة للعبادات، لا تصح الصلاة بدون الطهارة، لكنها غير داخلة في تكوين الصلاة. وكالقدرة على التسليم في المعاملات لابد منها لانعقاد العقد، لكنها ليست جزءاً داخلاً في تكوين العقد. وبذلك يظهر أن الركن والشرط يتوقف عليهما وجود الشيء. إلا أن الركن داخل في حقيقة الشيء وجزء منه، أما الشرط فخارج عن الحقيقة ولا يعد جزءاً منها. ------------------------------ (1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 10/ 4 ومابعدها، الشرح الكبير: 3/ 3، فتح القدير: 79/ 5، البدائع: 137/ 5. (2) نص القانون المدني السوري على ذلك في المادة 98: «يعتبر التعاقد ما بين الغائبين قد تم في المكان وفي الزمان اللذين صدر فيهما القبول ... ». (3) المهذب: 257/ 1، غاية المنتهى: 4/ 2 .... واشترط الفقهاء لانعقاد العقد شروطاً ثلاثة في الإيجاب والقبول هي (¬1): 1 - وضوح دلالة الإيجاب والقبول، أي أن يكون كل من الإيجاب والقبول واضح الدلالة على مراد العاقدين، بأن تكون مادة اللفظ المستعمل لهما في كل عقد تدل لغة أو عرفاً على نوع العقد المقصود للعاقدين؛ لأن الإرادة الباطنة خفية، ولأن العقود يختلف بعضها عن بعض في موضوعها وأحكامها، فإذا لم يعرف بيقين أن العاقدين قصدا عقداً بعينه لا يمكن إلزامهما بأحكامه الخاصة به. ولا يشترط لهذه الدلالة لفظ أو شكل معين، فإن الشكلية في غير عقد الزواج والعقود العينية كالهبة والرهن غير مطلوبة فقهاً؛ لأن العبرة في العقود للمعاني، لا للألفاظـ والمباني، فيصح البيع بلفظ الهبة بعوض، وينعقد الزواج بلفظـ الهبة إذا اقترن بالمهر. 2 - تطابق القبول والإيجاب: بأن يكون القبول موافقاً للإيجاب، بأن يرد ¬
على كل ما أوجبه الموجب وبما أوجبه، أي على كل محل العقد، ومقدار العوض في عقود المعاوضات، سواء أكانت الموافقة حقيقية، كما لو قال البائع: بعتك الشيء بعشرة، فيقول المشتري: اشتريته بعشرة، أو ضمنية، كما لو قال المشتري في المثال السابق: اشتريته بخمس عشرة. أو أن تقول المرأة: زوجتك نفسي بمئة، فيقول الزوج: قبلت الزواج بمئة وخمسين، فالتوافق متحقق ضمناً، وهذه المخالفة خير للموجب. لكن العقد لا يلزم إلا بالمقدار الذي وجهه الموجب أي مئة في المثال الأخير، وأما الزيادة فموقوفة على قبول الموجب في مجلس العقد، فإن قبل به الموجب لزم القابل؛ لأن المال لا يدخل في ملك إنسان بغير اختياره إلا في الميراث. فإن لم يتطابق القبول مع الإيجاب، وحدثت مخالفة بينهما، لا ينعقد العقد، كأن خالف القابل في محل العقد، فقبل غيره، أو بعضه، مثل قول البائع: بعتك الأرض الفلانية، فيقول المشتري: قبلت شراء الأرض المجاورة لها، أو قبلت شراء نصفها بنصف الثمن المتفق عليه، فلا ينعقد العقد لمخالفته محل العقد، أو لتفرق الصفقة على البائع، والمشتري لا يملك تفريقها أي تجزئتها. وإذا خالف في مقدار الثمن، فقبل بأقل مما ذكر البائع، لا ينعقد العقد أيضاً، وكذا لو خالف في وصف الثمن لا في قدره، كأن أوجب البائع بثمن حال نقدي، فقبل المشتري بثمن مؤجل، أو أوجب بأجل إلى شهر معين، فقبل المشتري بأجل أبعد منه، لم ينعقد البيع في الحالتين، لعدم تطابق القبول مع الإيجاب، وحينئذ لابد من إيجاب جديد. ويختلف القانون المدني مع الفقه الحنفي في حالة المخالفة إلى خيرللموجب، إذ يقرر القانونيون (¬1) أن العقد لا يتم، كما يفهم من صريح المادة (97) مدني ¬
مجلس العقد
سوري «إذا اقترن القبول بما يزيد في الإيجاب أو يقيد منه أو يعدل فيه، اعتبر رفضاً يتضمن إيجاباً جديداً» لكن يتفق ذلك مع ظاهر مذهب الشافعي (¬1). 3 - اتصال القبول بالإيجاب: بأن يكون الإيجاب والقبول في مجلس واحد إن كان الطرفان حاضرين معاً، أو في مجلس علم الطرف الغائب بالإيجاب. ويتحقق الاتصال بأن يعلم كل من الطرفين بما صدر عن الآخر بأن يسمع الإيجاب ويفهمه، وبألا يصدر منه ما يدل على إعراضه عن العقد، سواء من الموجب أو من القابل. ومجلس العقد: هو الحال التي يكون فيها المتعاقدان مشتغلين فيه بالتعاقد. وبعبارة أخرى: اتحاد الكلام في موضوع التعاقد. ويشترط لتحقيق معنى اتصال القبول بالإيجاب شروط ثلاثة هي (¬2): أولها ـ أن يكونا في مجلس واحد، وثانيها ـ ألا يصدر من أحد العاقدين ما يدل على إعراضه، ثالثها ـ ألا يرجع الموجب في إيجابه قبل قبول القابل الآخر. الشرط الأول ـ أن يتحد مجلس الإيجاب والقبول: فلا يجوز أن يكون الإيجاب في مجلس، والقبول في مجلس آخر؛ لأن الإيجاب لا يعد جزءاً من العقد إلا إذا التحق به القبول. فلو قال البائع: بعتك الدار بثمن كذا، أو آجرتك المنزل بأجرة كذا، ثم انتقل الموجب إلى مكان آخر بعيد عن مجلسه الأول بحوالي مترين أو ثلاثة، أو إلى غرفة أخرى، انتهى المجلس الأول، فإذا قبل القابل بعد هذا الانتقال لم ينعقد العقد، ويحتاج إلى إيجاب جديد؛ لأن الإىجاب كلام اعتباري لا بقاء له إذا لم ينضم إليه القبول في حال واحدة من المجلس. ¬
هل تشترط الفورية في القبول؟
وهل تشترط الفورية في القبول؟ قرر جمهور الفقهاء (الحنفية والمالكية والحنابلة (¬1)) أنه لا يشترط الفور في القبول، لأن القابل يحتاج إلى فترة للتأمل، فلو اشترطت الفورية لا يمكنه التأمل، وإنما يكفي صدور القبول في مجلس واحد، ولو طال الوقت إلى آخر المجلس؛ لأن المجلس الواحد يجمع المتفرقات للضرورة، وفي اشتراط الفورية تضييق على القابل، أو تفويت للصفقة من غير مصلحة راجحة، فإن رفض فوراً، فتضيع عليه الصفقة، وإن قبل فوراً، فربما كان في العقد ضرر له، فيحتاج لفترة تأمل؛ للموازنة بين ما يأخذ أو يغنم وبين ما يعطي أو يغرم في سبيل العقد، وقدرت فترة التأمل بمدة مجلس العقد؛ لأن المجلس جامع للمتفرقات، فتعتبر ساعة واحدة زمنية تيسيراً على الناس، ومنعاً للمضايقة والحرج، ودفعاً للضرر عن العاقد قدر الإمكان. وقد أخذ القانون المدني في المادة 95/ 2 بهذا الرأي، فلم يشترط الفورية فيالقبول، وصرح الأستاذ السنهوري بأن القانون أخذ هذا من الفقه الحنفي (¬2). وقال الرملي من الشافعية (¬3): يشترط أن يكون القبول فور الإيجاب، فلو تخلل لفظ أجنبي لا تعلق له بالعقد ولو يسيراً بأن لم يكن من مقتضاه ولا من مصالحه ولا من مستحباته، لا يتحقق الاتصال بين القبول والإيجاب، فلا ينعقد العقد. لكن لو قال المشتري بعد توجيه الإيجاب له: بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، قبلت، أي (الشراء) صح العقد. ¬
حكم إجراء العقود بآلات الاتصال الحديثة
واتجاه الشافعية هذا متفق مع الأصل في القبول: وهو أن يتصل بالإيجاب مباشرة وفوراً لينعقد العقد، ويخفف تشدد هذا الرأي أخذ الشافعية بمبدأ خيار المجلس لكل من العاقدين بعد انعقاد العقد، والذي بمقتضاه يثبت لكل من العاقدين حق فسخ العقد ما داما في المجلس لم يفترقا عنه بأبدانهما. هذا وقد فسر غير الرملي من الشافعية اتصال القبول بالإيجاب بأنه السائد عرفاً بين الناس، فلا يضر الفصل اليسير ويضر الطويل وهو ما أشعر بإعراضه عن القبول. فيكون رأي الشافعية كغيرهم (¬1). حكم إجراء العقود بآلات الاتصال الحديثة تمهيد: تمكن أبناء العالم المعاصر من إنجاز كثير من معاملاتهم وعقودهم المالية بواسطة آلات الاتصال الحديثة، كالهاتف والبرقية واللاسلكي والتلكس والفاكس ونحوها، وأصبح ضرورياً معرفة كيفية إبرام تلك العقود من الناحية الشرعية، وهذا ما أبينه هنا بالاعتماد على ما كتبه فقهاؤنا وقرروه عند الكلام على صيغة العقد، وشروط الإيجاب والقبول، وشروط تحقيق معنى اتصال القبول بالإيجاب ليكون شطرا العقد في مجلس واحد. وبما أن هذه المعلومات معروفة في الجامعات، فأكتفي بإيجازها هنا، لتكون مدخلاً للحكم على موضوع البحث. صيغة العقد: هي ماصدر من المتعاقدين دالاً على توجه إرادتهما الباطنة ¬
لإنشاء العقد وإبرامه. وتعرف تلك الإرادة الباطنة بواسطة اللفظ أو القول أو ما يقوم مقامه من الفعل (المعاطاة) أو الإشارة أو الكتابة. وهذه الصيغة هي الإيجاب والقبول الدالان على تراضي الجانبين بإنشاء التزام بينهما، وتسمى الصيغة عند القانونيين التعبير عن الإرادة. والتعبير عن الإرادة العقدية الجازمة يكون بأي صيغة تدل عرفاً أو لغة على إنشاء العقد، سواء بالقول أو بالفعل أو بالإشارة أو بالكتابة (¬1). والقول أو اللفظ مثل بعت واشتريت، ورهنت وارتهنت، ووهبت وقبلت، وزوجت وتزوجت. والفعل أو المعاطاة أو المراوضة: هو التعاقد بالمبادلة الفعلية الدالة على التراضي دون تلفظ بإيجاب أو قبول (¬2)، كأن يأخذ المشتري المبيع ويدفع الثمن للبائع دون كلام من كلا الطرفين أو من أحدهما، سواء أكان المبيع حقيراً بسيطاً أم نفيساً. وهذا جائز عند جمهور العلماء غير الشافعية، لتعارفه بين الناس، لكن عقد الزواج بالإجماع لا ينعقد ولا يصح بالفعل أو بالمعاطاة كإعطاء المهر مثلاً، بل لا بدّ فيه من النطق بالإيجاب والقبول، لخطورته وأهميته، وتأثيره الدائم على المرأة، وحفاظاً على حرمات الأعراض المصونة شرعاً. ويجوز انعقاد العقد بإشارة الأخرس أو معتقل اللسان المفهومة باتفاق الفقهاء للضرورة، حتى لا يحرم من حق التعاقد، لذا نصت القاعدة الفقهية: «الإشارات المعهودة للأخرس كالبيان باللسان» (المجلة: م 70). وأجاز فقهاء المالكية والحنابلة ¬
التعبير عن الإرادة من الناطق بالإشارة المفهمة المتداولة عرفاً، لأنها أولى في الدلالة من الفعل الذي ينعقد به العقد، كما في المعاطاة (¬1). ويصح التعاقد بالكتابة بين طرفين في رأي الحنفية والمالكية سواء أكانا ناطقين أم عاجزين عن النطق، حاضرين في مجلس واحد أم غائبين، وبأي لغة يفهمها المتعاقدان، بشرط أن تكون الكتابة مستبينة (بأن تبقى صورتها بعد الانتهاء منها) ومرسومة (مسطرة بالطريقة المعتادة بين الناس بذكر المرسل إليه وتوقيع المرسل) فإذا كانت غير مستبينة كالكتابة على الماء أو في الهواء، أو غير مرسومة كالرسالة الخالية من التوقيع مثلاً، لم ينعقد بها العقد (¬2)، وعليه نصت القاعدة الفقهية: (الكتاب كالخطاب) (المجلة: م 96). مثل أن يرسل شخص خطاباً لآخر يقول فيه: (بعتك سيارتي بكذا) فإذا وصله الكتاب، وقال في مجلس قراءة الكتاب: قبلت، انعقد البيع. أما إن ترك المجلس أو صدر منه ما يدل على الإعراض عن الإيجاب، كان قبوله غير معتبر. وإرسال رسول إلى آخر حامل مضمون الإيجاب مثل إرسال الكتاب، ويعتبر مجلس وصول الرسول هو مجلس العقد، فيلتزم أن يقبل فيه، فإن قام من المجلس قبل أن يقبل، انتهى مفعول الإيجاب، ويكون المعول عليه هو مجلس بلوغ الرسالة أو الكتابة، كأن يقول شخص: بعت لفلان كذا، فاذهب يا فلان وقل له هذا، فذهب فأخبره، فقبل المشتري في مجلسه ذلك، صح العقد. ومهمة الرسول أضعف من مهمة الوكيل، لأن الرسول مجرد مفوض بنقل تعبير المرسل دون زيادة أو نقصان، أما الوكيل فإنه يتولى إبرام العقد بعبارته، ولا ¬
كيفية إبرام التعاقد بالهاتف واللاسلكي ونحوهما من وسائل الاتصال الحديثة
يتقيد في الوكالة المطلقة إلا بالمعتاد المتعارف عليه، أما في الوكالة المقيدة بمكان أو زمان أو شخص أو محل معقود عليه أو بدل عقدي فيتم التعاقد بين الوكيل والقابل بعبارة الوكيل المقيدة بقيود الوكالة، وتعود حقوق العقد أي الالتزامات إلى الوكيل بعكس الرسول لا يتحمل شيئاً منها، أما حكم العقد الأصلي أي نقل الملكية فيعود إلى الموكل والمرسل على السواء. ولا ينعقد عقد الزواج بالكتابة إذا كان العاقدان حاضرين في مجلس واحد، إلا في حال العجز عن النطق كالخرس، لأن الزواج يشترط لصحته حضور الشهود العدول وسماعهم كلام العاقدين، وهذا لا يتيسر في حال الكتابة. وقيد الشافعية والحنابلة صحة التعاقد مطلقاً بالكتابة أو الرسالة فيما إذا كان العاقدان غائبين، أما في حال الحضور فلا حاجة إلى الكتابة، لأن العاقد قادر على النطق، فلا ينعقد العقد بغيره (¬1). كيفية إبرام التعاقد بالهاتف واللاسلكي ونحوهما من وسائل الاتصال الحديثة: ليس المراد من اتحاد المجلس المطلوب في كل عقد كما بينا كون المتعاقدين في مكان واحد، لأنه قد يكون مكان أحدهما غير مكان الآخر، إذا وجد بينهما واسطة اتصال، كالتعاقد بالهاتف أو اللاسلكي أو بالمراسلة (الكتابة) وإنما المراد باتحاد المجلس: اتحاد الزمن أو الوقت الذي يكون المتعاقدان مشتغلين فيه بالتعاقد، فمجلس العقد: هو الحال التي يكون فيها المتعاقدان مقبلين على التفاوض في العقد (¬2)، وعن هذا قال الفقهاء «إن المجلس يجمع المتفرقات» (¬3). ¬
زمن إتمام العقد في التعاقد بين غائبين
وعلى هذا يكون مجلس العقد في المكالمة الهاتفية أو اللاسلكية: هو زمن الاتصال ما دام الكلام في شأن العقد، فإن انتقل المتحدثان إلى حديث آخر انتهى المجلس. ومجلس التعاقد بإرسال رسول أو بتوجيه خطاب أو بالبرقية أو التلكس أو الفاكس ونحوها: هو مجلس تبليغ الرسالة، أو وصول الخطاب أو البرقية أو إشعار التلكس والفاكس، لأن الرسول سفير ومعبر عن كلام المرسل، فكأنه حضر بنفسه وخوطب بالإيجاب فقبل، في المجلس. فإن تأخر القبول إلى مجلس ثان، لم ينعقد العقد. وبه تبين أن مجلس التعاقد بين حاضرين: هو محل صدور الإيجاب، ومجلس التعاقد بين غائبين: هو محل وصول الكتاب أو تبليغ الرسالة، أو المحادثة الهاتفية. لكن للمرسل أو للكاتب أن يرجع عن إيجابه أمام شهود، بشرط أن يكون قبل قبول الآخر ووصول الرسالة أو الخطاب ونحوه من الإبراق والتلكس والفاكس. ويرى جمهور المالكية أنه ليس للموجب الرجوع قبل أن يترك فرصة للقابل يقرر العرف مداها، كما تقدم. هذا وإن بقية شروط الإيجاب والقبول عدا اتحاد المجلس لا بد من توافرها في وسائط الاتصال الحديثة. زمن إتمام العقد في التعاقد بين غائبين: أجمع الفقهاء على أن العقد ينعقد بين الغائبين كما في آلات الاتصال الحديثة بمجرد إعلان القبول، ولا يشترط العلم بالقبول بالنسبة للطرف الموجب الذي وجه الإيجاب (¬1). ¬
فلو كان المتعاقدان يتحدثان بالهاتف أو بالاسلكي، وقال أحدهما للآخر: بعتك الدار أو السيارة الفلانية، وقال الآخر: قبلت، انعقد العقد، بمجرد إعلان القبول، ولو لم يعلم الموجب بالقبول، بأن انقطع الاتصال بينهما. ولو وجهّ أحد العاقدين خطاباً أو برقية إلى آخر أو تلكساً أو فاكساً، وفيها إيجاب ببيع شيء، أو بإبرام عقد زواج، انعقد العقد بعد وصول البرقية أو الخطاب ونحوهما، وإعلان الآخر قبوله، دون حاجة إلى علم الموجب أو سماعه بالقبول. لكن إبعاداً لكل لبس أو غموض، وتمكيناً من إثبات العقد، وتأكيداً لإبرامه، جرى العرف الحاضر في التلكس مثلاً ونحوه على إرسال تلكس العرض، ثم تلكس القبول، ثم تلكس البيع، وساعد على ترسيخ هذا العرف ما تنص عليه بعض القوانين الوضعية كالقانون المدني المصري، فإنه نص على ما يلي: في التعاقد بين حاضرين: تنص المادة (91) على أن «التعبير عن الإرادة ينتج أثره في الوقت الذي يتصل فيه بعلم من وجه إليه، ويعتبر وصول التعبير قرينة على العلم به، ما لم يقم الدليل على عكس ذلك» واشتراط السماع أو العلم بالقبول حتى بين الحاضرين أخذ به بعض فقهاء الحنفية مثل النسفي وابن كمال باشا. وفي التعاقد بين غائبين: تنص المادة (97) على ما يلي: «يعتبر التعاقد ما بين الغائبين قد تم في المكان وفي الزمان اللذين يعلم فيهما الموجب بالقبول، مالم يوجد اتفاق أو نص قانوني بغير ذلك، ويفترض أن الموجب قد علم بالقبول في المكان والزمان اللذين وصل إليه فيهما هذا القبول». وأرى الأخذ بضرورة العلم بالقبول بالنسبة للموجب في التعاقد بين غائبين بسبب تقدم وسائل الاتصال الحديثة وتعقد المعاملات، وتحقيقاً لاستقرار التعامل
التعاقد حالة المشي أو الركوب
ومنعاً لإيقاع الموجب في القلق، وتمكيناً من إثبات العقد وإلزام القابل، فإن جهل الموجب بالقبول يوقعه في حرج شديد، وهذا رأي الأستاذ الدكتور عبد الرزاق السنهوري (¬1). التعاقد حالة المشي أو الركوب: إذا تعاقد شخصان على ظهر سفينة أو متن طائرة، أو في قطار أو سيارة، انعقد العقد، سواء أكانت هذه الوسائل واقفة أم ماشية؛ لأن الشخص لا يستطيع إيقاف تلك الوسائل، فاعتبر مجلس العقد فيها مجلساً واحداً، مما يؤكد أن المقصود من اتحاد المجلس اتحاد الزمان وليس الاتحاد المكاني المادي. لكن إذا كان العاقدان ماشيين على الأقدام، أو راكبين دابة واحدة أو دابتين، فقد تشدد الحنفية في تصور المجلس، فقالا: إذا تم القبول متصلاً بالإيجاب، انعقد العقد، حتى ولو مشيا خطوة واحدة، أو خطوتين. فإن مشيا خطوات ثلاثاً فأكثر، ثم حدث القبول، لم ينعقد العقد؛ لأن العاقدين يستطيعان الوقوف، أو إيقاف الدابة لمداولة العقد، فإن سارا فقد تبدل المجلس قبل القبول. ويجعل السير دليلاً على الإعراض عن العقد (¬2). وهذا ما حدا بالدكتور السنهوري إلى القول بأن نصوص المذهب الحنفي أغرقت في تصوير مجلس العقد تصويراً مادياً لا سبيل إلى مجاراتها فيه (¬3). الشرط الثاني ـ ألا يصدر من أحد العاقدين ما يدل على إعراضه عن العقد: ¬
بأن يكون الكلام في موضوع العقد، وألا يتخلله فصل بكلام أجنبي يعد قرينة على الإعراض عن العقد. فإن ترك الموجب مجلس العقد قبل قبول الآخر، أو ترك الطرف الآخر المجلس بعد صدور الإيجاب، أو انشغل الطرفان في موضوع آخر لا صلة له بالعقد، بطل الإيجاب. ولو قبل الآخر حينئذ لا يعتبر قبوله متمماً للعقد؛ لأن الإيجاب ذهب ولم يبق له وجود، إذا لم يتعانق مع القبول، وسبب ذهابه أنه كلام اعتباري لا بقاء له إذا لم يتصل بالقبول، ويجعل باقياً مدة المجلس من باب التيسير على الطرفين ودفع العسر عنهما ليمكن تلاقي القبول به، وانعقاد العقد. متى يصير المجلس قد تغير؟ العرف الشائع بين الناس هو المحكم في بيان اتحاد المجلس أو تغيره، فإذا صدر القبول في حال اتحاد المجلس، نشأ العقد، وإذا صدر القبول بعد تغير المجلس لم يعتبر ولم ينشأ به العقد. وضابط ذلك أن القبول يكون معتبراً ما دام لم يتخلل بينه وبين الإيجاب ما يعد إعراضاً عن العقد من أحد الطرفين، وما دام المجلس قائماً (¬1). وتحقيق هذا المبدأ عند الحنفية (¬2): أنه لو أوجب أحد الطرفين البيع، فقام الآخر عن المجلس قبل القبول، أو اشتغل بعمل آخر يوجب اختلاف المجلس، ثم قبل، لا ينعقد العقد؛ لأن القيام دليل الإعراض والرجوع عن العقد. والاحتكام إلى العرف في بيان ما يغير المجلس متفق عليه بين المذاهب (¬3) حتى ¬
الشرط الثالث ـ ألا يرجع الموجب في إيجابه قبل قبول القابل
عند بعض الشافعية القائلين بفورية القبول؛ لأن الفورية شيء، والحكم بتغير المجلس شيء آخر، فإنهم قالوا: يعتبر العرف في تفرق العاقدين عن المجلس، فما يعده الناس تفرقاً يلزم به العقد، وما لا فلا؛ لأن ما ليس له حد في اللغة ولا في الشرع، يرجع فيه إلى العرف، فلو كان العاقدان في دار كبيرة يتغير المجلس بالخروج من البيت إلى صحن الدار، أو بالعكس، وإن كانا في دار صغيرة أو في سفينة أو مسجد صغير يتغير المجلس بخروج أحدهما منه، أوبصعود السطح، وإن كانا في سوق أوصحراء يتغير المجلس بأن يولي أحدهما ظهره ويمشي قليلاً كثلاث خطوات. ولو تناديا بالعقد من مكان بعيد، بقي المجلس ما لم يفارق أحدهما مكانه، فإن مشى كل منهما ولو إلى صاحبه، تغير المجلس. ولو تماشى الطرفان مسافة دام المجلس، وإن زادت المدة على ثلاثة أيام ما لم يعرضا عما يتعلق بالعقد. الشرط الثالث ـ ألا يرجع الموجب في إيجابه قبل قبول القابل: لا بد لانعقاد العقد من استمرار الموجب على إيجابه الذي وجهه للقابل، فإن عدل عن إيجابه، لم يصح القبول. وهل يصح العدول عن الإيجاب في مجلس العقد؟ أجاب جمهور الفقهاء (الحنفية والشافعية والحنابلة) (¬1) بأنه للموجب أن يرجع عن إيجابه قبل صدور القبول من الطرف الآخر، ويبطل الإيجاب حينئذ؛ لأن الالتزام بالعقد لم ينشأ بعد، ولا ينشأ إلا بارتباط القبول بالإيجاب، ولأن الموجب حر التصرف بملكه وحقوقه، وبإيجابه أثبت للطرف الآخر حق التملك، وحق الملك أقوى من حق التملك، فيقدم عليه عند التعارض؛ لأن الأول ثابت ¬
تعيين مدة للقبول
لصاحبه أصالة والثاني لا يثبت إلا برضا الطرف الأول، والتراضي بين الجانبين أساسي لصحة العقود. والقانون المدني في المادة (95) يتفق مع هذا الرأي، فإنه إذا لم يتعين ميعاد للقبول يجوز للموجب التحلل من إيجابه إذا لم يصدر القبول فوراً. وقال أكثرية المالكية (¬1): ليس للموجب الرجوع عن إيجابه، وإنما يلتزم بالبقاء على إيجابه حتى يعرض الطرف الآخر عنه، أو ينتهي المجلس؛ لأن الموجب قد أثبت للطرف الآخر حق القبول والتملك، فله استعماله وله رفضه، فإذا قبل ثبت العقد، وإذا أعرض عن الإيجاب لم ينشأ العقد. وعليه لا يكون الرجوع مبطلاً للإيجاب. تعيين مدة للقبول: إذا حدد الموجب للطرف الآخر مدة للقبول، فيلتزم بها عند فقهاء المالكية؛ لأنهم قالوا كما تقدم: ليس للموجب الرجوع عن إيجابه قبل قبول الآخر، فيكون من باب أولى ملتزماً بالبقاء على إيجابه إذا عين ميعاداً للقبول كأن يقول: أنا على إيجابي مدة يومين مثلاً، فيلزمه هذا التقييد ولو انتهى المجلس. وهذا يتفق مع المبدأ العام في الشريعة وهو «المسلمون على شروطهم» (¬2)، ومثل هذا الشرط لا ينافي مقتضى العقد. والقانون المدني في المادة (94) يقرر ذلك: «إذا عين ميعاد للقبول التزم الموجب بالبقاء على إيجابه إلى أن ينقضي هذا الميعاد. وقد يستخلص الميعاد من ظروف الحال، أو من طبيعة التعامل». ¬
العقود التي لا يشترط فيها اتحاد المجلس
العقود التي لا يشترط فيها اتحاد المجلس: اتحاد المجلس شرط في جميع العقود ما عدا ثلاثة: الوصية، والإيصاء، والوكالة. أما الوصية (وهي تصرف مضاف إلى مابعد الموت): فيستحيل فيها تحقق اتحاد المجلس؛ لأن القبول لا يصح من الموصى له في حال حياة الموصي، وإنما يكون بعد وفاته مصراً على الوصية. وأما الإيصاء (وهو جعل الغير وصياً على أولاده ليرعى شؤونهم بعد وفاته): فلا يلزم صدور القبول في حياة الموصي، وإنما يصح بعد وفاته، وعلى كل حال لا يصبح وصياً إلا بعد وفاة الموصي، وإن قبل في حياته. وأما الوكالة (وهي تفويض التصرف والحفظ إلى الوكيل في أثناء الحياة) فمبنية على التوسعة واليسر والسماحة، فلا يشترط فيها اتحاد المجلس؛ لأن قبولها قد يكون باللفظ (القول)، أو بالفعل بأن يشرع الوكيل في فعل ما وكل فيه، ويصح فيها توكيل الغائب (أي غير الموجود في مجلس العقد)، فبمجرد علمه بالتوكيل له القيام بالعمل الموكل فيه (¬1). وكالوكالة عند الحنابلة: كل عقد جائز غير لازم يصح القبول فيه على التراخي، مثل الشركة والمضاربة والمزارعة والمساقاة، والوديعة والجعالة. مبطلات الإيجاب: يبطل الإيجاب بالأمور التالية (¬2): ¬
العنصر الثاني ـ العاقد
1 - رجوع الموجب عنه قبل القبول في المجلس، على رأي الجمهور. 2 - رفض الإيجاب من الطرف الآخر، إما صراحة كأن يقول: لا أقبل، أو ضمناً كأن يعرض عنه إما بالقيام عن المجلس بعد القعود، أو بالاشتغال بعمل آخر كأكل، أو سماع حديث آخر، أو قراءة خبر صحفي ونحوه. 3 - انتهاء مجلس العقد، بتفرق العاقدين عرفاً؛ لأن الإيجاب يظل قائماً في المجلس، فلما انتهى بطل مفعوله، لأن المجلس يجمع المتفرقات. 4 - خروج الموجب عن أهليته قبل القبول بالموت أو بالجنون أو بالإغماء ونحوه وكذا فقد القابل أهليته بهذه الأسباب؛ لأن انعقاد العقد يتوقف على توافر الأهلية، فإذا فقدت لم ينعقد العقد، لاحتمال وجود الرجوع عن الإيجاب، أو لعدم فهم القبول، أو لعدم صدور قبول معتبر شرعاً. 5 - هلاك محل العقد قبل القبول، أو تغيره بما يصيره شيئاً آخر، مثل قلع عين حيوان، أو انقلاب عصير العنب خمراً، ونحو ذلك. العنصر الثاني ـ العاقد: الإيجاب والقبول اللذان يكونان ركن العقد كما تقدم، لا يتصور وجودهما من غير عاقد، فالعاقد ركيزة التعاقد الأصلية. لكن ليس كل واحد صالحاً لإبرام العقود، فبعض الناس لا يصلح لأي عقد، وبعضهم يصلح لإنشاء بعض العقود، وآخرون صالحون لكل عقد. وهذا يعني أن العاقد لا بد له من أهلية للتعاقد بالأصالة عن نفسه، أو ولاية شرعية للتعاقد بالنيابة عن غيره.
ويستلزم ذلك بحث الأهلية والولاية، لكن بقدر إجمالي، وأما تفصيل أحكام الأهلية والولاية فمتروك لكتب الفقه والأصول (¬1) المطولة، ولمادة الأحوال الشخصية ومدخل القانون، إذ إن نصوص الأهلية والولاية موزعة بين قانون الأحوال الشخصية والقانون المدني السوريين. والذي يهمنا من بحث الأهلية أن العاقد يشترط فيه عند الحنفية والمالكية (¬2): أن يكون عاقلاً أي مميزاً أتم سن السابعة (¬3)، فلا ينعقد تصرف غير المميز لصغر أو إغماء أو جنون، وتصح تصرفات الصبي المميز (¬4) المالية على التفصيل الآتي (راجع المادة (967 من المجلة): أـ التصرفات النافعة نفعاً محضاً: وهي التي يترتب عليها دخول شيء في ملكه من غير مقابل، كالاحتطاب، والإحتشاش والاصطياد، وقبول الهبة والصدقة والوصية والكفالة بالدين، تصح من الصبي المميز دون إذن ولا إجازة من الولي، لأنها لنفعه التام. ب ـ التصرفات الضارة ضرراً محضاً: وهي التي يترتب عليها خروج شيء من ملكه دون مقابل، كالطلاق والهبة والصدقة والإقراض وكفالته لغيره بالدين أو بالنفس لا تصح من الصبي العاقل ولا تنفذ، ولو أجازها وليه؛ لأن الولي لا يملك إجازة هذه التصرفات لما فيها من الضرر. ¬
أولا ـ الأهلية
ج ـ التصرفات المترددة بين الضرر والنفع: وهي التي تحتمل الربح والخسارة كالبيع والشراء والإيجار والاستئجار والزواج والمزارعة والمساقاة والشركات ونحوها، تصح من الصبي المميز، ولكنها تكون موقوفة على إذن الولي أو إجازته مادام صغيراً أو على إجازته لنفسه بعد البلوغ؛ لأن للمميز جانباً من الإدراك غير قليل (¬1). فإن أجيزت نفذت، وإلا بطلت، والإجازة تجبر نقص الأهلية. والأشخاص بالنسبة للأهلية: إما عديم الأهلية وغير المميز فتعد تصرفاتهما باطلة، أو ناقص الأهلية كالصبي المميز فيصح بعض تصرفاته، ويبطل بعضها الآخر، ويتوقف بعضها على الإجازة على التفصيل السابق، أو كامل الأهلية وهو الراشد الذي تصح منه كل التصرفات وتنفذ ما لم يكن محجوراً عليه بسبب السفه أو الدين، أو كان ممنوعاً من التصرف بسبب مرض الموت أو الفقد أو الغياب. وكل ذلك يضطرنا إلى بحث الأهلية والولاية. وبه تعرف أحكام الأهلية إجمالاً علماً بأن القانون المدني استمد أحكامها من الفقه الإسلامي وذلك في المواد (46 - 50) وقد اعتبر القانون أحكام الأهلية من قواعد النظام العام التي لا يجوز للأفراد الاتفاق على خلافها، فكل اتفاق مخالف لأحكامها باطل، ولا يجوز للشخص التنازل عن أهليته ولا التعديل في أحكامها (المادة 50). أولاً ـ الأهلية: الأهلية في اللغة: الصلاحية، وفي اصطلاح الفقهاء: هي صلاحية الشخص لثبوت الحقوق المشروعة له ووجوبها عليه، وصحة التصرفات منه. وهي نوعان: أهلية وجوب، وأهلية أداء (¬2). ¬
أـ أهلية الوجوب
أـ أهلية الوجوب: هي صلاحية الشخص للإلزام والالتزام، أو هي صلاحية الشخص لثبوت الحقوق له كاستحقاق قيمة المتلف من ماله، أو وجوبها عليه كالتزامه بثمن المبيع وعوض القرض، أي أن لهذه الأهلية عنصرين: عنصر إيجابي: وهو صلاحية كسب الحقوق بأن يكون دائناً، وهو عنصر الإلزام أو الدائنية. وعنصر سلبي: وهو صلاحية تحمل الواجبات أو الالتزامات بأن يكون مديناً، وهو عنصر الالتزام أو المديونية. ومناط هذه الأهلية: هو الحياة أو الصفة الإنسانية (¬1)، فكل إنسان حتى الجنين في بطن أمه له أهلية وجوب، والأهلية تبدأ في الفقه مع بدء الشخصية، فهي ملازمة للشخصية، وصفة من صفات الشخصية. والشخصية تبدأ في فقهنا منذ بدء تكون الجنين في الرحم وتنتهي بالموت. وفي القانون المدني تبدأ بتمام ولادة الإنسان حياً، وتنتهي بموته (م 31). والعنصر السلبي للأهلية (أي المديونية) يتطلب وجود شيء آخر في الشخصية وهو الذمة: وهي وصف شرعي مقدر كوعاء اعتباري في الشخص تثبت فيه الديون والالتزامات المترتبة عليه. وبناء عليه: يتوقف ثبوت الحق للشخص على وجود أهلية فيه. وأما ثبوت الديون عليه فيتوقف على وجود ظرف اعتباري مفترض في كل شخص هو الذمة. فيقال: لفلان في ذمة فلان مبلغ مالي كذا (¬2). ¬
وأهلية الوجوب نوعان: ناقصة وكاملة. أهلية الوجوب الناقصة: هي صلاحية الشخص لثبوت الحقوق له فقط أي تؤهله للإلزام ليكون دائناً لا مديناً. وتثبت للجنين في بطن أمه قبل الولادة. وسبب نقص أهليته أمران: فهو من جهة يعد جزءاً من أمه، ومن جهة أخرى يعد إنساناً مستقلاً عن أمه، متهيئاً للانفصال عنها بعد تمام تكوينه. لذا فإنه تثبت له بعض الحقوق الضرورية النافعة له: وهي التي لا تحتاج إلى قبول، وهي أربعة أنواع (¬1): 1 - النسب من أبويه. 2 - الميراث من قريبه المورث، فيوقف له أكبر النصيبين على تقدير كونه ذكراً أو أنثى. 3 - استحقاق الوصية الموصى له بها. 4 - استحقاقه حصته من غلات الوقف الموقوفة عليه. لكن الحقوق المالية الثلاثة الأخيرة ليست للجنين فيهاملكية نافذة في الحال بل تتوقف على ولادته حياً. فإن ولد حياً ثبتت له ملكية مستندة إلى وقت وجود سببها أي بأثر رجعي. وإن ولد ميتاً رد نصيبه إلى أصحابه المستحقين له. فغلة الوقف تعطى لبقية المستحقين، والموصى به يرد إلى ورثة الموصي، وحصة الميراث المجمدة له توزع لبقية الورثة. وثبوت الحق للجنين في الوقف هو رأي الحنفية والمالكية، أما رأي الشافعية والحنابلة فلا يثبت له حق التملك إلا بالإرث والوصية، فلا يصح عندهم الوقف على الجنين، لأنه يشترط إمكان التملك في الحال وهو لا يتملك. ¬
أما الحقوق التي تحتاج إلى قبول كالشراء والهبة فلا تثبت له، ولو مارسها عنه وليه (الأب أو الجد) إذ ليس له ضرورة بها، ولأن الشراء له يلزمه بالثمن وهو ليس أهلاً للالتزام. وأما الواجبات أو الالتزامات لغيره فلا تلزمه، كنفقة أقاربه المحتاجين (¬1). والخلاصة: إن الجنين له ذمة ناقصة تؤهله لاكتساب بعض الحقوق فقط، وليست له ذمة كاملة صالحة لاكتساب الحقوق والالتزام بالواجبات. أهلية الوجوب الكاملة: هي صلاحية الشخص لثبوت الحقوق له، وتحمل الواجبات (أو الالتزامات). وتثبت للشخص منذ ولادته حياً، دون أن تفارقه في جميع أدوار حياته، فيصلح لاكتساب الحقوق والالتزام بالواجبات. ولا يوجد إنسان فاقد لهذه الأهلية. وتحديد وجود الولادة: فيه رأيان للفقهاء، قال الحنفية (¬2): تثبت أهلية الوجوب بمجرد ظهور أكثر الجنين حياً. وقال غير الحنفية (¬3): لا تثبت هذه الأهلية إلا بتمام ولادة الجنين حياً. وبهذا الرأي أخذ القانون المدني السوري (م 13) وقانون الأحوال الشخصية السوري (م 1/ 236،2/ 260). وأما الحقوق الثابتة للطفل بعد الولادة: فهي التي تحصل له نتيجة التصرف الذي يمكن للولي أو الوصي أن يمارسه بالنيابة عنه، كتملك ما يشترى له أو يوهب له. وأما الالتزامات الواجبة على الطفل فهي كل ما يستطاع أداؤه عنه من ماله، سواء من حقوق العباد أو من حقوق الله، وهي: ¬
2 - أهلية الأداء
(1) الأعواض المالية في الأفعال المدنية كثمن المشتريات وأجرة الدار، أو في الأفعال الجنائية كتعويض المتلفات التي يتلفها من أموال الآخرين. (2) والضرائب المالية للدولة كعشر الزرع وخراج الأرض (ضريبة الأراضي الزراعية) وضريبة ورسوم الجمارك والمباني وضريبة الدخل ونحوها. (3) والصلات الاجتماعية المنوطة بالغنى كنفقة الأقارب والمعسرين وزكاة الفطر في رأي أبي حنيفة وأبي يوسف (¬1). وزكاة المال في رأي جمهور الفقهاء غير الحنفية (¬2)، رعاية لمصلحة الفقراء والمحتاجين والمجتمع بصفة عامة، وهو رأي أقوم وأفضل وأحق بالعمل، لاسيما في ظروفنا الحاضرة. وأما الحنفية فلم يوجبوا الزكاة في مال الصبي لأنهم اعتبروها عبادة مالية، والطفل لا يكلف بالتكاليف الدينية إلا بعد البلوغ. ويلاحظ أن أهلية الوجوب، ولو كانت كاملة ليس لها أثر في إنشاء العقود، فكل تصرف من الطفل غير المميز، حتى ولو كان نافعاً نفعاً محضاً له كقبول الهبة أو الوصية، يعد باطلاً، لأن عبارته ملغاة. كذلك لا يجب على الطفل غير المميز شيء من العبادات الدينية كالصلاة والصوم والحج. وأما الذمة المالية فتثبت للطفل كاملة بمجرد الولادة وتلازمه طوال الحياة. 2 - أهلية الأداء: هي صلاحية الشخص لصدور التصرفات منه (أو لممارستها ومباشرتها) على وجه يعتد به شرعاً، وهي ترادف المسؤولية، وتشمل ¬
حقوق الله من صلاة وصوم وحج وسواها، والتصرفات القولية أو الفعلية الصادرة عن الشخص. فالصلاة ونحوها التي يؤديها الإنسان تسقط عنه الواجب، والجناية على مال الغير توجب المسؤولية. وأساس ثبوتها أو مناط هذه الأهلية هو التمييز أو العقل والإدراك، فمن ثبتت له أهلية الأداء صحت عباداته الدينية كالصلاة والصوم، وتصرفاته المدنية كالعقود (¬1). ولا وجود لهذه الأهلية للجنين أصلاً، ولا للطفل قبل بلوغ سن التمييز وهو تمام سن السابعة. فقبل التمييز تكون هذه الأهلية منعدمة، والمجنون مثل غير المميز لا تترتب على تصرفاتهما آثار شرعية، وتكون عقودهما باطلة، إلا أنهما يؤاخذان مالياً بالجناية أو الاعتداء على نفس الغير أو على ماله. ويقوم الولي (الأب أو الجد) أو الوصي بمباشرة العقود والتصرفات التي يحتاجها الطفل غير المميز أو المجنون. وأهلية الأداء نوعان: ناقصة وكاملة. أهلية الأداء الناقصة: هي صلاحية الشخص لصدور بعض التصرفات منه دون البعض الآخر، وهي التي يتوقف نفاذها على رأي غيره، وهذه الأهلية تثبت للشخص في دور التمييز بعد تمام سن السابعة إلى البلوغ. ويعد في حكم المميز: الشخص المعتوه الذي لم يصل به العته إلى درجة اختلال العقل وفقده، وإنما يكون ضعيف الإدراك والتمييز. ويفرق بالنسبة للمميز والمعتوه بين حقوق الله وحقوق العباد: ¬
أما حقوق الله تعالى: فتصح من الصبي المميز كالإيمان والكفر (¬1) والصلاة والصيام والحج، ولكن لا يكون ملزماً بأداء العبادات إلا على جهة التأديب والتهذيب، ولا يستتبع فعله عهدة في ذمته، فلو شرع في صلاة لا يلزمه المضي فيها، ولو أفسدها لا يجب عليه قضاؤها. وأما حقوق العباد فعند الشافعي وأحمد: تعد عقود الصبي وتصرفاته باطلة. وأما عند الحنفية: فإن تصرفاته المالية أقسام ثلاثة: نافعة نفعاً محضاً وضارة ضرراً محضاً، ودائرة بين النفع والضرر، على النحو السابق الذي تقدم. وأهلية الأداء الكاملة: هي صلاحية الشخص لمباشرة التصرفات على وجه يعتد به شرعاً دون توقف على رأي غيره. وتثبت لمن بلغ الحلم عاقلاً أي للبالغ الرشيد، فله بموجبها ممارسة كل العقود، من غير توقف على إجازة أحد. والبلوغ يحصل إما بظهور علامة من علاماته الطبيعية كاحتلام الولد (أي الإنزال) ومجيء العادة الشهرية (الحيض) عند الأنثى، أو بتمام الخامسة عشرة عند جمهور الفقهاء غير أبي حنيفة لكل من الفتى والفتاة، وعليه الفتوى والعمل، جاء في المادة (985 مجلة): «يثبت حد البلوغ بالاحتلام والإحبال والحيض والحبل» ونصت المادة (986 مجلة): «على أن منتهى البلوغ خمس عشرة سنة». وقدر أبو حنيفة سن البلوغ بثماني عشرة سنة للفتى وسبع عشرة سنة للفتاة. ¬
أدوار الأهلية
وقدره الإمام مالك لهما بتمام ثماني عشرة سنة، وقيل بتمام السابعة عشرة سنة والدخول في الثامنة عشرة (¬1). والسبب في ارتباط هذه الأهلية بالبلوغ: هو أن الأصل فيها أن تتحقق بتوافر العقل، ولما كان العقل من الأمور الخفية ارتبط بالبلوغ، لأنه مظنة العقل، والأحكام ترتبط بعلل ظاهرة منضبطة، فيصبح الشخص عاقلاً بمجرد البلوغ، وتثبت له حينئذ أهلية أداءٍ كاملة ما لم يعترضه عارض من عوارض الأهلية. وعندها يصبح الإنسان أهلاً للتكاليف الشرعية، ويجب عليه أداؤها، ويأثم بتركها، وتصح منه جميع العقود والتصرفات، وتترتب عليه مختلف آثارها ويؤاخذ شرعاً على جميع الأعمال أو الأفعال الجنائية الصادرة عنه. أدوار الأهلية: يفهم مما سبق أن أهلية الإنسان من مبدأ حياته في بطن أمه إلى اكتمال رجولته تمر في مراحل خمس أو أدوار خمسة هي: دور الجنين، ودور الطفولة (عدم التمييز)، ودور التمييز، ودور البلوغ، ودور الرشد (¬2). الدور الأول ـ دور الجنين: يبدأ من بدء الحمل وينتهى بالولادة، وفيه تثبت للجنين أهلية وجوب ناقصة تمكنه من ثبوت أربعة حقوق ضرورية له ذكرت سابقاً، وليست له أهلية أداء ولا ذمة مالية. ¬
الدور الثاني ـ دور الطفولة
الدور الثاني ـ دور الطفولة: ويبدأ من وقت الولادة ويستمر إلى وقت التمييز وهو بلوغ السابعة من العمر. وفيه تثبت للطفل غير المميز أهلية وجوب كاملة، فيستحق الحقوق ويلتزم بالواجبات التي تكون نتيجة ممارسة وليه بعض التصرفات نيابة عنه، فإذا اشتري له أو وهب له ملك، وجب عليه العوض في المعاوضات المالية، وتكون له ذمة كاملة. وليست له أهلية أداء، فتكون أقواله كلها هدراً، وعقوده باطلة، حتى ولو كانت نافعة نفعاً محضاً له كقبول الهبة أو الوصية، وينوب عنه فيها وليه الشرعي أو وصيه. جاء في المادة (966 مجلة): «لا يصح تصرفات الصغير غير المميز وإن أذن له وليه». كذلك تكون أفعاله هدراً سواء أكانت دينية كالصلاة والصيام فلا تصح منه، أو مدنية كقبض المبيع أو الوديعة أو القرض، فلا تصح. وأما جناياته كالقتل والضرب والقطع فلا تستوجب العقوبة البدنية، كالقصاص والحبس، ولا يحرم من الميراث بقتل مورثه لسقوط المؤاخذة عنه، وإنما يلزم في ماله بدفع التعويض أو ضمان ما أتلفه من الأنفس والأموال حفاظاً عليها. الدور الثالث ـ دور التمييز: يبدأ بعد سن السابعة ويستمر إلى البلوغ عاقلاً. ومعنى التمييز: أن يصبح الولد بحالة يميز فيها بين الخير والشر، والنفع والضرر، ويعرف معاني الألفاظ إجمالاً، فيدرك أن البيع مثلاً سالب للمال وأن الشراء جالب للملك. وفيه تثبت للمميز أهلية أداء ناقصة: دينية، ومدنية، فتصح منه العبادات البدنية كالصلاة والصيام، ويثاب عليها، وإن لم تكن مفروضة عليه. كما تصح
الدور الرابع ـ دور البلوغ
منه مباشرة التصرفات المالية، مثل قبول الهبة أو الصدقة مطلقاً، والبيع والشراء موقوفاً على إجازة وليه. ولا يصح منه التصرف الضار بمصلحته كالتبرع بشيء من أمواله، على ما سبق بيانه. الدور الرابع ـ دور البلوغ: يبدأ من البلوغ إلى وقت الرشد. وقد اتفق الفقهاء عملاً بالآيات القرآنية (¬1) والأحاديث النبوية (¬2) على أن البالغ يصبح مكلفاً بجميع التكاليف الشرعية. وتكتمل لديه أهلية الأداء الدينية، فيطالب بالإيمان بعناصره الستة (بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره) وبالإسلام بأركانه الخمسة (شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد اً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً). وبتطبيق أحكام الشريعة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، واحترام الأموال والأنفس والأعراض، واجتناب المحظورات الشرعية والمعاصي والمنكرات التي تضر بمصلحة الفرد والجماعة. وأما أهلية الأداء المدنية: فتكتمل عند الفقهاء، خلافاً للقانون، بسن البلوغ إذا بلغ الولد راشداً، فتنفذ تصرفاته المالية وتسلم إليه أمواله. فإن لم يؤنس منه الرشد، فلا تنفذ تصرفاته، ولا تسلم إليه أمواله؛ لأن الشرع جعل البلوغ أمارة على كمال العقل، فإن ثبت العكس عمل به. وسن الرشد في القانون السوري 81 سنة، و12 سنة في القانون المصري. الدور الخامس ـ دور الرشد: الرشد أكمل مراحل الأهلية، ومعناه عند ¬
الفقهاء (¬1): حسن التصرف في المال من الوجهة الدنيوية، ولو كان فاسقاً من الوجهة الدينية (م 947 مجلة) ويتوافر بتحقق الخبرة المالية بتدبير الأموال وحسن استثمارها. وهو أمر يختلف باختلاف الأشخاص والبيئة والثقافة. فقد يرافق البلوغ، وقد يتأخر عنه قليلاً أو كثيراً، وقد يتقدمه، لكن لا اعتبار له قبل البلوغ، ومرجعه إلى الاختبار والتجربة عملاً بالآية القرآنية: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح، فإن آنستم منهم رشداً، فادفعوا إليهم أموالهم} [النساء:6/ 4]. وبناء عليه: إذا بلغ الشخص رشيداً كملت أهليته، وارتفعت الولاية عنه، وسلمت إليه أمواله، ونفذت تصرفاته وإقراراته. وإن بلغ غير رشيد بقي ناقص أهلية الأداء، واستمرت الولاية المالية عليه عند جمهور الفقهاء، فلا تنفذ تصرفاته، ولا تسلم إليه أمواله. أما الولاية على النفس كالتأديب والتطبيب والتعليم والتزويج فترتفع عنه بمجرد بلوغه عاقلاً، أي أن اشتراط الرشد محصور في التصرفات المالية، وأما غير ذلك كالزواج والطلاق فإنها نافذة منه بمجرد البلوغ عاقلاً. وخالف أبو حنيفة في هذا فقال: إذا بلغ الشخص عاقلاً غير رشيد كملت أهليته، وارتفعت الولايةعنه، احتراماً لآدميته وحفاظاً على كرامته، ولكن لا تسلم إليه أمواله على سبيل الاحتياط والتأديب. لا على سبيل الحجر عليه، لأنه لا ¬
عوارض الأهلية
يرى الحجر على السفيه (أي المبذر)، وأما منع أمواله عنه فينتهي: إما بالرشد فعلاً، أو ببلوغه خمساً وعشرين سنة (¬1). وليس للرشد سن معينة عند جمهور الفقهاء، وإنما متروك لاستعداد الشخص وتربيته وبيئته، وليس في النصوص الشرعية تحديد له. أما قانون الأحوال الشخصية السوري (م 16) والقانون المدني السوري (م46) فقد حدد سن الرشد فيها بـ (18) سنة ميلادية كاملة، وفي القانون المصري (21) سنة. فما قبل هذه السن لا تسلم للشخص أمواله، ولا تنفذ تصرفاته، فإذا بلغ الإنسان هذه السن سلمت إليه أمواله إذا لم يكن محجوراً عليه. ورفع سن الرشد إلى هذا الحد يتفق مع ظروف الحياة الحديثة، التي تعقَّدت فيها المعاملات، وتدهورت فيها الأخلاق، وشاع الخداع والاحتيال، ولا مانع في الشريعة من ذلك عملاً بما تقتضيه المصلحة في حماية الناشئة وصيانة أموالهم. عوارض الأهلية أهلية الأداء: هي أساس التعامل والتعاقد كما عرفنا، إلا أن هذه الأهلية قد يعترضها بعض العوارض فتؤثر فيها، والعوارض: هي ما يطرأ على الإنسان فيزيل أهليته أو ينقصها أو يغير بعض أحكامها. وهي نوعان عند علماء أصول الفقه: 1 - عوارض سماوية: وهي التي لم يكن للشخص في إيجادها اختيار واكتساب. 2 - وعوارض مكتسبة: وهي التي يكون للشخص دخل واختبار في تحصيلها. ¬
1 - الجنون
وسأقتصر هنا على إعطاء فكرة موجزة عن هذه العوارض، ما عدا مرض الموت والدين فإنهما يتطلبان مزيداً من البحث والإيضاح. 1 - الجنون: اختلال في العقل ينشأ عنه اضطراب أو هيجان (¬1). وحكمه أنه سواء أكان مُطْبقاً (مستمراً) أم غير مطبق (متقطع) معدم للأهلية حال وجوده، فتكون تصرفات المجنون القولية والفعلية كغير المميز لاغية باطلة لا أثر لها. ولكنه يطالب بضمان أفعاله الجنائية على النفس أو المال (¬2). جاء في المادة (979 مجلة): (المجنون المطبق هو في حكم الصغير غير المميز). 2 - العته: ضعف في العقل ينشأ عنه ضعف في الوعي والإدراك، يصير به المعتوه مختلط الكلام، فيشبه مرة كلام العقلاء، ومرة كلام المجانين. ويتميز المعتوه عن المجنون بالهدوء في أوضاعه فلا يضرب ولا يشتم كالمجنون. فالمعتوه إذن: هو من كان عليل الفهم مختلط الكلام فاسد التدبير. وحكمه حكم الصبي المميز كما سبق، أي أن لصاحبه أهلية أداء ناقصة (¬3). 3 - الإغماء: تعطل القوى المدركة المحركة حركة إرادية بسبب مرض ¬
4 - النوم
يعرض للدماغ أو القلب. وهو يشبه النوم في تعطيل العقل، إلا أن النوم عارض طبيعي، والإغماء غير طبيعي، فيكون حكمهما واحداً في التصرفات، وهو إلغاؤها وبطلانها لانعدام القصد عند المغمى عليه (¬1). 4 - النوم: فتور طبيعي يعتري الإنسان في فترات منتظمة أو غير منتظمة لا يزيل العقل، بل يمنعه عن العمل، ولا يزيل الحواس الظاهرة، بل يمنعها أيضاً عن العمل. وعبارات النائم كالمغمى عليه لا اعتبار لها إطلاقاً (¬2). 5 - السُّكْر: حالة تعرض للإنسان بامتلاء دماغه من الأبخرة المتصاعدة إليه، فيتعطل معه عقله المميز بين الأمور الحسنة والقبيحة. وهو نوعان: سكر بطريق مباح كالحاصل من الدواء أو البنج، أو حالة الاضطرار أو الإكراه. وسكر بطريق حرام كالحاصل من الخمر أو أي مسكر آخر حتى البيرة. والسكر بنوعيه لا يذهب العقل، بل يعطله فترة من الزمن، ويزيل الإرادة والقصد. وحكمه على المشهور عند المالكية وابن تيمية وابن القيم من الحنابلة (¬3): أنه يبطل العبارة ولا يترتب عليها التزام، فتبطل عقوده وتصرفاته لعدم سلامة القصد أو الإرادة، سواء أكان بطريق مباح أو محظور، فلا يصح يمينه وطلاقه وإقراره ولا بيعه وهبته ولا سائر أقواله (¬4). إلا أن المالكية قالوا في الطلاق: لو سكر سكراً حراماً صح طلاقه، إلا أن لا يميز فلا طلاق عليه لأنه صار كالمجنون. ¬
6 - السفه
وقال جمهور الفقهاء (غير المذكورين) (¬1): يفرق بين السكر بمباح فليس لعبارته أي اعتبار، وبين السكر بمحرم، فتقبل عبارته زجراً له وعقاباً على تسببه في تعطيل عقله، فتعد تصرفاته من قول أو فعل صحيحة نافذة، عقاباً وزجراً له ولأمثاله، سواء في ذلك الزواج والطلاق والبيع والشراء والإجارة، والرهن والكفالة ونحوها. 6 - السفه: خفة تعتري الإنسان، فتحمله على العمل بخلاف موجب العقل والشرع مع قيام العقل حقيقة، والمراد به هنا ما يقابل الرشد: وهو تبذير المال وإنفاقه في غير حكمة، ولو في أمور الخير عند الحنفية (¬2) (م 946 مجلة) كبناء المساجد والمدارس والملاجئ. والسفه لا يؤثر في الأهلية، فيظل السفيه كامل الأهلية، لكنه يمنع من بعض التصرفات. الحجر على السفيه (¬3): قد يبلغ الشخص سفيهاً، وقد يطرأ عليه السفه بعد بلوغه راشداً. أـ من بلغ سفيهاً: اتفق الفقهاء على أنّ الصبي إذا بلغ سفيهاً يمنع عنه ماله، ويظل تحت ولاية وليه، لقوله تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً وارزقوهم فيها} [النساء:5/ 4]. ويستمر هذا المنع أبداً عند جمهور الفقهاء والصاحبين، حتى يتحقق رشده لقوله تعالى: {فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم} [النساء:6/ 4]. ¬
جاء في المادة (982 مجلة): «إذا بلغ الصبي غير الرشيد لم تدفع إلىه أمواله، ما لم يتحقق رشده، ويمنع من التصرف كما في السابق». وقال أبو حنيفة: تنتهي فترة منع ماله عنه ببلوغه خمساً وعشرين سنة؛ لأن هذه السن غالباً يتحقق فيها الرشد، فإن لم يرشد لا ينتظر منه رشد بعدئذ. وأما تصرفاته في فترة منع ماله عنه فلا ينفذ منها إلا ما كان نافعاً نفعاً محضاً له أو الوصية في حدود الثلث، أو كانت لا تقبل الفسخ: وهي الزواج والطلاق والرجعة واليمين. ويمنع من باقي التصرفات. ب ـ من بلغ رشيداً ثم صار سفيهاً: لا يجيز أبو حنيفة الحجر عليه، لأنه حر في تصرفاته، والحجر ينافي الحرية، وفيه إهدار لإنسانيته وكرامته. وقال جمهور الفقهاء، والصاحبان (أبو يوسف ومحمد) وبرأيهما يفتى في المذهب الحنفي: يجوز الحجر على السفيه، رعاية لمصلحته، ومحافظة على ماله، حتى لا يكون عالة على غيره. ويكون حكمه حينئذ حكم الصبي المميز في التصرفات (¬1)؛ لقوله تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم} [النساء:5/ 4] وقوله سبحانه: {فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً، أو لا يستطيع أن يمل هو، فليملل وليه بالعدل} [البقرة:282/ 2] مما يدل على ثبوت الولاية على السفيه (¬2). إلا أن الحجر على السفيه في هذه الحالة يكون بحكم قضائي، بالتثبت من السفه أو التبذير، ومنعاً من إلحاق الضرر بمن يتعامل مع السفيه من غير بينة وتحقق من حاله. وهذا رأي أبي يوسف والشافعي وأحمد ومالك رحمهم الله تعالى. ¬
الغفلة والسفه
والحجر في هذه الحالة محصور في التصرفات التي تحتمل الفسخ، ويبطلها الهزل كالبيع والإجارة والرهن. أما التصرفات التي لا تحتمل الفسخ ولا يبطلها الهزل كالزواج والطلاق والرجعة والخلع، فلا يحجر عليه بالإجماع. الغفلة والسفه: الغفلة ملحقة بالسفه من ناحيةجواز الحجر عند جمهور الفقهاء وعدمه عند أبي حنيفة (¬1). وذو الغفلة: هو من لا يهتدي إلى أسباب الربح والخسارة، كما يهتدي غيره، وإنما يخدع بسهولة بسبب البساطة وسلامة القلب، مما يؤدي إلى غبنه في المعاملات. وحكم المغفل والسفيه سواء. أما الفرق بينهما فهو أن السفيه كامل الإدراك، ويرجع سوء تصرفه إلى سوء اختياره. وأما ذو الغفلة: فهو ضعيف الإدراك، ويرجع سوء تصرفه إلى ضعف عقله وإدراكه للخير والشر. 7 - الدين أو المديونية: الخلاف الذي ذكرفي السفه والغفلة من ناحية الحجر وعدمه يجري في الدين. فأبو حنيفة لا يجيز الحجر على المدين، وإن استغرق دينه ماله، لأنه كامل الأهلية بالعقل، فلا حجر عليه، حفاظاً على حريته في التصرف وإنسانيته. وإنما يؤمر بسداد ديونه، فإن أبى يحبس ليبيع ماله بنفسه ويؤدي ما عليه من الديون. وقال الصاحبان (أبو يوسف ومحمد) والأئمة الثلاثة: (مالك والشافعي وأحمد) (¬2): يحجر القاضي على المدين الذي ترتبت عليه ديون حالّة الأجل، ¬
8 - مرض الموت
هذا مع العلم بأن أصل المذهب الحنفي عدم جواز الحجر بسبب الدين. لكن المفتى به عند الحنفية هو قول الصاحبين وهو جواز الحجر. وكانت ديونه مستغرقة لماله (أي محيطة بها) وطلب الدائنون الغرماء الحجر عليه (¬1) وهذا هو المفلس، والمفلس لغة: من لا مال له، وشرعاً، من دينه أكثر من ماله. وأجاز المالكية الحجر على المدين المفلس دون حاجة لحكم قضائي، أي على الغريم نفسه، ولو كان الدين المحيط بالمال مؤجلاً. وبالحجر على المدين تنتقص أهليته، ويصبح كالصغير المميز، ومتى وقع الحجر عليه صارت تصرفاته المالية التي تضر بدائنيه موقوفة على إجازتهم، سواء أكانت تلك التصرفات تبرعات محضة كالهبة أو الوقف، أم معاوضات مشتملة على المحاباة في الثمن، كالبيع بأقل من القيمة، أو الشراء بأكثر من القيمة، فإن أجازوا التصرف نفذ، وإن رفضوه بطل. وهذا يعني عند الحنفية: أنه إذا صح الحجر على المدين، صار المحجور كمريض عليه ديون الصحة، فكل تصرف أدى إلى إبطال حق الدائنين الغرماء، فالحجر (أي المنع من التصرف) يؤثر فيه كالهبة والصدقة. وأما البيع: فإن كان بمثل القيمة جاز، وإن كان بغبن فلا يجوز، ويتخير المشتري بين إزالة الغبن، وبين الفسخ، كبيع المريض. ويجوز له الزواج بمهر المثل والطلاق والخلع ونحو ذلك، كما يجوز له قبول الهبات والتبرعات. 8 - مرض الموت: البحث فيه يتناول تعريفه وما يلحق به، والحقوق المتعلقة به، وحقوق المريض ¬
أـ تعريفه
نفسه، وحقوق الدائنين والموصى لهم والورثة، وتصرفات المريض نفسه، وإقراره (¬1). أـ تعريفه: هو المرض الذي يعجز الرجل أو المرأة عن ممارسة أعمالها المعتادة ويتصل به الموت قبل مضي سنة من بدئه، إذا لم يكن في حالة تزايد أو تغير، فإن كان يتزايد اعتبر مرض موت من تاريخ اشتداده أو تغيره، ولو دام أكثر من سنة (م1595 مجلة). ويقال لصاحبه: المريض؛ ويقابله: الصحيح. وهذا هو مراد فقهاء الحنفية عند إطلاق كلمة (المريض) أي من هو في مرض الموت. أو كلمة (الصحيح) أي من ليس في حال مرض الموت، ولو كان مريضاً بمرض آخر. ولا بد لتوافر معنى مرض الموت من أمرين: أن يكون مما يغلب فيه الهلاك عادة وأن يتصل به الموت فعلاً، ولو من حادث آخر كالقتل والحرق والغرق وغيرها. وبناء عليه ألحق الفقهاء به حالات مثل (¬2): ركاب سفينة جاءتها ريح عاصف، وظنوا أن الموت نازل بهم. الأسرى لدى دولة اعتادت قتلهم. المجاهد الذي خرج للقاء العدو بائعاً نفسه في سبيل الله والوطن. ب ـ حكمه والحقوق المتعلقة به: مرض الموت لا ينافي أهلية وجوب ¬
ج ـ حقوق المريض الخاصة
الأحكام الشرعية في حقه، سواء حقوق الله وحقوق العباد وأهلية العبادة، لأنه لاتأثير له على الذمة والعقل والنطق. ولا ينافي أيضاً أهلية الأداء؛ لأنه لا يخل بالعقل، فتجب للمصاب به حقوق غيره، كما تجب على الصحيح. وتظل عباراته وأقواله معتبرة كالبيع والهبة والإجارة والزواج والطلاق وسائر التصرفات. إلا أنه يحجر عليه ويمنع من بعض التصرفات كالمديون حماية لحقوق الدائنين التي تصبح متعلقة بماله بعد أن كانت متعلقة بذمته فقط، وحماية لحقوق الورثة أيضاً التي تصبح متعلقة بأعيان وموجودات التركة نفسها في رأي أبي حنيفة خلافاً لصاحبيه. ج ـ حقوق المريض الخاصة: تصرفات المريض الضرورية الخاصة بشخصه وأسرته نافذة، لا تتوقف على إجازة أحد، وهي ما يلي: أولاً ـ النفقات الضرورية اللازمة للطعام والكسوة والسكنى له ولمن تلزمه نفقته، أو اللازمة للعلاج كأجر الطبيب وثمن الدواء وأجور عملية جراحية ونحوها. ثانياً ـ الزواج: للمريض إبرام عقد زواج، لأنه قد يحتاج إلى من يخدمه أو يؤنسه، بشرط ألا يزيد المهر الذي يحدده على مهر المثل، فإن زاد عليه كانت الزيادة تبرعاً وصية موقوفة على إجازة الورثة إن زادت على ثلث التركة، فإن كانت في حدود هذا الثلث نفذت بدون إجازتهم. ثالثاً: الطلاق: الطلاق نافذ أثناء مرض الموت باتفاق الفقهاء، لكنه إذا كان بائناً بغير رضا المرأة ومات الرجل في أثناء العدة، استحقت الميراث منه، لأنه
بطلاقها يعتبر فارّ اً (هارباً) من ميراثها، فيعامل بنقيض مقصوده. وهذا رأي الحنفية، وعليه العمل في المحاكم الحالية (¬1). والخلع جائز أيضاً كالطلاق لكن الرجل لا يستحق من بدل الخلع الذي تدفعه المرأة له إذا ماتت في العدة إلا الأقل من ثلاثة (بدل الخلع، وثلث تركة الزوجة، ونصيب الزوج من ميراثه منها). وإن ماتت بعد العدة استحق الأقل من اثنين (بدل الخلع، وثلث التركة). رابعاً ـ العقود الواردة على المنافع، سواء أكانت بعوض أم بغير عوض كالإجارة والإعارة والمزارعة والمساقاة ونحوها. للمريض مباشرة هذه العقود ولو كان العقد بأقل من عوض المثل، دون أن يحق لأحد من الورثة أو الدائنين الاعتراض عليه؛ لأن المنافع ليست أموالاً في مذهب الحنفية، فلا يتعلق بها حق لأحد الورثة أو الدائنين، ولأن التصرف في المنافع ينتهي بمجرد موت أحد العاقدين، فلا يكون هناك حاجة لاعتراض الدائنين أو الورثة. وأما غير الحنفية الذين يعدون المنافع أموالاً، فإن التصرف فيها خاضع لإجازة أصحاب الحق. خامساً ـ العقود المتعقلة بالربح ولا تمس رأس المال كالشركة والمضاربة تصحان من المريض، ولو بغبن؛ لأن الربح كالمنافع لا حق لأحد فيه، ولأن الشركة تبطل بموت المريض، فلا ضرر فيها على أحد؛ لأن حقوق الورثة أو الدائنين تتعلق بأعيان التركة أو بماليتها. والخلاصة: إن كل تصرف يضطر إليه المريض، أو لا يمس حقوق الدائنين أو الورثة هو نافذ لا يتوقف على إجازة أحد. ¬
د ـ حقوق الدائنين
د ـ حقوق الدائنين: تأتي بعد حقوق المريض الخاصة. فإذا كان المريض مديناً منع من التصرف الضار بمصلحة الدائنين. وعليه إذا كان المريض مديناً بدين مستغرق (محيط بكل ماله) منع من التبرعات أو ما في حكمها، كالهبة والوقف والوصية بشيء من أمواله، والبيع أو الشراء بالمحاباة. ويكون تصرفه موقوفاً على إجازة الدائنين بعد وفاة المريض. وإن كان المريض مديناً بدين غير مستغرق، اعتبر تصرفه مع غير الوارث نافذاً إذا لم يشتمل على غبن فاحش. أما إذا حدث التصرف مع وارث، فله حكم الوصية: ينفذ من الثلث بعد وفاء الديون. ويتوقف على إجازة الورثة فيما يزيد عن الثلث. هـ ـ حقوق الموصى له: للمريض أن يوصي بقدر ثلث التركة، فإذا مات مديناً بدين مستغرق للتركة بطلت الوصية، إلا إذا أجازها الدائنون. وإذا لم يكن مديناً أو مديناً بدين غير مستغرق نفذت الوصية لأجنبي في حدود ثلث التركة. وإن كانت الوصية لوارث صارت موقوفة على إجازة الورثة، مهما كان الموصى به، لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا وصية لوارث». وـ حقوق الورثة: تتعلق حقوق الورثة بثلث تركة المريض بعد وفاء الديون وتنفيذ الوصايا. فإن لم يكن هناك ديون ولا وصايا استحقوا التركة كلها. وتأتي حقوقهم بعد حقوق الدائنين والموصى لهم. وبناء عليه: كل تصرف من المريض لايضر بحقوق الورثة يكون صحيحاً نافذاً لا اعتراض لأحد عليه. وإن كان التصرف ضاراً بحقوقهم، كان لهم مع نفاذه حال الحياة حق إبطاله بعد الموت إن كان مما يقبل الفسخ كالتبرعات.
لكن ما نوع حق الورثة بالتركة: هل هو حق شخصي أو حق عيني (¬1)؟ قال أبو حنيفة: يتعلق حق الورثة بمالية التركة إن تصرف المريض لأجنبي غير وارث، ويتعلق حقهم بأعيان التركة وذاتها نفسها إن تصرف المريض لوارث، أي أن حقهم في الحالة الثانية حق عيني، وفي الأولى حق شخصي. ويترتب عليه: يصح تصرف المريض لغير الوارث ببعض أموال التركة بمثل القيمة، دون اعتراض من أحد الورثة. ولا يصح تصرف المريض لوارث ببعض أموال التركة ولو بقيمته بلا أي غبن. ويحق لباقي الورثة نقض هذا التصرف لما فيه من ضرر بمصلحتهم؛ لأن حقهم تعلق بأعيان التركة، وإيثار بعض الورثة على بعض لا يجوز. أما في حال تصرف المريض مع غير الورثة فإن حقهم تعلق بقيمة التركة أو ماليتها. وقال الصاحبان (أبو يوسف ومحمد): يتعلق حق الورثة كحق الدائنين العاديين بمالية التركة، أي بقيمتها، لا بأعيانها، سواء أكان تصرف المريض مع وارث أم غير وارث. فيصح تصرف المريض بمال مطلقاً (لوارث أو لغير وارث) إذا كان بثمن المثل أي بدون غبن، إذ ليس فيه ضرر بباقي الورثة؛ لأن حقوقهم في التركة متعلقة بناحية أنها مال فقط. والخلاصة: أن هناك ـ على الرأي الراجح وهو رأي أبي حنيفة ـ فرقاً بين حق الدائنين وحق الورثة: وهو أن حق الدائنين يتعلق بمال المدين فقط، لا بأعيان التركة نفسها. حتى جاز للمريض مبادلة مال بيعاً أو شراءً دون حاجة لإذن الدائن، ويجوز للورثة إعطاء الدائن دينه نقداً، ثم يتصرفون بأعيان التركة كما يشاؤون. ¬
ز ـ تصرفات المريض
ز ـ تصرفات المريض: إذا كان التصرف الصادر من المريض لا يقبل الفسخ أو الإبطال كالزواج والطلاق والرجعة والعفو عن القصاص، نفذ بعد الموت في حدود ثلث التركة. وإن كان التصرف قابلاً للفسخ، كان موقوفاً على إجازة أصحاب الحق بعد الوفاة إذا كان ضاراً بمصلحتهم كالتبرع والهبة والوقف وبيع المحاباة، وكالبيع المشتمل على غبن. فإن كان التصرف لا غبن فيه، ومع أجنبي غير وارث، نفذ ولم يتوقف على إجازة أحد. ح ـ إقرار المريض: للمريض أن يقر بدين عليه لأجنبي أو لوارث. فإن كان لأجنبي غير وارث فهو صحيح نافذ دون حاجة لإجازة الورثة، ولو أحاط الإقرار بجميع ماله (م 1601 مجلة)، لكن تقدم عليه عند الحنفية ديون الصحة (¬1). وإن كان الإقرار لوارث فلا ينفذ إلا بإجازة باقي الورثة، فإن أجازوه نفذ، وإلا بطل. لكن يصح الإقرار لوارث استثناء كما في حال الإقرار بقبض أمانته الموجودة عند وارث، أو باستهلاك الأمانة أو الوديعة الموجودة عنده لوارث (م1598 مجلة). ثانياً ـ الولاية: معناها والفرق بينها وبين الأهلية، صلتها بالعقد، أنواعها، الأولياء ودرجاتهم، محتاجو الولاية، مبدأ الولاية، شروط الولاية، تصرفات الولي (مدى صلاحياته). تعريف الولاية: الولاية في اللغة: هي تولي الأمر والقيام به أو عليه. وفي اصطلاح الشرع: هي سلطة شرعية يتمكن بها صاحبها من إنشاء العقود ¬
صلتها بالعقد والفرق بينها وبين الأهلية
والتصرفات وتنفيذها، أي ترتيب الآثار الشرعية عليها. والولاية على القاصر: هي إشراف الراشد على شؤون القاصر الشخصية والمالية. صلتها بالعقد والفرق بينها وبين الأهلية: يتطلب العقد لوجوده ونفاذه وترتيب آثاره الشرعية أن يكون العاقد ذا أهلية أداء، وذا ولاية على العقد بأن يكون أصيلاً عن نفسه أو ولياً أو وصياً على غيره. فإن لم يكن أصيلاً أو ولياً أو وصياً كان فضولياً. وأهلية الأداء شرط انعقاد العقد ووجوده، فإن لم تتوافر كان العقد باطلاً. أما الولاية فهي شرط لنفاذ العقد (¬1) وترتب الآثار الشرعية عليه. وهي لا تثبت إلا لكامل أهلية الأداء. أما ناقص أهلية الأداء فلا ولاية له على نفسه ولا على غيره. وأهلية الأداء: صلاحية الشخص لمباشرة العقود. والولاية: صلاحية الشخص لإنفاذ العقود. وبناء عليه يكون للعقد بالنظر للأهلية والولاية أحوال ثلاث (¬2): 1 - إذا كان العاقد كامل الأهلية وصاحب ولاية: اعتبر العقد صحيحاً نافذاً إلا إذا كان فيه ضرر بآخر فيصبح موقوفاً على الإجازة، كالتصرف بالمأجور أو المرهون قبل انتهاء مدة الإجازة أو قبل أداء الدين، وتصرف المدين الذي يضر الدائنين، وتصرف المريض مرض الموت، على ما سبق بيانه. 2 - إذا صدر العقد من عديم الأهلية وفاقد الولاية، كالمجنون والصبي غير ¬
أنواع الولاية
المميز، كان باطلاً. فإن كان العاقد ناقص الأهلية كالصبي المميز، توقف عقده المتردد بين الضرر والنفع كالبيع على إجازة وليه أو وصيه، على ما سبق بيانه. 3 - إذا صدر العقد من صاحب أهلية أداء كاملة، ولكنه فاقد الولاية، وهو الفضولي، كان موقوفاً على إجازة المعقود له، على ما سيتضح في بحث لاحق، أي أنني سأخصص مبحثاً مستقلاً لكل من الوكالةوالفضالة باعتبارهما من أنواع النيابة عن الغير حال الحياة. أنواع الولاية: الولاية إما أن تكون أصلية: بأن يتولى الشخص عقداً أوتصرفاً لنفسه، بأن يكون كامل أهلية الأداء (بالغاً عاقلاً راشداً)، أو نيابية: بأن يتولى الشخص أمور غيره. والولاية النيابية أو النيابة الشرعية عن الغير: إما أن تكون اختيارية أو إجبارية (¬1): الاختيارية: هي الوكالة أي تفويض التصرف والحفظ إلى الغيرعلى ماسيأتي. والإجبارية: هي تفويض الشرع أو القضاء التصرف لمصلحة القاصر، كولاية الأب أو الجد أو الوصي على الصغير، وولاية القاضي على القاصر. فمصدر ولاية الأب أو الجد أو القاضي هو الشرع. ومصدر ولاية الوصي إما اختيار الأب أو الجد، أو تعيين القاضي. والولاية النيابية الإجبارية: إما أن يكون ولاية على النفس أو ولاية على المال. ¬
الأولياء ودرجاتهم
الولاية على النفس: هي الإشراف على شؤون القاصر الشخصية كالتزويج والتعليم والتأديب والتطبيب والتشغيل في حرفة ونحو ذلك. وليس هنا محل بحثها. والولاية على المال: هي الإشراف على شؤون القاصر المالية من حفظ المال واستثماره وإبرام العقود والتصرفات المتعلقة بالمال. وهي محل البحث هنا. الأولياء ودرجاتهم: الولاية على النفس: تثبت للأقرب فالأقرب من العصبات (¬1) على الترتيب التالي: 1 - البنوة (الأبناء ثم أبناء الأبناء) فابن المجنون والمجنونة مثلاً يتولى شؤونهما الشخصية. 2 - الأبوة (الآباء ثم الأجداد). 3 ـ الأخوة (الإخوة ثم أبناء الإخوة). 4 - العمومة (الأعمام ثم أبناء الأعمام). وهذا هو ترتيب الإرث والولاية في الزواج، وقد نصت على ذلك المادة (21) من قانون الأحوال الشخصية السوري. والولاية على المال: بالنسبة للصغير القاصر: تثبت عند الحنفية على الترتيب التالي: الأب، ثم وصي الأب، ثم الجد، ثم القاضي، ثم وصي القاضي: وهو من يعينه القاضي. ¬
من يحتاج إلى الولاية
والسبب في هذا الترتيب (¬1): أن الأب أوفر الناس شفقة على ولده. ويعقبه وصيه الذي اختاره ليقوم مقامه، والظاهر أنه ما اختاره من بين سائر الناس إلا لعلمه بأن شفقته على الصغير مثل شفقته عليه. والجد يأتي بعدئذ لأن شفقته دون شفقة الأب. ووصيه يليه ويقوم مقامه، لأنه وثقه وارتضاه. والقاضي أمين على مصالح الأمة وبخاصة اليتامى فصلح أن يكون ولياً، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «السلطان ولي من لا ولي له». يتبين من ذلك أن الأب، والجد أب الأب لهما ولاية تامة على النفس وعلى المال معاً. وقد نصت على ذلك المادة (170) من قانون الأحوال الشخصية السوري: «للأب ثم للجد العصبي ولاية على نفس القاصر وماله، وهما ملتزمان بالقيام بها». كما نصت المادة 1/ 172) على من تثبت له الولاية على المال: «للأب وللجد العصبي عند عدمه دون غيرهما ولاية على مال القاصر حفظاً وتصرفاً واستثماراً». ونصت المادة (177) على الوصي المختار: وهو من يختاره الأب أو الجد قبل موته: «يجوز للأب وللجد عند فقدان الأب أن يقيم وصياً مختاراً لولده القاصر، أو الحمل، وله أن يرجع عن إيصائه». ونصت المادة (771) على وصي القاضي: وهو من يعينه القاضي: «إذا لم يكن للقاصر أو الحمل وصي مختار تعين المحكمة وصياً». من يحتاج إلى الولاية: تثبت الولاية على الصغير القاصر والمجنون والمعتوه، والمغفل، والسفيه، وقد اصطلح قانون الأحوال الشخصية السوري في المادة (163) على تسميات لأنواع الولاية على هؤلاء كما يبدو من النص التالي: ¬
«1 - النيابة الشرعية عن الغير تكون إما ولاية، أو وصاية أو قوامة، أو وكالة قضائية. 2 - الولاية للأقارب للأب أو غيره، والوصاية على الأيتام، والقوامة على المجانين والمعتوهين، والمغفلين والسفهاء. والوكالة القضائية عن المفقودين». والحقيقة أن حالات النيابة الشرعية الأربع هذه كلها داخلة تحت كلمة (الولاية) عند فقهائنا كما تبين لدينا. أما الولاية على مال الصغير القاصر: فتكون لأحد الأولياء الستة الذين ذكروا سابقاً وهم (الأب ووصيه، والجد ووصيه، والقاضي ووصيه) (¬1). وأما الولاية على المجنون أو المعتوه: إذا بلغ على هذه الحالة، فإنها تكون لمن كان وليه قبل البلوغ من أب أو جد أو وصي، باتفاق المذاهب الأربعة، كما تقدم. فإن بلغ الشخص رشيداً ثم طرأ عليه الجنون أو العته، عادت إلىه ولاية من كان وليه قبل البلوغ، على الرأي الراجح عند الحنفية، والشافعية (¬2). وقال المالكية والحنابلة: تكون الولاية عليه حينئذ للقاضي، ولا تعود لمن كانت له من أب أو جد؛ لأن الولاية سقطت ببلوغ الصغير رشيداً، والساقط لايعود (¬3). ¬
وقانون الأحوال الشخصية السوري أخذ بالرأي الثاني في المادة (002) وهي: «1ً - المجنون والمعتوه محجوران لذاتهما، ويقام على كل منهما قيم بوثيقة» ومعنى المادة أن تصرفات المجنون والمعتوه تعد باطلة، ولو قبل شهر قرار الحجر عليهما، حماية لمصالحهما. وأما القانون المدني السوري في المادة (115) فلم يعتبر تصرفات المجنون والمعتوه باطلة إلا بعد شهر قرار الحجر عليهما حماية لاستقرار المعاملات إلا في حالتين استثناهما نص المادة وهي: 1 - يقع باطلاً تصرف المجنون والمعتوه، إذا صدر التصرف بعد شهر قرار الحجر. 2 - أما إذا صدر التصرف قبل شهر قرار الحجر، فلا يكون باطلاً إلا إذا كانت حالة الجنون أو العته شائعة وقت التعاقد، أو كان الطرف الآخر على بينة منها. وأما الولاية على السفيه وذي الغفلة: فإنها تكون للقاضي باتفاق المذاهب الأربعة (¬1)؛ لأن الحجر عليهما متوقف على قضاء القاضي، حفاظاً على مالهما ومراعاة لمصلحتهما. وعلى هذا تكون تصرفاتهما صحيحة نافذة قبل إيقاع الحجر عليهما. نصت المادة (2/ 200) من قانون الأحوال الشخصية السوري على ذلك فيما يأتي: «السفيه والمغفل يحجران قضاء، وتصرفاتهما قبل القضاء نافذة، ويقام على كل منهما قيم بقرار الحجر نفسه، أو بوثيقة على حدة». ¬
واشترط القانون المدني السوري لإبطال تصرف المغفل والسفيه شهر قرار الحجر إلا في حالتين نصت المادة (116) منه على ما يأتي: «1 - إذا صدر تصرف من ذي الغفلة أو من السفيه بعد شهر قرار الحجر، سرى على هذا التصرف ما يسري على تصرفات الصبي المميز من أحكام. 2 - أما التصرف الصادر قبل شهر قرار الحجر، فلا يكون باطلاً أو قابلاً للإبطال، إلا إذا كان نتيجة استغلال أو تواطؤ». وأما الوكالة القضائية: فهي نوع من الولاية قررتها القوانين النافذة في أحوال ثلاث: 1 - المفقود والغائب: نص قانون الأحوال الشخصية السوري في المواد (202 - 206) على أصولهما والأحكام المتعلقة بهما، ومنها أن المفقود: هو كل شخص لا تعرف حياته أو مماته، أو تكون حياته محققة، ولكن لا يعرف له مكان (م 202) ومنها أنه يعتبر كالمفقود: الغائب الذي منعته ظروف قاهرة من الرجوع إلى مقامه أو إدارة شؤونه بنفسه، أو بوكيل عنه، مدة أكثر من سنة، وتعطلت بذلك مصالحه أو مصالح غيره. أما حكم زوجة المفقود فقد نصت المادة (109) من هذا القانون على أنه: «إذا غاب الزوج بلا عذر مقبول، أو حكم بعقوبة السجن أكثر من ثلاث سنوات، جاز لزوجته بعد سنة من الغياب أو السجن أن تطلب إلى القاضي التفريق، ولو كان له مال تستطيع الإنفاق منه». والتفريق للغيبة بعد سنة في هذه المادة مأخوذ من القول المعتمد في مذهب المالكية.
وأما أموال المفقود: فقد نصت المادة (302) من هذا القانون على حكمها فيما يأتي: 1 - يوقف للمفقود من تركة مورثه نصيبه فيها، فإن ظهر حياً أخذه، وإن حكم بموته رد نصيبه إلى من يستحقه من الورثة وقت موت مورثه. 2 - إن ظهر حياً بعد الحكم بموته، أخذ ما بقي من نصيبه في أيدي الورثة ولا توزع تركة المفقود قبل موته أو الحكم باعتباره ميتاً عند بلوغه الثمانين من العمر (م205). 2 - المصاب بعاهتين من ثلاث عاهات هي الصمم والبكم والعمى. نص القانون المدني السوري على ذلك في المادة (118): «1 - إذا كان الشخص أصم أبكم، أو أعمى أصم، أو أعمى أبكم، وتعذر عليه بسبب ذلك التعبير عن إرادته، جاز للمحكمة أن تعين له مساعداً قضائياً يعاونه في التصرفات التي تقتضي مصلحته فيها ذلك». 3 - المحكوم عليه بالأشغال الشاقة أو بالاعتقال: نص قانون العقوبات السوري في المادة 50 على عقوبة تبعية لهذا الشخص بالإضافة إلى السجن، وهي الحجر عليه، أو منعه من التصرف بماله، وتعيين وصي يشرف على أمواله، ونص هذه المادة ما يأتي: «1 - كل محكوم عليه بالأشغال الشاقة أو بالاعتقال يكون في خلال تنفيذ عقوبته في حالة الحجر، وتنقل ممارسة حقوقه على أملاكه، ما خلا الحقوق الملازمة للشخص (أي كالطلاق) إلى وصي وفقاً لأحكام قانون الأحوال الشخصية المتعلقة بتعيين الأوصياء على المحجور عليهم، وكل عمل وإدارة أو تصرف يقوم به المحكوم عليه يعتبر باطلاً بطلاناً مطلقاً مع الاحتفاظ بحقوق الغير من ذوي النية
مبدأ الولاية
الحسنة، ولا يمكن أن يسلم إلى المحكوم عليه أي مبلغ من دخله ما خلا المبالغ التي يجيزها القانون وأنظمة السجون». مبدأ الولاية: تبدأ الولاية على الأشخاص منذ ولادتهم، وتستمر حتى سن الرشد، أما الجنين فلا ولاية لأحد عليه قبل الولادة عند غالبية الفقهاء، فلو اشترى له شخص شيئاً أو وهب له شيء، فلا يتملكه، حتى ولو ولد حياً، وإنما تثبت له الحقوق الضرورية الأربعة التي ذكرت سابقاً. لكن قانون الأحوال الشخصية السوري في المادة (176) الذي أخذ بالمقرر في فقه الشريعة الزيدية، وقانون الولاية على المال الصادر بمصر سنة 1952م أجازا للأب أو للجد تعيين وصي للحمل المستكن. والوصي المقصود هنا في تقديري ليس مجرد أمين لحفظ المال حتى الولادة كما فهم كثير من الشراح، وإنما الذي له صلاحيات الأوصياء عادة، عملاً بإطلاق النص، وبالمفهوم من التسوية في الحكم بين وصي الحمل، ووصي القاصر في مادة واحدة، وتحقيقاً للهدف المنشود من تعيين الوصي وهو رعاية مصلحة الجنين وتثمير ماله وتنميته فضلاً عن حفظه. شروط الولي: الولاية مسؤولية كبرى في إدارة أموال وأعمال الغير، ويترتب عليها نفاذ التصرفات غالباً، لذا يشترط في الولي الخاص كالأب أو الجد أو الولي العام كالقاضي وناظر الوقف ومدير المؤسسة الخيرية شروط إما في شخصه أو في تصرفاته (¬1). 1 - كمال أهلية الأداء بالبلوغ والعقل، فلا ولاية للمجنون ولا للصغير، ¬
لأنه لا ولاية لهما على أنفسهما، فلا تكون لهما ولاية على غيرهما، إذ فاقد الشيء لايعطيه. 2 - اتحاد الدين بين الولي والمولى عليه، فلا تثبت ولاية لغير المسلم على المسلم، كما لا ولاية للمسلم على غير المسلم؛ لأن اتحاد الدين باعث غالباً على الشفقة ورعاية المصلحة. 3 - العدالة: أي الاستقامة على أمور الدين والأخلاق والمروءات (¬1)، فلا ولاية للفاسق؛ لأن فسقه يجعله متهماً في رعاية مصالح غيره. 4 - القدرة على التصرف مع الأمانة: لأن المقصود من الولاية تحقيق مصلحة المولى عليه، وهي لا تتحقق مع العجز وعدم الأمانة (¬2). 5 - رعاية مصلحة المولى عليه في التصرفات، لقوله تعالى: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} [الإسراء:34/ 17] فليس للولي سلطة في مباشرة التصرفات الضارة بالمولى عليه ضرراً محضاً، كالتبرع من مال القاصر بالهبة أو الصدقة، أو البيع أو الشراء بغبن فاحش، أو الطلاق. فإن أمكن تنفيذها على الولي نفسه نفذت وإلا كانت باطلة. ¬
تصرفات الولي ومدى صلاحياته
أما التصرفات النافعة نفعاً محضاً كقبول الهبة والوصية والكفالة بالمال، والتصرفات المترددة بين الضرر والنفع كالبيع والشراء بغبن يسير أو بمثل القيمة، فتكون صحيحة نافذة. إذا أخل الولي بأحد هذه الشروط، جاز للقاضي تبديله بسبب نقص الأهلية أو الكفر أو الفسق. فإن صار الولي غير أمين ضم القاضي إليه مساعداً آخر يعينه. تصرفات الولي ومدى صلاحياته: يتبين من شروط الولي أنه ليس له مباشرة أي تصرف يلحق ضرراً محضاً بالمولى عليه كالتبرع من ماله، وله أن يتصرف فيما يحقق مصلحة القاصر، كحفظ أمواله وإدارتها واستثمارها، والإنفاق الضروري عليه، وشراء ما لا بد له منه، وبيع المنقولات، وعلى الأب الإنفاق على الصغير إن لم يكن له مال، لقوله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} [البقرة:233/ 2]. فإن كان للصغير مال أنفق عليه من ماله. وجاز للأب المحتاج أن يأخذ نفقته الضرورية من مال الصغير، لقوله تعالى: {ومن كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف} [النساء:6/ 4]. وأما بيع عقار القاصر: فالمفتى به في مذهب الحنفية: أنه يجوز للأب بيع عقار القاصر مثل القيمة فأكثر، ولا يجوز ذلك للوصي عند متأخري الحنفية إلا للضرورة كبيعه لتسديد دين لا وفاء له إلا بهذا المبيع (¬1). ثم قرر قانون الأحوال الشخصية السوري في المادة (2/ 172) أنه لا يجوز ¬
الوكالة
للأب (أي ولا للوصي) (¬1) بيع عقار القاصر أو رهنه إلا بإذن القاضي بعد تحقق المسوغ، كبيعه للنفقة أو لوفاء الدين. هذا مجمل صلاحيات أو سلطات الولي في التصرفات، وتفصيل أحكام تصرفات كل ولي على حدة محله كتب الفقه (¬2). الوكالة الوكالة: نيابة شرعية عن الغير حال الحياة، وهي نوع من الولاية كما تقدم، وأبحث فيها ما يأتي: تعريفها، ركنها، شروطها، أنواعها وتصرفات الوكيل، هل للوكيل توكيل غيره؟ تعدد الوكلاء، الفرق بين الرسول والوكيل، حكم العقد وحقوقه في حال التوكيل، انتهاء الوكالة. تعريف الوكالة ومشروعيتها: الوكالة في اللغة تطلق ويراد بها إما الحفظ، كما في قوله تعالى: {وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل} [آل عمران:173/ 3] أي الحافظ. وإما التفويض، كما في قوله سبحانه: {وعلى الله فليتوكل المتوكلون} [إبراهيم:12/ 14] {إني توكلت على الله ربي وربكم} [هود:56/ 11] ويقال: وكل أمره إلى فلان: أي فوضه إليه واكتفى به. وعند الفقهاء يراد بها المعنيان، وإن كان المعنى الأول تبعياً والثاني هو ¬
الأصل. وعبارة الحنفية (¬1) في تعريفها: هي إقامة الشخص غيره مقام نفسه في تصرف جائز معلوم. أو هي: تفويض التصرف والحفظ إلى الوكيل. وعبارة المالكية والشافعية والحنابلة (¬2) في تعريفها: هي تفويض شخص ماله فعله مما يقبل النيابة إلى غيره ليفعله في حياته. وضابط ما يقبل النيابة هو ما يأتي: هو كل تصرف جاز للشخص مباشرته بنفسه ولو من حيث المبدأ جاز له التوكيل فيه. والناس قديماً وحديثاً بحاجة يومية إلى الوكالة في كثير من أحوالهم وأمورهم، إما أنفة أو عدم لياقة بمباشرة الشيء بالذات كتوكيل الأمير أو الوزير، وإما عجزاً عن الأمر كتوكيل المحامين في الخصومات، والخبراء بالبيع والشراء في التجارات. لذا أقرتها الشرائع السماوية، قال تعالى في القرآن الكريم حكاية عن أصحاب الكهف: {فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة، فلينظر أيها أزكى طعاماً فليأتكم برزق منه .. } [الكهف:19/ 18] الآية. وفي السنة النبوية: وكل النبي صلّى الله عليه وسلم حكيم بن حزام (أو عروة البارقي) بشراء شاة أضحية (¬3). ووكل عمرو ابن أمية الضمري في زواج أم حبيبة بنت أبي سفيان وهي بالحبشة (¬4). ووكل في القيام بأعمال الدولة كجباية الزكاة وإدارة الجيش وولاية الأقاليم. ¬
الوكالة بأجر
الوكالة بأجر: تصح الوكالة بأجر، وبغير أجر، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يبعث عماله لقبض الصدقات، ويجعل لهم عمولة (¬1). فإذا تمت الوكالة بأجر، لزم العقد، ويكون للوكيل حكم الأجير، أي أنه يلزم الوكيل بتنفيذ العمل، وليس له التخلي عنه بدون عذر يبيح له ذلك، وإذا لم يذكر الأجر صراحة حكم العرف: فإن كانت مأجورة عادة كتوكيل المحامين وسماسرة البيع والشراء، لزم أجر المثل، ويدفعه أحد العاقدين بحسب العرف. وإن كانت غير مأجورة عرفاً، كانت مجاناً، أو تبرعاً، عملاً بالأصل في الوكالات: وهو أن تكون بغير أجر على سبيل التعاون في الخير. وهذا النوع لا يلزم فيه المضي في العمل، بل للوكيل التخلي عنه في أي وقت. وهذا مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة (¬2). وقال الشافعية: الوكالة ولو بجُعل جائزة أي غير لازمة من الجانبين (¬3). ركن الوكالة: ركن الوكالة: الإيجاب والقبول، الإيجاب من الموكل كأن يقول: وكلتك بكذا، أو افعل كذا، أو أذنت لك أن تفعل كذا ونحوه. والقبول من الوكيل كأن يقول: قبلت ونحوه. ولا يشترط في القبول كونه لفظاً أو قولاً، وإنما يصح أن يكون بالفعل. فإذا علم الوكيل بالتوكيل، فباشر التصرف الموكل فيه، اعتبر ذلك قبولاً، ولا يشترط في الوكالة (كما عرفنا في بحث مجلس العقد) اتحاد مجلس الإيجاب والقبول، وإنما يكفي العلم بالوكالة ومباشرة التصرف. والوكالة بغير أجر عقد جائز غير لازم (¬4) أي يجوز لأحد العاقدين فسخه متى شاء. ¬
شروط الوكالة
والوكالة باعتبارها إطلاقاً في التصرف يصح أن تكون منجزة في الحال، كأنت وكيلي من الآن في كذا، كما يصح عند الحنفية والحنابلة (¬1): أن تكون مضافة إلى وقت في المستقبل، كأنت وكيلي في الدعوى الفلانية في الشهر القادم، أو معلقة على شرط، مثل: إن قدم فأنت وكيلي في بيع هذا الكتاب، لحاجة الناس إلى ذلك. وقال الشافعية في الأصح: لا يصح تعليق الوكالة بشرط من صفة أو وقت، مثل: إن قدم زيد أو رأس الشهر فقد وكلتك بكذا، لما في التعليق من غرر (أي احتمال)، لكن يصح عندهم جعل الوكالة منجزة في الحال، واشتراط بدء التصرف معلقاً على شرط، مثل أنت وكيلي الآن في بيع هذه الأرض، ولكن لا تبعها إلا بعد شهر، أو إلا إذا تركت وظيفتي. شروط الوكالة: يشترط لصحة الوكالة شروط في الموكل وفي الوكيل وفي المحل الموكل فيه. أما الموكل: فيشترط فيه أن يكون مالكاً للتصرف الذي يوكل فيه أي أهلاً لممارسته؛ لأن من لم يملك التصرف لا يملك تمليكه لغيره. فلا يصح التوكيل أصلاً من فاقد الأهلية كالمجنون أو الصبي غير المميز، ولا من ناقص الأهلية أي المميز في التصرفات الضارة به كالطلاق والهبة. ويصح التوكيل من المميز في التصرف النافع له كقبول الهبة، كما يصح منه التوكيل بإجازة وليه في التصرفات المترددة بين الضرر والنفع كالبيع والشراء والإيجار. ويصح التوكيل من المحجور عليه للسفه أو الغفلة فيما يباح له من التصرفات. ويصح للمرأة التوكيل في مباشرة عقد زواجها. وهذا عند الحنفية (¬2). ¬
الموكل فيه (محل الوكالة)
وقال غير الحنفية (المالكية والشافعية والحنابلة) (¬1): لا يصح التوكيل من الصبي مطلقاً؛ إذ لا يصح عندهم مباشرته لأي تصرف. كما لا يصح للمرأة توكيل امرأة أخرى في إبرام عقد زواجها. ويصح لها عند المالكية توكيل الرجل في ذلك. وأما الوكيل: فيشترط فيه أن يكون عاقلاً، فيصح أن يكون المميز وكيلاً، سواء أكان مأذوناً في التجارة أم محجوراً. ولا يصح جعل المجنون والمعتوه وغير المميز وكيلاً في التصرفات لعدم اعتبار عبارتهم. هذا عند الحنفية (¬2). وقال غير الحنفية (¬3): وكالة الصبي غير صحيحة، لأنه غير مكلف بالأحكام الشرعية، فلا تصح مباشرة التصرف لنفسه، فلا يصح توكيله عن غيره. ولا يصح أن تكون المرأة وكيلة عن غيرها في مباشرة عقد الزواج؛ لأنها لا تملك مباشرة عقدها بنفسها فلا تملك مباشرة عقد غيرها. وأما الموكل فيه (محل الوكالة): فيشترط فيه ما يأتي (¬4): 1 - أن يكون معلوماً للوكيل: فلا يصح التوكيل بالمجهول جهالة فاحشة، مثل: اشتر لي أرضاً أو جوهراً أو داراً، ويصح مع الجهالة اليسيرة مثل: اشتر لي صوفاً انكليزياً، أو اشتر لي صوفاً بسعر كذا. 2 - أن يكون التصرف مباحاً شرعاً: فلا يجوز التوكيل في فعل محرم شرعاً، كالغصب أو الاعتداء على الغير. ¬
أنواع الوكالة
3 - أن يكون مما يقبل النيابة، كالبيع والشراء والإجارة والتبرع، ورد الودائع وقضاء الديون ونحوها. وذلك لأن التصرفات بالنظر لقبولها النيابة وعدم قبولها أنواع ثلاثة: نوع يقبل النيابة اتفاقاً، كما تقدم. ونوع لا يقبل النيابة اتفاقاً، كاليمين، والعبادات الشخصية المحضة كالصلاة والصيام والطهارة من الحدث. ونوع مختلف فيه كاستيفاء القصاص والحدود الشرعية. فقال الحنفية (¬1): لايجوز التوكيل فيها، بل لا بد من حضور الموكل وقت الاستيفاء (أي التنفيذ)، ولأن غيبته شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات. وقال غير الحنفية (¬2): يجوز التوكيل باستيفاء الحدود والقصاص، سواء أحضر الموكل أم غاب؛ لأن الحاجة قد تدعو لذلك، ولأن الوكيل كالأصيل. أنواع الوكالة: للوكالة أنواع منها ما يأتي: أولاً ـ الوكالة الخاصة والعامة: قد تكون الوكالة خاصة وقد تكون عامة (¬3). الوكالة الخاصة: هي الإنابة في تصرف معين، كبيع أرض أو سيارة معينة، ¬
ثانيا ـ الوكالة المقيدة والمطلقة
وإجارة عقار محدد، وتوكيل في دعوى معينة. وحكمها: أن الوكيل مقيد بما وكل فيه، وإلا كان فضولياً. والوكالة العامة: هي الإنابة العامة في كل تصرف أو شيء، مثل أنت وكيلي في كل التصرفات، أو في كل شيء، أو اشتر لي ما شئت أو ما رأيت، وحكمها أن الوكيل يملك كل تصرف يملكه الموكل وتجوز النيابة فيه، ما عدا التصرفات الضارة بالموكل كالتبرعات من هبة ووقف ونحوهما، والإسقاطات من طلاق وإبراء ونحوهما. فلا يملك الوكيل هبة شيء من أموال الموكل، ولا طلاق زوجة الموكل، إلا بالنص على ذلك صراحة. ثانياً ـ الوكالة المقيدة والمطلقة: قد تكون الوكالة أيضاً مقيدة أو مطلقة (¬1). الوكالة المقيدة: هي التي يقيد فيها تصرف الوكيل بشروط معينة، مثل وكلتك في بيع أرضي بثمن حال قدره كذا، أو مؤجل إلى مدة كذا، أو مقسّط على أقساط معينة. وحكمها: أن الوكيل يتقيد بما قيده به الموكل، أي أنه يراعي القيد ما أمكن، سواء بالنسبة للشخص المتعاقد معه أو لمحل العقد، أو بدل المعقود عليه. فإذا خالف الوكيل لا يلزم الموكل بالتصرف إلا إذا كان خلافاً إلى خير، فيلزمه، كأن يبيع الشيء الموكل ببيعه بأكثر من الثمن المحدد له، أو بثمن حال بدلاً من الثمن المؤجل أو المقسط. وإذا لم يلزم الموكل بالتصرف بسبب المخالفة، كان الوكيل فضولياً، ولزمه التصرف إن كان وكيلاً بالشراء لأنه متهم بالشراء لنفسه. أما الوكيل بالبيع إذا خالف أمر الموكل فيتوقف على إجازة الموكل، ولا يلزم الوكيل بالعقد، لتعذر تنفيذه عليه. ¬
حكم تصرفات الوكيل
والوكالة المطلقة: هي التي لا يقيد فيها الوكيل بشيء مثل: وكلتك في بيع هذه الأرض، من غير تحديد ثمن معين، أو كيفية معينة لوفاء الثمن. وحكمها عند أبي حنفية: أن المطلق يجري على إطلاقه، فللوكيل التصرف بأي ثمن قليلاً أو كثيراً، ولو بغبن فاحش، معجلاً أو مؤجلاً، صحيحاً أو مريضاً؛ لأن الأصل في اللفظ المطلق أن يجري على إطلاقه، ولا يجوز تقييده إلا بدليل، كوجود تهمة، ولا يعتمد على العرف، لأن العرف في البلاد متعارض. وقال الصاحبان، وعلى رأيهما الفتوى، ورأيهما هو الراجح وبه قال الشافعية والحنابلة والمالكية (¬1): يتقيد الوكيل بما تعارفه الناس، فإذا خالف المتعارف كان فضولياً في تصرفه، وتوقف نفاذه على رضا الموكل. فليس للوكيل بالبيع مثلاً أن يبيع بغبن فاحش: وهو ما لا يتساهل فيه الناس عادة، ولا أن يبيع بغير النقد الغالب في البلد، ولا أن يبيع بثمن مؤجل أو مقسط إلا إذا جرى العرف في مثله؛ لأن الوكيل منهي عن الإ ضرار بالموكل، مأمور بالنصح له. وفي الزواج: ليس للوكيل أن يزوج الموكل بامرأة لا تكافئه، أو بمهر فيه غبن فاحش، فإن فعل ذلك كان تصرفاً موقوفاً على إجازة الموكل، فإن أجازه نفذ، وإلا بطل. حكم تصرفات الوكيل: يترتب على الوكالة ثبوت ولاية التصرف الذي تناوله التوكيل، وسأذكر أهم التصرفات في أهم أنواع الوكالات. ¬
1 - الوكيل بالخصومة
1 - الوكيل بالخصومة: أي بالمرافعة أمام القضاء كالمحامي اليوم، يملك كل ما يتعلق بالدعوى وما لا بد منه فيها، ومن ذلك الإقرار على موكله عند الحنفية ما عدا زفر (¬1)؛ لأن مهمة الوكيل بيان الحق وإثباته، لا المنازعة فيه فقط، وبيان الحق قد يكون إنكاراً لدعوى الخصم، وقد يكون إقراراً. وقال زفر وأئمة المذاهب الثلاثة الأخرى (¬2): لا يقبل إقرار الوكيل بالخصومة على موكله بقبض الحق وغيره، لأن التوكيل بالخصومة معناه التوكيل بالمنازعة، والإقرار مسالمة، لأنه يترتب عليه إنهاء الخصومة، فلا يملكه الوكيل كالإبراء. كذلك يملك الوكيل بالخصومة قبض المال المحكوم به لموكله عند الحنفية ما عدا زفر (¬3)؛ لأن هذا من تمام الخصومة، والخصومة لا تنتهي إلا بالقبض، والوكيل أمين على مصالح موكله (¬4). وقال زفر والشافعية والحنابلة (¬5): لايملك القبض، لأن الرجل الثقة بالتقاضي والمخاصمة قد لايكون أميناً في قبض الحقوق. 2 - الوكيل بالبيع: إذا كان مقيد التصرف يتقيد بالقيد الذي حدده له الموكل بالاتفاق بين الفقهاء، فإذا خالف القيد، لاينفذ تصرفه على الموكل، ولكن يتوقف على إجازته، إلا إذا كانت مخالفته إلى خير؛ لأنه محقق لمقصود الموكل ضمناً. ¬
فإذا كان وكيلاً بالبيع بثمن ما، فباع بأقل، لا ينفذ، لأنه خلاف إلى شر، وإن باع بأكثر، نفذ، لأنه خلاف إلى خير، وإذا وكل بالبيع نقداً فباع مؤجلاً لم ينفذ إلا بإجازة الموكل، وإذا وكل بالبيع مؤجلاً فباع نقداً، نفذ. وإن كان الوكيل مطلق التصرف: فيعمل عند أبي حنيفة بمقتضى الإطلاق، فله أن يبيع بأي ثمن كان، قليلاً أو كثيراً، حتى بالغبن الفاحش، عاجلاً أو آجلاً، كما أوضحت سابقاً، عملاً بإطلاق الحرية للوكيل بالتصرف. وقال الصاحبان وبرأيهما يفتى، وبقية الأئمة الثلاث: يتقيد الوكيل المطلق بالمتعارف، فلا يبيع إلا بالنقود المتداولة، وبمثل القيمة، وبالمعجل، فلا يبيع بالأعيان، ولا بما لا يتغابن الناس فيه عادة، أي بالغبن اليسير، ولا بالنسيئة المؤجلة (¬1). وفي حال المخالفة يكون العقد موقوفاً على إجازة الموكل عند الحنفية، باطلاً عند الشافعية. وليس للوكيل بالبيع عند أبي حنيفة أن يبيع لنفسه ولا لزوجته وأبيه وجده وولده وسائر من لا تقبل شهادته له؛ لأنه متهم في ذلك بمراعاة مصلحته أو إيثار العين المبيعة لأقاربه. وقال الصاحبان: يجوز له أن يبيع لهؤلاء لا لنفسه بمثل القيمة أو أكثر؛ لأن التوكيل مطلق، والبيع لأحد من هؤلاء أو غيرهم سواء، ولا تهمة هنا؛ لأن ملكه وأملاكهم متباينة، فالمنافع منقطعة فيما بينهم (¬2). ¬
3 - الوكيل بالشراء
وتوسط غير الحنفية بين الرأيين، فأجاز المالكية للوكيل بالبيع أن يبيع لزوجته ووالده الرشيد إذا لم يحابهما، ولم يجيزوا له البيع لنفسه أو من في رعايته من صغير أو سفيه أو مجنون (¬1). وأجاز الشافعية في الأصح وفي رواية عن أحمد له البيع بمثل القيمة لأبيه وجده وابنه البالغ وسائر فروعه المستقلين عنه لعدم التهمة، ولم يجيزوا له أن يبيع لنفسه وولده الصغير أو المجنون أو السفيه (¬2). 3 - الوكيل بالشراء: مثل الوكيل بالبيع من التقيد بما قيده به الموكل، في الثمن وفي جنس المشترى ونوعه وصفته، أو إطلاق الحرية في التصرف إذا كانت الوكالة مطلقة. فإذا خالف الوكيل أحد القيود لا يلزم الموكل بالشراء، إلا إذا كان خلافاً إلى خير، فيلزمه. ووقع الشراء للوكيل نفسه باتفاق الفقهاء (¬3)، بعكس الوكيل بالبيع؛ لأن المشتري قد يتهم بأنه كان يريد الشراء لنفسه، فلما تبين أنه غبن غبناً فاحشاً أظهر أنه يشتري باسم موكله. كذلك لا يملك الوكيل بالشراء عند أبي حنيفة كالوكيل بالبيع أن يشتري من نفسه، أو زوجته أو أبيه أو جده، أو ولده وولد ولده، وكل من لا تقبل شهادته له للتهمة في ذلك. وقال الصاحبان: يجوز إذا اشترى بمثل القيمة أو بأقل أو بزيادة يتغابن الناس في مثلها عادة (¬4). ¬
4 - الوكالة في الزواج والطلاق، والإجارة والرهن
4 - الوكالة في الزواج والطلاق، والإجارة والرهن ونحوها من إدارة الأموال: يتقيد الوكيل في ذلك بما يقيده به الموكل، وليس له أن يتصرف بما فيه ضرر. 5 - هل للوكيل توكيل غيره؟ إذا كانت الوكالة خاصة أو مقيدة بأن يعمل الوكيل بنفسه، لم يجز له توكيل غيره فيما وكل فيه. وإن كانت الوكالة مطلقة أو عامة بأن قال له: اصنع ما شئت، جاز له توكيل الغير، ويكون هذا الغير وكيلاً مع الأول عن الموكل. هذا عند الحنفية (¬1). وقال المالكية (¬2): ليس للوكيل أن يوكل غيره إلا أن يكون الوكيل لا يليق به تولي ما وكل فيه بنفسه، كأن يكون وجيهاً، والموكل به حقير فله التوكيل حينئذ. وقال الشافعية والحنابلة (¬3): ليس للوكيل أن يوكل غيره بلا إذن الموكل متى كان قادراً على ما وكل فيه. أما إذا لم يكن قادراً على القيام بكل ما وكل فيه، فله أن يوكل غيره ويكون الوكيل الثاني وكيلاً مع الأول عن الموكل. 6 - تعدد الوكلاء: قد يتعدد الوكلاء عن الشخص الواحد في التصرفات والخصومات، أو المرافعة أمام القضاء، كما يحدث عادة في كثير من الأحيان، فيكون هناك وكيلان أو أكثر في القضايا الخطيرة. ويعرف تفصيل حكم تصرفات الوكلاء مما يأتي (¬4). ¬
الفرق بين الوكالة والرسالة
فإن تعدد الوكلاء كلاً في عقد خاص وأعمال خاصة، كان لكل منهم أن ينفرد في مباشرة ما وكل فيه دون استشارة غيره. وإن كان العمل واحداً، فلكل واحد القيام به وحده أيضاً، فتنتهي حينئذ وكالة الآخرين. وإن كان التوكيل للجميع في عقد واحد، فليس لأحدهم ـ دون إذن الموكل ـ الانفراد بالتصرف بما وكلوا فيه؛ لأن تعددهم كان بقصد تحقيق التعاون والتشاور فيما بينهم ضماناً لصالح الموكل، ويستثنى من ذلك ما لا يحتاج من التصرفات لتبادل الرأي كرد الودائع ووفاء الديون، أو ما لا يمكن فيه الاجتماع كالمرافعة أمام القضاء، بشرط إعداد مذكرات الدفاع بالاشتراك بين جميع الوكلاء. الفرق بين الوكالة والرسالة: يحسن بيان الفرق بين الوكيل والرسول تمهيداً لمعرفة من يلتزم بحقوق العقد، إذ يختلف الوكيل عن الرسول (¬1). فالوكيل: هو الذي يتصرف برأيه وعبارته وتقديره، فيساوم ويعقد العقود حسبما يرى من المصلحة، ويتحمل تبعات تصرفاته، ويستغني غالباً عن إضافة العقد إلى موكله، فيقول: بعت أو اشتريت كذا، لا: باع أو اشترى فلان، فإذا أسند العقد لموكله، صار مجرد سفير ومعبر عن كلام الأصيل، فيصبح عندئذ كالرسول. والرسول: هو الذي يقتصر على نقل عبارة مرسله، دون أن يتصرف برأيه وإرادته، وإنما يبلِّغ عبارة المرسل، وينقل رغبته وإرادته في التصرف، فيقول للمرسل إليه: أرسلني فلان لأبلغك كذا، فيضيف عبارته دائماً للمرسل، ولا يتحمل شيئاً من التزامات التعاقد. ¬
حكم العقد
حكم العقد وحقوقه في الوكالة: حكم العقد: هو الغرض والغاية منه. ويراد به هنا الأثر الذي يترتب على العقد شرعاً. ففي عقد البيع: يكون الحكم: هو ثبوت ملكية المبيع للمشتري واستحقاق الثمن للبائع، وفي عقد الإجارة: الحكم هو تملك المستأجر المنفعة، واستحقاق الأجرة للمؤجر. واتفق الفقهاء على أن حكم العقد الذي يتم بواسطة وكيل: يقع مباشرة للموكل نفسه، لا للوكيل؛ لأن الوكيل يعمل في الحقيقة لموكله وبأمره، فهو قد استمد ولايته منه (¬1). ويترتب عليه أن المسلم لو وكل غير مسلم في شراء خمر أو خنزير، لم يصح الشراء؛ لأن المسلم ليس له أن يتملك شيئاً من هذين. حقوق العقد: هي الأعمال والالتزامات التي لا بد منها للحصول على حكمه أو على الغاية والغرض منه، مثل تسليم المبيع، وقبض الثمن، والرد بالعيب أو بسبب خيار الشرط أو الرؤية، وضمان رد الثمن، إذ استحق (¬2) المبيع مثلاً. فإذا باشر المرء العقد بنفسه ولمصلحته عاد إليه حكم العقد وحقوقه. وأما إن توسط وكيل في إجراء العقد وإبرامه، عاد حكم العقد إلى الموكل كما عرفنا، وأما حقوق العقد فتارة ترجع إلى الموكل، وتارة ترجع إلى الوكيل بحسب نوع التصرف الذي يتولاه الوكيل. والتصرفات التي يمارسها الوكيل نوعان: النوع الأول ـ ما يلزم أن يضيفه الوكيل إلى الموكل، ولا يجوز له إضافته إلى ¬
نفسه، فإن أضافه إلى نفسه وقع العقد له لا للموكل، مثل الزواج والطلاق والخلع، والعقود العينية أي التي لا تتم إلا بالقبض وهي خمسة (الهبة والإعارة والإيداع والقرض والرهن). يلزم الوكيل أن يقول حين إبرام العقد: قبلت زواج فلانة لفلان، وطلقت امرأة فلان، ووهبتك من مال فلان، ولا يصح أن يقول: تزوجت أو طلقت على كذا ووهبت؛ فينصرف أثر التصرف إليه، أي أن الزواج يكون للوكيل حينئذ لا للموكل، ويقع الطلاق عنه، لا عن الموكل، ويلزم الهبة من ماله لا من مال الموكل. وحكم هذا النوع أن حقوق التصرف ترجع إلى الموكل، ولا يطالب الوكيل منها بشيء أصلاً؛ لأن الوكيل في هذه التصرفات يكون سفيراً ومعبراً محضاً عن الموكل. فإذا كان الشخص وكيلاً عن الزوج لا يطالب بالمهر، وإنما يطالب الزوج، وإذا كان وكيلاً عن المرأة لا يطالب بإزفافها إلى بيت زوجها، وإنما تطالب المرأة أو وليها. ولو كان وكيلاً عن الواهب لايلزم الوكيل بتسليم العين الموهوبة، وإنما يطالب الموكل نفسه، ولا يلزم الوكيل بتسليم الموهوب إذا كان وكيلاً عن الموهوب له. النوع الثاني: ما لا يلزم أن يضيفه الوكيل إلى الموكل، وإنما يصح إضافته له أو لنفسه كالمعاوضات المالية، مثل البيع والشراء والإجارة والصلح الذي هو في معنى البيع (أي الصلح بعوض عن إقرار) فيصح أن يقول الوكيل: بعت أو اشتريت، كما يصح أن يقول: بعت مال فلان، واشتريت لفلان. وحكم هذا النوع: أن الوكيل إذا أضاف التصرف للموكل، مثل: اشتريت لفلان، رجعت الحقوق للموكل، ولزمته هو، ولا يطالب الوكيل بشيء، لأنه في هذه الحالة مجرد سفير ومعبر عن الأصيل.
وإن أضاف الوكيل التصرف لنفسه رجعت إليه الحقوق دون الموكل؛ لأنه هو الذي باشر العقد ولا يعرف الطرف الآخر سواه. فإذا كان وكيلاً عن البائع لزمه تسليم المبيع للمشتري، وقبض الثمن. وإذا كان وكيلاً عن المشتري واطلع على عيب المبيع، أو أظهر أن المبيع مستحق لغير البائع، كان هو المكلف بمقاضاة البائع وخصومته، ويلزمه ضمان الثمن للمشتري حال استحقاق المبيع، كما يلزمه دفع الثمن للبائع إذا كان المبيع سليماً من العيوب. ويستثنى من ذلك ما إذا كان العاقد ليس من أهل لزوم العهدة (أي ليس أهلاً للمسؤولية والتزام الحقوق) إما لنقص أهليته كالصبي المحجور عن التصرف، أو لانشغاله كالقاضي وأمين القاضي، فترجع الحقوق حينئذ للموكل نفسه، لا إلى الوكيل. هذا هو مذهب الحنفية (¬1). ويوافقهم المالكية والشافعية (¬2) في ذلك أي في أن حقوق العقد تتعلق بالوكيل دون الموكل. وقال الحنابلة (¬3): إن حقوق العقد ترجع للموكل دون الوكيل؛ لأن الوكيل عندهم مجرد سفير ومعبر عن العاقد الأصيل. لكن في هذا الرأي إضاعة للغرض من الوكالة؛ لأن الموكل يوكل غيره في أموره ليخفف عن نفسه عناء مباشرته لها، أو لأنه لا يليق به أن يباشرها، أو لعدم قدرته على القيام بها، فإذا عادت الحقوق للموكل نفسه لم يتحقق له الغرض من الوكالة (¬4). ¬
انتهاء الوكالة
انتهاء الوكالة: تنتهي الوكالة بأحد الأمور التالية (¬1): 1 - انتهاء الغرض من الوكالة: بأن يتم تنفيذ التصرف الذي وكل فيه الوكيل، إذ يصبح العقد غير ذي موضوع. 2 - قيام الموكل بالعمل الذي وكل فيه غيره: كأن يبرم البيع الذي وكل فيه غيره. 3 - خروج الموكل أو الوكيل عن الأهلية: بموت، أو جنون استمر شهراً، أوحجر لسفه؛ لأن الوكالة تتطلب استمرار الأهلية للتصرفات، فإذا زالت الأهلية بطلت الوكالة. والوكيل يستمد ولايته من الموكل. ولا يشترط عند الحنفية والشافعية والحنابلة أن يعلم العاقد بخروج الطرف الآخرعن الأهلية بهذه العوارض. وقال المالكية: الأرجح أن الوكيل لا ينعزل بموت الموكل حتى يعلم به. 4 - استقالة الوكيل: إذا تنازل الوكيل عن الوكالة أو استقال، أو رفض الاستمرار في العمل، انتهت الوكالة؛ لأن الوكالة بغير أجر كما تقدم عقد غير لازم، يجوز للوكيل أن يتنازل عنها في أي وقت. لكن يشترط عند الحنفية في هذه الحالة أن يعلم الموكل بهذا التنازل، حتى لا يتضرر بما فعل الوكيل، ولم يشترط الشافعي علم الموكل بعزل الوكيل نفسه. ¬
5 - هلاك العين الموكل بالتصرف فيها، بيعاً أو شراءً أو إيجاراً؛ لأن العقد يصبح غير ذي موضوع. فإذا انهدمت الدار الموكل في شرائها، أو ماتت المرأة الموكل في تزوجها، بطلت الوكالة، لعدم تصور التصرف في المحل المعقود عليه بعد هلاكه. 6 - عزل الموكل وكيله: لأن الوكالة كما عرفنا عقد غير لازم، فللموكل إنهاء الوكالة في أي وقت شاء. لكن يشترط لصحة العزل عند الحنفية شرطان: أحدهما: علم الوكيل بالعزل، حتى لا يلحقه ضرر بإبطال ولايته فيما إذا تصرف تصرفاً يوجب عليه الضمان، بدفع الثمن مثلاً، وتملك المبيع. وهذا شرط أيضاً في الأرجح عند المالكية. وقال الشافعية في الأصح عندهم، والحنابلة في الأرجح لديهم: لا يشترط علم الوكيل بالعزل؛ لأنه رفع عقد لا يفتقر إلى رضا صاحبه، فلا يحتاج إلى علمه كالطلاق. ثانيهما: ألا يتعلق بالوكالة حق لغير الموكل: فإن تعلق بها حق لغيره لم يصح العزل إلا برضا صاحب الحق، كأن يوكل المدين الراهن شخصاً (هو الدائن أو غيره) ببيع الرهن وسداد الدين منه إذا حل الأجل، فلا يصح عزل الوكيل حينئذ بغير رضا الدائن صاحب الحق، لتعلق حقه بالموضوع. وإذا وكل الزوج شخصاً بطلاق زوجته متى شاء، فلا يملك الزوج الموكل الرجوع عن الوكالة إلا برضا المرأة. ولو أراد المدين السفر إلى بلد، فطلب منه دائنه أن يوكل عنه شخصاً ليخاصمه في طلب الدين وقت الحاجة، فوكل وكيلاً إجابة لطلبه وسافر، فليس له أن يعزل الوكيل إلا برضا الدائن.
الفضالة
الفضالة قد ينعقد العقد بالفضالة التي تتخذ بالإجازة حكم الوكالة. فمن الفضولي، وما حكم تصرفاته عند الفقهاء، وما أثر إجازة تصرفاته، وما شروط صحة الإجازة، وهل يملك فسخ العقد الصادر منه قبل الإجازة؟ تعريف الفضولي: الفضولي في اللغة: هو من يشتغل بما لا يعنيه أو بما ليس له. وعمله هذا يسمى فضالة. وعند الفقهاء له معنى قريب من هذا. وهو من يتصرف في شؤون غيره، دون أن يكون له ولاية على التصرف. أو من يتصرف في حق غيره بغير إذن شرعي كأن يزوج من لم يأذن له في الزواج، أو يبيع أو يشتري ملك الغير بدون تفويض، أو يؤجر أو يستأجر لغيره دون ولاية أو توكيل. فهذا التصرف يسمى فضالة. حكم تصرفاته عند الفقهاء: للفقهاء رأيان في تصرف الفضولي: أولهما ـ للحنفية والمالكية (¬1): تصرفات الفضولي تقع منعقدة صحيحة، لكنها موقوفة على إجازة صاحب الشأن: وهو من صدر التصرف لأجله، إن أجازه نفذ، وإن رده بطل (¬2). واستدلوا على رأيهم بما يأتي: ¬
أولاً ـ بعموم الآيات القرآنية الدال على مشروعية البيع، مثل قوله تعالى: {وأحل الله البيع} [البقرة:275/ 2] والفضولي كامل الأهلية، فإعمال عقده أولى من إهماله، وربما كان في العقد مصلحة للمالك، وليس فيه أي ضرر بأحد؛ لأن المالك له ألا يجيز العقد، إن لم يجد فيه فائدة. ثانياً ـ بما ثبت ـ في الحديث المتقدم في الوكالة ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلم أعطى عروة البارقي ـ أحد أصحابه ـ ديناراً ليشتري له به شاة، فاشترى شاتين بالدينار، وباع إحداهما بدينار، وجاء للنبي صلّى الله عليه وسلم بدينار وشاة، فقال له «بارك الله لك في صفقة يمينك» فشراء الشاة الثانية وبيعها لم يكن بإذن النبي عليه السلام، وهو عمل فضولي جائز بدليل إقرار الرسول له. وخلاصة هذا الرأي: أن الملكية أو الولاية هي من شروط نفاذ التصرف، فإذا لم يكن العاقد مالكاً ولا ولاية له، كان العقد موقوفاً. الرأي الثاني ـ للشافعية والحنابلة والظاهرية (¬1): تصرف الفضولي باطل، لا يصح ولو أجازه صاحب الشأن؛ لأن الإجازة تؤثر في عقد موجود، وهذا العقد لا وجود له منذ نشأته، فلا تصيره الإجازة موجوداً. واستدلوا بما يأتي: أولاً ـ بأن تصرف الفضولي تصرف فيما لا يملك، وتصرف الإنسان فيما لا يملكه منهي عنه شرعاً، والنهي يقتضي عدم مشروعية المنهي عنه عندهم، وذلك في قوله صلّى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام: «لا تبع ما ليس عندك» (¬2) أي ما ليس مملوكاً لك، ¬
شروط إجازة تصرف الفضولي
وسبب النهي اشتمال العقد على الغرر الناشئ عن عدم القدرة على التسليم وقت العقد، وما يترتب عليه من النزاع. وقالوا عن حديث عروة البارقي: إنه كان وكيلاً مطلقاً عن النبي صلّى الله عليه وسلم، وتصرفاته التي قام بها تنفذ، لأنها تمت بمقتضى وكالة خالف فيها الوكيل إلى خير، فينفذ تصرفه. ثانياً ـ إن أي تصرف لا يوجد شرعاً إلا بتوافر الولاية والأهلية عند العاقد، وهذه الولاية لا تكون إلا بالملك أو بالإذن من المالك، والفضولي ليس مالكاً لما يتصرف فيه ولا مأذوناً له من المالك بالتصرف، فلا يكون لتصرفه وجود شرعاً، ولا يترتب عليه أي أثر. وخلاصة هذا الرأي: أن الملكية أو الولاية من شروط انعقاد التصرف، فإذا لم يتوفر شرط الانعقاد كان التصرف باطلاً. وقد أخذ القانون المدني السوري في مواد عشر (189 - 198) برأي الحنفية والمالكية، وطبق عليها قواعد الوكالة إذا أقر رب العمل ما قام به الفضولي (م191)، لكنه حصر الفضالة بقيام الفضولي بشأن عاجل لشخص آخر، كما يفهم من تعريفها (م 189): «الفضالة: هي أن يتولى شخص عن قصد القيام بشأن عاجل لحساب شخص آخر، دون أن يكون ملزماً بذلك». شروط إجازة تصرف الفضولي: اشترط الحنفية القائلون بصحة تصرف الفضولي شروطاً ثلاثة: أحدها في المجيز، وثانيها في الإجازة، وثالثها في نفس التصرف (¬1): ¬
1 - أن يكون للعقد مجيز (¬1) حالة إنشاء العقد: أي أن يكون صاحب الشأن مستطيعاً إصدار العقد بنفسه، فإن لم يكن كذلك وقع العقد باطلاً من مبدأ الأمر، وعلى هذا إذا طلق فضولي امرأة زوج بالغ عاقل، أو وهب ماله، أو باعه بغبن فاحش، انعقد التصرف موقوفاً على الإجازة؛ لأن صاحب الشأن كان يستطيع أن يصدر هذه التصرفات بنفسه، فيستطيع إجازتها بعد وقوعها، فكان للتصرف مجيز حالة إنشائه. أما لو فعل فضولي شيئاً من هذه التصرفات بالنسبة لصغير، فلا ينعقد التصرف أصلاً؛ لأن الصغير ليس أهلاً لهذه التصرفات الضارة، فلا يكون أهلاً لإجازتها، فلم يكن لها مجيز حين نشوء التصرف. فإن كان التصرف قابلاً لإجازة ولي الصغير كالبيع بمثل القيمة أو أكثر، وكان للصغير ولي، انعقد موقوفاً على إجازته، أو على إجازة الصغير بعد البلوغ. 2 - أن تكون الإجازة حين وجود العاقدين (الفضولي والطرف الآخر) والمعقود عليه وصاحب الشأن: فلو حصلت الإجازة بعد هلاك واحد من هؤلاء الأربعة، بطل التصرف، ولم تفد الإجازة شيئاً؛ لأن الإجازة تؤثر في التصرف، فلابد من قيام التصرف، وقيامه بقيام العاقدين والمعقود عليه. 3 - ألا يمكن تنفيذ العقد على الفضولي عند رفض صاحب الشأن: مثل بيع ملك الغير أو إجارته، سواء أضاف العقد لنفسه أم لصاحب المال، ومثل شراء شيء لغيره أو استئجار شيء لغيره وأضاف العقد لذلك الغير. ففي كل هذه الحالات يكون العقد موقوفاً. ¬
أثر إجازة تصرف الفضولي
أما إذا أمكن تنفيذ العقد على الفضولي عند عدم إجازته، فينفذ على الفضولي كشراء شيء أو استئجاره مضيفاً العقد لنفسه، فيلزمه هو. أثر إجازة تصرف الفضولي: يترتب على الإجازة من صاحب الشأن أثران: أحدهما ـ جعل التصرف نافذاً. ثانيهما ـ جعل الفضولي وكيلاً يلتزم بحقوق التصرف؛ لأن «الإجازة اللاحقة كالوكالة السابقة» (¬1). أما تاريخ نفاذ التصرف بالإجازة فيختلف بحسب نوع التصرف: إن كان من التصرفات التي لا تقبل التعليق بالشرط كعقود المعاوضات المالية (البيع والإيجار ونحوهما) فإنها تنفذ من وقت إنشائها أي أن للإجازة أثراً رجعياً؛ لأن آثارها لا تتراخى عنها، وتكون زوائد الشيء وغلاته كالأجرة مملوكة لمن وقع العقد له، أي للمشتري في عقد البيع؛ لأن الإجازة اللاحقة كالوكالة السابقة. وإن كان التصرف مما يصح تعليقه بالشرط كالكفالة والحوالة والوكالة والطلاق، فإنه ينفذ من وقت الإجازة؛ لأن هذه التصرفات معلقة في المعنى على الإجازة. وإن كان التصرف يتطلب التسليم الفعلي كالهبة، فينفذ من وقت تسليم الموهوب له. فسخ تصرف الفضولي: تصرف الفضولي غير ملزم لصاحب الشأن، فيجوز حينئذ فسخه. والفسخ ¬
هل لفضولي واحد أن يعقد العقد عن الطرفين؟
قد يكون من صاحب الشأن (البائع أو المشتري مثلاً)؛ لأن التصرف موقوف على رضاه وإجازته، فما لم يجزه لم يتم التصرف. وقد يكون الفسخ من الفضولي نفسه في عقد البيع قبل إجازة المالك صاحب الشأن حتى يدفع عن نفسه الحقوق التي تلزمه لو أجاز المالك. أما عقد الزواج فليس للفضولي فسخه؛ لأنه عقد ترجع فيه الحقوق إلى الأصيل صاحب الشأن (¬1). هل لفضولي واحد أن يعقد العقد عن الطرفين؟ عرفنا سابقاً أن تعدد العاقد شرط في انعقاد العقد، فليس للفضولي الواحد إبرام العقد سواء في البيع أو الزواج وغيرهما، بل يبطل الإيجاب ولا تلحقه الإجازة (¬2)، سواء أكان فضولياً من الجانبين، أم من جانب واحد ومن الجانب الآخر أصيلاً عن نفسه، أو وكيلاً، أو ولياً عن القاصر. فلو قال: بعت دار فلان، وقبلت الشراء عن فلان، أو زوجت فلاناً فتاة اسمها كذا، وقبلت هذه الفتاة لفلان، لم ينعقد العقد. العنصر الثالث ـ محل العقد: محل العقد أو المعقود عليه: هو ما وقع عليه التعاقد، وظهرت فيه أحكامه وآثاره. وهو قد يكون عيناً مالية كالمبيع والمرهون والموهوب، وقد يكون عيناً غير مالية كالمرأة في عقد الزواج، وقد يكون منفعة كمنفعة الشيء المأجور في إجارة ¬
شروط في محل العقد
الأشياء من الدور والعقارات ومنفعة الشخص في إجارة الأعمال (¬1). وليس كل شيء صالحاً ليكون معقوداً عليه، فقد يمتنع إبرام العقد على شيء شرعاً أو عرفاً، كالخمر لا تصلح أن تكون معقوداً عليها بين المسلمين، والمرأة المحرم بسب رابطة النسب أو الرضاع، لا تصلح أن تكون زوجة لقريبها. لذا اشترط الفقهاء أربعة شروط في محل العقد، وهي ما يأتي: 1 - أن يكون موجوداً وقت التعاقد: فلا يصح التعاقد على معدوم كبيع الزرع قبل ظهوره لاحتمال عدم نباته، ولا على ماله خطر العدم، أي احتمال عدم الوجود كبيع الحمل في بطن أمه، لاحتمال ولادته ميتاً، وكبيع اللبن في الضرع، لاحتمال عدمه بكونه انتفاخاً، وكبيع اللؤلؤ في الصدف، ولا يصح التعاقد على مستحيل الوجود في المستقبل، كالتعاقد مع طبيب على علاج مريض توفي، فإن الميت لا يصلح محلاً للعلاج، وكالتعاقد مع عامل على حصاد زرع احترق، فكل هذه العقود باطلة. وهذا الشرط مطلوب عند الحنفية والشافعية (¬2)، سواء أكان التصرف من عقود المعاوضات أم عقود التبرعات، فالتصرف بالمعدوم فيها باطل، سواء بالبيع أو الهبة أو الرهن، بدليل نهي النبي صلّى الله عليه وسلم عن بيع حبَل الحبلة (¬3) ونهيه عن بيع ¬
المضامين والملاقيح (¬1)، وعن بيع ما ليس عند الإنسان (¬2)؛ لأن المبيع فيها وقت التعاقد معدوم. واستثنى هؤلاء الفقهاء من هذه القاعدة العامة في منع التصرف بالمعدوم عقود السلَم والإجارة والمساقاة والاستصناع (¬3) مع عدم وجود المحل المعقود عليه حين إنشاء العقد، استحساناً مراعاة لحاجة الناس إليها، وتعارفهم عليها، وإقرار الشرع صحة السلم والإجارة، والمساقاة (¬4) ونحوها. واكتفى المالكية (¬5) باشتراط هذا الشرط في المعاوضات المالية، أما في عقود التبرعات كالهبة والوقف والرهن فأجازوا ألا يكون محل العقد موجوداً حين التعاقد، وإنما يكفي أن يكون محتمل الوجود في المستقبل. ¬
بيع الثمار أو الخضار أو الزروع
وأما الحنابلة (¬1): فلم يشترطوا هذا الشرط، واكتفوا بمنع البيع المشتمل على الغرر (¬2) الذي نهى عنه الشرع، مثل بيع الحَمْل في البطن دون الأم، وبيع اللبن في الضرع، والصوف على ظهر الغنم. وأجازوا فيما عدا ذلك ـ كما قرر ابن تيمية وابن القيم ـ بيع المعدوم عند العقد إذا كان محقق الوجود في المستقبل بحسب العادة، كبيع الدار على الهيكل أو الخريطة؛ لأنه لم يثبت النهي عن بيع المعدوم لا في الكتاب ولا في السنة ولا في كلام الصحابة، وإنما ورد في السنة النهي عن بيع الغرر: وهو ما لا يقدر على تسليمه، سواء أكان موجوداً أم معدوماً كبيع الفرس والجمل الشارد، فليست العلة في المنع لا العدم ولا الوجود، فبيع المعدوم إذا كان مجهول الوجود في المستقبل باطل للغرر، لا للعدم. بل إن الشرع صحح بيع المعدوم في بعض المواضع، فإنه أجاز بيع الثمر بعد بدء صلاحه، والحب بعد اشتداده، والعقد في هذه الحالة ورد على الموجود والمعدوم الذي لم يخلق بعد. وأما حديث النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان فالسبب فيه: هو الغرر لعدم القدرة على التسليم، لا أنه معدوم. بيع الثمار أو الخضار أو الزروع: يترتب على اشتراط وجود المعقود عليه أو قابليته للوجود في المستقبل حكم ¬
بيع الثمر أو الخضر أو الزرع في الأرض قبل ظهوره أو بعد ظهوره وقبل نضجه (¬1). أـ اتفق الفقهاء على بطلان بيع الثمار والزروع قبل أن تخلق، لنهي النبي صلّى الله عليه وسلم عن بيع ما لم يخلق، ونهيه عليه السلام عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها. وعلل النهي عن البيع بقوله صلّى الله عليه وسلم: «أرأيت إذا منع الله الثمرة، بم يأخذ أحدكم مال أخيه» (¬2). ب ـ إذا أصبح الزرع والثمر بحالة ينتفع بهما انتفاعاً كاملاً، صح التعاقد عليه؛ لأن محل العقد موجود. ويجوز إبقاؤه في الأرض أو على الشجر إلى وقت الحصاد أو القطاف عند غير أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن العرف يقتضيه ويتعامل به الناس عادة. ج ـ إذا أصبح الزرع والثمر بحالة لا ينتفع بهما انتفاعاً كاملاً، كأن صار العنب حصرماً، والبلح بسراً، والزرع سنبلاً أخضر لم ييبس، جاز بيعه عند الإمامين مالك ومحمد بن الحسن استحساناً لتعارف الناس وتعاملهم به. ولم يجز بيعه عند أبي حنيفة وأبي يوسف والشافعي، لأن إبقاءه أمر مطلوب، وفي إبقائه منفعة للمشتري لا يقتضيها العقد ولا يلائمه. ¬
د ـ إذا بدا صلاح بعض الأشجار المثمرة في بستان أو في بساتين متجاورة يجوز بيع ما ظهر صلاحه وما لم يظهر عند المالكية والشيعة الإمامية وابن تيمية وابن القيم من الحنابلة، عملاً بحسن الظن بالله تعالى وبمسامحة الإنسان لأخيه، وتعارف الناس عليه، إلحاقاً لما لم يظهر صلاحه بما ظهر، ودفعاً للمشقة على الناس في تعاملهم. ولم يجز ذلك الحنفية والشافعية والحنابلة والزيدية والظاهرية والإباضية؛ لأن العقد اشتمل على معلوم ومجهول قد لا يخرجه الله تعالى من الشجرة، ولعدم القدرة على تسليم المبيع كله. والخلاصة: إن من منع البيع في هذه الصور أراد الاحتياط في أخذ مال الغير، ومن أجاز البيع أراد التيسير على الناس ومراعاة الأعراف. هذا ويتفق القانون المدني السوري (م 132،133) مع الفقه الإسلامي في هذا الشرط، فقد شرط فقهاء القانون في محل الالتزام أن يكون شيئاً موجوداً وقت نشوء الالتزام، أو قابلاً للوجود في المستقبل (¬1)، لكن لا يجوز قانوناً ولا شرعاً بيع التركة المستقبلة، فلا يجوز للوارث بيع حصته من تركة مورثه وهو على قيد الحياة. ويجوز قانوناً لا شرعاً بيع المؤلف مؤلفه قبل إتمامه، وبيع المحصولات المستقبلة قبل أن تنبت بثمن مقدر، وبيع النتاج الذي لم يولد، ويمكن تصحيح هذه العقود على رأي ابن تيمية الذي يجيز العقد على الشيء الذي يمكن وجوده في المستقبل إذا امتنع الغرر. ¬
2 - أن يكون المعقود عليه مشروعا
2 - أن يكون المعقود عليه مشروعا ً: يشترط أن يكون محل العقد قابلاً لحكمه شرعاً، باتفاق الفقهاء (¬1)، بأن يكون مالاً مملوكاً متقوماً، فإن لم يكن كذلك، كان العقد عليه باطلاً، فبيع غير المال كالميتة والدم (¬2)، أو هبتها أو رهنها أو وقفها أو الوصية بها باطل؛ لأن غير المال لا يقبل التمليك أصلاً، وذبيحة الوثني والملحد والمجوسي والمرتد كالميتة. ويبطل بيع غير المملوك أو هبته: وهو المباح للناس غير المحرز كالسمك في الماء والطير في الهواء والكلأ والحطب والتراب والحيوانات البرية أو الشيء المخصص للنفع العام كالطرقات والأنهار والجسور والقناطر العامة؛ لأنها غير مملوكة لشخص أو لا تقبل التملك الشخصي. والتصرف بغير المتقوم باطل أيضاً: وهو ما لا يمكن ادخاره ولا الانتفاع به شرعاً، كالخمر والخنزير بين المسلمين. وأما آلات الملاهي كأدوات الموسيقا المختلفة فيجوز بيعها عند أبي حنيفة لإمكان الانتفاع بالأدوات المركبة منها، ولأنها مال في ذاتها، ولا ينعقد بيعها عند الصاحبين وبقية الأئمة؛ لأنها معدة للفساد واللهو. وبناء عليه يضمن قيمتها من يتلف شيئاً منها عند أبي حنيفة، ولا يضمن عند غيره من الفقهاء. ويبطل التصرف بكل شيء، لا يقبل بطبيعته حكم العقد الوارد عليه، ¬
3 - أن يكون مقدور التسليم وقت التعاقد
فالأموال التي يتسارع إلىها الفساد كالخضروات والفواكه لا تصلح محلاً للرهن؛ لأن حكمه: وهو حبس المرهون لإمكان استيفاء الدين منه عند عدم الأداء في وقته، لا تقبله هذه الأموال. والمرأة من المحارم كالأخت والعمة بالنسبة لقريبها المحرم لا تصلح محلاً لعقد الزواج. والعمل الممنوع شرعاً كالقتل والغصب والسرقة والإتلاف لا يصح الإجارة عليه. ويتفق القانون مع الفقه الإسلامي في اشتراط هذا الشرط، فقد شرط القانونيون أن يكون الشيء داخلاً في دائرة التعامل. وأن يكون في بعض الأحوال مملوكاً للملتزم بنقل ملكيته، وذلك في الحقوق العينية المنصبة على شيء معين بالذات (¬1)، إلا أن فقهاء الشرع يجعلون تحريم الشرع وعدمه هو المحكم في جعل محل الالتزام مشروعاً أم غير مشروع، والقانون يحكّم في ذلك قواعد النظام العام والآداب. 3 - أن يكون مقدور التسليم وقت التعاقد: يشترط باتفاق الفقهاء توافر القدرة على التسليم وقت التعاقد، فلا ينعقد العقد إذا لم يكن العاقد قادراً على تسليم المعقود عليه، وإن كان موجوداً ومملوكاً للعاقد. ويكون العقد باطلاً. وهذا الشرط مطلوب في المعاوضات المالية باتفاق العلماء وفي التبرعات (¬2) عند غير الإمام مالك، فلا يصح بيع الحيوان الشارد ولا إجارته ورهنه وهبته ووقفه ¬
4 - أن يكون معينا معروفا للعاقدين
ونحوها، ولا يصح التعاقد بيعاً أو إجارة أو هبة على الطير في الهواء والسمك في البحر والصيد بعد فراره والمغصوب في يد الغاصب والدار في الأرض المحتلة من العدو، لعدم القدرة على التسليم. وأجاز الإمام مالك أن يكون معجوز التسليم حال التعاقد محلاً لعقد الهبة وغيره من التبرعات (¬1). فيصح عنده هبة الحيوان الفارّ وإعارته والوصية به، لأنه في التبرع لا يثور شيء من النزاع حول تسليم المعقود عليه؛ لأن المتبرع فاعل خير ومحسن، والمتبرع له لا يلحقه ضرر من عدم التنفيذ، لأنه لم يبذل قليلاً ولا كثيراً، فلا يكون هناك ما يؤدي إلى النزاع والخصام الذي يوجد في المعاوضات المالية. وهذا الشرط لم يذكر عند القانونيين، ويظهر أنهم لا يشترطونه. 4 - أن يكون معيناً معروفاً للعاقدين: لابد عند الفقهاء أن يكون محل العقد معلوماً علماً يمنع من النزاع؛ للنهي الوارد في السنة عن بيع الغرر وعن بيع المجهول (¬2). والعلم يتحقق إما بالإشارة إليه إذا كان موجوداً، أو بالرؤية عند العقد أو قبله بوقت لا يحتمل تغيره فيه، ورؤية بعضه كافية إذا كانت أجزاؤه متماثلة، أو بالوصف المانع للجهالة الفاحشة، وذلك ببيان الجنس والنوع والمقدار، كأن يكون المبيع حديداً من الصلب أو الفولاذ من حجم معين. فلا يصح التصرف بالمجهول جهالة فاحشة: وهي التي تفضي إلى المنازعة. ¬
ويكون العقد فاسداً عند الحنفية، باطلاً عند غير الحنفية، وتغتفر الجهالة اليسيرة، وهي التي لا تؤدي إلى المنازعة ويتسامح الناس فيها عادة. كما لا يصح التصرف بما يشتمل على الغرر. ويلاحظ أن الغرر أعم من الجهالة فكل مجهول غرر، وليس كل غرر مجهولاً، فقد يوجد الغرر بدون الجهالة كما في شراء الشيء الهارب المعلوم الصفة، ولكن لا توجد الجهالة بدون الغرر (¬1). وهذا الشرط مطلوب في المعاوضات المالية كالبيع والإيجار باتفاق الفقهاء، أما اشتراطه في غيرها فمحل اختلاف: فالشافعية والحنابلة (¬2) يشترطونه في عقود المعاوضات المالية وفي غير المالية كعقد الزواج، وفي عقود التبرعات كالهبة والوصية والوقف. وقصره الحنفية (¬3) على المعاوضات المالية وغير المالية، ولا يشترطونه في عقود التبرعات كالوصية والكفالة، فيصح التبرع مع جهالة المحل؛ لأن الجهالة فيه لا تؤدي إلى النزاع، كأن يوصي شخص بجزء من ماله، ويكون البيان متروكاً للورثة. وكأن يقول الكفيل: أنا ضامن ما على فلان من مال. واكتفى المالكية (¬4) باشتراطه في عقود المعاوضات المالية فقط، فأبطلوا كل ¬
اشترط غير الحنفية شرطا خامسا
عقد بيع مثلاً إذا كان مشتملاً على جهالة المبيع أو الثمن. ولم يشترطوا هذا الشرط في عقود المعاوضات غير المالية، وفي عقود التبرعات، فأجازوا الزواج المشتمل على غرر قليل لا كثير كأثاث بيت، لا على شيء شارد أو ضائع؛ لأن القصد من المهر هو المودة والألفة فأشبه التبرع فاغتفرت فيه الجهالة اليسيرة، لا الفاحشة؛ لأن في الزواج شبهاً بالمعاوضات، وصححوا التبرع بالمجهول جهالة فاحشة؛ لأن القصد منه الإحسان بالصرف والتوسعة على الناس، ولا يترتب على ذلك نزاع. والقانون المدني في المادة (134) اشترط هذا الشرط أيضاً، متجاوزاً عن الجهالة اليسيرة إذا كان المحل غير معين بالذات، أي معيناً بنوعه فقط. فقال فقهاء القانون: يشترط أن يكون الشيء معيناً أو قابلاً للتعيين بشرط بيان طرق التعيين اللاحق. فإذا كان الشيء محل الالتزام مما يعين بذاته وجب أن تكون ذاتيته معروفة. وإذا كان الشيء مما يعيّن بنوعه لزم أن يذكر جنسه ونوعه ومقداره (¬1). والشرع والقانون وإن اتفقا على هذا الشرط من حيث المبدأ، لكنهما يختلفان في التطبيق، فالشرعيون يوجبون تعيين محل العقد تعييناً تاماً لا يتطرق إليه أي احتمال، وإلا كان العقد فاسداً عند الحنفية باطلاً عند غيرهم، ولا يجيزون كون المحل قابلاً للتعيين، والقانون يكتفي بكون المحل قابلاً للتعيين، وإن لم يكن معيناً وقت التعاقد، كالتعهد بتوريد أغذية معينة النوع لمدرسة أو مشفى. وأخيرا ً اشترط غير الحنفية (¬2) شرطاً خامساً: وهو أن يكون المبيع طاهراً لانجساً ولا متنجساً؛ لأن جواز البيع يتبع الطهارة، فكل ما كان طاهراً أي ما يباح ¬
العنصر الرابع ـ موضوع العقد
الانتفاع به شرعاً يجوز بيعه عندهم. وأما النجس والمتنجس فيبطل بيعه، والنجس: مثل الكلب ولو كان معلماً للنهي عن بيعه، والخنزير والميتة والدم والزبل والحشرات والبهائم الكاسرة التي لا يؤكل لحمها كالأسد والذئب، والطيور الجارحة كالنسر والغراب والحدأة، والمتنجس الذي لا يمكن تطهيره كالخل والدبس واللبن. لكن أجاز هؤلاء الفقهاء بيع المختلف في نجاسته كالبغل والحمار، وبيع الهر وطيور الصيد كالصقر والعقاب المعلم، والطير المقصود صوته كالهزار والبلبل والببغاء. ولم يشترط الحنفية (¬1) هذا الشرط، فأجازوا بيع النجاسات كشعر الخنزير وجلد الميتة للانتفاع بها إلا ما ورد النهي عن بيعه منها كالخمر والخنزير والميتة والدم (¬2)، كما أجازوا بيع الحيوانات المتوحشة، والمتنجس الذي يمكن الانتفاع به في غير الأكل. والضابط عندهم: أن كل ما فيه منفعة تحل شرعاً، فإن بيعه يجوز، لأن الأعيان خلقت لمنفعة الإنسان بدليل قوله تعالى: {خلق لكم ما في الأرض جميعاً} [البقرة:29/ 2] العنصر الرابع ـ موضوع العقد: إن موضوع العقد: هو أحد مقوماته الأربعة التي لا بد من وجودها في كل عقد. ¬
وموضوع العقد: هو المقصد الأصلي الذي شرع العقد من أجله. وإذا كان القانون عند القانونيين هو الذي يحدد مقصد العقد أو آثاره، لا إرادة العاقد، فإن المشرع في الشريعة الإسلامية هو الذي يحدد الآثار الخاصة لكل عقد، وبهذا التحديد وفي نطاقه المقرر تتحقق الأغراض الصحيحة التي يقصدها العاقدان من إنشاء العقد. وموضوع العقد واحد ثابت في كل فئة أو نوع من أنواع العقود، ويختلف باختلاف فئات العقود أو أنواعها، فهو في عقود البيع واحد: وهو نقل ملكية المبيع للمشتري بعوض. وفي الإجارات: هو تمليك المنفعة بعوض، وفي الهبات: هو تمليك العين الموهوبة، بلا عوض، وفي الإعارات: هو تمليك المنفعة بلا عوض، وفي الزواج: هو حل الاستمتاع المشترك بين الزوجين. وموضوع العقد يتحد في الحقيقة مع عبارتي: المقصد الأصلي للعقد (أو الغاية النوعية من العقد)، وحكم العقد، فهذه المصطلحات الثلاثة مترادفة يمثل كل واحد منها وجهاً لحقيقة واحدة. فإذا نظر إلى هذه الحقيقة من وجهة نظر الشارع قبل إيجاد العقد سميت مقصداً أصلياً للعقد أي مآل العقد. وإذا نظر إلى هذه الحقيقة من وجهة نظر الشارع بعد وجود العقد سميت حكم العقد أي الأثر المترتب عليه. وإذا لاحظنا المرحلة المتوسطة التي تقع إبان التعاقد أي بين مرحلة إيجاده وتمامه فتسمى هذه الحقيقة موضوع العقد (¬1). فهذه العبارات الثلاث تطلق على حقيقة واحدة مثلثة الوجوه (¬2). ¬
والمقصد الأصلي للعقد في الشريعة ربما يلتقي في بعض الخصائص مع المفهوم التقليدي للسبب عند القانونيين، وهو الذي لم تأخذ به قوانيننا العربية في سورية ومصر وليبيا وغيرها. وهو المسمى: السبب الفني للالتزام: وهو السبب القريب المجرد الذي يكون واحداً في كل الالتزامات التي من نوع واحد، وهو لازم لنشوء الالتزام ولاستمراره. فكل من المقصد الأصلي والسبب الفني موضوعي وواحد في العقد. ففي عقد البيع مثلاً السبب الفني لالتزام البائع بنقل ملكية المبيع: هو التزام المشتري بدفع الثمن. والمقصد الأصلي لعقد البيع: هو نقل الملكية بعوض، أي أن السبب الفني هو واحد في كل التزام بنقل الملكية، لا يختلف من التزام إلى آخر بحسب اختلاف الأشخاص. فسبب التزام البائع بنقل الملكية هو رغبته في الحصول على ثمن ما باع. وكذلك المقصد الأصلي هو واحد كما عرفنا في النوع الواحد من العقود، لا يختلف إلا باختلاف نوع العقد. لكن الفرق بين السبب الفني والمقصد الأصلي: هو أن السبب الفني ملازم لإرادة العاقد الخاصة، وإن كان متميزاً عنها. أما المقصد الأصلي فهو في الأصل منفك عن الإرادة الخاصة للعاقد، غير متلازم معها، وإنما هو متلازم مع إرادة الشارع (¬1). فالسبب في الفقه الإسلامي هو المقصد الأصلي للعقد (¬2)، أي أن السبب هو مجموع الآثار المتولدة، فإن كانت هذه الآثار سليمة، ذات محل مشروع، كان العقد صحيحاً، وإلا كان العقد باطلاً. وهذه الآثار: هي التي دفعت العاقد إلى التعاقد. ¬
السبب في النظرية الحديثة عند القانونيين
والحقيقة: أن التقاء المقصد الأصلي في الشريعة مع السبب الفني في بعض الخصائص لا يعني أن أحدهما هو بمعنى الآخر؛ لأن السبب الفني هو سبب الالتزام وسبب الالتزام يختلف عن سبب العقد. ففي العقود التبادلية: سبب التزام أحد المتعاقدين هو التزام المتعاقد الآخر، فسبب التزام البائع بنقل الملكية هو التزام المشتري بدفع الثمن. وسبب التزام المشتري بدفع الثمن هو التزام البائع بنقل الملكية. وهذا المعنى للسبب المدني يختلف عن المقصد العام للعقد في الشريعة، المعتبر في جميع العقود التي تبرم من نوع واحد، فالبيوع كلها مقصدها واحد هو المقصد العام لهذا النوع من العقد. وهو يختلف عن السبب الفني؛ لأن الثاني خاضع لإرادة العاقد، والمقصد النوعي خاضع لإرادة الشرع. والسبب الفني يختلف عن الباعث؛ لأن الأول: هو الغرض الدافع والمباشر الذي التزم المدين من أجله. والباعث: هو ما قبل ذلك من الدوافع (¬1). وإذا كان الفقه الإسلامي لا يعتد بالسبب الفني في المفهوم التقليدي للسبب عند القانونيين فإنه يتوصل إلى الدور نفسه الذي يقوم به السبب الفني من ناحيتين: أولاهما ـ من طريق تحديد شرائط العقد والمحل، كعنصر نشوء أو تكوين، وثانيهما ـ من طريق فكرة «التعادل» في التبادل كعنصر تنفيذ (¬2). السبب في النظرية الحديثة عند القانونيين: السبب في القضاء اليوم والذي أخذت به القوانين المدنية العربية في سوريا (م137، 138) وفي مصر (م 136،137):هو المسمى: سبب العقد، أو السبب ¬
موقف الفقهاء من نظرية السبب بالمعنى الحديث (الإرادة الظاهرة والإرادة الباطنة)
المصلحي أو سبب السبب وهو الباعث الذاتي أو الدافع البعيد الذي دفع العاقد إلى العقد. والسبب بهذا المعنى ليس عنصراً موضوعياً، وإنما يختلف في النوع الواحد من الالتزامات باختلاف الأشخاص، فهو إذن عنصر شخصي، غير ثابت، بعكس السبب الفني الذي يعد عنصراً موضوعياً ثابتاً في النوع الواحد من الالتزام. وإذا كانت وظيفة السبب الفني أو التقليدي: هي سلامة الالتزام من الناحية الفنية، فوظيفة سبب العقد أو السبب في النظرية الحديثة: هي منع صحة عقد يبتغى بوسائل مشروعة للوصول إلى نتائج غير مشروعة، فبه تتحقق مصلحة المجتمع، وهي حماية الأخلاق أو النظام العام، أي أن السبب المصلحي يتضمن فكرة الجزاء على خطأ: وهو إرادة المتعاقدين تحقيق غاية غير مشروعة. موقف الفقهاء من نظرية السبب بالمعنى الحديث (الإرادة الظاهرة والإرادة الباطنة): في الفقه الإسلامي حول نظرية السبب هذه اتجاهان (¬1): اتجاه تغلب فيه النظرة الموضوعية، واتجاه يلاحظ فيه النوايا والبواعث الذاتية. أما الاتجاه الأول: فهو مذهب الحنفية والشافعية (¬2) الذين يأخذون بالإرادة الظاهرة في العقود، لا بالإرادة الباطنة، أي أنهم حفاظاً على مبدأ استقرار المعاملات لا يأخذون بنظرية السبب أو الباعث، لأن فقههم ذو نزعة موضوعية بارزة كالفقه الجرماني، والسبب أو الباعث الذي يختلف باختلاف الأشخاص عنصر ذاتي داخلي قلق يهدد المعاملات. ¬
1 - بيع العينة
ولا تأثير للسبب أو الباعث على العقد إلا إذا كان مصرحاً به في صيغة التعاقد، أي تضمنته الإرادة الظاهرة كالاستئجار على الغناء والنوح والملاهي وغيرها من المعاصي. فإذا لم يصرح به في صيغة العقد بأن كانت الإرادة الظاهرة لا تتضمن باعثاً غير مشروع، فالعقد صحيح لاشتماله على أركانه الأساسية من إيجاب وقبول وأهلية المحل لحكم العقد، ولأنه قد لا تحصل المعصية بعد العقد، ولا عبرة للسبب أو الباعث في إبطال العقد، أي أن العقد صحيح في الظاهر، دون بحث في النية أو القصد غير المشروع، لكنه مكروه حرام، بسبب النية غير المشروعة. وبناء عليه قال الحنفية والشافعية بصحة العقود التالية مع الكراهة التحريمية عند الحنفية والحرمة أو الكراهة عند الشافعية: 1 - بيع العينة: (أي البيع الصوري المتخذ وسيلة للربا) كبيع سلعة بثمن مؤجل إلى مدة بمئة ليرة، ثم شراؤها في الحال بمئة وعشر، فيكون الفرق ربا (¬1). لكن أبا حنيفة استثناه من مبدئه في عدم النظر إلى النية غير المشروعة، اعتبر هذا العقد فاسداً إن خلا من توسط شخص ثالث بين المالك المقرض والمشتري المقترض. فيكون بيع العينة ممنوعاً غير جائز عند مالك وأبي حنيفة وأحمد والهادوية من الزيدية. وجوز ذلك الشافعي وأصحابه مستدلين على الجواز في الظاهر بما وقع من ألفاظ البيع التي لايراد بها حصول مضمونه. 2 - بيع العنب لعاصر الخمر، أي لمن يعلم البائع أنه سيتخذه خمراً، أو يظنه ظناً غالباً، وهو حرام عند الشافعية، فإن شك في اتخاذه خمراً أوتوهمه فالبيع مكروه في رأيهم. ¬
3 - بيع السلاح في الفتنة الداخلية
3 - بيع السلاح في الفتنة الداخلية أو لمن يقاتل به المسلمين أو لقطاع الطرق المحاربين ومثله بيع أدوات القمار، وإيجار دار للدعارة أو للقمار، وبيع الخشب لمن يتخذ منه آلات الملاهي والإجارة على حمل الخمر لمن يشربها ونحو ذلك، وهو بيع حرام عند الشافعية. 4 - زواج المحلِّل: وهو الذي يعقد زواجه على امرأة مطلقة طلاقاً ثلاثاً (أي البائن بينونة كبرى) بقصد تحليلها لزوجها الأول بالدخول بها في ليلة واحدة مثلاً ثم يطلقها ليصح لزوجها الأول العقد عليها من جديد، عملاً بظاهر الآية القرآنية: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة:230/ 2]. وهو مكروه عند الشافعية إذا لم يشرط في صلب العقد ما يخل بمقصوده الأصلي، فإن شرط ذلك كأن شرط أن يطلق بعد الوطء حرم وبطل. والخلاصة: أن هذا الاتجاه لا يأخذ بالسبب أو الباعث إلا إذا كان داخلاً في صيغة العقد وتضمنه التعبير عن الإرادة ولو ضمناً، ولا يعتد به إذا لم تتضمنه صيغة العقد. وأما الاتجاه الثاني: فهو مذهب المالكية والحنابلة والشيعة (¬1) الذين ينظرون إلى القصد والنية أو الباعث، فيبطلون التصرف المشتمل على باعث غير مشروع بشرط أن يعلم الطرف الآخر بالسبب غير المشروع، أو كان بإمكانه أن يعلم بذلك ¬
بالظروف والقرائن التي تدل على القصد الخبيث كإهداء العدو هدية لقائد الجيش، والإهداء للحكام والموظفين، فذلك مقصود به الرشوة، فتكون للدولة. وهبة المرأة مهرها لزوجها، يقصد به استدامة الزواج، فإن طلقها بعدئذ، كان لها الرجوع فيما وهبت (¬1). هذا الاتجاه يأخذ تقريباً بنظرية السبب أو بمذهب الإرادة الباطنة في الفقه اللاتيني، مراعاة للعوامل الأدبية والخلقية والدينية، فإن كان الباعث مشروعاً، فالعقد صحيح، وإن كان غير مشروع فالعقد باطل حرام، لما فيه من الإعانة على الإثم والعدوان، قال الشوكاني (¬2): لا خلاف في تحريم بيع العنب لمن يعصره خمراً في حال القصد وتعمد البيع إلى من يتخذه خمراً. وأما مع عدم القصد والتعمد للبيع فذهب جماعة من أهل العلم إلى جوازه مع الكراهة ما لم يعلم أنه يتخذه لذلك. وبناء عليه قال المالكية والحنابلة ومن وافقهم ببطلان العقود السابقة، وأضاف لها المالكية أنهم لا يجيزون بيع أرض بقصد بناء كنيسة، أو بيع خشب بقصد صنع صليب، أو شراء عبد بقصد أن يكون مغنياً، أو استئجار كراريس فيها عبارات النوح، وبيع ثياب حرير ممن يلبسها (¬3). أما عدم صحة بيع العنب للخمار وبيع السلاح للأعداء ونحوهما فلأنه إعانة على الحرام، أو عقد على شيء لمعصية الله به فلا يصح. وأما فساد زواج المحلل فلأنه يتنافى مع أغراض الزواج السامية: وهو أنه عقد مؤبد قصد به تكوين أسرة ¬
المطلب الثالث ـ الإرادة العقدية
دائمة، وهذا الزواج اتخذ لتحليل المطلقة ثلاثاً لزوجها الأول في وضع مؤقت، فهو حيلة لرفع تحريم مؤبد، وهو قصد غير مشروع. وأما فساد بيع العينة (أو بيوع الآجال) فلأنه اتخذ البيع حيلة لتحليل التعامل بالربا، ولم يكن الغرض الحق هو البيع والشراء. فهو وسيلة لعقد محرم غير مشروع، فيمنع سداً للذرائع المؤدية إلى الحرام. والخلاصة: أن هذا الاتجاه يعتد بالمقاصد والنيات ولو لم تذكر في العقود بشرط أن يكون ذلك معلوماً للطرف الآخر، أو كانت الظروف تحتم علمه؛ لأن النية روح العمل ولبه. ويكون هذا الاتجاه آخذاً بنظرية السبب، التي تتطلب أن يكون السبب مشروعاً، فإن لم يكن سبب العقد مشروعاً فلا يصح العقد. المطلب الثالث ـ الإرادة العقدية: الإرادة هي القوة المولدة للعقد، والعقد كما تقدم: هو توافق إرادتين على وجه ينتج أثره الشرعي، وهو الالتزام المطلوب للمتعاقدين. والكلام أو التعبير هو ترجمان الإرادة، فينبغي أن يكون معبراً تماماً عن الإرادة. والإرادة نوعان: باطنة حقيقية، وظاهرة. والإرادة الباطنة: هي النية أو القصد: والإرادة الظاهرة: هي الصيغة التي تعبر عن الإرادة الباطنة، أو ما يقوم مقامها كالتعاطي، فإذا تطابقت الإرادتان وجد العقد. وإذا وجدت الإرادة الظاهرة وحدها كالتعبير الصادر من الطفل غير المميز أو النائم أو المجنون، لم تفد شيئاً، كما أن التصرف لا يوجد بمجرد النية أو الإرادة الباطنة، فمن نوى الطلاق أو الوقف لا يصبح بمجرد نيته مطلِّقاً أو واقفاً.
الفرع الأول ـ صورية العقود
وقد عرفنا في بحث صيغة التعاقد ما تتحقق به الإرادة الظاهرة. وأما الإرادة الباطنة فتتحقق بالرضا والاختيار. والحنفية يقررون أن الرضا والاختيار شيئان متغايران. فالاختيار: هو القصد إلى النطق بالعبارة المنشئة للعقد، سواء أكان ذلك عن رضا أم لا. والرضا: هو الرغبة في أثر العقد عند التلفظ بما يدل على إنشائه. فإذا وجد الرضا وجد الاختيار، وإذا وجد الاختيار لا يلزم وجود الرضا. وغير الحنفية: الرضا والاختيار بمعنى واحد. لكن في الحياة العملية: قد توجد الإرادة الظاهرة وحدها، ولا توجد معها إرادة باطنة، فماحكم العقد؟ هذا ما يبحث في الفرع الأول من هذا المطلب وهو صورية العقد، ويأتي بعده بحث الفرعين الآخرين. فإذا لم توجد الإرادة الباطنة الحقيقية كان العقد صورياً. وإذا وقع الشك في وجود الإرادة الحقيقية، كان العقد معيباً بعيب من عيوب الرضا أو الإرادة. الفرع الأول ـ صورية العقود: قد توجد الإرادة الظاهرة وحدها، وتنعدم الإرادة الباطنة، فيكون العقد صورياً، ويظهر ذلك في الأحوال التالية: 1 - حالة السكر والنوم والجنون وعدم التمييز والإغماء: إن العقود التي تصدر من النائم والمجنون وغير المميز ونحوهم لا أثر لها، لانعدام الإرادة الحقيقية في إنشاء العقد.
2 - عدم فهم العبارة
والسكران أيضاً ليست له إرادة حقيقية في التصرف، لكن مع ذلك اختلف الفقهاء في تصرفاته، كما تقدم سابقاً. فقال الإمام أحمد وبعض المالكية (¬1): لا تعتبر تصرفات السكران، لعدم توفر القصد الصحيح عنده، فلا يصح بيعه وشراؤه وعقوده وطلاقه وسائر أقواله. وبه أخذ قانون الأحوال الشخصية في سوريا ومصر، وهو الرأي الراجح والمعقول لدينا. لكن المشهور في مذهب المالكية: نفوذ طلاق السكران. وقال الحنفية والشافعية (¬2): إذا كان السكر بمباح كحالة البنج والاضطرار والإكراه ونحوها، فلا تعتبر أقواله وأفعاله، ولا أثر لعبارته، لعدم تحقق القصد منه. وإذا كان السكر بمحرم فيؤاخذ بأقواله عقاباً وزجراً له، فتصح عقوده كالبيع والزواج، وتصح تصرفاته كالطلاق، وتترتب عليها آثارها. 2 - عدم فهم العبارة: إذا لم يفهم الشخص عبارة غيره الذي نطق بعبارة تدل على الرضا بالتصرف لم ينعقد العقد، سواء في الإيجاب أو القبول؛ لأن العبارة الصادرة منه لا تدل على قصد صحيح، ولا تعبر عن إرادته، والإرادة أو القصد أساس الرضا. لكن قال الحنفية (¬3): إذا كان التصرف مما يستوي فيه الجدل والهزل كالزواج والطلاق والرجعة واليمين، وعلم العاقدان أن اللفظ المستخدم ينعقد به التصرف، وإن لم يعلما حقيقة معناه، فينعقد به التصرف؛ لأن فهم اللفظ أمر مطلوب لأجل ¬
3 - حالة التعلم والتعليم والتمثيل
القصد، وهذه التصرفات لا يشترط فيها القصد، فلا يشترط في الناطق بما يدل عليها أن يكون فاهماً لمعناها. لكن في هذا مغالاة؛ لأن عدم اشتراط القصد في هذه التصرفات يكون بعد فهم المعنى. ولا يعقل ترتيب الآثار على تصرف غير مفهوم المعنى. 3 - حالة التعلم والتعليم والتمثيل: إذا ردد المتكلم عبارات التصرفات، ولكنه لا يريد إنشاء التزام أو عقد، بل يريد غرضاً آخر كالتعلم والتعليم والتمثيل، فلا يترتب على عبارته أي أثر. كما إذا ردد القارئ عبارة البيع أو الشراء أو الطلاق المسطرة في كتب الفقهاء بقصد تعلمها أو حفظها، أو بقصد تعليمها لغيره، فلا يترتب على كلامه أي أثر. وكذلك ترديد الممثلين عبارات التمثيل وحكاية أقوال الآخرين، مثل زوجيني نفسك، فقالت: زوجتك نفسي، لا يترتب عليه أي أثر؛ لأن المتكلم في هذه الأمثلة لا يقصد إنشاء العقد، بل قصد غرضاً آخر، وهو التمثيل أو الحفظ أو توضيح الحكم للتلاميذ. 4 - الهزل أو الاستهزاء: الهزل ضد الجد: وهو أن يراد بالشيء ما لم يوضع له ولا ما يصلح اللفظ له استعارة. فإذا نطق الشخص بعبارة لا يريد بها إنشاء التصرف، وإنما قصد بها الهزل أو الاستهزاء والعبث، مستخدماً صورية التصرف القولي أو العقد، كانت العبارة الصادرة من الهازل عند الشافعية على الراجح (¬1) صالحة لإنشاء العقود وترتيب الآثار عليها، سواء في المعاوضات المالية كالبيع والإيجار أم في الأحوال الشخصية كالزواج والطلاق، وذلك عملاً بالإرادة الظاهرة، لا بالقصد الداخلي، وحفاظاً على مبدأ استقرار العقود والمعاملات، ولا يلتفت إلى دعوى الهزل. ¬
5 - الخطأ
وفصل الحنفية والحنابلة وأكثر المالكية (¬1) بين عقود المبادلات المالية وغيرها. فعقود المبادلات المالية كالبيع أو التي محلها المال كالهبة والوديعة والعارية لا يترتب على عبارة الهازل بها أي أثر لعدم تحقق الرضا أو القصد الذي تقوم عليه الإرادة. وأما التصرفات الخمسة التي سوى الشارع فيها بين الجد والهزل (وهي الزواج والطلاق والرجعة والإعتاق واليمين) فصححوا عبارة الهازل فيها، ورتبوا عليها آثارها، أخذاً بحديث نبوي سابق هو: «ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: النكاح والطلاق والعتاق» (¬2) وفي رواية «الرجعة» وفي رواية أخرى «اليمين»، ولأن هذه التصرفات خطيرة مشتملة على حق لله، وهو ليس موضعاً للهزل والاستهزاء. 5 - الخطأ: الخطأ: هو وقوع الفعل بدون قصد، كأن يقصد المتكلم النطق بكلمة فيسبق لسانه إلى كلمة أخرى فيتلفظ بها، كأن يقول: طلّقت، وهو يريد أن يقول: بعت. والمخطئ كالناسي أو المجنون عند الشافعية والمالكية والحنابلة (¬3) لايترتب على عبارته أي عقد أو التزام، عملاً بقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (¬4). ¬
6 - التلجئة أو المواضعة
وقال الحنفية (¬1): المخطئ والناسي يترتب على عبارتهما أثرها في التصرفات والعقود؛ لأن الإرادة أمر باطني خفي لا اطلاع لنا عليه، فلو قبلنا دعوى الخطأ والنسيان في التصرفات لتزلزلت المعاملات، وضاعت الحقوق. والخلاصة: أن رأي الحنفية في الخطأ على عكس رأيهم في الهزل. 6 - التلجئة أو المواضعة (¬2): هي أن يتظاهر أو يتواطأ شخصان على إبرام عقد صوري بينهما إما بقصد التخلص من اعتداء ظالم على بعض الملكية، أو بإظهار مقدار بدل أكثر من البدل الحقيقي ابتغاء الشهرة والسمعة، أو لتغطية اسم الشخص الذي يعمل لمصلحته باطناً (قضية الاسم المستعار). أي أن المواضعة إما أن تكون في أصل العقد، أو في مقدار البدل، أو في الشخص. مثال الحالة الأولى: أن يخاف إنسان اعتداء إنسان اعتداء ظالم على بعض ما يملك، فيتظاهر هو ببيعه لثالث فراراً منه، ويتم العقد مستوفياً أرفانه وشرائطه. ومثله بيع المدين أمواله لتهريبها من وجه الدائنين، أوعقد قروض صورية لبعض الناس لمزاحمة الدائنين الحقيقيين، أو إقرار المورث لبعض ورثته بدين لتفضيله في نصيب الإرث. ومثال الحالة الثانية: إعلان زيادة في المهر في عقد الزواج بعد الاتفاق سراً على مقدار المهر الحقيقي بقصد الرياء والسمعة والشهرة. أو زيادة الثمن في عقد ¬
7 - الإكراه
بيع العقار لمنع الشفيع من الأخذ بالشفعة. فلا يجب في هذه الحالة إلا المهر المتفق عليه سراً في عقد الزواج، أو الثمن الحقيقي الذي تم به البيع، وكل من الزواج والبيع صحيح. ومثال الحالة الثالثة: تواطؤ اثنين على إخفاء وكالة سرية في عمل معين، والتظاهر بأن الوكيل يعمل باسمه لمصلحته الشخصية أو أنه هو الأصيل في العمل، ثم يعلن أن اسمه مستعار، كأن يقرر شخص بأن الدكان أو السند أو الأموال التي في يده هي لشخص آخر، فيعد قوله إقراراً بالحق لذلك الشخص (راجع المجلة: م 1591 - 1593). وقد اختلف الفقهاء في حكم عقد التلجئة أي بالنسبة للحالة الأولى: فقال الحنفية والحنابلة (¬1): إنه عقد فاسد غير صحيح كحالة الهزل تماماً؛ لأن العاقدين ما قصدا البيع، فلم يصح منها كالهازلين. كما لايصح عقد القرض الصوري أو الإقرار كما في حالة الهزل (¬2). وقال الشافعية (¬3): هو بيع صحيح؛ لأن البيع تم بأركانه وشروطه، وأتي باللفظ مع قصد واختيار خالياً عن مقارنة مفسد، أي أن رأيهم في هذه العقود كرأيهم في عقود الهازل. 7 - الإكراه: يقصد الشخص في حالة الإكراه التلفظ بالعبارة مع فهمه لمعناها، ولكنه لم ¬
يرض بترتب الآثار عليها. فالإكراه بنوعيه الملجىء وغير الملجئ يعدم الرضا، أي الإرادة الحقيقية. وبما أن الإكراه يعدم الرضا لم يترتب عند غير الحنفية (الجمهور) على عبارة المستكره أي أثر في جميع العقود والتصرفات، للحديث السابق: «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» فلا يصح طلاقه وزواجه وغيرهما، كالسكران. وبهذا أخذ قانون الأحوال الشخصية السوري في المادة (89) (¬1) والقانون المصري. إلا أن الشافعية والحنابلة قالوا: بيع المكره باطل (¬2). وقال المالكية: بيع المكره غير لازم، فيكون للعاقد المستكره الخيار بين فسخ العقد أو إمضائه. وقال ابن جزي المالكي: بيع المكره وشراؤه باطلان (¬3). وأما الحنفية (¬4) فاعتبروا الإكراه كالهزل تماماً. فالعقود المالية كالبيع والإجارة والرهن ونحوها، أو التي محلها المال كالهبة والوديعة والإعارة تكون موقوفة على إجازة المستكره بعد زوال ظرف الإكراه، فإن رضي بها وأجازها في مدة ثلاثة أيام وبقي العاقد الآخر راضياً نفذت، وإن لم يجزها بطلت. وهذا رأي زفر وهو الأصح. والتصرفات الخمسة التي لله فيهاحق (وهو الزواج والطلاق والرجعة واليمين ¬
8 - القصد غير المشروع
والعتاق) تكون صحيحة كالهزل تماماً؛ لأن الشارع جعل العبارة فيها عند القصد إليها قائمة مقام الإرادة، فيترتب عليها أثرها. 8 - القصد غير المشروع: إذا اتخذ العاقد عقداً مباحاً وسيلة لتحقيق غرض غير مباح شرعاً، أي كان الدافع له سبباً غير مشروع، فللفقهاء بالنسبة للعقد في حد ذاته رأيان، وذلك مثل بيع السلاح لأهل الفتنة، وبيع العصير لمن يتخذه خمراً، وبيع العينة وزواج المحلل ونحوها. قال الإمام الشافعي: العقد صحيح، لتوافر ركنه وهو الإيجاب والقبول والنية غير المشروعة متروك أمرها لله عز وجل يعاقب صاحبها. وقال الصاحبان وسائر الأئمة الآخرين: العقد غير صحيح، وليس للإيجاب والقبول أثر متى قام الدليل على هذا القصد الآثم. وقد سبق بحث الرأيين في نظرية السبب عند الفقهاء. الفرع الثاني ـ سلطان الإرادة العقدية (أو مدى الحرية في العقود والشروط): يأخذ فقهاء القانون الحديث بمبدأ سلطان الإرادة العقدية أي أن الإرادة حرة في إنشاء العقود واشتراط الشروط لتحديد التزامات التعاقد وآثاره المترتبة عليها، ولكن في حدود النظام العام (¬1): وهي الحدود التي يضعها التشريع وفقاً لمصالح الفرد والمجتمع ومقتضيات السياسة والاقتصاد، فلا يصح مثلاً الاستئجار على ارتكاب جريمة أو على فعل ما ينافي الآداب الاجتماعية، أو النظام الاقتصادي والسياسي. ¬
الأولى ـ حرية التعاقد ورضائيته
ويعبر القانونيون عن حرية الاشتراط وتحديد التزامات التعاقد بقاعدة مشهورة هي (العقد شريعة المتعاقدين) أي أنه قانون ملزم لكل من الطرفين المتعاقدين فيما تقضي به بنوده وشروطه. وقد نص القانون المدني السوري على ذلك في المادة (1/ 148). وهذا يعني أن السلطان المطلق في إنشاء العقد وآثاره المترتبة عليه هو لإرادة المتعاقدين، دون نظر إلى فكرة التعادل في الغنم والغرم أي ما قد يكون من غبن فاحش على أحد المتعاقدين. كما أنه يمكن الاتفاق على أنواع جديدة من العقود بحسب ما تقتضيه المصالح الاقتصادية والتطورات الزمنية، دون اقتصار على ما يعرف بالعقود المسماة وهي التي نظمها التشريع وحدد لها التزامات معينة. وسنعرف أن الفقه الحنبلي يلتقي مع مبدأ سلطان الإرادة المعمول به في نطاق القوانين المدنية المعاصرة. وسأبحث هذا المبدأ في الفقه الإسلامي من ناحيتين: الأولى ـ حرية التعاقد ورضائيته. والثانية ـ حرية الاشتراط وترتيب آثار العقد. الأولى ـ حرية التعاقد ورضائيته: اتفقت الاجتهادات الإسلامية على أن الرضا أساس العقود (¬1) لقوله تعالى في المعاملات المالية: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن ¬
الرأي الأول ـ للظاهرية
تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء:29/ 4] وقوله سبحانه في استحقاق أخذ شيء من حقوق الزوجات: {فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً} [النساء:4/ 4] وقال النبي صلّى الله عليه وسلم «إنما البيع عن تراض» (¬1) «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه» (¬2). وبناء عليه فإن مجرد التراضي هو الذي يولد العقد والتزاماته، دون حاجة لممارسة شكلية معينة، إلا عقد الزواج الذي يخضع لخطورته لشكلية الإعلان بالإشهاد عليه. والإرادة حرة في إبرام العقد دون خضوع لأي نوع من أنواع الإكراه العقدي، سواء في المعاملات المالية، أم في عقود الزواج، إلا ما توجبه قواعد العدالة ومصلحة الجماعة، كبيع القاضي أموال المدين المماطل جبراً عنه لإيفاء ديونه، وبيع الأموال المحتكرة لصالح الجماعة، واستملاك الأراضي للمصالح العامة. واختلفت الاجتهادات الإسلامية على رأيين في مبدأ حرية إنشاء العقود (حرية التعاقد) أي اختيار نظام معين ليكون عقداً بين طرفين، أو اختيار نوع معين من أنواع العقود الجديدة بالإضافة إلى العقود المتعارف عليها في الماضي. وهذان الرأيان هما ما يأتي: الرأي الأول ـ للظاهرية: (أتباع داود بن علي وابن حزم الأندلسي) (¬3) وهم المضيقون الذين يقولون: الأصل في العقود المنع حتى يقوم دليل على الإباحة، أي أن كل عقد أو شرط لم يثبت جوازه بنص شرعي أو إجماع فهو باطل ممنوع (¬4). واستدلوا على رأيهم بأدلة ثلاثة: ¬
الرأي الثاني ـ للحنابلة وبقية الفقهاء
1 - إن الشريعة شاملة لكل شيء، وقد تكفلت ببيان ما يحقق مصالح الأمة، ومنها العقود، على أساس من العدل، وليس من العدل ترك الحرية للناس في عقد مايريدون من العقود، وإلا أدى ذلك إلى هدم نظام الشريعة. 2 - يقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (¬1) فكل عقد أو شرط لم يشرعه الشرع بنص أو إجماع يكون باطلاً؛ لأنه إذا تعاقد الناس بعقد لم يرد في الشريعة وأصولها يكونون قد أحلوا أو حرموا غير ماشرع الله، وليس لأحد من المؤمنين سلطة التشريع. قال ابن حزم معلقاً على هذا الحديث: «فصح بهذا النص بطلان كل عقد عقده الإنسان والتزمه، إلا ما صح أن يكون عقداً جاء النص أو الإجماع بإلزامه باسمه أو بإباحة التزامه بعينه» (¬2). 3 - يؤيده الحديث النبوي: «ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مئة شرط» (¬3) أي أن الشرط غير المنصوص عليه باطل، فيقاس عليه العقد، غير المنصوص عليه. الرأي الثاني ـ للحنابلة وبقية الفقهاء: وهم الموسعون الذين يقولون: الأصل في العقود وما يتصل بها من شروط الإباحة ما لم يمنعها الشرع أو تخالف نصوص الشرع. واستدلوا على رأيهم بما يأتي: 1 - إن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية السابق ذكرها لم تشترط لصحة العقد إلا الرضا والاختيار، وكذلك آية {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة: ¬
1/ 5] أوجبت الوفاء بكل عقد دون استثناء، أي أنها نصت على مبدأ القوة الإلزامية للعقد، وأوجبت على الإنسان الوفاء بعقده الذي باشره بإرادته الحرة، فيصبح العقد ملزماً له بنتائجه، ومقيداً لإرادته حفظاً على مبدأ استقرار التعامل. وهذا يدل على أن تحريم شيء من العقود أو الشروط التي يتعامل بها الناس تحقيقاً لمصالحهم، بغير دليل شرعي، تحريم لما لم يحرمه الله، فيكون الأصل في العقود والشروط هو الإباحة. 2 - هناك فرق بين العبادات والمعاملات. أما العبادات فيجب ورود الشرع بها، وأما المعاملات ومنها العقود فلا تتطلب ورود الشرع بها. فيكفي في صحتها ألا تحرمها الشريعة استصحاباً للمبدأ الأصولي وهو أن الأصل في الأفعال والأقوال والأشياء هو الإباحة؛ لأن القصد من المعاملات رعاية مصالح الناس، فكل ما يحقق مصالحهم يكون مباحاً. ويصح التعامل بعقود جديدة لم تعرف سابقاً من طريق القياس أو الاستحسان أو الإجماع أو العرف الذي لا يصادم أصول الشريعة ومبادئها. وهذه المصادر لا بد لها من سند في الكتاب أو السنة. 3 - يؤيد ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: «الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرم حلالاً أو أحل حراماً، والمسلمون على شروطهم إلا شرطاً حرم حلالاً أو أحل حراماً» (¬1) «الناس على شروطهم ما وافقت الحق» ويقاس على الشروط الصحيحة كل عقد لا يصادم أصول الشريعة، ويحقق مصالح الناس. وهذا الرأي هو الأصح، إذ لم نجد في الشرع ما يدل على أي حصر لأنواع ¬
الثانية ـ حرية الاشتراط وترتيب آثار العقود والقوة الملزمة للعقد
العقود وتقييد الناس بها، فكل موضوع لم يمنعه الشرع ولا تقتضي قواعد الشريعة وأصولها منعه جاز التعاقد عليه، على أن تراعى شرائط انعقاد العقود كالأهلية والصيغة وقابلية المحل لحكم العقد. الثانية ـ حرية الاشتراط وترتيب آثار العقود والقوة الملزمة للعقد: اتفق الفقهاء على أن العقد المستكمل لأركانه وشرائطه يتمتع بالقوة الإلزامية أي أن كل عقد باشره الإنسان بإرادته الحرة ملزم له بنتائجه، ومقيد لإرادته؛ لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة:1/ 5] وقوله: {وأوفوا بالعهد، إن العهد كان مسؤولاً} [الإسراء:34/ 17]. واتفق الفقهاء أيضاً على أن ترتيب آثار العقود هي في الأصل من عمل الشارع، لا من عمل المتعاقدين. فإرادة المتعاقدين هي التي تنشئ العقد، ولكن الشريعة هي التي ترتب ما لكل عقد من حكم وآثار، ويقول الفقهاء: إن العقود أسباب «جعلية شرعية» لآثارها، أي أن الرابطة بين العقد وآثاره باعتبار أن أحدهما مسبب والآخر سبب ليست رابطة آلية طبيعية عقلية، وإنما هي رابطة جعلها الشارع بينهما، حتى لا يبغي بعض الناس على بعض بما يشترطون من شروط، وحتى يكون لكل تصرف حكمه من المشرع الحكيم. فإرادة الإنسان مقصورة على إنشاء العقد فقط كعقد البيع، وأما ما يترتب على العقد من آثار كنقل ملكية المبيع إلى المشتري واستحقاق الثمن في ذمة المشتري للبائع، فمتروك لتقدير الشرع. وتستمد إرادة العاقدين سلطانها من الشرع بالحدود التي حددها لكل عقد، فقد تكون حدود الشرع محققة لحاجةالعاقدين، فلا يحتاجان إلى اشتراط شروط
الرأي الأول ـ للظاهرية
تنقص أو تزيد من آثار العقد المشروعة، فإن لم تحقق حاجة العاقدين وغرضهما احتاجا إلى اشتراط شروط تحقق الغرض المطلوب. فما مدى سلطة العاقدين على تعديل آثار العقود، أو ما صلاحية الفقهاء في استنباط الحدود المقررة في الشرع أو تعديل الآثار الأصلية للعقد عن طريق اشتراط العاقدين الشروط العقدية إما بالنقص من تلك الآثار، أو بإضافة التزامات على أحد العاقدين لا يستلزمها أصل العقد؟. وحرية الاشتراط: هو مبدأ سلطان الإرادة في تعديل آثار العقد المقرر في القوانين، علماً بأن الشريعة والقانون متفقان على أن تقرير آثار العقود وأحكامها هو من إرادة الشارع لا من عمل العاقد، والفارق بينهما في مدى تفويض الشارع إلى العاقدين من السلطان على تعديل الأحكام التي قررها التشريع مبدئياً في كل عقد (¬1). للفقهاء الشرعيين رأيان في حرية الاشتراط في العقود: الرأي الأول ـ للظاهرية، وهم القائلون بأن الأصل في العقود المنع، قالوا: إن الأصل في الشروط المنع، فكل شرط لم يقره الشرع في القرآن أو السنة فهو باطل. الرأي الثاني ـ لسائر الفقهاء الآخرين: وهو أن الأصل في العقود والشروط الإباحة، لكن هؤلاء فريقان: 1 - الحنابلة يقولون: الأصل في الشروط العقدية هو الإطلاق، فكل شرط لم يرد الشرع بتحريمه فهو جائز. ¬
2 - غير الحنابلة
2 - غير الحنابلة يقولون: الأصل في الشروط العقدية هو التقييد، فكل شرط خالف الشرع أو مقتضى العقد فهو باطل، وما عداه فهو صحيح. وقد سبق ذكر أدلة المذهبين في بحث حرية التعاقد. وفي رأيي أنه يؤخذ برأي الحنابلة في إطلاق حرية الاشتراط للعاقدين في العقود المالية، تحقيقاً لحاجات الناس ومصالحهم ومراعاة لما يطرأ من تطورات وأعراف في إبرام عقود لأغراض مشروعة، وإلا لشلت حركة التجارة والنشاط الاقتصادي الذي اتسع ميدانه في العقود والشروط على نحو لم يكن معروفاً لدى الفقهاء. ويؤخذ برأي غير الحنابلة في عقود الزواج حرصاً على ما له من حرمة وقداسة ولما فيه من جانب العبادة ولما تتطلبه الأسرة من استقرار ودوام، ينبغي من أجله عدم إفساح المجال لحرية الاشتراط التي تتأثر بالأهواء، وتعصف بأغراض الزواج السامية. وقد قال الفقهاء: «الأصل في الأبضاع ـ أي المتعة الجنسية ـ التحريم». وأكتفي هنا ببيان مذهبي الحنفية والحنابلة في الشروط المقترنة بالعقد. أما مذهب الشافعية فقريب من مذهب الحنفية، ومذهب المالكية قريب من مذهب الحنابلة. أولاً ـ مذهب الحنفية في الشروط: قسم الحنفية الشروط إلى ثلاثة أنواع: الشرط الصحيح، والشرط الفاسد، والشرط الباطل (¬1). ¬
الأول ـ الشرط الصحيح
الأول ـ الشرط الصحيح: هو ماكان موافقاً لمقتضى العقد (¬1)، أو مؤكداً لمقتضاه، أو جاء به الشرع، أو جرى به العرف. مثال الشرط الذي يقتضيه العقد: اشتراط البائع تسليم الثمن أو حبس المبيع حتى أداء جميع الثمن، واشتراط المشتري تسليم المبيع، أو تملكه. واشتراط الزوجة على زوجها أن ينفق عليها، واشتراطه عليها تسليم نفسها إذا قبضت مهرها. فهذه شروط تبين مقتضى العقد أوتوافق مقتضاه؛ لأن مضمونها واجب التحقق شرعاً، حتى ولو لم يشترطها أحد العاقدين؛ لأن ثبوت الملك والتسليم والتسلم وحبس المبيع من مقتضى المعاوضات، والإنفاق على الزوجة وزفافها من مقتضى الزواج. ومثال الشرط المؤكد لمقتضى العقد: اشتراط البائع تقديم كفيل أو رهن معينين بالثمن عن تأجيله للمستقبل، فإن الكفالة والرهن استيثاق بالثمن، فيلائم البيع ويؤيد التسليم. ومثله اشتراط كون والد الزوج كفيلاً بالمهر والنفقة. والشرط الذي ورد به الشرع: مثل اشتراط الخيار أو الأجل لأحد المتعاقدين، أو اشتراط الطلاق إذا طرأ سبب داع له، فذلك كله مشروع في الشرع. والشرط الذي جرى به العرف: مثل اشتراط المشتري على البائع التعهد بإصلاح الشيء المشترى مدة معينة من الزمان، كالساعة، والمذياع، والسيارة، والغسالة، والثلاجة، واشتراط حمل البضاعة إلى مكان المشتري، فهذا مما تعارفه الناس وإن كان فيه زيادة منفعة لأحد العاقدين، فجاز استحساناً خلافاً لزفر من الحنفية، بدليل أن النبي اشترى في السفر من جابر بن عبد الله بعيراً، وشرط لجابر ركوبه وحملانه عليه إلى المدينة. ¬
الثاني ـ الشرط الفاسد
وإقرار هذا الشرط عند الحنفية أدى إلى توسيع حرية الناس في الاشتراط، بما يحقق لأحد العاقدين منفعة زائدة عن مقتضى العقد. كما أدى إلى زوال الشرط الفاسد من معاملات الناس. وأصبحت الشروط كلها صحيحة بالعرف إلا إذا كانت مصادمة لنص تشريعي، أو منافية لمبادئ الشريعة ومقاصدها العامة. الثاني ـ الشرط الفاسد: هو مالم يكن أحد الأنواع الأربعة السابقة في الشرط الصحيح، أي أنه الذي لا يقتضيه العقد، ولا يلائم المقتضى، ولا ورد به الشرع، ولم يتعارفه الناس، وإنما فيه منفعة زائدة لأحد المتعاقدين، كشراء حنطة على أن يطحنها البائع، أو قماش على أن يخيطه البائع قميصاً مثلاً، أو شراء بضاعة على أن يتركها في ملك البائع شهراً، أو بيع دار على أن يسكنها البائع شهراً أو أكثر، أو شراء أرض على أن يزرعها البائع سنة، أو شراء سيارة على أن يركبها البائع مدة من الزمن، أو على أن يقرضه قرضاً أو يهب له هبة ونحو ذلك. وفي الزواج: اشتراط الزوجة ألا تنتقل من بلدها التي تزوجت فيها، أو ألا يتزوج عليها، أو أن يطلق امرأته الأولى، أو ألا يطلقها أبداً. ويختلف أثر الشرط الفاسد على العقود بحسب نوع العقد. والقاعدة المقررة في ذلك هي: أن الشرط الفاسد في عقود المعاوضات المالية يفسدها، وفي غيرها لا يؤثر عليها (¬1). إن الشرط الفاسد في المعاوضات المالية كالبيع والإجارة والقسمة والمزارعة والمساقاة والصلح عن المال يفسدها (¬2)؛ لما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه «نهى عن بيع ¬
الثالث ـ الشرط الباطل
وشرط» (¬1) ولأن الشرط الفاسد يتنافى مع مبدأ التعادل الذي تقوم عليه المبادلات المالية. وأما العقود الأخرى غير المبادلات المالية كالتبرعات (هبة أو إعارة) والتوثيقات (كفالة أو حوالة أو رهن)، والزواج والطلاق، والإطلاقات كالوكالة، فلا يؤثر عليها الشرط الفاسد، ويبقى العقد صحيحاً، ويصير الشرط لاغياً لا أثر له، لما ثبت في السنة النبوية من تصحيح هذه العقود وإلغاء الشروط الفاسدة، كالحكم بصحة الهبة وبطلان شرط التأقيت مثلاً. الثالث ـ الشرط الباطل: هو ما لم يكن أحد أنواع الصحيح، وليس فيه منفعة لأحد المتعاقدين ولا لغيرهما، وإنما هو ما كان فيه ضرر لأحد العاقدين، كاشتراط بائع البضاعة على المشتري ألا يبيعها أو لا يهبها لأحد، واشتراط بائع الدار على المشتري أن يتركها من غير سكن مدة شهر في كل سنة مثلاً، واشتراط بائع سيارة ألا يُركب المشتري فلاناً فيها أو يضعها في مكان خاص. العقد صحيح حينئذ، والشرط لغو باطل لا قيمة له، سواء في عقود المعاوضات، أم في العقود الأخرى كالزواج والكفالة والهبة. ثانياً ـ مذهب الحنابلة في الشروط: مذهب الحنابلة وعلى التخصيص ابن تيمية وابن القيم أوسع المذاهب في الأخذ بحرية الاشتراط (¬2)، فهم أقرب إلى الفقه القانوني الآخذ بمبدأ سلطان ¬
1) الشرط المنافي لمقتضى العقد
الإرادة، فهم يرون أن الأصل في الشروط الإباحة أو الإطلاق، فيصح كل شرط فيه منفعة أو مصلحة لأحد العاقدين، كاشتراط صفة معينة في المبيع أو في أحد الزوجين، واشتراط منفعة في عقد البيع كسكنى الدار المبيعة بعد بيعها مدة معينة، وتوصيل المبيع لدار المشتري، وخياطة الثوب للمشتري، واشتراط الزوجة على الزوج ألا يتزوج عليها، أو ألا يسافر بها، أو ألا ينقلها من منزلها. هذه شروط صحيحة يجب الوفاء بها، سواء في عقود المعاوضات المالية، أم في عقود التبرعات، أو في التوثيقات (أو التأمينات بلغة العصر)، أو الزواج ونحوه، فإن لم يوف بها جاز للعاقد الآخر فسخ العقد. وهذا رأي القاضي شريح (¬1)، وابن شُبرمة (¬2) الكوفي، وابن أبي ليلى (¬3) وجماعة من فقهاء المالكية، بدليل أن جابراً باع النبي صلّى الله عليه وسلم بعيراً واشترط حملانه عليه إلى أهله وأقره النبي على ذلك ودفع له الثمن (¬4). إن اشتراط الركوب على الجمل فيه منفعة للبائع، فهو شرط فاسد، والفاسد لا يؤثر في العقد مطلقاً. ولم يستثن الحنابلة ومن وافقهم من الشروط الجائزة إلا الشرط المنافي لمقتضى العقد، أو الذي ورد النهي عنه. 1) الشرط المنافي لمقتضى العقد: كاشتراط البائع على المشتري ألا يبيع الشيء المشترى مطلقاً، أو ألا يقفه على جهة خير مثلاً، أو ألا يسكن فيه أحداً بالإيجار ¬
2) الشرط المنهي عنه أو المخالف لحكم الله ورسوله
وغيره، العقد حينئذ صحيح والشرط لاغ؛ لأن في هذا الشرط حرمان العاقد من الاستفادة مما يثبته العقد له من حقوق. 2) الشرط المنهي عنه أو المخالف لحكم الله ورسوله، كاجتماع صفقتين في عقد واحد، مثل اشتراط البائع على المشتري إيجار الدار لفلان، أو أن يهبه شيئاً، أو يبيع له شيئاً أو يقرضه مبلغاً من المال، أو ألا يبيع الناتج الزراعي كالقطن وغيره إلا له واشتراط الزوجة أن يطلق امرأته الأولى. هذه شروط فاسدة تفسد العقد؛ لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم «نهى عن بيعتين في بيعة» أو «عن صفقتين في صفقة» (¬1) ولأن ذلك يؤدي غالباً إلى النزاع بين المتعاقدين في العقد الآخر المشروط، فيسري النزاع إلى العقد الأصلي. رأي المتأخرين من الحنابلة: أفاض ابن تيمية وابن القيم في بيان نظريتهما في أن الأصل في العقود والشروط الإباحة أو الجواز والصحة حتى يقوم الدليل على المنع؛ لأنها من العادات التي تراعى فيها مصالح الناس. فإن حرمنا ما يجري بين الناس من عقود وشروط، بغير دليل من الشارع، نكون قد حرمنا ما لم يحرمه الله. والله تعالى أمرنا بالوفاء بالعقود في قوله: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة:1/ 5]، وطالبنا النبي عليه السلام بتنفيذ الشروط في قوله المتقدم: «والمسلمون على شروطهم، إلا شرطاً أحل حراماً، أو حرم حلالاً». وقررت الشريعة أن الأصل في العقود رضا المتعاقدين، وأثرها: هو ما أوجباه على نفسيهما بالتعاقد، وذلك في قوله تعالى: {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء:29/ 4] فالتراضي هو المبيح للتجارة، وقوله تعالى: {فإن طبن لكم عن ¬
شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً} [النساء:4/ 4] فإذا كان طيب النفس هو المبيح للصداق، فكذلك سائر التبرعات. أما استثناء الشرط أو العقد المناقض حكم الله ورسوله، فلقوله صلّى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم: «من أحدث في أمرنا ـ أو ديننا ـ هذا ما ليس منه فهو رد» وفي لفظ «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» فكل شرط يناقض حكم الله ورسوله يكون باطلاً باتفاق المسلمين، كاشتراط التعامل بالربا أو الاتجار في الخمر ونحو ذلك، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل» والمقصود بالشرط الذي ليس في كتاب الله: هو ما فسره عمر بن الخطاب في رسالته لأبي موسى الأشعري في القضاء: «والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً، أو حرم حلالاً». وأما استثناء الشرط المنافي لمقصود العقد، كاشتراط عدم الانتفاع بالمشترى ببيع أو إيجار، فلأنه جمع بين المتناقضين، أي بين إثبات المقصود ونفيه، فلا يحصل شيء. ويلاحظ أن الحنابلة حصروا الشرط المنافي في المناقضة لمقصود العقد الأصلي. فلو شرط البائع على المشتري ألا يبيع ما اشتراه، فإنه يكون منافياً أو مبطلاً للمقصود الأصلي من العقد، وهو الملك المبيح للتصرف. أما إذا شرط البائع منفعة أخرى كسكنى الدار أو زراعة الأرض، فإنه لا يكون منافياً لمقتضى العقد، ويكون الشرط صحيحاً. وكذلك في الزواج لو شرط فيه ألا تحل به المتعة الزوجية يبطل العقد، لكن لو شرط فيه عدم ممارسة الاستمتاع الزوجي يصح العقد ويلغو الشرط. أما الحنفية فقد توسعوا في تفسير المنافاة، وقالوا: كل ما يكون من الشروط فيه منفعة لأحد المتعاقدين، يكون منافياً لمقتضى العقد. والخلاصة: إن الحنابلة وموافقيهم يرون أن الشريعة فوضت لإرادة العاقدين
مزايا الفقه الحنبلي في الشروط
تحديد مقتضيات العقود، أو آثارها ضمن نطاق حقوقهما ومصالحهما في كل ما لا يصادم نصوص الشريعة أو أصولها الثابتة. وهذا الاتجاه لعمر وشريح وابن شبرمة والحنابلة يتفق تماماً مع ما تقرره القوانين الحديثة من مبدأ سلطان الإرادة، وإعطاء الحرية للعاقدين في اشتراط أي شرط لا يخالف قواعد النظام العام أو الآداب أو النصوص القانونية الخاصة. مزايا الفقه الحنبلي في الشروط: كان للاجتهاد الحنبلي في حرية الاشتراط العقدي مزايا مهمة فيما يأتي: 1ً ـ الزواج: أجاز الحنبلية الأخذ بمبدأ حرية الاشتراط في الزواج، لما ثبت في الصحيحين عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج» ولما للزواج من جانب كبير من الخطورة والقدسية، إذ تقوم عليه أسرة تتطلب الحفاظ عليها، فتكون رعاية الشروط التي فيها منفعة أوجب وألزم من العقود الأخرى. إنهم أجازوا خلافاً للحنفية والشافعية والمالكية للزوجين اشتراط ما شاءا من الشروط التي فيها منفعة مقصودة لا تتعارض مع موضوع الزواج ونصوص الشريعة. وذلك كاشتراط المرأة ألا يسافر بها زوجها، أو ألا ينتقل بها من دارها ويسكن معها، أو ألا يتزوج عليها، أو أن يطلق امرأته الأولى (¬1)، أو اشتراط أحد الزوجين كون الآخر موسراً ونحو ذلك. ¬
ـ التبرعات
أما اشتراط توقيت الزواج، أو عدم المهر، أو عدم النفقة الزوجية أو عدم الاستمتاع الزوجي ونحوه، فلا يصح لمصادمته أصول الزواج (¬1). وإذا لم يوف الزوج بالشرط كان الطرف الآخر المشروط له مخيراً بين الاستمرار وفسخ العقد بسبب عدم الوفاء بالشرط. 2ً ـ التبرعات: أجاز الحنابلة للمتبرع استثناء بعض منافع الشيء المتبرع به، ولو لم تكن المنفعة معلومة، لقوله تعالى: {ما على المحسنين من سبيل} [التوبة:91/ 9] فللواهب أو الواقف أو المتصدق أن يشترط لنفسه منفعة من منافع الشيء مدة حياته، كأن يستثني غلة الوقف ما عاش الواقف، أو منفعة الدار الموهوبة مدة الحياة. 3ً ـ المعاوضات: أجاز الحنابلة أيضاً استثناء بعض منفعة الشيء المبيع بشرط أن تكون المنفعة معلومة، كأن يبيع الدار على أن يظل ساكناً فيها مدة معينة، أو السيارة على أن يركبها مدة معينة، والسبب في اشتراط كون المنفعة المستثناة معلومة في المعاوضات بعكس التبرعات: هو بناء المعاوضات على التعادل بين الطرفين، بحث لا يغبن أحدهما الآخر غبناً فاحشاً، فلا بد من كون المنفعة معلومة حتى لا يقع نزاع بين العاقدين، أما التبرع فلا تعادل فيه، ولا يتأتى النزاع فيه بين الطرفين. وجوزوا استثناء بعض الحقوق كأن يكون البائع أحق بشراء المبيع إذا أراد المشتري بيعه لآخر. ¬
البيع بما ينقطع عليه السعر في المستقبل
ولم يمنعوا إيجاب بعض الواجبات على المالك كبيع العقار على أن يقفه المشتري، أو يتصدق به، أو يقضي دين فلان أو يصل به رحمه (¬1). وهذا دليل على جواز الاشتراط لمصلحة الغير. وصحح جماعة من الحنابلة خلافاً لبقية الفقهاء البيع بما ينقطع عليه السعر في المستقبل بتاريخ معين من غير تقدير ثمن أو تحديده وقت العقد، لتعارف الناس وتعاملهم به في كل زمان ومكان (¬2)، كبيع القطن بما يستقر عليه سعر السوق في بورصة الأقطان في الساعة السادسة من يوم كذا. وهذا ما أخذ به القانون المدني السوري في المادة (392) وكذا أصله المصري. وجعل الحنابلة خلافاً لجمهور الفقهاء بيع العربون صحيحاً مشروعاً: وهو أن يبيع الشخص شيئاً، ويأخذ من المشتري مبلغاً من المال يسمى عربوناً لتوثيق الارتباط بينهما، فإن تم البيع بينهما احتسب العربون المدفوع من الثمن، وإن نكل المشتري كان العربون للبائع، هبة من المشتري له (¬3). أخذ القانون المدني السوري في المادة (104) بطريقة بيع العربون هذه. وأصبحت طريقة البيع بالعربون في عصرنا الحاضر أساساً للارتباط في التعامل التجاري الذي يتضمن التعهد بتعويض ضرر الغير عن التعطل والانتظار. ويسمى ضمان التعويض عن التعطل والانتظار في الفقه القانوني: الشرط الجزائي (¬4). وقد أقره القاضي شريح بقوله «من شرط على نفسه طائعاً غير مكره عليه» (¬5). ¬
ـ تعليق التصرفات مطلقا بشرط
وأجازه الحنابلة لتعارف الناس له، ولما ثبت في السنة: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سئل عن العربان في البيع فأحله» (¬1) ويؤيده أثر عن عمر وهو: «أن نافع بن عبد الحارث العامل لعمر على مكة، اشترى لعمر دار السجن من صفوان بن أمية بأربعة آلاف درهم، فإن رضي عمر كان البيع نافذاً، وإن لم يرض فلصفوان أربع مئة درهم» وأقر عمر شرطه هذا (¬2). 4 ً ـ تعليق التصرفات مطلقاً بشرط: أجاز الحنابلة تعليق التصرف بشرط معلق في جميع أنواع العقود والفسوخ والتبرعات والالتزامات من بيع وإجارة وكفالة وإقالة وإبراء وزواج وغيرها، كأن يقول شخص: إن وصلت بضاعتي المستوردة اليوم فقد بعتكها بكذا. أو تقول امرأة: زوجتك نفسي على مهر كذا إن رضي أخي أوعمي مثلاً. ودليلهم على الجواز إطلاق الحديث النبوي المتقدم: «المسلمون عند شروطهم، إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً» ولأن تعليق العقود وغيرها على شرط قد تدعو إليه الضرورة أو الحاجة أو المصلحة (¬3). ومنع جمهور الفقهاء التعليق في جميع العقود ولا سيما التمليكات والزواج، واعتبروها باطلة. وسوغوا فقط تعليق الإسقاطات كالطلاق. كما سوغ الحنفية تعليق عقود الالتزامات والإطلاقات كالكفالة والوكالة بالشرط الملائم فقط، ¬
الفرع الثالث ـ عيوب الإرادة أو عيوب الرضا
مثل إذا سافر مدينك فأنا كفيله، إذا وصلت بضاعتي من الحديد مثلاً فقد وكلتك ببيعها. الفرع الثالث ـ عيوب الإرادة أو عيوب الرضا: عيوب الإرادة: هي الأمور التي تحدث خللاً في الإرادة أو تزيل الرضا الكامل في إجراء العقد. وتسمى قانوناً عيوب الرضا. وهي أربعة أنواع: الإكراه، الغلط، التدليس (أو التغرير)، الغبن مع التغرير. ويختلف تأثيرها على العقد، فقد تجعل العقد باطلاً، كالغلط في محل العقد، وقد تجعله فاسداً أو موقوفاً كالإكراه، وقد تجعله غير لازم كالغلط في الوصف، والتدليس، والغبن مع التغرير. 1 - الإكراه: الإكراه في اللغة: هو حمل الغير على أمر لا يرضاه، قهراً. وفي اصطلاح الفقهاء: حمل الغير على أن يفعل ما لا يرضاه، ولا يختار مباشرته، لو ترك ونفسه. والمقصود بالإرادة: مجرد اعتزام الفعل والاتجاه إليه، فهي أعم الأحوال. والمقصود بالاختيار: ترجيح فعل الشيء على تركه أو العكس وهو أخص من الإرادة. والرضا: هو الارتياح إلى فعل الشيء والرغبة به، وهو أخص من الاختيار. والإكراه نوعان: ملجئ أو كامل، وغير ملجئ أو ناقص (¬1). ¬
شروط الإكراه
والإكراه الملجئ أو التام: هو الذي لا يبقى للشخص معه قدرة ولا اختيار، بأن يهدده بالقتل، أو بإتلاف بعض الأعضاء، أو بالضرب الشديد الذي يخشى منه القتل أو تلف العضو، أو تلف جميع المال. وحكمه: أنه يعدم الرضا ويفسد الاختيار. والإكراه الناقص أو غير الملجئ: هو التهديد بما لا يضر النفس أو العضو، كالتهديد بالضرب اليسير أو بالحبس، أو بإتلاف بعض المال، أو بإلحاق الظلم كمنع الترقية أو إنزال درجة الوظيفة. وحكمه: أنه يعدم الرضا، ولا يفسد الاختيار. وهناك نوع ثالث: وهو الإكراه الأدبي: وهو الذي يعدم تمام الرضا، ولا يعدم الاختيار، كالتهديد بحبس أحد الأصول أو الفروع، أو الأخ أو الأخت ونحوهم، وحكمه: أنه إكراه شرعي استحساناً لا قياساً، كما قرر الكمال بن الهمام من الحنفية، وهو رأي المالكية، ويترتب عليه عدم نفاذ التصرفات المكره عليها. ويرى الشافعي أن الإكراه نوع واحد، وهو الإكراه الملجىء، وأما غير الملجئ فلا يسمى إكراهاً (¬1). والإكراه بأنواعه لا يزيل الأهلية، وإنما يزيل الرضا، وقد يزيل الاختيار وهو الملجئ عند الحنفية، ويزيل الرضا والاختيار معاً عند غير الحنفية. شروط الإكراه: يشترط لتحقق الإكراه شروط وهي مايأتي: ¬
أثر الإكراه على التصرفات
1 - أن يكون المكره قادراً على تنفيذ ما هدد به، سواء أكان من الحكام أم من غيرهم، فإن لم يكن قادراً على تنفيذ ما هدد به لعجزه أو لتمكن المستكره من الهرب، فلا يتحقق الإكراه. 2 - أن يغلب على ظن المستكره إيقاع المكره ما هدد به في الحال إذا لم يمتثل، فإن لم يغلب على ظنه وقوع ما هدد به لا يتحقق الإكراه. 3 - أن يكون الشيء المهدد به مما يشق على النفس تحمله. وهذا يختلف باختلاف الأشخاص، فيجب أن يبحث تأثيره في كل شخص على حدة. 4 - أن يكون المهدد به عاجلاً: فلو كان آجلاً في المستقبل لم يتحقق الإكراه؛ لأن بالتأجيل يتمكن المستكره من الاحتماء بالسلطات العامة. وهذا شرط عند الحنفية والشافعية وبعض الحنابلة. وقال المالكية: لا يشترط أن يكون المهدد عاجلاً، وإنما الشرط أن يكون الخوف حالاً. 5 - أن يكون الإكراه بغير حق، أي لا يكون مشروعاً: وهو ما يقصد منه الوصول إلى غرض غير مشروع. فإن كان الإكراه بحق: وهو الذي يقصد منه تحقيق غرض مشروع، فلا تأثير له على التصرفات أصلاً، كبيع مال المدين جبراً عنه لوفاء ديونه، واستملاك الأراضي جبراً عن أصحابها للصالح العام كتوسيع مسجد أو طريق ونحوه. أثر الإكراه على التصرفات: إذا وقع الإكراه على القيام بتصرف من التصرفات كالبيع والإيجار والزواج فما أثر الإكراه عليه؟ للفقهاء رأيان:
قال جمهور الفقهاء غير الحنفية (¬1): إن الإكراه يؤثر في التصرفات فيجعلها باطلة، سواء أكانت قابلة للفسخ كالبيع والإجارة والهبة ونحوها، أم غير قابلة للفسخ كالزواج والطلاق واليمين والرجعة، فلا يصح البيع أو الإيجار الصادر من المستكره، ولا يقع طلاق المكره، ولا يثبت عقد الزواج بالإكراه؛ لأن الإكراه يزيل الرضا، والرضا أساس التصرفات. وقال الحنفية (¬2): يميز بين التصرفات المحتملة للفسخ، والتصرفات غير المحتملة للفسخ. فإن كان التصرف لا يقبل الفسخ كالزواج والطلاق، فيصح مع الإكراه ويلزم، لأنه تصرف يستوي فيه الجد والهزل، والإكراه في معنى الهزل لعدم القصد الصحيح للتصرف فيهما. بدليل الحديث النبوي: «كل طلاق جائز إلا طلاق الصبي والمجنون» (¬3) وروي عن ابن عمر أنه أجاز طلاق المكره. وإن كان التصرف قابلاً للفسخ كالبيع والإجارة والهبة فلا يصح مع الإكراه. ويكون العقد فاسداً عند جمهور الحنفية (أبي حنيفة وصاحبيه) أي أنه إذا زال الإكراه وأصر المستكره على العقد مع الطرف الآخر ورضي به صار صحيحاً، فيكون للمستكره بعد زوال الإكراه الخيار بين إمضاء التصرف وفسخه. وقال زفر من الحنفية والمالكية: يعتبر تصرف المستكره موقوفاً على إجازته ¬
2 - الغلط
عند زوال الإكراه عنه، كتصرف الفضولي. وبما أن هذا التصرف ينفذ ويلزم بالإجازة، فهذا دليل على كون التصرف موقوفاً لا فاسداً، لأن التصرف الفاسد يفسخ فسخاً ولا يجاز إجازة. وهذا ينبئ أن رأي زفر أوجه وأقوى وأصح؛ لأن جمهور الحنفية: قالوا: إن تصرف المستكره يقبل الإجازة بعد زوال الإكراه، فلو كان فاسداً لماصحت إجازته، لأن الفاسد لا يجوز بالإجازة بل يجب فسخه شرعاً، ويملك الشيء المعقود عليه بالقبض، وهذا لاينطبق على عقد المستكره. هذا .. وقد نص القانون المدني السوري في المادتين (128، 129) على أن الإكراه يجعل العقد قابلاً للإبطال أي كما قال زفر من الحنفية. 2 - الغلط: المراد به هنا هو الغلط الواقع في المعقود عليه، في جنسه أو في وصفه. والغلط في ذات أو جنس المعقود عليه: هو أن يظن العاقد أن المعقود عليه من جنس معين، فإذا به من جنس آخر، كأن يشتري شخص حلياً على أنها ذهب أو ماس، ثم يتبين أنها من النحاس، أو الزجاج. أو يشتري حنطة فإذا هو شعير، أو صوفاً فإذا هو قطن، أو يشتري داراً على أنها مبنية بالإسمنت المسلح، فإذا هي مبنية باللبن. وحكم هذا العقد المشتمل على غلط في جنس المعقود عليه: أنه باطل من أساسه، لفوات محل العقد الذي يريده المشتري، فيكون عقداً على معدوم، والعقد على المعدوم باطل (¬1). ¬
ويلحق به حالة اتحاد الجنس مع الاختلاف الكبير أو الفاحش في القيمة كشراء سيارة من جنس معين ومصنوع في عام معين، فإذا هي صنع أعوام غابرة. وأما الغلط في وصف مرغوب فيه: فهو أن يظهر المعقود عليه كالوصف الذي أراده العاقد، ثم يتبين أنه مخالف للوصف المشروط صراحة أو دلالة. كأن يشتري شيئاً بلون أسود، فإذا هو كحلي أو رمادي، أو شاة على أنها حلوب، فإذا هي غير حلوب، أو كتاباً لمؤلف معين فإذا هو لمؤلف آخر، أو حقيبة على أنها من جلد فإذا هي من الكرتون المضغوط أو غيره. وحكم العقد المشتمل على غلط في الوصف: هو أنه غير لازم بالنسبة لمن وقع الغلط في جانبه، أي أن له الخيار بين إمضاء العقد وبين فسخه، لفوات الوصف المرغوب فيه المؤدي إلى اختلال الرضا. وهذا إذا كان العقد قابلاً للفسخ كعقود المعاوضات المالية ونحوها. ويلحق به الغلط في شخص العاقد، كالتعاقد مع طبيب مشهور فإذا هو غيره، يجعل العقد غير لازم. أما العقود التي لا تقبل الفسخ كالزواج، فإنه يقع العقد منها عند الحنفية لازماً، أي لا يجوز نقضه بسبب فوات الوصف المرغوب. وقال الإمام أحمد (¬1): يثبت خيار الفسخ بفوات الوصف المرغوب في عقد الزواج أيضاً، كمن يتزوج امرأة جميلة فيظهر أنها دميمة، أو على أنها متعلمة فإذا هي جاهلة، أو على أنها بكر فإذا هي ثيب فيثبت للزوج حق الفسخ، ولا مهر للمرأة إن حدث الفسخ قبل الدخول، أو بعد الدخول وكان التغرير من المرأة نفسها. فإن كان التغرير من غيرها رجع الزوج على ذلك الغير بما دفعه للمرأة. ¬
3 - التدليس أو التغرير
أما القانون المدني السوري: فقد نص على حالة الغلط في المواد (121 - 125) وجعل العقد قابلاً للإبطال، سواء أكان الغلط في جنس المعقود عليه أم في الوصف المرغوب فيه، فالجزاء واحد في الحالتين، خلافاً لما قرره الفقهاء. هذا ... ولا عبرة في الفقه للغلط الباطني، كأن يشتري سواراً على ظن أنه ذهب، فإن هو نحاس؛ لأن العبرة في العقود للإرادة الظاهرة، كما لا عبرة للغلط في الحكم الشرعي كأن يبيع حصته من الميراث على أنها الربع فإذا هي النصف، إذ لاعذر بالجهل بأحكام الشريعة. 3 - التدليس أو التغرير: التدليس أو التغرير: هو إغراء العاقد وخديعته ليقدم على العقد ظاناً أنه في مصلحته، والواقع خلاف ذلك. وهو أنواع كثيرة منها: التدليس الفعلي، والتدليس القولي، والتدليس بكتمان الحقيقة. أما التدليس الفعلي: فهو إحداث فعل في المعقود عليه ليظهر بصورة، غير ما هو عليه في الواقع، أي أنه تزوير الوصف في المعقود عليه أو تغييره بقصد الإيهام، كتوجيه البضاعة المعروضة للبيع، بوضع الجيد في الأعلى، وطلاء الأثاث والمفروشات القديمة، والسيارات، لتظهر أنها حديثة، والتلاعب بعداد السيارة، لتظهر بأنها قليلة الاستعمال. ومن أشهر أمثلته الشاة المصراة: وهي التي يحبس اللبن في ضرعها بربط الثدي، مدة يومين أو ثلاثة ليجتمع لبنها ويمتلئ، إيهاماً للمشتري بكبر ضرعها وغزارة لبنها.
التدليس القولي
وحكم التصرية عند جمهور غير الحنفية (¬1): ثبوت الخيار للمدلس عليه بين أمرين: إمساك المبيع دون طلب تعويض عن النقص أو الغبن، أو رده لصاحبه، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تصروا (¬2) الإبل والغنم، فمن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن شاء أمسكها، وإن شاء ردها، ورد معها صاعاً من تمر» (¬3). وهذا هو الرأي الراجح. وقال الحنفية (¬4): ليس للمشتري الحق في فسخ عقد البيع، بل له فقط أن يرجع بالنقصان الذي أصاب ما اشترى. ولم يأخذوا بالحديث السابق لمخالفته القياس: وهو أن ضمان العدوان يكون إما بالمثل أو القيمة، والتمر ليس منهما. وأما التدليس القولي: فهو الكذب الصادر من أحد العاقدين أو ممن يعمل لحسابه حتى يحمل العاقد الآخر على التعاقد ولو بغبن، كأن يقول البائع أو المؤجر للمشتري أو للمستأجر: هذا الشيء يساوي أكثر، ولا مثيل له في السوق، أو دفع لي فيه سعر كذا فلم أقبل. ونحو ذلك من المغريات الكاذبة. وحكم هذا النوع: أنه منهي عنه شرعاً؛ لأنه غش وخداع، ولكن لا يؤثر في العقد إلا إذا صحبه غبن فاحش لأحد المتعاقدين، فيجوز حينئذ للمغبون إبطال ¬
التدليس بكتمان الحقيقة
العقد، دفعاً للضرر عنه، أي أنه يثبت له خيار الفسخ بسبب الغبن مع التغرير، كما سأبين في عيب الغبن. وأما التدليس بكتمان الحقيقة، وهو الصورة المشهورة في الفقه باسم (التدليس): فهو إخفاء عيب في أحد العوضين، كأن يكتم البائع عيباً في المبيع، كتصدع في جدران الدار وطلائها بالدهان أو الجص، وكسر في محرك السيارة، ومرض في الدابة المبيعة، أو يكتم المشتري عيباً في النقود ككون الورقة النقدية باطلة التعامل، أو زائلة الرقم النقدي المسجل عليها، أو ذهب أكثر من خمسها. وحكم هذا النوع: أنه حرام شرعاً باتفاق الفقهاء (¬1)، لقول النبي: «المسلم أخو المسلم، لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعاً، وفيه عيب، إلا بينه له» وقوله عليه السلام: «من غشنا فليس منا» (¬2). ويثبت فيه للمدلس عليه ما يعرف بخيار العيب: وهو إعطاؤه حق الخيار: إن شاء فسخ العقد، وإن شاء أمضاه. كما سيتضح في بحث الخيارات. ولا فرق في التدليس الموجب للخيار بين أن يصدر من أحد العاقدين، أو من شخص آخر أجنبي عنهما كالدلال ونحوه إذا كان بتواطؤ مع أحد العاقدين (¬3). ونص القانون المدني السوري في المادتين (126، 127) على التدليس من أحد المتعاقدين أو من غير المتعاقدين، وجعل التدليس موجباً لخيار المدلس عليه وإعطائه الحق في إبطال العقد إذا كانت الحيل المستخدمة من الجسامة بحيث لولاها ¬
4 - الغبن مع التغرير
لما أبرم الطرف الثاني العقد. وكان العاقد صاحب المصلحة في حالة التدليس من غير العاقدين يعلم بالتدليس أو من المفروض أن يعلم. وهذا إجمالاً يتفق مع الفقه الإسلامي كما تقدم. 4 - الغبن مع التغرير: الغبن لغة: النقص. والتغرير: الخداع. وعند الفقهاء: الغبن: أن يكون أحد العوضين غير متعادل مع الآخر، بأن يكون أقل من قيمته أو أكثر منها. والتغرير: إيهام خلاف الواقع بوسائل مغرية، وعرفته المجلة (م 164) بأنه وصف المبيع للمشتري بغير صفته الحقيقية. والغبن نوعان: يسير وفاحش (¬1). أما الغبن اليسير: فهو ما يدخل تحت تقويم المقومين أي ما يتناوله تقدير الخبراء كشراء شيء بعشرة، ثم يقدره خبير بثمانية أو تسعة أو عشرة مثلاً، فهذا غبن يسير. وأما الغبن الفاحش: فهو مالا يدخل تحت تقويم المقومين أو تقدير الخبراء العارفين بأسعار الأشياء، كما لو وقع البيع بعشرة مثلاً، ثم إن بعض المقومين يقول: إنه يساوي خمسة، وبعضهم ستة وبعضهم سبعة، فهذا غبن فاحش، لأنه لم يدخل تحت تقويم أحد. وقدرته المجلة (م 165) عملاً برأي نصر بن يحيى بأنه نصف العشر أي (5%) في العروض التجارية، والعشر أي (10%) في الحيوانات، والخمس أي (20%) في العقار، أو زيادة. أثر الغبن في العقد: الغبن اليسير: لا أثر له على العقد فلا يجيز الفسخ؛ لأنه يصعب الاحتراز ¬
الغبن الفاحش
عنه، ويكثر وقوعه في الحياة العملية، ويتسامح الناس فيه عادة. واستثنى الحنفية حالات ثلاثاً يجوز فيها فسخ العقد بسبب الغبن اليسير للتهمة وهي: 1 - تصرف المدين المحجور عليه بسبب دين مستغرق: فإذا باع شيئاً من ماله، أو اشترى ولو بغبن يسير، كان للدائنين حق فسخ العقد إلا إذا رضي العاقد الآخر برفع الغبن؛ لأن تصرف المدين موقوف على إجازة الدائنين، فإن أجازوه نفذ، وإن لم يجيزوه بطل. 2 - تصرف المريض مرض الموت: إذا باع أو اشترى بغبن يسير جاز للدائنين أو للورثة بعد الموت طلب فسخ التصرف، إلا إذا رضي المتعاقد الآخر برفع الغبن. 3 - بيع الوصي شيئاً من أموال اليتيم بغبن يسير لمن لا تجوز شهادته له كابنه وزوجته، فينقض العقد. وأما الغبن الفاحش: فيؤثر في رضا العاقد فيزيله، ولكن هل له الحق في فسخ العقد؟ للفقهاء في ذلك آراء ثلاثة: الرأي الأول للحنفية (¬1): ليس للغبن الفاحش وحده في ظاهر الرواية أثر على العقد، فلا يجيز رد المعقود عليه أو فسخ العقد إلا إذا انضم إليه تغرير (أي وصف المبيع بغير حقيقته) من أحد العاقدين أو من شخص آخر كالدلال ونحوه وهذا ما أخذت به المجلة (م 357)؛ لأن الغبن المجرد عن كل خديعة يدل على تقصير المغبون وعدم ترويه وسؤاله أهل الخبرة ولا يدل على مكر العاقد الآخر، ولكل إنسان طلب المنفعة ما لم يضر الجماعة، كما في حالة الاحتكار. فإذا انضم إليه تغرير كان المغبون معذوراً؛ لأن الرضا بالعقد كان على أساس عدم الغبن، فإذا ظهر الغبن لم يتوافر الرضا. ¬
الرأي الثاني ـ للحنابلة
واستثنى الحنفية ثلاث حالات يجوز فيها الفسخ بالغبن الفاحش المجرد عن التغرير، وهي: أموال بيت المال، وأموال الوقف، وأموال المحجور عليهم بسبب الصغر أو الجنون أو السفه، فإذا بيع شيء من ذلك بغبن فاحش ولو من غير تغرير، نقض البيع (م/356 مجلة). الرأي الثاني ـ للحنابلة (¬1): يؤثر الغبن الفاحش في العقد فيجعله غير لازم، سواء أكان بتغرير أم بغير تغرير، ويعطى للمغبون حق فسخ العقد في حالات ثلاث هي: أـ تلقي الركبان: وهو أن يتلقى شخص طائفة من الناس يحملون متاعاً إلى بلد، فيشتريه منهم، قبل قدومهم البلد ومعرفتهم بالسعر. وهو حرام ومعصية، ويثبت لهم حق الفسخ إذا غبنوا غبناً فاحشاً، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تلقوا الركبان» (¬2). وهذا رأي الشافعية أيضاً (¬3)، لثبوت الخيار فيه بنص الحديث. ب ـ النَّجْش: وهو زيادة ثمن السلعة المعروضة للبيع، لا لرغبة في شرائها، بل ليخدع غيره. فيثبت الخيار للمشتري إذا لم يعلم بأن الذي يزيد لا يريد الشراء. وليس له الخيار في الأصح عند الشافعية (¬4). ¬
ج ـ المسترسل
ج ـ المسترسل: وهو الشخص الجاهل بقيمة الأشياء، ولا يحسن المساومة والفصال ويشتري مطمئناً إلى أمانة البائع، ثم يتبين أنه غبن غبناً فاحشاً، فيثبت له الخيار بفسخ البيع. وقال المالكية: هذه البيوع الثلاثة صحيحة ولكنها حرام للنهي الثابت في السنة عنها شرعاً، ويعطى الخيار بالفسخ للمشتري في حالة بيع النجش دون غيره (¬1). الرأي الثالث ـ للشافعية (¬2): لا أثر للغبن الفاحش في التصرفات سواء رافقه تغرير أم لا؛ لأن الغبن لا يقع إلا بتقصير من المغبون غالباً، فلو سأل أهل الخبرة، لما وقع في الغبن. والقانون المدني السوري نص في المادة (130) على حالة خاصة من حالات الغبن وهي الغبن الاستغلالي: وهي حالة انعدام تعادل الأداءات المتقابلة الذي دفع إلى وجوده وجود طيش بيِّن (خفة ظاهرة) أو هوى جامح (الولع الشديد بشيء لا قبل له بدفعه) عند أحد المتعاقدين واستغلال المتعاقد لتلك الحالة النفسية. وقدر الغبن في بيع العقار في المادة (1/ 393) بما زاد على الخمس. وجعل جزاءه قابلية العقد للإبطال لطلب المغبون برفع الدعوى خلال سنة من تاريخ العقد. وكل قابل للإبطال (البطلان النسبي) يقبل الإجازة ممن تقرر الإبطال لمصلحته. ¬
المبحث الثالث ـ شروط العقد
المبحث الثالث ـ شروط العقد: عرفنا فيما مضى عناصر العقد الأساسية الأربعة: وهي صيغة التعاقد، والعاقدان، والمحل المعقود عليه، وموضوع العقد أو المقصد الأصلي للعقد. ويتطلب العقد بالإضافة لعناصره توافر أربعة أنواع من الشروط: وهي شروط الانعقاد، وشروط الصحة، وشروط النفاذ، وشروط اللزوم. والقصد من هذه الشروط في الجملةمنع وقوع المنازعات بين الناس، وحماية مصالح العاقدين، ونفي الغرر (أي الاحتمال) والبعد عن المخاطر بسبب الجهالة. والمراد بالشرط: هو ما يتوقف عليه وجود الشيء وكان خارجاً عن حقيقته (¬1)، كالطهارة للصلاة شرط فيها وهي أمر خارج عن الحقيقة، وحضور الشاهدين في الزواج شرط فيه، وتعيين العوضين في البيع أو قابلية المبيع للتمليك شرط فيه، والقدرة على تسليم المبيع أو أهلية العاقد شرط في البيع؛ لأن كلاً منها ليس من أجزاء العقد (¬2). ويقسم الفقهاء الشروط بحسب مصدرها إلى شرط شرعي وشرط جعلي. الشرط الشرعي: هو الذي يفرضه الشرع، فيصبح لا بد منه لتحقق العقد، ولا يوجد إلا به. وهذا محل البحث هنا، كاشتراط أهلية العاقد لانعقاد العقد. والشرط الجعلي (¬3): هو الذي يشترطه العاقد بإرادته ليحقق له مقصداً خاصاً ¬
أولا ـ شرائط الانعقاد
في العقد، فيجعل مقترناً بالعقد، أو معلقاً عليه كتعليق الكفالة والطلاق، مثل إن سافر مدينك اليوم فأنا كفيل بدينك، وإن فعلتِ (مخاطباً زوجته) كذا فأنت طالق، وكسائر القيود والالتزامات التي يشترطها المتعاقدان على أنفسهما. وقد بحثت ذلك في بحث حرية العاقد في الشروط. أولاً ـ شرائط الانعقاد: هي ما يشترط تحققه لجعل العقد في ذاته منعقداً شرعاً وإلا كان باطلاً. وهي نوعان: عامة وخاصة. فالشرائط العامة: هي التي يجب توافرها في كل عقد. والشرائط الخاصة: هي التي يطلب وجودها في بعض العقود دون سواها. كاشتراط الشهود في عقد الزواج، فلا ينعقد الزواج إلا بحضور الشاهدين، وإلا كان باطلاً. وكاشتراط التسليم في العقود العينية (وهي الهبة والإعارة والإيداع والقرض والرهن) فلا يتم انعقاده إلا بتسليم محل العقد وإلا كان باطلاً. وكعدم تعليق العقد على شرط في المعاوضات والتمليكات كالبيع والهبة والإبراء، فإن التعليق يبطلها. والشرائط العامة للانعقاد: هي الشروط المطلوبة في صيغة التعاقد وفي العاقد، وفي المحل المعقود عليه، وألا يكون العقد ممنوعاً شرعاً، وأن يكون العقد مفيداً. أما شروط الصيغة والعاقد ومحل العقد فقد ذكرت سابقاً فلا داعي لتكرارها هنا. وأما كون العقد غير ممنوع شرعاً: فهو ألا يوجد نص شرعي يقتضي بطلانه، مثل التبرع من مال الصغير القاصر أو بيع شيء من ماله بغبن فاحش، فلا تنعقد
الهبة من مال القاصر من أي واحد، سواء الولي أومن نفس الصغير، ويكون العقد باطلاً، حتى ولو أجازه الصغير بعد بلوغه؛ لأن الباطل لا يقبل الإجازة. ومثل الاستئجار على فعل المعاصي أو ارتكاب الجرائم أو بيع المخدرات والمسكرات. ومثل بيع الغرر (أي غرر الوجود) وهو بيع الشيء المحتمل للوجود والعدم، أي أن المعقود عليه هو المحتمل للوجود والعدم كبيع اللبن في الضرع والصوف على الظهر، واللؤلؤ في الصدف، والحمل في البطن، والسمك في الماء، والطير في الهواء قبل صيدهما. ومنه بيع ضربة القانص (وهو أن يقول البائع: بعتك ما يخرج من إلقاء هذه الشبكة مرة بكذا)، وضربة الغائص (وهو أن يقول البائع: أغوص غوصة، فما أخرجته من اللآلئ فهو لك بكذا). ومنه بيع المضامين (ما في أصلاب الذكور) والملاقيح (ما في بطون الإناث) وبيع الملامسة والمنابذة وإلقاء الحصاة أو الحجر: وهي أن المشتري أو البائع إذا لمس المبيع أو نبذه البائع للمشتري، أو ألقى المشتري عليه حصاة أو حجراً، فقد لزم العقد، فالمبيع في هذه الأحوال مجهول الذات أو المقدار، وقد ثبت النهي عنها كما تقدم، وكانت بيوعاً متعارفة في الجاهلية، فهي باطلة أي أن غرر الوجود مبطل للبيع. والخلاصة: أن المنع الشرعي (¬1) قد يكون بسبب طريقة العقد كبيع الغرر، أو بسبب محل العقد كبيع المخدرات والاستئجار على فعل المعاصي، أو بسبب موضوع العقد كهبة مال القاصر، والتعامل بالذهب في سوريا ومصر (¬2). ¬
ثانيا ـ شرائط الصحة
وأما كون العقد مفيداً (¬1): فهو أن يحقق مصلحة معقولة. فلا ينعقد الرهن مثلاً في مقابل الأمانة كالوديعة؛ لأن المرهون به يجب أن يكون مضموناً (¬2)؛ لأن قبض الرهن مضمون، فلا بد أن يقابله مضمون، والوديعة ونحوها أمانة غير مضمونة. ولا يصح التعاقد بين اثنين على عدم الاشتغال في التجارة مثلاً؛ لأن ذلك مصادم لمبدأ حرية الإنسان الاقتصادية، وحماية هذه الحرية من النظام العام في الإسلام. كما لا يصح التعاقد أيضاً على أمر واجب على الإنسان شرعاً، كالاتفاق على الامتناع من فعل جريمة، والاستئجار على فعل الواجبات الدينية كالصلاة ومجرد قراءة القرآن (¬3)، واستئجار الزوجة على القيام بأعمال المنزل أو على إرضاع طفلها؛ لأن ذلك واجب عليها ديانة. ثانياً ـ شرائط الصحة: وهي ما يشترط شرعاً لترتيب آثار العقد، فإن فقدت كان العقد فاسداً، أي مختلاً اختلالاً في ناحية فرعية متممة غير أساسية، مع كونه منعقداً موجوداً في حد ذاته. وأغلب شرائط الصحة خاص بكل عقد على حدة. ففي البيع مثلاً يشترط ¬
عند الحنفية خلوه من أحد العيوب الستة الآتية: وهي الجهالة، والإكراه، والتوقيت، والغرر (غرر الوصف)، والضرر، والشرط الفاسد (¬1). أما الجهالة: فهي الجهالة الفاحشة التي تفضي إلى نزاع يتعذر حله، وهو النزاع الذي تتساوى فيه حجة الطرفين بالاستناد إلى الجهالة. وهي أربعة أنواع: جهالة المبيع أو الثمن جنساً أو نوعاً أو قدراً، وجهالة أجل وفاء الثمن، أو مدة خيار الشرط، وجهالة وسائل التوثيق كتقديم كفيل أو رهن مجهولين. وأما الإكراه بنوعيه الملجئ والناقص فيفسد العقد عند جمهور الحنفية، ويجعل العقد موقوفاً عند زفر، على التفصيل الذي ذكرسابقاً. وأما التوقيت: فهو تأقيت البيع بمدة شهر أوسنة، فيفسد؛ لأن ملكية العين لا تقبل التأقيت. كذلك يفسد الزواج في حال تأقيته بمدة معينة؛ لأنه مشروع بصفة التأبيد. وأما غرر الوصف: فهو كبيع بقرة على أنها تحلب كذا رطلاً، فهو بيع فاسد؛ لأن المقدار المذكور من الحليب موهوم التحقق، فقد ينقص. وأما غرر الوجود: وهو ماكان المبيع فيه محتملاً للوجود والعدم، فيجعل البيع باطلاً كما تقدم. وأما الضرر: فهو كبيع جذع معين من سقف مبني لا يمكن تسليمه إلا بهدم ما حول الجذع، وكبيع ذراع من ثوب يضره التبعيض. وأما الشرط الفاسد عند الحنفية (¬2) فهو كل شرط فيه نفع لأحد المتبايعين، ولم يتعارفه الناس كبيع سيارة على أن يستخدمها شهراً بعد البيع، أو دار على أن ¬
ثالثا ـ شرائط النفاذ
يسكنها مدة معينة، أو كبيع بشرط إقراض مبلغ من المال. وحكمه: أنه يفسد البيع ونحوه من المعاوضات المالية، ولا يؤثر في غيرها كما بان سابقاً في بحث حرية الاشتراط. كذلك يشترط في البيع المماثلة في الكمية بين البدلين والتقابض في العوضين في مبادلة الأموال الربوية كالنقدين (الذهب والفضة) والحبوب من حنطة وشعير ونحوهما. ويشترط أيضاً قبض المبيع المنقول قبل التصرف به من المشتري لشخص آخر. ثالثاً ـ شرائط النفاذ: يشترط لنفاذ العقد شرطان (¬1): أولاً ـ الملك أو الولاية. أما الملك: فهو حيازة الشيء متى كان الحائز له قادراً وحده على التصرف فيه عند عدم المانع الشرعي، أي أن المالك له حرية التصرف والاستقلال بمنافع الشيء إلا إذا وجد مانع كالجنون أو السفه أو الطفولة أو عدم التمييز. وأما الولاية: فهي سلطة شرعية بها ينعقد العقد وينفذ، وهي إما أصلية: وهي أن يتولى الإنسان أمور نفسه بنفسه. أو نيابية: وهي أن يتولى الشخص أمور غيره من ناقصي الأهلية، إما بإنابة المالك كالوكيل، أو بإنابة الشارع كالأولياء (الأب أو الجد) والأوصياء (وصي الأب أو الجد أو وصي القاضي). ويترتب على هذا الشرط أن محل العقد ينبغي أن يكون مملوكاً للعاقد، فإن ¬
لم يكن مملوكاً له بأن كان فضولياً، كان العقد غير نافذ أو موقوفاً على إجازة المالك إذا باعه عن مالكه نفسه، أما إن باعه عن نفسه هو، لا عن مالكه نفسه، كان البيع باطلاً. وقد جعل الشافعي وأحمد الملك أو الولاية من شرائط الانعقاد، فتعتبر تصرفات الفضولي باطلة. كما ذكر سابقاً. ثانياً ـ ألا يكون في محل العقد حق لغير العاقد: فإن تعلق به حق الغير كان العقد موقوفاً غير نافذ، وتعلق حق الغير له ثلاثة أوجه (¬1). 1 - أن يكون حق الغير متعلقاً بعين المحل المعقود عليه، كبيع ملك الغير وتبرع المريض مرض الموت بما يزيد عن ثلث أمواله، يكون موقوفاً على إجازة الورثة. 2 - أن يكون متعلقاً بمالية المحل المعقود عليه دون عينه، كتصرف المدين غير المحجور عليه بما يضر حقوق الدائنين، تتعلق حقوقهم بمالية أموال المدين لاستيفاء ديونهم، وليست حقوقهم متعلقة بأعيان أمواله، فلو أتى المدين بمال آخر يفيهم به حقوقهم نفذت تصرفاته الموقوفة على إجازتهم. 3 - أن يكون متعلقاً بصلاحية التصرف نفسه، لا بمحله المعقود عليه، كتصرف ناقص الأهلية المحجور عليه إما حجراً شرعياً بسبب الصغر كالمميز، أو حجراً قضائياً بسبب السفه أو الدين المستغرق (المحيط بكل ماله). إن ناقص الأهلية لا يملك التصرف في أمواله، ويكون تصرفه موقوفاً على إجازة وليه الشرعي من أب أو جد أو وصي. فإن أجازه نفذ، وإن رده بطل. ¬
رابعا ـ شرائط اللزوم
وكما أن حق الغير (أي غير العاقدين) ما نع من نفاذ التصرف، هناك مانع آخر من النفاذ وهو الإكراه. رابعاً ـ شرائط اللزوم: الأصل في العقود اللزوم، ويشترط للزوم العقد كالبيع والإيجار خلوه من أحد الخيارات التي تسوغ لأحد المعاقدين فسخ العقد، والتي تثبت إما باشتراط العاقد أو بإيجاب الشرع (¬1). فإن وجد في العقد خيار كخيار الشرط أو خيار العيب أو الرؤية منع لزوم العقد في حق من له الخيار، فكان له أن يفسخ العقد أو أن يقبله، إلا إذا حدث مانع من ذلك، كما سيتبين في بحث الخيارات. ويسمى العقد المشتمل على الخيار غير لازم. المبحث الرابع ـ آثار العقد: لكل عقد أثر خاص وأثر عام (¬2): ف الأثر الخاص: هو حكم العقد، وحكم العقد: هو الأثر الأصلي (أو النوعي) للعقد أو الغاية الجوهرية الأساسية المقصودة من العقد كانتقال الملكية في عقد البيع والهبة، وتملك المنفعة في عقد الإيجار والإعارة، وحل المتعة الزوجية في عقد الزواج، وحق احتباس المرهون في عقد الرهن، وتفويض التصرف في عقد الوكالة، ونحو ذلك. ويقال للحكم الأصلي للعقد موضوع العقد كما بان سابقاً في بحث السبب. ويفترق الحكم الأصلي للعقد عن الالتزام. فالالتزام هو كون الشخص مكلفاً بفعل، أو بامتناع عن فعل. مثال الأول: تسليم المبيع وأداء الثمن. ومثال الثاني: عدم التعدي على نفس أو مال الغير، وعدم استعمال الوديعة. ¬
الأثر العام
ومصدر الالتزام قد يكون هو الشرع كالإنفاق على الأقارب، وقد يكون مصدره العقد، كالالتزامات بدفع الأجرة أو الثمن، وقد يكون مصدره غير العقد وهو الفعل الضار كضمان المتلفات. وحكم العقد الأصلي يتحقق آلياً بتقدير الشرع بمجرد انعقاد العقد صحيحاً، فلا يحتاج إلى تنفيذ، فبمجرد انعقاد البيع صحيحاً تنتقل الملكية للمشتري، وهكذا سائر أحكام العقود. أما الالتزام: فيحتاج إلى تنفيذ؛ لأنه تكليف على شخص لمصلحة آخر، فملكية المبيع وإن انتقلت إلى المشتري بمجرد البيع، لكن ذلك الأثر يحتاج إلى تنفيذ التزام البائع: وهو القيام بتسليم المبيع إلى المشتري. والالتزامات قد يستلزمها العقد ذاته: وهي التي نظمها الشرع آثاراً للعقد المنشئ لها كالالتزام بتسليم المبيع وضمان العيب، والالتزام بدفع الثمن أو الأجرة. وقد يشترطها العاقد كاستعمال المبيع مدة بعد البيع، وإيصال المبيع لبيت المشتري، ودفع الأجرة سلفاً، ونحو ذلك. وأما الأثر العام: فهو ما تشترك فيه كل العقود أو معظمها من أحكام ونتائج. وللعقود أثران عامان هما: النفاذ، والإلزام واللزوم. والنفاذ: معناه ثبوت حكم العقد الأصلي منذ انعقاده، أي أن آثار العقد الخاصة ونتائجه المترتبة عليه تحدث فور انعقاد العقد، فنفاذ عقد البيع مثلاً معناه انتقال ملكية المبيع والثمن بمجرد انعقاده، وإيجاب تنفيذ الالتزامات على الطرفين، كتسليم المبيع وتسلم الثمن، وضمان العيب إن ظهر فيه عيب. ونفاذ عقد الزواج معناه: إحلال المتعة الزوجية بمجرد انعقاده، وإيجاب
الإلزام
الحقوق والالتزامات التي ينشئها العقد بينهما، كالتزام الرجل بالنفقة، ومسؤولية المرأة عن الطاعة المشروعة. والنفاذ يقابله التوقف، فيقال: عقد نافذ وعكسه موقوف. وأهم أنواع العقد الموقوف سبعة هي: عقد المكره، وعقد المميز، وعقد السفيه المحجور عليه، وعقد المدين بدين مستغرق، وتبرع المريض مرض الموت، وعقد الفضولي، وتصرف المرتد عن الإسلام، فإن عقوده في حال ردته موقوفة عند أبي حنيفة، فإذا عاد إلى الإسلام نفذت، وإن مات أو قتل أو لحق بدار الحرب وقضى القاضي بالتحاقه بطلت. والإلزام: معناه العام لغة هو إيجاب تنفيذ التزامات التعاقد، عملاً بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة:1/ 5] ومعناه الخاص فقهاً: هو إنشاء التزامات متقابلة معينة على العاقدين، كما في البيع، أو إنشاء التزام معين على أحد العاقدين، كما في الوعد بجائزة، وهذا من آثار العقد. ويختلف الإلزام عن اللزوم. فاللزوم: هو عدم استطاعة فسخ العقد إلا بالتراضي، والتراضي على فسخ العقد يسمى إقالة. ويكتسب العقد صفة اللزوم عند الحنفية والمالكية بمجرد تمام العقد. وهذا ما أخذ به القانون وجرى عليه القضاء. وعند الشافعية والحنابلة: لا يكتسب العقد صفة اللزوم إلا بعد انقضاء مجلس العقد، بتفرق العاقدين بأبدانهما، عملاً بخيار المجلس الثابت في السنة النبوية، على ما سيذكر في بحث الخيارات.
المبحث الخامس ـ تصنيف العقود
المبحث الخامس ـ تصنيف العقود: للعقود أقسام متعددة باعتبارات مختلفة، أهمها النظر إلى العقد بحسب إقرار الشرع له وعدم إقراره، أو بالنظر إلى كون العقود مسماة أو غير مسماة، أو بالنظر إلى غاية العقد وأغراضه، أو لكون العقد عينياً أوغير عيني، أو باعتبار اتصال الأثر به وعدم اتصاله. التقسيم الأول ـ بحسب وصف العقد شرعا ً: ينقسم العقد بحسب الوصف الذي يعطيه الشرع له بناء على مقدار استيفائه لأركانه وشروطه إلى صحيح تترتب عليه آثاره، وغير صحيح لا تترتب عليه آثاره. العقد الصحيح: هو الذي استكمل عناصره الأساسية من (صيغة وعاقدين ومحل عقد وموضوع عقد)، وشرائطه الشرعية. فيصبح صالحاً لترتب حكمه وآثاره عليه. ويعرفه الحنفية بقولهم: هو ما كان مشروعاً بأصله ووصفه (¬1). وحكم العقد الصحيح: ثبوت أثره في الحال، فالبيع الصادر من كامل الأهلية على مال متقوم شرعاً، ولغاية مشروعة، يترتب عليه ثبوت ملك المبيع والثمن للمشتري والبائع فور انتهاء الإيجاب والقبول إذا لم يكن في البيع خيار. ¬
العقد غير الصحيح
العقد غير الصحيح: هو ما اختل فيه أحد عناصره الأساسية أو شرط من شروطه. وحكمه أنه لا يترتب عليه أثر كبيع الميتة والدم والخمر والخنزير، وكبيع فاقد الأهلية. ويشمل غير الصحيح عند جمهور الفقهاء غير الحنفية: الباطل والفاسد، وهما بمعنى واحد. وأما الحنفية: فيقسمون غير الصحيح إلى باطل وفاسد. فلكل واحد معنى مختلف عن الآخر، وتلك القسمة محصورة في العقود الناقلة للملكية أو العقود التي توجب التزامات متقابلة من العاقدين، كالبيع والإجارة والهبة والقرض والحوالة والشركة والمزارعة والمساقاة والقسمة. أما العقود غير المالية كالوكالة والوصاية والزواج على الأصح والعقود المالية التي ليس فيها التزامات متقابلة كالإعارة والإيداع، والعبادات، والتصرفات المنفردة كالطلاق والوقف والكفالة والإقرار ونحوها، فهذه لا فرق فيها بين الفاسد والباطل. منشأ الخلاف بين الحنفيةوالجمهور: أساس الخلاف بين الحنفية وغيرهم راجع لقضية أصولية: وهي فهم أثر النهي الصادر عن الشرع، كالنهي عن شراء السمك في الماء، فإنه غرر، وعن بيعتين في بيعة، وكتحريم بيع الخمر والميتة والخنزير ونحو ذلك. فهل النهي يقتضي فساد المنهي عنه، أي عدم الاعتبار والوقوع في الإثم معاً أو أنه يقتصر على إيجاب الإثم وحده مع اعتباره أحياناً؟ ثم هل يستوي النهي عن ركن من أركان العقد مع النهي عن وصف عارض للعقد لازم له أو غير لازم؟
قال جمهور الفقهاء
قال جمهور الفقهاء (¬1): إن نهي الشارع عن عقد ما: يعني عدم اعتباره أصلاً، وإثم من يقدم عليه. ولا فرق بين النهي عن ركن من أركان العقد (الصيغة وأهلية العاقدين ومحل العقد) أو النهي عن وصف عارض للعقد ملازم له أو مجاور، لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث المتقدم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد، ومن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد». وعليه إذا حدث عقد منهي عنه فهو باطل أو فاسد لا يترتب عليه أي أثر؛ لأن نهي الشرع عنه يجعله غير مشروع أو غير موجود، وإذا كان النهي لوصف فيسري إلى الموصوف. وقال الحنفية (¬2): قد يكون نهي الشارع عن عقد: معناه إثم من يرتكبه فقط، لا إبطاله، ويفرق بين النهي الراجع لأصل العقد (أي لخلل في الصيغة أو في العاقد أو في المحل) فيقتضي بطلان العقد وعدم وجوده شرعاً وعدم ترتب أي أثر عليه، وبين النهي العائد لأمر آخر كوصف من أوصاف العقد ملازم له، فيقتضي بطلان هذا الوصف فقط، ولا يتعدى البطلان إلى أصل العقد، لأنه استكمل عناصره الأساسية، فيكون العقد فاسداً فقط. فالبيع الصادر عن عديم الأهلية، وبيع غير المال كالميتة، وبيع مال غير متقوم كالخمر والخنزير والسمك في الماء باطل؛ لأن الخلل فيه راجع لأصل العقد. والبيع المؤقت أو المشتمل على جهالة في الثمن أو المؤدي إلى النزاع في العقد كبيعتين في بيعة فاسد؛ لأن الخلل راجع لوصف في العقد خارج عن حقيقته وذاته وأركانه. ¬
العقد الباطل
وإذا كان النهي بسبب أمر مجاور للعقد غير ملازم له وليس شرطاً فيه، كان مقتضاه الكراهة للإقدام عليه في هذه الحال كالبيع وقت النداء لصلاة الجمعة. وعلى هذا فإن غير الصحيح عند الحنفية نوعان: باطل وفاسد. أما العقد الباطل: فهو ما اختل ركنه أو محله، أو ما لم يشرع بأصله ولا بوصفه، كأن يكون أحد العاقدين فاقد الأهلية، كالمجنون وغير المميز، والمميز فيما يضره ضرراً محضاً، أو أن تكون الصيغة غير سليمة، أو يكون محل العقد غير قابل لحكم العقد شرعاً، كبيع ما ليس بمال، أو ما ليس مالاً متقوماً كالخمر والخنزير والسمك في الماء، وكبيع شيء من الأموال العامة كجزء من الطريق أو من مشفى أو مسجد، وكالبيع الذي جعل الثمن فيه غير مال أصلاً كالميتة (¬1)، أو الشيء المباح. وفي الزواج كالعقد على إحدى المحارم أو التي لم تنته عدتها من مطلقها، أو المتزوجة بزوج آخر، فكل هذه العقود باطلة. وحكم الباطل: أنه لا يعد منعقداً أصلاً، وإن وجدت صورته في الظاهر، فلا يترتب عليه أي أثر شرعي، فلا يفيد نقل الملكية أصلاً، إذ لا يعد موجوداً بحال. وأما العقد الفاسد (¬2): فهو ما كان مشروعاً بأصله دون وصفه، أي كان ¬
العقد المكروه تحريما
صادراً ممن هو أهل له، والمحل قابل لحكم العقد شرعاً، والصيغة سليمة، ولكن صاحب ذلك وصف منهي عنه شرعاً، كبيع المجهول جهالة فاحشة تؤدي للنزاع، مثل بيع دار من دور أو سيارة من سيارات دون تعيين، وكإبرام صفقتين في صفقة، كبيع دار على أن يبيعه سيارته، وكبيع مال متقوم جعل ثمنه مالاً غير متقوم كخمر مثلاً، وكبيع بقرة على أنها حامل. وحكم الفاسد: ثبوت الملك فيه بالقبض بإذن المالك صراحة، أو دلالة كأن يقبضه في مجلس العقد أمام البائع، دون أن يعترض عليه. والعقد الفاسد واجب الفسخ شرعاً، إما من أحد العاقدين أو من القاضي إذا علم بذلك، لأنه منهي عنه شرعاً. وإمكان الفسخ مشروط بشرطين: الأول ـ بقاء المعقود عليه على ما كان قبل القبض، فلو تغير شكله بأن هلك أو استهلك، أو كان غزلاً فنسجه، أو قمحاً فطحنه، أو دقيقاً فخبزه، امتنع الفسخ. والثاني ـ عدم تعلق حق الغير به، فلو تصرف به المشتري لآخر بالبيع أو بالهبة وتم قبضه من الموهوب له، امتنع الفسخ. العقد المكروه تحريما ً: العقد الباطل منهي عنه لأمر أساسي فيه، والفاسد منهي عنه لوصف ملازم له، فإن كان النهي لوصف غير لازم، أي مجاور للمنهي عنه، فهو مكروه كراهة تحريمية عند الحنفية، وحرام موجب للإثم والمعصية عند جمهور الفقهاء. ومن أهم هذه العقود المكروهة (¬1) أو المحرمة لما فيها من الضررأو الغرر مع أنها ¬
1 - بيع النجش
صحيحة ما يأتي (¬1): 1 - بيع النَّجْش: وهو أن يزيد الرجل في السلعة، وليس له حاجة بها، إلا ليغلي ثمنها وينفع صاحبها. وهو عند الحنفية مكروه تحريماً، لنهي النبي صلّى الله عليه وسلم عن النجْش وقال: لا تناجشوا (¬2). لكنهم قالوا، أي الحنفية: لا يكره النجش إلا إذا زاد المبيع عن قيمته الحقيقية، فإن لم يكن بلغ القيمة فزاد لا يريد الشراء فجائز، ولا بأس به لأنه عون على العدالة. ويقع البيع صحيحاً عند الجمهور مع الحرمة من غير خيار في رأي الشافعية، وللمشتري عند غيرهم رده إذا لم يوجد مانع، كتغير المبيع وتعيبه، وقال الحنابلة بفساده. وأما المزايدة أو البيع بالمزاد العلني: وهو أن ينادي على السلعة، ويزيد الناس فيها بعضهم على بعض حتى تقف على آخر زائد فيها فيأخذها، فهو بيع صحيح جائز لا ضرر فيه. 2 - تلقي الركبان أو الجلب: وهو مبادرة بعض أهل المدينة أو البلد لتلقي الآتين إليها، فيشتري منهم ما معهم، ثم يبيع كما يرى لأهل البلد. وهذا حرام عند الشافعية، ومكروه تحريماً عند الحنفية إن أضر بالأهالي، وإلا فلا يكره إذا لم يلبّس السعر على الواردين لأنه إن فعل هذا كان فيه تغرير بهم. وقد نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن ¬
3 - بيع الحاضر للبادي
تلقي البيوع أو أن يتلقى الجلب (¬1). وسبب النهي الإضرار بصاحب السلعة (البادي) لشراء الشيء بأقل من سعره الغالب، والإضرار بأهل البلد أيضاً. والبيع صحيح عند الأئمة، لأن النهي لأمر خارج عن البيع، لكن يثبت فيه عند الحنابلة والشافعية خيار الغبن، عملاً بحديث البخاري. 3 - بيع الحاضر للبادي: وهو ألا يبيع الواحد من أهل البلد (الحاضر) ما عنده من طعام ونحوه إلا لأهل البادية، طمعاً في زيادة الثمن، أو أن يتخصص شخص ببيع بضاعة الغريب على التدريج مع حاجة أهل البلد، بسعر أغلى، مع أن الغريب كان يريد البيع بسعر اليوم. وكراهة هذه البيوع إذا كانت تضر بأهل البلد، وإلا فلا ضرر، وقد نهى النبي صلّى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد (¬2). وقد أجاز المالكية فسخ هذا البيع، كالنجش. وهو حرام عند الشافعية. وسبب النهي عنه: الإضرار بأهل السوق لبيع السلعة بأكثر من ثمن المثل، أو من طريق السمسرة، ويفسخ عند المالكية إن لم يفت بتغير أو تعيب أو تصرف، وهو صحيح عند الأئمة الثلاثة؛ لأن النهي لأمر خارج عن البيع، وهو الرفق بأهل الحضر. 4 - البيع وقت النداء لصلاة الجمعة: عند الجمهور من حين صعود الإمام على المنبر إلى أن تنقضي الصلاة، وعند الحنفية: من الأذان الأول. وهذا البيع صحيح مكروه تحريماً عند الحنفية، وصحيح حرام عند الشافعية؛ لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله، وذروا ¬
أنواع العقد الصحيح
البيع} [الجمعة:9/ 36] ويلحق بالبيع سائر العقود والصناعات كلها لما فيها من شغل عن السعي إلى الجمعة. والنهي عنها لأمر خارج عن حقيقة العقد. وعد المالكية (¬1) هذا البيع من البيوع الفاسدة، وقالوا: إنه يفسخ على المشهور وقال عنه الحنابلة: لا يصح هذا البيع (¬2). أنواع العقد الصحيح: ينقسم العقد الصحيح عند الحنفية والمالكية إلى نافذ وموقوف: النافذ: هو ما صدر ممن له أهلية وولاية على إصداره، كأغلب عقود الناس مثل العقد الصادر من الرشيد في ماله، أو الولي أو الوصي للقاصر، أو الوكيل لموكله. وحكمه: أنه تترتب عليه آثاره فور صدوره، من غير توقف على إجازة أحد. والموقوف: هو ما صدر من شخص له أهلية التعاقد، من غير أن يكون له ولاية إصداره. كعقد الفضولي، وعقد الصغير المميز فيما يتردد بين الضرر والنفع، وحكمه: أنه لا تترتب عليه آثاره إلا إذا أجازه صاحب الشأن الذي يملك إصداره، فإن لم يجزه بطل العقد. وهذا العقد عند الشافعية والحنابلة باطل. أنواع العقد النافذ: ينقسم العقد النافذ إلى لازم وغير لازم: ¬
اللازم
اللازم: هو ما ليس لأحد عاقديه فسخه دون رضا الآخر، كالبيع والإجارة. والأصل في العقود اللزوم؛ لأن الوفاء بالعقود واجب شرعاً لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة:1/ 5]. وتثبت صفة اللزوم عند الحنفية والمالكية بمجرد صدور العقد من العاقدين. وعند الشافعية والحنابلة: لا يلزم العقد إلا بتفرق العاقدين بأبدانهما، أو إذا تخايرا، فاختارا لزومه، عملاً بحديث خيار المجلس: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، أو يقول أحدهما للآخر: اختر». وغير اللازم أو الجائز كما يسميه بعض الفقهاء: هو ما يملك كل من طرفيه أو أحدهما فقط فسخه دون رضا الآخر، إما عملاً بطبيعة العقد نفسه كالوكالة والإعارة والإيداع، أو لمصلحة العاقد كالعقد المشتمل على الخيار. والعقود بالنسبة إلى اللزوم وقابلية الفسخ وعدمه أربعة أنواع. 1 ً ـ عقود لازمة لا تقبل الفسخ: كالزواج لايقبل الفسخ ولو باتفاق العاقدين بطريق الإقالة أي لا يقبل الإلغاء الاتفاقي. وإنما يقبل الإنهاء بطرق شرعية كالطلاق والخلع (¬1) والتفريق القضائي لعدم الإنفاق أو للعيب أو للضرر وسوء العشرة أو للغيبة أو للحبس والاعتقال ونحو ذلك. وكل ما لا يقبل الفسخ لا يثبت فيه خيار؛ لأن الخيار يعطي حق الفسخ لصاحبه. ¬
التقسيم الثاني ـ بالنظر إلى التسمية وعدمها
2 ً ـ عقود لازمة تقبل الفسخ: أي تقبل الإلغاء بطريق الإقالة أي باتفاق العاقدين. وهي عقود المعاوضات المالية كالبيع والإيجار والصلح والمزارعة والمساقاة ونحوها. وهذه العقود تقبل الفسخ بالخيار أيضاً. 3 ً ـ عقود لازمة لأحد الطرفين: كالرهن والكفالة: فإنهما لازمان بالنسبة إلى الراهن والكفيل، وغير لازمين بالنسبة للدائن المرتهن، والمكفول له؛ لأن العقد لمصلحتهما الشخصية توثيقاً للحق، فلهما التنازل عنه. 4 ً ـ عقود غير لازمة للطرفين: وهي التي يملك كل من العاقدين فيها حق الفسخ والرجوع، كالإيداع والإعارة والوكالة والشركة والمضاربة والوصية والهبة، فالعقود الخمسة الأولى يجوز لكل من العاقدين فسخ العقد متى شاء. والوصية والهبة يصح للموصي والواهب الرجوع عنها، كما يصح للموصى له والموهوب له ردها وإبطالها بعد وفاة الموصي، وفي حال حياة الواهب. التقسيم الثاني ـ بالنظر إلى التسمية وعدمها: تقسم العقود إلى مسماة وغير مسماة: أما العقود المسماة: فهي ما وضع الشرع لها اسماً خاصاً بها، وبيَّن أحكامها المترتبه عليها، كالبيع والإجارة والشركة والهبة، والكفالة والحوالة والوكالة والرهن، والقرض والصلح، والزواج والوصية ونحوها. وأما العقود غير المسماة: فهي التي لم يوضع لها اسم خاص في الشرع، ولم يرتب التشريع أحكاماً خاصة بها، وإنما استحدثها الناس تبعاً لحاجة. وهي كثيرة لا تنحصر، لأنها تنشأ بحسب تجدد حاجات الناس وتطور المجتمعات وتشابك المصالح، مثل عقد الاستصناع، وبيع الوفاء، وبيع الاستجرار، والتحكير، وأنواع
المقاولات، أي التعهدات والالتزامات الحديثة، وأنواع الشركات التي تمنح امتيازات للتنقيب عن النفط والمعادن، وعقود النشر والإعلان في الصحف والمجلات ونحوها. أما الاستصناع: فهو التعاقد على صنع شيء معين (¬1) كالأحذية والآنية والسيارات والبواخر، والمفروشات ونحوها. وقد تردد بين اعتبار كونه بيعاً أو إجارة أو وعداً، ثم استقر على تسمية خاصة به. وأما بيع الوفاء: فهو أن يبيع المحتاج إلى النقود عقاراً على أنه متى وفى الثمن استرد العقار (¬2). تردد بين كونه بيعاً أو رهناً، ثم استقر على هذا الاسم الخاص به. وبيع الاستجرار: هو ما يستجره الإنسان من البياع، ثم يحاسبه على أثمانها بعد استهلاكها (¬3). تردد بين كونه بيعاً أو ضمان متلفات بإذن مالكها عرفاً، واستقر على هذا الاسم تسهيلاً لأمر الناس ودفعاً للحرج. والتحكير: هو الاتفاق على الانتفاع بأرض الوقف بالبناء والغرس لقاء أجرة معجلة تقارب قيمة الأرض، وأجرة سنوية ضئيلة، حددت في قانون الملكية العقاري السوري (باثنين ونصف في الألف) من قيمة الأرض المقدرة رسمياً لجباية الضرائب العقارية (¬4). وقد عرفنا في بحث حرية التعاقد: أن الرأي الغالب أو الراجح فقهاً هو جواز ¬
التقسيم الثالث ـ بالنظر إلى غاية العقد وأغراضه
إحداث عقود جديدة لا تخالف نصوص الشريعة ومبادئها وقواعدها العامة، كما يقول الحنابلة وبخاصة ابن تيمية وابن القيم. أو من طريق القياس والاستحسان والعرف والمصالح المرسلة وغيرها من أدلة التشريع كما يقول الحنفية والمالكية والشافعية. التقسيم الثالث ـ بالنظر إلى غاية العقد وأغراضه: تنقسم العقود بحسب أغراضها وغاياتها إلى مجموعات سبع، فقد تكون غاية العقد هي تمليك شيء، أو الاستيثاق، أو الحفظ، أو التفويض ونحو ذلك. 1 - التمليكات: وهي ما يقصد بها تمليك شيء، عين أو منفعة، فإن كان التمليك بعوض فهي عقود المعاوضات كالبيع والإجارة، والصرف والصلح، والقسمة، والاستصناع، والمزارعة والمساقاة، والزواج، ونحوها مما فيه معاوضة ومبادلة بين طرفين. وإن كان التمليك مجاناً بغير عوض فهي عقود التبرعات، كالهبة والصدقة والوقف والإعارة وحوالة الدين. وقد يكون التبرع في ابتداء العقد كالقرض والكفالة بأمر المدين، والهبة بشرط العوض، ثم يلزم الطرف الآخر بدفع البدل، فهي تبرع ابتداءً، معاوضةٌ انتهاءً. 2 - الإسقاطات: وهي ما يقصد بها إسقاط حق من الحقوق، سواء ببدل، أم بدون بدل. فإن كان الإسقاط بدون بدل من الطرف الآخر فهو الإسقاط المحض، كالطلاق المجرد عن المال، والعفو عن القصاص، والإبراء عن الدين، والتنازل عن حق الشفعة.
3 - الإطلاقات
وإن كان الإسقاط ببدل أو عوض من الطرف الآخر، فهو إسقاط المعاوضة، كالطلاق على مال، والعفو عن القصاص بالدية. 3 - الإطلاقات: وهي إطلاق الشخص يد غيره في العمل، كالوكالة وتولية الولاة والقضاء، والإذن للمحجور عليه بالتصرف أو للصغير المميز بالتجارة، والإيصاء: وهو أن يعهد شخص لآخر في أن يتولى شؤون أولاده القصر بعد وفاته. 4 - التقييدات: وهي منع الشخص من التصرف، كعزل الولاة والقضاة، ونظار الوقف، والأوصياء، والقوام على المحجور عليهم، والوكلاء، وحجر الشخص عن التصرف بسبب الجنون أو العته أو السفه أو الصغر. 5 - التوثيقات: (أو التأمينات أوعقود الضمان): وهي التي يقصد بها ضمان الديون لأصحابها وتأمين الدائن على دينه، وهي الكفالة والحوالة والرهن. 6 - الاشتراك: وهي التي يقصد بها المشاركة في العمل والربح، كعقود الشركات بأنواعها، ومنها المضاربة: وهي أن يدفع شخص لآخر مبلغاً من المال ليتجر فيه على أن يشتركا في الربح، والخسارة على رب العمل. ومنها المزارعة (تعهد الأرض بالعناية) والمساقاة (تعهد الأشجار بالسقي ونحوه). 7 - الحفظ: وهي التي يراد منها حفظ المال لصاحبه، كعقد الإيداع، وبعض خصائص الوكالة. التقسيم الرابع ـ بالنظر إلى العينية وعدمها: تنقسم العقود إلى عينية وغير عينية.
العقد العيني
ف العقد العيني: هو الذي لا بد فيه لتمام انعقاده وترتيب أثره من تسليم الشيء المعقود عليه عيناً. وهو يشمل عقوداً خمسة: هي الهبة والإعارة والإيداع والرهن والقرض (¬1). فهذه العقود لا بد لتمامها وترتب أثرها عليها من قبض المعقود عليه؛ لأن هذه العقود ما عدا الرهن من التبرعات، والتبرع إحسان، فلا بد له من شيء يؤكده، وهو القبض. وأما الرهن أي الرهن الحيازي فإنه شرع موصوفاً بالقبض في قوله تعالى: {فرهان مقبوضة} [البقرة:283/ 2] والقبض عند الحنفية: يتم بالتخلية أي بأن يخلي المالك بين المعقود عليه والطرف الآخر، برفع الحائل بينهما، على وجه يتمكن الآخر من الحيازة والتصرف في الشيء (¬2). والعقد غير العيني: هو الذي يتم بمجرد الصيغة السليمة من العيوب ويترتب عليه أثره بدون حاجة إلى القبض. وهذا يشمل جميع العقود ماعدا العقود الخمسة السابقة. التقسيم الخامس ـ باعتبار اتصال الأثر بالعقد وعدم اتصاله: ينقسم العقد بحسب ترتب أثره عليه بمجرد انعقاده وعدم ترتب أثره في الحال إلى أنواع ثلاثة: هي منجز، ومضاف، ومعلق. ¬
1 - العقد المنجز
1 - العقد المنجز: وهو ما صدر بصيغة غير معلقة على شرط ولا مضافة إلى المستقبل. وحكمه: ترتب الآثار عليه في الحال ما دام مستوفياً لأركانه وشروطه المطلوبة فيه. مثل: بعتك هذه الأرض بكذا، وقبل الآخر. يترتب على هذا البيع تحقق أثره عليه في الحال: وهو انتقال الملكية في العوضين. والأصل في العقود التنجيز في الحال أي أن آثارها تترتب عليها فور إنشائها ما عدا الوصية والإيصاء، فلا يمكن بطبيعتهما أن يكون ناجزين، لإضافتهما حتماً لما بعد وفاة الموصي. أما الوصية: فهي تمليك مضاف لما بعد الموت بالتبرع بشيء لجهة أو شخص ما. وأما الإيصاء: فهو إقامة وصي على أبنائه القاصرين بعد وفاة الولي. 2 - العقد المضاف للمستقبل: ما صدر بصيغة أضيف فيها الإيجاب إلى زمن مستقبل. مثل: آجرتك داري لسنة من مطلع الشهر القادم. أنتِ طالق غداً أو بعد أسبوع. وحكمه: أنه ينعقد في الحال، ولكن أثره لا يوجد إلا في الوقت المحدد الذي أضيف إليه. العقود بالنسبة للإضافة: العقود عند الحنفية بالنسبة لقبولها الإضافة أو عدم قبولها ثلاثة أنواع: الأول ـ عقود لا تكون إلا مضافة بطبيعتها: وهي الوصية والإيصاء كما تقدم، سواء أكانت منجزة مثل: أوصيت بكذا للفقراء أو لمسجد البلدة، أم معلقة مثل: إن نجحت في المشروع الفلاني فقد أوصيت بمبلغ كذا للمشفى الفلاني. فإذا تحقق النجاح، لم يثبت حكم الوصية إلا بعد الوفاة.
الثاني ـ عقود لا تقبل الإضافة، وإنما تكون دائما ناجزة
الثاني ـ عقود لا تقبل الإضافة، وإنما تكون دائماً ناجزة: وهي عقود تمليكات الأعيان، كالبيع والهبة والصلح على مال والإبراء عن الدين. ويلحق بها الزواج والشركة والقسمة والرجعة؛ لأنها تتطلب شرعاً ثبوت آثارها في الحال، فإذا أضيفت للمستقبل تأخرت آثارها عنها، وذلك ينافي أصل وضعها الشرعي. فالبيع يوجب نقل الملكية في الحال، والزواج يفيد حل الاستمتاع حالاً، فلا يصح تأخير الأثر عنهما. الثالث ـ عقود تصح منجزة ومضافة للمستقبل: فإذا كانت منجزة ترتب عليها أثرها في الحال،، وإن كانت مضافة تأخر أثرها إلى زمن الإضافة، وهي (¬1): أولاً ـ العقود الواردة على المنافع: كالإجارة والإعارة والمزارعة والمساقاة. ثانياً ـ الالتزامات أو التوثيقات: كالكفالة والحوالة. ثالثاً ـ الإطلاقات: كالوكالة والقضاء والوظائف والإدارات والإذن بالتجارة. رابعاً ـ الإسقاطات: كالطلاق والخلع من جانب الزوج، والوقف. 3 - العقد المعلق على شرط: هو ما صدر معلقاً وجوده على أمر آخر بأحد أدوات الشرط. مثل: إن سافرت فأنت وكيلي. إذا قدم فلان من الحجاز فقد بعتك الشيء الفلاني. ويختلف المعلق على شرط عن المضاف للمستقبل في أن العقد المعلق لا ينعقد إلا حين وجود الشرط المعلق عليه. أما المضاف للمستقبل فهو منعقد في الحال، ولكن آثاره لا يسري مفعولها إلا في المستقبل المضاف إليه. ¬
العقود بالنسبة للتعليق عند الحنفية
العقود بالنسبة للتعليق عند الحنفية: تنقسم العقود من هذه الناحية إلى ثلاثة أنواع هي (¬1): النوع الأول ـ عقود لا تقبل التعليق وهي: أولاً ـ التمليكات المالية ما عدا الوصية، سواء أكانت واردة على الأعيان كالبيع والإبراء، أم على المنافع كالإجارة والإعارة، بطريق المعاوضة أم بطريق التبرع كالهبة؛ لا يصح تعليقها على شرط متردد بين الوجود والعدم؛ لأن الملكية لا بد أن تكون مستقرة جازمة لا تردد فيها، وإلا شابهت القمار. ثانياً ـ المبادلات غير المالية: كالزواج والخلع لا يصح تعليقهما على شرط، مثل: تزوجتك إن نجحت في شهادة كذا، وخالعتك إن رضي أخي؛ لأنه لا بد من تحقق أثرها في الحال. ثالثاً ـ التقييدات كالرجعة وعزل الوكيل والحجر على الصبي المأذون له في التجارة. رابعاً ـ الرهن والإقالة (فسخ العقد بالتراضي): لا يصح تعليقهما، مثل: رهنتك هذه الدار إن رضي والدي. أقلتك من البيع إن وجدت مشترياً بثمن أعلى. وقد عرفنا سابقاً في بحث حرية الاشتراط أن ابن تيمية وابن القيم من الحنابلة قالا: يصح تعليق العقود والفسوخ والتبرعات والالتزامات بالشروط ولا يمنع منها إلا ما ورد بالنهي عنه نص من الشارع. ¬
النوع الثاني ـ عقود يصح فيها التعليق بأي شرط
النوع الثاني ـ عقود يصح فيها التعليق بأي شرط ملائم أم غير ملائم وهي: أولاً ـ الإسقاطات المحضة: كالطلاق والتنازل عن حق الشفعة. ثانياً ـ الوكالة والوصية والإيصاء. ثالثاً ـ الالتزامات التي يراد منها تقوية إرادة الملتزم، كالنذر واليمين، مثل: إن نجحت في الامتحان فلله علي صوم أسبوع ولأتصدقن بمبلغ كذا. ووالله لأفعلن كذا إن انتصرنا على العدو. النوع الثالث ـ عقود يصح تعليقها بالشرط الملائم دون سواه. وهي الكفالة والحوالة والإذن للصبي بالتجارة. والشرط الملائم: هو ماكان مناسباً لمقتضى العقد، عرفاً أو شرعاً، بأن يكون أساساً لوجوده، أو سبباً لثبوت الحق، مثل: إن أقرضت فلاناً فأنا كفيله، إن لم أدفع دينك بعد شهر فقد أحلتك به على فلان، إن أحسنت التجارة فقد أذنت لك بها. أما غير الملائم فمثل: إن نزل المطر فقد كفلت فلاناً، أو أحلتك بدينك على فلان، أو أذنت لك بالتجارة، وإن نجح ابني في شهادة كذا فقد كفلتك. فمثل هذه الشروط غير المفيدة أو التي لا يظهر فيها غرض صحيح تعد نوعاً من العبث أو الهزل واللهو، ولا تصح العقود مع الهزل. المبحث السادس ـ الخيارات عرفنا في المبحث السابق أن العقد اللازم: هو الخالي من أحد الخيارات التي تسوغ لأحد العاقدين فسخه وإبطاله.
معنى الخيار
ومعنى الخيار: أن يكون للمتعاقد الحق في إمضاء العقد أو فسخه، إن كان الخيار خيار شرط أو رؤية أو عيب. أو أن يختار أحد المبيعين إن كان الخيار خيار تعيين. والخيارات سبعة عشر، سأجمل هنا الكلام عن ستة منها فقط، هي خيار المجلس، وخيار التعيين، وخيار الشرط، وخيار العيب، وخيار الرؤية. وقد شرعت الخيارات إما ضماناً لرضا العاقدين أو حفظاً لمصلحتهما، أو دفعاً للضرر الذي قد يلحق أحد العاقدين، فهي مشروعة للضرورة أو للحاجة إليها. ومصدر الخيارات: إما اتفاق العاقدين كخيار الشرط وخيار التعيين. وإما حكم الشرع، كخيار العيب وخيار الرؤثة. وقد يعتبر خيار العيب ثابتاً باشتراط المتعاقد ضمناً لا صراحة. خيار المجلس عند الشافعية والحنابلة: خيار المجلس: هو أن يكون لكل من العاقدين حق فسخ العقد ما داما في مجلس العقد، لم يتفرقا بأبدانهما، أو يخير أحدهما الآخر فيختار لزوم العقد. ومعنى هذا أن العقد لا يلزم إلا بإنهاء مجلس العقد بالتفرق أو بالتخيير. وليس ذلك في كل العقود وإنما في العقود اللازمة من الجانبين فقط القابلة للفسخ وهي عقود المعاوضات المالية كالبيع بأنواعه وصلح المعاوضة والإجارة؛ لأن الدليل المثبت له وهو الحديث ورد في البيع، فيقاس عليه ما في معناه من عقود المعاوضات (¬1). وقد انقسم الفقهاء في شأنه فريقين: ¬
1 - فقال الحنفية والمالكية (¬1): يلزم العقد بالإيجاب والقبول، ولا يثبت فيه خيار المجلس؛ لأن الله أمر بالوفاء بالعقود في قوله تعالى: {أوفوا بالعقود} [المائدة:1/ 5] والخيار مناف لذلك، فإن الراجع عن العقد لم يف به، ولأن العقد يتم بمجرد التراضي، بدليل قوله تعالى: {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء:29/ 4] والتراضي يحصل بمجرد صدور الإيجاب والقبول، فيتحقق الالتزام من غير انتظار لآخر المجلس. ولم يأخذوا بالأحاديث الواردة في إثبات خيار المجلس لمنافاتها لعموم الآيات القرآنية المذكورة. وتأول الحنفية حديث خيار المجلس «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا» بأنه وارد في مرحلة ما قبل تمام العقد. فالبيعان: معناه المتساومان قبل العقد، إن شاءا عقدا البيع، وإن شاءا لم يعقداه، والمراد بالتفرق: هو التفرق بالأقوال لا بالأبدان، أي أن للموجب أن يرجع عن إيجابه قبل قبول الآخر، وللآخر الخيار، إن شاء قبل في المجلس، وإن شاء رد، وهذا هو خيار القبول أو الرجوع. ولكن يلاحظ أن هذا التأويل لا معنى له؛ لأن كل عاقد قبل إبرام العقد حر في القبول وعدمه، ويجعل (أي هذا التأويل) الحديث عديم الفائدة، فلا حاجة للمشرع لإثبات مبدأ حرية الإنسان فيما يلتزم، فهو أصل عام، والأصل في كل إنسان عدم الالتزام. فإذا لم يقبل الذي وجه له الإيجاب لا يسمى ذلك تفرقاً وإنما اختلافاً. وحديث خيار المجلس لا يعارض آية الأمر بالوفاء بالعقود؛ لأن المراد ¬
بالعقود هي الكاملة اللازمة التي لا خيار فيها، ولا يعارض أيضاً آية {تجارة عن تراض} [النساء:29/ 4]؛ لأن هذا الخيار مشروع للتأكد من تمام التراضي. 2 - وقال الشافعية والحنابلة المثبتون لخيار المجلس (¬1): إذا انعقد العقد بتلاقي الإيجاب والقبول يقع العقد جائزاً أي غير لازم، ما دام المتعاقدان في مجلس العقد. ويكون لكل من العاقدين الخيار في فسخ العقد أو إمضائه، ما داما مجتمعين في المجلس لم يتفرقا بأبدانهما، أو يتخايرا. ويحد طبيعة التفرق: العرف الشائع بين الناس في التعامل (¬2)، وهذا هو خيار المجلس. واستدلوا على مشروعيته بالحديث الصحيح الثابت برواية البخاري ومسلم وهو أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا، أو يقول أحدهما للآخر: اختر» (¬3) أي اختر اللزوم. وأما التفرق فهو أن يتفرقا بأبدانهما، فلو أقاما في ذلك المجلس مدة متطاولة كسنة أو أكثر، أو قاما وتماشيا مسافة، فهما على خيارهما، كما قال النووي. والرجوع في التفرق إلى العادة، فما عده الناس تفرقا فهو تفرق ملزم للعقد، وما لا فلا (¬4). ¬
خيار التعيين
خيار التعيين: خيار التعيين (¬1): هو أن يكون للعاقد حق تعيين أحد الأشياء الثلاثة المختلفة في الثمن والصفة التي ذكرت في العقد. فإذا عين الواحد صار محل العقد معلوماً بعد أن كان مجهولاً بعض الجهالة. وهو لا يثبت إلا في عقود المعاوضات المالية التي تفيد نقل ملكية الأعيان كالبيع، والهبة بعوض، والقسمة ونحوها. ولا يثبت هذا الخيار إلا للمشتري فقط، على الرأي الراجح عند الحنفية. وقد اختلف الفقهاء في مشروعيته، فمنعه الشافعي وأحمد وزفر من الحنفية لجهالة المبيع، والمبيع يشترط أن يكون معلوماً. وأجازه أبو حنيفة وصاحباه استحساناً لحاجة الناس إليه، إذ قد يكون الشخص غير خبير بأحوال المشتريات، فيحتاج إلى استشارة غيره ليأخذ الأرفق والأوفق له. وقد يحتاج الشخص إلى توكيل غيره بالشراء ويرغب في رؤية الشيء المشترى، ولا يوافق التاجر على إخراج البضاعة من محله إلا بشراء واحد من اثنين أو ثلاثة (¬2). وهذا معنى معقول وواقعي، محقق لمصلحة التاجر لكي تصبح البضاعة المقبوضة مضمونة لا مجرد أمانة، ونافع للمشتري لتحقيق رغبته وميوله، وليس في جهالة المبيع خطورة، لأنها لا تفضي إلى النزاع، لتعيين ثمن كل صنف على حدة. ¬
شروطه
شروطه: اشترط الحنفية القائلون بخيار التعيين شروطاً ثلاثة لصحته وهي (¬1): 1 - أن يكون الخيار بين ثلاثة أشياء على الأكثر؛ لأن أصناف الأشياء تتراوح عادة بين الجيد والوسط والرديء، فما زاد عن الثلاثة لا يصح فيه الخيار، لعدم الحاجة إليه. 2 - أن تكون الأشياء متفاوتة القيمة أو الوصف، وثمن كل منها محدد معين، فإن كانت الأشياء متحدة القيمة أو الوصف فلا معنى للخيار بينها. وإذا كان الثمن غير محدد لكل منها، كان مجهولاً، وجهالة الثمن تفسد البيع. 3 - أن تكون مدة الخيار معلومة، لا تزيد عن ثلاثة أيام عند أبي حنيفة كخيار الشرط، فإن زادت على ذلك فسد العقد. وقال الصاحبان: يكفي أن تكون المدة معلومة، وإن زادت عن ثلاثة أيام. أثر خيار التعيين: إذا اقتصر المشتري على ذكر خيار التعيين بدون خيار الشرط، كان العقد لازماً تثبت به ملكية أحد الأشياء، وينحصر دور المشتري في اختيار أحد الأشياء التي اشتراها. وإن مات المشتري ورثه ورثته في ممارسة حق الاختيار. فإن انضم إلى خيار التعيين خيار الشرط كان العقد غير لازم، ولا يورث حق الخيار حينئذ، ويحق للمشتري رد العقد بكامله (¬2). ¬
انتهاء خيار التعيين
انتهاء خيار التعيين: ينتهي خيار التعيين إما صراحة أو دلالة أو حكماً، كأن يقول: قبلت هذا الشيء دون غيره، أو تصرف في أحد الأشياء تصرفاً يدل على أنه اختاره. أو هلك أحد الأشياء في يد المشتري بعد القبض، فيتعين الهالك مبيعاً، وعليه ثمنه، والآخر يكون أمانة في يده يجب رده إلى صاحبه (¬1). خيار الشرط خيار الشرط (¬2): هو أن يكون لأحد العاقدين أو لكليها أو لغيرهما الحق في فسخ العقد أو إمضائه خلال مدة معلومة، كأن يقول المشتري للبائع: اشتريت منك هذا الشيء على أني بالخيار مدة يوم أو ثلاثة أيام. وشرع للحاجة إليه لدفع الغبن عن العاقد في العقود. ويثبت فقط في العقود اللازمة القابلة للفسخ بتراضي الطرفين، ولو كان لزومها من جانب واحد، وذلك كالبيع والإجارة، والمزارعة والمساقاة، والشركة ومنها المضاربة، والقسمة، والكفالة والحوالة، والرهن إذا اشترطه الراهن للزوم العقد من جانبه، ولا حاجة للمرتهن لاشتراطه؛ لأن العقد بالنسبة إليه غير لازم. أما العقود غير اللازمة كالوكالة والإعارة والإيداع والهبة والوصية فلا حاجة فيها لاشتراط الخيار، لأنها بطبيعتها غير لازمة. وأما العقود اللازمة التي لا تقبل الفسخ كالزواج والخلع والطلاق فلا يصح اشتراط الخيار فيها، لأنه يتعذر فسخها. ¬
مدة الخيار
كذلك لا يصح اشتراط الخيار في عقد ي السلم والصرف؛ لأن السلم يشترط لصحته قبض رأس مال السلم في مجلس العقد، والصرف يشترط فيه قبض البدلين في المجلس. وخيار الشرط يقتضي تأخير القبض عن المجلس وإذا تأخر القبض عن المجلس فسد العقد، فلا يصح اشتراط خيار فيهما (¬1). مدة الخيار: اتفق جمهور الفقهاء غير المالكية على أن مدة الخيار المشروط ينبغي أن تكون معلومة، فإن لم تكن له مدة، أو كانت المدة مجهولة، أو كان الخيار مؤبداً لم يصح العقد، وكان فاسداً عند الحنفية (¬2)، وباطلاً عند الشافعية والحنابلة (¬3). وقال الإمام مالك: يجوز الخيار المطلق بدون تحديد مدة، ويحدد الحاكم له مدة كمدة خيار مثله في العادة؛ لأن اختيار المبيع في مثله مقدر في العادة، فإذا أطلق الخيار حمل على المعتاد. ويفسد العقد باشتراط مدة زائدة على المعتاد بكثير أي بعد يوم، أو بشرط مدة مجهولة كإلى أن تمطر السماء (¬4). ثم اختلف الفقهاء في مقدار مدة الخيار على ثلاثة أقوال: 1 - فقال أبو حنيفة وزفر والشافعي (¬5): إنها لا تزيد على ثلاثة أيام، عملاً بمقتضى الحديث الذي ثبتت به مشروعية هذا الخيار، وهو حديث حَبَّان بن مُنْقِذ الذي كان يغبن في البيع والشراء، فشكا أهله إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: «إذا ¬
بايعت فقل: لا خلابة (¬1)، ولي الخيار ثلاثة أيام» فهذا الخيار شرع استثناء لدفع الغبن عن الناس، فيقتصر فيه على مورد النص، والنص جعل المدة ثلاثة أيام، فلا يزاد عليها، ولأن الحاجة تتحقق بالثلاث غالباً. فلو زاد عليها فسد العقد عند أبي حنيفة وزفر، ويعود صحيحاً عند أبي حنيفة إذا ارتفع سبب الفساد بإجازة العقد في مدة الأيام الثلاثة، وعند زفر: الفاسد من العقود لا يعود صحيحاً بحال. ويبطل العقد عند الشافعي. 2 - وقال الصاحبان والحنابلة (¬2): تكون مدة الخيار بحسب اتفاق العاقدين، ولو كانت أكثر من ثلاثة أيام؛ لأن الخيار شرع للتروي والمشورة، وقد لا تكفي الأيام الثلاثة. والتحديد المذكور في حديث حبان كان كافياً بالنسبة له بتقدير الرسول صلّى الله عليه وسلم. وما يكون كافياً لشخص قد لا يكفي لغيره، فلا يكون هذا التحديد ما نعاً من الزيادة على المدة المذكورة. 3 - وقال المالكية (¬3): يجوز الخيار بقدر ما تدعو إليه الحاجة، ويختلف ذلك باختلاف الأحوال، فالفاكهة لا يجوز الخيار فيها أكثر من يوم، والثياب والدواب: ثلاثة أيام، والأرض البعيدة: أكثر من ثلاثة أيام، والدار ونحوها: شهر؛ لأن المفهوم من الخيار هواختبار المبيع، وإمكان الاختبار يختلف بحسب المبيعات، تحقيقاً لحاجة العقد. ¬
أثر خيار الشرط
وتبدأ مدة الخيار بعد العقد مباشرة. أثر خيار الشرط: لخيار الشرط أثران: أحدهما متفق عليه، والآخر مختلف فيه. أما الأثر المتفق عليه: فهوجعل العقد غير لازم بالنسبة لمن له الخيار. فيجوز له الفسخ في مدة الخيار، وإمضاء العقد، وإذا مضت المدة بدون فسخ أو إمضاء سقط خياره ولزمه العقد. ويصح الفسخ والإمضاء بالقول الدال عليه مثل: أجزت العقد أو أمضيته، أو رضيت به، أو فسخته، كما يصح بالفعل الدال علىه أو المتضمن له، كالتصرف في المبيع بالبيع أو الإجارة أو الرهن أو الإعارة، سواء من البائع إذا كان له الخيار، أو من المشتري صاحب الخيار. ويشترط لصحة الفسخ شرطان (¬1): 1 - أن يكون في مدة الخيار، لأن العقد يلزم بمضي مدة الخيار بلا فسخ من صاحب الخيار. 2 - علم الطرف الآخر بالفسخ إذا كان الفسخ قولياً عند أبي حنيفة ومحمد منعاً من إلحاق الضرر به، فإنه إذا كان بائعاً قد يسكت عن البحث عن مشتر آخر، اعتماداً على أن المشتري لم يفسخ العقد، وفي هذا ضرر به، وإذا كان مشترياً فقد يتصرف في المبيع ظناً منه أن البائع لم يفسخ العقد، فيلحقه الضمان، وفي هذا ضرر به، وبالعلم بالفسخ يمتنع لحوق هذا الضرر. ¬
الأثر المختلف فيه
أما الفسخ الفعلي فلا يشترط فيه علم الطرف الآخر به لأنه أمر حكمي، ولا يشترط العلم في الفسخ الحكمي كعزل الوكيل والشريك والمضارب بارتداده ولحاقه بدار الحرب، أو جنونه جنوناً مطبقاً. ولايشترط علم الطرف الآخر بإجازة العقد. وقال أبو يوسف والحنابلة (¬1): لا يشترط علم الطرف الآخر بالفسخ أيضاً؛ لأن القبول بالخيار يدل على تسليط صاحب الخيار على الفسخ، سواء علم الآخر أم لم يعلم. وأما الأثر المختلف فيه: فهو عدم ترتب أثر العقد عليه. وهذا عند الحنفية (¬2) والمالكية (¬3) فالخيار عند هؤلاء مانع من ترتب آثار العقد، فلا تنتقل الملكية عند أبي حنيفة في كلا البدلين إذا كان الخيار للعاقدين أثناء مدة الخيار، أي أنه لا يزول المبيع عن ملك البائع ولا يدخل في ملك المشتري، كما لا يزول الثمن عن ملك المشتري ولا يدخل في ملك البائع؛ لأن الخيار موجود في جانبي البائع والمشتري. وإذا كان الخيار للبائع وحده لا تنتقل ملكية المبيع عنه، ويخرج الثمن عن ملك المشتري؛ لأن العقد لازم في حقه، ولكن لا يدخل في ملك البائع، حتى لا يجتمع البدلان (المبيع والثمن) في يد واحدة، لمنافاته لمبدأ التعادل بين العاقدين. وقال الصاحبان: يدخل الثمن في ملك البائع؛ لأن الشيء لا يصح أن يكون بلا مالك. ¬
انتهاء خيار الشرط
وإذا كان الخيار للمشتري وحده فلا يخرج الثمن عن ملكه، وأما المبيع فيخرج عن ملك البائع ولا يدخل في ملك المشتري عند أبي حنيفة، ويدخل في ملكه عند الصاحبين. وقرر المالكية: أن ملك المبيع للبائع زمن الخيار، حتى ينقضي الخيار. ووجهة هذا الفريق: أن من شرط الخيار لنفسه لم يتم رضاه بالعقد، والآثار لا توجد إلا مع الرضا التام. وقال الشافعية والحنابلة في أظهر الرأيين عندهم (¬1): تترتب آثار العقد عليه في فترة الخيار، وتنتقل ملكية البدلين للطرفين المتعاقدين، سواء أكان الخيار للعاقدين أم لأحدهما؛ لأن العقد نافذ، فتترتب أحكامه (آثاره) عليه. وأثر الخيار محصور في منع اللزوم فقط. وتظهر ثمرة الخلاف بين الفريقين في مؤونة (نفقة) المعقود عليه والزيادة فيه، فعلى رأي الحنفية والمالكية: تكون المؤونة في مدة الخيار على البائع والزيادة له. وعلى رأي الآخرين: تكون المؤونة على المشتري والزيادة له. انتهاء خيار الشرط: العقد المشتمل على الخيار غير لازم، وبانتهاء الخيار إما أن يزول العقد، أو يصبح لازماً. وينتهي الخيار بأحد الأمور التالية (¬2): ¬
1 - إمضاء العقد أو فسخه في مدة الخيار، سواء أكان ذلك بالقول أم بالفعل كما تقدم. 2 - مضي مدة الخيار دون إجازة (إمضاء) أو فسخ. 3 - هلاك المعقود عليه أو تعيبه في يد صاحب الخيار، فإن كان الخيار للبائع مثلاً بطل البيع وسقط الخيار، وإن كان الخيار للمشتري لا يبطل البيع، ولكن يسقط الخيار، ويلزم البيع، ويجب على المشتري دفع الثمن، سواء أكان الهلاك أو التعيب بفعل المشتري أو بفعل البائع، أو بآفة سماوية. 4 - زيادة المعقود عليه في يد المشتري إذا كان الخيار له: زيادة متصلة متولدة منه كسمن الحيوان، أم غير متولدة منه كالبناء على الأرض وصباغة الثوب. أو زيادة منفصلة متولدة منه كولد الحيوان وثمرة البستان. أما الزيادة المنفصلة غير المتولدة منه كالأجرة فلا تبطل الخيار ولا تمنع الرد. 5 - موت المشروط له الخيار عند الحنفية والحنابلة (¬1): لأن خيار الشرط كخيار الرؤية لا يورث عندهم لأنه حق شخصي خاص بصاحبه، ولا يتصور انتقال ذلك من شخص إلى آخر. وقال المالكية والشافعية (¬2): لا يسقط الخيار بالموت، بل ينتقل إلى الورثة؛ لأنه حق متعلق بالمال وهو المعقود عليه، وليس من الحقوق الشخصية، والحقوق المالية يجري فيها الإرث، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من ترك مالاً أو حقاً فلورثته» (¬3). ¬
خيار العيب
خيار العيب خيار العيب (¬1): هو أن يكون لأحد العاقدين الحق في فسخ العقد أو إمضائه إذا وجد عيب في أحد البدلين، ولم يكن صاحبه عالماً به وقت العقد. فسبب هذا الخيار: هو ظهور عيب في المعقود عليه أو في بدله ينقص قيمته أو يخل بالغرض المقصود منه، ولم يكن صاحبه مطلعاً على العيب عند التعاقد، فسمي خيار العيب. وثبوت هذا الخيار مشروط دلالة أو ضمناً؛ لأن سلامة المعقود عليه أو بدله مطلوبة للعاقد، وإن لم يشترطها صراحة. فإذا لم تتوافر السلامة اختل رضا العاقد بالعقد، والرضا أساس العقود، فشرع له الخيار لتدارك الخلل الحادث. وإذا لم تتوافر السلامة لم يتحقق أيضاً مبدأ التعادل في التبادل الذي تقوم عليه عقود المعاوضات، فشرع هذا الخيار حفاظاً على مبدأ المساواة هذا. وقد أثبت الشرع هذا الخيار لمن فوجئ بالعيب بأحاديث نبوية متعددة منها: «المسلم أخو المسلم، لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعاً، وفيه عيب، إلا بيَّنه له» (¬2)، ومر النبي صلّى الله عليه وسلم برجل يبيع طعاماً، فأدخل يده فيه فإذا هو مبلول، فقال: «من غشنا فليس منا». ويثبت خيار العيب وخيار الرؤية في العقود اللازمة التي تحتمل الفسخ، كعقد البيع، والإيجار، وقسمة الأعيان والصلح على عوض عيني. العيب الموجب للخيار: هو عند الحنفية والحنابلة (¬3): كل ما يخلو عنه أصل ¬
شروط ثبوت خيار العيب
الفطرة السليمة ويوجب نقصان القيمة في عرف التجار نقصاناً فاحشاً أو يسيراً كالعمى والعور، وهذا التعريف ذو معيار مادي. وعند الشافعية (¬1) ذو معيار شخصي، وهو: كل ما ينقص القيمة أو يفوت به غرض صحيح، كجماح الدابة، أو قطع شيء من أذن الشاة المشتراة للأضحية، أو ضيق الحذاء المشترى. شروط ثبوت خيار العيب: يشترط لثبوت خيار العيب بعد الاطلاع على العيب شروط وهي (¬2): 1 - وجود العيب قبل العقد، أو بعده قبل التسليم أي أن يكون قديماً. فلو حدث العيب بعد التسليم، أو عند المشتري لا يثبت الخيار. 2 - جهل المشتري بوجود العيب عند العقد والقبض. فإن كان عالماً به عند أحدهما فلا خيار له، لأنه يكون راضياً به دلالة. 3 - عدم اشتراط المالك البراءة عن العيوب في محل العقد، فلو شرط ذلك فلا خيار للمشتري، لأنه إذا أبرأه فقد أسقط حق نفسه. 4 - ألا يزول العيب قبل الفسخ. هذا ويلاحظ أن الحنفية صححوا البيع بشرط البراءة من كل عيب، وإن لم تعين العيوب بتعداد أسمائها، سواء أكان المشترط جاهلاً وجود العيب في المبيع أم عالماً بعيب المبيع. وسواء أكان العيب موجوداً قبل البيع أم حادثاً بعده قبل القبض. وهذا في ظاهر الرواية عن أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد ومالك والشافعي وهو المعمول به في قانوننا المدني: يشمل شرط ¬
وقت خيار العيب
البراءة: العيب الموجود عند العقد فقط، لا الحادث بعد العقد وقبل القبض؛ لأن البراءة تتناول الشيء الثابت الموجود. كذلك لا تصح البراءة عند المالكية والشافعية وفي رواية عند الحنابلة (¬1) إلا عن عيب لا يعلم به البائع، أما ما يعلم به فلا تصح البراءة عنه. وقت خيار العيب: يثبت خيار العيب متى ظهر العيب ولو بعد العقد بزمن طويل. أما فسخ العقد بعد العلم بالعيب فوراً أو على التراخي ففيه رأيان للفقهاء: قال الحنفية والحنابلة (¬2): خيار الرد بالعيب على التراخي، ولا يشترط أن يكون رد المبيع بعد العلم بالعيب على الفور. فمتى علم العيب فأخر الرد، لم يبطل خياره حتى يوجد منه ما يدل على الرضا؛ لأن هذا الخيار شرع لدفع الضرر، فلا يبطل بالتأخير؛ ولأن الحقوق إذا ثبتت لا تسقط إلا بإسقاطها أوبانتهاء الوقت المحدد لها، وليس لهذا الحق وقت محدد. وقال المالكية والشافعية (¬3): يجب الفسخ على الفور بعد العلم بالعيب. والمراد بالفور: ما لا يعد تراخياً في العادة، فلو اشتغل بصلاة أو أكل ونحوه لا يعد متراخياً. والسبب في اشتراط الفور: هو ألا يلحق العاقد الآخر ضررمن التأخير، فإذا تأخر في رد المعقود عليه بدون عذر سقط حقه ولزم العقد. حكم العقد المشتمل على خيار عيب: حكم العقد أو أثره حال وجود شيء معيب: هو ثبوت الملك للمتملك في ¬
محل العقد للحال؛ لأنه إذا لم تتوافر سلامة المعقود عليه تأثر العقد في لزومه، لا في أصل حكمه، بخلاف خيار الشرط؛ لأن الشرط المنصوص عليه ورد على أصل الحكم، فمنع انعقاده بالنسبة للحكم أو الأثر في مدةالخيار (¬1). وأثر خيار العيب هو جعل العقد غير لازم بالنسبة لمن ثبت له الخيار (¬2)، فله إما الرضا بالمعقود عليه كما هو، وحينئذ يسقط الخيار ويلزم العقد، وإما رده إلى مالكه الأول، وحينئذ يبطل العقد. وهل له الاحتفاظ بالمعقود عليه والمطالبة بفرق النقصان بسبب العيب؟ قرر الحنفية (¬3): أنه ليس للمتملك الرجوع بنقصان العيب أو الحط من ثمن المبيع ما دام الرد ممكناً؛ لأن المالك لا يلزم بدفع قيمة النقصان إلا برضاه دفعاً للضرر عنه. فإن تعذر الرد كان لصاحب الخيار الرجوع بالنقصان بشرط أن يكون امتناع الرد بسبب ليس لصاحب الخيار دخل فيه، كهلاك محل العقد، أو تعيبه بعيب جديد، أو تغير صورته بحيث أصبح له اسم جديد، أو زيادته زيادة منفصلة متولدة منه، كالولد والثمرة، وذلك دفعاً للضرر بقدر الإمكان. ويجوز الحط من قيمة المبيع لقاء العيب بتراضي الطرفين. وطريقة معرفة النقصان: أن يقوَّم المعقود عليه سليماً من العيب، ثم يقوَّم على أنه معيب، ويكون الفرق بين القيمتين هو النقصان، فيرجع به. فإذا كانت قيمته سليماً ألفين، وقيمته معيباً ألفاً، رجع بنصف الثمن الذي تم به الشراء. ¬
كيفية فسخ العقد ورد المعقود عليه
أما إذا كان امتناع الرد بسبب من جهة المشتري كأن باع الشيء أو وهبه أو وقفه لم يكن له الرجوع بالنقصان. وكذلك إن رضي بالعيب صراحة أو دلالة ليس له الرجوع بالنقصان؛ لأن الرضا بالعيب كما يمنع الفسخ يمنع الرجوع بنقصان العيب، إذ به يتبين أن السلامة من العيب لم تكن مطلوبة. كيفية فسخ العقد ورد المعقود عليه: إذا كان المعقود عليه ما يزال في يد صاحبه أي قبل قبضه من الآخر، فينفسخ العقد بقول العاقد الآخر: (رددت)، ولا يحتاج إلى قضاء القاضي، ولا إلى التراضي، باتفاق الحنفية والشافعية. وأما إن قبضه المتملك فلا ينفسخ إلا بالتراضي أو بقضاء القاضي عند الحنفية (¬1) لرفع النزاع الذي قد يقع بين العاقدين بسبب احتمال كون العيب جديداً عند القابض، فلا يوجب الرد، أو كونه قديماً عند المالك الأصلي، فيوجب الرد. وقال الشافعية والحنابلة (¬2): ينفسخ العقد بقول المتملك: (رددت) بغير حاجة إلى التراضي أو قضاء القاضي، كالفسخ بخيار الشرط أو خيار الرؤية؛ لأن خيار العيب يجعل العقد غير لازم بالنسبة لصاحب الخيار، وغير اللازم يجوز فسخه بغير حاجة إلى رضا العاقد الآخر، ولا إلى قضاء القاضي. ¬
موانع الرد بالعيب وسقوط الخيار
موانع الرد بالعيب وسقوط الخيار: يمتنع الرد بالعيب ويسقط الخيار بعد ثبوته ويلزم العقد بأسباب وهي ما يأتي (¬1): 1 - الرضا بالعيب بعد العلم به: إما صراحة كقوله: رضيت بالعيب، أو أجزت العقد، أو دلالة كالتصرف في المعقود عليه تصرفاً يدل على الرضا بالعيب، كبيعه أو هبته أو رهنه أو إيجاره، أو استعماله بأي وجه كلبس وركوب، أو مداواته، أو صباغته وتفصيله شيئاً آخر، أو البناء على الأرض، أو طحن الحنطة أو شيّ اللحم، أو وصول عوض العيب إليه، ونحو ذلك؛ لأن الرضا بالعيب بعد العلم به دليل على أن سلامة المعقود عليه ليست مقصودة له، فلا يكون هناك معنى لإثبات الخيار له. 2 - إسقاط الخيار: صراحة كقوله: أسقطت خياري، أو دلالة كأن أبرأه من العيب الذي ظهر في المعقود عليه؛ لأن خيار العيب حقه فله أن يتنازل عنه. 3 - هلاك المعقود عليه، أو تعيبه بعيب جديد في يد صاحب الخيار، أو تغيره تغيراً تاماً، كطحن الحنطة، وخبز الدقيق، ونحوه. 4 - زيادة المعقود عليه في يد صاحب الخيار زيادة متصلة غير متولدة من الأصل كالبناء أو الغرس على الأرض، وصبغ الثوب، أو زيادة منفصلة متولدة من الأصل كالولد والثمرة. أما الزيادة المتصلة المتولدة من الأصل كالسمن والكبر، والزيادة المنفصلة غير المتولدة كالغلة والكسب، فلا تمنع الرد بالعيب. ¬
إرث خيار العيب
وامتناع الرد في الصورة الأولى سببه تعذر فصل الزيادة، ولا يرد معها لأنها حق صانعها. وامتناع الرد في الصورة الثانية، سببه أن المتملك لو ردَّ الأصل دونها، تبقى له دون مقابل، وهو ممنوع شرعاً، لأنه ربا. إرث خيار العيب: اتفق الفقهاء على أنه يورث خيار العيب وخيار التعيين، لتعلق الحق بذات المعقود عليه، فلو مات صاحب الخيار لم يسقط الخيار، وينتقل الحق لورثته؛ لأن المورث استحق المعقود عليه سليماً من العيب، ولزمه أحد الأشياء في خيار التعيين، فلا يجبر الوارث على أخذه معيباً، وإنما يثبت له ما ثبت لمورثه. وفي خيار التعيين يلزم الوارث بما لزم المورث. وأما خيار الشرط وخيار الرؤية فلا يورثان عند الحنفية (¬1) خلافاً للمالكية والشافعية؛ لأن الخيار متعلق بإرادة العاقد ومشيئته، فهو من الحقوق الشخصية التي لاتقبل الانتقال من شخص لآخر بالوراثة (¬2). ومنشأ الخلاف بين الحنفية والجمهور في إرث الخيار راجع إلى اختلافهم في إرث الحقوق. قال الحنفية: الأصل أن يورث المال دون الحقوق، إلا ما قام دليله من إلحاق الحقوق بالأموال. ¬
خيار الرؤية
وقال الجمهور: الأصل أن تورث الحقوق والأموال، إلا إذا قام دليل على وجود اختلاف بين الحق والمال بالنسبة للإرث، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من ترك حقاً أو مالاً فلورثته». خيار الرؤية خيار الرؤية (¬1): هو أن يكون للمشتري الحق في إمضاء العقد أوفسخه عند رؤية المعقود عليه، إذا لم يكن رآه عند إنشاء العقد أو قبله بوقت لا يتغير فيه عادة. ف سبب هذا الخيار: عدم رؤية محل العقد حين التعاقد أو قبله، فإذا كان قد رآه سقط خياره. وثبت هذا الخيار عند القائلين به بحكم الشرع من غير حاجة لاشتراطه في العقد، بخلاف خيار الشرط والتعيين، فإنهما مشروطان في العقد. ويثبت كخيار العيب في العقود اللازمة التي تحتمل الفسخ كبيع الشيء المعين بالذات، والإجارة، وقسمة الأموال القيمية كالأراضي والدواب، والصلح على عين بعوض معين. أما بيع الشيء المعين بالوصف كما في عقد السلم (بيع آجل بعاجل) فلا يثبت فيه خيار الرؤية. مشروعيته: أجاز جمهور الفقهاء (الحنفية والمالكية والحنابلة والظاهرية) (¬2) خيار الرؤية في بيع العين الغائبة أو غير المرئية، بدليل ما يروى حديثاً: «من اشترى شيئاً لم ¬
يره، فهو بالخيار إذا رآه» (¬1) ويؤيده أن عثمان بن عفان باع أرضاً له بالبصرة لطلحة ابن عبد الله رضي الله عنهما، ولم يكونا رأياها، فقيل لعثمان: غبنت، فقال: «لي الخيار؛ لأني بعت ما لم أره». وقيل لطلحة إنك قد غبنت، فقال: «لي الخيار، لأني اشتريت ما لم أره» (¬2) فحكما في ذلك جبير بن مطعم، فقضى بالخيار لطلحة. وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم، ولم ينكر عليه أحد، فكان إقراراً منهم على شرعية هذا الخيار. واحتجوا أيضاً بأن الشخص قد يحتاج إلى شراء شيء غائب عنه، يجعل له الخيار عند رؤيته دفعاً للضرر عنه حينما يجد المعقود عليه غير موافق لغرضه أو لمقصوده، وتحقيقاً لرضاه المطلوب في العقود. وأما ما قد يكون من جهالة في المعقود عليه فلا تؤثر في صحة العقد، لأنها لا تفضي إلى النزاع بسبب إعطاء الخيار لمن لم ير محل العقد. وقال الشافعي في المذهب الجديد (¬3): لا ينعقد بيع الغائب أصلاً، سواء أكان بالصفة، أم بغير الصفة، ولا يثبت خيار الرؤية؛ لأن في العقد غرراً وجهالة قد تفضي إلى النزاع بين العاقدين، وقد نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن بيع الغرر (¬4). وأما حديث «من اشترى ما لم يره» فهو حديث ضعيف كما قال البيهقي أو باطل كما قال الدارقطني. ¬
من يثبت له خيار الرؤية
من يثبت له خيار الرؤية: يثبت خيار الرؤية عند الحنفية والمالكية للمتملك، كالمشتري في البيع، والمستأجر في الإيجار، أما المملك فلا يثبت له هذا الخيار، وهو البائع والمؤجر، عملاً بما قضى به جبير بن مطعم بين عثمان وطلحة، ولأن المملك يعرف ما يملكه عادة، فلا ضرورة لثبوت الخيار له. فإذا باع ما لم يره، وهو أمر نادر، كان مقصراً في حق نفسه، فلا يستحق المطالبة بفسخ العقد. أما المتملك فلم يتمكن من رؤية محل العقد، ولا سبيل إليه، فكان من المصلحة منحه الخيار. وأثبت الحنابلة والظاهرية خيار الرؤية للمملك كالبائع إذا باع ما لم ير. وقت ثبوت الخيار: يثبت الخيار للمشتري عند رؤية المعقود عليه، لا قبلها، فلو أجاز العقد قبل الرؤية، لا يلزم العقد، ولا يسقط الخيار، وله أن يرد المعقود عليه؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أثبت الخيار للمشتري بعد الرؤية. أما لو فسخ العقد قبل الرؤية صح الفسخ، لا من أجل الخيار، وإنما لأن العقد غير لازم، وغير اللازم يجوز فسخه كالعقد الذي فيه خيار العيب، وعقد الإعارة والإيداع (¬1). شروط ثبوت الخيار: يشترط لثبوت الخيار شروط، وإلا كان العقد لازماً وهي (¬2): ¬
كيفية الرؤية
1 - عدم رؤية محل العقد عند إنشاء العقد أو قبله بزمن لا يتغير فيه، فإن كان قد رآه قبل العقد لا يثبت له الخيار. 2 - أن يكون محل العقد عيناً معينة أو مشخصة من الأعيان كالأرض والدار والدابة والسيارة، إذا وصفت بما ينفي عنها الجهالة المفضية إلى النزاع؛ لأن للناس أغراضاً خاصة في الأعيان، فيثبت الخيار لينظر المتملك هل يصلح له أو لا؟ ويظل له الخيار ولو وافق الوصف عند الحنفية. أما المعين بالوصف لا بالذات بأن كان ديناً موصوفاً في الذمة كالمسلم فيه (المبيع المؤجل لموسم الحصاد) فلا يثبت فيه خيار الرؤية؛ لأن المعقود عليه الموصوف إن وجد بأوصافه المتفق عليها لزم العقد، وإن تخلف وصف منها لم يتحقق لعدم وجود محله. 3 - أن يكون العقد مما يقبل الفسخ كما تقدم، كالبيع والإجارة والقسمة والصلح عن دعوى المال ونحوها؛ لأن هذه العقود تنفسخ برد هذه الأشياء، فيثبت فيهاخيار الرؤية. أما ما لا يقبل الفسخ كالزواج والخلع والصلح عن دم العمد ونحوها، فلا يثبت فيها خيار الرؤية بسبب عدم رؤية المهر أو بدل الخلع أو عوض الصلح إذا كان شيئاً معيناً كدار وأرض معينة. كيفية الرؤية: الرؤية قد تكون لجميع المعقود عليه، أو لبعضه (رؤية الأنموذج)، والضابط فيه: أنه يكفي رؤية ما يدل على المقصود، ويفيد المعرفة به (¬1). وذلك بأي حاسة ¬
أثر خيار الرؤية
من الحواس بحسب طبيعة محل العقد، فإن كان من المطعومات يكون العلم به بالذوق، وإن كان من المشمومات كالروائح كانت معرفته بالشم، وإن كان من الملموسات كالأقمشة كان العلم به باللمس. وإن كان من المرئيات كالدور والأراضي والحبوب كان العلم به بواسطة النظر بالنسبة للبصير. أما الأعمى فهو كالبصير في غير المرئيات، وأما في المرئيات فيكتفى منه بوصف الشيء وصفاً كافياً. ويجوز عند الحنفية للبصير والأعمى التوكيل بالنظر والرؤية (¬1). وبناء عليه لا يكفي رؤية بعض حجُرات الدار، بل لا بد من رؤية بيوتها كلها، ورؤية كل الأرض والبستان ونحوهما. ولا يكفي رؤية شاة من قطيع، بل لا بد من رؤية القطيع كله. وإذا كان الشيء يباع عددياً كالجوز والفجل والثياب فلا تكفي رؤية البعض، بل لابد من رؤية الكل. وإذا كان الشيء من المثليات التي تباع كيلاً أو وزناً كالحبوب والأقطان أو كان مغيباً في الأرض كالثوم والبصل، فيكتفى برؤية بعض الأجزاء أو الوحدات، وهو المسمى بالبيع بالنموذج. أثر خيار الرؤية: يكون العقد الوارد على العين الغائبة أو غير المرئية غير لازم لمن ثبت له الخيار، فيخير بين الفسخ والإجازة عند رؤية المعقود عليه؛ لأن عدم الرؤية يمنع تمام الصفقة، ولأن جهالة وصف المعقود عليه تؤثر في رضا المتملك فيثبت له الخيار، ¬
كيفية فسخ العقد
سواء أكان المعقود عليه موافقاً للوصف المتفق عليه أم مخالفاً له، وهذا مذهب الحنفية (¬1). وقال الحنابلة والمالكية والشيعة الإمامية (¬2): العقد لازم للمتملك إذا وجد المعقود عليه مطابقاً للوصف المتفق عليه، فإن كان مخالفاً لما وصف، ثبت له الخيار. وأما حكم العقد أو أثر الخيار: فلا يمنع نقل الملكية في البدلين، أي لا أثر لخيار الرؤية على العقد، فتنتقل ملكية المعقود عليه للمتملك، وملكية العوض للمالك فور تمام العقد بالإيجاب والقبول. وبهذا يختلف خيار الرؤية عن خيار الشرط عند الحنفية والمالكية، كما تقدم. وسبب التفرقة بينهما أن العقد في خيار الرؤية صدر مطلقاً غير مقيد بشرط، وكان المفهوم أن يكون لازماً، لكنه ثبت من جهة الشرع. أما خيار الشرط فقد ثبت باشتراط العاقدين، فكان له أثره في العقد يمنع استقرار حكمه في الحال. كيفية فسخ العقد: لا يتوقف الفسخ بخيار الرؤية على التراضي أو قضاء القاضي، ويكون بالقول وبالفعل صراحة أو دلالة، مثل فسخت العقد أو رددته، أو أن يتصرف بالمعقود عليه بالبيع أو الهبة ونحوهما، أو أن يهلك المعقود عليه قبل القبض (¬3). ويشترط للفسخ شروط هي (¬4): ¬
مدة خيار الرؤية
1 - أن يكون الخيار موجوداً، فإن سقط لزم العقد. 2 - ألا يترتب على الفسخ تفريق الصفقة على المالك، برد بعض المعقود عليه وإجازة العقد في البعض الآخر؛ لأن في التفريق ضرراً به. 3 - أن يعلم المالك بالفسخ ليكون على بينة من أمره وأمر سلعته ليتصرف فيها كما يريد. وهذا عند أبي حنيفة ومحمد، وأما أبو يوسف فلا يشترط ذلك، كما تقدم في خيار الشرط. مدة خيار الرؤية: الأصح عند الحنفية (¬1): أن خيار الرؤية يثبت مطلقاً في جميع العمر إلى أن يوجد ما يسقطه، أي أنه لا يتوقت بوقت، بل متى ثبت فإنه يستمر إلى أن يحدث ما يسقطه؛ لأنه حق من الحقوق، والحقوق لا تسقط إلا بإسقاطها، أو بانتهاء الأمد المحدد لها، ولأن سببه اختلال الرضا، والحكم يبقى ما بقي سببه. وقال الحنابلة (¬2): يكون خيار الرؤية على الفور. مايسقط به خيار الرؤية: يسقط خيار الرؤية في الأصل بما يسقط به خيار الشرط وخيار العيب وهو ما يأتي (¬3): 1 - ما يدل على الرضا بالعقد صراحة أو دلالة: فالصريح أن يقول: أجزت ¬
العقد أو أمضيته أو رضيت به ونحو ذلك. والدلالة على الرضا: أن يتصرف في المعقود عليه بعد الرؤية لا قبلها تصرفاً يدل على الإجازة والرضا بالعقد كقبض الشيء، والانتفاع به، وبيعه أو إجارته، أو رهنه أوهبته. والسبب في اشتراط كون التصرف بعد الرؤية: هو أن الخيار حق أثبته الشارع بعد الرؤية، والحقوق لا تسقط قبل ثبوتها. واستثناء من هذا المبدأ قالوا بسقوط الخيار ولو قبل الرؤية في البيع والإجارة والوقف، والرهن والهبة مع التسليم، ونحوها من التصرفات الباتة التي يترتب عليها حق للغير. 2 - هلاك محل العقد، أو تعيبه بعيب يمنع الرد، سواء أكان بفعل العاقد أم بفعل شخصي أجنبي عن العقد، أم بآفة سماوية. 3 - زيادة المعقود عليه بعد القبض زيادة تمنع الرد، وهي الزيادة المتصلة غير المتولدة من الأصل كالبناء وصبغ الشيء، والزيادة المنفصلة المتولدة منه كالولد واللبن والصوف. أما الزيادة المتصلة المتولدة منه كالسمن والكبر، والزيادة المنفصلة غير المتولدة منه كالغلة، فإنها لا تمنع الرد. 4 - موت صاحب الخيار، سواء قبل الرؤية أم بعدها. فلا يورث خيار الرؤية عند الحنفية والحنابلة (¬1) كخيار الشرط؛ لأن الخيار مجرد رغبة ومشيئة أو حق شخصي. ¬
خيار النقد
وقال مالك (¬1): يورث خيار الرؤية كما يورث خيار التعيين والعيب؛ لأن الإرث يثبت في الحقوق والأموال المملوكة على السواء. وهذا أقرب إلى المنطق؛ لأن الوارث يخلف المورث في كل ما ترك من مال وحقوق ومنها حق الخيار (¬2). خيار النقد خيار النقد (¬3): هو أن يتبايع اثنان على أنه إذا لم ينقد المشتري الثمن في مدة معينة، فلا بيع بينهما، فإذا نقد المشتري الثمن في المدة المحددة تم البيع، وإذا لم ينقده فيها كان البيع فاسداً. ويصح أن يكون خيار النقد للبائع أيضاً، كما لو تبايع اثنان وقبض البائع الثمن، وقال: إذا رددت الثمن في مدة ثلاثة أيام، فلا بيع بيننا، فإن رده فسد البيع، وإن لم يرده تم العقد. وقد أجاز أبو حنيفة وصاحباه خلافاً لزفر هذا الخيار استحساناً لحاجة الناس إليه، ولأنه في الحقيقة نوع من خيار الشرط. ويؤيده أن ابن عمر أجازه (¬4). مدته: قال أبو حنيفة: أقصى مدة هذا الخيار ثلاثة أيام. وقال الصاحبان: يجوز إلى أربعة أيام فأكثر. ولا يورث هذا الخيار عند الحنفية؛ لأنه حق شخصي. لكن إذا كان الاختيار ¬
المبحث السابع ـ انتهاء العقد
للبائع في رد الثمن، فمات في أثناء المدة يلزم البيع بموته، لأنه تحقق عدم الرد بموته. وإن كان الخيار للمشتري في نقد الثمن فمات في مدة الخيار، بطل البيع بموته، لأنه تحقق عدم نقد الثمن بموته، فيبطل العقد. المبحث السابع ـ انتهاء العقد: ينتهي العقد إما بالفسخ، أو بالموت، أو بعدم الإجازة في العقد الموقوف، وانتهاء العقد بالفسخ له حالات. وأما الموت فقد تنتهي به بعض العقود. انتهاء العقد بالفسخ: فسخ العقد: قد يكون برفعه من أصله كما في حالة الخيارات وهو الإلغاء، وقد يكون بوضع نهاية له بالنسبة للمستقبل كما في الإعارة والإجارة، وهو الفسخ بالمعنى الشائع. والفسخ في العقود غير اللازمة واضح، تقرره طبيعة العقد ذاته، سواء في العقود غير اللازمة من الجانبين كالإيداع والإعارة والشركة والوكالة، فلكل من الطرفين الفسخ متى أراد، ما لم يتعلق بالوكالة حق الغير، كما بان في بحث الوكالة، أم في العقود اللازمة من جانب، وغير اللازمة من الجانب الآخر، كالرهن والكفالة، فللمرتهن فسخ الرهن دون رضا الراهن. وللمكفول له وهو الدائن فسخ الكفالة دون رضا المدين. وأما الفسخ في العقود اللازمة فله حالات وهي: 1ً ـ الفسخ بسبب فساد العقد: إذا وقع العقد فاسداً كبيع المجهول أو البيع
ـ بسبب الخيار
المؤقت بمدة، وجب فسخه إما من طريق العاقدين، أو من طريق القاضي، إلا إذا وجد مانع من الفسخ كأن يبيع المشتري ما اشتراه أو يهبه. وحينئذ يجب على المشتري دفع قيمة المبيع يوم قبضه، لا الثمن المتفق عليه. ً2ً ـ بسبب الخيار: يجوز لصاحب الخيار في خيار الشرط أو العيب أو الرؤية ونحوها فسخ العقد بمحض إرادته، إلا في خيار العيب بعد القبض عند الحنفية لا يجوز الفسخ فيه إلا بالتراضي أو بقضاء القاضي. 3ً ـ بالإقالة: الإقالة هي فسخ العقد بتراضي الطرفين، إذا ندم أحدهما وأراد الرجوع عن العقد. وهي مندوبة لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من أقال نادماً بيعته أقال الله عثرته يوم القيامة» (¬1). 4ً ـ لعدم التنفيذ: يجوز الفسخ لعدم تنفيذ الطرف الآخر التزامه في حالة خيار النقد، كما تقدم. ويجوز الفسخ بسبب استحالة التنفيذ لآفة سماوية (قوة قاهرة أو ظروف طارئة بتعبير القانونيين) وذلك في عقد البيع في حالة هلاك المبيع قبل التسليم. أي في يد البائع قبل أن يتسلمه المشتري، وفي عقد الإجارة في حالة طروء أعذار من جانب المؤجر أو المستأجر أو العين المؤجرة عند الحنفية، كلحوق دين فادح بالمؤجر لا سبيل لوفائه إلا ببيع المأجور وأداء الدين من ثمنه، وإفلاس المستأجر، أو انتقاله من حرفة إلى حرفة، وهجرة أهل القرية بعد استئجار حمام في قرية ليستغله المنتفع المستأجر. 5ً ـ لانتهاء مدة العقد أو تحقيق غرضه: ينفسخ العقد من نفسه وينتهي بانتهاء مدته أو بتحقيق الغرض المقصود من العقد، وذلك كانتهاء مدة عقد الإيجار المعينة، وسداد الدين في عقدي الرهن والكفالة، وتنفيذ الوكيل المهمة الموكل بها. ¬
انتهاء العقد بالموت
انتهاء العقد بالموت: تنتهي طائفة من العقود بموت أحد العاقدين، منها نماذج مما يأتي: 1 - الإجارة: تنتهي الإجارة عند الحنفية (¬1) بموت أحد العاقدين، بالرغم من أنها عقد لازم من الطرفين، أي أن العقد ينفسخ من نفسه بالموت. وقال غير الحنفية (¬2): لا تنتهي الإجارة أو لا تنفسخ بموت أحد العاقدين. وسبب الخلاف راجع لتصور كيفية انعقاد الإجارة، فعند الحنفية: تنعقد الإجارة في المنافع بحسب حدوثها شيئاً فشيئاً، أي أن المستأجر يتملك المنفعة تدريجياً مع مضي المدة، فما يحدث من منفعة بعد موت المالك لا يكون مملوكاً له، فلا يصح بقاء العقد عليه. وعند غير الحنفية: تعتبر المنفعة كأنها موجودة حال العقد، ويتملك المستأجر المنافع بالعقد دفعة واحدة ملكاً لازماً، فيورث عنه، كما يورث الشيء المبيع، فتكون الإجارة كالبيع لا يبطل بموت أحد العاقدين. وهذا ما أخذ به القانون المدني السوري في المادة (568). 2 - الرهن والكفالة: هما من العقود اللازمة من جانب واحد هو الدائن المرتهن أو المكفول له. فإذا مات الراهن بيع الرهن بواسطة وصيه وقضي منه دينه إن كان ورثته صغاراً. فإن كانوا كباراً خلفوا الميت في المال، وكان عليهم تخليص الرهن بقضاء الدين (¬3). وأما الكفالة: فإذا كانت كفالة بالدين فلا تنتهي بموت المدين الأصيل، وإنما تنتهي بأحد أمرين: أداء الدين إلى الدائن، أو الإبراء من ¬
3 - الشركة والوكالة
الدين. وإذا مات الكفيل يؤخذ الدين من تركته. وإن كانت كفالة بالنفس فتنتهي بموت الأصيل المكفول بنفسه، وبموت الكفيل، للعجز عن إحضار المكفول عنه (¬1). 3 - الشركة والوكالة: هما من العقود غير اللازمة من الجانبين. وينتهيان بالموت، فالشركة تنفسخ بموت أحد الشريكين، سواء علم الآخر بالموت أم لم يعلم (¬2). وكذلك الوكالة تنفسخ بموت الوكيل أو الموكل، سواء علم الطرف الآخر بموت صاحبه أم لم يعلم (¬3). 4 - المزارعة والمساقاة (¬4): عقدان غير لازمين من الجانبين، لم يجزهما أبو حنيفة، وأجاز الشافعية المساقاة، والمزارعة تبعاً للمساقاة، وأجازهما المالكية بشروط منها المساواة بين المالك والعامل في الربح. وأجازهما الحنابلة والصاحبان مطلقاً. وعلى هذا الرأي ينفسخ العقد بموت صاحب الأرض أو العامل (المزارع أوالمساقي)، سواء قبل العمل والزراعة أم بعدهما، وسواء أكان الزرع أو الثمر قد آن حصاده وجنيه أم لا (¬5). لكن إذا مات صاحب الأرض قبل نضج الزرع تترك الأرض بيد المزارع إلى الحصاد مراعاة لمصلحة الطرفين. وإذا مات العامل فلورثته المضي في العمل إلى الحصاد. ¬
انتهاء العقد بعدم إجازة الموقوف
انتهاء العقد بعدم إجازة الموقوف: ينتهي العقد الموقوف إذا لم يجزه صاحب الشأن، كما بان في بحث عقد الفضولي ولا تصح الإجازة كما عرفنا إذا مات الفضولي أو من تعاقد معه، فينتهي العقد حينئذ قبل الإجازة. وللفضولي نفسه فسخ العقد قبل الإجازة دفعاً للعهدة عن نفسه (¬1). ¬
الفصل الخامس: المؤيدات الشرعية
الفَصْلُ الخامس: المؤيّدَات الشَّرعية المؤيدات الشرعية: هي الأحكام أو التدابير التي شرعت لا لتنظيم علاقات الناس، وإنما لحمل الناس على طاعة أحكام الشريعةالأصلية (¬1). فالأحكام الأصلية: هي التي تنظم علاقات الناس بوضع الواجبات وبيان المحظورات. فهي غاية التشريع لإقامة مجتمع أخلاقي متضامن قوي سعيد. وضماناً لاحترام تلك الأحكام الأصلية شرعت المؤيدات: وهي الأحكام الموضوعة لحماية الأحكام الأصلية. وهذه المؤيدات إما ترغيبية أو ترهيبية. فالترغيبية: هي التي وضعت لترغيب الناس بتطبيق أحكام الشريعة كالمكافآت التشجيعية لمن يقدم للجماعة عوناً في أمر حربي يحقق النصر. والترهيبية: هي التي وضعت لمنع الناس من مخالفة أوامر ونواهي الشريعة. وهذه نوعان: إما مؤيدات مدنية أو مؤيدات تأديبية. والمؤيد المدني أقوى تأثيراً من المؤيد التأديبي، وأشد منعاً للمخالفة بسلب التصرف نتائجه، واعتباره ملغى. أما المؤيد التأديبي فبالرغم من تأثيره الزاجر القامع للجريمة قد يتجرأ الناس على نظامه، فيقترفون الجريمة ويرضون بالعقوبة. ¬
أولا ـ المؤيدات المدنية
أولاً ـ المؤيدات المدنية: يتمثل دور المؤيدات المدنية في إلغاء التصرف المخالف لنظام الشريعة، إما إلغاءً كلياً وهو البطلان، وإما إلغاءً فرعياً وهو الفساد، وإما وضعه في طريق الإلغاء: وهو التوقف حماية لمصلحة الغير، أو التخيير لسلب اللزوم عن العقد حماية لمبدأ التعادل أو التوازن، أو لتوفير الرضا السليم. وقد سبق بحث هذه المؤيدات الأربعة (البطلان، الفساد، التوقف، التخيير). وأكتفي هنا ببيان أهم الفروق وأوجه التشابه بين البطلان والفساد: أهم الفروق بين البطلان والفساد: تظهر الفوارق بين الباطل والفاسد فيما يأتي (¬1): 1 - السبب: إن سبب البطلان هو وجود مخالفة لنظام الشريعة في ناحية جوهرية كالخلل الذي يصيب أحد مقومات العقد الأساسية (العاقد، والمعقود عليه، والصيغة) أو أحد شرائط الانعقاد، كصدور العقد من عديم الأهلية بسبب الصغر أو الجنون وعدم قابلية المحل المعقود عليه للتصرف كبيع الأموال العامة والأوقاف، والزواج بالمحارم، وعدم الإشهاد في عقد الزواج، وعدم تسليم المعقود عليه في العقود العينية كالهبة ونحوها. أما سبب الفساد، فهو مخالفة العقد لنظامه الشرعي في ناحية فرعية متممة. ¬
2 - الحكم أو الأثر
وقد تبين أن أسباب الفساد ستة يمكن إيجازها في أربعة: وهي الجهالة الفاحشة، كبيع شاة من قطيع، وغرر الوصف كبيع بقرة على أنها حامل أو تحلب كذا رطلاً، والإكراه على رأي جمهور الحنفية (عدا زفر) الذين يعتبرونه مفسداً للعقد. وأما زفر فيعتبره موقفاً للعقد، ورأيه أوجه وأصح. والشرط المفسد في المعاوضات المالية كالبيع والإيجار والشركة: وهو الشرط التقييدي الممنوع شرعاً كالتوقيت في البيع، وعدم التقابض في عقد الصرف، والضرر الذي يلحق البائع بتسليم محل العقد كبيع جذع من سقف وذراع من ثوب يضره التبعيض. 2 - الحكم أو الأثر: لا يترتب على الباطل أي أثر أصلاً، فهوكالمعدوم سواء، فلا تنتقل الملكية في العوضين في عقد البيع مثلاً، ولا يترتب على الزواج الباطل حل الاستمتاع والنفقة والتوارث. لكن استثناء من ذلك: يعتبر المبيع المقبوض في البيع الباطل مضموناً بالمثل أو بالقيمة إذا تلف أياً كان سبب التلف، وليس مجرد أمانة لا تضمن حال التلف إلا بالتعدي أو بالتقصير في الحفظ. وكذلك يترتب على الزواج الباطل بعض الآثار الضرورية إذا أعقبه دخول: وهي ثبوت نسب الولد، وإيجاب العدة على المرأة، واستحقاق المرأة المهر. فيختلف بذلك عن الزنى. أما الفاسد: فيترتب عليه بعض آثار العقد الصحيح إذا تم التنفيد أي القبض أو التسليم، فتنتقل الملكية في العوضين في البيع الفاسد بالقبض. ويتملك المستأجر المنفعة في الإجارة الفاسدة وتلزمه الأجرة باستيفاء المنفعة فعلاً. لكن البيع الفاسد لا يلزم المشتري بدفع الثمن المسمى المتفق عليه، وإنما ثمن المثل أي قيمة
3 - استحقاق الفسخ
المبيع في السوق يوم القبض. وفي الإجارة الفاسدة يلزم المستأجر بدفع أجر المثل، لا الأجر المسمى في العقد (¬1). ويلاحظ أن هذا الأثر يرتبه الفقه على تنفيذ العقد، لا على العقد نفسه. 3 - استحقاق الفسخ: الباطل لا يحتاج إلى فسخ؛ لأنه معدوم لم يوجد، والفسخ يرد على عقد قائم كالعقد المشتمل على أحد الخيارات. وأما الفاسد: فيستحق الفسخ رعاية لأحكام الشرع إما بإرادة أحد العاقدين، أو بإرادة القاضي؛ لأن إزالة الفساد واجب شرعاً، وبالفسخ يرتفع الفساد (¬2). ويبقى حق الفسخ قائماً ولو بعد التنفيذ حتى يزول سببه إلا إذا وجد أحد موانع الفسخ وهي (¬3): أـ هلاك المعقود عليه أو استهلاكه أو تغيير شكله واسمه كطحن القمح وخبز الدقيق. ب ـ الزيادة المتصلة غير المتولدة من الأصل كخلط الدقيق بالسمن أو العسل والبناء على الأرض وصبغ الثوب. أما أنواع الزيادات الأخرى وهي الزيادة المتصلة المتولدة كالسمن والجمل، والزيادة المنفصلة المتولدة كالولد والثمرة أو غير المتولدة كالكسب والغلة فلا تمنع الفسخ والرد. ج ـ التصرف بالشيء المقبوض بعقد فاسد من قبل القابض كالبيع والهبة والرهن والوقف. ¬
4 - عموم الأثر وخصوصه
ويلاحظ أن حق الفسخ بسبب الفساد يورث، فلو مات أحد العاقدين جاز لورثته أو للعاقد الآخر فسخ العقد بعد الموت. 4 - عموم الأثر وخصوصه: البطلان يمكن أن يصيب كل أنواع التصرفات القولية والفعلية، العقدية وغير العقدية، كالبيع والإيجار والهبة، والإقرار والدعوى، وإحراز المباح وقبض الثمن والموهوب. وأما الفساد فلا يجري إلا في العقود المالية المنشئة التزامات متقابلة أو ناقلة للملكية (¬1)، فلا يجري الفساد في العبادات والتصرفات الفعلية، والعقود غير المالية كالزواج والوصاية والتحكيم، والعقود المالية التي لا تنشئ التزامات متقابلة ولا تنقل الملكية كالإيداع والإعارة، وتصرفات الإرادة المنفردة كالطلاق والوقف والإبراء. فهذه التصرفات لا تكون إلا صحيحة أو باطلة. وأما أوجه الشبه بين الباطل والفاسد فأهمها ما يأتي: أـ الباطل لا يقبل الإجازة لأنه معدوم. وكذلك الفاسد لا يرتفع فساده بالإجازة؛ لأن العاقد لا يملك مخالفة نظام الشريعة، وليس له إقرار المخالفة، وإنما ينبغي إزالة الفساد احتراماً لحكم الشرع، إلا إذا زال سبب فساده كتعيين المجهول. ب ـ الباطل لا يسري عليه التقادم (مرور الزمان) ويمكن التمسك ببطلان العقد مهما طالت المدة؛ لأن الباطل معدوم. وكذلك الفاسد لا يسري عليه التقادم، وإنما يظل مستحق الفسخ شرعاً مهما طال الأمد، إلا إذا وجد مانع من موانع الفسخ التي سبق بيانها. ¬
ثانيا ـ المؤيدات التأديبية (أو العقوبات)
ثانياً ـ المؤيدات التأديبية (أو العقوبات) إن مخالفة أحكام الشريعة وارتكاب المعاصي والمنكرات التي حرمتها الشريعة تستوجب عقاباً أخروياً ودنيوياً. والعقوبات الدنيوية نوعان: 1 - عقوبات مقدرة: وهي التي قدر لها الشرع نوعاً ومقداراً معيناً وهي القصاص، والحدود الخمسة (وهي حد الزنا، وحد القذف، وحد السرقة، وحد الحرابة، وحد شرب الخمر والمسكرات) (¬1). 2 - عقوبات غير مقدرة وهي التعزيرات: وهي التي لم يحدد لها الشرع نوعاً ولا مقداراً معيناً، وإنما فوضها إلى تقدير الحكام لتطبيق ما يرونه محققاً للمصلحة بحسب ظروف الجاني والجناية. والحكمة من تشريع الحدود أو العقوبات عامة: هو زجر الناس وردعهم عن اقتراف الجرائم الموجبة لها، وصيانة المجتمع عن الفساد، وتخليص الإنسان من آثار الخطيئة، وإصلاح الجاني. قال ابن تيمية (¬2) وابن القيم (¬3): كان من حكمة اِلله سبحانه وتعالى ورحمته أن شرع العقوبات في الجنايات الواقعة بين الناس بعضهم على بعض في النفوس والأبدان والأعراض والأموال كالقتل والجرح والقذف والسرقة، فأحكم سبحانه وتعالى وجوه الزجر الرادعة عن الجنايات غاية الإحكام، وشرعها على أكمل ¬
الوجوه المتضمنة لمصلحة الردع والزجر، ورتب على كل جناية ما يناسبها من العقوبة. وجعل هذه العقوبات دائرة على ستة أصول: قتل، وقطع، وجلد، ونفي، وتغريم مال، وتعزير. والجرائم الموجبة للعقوبة البدنية هي ثلاث عشرة جريمة وهي: القتل، والجرح، والزنا، والقذف، وشرب الخمر، والسرقة، والبغي (¬1)، والحرابة، والردة، والزندقة، وسب الله وسب الأنبياء والملائكة، وعمل السحر، وترك الصلاة والصيام. وليس في هذه العقوبات قسوة أو تنكيل وتعذيب للمجرم كما يزعم بعض الناس؛ لأن هذه الجرائم الموجبة لها خطيرة تهز كيان المجتمع، ولأنها أنسب عقوبة لزجر المجرم وأمثاله، وأقمع للجريمة ومطاردة المجرمين، وأدعى لتحقيق أمن المجتمع واستقراره. وحققت العقوبات الشرعية أمناً في السعودية لا يماثله أمن بلد في العالم تطبق فيه العقوبات الوضعية من حبس أو سجن ونحوهما. والتخلص من ضرر مجرم يتباكى عليه الزاعمون حب الإنسانية والإنسان أوجب من تهديد أمن المجتمع بكامله، عن طريق ترويع المجرمين أمن البيوت والنساء والأطفال، وما يعقبه من العديد من الجرائم والمنكرات. ولقد أثبت التاريخ أن المجتمع الإسلامي عندما طبق الحدود الشرعية، عاش ¬
آمناً مطمئناً على أمواله وأعراضه ونظامه، حتى إن المجرم نفسه كان يسعى لإقامة الحد عليه، رغبة في تطهير نفسه، والتكفير عن ذنبه. هذا مع العلم بأن تطبيق القصاص والحدود يتطلب تشدداً كبيراً في شروط إثبات الجريمة (¬1)، مما لا نكاد نجد له مثيلاً عند القانونيين، بل إن الحدود ومنها القصاص تسقط بالشبهات عملاً بالحديث النبوي: «ادرؤوا الحدود بالشبهات» وقد توسع الفقهاء في بيان ما هو شبهة مسقطة للحد توسعاً كبيراً، حتى إن مجرد ادعاء الشبهة كادعاء الزوجية في حال الوطء من المتهم يسقط الحد، وكذا هرب المحدود أثناء إقامة الحد يسقط الحد (¬2). إن القسوة على المجرم رحمة عامة للمجتمع في مجموعه، حتى يتخلص من الجريمة وخطرها الوبيل، والتضحية بعدد محدود من المجرمين أهون كثيراً من ترك الجريمة تفتك بآلاف الأبرياء. والشريعة الإسلامية هي شريعة الرحمة الحقة بالناس، والله سبحانه أدرى بما يعالج به خطر بعض المجرمين وهو أرحم بهم. وقد أدى كل هذا إلى أن يكون تطبيق الحد نادراً جداً في المجتمع الإسلامي، فقطع اليد مثلاً في السعودية لا يزيد عن حالة واحدة أو حالتين طوال العام. وأما العقوبات غير المقدرة أو التعزيرات: فهي العقوبات المشروعة على كل معصية أو منكر أو إيذاء لا حد فيه، سواء بالقول أو بالفعل أو بالإشارة، وسواء أكانت الجريمة انتهاكاً للحرمات الدينية والاجتماعية كالأكل في نهار رمضان بغير ¬
الشريعة أساس الحكم على الجريمة والعقاب
عذر، وترك الصلاة، وطرح النجاسة في طريق الناس، والاستهزاء بالدين، والإخلال بالآداب العامة، أو كانت اعتداء على حق شخصي كأنواع السب والشتم والضرب والإيذاء بأي وجه، والغش والتزوير والاحتيال ونحوها. والتعزير يكون إما بالضرب أو بالحبس أو الجلد أو النفي أو التوبيخ أو التغريم المالي، ونحو ذلك مما يراه الحاكم رادعاً للشخص بحسب اختلاف حالات الناس، حتى القتل سياسة كما قرر فقهاء الحنفية والمالكية. والتعزير مفوض للدولة في كل زمان ومكان، فإنها تضع للقضاة أنظمة يطبقونها بحسب المصلحة. وأغلب العقوبات الوضعية الحديثة تدخل في نطاق التعزير. ولا مانع شرعاً من تقنين العقوبات التعزيرية بجانب الحدود والقصاص على النحو المعروف الآن. ويعد التعزير قاعدة مرنة صالحة للتطبيق في كل عصر بما يحقق المصلحة أوالمقصود من العقوبة. وما وضْع حدين للعقوبة قانوناً أدنى وأقصى، أو الحكم مع وقف التنفيذ إلا لون من ألوان المرونة أو العفو عن العقوبة المقررين في التعزيرات. والشريعة أساس الحكم على الجريمة والعقاب، وقد سبق الفقهاء المسلمون إلى معرفة قاعدة: (لا جريمة ولاعقوبة إلا بنص) لتقريرهم القاعدتين التاليتين: 1 - (لا حكم لأفعال العقلاء قبل ورود النص). 2 - (الأصل في الأفعال والأقوال والأشياء الإباحة). ومصدر هاتين القاعدتين قول اِلله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} [الإسراء:15/ 17] وقوله سبحانه: {وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً يتلو عليهم آياتنا} [القصص:59/ 28] وقوله جل شأنه:
{رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} [النساء:165/ 4]. فهذه النصوص قاطعة بأن لا جريمة إلا بعد بيان، ولا عقوبة إلا بعد إنذار. ومن هنا كانت فترة الجاهلية لا عقاب فيها على الجرائم التي حدثت أثناءها، سواء أكانت الجريمة إراقة دم حرام أم غيرها. وقد تضافر القرآن الكريم والسنة النبوية وكتب الفقهاء على بيان المعاصي والمنكرات وتفصيل العقوبات المقررة في الدنيا على الأشخاص. ولا يقبل شرعاً من أي مسلم أومسلمة الاعتذار بالجهل بأحكام الشريعة، وعليه أن يتعلم القدر الضروري منها لقوله عليه السلام: «طلب العلم فريضة على كل مسلم» ويعد التقصير في التعليم والتعلم جريمة مستوجبة التعزير. والعمل بأحكام الشريعة في النطاقين الجزائي والمدني وغيرهما واجب على الدولة والأفراد، ويعد التخلي عن الشريعة إثماً كبيراً وجرماً عظيماً. وليس تطبيق أحكام الشريعة أمراً صعباً أو غير متفق مع ظروف العصر الحديث، وإنما الإعراض عن ذلك نوع من الوهم وفقدان الثقة بالذات وافتتان بأنظمة العصر ويعد جائراً عن الشرع. ولا شك بأن أحكام الشريعة تتطلب إقامة مجتمع إسلامي متكامل في العقيدة والعبادة والسلوك الأخلاقي، وينبغي أن تتجه أنظمة الدولة الدستورية والإدارية والتعليمية والإعلامية إلى العمل بروح الإسلام وأنظمته وآدابه، حتى يسهل تقبل الحكم الشرعي الإلهي عن عقيدة واقتناع وحب واحترام.
الفصل السادس: نظرية الفسخ
الفَصْلُ السَّادس: نظريَّة الفَسخ ـ تعريف الفسخ لغة واصطلاحاً. ـ ألفاظ ذات صلة: انفساخ، خلع، طلاق، إبطال، فساد. ـ حكمه الإجمالي ودليله. ـ شروط فسخ العقد. ـ أسباب الفسخ. ـ أنواع الفسخ. 1 - الفسخ الاتفاقي (الإقالة) والفسخ بحكم القضاء، والفسخ بحكم الشرع. 2 - الفسخ باعتباره جزاء لعدم تنفيذ العاقد الآخر التزامه. 3 - الفسخ بسبب الخيار (الفسخ والقوة الملزمة للعقد). 4 - الفسخ للأعذار الطارئة. 5 - الفسخ لاستحالة التنفيذ (الفسخ وتحمل تبعة الهلاك). 6 - الفسخ للإفلاس والإعسار والمماطلة.
7 - الفسخ بسبب البطلان أو الفساد أو الردة في الزواج. 8 - الفسخ الرضائي والفسخ الجبري بطريق القضاء. 9 - الفسخ لعدم إجازة العقد الموقوف. 10 - الفسخ بسبب الاستحقاق. ـ ما يقبل الفسخ وما لا يقبل. 1 - العقود اللازمة للطرفين، كالبيع والإيجار والرهن والصلح والزواج. 2 - العقود الجائزة غير اللازمة للطرفين، كالإعارة والقرض والإيداع، والوكالة، والشركة، والمقاولة، والهبة عند الحنفية. 3 - العقد اللازم لطرف دون آخر، كالكفالة والحوالة. 4 - تصرفات الإرادة المنفردة، كالوصية والجعالة. ـ حالات فسخ العقود وحالات عدم الفسخ. ـ فروق بين الفسخ وغيره. 1 - الفرق بين الفسخ والانفساخ. 2 - الفرق بين الفسخ (انحلال العقد) وانقضاء الالتزام. 3 - الفرق بين الفسخ والإبطال والبطلان والفساد. 4 - الفسخ وشرط الإلغاء الصريح أو الضمني. 5 - الفرق بين الشرط الموقف (الواقف) والشرط الفاسخ. 6 - الفرق بين الفسخ والطلاق، وهل يتوقف فسخ الزواج على القضاء؟
تعريف الفسخ لغة واصطلاحا
ـ بعض أسباب الفسخ: 1 - الإخلال بالالتزام. 2 - عدم تنفيذ العقد، ومتى يجوز؟ ـ آثار الفسخ (أحكامه): 1 - انتهاء العقد بالفسخ. 2 - أثر الفسخ في الماضي (الأثر المستند والمقتصر) والمستقبل. تعريف الفسخ لغة واصطلاحا ً: فقرة (1) ـ المراد بالفسخ هنا لغة: هو النقص أو التفريق، وجاء في تاج العروس شرح القاموس للزبيدي (¬1): الفسخ: الضعف في العقل والبدن، والجهل، والطرح، وإفساد الرأي، والفسخ: النقض، فسخ الشيء يفسخه فسخاً فانفسخ: نقضه فانتقض، والفسخ: التفريق، وقد فسخ الشيء: إذا فرقه. ومن المجاز: انفسخ العزم والبيع والنكاح: انتقض، وقد فسخه: إذا نقضه، وفي الحديث: كان فسخ الحج رخصة لأصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم: وهو أن يكون نوى الحج أولاً، ثم يبطله وينقضه، ويجعله عمرة، ويحل، ثم يعود يحرم بحجة، وهو التمتع أو قريب منه. فقرة (2) ـ والفسخ اصطلاحاً: حل ارتباط العقد (¬2)، أو هو ارتفاع حكم العقد من الأصل كأن لم يكن (¬3)، فتستعمل كلمة الفسخ أحياناً بمعنى رفع العقد ¬
ألفاظ ذات صلة
من أصله (¬1)، كما في الفسخ بسبب أحد الخيارات، وتستعمل أيضاً بمعنى رفع العقد بالنسبة للمستقبل، كما في أحوال فسخ العقود الجائزة أو غير اللازمة. فإذا انعقد العقد لم يتطرق إليه الفسخ إلا في أحوال سأذكرها، مثل الخيارات، والإقالة، وهلاك المبيع قبل القبض، وكون العقد غير لازم، ويتم ذلك بإرادة العاقد أو غيره، ويعود العاقدان إلى الحالة الأصلية التي كانا عليها قبل التعاقد، ففي البيع مثلاً يعود المبيع إلى ملك البائع، والثمن إلى ملك المشتري، وإذا فسخ الزواج بحكم القاضي زالت رابطة العقد بين الزوجين وصار كل منهما أجنبياً بالنسبة للآخر. قال السيوطي: يغتفر في الفسوخ ما لا يغتفر في العقود، ومن ثم لم يحتج إلى قبول، وقبلت الفسوخ التعليقات دون العقود (¬2). ألفاظ ذات صلة: انفساخ، خلع، طلاق، إبطال، فساد: (3) ـ الانفساخ: إن انحلال العقد (وهو زوال الرابطة التي تربط المتعاقدين) يشمل كلاً من الفسخ والانفساخ، إلا أن الفسخ ينشأ تارة عن الإرادة، أو الرضا، وقد يحدث جبراً عن أحدهما بحكم القاضي، فهو يحدث بالتراضي أو بالتقاضي. أما الانفساخ: فيحدث بسبب حادث طبيعي وهو استحالة التنفيذ، كهلاك أحد العوضيين. فينفسخ كل عقد من تلقاء نفسه إذا استحال تنفيذه، وينفسخ العقد المستمر أو عقد المدة (¬3) كعقد الإجارة إذا فقد ما يعتمد عليه بقاؤه، فعقد البيع ينفسخ بهلاك ¬
الخلع
المبيع هلاكاً كلياً قبل استلامه، لاستحالة تنفيذ العقد بالتسليم بعد هلاك محله. وفي الهلاك الجزئي يصبح العقد قابلاً للفسخ، وعقود الشركة والمضاربة والمزارعة والمساقاة تنفسخ بموت أحد العاقدين، لأن هذه العقود تنشئ التزامات عملية ذات آثار متجددة، فيها استمرار يعتمد بقاؤه بقاء العقد؛ لأن للاعتبار الشخصي فيها أثراً ملحوظاً، كما يعتمد بقاء المحل (¬1). والإجارة تنفسخ بموت أحد العاقدين في مذهب الحنفية، ولا تنفسخ بموت أحدهما في مذهب الجمهور الأئمة الآخرين، لأنها عقد لازم كالبيع. (4) ـ وقد عبّر القرافي عن هذا الفرق المذكور من الفسخ والانفساخ بقوله: الفسخ: قلب كل واحد من العوضين لصاحبه، والانفساخ: انقلاب كل واحد من العوضين لصاحبه، فالأول: فعل المتعاقدين أو الحاكم إذا ظفروا بالعقود المحرّمة، والثاني: صفة العوضين، فالأول: سبب شرعي، والثاني حكم شرعي (¬2). وبه يتضح أن الفسخ يشمل الفسخ الاتفاقي والقضائي، والانفساخ هو تحمل التبعة عن الهلاك، أي ضمان التلف. (5) ـ الخلع: الخلع لغة: النزع والإزالة، وعرفا بضم الخاء: إزالة الزوجية، واصطلاحاً أو فقهاً: هو إزالة ملك النكاح المتوقفة على قبول المرأة، بلفظ الخلع أو ما في معناه (¬3). ولا يحتاج الخلع إلى حاكم، ويكفي تلفظ الزوج به، كأن يقول للمرأة: خالعتك على كذا، فتقبل. والخلع طلاق بائن عند الجمهور، وله تفصيل في المعتمد عند الحنابلة: إن وقع بلفظ الخلع والمفاداة ونحوهما، أو بكنايات ¬
الطلاق
الطلاق، ونوى به الطلاق، كان طلاقاً، فإن وقع بصيغته الصريحة وهي لفظ خلعت وفسخت وفاديت، أو الكناية: وهي لفظ بارأتك وأبرأتك وأبنتك، ولم ينو طلاقاً، فهو فسخ، لا ينقص به عدد الطلاق. الخلع خاص بحل الرابطة الزوجية، وهو طلاق أو فسخ على التفصيل والخلاف السابق، أما الفسخ: فهو أعم، وهو حل ارتباط العقد، كما تقدم، أياً كان العقد بيعاً أو زواجاً أوغيرهما. والخلع يحدث بالتراضي، أما الفسخ فيمكن أن يتم بالتراضي أو بقضاء القاضي. (6) الطلاق: الطلاق لغة: رفع القيد مطلقاً، يقال: أطلق الفرس: إذا خلاه، وفي الشريعة: رفع القيد الثابت بالنكاح (¬1). وفرقة الزواج نوعان: فرقة فسخ وفرقة طلاق. والفسخ: إما أن يكون بتراضي الزوجين وهو المخالعة أو الخلع، أو بواسطة القاضي. والتفريق القضائي قد يكون طلاقاً: وهو التفريق بسبب عدم الإنفاق أو الإيلاء أو للعدل أو للشقاق بين الزوجين أو للغيبة أو للحبس أو للتعسف، وقد يكون فسخاً للعقد من أصله، كما هو حال التفريق في العقد الفاسد، كالتفريق بسبب الردة وإسلام أحد الزوجين، والتفريق بسبب الإعسار عند الشافعية والحنابلة. (7) - والفرق بين الطلاق والفسخ في رأي الحنفية: أن الطلاق: هو إنهاء الزواج وتقرير الحقوق السابقة من المهر ونحوه، ويحتسب من الطلقات الثلاث التي يملكها الرجل على امرأته، وهو لا يكون إلا في العقد الصحيح. ¬
وأما الفسخ: فهو نقض العقد من أصله، أو منع استمراره، ولا يحتسب من عدد الطلاق، ويكون غالباً في العقد الفاسد أو غير اللازم. وبه يتبين أن الفسخ يفترق عن الطلاق من ثلاثة أوجه: الأول: ـ حقيقة كل منهما: فالفسخ: نقض للعقد من أساسه، وإزالة للحل الذي يترتب عليه، أما الطلاق: فهو إنهاء للعقد، ولا يزول الحل إلا بعد البينونة الكبرى (الطلاق الثلاث). الثاني: ـ أسباب كل منهما: الفسخ يكون إما بسبب حالات طارئة على العقد تنافي الزواج، أو حالات مقارنة للعقد تقتضي عدم لزومه من الأصل. فمن أمثلة الحالات الطارئة: ردة الزوجة أو إباؤها الإسلام أو الاتصال الجنسي بين الزوج وأم زوجته أو بنتها. ومن أمثلة الحالات المقارنة: أحوال خيار البلوغ لأحد الزوجين، وخيار أولياء المرأة التي تزوجت من غير كفء أو بأقل من مهر المثل، ففيها كان العقد غير لازم. أما الطلاق فلا يكون إلا بناء على عقد صحيح لازم، وهو من حقوق الزوج، فليس فيه مايتنافى مع عقد الزواج أو يكون بسبب عدم لزومه. الثالث: ـ أثر كل منهما: الفسخ: لا ينقص عدد الطلقات التي يملكها الرجل، أما الطلاق فينقص به عدد الطلقات. وكذلك فرقة الفسخ لا يقع في عدتها طلاق، إلا إذا كانت بسبب الردة أو الإباء عن الإسلام، فيقع فيهما عند الحنفية طلاق زجراً وعقوبة. أما عدة الطلاق فيقع فيها طلاق آخر، ويستمر فيها كثير من أحكام الزواج. ثم إن الفسخ قبل الدخول لا يوجب للمرأة شيئاً من المهر، أما الطلاق قبل الدخول فيوجب نصف المهر المسمى، فإن لم يكن المهر مسمى استحقت المتعة (تعويض بمثابة هدية).
الباطل
(8) ـ إبطال: الباطل لغة ضد الحق، والإبطال اصطلاحاً: هو الحكم بكون العقد باطلاً، لاختلال ركنه أو محله، والعقد الباطل: هو ما اختل ركنه أو محله، أو ما لايكون مشروعاً بأصله ولا بوصفه (¬1). ولا يفيد الملك، كأن يكون أحد العاقدين فاقد الأهلية، كالمجنون وغير المميز، والمميز فيما يضره ضرراً محضاً، أو أن تكون الصيغة غير سليمة، أو يكون محل العقد غير قابل لحكم العقد شرعاً، كبيع ما ليس بمال، أو ما ليس مالاً متقوماً، كالخمر والخنزير والسمك في الماء، وكبيع شيء من الأموال العامة، كجزء من الطريق العام، أو من مشفى أو من مسجد، وكالبيع الذي جعل الثمن فيه غير مال أصلاً كالميتة، أو الشيء المباح للناس جميعاً، وفي الزواج كالعقد على إحدى المحارم أو لم تكتمل عدتها من مطلقها، أو المتزوجة بزوج آخر، فكل هذه العقود باطلة، لأن النهي في الشرع عنها عائد لأصل العقد أي لخلل في الصيغة أو في العاقد أو في المحل. (9) ـ وحكم الباطل: أنه لا يعد منعقداً أصلاً، وإن وجدت صورته في الظاهر، فلا يترتب عليه أي أثر شرعي، فلا يفيد نقل الملكية أصلاً، إذ لا يعد موجوداً بحال، ولا ينقلب صحيحاً أبداً، لأن البطلان المطلق ينجم عن فقدان أحد أركان تكوين العقد. أما الفسخ: فيرد على عقد صحيح منعقد حقيقة، وقد انتقلت فيه الملكية بين الطرفين المتعاقدين. ويشترك الإبطال والفسخ في إعادة العاقدين إلى الحالة الأصلية التي كانا عليها قبل التعاقد، ويميز بين فسخ العقد وإبطاله من ناحيتين: ¬
فساد
1 - إن سبب الفسخ هو عدم قيام أحد العاقدين بتنفيذ التزامه، بينما سبب الإبطال بوجه عام: هو نقص الأهلية أو عيب الإرادة، لذا ينشأ العقد القابل للفسخ صحيحاً، أما العقد القابل للإبطال فلا ينشأ صحيحاً، فتقوم قابلية الإبطال عند تكوين العقد، بينما قابلية الفسخ تكون عند تنفيذه. 2 - فسخ العقد خاضع لتقدير القاضي، أما إذا توافر سبب الإبطال فليس للقاضي سلطة تقديرية، ولا يملك إلا الإبطال. (10) ـ إ فساد: لغة: ضد إصلاح، واصطلاحاً: هو الحكم بكون العقد فاسداً. والفساد والبطلان عند الجمهور مترادفان بمعنى واحد (¬1)، وعند الحنفية: الفساد: اختلال في العقد في صفة عارضة طارئة غير جوهرية فيه، لذا كان مرتبة متوسطة بين البطلان والصحة، والعقد الفاسد: هو ماكان مشروعاً بأصله (ركنه ومحله وأهلية عاقديه) دون صفته، أي كان صادراً ممن هو أهل له، والمحل قابل لحكم العقد شرعاً، والصيغة سليمة، ولكن صاحب ذلك وصف منهي عنه شرعاً، كبيع المجهول جهالة فاحشة تؤدي للنزاع، مثل بيع دار من دور، أو سيارة من سيارات دون تعيين ذات المبيع، وكإبرام صفقتين في صفقة، كبيع دار على أن يبيعه سيارته، وكبيع مال متقوم (يباح الانتفاع به شرعاً) جعل ثمنه مالاً غير متقوم (لا يباح الانتفاع به شرعاً) كخمر وخنزير وكلب، وكبيع بقرة على أنها حامل. وأسباب الفساد عند الحنفية ستة: الجهالة، والإكراه، والتوقيت، وغرر الوصف، والضرر، والشرط الفاسد. ¬
الفرق بين الفسخ والإفساد
والباطل والفاسد عند الحنفيةفي العبادات وفي الزواج مترادفان، وفي المعاملات كالبيع والشركة والإيجار متباينان (¬1). (11) ـ وحكم الفاسد: ثبوت الملك فيه بالقبض بإذن المالك صراحة، أو دلالة كأن يقبضه في مجلس العقد أمام البائع، دون أن يعترض عليه، لأن النهي الشرعي عنه بسبب أمر ملازم للعقد يقتضي بطلان الوصف دون أصل العقد، لأنه استكمل عناصره الأساسية، فيكون العقد فاسداً فقط. ويصبح الفاسد صحيحاً بزوال صفة الفساد. والعقد الفاسد واجب الفسخ شرعاً، إما من أحد العاقدين أو من القاضي إذا علم بذلك، لأنه منهي عنه شرعاً. قال السيوطي: تعاطي العقود الفاسدة حرام إلا المضطر إذا لم يجد الطعام إلا بزيادة على ثمن المثل (¬2). ويزال الفساد بطلب العاقدين معاً أو بطلب أحدهما. وإمكان فسخ العقد الفاسد عند الحنفية مشروط بشرطين. أحدهما ـ بقاء المعقود عليه على ما كان قبل القبض: فلو تغير شكله، بأن هلك أواستهلك، أو كان غزلاً فنسجه، أو قمحاً فطحنه، أو دقيقاً فخبزه، امتنع الفسخ. الثاني ـ عدم تعلق حق الغير به: فلو تصرف به المشتري لآخر بالبيع أو بالهبة مثلاً، وتم قبضه من الموهوب له، امتنع الفسخ. (12) ـ والفرق بين الفسخ والإفساد: أن الفسخ يرد على عقد صحيح ¬
الفسخ
منعقد مكتمل الأركان والشروط، أما الإفساد فيقع على عقد غير صحيح بسبب الخلل الذي صحبه أو قارنه في صفة طارئة غير جوهرية فيه. والعقد الصحيح قبل الفسخ يثبت به الملك الطيب الحلال، وأما الفاسد فيفيد الملك الخبيث شرعاً بالقبض، فإذا فسخ العقد الفاسد تساوى الفساد والفسخ في الأثر وهو زوال الرابطة العقدية التي كانت بين العاقدين. (13) - ولا يشترط القضاء في فسخ العقد الفاسد أو العقد الباطل: لأن «الواجب شرعاً لا يحتاج إلى القضاء» (¬1)، ولكن ذلك عند عدم النزاع بين المتعاقدين، فإذا حصل النزاع وجب اللجوء إلى القضاء. أما الفسخ فيتم إما بالتراضي أو بقضاء القاضي. والخلاصة: أن البطلان أو الفساد يعاصر العقد، ولا يتراخى إلى ما بعد انعقاده صحيحاً، أما الفسخ فيكون بعد وجود العقد لا محالة (¬2). هذه هي التفرقة الدقيقة بين المصطلحات الثلاثة، وإن كان الفقهاء في الغالب لا يلتزمون هذه التفرقة، فيعبرون عن الفسخ بالبطلان أو الفساد، فمثلاً حالة فساد العقد بفوات القبض المستحق بالعقد (¬3)، المقصود: هو الفسخ وليس الفساد (¬4). الحكم الإجمالي للفسخ ودليله: (14) ـ الفسخ: إما واجب أو جائز، فيجب رعاية لحق الشرع، كفسخ العقد الفاسد لإزالة سبب الفساد واحترام ضوابط الشرع أو شرائطه التي قررها في ¬
ملاحظات ثلاث
العقود، حماية للمصلحة العامة أو الخاصة، ودفعاً للضرر، ومنعاً للمنازعات التي تحدث بسب مخالفة الشروط الشرعية. ويجوز الفسخ إعمالاً لإرادة العاقد، كالفسخ بسبب الخيار في العقود غير اللازمة، والفسخ بالتراضي والاتفاق كالإقالة. وقد جاء الشرع بأدلة كثيرة في مشروعية الخيارات والإقالة (¬1)، وقال عليه الصلاة والسلام: «المسلمون عند شروطهم ما وافق الحق من ذلك» (¬2) وهذا دليل على أن حق الفسخ في الشريعة مستمد من فكرة اللزوم الذي يقوم عليه العقد. قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة:1/ 5] وقال النبي صلّى الله عليه وسلم فيما يرويه ابن ماجه عن أبي سعيد: «إنما البيع عن تراض». والفسخ القضائي جائز إما رعاية لحق الشرع، وإما إحقاقاً للحق ورفع الظلم الذي يقع على أحد المتعاقدين بسبب إضرار العاقد الآخر، وإصراره على منع غيره من ممارسة حقه في الفسخ، لوجود عيب في المبيع أو استحقاق المبيع أو الثمن مثلاً. وحق القاضي في الفسخ ناشئ من ولايته العامة على الناس، أو لأنه يجب عليه رقابة تنفيذ أحكام الشرع. وحينئذ يكون الفسخ إما شرعاً أو قضاء أو بالرضا. ملاحظات ثلاث: (15) ـ الأولى ـ الأصل في العقود اللزوم: يصون الفقه الإسلامي العقود عن الفسخ قدر الإمكان؛ لأن الأصل توافر القوة الملزمة للعقد لقوله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة:1/ 5] {وأوفوا بالعهد إن العهد كان ¬
الثانية ـ ليس في الفقه الإسلامي نظرية عامة للفسخ تطبق على جميع العقود
مسئولا} [الإسراء:34/ 17] قال القرافي: واعلم أن الأصل في العقود اللزوم؛ لأن العقود أسباب لتحصيل المقاصد من الأعيان، والأصل ترتب المسببات على أسبابها (¬1). فإذا استأجر شخص عاملاً، فهرب العامل قبل تمام العمل، استأجر صاحب العمل من يعمل عليه، وله أن يفسخ العقد إذا عجز، ويسلم إلى العامل أجره قبل هربه (¬2). وفوات المنفعة بالكلية موجب للفسخ، أما فوات المنفعة الجزئية فلايوجب الفسخ (¬3). (16) ـ ليست الخيارات موهنة للقوة الملزمة للتعاقد، سواء كانت تعاقدية، كخيار الشرط، والتعيين، والنقد، أو شرعية، كخيار العيب والتدليس، والتغرير، وفوات الوصف، وتفرّق الصفقة، لأن الأولى نشأت بإرادة المتعاقدين، ولأن الثانية تخل بإرادة العاقد ورضاه، كإعطاء حق الإبطال وحق الإجازة في القوانين الحديثة لمن كانت إرادته معيبة بعيب من عيوب الرضا من إكراه أوغلط، أو تدليس أو استغلال. (17) ـ الثانية ـ ليس في الفقه الإسلامي نظرية عامة للفسخ تطبق على جميع العقود في أحوال معينة تقتضي الفسخ، ولا يعرف الفقه أيضاً نظام الفسخ القانوني أي باعتباره جزاء يترتب لمصلحة الدائن على إخلال المدين بالتزامه، ويقوم على فكرة الارتباط بين الالتزامات المتقابلة. ولكن يعرف الفسخ باعتباره نتيجة لإعمال شرط يتضمنه العقد عند الإخلال بالالتزام. ¬
الثالثة ـ يرى بعض الكاتبين الجدد أن أساس حق الفسخ في الشريعة هو ركن الرضا
(18) ـ الثالثة ـ يرى بعض الكاتبين الجدد أن أساس حق الفسخ في الشريعة هو ركن الرضا، والرضا مرتبط بالمحل المعقود عليه طوال حياة الالتزام، فإذا انعدمت الصلة بينهما حتى بعد نشوء العقد كان العقد قابلاً للفسخ (¬1). والأدق أن يقال: إن أساس حق الفسخ في الفقه الإسلامي هو فكرة المعاوضة المعتبرة شرعاً التي يشترط فيها أن تؤدي إلى التوازن في مضمون العقد، ليس فقط عند لحظة انعقاد العقد، بل حتى عند تنفيذ العقد، فإذا اختلت المعاوضة أو التوازن العقدي، كان لمن اختلت المعاوضة في جانبه حق طلب الفسخ (¬2). شروط فسخ العقد: يشترط لجواز فسخ العقد شروط ثلاثة: (19) ـ الأول: أن يكون العقد ملزماً للجانبين أي عقد معاوضة: فلا يرد الفسخ إلا على العقود الملزمة للجانبين كالبيع والإيجار، لأن الفسخ يقوم شرعاً كما بينت على فكرة المعاوضة المعتبرة شرعاً. أما العقد الملزم لجانب واحد كالوديعة والكفالة وهبة التبرع، فلا يتصور الفسخ فيه، لأن الملتزم طرف واحد، وليس هناك معاوضة أو مبادلة، حتى يلجأ الطرف الآخر إلى الفسخ لحماية مصلحته، وتسويغ امتناعه من تنفيذ التزامه. (20) ـ الثاني: أن يخالف العاقد شرطاً صريحاً أو ضمنياً أو حكماً في العقد: فإذا خالف أحد العاقدين ما اشترطه عليه العاقد الآخر صراحة، أو كان الشرط مفهوماً ضمناً، أو كان الالتزام مقرراً بمقتضى العقد، جاز للطرف الآخر ¬
الثالث ـ انعدام الرضا الصحيح
طلب فسخ العقد، لاستحالة تنفيذ الالتزام المطلوب، كما في حالة هلاك العين المؤجرة، وإعسار المشتري بالثمن في البيع. (21) ـ الثالث ـ انعدام الرضا الصحيح: فإذا لم يرض العاقد بالخلل الحاصل أو كان رضاه مشوباً بعيب من عيوب الإرادة أو الرضا وهي الغلط والإكراه والتدليس، كان له حق المطالبة بفسخ العقد بالتراضي أو بالتقاضي. أما إن رضي بما آل إليه أمر المعقود عليه من هلاك كلي أو جزئي، فيسقط حقه في الفسخ. وقد ذكرت سابقاً (¬1) شروط فسخ العقد الفاسد، أما فسخ العقد بسبب الخيار أو بسبب كون العقد غير لازم، أو حال الإقالة (الفسخ الاتفاقي) فمحله موضع بحث هذه الأمور. أسباب الفسخ: (22) ـ أسباب الفسخ خمسة: إما الاتفاق أو التراضي ومنه الإقالة، وإما الخيار، وإما عدم اللزوم، وإما استحالة تنفيذ أحد التزامات العقد المتقابلة، وإما الفساد. (23) ـ 1 ـ الاتفاق: يفسخ العقد بالتراضي بين العاقدين بشرط صريح في العقد، والإقالة: نوع من الفسخ الاتفاقي، وهي الرفع والإزالة، أو هي «رجوع كل من العوضين لصاحبه، فيرجع الثمن للمشتري والمثمون للبائع، وأكثر استعمالها قبل قبض المبيع» (¬2) وقال ابن عرفة: الإقالة: ترك المبيع لبائعه بثمنه. وهي عند الحنفية بالاتفاق بيع جديد في حق غير العاقدين، سواء قبل القبض أو ¬
بعده، وفسخ في حق العاقدين بعد القبض في رأي أبي حنيفة، لأنها رفع لغة وشرعاً، ورفع الشيء: فسخه، ويرى أبو يوسف: أن الإقالة بيع جديد في حق العاقدين وغيرهما، إلا أن يتعذر جعلها بيعاً، فتجعل فسخاً، كأن تقع الإقالة قبل القبض في مبيع منقول، لأن بيع المنقول قبل القبض لا يجوز، لأن معنى البيع هو مبادلة المال بالمال، وهو أخذ بدل وإعطاء بدل، وقد وجد، فكانت الإقالة بيعاً لوجود معنى البيع فيها، والعبرة للمعنى لا للصورة. ويرى محمد: أن الإقالة فسخ إلا إذا تعذر جعلها فسخاً، فتجعل بيعاً للضرورة، لأن الأصل في الإقالة الفسخ، لأنها عبارة عن رفع الشيء لغة وشرعاً (¬1). (24) ـ وذهب زفر والشافعية والحنابلة إلى أن الإقالة فسخ في حق الناس كافة، لأن الإقالة هي الرفع والإزالة، ولأن المبيع عاد إلى البائع بلفظ لا ينعقد به البيع، فكان فسخاً (¬2). (25). وذهب المالكية إلى أن الإقالة بيع ثان يشترط فيها ما يشترط فيه، ويمنعها ما يمنعه؛ لأن المبيع عاد إلى البائع على الجهة التي خرج عليه منه، فهي تتم بتراضي الطرفين، يجوز فيها ما يجوز في البيوع، ويحرم فيها ما يحرم في البيوع، ولكنهم استثنوا ثلاثة أشياء: أولاً ـ طعام المعاوضة قبل قبضه، أي الإقالة من بيع الطعام قبل قبضه، فالإقالة فيه حل أو فسخ للبيع، فلذلك جازت قبل قبض المشتري لها من البائع إن وقعت الإقالة بالثمن عينه، لا بأقل منه ولا بأكثر ولا بغيره، وإلا لزم بيع طعام المعاوضة قبل قبضه. ¬
دليل جواز الإقالة
ثانياً ـ الشفعة: ليست الشفعة بيعاً، ولا حلّ بيع أي فسخه، بل هي لاغية للبيع، فمن باع نصيبه من عقار، ثم أقال المشتري منه، فالشفعة ثابتة للشريك بما وقعت به الإقالة، وعهدة الشفيع على المشتري. ثالثاً: المرابحة: هي حل البيع، فمن باع بمرابحة، ثم تقايل مع المشتري، فلا يجوز له أن يبيعها مرابحة على الثمن الذي وقعت الإقالة به إذا وقعت بزيادة. (26) ـ ودليل جواز الإقالة (¬1): قوله صلّى الله عليه وسلم: «من أقال نادماً أقاله الله يوم القيامة» (¬2) وفي رواية: «من أقال مسلماً، أقال الله عثرته» (¬3). ولا يجوز فسخ العقود اللازمة بحق الطرفين إلا بإرادتهما وذلك عن طريق الإقالة، ولا تجوز الإقالة في الزواج، بل يجوز الطلاق. ويلاحظ أن الإقالة تحدث غالباً مع أنه لا خلل في المعاوضة بالنسبة للمتقايلين، وقد تحدث؛ لأن العاقد اكتشف في نفسه شيئاً من عدم الرضا بعد انعقاد العقد صحيحاً. والخلاصة: أن الفسخ في الإقالة يختلف عن الفسوخ الأخرى، حيث لا يشترط في سائر الفسوخ رضا المتعاقدين، بل تصح من طرف واحد، أما الإقالة فلا تصح إلا برضا المتعاقدين، كما أن الإقالة لا تتأثر بالشروط الفاسدة عند الحنفية (¬4). ¬
2 ـ الخيار
(27) ـ 2 ـ الخيار: هو الذي يتمثل فيه الفسخ بسبب شرط صريح أو ضمني، وهو أن يكون للمتعاقد الحق في الاختيار بين الإمضاء وعدم إمضائه بفسخه إن كان الأمر أمر خيار شرط أو رؤية أو عيب، أو أن يختار أحد المبيعين إن كان الأمر أمر خيار التعيين (¬1). يفسخ العقد بسبب وجود خلل في تكوين العقد، وبخاصة فيما يتعلق بالمعقود عليه، كما في خيار الوصف أوخيار الرؤية، وخيار العيب، وخيار الغبن والتغرير، وحينئذ يختلط الفسخ بالإبطال، ويفسخ بسبب تضمن العقد شرطاً يمنح أحد العاقدين أو كليهما رخصة فسخ العقد، كما في خيار الشرط وخيار النقد. وقد اعتبر الفقهاء استحقاق المبيع عيباً في العقد. والعيب يشمل كل ما من شأنه الحط من قيمة الشيء أو تفويت غرض من أغراضه. كما يفسخ بسب تجزؤ الشيء في خيار تفرق الصفقة، أو تغير شكله قبل التسليم، أو وجد المشتري نقصاً في المقادير والكميات. وقد يفسخ العقد أيضاً بسبب الخلل في الرضا، فإذا شاب الرضا بعض العيوب كالغبن التدليسي والغلط، والإكراه، جاز الفسخ. (28) - 3 - عدم لزوم العقد بطبيعته: إنه يجعل للعاقد الحق في الفسخ من الأصل، فيجوز لأحد العاقدين أو لكليهما بحسب العقد المسمى أن يستقل بالفسخ، مثل العارية والقرض والوديعة والشركة والوكالة، كلها عقود غير لازمة يجوز فسخها متى شاء أحد الطرفين المتعاقدين، بشرط إعلام الطرف الآخر بالفسخ في رأي الحنفية، ليكون على بيّنة من أمره، فعلم الطرف الآخر بالفسخ مشروط دائماً. وقال ابن رجب: عقود المشاركات كالشركة والمضاربة، المشهور ¬
4 - استحالة تنفيذ أحد الالتزامين المتقابلين
أنها تنفسخ قبل العلم كالوكالة، وكذا الوديعة للوديع فسخها قبل علم المودع بالفسخ، وتبقى في يده أمانة، وكذا الطلاق والخلع يصح دون علم الآخر (¬1). (29) - 4 - استحالة تنفيذ أحد الالتزامين المتقابلين: سواء أكانت هذه الاستحالة ناشئة عن فعل الملتزم أم لا؛ إن هذه الاستحالة تجيز فسخ العقد أحياناً؛ لأن الالتزام المقابل يصبح بلا سبب. وعلى هذا إذا هلك الشيء المؤجر بعينه أو لم يستطع المستأجر الانتفاع بالعين المؤجرة، سقط التزامه بدفع الأجرة، وفسخت الإجارة، لاستحالة استيفاء المنفعة المتعاقد عليها. أما إذا كانت الإجارة في الذمة كتعهد نقل الحمل إلى مكان معين على أية دابة أو سيارة ثم تعبت الدابة أو تعطلت السيارة، فلا يفسخ العقد، بل يطلب التنفيذ العيني، أي الاستبدال بها غيرها. والقاعدة في البيع: أنه إذا كان الثمن ديناً، أجبر البائع على تسليم المبيع، ثم يجبر المشتري على تسليم الثمن إن كان حاضراً، فإن كان الثمن غائباً أو بعيداً أو كان المشتري معسراً، فللبائع الفسخ (¬2). (30) - 5 - الفسخ للفساد عند الحنفية القائلين به في المعاملات: يفسخ العقد للفساد بحكم الشرع لإزالة سبب فساد العقد كما تقدم، كجهالة المبيع أو الثمن أو الأجل أو وسائل التوثيق من كفالة أو رهن جهالة فاحشة وهي التي تفضي إلى المنازعة، وتعليق المبيع على شرط، وإضافته للمستقبل، واشتمال البيع على الثمن المحرّم شرعاً كالخمر والخنزير، ووجود بيعتين في بيعة أو شرطين في بيع واحد، والإضرار بالمبيع كبيع جذع من سقف، وكون البيع فيه غرر الانفساخ بهلاك المعقود عليه، أي احتمال الهلاك، كبيع الشيء المنقول المملوك قبل قبضه، ¬
أسباب انحلال العقد في الفقه الإسلامي
ووجود شرط فاسد أو مفسد في العقد وهو ما لا يقتضيه العقد ولا يلائمه ولا ورد به الشرع ولا يتعارفه الناس، وإنما فيه منفعة لأحد المتعاقدين. ويمكن حصر أسباب الفساد كما تقدم في ستة: الإكراه، والغرر (غرر الوصف)، والجهالة، والتوقيت، والضرر الذي يصحب التسليم، والشرط الفاسد، ومنه الربا، أما فساد بيع المنقول قبل قبضه فيرجع للضرر (¬1). وبه يتضح أن أسباب انحلال العقد في الفقه الإسلامي ثلاثة: 1 - كون العقد غير لازم. 2 - الفسخ. 3 - الإقالة (¬2). أنواع الفسخ: 1 - الفسخ الاتفاقي (أوالإقالة) والفسخ بحكم القضاء، والفسخ بحكم الشرع: (31) - الفسخ الاتفاقي كما تقدم: هو إنهاء العقد باتفاق العاقدين، إذ إن فسخ العقد يكون بالوسيلة نفسها التي عقد بها العقد، فكما نشأ العقد بإيجاب وقبول متطابقين على إنشائه، كذلك يزول بإيجاب وقبول متوافقين على إلغائه، فالعقد: اتفاق ينشئ الالتزام، أما الإقالة فهي اتفاق يقضيه. ومحل الإقالة: إلغاء الالتزامات التي نشأت من العقد الذي أقيل، وسببها: هو الباعث الذي دفع المتقايلين إلى هذا الإلغاء. ¬
وقد تتم الإقالة بإرادة منفردة إذا اتفق عليها بإرادتين سابقتين، وعلى أي حال فإن الإقالة التي هي فسخ اتفاقي لا تخل بالمعاوضة لأي من العاقدين، وإنما تدل على أن الرضا الكامل بالعقد غير متوافر. (32) ـ ويقرب من الإقالة: الرجوع في الهبة إذا تم بالتراضي، فهذه إقالة من الهبة، وقد يتم الرجوع في الهبة بغير الإقالة، وذلك بطريق القضاء إذا لم يقبل الموهوب له الإقالة، واستند الطلب إلى عذر مقبول، ولم يوجد مانع من الرجوع (¬1). والعذ ر المقبول مثل إخلال الموهوب له بما يجب نحو الواهب، أو عجز الواهب عن توفير أسباب المعيشة لنفسه أو أن يرزق ولداً بعد الهبة، وموانع الرجوع في الهبة هي الزوجية والقرابة والتصرف في الموهوب، والزيادة المتصلة في الموهوب أو تغييره على وجه تبدل فيه اسمه، كخياطة القماش ثوباً، وموت أحد العاقدين، وهلاك الموهوب أو استهلاكه، والعوض في الهبة، وحال كون الهبة صدقة لفقير أو جهة بر، وهبة الدين للمدين. ويلاحظ أن الزواج يقبل الفسخ قبل التمام لا بعده، فلا تصح إقالته (¬2). (33) - وأما الفسخ بحكم القضاء أو الفسخ الجبري: فيكون إذا لم يحدث الفسخ بالتراضي، أو لرفع فساد العقد. ففي البيع المشتمل على خيار العيب، وفي حالة الهلاك غير الكلي حيث يكون العقد في حاجة إلى فسخ، يرى الحنفية أن المبيع إذا كان في يد البائع، فينفسخ البيع بقول المشتري: رددت، ولا يحتاج إلى قضاء القاضي، ولا إلى التراضي باتفاق الحنفية والشافعية. وأما إن كان المبيع في يد المشتري، فلا ينفسخ إلا بقضاء القاضي أو بالتراضي ¬
عند الحنفية؛ لأن الفسخ بعد القبض يكون على حسب العقد؛ لأنه يرفع العقد، وبما أن العقد لا ينعقد بأحد العاقدين، فلا ينفسخ بأحدهما من غير رضا الآخر، ومن غير قضاء القاضي، بخلاف الفسخ قبل القبض؛ لأن الصفقة ليست تامة حينئذ، بل تمامها بالقبض، فكان بمنزلة القبض (¬1). أما في خيار الرؤية فيرد المشتري المبيع بمحض إرادته دون حاجة إلى التراضي أو التقاضي، سواء كان ذلك قبل قبض المبيع أو كان بعد القبض. فإذا رد من له الخيار، ولو بعد قبض المبيع، رد بمحض إرادته دون حاجة إلى التراضي أو التقاضي. ويرى الجمهور أن العقد ينفسخ بقول المشتري: رددت، بغير حاجة إلى قضاء، ولا إلى رضا البائع؛ لأن الفسخ لا تفتقر صحته إلى القضاء، ولا إلى الرضا كالفسخ بخيار الشرط بالاتفاق، وبخيار الرؤية على أصل الحنفية (¬2). (34) - ويفسخ القاضي العقد عند الاطلاع على فساده ورفع الأمر إليه، كفسخ البيع الفاسد عند الحنفية إذا وجد فيه أحد أسباب الفساد الستة المتقدمة وهي الإكراه، والغرر، والجهالة، والتوقيت، والضرر الذي يصحب التسليم، والشرط الفاسد، والربا. ولا يشترط أن يحكم القاضي بالفسخ، ما لم يكن الفسخ بسبب عيب في المبيع، وكان المشتري قد قبض المبيع. وأسباب الفسخ القضائي أو حالاته: هي استحالة التنفيذ، وعدم التنفيذ، والإعذار في العقود المستمرة، والشرط الفاسخ الصريح أو الخيارات الاتفاقية. (35) - وأما الفسخ بحكم الشرع: فيكون بسبب الخلل الحاصل في ¬
2 - الفسخ باعتباره جزاء لعدم تنفيذ العاقد الآخر التزامه
العقد في شرط من شروط الشرع، كفسخ الزواج عند تبين الرضاع بين الزوجين، وفسخ البيع حالة فساده كما تقدم. والفرق بين الفسخ الاتفاقي والفسخ أو الانفساخ بحكم الشرع والفسخ القضائي: أن الحكم في النوعين الأولين يكون كاشفاً عن الفسخ وليس منشئاً له، أما الفسخ بحكم القضاء فالحكم فيه منشئ للفسخ. 2 - الفسخ باعتباره جزاء لعدم تنفيذ العاقد الآخر التزامه: (36) -. لا يجيز الفقه الإسلامي للعاقد أن يطلب الفسخ إذا لم ينفذ العاقد الآخر التزامه، فإذا لم يسلم البائع المبيع أو لم يدفع المشتري الثمن عند حلول الأجل، أجبر العاقد على تنفيذ الالتزام ما دام تنفيذ هـ عيناً ممكناً؛ لأن مهمة القاضي هي إيصال ذوي الحقوق إلى حقوقهم، فلا موجب للفسخ. (37) -. وتكون القاعدة أن العقد لا يفسخ إذا أخل المدين بالتزامه، بل يبقى العقد قائماً في هذه الحالة، فإذا كان الثمن ديناً أجبر البائع في رأى الحنفية وغيرهم على تسليم المبيع، ثم يجبر المشتري على تسليم الثمن إن كان حاضراً، وإن كان الثمن غائباً أو بعيداً أو كان المشتري معسراً، فللبائع الفسخ. وإذا أخل المرتهن بالتزامه، لم يملك الراهن فسخ الرهن، بل يقتصر على مطالبة المرتهن بتنفيذ التزامه، أو مطالبته بالضمان إذا هلك المرهون. وإذا لم يقم أحد العاقدين في الصلح بتنفيذ ما التزم به بموجب العقد، فليس للمتعاقد الآخرأن يفسخ الصلح، بل يطالب المدين بأن يقوم بتنفيذ التزامه (¬1). ¬
3 - الفسخ بسبب الخيار (الفسخ والقوة الملزمة للعقد)
3 - الفسخ بسبب الخيار (الفسخ والقوة الملزمة للعقد): (38) -. عرفنا سابقاً أن الأصل في العقود اللزوم، فيلزم العقد بالإيجاب والقبول، إلا إذا كان فيه خيار أو كان العقد بطبيعته غير لازم، وحينئذ يجوز فسخ العقد إما لكلا العاقدين برضاهما أو لأحدهما بدون تراض، ففي العقد غير اللازم يثبت خيار الفسخ للعاقدين، وفي العقد المشتمل على الخيار يثبت حق الفسخ لكلا العاقدين في خيار المجلس (¬1) عند القائلين به وهم الشافعية والحنابلة والإمامية، وكذا في خيار الشرط إن كان مشروطاً للعاقدين، فإن كان مشروطاً لأحدهما انحصر فيه حق الفسخ. ويكون حق الفسخ لأحد العاقدين أيضاً في الخيارات الناجمة عن وجود شائبة أو عيب في رضا أحد المتعاقدين كالغلط والغبن والتغرير والإكراه، وهذا يشمل خيار العيب، وخيار الغبن والتغرير، وخيار تلقي الركبان، وخيار تفرق الصفقة، وخيار الرؤية، وخيار فقد الوصف المشروط في العقد، وفي حال استحقاق (¬2) أحد العوضين. وهذا يعني أن صاحب الخيار يقدر على إمضاء العقد أو على حله كيفما شاء دون رضا الآخر، وإن خياره هذا يسقط بالإجازة الصريحة أو الضمنية، أي بكل مايدل على رضاه بإمضاء العقد بعد علمه بزوال سبب الخيار، وإذا أمضاه يصبح بعدئذ لازماً (¬3). (39) -. ووجود هذه الخيارات لا يضعف القوة الملزمة للتعاقد؛ لأن العقد نشأ غير لازم باتفاق إرادتي العاقدين، كما في خيار الشرط ونحوه، أو بحكم الشرع، كما في خيار المجلس، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا، أو يقول ¬
4 - الفسخ للأعذار الطارئة
أحدهما للآخر: اختر» (¬1) أي اختر اللزوم، فهذا الحديث لا يعارض آية الأمر بالوفاء بالعقود؛ لأن المراد بالعقود هي الكاملة اللازمة التي لا خيار فيها، ولا يعارض أيضاً آية {تجارة عن تراض منكم} [النساء:29/ 4] لأن هذا الخيار مشروع للتأكد من تمام الرضا. وللعقود غير اللازمة في الفقه الإسلامي نظائر في القوانين الوضعية الحديثة، مثل العقود الزمنية غير المعينة المدة التي يجوز لأحد العاقدين فيها أن يستقل بنقضها بإرادته المنفردة (¬2). والخلاصة: أن الفسخ حق ضعيف، وهو خروج على القاعدة العامة التي تقضي بلزوم العقد، ووجوب الوفاء به. 4 - الفسخ للأعذار الطارئة: يفسخ العقد للعذر أو لحوادث طارئة إذا كان عقد إيجار ونحوه، أو عقد بيع للثمار بسبب الجوائح. (40) - أجاز فقهاء الحنفية (¬3) دون غيرهم فسخ عقد الإجارة وعقد المزارعة بالأعذار الطارئة؛ لأن الحاجة تدعو إلى الفسخ عند العذر؛ لأنه لو لزم ¬
1 - عذر من جانب المستأجر
العقد عند تحقق العذر، للزم صاحب العذر ضرر لم يلتزمه بالعقد. والعذر: هو ما يكون عارضاً يتضرر به العاقد مع بقاء العقد، ولا يندفع بدون الفسخ. قال ابن عابدين: كل عذر لا يمكن معه استيفاء المعقود عليه إلا بضرر يلحقه في نفسه أو ماله، يثبت له حق الفسخ (¬1). (41) ـ والأعذار ثلاثة أنواع: 1 - عذر من جانب المستأجر: كإفلاسه أو انتقاله من حرفة إلى أخرى؛ لأن المفلس أو الذي بدل الحرفة لا ينتفع بالعقد إلا بضرر، وكذا سفره عن البلد؛ لأن في إبقاء العقد مع السفر ضرراً به. 2 - عذر من جانب المؤجر: كلحوق دين فادح به لا يجد طريقاً لقضائه إلا ببيع الشيء المأجور وأدائه من ثمنه، هذا إذا ثبت الدين قبل الإجارة بالبينة أو بالإقرار. ومثل إطلاع المؤجر على عيب في المأجور. 3 - عذر راجع للعين المؤجرة: كأن يستأجر شخص حماماً في قرية ليستغله مدة معلومة، ثم يهاجر أهل القرية، فلا يجب عليه الأجر للمؤجر. وقد نص قانون المعاملات المدنية في دولة الإمارات (م 892) المستمد من الفقه الإسلامي على أنه إذا حدث عذر يحول دون تنفيذ عقد المقاولة (¬2) أو إتمام تنفيذه، جاز لأحد عاقديه أن يطلب فسخه أو إنهاءه حسب الأحوال، كما تفسخ الإجارة في مذهب الحنفية بالأعذار الطارئة. ونصت المادة (م 895) على أنه إذا ¬
تضرر أحد العاقدين من الفسخ، فللمتضرر أن يطالب الطرف الآخر بتعويضه في الحدود التي يقرها العرف. (42) -. وقال جمهور العلماء (غير الحنفية) (¬1): الإجارة عقد لازم، فلا تفسخ كسائر العقود اللازمة من أي عاقد بلا موجب، كوجود عيب أو ذهاب محل استيفاء المنفعة، فإذا فات المعقود عليه وهو المنفعة، كانهدام الدار، وموت الدابة والأجير المعينين، جاز الفسخ، ويكون بالنسبة للمستقبل لا في الماضي، وإذا وجد عيب في الشيء المؤجر، مثل جموح الدابة أو نفورها، أو كونها عضوضاً، أو تعثر الظهر في الشيء، أو طرأ عرج أو ضعف بصر أو جذام أو برص، جاز الفسخ أيضاً. وتفصيل الحكم في هذه المذاهب: أن المالكية يجيزون فسخ الإيجار للعذر الذي يمنع استيفاء المنفعة شرعاً، كسكون ألم السن المستأجر على قلعها، أو العفو عن القصاص المستأجر على استيفائه، وتنفسخ الإجارة بحمل الظئر؛ لأنه يخاف على الولد من لبنها، وتنفسخ الإجارة أيضاً إن انقطع الماء عن الرحى المستأجرة. ويجيز الشافعية فسخ الإجارة لعذر إذا أوجب خللاً في المعقود عليه أو كان عيباً فيه تنقص به المنفعة، أو تعذر استيفاء المنفعة تعذراً شرعياً، كتعثر ظهر الدابة في المشي، والعرج الذي تتأخر به عن القافلة، وضعف البصر في المستأجر للخدمة، وانهدام الحائط في الدار، وانقطاع الماء في البئر والعين والرحى وغير ذلك مما يوجب خللاً في المعقود عليه ترد به العين للعيب. وتنفسخ الإجارة لقلع السن إن زال الألم للتعذر الشرعي. ¬
5 - الفسخ لاستحالة التنفيذ (الفسخ وتحمل تبعة الهلاك)
وكذلك قال الحنابلة: لا تنفسخ الإجارة بالعذر إلا إذا أوجب خللاً أو عيباً في المعقود عليه تنقص به المنفعة أو تعذر استيفاء المنفعة تعذراً شرعياً، فإن تعذر الزرع بسبب غرق الأرض أو انقطاع مائها فللمستأجر الفسخ. وأجاز المالكية والحنابلة فسخ البيع في بيع الثمار بسبب الجوائح إذا تلفت الثمرة كلها، وإنقاص الثمن في تلف بعض الثمار، كما سيأتي في حالات فسخ العقود (عقد البيع) ف/75. 5 - الفسخ لاستحالة التنفيذ (الفسخ وتحمل تبعة الهلاك): (43) -. عرفنا سابقاً أنه ليس في الفقه الإسلامي نظرية عامة للفسخ، وهذا حسن؛ لأنه يضيق من نطاق الفسخ في العقود على غرار القانون الروماني، ويوفر لها القوة الملزمة في التعاقد؛ أي أن حله بعد عقده أمر خطير، فوجب الاحتراز منه، والتضييق فيه ما أمكن. ولذا يجيز الفقه الإسلامي الفسخ في حالة استحالة التنفيذ لأحد التزامات العقد، سواء أكان ذلك بفعل الملتزم أم لا؛ لأن الالتزام المقابل يصبح بلا سبب، وبناء عليه، يمكن القول بأن هلاك الشيء في جميع الأحوال قبل القبض يؤدي إلى فسخ العقد باتفاق المذاهب. وتقع تبعة الهلاك على عاتق الملتزم، كهلاك المبيع قبل القبض، وكما إذا لم يستطع المستأجر الانتفاع بالعين المؤجرة، فإن التزامه بدفع الأجرة يسقط (¬1). ويسقط حق الفسخ إذا هلك الشيء أو تغير شكله بعد قبض المشتري له. ¬
هذا .. وقد نص فقهاء الحنابلة على أنه إذا تعذر على البائع تسليم المبيع، فللمشتري الفسخ (¬1). (44) - وإذا نص على التزام ما صراحة أو ضمناً في العقد، فإن عدم الوفاء به، يؤدي كذلك إلى الفسخ، مثال الصريح: ما لو تعهد المشتري بتقديم رهن أو كفيل بالثمن، ولم يفعل، فإن عقد البيع يفسخ. ومثال الشرط الضمني: ما إذا وجد المشتري في العين المبيعة عيباً، فله الفسخ، لأن سلامة المبيع من العيوب شرط ضمني في عقد البيع، وكذلك في عقد الإجارة. وقد اعتبروا استحقاق المبيع عيباً. (45) - ويفسخ العقد أيضاً إذا تجزأ الشيء أو تغير شكله قبل التسليم، وكذلك إذا وجد المشتري نقصاً في المقادير؛ لتعيب رضا المشتري الذي لم يتوصل إلى وزن متفق عليه. وقد يفسخ العقد أيضاً كما تقدم إذا شاب الرضا بعض العيوب، كالغبن التدليسي والخطأ (الغلط) والإكراه، ويفسخ أيضاً في حال بيع العين الغائبة، أو غير المرئية، فللمشتري الذي لم ير المبيع حق الفسخ أيضاً؛ لأن الغلط حينئذ كثير الاحتمال (¬2)، وبه يتبين أن الفسخ بالمعنى الصحيح لا يكون إلا في الأحوال التي يصيب فيها رضا العاقد عيب، أو يختل هذا الرضا، لعد تحقق الشرط الذي توقعه العاقد عند التعاقد. (46) - وأساس الفسخ في جميع الأحوال مخالفة شرط صريح أو ضمني في العقد، ويكون الفسخ نتيجة لإعمال شرط يتضمنه العقد عند الإخلال بالالتزام. ¬
6 - الفسخ للإفلاس والإعسار والمماطلة
وأساس المسؤولية المدنية في الشريعة الإسلامية عن الهلاك الكلي أو الجزئي هو نظرية تحمل التبعة، أي أن كل شخص يتحمل مسؤولية الضرر الذي يحدثه بفعله مباشرة أو تسبباً، فأساس المسؤولية هو الضرر، وليس عنصر الخطأ (¬1). (47) - وأساس تحمل تبعة الهلاك في الفقه الإسلامي ليس كما يرى بعضهم هو طبيعة العقد الملزم للجانبين (¬2)، وإنما هو المعاوضة أو المبادلة التي تقتضي إنشاء التزامات متقابلة، وتحقق فكر المساواة التي تقوم عليها العقود، وتحقيق المساواة بين المتعاقدين يقتضي ألا يجبر أحدهما على تنفيذ التزامه، بينما الآخر لم يقم بتنفيذ الالتزام المقابل، وإلا كان في ذلك إخلال بالمساواة المقصودة (¬3). قال الكاساني: «ولأن المعاوضات مبناها على المساواة عادة وحقيقة» (¬4) وقال أيضاً: «ولأن المساواة في العقود المطلقة مطلوب العاقدين (¬5)». وتظهر سلامة هذا التأصيل في حالة الهلاك الجزئي بنحو أوضح، فالالتزام الذي انقضى جانب من محله بالهلاك، لم ينقض بسببه الالتزام تماماً، ومع ذلك فإنه يسقط من الالتزام المقابل ما يساوي قيمة الجزء الهالك من التزام العاقد الآخر، أي الجزء الذي أصبح فيه الالتزام مستحيلاً. 6 - الفسخ للإفلاس والإعسار والمماطلة: (48) - إذا كان المدين معسراً أمهل إلى وقت اليسار، عملاً بنظرة الميسرة ¬
{وإن كان ذو عسرة، فنظِرة إلى ميسرة} [البقرة:280/ 2] وإذا كان موسراً مماطلاً في الوفاء، وله مال يفي بدينه للحال، جاز للقاضي حبسه باتفاق المذاهب (¬1). وأضاف الحنابلة أنه إذا ظهر المشتري مفلساً أو معسراً، ولو ببعض الثمن، فللبائع خيار الفسخ، والرجوع بعين ماله، ولا يلزمه أن ينظره. وإذا كان المشتري موسراً مماطلاً، فللبائع الفسخ. وإذا هرب المشتري قبل نقد الثمن، وهو معسر، فللبائع الفسخ، وإذا كان موسراً، قضاه الحاكم من ماله، وإلا باع المبيع، وقضى ثمنه منه. وأما إذا كان الثمن حالاً غائباً عن المجلس دون مسافة القصر، فلا فسخ، ويحجر الحاكم المبيع وبقية ماله حتى يحضر الثمن (¬2). والفسخ في هذه الأحوال يدخل تحت ما يسمى بخيار تعذر تحصيل الثمن أو المبيع، ذلك الخيار الذي يثبت على التراضي. (49) - ووافق المالكية والشافعية مذهب الحنابلة في جواز الفسخ حال الإفلاس، فيكون رأي جمهور الفقهاء إعطاء خيار الفسخ في عقود المعاوضة للعاقد الذي سلّم شيئاً معيناً إلى آخر، بأن يسترده منه بحالة إفلاسه، إذا كان هذا الشيء لا يزال موجوداً عنده بعينه، عملاً بقوله صلّى الله عليه وسلم: «من أدرك ماله بعينه عند رجل أو إنسان قد أفلس، فهو أحق به من غيره» (¬3) وقوله عليه السلام أيضاً: «من ¬
وجد عين ماله عند رجل فهو أحق به، ويتبع البيِّع - أي البائع - من باعه» (¬1). فلو أفلس المشتري بعد تسليم المبيع وقبل دفع الثمن، فللبائع خيار الفسخ واسترداد المبيع إذا كان هذا المبيع لا يزال بعينه في يد المشتري، عملاً بالحديث المتقدم، ولأن العجز عن إيفاء الثمن يوجب حق الفسخ قياساً على العجز عن إيفاء المبيع؛ لأن المبيع عقد معاوضة يتطلب المساواة. وليس خيار الفسخ مختصاً بعقد البيع عند الجمهور، بل هو ثابت أيضاً في كل عقود المعاوضات كالإجارة والقرض، فللمؤجر فسخ الإجارة إذا أفلس المستأجر قبل دفع الأجرة، وللمقرض الرجوع على المقترض إذا أفلس وكان عين ماله قائماً. وأضاف الإمام الشافعي لجواز الرجوع والاسترداد في حال إفلاس المدين الحي حال وفاة المدين إذا تبين أنه مفلس (¬2). (50) - أما الحنفية فلم يجيزوا الفسخ حال الإفلاس وغيره، جاء في المجلة (م 592): «إذا قبض المشتري المبيع، ثم مات مفلساً قبل أداء الثمن، ليس للبائع استرداد المبيع، بل يكون مثل الغرماء» (وذلك لأن الثمن دين في الذمة)، وهذا مانع من الفسخ، ولقوله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه الخصاف: «أيما رجل أفلس فوجد رجل عنده متاعه، فهو أسوة غرمائه فيه» وأوّلوا حديث أبي هريرة الذي استند إليه الجمهور بأنه خاص بحالة شرط خيار الفسخ للبائع، وقبضه المشتري بشرط الخيار ¬
7 - الفسخ بسبب البطلان أو الفساد أو الردة في الزواج
للبائع (¬1)، ولكن هذا التأويل ضعيف واهن؛ لأن الحديث صحيح وعبارته عامة مطلقة، فلا ينقض بحديث ضعيف. وأجاز الجمهورفسخ الزواج للإعسار أو العجز عن النفقة، والفرقة طلاق عند المالكية، فسخ عند الشافعية والحنابلة لا تجوز إلا بحكم القاضي، وجوازها لدفع الضرر عن الزوجة. ولم يجز الحنفية التفريق بسبب الإعسار؛ لأن الله تعالى أوجب أنظار المعسر بالدين في قوله تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} [البقرة:280/ 2] (¬2). 7 - الفسخ بسبب البطلان أو الفساد أو الردة في الزواج: (51) - هناك فوارق بين البطلان والفساد منها: استحقاق الفسخ (¬3): فالباطل لا يحتاج إلى فسخ؛ لأنه معدوم لم يوجد، والفسخ يرد على عقد قائم كالعقد المشتمل على أحد الخيارات، وغير ذلك مما ذكر في أسباب الفسخ. وأما الفاسد: فيستحق الفسخ رعاية لأحكام الشرع، إما بإرادة أحد العاقدين، أو بإرادة القاضي لأن إزالة الفساد واجب شرعاً، وبالفسخ يرتفع الفساد (¬4). ¬
ويبقى حق الفسخ قائماً، ولو بعد التنفيذ حتى يزول سببه إلا إذا وجد أحد موانع الفسخ وهي (¬1): 1 - هلاك المعقود عليه أو استهلاكه أو تغيير شكله واسمه كطحن القمح، وخبز الدقيق. 2 - الزيادة المتصلة غير المتولدة من الأصل، كخلط الدقيق بالسمن أو العسل، والبناء على الأرض، وصبغ الثوب. أما أنواع الزيادات الأخرى وهي الزيادة المتصلة المتولدة كالسمن والجمال، والزيادة المنفصلة المتولدة كالولد والثمرة، أو غير المتولدة كالكسب والغلة، فلا تمنع الفسخ والرد. 3 - التصرف بالشيء المقبوض بعقد فاسد من قبل القابض، كالبيع والهبة والرهن والوقف. ويلاحظ أن حق الفسخ بسبب الفساد يورث، فلو مات أحد العاقدين، جاز لورثته أو للعاقد الآخر فسخ العقد بعد الموت. (52) - ويفسخ الزواج باتفاق المذاهب بسبب ردة أحد الزوجين (¬2)، لأن الردة تتضمن تبييت الغدر والحقد والعداوة للمسلمين، فلا يناسبها بقاء الحياة الزوجية التي ينبغي أن تقوم على الوفاء والصفاء والحبّ والوئام والسلام، وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز: {ولا تَنكحوا المشركات حتى يؤمن، ولأمة مؤمنة خير من مشركة، ولو أعجبتكم، ولا تُنكحوا المشركين حتى يؤمنوا، ولعبد مؤمن خير ¬
8 - الفسخ الرضائي
من مشرك، ولو أعجبكم .. } [البقرة:221/ 2] وقال سبحانه: {ولا تمسكوا بعصم الكوافر .. } [الممتحنة:10/ 60] وتكون الفرقة بالردة فسخاً عند الجمهور، وطلاقاً في مشهور المذهب عند المالكية. 8 - الفسخ الرضائي والفسخ الجبري بطريق القضاء: (53) - الفسخ الرضائي: هو الذي يتم بتراضي الطرفين المتعاقدين، أو بإرادة أحدهما وهو الأصل في الفسخ، فالإجارة مثلاً لا بد لصحة فسخها من الرضا أو القضاء، أما المزارعة فيجوز على الرواية الراجحة فسخها، ولو بلا قضاء وتراض. والفسخ الجبري بطريق القضاء: هو الذي يكون بحكم القاضي، ويلجأ إليه استثناء من الأصل إذا تعذر التراضي، أو إذا لم يراع العاقدان أحكام الشرع في تجنب أسباب الفساد، أو مصادمة نصوص الشريعة. وقد أشرت لهذا سابقاً في النوع الأول من أنواع الفسخ. وأخصص البحث هنا لبيان آراء المذاهب بإيجاز في أحوال كون الفرقة الزوجيةفسخاً، وما يتوقف من الفرق على القضاء وما لا يتوقف على القضاء. (54) - يرى الحنفية (¬1): أن الفرقة تكون فسخاً فيما يأتي: 1 - تفريق القاضي بين الزوجين بسبب إباء الزوجة الإسلام، بعدما أسلم زوجها المشرك أو المجوسي فإن كان الإباء من الزوج، فتكون الفرقة طلاقاً عند أبي حنيفة ومحمد، وفسخاً عند أبي يوسف. ¬
يرى المالكية
2 - ردة أحد الزوجين. 3 - تباين الدارين حقيقة وحكماً: بأن خرج أحد الزوجين إلى دار الإسلام مسلماً أو ذمياً، وترك الآخر كافراً في دار الحرب، قياساً على الردة، لعدم التمكين من الانتفاع عادة. وقال الجمهور: لا تقع الفرقة باختلاف الدارين. 4 - خيار بلوغ الصغير أو الصغيرة، ولا تقع الفرقة حينئذ إلا بتفريق القاضي. 5 - خيار العتق: بأن تعتق الأمة ويبقى زوجها عبداً، فلها الخيار بالبقاء أو إنهاء الزواج، وتثبت الفرقة بنفس الاختيار. 6 - التفريق لعدم الكفاءة أو لنقصان المهر، ولا تكون إلا عند القاضي. وما عدا ذلك من أنواع الفُرَق يكون طلاقاً، ومنها الخلع. وضابط ما يتميز به الفسخ عن الطلاق في رأي أبي حنيفة ومحمد: هو أن كل فرقة بسبب من جانب المرأة تكون فسخاً، وكل فرقة من جانب الرجل أو بسبب منه مختص بالزوج فهي طلاق، إلا الردة فهي فسخ، وكذا الفرقة بالموت تكون فسخاً. (55) - ويرى المالكية (¬1): أن الفرقة تكون فسخاً فيما يأتي: 1 - إذا وقع العقد غير صحيح، كالزواج بإحدى المحارم، والزواج بزوجة الغير أو معتدته. 2 - إذا طرأ على الزواج مايوجب الحرمة المؤبدة، كالاتصال الجنسي بشبهة من أحد الزوجين بأصول الآخر أو فروعه، مما يوجب المصاهرة (¬2) ¬
مذهب الشافعية
3 - الفرقة بسبب اللعان: لترتب الحرمة المؤبدة عليه، لحديث: «المتلاعنان لايجتمعان أبداً». 4 - الفرقة بسبب إباء الزوج الإسلام بعد أن أسلمت زوجته، أو إباء الزوجة غير الكتابية الإسلام بعد إسلام زوجها؛ لأن ذلك في معنى طروء مفسد على الزواج. (56) - ومذهب الشافعية (¬1): أن الفسخ أنواع سبعة عشر: فرقة إعسار مهر، وإعسار نفقة أو كسوة أو مسكن بعد إمهال الزوج ثلاثة أيام، وفرقة لعان، وفرقة خيار عتيقة، وفرقة عيوب بعد رفع الأمر إلى الحاكم وثبوت العيب. ووطء شبهة كوطء أم زوجته أو ابنتها، وسبي الزوجين أو أحدهما قبل الدخول أو بعده؛ لأن الرق أزال الملك عن النفس، فعن العصمة أولى، وفرقة إسلام أحد الزوجين، أو ردته، وإسلام الزوج على أختين أو أكثر من أربع، أو أمتين، وملك أحد الزوجين الآخر، وعدم الكفاءة، وانتقال من دين إلى آخر كالانتقال من اليهودية إلى النصرانية، وفرقة رضاع بشرط كونه خمس رضعات متفرقات قبل مضي حولين. (57) - وقال الحنابلة (¬2): يكون الفسخ في حالات، منها ما يأتي: 1 - الخلع إذا كان بغير لفظ الطلاق، أو بغير نية الطلاق. 2 - ردة أحد الزوجين. 3 - الفرقة لعيب مشترك، وهو الجنون والصرع، أو مختص بالمرأة كالرتق ¬
فرقة الفسخ
والقرن والبخر والقروح السيالة وانخراق ما بين السبيلين، أو مختص بالرجل كالجب والعُنَّة، ولا يفسخ الزواج إلا حاكم. 4 - إسلام أحد الزوجين. 5 - الفرقة بسبب الإيلاء بواسطة القاضي، إن انقضت المدة وهي أربعة أشهر، ولم يطأ الزوج زوجته، ولم يطلق بعد أن يأمره الحاكم بالطلاق. 6 - الفرقة بسبب اللعان؛ لأن اللعان يوجب التحريم المؤبد بين الزوجين، كما تقدم، ولو لم يحكم به القاضي. ويلاحظ أن هذه الفرقة توجب حرمة مؤبدة عند الجمهور وأبي يوسف، وتوجب حرمة مؤقتة عند أبي حنيفة ومحمد إذا خرج أحد الزوجين عن أهلية اللعان، أو كذب الرجل نفسه فيما قذف به المرأة. وفرقة الفسخ: منها ما يتوقف على القضاء، ومنها ما لا يتوقف عليه (¬1): (58) - أما فرق الفسخ المتوقفة على القضاء فهي: 1 - الفرقة بسبب عدم الكفاءة. 2 - الفرقة بسبب نقصان المهر عن مهر المثل. 3 - الفرقة بسبب إباء أحد الزوجين الإسلام إذا أسلم الآخر، لكن الفرقة بسبب إباء الزوجة متفق عليه، أما بسبب إباء الزوج فهو متفق عليه في رأي ¬
فرق الفسخ غير المتوقفة على القضاء
الجمهور، وأبي يوسف الذي يرى أن الفرقة فسخ. وخالف في ذلك أبو حنيفة ومحمد، فلم يريا توقفها على القضاء؛ لأن الفرقة حينئذ طلاق في رأيهما. 4 - الفرقة بسبب خيار البلوغ لأحد الزوجين عند الحنفية إذا زوجهمافي الصغر غير الأب والجد. 5 - الفرقة بسبب خيار الإفاقة من الجنون عند الحنفية إذا زوج أحد الزوجين في الصغر غير الأب والجد والابن. (59) - وأما فرق الفسخ غير المتوقفة على القضاء فهي: 1 - الفسخ بسبب فساد العقد في أصله، كالزواج بغير شهود، والزواج بالأخت. 2 - الفسخ بسبب اتصال أحد الزوجين بأصول الآخر أو فروعه اتصالاً يوجب حرمة المصاهرة. 3 - الفسخ بسبب ردة الزوج في رأي أبي حنيفة وأبي يوسف، فإن ارتد الزوجان فلا يفرق بينهما بمجرد الردة في الراجح عند الحنفية. 4 - الفسخ بسبب خيار العتق للزوجة. 5 - الفسخ بسبب ملك أحد الزوجين للآخر. 9 - الفسخ لعدم إجازة العقد الموقوف: (60) - العقد عند الحنفية والمالكية إما نافذ أو موقوف، والنافذ: هو ما صدر ممن له أهلية وولاية على إصداره، كالعقد الصادر من الرشيد في ماله، أو
الولي أو الوصي عن القاصر، أو الوكيل عن موكله، وحكمه: أنه تترتب عليه آثاره فور صدوره من غير توقف على إجازة أحد. والموقوف: هو ما صدر من شخص له أهلية التعاقد، من غير أن يكون له ولاية إصداره، كعقد الفضولي، وعقد الصغير المميز في التصرفات المترددة بين الضرر والنفع كالبيع ونحوه، والتصرف من الراهن أو المرتهن في الشيء المرهون، والوصية وتبرعات المريض مرض الموت فيما يزيد عن ثلث المال. وحكمه: أنه لا تترتب عليه آثاره إلا إذا أجازه صاحب الشأن أو الحق الذي يملك إصداره، فإن لم يجزه، بطل العقد. أما الشافعية والحنابلة فقالوا: إنه باطل من الأصل. (61) - وعدم إجازة العقد الموقوف ممن له ولاية أو ملك والذي يتوقف نفاذ العقد على رضاه يعد من أسباب انحلال العقد أو فسخه عند القائلين بانعقاده (¬1). إن عقود الفضولي (¬2) تكون موقوفة على إجازة صاحب الحق، فإن أجازه نفذ، وإلا فسخ واعتبر كأن لم يكن، وعقد الصغير المميز غير المأذون له في التجارة، فيما يتردد بين الضرر والنفع موقوف على إجازة وليه، فإن أجازه نفذ وإلا بطل، وتصرف المدين المحجور عليه أو المدين المفلس موقوف على إجازة الدائنين، وتبرع المريض مرض الموت من هبة أو صدقة فيما زاد عن ثلث تركته موقوف على إجازة الورثة، والوصية من الصحيح فيما يزيد عن ثلث التركة ¬
10 - الفسخ بسبب الاستحقاق
موقوفة على إجازة الورثة، وتصرفات السفيه والمغفل المترددة بين الضرر والنفع، كالبيع والشراء والقرض موقوفة على إجازة الولي. فإن لم يجز هؤلاء أصحاب الحق التصرف انحل وعدَّ كأن لم يكن. 10 - الفسخ بسبب الاستحقاق: (62) - الاستحقاق لغة: طلب الحق، وفقها: ظهور كون الشيء حقاً واجباً للغير، أوهو أن يدعي شخص ملكية شيء، ويثبت دعواه ويقضي له القاضي بملكيته، وانتزاعه من يد حائزه. وعرفه المالكية بقولهم: هو رفع ملك شيء بثبوت ملك قبله. فهو يجيز للمستحق طلب فسخ التصرف أو إمضاءه كالخيار، وتصرف الفضولي. (63) - والاستحقاق بالنسبة لفسخ العقد نوعان (¬1): 1 - مبطل للملك بالكلية: بحيث لا يبقى لأحد عليه غير المدعي حق التملك، كالعتق والحرية الأصلية، وحكمه: أنه يوجب فسخ العقد بلا حاجة لحكم القاضي، ولكل واحد من الباعة الرجوع على بائعه بالثمن، فلو أقام العبد بينة أنه حر الأصل، أو أنه كان عبداً لفلان، فأعتقه، فكل واحد، وإن لم يرجع عليه، أن يرجع على بائعه قبل القضاء عليه، ويرجع هو أيضاً على بائعه الأول. 2 - وناقل للملك من شخص إلى آخر: وهذا هو الغالب، كأن ادعى زيد على خالد أن مافي يده من المتاع ملك له، وبرهن على ادعائه. وحكمه: أنه لا يوجب فسخ العقد؛ لأنه لا يوجب بطلان ملك المشتري، وإنما يتوقف على إجازة ¬
ما يقبل الفسخ وما لا يقبل
المستحق أو فسخه. والصحيح عند الحنفية أن العقد لا ينفسخ ما لم يرجع المشتري على بائعه بالثمن، ويفسخ العقد - في الأصح من ظاهر الرواية - بالفسخ، أي بالتراضي، لا بمجرد القضاء بالاستحقاق. وليس لأحد من المشترين أن يرجع على بائعه بالثمن، ما لم يرجع عليه، لئلا يجتمع الثمنان في ملك واحد، أي فليس للمشتري الأوسط أن يرجع على بائعه قبل أن يرجع عليه المشتري الأخير. والحكم بالاستحقاق يشمل الحائز ذا اليد، فيؤخذ المدعى به من يده، ويشمل أيضاً كل من تلقى ذو اليد الملك عنه. (64) -. وتطبيقاً لذلك، إذا استحق بعض المبيع المعقود عليه قبل القبض، ولم يجز المستحق، بطل العقد في القدر المستحق؛ لأنه تبين أن ذلك القدر لم يكن ملك البائع، ولم توجد الإجازة من المالك، وللمشتري الخيار في الباقي، إن شاء رضي به بحصته من الثمن، وإن شاء رده، سواء أحدث عيباً في الباقي أم لا. وإن أثبت المستحق ملكيته المبيع كله بالبينة، فقضي له به، لا ينفسخ البيع، بل يصبح متوقفاً على إجازة المستحق، فإن أجاز البيع بقي المبيع للمشتري، ويأخذ المستحق الثمن من البائع، ويصبح البائع كوكيل عنه بالبيع؛ لأن الإجازة اللاحقة كالوكالة السابقة. وإن لم يجز المستحق البيع، بل اختار أخذ المبيع، ينفسخ البيع السابق بالفسخ، أي بالتراضي عليه - في ظاهر الرواية- ويكون البائع ملتزماً للمشتري برد الثمن. ما يقبل الفسخ وما لا يقبل: (65) - تنقسم العقود من حيث قابليتها للفسخ من كلا الطرفين المتعاقدين
1 - العقود اللازمة للطرفين
أو من طرف واحد إلى أربع فئات: عقود لازمة للطرفين، وغير لازمة لهما، ولازمة لطرف دون آخر، والتصرف بالإرادة المنفردة. 1 - العقود اللازمة للطرفين: (66) - العقد النافذ إما لازم أو غير لازم، واللازم: هو ما ليس لأحد عاقديه فسخه دون رضا الآخر، كالبيع والإجارة. والأصل في العقود اللزوم كما تقدم؛ لأن الوفاء بالعقود واجب شرعاً، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة:1/ 5] وغير اللازم أو الجائز: هو ما يملك كل من طرفيه أو أحدهما فقط فسخه دون رضا الآخر، إما عملاً بطبيعة العقد نفسه كالوكالة والإعارة والإيداع، أو لمصلحة العاقد كالعقد المشتمل على الخيار. والعقد اللازم للطرفين: هو ما لا يمكن فسخه كعقده إلا باتفاق الطرفين، كالبيع، والإجارة، والصلح، والرهن والزواج، وهو نوعان: أ - عقد لازم لا يقبل الفسخ: كالزواج، ولو باتفاق الطرفين بطريق الإقالة، أي لا يقبل الإلغاء الاتفاقي، وإنما يقبل الإنهاء بطرق شرعية كالطلاق والخلع (¬1) والتفريق القضائي لعدم الإنفاق، أو للعيب، أو للضرر وسوء العشرة، أو للغيبة، أو للحبس والاعتقال ونحو ذلك. وكل ما لا يقبل الفسخ لا يثبت فيه خيار؛ لأن الخيار يعطي حق الفسخ لصاحبه. ب - عقد لازم يقبل الفسخ: أي يقبل الإلغاء بطريق الإقالة، التي هي اتفاق العاقدين على إنهاء العقد، وهي عقود المعاوضات المالية، كالبيع والإيجار والصلح والمزارعة والمساقاة والمغارسة ونحوها، ويسمى الفسخ عندئذ إقالة. وهذه ¬
2 - العقود الجائزة غير اللازمة للطرفين
العقود تقبل الفسخ بالخيار أيضاً، إذا طرأ عليها عيب من عيوب الرضا الذي يسلخ عنها صفة اللزوم في حق أحد الطرفين، كخيار العيب وغيره. 2 - العقود الجائزة غير اللازمة للطرفين: (67) - وهي التي يملك كل من العاقدين فيها حق الفسخ والرجوع، فتفسخ بإرادة كل منهما، ما لم يتعلق ببقائها حق للغير، كالإيداع والإعارة والوكالة والشركة والمضاربة والهبة عند الحنفية، والوصية، والمقاولة، فالعقود الخمسة الأولى يجوز لكل من العاقدين فيها فسخ العقد متى شاء. والوصية والهبة يصح للموصى والواهب الرجوع عنها، كما يصح للموصى له والموهوب له ردها وإبطالها بعد وفاة الموصي، وفي حال حياة الواهب. والمقاولة يجوز لكل من صاحب العمل والمقاول الاتفاق على فسخها أو إنهائها بالتراضي، فإن لم يتفقا على ذلك جاز الفسخ قضاء بطلب أحد الطرفين. فإن تعلق ببقاء العقد حق للغير، كالوكالة ببيع الرهن، لايجوز للراهن المدين عزل الدائن المرتهن الموكل بالبيع عن الوكالة، أي فسخ وكالته إلا بموافقة المرتهن منعاً من إلحاق الضرر به. (68) - ويلاحظ أن الهبة عند الحنفية عقد غير لازم، فيصح الرجوع عنه والفسخ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «الواهب أحق بهبته ما لم يُثَب منها» (¬1) أي يعوض، فإنه عليه السلام جعل الواهب أحق بهبته ما لم يصل إليه العوض، فيصح الرجوع ما لم يحصل تعويض، وإن تم القبض، فالعوض مانع من الرجوع، وموانع الرجوع سبعة: هي العوض المالي، والعوض المعنوي وهو ثلاثة أنواع: ¬
3 - العقد اللازم لطرف دون آخر
(الثواب من الله تعالى، وصلة الرحم، وصلة الزوجية) والزيادة المتصلة في نفس الموهوب، وخروج الموهوب عن ملك الموهوب له بالبيع أو الهبة ونحوهما، وموت أحد العاقدين، وهلاك الموهوب أو استهلاكه) (¬1). وقال الجمهور: الهبة عقد لازم بالقبض، لا يجوز الرجوع فيه إلا الوالد فيما أعطى ولده؛ لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ليس لنا مثل السوء، العائد في هبته، كالكلب يعود في قيئه» (¬2) وقوله عليه السلام: «ليس لأحد أن يعطي عطية، فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده» (¬3) وسائر الأصول كالوالد عند الشافعية (¬4). 3 - العقد اللازم لطرف دون آخر: (69) -. وهو اللازم لأحد الطرفين، كالرهن والكفالة، فإنهما لازمان بالنسبة إلى الراهن والكفيل، غير لازمين بالنسبة للدائن المرتهن والمكفول؛ لأن العقد لمصلحتهما الشخصية توثيقاً للحق، فلهما التنازل عنه، أي أن العقد يفسخ بإرادة من ليس لازماً بحقه، وهو المرتهن والمكفول له. 4 - تصرفات الإرادة المنفردة: (70) -. وهي التي تنعقد بإرادة واحدة، وتفسخ بإرادة منشئها، كالوصية ¬
حالات فسخ العقود وحالات عدم الفسخ
لجهة خيرية، فإنها تفسخ بإرادة الموصي نفسه، وكالجعالة (¬1) التي هي التزام بإرادة واحدة، وهي عقد جائز غير لازم، يجوز فسخه بإرادة الجاعل، فمن أعلن عن مكافأة لمن يعثر على شيء ضائع،، أو لمن يكتشف علاجاً لمرض معين، أو لمن يتفوق في مسابقة معينة أو امتحان ما، له أن يعدل عن إعلانه أو وعده قبل تحقق الشيء المعلن، فهنا انعقد العقد لمجرد الإيجاب، وقبل قبول الملتزم له، فيجوز نقض الإىجاب؛ لأن للموجب أن يرجع عن إيجابه دائماً قبل القبول. وإذا ما أبدى الملتزم له صراحة رفضه للعقد، سقط العقد في جميع الأحوال. حالات فسخ العقود وحالات عدم الفسخ: (71) -. القاعدة المقررة في الفقه الإسلامي كما تقدم أنه لا يجوز في العقود الملزمة للجانبين أو عقود المعاوضة فسخ العقد إذا لم يقم المدين بتنفيذ التزامه، وإنما يحق له مطالبة المدين بتنفيذ التزامه على أن ينفذ هو ما في ذمته من التزام. لكن يجوز فسخ العقد استثناء إذا تعذر على أحد المتعاقدين القيام بالتزامه، كأن هلك المعقود عليه، أو صار في حكم الهالك، أو فاتت منفعته المقصودة (¬2). وبناء عليه، أذكر هنا حالات فسخ العقود وحالات عدم الفسخ. حالات فسخ العقود: يفسخ العقد استثناء في أحوال خاصة في عقد البيع والإيجار. ¬
فسخ عقد البيع
فسخ عقد البيع: يفسخ عقد البيع، ويكون الضمان على البائع في أحوال خمسة هي: (72) - 1 - ضمان هلاك المبيع: يضمن البائع المبيع وينفسخ عقد البيع إذا هلك المبيع كله قبل القبض بآفة سماوية، أو بفعل المبيع نفسه، أو بفعل البائع ويرجع المشتري على البائع بالثمن إذا كان البائع قد قبضه. أما إذا هلك المبيع بفعل المشتري فلا ينفسخ البيع، وعليه الثمن. وإذا هلك المبيع بفعل أجنبي لا ينفسخ البيع أيضاً، ويكون المشتري بالخيار: إن شاء فسخ البيع، وإن شاء أمضاه ودفع الثمن، وطالب الأجنبي بالضمان (¬1). وكذلك يضمن البائع للمشتري مقدار المبيع إذا ظهر أنه ناقص في الكيل أو الوزن، أو الذرع فيما ليس في تبعيضه ضرر، أو كان من العدديات المتقاربة مع شرائها بجملة ثمنها أو قدر الثمن على أساس ثمن الوحدة. ويكون المشتري بالخيار بين فسخ البيع أو أخذ المقدار الموجود بحصته من الثمن، كما يكون له الخيار في بيع الموزونات أو المذروعات التي في تبعيضها ضرر بين فسخ البيع أو أخذ المقدار الموجود بجميع الثمن المسمى. أما إذا بيعت مجموعة من العدديات المتفاوتة بجملة من الثمن، وظهر المبيع ناقصاً أو زائداً، كان البيع فاسداً (¬2). هذا تفصيل الحنفية، ويوافقهم الشافعية في الجملة في فسخ البيع بهلاك المبيع بآفة سماوية، أما المالكية والحنابلة فقالوا: لا ينفسخ البيع، بل للمشتري أن يجبر ¬
2 - ضمان استحقاق المبيع
البائع على تسليم ما يماثل المبيع إن كان من المثليات، وعلى دفع قيمته إن كان من القيميات، وله عند الحنابلة أن يفسخ البيع إذا شاء، وأن يسترد الثمن من البائع (¬1). (73) - 2 - ضمان استحقاق المبيع: يضمن البائع للمشتري أيضاً استحقاق المبيع، ويكون المشتري مخيراً بين أخذ المبيع وفسخ البيع السابق بالتراضي عليه في ظاهر الرواية، ويلزم البائع برد الثمن للمشتري، وبين إجازة البيع، وبقاء المبيع للمشتري، وأخذ المستحق الثمن من البائع، ويصبح البائع كوكيل عنه بالبيع؛ لأن الإجازة اللاحقة كالوكالة السابقة (¬2). (74) - 3 - ضمان العيب في المبيع: يضمن البائع عيب المبيع، ويكون المشتري بالخيار (خيار العيب) بين فسخ البيع ورد المبيع واسترداد الثمن، وبين إمساك المبيع إن رضيه، إذا ثبت كون العيب موجوداً عند البيع أو بعده قبل التسليم، وعند المشتري، وجهل المشتري بوجود العيب عند العقد والقبض، ولم يشترط البائع السلامة عن العيب في المبيع، وأن تكون السلامة من العيب غالبة في مثل المبيع المعيب، وألا يزول العيب قبل الفسخ. وهذا رأي جمهور الفقهاء ومنهم أبو يوسف، وقال أبو حنيفة ومحمد: يرجع المشتري بنقصان العيب فقط إن شاء (¬3). (75) - 4 - ضمان جوائح الثمار المبيعة: يرى المالكية والحنابلة أن الجوائح (¬4) التي تصيب الثمار من ضمان البائع، وأن للمشتري أن يرجع بما أحدثته ¬
5 - ضمان الخيانة أو فسخ عقود المرابحة بسبب الخيانة
من التلف. ويرى الحنفية والشافعية أن هلاك الثمار من ضمان المشتري، ولا رجوع له بشيء على البائع. أما المالكية فقالوا في الأرجح عندهم: يضمن البائع ما تتلفه الجائحة في الثمار والبقول، سواء القليل والكثير، وفي رأي مالك: يكون مقدار نقص الثمن إذا أصابت الجائحة الثلث فأكثر في الثمار والبقول. ويحسب الثلث بالكيل عند ابن القاسم، وبالقيمة عند أشهب. وكذلك قال الحنابلة في ظاهر المذهب: لا فرق بين قليل الجائحة وكثيرها، إلا أن ما جرت العادة بتلف مثله، كالشيء اليسير الذي لا ينضبط، فلا يلتفت إليه (¬1). ودليلهم: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم وضع الجوائح» (¬2) وفي لفظ لمسلم: «أمر بوضع الجوائح» وفي لفظ: «إن بعت من أخيك ثمراً، فأصابته جائحة، فلا يحل لك أن تأخذمنه شيئاً، بم تأخذ مال أخيك بغير حق» (¬3). 5 - ضمان الخيانة أو فسخ عقود المرابحة بسبب الخيانة: يرى الحنفية أنه إذا ظهرت الخيانة في المرابحة بإقرار البائع، أوببرهان عليها أو بنكوله عن اليمين، كان للمشتري الخيار: إن شاء أخذ المبيع، وإن شاء رده؛ لأن المرابحة عقد مبني على الأمانة؛ لأن المشتري اعتمد على أمانة البائع في الإخبار عن الثمن الأول، فكانت صيانة البيع الثاني عن الخيانة مشروطة دلالة أو ضمناً، فإذا لم يتحقق الشرط ثبت الخيار، كما في حالة عدم تحقق سلامة المبيع عن العيب (¬4). ¬
فسخ عقد الإيجار
فسخ عقد الإيجار: (76) -. عرفنا سابقاً في بحث الفسخ للأعذار الطارئة أن الحنفية (¬1) خلافاً لجمهور العلماء أجازوا فسخ الإجارة بالأعذار الطارئة، كمرض المستأجر أو سفره أو إفلاسه أو سرقة ماله، أو احتراق بضاعته، أو لحوق دين فادح بالمؤجر لا يجد طريقاً لقضائه إلا ببيع المأجور وأدائه من ثمنه، كما أجازوا فسخ الإجارة لموت أحد العاقدين، وذلك ليس تطبيقاً لقاعدة فسخ العقد لعدم تنفيذه. كذلك قرروا فسخ الإجارة لسبب يرجع إلى العين المؤجرة أو إلى الأجرة. أما فسخها لسبب يرجع إلى العين المؤجرة: فيكون إذا هلكت العين أو استحقت أو حدث بها عيب أو طرأ عليها ما يمنع استيفاء المنفعة المقصودة منها. (77) -. فللمستأجر فسخ العقد إذا حدث بالدابة المؤجرة مرض أو عرج. وللمستأجر فسخ الإجارة إذا تغيرت الدار المؤجرة بفعل المؤجر أو بفعل غيره تغيراً يخل بالسكنى، أو إذا لم يقم المؤجر بترميم ما اختل من بنائها، أو خربت الدار أو انهدم جزء منها، أو ترتب على العمارة الضرورية للدار ما يضر بالسكنى أو يخل بالمنفعة المقصودة. كما أن لمستأجر الأرض فسخ الإجارة إذا صارت سبخة أو غمرت بالماء ولم يمكن زراعتها أو انقطع الماء عنها، فلم يمكن ريها. وللمستأجر الفسخ بحدوث تفرق الصفقة في المنافع، كأن يستأجر دارين، فتسقط إحداهما، أو يستأجر داراً فيمتنع المؤجر عن تسليم بيت منها. وأما فسخ الإجارة بسبب الأجرة: فيكون إذا لم يستوف المؤجر الأجرة، ¬
حالات عدم الفسخ
وهذا بخلاف البيع، فلا يفسخ لعدم دفع الثمن إلا إذا اشترط البائع خيار النقد (¬1) كما سيأتي. وكذلك تفسخ الإجارة إذا استأجر رجل حماماً في قرية، ليستغله مدة معلومة، ثم يهاجر أهل القرية، ولا يجب على المستأجر الأجرة للمؤجر. وفي الإجارة على الأعمال قال الحنفية: إن كان لعمل الأجير المشترك كالخياط والصباغ والحداد أثر ظاهر في العين المؤجرة، ثم هلكت سقط الأجر، وأما إن لم يكن لعمل الأجير أثر ظاهر في العين المؤجرة كالحمال والملاح، فيجب الأجر بمجرد انتهاء العمل، ولا يسقط الأجر بهلاك العين بعدئذ (¬2). حالات عدم الفسخ: (78) - لا يفسخ العقد في غير الأحوال المتقدمة، كما يبين من الأمثلة التالية في عقود البيع والإيجار ونحوه، والرهن والصلح. عقد البيع: لا يفسخ إذا لم يقم المشتري بدفع الثمن عند استحقاقه، فإن كان الثمن حال الأداء أي معجلاً، وجب أداؤه فوراً، وإن كان الثمن مؤجلاً إلى أجل معلوم، لزم أداؤه عند حلول أجله، وإن كان مقسطاً أدى كل قسط في ميعاده. ولا يفسخ البيع عند عدم استيفاء الثمن إلا إذا اشترط البائع لنفسه صراحة في العقد ما يعرف بخيار النقد، فيفسخ العقد حينئذ بسبب الخيار الذي يجعل البيع غير لازم (¬3). ¬
عقد الإيجار
وإذا مات المشتري مفلساً بعد قبض المبيع وقبل نقد الثمن، فالبائع ـ عند الحنفية خلافاً للشافعية كما تقدم في الفسخ للإفلاس - أسوة الغرماء، ولو وجد متاعه باقياً بعينه فلا يكون أحق به من غيره من أرباب الحقوق الذين لهم حق على المشتري (¬1). (79) - وعقد الإيجار: لا يفسخ إن استأجر شخص دابة بغير عينها أي إجارة ذمة، ويكون له الحق في أن يطالب بدابة أخرى؛ لأنه تعاقد على نقل الحمل إلى مكان معين على أية دابة، فإذا تلفت الدابة أو تعبت، يستبدل بها غيرها، أي يطلب التنفيذ العيني، وليس له فسخ العقد. لكن إن كانت الدابة مستأجرة بعينها، فتلفت، فسخت الإجارة، وإن تعبت كان المستأجر بالخيار بين نقض الإجارة أو الانتظار حتى تقوى الدابة، وليس له أن يطالب بدابة أخرى (¬2). وقال في لسان الحكام: لو أظهر المستأجر في الدار شرا، كشرب الخمر وأكل الربا والزنا واللواطة يؤمر بالمعروف، وليس للمؤجر وجيرانه أن يخرجوه، فذلك لا يصير عذراً في الفسخ، ولا خلاف فيه للأئمة الأربعة. (80) - وعقد المزارعة الذي هو نوع من الإيجار: ليس لصاحب الأرض فسخه إن قصر المزارع في سقي الأرض حتى هلك الزرع أو يبس، أو أخر السقي تأخيراً غير معتاد، أو ترك حفظ الزرع حتى أكلته الدواب، أو لم يمنع الجراد حتى أكل الزرع كله. ولكن يجوز فسخها بالإقالة، ويكون المحصول لصاحب البذر، فإن كان صاحب البذر هو صاحب الأرض، استحق المزارع أجر مثل عمله، وإن ¬
عقد المساقاة
كان صاحب البذر هو المزارع، استحق صاحب الأرض أجر مثل الأرض. كذلك يجوز للمستحق فسخ المزارعة إذا استحقت الأرض، وله قلع الزرع إن كان العاقدان سيّيّء النية، وله على من قدم الأرض أجر المثل إن كان العاقدان حسني النية، وعليه أجر المثل للمزارع إن كان حسن النية، وكان من قدم الأرض سيّيّء النية (¬1). (81) - وعقد المساقاة: الذي هو أيضاً نوع من الإيجار: لا يجوز فسخه إلا بالتراضي (أي بالإقالة) وليس لأحد العاقدين طلب الفسخ، حتى ولو أخل المتعاقد الآخر بالتزاماته، وإنما له مطالبته بتنفيذ التزامه. وهو يفسخ كالإيجار كما تقدم بالعذر، كما إذا عجز العامل عن العمل أو كان غير مأمون على الثمر، على صاحب الشجر أجر مثل عمل المساقي قبل الفسخ. ويفسخ أيضاً باتفاق المذاهب باستحقاق الشجر أو الثمر، أو الزرع في رأي المالكية الذين يجيزونه على زروع ذات أصول غير ثابتة، كالمقاثي، وبعض الزروع، كالقصب الحلو والبصل والباذنجان والحمص والفاصوليا. وليس للمساقي عند الحنفية خلافاً للمالكية أن يساقي غيره دون إذن صاحب الشجر، فإن فعل، كان صاحب الشجر بالخيار بين أن يأخذ الغلة كلها، ويعطي من قام بالعمل أجر مثله، وبين أن يترك الغلة لهما، ويرجع على المساقي الأول بأجر مثل محل المساقاة، وضمنه ما لحق به من ضرر بسبب فعله (¬2). (82) - وعقد الرهن أي الرهن الحيازي وكذا الرسمي والتأميني: لا ينفسخ لعدم تنفيذ أحد المتعاقدين التزاماته؛ لأنه عقد ملزم للجانبين، وإنما ¬
للعاقد الآخر المطالبة بالتنفيذ، فإذا أخل الراهن بالتزامه وباع المرهون بلا إذن المرتهن، لم يفسخ العقد، ولم ينفذ البيع إلا بإجازة المرتهن، لكن إن هلك المرهون في يد المشتري، كان للمرتهن الخيار: إن شاء ضمن المشتري قيمته يوم هلاكه، وإن شاء ضمنها الراهن. وإذا أخل المرتهن بالتزاماته، بقي الرهن قائماً ولم يفسخ، فإن تعدى المرتهن وباع المرهون بلا إذن الراهن، لم ينفذ البيع، ويبقى الرهن قائماً لا يفسخ، فإن هلك المرهون في يد المشتري، كان للراهن الخيار في تضمين المشتري أو المرتهن. وإن رهن المرتهن المرهون بلا إذن الراهن، لم ينفذ الرهن الثاني، ويبقى الرهن الأول قائماً لا يفسخ. وإن باع المرتهن ثمار العين المرهونة بلا إذن الراهن أو القاضي، فلا يفسخ الرهن، بل يبقى قائماً، ويضمن المرتهن قيمة الثمار (¬1). وإن هلك المرهون في يد الدائن المرتهن، ضمن الأقل من قيمته ومن الدين عند الحنفية، ولا يضمنه في مذهب الجمهور إلا بالتعدي أو التقصير (¬2). وإذا شرط المرتهن تملك المرهون في مقابل دينه إن لم يؤده الراهن في الأجل، كان الشرط باطلاً لمنافاته الحديث: «لا يَغلَق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه» (¬3). والخلاصة: أن الرهن لا يفسخ لإخلال الراهن أو المرتهن بالتزامه، والعلاج إما عدم نفاذ التصرف، أو الإجبار على التنفيذ، أو الضمان عند الهلاك (¬4). وعدم ¬
عقد الصلح
نفاذ التصرف كتصرف الفضولي هو رأي الحنفية والمالكية، وأما الشافعية والحنابلة فيرون أن التصرف باطل (83) - وعقد الصلح أيضاً ملزم للطرفين بعد وقوعه، ولا يسوغ لأيهما أو لورثته من بعده الرجوع فيه، ويلتزم كل واحد من المتصالحين بما التزم به نحو الآخر، ولا يفسخ إذا كان في حكم المعاوضة، بأخذ شيء عن آخر إلا بالإقالة أي بتراضي الطرفين، ولاتجوز إقالة الصلح إذا تضمن إسقاطاً لبعض الحقوق. ولا يفسخ الصلح بمعنى المعاوضة (وهو الصلح عن إقرار على بدل معين يدفعه المقر) لعدم تنفيذ أحد المتعاقدين التزامه، حتى ولو ضاع بدل الصلح أو استحق، وكان مما لا يتعين بالتعيين كالنقود، ويلزم من التزم به بمثل ما ضاع أواستحق. أما إذا كان البدل مما يتعين بالتعيين، فلا بد من فسخ الصلح؛ لهلاك المحل. ويرجع المدعي في الصلح عن إقرار على المدعى عليه بالمدعى به كله أو بعضه، فإن كان الصلح عن إنكار يرجع المدعي إلى المخاصمة (¬1). وذهب المالكية إلى أنه إذاكان الصلح عن إنكار (وهو الصلح الواقع مع إنكار المدعى عليه)، فللمظلوم من المتصالحين نقض الصلح في الأحوال الآتية؛ لأنه كالمغلوب على أمره في قبول الصلح: 1 - إذا أقر الظالم بعد الصلح بظلمه للآخر: بأن يقر المدعى عليه بأن دعوى المدعي حق، أو بأن يقر المدعي ببطلان دعواه. 2 - إذا شهدت للمظلوم بعد الصلح بينة لم يكن يعلمها وقت الصلح، وحلف على عدم علمه بها. ¬
عقد الشركة
3 - إذا كانت له بينة غائبة بعيدة يتعذر إحضارها وقت الخصومة، وأشهد عند الصلح أنه يقوم بها إذا حضرت. 4 - إذا وجدت وثيقة الحق عند المدعي بعد الصلح (¬1). (84) - وكذلك عقد الشركة: لا يفسخ لإخلال أحد الشركاء بالتزامه، بل يجب على المخل بالتزامه الضمان (¬2) أي حتى ولو كانت الشركة عقداً غير لازم يجوز فسخه في رأي جمهور العلماء إذا أريد بقاء الشركة، وقرر المالكية أن الشركة عقد لازم، فتكون كالبيع والإيجار والرهن؛ لأن العقد شريعة المتعاقدين. فروق بين الفسخ وغيره: لقد سبق بيان الفروق بين الفسخ وغيره، وأوجزها هنا مقتصراً على بيان الفروق فقط فيما سبق ذكره، وأوضح ما لم يذكر سابقاً. 1 - الفرق بين الفسخ والانفساخ: (85) - ينحصر الفرق بين الفسخ والانفساخ في طريق نشوئه، فالفسخ: إما أن ينشأ عن الرضا أو الإرادة، أو جبراً عن المتعاقدين أو عن أحدهما بحكم القاضي. أما الانفساخ فينشأ عن حادث طبيعي وهو استحالة تنفيذ مقتضى العقد، كهلاك أحد البدلين، وينفسخ العقد المستمر كعقد الإيجار إذا فقد ما يعتمد عليه بقاؤه. ¬
2 - الفرق بين الفسخ (انحلال العقد) وانقضاء الالتزام
فينفسخ البيع بهلاك المبيع قبل قبضه، لاستحالة تنفيذ العقد بالتسليم بعد هلاك محله ولا ينفسخ بموت البائع، بل يطالب الوارث بالتسليم، لثبوت آثار العقد الفوري عقب حدوثه دون توقف على بقاء العاقد. وتنفسخ الشركة والمضاربة والمزارعة والمساقاة بموت أحد العاقدين في مذهب الحنفية خلافاً للجمهور؛ لأن هذه العقود تنشئ التزامات عملية ذات آثار متجددة، فيها انسحاب واستمرار يعتمد بقاؤه بقاء العاقد، علاوة على بقاء المحل (¬1). 2 - الفرق بين الفسخ (انحلال العقد) وانقضاء الالتزام: (86) -. هناك فرق واضح بين الفسخ أو انحلال العقد، وبين انقضاء الالتزام، فالفسخ: يؤدي إلى حل الرابطة التي كانت بين المتعاقدين، ويلغي الالتزامات القائمة بينهما. فهذا الفسخ يستلزم انقضاء الالتزامات التي كانت ناشئة بذلك العقد المنحل، ففسخ البيع مثلاً ينهي التزام المشتري بدفع الثمن، والتزام البائع بتسليم المبيع. أما انقضاء الالتزام: فيحصل إما بتنفيذ الالتزام ووصول كل ذي حق إلى حقه، وإما بسقوط عهدة التنفيذ؛ لزوال ما أوجبها. فكل انحلال للعقد تنقضي به التزاماته السابقة، ولا عكس، أي لا يلزم من انقضاء الالتزام انحلال العقد الذي أنشأه؛ إذ قد يكون الانقضاء بتنفيذ الالتزام الذي أوجبه، لا بسقوط العقد الموجب. وعلى هذا فتقابض العاقدين في المبيع والثمن هو انقضاء للالتزام بتنفيذ العقد، وليس هو فسخاً أو انحلالاً للعقد (¬2). ¬
3 - الفرق بين الفسخ والإبطال والبطلان والفساد
وإنجاز المقاول العمل المتفق عليه هو انقضاء للالتزام أو انقضاء للمقاولة، أما فسخ المقاولة بالتراضي أو بالقضاء لسبب ما، أو لعذر طارئ يحول دون تنفيذ العقد أو إتمام تنفيذه، فهو انحلال للعقد وانقضاء للالتزام معاً تبعاً للانحلال. 3 - الفرق بين الفسخ والإبطال والبطلان والفساد: (87) - الفسخ: حل ارتباط العقد المنعقد لعدم التنفيذ، أو للإخلال بالالتزام، أولعدم توافر الرضا التام ويحدث بالتراضي أو بالقضاء (¬1). أما الإبطال: فهو الحكم بكون الشيء باطلاً من أساسه لفقد ركنه أو محله أو لنقص في أهلية العاقد، ولا حاجة فيه لقضاء الحاكم، والبطلان أثر ذلك الحكم اللازم للشيء بعد نقضه بسبب الخلل الجوهري الذي صاحب العقد منذ نشوئه. وأما الفساد: فهو عند القائلين به في المعاملات وهم الحنفية اختلال في صفة عارضة طارئة على العقد، غير جوهرية فيه. فإذا هلك المبيع قبل القبض تعذر تسليمه وفسخ البيع، وإذا صدر العقد من عديم الأهلية، كالمجنون والمعتوه، كان باطلاً، وإذا كان المبيع أو الثمن مجهولاً، فسد العقد، ووجب إزالة الفساد شرعاً، فإن لم يزل الفساد، انتقل الملك بالقبض خبيثاً غير طيب في تقدير الشرع، ويأثم العاقد. 4 - الفسخ وشرط الإلغاء الصريح أو الضمني: (88) - أثبت جمهور الحنفية وجمهور العلماء استحساناً حق الفسخ حال الشرط الصريح بإلغاء العقد، وهو ما يسمى بخيار النقد: وهو كما تقدم أن يشترط البائع على المشتري أداء الثمن في مدة معينة، وإلا لغا البيع بينهما، أو يشترط البائع ¬
أنه إذا رد الثمن للمشتري في المدة المعينة، يفسخ البيع، وذلك منعاً لمماطلة المشتري بدفع الثمن. لكن اختلف المجيزون له في المدة، فحددها أبو حنيفة بثلاثة أيام كخيار الشرط، وحددها غيره بحسب الحاجة، وتركها محمد بن الحسن بدون تحديد، وبرأيه أخذت المجلة، لكن الأصل في خيار الشرط اللزوم، فإذا انتهت المدة المشروطة دون فسخ لزم العقد، والأصل في خيار النقد عدم اللزوم، فإذا لم ينقد الثمن في المدة فسد البيع ولا ينفسخ. ولم يجز الشافعي وزفر خيار النقد وقالوا بعدم صحته مطلقاً (¬1). (89) - وأما عند عدم الشرط الصريح فلم يقرّ الفقه الإسلامي كمبدأ عام حق إلغاء العقد بسبب عدم التنفيذ، بل إنما أقر الفسخ في بعض الحالات المذكورة سابقاً في بحث أسباب الفسخ لوجود شرط ضمني بجواز الفسخ أو الإلغاء، ومن تلك الحالات: أولاً - أن حق الفسخ مقرر في بعض أحوال استحالة التنفيذ، كعجز البائع عن تسليم المبيع بسبب هلاكه، يكون للمشتري خيار الفسخ، وكبيع السّلم (بيع آجل بعاجل) إذا تعذر تسليم المبيع عند حلول الأجل، لعدم وجوده، يكون المشتري بالخيار بين فسخ السّلم واسترداد الثمن، أو انتظار وجوده إلى العام المقبل (¬2). وكعقد الإجارة إذا لم يستطع المستأجر الانتفاع بالعين المؤجرة، فإن التزامه بدفع الأجرة يسقط. ¬
ثانياً - أجاز الحنفية باستحسان المصلحة ما يسمى بخيار الوصف أو خيار فوات الوصف المرغوب فيه (وهو أن يكون المشتري مخيراً بين أن يقبل بكل الثمن المسمى أو أن يفسخ البيع حيث فات وصف مرغوب فيه، في بيع شيء غائب عن مجلس العقد) أي أنه يثبت حق الفسخ للعاقد الذي اشترطه إذا لم يوجد الوصف المطلوب، كأن يشتري جوهرة على أنها أصلية أو بقرة على أنها حلوب أوشيئاً يحتاج لتجربة، ثم يظهر العكس، فيكون المشتري مخيراً إن شاء فسخ البيع، وإن شاء أخذ المبيع بجميع الثمن المسمى؛ لأن هذا وصف مرغوب فيه، يستحق في العقد بالشرط، فإذا فات، وجب التخيير، لعدم توافر الرضا بدونه (¬1). ومثل ذلك في عقد الاستصناع: إذا لم يكن المصنوع على الوصف المطلوب؛ كان المستصنع مخيراً (¬2). ثالثاً: يجوز عند جمهور الفقهاء غير الحنفية الفسخ في عقود المعاوضة بسبب الإفلاس حال وفاة المدين واسترداد المبيع الموجود، كما تقدم. كذلك أجاز الإمام الشافعي أيضاً خلافاً للجمهور حق الرجوع والاسترداد في حال وفاة المدين إذا تبين أنه مفلس. رابعاً: أثبت الفقهاء بالاتفاق خيار العيب، فيجوز الفسخ بسببه، والشرط ليس صريحاً بل هو ضمني، كما إذا وجد المشتري بالمبيع عيباً، فإنهم قالوا: إن سلامة المبيع من العيوب شرط ضمني في عقد البيع، وكذلك في الإجارة، فإنها تنفسخ بخيار عيب حاصل قبل العقد أو بعده بعد القبض يفوت به النفع، كخراب الدار، وانقطاع ماء الرحى وانقطاع ماء الأرض (¬3). ¬
5 - الفرق بين الشرط الموقف
5 - الفرق بين الشرط الموقف (الواقف) والشرط الفاسخ: (90) - تبين لدينا أن الفسخ في الفقه الإسلامي منوط بشرط الإلغاء الصريح أو الضمني، وكلا الشرطين من قبيل تعليق الفسخ بشرط فهو شرط تعليقي في اصطلاح الفقه. وهناك في الفقه الغربي القانوني تقسيم لهذا الشرط إلى نوعين: شرط موقف (أو واقف) وشرط فاسخ. أما الشرط الموقف: فهو الذي يعلق نشوء الالتزام، ويجعله متوقفاً على أمر مستقبل محتمل، مثل آجرتك داري هذه سنة بكذا إن نقلت وظيفتي إلى بلد آخر. ويلاحظ أن تعليق الإجارة على هذا الشرط يفسد العقد عند فقهاء الحنفية وغيرهم؛ لأن عقود المعاوضات لا تقبل التعليق على شرط متردد بين الوجود والعدم؛ لأن ملكية العين أو المنفعة لا بد أن تكون مستقرة جازمة لا تردد فيها، وإلا شابهت القمار (¬1). وأما الشرط الفاسخ: فهو الذي يرتب على وقوعه الالتزام القائم، مثل: استأجرت دارك على شرط أنني إذا نقلت وظيفتي إلى بلد آخر، انفسخت الإجارة. وهذا لا مانع منه في فقهنا، وهو الذي يشمل شرط الإلغاء الصريح والضمني المتقدم. والفارق الأساسي عند القانونيين. بين النوعين في الحكم: هو أن الالتزام في الشرط الموقف معدوم، محتمل الوجود، وفي الفاسخ موجود محتمل الزوال (¬2). ¬
6 - الفرق بين الفسخ والطلاق، وهل يتوقف فسخ الزواج على القضاء؟
6 - الفرق بين الفسخ والطلاق، وهل يتوقف فسخ الزواج على القضاء؟ (91) -. سبق بيان الفَرْق بين الفسخ والطلاق في ف/7، كما سبق بيان الفَُرَق التي تكون فسخاً للزواج في ف/54 - 57، وما يتوقف منها على القضاء في ف/58. بعض أسباب الفسخ: (92) - سبق الكلام عن أسباب الفسخ الجائزة في فقهنا، ويجدر بنا بيان بعض أسباب الفسخ الجائزة وغير الجائزة، وهي الإخلال بالالتزام، واستحالة التنفيذ، وعدم تنفيذ العقد: 1 - الإخلال بالالتزام: القاعدة المقررة في الفقه الإسلامي أنه لا ارتباط بين الالتزامات المتقابلة في العقد الملزم للجانبين، وإنما كل التزام مستقل عن الالتزام المقابل له، فالتزام المشتري بدفع الثمن في مقابل التزام البائع بتسليم المبيع وضمانه، لا يرتبط أحدهما بالآخر. وكذا التزام المستأجر بدفع الأجرة لا يتعلق بتسليم المؤجر العين المؤجرة. (93) - وبناء عليه، ضاقت نظرية الفسخ في الفقه، إسهاماً في دعم القوة الملزمة للعقد، وأضحى الأصل أن العقد الملزم للجانبين أو عقد المعاوضة لا يفسخ لإخلال أحد العاقدين بتنفيذ التزامه، وليس للدائن إلا أن يطالب المدين بالتنفيذ أو بالضمان على حسب الأحوال. فإذا لم يدفع المشتري الثمن، لم يفسخ البائع البيع، بل له مطالبة المشتري بالثمن، وإذا لم يدفع المتصالح في الصلح بدل الصلح، فليس للآخر فسخ العقد، وإذا أساء الدائن المرتهن استعمال الشيء المرهون فأخل بالتزامه بالحفاظ عليه، فليس للراهن فسخ الرهن، وإنما له الحق في
2 - استحالة تنفيذ العقد
طلب وضع المرهون تحت يد عدل (¬1)، دفعاً للضرر عن نفسه، وإذا هلك المرهون، ضمن المرتهن في مذهب الحنفية الأقل من قيمته ومن الدين. (94) -. ولكن يجوز استثناء فسخ العقد للإخلال بالالتزام في أمرين (¬2): الأول - انعدام محل العقد أو فوات منفعته المقصودة، فإذا هلك المبيع أو المأجور أو تعيب أو نقص مقداره أو تعذر استيفاء المنفعة المقصودة منه، أصبح العقد قابلاً للفسخ. الثاني - الإخلال بالالتزام في العقود المستمرة أو عقود المدة: كالإيجار وعقد التوريد، فإذا أخل العاقد بالمنفعة، أو بالعمل في عقد الإجارة، أو أخل المورِّد بالتزامه، فلم ينفذ المطلوب، توقف العاقد الآخر من تقديم المنفعة، وأمسك العامل عن العمل حتى يستوفي الأجر، وامتنع المورَّد له من دفع الثمن، وهذا كفسخ للعقد. 2 - استحالة تنفيذ العقد: (95) -. تبين مما تقدم أنه يفسخ العقد أحياناً لاستحالة تنفيذه، وهو ما يسمى في فقهنا بالآفة السماوية، ويسمى عند الإنكليز بالحادث الإلهي، وعند الفرنسيين بالقوة القاهرة أو الظروف أو الأحوال الطارئة، فيفسخ البيع كما تبين بهلاك المبيع قبل تسليمه، لاستحالة تنفيذ العقد بعد هلاك محله، كما ينفسخ عقد الإيجار بخراب الدار المؤجرة أو بالإخلال بالمنفعة كانهدام جزء منها يؤثر هدمه ¬
3 - عدم تنفيذ العقد ومتى يجوز؟
على المنفعة المقصودة منها (¬1)، كما ينفسخ بيع الثمار بهلاكها كلها بجائحة، وينقص من الثمن بمقدار ما تصيبه الجائحة إن بلغ المجاح الثلث فأكثر في رأي الإمام مالك، وسواء أكان قليلاً أم كثيراً في مذهب الحنابلة والراجح عند المالكية، كما تقدم. 3 - عدم تنفيذ العقد ومتى يجوز؟ (96) -. إذا كان الفقه الإسلامي قد ضيق من نطاق الفسخ؛ لأن فسخ العقد أمر خطير، فوجب الاحتراز عنه، فإنه وسع فيما يسمى بالدفع بعدم تنفيذ العقد، على أنه ليس فسخاً، وإنما هو وقف لتنفيذ العقد، ويظهر ذلك في أمثلة كثيرة، منها العقود التالية: عقد البيع والإيجار والوكالة والزواج (¬2). (97) -. أما في عقد البيع (بيع سلعة بنقد أو عين بدين) فإنه يجب في مذهبي الحنفية والمالكية (¬3) على المشتري أن يدفع الثمن أولاً ما لم يكن مؤجلاً أو مقسطاً عدا القسط الأول للحديث النبوي: «الدين مقضي» (¬4) فإن كان العقد مقايضة أو صرفاً وجب تسليم المبيع والثمن معاً في وقت واحد. وعليه، فإن للبائع حق حبس المبيع لاستيفاء جميع الثمن الحالّ، فإن كان الثمن مؤجلاً أو مقسطاً، لزمه تسليم المبيع في الحال. ويسقط حق الحبس بالحوالة بالثمن في رأي أبي يوسف، ولا يسقط حق الحبس إذا قدم المشتري رهناً أو كفيلاً بالثمن؛ لأن الرهن والكفالة لا يسقطان الثمن عن ذمة المشتري. ¬
الشافعية والحنابلة
وحق البائع في المبيع حق عيني يمنحه حق امتياز عليه، فإذا مات المشتري مفلساً قبل قبض المبيع ودفع الثمن، فالبائع أحق بحبسه إلى أن يستوفي الثمن من تركة المشتري أو يبيعه القاضي. وليس للمشتري حق حبس الثمن إلا إذا استحق المبيع في يده بالبينة، وفسخ البيع قبل أداء الثمن. وله أيضاً أن يحبس الثمن إذا استحق المبيع قبل قبضه من المشتري، وله حق الفسخ واسترداد الثمن إذا كان قد دفعه للبائع. (98) - وقال الشافعية والحنابلة (¬1): يجبر البائع على تسليم المبيع أولاً، ثم يجبر المشتري على تسليم الثمن؛ لأن حق المشتري في عين المبيع، وحق البائع في الذمة، فيقدم ما يتعلق بالعين. وعليه، ليس للبائع حبس المبيع على قبض الثمن؛ لأن التسليم من مقتضيات العقد. لكن قال الشافعية: للبائع حبس المبيع حتى يقبض الثمن إن خاف فوته، وكذا للمشتري حبس الثمن إن خاف فوت المبيع. (99) - وأما في عقد الإيجار: فيرى الحنفية والمالكية (¬2) أن المستأجر يدفع الأجرة أولاً إذا كانت معجلة، ثم يسلم المؤجر العين المؤجرة. وتجب الأجرة وتملك بأحد أمور ثلاثة: اشتراط تعجيلها في العقد، وتعجيلها من غير شرط استيفاء المعقود عليه وهو المنافع شيئاً فشيئاً، ولا تجب الأجرة ولا تملك بنفس العقد، وإنما تلزم جزءاً فجزءاً بحسب ما يقبض من المنافع، فلا يستحق المؤجر المطالبة بالأجرة ¬
الإجارة على الأعمال
إلا تدريجياً يوماً فيوماً؛ لأنه إذا لم يثبت الملك في أحد العوضين لا يثبت في العوض الآخر، عملاً بالمساواة التي تقوم عليها العقود. وللمؤجر الحق في حبس العين المؤجرة في يده أو الامتناع عن تسليم الشيء المؤجر، حتى يستوفي الأجر المعجل، كما أن له الحق في فسخ الإجارة. وأما في الإجارة على الأعمال: فيستحق الأجير الخاص أجره كما ذكر الحنفية بمجرد تسليم نفسه للخدمة، سواء خدم أو لم يخدم، ويجوز له اشتراط تعجيل الأجر قبل أن يسلم الأجير نفسه للعمل. وأما الأجير المشترك أو العام كالخياط والحمال، فله أن يحبس المستأجر فيه حتى يستوفي أجرته إن كان لعمله أثر ظاهر (أي مجرد ما يعاين ويرى) في العين المؤجرة كالخياط والصباغ، إن لم يشترط تأجيلها. وليس له أن يحبس المستأجر فيه، إن لم يكن لعمله أثر ظاهر فيه كالحمال والملاح. أما المالكية فقالوا: للأجير إذا عمل للناس، سواء أكان عاماً أم خاصاً حبس المستأجر فيه حتى يقبض حقه. (100) - وذهب الشافعية والحنابلة (¬1) إلى أن على المؤجر تسليم العين المؤجرة، ثم يسلم المستأجر الأجرة، وتجب الأجرة وتملك بمجرد العقد؛ لأن الإجارة عقد معاوضة، والمعاوضة إذا كانت مطلقة عن الشرط تقتضي الملك في العوضين عقد العقد، كما يملك البائع الثمن بالبيع. وليس للمؤجر حبس العين المؤجرة حتى يستوفي الأجرة. (101) - وأما في عقد الوكالة: فإن الحنفية ذكروا أن للوكيل بالشراء حق ¬
متى يجوز عدم تنفيذ العقد أو ما هي شروط الدفع بعدم التنفيذ؟
حبس المال المشترى في يده إلى أن يقبض الثمن من الموكل، وإن لم يكن قد أعطاه إلى البائع (¬1). (102) -. وأما في عقد الزواج: فاتفقت المذاهب (¬2) على أن للمرأة قبل دخول زوجها بها أن تمنع الزوج عن الدخول بها أو عن الانتقال إلى بيت الزوجية، حتى يعطيها جميع المهر المعجل. ويثبت لها أيضاً هذا الحق في حبس نفسها عن زوجها ومنع نفسها من الاستمتاع بها حتى بعد الدخول بها أو الخلوة بها أو الانتقال إلى بيت زوجها. وهذا رأي أبي حنيفة. أما الصاحبان وبقية الفقهاء فقرروا أنه ليس لها أن تمنع نفسها بعد الدخول بها، حتى تقبض معجل مهرها؛ لأن رضاها بالدخول إسقاط لحقها في طلب المهر، فإذا امتنعت كانت ناشزة، فيسقط حقها في النفقة. متى يجوز عدم تنفيذ العقد أو ما هي شروط الدفع بعدم التنفيذ؟ (103) - يشترط للدفع بعدم تنفيذ العقد شرطان (¬3): 1 - أن يكون العقد ملزماً للجانبين، أي عقد معاوضة: ففي هذا النوع من العقود يمكن التمسك بعدم تنفيذ العقد، أو بالحق في الحبس الذي هو أوسع بكثير من نطاق الدفع بعدم التنفيذ، وأمثلة ذلك: أن للملتقط حق حبس اللقطة عنده بما أنفق عليها، وللغاصب حبس المغصوب حتى يستوفي ما زاده فيه من بناء أو ¬
2 - أن يكون الالتزام المحبوس أو الممنوع عن الآخر التزاما يتأخر تنفيذه عن تنفيذ الالتزام المقابل
غراس، ولصاحب الملك المشترك أو لصاحب حق العلو إذا انهدم البناء أن يمنع شريكه أو صاحب السفل الذي امتنع من إعادة البناء من الانتفاع ببنائه حتى يؤدي ما يخص حصته من المصروفات (¬1). 2 - أن يكون الالتزام المحبوس أو الممنوع عن الآخر التزاماً يتأخر تنفيذه عن تنفيذ الالتزام المقابل: فللبائع حبس المبيع لديه حتى يستوفي الثمن، وليس العكس، كما تقدم، وللمؤجر حبس المأجور إلى استيفاء الأجرة إذا كانت الأجرة معجلة. آثار الفسخ (أحكامه): (104) -. تظهر آثار الفسخ في شيئين: انتهاء العقد، وسريانه على الماضي والمستقبل. 1 - انتهاء العقد بالفسخ: ينتهي العقد بالفسخ، ويكون له آثار فيما بين الطرفين المتعاقدين وبالنسبة لغيرهما. أولاً- أثر الفسخ فيما بين الطرفين المتعاقدين: يظل العقد قائماً إلى حين الفسخ، وينتج جميع آثاره، فتنتقل مثلاً ملكية المبيع إلى المشتري، وللطرفين إجازة العقد صراحة قبل الفسخ، أو ضمنياً، وحق الفسخ محصور فقط في المتضرر من المتعاقدين دون المتعاقد الآخر. فإذا فسخ العقد انحل واعتبر كأن لم يكن بالنسبة للطرفين، وتجب إعادة كل شيء إلى ما كان عليه قبل العقد، ويعاد المتعاقدان إلى الحالة التي كانا عليها قبل ¬
- ثانيا - أثر الفسخ بالنسبة للغير
التعاقد، فإذا استحال ذلك جاز الحكم بالتعويض، سواء كان الفسخ بحكم القاضي أو بحكم الاتفاق أو بحكم الشرع. (105) - ثانياً - أثر الفسخ بالنسبة للغير: يصبح العقد بالفسخ بالنسبة لغير المتعاقدين أيضاً كأن لم يكن، إلا أن التصرف في العين للغير من قبل المشتري كالبيع أو الهبة أو الصلح ما نع من حق الفسخ، أي يطهر العين المبيعة من حق الفسخ، فلا يتمكن المشتري الأول أن يفسخ البيع بينه وبين بائعه؛ لأنه قد تعلق بالمبيع حق مالك جديد، أنشأه المشتري نفسه (¬1). (106) -. وكذلك للإقالة التي هي عبارة عن فسخ العقد الذي يربط المتعاقدين آثار بالنسبة للعاقدين وبالنسبة إلى الغير، فهي كما تقدم في رأي أبي حنيفة وزفر تعد فسخاً في حق العاقدين، وليست اتفاقاً جديداً، فملكية المبيع لا تنتقل من جديد إلى البائع، بل يعتبر المبيع كأنه لم يخرج أبداً من ملك البائع (¬2). وكذلك قال الشافعية والحنابلة: الإقالة فسخ، كالرد بالعيب (¬3). أما المالكية والظاهرية فذهبوا إلى أن الإقالة اتفاق أو بيع جديد؛ لإتمامها بتراض جديد بين العاقدين، فيجوز فيها ما يجوز في البيوع، ويحرم منها ما يحرم في البيوع (¬4). وأما أثر الإقالة بالنسبة للغير وهو الشخص الثالث غير العاقدين: فهو أنها ليست فسخاً، بل هي بيع جديد في رأي أبي حنيفة وأبي يوسف والمالكية ¬
2 - أثر الفسخ في الماضي (الأثر المستند والمقتصر) والمستقبل
والظاهرية؛ لأنها في الواقع مبادلة جديدة، فيأخذ كل واحد من المتعاقدين رأس ماله ببدل، وعلى ذلك تعتبر الملكية بالنسبة للغير أنها انتقلت من جديد إلى البائع بالإقالة، فمن اشترى داراً ولها شفيع، فلم يطلب الشفعة بعد علمه بالبيع، ثم أقال العاقدان البيع، فيثبت للشفيع حق طلب الشفعة ثانياً؛ لأن الإقالة عقد جديد في حقه. وذهب زفر ومحمد والشافعية وأكثر الحنابلة إلى أن الإقالة بالنسبة للغير فسخ كما هو الشأن بالنسبة للعاقدين؛ لأن الإقالة هي الرفع والإزالة، ولأن المبيع عاد إلى البائع بلفظ لا ينعقد به البيع، فكان الاتفاق فسخاً كالرد بالعيب. 2 - أثر الفسخ في الماضي (الأثر المستند والمقتصر) والمستقبل: (107) -. للفسخ أثر مستند، أي أثر رجعي منسحب على الماضي، في العقود الفورية كالبيع والمقايضة، فيوجب التراجع فيما نفذ من التزامات، ففسخ البيع يوجب التراد في المبيع والثمن، وكذا انفساخه بهلاك المبيع قبل التسليم يوجب رد الثمن المقبوض؛ لأن الالتزام فيه يصبح بلا سبب. وعلى ذلك لا يمكن طلب الشفعة عند الفسخ. وينحصر الأثر الرجعي بالعاقدين وورثتهما عند الجمهور غير الحنفية القائلين بانتقال الخيار بالوراثة. أما غير المتعاقدين إذا اكتسب حقاً على العين المبيعة فلا يتأثر برجعية الفسخ، بل يمتنع الفسخ، وتلزم المتعاقدين الصفقة دفعاً للضرر عن الغير (¬1). وأما العقود المستمرة أو عقود المدة التي يستمر تنفيذها مع توالي الزمن كعقد ¬
الإيجار أو الشركة، فإن الفسخ يكون مقتصراً، أي ليس له أثر رجعي، وإنما يسري على المستقبل فقط، وما مضى يكون على حكم العقد، فالفسخ أو الانفساخ يقطعان تأثير هذه العقود بالنسبة إلى المستقبل، ويظل ما مضى على حكم العقد. وكذلك انحلال الوكالة بالعزل لا ينقض تصرفات الوكيل السابقة (¬1). (108) -. وكذلك للإقالة أثر رجعي كالفسخ، بشرط وجود محل العقد عند الإقالة، ووحدة الزمان، وتطابق الإيجاب والقبول، أي رضا المتقايلين وتوافق الإرادتين؛ لأن الإقالة رفع العقد، والمبيع محله، فإن كان هالكاً كله وقت الإقالة، لم تصح، وإن هلك بعضه، لم تصح الإقالة بقدره، ولأن الإقالة عند الجمهور فسخ العقد، والعقد وقع بتراضي العاقدين، فكذا فسخه، أما قيام الثمن وقت الإقالة فليس بشرط (¬2). (109) -. هذا وقد بحث السيوطي أثر الفسخ بالنسبة للماضي بعنوان: هل يرفع الفسخ العقد من أصله أو من حينه؟ فقال: 1 - فسخ البيع بخيار المجلس أو الشرط: الأصح أنه من حينه. 2 - الفسخ بخيار العيب والتصرية (ربط ثدي الشاة لتجمع اللبن): الأصح من حينه. 3 - تلف المبيع قبل القبض: الأصح الانفساخ من حين التلف. 4 - الفسخ بالتخالف بين البائع والمشتري: الأصح من حينه. 5 - السلم: يرجع الفسخ إلى عين رأس المال. ¬
6 - الفسخ بالفلس: من حينه. 7 - الرجوع في الهبة: من حينه قطعا. 8 - فسخ النكاح بأحد العيوب: الأصح من حينه. 9 - الإقالة على القول بأنها فسخ: الأصح من حينه (¬1). ويلاحظ أن أغلب حالات الفسخ في رأي الشافعية ليس لها أثر رجعي. وذكر ابن رجب الحنبلي خلافاً في الفسخ بالعيب المستند إلى مقارن للعقد، هل هو رفع للعقد من أصله أو من حينه (¬2). وذهب المالكية إلى أن فسخ البيع بسبب العيب إما بحكم الحاكم أو بتراضي المتبايعين رفع للعقد من حينه. وليس له أثر على الماضي، فتكون غلة المردود بعيب للمشتري من وقت عقد البيع وقبض المشتري له، وتثبت الشفعة للشريك بما وقعت به الإقالة (¬3). ¬
ملحق: ما اقتبسه القانون المدني المعاصر من الفقه الإسلامي
مُلحَق: ما اقتبسه القانون المدنيّ المعاصِر من الفِقه الإسلاميّ لا تتبوأ الأمة مكانتها وتنعم بعزتها بغير الاستقلال الكامل المادي والمعنوي الذي لا أثر فيه للتبعية الفكرية والثقافية والقانونية لأية دولة أخرى. ولا يكمل الاستقلال الوطني ولا تتحقق أو تنمو ذاتية البلد المطلقة ولا تخطو خطوات بنائه نحو التقدم والمستقبل المشرق، محطمة قيود التخلف إلا بالتخلص من كل آثار الاستعمار ورواسبه البعيدة المدى. ومن أولى مهام الحكم المستقل الوطني في سبيل تحقيق تلك الغاية الاعتماد في التقنين في مختلف أنواعه على التراث القومي النابع من البيئة، والمتجاوب مع تطلعات أبناء البلاد وأهدافهم وعقيدتهم. لقد اعترف الفقيه الكبير الدكتور عبد الرزاق السنهوري واضع القانون المدني المصري وغيره في البلاد العربية بأن الفقه والقضاء المصري ضيفان على القضاء الفرنسي، ولكن آن للضيف أن يعود إلى بيته، وطالب بتمصير الفقه، وجعله فقهاً مصرياً خالصاً نرى فيه طابع قوميتنا ونحس أثر عقليتنا، ففقهنا حتى اليوم لا يزال يحتله الأجنبي، الاحتلال هنا فرنسي، وهو احتلال ليس بأخف وطأة ولا أقل عنتاً من أي احتلال آخر.
لذلك كانت أمنية من أغلى الأماني العراض وأعزها لدينا أن يصدر قانون مدني وغير مدني مستمد كله من أحكام الشريعة الإسلامية. قال الدكتور السنهوري (¬1): أما جعل الشريعة الإسلامية هي الأساس الأول الذي يبنى عليه تشريعنا المدني، فلا يزال أمنية من أعز الأماني التي تختلج بها الصدور، وتنطوي عليها الجوانح. ولكن قبل أن تصبح هذه الأمنية حقيقة واقعة، ينبغي أن تقوم نهضة علمية قوية لدراسة الشريعة الإسلامية في ضوء القانون المقارن. ومن بدهي القول إعلان أن الشريعة الإسلامية ذات المصدر السماوي الإلهي المستقل لا تزال شريعة حية صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان، أكد ذلك فقهاء القانون في الغرب والشرق، وعمداء الحقوق في البلاد العربية والأجنبية، ومؤتمرات القانون المقارن والمحامين الدولية في العصر الحديث (¬2). قال الدكتور السنهوري (¬3): «ولا أريد الاقتصار على شهادة الفقهاء المنصفين من علماء الغرب، كالفقيه الألماني كوهلر والأستاذ الإيطالي دلفيشيو والعميد الأمريكي ويجمور وكثيرين غيرهم، يشهدون بما انطوت عليه الشريعة الإسلامية من مرونة وقابلية للتطور، ويضعونها إلى جانب القانون الروماني والقانون الإنكليزي إحدى الشرائع الأساسية الثلاث التي سادت ولا تزال تسود العالم. وقد أشار الأستاذ لا مبير الفقيه الفرنسي المعروف في المؤتمر الدولي للقانون ¬
المقارن، الذي انعقد في مدينة لا هاي في سنة (1932م) إلى هذا التقدير الكبير للشريعة الإسلامية، الذي بدأ يسود بين فقهاء أوروبا وأمريكا في العصر الحاضر. ولكني أرجع للشريعة نفسها لأثبت صحة ما قررته. ففي هذه الشريعة عناصر لو تولتها يد الصياغة، فأحسنت صياغتها، لصنعت منها نظريات ومبادئ لا تقل في الرقي وفي الشمول وفي مسايرة التطور عن أخطر النظريات الفقهية التي نتلقاها اليوم عن الفقه الغربي الحديث. وآتي بأمثلة أربعة اضطررت إلى الاقتصار عليها لضيق المقام: يدرك كل مطلع على فقه الغرب أن من أحدث نظرياته في القرن العشرين: نظرية التعسف في استعمال الحق، ونظرية الظروف الطارئة، ونظرية تحمل التبعة، ومسؤولية عديم التمييز. ولكل نظرية من هذه النظريات الأربع أساس في الشريعة الإسلامية لا يحتاج إلا للصياغة والبناء ليقوم على أركان قوية، ويسامت نظريات الفقه الحديث». وقد أحدثت هذه الصيحة بالاعتراف بالحق دوياً في نفوس واضعي القوانين العربية، ولم يعد مقبولاً بحال ترك مصادرنا الفقهية الإسلامية، وأخذ قانون مترجم ترجمة حرفية عن القانون المدني الفرنسي. وأثمر هذا الدوي القوي في أفكار القانونيين، فصدر في دنيا العرب قانونان مدنيان مستمدان من الفقه الإسلامي، وهما القانون المدني العراقي عام (1951م)، والقانون المدني الأردني عام (1976م)، وصدر في ليبيا ـ الثورة إلغاء صريح فوري لكل مواد القانون المدني المعارضة للشريعة، وبدئ بوضع قانون جديد مستمد من الفقه الإسلامي، كما بدئ في مصر بوضع مشاريع قوانين مدنية وجزائية مستمدة من أحكام الشريعة الإسلامية، غير الملتزمة مذهباً فقهياً معيناً،
وإنما تأخذ من مجموع أحكام المذاهب الإسلامية ـ السنية والشيعية ما يناسب ظروف العصر، وبدأت لجان منبثقة من قرارات وزراء العدل العرب بوضع قانون مدني وآخر جزائي مستمد من الشريعة الإسلامية منذ عام (1980م) وكذا قانون موحد للأحوال الشخصية، وتم إنجاز مشروعات هذه القوانين الثلاثة. وقد جاء في الأسباب الموجبة للائحة القانون المدني العراقي المكون من 1383 مادة ما يلي: إن قواعد القانون المدني العراقي استمدت من مصادر متباينة، فبعضها أخذ من الفقه الإسلامي مباشرة، وبعضها نقل عن الفقه الإسلامي مقنناً في المجلة، والبعض الآخر هو بقية من القوانين العثمانية العتيقة، وهذه القوانين بدورها قد اشتقت أحكامها بوجه خاص من القانون الفرنسي والعرف المحلي. والكثرة الغالبة من أحكام القانون العراقي قد خرِّجت على الفقه الإسلامي في مذاهبه المختلفة دون تقيد بمذهب معين، واستطاع مشروع هذا القانون أن يجد في غير عناء مادة خصبة في الفقه الإسلامي يصوغ منها طائفة العقود المسماة، سواء وقع العقد على الملكية كالبيع والهبة والشركة والقرض، أم وقع على المنفعة كالإيجار والإعارة، أو وقع على العمل كالمقاولة وعقد العمل والوكالة والوديعة. وجاء في نص البيان الصحفي الذي أعلن به مشروع القانون المدني الأردني سنة 1976م المكون من (1449) مادة ما يلي: اعتمدت لجنة واضعيه على المراجع والمصادر التالية: 1 - مجلة الأحكام العدلية والفقه الإسلامي بجميع مذاهبه. 2 - التشريعات والقوانين الأردنية المعمول بها. 3 - مشروع القانون المدني الموجود حالياً في مجلس الأعيان.
مدى الاعتماد على الشريعة في القانونين المصري والسوري
4 - كافة التشريعات والقوانين المعاصرة والمستمدة من الفقه الإسلامي. وتناول المشروع أحكام المعاملات مستمدة من الفقه الإسلامي بأحكامه الواسعة المتفتحة على الحياة وقواعده المتطورة دائماً مع متطلبات العصر والصالحة للغد ولتبدل الأزمان. وهو مشروع رائد ينتظره العرب والمسلمون بفارغ الصبر، وهو يحقق رغبة طالما تمناها كثير من رجال القضاء والقانون وعلى رأسهم المرحوم الدكتور عبد الرزاق السنهوري. ويقع المشروع في نحو (140) مادة، وتستند كل مادة من مواده إلى مآخذها ونظائرها في القوانين المعاصرة ومرجعها الفقهي في مذكرات إيضاحية تقع في نحو (1500) صفحة، وهي شروح وافية لكل مادة وثروة قانونية لقضائنا ورجال القانون. فمن المقطوع به أن كل نص تشريعي أو مادة قانونية ينبغي أن تعيش في البيئة التي تطبق فيها والبلد الذي تنفذ فيه، مهما كان مصدرها، لكن يلاحظ أن القانون الأردني وكذا الكويتي لم يجز الفوائد الربوية، على عكس القانون العراقي الذي أباح الاتفاق على الفائدة بنسبة 7%. مدى الاعتماد على الشريعة في القانونين المصري والسوري: القانون المدني السوري الصادر عام (1949م) وأصله القانون المصري الصادر عام (1948م) ما يزالان قائمين على أساس من القانون المدني الفرنسي، إلا أنهما جعلا الفقه الإسلامي (م 2/ 1) مصدراً رسمياً للقانون يأتي في المرتبة الثانية بعد نصوص القانون في قانوننا السوري (ومثله القانون الجزائري الصادر عام 1975) وفي المرتبة الثالثة بعد نصوص القانون والعرف والعادة في القانون المصري.
بعض المبادئ والنظريات العامة المقتبسة من الفقه الإسلامي
وفي تقديري أن اعتبار الفقه الإسلامي مصدراً رسمياً احتياطياً في كلا القانونين ليس له فائدة عملية كبيرة؛ لأن القاضي لا يلجأ إليه إلا إذا استحال عليه الوصول إلى الحكم القانوني من نصوص التشريع، وهذا احتمال نادر، لكنه لا شك يزيد كثيراً في أهمية الشريعة الإسلامية، ويجعل دراستها دراسة عملية في ضوء القانون المقارن أمراً ضرورياً لا من الناحية النظرية الفقهية فحسب، بل كذلك من الناحية العملية التطبيقية. فكل من الفقيه والقاضي أصبح الآن مطالباً أن يستكمل أحكام القانون المدني، فيما لم يرد فيه نص بالرجوع إلى أحكام الفقه الإسلامي (¬1). ولكن المفيد التعرف على الأحكام التي استمدها القانون المدني السوري (وأصله المصري) من الفقه الإسلامي. وبعض هذه الأحكام هي مبادئ عامة، وبعضها مسائل تفصيلية (¬2): بعض المبادئ والنظريات العامة المقتبسة من الفقه الإسلامي: 1 - النزعة الموضوعية 2 - الأهلية، ومسؤولية عديم التمييز 3 - نظرية التعسف في استعمال الحق 4 - نظرية الظروف الطارئة 5 - حوالة الدين 6 - لا تركة إلا بعد سداد الدين ¬
بعض الأحكام التفصيلية المستقاة من الفقه الإسلامي
بعض الأحكام التفصيلية المستقاة من الفقه الإسلامي: 1 - في عقد البيع (أحكام مجلس العقد، البيع بالصفة، تبعة الهلاك في البيع ـ نظرية تحمل التبعة، حق الحبس، الغبن في بيع القاصر، ضمان العيوب الخفية وضمان التعرض والاستحقاق). 2 - في عقد الإيجار (إيجار الأراضي الزراعية، غرس الأشجار في العين المؤجرة، هلاك الزرع في العين المؤجرة، المزارعة، انقضاء الإيجار بموت المستأجر وفسخه للعذر، إيجار الوقف). 3 - حقوق الارتفاق: (حق العلو والسفل، الحائط المشترك). 4 - أحكام عقد الهبة ـ شكلاً وموضوعاً (تكوين العقد، محل العقد، الرجوع في الهبة). 5 - تصرف المريض مرض الموت. 6 - أحكام متفرقة (مدة التقادم، الإبراء من الدين بإرادة الدائن وحده). بيان أهم المبادئ والنظريات المقتبسة من الفقه الإسلامي: 1 - النزعة الموضوعية: أخذ القانونان المصري والسوري بالنزعة الموضوعية التي تخللت كثيراً من النصوص (¬1). وهذه هي نزعة الفقه الإسلامي والقوانين الجرمانية، آثرها التقنين على النزعة الذاتية التي هي طابع القوانين اللاتينية، وجعل الفقه الإسلامي عمدته ¬
في الترجيح. فأخذ بالإرادة الظاهرة وبالموضوعية معاً، ولكن بقدر متفاوت، إذ أقلَّ من الأخذ بالإرادة الظاهرة، وأكثر من الأخذ بالموضوعية، إلى حد أنه حينما كان في بعض المسائل يتخذ معايير ذاتية لم يتخذها ذاتية محضة، بل رسم لها ضوابط موضوعية ليضفي عليها شيئاً من الثبات والاستقرار. ومن أمثلة المعايير الموضوعية (عناية الشخص المعتاد) أي أن الشخص مطالب بأن يبذل من العناية في حفظ مال الغير كالوديعة مثلاً ما يبذله عادة في حفظ ماله الخاص. انظر القانون المدني السوري (المواد 1/ 212 في الالتزام بعمل، 2/ 489 في آثار الشركة، 1/ 551 في استعمال العين المؤجرة، 1/ 607 التزام المستعير، 1/ 651 التزام العامل، 2/ 670 التزام الوكيل، 686 التزام الوديع، 1/ 700 التزام الحارس، 1/ 193 التزام الفضولي، 1/ 130 إبطال العقد بسبب الغبن، 147 انتقال الالتزام إلى الخلف الخاص، 179 مسؤولية حارس الأشياء، 222 تعويض الضرر، 1/ 415 التزام البائع بضمان العيوب الخفية، 1/ 580 استغلال المستأجر الأراضي الزراعية). وهذا المعيار الموضوعي مقرر في الفقه الإسلامي في الأحوال السابقة، فقد قرر فقهاؤنا أنه يجب على الأمين أن يحفظ الأمانة، كما يحفظ ماله على النحو الذي جرت به عادة الناس في كيفية حفظ أموالهم (¬1). أما الفقه الإسلامي فيقرر مسؤولية الصبي غير المميز والمجنون مطلقاً عن الإتلافات، قال الحنفية: «الصبي المحجور عليه مؤاخذ بأفعاله، فيضمن ما أتلفه ¬
2 - أحكام الأهلية ومسؤولية عديم التمييز
من المال» (¬1) «لو أن طفلاً ابن يوم انقلب على قارورة فكسرها، لزمه الضمان» (¬2) وقال المالكية: «إن تقويم المتلفات لا يختلف باختلاف الناس، إنما باختلاف البلاد والأزمان» (¬3). ونصت المجلة على ذلك فيما يأتي: « .... يلزم الضمان على الصبي إذا أتلف مال الغير، وإن كان غير مميز» (م 960): «إذا أتلف صبي مال غيره يلزم الضمان من ماله، وإن لم يكن له مال ينتظر إلى حال يساره، ولا يضمن وليه» (م916) (م 912). ولكن لا يكون غير المميز مسؤولاً مسؤولية جنائية عن حوادث القتل، فلا ينفَّذ في حقه القصاص، وإنما يقتصر على تعزيره بالحبس أو بالتوبيخ ونحوهما. 2 - أحكام الأهلية ومسؤولية عديم التمييز: إن أحكام الأهلية (المواد 46 - 50، 109 - 129) مستمدة من الفقه الإسلامي (¬4)، سواء فيما يتعلق بأهلية التملك أو بمباشرة التصرفات والعقود، ووجود الحاجة أحياناً إلى النائب الشرعي عن الغير، والحكم ببطلان التصرف بسبب انعدام الأهلية، إلا أن القانون في حالة وجود عيب من عيوب الرضا كالإكراه والتدليس والغلط يجعل العقد قابلاً للإبطال، أي أن العقد قائم وموجود، لكنه عرضة للإبطال من طريق القاضي بناء على طلب صاحب المصلحة ¬
في حماية حقه الخاص. وأما في الفقه فيسمى العقد حينئذ غير لازم أي يجوز فسخه من صاحب الحق بمحض إرادته من غير قضاء إلا في حالة وجود التدليس المتضمن إخفاء عيب (خيار العيب) فيحتاج إلى القضاء لتقدير وجود العيب. وقد يسمى العقد المعيب بعيب (كما في حالة الإكراه) غير نافذ أو موقوفاً على الإجازة كما في حالة تجاوز العاقد حدود النيابة المتعارف عليها، إلا أن العقد الموقوف لا ينتج أي أثر، أما العقد القابل للإبطال فهوعقد صحيح منتج لآثاره. وكذلك أخذ القانون المدني بمبدأ مسؤولية عديم التمييز عن أعماله غير المشروعة التي تسبب ضرراً للغير، مسايرة لمبادئ الشريعة الإسلامية التي توجب تعويض الضرر الواقع باعتباره واقعة مادية، ولو لم يتوفر عنصر الخطأ أحد أركان المسؤولية المدنية التقصيرية، وهو ما تقرره نظرية تحمل التبعة التي لا تقيم المسؤولية على أساس فكرة الخطأ، وإنما تكتفي بمراعاة مبدأ «الغرم بالغنم». وقد نص القانون المدني السوري على ذلك في المادة (2/ 165): «ومع ذلك إذا وقع الضرر من شخص غير مميز، ولم يكن هناك من هو مسؤول عنه، أو تعذر الحصول على تعويض من المسؤول، جاز للقاضي أن يلزم من وقع منه الضرر بتعويض عادل، مراعياً في ذلك مركز الخصوم» أي أن هذه المسؤولية لغير المميز تتميز بأنها مشروطة، ومسؤولية مخففة أي في حدود التعويض العادل (¬1). وبهذا يكون ولي القاصر بصفة عامة هو المسؤول عن عمل القاصر أو المجنون على أساس الخطأ المفترض أو التقصير في الرقابة (راجع المادة 174). وسألقي الضوء إجمالاً على هذه المبادئ والنظريات والأحكام التفصيلية المستمدة من الفقه الإسلامي، تاركاً الشرح لفقهاء القانون المدني الذين يبينون عادة منشأ هذه الأحكام، وموطن استمداد المشرع لها. ¬
3 - نظرية التعسف في استعمال الحق
3 - نظرية التعسف في استعمال الحق: ليس حق الملكية حقاً مطلقاً، وإنما هو مقيد بعدم إلحاق الضرر بالغير، فإذا ترتب على استعمال الحق إحداث ضرر بالغير نتيجة إساءة استعمال هذا الحق، كان محدث الضرر مسؤولاً. ونص القانون المدني السوري على هذا المبدأ في المادتين (5، 6) «من استعمل حقه استعمالاً مشروعاً لا يكون مسؤولاً عما ينشأ عن ذلك من ضرر» (م5). يكون استعمال الحق غير مشروع في الأحوال الآتية: «أـ إذا لم يقصد به سوى الإضرار بالغير. ب ـ إذا كانت المصالح التي يرمي إلى تحقيقها قليلة الأهمية، بحيث لا تتناسب البتة مع ما يصيب الغير من ضرر». ج ـ إذا كانت المصالح التي يرمي إلى تحقيقها غير مشروعة (م6) وقد حرص واضعو القانون ـ لدى صياغة النص الذي أورد في هذه النظرية ـ على الاستفادة من القواعد التي استقرت في الفقه الإسلامي (¬1) ومن أهمها: «تصرف الإنسان في خالص حقه إنما يصح إذا لم يتضرر به غيره» فهذه القاعدة أساس واضح لنظرية منع التعسف في استعمال الحق، وهي القاعدة المنظمة لحقوق الجوار (¬2). أما نص المادة (5) فمأخوذ من المبدأ المقرر في الشريعة المعبر عنه في القاعدة الفقهية الكلية القائلة: (الجواز الشرعي ينافي الضمان) أي أن الفعل المباح شرعاً لا يستوجب الضمان أو تعويض الضرر الذي قد يحدث. ¬
وأما نص المادة (6) فمستمد من حيث المبدأ من الحديث النبوي المتقدم: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» الذي يقضي بمنع الضرر في حالتين: الأولى ـ استعمال الحق بقصد الإضرار. الثانية ـ أن يترتب على استعمال الحق المشروع إضرار الآخرين، سواء أكان الاستعمال على وجه معتاد، أم على غير الوجه المعتاد. وفي كلتا الحالتين توجب قواعد الإسلام إزالة الضرر عيناً، سواء أكان مادياً أم معنوياً؛ لأن الراجح أن المنافع أموال متقومة، فإن تعذر ذلك يجب الحكم بتعويض مالي عادل لرفع آثار الضرر ومنع بقائه أو تجدده في المستقبل. ويلاحظ أن القانون قصر التعسف على حالات الاستعمال غيرالمشروع (¬1). أما الحالة الأولى قانوناً فتقابل الحالة الأولى المفهومة من الحديث، والحالة الثانية تقابل الحالة الثانية المأخوذة من الحديث، وتتفق مع ما أخذت به المجلة (المادة 19، 20) ويقتضيه الاستحسان الفقهي. وأما الحالة الثالثة في القانون فهي مستقاة من مجموع ما تقرره المذاهب الإسلامية وتقتضيه روح التشريع الإسلامي في محاربة الأعمال غير المشروعة، أو المعاصي والمنكرات الضارة بمصلحة المجتمع، وأنه يتحمل الضرر الخاص لمنع الضرر العام ونحو ذلك من كل ما يجعل للحق صلة اجتماعية في الإسلام. وقد ذكرت المادة (1199) من المجلة مبدأ نظرية التعسف: لا يمنع أحد من التصرف في ملكه أبداً إلا إذا كان ضرره لغيره فاحشاً، كما يأتي تفصيله في الفصل الثان وفي هذا الفصل وضع معيار الضرر الفاحش (في المادة 1199) وفي المادة (1200) ذكرت أمثلة عديدة عن الأضرار. ¬
4 - نظرية الظروف الطارئة
4 - نظرية الظروف الطارئة: لقد نشأت هذه النظرية في نطاق القضاء الإداري، ثم تسللت إلى ميدان الحقوق الخاصة. وهي في أصلها تقوم على فكرة إسعاف المتعاقد المنكوب الذي اختل توازن عقده اقتصادياً مما قد يجره إلى الهلاك، فهي تهدف إلى تحقيق العدالة في العقود ورفع الغبن منها (¬1). والمصدر الأساسي لهذه النظرية هو مبدأ العدالة الذي يقضي بإزالة الإرهاق عن المدين، بسبب ظرف طارئ، لم يكن يتوقعه عند إبرام العقد (¬2). وأخذ بهذه النظرية القانون المدني السوري، فنص في المادة (1/ 148) على ما يلي: «العقد شريعة المتعاقدين، فلا يجوز نقضه ولا تعديله إلا باتفاق الطرفين، أو للأسباب التي يقررها القانون». وأردفتها الفقرة الثانية من هذه المادة، فقررت «ومع ذلك إذا طرأت حوادث استثنائية عامة لم يكن في الوسع توقعها، وترتب على حدوثها أن تنفيذ الالتزام التعاقدي، وإن لم يصبح مستحيلاً، صار مرهقاً للمدين بحيث يهدده بخسارة فادحة، جاز للقاضي تبعاً للظروف وبعد الموازنة بين مصلحة الطرفين، أن يرد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول، ويقع باطلاً كل اتفاق على خلاف ذلك». النص الثاني يدل على أنه، وإن كان الأصل العام في القواعد المدنية التقليدية شريعةالمتعاقدين (أو أن المتعاقد عبد عقده)، وأنه ليس للقاضي أن يعدل في العقد، فإن وجود الظرف الطارئ يجيز للقاضي إجراء هذا التعديل. وبهذا النص قيد القانون من سلطان الإرادة عند تنفيذ العقد، فجعل نظرية ¬
الحوادث الطارئة وقت هذا التنفيذ تقابل نظريتي الاستغلال والإذعان وقت تكوين العقد. أخذ القانون المدني بهذه النظرية استناداً إلى نظرية الضرورة في الشريعة الإسلامية، وهي ـ كما قال الدكتور السنهوري (¬1) ـ نظرية فسيحة المدى، خصبة النتائج، تتسع لنظرية الظروف الطارئة؛ لأن الضرورة توجب إزالة الضرر، ولها تطبيقات كثيرة منها نظرية العذر في فسخ الإيجار، وإنقاص الثمن بسبب الجوائح في بيع الثمار. أما فسخ الإجارة بالأعذار، فقد أجازه فقهاء الحنفية كما تقدم، فقالوا: تفسخ الإجارة بالأعذار؛ لأن الحاجة تدعو إلى الفسخ عند العذر؛ لأنه لو لزم العقد عند تحقق العذر للزم صاحب العذر ضرر لم يلتزمه بالعقد. والعذر: هو كل ما يكون أمراً عارضاً، يتضرر به العاقد في نفسه أو ماله مع بقاء العقد، ولا يندفع بدون الفسخ. والأعذار ثلاثة أنواع (¬2): أـ عذر من جانب المستأجر: كإفلاسه أو انتقاله من حرفة إلى أخرى؛ لأن المفلس أو المنتقل من عمل لا ينتفع به إلا بضرر، فلا يجبر على البقاء في الحرفة الأولى مثلاً. ب ـ عذر من جانب المؤجر: كأن يلحقه دين فادح لا يجد طريقاً لوفائه إلا ببيع الشيء المأجور وأدائه من ثمنه، بشرط أن يثبت الدين بالبينة أو الإقرار. ¬
ج ـ عذر راجع للعين المؤجرة أو الشيء المأجور: كأن يستأجر شخص حماماً في قرية ليستغله مدة معلومة، ثم يهاجر أهل القرية، فلا يجب عليه الأجر للمؤجر. ومثل استئجار مرضع لإرضاع طفل، ثم يأبى الصبي لبنها، أو إمساك الثدي، أو تمرض هي، أو يريد أهل الصبي السفر، فامتنعت، كان هذا عذراً في فسخ الإجارة. وأما إنقاص الثمن بسبب الجوائح (¬1) في بيع الثمار: فقد قرره فقهاء المالكية والحنابلة (¬2)؛ لأن «النبي صلّى الله عليه وسلم وضع الجوائح» أو «أمر بوضع الجوائح» وفي رواية: «إن بعت من أخيك تمراً فأصابتها جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئاً، بم تأخذ مال أخيك بغير حق» (¬3). ومجمل القول: إن فسخ الإجارة بالأعذار، وإنقاص الثمن بالجوائح في بيع الثمار ونحوهما من الحوادث الطارئة عند فقهاء الإسلام مثل كساد الأوراق النقدية، أو انقطاعها المستوجب لبطلان البيع، تعتبر أمثلة حية لنظرية الظروف الطارئة في الفقه الإسلامي، تطبيقاً لمبدأ العدالة، ومراعاة لما يجب من توفر التعادل والتوازن في الالتزامات وتنفيذها (¬4). ¬
5 - حوالة الدين
5 - حوالة الدين: أخذ القانون المدني (في المواد 315 - 321) بمبدأ حوالة الدين جرياً على سنن التقنينات الحديثةوالفقه الإسلامي الذي نظم حوالة الدين تنظيماً محكماً دقيقاً (¬1). وتتم حوالة الدين قانوناًإما باتفاق بين المدين وشخص آخر يتحمل عنه الدين، دون حاجة إلى قبول الدائن، وإما باتفاق بين الدائن وشخص آخر يتحمل قبله الدين من دون حاجة إلى قبول المدين. فإذا تمت الحوالة، جاز للمدين الجديد أن يتمسك قِبَل الدائن بالدفوع التي كان للمدين الأصلي أن يتمسك بها، ويضمن المدين الأصلي للدائن أن يكون المدين الجديد موسراً وقت إقرار الدائن للحوالة. ولم يجز التشريع الروماني حوالة الدين وحوالة الحق، لتأثره بالنظرية الشخصية في طبيعة الالتزام، ومقتضاها أن لأحد الطرفين سلطة شخصية على الآخر، يحق للدائن بموجبها إجبار المدين على إيفاء دينه بالإكراه البدني كالحبس والمضايقة. ثم اتجه التشريع الألماني إلى الأخذ بالنظرية المادية التي تعتبر الالتزام علاقة مادية بحتة، فلا تجيز الإجبار، وإنما يبحث الدائن عن مال المدين، فإن عثر عليه، أمكن استيفاء الحق منه بواسطة القضاء. أما التشريع الإسلامي، فإنه جعل الالتزام في ذاته علاقة مادية إما بمال المكلف كما في المدين، وإما بعمله كما في الأجير، ولكن يرافق هذا الالتزام سلطة شخصية تأييداً لتنفيذه، منعاً من قيام المكلف بإخفاء ماله، أو امتناعه عن عمله. ويجوز للقاضي الحكم بحبس المدين أو الأجير تعزيراً بناءً على طلب الدائن، ¬
ليحمله على الوفاء بالتزامه. ولا يجوز للدائن أن يمارس شيئاً من هذه الضغوط على المدين بسلطته الشخصية وإنما من طريق القضاء (¬1). والتقنين المدني المصري والسوري وقف موقف الاعتدال في النظرية الشخصية والنظرية المادية للالتزام، فلم يغرق في الأخذ بالمذهب المادي، ولكنه من جهة أخرى سجل ما تم فعلاً من تطور نحو هذا المذهب بحكم تأثر النظريات اللاتينية بالنظريات الجرمانية (¬2). وهذا هو اتجاه الفقه الإسلامي. وحوالة الدين عند فقهاء الحنفية: هي نقل المطالبة من ذمة المدين إلى ذمةالملتزم (¬3). وعرفها غير فقهاء الحنفية بأنها عقد يقتضي نقل دين من ذمة إلى ذمة (¬4). فالحوالة عند الحنفية يترتب عليها براءة مؤقتة من الدين، ويجوز للمحال العودة إلى مطالبة المحيل بالدين في حال إفلاس المحال عليه في رأي صاحبي أبي حنيفة، أوفي حال موت المحال عليه مفلساً، أوعند جحوده أو إنكاره الحوالة. وعند غير الحنفية يبرأ المحيل براءة نهائية بالحوالة، إلا إذا وجد تغرير كالإحالة على مفلس، فيجوز عند المالكية الرجوع على المحيل. كما يجوز الرجوع عندهم حال اشتراط يسار المحال عليه. وتنعقد الحوالة عند الحنفية: بإيجاب وقبول، إيجاب من المحيل، وقبول من المحال والمحال عليه، أي أنه لا بد من رضا المحيل والمحال عليه. أما رضا المحيل فمطلوب؛ لأن ذوي المروءات قد يأنفون بتحمل غيرهم ما عليهم من الدين. وأما رضا المحال فلا بد منه، لأن الدين حقه، وهو في ذمة المحيل، والدين هو الذي ¬
ينتقل بالحوالة، والذمم متفاوتة في حسن القضاء والمطل، فلا بد من رضاه، وإلا لزم الضرر بإلزامه اتباع من لا يوفيه. وأما رضا المحال عليه فضروري لأنه الذي يلزمه الدين، ولا لزوم إلا بالتزامه، وكونه مديناً لا يمنع من تغير صفة الالتزام؛ لأن الناس يتفاوتون في اقتضاء الدين سهولة ويسراً، أو صعوبة وعسراً. وقال الحنابلة والظاهرية: يشترط رضا المحيل فقط، وأما المحال والمحال عليه فيلزمهما قبول الحوالة، عملاً بالأمر الوارد في الحديث النبوي المفيد للوجوب، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: «مطل الغني ظلم، وإذا اتبع أحدكم على مليء فليتْبَع» (¬1) وفي رواية: «ومن أحيل على مليء فليحتل». وقال المالكية في المشهور عندهم، والشافعية في الأصح عندهم: يشترط لصحة الحوالة رضا المحيل والمحال فقط؛ لأن للمحيل إيفاء الحق من حيث شاء، فلا يلزم بجهة معينة. وحق المحال في ذمة المحيل، فلا ينتقل إلا برضاه؛ لأن الذمم تتفاوت في الأداء والقضاء. ولايشترط عند هؤلاء رضا المحال عليه، لأنه محل الحق والتصرف، ولأن الحق للمحيل فله أن يستوفيه بغيره، والأمر هو مجرد تفويض بالقبض فلا يعتبر رضا من عليه، كما لو وكل إنسان غيره بقبض دينه (¬2). والخلاصة: أن رضا المحيل مشروط في كل المذاهب، وأما رضا المحال والمحال عليه، ففيه اختلاف اجتهادي بين المذاهب. ¬
نوعا الحوالة
نوعا الحوالة: الحوالة نوعان متميزان بحسب صفة المحيل، فإن كان المحيل هو الدائن فهي حوالة حق، وإن كان المحيل هو المدين فهي حوالة دين. حوالة الحق: هي نقل الحق من دائن إلى دائن، أو حلول دائن محل دائن بالنسبة للمدين. فإذا تبدل دائن بدائن في حق مالي متعلق بالذمة، لا بعين، كانت الحوالة حوالة حق. والدائن فيها هو المحيل، إذ هو يحيل غيره ليستوفي حقه. وحوالة الدين: هي تبدل المدين بالنسبة للدائن أي تبدل مدين بمدين، والمحيل فيها هو المدين، إذ هو إنما يحيل على غيره لوفاء دينه، وهي مشروعة باتفاق العلماء، عملاً بالحديث النبوي المار ذكره. وحوالة الحق جائزة أيضاً باتفاق المذاهب الأربعة، وليس فقط عند غير الحنفية، كما فهم بعض أساتذة القانون والشريعة (¬1)؛ لأن حوالة الدين عند الحنفية والشيعة نوعان: مطلقة ومقيدة. وأما غير الحنفية فلم يتصوروا غير الحوالة المقيدة. أما الحوالة المطلقة: فهي أن يحيل شخص غيره بالدين على فلان، ولا يقيده بالدين الذي عليه، ويقبل المحال عليه. نصت المادة (679) من المجلة على ذلك بقولها: «الحوالة المطلقة: هي التي لم تقيد بأن تعطى من مال المحيل الذي هو عند المحال عليه». وأما الحوالة المقيدة: فهي أن يحيل شخص غيره على آخر، ليستوفي منه دينه، ويقيده بالدين الذي له عليه. جاء في المادة (678) من المجلة: «الحوالة المقيدة: هي الحوالة التي قيدت بأن تعطى من مال المحيل الذي هو في ذمة المحال عليه، وفي يده». ¬
6 - لا تركة إلا بعد سداد الدين
والحوالة المقيدة المشروعة باتفاق الفقهاء تتضمن حوالة حق، إذ يكون الإنسان فيها مديناً لشخص، ودائناً لآخر، فيحيل دائنه على مدينه ليقبض ذلك الدائن المحال دين المحيل من مدينه المحال عليه، فهي حوالة حق ودين في وقت واحد. أما الحوالة المطلقة فهي حوالة دين فقط، إذ يحيل بها المدين دائنه على آخر، فيتبدل فيها المدين، ويبقى الدائن هو نفسه. ومن صور حوالة الحق ضمن الحوالة المقيدة: أن يحيل البائع دائنه على المشتري بالثمن، ويحيل المرتهن على الراهن بالدين، وتحيل الزوجة على زوجها بالمهر. ويحيل صاحب الحق في ريع الوقف دائنه على ناظر الوقف في حقه من الغلة بعد حصولها في يد الناظر. ويحيل الغانم حقه من الغنيمة المحرزة على الإمام. ففي كل هذه الأمثلة حل دائن جديد ـ وهو المحال ـ محل الدائن الأصلي، وهو البائع، أو المرتهن، أو الزوجة، أو مستحق غلة الوقف، أو الغانم. هذا ويرجع في أحكام الحوالة الأخرى من أهلية وتنظيم علاقات أطراف الحوالة إلى كتب الفقه الإسلامي، فهي غنية بالمراد. 6 - لا تركة إلا بعد سداد الدين: وضع التقنين المدني السوري وأصله المصري نظاماً لتصفية التركة مؤلفاً من (39) مادة (المواد 836 - 875) مستمداً من أحكام الفقه الإسلامي (¬1)، حتى يتسلم الورثة تركة المتوفى خالية من الديون، ما دامت التركة لاتنتقل إليهم إلا بعد سدادها (¬2). ¬
وأصل هذه القاعدة الأول ما تضمنته آيات المواريث في أربعة مواطن في الآيتين (11 - 12) من سورة النساء: {مِنْ بَعْد وَصِيَةٍ يُوصِي بِها أوْ دَيْن} أي أن توزيع الإرث بين المستحقين على النحو الذي وضعه القرآن الكريم يكون عقب إيفاء الديون المتعلقة بالتركة، وتنفيذ الوصايا المشروعة. وقد رتب الفقهاء الحقوق المتعلقة بالتركة على النحو التالي (¬1): 1 - نفقات التكفين والتجهيز للدفن بلا تبذير ولا تقتير. 2 - قضاء ديون المدين من جميع مال التركة. 3 - تنفيذ الوصايا الموصى بها قبل الموت من ثلث التركة. 4 - توزيع الباقي من المال بين الورثة الذين ثبت إرثهم بالقرآن والسنة وإجماع الأمة. أما قانون الأحوال الشخصية السوري، فإنه عدل عن هذا الترتيب إلى ما ذهب إليه الإمام أحمد بن حنبل والظاهرية وجماعة كما نصت المادة (262): 1 - يؤدى من التركة بحسب الترتيب الآتي: أـ ما يكفي لتجهيز الميت ومن تلزمه نفقته من الموت إلى الدفن بالقدر المشروع. ب ـ ديون الميت. جـ ـ الوصية الواجبة. ¬
متى يتم انتقال التركة إلى الورثة؟
د ـ الوصية الاختيارية. هـ ـ المواريث بحسب ترتيبها في هذا القانون. 2 - إذا لم توجد ورثة قضي من التركة بالترتيب الآتي: أـ استحقاق من أقر له الميت بنسب على غيره. ب ـ ما أوصي به فيما زاد على الحد الذي تنفذ فيه الوصية. 3 - إذا لم يوجد أحد من هؤلاء آلت التركة، أو ما بقي منها إلى الخزانة العامة، وبما أن قانون الأحوال الشخصية هو المعمول به في سورية، فتطبق على التركة أحكام الشريعة الإسلامية فيما يتعلق بتعيين الورثة، وتقدير أنصبتهم، وبيان وقت انتقال التركة إلى الورثة. وقد أخذ التقنين المدني فيما نص عليه بالمبادئ الأساسية المعمول بها في الفقه الإسلامي في مذاهبه المختلفة وذلك في انتقال أموال التركة إلى الورثة، وفي حق الورثة في التصرف في هذه الأموال، وفي حقوق الدائنين المتعلقة بالتركة وكيفية سداد الديون، فنصت المادة (836) من القانون المدني على ذلك: «أـ تعيين الورثة وتحديد أنصبائهم في الإرث وانتقال أموال التركة إليهم تسري في شأنها أحكام الشريعة الإسلامية والقوانين الصادرة في شأن الإرث والانتقال». لكن متى يتم انتقال التركة إلى الورثة؟ هل يكون وقت موت المورث، أو تبقى التركة على ملك الميت حتى تسدد الديون؟ أخذ التقنين المدني بالمبدأ الفقهي الإسلامي الذي يقرر أن أموال التركة تنتقل إلى الورثة بمجرد موت المورث، مع تعلق حقوق الدائنين بها، فتنتقل هذه الأموال
تحديد وقت انتقال التركة إلى الورثة
مثقلة بحق عيني هو أقرب إلى أن يكون حق رهن، ولكنه رهن مصدره القانون (¬1). وهذا هو مذهب الشافعية. وللفقهاء آراء ثلاثة في هذا الموضوع أي تحديد وقت انتقال التركة إلى الورثة أو بيان المراد من (لا تركة إلا بعد سداد الدين). الرأي الأول للمالكية: تبقى أموال التركة على ملك الميت بعد موته إلى أن يسدد الدين، سواء أكان الدين مستغرقاً للتركة، أم لم يكن مستغرقاً لها، عملاً بقوله تعالى: {من بعد وصية يوصي بها أو دين} [النساء:11/ 4]. وعليه يكون نماء أعيان التركة بزيادتها المتولدة منها ملكاً للميت، كما أن نفقات أعيان التركة من حفظ وصيانة ومصروفات حمل ونقل وطعام حيوان تكون على التركة. الرأي الثاني للشافعية، والحنابلة (في أشهر الروايتين): تنتقل أموال التركة إلى ملك الورثة فوراً بموت المورث، مع تعلق الدين بها، كما يتعلق الرهن، سواء أكان الدين مستغرقاً للتركة أم غير مستغرق لها. وعليه يكون نماء أعيان التركة للورثة، وعليهم ما تحتاجه من نفقات، عملاً بالحديث النبوي: «من ترك مالاً أو حقاً فلورثته». الرأي الثالث للحنفية: يميز بين ما إذا كانت مستغرقة بالدين، أو كانت غير مستغرقة (أي محاطة) بالدين. فإذا استغرق الدين أموال التركة، تبقى أموال التركة على ملك الميت، ولا تنتقل إلى ملك الورثة. وأما إن كان الدين غير مستغرق، فالرأي الراجح أن أموال التركة تنتقل إلى الورثة بمجرد موت المورث مع تعلق الدين بهذه الأموال. ¬
للفقهاء آراء في تصرف الورثة
فالاحتمال الأول من مذهب الحنفية يوافق مذهب المالكية، والاحتمال الثاني يوافق مذهبي الشافعية والحنابلة. وأما تصرف الورثة في أعيان التركة قبل سداد الدين: فإنه يجوز في القانون المدني، ولكن التصرف خاضع لحقوق الدائنين، فلهم تتبع العين المتصرف فيها في يد الغير، بعد تأشيرهم بالدين أمام اسم المورث في سجل عام تدون فيه أسماء المورثين، وإخضاع التركة لنظام التصفية المنصوص عليه في القانون، يقوم مقام التأشير بالدين. وللفقهاء آراء في تصرف الورثة: قال الحنفية والشافعية، والمالكية (في رأي عندهم): يكون تصرف الوارث في أموال التركة المدينة باطلاً. والرأي الثاني عند المالكية يجيز تصرف الوارث في التركة المدينة قبل أداء الدين إذا لم يتضرر الدائن به. وقال الحنابلة (في أشهر الروايتين): يصح تصرف الورثة في التركة قبل سداد الدين، ولزمهم أداء الدين، فإن أدوه نفذ، وإن لم يؤدوه فسخ. بيان بعض الأحكام المأخوذة من الفقه الإسلامي: أخذ التقنين المدني السوري والمصري طائفة من الأحكام من الفقه الإسلامي، دون تقيد بمذهب معين، وهذا صنيع حسن، إذ الأخذ بأي مذهب إسلامي أفضل بكثير من أخذه من أي مصدر أجنبي. وسأذكر بعض هذه الأحكام: أولاً ـ في عقد البيع: وردت أحكام كثيرة في تنظيم عقد البيع في التقنين المدني مستمدة من الفقه الإسلامي، منها:
1 - أحكام مجلس العقد
1 - أحكام مجلس العقد: نصت المادة (95) على ما يلي: «1 - إذا صدر الإيجاب في مجلس العقد، دون أن يعين ميعاد للقبول، فإن الموجب يتحلل من إيجابه إذا لم يصدر القبول فوراً، وكذلك الحال إذا صدر الإيجاب من شخص إلى آخر بطريق التلفون أو بأي طريق مماثل. 2 - ومع ذلك يتم العقد، ولو لم يصدر القبول فوراً، إذا لم يوجد ما يدل على أن الموجب قد عدل عن إيجابه في الفترة ما بين الإيجاب والقبول، وكان القبول قد صدرقبل أن ينفض مجلس العقد». دلت هذه المادة على أحكام تتعلق بمجلس العقد: وهي جواز الرجوع عن الإيجاب الموجه قبل صدور القبول الفوري من القابل. ولا يشترط القبول الفوري، وإنما يكفي حدوثه ما دام مجلس العقد قائماً بأن لم يحدث إعراض عنه أو انشغال بغيره. وهذه الأحكام تتفق مع ما عرفناه من مذهب الحنفية في تكوين العقد. قال الدكتور السنهوري: ولا شك في أن الوضع على هذا الأساس المستمد من الشريعة الإسلامية قد أصبح وضعاً عملياً معقولاً، ولم تعد الفورية في القبول لازمة، بل يجوز فيه التراخي مدة معقولة لا ينشغل فيها المتعاقدان بغير العقد، ويبقى فيها الموجب على إيجابه. وهذا هو في نظرنا خير تفسير لقواعد الفقه الإسلامي في مجلس العقد (¬1). ¬
2 - البيع بالصفة أو بالعينة (النموذج)
2 - البيع بالصفة أو بالعينة (النموذج): أجاز القانون المدني البيع بالصفة، إذا ذكرت أوصاف المبيع الأساسية، فنصت المادة (387) على ما يلي: «1 - يجب أن يكون المشتري عالماً بالمبيع علماَ كافياً. ويعتبر العلم كافياً إذا اشتمل العقد على بيان المبيع وأوصافه الأساسية بياناً يمكن من تعرفه». ونصت المادة (388) على جواز البيع بالنموذج: «إذا كان البيع (بالعينة) وجب أن يكون المبيع مطابقاً لها». وهذا مأخوذ من الفقه الإسلامي الذي يشترط أن يكون محل العقد معروفاً لطرفيه ومعيناً، بحيث لا يكون فيه جهالة تؤدي إلى الغرر والنزاع بين المتعاقدين. وهذا شرط متفق عليه بين الفقهاء (¬1). وتحصل المعرفة برؤية المبيع حال العقد، أو رؤية بعضه (رؤية النموذج) أو بيان أوصافه الأساسية. وقد أجاز البيع بالصفة فقهاء الحنفية والمالكية، والشافعية (في الأظهر) والظاهرية، والزيدية والإمامية وفي قول عند الإباضية (¬2). جاء في المادة (320) من المجلة: «من اشترى شيئاً ولم يره، كان له الخيار إلى أن يراه، فإذا رآه: إن شاء قبله، وإن شاء فسخ البيع، ويقال لهذا الخيار: خيار الرؤية». وفي المادة (324): «الأشياء التي تباع على مقتضى أنموذجها تكفي رؤية الأنموذج منها فقط». ويثبت للمشتري عند فقهائنا حق خيار الوصف بعد رؤية المبيع، فإن شاء أنفذ ¬
3 - تبعة هلاك المبيع
البيع، وإن شاء رده، سواء أكان موافقاً للصفة أم لا، وهذا لا يتفق مع القانون. وقال المالكية ورأيهم هو المتفق مع القانون (¬1): إذا جاء المبيع على الصفة صار العقد لازماً. لكن القانون على الرغم من محاولته التوفيق بين خيار الرؤية المقرر في الشريعة وبين مبادئ القانون العامة، فقد خالف الفقه الحنفي في الاكتفاء بوصف المبيع وصفاً كافياً، وفي إسقاط حق المشتري إذا ذكر أنه عالم بالمبيع، وفي حصر حق المشتري بإبطال البيع عن طريق القاضي، لا فسخه بدون تقاض أو تراض. 3 - تبعة هلاك المبيع: يتحمل البائع تبعة هلاك المبيع إذا كان الهلاك بسبب أجنبي لا يد للبائع فيه. وينفسخ البيع حالة الهلاك الكلي. ويجوز للمشتري طلب فسخ البيع حالة الهلاك الجزئي. وهذا هو المنصوص عليه في المادتين (405، 406) من القانون المدني. نصت المادة (405) على ما يلي: «إذا هلك المبيع قبل التسليم لسبب لا يد للبائع فيه، انفسخ البيع، واسترد المشتري الثمن إلا إذا كان الهلاك بعد إعذار المشتري لتسلم المبيع». ونص المادة (406) هو: «إذا نقصت قيمة المبيع قبل التسلم لتلف أصابه، جاز للمشتري إما أن يطلب فسخ البيع إذا كان النقص جسيماً بحيث لو طرأ قبل العقد لما تم البيع، وإما أن يبقى البيع مع إنقاص الثمن». وهذه الأحكام في جملتها مستقاة من الفقه الإسلامي، فقد قرر فقهاء الحنفية أن المبيع إذا هلك كله أو بعضه قبل التسليم، فإن البائع (أي المدين) الذي استحال ¬
4 - حق البائع في حبس المبيع
عليه الوفاء بالتزامه بالتسليم هو الذي يتحمل تبعة الهلاك، وينفسخ البيع في حالة الهلاك الكلي أو فيما يقابل الجزء التالف في حالة الهلاك الجزئي. وقد نصت على ذلك المادة (392) من مجلة الأحكام العدلية ونصها: «المبيع إذا هلك في يد البائع قبل أن يقبضه المشتري يكون من مال البائع ولا شيء على المشتري». وإذا كان ذلك هو المقرر في عقد البيع، وهو أيضاً المقرر في عقد الإيجار بأن الهلاك على المدين (المؤجر في إجارة المنافع، والأجير في إجارة الأعمال)، فإن الفقه الإسلامي يكون قد أخذ بنظرية تحمل التبعة المعروفة لدى القانونيين (¬1). 4 - حق البائع في حبس المبيع: أجاز القانون المدني للبائع أن يمتنع عن تسليم المبيع إلى المشتري، على الرغم من حلول أجله، إذا لم يقم المشتري بدفع الثمن كله أو بعضه، وذلك هو الحق في حبس المبيع، نصت المادة (427) على ذلك فيما يأتي: «إذا كان الثمن كله أو بعضه مستحق الدفع في الحال، فللبائع أن يحبس المبيع حتى يستوفي ما هو مستحق له، ولو قدم المشتري رهناً أو كفالة، هذا ما لم يمنح البائع المشتري أجلاً بعد البيع». وإعطاء البائع حق الحبس مبدأ مقرر في الفقه الإسلامي، قال الحنفية: يثبت للبائع حق حبس المبيع عن المشتري إلى أن يستوفي ما وجب تعجيله، سواء أكان كل الثمن أم بعضه. ولا يسقط حق الحبس حتى ولو قدم المشتري رهناً أو كفيلاً بالثمن (¬2). ¬
5 - الغبن في بيع عقار القاصر
وذكرت المجلة المواد المتعلقة بحبس المبيع (من 278 - 284)، نصت المادة (278) على ما يلي: «في البيع بالثمن الحال أعني غير المؤجل، للبائع أن يحبس المبيع إلى أن يؤدي المشتري جميع الثمن». 5 - الغبن في بيع عقار القاصر: إذا اشتمل بيع عقار لغير كامل الأهلية بسبب الصغر أو الجنون مثلاً على غبن فاحش يزيد على الخمس، جاز للبائع طلب تكملة الثمن إلى أربعة أخماس ثمن المثل، بأن صدر البيع من ناقص الأهلية نفسه (¬1)، وهذا نص المادة (393 مدني): «1 - إذا بيع عقار مملوك لشخص لا تتوافر فيه الأهلية وكان في البيع غبن يزيد على الخمس، فللبائع أن يطلب تكملة الثمن إلى أربعة أخماس ثمن المثل. 2 - ويجب لتقدير ما إذا كان الغبن يزيد على الخمس أن يقوَّم العقار بحسب قيمته وقت البيع». أخذ هذا الحكم من الفقه الإسلامي (¬2)، فقد أجاز فقهاء الحنفية فسخ البيع بسبب الغبن الفاحش وحده بدون أن ينضم إليه تغرير، وذلك في أحوال هي: «حقوق اليتيم والوقف، وبيت المال». وضابط التمييز بين الغبن اليسير أو القليل وبين الغبن الفاحش أو الكثير هو أن الغبن اليسير: ما يدخل تحت تقويم المقومين. والغبن الفاحش: هو ما لا يدخل تحت تقويم المقومين (¬3). ¬
6 - ضمان العيوب الخفية، وضمان التعرض والاستحقاق
لكن المادة (165) من المجلة قدرت الغبن بما يأتي، وهو رأي متأخري فقهاء الحنفية: «الغبن الفاحش غبن على قدر نصف العشر في العروض، والعشر في الحيوانات، والخمس في العقار أو زيادة». ولا مانع فقهاً من تقدير الغبن الفاحش بما أخذ به القانون أي بما يزيد عن الخمس وهو رأي نصر بن يحيى من الحنفية (¬1). 6 - ضمان العيوب الخفية، وضمان التعرض والاستحقاق: يلتزم البائع بضمان العيب القديم الذي قد يوجد في المبيع، لأن عقد البيع يقتضي بذاته سلامة المبيع من العيوب، وسلامته من حقوق الغير (ضمان الدَّرَك (¬2) أو ضمان التعرض والاستحقاق)، دون حاجة إلى شرط؛ لأن العيب ضرر لايقتضيه العقد، والضرر مرفوع، عملاً بالحديث النبوي: «لا ضرر ولا ضرار» ولأن المفروض في البيع سلامة المبيع من كل علاقة للغير به. فإذا وجد عيب في المبيع جاز فسخ العقد، فيتخير المشتري بين أمرين: إن شاء فسخ البيع ورد المبيع، وإن شاء أمسكه بكل الثمن، وليس له إسقاط شيء من الثمن دون رضا البائع. وإذا ظهر كون المبيع مستحقاً لغير البائع أصبح البيع متوقفاً على إجازة المستحق، فإن أجاز البيع بقي المبيع للمشتري، ويأخذ المستحق الثمن من البائع. وإن لم يجز المستحق البيع انفسخ البيع السابق، ويلتزم البائع للمشتري رد الثمن (¬3). ¬
أخذ القانون المدني أحكام ضمان العيوب الخفية، من الفقه الإسلامي، كما أنه من حيث المبدأ أخذ أحكام ضمان التعرض والاستحقاق من هذا الفقه أيضاً (¬1) مع مراعاة المبادئ القانونية التي تجيز الفوائد عن قيمة المبيع وقت الاستحقاق، وتوجب تعويض المشتري عما لحقه من خسارة أو فاته من كسب بسبب استحقاق المبيع. ونصت المواد (415 - 419) مدني على ضمان العيوب الخفية، كما نصت المواد (407 - 414) على ضمان التعرض والاستحقاق. أما المادة (415) فهي: «1 - يكون البائع ملزماً بالضمان إذا لم يتوافر في المبيع وقت التسليم الصفات التي كفل المشتري وجودها فيه، أو إذا كان بالمبيع عيب ينقص من قيمته أو من نفعه بحسب الغاية المقصودة مستفادة مما هو مبين في العقد، أو مما هو ظاهر من طبيعة الشيء أو الغرض الذي أعد له، ويضمن البائع هذا العيب، ولو لم يكن عالماً بوجوده. 2 - ومع ذلك لا يضمن البائع العيوب التي كان المشتري يعرفها وقت البيع، أو كان يستطيع أن يتبينها بنفسه لو أنه فحص المبيع بعناية الرجل العادي، إلا إذا أثبت المشتري أن البائع قد أكد له خلو المبيع من هذا العيب، أو أثبت أن البائع قد تعمد إخفاء العيب غشاً منه». وقد نصت المواد (336 - 355) من مجلة الأحكام العدلية على أحكام ضمان العيوب الخفية تحت عنوان (خيار العيب). أما المادة (336) فهي: «البيع المطلق يقتضي سلامة المبيع من العيوب يعني أن بيع المال بدون البراءة من العيوب وبلا ذكر أنه معيب أو سالم، يقتضي أن يكون المبيع سالماً خالياً من العيب». ¬
ثانيا ـ في عقد الإيجار
ونص المادة (337) هو: «ما بيع بيعاً مطلقاً إذا ظهر به عيب قديم، يكون المشتري مخيراً: إن شاء رده، وإن شاء قبله بثمنه المسمى، وليس له أن يمسك المبيع، ويأخذ ما نقصه العيب، وهذا يقال له خيار العيب». وأما المادة (407) مدني التي تنص على مبدأ ضمان تعرض الغير في الانتفاع فهي: «يضمن البائع عدم التعرض للمشتري في الانتفاع بالمبيع كله أو بعضه، سواء كان التعرض من فعله هو، أو من فعل أجنبي يكون له وقت البيع حق على المبيع يحتج به على المشتري ويكون البائع ملزماً بالضمان ولو كان الأجنبي قد ثبت حقه بعد البيع، إذا كان هذا الحق قد آل إليه من البائع نفسه». ونصت المادة (408) على التزام البائع المزدوج أي المكون من التزامين في حال استحقاق المبيع: الأول: التزام الدفاع عن المشتري في الدعوى القائمة بينه وبين الغير. والثاني: التزامه بتعويض المشتري إذا لم يمكن توقي الاستحقاق. والالتزام بالضمان: التزام بعمل، والأصل أنه يجب تنفيذه عيناً ما دام التنفيذ العيني ممكناً. فإذا لم يمكن التنفيذ العيني لم يكن أمام البائع سوى التنفيذ بطريق التعويض. ثانياً ـ في عقد الإيجار: اقتبس التقنين المدني من الفقه الإسلامي أحكام بعض أنواع الإيجار، وبعض أحكام إجارة المنافع، منها مايأتي: 1 - إيجار الأراضي الزراعية: ورد النص على إيجار الأراضي الزراعية في المواد التالية (577 - 585) حدد فيها التزامات المؤجر بتسليم أدوات الزراعة لإقامة المباني والتزام المستأجر
2 - هلاك الزرع في العين المؤجرة
لاستغلال الأرض طبقاً لمقتضيات الاستغلال المألوف، وبالقيام بإجراءات الإصلاح التي يقتضيها الانتفاع المألوف بالأرض المؤجرة وتحديد مدة الإيجار بالدورة الزراعية السنوية وبقاء المستأجر في العين المؤجرة عند انتهاء الإيجار بسبب قاهر حتى تنضج الغلة بالأجر المناسب. وهذا النوع من العقود إجارة بالنقود في الذمة أو معينة. وهي أحكام مقررة في الفقه الإسلامي، وجاء النص على بعضها في المجلة، نصت المادة (524) مجلة على ضرورة تعيين نوع الزرع: «من استأجر أرضاً ولم يعين ما يزرعه فيها ولم يعمم على أن يزرع ما شاء، فإجارته فاسدة، ولكن لو عين قبل الفسخ، ورضي الآخر تنقلب إلى الصحة». ونصت المادة (525) على الدورة الزراعية: «من استأجر أرضاً على أن يزرعها ما شاء فله أن يزرعها مكرراً في ظرف السنة صيفياً وشتائياً». ونصت المادة (526) على بقاء المستأجر في الأرض بعد انتهاء العقد: «لو انقضت مدة الإيجار قبل إدراك الزرع فللمستأجر أن يبقى الزرع في الأرض إلى إدراكه، ويعطي أجرة المثل». 2 - هلاك الزرع في العين المؤجرة: نصت المادة (583) مدني على أن هلاك الزرع يسوغ طلب إسقاط الأجرة: «1 - إذا بذر المستأجر الأرض، ثم هلك الزرع كله قبل حصاده بسبب قوة قاهرة جاز للمستأجر أن يطلب إسقاط الأجرة. 2 - أما إذا لم يهلك إلا بعض الزرع، ولكن ترتب على الهلاك نقص كبير في ريع الأرض كان للمستأجر أن يطلب إنقاص الأجرة.
3 - غرس الأشجار في العين المؤجرة
3 - وليس للمستأجر أن يطلب إسقاط الأجرة أو إنقاصها إذا كان قد عوض عما أصابه من ضرر بما عاد عليه من أرباح في مدة الإجارة كلها أو بما حصل عليه من طريق التأمين أو من طريق آخر». وهذا النص تطبيق لأثر القوة القاهرة (الآفة السماوية) المبني على نظرية الضرورة الشرعية والذي يترتب عليه سقوط الالتزام بدفع المقابل (الأجرة أو الثمن) إذا تلف الشيء المعقود عليه. قال الحنفية: إذا انقطع الماء عن الطاحون مدة شهر مثلاً، يسقط عن المستأجر أجر المدة (¬1)، وجاء في الحديث النبوي: «أرأيت إن منع الله الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه» (¬2). 3 - غرس الأشجار في العين المؤجرة: ورد النص على هذه القضية في المادة (559) مستمداً من الفقه الإسلامي، حيث تضمنت الفقرة الأولى إلزام المؤجر نفقة ما ترتب على البناء أو الغرس من تحسينات إذأ0حدآ شلك بموافقته أي المؤجر، وتضمنت الفقرة الثانية ما يلي: «2 - فإذا كانت تلك التحسينات قد استحدثت دون موافقة المؤجر، كان له أيضاً أن يطلب من المستأجر إزالتها، وله أن يطلب فوق ذلك تعويضاً عن الضرر الذي يصيب العقار من هذه الإزالة، إن كان للتعويض مقتض». وهذا الحكم مقتبس من الفقه الإسلامي، فقد ألزم فقهاء الحنفية المستأجر بعد انقضاء مدة الإيجار بقلع الغراس وتسليم الأرض فارغة (¬3). وجاء في المادة ¬
4 - المزارعة
(531) من المجلة ما يؤيده: «لو أحدث المستأجر بناء في العقار المأجور أو غرس شجرة، فالآجر مخير عند انقضاء مدة الإجارة إن شاء قلع البناء والشجرة، وإن شاء أبقاهما، وأعطى قيمتها كثيرة كانت أو قليلة». ونصت المادة (532) بعدها على ضمان الضرر: «إزالة التراب والزبل الذي يتراكم في مدة الإجارة والتطهير عنهما على المستأجر». 4 - المزارعة: المزارعة عبارة عن عقد الزراعة، ببعض الناتج، وهو إجارة الأرض ببعض ماخرج منها. وهو عقد مقرر في الفقه الإسلامي، أخذت منه أحكامه المعمول بها في القانون المدني (في المواد 586 - 594). ونص المادة (586) هو ما يلي: «يجوز أن تعطى الأرض الزراعية والأرض المغروسة بالأشجار مزارعة للمستأجر في مقابل أخذ المؤجر جزءاً معيناً من المحصول». قال الحنفية (¬1): يصح استئجار الأرضين للزراعة على أي مدة كانت طالت أو قصرت، لأن المدة إذا كانت معلومة كان قدر المنفعة فيها معلوماً. 5 - انقضاء الإيجار بموت المستأجر: ورد النص على انتهاء عقد الإيجار بالموت في المادة (568) مدني ومابعدها: «1 - لا ينتهي الإيجار بموت المؤجر ولا بموت المستأجر. 2 - ومع ذلك إذا مات المستأجرجاز لورثته أن يطلبوا إنهاء العقد إذا أثبتوا أنه ¬
6 - انتهاء الإيجار للعذر
بسبب موت مورثهم أصبحت أعباء العقد أثقل من أن تتحملها مواردهم، أو أصبح الإيجار مجاوزاً حدود حاجتهم. وفي هذه الحالة يجب أن تراعى مواعيد التنبيه بالإخلاء المبينة في المادة (531)، وأن يكون طلب إنهاء العقد في مدة ستة أشهر على الأكثر من وقت موت المستأجر». ونص المادة (569) هو: «إذا لم يعقد الإيجار إلا بسبب حرفة المستأجر أو لاعتبارات أخرى تتعلق بشخصه ثم مات، جاز لورثته أو للمؤجر أن يطلبوا إنهاء العقد». دل النص على أنه لا ينتهي عقد الإيجار بموت المؤجر أو المستأجر عملاً بما قرره جمهور فقهاء الإسلام غير الحنفية، واستثنى النص حالتين ينقضي بهما الإيجار بموت المستأجر وهما: 1 - حالة صيرورة أعباء العقد أثقل من أن تتحملها موارد ورثة المستأجر، أو أن الإيجار أصبح يجاوز حدود حاجتهم. 2 - إذا كان الإيجار قد عقد بسبب حرفة المستأجر كعيادة طبيب أو صيدلية. ويمكن تسويغهما بما قرره الحنفية من انتهاء الإجارة بموت أحد العاقدين. 6 - انتهاء الإيجار للعذر: أخذ المشرع المدني عن الفقه الإسلامي فكرة فسخ الإيجار للعذر، فنص في المادة (575) على أنه: «1 - إذا كان الإيجار معين المدة، جاز لكل من المتعاقدين أن يطلب إنهاء العقد قبل انقضاء مدته إذا جدَّت ظروف خطيرة غير متوقعة من شأنها أن تجعل
7 - إيجار الوقف
تنفيذ الإيجار من مبدأ الأمر، أو في أثناء سريانه مرهقاً، على أن يراعي من يطلب إنهاء العقد مواعيد التنبيه بالإخلاء المبينة بالمادة (531)، وعلى أن يعوض الطرف الآخر تعويضاً عادلاً. وهذا النص يشير إلى عذر خاص بالمستأجر، أو المؤجر، يجيز طلب فسخ الإيجار بسبب العذر بشرطين: 1 - أن تكون الإجارة معينة المدة، فإن لم تكن معينة جاز لأي طرف إنهاؤها قبل نهاية أي فترة دفعت أجرتها. 2 - أن يطرأ ظرف خطير من شأنه أن يجعل التنفيذ مرهقاً لأحد الطرفين، كأن يترك المحامي الذي استأجر مكتباً مهنته لمرض أو منع قانوني من ممارسة المهنة. أو تطرأ ظروف غير متوقعة تجعل القيام ببناء التزم المؤجر بإقامته مرهقاً له. وقد عرفنا سابقاً أن الحنفية أجازوا فسخ الإجارة بالأعذار، وإن وقعت الإجارة صحيحة لازمة (¬1). 7 - إيجار الوقف: نص القانون المدني في المواد (595 - 601) على أحكام إيجار الوقف مستمدة من الفقه الإسلامي، ومن أخصها ما نصت عليه المادة (598): «لا تصح إجارة الوقف بالغبن الفاحش إلا إذا كان المؤجر هو المستحق الوحيد الذي له ولاية التصرف في الوقف، فتجوز إجارته بالغبن الفاحش في حق نفسه، لا في حق من يليه من المستحقين». وقد نصت المادة (256) من المجلة على مبدأ الفسخ بسبب الغبن: «إذا وجد غبن فاحش في البيع، ولم يوجد تغرير، فليس للمغبون أن يفسخ البيع، إلا أنه إذا ¬
ثالثا - حقوق الارتفاق
وجد الغبن وحده في مال اليتيم لا يصح البيع، ومال الوقف وبيت المال حكمه حكم مال اليتيم». ثالثاً - حقوق الارتفاق: حق الارتفاق: هو تكليف مفروض على عقار معين لمنفعة عقار معين جارٍ في ملكية شخص غير مالك العقار الأول (م 960) مدني. وهو أحد الحقوق العينية المتفرعة عن حق الملكية. والارتفاقات تختلف فيما بينها من حيث موضوعها. فهناك ارتفاق بالمجرى، وارتفاق بالمرور، وارتفاق بالصرف، وارتفاق بالمطل، ونحو ذلك. والارتفاق إما أن يكون طبيعياً، أو قانونياً أي يقرره القانون، كحق الشِّرب وحق المجرى وحق المسيل وحق المرور. أخذ القانون المدني طائفة من أحكام الارتفاق من الفقه الإسلامي من أهمها حق العلو والسفل، وأحكام الحائط المشترك. ففي حق العلو والسفل نصت المادة (963) مدني على حق إسالة الماء سيلاً طبيعياً من الأراضي العالية. وأوجب القانون بعض التزامات على صاحب السفل وصاحب العلو في ضمن القيود الواردة على حق الملكية - ملكية الطبقات، نصت على ذلك المادة (814): «1 - على صاحب السفل أن يقوم بالأعمال والترميمات اللازمة لمنع سقوط العلو. 2 - فإذا امتنع عن القيام بهذه الترميمات جاز للقاضي أن يأمر ببيع السفل. ويجوز في كل حال لقاضي الأمور المستعجلة أن يأمر بإجراء الترميمات العاجلة». ونصت المادة (415) على التزام صاحب السفل بإعادة بناء سفله إذا انهدم فإن امتنع جاز لصاحب العلو إعادة البناء على نفقة صاحبه، ولصاحب العلو منع صاحب السفل من السكنى والانتفاع حتى يؤدي ما في ذمته.
الحائط المشترك
ومضمون هاتين المادتين مستمد من الفقه الإسلامي (¬1). والقانون المدني بالإضافة إلى المعايير الثلاثة السابقة لبيان حد المشروعية في استعمال الحقوق (التعسف في استعمال الحق م 5و6) أقر معياراً آخر لمضار الجوار غير المألوفة لبيان حد المشروعية في استعمال حق الملكية (¬2) ومنه حق العلو والسفل، في المادة (776) ونصها ما يأتي: «1 - على المالك ألا يغلو في استعمال حقه إلى حد يضر بملك الجار. 2 - وليس للجار أن يرجع على جاره في مضار الجوار المألوفة التي لا يمكن تجنبها، وإنما له أن يطلب إزالة هذه المضار إذا تجاوزت الحد المألوف، على أن يراعى في ذلك العرف، وطبيعة العقارات وموقع كل منها بالنسبة إلى الآخر، والغرض الذي خصصت له، ولا يحول الترخيص الصادر من الجهات المختصة دون استعمال هذا الحق». وهذا النص تطبيق لنظرية التعسف، وأقرب إلى تكييف الفقه الإسلامي الذي اعتمد عليه القانون المدني في صياغة نظرية عامة للتعسف. ونصت المجلة على مضار الجوار غير المألوفة في المواد (1198 - 1212) ونص المادة (1198) هو ما يلي: «كل أحد له التعلي على حائط الملك وبناء ما يريد، وليس لجاره منعه ما لم يكن ضرره فاحشاً». وحددت المادة (1199) الضرر الفاحش بقولها: «والضرر الفاحش: كل ما يمنع الحوائج الأصلية، يعني المنفعة الأصلية المقصودة من البناء كالسكنى، أو يضر البناء أي يجلب عليه وهناً ويكون سبب انهدامه». وأما الحائط المشترك: فإن القانون المدني نص على أحكامه أثناء بيان أحوال الارتفاق القانوني، فوضع قيوداً على المالك في استعمال أجزاء أرضه، ففي الحائط المشترك ليس لأحد الجارين أن يفتح فيه مطلات أو مناور؛ لأن هذا ¬
رابعا ـ عقد الهبة
يتعارض مع الغرض الذي أعد له الحائط، وهو ستر كل من العقارين اللذين يفصل بينهما. ويستعمل الحائط المشترك بحسب الغرض الذي أعد له، وبالقدر الذي يحتمله كالاستناد المألوف عليه (انظر المادة 974، و 970 وما بعدها). وهذا كله من الفقه الإسلامي عملاً بقاعدة: «الضرر يزال» (¬1) نصت المادة (1202) من المجلة على ذلك فيما يأتي: «رؤية المحل الذي هو مقر النساء كصحن الدار أو المطبخ والبئر يعد ضرراً فاحشاً، فإذا أحدث رجل في داره شباكاً أو بناءً مجدداً وجعل له شباكاً مطلاً على المحل الذي هو مقر نساء جاره الملاصق أو الفاصل بينهما طريق، فإنه يؤمر برفع الضرر، ويصير ذلك الرجل مجبوراً لدفع هذا الضرر بصورة تمنع وقوع النظر إما ببناء حائط أو وضع طبلة (حاجز خشبي)، لكن لايجبر على سد الشباك بالكلية، كما إذا عمل ساتراً من الأغصان التي يرى من بينها مقر نساء جاره، فإنه يؤمر بسد محلات النظر، ولا يجبر على هدمه، وبناء حائط محله، انظر المادة (22) وهي «الضرورات تقدر بقدرها». رابعاً ـ عقد الهبة: استمد التقنين المدني في المواد (454 - 472) الأحكام الموضوعية لعقد الهبة من الفقه الإسلامي، وعلى التخصيص من كتاب الأحوال الشخصية لقدري باشا حيث قننت هذه الأحكام. ولكن التقنين أدخل تعديلاً جوهرياً على أحكام الفقه الإسلامي فيما يتعلق بالرجوع في الهبة إذ قيد هذا الحق بقيام عذر مقبول (المادة 468)، وضرب أمثلة على العذر المقبول من التقنينات الأجنبية (المادة 469). وذلك مع نقل أحكام موانع الرجوع في الهبة عن الفقه الحنفي (¬2) (المادة 470) وبذلك أكسب عقد الهبة صلابة وقوة في الإلزام، على النحو الذي يقرره جمهور الفقهاء (المالكية والشافعية والحنابلة) الذين يعدون عقد الهبة لازماً لا يجوز ¬
شكلية الهبة
الرجوع فيه إلا في هبة الوالد لولده، بعكس الحنفية الذين يعتبرون الهبة عقداً غير لازم، يجوز فسخه والرجوع عنه (¬1). شكلية الهبة: في الناحية الشكلية اشترط القانون لصحة الهبة كونها بسند رسمي، نصت المادة (456) على ما يأتي: «1ً - تكون الهبة بسند رسمي، وإلا وقعت باطلة ما لم تتم تحت ستار عقد آخر. 2 - ومع ذلك يجوز في المنقول أن تتم الهبة بالقبض، دون حاجة إلى سند رسمي». والسبب في اشتراط الرسمية هو تنبيه الواهب إلى خطورة تصرفه، وتوفير أسباب الحرية له في عقد ينزل به عن ماله دون مقابل. كذلك اشترطت المادة (458) الرسمية في الوعد بالهبة فقررت: «الوعد بالهبة لا ينعقد إلا إذا كان بسند رسمي». لكن على الرغم من أن رسمية الهبة تتعلق بالنظام العام، ويكون جزاؤها البطلان، فقد اعتبر القانون التنفيذ الاختياري بديلاً عاماً عن الرسمية. نصت المادة (457) على أنه: «إذا قام الواهب أو ورثته مختارين بتنفيذ هبة باطلة لعيب في الشكل، فلا يجوز لهم أن يستردوه ما سلموه» ويتضح من هذا النص أن التنفيذ الاختياري للهبة من جانب الواهب أو ورثته يحقق النتيجة نفسها التي تحققها الرسمية. وهذا يدل على أن القانون أوجد نوعاً جديداً ذا صبغة عامة من الشكلية هو التنفيذ الاختياري، وهو أكثر حماية للواهب من الرسمية. والتنفيذ الاختياري يشمل هبة العقار وهبة المنقول، غير أن المشرع القانوني قد نص على أهم تطبيقاته وأكثرها شيوعاً في الحياة العملية، وهو هبة المنقول المادي التي تتم بالقبض أو الهبة اليدوية. ¬
موقف الفقهاء المسلمين من الجانب الشكلي للهبة
كذلك أجاز القانون (في المادة 456) استثناء من اشتراط الرسمية أن تتم الهبة تحت ستار عقد من عقود المعاوضة على سبيل الصورية، فتصح الهبة المستترة دون حاجة لسند رسمي. وأما موقف الفقهاء المسلمين من الجانب الشكلي للهبة ففيه اتجاهان: الاتجاه الأول (¬1) ـ هو مذهب المالكية، والحنابلة في غير المكيل والموزون: وهو يرى الاكتفاء بمبدأ الرضائية في الهبات، فتصبح صحيحة ناقلة للملكية بمجرد قبول الموهوب له. أما القبض (أو الحيازة) فهو شرط عند المالكية لتمام ولزوم الهبة، فإن لم يحصل القبض لم تلزم الهبة، وإن كانت صحيحة. والاتجاه الثاني - هو مذهب الحنفية والشافعية، والإمام أحمد في هبة المكيل والموزون: وهو يعنى بشكل الهبة، ولا يرتّب على مجرد التراضي أثراً شرعياً، والهبة وإن كانت تنعقد بالإيجاب والقبول، فإنها لا تلزم الواهب ولا تنقل الملكية إلا بالقبض. أي أنه يعتبر التنفيذ الاختياري من جانب الواهب هو روح الهبة في هذا الاتجاه، أما مجرد تلاقي إرادة الطرفين فلا ينشئ الهبة بمعناها الصحيح، بل مجرد وعد بالهبة، لا يلزم الواهب. وإذا تم تنفيذ هذا الوعد اختياراً من جانب الواهب تقوم الهبة وتنتج آثارها وأهمها انتقال الملكية إلى الموهوب له. والدافع إلى هذا الاتجاه هو الحرص على احترام الطابع التبرعي للهبة الذي يجب أن يميزها عن سائر التمليكات. وأما الأحكام الموضوعية للهبة التي تضمنها القانون المدني والتي استمدها من الفقه الإسلامي فهي مايأتي: 1 - تعريف الهبة: الهبة عقد تصرَّف بمقتضاه الواهب في مال له دون ¬
2 - ركن الهبة
عوض (م 454) وعرف الفقهاء الهبة بقولهم: عقد يفيد التمليك بلا عوض حال الحياة تطوعاً. لكن نصت الفقرة (2) من هذه المادة على أنه يجوز للواهب دون أن يتجرد عن نيةالتبرع أن يفرض على الموهوب له القيام بالتزام معين، كإلزام الموهوب له أن يعوله حتى موته، أو بأن يدفع له إيراداً مرتباً مدى الحياة. ونصت المادة (855) من المجلة على أنه «تصح الهبة بشرط عوض ... » لكن الإمام الشافعي يرى أن اشتراط العوض صراحة يبطل العقد، لأنه شرط مخالف لمقتضاه. 2 - ركن الهبة: نصت المادة (455) على أن الهبة تتم بالإيجاب والقبول. وعلى أنه ينوب ولي القاصر عنه بقبول الهبة وبقبض الشيء الموهوب إذا كان الواهب هو ولي الموهوب أو وصيه. وهذا هو المقرر ذاته في الفقه، نصت المادة (837) من المجلة على أنه «تنعقد الهبة بالإيجاب والقبول وتتم بالقبض». وذكر الفقهاء أن الولي ينوب مناب القاصر في القبض، فلو وهب أحد الأولياء للصغير شيئاً، والمال في أيديهم صحت الهبة، ويصيرون قابضين للصغير (¬1). 3 - الشروط الموضوعية للهبة: لم يورد القانون المدني شروطاً خاصة بالهبة من حيث تلاقي الإيجاب والقبول، فيجب تطبيق القواعد العامة، فيشترط الرضا لصحة العقد وتطبق القواعد العامة في أحكام عيوب الرضا، وتتميز الهبة بأن الغلط في الشخص يجعل الهبة قابلة للإبطال. كذلك يشترط في الواهب أن يكون كامل الأهلية؛ لأن الهبة من التصرفات ¬
الضارة بالواهب ضرراً محضاً. أما الموهوب له فيكفي فيه أن يكون مميزاً، لأن الهبة من التصرفات النافعة للموهوب له نفعاً محضاً. ويستطيع الولي أو الوصي أن يهبا للصغير وينوبا عنه في قبول الهبة وقبض الشيء الموهوب كما تقدم (المادة 2/ 455). ولا يستطيع الولي أن يتبرع بمال القاصر إلا بإذن القاضي بعد تحقق المسوغ، كما نصت المادة (2/ 172) من قانون الأحوال الشخصية السوري. وكذلك يعدّ تبرع الوصي في مال القاصر باطلاً (المادة 180 من قانون الأحوال الشخصية السوري). ويجوز للمتبرع استبعاد الولاية على مال التبرع، بدليل النص في القانون السوري (في المادة 171) على أنه «إذا اشترط بدليل وجود النص في هذا المتبرع بمال للقاصر عدم تصرف وليه به تعين المحكمة وصياً خاصاً على هذا المال». ويشترط في الموهوب أن يكون مملوكاً للواهب وموجوداً ومعيناً ومشروعاً، وعلى ذلك يكون حكم هبة ملك الغير كحكم بيع ملك الغير: وهو البطلان النسبي (القابلية للإبطال) لمصلحة الموهوب له، وعدم النفاذ في حق المالك الحقيقي (المواد 459، 434، 435). ونصت المادة (460) على أنه «تقع هبة الأموال المستقبلة باطلة» وذلك استثناء من القواعد العامة في القانون التي تجيز أن يكون محل الالتزام شيئاً مستقبلاً، وهذا الحكم المستثنى مأخوذ من الشريعة الإسلامية التي تشترط وجود محل العقد وقت انعقاده في كل العقود. ويلاحظ أن هذه الشروط المطلوبة لانعقاد الهبة قانوناً مستقاة من أحكام الفقه الإسلامي. ففي هذا الفقه يشترط اتحاد مجلس الإيجاب والقبول في كل عقود التمليكات، وتوفر الرضا والاختيار، وهذا ما نصت عليه المادة (860) من المجلة، وأن يكون للواهب أهلية التبرع أو كمال الأهلية؛ لأن الهبة تبرع، وهو ما نصت عليه المادة» (859) من المجلة، وألا تصدر الهبة منه في مرض موته، وإلا
4 - الرجوع في الهبة
أخذت حكم الوصية فلا تنفذ إلا في حدود ثلث التركة، وألا يكون مديناً بديون مستغرقة، ولو لم يحجر عليه، وإلا توقفت على إجازة الدائنين. جاء النص على هذه الأحكام في المواد (879 - 880) من المجلة. ويشترط في الموهوب له أن يكون حياً، فلا تجوز الهبة للجنين ولا للمعدوم، وأجازها المالكية، ويحسن الأخذ قانوناً بمبدأ إجازة الهبة للجنين. كما يشترط أن يكون محل الهبة موجوداً وقت العقد، وهو شرط عام في كل عقود التمليكات في الحال، صوناً للعقد عن الإلغاء عند فوات المحل. ونصت المادة (856) من المجلة على ذلك. ويجب أن يكون الشيء مملوكاً للواهب، فإن كان الموهوب ليس مالاً للواهب، كانت هبة الفضولي، وهي موقوفة على إجازة المالك. ونصت المادة (857) من المجلة على ذلك. ويلزم أن يكون الموهوب معلوماً ومعيناً، وهو ما نصت عليه المادة (858) من المجلة. أما هبة الحصة الشائعة فيما يقبل القسمة كالدار والبيت الكبير، فأجازها جمهور الفقهاء، كبيع المشاع. ولم يجزها الحنفية إلا بقسمتها وقبضها مفرزة عن غيرها (¬1). 4 - الرجوع في الهبة: نصت المادة (468 - 472) على مبدأ جواز الرجوع في الهبة، وعلى الحالات التي يجوز فيها الرجوع، بشرط وجود عذر مقبول للرجوع. وهذه الأحكام ما عدا اشتراط وجود العذر مستمدة من الفقه الحنفي الذي يعتبر الرجوع مكروهاً لأنه من باب الدناءة، وللموهوب له أن يمتنع عن الرد، ولا يصح الرجوع إلا بالتراضي أو ¬
خامسا ـ تصرف المريض مرض الموت
بقضاء القاضي؛ لأن الرجوع فسخ للعقد. ولا يجوز الرجوع عند وجود أحد موانع الرجوع السبعة وهي (العوض، أو تقديم بدل عن الهبة، والزيادة المتصلة كالبناء والغرس، وتصرف الموهوب له في الموهوب، وموت أحد العاقدين، وهلاك الموهوب في يد الموهوب له أو استهلاكه، وكون الهبة من أجل الثواب من الله تعالى كالصدقة، أو من أجل صلة الرحم، أو صلة الزوجية) وهذه الحالات نص عليها القانون في المادة (470)، ونصت عليها المجلة في المواد (866 - 874). خامساً ـ تصرف المريض مرض الموت: استقى التقنين المدني من الفقه الإسلامي أحكام بيع المريض مرض الموت (¬1)، فاعتبر بيعه في حكم الوصية، كما اعتبر البيع لأحد الورثة بالمحاباة خاضعاً لأحكام الوصية. فلا يجوز بيع المريض مرض الموت محاباة إلا إذا أجازه الورثة إذا كان مقدار المحاباة يجاوز ثلث التركة، وإذا كان مديناً بدين مستغرق كان بيعه المشتمل على الغبن الفاحش موقوفاً على إجازة الدائنين. فإن لم يكن مديناً، وكان البيع بالمحاباة لغير الوارث أي بأقل من ثمن المثل نفذ بيعه من ثلث التركة. وإن لم يشتمل البيع على المحاباة بأن كان بثمن المثل صح البيع ونفذ. أما البيع لوارث ولو بثمن المثل أي بدون غبن فهو موقوف عند أبي حنيفة وفي المجلة على إجازة الورثة لتعلق حقهم بعين التركة. لكن هل للمريض مرض الموت التصرف لوارث في حدود ثلث التركة؟ يلاحظ أن المادة (445) من القانون المدني السوري المتعلقة ببيع المريض مرض الموت منقولة عن القانون المدني المصري الذي يجيز بدوره الوصية للوارث ولغيره في حدود الثلث (في المادة 73 من قانون الوصية المصري) وتنفذ من غير إجازة الورثة خلافاً لما يقرره فقهاء المذاهب الأربعة وجمهور فقهاء المسلمين، ¬
ولكن عملاً برأي بعض أئمة الشيعة الزيدية، وبعض أئمة الشيعة الإمامية (الجعفرية)، والإسماعيلية. وتنص هذه المادة (445) التي تعتبر المحاباة بحكم الوصية على ما يلي: «1 - إذا باع المريض مرض الموت لوارث أو لغير وارث بثمن يقل عن قيمة المبيع وقت الموت فإن البيع يسري في حق الورثة، إذا كانت زيادة قيمةالمبيع على الثمن لا تتجاوز ثلث التركة داخلاً فيها المبيع ذاته. 2 - إذا كانت هذه الزيادة تجاوز ثلث التركة، فإن البيع فيما يجاوز الثلث لا يسري في حق الورثة إلاإذا أقروه، أو رد المشتري للتركة ما بقي بتكملة الثلثين. 3 - ويسري على بيع المريض مرض الموت أحكام المادة (877). وبناء على هذه المادة إذا كان البيع بالمحاباة خاضعاً لأحكام الوصية فإنه ينفذ من المريض مرض الموت إذا كانت زيادة قيمة المبيع على الثمن في حدود ثلث التركة». والدليل على أن تصرف المريض مرض الموت تطبق عليه أحكام الوصية هو ما نصت عليه المادة (877) التالي نصها: 1 - كل عمل قانوني يصدر من شخص في مرض الموت، ويكون مقصوداً به التبرع، يعتبر تصرفاً مضافاً إلى ما بعد الموت، وتسري عليه أحكام الوصية أياً كانت التسمية التي تعطى لهذا التصرف. 2 - وعلى ورثة من تصرف أن يثبتوا أن العمل القانوني قد صدر من مورثهم وهو في مرض الموت، ولهم إثبات ذلك بجميع الطرق، ولا يحتج على الورثة بتاريخ السند إذا لم يكن هذا التاريخ ثابتاً. 3 - وإذا أثبت الورثة أن التصرف صدر من مورثهم في مرض الموت، اعتبر التصرف صادراً على سبيل التبرع، ما لم يثبت من صدر له التصرف عكس ذلك. كل هذا ما لم توجد أحكام خاصة تخالفه.
وبما أن الوصية خاضعة لأحكام الشريعة الإسلامي بنص المادة (876) من القانون السوري، فإن أحكام الشريعة المعمول بها في سورية خلافاً لمصر هي المقررة في قانون الأحوال الشخصية السوري الصادر عام (1953) والتي بموجبها لا تجوز الوصية لوارث. نصت المادة (238) من هذا القانون على ما يلي: «1 - تنفذ الوصية لغير وارث بثلث ما يبقى من التركة بعد وفاء الدين من غير إجازة الورثة. 2 - لا تنفذ للوارث ولا بما زاد على الثلث إلا إذا أجازها الورثة بعد وفاة الموصي، وكان المجيز كامل الأهلية. 3 - لا تنفذ فيما يستغرقه دين إلا بإجازة الدائن الكامل الأهلية أو بسقوط الدين. 4 - تنفذ وصية من لا دين عليه ولا وارث له بكل ما له من غير توقف على إجازة أحد». يتبين مما ذكر أن النص الوارد في المادة (445) مدني سوري الذي يجيز للمريض البيع بالمحاباة للوارث في حدود ثلث التركة معطل المفعول، ويكون البيع موقوفاً على إجازة الورثة عملاً بمقتضى الأحوال الشخصية السوري الذي لا يجيز الوصية للوارث إلا بإجازة الورثة. هذا وقد نصت المجلة على أحكام بيع المريض في المواد (393 - 395) كما نصت المادة (1595) على تعريف مرض الموت بقولها: «مرض الموت: هو الذي يخاف فيه الموت في الأكثر، الذي يعجز المريض عن رؤية مصالحه الخارجة عن داره إن كان من الذكور، ويعجزه عن رؤية المصالح الداخلة في داره إن كان من الإناث، ويموت على ذلك الحال قبل مرور سنة، صاحب فراش كان أو لم يكن.
سادسا - أحكام متفرقة (الإبراء
وإن امتد مرضه دائماً على حال، ومضى عليه سنة يكون في حكم الصحيح، وتكون تصرفاته كتصرفات الصحيح، ما لم يشتد مرضه ويتغير حاله، ولكن لو اشتد مرضه وتغير حاله ومات يعد حاله من وقت التغير إلى الوفاة مرض موت». سادساً - أحكام متفرقة (الإبراء، مدة التقادم): استمد القانون المدني طائفة من الأحكام في مناسبات مختلفة من الفقه الإسلامي، كانقضاء الالتزام دون الوفاء به، إما بالإبراء من الدين بإرادة الدائن وحده، وإما بالتقادم المسقط لمضي مدة خمس عشرة سنة في الحقوق الخاصة. هذا فضلاً عن أن كثيراً من الأحكام المقررة في القانون المدني يمكن تخريجها أو تسويغها بمبدأ من مبادئ الشريعة كالاستصلاح والاستحسان والعرف، أو حملها على مجموعة آراء فقهية من مذاهب مختلفة، كما أنه قد يكون لها شبه أو تطابق تام بينها وبين رأي فقهي معين. لكن مع كل ماسبق يظل القانون المدني السوري وأصله المصري غربي الطراز والتصور والأحكام، فلا يعفى المشرع من عودة حميدة لرياض الفقه الإسلامي الصالح لكل زمان ومكان. الإبراء: إسقاط الدائن ماله في ذمة المدين من دين كثمن مبيع أو دين قرض، ويترتب عليه انتهاء التزام الدين كله أوبعضه بحسب الإبراء، وتفرغ منه ذمته. وهو عند الحنفية لا يحتاج إلى قبول وإنما يصح بإرادة الدائن وحده، وإنما يرتد بالرد؛ لأنه من قبيل الإسقاط كالطلاق، والإسقاط لا يتوقف على القبول. نصت المادة (8651) من المجلة على أنه: «لايتوقف الإبراء على القبول. ولكن يكون بالرد مردوداً، لأنه إذا أبرأ أحد آخر فلا يشترط قبوله، ولكن إذا رد الإبراء في ذلك المجلس بقوله: لا أقبل، يكون ذلك الإبراء مردوداً يعني لا يبقى له حكم، لكن لورده بعد قبول الإبراء لا يكون الإبراء مردوداً. وأيضاً إذا أبرأ المحال له المحال عليه أو صاحب الطلب الكفيل، ورد ذلك المحال عليه أو الكفيل لا يكون الإبراء مردوداً».
التقادم
وأخذ القانون المدني بمبدأ صحة الإبراء بإرادة الدائن وحده وهو المقرر في الفقه الحنفي. نصت المادة (369) منه على ما يأتي: «ينقضي الالتزام إذا أبرأ الدائن مدنيه مختاراً، ويتم الإبراء متى وصل إلى علم المدين، ويرتد برده». التقادم: لا يعتبر التقادم (أو مضي المدة ومرور الزمن أو وضع اليد) في الشريعة الإسلامية سبباً صحيحاً من أسباب كسب الحقوق أو إسقاطها ديانة إذ «لا يجوز لأحد أن يأخذ مال أحد بلا سبب شرعي» ولأن الحق أبدي لا يزول إلا بمسوغ شرعي مقبول. وإنما التقادم ما نع فقط للقاضي من سماع الدعوى بالحق القديم الذي أهمل صاحبه الادعاء به زمناً طويلاً معيناً بلا عذر. وذلك للشك في أصل الحق وفي إثباته بعد هذه المدة الطويلة، وحماية لمبدأ الاستقرار في الأوضاع الحقوقية، وتجنباً لإثارة المشكلات في الإثبات ونحوه؛ لأن القضاء في الإسلام مظهر للحق لا مثبت له، والحقوق الثابتة لا يؤثر فيها ديانة مرور الزمان وتقادم العهد. إلا أن القضاء مع هذا يقبل التخصيص بالزمان والمكان والخصومة، ويقبل التعليق بالشرط. وبناء عليه يصح للدولة منع القاضي من سماع دعوى على شخص مضى على وضع يده خمس عشر سنة مثلاً، فيعتبر قضاؤه بعدئذ غير نافذ (¬1). ويمكن تسويغ ذلك بنظرية المصالح المرسلة التي تجيز للحاكم اتخاذ التدابير القضائية المناسبة لإقرار الحقوق والاهتمام بها، وإبعاد القضاء عن المشكلات المعقدة في إثبات حقوق قديمة. وهذا المعنى هو أساس الأخذ بفكرة التقادم قانوناً، فإن القانونيين قالوا: إن التقادم يقوم على أساس اعتبارات ذات طابع عام أي متصلة بالصالح العام للمجتمع كله، لا على أساس اعتبارات فردية، فالضرورات الاجتماعية هي التي أدت إلى إقرار هذا النظام. ¬
أخذ القانون من الفقه الإسلامي تقدير مدة التقادم المسقط، حيث نصت المادة (372) مدني سوري على أنه «يتقادم الالتزام بانقضاء خمس عشرة سنة فيما عدا الحالات التي ورد عنها نص خاص في القانون، وفيما عدا الاستثناءات التالية». وكذلك في التقادم المكسب نصت المادة (919) على ما يلي: «يُكتسب حق تسجيل التصرف في الأراضي الأميرية غير الخاضعة لإدارة أملاك الدولة، بمرور عشر سنوات من تاريخ الحيازة بسند أو بغير سند، بشرط أن يكون الحائز قائماً بزراعة الأرض». وتقدير المدة في الحالتين مأخوذ من الفقه الإسلامي، حيث ذكر الفقهاء أن التقادم يسري على الحقوق الخاصة، ومدته العادية خمس عشرة سنة، فإذا مرت مروراً معتبراً دون ادعاء بالمال من قبل صاحبه لا تسمع دعواه بعدها (¬1). وأما الأموال العامة فلا تسمع الدعوى فيها بعد مضي (33) سنة في الوقف والإرث، وبعد (36) سنة في أموال بيت المال، وبعد عشر سنوات في الأراضي الأميرية. وأما المجلة فأخذت في المادة (1662) بمدة (15) سنة في جميع الحقوق غير الوقف فهي (36) سنة، والأراضي الأميرية فهي عشر سنين. وتبتدئ المدة من وقت ظهور واضع اليد على الشيء بمظهر المالك لها، وعدم المانع الشرعي من إقامة دعواه كالصغر والجنون والعته. وهذا ما نصت عليه المادة (1663) من المجلة. كما نصت المادة (379) على حالات وقف التقادم بقولها: «1 - لا يسري التقادم كلما وجد مانع يتعذر معه على الدائن أن يطالب بحقه، ولو كان المانع أدبياً، وكذلك لايسري التقادم فيما بين الأصيل والنائب. ¬
خاتمة
2 - ولا يسري التقادم الذي تزيد مدته على خمس سنوات في حق من لا تتوافر فيه الأهلية أو في حق الغائب، أو في حق المحكوم عليه بعقوبة جنائية إذا لم يكن له نائب يمثله قانوناً». خاتمة في آخر هذا البحث أؤكد ضرورة العودة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية واستمداد القوانين منها، ما دمنا نعمنا ولله الحمد بالاستقلال، وقد أوضحت هذا القسم من الأحكام الذي استمده القانون المدني من الفقه ليكون عنواناً مشرقاً وبرهاناً ساطعاً على أن في شريعتنا الغراء كنوزاً خالدة لا تحتاج إلا إلى صياغة جديدة بروح العصر ومفاهيمه على منوال التقنينات الجديدة. قال الدكتور السنهوري: على أننا لا نريد بتقليد التقنينات الحديثة أن نذهب في ذلك إلى مدى أبعد مما ينبغي. وإذا كنا نقول بالاستفادة دون تحفظ من التقنينات الغربية من ناحية الشكل والصياغة، ففي المادة والموضوع نتحفظ كثيراً في هذا القول. ثم علق على قرار وزارة العدل العراقية باتخاذ الشريعة الإسلامية أساساً للتقنين قبل صدوره، فقال: ولما كان القرار خطيراً، وهو يؤذن بعهد جديد للفقه الإسلامي، يجاري فيه الزمن، ويساير التطور، كان من الواجب أن نقف عنده حتى نمعن في مراميه. فأول أثر لهذا القرار أن يرد لهذه الشريعة السمحاء مكانتها بعد أن كادت تضيع، فقد رأينا أن البلاد الشرقية (أي العربية شرق المتوسط) التي راجعت تقنيناتها المدنية عدلت عن الشريعة الإسلامية إلى القوانين الغربية، وبقيت القاعدة
مطردة من النصف الثاني للقرن التاسع عشر إلى الوقت الحاضر، فمصر تلتها تونس ومراكش وتركيا ولبنان، وكل هذه بلاد كانت تطبق الشريعة الإسلامية. ثم أعادت النظر في تقنيناتها، فقلبتها رأساً على عقب، إما باختيارها أو تحت تأثير نفوذ سياسي، وهجرت الشريعة الإسلامية إلى القوانين الغربية. أما العراق فهو أول بلد عربي اعتز بتراث أجداده، وحرص عليه من الضياع. فالعراق يرفع صوته عالياً بأن الشريعة الإسلامية لا تزال نظاماً قانونياً حياً صالحاً للتطبيق، وليس لسائر الأقطار العربية إلا أن تقتفي أثر العراق. وهناك فرق جوهري بين أن نجعل مصدر الأحكام الصالحة التقنينات الغربية، وبين أن نجعل مصدرها الشريعة الإسلامية، ففي الحالة الأولى نكون قد قطعنا كل صلة بالقديم، وبدأنا حياة قانونية جديدة، نكون فيها عالة على فقه الغرب وجهوده، نأخذ منه ولا نعطيه. أما في الحالة الثانية فنكون قد احتفظنا بصلة الماضي، وجعلنا من هذه الصلة أساساً يقوم عليه المستقبل، واحتفظنا باستقلالنا القانوني، فلا نكون عالة على فقه الغرب، وفي الوقت ذاته نكون قد استفدنا من هذا الفقه إلى أبعد مدى، إذ تصبح الأحكام التي اخترناها وخرَّجناها على أحكام الشريعة الإسلامية متفقة مع أحدث الأحكام القانونية الغربية وأرقاها (¬1). ¬
انتهى الجزء الرابع ويليه الجزء الخامس ـ العقود (التصرفات المدنية المالية)
القسم الثالث: العقود أو التصرفات المدنية المالية
القسْمُ الثَّالثُ: العقودُ أو التَّصرّفات المدنيَّة الماليَّة وبحثها في ثمانية عشر فصلاً: 1 - البيع وأنواعه (السلم، والاستصناع، الصرف، الجزاف، الربا، بيوع الأمانة: المرابحة، والتولية والوضيعة، الإقالة). 2 - القرض 3 - الإيجار 4 - الجعالة 5 - الشركة 6 - الهبة 7 - الإيداع 8 - الإعارة 9 - الوكالة 10 - الكفالة
11 - الحوالة 12 - الرهن 13 - الصلح ويلحق بها فصول خمسة في الإبراء والاستحقاق والمقاصة والإكراه والحجر، وأما باقي العقود فالكلام عنها في بحث الملكية والأحوال الشخصية، فتكون العقود المشروعة في الشريعة الإسلامية واحداً وعشرين عقداً.
الفصل الأول: عقد البيع
الفَصْلُ الأوَّل: عَقْدُ البَيعِ خطة الموضوع: نظراً لتعدد أنواع البيع وأهميتها بحيث يكون كل منها وضعاً قائماً بذاته نرى الفقهاء يترجمون لعقد البيع بعنوان (كتاب البيوع) بصيغة الجمع (¬1). وقد آثرت العنوان بعقد البيع تمشياً مع صنيع شراح القانون المدني؛ لأن إضافة كلمة (عقد) إلى (البيع) تفيد العموم، لقول النحويين: إنه مفرد مضاف فيعم. والكلام عن عقد البيع يتناول المباحث الستة الآتية: المبحث الأول - في تكوين عقد البيع. المبحث الثاني - شروط البيع. المبحث الثالث - حكم البيع والكلام في المبيع والثمن. المبحث الرابع - البيع الباطل والبيع الفاسد. المبحث الخامس - الخيارات. المبحث السادس- أنواع البيع: 1 - السلم أو السلف ¬
المبحث الأول - تكوين عقد البيع
2 - الاستصناع 3 - الصرف 4 - بيع الجزاف 5 - الربا 6 - بيوع الأمانة (المرابحة والتولية والوضيعة) 7 - الإقالة المبحث الأول - تكوين عقد البيع وفيه مطلبان: المطلب الأول - تعريف البيع ومشروعيته وآدابه المطلب الثاني - ركن البيع أو كيفية انعقاده المطلب الأول - تعريف البيع ومشروعيته وآدابه: تعريف البيع: البيع لغة: مقابلة شيء بشيء، وهو من أسماء الأ ضداد أي التي تطلق على الشيء وعلى ضده، مثل الشراء (¬1) كما في قوله تعالى: {وشروه بثمن بخس} ¬
[يوسف:20/ 12] أي باعوه، وقوله سبحانه: {ولبئس ما شروا به أنفسهم} [البقرة:102/ 2] ويقال لكل من المتعاقدين: بائع وبيّع، ومشتر وشار. واصطلاحاً عند الحنفية: مبادلة مال بمال على وجه مخصوص أو هو مبادلة شيء مرغوب فيه بمثله على وجه مفيد مخصوص أي بإيجاب أو تعاطٍ. وخرج بقيد: (مفيد) ما لا يفيد كبيع درهم بدرهم. وغير المرغوب: مثل الميتة والدم والتراب (¬1). وقال النووي في المجموع: البيع: مقابلة مال بمال تمليكاً (¬2). وعرفه ابن قدامة في المغني (¬3): مبادلة المال بالمال تمليكاً وتملكاً. وهو مشتق من الباع؛ لأن كل واحد من المتعاقدين يمد باعه للأخذ والإعطاء، ويحتمل أن كل واحد منهما كان يبايع صاحبه، أي يصافحه عند البيع، فسمي البيع صفقة (¬4). والمراد بالمال عند الحنفية: ما يميل إليه الطبع ويمكن ادخاره لوقت الحاجة، والمالية تثبت بتمول الناس كافة أو بعضهم. وقد انتقد الأستاذ الزرقاء هذا التعريف، واستبدل به تعريفاً آخر، فقال: المال هو كل عين ذات قيمة مادية بين ¬
مشروعية البيع
الناس (¬1). وعليه لا تعتبر المنافع والحقوق المحضة ما لاً عند الحنفية. أما جمهور الفقهاء فقد اعتبروها مالاً متقوماً؛ لأن المقصود من الأعيان منافعها. والمقصود من البيع هنا: هو العقد المركب من الإيجاب والقبول. مشروعية البيع: البيع جائز بأدلة من القرآن والسنة والإجماع (¬2). أما القرآن: فقوله تعالى: {وأحل الله البيع} [البقرة:2/ 275] وقوله سبحانه: {وأشهدوا إذا تبايعتم} [البقرة:282/ 2] وقوله عز وجل: {إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم} [النساء:29/ 4] وقوله جل جلاله: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم} [البقرة:198/ 2]. وأما السنة فأحاديث، منها: سئل النبي صلّى الله عليه وسلم: أي الكسب أطيب؟ فقال: «عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور» (¬3) أي لا غش فيه ولا خيانة، ومنها حديث: «إنما البيع عن تراض» (¬4) وقد بعث الرسول صلّى الله عليه وسلم والناس يتبايعون فأقرهم عليه، ¬
آداب البيع
وقال: «التاجر الصدوق الأمين مع النبيين، والصديقين، والشهداء» قال الترمذي: «هذا حديث حسن». وأجمع المسلمون على جواز البيع، والحكمة تقتضيه؛ لأن حاجة الإنسان تتعلق بما في يد صاحبه، وصاحبه لا يبذله بغير عوض، ففي تشريع البيع طريق إلى تحقيق كل واحد غرضه ودفع حاجته، والإنسان مدني بالطبع، لايستطيع العيش بدون التعاون مع الآخرين. والأصل في البيوع الإباحة، قال الإمام الشافعي: «فأصل البيوع كلها مباح إذا كانت برضا المتبايعين الجائزي الأمر فيما تبايعا، إلا ما نهى عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلم منها، وما كان في معنى ما نهى عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلم محرم بإذنه داخل في المعنى المنهي عنه، وما فارق ذلك أبحناه بماوصفنا من إباحة البيع في كتاب الله تعالى» أي في قوله سبحانه: {وأحل الله البيع} [البقرة:275/ 2] وقوله: {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء:29/ 4]. آداب البيع: للبيع آداب كثيرة منها: 1 - عدم المغالاة في الربح: إن الغبن الفاحش في الدنيا ممنوع بإجماع الشرائع، إذ هو من باب الخداع المحرَّم شرعاً في كل ملة، لكن اليسير منه الذي لا يمكن الاحتراز عنه لأحد أمر جائز، إذ لو حكمنا برده ما نفذ بيع أبداً، لأنه لا يخلو منه بيع عادة. فإن كان الغبن كثيراً أمكن الاحتراز منه، فوجب رد البيع به. وقدر علماء المالكية الغبن الكثير بالثلث فأكثر؛ لأنه المشروع في الوصية وغيرها (¬1)، فيكون الربح الطيب المبارك فيه ما كان بقدر الثلث فأكثر. ¬
2 - صدق المعاملة: بأن يصف البضاعة بوصفها الحقيقي، دون كذب في الإخبار عن نوعها وجنسها ومصدرها وتكاليفها، أخرج الترمذي عن رفاعة حديثاً: «إن التجار يبعثون يوم القيامة فجّاراً إلا من اتقى الله وبرَّ وصَدَق» والبر: الإحسان في المعاملة. وأخرج الترمذي الحديث السابق عن الخدري: «التاجر الصدوق .. ». 3 - السماحة في المعاملة: بأن يتساهل البائع في الثمن فينقص منه، والمشتري في المبيع فلا يتشدد في شروط البيع ويزيد في الثمن، أخرج البخاري عن جابر حديثاً: «رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى بدينه» أي طالب به. 4 - اجتناب الحلف ولو كان التاجرصادقاً: يندب الامتناع عن الحلف بالله مطلقاً في البيع، لأنه امتحان لا سم الله تعالى، قال سبحانه: «ولا تجعلوا عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس» وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة حديثاً: «الحلف مَنْفَقة للسلعة، مَمْحَقة للبركة». 5 - كثرة الصدقات: يندب للتاجر كثرة التصدق تكفيراً لما يقع فيه من حلف أوغش أو كتمان عيب أو غبن في السعر أو سوء خلق ونحو ذلك، أخرج الترمذي وأبو داود وابن ماجه عن قيس بن أبي غرزة حديثاً: «يا معشر التجار، إن الشيطان والإثم يحضران البيع، فشوبوا بيعكم بالصدقة». 6 - كتابة الدين والإشهاد عليه: تستحب كتابة العقد ومقدار الدين المؤجل، ويندب الإشهاد على البيع نسيئةً (لأجل) وعلى كتابة الدين، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} .. {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} [البقرة:2/ 282].
المطلب الثاني - ركن البيع أو كيفية انعقاده
المطلب الثاني - ركن البيع أو كيفية انعقاده ركن (¬1) البيع عند الحنفية: هو الإيجاب والقبول الدالان على التبادل أو ما يقوم مقامهما من التعاطي. فركنه بعبارة أخرى: الفعل الدال على الرضا بتبادل الملكين من قول أو فعل (¬2)، وهذا قولهم في العقود. وللبيع عند الجمهور أركان أربعة: وهي البائع والمشتري والصيغة والمعقود عليه وهذا رأيهم في كل العقود. والإيجاب عند الحنفية: إثبات الفعل الخاص الدال على الرضا الواقع أولاً من كلام أحد المتعاقدين، سواء وقع من البائع كبعت، أو من المشتري كأن يبتدئ المشتري فيقول: اشتريت بكذا. والقبول: ما ذكر ثانياً من كلام أحد المتعاقدين (¬3). فالمعتبر إذن أولية الصدور وثانويته فقط سواء أكان من جهة البائع أم من جهة المشتري. وعند الجمهور: الإيجاب: هو ما صدر ممن يكون منه التمليك وإن جاء متأخراً. والقبول: هو ما صدر ممن يصير له الملك وإن صدر أولاً (¬4). وأركان البيع عند الجمهور غير الحنفية ثلاثة أو أربعة (¬5): عاقد (بائع ومشتر) ومعقود عليه (ثمن ومثمن) وصيغة (إيجاب وقبول). ¬
1 - صيغة الإيجاب والقبول
والكلام في الإيجاب والقبول في موضعين: أحدهما ـ في صيغة الإيجاب والقبول. والثاني ـ في صفة الإيجاب والقبول. 1 - صيغة الإيجاب والقبول صيغة العقد: هي صورته التي يقوم بها من إيجاب وقبول إن كان العقد التزاماً بين طرفين، أو إيجاب فقط إن كان التزاماً من جانب واحد. اتفقت الشرائع على أن مدار وجود العقد وتحققه هو صدور ما يدل على التراضي من كلا الجانبين بإنشاء التزام بينهما. وهذا هو ما يعرف عند العلماء (بصيغة العقد) وهو ما يسمى عند القانونيين (التعبير عن الإرادة) ويشترط في صيغة العقد أن يكون صدورها من المتعاقدين بطريق يعتبره الشارع، وطريق اعتبار الشارع عند الحنفية: هو أن البيع ينعقد بكل لفظ يدل على التراضي بتبادل الملك في الأموال بحسب عرف الناس وعاداتهم (¬1). فقالوا (¬2): ينعقد البيع بصيغة الماضي مثل: بعت، واشتريت. وبصيغة الحال مع النية مثل: أبيع وأشتري. أما البيع بلفظ الاستدعاء الذي يعبر به عن المستقبل، فلا ينعقد به البيع عند الحنفية كأن يقول: (بعني أو اشتر مني) ما لم يقل المشتري مرة ثانية في المثال الأول: اشتريت، وفي المثال الثاني: يقول البائع ثانية: (بعت) لأن طالب البيع أو الشراء وهو المستدعي، ينسب إلى الغش والتدليس في العادة، فربما فهم الناس منه ¬
الفرق بين البيع والزواج
أنه لو لم يكن في البيع عيب، لما كان يسأل غيره في أخذه، وإنما غيره هو الذي يطلبه، كما هو المعروف في الأسواق، ثم إنه لو تأخر القبول عن الإيجاب لم يصح به البيع، فلم يصح إذا تقدم، ولأنه عقد خلا عن القبول، فلم ينعقد كما لو لم يطلب البيع أو الشراء. الفرق بين البيع والزواج: البيع بخلاف عقد النكاح، فإنه يصح بلفظ الاستدعاء، مثل أن يقول: (زوجني) لأنه في هذه الحالة يكون قوله: (زوجني) توكيلاً بالزواج، فإن زوجه امتثل أمره، ولبى طلبه فيكون المزّوج ولياً من طرف ووكيلاً من طرف، والشخص الواحد: يتولى طرفي عقد النكاح، بخلاف البيع، فإنه لا يجوز أن يتولى الواحد طرفي العقد في البيع إلا الأب يشتري مال ابنه لنفسه أو يبيع ماله منه، وكذلك الوصي عند أبي حنيفة إذا اشترى لليتيم من نفسه أو لنفسه منه. وهناك فرق آخر بين البيع والنكاح: وهو أن لفظ الأمر للمساومة حقيقة، فلا تكون صيغته إيجاباً وقبولاً حقيقة، بل هي طلب الإيجاب والقبول، فلا بد للإيجاب والقبول من لفظ آخر يدل عليهما، ولا يمكن حمل هذه الصيغة على المساومة في النكاح؛ لأن المساومة لا توجد فيه عادة؛ لأنه مبني على مقدمة الخطبة، فتحمل هذه الصيغة على الإيجاب والقبول. أما البيع فلا يكون مسبوقاً بمثل ذلك، فكان الأمر فيه مساومة، عملاً بحقيقة لفظ الأمر، ولا يعدل عن الحقيقة إلى شيء آخر إلا بدليل، ولم يوجد في البيع، بخلاف النكاح كما تقدم. والخلاصة: أن صيغة البيع عند الحنفية إما أن تكون بلفظين من غير نية، وذلك بصيغة الماضي، مثل بعت واشتريت، وهذه الصيغة وإن كانت للماضي وضعاً، لكنها جعلت إيجاباً للحال في عرف أهل اللغة والشرع، والعرف قاض على اللغة.
أو بلفظين مع النية للحال، وذلك بصيغة المضارع؛ لأن المضارع يحتمل الحال أو الاستقبال، فتكون النية لدفع المحتمل: وهو أن يراد الوعد بالبيع في المستقبل، فتكون نية الإيجاب للحال مانعة من إرادة المستقبل. أو بثلاثة ألفاظ، وذلك بلفظ الاستفهام: بأن قال المشتري: (أتبيع مني هذا الشيء؟) أو بلفظ الأمر بأن قال البائع: (اشتر مني هذا الثوب) أو قال المشتري: (بع مني هذا الثوب) لا ينعقد في هذه الأمثلة ما لم ينضم إليها لفظ ثالث، فيقول المشتري في المثال الأول: (اشتريت) لأن لفظ الاستفهام لا يستعمل للحال حقيقة، ويقول البائع في المثال الثاني: (بعت) ويقول المشتري في المثال الثالث: (اشتريت). وعلى هذا، لا يصح أصلاً البيع بلفظ الأمر مجرداً سواء نوى، أو لم ينو إلا إذا دل على الحال مثل: (خذه بكذا) كما لا يصح أصلاً بالمضارع المقترن بالسين أو سوف، مثل: (سأبيعك) لأن ذكر السين يناقض إرادة الحال (¬1). وقال المالكية، والشافعية في الأظهر، والحنابلة: ينعقد العقد سواء أكان بيعاً أم نكاحاً بلفظ الاستدعاء مثل: «بعني» أو «اشتر مني» فيقول الآخر: «بعت» أو «اشتريت» لأن أساس العقد هو التراضي، ولفظ الإيجاب والقبول وجد منهما على وجه تحصل منه الدلالة على تراضيهما به عرفاً، فصح كما لو تقدم الإيجاب، وبه يحصل الغرض بكون المستدعي بائعاً أو مشترياً (¬2). ¬
بيع المعاطاة
بيع المعاطاة: بيع المعاطاة أو بيع المراوضة: هو أن يتفق المتعاقدان على ثمن ومثمن، ويعطيا من غير إيجاب ولا قبول، وقد يوجد لفظ من أحدهما. مثل: أن يأخذ المشتري المبيع، ويدفع للبائع الثمن، أو يدفع البائع المبيع، فيدفع له الآخر ثمنه من غير تكلم ولا إشارة، سواء أكان المبيع حقيراً أم نفيساً. وقد اختلف الفقهاء في حكمه. فقال الحنفية والمالكية والحنابلة في الأرجح عندهم: يصح بيع المعاطاة متى كان هذا معتاداً دالاً على الرضا ومعبراً تماماً عن إرادة كل من المتعاقدين، والبيع يصح بكل ما يدل على الرضا، ولأن الناس يتبايعون في أسواقهم بالمعاطاة في كل عصر، ولم ينقل إنكاره عن أحد، فكان ذلك إجماعاً، فالقرينة كافية هنا في الدلالة على الرضا (¬1). وقال الشافعية: يشترط أن يقع العقد بالألفاظ الصريحة أو الكنائية، بالإيجاب والقبول، فلا يصح بيع المعاطاة، سواء أكان المبيع نفيساً أم حقيراً؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: «إنما البيع عن تراض» (¬2) والرضا أمر خفي، فاعتبر ما يدل عليه من اللفظ، لا سيما عند إثبات العقد حالة التنازع، فلا تقبل شهادة الشهود لدى الحاكم إلا بما سمعوه من اللفظ. وقد اختار جماعة من الشافعية منهم النووي والبغوي والمتولي صحة انعقاد بيع المعاطاة في كل ما يعده الناس بها بيعاً، لأنه لم يثبت اشتراط لفظ، فيرجع ¬
2 - صفة الإيجاب والقبول ـ الكلام في خيار المجلس
للعرف كسائر الألفاظ المطلقة، قال النووي: وهذا هو المختار للفتوى. وبعض الشافعية كابن سريج والروياني خصص جواز بيع المعاطاة بالمحقرات أي غير النفيسة: وهي ما جرت العادة فيها بالمعاطاة كرطل خبز وحزمة بقل ونحوها (¬1). ويلاحظ أن الفقهاء أجمعوا على أن الزواج لا ينعقد بالفعل، بل لا بد من القول للقادر عليه لخطره، فكان لا بد من الاحتياط له، وإتمامه بأقوى الدلالات على الإرادة: وهو القول. 2 - صفة الإيجاب والقبول ـ الكلام في خيار المجلس: لا يكون كل من الإيجاب والقبول لازماً قبل وجود الآخر، فإذا وجد أحدهما لا يلزم قبل وجود الشطر الآخر، ويكون لكل من المتعاقدين حينئذ خيار القبول والرجوع، فإذا تم الإيجاب والقبول، فهل يكون لأحد العاقدين في مجلس العقد خيار الرجوع؟ اختلف العلماء فيه. فقال الحنفية والمالكية والفقهاء السبعة بالمدينة (¬2): يلزم العقد بالإيجاب والقبول؛ لأن البيع عقد معاوضة، يلزم بمجرد تمام لفظ البيع والشراء، ولا يحتاج إلى خيار مجلس، ولقول عمر رضي الله عنه: «البيع صفقة أو خيار». وقالوا عن حديث «البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا»: المراد بالمتبايعين: هما ¬
المتساومان والمتشاغلان بأمر البيع، والمراد بالتفرق التفرق بالأقوال: وهو أن يقول الآخر بعد الإيجاب: لا أشتري، أو يرجع الموجب قبل القبول، فالخيار قبل القبول ثابت. ورد بعضهم هذا الحديث لمعارضته لآية {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء:29/ 4] وآية {أوفوا بالعقود} [المائدة:1/ 5] وقال بعضهم: إنه منسوخ. يظهر من هذا أن خيار المجلس مقصور عند هؤلاء على ما قبل تمام العقد، فإذا أوجب أحد المتعاقدين، فالآخر بالخيار: إن شاء قبل في المجلس، وإن شاء رد، وهذا هو خيار القبول (¬1) وخيار الرجوع. وقال الشافعية والحنابلة وسفيان الثوري وإسحاق: إذا انعقد البيع بتلاقي الإيجاب والقبول، يقع العقد جائزاً أي غير لازم، ما دام المتعاقدان في المجلس، ويكون لكل من المتبايعين الخيار في فسخ البيع أو إمضائه ما دام مجتمعين لم يتفرقا أو يتخايرا، والمحكَّم في التفرق: العرف (¬2): وهو أن يتفرقا عن مقامهما الذي تبايعا فيه. ¬
والمراد به التفرق بالأبدان، وهو التفرق حقيقة. وهو الذي يكون لذكره في الحديث فائدة، لأنه معلوم لكل واحد أن المتعاقدين بالخيار إذا لم يقع بينهما عقد بالقول. وهذا هو خيار المجلس الثابت في أنواع البيع، لما روى الشيخان أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «البيِّعان بالخيار، ما لم يتفرقا، أو يقول أحدهما للآخر: اختر» (¬1) أي اختر اللزوم. قال ابن رشد: وهذا حديث إسناده عند الجميع من أوثق الأسانيد، وأصحها. وقد أثبت ابن حزم في المحلى تواتره. وردوا على المالكية والحنفية بأن اللفظ الوارد في هذا الحديث لا يحتمل ما قالوه (أي التفرق بالأقوال) إذ ليس بين المتبايعين تفرق بلفظ ولا اعتقاد، إنما بينهما اتفاق على الثمن والمبيع، بعد الاختلاف فيهما. وتأويلهم يبطل فائدة الحديث، لأنه من المعلوم أنهما بالخيار قبل العقد في إنشائه، وإتمامه، أو تركه، ومعنى قول عمر السابق: «البيع صفقة أو خيار» هو أن البيع ينقسم إلى بيع شرط فيه الخيار، وبيع لم يشترط فيه الخيار، وقد سماه صفقة لقصر مدة الخيار فيه. إلا أنه أخذ على هذا الرأي كونه يهدر أو يزعزع القوة الملزمة للعقد، وهو مبدأ خطير من أهم المبادئ القانونية (¬2). لكنني رددت على هذا الاتهام في بحث نظرية الفسخ السابقة. ¬
المبحث الثاني ـ شروط البيع
المبحث الثاني ـ شروط البيع يجب أن يتوافر في عقد البيع أربعة أنواع من الشروط وهي: شروط انعقاد، وشروط صحة، وشروط نفاذ، وشروط لزوم (¬1)، والقصد من هذه الشروط في الجملة منع وقوع المنازعات بين الناس، وحماية مصالح العاقدين، ونفي الغرر (أي الاحتمال) والبعد عن المخاطر بسبب الجهالة، فإذا اختل شرط الانعقاد كان العقد باطلاً، وإذا اختل شرط الصحة كان العقد عند الحنفية فاسداً، وإذا لم يتوافر شرط النفاذ كان العقد موقوفاً على الإجازة ولا تنتقل به الملكية إلا بالإجازة، وإذا انعدم شرط اللزوم كان العقد مخيراً فيه أي مشتملاً على خيار الإمضاء أو الإبطال. أولاً - شرائط الانعقاد: وهي ما يشترط تحققه لاعتبار العقد منعقداً شرعاً، وإلا كان باطلاً. وقد اشترط الحنفية لانعقاد البيع أربعة أنواع من الشروط: في العاقد، وفي نفس العقد، وفي مكانه، وفي المعقود عليه (¬2). أما ما يشترط في العاقد فهو شرطان: 1 - أن يكون العاقد عاقلاً أي مميزاً، فلا ينعقد بيع المجنون والصبي غير العاقل. ولا يشترط البلوغ عند الحنفية، فيصح تصرف الصبي المميز البالغ من العمر سبع سنوات كما سيأتي تفصيله، وفي الجملة: إن تصرفات الصبي المميز العاقل تنقسم عند الحنفية إلى ثلاثة أقسام: آـ التصرفات النافعة نفعاً محضاً: كالاحتطاب والاحتشاش والاصطياد ¬
2 - أن يكون العاقد متعددا
وقبول الهبة والصدقة والوصية والكفالة بالدين، فهذه التصرفات تصح من الصبي العاقل دون إذن ولا إجازة من الولي، لأنها لنفعة التام. ب ـ التصرفات الضارة ضرراً محضاً: كالطلاق والهبة والصدقة والإقراض وكفالته لغيره بالدين أو بالنفس، فهذه لا تصح من الصبي العاقل، ولا تنفذ، ولو أجازها وليه؛ لأن الولي لا يملك إجازة هذه التصرفات لما فيها من الضرر. ج ـ التصرفات الدائرة بين الضرر والنفع: كالبيع والشراء والإيجار والاستئجار والزواج والمزارعة والمساقاة والشركات ونحوها. فهذه التصرفات تصح من الصبي المميز، ولكنها تكون موقوفة على إذن الولي أو إجازته ما دام صغيراً، أو على إجازته بنفسه بعد البلوغ؛ لأن للمميز جانباً من الإدراك غير قليل (¬1). 2 - أن يكون العاقد متعددا ً: فلا ينعقد البيع بواسطة وكيل من الجانبين إلا في الأب ووصيه والقاضي والرسول من الجانبين، بخلاف الوكيل في عقد النكاح، فإنه يصح أن يعقد النكاحَ وكيل من الجانبين. والفرق بين البيع والنكاح: هو أن للبيع حقوقاً متضادة مثل التسليم والتسلم والمطالبة بتسليم المبيع وقبض الثمن والرد بالعيب والخيارات. ويستحيل أن يكون الشخص الواحد في زمان واحد مسلِّماً ومتسلماً، طالباً ومطالباً، وهذا محال. وبما أن حقوق العقد مقتصرة على العاقد فلا يصير كلام العاقد كلام الشخصين. وأما الوكيل في النكاح فإن حقوق العقد لا ترجع إليه، وإنما ترجع إلى الموكل فكان سفيراً محضاً بمنزلة الرسول. ¬
وقد استثني الأب فيما يبيع مال نفسه من ابنه الصغير، بمثل قيمته أو بما يتغابن الناس فيه عادة، أو يشتري مال الصغير لنفسه، لأنه حينئذ اقترب من مال اليتيم بالتي هي أحسن، لكمال شفقته ووفرة رعايته بحكم طبيعة الحال. والوصي مثل الأب عند أبي حنيفة وأبي يوسف إذا تصرف بما فيه نفع ظاهر لليتيم أو بمثل القيمة، لأنه مرضي الأب، والظاهر ما رضي به إلا لوفور شفقته على الصغير. وقال محمد: لا يجوز تصرف الوصي بمال الصبي لنفسه بمثل القيمة؛ لأن القياس يأبى جوازه أصلاً من الأب والوصي جميعاً. والتساهل في الأب لكمال شفقته بخلاف الوصي. والقاضي لا ترجع إليه حقوق العقد، فكان بمنزلة الرسول، والرسول لا تلزمه حقوق العقد، لأنه معبر وسفير، فجاز لكل من القاضي والرسول تولي العقد عن الجانبين. وأجاز جمهور الحنفية بخلاف الشافعي وزفر للشخص الواحد أن يتولى طرفي عقد النكاح بإيجاب يقوم مقام القبول في خمس صور: إذا كان ولياً أو وكيلاً من الجانبين كأن يقول شخص: زوجت ابني ببنت أخي، أو زوجت موكلي فلاناً موكلتي فلانة، أو أصيلاً من جانب ووكيلاً من جانب آخر كما لو وكلت امرأة شخصاً في أن يزوجها من نفسه، أو أصيلاً من جانب وولياً من جانب كأن يتزوج بنت عمه الصغيرة، أو ولياً من جانب ووكيلاً من جانب: مثل زوجت بنتي من موكلي. أما صورة الأصيل من الجانبين فهي مستحيلة عقلاً (¬1). ¬
ما يشترط في نفس العقد
وأما ما يشترط في نفس العقد فهو شرط واحد: وهو أن يكون القبول موافقاً للإيجاب (¬1) كما سيأتي تفصيله. وأما ما يشترط في مكان العقد: فهو شرط واحد أيضاً وهو اتحاد مجلس الإيجاب والقبول كما سيذكر تفصيله. ومجلس البيع: هو الاجتماع الواقع لعقد البيع (م 181 مجلة). وأما ما يشترط في المعقود عليه أي المبيع فهو أربعة شروط (¬2): 1 - أن يكون المبيع موجودا ً: فلا ينعقد بيع المعدوم قبل وجوده وماله خطر العدم. من أمثلة الأول: بيع نتاج النتاج أي ولد ولد هذه الناقة مثلاً، وبيع الثمر قبل انعقاد شيء منه على الشجرة. ومن أمثلة الثاني: بيع الحمل، وبيع اللبن في الضرع، فكل من الحمل واللبن متردد بين الوجود وعدم الوجود فهما على خطر العدم. ودليله في الجملة: أنه صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها (¬3). ويلحق به بيع ياقوتة فإذا هي زجاج، ففي هذا غلط في الجنس فلا ينعقد البيع، لأن المبيع معدوم. ويستثنى بيع السلم والاستصناع وبيع الثمر على الشجر بعد ظهور بعضه في رأي بعض الحنفية. ¬
2 - أن يكون المبيع مالا متقوما
2 - أن يكون المبيع مالاً متقوماً: والمال عند الحنفية كما عرفنا سابقاً: ما يميل إليه الطبع ويمكن ادخاره لوقت الحاجة. وبعبارة أخرى: هو كل ما يمكن أن يملكه الإنسان وينتفع به على وجه معتاد. والأصح أنه هو كل عين ذات قيمة مادية بين الناس. والمتقوم: ما يمكن ادخاره مع إباحته شرعاً. وبعبارة أخرى: هو ما كان محرزاً فعلاً ويجوز الانتفاع به في حالة الاختيار (¬1)، فلا ينعقد بيع ما ليس بمال كالإنسان الحر والميتة والدم، ولا بيع مال غير متقوم كالخمر والخنزير في حق مسلم، ويجوز بيع آلات الملاهي عند أبي حنيفة لإمكان الانتفاع بالأدوات المركبة منها، وعند الصاحبين وبقية الأئمة: لا ينعقد بيع هذه الأشياء، لأنها معدة للفساد. 3 - أن يكون مملوكاً في نفسه: أي محرزاً وهو ما دخل تحت حيازة مالك خاص. فلا ينعقد بيع ما ليس بمملوك لأحد من الناس مثل بيع الكلأ ولو في أرض مملوكة، والماء (¬2) غير المحرز، والحطب، والحشيش، والصيود التي في البراري، وتراب الصحراء ومعادنها، وأشعة الشمس والهواء، ولقطات البحر وحيوانات البر في البراري. أما كون المبيع مملوكاً للبائع، فليس شرط انعقاد، وإنما هو شرط نفاذ كما سيأتي. ¬
4 - أن يكون مقدور التسليم عند العقد
4 - أن يكون مقدور التسليم عند العقد: فلا ينعقد بيع معجوز التسليم، وإن كان مملوكاً للبائع، مثل الحيوان الشارد والطير في الهواء، والسمك في البحر بعد أن كان في يده. شروط الإيجاب والقبول: يفهم مما ذكر من شرائط الانعقاد أنه يشترط في الإيجاب والقبول ثلاثة شروط: 1 - الأهلية: هي عند الحنفية أن يكون كل من الموجب والقابل عاقلاً مميزاً يدرك ما يقول ويعينه حقاً (¬1)، فهو في الحقيقة شرط في العاقد لا في الصيغة، إلا بالنظر لصدورها من العاقدين. والتمييز مقدر عند الحنفية بتمام السنوات السبع وعند غيرهم ببلوغ السبع سنوات، فلا ينعقد بيع المجنون والصبي غير المميز؛ لأن العقد ارتباط بين إرادتي طرفيه. والكلام ونحوه كالكتابة والإشارة دليل على هاتين الإرادتين، فكان لا بد من أن يكون هذا الدليل صادراً من مميز عاقل. والبلوغ والاختيار ليسا من شروط الانعقاد عند الحنفية، لذا كان من الضروري الكلام في بيع الصبي والمكره عند فقهاء المذاهب. بيع الصبي المميز: قال الحنفية والمالكية والحنابلة: ينعقد تصرف الصبي المميز بالبيع والشراء فيما أذن له الولي، وإلا كان موقوفاً على إجازة وليه. ودليلهم أن المدار في التصرف ¬
بيع المكره
على إذن الولي، لا على الصبي، فصح البيع؛ لأن الصبي حينئذ كالدلال، والعاقد غيره، ولأن دفع المال إلى الصبي بعد رشده متوقف على اختباره بالبيع والشراء، وأنه يغبن أم لا، فكان لا بد من القول بصحة تصرفاته وعقوده، ولكن بإذن الولي لتحصيل المصلحة وحفظ أمواله (¬1). وقال الشافعية (¬2): لا ينعقد بيع الصبي لعدم أهليته، وشرط العاقد بائعاً أو مشترياً: أن يكون راشداً: وهو أن يتصف بالبلوغ وصلاح الدين والمال، ودليلهم قوله تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً} [النساء:5/ 4] والتصرف بالبيع والشراء في معنى إعطاء السفهاء المال لاستلزام البيع والشراء لبذل المال، والجامع بينهما نقص العقل المؤدي بكل منهما لإضاعة المال في غير طريقه الشرعي (¬3). بيع المكره وبيع التلجئة: بيع المكره: قال جمهور الحنفية: إن عقود البيع والشراء والإيجار ونحوها من المكره إكراهاً ملجئاً أو غير ملجئ تكون فاسدة؛ لأن الإكراه يزيل الرضا الذي هو شرط في صحة هذه العقود، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء:92/ 4] وحينئذ يحق ¬
للمستكره فسخ ما عقد أو إمضاؤه. ويثبت الملك للمشتري عند القبض كبقية العقود الفاسدة، ويلزم العقد بقبض المستكره الثمن، أو تسليم المبيع طوعاً، إلا أنه يخالف البيع الفاسد في صور منها: أنه يجوز بالإجازة القولية والفعلية، ويزول الفساد بخلاف غيره من البيوع الفاسدة لا تجوز، وإن أجيزت؛ لأن الفساد فيها لحق الشرع، والفساد هنا إنما كان صيانة لمصلحة خاصة لا لمصلحة شرعية عامة، وبه يشبه المكره البيع الموقوف، ومن هنا قالوا: إنه بيع فاسد موقوف. لذا قال زفر: إن الإكراه يجعل العقد غير نافذ، فهو كعقد الفضولي صحيح موقوف بالنسبة إلى المستكره، فيتوقف على إجازته بعد زوال الإكراه؛ لأن الإكراه إنمايخل بحق المستكره ومصلحته، فيكفي لحمايته جعل العقد موقوف النفاذ على رضاه بعد زوال الإكراه، ورأي زفر أقوى دليلاً (¬1). وقال الشافعية والحنابلة: يشترط أن يكون العاقد مختاراً طائعاً في بيع متاع نفسه، فلا ينعقد بيع المكره في ماله بغير حق، لقوله تعالى: {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء:92/ 4] ولقوله عليه الصلاة والسلام: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (¬2). وأما الإكراه بحق فلا يمنع من انعقاد العقد، إقامة لرضا الشرع مقام رضاه، ¬
بيع المضطر
مثل الإجبار على بيع الدار لتوسعة المسجد أو الطريق أو المقبرة، أو على بيع سلعة لوفاء دين أو لنفقة زوجة أو ولد أو الأبوين، أو لأجل وفاء ما عليه من الخراج الحق. وقال المالكية: بيع المكره غير لازم، فيكون للعاقد المستكره الخيار بين فسخ العقد أو إمضائه. هذا ما وجدته في مختصر خليل وشراحه، لكن قال ابن جزي: يشترط في البائع والمشتري أن يكونا طائعين، فإن بيع المكره وشراءه باطلان (¬1). بيع المضطر: أن يضطر شخص إلى بيع شيء من ماله، ولم يرض المشتري إلا بشرائه بدون ثمن المثل بغبن فاحش. مثاله: أن يلزم القاضي شخصاً ببيع ماله لإيفاء دينه، أو ألزم الذمي بائعاً ببيع مصحف أو عبد مسلم ونحو ذلك. وحكمه عند الحنفية كما قالوا: بيع المضطر وشراؤه فاسد (¬2). وأجازه فقهاء آخرون للضرورة. بيع التلجئة: صورة بيع التلجئة أو بيع الأمانة: أن يخاف إنسان اعتداء ظالم على بعض ما يملك، فيتظاهر هو ببيعه لثالث فراراً منه، ويتم العقد مستوفياً أركانه وشرائطه. واختلف العلماء في شأنه. فقال الحنابلة: إنه عقد باطل غير صحيح، لأن العاقدين ماقصدا البيع، فلم يصح منهما كالهازلين (¬3). وقال الحنفية والشافعي: هو بيع صحيح، لأن البيع تم بأركانه وشروطه، ¬
2 - الشرط الثاني ـ من شروط صيغة البيع: أن يكون القبول موافقا للإيجاب
وأتي باللفظ مع قصد واختيار خالياً عن مقارنة مفسد، فصح كما لو اتفقا على شرط فاسد، ثم عقد البيع بغير شرط. وأما عدم رضاه بوقوعه فهو كظنه أنه لا يقع، لا أثر له لخطأ ظنه (¬1). بيع السمسرة: السمسرة: هي الوساطة بين البائع والمشتري لإجراء البيع. والسمسرة جائزة، والأجر الذي يأخذه السمسار حلال؛ لأنه أجر على عمل وجهد معقول، لكن قال الشافعية: لا يصح استئجار بيّاع على كلمة لا تتعب، وإن روّجت السلعة؛ إذ لا قيمة لها (¬2). ولا بأس أن يقول شخص لآخر: بع هذا الشيء بكذا، وما زاد فهو لك، أو بيني وبينك، لما رواه أحمد وأبو داود والحاكم عن أبي هريرة: «المسلمون على شروطهم». 2 - الشرط الثاني ـ من شروط صيغة البيع: أن يكون القبول موافقاً للإيجاب: بأن يرد على كل ما أوجبه البائع وبما أوجبه (¬3) فإذا قال إنسان لآخر: بعتك هذين الثوبين بألف ليرة، فقال المشتري: قبلت في هذا الثوب، وأشار إلى واحد منهما، لا ينعقد البيع. وإذا قال لآخر: بعتك هذه الدار بما فيها من مفروشات بألفي ليرة، فقال المشتري: قبلت شراءها دون ما فيها بألف ليرة مثلاً، لم ينعقد العقد أيضاً، لتفريق الصفقة على البائع، والمشتري لا يملك تفريقها؛ لأن من عادة التجار ضم الرديء إلى الجيد، ترويجاً للرديء بواسطة الجيد. ¬
3 - أن يتحد مجلس العقد
فلو قبل المشتري بأكثر مما طلب، انعقد البيع؛ لأن القابل بالأكثر قابل بالأقل طبعاً، غير أنه لا يكون ملزماً إلا بالثمن الذي طلبه البائع. ولو قبل بأقل مما ذكر البائع، لا ينعقد العقد. وكذا لو خالف في وصف الثمن لا في قدره، كأن أوجب البائع البيع بثمن حالّ، فقبل المشتري بثمن مؤجل، أو أوجب بأجل إلى شهر معين فقبل المشتري بأجل أبعد منه، فلا ينعقد البيع في الحالتين، لعدم تطابق القبول مع الإيجاب. 3 - أن يتحد مجلس العقد: بأن يكون الإيجاب والقبول في مجلس واحد، بأن كان الطرفان حاضرين معاً، أو في مجلس علم الطرف الغائب بالإيجاب (¬1). ونتائج هذا الشرط ما يلي: لو أوجب أحد الطرفين البيع فقام الآخر عن المجلس قبل القبول، أو اشتغل بعمل آخر يوجب اختلاف المجلس، ثم قبل، لا ينعقد البيع. ولكن لا يشترط الفور في القبول؛ لأن القابل يحتاج إلى التأمل، ولو اقتصر على الفور لا يمكنه التأمل، واعتبر المجلس الواحد جمعاً للمتفرقات للضرورة. وكذلك قال المالكية (¬2): لا يضر في البيع الفصل بين الإيجاب والقبول إلا أن يخرج عن البيع لغيره عرفاً. وقال الشافعية والحنابلة (¬3): يشترط أن يكون القبول بعد الإيجاب بألا يفصل بينهما فاصل كثير: وهو ما أشعر بالإعراض عن القبول. ولا يضر الفصل اليسير ¬
التعاقد حالة المشي أو الركوب
لعدم إشعاره بالإعراض عن القبول. ويضر تخلل كلام أجنبي عن العقد ولو يسيراً بين الإيجاب والقبول. التعاقد حالة المشي أو الركوب: إذا تبايعا وهما يمشيان أو يسيران على دابة واحدة أو دابتين: فإن اتصل الإيجاب والقبول من غير فصل بينهما، انعقد العقد، حتى ولو مشيا خطوة أو خطوتين جاز، فإن كان بين القبول والإيجاب فصل وسكوت، وإن قل، لا ينعقد العقد؛ لأن المجلس تبدل بالمشي والسير، وقاسوا ذلك على قراءة آية السجدة وخيار المخيرة (¬1). فلو قرأ آية سجدة وهو يمشي على الأرض، أو يسير على دابة لا يصلى عليها، يلزمه لكل قراءة سجدة، وكذا لو خير امرأته في المجلس بأن تطلق نفسها منه وهي تمشي على الأرض أو تسير على دابة لا يصلى عليها، فمشت أو سارت: يبطل خيارها لتبدل المجلس، لأن «التفويض يقتصر على المجلس بخلاف الوكالة فإنها لا تقتصر عليها» وتوكيل الرجل زوجته بتطليق نفسها يقتصر على المجلس (¬2). ولو تبايعا وهما واقفان، انعقد البيع، لاتحاد المجلس. ولو أوجب أحدهما البيع وهما واقفان، فسار الآخر قبل القبول أو سارا جميعاً أو سار البائع قبل القبول، ثم قبل المشتري بعدئذ لا ينعقد، لأنه لما سار أحدهما أو سارا، فقد تبدل المجلس قبل القبول، ويجعل السير دليلاً على الإعراض. أما لو وقف الزوج، فخير امرأته، ثم سار وهي واقفة، فلها الخيار. ولو ¬
التعاقد على ظهر سفينة أو طائرة
سارت هي والزوج واقف بطل خيارها، فالعبرة إذن لمجلسها لا لمجلس الزوج، فما دامت في مجلسها، لم يوجد منها دليل الإعراض، فيظل لها الخيار. وأما الزوج فلا يبطل كلامه بالإعراض؛ لأن التخيير من قبله لازم، أما في البيع فيعتبر مجلسهما جميعاً. التعاقد على ظهر سفينة أو طائرة: لو تبايع الطرفان على سفينة أو طائرة أوقطار، انعقد العقد، سواء كانت هذه الوسائل واقفة أم جارية، بخلاف المشي على الأرض والسير على الدابة؛ لأن الشخص لا يستطع إيقاف تلك الوسائل، فاعتبر المجلس فيها مجلساً واحداً، وإن طال، أما الدابة، فإنه يستطيع إيقافها. التعاقد مع غائب: إذا أوجب أحد المتعاقدين البيع أو الشراء والآخر غائب، فبلغه الإيجاب، فقبل، لا ينعقد البيع، كأن يقول: «بعت هذه البضاعة من فلان الغائب» فبلغه الخبر، فقبل: لا يصح، لأن القاعدة الأصلية في هذا: أن أحد شطري العقد الصادر من أحد العاقدين في البيع يتوقف على الآخر في مجلس العقد (أي يظل قائماً ساري المفعول ضمن المجلس لا بعده) ولا يتوقف على الشطر الآخر من العاقد الآخر فيما وراء المجلس بالاتفاق، إلا إذا كان عنه قابل (أي وكيل) أو كان بالرسالة أو الكتابة (¬1). التعاقد بواسطة رسول: أما الرسالة: فهي أن يرسل أحد المتعاقدين رسولاً إلى رجل فيقول المتعاقد الآخر: (إني بعت هذا الثوب من فلان الغائب بكذا) فاذهب إلىه، وقل له: (إن فلاناً باع ثوبه منك بكذا) فجاء الرسول، وأخبره بما قال، فقال المشتري في مجلس أداء الرسالة: (اشتريت) أو (قبلت): تم البيع بينهما؛ لأن الرسول سفير ومعبر عن كلام المرسل، فكأنه حضر بنفسه وخوطب بالإيجاب فقبل، فينعقد العقد. ¬
التعاقد بالمراسلة
التعاقد بالمراسلة: أما الكتابة: فهي أن يكتب رجل إلى آخر: (أما بعد، فقد بعت فرسي منك بكذا) فبلغه الكتاب، فقال في مجلسه (أي مجلس بلوغ الكتاب): (اشتريت أو قبلت). ينعقد البيع لأن خطاب الغائب كتابة يجعله كأنه حضر بنفسه، وخوطب بالإيجاب فقبل في المجلس، فإن تأخر القبول إلى مجلس ثان لم ينعقد البيع. وللكاتب أن يرجع عن إيجابه أمام شهود بشرط أن يكون قبل قبول الآخر ووصول الرسالة. ويرى جمهور المالكية أنه ليس للموجب الرجوع قبل أن يترك فرصة للقابل يقرر العرف مداها. واتحاد المجلس شرط للانعقاد أيضاً في الإجارة والهبة، على التفصيل السابق في البيع. وأما الخلع فإن شطر العقد الصادر من الزوج يتوقف (أي يظل ساري المفعول) على قبول الآخر وراء المجلس بالاتفاق، كأن يقول: خالعت امرأتي الغائبة على كذا، فبلغها الخبر، فقبلت، جاز. وأما النكاح فهو كالبيع عند أبي حنيفة ومحمد، لا يتوقف شطر العقد فيه (أي لا يسري مفعوله) إلا إذا كان عن الغائب قابل، فإذا قال رجل للشهود: (اشهدوا أني قد تزوجت فلانة بكذا) وبلغها الخبر فأجازت أو قالت امرأة: (اشهدوا أني زوجت نفسي من فلان بكذا) فبلغه، فأجازها، لا ينعقد العقد في الحالتين عند أبي حنيفة ومحمد إلا إذا كان عن الغائب قابل. وعند أبي يوسف: يتوقف شطر العقد في النكاح على قبول الآخر فيما وراء المجلس، فينعقد العقد في هذين المثالين بقبول الغائب، وإن لم يقبل عنه أحد في مجلس العقد.
مبدأ وحدة الصفقة
مبدأ وحدة الصفقة وتفرقها: الصفقة: ضرب اليد على اليد في البيع، والبيعة للإمام، ثم جعلت عبارة عن العقد نفسه (¬1). قال النووي: الصفقة: هي عقد البيع، لأنه كان من عادتهم أن يضرب كل واحد من المتعاقدين يده على يد صاحبه عند تمام العقد (¬2). والعقد يحتاج في تكوينه كما هو معلوم إلى مبيع، وثمن، وبائع، ومشتر، وبيع وشراء. وباتحاد بعض هذه الأشياء مع بعض وتفرقها، يحصل اتحاد الصفقة، وتفريقها (¬3). وقد اتفق العلماء على ضرورة اتحاد الصفقة من حيث المبدأ، لأن من شرائط انعقاد البيع الشرط المذكور قريباً: وهو أن يكون القبول موافقاً للإيجاب، إلا أن هناك اختلافات جزئية في تحقيق هذا المبدأ أو عدم تحقيقه أي تفريق الصفقة. فقال الحنفية (¬4): لا بد من معرفة ما يوجب اتحاد الصفقة وتفريقها، وذلك إما بسبب العاقدين أو بسبب المبيع. أـ أما بالنسبة للعاقدين: فإن اتحد شخص الموجب سواء أكان بائعاً، أم مشترياً، وتعدد القابل المخاطب، لم يجز للقابلين تفريق الصفقة بأن يقبل أحدهما البيع دون الآخر. وإن انعكس الأمر فتعدد الموجب واتحد القابل، لم يجز للقابل القبول في حصة أحد الموجبين دون الآخر. مثل الحالة الأولى: أن يقول البائع لمشتريين: بعتكما هذه السلعة بألف ليرة، فقال أحدهما: اشتريت، ولم يقبل ¬
الآخر، كانت الصفقة متعددة، فلم ينعقد العقد إلا باتفاق جديد. ومثل الحالة الثانية: أن يقول شخص لمالكي سلعة: اشتريت منكما هذه السلعة بألف ليرة مثلاً، فباعه أحدهما دون الآخر، فإن الصفقة تتعدد في هذه الحالة، فلا ينعقد العقد. ب ـ وأما بالنسبة للمبيع: فإن اتحد العاقدان، وقبل أحدهما في بعض المبيع دون بعض، لم يصح العقد، لتفرق الصفقة. وإن اتحد العاقدان، وتعدد المبيع، فإما أن يكون المبيع مثليين أو مثليا وقيمياً وفي كلتا الحالتين لايجوز للمشتري أن يقبل في أحد المبيعين، ويرفض الآخر، فإن فعل، تعددت الصفقة، وحينئذ لا يتم البيع إلا برضا جديد من البائع بما قبل به المشتري، فيصبح القبول إيجاباً، والرضا قبولاً، ويبطل الإيجاب الأول. غير أن هناك فرقاً بين الحالتين: وذلك في قسمة الثمن على أجزاء المبيع وفي وحدة الصفقة وتعددها. فإذا كان المبيع مثليين كقفيزين من أرز أو كمدين من حنطة أو رطلين من حديد، وقبل المشتري في أحدهما، انقسم الثمن بنسبة أجزاء المبيع، فيكون ثمن الجزء الذي تم فيه المبيع في هذا المثال نصف الثمن الأصلي المذكور لجزئي المبيع؛ لأن الثمن في المثليات ينقسم على المبيع باعتبار الأجزاء، فكانت حصة كل جزء من الثمن معلوماً. وتكون الصفقة عندئذ واحدة. ويشبه المثليات (المكيل والموزون) في قسمة الثمن عليه بالأجزاء ما إذا كان المبيع شيئاً واحداً كحيوان واحد. وإذا كان المبيع من غير المثليات أي القيميات كثوبين ودابتين، لا ينقسم الثمن على المبيع باعتبار الأجزاء، لعدم تماثل الأجزاء، وإذا لم ينقسم الثمن في هذه الحالة، بقيت حصة كل واحد من جزئي المبيع من الثمن مجهولة، وجهالة الثمن
تمنع صحة البيع. فإن أريد تصحيح الصفقة فلا بد من أحد أمرين: إما أن يكرر البائع لفظ البيع بأن يقول: بعتك هذين الثوبين، بعتك هذا بألف، وبعتك هذا بألف، أو اشتريت منك هذين المتاعين، اشتريت هذا بمئة، واشتريت هذا بمئة، فيصح العقد، ويصبح هنا صفقتان. وإما أن يفرق الثمن على أجزاء المبيع، بأن يقول البائع: بعتك هذين الكتابين، هذا بمئة، وهذا بخمسين، فقبل المشتري في أحدهما، جاز البيع لانعدام تفريق الصفقة الواحدة من المشتري، بل البائع هو الذي فرق الصفقة، حيث سمى لكل واحد من المبيعين ثمناً على حدة، فكانت هذه الحالة صفقات معنى، وإلا لو كان غرض البائع ألا يبيع المبيعين للمشتري إلا جملة واحدة، لم تكن هناك فائدة لتعيين ثمن كل منهما على انفراد. وإذا تطابق الإيجاب والقبول، لزم البيع، ولا خيار لواحد من العاقدين إلا بسبب وجود عيب أو عدم رؤية للمبيع. نصت المادة (351) من المجلة على ما يأتي: «ما بيع صفقة واحدة إذا ظهر بعضه معيباً: فإن كان قبل القبض، كان المشتري مخيراً: إن شاء رد مجموعه، وإن شاء قبله بجميع الثمن، وليس له أن يرد المعيب وحده، ويمسك الباقي. وإ ن كان بعد القبض: فإذا لم يكن في التفريق ضرر، كان له أن يرد المعيب بحصته من الثمن سالماً، وليس له أن يرد الجميع حينئذ مالم يرضَ البائع. وأما إذا كان في تفريقه ضرر، رد الجميع، أو قبل الجميع بكل الثمن، مثلاً: لو اشترى قلنسوتين بأربعين قرشاً، فظهرت إحداهما معيبة قبل القبض، يردهما معاً، وإن كان بعد القبض يرد المعيبة وحدها بحصتها من الثمن سالمة، ويمسك الثانية بما بقي من الثمن. أما لو اشترى زوجي خف، فظهر أحدهما معيباً بعد القبض، كان له ردهما معاً للبائع، وأخذ ثمنهما منه».
أبو حنيفة والمالكية
وقال أبو حنيفة والمالكية (¬1): إذا اشتملت الصفقة على حلال وحرام، كالعقد على سلعة متقومة وخمر، أو خنزير، أو غيرهما، فالصفقة كلها باطلة. وقال الصاحبان: يصح العقد في الصحيح، ويفسد في الفاسد. ومنشأ الخلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه هو: أن الصفقة إذا اشتملت على الصحيح والفاسد يتعدى الفساد إلى الكل عند أبي حنيفة. وأما عند الصاحبين فلا يتعدى الى الصحيح، وإنما يقتصر أثر الفساد على الفاسد. ولو باع الرجل ملكه وملك غيره في صفقة واحدة، صح البيع فيهما، ويلزم البيع فيما يملكه المالك، ويتوقف اللزوم في ملك الغير على إجازته، وهذا باتفاق الحنفية والمالكية، لأنهم يصححون العقد الموقوف أو عقد الفضولي، كما سنعلم. وقال الشافعية والحنابلة في الأرجح عندهم (¬2): تفريق الصفقة معناه: أن يبيع ما يجوز بيعه، وما لا يجوز بيعه صفقة واحدة بثمن واحد، وهو ثلاثة أقسام: أحدها ـ أن يبيع معلوماً ومجهولاً بثمن واحد، لقوله: بعتك هذا الكتاب وكتاباً آخر، وهما ملك له بمئة ليرة مثلاً، لم يصح البيع فيهما؛ لأن المجهول لا يصح بيعه لجهالته، والمعلوم مجهول الثمن، ولا سبيل إلى معرفته، لأن معرفته إنما تكون بتقسيط الثمن عليهما، والمجهول لا يمكن تقويمه، فيتعذر التقسيط. الثاني ـ أن يكون المبيعان مما ينقسم عليهما بالأجزاء، كشيء مشترك بين اثنين، فباعه كله أحدهما بغير إذن شريكه، وكشيئين من المثليات مثل قفيزين من صبرة واحدة باعهما من لا يملك إلا بعضهما، فالأصح أن يصح البيع فيما يملكه ¬
بقسطه من الثمن، ويفسد فيما لا يملكه؛ لأن لكل واحد منهما حكماً مستقلاً حالة إفراده بالبيع، فإذا جمع مع غيره ثبت لكل واحد منهما حكمه الخاص به، كما لو باع رجل شقصاً (¬1) وسيفاً فإنه تثبت الشفعة في الشقص بلا خلاف، كما لو أفرده. الثالث ـ أن يكون المبيعان معلومين مما لا ينقسم الثمن عليهما بالأجزاء، أي أن تشتمل الصفقة على حلال وحرام كخل وخمر وشاة وخنزير، وميتة وشاة مذكاة، ونحوهما من القيميات، فأصح القولين عند الشافعي وفي رواية عند الحنابلة عن أحمد أن البيع يصح في الحلال ويبطل في الحرام (¬2). وفي كيفية توزيع الثمن على المبيعين باعتبار الأجزاء، فيقدر الخمر خلاً، والخنزير شاة، والميتة مذكاة. وهذا ما قاله أنصار هذه الرواية الأولى عن أحمد. ورجح ابن قدامة الحنبلي الرواية الثانية عن أحمد: وهو أنه يفسد البيع في المبيعين جميعاً. فإن كانت الصفقة مشتملة على مال للبائع ومال لغيره لا ينقسم الثمن عليهما بالأجزاء، فالأصح عند الشافعية أيضاً أن البيع يصح فيما يملكه، ويبطل فيما لا يملكه، ويوزع الثمن بحسب القيمة لكل منهما، وعند الحنابلة: الأصح أنه يبطل البيع في المبيعين جميعاً. وقال الحنابلة والشافعية فيما يتعلق بخيار تفرق الصفقة: متى صح البيع في بعض الصفقة: فإن كان المشتري عالماً بالحال كأن يعلم أن المبيع مما ينقسم الثمن عليه ¬
ثانيا - شروط النفاذ
بالأجزاء كما ذكر، فلا خيار له، لأنه اشترى على بصيرة. وإن لم يعلم بالحال، مثل أن يشتري رجل متاعاً يظنه كله للبائع، فبان أنه لا يملك إلا نصفه، أو متاعين فتبين أنه لا يملك البائع إلا أحدهما، فله الخيار بين الفسخ والإمساك، لأن الصفقة تبعضت عليه. وأما البائع عند إمساك المشتري جزء المبيع، فلا خيار له في الأصح؛ لأنه رضي بزوال ملكه عما يجوز بيعه بقسطه من الثمن. فإن تلف أحد المبيعين صفقة واحدة قبل القبض، فينفسخ العقد في التالف بلا خلاف. وأما الباقي فللمشتري الخيار فيه بين إمساكه بحصته من الثمن، وبين الفسخ، لتبعض الصفقة عليه. وقال الظاهرية (¬1): كل صفقة جمعت حراماً وحلالاً، فهي باطل كلها، لا يصح منها شيء، مثل أن يكون بعض المبيع مغصوباً، أو غير مملوك للبائع، أو آل إليه بعقد فاسد. والخلاصة: أن جمهور العلماء يبطلون الصفقة المشتملة على حلال وحرام أو مملوك وغير مملوك. وقال الشافعية كما رجح النووي: يصح العقد فيما يجوز، ويبطل فيما لا يجوز. ثانياً - شروط النفاذ: لنفاذ (¬2) العقد شرطان: 1ً - الملك أو الولاية: الملك هو حيازة الشيء متى كان الحائز له قادراً وحده ¬
2 - ألا يكون في المبيع حق لغير البائع
على التصرف فيه عند عدم المانع الشرعي، فالقيم على المجنون أو السفيه، والوصي على القاصر، لا يعتبر أحدهما مالكاً يتصرف في الشيء، على حين أن المجنون والسفيه والقاصر يعتبر كل منهم مالكاً؛ لأن له حق الاستقلال في التصرف والانتفاع لولا المانع الشرعي من ذلك وهو أنه تحت ولاية غيره (¬1). والولاية: سلطة شرعية بها ينعقد العقد وينفذ، هي إما أصلية: وهي أن يتولى الإنسان أمور نفسه بنفسه، أو نيابية: وهي أن يتولى الشخص أمور غيره من ناقصي الأهلية، إما بإنابة المالك كالوكيل أو بإنابة الشارع كالأولياء وهم: الأب والجد والقاضي ووصي الأب أو الجد أو القاضي وترتيبهم كالآتي: الأب ثم وصيه ثم الجد ثم وصيه ثم القاضي ثم وصيه (¬2). ومدلول هذا الشرط أن يكون المبيع مملوكاً للبائع، فلا ينفذ بيع الفضولي، لانعدام الملك والولاية، لكنه ينعقد عند الحنفية موقوفاً على إجازة المالك. واعتبر الشافعي الملك أو الولاية من شرائط الانعقاد، فتعتبر تصرفات الفضولي عنده باطلة. وسأبحث ذلك بالتفصيل قريباً (¬3). 2 - ألا يكون في المبيع حق لغير البائع: إن كان في المبيع حق لغير البائع كان العقد موقوفاً غير نافذ، وعلى هذا فلا ينفذ بيع الراهن المرهون، ولا بيع المؤجر المأجور ولا بيع المالك الأرض التي عليها عقد مزارعة، وإنما يكون البيع موقوفاً على إجازة المرتهن، أو المستأجر، أو المزارع، ¬
تقسيم البيع من حيث النفاذ والوقف
وليس فاسداً، وهذا هو الصحيح عند الحنفية؛ لأن ركن البيع صدر من أهله مضافاً إلى مال متقوم مملوك له مقدرو على التسليم، من غير ضرر يلزمه (¬1). ويثبت حينئذ للمشتري الخيار بين إمضاء البيع أو فسخه. أما المستأجر أو المرتهن أو المزارع، فإن أجاز العقد نفذ، فلو لم يجز المستأجر حتى انفسخت الإجارة، نفذ البيع السابق، وكذا المرتهن إذا قضى دينه، ولا حاجة لتجديد العقد، وهو الصحيح كما قال ابن عابدين. وعليه يكون حكم بيع الفضولي أحد البيوع الجائزة هو قبول الإجازة من المالك. والفسخ من المشتري لا الإجازة. كما أن للفضولي فسخ البيع دون النكاح. وذكر الأستاذ مصطفى الزرقاء: أن الرأي الراجح فقهاً: أنه لا يكون البيع موقوفاً على إجازة المرتهن أو المستأجر وإن كانا أصحاب حق في المبيع، إذ الإجازة لاتكون شرعاً إلا لمالك أو ذي ولاية، بل البيع نافذ، ولكن لا يسلم المبيع إلى المشتري دون رضا المرتهن أو المستأجر صيانة لحقهما، بل يمنح المشتري الخيار في أن يفسخ البيع أو ينتظر إلى فكاك الرهن أو إلى انقضاء مدة الإجارة ليتسلم المبيع (¬2). تقسيم البيع من حيث النفاذ والوقف: يترتب على ما ذكر من شروط النفاذ عند الحنفية أن البيع قسمان: نافذ وموقوف. أما البيع النافذ: فهو أن يتوافر فيه ركن العقد مع وجود شرائط الانعقاد والنفاذ. ¬
آراء العلماء في تصرف الفضولي
وأما البيع الموقوف: فهو أن يوجد فيه ركن العقد مع وجود شرائط الانعقاد، ولكن لم يوجد فيه شرط النفاذ: وهو الملك أو الولاية. واختلال شرط النفاذ: يكون إما في المبيع كما في بيع الفضولي شيئاً لغيره، وإما في التصرف كما في بيع الصغير المميز أو المعتوه أو شرائهما. آراء العلماء في تصرف الفضولي: الفضولي في الأصل: من يشتغل بما لا يعنيه أو يعمل عملاً ليس من شأنه، ومنه سمي فضولياً: من يتصرف في شيء أو يعقد عقداً من العقود، دون أن يكون له ولاية ما على القيام به، كمن يبيع أو يشتري للغير، أو يؤجر أو يستأجر لغيره، دون وكالة أو وصاية أو ولاية على العقد، وبدون إذن من الغير (¬1). وبيع الإنسان ملك غيره دون إذن منه شائع في الحياة العملية كما في بيع الأزواج ملك زوجاتهم أو بيع الأفراد ملك الحكومة أو ملك من تغيب حتى طالت غيبته. ويلاحظ أن الفضولي: هو من يتصرف فيما تظهر ملكية غيره له، وإلا كان تصرفه من بيع ما لا يملك، وهو منهي عنه. ومحل البحث: أن يبيع الرجل مال غيره بشرط: إن رضي به صاحب المال أمضي البيع، وإن لم يرض فسخ، أو يشتري الرجل للرجل بغير إذنه على أنه إن رضي المشتري، صح الشراء وإلا لم يصح (¬2)، فالفضولي: هو المتصرف للغير بغير إذنه. وقد اختلف الفقهاء في حكم تصرف الفضولي. ¬
الحنفية
فأما الحنفية: فقد فرقوا بين البيع والشراء، ففي حالة البيع ينعقد تصرف الفضولي صحيحاً موقوفاً، سواء أضاف الفضولي العقد إلى نفسه أم إلى المالك، لأنه لا يمكن نفاذ العقد على العاقد. وفي حالة الشراء: إن أضاف الفضولي الشراء لنفسه، مع أنه يريد في نيته الشراء لغيره، كان الشراء له هو نفسه إن صح أن ينفذ عليه؛ لأن الأصل أن يكون تصرف الإنسان لنفسه لا لغيره. وأما إن أضاف الشراء لغيره أو لم يجد عقد الشراء نفاذاً على الفضولي بأن كان صبياً أو محجوراً عن التصرف، انعقد الشراء صحيحاً موقوفاً على إجازة الغير، أو من اشتري له، فإن أجازه نفذ عليه، واعتبر الفضولي وكيلاً ترجع إليه حقوق العقد. وفي الجملة: إن تصرفات الفضولي جائزة موقوفة على إجازة صاحب الشأن عند الحنفية (¬1)، وتصرفات الفضولي مثل بيع المسلم فيه والمغصوب وبيع الوكيل (¬2) هي من الحالات المستثناة من بيع ما ليس مملوكاً للإنسان. وقال المالكية: تعتبر تصرفات الفضولي وعقوده بصفة عامة في حالة البيع وحالة الشراء منعقدة موقوفة على إجازة صاحب الشأن. فإن أجازها جازت ونفذت وإلا بطلت؛ لأن الإجازة اللاحقة كالإذن أو الوكالة السابقة (¬3). استدل الحنفية والمالكية بآيات البيع التي وردت عامة لم يستثن منها كون ¬
الحنابلة
العاقد فضولياً، مثل قوله تعالى: {وأحلَّ الله ُ البَيْعَ} [البقرة:275/ 2] وقوله سبحانه: {يا أيُّها الَّذينَ آمَنُوا لا تَأْكُلوا أمْوالكُمْ بَينَكُمْ بِالباطِلِ، إلا أنْ تكونَ تِجارَة عَن تَراضٍ مَنكُم} [النساء:29/ 4] وقوله: {فَإذا قُضيت الصلاة فانتَشِروا في الأرْضِ وابْتَغوا منْ فَضْلِ الله} [الجمعة:10/ 62]. والفضولي كامل الأهلية، فإعمال عقده أولى من إهماله، وربما كان في العقد مصلحة للمالك، وليس فيه أي ضرر بأحد؛ لأن المالك له ألا يجيز العقد، إن لم يجد فيه فائدته. وقد ثبت أن الرسول صلّى الله عليه وسلم فيما يرويه البخاري وغيره: أعطى عروة البارقي ديناراً ليشتري له به شاة فاشترى له به شاتين، فباع إحداهما بدينار، وجاءه بدينار وشاة، فقال: «بارك الله لك في صفقة يمينك». وروى الترمذي وأبو داود عن حكيم بن حزام: أن النبي صلّى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً ليشتري به شاة يضحيها، فاشترى شاتين بالدينار، وباع إحداهما بدينار جاء به هو الشاة للرسول صلّى الله عليه وسلم، فأثنى عليه، ودعا له بالبركة قائلاً: «بارك الله لك في صفقتك» (¬1) فالنبي عليه السلام لم يأمر في الحالتين في الشاة الثانية لا بالشراء ولا بالبيع. وقال الحنابلة (¬2): لا يصح تصرف فضولي مطلقاً أي ببيع أو شراء أو غيرهما، ولو أجيز تصرفه بعد وقوعه إلا إن اشترى الفضولي في ذمته، ونوى الشراء لشخص لم يسمه، فيصح، أو اشترى بنقد حاضر ونوى لشخص لم يسمه، فيصح، ثم إن أجاز الشراء من اشتري له، ملكه من حين الشراء، وإن لم يجزه وقع الشراء للمشتري ولزمه حكمه. وقال ابن رجب: تصرف الفضولي جائز موقوف على الإجازة إذا دعت الحاجة إلى التصرف في مال الغير أو حقه، وتعذر استئذانه إما للجهل بعينه أو لغيبته ومشقة انتظاره. ¬
الشافعية والظاهرية
ونصت المادة (13) من مشروع تقنين الشريعة على مذهب أحمد: «تصرف الفضولي باطل، ولو أجيز بعد، إلا إذا اشترى في ذمته ونوى الشراء لشخص لم يسمه، فيصح البيع». وقال الشافعية والظاهرية: يشترط في المبيع أن يكون مملوكاً لمن له العقد، فبيع الفضولي باطل من أساسه لاينعقد أصلاً فلا تلحقه إجازة صاحب الشأن، ودليلهم مارواه أبو داود والترمذي ـ وقال: إنه حسن ـ عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لابيع إلا فيما تملك». وصح أيضاً النهي عن بيع ماليس عند الإنسان (¬1) أي ماليس مملوكاً للبائع، وذلك للغرر الناشئ عن عدم القدرة على التسليم وقت العقد، ومايترتب عليه من النزاع. وقالوا عن حديث عروة البارقي أو حكيم بن حزام: إنه محمول على أنه كان وكيلاً مطلقاً عن النبي صلّى الله عليه وسلم، ويدل عليه أنه باع الشاة وسلمها (¬2)، فهي وكالة خالف فيها الوكيل إلى خير فينفذ تصرفه. وأما شراء الفضولي في رأي هؤلاء فيعتبر شراء لنفسه، ويلزمه هو وحده ولاينتقل الملك عنه إلى غيره إلا بعقد جديد كما هو رأي الحنفية. شروط إجازة تصرف الفضولي: اشترط الحنفية لإجازة عقد الفضولي شروطاً (¬3): 1 - أن يكون للعقد مجيز حالة العقد: أي من كان يستطيع إصدار العقد بنفسه، لأن ما له مجيز متصور منه الإذن بإتمام العقد للحال، وبعد صدور ¬
فسخ عقد الفضولي وإجازته
التصرف. وأما ما لا مجيز له فلا يتصور منه الإذن للحال، والإذن في المستقبل قد يحدث وقد لا يحدث. وعلى هذا: إذا طلق فضولي امرأة زوج بالغ، أو وهب ماله، أو تصدق به، انعقد التصرف موقوفاً على الإجازة؛ لأن صاحب الشأن كان يستطيع أن يصدر هذه العقود بنفسه، فيستطيع لهذا أن يجيزها بعد وقوعها، فكان للتصرف مجيز حال العقد. أما لو فعل فضولي شيئاً مما ذكر بالنسبة لصغير، فلا ينعقد العقد؛ لأن الصبي ليس من أهل هذه التصرفات بنفسه، فلم يكن لها مجيز حين العقد، وكذلك ولي الصبي لا قيمة لإجازته؛ لأنه لا يملك هذه التصرفات بنفسه. 2 - أن تكون الإجازة حين وجود البائع، والمشتري، والمالك، والمبيع، فلو حصلت الإجازة بعد هلاك أحد هؤلاء، بطل العقد ولم تفد الإجازة شيئاً؛ لأن الإجازة تصرف في العقد، فلا بد من قيام العقد، وقيامه بقيام العاقدين والمعقود عليه. 3 - ألا يمكن تنفيذ العقد على الفضولي عند رفض صاحب الشأن، على ما تبين سابقاً. فسخ عقد الفضولي وإجازته: فسخ العقد الصادر من الفضولي كبيع مثلاً: قد يكون من صاحب الشأن المالك للمبيع كما هو واضح، وقد يكون من الفضولي البائع قبل إجازة المالك، حتى يدفع عن نفسه الحقوق التي تلزمه لو أجاز المالك، وقد يكون من المشتري ليدفع عن نفسه ما قد يلحقه من ضرر بشرائه من غير صاحب الشأن. أما في عقد الزواج: فليس للفضولي فسخه، لأنه عقد ترجع فيه الحقوق إلى الأصيل صاحب الشأن (¬1). ¬
هل للفضولي الواحد أن يعقد العقد عن الطرفين
أما إجازة عقد الفضولي فمقصورة على المالك (مالك المال) أو الغير الذي تعلق له حق بالمبيع، وذلك إذا كان البائع والمشتري والمبيع قائماً، بأن لايتغير المبيع بحيث يعد شيئاً آخر؛ لأن إجازته كالبيع حكماً، وكذا يشترط قيام الثمن إذا كان عرضاً معيناً؛ لأنه مبيع من وجه، فيكون ملكاً للفضولي، فإذا هلك هلك عليه (¬1). هل للفضولي الواحد أن يعقد العقد عن الطرفين: إذا باع الفضولي دار إنسان مثلاً وهما غائبان، وقبل عن المشتري، أو زوج إنساناً من امرأة وقبل عنهما، فلا ينعقد العقد؛ لأن تعدد العاقد شرط في انعقاد العقد، كما سبق بيانه، فلا يتوقف الإيجاب على قبول غائب عن المجلس في سائر العقود من نكاح وبيع وغيرهما، بل يبطل الإيجاب ولا تلحقه الإجازة اتفاقاً. وعلى هذا: إذا كان الشخص في عقد النكاح فضولياً من الجانبين أو من جانب واحد وكان من الجانب الآخر أصيلاً أو وكيلاً أو ولياً، فلا يتوقف إيجابه، بل يبطل عند أبي حنيفة ومحمد، سواء تكلم بكلام واحد أو بكلامين: أي إيجاب وقبول، كزوجت فلاناً وقبلت عنه. وقال أبو يوسف: يتوقف إيجاب الفضولي على قبول الغائب، كما يتوقف اتفاقاً لو قبل عنه فضولي آخر، فلو زوج فضوليان رجلاً من امرأة بغير علمهما جاز، وتوقف على قبولهما، فإن قبلا نفذ العقد، وإن رفضا لم ينفذ. ¬
توقف تصرف الصبي المميز
دليل الطرفين: أن قبول الفضولي غير معتبر شرعاً؛ لأن الإيجاب لما صدر من الفضولي، وليس له قابل في المجلس، ولو فضولياً آخر، صدر باطلاً، غير متوقف على قبول الغائب، فلا يفيد قبول العاقد بعده. وبعبارة أخرى: إن الموجود حينئذ هو شطر العقد، ولا يمكن أن يعتبر الشطر الآخر متحققاً إلا بوكالة أو ولاية. ودليل أبي يوسف: أن عبارة الفضولي تتضمن شطري العقد، فيجوز كما في الولي والوكيل (¬1). توقف تصرف الصبي المميز: إذا كان الصبي عاقلاً مميزاً: تصح تصرفاته في رأي الحنفية والحنابلة موقوفة على إجازة وليه، ما دام صغيراً أو على إجازته بنفسه بعد البلوغ إن لم توجد الإجازة من وليه حال صغره. فلو بلغ الصبي قبل إجازة الولي، فأجاز بنفسه جاز (¬2)، وقد سبق ذكره، وتعرضت له هنا لصلته بالبيع الموقوف. ثالثاً ـ شروط صحة البيع: شروط الصحة قسمان: عامة وخاصة (¬3). ف الشروط العامة: هي التي يجب أن تتحقق في كل أنواع البيع لتعتبر ¬
الأول ـ الجهالة
صحيحة شرعاً. وهي إجمالاً أن يخلو عقد البيع من العيوب الستة، وهي: الجهالة، والإكراه، والتوقيت، والغرر، والضرر، والشروط المفسدة. الأول ـ الجهالة: يراد بها الجهالة الفاحشة أو التي تفضي إلى نزاع يتعذر حله وهو النزاع الذي تتساوى فيه حجة الطرفين بالاستناد إلى الجهالة، كما لو باع إنسان شاة من قطيع. وهذه الجهالة أربعة أنواع: 1 - جهالة المبيع جنساً أو نوعاً أو قدراً بالنسبة إلى المشتري. 2 - جهالة الثمن كذلك: فلا يصح بيع الشيء بثمن مثله، أو بما سيستقر عليه السعر. 3 - جهالة الآجال، كما في الثمن المؤجل، أو في خيار الشرط، فيجب أن تكون المدة معلومة وإلا فسد العقد. ويلاحظ أن الذي يجوز تأجيله لأجل معلوم في عقد البيع هو الثمن أو المبيع إذا كان كل منها ديناً ثابتاً في الذمة، فإن كان الثمن أو المبيع عيناً، فلا يجوز تأجيله باتفاق العلماء، فلو باع شخص سلعة معينة على أن يسلمها بعد شهر، أو اشترى شخص بثمن عين (أي ذات معينة غير دين) على أن يدفع الثمن بعد شهر، فالبيع فاسد، ولو كان الأجل معلوماً؛ لأن الأجل شرع ترفيها ليتمكن العاقد من الحصول على العوض أثناءه، وهذا أمر يليق بالديون لأنها ليست معينة في البيع، ولا يليق بالأعيان المعينة لأن العين معين حاضر، فيكون تأخير تسليمه ملحقاً ضرراً من غير فائدة أو تحصيلاً لحاصل (¬1). 4 - الجهالة في وسائل التوثيق، كما لو اشترط البائع تقديم كفيل أو رهن بالثمن المؤجل، فيجب أن يكونا معينين وإلا فسد العقد. ¬
الثاني ـ الإكراه
الثاني ـ الإكراه: هو حمل المستكره على أمر يفعله وهو نوعان: 1 - إكراه ملجئ أو تام: وهو الذي يجد المستكره نفسه مضطراً به لفعل الأمر المكره عليه، وذلك كالتهديد بالقتل أو الضرب الذي يخشى منه ضياع عضو. 2 - إكراه غير ملجئ أو ناقص: كالتهديد بالحبس أو الضرب أو إيقاع الظلم به كمنع ترقيته في وظيفته أو إنزاله درجة. والإكراه بنوعيه يؤثر في البيع، فيجعله فاسداً عند جمهور الحنفية وموقوفاً عند زفر. فيملك المشتري المبيع بالقبض إذا اعتبر فاسداً، ولا يملكه مطلقاً بالقبض إذا اعتبر موقوفاً، والأرجح اعتبار عقد المكره موقوفاً، لأنه باتفاق الحنفية إذا أجازه المستكره بعد زوال الإكراه يجوز ويلزم في حقه، وهذا هو حكم العقد الموقوف لا الفاسد (¬1). الثالث ـ التوقيت: هو أن يوقت البيع بمدة كما لو قال: بعتك هذا الثوب شهراً أو سنة، فيكون البيع فاسداً، لأن ملكية العين لاتقبل التأقيت. الرابع ـ الغرر: المراد به غرر الوصف، كما لو باع بقرة على أنها تحلب كذا رطلاً، لأنه موهوم التحقق فقد ينقص. أما لو باعها على أنها حلوب دون تحديد مقدار، فإنه شرط صحيح. وأما غرر الوجود فهو مبطل للبيع لنهي النبي صلّى الله عليه وسلم عن بيع الغرر (¬2): وهو ماكان المبيع فيه محتملا ً للوجود والعدم، كبيع نتاج النتاج، وبيع الحمل الموجود. ¬
الخامس ـ الضرر
الخامس ـ الضرر: يراد به ما إذا كان تسليم المبيع لا يمكن إلا بإدخال ضرر على البائع، فيما سوى المبيع من ماله، كما لو باع جذعاً معيناً في سقف مبني، أو ذراعاً من ثوب يضره التبعيض، فإن التنفيذ يقضي بهدم ما حول الجذع وتعطيل الثوب. وبما أن الفساد هنا لصيانة حق شخصي، لا لحق الشرع، قرر الفقهاء أن البائع لو نفذ الضرر على نفسه، بأن قلع الجذع أو قطع الثوب وسلمه إلى المشتري، انقلب البيع صحيحاً. السادس ـ الشرط المفسد: هو كل شرط فيه نفع لأحد المتبايعين، إذا لم يكن قد ورد به الشرع، أو جرى به العرف، أو يقتضيه العقد، أو يلائم مقتضاه، مثل أن يبيع سيارة على أن يستخدمها شهراً بعد البيع، أو داراً على أن يظل مقيماً بها مدة معينة، أو أن يشترط المشتري على البائع في صلب العقد أن يقرضه مبلغاً من المال. والشرط الفاسد إذا وجد في عقد من عقود المعاوضات المالية كالبيع والإجارة والقسمة مثلاً أفسده، ولكنه يكون لغواً في العقود الأخرى، مثل التبرعات والتوثيقات والزواج، وتكون هذه العقود حينئذ صحيحة (¬1). وقد علق الأستاذ مصطفى الزرقاء على ذلك، فقال: وبما أن عرف الناس مصحح للشروط في نظر الفقهاء، فكل شرط فاسد في الأصل ينقلب صحيحاً ملزماً إذا تعارفه الناس، وشاع بينهم اشتراطه. وعندئذ يمكن القول: بأن الشرط الفاسد قد زال فقهياً من معاملات الناس بمفعول الزمن، وأصبحت الشروط في هذا العصر كلها صحيحة بمقتضى قواعد الاجتهاد الحنفي نفسه (¬2). ¬
الشروط الخاصة
وأما الشروط الخاصة: فهي التي تخص بعض أنواع البيع دون بعض وهي كما يأتي: 1 - القبض في بيع المنقولات: أي أنه إذا باع شخص شيئاً من المنقولات التي كان قد اشتراها، فيشترط لصحة بيعه: أن يكون قد قبضها من بائعها الأول، لأن المنقول يكثر هلاكه، فيكون في بيعه ثانية قبل قبضه غرر، أما إذا كان عقاراً فيجوز بيعه قبل القبض عند أبي حنيفة وأبي يوسف كما سيأتي. 2 - معرفة الثمن الأول في بيوع الأمانة، أي إذا كان البيع مرابحة أو تولية أو وضيعة أو إشراكاً. وسيأتي تفسيرها. 3 - التقابض في البدلين قبل الافتراق إذا كان البيع صرفاً. 4 - توافر شروط السلم التي سيأتي ذكرها إذا كان البيع سلماً. 5 - المماثلة في البدلين إذا كان المال ربوياً والخلو عن شبهة الربا. 6 - القبض في الديون الثابتة في الذمة، كالمسلم فيه، ورأس مال السلم، وبيع شيء بدين على غير البائع، فلا يصح بيعها من غير من عليه الدين إلا بعد قبضها. مثاله: لا يصح لرب السلَم أي (المشتري) أن يبيع المال المسلم فيه قبل قبضه من المسلم إلىه (البائع)، ولا يصح للدائن أن يشتري بدينه شيئاً من غير المدين قبل قبضه. رابعاً ـ شروط لزوم البيع: شرائط اللزوم تأتي بعد شرائط الانعقاد والنفاذ، فيشترط للزوم البيع: خلوه من أحد الخيارات التي تسوغ لأحد العاقدين فسخ العقد: مثل خيار الشرط والوصف والنقد والتعيين، والرؤية، والعيب، والغبن مع التغرير. فإذا وجد في
خلاصة أنواع شروط البيع في المذاهب وبيان الاتفاق والاختلاف فيها
البيع شيء من هذه الخيارات منع لزومه في حق من له الخيار، فكان له أن يفسخ البيع أو أن يقبله، إلا إذا حدث ما نع من ذلك، كما سيأتي في مباحث الخيارات (¬1). ويلاحظ أن الانعقاد يقابله البطلان، والصحة يقابلها الفساد، والنفاذ يقابله التوقف، واللزوم يقابله عدم اللزوم أي التخيير. خلاصة أنواع شروط البيع في المذاهب وبيان الاتفاق والاختلاف فيها: اختلف الفقهاء في أنواع شروط البيع، فهي عند الحنفية ثلاثة وعشرون شرطاً، وفي مذهب المالكية أحد عشر شرطاً، ولدى الشافعية اثنان وعشرون شرطاً، وفي رأي الحنابلة أحد عشر شرطاً. الشروط في مذهب الحنفية: شروط البيع عند الحنفية أربعة أقسام: شروط الانعقاد، وشروط الصحة، وشروط النفاذ، وشروط اللزوم، وجملتها ثلاثة وعشرون شرطاً (¬2). أما شروط الانعقاد، فهي أربعة أنواع: النوع الأول ـ شروط العاقد: يشترط في العاقد، سواء أكان بائعاً أم مشترياً شرطان هما: 1ً - أن يكون عاقلاً أو مميزاً: فلا ينعقد بيع المجنون ولا شراؤه، ومثله الصغير غير المميز. ¬
النوع الثاني ـ شروط الصيغة
2ً - أن يكون متعدداً: فلا ينعقد البيع بشخص واحد، بل يلزم أن يكون الإيجاب من شخص، والقبول من شخص آخر، إلا الأب ووصيه والقاضي والرسول من الجانبين، يكون كل منهم بائعاً ومشترياً بنفسه. النوع الثاني ـ شروط الصيغة: يشترط في صيغة العقد من الإيجاب والقبول ثلاثة شروط هي: 1ً - سماع الصيغة: فلا ينعقد البيع إلا إذا سمع كل واحد من العاقدين كلام صاحبه. 2ً - توافق الإيجاب والقبول: بأن يقبل المشتري كل ما أوجبه البائع وبما أوجبه من الثمن، فإذا اختلف القبول مع الإيجاب، لا ينعقد البيع، إلا إذا كانت المخالفة إلى خير، بأن يقبل المشتري زيادة عن الثمن الموجب به. 3ً - اتحاد مجلس العقد: بأن يكون الإيجاب والقبول في مجلس واحد، دون فاصل، فإن اختلف المجلس لا ينعقد البيع، وإن تخلل انقطاع أجنبي عن العقد بأن يقوم أحدهما عن المجلس قبل القبول، أو يشتغل بعمل آخر، لم ينعقد البيع. واعتبر المجلس الواحد جمعاً للمتفرقات بحسب التعاقد وعادة الناس. ولا يشترط الفور في القبول؛ لأن القابل يحتاج إلى التأمل. وفي التعاقد بين غائبين بطريق المراسلة يعتبر مجلس بلوغ الرسالة من العاقد الأول إلى الثاني هو مجلس التعاقد. النوع الثالث ـ شروط المعقود عليه: يشترط في المعقود عليه خمسة شروط هي:
النوع الرابع ـ شرط البدل
1ً - أن يكون المبيع مالاً: وهو ما يمكن الانتفاع به في العادة، فلا ينعقد بيع الميتة وبيع اليسير من المال كحبة حنطة؛ لأنه ليس بمال. 2ً - أن يكون متقوماً: وهو ما يباح الانتفاع به شرعاً، فلا ينعقد بيع الخمر والخنزير؛ إذ لا يباح الانتفاع بهما شرعاً. وقد جمعت هذين الشرطين سابقاً في شرط واحد. 3ً - أن يكون محرزاً، أي مملوكاً في نفسه: وهو ما دخل تحت حيازة ملك خاص، فلا ينعقد بيع ما ليس بمملوك لأحد من الناس، كالعشب المباح ولو في أرض مملوكة. 4ً - أن يكون المعقود عليه موجوداً حين التعاقد: فلا ينعقد بيع المعدوم كنتاج النتاج (ولد الولد)، ولا ماله خطر العدم واحتمال الوجود كالحمل في البطن، واللبن في الضرع. 5ً - أن يكون مقدور التسليم حين العقد: فلا ينعقد بيع السمك في الماء والطير في الهواء. النوع الرابع ـ شرط البدل: وهو شرط واحد وهو أن يكون مالاً متقوماً قائماً، فلا ينعقد البيع بثمن لا يعد مالاً متقوماً كالخمر والخنزير. وأما شروط الصحة: فهي قسمان: عامة وخاصة. أما العامة: فهي المتعلقة بكل أنواع البيع، وهي جميع شروط الانعقاد المذكورة آنفاً؛ لأن كل عقد لا ينعقد، فلا يصح أيضاً، ويزاد عليها شروط أربعة هي:
الخاصة
1ً - أن يكون المبيع معلوماً والثمن معلوماً علماً يمنع من المنازعة: فلا يصح بيع المجهول كشاة من قطيع غنم، ولا أن يبيع شيئاً بثمن مجهول غير معين، كأن يبيع شيئاً بقيمته، أو بما في يده أو جيبه. 2ً - ألا يكون البيع مؤقتاً: فإن أقته بوقت لا يصح؛ لأن مقتضى البيع هو إفادة نقل الملكية في البدلين (المبيع والثمن) أبدياً على الدوام. 3ً - أن يكون للبيع فائدة: فلا يصح بيع درهم بدرهم مساوٍ له. 4ً - أن يخلو عن الشرط المفسد: وهو كل شرط فيه منفعة زائدة لأحد المتعاقدين، إذ لم يرد به الشرع، ولم يجز به العرف، ولا يلائم مقتضى العقد، كاشتراط أن تكون الدابة حاملاً، أو أن ينتفع بالمبيع مدة بعد البيع، أو أن يقرض المشتري البائع مبلغاً من المال. وأما الشروط الخاصة ببعض أنواع البيوع فهي خمسة: 1ً - القبض في بيع المنقول والعقار الذي يخشى هلاكه: فإن اشترى شخص شيئاً، لم يصح بيعه لآخر قبل قبضه للنهي عن بيع مالم يقبض. أما العقار الذي لا يخشى هلاكه، فيجوز بيعه قبل القبض في رأي الشيخين أبي حنيفة وأبي يوسف. 2ً - أن يكون الثمن الأول معلوماً في بيوع الأمانة: وهي بيع المرابحة والتولية والوضيعة. 3ً - التقابض والتساوي في البدلين المتحدي الجنس وكانا مما يكال أو يوزن، وهذا شرط في بيع الأموال الربوية.
شروط النفاذ
4ً - توافر شروط السلم الخاصة به مثل قبض رأس مال السلم كله في مجلس العقد. 5ً - ألا يكون أحد البدلين دَيْناً في بيع الدين إلى غير المدين. وأما شروط النفاذ: فهي اثنان: 1ً - أن يكون المبيع مملوكاً للبائع، أو له عليه ولاية: فلا ينفذ بيع غير المملوك للبائع وهو بيع ملك الغير أو بيع الفضولي، إلا في عقد السلم، فإنه يصح بيع ما سيملكه بعد العقد. 2ً - ألا يكون في المبيع حق لغير البائع: فلا ينفذ بيع المرهون والمأجور؛ لأنه وإن كان مملوكاً له، ولكن للغير حق فيه. وأما ما يشترط في لزوم العقد؛ فهو شرط واحد: وهو خلو البيع من الخيار، فلا يلزم البيع المشتمل على الخيار، ويجوز فسخه. شروط البيع في مذهب المالكية: اشترط المالكية شروطاً في العاقد وفي الصيغة وفي المعقود عليه، وجملتها أحد عشر شرطاً (¬1). أما شروط العاقد بائعاً أو مشترياً فهي ثلاثة، يزاد عليها رابع في البائع: 1ً - أن يكون كل من البائع والمشتري مميزاً: فلا ينعقد بيع الصبي غير ¬
شروط الصيغة
المميز، والمجنون والمغمى عليه والسكران. أما بيع المميز فلا يلزم وإن كان صحيحاً إلا إذا كان وكيلاً عن مكلف، فإن بيعه يلزم. 2ً - أن يكون كلاهما مالكين، أو وكيلين لمالكين، أو ناظرين عليهما: فينعقد بيع الفضولي: وهوالشراء لأحد بغير إذنه أو البيع عليه بغير إذنه، ويتوقف على إذن المالك. 3ً - أن يكونا طائعين: فبيع المكره وشراؤه باطلان. والمعتمد لدى المالكية أن بيع المكره غير لازم. 4ً - أن يكون البائع رشيداً: فلا ينفذ بيع السفيه والمحجور، وشراؤه موقوف على إجازة وليه. ولا يشترط الإسلام في العاقد إلا في شراء العبد المسلم، وفي شراء المصحف، لكن يكون البيع صحيحاً نافذاً، ويجبر المشتري الكافر على إخراج المبيع من ملكه؛ لأن في تملكه العبد المسلم أو المصحف إهانة، ويصح بيع الأعمى وشراؤه. وأما شروط الصيغة فهي اثنان: 1ً - أن يتحد المجلس: بأن يكون القبول مع الإيجاب في مجلس واحد: فلو قال البائع للمشتري: بعتك الكتاب بكذا، فلم يجبه، ثم تفرقا عن المجلس، لم ينعقد البيع. 2ً - ألا يفصل بين الإيجاب والقبول فاصل يدل على الإعراض عن البيع عرفاً: فإن وجد فاصل يدل على الإعراض عرفاً، لم ينعقد البيع.
شروط الثمن والمثمن
وأما شروط الثمن والمثمن فهي خمسة: 1ً - أن يكون غير منهي عنه شرعاً: فلا ينعقد بيع الميتة والدم وما لم يقبض. 2ً - أن يكون طاهراً: فلا يجوز بيع النجس كالخمر والخنزير، والمشهور منع بيع العاج والزبل والزيت النجس مطلقاً. وأجاز ابن وهب ذلك البيع، فمن رأى أن عاج الفيل ناب جعله كالميتة، ومن رأى أنه قرن معكوس جعل حكمه حكم القرن. 3ً - أن يكون منتفعاً به شرعاً: فلا يجوز بيع ما لا منفعة فيه كالكلاب والخشاش (الحشرات) وآلات اللهو، واختلف المالكية في بيع الكلاب للصيد وحراسة الغنم على رأيين. 4ً - أن يكون معلوماً للعاقدين: فلا يجوز بيع المجهول. 5ً - أن يكون مقدوراً على تسليمه: فلا ينعقد بيع معجوز التسليم كالسمك في الماء. شروط البيع في مذهب الشافعية: اشترط الشافعية اثنين وعشرين شرطاً وهي إما في العاقد، وإما في الصيغة، وإما في المعقود عليه (¬1). أما شروط العاقد فهي أربعة: 1ً - الرشد: وهو أن يكون بالغاً عاقلاً، مصلحاً لدينه وماله: فلا ينعقد بيع ¬
صبي وإن قصد اختباره، ولا من مجنون، ولا من محجور عليه بسفه. لكن لو تعاقد الصبي وأتلف عنده ما ابتاع أو ما اقترض من رشيد، وأقبضه له، لم يضمن؛ لأن المُقبض أو المُسلِّم هو المضيع لماله، هذا في الظاهر، أما في الباطن، فيغرم بعد البلوغ، كما نص عليه الشافعي في الأم في باب الإقرار. أما إن تسلم المبيع من صبي مثله، ولم يأذن الوليان لهما، ضمن كل منهما ما قبض من الآخر. فإن كان التسليم بإذن الوليين، فالضمان عليهما فقط، لوجود التسليط منهما. وعلى البائع للصبي رد الثمن إلى وليه، فلو رده إلى الصبي، ولو بإذن الولي، وهو ملك الصبي، لم يبرأ منه. وإن رده للولي برئ منه. هذا أي عدم البراءة ما إذا لم يكن المبيع في مصلحة تتعلق ببدن الصبي من مأكل أو مشرب ونحوهما، وإلا برئ. 2ً - عدم الإكراه بغير حق: فلا يصح عقد مكره في ماله بغير حق، لقوله تعالى: {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء:29/ 4]. ولا أثر لقول المكره بغير حق إلا في الصلاة، فتبطل به في الأصح، ولا لفعله إلا في الرضاع والحدث والتحول عن القبلة وترك القيام في الفريضة مع القدرة، وكذا القتل ونحوه في الأصح. أما الإكراه بحق: فيصح، إقامة لرضا الشرع مقام رضاه، كمن توجه عليه دين، وامتنع من الوفاء والبيع، فإن شاء القاضي، باع ماله بغير إذنه، لوفاء دينه، وإن شاء عزره وحبسه إلى أن يبيعه. 3ً - إسلام من يشترى له مصحف ونحوه من كتب حديث وآثار سلف وكتب فقه فيها شيء من القرآن والحديث وآثار السلف، لما في ذلك من الإهانة
شروط الصيغة
لها: فلايصح شراء الكافر المصحف ونحوه مما ذكر، ولا شراء الكافر العبد المسلم في الأظهر، لما فيه من إذلال المسلم، ولقوله تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} [النساء:141/ 4]. 4ً - ألا يكون المشتري حربياً محارباً في بيع آلات الحرب كسيف ورمح ونحوهما، لتقوي الحربيين بهما على المسلمين، واستعانتهم بذلك على قتالنا. أما غير عُدَّة الحرب، ولو مما يصنع منه كالحديد، فيجوز بيعه للحربي؛ إذ لا يتعين جعله عدة حرب. والذمي في دار الحرب كالحربي. وأما شروط الصيغة فهي ثلاثة عشر: 1ً - الخطاب: بأن يخاطب كل من العاقدين صاحبه، كأن يقول له: بعتك كذا، فلو قال: بعت لزيد، فلا يصح. 2ً - أن يقع الخطاب على جملة المخاطب: كأن يقول له: بعتك، أما لو قال له: بعت يدك أو رأسك مثلاً، فلا يصح. 3ً - أن يكون القبول ممن صدر معه الخطاب: فلو وجه الإيجاب، فقبل عنه آخر ليس وكيلاً عنه، فلا يصح البيع. ولو مات المخاطب به قبل قبوله، فقبل وارثه، لم ينعقد البيع، وكذا لو قبل وكيله أو موكله. 4ً - أن يذكر البادئ بالكلام الثمن والمثمن: كأن يقول: بعتك هذا الشيء بكذا، أو اشتريت منك هذا الشيء بكذا. 5ً - أن يقصد كلا العاقدين معنى اللفظ الذي ينطق به: فإذا جرى على لسانه لفظ الإيجاب أو القبول، أو كان هازلاً، دون أن يقصد التمليك والتملك، لا يصح البيع.
6ً - أن يصر البادئ على ما أتى به من الإيجاب إلى القبول، وأن تستمر أهلية العاقدين إلى تمام القبول: فلو قال: بعتك، ثم جن أو أغمي عليه قبل قبول الآخر، بطل العقد. ولو أوجب بمؤجل أو شرط الخيار، ثم أسقط الأجل أو الخيار، لم يصح العقد، لضعف الإيجاب وحده، في الحالتين. 7ً - ألا يطول الفصل بين لفظي الإيجاب والقبول، ولو بكتابة أو إشارة أخرس بسكوت طويل. والفاصل الطويل: هو ما أشعر بإعراضه عن القبول. أما الفصل اليسير بالسكوت فلا يضر، لعدم إشعاره بالإعراض عن القبول. 8ً - ألا يتخلل بين الإيجاب والقبول كلام أجنبي عن العقد، ولو يسيراً، فيضر الفصل اليسير بالكلام الأجنبي؛ وإن لم يتفرقا عن المجلس؛ لأن فيه إعراضاً عن القبول، بخلاف السكوت اليسير، وبخلاف يسير الكلام الأجنبي في الخلع؛ لأن فيه من جانب الزوج شائبة التعليق، ومن جانب الزوجة شائبة جعالة، وكل منهما موسع فيه محتمل للجهالة، بخلاف البيع. 9ً - ألا يغير الموجب كلامه قبل قبول الآخر: فإذا قال: بعتك بخمسة، ثم قال: بعشرة، قبل أن يقبل الآخر، لم يصح العقد. 10ً - سماع الصيغة: بأن يسمع كل عاقد ومن بقربه من الحاضرين كلام الآخر، فإن لم يسمعه من كان قريباً لم ينعقد العقد. 11ً - أن يتوافق الإيجاب والقبول تماماً: فلو اختلفا، لم يصح العقد. 12ً - ألا يعلق الصيغة بشيء لا يقتضيه العقد: مثل إن جاء فلان فقد بعتك كذا، أو بعتك هذه الدار إن شاء فلان أو إن شاء الله؛ لأن البيع يقتضي التنجيز. أما إن علق بما يقتضيه العقد، كقوله: بعتك هذا بكذا إن شئت، فقال: اشتريت، صح العقد؛ لأن هذا التعليق لا ينافي العقد، وهو تصريح بمقتضى العقد.
شروط المعقود عليه
13ً - ألا يكون العقد مؤقتاً: فلو قال: بعتك الدار بألف شهراً مثلاً، لم يصح؛ لأن البيع يقتضي التأبيد. وأما شروط المعقود عليه فهي خمسة: 1ً - أن يكون المعقود عليه طاهراً: فلا يصح بيع الكلب والخمر، والمتنجس الذي لا يمكن تطهيره كالخل واللبن والدبس وكذا الدهن في الأصح. 2ً - أن يكون منتفعاً به شرعاً: فلا يصح بيع الحشرات التي لا نفع فيها، ولا يصح بيع كل سبع أو طير لا ينفع كالأسد والذئب والحدأة والغراب غير المأكول. ولا يصح بيع آلة اللهو كالطنبور والصنج والمزمار والعود والأصنام والصور وإن اتخذت من نقد، للحرمة، ولأنه لا نفع بها شرعاً. ولا يصح بيع حبتي حنطة ونحوها، لعدم المالية. ويمكن أن يشمل هذين الشرطين كون المعقود عليه غير منهي عنه شرعاً. ويصح بيع الماء المحرز على الشط، والحجر عند الجبل والتراب بالصحراء ممن حازها، في الأصح، لظهور المنفعة فيها. 3ً - أن يكون مقدور التسليم: فلا يصح بيع الطير في الهواء ولا السمك في الماء، ولا بيع الضالّ والآبق والمغصوب، لكن إن باعه لقادر على انتزاعه من الغاصب، أو باع الآبق لقادر على رده، صح على الصحيح، نظراً إلى وصوله إليهما، إلا إن احتاج إلى مؤنة، فالظاهر البطلان. 4ً - أن يكون مملوكاً للعاقد أو له عليه ولاية: فبيع الفضولي (وهو البائع مال غيره بغير إذنه ولا ولاية له) باطل، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا بيع إلا فيما تملك» (¬1). 5ً - أن يكون معلوماً للعاقدين عيناً وقدراً وصفة: فبيع أحد الثوبين ¬
شروط البيع في مذهب الحنابلة
ونحوهما باطل للغرر أو الجهالة. ويصح بيع صاع من صُبرة (وهي الكومة من الطعام) لتساوي أجزائهما، وتغتفر جهالة المبيع هنا، فإنه ينزل على صاع مبهم، لتعذر الإشاعة. أما بيع شيء من أشياء متفاوتة الأجزاء كبيع شاة من هذه الشياه، فلا يصح، لتفاوت الأجزاء. شروط البيع في مذهب الحنابلة: اشترط الحنابلة أحد عشر شرطاً في البيع: إما في العاقد، وإما في الصيغة، وإما في المعقود عليه (¬1). أما شروط العاقد؛ فهي اثنان: 1ً - الرشد إلا في يسير: فلا يصح بيع الصبي والمجنون والسكران والسفيه، لكن إذا أذن الولي لمميز وسفيه لمصلحة، صح العقد، ويحرم الإذن لهما بلا مصلحة، لما فيه من الإضاعة. ولا يصح من المميز والسفيه قبول هبة ووصية وبيع ونحوها بلا إذن ولي لهما. ويصح تصرف صغير ولو دون سن التمييز في الأمر اليسير، لما روي «أن أبا الدرداء اشترى من صبي عصفوراً فأرسله» (¬2). ويصح تصرف سفيه في شيء يسير كباقة بقل وكبريت ونحوها؛ لأن الحكمة في الحجر خوف ضياع المال، وهو مفقود في اليسير. ويصح توكيل مميز في إرسال هدية ودخول دار، عملاً بالعرف. ¬
شروط الصيغة
2ً - التراضي من المتبايعين والاختيار أو عدم الإكراه إلا بحق: وهو أن يأتي العاقد بالبيع اختياراً، لقوله تعالى: {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء:29/ 4] ولحديث «إنما البيع عن تراض» (¬1). فبيع التلجئة أو الأمانة: بأن يظهر العاقدان بيعاً لم يريداه باطناً، بل أظهراه خوفاً من ظالم ونحوه: باطل. وكذا بيع الهازل باطل؛ لأنه لم ترد حقيقته. ويصح البيع في حالة الإكراه بحق كالذي يكره الحاكم على بيع ماله لوفاء دينه، أو على شراء ما يوفي ما عليه من دين؛ لأنه قول حمل عليه بحق، فصح. فأمثلة المكره بحق: راهن ومحتكر ومدين وممتنع. ويكره الشراء من المضطر: وهو الذي يبيع ماله بأقل من ثمن مثله. وأما شروط الصيغة فهي ثلاثة: 1ً - اتحاد المجلس: بأن يكون القبول في مجلس الإيجاب، فإذا قال البائع: بعتك، ثم تفرقا قبل القبول من المجلس، لم ينعقد البيع. 2ً - ألا يكون بين القبول والإيجاب فاصل يدل على الإعراض عن البيع عرفاً. 3ً - ألا يكون العقد مؤقتاً ولا معلقاً بغير مشيئة الله: مثل بعتك سنة أو بعت أو اشتريت إن رضي فلان. وأما شروط المعقود عليه مبيعاً أو ثمناً فهي ستة شروط وهي: 1ً - أن يكون مالاً: وهو ما يباح الانتفاع به شرعاً مطلقاً في غير حاجة ولا ضرورة؛ لأن البيع مبادلة مال بمال، فلا يصح بيع ما لا نفع فيه أصلاً ¬
كالحشرات، وما فيه منفعة محرَّمة كالخمر، وما فيه منفعة مباحة للحاجة كالكلب، وما فيه منفعة تباح للضرورة كالميتة حال الاضطرار أو المخمصة، والخمر لدفع لقمة غص بها. ويصح بيع جلد ميتة دبغ وكان اقتناؤه بلا حاجة، ويجوز بيع بغل وحمار ودود قز ونحل منفرداً بشرط كونه مقدوراً عليه، أو مع كوَّارته إذا شوهد داخلاً فيها؛ لأن فيه منافع للناس، ويصح بيع ما يصاد عليه من الطيور، وديدان لصيد سمك، وسباع بهائم وجوارح طير للاصطياد، لا لغيره، ويصح بيع علق لمص دم. ويصح بيع طير لقصد صوته كبلبل وهزار؛ لأن فيه نفعاً مباحاً، وكذا يصح بيع ببغاء وهي الدُّرة ونحوها كقُمري. ويجوز إهداء الكلب المباح والإثابة عليه، لا على وجه البيع. ولا يجوز بيع سموم قاتلة كسم الأفاعي، لخلوها من نفع مباح، وكذا لايجوز بيع سم الحشائش والنبات، إلا ما ينتفع به وأمكن التداوي بيسيره كالسقمونيا ونحوها. ويحرم بيع المصحف لمسلم أو لكافر، لأن تعظيمه واجب، وفي بيعه ابتذال له وترك لتعظيمه، ولأن الكافر يمنع من استدامة ملك المصحف، فيمنع من ابتدائه. ولا يصح بيع آلة لهو كمزمار وطنبور ونرد وشطرنج، ولا بيع حشرات كخنافس وفأر وحيات وعقارب وصراصر ونحوها، ولا بيع ميتة ولو لمضطر ولا بيع دم وخنزير وصنم.
ولا يصح بيع سرجين نجس (زبل)، ولا بيع أدهان نجسة العين من شحوم الميتة وغيرها، لحديث البخاري ومسلم: «إن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه» ولا يحل الانتفاع بالأدهان النجسة باستصباح ولا غيره، فقد حرمه النبي صلّى الله عليه وسلم في حديث جابر المتفق عليه. ولا يصح بيع أدهان متنجسة كزيت لاقى نجاسة، ولو لكافر للحديث السابق: «إن الله تعالى إذا حرم شيئاً حرم ثمنه» ويجوز الاستصباح في الأدهان المتنجسة في غير مسجد؛ لأنه أمكن الانتفاع بها من غير ضرر. ولا يصح بيع الحر، لحديث البخاري ومسلم: «ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومنهم: ورجل باع حراً وأكل ثمنه». ولا يصح بيع ما ليس بمملوك من المباحات من نحو كلأ وماء ومعدن قبل حيازتها وتملكها، لفقد الشرط الآتي: 2ً - أن يكون المبيع مملوكاً لبائعه ملكاً تاماً، لقوله صلّى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام: «لا تبع ما ليس عندك» (¬1)، فلا يصح تصرف فضولي مطلقاً ولو أجيز بعد. ولا يصح بيع ما لا يملكه الإنسان كحر ومباح قبل حيازته، ولا بيع أرض موقوفة مما فتح عنوة ولم تقسم كمصر والشام، ويصح بيع إمام لها لمصلحة كوقفه وإقطاعه تمليكاً، أو غير إمام وحكم به من يرى صحته. ولا يصح بيع ولا إجارة رباع مكة والحرم: وهي المنازل، وكذا بقاع المناسك كالمسعى والمرمى والموقف ونحوها، لأنها كالمساجد لعموم نفعها، ولأن مكة فتحت عنوة. ولا يصح بيع ما ليس مملوكاً ملكاً تاماً كالمبيع وقت الخيار. 3ً - أن يكون المبيع مقدوراً على تسليمه حال العقد: لأن ما لا يقدر على تسليمه شبيه بالمعدوم، والمعدوم لا يصح بيعه، فكذا ما أشبهه. ¬
فلا يصح بيع نصف معين من نحو إناء وسيف وحيوان، ودين لغير مدين، ولا آبق وشارد ولو لقادر على تحصيلهما. لحديث «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن شراء العبد وهو آبق» (¬1) ولا يصح بيع سمك بماء إلا مرئياً بمحجوز يسهل أخذه منه، ولا يصح بيع طائر يصعب أخذه، أو في الهواء وألف الرجوع إلا في مكان مغلق؛ لأنه غير مقدور على تسليمه. ولا يصح بيع مغصوب إلا لغاصبه أو قادر على أخذه، وله الفسخ إن عجز. 4ً - أن يكون المبيع معلوماً للبائع والمشتري برؤية تحصل بها معرفته، عند العقد أو قبله بزمن لا يتغير فيه المبيع يقيناً أو ظاهراً. ويصح بيع الأعمى وشراؤه بما يمكنه معرفة ما يبيعه أو يشتريه بغير حاسة البصر كشم ولمس وذوق، لحصول العلم بحقيقة المبيع. ويصح بيع قفيز من صُبرة (كومة طعام وغيره). ولا يصح بيع الأُنموذج: وهو ما يدل على صفة الشيء، كأن يريه صاعاً مثلاً من صبرة، ويبيعه الصبرة على أنها من جنسه، لعدم رؤية المبيع وقت العقد. ولا يصح بيع حَمْل ببطن وهو بيع المضامين، ولا بيع لبن بضرع، ونوى بتمر، وصوف على ظهر إلا تبعاً، كبعتك هذه البهيمة وحملها، أو بعتك الأرض وما فيها من بذر. ولا يصح بيع عَسْب فحل، أو نتاج نتاج، أو ما تحمل هذه الشجرة أو الدابة، ولا مسك في فأرته (صوانه)، ولفت وبصل ونحوه قبل قلعه، ولا ثوب مطوي، أو نسج بعضه على أن ينسج بقيته. ¬
أوجه الاتفاق والاختلاف في شروط البيع
ولا يصح بيع الملامسة، مثل بعتك ثوبي هذا على أنك متى لمسته أو إن لمسته أو أي ثوب لمسته، فعليك بكذا. ولا يصح بيع المنابذة، مثل متى أو إن نبذت هذا أو أي ثوب نبذته فلك بكذا. ولا يصح بيع الحصاة مثل: ارمها فعلى أي ثوب تقع، فلك بكذا. ولا يصح بيع ما لم يعين أي بيع المجهول، كشاة من قطيع، وشجرة من بستان، ولو تساوت قيمتها. 5ً - أن يكون الثمن معروفاً للعاقدين حال العقد أو قبله: فلا يصح بيع برقم مجهول، ولا بما باع زيد إلا إن علم به العاقدان، ولا بما ينقطع به السعر، خلافاً للمتأخرين من الحنابلة، ولا كما يبيع الناس. 6ً - خلو الثمن والمثمن والمتعاقدين عن موانع الصحة كالربا، أو الاشتراط أو غيرهما: فلا يصح بيع أضحية وهدي واجبين إلا بخير منهما، ولا يصح بيع موقوف بلا مسوغ، ولا بيع مرهون بلا إذن مرتهن، ولا يصح بيع ماء وسترة لمصل عادم غيرهما، ولا بيع مصحف، ولا بعد نداء جمعة. أوجه الاتفاق والاختلاف في شروط البيع: يظهر مما تقدم بيانه ما يلي: 1 ً - في العاقد: التمييز شرط متفق عليه، وأما البلوغ فهو شرط مختلف فيه، فهو شرط نفاذ عند المالكية والحنفية، وشرط انعقاد عند الشافعية والحنابلة. وأما الاختيار أو الطواعية فهو شرط انعقاد عند الجمهور، وشرط نفاذ عند الحنفية، فبيع المكره باطل عند الجمهور، فاسد أو موقوف غير نافذ عند الحنفية، غير لازم في المعتمد عند المالكية.
- في الصيغة
2 ً - في الصيغة: اتحاد المجلس دون فاصل بين القبول والإيجاب، وتطابق الإيجاب والقبول، وسماع الصيغة والتنجير أو عدم التعليق، وعدم التأقيت، كلها شروط متفق عليها، وإن ذكر بعضها بعض الفقهاء دون غيرهم. 3 ً - في المعقود عليه: كون المعقود عليه مالاً متقوماً يباح الانتفاع به شرعاً أو طاهراً غير نجس، موجوداً، مقدور التسليم، معلوماً غير مجهول، كلها شروط متفق عليها؛ إلاأن الجهالة تفسد البيع عند الحنفية، وتبطله عند الجمهور. أما كون المبيع مملوكاً للبائع فهو شرط نفاذ عند الحنفية والمالكية، وشرط انعقاد عند الشافعية والحنابلة، فبيع الفضولي وشراؤه موقوف عند الأولين، باطل عند الآخرين. وأما شرط ألا يتعلق بالمبيع حق لغير البائع كبيع المرهون والمأجور، فهو شرط نفاذ عند الحنفية والمالكية. وشرط انعقاد عند الحنابلة والشافعية، فبيع المرهون والمأجور موقوف على الرأي الأول، باطل على الرأي الثاني. المبحث الثالث - حكم البيع والكلام عن المبيع والثمن: وفيه مطلبان: المطلب الأول - حكم العقد: حكم العقد: هو الغرض والغاية منه، ففي عقد البيع: يكون الحكم هو ملكية المبيع للمشتري وملكية الثمن للبائع، وفي عقد الإجارة: الحكم هو ملك منفعة العين المستأجرة للمستأجر، وملك المؤجر للأجرة (¬1). وللحكم إطلاقات ثلاثة: ¬
حقوق البيع التابعة للحكم
1 - إما أن يراد به الحكم التكليفي: وهو إما الوجوب أو الندب أو الإباحة أو التحريم أو الكراهية، فيقال: حكم الصوم الوجوب، وحكم السرقة التحريم وهكذا. 2 - أو يراد به الوصف الشرعي للفعل من حيث الصحة واللزوم وعدم اللزوم مثلاً، فيقال: حكم العقد المستوفي لأركانه وشرائطه أنه صحيح لازم. 3 - أو يراد به الأثر المترتب على التصرف الشرعي، وذلك كالوصية إذا استوفت شرائطها وأركانها، ترتبت عليها آثار تتعلق بالموصى له، وآثار تتعلق بالموصى به (¬1). والمقصود هنا المعنى الثالث، أي الحكم الشرعي الثابت للبيع، وأثره المترتب عليه. فأثر البيع: هو ثبوت الملك في المبيع للمشتري، وثبوت الملك في الثمن للبائع، إذ اكان البيع لازماً لا خيار فيه (¬2). والمقصود بحقوق العقد: هي الأعمال التي لا بد منها للحصول على حكمه: مثل تسليم المبيع وقبض الثمن والرد بالعيب، أو خيار الرؤية أو الشرط، وضمان رد الثمن إذا استحق المبيع مثلاً (¬3). حقوق البيع التابعة للحكم: هي كل تابع للمبيع من الحقوق التي لا بد له منه ولا يقصد إلا لأجله كالطريق والشرب للأرض، وهي التي تسمى بالمرافق، والقاعدة فيها أو الأصل: أن كل ما كان من الدار متصلاً بها يدخل في بيعها تبعاً بلا ¬
ذكر، وما لا فلا يدخل بلا ذكر إلا ما جرى العرف أن البائع لا يمنعه عن المشتري، فيدخل المفتاح استحساناً للعرف بعدم منعه بخلاف القفل ومفتاحه والسُّلَّم غير المتصل بالبناء، وأما الدرج (السلم) في بنايات الطبقات فتدخل عرفاً، وتفصيل ذلك ما يأتي (¬1): أـ من اشترى بيتاً فوقه آخر لا يدخل فيه العلو؛ لأن الشيء لا يستتبع مثله. ب ـ يدخل في المبيع ما هو من حقوقه أو مرافقه الخاصة التابعة له كطريق ومطبخ ومتوضأ ونحوها، لأنها توابع له. فيدخل في بيع الدار الطريق الداخلي فيها أو النافذ إلى سكة أو طريق عام، والكنيف (وهو المستراح أو بيت الماء) وبئر الماء، والأشجار التي في صحنها، والحديقة التابعة لها والبستان الذي هو أصغر منها، وإن لم يصرح بذلك. أما الحديقة أو البستان الخارج عن الدار وكان مثل الدار أو أكبر، فلا يدخل في البيع. ويدخل الباب الأصلي للدار، والباب الخارجي المجاور للشارع وهو المسمى بالباب الأعظم؛ لأنه من مرافقها. ولا تدخل الظلة في بيع الدار لبنائها على الطريق، فتأخذ حكمه ولا يدخل الطريق والمسيل والشِّرب غير الخاص بالدار إلا بالتصريح بها؛ لأنها خارج الحدود، كأن يشتريها بكل حق هو لها أو بمرافقها أو بكل قليل وكثير. وذلك بخلاف الإجارة والرهن والوقف، تدخل فيها كل هذه المرافق بلا حاجة لذكرها لأنها تعقد للانتفاع بها لا غير. هذا رأي الحنفية القديم، والمعول عليه في ذلك هو العرف السائد في كل إقليم وعصر. والإقرار بالدار والصلح عليها والوصية بها والهبة والنكاح والخلع على مال كالبيع في دخول الطريق ونحوه. ¬
المطلب الثاني ـ الثمن والمبيع
المطلب الثاني ـ الثمن والمبيع: الكلام عن الثمن والمبيع في موضعين: أولاً ـ في تعريف المبيع والثمن. ثانياً ـ في الأحكام المتعلقة بهما. تعريف المبيع والثمن: المبيع والثمن عند جمهور الحنفية من الأسماء المتباينة الواقعة على معانٍ مختلفة. فالمبيع في الغالب: ما يتعين بالتعيين (¬1)، والثمن في الغالب: ما لا يتعين بالتعيين. وهذا الأصل العام الغالب يحتمل تغيره في الحالتين بعارض من العوارض، فيصير ما لا يحتمل التعيين مبيعاً كالمسلم فيه، وما يحتمل التعيين ثمناً كرأس مال السلم، إذا كان عيناً من الأعيان. وعلى هذا فاعتبار الثمن ديناً في الذمة هو الأغلب، وذلك عندما يكون الثمن نقوداً أو أموالاً أخرى مثلية ملتزمة بلا تعيين بالذات كالقمح والزيت ونحوهما من كل مكيل أو موزون أو ذَرْعي أو عددي متقارب. ويمكن أيضاً أن يكون الثمن أعياناً قيمية كالحيوان والثياب ونحوهما، كما لو بيعت كمية من السكر إلى أجل بشيء من القيميات، فالسكر مبيع والعين القيمية ثمن، ويكون البيع سلماً، لأنه بيع مؤجل بمعجل. ¬
تعيين المبيع
قال ابن الهمام وغيره: إن الثياب كما تثبت مبيعاً في الذمة بطريق السلم تثبت ديناً مؤجلاً في الذمة، على أنها ثمن، وحينئذ يشترط الأجل لا لأنها ثمن، بل لتصير ملحقة بالسلم في كونها ديناً في الذمة، فإذا قلنا: إذا باع كتاباً بثوب موصوف في الذمة إلى أجل جاز، ويكون بيعاً بالنسبة للكتاب، حتى لا يشترط قبضه في المجلس، بخلاف ما لو أسلم الدراهم في الثوب، وإنما ظهرت أحكام المسلم فيه في الثوب، حتى شرط فيه الأجل، وامتنع بيعه قبل قبضه لإلحاقه بالمسلم فيه (¬1). وقال الشافعي وزفر: المبيع والثمن من الأسماء المترادفة الواقعة على مسمى واحد، وإنما يتميز أحدهما عن الآخر في الأحكام بحرف الباء. ولكل من الفريقين دليله (¬2) والقضية اصطلاحية. تعيين المبيع: التعيين: هو التمييز عما سوى الشيء في الوجود الخارجي، ويتعين المبيع إذا كان معيناً في العقد، سواء أكان حاضراً في مجلس البيع، أم غائباً عنه. فإذا كان المبيع غير معين في العقد، فإنه لا يتعين إلا بالتسليم (¬3). الفرق بين الثمن والقيمة والدين: الثمن: لا يتحقق إلا في عقد، فهو ما يتراضى عليه المتبايعان، سواء أكان أكثر من القيمة أم أقل أم مساوياً. ¬
التمييز بين الثمن والمبيع
وقيمة الشيء: هي ما يساويه بين الناس. والثمن: هو ما تراضى عليه المتبايعان مقابلاً للمبيع. أما الدين: فهو كل ما ثبت في الذمة من الأموال القابلة للثبوت فيها بأي سبب من أسباب الالتزام، كالإتلاف والغصب والكفالة والقرض والبيع، ونحوها (¬1). التمييز بين الثمن والمبيع: القاعدة المقررة في الأصل: أن كل ما أمكن أن يكون مبيعاً أمكن أن يكون ثمناً ولا عكس، وأن الثمن كما تقدم في تعريفه ربما لا يكون متعلقاً بالذمة، بل قد يتعين أحياناً، فيكون من الأعيان القيمية كالحيوان والثياب ونحوها، كما يتعين المبيع. لهذا كان واجباً أن نميز بين الثمن والمبيع لما يترتب على التفرقة من أحكام، والتمييز يكون في أموال المعاوضات: وهي النقود والأعيان القيمية والمثليات (¬2). 1 - فالنقود عامة من ذهب أو فضة أو فلوس رائجة (¬3) إذا كانت عوضاً في المبيع، تعتبر هي الثمن. ومقابلها أي السلعة هو المبيع مطلقاً سواء دخل عليها حرف الباء. أو دخل على مقابلها، مثل: بعتك هذا بدينار، أو بعتك ديناراً بهذا. ¬
قرر جمهور الحنفية أن النقود المسكوكة من ذهب أو فضة أو فلوس معدنية لا تتعين في عقود المعاوضات بالتعيين في حق الاستحقاق لذات العملة النقدية، فلو قال: بعتك هذا الثوب بهذه الدراهم أو بهذه الدنانير، فللمشتري أن يمسك المشار إليه ويبدله بمثله، ولا يحق للبائع أن يطلب ذات المشار إليه؛ لأن الثمن النقدي محله في الذمة، وما يثبت في الذمة لا ينحصر ببعض أفراده الخارجية، فلا فائدة في استحقاق عينها في المعاوضات؛ لأن المثل يقوم مقامها في كل عوض، وإنما يتعين فقط بالنسبة لضمان الجنس والنوع والصفة والقدر، حتى إنه يجب على المشتري رد مثل المشار إليه في الأوصاف المذكورة، فلو كان الواجب عليه ألف درهم جيدة، فيجب عليه رد ألف درهم بتلك الصفة؛ لأن في تعيين الجنس والقدر والصفة فائدة، وعلى هذا فلو هلك المشار إليه لا يبطل العقد. وقال الشافعية وزفر: تتعين النقود بالتعيين، ويستحق البائع على المشتري ذات الدراهم المشار إليها، كما في سائر الأعيان، لأنه قد يكون للشخص غرض فيها، والثمن المعين كالمبيع في تعلق الحق بالعين. فلو هلك المشار إليه قبل القبض يبطل العقد، كما لو هلك سائر الأعيان. فإن لم يكن الثمن من المسكوكات، فإنه بالاتفاق كسائر السلع يقبل التعيين. 2 - إن الأعيان القيمية أي (التي ليست من ذوات الأمثال) إذا قوبلت بالمثليات المعينة تعتبر هي المبيع، والمثلي هو الثمن مطلقاً، دون نظر إلى اقتران حرف الباء، لأن المثلي أليق بالثمنية من حيث قابليته للثبوت في الذمم كالنقود. من أمثلة القيميات: الثياب والدور والعقارات والعدديات المتفاوتة (أي التي تفاوتت آحادها) كالغنم وسائر الدواب والبطيخ إذا بيع بالعدد لا بالوزن.
وأما إذا قوبلت الأعيان القيمية بالأموال غير المعينة أي (الملتزمة في الذمم) فالعبرة في الثمنية لمقارنة حرف الباء، فما دخل عليه حرف الباء كان ثمناً، والآخر مبيعاً. فلو قال: بعتك هذا المتاع بقنطار من السكر، فالسكر: هو الثمن. ولو قال بعتك قنطاراً من السكر بهذا المتاع. كان السكر مبيعاً، والمتاع ثمناً، ويكون العقد بيع سلم. 3 - المثليات إذا كان في مقابلتها النقود فهي مبيعة، كما ذكرت أولاً، وإن كان في مقابلتها أمثالها مثل بيع قمح بزيت، فما كان منها معيناً يكون مبيعاً، وكل ما كان موصوفاً في الذمة يكون ثمناً. وإن كان كل واحد منهما موصوفاً في الذمة فما صحبه حرف الباء يكون ثمناً، والآخر يكون مبيعاً. ـ والمثليات: إما مكيلات وهي التي تباع بالكيل كالقمح والشعير، وكبعض السوائل التي تباع اليوم باللتر كالبترول والبنزين. ـ أو موزونات: وهي التي تباع بالوزن كالسمن والزيت والسكر. ـ أو ذَرْعيات: وهي التي تباع بالذراع كالقطع الكبرى من المنسوجات الصوفية أو القطنية أو الحريرية، وكالأراضي. ـ أو عدديات متقاربة: وهي التي لا تتفاوت آحادها إلا تفاوتاً بسيطاً كالبيض والجوز، وكالمصنوعات المتماثلة من صنع المعامل كالكؤوس وصحون الخزف والبلّور ونحوها (¬1). ¬
أحكام المبيع والثمن أو نتائج التمييز بينهما
4 - إذا بيعت القيميات ببعضها يعتبر كل من العوضين مبيعاً من وجه، وثمناً من وجه آخر. أحكام المبيع والثمن أو نتائج التمييز بينهما يترتب على التمييز بين المبيع والثمن أحكام أذكر ستة منها بإيجاز، وأفصل الكلام في ثلاثة أخرى. 1 - يشترط لانعقاد البيع أن يكون المبيع مالاً متقوماً ولا يشترط ذلك في الثمن. 2 - يشترط لنفاذ البيع أن يكون المبيع موجوداً في ملك البائع ولايشترط ذلك في الثمن. 3 - لا يجوز تأجيل الثمن في بيع السلم، ويجب تأجيل المبيع. 4 - مؤونة تسليم الثمن أي (كلفته) على المشتري، ومؤونة تسليم المبيع على البائع. 5 - البيع مع عدم تسمية الثمن فاسد، أما مع عدم تسمية المبيع نحو: بعتك بعشرة دنانير، فباطل غير منعقد. 6 - هلاك المبيع بعد التقابض يمنع إقالة البيع، ولا يمنع ذلك هلاك الثمن. 7 - هلاك المبيع قبل التسليم مبطل للبيع، ولا يبطله هلاك الثمن. 8 - لا يجوز تصرف المشتري في المبيع المنقول قبل قبضه، ويصح تصرف البائع في الثمن قبل قبضه.
حكم هلاك المبيع، وهلاك الثمن وكساده
9 - على المشتري تسليم الثمن أولاً ليحق له استلام المبيع، ما لم يرض البائع (¬1) وأفصل الكلام في الثلاثة الأخيرة. حكم هلاك المبيع، وهلاك الثمن وكساده هلاك المبيع: المبيع إما أن يهلك كله أو بعضه قبل القبض أو بعده (¬2). آ - إذا هلك المبيع كله قبل القبض: 1 - فإذا هلك بآفة سماوية أو بفعل المبيع نفسه، أو بفعل البائع، ينفسخ عقد البيع. 2 - إذا هلك بفعل المشتري، فلا ينفسخ البيع وعليه الثمن. 3 - إذا هلك بفعل أجنبي، لا ينفسخ البيع، ويكون المشتري بالخيار: إن شاء فسخ البيع، وإن شاء أمضاه ودفع الثمن، وطالب الأجنبي بالضمان. ب ـ إذا هلك المبيع كله بعد القبض: 1 - إن كان بآفة سماوية أو بفعل المشتري أو بفعل المبيع أو بفعل أجنبي فلا ينفسخ البيع، ويكون هلاكه على ضمان المشتري؛ لأن المبيع خرج عن ضمان البائع بقبض المشتري، فتقرر الثمن عليه، ويرجع بالضمان على الأجنبي حال كون الاعتداء منه. ¬
2 - إذا هلك بفعل البائع فينظر في حالتين: أولاً ـ إذا كان المشتري قد قبضه بإذن البائع أو بدون إذنه، لكنه قد نقد الثمن، أو كان الثمن مؤجلاً، فيكون هلاكه من قبل البائع، كهلاكه من قبل الأجنبي، فعليه ضمانه. ثانياً ـ أما إذا كان المشتري قد قبض المبيع بدون إذن البائع، والثمن حالّ غير منقود (أي غير معطى إلى البائع) فيتوجب فسخ البيع، ويكون البائع باعتدائه مسترداً للمبيع، وعليه ضمانه. وقال المالكية (¬1): الضمان ينتقل إلى المشتري بنفس العقد في كل بيع إلا في خمسة مواضع: الأول ـ بيع الغائب على الصفة، وكان المبيع غير عقار، فإن كان المبيع عقاراً، فضمانه على المشتري. الثاني ـ ما بيع على الخيار. الثالث ـ ما بيع من الثمار قبل كمال طيبها. الرابع ـ ما فيه حق توفية من كيل أو وزن أو عدّ. الخامس ـ البيع الفاسد، فالضمان في هذه الخمسة من البائع حتى يقبضه المشتري. وقال الشافعية (¬2): كل مبيع من ضمان البائع حتى يقبضه المشتري. ¬
ج ـ إذا هلك بعض المبيع قبل القبض ينظر عند الحنفية
وقال الحنابلة (¬1): إذا كان المبيع مكيلاً أو موزوناً أو معدوداً فتلف قبل قبضه، فهو من مال البائع، وما عداه فلا يحتاج فيه إلى قبض، وإن تلف فهو من مال المشتري. ج ـ إذا هلك بعض المبيع قبل القبض ينظر عند الحنفية: 1 - فإن كان بآفة سماوية ففيه تفصيل: إن كان النقصان نقصان قدر بأن كان مكيلاً أو موزوناً أو معدوداً، فهلك بعضه: ينفسخ العقد بقدر الهالك، وتسقط حصته من الثمن، ثم يكون المشتري بالخيار في الباقي لتفرق الصفقة عليه: إن شاء أخذه بحصته، وإن شاء فسخ البيع. وإن كان النقصان نقصان وصف (وهو كل ما يدخل في البيع من غير تسمية كالشجر والبناء في الأرض والجودة في المكيل والموزون) فلا ينفسخ البيع أصلاً، ولا يسقط عن المشتري شيء من الثمن؛ لأن الأوصاف لا حصة لها من الثمن؛ ويكون المشتري بالخيار: إن شاء أخذه بجميع الثمن، وإن شاء تركه لتعيب المبيع. 2 - وإن كان الهلاك بفعل المبيع نفسه كحيوان جرح نفسه، فلا ينفسخ البيع، ولا يسقط شيء من الثمن، والمشتري بالخيار: إن شاء أخذ الباقي بجميع الثمن، وإن شاء فسخ العقد. 3 - وإن كان الهلاك بفعل البائع فيبطل البيع بقدره، ويسقط عن المشتري حصة الهالك من الثمن، سواء أكان النقصان نقصان قدر، أم نقصان وصف؛ لأن الأوصاف لها حصة من الثمن عند ورود الجناية عليها، والمشتري بالخيار في الباقي بحصته من الثمن. ¬
د ـ إذا هلك بعض المبيع بعد القبض
4 - وإن كان الهلاك بفعل المشتري فلا يبطل البيع، ولا يسقط عنه شيء من الثمن، لأنه صار قابضاً لكل المبيع بإتلاف بعضه. د ـ إذا هلك بعض المبيع بعد القبض: 1 - فإن كان الهلاك بآفة سماوية أو بفعل المشتري أو المبيع نفسه أو بفعل أجنبي، فالهلاك على المشتري. 2 - وإن كان بفعل البائع ينظر: إذا كان القبض بإذنه، أو كان الثمن منقوداً أو مؤجلاً، فحكمه كالأجنبي. وإن كان القبض بغير إذنه، والثمن حالّ غير منقود، ينفسخ البيع في قدر الشيء التالف، ويسقط عن المشتري حصته. هلاك الثمن عند الحنفية: إذا هلك الثمن في مجلس العقد قبل القبض: 1 - فإن كان عيناً مثلياً: لا ينفسخ العقد، لأنه يمكن تسليم مثله بخلاف المبيع لأنه عين، وللناس أغراض في الأعيان. 2 - وأما إذا هلك وليس له مثل في الحال: بأن كان شيئاً مما ينقطع عن أيدي الناس، وقد كان موجوداً وقت العقد، ثم انقطع قبل القبض، فقال أبو حنيفة: ينفسخ العقد. وقال الصاحبان: لا ينفسخ (¬1). وسيأتي في بحث كساد الثمن الآتي بيان الأدلة. ¬
كساد الثمن عند الحنفية
كساد الثمن عند الحنفية: إذا اشترى شخص بفلوس رائجة، ثم كسدت قبل القبض بضرب فلوس جديدة، انفسخ العقد عند أبي حنيفة، وعلى المشتري رد المبيع إن كان قائماً، وقيمته أو مثله إن كان هالكاً؛ لأن الفلوس بالكساد خرجت عن كونها ثمناً، ولا بيع بلا ثمن، فينفسخ البيع ضرورة، فهو قد اعتبر الكساد كالهلاك. وقال الصاحبان: لا ينفسخ البيع، ولكن يخير البائع: إن شاء فسخ البيع، وإن شاء أخذ قيمة الفلوس؛ لأن الفلوس ثابتة في الذمة، وما يثبت في الذمة لايحتمل الهلاك، فلا يكون الكساد هلاكاً، بل يكون عيباً فيها، فيوجب الخيار للبائع، كما إذا كان الثمن رطباً، فانقطع قبل القبض، فهما اعتبرا الكساد كالعيب. واتفقوا على أنه لو لم تكسد الفلوس، ولكنها رخصت قيمتها، أو غلت، لاينفسخ البيع؛ لأن الرخص أو الغلاء لا يوجب بطلان الثمنية. ثم اختلف أبو يوسف ومحمد فيما بينهما في وقت اعتبار قيمة الفلوس: فقال أبو يوسف: تعتبر قيمتها وقت العقد؛ لأن الثمن يجب عند العقد، فيضمن قيمته حينئذ. وقال محمد: تعتبر قيمتها وقت الكساد، وهو آخر يوم ترك الناس التعامل بها؛ لأنه وقت العجز عن التسليم (¬1). التصرف في المبيع وفي الثمن قبل القبض التصرف في المبيع قبل القبض: قال الحنفية: لا يجوز التصرف في المبيع المنقول قبل القبض بلا خلاف، لأن ¬
التصرف في الثمن قبل القبض
النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيع ما لم يقبض (¬1) والنهي يوجب فساد المنهي عنه، ولأنه بيع فيه غرر لتعرضه إلى الانفساخ بهلاك المعقود عليه، فيبطل البيع الأول، وينفسخ الثاني، وقد نهى الرسول صلّى الله عليه وسلم عن بيع فيه غرر. وأما العقار: فيجوز التصرف فيه قبل القبض عند أبي حنيفة وأبي يوسف استحساناً استدلالاً بعمومات آيات البيع من غير تخصيص، ولا يجوز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد. ولا غرر في العقار، إذ لا يتوهم هلاك العقار، ويندر هلاكه في الغالب، فلا يكون في بيعه غرر. وقال محمد وزفر والشافعي: لا يجوز بيع العقار قبل القبض لعموم النهي عن البيع قبل القبض، ولعدم وجود القدرة على التسليم، ولتحقق الغرر (¬2). وسيأتي تفصيل آراء الفقهاء في هذا الموضوع في البيع الفاسد. التصرف في الثمن قبل القبض: يجوز التصرف في الأثمان (¬3) قبل القبض، لأنها ديون، وكذلك يجوز التصرف في سائر الديون كالمهر والأجرة وضمان المتلفات وغيرها قبل القبض، ¬
بدليل ما روي عن سيدنا عمر أنه قال: «يا رسول الله: إنا نبيع الإبل بالبقيع، ونأخذ مكان الدراهم الدنانير، ومكان الدنانير الدراهم، فقال عليه السلام: لابأس إذا كان بسعر يومهما، وافترقتما وليس بينكما شيء» (¬1) فهذا يدل على جواز استبدال ثمن المبيع. وأما المراد من حديث (النهي عما لا يقبض) فهو بالنسبة للعين، لا بالنسبة للدين؛ لأن المبيع شيء يحتمل القبض، والدين لا يحتمل القبض حقيقة، لأنه مال حكمي في الذمة، فيكون قبضه بقبض بدله. وقد استثنوا من جواز التصرف في الثمن قبل القبض عقدي الصرف والسلم. أما الصرف: فلأن كلاً من بدلي الصرف مبيع من وجه وثمن من وجه، فباعتبار كونه مبيعاً لا يجوز التصرف فيه، وقد رجحت جانب الحرمة احتياطاً. وأما السلم: فالمسلم فيه لا يجوز التصرف فيه لأنه مبيع، ورأس المال (أي الثمن) ألحق بالمبيع العين في حرمة الاستبدال شرعاً (¬2). هذا .. ويلاحظ أن التصرف في الأثمان والديون جائز بالبيع والهبة والإجارة والوصية أي بعوض أو بغير عوض، سواء مما لا يتعين كالنقود، أو مما يتعين كالمكيل والموزون، وذلك ممن عليه الدين كأن يشتري البائع من المشتري شيئاً بالثمن الذي له عليه، أو يستأجر بالثمن داراً للمشتري، أو أن يهبه الثمن. ولا يجوز تمليك الدين من غير من عليه الدين كأن يشتري إنسان فرس زيد مثلاً بمئة ليرة على عمرو، لأنه لا يقدر على تسليمه إلا في ثلاث صور (¬3). ¬
تسليم المبيع والثمن
الأولى ـ إذا سلطه على قبضه، فيكون وكيلاً قابضاً للموكل ثم لنفسه. الثانية ـ الحوالة. الثالثة ـ الوصية. تسليم (¬1) المبيع والثمن: إن تسليم المبيع إلى المشتري هو من التزامات البائع الناشئة من عقد البيع، كما أن تسليم الثمن إلى البائع هو من التزامات المشتري الناشئة من البيع أيضاً؛ لأن تسليم البدلين واجب على العاقدين، لتحقق الملك لكل منهما في البدلين. فمن الذي يجب عليه التسليم أولاً، وهل للبائع حق حبس المبيع حتى يستوفي جميع الثمن، وكيف يتم التسليم أو القبض؟ أما من يجب عليه التسليم أولا ً: فيختلف بحسب نوع البدلين: فإذا كان بيع عين بعين، فإنه يجب على العاقدين التسليم معاً، تحقيقاً للمساواة في المعاوضة المقتضية للمساواة عادة المطلوبة بين العاقدين، إذ ليس أحدهما بالتقديم أولى من الآخر. وكذلك إن تبايعا ديناً بدين، كما في عقد الصرف، لما ذكرت. وأما إن كان بيع عين بدين (¬2) فيراعى فيه الترتيب عند الحنفية: فيجب على ¬
المشتري تسليم الثمن (أي الدين) أولاً إذا طالبه البائع حتى يتعين، ولقوله عليه السلام: «الدين مقضي» (¬1) فلو تأخر تسليم الثمن عن تسليم المبيع لم يكن هذا الدين مقضياً. ثم يجب على البائع تسليم المبيع، إذا طالبه المشتري، حتى يتحقق التساوي بينهما. واستثنوا من ذلك أمرين أولهما ـ المسلم فيه، لأنه دين مؤجل، والثاني ـ الثمن المؤجل فلو كان الثمن مؤجلاً، يجب تسليم المبيع للحال، لأن البائع أسقط حق نفسه في التأجيل (¬2). وقال المالكية (¬3) كالحنفية: يجب على المشتري تسليم الثمن، وعلى البائع تسليم المبيع (المثمون)، فإن قال أحدهما: لا أسلم ما بيدي حتى أقبض ما عاوضت عليه، أجبر المشتري على تسليم الثمن، ثم أخذ المبيع من البائع. وقال مالك: للبائع أن يتمسك بالمبيع حتى يقبض الثمن. ودليل المالكية والحنفية: أن للبائع حبس المبيع على تسليم الثمن، ومن استحق ذلك لم يكن عليه التسليم قبل الاستيفاء كالمرتهن. وقال الشافعية والحنابلة (¬4): إن اختلف في التسليم، وكان الثمن في الذمة، فقال البائع: لا أسلم المبيع حتى أقبض ثمنه، وقال المشتري في الثمن مثله، أجبر البائع على تسليم المبيع، ثم أجبر المشتري على تسليم الثمن؛ لأن حق المشتري في ¬
حق حبس المبيع أو احتباسه
عين المبيع، وحق البائع في الذمة، فيقدم ما يتعلق بالعين، فمن سلم أجبر صاحبه على التسليم؛ لأن كلاً منهما ثبت له إيفاء واستيفاء، ولا سبيل إلى تكليف الإيفاء. لكن قيد الشافعية هذا الحكم بما إذا لم يخف البائع فوت الثمن، وتنازع البائع والمشتري في مجرد الابتداء، فإن خاف البائع فوت الثمن فله حق حبس المبيع حتى يقبض الثمن. وكذا للمشتري حق حبس الثمن إن خاف فوت المبيع. حق حبس المبيع أو احتباسه: يترتب على ما سبق من التزام المشتري بدفع الثمن أولاً: أنه يثبت للبائع حق حبس المبيع عن المشتري إلى أن يستوفي ما وجب تعجيله، سواء أكان كل الثمن أم بعضه (¬1). وشرط ثبوت حق الحبس شيئان: 1 - أن يكون أحد البدلين عيناً والآخر ديناً، مثل بيع سلعة بدراهم، أو دنانير، فإن كانا عينين أو دينين فلا يثبت حق الحبس، بل يسلمان معاً. 2 - أن يكون الثمن حالاًّ، فإن كان مؤجلاً، فلا يثبت حق الحبس، لأنه سقط بالتأجيل. وعلى هذا، فلو أجل الثمن إلا درهماً، كان للبائع حبس كل المبيع، لأن حق الحبس مما لا يتجزأ، وكذا لو استوفى جميع الثمن إلا درهماً، أو أبرأ المشتري عن جميع الثمن إلا درهماً. وقال الإمام مالك (¬2): للبائع أن يتمسك بالمبيع حتى يقبض الثمن. ¬
ما يسقط حق الحبس وما لا يسقطه
وقال الحنابلة (¬1): ليس للبائع حبس المبيع على قبض الثمن؛ لأن التسليم من مقتضيات العقد، فإن اختلف العاقدان في التسليم، فقال البائع: لا أسلم المبيع حتى أقبض الثمن، وقال المشتري: لا أسلم الثمن حتى أقبض المبيع، والثمن في الذمة، أجبر البائع على تسليم المبيع، ثم أجبر المشتري على تسليم الثمن. وقال الشافعية (¬2): للبائع حبس المبيع حتى يقبض الثمن إن خاف فوته، وكذا للمشتري حبس الثمن إن خاف فوت المبيع. ما يسقط حق الحبس وما لا يسقطه: لو قدم المشتري رهناً أو كفيلاً بالثمن لا يسقط حق الحبس، لأن الرهن والكفالة لا يسقطان الثمن عن ذمة المشتري، ولا حق المطالبة به، فيبقى حق الحبس لاستيفاء الثمن، وكل ما في الأمر أن الرهن والكفالة وثيقة بالثمن. وأما الحوالة بالثمن فتسقط حق الحبس عند أبي يوسف سواء أحال البائع رجلاً على المشتري بالثمن وقبل، أم أحال المشتري البائع على رجل؛ لأن البائع حينئذ في حكم المستوفي، لأن حق الحبس مرتبط ببقاء الدين في ذمة المشتري، وذمته برئت من دين المحيل بالحوالة فيبطل حق الحبس، ولذا ينقطع حقه في مطالبة المشتري بالثمن، وينحصر حق المطالبة بالشخص المحال عليه. وقال محمد: إن كانت الحوالة من المشتري لا تبطل حق الحبس، وللبائع أن يحبس المبيع حتى يستوفي من المحال عليه. وإن كانت من البائع: فإن كانت الحوالة مطلقة لا تبطل حق الحبس أيضاً، وإن كانت مقيدة بأن أحال غريماً له على المشتري ¬
ليقبض الدين الذي له عليه، تبطل الحوالة حق الحبس، دليله: أن حق البائع بمطالبة المشتري بأداء الثمن لم يبطل بحوالة المشتري، أو بحوالته المطلقة، فلم يبطل حق الحبس، وأما في الحوالة المقيدة فيبطل حق المطالبة من البائع للمشتري بهذه الحوالة، فيسقط حق الحبس (¬1). قال الكاساني: «والصحيح اعتبار قول محمد، لأن حق الحبس في الشرع يدور مع حق المطالبة بالثمن، لا مع قيام الثمن في ذاته» (¬2). والخلاصة: إن حق الحبس يسقط بحوالة البائع على المشتري بالثمن اتفاقاً، وكذا بحوالة المشتري البائع به على رجل عند أبي يوسف. وعند محمد: فيه روايتان، أرجحهما ما ذكر. ولو أعار البائع المبيع للمشتري أو أودعه عنده، سقط حق الحبس، حتى لا يملك استرداده في ظاهر الرواية؛ لأن الإعارة والإيداع أمانة في يد المشتري، وهو لا يصلح نائباً عن البائع في وضع يده لأنه أصل في ملك الشيء، فكان أصلاً في وضع اليد، فإذا ثبتت يد المشتري على المبيع، كانت يده يد ملك، ويد الملك لازمة، فلا يملك أحد إبطالها بالاسترداد (¬3). ولو أودع المشتري المبيع عند البائع أو أعاره منه أو آجره، لم يسقط حق الحبس؛ لأن هذه التصرفات لم تصح من المشتري؛ لأن يد الحبس بطريق الأصالة ثابتة للبائع، فلا يصح أن يصير نائباً عن غيره (¬4). ¬
معنى التسليم أو القبض وكيفية تحققه
ولو جنى رجل أجنبي على المبيع، فاختار المشتري اتباع الجاني بالضمان سقط حق الحبس عند أبي يوسف (¬1). وسيأتي التفصيل في بحث القبض الآتي مباشرة. ولو قبض المشتري المبيع بإذن البائع، سقط حق الحبس، حتى لا يملك البائع الاسترداد، لأنه أبطل حقه بالإذن بالقبض. ولو قبض المشتري المبيع بغير إذن البائع بعد وفاء الثمن، سقط حق الحبس، فليس له استرداده، لأنه استوفى حقه بإيفاء الثمن، فيكون قبضاً بحق. أما لو قبض المشتري المبيع بغير إذن البائع قبل وفاء الثمن، فلا يسقط حق الحبس، وللبائع استرداده؛ لأن له حق الحبس، حتى يستوفي الثمن، وحق الإنسان لا يجوز إبطاله عليه من غير رضاه. فإن كان المشتري تصرف في المبيع في الحالة الأخيرة نظر في ذلك (¬2): إن كان تصرفاً يحتمل الفسخ كالبيع والهبة والإجارة والرهن ونحوها، فسخه البائع، واسترده، لأنه تعلق به حقه. وإن كان تصرفاً لا يحتمل الفسخ كالإعتاق والتدبير (أي التحرر بعد موت السيد) والاستيلاد (أي جعل الأمَةَ مستولدة أي حاملاً، فتصبح حرة بعد موت سيدها) فإنه لا يسترده، لأنه لا فائدة في بقاء حق الحبس، لأن حبس الحر، أو الذي سيؤول إلى الحرية لا يجوز. معنى التسليم أو القبض وكيفية تحققه: التسليم أو القبض معناه عند الحنفية: هو التخلية أو التخلي، وهو أن يخلي ¬
القبض يتم بطرق
البائع بين المبيع وبين المشتري، برفع الحائل بينهما، على وجه يتمكن المشتري من التصرف فيه، فيجعل البائع مسلِّماً للمبيع، والمشتري قابضاً له (¬1). وكذلك تسليم الثمن من المشتري إلى البائع: والقبض يتم بطرق: 1 - التخلية: وهي أن يتمكن المشتري من المبيع بلا مانع (أي أن يكون مفرزا) ولا حائل (أي في حضرة البائع) مع الإذن له بالقبض، فلو اشترى إنسان حنطة في بيت، ودفع البائع المفتاح إليه، وقال: خليت بينك وبينها (أي أذنت) فهو قبض (¬2). وإن دفع المفتاح إلىه، ولم يقل شيئاً لا يكون قبضاً، وتسليم الدار أو الأرض يتم بأن يقف المشتري في داخلها أو قريباً منها بحيث يرى جانب الأرض أو يقدر على إغلاق باب الدار فوراً، فإن كان بعيداً عنها بغير هذه الحالة، لم يكن قبضاً (¬3). وعلى هذا فإن القبض عند الحنفية يكون بالتخلية، سواء أكان المبيع عقاراً أم منقولاً إلا المكيل والموزون فإن قبضه يكون باستيفاء قدره أي بكيله أو وزنه. وقال المالكية والشافعية: قبض العقار كالأرض والبناء ونحوهما يكون بالتخلية بين المبيع وبين المشتري وتمكينه من التصرف فيه بتسليم المفاتيح إن وجدت. وقبض المنقول كالأمتعة والأنعام والدواب بحسب العرف الجاري بين الناس (¬4). والعرف يقضي إما بتناول الشيء باليد كالثوب والكتاب، وإما بالنقل من مكان لآخر كالسيارة والدابة. ¬
2 - الإتلاف
وقال الحنابلة: قبض كل شيء بحسبه، فإن كان مكيلاً أو موزوناً فقبضه بكيله ووزنه، أي أنه يجب الرجوع في القبض إلى العرف (¬1). 2 - الإتلاف: لو أتلف المشتري المبيع في يد البائع صار قابضاً للمبيع، وتقرر عليه الثمن؛ لأن التخلية تمكين من التصرف في المبيع والإتلاف تصرف فيه حقيقة. والتعييب مثل الإتلاف: وهو أن يحدث المشتري في المبيع عيباً، كأن يقطع يده أو يشج رأسه، أو أن ينقص منه شيئاً. وكذا لو أمر المشتري البائع بالإتلاف ففعل، أو أمره بطحن الحنطة فطحن (¬2)، لأن فعل البائع بأمر المشتري بمنزلة فعل المشتري بنفسه. 3 - إيداع المبيع عند المشتري أو إعارته منه: لو أودع البائع المبيع عند المشتري أو أعاره منه، يصير المشتري بذلك قابضاً؛ لأن الإيداع والإعارة للمالك لايصح، كما ذكر قريباً. وكذا لو أودع المشتري المبيع عند أجنبي أو أعاره، وطلب من البائع تسليمه إليه، يصير قابضاً؛ لأن الإعارة والإيداع عند آخر عمل صحيح، فقد أثبت يد النيابة لغيره، ويد أمينه كيده، فصار قابضاً. أما لو أودع المشتري من البائع أو أعاره له أو آجره، لم يكن ذلك قبضاً؛ لأن هذه التصرفات لم تصح من المشتري؛ لأن يد الحبس بطريق الأصالة ثابتة للبائع، فلا يتصور إثبات يد النيابة له (¬3). ¬
4 - اتباع المشتري الجاني بالجناية على المبيع
4 - اتباع المشتري الجانيَ بالجناية على المبيع: لو جنى أجنبي على المبيع فاختار المشتري اتباع الجاني بالضمان، كان اختياره بمنزلة القبض عند أبي يوسف، حتى لو هلك المبيع يكون الهلاك على المشتري، ويتقرر عليه الثمن، ولا يبطل البيع. وقال محمد: لا يصير قابضاً ويبقى البيع في ضمان البائع، ويؤمر بالتسليم إليه، ويكون الهلاك على البائع، ويبطل البيع ويسقط الثمن عن المشتري. دليل أبي يوسف: أن جناية الأجنبي حصلت بإذن المشتري وأمره ضمناً، فيصير قابضاً، كما لو ارتكب الجناية بنفسه. وبيانه: أن اختيار المشتري اتباع الجاني بالضمان تمليك من الشيء المضمون المجني عليه؛ لأن المضمونات تملك باختيار الضمان بأثر رجعي يستند إلى وقت حدوث سبب الضمان، فيصير كأن الجناية حصلت بأمر المشتري. ودليل محمد: أن الضمان متعلق بالعين لأن قيمة العين قائمة مقامها، والعين لو كانت قائمة فهلكت قبل القبض، كان الهلاك على البائع، فكذا القيمة (¬1). 5 - القبض السابق: كل ماسبق فيما إذا كان المبيع في يد البائع، فإن كان في يد المشتري بقبض سابق، ثم باعه المالك له، فهل يعتبر قابضاً بمجرد الشراء أو لا بد من تجديد القبض ليتم التسليم؟ فيه تفصيل: قسم الفقهاء القبض من حيث قوة أثره وضعفه إلى قسمين: قبض الضمان وقبض الأمانة. قبض الضمان: هو ما كان فيه القابض مسؤولاً عن المقبوض تجاه الغير، ¬
أـ فإن كانت يد المشتري يد ضمان
فيضمنه، إذا هلك عنده، ولو بآفة سماوية، كالمغصوب في يد الغاصب، والمبيع في يد المشتري. وقبض الأمانة: هو ماكان فيه القابض غير مسؤول عن المقبوض إلا بالتعدي، أو التقصير في الحفظ كالوديعة أو العارية أو المأجور أو مال الشركة في يد الوديع، أو المستعير، أو المستأجر، أو الشريك. وجعلوا قبض الضمان أقوى من قبض الأمانة بسبب الضمان المترتب. والمبدأ العام: أن القبض السابق ينوب عن القبض اللازم في البيع إذا كانا متجانسين في الضمان وعدمه، أو كان السابق أقوى بخلاف ما إذا كان أضعف. فقبض الضمان ينوب عن قبض الأمانة وعن قبض الضمان، وأما قبض الأمانة فلا ينوب إلا عن قبض الأمانة فقط، ولا ينوب عن قبض الضمان؛ لأن الأدنى لا يغني عن الأعلى (¬1). وعلى هذا الأساس إذا كان الشيء المبيع موجوداً في يد المشتري قبل البيع: إما أن تكون يده يد ضمان أو يد أمانة. أـ فإن كانت يد المشتري يد ضمان: 1 - فإما أن تكون يد ضمان بنفسه: كيد الغاصب ويد القابض على سوم الشراء، فيصير المشتري قابضاً للمبيع بالعقد نفسه، ولا يحتاج إلى تجديد القبض، ويبرأ البائع من التزام التسليم، سواء أكان المبيع حاضراً في مجلس العقد، أم غائباً؛ لأن المغصوب مضمون بنفسه، والمبيع بعد القبض مضمون بنفسه، فتجانس القبضان، فناب أحدهما عن الآخر. ¬
ب ـ وإن كانت يد المشتري يد أمانة
أو تكون يد ضمان لغيره، كيد الرهن، بأن باع الراهن المرهون من المرتهن، فإنه لا يصير قابضاً، إلا أن يكون الرهن حاضراً في مجلس العقد، أو يذهب إلى حيث يوجد الرهن، ويتمكن من قبضه؛ لأن المرهون ليس بمضمون بنفسه، بل بغيره، وهو الدين، والمبيع مضمون بنفسه، فلم يتجانس القبضان ولم يتشابها، ولأن الرهن أمانة في الحقيقة، فكان قبضه قبض أمانة في عينه، وليس مضموناً بنفسه، وإنما يسقط الدين بهلاكه، لا لكونه مضموناً، وإنما لمعنى آخر، وهو الاستيثاق بالدين، فيهلك الرهن من مال المرتهن ويسقط الدين بقدر الرهن؛ لأن الرهن وثيقة بالدين. وإذا كان قبض الرهن قبض أمانة، فقبض الأمانة لا ينوب عن قبض الضمان، كقبض العارية والوديعة. ب ـ وإن كانت يد المشتري يد أمانة، كيد المستعير أو الوديع، فلا يصير قابضاً، إلا أن يكون المبيع بحضرته، أو يذهب إليه، فيتمكن من قبضه بالتخلي؛ لأن يد الأمانة ليست من جنس يد الضمان، فلا يتناوبان؛ لأن قبض الأمانة أضعف من قبض الضمان (¬1). المبحث الرابع ـ البيع الباطل والبيع الفاسد تمهيد: العقد من حيث حكمه أو وصفه الذي يعطيه الشارع له، بناء على مقدار استيفائه لأركانه وشروطه، ينقسم عند جمهور الفقهاء إلى صحيح وغير صحيح. ¬
الصحيح: هو ما استوفى شروطه وأركانه. وغير الصحيح: هو ما اختل فيه ركن من أركانه أوشرط من شروطه، ولا يترتب عليه أي أثر، ويشمل الباطل والفاسد، وهما بمعنى واحد. وأما الحنفية: فيقسمون العقد إلى صحيح وفاسد وباطل، فغير الصحيح عندهم، إما فاسد أو باطل. ومنشأ الخلاف: هو في مفهوم نهي الشرع عن عقد ما .. هل النهي يقتضي الفساد أي عدم الاعتبار والوقوع في الإثم معاً، أو يقتصر على إيجاب الإثم وحده مع اعتباره أحياناً، ثم هل يستوي النهي عن ركن من أركان العقد مع النهي عن وصف عارض للعقد؟ قال جمهور الفقهاء: إن نهي الشارع عن عقد ما: يعني عدم اعتباره أصلاً، وإثم من يقدم عليه، ولا فرق بين النهي عن أركان العقد أو النهي لوصف عارض للعقد، لقوله عليه الصلاة والسلام: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد، ومن أدخل في ديننا ما ليس فيه فهو رد» (¬1). ومتى خالف العمل أمر الشارع وطلبه، وصف بالفساد أو البطلان، سواء أكانت المخالفة راجعة إلى حقيقة العمل أم وصفه، وسواء في ذلك العبادة والمعاملة. وقال الحنفية: قد يكون نهي الشارع عن عقد: معناه إثم من يرتكبه فقط، لا إبطاله. ويفرق بين النهي عن أصل العقد أو أركانه، فيوجب بطلان العقد، وبين ¬
أنواع البيوع عند الحنفية بحسب وصف الشارع لها
النهي عن أمر آخر كوصف من أوصاف العقد، فيوجب فساد العقد فقط (¬1)، لأن المعاملات ينظر فيها إلى جانب مصالح العباد، فإذا كانت مخالفة العمل راجعة إلى حقيقته كبيع المعدوم، لم تتحقق به مصلحة أصلاً، فكان باطلاً. وأما إذا تحققت بالعمل مصلحة على وجه ما، ترتب أثر العمل عليه، ويتدارك النقص بإزالة سببه، وهذا يتحقق فيما لو كانت مخالفة العمل راجعة إلى وصفه مع سلامة حقيقته، بوجود ركنه وطرفيه ومحله، فيسمى فاسداً. أما العبادات فإن البطلان والفساد فيها مترادفان، فمخالفة أمر الشارع فيها يجعلها موصوفة بالفساد والبطلان، سواء أكان الخلل في ناحية جوهرية أم في ناحية فرعية متممة؛ لأن العبادة ينظر فيها إلى تحقيق الامتثال والطاعة التامة، ولا يحصل ذلك إلا بزوال كل مخالفة فيها. وعلى هذا الأساس نعرف أن أنواع البيوع عند الحنفية بحسب وصف الشارع لها ثلاثة: صحيح، وباطل، وفاسد. البيع الصحيح: هو ما كان مشروعاً بأصله ووصفه (¬2) ولم يتعلق به حق الغير، ولا خيار فيه، وحكمه: أنه يثبت أثره في الحال. وأثر البيع الصحيح هو ¬
البيع الباطل
تبادل الملكية في العوضين، فيثبت ملك المبيع للمشتري، وملك الثمن للبائع فور انتهاء الإيجاب والقبول إذا لم يكن في البيع خيار. والبيع الباطل: هو ما اختل ركنه أو محله، أو هو ما لا يكون مشروعاً بأصله ولا بوصفه، أي أن يكون العاقد ليس أهلاً للعقد، أو أن يكون محل العقد ليس قابلاً له. وحكمه: أنه لا يعتبر منعقداً فعلاً، وإن وجدت صورته في الخارج فلا يفيد الملك أصلاً. مثل عقد الطفل أو المجنون أو بيع ما ليس بمال كالميتة، أو ما ليس بمتقوم كالخمر والخنزير. وإذا كان البيع الباطل لا يفيد الملك بالقبض، فلو هلك المبيع في يد المشتري فيطبق عليه حكم هلاك الأمانات؛ لأن العقد غير معتبر فبقي القبض بإذن المالك. قيل: وهو قول أبي حنيفة. وعند البعض: يكون مضموناً لأنه لا يكون أدنى حالاً من المقبوض على سوم الشراء. قيل: وهو قول الصاحبين. وأما الثمن المقبوض ببيع باطل فالصحيح أنه مضمون كالمقبوض ببيع فاسد. والبيع الفاسد: هو ما كان مشروعاً بأصله دون وصفه، أي أن يصدر من أهل له في محل قابل للبيع، ولكن عرض له أمر أو وصف غير مشروع. مثل بيع المجهول جهالة تؤدي للنزاع كبيع دار من الدور أو سيارة من السيارات المملوكة لشخص، دون تعيين، وكإبرام صفقتين في صفقة كبيع دار على أن يبيعه سيارته مثلاً: وسأذكر أمثلة أخرى بالتفصيل. وحكمه: أنه يثبت فيه الملك بالقبض بإذن المالك صراحة أو دلالة، كأن يقبضه في مجلس العقد أمام البائع دون أن يعترض عليه، خلافاً لجمهور الفقهاء الذين يقررون أنه لا يفيد الملك أصلاً كالبيع الباطل (¬1). ¬
الضابط الذي يميز الفاسد عن الباطل
الضابط الذي يميز الفاسد عن الباطل إذا كان الفساد يرجع للمبيع فالبيع باطل، كما إذا باع خمراً أو خنزيراً أو ميتة أو دماً أو صيد الحرم أو الإحرام، فلا يفيد الملك أصلاً وإن قبض؛ لأن الخلل واقع على المبيع ذاته، وهو أن الخمر والخنزير لا يثبت الملك فيهما للمسلم بالبيع، والبيع لا ينعقد بلا مبيع، والميتة والدم ليسا بمال متقوم، وقد أبطل الشارع تملك صيد الحرم والإحرام. وإن كان الفساد يرجع للثمن: فإن كان الثمن مالاً في الجملة أي في بعض الأديان أو مرغوباً عند بعض الناس، كالخمر والخنزير وصيد الحرم والإحرام فإن البيع يكون فاسداً أي أنه ينعقد بقيمة المبيع، ويفيد الملك في المبيع بالقبض؛ لأن ذكر الثمن المرغوب دليل على أن غرضهما البيع فينعقد بيعاً بقيمة المبيع (¬1). وأما إن كان الثمن ميتة أو دماً، فاختلف الحنفية: فقال عامتهم: يبطل، وقال بعضهم: يفسد، والصحيح أنه يبطل؛ لأن المسمى ثمناً ليس بمال أصلاً (¬2). وبعد هذا التمهيد: أذكر أمثلة من أنواع البيع الباطل ولو في رأي بعض الفقهاء، ثم أردفها بأمثلة أخرى من أنواع البيع الفاسد، ثم أعقبها بتفصيل حكم البيع الفاسد وما يترتب عليه. ¬
المطلب الأول ـ أنواع البيع الباطل
وقد ميزت بين أمثلة نوعي البيع المذكورين منعاً للإبهام أو الإشكال، على عكس ما يوجد في أغلب كتب الحنفية التي تذكر باب البيع الفاسد. وتريد به الأعم من كونه فاسداً أو باطلاً وهو المنهي عنه الممنوع شرعاً (¬1) بل إنهم قد يطلقون لفظ الفاسد ويريدون به الباطل، ويفهم المقصود إما بالقرائن أحياناً أو بما يشعر بأن البيع باطل كقولهم: لا ينقلب العقد صحيحاً، وفي البيع الفاسد بالعكس: يعود العقد صحيحاً. المطلب الأول ـ أنواع البيع الباطل أهم أنواع البيع الباطل ما يأتي: 1 - بيع المعدوم: اتفق أئمة المذاهب على أنه لا ينعقد بيع المعدوم وما له خطر العدم، كبيع نتاج النتاج بأن قال: بعت ولد ولد هذه الناقة، وبيع الحمل الموجود لأنه على خطر الوجود، وبيع الثمر والزرع قبل ظهوره؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «نهى عن بيع حبل الحبلة» (¬2) أي نتاج النتاج. ونهى أيضاً عن بيع المضامين والملاقيح (¬3) (والمضامين: ما ¬
بيع اللبن في الضرع
في أصلاب الذكور، والملاقيح: ما في بطون الإناث) ونهى كذلك عن بيع الثمر قبل بدو صلاحه، كما سيأتي. ومن الملحق بالمعدوم: بيع لؤلؤ في صدف، وبيع اللبن في الضرع وبيع الصوف على ظهر الغنم، ومثله بيع الكتاب قبل طبعه، فإن بيع ذلك باطل عند الشافعية والحنابلة؛ لأن محل العقد غير موجود بالتأكيد، ولما روي عن ابن عباس رضي الله صلّى الله عليه وسلم عنهما أنه قال: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن تباع ثمرة حتى تطعم (¬1)، ولا يباع صوف على ظهر ولا لبن في ضرع» (¬2) ولأن بيع اللبن في الضرع مجهول الصفة والمقدار. وجهالة مقداره، لأنه قد يرى امتلاء الضرع من السمن، فيظن أنه من اللبن. وجهالة الصفة: لأنه قد يكون اللبن صافياً، وقد يكون كدراً فأشبه الحمل، لأنه بيع عين لم تخلق، فلم يجز كبيع ما تحمل الناقة، والعادة في ذلك تختلف. وفيه علة أخرى وهي: أنه معجوز التسليم، لأن اللبن لا يجتمع في الضرع دفعة واحدة، بل شيئاً فشيئاً، فيختلط المبيع بغيره على وجه يتعذر التمييز بينهما. وأما لبن الظئر (أي المرضع) فيجوز بيعه للحضانة، للحاجة. وقال الحنفية ما عدا أبا يوسف: بيع اللبن في الضرع واللؤلؤ في الصدف والصوف على ظهر الغنم فاسد؛ للجهالة وللنهي عنه، ولأن الصوف ينمو من أسفل، فيختلط المبيع بغيره، ويصعب التمييز بينهما، فيفسد لذلك (¬3). ¬
بيع الصوف على ظهر الغنم
وقال أبو يوسف: يجوز بيع الصوف على ظهر الغنم والصلح عليه؛ لأنه يجوز جزه قبل الذبح، فيجوز بيعه كبيع القصيل في الأرض. وأما سبب بطلان بيع الصوف على ظهر الغنم عند القائلين بالبطلان، فلأنه يقع الاختلاف في موضع القطع من الحيوان، فيقع الإضرار به فكان مشتملاً على الغرر، وفيه علة أخرى: وهي أنه معجوز التسليم، لأن الصوف ينمو ساعة فساعة، فيختلط الموجود عند العقد بالحادث بعده على وجه لا يمكن التمييز بينهما. وخالف الإمام مالك في الحالتين، فقال: يجوز بيع اللبن في الضرع في الغنم السائمة التي لا يختلف لبنها، لا في الشاة الواحدة، أياماً معلومة، إذا عرف قدر حلابها، لسقي الصبي، كلبن الظئر، لتسامح غالب الناس به أياماً معلومة غالباً، بل رأينا من يسامح بلبن بقرته الشهر وأكثر بطريق الإباحة أو الهبة. وقال أيضاً: يصح بيع الصوف على ظهر الغنم، لأنه مشاهد يمكن تسليمه. وهناك رواية عند الحنابلة تقرر مثل هذا الحكم وهو أنه يجوز بيع الصوف على ظهر الغنم، بشرط جزّه في الحال، لأنه معلوم يمكن تسليمه. وكذلك الظاهرية أجازوا بيع الصوف على ظهور الغنم (¬1). رأي بعض الحنابلة في بيع المعدوم: أجاز ابن القيم وأستاذه ابن تيمية بيع المعدوم عند العقد إذا كان محقق الوجود في المستقبل بحسب العادة، لأنه لم يثبت ¬
2 - بيع معجوز التسليم
النهي عن بيع المعدوم لا في الكتاب ولا في السنة ولا في كلام الصحابة، وإنما ورد في السنة النهي عن بيع الغرر، وهو ما لا يقدر على تسليمه، سواء أكان موجوداً أم معدوماً كبيع الفرس النافر والجمل الشارد، فليست العلة في المنع لاالعدم ولا الوجود. بل إن الشرع صحح بيع المعدوم في بعض المواضع، فنره أجاز بيع الثمر بعد بدء صلاحه، والحب بعد اشتداده، ومعلوم أن العقد إنما ورد على الموجود والمعدوم الذي لم يخلق بعد. وعلى هذا فبيع المعدوم إذا كان مجهول الوجود في المستقبل باطل للغرر لا للعدم، فالأصل إذن هو الغرر (¬1). 2 - بيع معجوز التسليم يرى جمهور الحنفية كما في ظاهر الرواية: أنه لا ينعقد بيع معجوز التسليم عند العقد، ولو كان مملوكاً، كالطير الذي طار من يد صاحبه، أو العبد الآبق (الفارّ) واللقطة، ويكون البيع باطلاً، حتى لو ظهر الآبق ونحوه يحتاج إلى تجديد الإيجاب والقبول، إلا إذا تراضيا حينئذ، فيكون بيعاً مبتدءاً بالتعاطي. ولو قدر على التسليم في المجلس لا يعود جائزاً، لأنه وقع باطلاً، وعن الكرخي والطحاوي: أنه يعود جائزاً. فإن كان الطائر يذهب ويعود كالحمام الأهلي، ففي ظاهر الرواية: لا يجوز أيضاً بيعه لعدم القدرة على التسليم في الحال، وقال بعض الحنفية: إن كان الطائر داجناً يعود إلى بيته ويقدر على أخذه بلا تكلف جاز بيعه، وإلا فلا. ¬
وكذا يبطل العقد إذا جعل معجوز التسليم ثمناً؛ لأن الثمن إذا كان عيناً، فهو مبيع في حق صاحبه (¬1). وقال المالكية: لا ينعقد بيع البعير الشارد والبقرة المتوحشة والمغصوب إلا أن يبيعه من غاصبه. وقال الشافعية والحنابلة: لا يجوز (أي لا ينعقد) بيع ما لا يقدر على تسليمه كالطير في الهواء أو السمك في الماء والجمل الشارد، والفرس العائر (أي الهائم على وجهه) والمال المغصوب في يد الغاصب والعبد الآبق، سواء علم مكانه أو جهل، ومثله بيع الدار أو الأرض تحت يد العدو (¬2)؛لأن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيع ¬
الحصاة، وعن بيع الغرر (¬1)، وهذا غرر، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عن شراء العبد الآبق، وعن شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع وعن شراء ما في ضروعها، وعن شراء الغنائم حتى تقسم (¬2). وعن ابن مسعود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لا تشتروا السمك في الماء فإنه غرر» (¬3) علل النهي عن بيع السمك بأنه غرر، فدل على أن الغرر: ما لا يقدر على تسليمه. والمراد بالماء الذي لايجوز بيع السمك فيه هو الماء غير المحصور كماء البحر والنهر، فإن كان الماء محصوراً كماء البركة، فقال الحنفية والشافعية والحنابلة في الجملة: يجوز بيع السمك فيه إذا كان يمكن أخذه بدون اصطياد وحيلة. ولكن للمشتري خيار الرؤية عند الحنفية. ومنع المالكية بيع السمك في الغدير أو البركة (¬4). والخلاصة: أن المذاهب الأربعة متفقة على بطلان بيع ما لا يقدر على تسليمه، مع الخلاف في بعض القيود أحياناً أو مع أقوال ضعيفة في المذهب. وذهب الظاهرية إلى أنه لا يشترط في صحة البيع أن يكون المعقود عليه مقدور التسليم، وإنما الواجب ألا يحول البائع بين المشتري وبين ما اشتراه (¬5). ¬
بيع الدين
بيع الدين: الدين (¬1): كثمن مبيع، وبدل قرض، ومهر بعد دخول بالمرأة أو قبل الدخول بها، وأجرة مقابل منفعة، وأرش (¬2) جناية، وغرامة متلف، وعوض خلع، ومسلم فيه. وبيع الدين: إما أن يكون لمن في ذمته الدين، أو لغير من عليه الدين. وفي كل من الحالتين إما أن يباع الدين نقداً في الحال، أو نسيئة مؤجلاً. وبيع الدين نسيئة: هو ما يعرف ببيع الكالئ بالكالئ أي الدين بالدين وهو بيع ممنوع شرعاً؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ (¬3)، وقد قيل: أجمع الناس على أنه لا يجوز بيع دين بدين، سواء أكان البيع للمدين، أم لغير المدين. مثال الأول وهو بيع الدين للمدين: أن يقول شخص لآخر اشتريت منك مداً من الحنطة بدينار على أن يتم تسليم العوضين بعد شهر مثلاً. أو أن يشتري شخص شيئاً إلى أجل، فإذا حل الأجل، لم يجد البائع ما يقضي به دينه، فيقول للمشتري: بعني هذا الشيء إلى أجل آخر بزيادة شيء، فيبيعه ولا يجري بينهما تقابض. فيكون هذا رباً حراماً تطبيقاً لقاعدة: (زدني في الأجل، وأزيدك في القدر). أما لو باع الدين بنحو آخر كأن يبيعه الألف الذي له في ذمته بمتاع كسجادة مثلاً، أو بقدر من المال يدفعه من عليه الدين، فيصح البيع؛ لأنه في معنى الصلح. ومثال بيع الدين لغير المدين: أن يقول رجل لغيره: بعتك العشرين مداً من ¬
بيع الدين نقدا في الحال
القمح التي لي عند فلان بكذا تدفعها لي بعد شهر (¬1)، أو بسلعة حاضرة (عين) لم يصح البيع، لعدم القدرة على تسليم المبيع. وبيع الدين نقداً في الحال: اختلف الفقهاء في شأنه على التفصيل الآتي: أولاً ـ بيع الدين للمدين: أجاز جمهور الفقهاء أئمة المذاهب الأربعة بيع الدين لمن عليه الدين أو هبته له؛ لأن المانع من صحة بيع الدين بالدين هو العجز عن التسليم، ولا حاجة إلى التسليم ههنا، فما في ذمة المدين مسلم له (¬2). ومثاله: أن يبيع الدائن للمدين ديناً له في ذمته بدين آخر من غير جنسه، فيسقط الدين المبيع، ويجب عوضه، لأنه في معنى الصلح، وهو جائز،، ويدل ما أخرجه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «أتيت النبي صلّى الله عليه وسلم فقلت: إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع الدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وأخذ الدنانير؟ فقال: لا بأس أن تأخذ بسعر يومها، ما لم تفترقا وبينكما شيء» فهذا البيع بين الدنانير والدراهم بيع للدين بعين ممن عليه الدين، لأنه قوله: «أبيع بالدنانير» أي ديناً؛ لأنه لم يقبضهما، ثم يستبدل بها دراهم يقبضها. وقال الظاهرية: لا يجوز بيع الدين إلى المدين لوجود الغرر فيه، قال ابن حزم: لأنه بيع مجهول، وما لا يدرى عينه، وهذا هو أكل مال بالباطل (¬3). ¬
ثانيا ـ بيع الدين لغير المدين
ثانياً ـ بيع الدين لغير المدين: قال الحنفية والظاهرية: بما أنه لا يجوز بيع معجوز التسليم، فلا ينعقد بيع الدين من غير من عليه الدين، لأن الدين غير مقدور التسليم إلا للمدين نفسه في حق البائع؛ لأن الدين عبارة عن مال حكمي في الذمة، أو عبارة عن فعل تمليك المال وتسليمه، وكل ذلك غير مقدور التسليم من البائع. ولو شرط التسليم على المدين لا يصح البيع أيضاً؛ لأن البائع شرط التسليم على غيره، فيكون شرطاً فاسداً، فيفسد البيع (¬1)، لعدم القدرة على تسليم المبيع. وقال بعض الشافعية (¬2): يجوز بيع الدين المستقر (¬3) للمدين ولغير المدين قبل القبض، لأن الظاهر القدرة على التسليم من غير منع ولا جحود، ومثال الدين المستقر: قيمة المتلفات، والمال الموجود عند المقترض. وأما إن كان الدين غير مستقر: فإن كان مسلَماً فيه في عقد السلم، فلا يجوز التصرف فيه قبل قبضه، لعموم النهي عن بيع مالم يقبض، ولأن الملك في المسلم فيه غير مستقر، لأنه ربما تعذر تسليمه لفقدانه، فانفسخ البيع فيه. وإن كان الدين ثمناً في بيع، ففي قول للشافعي: يجوز التصرف فيه قبل قبضه لخبر ابن عمر في هذا الشأن عن الرسول صلّى الله عليه وسلم: «لابأس مالم تتفرقا، وبينكما شيء» (¬4) ولأنه لايخشى انفساخ العقد فيه بالهلاك، فصار ذلك مثل المبيع بعد ¬
القبض. هذا ولايصح اتفاقاً بيع الدين بالدين إلى أجل كما تقدم في النقود والمطعومات وغيرها من أموال الربا، ولايصح لأحد أن يعتمد على هذا القول وغيره فيما يخالف الأحكام المقررة قطعاً. قال النووي في المنهاج: وبيع الدين لغير من هو عليه الدين باطل في الأظهر. وقال الحنابلة: يصح في الصحيح من المذهب بيع الدين المستقر للمدين كبدل قرض ومهر بعد الدخول. ولايصح بيع الدين لغير المدين، كما لاتصح هبة الدين لغير من هو في ذمته؛ لأن الهبة تقتضي وجود معين، وهو منتفٍ هنا. كما لايصح بيع الدين غير المستقر كأجرة عقار قبل مضي مدة الإيجار، ومهر قبل دخول بالمرأة، ومسلم فيه قبل القبض، إلا أن ابن القيم أجاز بيع الدين للمدين ولغير المدين (¬1). وقال المالكية: يجوز بيع الدين لغير المدين بشروط ثمانية تبعده عن الغرر والربا وأي محظور آخر كبيع الطعام قبل قبضه، وتتلخص هذه الشروط هنا في شرطين هما: 1ً - ألا يؤدي البيع إلى محظور شرعي كالربا والغرر ونحوهما: فلابد من أن يكون الدين ممايجوز بيعه قبل قبضه، كأن يكون من قرض ونحوه، ويكون الدين المبيع غير طعام، وأن يباع بثمن مقبوض أي معجل لئلا يكون ديناً بدين، وأن يكون الثمن من غير جنس الدين المبيع أو من جنسه مع التساوي بينهما حذراً من الوقوع في الربا، وألا يكون الثمن ذهباً إذا كان الدين فضة، حتى لايؤدي ذلك إلى بيع النقد بالنقد نسيئة من غير مناجزة، فهذه أربعة شروط في شرط. ¬
3 - بيع الغرر
2 - أن يغلب على الظن الحصول على الدين بأن يكون المدين حاضراً في بلد العقد، ليعلم حاله من عسر أو يسر، وأن يكون المدين مقراً بالدين، حتى لاينكره بعدئذ، فلا يجوز بيع حق متنازع فيه، وأن يكون أهلاً للالتزام بالدين بألا يكون قاصراً ولا محجوراً عليه مثلاً ليكون الدين مقدور التسليم، وألا يكون بين المشتري وبين المدين عداوة حتى لايتضرر المشتري أو حتى لا يكون في البيع إعنات للمدين بتمكين خصمه منه (¬1). فهذه أربعة شروط أخرى في شرط. ويظهر لنا أن مذهب المالكية هو الراجح بين المذاهب. وفي الواقع لايجوز بيع الدين بالدين، مثل أن يبيع ديناً له على رجل من آخر بالتأخير، ولايجوز أيضاً فسخ الدين في الدين، مثل أن يدفع الغريم لصاحب الدين ثمرة يجنيها، أو داراً يسكنها، لتأخر القبض في ذلك (¬2). خصم (حسم) الكمبيالة: ذكر الحنفية (¬3) أن بيع أوراق الكمبيالة المتعارف في زماننا إلى غير الغريم (المدين) أو لمن عليه أموال أميرية بأنقص من الحق غير صحيح. 3 - بيع الغرر: الغرر في اللغة: الخطر، والتغرير: التعريض للهلاك، وأصل الغرر لغة: هو ماله ظاهر محبوب، وباطن مكروه. ولذلك سميت الدنيا متاع الغرور. فالغرر: ¬
الغرر في اصطلاح الفقهاء
تعريض المرء نفسه أو ماله للهلاك من غير أن يعرف. وبيع الغرر: هو بمعنى مغرور اسم مفعول، فهو من إضافة المصدر إلى اسم المفعول. ورجح بعضهم (¬1) أن الإضافة هنا من إضافة الموصوف إلى صفته، أو من إضافة المصدر إلى نوعه، ولايصح جعل الإضافة من إضافة المصدر إلى مفعوله، كما يقول ابن تيمية، لأنه يترتب على هذا كون الغرر خاصاً بمحل العقد، وليس كذلك، فإن من الغرر المنهي عنه باتفاق الفقهاء مايرجع إلى الصفة التي وقع عليها العقد، كبيع الحصاة. أما إذا جعلنا الإضافة إلى الصفة أو نوع المصدر، فإن النهي يعم كل بيوع الغرر، سواء أكان الغرر في محل العقد كبيع الطير في الهواء، وشاة من قطيع، أم في صيغته كالبيعتين في بيعة، والشرطين في بيع وبيع العربان، وبيع الحصاة ونحوها. والغرر لغة: معناه الخداع الذي هو مظنة ألا رضا به عند تحققه، فيكون من أكل المال بالباطل (¬2). والغرر فقهاً يتناول الغش والخداع والجهالة بالمعقود عليه، وعدم القدرة على التسليم. قال الصنعاني: يتحقق بيع الغرر في صور: إما بعدم القدر ة على التسليم كبيع الفرس النافر والجمل الشارد، أو بكونه معدوماً أو مجهولاً، أو لا يتم ملك البائع له، كالسمك في الماء الكثير، وغيرها من الصور (¬3). الغرر في اصطلاح الفقهاء: ذكر فقهاء المذاهب تعريفات للغرر متقاربة نسبياً، منها: قال السرخسي الحنفية: الغرر: ما يكون مستور العاقبة (¬4). ¬
وقال القرافي من المالكية: أصل الغرر: هو الذي لا يدرى هل يحصل أم لا كالطير في الهواء والسمك في الماء (¬1). وقال الشيرازي الشافعي: الغرر: ما انطوى عنه أمره وخفي عليه عاقبته (¬2). وقال الإسنوي الشافعي: الغرر: هو ما تردد بين شيئين أغلبهما أخوفهما (¬3). وقال ابن تيمية: الغرر هو المجهول العاقبة. وقال ابن القيم: هو ما لا يقدر على تسليمه، سواء أكان موجوداً أو معدوماً كبيع العبد الآبق، والبعير الشارد، وإن كان موجوداً (¬4). وقال ابن حزم: ما لا يدري المشتري ما اشترى، أو البائع ما باع (¬5). والخلاصة: أن بيع الغرر: هو البيع الذي يتضمن خطراً يلحق أحد المتعاقدين، فيؤدي إلى ضياع ماله (¬6). وعرفه الأستاذ الزرقاء فقال: هو بيع الأشياء الاحتمالية غير المحققة الوجود أو الحدود، لما فيه من مغامرة وتغريريجعله أشبه بالقمار. والغرر الذي يبطل البيع: هو غرر الوجود: وهوكل ما كان المبيع فيه محتملاً للوجود والعدم. أما غرر الوصف فمفسد للبيع (¬7)، كما عرفنا في شرائط الصحة. الغرر إذن: هو الخطر بمعنى أن وجوده غير متحقق، فقد يوجد وقد لا ¬
ملاحظات على التعاريف
يوجد. وبيع الغرر: بيع ما لا يعلم وجوده وعدمه، أو لا تعلم قلته وكثرته، أو لا يقدر على تسليمه. ملاحظات على التعاريف: قصر الظاهرية الغرر على المجهول، وقصره بعض الحنفية على ما لا يدرى حصوله، وأخرجوا عنه المجهول، والراجح عند أكثر الفقهاء أن الغرر يشمل ما لا يدرى حصوله، والمجهول (¬1)، فيكون تعريف السرخسي للغرر هو أرجح التعاريف: وهو ماكان مستور العاقبة. حكم بيع الغرر: قال الإمام النووي: النهي عن بيع الغرر أصل من أصول الشرع يدخل تحته مسائل كثيرة جداً. ويستثنى من بيع الغرر أمران: أحدهما ـ ما يدخل في المبيع تبعا ً، بحيث لو أفرد، لم يصح بيعه كبيع أساس البناء تبعاً للبناء، واللبن في الضرع تبعاً للدابة. والثاني ـ ما يتسامح بمثله عادة، إما لحقارته، أو للمشقة في تمييزه أو تعيينه، كدخول الحمام بالأجر، مع اختلاف الناس في الزمان، ومقدار الماء المستعمل، وكالشرب من الماء المحرز، وكالجبة المحشوة قطناً (¬2). اتفق الفقهاء على عدم صحة بيع الغرر، مثل بيع اللبن في الضرع، والصوف على الظهر، واللؤلؤ في الصدف، والحمل في البطن، والسمك في الماء، والطير في الهواء قبل صيدهما، وبيع مال الغير على أن يشتريه فيسلمه، أي بيع ما سيملكه قبل ملكه له، لأن البائع باع ما ليس بمملوك له في الحال، سواء أكان السمك في البحر، أم في النهر، أم في حظيرة لا يؤخذ منها إلا باصطياد، وسواء أكان الغرر في المبيع أم في الثمن. ¬
بيع المضامين والملاقيح
ومن البيوع غير الصحيحة بسبب الغرر: بيع المضامين والملاقيح، وبيع الملامسة والمنابذة والحصاة (¬1)، وبيع ضربة القانص (بأن يقول البائع: بعتك ما يخرج من إلقاء هذه الشبكة مرة بكذا) وضربة الغائص (بأن يقول: أغوص غوصة، فما أخرجته من اللآلئ، فهو لك بكذا) (¬2) فالمبيع في الأنواع الخمسة الأخيرة مجهول الذات أو المقدار، وقد ثبت النهي عنها، وهي من بيوع الجاهلية. ومنها بيع المزابنة: وهو بيع الرطب أو العنب على النخل أو الكرمة بتمر مقطوع، أوزبيب مثل كيله خرصاً أي بتقديره حَزْراً أو تخميناً. وبيع المحاقلة: أي بيع الحنطة في سنبلها بحنطة مثل كيلها خرصاً، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «نهى عن المزابنة والمحاقلة» (¬3) لما في ذلك من الربا لجهالة مقدار المبيع، إذ أنه كما هو معلوم يشترط ¬
بيع العرايا
التماثل حقيقة في بيع الأموال الربوية. لكن للحاجة رخص الشافعية والحنابلة والظاهرية، وفي الراجح عند المالكية بيع العرايا (¬1): وهو عند الشافعية بيع الرطب على النخل خرصاً بتمر في الأرض كيلاً، أو بيع العنب على الشجر خرصاً بزبيب في الأرض كيلاً، فيما دون خمس أوسق (¬2) بشرط التقابض في المجلس عند الفقهاء ما عدا المالكية، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمر بالتمر، ورخص في العرايا (¬3). وأما الحنفية فقد أجازوا بيع العرايا للضرورة فقط، وذكر الشوكاني أن أبا حنيفة منع صور بيع العرايا كلها، وقصر العرية على الهبة: وهي أن يهب صاحب البستان لرجل ثمر نخلات معلومة من بستانه، ثم يتضرر بدخوله عليه، فيخرصها، ويشتري رطبها منه بقدر خرصه بتمر معجل أي بقدر ما وهبه له من الرطب بما يساويه تخميناً من التمر (¬4). ويلاحظ أن هذه البيوع غير الصحيحة بسبب الغرر، منها الباطل، ومنها الفاسد في اصطلاح الحنفية، والفاسد منها فقط: هو بيع ضربة القانص والغائص والمزابنة والمحاقلة والملامسة والمنابذة وبيع الحصاة، وبيع ثوب من أثواب ونحوها ¬
الغرر اليسير
مما فيه جهالة. وأما ما عداها فهو باطل (¬1). فبيع الملاقيح والمضامين وحبل الحبلة باطل، لنهيه صلّى الله عليه وسلم عنه، ولما فيه من الغرر، كما تقدم في بحث بيع المعدوم. والدليل على عدم صحة بيع الغرر في الجملة: هو أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر. وعن ابن مسعود أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لاتشتروا السمك في الماء، فإنه غرر» (¬2)، ولأنه غير مقدور على تسليمه، وفيه جهالة فاحشة بمحل العقد أو بمقدار المبيع، ولأنه غير مملوك للبائع محل العقد. الغرر اليسير: الغرر والجهالة ثلاثة أقسام (¬3): كثير ممتنع إجماعاً كالطير في الهواء. وقليل جائز إجماعاً كأساس الدار وقطن الجبة. ومتوسط اختلف فيه: هل يلحق بالأول أو بالثاني، فلارتفاعه عن القليل ألحق بالكثير، ولانحطاطه عن الكثير، ألحق بالقليل. أجاز الحنفية بيع مايشتمل على غرر يسير، كالأشياء التي تختفي في قشرها كالجوز واللوز والفستق والباقلاء (¬4) الأخضر، والأرز والسمسم في قشرها الأعلى، والحنطة في سنبلها، والبطيخ والرمان على أن يكون للمشتري خيار الرؤية كما سيأتي بيانه في بحث هذا الخيار. أما المالكية والحنابلة: فأجازوا مطلقاً كل مافيه غرر يسير، أو التي تدعو إليه الضرورة، كهذه الأشياء التي ذكرت. وأما الشافعية: فإنهم أجازوا بيع هذه الأشياء في قشرها الأسفل. أما بيعها ¬
حكم التأمين مع شركات التأمين في الإسلام
بقشرها الأعلى فاختلفوا فيه على رأيين مشهورين في المذهب، رجح النووي والبغوي والشيرازي عدم الصحة. وقال إمام الحرمين والغزالي: الأصح صحته؛ لأن الشافعي رضي الله عنه أمر أن يشترى له الباقلاء الرطب، ولتعارف ذلك في جميع البلدان من غير إنكار (¬1). وإني أرجح جواز بيع هذه الأشياء مطلقاً كما رأى المالكية والحنابلة لتعارف الناس هذه البيوع، فإذا وجد فيها عيب أمكن فسخ العقد بمقتضى خيار العيب. حكم التأمين مع شركات التأمين في الإسلام التأمين حديث النشأة، فقد ظهر بمعناه الحقيقي في القرن الرابع عشر الميلادي في إيطاليا في صورة التأمين البحري. والتأمين (أو السوكرة) نوعان: تأمين تعاوني وتأمين بقسط ثابت (¬2). أما التأمين التعاوني: فهو أن يتفق عدة أشخاص على أن يدفع كل منهم اشتراكاً معيناً، لتعويض الأضرار التي قد تصيب أحدهم إذا تحقق خطر معين. وهو قليل التطبيق في الحياة العملية. وأما التأمين بقسط ثابت: فهو أن يلتزم المؤمَّن له بدفع قسط محدد إلى ¬
الفرق بين النوعين
المؤمِّن: وهو شركة التأمين المكونة من أفراد المساهمين، يتعهد (أي المؤمن) بمقتضاه دفع أداء معين عند تحقق خطر معين. وهو النوع السائد الآن. ويدفع العوض إما إلى مستفيد معين أو إلى شخص المؤمن أو إلى ورثته، فهو عقد معاوضة ملزم للطرفين. والفرق بين النوعين: أن الذي يتولى التأمين التعاوني ليس هيئة مستقلة عن المؤمن لهم، ولايسعى أعضاؤه إلى تحقيق ربح، وإنما يسعون إلى تخفيف الخسائر التي تلحق بعض الأعضاء. أما التأمين بقسط ثابت فيتولاه المؤمن (أي الشركة المساهمة) الذي يهدف إلى تحقيق ربح، على حساب المشتركين المؤمن لهم. وكون المؤمن له قد لايأخذ شيئاً في بعض الأحيان لايخرج التأمين من عقود المعاوضات، لأن من طبيعة العقد الاحتمالي ألا يحصل فيه أحد العاقدين على العوض أحياناً. حكم التأمين التعاوني: لاشك في جواز التأمين التعاوني في الإسلام، لأنه يدخل في عقود التبرعات، ومن قبيل التعاون على البر؛ لأن كل مشترك يدفع اشتراكه بطيب نفس لتخفيف آثار المخاطر وترميم الأضرار التي تصيب أحد المشتركين، أيا كان نوع الضرر، سواء في التأمين على الحياة، أو الحوادث الجسمانية، أو على الأشياء (بسبب الحريق أو السرقة أو موت الحيوان) أو ضد المسؤولية من حوادث السير، أو حوادث العمل (¬1)، ويجوز أيضاً للمؤمن له التأمين الإلزامي كالتأمين المفروض على السيارات ضد الغير، وتجوز التأمينات الاجتماعية ضد العجز والشيخوخة والمرض والتقاعد. التأمين بقسط ثابت ـ فتوى ابن عابدين: أفتى ابن عابدين بحرمة التأمين البحري (¬2)، لضمان ما قد يهلك من البضائع المستوردة بطريق النقل البحري، بالمراكب، فلا يحل للتاجر أخذ بدل الهالك من مال المؤمِّن لأسباب ثلاثة: ¬
1 - إن هذا العقد التزام ما لا يلزم، لعدم وجود سبب شرعي من أسباب الضمان الأربعة وهي العدوان من قتل وهدم وإحراق ونحوها، وتسبب الإتلاف كحفر بئر بدون ترخيص في الطريق العام، ووضع اليد غير المؤتمنة كالغصب والسرقة وبقاء المبيع في يد البائع، والكفالة. وليس المؤمِّن متعدياً، ولا متسبباً في الإتلاف، ولا واضع يد على المؤمن عليه، وليس في التأمين مكفول معين. 2 - ليس التأمين من قبيل تضمين الوديع إذا أخذ أجراً على الوديعة إذا هلكت: لأن المال ليس في يد المؤمن، بل في يد صاحب المركب، ولو كان صاحب المركب هو المؤمن، فإنه يكون أجيراً مشتركاً، لا وديعاً، وكل من الوديع والأجير المشترك لا يضمن ما لا يمكن الاحتراز عنه، كالموت والغرق والحرق الغالب. 3 - ليس التأمين من قبيل تضمين التغرير: لأن الغارّ لا بد من أن يكون عالماً بالخطر، وأن يكون المغرور جاهلاً به غير عالم. والمؤمن (شركة التأمين أو الضمان) لا يقصد تغرير التجار (المؤمن لهم)، ولا يعلم بحصول الخطر ـ الغرق مثلاً ـ هل يكون أو لا، أي لا يعلم: هل تغرق المركب أو لا؟ أما في حال العلم بالخطر من المؤمن والتاجر كالخطر من اللصوص قطاع الطرق، فيجوز الضمان، ولكن ليس التأمين منطبقاً عليها. فلو قال شخص لآخر: اسلك هذا الطريق، فإن كان مخوفاً وأخذ مالك، فأنا ضامن: ضمن. وأضاف ابن عابدين: أنه إن جرى عقد التأمين الفاسد في بلاد الحرب بين المؤمَّن وشريك حربي غير مسلم للمؤمن له، أو بين التاجر المؤمن له الموجود في دار الحرب وبين المؤمِّن، وأخذ بدل الهالك، وأرسله في الحالة الأولى إلى التاجر المسلم، أو قبض التاجر البدل في بلادنا في الحالة الثانية، فالظاهر أنه يحل للتاجر أخذه؛ لأن العقد الفاسد جرى بين حربيين في بلاد الحرب، وقد وصل إلى التاجر
مالهم برضاهم، فلا مانع من أخذه. أما إن كان العقد في بلادنا، والقبض في بلاد الحرب، فلا يحل أخذ البدل، ولو برضا الحربي، لانبنائه على العقد الفاسد الصادر في بلاد الإسلام. ولا يصح اعتبار التأمين من قبيل شركة المضاربة التي هي مال من طرف وعمل من طرف آخر، لسببين: أولهما ـ أن الأقساط التي يدفعها المؤمَّن له تدخل في ملك شركة التأمين (المؤمِّن)، وهي مطلقة اليد في أن تتصرف بها كيفما تشاء. ويخسرها المؤمن له إن لم يقع الحادث. ثانيهما ـ أن شرط صحة المضاربة أن يكون الربح بين صاحب المال والقائم بالعمل شائعاً بالنسبة كالربع أو الثلث، وفي التأمين يشترط للمشترك المؤمن له قدر معين في الربح 3% أو 4% فتكون هذه المضاربة غير صحيحة. ولو تجاوز العاقد هذا السبب، يظل السبب الأول، كما أنه في حال موت المؤمن له قد لا يذهب المبلغ المؤمن عليه للورثة مطلقاً وإنما للمستفيد، بخلاف حال موت رب المال في المضاربة. ولا يصح اعتبار التأمين من قبيل الضمان أو الكفالة، لأنه ليس واحداً من أسباب الضمان الأربعة المشروعة المتقدمة، كما أنه في كثير من صور عقد التأمين لا يوجد فيه ما يمكن أن يعتبر مكفولاً، وإن وجد المكفول كما في التأمين من حوادث السيارات، فهو مجهول. والحقيقة أن عقد التأمين من عقود الغرر ـ العقود الاحتمالية المترددة بين وجود المعقود عليه وعدمه، وقد نهى الرسول صلّى الله عليه وسلم عن بيع الغرر. ويقاس عليه عقود المعاوضات المالية، فيؤثر الغرر فيها كما يؤثر في عقد البيع.
وعقد التأمين مع الشركات من عقود المعاوضات المالية، فيؤثر فيه الغرر، كما يؤثر في سائر عقود المعاوضات المالية. وقد وضعه رجال القانون تحت عنوان «عقود الغرر»؛ لأن التأمين لا يكون إلا من حادث مستقبل غير محقق الوقوع، أو غير معروف وقوعه، فالغرر عنصر لازم لعقد التأمين. والغرر في التأمين كثير، لا يسير، ولا متوسط، لأن من أركان التأمين: «الخطر» والخطر هو حادث محتمل لا يتوقف على إرادة العاقدين (¬1). والحاجة التي من أجلها يجوز العقد المشتمل على الغرر ولو كان كثيراً: (وهي أن يصل المرء إلى حالة بحيث لو لم يتناول الممنوع يكون في جهد ومشقة، ولكنه لا يهلك) (¬2) يشترط فيها أن تكون عامة، أو خاصة بفئة، وأن تكون متعينة. والحاجة العامة: هي ما يكون الاحتياج فيها شاملاً لجميع الناس. والحاجة الخاصة: هي ما يكون الاحتياج فيها خاصاً بطائفة من الناس كأهل بلد، أو حرفة. ومعنى كون الحاجة متعينة: أن تسد جميع الطرق المشروعة للوصول للغرض، سوى ذلك العقد الذي فيه الغرر. ولو سلمنا بوجود حاجة عامة للتأمين في الوقت الحاضر، فإن الحاجة إليه غير متعينة، إذ يمكن تحقيق الهدف منه بطريق التأمين التعاوني القائم على التبرع، وإلغاء الوسيط المستغل لحاجة الناس الذي يسعى إلى الربح، وهو شركة الضمان. فيكون التأمين عقد معاوضة مشتملاً على غرر كثير من غير حاجة، فيمنع في الإسلام. ¬
وبناء عليه لا يحل للتاجر وغيره من المستأمنين أخذ بدل الهالك من مال السوكرة؛ لأنه مال لا يلزم من التزم به، ولأن اشتراط الضمان على الأمين باطل. التأمين وإعادة التأمين تعريف عقد التأمين: عرَّف القانون المصري (م 747) والقانون السوري (م 713) وغيرهما التأمين بأنه «عقد يلتزم المؤمِّن بمقتضاه أن يؤدي إلى المؤمَّن له ـ المستأمن ـ أو إلى المستفيد الذي اشترط التأمين لصالحه مبلغاً من المال، أو إيراداً مرتباً، أو أي عوض مالي آخر، في حالة وقوع الحادث، أو تحقق خطر مبين في العقد، وذلك في مقابل قسط، أو أية دفعة أخرى يؤديها المؤمَّن له إلى المؤمِّن». يظهر من هذا التعريف اتجاهه إلى بيان عقد التأمين التجاري التبادلي الذي يقوم بين عاقدين: المؤمِّن وهو شركة التأمين، والمستأمن وهو المتعامل مع الشركة، مقابل قسط ثابت هو قسط التأمين وأخذ عوض هو عوض التأمين عند حصول الخطر أو الحادث المؤمن عليه، وهو من العقود الاحتمالية وعقود المعاوضات المالية. لكن لايلزم في العقد الاحتمالي الحصول على العوض أحياناً، وليس العوض تبرعاً من المؤمن. ويتبين من التعريف أيضاً أن التأمين من عقود الغرر، إذ لا يعرف وقت العقد مقدار ما يعطي كل من العاقدين أو يأخذ، فقد يدفع المستأمن قسطاً واحداً من الأقساط، ثم يقع الحادث، وقد يدفع جميع الأقساط، ولا يقع الحادث. وهو كذلك عقد من عقود التراضي، وملزم للطرفين، ومن عقود المدة، فلا بد من زمن لتنفيذ التزامات الطرفين، وعقد من عقود الإذعان؛ لأن المستأمن يخضع لشروط وقيود محددة سلفاً من قبل شركات التأمين.
أنواع التأمين
أنواع التأمين: التأمين من حيث الشكل نوعان: 1 ً - تأمين تعاوني: وهوأن يشترك مجموعة من الأشخاص بدفع مبلغ معين، ثم يؤدى من الاشتراكات تعويض لمن يصيبه ضرر. 2 ً - تأمين تجاري أو التأمين ذو القسط الثابت، وهو المراد عادة عند إطلاق كلمة التأمين، وفيه يلتزم المستأمن بدفع قسط معين إلى شركة التأمين القائمة على المساهمة، على أن يتحمل المؤمِّن (الشركة) تعويض الضرر الذي يصيب المؤمَّن له أو المستأمن. فإن لم يقع الحادث فَقَد المستأمن حقه في الأقساط، وصارت حقاً للمؤمِّن. وهذا النوع ينقسم من حيث موضوعه إلى: 1 ً - تأمين الأضرار: وهو يتناول المخاطر التي تؤثر في ذمة المؤمَّن له، لتعويضه عن الخسارة التي تلحقه. وهذا يشمل: التأمين من المسؤولية: وهو ضمان المؤمَّن له ضد مسؤوليته عن الغير الذي أصيب بضرر، مثل حوادث السير، والعمل. والتأمين على الأشياء: وهو تعويض المؤمَّن له عن الخسارة التي تلحقه في ماله، بسبب السرقة أو الحريق أو الفيضان، أو الآفات الزراعية ونحو ذلك. 2 ً - وتأمين الأشخاص: وهو يشمل: التأمين على الحياة: وهو أن يلتزم المؤمّن بدفع مبلغ لشخص المستأمن أو للورثة عند الوفاة، أو الشيخوخة، أو المرض أو العاهة، بحسب مقدار الإصابة.
التأمين من حيث العموم والخصوص ينقسم إلى قسمين
والتأمين من الحوادث الجسمانية: وهو أن يلتزم المؤمّن بدفع مبلغ معين إلى المؤمن له في حالة إصابته أثناء المدة المؤمن فيها بحادث جسماني، أو إلى مستفيد آخر إذا مات المستأمن. والتأمين من حيث العموم والخصوص ينقسم إلى قسمين: 1 ً - تأمين خاص أو فردي: خاص بشخص المستأمن من خطر معين. 2ً - تأمين اجتماعي أو عام: يشمل مجموعة من الأفراد يعتمدون على كسب عملهم، من أخطار معينة، كالمرض والشيخوخة والبطالة والعجز، وهذا في الغالب يكون إجبارياً، ومنه التأمينات الاجتماعية، والصحية والتقاعدية. موقف الفقه الإسلامي من التأمين: لا شك كما تبين سابقاً في جواز التأمين التعاوني في منظار الفقهاء المسلمين المعاصرين؛ لأنه يدخل في عقود التبرعات، ومن قبيل التعاون المطلوب شرعاً على البر والخير؛ لأن كل مشترك يدفع اشتراكه بطيب نفس، لتخفيف آثار المخاطر وترميم الأضرار التي تصيب أحد المشتركين، أياً كان نوع الضرر، سواء في التأمين على الحياة، أو الحوادث الجسدية، أو على الأشياء بسبب الحريق أو السرقة أو موت الحيوان، أو ضد المسؤولية من حوادث السير، أو حوادث العمل، ولأنه لا يستهدف تحقيق الأرباح. وعلى هذا الأساس نشأت شركات التأمين التعاوني في السودان وغيره، ونجحت في مهامها وأعمالها، بالرغم من وصف القانونيين لها بأنها بدائية. كذلك يجوز التأمين الإجباري أو الإلزامي الذي تفرضه الدولة؛ لأنه بمثابة دفع ضريبة للدولة، كالتأمين المفروض على السيارات ضد الغير.
التأمين التجاري أو التأمين ذو القسط الثابت
ولا مانع من جواز التأمين الاجتماعي ضد طوارئ العجز والشيخوخة والمرض والبطالة والتقاعد عن العمل الوظيفي، لأن الدولة مطالبة برعاية رعاياها في مثل هذه الأحوال، ولخلوه من الربا، والغرر، والمقامرة. وقد أجاز مؤتمر علماء المسلمين الثاني في القاهرة عام (1385هـ/1965م)، ومؤتمر علماء المسلمين السابع عام (1392هـ/1972م) كلاً من التأمين الاجتماعي والتأمين التعاوني، وهو ما قرره مجمع الفقه الإسلامي في مكة المكرمة عام (1398هـ/1978م). أما التأمين التجاري أو التأمين ذو القسط الثابت: فهو غير جائز شرعاً، وهو رأي أكثر فقهاء العصر، وهو ما قرره المؤتمر العالمي الأولي للاقتصاد الإسلامي في مكة المكرمة عام (1396هـ/1976م)، وسبب عدم الجواز يكاد ينحصر في أمرين: هما الغرر والربا. أما الربا: فلا يستطيع أحد إنكاره؛ لأن عوض التأمين ناشئ من مصدر مشبوه قطعاً؛ لأن كل شركات التأمين تستثمر أموالها في الربا، وقد تعطي المستأمن (المؤمَّن له) في التأمين على الحياة جزءاً من الفائدة، والربا حرام قطعاً في الإسلام. والقائلون بجواز عقد التأمين يرفضون صراحة استثمار شركات التأمين في معاملات ربوية، ولا يقرون للمستأمن أن يقبض شيئاً من الفوائد التي تدفعها شركة التأمين. والربا واضح بين العاقدين: المؤمِّن والمستأمن، لأنه لا تعادل ولا مساواة بين أقساط التأمين وعوض التأمين، فما تدفعه الشركة قد يكون أقل أو أكثر، أو مساوياً للأقساط، وهذا نادر.
والدفع متأخر في المستقبل. فإن كان التعويض أكثر من الأقساط، كان فيه ربا فضل وربا نسيئة، وإن كان مساوياً ففيه ربا نسيئة، وكلاهما حرام. فإن قيل: إن التأمين التعاقدي قائم على أساس التعاون لجبر الضرر وترميم الأضرار والمصائب، فلا يكون فيه ربا أو شبهة ربا، أجيب بأن المستأمن يقصد أحياناً المراباة، ويبقى الربا قائماً في عوض التأمين؛ لأنه حصيلة الفوائد والمعاملات الربوية. أما الغرر: فواضح في التأمين؛ لأنه من عقود الغرر: وهي العقود الاحتمالية المترددة بين وجود المعقود عليه وعدمه، وقد ثبت في السنة حديث صحيح، رواه الثقات عن جمع من الصحابة: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر» (¬1). ويقاس على البيع عقود المعاوضات المالية، فيؤثر الغرر فيها، كما يؤثر في عقد البيع. وعقد التأمين مع الشركات من عقود المعاوضات المالية، لا التبرعات، فيؤثر فيه الغرر، كما يؤثر في سائر عقود المعاوضات المالية، وقد وضعه رجال القانون تحت عنوان (عقود الغرر) لأن التأمين لا يكون إلا من حادث مستقبل غير محقق الوقوع، أو غير معروف وقوعه، فالغرر عنصر لازم لعقد التأمين. والغرر في التأمين في الواقع كثير، لا يسير، ولا متوسط؛ لأن من أركان التأمين: الخطر، والخطر حادث محتمل لا يتوقف على إرادة العاقدين. والمؤمَّن له لا يستطيع أن يعرف وقت العقد مقدار ما يعطي، أو يأخذ، فقد يدفع قسطاً واحداً، ويقع الخطر، فيستحق جميع ما التزم به المؤمِّن، وقد يدفع جميع الأقساط، ولا يقع الخطر، فلا يأخذ شيئاً. ¬
وكذلك حال المؤمِّن، لا يعرف عند العقد مقدار ما يأخذ، أو ما يعطي، وإن كان يستطيع إلى حد كبير معرفة كل ذلك بالنسبة لجميع المؤمن لهم، بالاستعانة بقواعد الإحصاء الدقيق وبحث الأحوال الاجتماعية لشخص المستأمن وظروفه وأوضاعه. وما قد يقال من اعتماد شركة التأمين على حسابات دقيقة تنتفي معها صفة الاحتمال والغرر والغبن في الظروف العادية، لا يبيح التأمين؛ لأن انتفاء الغرر بالنسبة للمؤمِّن وحده لا يكفي لانتفاء الغرر عن عقد التأمين، فلا بد من انتفائه بالنسبة للمستأمن أيضاً. والفقه الإسلامي لا ينظر إلى مجموع العقود التي تبرمها شركات التأمين، وإنما ينظر في الحكم على العقد صحة وفساداً إلى كل عقد على حدة. والقول بأنه لا غرر ولا احتمال بالنسبة للمستأمن؛ لأن محل العقد في التأمين هو الأمان دون توقف على الخطر، وقد حصل عليه عند دفع القسط الأول، هو قول باطل؛ لأن الأمان هو الباعث على عقد التأمين. وليس هو محل العقد، ومحل العقد: هو ما يدفعه كل من العاقدين: المؤمن والمستأمن، أو ما يدفعه أحدهما. ولو قلنا: إن الأمان هو المحل، لكان عقد التأمين باطلاً؛ لأن المحل يلزم أن يكون ممكناً غير مستحيل، والأمان يستحيل الالتزام به. ومحل عقد المعاوضة، كما تدل الأحاديث الناهية عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، وتأمن العاهة، يجب أن يكون موجوداً وقت التعاقد، وأن يكون في حال يمكن معها الانتفاع منه على الوجه المقصود في العقد أو المعتاد، فإن لم يكن كذلك أو كان معدوماً، ولو محتمل الوجود في المستقبل، فلا يجوز شرعاً، ومحل التأمين احتمالي الوجود؛ إذ هو ما يدفعه كلا العاقدين، أو ما يدفعه أحدهما
كالتعويض الذي يدفعه المؤمن (شركات التأمين) حين وقوع الضرر أو الموت بحسب شروط العقد. والحاجة التي من أجلها يجوز العقد المشتمل على الغرر، ولو كان كثيراً: (وهي أن يصل المرء إلى حالة بحيث لولم يتناول الممنوع يكون في جهد ومشقة، ولكنه لايهلك) يشترط فيها أن تكون عامة أو خاصةبفئة معينة، وأن تكون متعينة. أما الحاجة العامة: فهي ما يكون الاحتياج فيها شاملاً لجميع الناس. وأما الحاجة الخاصة: فهي ما يكون الاحتياج فيها خاصاً بطائفة من الناس كأهل بلد أو حرفة كما تقدم. ومعنى كون الحاجة متعينة: أن تنسد جميع الطرق المشروعة للوصول إلى الغرض، سوى ذلك العقد الذي فيه الغرر. ولو سلمنا بوجود الحاجة للتأمين في الوقت الحاضر، فإن الحاجة إلىه غير متعينة؛ إذ يمكن تحقيق الهدف منه بطريق التأمين التعاوني القائم على التبرع، وإلغاء الوسيط المستغل لحاجة الناس، والذي يسعى إلى الربح، وهو شركة الضمان، فيكون التأمين عقد معاوضة مشتملاً على غرر كثير من غير حاجة متعينة في الإسلام، فيمنع. وإذا سلَّمنا بكون الحاجة متعينة، جاز التأمين بالقدر الذي يزيل الحاجة فقط، عملاً بالقاعدة الشرعية: (الحاجة تقدر بقدرها). ومما يدل على فساد التأمين: أن الغرر المفسد للعقد يشترط فيه أن يكون المعقود عليه أصالة، وهذا متحقق في عقد التأمين التجاري.
ويفهم من اشتمال التأمين على الغرر اشتماله أيضاً على الجهالة، والجهالة في البدلين بارزة في التأمين، وهي جهالة مقدار ما يدفعه كل من طرفي العقد (المؤمِّن والمستأمن) للآخر، وهو قابل للكثرة والقلة، بل إن ما يدفعه المؤمن بدلاً أو عوضاً عن الضرر أو الهلاك على خطر الوجود، والخطر الذي هو مسوغ العقد قد يقع وقد لا يقع، وكل هذا يجعل الجهالة فاحشة كثيرة تؤدي إلى إبطال العقد. ويكون عقد التأمين ممنوعاً شرعاً لاشتماله على فاحش الغرر والجهالة. ولايؤبه بالعلم بمبلغ كل قسط عند حلول ميعاده، فهو صحيح أنه مبلغ معلوم، لكن كمية الأقساط هي التي فيها الجهالة، ورضا المؤمن بدفع التعويض عند وفاة المستأمن أو حدوث حادث له، ضمن مدة محددة بالعقد، مهما بلغ عدد الأقساط قلة وكثرة، لا قيمة له؛ لأنه رضا مخالف لقواعد الشرع ونصوصه المانعة من الغرر، كالرضا في القمار أو الزنى لا يحل واحداً منهما. وكون الجهالة فاحشة فإنها توثر في العقد وتبطله، ولو لم تفض إلى المنازعة، أما الجهالة اليسيرة غير المفضية إلى النزاع فهي المغتفرة. والجهالة في التأمين أفحش مما صوره الفقهاء للجهالة الفاحشة المفضية إلى النزاع وإفساد عقد البيع مثلاً، كبيع الفجل والجزر في الأرض، فهذان موجودان في الأرض، ولكنهما مجهولان على طريق الظهور والعلم، أما في التأمين فبدل الهلاك أو عوض التأمين مرجوح الوجود، قد يحدث وقد لا يحدث، وهذا احتمال يضعف مشروعية العقد. لكل ما سبق وغيره من الموانع لا يحل للتاجر وغيره من المستأمنين أخذ بدل الهالك من مال (السوكرة) أو التأمين؛ لأنه مال لا يلزم من التزم به، كما قال ابن عابدين: ولأن اشتراط الضمان على الأمين باطل كما قرر فقهاء الحنفية.
يشتمل التأمين ذي القسط الثابت على خمسة أسباب تجعله حراما
والخلاصة: يشتمل التأمين ذي القسط الثابت على خمسة أسباب تجعله حراما ً (¬1): 1ً - الربا: ففي عوض التأمين زيادة على الأقساط المدفوعة بلا عوض، وهو ربا، وتستثمر شركات التأمين أموالها في أنشطة ربوية، وتحتسب فائدة على المستأمن إذا تأخر في سداد الأقساط المستحقة. 2ً - الغرر: إن مقابل التأمين يكون على أمر احتمالي غير ثابت ولا محقق الوجود وهذا غرر. وقد تغرم شركات التأمين مبلغاً كبيراً دون مقابل، بناء على الغرر. 3ً - الغبن: يشتمل التأمين على غبن لعدم وضوح محل العقد، والعلم بالمحل شرط لصحة العقد. 4ً - القمار: في التأمين مخاطرة لتعريض النفس والمال لفرصة مجهولة، وهذا هو القمار بعينه، والمستأمن يبذل اليسير من المال في انتظار أخذ مبلغ كبير، وهذا قمار. 5ً - الجهالة: ما يدفعه المستأمن مجهول القدر لكل من العاقدين كما هو واضح في التأمين على الحياة، ويتعامل العاقدان بموجب عقد لا يعرف ما يحققه من الربح أو الخسارة. إعادة التأمين أو التأمين المركَّب: إن مبدأ التعاون في التأمين يتحقق بتجزئة المصائب وتوزيع نتائجها على أكبر عدد ممكن، فبقدر ما يزداد عدد المستأمنين تزداد تجزئة الأضرار وتوزيعها، فهي ¬
إعادة التأمين أو التأمين المركب
عملية تفتيت وتشتيت للأضرار المؤمن منها، ولهذا التشتيت وسائل كثيرة، منها ما يسمى ب إعادة التأمين أو التأمين المركب، حيث تلجأ شركة التأمين نفسها إلى التأمين مما يلحقها من تعويضات لدى شركات عالمية كبرى. وإعادة التأمين له حكم أصل التأمين، فيجوز لشركات التأمين التعاوني التأمين لدى شركات تعاونية أخرى. أما إعادة التأمين التجاري فتطبق عليه أحكام التأمين التجاري ذاته، فهو عقد تأمين تجاري يكون المستأمن فيه شركات التأمين بدلاً من الأفراد. وضوابط الغرر المؤثر والمفسد للعقد (وهي كون الغرر في عقد معاوضة، وكونه كثيراً، وكونه المعقود عليه أصالة، وألا تدعو إلى العقد حاجة) تقضي بمنع إعادة التأمين، إلا إذا دعت إليه الحاجة المتعينة، كما ذكرت هيئة الرقابة الشرعية لبنك فيصل الإسلامي في السودان في الفتوى رقم (16 و 17)، أي هل تكون شركات التأمين في مشقة وحرج إذا لم تتعامل مع شركات إعادة التأمين؟. ترى هذه الهيئة وأؤيدها في فتواها جواز إعادة التأمين، لوجود الحاجة المتعينة كما قدر خبراء البنك بالشروط التالية التي سموها بالملحوظات والتحفظات: 1 - أن يقلل ما يدفع لشركة إعادة التأمين إلى أدنى حد ممكن (وهو القدر الذي يزيل الحاجة) عملاً بقاعدة (الحاجة تقدر بقدرها). وتقدير ما يزيل الحاجة متروك لخبراء البنك. 2 - ألا تتقاضى شركة التأمين التعاوني عمولة أرباح، ولا أية عمولة أخرى من شركة إعادة التأمين.
التأمينات الاجتماعية
3 - ألا تحتفظ شركة التأمين التعاوني بأي احتياطات عن الأخطار السماوية؛ لأن حفظها يترتب عليه دفع فائدة ربوية لشركة إعادة التأمين. 4 - ألا تدخل شركة التأمين التعاوني في طريقة استثمار شركة إعادة التأمين لأقساط إعادة التأمين المدفوعة لها، وألا تطالب بنصيب في عائد استثماراتها، وألا تسأل عن الخسارة التي تتعرض لها. 5 - أن يكون الاتفاق مع شركة إعادة التأمين لأقصر مدة ممكنة. 6 - أن تعمل شركة التأمين التعاوني على إنشاء شركة إعادة تأمين تعاوني، تغنيه عن التعامل مع شركات إعادة التأمين التجاري. هذا ما أدين الله عليه، وما أزال أستغرب وأستهجن كلام القائلين بمشروعية التأمين التجاري، ولم أجد حاجة لتفنيد أدلتهم، فقد كثر الرد عليها في المجلات والمؤلفات والبحوث والمؤتمرات، بدءاً من أسبوع الفقه الإسلامي بدمشق من 1 - 6 نيسان (1961م)، وانتهاء بقرار مجمع الفقه الإسلامي في دورته الأولى المنعقدة في شعبان (1398هـ) بمكة المكرمة، بمقر رابطة العالم الإسلامي. ومن أراد الطمأنينة القلبية لحرمة التأمين وإبطال حجج القائلين بالجواز، فليرجع إلى بحوث الأسبوع المذكور في دمشق وإلى قرار هذا المجمع، والله يهدينا إلى سواء السبيل. التأمينات الاجتماعية: إن التأمينات الاجتماعية التي تدفعها الدولة أو صندوق المعاشات والتأمين أو مصلحة التأمينات للعمال والعاملين والموظفين في الدولة كلها في تقديري جائزة؛ لأن الدولة ملزمة برعاية مواطنيها في حال العجز والشيخوخة والمرض ونحو ذلك من إعاقة العمل أو الكسب، ولا ينظر إلى الضريبة التي تقتطعها الدولة من الراتب الشهري، أو التي يدفعها شهرياً أرباب العمل لمصلحة التأمينات الاجتماعية، أو المبلغ الذي يدفعه العامل أو الموظف
4 - بيع النجس والمتنجس
باختياره في حدود نسبة مئوية كل سنة، ليحصل على تعويض إجمالي عند الإحالة على التقاعد أو المعاش، فكل هذه المدفوعات لا ينظر إليها نظرة ربوية، وإن أخذ الموظف أو العامل أكثر مما دفع؛ لأن المدفوع في الحقيقة يعد تبرعاً أو هبة مبتدأة وتعاوناً من قبل المشتركين في الصندوق التقاعدي أو التأمينات الاجتماعية، والتي هي إحدى مؤسسات الدولة. 4 - بيع النجس والمتنجس: قال الحنفية: لا ينعقد بيع الخمر والخنزير والميتة والدم؛ لأنها ليست بمال أصلاً. ويكره بيع العَذِرة، ولا بأس ببيع السرقين أو السرجين: وهو (الزبل) وبيع البعر، لأنه منتفع به، لأنه يلقى في الأرض لاستكثار الريع، فكان مالاً، والمال محل للبيع بخلاف العذرة، لأنه لا ينتفع بها إلا مخلوطة، ويجوز بيع المخلوط كالزيت الذي خالطته النجاسة. ويصح عندهم بيع كل ذي ناب من السباع، كالكلب والفهد والأسد والنمر والذئب والهر ونحوهما؛ لأن الكلب ونحوه مال، بدليل أنه منتفع به حقيقة، مباح الانتفاع به شرعاً على الإطلاق كالحراسة والاصطياد، فكان مالاً. ويصح بيع الحشرات والهوام كالحيات والعقارب إذا كان ينتفع به. ويصح بيع المتنجس والانتفاع به في غير الأكل كالدبغ والدهان والاستضاءة به في غير المسجد، ما عدا دهن الميتة، فإنه لا يحل الانتفاع به. والضابط عندهم: أن كل ما فيه منفعة تحل شرعاً، فإن بيعه يجوز (¬1)، لأن الأعيان خلقت لمنفعة الإنسان، بدليل قوله تعالى: {خلق لكم ما في الأرض جميعاً} [البقرة:29/ 2]. ¬
وقال المالكية: لا ينعقد بيع الخمر والخنزير والميتة لحديث جابر، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله ورسوله حرما بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة، فإنه يطلى بها السفن، وتدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال: لا، هو حرام، ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: قاتل الله اليهود إن الله تعالى لما حرم عليهم شحومها جملوه ـ أذابوه ـ ثم باعوه فأكلوا ثمنه» (¬1) وقال في الخمر: «إن الذي حرم شربها حرم بيعها» (¬2). ولا ينعقد بيع الكلب مع كونه طاهراً، سواء أكان كلب صيد أم حراسة، لأنه نهي عن بيعه، ففي الحديث: «نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن» (¬3). وقال سحنون: أبيعه وأحج بثمنه. ولا ينعقد بيع المتنجس الذي لا يمكن تطهيره، كزيت وعسل وسمن وقعت فيه نجاسة. أما المتنجس الذي يمكن تطهيره، كثوب، فإنه يجوز بيعه. ولا ينعقد أيضاً بيع ما نجاسته أصلية كزبل ما لا يؤكل لحمه، وكعذرة وعظم ميتة، وجلدها، ويصح بيع روث البقر وبعر الغنم والإبل ونحوها للحاجة إليها لتسميد الأرض وغيره من ضروب الانتفاع (¬4). ¬
وقال الشافعية والحنابلة: لا يجوز بيع الخنزير والميتة والدم والخمر، وما أشبه ذلك من النجاسات، لقول الرسول صلّى الله عليه وسلم: «إن الله ورسوله حرم (¬1) بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام» ولأنه يجب اجتناب النجس وعدم الاقتراب، والبيع وسيلة إلى الاقتراب (¬2). ولا يجوز بيع الكلب ولو كان معلَّماً للنهي الوارد فيه في الحديث السابق: «نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب .. ». ولا يصح بيع ما لا منفعة فيه كالحشرات وسباع البهائم التي لا تصلح للاصطياد، كالأسد والذئب، والطيور التي لا تؤكل، ولا تصطاد، كالرخمة والحدأة والغراب؛ لأن ما لا منفعة فيه لا قيمة له، فأخذ العوض عنه من أكل المال بالباطل، وبذل العوض فيه من السفه. ولا يجوز بيع المتنجس الذي لا يمكن تطهيره من النجاسة كالخل والدبس، ولكن يصح بيع المتنجس الذي يمكن تطهيره كالثوب ونحوه. ولا يجوز بيع السرجين ونحوه من النجاسات (¬3)، إلا أن الحنابلة أجازوا بيع السرجين الطاهر كروث الحمام وكل ما يؤكل لحمه. والخلاصة: أن فقهاء الحنفية والظاهرية يجيزون بيع النجاسات للانتفاع بها إلا ما ورد النهي عن بيعه منها؛ لأن جواز البيع يتبع الانتفاع، فكل ما كان منتفعاً به ¬
5 - بيع العربون
جاز بيعه عندهم. وأما فقهاء المالكية والشافعية والمشهور عند الحنابلة: فلا يجيزون بيع النجاسات؛ لأن جواز البيع يتبع الطهارة، فكل ما كان طاهراً، أي مالاً يباح الانتفاع به شرعاً يجوز بيعه عندهم. 5 - بيع العربون: في العربون ست لغات أفصحها فتح العين والراء، وضم العين وإسكان الراء. وعربان بالضم والإسكان، وهو أعجمي معرب، وأصله في اللغة: التسليف والتقديم. وبيع العربون: هو أن يشتري الرجل شيئاً، فيدفع إلى البائع من ثمن المبيع درهماً، أو غيره مثلاً، على أنه إن نفذ البيع بينهما احتسب المدفوع من الثمن، وإن لم ينفذ، يجعل هبة من المشتري للبائع (¬1). فهو بيع يثبت فيه الخيار للمشتري: إن أمضى البيع كان العربون جزءاً من الثمن، وإن رد البيع فقد العربون، ومدة الخيار غير محددة بزمن، وأما البائع فإن البيع لازم له. قال بعض الحنابلة (¬2): لابد أن تقيَّد فترة الانتظار بزمن محدد وإلا فإلى متى ينتظر البائع؟ واختلف فيه العلماء، فقال الجمهور: إنه بيع ممنوع غير صحيح، فاسد عند الحنفية، باطل عند غيرهم؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيع العربان (¬3) ولأنه من باب ¬
الغرر والمخاطرة وأكل المال بغير عوض، ولأن فيه شرطين فاسدين: أحدهما ـ شرط الهبة، والثاني ـ شرط الرد على تقدير ألا يرضى، ولأنه شرط للبائع شيئاً بغير عوض، فلم يصح، كما لو شرطه لأجنبي، ولأنه بمنزلة الخيار المجهول، فإنه اشترط أن يكون له رد المبيع من غير ذكر مدة، فلم يصح، كما لو قال: ولي الخيار متى شئت رددت السلعة ومعها درهماً. وهذا هو مقتضى القياس (¬1). وقال أحمد بن حنبل: لا بأس به ودليله ما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه من حديث زيد بن أسلم أنه «سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن العربان في البيع فأحله» (¬2) وما روي فيه عن نافع بن عبد الحارث: «أنه اشترى لعمر دار السجن من صفوان بن أمية بأربعة آلاف درهم، فإن رضي عمر، كان البيع نافذاً، وإن لم يرض فلصفوان أربع مئة درهم». وضعف أحمد الحديث المروي في بيع العربان، وقد أصبحت طريقة البيع بالعربون في عصرنا الحاضر أساساً للارتباط في التعامل التجاري الذي يتضمن التعهد بتعويض ضرر الغير عن التعطل والانتظار (¬3). وفي تقديري أنه يصح ويحل بيع العربون وأخذه عملاً بالعرف؛ لأن الأحاديث الواردة في شأنه عند الفريقين لم تصح. وهذا هو قرار مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثامنة في بروني في غرة المحرم 1414هـ. ¬
6 - بيع الماء
6 - بيع الماء: عرفنا سابقاً أنه يشترط في المعقود عليه كونه مالاً محرزاً، أي مملوكاً لواحد من الناس، فلا ينعقد بيع شيء غير محرز كالماء والهواء والتراب، فما المقصود بالماء، وما مذاهب العلماء في تملكه وبيعه؟ قال الحنفية: المياه أربعة أنواع (¬1): الأول - ماء البحار: وهو مشاع لجميع الناس، ولكل إنسان حق الانتفاع به على أي وجه شاء كالانتفاع بالشمس والقمر والهواء، فله أن ينتفع به لحوائجه الخاصة ولسقاية أراضيه، أي أن له ما يسمى بحق الشَفة وحق الشِّرب (¬2) أو سقي الأراضي الزراعية والأشجار. الثاني ـ ماء الأودية العظام، مثل أنهار دجلة والفرات والنيل وبردى والعاصي وسيحون وجيحون ونحوها من الأنهار العامة. وللناس فيها حق الشفة مطلقاً، وحق سقي الأراضي إن لم يضر السقي بمصلحة الجماعة، فإن أضر بهم فلا يجوز السقي؛ لأن دفع الضرر العام واجب، ويجوز أيضاً تركيب المطاحن المائية على هذه الأنهار إن لم يكن هناك ضرر عام. الثالث ـ الماء المملوك لجماعة مخصوصة كأهل قرية تختص بنهر صغير أو عين ماء أو بئر. ومنه الماء المأخوذ من الأنهار العامة الذي يجري في المقاسم، أي المجاري المملوكة بشق الجداول ونحوها. ويثبت فيه لكل إنسان حق الشفة فقط ¬
الرابع ـ الماء المحرز في الأواني
للضرورة المقتضية إباحته لاحتياج الناس إلىه، ولعدم إمكان استصحاب الماء إلى كل مكان. الرابع ـ الماء المحرز في الأواني، وهو مملوك لمن أحرزه، ولا حق فيه لأحد غير صاحبه، ولا يجوز الانتفاع به إلا بإذن مالكه. يظهر من هذا أن الماء بالنسبة للتملك والبيع إما مباح، أو غير مباح، والمباح حق للجميع لقوله صلّى الله عليه وسلم: «المسلمون شركاء في ثلاث: الماء، والكلأ، والنار» (¬1) والمقصود بالمباح: ما يشمل النوعين الأولين، وهو ما لا يختص به أحد من الناس. وغير المباح أو المملوك: هو ما يدخل تحت الملكية سواء أكانت لفرد أم لجماعة، ويشمل النوعين الآخرين. وهذا هو المعنى المقصود أيضاً عند المالكية والشافعية والحنابلة (¬2) وقد يسمى هذان النوعان: الماء الخاص والماء العام. فالأول: هو الماء المتملك في الأرض المملوكة كالبئر والعين. والثاني: هو غير المتملك في أرض غير مملوكة كالأنهار والعيون. حكم بيع الماء: اتفق العلماء على أنه يستحب بذل الماء بغير ثمن حتى ولو كان مملوكاً ولا يجبر المالك على بذل الماء، إلا في حال الضرورة بأن يكون قوم اشتد بهم العطش، فخافوا الموت، فيجب عليه سقيهم، فإن منعهم، فلهم أن يقاتلوه عليه. ¬
أولا ـ قال جمهور العلماء
ولكن الحنفية فصلوا فيما يباح به القتال فقالوا: يجوز للمضطر أن يقاتل بالسلاح مالك الماء في الحوض أو البئر أو النهر الذي في ملكه لأنه قصد إتلافه بمنع حقه وهو الشفة، والماء في البئر مباح غير مملوك. أما إن كان الماء محرزاً في الأواني، فيقاتل المضطر بغير السلاح، ويضمن له ما أخذ كما في حال أخذ الطعام عند المخمصة، لأن حل الأخذ للاضطرار لا ينافي الضمان. هذا إذا كان الماء فاضلاً عن حاجة مالكه بأن كان يكفي لدفع الرمق لكل منهما، وإلا وجب تركه لمالكه (¬1). أما بيع الماء فللعلماء فيه رأيان مشهوران: رأي الجمهور، ورأي الظاهرية. أولاً ـ قال جمهور العلماء (¬2): يجوز بيع غير المباح للناس جميعاً كماء البئر والعين والمحرز في الأواني ونحوها، ولصاحبه أن ينتفع به لنفسه، ويمنع غيره من الانتفاع. فله أن يمنع صاحب الحق في الشفة من الدخول في ملكه إذا كان يجد ماء بقربه، فإن لم يجد، يقال لصاحب البئر ونحوه: إما أن تخرج الماء إليه، أو تتركه ليأخذ الماء. واستدلوا على الجواز بدليلين: 1 - ثبت في الحديث الصحيح أن عثمان بن عفان رضي الله عنه اشترى بئر رُومة من اليهودي في المدينة، وسبّلها أو حبسها على المسلمين، وذلك بعد أن سمع النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: «من يشتري بئر رومة، فيوسع بها على المسلمين وله الجنة» وكان اليهودي يبيع ماءها للناس. فهذا الحديث كما يدل على جواز بيع البئر ¬
ثانيا ـ قال الظاهرية
نفسها، وكذلك العين بالقياس عليها، يدل على جواز بيع الماء، لتقريره صلّى الله عليه وسلم اليهودي على البيع. ونوقش هذا بأنه كان في صدر الإسلام وكانت شوكة اليهود في ذلك الوقت قوية، والنبي صلّى الله عليه وسلم صالحهم في مبدأ الأمر على ما كانوا عليه، ثم استقرت أحكام الشريعة، التي شرع فيها للأمة تحريم بيع الماء. ثم إن الماء هنا داخل في البيع تبعاً لبيع البئر، وهذا لا خلاف فيه (¬1). 2 - يقاس بيع الماء المباح على بيع الحطب بعد إحرازه، فإن النبي صلّى الله عليه وسلم أقر بيعه بقوله: «لأن يأخذ أحدكم حبله، ثم يغدو إلى الجبل، فيحتطب، فيبيع، فيأكل، ويتصدق، خير له من أن يسأل الناس» (¬2) ونوقش ذلك بأن تخصيص النص بالقياس مختلف فيه بين علماء الأصول، وبأن هذا القياس يقتضي جواز بيع الماء المحرز فقط، دون ماء البئر ونحوه. ثانياً ـ قال الظاهرية (¬3): لا يحل بيع الماء مطلقاً، لا في ساقية ولا في نهر، ولا في عين، ولا في بئر، ولا في صهريج، ولا مجموعاً في قربة ولا في إناء، إلا أن تباع البئر كلها أو جزء مسمى منها، فيجوز البيع حينئذ، ويدخل الماء تبعاً للمبيع الأصلي. وقال أحمد في رواية عنه: لا يعجبني بيع الماء البتة. واحتج هؤلاء على المنع بما يأتي: ¬
المطلب الثاني ـ أنواع البيع الفاسد
1 - ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يباع فضل الماء ليباع به الكلأ» (¬1) فهذا النفي يدل على النهي عن بيع الماء الزائد عن الحاجة. ونوقش ذلك بأن النهي قد ورد على حالة خاصة: وهي أن يقصد ببيع الماء حماية الكلأ الذي حوله ويحتاج إلىه الرعاء لرعي مواشيهم له. 2 - صح أن النبي صلّى الله عليه وسلم «نهى عن بيع فضل الماء» (¬2) هذا الحديث صريح بتحريم بيع فضل الماء وهو الفاضل عن كفاية صاحبه، سواء أكان في أرض مباحة، أم في أرض مملوكة، وسواء أكان للشرب أم لغيره. ونوقش ذلك بأنه معارض بحديث بئر رومة السابق ذكره، أو بأنه محمول على حالة خاصة كما ذكر. وإني أرى أن النهي عن بيع فضل الماء يقصد به الماء الكثير كماء الآبار والعيون والأمطار التي تجتمع في أرض مملوكة، ويكون منعها عبثاً لا معنى له (¬3). المطلب الثاني ـ أنواع البيع الفاسد البيع الفاسد في اصطلاح الحنفية كما تقدم: ما كان مشروعاً بأصله لا بوصفه ويفيد الملك بالقبض. وعند غير الحنفية: البيع إما صحيح أو باطل، وغير الصحيح لا يفيد الملك أصلاً. وسأذكر هنا أمثلة من أنواع البيوع الفاسدة عند الحنفية، مع الإشارة إلى حكمها عند غيرهم. ¬
1 - بيع المجهول
1 - بيع المجهول: قال الحنفية: إذا كان المبيع أو الثمن مجهولاً جهالة فاحشة وهي التي تفضي إلى المنازعة، فسد البيع؛ لأن هذه الجهالة مانعة من التسليم والتسلم، فلا يحصل مقصود البيع. فإن كان مجهولاً جهالة يسيرة وهي التي لا تؤدي إلى المنازعة، لا يفسد البيع؛ لأن هذه الجهالة لا تمنع من التسليم والتسلم، فيحصل مقصود البيع. والعرف هو المحكم في بيان نوع الجهالة: يسيرة أو فاحشة. فإذا لم يبين مثلا ً جنس الحيوان أو لم يبين «ماركة» المذياع أو آلة التصوير، يعد المبيع مجهولاً جهالة فاحشة تمنع من صحة العقد على بيعه، إذ تؤدي حتماً إلى نزاع شديد بين المتعاقدين (¬1). ومن الجهالة اليسيرة: أن يبيع شخص قفيزاً (¬2) من صُبرة معينة بدراهم، أو عِدلاً من الثياب بكذا، ولا يعرف عددها، أو هذه الصبرة بكذا، ولا يعلم عدد القفزان: جاز البيع (¬3) لزوال الغرر، ولأن الجهالة مغتفرة لا تفضي إلى المنازعة عادة. ومثله أن يبيع أحد الشيئين أو الثلاثة دون ما زاد عليها، مع اشتراط المشتري الخيار لنفسه بين أن يأخذ واحداً ويرد الباقي، وهو المعروف بخيار التعيين، يصح البيع استحساناً، والقياس أن يفسد البيع وهو قول زفر. ¬
وجه القياس: هو أن المبيع مجهول، لأنه باع أحد الشيئين، وهو غير معلوم، فكان المبيع مجهولاً، فيمنع صحة المبيع، كما لو باع أحد الأثواب الأربعة، وذكر الخيار، وعليه فلا يجيز زفر خيار التعيين. وأما وجه الاستحسان فهو: أولاً ـ القياس على مشروعية خيار الشرط، والجامع بينهما مساس الحاجة إلى دفع الغبن، وكل واحد من الخيارين طريق إلى دفع الغبن، فورود الشرع في خيار الشرط يكون وروداً ههنا، والحاجة تتحقق بالتحري في ثلاثة أشياء، لاقتصار الأشياء في العادة على الجيد والوسط والرديء، فيبقى الحكم في الزيادة مردوداً إلى أصل القياس وهو أن يكون المبيع معلوماً، وعليه يكون بيع واحد من أربعة مثلاً مع الخيار فاسداً، لعدم حاجة الناس إلى تشريعه باعتبار أن أصناف الأشياء إجمالاً تتراوح بين جيد ووسط ورديء. وثانياً ـ لأن الناس تعاملوا هذا البيع لحاجتهم إليه، فإن كل أحد لا يمكن أن يدخل السوق، فيشتري ما يحتاج إليه، وعلى التخصيص الأكابر (أي كبار السن) والنساء، فيحتاج الواحد من هؤلاء إلى أن يكلف غيره بشراء شيء، ولا تتحقق حاجته بشراء شيء واحد من جنس ما؛ لأنه قد لا يوافق حاجته أو رغبته، فيحتاج إلى أن يشتري أحد اثنين من الجنس، فيحملهما الشخص إلى من كلفه بالشراء، فيختار أيهما شاء، بالثمن المذكور، ويرد الباقي، فجاز الشراء لتعامل الناس، ولاتعامل فيما زاد على الأشياء الثلاثة، فيبقى الحكم فيه على أصل القياس (¬1). ويلاحظ أن الأصح عند الحنفية في هذه الحالة عدم اشتراط تعيين مدة للخيار، كما في المدة المشترطة في خيار الشرط وهي: (ثلاثة أيام فما دونها عند ¬
الجهالة الفاحشة
أبي حنيفة. وعند الصاحبين: ثلاثة أيام وما زاد عليها بعد أن يكون الوقت معلوماً) فيصح البيع من غير ذكر المدة. وقال بعض الحنفية: لا يجوز هذا البيع إلا بذكر مدة خيار الشرط؛ لأن المبيع لو كان شيئاً واحداً معيناً، وفيه خيار شرط، فإن بيان المدة شرط لصحة البيع، فكذا إذا كان واحداً غير معين. والجامع بينهما: أن ترك التوقيت تجهيل لمدة الخيار، وأنه مفسد للبيع. واستدل الأولون: بأن هناك فرقاً بين خيار الشرط وخيار التعيين: وهو أن خيار الشرط يمنع ثبوت حكم البيع، وهو نقل الملكية في مدة الخيار، فكان توقيت المدة أمراً ضرورياً في حدود الحاجة إلى دفع الغبن بالتأمل في صلاحية المبيع. أما خيار التعيين فلا يمنع ثبوت حكم البيع بل يثبت الحكم في أحد الشيئين غير معين، وإنما يمنع تعين المبيع فقط، فلا يشترط له بيان المدة. ومن الجهالة الفاحشة أن يبيع إنسان أحد الأشياء الأربعة، أو شاة من قطيع على أنه بالخيار بين أن يأخذ واحداً منها ويرد الباقي، وكذا إذا اشترى أحد الأشياء الثلاثة أو أحد الشيئين، ولم يذكر فيه الخيار، فلا يجوز بيع ثوب من ثوبين، أو من أثواب ثلاثة مثلاً، ويكون البيع فاسداً لجهالة المبيع، وهي جهالة تفضي إلى المنازعة؛ لأن البائع يريد إعطاء الرديء، والمشتري يريد أخذ الجيد بحجة عدم التعيين (¬1). وفي الجملة: إن الجهالة الفاحشة ترجع غالباً إلى أربع جهات (¬2) ذكرتها سابقاً: ¬
الأولى ـ جهالة المبيع
الأولى ـ جهالة المبيع: جنساً أو نوعاً أو قدراً بالنسبة إلى المشتري، وقد أوردت بعض الأمثلة عليها. الثانية ـ جهالة الثمن: كما إذا باع الفرس بمئة شاة من هذا القطيع ونحوه فيكون العقد فاسداً لجهالة الثمن. وكذا إذا باع هذا الثوب بقيمته، يكون البيع فاسداً، لأنه جعل ثمنه قيمته، والقيمة تختلف باختلاف تقويم المقومين، فكان الثمن مجهولاً. وكذا لو اشترى شخص بحكم البائع أو المشتري أو بحكم فلان، يكون البيع فاسداً، لأنه لا يدري بماذا يحكم فلان، فكان الثمن مجهولاً. وإذا قال: (بعتك هذا بقفيز حنطة أو بقفيزي شعير) يكون البيع فاسداً؛ لأن الثمن مجهول. وقيل: إنه البيعان في بيع، وقد نهى الرسول صلّى الله عليه وسلم عن البيعتين في بيعة (¬1). وإذا قال: (إن أخذته حالاً بخمسة وإن أخذته مؤجلاً بسبعة) فالبيع فاسد، لأنه لم يستقر الثمن على شيء، هل حالاً أو مؤجلاً؟ فلو رفع الإبهام وقبل على إحدى الصورتين، صح. وكذا البيع برأس المال المجهول أو بالرقم (¬2) (بسكون القاف) دون أن يعلم ¬
المشتري رقمه ولا رأس ماله فالبيع فاسد، فإن علم المشتري رأس ماله أو رقمه في مجلس البيع، فإنه يعود جائزاً استحساناً؛ لأن المانع من الجواز هو الجهالة عند العقد وقد زالت في المجلس، ولما كان للمجلس حكم حالة العقد، فقد صار كأنه كان معلوماً عند العقد، فإذا لم يعلم حتى تفرقا تقرر الفساد (¬1). وقال زفر: إذا وقع العقد فاسداً من حين وجوده لايحتمل الجواز بحال، لاستحالة انقلاب الفاسد جائزاً عنده (¬2). وهذا متفق عليه بين المذاهب لجهالة الثمن، فإن علم الثمن فلابأس اتفاقاً أن يبيع بالرقم، بمعنى أن يقول: بعتك هذا الثوب برقمه، وهو الثمن المكتوب عليه، إذا كان معلوماً لهما حال العقد؛ لأنه بيع بثمن معلوم (¬3). ولايجوز البيع عند الفقهاء بما ينقطع عليه السعر في السوق، أو بما يبيع الناس أو بما يقول فلان لجهالة الثمن، وقد نقل عن الإمام أحمد جواز البيع بما ينقطع عليه السعر في المستقبل بتاريخ معين من غير تقدير الثمن أو تحديده وقت العقد، لتعارف الناس وتعاملهم به في كل زمان ومكان، وقد رجح جوازه ابن تيمية وابن القيم. والمراد به سعر السوق وقت البيع لا أي سعر في المستقبل (¬4). ¬
الثالثة ـ جهالة الأجل
الثالثة ـ جهالة الأجل: كما إذا باع إلى أجل كذا أو كذا، فيفسد البيع لأن الأجهل مجهول. وكذا الجهالة في مدة خيار الشرط تفسد البيع، ودليل الفساد: هو أن النبي صلّى الله عليه وسلم «نهى عن بيع حبل الحبلة» بحسب المعنى الذي فسره به ابن عمر راوي الحديث: وهوالبيع بثمن مؤجل إلى أن تلد الناقة مافي بطنها، ثم تلد التي ولدتها. فالنهي ورد على التأجيل إلى أجل مجهول. ولو باع إلى قدوم الحاج والحصاد والدياس أو الدراس (دوس الحب بالقدم ونحوها) والقطاف (قطاف العنب) والجزاز (جز صوف الغنم) فالبيع فاسد؛ لأن هذه الجهالة مفضية إلى النزاع بسبب تقدم هذه الأوقات وتأخرها. ولو باع شخص إلى هذه الآجال، ثم تراضى الطرفان على إسقاط الأجل قبل أن يأخذ الناس في الحصاد والدياس وقبل قدوم الحاج، جاز البيع؛ لأن الفساد للمنازعة، وقد ارتفع قبل تقرره، وهذه الجهالة ليست في صلب العقد، وإنما هي في أمر خارج: وهو الأجل (¬1). الرابعة ـ الجهالة في وسائل التوثيق: كما لو اشترط البائع تقديم كفيل أو رهن بالثمن المؤجل فيجب أن يكونا معينين، وإلا فسد البيع. هذا هو تفصيل مذهب الحنفية في بيع المجهول. وقال المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية: لا يجوز بيع عين مجهولة كسيارة من سيارات أو ثوب من ثوبين أو أثواب، ولا بيع بثمن مجهول ولا بثمن مؤجل إلى أجل مجهول ونحو ذلك، ويكون البيع حينئذ باطلاً، لوجود الغرر بسبب جهالة المبيع، وقد نهى الرسول صلّى الله عليه وسلم عن بيع الغرر. ومن هنا قرروا في ¬
2 - البيع المعلق على شرط والبيع المضاف
ويلاحظ أن البيع إلى هذه الآجال فاسد، وأما تأجيل ثمن البيع إلى هذه الآجال فهو صحيح. شروط صحة البيع أن يكون المبيع معلوماً للمتعاقدين، لا من كل وجه، بل عيناً في المعين وقدراً وصفة فيما في الذمة، وأن يكون الثمن معلوم الصفة والقدر والأجل، فلا يجوز تعليق البيع على شرط مستقبل كمجيء الشهر وقدوم الحاج، لأنه بيع غرر (¬1). إلا أن المالكية أجازوا البيع إلى الحصاد أو الجداد أو العصير أو خروج الحاج أوالنيروز والمهرجان والميلاد لأنها آجال معروفة، وأجازوا أيضاً البيع مع خيار التعيين، وسموه بيع الاختيار، لكنهم اشترطوا اتحاد جنس المبيعين وصنفهما واتحاد الثمن، فلو وجد اختلاف لم يصح البيع (¬2). الفرق بين الغرر والجهالة: الغرر أعم من الجهالة، فكل مجهول غرر، وليس كل غرر مجهولاً، فقد يوجد الغرر بدون الجهالة كما في شراء الآبق المعلوم الصفة، ولكن لا توجد الجهالة بدون الغرر (¬3). 2 - البيع المعلق على شرط والبيع المضاف: البيع المعلق على شرط أو العقد المعلق عموماً: هو ما علق وجوده على وجود أمر آخر ممكن الحصول بإحدى أدوات التعليق نحو إن وإذا ومتى ونحوها. مثاله: أن يقول شخص لآخر: بعتك داري هذه بكذا إن باع لي فلان داره، أو إن جاء والدي من السفر مثلاً. والبيع المضاف أو العقد المضاف عموماً: هو ما أضيف فيه الإيجاب إلى زمن مستقبل، كأن يقول شخص لغيره: بعتك هذه السيارة بكذا من أول الشهر القادم. ¬
حكمهما
والفرق بين هذين النوعين عند الحنفية: أن العقد المعلق لا يعد موجوداً ولاينعقد سبباً في الحال، وإنما هو معلق على وجود الشرط، والشرط قد يوجد وقد لايوجد. وأما العقد المضاف فهو عقد تام يترتب عليه حكمه وآثاره إلا أن هذه الآثار يتأخر سريانها إلى الوقت الذي عينه العاقدان لها. حكمهما: اتفق الفقهاء على عدم صحة البيع المعلق أو المضاف، لكن يسمى ذلك فاسداً في اصطلاح الحنفية، وعند غيرهم هو باطل. وعلى هذا، فلا يصح تعليق البيع ولا إضافته إلى زمن في المستقبل؛ لأنه من عقود التمليكات للحال، وهي لا تقبل الإضافة للمستقبل، كما لا تعلق بالشرط لما فيه من المقامرة، أي التعليق بالخطر. يظهر مما ذكر أن علة فساد هذين النوعين من البيوع: هو ما تشتمل عليه من الغرر، إذ لا يدري العاقدان في البيع المعلق هل يحصل الأمر المعلق عليه، أو لا يحصل، كما لا يدريان متى يحصل. وفي البيع المضاف لا يدري العاقدان كيف يكون المبيع في المستقبل، وكيف يكون رضاهما بالعقد ومصلحتهما فيه عند ترتب أثر البيع عليه (¬1). 3 - بيع العين الغائبة أو غير المرئية: العين الغائبة: هي العين المملوكة للبائع الموجودة في الواقع، ولكنها غير مرئية. ¬
قال الحنفية: يجوز بيع العين الغائبة من غير رؤية ولا وصف، فإذا رآها المشتري كان له الخيار: فإن شاء أنفذ البيع، وإن شاء رده. وكذلك المبيع على الصفة يثبت فيه خيار الرؤية، وإن جاء على الصفة التي عينها البائع كأن يشتري فرساً مجللاً «مغطى» أو متاعاً في صندوق أو مقداراً من الحنطة في هذا البيت. ودليلهم على صحة البيع في الحالتين: أنه إذا كان للمشتري خيار الرؤية، فلا غرر عليه، فلا تؤدي الجهالة إلى النزاع مطلقاً، ما دام للمشتري الخيار (¬1). واستدلوا أيضاً بحديث «من اشترى شيئاً لم يره، فهو بالخيار إذا رآه» (¬2). وقال المالكية: يجوز بيع الغائب على الصفة إذا كانت غيبته مما يؤمن أن تتغير فيه صفته قبل القبض. فإذا جاء على الصفة المذكورة كان البيع لازماً، إذ أن هذا من الغرر اليسير، والصفة تنوب عن المعاينة بسبب غيبة المبيع، أو المشقة التي تحصل في إظهاره، وما قد يلحقه من الفساد بتكرار الظهور والنشر مثلاً، بل وإن لم يكن في فتحه فساد. فإن خالف الصفة المتفق عليها فللمشتري الخيار. وكذلك أجاز المالكية في المشهور عندهم بيع الغائب بلا وصف لنوعه وجنسه في حالة معينة (¬3)، ¬
: البيع على البرنامج أو البرامج
ويسمى هذا البيع عند المالكية: البيع على البَرْنامِج أو البرامج (¬1): وهو الدفتر المكتوب فيه صفة ما في الوعاء من الثياب المبيعة، دون اطلاع البائع على الجنس والنوع. والجواز للضرورة، أي لما في حَلّ العِدْل من الحرج والمشقة على البائع، فأقيمت الصفة مقام الرؤية. وقال الشافعية في الأظهر عندهم وفي قول عند الإباضية: لا يصح مطلقاً بيع الغائب وهو ما لم يره المتعاقدان، أو أحدهما، وإن كان المبيع حاضراً، لما فيه من الغرر، وقد نهى الرسول صلّى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، وفي بيع ما لا يعرف جنسه أو نوعه غرر كبير، وكذا ما عرف جنسه أو نوعه، مثل بعتك فرسي العربي، لا يصح بيعه في المذهب الجديد لوجود الغرر فيه بسبب الجهل بصفة المبيع، كما لا يصح السلم مع جهالة صفة المسلم فيه، وقد نهى الرسول صلّى الله عليه وسلم عن بيع الغرر. وأما حديث خيار الرؤية: «من اشترى ما لم يره فهو بالخيار إذ رآه» فهو حديث ضعيف كما قال البيهقي. وقال الدارقطني عنه: إنه باطل لا يصح، لم يروه غيره (¬2). وقال الحنابلة في أظهر الروايتين عندهم: إن الغائب الذي لم يوصف ولم تتقدم رؤيته لا يصح بيعه، فإن صححناه بحسب الرواية الأخرى، فيثبت الخيار للبائع والمشتري عند الرؤية. ودليل الرواية الأولى أنه صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر. ¬
4 - بيع الأعمى وشراؤه
أما إذا وصف المبيع للمشتري فذكر له من صفاته ما يكفي في صحة السلم، فيصح بيعه في ظاهر المذهب، وعن أحمد: لا يصح حتى يراه؛ لأن الصفة لا تحصل بها معرفة المبيع، فلم يصح البيع بها كالذي لا يصح السلم فيه. استدلوا على ظاهر المذهب: بأنه بيع بالصفة فصح كالسلم، ولا يقال بأنه لا تحصل به معرفة المبيع، فإن تلك المعرفة تحصل بالصفات الظاهرة التي يختلف بها الثمن ظاهراً، وهذا يكفي بدليل أنه يكفي في السلم (¬1). والخلاصة: أن الحنفية والمالكية، والحنابلة في الأظهر، والظاهرية، والزيدية والإمامية، وفي قول عند الإباضية: يجيزون بيع العين الغائبة على الصفة (¬2). أما بيعها بغير رؤية ولا وصف فقد أجازه الحنفية. بيع ما يكمن في الأرض أو بيع ما في رؤيته مشقة أوضرر: قد تكون مع رؤية المبيع مشقة أو ضرر مثل بيع الأطعمة المحفوظة ونحوها من الأدوية والسوائل والغازات التي لا تفتح إلا عند الاستعمال، ومثل بيع المغيب في الأرض كالجزر واللفت والبطاطا، فإن الحنفية أجازوه كإجازة بيع العين الغائبة، كما أجازه المالكية؛ لأن المبيع معلوم بالعادة، والغرر فيه يسير، وأبطله الشافعية والحنابلة والظاهرية (¬3) إذ لا يمكن وصفه، فيتحقق فيه الغرر والجهالة المنهي عنهما. 4 - بيع الأعمى وشراؤه: هذا النوع مفرع على شرط رؤية المبيع على الخلاف السابق في بيع الغائب. ¬
5 - البيع بالثمن المحرم
قال الحنفية والمالكية والحنابلة: يصح بيع الأعمى وشراؤه وإجارته ورهنه وهبته، ويثبت له الخيار بما يفيد معرفته بالمبيع كالجس والشم والذوق فيما يعرف بذلك، أو بالاعتماد على أوصاف المبيع، كالوصف في الثمار على رؤوس الأشجار والدور والعقارات. ودليلهم حديث: «إنما البيع عن تراض» (¬1) وقد رضي الأعمى بالبيع، ويمكنه التعرف على المبيع بوسائل مختلفة، فأشبه بيع البصير، ولأن إشارة الأخرس تقوم مقام نطقه، فكذلك شم الأعمى وذوقه (¬2). إلا أن الحنفية والمالكية كما هو معلوم لا يثبتون خيار الرؤية للبائع سواء أكان بصيراً أم أعمى. وقال الشافعية: لا يصح بيع الأعمى وشراؤه إلا إذا كان قد رأى شيئاً قبل العمى مما لا يتغير كالحديد ونحوه، ودليلهم قصور الأعمى عن إدراك الجيد والرديء، فيكون محل العقد بالنسبة له مجهولاً (¬3). 5 - البيع بالثمن المحرّم: إذا كان البيع بثمن محرم كالخمر والخنزير: يكون فاسداً عند الحنفية لوجود حقيقة البيع: وهي مبادلة المال بالمال، فإن الخمر والخنزير مال متقوم عند بعض الكفار، وهما وإن كانا مالين عند الحنفية، إلا أنهما ليسا بمتقومين شرعاً، والقاعدة المقررة في هذا الشأن: أن أحد العوضين إذا لم يكن مالاً في دين سماوي، فالبيع باطل سواء أكان مبيعاً أم ثمناً، فبيع الميتة والدم والإنسان الحر باطل، وكذا البيع به وهو الصحيح عند الحنفية؛ لأن المسمى ثمناً ليس بمال أصلاً، وكون الثمن مالاً في الجملة شرط من شروط الانعقاد. ¬
6 - البيع نسيئة ثم الشراء نقدا ـ بيوع الآجال
وإن كان العوض في بعض الأديان مالاً دون بعض: فإن أمكن اعتباره ثمناً، فالمبيع فاسد، فبيع الثوب بالخمر أو الخمر بالثوب فاسد، وإن تعين كونه مبيعاً، فالبيع باطل، فبيع الخمر بالدراهم أو الدراهم بالخمر باطل. وعلى هذا: إذا كان الثمن محرَّماً: ينعقد البيع بالقيمة (¬1) ومن الواضح أن هذا البيع عند غير الحنفية يقع باطلاً. 6 - البيع نسيئة ثم الشراء نقداً ـ بيوع الآجال: النسيئة: تأخير الثمن إلى أجل معين، والنقد: دفع الثمن في الحال. إذا اتخذ العقد وسيلة لتحقيق غرض غير مباح شرعاً، فهل ينعقد العقد لوجود أركانه من الإيجاب والقبول أو يعتبر غير صحيح لسببه غير المشروع؟، مثل (¬2) أن يبيع الشخص مالاً إلى آخر بثمن مؤجل، ثم يشتريه منه بثمن عاجل، كأن يبيع قنطاراً من القطن بخمسة آلاف ليرة لا تقبض إلا بعد سنة، ثم يشتريه البائع من المشتري بأربعة آلاف يدفعها إليه فوراً، فقد حصل ههنا عقدا بيع: كلاهما ظاهره الصحة لاشتماله على أركان العقد وشروطه. هذه البيوع تسمى عند المالكية (بيوع العينة) وهي في الحقيقة نوع من بيوع الأجل التي يقصد منها التحيل على الربا، والوصول إلى ما هو ممنوع شرعاً، ومع ذلك اختلف العلماء في حكم بيع الأجل، علماً بأن المالكية فرقوا بين النوعين، فقالوا: بيوع الآجال: هي بيع المشتري ما اشتراه لبائعه أو لوكيله، لأجل. وبيع العينة: أن يقول شخص لآخر: اشتر سلعة بعشرة نقداً، وأنا آخذها منك باثني عشر لأجل. ¬
بيع العينة
فقال الشافعية والظاهرية: يصح هذا العقد لتوافر ركنه وهو الإيجاب والقبول، ويترك أمر النية لله وحده يعاقب صاحبها عليها. وقال المالكية والحنابلة: العقد باطل متى قام الدليل على وجود قصد آثم سداً للذريعة. وتطبيقات هذا الخلاف تظهر في زواج المحلل وبيع العينة وبيع العنب لعاصر الخمر (¬1). وأما أبو حنيفة فيحكم في الظاهر بصحة زواج المحلّل، وبيع العنب لعاصره خمراً، ما لم يصرح في العقد بشرط يخل به، ويجعل بيع العينة فاسداً إن خلا من توسط شخص ثالث. بيع العينة: هو بيع يراد منه أن يكون حيلة للقرض بالربا، بأن يبيع رجل شيئاً بثمن نسيئة أو لم يقبض، ثم يشتريه في الحال، وسمي بالعينة لأن مشتري السلعة إلى أجل يأخذ بدلها عيناً أي نقداً حاضراً، وعكسها مثلها. مثاله: أن يبيعه الرجل سلعة بثمن إلى أجل معلوم، ثم يشتريها بثمن آخر إلى أجل آخر، أو نقداً بثمن أقل، وفي نهاية الأجل الذي حدد في العقد الأول يدفع الثمن الأول كله، فيكون الفرق بين الثمنين فائدة أو ربا لصاحب المتاع الذي يبيع بيعاً صورياً، مثل أن يبيع شخص لآخر ثوباً باثنتي عشرة ليرة مؤجلاً دفعها إلى شهر مثلاً، ثم يبيع المشتري هذا الثوب نفسه ـ قبل أو بعد تسلمه ـ إلى بائعه الأول بعشر ليرات تدفع حالاً إلى المشتري، وفي نهاية الأجل المحدد لدفع الثمن في العقد الأول يدفع المشتري كامل الثمن وهو (12) ل. س، فيكون الفرق بين الثمنين فائدة أو ربا لصاحب الثوب ¬
الذي بيع بيعاً صورياً، والعملية كلها للتحايل على الإقراض بالربا عن طريق البيع والشراء. وقد يوسط المتعاقدان بينهما شخصاً ثالثاً يشتري العين بثمن حال من مريد الاقتراض، بعد أن اشتراها هذا من مالكها المقرض، ثم يبيعها للمالك الأول بالثمن الذي اشترى به، فيكون الفرق رباً له. اختلف العلماء في الحكم على العقد الثاني، مع أن قصد التعامل بالربا واضح من البائع والمشتري. قال أبو حنيفة: هو عقد فاسد إن خلا من توسط شخص ثالث بين المالك المقرض والمشتري المقترض، كما في المثال، إلا أنه يلاحظ أن أبا حنيفة خالف أصله السابق الذكر الذي يقتضي القول بصحة هذا العقد (¬1) وذلك استحساناً بنص الحديث الذي سيأتي في قصة زيد بن أرقم، ولأن الثمن إذا لم يستوف لم يتم البيع الأول، فيصير البيع الثاني مبنياً عليه، فليس للبائع الأول أن يشتري شيئاً ممن لم يتملكه بعد، فيكون البيع الثاني فاسداً. وقال أبو يوسف: هذا البيع صحيح بلا كراهة. وقال محمد: إنه صحيح مع الكراهة، حتى إنه قال: «هذا البيع في قلبي كأمثال الجبال ذميم، اخترعه أكلة الربا» (¬2). ¬
وقال الشافعية وداود الظاهري: هذا العقد صحيح مع الكراهة لتوافر ركنه وهو الإيجاب والقبول الصحيحان، ولا عبرة في إبطال العقد بالنية التي لا نعرفها لعدم وجود ما يدل عليها (¬1)، أي أن القصد الآثم مرجعه إلى الله، والحكم على ظاهر العقد شيء آخر، لذا فإنه يحمل العقد على عدم التهمة. وقال المالكية والحنابلة: إن هذا العقد يقع باطلاً (¬2) سداً للذرائع كما سأبين، ولما روي من قصة زيد بن أرقم مع السيدة عائشة رضي الله عنها: وهي أن العالية بنت أيفع قالت: دخلت وأنا وأم ولد زيد بن أرقم وامرأته على عائشة رضي الله عنها، فقالت أم ولد زيد بن أرقم: «إني بعت غلاماً من زيد بن أرقم بثمان مئة درهم إلى العطاء، ثم اشتريته منه بست مئة درهم (أي حالّة) فقالت عائشة: بئسما شريت وبئسما اشتريت، أبلغي زيداً أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن لم يتب» (¬3) وقال صلّى الله عليه وسلم: «إذا ضن الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، واتبعوا أذناب ¬
البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، أنزل الله بهم بلاء، فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم» (¬1). واستدلوا من جهة المعقول بالقياس على الذرائع المجمع على منعها بجامع أن الأغراض الفاسدة في كل منها هي الباعثة على عقدها، لأنه المحصل لها. والخلاصة: إن جمهور الفقهاء غير الشافعية: قالوا بفساد هذا البيع وعدم صحته؛ لأنه ذريعة إلى الربا، وبه يتوصل إلى إباحة ما نهى الله عنه، فلا يصح. غير أن الشافعي قال عن الحديث الأول: «لا يثبت، وأيضاً فإن زيداً قد خالفها، وإذا اختلف الصحابة فمذهبنا القياس». ويلاحظ أن الشافعية والظاهرية اعتمدوا على ظاهر عقد المتبايعين، فحكموا بصحته عملاً بمقتضى آية: {وأحل الله البيع} [البقرة:275/ 2] وهذا مردود، لأن الظاهر إنما يعمل به إذا لم تقم قرينة تفيد غيره، وههنا قرينة العرف المعهود، وغلبة قصد الناس إلى المحرم، والشيء المتعارف ينزل منزلة الشرط المنصوص، فكان ذلك من أقوى القرائن التي يجب العمل بها؛ لأنها تجعل الظاهر من أمر البائعين هو التذرع إلى المحرم، فإبطال بيعهما هو مقتضى الظاهر (¬2). بيع التورّق: هو أن يشتري الشخص السلعة إلى أجل، ثم يبيعها لغير بائعها الأول نقداً في الحال، ويأخذ ثمنها، بقصد الحصول على الدراهم، وهو بيع مكروه عند مالك وعند أحمد في إحدى الروايتين عنه، ولا يكره في رواية أخرى. ¬
7 - بيع العنب لعاصر الخمر
7 - بيع العنب لعاصر الخمر: يتفرع أيضاً على القاعدة السابقة في أوائل بحث البيع السابق: الخلاف في بيع العنب لمن يعرف أنه يعصره خمراً. وأذكر هنا خلاف العلماء فيه. قال أبو حنيفة والشافعي: يصح في الظاهر مع الكراهة بيع العنب لعاصر الخمر، وبيع السلاح لمن يقاتل به المسلمين، لعدم تحققنا أنه يتمكن من اتخاذه خمراً أو يقاتل بالسلاح المسلمين، ويؤاخذ الإنسان على مقاصده. أما الوسائل فقد يحال بين الإنسان وبينها، والمحرم في البيع هو الاعتقاد الفاسد، دون العقد نفسه، فلم يمنع صحة العقد، كما لو دلس العيب (¬1) أي أن الحكم على العقد بظاهره شيء، والدافع إليه شيء آخر. وقال المالكية والحنابلة: بيع العصير ممن يتخذه خمراً باطل، وكذا بيع السلاح لأهل الحرب أو لأهل الفتنة، أو لقطاع الطرق، سداً للذرائع؛ لأن ما يتوصل به إلى الحرام فهو حرام، ولو بالقصد، ولقوله تعالى: {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} [المائدة:2/ 5] وهذا نهي يقتضي التحريم، وإذا ثبت التحريم فالبيع باطل (¬2). 8 - البيعتان في بيعة أو الشرطان في بيع واحد: لقد ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلم النهي عن بيعتين وعن شرطين في بيع، روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة» وعن عمرو بن ¬
شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يَضْمن، ولا بيع ما ليس عندك» (¬1). واختلف في تفسير البيعتين في بيعة: فقال الشافعي: «له تأويلان: أحدهما ـ أن يقول: بعتك بألفين نسيئة، وبألف نقداً، فأيهما شئت أخذت به، على أن البيع قد لزم في أحدهما وهذا بيع فاسد (أي باطل) لأنه إبهام وتعليق. والثاني ـ أن يقول: (بعتك منزلي على أن تبيعني فرسك). وحكمة منع صورة الصفقة الأولى هو اشتمالها على غرر بسبب الجهل بمقدار الثمن، فإن المشتري لا يدري وقت تمام العقد هل الثمن عشرة مثلاً أو خمسة عشر. ومن الحكمة في تحريم العقد الثاني منع استغلال حاجات الآخرين، وذلك في حالة كون المشتري مضطراً إلى شراء شيء، فيكون اشتراط البائع عليه في شراء شيء منه من قبيل الاستغلال مما يؤدي إلى فوات حقيقة الرضا في هذا العقد، ثم إن فيه غرراً أيضاً لا يدري البائع هل يتم البيع الثاني أو لا. واختلف في تفسير الشرطين في بيع: فقيل: هو أن يقول: بعت هذا نقداً بكذا، وبكذا نسيئة. وقيل: هو أن يشترط البائع على المشتري ألا يبيع السلعة ولايهبها. وقيل: هو أن يقول: بعتك هذه السلعة بكذا على أن تبيعني السلعة الفلانية بكذا» (¬2) وقيل في تفسير ذلك: هو أن يسلفه ديناراً في قفيز حنطة إلى ¬
شهر، فلما حل الأجل وطالبه بالحنطة قال: بعني القفيز الذي لك علي إلى شهرين بقفيزين، فصار ذلك بيعتين في بيعة؛ لأن البيع الثاني قد دخل على الأول، فيرد إليه أو كسهما (أنقصهما) وهو الأول. وبهذا يظهر أن البيعتين في بيعة والشرطين في بيع واحد بمعنى واحد. وقد اختلف العلماء في حكمه. قال الحنفية: البيع فاسد؛ لأن الثمن مجهول، لما فيه من تعليق وإبهام دون أن يستقر الثمن على شيء: هل حالاً أو مؤجلاً. فلو رفع الإبهام وقبل على إحدى الصورتين، صح العقد (¬1). والعلة في تحريم بيعتين في بيعة: عدم استقرار الثمن في صورة بيع الشيء الواحد بثمنين، والتعليق بالشرط المستقبل في صورة بيع هذا على أن يبيع منه ذاك، ولزوم الربا في صورة بيع قفيز الحنطة. وقال الشافعية والحنابلة: إن هذا العقد باطل؛ لأنه من بيوع الغرر بسبب الجهالة، لأنه لم يجزم البائع ببيع واحد، فأشبه مالو قال: بعتك هذا أو هذا، ولأن الثمن مجهول، فلم يصح كالبيع بالرقم المجهول، ولأن أحد العوضين غير معين ولامعلوم، فلم يصح كما لو قال: بعتك أحد منازلي (¬2). وقال مالك: يصح هذا البيع، ويكون من باب الخيار، فيذهب العقد على إحدى الحالتين، وهومحمول على أنه جرى بينهما بعدئذ مايجري في العقد، فكأن المشتري قال: أنا آخذه بالنسيئة بكذا، فقال: خذه، أو قد رضيت، ونحو ذلك ¬
9 - البيع لأجل أو بالتقسيط
فيكون عقداً كافياً (¬1). هذا مع العلم بأن حديث النهي عن بيعتين في بيعة أو عن صفقتين ضعيف بسبب اشتمال إسناده على راو فيه مقال، وهو محمد بن عمرو بن علقمة، الذي تكلم فيه غير واحد، وهو إن صح محمول على المنع من صورة البيع التالية: وهي أن يقول: نقداً بكذا ونسيئة بكذا، فإن قال من أول الأمر: نسيئة بكذا فقط، وكان أكثر من سعر يوم صح البيع (¬2). 9 - البيع لأجل أو بالتقسيط: أجاز الشافعية والحنفية والمالكية والحنابلة وزيد بن علي والمؤيد بالله والجمهور (¬3): بيع الشيء في الحال لأجل أو بالتقسيط بأكثر من ثمنه النقدي إذا كان العقد مستقلاً بهذا النحو، ولم يكن فيه جهالة بصفقة أو بيعة من صفقتين أو بيعتين، حتى لايكون بيعتان في بيعة. قال ابن قدامة في المغني: البيع بنسيئة ليس بمحرم اتفاقاً ولايكره. فإذا تم الاتفاق في الحال على شراء هذه الآلة أو السلعة بألف ومئة لأجل أو بالتقسيط، مع أن سعرها النقدي ألف، جاز البيع وإن ذكر في المساومة سعران: سعر للنقد وسعر للتقسيط، ثم تم البيع في نهاية المساومة تقسيطاً. أما لو قال في عقد واحد: بعتك السلعة بألف نقداً، وبألف ومئة تقسيطاً، فقال المشتري: قبلت، ولم يحدد نوع القبول الصادر مبهماً دون تحديد مراده أو عدم تعيين أي صفقة يريد، كان العقد باطلاً عند الجمهور، فاسداً عند الحنفية بسبب الجهالة. وقال بعض الزيدية: يحرم بيع الشيء بأكثر من سعر يومه، لأجل النَّساء. ¬
10 - بيع الأتباع والأوصاف مقصودا
والواقع يختلف البيع لأجل أو بالتقسيط عن الربا، وإن وجد تشابه بينهما في كون سعر الأجل أو التقسيط في مقابل الأجل، ووجه الفرق أن الله أحل البيع لحاجة، وحرَّم الربا بسبب كون الزيادة متمحضة للأجل. ولأن الربا أي الزيادة من جنس ماأعطاه أحد المتعاملين مقابل الأجل، كبيع صاع حنطة مثلاً في الحال بصاع ونصف يدفعان بعد أجل، أو إقراض ألف درهم مثلاً على أن يسدد القرض ألفاً ومئة درهم. أما في البيع لأجل أو بالتقسيط فالمبيع سلعة قيمتها الآن ألف، وألف ومئة بعد أشهر مثلاً، وهذا ليس من الربا، بل هو نوع من التسامح في البيع؛ لأن المشتري أخذ سلعة لا دراهم، ولم يعط زيادة من جنس ماأعطى، ومن المعلوم أن الشيء الحالّ أفضل وأكثر قيمة من المؤجل الذي يدفع في المستقبل، والشرع لايصادم طبائع الأشياء إذا لم يتحد المبيع والثمن في الجنس. كما أن بائع التقسيط يضحي في سبيل توفير السلعة لمن يشتريها بأجل، لتعطيل السعر أو الثمن، وعدم استعماله في أثمان مشتريات أخرى. 10 - بيع الأتباع والأوصاف مقصودا ً: إذا كان الشيء تبعاً لغيره، فبيع مستقلاً عنه كبيع الألية من الشاة الحية والذراع والرأس ونحوهما، وكبيع ذراع من ثوب، فقال الحنفية: إن بيع اللحم في الشاة الحية، أو الشحم الذي فيها، أو أليتها، أو أكارعها، أو رأسها: كل هذا باطل لا ينعقد؛ لأنه بيع لمعدوم؛ لأن اللحم لا يصير لحماً إلا بالذبح والسلخ. ومثله بيع ياقوتة فإذا هي زجاج، أو بيع قطعة جوخ، فإذا هي قطن، لا ينعقد البيع لأن المبيع معدوم. وأما بيع ذراع من ثوب: فإن كان يضره التبعيض، كالثوب المهيأ للبس، نحو
11 - بيع الشيء المملوك قبل قبضه من مالك آخر
القميص: كان العقد فاسداً، لأن المبيع تبع لغيره، ولا يمكن تسليمه إلا بضرر لم يوجبه العقد يلحق بالبائع، وهو قطع الثوب. وكذا بيع جذع من سقف أو آجر من حائط يكون العقد فاسداً. فإن قطع البائع الذراع من الثوب أو قلع الجذع قبل أن يفسخ المشتري العقد، وسلمه إلى المشتري: يعود العقد صحيحاً، لزوال المفسد قبل نقض البيع، فلو فعل ذلك بعد الفسخ: لايجوز. وإن كان المبيع لا يضره التبعيض مثل بيع قفيز من صبرة أو بيع عشرة دراهم من نُقرة (¬1) ونحوها، جاز البيع، لأنه ليس في التبعيض ضرر، وليس المبيع تبعاً لغيره أيضاً (¬2). 11 - بيع الشيء المملوك قبل قبضه من مالك آخر: قال الحنفية: لا يجوز التصرف في المبيع المنقول قبل القبض؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيع ما لم يقبض (¬3) والنهي يوجب فساد المنهي عنه، ولأنه بيع فيه غرر الانفساخ بهلاك المعقود عليه، أي أنه يحتمل الهلاك فلا يدري المشتري هل يبقى المبيع أو يهلك قبل القبض، فيبطل البيع الأول وينفسخ الثاني، وقد نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن بيع فيه غرر (¬4). وأما العقار، كالأراضي والدور، فيجوز بيعه قبل القبض عند أبي حنيفة ¬
وأبي يوسف استحساناً، استدلالاً بعمومات البيع من غير تخصيص ولا يجوز تخصيص عموم الكتاب بخبر واحد، ولا غرر في العقار إذ يتوهم هلاك العقار، ولا يخاف تغيره غالباً بعد وقوع البيع، وقبل القبض، أي أن تلف العقار غير محتمل فلا يتقرر الغرر (¬1). والخلاصة: أن العلة عند الحنفية في عدم جواز بيع الشيء قل قبضه هي الغرر. وقال المالكية: لا يجوز بيع الطعام (¬2) قبل القبض ربوياً كان أو غير ربوي، لحديث ابن عباس وابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يقبضه» (¬3) وأما ما سوى ذلك أو بيع الطعام جزافاً فيجوز بيعه قبل قبضه لغلبة تغير الطعام، بخلاف ما سواه، وأخذاً بمفهوم الحديث السابق (¬4). والعلة في منع بيع الطعام قبل قبضه عند المالكية: هي أنه قد يتخذ البيع ذريعة للتوصل إلى ربا النسيئة، فهو شبيه ببيع الطعام بالطعام نساء، فيحرم سداً للذرائع. وقال الحنابلة: لا يجوز بيع الطعام قبل قبضه إذا كان مكيلاً أو موزوناً أومعدوداً (أي المقدرات)، لسهولة قبض المكيل والموزون والمعدود عادة، فلا يتعذر عليه القبض، واستدلالاً بمفهوم حديث الطعام السابق، فإن تخصيصه ¬
الطعام بالنهي عن بيعه قبل قبضه يدل على إباحة البيع فيما سواه، ولم يصح غيره من الأحاديث. واشتراط الكيل أو الوزن أو العدد، لأن المكيل والموزون والمعدود لا يخرج من ضمان البائع إلى ضمان المشتري إلا بالكيل أو الوزن أوالعدد، وقد نهى الرسول عليه السلام عن بيع ما لم يضمن، فالعلة في منع هذا البيع عند الحنابلة هي الغرر كالحنفية. وأما ما عدا المكيل والموزون والمعدود أي غير المقدرات، فيصح بيعه قبل قبضه (¬1). وقال الشافعي ومحمد بن الحسن وزفر: لا يجوز بيع ما لم يستقر ملكه عليه مطلقاً قبل قبضه، عقاراً كان أو منقولاً، لعموم النهي عن بيع ما لم يقبض، روى أحمد عن حكيم بن حزام رضي الله عنه، قال: قلت: «يا رسول الله، إني أشتري بيوعاً، فما يحل لي منها وما يحرم علي؟ قال: إذا اشتريت شيئاً فلا تبعه حتى تقبضه» وقال صلّى الله عليه وسلم: «لا يحل سلف وبيع، ولا ربح ما لم يضمن (¬2) ولا بيع ما ليس عندك» وهذا من باب بيع ما لم يضمن. واستدلوا من طريق المعقول: وهو أنه بيع باطل لعدم القدرة على تسليم المبيع، ولأن ملكه عليه غير مستقر، لأنه ربما هلك، فانفسخ العقد، وفيه غرر من غير حاجة، فلم يجز (¬3). فالعلة في منع البيع عند الشافعية هي الغرر كالحنفية. وأرجح أن الحكمة في النهي أصلاً عن بيع ما لم يقبض: هي أن هذا البيع ¬
12 - اشتراط الأجل في المبيع المعين والثمن المعين
يشبه الربا إذ أن المشتري إذا دفع دراهمه إلى البائع في سلعة، ثم عمد إليها، فباعها قبل أن يقبضها، فكأنما دفع دراهمه واستفاد بها ربحاً بمجرد دفعها إلى البائع دون القيام بعمل ما، وهذا شبيه بالربا (¬1)، ثم إن في هذا البيع غرراً ناشئاً عن عدم القدرة على التسليم. وبه تكون علة النهي عن بيع الشيء قبل قبضه هو مجموع ما ذكره فقهاء المذاهب. 12 - اشتراط الأجل في المبيع المعين والثمن المعين: إذا اشترط الأجل لتسليم المبيع المعين أو الثمن المعين، كان البيع فاسداً عند الحنفية؛ لأن الأصل وجوب التسليم حال العقد، بسبب أن البيع عقد معاوضة: تمليك بتمليك وتسليم بتسليم، والتأجيل ينفي وجوب التسليم للحال، فكان مغيراً مقتضى العقد، فيوجب فساد العقد. ولكن يجوز التأجيل في المبيع المؤجل وهو السلم، بل لا يجوز بدون الأجل عند الحنفية، وكذا يجوز التأجيل في الثمن الثابت ديناً في الذمة إن كان الأجل معلوماً، لأن التأجيل يلائم الديون، ولا يلائم الأعيان لمساس حاجة الناس إليه في الديون، لا في الأعيان، وذلك لتمكين صاحب الأجل من اكتساب الثمن في المدة المعينة، ولا حاجة لهذا في الأعيان (¬2). 13 - البيع بشرط فاسد: لإيضاحه أبيّن أنواع الشروط في البيوع: الشروط في البيوع عند الحنفية ثلاثة أقسام: ¬
أولا - الشرط الصحيح
شرط صحيح، وشرط فاسد، وشرط لغو باطل (¬1). أولاً - الشرط الصحيح: أي المقبول شرعاً، الملزم للمتعاقدين، وهو أربعة أنواع: 1 - ما يقتضيه العقد: كأن يشتري شخص شيئاً بشرط أن يسلم البائع المبيع، أو يسلم المشتري الثمن، أو بشرط أن يملك المبيع أو الثمن، أو بشرط أن يحبس البائع المبيع حتى أداء جميع الثمن، فهذه شروط تبين مقتضى العقد، لأن ثبوت الملك، والتسليم والتسلم، وحبس المبيع من مقتضى المعاوضات (¬2). 2 - ما ورد الشرع بجوازه: كشرط الأجل والخيار لأحد المتعاقدين، فقد أثبت الشرع في وقائع عن النبي عليه الصلاة والسلام جواز التأجيل لمدة معلومة لحاجة الناس إلىه، لما فيه من المصلحة، كما ثبت في الشرع جواز خيار الشرط في إمضاء البيع أو رده خلال مدة معلومة، وهو قوله عليه السلام لحبَّان بن مُنْقِذ: «إذا بايعت فقل: لا خلابة، وليَ الخيار ثلاثة أيام» (¬3) على ما سيأتي في الخيارات، وهذا مقتضى الاستحسان. وأما مقتضى القياس فالشرط فاسد، لكونه مخالفاً لمقتضى العقد: وهو ثبوت الملك في العوضين معاً في الحال. 3 - ما يلائم مقتضى العقد، كالبيع بثمن مؤجل على شرط أن يقدم المشتري ¬
كفيلاً أو رهناً معينين بالثمن، فإن الكفالة والرهن: استيثاق بالثمن، فيلائم البيع ويؤيد التسليم. وهذا الشرط يحتاج إلى تفصيل (¬1) لأن الكفيل أو الرهن إما أن يكون معلوماً أو مجهولاً، ثم هل الحوالة مثل الكفالة والرهن؟ إذا كان الرهن والكفيل مجهولين فسد البيع، كأن يقول البائع: (أبيعك بشرط أن تعطيني رهناً بالثمن) ولم يسم شيئاً ولا أشار إليه أو يقول: (بشرط أن تعطيني كفيلاً بالثمن) ولم يسم إنساناً ولا أشار إلى إنسان؛ لأن هذه جهالة تفضي إلى منازعة مانعة من التسليم والتسلم؛ إذ أن معنى التوثق والتأكد بالحصول على الثمن بالرهن أو الكفالة لا يحصل إلا بالتسليم، وذلك لا يتحقق في المجهول. فإن اتفق المتعاقدان على تعيين رهن في مجلس البيع، جاز البيع، لأن المانع هو جهالة الرهن، وقد زال، فكأنه كان معلوماً معيناً من ابتداء الأمر؛ لأن المجلس له حكم حالة واحدة. وكذا إذا لم يتفقا على تعيين الرهن، ولكن المشتري نقد الثمن، جاز البيع أيضاً، لأن المقصود من الرهن، هو الوصول إلى الثمن، وقد حصل، فسقط اعتبار الوثيقة. وإن افترق المتعاقدان عن المجلس تقرر الفساد؛ لأن تمام القبول توقف على الرهن المشروط في العقد، فإذا لم يوجد الرهن لم يوجد القبول معنى. وأما إذا كان الرهن والكفالة معلومين بالإشارة أو بالتسمية، فالقياس: ألا يجوز البيع، وبه أخذ زفر؛ لأن الشرط الذي يخالف مقتضى العقد مفسد في الأصل، وشرط الرهن والكفالة مما يخالف مقتضى العقد فكان مفسداً. ¬
وفي الاستحسان: يجوز وهو الصحيح عند جمهور الحنفية؛ لأن هذا الشرط لو كان مخالفاً مقتضى العقد صورة، فهو موافق له معنى، لأن الرهن والكفالة شرعاً توثيق للثمن، فإن حق البائع يتأكد بالرهن والكفالة، فكان كل واحد منهما مقرراً لمقتضى العقد معنى، فأشبه اشتراط صفة الجودة للثمن. ويلاحظ أن جواز البيع استحساناً حالة اشتراط الكفالة مقيد بما إذا كان الكفيل حاضراً في المجلس وقبل، أو كان غائباً ثم حضر في المجلس وقبل، فكان كما لو قبل عند العقد، لأن لمجلس العقد حكم العقد. فأما إذا كان الكفيل غائباً، أو حاضراً ولم يقبل، أو قبل وهو غائب، لم تصح الكفالة؛ لأنه لم يحصل معنى التوثيق، فبقي الحكم على أصل القياس؛ لأن وجوب الثمن في ذمة الكفيل كان بسبب البيع، فيصير الكفيل بمنزلة المشتري إذا اشترطت الكفالة في البيع، ووجود المشتري في مجلس البيع شرط لصحة الإيجاب من البائع، فكذلك وجود الكفيل. هذا بخلاف الرهن، فلا يشترط وجود المرهون في مجلس البيع؛ لأن تقديم الرهن يكون من المشتري، والمشتري حاضر وقد التزم الرهن، فالرهن صحيح. وحينئذ إذا لم يسلِّم المشتري الرهن إلى البائع لا يثبت حكم الرهن؛ لأن ثبوت حكم الرهن متوقف على القبض؛ كما هو معروف في باب الرهن، فإن سلّم الرهن تم العقد. وإن امتنع المشتري عن تسليم الرهن يجبر عند زفر؛ لأن الرهن إذا شرط في البيع، صار حقاً من حقوقه، والجبر على التسليم من حقوق عقد البيع، فيجبر عليه.
ولا يجبر عند جمهور الحنفية على التسليم؛ لأن الرهن عقد تبرع في الأصل، واشتراطه في البيع لا يخرجه عن أن يكون تبرعاً، والجبر على التبرع ليس بمشروع، فلا يجبر عليه، وحينئذ يقال للمشتري: (إما أن تدفع الرهن أو قيمته، أو تدفع الثمن أو تفسخ البيع) لأن البائع ما رضي بوجوب الثمن في ذمة المشتري، إلا بوثيقة الرهن، فإن لم يفعل المشتري شيئاًَ من المذكور، فللبائع أن يفسخ البيع، لأنه فات غرضه. الحوالة: شرط الحوالة إما من البائع أو من المشتري: فإن شرط البائع في البيع أن يحيله المشتري بالثمن على غريم من غرمائه «أي مدين له» فهذا على حالتين: أـ إن أحال بجميع الثمن: فالبيع فاسد، لأنه يصير بائعاً بشرط أن يكون الثمن على غير المشتري، وهو باطل، لمخالفته لمقتضى العقد. ب ـ وإن شرط عليه أن يحيل نصف الثمن على فلان، فالبيع جائز إذا كان المحال عليه حاضراً وقبل الحوالة، كما إذا باع شيئاً بألف ليرة على أن يكون نصفه على فلان وهو حاضر فقبل، جاز، أو كان المحال عليه غائباً، ثم حضر في المجلس وقبل، لأن لمجلس العقد حكم العقد. وإن شرط المشتري في البيع شرطاً وهو «أن يحيل البائع على غريم من غرمائه بالثمن ليدفع له» أو باع البائع شيئاً بشرط «أن يضمن المشتري لغريم ـ دائن ـ من غرماء البائع الثمن» فالبيع فاسد (¬1) لأن شرط الحوالة والضمان شرط لا يقتضيه العقد، بل هو شرط فيه منفعة العاقد، والشرط الذي لا يقتضيه العقد مفسد في ¬
ثانيا ـ الشرط الفاسد
الأصل، إلا إذا كان فيه تقرير موجَب العقد وتأكيده، والحوالة إبراء عن الثمن، وإسقاط له، فلم يكن ملائماً للعقد، بخلاف الكفالة والرهن، والضمان ليس بصفة للثمن، بل هو شرط فيه منفعة العاقد. 4 - من الشروط الصحيحة: ما جرى به العرف: كشراء القفل على أن يسمّره البائع في الباب أو الحذاء على أن يخرزه البائع أو يضع له نعلاً، وكشراء الساعة أو الغسالة أو الثلاجة أو المذياع بشرط أن يصلحها البائع لمدة سنة مثلاً إذا أصابها خلل، فيجوز البيع استحساناً، والقياس ألا يجوز وهو قول زفر. وجه القياس: أن هذا شرط لا يقتضيه العقد، وفيه منفعة لأحد العاقدين، وأنه مفسد، كما إذا اشترى قماشاً بشرط أن يخيطه البائع له قميصاً، ونحوه. ووجه الاستحسان: أن الناس تعاملوا هذا الشرط في البيع، كما تعاملوا الاستصناع، فسقط القياس بتعامل الناس كما سقط في الاستصناع. ثانياً ـ الشرط الفاسد: أو بتعبير أوضح: المفسد: وهو ما خرج عن الأقسام الأربعة السابقة أي لا يقتضيه العقد ولا يلائمه ولا ورد به الشرع ولا يتعارفه الناس، وإنما فيه منفعة لأحد المتعاقدين، كأن اشترى حنطة على أن يطحنها البائع، أو قماشاً على أن يخيطه البائع قميصاً، أو اشترى حنطة على أن يتركها في دار البائع شهراً، أو يبيع شخص داراً على أن يسكنها البائع شهراً، ثم يسلمها إليه، أوأرضاً على أن يزرعها سنة أو دابة على أن يركبها شهراً، أو على أن يقرضه المشتري قرضاً، أو على أن يهب له هبة ونحوها. البيع في هذا كله فاسد؛ لأن كل زيادة منفعة مشروطة في العقد تكون ربا؛ لأنها زيادة لا يقابلها عوض في عقد البيع، وهو تفسير الربا.
ثالثا ـ الشرط اللغو أو الباطل
والبيع الذي فيه الربا فاسد، أو فيه شبهة الربا، وأنها مفسدة للبيع كحقيقة الربا (¬1). ثالثاً ـ الشرط اللغو أو الباطل: وهو ما كان فيه ضرر لأحد العاقدين، كأن يبيع بشرط ألا يبيعه المشتري أو لايهبه، البيع جائز والشرط باطل على الصحيح عند الحنفية؛ لأن هذا شرط لامنفعة فيه لأحد، فلا يوجب الفساد؛ لأن فساد البيع في مثل هذه الشروط لتضمنها الربا، بزيادة منفعة مشروطة في العقد لا يقابلها عوض، ولم توجد المنفعة في هذا الشرط، لأنه لا منفعة فيه لأحد إلا أنه شرط فاسد في نفسه، لكنه لا يؤثر في العقد، فيكون العقد جائزاً، والشرط باطلاً (¬2). ويلاحظ أن الحنفية اتفقوا على أنه لو ألحق المتعاقدان بالعقد الصحيح شرطاً صحيحاً كالخيار الصحيح في البيع البات ونحوه يلتحق به. أما الشرط الفاسد: فقرانه بالعقد وإلحاقه به سواء عند أبي حنيفة، حتى لو باع شخص بيعاً صحيحاً، ثم ألحق به شيئاً من الشروط الفاسدة التي ذكرت يلتحق به، ويفسد العقد؛ لأن اعتبار التصرف على الوجه الذي أوقعه المتصرف واجب إذا كان هو أهلاً، والمحل قابلاً للعقد. وقال الصاحبان: لايلتحق به ولا يفسد العقد ويلغو الشرط؛ لأن إلحاق الشرط الفاسد بالعقد يغير العقد من الصحة إلى الفساد، فلا يصح فبقي العقد صحيحاً، كما كان؛ لأن العقد كلام لا بقاء له، والالتحاق بالمعدوم لا يجوز، ¬
حكم البيع وشرط عند غير الحنفية
فكان ينبغي ألا يصح الإلحاق أصلاً، إلا أن إلحاق الشرط الصحيح بأصل العقد ثبت شرعاً للحاجة إليه، حتى صح قرانه بالعقد، فيصح إلحاقه به (¬1). والأصح هو قول الصاحبين، كما ذكر ابن عابدين نقلاً عن جامع الفصولين (¬2). حكم البيع وشرط عند غير الحنفية: من المعلوم أن البيع غير الصحيح عند غير الحنفية لا فرق فيه بأن يسمى فاسداً أم باطلاً، فإذا لم يصح اقتران الشرط بالبيع أبطله أو أفسده، والنتيجة فيهما سواء. والبيع بشرط هو الذي يسميه الفقهاء بيع الثُّنيا، وقد اختلفوا في حكمه، فقال الحنفية على التفصيل المذكور والشافعية عملاً بالحديث: البيع فاسد، وقال الحنابلة: البيع صحيح والشرط صحيح، ولم يأخذوا بالحديث، وفي مذهب المالكية تفصيل. أما تفصيل مذهب الشافعية فهو ما يأتي (¬3): إذا شرط في البيع شرط فإن كان شرطاً يقتضيه العقد كتسليم المبيع والرد بالعيب ونحوهما، صح العقد، لأن الشرط المذكور مبين لما يقتضيه العقد. وكذلك يكون العقد صحيحاً إن شرط شرطاً لا يقتضيه العقد، ولكن فيه مصلحة لأحد العاقدين كالخيار والأجل والرهن والضمان أو الكفالة؛ لأن الشرع ورد بجوازه؛ ولأن الحاجة تدعو إليه. فإن شرط ما سواه من الشروط التي تنافي مقتضى البيع كأن اشترط البائع ¬
الحنابلة
على المشتري ألا يبيع المبيع، أو لا يهبه، أو أن يبيعه شيئاً أو يقرضه مبلغاً من المال أو اشترط أن يسكن الدار مدة، أو اشترط المشتري على البائع أن يخيط له الثوب الذي اشتراه منه، أو يحصد له الزرع الذي اشتراه منه، أو يحذو له قطعة الجلد التي اشتراها، ففي كل هذه الحالات يكون البيع باطلاً، لما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع وشرط (¬1). وقال الحنابلة (¬2): يبطل البيع إذا كان فيه شرطان، ولا يبطله شرط واحد لأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا بيع ما ليس عندك» (¬3) والمراد بالشرطين: ما ليسا من مصلحة العقد، كأن اشترى ثوباً واشترط على البائع خياطته وقصارته، أو طعاماً واشترط طحنه وحمله، فإن اشترط أحد هذه الأشياء، فالبيع جائز. والشروط عندهم أربعة أقسام: أحدها ـ ما هو من مقتضى العقد كاشتراط التسليم، وخيار المجلس، والتقابض في الحال فهذا وجوده كعدمه، لا يفيد حكماً معيناً، ولا يؤثر في العقد. الثاني ـ ما تتعلق به مصلحة لأحد العاقدين أو لكليهما، كالأجل والخيار والرهن والضمين أي الكفيل، والشهادة على البيع، أو اشتراط صفة مقصودة في المبيع، فهذا شرط جائز يلزم الوفاء به. قال ابن قدامة: ولا نعلم في صحة هذين القسمين خلافاً. ¬
الثالث ـ ما ليس من مقتضى العقد، ولا من مصلحته، ولا ينافي مقتضاه
الثالث ـ ما ليس من مقتضى العقد، ولا من مصلحته، ولا ينافي مقتضاه، وهو نوعان: 1ً - اشتراط منفعة للبائع في المبيع، فإن كان شرطاً واحداً فلا بأس به كاشتراط المشتري على البائع أن يخيط له الثوب المشترى، أو اشتراط حمل حزمة الحطب إلى موضع معلوم، أو سكنى الدار مدة شهر مثلاً، أو حملانه على الدابة إلى محل معين. والدليل على الجواز حديث جابر، وهو أن النبي صلّى الله عليه وسلم اشترى من جابر بعيراً، واشترط حُملانه عليه إلى أهله في المدينة (¬1). 2ً - أن يشترط عقد في عقد، نحو أن يبيعه شيئاً بشرط أن يبيعه شيئاً آخر، أو يشتري منه، أو يؤجره، أو يزوجه، أو يسلفه، ويصرف له الثمن أوغيره، فهذا شرط فاسد يفسد به البيع، للنهي عن بيعتين في بيعة. الرابع ـ اشتراط ما ينافي مقتضى البيع، مثل أن يشترط ألا يبيع المبيع أو ألا يهبه، أو يشترط عليه أن يبيعه أو يقفه، ففي هذا روايتان عن أحمد، أصحهما أن البيع صحيح، والشرط باطل. وقال المالكية: في المذهب تفصيل (¬2): فإن كان الشرط يقتضي منع المشتري من تصرف خاص أو عام، فيبطل الشرط والبيع، مثل أن يشترط عليه ألا يبيع المبيع أو لا يهبه، فلا يجوز لأنه من ¬
14 - بيع الثمار أو الزروع
الثنيا (¬1) وقد نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن الثنيا إلا أن تعلم (¬2)، فإن أسقط هذا الشرط عن المشتري، جاز البيع. وإن اشترط البائع منفعة لنفسه كركوب الدابة، أو سكنى الدار مدة معلومة يسيرة كشهر وقيل: سنة، جاز البيع والشرط، عملاً بحديث جابر الآنف الذكر. وإن اشترط البائع شرطاً يعود بخلل في الثمن، فيجوز البيع ويبطل الشرط مثل أن يشترط «إن لم يأته بالثمن إلى ثلاثة أيام، فلا بيع بينهما». فإن قال البائع للمشتري: «متى جئتك بالثمن رددت إلي المبيع، وهو المعروف ببيع الوفاء عند الحنفية، لم يجز البيع. 14 - بيع الثمار أو الزروع: هذه الحالة تعرض كثيراً في الحياة العملية التجارية، لهذا تحتاج لتفصيل الكلام فيها: أجمع العلماء على أن بيع الثمار قبل أن تخلق لا ينعقد؛ لأنه من باب النهي عن بيع ما لم يخلق ومن باب بيع السنين والمعاومة (¬3). ¬
الحنفية
وقد روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه «نهى عن بيع السنين وعن بيع المعاومة» وهو بيع الشجر أعواماً، لأنه بيع المعدوم، وقد نهى الرسول صلّى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، والغرر كما عرفنا: هو ما انطوى عنه أمره، وخفي عليه عاقبته، ونوع الغرر: هو أن المبيع مجهول الوجود قد يظهر وقد لايظهر، ومجهول المقدار إن وجد. وأما بيع الثمار بعد القطع أو الصرام، فلا خلاف في جوازه. وأما بيع الثمار على الشجر أو بيع الزرع في الأرض بعد أن يخلق، فاختلف فيه العلماء: فقال الحنفية: إما أن يكون البيع قبل بدو الصلاح أو بعد بدو الصلاح بشرط القطع، أو مطلقاً أو بشرط الترك. أولاً ـ فإن كان البيع قبل بدو صلاح الزرع أو الثمر، فهناك حالات: 1ً - إن كان بشرط القطع جاز، ويجب القطع للحال، إلا بإذن البائع. 2ً - وإن كان البيع مطلقاً عن الشرط: جاز أيضاً عند الحنفية خلافاً للشافعية ومالك وأحمد؛ لأن الترك ليس بمشروط نصاً؛ إذ العقد مطلق عن الشرط أصلاً، فلا يجوز تقييده بشرط الترك من غير دليل، خصوصاً إذا كان في التقييدفساد العقد. وجواز بيعه على الصحيح عند الحنفية لأنه مال منتفع به ولو علفاً للدواب، وإن لم يكن منتفعاً به في الحال عند الإنسان. 3ً - وإن كان بشرط الترك فالعقد فاسد باتفاق علماء الحنفية؛ لأنه شرط لا
ثانيا ـ وأما إن كان البيع بعد بدو الصلاح
يقتضيه العقد، وفيه منفعة لأحد العاقدين: وهو المشتري ولا يلائم العقد، ولا جرى به التعامل بين الناس، ومثل هذا الشرط مفسد للبيع كما لو اشترى حنطة بشرط أن يتركها في دار البائع شهراً، ولأنه لا يتمكن من الترك إلا بإعارة الشجر والأرض، وهما ملك البائع، فصار بشرط الترك شارطاً الإعارة، فكان شرطه صفقة في صفقة، وهذا منهي عنه كما عرفنا. ثم إنه مشتمل على الغرر إذ لا يدري المشتري هل يبقى الثمر أم تصيبه آفة فيهلك، فتكون علة فساد البيع إذن ثلاثة أمور: فيه غرر، وشرط فاسد، وصفقة في صفقة. ثانياً ـ وأما إن كان البيع بعد بدو الصلاح: 1 - فإن باع بشرط القطع جاز. 2 - وكذا إن باع مطلقاً عن الشرط يجوز أيضاً كما قدمنا. 3 - وإن باع بشرط الترك، فإن لم يتناه عِظمه، فالبيع فاسد بلا خلاف، كما تقدم في الحالة الثالثة السابقة. وإن تناهى عظمه فالبيع فاسد عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن شرط الترك فيه منفعة للمشتري، والعقد لا يقتضيه، ولا يلائمه، كما إذا اشترى حنطة على أن يتركها في دار البائع شهراً. وقال محمد: يجوز استحساناً لتعارف الناس وتعاطيهم بذلك (¬1). والجواز عنده ليس لتعامل الناس شرط الترك في المبيع، وإنما التعامل بالمسامحة بالترك من غير شرط في عقد البيع. قال في الدر المختار: وبه يفتى أي بقول محمد. ¬
حكم ترك الثمار بعد بدو الصلاح حالة الشراء مطلقا
حكم ترك الثمار بعد بدو الصلاح حالة الشراء مطلقا ً: لو اشترى الشخص مطلقاً عن شرط، فترك الثمار حتى نضجت، ففيه تفصيل: آـ إن كان قد تناهى عظمه، ولم يبق إلا النضج: لم يتصدق المشتري بشيء سواء ترك بإذن البائع أو بغير إذنه، لأنه لا يزداد بعد التناهي، وإنما يتغير إلى حال النضج. وأما الزرع فالنماء فيه يكون للمشتري طيباً، حتى وإن تركه بغير إذن البائع لأنه نماء ملك المشتري؛ لأن الساق ملكه، حتى يكون التبن له بخلاف الشجرة. ب ـ وإن لم يتناه عظمه ينظر: إن كان الترك بإذن البائع، جاز وطاب له الفضل. وإن كان بغير إذنه تصدق بما زاد على ما كان عند العقد؛ لأن الزيادة حصلت بسبب محظور، فأوجب خبثاً فيها، فكان سبيلها التصدُّق (¬1). حكم الثمرة المتجددة في مدة الترك غير المشروطة: إذا أخرجت الشجرة في مدة الترك ثمرة أخرى، فهي للبائع سواء أكان الترك بإذنه أم بغير إذنه، لأنه نماء ملك البائع، فيكون له، ولو حللها له البائع جاز. وإن اختلط الحادث بعد العقد بالموجود عنده، بحيث لا يمكن التمييز بينهما ينظر: إن كان ذلك قبل أن يخلي البائع بين المشتري والثمار، بطل البيع، كما قرر الكاساني في البدائع؛ لأن المبيع صار معجوز التسليم بالاختلاط، للجهالة وتعذر التمييز. وإن كان بعد التخلية لم يبطل البيع؛ لأن التخلية قبض، ويتم البيع، والثمرة ¬
المالكية والشافعية والحنابلة
تكون بينهما، لاختلاط ملك أحدهما بالآخر اختلاطاً لا يمكن التمييز بينهما، فكان الكل مشتركاً بينهما، والقول في مقدار الزيادة قول المشتري، لأنه صاحب يد لوجود التخلية (¬1). هذا هو مذهب الحنفية في بيع الثمار أو الزروع. وقال المالكية والشافعية والحنابلة: إن بدا صلاح الثمر جاز بيعه مطلقاً أو بشرط القطع أو بشرط الترك على الشجر. أما قبل بدو الصلاح فإن كان البيع بشرط الترك أو البقاء فلا يصح إجماعاً؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمبتاع» (¬2) والنهي يقتضي فساد المنهي عنه، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على القول بجملة هذا الحديث، وذلك لأن له خطر المعدوم (¬3). وإن كان البيع بشرط القطع في الحال فيصح بالإجماع؛ لأن المنع إنما كان خوفاً من تلف الثمرة وحدوث العاهة فيها، قبل أخذها، بدليل ما روى أنس: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى تزهو، فقلنا لأنس ما زهوها؟ قال: تحمر وتصفر، قال: أرأيت إذا منع الله الثمرة، بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟» (¬4) وهذا مأمون فيما يقطع في الحال، فصح بيعه، كما لو بدا صلاحه. قال ابن رشد: بما أن العلة في النهي هو خوف ما يصيب الثمار من الجائحة غالباً قبل أن تزهى، لم يحمل العلماء النهي في هذا على الإطلاق: أعني النهي عن البيع قبل الإزهاء، بل ¬
رأوا أن معنى النهي هو بيعه بشرط التبقية إلى الإزهاء، فأجازوا بيعها قبل الإزهاء بشرط القطع. واستدلوا على عدم جواز بيع الزرع الأخضر في الأرض إلا بشرط القطع في الحال بحديث ابن عمر وهو: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيع النخل حتى يزهو (¬1)، وعن بيع السنبل حتى يبيض، ويأمن العاهة، نهى البائع والمشتري» (¬2) قال ابن المنذر: لا أعلم أحداً يعدل عن القول به. وأما إذا كان البيع قبل بدو الصلاح مطلقاً دون اشتراط تبقية ولا قطع، فالبيع باطل، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أطلق النهي عن بيع الثمرة قبل بدو الصلاح (الزهو)، فيدخل فيه محل النزاع. وإطلاق العقد يقتضي التبقية، لأن المطلق ينصرف إلى المتعارف، والمتعارف هو الترك، بدليل سياق الحديث، فيصير العقد المطلق كالذي شرطت فيه التبقية، يتناولهما النهي جميعاً، ويصح التعليل بالعلة التي علل بها النبي صلّى الله عليه وسلم من منع الثمرة وهلاكها. ويدل الحديث أيضاً على أن مابعد الغاية: (حتى يبدو صلاحها) بخلاف ماقبل الغاية، وأن هذا النهي يتناول البيع المطلق عن شرط التبقية (¬3). والخلاصة كما قال صاحب فتح القدير (¬4): لا خلاف في عدم جواز بيع الثمار قبل أن تظهر، ولا في عدم جوازه بعد الظهور قبل بدو الصلاح بشرط الترك، ولا في جوازه قبل بدو الصلاح بشرط القطع فيما ينتفع به، ولا في الجواز بعد بدو الصلاح، والخلاف إنما هو في بيعها قبل بدو الصلاح. ¬
دو الصلاح أو الإزهاء
ورجح ابن عابدين في رسالته نشر العرف جوازه بيع الثمار مطلقاً قبل بدو الصلاح أو بعده إذا جرى العرف بترك ذلك؛ لأن الشرط الفاسد إذا جرى به العرف صار صحيحاً ويصح العقد معه استحساناً (¬1). وب دو الصلاح أو الإزهاء في المشهور عند الجمهور: هو ظهور الحمرة أو الصفرة في ثمر النخل، وظهور الماء الحلو، واللين، والاصفرار في ثمرة الكرم. وفيما عدا ذلك أن يبدو النضج، أي أن العبرة فيما يتلون: هو أن يأخذ في الحمرة أو السواد أو الصفرة، كالبلح والعناب والمشمش والإجاص. وفيما لايتلون: العبرة بظهور مبادئ النضج والحلاوة بأن يتموه «أي يبدو فيه الماء الحلو» ويلين ويصفر لونه، وفي الحبوب والزروع يعتبر اشتدادها (¬2). والدليل على هذا: أن النبي صلّى الله عليه وسلم «نهى عن بيع الثمر، حتى يطيب» (¬3) ونهى أيضاً عن بيع الثمار حتى تزهو، قيل: ومازهوها؟ قال: تحمروتصفر (¬4)، ونهى عن بيع العنب حتى يسود (¬5)، وقال الحنفية: بدو الصلاح: أن تؤمن العاهة والفساد (¬6) أي أن الحنفية اعتبروا مجرد ظهور الثمرة، والجمهور اعتبروا ظهور النضج وبدو الحلاوة في الثمار، وفي الحب والزرع اشتدادهما. وينظر في بدو الصلاح إلى كل نوع أو صنف على حدة من أنواع الثمار عند ¬
بيع الثمار المتلاحقة الظهور أو المقاثي والمباطخ
الحنفية. وقال الشافعية والحنابلة في أظهر الروايتين عندهم: ينظر إلى كل صنف على حدة وفي بستان واحد، فلا يصح بيع الرمان مثلاً إن بدا صلاح العنب، ولابيع عنب في بستان إن بدا الصلاح في بستان آخر، إذ أن الجنس الواحد لايتبع جنساً آخر، والبساتين تختلف في إبان نضوجها بحسب موقعها الجغرافي. وقال المالكية: إن بدا الصلاح في صنف من أصناف الثمار، جا ز بيع جميع مافي البساتين المجاورة. ولايجوز بيع صنف لم يبد صلاحه ببدو صلاح صنف آخر. وقال الظاهرية: إذا بدا الصلاح في صنف من أصناف الثمار في بستان واحد جاز بيع جميع أصناف الثمار الأخرى بشرط كون البيع صفقة واحدة ماعدا النخل والعنب، فلا يجوز بيع شيء من ثمارهما إلا بعد الإزهاء أو ظهور الطيب بالسواد أو بغيره، لورود نص خاص بهما (¬1). بيع الثمار المتلاحقة الظهور أو المقاثي والمباطخ (¬2): إذا بيع ثمر أو زرع بعد بدو الصلاح ولو بعضه، وكان يغلب تلاحقه واختلاط حادثه بالموجود كتين، وقثاء، وموز، وورد، وبطيخ،،وباذنجان، وخيار، وقرع، فقال الحنفية في ظاهر الرواية والشافعية والحنابلة والظاهرية والزيدية والإباضية: يجوز بيع ماظهر منها من الخارج الأول. وأما بيع ماظهر وما لم يظهر، فلايجوز، لأن العقد اشتمل على معلوم ومجهول، قد لايخرجه الله تعالى من الشجرة. ولايصح أيضاً البيع، لعدم القدرة على تسليم المبيع، والحاجة تندفع ببيع أصوله، ولأن مالم يبد صلاحه يجوز إفراده بالبيع بخلاف مالم يخلق. ¬
إلا أن الحنفية يقولون فيما لايجوز: إن البيع فاسد (¬1). وغيرهم يقولون: إنه باطل. وهناك قول ثان عند الحنفية بجواز هذا البيع؛ لأن الناس اعتادوا بيع الثمار على هذه الصفة، وفي نزع الناس عن عادتهم حرج وضيق. وقد رجح ابن عابدين هذ القول وأخذت به مجلة الأحكام الشرعية. وقال المالكية وابن تيمية وابن القيم والشيعة الامامية وهو الراجح عند متأخري الحنفية: يصح البيع عملاً بحسن الظن بالله تعالى وبمسامحة الإنسان لأخيه بجزء من الثمن المقابل للذي يخرجه الله تعالى من الثمرة، ولجريان العرف وعادة الناس به، ولأن ذلك يشق تمييزه، فجعل مالم يظهر تبعاً لما ظهر، كما أن مالم يبد صلاحه تبع لما بدا (¬2). وإني أرجح هذا الرأي لمسايرته متطلبات الحياة الواقعية، واعتياد الناس لهذا البيع وحاجتهم إليه، وإلا أدى منعه إلى منازعات لاتنتهي. ¬
بيع الحنطة في سنبلها
بيع الحنطة في سنبلها: قال الحنفية: يجوز بيع الحنطة في سنبلها والباقلاّ في قشره، وكذا الأرز والسمسم، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «نهى عن بيع النخل حتى يزهو، وعن بيع السنبل حتى يبيض، ويأمن العاهة، نهى البائع والمشتري» ولأنه حب منتفع به فيجوز بيعه في سنبله كالشعير (¬1). وكذلك قال المالكية والحنابلة والظاهرية: يجوز بيع الحب في سنبله، ولكن لايجوز بالاتفاق بيع الحب من دون السنبل، لأنه بيع مالم تعلم صفته ولاكثرته. ودليلهم الحديث السابق، والمعقول: وهوأنه إذا اشتد الحب بدا صلاحه، فصار كالثمرة إذا بدا صلاحها، وإذا اشتد شيء من الحب جاز بيع جميع مافي البستان من نوعه، كالشجرة إذا بدا الصلاح في شيء منها (¬2). وقال الشافعية في الأصح عندهم: مالايرى حبه كالحنطة والعدس والسمسم في السنبل لايصح بيعه وإن اشتد دون سنبله لاستتاره، ولابيعه مع السنبل؛ لأن المقصود منه مستتر بما ليس من صلاحه، فلا يصح قياساً على بيع الحنطة في تبنها بعد الدياس، فإنه لايصح قطعاً، ولأنه من باب الغرر، وأما حديث: «نهى الرسول صلّى الله عليه وسلم عن بيع السنبل حتى يبيض» أي يشتد، فهو محمول على الشعير ونحوه جمعاً بين الدليلين. والأرز كالشعير، والذرة بارزة الحبات كالشعير، وأما المستورة بكمام فكالحنطة (¬3). ¬
حكم البيع الفاسد
حكم البيع الفاسد: سأذكر حكم البيع الفاسد ومايلحق به من الكلام في التصرف بالمبيع، وفسخ المشترى شراء فاسداً، والزيادة في المبيع بيعاً فاسداً. للبيع الفاسد عند الحنفية أحكام (¬1)، منها: أن البيع ينعقد بقيمة المبيع أو بالمثل، لا بالثمن المسمى، ويفيد الملك في المبيع بالقبض؛ لأن ذكر الثمن المرغوب كالخمر مثلاً، أو إدخال شرط فاسد، أو وجود الجهالة في الثمن ونحوها، دليل على أن غرض المتعاقدين البيع، فينعقد بيعاً بقيمة المبيع باعتبار أن القيمة هي الواجب الأصلي في المبايعات؛ لأنها مثل المبيع في المالية. ويكون المبيع ببيع فاسد مضموناً في يد المشتري يلزمه مثله إن كان مثلياً، والقيمة إن كان قيمياً. والدليل على أن البيع الفاسد منعقد يفيد الملك: هو أن ركن البيع «وهو مبادلة مال بمال» صدر من أهله مضافاً إلى محله، فوجب القول بانعقاده، وإنما المحظور ليس لمعنى في ذات المنهي عنه، وإنما لما يجاور البيع، كما في البيع وقت النداء إلى صلاة الجمعة، فكان ذكر هذه الشروط لايصح، فالتحق ذكرها بالعدم أي فكأنها لم تذكر. وإنما لايثبت الملك قبل القبض كيلا يتقرر الفساد، لأنه إذا ثبت المالك قبل القبض وجب تسليم الثمن، وتسليم المبيع، فيتقرر الفساد، وهو لايجوز؛ لأن الفساد واجب الإزالة والرفع شرعاً. وعند جمهور الفقهاء: لاينعقد البيع الفاسد، ولايفيد الملك أصلاً، وإن ¬
يشترط في البيع الفاسد لإفادة الملك عند الحنفية
قبض المشتري المبيع؛ لأن المحظور لايكون طريقاً إلى الملك،،ولأن النهي عن المبيع الفاسد يقتضي عدم المشروعية، وغير المشروع لايفيد حكماً شرعياً. ويشترط في البيع الفاسد لإفادة الملك عند الحنفية شرطان: 1 ً - القبض: فلا يثبت الملك قبل القبض، لأنه واجب الفسخ رفعاً للفساد، وفي التسليم تقرير الفساد، كما تقدم. 2 ً - أن يكون القبض بإذن البائع: فإن قبض بغير إذنه أصلاً لايثبت الملك، وذلك بأن نهاه عن القبض أو قبض بغير محضر منه من غير إذنه. فإن لم ينهه عن القبض ولا أذن له في القبض صريحاً، فقبضه في مجلس العقد بحضرة البائع: ففي المشهور من الروايات عن الحنفية أن الملك لايثبت. وذكر محمد في الزيادات أنه يثبت الملك، وهو الصحيح كما قال المرغيناني، لأن ذلك إذن منه بالقبض دلالة، كما في باب الهبة إذا قبض الموهوب له بحضرة الواهب، فلم ينهه، صح قبضه، ولأن البيع تسليط من البائع على القبض، فإذا قبضه المشتري بحضرة البائع، كان بحكم التسليط السابق. ووجه الرواية التي سماها صاحب الإيضاح مشهورة: هو أن العقد الفاسد ليس فيه تسليط على القبض، لوجود المانع من القبض، لأن في قبض المبيع تقرير الفساد، فكان الإذن بالقبض إذناً بما فيه تقرير الفساد، بخلاف الهبة لامانع فيها من القبض، وحينئذ فلا سبيل إلى إثبات الإذن بطريق الدلالة (¬1). التصرف في المشترى شراء فاسدا ً: من أحكام البيع الفاسد: أن المشتري بعد قبض المبيع يملك التصرفات الناقلة ¬
مايبطل حق الفسخ
للملكية التي تتعلق بعين الشيء، وتكون نافذة مثل البيع والهبة والصدقة والرهن والإجارة؛ لأن هذه التصرفات تزيل حق الانتفاع بالحرام، ولكن الصحيح عند الحنفية أن هذه التصرفات تكون مكروهة لأنه يجب فسخ العقد الفاسد لحق الشرع، وفي هذه التصرفات إبطال أو تأخير لحق الفسخ، فتكره. وأما التصرفات التي تتعلق بعين الشيء، أي في الانتفاع بالعين كأكل الطعام ولبس الثوب وركوب الدابة وسكنى الدار، فلا تباح للمشتري شراء فاسداً؛ لأن الثابت بالبيع الفاسد ملك خبيث، والملك الخبيث لايفيد إطلاق الانتفاع، لأنه واجب الرفع والبطلان، وهذا هو الصحيح عن الحنفية (¬1). مايبطل حق الفسخ: 1 - التصرف الواقع على المشترى شراءً فاسداً: من المعروف أن الملك الثابت في البيع الفاسد ملك غير لازم، بل هو مستحق الفسخ، ويحق لكل من العاقدين قبل القبض فسخ العقد من غير رضا الآخر، كيفما كان الفساد، كما يحق لهما الفسخ بعد القبض إذا كان الفساد راجعاً إلى العوض، كأن يكون الثمن خمراً أو خنزيراً. وإن لم يكن الفساد راجعاً إلى العوض بعد القبض كالبيع بشرط منفعة زائدة لأحد العاقدين أو إلى أجل مجهول، فلكل واحد من العاقدين الفسخ في قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن العقد في نفسه غير لازم. وفي قول محمد: حق الفسخ لمن شرط له المنفعة لا غير؛ لأن من له شرط المنفعة قادر على تصحيح العقد بإزالة المفسد وإسقاطه (¬2). ¬
هذا بالنسبة لأصل التصرف الفاسد، فهل يبطل حق الفسخ بسبب التصرف الواقع بعد القبض على المشترى شراء فاسداً؟ فيه تفصيل (¬1). 1 - إن كان التصرف مزيلاً للملك من كل وجه كالبيع والهبة والإعتاق، فلا يفسخ (أي أن حق الفسخ في البيع الفاسد يبطل) وعلى المشتري القيمة أو المثل، لأنه تصرف في محل مملوك له، فنفذ تصرفه. 2 - وإن كان تصرفاً مزيلاً للملك من وجه، أو ليس مزيلاً للملك: آـ فإن كان تصرفاً لا يحتمل الفسخ ومثلوا له بالتدبير والاستيلاد والكتابة (¬2) فإنه يبطل الفسخ. ب ـ وإن كان التصرف يحتمل الفسخ، كالإجارة فإنه يفسخ، فلو آجر رجل الشيء، حقَّ للمالك الأول فسخ الإجارة، ثم يفسخ البيع بسب الفساد؛ لأن الإجارة وإن كانت عقداً لازماً، إلا أنها تفسخ بالعذر، ولا عذر أقوى من رفع الفساد. ولو أوصى شخص بالمبيع بيعاً فاسداً، صحت الوصية، ويجوز فسخها ما دام الموصي حياً؛ لأن الوصية تصرف غير لازم حال حياة الموصي. فلو مات الموصي قبل الفسخ، سقط حق الفسخ؛ لأن الملك انتقل إلى الموصى له، كما ينتقل بالبيع. ويلاحظ أن حق الفسخ يورث، فلو مات المشتري شراء فاسداً فورثه الورثة، ¬
2 - الزيادة في المبيع بيعا فاسدا
فيحق للبائع الفسخ، وكذا الورثة؛ لأن الوارث يقوم مقام الميت في حق الفسخ، وكذا يحق لورثة البائع إن مات أن يطالب ورثته باسترداد المبيع. 2 - الزيادة في المبيع بيعاً فاسداً: إذا حدثت زيادة في المبيع بيعاً فاسداً، فإما أن تكون زيادة منفصلة أو متصلة: 1 - الزيادة المتصلة: الزيادة المتصلة إما أن تكون متولدة من الأصل أو غير متولدة. آـ فإن كانت متولدة من الأصل كالسمن والجمال، فلا تمنع الفسخ؛ لأن هذه الزيادة تابعة للأصل حقيقة، والأصل مضمون الرد، فكذلك التبع، كما في الغصب. ب ـ وإن كانت غير متولدة من الأصل كخلط الدقيق بالسمن أو العسل، فإنها تمنع الفسخ؛ لأنه لو فسخ إما أن يفسخ على الأصل وحده أو على الأصل والزيادة معاً، ولا سبيل إلى الأول لتعذر الفصل، ولا سبيل إلى الثاني؛ لأن الزيادة لم تدخل تحت البيع، لا أصلاً ولا تبعاً، فلا تدخل تحت الفسخ. 2 - الزيادة المنفصلة: هذه الزيادة أيضاً إما متولدة من الأصل أوغير متولدة منه. آـ فإن كانت متولدة من الأصل كالولد واللبن والثمرة، فلا تمنع حق الفسخ، وللبائع أن يسترد الأصل مع الزيادة تابعة للأصل، لكونها متولدة منه، والأصل مضمون الرد، فكذلك الزيادة، كما هو المقرر في حالة الغصب. ويلاحظ أن
الأرش (¬1) يعد من هذا القسم؛ لأنه بدل جزء فائت من الأصل حقيقة كالمتولد من الأصل. ب ـ وإن كانت غير متولدة، كالهبة والصدقة والكسب، فإنها لا تمنع الرد، وللبائع أن يسترد الأصل مع الزيادة، لأنها حصلت على ملكه، إلا أنها لا تطيب له، لأنها لم تحدث في ضمانه، بل في ضمان المشتري. والخلاصة: أن الزيادة المتصلة غير المتولدة: هي التي تبطل حق الفسخ فقط دون غيرها من أنواع الزيادة. ولا تضمن الزيادة بالهلاك، وتضمن بالاستهلاك. وكذلك الزيادة بالصنع تبطل حق الفسخ: وهي أن يحدث المشتري في المبيع بيعاً فاسداً صنعاً، لو فعله الغاصب في المغصوب يصير ملكاً له، كما إذا كان المبيع قطناً، فغزله، أو غزلاً فنسجه، أو حنطة فطحنها، أو سمسماً أوعنباً فعصره، أو ساحة فبنى عليها، أو شاة فذبحها وشواها أو طبخها ونحوها؛ إذ القبض في البيع الفاسد كقبض الغصب؛ لأن كل واحد منهما مضمون الرد حال قيامه، ومضمون القيمة أو المثل حال هلاكه، فكل ما يبطل حق المالك في الغصب يبطله في البيع. وحينئذ يلزم المشتري بدفع قيمة الشيء المبيع يوم القبض، كما في الغصب (¬2). وعلى هذا فليس للبائع المطالبة بنقض البناء الذي بناه المشتري في الأرض المبيعة بيعاً فاسداً، وإنما على المشتري قيمتها، وهذا قول أبي حنيفة رضي الله عنه. وقال الصاحبان: لا يبطل حق الفسخ حينئذ، وللبائع أن ينقض البناء ويقلع الغرس كما في الغصب، إذا بنى على الأرض المغصوبة لا يبطل حق المالك في الأرض. ¬
خلاصة البيوع الممنوعة في الإسلام
ودليل أبي حنيفة: أن البناء والغرس مما يقصد به الدوام، وقد حصل البناء أو الغرس بتسليط من البائع؛ لأن المبيع صار ملكاً للمشتري وفي النقض ضرر كبير، فلا ينقض البناء، ولا يقلع الغرس، كما في تصرف البيع والهبة، بخلاف الغاصب، لأنه لم يوجد التسليط على البناء (¬1). وأما نقصان المبيع بيعاً فاسداً فلا يمنع البائع من الاسترداد، سواء حصل النقص بآفة سماوية أو بفعل المبيع أو بفعل المشتري، فإن حصل بفعل أجنبي، فالبائع بالخيار: إن شاء أخذ قيمة النقص من المشتري، والمشتري يرجع به على الجاني، وإن شاء طالب الجاني وهو لا يرجع على المشتري (¬2). خلاصة البيوع الممنوعة في الإسلام البيوع الممنوعة أو المنهي عنها في الإسلام كثيرة، لا فرق فيها عند الجمهور بين باطل وفاسد، وفرق الحنفية بينهما، كما تقدم، وقد عرفنا طائفة من هذه البيوع، أذكر هنا أهمها بالنظر إلى سبب الخلل الذي صاحبها، وهو أنواع أربعة: بسبب أهلية العاقد: وبسبب الصيغة، وبسبب المعقود عليه أو محل التعاقد، وبسبب اقتران العقد بوصف أو شرط أو نهي شرعي. أولاً ـ البيوع الممنوعة بسبب أهلية العاقد: اتفق الفقهاء على أنه يصح البيع من كل بالغ عاقل مختار مطلق التصرف غير محجور عليه لحق نفسه كالسفيه أو لحق غيره كالمدين. وأما من لا يصح بيعه فهو ما يأتي: ¬
1 - بيع المجنون
1 - بيع المجنون: لا يصح بالاتفاق، لانعدام الأهلية، ومثله المغمى عليه والسكران والمخدَّر. 2 - بيع الصبي: لا يصح بيع غير المميز اتفاقاً إلا في الشيء اليسير، وأما المميز فلا يصح بيعه عند الشافعية والحنابلة؛ لعدم الأهلية، ويصح بيعه موقوفاً على إذن وليه أو إجازته عند الحنفية والمالكية، فإذا أجيز صار نافذاً، إذ لا يمكن اختباره إلا بتفويض التصرف إليه بالبيع والشراء، عملاً بالآية: {وابتلوا اليتامى ... } [النساء:6/ 4] ويصح تصرف المميز والسفيه بإذن وليهما عند الحنابلة. 3 - بيع الأعمى إذا وصف له المبيع صحيح عند الجمهور، لوجود الرضا، باطل غير صحيح عند الشافعية لقصوره في إدراك الجيد والرديء، فيكون المعقود عليه في حقه مجهولاً. 4 - بيع المكره: موقوف غير نافذ كالفضولي على التحقيق عند الحنفية، فإذا أجازه المكره بعد زوال الإكراه نفذ. وغير لازم في رأي المالكية، فيكون له الخيار بين فسخ العقد وإمضائه، وغير صحيح في مذهبي الشافعية والحنابلة لعدم توافر الرضا عند إبرام العقد. 5 - بيع الفضولي: صحيح موقوف على إجازة المالك الحقيقي في رأي الحنفية والمالكية؛ لأن الإجازة اللاحقة كالإذن السابق. ولا يصح أصلاً عند الشافعية والحنابلة، للنهي عن بيع ما لم يملكه الإنسان، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه. 6 - بيع المحجور عليه بسبب السفه أو الإفلاس أو المرض: أما السفيه المبذر فبيعه موقوف عند الحنفية والمالكية وفي الراجح لدى الحنابلة، ولا يصح في رأي الشافعية لعدم أهليته، وعدم اعتبار كلامه.
7 - بيع الملجأ
وأما المفلس بسبب الحكم عليه بالإفلاس لحق الدائنين الغرماء فتصرفه بالبيع موقوف عند الحنفية والمالكية، غير صحيح لدى الشافعية والحنابلة. وأما المريض مرض الموت فتبرعاته عند الجمهور غير المالكية نافذة في حدود ثلث التركة، موقوفة في الزائد عن الثلث على إجازة الورثة. ولا ينفذ تبرعه من الثلث في مذهب المالكية في المنقول، وينفذ من العقار كدار وأرض وشجر ونحوها مما لا يخشى تغييره. 7 - بيع المُلْجَأ: وهو المضطر إلى البيع لتهريب أمواله من وجه ظالم. وبيعه فاسد عند الحنفية، باطل عند الحنابلة. ثانياً ـ البيوع الممنوعة بسبب الصيغة: يصح البيع بالاتفاق بتراضي العاقدين، وتوافق الإيجاب والقبول فيما يجب التراضي عليه من مبيع وثمن وغيرهما، وكون الإيجاب والقبول في مجلس واحد دون أن يحدث بينهما فاصل. ولا يصح البيع في حالات، منها ما يأتي: 1 - بيع المعاطاة: المعاطاة: أن يتفق العاقدان على ثمن ومثمن، ويعطيا من غير إيجاب ولا قبول، وقد يوجد لفظ من أحدهما. وهو بيع صحيح عند الجمهور؛ لأن البيع ينعقد بكل ما يدل على الرضا بتبادل الملك في الأموال، سواء بالصيغة المعبرة عن الإرادة صراحة من إيجاب وقبول، أم بما يدل على الرضا عرفاً، اعتباراً بعرف الناس واحتراماً لعاداتهم السائدة فيما بينهم، ما لم تصادم نصاً من نصوص الشرع. فيصح البيع باللفظ أو الإشارة أو بغيرهما، ما دام يدل على المقصود من العلم بتراضي العاقدين، ولم يثبت اشتراط لفظ، فيرجع للعرف كسائر الألفاظ المطلقة. ولا ينعقد البيع بالمعاطاة عند الشافعية (¬1)، بل لا بد من ¬
2 - البيع بالمراسلة أو بواسطة رسول
الإيجاب والقبول في كل عقد بيعاً وإجارة ورهناً وهبة ونحوها؛ لأن اسم البيع لا يقع عليه، ولعدم توافر الدليل الظاهر المطلوب شرعاً الدال على الرضا؛ لأن البيع منوط بالرضا، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء:29/ 4] ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «إنما البيع عن تراض» (¬1) والرضا أمر خفي لا يطلع عليه، فأنيط الحكم بسبب ظاهر، وهو الصيغة، فلا ينعقد بالمعاطاة، إذ الفعل لا يدل بوضعه، فيكون المقبوض بالمعاطاة كالمقبوض ببيع فاسد، فيطالب كل عاقد صاحبه بما دفع إليه إن بقي، وببدله إن تلف. وأجاز بعض الشافعية كابن سريج والرُوياني المعاطاة في المحقَّرات: وهي ماجرت العادة فيها بالمعاطاة، كرطل خبز، وحزمة بقل. وقال بعضهم: كل من وسم بالبيع، اكتفي منه بالمعاطاة، كالعامي والتاجر، وكل من لم يعرف بذلك لا يصح منه إلا باللفظ. وقال النووي في المجموع: وأما إذا كان يأخذ من البياع ويحاسبه بعد مدة ويعطيه، كما يفعل كثير من الناس، فإنه باطل بلا خلاف؛ لأنه ليس ببيع لفظي ولا معاطاة. وصحح النووي المعاطاة، فقال: المختار والراجح دليلاً الصحة؛ لأنه لم يصح في الشرع اعتبار لفظ، فوجب الرجوع إلى العرف، كغيره من الألفاظ (¬2). 2 - البيع بالمراسلة أو بواسطة رسول: يصح اتفاقاً، ويكون مجلس التعاقد هومجلس بلوغ الرسالة من العاقد الأول إلى العاقد الثاني، فإن تم القبول بعد هذا المجلس لم ينعقد العقد. ¬
3 - بيع الأخرس بالإشارة المفهومة أو الكتابة
3 - بيع الأخرس بالإشارة المفهومة أو الكتابة: صحيح اتفاقاً، كالنطق من الناطق، للضرورة؛ لأن ذلك يدل على ما في فؤاده، كما يدل عليه النطق من الناطق، فإن لم تكن له إشارة مفهومة ولا يحسن الكتابة لم يصح عقده. 4 - البيع مع غائب عن مجلس العقد: لا يصح اتفاقاً؛ لأن اتحاد المجلس شرط لانعقاد البيع. 5 - البيع مع عدم تطابق القبول والإيجاب: لا يصح اتفاقاً، إلا إذا كانت المخالفة إلى خير، كزيادة المشتري على الثمن المتفق عليه، يصح بها العقد عند الحنفية، ولا يصح عند الشافعية. 6 - البيع غير المنجز: وهو المعلق على شرط أو المضاف لوقت في المستقبل: فاسد عند الحنفية، باطل عند الجمهور. ثالثاً ـ البيوع الممنوعة بسبب المعقود عليه (محل التعاقد): المعقود عليه بالمعنى الأعم: هو المال المبذول من كلا المتعاقدين، ويسمى أحد البدلين مبيعاً، ويسمى الآخر ثمناً. وقد اتفق الفقهاء على صحة البيع إذا كان المعقود عليه مالاً متقوماً محرزاً موجوداً، مقدوراً على تسليمه، معلوماً للعاقدين، لم يتعلق به حق الغير، ولم ينه عنه الشرع. واختلفوا في صفة بعض البيوع المنهي عنها على النحو التالي: 1 - بيع المعدوم أو ماله خطر العدم، كبيع المضامين (ما في أصلاب الذكور) والملاقيح (ما في أصلاب الإناث) وحبل الحبلة (نتاج النتاج): باطل لا ينعقد باتفاق أئمة المذاهب الأربعة، للنهي عنه في الأحاديث الصحيحة.
2 - بيع معجوز التسليم
2 - بيع معجوز التسليم، كالطير في الهواء والسمك في الماء، باطل لا ينعقد باتفاق المذاهب، للنهي الثابت عنه في السنة. 3 - بيع الدين نسيئة وهو بيع الكالئ بالكالئ: باطل اتفاقاً، للنهي عنه شرعاً. وبيع الدين للمدين في الحال جائز اتفاقاً، وبيع الدين لغير المدين في الحال باطل عند الحنفية والحنابلة والظاهرية، جائز في المذاهب الأخرى. 4 - بيع الغرر الفاحش أو غير اليسير: وهو غير المتحقق الموجود، لا يصح اتفاقاً للنهي عنه، لكن منه ما هو باطل اتفاقاً كبيع الملاقيح والمضامين وحبل الحبلة، ومنه ما هو فاسد في اصطلاح الحنفية باطل عند غيرهم: وهو بيع ضربة القانص والغائص والمزابنة (بيع الرطب على النخل، والعنب على الكرمة بثمر مقطوع، بالحزر والتخمين) والمحاقلة (بيع الحنطة في سنبلها بمثلها بالحرز والتخمين) والملامسة (تنجيز البيع بمجرد اللمس) والمنابذة (إبرام البيع بمجرد نبذ المبيع إلى المشتري أو بنبذ أحد المبيعات) وبيع الحصاة (ما تقع عليه الحصاة)، وبيع المجهول من أصناف متعددة أكثر من ثلاثة. قال ابن جزي المالكي (¬1): الغرر الممنوع عشرة أنواع: النوع الأول ـ تعذر التسليم كالبعير الشارد، ومنه بيع الجنين في البطن دون بيع أمه، وكذلك استثناؤه في بطن أمه، وكذلك بيع ما لم يخلق كبيع حبل الحبلة: وهو نتاج ما تنتج الناقة، وبيع المضامين: وهي ما في ظهور الفحول. النوع الثاني ـ الجهل بجنس الثمن أو المثمون: كقوله: بعتك ما في كمي. النوع الثالث ـ الجهل بصفة أحدهما، كقوله: بعتك ثوباً من منزلي، أو بيع الشيء من غير تقليب ولا وصف. ¬
النوع الرابع ـ الجهل بمقدار المبيع أو الثمن
النوع الرابع ـ الجهل بمقدار المبيع أو الثمن، مثل الثاني: بعت منك بسعر اليوم، أو بما يبيع الناس، أو بما يقول فلان إلا بيع الجزاف يجوز. ومثال الأول: لايجوز بيع القمح في سنبله للجهل به، ويجوز بيعه مع سنبله، خلافاً للشافعي، وكذلك لايجوز بيعه في تبنه، ويجوز بيعه مع تبنه، ولا يجوز بيع تراب الصاغة، ويجوز بيع الفول الأخضر والجوز واللوز في القشر الأعلى، خلافاً للشافعي. النوع الخامس ـ الجهل بالأجل: مثل بعتك إلى قدوم زيد أو إلى موت عمرو، ويجوز أن يقول: إلى الحصاد، أو إلى معظم الدراس أو إلى شهر كذا، ويحمل على وسطه. النوع السادس ـ بيعتان في بيعة: وهو أن يبيع مبيعاً واحداً بأحد ثمنين مختلفين، أو يبيع أحد مبيعين بثمن واحد، فالأول: أن يقول: بعتك هذا الثوب بعشرة نقداً، أو بعشرين، إلى أجل، على أن البيع قد لزم في أحدهما. والثاني ـ أن يقول: بعتك أحد هذين الثوبين بكذا، على أن البيع قد لزم في أحدهما. النوع السابع ـ بيع ما لا ترجى سلامته، كالمريض في السباق. النوع الثامن ـ بيع الحصى: هو أن يكون بيده حصى، فإذا سقطت وجب البيع. النوع التاسع ـ بيع المنابذة: وهو أن ينبذ أحدهما ثوبه إلى الآخر، وينبذ الآخر ثوبه إليه، فيجب البيع بذلك. النوع العاشر ـ بيع الملامسة: وهو أن يلمس الثوب، فيلزمه البيع بلمسه، وإن لم يتبينه. وحاصل هذه الأنواع يرجع إلى بيع معجوز التسليم، وبيع المجهول، وبيع الأشياء المحتملة، وبيع الحصى وبيع المنابذة وبيع الملامسة.
5 - بيع النجس والمتنجس
5 - بيع النجس والمتنجس: لا يصح اتفاقاً بيع النجس كالخمر والخنزير والميتة والدم، ولا يصح عند الجمهور أيضاً بيع المتنجس الذي لا يمكن تطهيره كالسمن والزيت والعسل الذي وقعت فيه نجاسة كفأرة مثلاً. وأجاز المالكية الاستصباح وعمل الصابون بالزيت النجس، وأباح الحنفية بيع المتنجس لغير الأكل كالدبغ والدهان والاستضاءة في غير المسجد، ما عدا دهن الميتة، فإنه لا يحل الانتفاع به، تنزهاً عن فعل اليهود، حينما حرمت عليهم الميتة أذابوها وباعوها وأكلوا ثمنها. وكذلك بيع المعازف (آلات الطرب) لا يصح في رأي الجمهور للنهي عن الانتفاع بها، وأجاز الظاهرية وبعض المالكية بيعها، للأحاديث الثابتة الدالة على جواز ضرب الدف ونحوه. 6 - بيع الماء: يجوز عند الجمهور من أئمة المذاهب الأربعة بيع الماء المملوك، أو المحرز في الأواني، أو ماء العين أو البئر. وقال الظاهرية: لا يحل بيع الماء مطلقاً. واتفق العلماء على أنه لا يصح بيع الماء المباح أي الماء العام المشترك بين الناس؛ لأن الناس شركاء فيه وفي النار والكلأ والملح. 7 - بيع المجهول: البيع المشتمل على جهالة فاحشة في المبيع أو الثمن أو الأجل أو نوع المرهون أو الكفيل فاسد عند الحنفية، باطل في رأي الجمهور؛ لأنه يفضي إلى النزاع والخلاف. 8 - بيع الشيء الغائب عن المجلس أو غير المرئي: يصح في رأي الحنفية من غير رؤية ولا وصف، وللمشتري الخيار عند الرؤية، ويصح في رأي المالكية على الصفة، ويثبت فيه خيار الرؤية. ولا يصح مطلقاً عند الشافعية، والحنابلة في الأظهر. لكن اشترط المالكية (¬1) في البيع على الصفة خمسة شروط: ¬
9 - بيع الشيء قبل القبض
الأول ـ ألا يكون بعيداً جداً كالأندلس وإفريقية. الثاني ـ ألا يكون قريباً جداً كالحاضر في البلد. الثالث ـ أن يصفه غير البائع. الرابع ـ أن يحصر الأوصاف المقصودة كلها. الخامس ـ ألا ينقد ثمنه بشرط من البائع إلا في المأمون التغير كالعقار. ويجوز النقد من غير شرط. ثم إن خرج المبيع على حسب الصفة والرؤية لزم البيع، وإن خرج على خلاف ذلك، فللمشتري الخيار. ويجوز بيع ما في الأعدال من الثياب على وصف البرنامج (¬1)، بخلاف الثوب المطوي دون تقليب ونشر. 9 - بيع الشيء قبل القبض: لا يجوز في رأي الحنفية بيع المنقول قبل القبض، للنهي عنه، ويجوز بيع العقار قبل القبض؛ لأنه مأمون التغير غالباً. ولا يجوز إطلاقاً في رأي الشافعية، لعموم النهي: «نهى النبي صلّى الله عليه وسلم أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم» (¬2). وخصص المالكية المنع في الطعام، سواء أكان ربوياً أم غير ربوي. وقصر الحنابلة المنع على الطعام المكيل أو الموزون أو المعدود، لحديث: «إذا ابتعت طعاماً فلا تبعه حتى تستوفيه» (¬3). ¬
10 - بيع الثمار أو الزروع
10 - بيع الثمار أو الزروع: باطل لا ينعقد اتفاقاً إذا كان قبل أن تخلق؛ لأنه معدوم. أما بعد أن تخلق: فإن كان قبل بدو الصلاح بشرط الترك أو الإبقاء، فلا يصح إجماعاً، والبيع فاسد عند الحنفية، باطل عند الجمهور. وإن كان بشرط القطع في الحال فيصح بالإجماع، وهو صحيح عند الحنفية إذا كان البيع مطلقاً عن الشرط، غير صحيح عند الجمهور. وإن كان بعد بدو الصلاح، جاز بيعه على المفتى به عند الحنفية من رأي محمد بن الحسن ولو بشرط الترك إن تناهى عظمه، ويفسد إن لم يتناه عظمه. ويجوز بيعه مطلقاً ولو بشرط الترك في رأي الجمهور. رابعاً ـ البيوع الممنوعة بسبب وصف أو شرط أو نهي شرعي: يصح البيع اتفاقاً إذا اكتملت أركانه وشروطه، ولم يكن مشتملاً على صفة ضارة بالمجتمع، أو شرط مخالف لمقتضى العقد، أو لاعتبارات أخرى خارجة عن العقد، كما في الحالات التالية: 1 - بيع العَرَبون: لا يجوز عند الجمهور للنهي عنه في السنة، ويعد فاسداً عند الحنفية، باطلاً عند المالكية والشافعية إن كان على ألا يرد البائع العربون إلى المشتري، إذا لم يتم البيع بينهما. فإن كان على أن يرده إليه إذا لم يتم البيع، فهو جائز. وهو جائز لا بأس به عند الحنابلة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أحله، لكن لم يثبت حديث كل من الفريقين. 2 - بيع العينة: وهو أن يظهر العاقدان فعل ما يجوز ليتوصلا به إلى ما لا يجوز، فيمنع ويقع باطلاً في رأي المالكية والحنابلة، للتهمة سداً للذرائع. وهو
3 - بيع الربا
فاسد في رأي أبي حنيفة إن خلا من توسط شخص ثالث، وصحيح مع الكراهة في رأي الشافعية والظاهرية. وبيع العينة ثلاثة أنواع (¬1): الأول ـ أن يقول رجل لآخر: اشتر لي سلعة بكذا، وأربحك فيها كذا، مثل أن يقول: اشترها بعشرة، وأعطيك فيها خمسة عشر، إلى أجل، فإن هذا يؤول في رأي الإمام مالك إلى الربا؛ لأن مذهب مالك النظر إلى ما خرج عن اليد، ودخل فيه، ويلغي الوسائط، فكأن هذا الرجل أعطى لأحد عشرة دنانير، وأخذ منه خمسة عشر ديناراً إلى أجل، والسلعة واسطة ملغاة. الثاني ـ لو قال: اشتر لي سلعة، وأنا أربحك فيها، ولم يسمّ الثمن، فهذا مكروه، وليس بحرام في مذهب مالك. الثالث ـ أن يطلب السلعة عنده فلا يجدها، ثم يشتريها الآخر من غير أمره، ويقول: قد اشتريت السلعة التي طلبت مني، فاشترها مني إن شئت، فيجوز أن يبيعها نقداً أو نسيئة بمثل ما اشتراها به أو أقل أو أكثر. 3 - بيع الربا: ربا النسيئة وربا الفضل فاسد عند الحنفية، باطل عند الجمهور للنهي الثابت عنه في القرآن والسنة النبوية معاً. 4 - البيع بثمن محرَّم كالخمر والخنزير: فاسد عند الحنفية فينعقد بالقيمة، باطل عند الجمهور؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم ـ في حديث البخاري ومسلم ـ حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام. ¬
5 - بيع حاضر لباد
5 - بيع حاضر لباد (¬1) من الذين لا يعرفون الأسعار، وقيل: لكل وارد على مكان وإن كان من مدينة، وهذا هو المقصود الحقيقي من نهي الشرع. وهو بيع حرام لا يجوز للنهي عنه، وعلة النهي نبه عليها صلّى الله عليه وسلم بقوله: «دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض» (¬2) وذلك رفقاً بأهل البلد، فالشارع لاحظ مصلحة الجماعة وقدمها على مصلحة الواحد، ومنع أيضاً الضرر بأهل السوق في انفراد المتلقي عنهم في الرخص وقطع الموارد عنهم، وصورته: أن يجيء البلد غريب بسلعة يريد بيعها بسعر الوقت في الحال، فيأتيه الحاضر، فيقول: ضعه عندي لأبيعه لك على التدريج بأغلى من هذا السعر. وللفقهاء تخصيصات لعموم هذا النهي (¬3)، فقالت الحنفية: إنه يختص المنع (أي كراهة التحريم) من ذلك بزمن الغلاء وبما يحتاج إليه أهل المصر. وقال الشافعية والحنابلة: إن الممنوع إنما هو أن يجيء البلد بسلعة من يريد بيعها بسعر الوقت في الحال، فيأتيه الحاضر، فيقول: ضعه عندي لأبيعه لك على التدريج بأغلى من هذا السعر. قال ابن حجر في الفتح: فجعلوا الحكم منوطاً بالبادي ومن شاركه في معناه، وإنما ذكر البادي في الحديث لكونه الغالب، فألحق به من شاركه في عدم معرفة السعر من الحاضرين. وجعلت المالكية البداوة قيداً. وعن مالك: لا يلتحق بالبدوي في ذلك إلا من كان يشبهه، فأما أهل القرى الذين يعرفون أثمان السلع والأسواق، فليسوا داخلين في ذلك. وحكم هذا البيع فاسد ويجوز فسخه عند المالكية كالنجش، وصحيح عند الحنفية، وفيه الخيار عند الشافعية والحنابلة. ¬
6 - تلقي الركبان
6 - تلقي الركبان: أي الذين يجلبون إلى البلد أرزاق العباد للبيع، سواء أكانوا ركباناً أم مشاة، جماعة أم واحداً. والتلقي محرم، وقال الحنفية: مكروه تحريماً، للنهي الوارد فيه: «لا تلقوا الركبان، ولا يبع حاضر لباد» (¬1) وقد خرج الحديث مخرج الغالب في أن الجالب يكون عدداً، ويكون الجالب في الغالب راكباً. اختلف العلماء في هذا النهي: هل يقتضي الفساد أو لا، فقيل: يقتضي الفساد، وقيل: لا يقتضي ذلك، وهو الظاهر؛ لأن النهي ههنا لأمر خارج وهو لايقتضيه، كما تقرر في الأصول، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «فصاحب السلعة فيها بالخيار إذا ورد السوق» (¬2) قال ابن تيمية في منتقى الأخبار: وفيه دليل على صحة البيع. فالراجح أن هذا البيع وبيع الحاضر للبادي صحيح غير فاسد، وهو رأي الحنفية، ويثبت فيه خيار الغبن عند الحنابلة والشافعية، ولا يجوز لحق أهل الأسواق ويكون فاسداً عند المالكية. 7 - بيع النجش: قال الشافعي: النجش: أن تحضر السلعة تباع، فيعطي بها الشيء، وهو لا يريد شراءها ليقتدي به السوّام، فيعطون بها أكثر مما كانوا يعطون، لو لم يسمعوا سومه. فالنجش في الشرع: الزيادة في السلعة، ويقع ذلك بمواطأة البائع، فيشتركان في الإثم. وبعبارة أخرى: الزيادة في ثمن السلعة المعروضة للبيع لا ليشتريها، بل ليغر بذلك غيره. وسمي الناجش في السلعة ناجشاً؛ لأنه يثير الرغبة فيها ويرفع ثمنها. وقد أجمع العلماء على أن الناجش عاص بذلك. ¬
بيع المزايدة أو المزاد العلني
وأما حكم البيع فمختلف فيه: فقال الظاهرية: إنه فاسد. وقال المالكية والحنابلة في المشهور عندهم: البيع صحيح ويثبت فيه الخيار للمشتري، إذا غبن فيه غبناً غير معتاد. وقال الحنفية، والشافعية في الأصح: البيع صحيح مع الإثم، فهو مكروه تحريماً عند الحنفية، حرام عند الشافعية، لكن لا يكره النجش عند الحنفية إلا إذا زاد المبيع عن قيمته الحقة، فإن لم يكن بلغ القيمة فزاد لا يريد الشراء فجائز، ولا بأس؛ لأنه عون على العدالة. وأما بيع المزايدة أو المزاد العلني وهو البيع ممن يزيد فجائز ليس من المنهي عنه، كما سأبين هنا وكما تقدمت الإشارة إليه. بيع المزايدة: هو البيع على الصفة التي فعلها النبي صلّى الله عليه وسلم فيما يرويه أحمد والترمذي عن أنس: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم باع قَدَحاً وحِلْساً (¬1) فيمن يزيد» وحكى البخاري عن عطاء: أنه قال: أدركت الناس لا يرون بأساً في بيع المغانم فيمن يزيد (¬2). وروى ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور عن مجاهد قال: لا بأس ببيع من يزيد، وكذلك كانت تباع الأخماس، أي أخماس الغنائم. وقال الترمذي عقب حديث أنس المذكور: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، لم يروا بأساً ببيع من يزيد في الغنائم والمواريث. قال ابن العربي: لا معنى لاختصاص الجواز بالغنيمة والميراث، فإن الباب واحد والمعنى مشترك. والظاهر الجواز مطلقاً؛ لأن القدح والحلس في حديث أنس المذكور لم يكونا من ميراث أو غنيمة، ويكون ذكرهما خارجاً مخرج الغالب؛ لأنهما الغالب على ماكانوا يعتادون البيع فيه مزايدة (¬3). ¬
8 - البيع وقت النداء لصلاة الجمعة
وبيع المزاد: أن يعرض البائع السلعة على جمهور الناس، فيزيد في السعر من يشاء، ثم يستقر البيع على الشخص الذي يعرض آخر سعر. وروي عن إبراهيم النخعي أنه كره بيع المزايدة، واحتج بحديث جابر الثابت في الصحيح أنه صلّى الله عليه وسلم قال في مدبّر: من يشتريه مني؟ فاشتراه نعيم بن عبد الله بثمان مئة درهم. قال الإسماعيلي: ليس في قصة المدبر بيع المزايدة، فإن بيع المزايدة: أن يعطي به واحد ثمناً، ثم يعطي به غيره زيادة عليه. ولفظ حديث أنس عند أبي داود وأحمد: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم نادى على قدح وحلس لبعض أصحابه، فقال رجل: هما علي بدرهم، ثم قال آخر: هما علي بدرهمين». 8 - البيع وقت النداء لصلاة الجمعة من حين يصعد الإمام على المنبر إلى أن تنقضي الصلاة، وعند الحنفية: من الأذان الأول. وهو مكروه تحريماً عند الحنفية، صحيح حرام عند الشافعية، ويفسخ في المشهور عند المالكية، ولا يصح أصلاً عند الحنابلة. 9 - بيع العنب لعاصر الخمر: صحيح في الظاهر مكروه تحريماً عند الحنفية وحرام عند الشافعية، لاستيفاء العقد شروطه وأركانه الشرعية، والإثم بسبب النية الفاسدة أو الباعث غير المشروع. ومثله بيع السيف لمن يقتل به غيره ظلماً، وبيع الشبكة لمن يصطاد في الحرم، وبيع الخشب لمن يتخذ منه الملاهي. وهو باطل في رأي المالكية والحنابلة سداً للذرائع، مثل بيع السلاح في الفتنة أو لقطاع الطريق، وبيع العينة المتخذ وسيلة للربا؛ لأن مايتوصل به إلى الحرام حرام، ولو بالقصد أو النية.
10 - بيع الأم دون ولدها الصغير أو بيعه دونها
10 - بيع الأم دون ولدها الصغير أو بيعه دونها: لايجوز حتى يستغني الولد، بسبب التفريق بينهما، وقد نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن التفريق بين المحارم، فقال: «من فرّق بين والدة وولدها، فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة» (¬1) وأجاز المالكية التفريق بين الولد وبين والده، لكن ورد النهي عن ذلك أيضاً: «لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم من فرق بين الوالد وولده، وبين الأخ وأخيه» (¬2) فهذا إن صح أولى بالعمل. وحكم البيع الأول أنه فاسد لاينعقد في رأي الجمهور. وقال أبو حنيفة: إنه ينعقد البيع. 11 - بيع الإنسان على بيع أخيه: وصورته: أن يكون قد وقع البيع بالخيار، فيأتي في مدة الخيار رجل، فيقول للمشتري: افسخ هذا البيع، وأنا أبيعك مثله بأرخص من ثمنه، أو أحسن منه. والشراء على الشراء: هو أن يقول للبائع في مدة الخيار: افسخ البيع، وأنا أشتريه منك بأكثر من هذا الثمن. والسوم على السوم: أن يكون قد اتفق مالك السلعة والراغب فيها على البيع، ولم يعقداه، فيقول آخر للبائع: أنا أشتريه منك بأكثر، بعد أن كانا قد اتفقا على الثمن. وقد أجمع العلماء على تحريم هذه الصور كلها، وأن فاعلها عاص (¬3)؛ للحديث: «لايبع أحدكم على بيع أخيه» (¬4) أي في الدين، وهذا في رأي أكثر العلماء خرج مخرج الغالب، فلا اعتبار لمفهومه، وأنه يحرم أيضاً على بيع الكافر. وأما حكم البيع المذكور فمختلف فيه: فذهب الحنفية والشافعية إلى صحته مع الإثم. وذهبت الحنابلة وابن حزم الظاهري والمالكية في إحدى الروايتين عنهم إلى ¬
12 - بيع وشرط
فساده، ولكن المعتمد في رأي المالكية وغيرهم ماعدا ابن حزم: بعد الركون والتقارب (¬1)؛ لأن السوم في السلعة التي تباع فيمن يزيد لايحرم اتفاقاً، كما حكى ابن حجر عن ابن عبد البر، فتعين أن السوم المحرَّم: ماوقع فيه قدر زائد على ذلك. 12 - بيع وشرط: وهو الذي يسميه الفقهاء بيع الثنيا، وللفقهاء تفصيل في حكمه. فقال الحنفية، يفسد البيع بالشرط الفاسد: وهو الذي لايقتضيه العقد ولايلائمه ولا ورد به الشرع، ولايتعارفه الناس، وإنما فيه منفعة لأحد المتعاقدين كأن يشتري شخص قماشاً على أن يخيطه البائع قميصاً. ويصح العقد ويلغو الشرط الباطل: وهو ماكان فيه ضرر لأحد العاقدين، كأن يبيع إنسان شيئاً بشرط ألا يبيعه المشتري أو لا يهبه. وقال المالكية: يبطل البيع والشرط، إن اقتضى الشرط منع المشتري من تصرف عام أو خاص، خلافاً للحنفية في الشرط الباطل. ويجوز البيع والشرط إن اشترط البائع منفعةنفسه، خلافاً للحنفية أيضاً في الشرط الفاسد. ويجوز البيع ويبطل الشرط إن عاد الشرط بخلل في الثمن، مثل: «إن لم تأت بالثمن إلى ثلاثة أيام، فلا بيع بيننا» فإن قال البائع: (متى جئتك بالثمن، رددت إلي المبيع) لم يجز، وهو المعروف عند الحنفية ببيع الوفاء. ورأى الشافعية: أنه يصح العقد والشرط إن كان فيه مصلحة لأحد العاقدين كالخيار والأجل والرهن والكفالة. ويبطل البيع إن كان الشرط منافياً مقتضى العقد، مثل ألا يبيع المبيع أو لا يهبه، وهذا موافق للمالكية. ¬
13 - الجمع في صفقة واحدة بين البيع وبين أحد ستة عقود
وذهب الحنابلة إلى أنه لا يبطل البيع بشرط واحد فيه منفعة لأحد العاقدين، ويبطل بالشرطين، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا بيع ما ليس عندك» (¬1). وبناء عليه، أجمع العلماء إلى أنه لا يجوز اشتراط السلف من أحد المتبايعين، إذا عزم مشترطه عليه، فإن أسقطه جاز البيع عند المالكية، ولم يجز عند الجمهور. 13 - الجمع في صفقة واحدة بين البيع وبين أحد ستة عقود: وهي الجعالة، والصرف، والمساقاة، والشركة، والنكاح، والقراض (المضاربة): هو فاسد ممنوع في المشهور عند المالكية. وأجازه أشهب، ونقل ابن جزي (¬2) أن ذلك وفاق للشافعي وأبي حنيفة. وأجاز المالكية الجمع بين البيع والإجارة، وبين البيعتين في البيعة ويكون هذا من باب الخيار. ومنع الجمهور ذلك، واعتبر الحنفية البيع فاسداً، والشافعية والحنابلة اعتبروه باطلاً. البيوع الفاسدة أو الباطلة عند المالكية (¬3): الباطل أو الفاسد في البيع يكون من خمسة أوجه وهي: ما يرجع إلى المتعاقدين، وما يرجع إلى الثمن وإلى المثمون، ويعرف ذلك في بيان الأركان، وما يرجع إلى الغرر، وما يرجع إلى الربا، والخامس ـ سائر البيوع المنهي عنها وهي عشرة: ¬
البيوع الباطلة لدى الشافعية
1 - بيع الطعام قبل قبضه. 2 - بيع العينة. 3 - بيع العربون. 4 - بيع حاضر لباد. 5 - تلقي السلعة على بعد ميل وهو (1848 م). 6 - بيع الإنسان على بيع أخيه بعد اطمئنان البائع لمن يسومه، وهو صحيح مع الإثم عند الجمهور، فاسد عند الحنابلة، والنهي عنه للتحريم، لما فيه من الإيذاء وإيقاع العداوة والشحناء بين المشترين. 7 - البيع يوم الجمعة. 8 - بيع الأم ولدها الصغير أو بيعه دونها. 9 - بيع وشرط (بيع الثنيا). 10 - الجمع في صفقة واحدة بين البيع وبين أحد ستة عقود وهي (الجعالة، والصرف، والمساقاة، والشركة، والنكاح، والقراض). البيوع الباطلة لدى الشافعية (¬1): هي كثيرة، أهمها واحد وثلاثون وهي: 1 - بيع ما لم يقبض إلا في ميراث وموصى به ورزق سلطان عيِّن لمستحق في بيت المال قدر حصته أو أقل، وغنيمة، ووقف، وموهوب استرجع، وصيد في ¬
شبكة ونحوها، ومُسْلَم فيه، ومكترى ومشترك ومال قراض، ومرهون بعد انفكاكه. 2 - بيع ما عَجَز عن تسليمه حالاً، كالطير في الهواء، إلا في ستة أشياء وهي: إجارة، وسَلَم، وغلة كثيرة لا يمكن كيلها إلا في زمن طويل، ومغصوب أو آبق لقادر عليه، وعَيْن من منقول أو عقار ببلد آخر ونحوه، فيصح البيع في كل منها وإن عجز عن تسليمه في الحال؛ لأن المشتري يصل إلى غرضه فيها. 3 - بيع حَبَل الحَبَلة: كأن يقول: إذا نُتجت هذه الناقة، ثم نتجت التي في بطنها فقد بعتك ولدها، أو بأن يشتري شيئاً بثمن مؤجل بنتاج ناقة معيَّنة، ثم نتاج ما في بطنها. 4 - بيع المضامين: وهي ما في أصلاب الفحول. 5 - وبيع الملاقيح: وهي ما في بطون الإناث. 6 - بيع بشرط إلا بشرط رَهْن أو كفيل أو إشهاد أو خيار، أو أجل، أو إعتاق، أو براءة من العيوب، فيبرأ عن عيب باطن بالحيوان لم يعلمه، أو نقل المبيع من مكان البائع أو قطع الثمار، أو تبقيتها بعد الصلاح، أو بشرط وصف يُقصد ككون الآلة الكاتبة تكتب بلغات معينة، أو بشرط ألا يُسَلِّم البائع المبيع حتى يستوفي ثمنه في الحال، أو بشرط الرد بعيب. 7 - بيع الملامسة: كأن يلمس ثوباً مطوياً أو في ظلمة، ثم يشتريه على ألا خيار له إذا رآه، اكتفاءً بلمسه عن رؤيته. 8 - بيع المنابذة: بإن ينبُذ كل منهما ثوبه على أن أحدهما بالآخر، ولا خيار إذا عَرَفا الطول والعرض، أو بأن ينبذه إليه بثمن معلوم.
9 - بيع المحاقلة: وهو بيع البر في سنبله. 10 - بيع ما لم يُمْلَك إلا في سَلَم، وإجارة وربا واقعين على ما في الذمة، فيصح كل منهما، وإن كانت المنفعة والمسلم فيه والمبيع غير مملوكة حالة العقد، فيصح بيع المسلم فيه، كقدر من البر صفته كذا، وثوب صفته كذا، وإن لم يكن عند المسلم إلىه شيء من البر أو الثياب حال العقد. ويصح إجارة شيء في الذمة، كأن أجره دابة في ذمته ليركب عليها إلى مكة مثلاً أول شهر كذا، ولم يكن في ملكه وقت العقد شيء من نوع الدابة ولاجنسها، وبحصلها بعد ذلك. ويصح مبايعة مال ربوي في الذمة بمال آخر في الذمة، كأن يبيع شخص لآخر صاع بُرّ مثلاً بصاع آخر في ذمته، ولم يكن واحد منهما مالكاً له حال العقد، ثم قبل تفرقهما من المجلس يحصلان ذلك بقرض أو اتهاب أو نحوهما، ويتقابضان قبل التفرق. والدليل على بطلان بيع غير المملوك خبر: «لا طلاق إلا فيما تملك، ولا عتق إلا فيما تملك، ولا بيع إلا فيما تملك» (¬1) وبناء عليه قالوا: بيع الفضولي باطل. 11 - بيع لحم بحيوان ولو غير مأكول، كبيع لحم بقر ببقر أو بشاة، أو بحمار للنهي في خبر الترمذي. 12 - بيع شاة لبون (¬2) بمثلها. وكذا بيع كل حيوان مأكول أو فيه بيض بمثله، لجهالة ما يقابل اللبن ونحوه من الثمن، فهو كبيع درهم وثوب بدرهم وثوب. 13 - بيع الحصاة: كأن يبيعه من هذه الأثواب ما تقع عليه الحصاة. 14 - بيع الماء الجاري أو النابع وحده ولو مدة معلومة؛ لأنه غير مملوك ¬
وللجهل بقدره؛ لأنه يزيد شيئاً فشيئاً ويختلط المبيع بغيره، فيتعذر التسليم. فإن باعه بشرط أخذه الآن صح. فإن كان راكداً، جاز بيعه، بشرط تقديره بكيل أو وزن أو مسح بالأذرع. 15 - بيع الثمرة قبل بدو الصلاح بغير شرط القطع، أي بشرط الإبقاء أو مطلقاً للنهي عن بيعها قبل الصلاح، أما بيعها بشرط القطع قبل الصلاح أو بغيره بعده فجائز. فإن باع نخلاً وعليه ثمرة مؤبرة، فهي للبائع، أو غير مؤبرة فللمشتري. 16، 17 - بيع رُطب بمثله أو بتمر، أو بيع عنب بمثله أو بزبيب، للجهل الآن بالمماثلة وقت الجفاف، لأنه «صلّى الله عليه وسلم سئل عن بيع الرطب بالتمر، فقال: أينقص الرطب إذا جف؟ فقالوا: نعم، فقال: فلا إذن» (¬1). لكن يجوز البيع للحاجة فيما دون خمسة أوسق (¬2). 18، 19 - بيع بُرّ بمثله أو بجاف، متفاضلين إن اتحد الجنس، للجهل بالمماثلة ولتحقق الربا. 20، 21، 22 - بيع لحم طري بمثله، أو بقديد، وبيع يابس بمثله متفاضلين إن اتحد الجنس، لتحقق الربا، مثل بيع لحم بقر بمثله متفاضلين. ويلاحظ أن أنواع اللحوم والألبان والأدهان والسمك والخلول وأنواع الخبز أجناس مختلفة كأصولها، فيجوز بيع جنس منها بآخر متفاضلين، فيجوز بيع لحم بقر بلحم ضأن متفاضلين. ¬
البيوع المحرمة غير الباطلة عند الشافعية
23 - بيع نجس ككلب للنهي عن ثمنه، وكخنزير. 24، 25، 26 - بيع حر وأم ولد ومكاتب. 27 - بيع حشرات كعقارب وفئران، إذ لا نفع فيها يقابل بالمال. 28 - بيع عَسْب الفحل: وهو أجر ضرابه، للنهي عنه في خبر البخاري. 29 - بيع عبد مسلم من كافر، لما في ملكه له من الإهانة. 30 - بيع الغرر كمسك في صوانه، وصوف على ضهر غنم، للجهل بقدر المبيع. 31 - بيع العرايا: وهو بيع الرطب على الشجر بتمر، أو العنب على الشجر بزبيب على الأرض في خمسة أوسق فأكثر، ويجوز فيما دونها بعد بدو الصلاح؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم رخص في ذلك في الرطب، وقيس به العنب؛ لأن كلاً منهما ربوي، وذلك إن خرص ماعلى الشجر وكيل الآخر، لا إن وزن أحدهما وخرص الآخر. هذا .. وتعرف أنواع البيوع الباطلة عند الحنابلة مما ذكرته في شروط البيع. والبيوع المحرمة غير الباطلة عند الشافعية ثمانية (¬1) وهي: 1 - بيع المصرَّاة: وهي الدابة التي يترك حلبها عمداً أياماً ليجتمع اللبن في ضرعها، فيتوهم المشتري كثرة اللبن فيها، فيقبل على شرائها. وهو بيع حرام صحيح، للنهي عنه في حديث أبي هريرة عند البخاري ومسلم: «لاتصروا الإبل والغنم .. ». ¬
2 - بيع الحاضر للبادي: وهو أن يتصدى شخص من أهل البلد لمن يريد بيع متاعه من أهل البادية أو غيرها، قائلاً له: لا تبع هذه البضاعة وانتظر حتى أبيعها لك تدريجياً، علماً بأن أهل البلد بحاجة إليها. وهو حرام لحديث ابن عباس عند البخاري ومسلم: «لا يبع حاضر لباد». 3 - تلقي الركبان: وهو استقبال القادمين بالبضائع خارج البلد لشرائها منهم بسعر أقل من ثمن السوق العام. وهو حرام لحديث أبي هريرة عند مسلم: «لاتلقوا الركبان للبيع». 4 - الاحتكار: وهو تخزين البضائع التي هي أقوات الناس وانتظار غلاء أسعارها مع حاجة الناس إلىها. وهو حرام لحديث معمر بن عبد الله العدوي عن مسلم: «لايحتكر إلا خاطئ» أي آثم عاصٍ، للتضييق على الناس. 5 - بيع النّجْش: وهو أن يزيد شخص في ثمن السلعة دون قصد شرائها، لإيهام غيره بزيادة الثمن، وهو حرام لحديث عبد الله بن عمر عند البخاري ومسلم: «نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن النجْش». 6 - السوم على السوم والبيع على بيع غيره والشراء على الشراء: يحرم السوم على سوم غيره بعد استقرار الثمن، ويحرم البيع على بيع غيره قبل لزوم البيع في زمن خيار المجلس أو الشرط لتمكنه من الفسخ، بأن يأمر المشتري بالفسخ ليبيعه مثل المبيع بأقل من هذا الثمن أو خيراً منه بمثل ثمنه أو أقل. ويحرم الشراء على الشراء في زمن الخيار بأن يأمر المشتري البائع بفسخ البيع ليشتريه بأكثر من ثمنه الذي اشتراه به غيره. والأدلة أحاديث وهي حديث البخاري ومسلم: «لا يسُم المسلم على سوم أخيه» وحديث الصحيحين: «لا يبع بعضكم على بيع بعض» أو «لا يبع الرجل على بيع أخيه» زاد النسائي: «حتى يبتاع أو يذر» وفي معناه الشراء على الشراء. وحكمة التحريم الإيذاء وإثارة العداوة والبغضاء.
المبحث الخامس ـ الخيارات
7 - البيع لمن يعلم أن جميع ماله حرام: كأن يعلم أن مال المشتري ثمن خمر أو خنزير أو ميتة أو كلب، وأن كسبه غير مشروع كالرشوة أو اليانصيب أو القمار أو أجرة عمل حرام كالنواح والرقص ومهر البغي. فإن لم يكن جميع ماله حراماً، بل كان خليطاً من حرام وحلال، كان التعامل معه مكروهاً، لحديث النعمان بن بشير: «الحلال بيِّن، والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام». 8 - بيع الرُّطب والعنب لعاصر الخمر: يحرم بيع الرطب والعنب ونحوها كتمر وزبيب لعاصر الخمر والنبيذ، أي لمتخذها لذلك بأن يعلم منه ذلك أو يظنه ظناً غالباً. ومثل ذلك بيع الغلمان المرد ممن عرف بالفجور بالغلمان، وبيع السلاح من باغ وقاطع طريق ونحوهما، وكذا كل تصرف يفضي إلى معصية. أما إذا شك فيما ذكر أو توهمه فالبيع مكروه. المبحث الخامس ـ الخيارات عرفنا سابقاً أن العقد اللازم هو الخالي من أحد الخيارات التي تسوغ لأحد العاقدين فسخه وإبطاله. ومعنى الخيار: أن يكون للمتعاقد الخيار بين إمضاء العقد وعدم إمضائه بفسخه إن كان الأمر أمر خيار شرط أو رؤية أو عيب، أو أن يختار أحد المبيعين إن كان الأمر أمر خيار التعيين (¬1)، علماً بأن الأصل في البيع اللزوم؛ لأن القصد منه نقل الملك، إلا أن الشارع أثبت فيه الخيار رفقاً بالمتعاقدين. ¬
عدد الخيارات
عدد الخيارات: ذكر الحنفية (¬1) سبعة عشر خياراً وهي خيار الشرط، والرؤية، والعيب، والوصف، والنقد، والتعيين، والغبن مع التغرير، وهذه السبعة هي التي ذكرتها المجلة (م 300 - 360)، وخيار الكمية، والاستحقاق، والتغرير الفعلي، وكشف الحال، وخيانة المرابحة والتولية، وتفريق الصفقة بهلاك بعض المبيع، وإجازة عقد الفضولي، وتعلق حق الغير بالمبيع بسبب كونه مستأجراً أو مرهوناً. وقال المالكية (¬2): الخيار نوعان: خيار التروي أي التأمل والنظر للبائعين أو لغيرهما، وهو خيار الشرط الذي ينصرف إليه لفظ الخيار عند الإطلاق. وخيار نقيصة: وهو ماكان موجبه نقصاً في المبيع من عيب أو استحقاق، ويسمى الحكمي؛ لأنه جرَّ إليه الحكم. وأما خيار المجلس: فهو باطل عندهم، وهو رأي الفقهاء السبعة بالمدينة وأبي حنيفة، ويتم البيع بالقول (الإيجاب والقبول) وإن لم يفترقا من المجلس. وأجازه الشافعي وابن حنبل وسفيان الثوري وإسحاق، فإذا تم العقد، فالعاقدان بالخيار مالم يفترقا من المجلس، للحديث الصحيح المتقدم في بحث هذا الخيار في ركن البيع. وقال الشافعية (¬3): الخيار نوعان: خيار التشهي، وخيار النقيصة. وخيار التشهي: مايتعاطاه المتعاقدان باختيارهما وشهوتهما من غير توقف على فوات أمر في المبيع، وسببه المجلس أو الشرط. وخيار النقيصة: سببه خُلْف لفظي أو تغرير ¬
فعلي أو قضاء عرفي، ومنه خيار العيب، والتصرية (¬1)، والخلف، وتلقي الركبان، ونحو ذلك. وبناء عليه، الخيار المشروع عند الشافعية ستة عشر، وهي مايأتي: 1 - خيار المجلس، لثبوت مشروعيته في الصحيحين. 2 - خيار الشرط: وأكثر مدته ثلاثة أيام، لثبوت ذلك في خبر البيهقي وغيره، فإن زاد عليها، لم يصح العقد؛ لأنه صار شرطاً فاسداً. 3 - خيار العيب عند الاطلاع عليه، سواء أكان موجوداً قبل البيع، أم بعده وقبل القبض، لثبوت ذلك في خبر الترمذي وغيره. 4 - خيار تلقي الركبان إذا وجدوا السعر أغلى مما ذكره المتلقي، لثبوته في خبر الصحيحين. 5 - خيار تفرق الصفقة بعد العقد كتلف أحد المبيعين قبل القبض، أو قبل العقد كبيع حلال وحرام إن جهل المشتري الحال. 6 - خيار فقد الوصف المشروط في العقد: أي وصف يقصد، ليخرج غيره كالزنا والسرقة، فإنه لا خيار بفقده. 7، 8 - الخيار لجهل الغصب مع القدرة على انتزاع المعقود عليه من الغاصب، دفعاً للضرر، ولطريان العجز عن انتزاعه من الغاصب، مع العلم بالغصب. ¬
الحنابلة
9 - الخيار لجهل كون المبيع مكترى أو مزروعاً. 10 - الخيار للامتناع من الوفاء بالشرط الصحيح، كشرط رهن أو كفيل في البيع. 11 - الخيار للتحالف فيما إذا اتفقا على صحة العقد، واختلفا في كيفيته، فيفسخانه أو أحدهما أو الحاكم إن لم يتراضيا. ويكون الفسخ بعد حلف كل منهما يميناً على دعوى الآخر. 12 - الخيار للبائع لظهور زيادة الثمن في المرابحة: فلو قال البائع: اشتريت هذا بمئة، وباعه بمئة، وربح درهم لكل عشرة، ثم زعم أنه كان اشتراه بمئة وعشرة، وصدقه المشتري، ثبت للبائع الخيار؛ لأنه لاتثبت له العشرة المذكورة. 13 - الخيار للمشتري لاختلاط الثمرة المبيعة بالمتجددة قبل التخلية، إن لم يهبه البائع ماتجدد. 14 - الخيار للعجز عن الثمن: بأن عجز عنه المشتري، والمبيع باق عنده، لثبوت ذلك في الصحيحين. 15 - الخيار لتغير صفة مارآه قبل العقد، وإن لم يكن عيباً. 16 - الخيار لتعيب الثمرة بترك البائع السقي بعد التخلية. وقال الحنابلة (¬1): الخيار ثمانية أنواع: خيار المجلس، والشرط، والغبن، والتدليس، والعيب، والخيانة، وخيار اختلاف المتبايعين في الثمن، والمؤجر والمستأجر في الأجرة، وخيار تفرق الصفقة. ¬
- خيار الوصف، أو خيار فوات الوصف المرغوب فيه
وأبحث بعون الله تعالى بالتفصيل الخيارات الثلاثة المشهورة: وهي خيار الشرط، وخيار العيب، وخيار الرؤية. أما بقية الخيارات فأكتفي ببيانها الإجمالي، علماً بأن خيار المجلس سبق الكلام عليه تفصيلاً. 1 - خيار الوصف (¬1)، أو خيار فوات الوصف المرغوب فيه: هو في مذهب الحنفية: أن يكون المشتري مخيراً بين أن يقبل بكل الثمن المسمى أو أن يفسخ البيع حيث فات وصف مرغوب فيه، في بيع شيء غائب عن مجلس العقد. مثاله أن يشتري شيئاً يشترط فيه صفة معينة غير ظاهرة، وإنما تعرف بالتجربة، ثم يتبين عدم وجودها، أو يشتري بقرة على أنها حلوب، فظهرت غير حلوب، أو يشتري جوهرة على أنها أصلية، فظهرت أنها تقليد صناعي للأصلية، فيكون المشتري مخيراً إن شاء فسخ البيع، وإن شاء أخذ المبيع بجميع الثمن المسمى؛ لأن هذا وصف مرغوب فيه، يستحق في العقد بالشرط، فإذا فات أوجب التخيير؛ لأن المشتري مارضي به دونه، فصار كفوات وصف السلامة. وأما سبب أخذه بجميع الثمن في رأي الحنفية: فهو لأن الأوصاف لايقابلها شيء من الثمن، لكونها تابعة في العقد. ودليل مشروعيته: الأخذ باستحسان المصلحة على خلاف القياس. ويعده الشافعية والحنابلة داخلاً في خيار العيب. وشروطه ثلاثة: 1ً - أن يكون الوصف المشروط مباحاً شرعاً: فإذا كان حراماً لم يصح. ¬
أحكام هذا الخيار
2ً - أن يكون الوصف مرغوباً فيه عادة: فإذا لم يكن مرغوباً فيه في العرف، لغا الشرط، وصح البيع، ولا خيار، مثل وصف الذكورة والأنوثة في الحيوانات، فمن اشترى شيئاً على أنه ذكر فإذا هو أنثى، صح البيع ولم يثبت الخيار. 3ً - ألا يكون تحديد الوصف المرغوب فيه مؤدياً إلى جهالة مفضية للمنازعة؛ فإن فعل فسد البيع والشرط، كأن يشترط في البقرة الحلوب أن تحلب كذا رطلاً يومياً، فهذا شرط فاسد؛ لأنه لايمكن ضبطه. أحكام هذا الخيار: أ - يورث خيار الوصف، فلو مات المشتري الذي له خيار الوصف، فظهر المبيع خالياً من ذلك الوصف، كان للوارث حق الفسخ. ب - إذا تصرف المشتري الذي له خيار الوصف بالمبيع تصرف الملاك، بطل خياره. جـ - يثبت للمشتري الحق في فسخ البيع أو استبقاء المبيع بجميع الثمن، فإن هلك المبيع أو تعيب في يده، فله الرجوع على البائع بمقدار نقص المبيع بسبب فوات الوصف المرغوب فيه، ويعرف ذلك بتقويم المبيع مع الوصف، وبدون الوصف، ويضمن المشتري الفرق بينهما. 2 - خيار النقد (¬1): هو فرع عن خيار الشرط، وهو أن يشترط المتبايعان في عقد البيع بالنسيئة أن ¬
الفرق بينه وبين خيار الشرط
المشتري إذا لم يدفع الثمن في الأجل المعين، وهو ثلاثة أيام، فلا بيع بينهما. فإن اشترى على هذا النحو على أنه إن لم ينقد (يدفع) الثمن إلى أربعة أيام، لم يصح خلافاً لمحمد؛ لأن هذه هي المدة المشروعة في خيار الشرط. وراعى محمد مصلحة العاقدين في اشتراطه إلى أي مدة كانت. فإن نقد في مدة الثلاثة أيام، جاز باتفاق الحنفية؛ لأن خيار النقد ملحق بخيار الشرط. وهو جائز أيضاً عند الحنابلة كشرط الخيار، لكن ينفسخ البيع عندهم إن لم ينقد المشتري الثمن في المدة. أو هو أن يشترط البائع على المشتري أنه إذا رد الثمن إلى المشتري في مدة ثلاثة أيام، فلا بيع بينهما، فله وجهان إذن. والفرق بينه وبين خيار الشرط: أن الأصل في خيار الشرط اللزوم، فإذا انتهت المدة المشروطة دون فسخ، لزم. أما خيار النقد فالأصل فيه عدم اللزوم، فإذا لم ينقد الثمن في الثلاث فسد البيع إذا بقي المبيع على حاله، ولاينفسخ، بدليل أن المشتري يتملك المبيع بالقبض. وعند الحنابلة: ينفسخ البيع، وقد أجازه الحنفية عدا زفر؛ لأنه داخل في خيار الشرط، ولم يجزه زفر؛ لأنه شرط ليس من مقتضى العقد، وفيه مصلحة لمن شرط له. حكم سقوطه: 1 - إذا مات المشتري المخير بخيار النقد في أثناء مدة الخيار، بطل البيع. 2 - إذا تصرف المشتري بالمبيع بالبيع ونحوه في مدة الخيار، قبل أن ينقد الثمن، سقط خياره، وصح بيعه ولزم، ولزم المشتري نقد الثمن. 3 - إذا أتلف المشتري أو الأجنبي المبيع في مدة الخيار بعد القبض، سقط به الخيار، للعجز عن الرد.
3 - خيار التعيين
4 - إذا أحدث المشتري في المبيع عيباً يمنع رده للبائع، ولم ينقد الثمن، سقط الخيار، ويخير البائع حينئذ بين أخذ المبيع ناقصاً، ولا شيء له من الثمن، وبين تركه وأخذ الثمن. 3 - خيار التعيين (¬1): هو أن يتفق العاقدان على تأخير تعيين المبيع الواجب التعيين إلى أجل، على أن يكون حق تعيينه لأحدهما، مثل أن يشتري أحد ثوبين أو ثلاثة غير معين على أن يأخذ أيهما شاء، على أنه بالخيار ثلاثة أيام. وله وجهان كخيار النقد: إما أن يأخذ المشتري أحد الأشياء المبيعة بالثمن الذي بينه له البائع لكل واحد، أو يعطي البائع أي واحد أراد من الأشياء المعينة، وله أن يلزم المشتري به إلا إذا تغيب فلا يلزمه إلا بالرضا. ولو هلك أحدهما كان له أن يلزمه بالباقي. أجازه الحنفية استحساناً لحاجة الناس إليه، بالرغم من الجهالة، عملاً بالمصلحة والعرف للحاجة إلى اختيار ما هو الأوفق والأرفق، وأبطله الشافعية والحنابلة للجهالة. والأصح عند الحنفية أنه لا يشترط اقترانه بخيار الشرط، وإنما يجوز للعاقدين ذلك. شروطه: اشترط الحنفية لهذا الخيار شروطاً هي ما يأتي: 1 - أن يكون التخيير على شيء من اثنين أو ثلاثة فقط: فإذا كان على شيء ¬
أحكامه
من أربعة لم يجز؛ لأن الحاجة في الثلاثة، لانقسام الأشياء إلى جيد ووسط ورديء. 2 - أن يوافق البائع صراحة على خيار التعيين: بأن يقول للمشتري: بعتك أحد الشيئين أو الثلاثة على أنك بالخيار في واحد منها، فإن لم يوافق على ذلك، فسد البيع للجهالة. 3 - أن يكون البيع في القيميات كأنواع الألبسة والمفروشات، لا في المثليات كالكتب المطبوعة الجديدة، لعدم الفائدة في التخيير بينها لعدم تفاوتها. 4 - أن تكون مدته كمدة خيار الشرط: وهي ثلاثة أيام عند أبي حنيفة، وأي مدة معلومة كانت عند الصاحبين. أحكامه: أـ يلزم البيع في واحد غير معين من أفراد المبيع المتفق عليها، ويلزم صاحب الحق في الخيار أن يعين الشيء الذي يأخذه في انقضاء المدة التي عينت ودفع ثمنه. ب ـ يورث هذا الخيار عند الحنفية، بخلاف خيار الشرط، فلو مات من له الخيار قبل التعيين، يكون الوارث مجبراً أيضاً على تعيين أحد المبيعات ودفع ثمنه. جـ ـ هلاك أو تعيب أحد الأشياء أو كلها: إذا هلك أحد المبيعين تعين الآخر مبيعاً، وكان الباقي أمانة في يد المشتري. وإذا هلك المبيعان معاً، ضمن المشتري نصف ثمن كل منهما لعدم التعيين، وإن هلك المبيعان على التعاقب، تعين الأول مبيعاً. فلو اختلف العاقدان في الهالك أولاً، فالقول للمشتري بيمينه، وبينة البائع أولى.
4 - خيار الغبن
والتعيب كالهلاك في الأحوال المذكورة. ولو باع المشتري المبيعين ثم اختار أحدهما، صح بيعه فيه. والمبيع مضمون بالثمن، وغيره أمانة. 4 - خيار الغبن (¬1): هذا الخيار مشروع عند الحنفية إذا اشتمل الغبن على تغرير، فيسمى خيار الغبن مع التغرير: وهو أن يغرر البائع المشتري أو بالعكس تغريراً قولياً وهو التغرير في السعر، أو تغريراً فعلياً وهو التغرير في الوصف، ويكون الغبن فاحشاً: وهو مالا يدخل تحت تقويم المقومين. أما الغبن اليسير: وهو ما يدخل تحت تقويم المقومين، فلا يؤثر، إذ لا يتحقق كونه زيادة، أما الفاحش فزيادته متحققة (¬2). فيثبت حينئذ حق إبطال العقد دفعاً للضرر عنه. والتغرير القولي في السعر: كأن يقول البائع أو المؤجر للمشتري أو للمستأجر: يساوي هذا الشيء أكثر ولا تجد مثله، أو دفع لي فلان فيه كذا، وكل ذلك كذب. والتغرير الفعلي في الوصف: يكون بتزوير وصف في محل العقد يوهم المتعاقد في المعقود عليه مزية ما غير حقيقية، كتوجيه البضاعة المعروضة للبيع، بجعل الجيد منها في الأعلى، وجعل الرديء منها في الأسفل. ومنه التصرية: جمع اللبن في الضرع، وهي حرام، توجب الخيار للعاقد المغرور كفوات الصفة المشروطة. أما تدليس العيب: وهو كتمان أحد المتعاقدين عيباً خفياً يعلمه في محل العقد عن المتعاقد الآخر في عقود المعاوضة، فهو المسمى عندهم خيار العيب. ¬
وحكمه: إعطاء المغبون المغرور حق خيار فسخ العقد دفعاً للضرر عنه، نظراً لعدم تحقق رضاه، بسبب التغرير والغبن الفاحش. وإذا مات المغرور بغبن فاحش لاتنتقل دعوى التغرير لوارثه. ويسقط حق المغرور في الفسخ للمشتري إذا تصرف في المبيع بعد أن اطلع على الغبن الفاحش، أو بنى بناء في الأرض المشتراة، أو إذا هلك المبيع أو استهلك أو حدث فيه عيب. وقال الحنابلة (¬1): هناك خيار غبن، وخيار تدليس، وخيار عيب. أما خيار الغبن عند الحنابلة فيثبت في ثلاث صور: إحداها ـ تلقي الركبان: وهم القادمون من السفر بجلوبة: (وهي ما يجلب للبيع) وإن كانوا مشاة، وهو عند الجمهور: يحرم، وقال الحنيفة: يكره، ولو كان تلقيهم بغير قصد التلقي لهم. فإذا اشترى المتلقي منهم أو باعهم شيئاً، ثبت لهم الخيار إذا هبطوا السوق، وعلموا أنهم قد غبنوا غبناً يخرج عن العادة، لقوله عليه السلام: «لا تلقوا الجَلَب فمن تلقاه فاشترى منه، فإذا أتى السوق، فهو بالخيار» (¬2). والثانية ـ النجش: وهو أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها. وهو حرام، لما فيه من تغرير المشتري وخديعته، فهو في معنى الغش، ويثبت للمشتري بالنجش الخيار إذا غبن غبناً غير معتاد. ولا يتم النجش إلا بحذق من زاد في السلعة، وأن يكون المشترى جاهلاً، فلو كان عارفاً واغتر بذلك، فلا خيار له لعجلته وعدم تأمله. ¬
فإن زاد من لا يريد الشراء بغير مواطأة مع البائع، أو زاد البائع في الثمن بنفسه، والمشتري لا يعلم ذلك، فيخير المشتري لوجود التغرير بين رد المبيع وإمساكه. الثالثة ـ بيع المسترسل أو إجارته: وهو الجاهل بالقيمة، من بائع ومشتر، ولا يحسن المماكسة. فله الخيار إذا غبن غبناً غير معتاد. ويقبل قوله بيمينه أنه جاهل بالقيمة، ما لم تكن قرينة تكذبه في دعوى الجهل، فلا تقبل منه. وخيار الغبن كخيار العيب على التراخي عندهم. وأما خيار التدليس: فهو بسبب التغرير، والعقد معه صحيح، والتدليس حرام وهو نوعان: أحدهما ـ كتمان العيب، ويسمى هذا عند الحنفية خيار العيب. والثاني ـ فعل يزيد به الثمن، وإن لم يكن عيباً، كجمع ماء الرحى وإرساله عند عرضها للبيع، ليزيد دورانها بإرسال الماء بعد حبسه، فيظن المشتري أن ذلك عادتها، فيزيد في الثمن. ومنه تحسين وجه الصبرة (الكومة)، وصقل السكاف وجه الحذاء، وتصنع النساج وجه الثوب، والتصرية أي جمع اللبن في ضرع بهيمة الأنعام، ونحو ذلك. وهذا النوع هو المسمى عند الحنفية بالتغرير الفعلي في الوصف. والتدليس بنوعيه يثبت للمشتري خيار الرد إن لم يعلم به، أو الإمساك، لقوله عليه السلام: «لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن شاء أمسك، وإن شاء ردها، وصاعاً من تمر» (¬1). وغير التصرية من التدليس ملحق بها. ¬
5 - خيار كشف الحال
وقد أخذ الجمهور وأبو يوسف بمضمون هذا الحديث: وهو التخيير بعد الحلب بين إمساك المبيع إن رضيه، وبين رده مع صاع من تمر إن سخطه. وقال أبو حنيفة ومحمد: يرجع المشتري بالنقصان فقط إن شاء. وأما خيار العيب عند الحنابلة: فهو بسبب نقص عين المبيع، كخصاء، ولو لم تنقص به القيمة، بل زادت، أو نقص قيمته عادة في عرف التجار، وإن لم تنقص عينه. 5 - خيار كشف الحال (¬1): وهو أن يشتري شيئاً بوزن غير معلوم القدر، أو بكيل غير معلوم المقدار، كأن يشتري بوزن هذا الحجر ذهباً، أو هذه الصبرة (الكومة) كل صاع بكذا، يصح البيع في الحالتين، ويكون للمشتري الخيار: إن شاء أمضى البيع وإن شاء فسخه. 6 - خيار الخيانة (¬2): هو الذي يثبت في بيوع الأمانة من تولية أو شركة أو مرابحة أو وضيعة إذا أخبر البائع المشتري بزيادة في الثمن أو نحو ذلك، كإخفاء تأجيله، ثم يظهر كذبه أو خيانته بإقرار أو برهان على ذلك، أو بما عند الحنفية أيضاً بنكول عن اليمين. ويخير المشتري بسبب ذلك عند الحنفية والمالكية بين أخذ المبيع بكل ثمنه، أو رده لفوات الرضا، وله الحط من الثمن قدر الخيانة في التولية. وقال الشافعية في الأظهر والحنابلة: لا خيار للمشتري بسبب الخيانة، وإنما له الحط من الثمن مقدار الخيانة. ¬
7 - خيار تفرق الصفقة
7 - خيار تفرق الصفقة (¬1): هو الذي يثبت للمشتري بسبب تجزئة المبيع، فيكون له الخيار بين فسخ البيع واسترداد الثمن كله إن دفعه، أو أخذ باقي المبيع مع حسم ما يقابل العيب أو الهلاك من الثمن. وله صور متعددة. فيثبت عند الحنفية بهلاك أو تعيب بعض المبيع بيد البائع قبل قبض المشتري، ومجمل حكم الهلاك: أنه إن كان بآفة سماوية أو بفعل البائع يبطل البيع، وإن كان بفعل أجنبي يتخير المشتري إن شاء فسخ البيع، وإن شاء أجاز، وضمَّن المستهلك. وقال المالكية: يثبت هذا الخيار في حالة كون المبيع معيباً، أو استحقاق بعض مبيع متعدد اشتري صفقة واحدة، فإن كان وجه الصفقة نقضت، ولا يجوز له التمسك بالباقي، وإن كان غير وجهها، جاز التمسك به، وأخذ الباقي بالتقويم، لابنسبته من الثمن المسمى، فيقال: ما قيمة هذا الباقي؟ فإذا قيل: ثمانية، قيل: وماقيمة المستحق أو المتعيب؟ فإذا قيل: اثنان، رجع المشتري على بائعه بخمس الثمن الذي دفعه له. وقال المالكية أيضاً: إذا اشتملت الصفقة على حلال وحرام كالعقد على سلعة، وخمر أو خنزير أو غير ذلك، فالصفقة كلها باطلة، ولو باع الرجل ملكه وملك غيره في صفقة واحدة، صح البيع فيهما، ولزمه في ملكه، وتوقف اللزوم في ملك غيره على إجازته. وذكر الشافعية لتفريق الصفقة وتعددها ثلاثة أقسام: ¬
الأول ـ إذا باع شخص في صفقة واحدة حلالاً وحراماً كشاة مذكاة وميتة، أو خل وخمر، أو شاة وخنزير، أو شيئاً له وشيئاً لغيره، أو شيئاً مشتركاً بغير إذن الشريك الآخر، صح البيع في الحلال المملوك له، وبطل في غيره في الأظهر، إعطاءً لكل منهما حكمه. ويكون الخيار للمشتري إن جهل الحال لضرر التبعيض بين أخذ حصة الحلال من الثمن المسمى باعتبار قيمة كل منهما أي من الحلال والحرام، أو أن يفسخ البيع. ولا خيار للبائع؛ لأنه المفرط في البيع ببيع ما لا يملكه، وبالطبع في ثمن ما لا يستحقه. الثاني ـ إذا باع شخص متاعين مثلاً، فتلف أحدهما قبل قبضه، انفسخ البيع في التالف، ولم ينفسخ في الآخر على المذهب، بل يتخير المشتري بين الفسخ والإجازة، فإن أجاز أخذ الباقي بالحصة من المسمى باعتبار قيمته وقيمة التالف؛ لأن الثمن قد توزع عليهما في مبدأ البيع، فلا يتغير بهلاك أحدهما. الثالث ـ لو جمع في صفقة عقدين مختلفي الحكم كإجارة وبيع، مثل: آجرتك داري شهراً، وبعتك ثوبي هذا بدينار، وكإجارة وسلم مثل: آجرتك داري شهراً وبعتك صاع قمح في ذمتي سلماً بكذا، صح العقدان في الأظهر، ويوزع المسمى على قيمة المعقود عليهما، أي قيمة المؤجر من حيث الأجرة، وقيمة المبيع أو المسلم فيه. وتتعدد الصفقة بتفصيل الثمن من البائع: كبعتك ذا بكذا، وذا بكذا. وبتعدد البائع: كبعناك هذا بكذا، والمبيع مشترك بينهما. وكذا بتعدد المشتري: كبعتكما هذا بكذا، في الأظهر. والخلاصة: إن في تفريق الصفقة قولين عند الشافعية، أظهرهما ـ أن البيع يبطل فيما لا يجوز، ويصح فيما يجوز؛ لأنه ليس بطلانه فيهما لبطلانه في
أحدهما بأولى من تصحيحه فيهما، لصحته في أحدهما؛ فبطل حمل أحدهما على الآخر، وبقيا على حكمهما، فصح فيما يجوز، وبطل فيما لا يجوز. والقول الثاني أن الصفقة لا تفرق، فيبطل العقد فيهما. وقال الحنابلة: معنى تفريق الصفقة: أي تفريق ما اشتراه في عقد واحد: وهو أن يجمع بين ما يصح بيعه وما لا يصح بيعه، صفقة واحدة بثمن واحد. ولهذا الجمع ثلاث صور: إحداها ـ أن يبيع شخص معلوماً ومجهولاً تجهل قيمته أي يتعذر علمه، فلا مطمع في معرفته، مثل: بعتك هذه الفرس، وما في بطن هذه الفرس الأخرى بكذا، فلا يصح البيع فيهما؛ لأن المجهول لا يصح بيعه لجهالته، والمعلوم مجهول الثمن، ولا سبيل إلى معرفته؛ لأن معرفته إنما تكون بتقسيط الثمن عليهما، وحمل الفرس لا يمكن تقويمه، فيتعذر التقسيط. الثانية ـ أن يبيع شخص مشاعاً بينه وبين غيره بغير إذن شريكه، فيصح البيع في نصيبه بقسطه، كما قال الشافعية في القسم الأول، وللمشتري الخيار بين الرد والإمساك إذا لم يكن عالماً بأن المبيع مشترك بينه وبين غيره؛ لأن الشركة عيب. فإن كان عالماً فلا خيار له ولا للبائع أيضاً. وللمشتري الأرش إن أمسك فيما ينقصه التفريق، كزوج خف. الثالثة ـ أن يبيع رجل متاعه ومتاع غيره بغير إذنه صفقة واحدة، أو يبيع خلاً وخمراً صفقة واحدة، فيصح البيع في متاعه بقسطه دون متاع غيره، ويصح في الخل بقسطه من الثمن، فيوزع على قدر قيمة المبيعين ليعلم ما يخص كلاً منهما. ويقدر الخمر إذا بيع مع الخلّ خلاً، ليقسط الثمن عليهما، ولا خيار للبائع. وهذه الصور وما قبلها هي النوع الأول عند الشافعية.
8 - خيار إجازة عقد الفضول
وقال الحنابلة أيضاً: إذا وقع العقد على مكيل أو موزون، فتلف بعضه قبل قبضه، لم ينفسخ العقد في الباقي، رواية أخرى، أي هي رواية واحدة، ويأخذ المشتري الباقي بحصته من الثمن؛ لأن العقد وقع صحيحاً. فذهاب بعضه لايفسخه كما بعد القبض، وكما لو وجد أحد المبيعين معيباً فردّه، أو أقال أحد المتبايعين الآخر في بعض المبيع. 8 - خيار إجازة عقد الفضول (¬1): هو الخيار الثابت للمالك إذا باع غيره له سلعة بغير أمره، ويعد البيع موقوفاً عند الحنفية والمالكية، ويخير المالك بين إجازة العقد فيصبح نافذاً، وبين رده فيبطل. 9 - خيار تعلق حق الغير بالمبيع (¬2): هو الخيار الثابت لمن له حق في المبيع من دائن مرتهن أو مستأجر، فإذا اشترى رجل داراً ثم ظهر أنها مرهونة أو مؤجرة، خير بين الفسخ وعدمه، دفعاً للضرر عن نفسه، حتى ولو كان عالماً بذلك في ظاهر الرواية، وهو الصحيح وعليه الفتوى. فإن أجاز المستأجر أو المرتهن فلا خيار للمشتري، وإن لم يجز ثبت الخيار له بين الانتظار حتى نهاية مدة الإجارة وفكاك الرهن، أو الفسخ. 10 - خيار الكمية للبائع (¬3): هو أن يشتري إنسان بما في هذه الخابية أو الوعاء أو اليد ونحوها، ولا يعرف البائع شيئاً عن الموجود كمية ونوعاً، فيكون البائع بعد فتح الخابية أو الوعاء أو اليد ¬
11 - خيار الاستحقاق
مخيراً بين إمضاء البيع وفسخه بعد رؤية الثمن. وهذا يسمى عند الحنفية خيار كمية، لا خيار رؤية؛ لأن خيار الرؤية لا يثبت في النقود. 11 - خيار الاستحقاق (¬1): هو الخيار الثابت للمشتري بسبب استحقاق المبيع كله أو بعضه، وتفصيله عند الحنفية: إن كان استحقاق المبيع قبل قبض الكل خير في الكل، وإن كان استحقاقه بعد القبض خيِّر في الشيء القيمي، لا في المثلي كالمكيل والموزون. وإن كان الاستحقاق لبعض المبيع قبل القبض، يبطل العقد في الجزء المستحق، ويخير المشتري في أخذ الجزء الباقي بحصته من الثمن أو رده. وإن كان الاستحقاق لبعض المبيع بعد القبض، يبطل البيع في الجزء المستحق أيضاً، وأما الجزء الباقي فيخير المشتري في قبول الباقي بحصته من الثمن إن أضره التبعيض كالثوب والدار، ويلتزم بالباقي إن لم يضره التبعيض كالمكيل والموزون. وذلك كله إن لم يجز المستحق البيع، فإن أجازه، لزم البيع، إذ لا ضرر بالتبعيض. 12 ـ خيار الشرط: خطة الموضوع: الكلام في خيار الشرط في المواضع الآتية: المطلب الأول - الخيار المفسد والخيار المشروع. ¬
المطلب الأول ـ الخيار المفسد والخيار المشروع
المطلب الثاني ـ مدة الخيار المشروع. المطلب الثالث ـ طرق إسقاط الخيار. المطلب الرابع ـ حكم العقد في مدة الخيار. المطلب الخامس ـ كيفية الفسخ والإجازة. المطلب الأول ـ الخيار المفسد والخيار المشروع: الخيار المفسد: اتفق الحنفية والشافعية والحنابلة في الصحيح من مذهبهم على أن العاقدين إذا ذكرا الخيار مؤبداً، كأن يقول أحدهما: (بعت، أو اشتريت على أني بالخيار أبدًا) أو ذكرا الخيار مطلقاً، كأن يقول أحدهما: (على أني بالخيار أو متى شئت) أو ذكرا وقتاً مجهولاً كقدوم زيد، أوهبوب ريح، أونزول مطر، أو أياماً، فإن العقد غير صحيح لوجود الجهالة الفاحشة. إلا أن الشافعية والحنابلة قالوا: العقد باطل (¬1). وقال الحنفية: العقد فاسد فقط، فإذا أسقط الشرط قبل مضي مدة ثلاثة أيام، أو حذف الزائد، أو بينت مدة الخيار، صح البيع، لزوال المفسد (¬2). استدل الشافعية والحنابلة: بأن مدة الخيار حينئذ ملحقة بالعقد، فلا تجوز مع الجهالة، كما لا تجوز جهالة الأجل، ولأن اشتراط الخيار أبداً ونحوه يقتضي المنع من التصرف على الأبد، وهو ينافي مقتضى العقد، فلم يصح، كما لو قال: بعتك بشرط ألا تتصرف. ¬
الخيار المشروع
واستدل الحنفية بنحوه فقالوا: إن شرط الخيار مغير لمقتضى العقد بحسب الأصل، إلا أنا أجزناه بنص حديث حبان بن منقذ الذي حدد فيه الخيار بثلاثة أيام، فبقي ما عدا المنصوص عليه موافقاً لمقتضى الأصل. وقال مالك وأحمد في رواية عنه: يجوز الخيار المطلق، إلا أن الإمام أحمد قال فيه: «وهما على خيارهما أبداً، أو يقطعاه، أو تنتهي مدته». وقال الإمام مالك: السلطان يحدد له مدة كمدة خيار مثله في العادة؛ لأن اختيار المبيع في مثله مقدَّر في العادة، فإذا أطلق الخيار حمل على المعتاد، ويفسد البيع عند المالكية إذا وقع بشرط مدة زائدة على مدته بكثير (أي بعد يوم) أو بشرط مدة مجهولة كإلى أن تمطر السماء أو يقدم زيد (¬1). الخيار المشروع: وهو أن يذكر وقت معلوم، وسيأتي الخلاف فيه بين الفقهاء، وقد ثبتت مشروعية خيار الشرط بحديث حبان بن منقذ الذي كان يغبن في البيع والشراء، فشكا أهله إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: «إذا بايعت فقل: لا خلابة (¬2) وليَ الخيار ثلاثة أيام» ولمساس الحاجة إليه لدفع الغبن (¬3). وخيار الشرط مشروع عند جمهور الحنفية والشافعية وغيرهم، سواء أكان الشرط للعاقد أم لغيره لتحقيق حاجة الناس. وقال زفر: لا يجوز لغير العاقد. ولا يجوز الخيار والأجل في البيوع التي فيها الربا: وهي عقد الصرف، وبيع المكيل والموزون عند الحنفية، والطعام بالطعام عند الشافعية، لأنه يشترط فيها القبض قبل التفرق بالأبدان، وذكر الخيار أو الأجل ينافي القبض (¬4). ¬
المطلب الثاني ـ آراء الفقهاء في مدة الخيار المشروع
المطلب الثاني ـ آراء الفقهاء في مدة الخيار المشروع للفقهاء اتجاهات ثلاثة في مدة الخيار: قال أبو حنيفة وزفر والشافعي: يجوز شرط الخيار في مدة معلومة لا تزيد على ثلاثة أيام؛ لأن الأصل امتناع الخيار، لكونه مخالفاً لوضع البيع، فإنه يمنع نقل الملك أو لزومه، إلا أنه ثبت على خلاف هذا الأصل بحديث حبان بن منقذ السابق ذكره، والذي رواه ابن عمر، وبحديث أنس: «أن رجلاً اشترى من رجل بعيراً، واشترط عليه الخيار أربعة أيام، فأبطل رسول الله صلّى الله عليه وسلم البيع، وقال: الخيار ثلاثة أيام» (¬1) ولأن الحاجة تندفع بالثلاث غالباً، فلو زاد عليها فسد البيع عند أبي حنيفة وزفر، ولكنه يعود صحيحاً عند أبي حنيفة إذا أجاز له الخيار في الثلاثة، لزوال المفسد قبل أن يتقرر الفساد، وعند زفر: الفاسد من العقود لا يعود صحيحاً بحال. ويبطل العقد عند الشافعي (بخلاف ما ذكر في تحفة الفقهاء). وكونه لا يجوز أكثر من ثلاثة، لأنه غرر، وفيما دون الثلاث رخصة، فلا يجوز الزيادة عليها، وفي الجملة: إن الخيار ينافي مقتضى البيع لولا ثبوته بالشرع (¬2). وقال الصاحبان والحنابلة: يجوز اشتراط مدة الخيار بحسب ما يتفق عليه البائع والمشتري من المدة المعلومة، قلَّت مدته أو كثرت. ودليلهم ما روي أن ابن عمر «أجاز الخيار إلى شهرىن» (¬3) ولأن الخيار حق يعتمد الشرط، فرجع في تقديره ¬
حكم الغاية في مدة الخيار
إلى مشترطه، كالأجل. وبعبارة أخرى: إن مدة الخيار ملحقة بالعقد، فكانت إلى تقدير المتعاقدين كالأجل (¬1). وقال المالكية: يجوز الخيار بقدر ما تدعو إليه الحاجة، ويختلف ذلك باختلاف المبيعات، فالفاكهة التي لا تبقى أكثر من يوم لا يجوز شرط الخيار فيها أكثر من يوم، والثياب أو الدابة: ثلاثة أيام، والأرض التي لا يمكن الوصول إليها في ثلاثة أيام يجوز شرط الخيار فيها أكثر من ثلاثة أيام، والدار ونحوها تحتاج مدة شهر. ودليلهم أن المفهوم من الخيار هو اختبار المبيع، وإذا كان الأمر كذلك، وجب أن يكون الخيار محدوداً بزمان إمكان اختبار المبيع، وهو يختلف بحسب المبيعات، فكأن النص إنما ورد عندهم تنبيهاً على هذا المعنى، وهو أن الخيار لحاجة العاقد، فيقدر بها، فيكون النص عندهم من باب الخاص أريد به العام (¬2). وعند الشافعية وأبي حنيفة وزفر من باب الخاص أريد به الخاص. وتبدأ مدة الخيار من تاريخ العقد. حكم الغاية في مدة الخيار: قال أبو حنيفة: إذا شرط الخيار إلى الليل أو إلى الغد، فيدخل الليل والغد في مدة الخيار؛ لأن المقصود من الغاية هنا هو إخراج ما بعدها من حكم ما قبلها، كما في قوله تعالى: {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} [المائدة:6/ 5] بدليل أنه لو لم يذكر الوقت أصلاً لاقتضى ثبوت الخيار في الأوقات كلها (¬3). ¬
المطلب الثالث ـ طرق إسقاط الخيار
وقال الصاحبان والمالكية والشافعية والحنابلة: لا يدخل الليل أو الغد في مدة الخيار لأن لفظ (إلى) موضوع لانتهاء الغاية، فلا يدخل ما بعدها فيما قبلها، كما في قوله تعالى: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} [البقرة:187/ 2] والأصل هو حمل اللفظ على موضوعه، فكأن واضع اللغة قال: متى سمعتم هذه اللفظة، فافهموا منها انتهاء الغاية (¬1). المطلب الثالث ـ طرق إسقاط الخيار: العقد الذي فيه الخيار عقد غير لازم، ويصبح لازماً إذا سقط الخيار بعد ثبوته، وطرق الإسقاط ثلاثة: 1 - الإسقاط الصريح: هو أن يقول صاحب الخيار: أسقطت الخيار أو أبطلته أو أجزأت البيع أو رضيت به، ونحوها، فيبطل الخيار، سواء علم المشتري بالإجازة أو لم يعلم؛ لأن الخيار شرع للفسخ، فإذا سقط يبطل الخياررجوعاً إلى الأصل في العقد: وهو لزومه ونفاذه. وكذلك يسقط الخيار إذا قال من له الحق فيه: (فسخت العقد، أو نقضته، أو أبطلته) لأن الخيار هو التخيير بين الفسخ والإجازة، فأيهما وجد سقط الخيار (¬2). 2 - الإسقاط دلالة: وهو أن يوجد ممن له الخيار تصرف يدل على إجازة البيع وإثبات الملك، فالإقدام عليه يكون إجازة للبيع دلالة (¬3). وبناء على هذا: ¬
إذا كان الخيار للمشتري، والمبيع في يده، فعَرَضه على البيع، يبطل خياره، لأن عرض المشتري المبيع على البيع معناه اختيار التملك وهو يكون بإبطال الخيار. وإذا كان الخيار للبائع فعَرَضه على البيع، فالأصح من الروايتين عن أبي حنيفة: أن يكون إسقاطاً للخيار، لأنه دليل على اختيار إبقاء الملك في المبيع. وكذلك يسقط خيار المشتري إذا باع الشيء الذي اشتراه أو رهنه أو وهبه ـ سلم أو لم يسلم ـ أو آجره؛ لأن نفاذ هذه التصرفات مختص بقيام الملك، فيكون الإقدام عليها دليلاً على قصد إبقاء الملك، وهو يتم بإجازة البيع. ويسقط الخيار أيضاً بهذه التصرفات في الثمن إذا صدرت من البائع الذي له الخيار؛ إذ أنه لا تصح هذه التصرفات إلا بعد نقض التصرف الأول. إلا أن هناك فرقاً بين البائع والمشتري بالنسبة لتسليم الهبة والرهن، فإنه إذا كان الخيار للبائع لا يسقط في الهبة والرهن إلا بعد التسليم بخلاف المشتري كما عرفنا (¬1). وأما الإجازة فلا فرق فيها بين البائع والمشتري، فإنها تسقط الخيار من غير شرط القبض، لأنها عقد لازم، بخلاف الرهن والهبة قبل القبض، فإنهما عقدان غير لازمين. ومن مسقطات الخيار دلالة: أن يُسكن المشتري الدار المبيعة رجلاً بأجر أو بغير أجر، أو يرمم شيئاً منها بالتطيين أو التجصيص، أو يحدث فيها بناء أو يهدم شيئاً منها؛ لأن هذه التصرفات دليل اختيار الملك. ومن مسقطات الخيار دلالة أيضاً: أن يسقي المشتري الزروع والثمار أو ¬
3 - إسقاط الخيار بطريق الضرورة
يحصدها أو يقطع منها شيئاً لدوابه، لأنه يعد إجازة للبيع واختياراً للتملك كما ذكر (¬1). أما ركوب الدابة لسقيها أو لردها على البائع، فلا يسقط الخيار استحساناً؛ لأن الدابة قد لا يمكن تسييرها إلا بالركوب، ويسقط قياساً، لأن الركوب دليل اختيار الملك. وكذا ركوب الدابة لينظر إلى سيرها وقوتها، لا يسقط الخيار. وكذا أيضاً لبس الثوب لينظر إلى طوله وعرضه لا يسقط الخيار، لاحتياجه إلى التجربة والاختبار، أما لبسه ثانية للغرض الأول نفسه، فيسقط الخيار. وركوب الدابة مرة ثانية لمعرفة العَدْو أو لمعرفة سير آخر كمشي الهملاج (أي السير السهل) لا يسقط الخيار أيضاً، أما ركوبها لمعرفة الغرض الأول، فيسقط الخيار. ويرى بعض مشايخ الحنفية أن ركوب الدابة للمرة الثانية للغرض الأول نفسه: لا يسقط الخيار؛ لأن الاختبار لا يحصل بالفعل مرة، لاحتمال وقوع ذلك صدفة، فيحتاج إلى معرفة العادة الثابتة، بخلاف الثوب، فإن الغرض يحصل بالمرة الواحدة (¬2). 3 - إسقاط الخيار بطريق الضرورة: يسقط الخيار ضرورة بأمور: ¬
أولا - مضي مدة الخيار
أولاً - مضي مدة الخيار: يسقط الخيار بمضي مدته دون اختيار فسخ العقد، لأن الخيار مؤقت بها، فيبقى العقد بلا خيار، فيصبح لازماً (¬1). وكذلك قال الشافعية والحنابلة: يسقط الخيار إذا انقضت مدته، ولم يفسخ أحدهما العقد ويصبح لازماً؛ لأن مدة الخيار ملحقة بالعقد فبطلت بانقضائها كالأجل، ولأن الحكم ببقائها يفضي إلى بقاء الخيار في غير المدة المشروطة، والشرط سبب الخيار، فلا يجوز أن يثبت به ما لم يتناوله، ولأنه حكم مؤقت، فصار بفوات وقته كسائر المؤقتات، ولأن البيع يقتضي اللزوم، وإنما تخلَّف موجبه بالشرط، ففيما لم يتناوله الشرط يجب أن يثبت موجبه لعدم وجود ما ينافي مقتضى العقد كما لو أمضوا العقد (¬2). وقال الإمام مالك: لا يلزم البيع بمضي المدة بل لا بد من اختيار أو إجازة، لأن مدة الخيار جعلت حقاً لصاحب الخيار لا واجباً عليه، فلم يلزم الحكم بمرور الزمان نفسه، كمضي الأجل في حق المولى بالنسبة للمكاتب، لايلزم المولى بالعتق بمجرد مضي المدة (¬3). ثانياً - موت المشروط له الخيار: إذا مات المشروط له الخيار، يسقط الخيار، سواء أكان الخيار للبائع أم للمشتري، أو لهما، ويصير العقد لازماً، لأنه وقع العجز عن الفسخ، فيلزم ضرورة، واتفق الفقهاء على أنه يورث خيار العيب وخيار التعيين، ولا يورث خيار الإجازة في بيع الفضولي، ولا خيار الرؤية على الصحيح، كما لا يورث ¬
الأجل (¬1)،وكذلك لا يورث خيار القبول عند الحنفية والمالكية، ويورث خيار المجلس عند الشافعية (¬2)، فلو مات من له الخيار أو أغمي عليه في المجلس لم يبطل خياره، بل ينتقل إلى وارثه والناظر في أمره. وقال الحنابلة: ينقطع هذا الخيار بالموت لا بالجنون والإغماء (¬3). أما خيار الشرط فاختلفوا في إرثه: فقال الحنفية: لا يورث خيار الشرط، وإنما يسقط بموت المشروط له، كما تقدم؛ لأن الوارث يستحق الباقي بعد موت المورِّث، وخيار المورِّث لا يبقى بعد موته؛ لأن خياره يخيره بين الفسخ والإجازة، ولا يتصور ذلك منه بعد موته، فلا يورث، بخلاف خيار العيب والتعيين؛ لأن الموروث هناك محتمل للإرث وهو العين المملوكة، أما الخيار فهو عرض لا يبقى (¬4). والخلاصة: أن خيار القبول والإجازة في بيع الفضولي والأجل وخيار الشرط لا يورث. أما خيار العيب والتعيين والقصاص وخيار الرؤية وخيار الوصف وخيار التغرير، فإنه يورث (¬5). وقال الحنابلة: المذهب أن خيار الشرط يبطل بموت صاحبه، ويبقى خيار الآخر بحاله، إلا أن يكون الميت قد طالب بالفسخ قبل موته في مدة الخيار، فيكون حينئذ لورثته (¬6). ¬
ثالثا - ما هو في معنى الموت
وقال المالكية والشافعية: إذا مات صاحب الخيار: فلورثته من الخيار مثل ما كان له؛ لأن الخيار حق ثابت لضمان صلاحية المال المشترى، فلم يسقط بالموت كالرهن وحبس المبيع على الثمن ونحوها من الحقوق المالية، فينتقل إلى الوارث كالأجل وخيار الرد بالعيب، ولأنه حق فسخٍ للبيع، فينتقل إلى الوارث كالرد بالعيب، والفسخ بالتحالف (¬1). ويلاحظ أن مرجع الخلاف في إرث الخيار هو: هل الأصل أن تورث الحقوق كالأموال أو لا؟ فقال الجمهور: الأصل أن تورث الحقوق والأموال إلا إذا قام دليل على وجود اختلاف بين الحق والمال بالنسبة للإرث. وقال الحنفية: الأصل هو أن يورث المال دون الحقوق إلا ما قام دليله من إلحاق الحقوق بالأموال. ثالثاً - ما هو في معنى الموت: كالجنون والإغماء والنوم والسُكْر والردة واللحاق بدار الحرب (¬2). فإذا ذهب عقل صاحب الخيار بالجنون أو الإغماء، في مدة الخيار، ومضت المدة على تلك الحال صار العقد لازماً لأنه عجز عن الفسخ فتزول فائدة الخيار، فإن أفاق في مدة الخيار، بقي الخيار، لإمكان ممارسة حق الفسخ والإجازة. ¬
رابعا - هلاك المبيع في مدة الخيار
وكذا يسقط الخيار لو بقي صاحبه نائماً لآخر مدة الخيار، كما يسقط على الصحيح لو سكر وظل سكراناً حتى مضت مدة الخيار. ولو ارتد من له الخيار في مدة الخيار، فقتل على الردة أو مات: لزم البيع. وكذا لو لحق بدار الحرب، وقضى القاضي بلحاقه؛ لأن الردة بمنزلة الموت بعد الالتحاق بدار الحرب. فإن عاد المرتد إلى الإسلام في مدة الخيار، فهو على خياره. كل ذلك إذا لم يتصرف المرتد بالخيار فسخاً أو إجازة، فإذا تصرف في مدة الخيار ينظر: إن أجاز البيع جاز بالاتفاق، ولو فسخ يصبح حكم العقد موقوفاً عند أبي حنيفة: فإن عاد مسلماً نفذ، وإن مات أو قتل على الردة، بطل الفسخ. وقال الصاحبان: تنفذ تصرفات المرتد حال ردته. ومنشأ الخلاف: هل تصرفات المرتد موقوفة أو نافذة؟ قال أبو حنيفة: هي موقوفة. وقال الصاحبان: هي نافذة، سواء أسلم أو مات أو قتل (¬1). وقال الشافعية والحنابلة: لو جن صاحب الخيار أو أغمي عليه أو أصابه خرس فلم تفهم إشارته، ينتقل الخيار إلى وليه من حاكم أو غيره (¬2). رابعاً - هلاك المبيع في مدة الخيار: فيه تفصيل؛ لأن الهلاك إما أن يكون قبل القبض أو بعد القبض، والخيار إما للبائع، أو للمشتري (¬3). ¬
آ - فإن هلك المبيع قبل القبض أي (في يد البائع) بطل البيع وسقط الخيار، سواء أكان الخيار للبائع أم للمشتري، أم لهما معاً، لأنه لو كان العقد باتاً لبطل البيع بسبب العجز عن التسليم، فيبطل إذا كان فيه خيار شرط من باب أولى. ب ـ وإن هلك المبيع بعد القبض أي (في يد المشتري): فإن كان الخيار للبائع، فيبطل البيع أيضاً، ويسقط الخيار، ولكن يلزم المشتري القيمة إن لم يكن له مثل، والمثل إن كان له مثل. وقال ابن أبي ليلى: إنه يهلك هلاك الأمانات؛ لأن الخيار منع انعقاد العقد بالنسبة لحكم العقد، فكان المبيع على حكم ملك البائع أمانة في يد المشتري، فيهلك هلاك الأمانات. والصحيح قول عامة العلماء، لأن البيع وإن لم ينعقد بالنسبة لحكم العقد، لكن المبيع في قبض المشتري على حكم البيع، فلا يكون دون المقبوض على سوم الشراء (¬1) وهو مضمون بالقيمة أو بالمثل، سواء تعدى في القبض أو قصر في الحفظ، أو لم يحصل منه شيء من ذلك، فهذا أولى، لأن العقد موجود هنا، بخلاف المقبوض على سوم الشراء لم يوجد العقد بالنسبة إليه أصلاً. وإن كان الخيار للمشتري فهلك المبيع بفعل المشتري أو البائع أو بآفة سماوية: لا يبطل البيع، ولكن يسقط الخيار، ويلزم البيع، ويهلك على المشتري بالثمن، لأن المشتري وإن لم يملك المبيع عند أبي حنيفة إلا أنه اعترض عليه في يده ما يمنع الرد وهو التعيب بعيب لم يكن عند البائع؛ لأن الهلاك في يده لا يخلو عادة عن ¬
سبب له، وهذا السبب يكون عيباً، وتعيب المبيع في يد المشتري يمنع الرد، ويلزم البيع إذ لافائدة من بقاء الخيار، فيهلك بالثمن؛ لأن العقد قد انبرم. وقال الشافعية كالحنفية فيما إذا حدث الهلاك بآفة سماوية قبل القبض: ينفسخ البيع ويسقط الخيار، كما ينفسخ العقد ويسقط الخيار إذا كان الهلاك بعد القبض ويضمن المشتري القيمة إذا كان الخيار للبائع. فإن كان الخيار للمشتري فيقرر الشافعية أنه يضمن المبيع في هذه الحالة بقيمته، لأنه إن فسخ البيع تعذر رد العين، فوجب رد القيمة، وإن أمضى العقد فقد هلك من ملكه فيجب عليه قيمته (¬1). وقال المالكية: إن هلك المبيع بيد البائع، فلا خلاف في ضمانه إياه وينفسخ البيع. وإن كان هلك بيد المشتري فالحكم كالحكم في الرهن والعارية: إن كان المبيع مما يغاب عليه (أي يمكن إخفاؤه) كالحلي والثياب، فيضمن المشتري للبائع الأكثر من ثمنه الذي بيع به، أو القيمة؛ لأن من حق البائع إمضاء البيع إن كان الثمن أكثر، ورد البيع إن كانت القيمة أكثر، إلا إذا ثبت الهلاك ببينة فلا يضمن المشتري. وإن كان المبيع مما لا يغاب عليه (أي لا يمكن إخفاؤه) كالدور والعقارات فالبائع يضمنه، بعد أن يحلف المشتري حيث اتهمه البائع: لقد ضاع وما فرَّط، إذا لم يظهر كذب المشتري (¬2). ¬
خامسا - تعيب المبيع
ويلاحظ أن ابن رشد في بداية المجتهد جعل الضمان مطلقاً على البائع من غير تفصيل، والمشتري أمين، سواء كان الخيار لهما أو لأحدهما. وقال الحنابلة: إن تلفت السلعة في مدة الخيار قبل القبض، وكان المبيع مكيلاً أو موزوناً انفسخ البيع، وضمنه البائع، ويبطل خيار المشتري. وإن كان المبيع غير مكيل ولا موزون ولم يمنع البائع المشتري من قبضه، فظاهر المذهب أنه من ضمان المشتري، ويكون كتلفه بعد القبض. وأما إن تلف المبيع بعد القبض في مدة الخيار، فهو من ضمان المشتري، ويبطل خياره. وأما خيار البائع ففيه روايتان: إحداهما: يبطل كخيار الرد بالعيب إذا تلف المبيع، وهو اختيار الخرقي وأبي بكر. والثانية: لا يبطل، وللبائع فسخ البيع، ومطالبة المشتري بالقيمة (¬1). خامساً - تعيب المبيع: فيه تفصيل أيضاً؛ لأن الخيار إما أن يكون للبائع أو للمشتري. آـ فإن كان الخيار للبائع: فيسقط خياره إذا تعيب المبيع بآفة سماوية أو بفعل البائع، سواء أكان المبيع في يد البائع أم في يد المشتري، لأنه هلك بعض المبيع بلا بدل عنه، إذ لا يجب الضمان على البائع، لأن المبيع ملكه، فينفسخ البيع في هذا البعض،،ولا يمكن بقاء العقد في الجزء الباقي، لما يترتب عليه من تفريق الصفقة على المشتري قبل تمام العقد، وهو لا يجوز. فإذا تعيب المبيع بفعل المشتري، أو بفعل أجنبي لم يبطل البيع، ويبقى البائع على خياره لأنه يمكنه إجازة البيع فيما بقي وفيما نقص؛ لأن قدر النقصان انتقل إلى بدل عنه: وهو الضمان بالقيمة على المشتري أو الأجنبي لإتلافهما ملك الغير بغير إذن، فكان قدر النقصان قائماً معنى. ¬
وإذا بقي البائع على خياره والمبيع في يد المشتري: فإما أن يجيز العقد أو يفسخ: فإن أجاز البيع، وجب على المشتري جميع الثمن؛ لأن البيع جاز في الكل، ولا يكون للمشتري خيار الرد بحدوث التغير في المبيع، لأنه حدث في يده وفي ضمانه. غير أنه إذا كان التعييب بفعل المشتري، فلا سبيل له على أحد، لأنه ضمن القيمة بفعل نفسه، وإن كان بفعل الأجنبي فللمشتري خيارأن يتبع الجاني بالأرش (أي الغرامة) لأنه بإجازة البيع ملك المبيع، من وقت البيع فحصلت الجناية على ملكه. وإن فسخ البائع العقد ينظر: إن كان التعييب بفعل المشتري: فإن البائع يأخذ الباقي، ويأخذ أرش الجناية من المشتري؛ لأن المبيع كان مضموناً على المشتري بالقيمة، وقد عجز عن رد ما أتلفه بالجناية، فعليه رد قيمته. وإن كان التعييب بفعل أجنبي: فالبائع بالخيار إن شاء اتبع الجاني بالأرش، لأن الجناية حصلت على ملكه، وإن شاء اتبع المشتري؛ لأن الجناية حدثت في ضمان المشتري. فإن اختار اتباع الأجنبي: فالأجنبي لا يرجع على أحد، لأنه ضمن القيمة بفعل نفسه، وإن اختار اتباع المشتري، فالمشتري يرجع بما ضمن من الأرش على الجاني؛ لأن المشتري بأداء الضمان قام مقام البائع في حق تملك بدل الشيء المجني عليه، وإن لم يقم مقامه في حق ملك نفس الشيء المجني عليه. ب ـ وإن كان الخيار للمشتري: فيسقط خياره بالتعييب ولا ينفسخ البيع سواء
المطلب الرابع ـ حكم العقد في مدة الخيار
حصل بآفة سماوية أو بفعل البائع، أو بفعل المشتري أو بفعل الأجنبي؛ لأن في حالة الآفة السماوية واعتداء البائع حدث التعيب في المبيع في يد المشتري وفي ضمانه، فيلزمه رد قيمته. وأما في حالة اعتداء المشتري أو الأجنبي فلأنه تعذر رد المبيع؛ لأنه لا يمكن المشتري أن يرد جميع ما قبض كما قبض سليماً، وفي رد البعض تفريق للصفقة على البائع قبل تمام العقد (¬1). وعلى هذا، إذا حدث نقص في المبيع في يد المشتري، كأن سقط حائط من دار بغير صنع أحد، يسقط الخيار بهذا النقصان لتعذر رد الشيء على صاحبه كما قبضه سليماً من أي نقص، ويتقرر على المشتري جميع الثمن؛ لأن النقصان حصل في ضمانه. المطلب الرابع ـ حكم العقد في مدة الخيار: يقول الحنفية: لا ينعقد البيع بشرط الخيار في الحال في حق الحكم (أي نقل الملكية) بالنسبة لمن له الخيار من المتعاقدين، بل يكون موقوفاً إلى وقت سقوط الخيار: إما بإجازة البيع أو فسخه، فإن أجازه ظهر أن العقد كان قد انعقد حال وجوده، أي قبل الإجازة متى كان موضوع العقد قابلاً له، وإن فسخه استمر على عدم انعقاده استصحاباً للحالة الأولى. وتفصيله يظهر فيما يأتي (¬2): إن كان الخيار للعاقدين: كان العقد غير منعقد من ناحية حكمه في حقهما ¬
معاً أي أنه لا يزول المبيع عن ملك البائع ولا يدخل في ملك المشتري، كما لا يزول الثمن عن ملك المشتري ولا يدخل في ملك البائع؛ لأن الخيار المانع من الانعقاد من ناحية الحكم موجود في جانبي البائع والمشتري. وإن كان الخيار للبائع وحده: كان العقد غير منعقد في حقه من ناحية ثبوت الحكم، فلا يزول المبيع عن ملكه ويخرج الثمن عن ملك المشتري؛ لأن العقد لازم في حقه، ولكنه لا يدخل في ملك البائع عند أبي حنيفة حتى لا يجتمع البدلان (المبيع والثمن) في يد واحدة، وهذا لا يجوز في عقود المبادلة التي تتطلب المساواة بين البائع والمشتري. وقال الصاحبان: إن الثمن يدخل في ملك البائع ويجب له ما دام البيع وقع باتاً، أي لازماً بالنسبة للمشتري، لأنه لم يشترط الخيار لنفسه، ودليلهما: أن الشيء لايصح أن يكون بلا مالك. يظهر مما تقدم أن العقد من ناحية حكمه: لا ينعقد عند أبي حنيفة في كلا البدلين (المبيع والثمن). وعند الصاحبين: لا ينعقد في بدل من له الخيار فقط. وإن كان الخيار للمشتري وحده: كان البيع غير منعقد بالنسبة له من ناحية حكمه، فلا يخرج الثمن عن ملكه، أما المبيع فيخرج عن ملك البائع فليس له التصرف فيه، ولكنه لا يدخل في ملك المشتري عند أبي حنيفة، ويدخل في ملكه عند الصاحبين على النحو السابق. ويترتب على هذا الخلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه نتائج، منها ما يأتي: 1 - إذا اشترى ذمي من ذمي خمراً أو خنزيراً على أنه بالخيار وقبض المشتري المبيع، ثم أسلم بطل البيع عند أبي حنيفة؛ لأن المبيع لم يدخل في مدة الخيار في ملك المشتري، والمسلم ممنوع من تملك الخمر أو الخنزير.
وعند الصاحبين: لا يبطل البيع، بل يسقط الخيار ويلزم العقد؛ لأن المشتري ملك المبيع في مدة الخيار وهو ذمي، له أن يتملك الخمروالخنزير، وبعد الإسلام: ليس له أن يرد البيع، لأنه ممنوع من تمليك شيء مما ذكر. أما إذا أسلم البائع وكان الخيار للمشتري: فلا يبطل البيع ويبقى المشتري على خياره بالاتفاق بين الإمام وصاحبيه، وكونه لا يبطل لأن البيع باتٌّ في جانب البائع. وأما المشتري فيبقى خياره: فإن أجاز البيع صار لازماً، وعليه الثمن ويملك المبيع، لأنه ذمي له أن يملك الخمر والخنزير. وإن رد البيع انفسخ العقد وصار المبيع على ملك البائع، والمسلم قد يملك الخمر أو الخنزير حكماً، كما إذا أسلم الذمي وعنده خمر أو خنزير. فإن كان الخيار للبائع وأسلم في مدة الخيار بطل الخيار والعقد؛ لأن خيار البائع يمنع إجماعاً خروج المبيع عن ملكه، وإسلامه يمنع إخراج الخمر ونحوها عن ملكه. ولو كان الذي أسلم هو المشتري، لم يبطل العقد، وبقي البائع على خياره، لأن العقد لازم من جهة المشتري إذ لا خيار له، وحينئذ له إجازة البيع، فيتملك المشتري المبيع وهو أهل له أي لتملك الخمر ونحوها حكماً، كما عرفنا، وإن رد البيع انفسخ العقد واستمر المبيع ملكاً للبائع. 2 - إذا كان المبيع داراً: فإن كان للبائع خيار، لم يكن للشفيع الشفعة بالاتفاق بين الإمام وصاحبيه؛ لأن خيار البائع يمنع زوال المبيع عن ملكه. وإن كان الخيار للمشتري، تثبت الشفعة بالاتفاق أيضاً؛ لأن خيار المشتري على قول أبي حنيفة، وإن منع دخول السلعة في ملك المشتري، لم يمنع زوال ملكيتها عن ملك البائع، وحق الشفيع يثبت بزوال ملك البائع لا ملك المشتري. وأما على قول الصاحبين: فإن خيار المشتري لا يمنعه تملك السلعة، فتثبت
غير الحنفية
الشفعة للشفيع (¬1). هذا هو تفصيل مذهب الحنفية في حكم عقد البيع خلال مدة الخيار. وأما غير الحنفية فمذاهبهم ما يأتي: قال المالكية وفي رواية عن أحمد: للبائع ملك المبيع زمن الخيار، حتى ينقضي الخيار. وإمضاء البيع: معناه نقل المبيع من ملك البائع لملك المشتري، وليس تقريراً للملك. ودليلهم أن المبيع على ملك البائع، وأما المشتري فملكه غير تام لاحتمال رده. وعلى هذا: تكون غلة المبيع الحاصلة في زمن الخيار للبائع (¬2). وقال الشافعية في الأظهر عندهم: إن كان الخيار المشروط للبائع فملك المبيع وتوابعه كلبن ومهر وثمر وكسب له. وإن كان الخيار للمشتري فيكون الملك له، لأنه إذا كان الخيار لأحدهما كان هو وحده متصرفاً في المبيع، ونفوذ التصرف دليل على الملك. وإن كان الخيار للبائع والمشتري معاً، فالملك موقوف لأنه ليس أحد الجانبين أولى من الآخر، فيحصل التوقف، فإن تم البيع تبين أن الملك للمشتري من حين العقد، وإلا فللبائع، وكأنه لم يخرج عن ملكه (¬3). وقال الحنابلة في ظاهر المذهب: ينتقل الملك إلى المشتري في بيع الخيار بنفس العقد، ولا فرق بين كون الخيار لهما، أو لأحدهما أيهما كان. ودليلهم قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «من باع عبداً وله مال، فماله للبائع، إلا أن يشترط المبتاع» وقوله صلّى الله عليه وسلم: «من باع نخلاً بعد أن تؤبر، فثمرته للبائع إلا أن يشترطه المبتاع» (¬4) جعل ¬
المطلب الخامس ـ كيفية الفسخ والإجازة
الرسول عليه الصلاة والسلام المبيع للمبتاع (أي المشتري) بمجرد اشتراطه، وهو عام في كل بيع، ولأنه بيع صحيح، فنقل الملكية عقبه كالذي لا خيار له، ولأن البيع تمليك بدليل قوله: (ملكتك) فثبت به الملك كسائر البيوع (¬1). ويترتب على هذا الخلاف بين الفقهاء: الخلاف في حكم تسليم الثمن أو استحقاقه للبائع، كما ذكر عند الحنفية، فعند الحنابلة: يلزم تسليم الثمن إذا كان الخيار للمشتري ولا يلزم إذا كان الخيار للبائع أو لهما. المطلب الخامس ـ كيفية الفسخ والإجازة: الفسخ والإجازة إما بطريق الضرورة أو بطريق القصد والاختيار (¬2): أما الفسخ والإجازة بطريق الضرورة: فيصح من غير وجود الخصم وعلمه، كمضي مدة الخيار وهلاك المبيع ونقصانه، كما ذكر في طرق إسقاط الخيار. وأما الفسخ والإجازة بطريق القصد: فاتفق الحنفية على أن صاحب الخيار يملك إجازة العقد بغير علم صاحبه، لأنه كان قد رضي بالبيع، وتوقف نفاذ البيع على رضا صاحب الخيار، فإذا رضي نفذ البيع، علم الآخر أو لم يعلم. ولكن يشترط الرضا باللسان بأن يقول: أجزت هذا العقد أو رضيت به، فإذا رضي بقلبه فقط، فإنه لا يسقط خياره؛ لأن الأحكام الشرعية تتعلق بالأقوال والأفعال الظاهرة الدالة على القلوب. ¬
وأما الفسخ: فإنه ينبغي أن يكون باللسان (¬1) دون القلب، فإن فسخ بلسانه بعلم صاحبه، فيصح بالاتفاق بين علماء الحنفية، سواء رضي به الطرف الآخر أو أبى. وإن فسخ بغيرعلم صاحبه فلا يصح عند أبي حنيفة ومحمد، سواء أكان الخيار للمشتري أم للبائع، ويكون الفسخ حينئذ موقوفاً: إن علم به صاحبه في مدة الخيار نفذ، وإن لم يعلم حتى مضت المدة لزم العقد؛ لأن الفسخ تصرف في حق الغير؛ لأن العقد تعلق به حق كل واحد من المتعاقدين، فلم يملك أحدهما فسخه بغير علم صاحبه، لما في ذلك من المضرة. فإن كان الخيار للبائع: فربما يتصرف المشتري بالمشترى اعتماداً منه على نفاذ البيع بسبب مضي المدة دون فسخ، فتلزمه غرامة القيمة بهلاك المبيع، وقد تكون القيمة أكثر من الثمن، وفي هذا ضرر. وإذا كان الخيار للمشتري: فربما لا يطلب البائع لسلعته مشترياً آخر اعتماداً على تمام البيع، وهذا ضرر أيضاً. وقال أبو يوسف: إن كان الخيار للبائع فلا يشترط علم المشتري بالفسخ، وإن كان الخيار للمشتري اشترط علم البائع بالفسخ. وفي رواية عنه: إنه لا يشترط علم الطرف الآخر بالفسخ مطلقاً؛ لأن الفاسخ منهما مسلط على الفسخ من صاحبه الذي لا خيار له، فلا يتوقف الفسخ على علمه، كبيع الوكيل يجوز مع عدم علم الموكل (¬2). ويجري هذا الخلاف في خيار الرؤية، أما خيار العيب فاتفق الحنفية على أن الفسخ فيه يشترط أن يكون بعلم البائع (¬3). ¬
13 - خيار العيب
وإذا كان الخيار لرجلين ـ خيار شرط أو رؤية أو عيب ـ فلا يملك أحدهما دون الآخر أن ينفرد بالفسخ عند أبي حنيفة؛ لأن المبيع خرج عن ملك البائع غير معيب بعيب الشركة، فلو رده أحدهما رده معيباً به، وفي رده ضرر. وقال الصاحبان: يصح لأحد الرجلين اللذين ثبت الخيار لهما أن ينفرد بالفسخ؛ لأن إثبات الخيار لهما إثباته لكل واحد منهما، فلا يسقط بإسقاط صاحبه، لما فيه من إبطال حقه (¬1). وعلى هذا، يصح عند أبي حنيفة أن يتفق الرجلان على الإجازة أو الفسخ، فإذا رد أحدهما، وأجاز الآخر، فهو على الخلاف المذكور. وكذا يجري الخلاف إذا اختارا رد البيع في النصف، وإجازة البيع في النصف الآخر. هذا هو تفصيل كيفية الفسخ والإجازة عند الحنفية، وخالفهم جمهور العلماء في كيفية الفسخ: فقال المالكية والشافعية والحنابلة: يصح لصاحب الخيار فسخ البيع في حضور صاحبه وفي غيبته، إذ أن صاحبه لما رضي لأخيه بالخيار، فكأنه أذن له في الفسخ متى شاء، فلا يحتاج إلى حضوره (أي علمه) عند الفسخ، ولأن الفسخ رفع للعقد، فلا يفتقر إلى رضا صاحبه، فلم يفتقر إلى حضوره كالطلاق (¬2). 13 - خيار العيب هو خيار ثابت بالشرط دلالة، لذا ذكرته عقب خيار الشرط. والكلام عن خيار العيب في المطالب الآتية: ¬
مشروعية خيار العيب
المطلب الأول ـ في مشروعية خيار العيب وحكمه. المطلب الثاني ـ في العيوب الموجبة للخيار. المطلب الثالث ـ في طرق إثبات العيب وشروط ثبوت الخيار. المطلب الرابع ـ مقتضى الخيار وكيفية الرد بالعيب. المطلب الخامس ـ موانع الرد بالعيب وسقوط الخيار. المطلب السادس ـ اختلاف الفقهاء في شرط البراءة عن العيب. المطلب الأول ـ في مشروعية خيار العيب وحكم العقد مشروعية خيار العيب: الأصل في مشروعية هذا الخيار أحاديث منها ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «المسلم أخو المسلم، لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعاً، وفيه عيب إلا بينه له» (¬1). ومنها ـ قوله عليه الصلاة والسلام: «لا يحل لأحد أن يبيع شيئاً إلا بيَّن ما فيه، ولا يحل لأحد يعلم ذلك إلا بينه» (¬2). ومنها ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلم مر برجل يبيع طعاماً، فأدخل يده فيه، فإذا هو مبلول، ¬
فقال: «من غشنا فليس منا» (¬1). وقال الكاساني: الأصل في مشروعية هذا الخيار ما روي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «من اشترى شاة محفَّلة (¬2)، فوجدها مصراة (¬3)، فهو بخير النظرين ثلاثة أيام» وفي رواية «فهو بأحد النظرين إلى ثلاثة: إن شاء أمسك، وإن شاء رد، ورد معها صاعاً من تمر» (¬4)، والنظران المذكوران: هما نظر الإمساك والرد، وذكر الثلاث في الحديث ليس للتوقيت، بل هو بناء الأمر على الغالب المعتاد، والصاع من التمر كأنه قيمة اللبن الذي حلبه المشتري. ويلاحظ أن جمهور الفقهاء يعتبرون تصرية الإبل والغنم تغريراً فعلياً في الوصف، يوجب للمغرور خياراً في إبطال العقد، ولو لم يصحبه غبن فهو من خيار الوصف (¬5). ويثبتون للمشتري الخيار بين إمساك المبيع إن رضيه، أو رد المبيع مع صاع من ¬
حكم البيع
تمر إن سخطه، ويوافق أبو يوسف الجمهور على هذا الرأي أخذاً بالحديث السابق. وقال أبو حنيفة ومحمد: يرجع المشتري بالنقصان فقط إن شاء. حكم البيع: حكم البيع لشيء معيب: هو ثبوت الملك للمشتري في المبيع للحال لأن ركن البيع مطلق عن الشرط، وإنما يثبت فيه دلالة شرط سلامة المبيع عن العيوب، فإذا لم تتوافر السلامة تأثر العقد في لزومه، لا في أصل حكمه، بخلاف خيار الشرط؛ لأن الشرط المنصوص عليه ورد على أصل الحكم، فمنع انعقاده بالنسبة للحكم في مدة الخيار (¬1). وصفة حكم البيع لشيء معيب: هو أنه يفيد الملك غير لازم؛ لأن سلامة البدلين في عقد المعاوضة مطلوبة عادة، فكانت السلامة مشروطة في العقد دلالة أي ضمناً، فكانت كالمشروطة نصاً، فإذا لم تتحقق صفة السلامة في البدلين، كان للعاقد الخيار، فيكون العقد غير لازم (¬2). المطلب الثاني ـ العيوب الموجبة للخيار العيب: هو كل ما يخلو عنه أصل الفطرة السليمة ويوجب نقصان الثمن في عرف التجار نقصاناً فاحشاً أو يسيراً كالعمى والعور والحول (¬3). ¬
العيوب نوعان
وتعريف العيب عند الشافعية: هو كل ما ينقص العين أو القيمة أو ما يفوت به غرض صحيح إذا غلب في جنس المبيع عدمه. واحترزوا بالقيد الأخير عن قطع أصبع زائدة أو جزء يسير من الفخذ أو الساق لا يورث شيناً، ولا يفوت غرضاً، فلا يرد المبيع به (¬1). مثال إنقاص القيمة: جماح الدابة عند ركوبها، ومثال ما يفوت به غرض صحيح: قطع بعض أذن الشاة المشتراة للأضحية، فللمشتري ردها. والفرق بين التعريفين: أن تعريف الحنفية ذو معيار مادي، وتعريف الشافعية ذو معيار شخصي. والعيوب نوعان: أحدها ـ ما يوجب نقصان جزء من المبيع أو تغيره من حيث الظاهر دون الباطن. ثانيهما ـ ما يوجب النقصان من حيث المعنى، دون الصورة. أما الأول ـ فكثير نحو العمى، والعور، والحَوَل، والشلل، والقرع، والزمانة (أي الأمراض المزمنة) والأصبع الناقصة والسن السوداء والسن الساقطة والسن الشاغية (الزائدة) والظفر الأسود، والصمم والخرس، والبكم، والقروح، والشجاج، وأثر الجراح، والحميات وسائر الأمراض التي تعم البدن (¬2). وأما الثاني ـ فنحو جماح الدابة، وبطء غير معتاد في سيارة ونحوها (¬3). ¬
المطلب الثالث ـ طرق إثبات العيب وشروط ثبوت الخيار
المطلب الثالث ـ طرق إثبات العيب وشروط ثبوت الخيار شرائط ثبوت الخيار: يشترط لثبوت الخيار شرائط هي (¬1): 1 - ثبوت العيب عند البيع أو بعده قبل التسليم، فلو حدث بعدئذ لا يثبت الخيار. 2 - ثبوت العيب عند المشتري بعد قبضه المبيع، ولا يكتفى بالثبوت عند البائع لثبوت حق الرد في جميع العيوب عند عامة المشايخ. 3 - جهل المشتري بوجود العيب عند العقد والقبض، فإن كان عالماً به عند أحدهما فلا خيار له، لأنه يكون راضياً به دلالة. 4 - عدم اشتراط البراءة عن العيب في البيع، فلو شرط فلا خيار للمشتري، لأنه إذا أبرأه فقد أسقط حق نفسه. 5 - أن تكون السلامة من العيب غالبة في مثل المبيع المعيب. 6 - ألا يزول العيب قبل الفسخ. 7 - ألا يكون العيب طفيفاً مما يمكن إزالته دون مشقة، كالنجاسة في الثوب الذي لا يضره الغسل. 8 - عدم اشتراط البراءة من العيب في البيع، على التفصيل الآتي في آخر البحث. طرق إثبات العيب: يختلف طريق إثبات العيب باختلاف العيب، والعيب أربعة أنواع: ¬
1 - فإن كان عيبا مشاهدا
إما عيب ظاهر مشاهد، كالأصبع الزائدة والناقصة والسن الساقطة والعمى والعور ونحوها. أو عيب باطن خفي لا يعرفه إلا الأطباء. أو عيب لا يطلع عليه إلا النساء. أو عيب لا يعرف بالمشاهدة، وإنما يحتاج إلى التجربة والامتحان عند الخصومة. 1 - فإن كان عيباً مشاهداً: فلا حاجة لتكليف القاضي للمشتري بإقامة البينة على وجود العيب عنده، لكونه ثابتاً بالعيان والمشاهدة، وللمشتري حق خصومة البائع، بسبب هذا التعريف، وللقاضي حينئذ النظر في الأمر. فإن كان العيب لا يحدث مثله عادة في يد المشتري كالأصبع الزائدة ونحوها، فإنه يرد على البائع، ولا يكلف المشتري بإقامة البينة على ثبوت العيب عند البائع لتيقن ثبوته عنده إلا أن يدعي البائع الرضا به، والإبراء عنه، فتطلب البينة منه. فإن أقام البينة عليه قضي بموجبها، وإلا فيستحلف المشتري على دعواه، فإن نكل لم يرد المبيع المعيب على البائع وإن حلف رد على البائع. وأما إن كان العيب ممايجوز أن يحدث مثله في يد المشتري: فيقول القاضي للبائع: (هل حدث هذا عندك؟) فإن قال: (نعم) قضى عليه بالرد، إلا أن يدعي الرضا والإبراء. وإن أنكر فقال? لا) كان القول قوله إلا أن يقيم المشتري البينة، فإن أقامها، قضى عليه بالرد، إلا أن يدعي البائع الرضا والإبراء، وإن لم يكن له بينة على إثبات العيب عند البائع، وطلب المشتري يمينه، فإنه يستحلف بالله بنحوٍ باتٍّ قاطع جازم لا على مجرد نفي العلم: (لقد بعته وسلمته، وما به هذا العيب)
2 ـ وأما إذا كان العيب باطنا خفيا لا يعرفه إلا المختصون
لأن هذا أمر لو أقر به لزمه، فإذا أنكر يحلف، وإنما يحلف على هذا الوجه بالجمع بين البيع والتسليم؛ لأنه قد يحدث العيب بعد البيع قبل التسليم فيثبت للمشتري حق الرد، فكان الاحتياط هو الجمع بينهما. وهذا ما ذكره محمد في الأصل. وقال بعض المشايخ: لا احتياط في هذا، لأنه لو استحلف على هذا الوجه، فمن الجائز حدوث العيب بعد البيع قبل التسليم، فيكون البائع صادقاً في يمينه؛ لأن شرط حنثه: وجود العيب عند البيع والتسليم معاً فلا يحنث بوجوده في أحدهما، فيبطل حق المشتري. والاحتياط للمشتري يتحقق فيما إذا حلف البائع بالله: (ما للمشتري رد السلعة بهذا العيب الذي يدعي) وقال بعضهم: يحلف بالله (لقد سلمته وما به هذا العيب الذي يدعي) قال الكاساني: «وهو صحيح، لأنه يدخل فيه الموجود عند البيع، والحادث قبل التسليم». فإذا حلف برئ، ولا يرد عليه المبيع، وإن نكل يرد عليه ويفسخ العقد، إلا إذا ادعى البائع على المشتري الرضا بالعيب أو الإبراء عنه. وقد صحح بعضهم صيغة اليمين الأولى التي ذكرها محمد بإضمار زيادة في الكلام، فتصير الصيغة: «لقد بعته وسلمته وما به هذا العيب، لا عند البيع ولا عند التسليم» (¬1). 2 ًـ وأما إذا كان العيب باطناً خفياً لا يعرفه إلا المختصون: كالأطباء والبياطرة مثل وجع الكبد والطحال ونحوه، فإنه يثبت لممارسة حق ¬
3 - وإن كان العيب مما لا يطلع عليه إلا النساء
الخصومة بشهادة رجلين مسلمين أو رجل مسلم عدل، وبعده يقول القاضي للبائع: «هل حدث عندك العيب المدعى به» فإن قال: «نعم» قضى عليه بالرد، وإن أنكر أقام المشتري البينة، فإن لم يكن له بينة استحلف البائع على الوجه السابق ذكره في العيب المشاهد. فإن حلف، لم يرد عليه، وإن نكل قضى عليه بالرد، إلا أن يدعي الرضا أو الإبراء (¬1). 3 - وإن كان العيب مما لا يطلع عليه إلا النساء: فيرجع القاضي إلى قول النساء، فيريهن العيب لقوله تعالى: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [الأنبياء:7/ 21] ولا يشترط العدد منهن، بل يكتفى بقول امرأة واحدة عدل، والثنتان أحوط؛ لأن قول المرأة فيما لا يطلع عليه الرجال حجة في الشرع، كشهادة القابلة في النسب. فإذا شهدت المرأة على العيب، فهناك روايتان عن كل واحد من الصاحبين: في رواية عن أبي يوسف أنه يفرق بين ما إذا كان المبيع في يد البائع أو في يد المشتري. فإن كان في يد البائع فيثبت العيب بشهادتها، ويرد المبيع، ويفسخ البيع، لأن ما لا يطلع عليه الرجال، فقول المرأة الواحدة بمنزلة البينة. وإن كان في يد المشتري فيثبت حق الخصومة أي (حق الادعاء) بقولها، ولايثبت بالنسبة لحق الرد على البائع؛ لأن المبيع وجد معيباً في ضمان المشتري، فلا ينقل الضمان إلى البائع بقول النساء، ثم يسأل القاضي البائع: (هل كان هذا العيب عندك) كما تبين في صورة العيب الباطن. ¬
4 - وأما العيب الذي ليس بمشاهد عند الخصومة ولايعرف إلا بالتجربة
وفي رواية أخرى عن أبي يوسف قال: إن كان العيب مما لا يحدث مثله: يفسخ البيع بقول النساء؛ لأن العيب قد ثبت بشهادتهن، وقد علمنا كون العيب عند البائع بيقين. وإن كان عيباً يحدث مثله، لم يثبت حق الفسخ بقولهن؛ لأن هذا مما يعلم من جهة غيرهن. والروايتان عن محمد ما يأتي: قال في رواية: لا يُفسخ البيع بقولهن بحال. وفي رواية: يفسخ قبل القبض وبعده بقولهن؛ لأن قولهن فيما لا يطلع عليه الرجال كالبينة كما في النسب. والحاصل أن شهادة المرأة الواحدة أو الثنتين يثبت بها العيب الذي لا يطلع عليه الرجال بالنسبة لحق إقامة الخصومة لا بالنسبة لحق الرد، سواء أكان العيب قبل القبض أم بعده في ظاهر الرواية عن علماء الحنفية الثلاث، فكان هو المذهب المعتمد (¬1). 4 - وأما العيب الذي ليس بمشاهد عند الخصومة ولايعرف إلا بالتجربة: كالإباق والجنون والسرقة والبول على الفراش، فلا يثبت إلا بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين. إذا أثبت المشتري حدوث العيب عنده، يقول القاضي للبائع: (هل أبق عندك) فإن قال: (نعم) قضى عليه بالرد، إلا أن يدعي الرضا أو الإبراء، وإن أنكر الإباق أصلاً، وادعى اختلاف الحالة في هذا العيب بين الصغر والكبر، كما سلف بيانه، يقول القاضي للمشتري: (ألك بينة؟) فإن قال: (نعم) وأقام البينة ¬
هل يستحلف القاضي البائع على ذلك أو لا؟
على مايدعي، قضى عليه بالرد، وإن قال: (لا) يستحلف البائع بالله: (ماأبق عندك قط) فإن حلف انقطعت الخصومة بينهما، وإن نكل عن اليمين قضى عليه بالرد. وإذا لم يستطع المشتري إثبات العيب عنده، هل يستحلف القاضي البائع على ذلك أو لا؟. قال الصاحبان: يستحلف، وقال أبو حنيفة: لايستحلف. دليلهما: أن المشتري يدعي حق الرد ولايمكنه الرد إلا بإثبات العيب عند نفسه، وطريق الإثبات: إما البينة أو نكول البائع، فإذا لم تقم له بينة يستحلف لينكل أي (البائع) فيثبت العيب عند نفسه، ولهذا يستحلف أي المشتري عند عدم البينة على إثبات العيب عند البائع فكذا هذا. ودليل أبي حنيفة: أن الاستحلاف يكون عقب الدعوى على البائع، ولا دعوى له على البائع إلا بعد ثبوت العيب عند نفسه، ولم يثبت، فلم تثبت دعواه على البائع، فلا يستحلف، والنكول لايكون إلا بعد الاستحلاف (¬1). وكيفية استحلاف البائع: هي أن يحلف على العلم: لا على سبيل البت والقطع، فيقول: (بالله مايعلم أن هذا العيب موجود في هذا الشيء الآن) والسبب فيه: هو أنه يحلف على غير فعله، ومن حلف على غير فعله، يحلف على العلم لأنه لا علم له بما ليس بفعله، أما من حلف على فعل نفسه، فيحلف على البتات (أي بصيغة البت ¬
المطلب الرابع ـ مقتضى الخيار
والجزم) فإن نكل أي البائع عن اليمين، ثبت العيب عند المشتري، فيثبت له حق الخصومة، وإن حلف برئ (¬1). المطلب الرابع ـ مقتضى الخيار وكيفية الفسخ والرد بالعيب مقتضى الخيار: يترتب على ظهور العيب في المبيع أن يكون المشتري مخيراً بين أمرين: إما أن يمضي العقد، وفي هذه الحالة يلتزم بأداء الثمن كاملاً؛ أو يفسخ العقد، فيسترد الثمن إن كان قد دفعه، ويعفى من أدائه إن لم يكن قد أداه، وعليه أن يرد العين المعيبة إذا كان قد تسلّمها (¬2). وقال الشافعية والحنابلة: إذا تعيب المبيع في يد البائع أو تلف بعضه بأمر سماوي، فيكون المشتري مخيراً بين قبوله ناقصاً بجميع الثمن، ولا شيء له، وبين فسخ العقد والرجوع بالثمن (¬3). كيفية الفسخ والرد: المبيع لا يخلو من أحد حالين: 1 - إما أن يكون في يد البائع، فينفسخ البيع بقول المشتري: «رددت» ولا يحتاج إلى قضاء القاضي، ولا إلى التراضي بالاتفاق بين الحنفية والشافعية. 2 - وإما أن يكون في يد المشتري، فلا ينفسخ إلا بقضاء القاضي أو بالتراضي عند الحنفية؛ لأن الفسخ بعد القبض يكون على حسب العقد؛ لأنه يرفع العقد، وبما أن العقد لا ينعقد بأحد العاقدين فلا ينفسخ بأحدهما من غير رضا ¬
هل الفسخ بعد العلم بالعيب على الفور أو على التراخي؟
الآخر، ومن غير قضاء القاضي، بخلاف الفسخ قبل القبض؛ لأن الصفقة ليست تامة حينئذ، بل تمامها بالقبض، فكان بمنزلة القبض. وعند الشافعي: ينفسخ العقد بقوله: «رددت» بغير حاجة إلى قضاء، ولا إلى رضا البائع؛ لأن الفسخ لا تفتقر صحته إلى القضاء، ولا إلى الرضا كالفسخ بخيار الشرط بالاتفاق، وبخيار الرؤية على أصل الحنفية (¬1). هل الفسخ بعد العلم بالعيب على الفور أو على التراخي؟ قال الحنفية والحنابلة: خيار الرد بالعيب على التراخي، ولا يشترط أن يكون رد المبيع بعد العلم بالعيب على الفور، فمتى علم العيب فأخر الرد، لم يبطل خياره حتى يوجد منه ما يدل على الرضا، وإذا أعلن المشتري البائع بالعيب وخاصمه في رد المبيع، ثم ترك مخاصمته بعدئذ، ورجع إليها وطلب الرد، فإن له أن يرد ما لم يمتنع الرد لمانع، لأنه خيار لدفع ضرر متحقق، فكان على التراخي كالقصاص، ولا نسلم دلالة الإمساك على الرضا به (¬2). وقال الشافعية: يشترط أن يكون رد المبيع بعد العلم بالعيب على الفور، فلو علم ثم أخر رده بلا عذر؛ سقط حقه في الرد، والمراد بالفور: ما لا يعد تراخياً في العادة، فلو اشتغل بصلاة دخل وقتها، أو بأكل أو نحوه، فلا يكون تراخياً في العادة، فلا يمنع الرد، وكذا لو علم بالعيب، ثم تراخى لعذر كمرض أو خوف لص أو حيوان مفترس أو نحوه، فإن حقه لا يسقط، وإنما يكون له حق الرد بعد العلم بالعيب إذا لم يفعل ما يدل على الرضا، كاستعمال الحيوان ولبس الثوب أو نحوه. ¬
المطلب الخامس ـ موانع الرد بالعيب وسقوط الخيار
ودليلهم: أن الأصل في البيع اللزوم، وعدم اللزوم عارض، ولأنه خيار ثبت بالشرع لدفع الضرر عن المال، فكان فورياً كالشفعة، فيبطل بالتأخير بغير عذر (¬1). المطلب الخامس ـ موانع الرد بالعيب وسقوط الخيار يمتنع الرد بالعيب ويسقط الخيار بعد ثبوته ويلزم البيع بأسباب، منها: ما يكون بعد ثبوت التزام البائع بضمان العيب. ومنها: ما لا يكون البائع ملتزماً فيها بضمان العيوب من أول الأمر. أما ما يكون بعد ثبوت التزام البائع بضمان العيب فهي (¬2): 1 - الرضا بالعيب بعد العلم به، إما صراحة كأن يقول: رضيت بالعيب أو أجزت البيع، أو دلالة كالتصرف في المبيع تصرفاً يدل على الرضا بالعيب كصبغ الثوب أو قطعه، أو البناء على الأرض أو طحن الحنطة أو شيّ اللحم، أو بيع الشيء أو هبته أو رهنه ولو بلا تسليم أو استعماله بأي وجه كلبس الثوب وركوب الدابة أو مداواة المبيع ونحوها كما ذكر في مبحث خيار الشرط، أو وصول عوض العيب إلىه حقيقة، أو اعتباراً كأن يقتله أجنبي وهو في يده خطأ، فيأخذ قيمته منه. وذلك لأن حق الرد لفوات السلامة المشروطة في العقد ضمناً، ولَّما رضي المشتري بالعيب بعد العلم به، دل على أنه ما شرط السلامة، ولأنه إذا رضي بالعيب فقد رضي بالضرر: وهو إسقاط ضمان العيب الذي يعوض به عن الجزء المعيب، وفي حالة العوض: إذا حصل التعويض، فكأن الجزء المعيب عاد سليماً ¬
2 - إسقاط الخيار صراحة أو في معنى الصريح
معنىً، بقيام بدله، وهذا في ظاهر الرواية، لأنه لما وصلت إليه قيمته، قامت القيمة مقام العين، فصار كأنه باعه. 2 - إسقاط الخيار صراحة أو في معنى الصريح: مثل أن يقول المشتري: أسقطت الخيار أو أبطلته، أو ألزمت البيع أو أوجبته، وما يجري مجراه. وأما ما يمنع الرد دون أن يكون البائع ملتزماً بالضمان من أول الأمر فهو مايأتي: 1 - المانع الطبيعي: وهو هلاك المبيع بآفة سماوية، أو بفعل المبيع، أو باستعمال المشتري كأكل الطعام، فيمتنع الرد في هذه الحالات لهلاك المبيع، ويثبت للمشتري حق الرجوع على البائع بنقصان العيب (¬1). 2 - المانع الشرعي: وهو أن يحدث في المبيع قبل القبض زيادة متصلة غير متولدة من الأصل كصبغ الثوب والبناء على الأرض، أو يحدث بعد القبض زيادة متصلة غير متولدة أو زيادة منفصلة متولدة كالولد والثمرة. وأما بقية أنواع الزيادات فلا تمنع الرد. وتفصيله ما يأتي (¬2): الزيادة في المبيع: إما أن تحدث قبل القبض أو بعده، وكل منها إما متصلة أو منفصلة. ف الزيادة الحادثة قبل القبض: ¬
1 - إذا كانت متصلة
1 - إذا كانت متصلة: فإما أن تكون متولدة من الأصل كالحسن والجمال والكبر والسمن ونحوها، فلا تمنع الرد، لأنها تابعة للأصل حقيقة. أو تكون غير متولدة كصبغ الثوب أو خياطته، وكالبناء أو الغرس على الأرض، فتمنع الرد؛ لأنها أصل قام بذاته، وليست تابعة، فلا يرد المبيع بدونها، لتعذر الرد، ولا يرد معها، لأنها ليست تابعة في البيع فلا تتبع في الفسخ. 2 - وإن كانت منفصلة: فإما أن تكون أيضاً متولدة من الأصل كالولد والثمرة واللبن، فلا تمنع الرد، فإن شاء المشتري ردهما جميعاً، وإن شاء رضي بهما بجميع الثمن. أو أن تكون غير متولدة، كالكسب والصدقة والغلة، فلا تمنع الرد؛ لأنها ليست بمبيعة، وإنما هي مملوكة بملك الأصل. وأما الزيادة الحادثة في المبيع بعد القبض (أي عند المشتري): 1 - إن كانت زيادة متصلة. فإن كانت متولدة من الأصل كسمن الدابة، فلا تمنع الرد عند الحنفية والشافعية والحنابلة والمالكية (¬1)، ويبقى حكم العيب معها على موجبه الأصلي: فإن رضي المشتري أن يردها مع الأصل ردها، وإن أبى وأراد أن يأخذ نقصان العيب، وأبى البائع إلا الرد ودفع جميع الثمن، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف: ليس ¬
2 - وإن كانت زيادة منفصلة
للبائع أن يأبى وللمشتري أخذ نقصان العيب منه؛ لأن الزيادة المتصلة بعد القبض تمنع الفسخ عندهما إذا لم يوجد الرضا من صاحب الزيادة. وقال محمد: له أن يأبى الرد، وليس للمشتري أن يرجع بالنقصان عليه (أي على البائع) لأن الزيادة المتصلة عنده لا تمنع الفسخ، وأصل الخلاف راجع إلى حكم الزيادة المتصلة بالمهر بعد القبض إذا طلق الزوج امرأته قبل الدخول. وإن كانت غير متولدة: فإنها تمنع الرد بالاتفاق؛ لأن هذه الزيادة ملك للمشتري، فلا يحق للبائع عندئذ أخذها بلا مقابل، ويتعين الرجوع بنقصان العيب. 2 - وإن كانت زيادة منفصلة: فإن كانت متولدة من الأصل كالولد والثمرة واللبن، فإنها تمنع الرد عند الحنفية؛ لأنها لو رد الأصل دونها تبقى للمشتري بلا مقابل، وهو ممنوع شرعاً، لأنه ربا. وقال الشافعية والحنابلة: لا تمنع هذه الزيادة الرد، وهي للمشتري بعد القبض، لأنها حدثت في ملك المشتري، فلا تمنع الرد، كالزيادة غير المتولدة، ولما روي «أن رجلاً ابتاع من آخر غلاماً، فأقام عنده ما شاء الله، ثم وجد به عيباً، فخاصمه إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فرده عليه، فقال: يا رسول الله، قد استغل غلامي، فقال: الخراج بالضمان» (¬1) ومعناه أن فوائد المبيع للمشتري في مقابلة أنه لو تلف كان من ضمانه، وقيس الثمن على المبيع. ¬
3 - المانع بسبب حق البائع
وإن كانت الزيادة غير متولدة كالكسب والصدقة، لم يمتنع الرد، ويرد الأصل على البائع، والزيادة للمشتري طيبة له؛ لأن هذه الزيادة ليست بمبيعة أصلاً، فأمكن فسخ العقد بدون الزيادة. 3 - المانع بسبب حق البائع: وهو حدوث عيب جديد عند المشتري بعد قبضه، إذا كان المبيع معيباً بعيب قديم عند البائع، كأن انكسرت يد الدابة المبيعة عند المشتري، وظهر فيها مرض قديم كان عند البائع؛ لأن المبيع خرج عن ملك البائع معيباً بعيب واحد، فلو رد يرد بعيبين، فيتضرر البائع. وشرط الرد أن يرد على الوجه الذي أخذ، وإنما يكون للمشتري أن يرجع على بائعه بالنقصان. ولو زال العيب الحادث، كما لو شفيت الدابة المريضة، عاد الموجب الأصلي: وهو حق الرد (¬1). 4 - المانع بسبب حق الغير: كما لو أخرج المشتري المبيع عن ملكه بعقد من عقود التمليك كبيع أو هبة أوصلح، ثم اطلع على أنه كان معيباً بعيب قديم، فلا يمكن المشتري الأول أن يفسخ البيع بينه وبين بائعه، لأنه قد تعلق بالمبيع حق مالك جديد، أنشأه المشتري نفسه (¬2). 5 - إتلاف المشتري المبيع: كما لو كان المبيع دابة فقتلها، أو ثوباً فمزقه ونحوه، ثم علم بوجود العيب القديم فيه، فيستقر عليه الثمن المسمى نهائياً دون رجوع بنقصان. والفرق بين هذا العيب وبين المانع بسبب حق الغير: أنه في الحالة الثانية يحتمل زوال المانع، فيعود حق الرد، وفي الحالة الأولى لا يحتمل زواله (¬3). ¬
وإذا حصل في المبيع عيب عند المشتري، ثم اطلع على عيب كان عند البائع فله أن يرجع بالنقصان على البائع ولا يرد المبيع إلا أن يرى البائع أخذ المبيع بعينه فله أخذه. وتعتبر قيمة النقصان يوم البيع (¬1). والخلاصة: أنه يجوز الرجوع على البائع للمطالبة بفرق نقصان العيب في حالات ثلاث: هي هلاك المبيع، وتعيبه بعيب جديد، وتغيير صورته بحيث أصبح له اسم جديد. ويلاحظ أن الكلام في هذه الموانع المذكورة فيما إذا كان المشتري عاقداً لنفسه، فإن كان عاقداً لغيره ففيه تفصيل: إذا كان العاقد لغيره ممن يجوز أن تلزمه الخصومة (أي الادعاء) في الرجوع بنقصان العيب كالوكيل، والشريك، والمضارب، فتلزمه الخصومة، ويقوم برد المبيع المعيب على البائع؛ لأن الرد بالعيب من حقوق العقد، وحقوق العقد ترجع إلى العاقد إذا كان ممن تلزمه الخصومة كالعاقد لنفسه، فما قضي به على العاقد ـ إن كان وكيلاً بالبيع ـ رجع به على من وقع له العقد، لكونه قائماً مقامه (¬2). وإذا كان العاقد ممن لا تلزمه الخصومة كالقاضي والإمام إذا عقدا عقداً بحكم الولاية، فإنه ينصب خصماً يخاصم في العيب، فما قضي به عليه، رجع في مال من وقع التصرف له، وإن كان التصرف للمسلمين رجع في بيت مالهم. وأما العاقد: إذا كان صبياً محجوراً، فباع أو اشترى بإذن إنسان، فلا تلزمه الخصومة، ولا ضمان عليه، وإنما الخصومة على من وكله في التصرف؛ لأن حكم ¬
المطلب السادس ـ آراء الفقهاء في شرط البراءة عن العيوب
العقد وقع للموكل، والعاقد ليس من أهل لزوم العهدة (أي حقوق العقد) فيقتصر دوره على مباشرة التصرف لا غير، كالرسول والوكيل في عقد النكاح. المطلب السادس ـ آراء الفقهاء في شرط البراءة عن العيوب اختلف الفقهاء فيما إذا شرط البائع براءته من ضمان العيب (أي عدم مسؤوليته عما يمكن أن يظهر من عيوب في المبيع) فرضي المشتري بهذا الشرط، اعتماداً على السلامة الظاهرة ثم ظهر في المبيع عيب قديم (¬1). قال الحنفية: يصح البيع بشرط البراءة من كل عيب (¬2) وإن لم تعين العيوب بتعداد أسمائها، سواء أكان جاهلاً وجود العيب في مبيعه فاشترط هذا الشرط احتياطاً، أم كان عالماً بعيب المبيع، فكتمه عن المشتري، واشترط البراءة من ضمان العيب ليحمي بهذا الشرط سوء نيته، فيصح البيع، لأن الإبراء إسقاط، لا تمليك، والإسقاط لا تفضي الجهالة فيه إلى المنازعة، لعدم الحاجة إلى التسليم. ويشمل هذا الشرط كل عيب موجود قبل البيع أو حادث بعده قبل القبض، فلا يرد المبيع بالعيب حينئذ. وهذا في ظاهر الرواية عن أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن غرض البائع إلزام العقد بإسقاط المشتري حقه في وصف سلامة المبيع، ليلزم البيع على كل حال، ولا يتحقق هذا الغرض إلا بشمول العيب الحادث قبل التسليم، فكان داخلاً ضمناً. ¬
وقال محمد وزفر والحسن بن زياد ومالك والشافعي، وهو المعمول به في قانوننا المدني: يشمل البراءة العيب الموجود عند العقد فقط، لا الحادث بعد العقد وقبل القبض؛ لأن البراءة تتناول الشيء الثابت الموجود، بسبب أن الإبراء عن المعدوم لا يتصور، والحادث لم يكن موجوداً عند البيع، فلا يدخل تحت الإبراء (¬1). وهذا الخلاف فيما إذا قال: (أبرأتك عن كل عيب مطلقاً) فأما إذا قال: (أبيعك على أني بريء من كل عيب به) لم يدخل فيه العيب الحادث بالاتفاق، لأنه لم يعمم البراءة، وإنما خصها بالموجود عند العقد. وبناء على قول محمد وزفر والحسن: إذا كانت البراءة من العيوب عامة فاختلف البائع والمشتري في وجود عيب، فقال البائع: كان موجوداً عند العقد، فدخل تحت البراءة، وقال المشتري: بل هو حادث لم يدخل تحت البراءة، وبناء عليه، قال محمد: القول قول البائع، مع يمينه؛ لأن البراءة عامة والمشتري يدعي حق الرد بعد عموم البراءة عن حق الرد بالعيب، والبائع ينكر ذلك، فكان القول قوله. وقال زفر والحسن: القول قول المشتري لأن الأصل هو ثبوت الحق، والمشتري هو المبرئ، فيكون القول قوله في مقدار البراءة (¬2). ويشمل هذا الشرط أيضاً كل عيب من العيوب الظاهرة والباطنة؛ لأن اسم العيب يقع على الكل. ¬
فإذا قال: (أبرأتك عن كل داء) فيقع على كل عيب ظاهر، دون الباطن من طحال ونحوه عند أبي يوسف. وروي عن أبي حنيفة أنه يقع على كل عيب باطن، من طحال أو فساد حيض وأما العيب الظاهر فيسمى مرضاً. وقد رجح بعضهم وهو صاحب الدر المختار الرأي الثاني اعتماداً على ما هو المعروف في العادة، إلا أن المشهور في المذهب هو الأول أي يقع على كل مرض؛ لأن الداء في اللغة هو المرض، سواء أكان بالجوف أم بغيره، والعرف الآن موافق للغة (¬1) أي أن الداء هو المرض. ولو أبرأ البائع عن كل غائلة (¬2) فيقع على السرقة والإباق والفجور، وكل ما يعد عيباً عند التجار (¬3). وإذا خصص الإبراء عن بعض العيوب لم يشمل غيرها، كأن يبرئ من القروح أو الكي أو نحوها، لأنه أسقط حقه من نوع خاص (¬4). فإذا كانت البراءة خاصة بعيب موجود عند العقد سماه المشتري، ثم اختلف المتعاقدان، فقال البائع: (كان بها) وقال المشتري: (حدث قبل القبض) فقال محمد: القول قول المشتري لأن هذه البراءة خاصة بحال العقد، لا تتناول إلا الموجود حالة العقد، والمشتري يدعي العيب لأقرب الوقتين، والبائع يدعيه لأبعدهما، فكان الظاهر شاهداً للمشتري (¬5). ¬
هذا هو مذهب الحنفية في شرط البراءة عن العيوب عموماً. وأما مذاهب غيرهم من حيث العلم بالعيب والجهل به فهي ما يلي: قال المالكية: إن شرط البراءة عن العيوب لا يصح إلا في عيب في الرقيق لايعلم به البائع، وطالت إقامة الرقيق عند بائعه. أما ما يعلم به، أو كان في غير الرقيق، أو في رقيق لم تطل إقامته عند بائعه (مالكه) فلا تصح البراءة عنه (¬1). وقال الشافعية: لو باع بشرط براءته من العيوب، فالأظهر أنه يبرأ عن كل عيب باطن بالحيوان خاصة، إذا لم يعلمه البائع، ولا يبرأ عن عيب بغير الحيوان، كالثياب والعقار مطلقاً، ولا عن عيب ظاهر بالحيوان، علمه، أم لا، ولا عن عيب باطن بالحيوان كان قد علمه. والمراد بالباطن: ما لا يطلع عليه غالباً. وينصرف الإبراء إلى العيب الموجود عند العقد، لا الذي حدث قبل القبض. ولو اختلف المتعاقدان في قدم العيب فيصدق البائع. ولو شرط البائع البراءة عما يحدث من العيوب قبل القبض ولو مع الموجود منها، لم يصح الشرط في الأصح؛ لأنه إسقاط للشيء قبل ثبوته، كما لو أبرأ عن ثمن ما يبيعه له (¬2). وأما الحنابلة فعندهم روايتان عن أحمد: رواية تقرر أنه لا يبرأ إلا أن يعلم المشتري بالعيب، وهو قول الشافعي، ورواية: تقرر أنه يبرأ من كل عيب لم يعلمه، ولا يبرأ من عيب علمه. واختار ابن قدامة وغيره أن من باع حيواناً أو غيره بالبراءة من كل عيب أو من ¬
14 - خيار الرؤية
عيب معين موجود: لم يبرأ، سواء علم به البائع أو لم يعلم (¬1). 14 - خيار الرؤية يذكر بعض المؤلفين هذا الخيار قبل خيار العيب، لكونه أقوى منه، لأنه يمنع تمام البيع، أما خيار العيب فيمنع لزوم الحكم، واللزوم بعد التمام. وإني خالفت ذلك لتشابه خيار الشرط وخيار العيب، كما أشرت سابقاً، ثم إن خيار الشرط، وخيار العيب، وخيار التعيين ثبتت باشتراط المتعاقدين، أما خيار الرؤية فقد ثبت من ناحية الشرع. خطة الموضوع: الكلام في هذا الخيار على وفق المطالب الآتية: المطلب الأول: مشروعية خيار الرؤية. المطلب الثاني: وقت ثبوت الخيار. المطلب الثالث: كيفية ثبوت الخيار. المطلب الرابع: صفة البيع الذي فيه خيار رؤية وحكمه. المطلب الخامس: شرائط ثبوت الخيار، وتوابعها. المطلب السادس: مسقطات الخيار. المطلب السابع: ما ينفسخ به العقد وشروط الفسخ. ¬
المطلب الأول ـ مشروعية خيار الرؤية
المطلب الأول ـ مشروعية خيار الرؤية أجاز الحنفية خيار الرؤية في شراء ما لم يره المشتري وله الخيار إذا رآه: إن شاء أخذ المبيع بجميع الثمن، وإن شاء رده، وكذا إذا قال: رضيت، ثم رآه: له أن يرده، لأن الخيار معلق بالرؤية، كما في الحديث الآتي، ولأن الرضا بالشيء قبل العلم بأوصافه لا يتحقق فلا يعتبر قوله: (رضيت) قبل الرؤية بخلاف قوله: (رددت). استدلوا على خيار الرؤية بقوله عليه السلام فيما يرويه أبو هريرة وابن عباس رضي الله عنهما: «من اشترى شيئاً لم يره فهو بالخيار إذا رآه» (¬1). واستدلوا أيضاً بما روي أن سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه باع أرضاً له من طلحة بن عبد الله رضي الله عنهما، ولم يكونا رأياها، فقيل لطلحة: (غبنت)، فقال: «لي الخيار، لأني اشتريت ما لم أره» فحكّما في ذلك جبير بن مطعم، فقضى بالخيار لطلحة رضي الله عنه (¬2)، أي للمشتري دون البائع وإن باع مالم يره. وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم، ولم ينكر عليه أحد منهم، فكان إجماعاً منهم على شرعية هذا الخيار. واستدلوا أيضاً بالمعقول: وهو أن جهالة الوصف تؤثر في الرضا، فتوجب خللاً فيه، واختلال الرضا في البيع يوجب الخيار. ¬
وبناء على هذا، أجازوا بيع العين الغائبة من غير صفة، ويثبت للمشتري حينئذ خيار الرؤية، أو بصفة مرغوبة، ويثبت له خيار الوصف، كما سبقت الإشارة إليه، فإذا رأى المشتري المبيع، كان له الخيار فإن شاء أنفذ البيع، وإن شاء رده، سواء أكان موافقاً للصفة أم لا، فيثبت الخيار بكل حال. ولم يجز الحنفية خيار الرؤية للبائع إذا باع ما لم يره كما إذا ورث عيناً من الأعيان في بلد غير الذي هو فيه، فباعها قبل الرؤية، صح البيع، ولاخيار له عندهم. وقد رجع أبو حنيفة عما كان يقول أولاً بأن له الخيار، كما للمشتري، وكما هو الأمر في خيار الشرط وخيار العيب (¬1). والتفرقة بين البائع والمشتري في هذا أمر معقول؛ لأن البائع يعرف ما يبيعه أكثر من المشتري، فلا ضرورة لثبوت الخيار له، وعليه أن يتثبت قبل البيع، حتى لا يقع عليه غبن يطلب من أجله فسخ العقد (¬2). وأجاز المالكية خيار الوصف للمشتري فقط، فقالوا: يجوز بيع الغائب على الصفة إذا كانت غيبته مما يؤمن أن تتغير فيه صفته قبل القبض، فإذا جاء على الصفة، صار العقد لازماً (¬3). والحنابلة أجازوا أيضاً كالمالكية خيار الوصف فقط فقالوا: يجوز بيع الغائب إذا وصف للمشتري، فذكر له من صفاته ما يكفي في صحة السلم، لأنه بيع بالصفة، فصح كالسلم. وتحصل بالصفة معرفة المبيع؛ لأن معرفته تحصل ¬
بالصفات الظاهرة التي يختلف بها الثمن ظاهراً، وهذا يكفي كما يكفي في السلم، ولا يعتبر في الرؤية الاطلاع على الصفات الخفية، ومتى وجده المشتري على الصفة المذكورة صار العقد لازماً، ولم يكن له الفسخ. ولم يجيزوا في أظهر الروايتين بيع الغائب الذي لم يوصف ولم تتقدم رؤيته في غير حالة بيع البرنامج المذكورة سابقاً عند المالكية في بيع العين الغائبة من البيوع الفاسدة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «نهى عن بيع الغرر» (¬1) ولأنه باع ما لم يره ولم يوصف له، فلم يصح، كبيع النوى في التمر. وأثبت الحنابلة والظاهرية خيار الرؤية للبائع إذا باع ما لم ير، ووصفه للمشتري. وأما حديث خيار الرؤية فهو مروي عن عمر بن إبراهيم الكردي، وهو متروك الحديث، ويحتمل أن يراد بالحديث: أنه بالخيار بين العقد عليه وتركه (¬2). وقال الشافعي في المذهب الجديد: لا ينعقد بيع الغائب أصلاً، سواء أكان بالصفة، أم بغير الصفة، لحديث أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم «نهى عن بيع الغرر» وفي هذا البيع غرر، وبما أنه من أنواع البيوع، فلم يصح مع الجهل بصفة المبيع كالسلم، ثم إنه داخل تحت النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان أي ما ليس بحاضر أو مرئي للمشتري. وأما حديث «من اشترى ما لم يره فهو بالخيار إذا رآه» فهو حديث ضعيف كما قال البيهقي، وقال الدارقطني عنه: «إنه باطل». وبناء على الأظهر من اشتراط رؤية المبيع قالوا: تكفي رؤية المبيع قبل العقد ¬
المطلب الثاني ـ وقت ثبوت الخيار
فيما لا يتغير غالباً إلى وقت العقد كالأرض والحديد، دون ما يتغير غالباً كالأطعمة، وتكفي رؤية بعض المبيع إن دل على باقيه، كظاهر الصبرة من حنطة ونحوها، وجوز ونحوه، وأدقة (جمع دقيق) وكأعالي المائعات في أوعيتها كالدهن، وأعلى التمر في قوصرته (وعاء من قصب يجعل فيه التمر ونحوه) والطعام في آنيته، وكأنموذج المتماثل أي (المتساوي الأجزاء) كالحبوب، فإن رؤيته تكفي عن رؤية باقي المبيع (¬1). ورد الحنفية على حجج غيرهم بأن جهالة المبيع غير المرئي لا تؤدي للنزاع مطلقاً ما دام للمشتري أن يرد المبيع إذا لم يره محققاً لرغبته ويفسخ العقد. وحديث النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان (¬2): معناه النهي عن بيع ما لا يملك. والنهي عن بيع الغرر ينصرف إلى ما لا يكون معلوم العين (¬3). المطلب الثاني ـ وقت ثبوت الخيار يثبت الخيار للمشتري عند رؤية المبيع، لا قبلها فلو أجاز البيع قبل الرؤية: لايلزم البيع، ولايسقط الخيار، وله أن يرد المبيع؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أثبت الخيار للمشتري بعد الرؤية، فلو ثبت له خيار الإجازة قبل الرؤية، وأجاز، لم يثبت له الخيار بعد الرؤية، وهذا خلاف نص الحديث. وأما الفسخ قبل الرؤية فقد اختلف المشايخ فيه: ¬
المطلب الثالث ـ كيفية ثبوت الخيار
قال بعضهم: لا يملك المشتري الفسخ، لأنه خيار قبل الرؤية، ولهذا لم يملك الإجازة قبل الرؤية، فلا يملك الفسخ. وقال بعضهم: يملك الفسخ وهو الصحيح، لا لسبب الخيار، لأنه غير ثابت، ولكن لأن شراء ما لم يره المشتري عقد غير لازم، فكان محل الفسخ، كالعقد الذي فيه خيار العيب، وعقد الإعارة والإيداع (¬1). المطلب الثالث ـ كيفية ثبوت الخيار اختلف مشايخ الحنفية فيها: فقال بعضهم: إن خيار الرؤية يثبت مطلقاً في جميع العمر، إلا إذا وجد ما يسقطه، كما سيأتي في بيان المسقطات، وهو اختيار الكرخي، والأصح عند الحنفية، لأنه خيار تعلق بالاطلاع على حال المبيع، فأشبه الرد بالعيب، ولأن سبب ثبوت هذا الخيار هو اختلال الرضا، والحكم يبقى ما بقي سببه. وقال بعضهم: إنه يثبت مؤقتاً إلى غاية إمكان الفسخ بعد الرؤية، حتى لو رآه وتمكن من الفسخ بعد الرؤية، ولم يفسخ، يسقط خيار الرؤية، وإن لم توجد الأسباب المسقطة للخيار (¬2) الآتي ذكرها إن شاء الله تعالى. وقال الحنابلة: يكون خيار الرؤية على الفور (¬3). ¬
المطلب الرابع ـ صفة البيع
المطلب الرابع ـ صفة البيع الذي فيه خيار رؤية وحكمه صفة البيع: إن شراء ما لم يره المشتري غير لازم، فيخير المشتري بين الفسخ والإجازة إذا رأى المبيع؛ لأن عدم الرؤية يمنع تمام الصفقة، ولأن جهالة وصف البيع تؤثر في رضا المشتري، فتوجب الخيار له، تداركاً لما عساه يندم من أجله، وذلك سواء أكان المبيع موافقاً للوصف المذكور أم مخالفاً له، هذا مذهب الحنفية (¬1). وقال المالكية والحنابلة والشيعة الإمامية: البيع لازم للمشتري إذا وجد المبيع مطابقاً للصفة المذكورة، فإن كان مخالفاً لما وصف، فللمشتري الخيار (¬2). وقال الظاهرية: البيع لازم إن طابق الصفة، أما إن خالفها فالبيع باطل (¬3). حكم البيع: وأما حكم البيع فهو حكم العقد الذي لا خيار فيه، فلا يمنع ثبوت الملك في البدلين، أي أنه في البيع تنتقل ملكية المبيع إلى المشتري، وملكية الثمن للبائع فور تمام العقد بالإيجاب والقبول، ولكن يمنع لزوم العقد، بخلاف خيار الشرط. وسبب التفرقة بين الخيارين: هو أن البيع في خيار الرؤية صدر مطلقاً غير مقيد بأي شرط، وكان المفهوم أن يكون لازماً، إلا أن الرد بخيار الرؤية ثبت من جهة الشرع، أما خيار الشرط فقط ثبت باشتراط المتعاقدين، فكان له أثره في العقد يمنع استقرار حكمه في الحال، كما سبق بيانه (¬4). ¬
المطلب الخامس ـ شرائط ثبوت الخيار
المطلب الخامس ـ شرائط ثبوت الخيار يشترط لثبوت الخيار شروط، وإلا كان العقد لازماً، منها: 1 - أن يكون محل العقد مما يتعين بالتعيين، أي أن يكون عيناً من الأعيان، فإذا لم يكن عيناً لا يثبت فيه الخيار، حتى لو كان البيع مقايضة عيناً بعين يثبت الخيار لكل من البائع والمشتري إذا لم ير كل منهما المبيع قبل العقد (¬1). وفي بيع الدين بالدين وهو عقد الصرف: لا يثبت الخيار لكل من البائع والمشتري، لأنه لا فائدة فيه، كما سيأتي بيانه. وفي بيع العين بالدين: يثبت الخيار للمشتري ولا خيار للبائع. والسبب فيه أن محل العقد إذا لم يكن معيناً لا يصير معيناً للفسخ بموجب الخيار، فلم يكن الرد مفيداً، ولأن مالا يتعين بالتعيين لا يملك بالعقد، بل بالقبض، والفسخ إنما يكون فيما يملك بالعقد، ولأن الحق إذا كان عيناً فللناس أغراض في الأعيان، فكان ثبوت الخيار فيه لينظر المشتري في المبيع: هل يصلح له أو لا؟ وبناء عليه، يكون خيار الرؤية في العقود التي تحتمل الفسخ، كالبيع والإجارة والصلح عن دعوى المال، والقسمة، ونحوها؛ لأن هذه العقود تنفسخ برد هذه الأشياء، فيثبت فيها خيار الرؤية، ولا يثبت فيما لا يحتمل الفسخ، كالمهر وبدل الخلع والصلح عن دم العمد، ونحوها؛ لأن هذه العقود لا تحتمل الانفساخ برد هذه الأموال، فصار الأصل أن: «كل ما ينفسخ العقد فيه برده، يثبت خيار الرؤية فيه، وما لا فلا» كما يقول الكاساني (¬2). ¬
كيفية تحقيق الرؤية
2 - عدم رؤية محل العقد: إن كان رآه قبل الشراء لا يثبت له الخيار، إذا كان لا يزال على حالته التي رآه فيها، وإلا كان له الخيار لتغيره، فكان مشترياً شيئاً لم يره (¬1). كيفية تحقيق الرؤية: الرؤية قد تكون لجميع المبيع، وقد تكون لبعضه، والضابط فيه: أنه يكفي رؤية ما يدل على المقصود، ويفيد المعرفة به (¬2). وتفصيله: أنه إذا كان غير المرئي تبعاً للمرئي، فلا خيار له سواء أكان رؤية ما رآه تفيد له العلم بحال ما لم يره، أو لا تفيد، لأن حكم التبع حكم الأصل. وإن لم يكن غير المرئي تبعاً للمرئي، فإن كان مقصوداً بنفسه كالمرئي، ينظر في ذلك: إن كان رؤية مارأى تعرف حال غير المرئي، فإنه لا خيار له أصلاً في غير المرئي إذا كان غير المرئي مثل المرئي، أو فوقه؛ لأن المقصود العلم بحال الباقي، فكأنه رأى الكل. وإن كان رؤية ما رأى لم تعرف حال غير المرئي، فله الخيار فيما لم يره؛ لأن المقصود لم يحصل برؤية ما رأى، فكأنه لم ير شيئاً أصلاً. وبناء عليه: تكفي رؤية ظاهر الكومة من الحبوب، ووجه الدابة وكَفَلها (أي عجزها) في الأصح، وهو قول أبي يوسف. واكتفى محمد برؤية الوجه وظاهر ¬
الثوب وهو مطوي• وقال زفر: لابد من نشره كله، وهو المختار• كما في أكثر معتبرات كتب الحنفية• وعقب عليه ابن عابدين بقوله: لو لم يختلف باطن الثوب عن ظاهره سقط الخيار إلا إذا ظهر باطنه أردأ من ظاهره، فله الخيار (¬1) • وفي شراء الشاة للحم لا بد من الجس حتى يعرف سمنها، حتى لو رآها من بعيد، فهو على خياره؛ لأن اللحم مقصود من شاة اللحم، والرؤية من بعيد لا تفيد العلم بهذا المقصود، وإن اشتراها للدر والنسل فلا بد من رؤية سائر جسدها، ومن النظر إلى ضرعها أيضاً؛ لأن الضرع مقصود من الشاة الحلوب، والشياه تختلف باختلاف الضرع، والرؤية من بعيد لا تفيد العلم بالمقصود، كما ذكر (¬2) • وأما البسط والطنافس: فإن كان مما يختلف وجهه وظهره، فرأى وجهه دون ظهره لا خيار له، وإن رأى ظهره دون الوجه فله الخيار• وأما الدور والعقارات والبساتين، فإن رأى ظاهر الدار وداخلها ورأى خارج البستان ورؤوس الأشجار فلا خيار له، ولا يكتفي برؤية صحن الدار، دون الدخول إلى بيوتها في الأصح، لتفاوت الدور• وكان أئمة الحنفية ما عدا زفر يرون الاكتفاء برؤية ظاهر الدار وبرؤية صحنها، إلا أن ذلك لا يكفي الآن، فيكون الحكم متغيراً من باب اختلاف العصر والزمان، لا اختلاف الحجة والبرهان (¬3) • هذا إذا كان المعقود عليه شيئاً واحداً، فإذا كان أشياء: ¬
فإن كان من العدديات المتفاوتة كالدواب والثياب، كأن اشترى ثياباً في جراب أو قطيع غنم أو إبلاً أو بقراً، وكالبطيخ في الشريجة (¬1) والرمان والسفرجل في القفة، ونحوها، فرأى بعضها، فله الخيار في الباقي؛ لأن الكل مقصود، ورؤية ما رأى لا تعرّف حال الباقي، لأنها متفاوتة. وإن كان من المكيلات أو الموزونات أو العدديات المتقاربة كالجوز والبيض، فإن رؤية البعض تسقط الخيار في الباقي إذا كان ما لم ير مثل الذي رأى، لأن رؤية البعض من هذه الأشياء تعرف حال الباقي. هذا إذا كان المبيع كله في وعاء واحد، فإن كان في وعاءين: فإن كان من جنسين أو من جنس واحد على صفتين فله الخيار بلا خلاف؛ لأن رؤية البعض من جنس أوعلى وصف لا تفيد العلم بغيره. وإن كان الكل من جنس واحد أو على صفة واحدة، اختلف المشايخ فيه: قال مشايخ بلخ: له الخيار لأن اختلاف الوعاءين جعلهما كجنسين. وقال مشايخ العراق: لا خيار له، وهو الصحيح؛ لأن رؤية البعض من هذا الجنس تفيد العلم بالباقي، سواء أكان المبيع في وعاء واحد أم في وعاءين (¬2). وإن كان المبيع مغيباً في الأرض: لا في الوعاء، كالجزر والبصل والثوم، والفجل، والبطاطا، ففيه تفصيل مروي عن أبي يوسف رحمه الله: آـ إذا كان الشيء مما يكال أو يوزن بعد القلع، كالثوم والبصل والجزر: فإن قلع المشتري شيئاً بإذن البائع، أو قلع البائع برضا المشتري، سقط خياره في الباقي؛ لأن رؤية بعض المكيل كرؤية الكل. ¬
وإن حصل القلع من المشتري بغير إذن البائع، لم يكن له الخيارسواء رضي بالمقلوع، أو لم يرض إذا كان المقلوع شيئاً له قيمة عند الناس لأنه بالقلع صار معيباً، وإلا لاستمر في نموه وازدياده، وبعد القلع لا ينمو ولا يزيد، ويتسارع إليه الفساد. وحدوث العيب في المبيع في يد المشتري بغير صنعه، يمنع الرد، فمع صنعه أولى. ب ـ وإن كان المغيب في الأرض مما يباع عدداً، كالفجل والجزر ونحوهما فرؤية البعض لا تكون كرؤية الكل؛ لأن هذا كالعدديات المتفاوتة، فلا تكفي رؤية البعض، كما في الثياب. وإن قلع المشتري شيئاً بغير إذن البائع، سقط خياره لأجل العيب إذا كان المقلوع شيئاً له قيمة، فإن لم يكن له قيمة، فلا يسقط خياره لأنه لا يتحقق به العيب. وقد ذكر الكرخي حكم المغيب في الأرض بغير هذا التفصيل، وأثبت الخيار للمشتري برؤية البعض بعد رؤية الكل. وروي عن محمد أنه قال: قال أبو حنيفة: المشتري بالخيار إذا قلع الكل أو البعض. وأما محمد: فهو مثل أبي يوسف، إذا قلع المشتري شيئاً يستدل به على الباقي، فرضي به، فهو لازم له (¬1). وإذا كان المبيع دهناً في قارورة، فرأى خارج القارورة، فعن محمد روايتان: ¬
مذاهب غير الحنفية
الرواية الأولى: أنه تكفي الرؤية، ويسقط الخيار؛ لأن الرؤية من الخارج تفيد العلم بالداخل، فكأنه رأى الدهن خارج القارورة. والرواية الثانية: أن له الخيار لأن العلم بما في داخل القارورة لا يحصل بالرؤية من خارج القارورة؛ لأن ما في الداخل يتلون بلون القارورة، فلا يحصل المقصود من هذه الرؤية (¬1). والرؤية عند بعضهم لا تحصل بالمرآة أو بالماء، فإذا رأى المشتري المبيع بالمرآة، فلا يسقط خياره، لأنه لم ير عين المبيع، وإنما رأى مثاله. والأصح أنه رأى عين المبيع لا غير المبيع؛ لأن المقابلة ليست من شرط الرؤية، فإنا نرى الله عز وجل بلا مقابلة. ولكن بما أنه قد لا يحصل للمشتري العلم بهيئة المبيع لتفاوت المرآة في التكبيروالتصغير فيعلم بأصله، لا بهيئته، فيثبت له الخيار، لا لما قالوا (¬2). وبناء عليه لو اشترى سمكاً في بحرة صغيرة يمكن أخذه منها من غير اصطياد وحيلة، حتى جاز البيع، فرآه في الماء، ثم أخذه: قال بعضهم: يسقط خياره لأنه رأى عين المبيع. وقال بعضهم: لا يسقط خياره، وهو الصحيح، لأن الشيء لا يرى في الماء كما هو، بل يرى أكثر مما هو، فلم يحصل المقصود بهذه الرؤية، وهو معرفته على حقيقته، فله الخيار (¬3). مذاهب غير الحنفية: قال المالكية: يجوز بيع مغيب الأصل كالجزر والبصل واللفت والكرنب ¬
البيع بالنموذج
والقلقاس بشرط رؤية ظاهره، وقلع شيء منه ويرى، وأن يحزر إجمالاً، ولا يجوز بيع شيء منه من غير حزر بالقيراط أو الفدان أو القصبة (24م). ويجوز البيع على رؤية بعض المثلي من مكيل وموزون كقطن وكتان، بخلاف القيمي، فلا يكفي رؤية بعضه، كثوب من أثواب (¬1). وقال الشافعية والحنابلة: لا يجوز بيع شيء مغيب في الأرض كالفجل والجزر والبصل والثوم؛ لأنه بيع مجهول مشتمل على الغرر (¬2). البيع بالنموذج (¬3): قد يرى المشتري بعض المبيع دون سائره، فيصح البيع ويلزم عند جمهور الفقهاء إن كان المرئي يدل على غير المرئي دلالة كاملة، وأذكر هنا حكم البيع بالنموذج عند الفقهاء باعتباره صورة متعارفة من صور البيع برؤية بعض المبيع. مثاله: أن يشتري شخص كمية كبيرة من القمح بعد أن يرى نموذجاً منه. وهذا لا يكون إلا في المثليات كالحبوب والأقطان والكتان ونحوها. وحكمه: أنه يجوز عند الحنفية والمالكية والشافعية، ولا يجوز عند الحنابلة والظاهرية على التفصيل الآتي: قال الحنفية (¬4): يجوز بيع المكيل والموزون برؤية بعضه، لجريان العادة بالاكتفاء بالبعض في الجنس الواحد، ولوقوع العلم به بالباقي، إلا إذا كان الباقي ¬
التوكيل بالنظر والرؤية أو بالقبض
أردأ، فيكون للمشتري الخيارفيه، وفيما رأى، لئلا يلزم تفريق الصفقة قبل تمام البيع. والأصح أن هذه الرؤية للبعض تكفي سواء أكان المبيع في وعاء واحد أم في وعاءين كما تقدم. ويلاحظ أن الثياب أصبحت في وقتنا الحاضر من المثليات. وقال المالكية (¬1): يجوز البيع برؤية بعض المثلي من مكيل وموزون كقطن وكتان، بخلاف القيمي كعدل مملوء من القماش فلا يكفي رؤية بعضه على ظاهر المذهب. وقال الشافعية (¬2): في بيع النموذج ثلاثة أوجه: أحدها الصحة، والثاني البطلان، وأصحها: إن دخل النموذج في البيع، صح، وإلا فلا. وقال الحنابلة (¬3): لا يصح بيع النموذج، فلو أرى البائع المشتري صاعاً من صبرة قمح مثلاً، ثم باعه الصبرة على أنها من جنسه، فلا يصح البيع، لأنه يشترط عندهم رؤية المتعاقدين المبيع رؤية مقارنة للبيع، وذلك برؤية جميع المبيع أو بعض منه يدل على بقيته، كأحد وجهي ثوب غير منقوش، وظاهر صبرة متساوية الأجزاء من حب وتمر، وما في ظروف من جنس متساوٍ. وقال الظاهرية (¬4): لا يجوز بيع النموذج. التوكيل بالنظر والرؤية أو بالقبض: لو وكل المشتري رجلاً بالنظر إلى ما اشتراه، ولم يره فيلزم العقد إن رضي، ويفسخ العقد إن شاء؛ لأن الوكيل يقوم مقام الموكل في النظر؛ لأنه جعل الرأي إليه. ¬
وأما إذا وكله بقبض ما اشتراه قبل رؤيته، فتقوم رؤية الوكيل مقام رؤية الموكل، فيسقط خياره عند أبي حنيفة. وعند الصاحبين: لا يسقط خياره بقبض الوكيل مع رؤيته، لأنه وكله بالقبض لا بإسقاط الخيار، فلا يملك إسقاطه، كما لا يملك إسقاط خيار الشرط، ولا خيار العيب. ويرى أبو حنيفة أنه لا فرق بين الوكيل بقبض الشيء المشترى وبين الوكيل بالشراء، ورؤية هذا كافية عن رؤية الموكل، وبها يسقط الخيار إجماعاً؛ لأن الوكيل بالشيء وكيل بإتمام الشيء، ومن تمام القبض إسقاط الخيار (¬1). واتفقوا على أنه إذا أرسل المشتري رسولاً بقبض المبيع، فرآه الرسول ورضي به، كان المرسل على خياره. والفرق بين الوكيل والرسول: هو أن الوكيل أصل في نفس القبض، وإنما الواقع للموكل حكم فعله، فكان إتمام القبض إلى الوكيل. أما الرسول فهو نائب في القبض عن المرسل، فكان قبضه قبض المرسل، فإتمام القبض إلى المرسل (¬2). واتفقوا في خيار العيب على أنه إذا وكل رجلاً بقبض المبيع، فقبض الوكيل وعلم بالعيب ورضي به: لا يسقط خيار الموكل. واختلف مشايخ الحنفية في خيار الشرط، فقال بعضهم: إن الاختلاف السابق بين أبي حنيفة وصاحبيه يجري هنا. وقال بعضهم: لا يسقط بالاتفاق. وقال الشافعية: الاعتبار في رؤية المبيع وعدمها بالعاقد (¬3). ¬
الذي نخلص منه في تحقق رؤية المبيع
والذي نخلص منه في تحقق رؤية المبيع: أن الرؤية المقصودة ليست هي النظر بالعين خاصة، وإنما تكون في كل شيء بحسبه، وبالحاسة التي يطلع بها على الناحية المقصودة منه، فشم المشمومات، وذوق المطعومات ولمس ما يعرف باللمس، وجس مواطن السمن في شاة الذبح وإن لم ينظر لونها، وجس الضرع في شاة اللبن: يعد رؤية كافية في هذه الأشياء، وإن لم تشترك العين فيها، ولا يكفي النظر بالعين فقط (¬1) كما أبنت تفصيله. وهذا بالنسبة للبصير. وكذا الأعمى يعد اطلاعه على هذه الأشياء التي تعرف بغير حاسة النظر رؤية كافية كاطلاع البصير، فيكتفي بالجس فيما يجس، والذوق فيما يذاق، والشم فيما يشم، وأما ما يعرف بالنظر فوصفه للأعمى يقوم مقام نظره. فإن اشترى الأعمى ثماراً على رؤوس الشجر، فيعتبر الوصف لا غير، في أشهر الروايات. وإذا اشترى الأعمى داراً أو عقاراً، فالأصح من الروايات أنه يكتفى بالوصف. وعند زوال العمى: لا يعود له الحق في الخيار؛ لأن الوصف في حقه كالبديل أو (الخلف) عن الرؤية، لعجزه عن الأصل، والقدرة على الأصل بعد حصول المقصود بالبديل، لا يبطل حكم البديل، كمن صلى بطهارة التيمم، ثم قدر على الماء ونحوه (¬2). ¬
الاختلاف في الرؤية
أما البصير لو اشترى شيئاً لم يره فوصف له، فرضي به فلا يسقط خياره، لأنه لا عبرة للبديل مع القدرة على الأصل. الاختلاف في الرؤية: لو اختلف البائع والمشتري، فقال البائع: (بعتك هذا الشيء، وقد رأيته) وقال المشتري: (لم أره) فالقول قول المشتري بيمينه؛ لأن البائع يدعي إلزام العقد، والمشتري منكر، فيكون القول قوله، ولكن بيمينه؛ لأن البائع يدعي عليه سقوط حق الفسخ ولزوم العقد، وهذا مما يصح الإقرار به، فيجري فيه الاستحلاف (¬1). الرؤية منذ زمن: من رأى شيئاً ثم اشتراه بعد مدة كشهر، ونحوه: فإن كان على الصفة التي رآه عليها، فلا خيار له، لأن العلم بأوصافه حاصل له بالرؤية السابقة. وإن وجده متغيراً فله الخيار، لأن تلك الرؤية لم تقع مُعْلِمة بأوصافه، فكانت رؤيته وعدمها سواء. فإن اختلف البائع والمشتري في التغير، فقال البائع: «لم يتغير» وقال المشتري: «تغير» فالقول قول البائع مع يمينه؛ لأن دعوى التغير دعوى أمر حادث، والأصل عدمه، فلا تقبل إلا ببينة، بخلاف ما إذا اختلف في الرؤية يكون القول للمشتري مع يمينه كما تقدم؛ لأن البائع يدعي أمراً عارضاً: هو العلم بصفة المبيع (¬2). ¬
المطلب السادس ـ مسقطات الخيار
المطلب السادس ـ مسقطات الخيار لا يسقط خيار الرؤية بالإسقاط الصريح، كأن يقول المشتري: «أسقطت خياري» لا قبل الرؤية ولا بعدها، بخلاف خيار الشرط، وخيار العيب. والفرق هو أن خيار الرؤية ثبت شرعاً، لحكمة فيه، فلا يملك الإنسان إسقاطه، كما في خيار الرجعة بالنسبة للمرأة المطلقة، فإن الإنسان لا يملك إسقاطه لثبوته شرعاً، ما دامت المرأة في العدة، بخلاف خيار الشرط، فإنه يثبت بشرط المتعاقدين، فجاز أن يسقط بإسقاطهما. وكذلك خيار العيب: فإن سلامة المبيع مشروطة عادة من المشتري، فكان ذلك كالمشروط صراحة (¬1). وإنما يسقط خيار الرؤية ويلزم البيع بأحد نوعين: فعل اختياري أوضروري، والاختياري نوعان: صريح الرضا ونحوه، ودلالة الرضا. الصريح: كأن يقول: (أجزت البيع، أو رضيت أو اخترت) أو ما يجري مجرى الصريح، سواء علم البائع بالإجازة أم لم يعلم. ودلالة الرضا: هو أن يوجد تصرف في المبيع بعد الرؤية لا قبلها يدل على الإجازة والرضا، كما إذا قبض المبيع بعد الرؤية، لأن القبض بعد الرؤية دليل الرضا بلزوم البيع؛ لأن للقبض شبهاً بالعقد (¬2). وبناء عليه: إذا وهب المشتري المبيع من غيره ولم يسلمه أو عرضه على البيع ونحوهما قبل الرؤية: لا يسقط الخيار؛ لأنه لا يسقط بصريح الرضا في هذه الحالة، فكذا لا يسقط بدلالة الرضا. ¬
الفعل الضروري
ولو رهن المشتري المبيع وسلمه أو آجره من رجل، أو باعه، على أن المشتري بالخيار: سقط خياره، قبل الرؤية وبعدها، حتى إن المشتري لو أفتك الرهن بدفع الدين، أو مضت مدة الإجارة، أو رده على المشتري بخيار الشرط، ثم رآه لا يكون له الرد بخيار الرؤية، لأنه أثبت حقاً لازماً لغيره بهذه التصرفات، فيكون من ضرورته لزوم الملك له، وذلك بامتناع ثبوت الخيار، فيبطل ضرورة لأنه لا فائدة فيه (¬1). وأما الفعل الضروري المسقط لخيار الرؤية: فهو كل ما يسقط به الخيار، ويلزم البيع ضرورة من غير صنع المشتري، مثل موت المشتري عند الحنفية، خلافاً للشافعي كما تقدم في خيار الشرط. ومثل: إجازة أحد الشريكين دون الآخر ما اشترياه ولم يرياه عند أبي حنيفة. وكذا هلاك المبيع كله، أو بعضه، وزيادته زيادة منفصلة أو متصلة متولدة، أو غير متولدة على التفصيل السابق ذكره في خيار الشرط (¬2). قال الكاساني: «والأصل أن كل ما يبطل خيار الشرط والعيب، يبطل خيار الرؤية إلا أن خيار الشرط والعيب يسقط بصريح الإسقاط، وخيار الرؤية لا يسقط بصريح الإسقاط، لا قبل الرؤية ولا بعدها» (¬3)؛ لأن خيار الرؤية ثبت شرعاً حقاً لله تعالى (¬4)، فلا يسقط بإسقاط المتعاقد قصداً، وخيار الشرط والعيب ثابتان ¬
المطلب السابع ـ ما ينفسخ به العقد
باشتراط المتعاقدين، فكان لمن ثبت له خيار منهما إسقاطه قصداً متى أراد، لأنه حقه، كما تقدم تفصيله. وقال المرغيناني: ما يبطل خيار الشرط من تعيب أو تصرف يبطل خيار الرؤية، ثم إن كان تصرفاً لا يمكن رفعه كالإعتاق والتدبير، أو تصرفاً يوجب حقاً للغير كالبيع المطلق والرهن والإجارة يبطله قبل الرؤية وبعدها؛ لأنه لما لزم، تعذر الفسخ، فبطل الخيار. وإن كان تصرفاً لا يوجب حقاً للغير كالبيع بشرط الخيار والمساومة والهبة من غير تسليم، لا يبطله قبل الرؤية لأنه لا يربو على صريح الرضا (أي وصريح الرضا لا يبطل خيار الرؤية قبل الرؤية) ويبطله بعد الرؤية لوجود دلالة الرضا (¬1). المطلب السابع ـ ما ينفسخ به العقد وشروط الفسخ ما ينفسخ به العقد: ينفسخ العقد بسبب خيار الرؤية بالتصريح بالفسخ ونحوه، كأن يقول، فسخت العقد، أو نقضته، أو رددته، ونحوه مما يجري هذا المجرى، أو بهلاك المبيع قبل القبض، لذهاب ركن البيع (¬2). شروط الفسخ: يشترط لصحة الفسخ شروط: 1 - أن يكون الخيار موجوداً؛ لأن الخيار إذا سقط بشيء مما تقدم، لزم العقد، فلا يحتمل النقض بالفسخ. 2 - ألا يترتب على الفسخ تفريق الصفقة على البائع، برد بعض المبيع ¬
وإجازة العقد في البعض الآخر؛ لأن في التفريق ضرراً عليه، ولأن خيار الرؤية ـ قبل القبض وبعده ـ يمنع تمام الصفقة، وتجزئتها قبل تمامها باطل بلا ريب. 3 - أن يعلم البائع بالفسخ، ليكون على بينة من أمره، وأمر سلعته ليتصرف فيها كما يريد، وهذا عند أبي حنيفة ومحمد. أما أبو يوسف: فلا يشترط علم البائع، على ما تقدم في خيار الشرط (¬1). ويلاحظ أخيراً أن خيار الرؤية لا يورث كما لا يورث خيار الشرط إذا مات المشتري مثلاً بعد ثبوت الخيار له، لأن الخيار ثبت بالنص للعاقد، والوارث ليس بعاقد، فلا يثبت له، كما قال الزيلعي والحنابلة (¬2). وقال مالك: يورث خيار الرؤية، كما يورث خيار التعيين والعيب؛ لأن الإرث كما يثبت في الأملاك، يثبت في الحقوق الثابتة بالبيع (¬3). وهذا أقرب إلى المنطق؛ لأن الوارث يخلف المورث في كل ماترك من مال وحقوق ومنها حق الخيار (¬4). ¬
المبحث السادس - أنواع البيوع
المبحث السادس - أنواع البيوع تمهيد: ينقسم البيع بالنسبة للبدلين إلى أنواع أربعة (¬1): الأول ـ بيع المقايضة: وهو بيع العين بالعين، كبيع السلع بأمثالها، نحو بيع الثوب بالحنطة، وغيره. الثاني ـ البيع المطلق: وهو بيع العين بالدين، نحو بيع السلع بالأثمان المطلقة: وهي الدراهم والدنانير، وبيعها بالفلوس الرائجة (وهي قطع معدنية اصطلح الناس على أنها نقود صالحة للتعامل) وبالمكيل والموزون الموصوفين في الذمة، والعددي المتقارب الموصوف في الذمة. الثالث ـ الصرف: وهو بيع الدين بالدين، وهو بيع الثمن المطلق بالثمن المطلق: وهو الدراهم والدنانير، أو كل عملة نقدية رائجة في الأسواق. الرابع ـ السلم: وهو بيع الدين بالعين، فإن المسلم فيه بمثابة المبيع وهو دين، ورأس المال بمثابة الثمن، وقد يكون عيناً، وقد يكون ديناً، ولكن يشترط قبضه قبل افتراق العاقدين عن المجلس، فيصير عيناً. ولايشترط القبض في النوعين الأولين: وهما بيع المقايضة، والبيع المطلق أي العادي الغالب. ويشترط القبض في النوعين الأخيرين، ففي الصرف يشترط قبض البدلين، وفي السلم يشترط قبض أحد البدلين: وهو رأس المال، كما ذكر. وينقسم البيع أيضاً بالنظر إلى الثمن إلى أربعة أنواع: 1 - بيع المرابحة: وهو مبادلة المبيع بمثل الثمن الأول وزيادة ربح معين. ¬
2 - بيع التولية: وهو المبادلة بمثل الثمن الأول (أي برأس المال) من غير زيادة ولانقصان. 3 - بيع الوضيعة: وهو المبادلة بمثل الثمن الأول مع نقصان شيء منه أي البيع بخسارة معينة. 4 - بيع المساومة: وهو مبادلة المبيع بما يتراضى عليه العاقدان؛ لأن البائع يرغب عادة بكتمان رأس المال، وهذا هو البيع الشائع الآن. وهناك أنواع أخرى من البيوع مثل (الاستصناع) المعروف من قديم، وهو بيع ماسيصنع قبل صنعه، ومثل (الضمان) وهو بيع الثمار على أشجارها (¬1). والكلام فيما يلي عن السلم والصرف، والمرابحة والتولية والاستصناع، وقد سبق الكلام عن البيع المطلق، ولكن بقي شيئان يتعلقان به وهما الربا وإقالة البيع أذكرهما هنا أيضاً. ¬
عقد السلم
................. 1 ............................................ ...................................... عقد السلم ......................................... خطة الموضوع: الكلام عن هذا العقد في المطالب الآتية: المطلب الأول ـ مشروعية السلم. المطلب الثاني ـ تعريف السلم وركنه. المطلب الثالث ـ شروط السلم. المطلب الرابع ـ حكم السلم. المطلب الخامس ـ أوجه الاختلاف بين البيع والسلم. المطلب الأول ـ مشروعية السلم السلم مشروع في الكتاب والسنة وإجماع الأمة: أما الكتاب: فقد فسرت به آية الدين: وهي قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمىً فاكتبوه} [البقرة:282/ 2]، قال ابن عباس: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله في كتابه وأذن فيه، ثم قرأ هذه الآية (¬1). ¬
وأما السنة: فما روى ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قدم المدينة، وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين والثلاث، فقال: «من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم إلى أجل معلوم» (¬1). وأما الإجماع: فقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن السلم جائز، ولأن بالناس حاجة إليه؛ لأن أرباب الزروع والثمار والتجارات يحتاجون إلى النفقة على أنفسهم أو على الزروع ونحوها حتى تنضج، فجوز لهم السلم دفعاً للحاجة. وقد استثني عقد السلم من قاعدة عدم جواز بيع المعدوم، لما فيه من تحقيق مصلحة اقتصادية، ترخيصاً للناس، وتيسيراً عليهم (¬2). المطلب الثاني ـ تعريف السلم وركنه تعريف السلم: السلم أو السلف: بيع آجل بعاجل، أو بيع شيء موصوف في الذمة أي أنه يتقدم فيه رأس المال، ويتأخر المثمن لأجل، وبعبارة أخرى: هو أن يسلم عوضاً حاضراً في عوض موصوف في الذمة إلى أجل (¬3). وعرفه الشافعية والحنابلة بقولهم: هو عقد على موصوف بذمة مؤجل بثمن مقبوض بمجلس عقد (¬4). ¬
ركنه
وعرفه المالكية بأنه بيع يتقدم فيه رأس المال ويتأخر المثمن لأجل (¬1). ويشترط فيه ما يشترط في البيع، ويزاد فيه شرائط خاصة سنعرفها. ركنه: ركن السلم هو الإيجاب والقبول. والإيجاب عند الحنفية والمالكية والحنابلة: هو لفظ السلم والسلف والبيع، بأن يقول رب السلم: (أسلمت إليك في كذا) أو أسلفت، وقال الآخر: (قبلت) أو يقول المسلم إليه: (بعت منك كذا) وذكر شرائط السلم، فقال رب السلم: (قبلت) (¬2). وقال زفر والشافعية: لا ينعقد السلم إلا بلفظ السلم أو السلف؛ لأن القياس ألا ينعقد أصلاً، لأنه بيع المعدوم، إلا أن الشرع ورد بجوازه بهذين اللفظين. وفي لفظ البيع وجهان عند الشافعية: بعضهم قال: لا ينعقد السلم بلفظ البيع، وإلا كان بيعاً؛ لأن السلم غير البيع فلا ينعقد بلفظه، وبعضهم الآخر قال: ينعقد، لأنه نوع بيع، يقتضي القبض في المجلس، فانعقد بلفظ البيع كالصرف (¬3). ويسمى المشتري: (رب السلم) أو (المسلم)، والبائع: يسمى (المسلم إلىه)، والمبيع: (المسلَم فيه)، والثمن: (رأس مال السلَم). وأركان السلم عند غير الحنفية ثلاثة كالبيع: عاقد (مسلم ومسلم إليه) ومعقود عليه (رأس مال السلم والمسلم فيه) وصيغة (إيجاب وقبول). المطلب الثالث ـ شروط السلم يشترط في السلم شروط، منها في رأس المال، ومنها في المسلم فيه، واتفق ¬
شروط رأس مال السلم، أي (الثمن)
أئمة المذاهب على أن السلم يصح بستة شروط: وهي أن يكون في جنس معلوم، بصفة معلومة، ومقدار معلوم، وأجل معلوم، ومعرفة مقدار رأس المال، وتسمية مكان التسليم إذا كان لحمله مؤنة ونفقة. واتفقوا أيضاً على جواز السلم في المكيلات والموزونات والمذرعات والمعدودات المتقاربة كالجوز واللوز والبيض، ونحوها، كما سيأتي بيانه. واختلفوا في شروط تتعلق برأس المال وبالمسلم فيه، وفي إقالة بعض السلم، وسأذكر هذه الشروط والخلاف في أهمها. شروط رأس مال السلم، أي (الثمن) اشترط الحنفية في رأس المال ستة شروط: 1 - بيان الجنس: أي أنه دراهم أو دنانير، أو من المكيل: حنطة أو شعير، أو من الموزون: قطن أو حديد، ونحوها. 2 - بيان النوع: إذا كان في البلد نقود، مثل دنانير نيسابورية أو دراهم غطرفية (¬1) أو حنطة سقية أو بعلية. فإذا كان في البلد نقد واحد، فيكتفى بذكر الجنس، وينصرف إليه لتعينه عرفاً. 3 - بيان الصفة: أي أنه جيد أو وسط أو رديء. واشتراط هذه الشروط الثلاثة لإزالة الجهالة في العقد؛ لأن جهالة الجنس والنوع والصفة مفضية إلى المنازعة، ومثل هذه الجهالة تفسد البيع (¬2). ¬
4 - إعلام قدر رأس المال
4 - إعلام قدر رأس المال فيما يتعلق العقد فيه بالقدر من المكيلات والموزونات والمعدودات المتقاربة، ولا يكتفى بالإشارة إليه. وهذا الشرط عند أبي حنيفة وسفيان الثوري، فإذا قال رب السلم: (أسلمت إليك هذه الدراهم أو الدنانير) وأشار إليها ولم يعرف وزنها، أو قال: (هذه الحنطة) ولم يعرف مقدار كيلها، فلا يصح السلم؛ لأن جهالة رأس المال تؤدي إلى جهالة قدر المسلم فيه، وجهالة قدر المسلم فيه تفسد العقد (¬1). فإن أسلم فيما لا يتعلق العقد فيه بالقدر كالذرعيات أي (المقيسة بالذراع كالثياب والبسط والحصر) والعدديات المتفاوتة (كالبطيخ والرمان) فإنه لا يشترط بيان الذرع في الذرعيات ولا بيان القيمة فيها، ويكتفى بالإشارة والتعيين باتفاق علماء الحنفية (¬2). واتفقوا أيضاً على أن إعلام قدر الثمن في بيع العين المعتاد ليس بشرط إذا كان مشاراً إليه. وقال الصاحبان والشافعية والحنابلة في الأصح عندهم: لا يشترط معرفة قدر رأس المال، فإن رؤية رأس المال تكفي عن معرفة قدره؛ لأنه عوض مشاهد، كالثمن والمبيع المعين (¬3). وأما الإمام مالك: فلم يحفظ عنه في ذلك نص إلا أنه يجوز عنده بيع الجزاف إلا فيما يعظم الغرر فيه، بأن كان كثيراً مثلاً (¬4). ¬
5 - أن تكون الدراهم والدنانير منتقدة
5 - أن تكون الدراهم والدنانير منتقدة (¬1) عند أبي حنيفة؛ لأن كل جهالة تفضي إلى المنازعة، فهي مفسدة للعقد. وقال الصاحبان: ليس هذا بشرط. 6 - تعجيل رأس المال وقبضه فعلاً في مجلس العقد قبل افتراق العاقدين بنفسيهما، سواء أكان رأس المال عيناً أم ديناً، فإن تفرق المتعاقدان قبل القبض بطل العقد وانفسخ، لأنه يختل عندئذ الغرض المقصود من السلم، وهو الاستعانة على الإنتاج والتحصيل. فلو كان الثمن عيناً وافترق العاقدان دون قبض، اختل معنى السلم؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلم يقول: «أسلفوا في كيل معلوم» (¬2) والإسلاف: هو التقديم، ولأنه إنما سمي سلماً لتسليم رأس المال، فإذا تأخر لم يكن سلماً، فلم يصح، فلابد من قبض أحد العوضين ليتحقق معنى اسم السلم. وإن كان الثمن ديناً في الذمة أي (من النقود مثلاً) فلابد من تسليمه أيضاً، حتى لايكون السلم بيعاً للدين بالدين؛ لأن المسلم فيه دين في الذمة، فلو أخر تسليم رأس مال السلم عن مجلس العقد، لكان التأخير في معنى مبادلة الدين بالدين. وقد «نهى الرسول صلّى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ» (¬3) أي الدين بالدين، ¬
شروط المسلم فيه
ولأن في السلم غرراً «أي تعريضاً للهلاك أو على خطر الوجود»، فلا يضم إليه غرر تأخير تسليم رأس المال. وهذا الشرط متفق عليه بين الحنفية والشافعية والحنابلة (¬1). وقال الإمام مالك: يجوز تأخير قبض رأس المال إلى ثلاثة أيام فأقل، ولو بشرط في العقد، سواء أكان رأس المال عيناً أم ديناً؛ لأن السلم معاوضة لايخرج بتأخير قبض رأس المال عن أن يكون سلماً، فأشبه مالو تأخر إلى آخر المجلس، وكل ماقارب الشيء يعطى حكمه، ولايكون له بذلك حكم الكالئ. فإن أخر رأس المال عن ثلاثة أيام، فإن كان التأخير بشرط، فسد السلم اتفاقاً، سواء أكان التأخير كثيراً جداً بأن حل أجل المسلم فيه، أم لم يكثر جداً بأن لم يحل أجله. وإن كان التأخير بلا شرط: فقولان في المدونة الكبرى لمالك بفساد السلم وعدم فساده، سواء كثر التأخير جداً، أم لا، والمعتمد الفساد بالزيادة عن الثلاثة الأيام، ولو قلت مدة الزيادة بغير شرط (¬2). شروط المسلم فيه: اشترط الحنفية في المسلم فيه أحد عشر شرطاً: أحدها: أن يكون معلوم الجنس: كأن يبين أنه حنطة أو شعير أو نحوهما. الثاني: أن يكون معلوم النوع: كأن يقال حنطة سقية أو سهلية أو جبلية. ¬
الثالث: أن يكون معلوم الصفة
الثالث: أن يكون معلوم الصفة: كأن يقال: حنطة جيدة أو رديئة أو وسط. ويلاحظ أنه يكتفى ببيان الجنس والنوع والصفة، فلا يصح أن يذكر في العقد أنه من الناتج الذي سيظهر جديداً، وهو لم يتكون بعد، لأنه يكون بيع المعدوم صراحة، وهو لايجوز. الرابع: أن يكون معلوم القدر بالكيل أو الوزن أو العد أو الذرع، والسبب في اشتراط هذه الشروط الأربعة: هو ماذكر في شرط رأس المال: وهو إزالة الجهالة؛ لأن جهالة النوع والجنس والصفة والقدر جهالة مفضية إلى المنازعة، وأنها مفسدة للعقد، وقال عليه السلام: «من أسلف منكم فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم إلى أجل معلوم» (¬1). الخامس: ألا يكون في البدلين إحدى علتي ربا الفضل: وهي إما القدر المتفق أو الجنس المتحد؛ لأن العقد حينئذ يتضمن الربا؛ لأن حرمة ربا النسيئة تتحقق بأحد هذين الوصفين. وبعبارة أخرى: إنه يشترط ألا يكون في السلم أحد وصفي علة ربا الفضل: وهو إما الكيل أو الوزن وإما الجنس؛ لأن أحد وصفي علة ربا الفضل هو علة ربا النسيئة، فإذا اجتمع أحد هذين الوصفين في بدلي السلم يتحقق ربا النسيئة، والعقد الذي فيه ربا فاسد. فإن لم يتحقق القدر المتفق، بأن اختلف المسلم فيه ورأس مال السلم كبيع حنطة بنقود، أو زعفران بدراهم أو دنانير، فيصح السلم، لانعدام علة ربا النسيئة: وهي القد ر المتفق أو الجنس. أما المجانسة فظاهرة الانتفاء، وأما القدر المتفق فلأن ¬
السادس: أن يكون المسلم فيه مما يتعين بالتعيين
وزن الثمن يخالف وزن المثمن، فالنقود توزن بالمثاقيل، والزعفران ونحوه يوزن بالرطل أو القبان، وأما الحنطة فهي مكيلة، والنقود موزونة (¬1). وعبر المالكية عن هذا الشرط بقولهم: أن يكون رأس مال السلم والمسلم فيه مختلفين جنساً تجوز النسيئة فيه بينهما، فلايجوز إسلاف الذهب والفضة أحدهما في الآخر؛ لأن ذلك ربا، وكذلك لايجوز تسليم الطعام بعضه في بعض على الإطلاق لأنه ربا، ويجوز إسلاف الذهب والفضة في الحيوان والعروض والطعام، ويجوز إسلاف العروض بعضها في بعض (¬2). السادس: أن يكون المسلم فيه مما يتعين بالتعيين: فإن كان ممالا يتعين بالتعيين كالدراهم والدنانير لايجوز السلم فيه؛ لأن المسلم فيه مبيع، والمبيع مما يتعين بالتعيين، والدراهم والدنانير لاتتعين في عقود المعاوضات، فلم تكن مبيعة، فلا يجوز السلم فيها. وهل يجوز السلم في التبر والسبائك؟ فيه روايتان: رواية: لايجوز؛ لأن التبر والسبيكة بمنزلة الدراهم المضروبة. ورواية أخرى: يجوز لأنها بمنزلة العروض. ويخرَّج على هذا: السلم في الفلوس (¬3) عدداً: يجوز عند أبي حنيفة وأبي يوسف، لأن الفلوس عندهما ليست بثمن مطلق (¬4) بل مما تتعين بالتعيين في الجملة كالسلع العددية. ¬
السابع: أن يكون المسلم فيه مؤجلا
ولايجوز السلم فيها عند محمد؛ لأنها أثمان عنده (¬1). السابع: أن يكون المسلم فيه مؤجلا، واختلف العلماء في هذا الشرط. وفيه يعرف حكم السلم الحال. فقال الحنفية والمالكية والحنابلة: يشترط لصحة السلم أن يكون مؤجلاً، ولايصح السلم الحال، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم» فهذا الحديث أمر بالأجل، والأمر يقتضي الوجوب، كما أوجب كون المسلم فيه مقدراً بالكيل أو الوزن، ولأن السلم أجيز رخصة للرفق بالناس، ولايحصل الرفق إلا بالأجل، فإذا انتفى الأجل انتفى الرفق، فلا يصح، وباعتباره رخصة فيقتصر على حال ورودها (¬2). وقال الشافعي: يصح السلم حالاً ومؤجلاً، فإن أطلق عن الحلول والتأجيل وكان المسلم فيه موجوداً انعقد حالاً، لأنه إذا جاز السلم مؤجلاً، فلأن يجوز حالاً بالأولى، لبعده عن الغرر. والمراد من الحديث «إلى أجل معلوم» هو العلم بالأجل، لا الأجل نفسه. وفائدة العدول من البيع إلى السلم الحال حينئذ: هو جواز العقد مع غيبة المبيع، فإن المبيع إذا لم يكن حاضراً مرئياً لايصح بيعه عند الشافعية. وإن أخر العقد لإحضاره، فربما تلف، أو لايتمكن المشتري من الحصول عليه، كما لايتمكن حينئذ من فسخ العقد؛ لأن العقد متعلق بالذمة، وماثبت بالذمة يلزم العاقد به (¬3). ¬
واختلف العلماء أيضاً في مدة أجل السلم: فقال الحنفية والحنابلة: إن أجل السلم مقدر بشهر أو ماقاربه؛ لأنه أدنى الآجل وأقصى العاجل. وقال المالكية: أقل الأجل نصف شهر؛ لأن هذه المدة مظنة اختلاف الأسواق غالباً، واختلافها مظنّة لحصول المسلم فيه. وذلك. إلا إذا اشترط قبض المسلم فيه بمجرد الوصول لبلد غير بلد العقد، وكانت المسافة يومين من بلد العقد، لأنها مظنة اختلاف الأسواق في البلدين، وإن لم تختلف بالفعل، واشترط في العقد أيضاً الخروج فوراً إلى البلد، كما اشترط أن يخرج رب السلم والمسلم إليه أو وكيلهما بالفعل، وأن يعجل قبض رأس المال في المجلس أو قربه، وأن يكون السفر في يومين ببر أو بغير ريح؛ لأنه ربما أدى إلى قطع مسافة اليومين في نصف يوم، فيؤدي إلى السلم الحالّ، فمتى اختل شرط من هذه الشروط الخمسة، فلابد من تعيين الأجل. وإذا وجدت هذه الشروط الخمسة، لايشترط التأجيل بنصف شهر عندهم. واتفق العلماء على أن الأجل لابد من أن يكون معلوماً، لقوله تعالى: {إذا تداينتم بدين إلى أجلٍ مسمى} [البقرة:282/ 2] وقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «إلى أجل معلوم» ولأنه بمعرفة الأجل يتحدد الوقت الذي يقع فيه قضاء المسلم فيه، فإذا جهل الأجل لم يفد معرفة ذلك، ووقع رب السلم في الغرر. ولكنهم اختلفوا في كيفية العلم بالأجل. فقال الحنفية والحنابلة والشافعية: لابد من تحديد زمان بعينه، لايختلف، فلا يصح التأجيل للحصاد والدراس والنيروز (اليوم الأول من السنة القبطية، وهوأول الربيع) والمهرجان (أول الخريف) وعيد النصارى وقدوم الحاج،
الثامن: أن يكون جنس المسلم فيه أي (المبيع) موجودا في الأسواق
والصيف والشتاء، ونحوها (¬1)، ودليلهم: أن الرسول صلّى الله عليه وسلم قال: «إلى أجل معلوم» والتحديد بهذه الأوقات مثار النزاع، لأنه غير معلوم إذ أنه يتقدم ويتأخر، ويقرب ويبعد، ويؤيده ماروي عن ابن عباس أنه قال: «لاتتبايعوا إلى الحصاد والدياس (¬2) ولاتتبايعوا إلا إلى شهر معلوم» (¬3). وقال المالكية: يجوز السلم إلى هذه الأوقات، ويعتبر ميقاتها: هو الوقت الذي يحصل فيه غالب ماذكر: وهو وسط الوقت المعد لها الذي يغلب فيه الوقوع. ودليلهم: أن هذا أجل يتعلق بوقت من الزمن يعرف في العادة، لايتفاوت فيه تفاوتاً كثيراً، فأشبه ما إذا قال إلى رأس السنة (¬4). الثامن: أن يكون جنس المسلم فيه أي (المبيع) موجوداً في الأسواق بنوعه وصفته من وقت العقد إلى وقت حلول أجل التسليم، ولايتوهم انقطاعه عن أيدي الناس، كالحبوب. فإن لم يكن موجوداً عند العقد أو وقت حلول الأجل، أو انقطع من أيدي الناس فيما بين ذلك كالثمار والفواكه واللبن ونحوها، لايجوز السلم؛ لأن القدرة على التسليم ثابتة للحال، وفي وجودها عند حلول الأجل شك، لاحتمال الهلاك، فإن بقي الشيء المسلم فيه في الأسواق إلى الوقت المؤجل، ثبتت القدرة على التسليم، وإن هلك قبله لاتثبت. وبعبارة أخرى: إن اشتراط هذا الشرط لضمان تنفيذ تسليم المسلم فيه. ¬
وعلى هذا: إذا كان المسلم فيه منسوباً إلى موضع معلوم: فإن كان ممايحتمل انقطاعه بالآفة كحنطة قرية كذا بعينها أو أرض كذا بعينها: لايجوز السلم، لعدم تحقق القدرة على التسليم، وهو غرر من غير حاجة، فمنع صحة العقد. وإن كان مما لايحتمل الانقطاع، كأن يسلم في حنطة إقليم كالعراق أو خراسان، أو في حنطة بلدة كبيرة كسمرقند وبخارى ومحافظة حوران، فيجوز السلم، إذ لايتوهم الانقطاع؛ لأن الغالب في أحكام الشرع ملحق بالمتيقن. وقال بعض مشايخ الحنفية: لايجوز السلم إذا كان المسلم فيه منسوباً إلى بلدة كبيرة. وعبارتهم: لايجوز إلا في طعام ولاية؛ لأن وهم الانقطاع فيما وراء ذلك ثابت. والصحيح هو ماذكر أولاً (¬1). هذا هو مذهب الحنفية. وقال المالكية والشافعية والحنابلة: يشترط أن يكون المسلم فيه عام الوجود مأمون الانقطاع، وقت حلول الأجل فقط، سواء وجد عند العقد أم لم يوجد؛ لأن المهم هو القدرة على التسليم، فيعتبر وقت وجوب التسليم، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم قدم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنين، فقال: «من أسلف فليسلف في كيل معلوم، أو وزن معلوم، إلى أجل معلوم» ولم يشترط وجود المسلم فيه حال عقد السلم، ولو كان شرطاً لذكره، ولنهاهم عن السلم سنتين، لأنه يلزم منه انقطاع المسلم فيه أوسط السنة (¬2). إلا أن المالكية شرطوا أن يكون التزام المسلم فيه مطلقاً في الذمة، فلا يجوز ¬
التاسع: أن يكون العقد باتا
السلم في شيء معين كزرع قرية بعينها، وعليه لم يجز السلم في العقار اتفاقاً لتعينه (¬1). واجتهاد غير الحنفية أوجه وأوسع (¬2). وفي اجتهاد الحنفية: إذا حل أجل تسليم المسلم فيه، وانقطع وجود المبيع بحيث يتعذر تسليمه، كان المشتري بالخيار بين أن ينتظر وجوده، أو يفسخ البيع، ويسترد الثمن (¬3). التاسع: أن يكون العقد باتا ً: ليس فيه خيار الشرط للعاقدين أو لأحدهما. فلو أسلم شخص ديناراً في مد حنطة، على أنه بالخيار ثلاثة أيام، وقبض المسلم إليه الثمن (رأس المال)، وتفرقا ببدنيهما، يفسد عقد السلم؛ لأن جواز البيع بشرط الخيار ثبت على خلاف القياس لحاجة الناس إليه، فلا يقاس عليه غيره، إذ لاحاجة في السلم إلى الخيار؛ ولأن شرعية الخيار لدفع الغبن، والسلم مبني على الغبن ونقص الثمن، لأنه بيع المفاليس كما يسمى، فلم يكن داخلاً تحت مورد النص الذي يجيز الخيار. فلو اتفق المسلم إليه ورب السلم على إبطال الخيار قبل التفرق من المجلس، وكان رأس المال (الثمن) قائماً في يد المسلم إليه، انقلب العقد جائزاً عند جمهور الحنفية، خلافاً لزفر. أما لو كان رأس المال هالكاً فلا ينقلب العقد جائزاً؛ لأن رأس المال يصير حينئذ ديناً على المسلم إليه، والسلم لاينعقد برأس مال دين. ويمكن تفريع هذا الشرط على اشتراط قبض رأس المال في مجلس عقد السلم؛ لأن اشتراط الخيار يؤدي إلى عدم دفع الثمن في مجلس العقد. ¬
العاشر: بيان مكان الإيفاء
ويلاحظ أن خيار الرؤية وخيار العيب في رأس المال (الثمن) إذا كان عيناً قيمية أو مثلية، لايفسد عقد السلم؛ لأن الخيارين المذكورين لايمنعان ثبوت الملك في البدل. وأما بالنسبة للمسلم فيه (المبيع) فلا يثبت خيار الرؤية فيه بالاتفاق؛ لأن هذا الخيار لايجري فيما يملكه الإنسان ديناً في الذمة، إذ لافائدة في الخيار حينئذ؛ لأن ثمرته في الأصل رد المبيع الغائب عند رؤيته إذا لم يعجب المشتري، والمبيع المسلم فيه ليس عيناً معينة، بل دين في الذمة يقضى بأمثاله، فعند رؤيته إذا ساغ رده بخيار الرؤية يعود ديناً كما كان، ويجب أداء مثل آخر، فيمكن رده أيضاً بالخيار، وهكذا فيتسلسل، فلذا يكتفى بوصف المبيع لصحة السلم، فيقوم بيان الوصف مقام المعاينة. وأما خيار العيب في المسلم فيه: فإنه يصح ثبوته؛ لأنه لايمنع تمام القبض الذي تتم به الصفقة (¬1). العاشر: بيان مكان الإيفاء إذا كان للمبيع كلفة ومؤونة، كالحنطة والشعير، وهذا الشرط في جواز السلم عند أبي حنيفة، وأما عند الصاحبين، فلا يشترط ذلك. ومنشأ الخلاف هو: هل يتعين مكان العقد مكاناً للإيفاء فيما يحتاج لحمل ومؤونة؟ مع اتفاقهم على أن مكان الإيفاء إذا كان مجهولاً لايجوز السلم؛ لأنها جهالة مفضية إلى المنازعة (¬2). ¬
قال أبو حنيفة: لايتعين مكان العقد مكاناً للإيفاء؛ لأن العقد إذا وجد مطلقاً عن تعيين مكان، فلايتعين مكان العقد للإيفاء، وإذا لم يتعين مكان العقد للإيفاء، بقي مكان الإيفاء مجهولاً جهالة مفضية إلى المنازعة بسبب الخلاف على نفقات النقل. وقال الصاحبان: يتعين مكان العقد مكاناً للإيفاء، فلا يكون هناك جهالة فيصح السلم؛ لأن سبب وجوب الإيفاء هو العقد، والعقد وجد في هذا المكان، فيتعين مكان العقد لوجوب الإيفاء فيه كما في بيع العين. ويرد عليهما: بأن العقد قائم بالعاقدين، لا بالمكان، وهذا مكان المتعاقدين وليس مكاناً للعقد، فلم يوجد العقد في هذا المكان. ويجري هذا الخلاف في بيان مكان أداء الأجرة في عقد الإجارة إذا احتاج الأمر إلى نفقة نقل، فعند أبي حنيفة: لايصح العقد إذا لم يعين مكان أداء الأجرة. وعند الصاحبين: تصح الإجارة، ويتعين مكان إيفاء الأجرة بتعيين مكان إيفاء المعقود عليه. فإن كان المأجور داراً أو أرضاً، فتسلم الأجرة عند الدار والأرض، وإن كان المأجور دابة فعند بدء انطلاق السير. وإن كان ثوباً دفع إلى مصبغة مثلاً، ففي الموضع الذي يسلم فيه الثوب. ويلاحظ أن مكان العقد يتعين مكاناً للتسليم عند الصاحبين إذا أمكن التسليم في مكان العقد. فإذا لم يمكن: بأن كان في البحر أو على رأس الجبل، فإنه لايتعين مكان العقد للتسليم، ولكن يسلم في أقرب الأماكن الذي يمكن التسليم فيه من مكان العقد. وأما إذا لم يكن لتسليم المسلم فيه كلفة ومؤونة كالجواهر واللآلئ ونحوها من المنقولات الخفيفة الحمل، فهناك روايتان عن الحنفية: في رواية: يتعين مكان العقد، وهذا قول الصاحبين.
وفي رواية، وهي الأصح عندهم: يسلم الشيء حيثما لقي أحد العاقدين صاحبه، ولايتعين مكان العقد؛ لأن الأماكن كلها سواء، إذ المالية لاتختلف باختلاف الأماكن فيما لاحمل له ولا مؤونة (¬1). ولو عينا مكاناً آخر للإيفاء سوى مكان العقد: فإن كان فيما له حمل ومؤونة يتعين، وإن كان فيما ليس له حمل ومؤونة ففيه روايتان: في رواية: لايتعين، وله أن يوفيه في أي مكان شاء. وفي رواية: يتعين وهو الأصح، لأنه يفيد رب السلم بعدم تحمل خطر الطريق (¬2). وقال المالكية: الأحسن اشتراط مكان الدفع (¬3). وقال الشافعية: المذهب أن المسلم فيه إذا سلم بموضع لايصلح للتسليم، أو يصلح ولحمله مؤونة، اشترط بيان محل تسليم المسلم فيه، لتفاوتت الأغراض فيما يراد من الأمكنة في ذلك. فإن صلح المكان للتسليم ولم يكن لحمله مؤنة، فلا يشترط ذكر مكان التسليم، ويتعين مكان العقد للتسليم للعرف (¬4). وقال الحنابلة: لايشترط ذكر مكان الوفاء إن لم يعقد بنحو برية وسفينة. ويتعين مكان العقد للتسليم عند الاختلاف (¬5). الحادي عشر: أن يكون المسلم فيه مما ينضبط بالصفات التي يختلف الثمن ¬
باختلافها ظاهرا ً، أي أن يكون المبيع من الأموال التي تقبل الثبوت في الذمة: وهي المثليات، بأن يكون من المكيلات أو الموزونات أو الذرعيات أو الأعداد المتقاربة، مثل الحبوب والثمار والدقيق والثياب، والقطن والكتان والحديد والرصاص والأدوية، والجوز والبيض؛ لأن المكيلات والموزونات ممكنة الضبط قدراً وصفة على وجه لايبقى فيها إلا تفاوت يسير، لأنها من ذوات الأمثال. وأما المتقارب من الذرعيات والعدديات، فلأن الجهالة فيها يسيرة لاتفضي إلى المنازعة. فإن كان مما لايضبط بالوصف، كالعدديات المتفاوتة، والذرعيات المتفاوتة، مثل الدور والعقارات والجواهر واللآلئ والجلود والخشب والرؤوس والأكارع والرمان والسفرجل والبطاطيخ ونحوها: لايجوز السلم فيها، لأنه لايمكن ضبطها بالوصف، إذ يبقى بعد بيان جنسها ونوعها وصفتها وقدرها جهالة فاحشة مفضية إلى المنازعة بسبب التفاوت في المالية بين آحاد هذه الأشياء، فهناك تفاوت فاحش بين جوهر وجوهر، ولؤلؤ ولؤلؤ، وحيوان وحيوان، وجلد وجلد، وهكذا لأن أثمانها تختلف اختلافاً متبايناً بالصغر والكبر وحسن التدوير وزيادة الضوء والصفاء، فيقع البيع فيها على مجهول، وبيع المجهول لايجوز. هذا هو مذهب الحنفية. ويلاحظ أنهم أجازوا السلم في العدديات المتقاربة مطلقاً كيلاً، ووزناً وعددا ً. أما العدديات المتفاوتة: فلم يجيزوا السلم فيها لا وزناً ولا عدداً (¬1). وقال المالكية: يصح السلم فيما ينضبط، وفيما لاينضبط بالوصف، إذا اشترط رب السلم منها شيئاً معلوماً جنسه وصفته ومقداره إما بالوزن فيما يوزن ¬
وإما بالكيل فيما يكال أو بالذرع فيما يذرع، أو بالعدد فيما يعد أو بالوصف فيما لايوزن ولايكال ولايعد؛ لأن شرط صحة السلم: أن يضبط المسلم فيه، وأن يكون ضبطه بما جرت العادة بضبطه به بالوزن أو الكيل أو العدد أو الذرع. أما بالنسبة للعدديات المتقاربة، فيجوز السلم فيها عدداً، لأنها لاتتباين كثيراً (¬1). وقال الشافعية: يصح السلم فيما ينضبط بالوصف دون مالا ينضبط، أما بالنسبة للعدديات المتقاربة كالجوز واللوز فيصح السلم كيلاً أو وزناً، أو ذرعاً ولايجوز عدداً؛ لأن ذلك يتباين ويختلف، فلم يجز عدداً كالبطيخ. وأما العدديات المتفاوتة، فيصح السلم فيها وزناً في البطيخ والباذنجان والقثاء والسفرجل والرمان، وما أشبه ذلك مما لايضبطه الكيل لتفاوت وحداته وتنافرها في المكيال، ولايكفي فيها العدّ لكثرة التفاوت فيها، فلم يمكن تقديرها بغير الوزن (¬2). وقال الحنابلة: يصح السلم فيما ينضبط بالوصف كمكيل وموزون دون مالا ينضبط. أما العدديات المتفاوتة ففيها وجهان: وجه يصح السلم فيها عدداً وتضبط وحداتها بالصغر والكبر. ووجه: لايصح السلم فيها إلا وزناً، كما قال الشافعية (¬3). وهكذا يكون مذهب الشافعية والحنابلة قريباً من مذهب الحنفية، والخلاف بينهم محصور في السلم في العدديات المتقاربة عدداً، وفي العدديات المتفاوتة. وأجاز المالكية السلم فيما لاينضبط بالوصف. ¬
حكم بعض المبيعات التي لها صلة بشرط انضباط الوصف
وسأذكر حكم بعض المبيعات التي لها صلة بشرط انضباط الوصف .. ومنها: السلم في الحيوان: يجوز السلم في الأليات والشحوم وزناً بلا خلاف، وأما السلم في الحيوان ذاته، فقد اختلف فيه الفقهاء: فقال الحنفية: لايجوز السلم في الحيوان كيفما كان، لما روي عن ابن عباس «أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن السلف في الحيوان» (¬1) ولأن الحيوان يختلف اختلافاً متبايناً في تقدير ماليته، فلا يمكن ضبطه، وإن استقصى الواصف صفاته التي يختلف بها الثمن، والاختلاف فيه يفضي إلى المنازعة مثل سائر العدديات المتفاوتة (¬2). وعليه فلا يصح السلم في الخرفان كما يفعل بعض الناس، لأنها لاتنضبط. وقال المالكية والشافعية والحنابلة: يجوز السلم في الحيوان قياساً على جواز القرض فيه، روى مسلم «أنه صلّى الله عليه وسلم اقترض بَكْراً ـ وهو الفتيّ من الإبل» (¬3) وروى أبو داود «أنه صلّى الله عليه وسلم أمر عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه أن يشتري بعيراً ببعيرين إلى أجل» (¬4) وهذا سلم لا قرض لما فيه من الفضل والأجل. وأما ¬
السلم في اللحم مع العظم
حديث النهي عن السلف في الحيوان فقال ابن السمعاني عنه في الاصطلام: «غير ثابت وإن أخرجه الحاكم» ولكن صحة السلم في الحيوان عند هؤلاء مشروطة بذكر نوعه وسنه وذكورته وأنوثته ولونه وقدِّه طولاً وقصراً على التقريب (¬1). السلم في اللحم مع العظم: قال أبو حنيفة: لايجوز السلم في اللحم مع العظم، لوجود الجهالة المفضية إلى المنازعة من جهتين: جهة السمن والهزال، وجهة قلة العظم وكثرته. وكذلك لايجوز في الأصح عنده السلم في اللحم المنزوع العظم، لوجود الجهالة فيه أيضاً من جهة السمن والهزال، وهذا كاف لأن الحكم المعلل بعلتين مستقلتين يثبت مع إحداهما، كما يثبت معهما (¬2). وقال الصاحبان والمالكية والشافعية والحنابلة: يصح السلم في اللحم بشرط ضبط صفاته بذكر جنس اللحم: لحم شاة أو بقر، ونوعه: لحم شاة ذكر أو أنثى، خصي أو فحل، معلوفة أو سائمة، وسنه: لحم شاة ثني أو جذعة، وصفته: سمين أو مهزول أو وسط، وموضعه: من الفخذ أو الكتف أو الجنب، ومقداره: عشرة أرطال مثلاً. ودليلهم قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «من أسلف فليسلف في كيل معلوم أو وزن معلوم» وظاهره: إباحة السلم في كل موزون، ولأنه إذا جاز السلم في الحيوان، فاللحم أولى (¬3). ¬
السلم في السمك
السلم في السمك: السلم في السمك عند الجمهور كالسلم في اللحم. وأما عند أبي حنيفة فاختلفت عبارات الروايات، والصحيح من المذهب: أن السلم يجوز في السمك الصغار، كيلاً أو وزناً، ويستوي فيه المملح والطري؛ لأن الصغار منه لايتحقق فيه اختلاف السمن والهزال، ولا اختلاف العظم، بخلاف اللحم. وأما الكبار ففي ظاهر الرواية: يجوز كيفما كان وزناً (¬1). السلم في الثياب: الثياب من العدديات المتفاوتة، فلا يجوز فيها السلم قياساً عند الحنفية، لأنها ليست من ذوات الأمثال لتفاوت فاحش بين ثوب وثوب، ويجوز السلم فيها استحساناً إذا بين الجنس والنوع، والصفة والرقعة (أي القدر من الثخانة والغلط) والذرع طولاً وعرضاً، فيلحق بالمثليات لحاجة الناس إليه وتعاملهم به. وإن كان ثوب حرير فاختلف المشايخ في بيان وزنه، والأصح قول بعضهم: لابد من بيان وزنه أيضاً؛ لأنه مقصود فيه، وقيمة الحرير تختلف باختلاف الوزن (¬2). وأجاز المالكية والشافعية والحنابلة أيضاً السلم في الثياب كما لاحظنا (¬3)، قال ابن المنذر: وأجمعوا على جواز السلم في الثياب (¬4). ¬
السلم في التبن
السلم في التبن: لايجوز عند الحنفية السلم في التبن أوقاراً (أي أحمالاً) لتفاوت فاحش بين الوقرين. ولكن يجوز فيه بقبان معلوم من قبابين التجار، فلا يكون هناك اختلاف. والحكم يجري في الحطب: لايجوز حِزَماً، ويجوز وزناً (¬1). السلم في الخبز: لايجوز السلم في الخبز عدداً بالاتفاق لتفاوت فاحش بين خبز وخبز في الصغر والكبر. وأما وزناً فقد ذكر الكرخي أن السلم في الخبز لايجوز، للتفاوت الفاحش بين الخبز في النضوج، فتبقى جهالة مفضية إلى المنازعة. وفي نوادر ابن رستم: لايجوز عند أبي حنيفة ومحمد، وهذا قول الشافعية لأن عمل النار فيه يختلف فلا يضبط. ويجوز عند أبي يوسف: إذا شرط نوعاً معلوماً ووزناً معلوماً وأجلاً معلوماً (¬2). وقال المالكية والحنابلة: يصح السلم في الخبز ونحوه مما أمكن ضبطه ومسته النار؛ لأن ظاهر الحديث: «من أسلم فليسلم في كيل معلوم أو وزن معلوم» إباحة السلم في كل مكيل وموزون ومعدود، ولأن عمل النار فيه معلوم بالعادة ممكن ضبطه بالنشافة والرطوبة، فصح السلم فيه (¬3). قرض الخبز: قال أبو حنيفة: لايجوز استقراض الخبز، كالسلم لاوزناً ولاعدداً. وجوز ¬
خلاصة شروط السلم عند الشافعية
أبو يوسف القرض فيه وزناً لاعدداً كالسلم. وجوز محمد استقراض الخبز عدداً ووزناً لحاجة الناس وتعارفهم إياه، وإن لم يكن من ذوات الأمثال، وهذا هو المفتى به عند الحنفية لتعامل الناس وحاجاتهم إليه (¬1). وقال المالكية: يجوز قرض الخبز وزناً وعدداً لحاجة الناس إليه، والمماثلة في العدد مما يتسامح فيه (¬2). وقال الشافعية والحنابلة في أصح الوجهين: يجوز قرض الخبز عدداً ويجوز وزناً لإجماع أهل الأمصار على فعله في الأعصار بلا إنكار (¬3). وقد روت عائشة رضي الله عنها قالت: «قلت: يارسول الله، إن الجيران يستقرضون الخبز، والخمير، ويردون زيادة ونقصاناً؟ فقال: لابأس إن ذلك من مرافق الناس، ولايراد به الفضل» (¬4). خلاصة شروط السلم عند الشافعية: أذكر شروط السلم بإيجاز عند الشافعية في مقابل مذهب الحنفية، وهي مايأتي: 1 - يشترط في العاقدين مايشترط في البائع والمشتري في عقد البيع من البلوغ والعقل والاختيار، لكن يصح السلم من الأعمى، لأن المسلم فيه (المبيع) ¬
موصوف في الذمة، بينما لايصح عندهم البيع من الأعمى لاشتراط رؤية المبيع. 2 - ويشترط في الصيغة مايشترط في صيغة البيع من اتحاد المجلس وتوافق القبول مع الإيجاب، ولكن يضاف في السلم أن تكون الصيغة بلفظ السلم أو السلف، ولايصح بغيرهما. وأن يخلو العقد من خيار الشرط بأن يكون العقد باتاً؛ لأن اشتراط الخيار يؤدي إلى تأجيل تسليم رأس المال في مجلس العقد، وهو ممنوع في السلم. 3 - ويشترط في رأس المال (الثمن) أن يكون معلوماً للعاقدين قدراً وصفة، وأن يتم تسليمه في مجلس العقد قبل تفرق العاقدين بأبدانهما، حتى لايصير في معنى بيع الدَّيْن بالدَّيْن. 4 - ويشترط في المسلم فيه (المبيع): أولاً - أن يمكن ضبطه بالوصف بحيث تنتقى الجهالة عنه، ولايتفاوت بين أفراد جنسه إلا تفاوتاً يسيراً. ثانياً - وأن يكون معلوم الجنس والنوع والقد ر والصفة للعاقدين. ثالثاً - وألا يكون مختلطاً من أجناس مختلفة كحنطة بشعير، ومسك وعنبر بغيرهما. رابعاً - وأن يكون المسلم فيه دَيْناً، أي شيئاً موصوفاً في الذمة غير معين، فإن عين المسلم فيه، لم يصح السلم. خامساً - وأن يكون مقدوراً على تسليمه في النوع والأجل، فلا يجوز أن يستبدل المسلم فيه بغيره، كبر بدلاً من سمن، وثياب بحديد، ونحو ذلك، ولايصح السلم فيما ينقطع وجوده غالباً وقت حلول الأجل كعنب في الشتاء.
المطلب الرابع ـ حكم السلم
سادساً - وأن يعين الأجل الذي يجب التسليم عنده، وأن يكون الأجل معلوماً محدداً، فلا يصح السلم مع جهالة الأجل أو من غير ذكر الأجل، مثل إلى قدوم فلان من سفره أو إلى الحصاد مثلاً. سابعاً - وأن يعين موضع تسليم المسلم فيه إذا لم يصلح محل العقد للتسليم، أو كان يصلح ولكن يحتاج نقله إلى كلفة ونفقة. المطلب الرابع ـ حكم السلم مقتضى السلم: أنه يثبت الملك فيه لرب السلم، مؤجلاً، بمقابلة ثبوت الملك في رأس المال المعين أو الموصوف في الذمة للمسلم إليه. وقد أجيز حكمه بطريق الرخصة دفعاً لحاجة الناس، ولكن بالشرائط المخصوصة التي ذكرت والتي هي غير مشروطة في عقد البيع. المطلب الخامس ـ أوجه الاختلاف بين البيع والسلم يترتب على الشروط الخاصة بعقد السلم أن يختلف السلم عن البيع من وجوه: 1 - استبدال رأس مال السلم والمسلم فيه في مجلس العقد: وهو أن يأخذ برأس مال السلم شيئاً من غير جنسه. وفيه قال الحنفية: لايجوز الاستبدال برأس مال السلم قبل القبض. أما الثمن فيجوز استبداله إذا كان ديناً؛ لأن قبض رأس المال شرط في السلم، وبالاستبدال لايحصل القبض حقيقة؛ لأن المسلم إليه يقبض بدل رأس المال حينئذ، وبدل الشيء غيره. أما الثمن
في البيع فلا يشترط قبضه، والبدل يقوم مقامه معنى. وكذلك لايجوز الاستبدال ببدلي الصرف؛ لأن قبضهما شرط حقيقة. وأما استبدال المسلم فيه: فلايجوز أيضاً قبل القبض كاستبدال المبيع المعين، لأن المسلم فيه مبيع منقول، وإن كان ديناً، وبيع المبيع المنقول قبل القبض لايجوز (¬1). وإذا انفسخ عقد السلم أو تقايل العاقدان السلم: فلايجوز الاستبدال برأس مال السلم الموجود مع المسلم إليه، أي أنه لايجوز لرب السلم أن يشتري من المسلم إليه شيئاً برأس المال حتى يقبضه كله، وهذا قول علماء الحنفيةالثلاثة أخذاً بالاستحسان (¬2)، لقوله عليه الصلاة والسلام: «لاتأخذ إلا سلمك، أو رأس مالك» (¬3) أي عند الفسخ، ولأن الإقالة بيع جديد في حق شخص ثالث غير العاقدين، والثالث هنا هو الشرع. ويعتبر رأس المال: هو المبيع، وإذا ثبت تشابه رأس المال والمبيع، فالمبيع لايجوز التصرف فيه قبل القبض، فكذا ماأشبهه. والقياس أن يجوز الاستبدال برأس المال بعد الإقالة أو بعد انفساخ السلم، سواء أكان رأس المال عيناً أم ديناً أي من النقود، وهو قول زفر لأن رأس المال بعد ¬
الإقالة صار ديناً في ذمة المسلم إليه، فكما جاز الاستبدال بسائر الديون جاز بهذا الدين، ويرد عليه بالحديث والمعقول السابقين (¬1). واتفقوا على أن الاستبدال ببدلي الصرف بعد الإقالة قبل القبض جائز؛ لأن بدل الصرف لا يتعين بالتعيين، فلو تبايعا دراهم بدنانير، جاز استبدالها قبل القبض بأن يمسكا ما أشارا إليه في العقد، ويؤديا بدله قبيل الافتراق من مجلس الإقالة. واتفقوا على أن قبض رأس المال بعد الإقالة في السلم في مجلس الإقالة: ليس بشرط لصحة الإقالة؛ لأن عقد الإقالة ليس في حكم إنشاء عقد السلم من كل وجه؛ لأن اشتراط القبض في عقد السلم في مجلس العقد كان للاحتراز عن بيع الكالئ بالكالئ (أي الدين بالدين) والمسلم فيه سقط بالإقالة، فلم يصبح لازماً على المسلم إليه، فلا يتحقق فيه بيع الدين بالدين، فلا يشترط القبض (¬2). أما في الصرف فيشترط القبض لصحة الإقالة، لأنه إذا اعتبرنا الإقالة بيعاً جديداً، كما يقول أبو يوسف، فالتعليل ظاهر، وإذا اعتبرنا الإقالة فسخاً في حق العاقدين، كما يقول أبو حنيفة فهي في تقدير الشرع بيع، لأن أبا حنيفة يقول: هي بيع جديد في حق غير العاقدين، وإذا كانت الإقالة بيعاً فيجب قبض البدلين منعاً من الوقوع في محظور بيع الدين بالدين (¬3). واتفقوا على أن السلم إذا كان فاسداً منذ نشأته، فلا بأس بالاستبدال فيه قبل القبض، إذ ليس له حكم السلم، فيجوز الاستبدال، كما في سائر الديون. ¬
2 - إقالة بعض السلم
وعدم جواز استبدال المسلم فيه ورأس مال السلم متفق عليه أيضاً لدى المذاهب الأخرى (¬1). 2 - إقالة بعض السلم: إذا أخذ رب السلم بعض رأس ماله وبعض المسلم فيه بعد حلول الأجل أو قبله برضا صاحبه، فإنه يجوز، ويكون إقالة للسلم فيما أخذ من رأس المال ويبقى السلم في الباقي، وهذا قول جمهور العلماء؛ لأن أخذ رأس المال إقالة، ولو أقاله في الكل جاز اتفاقاً، فكذلك إذا أقال في البعض يجوز أيضاً، كما في بيع العين. والإقالة كما هو معروف: فسخ للعقد ورفع له من أصله، وليست بيعاً على الراجح. وقال الإمام مالك والقاضي ابن أبي ليلى: لا يجوز ذلك ويفسد العقد (¬2) ويسترد رب السلم ما بقي من رأس المال لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تأخذ إلا سلمك أو رأس مالك» فإذا أخذ بعض كل واحد منهما فلم يأخذ لا هذا ولا ذاك، ولأنه حين أخذ بعض رأس المال، فقد اختار فسخ العقد، فينفسخ في الكل (¬3). فإما أن يقيله من الكل، أو يأخذ الكل. ورد الجمهور على الحديث بأن المراد به النهي عن أخذ شيء آخر سوى رأس المال والمسلم فيه. وأما البيع فإنه إذا أقاله العاقدان في البعض دون البعض فيجوز بالاتفاق. ¬
3 - الإبراء عن رأس المال
واتفقوا على أنه لو أخذ رب السلم جميع رأس المال، برضا صاحبه أو أقاله جميع السلم أو تصالحا على رأس المال، فإنه يكون إقالة صحيحة، وينفسخ السلم. ولو أخذ رب السلم بعض رأس المال قبل حلول الأجل ليعجل باقي السلم، فإنه لا يجوز هذا الشرط، وتصح الإقالة عند أبي حنيفة ومحمد؛ لأن هذا الشرط يصبح في معنى المعاوضة عن الأجل فهو شرط فاسد، والإقالة لا تبطل بالشروط الفاسدة، لأنه فسخ عندهما، فتصح ويبطل الشرط، بخلاف البيع، فإنه يتأثر بالشروط الفاسدة؛ لأن الشرط الفاسد فيه يؤدي إلى الربا، أما الإقالة فلأنها رفع البيع فلا يتصور فيها ربا. وعند أبي يوسف: تبطل الإقالة بهذا الشرط الفاسد، ويظل السلم كله باقياً إلى أجله؛ لأن الإقالة عنده بيع جديد، والبيع يبطل بالشرط الفاسد لتمكن الربا فيه (¬1). وسيأتي في بحث الإقالة أدلة كل منهم على تكييف الإقالة: هل هي فسخ أو بيع؟ 3 - الإبراء عن رأس المال: لا يجوز للمسلم إليه إبراء رب السلم عن رأس المال بدون قبوله ورضاه، فإذا قبل صح الإبراء، ولكن يبطل السلم، لأنه يترتب عليه عدم قبض رأس المال، بسب الإبراء. وإذا رفض رب السلم الإبراء بقي عقد السلم صحيحاً. أما البيع: فلو أبرأ البائع المشتري عن ثمن المبيع فيصح من غير قبول إلا أنه يرتد بالرد؛ لأن في الإبراء معنى التمليك على سبيل التبرع، وهو لا يلزم دفعاً لضرر المنة. ¬
4 - الحوالة والكفالة والرهن برأس المال وبالمسلم فيه
والفرق بين السلم والبيع: أن قبض الثمن ليس بشرط لصحة البيع. وقبض رأس المال في المجلس شرط لصحة عقد السلم، فلو صح الإبراء من غير قبول الطرف الآخر، لانفسخ عقد السلم من غير رضا صاحبه، وهذا لا يجوز؛ لأن أحد العاقدين لاينفرد بفسخ العقد، فلا يصح الإبراء، بخلاف الثمن: لا يترتب على الإبراء منه فسخ البيع لأن قبضه ليس بشرط. أما لو أبرأ رب السلم عن المسلم فيه، فيجوز من غير قبول المسلم إليه، لأن قبض المسلم فيه ليس بشرط، فيصح من غير قبول؛ لأن الإبراء عن دين لا يجب قبضه شرعاً إسقاط لحق المبرئ لا غير، فيملك الإبراء. وأما الإبراء عن المبيع فلا يصح، لأنه عين، والإبراء إسقاط، وإسقاط الأعيان لا يعقل (¬1). 4 - الحوالة والكفالة والرهن برأس المال وبالمسلم فيه: تجوز الحوالة برأس مال السلم على رجل حاضر، والكفالة به، والرهن به، وكذا بالمسلم فيه أيضاً عند جمهور الحنفية لوجود ركن هذه العقود مع شرائطه. وعند زفر: يجوز بالمسلم فيه ولا يجوز برأس المال؛ لأن عقود الكفالة والحوالة والرهن شرعت لتوثيق حق يحتمل التأخر عن المجلس، ورأس المال لا يتأخر، فلا يتحقق ما شرع له العقد، فلا يصح. ورد عليه بأن معنى التوثيق يحصل في الحقين جميعاً، فجاز العقد فيهما. ¬
توضيح ذلك أن الفقهاء وضعوا قاعدة وهي: «أن ملكية الأعيان لا تقبل الإسقاط، وإنما تقبل النقل» فلو أسقط أحد ملكيته عن شيء مملوك له لا تسقط وتبقى ملكاً له. وقد بنوا عليه عدم صحة الإبراء عن الأعيان لما في الإبراء من معنى الإسقاط مشوباً بمعنى التمليك، فلو كان لأحد عند آخر شيء مغصوب أو مودع فأبرأه عنه لا يصح الإبراء ويبقى الشيء لصاحبه (المدخل الفقهي للأستاذ الزرقاء: ف 123). وكذلك في البيع: تجوز الحوالة والكفالة والرهن بالثمن والمبيع إلا أن الفرق بين السلم والبيع هو في حالة افتراق العاقدين في السلم بدون قبض كما سأبيِّن. ففي عقد السلم: يجب أن يقبض المسلم إليه رأس المال من المحال عليه، أو من الكفيل أو من رب السلم أو يهلك الرهن قبل أن يتفرق العاقدان عن المجلس، بشرط أن تكون قيمة الرهن مثل رأس المال أو أكثر؛ لأن حق المسلم إليه ينتقل حينئذ إلى قيمة الرهن، فإذا كانت هذه القيمة تساوي رأس المال أو تزيد عنه، فيحصل افتراق العاقدين بعد أن يتم قبض رأس المال؛ لأن قبض الرهن قبض استيفاء؛ لأنه قبض مضمون على المرتهن سواء تعدى أو قصر أو لم يتعد ولم يقصر، وبالهلاك تقرر الضمان عليه، فتحدث مقاصة بين المرتهن والراهن، أي بين المسلم إليه ورب السلم هنا. ويترتب عليه أنه يحدث الافتراق بينهما بعد قبض رأس المال. فإن كانت قيمة الرهن أقل من رأس المال، تم العقد بقدر الرهن ويبطل في الباقي. وإذا افترق رب السلم والمسلم إليه قبل القبض بطل السلم حتى ولو بقي المحال عليه والكفيل مع المسلم إليه، أما لو بقي المسلم إليه مع رب السلم، وذهب المحال عليه والكفيل فلا يبطل السلم؛ لأن العبرة لبقاء العاقدين وافتراقهما؛ لأن القبض من حقوق العقد، والعقد أساسه العاقدان. والحكم كذلك في الرهن: إذا لم يهلك حتى تفرق المتعاقدان، يبطل السلم لعدم قبض رأس المال، وعلى المسلم إليه رد الرهن على صاحبه. وكل ما ذكر في السلم هنا يجري في عقد الصرف. هذا بالنسبة لرأس المال.
أما بالنسبة للمسلم فيه فإن المحيل يبرأ بنفس عقد الحوالة ويكون التسليم فيه واجباً على المحال عليه إذا حل الأجل، وحينئذ يطالب رب السلم المحال عليه بالتسليم دون المحيل. وفي الكفالة يكون رب السلم بالخيار: إن شاء طالب الأصيل، وإن شاء طالب الكفيل. وفي الرهن: لرب السلم أن يحبس المرهون حتى يأخذ المسلم فيه (¬1). وكذلك لا تجوز الحوالة والكفالة والإبراء والرهن برأس المال على غير حاضر في المجلس عند غير الحنفية (¬2)؛ لأن قبضه حقيقة شرط أساسي لصحة السلم، إلا أن المالكية كما عرفنا أجازوا تأخير القبض مدة ثلاثة أيام. وقد غالى الشافعية فلم يجيزوا قبض رأس المال في المجلس من المحال عليه إلا أن يقبضه رب السلم نفسه، ثم يسلمه للمسلم إليه، لأن الحق بالحوالة يتحول إلى ذمة المحال عليه فهو يؤديه عن نفسه لا عن المسلم. الخلاصة: تجوز الحوالة عند الحنفية على المسلم فيه، ولاتجوز عند الجمهور، وقصر المالكية المنع على ما إذا كان المسلم فيه طعاماً. ويجوز أخذ الرهن والكفيل بالمسلم فيه عند الجمهور لما لهما من الفائدة، ولايجوز ذلك في المعتمد عند الحنابلة لحديث أبي داود وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري: «من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره». ¬
5 - قبض رأس المال مشوبا
5 - قبض رأس المال مشوبا ً: إذا قبض المسلم إليه رأس المال، فوجده مشوباً، كأن يجده زيوفاً أو نبهرجة، أو مستحقاً أو ستوقة (¬1) أو معيباً: فإما أن يصدقه رب السلم أو يكذبه: الافتراض الأول ـ إن صدقه رب السلم: فله حق الرد، ثم لا يخلو إما أن يكون رأس المال عيناً وهو ما يتعين بالتعيين، أو ديناً: وهو ما لا يتعين بالتعيين. 1 - فإن كان عينا ً: فوجده المسلم إليه مستحقاً (¬2) أو معيباً: فإن أجاز المستحق جاز العقد، وإلا بطل، وإن رضي المسلم إليه بالعيب جاز العقد، وإلا بطل أي (السلم)، سواء أكان اكتشاف العيب قبل افتراق العاقدين أم بعده. وسبب بطلانه: أنه انتقض (¬3) القبض فيه بالاستحقاق أو الرد بالعيب، ولا يمكن إقامة شيء عن غير رأس المال مقامه، لأنه معين فيحصل الافتراق لا عن قبض رأس المال في المجلس، فيبطل السلم. وأما في حال إجازة العقد فلأنه تبين أن قبضه وقع صحيحاً، فحصل الافتراق عن قبض رأس المال (¬4). ¬
2 - وأما إذا كان رأس المال دينا
2 - وأما إذا كان رأس المال دينا ً: فقبضه المسلم إليه فوجده مشوباً، فإما أن يجده مشوباً في مجلس السلم أو بعد الافتراق: أولاً: إن وجده مشوباً في مجلس السلم: 1 - إن وجد ذلك مستحقاً: فإن صحة القبض موقوفة على إجازة المستحق: إن أجاز جاز، وإن لم يجز بطل. 2 - وإن وجده ستوقة أو رصاصاً: فلا يجوز العقد وإن قبل به، لأنه ليس من جنس حقه، إذ هو ليس من جنس الدراهم، فيكون استبدالاً برأس المال قبل القبض كما لو استبدل ثوباً من رب السلم مكان الدراهم، وهو لا يجوز كما عرفنا. وإن لم يقبل به، ورده وقبض شيئاً آخر مكانه جاز العقد لأنه لما رده، وانتقض قبضه، جعل كأن لم يكن، وكأنه أخر القبض إلى آخر المجلس. 3 - وإذا وجده زيوفاً أو نبهرجة: فإن قبل به جاز العقد؛ لأن الزيوف من جنس حقه؛ لأنها دراهم، لكنها معيبة بالزيافة، وفوات صفة الجودة، فإن رضي بها فقد أبرأ رب السلم عن العيب ورضي بقبض حقه مع النقصان. وإن ردها واستبدل شيئاً مكانها في مجلس العقد جاز، لأنه وجد مثل حقه في المجلس، فكان القبض متأخراً (¬1). ثانياً: إن وجده مشوباً بعد الافتراق عن المجلس: 1 - إن وجده مستحقاً: فالقبض موقوف على إجازة المستحق إن أجاز جاز، وإن رد بطل السلم. ¬
2 - وإن وجد رأس المال ستوقة أو رصاصاً: بطل السلم؛ لأن الستوقة ليست من جنس الدراهم، لأنها لا تروج في معاملات الناس، فلم تكن من جنس حقه أصلا ووصفاً، ويحصل الافتراق عن المجلس بدون قبض رأس المال، فيبطل السلم، ولا يعود جائزاً بالقبض بعد المجلس. 3 - وإذا وجده زيوفاً أو نبهرجة: فإنها تجوز أي قبل المسلم إليه، فالسلم ماض على الصحة؛ لأن الزيوف من جنس حقه؛ لأنها دراهم، لكنها معيبة بالزيافة وفوات صفة الجودة، فإذا رضي بها، فقد رضي بقبض حقه مع النقصان. وإن لم يتجوز به أي لم يقبلها وردها، فاتفق علماء الحنفية على أنه إن لم يستبدلها في مجلس الرد، بطل السلم بقدر ما رد. وأما إذا استبدل مكانها جياداً في مجلس الرد: فالقياس أن يبطل السلم بقدره قل المردود أو كثر، وبه أخذ أبو حنيفة وزفر؛ لأن الزيوف من جنس حق المسلم إليه أصلاً لا وصفاً، ولهذا ثبت له حق الرد بفوات حقه في الوصف، فكان حقه في الأصل والوصف جميعاً، فإذا لم يتوافرا ولم يرض بما قبض، تبين أنه لم يقبض حقه، فيبطل السلم. والاستحسان: ألا يبطل السلم وهو قول الصاحبين، لأن قبض الزيوف وقع صحيحاً، لأنه قبض جنس الحق، بدليل أنه لو تجوز بها جاز إلا أنه فاتته صفة الجودة بالزيافة، والمعيب لا يمنع صحة القبض، وقد أجيز استبداله في مجلس الرد، لأن للرد شبهاً بالعقد، فألحق مجلس الرد بمجلس العقد (¬1). هذا إذا وجد المسلم إليه كل رأس المال زيوفاً أو نبهرجة: فإن وجد بعضه دون بعض، استحسن أبو حنيفة في حالة استبدال جياد مكانه في مجلس الرد: أنه إذا ¬
الافتراض الثاني ـ إذا كذب رب السلم المسلم إليه
كان قليلاً فرده واستبدل في المجلس، فالعقد ماض في الكل، وإن كان كثيراً بطل العقد بقدر المردود؛ لأن الزيافة في القليل مما لا يمكن التحرز عنه (¬1). واختلفت الرواية عن أبي حنيفة في الحد الفاصل بين القليل والكثير والأصح منها: أن الثلث فصاعداً في حكم الكثير، وما دونه في حكم القليل (¬2). هذا ما يتعلق بحكم رأس المال. وأما حكم المسلم فيه فهو: إذا وجد رب السلم بالمسلم فيه عيباً، بعدما قبضه، فإن له خيار العيب إن شاء تجوز به، وإن شاء رده وأخذ المسلم فيه غير معيب؛ لأن حقه في السليم دون المعيب (¬3) ولكن خيار الرؤية وخيار الشرط لا يثبتان في السلم، كما سبق بيانه. الافتراض الثاني ـ إذا كذب رب السلم المسلم إليه، وأنكر أن تكون الدراهم التي جاء بها من دراهمه التي أعطاها، وادعى المسلم إليه أنها من دراهمه، فهذا لا يخلو من ستة أوجه: إن كان المسلم إليه أقر بالقبض قبل النزاع، فقال: قبضت الجياد أو قبضت حقي أو قبضت رأس المال أو استوفيت الدراهم، أو قبضت الدراهم، أو قال: «قبضت» ولم يقل شيئاً آخر. 1 - ففي الحالات الأربع الأولى: لا تسمع دعواه بعدئذ أنه وجده زيوفاً، ولم يكن له حق استحلاف رب السلم بالله (أنها ليست من الدراهم التي قبضها منه) لأنه بإقراره بقبض الجياد يصير متناقضاً في دعواه، والمناقضة تمنع صحة الدعوى، والحلف يكون في الدعوى الصحيحة. ¬
2 - وأما إذا قال المسلم إليه: (قبضت الدراهم) ثم قال: (هي زيوف) فالقياس أن يكون القول قول رب السلم: (أنها ليست من دراهمه) مع يمينه على قوله، وعلى المسلم إليه البينة أنها من الدراهم التي قبضها منه؛ لأن المسلم إليه يدعي أنها مقبوضة مع العيب، ورب السلم ينكر أنها مقبوضة، أو أنها التي قبضها منه، فيعتبر قول المنكر بيمينه. وفي الاستحسان: القول قول المسلم إليه مع يمينه، وعلى رب السلم البينة أنه أعطاه الجياد؛ لأن رب السلم بإنكاره أنها ليست من دراهمه يدعي إيفاء حقه، وهو الجياد، والمسلم إليه بدعواه أن هذه الدراهم زيوف ينكر قبض حقه، فيكون القول قوله مع يمينه أنه لم يقبض حقه وعلى المدعي البينة أنه أوفاه حقه. وهذا هو مقتضى القياس في الحالات الأربع الأولى، إلا أنه هناك سبق منه ما يناقض دعواه: وهو الإقرار بالجياد، وههنا لم يسبق منه شيء مناقض؛ لأن ذكر قبض الدراهم يقع على الزيوف، والجياد بخلاف الحالات الأولى. 3 - وإذا قال المسلم إليه: (قبضت) لا غير، ثم قال: (وجدته زيافاً) يكون القول قوله، كما تقرر في الحالة السابقة. إلا أن ههنا إذا قال: (وجده ستوقة أو رصاصا ً) فإنه يصدق، بخلاف ما إذا قال: (قبضت الدراهم) ثم قال: (وجدتها ستوقة أو رصاصاً) فإنه لا يقبل قوله، لأن في قوله: (قبضت) إقراراً بمطلق القبض والستوقة تقبض، فإذا قال: (ما قبضته ستوقة) لا يكون مناقضاً دعواه، وفي قوله: (قبضت الدراهم) يصير مناقضاً لقوله: (قبضت الستوقة والرصاص) لأنه خلاف جنس الدراهم (¬1). ¬
عقد الاستصناع
...................... 2 ............................................. ..................................... عقد الاستصناع ....................................... تمهيد: لم يكن الإسلام في ماضيه وحاضره ومستقبله قيداً ثقيلاً على الناس في ممارسة حرياتهم الاقتصادية ومعاملاتهم وعقودهم، وإنما كان دائماً متجاوباً مع مصالح الناس في تشريعه وتجويزه كل ماكان محققاً لحاجاتهم، ومصالحهم المشروعة القائمة على الحق والعدل والتعادل في الأداءات المتقابلة في المبادلات أو المعاوضات، ومظهر هذا التجاوب واضح في أصول الاستنباط ومصادر الاجتهاد، وفي التطبيق الفعلي وواقع الاجتهاد الذي يمارسه المجتهدون في نطاق مايسمى بالفقه: وهو استنباط أحكام الحوادث والقضايا العملية من الأدلة التفصيلية، كلاً على حدة. ومن أبرز الأمثلة على هذا الاتجاه الواقعي: مشروعية بعض العقود المتكررة في الحياة العملية على سبيل الاستثناء من النصوص أو القواعد العامة، كعقد السلم أو السلف، وعقد الاستصناع، تيسيراً على الناس في تحقيق حوائجهم، وتلبية لمطالبهم المشروعة دون حرج ولا إعنات ولا إرهاق، لأن (الحاجة تنزل منزلة الضرورة) و (المشقة تجلب التيسير) والإسلام دين اليسر لا العسر. وإذا كان الاستصناع في الماضي وليد الحاجة الخاصة والصناعة اليدوية في مجال الجلود والأحذية والنجارة والأثاث المنزلي، فإنه في عصرنا الحاضر أصبح من العقود المحققة للحاجات العامة والمصالح الكبرى، كبناء السفن في أحواض واسعة، والطائرات والآلات المختلفة في مصانع ضخمة ومعقدة ودقيقة دقة تامة بالغة الأهمية، مما أدى إلى وجود قفزة رائعة لهذا العقد بين العقود التجارية.
خطة البحث
خطة البحث يتناول البحث محاور ثلاثة وهي ما يأتي: ـ المحور الأول: 1 - تعريف الاستصناع 2 - معناه، هل هو مواعدة أو بيع؟ 3 - دليل مشروعيته 4 - الشروط التي تلحقه أو تفارقه ومدى تأثيرها في حكمه 5 - حكمه وصفته ـ المحور الثاني: 1 - الاستصناع والسلم 2 - العلاقة بين العقدين ـ وجه التطابق فيما بين العقدين 3 - شروط كل من الاستصناع والسلم ـ المحور الثالث: 1 - أثر الاستصناع في تنشيط الحركة الصناعية
المحور الأوّل تعريف الاستصناع: الاستصناع في اللغة: طلب الصنعة، والصنعة: عمل الصانع في صنعته أي حرفته، كما جاء في المصباح المنير ومختار الصحاح والقاموس المحيط. وهو في اصطلاح الفقهاء: طلب العمل من الصانع في شيء مخصوص على وجه مخصوص (¬1). أو هو عقد مع صانع على عمل شيء معين في الذمة (¬2)، أي العقد على شراء ما سيصنعه الصانع، وتكون العين أو مادة الصنعة والعمل من الصانع، فإذا كانت العين من المستصنع لا من الصانع، فإن العقد يكون إجارة لا استصناعاً. وبعض الفقهاء يقول: إن المعقود عليه هو العمل فقط، لأن الاستصناع طلب الصنع وهو العمل. مثاله: أن يطلب المستصنع (وهو المشتري أو المستأجر) أحد أفراد الناس من الصانع (وهو البائع أو العامل) كنجار وحداد وحذّاء ونحوهم من أصحاب الحرف أو المهن أن يصنع له شيئاً معيناً بأوصاف محددة، كأثاث منزل أو مكتبة أو كراسي أو حلي وغيرها، على ثمن معلوم، إذا جرى فيه التعامل كالقلنسوة والخف والآنية ونحوها عملاً بالعرف (¬3). ¬
معنى الاستصناع: هل هو مواعدة أو بيع؟
وينعقد الاستصناع بالإيجاب والقبول من المستصنع والصانع. ويقال للمشتري: مستصنع، وللبائع: صانع، وللشيء: مصنوع، كاتفاق شخصين على صنع أحذية أو آنية أو ثياب أو أثاث منزلي ونحو ذلك (¬1). وهو عقد يشبه السلم (بيع آجل بعاجل) لأنه بيع لمعدوم، وأن الشيء المصنوع ملتزم عند العقد في ذمة الصانع البائع، ولكنه يفترق عنه من حيث إنه لا يجب فيه تعجيل الثمن (رأس المال) ولا بيان مدة الصنع والتسليم، ولا كون المصنوع مما يوجد في الأسواق. ويشبه الإجارة أيضاً، لكنه يفترق عنها من حيث إن الصانع يضع مادة الشيء المصنوع من ماله. معنى الاستصناع: هل هو مواعدة أو بيع؟ اختلف مشايخ أو فقهاء الحنفية في تخريج الاستصناع، أهو بيع أم وعد بالبيع، أم إجارة، وإذا كان بيعاً، هل المبيع هو العين المصنوعة أو العمل الذي قام به الصانع؟. فقال الحاكم الشهيد المروزي والصفَّار ومحمد بن سَلَمة وصاحب المنثور: الاستصناع مواعدة، وإنما ينعقد بيعاً بالتعاطي عند الفراغ من العمل، ولهذا كان للصانع ألا يعمل ولايجبر عليه، بخلاف السلم، وللمستصنع ألا يقبل مايؤتى به، ويرجع عنه، ولاتلزم المعاملة. والصحيح الراجح في المذهب الحنفي: أن الاستصناع بيع للعين المصنوعة لا ¬
لعمل الصانع، فهو ليس وعداً ببيع ولا إجارة على العمل، فلو أتى الصانع بمالم يصنعه هو، أو صنعه قبل العقد بحسب الأوصاف المشروطة، جاز ذلك. والدليل أن محمد بن الحسن رحمه الله ذكر في الاستصناع القياس والاستحسان، وهما لا يجريان في المواعدة، ولأنه جوزه فيما فيه تعامل دون ما ليس فيه تعامل، ولوكان مواعدة جاز في الكل، وسماه شراء فقال: إذا رآه المستصنع فهو بالخيار، لأنه اشترى ما لم يره، ولأن الصانع يملك الدراهم بقبضها، ولو كان العقد مواعدة لم يملكها. وإثبات الخيار لكل من العاقدين لا يدل على أنه غير بيع، بدليل أنه في بيع المقايضة لو لم ير كل من العاقدين عين الآخر أي مبيعه، كان لكل منهما الخيار. وثبوت خيار الرؤية للمستصنع من خصائص البيوع، فدل على أن جوازه جواز البياعات، لاجواز العدات. ويترتب على كونه بيعاً أنه يجبر الصانع على عمله، ولا يرجع الآمر المستصنع عنه، ولو كان عدة لما لزم. وقال أبو سعيد البرادعي: المعقود عليه هو العمل أو الصنع، لأن الاستصناع: طلب الصنع، وهو العمل. والراجح في الاجتهاد الحنفي أن المعقود عليه هو العين المستصنعة دون العمل، فلو جاء الصانع بالمطلوب بما يوافق الأوصاف المشروطة ورضي به المستصنع، جاز العقد، سواء أكان من صنعة غيره أم من صنعته قبل العقد، ولو كان المبيع العمل نفسه لما صح ذلك. قال الكاساني: ولو كان شرط العمل من العقد نفسه، لما جاز؛ لأن الشرط يقع على عمل في المستقبل لا في الماضي، والصحيح القول بأن المعقود عليه هو المبيع الذي شرط فيه العمل؛ لأن الاستصناع طلب الصنع، فما لم يشترط فيه العمل، لا يكون استصناعاً، فكان مأخذ الاسم دليلاً عليه، ولأن العقد على مبيع في الذمة يسمى سَلَماً، وهذا العقد يسمى استصناعاً، واختلاف الأسامي دليل اختلاف المعاني في
دليل مشروعية الاستصناع
الأصل. وأما إذا أتى الصانع بعين صنعها قبل العقد، ورضي به المستصنع، فإنما جاز لا بالعقد الأول، بل بعقد آخر وهو التعاطي بتراضيهما (¬1). ـ دليل مشروعية الاستصناع: يرى فقهاء الحنفية (¬2) أن مقتضى القياس أو القواعد العامة ألا يجوز الاستصناع، لأنه بيع المعدوم كالسَّلَم، وبيع المعدوم لا يجوز، لنهي النبي صلّى الله عليه وسلم عن بيع ماليس عند الإنسان، فلا يصح بيعاً؛ لأنه بيع معدوم، ولا يمكن جعله إجارة، لأنه استئجار على العمل في ملك الأجير، وذلك لايجوز، كما لو قال رجل لآخر: احمل طعامك من هذا المكان إلى مكان كذا، بكذا، أو اصبغ ثوبك أحمر بكذا، لا يصح. وهذا قول زفر ومالك والشافعي وأحمد، لكن يصح الاستصناع عندهم على أساس عقد السلم، ويشترط فيه ما يشترط في السلم، ومن أهم شروطه: تسليم جميع الثمن في مجلس العقد، ولا مانع عند المالكية من تأجيله إلى يوم أو يومين، وذكروا أيضاً أنه يجب تحديد أجل لتسليم الشيء المصنوع كالسلم، وإلا فسد العقد، ويشترط أيضاً عندهم ألا يعين العامل الصانع، ولا الشيء المعمول المصنوع، كما تشترط بقية شروط السلم، وبناء عليه يفسد عقد الاستصناع ويفسخ في صور ثلاث: هي ألا يحدد وقت لتسليم الشيء المصنوع، وأن يعين العامل، أو يعين المعمول؛ لأنه يصبح حينئذ معيناً، لا في الذمة، وشرط صحة السلم ومثله الاستصناع: كون المسلم فيه ديناً في الذمة (¬3). ¬
الشروط التي تلحقه أو تفارقه ومدى تأثيرها في حكمه
ويصح عند الشافعية حينئذ، سواء حدد فيه الأجل لتسليم الشيء المصنوع أم لا، بأن كان سلماً حالاًّ، والسلم الحالّ جائز عندهم (¬1). وذهب الحنفية إلى أنه يجوز الاستصناع استحساناً، لتعامل الناس وتعارفهم عليه في سائر الأعصار من غير نكير، فكان إجماعاً من غير إنكار من أحد، والتعامل بهذه الصفة أصل مندرج في قوله صلّى الله عليه وسلم، «لا تجتمع أمتي على ضلالة» (¬2). وقال ابن مسعود: «ما رآه المسلمون حسناً، فهو عند الله حسن» (¬3). وقد استصنع رسول الله صلّى الله عليه وسلم خاتماً، واحتجم صلّى الله عليه وسلم وأعطى الحجام أجره، مع أن مقدار عمل الحجامة وعدد مرات وضع المحاجم ومصها غير لازم عند أحد، ومثله شرب الماء من السقاء، وسمع صلّى الله عليه وسلم بوجود الحمام فأباحه بمئزر، ولم يبين له شرطاً، وتعامل الناس بدخوله من لدن الصحابة والتابعين على هذا الوجه المعمول به الآن، وهو ألا يذكر مقدار الماء المستهلك ولا مدة المكث في الحمام، والمعدوم قد يعتبر موجوداً حكماً (¬4). الشروط التي تلحقه أو تفارقه ومدى تأثيرها في حكمه: اشترط الحنفية لجواز الاستصناع شروطاً ثلاثة إذا فاتت أو فات واحد منها ¬
فسد العقد، وكان له حكم البيع الفاسد الذي ينقل الملكية بالقبض ملكاً خبيثاً لايجيز الانتفاع به ولا الاستعمال، ويجب إزالة سبب الفساد احتراماً لنظام الشرع، وهذه الشروط هي مايلي (¬1): 1 - بيان جنس المصنوع ونوعه وقدره وصفته: لأنه مبيع، فلابد من أن يكون معلوماً، والعلم يحصل بذلك، فإذا كان أحد هذه العناصر مجهولاً، فسد العقد؛ لأن الجهالة المفضية للمنازعة تفسد العقد، وبناء عليه، إذا استصنع شخص إناء أو سيارة، بيّن في الإناء نوع المعدن وجنسه ومقاسه وحجمه وأوصافه وعدد الآنية المطلوبةإذا كانت متعددة، فإذا أخفى ذلك كله أو شيئاً منه، فسد العقد للجهالة. وكذلك في صنع السيارة تبين جميع المواصفات المطلوبة، منعاً من الجهالة والنزاع المنتظر عند تعارض المصنوع مع ما قد يترقبه المستصنع. 2 - أن يكون المصنوع مما يجري فيه تعامل الناس كالمصوغات والأحذية والأواني وأمتعة الدواب ووسائل النقل الأخرى، فلا يجوز الاستصناع في الثياب أو في سلعة لم يجر العرف باستصناعها كالدبس (مايخرج من العنب) لعدم تعامل الناس به، ويجوز ذلك على أساس عقد السَّلَم إذا استوفى شروط السَّلَم، فإذا توافرت فيه فسد استصناعاً وصح سلماً؛ لأن العبرة في العقود للمقاصد والمعاني، لا للألفاظ والمباني. ويصح السلم في غير المثلي كالثياب والبسط والحصر ونحوها، ويصح في عصرنا الحاضر الاستصناع في الثياب لجريان التعامل فيه، والتعامل يختلف بحسب الأزمنة والأمكنة. 3 - ألا يذكر فيه أجل محدد: فإذا ذكر المتعاقدان أجلاً معيناً لتسليم ¬
المصنوع، فسد العقد وانقلب سَلَماً عند أبي حنيفة، فتشترط فيه حينئذ شروط السلم، مثل قبض جميع الثمن في مجلس العقد، وأنه لا خيار لأحد العاقدين إذا سلم الصانع المصنوع على الوجه الذي شرط عليه في العقد. ودليله أن العاقد إذا حدد أجلاً فقد أتى بمعنى السلم، والعبرة في العقود لمعانيها، لا لصور الألفاظ. ولهذا إذا حدد أجل فيما لا يجوز الاستصناع فيه، كأن يستصنع حائكاً للنسج بغزل نفسه أو خيَّاطاً للخياطة بقماش من عنده، انقلب العقد سلماً. والمراد بالأجل: شهر فما فوقه، فإن كان أقل من شهر، كان استصناعاً إن جرى فيه تعامل، أو كان القصد من الأجل الاستعجال بلا إمهال، كأن قال: على أن تفرغ منه غداً أو بعد غد، فإن قصد من الأجل الاستمهال والتأجيل، لم يصح استصناعاً، ولا يصح سلماً إذا كان الأجل دون شهر. والخلاصة: أن المؤجل بشهر فأكثر سلم، والمؤجل بدونه إن لم يجر فيه تعامل فهو استصناع إلا إذا ذكر الأجل للاستعجال فصحيح. وقال الصاحبان: ليس هذا بشرط، والعقد استصناع على كل حال، حدد فيه أجل أو لم يحدد؛ لأن العادة جارية بتحديد الأجل في الاستصناع، فيكون شرطاً صحيحاً لذلك. وهذا القول هو المتفق مع ظروف الحياة العملية، وحاجات الناس، فيكون هو الأولى بالأخذ به. نصت المادة (389) من المجلة على ما يلي: «كل شيء تعومل استصناعه، يصح فيه الاستصناع على الإطلاق، وأما ما لم يتعامل باستصناعه إذا بين فيه المدة، صار سَلَماً، وتعتبر فيه حينئذ شروط السَّلَم، وإذا لم يبين فيه المدة، كان من قبيل الاستصناع أيضاً». وإذا حدد ت مدة لتقديم المصنوع، فانقضت دون أن يفرغ
حكم الاستصناع وصفته
الصانع منه ويسلّمه، فالظاهر أن يتخير المستصنع بين الانتظار والفسخ، كما هو المقرر في عقد السلم (¬1). الشروط اللاحقة: اتفق الحنفية على أن الشرط اللاحق للعقد مثل الشرط الداخل في العقد عند تكوينه في الحكم، إن كان شرطاً صحيحاً، فإن كان شرطاً فاسداً التحق بالعقد وأفسده كالشرط الداخل في العقد تماماً في رأي أبي حنيفة. وقال الصاحبان: لايلتحق الشرط الفاسد بالعقد، بل يبقى العقد صحيحاً، ويلغو الشرط، حرصاً على سلامة العقد الذي وجد. حكم الاستصناع وصفته: حكم الاستصناع هنا: هو الأثر المترتب عليه، وللاستصناع الأحكام التالية (¬2): 1 - حكم الاستصناع بمعنى الأثر النوعي أو الجوهري المترتب عليه: هو ثبوت الملك للمستصنع في العين المصنوعة في الذمة، وثبوت الملك للصانع في البدل المتفق عليه. 2 - صفة هذا الحكم أو صفة عقد الاستصناع: أنه عقد غير لازم قبل الصنع، وبعد الفراغ من الصنع، في حق الصانع والمستصنع معاً، فيكون لكل من العاقدين الخيار في إمضاء العقد أو فسخه والعدول عنه قبل رؤية المستصنع الشيء المصنوع، ¬
فلو باع الصانع الشيء المصنوع قبل أن يراه المستصنع، جاز؛ لأن العقد غير لازم، والمعقود عليه ليس هو عين المصنوع وإنما مثله في الذمة. 3 - إذا جاء الصانع بالشيء المصنوع إلى المستصنع سقط خياره؛ لأنه رضي بكونه للمستصنع، حيث جاء به إليه، فيكون حكم الاستصناع في حق الصانع ثبوت الملك اللازم إذا رآه المستصنع، ورضي به، ولا خيار له، وهذا في ظاهر الرواية. وأما المستصنع فحكم العقد بالنسبة إليه إذا أتى الصانع بالمصنوع على الصفة المشروطة: هو ثبوت الملك غير لازم في حقه، فإذا رآه فله الخيار: إن شاء أخذه، وإن شاء تركه، وفسخ العقد عند أبي حنيفة ومحمد، لأنه اشترى شيئاً لم يره، فكان له خيار الرؤية، بخلاف الصانع فهو بائع ما لم يره، فلا خيار له. وقال أبو يوسف: العقد لازم إذا رأى المستصنع الشيء المصنوع ولا خيار له، إذا جاء موافقاً للصفة أو الطلب والشروط، لأنه مبيع بمنزلة المسلم فيه، فليس له خيار الرؤية، لدفع الضرر عن الصانع في إفساد المواد المصنوعة التي صنعها وفقاً لطلب المستصنع، وربما لا يرغب غيره في شرائه على تلك الصفة. ونوقش هذا الرأي بأن ضرر المستصنع بإبطال الخيار له أكثر من ضرر الصانع، إذ لا يتعذر على الصانع بيع المصنوع على أية حال، لأنه إذا لم يرض به المستصنع، يبيعه من غيره بمثل قيمته، وذلك ميسر عليه لكثرة ممارسته. ويجاب عنه بأن احتمال البيع الجديد مجرد أمل، ويغلب الضرر بالصانع، فيجب القول بلزوم البيع دفعاً للضرر عنه. لذا أخذت المجلة برأي أبي يوسف، فقررت في المادة (392): أن عقد الاستصناع ينعقد لازماً، فليس لأحد الطرفين الرجوع، ولو قبل الصنع، إلا أنه إذا
جاء المصنوع مغايراً للأوصاف المشروطة، يتخير المستصنع بفوات الوصف (¬1). وفي تقديري أن هذا الرأي الذي أخذت به المجلة سديد جداً، منعاً من وقوع المنازعات بين المتعاقدين، ودفعاً للضرر عن الصانع، إذ إن أغراض الناس تختلف باختلاف الشيء المصنوع حجماً ونوعاً وكيفية، ولأن هذا الرأي يتفق مع مبدأ القوة الملزمة للعقود بصفة عامة في الشريعة، ويتناسب مع الظروف الحديثة التي يتفق فيها على صناعة أشياء خطيرة وغالية الثمن كالسفن والطائرات، فلا يعقل والحالة هذه أن يكون عقد الاستصناع فيها غير لازم. 4 - لا يتعلق حق المستصنع في الشيء المصنوع إلا بعرضه عليه من قِبَل الصانع، وعلى هذا فإن للصانع أن يبيع المصنوع من غير المستصنع قبل عرضه عليه، كما تقدم بيانه. ¬
المحور الثاني
المحور الثّاني الاستصناع والسّلم: الاستصناع كما عرفناه: عقد مع ذي صنعة على عمل شيء معين وتكون مادة الصنع من الصانع، كاستصناع أحذية أو آنية بشرط وصف المصنوع في العقد بما يزيل الجهالة. والسلم أو السلف: بيع آجل بعاجل، أو بيع شيء موصوف في الذمة، أي إنه يتقدم فيه رأس المال، ويتأخر المبيع (المثمن) لأجل، أوهو أن يسلم عوضاً حاضراً في عوض موصوف في الذمة إلى أجل، كأن يشتري تاجر من فلاح أو مزارع عشرة أطنان حنطة من ولاية كذا أو محافظة كذا تسلّم عند الحصاد بمبلغ معين من المال يدفع كله نقداً في مجلس العقد، ويتأجل تسليم المبيع غير الموجود عند العقد إلى وقت معين في المستقبل. العلاقة بين العقدين ـ وجه التطابق فيما بين العقدين: يشترك الاستصناع والسلم في أن كلاً منهما بيع لشيء معدوم، أجيز للحاجة إليه، وتعامل الناس به، إلا أن الباعث على عقد السَّلَم شدة حاجة البائع إلى نقود ينفقها على نفسه وأهله أوعلى إنتاجه الزراعي، وهو لا يملك ذلك آنياً، لذا سمي (بيع المفاليس) وأما الاستصناع فهو عقد تجاري يحقق الربح للبائع الصانع، ويلبي حاجة المستصنع، فيكون الباعث الدافع عليه حاجة المستصنع.
شروط كل من الاستصناع والسلم
وهناك فروق بين العقدين أوجزها فيما يلي: أولاً ـ أن المبيع في السلم دين (هو ما يثبت في الذمة) تحتمله الذمة، فهو إما مكيل أو موزون أو مذروع أو عددي متقارب كالجوز والبيض، أما المبيع في الاستصناع فهو عين (أي ما يتعين بالتعيين أو الشيء المعين المشخّص بذاته أو هي المال الحاضر) لا دين، كاستصناع أثاث (مفروشات منزلية) أو حذاء، أو إناء. ثانياً ـ يشترط في السلم وجود أجل، فهو لا يصح عند الجمهور (غير الشافعية) إلا لأجل كشهر فما فوقه، على عكس الاستصناع في اجتهاد أبي حنيفة رحمه الله، فإن حدد فيه أجل انقلب سلماً، ولا خيار شرط في السلم، وقال الصاحبان: يصح الاستصناع لأجل أو لغير أجل، لأن عرف الناس تحديد الأجل فيه، كما تقدم. وأجاز الشافعية السلم الحال، خلافاً لغيرهم. ثالثاً ـ عقد السلم لازم لا يجوز فسخه بإرادة أحد العاقدين، وإنما بتراضيهما واتفاقهما معاً على الفسخ، وأما الاستصناع فقد عرفنا أنه عقد غير لازم يجوز لأي طرف من العاقدين فسخه في ظاهر الرواية، ويسقط خيار الصانع إذا أحضره على الصفة المشروطة، وللمستصنع الخيار. رابعاً ـ يشترط في عقد السلم قبض رأس مال السلم كله في مجلس العقد، ولا يشترط قبضه في الاستصناع، ويكتفي الناس عادة بدفع عربون أو جزء من الثمن كالنصف أو الثلث مثلاً، عملاً بمذهب الحنابلة، ويعد هذا الفرق من الناحية العملية أهم الفروق. شروط كل من الاستصناع والسلم: لابد في كل من العقدين من العلم بالثمن جنساً ونوعاً وقدراً وصفة، وإلا
كان العقد فاسداً بسبب الجهالة، وينفرد السلم عند الجمهور باشتراط تعجيل رأس المال (الثمن) وقبضه فعلاً في مجلس العقد قبل افتراق العاقدين أنفسهما، وأجاز الإمام مالك تأخير قبض رأس المال إلى ثلاثة أيام فأقل؛ لأن ذلك التأخير لهذه المدة القريبة في حكم المعجل، لأن ما قارب الشيء يعطى حكمه. ولا يشترط في عقد الاستصناع تعجيل رأس المال أو الثمن، وإنما يدفع عادة عند التعاقد ولو في غير مجلس العقد جزء من الثمن، ويؤخر الباقي لحين تسليم الشيء المصنوع. أما المعقود عليه (المبيع المسلم فيه في عقد السلم، والمصنوع في عقد الاستصناع) فلا بد في كلا العقدين من العلم بجنسه ونوعه وقدره وصفته؛ لأن كلاً منهما مبيع، والمبيع يشترط كونه معلوماً غير مجهول. ولا يجوز اشتمال كلا العقدين على الربا، كأن اتحد الثمن والمبيع في الجنس كبُر ببر، أو شعير بشعير طبيعي أو مصنَّع (مجروش مثلاً) مع التفاضل في ربا الفضل، أو نسيئة مؤجلاً من غير تفاضل مع تأخير التقابض في الأموال الربوية (الأصناف الستة المعروفة في الحديث النبوي وما في معناها) (¬1). ولا يثبت خيار الشرط في السلم، وإنما لا بد من أن يكون العقد باتاً لا خيار فيه، أما الاستصناع فهو عقد غير لازم يثبت الخيار فيه قبل العمل أو الصنع، وكذا عند أبي حنيفة ومحمد بعد الفراغ من الصنع، وذهب أبو يوسف إلى لزوم العقد بعد الصنع والرضا به كما تقدم. أما خيار الرؤية وخيار العيب فيثبت كل منهما في رأس مال السلم إذا كان عيناً قيمية أو مثلية، وأما في المسلم فيه فلا يثبت خيار الرؤية فيه باتفاق الحنفية حتى ¬
لا يعود ديناً كما كان، ويصح ثبوت خيار العيب في المسلم فيه؛ لأنه لا يمنع تمام القبض الذي تتم به الصفقة. ولا بد في كلا العقدين من بيان مكان الإيفاء إذا كان للمبيع كلفة ومؤونة في رأي أبي حنيفة، ويتعين مكان العقد مكاناً للإيفاء في رأي الصاحبين. ويشترط في عقد السلم عند الحنفية كون جنس المسلم فيه (المبيع) موجوداً في الأسواق بنوعه وصفته من وقت العقد إلى وقت حلول أجل التسليم ولايتوهم انقطاعه عن أيدي الناس، كالحبوب، ولا يشترط ذلك في عقد الاستصناع. ولم يشترط باقي المذاهب أو الجمهور هذا الشرط في السلم، ويكفي وجود جنس المسلم فيه عند حلول أجل التسليم. ويشترط الحنفية والشافعية والحنابلة إمكان ضبط المسلم فيه بالصفات بأن يكون من المثليات (المكيلات أو الموزونات أو الذرعيات أو العدديات المتقاربة) كالأقمشة والمعادن والرياحين اليابسة والجذوع إذا بيَّن طولاً وعرضاً وغلظاً، ولا يصح السلم فيما لا يمكن ضبطه بالوصف كالدور والعقارات والجواهر واللآلئ والجلود والخشب، لتفاوت آحادها تفاوتاً فاحشاً في المالية، أما الاستصناع فيصح في الأمرين إذا تعامل الناس به. وصحح المالكية السلم فيما ينضبط ومالا ينضبط بالوصف. وأجاز الحنفية استحساناً السلم في بعض الأشياء غير المثلية أيضاً كالثياب والبسط والحصر ونحوهما كما تقدم. ولا بأس بالسلم في اللبن والآجر إذا اشترط فيه المشتري (رب السلم) مَلْبناً معلوماً، لأنه إذا سمي المَلْبن، صار التفاوت بين لبن ولبن يسيراً، فيكون ساقط الاعتبار، فيلحق بالعددي المتقارب.
ويصح السلم فيما جرى به التعامل أو لم يجر فيه التعامل، أما الاستصناع فضابطه أنه يصح في كل ما يجري فيه التعامل فقط، ولا يجوز فيما لا تعامل لهم فيه، كما إذا أمر حائكاً أن يحوك له ثوباً بغزل نفسه، ونحو ذلك مما لم تجر عادات الناس بالتعامل فيه؛ لأن جوازه، مع أن القياس يأباه ثبت بتعامل الناس، فيختص بما لهم فيه تعامل، ويبقى الأمر فيما وراء ذلك متروكاً إلى القياس، لكن جرى التعامل في عصرنا باستصناع الثياب، فيكون جائزاً؛ لأن جريان التعامل يختلف باختلاف البلدان والأزمنة.
المحور الثالث
المحور الثّالث أثر الاستصناع في تنشيط الحركة الصّناعية: لقد أدى الاستصناع في الماضي دوراً مهماً في الحياة العملية، فأفاد الصانع الذي قدَّم في صنعته خبرة معينة ومهارة فائقة، وأضفى على مادة الصنعة التي يقدمها من نفسه فنا خاصاً وإبداعاً جديداً، واستطاع بذلك إدخال تطوير وتعديل على صنعته، وأفاد المستصنع الذي استطاع من خلال الاستصناع الحصول على ما يرغب فيه وإرضاء ذوقه وتحقيق مصلحته على وفق المقاييس المناسبة له والفنون التي يتصورها ويتأمل توافرها لديه. ثم انتشر الاستصناع انتشاراً واسعاً في العصر الحديث، فلم يعد مقصوراً على صناعة الأحذية والجلود والنجارة والمعادن والأثاث المنزلي من مفروشات وغيرها من الخزائن والمقاعد والمساند والصناديق، وإنما شمل صناعات متطورة ومهمة جداً في الحياة المعاصرة كالطائرات والسفن والسيارات والقطارات وغيرها، مما أدى إلى تنشيط الحركة الصناعية ونمو حركة المصانع والمعامل اليدوية والآلية، وقد أسهم كل ذلك بنحو واضح في رفاه الأفراد والمجتمعات وتوفير حاجات الدول ومصالحها. ولم يقتصر الأمر على الصناعات المختلفة ما دام يمكن ضبطها بالمقاييس والمواصفات المتنوعة، وإنما يشمل أيضاً إقامة المباني وتوفير المساكن المرغوبة، وقد ساعد كل ذلك في التغلب على أزمة المساكن. ومن أبرز الأمثلة والتطبيقات لعقد
الاستصناع بيع الدور والمنازل والبيوت السكنية على الخريطة ضمن أوصاف محددة، فإن بيع هذه الأشياء في الواقع القائم لا يمكن تسويغه إلا على أساس الوعد الملزم بالبيع أو على عقد الاستصناع، ويعد العقد صحيحاً إذا صدرت رخصة البناء، ووضعت الخريطة، وذكرت في شروط العقد مواصفات البناء، بحيث لا تبقى جهالة مفضية إلى النزاع والخلاف، وقد أصبح من السهل ضبط الأوصاف، ومعرفة المقادير، وبيان نوع البناء، سواء بيع البناء على الهيكل، أم مكسياً كامل الكسوة، مع الاتفاق على شروط الكسوة، وأوصافها، من النوع الجيد أو الوسط أو العادي. ويتم تسديد الثمن عادة على أقساط ذات مواعيد محددة، وتحتسب الأقساط جزءاً من الثمن، فلا زكاة فيها إلا إذا فسخ العقد. أما مدة التسليم فيكون ذكرها عادة على سبيل الاستعجال والتقريب الزمني والحث على الإنجاز في وقت معقول، لأن المتعاقدين يقدران تماماً مدى المشكلات والعوائق التي تعترض التنفيذ في وقت محدد. ويصعب تصحيح هذا العقد على أساس عقد السلم؛ لأن الثمن يشترط دفعه كله عند العقد. ثم إن الدولة تعترف عادة بأن البيع على الخريطة بيع صحيح لازم. وأما في مجال المقاولات التي يتم فيها عادة الاتفاق على مدة التسليم والإلزام بغرامات معينة عند التأخير، فهوأي التغريم جائز أيضاً وداخل تحت مفهوم ما يسمى قانوناً بالشرط الجزائي، وقد أقره القاضي شريح، وأيده قرار هيئة كبار العلماء في السعودية سنة 1394 هـ، قال شريح: «من شرط على نفسه طائعاً غير مكره، فهو عليه» (¬1). ¬
عقد الصرف
.................. 3 ........................................ ....................................... عقد الصرف .................................... تعريف الصرف: الصرف لغة: الزيادة، ومنه سميت العبادة النافلة صرفاً، قال صلّى الله عليه وسلم: «من انتمى إلى غير أبيه لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً» (¬1) أي لا نفلاً ولا فرضاً. وشرعاً: هو بيع النقد بالنقد جنساً بجنس أو بغير جنس: أي بيع الذهب بالذهب، أو الفضة بالفضة أو الذهب بالفضة، مصوغاً أو نقداً (¬2). ¬
شرائطه
وشرائطه إجمالاً أربعة: التقابض قبل افتراق المتعاقدين، والتماثل، وألا يكون فيه خيار ولا تأجيل. 1 - التقابض قبل الافتراق بالأبدان بين المتعاقدين: يشترط في عقد الصرف قبض البدلين جميعاً قبل مفارقة أحد المتصارفين للآخر افتراقاً بالأبدان، منعاً من الوقوع في ربا النسيئة، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب مثلاً بمثل، يداً بيد، والفضة بالفضة مثلاً بمثل، يداً بيد» (¬1) وقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تبيعوا منهما غائباً بناجز» (¬2) فإن افترق المتعاقدان قبل قبض العوضين أو أحدهما، فسد العقد عند الحنفية وبطل عند غيرهم لفوات شرط القبض، ولئلا يصير العقد بيعاً للكالئ بالكالئ أي الدين بالدين فيحصل الربا: وهو الفضل في أحد العوضين (¬3)، والتقابض شرط سواء اتحد الجنس أو اختلف. تفسير الافتراق بالأبدان: هو أن يفترق العاقدان بأبدانهما عن مجلس العقد، فيتجه هذا في جهة، وهذا في جهة، أو يذهب أحدهما ويبقى الآخر. فإن ¬
2 - التماثل عند اتحاد الجنس
بقيا في مجلسهما لم يبرحا عنه، لم يحصل الافتراق وإن طال مجلسهما لانعدام التفرق بالأبدان، كذلك لا يحصل التفرق إن ناما في المجلس أو أغمي عليهما أو قاما عن المجلس فذهبا معاً في جهة واحدة وطريق واحدة ومشيا ميلاً أو أكثر ولم يفارق أحدهما صاحبه، فلا يعتبران مفترقين؛ لأن العبرة لتفرق الأبدان ولم يوجد ذلك (¬1). 2 - التماثل عند اتحاد الجنس: إذا بيع الجنس بالجنس كفضة بفضة، أو ذهب بذهب، فلا يجوز إلا مثلاً بمثل وزناً، وإن اختلفا في الجودة والصياغة بأن يكون أحدهما أجود من الآخر أو أحسن صياغة (¬2) لقوله صلّى الله عليه وسلم في الحديث السابق: «الذهب بالذهب مثلاً بمثل» أي يباع الذهب بالذهب مثلاً بمثل في القدر، لا في الصفة، للقاعدة الشرعية: «جيدها ورديئها سواء» (¬3). 3 - أن يكون العقد باتاً أو ألا يكون فيه خيار شرط: لا يجوز في عقد الصرف اشتراط الخيار لكل من المتعاقدين أو لأحدهما؛ لأن القبض في هذا العقد شرط. وخيار الشرط يمنع ثبوت الملك أو تمامه على الخلاف الذي ذكر في مبحثه، والخيار يخل بالقبض المشروط: وهو القبض الذي يحصل به التعيين، فلو شرط هذا الخيار فسد العقد. ولو أسقط صاحب الخيار خياره في المجلس، ثم افترق المتعاقدان عن تقابض، ينقلب العقد إلى الجواز، خلافاً لزفر، فإذا بقي حتى افترقا تقرر الفساد. ¬
4 - التنجيز في العقد أو ألا يكون فيه أجل
هذا بخلاف خيار الرؤية والعيب، فإن كلاً منهما لا يمنع ثبوت الملك في المبيع، فلا يمنع تمام القبض، فلو افترق العاقدان، وفي الصرف خيار عيب أو رؤية جاز، إلا أنه لا يتصور في بيع النقد وسائر الديون خيار رؤية؛ لأن العقد ينعقد على مثلها، لاعينها (¬1). 4 - التنجيز في العقد أو ألا يكون فيه أجل: يشترط أن يكون عقد الصرف خالياً عن الأجل لكل من المتعاقدين أو لأحدهما، وإلا فسد الصرف؛ لأن قبض البدلين مستحق قبل الافتراق، كما عرفنا، والأجل يؤخر القبض، فيفسد العقد، فإن أبطل صاحب الأجل أجله قبل الافتراق، ونفذ ما عليه، ثم افترقا عن تقابض، ينقلب العقد جائزاً خلافاً لزفر (¬2). ويلاحظ أن الشرطين الأخيرين متفرعان عن شرط القبض الواجب في بدلي الصرف بناء على ما يشترط في مبادلة الأموال الربوية. ولم يجز المالكية وغيرهم الوكالة في قبض بدل الصرف ولا الإحالة على المشهور لأجل التأخير، إذا كان قبض الوكيل أو المحال في غيبة الموكل والمحيل على الراجح (¬3). والدليل على اشتراط عدم التأجيل: أحاديث الربا المتقدمة التي توجب التقابض يداً بيد في بدلي الأموال الربوية. وحديث أبي المنهال عند الشيخين: «ما كان يداً بيد فلابأس به، وما كان نسيئه فهو ربا». ما يترتب على اشتراط قبض البدلين في مجلس عقد الصرف قبل الافتراق: إذا كان لا بد من قبض عوضي الصرف قبل افتراق العاقدين عن المجلس، ¬
1 - الإبراء أو الهبة
فإنه يترتب عليه عدم جواز الإبراء أو الهبة أو الاستبدال أو المقاصة بثمن الصرف على التفصيل الآتي (¬1): 1 - الإبراء أو الهبة: إذا تصارف اثنان ديناراً بدينار، وسلم أحدهما الدينار لمستحقه، ثم أبرأ صاحبه عن ديناره أو وهبه له أو تصدق عليه به: فإن قبل المبرأ أو الموهوب له ما أبرئ منه أو وهب له، سقط التزامه بالدين، وبطل الصرف؛ لأن الإبراء عن الدين يترتب عليه عدم تحقق القبض، وبما أن القبض في عقد الصرف لازم شرعاً، ولم يحصل هنا بسبب الإبراء، فإنه يؤدي إلى بطلان العقد لعدم حصوله. وإن لم يقبل المبرأ البراءة، لم يصح الإبراء ويبقى عقد الصرف على حاله؛ لأن قبض البدل مستحق، والإبراء عن الدين إسقاطه، وإذا سقط الدين لا يتصور قبضه، وبما أن الإبراء يؤدي إلى هذه النتيجة، فهو في معنى فسخ العقد، والفسخ لا يصح إلا بتراضي العاقدين، فلا يثبت بإرادة منفردة من أحد العاقدين بعد انعقاد العقد صحيحاً، وإذا لم يصح الإبراء بقي عقد الصرف على حاله، فيتم بتقابض البدلين في المجلس قبل الافتراق. ولو امتنع المبرئ أو الواهب أو المتصدق أن يأخذ ما أبرأ أو وهب أو تصدق به، فإنه يجبر على القبض، لأنه بامتناعه عن القبض يفسد العقد أو يفسخ، وأحد المتعاقدين لا ينفرد بالفسخ أو إفساد عقد الغير. 2 - الاستبدال ببدل الصرف: لو استبدل أحد المتصارفين شيئاً ببدل ¬
3 - الحوالة ببدل الصرف والكفالة والرهن به
الصرف، كأن أعطى عن الدينار شيئاً بخلاف جنسه، أو باع أو وهب ما استحقه من بدل الصرف قبل قبضه، فلا يجوز، ويبقى الصرف على حاله؛ لأن قبض بدل الصرف شرط شرعي لبقاء العقد صحيحاً، وبما أن بدل الشيء غير الشيء، فإنه يترتب على الاستبدال تفويت القبض حقيقة أي عدم تحقق القبض المطلوب شرعاً. وإذا لم يصح الاستبدال بقي عقد الصرف على حاله، فإن كان قد تم قبض أحد البدلين فيجب قبض البدل الآخر بعينه. وإن أدى أحد العاقدين الآخر أجود من حقه، أو أردأ منه لكن من جنس حقه ورضي به المدفوع له، فإنه يجوز، ولا يعتبر الأداء استبدالاً؛ لأن المقبوض من جنس حقه أصلاً، إلا أنه أنقص منه في الوصف، والجيد والرديء في الأموال الربوية سواء، وبما أن المدفوع له رضي به أسقط حقه في الجيد، فكان ذلك استيفاء لا استبدالاً. وعلى هذا إن أخذ صاحب الحق عن الدينار الذي يحق له ديناراً أردأ منه، أو زائفاً، ونحوها من كل مقبوض يتفق في الأصل مع الشيء الواجب في المعاوضات بين الناس، فإنه يصح. ويبطل تبايع النقد من مشتر إلى آخر أو بالهاتف قبل القبض. 3 - الحوالة ببدل الصرف والكفالة والرهن به: يجوز لأحد المتصارفين أن يحيل صاحبه على رجل آخر لقبض حقه بشرط أن يكون المحال عليه حاضراً في مجلس العقد، وكذلك يجوز له أن يقدم رهناً لصاحبه ببدل الصرف، ويصح له أيضاً تقديم كفيل عنه يكفله بوفاء الحق. ولكن يشترط في هذه الحالات أن يتم فعلاً استيفاء الحق في مجلس عقد الصرف إما بالتسليم الفعلي في الحوالة والكفالة، أو
4 - المقاصة في ثمن الصرف ورأس مال السلم
من طريق تحمل تبعة هلاك المرهون إذا هلك في يد المرتهن. وهذا متفق عليه فقهاً (¬1). وهذا المعنى هو ما قرره فقهاء الحنفية فإنهم قالوا: إن قبض صاحب الحق حقه من المحال عليه، أو من الكفيل، أو هلك الرهن في يد المرتهن في مجلس عقد الصرف، يكن الصرف صحيحاً على حاله. وإن افترق المتصارفان قبل تمام القبض أو لم يهلك الرهن بطل الصرف. والعبرة في بقاء مجلس العقد لبقاء نفس العاقدين فيه وافتراقهما عنه، ولا عبرة ببقاء المحال عليه أو الكفيل مع صاحب الحق ما لم يقبض حقه قبل مفارقة صاحبه المجلس؛ لأن قبض الحق من حقوق العقد، فيتعلق بنفس العاقدين، فيعتبر مجلسهما إذن. ولو وكل كل واحد من العاقدين رجلاً أن ينقد عنه، يعتبر مجلس الموكلين بقاءً وافتراقاً لا مجلس الوكيل؛ لأن القبض من حقوق العقد فيتعلق بالعاقدين كما تبين. وهذه الأحكام المقررة هنا هي نفسها التي ذكرت في الحوالة برأس مال السلم على رجل حاضر في المجلس، والكفالة به، والرهن به، وبالمسلم فيه أيضاً، وذلك أثناء بيان الفروق بين عقدي السلم والبيع. 4 - المقاصة في ثمن الصرف ورأس مال السلم: المقاصة لغة: هي المساواة والمماثلة، ومنه القصاص وهو معاقبة الجاني بمثل جنايته. وعند الفقهاء هي بمعناها اللغوي مع قيود معينة، وقد عرفها بعض المالكية بقوله: هي إسقاط مالك من دين على غريمك في نظير ماله عليك. وعرفها ابن ¬
هي نوعان
جزي بقوله: هي اقتطاع دين من دين (¬1)، وهي نوعان: مقاصة جبرية، ومقاصة اختيارية أو اتفاقية. مثال المقاصة الجبرية التي تقع بنفسها: أن يكون لمدين عند دائنه مثل ما له عليه من الدين جنساً وصفة وحلولاً، فتقع المقاصة بينهما ويتساقط الدينان إن كانا متساويين في المقدار، أو يسقط من الدينين مقدار متماثل إن تفاوتا في القدر، فيسقط من الأكثر بقدر الأقل وبقيت الزيادة. وللمقاصة الجبرية شروط أربعة هي: 1 - تلاقي الحقين، أي أن يكون الشخص دائناً بالنسبة لآخر ومديناً له. 2 - تماثل الدينين، أي اتحادهما جنساً ونوعاً وصفة في الحلول والتأجيل والجودة والرداءة ونحوها. 3 - انتفاء الضرر، أي ألا يترتب على وقوعها ضرر لأحد كالمدين أو المرتهن الذي تعلق حقه بالعين، أو باقي الغرماء. 4 - ألا يترتب عليها محظور شرعي كالافتراق قبل قبض رأس مال السلم، والتصرف في المسلم فيه قبل قبضه، وعدم التقابض في الصرف وفي الربويات التي يجب أن تكون يداً بيد .. وقد قال جمهور الفقهاء بوقوع المقاصة الجبرية بنفسها إذا توافرت شروطها، ولم يقرها فقهاء المالكية. ¬
المقاصة الاتفاقية
ومثال المقاصة الاتفاقية وهي التي تتم بتراضي صاحبي الحق: أن يكون لواحد دين وللآخر عين، فيتفق الطرفان على عدم مطالبة أحدهما غيره بحقه. والمالكية يقولون بالمقاصة الاتفاقية إذا اختلف الجنس أو اختلفت الأوصاف ما لم يترتب على ذلك محظور ديني. ومن المعلوم أن أئمة المذاهب الأربعة يعتبرون النقدين (الذهب والفضة وما يماثلهما من الدنانير والدراهم) جنسين مختلفين، فتجوز المقاصة الاتفاقية بينهما عند المالكية لأنهم يقولون بالمقاصة عند اختلاف الجنس (¬1). وأما وحدات النقد المتعامل بها في عصرنا الحاضر سواء أكانت أوراقاً أم مسكوكة من الذهب أم الفضة الخالصين أم المخلوطين أم المسكوكة من غيرهما كالنحاس وهي المسماة فلوساً، فإنها تعد جنساً واحداً في باب المقاصة، عملاً بالعرف وبرأي ابن أبي ليلى وهو اختيار بعض مشايخ الحنفية (¬2). وبعد هذه المقدمة نبحث حكم المقاصة في عقدي الصرف والسلم. أما في عقد الصرف: فلو تصارف اثنان بأن باع أحدهما للآخر ديناراً بعشرة دراهم، وسلمه الدينار، ولم يقبض العشرة الدراهم، وكان لمشتري الدينار على ¬
بائعه عشرة دراهم، فأراد المقاصة، فهل تقع؟ هنا ثلاث حالات (¬1): إحداها: أن يثبت الدين بسبب قبل حدوث عقد الصرف: كأن كانت هذه الدراهم العشرة واجبة ديناً على البائع قبل إجراء عقد الصرف بسبب من الأسباب التي تعتبر مصادر للالتزام كالقرض أو الغصب، أو الشراء، أي ثمناً لمبيع. فإذا أراد المتصارفان إجراء المقاصة بأن يجعل مقابل الدينار وهو العشرة الدراهم قصاصاً بالدين الثابت في ذمة البائع المتصارف، جاز الفعل استحساناً إن تراضيا على المقاصة أي لا بد من المقاصة الاتفاقية. وأما قياساً فلا يجوز وهو قول زفر. فإن لم يتفقا على إجراء المقاصة بأن أباها أحدهما، لم تقع المقاصة باتفاق الحنفية. أما وجه القياس: فهو أن المطلوب في عقد الصرف قبض بدل الصرف بعينه، وبالمقاصة يحصل استبدال ببدل الصرف؛ لأن الذي وجب على المتصارف بالصرف غير الذي كان عليه، وبالتقاص يأخذ المتصارف ما في ذمته بدل ما وجب عليه من ثمن الدينار، وهو لا يجوز، كما لا يجوز أن يأخذ ببدل الصرف عوضاً آخر كما عرفنا سابقاً، وكما لا يجوز الإبراء عن بدل الصرف. وأما وجه الاستحسان: فهو أن المتصارفين لما تقاصا فقد تضمنت المقاصة انفساخ عقد الصرف الأول، وانعقاد صرف آخر غير الأول، وثمنه هو العشرة الدراهم التي هي دين سابق، إذ لولا ذلك التقدير لكانت المقاصة استبدالاً ببدل الصرف، فصار هذا كما لو تبايع اثنان بألف، ثم جددا العقد بألف وخمس مئة، فإن البيع الأول ينفسخ ضرورة ثبوت العقد الثاني اقتضاء أو ضمناً. ¬
الحالة الثانية: أن يثبت الدين بقبض مضمون بعد وجود عقد الصرف: كأن يستقرض بائع الدينار عشرة دراهم من المشتري ويتسلمها بالفعل، أو يغصب منه عشرة دراهم، ففي هذه الحالة تقع المقاصة بثمن الصرف جبراً على المتصارفين، وإن لم يتقاصا، أي لا يحتاجان إلى التراضي؛ لأنه وجد القبض من المتصارف فعلاً. الحالة الثالثة: أن يثبت الدين بعقد متأخر عن عقد الصرف: كأن يشتري مشتري الدينار من بائع الدينار ثوباً بعشرة دراهم مثلاً، ففي هذه الحالة إن لم يتقاصا لا تقع المقاصة باتفاق الروايات. وإن اتفقا على مقاصة العشرة بالعشرة في مجلس العقد فهناك روايتان: في رواية اختارها السرخسي: لا يجوز لأن النبي صلّى الله عليه وسلم جوز المقاصة في حديث ابن عمر (¬1) في دين سابق لا لاحق. وفي رواية أخرى وهي الصحيحة (¬2): تقع المقاصة لما ذكر في وجه الاستحسان: وهو أن العاقدين لما قصدا إيقاع المقاصة، تضمن ذلك انفساخ العقد الأول، أي إقالته، وإنشاء عقد جديد مضاف إلى دين قائم وقت تحويل العقد، فلما أبطلا عقد الصرف، صار كأنهما عقدا عقداً جديداً، فتصح المقاصة به؛ لأن النقود لا تتعين بالتعيين في العقود والفسوخ ديناً كانت أو عيناً. والخلاصة: إن الحالتين الأولى والثالثة تقع المقاصة فيهما اختيارية، وأما الحالة الثانية فتقع المقاصة فيها جبرية. ¬
المقاصة برأس مال السلم
وأما المقاصة برأس مال السلم بدين آخر على المسلم إليه: كأن وجب على المسلم إليه لرب السلم دين مثل رأس مال السلم، فهل تقع المقاصة بين رأس المال هذا وبين ذلك الدين؟ هنا ثلاث حالات أيضاً: 1ً - أن يجب الدين بعقد متقدم على السلم: بأن كان رب السلم قد باع إلى المسلم إليه (¬1) ثوباً بعشرة دراهم مثلاً، ولم يقبضها، ثم عقدا عقد سلم بينهما، كأن أسلم رب السلم إلى المسلم إليه عشرة دراهم في مد حنطة، فإن تراضيا على المقاصة بالدينين (الدين السابق وهو ثمن المبيع، والدين اللاحق وهو رأس مال السلم) صحت المقاصة استحساناً، وإن أبى أحدهما لم تقع المقاصة. والقياس يقضي بعدم وقوع المقاصة وهو قول زفر. وجه القياس: أن قبض رأس مال السلم شرط شرعي لصحة السلم كما هو معروف، ولكن بالمقاصة لم يحصل القبض فعلاً، فيبطل السلم إذا افترق العاقدان بدون تحقيق شرط القبض. ووجه الاستحسان: أن القبض وإن كان مطلوباً في عقد السلم، إلا أنه إذا تمت المقاصة تبين أن عقد السلم لا يتطلب تحقيق قبض رأس المال فعلاً، وإنما يكفي أن يتم القبض بطريق المقاصة، كما لو اتفق البائع والمشتري على الزيادة في الثمن والمثمن، فإن ذلك يلتحق بأصل العقد، ويقع البيع فعلاً على الزيادة. 2ً - أن يجب الدين بقبض مضمون متأخر عن عقد السلم كالغصب والقرض، فإنه تقع المقاصة جبراً عن رب السلم والمسلم إليه، كما في الصرف؛ لأن قبض الغصب والقرض قبض حقيقة، فيجعل نائباً عن قبض رأس مال السلم إذا تساوى الدينان. ¬
3ً - أن يجب الدين بعقد متأخر عن السلم، كأن يحدث شراء شيء من المسلم إليه لرب السلم، فلا تصح المقاصة وإن اتفقا عليها إلا في رواية شاذة عن أبي يوسف؛ لأن المقاصة تتطلب وجود دينين، ولم يكن عند انعقاد السلم إلا دين واحد، فتبين أن عقد السلم يتطلب قبضاً في الحقيقة، وما يتم بالمقاصة ليس كذلك. هذا هو المذكور في البدائع (¬1)، فإن صاحبها الكاساني سوى بين رأس مال السلم وبدل الصرف في المقاصة. لكن المعول عليه ما في كتاب الجامع الصغير للإمام محمد وغيره من كتب الحنفية (¬2)، فإنهم فرقوا بين بدل الصرف ورأس مال السلم، فلم يجيزوا المقاصة برأس مال السلم مع دين آخر مطلقاً، سواء وجب الدين بعقد متقدم أو متأخر عن عقد السلم؛ لأن المسلم فيه دين في ذمة المسلم إليه، فلو صحت المقاصة بين رأس مال السلم، ودين على المسلم إليه بحيث يصبح هذا الدين ر أس مال السلم، وقع العاقدان في محظور شرعي وهو مبادلة الدين بالدين، أو الافتراق عن دين بدين لأن رأس المال لا يتعين بالمقاصة. وهذا بخلاف المقاصة ببدل الصرف مع دين متقدم أو متأخر عنه ثابت بعقد بيع مثلاً؛ لأن المبيع الذي يقابل الدين (أي الثمن) مثلاً هو عين لا دين أي غير مشترط قبضه في مجلس العقد، فتؤدي المقاصة ببدل الصرف مع مقابل هذا المبيع إلى مبادلة عين بدين أو الافتراق عن عين بدين، وهو جائز كما هو معلوم شرعاً، ¬
الصرف والتحويل القائم على القرض
بخلاف ما تؤدي إليه المقاصة برأس مال السلم من مبادلة دين بدين وهو ممنوع شرعاً. الصرف والتحويل القائم على القرض: هناك حاجة ملحة لتحويل النقود من بلد إلى آخر بعد إجراء عقد صرف بين شخص وصرَّاف، كالحوالات التي يجريها العاملون في الخليج إلى حساباتهم الجارية في مصرف (بنك) في بلدانهم، أو إلى ذويهم أو أقاربهم. وكالحوالات التي يقوم بها أولياء الطلاب إلى أولادهم في البلدان الأجنبية، ونحو ذلك مما تجريه البنوك أو الصيارفة من الحوالات الداخلية والخارجية. والحوالات الخارجية يتم فيها عادة مبادلة نقد بنقد آخر يتم قبضه في البلد التي يحول إلىها المبلغ. ف هل هذا عمل مشروع أو لا؟ يلاحظ أن بيع النقود الورقية يأخذ حكم النقدين ـ الذهب والفضة، كما قررت المجامع الفقهية المعاصرة وهيئات كبار العلماء، طبقاً لأحكام الشريعة. ويحرم تحويل عملة إلى عملة أخرى بالمؤجل دون تقابض في مجلس العقد، سواء أكانت هناك زيادة أم لا، لأن ذلك ربا نسيئة، فلا يحل بيع النقود مع التأجيل، بسعر مماثل أو بسعر أكثر. وبناء على هذا يجب أن يتم عقد الصرف منجزاً مع البنك أو الصراف دون تأجيل الدفع، وهذا يحدث فعلاً؛ لأن الصراف مستعد لتسليم العوض في مجلس العقد، ولكن لا يتم القبض الفعلي لعوض أو بدل الصرف، ويقوم مقامه قبض حكمي، لا ينقصه سوى القبض الصوري والإعادة فوراً، ثم يعقبه إبرام عقد آخر منفصل وهو تحويل المبلغ إلى بلد آخر، ويكون ذلك على أساس عقد القرض،
الحوالة البريدية
ويجوز عند الإمام مالك خلافاً لجمهور الفقهاء ـ كما سيأتي في بحث القرض ــ اشتراط الأجل في القرض، أي تعيين مدة سداد بدل القرض. وقد بينت في الحالة الثانية من حالات المقاصة في عقد الصرف: أنه يجوز أن يستقرض بائع الدينار عشرة دراهم من المشتري ويتسلمها بالفعل، فتقع المقاصة بثمن الصرف جبراً على المتصارفين، وإن لم يتراضيا على المقاصة؛ لأنه وجد القبض من المتصارف فعلاً. ويتم التعبير عن هذا القرض بتسليم المقرض وَصْلاً (وثيقة) يثبت حقه في بدل القرض، ويكون المقترض وهو الصراف أو البنك ضامناً لبدل القرض، ولكنه يأخذ أجراً أو عمولة على تسليم المبلغ في بلد آخر مقابل مصاريف الشيك أوأجرة البريد أو البرقية أو التلكس فقط، لتكليف وكيل الصراف بالوفاء أو السداد. وهذان العقدان: الصرف والتحويل القائم على القرض هما الطريقان لتصحيح هذا التعامل، فيما يبدو لي، والله أعلم. وأما الحوالة البريدية في داخل الدولة بدون صرافة فجائزة بلا خلاف: أـ فإن سُلّم المبلغ للموظف أمانة جاز بلا كراهة، ولا يضمنه إلا بالتعدي أو التقصير في الحفظ، لكن إذا خلطت المبالغ والحوالات ببعضها وهو مايتم بالفعل كانت مضمونة على المؤسسة. ب ـ وإن أعطي المبلغ قرضاً دون شرط دفعه إلى فلان، ثم طلب من الموظف ذلك بعد القرض؛ جاز. جـ ـ وإن أعطي المبلغ قرضاَ بشرط دفعه إلى فلان في بلد كذا، فإن لم يقصد المقرض ضمان المقترض خطر الطريق، جازت الحوالة بالاتفاق، وإن قصد بذلك
وفاء القرض بنقد آخر
ضمان خطر الطريق لم يصح العقد عند الجمهور كالسفتجة كما بينت في بحث القرض، وجازت المعاملة عند الحنابلة. وفاء القرض بنقد آخر: صرح الحنابلة (¬1) بأنه يصح تعويض أحد النقدين عن الآخر بسعر يومه، قال في المنتهى: ويصح اقتضاء نقد من آخر، إن أحضر أحدُهما، أو كان أمانة والآخر مستقراً في الذمة، بسعر يومه، ومنع منه ابن عباس وغيره. قال في شرح المنتهى: ولنا حديث ابن عمر قال: «أتيت النبي صلّى الله عليه وسلم فقلت: إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم فآخذ الدنانير، فقال: لابأس أن تأخذ بسعر يومها مالم تفرّقا، وبينكما شيء» وفي لفظ: «أبيع بالدنانير، وآخذ مكانها الورِق ـ أي الفضة ـ وأبيع بالورِق، وآخذ مكانها الدنانير» (¬2). وقال أيضاً: ومن عليه دينار، فقضاه دراهم متفرقة، كلَّ نَقْدةٍ بحسابها منه، صح وإلا فلا. ¬
بيع الجزاف
بيع الجِزاف يحدث التعامل بهذا النوع من البيوع كثيراً في الحياة العملية اليومية، لذا فإني سأذكر معناه ودليل مشروعيته، وحكم أهم حالاته كبيع صبرة الطعام ونحوه، وبيع النقود والحلي والمحلى جزافاً، وشروطه. معنى الجزاف: الجزاف ـ مثلث الجيم والكسر أفصح وأشهر من غيره، فارسي معرب، وهو بيع الشيء بلا كيل ولا وزن ولا عدد، وإنما بالحزر والتخمين بعد المشاهدة أو الرؤية له. والجزف في الأصل: الأخذ بكثرة، مأخوذ من قولهم: جزف له في الكيل: إذا أكثر، ومرجعه إلى المساهلة. وعرف الشوكاني هذا البيع بقوله: هو ما لم يعلم قدره على التفصيل (¬1). دليل مشروعيته: ورد في السنة النبوية ما يدل على مشروعية بيع المجازفة، منها حديثان: 1ً - عن جابر قال: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن بيع الصبرة (¬2) من التمر لا يعلم كيلها بالكيل المسمى من التمر» رواه مسلم والنسائي (¬3). في هذا الحديث دلالة ¬
حكم بيع الجزاف عند الفقهاء
على أنه يجوز بيع التمر مجازفة إذا كان الثمن جنساً آخر غير التمر، فإن كان الثمن تمراً حرم البيع؛ لاشتماله على ربا الفضل؛ لأن بيع الشيء بجنسه وأحدهما مجهول المقدار حرام، ولا شك أن الجهل بأحد العوضين أو بكليهما مظنة للزيادة والنقصان، وما كان مظنة للحرام وجب تجنبه، ومن المعلوم أن التمر من الأصناف الربوية. 2ً - عن ابن عمر قال: «كانوا يتبايعون الطعام جزافاً بأعلى السوق، فنهاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتى ينقلوه» رواه الجماعة إلا الترمذي وابن ماجه (¬1). هذا الحديث يدل على إقرار النبي صلّى الله عليه وسلم فعل الصحابة بالبيع جزافاً، إلا أنه نهاهم عن بيع اشتروه قبل قبضه واستيفائه. حكم بيع الجزاف عند الفقهاء: يتبين حكم الجزاف من الحالتين الآتيتين: بيع الصبرة، وبيع النقود والحلي والمحلى. بيع الصبرة من الطعام ونحوه: اتفق أئمة المذاهب الأربعة على جواز بيع الصبرة جزافاً، مع اختلافهم في تفصيلات سأذكرها، والصبرة: هي الطعام المجموع. سميت بذلك لإفراغ بعضها على بعض. قال ابن قدامة الحنبلي: يجوز بيع الصبرة جزافاً لا نعلم فيه خلافاً إذا جهل البائع والمشتري قدرها (¬2). ومستنده واضح وهو ما ثبت في السنة النبوية مما أشرت إليه في مشروعية هذا البيع. أما تفصيلات المذاهب فهي ما يأتي: ¬
أولا ـ مذهب الحنفية
أولاً ـ مذهب الحنفية: قال فقهاء الحنفية (¬1): إذا باع رجل غيره قفيزاً (¬2) من صبرة طعام معينة بدراهم، أو باع هذا العدل من الثياب بكذا ولا يعرف عددها، أو باع هذه الصبرة بكذا ولا يعلم عدد القفزان، جاز البيع؛ لأن الجهالة فيه يسيرة لا تفضي إلى المنازعة، إلا أن أبا حنيفة قال: من باع صبرة طعام (وهي الحنطة ودقيقها خالصة في العرف الماضي) (¬3) كل قفيز بدرهم مثلاً، وهو البيع بسعر الوحدة جاز البيع في قفيز واحد فقط، وتوقف البيع في الباقي إلى أن تزول الجهالة في مجلس العقد بأحد أمرين: إما بتسمية جملة القفزان، أو بكيلها في المجلس، إذ أن ساعات المجلس بمنزلة ساعة واحدة. فإن علم مقدار الصبرة بعد انتهاء المجلس، تقرر فساد البيع، فلا ينقلب صحيحاً بعدئذ. ومثل الطعام جميع الحبوب كالشعير والذرة ونحوهما. ودليله: أن الثمن والمبيع في هذه الحالة مجهولان، والجهالة تفسد العقد، وبما أنه لا جهالة في القفيز الواحد، فيلزم العقد فيه للتيقن به، وإذا زالت الجهالة في كل المبيع بتعيين عدد القفزان أو بالكيل في مجلس العقد، ثبت الخيار للمشتري، لتفرق الصفقة عليه دون البائع؛ لأن تجزئة المعقود عليه كان بسبب منه، لعدم تحديده سابقاً مقدار الأقفزة، فكان راضياً بالبيع على النحو الذي تم. ¬
وثبوت الخيار للمشتري في هذه الحالة يشبه حالة ما لو اشترى رجل شيئاً لم يره ثم رآه، فتزول الجهالة بالرؤية. وقال الصاحبان: يصح البيع في كل الصبرة؛ لأن المبيع معلوم بالإشارة إليه في الجملة، ومن المقرر أنه لا يشترط لصحة البيع معرفة مقدار المشار إليه. وأما جهالة الثمن فإنها لا تضر إذ أن العلم به ممكن بالعدّ، بأن تكال الصبرة في مجلس العقد. وقول الصاحبين هو المفتى به تيسيراً على الناس، وهو الذي رجحه صاحب الهداية لتأخيره دليلهما عن دليل أبي حنيفة كما هي عادته، وبه قال أئمة المذاهب الآخرين، ولكن صاحب فتح القدير رجح قول الإمام ودليله. هذا حكم بيع صبرة الطعام أي وما يشبه ذلك من المثليات، أما القيميات (¬1) كالحيوان والثوب فحكمها ما يأتي: من باع قطيع عنم كل شاة بدرهم مثلاً، فالبيع فاسد في الجميع عند أبي حنيفة، حتى وإن علم عددها في مجلس العقد على الأصح، للجهالة وقت العقد. ولا يصح حينئذ بيع الشاة الواحدة بما سمي من ثمن لكل واحدة من القطيع؛ لأن بيع شاة من قطيع لا يصح للتفاوت بين أفراد الشياه، بخلاف بيع قفيز من صبرة، فإنه يصح بيع قفيز واحد عنده، كما تقدم،، لعدم التفاوت بين أجزاء الطعام، ومثله كل مكيل من الحبوب، فلا تفضي الجهالة في المثليات إلى المنازعة، ولكنها تؤدي إليها في القيميات التي لا تتماثل آحادها. ¬
البيع بإناء أو بوزن مجهول القدر
وكذلك من باع ثوباً يضره التبعيض مذارعة، كل ذراع بدرهم، ولم يسم جملة الذرعان، وكذلك كل معدود متفاوت كإبل وعبيد ونحوهما: لا يصح البيع في الجميع عند أبي حنيفة، لوجود الجهالة. وقال الصاحبان: يجوز البيع في كل ما ذكر؛ لأن الجهالة يمكن إزالتها ورفعها في النهاية بعد تعداد المبيع (¬1). والخلاصة: أن أبا حنيفة أجاز بيع الصبرة المجهولة في كيل واحد في المثليات، ولم يجزه في القيميات. وخالفه الصاحبان في كل ما ذكر، فأجازا البيع في الكل مثلياً كان المبيع أو قيمياً؛ لأن الجهالة المانعة من صحة العقد عند انعقاده تزول في النهاية. البيع بإناء أو بوزن مجهول القدر: أجاز الحنفية حالة من المجازفة لها صورة الكيل والوزن دون حقيقته على أن يكون البيع غير لازم للمشتري وله خيار كشف الحال: وهي بيع شيء بإناء بعينه لا يعرف مقداره بشرط أن يكون مما لا يحتمل الزيادة والنقصان كأن يكون من خشب أو حديد، أما إذا كان يحتمل وينكبس بالكبس كالزنبيل والقفة فلا يجوز إلا في قِرب الماء استحساناً للتعامل فيه، فيصح عند أبي يوسف بيع ملء قربة بعينها بحسب عرف البلدان. كما أنهم أجازوا بيع شيء بوزن حجر بعينه لا يعرف مقداره بشرط ألا يتفتت الحجر، وأما إذا باعه بوزن شيء يخف إذا جف كالخيار والبطيخ، فلا يجوز البيع حينئذ (¬2). ¬
حالة النقص والزيادة في الصبرة التي حدد مقدارها
حالة النقص والزيادة في الصبرة التي حدد مقدارها: من اشترى صبرة طعام على أنها مئة قفيز بمئة درهم مثلاً، فوجدها المشتري أقل مما حدد له، كان المشتري بالخيار: إن شاء أخذ الموجود بحصته من الثمن لأنه يمكن قسمة الثمن على أجزاء المبيع المثلي. وإن شاء فسخ البيع لتفرق الصفقة الواحدة عليه قبل تمام العقد فلم يتم رضاه بالموجود. وسبب تفرق الصفقة عليه: هو أن العقد ورد على جملة معلومة، فإذا نقصت يلزم تفرق الصفقة لا محالة. ومثله في الحكم: كل مكيل أو موزون ليس في تبعيضه ضرر. وإن وجد المشتري أن الصبرة أكثر من القدر المتفق عليه، فالزيادة للبائع؛ لأن البيع وقع على مقدار معين، فما زاد عليه، لم يدخل في العقد، فيكون للبائع. ومن اشترى ثوباً على أنه عشرة أذرع بعشرة دراهم مثلاً، أو أرضاً على أنها مئة ذراع بمئة درهم مثلاً ولم يسم لكل ذراع ثمناً (¬1) ثم وجده أقل مما حدد له: فللمشتري الخيار: إن شاء أخذ المبيع بكل الثمن المحدد، وإن شاء ترك البيع، لتفرق الصفقة عليه. والفرق بين صورة الطعام، وصورة الثوب والأرض: هو أن القدر في الطعام جزء أساسي من المبيع وليس بوصف، فإن كل جزء من مقدار الطعام يقابله جزء من الثمن. أما الذرع في الثوب والأرض فإنه وصف لأنه عبارة عن الطول، والوصف غير المقصود بالتناول لا يقابله شيء من الثمن، إلا أن المشتري يخير لفوات وصف مرغوب فيه مشروط في العقد. فإن وجد المشتري زيادة في أذرع الثوب أو الأرض، فالزائد له، ولا خيار للبائع؛ لأن الذرع وصف غير مقصود في هذه الحالة في الثوب أو الأرض كما ¬
ثانيا ـ مذهب المالكية
أبنت، لأنه تابع محض، والتوابع لا يقابلها شيء من الثمن، فكان ذلك بمنزلة ما إذا باع رجل غيره شيئاً معيباً فإذا هو سليم. هذا .. حيث لم يكن الذرع مقصوداً، فإن كان مقصوداً بأن قال: (بعتك الأرض [المذكورة] على أنها مئة ذراع بمئة درهم مثلاً، كل ذراع بدرهم) فوجدها ناقصة، فالمشتري بالخيار: إن شاء أخذها بحصتها من الثمن، لأن الوصف وإن كان تابعاً، لكنه صار أصلاً بانفراده بذكر الثمن، وإن شاء تركها لتفرق الصفقة. فإن وجدها زائدة، فالمشتري بالخيار: إن شاء أخذ الجميع كل ذراع بدرهم، وإن شاء فسخ البيع لدفع ضرر التزام أخذ الزائد (¬1). ثانياً ـ مذهب المالكية: يجوز عند الإمام مالك أن تباع الصبرة المجهولة على الكيل أي كل كيل منها بكذا، فما بلغته الصبرة من الأكيال بعد الكيل تحسب قيمته الإجمالية بحسب قيمة كل كيلة منها. ولا مانع في هذا البيع عند المالكية من أن يكون المبيع مثلياً أو قيمياً أو عددياً، فهو يجوز في الطعام والثياب والعبيد والحيوان (¬2) بخلاف ما سبق ذكره عن أبي حنيفة، فإنه لا يجيزه في القيميات. وسيأتي مزيد بيان لذاك عند المالكية في شروط بيع الجزاف. ثالثاً ـ مذهب الشافعية: قال الشافعية: يصح بيع صاع من صبرة (¬3) تعلم صيعانها للمتعاقدين كعشرة مثلاً لعدم الغرر، كما أنه يصح البيع في الأصح إن جهلت صيعانها للمتعاقدين أو لأحدهما، لتساوي أجزائها، وتغتفر جهالة المبيع ¬
هنا، فإنه ينزل على صاع مبهم. ولا يصح بيع ذراع من مجهول الذرعان من أرض أو ثوب لتفاوت الأجزاء كبيع شاة من هذه الشياه. ويصح أيضاً بيع الصبرة المجهولة الصيعان بأن يقول: كل صاع بدرهم أو أن يقول: بعتك هذه الصبرة، وإن لم يعرف قفزانها، أو يقول: بعتك هذه الدار أو هذا الثوب وإن لم يعرف ذرعانها؛ لأن المبيع مشاهد، فيزول غرر الجهالة بالمشاهدة ولايضر الجهل بجملة الثمن، لأنه معلوم بالتفصيل، والغرر مرتفع به، كما إذا باع بثمن معين جزافاً. ومثل الصبرة ما لو قال: بعتك هذه الأرض أو هذا الثوب كل ذراع بدرهم، أو هذه الأغنام أو العبيد كل واحد بدرهم. ومن قال لغيره: (بعتك هذه الصبرة) جاز البيع، وإن لم يعرف قفزانها. وإن قال: (بعتك هذه الدار أو هذه الأرض أو هذا الثوب) جاز البيع، وإن لم يعرف ذرعانها؛ لأن غرر الجهالة ينتفي عنها بالمشاهدة. قال الشافعي: وأكره بيع الصبرة جزافاً لأنه يجهل قدرها على الحقية. ولو باع الصبرة أو الأرض أو الثوب بمئة درهم كل صاع أو ذراع بدرهم، صح البيع إن خرجت مئة لتوافق الجملة والتفصيل، وإن لم تخرج مئة بأن خرجت أقل أو أكثر، فلا يصح البيع على الصحيح لتعذر الجمع بين جملة الثمن وتفصيله. ويصح كون الصبرة ثمناً، فلو قال: بعتك بهذه الصبرة وهي مجهولة القدر، صح البيع اعتماداً على المشاهدة مع الكراهة، لأنه قد يوقع في الندم (¬1). والخلاصة: إن الشافعية كالمالكية يجيزون بيع الصبرة في المثليات والقيميات، ويخالفون الحنفية في حالة تحديد قدر الصبرة إجمالاً، فيبطلون البيع ¬
رابعا ـ مذهب الحنابلة
إن لم يتطابق جملة المبيع مع تفصيله بأن نقص أو زاد، أما الحنفية فإنهم يرون البيع صحيحاً ولكن يعطى المشتري الخيار كما أوضحت. وفي الجملة: يكره بيع الصبرة جزافاً في أصح القولين عند الشافعي، وبه قطع النووي وآخرون لما فيه من الغرر (¬1). رابعاً ـ مذهب الحنابلة: أجاز الحنابلة بيع الصبرة جزافاً مع جهل البائع والمشتري بقدرها، سواء أكان المبيع طعاماً أم ثياباً أم حيواناً. ويصح عندهم بيع الصبرة أو الثوب أو القطيع كل قفيز أو ذراع أو شاة بدرهم؛ لأن المبيع معلوم بالمشاهدة، والثمن معلوم لإشارته إلى ما يعرف مبلغه بجهة لا تتعلق بالمتعاقدين: وهو أن تكال الصبرة ويقسط الثمن على قدر القفزان ونحوها، فيعلم مبلغه. ويصح بيع ما بوعاء مع وعائه أو دونه، أو كل رطل بكذا على أن يسقط منه وزن الوعاء (¬2). نخلص مما ذكرفي بيع الصبرة جزافاً أن الفقهاء صححوا العقد فيما إذا قال البائع: (بعتك هذه الصبرة كل قفيز منها بدرهم) وإن لم يعلما مقدارها حال العقد. ومثل الصبرة كل مكيل أو موزون أو معدود مثلياً أو قيمياً. وبهذا قال مالك والشافعي وأحمد وأبو يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة: يصح البيع في قفيز واحد فقط، ويبطل فيما سواه؛ لأن جملة الثمن مجهولة، فلم يصح كبيع الشيء برقمه. ولا يصح عنده بيع الجزاف في القيميات. بيع النقود والحلي والمحلى جزافا ً: يصح بيع الجزاف إذا كان البدلان من جنسين مختلفين، فإن اتحد جنس ¬
ما يجوز البيع فيه متفاضلا، يجوز فيه البيع مجازفة، وما لا يجوز فيه البيع متفاضلا، لا يجوز فيه البيع مجازفة
البدلين لم يجز البيع جزافاً لاشتمال العقد على الربا؛ لأن عدم التقدير بالكيل أو بالوزن مظنة للزيادة والنقصان، وما كان مظنة للحرام وجب تجنبه، وذلك بكيل المكيل ووزن الموزون في كلا البدلين. وهذا يعني أن البيع مجازفة مقيد بغير الأموال الربوية إذا بيعت بجنسها، فأما الأموال الربوية إذا بيعت بجنسها فلا يجوز مجازفة لاحتمال الربا وهو مانع من صحة العقد كحقيقة الربا (¬1).ومن هنا قال الحنفية: الأصل العام في بيع النقود ونحوها جزافاً: أن ما يجوز البيع فيه متفاضلاً، يجوز فيه البيع مجازفة، وما لا يجوز فيه البيع متفاضلاً، لا يجوز فيه البيع مجازفة (¬2). ويظهر أن هذا الأصل متفق عليه بين المذاهب الأربعة بحسب ما يجوز فيه التفاضل وما لايجوز، على وفق ما هو مقرر من علة معينة للربا في كل مذهب، فلا يجوز مثلاً عند الشافعية بيع الطعام بجنسه أو النقد بجنسه جزافاً تخميناً وإن خرجا سواء؛ للنهي عن بيع الصبرة من التمر لا يعلم مكيلها بالكيل المسمى من التمر (¬3). وعلى هذا: 1ً - إذا بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة مجازفة: لا يجوز البيع، لعدم جواز التفاضل بين هذين المعدنين باعتبارهما من الأموال الربوية، فلا تجوز المجازفة، لاحتمال وجود زيادة في أحد العوضين لا يقابلها مثلها في العوض الآخر، وذلك سواء جهل المتعاقدان أو أحدهما وزن كل عوض منهما، أو عرفا وزن أحدهما دون الآخر. ¬
فإن وزن العوضان في مجلس العقد، فكانا متساويين في الوزن، جاز البيع استحساناً؛ لأن لمجلس العقد حكم حالة انعقاد العقد، فكان العلم بالتساوي بين البدلين حينئذ كالعلم به عند العقد. أما إذا تفرق العاقدان عن المجلس قبل الوزن، ثم حصل الوزن، فكان العوضان متساويين وزناً، فالبيع فاسد. وقال زفر: البيع صحيح في الحالين إذا كانت هناك مساواة في الوزن؛ لأن المانع من صحة العقد هو احتمال وجود الزيادة، وقد تبين أنه لا زيادة. 2ً - إذا بيع الشيء بغير جنسه كبيع ذهب بفضة مجازفة: صح البيع؛ لأنه جاز التفاضل فيهما، ولكن يجب التقابض في العوضين في مجلس العقد كما يجب حالة اتحاد الجنس. ويتفرع عن هذه القاعدة في حالتي بيع الشيء بجنسه أو بغير جنسه ما يأتي: ـ إذا تمت القسمة بين الشريكين فيما يجري فيه الربا: لا تجوز مجازفة في الجنس الواحد، وتجوز في مختلفي الجنس؛ لأن القسمة في معنى البيع أو المبادلة؛ لأن ما يأخذه كل شريك يأخذه عوضاً عما يبقى من حقه في نصيب صاحبه، فكان ذلك مبادلة من وجه، وإفرازاً من وجه. ـ لو بيع سيف بسيف، أو إناء نحاس بإناء آخر من جنسه مجازفة؛ صح البيع إذا كان ذلك مما يباع عدداً؛ لأن العدّ في العدديات ليس من أوصاف علة الربا (التي هي الكيل أو الوزن) فجاز فيهما التفاضل ولا يتحقق الربا عندئذ. وإن كان ذلك مما يباع وزناً: فلا يجوز، لأنه بيع مال ربوي بجنسه مجازفة (¬1). ¬
ـ إذا بيعت الفضة مغشوشة بمعدن آخر، أو بيع الذهب مغشوشاً، فالعبرة للغالب في الشرع، فغالب الفضة فضة، وغالب الذهب ذهب. فإن بيعت فضة مغشوشة يغلب فيها الفضة، فحكمها حكم الفضة الخالصة: لا يجوز بيعها بالفضة الخالصة إلا سواء بسواء، يداً بيد، أي يصح بيع المغشوشة بما يساويها وزناً من الفضة الخالصة؛ لأن كلاً منهما لا يخلوان عن قليل غش، إذ هما لا يطبعان عادة بدونه، وقد يكون الغش فيهما طبيعياً فيعسر التمييز بين المخلوط والطبيعي، فيلحق القليل من الغش بالرداءة، والجيد والرديء سواء في مبادلة الأموال الربوية، فيعتبر الغش فيهما كأن لم يكن. فإن كان الغش هو الغالب: فحكمها حكم النحاس الخالص، فلا يباع المغشوش بالنحاس إلا مثلاً بمثل، يداً بيد. وإن استوت الفضة والغش، أو الذهب والغش: فحكمه حكم ما غلب فيه الفضة أوالذهب في التبايع والاستقراض، فلا يجوز البيع بها ولا إقراضها إلا بالوزن، ولا يجوز بيعها مجازفة وعدداً. وأما في الصرف فالحكم فيه كغالب الغش أي كحكم فضة غلب عليها الغش، فإن بيعت بفضة خالصة يجزأ المبيع في اعتبارنا وتقديرنا: إن كانت الفضة الخالصة أكثر وزناً من الفضة المغشوشة، جاز البيع، حتى يكون قدر الفضة في كلا العوضين مقابلاً بمثله، وأما الزائد عن ذلك القدر في الفضة الخالصة فهي مقابل الغش كما لو كانت الفضة الخالصة ثمناً لمبيع مشتمل على فضة وقطعة نحاس مثلاً. وإن كانت الفضة الخالصة أقل من الفضة الموجودة في المغشوش أو مثلها، أو جهل الأمر: فلا يجوز البيع لما فيه من الربا في أحد العوضين (¬1). ¬
ـ إذا بيع سيف محلىً أي مفضض أو مذهب، والثمن ذهب أو فضة (¬1): فإن تماثل جنس الحلية والثمن، وكان مقدار الثمن أكثر من الحلية، جاز البيع، وتكون الحلية مبيعة بمثل وزنها، والزائد من الثمن في مقابل الجفن والحمائل (¬2) التي تتبع السيف عادة في البيع؛ لأن الأصل المقرر عند الحنفية في تقسيم الثمن على المبيع: أنه إذا كان المبيع أشياء بعضها من جنس الثمن، وبعضها ليس من جنسه، صرف الثمن إلى جنسه بمثل وزنه على وجه يصحح فيه العقد ما أمكن؛ لأن أمور المسلمين محمولة على الصحة والسداد ما أمكن. وتصحيح العقد هنا يتم بصرف بعض الثمن إلى جنسه بمثل وزنه، والبعض الآخر يصرف إلى الجنس الآخر في اعتبارنا وتقديرنا. فإن كان الثمن مثل الحلية أو أقل، فلا يجوز البيع، لاشتماله على ربا الفضل، إذ أن الجفن والحمائل تصبح مبيعة بدون عوض عنها وهذا هو معنى الربا. وإن جهل مقدار الثمن أو اختلف التجار في تقديره: فإن تبين أن الثمن أكثر من الحلية، والحلية أقل وزناً من الثمن في مجلس العقد، يكون البيع جائزاً عند الحنفية. وإن علم ذلك بعد الافتراق عن المجلس: لا يجوز البيع عند جمهور الحنفية. وقال زفر: ينقلب العقد صحيحاً كما في بيع الجزاف، كما مر سابقاً. وعلى هذا فإن القاعدة: «متى بيع نقد مع غيره كمفضض ومزركش (¬3) بنقد ¬
من جنسه، شرط زيادة الثمن ليكون قدر الحلية من الثمن ثمناً لها والزائد ثمناً للسيف، إذ لو لم تتحقق الزيادة بطل البيع، فلو كان الثمن مثل الحلية أو أقل أو جهل بطل البيع، ولو كان الثمن بغير جنس الحلية، شرط التقابض فقط وجاز التفاضل» كما سيأتي (¬1). ومن المعلوم أن صحة البيع فيما إذا كان الثمن أكثر من الحلية تتطلب قبض مايقابل الحلية من الثمن في مجلس العقد، فإن تفرق العاقدان قبل أن يتقابضا، أو يقبض أحدهما حقه دون الآخر، فإنه ينظر: أـ إن كانت الحلية مما لا يمكن تخليصها عن السيف إلا بإلحاق ضرر به: فسد البيع كله. ب ـ وإن كانت تتخلص بغير ضرر: جاز البيع في السيف، وفسد في الحلية؛ لأن العقد بقدر الحلية يكون صرفاً، وبالنسبة للسيف يكون بيعاً مطلقاً، والتقابض شرط لصحة الصرف فقط. فإذا كانت الحلية تتخلص من غير ضرر، فكأنها والسيف شيئان منفصلان، فيجوز العقد في أحدهما دون الآخر. وإن كانت الحلية لا تتخلص إلا بضرر: فسد العقد كله، أما بالنسبة للحلية فلعدم التقابض، وأما بالنسبة للسيف، فلأنه بيع شيء لا يمكن تسليمه إلا بضرر يلحق البائع، ومثل هذا البيع فاسد كبيع جذع في سقف، فلو فصلت الحلية عن السيف، وسلم إلى المشتري انقلب العقد صحيحاً. ـ يترتب على الشرطين السابق ذكرهما في عقد الصرف (وهما خلو العقد عن ¬
خيار الشرط، وعن تأجيل قبض أحد العوضين) أنه لو بيع السيف المحلى بجنس الحلية، أو بخلاف جنسها من الذهب أو الفضة، وكان الثمن أكثر وزناً من الحلية، واشترط أحد العاقدين خيار شرط، أو شرط المشتري تأجيل الثمن في صلب العقد، ثم تفرق المتعاقدان دون أن يتم قبض أحد العوضين: كان العقد فاسداً على التفصيل الآتي (¬1): أـ إن كانت الحلية مما لا تتميز عن السيف إلا بضرر: فسد البيع في الحلية بسبب الخيار أو الأجل، وفسد في السيف، لأنه لا يجوز إفراده بالعقد، لما فيه من إلحاق الضرر بالبائع، بتسليمه منفصلاً عن الحلية. فإن افترق المتعاقدان بعد التقابض، بأن أبطلا الخيار أو أسقطا الأجل، انقلب العقد جائزاً خلافاً لزفر. ب ـ وإن كانت الحلية تتميز عن السيف من غير ضرر: فسد العقد عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن الصفقة اشتملت على الصحيح والفاسد، والفساد في نفس المعقود عليه، وفي مثل هذا يشيع الفساد في كل المبيع. وقال محمد: يجوز البيع في السيف، ويبطل في الحلية؛ لأن الصفقة اشتملت على الصحيح والفاسد، وللفاسد تأثيره، فيصح العقد في الجزء الصحيح، ويفسد في الفاسد. جـ ـ إذا اشترى رجل من صائغ سواراً من فضة بدراهم فضية، وتماثلا في الوزن، وتقابضا وافترقا، أو تصارف رجلان ذهباً بذهب، أو فضة بفضة مثلاً بمثل، وتم التقابض بينهما، وافترقا، ثم زاد أحدهما صاحبه شيئاً وقبل الآخر: فسد البيع عند أبي حنيفة. ¬
وقال أبو يوسف: الحط والزيادة باطلان لاغيان، والعقد الأول صحيح. وقال محمد: الحط جائز بمنزلة الهبة المستقبلة، والزيادة باطلة. ومنشأ هذا الخلاف هو اختلافهم في تأثير الشرط الفاسد على العقد إذا تأخر ذكره عن العقد (¬1): فعند أبي حنيفة: يلتحق هذا الشرط بالعقد ويفسد العقد، فإذا وجدت الزيادة أو الحط بعد انعقاد العقد، التحقا بأصل العقد، فكأن العقد وجد منذ إنشائه على هذا النحو مشتملاً على الزيادة في أحد العوضين، فيفسد العقد بسبب التفاضل في مال ربوي؛ لأن العوضين من جنس واحد، فيتحقق الربا. وإنما شرط القبول في الحط عند أبي حنيفة، لأنه يترتب عليه فسخ العقد، ولا يحق لأحد المتعاقدين إجراء الفسخ إلا برضا الآخر. وعند أبي يوسف ومحمد: إن الشرط الفاسد لا يلتحق بالعقد إلا أن أبا يوسف التزم هذا الأصل، فأسقط اعتبار الزيادة والحط جميعاً فبقي البيع الأول صحيحاً. وأما محمد فإنه فرق بين الزيادة والحط، فقال: الزيادة باطلة والحط جائز؛ لأن الزيادة لو صحت لالتحقت بأصل العقد، فأفسدته، فبطلت الزيادة. وأما الحط: فلا يشترط لصحته أن يلتحق بالعقد بدليل أن البائع لو حط جميع الثمن صح، ولا يلتحق بأصل العقد، إذ لو التحق لكان البيع واقعاً بلا ثمن، فيجعل حطاً للحال بمنزلة هبة مستأنفة أو مبتدأة بقطع النظر عن البيع الأول. ¬
شروط بيع الجزاف
هذا إذا اتحد جنس البدلين. فإن اختلف جنسهما بأن بيع سوار فضة وزنه مقدار وزن عشرة دراهم بدينار ذهبي، أو تصارف اثنان ديناراً بعشرة دراهم فضية، ثم زاد أحدهما صاحبه درهماً وقبل الآخر، أو حط عنه درهماً من الدينار، صح الحط والزيادة باتفاق الحنفية، ويلتحقان بأصل العقد؛ لأن المانع من تصحيح العقد هو وجود الربا، واختلاف الجنس في العوضين يمنع تحقق الربا، إذ أن مبادلة الأموال الربوية يجوز فيها التفاضل حال اختلاف الجنس، ويمتنع حال اتحاد الجنس. إلا أنه يشترط في الزيادة قبضها في مجلس الزيادة، فلو افترق العاقدان قبل القبض، بطل البيع بقدر الزيادة، لأنها لما التحقت بأصل العقد، صار كأن العقد ورد على الزيادة والأصل جميعاًً، فصارت جزءاً من ثمن الصرف. وأما الحط فلا يشترط قبضه في المجلس، لأنه وإن التحق بأصل العقد فأدى إلى حدوث التفاضل في العوضين، فلا يؤثر على العقد؛ لأن التفاضل في الأموال الربوية جائز عند اختلاف الجنس كما بينت. لكن يجب على العاقد رد ما حط لغيره؛ لأن الحط لما التحق بأصل العقد تبين أن العقد لم يقع على قدر المحطوط من ابتداء العقد، فيجب رده. شروط بيع الجزاف: اشترط فقهاء المالكية لصحة بيع الجزاف شروطاً سبعة (¬1)، سأذكرها بإيجاز مع الإشارة إلى ما قد يوجد من شروط في كتب فقهاء المذاهب الأخرى وهي: ¬
1 - أن يكون المبيع مرئياً بالبصر حال العقد أو قبله، واستمر العاقدان على معرفة المبيع حين التعاقد، فلا يصح بيع غير المرئي جزافاً ولا البيع من الأعمى جزافاً. وتكفي رؤية بعض المبيع المتصل به كمغيب الأصل، وتكفي في الصبرة رؤية ما ظهر منها. ولا تشترط الرؤية إذا ترتب عليها فساد البيع كأواني الخل المختومة التي يفسدها الفتح، ولكن لا بد من بيان صفة ما فيها من الخل. وهذا الشرط متفق عليه أيضاً بين الحنفية والشافعية والحنابلة (¬1)، قال الزيلعي: شرط جواز الجزاف: أن يكون مميزاً مشاراً إليه. وعبارة الشافعية والحنابلة: تكفي المشاهدة في الصبرة ونحوها؛ لأن غرر الجهالة ينتفي عنها بها. 2 - أن يجهل كل من البائع والمشتري قدر المبيع كيلاً أو وزناً أو عدداً، فإن علم قدره أحد العاقدين بإعلام صاحبه بعد انعقاد العقد، كان الآخر بالخيار، وإن استوى الاثنان في العلم بمقداره حين التعاقد فسد العقد، لتعاقدهما على الغرر، وتركهما الكيل أو الوزن، فيرد المبيع إن كان قائماً، وإلا لزم المشتري دفع القيمة (¬2). ووجود هذا الخيار دليل على أن هذا الشرط شرط لزوم وليس شرط صحة. وقد أشار ابن جزي إلى مخالفة الحنفية والشافعية في هذا الشرط، لكن صرح الشافعية بالموافقة عليه (¬3)، ونص الإمام أحمد على أن البائع إذا عرف مقدار شيء لم يبعه صبرة، فإن خالف ذلك وباع مع علمه بمقدار المبيع، فالبيع صحيح لازم لكنه مكروه كراهة تنزيه (¬4). ¬
3 - أن يكون البيع في كل ما كان المقصود منه الكثرة لا الآحاد: فيصح الجزاف في المكيلات والموزونات كالحبوب والحديد، والممسوحات أو المذروعات كالأرضين والثياب، ولا يجوز الجزاف في المعدودات إلا إذا كان في عدّه مشقة؛ لأن العد متيسر لغالب الناس، وهذا هو المراد بالمذكور في الشرط: وهو ألا يكون القصد منه آحاد أو أفراد أعيانه. فإن كان في عده مشقة جاز بيعه جزافاً، وإن كان القصد موجهاً إلى كل فرد من أفراده على حدة لم يجز بيعه جزافاً. وعلى هذا يجوز بيع المعدود جزافاً إذا قل ثمن أفراده كالبيض والتفاح والرمان والبطيخ المتماثل في الحجم نسبياً بأن كان كله كبيراً أو كله صغيراً، لا ماكان بعضه صغيراً وبعضه كبيراً. ولا يجوز بيع المعدود جزافاً إن قصد كل فرد من أفراده بثمن معين كالعبيد والثياب والدواب، وحينئذ لا بد من عده، فإن لم تقصد أفراد هذه الأشياء جاز بيعها جزافاً. ولا يجوز فيما له خطر وهو بيع الدراهم والدنانير والجواهر جزافاً، ويجوز بيع التبر والفضة غير المسكوكين جزافاً. والخلاصة: متى عدَّ المعدود بلا مشقة لم يجز جزافاً سواء قصدت أفراده أم لا، قل ثمنها أم لا، ومتى عدَّ بمشقة فإن لم تقصد أفراده جاز بيعه جزافاً قل ثمنها أم لا، وإذا قصدت جاز جزافاً إن قل ثمنها ومنع إن لم يقل (¬1). وأما الحنفية فقد عرفنا الخلاف المذهبي عندهم، فالإمام أبو حنيفة يحصر جواز بيع الجزاف في المكيل والموزون (أي المثليات) في الكيل الواحد منها، والصاحبان يجيزان بيع المجازفة في المكيلات والموزونات والذرعيات كالثياب ¬
والأراضي والمعدودات المتقاربة كالجوز والبيض، والعدديات المتفاوتة كالحيوانات، والفتوى على رأيهما للتيسير على الناس كما أوضحت (¬1). وفي الجملة: يجيز الشافعية والحنابلة أيضاً بيع المكيلات والموزونات والمذروعات والمعدودات جزافاً (¬2). 4 - أن يحزر المبيع بالفعل من أهل الحزر: فلا يصح بيع الجزاف فيما يعسر حزره كعصافير حية ونحوها مما يتداخل مع بعضه كحمام في برج وصغار دجاج في مدجنة كبرى، إلا إذا أمكن معرفتها بالحزر قبل الشراء في وقت هدوها أو نومها، فيجوز عندئذ شراؤها جزافاً. وكون العاقدين من أهل الحزر بأنفسهما أو بوكيلهما يتحقق بالممارسة والخبرة والاعتياد. ووافق الشافعية على هذا الشرط، فقرروا أنه لا بد من معرفة مقدار الصبرة أو التمكن من تخمينه، فأجازوا في الأصح بيع النحل في الكندوج (¬3) إذا رئي في دخوله وخروجه، ولم يعرف أنه خرج جميعه (¬4). 5 - أن يكون المبيع كثيراً كثرة غير هائلة: فإن كان كثيراً جداً يمنع بيعه جزافاً، سواء أكان مكيلاً أم موزوناً أم معدوداً لتعذر حزره وتخمينه. وإن لم يكثر جداً يجوز بيعه جزافاً مكيلاً كان أو موزوناً أو معدوداً لإمكان حزره. وأما ما قل جداً فيمنع بيعه جزافاً إن كان معدوداً لأنه لا مشقة في علمه بالعدد، ويجوز إن كان ¬
مكيلاً أو موزوناً وجهل العاقدان قدر كيله أو وزنه، ولو كان لا مشقة في كيله أو وزنه. 6 - أن تكون الأرض التي عليها المبيع مستوية علماً أو ظناً: فإن لم تكن مستوية فسد العقد بسبب الغرر الكثير أو الجهالة، أما إن ظن المتعاقدن أنها مستوية ثم تبين في الواقع أن فيها علواً فيمنح المشتري الخيار، وإن كان فيها انخفاض فالخيار للبائع. واتفق الشافعية مع المالكية على هذا الشرط، فقرروا في الأصح عندهم أن البيع فاسد إذا كانت الصبرة على موضع من الأرض فيه ارتفاع وانخفاض، أو كان المبيع سمناً ونحوه في ظرف مختلف الأجزاء رقة وغلظاً (¬1). واشترط الحنابلة أيضاً هذا الشرط، فقرروا كالمالكية أن المشتري بالخيار إذا بان أن الصبرة على ربوة مثلاً، وكذلك البائع بالخيار إذا بان أن تحت الصبرة حفرة لم يكن يعلم بها (¬2). ويظهر لنا أن الحنفية يطالبون أيضاً بتحقق هذا الشرط بدليل أنهم شرطوا في بيع شيء بإناء بعينه لا يعرف مقداره ألا يكون الإناء محتملاً للزيادة والنقصان كأن يكون من خشب أو حديد، أما إذا كان يحتمل أو ينكبس بالكبس كالزنبيل والجوالق والقفة فلا يجوز كما ذكر (¬3). 7 - ألا يشتمل العقد الواحد على جزاف من الحب ومكيل منه، من غير جنسه أو من جنسه، ولا على جزاف من الحب مع مكيل من الأرض، ولا على ¬
جزاف من الأرض مع الأرض المكيلة؛ فلا يصح بيع هذه الصبرة من القمح مع عشرة أمداد من قمح آخر أو شعير، ولا يجوز بيع هذه الصبرة مع عشرة أذرع من الأرض، ولا يجوز بيع هذه الأرض جزافاً مع مئة متر من أرض أخرى، وسبب منع هذه الصور الثلاث: هو تأثر الشيء المعلوم بجهالة المجهول. أما إذا اجتمع في صفقة واحدة شيئان، كل منهما يباع بحسب الأصل الذ ي يباع به، فيجوز، كشراء صبرة حب معلومة القدر، مع أرض مجهولة القدر؛ بألف دينار، لموافقة كل منهما للأصل الذي يباع به، أي لا يمنع اجتماع جزاف أصله أن يباع جزافاً كالأرض، مع ما أصله أن يباع كيلاً، كالحب المكيل، لمجيء كل منهما على أصله (¬1). ¬
الربا
..................... 5 ......................................... ........................................... الربا ......................................... خطة الموضوع: الكلام مقصور على الربا الذي هو أحد أنواع البيوع المنهي عنها قطعاً على ما يأتي: المطلب الأول ـ تعريف الربا وأدلة تحريمه. المطلب الثاني ـ أنواع الربا. المطلب الثالث ـ مذاهب الفقهاء في علة الربا. المطلب الرابع ـ أثر الاختلاف في علة الربا. المطلب الأول ـ تعريف الربا وأدلة تحريمه: الربا في اللغة: الزيادة، قال الله تعالى: {فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت} [الحج:5/ 22] أي زادت ونمت، وقال سبحانه: {أن تكون أمة هي أربى من أمة} [النحل:16/ 92] أي أكثر عدداً، يقال: (أربى فلان على فلان) أي زاد عليه (¬1). ¬
وهو في الشرع: الزيادة في أشياء مخصوصة، وهذا تعريف الحنابلة. وعرفه في الكنز عند الحنفية بأنه: فضل مال بلا عوض في معاوضة مال بمال. ويقصد به فضل مال ولو حكماً، فيشمل التعريف حينئذ ربا النسيئة والبيوع الفاسدة، باعتبار أن الأجل في أحد العوضين فضل حكمي بلا عوض مادي محسوس، والأجل يبذل بسببه عادة عوض زائد (¬1). والربا محرم بالقرآن والسنة والإجماع. أما القرآن: فقوله تعالى: {وأحلّ الله البيع وحرم الربا} (¬2) [البقرة:275/ 2]، {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس} [البقرة:275/ 2]. {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين. فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله، وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظلمون ولا تُظلمون} [البقرة:278/ 2 - 279]. وكان تحريم الربا سنة ثمان أوتسع من الهجرة. وأما السنة: فقوله صلّى الله عليه وسلم: «اجتنبوا السبع الموبقات ـ وذكر منها أكل الربا» (¬3) ¬
وروى ابن مسعود رضي الله عنه قال: «لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه» (¬1) وروى الحاكم عن ابن مسعود أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «الربا ثلاثة وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم» (¬2) وستأتي أحاديث أخرى في بحث علة الربا. وأجمعت الأمة على أن الربا محرّم، قال الماوردي: «حتى قيل: إنه لم يحلَّ في شريعة قط»، لقوله تعالى: {وأخذهم الربا وقد نهوا عنه} [النساء:161/ 4] يعني في الكتب السابقة (¬3). والربا المحرم في الإسلام نوعان: أولهما: ربا النسيئة الذي لم تكن العرب في الجاهلية تعرف سواه، وهو المأخوذ لأجل تأخير قضاء دين مستحق إلى أجل جديد، سواء أكان الدين ثمن مبيع أم قرضاً. وثانيهما: ربا البيوع في أصناف ستة هي الذهب والفضة والحنطة والشعير والملح والتمر وهو المعروف بربا الفضل. وقد حرم سداً للذرائع، أي منعاً من التوصل به إلى ربا النسيئة، بأن يبيع شخص ذهباً مثلاً إلى أجل ثم يؤدي فضة بقدر زائد مشتمل على الربا. ¬
ربا الفضل
والنوع الأول هو المحرم بنص القرآن وهو ربا الجاهلية، وأما الثاني فقد ثبت تحريمه في السنة بالقياس عليه لاشتماله على زيادة بغير عوض، وأضافت السنة تحريم نوع ثالث وهو بيع النَّساء إذا اختلفت الأصناف، فاعتبرته ربا؛ لأن النَّساء في أحد العوضين يقتضي الزيادة. ويساويه في المعنى القرض الذي يجر نفعاً؛ لأنه مبادلة الشيء نفسه (¬1). وحكم عقد الربا سواء ربا الفضل وربا النسيئة: حرام باطل عند الجمهور، فلا يترتب عليه أي أثر، فاسد عند الحنفية. المطلب الثاني ـ أنواع الربا: ربا البيع عند جمهور الفقهاء نوعان: ربا الفضل وربا النسيئة (¬2). وقد عرف فقهاء الحنفية ربا الفضل (¬3) الذي هو بيع: بأنه زيادة عين مال في عقد بيع على المعيار الشرعي (وهو الكيل أو الوزن) (¬4) عند اتحاد الجنس. ولم نقل: (شرطت في عقد بيع) كما ذكر الكاساني؛ لأن ترك ذلك أولى فإن الربا يتحقق بالزيادة المشروطة وغير المشروطة في البيع أو في القرض، والقصد من قوله (عين مال) هو ¬
أنه ينظر في تحقيق الفضل أو الزيادة إلى المقدار والكمية لا إلى القيمة، واحترز بقيد (المعيار الشرعي) عن المذروع والمعدود، فإنه لا يتحقق فيهما ربا. كما لا ربا في الأموال القيمية مثل أنواع الحيوان والبسط والطنافس والأثاث والأراضي والشجر والدور، فلا تحرم فيها الزيادة، فيجوز فيها أخذ كثير مقابل قليل من جنسه؛ لأن القيميات ليست من المقدرات أي مما لا تخضع في مبادلتها لمقدار كيلي أو وزني موحد. وإنما يختص الربا في كل مكيل أو موزون، فلو باع خمسة أذرع من قماش معين بستة أذرع منه، أو بيضة ببيضتين أو شاة بشاتين، جاز بشرط التقابض في المجلس، فإذا كان أحدهما نسيئة لم يجز البيع؛ لأن وجود الجنس فقط كاف لتحريم ربا النَّساء، أي تأجيل أحد البدلين. ويمكن تعريف ربا الفضل بعبارة أخرى: هو بيع ربوي بمثله مع زيادة في أحد المثلين. والخلاصة: أن تبادل الأموال الربوية يجب فيه التساوي في الكميات المبادلة في الجنس الواحد. والتساوي عند أبي يوسف يعتبر شرعاً بالمقياس العرفي في كل صنف على حدة، فما كان وزنياً عرفاً كالزيت والسمن يجب تساوي الكميتين فيه بالوزن، وما كان كيلياً عرفاً يجب التساوي فيه بالكيل. وتحريم الربا في النقدين (الذهب والفضة أو ما يحلّ محلهما من النقود الورقية الرائجة) لا فرق فيه بين المسكوك المصنوع أو التبر غير المصنوع. لذا قال الفقهاء عن الدراهم: تبرها وعينها سواء. إلا أن ابن القيم أجاز بيع المصوغات الذهبية والفضية المباحة الاستعمال كالخاتم والحلية للنِّساء بأكثر من وزنها ذهباً أو فضة، رعاية للصنعة ولحاجة الناس إلى ذلك (¬1). ¬
ربا النسيئة
وأما ربا النسيئة (¬1) الذي هو بيع، فقد عرفه الحنفية بأنه: فضل الحلول على الأجل، وفضل العين على الدين في المكيلين أو الموزونين عند اختلاف الجنس (¬2)، أو في غير المكيلين أو الموزونين عند اتحاد الجنس (¬3)، أي أن يباع الجنس الواحد ببعضه، أو بجنس آخر مع زيادة في الكيل أو الوزن في نظير تأخير القبض، كبيع صاع من الحنطة بصاع ونصف يدفع له بعد شهرين، وكبيع صاع من القمح بصاعين من الشعير يدفعان له بعد ثلاثة أشهر، أو بدون زيادة كبيع رطل من التمر ناجز تسليمه برطل آخر من التمر مؤجل التسليم، وهذه أمثلة المكيل أو الموزون عند اختلاف الجنس أو اتحاده. وأما مثال غير المكيل أو الموزون عند اتحاد الجنس فهو بيع تفاحة بتفاحتين أو سفرجلة بسفرجلتين لشهر مثلاً (¬4). ففي كل هذه الأمثلة يوجد ربا النسيئة لاشتماله على زيادة في أحد العوضين بدون مقابل، وأما سبب التحريم عند التساوي قدراً فهو بسبب الزيادة في القيمة، إذ لا يقبل أحد العاقدين عادة ¬
ربا البيع عند الشافعية ثلاثة أنواع
تأجيل تسليم أحد العوضين إلا عند وجود الزيادة به في القيمة (¬1). والمعجل عادة أكثر من المؤجل، كما أن العين أفضل من الدين، إذ قد لا يقوم المدين بالتسليم، وقد يكون مخالفاً للمتفق عليه. وذهب ابن عباس وأسامة بن زيد بن أرقم والزبير وابن جبير وغيرهم إلى أن الربا المحرم فقط: هو ربا النسيئة لقوله عليه الصلاة والسلام فيما يرويه الشيخان من حديث أسامة: «لا ربا إلا في النسيئة» وهؤلاء يرد عليهم بالأحاديث التي ثبت بها تحريم ربا الفضل، لذا نقل جابر بن زيد أن ابن عباس رجع عن قوله، ثم جاء إجماع التابعين على تحريم الربا بنوعيه، فرفع الخلاف. وأما تأويل الحديث السابق فهو أن النبي صلّى الله عليه وسلم سئل عن مبادلة الحنطة بالشعير والذهب بالفضة إلى أجل، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم «لا ربا إلا في النسيئة» فهذا بناء على ما تقدم من السؤال، فكأن الراوي سمع قول رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولم يسمع ما تقدم من السؤال أو لم يشتغل بنقله (¬2) أو أن القصد من قوله «لا ربا» الربا الأكمل الأعظم خطورة، الأكثر وقوعاً، الأشد عقوبة، كما تقول العرب: «لا عالم في البلد إلا فلان» مع أن فيها علماء غيره، وإنما القصد نفي الأكمل علماً، لا نفي أصل العلم. وربا البيع عند الشافعية ثلاثة أنواع: 1 - ربا الفضل: وهو البيع مع زيادة أحد العوضين عن الآخر أي أن الزيادة مجردة عن التأخير. وهو لا يكون إلا في بدلين متحدي الجنس مثل كيلة قمح بكيلة ونصف مثلاً من القمح، وغرام ذهب بغرام ونصف، وهذا باتفاق العلماء، بدليل ¬
2 - وربا اليد
حديث أبي سعيد الخدري عند الشيخين: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، ولاتُشِفّوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الوَرِق بالوَرِق إلا مثلاً بمثل، ولا تشفُّوا بعضها على بعض». والورق: الفضة، ولا تشفوا: لا تفضلوا. 2 - وربا اليد: وهو البيع مع تأخير قبض العوضين أو قبض أحدهما من غير ذكر أجل، أي أن يتم بيع مختلفي الجنس كالقمح بالشعير من غير تقابض في مجلس العقد. وهذا النوع داخل في تعريف ربا النسيئة عند الحنفية في قولهم: «فضل العين على الدين» وهو مفرع على شرط التقابض في المالين الربويين، ففيه يحدث التأخير في قبض البدلين أو أحدهما عن مجلس العقد بالفعل لا بالشرط. ودليله حديث عمر عند البخاري ومسلم: «الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء» أي خذ وأعط. 3 - وربا النسيئة: وهو البيع لأجل أي البيع نسيئة إلى أجل ثم الزيادة عند حلول الأجل، وعدم قضاء الثمن في مقابلة الأجل، أي أن الزيادة في أحد البدلين من غير عوض في مقابلة تأخير الدفع، سواء من جنس واحد أم جنسين مختلفين، وسواء أكانا متساويين أم متفاضلين، ودليل تحريمه حديث عبادة عند مسلم: «فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد» أي مقابضة، وحديث أبي سعيد الخدري عند الشيخين: «ولا تبيعوا منها غائباً بناجز» أي مؤجلاً بحاضر، ورواية مسلم: «مثلاً بمثل يداً بيد». وكل من ربا اليد وربا النسيئة لا يكون عند الشافعية إلا في بدلين مختلفي الجنس. والفرق بينهما أن ربا اليد في حالة تأخير القبض. وربا النسيئة في حالة تأخير الاستحقاق بذكر الأجل في العقد ولو قصيراً، يعني أن الشافعية قصروا ربا النسيئة على حالة البيع الذي يصاحبه أجل. وأما ربا اليد فهو في حالة البيع الحال
ذرائع الربا وشبهاته
المنجز مع تأخير القبض. وزاد المتولي من الشافعية: ربا القرض المشروط فيه جر نفع، قال الزركشي: ويمكن رده لربا الفضل (¬1). والخلاصة: أن ربا النسيئة هو تأخير الدين في مقابل الزيادة على مقداره الأصلي (وهذا هو ربا الجاهلية)، أو تأخير قبض أحد البدلين في بيع المال الربوي بجنسه. وأما ربا الفضل: فهو زيادة أحد البدلين على الآخر في مبادلة المال الربوي بجنسه مناجزة (¬2). فإن قال تاجر عن سلعة: ثمنها حالاً خمس ليرات مثلاً، ومؤجلاً إلى شهر (كذا) بستة، فهذا البيع المؤجل جائز، إذ ليس فيه شيء من الربا، لاختلاف الجنس في البدلين، وبعض العلماء من الزيدية يحرمه لوجود الربا فيه. ذرائع الربا وشبهاته: قال ابن كثير: وإنما حرمت المخابرة: وهي المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض، والمزابنة: وهي اشتراء الرطب في رؤوس النخل بالتمر على وجه الأرض، والمحاقلة: وهي اشتراء الحب في سنبله في الحقل بالحب على وجه الأرض، إنما حرمت هذه الأشياء وما شاكلها حسماً لمادة الربا، لأنه لا يعلم التساوي بين الشيئين قبل الجفاف، ولهذا قال الفقهاء: الجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة. ومن هذا حرموا أشياء بما فهموا من تضييق المسالك المفضية إلى الربا، والوسائل الموصلة إليه .. إلخ (¬3). المطلب الثالث ـ مذاهب الفقهاء في علة الربا: اتفق الفقهاء على تحريم ربا الفضل في سبعة أصناف منصوص عليها: ¬
1 - مذهب الحنفية
الذهب، والفضة، والبر، والشعير، والتمر، والزبيب، والملح. فيحرم التفاضل فيها مع اتحاد الجنس، واختلفوا فيما عداها: طائفة: قصرت التحريم عليها، وهم الظاهرية. وطائفة: حرمته في كل مكيل أو موزون بجنسه، وهذا مذهب أحمد في ظاهر مذهبه، وأبي حنيفة. وطائفة: خصته بالنقدين أو بالطعام وإن لم يكن مكيلاً ولا موزوناً، وهو قول الشافعي، ورواية عن الإمام أحمد. والطعام عندهم: كل ما يؤخذ اقتياتاً أو تفكهاً أو تداوياً. وطائفة: خصته بالطعام إذا كان مكيلاً أو موزوناً، وهو قول سعيد بن المسيب، ورواية عن أحمد وقول للشافعي. وطائفة: خصته بالقوت، وما يصلحه: وهو قول مالك، واعتبره ابن القيم أرجح الأقوال (¬1). وأبين أهم هذه الآراء: 1 - مذهب الحنفية: قال الحنفية: علة ربا الفضل أو الضابط الذي تعرف به الأموال الربوية: هي الكيل أو الوزن مع اتحاد الجنس، فعند اجتماعهما: يحرم الفضل والنَّساء (¬2) أي أن العلة في الأشياء الأربعة المنصوص عليها (البر والشعير والتمر والملح): هي الكيل مع الجنس. وفي الذهب والفضة: العلة هي الوزن مع ¬
الجنس، فلا تتحقق علة ربا الفضل إلا باجتماع الوصفين معاً: وهما القدر والجنس أي القدر المعهود في الشرع بكيل أو وزن (¬1) مع الجنس، أي أن الربا يكون في الأموال التي يجمعها جنس وقدر واحد، كبيع الذهب بالذهب إذا زاد أحد البدلين على الآخر، فإن الزيادة تكون حينئذ ربا؛ لأن كلاً من البدلين موزون، وهو المراد بالقدر. وعلى هذا فإن الأموال المثلية (المكيلات والموزونات) هي التي يجري فيها الربا. وأما الأموال القيمية كالحيوان والدور وأنواع الطنافس والجواهر والآلئ، فلا يجري فيها الربا، فيجوز مبادلة الكثير بالقليل كغنمة بغنمتين؛ لأن القيميات ليست من المقدرات، أي التي تجمع بين أفرادها وحدة مقياس ومقدار. والأصل في هذا حديث صحيح رواه أبو سعيد الخدري وعبادة بن الصامت رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «الذهب بالذهب (¬2) مثلاً بمثل، يداً بيد، والفضل ربا، والفضة بالفضة مثلاً بمثل، يداً بيد، والفضل ربا، والحنطة بالحنطة مثلاً بمثل، يداً بيد، والفضل ربا، والشعير بالشعير مثلاً بمثل، يداً بيد، والفضل ربا، والتمر بالتمر مثلاً بمثل، يداً بيد، والفضل ربا، والملح بالملح مثلاً بمثل، يداً بيد، والفضل ربا». وعلى هذا فإن ربا الفضل يختص بالمقدرات المثلية من مكيل أو موزون فقط، لا مذروع أو معدود، فليس فيه ربا. وأما الأموال القيمية كأفراد الحيوان والطنافس ¬
حكمة التحريم
والأراضي والدور والأشجار، فلا يجري فيها ربا الفضل، لأنها ليست من المقدَّرات (أي التي تجمع بين أفرادها وحدة مقياس ومقدار معين)، فيجوز إعطاء الكثير منها في مقابل القليل من جنسه كبيع غنمة بغنمتين؛ لأن ربا الفضل زيادة أحد المتجانسين على الآخر في المقدار والكمية، والقيميات ليست من المقدرات (¬1). وحكمة التحريم: هي دفع الغبن عن الناس، وعدم الإضرار بهم، مما قد يظن بأن في أحد الجنسين معنى زائداً عن الآخر. والأصل في تحريمه هو من باب سد الذر ائع، لأنهم إذا باعوا درهماً بدرهمين، ولا يفعل هذا عند اتحاد الجنس إلا للتفاوت الذي بين النوعين: إما في الجودة، وإما في نوع السكة، وإما في الثقل والخفة وغيرها، تدرجوا بالربح المعجل فيها إلى الربح المؤخر: وهو عين ربا النسيئة، أما تحريم ربا الفضل عند اختلاف الجنسين كبيع القمح بالشعير أحدهما معجل والآخر مؤجل، فهو أيضاً من قبيل سد الذرائع، كيلا يتخذ جواز التفاضل عند اختلاف الجنسين ذريعة ووسيلة إلى ربا النسيئة، فيستقرض الشخص ذهباً مثلاً إلى أجل، ثم يوفي فضة أكثر منه بقدر الربا المراد. وبذلك وضع الشرع الحكيم مقياساً مبسطاً في يد أكثر الناس لتقويم الأصناف المختلفة، دون حاجة إلى البحث عن الفروق النوعية في الصنف الواحد. وقد لا يكون سبب التحريم هو سد الذرائع، كما في أخذ كثير رديء في قليل جيد، فزيادة الرديء تقابل بجودة الجيد، لكنه مع ذلك حرام؛ لأن هناك غرراً كبيراً لا يعلم معه أيهما غبن (¬2). ¬
قدر ربا الفضل
ولا يقتصر الربا على ما فيه استغلال، فقد يكون ربا الجاهلية من أجل الاستثمار، ويرد المقترض للمقرض رأس المال والفوائد الربوية المتفق عليها، وقد سوى الرسول صلّى الله عليه وسلم في تحريم الربا بين المحتاج والمستغل حيث قال: «فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء» ولعن الرسول صلّى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله على السواء (¬1). قدر ربا الفضل: القدر الذي يتحقق فيه الربا من الطعام: هو ما كان نصف صاع (¬2) فأكثر، لأنه لا تقدير في الشرع بما دون ذلك (¬3). فإذا كان أقل من نصف صاع، فإنه يصح فيه الزيادة، فيجوز أن يشتري حفنة من القمح بحفنتين (¬4) يداً بيد، أو تفاحة بتفاحتين مع التقابض، وهكذا إلى أن يبلغ نصف صاع، لعدم وجود المعيار المبيِّن للمساواة، فلم يتحقق الفضل أي الزيادة. وأما القدر الذي يتحقق فيه الربا من الموزون: فهو ما دون الحبة (¬5) من الذهب والفضة. ولكن يشترط في صحة البيع في مثل ذلك تعيين البدلين، فلو كان غير معينين أو أحدهما لم يجز اتفاقاً (¬6). ¬
نوع العلة
نوع العلة: وهكذا كل ما تحققت فيه هذه العلة (القدر المتفق مع الجنس المتحد) فإنه يشتمل على الربا، سواء أكان مطعوماً أم غير مطعوم، فيقاس على القمح والشعير المذكورين في حديث ربا الفضل: كل ما يباع بالكيل كالذرة والأرز والسِّمسِم والحِلْبة والجص، إذا كان يباع بالكيل. ويقاس على الذهب والفضة: كل ما يباع بالوزن كالرصاص والنحاس والحديد. وأما الذي لا يباع بالكيل ولا بالوزن كالمعدود والمذروع: فإنه لا يشتمل على ربا الفضل، فيصح بيع البيضة بالبيضتين، والذراع من قماش بذراعين من قماش من جنسه، بشرط القبض. مقياس الأموال الربوية: يلاحظ أن ما نص الشارع على كونه كيلياً كبُر وشعير وتمر وملح، أو وزنياً كذهب وفضة، فإنه يظل كذلك لا يتغير أبداً، وإن ترك الناس التعامل فيه كما كان في الماضي. وهذا رأي جمهور الحنفية، والشافعية والحنابلة، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «المكيال مكيال أهل المدينة، والوزن وزن أهل مكة» (¬1)، فلا يصح بيع الحنطة بالحنطة بوزن متساو، ولا بيع الذهب بالذهب أو الفضة بالفضة بكيل متساو؛ لأن النص أقوى من العرف، والأقوى لا يترك بالأدنى. وقد أشرت إلى أن أبا يوسف ذهب إلى أن المقياس المعتبر في الأموال الربوية في المنصوص عليه وغيره هو المقياس العرفي وأنه يتبدل بتبدل العرف، ورأيه أقوى حجة؛ لأن النص الذي ورد بلزوم التساوي في الربويات كيلاً أو وزناً، مراعى فيه المقياس المتعارف في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، وإثبات العلة في المقيس على النص مما يدرك هنا بالعرف، ويؤيده أن المالكية قالوا: إذا اختلفت ¬
جيد المال ورديئه
عوائد الناس في الكيل أو الوزن اعتبرت عادة البلد الذي تم فيه التعاقد. وأما ما لم ينص عليه الشارع فهو محمول على عادات الناس وأعرافهم في التعامل في الأسواق (¬1). جيد المال ورديئه: يلاحظ أيضاً أن جيد مال الربا ورديئه سواء، فلا يجوز بيع الجيد بالرديء مما فيه الربا إلا مثلاً بمثل؛ لأن الجودة ساقطة في الأموال الربوية، للقاعدة الشرعية: «جيدها ورديئها سواء» (¬2). ولحديث أبي سعيد الخدري عند الشيخين المتقدم: «ولاتُشفّوا بعضها على بعض» أي لاتزيدوا. والحكمة من ذلك هي ألا يؤدي مبادلة الجيد بالرديء إلى نقض ما شرعه الشارع من منع التفاضل؛ لأن الناس عادة لا يبادلون شيئاً آخر، إذا كانا متساويين من كل الوجوه، وإنما يبادلون الجنس بجنسه لما بينهما من التفاوت، فلو أجيز لهم مبادلة شيء بآخر من جنسه لما فيه من صفة هي أجود، لم يحرم عليهم ربا الفضل، وكان تحريم مبادلة الجيد بالرديء دفعاً لشبهة الربا، وسداً للذرائع (¬3). وبناء عليه حرم المالكية بيع المراطلة: وهي بيع النقد بصنفه وزناً، وكان هناك اختلاف بين الذهبين في الجودة والرداءة. ولا عبرة بالصنعة في النقدين: الذهب والفضة، فيجب التماثل في الوزن في التبادل بين البدلين، دون زيادة، فلو باع شخص غيره ذهباً مصوغاً حلياً بسبيكة، ¬
علة ربا النسيئة
وجب التماثل في الوزن، ويحرم وجود الزيادة في أحد العوضين، لحديث الخدري عند الشيخين: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل .. ولا تبيعوا الورِق بالورِق إلا مثلاً بمثل» والذهب والفضة يشمل المسكوك وغير المسكوك. علة ربا النسيئة: إن علة ربا النسيئة وهو ربا الجاهلية: هي أحد وصفي علة ربا الفضل: إما الكيل أو الوزن المتفق، أو الجنس المتحد (¬1)، ومثاله: أن يشتري إنسان صاعاً من القمح في زمن الشتاء بصاع ونصف يدفعهما في زمن الصيف، فإن (نصف الصاع) الذي زاد في الثمن، لم يقابله شيء من المبيع، وإنما هو في مقابل الأجل فقط، ولذا سمي ربا النسيئة أي التأخير في أحد البدلين، فالزيادة في أحد العوضين في مقابلة (تأخير الدفع) سواء اتحد المقدار أو اختلف. وقد كان أهل الجاهلية إذا داين الرجل منهم أخاه، ثم حل أجل الدين، قال له: (إما أن تقضي أو تُربي)، فإما قضاه، وإما أجله وزاده شيئاً على رأس ماله، وفي هذا إرهاق للمدين، وإضرار به؛ لأن الدين قد يستغرق ماله. وعلى هذا: إذا وجد القدر المتفق وحده كالحنطة بالشعير، أو الجنس المتحد وحده كتفاحة بتفاحتين، أو شعير بشعير، حرم النَّساء (¬2)، ولو كان البدلان ¬
حكمة التحريم
متساويين، حتى لو باع ملحاً بملح مثله إلى أجل، لم يجز، لوجود اتحاد الجنس. وهكذا فإن حرمة ربا الفضل تتحقق بوصفين، وحرمة النَّساء بأحد الوصفين. وبما أن اتحاد الجنس كاف وحده لتحريم النسيئة، فلا يعتبر القدر هنا (وهو نصف صاع فأكثر) فلا يجوز بيع حفنة قمح بحفنتين إلى أجل، ولا تفاحة بتفاحتين، ولا بِطِّيخة ببطيختين إلى أجل ونحوها، لاتحاد الجنس، بخلاف ربا الفضل كما تقدم. فإذا انتفى الجنس كحفنة بر بحفنتي شعير، يحل في الأرجح البيع مطلقاً: حالاً ونسيئة، لعدم وجود علة كل منهما. وذكر عن الإمام محمد أنه حرم ذلك كله، وقال: كل شيء حرم في الكثير فالقليل منه حرام. حكمة التحريم: إن حكمة تحريم ربا النسيئة إجمالاً: هي ما فيه من إرهاق المضطرين، والقضاء على عوامل الرفق والرحمة بالإنسان، ونزع فضيلة التعاون والتناصر في هذه الحياة، واستغلال القوي لحاجة الضعيف، وإلحاق الضرر العظيم بالناس، فإذا صارت النقود محلاً للتعامل بزيادة ربوية، كالسلع العادية حالاً أو نسيئة، اختل معيار تقويم الأموال الذي ينبغي أن يكون محدوداً مضبوطاً لا يرتفع ولاينخفض. وإذا جاز ربا النسيئة في المطعومات ببيع بعضها ببعض لأجل، اندفع الناس إلى هذا البيع، طمعاً في الربح، فيصبح وجود الطعام حالاً عزيز المنال، فيقع الضرر في أقوات العالم (¬1): ¬
ربا المصارف
ربا المصارف: إن من ربا النسيئة كما سأوضح في آخر الموضوع: ما هو معروف اليوم في المصارف أو البنوك من إعطاء مال أو قرض مال لأجل بفائدة سنوية أو شهرية كسبعة في المئة أو خمسة أو اثنين ونصف، فهو أكل لأموال الناس بالباطل. وإن مضار الربا متحققة فيه، فحرمته كحرمة الربا، وإثمه كإثمه (¬1)، أي إنه ربا نسيئة، بدليل قوله تعالى: {وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم} [البقرة:279/ 2]. وقد أصبح الربا في عرف الناس اليوم، لا يطلق إلا على ربح المال عند تأخيره، وهو ربا النسيئة الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه. وأما ربا الفضل فهو نادر الحصول، وبه يظهر المقصود من الحديث السابق: «إنما الربا في النسيئة» وهو التنبيه على خطره وكثرة وقوعه، كما تقدم سابقاً. ومن المعلوم أنه يمنع البنك من التجارة والاستثمار، ومهمته الأساسية الاقتراض من المودعين والإقراض لآخرين مقترضين، ويدفع للمودعين فائدة الودائع، ويأخذ من المقترضين فائدة الإقراض، والفرق بين الفائدتين هو المصدر الأساسي لإيرادات البنك. فتكون مهمة البنوك هي الاتجار في الديون. والوظيفة الثانية للبنوك هي (خلق الديون أو الائتمان) أي إقراض ما لم تقترضه فعلاً من أحد أو تحوزه، أو إقراض مالا تملكه (¬2). الجنس المتحد والمختلف: يحرم كما أبنت بيع الجنس بجنسه متفاضلين، ويجوز التفاضل بين مختلفي الجنس عند الحنفية، إلا في لحم الطير، فيجوز بيع لحم الجنس الواحد منه، كالسُّماني والعصافير متفاضلاً، لأنه ليس مالاً ربوياً، إذ لا يباع وزناً ولا كيلاً، لكن يستثنى لحم الدجاج والإوز، لأنه يوزن عادة، فيحرم بيعه متفاضلاً. ¬
أدلة الحنفية
والضابط لاختلاف الجنس عند الحنفية: هو بحسب اختلاف الأصل كخل التمر مع خل العنب، ولحم البقر مع لحم الضأن، أو باختلاف المقصود كشعر المعز وصوف الغنم، فإنه يختلف القصد من استعمال كل منهما في الصناعات، أو بتبدل الصفة كالخبز مع الحنطة، فإن الخبز صار عددياً أو موزوناً، والحنطة مكيلة. وعلى هذا فتعتبر لحوم الإبل والبقر والغنم وألبانها أجناساً مختلفة، فيجوز التفاضل فيما بينها، والحنطة والشعير والذرة ونحوها أجناس مختلفة، والخبز مع الدقيق أو الحنطة جنسان، والشحم مع اللحم جنسان، والزيت مع الزيتون، والزيت المطبوخ بغير المطبوخ، جنسان لاختلاف المقصود والغرض منهما، وهكذا بحسب الضابط المذكور (¬1). أدلة الحنفية: استدل الحنفية على أن علة الربا هي الكيل أو الوزن: بأن التساوي أو المماثلة في العوضين شرط في صحة البيع، وحرمة الربا لوجود فضل مال خال عن العوض، وهذا يوجد في غير المنصوص عليه في الحديث السابق، مثل الجص والحديد ونحوهما. والتساوي أو المماثلة بين الشيئين يكون باعتبار الصورة والمعنى. والقدر المتفق (وهو الكيل أو الوزن) يحقق المماثلة صورة، والجنس يحقق المماثلة معنى؛ لأن المجانسة في الأموال عبارة عن تقارب المالية، فالقفيز يماثل القفيز (¬2)، والدينار يماثل الدينار، فيكون القفيز الزائد فضل مال خال عن العوض يمكن التحرز عنه في عقد المعاوضة، فكان ربا، وهذا المعنى لا يخص المطعومات والأثمان، بل يوجد في كل مكيل يباع بجنسه، وموزون يبادل بمثله (¬3). وبعبارة أخرى: إن المراد من الحنطة مثلاً في الحديث السابق هو أنها مال ¬
2 - مذهب المالكية
متقوم، لأن البيع لا يصح إلا على مال متقوم؛ ولا يعلم ماليتها، إلا بالكيل، فصارت صفة الكيل ثابتة بمقتضى النص، فكأنه عليه السلام قال: الذهب الموزون بالذهب، والحنطة المكيلة بالحنطة. وإذا كان المطلوب للتخلص من الربا هو المماثلة بين العوضين، فإن المماثلة في الكيل أو الوزن هي طريق الخلاص من الحرام، والحفنة والتفاحة لاتقبل المماثلة، فلم تكن من أموال الربا (¬1) أي ربا الفضل، لا ربا النسيئة فإنها من أموال الربا فيها. ويلاحظ أن الحنطة كلها على اختلاف أنواعها وأوصافها وبلدانها جنس واحد، ومثلها الشعير، ودقيقهما، وكذلك التمر، والملح، والعنب، والزبيب، والذهب، والفضة، فلا يجوز بيع كل مكيل أو موزون من ذلك بجنسه متفاضلاً في الكيل أو الوزن، وإن تساويا في النوع والصفة (¬2). 2 - مذهب المالكية: قال المالكية في ظاهر المذهب: علة تحريم الزيادة في الذهب والفضة هي النقدية (أي الثمنية)، أما في الطعام: فإن العلة عندهم تختلف بين ربا النسيئة وربا الفضل. العلة في تحريم ربا النسيئة: هي مجرد المطعومية على غير وجه التداوي، سواء وجد الاقتيات والادخار، أو وجد الاقتيات فقط، أو لم يوجد واحد منهما، مثل أنواع الخضر من قثاء وبطيخ وليمون وخس وجزر، وقلقاس، وأنواع الفاكهة الرطبة كالتفاح والموز. ¬
اتفاق الجنس واختلافه
وأما العلة في تحريم ربا الفضل فهي أمران: الاقتيات والادخار، أي أن يكون الطعام مقتاتاً، والمعنى أن الإنسان يقتات به غالباً بحيث تقوم عليه بنيته، بمعنى أنه لو اقتصر عليه يعيش بدون شيء آخر، دون أن تفسد البنية كالحبوب كلها والتمر والزبيب واللحوم والألبان وما يصنع منها. وفي معنى الاقتيات: إصلاح القوت كملح ونحوه من التوابل والخل والبصل والثوم والزيت. ومعنى كونه صالحاً للادخار: أنه لا يفسد بتأخيره مدة من الزمن، لا حد لها في ظاهر المذهب، وإنما بحسب الأمد المبتغى منه عادة في كل شيء بحسبه، فالمرجع فيه إلى العرف دون تحديد بمدة ستة أشهر أو سنة، كما رأى بعضهم. ودليلهم على أن هذه هي علة تحريم الربا: هو أنه لما كان حكم التحريم معقول المعنى في الربا وهو ألا يغبن بعض الناس بعضاً، وأن تحفظ أموالهم، فواجب أن يكون ذلك في أصول المعايش: وهي الأقوات: كالحنطة والشعير والأرز والذرة والكِرسَنَّة والتمر والزبيب، والبيض، والزيت، والبقول السبعة: وهي (العدس، واللوبيا، والحِمّص، والتُرْمس، والفول، والجُلْبان، والبسلة) (¬1). وأما اتفاق الجنس واختلافه فيلاحظ أن الإمام مالك يعتبر القمح والشعير والسُلْت (وهو نوع من الشعير ليس له قشر) صنفاً واحداً، وأن الذرة والدُّخن والأرز صنف واحد، وأن القَطَاني أو البقول كالفول والعدس والحمص وشبه ذلك كلها صنف واحد، وعلى هذا لا يجوز التفاضل بين القمح والشعير، ويجوز بين القمح والذرة. وأما اللحوم عند مالك فهي ثلاثة أصناف: فلحم ذوات الأربع صنف، ولحم الطيور صنف، ولحم الحيتان صنف (¬2). ¬
3 - مذهب الشافعية
3 - مذهب الشافعية: قال الشافعية: العلة في الذهب والفضة: هي النقدية أو الثمنية، أي كونهما أثماناً للأشياء، سواء أكانا مضروبين، أم غير مضروبين (مسكوكين)، ولا أثر لقيمة الصنعة في الذهب والفضة، فلو اشترى رجل بدنانير ذهباً مصوغاً قيمته أضعاف الدنانير، اعتبرت المماثلة في الكمية، ولا نظر إلى القيمة. والمقصود بعلة الربا في الذهب والفضة على المعتمد هو جنسية الأثمان غالباً، وهي منتفية عن الفلوس (وهي القروش وغيرها المصنوعة من معادن غير الذهب والفضة كالنيكل والبرونز والنحاس) وغيرها من سائر عروض التجارة، لا أنها قيم الأشياء؛ لأن الأواني والتبر والحلي يجري فيها الربا وليس مما يقوم بها، واحترز بغالباً: عن الفلوس إذا راجت فإنه لا ربا فيها. ولا أثر لقيمة الصنعة في ذلك. حتى لو اشترى بدنانير ذهباً مصوغاً، قيمته أضعاف الدنانير، اعتبرت المماثلة، ولا نظر إلى القيمة. وبما أن الفلوس ومنها النقود الورقية الحالية أصبحت هي أثمان الأشياء غالباً، فإني أرى جريان الربا فيها، وهو الموافق لمذهب الحنفية. وأما العلة في الأصناف الأربعة الباقية، فهي الطعمية ـ بضم الطاء، أي كونها مطعومة. والمطعوم يشمل أموراً ثلاثة: أحدها: ما قصد للطعم والقوت كالبُّر والشعير، فإن المقصود منهما التقوت أي الأكل غالباً، ويلحق بهما ما في معناهما كالفول والأَرُزّ والذرة والحمص والترمس ونحوها من الحبوب التي تجب فيها الزكاة. ثانيها: أن يقصد به التفكه، وقد نص الحديث على التمر، فيلحق به ما في معناه، كالزبيب والتين.
ثالثها: أن يقصد به إصلاح الطعام والبدن: أي للتداوي. وقد نص الحديث على الملح، فيلحق به ما في معناه من الأدوية القديمة كالسنامكي والسقمونيا والزنجبيل، ونحوها من العقاقير المتجانسة كالحبة اليابسة. وعلى هذا فلا فرق بين ما يصلح الغذاء أو يصلح البدن، فإن الأغذية لحفظ الصحة، والأدوية لرد الصحة. وبه يكون المطعوم: كل ما قصد للطُعم (أي الأكل غالباً) اقتياتاً أو تفكهاً أو تداوياً. وتكون علة الربا عند الشافعية هي: الطعم أو النقدية؛ أما ما ليس بطعم كالجبس أو الحديد والأقمشة وغيرها من كل ما يباع كيلاً أو وزناً، فإنه يصح بيعه بجنسه متفاضلاً، كعروض التجارة، لأنها أي المذكورة كلها ليست أثماناً. وما كان في الغالب قوتاً لغير الآدميين، لا يحرم الربا فيه. ودليلهم: أن الحكم إذا علق باسم مشتق دلّ على أن المعنى الذي اشتق منه الاسم هو علة الحكم، مثل قوله سبحانه: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة:38/ 5] ففهم أن السرقة هي علة قطع اليد، وإذا كان هذا هو المقرر، فقد جاء من حديث معمر بن عبد الله أنه قال: كنت أسمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «الطعام بالطعام مثلاً بمثل» (¬1) فتبين أن الطُّعم هو علة الحكم، لأن الطعام مشتق من الطعم، فهو يعم المطعومات، وهذا وصف مناسب، لأنه ينبئ عن زيادة الخطر (أي الأهمية) في الأشياء الأربعة التي نص عليها الحديث؛ لأن حياة النفوس بالطعام. وكذلك الثمنية معنى مناسب، لأنه ينبئ عن زيادة خطر، وهو شدة الحاجة إلى النقدين (الذهب والفضة) أو ما يقوم مقامهما من النقود الورقية، بحسب التخريج والتصحيح الذي رأيته، خلافاً للمعتمد في المذهب الشافعي في العرف الماضي. ¬
أما القدر الذي قال به الحنفية، فلا ينبئ عن زيادة خطر في الأشياء. وعلى هذا: إذا بيع الطعام بالطعام أو النقد بالنقد، حالة اتحاد الجنس كحنطة بحنطة، وفضة بفضة، مضروبين كانا أو غير مضروبين كالحلي والتبر، اشترط في صحة البيع ثلاثة أمور: الحلول (بأن لا يذكر في العقد أجل مطلقاً) والمماثلة يقيناً بحسب المعيار الشرعي (وهو الكيل فيما يكال، والوزن فيما يوزن، بحسب عادة أهل الحجاز في عهد الرسول عليه السلام، وفي غير ذلك تعتبر عادة بلد البيع حالة البيع) والتقابض (أي القبض الحقيقي للعوضين مطلقا ً) قبل التفرق من المجلس. واشتراط التقابض زيادة عما اشترطه الحنفية من المساواة في العينية أي تعيين كل من البدلين، سواء في حالة اتفاق الجنس أو اختلاف الجنس، لقوله عليه الصلاة والسلام: «يداً بيد» في كل من الحالتين. فإذا اختلف الجنس كحنطة وشعير جاز التفاضل، ويشترط الحلول والتقابض قبل التفرق. قال صلّى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبُرّ بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواءً بسواء، يداً بيد؛ فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد» أي مقابضة، ويؤخذ من ذلك اشتراط الحلول. فإذا بيع الطعام بغيره كنقد أو ثوب، أو غير الطعام بغير الطعام وليسا نقدين، كحيوان بحيوان، لم يشترط شيء من الشروط الثلاثة السابقة، أي فلا ربا فيه. والسبب في أنه لا ربا في الحيوان مطلقاً: هو أنه لا يعد للأكل على هيئته، وقد اشترى ابن عمر رضي الله عنهما بعيراً ببعيرين بأمره صلّى الله عليه وسلم (¬1). ¬
اتحاد الجنس واختلافه
اتحاد الجنس واختلافه: كل شيئين متفقين في الاسم الخاص من أصل الخلقة كتمر وتين من نوعين (أي كل أنواع التمور جنس واحد، وكل أنواع التين جنس واحد، وكل أنواع الزبيب جنس واحد)، أو متحدين في أصلهما كدقيق من حنطتين: هما جنس واحد عند الشافعية، وكل شيئين مختلفين في الاسم من أصل الخلقة كالحنطة والشعير والتمر والزبيب، أو متخذين من أصلين كأدقة الأصول المختلفة الجنس وخلولها وأدهانها واللحوم والألبان، هما جنسان مختلفان. وعلى هذا فدقيق البر ودقيق الشعير والذهب والفضة بأنواع كل منها، والتمر والزبيب بأنواع كل منهما، وخل التمر وخل العنب، ولحم البقر ولحم الضأن، ودهن الجوز ودهن اللوز، ولبن البقر ولبن الضأن، والإنسي من البقر والوحشي، هما جنسان مختلفان يجوز بيعهما مع التفاضل، وبيوض الطيور أجناس، والكبد والطحال والقلب والكرش والرئة والمخ: أجناس، وإن كانت من حيوان واحد لاختلاف أسمائها وصفاتها، وشحم الظهر والبطن واللسان والرأس والأكارع: أجناس، والبطيخ الأصفر والأخضر والخيار والقثاء: أجناس، وأما الطيور: فالعصافير على اختلاف أنواعها جنس، والبطوط جنس، وأنواع الحمام جنس واحد على الأصح (¬1). والرطب واليابس من أصل واحد كالعنب والزبيب، والرطب والتمر جنس واحد، وما تفرع عن أصل مع أصله كالحنطة ودقيقها والمجروش منها كالبرغل جنس واحد. ولحوم الحيوانات أجناس مختلفة، فالضأن والمعز جنس واحد، والبقر والجاموس جنس واحد، والألبان أجناس مختلفة، كاللحوم. ¬
4 - مذهب الحنابلة
4 - مذهب الحنابلة: في هذا المذهب ثلاث روايات بالنسبة لعلة الربا: أشهرها مثل مذهب الحنفية: وهي أن الكيل أو الوزن مع اتحاد الجنس هو علة الربا، فيجري الربا في كل مكيل أو موزون بجنسه، مطعوماً كان أو غير مطعوم، كالحبوب والأشنان والنُّورة والقطن والكتان والصوف والحناء والعصفر والحديد والنحاس ونحوها، ولا يجري في مطعوم لا يكال ولا يوزن، لما روى ابن عمرقال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا تبيعوا الدينار، بالدينارين، ولا الدرهم بالدرهمين، ولا الصاع بالصاعين، فإني أخاف عليكم الرِّماء» (والرماء: هو الربا) فقام إليه رجل فقال: «يا رسول الله، أرأيت الرجل يبيع الفرس بالأفراس، والنجيبة بالإبل؟ فقال: لا بأس إذا كان يداً بيد» (¬1) وروى أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ما وزن مثلاً بمثل، إذا كان نوعاً واحداً، وما كيل فمثل ذلك، فإذا اختلف النوعان، فلا بأس به» (¬2). إلا أن الحنابلة خلافاً للحنفية قالوا: يحرم ربا الفضل في كل مكيل أو موزون بجنسه، ولو كان قليلاً كتمرة بتمرة، وما دون الأرزة من نقد (ذهب أو فضة)، لا في ماء، ولا فيما لا يوزن عرفاً: لصناعته من غير ذهب أو فضة، كمعمول من نحاس أو حديد أو قطن ونحوه. والرواية الثانية: كمذهب الشافعية. والرواية الثالثة: العلة فيما عدا الذهب والفضة: كونه مطعوماً إذا كان مكيلاً أو موزوناً، فلا يجري الربا في مطعوم لا يكال ولا يوزن، كالتفاح والرمان والخوخ ¬
اتحاد الجنس واختلافه
والبطيخ والكمثرى والسفرجل والإجاص والخيار والجوز والبيض، ولا فيما ليس بمطعوم كالزعفران والأُشنان والحديد والرصاص ونحوه. وهذا قول سعيد بن المسيب كما تقدم (¬1). ودليله قوله عليه الصلاة والسلام: «لا ربا إلا فيما كيل أو وزن مما يؤكل أو يشرب» (¬2). اتحاد الجنس واختلافه: مذهب الحنابلة في هذا الموضوع مثل مذهب الشافعية فإنهم قالوا (¬3): كل نوعين اجتمعا في اسم خاص، فهما جنس واحد كأنواع التمر، وكل شيئين اتفقا بالجنس ثبت فيهما حكم الشرع بتحريم التفاضل، وإن اختلفت الأنواع، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «التمر بالتمر مثلاً بمثل» فاعتبر المساواة في جنس التمر، ثم قال: «فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم» وفي لفظ «فإذا اختلف الجنسان .. » وفي لفظ «إلا ما اختلفت ألوانه». فإذا كان المشتركان في الاسم الخاص من أصلين مختلفين، فهما جنسان، أي أن كل شيئين أصلهما واحد، فهما جنس واحد، وإن اختلفت مقاصدهما خلافاً للحنفية. وعلى هذا فالتمور كلها جنس واحد؛ لأن الاسم الخاص يجمعها، ودهن الورد والبنفسج والزنبق ودهن الياسمين المأخوذ من أصل واحد وهو الزيت أو الشيرج: جنس واحد (¬4)، والأدقة والأخباز والخلول والأدهان واللحم واللبن ¬
5 - مذهب الظاهرية
والجبن والسَمْن وعصير الأشياء المختلفة، كلها أجناس مختلفة باختلاف أصولها. ودقيق الحنطة ودقيق الشعير جنسان، وكذا أنواع الزيوت من الزيتون والقطن، والأدهان من السمك والشَّيْرج والبزر ونحوها: أجناس مختلفة. 5 - مذهب الظاهرية: قال الظاهرية وأبو بكر بن الطيب: الربا غير معلل، وهو مخصص بالمنصوص عليه فقط (¬1)، وذلك لأنهم ينكرون القياس، وقد بين الشارع أن الربا يجري في الأصناف الستة، فيبقى ما عداها على الأصل وهو الإباحة. والخلاصة: أن العلة في تحريم التفاضل في الطعام عند الحنفية والحنبلية الكيل والوزن، وعند مالك الاقتيات والادخار، وعند الشافعي: الطعمية. وأما جواز الزيادة في غير النقدين والمطعومات عند المالكية والشافعية أو غير المكيل والموزون عند الحنفية والحنابلة فلأَنها لا تمس حياة الناس الضرورية، سواء في أقواتهم أم في نشاطهم الاقتصادي، إذ أن الطمع في الربح لا يؤدي إلى إلحاق الضرر الكبير بهم. ترجيح: قال ابن رشد المالكي: ولكن إذا تؤمل من طريق المعنى ظهر ـ والله أعلم ـ أن علة الحنفية أولى العلل وذلك أنه يظهر من الشرع أن المقصود بتحريم الربا: إنما هو لمكان الغبن الكثير الذي فيه، وأن العدل في المعاملات إنما هو مقاربة التساوي، ولذلك لما عسر إدراك التساوي في الأشياء المختلفة الذوات، جعل الدينار ¬
والدرهم لتقويمها (أعني تقديرها) ولما كانت الأشياء المختلفة الذوات (أعني غير الموزونة والمكيلة كالثياب): العدل فيها إنما هو في وجود النسبة أعني أن تكون نسبة قيمة أحد الشيئين إلى جنسه كنسبة قيمة الشيء الآخر إلى جنسه، فإذن اختلاف هذه المبيعات بعضها ببعض في العدد واجب في المعاملة العدلة، والعدل في المكيلات والموزونات إنما هو بوجود التساوي في الكيل أو الوزن (¬1). إلا أن هذا الرأي وسع كثيراً من نطاق دائرة الربا باجتهاد لا يؤيده العقل والنقل. ورجح ابن القيم مذهب الإمام مالك في أن علة الربا هي القوت والادخار فيما يتعلق بغير النقدين. وأما النقدان فالعلة فيهما الثمنية كما قال الشافعية، إذ لو كان النحاس والحديد رِبَويين لم يجز بيعهما إلى أجل بدراهم نقداً، فإن ما يجري فيه الربا إذا اختلف جنسه جاز التفاضل فيه دون النَّساء أي التأخير. وأيضاً فالتعليل بالوزن ليس فيه مناسبة، بخلاف التعليل بالثمنية، فإن الدراهم والدنانير أثمان المبيعات، والثمن هو المعيار الذي به يعرف تقويم الأموال، فيجب أن يكون محدوداً مضبوطاً لا يرتفع ولا ينخفض، حتى لا تفسد معاملات الناس، ويقع الاختلاف، ويشتد الضرر، فلا تكون الدراهم والدنانير مجالاً صالحاً للتجارة (¬2). ورجح الأستاذ الدكتور عبد الرزاق السنهوري مذهب الشافعي في علة الربا، لأنه نظر إلى اعتبار اجتماعي اقتصادي، فنفذ بذلك إلى لب الموضوع ووقف عند المعنى البارز الذي ينبغي الوقوف عنده. أما اعتبار الحنفية فهو اعتبار منطقي أقرب إلى الشكل منه إلى الجوهر (¬3). ¬
أصول الربا
أصول الربا: قال ابن رشد: أصول الربا خمسة: أنظرني أزدك، والتفاضل، والنَّسَاء، وضع وتعجل، وبيع الطعام قبل قبضه، وبما أنه عرفنا هذه الأصول ما عدا قاعدتين فقد وجدت ضرورة لشرحهما. قاعدة (أنظرني أزدك): حرام باتفاق العلماء: وهي: أن يكون للرجل دين عند آخر، فيؤخره به على أن يزيده في قدر الدين، وذلك كان ربا الجاهلية، سواء أكان الدين طعاماً أم نقداً، وسواء أكان من سلف أم بيع أم غيرهما. ووسيلة ذلك أن يبيع الدائن للمدين سلعة بثمن مؤجل إلى وقت معين يشتمل الثمن على زيادة عن الثمن النقدي. قاعدة (ضع وتعجل): إن أخذ مال من المقترض مقابل تعجيل بقية القرض بالنص على ذلك في عقد القرض حرام أيضاً عند أئمة المذاهب الأربعة؛ لأن نقص ما في الذمة لتعجيل الدفع شبيه بالزيادة؛ لأن المعطي جعل للزمان مقداراً من الثمن بدلاً منه. ومعنى القاعدة: أن يكون لشخص على آخر دين لم يحل، فيعجله قبل حلوله على أن ينقص منه. ومثل ذلك أن يعجل بعضه ويؤخر بعضه إلى أجل آخر، وأن يأخذ قبل الأجل بعضه نقداً وبعضه عرضاً (¬1). ويجوز ذلك كله بعد الأجل باتفاق، ويجوز أن يعطيه في دينه المؤجل عرضاً قبل الأجل وإن كانت قيمته أقل من دينه (¬2). ¬
شروط مبادلة الأموال الربوية مع بعضها أو مع غيرها
شروط مبادلة الأموال الربوية مع بعضها أو مع غيرها: إذا حدث تبادل الأموال الربوية ببعضها، فقد يحرم التبادل وقد يحل. فيحل التبادل عند اتحاد الجنس كذهب بذهب وفضة بفضة وحنطة بحنطة وذرة بذرة إذا توافرت شروط ثلاثة: 1 - التماثل في البدلين كيلاً في المكيلات، ووزناً في الموزونات، وعدداً في المعددوات، فمن باع مد حنطة بمد حنطة، ورطل تفاح برطل تفاح، وخمس جوزات بخمس، جاز البيع. والمعتبر في التماثل: التساوي بأداة البيع: الكيل في المكيلات، والوزن في الموزونات. ووقت التماثل فيما يمر بدور الرطوبة والجفاف: هو وقت الجفاف، فلا يباع الرطب بالرطب ولا الرطب بالتمر، ويراعى زمن الجفاف. 2 - الحلول: بألا يؤجل تسليم أحد البدلين عن مجلس العقد، أي لا يذكر الأجل في العقد. 3 - التقابض: بأن يتم قبض كلا البدلين في مجلس العقد قبل تفرق العاقدين بأبدانهما. واشتراط هذه الشروط من الأحاديث السابقة: «مثلاً بمثل» فيه شرط التماثل، و «يداً بيد» «هاء بهاء» يدلان على اشتراط الحلول والتقابض. ويحرم التبادل إذا لم يتوافر أحد هذه الشروط. ويحل التبادل عند اختلاف الجنس واتحاد العلة كذهب بفضة وحنطة بشعير بشرطين:
إذا اختلفت العلة بأن كان أحد البدلين من الأثمان أو النقود
1 - الحلول: بأن يكون العقد حالاً لا تأجيل فيه. 2 - التقابض: بأن يتم ذلك في مجلس العقد. ولا يشترط التماثل، للحديث المتقدم: «فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يداً بيد». ويحرم التبادل إذا اختل أحد الشرطين السابقين. وإذا اختلفت العلة بأن كان أحد البدلين من الأثمان أو النقود: الذهب والفضة أو النقود الورقية، والآخر من المطعومات كالتمر والزبيب، جاز التبادل وحل التعاقد، كبيع مد حنطة بعشر غرامات من الذهب، أو بدينار سواء حصل التقابض أو لم يحصل، اشترط الأجل أو لم يشترط، لما رواه الشيخان عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم استعمل رجلاً على خيبر، فجاء بتمر جنيب (¬1)، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أكل تمر خيبر هكذا؟ فقال: لا والله يا رسول الله، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: لا تفعل، بع الجَمْع (¬2) بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيباً». وأما إذا بودلت الأموال الربوية بغيرها، كبيع معادن بذهب، وطعام بثياب، ومواد الاستهلاكية من سكّر وزيت وسمن وأرز بنقود ورقية، كالشراء من البقاليات لأجل، فيجوز البيع مطلقاً، ولا يشترط التماثل ولا التقابض ولا الحلول؛ لأن العقد غير ربوي؛ لأن أحد العوضين مال غير ربوي، أو لأن نوع العلة مختلف، فالمواد الاستهلاكية من فئة المطعومات، والنقود الورقية من فئة الأثمان. ¬
بيوع الرطب بالتمر والحب الجديد بالقديم
أما بيوع الرطب بالتمر والحب الجديد بالقديم، فهو ممنوع شرعاً، لعدم تحقق المماثلة بين البدلين، وهما من الأموال الربوية. وبيع الرطب على رؤوس الشجر بما يساويه خرصاً من التمر المقطوف، أو بيع العنب بالزبيب، يسمى بيع المزابنة. وبيع الحب في سنبله بما يساويه خرصاً (أي تقديراً وتخميناً لكيله أو وزنه) يسمى بيع المحاقلة. وقد رخص الشرع ببيع العرايا كما تقدم: وهو أن يبيع الرطب على النخل بخرصه تمراً، أو العنب بخرصه زبيباً فيما دون خمسة أوسق (653 كغ). أخرج البخاري ومسلم عن سهل بن أبي حَثْمة رضي الله عنه: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمر بالتمر، ورخّص في العَرِيّة أن تباع بخرصها، يأكلها أهلها رُطَباً» أي يأكلها الذين اشتروها، وهو رأي جمهور الفقهاء غير الحنفية، كما تقدم. المطلب الرابع ـ ما يترتب على الاختلاف في علة الربا يترتب على الاختلاف في علة الربا بين الحنفية والشافعية أمور كثيرة، منها مايتعلق بربا الفضل، ومنها ما يتعلق بربا النسيئة. أما ما يتعلق بربا الفضل، فيظهر أثر الخلاف فيما يأتي: 1 - في بيع مطعوم بجنسه غير مقدر: أي (غيرمكيل ولا موزون) كبيع حفنة حنطة بحفنتين منها، أو بطيخة ببطيختين، أو تفاحة بتفاحتين، أو بيضة ببيضتين، وجوزة بجوزتين أو أكثر ونحو ذلك، يجوز هذا عند الحنفية لعدم العلة: وهي القَدْر، إذ لا تقدير في الشرع بأقل من نصف صاع بالنسبة للمكيلات، وأما في الموزون: وهو الذهب والفضة، فلا تقدير بما دون الحبة، إذ لا قيمة له (¬1). ¬
2 - في بيع مقدر بمقدر غير مطعوم
ولا يجوز ذلك عند الشافعية لوجود علة الربا عندهم وهي الطُّعم؛ لأن الأصل عندهم هو تحريم بيع المطعومين ببعضهما، أخذاً من حديث: «الطعام بالطعام مثلاً بمثل» والمساواة بين المطعومين في البيع مُخَلِّص من الحرمة، فما لم تثبت المساواة كانت الحرمة ثابتة، لأنها هي الأصل، فلا يجوز بيع الحفنة بالحفنتين ونحوهما. والتعليل بالقدر عند الحنفية يقتضي تخصيص نص الحديث السابق: «البر بالبر مثلاً بمثل .. » (¬1) فيجوز عندهم بيع الحفنة بالحفنتين ونحوهما. 2 - في بيع مقدَّر بمقدَّر غير مطعوم: أي بيع مكيل بجنسه غير مطعوم، أو موزون بجنسه غير مطعوم ولانقد، كبيع قفيز جص بقفيزي جص، أو رطل حديد برطلين منه ونحوهما. فلا يجوز ذلك عند الحنفية لوجود علة الربا، وهي الكيل مع الجنس في بيع الجص، أو الوزن مع الجنس في بيع الحديد (¬2). ويجوز ذلك عند الشافعية لعدم وجود علة الربا، وهي الطُّعم أو الثمنية. واتفق الحنفية مع الشافعية على أنه لو باع قفيز (¬3) أرز بقفيزي أرز لا يجوز، لوجود الكيل مع الجنس عند الحنفية، ولوجود الطعم مع الجنس عند الشافعية. واتفقوا أيضاً على أنه إذا باع رطل زعفران (¬4) برطلين منه، أو رطل سكر ¬
شرط الجنس
برطلين من السكر: لا يجوز لوجود الوزن والجنس عند الحنفية، ولوجود الطعم والجنس عند الشافعية. واختلف الفقهاء فيما يتعلق ب شرط الجنس في بعض النواحي المتعلقة بتحققه، منها ما يأتي: 1 - بيع الدقيق بمثله أو بالحب: قال الحنفية: لا يصح بيع الدقيق المأخوذ من جنس بجنسه، فلا يصح بيع الدقيق المأخوذ من القمح بالقمح، وكذا المأخوذ من الذرة بالذرة وهكذا، سواء أكانا متساويين أم لا؛ لأن التساوي في مثل ذلك غير محقق. أما بيع الدقيق المأخوذ من جنس بغير جنسه، فإنه يصح كالدقيق المأخوذ من القمح إذا بيع بالشعير، فإنه يصح، لاختلاف الجنس متى كان يداً بيد. وأما بيع الدقيق بالدقيق المتحد الجنس، فإنه يجوز بشرط التساوي في الكيل والنعومة والخشونة. ويجوز بيع الخبز بالحنطة أو بالدقيق وبالعكس متساوياً ومتفاضلاً؛ لأن الخبز صار بالصنعة جنساً مختلفاً مع الحنطة، حتى خرج من أن يكون مكيلاً، والحنطة والدقيق مكيلان، فلم يجمع بين الخبز والحنطة أو الدقيق القدر ولا الجنس، فجاز بيع أحدهما بالآخر نسيئة، ولا يشترط فيه التقابض، وإنما يشترط التعيين (¬1). وقال المالكية: لا يصح بيع الحب والدقيق، أحدهما بالآخر، إلا مثلاً بمثل بدون زيادة، فلو باع قمحاً بدقيق مأخوذ منه، فإنه يصح إذا كانا متساويين بالوزن. ¬
فإذا اختلف الجنس، كأن باع دقيقاً من الذرة بحب من القمح، فإنه يصح بيعه متفاضلاً بشرط التقابض في المجلس. وكذلك يصح بيع الخبز بالحنطة؛ لأن صنعة الخبز جعلته جنساً منفرداً. وأما بيع الدقيق بمثله فلا يصح مطلقاً (¬1). وقال الشافعية: لا يصح بيع دقيق بجنسه، فلا يصح بيع دقيق الحنطة بدقيق الحنطة مثلاً، لانتفاء المماثلة اليقينية بينهما، بسبب النعومة الطارئة عليه، إذ قد يكون أحد البدلين أنعم من الآخر، فلا ينكبس في الكيل. وكذلك لا يصح بيع دقيق الحنطة بحب الحنطة، كما لا يصح بيع الخبز بهما، ويصح بيع الخبز ببعضه، والدقيق ببعضه، إذا اختلف الجنسان، كأن يكون خبز قمح بخبز شعير أو دقيق قمح بدقيق ذرة، لاختلاف الجنس (¬2). وقال الحنابلة: لا يصح بيع الدقيق بالحب المأخوذ منه مطلقاً، لأنه يشترط التساوي في بيع الجنس الواحد ببعضه، ولا يصح بيع الخبز بالحب المأخوذ منه، كما لا يصح بيعه بدقيقه. وأما بيع الدقيق بمثله من نفس الجنس، فإنه يجوز كيلاً كما يقول الحنفية، بشرط التساوي في النعومة (¬3). والخلاصة: أن في بيع الدقيق بمثله رأيين: رأي يجيز ذلك: وهم الحنفية والحنابلة. ¬
2 - بيع الحيوان بلحم
ورأي لا يجيز ذلك: وهم المالكيةوالشافعية. 2 - بيع الحيوان بلحم: قال أبو حنيفة وأبو يوسف: يجوز بيع حيوان يؤكل بلحم من جنسه، لأنه بيع ما هو موزون بما ليس بموزون، وهو جائز كيفما كان بشرط التعيين (¬1)، لأن الحيوان ليس بمال ربوي. وقال الأئمة الثلاثة غير الحنفية: لايجوز بيع حيوان يؤكل بلحم من جنسه، فلا يجوز بيع شاة مذبوحة بشاة حية يقصد منها الأكل (¬2) لما روى سعيد بن المسيب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان باللحم (¬3) وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه نهى أن يباع حي بميت (¬4)؛ ولأن اللحم نوع فيه الربا، بيع بأصله الذي فيه منه، فلم يجز كبيع السِّمسِم بالشَّيْرَج، للجهل بالمماثلة فيما تطلب فيه المماثلة، والجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة (¬5). أما بيع الحيوان بالحيوان فيجوز، متفاضلاً ومن جنس واحد أو من جنسين، كبيع شاة بشاتين، وبيع شاة ببعير؛ لأن الحيوان ليس بمال ربوي، لأنه غير مطعوم ¬
مايترتب على الاختلاف في ربا النسيئة بين الشافعية والحنفية
على حاله وهيئته، وليس من جنس الأثمان. وأما بيع اللحوم ببعضها فيجوز إن كانت من جنس واحد، بشرط التماثل والحلول والتقابض؛ لأنها من الأموال الربوية فإن اختلف الجنس كلحم ضأن بلحم بقر، فيجوز التفاضل، بشرط الحلول والتقابض. وأما مايترتب على الاختلاف في ربا النسيئة بين الشافعية والحنفية، فيظهر فيما يأتي: أولاً ـ بعض الخلافات التي ترجع إلى أصل الخلاف في علة الربا التي هي عند الحنفية: الكيل أو الوزن، وعند الشافعية: الطعم. إذا باع شخص قفيز حنطة بقفيز شعير نسيئة مؤجلة، أو ديناً موصوفاً في الذمة غير مؤجل (¬1): لا يجوز بالاتفاق، لوجود علة ربا النسيئة: وهي أحد وصفي علة ربا الفضل وهو هنا الكيل عند الحنفية، والطعم عند الشافعية. وتظهر ثمرة الخلاف في حالتين: 1 - في بيع غير المطعوم: إذا بيع قفيز جص بقفيز نورة (¬2) مؤجلاً عن طريق السَّلَم، أوغير مؤجل عن طريق البيع ديناً في الذمة: لا يجوز عند الحنفية لوجود الكيل، وعند الشافعية: يجوز لعدم الطعم. ولو أسلم رطل حديد برطلي حديد: لا يجوز عند الحنفية لوجود الوزن المتفق لكونهما موزونين، وعند الشافعية يجوز لعدم الطعم أو الثمنية. ¬
2 - في بيع المطعوم بالمطعوم من قدر مختلف
ولو باع رطل سكر برطل زعفران ديناً في الذمة: لا يجوز بالاتفاق لوجود أحد وصفي علة ربا الفضل، وهو هنا الوزن المتفق عند الحنفية، ولوجود الطعم عند الشافعية. أما لو أسلم الدراهم أو الدنانير في زعفران، أو في قطن أو حديد: فإنه يجوز بالاتفاق لانعدام علة الربا: وهي القدر المتفق أو الجنس المتحد. أما المجانسة فغير متحققة كما هو واضح، وأما القدر المتفق فغير متحقق أيضاً؛ لأن وزن الثمن يخالف وزن المثمن، فإن الدراهم توزن بالمثقال، والقطن والحديد والزعفران يوزن بالقبان، فلم يتحقق القدر، فلم توجد العلة، فلا يتحقق الربا. ولو أسلم نُقرة (¬1) فضة في نقرة ذهب، أو تبر ذهب في نقرة فضة، أو المصوغ من أحدهما في ذهب أو فضة: لا يجوز بالاتفاق لوجود الوزن المتفق عند الحنفية، فإنهما يوزنان بالمثاقيل (¬2)، ولوجود الثمنية عند الشافعية، لأنها أصل الأثمان. 2 - في بيع المطعوم بالمطعوم من قدر مختلف: لو أسلم الحنطة في الزيت: جاز عند الحنفية؛ لأن أحدهما مكيل والآخر موزون، فكانا مختلفين قدراً. وعند الشافعية: لا يجوز لوجود الطعم (¬3). ثانياً ـ بعض الخلافات ترجع إلى الخلاف في الجنس وحده: هل هو علة أو لا؟: سبقت الإشارة إلى أن الجنس وحده يصلح علة لربا النسيئة عند الحنفية؛ لأن ¬
علة الربا هي الكيل أو الوزن مع اتحاد الجنس، وكل علة ذات وصفين مؤثرين لا تتم العلة إلا بهما، فيكون لكل منهما شبهة العلية، وشبهة العلية تثبت بها شبهة الحكم، أي أن الجنس ركن في العلة، لا مجرد شرط. وعند الإمام الشافعي: الجنس بانفراده لا يصلح علة لتحريم ربا النسيئة؛ لأن الجنس محل التحريم أو هو شرط فقط في علة الربا، والحكم قد يدور مع الشرط كالرجم مع الإحصان، والسبب فيه: أن العلة هي اسم لوصف مناسب للحكم، فيعلل الحكم بعلة تناسب المقصود منه، وهي الطعم لبقاء الإنسان به، والثمنية لبقاء الأموال التي هي مناط مصالح الناس بها، ولا أثر للجنسية، فجعل شرطاً (¬1). ويترتب على ذلك ما يأتي: لا يجوز إسلاف الجوز في الجوز، والبيض في البيض، والتفاح في التفاح، والحفنة في الحفنة بالاتفاق لوجود الجنس عند الحنفية، ولوجود الطُّعم عند الشافعي. ولا يجوز إسلاف الثوب الهَرَوي مثلاً في الثوب الهروي عند الحنفية لوجود الجنس. وعند الشافعي: يجوز؛ لأن الجنس عنده لا يكفي وحده لتحريم الربا. ويجوز أن يسلم ثوباً هروياً في ثوب مَرْوي بالاتفاق، لعدم وجود الجنس عند الحنفية، ولعدم وجود الطعم أو الثمنية عند الشافعية. ولو أسلم الفلوس في الفلوس لا يجوز عند الحنفية لوجود الجنس. وعند الشافعية: لا يجوز أيضاً لوجود الثمنية. ¬
والسبب في أن الجنس وحده يحرم الربا عند الحنفية، كما في بيع الحيوان بالحيوان نسيئة أي إلى أجل: هو أن عقد البيع يقتضي المساواة في البدلين، ولا مساواة بين المدفوع حالاً، والمدفوع نسيئة؛ لأن العين خير من الدين، والمعجل أكثر قيمة من المؤجل، وهذا المعنى كما هو موجود في المطعومات والأثمان أي (النقود) موجود في غيرهما. يؤكده قوله عليه الصلاة والسلام: «لا ربا إلا في النسيئة» وقوله صلّى الله عليه وسلم: «إنما الربا في النسيئة» (¬1) والنص مطلق لم يفرق بين المطعوم والأثمان وغيرهما، فيجب القول بتحقيق الربا فيها على الإطلاق (¬2) لتحقق علة الربا عندهم: وهي اتفاق الجنس. وقال مالك: لا يجوز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة أي إلى أجل فيما تشابهت منافعه كشاة حلوبة بشاة حلوبة إلى أجل. ويجوز فيما اختلفت منافعه، كبيع البعير النجيب ببعيرين للحمولة (¬3)، وعمدته في حالة المنع سد الذريعة إلى الربا. أما الشافعية فقالوا: كل ما سوى الذهب والفضة والمأكول والمشروب لا يحرم فيه التفرق قبل التقابض، لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص قال: «أمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن أجهز جيشاً فنفدت الإبل، فأمرني أن آخذ على قلاص (¬4) ¬
الصدقة، فكنت آخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة» (¬1).وعن علي كرم الله وجهه أنه باع جملاً إلى أجل بعشرين بعيراً (¬2). وباع ابن عمر رضي الله عنهما بعيراً بأربعة أبعرة (¬3) ونحو ذلك كثير (¬4). وأصح الروايات الأربع عن الإمام أحمد (¬5) مثل الشافعية أي جواز بيع الحيوان بجنسه أو بغيره متساوياً ومتفاضلاً، واتفق الأئمة على بيع الحيوان بالحيوان متفاضلاً إذا كان يداً بيد، أي كان البيع حالاً، غير مؤجل. وبعد: فإن ربا النسيئة الجاهلي محرم لذاته منعاً من إلحاق غبن كبير بأحد الطرفين، نتيجة للتقلبات المفاجئة في أسعار السلع بسبب أو آخر، وللقضاء على استغلال عجز المدين عن وفاء الدين. وربا الفضل محرم سداً للذريعة أي منعاً من التوصل به إلى ربا النسيئة، وما حرم لذاته لا يباح إلا للضرورة كالميتة والدم ولحم الخنزير، وما حرم سداً للذريعة أبيح للحاجة إليه وللمصلحة الراجحة على المفسدة (¬6)، والمسلم وحده يمكن أن يقدر الضرورة أو الحاجة المحدقة به. ¬
ربا القرض
ويمكن القول بأن تحريم ربا الفضل ليس لكونه مجرد وسيلة إلى ربا النسيئة، وإنما هو ربا حقيقي، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم لبلال: «عين الربا» حينما باع صاعين من تمر رديء بصاع من تمر جيد هو التمر البرني؛ ولأنه يعتمد تارة على استغلال جهل الناس بأصناف الأنواع، وتارة يعتمد على استغلال حاجتهم إلى نوع معين. ربا القرض: الربا يجري في البيع كما تقدم في بحث الربا ـ ربا الفضل وربا النسيئة. ويجري أيضاً في القرض: بأن يقرض شخص آخر مبلغاً من المال على أن يرد له زيادة معينة أو يجري التعارف بالزيادة، أو يشترط عليه دفع فائدة شهرية أو سنوية على مبلغ القرض، كما يحدث الآن في التعامل مع البنوك الربوية ومع بعض التجار الذين يقومون بتشغيل بعض أموال الناس. وهذا كله حرام لقوله تعالى: {وأحل الله البيع، وحرم الربا} [البقرة:2/ 275] وقوله سبحانه: {وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظْلِمون ولا تُظْلَمون} [البقرة:2/ 279] أي لا تَظْلمون بأخذ زيادة على رأس المال، ولا تُظْلَمون بنقص شيء من رأس المال، بل لكم ما دفعتم من غير زيادة ولا نقصان. وقد جعل الله «أكل الربا» من السبع الموبقات (المهلكات) في حديث أبي هريرة عند البخاري ومسلم. ويحرم الربا في أي مكان من العالم، في دار الإسلام ودار الحرب على السواء؛ لأن حرمة الربا عامة مطلقة، لا تخصيص فيها ولا تقييد. ولكن نقل عن أبي حنيفة ومحمد: أنه يجوز أخذ مال الحربي بأي طريق لا خيانة فيه ولا غدر، ولو بالعقود الفاسدة كالربا؛ لأن ماله مباح مهدر كنفسه، أي غير معصوم، بل هو مباح في نفسه، وقد بذله الحربي في عقود الربا باختياره ورضاه، فزال المنع لزوال موجبه (¬1). ¬
وقد انزلق بعض المسلمين فأودعوا أموالهم في ديار غير المسلمين واستباحوا أخذ الفوائد عنها، عملاً بهذا الرأي فيما زعموا، وهو فهم خطأ، وعمل باطل غير مشروع، وحرام؛ لأن الربا الذي قصد في هذا الرأي هو ربا العقود لا ربا البنوك والفوائد، ولأن المال في أصله مال الحربي، أما الأموال المودعة فهي أموال المسلمين، يتقوى بها غير المسلمين في تشغيل المصانع والمعامل، ولأن القول مخصوص بمال الحربي، والحربي: هو الذي بيننا وبين بلاده عداوة وحرب فعلية أو حكمية، ولا ينطبق هذا على غير اليهود وأمثالهم من غاصبي الأراضي الإسلامية، لوجود معاهدات سلمية بيننا وبين مختلف الدول المنضمة لميثاق الأمم المتحدة. وإيداع المسلمين أموالهم في بلاد غير المسلمين غير جائز شرعاً؛ لأنهم يتقوون بتلك الأموال علينا، ويعطوننا جزءاً من الفوائد، بل إن أكثر تلك الأموال أصبحت مجمدة لا يفرج عنها ولا ترد لأصحابها الأصليين، مما يؤكد تحريم التعامل مع المصارف الأجنبية إلا لضرورة قصوى أو لأجل الاستيراد والتصدير. وعلى هذا تكون فوائد هذه الأموال حراماً لا يجوز لأصحابها تملكها وضمها لأموالهم، لكن لا يصح إبقاؤها لهم حتى لا يتقووا بها علينا، ونعين الظالم على ظلمه، وإنما يجب أخذها وصرفها في المصالح العامة في البلاد الإسلامية كتعبيد الطرق وبناء المشافي والمدارس وغير ذلك من المرافق العامة، كما أفتى بذلك لجنة الفتوى بالأزهر في أواخر الستينات.
فوائد المصارف (البنوك)
............. فوائد المصارف (البنوك) .............................. .................................... حرام حرام حرام ................................... تشهد الساحة الإعلامية المعاصرة هجمة جريئة في الصحف والمجلات وفتاوى شاذة مستعجلة بأقلام كتاب ينتمون للعمل الإسلامي، ويحاولون التجديد والاجتهاد في مجال الربا (أو الفائدة) ويقولون بإباحة فوائد المصارف؛ لأن المصارف (أو البنوك) أصبحت في وقتنا الحاضر ضرورة اقتصادية، وتقوم بتشغيل أموال المودعين في مشاريع متنوعة صناعية وزراعية وتجارية وغيرها بطريق غير مباشر عن طريق إقراضها لأصحاب هذه المشاريع، وأخذ فوائد منهم، وإعطاء بعضها للمودعين، فالبنوك بمثابة وسيط بين الطرفين. ومن هذه الهجمة: ما كتبه السيد فهمي هويدي في مجلة العربي العدد 341 أبريل نيسان 1987 م شعبان 1407 هـ ناقلاً عن عالم محاولة بالقول في إباحة فوائد الإيداع في البنوك، وعدم الاعتماد على مبدأ «كل قرض جر نفعاً فهو ربا» لعدم ثبوت كونه حديثاً، وبالتالي عدم جواز الاستدلال به. ومنها فتوى هذا العالم وهو الدكتور عبد المنعم النمر بإباحة فوائد المصارف في جريدة الأهرام يوم الخميس 27 من شوال 1409 هـ الموافق 1989/ 6/1م، ومنها فتوى مفتي مصر الدكتور محمد سيد طنطاوي بإباحة شهادات الاستثمار بتاريخ 1410/ 5/7هـ = 1989/ 12/7م، والطامة الكبرى بيان مفتي مصر المذكور قبل ربيع سنة 1410هـ وقبل نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 الذي أحل فيه الفوائد الربوية لشهادات الاستثمار والبنوك المتخصصة، وأعقبه عام 1991 بأن فوائد المصارف حلال في جميع أنحاء الأرض.
التدرج في التشريع
وأبين هنا مراحل التدرج التشريعي في تحريم الربا في القرآن الكريم، وأذكر الأحاديث النبوية الثابتة ثبوتاً لا شك فيه والمبينة لمدلول الربا، كما أذكر ما عليه قوانين الدول العربية في قضية الربا، ثم أناقش الشبهات التي يثيرها القائلون بإباحة فوائد المصارف الحديثة (¬1). التدرج في التشريع: هذا من خصائص وأسس بيان الأحكام الشرعية، فلم تحرم الخمر مثلاً دفعة واحدة كما هو معروف، وإنما مر التحريم بمراحل أربع آخرها آيتا المائدة (90 - 91): {إنما الخمر والميسر ... } [المائدة:90/ 5] وعقوبة الزنا مرت بمرحلتين: الأولى ـ الحبس للنساء والإيذاء للرجال في آيتي النساء (15، 16) والثانية ـ حد الجلد في سورة النور (2) {الزانية والزاني ... } [النور:2/ 24] وكذلك تحريم الربا مر بمراحل أربع: أولها ـ تقبيح فعل اليهود الذين يأكلون الربا والتشنيع عليهم في قوله تعالى: {سَّماعون للكذب، أكَّالون للسُّحت ... } [المائدة:42/ 5] وقوله سبحانه: {فبظلمٍ من الذين هادُوا حرمنا عليهم طيبات أحلَّت لهم، وبصدِّهم عن سبيل الله كثيراً. وأخذهم الربا وقد نهوا عنه، وأكلهم أموال الناس بالباطل، وأعتدنا للكافرين منهم عذاباً أليماً} [النساء:159/ 4 - 160]. ثانيها ـ التفرقة بين الربا والزكاة في قوله تعالى: {وما آتيتم من رباً ليربو في أموال الناس، فلا يربو عند الله، وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله، فأولئك هم المضعفون} [الروم:39/ 30]. ¬
ثالثهما - التنديد بفعل العرب المشركين في الجاهلية ونهي المؤمنين عن محاكاة فعلهم
ثالثهما - التنديد بفعل العرب المشركين في الجاهلية ونهي المؤمنين عن محاكاة فعلهم بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة} [آل عمران:130/ 3] والنهي ليس مقصوراً على حالة المضاعفة، وإنما هذا قيد لبيان الواقع، وتقبيح الوضع القائم الشائع بين العرب حينما يقرض أحدهم لآخر قرضاً لمدة، ثم يحل أجل القرض ويعجز المدين المقترض عن وفاء دينه، فيقول له المقرض الدائن: (إما أن تقضي أو تربي) فيزيد له في الأجل مقابل الزيادة في الربا، وهذا عين عمل المصارف الحالية تكون الفائدة 7% أو 9% مثلاً، فيعجز المدين عن سداد الدين، فتضاعف عليه الفائدة في العام الثاني والثالث وهكذا حتى تكاد الفائدة في النهاية تعادل أصل رأس المال وهذه هي الفائدة المركبة، والتي لا يتنبه لها القائلون بفوائد البنوك المقللون لمقدارها والمبيحون لها، بل إن هذه الفوائد أسوأ من ربا الجاهلية. رابعها ـ تحريم الربا تحريماً قطعياً ووصف المرابين بالتعرض لحرب الله ورسوله، في قوله تعالى: {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبّطه الشيطانُ من المسّ، ذلك بأنهم قالوا: إنما البيع مثل الربا، وأحلَّ الله ُ البيعَ، وحرَّم الرِّبا، فمن جاءه موعظة من ربه، فانتهى فله ما سلف، وأمرُه إلى الله، ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون. يمحق الله ُ الربا ويُرْبي الصدقات، والله ُ لا يحبُّ كلَّ كفَّارٍ أثيم} [البقرة:275/ 2 - 276] ثم قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله، وذرُوا ما بقي من الربا، إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحربٍ من الله ورسوله، وإن تبتم، فلكم رؤوس أموالكم، لا تَظْلِمون ولا تُظْلَمُون} [البقرة:278/ 2 - 279]. ثم جاءت الأحاديث الكثيرة، كالحديث المتفق عليه عن أبي هريرة الذي جاء فيه أن أكل الربا من السبع الموبقات الكبائر، وحديث أسامة بن زيد عند مسلم
الربا الحرام
وغيره «إنما الربا في النسيئة» أو «لا ربا إلا في النسيئة» وحديث ابن مسعود وجابر عند أبي داود وغيره: «لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه» وحديث ربا البيوع بتحريم الربا في الأصناف الستة ـ أي وأمثالها ـ عند مسلم وغيره عن عبادة بن الصامت: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثْلاً بمِثْل، سواء بسواء، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد» قال الجصاص في كتابه (أحكام القرآن: 467/ 1): «هو عندنا في حيز التواتر، لكثرة رواته، واتفاق الفقهاء على استعماله» وحديث ابن مسعود عند الحاكم أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «الربا ثلاثة وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه ... ». وأجمعت الأمة على أن الربا محرم، قال الماوردي: «حتى قيل: إنه لم يحل في شريعة قط» لقوله تعالى: {وأخذهم الربا وقد نهوا عنه} [النساء:161/ 4] يعني في الكتب السابقة. الربا الحرام: والربا المحرم في الإسلام نوعان: أولهما ـ ربا النسيئة الذي لم تكن العرب في الجاهلية تعرف سواه، وهو المأخوذ لأجل تأخير قضاء دين مستحق إلى أجل جديد، سواء أكان الدين ثمن مبيع أم قرضاً. وثانيهما ـ ربا البيوع في أصناف ستة، ذكرها حديث عبادة المتقدم، وهو المعروف بربا الفضل، وقد حرم سداً للذرائع، أي منعاً من التوصل به إلى ربا النسيئة أو ربا القرض، بأن يبيع شخص ذهباً مثلاً إلى أجل، ثم يؤدي فضة بقدر زائد، مشتمل على الربا. وهذا هو ربا النَّساء في البيوع، فهو كل تأخير أو تأجيل في أحد البدلين في أصناف معينة يحصرها الطُّعم لدى الشافعية أو القوت والادخار في المطعومات لدى المالكية، أو الثمنية في النقدين في مذهبي المالكية والشافعية، أو الكيل والوزن في مذهبي الحنفية والحنابلة. فربا النسيئة زيادة مع زمن، وربا النَّساء زمن بلا زيادة، وربا
ربا المصارف أو فوائد البنوك
الفضل زيادة بلا زمن. ولا ربا ببيع كمية حنطة بكمية شعير مثلاً مع التفاوت في المقدار كيلاً أو وزناً، بشرط التقابض في مجلس العقد، كما لا ربا ببيع مطعومات أو مواد استهلاكية يتأجل دفع ثمنها إلى شهر مثلاً بالنقود الورقية الحالية لاختلاف الفئة بين مطعوم ونقد. ولكن يوجد الربا بتبادل كيلو حنطة يدفع الآن بكيلو حنطة يدفع بعد شهر مثلاً، لاتحاد الجنس، وكذلك يوجد الربا عند شراء الحلي من الصواغ بنقود ورقية إذا تأجل دفع الثمن كله أو بعضه لأجل في المستقبل. ليست كل زيادة من الربا، وإنما الزيادة في أموال مخصوصة، والزيادة المشروطة في القرض أو جرى عليها العرف حرام، أما التبرع برد الزيادة عند وفاء القرض دون شرط ولا عرف متعارف عليه، فليس حراماً، فلا يصح القول بأن الرسول صلّى الله عليه وسلم كان يربي حينما قال: «خيركم أحسنكم قضاء». ربا المصارف: وربا المصارف أو فوائد البنوك: من ربا النسيئة، سواء أكانت الفائدة بسيطة أم مركبة، لأن عمل البنوك الأصلي الإقراض والاقتراض، فتدفع للمقرض فائدة 4% أو 5% وتأخذ فائدة من المقترض 9% أو 12%، ولا يصح القول بأن البنك مجرد وسيط بين المودع والمقترض، يأخذ عمولة مقابل وساطته، لأن البنك ممنوع من القيام بنشاط استثماري، ولا يتقاسم المودع مع البنك الربح والخسارة، ولا يتقاسم البنك مع المقترض في مشروعه الأرباح والخسائر، والنسبة مع الطرفين محددة مشروطة سلفاً سواء بالنسبة للمودع أو المقترض، وإن مضار الربا في فوائد البنوك متحققة تماماً، وهي حرام حرام حرام كالربا وإثمها كإثمه، لقوله تعالى: {وإن تُبْتُم فلكم رؤوسُ أموالِكم} [البقرة:279/ 2] وقد أصبح الربا في عرف الناس اليوم لا يطلق إلا على ربح المال عند تأخيره، وهو مشابه لربا الجاهلية المضاعف مع مرور الزمن.
فربا النسيئة الواقع في عقدي الصرف والقرض هو الواقع الآن، كشراء نقد، (دولارات) بنقد (دراهم) دون تقابض، واقتراض أو استلاف دنانير على أن يرد زيادة عليها بنسبة معينة 5% مثلاً، أو مبلغاً مقطوعاً كمئة دينار أو ألف. وأما ربا الفضل فهو نادر الحصول، لكنه حرام سداً للذرائع إلى ربا النسيئة. ويكون تحريم ربا المصارف بنص القرآن والسنة وإجماع الصحابة، أما القول بأن «كل قرض جر نفعاً» ليس حديثاً فهو صحيح، ولكن ذلك ثبت عن جماعة من الصحابة أنهم نهوا عن قرض جر نفعاً، ونهيهم مستمد من السنة النبوية وهو أن النبي صلّى الله عليه وسلم «نهى عن سلف وبيع» والسلف هو القرض في لغة الحجاز، مثل أن يقرض شخص غيره ألف درهم على أن يبيعه داره أو على أن يرد عليه أجود منه أو أكثر، والزيادة حرام كما تقدم إذا كانت مشروطة أو متعارفاً عليها في القرض، فإن لم تكن مشروطة ولا متعارفاً عليها فلا بأس بها، ويمكن فهم قاعدة «كل قرض جر نفعاً فهو ربا» على أنه في القرض الذي شرط فيه النفع أو جرى عليه العرف، كما قرر الكرخي وغيره. وكذلك إيداع المال في المصارف والتعاقد على أن تدفع منها ضرائب الدولة أو تؤخذ الفوائد وتدفع للفقراء حرام أيضاً، لأن الله طيِّب لا يقبل إلا طيباً، جاء في مسند الإمام أحمد رحمه الله عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يكتسب عبد مالاً من حرام، فينفق منه، فيبارك فيه، ولا يتصدق به، فيتقبل منه ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيء بالسيء، ولكن يمحو السيء بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث» ولكن لو كان المال مودعاً في بنوك دولة أجنبية، وسجلت له نظامياً فوائد، فلا مانع كما جاء في فتوى لجنة الإفتاء بالأزهر في الستينات ونشرتها مجلة الوعي الإسلامي من أخذ هذا المال وصرفه في مصالح عامة في ديار المسلمين كتعبيد الطرق وبناء المدارس والمشافي
الفوائد في قوانين الدول العربية
ولا تترك للأجانب يتقوون بها علينا، أوتبنى بها الكنائس، وهذا من قبيل (اختيار أهون الشرين) و (الأخذ بأخف الضررين). الفوائد في قوانين الدول العربية: تتفاوت عبارات القوانين في البلاد العربية بالنص على تحريم الفوائد أو إباحتها من الناحية النظرية الظاهرية فقط، ولكن لا تخلو دولة عربية مع الأسف الشديد من إقرار النظام المصرفي والتعامل بالفائدة. فهناك اتجاه يجيز الفائدة مطلقاً كمجلة الالتزامات والعقود التونسية وقانون الموجبات والعقود اللبناني، ففيهما النص على سريان الفائدة من تاريخ الإعذار، وليس للفائدة حد أقصى، وهكذا فعلت تركيا حيث أطلقت حديثاً على لسان رئيس الوزراء الحالي حرية أسعار الفائدة، واتجاه ثان يجيزها بقيود كالقانونين المدني المصري والسوري حيث جاء فيهما: لا يجوز أن تتجاوز الفائدة رأس المال ولا أن تتجاوز الحد الأقصى ولا تسري إلا اعتباراً من المطالبة القضائية، وقد نص القانون المصري (م 226) ومثله العراقي (م 171) على الفائدة 4% في المسائل المدنية و 5% في المسائل التجارية كالقانون المغربي (م 870) الذي نص على أن اشتراط الفائدة بين المسلمين باطل ومبطل للعقد الذي يتضمنه، والقانون المدني الجزائري لعام 1975 (م 455، 456) الذي نص على أن القرض بين الأفراد يكون دائماً بدون أجر، ويقع باطلاً كل نص يخالف ذلك، ولكنه أجاز التعامل بالفائدة للمؤسسات المالية (البنوك) في حال إيداع أموال لديها، وكذلك القانون الليبي رقم 74 لعام 1972 (م 1 الذي أباح الفائدة بين الأشخاص الاعتباريين (كالدولة) ومصارفها، وحرمها على الأشخاص الطبيعيين الأفراد العاديين. وهذه تفرقة ليست في شرع الله ولا دينه، فلا فرق في التحريم بين الفرد المسلم والدولة، والخطاب الشرعي للجميع، وإلا
جاز للدولة باعتبارها شخصاً معنوياً كل ما حرمه الإسلام من الظلم والغبن والقتل بغير حق وأكل الأموال بالباطل، وقد قال أبو يوسف رحمه الله للخليفة هارون الرشيد في كتاب الخراج «لايجوز لولي الأمر أن يأخذ شيئاً من يد أحد إلا بحق ثابت معروف». ومن هذا الاتجاه القانون الأردني (بموجب نظام المرابحة العثماني 1304 هـ مارس 1903م) حيث نص على حد أقصى للفائدة 9% ونص القانون المدني الأردني (م 640) على بطلان شرط المنفعة في القرض وصحة العقد. وكذلك المعمول به في دولة الإمارات، الذي سوِّى فيه بين المعاملات المدنية والتجارية في قانون الاجراءات المدنية لإمارة أبو ظبي، وقضت المحكمة الاتحادية العليا في تفسيرها رقم 14 لسنة 1979 بدستورية نص المادتين 61، 62 من هذا القانون، إلا أنه لا يجوز أن يزيد سعر الفائدة التي تحددها المحكمة عن السعر الذي اتفق عليه الأطراف أو تعاملوا به في أي مرحلة قبل رفع الدعوى، ونص القانون الإماراتي (م714) على بطلان شرط المنفعة الزائدة في القرض وصحةالتعاقد. لكن نص قانون العقوبات لدولة الإمارات في المادة (409) على أنه «يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ثلاثة أشهر وبالغرامة التي لا تقل عن ألفي درهم كل شخص طبيعي تعامل مع شخص طبيعي آخر بربا النسيئة في أي نوع من أنواع المعاملات المدنية والتجارية، ويدخل في ذلك كل شرط ينطوي على فائدة ربوية صريحة أو مستترة» وهذا يعني بالمفهوم المخالف إعفاء الأشخاص الاعتبارية (البنوك) من العقوبة. أما القانونان المدنيان في كل من السودان (م1/ 279، 281) والكويت (م1/ 547) فقد نص كلاهما على منع الربا أو الفائدة ظاهراً. «يكون الإقراض بغير فائدة، ويقع باطلاً كل شرط يقضي بغير ذلك» لكن نص القانون التجاري في الكويت (م 102) على أن «للدائن الحق في اقتضاء فائدة في القرض التجاري» وكان العمل على هذا أيضاً في السودان، والسعودية وغيرهما.
شبهات القائلين بإباحة فوائد البنوك
شبهات القائلين بإباحة فوائد البنوك: 1 - يزعم المبيحون للفوائد المصرفية (البنكية) أنها ليست أضعافاً مضاعفة، وإنما هي نسبة قليلة 4% أو 7% أو 9%، فلم يشملها النص المحرم للربا: «وحرَّم الربا» وليست مما عهدته العرب. والرد على ذلك أن الربا في الآية ليس هو ربا العهد المذكور في سورة آل عمران فحسب، وهو ربا الجاهلية المضاعف، بل كل ما ذكر في القرآن والسنة الثابتة المفصلة لأنواع الربا وهي ربا الفضل وربا النسيئة الشامل لربا البيوع وربا القروض، وليس مجرد الربا المضاعف، وإنما كل زيادة قليلة أو كثيرة، لقوله تعالى: {وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم} [البقرة:279/ 2] وأكد الله تعالى هذا مباشرة بقوله: {لا تَظْلِمون ولا تُظْلَمُون} [البقرة:279/ 2] كما أن اللام في قوله تعالى: {وحرم الربا} [البقرة:275/ 2] للجنس، أي حرم جنس الربا، ثم أبانت السنة النبوية في الأحاديث الصحيحة المراد من هذا الجنس، أي الزيادة في أموال مخصوصة، وعقود معينة هي البيع والقرض والصرف، لكن الفقهاء اختلفوا في علة الربا بين موسع ومضيق ومتوسط، والفريق الأول هم الحنفية والحنابلة الذين جعلوا العلة هي الكيل والوزن، فشمل الربا كل ما يباع كيلاً كالقمح والشعير، وكل ما يباع وزناً كالقطن والحديد، والذهب والفضة. والفريق الثاني هم المالكية الذين حصروا علة ربا المطعومات في القوت والادخار أي كل مقتات غالباً قابل للادخار مدة سنة مثلاً، أي لا يفسد بتأخيره مدة من الزمن لا حد لها في ظاهر المذهب، وإنما بحسب الأمد المبتغى منه عادة في كل شيء بحسبه، فالمرجع فيه إلى العرف، والفريق الثالث وهم الشافعية الذين جعلوا العلة هي الطُّعْم وهو يشمل كل مايتناول الإنسان اقتياتاً أوتفكهاً أو تداوياً، واتفق الفريقان الثاني والثالث على أن العلة في النقدين وما يحل محلهما من النقود الورقية هي النقدية أو الثمنية، أي كونهما ثمناً للأشياء.
2 - يزعم المبيحون أيضا بأن لفظ «الربا» في الشريعة مجمل،
ليست العلة في الربا هي الاستغلال والظلم وإنما هذه حكمة لا يربط الحكم الشرعي بها، ولا يصح القياس عليها لعدم انضباطها واختلافها من شخص لآخر، حتى يقال بأنه إذا لم يتوافر الاستغلال والظلم، كالقروض الإنتاجية لإصلاح أرض أو إقامة مصنع أو تشييد بناء أو غير ذلك من مختلف مجالات الإنماء، كانت الفائدة أي الربا جائزة. ثم إن ربا المصارف كما تقدم يصبح بنظام الفائدة المركبة من ربا الأضعاف المضاعفة، وليس صحيحاً ما ينقل عن ابن عباس أنه كان يحرم فقط ربا الجاهلية، ولا يحرم ربا الفضل وربا النسيئة حسبما زعم السنهوري. 2 - يزعم المبيحون أيضاً بأن لفظ «الربا» في الشريعة مجمل، عرف العرب بعضه ولم يعرفوا البعض الآخر، ويؤيدون رأيهم بقول عمر رضي الله عنه: «أن آية الربا من آخر ما نزل من القرآن، وأن النبي صلّى الله عليه وسلم قبض قبل أن يبينه لنا، فدعوا الربا الريبة». وهذا خطأ لأن الشريعة تتمثل بالقرآن والسنة الصحيحة، والقرآن حرم جنس الربا، بدليل آخر قول عمر: «فدعوا الربا والريبة» وجاءت السنة الثابتة بمجموع الأحاديث الصحيحة مبينة المراد من قوله تعالى: {وحرَّم الربا} [البقرة:275/ 2] واعتبر النبي صلّى الله عليه وسلم بعد فتح خيبر المتأخر حدوثه (وهو سنة سبع بعد الحديبية) مبادلة الصاع الجيد من التمر بالصاعين من الرديء «عين الربا» مما يدل على وجود هذه المعاملة بين العرب، وأنها بيع في ظنهم، فكان إرشاد النبي صلّى الله عليه وسلم دالاً على أن ذلك العقد ربا حرام وليس بيعاً حلالاً، كما أن لفظ الربا الوارد في القرآن شامل لهذا النوع من المعاملة. وعلى هذا فلا يصح القول بحصر الربا بربا الجاهلية (الأضعاف المضاعفة)، وبأن غيره من أنواع الربا مشكوك في حرمته، وإن اعتبرناه حراماً فهو أقل حرمة من ربا الجاهلية، كما يقول السيد رشيد رضا. 3 - يزعم بعض المعاصرين كالدكتور معروف الدواليبي أن الربا المحرم هو ربا القروض الاستهلاكية أي التي يقترضها ذوو الحاجة الملحة ويؤدونها أضعافاً
4 - يزعم هؤلاء المبيحون بأن الفائدة في القروض الإنتاجية تقتضيها مصلحة متحققة فتجوز ولو عارضتها مفسدة
مضاعفة، أما القروض الإنتاجية التي يقترضها الموسرون للتشغيل في مشروعات إنتاجية صناعية أو تجارية أو زراعية تدر عليهم ربحاً وفيراً، فليست الفائدة المؤداة ربا محرماً لعدم توافر معنى استغلال حاجة المحتاج. ويلاحظ أن أول من أعلن هذا في أسبوع الفقه الإسلامي عن الربا سنة 1951 م في باريس قد تأثر بالنظريات الرأسمالية وبالفكر اليهودي. وقد رددت على هذا بأن الحكم الشرعي يرتبط بالعلة المنضبطة لا بالحكمة المضطربة المختلفة من شخص لآخر، وربط الربا بالاستغلال والظلم بيان للحكمة التشريعية لا لعلة الحكم. ثم إن الشريعة بنصوصها القاطعة حرمت كما تقدم جنس الربا، ولم تفرق بين قرض استهلاكي وقرض إنتاجي، كما أن الإسلام حرم كل أنواع الربا مبتدئاً بالموسرين كالعباس. 4 - يزعم هؤلاء المبيحون بأن الفائدة في القروض الإنتاجية تقتضيها مصلحة متحققة فتجوز ولو عارضتها مفسدة، والقاعدة المنقولة في مقال العربي السابق عن عالم أن المفسدة إذا عارضتها مصلحة راجحة قدمت المصلحة، وتتمثل المصلحة هنا في توظيف الأموال لمضاعفة الدخل القومي، وفتح مجالات العمل أمام العمال، وإفادة كل من المقرض والمقترض. أما المفسدة فهي الربا فقط. وهذا خطأ بيِّن لأن القاعدة الشرعية الصحيحة أن «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح» وأن المصلحة يعمل بها إذا لم تعارض النص الشرعي، ومجال العمل بالمصلحة عند فقدان الدليل من نص أو إجماع أو قياس، وأن مفاسد القروض الإنتاجية أكثر وأخطر من المصالح الوهمية المشار إليها، لأن المنتج يضيف مقدار الفائدة على تكاليف الإنتاج التي يتحملها المستهلك في نهاية الأمر، ولأن ارتفاع سعر السلع فيه مضرة بمجموع الناس، ولأن الفائدة الربوية تسخر العمل لخدمة رأس المال دائماً، ولأن إقراض الموسرين يحصر الثروة في أيديهم، ويؤدي إلى التضخم النقدي والتفاوت الصارخ بين الأغنياء والفقراء.
5 - يزعم المبيحون بأن المصارف (البنوك) في العصر الحديث ضرورة اقتصادية لا يستغنى عنها
5 - يزعم المبيحون بأن المصارف (البنوك) في العصر الحديث ضرورة اقتصادية لا يستغنى عنها، وهذا أيضاً تمويه وخداع، فإن النظام الاشتراكي لا يقر نظام الفوائد المصرفية، كما أن نجاح المصارف الإسلامية التي زادت عن خمسين مؤسسة في عصرنا، في غضون ثلاث عشرة سنة فقط برهان واضح على إمكان قيام نظام اقتصادي خال من الفوائد البنكية أو المصارف الربوية. ولايصح القول أيضاً بأن فوائد المصارف مما تعارف عليها الناس، والعرف مصدر تشريعي؛ لأن هذا عرف فاسد مصادم للنصوص الشرعية. 6 - إن تسويغ (تبرير) الربا بالتضخم النقدي أي بجعل الفائدة تعويضاً عن القيمة المفقودة من النقد غير صحيح، لأن الفائدة في الحقيقة هي سعر استعمال النقدية مع مرور الزمن، وليست تعويضاً عن فقد قيمة النقد، كما أن الربا من مسببات التضخم فعلاً، وليس نتيجة له، كما يقرر الاقتصاديون. 7 - إن من مظاهر انحطاط الفكر ودواهي العلم أن يقال: (إن الأوراق النقدية لا توزن، فلا تعتبر من الربويات، بل تأخذ حكم العروض التجارية)، أو يقال: إن الأوراق النقدية كالفلوس لايجري فيها الربا. وهذا جهل واضح بحقيقة النقود، فإنها ثمن اصطلاحي للأشياء، سواء أكانت معادن أم أي شيء آخر، وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «لا تبيعوا الدينار بالدينارين» (نيل الأوطار: 303/ 5) والفلوس ليست لها قوة النقود ولا بديلاً عن النقود، وإنما هي كالسلع التجارية، فلا تقوَّم بها السلع والأعيان وإنما تقوَّم بالذهب والفضة، وكان سلخ وجود صفة الربا فيها لتفاهتها، كتفاهة بيع الحفنة بالحفنتين، والتفاحة بالتفاحتين، وإنما سمح بتداولها في الماضي لتسهيل شراء ما رخص ثمنه من الحاجيات. 8 - أن الفائدة البنكية المعطاة لصاحب المال، المحددة بمقدار معين حرام،
لأنها قدر مقطوع لا زيادة فيها ولا نقص ولا تتأثر بحقيقة الأرباح، ولا تساهم في تحمل شيء من الخسارة إذا قيل: إنها عائد استثمار رأس المال المودع في المشروعات الاستثمارية من صناعة وتجارة وزراعة وغيرها. وعلى هذا فلا يصح القول خلافاً لما جاء في مقال مجلة «العربي» السابق وغيره من الفتاوى الضالة بإباحة أرباح صناديق التوفير التي تعتمدها بعض الحكومات لتشجيع الناس على الادخار، ولا القول بإباحة أرباح شهادات الاستثمار المصرفية حيث يودع بعض الناس أموالهم، ويحصلون على شهادات أو صكوك بقيمتها، تحقق أرباحاً أو جوائز بعد فترة زمنية معينة؛ لأن هذه الصناديق والشهادات ما هي إلا قرض جر نفعاً، وليست عارية؛ لأنه يجب رد العين المعارة بذاتها، ولأن عارية النقود قرض، ولا وديعة، لأن الودائع لا يجوز للوديع تشغيلها، فإن استعملها ضمنها، وليست هي أيضاً من قبيل شركات المضاربة بتقديم رأس المال من جانب والعمل من جانب آخر؛ لأن المصارف تحدد نسبة معينة من الربح بمقدار نسبة رأس المال، لا بحسب نسبة الربح الفعلي، مما يجعل المعاملة ربا نسيئة، والمضارب في شركة المضاربة شريك لرب المال، والشريك لا يضمن إلا بالتعدي أو بالتقصير في العمل، مع أن رأس المال مضمون من قبل المصرف كالمقترض تماماً، فإنه ضامن بالشرط والتعهد والاتفاق لا تبرعاً لما يقترضه من مال. ثم إنه لا بد من الاشتراك في الربح دون تحديد نسبة مقطوعة، وتكون الخسارة على رب المال في المضاربة، ولا خسارة على أصحاب هذه الأموال، وقد يقرض المصرف بعض الأموال المودعة لديه، وليس هذا جائزاً في المضاربة. ولا يجوز تخصيص حظ معين، لأنه قد أجمع الفقهاء في الشركات وعقود استثمار الأراضي (المساقاة، والمزارعة، والمغارسة) على عدم جواز تخصيص مقدار مقطوع من الربح أو الغلة والناتج لوجود الغرر، أي احتمال وجود ربح أو عدم وجوده،
الخلاصة
واحتمال تفاوت نسبة الربح، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم في حديث رافع بن خديج نهى عن كراء الأرض بما على السواقي وأمر بكرائها بذهب أو ورق (فضة) معين. ولا عبرة لما يقال بأن المشروع رابح دائماً، وأن الخسارة نادرة فتكون غرراً يسيراً لا يبطل العقد فإن الكلام في مقدار الغرر، ومقدار الغرر فاحش، وليس الكلام في ندرة وقوعه أو عدم وقوعه، لأن الخسارة للمصرف إذا حدثت تكون فاحشة وليست يسيرة. والكلام عن الغرر يقتضينا الإشارة إلى أن مقال العربي السابق الذي ينقل عن عالم جواز التأمين على الحياة خطأ أيضاً، لأنه بالرغم مما يقال عن أن نسبة الاحتمال أو الغرر في شركات التأمين تخضع لحسابات دقيقة، وهي يسيرة مسموح بها، فهو كلام مناقض للواقع، لأن مقدار الغرر فاحش، واحتمال حدوث الحادث أو عدم حدوثه بيد الله تعالى: {وما تدري نفس ماذا تَكْسِبُ غداً، وما تدري نفس، بأي أرض تموت، إن الله َ عليمٌ خبيرٌ} [لقمان:34/ 31]. والخلاصة: إن فوائد المصارف حرام شرعاً بنص القرآن والسنة وإجماع الصحابة والأمة، والقول بإباحتها مصادم بداهة للأدلة الشرعية كلها النصية (القرآن والسنة) والاجتهادية (كالإجماع والقياس) ولا عبرة بقول من غير فقه وورع، أو جهل بحقيقة أعمال المصارف. هذا مع العلم بتناقض فتاوى مفتي مصرالدكتور سيد طنطاوي حيث صدرت له فتاوى سابقة تصرح بتحريم فوائد البنوك وشهادات الاستثمار (¬1). ¬
أحكام التعامل مع المصارف الإسلامية
أحكام التعامل مع المصارف الإسلامية المصرف الإسلامي: هو مؤسسة مالية تقوم بتجميع الأموال واستثمارها وتنميتها لصالح المشتركين، وإعادة بناء المجتمع المسلم، وتحقيق التعاون الإسلامي، على وفق الأصول الشرعية. وأهم تلك الأصول: اجتناب المعاملات الربوية والعقود المحظورة شرعاً، وتوزيع جميع الأرباح بحسب الاتفاق دون استغلال حاجة المضطر أو المحتاج، ومساعدة أهل الحاجة عن طريق القرض الحسن، والدعوة إلى الإسلام اقتصادياً واجتماعياً. مميزات المصارف الإسلامية: تمتاز المصارف الإسلامية عن المصارف التجارية الربوية القائمة على أساس الفائدة المصرفية إيداعاً وإقراضاً، بميزات واضحة، مستمدة من الشريعة الإسلامية وفقهها الخصب غير الملتزم بمذهب معين، بحيث يمكن أن تحقق هذه التجربة نجاحاً ملحوظاً بارزاً، تستطيع به الصمود أمام المصارف الأخرى، ومنافستها، وإقناع المسلم بأنها قادرة على تلبية حاجاته، وتحقيق مطالبه في ظل أحكام القرآن، والحد من غطرسة النظام الرأسمالي القائم أساساً على الاستغلال والطبقية والفائدة الربوية. وأهم هذه الميزات التي يبين منها أوجه الفرق بين المصارف الإسلامية والمصارف التجارية هي ما يأتي: 1 - ارتباطه بالعقيدة الإسلامية: المسلم في كل تصرفاته ملتزم بأصول الحلال والحرام في شريعته، فهو يقْدم على الحلال الواضح المعالم الذي يطمئن إليه
قلبه، ويجتنب الحرام الذي يمنعه دينه ويحظره عليه شرعه، فلا يجرؤ على مخالفة حكم من أحكام قرآنه وسنة نبيه، وقد نص القرآن الكريم على تحريم الربا تحريماً قطعياً أبدياً، سواء أكان ربا نسيئة ومنها ربا المصارف، أم ربا فضل، وسواء أكان الربا في البيع أم في القرض، وسواء أكان القرض استهلاكياً أم إنتاجياً. وذلك في قوله تعالى: {وأحل الله البيع وحرم الربا} [البقرة:275/ 2] أي حرم جنس الربا بمختلف أنواعه، وأنذر تعالى بمحق فوائد الربا فقال: {يمحق الله الربا ويربي الصدقات} [البقرة:276/ 2] وأوجب تعالى ترك كل آثار الربا وتصفيته ولو كانت الفائدة قليلة مثل 1% بقوله: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله، وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين} [البقرة:278/ 2] وأعلن الحق تبارك وتعالى الحرب والعداوة على أكلة الربا، فقال: {فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله، وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم، لا تَظْلمون ولا تُظلمون} [البقرة:279/ 2] وهذا أشد عقاب في الإسلام، وأدل على أن الربا أشد الأحكام حرمة وأفظعها وأشنعها جرماً عند الله تعالى، لاستحقاقه عداوة الله والرسول. وينبني على قاعدة الحلال والحرام هذه أنه لا يجوز للمصرف الإسلامي إنتاج أوتمويل أو استيراد أو تصنيع السلع المحرمة شرعاً كالخمر، أو التعامل بالربا، أو الاحتكار، أو التغرير أو الغش في التعامل. أما المصارف الربوية فتعتمد على الفائدة أخذاً وعطاء، وعلى دعم الاحتكارات. ويتعين على المصرف الإسلامي توجيه الموارد واستثمارها في مجال السلع والخدمات المشروعة دون إسراف. ويراعي المصرف في مشروعاته حاجات المسلمين ومصلحة الأمة.
2 - الأخذ بمبدأ الرحمة والتسامح واليسر
2 - الأخذ بمبدأ الرحمة والتسامح واليسر: إن مبدأ الإخاء الإسلامي يوجب على عاملي المصرف الإسلامي الأخذ بيد المسلم لإنقاذه من عسر أوضيق طارئ أو أزمة ألمت به، فلا إرهاق ولا إعنات في المطالبة، ويعتمد في معاملته النصح والإرشاد، والأمانة والصدق، والإخلاص والتسامح، ويتعامل بالقرض الحسن، ويمهل المدين الغريم عند العسر، أخذاً بنظرية الميسرة المقررة في القرآن الكريم في قوله تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنَظِرة إلى مَيْسَرة، وأن تصدَّقوا خير لكم إن كنتم تعلمون} [البقرة:280/ 2]. أما المصارف التجارية غير الإسلامية فنظرتها مادية محضة، لا تعنى بالأخلاق، ولا ترعى ظروف المقترض، وإنما يهمها مصلحتها وتحقيق أرباحها، بغض النظر عن أوضاع العميل مع المصرف، فإذا لم يقم بتسديد ما عليه من فوائد متراكمة تبادر إلى الحجز على ممتلكاته التي قدمها رهناً بالقرض. 3 - النزعة الاجتماعية الإنسانية: إن هدف المصارف الربوية هو الربح، وتحقيق أكبر ربح ممكن، بينما هدف المصارف الإسلامية هو التعاون، ودرء الضرر، ودفع الحاجة، من طريق القروض الحسنة التي لا تأخذ فائدة عليها، وصرف الزكاة إلى الأسر الفقيرة، وطلبة العلم، وبناء المساجد، ودعم الجمعيات الخيرية التي تعنى برعاية الفقراء طعاماً وغذاء وكساء ومأوىً وعلاجاً، وبتحفيظ القرآن، وإعداد الجيل على منهج التربية الإسلامية في سيرتها السلفية الأولى، مع الأخذ بما تقتضيه المعاصرة والحداثة والتطور النافع المفيد. وتعنى المصارف الإسلامية بربط التنمية الاقتصادية بالتنمية الاجتماعية في أُطر متوازنة وتنسيق متكامل صحيح، فيسير العمل من أجل توفير الرخاء الاقتصادي، مع التهذيب الاجتماعي القائم على الالتزام بآداب الإسلام وقِيَمه
4 - المساواة بين طرفي التعامل، والوضوح في العمل، والثقة في الاستثمار
وأخلاقه الاجتماعية في كل مناحي الحياة ومسيرة المعاملات، فلا غش ولا خداع، ولا تغرير ولا تدليس، ولا مقامرة ولا غبن في المعاملات، منعاً لأكل أموال الناس بالباطل، وحفاظاً على شيوع روح الود والحب والطمأنينة، ومنع المنازعات بين الناس، وتحقيق أكبر قدر ممكن من الاستقرار في الحياة والأوطان الإسلامية، وتقوية وازع الدين، وخشية الله تعالى ورقابته في السر والعلن، حتى يكون المواطن عضواً أميناً صالحاً منتجاً، يعمل بوحي من دينه وضميره الذي لا رقيب عليه إلا الله تعالى، ويتقن أعماله ويضاعف جهوده في الإنتاج، والتصنيع، وتحسين الثمار والزروع وغير ذلك من الأنظمة الاقتصادية وتقوية التجارة القائمة على الثقة، وإفادة الأمة الإسلامية. 4 - المساواة بين طرفي التعامل، والوضوح في العمل، والثقة في الاستثمار: لا تعرف المصارف الربوية هذه المبادئ، وإنما المهم تشغيل الأموال بمعرفة إدارة المصرف، وإعادة الإقراض إلى غير المودعين بسعر فائدة أعلى من سعر فائدة الودائع. بينما المصارف الإسلامية لا غموض فيها، وكل أعمالها واضحة، ويهمها توفير ثقة المتعاملين مع إدارة المصرف، ولا تعتمد على الإقراض بالفائدة، وتلتزم بعقد المشاركة (شركة العنان في الفقه الإسلامي) مع العميل أو صاحب رأس المال، فيساهم الشريك والمصرف في رأس المال والإدارة، ويقسم الربح بنسبة يتفقان عليها بالتراضي مقدماً. أما الخسارة فتكون بنسبة رأس المال، إلا إذا كانت الخسارة بسبب التعدي أو التقصير. وفي مجال تشغيل الأموال أو استثمارها يعتمد المصرف على نوع آخر من الشركات هو شركات القراض أو المضاربة التي يقدِّم فيها المصرف كل التمويل، بينما يقوم الشريك المضارب بالإدارة والعمل، وفقاً لشروط محددة يعينها المصرف حسبما يعرف في الفقه الإسلامي بالمضاربة المقيدة. ويحدد نصيب المضارب في
الربح بالتراضي بين الجانبين مقدماً، أما الخسارة فيتحملها المصرف وحده، ويفقد الشريك المضارب مجهوده الذي بذله في إدارة المشروع، ما لم تكن الخسائر بسبب التعدي أو التقصير. أما في نطاق الاستيراد كشراء السيارات والسلع التجارية سواء من داخل البلاد أو خارجها، فيلجأ المصرف الإسلامي إلى نوع من البيوع يسمى بيع المرابحة: وهو البيع بمثل الثمن الأول مع زيادة ربح، وهو من بيوع الأمانة، فإن ظهرت خيانة كان للمشتري الخيار بنقض الصفقة. ويستطيع المصرف أن يأخذ ربحاً معقولاً على شراء السلعة، سواء أكان البيع حالا (نقدياً) أم مقسطاً أم مؤجلاً لأجل معين، ويجوز في رأي جمهور الفقهاء أن يكون سعر التقسيط أو المؤجل أعلى من السعر الحالّ أو النقدي، بشرط تحديد السعر تحديداً نهائياً عند الاتفاق على البيع. ويمكن للمصرف بناء بيت أو منزل في أرض بمبلغ معين يراعى فيه التكاليف زائداً الربح، يدفع عند التسليم، أو على أقساط يتفق عليها، ولا مانع من اختلاف الثمن باختلاف الأجل. أما التحاويل والحوالات التي هي وسائل تؤدي إلى سداد مبالغ نقدية في داخل البلد أو خارجه، فيجوز شرعاً وكما هو معمول به في المصارف التجارية أن تكون بأجر أو بغير أجر. وأما خطابات الضمان (وهي التعهدات الكتابية التي يتعهد بمقتضاها المصرف بكفالة أحد عملائه في حدود مبلغ معين تجاه طرف ثالث، بمناسبة التزام ملقى على عاتق العميل المكفول) فهي كفالة جائزة شرعاً. أما أخذ المصرف الأجرة على هذه الكفالة فيجوز إذا كان خطاب الضمان بغطاء كامل أو جزئي (أي بتعهد بالدفع
5 - مناط الربح تشغيل رأس المال والعمل
الكلي أو الجزئي ويرصد مقابلها ما يوازيها)؛ لأن العقد هنا عقد كفالة ووكالة معاً: كفالة بالنسبة لعلاقة المصرف مع الطرف الثالث ووكالة بالنسبة لعلاقة المصرف مع العميل. ولا يجوز للمصرف أخذ الأجرة إذا كان خطاب الضمان بغير غطاء (أي لا يرصد مقابله شيء) لأن العقد هنا عقد كفالة، ولايجوز أخذ الأجر على الكفالة؛ لأنها من عقود التبرعات، وأخذ الأجر على ذات الضمان غير جائز عند جمهور الفقهاء، خلافاً لما عليه المصارف التجارية من أخذ عوائد على خطابات الضمان التي تصدرها. وهذا الحكم الشرعي هو ما أخذ به المؤتمر الأول للمصارف الإسلامية، وهيئة الرقابة الشرعية لبنك فيصل الإسلامي السوداني. وأجازت هذه الهيئة أخذ أجر حالة الكفالة المجردة شريطة أن يكون محسوباً نظير ما يقوم به البنك من خدمة فعلية يتكبدها في سبيل إصدار خطاب الضمان، من غير أن يمتد ذلك إلى الضمان نفسه. 5 - مناط الربح تشغيل رأس المال والعمل: الاسترباح في المصارف الإسلامية يعتمد على تشغيل رأس المال والعمل من جانب المصرف أو وكلائه، فلا يحقق إيداع المال نظير فائدة ثابتة، وإنما صاحب رأس المال شريك بناء على شركة العنان أو شركة المضاربة، ويجوز اجتماع شركة المضاربة مع شركة أخرى كشركة العنان، كما يجوز تعدد أرباب المال وتعدد المضارب، فللمضارب الواحد أو جماعة المضاربين الاشتراك مع آخرين في شركة عنان. والمضاربة مبنية على الأمانة، فلا يجوز أن يضمن المضارب المال، وإلا فسخ العقد. ويطبق المصرف مبدأ المضاربة المطلقة فيما يتعلق بالودائع الاستثمارية، والمضاربة المقيدة فيما يتعلق بعمليات الاستثمار.
أما المستفيد من المصارف فيقترض منها بالقرض الحسن الذي لا فائدة فيه، ومصدر أموال القروض من بعض مؤسسي المصرف؛ لأن الفقهاء اتفقوا على أن كل قرض جر نفعاً فهو ربا، أي اشترط فيه النفع وهو الربا أو الفائدة أو المنفعة كالسكنى في بيت الغريم المدين. ولا يجوزفي أي تعامل للمصرف أن ينص على دفع فائدة منه أو إليه، وليس له أخذ فائدة مقابل دفع مبلغ مؤجل حالاً؛ لأن ذلك ربا حرام داخل في قاعدة «ضع وتعجل». وبناء عليه لا يصح للمصرف في تعامله مع المصارف الأجنبية أن ينص على أخذ فائدة أو دفع فائدة، كأن يشترط المصرف الإسلامي على المصرف الأجنبي أن يقرضه عندما ينكشف حسابه نظير فائدة، والحل هو الاتفاق على إيداع المصرف الإسلامي مبالغ في المصرف الأجنبي لحسابه من غير فائدة، وإذا احتاج المصرف الإسلامي تغطية عجزه، لا يدفع فائدة للمصرف الأجنبي إذا صار دائناً له، وقد قبلت المصارف الربوية هذا التعامل. ويلاحظ أن المصارف التجارية لا تتعامل مع عملائها أو مع المصارف الأخرى إلا بفائدة ربوية في حالتي الأخذ والعطاء. ونظام الفوائد سلباً وإيجاباً يؤدي إلى تضخم التكاليف: وارتفاع الأسعار؛ لأن كل فائدة تضم في النهاية على سعر السلعة، ويدفعها المستهلك مع ثمن البضاعة. وهناك عبء إضافي ثقيل على المقترض من المصارف الربوية وهو مضاعفة الفائدة أو ما يسمى بالفائدة المركبة مع مرور الزمن ومضي السنوات، وإذا عجز عن تسديد هذه الفوائد وهو الغالب، فإن أرضه أو بستانه أو منزله الذي قدمه رهناً سيباع بالمزاد العلني، ويأخذ المصرف من الثمن كامل حقه غير منقوص.
6 - سعة رقعة التعامل مع العملاء
ًً 6 - سعة رقعة التعامل مع العملاء: ليس كل أحد يستطيع التعامل مع المصارف التجارية الربوية، وإنما الأمر مقصور غالباً على الأغنياء، فتعطى القروض لكبار العملاء والذين يستطيعون تقديم ضمانات عقارية أو عينية كالبضائع والمعدات والآلات. أما المصارف الإسلامية فتتعامل مع جميع الناس، حتى أبسط الحرفيين وصغار الكسبة وصغار التجار، وحديثي التخرج من الجامعات، فتمول المشروعات الصغيرة، وتساعد في توفير المسكن والمأوى للشاب الذي يريد الزواج والاستقرار في حياته العائلية. 7 - العدالة في تقدير العمولة: تتقاضى المصارف التجارية عمولة على جميع أوجه نشاط التعامل معها، أما المصارف الإسلامية فتتقاضى عمولة مطابقة تماماً للجهد المبذول أو السعي في تحقيق مصلحة العميل، فيأخذ المصرف النفقات الفعلية التي أنفقها على قرض معين بذاته، كما يأخذ مصاريف القرض الحسن مرة واحدة في بداية القرض، ومبلغاً موحداً على القرض غير مرتبط بقيمته. وبعض هذه المصارف مثل «بنك دبي الإسلامي» لا يأخذ أية مصاريف على القرض الحسن وإنما يأخذ فقط مبلغ القرض دون أي مصاريف أو زيادة. هل التعامل مع المصارف الإسلامية حلال أو حرام؟ يتبين مما تقدم أن المصرف الإسلامي يلتزم جانب الحلال في أعماله ومعاملاته كلها، ويجتنب الحرام فيما يقوم به من مشاركة واستثمار وتنمية الأموال المدفوعة
إليه، ويساهم في سد حاجة المحتاج عن طريق القروض الحسنة غير المقترنة بشرط دفع فائدة ربوية أو تحقيق منفعة على حساب المقترض، فليطمئن المسلم على سلامة تعامله مع المصارف الإسلامية شرعاً أخذاً وعطاء، إنتاجاً واستثماراً، على أساس المشاركة المنتهية بالتمليك أو المساهمة. إذ من المعلوم شرعاً أن العقد الجائز يصح للإنسان المسلم إبرامه، والأصل في المعاملات والعقود: الإباحة، وأما التعامل أو العقد المحظور شرعاً كالعقد الفاسد أو الباطل، مثل البيع المشتمل على الربا فيحرم الاقتراب منه، ويلزم اجتنابه، حتى ولو كان عقداً صحيحاً في الظاهر لكنه يستهدف غاية محظورة أو ممنوعة شرعاً؛ إذ من المبادئ الشرعية أو الأصولية: مبدأ سد الذرائع إلى الحرام، فكل ما أدى إلى الحرام أو كان وسيلة إليه، فهو حرام محظور شرعاً. والإسلام يجيز كل ما يحقق حاجات الناس، ولا يحجر على أحد الربح المعقول شرعاً وهو ما كان دون الخمس أوالثلث، وربما اشتبه على بعض الناس الوقوع في معنى الحرام أو الربا في بعض المعاملات، وهذا صحيح، ولكن الإسلام يمنع التصريح بالربا أو اشتراط الفائدة، ولكنه لا يمنع التوصل إلى المقصود بأسلوب شرعي، فمثلاً البيع بالتقسيط أو بثمن مؤجل أكثر من السعر الحال أو النقدي، قد يقال: إنه حرام لما فيه من زيادة في السعر على الثمن الحالّ، ولكن فقهاء الإسلام أجازوه رعاية للحاجة، ولأنه لا يقصد به الاستغلال والتضييق على المضطر أو المحتاج، وإنما على العكس فيه رعاية لحاجة المشتري الذي لا يملك الثمن الكلي للسلعة، وهو بحاجة إليها. والعمولة على الخدمات المصرفية قد يتوهم أنها فائدة أو ربا حرام، مع أنها
أجر على عمل ما لم ينص صراحة على الفائدة، ومعظم الخدمات المصرفية التي يقوم بها المصرف للعملاء جائزة على أساس الإجارة والوكالة بأجر، والإجارة نوعان: إجارة منافع الأعيان، وإجارة الأشخاص، فإيجار الخزائن الحديدية أو المخازن تتضمن منافع الأعيان، وقيام موظفي المصرف بالعناية بهذه الأماكن يتضمن إجارة الأشخاص. وما عدا إيجار الخزائن الحديدية والاعتمادات المستندية من الخدمات المصرفية مثل كتابة الوثائق وتدوين الحسابات وفتحها وتشغيل الأموال ورصد الأرباح جائز أيضاً لا شبهة فيه.
بيوع الأمانة
.................... 6 .......................................... ...................................... بيوع الأمانة ...................................... المرابحة والتولية والوضيعة ذكرت سابقاً أن البيع ينقسم من ناحية البدل إلى خمسة أقسام: 1 - بيع المساومة: هو البيع بأي ثمن كان من غير نظر إلى الثمن الأول الذي اشتري به الشيء، وهو البيع المعتاد. 2 - بيع المرابحة: هو البيع بمثل الثمن الأول مع زيادة ربح. وصورة المرابحة كما ذكر المالكية: هي أن يعرِّف صاحب السلعة المشتري بكم اشتراها، ويأخذ منه ربحاً إما على الجملة مثل أن يقول: اشتريتها بعشرة وتربحني ديناراً أو دينارين، وإما على التفصيل وهو أن يقول: تربحني درهماً لكل دينار، أو نحوه (¬1)، أي إما بمقدار مقطوع محدد، وإما بنسبة عشرية. وتعريفها عند الحنفية: نقل ما ملكه بالعقد الأول وبالثمن الأول مع زيادة ربح. وعند الشافعية والحنابلة: هي البيع بمثل رأس المال أو بما قام على البائع وربح درهم لكل عشرة ونحو ذلك، بشرط علم العاقدين برأس المال (¬2). ¬
بيع المرابحة
3 - بيع التولية: هو البيع بمثل الثمن الأول أي برأس المال من غير زيادة ربح، فكأن البائع جعل المشتري يتولى مكانه على المبيع. 4 - بيع الإشراك: هو كبيع التولية، إلا أنه بيع بعض المبيع ببعض الثمن. 5 - بيع الوضيعة: هو بيع بمثل الثمن الأول، مع نقصان شيء معلوم منه (¬1). بيع المرابحة: بيع المرابحة عقد جائز شرعاً رخص في جوازه جماهير العلماء من الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب، إلا أنه في رأي المالكية خلاف الأولى أو الأحب. وأدلة الجواز ما يلي: 1ً - الآيات القرآنية الدالة بعمومها على مشروعية البيع، مثل قوله تعالى: {وأحل الله البيع} [البقرة:275/ 2] وقوله سبحانه: {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء:29/ 4] والمرابحة بيع بالتراضي بين العاقدين. 2ً - صح أن النبي صلّى الله عليه وسلم لما أراد الهجرة، ابتاع أبو بكر رضي الله عنه بعيرين، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم: «ولّني أحدهما، فقال: هو لك بغير شيء، فقال عليه الصلاة والسلام: أما بغير ثمن فلا» (¬2). 3ً - روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان لا يرى بأساً بده يازده، وده دوا زده، أي كل عشرة ربحها درهم، وكل عشرة ربحها درهمان. ¬
المطلب الأول ـ شرائط المرابحة
4ً - توافرت في هذا العقد شرائط الجواز الشرعية، والحاجة ماسّة إلى هذا النوع من التصرف، يستفيد منه الخبير بالحوائج والأشياء، بالبيع مع الربح، وغير الخبير الذي لا يحسن التجارة. والمرابحة: بيع بثمن معلوم، فجاز البيع به، كما لو قال: بعتك بمئة وعشرة، وكذا الربح معلوم، فأشبه ما لو قال: وربح عشرة دراهم. وتفصيل الكلام عن المرابحة في المطالب الآتية: المطلب الأول ـ شرائط المرابحة. المطلب الثاني ـ رأس المال وما يلحق به وما لا يلحق. المطلب الثالث ـ ما يجب بيانه في المرابحة. المطلب الرابع ـ حكم الخيانة إذا ظهرت. ويلاحظ أن الكلام في هذه المطالب يتناول حكم غير المرابحة: وهي التولية، والإشراك، والوضيعة. المطلب الأول ـ شرائط المرابحة يشترط في المرابحة شروط هي ما يأتي (¬1): 1 - العلم بالثمن الأول: يشترط أن يكون الثمن الأول معلوماً للمشتري الثاني، لأن العلم بالثمن شرط في صحة البيوع. وهذا الشرط يشمل جميع أخوات المرابحة من التولية والإشراك والوضيعة؛ لأنها تعتمد كلها على أساس ¬
2 - العلم بالربح
الثمن الأول أي رأس المال، فإذا لم يعلم الثمن الأول فالبيع فاسد إلى أن يعلم في المجلس، فلو لم يعلم حتى افترق العاقدان عن المجلس، بطل العقد لتقرر الفساد. 2 - العلم بالربح: ينبغي أن يكون الربح معلوماً، لأنه بعض الثمن، والعلم بالثمن شرط في صحة البيوع. 3 - أن يكون رأس المال من المثليات: كالمكيلات، والموزونات والعدديات المتقاربة، وهذا شرط في المرابحة والتولية، سواء تم البيع مع البائع الأول، أو مع غيره، وسواء أكان الربح من جنس الثمن الأول، أم لم يكن بعد أن يكون شيئاً مقدراً معلوماً، كدرهم ونحوه. فإن كان مما لا مثل له كالعروض (¬1) لا يجوز بيعه مرابحة ولا تولية ممن ليس العرض في ملكه؛ لأن المرابحة والتولية بيع بمثل الثمن الأول، مع زيادة ربح عليه في المرابحة. وعلى هذا إذا كان الثمن الأول غير مثلي كأن يكون من الأعداد المتفاوتة كالدور والثياب والرمان، والبطيخ، ونحوها، فإما أن يبيعه ممن في يده وملكه أو من غيره: فإن باعه ممن ليس في ملكه ويده، لم يجز، لأنه لا يمكن بيعه مرابحة بالعرض عينه؛ إذ أنه ليس في يده ولا ملكه، ولا بيعه منه بقيمته؛ لأن قيمته مجهولة تعرف بالحزر والظن، وفيه يختلف أهل التقويم. وإن باعه مرابحة ممن كان العرض في يده وملكه فينظر: آـ إن جعل الربح شيئاً متميزاً عن رأس المال، معلوماً، كالدراهم، وثوب ¬
4 - ألا يترتب على المرابحة في أموال الربا وجود الربا بالنسبة للثمن الأول
معين مثلاً، جاز؛ لأن الثمن الأول معلوم، والربح معلوم، مثل أن يقول: (أبيعك مرابحة بالثوب الذي في يدك وبربح عشرة دراهم). ب ـ وإن جعل الربح جزءاً من رأس المال، كأن يقول: كل عشرة ربحها واحد أي أن الربح بالعُشْر وهو المعروف قديماً بربح (ده يازده) لم يجز، لأنه جعل الربح جزءاً من العَرض، والعَرض ليس متماثل الأجزاء، وإنما يعرف بالتقويم، والقيمة مجهولة، لأن معرفتها بالحزر والظن (¬1). وأما بيعه وضيعة ممن العرض في يده وملكه، فالحكم فيه على عكس المرابحة: وهو أنه إن جعل الوضيعة شيئاً متميزاً عن رأس المال معلوماً كالدراهم ونحوه: لا يجوز، لأنه يحتاج إلى حط ذلك القدر عن رأس المال، وهو مجهول. وإن جعل الوضيعة من جنس رأس المال، بأن باعه بوضع العُشْر، أي أن كل عشرة ينقص منها واحد، جاز البيع بعشرة أجزاء من أحد عشر جزءاً من رأس المال، لأن الجزء الموضوع جزء شائع من رأس مال معلوم (¬2). 4 - ألا يترتب على المرابحة في أموال الربا وجود الربا بالنسبة للثمن الأول، كأن يشتري المكيل أو الموزون بجنسه مثلاً بمثل، فلا يجوز له أن يبيعه مرابحة؛ لأن المرابحة بيع بالثمن الأول وزيادة، والزيادة في أموال الربا تكون رباً، لا ربحاً. وكذلك لا يجوز بيعه مواضعة، ولكن يجوز بيعه تولية أو إشراكاً، إذ أنهما بمثل الثمن في كل المبيع أو بعضه، فلا يتحقق الربا. ¬
- أن يكون العقد الأول صحيحا
فإن اختلف الجنس فلا بأس بالمرابحة، كأن يشتري ديناراً بعشرة دراهم، فباعه بربح درهم أو ثوب بعينه، جاز (¬1). 5 ً - أن يكون العقد الأول صحيحاً: فإن كان فاسداً لم يجز بيع المرابحة؛ لأن المرابحة بيع بالثمن الأول مع زيادة ربح، والبيع الفاسد يثبت الملك فيه بقيمة المبيع أو بمثله، لا بالثمن، لفساد التسمية. المطلب الثاني ـ رأس المال وما يلحق به وما لا يلحق رأس المال: هو ما لزم المشتري الأول بالعقد، أي ما ملك المبيع به ووجب بالعقد، لا ما نقده بعد العقد بدلاً عن المسمى في العقد؛ لأن المرابحة بيع بالثمن الأول. والثمن الأول: هو ما وجب بالبيع، فأما ما نقده بعد البيع، فذلك وجب بعقد آخر: وهو الاستبدال، فيكون الواجب على المشتري الثاني هو المتفق عليه بالعقد، لا المدفوع بعدئذ بموجب اتفاق آخر. ومثل ذلك ـ التولية: وبيان هذا: إذا اشترى إنسان ثوباً بعشرة دراهم ونقد مكانها ديناراً أو ثوباً، فيكون رأس المال: هو العشرة لا الدينار أو الثوب؛ لأن العشرة هي التي وجبت بالعقد، وإنما الدينار أو الثوب بدل الثمن الواجب. وكذلك من اشترى ثوباً بعشرة دراهم جياد، ثم إنه دفع إلى البائع عشرة دراهم زيوف أو بعضها جياد وبعضها زيوف، فقبلها البائع، ثم أراد أن يبيعه مرابحة، فيجب على المشتري الثاني أن يدفع الثمن من الجياد؛ لأن المضمون بالعقد الأول هو الجياد، لكن جعل الزيوف بدلاً عن الثمن الأول بعقد آخر. ¬
ما يلحق برأس المال
ولو اشترى ثوباً بعشرة هي خلاف نقد البلد، ثم باعه مرابحة، فإن ذكر الربح مطلقاً (أي بدون تحديد صفة معينة) بأن قال: (أبيعك بالثمن الأول، وربح درهم) كان على المشتري الثاني عشرة مثل التي وجبت بالعقد الأول وهي عشرة ليست من نقد البلد، وأما الربح فيكون من نقد البلد؛ لأنه أطلق الربح، فينصرف المطلق إلى المتعارف، وهو نقد البلد. وإن نسب الربح إلى رأس المال، فقال: (أبيعك بربح العشرة أو بربح العُشْر ـ ده يازده) فالربح والعشرة من جنس الثمن الأول لأنه جعل الربح جزءاً من العشرة، فكان من جنسها ضرورة (¬1). وأما ما يلحق برأس المال: فهو كل نفقة أنفقت على السلعة وأوجبت زيادة في المعقود عليه سواء في العين أو في القيمة، وكان ذلك معتاداً إلحاقه برأس المال عند التجار، مثل أجرة القصار (¬2) والصباغ، والغسال، والخياط، والسمسار، وسائق الغنم، وعلف الدواب اعتباراً للعرف، والعرف حجة لما ورد من الأثر: «ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن». ويباع ذلك مرابحة وتولية، إلا أن البائع لا يقول عند البيع: اشتريته بكذا، ولكن يقول: (قام علي بكذا، فأبيعك مع ربح كذا) حتى لا يكون كاذباً في كلامه. وأما ما لا يلحق برأس المال: فهو أجرة الراعي والطبيب والحجام، والختان، والبيطار وأجرة تعليم القرآن، والأدب والشعر والحرف بالنسبة للرقيق في الماضي. ويباع مرابحة وتولية بالثمن الأول الواجب بالعقد الأول لا غير؛ لأن التجار لم ¬
المطلب الثالث ـ ما يجب بيانه في المرابحة وما لا يجب
يتعارفوا إلحاق هذه المؤن برأس المال، وقد ورد: «ما رآه المسلمون قبيحاً فهو عند الله قبيح» (¬1). المطلب الثالث ـ ما يجب بيانه في المرابحة وما لا يجب إن بيع المرابحة والتولية بيع أمانة؛ لأن المشتري ائتمن البائع في إخباره عن الثمن الأول من غير بينة، ولا استحلاف، فيجب صيانتهما عن الخيانة، وعن سبب الخيانة والتهمة، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون} [الأنفال:27/ 8]. وقال صلّى الله عليه وسلم: «ليس منا من غشنا» (¬2). وبناء على هذا: إذا حدث بالسلعة عيب في يد البائع أوفي يد المشتري فأراد أن يبيعها للمشتري مرابحة ينظر: إن حدث العيب بآفة سماوية: له أن يبيعها مرابحة بجميع الثمن من غير بيان العيب عند جمهور الحنفية؛ لأن الجزء المتعيب لا يقابله شيء من الثمن، فكأنه دفع الثمن مقابل المبيع على حالته التي آل إليها، فكان بيان العيب والسكوت عنه على حد سواء (¬3). وقال زفر وجمهور العلماء: لا يبيع الشيء المعيب مرابحة حتى يبين العيب الحادث منعاً من شبهة الخيانة؛ لأن غرض الناس يختلف بذلك العيب، ولأن العيب الحادث ينقص به المبيع (¬4). ¬
وإن حدث العيب بفعل المشتري الأول أوبفعل أجنبي، لم يجز بيعه مرابحة حتى يبين العيب بالاتفاق. ولو حدث في المبيع زيادة كالولد، والثمرة، والصوف، واللبن: لم يبعه مرابحة حتى يبين؛ لأن الزيادة المتولدة مبيعة عند الحنفية، ولا يحط ذلك من الثمن، وإنما يخبر عادة بالثمن من غير زيادة (¬1). ولو استغل الأرض جاز أن يبيعها من غير بيان؛ لأن الزيادة التي ليست بمتولدة من المبيع لا تكون مبيعة بالاتفاق. ولو اشترى شيئاً نسيئة كثوب بعشرة دراهم: لم يبعه مرابحة حتى يبين ذلك، لأن الأجل سبب في زيادة الثمن عادة، فإن ثمن المبيع يختلف بين النسيئة والنقد. ولو اشترى من إنسان شيئاً بدين له عليه: فله أن يبيعه مرابحة من غير بيان، لأنه اشترى بمثمن في ذمته، لأن الدين لا يتعين ثمناً. وإن أخذ شيئاً صلحاً من دين له على إنسان: فليس له أن يبيعه مرابحة على ذلك الدين؛ لأن مبنى الصلح على الحط والتساهل، فلا بد من البيان ليعلم المشتري أنه سامح أم لا، فيحترز عن التهمة ... بخلاف الشراء في الحالة الأولى؛ لأن مبنى الشراء على المماكسة (¬2)، فلا حاجة إلى البيان. ولو اشترى ثوباً بعشرة دراهم ثم رقمه (¬3) بأكثر من الثمن إذا كانت قيمته أكثر من عشرة، ثم باعه مرابحة على الرقم من غير بيان جاز، ولا يكون خيانة، لأنه صادق حيث ذكر الرقم، ولكن لا يقول: اشتريته بكذا، لأنه يكون كاذباً فيه. هذا ¬
المطلب الرابع ـ حكم الخيانة إذا ظهرت
إذا علم المشتري بأن الثمن والرقم متغايران، فإن علم أنهما سواء، فيكون خيانة يوجب له الخيار. وكذلك لو ملك مالاً بالميراث أو الهبة، فقومه رجل عدل، ثم باعه مرابحة على قيمته: فيجوز، لأنه صادق في مقالته (¬1). المطلب الرابع ـ حكم الخيانة إذا ظهرت إذا ظهرت الخيانة في المرابحة بإقرار البائع في عقد المرابحة أو ببرهان عليها أو بنكوله عن اليمين: فإما أن تظهر في صفة الثمن أو في قدره. ف إن ظهرت في صفة الثمن: بأن اشترى شيئاً نسيئة، ثم باعه مرابحة على الثمن الأول، ولم يبين أنه اشتراه نسيئة، أو أنه باعه تولية، ولم يبين أنه اشتراه نسيئة، ثم علم المشتري: فله الخيار باتفاق علماء الحنفية إن شاء أخذ المبيع، وإن شاء رده؛ لأن المرابحة عقد مبني على الأمانة، إذ أن المشتري اعتمد على أمانة البائع في الإخبار عن الثمن الأول، فكانت صيانة البيع الثاني عن الخيانة مشروطة دلالة، فإذا لم يتحقق الشرط ثبت الخيار، كما في حاله عدم تحقق سلامة المبيع عن العيب. وكذا إذا لم يخبر أن الشيء المبيع كان بدل صلح، فللمشتري الثاني الخيار. وإن ظهرت الخيانة في قدر الثمن في المرابحة والتولية بأن قال: اشتريت بعشرة، وبعتك بربح كذا، أو اشتريت بعشرة ووليتك بما توليتُ، ثم تبين أنه كان اشتراه بتسعة، فاختلف فقهاء الحنفية: ¬
التولية
فقال أبو حنيفة رضي الله عنه، وقوله هو الأرجح عند الحنفية: المشتري بالخيار في المرابحة: إن شاء أخذه بجميع الثمن، وإن شاء ترك. وأما في التولية: فلا خيار له لكن يحط قدر الخيانة، ويلزم العقد بالثمن الباقي. ووجه الفرق بين المرابحة والتولية: هو أن الخيانة في المرابحة لا تخرج العقد عن طبيعته: وهو كونه مرابحة؛ لأن المرابحة بيع بالثمن الأول، وزيادة ربح. وهذا المعنى متوفر بعد ظهور الخيانة، فيصبح بعض الثمن رأس مال، وبعضه ربحاً مما يوجب خللاً في الرضا، فيثبت الخيار، كما في الخيانة في صفة الثمن. وأما التولية فالخيانة فيها تخرج عن كونه تولية؛ لأن التولية بيع بالثمن الأول من غير زيادة ولا نقصان. فإذا ظهر النقصان في الثمن الأول، وأثبتنا الخيار للمشتري، فإنا نخرج العقد عن كونه تولية ونجعله مرابحة، وهذا إنشاء عقد جديد لم يتراضيا عليه وهو لا يجوز فحططنا قدر الخيانة، وألزمنا العقد بالثمن الباقي. وعليه: لو هلك المبيع في يد المشتري الثاني، أو استهلكه قبل رده، أو حدث به ما يمنع من الرد كعيب مثلاً، لزمه بجميع الثمن المسمى وسقط خياره. وقال أبو يوسف: لا خيار للمشتري، ولكن يحط قدر الخيانة في المرابحة والتولية. وقدر الخيانة في المثال المذكور: هو درهم في التولية ودرهم في المرابحة وحصة من الربح: وهو جزء من عشرة أجزاء من درهم؛ لأن الثمن الأول أصل في بيع المرابحة والتولية؛ فإذا ظهرت الخيانة تبين أن تسمية قدر الخيانة لم تصح، فتلغو التسمية في قدر الخيانة، ويبقى العقد لازماً بالثمن الباقي. وقال محمد: للمشتري الخيار في المرابحة والتولية: إن شاء أخذ المبيع بجميع الثمن، وإن شاء رده على البائع، ودليله: أن المشتري لم يرض بلزوم العقد إلا
الإشراك
بالقدر المسمى من الثمن، فلا يلزم بدونه، ويثبت له الخيار، لوجود الخيانة، كما يثبت الخيار بعد تحقق سلامة المبيع عن العيب (¬1). ويلاحظ أن المفتى به عند الحنفية رفقاً بالناس: هوأنه يجوز رد المبيع أو الثمن على صاحبه بالغبن الفاحش إذا كان هناك تغرير من أحد العاقدين للآخر أو من شخص آخر أجنبي عنهما كالدلال ونحوه. والمراد بالغبن الفاحش: هومالا يدخل تحت تقويم المقومين كزيادة ثلاثة بالعشرة مثلاً، وأما ما دونها فهو غبن يسير لا رد فيه، كما أنه لا رد إذا لم يوجد التغرير (¬2). الإشراك: والإشراك حكمه حكم التولية فيما ذكر، ولكنه تولية بعض المبيع ببعض الثمن. وتفصيل الكلام في القدر الذي تثبت فيه الشركة يعرف في المطولات (¬3). المواضعة: والمواضعة كما عرفنا: هي بيع بمثل الثمن الأول مع نقصان معلوم منه، وتطبق عليها شروط المرابحة وأحكامها (¬4). بيع المرابحة للآمر بالشراء: تسير المصارف الإسلامية المعاصرة على معاملة معينة أطلق عليها (بيع المرابحة للآمر بالشراء) باعتبارها بديلاً شرعياً عما تقوم به البنوك الربوية. وصورتها أن يتقدم شخص إلى المصرف راغباً مثلاً بشراء سيارة ذات مواصفات معينة أو شراء أجهزة مخبر أو أجهزة طبية أو آلات معمل معين، ¬
فيشتري المصرف تلك الأشياء، ثم يبيعها لراغبها بثمن معين مؤجل لأجل محدد، يكون أكثر من الثمن النقدي. وتكون العملية مركبة من وعدين: وعد بالشراء من العميل الذي يطلق عليه: الآمر بالشراء، ووعد من المصرف بالبيع بطريق المرابحة، أي بزيادة ربح معين المقدار أو النسبة على الثمن الأول (¬1). وهذه العملية جائزة بدليل ما قال الإمام الشافعي رحمه الله في كتابه الأم: «وإذا أرى الرجل الرجل السلعة، فقال: اشتر هذه وأربحك فيها كذا، فاشتراها الرجل، فالشراء جائز، والذي قال: أربحك فيها بالخيار، إن شاء أحدث فيها بيعاً، وإن شاء تركه» (¬2). فأصل العملية جائز كما صرح الشافعي بشرط تسلم المصرف الشيء المشترى، أما الإلزام بالوعد فيمكن تقليد مذهب آخر فيه وهو المذهب المالكي إن ترتب على الوعد الدخول في التزام مالي معين، وهو رأي ابن شبرمة الذي يقول: إن كل وعد بالتزام لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً، يكون وعداً ملزماً قضاء وديانة. ولا يعد هذا ممنوعاً، وليس من التلفيق المحظور؛ لأن المسألتين قضيتان منفصلتان، ولا مانع من تقليد كل إمام في مسألة تختلف عن مسألة أخرى يؤخذ فيها بقول إمام آخر. وأجاز المالكية أيضاً هذا النوع من التعامل، جاء في كتبهم: «من البيع المكروه: أن يقول: أعندك كذا وكذا تبيعه مني بدين؟ فيقول: لا، فيقول: ابتع ذلك، وأنا أبتاعه منك بدين، وأربحك فيه، فيشتري ذلك، ثم يبيعه منه على ما تواعدا عليه» (¬3). ¬
وأقر العملية مؤتمران للمصارف الإسلامية، جاء في مؤتمر المصرف الإسلامي الأول في دبي سنة 1399هـ ـ 1979م: إن مثل هذا الوعد ملزم للطرفين قضاء طبقاً لأحكام المذهب المالكي. وهو ملزم للطرفين ديانة طبقاً لأحكام المذاهب الأخرى. وما يلزم ديانة يمكن الإلزام به قضاء، إذا اقتضت المصلحة ذلك، وأمكن للقضاء التدخل فيه. وجاء في مؤتمر المصرف الإسلامي الثاني في الكويت سنة 1403هـ ـ 1983: يقرر المؤتمر أن المواعدة على بيع المرابحة للآمر بالشراء، بعد تملك السلعة المشتراة، وحيازتها، ثم بيعها لمن أمر بشرائها بالربح المذكور في الموعد السابق، هو أمر جائز شرعاً، مادامت تقع على المصرف الإسلامي مسؤولية الهلاك قبل التسليم، وتبعة الرد فيما يستوجب الرد بعيب خفي، وجميع الضمانات كالتأمين. ومنع البيع قبل القبض هو رأي الجمهور، وأجاز المالكية بيع غير الطعام قبل قبضه. وأما بالنسبة للوعد وكونه ملزماً للآمر أو المصرف أو كليهما، فإن الأخذ بالإلزام هو الأحفظ لمصلحة التعامل واستقرار المعاملات، وفيه مراعاة لمصلحة المصرف والعميل، وأن الأخذ بالإلزام أمر مقبول شرعاً. وليس هذا التعامل من البيعتين في بيعة المنهي عنه؛ لأن النهي كما ذكر الشافعي وارد على حالة كون القبول لإحدى البيعتين مبهماً أو معلقاً أو مجهولاً، فإن عيّن المشتري إحدى البيعتين جاز، أو أن النهي وارد على حالة اشتراط بيعة أخرى، كأن يقول: بعتك منزلي على أن تبيعني فرسك.
الإقالة
................... 7 ........................................... ........................................ الإقالة .......................................... إذا كان البيع صحيحاً، لازماً: خالياً من الخيار، واتفق المتعاقدان على رفعه وإنهائه، فيتم فسخه عن طريق الإقالة. والإقالة وإن كانت متفرعة عن البيع لأنها أكثر ما تقع فيه، إلا أنها تجري في جميع العقود اللازمة ما عدا الزواج فهي بتعبير أعم: عقد يرفع به عقد سابق (¬1). والكلام هنا عن مشروعية الإقالة وتعريفها وركنها ثم عن ماهيتها وحكمها، ثم عن شروط صحتها. مشروعية الإقالة وتعريفها وركنها: الإقالة مندوبة لقوله عليه الصلاة والسلام عن أبي هريرة: «من أقال نادماً بيعته، أقال الله عثرته يوم القيامة» رواه البيهقي. وفي رواية أبي داود: «من أقال مسلماً، أقال الله عثرته» (¬2). والإقالة لغة: الرفع. وشرعاً: رفع العقد ولو في بعض المبيع. مثل أن يبيع إنسان مئة رطل من الحنطة بخمسين ليرة سورية، ويسلمها إلى المشتري، ثم يفترق المتعاقدان، ثم يقول البائع للمشتري: ادفع إلي الثمن أوالحنطة التي دفعتها إليك، فدفعها أو بعضها، فيكون ذلك فسخاً في المردود إلى البائع. ¬
ماهية الإقالة وحكمها
وركنها: الإيجاب من أحد العاقدين والقبول من الآخر. وأما صيغة العقد فلا خلاف في أنه ينعقد بلفظ يعبر بهما عن الماضي بأن يقول أحد العاقدين: أقلت، ويقول الآخر: قبلت أو رضيت ونحوهما. فإن كان أحد اللفظين يعبر به عن الماضي، والآخر عن المستقبل، كأن يقول أحد العاقدين: أقلني، فيقول الآخر: أقلتك، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف: ينعقد كما هو المقرر في عقد النكاح إذ أنه في العادة ليس في الإقالة مساومة بخلاف البيع، فيحمل اللفظ على الإيجاب. وقال محمد: لا تنعقد الإقالة إلا بلفظين يعبر بهما عن الماضي، كما في البيع؛ لأن ركن الإقالة وهو الإيجاب والقبول، كركن البيع، والبيع لا ينعقد إلا بلفظين يعبر بهما عن الماضي. ولا يتعين لفظ الإقالة وإنما تصح أيضاً بألفاظ أخرى مثل: فاسختك، وتركت البيع، وتاركتك، ورفعت. وكذا تصح بالتعاطي، ولو من أحد الجانبين، كما في المبيع، كأن يقطع البائع القماش قميصاً بمجرد قول المشتري: (أقلتك) (¬1). ماهية الإقالة وحكمها: اختلف الفقهاء في ماهية الإقالة، فقال المالكية والظاهرية: إنها بيع ثان؛ لأن المبيع عاد إلى البائع على الجهة التي خرج عليه منه، فهي تتم إذن بتراضي العاقدين، يجوز فيها ما يجوز في البيوع ويحرم فيها مايحرم في البيوع (¬2). ¬
وقال الشافعية والحنابلة: إنها فسخ؛ لأن الإقالة هي الرفع والإزالة ولأن المبيع عاد إلى البائع بلفظ لا ينعقد به البيع، فكان فسخاً، كالرد بالعيب (¬1). وأما الحنفية فاختلفوا فيما بينهم، فقال أبو حنيفة رحمه الله، وقوله هو الصحيح عند الحنفية: الإقالة فسخ في حق العاقدين بيع جديد في حق ثالث غيرهما، سواء قبل القبض أو بعده، إلا إذا لم يمكن جعلها فسخاً فتبطل، كأن تلد البهيمة المبيعة بعد القبض لتعذر الفسخ بالزيادة المنفصلة. ودليله على أن الإقالة فسخ: هو أنها رفع لغة وشرعاً، ورفع الشي فسخه، وأما إنها بيع فلأن كل واحد من المتعاقدين يأخذ رأس ماله ببدل، وهذا معنى البيع. إلا أنه لا يمكن إظهار معنى البيع في حق العاقدين للتنافي (¬2)، فأظهرناه في حق ثالث غيرهما. وعلى هذا، فمن اشترى داراً، ولها شفيع فلم يطلب الشفعة بعد علمه بالبيع، ثم أقال العاقدان البيع، فيثبت للشفيع حق طلب الشفعة ثانياً؛ لأن الإقالة عقد جديد في حقه وهو المراد بالشخص الثالث هنا. وقال أبو يوسف: الإقالة بيع جديد في حق العاقدين وغيرهما، إلا أن يتعذر جعلها بيعاً، فتجعل فسخاً، كأن تقع الإقالة قبل القبض في مبيع منقول؛ لأن بيع المنقول قبل القبض لا يجوز، بخلاف العقار فإنه يجوز بيعه قبل القبض عنده وعند أبي حنيفة، فإقالته بيع. ودليله أن معنى البيع هو مبادلة المال بالمال، وهو أخذ بدل ¬
وإعطاء بدل، وقد وجد، فكانت الإقالة بيعاً لوجود معنى البيع فيها، والعبرة للمعنى لا للصورة. وقال محمد: الإقالة فسخ إلا إذا تعذر جعلها فسخاً، فتجعل بيعاً للضرورة، كما ذكر أثناء بيان قول أبي حنيفة. ودليله أن الأصل في الإقالة الفسخ، لأنها عبارة عن رفع الشيء لغة وشرعاً. وقال زفر والشافعية والأكثرون من الحنابلة: إنها فسخ في حق الناس كافة (¬1). وتظهر ثمرة الاختلاف بين الحنفية فيما إذا تقايل العاقدان البيع بأكثر من الثمن الأول أو بأقل أو بجنس آخر، أو أجّلا الثمن في الإقالة: فعلى قول أبي حنيفة: تصح الإقالة بالثمن الأول ويبطل ما شرطه المتعاقدان من الزيادة أو النقص أو الأجل، أو الجنس الآخر، سواء أكانت الإقالة قبل القبض أم بعده؛ لأنها فسخ في حق العاقدين، والفسخ رفع العقد، والعقد وقع بالثمن الأول، فيكون فسخه بالثمن الأول، ويبطل الشرط الفاسد، فإذا تقايل العاقدان على أكثر من الثمن الأول أو أقل على جنس آخر، يلزم الثمن الأول لا غير. والحكم هكذا على قول زفر؛ لأن الإقالة عنده فسخ محض في حق الناس كافة. وعلى قول الشافعية والحنابلة: تبطل الإقالة في هذه الحالات بسبب الشرط الفاسد كما في البيع. وعلى هذا فلا يجوز في الإقالة الزيادة ولا النقصان عند الحنفية والشافعية والحنابلة؛ لأن الإقالة فسخ على أي حال، وعلى هذا إذا تمت ¬
شروط الإقالة
الإقالة، وزاد المبيع زيادة منفصلة متولدة من الأصل، كولادة شاة، امتنعت الإقالة. وقال مالك: الإقالة بيع جديد، فيجوز فيها الزيادة أو النقصان. كما إذا باع شيئاً بمئة دينار، ثم ندم البائع، فطلب من المشتري رد المبيع على أن يدفع إليه عشرة دنانير مثلاً؛ لأن الإقالة حينئذ بيع مستأنف، وعمل الناس في أيامنا على هذا الرأي، فلايرضى البائع بنقض البيع إلا إذا تنازل المشتري عن شيء من حقه. ولا يجوز عند مالك أن يشتري شيئاً بمئة دينار مثلاً إلى أجل، ثم ندم المشتري، فسأل البائع الإقالة على أن يعطيه عشرة دنانير نقداً أو إلى أجل؛ لأن ذلك ذريعة إلى بيع وسلف، كأن المشتري باع الشيء بتسعين، وأسلف البائع عشرة (¬1). وأما إن كان البيع الأول نقداً فلا خلاف في جواز ذلك. وعلى قول أبي يوسف: تصح الإقالة بما ذكرا من الثمن، وشرطا من الزيادة والنقصان والأجل، لأنها بيع جديد. وعلى قول محمد: إذا كانت الإقالة بغير الثمن الأول، أو بأكثر منه فهي بيع إذ لا يمكن جعلها فسخاً؛ لأن شأن الفسخ أن يكون بالثمن الأول، وإن كانت بمثل الثمن الأول أو أقل فهي فسخ بالثمن، ويبطل شرط النقصان، وكذلك إن أجل يبطل الأجل (¬2). شروط الإقالة: يشترط لصحة الإقالة شروط: أولاً ـ رضا المتقايلين: سبب هذا الشرط على رأي أبي يوسف ظاهر؛ لأن الإقالة بيع عنده، والرضا شرط من شروط صحة البيوع. وأما على رأي جمهور الحنفية، فلأن الإقالة فسخ العقد، والعقد وقع بتراضي العاقدين، فكذا فسخه. وهذا شرط متفق عليه. ¬
ثانيا ـ تقابض بدلي الصرف في مجلس إقالة عقد الصرف
ثانياً ـ تقابض بدلي الصرف في مجلس إقالة عقد الصرف: وهذا واضح على أصل أبي يوسف. وأما على أصل أبي حنيفة فلأن قبض البدلين إنما وجب حقاً لله تعالى، والإقالة وإن كانت فسخاً في حق العاقدين فهي بيع جديد في حق ثالث، وحق الشرع هنا بمثابة ثالث، فتكون الإقالة بيعاً في حقه. وهذا شرط متفق عليه. ثالثاً ـ أن يكون محل العقد محتملاً للفسخ عند أبي حنيفة وزفر؛ لأن الإقالة فسخ للعقد عندهما، فإن لم يكن محتملاً للفسخ بأن ازداد زيادة تمنع الفسخ لاتصح الإقالة. وعند الصاحبين: لا يشترط هذا الشرط؛ لأن الإقالة على أصل أبي يوسف بيع، والزيادة تحتمل البيع، فيظل محل العقد محتملاً للإقالة. وأما على أصل محمد: فإن الإقالة وإن كانت فسخاً، لكن عند الإمكان ولا إمكان هنا لأنه إذا حصلت زيادة في المبيع يتعذر الفسخ. رابعاً ـ قيام المبيع وقت الإقالة؛ لأن الإقالة رفع العقد، والمبيع محله، فإن كان هالكاً كله وقت الإقالة لم تصح، وإن هلك بعضه لم تصح الإقالة بقدره. وأما قيام الثمن وقت الإقالة فليس بشرط. وجه الفرق أن رفع البيع يستدعي قيام البيع، فإن رفع المعدوم محال وقيام البيع بالمبيع لا بالثمن؛ لأن الأصل هو المبيع، ولهذا شرط وجوده عند البيع، بخلاف الثمن. فإذا هلك المبيع لم يبق محل حكم المبيع، فلا تتصور الإقالة التي هي رفع حكم البيع في الحقيقة، وإذا هلك الثمن فمحل حكم البيع قائم، فتصح الإقالة (¬1). ويترتب على الإقالة انحلال العقد وزوال آثاره أو ارتفاع حكمه. ¬
الفصل الثاني: القرض
الفَصْلُ الثَّاني: القَرْض إن القرض في معناه العام يشبه البيع؛ لأنه تمليك مال بمال (¬1) وهو أيضاً نوع من السلف (¬2). قال جماعة من العلماء: القرض نفس البيع، لكن ذكر القرافي ثلاثة فروق بين القرض والبيع، فالقرض خولفت فيه ثلاث قواعد شرعية: 1 - قاعدة الربا: إن كان القرض في الأموال الربوية وهي المكيلات والموزونات عند الحنفية والحنابلة في الأصح، والنقدان أو الاقتيات عند المالكية والنقدية أو الطعم عند الشافعية. 2 - وقاعدة المزابنة: وهي بيع المعلوم بالمجهول من جنسه، إن كان القرض في غير المثليات كالحيوان ونحوه. 3 - وقاعدة بيع ما ليس عند الإنسان، إن كان القرض في المثليات. والسبب في هذه المخالفات: هو مراعاة مصالح الناس والتيسير عليهم في القيام بصنائع المعروف، ولذا يحرم القرض إن لم يكن القصد منه عمل المعروف كتحقيق منفعة للمقرض مثلاً (¬3). ¬
تعريف القرض
والكلام عن القرض يظهر في بيان تعريفه ومشروعيته وعاقده وصيغته، وحكم الخيار فيه وما يصح فيه وحكمه وحكم القرض الذي يجر منفعة. تعريف القرض: القرض لغة: القطع، وسمي المال المدفوع للمقترض قرضاً، لأنه قطعة من مال المقرض، تسمية للمفعول باسم المصدر. ويسمى أيضاً السلف. واصطلاحاً عند الحنفية: هو ما تعطيه من مال مثلي لتتقاضاه. أو بعبارة أخرى: هو عقد مخصوص يرد على دفع مال مثلي لآخر ليرد مثله. وعرفه بقية المذاهب بأنه: إعطاء شخص مالاً لآخر في نظير عوض يثبت له في ذمته، مماثل للمال المأخوذ، بقصد نفع المعطى له فقط. والمال يشمل المثلي والحيوان والعرض التجاري (¬1). مشروعيته: القرض جائز بالسنة والإجماع: أما السنة ـ فما روى ابن مسعود أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ما من مسلم يقرض مسلماً قرضاً مرتين، إلا كان كصدقة مرة» (¬2) وعن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «رأيت ليلة أسري بي على باب الجنة مكتوباً: الصدقة بعشر أمثالها، والقرض بثمانية عشر، فقلت: يا جبريل، ما بال القرض أفضل من الصدقة؟ قال: لأن السائل يسأل وعنده، والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة» (¬3) وعن أبي رافع حديث سيأتي في القرض الذي يجر منفعة. ¬
عاقده وصيغته
وأجمع المسلمون على جواز القرض (¬1). وهو مندوب إليه في حق المقرض، مباح للمقترض، للأحاديث السابقة، ولما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من نفَّس عن مسلم كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» (¬2)، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: «لأن أقرض دينارين ثم يردا، ثم أقرضهما أحب إلي من أن أتصدق بهما» وعن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما قالا: «قرض مرتين خير من صدقة مرة» (¬3). وقال الحنابلة: الصدقة أفضل من القرض ولا إثم على من سئل فلم يقرض (¬4). عاقده وصيغته: ولا يصح القرض إلا من جائز التصرف، لأنه عقد على المال، فلم يصح إلا من جائز التصرف كالبيع. ولا ينعقد إلا بالإيجاب والقبول، لأنه تمليك آدمي، فلم يصح من غير إيجاب وقبول كالبيع والهبة. ويصح بلفظ القرض والسلف؛ لأن الشرع ورد بهما، ويصح بما يؤدي معناه: وهو أن يقول: «ملكتك هذا على أن ترد علي بدله» (¬5). ¬
هل يثبت فيه خيار أو أجل؟
هل يثبت فيه خيار أو أجل؟ لا يثبت فيه خيار المجلس عند القائلين به وهم الشافعية والحنابلة، ولا خيار الشرط؛ لأن المقصود من الخيار هو الفسخ، وفي القرض يجوز لكل واحد من العاقدين أن يفسخ إذا شاء، فلا معنى للخيار (¬1). ولا يجوز عند جمهور الفقهاء اشتراط الأجل في القرض، فإن أجل القرض إلى أجل مسمى معلوم، لم يتأجل وكان حالا، لأنه في معنى بيع الدرهم بالدرهم، فلا يجوز التأجيل منعاً من الوقوع في ربا النسيئة، وباعتبار أن القرض محض تبرع، فيحق للمقرض المطالبة ببدله في الحال، لأنه عقد يوجب رد المثل في المثليات، فأوجب رد بدله حالاً كالإتلاف. وهكذا كل دين حل أجله لم يصر مؤجلاً بتأجيله. هذا بخلاف البدل في البيع وفي الإجارة، إذا أجل إلى أجل مسمى معلوم، فإنه لا يحق له المطالبة به، قبل حلول الأجل. لكن قال الحنفية: يلزم أجل القرض في أربع حالات: الأولى ـ الوصية: وهي أن يوصي شخص بإقراض آخر مبلغاً من المال إلى سنة مثلاً، فليس للورثة مطالبة المقترض قبل حلول الأجل. الثانية ـ الجحود: وهو أن يكون القرض مجحوداً، فأجله صاحبه، فإن الأجل يكون لازماً. الثالثة ـ الحكم القضائي: وهو أن يحكم القاضي بلزوم القرض، عملاً بمذهب مالك وابن أبي ليلى، فإنه يلزم أيضاً. الرابعة ـ الحوالة: بأن أحال المدين الدائن على آخر، فأجله المقرض، أو أحاله على مديون مؤجل دينه؛ لأن الحوالة مبرئة، أي يبرأ بها ذمة المحيل، ويثبت بها ¬
ما يصح فيه القرض
للمحال أي المقرض دين على المحال عليه بحكم الحوالة، فهو في الحقيقة تأجيل دين لا قرض. والخلاصة: يصح تأجيل القرض عند الحنفية مع كونه غير لازم، ويلزم الأجل في هذه الحالات. وقال الإمام مالك: يتأجل القرض بالتأجيل، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «المسلمون عند شروطهم» (¬1)، ولأن المتعاقدين يملكان التصرف في هذا العقد بالإقالة والإمضاء، فملكا الزيادة فيه (¬2). وهذا الرأي هو المعقول الموافق لمقتضى الواقع. ما يصح فيه القرض: اختلف العلماء فيما يصح فيه القرض: فقال الحنفية: يصح القرض في المثلي: (وهو ما لا تتفاوت آحاده تفاوتاً تختلف به القيمة) كالمكيل والموزون، والمعدود المتقارب كالجوز والبيض، والورق من مقياس واحد، والذرعي كالقماش، وجاز قرض الخبز وزناً وعدداً، على ما هو المفتى به من رأي الإمام محمد لحاجة الناس المتعينة إليه، وهو رأي بقية المذاهب الأخرى، ولا يجوز القرض في غير المثلي من القيميات كالحيوان والحطب والعقار، والعددي المتفاوت، لتعذر رد المثل (¬3). وقال المالكية والشافعية والحنابلة: يجوز قرض كل مال يصح فيه السلم، أي في كل مال قابل للثبوت في الذمة، سواء أكان مكيلاً أم موزوناً، كالذهب والفضة ¬
حكم القرض
والأطعمة، أم من القيميات، كعروض التجارة والحيوان ونحوها، كالمعدود؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم فيما يرويه أبو رافع: «استسلف بَكراً» (¬1) (البَكْر: الثني من الإبل) وذلك ليس بمكيل ولا موزون، ولأن ما يثبت سَلَماً يملك بالبيع ويضبط بالوصف، فجاز قرضه كالمكيل والموزون. وأما ما لا يجوز فيه السَّلم كالجواهر ونحوها، فلا يصح قرضه في الأصح؛ لأن القرض يقتضي رد المثل، وما لا ينضبط، أو يندر وجوده، يتعذر أو يتعسر رد مثله (¬2). وعلى هذا يصح القرض عند جمهور الفقهاء في كل عين يصح بيعها إلا الجواري؛ لأنه يؤدي إلى إعارة الفروج، ولا يصح قرض المنافع، خلافاً لابن تيمية، كأن يحصد معه يوماً ليحصد الآخر معه مثله، أو يسكنه داره ليسكنه الآخر داره بدلها. ولايصح القرض فيما لا يثبت في الذمة كالشيء من أرض ودار وحانوت وبستان؛ لأن القرض يقتضي رد المثل، وهذه لا مثل لها. والمماثلة المعتبرة في العوض عند المالكية هي المماثلة في الصفة والقدر. وعند الشافعية والحنابلة: في الصورة. ولا يصح القرض في نادر الوجود كالجواهر النفيسة، لعدم وجودها غالباً عند الرد. حكم القرض: يثبت الملك في القرض عند أبي حنيفة ومحمد بالقبض، فلو اقترض إنسان مدّ حنطة وقبضه، فله الاحتفاظ به، ورد مثله وإن طلب المقرض رد العين، لأنه خرج عن ملك المقرض، وثبت له في ذمة المقترض مثله لا عينه، ولو كان قائماً. وقال أبو يوسف: لا يملك المقترض القرض ما دام قائماً (¬3). ¬
المالكية
وقال المالكية: إن القرض وغيره من المعروف كالهبة والصدقة والعارية، يثبت الملك فيه بالعقد، وإن لم يقبض المال. ويجوز للمقترض أن يرد مثل الذي اقترضه، وأن يرد عينه، سواء أكان مثلياً أم غير مثلي، وهذا ما لم يتغير بزيادة أو نقص، فإن تغير وجب رد المثل (¬1). وقال الشافعية في الأصح والحنابلة: يثبت الملك في القرض بالقبض، ويرد المقترض عند الشافعية المثل في المثلي، لأنه أقرب إلى حقه، ويرد في القيمي المثل صورة، لأنه صلّى الله عليه وسلم اقترض بَكراً ورد رَباعياً، وقال: «إن خياركم أحسنكم قضاء» (¬2). ويجب عند الحنابلة رد المثل في المكيل والموزون، كما هو اتفاق الفقهاء. وفي غير المكيل والموزون وجهان: أحدهما ـ يجب رد قيمته يوم القرض. والثاني ـ يجب رد مثله بصفاته تقريباً (¬3). مكان الوفاء: اتفق علماء المذاهب الأربعة على أن وفاء القرض يكون في البلد الذي تم فيه الإقراض، ويصح إيفاؤه في أي مكان آخر إذا لم يحتج نقله إلى حمل ومؤنة أو وجد خوف طريق، فإن احتاج إلى ذلك لم يلزم المقرض بتسلمه (¬4). خلاصة شروط القرض: يشترط لصحة القرض أربعة شروط: ¬
الشروط الصحيحة والشروط المفسدة
1ً - أن يتم القرض بالصيغة وهي الإيجاب والقبول أو ما يحل محلهما عند الجمهور من المعاطاة، ولا تكفي المعاطاة عند الشافعية كغيره من العقود. 2ً - أهلية التعاقد: بأن يكون العاقد مقرضاً أو مقترضاً بالغاً عاقلاً راشداً مختاراً أهلاً للتبرع؛ لأن القرض عقد تبرع، فلا يصح من الصبي والمجنون والسفيه المحجور عليه، والمكره، ولا من الولي لغير ضرورة أو حاجة، لأن هؤلاء ليسوا من أهل التبرع. 3ً - أن يكون مال القرض مثلياً عند الحنفية، ويصح عند الجمهور أي مال قابل للثبوت في الذمة من النقود والحبوب والقيميات من حيوانات وعقارات وغيرها. 4ً - أن يكون مال القرض معلوم القدر كيلاً أو وزناً أو عدداً أو ذرعاً ليتمكن من رده، وأن يكون جنساً لم يختلط بغيره كقمح مخلوط بشعير، لأنه يتعذر رد بدله. الشروط الصحيحة والشروط المفسدة: يصح اشتراط أي شرط يؤدي لتوثيق الحق أو تأكيده، كاشتراط الرهن بمال القرض أو الكفيل أو الإشهاد على العقد أو كتابة الدين أو الإقرار به عند القاضي. ولا يصح عند الجمهور اشتراط الأجل في القرض ويصح عند المالكية كما تقدم. ولا يصح الشرط الذي لا يلائم العقد كاشتراط رد زيادة في البدل أو رد صحيح بدل معيب أو شرط بيع داره مثلاً. والشرط المفسد: اشتراط زيادة في بدل القرض أو تقديم هدية للمقرض.
ما يجب رده على المقترض
ويكون الشرط لا غياً غير مفسد إذا لم يكن فيه مصلحة لأحد كرد معيب بدل صحيح ورديء بدل جيد أو اشتراط أن يقرضه غيره. ما يجب رده على المقترض: يجب على المقترض أن يرد مثل المال الذي اقترضه إن كان المال مثلياً بالاتفاق، ويرد مثله صورة عند غير الحنفية إذا كان محل القرض مالاً قيمياً، كرد شاة تشبه الشاة التي اقترضها في أوصافها. ووقت رد بدل القرض عند غير المالكية في أي وقت شاء المقرض بعد قبض المستقرض مال القرض؛ لأنه عقد لا يثبت فيه الأجل. وذهب المالكية إلى أن وقت رد بدل القرض عند حلول أجل وفاء القرض؛ لأن القرض يتأجل عندهم بالتأجيل، كما تقدم بيانه. القرض الذي جرّ منفعة: قال الحنفية في الراجح عندهم: كل قرض جر نفعاً حرام إذا كان مشروطاً، فإن لم يكن النفع مشروطاً أو متعارفاً عليه في القرض، فلا بأس به، وعلى هذا، لايجوز للمرتهن الدائن الانتفاع بالرهن إذا كان مشروطاً أو متعارفاً، وإن لم يكن كذلك فيجوز مع الكراهة التحريمية إلا أن يأذن الراهن فيحل، كما جاء في معتبرات كتب الحنفية، وقال بعضهم: لا يحل وإن أذن الراهن بالانتفاع. وهذا هو المتفق مع الروح العامة في الشريعة في تحريم الربا. وكذلك حكم الهدية للمقرض: إن كانت بشرط كره أي تحريماً، وإلا فلا (¬1). وقال المالكية: يفسد القرض الذي جر نفعاً؛ لأنه ربا، ويحرم الانتفاع بشيء ¬
من أموال المقترض كركوب دابته، والأكل في بيته لأجل الدين، لا للإكرام ونحوه، كما تحرم هدية المقترض لرب المال، إن قصد المهدي بهديته تأخير الدين ونحوه. ولم تكن هناك عادة سابقة قبل القرض بإهداء الدائن بالمثل صفة وقدراً، أو حدث موجب جديد كصهارة، أو جوار، وكان الإهداء لذلك لا للدين. والحرمة تتعلق بكل من الأخذ والدفع، وعندئذ يجب عليه ردها إن كانت باقية، فإن تلفت وجب عليه رد المثل في المثلي، والقيمة في القيمي، هذا في حال بقاء علاقة الدين، أما عند وفاء الدين: فإن قضى المدين أكثر من الدين، فإن كان الدين بسبب بيع، جاز مطلقاً، سواء أكان المؤدى أفضل صفة أم مقداراً، في الأجل أم قبله أم بعده. وإن كان وفاء الدين بسبب سلف (أي قرض): فإن كانت الزيادة بشرط أو وعد أو عادة منعت مطلقاً، وإن كانت بغير شرط ولا وعد ولا عادة، جازت اتفاقاً عند المالكية في الأفضل صفة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم استسلف بَكْراً، وقضى جملاً بَكْراً خِياراً، كما سيأتي، واختلف في الأفضل مقداراً، ففي المدونة لمالك لا يجوز إلا في اليسير جداً، وأجازه ابن حبيب مطلقاً (¬1). وقال الشافعية والحنابلة: لا يجوز قرض جرّ منفعة، مثل أن يقرضه ألفاً على أن يبيعه داره، أو على أن يرد عليه أجود منه أو أكثر منه؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «نهى عن سلف وبيع» (¬2). والسلف: هو القرض في لغة الحجاز. وروي عن أبي بن كعب ¬
وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم أنهم «نهوا عن قرض جرّ منفعة» (¬1) ولأن القرض عقد إرفاق (أي منفعة) وقربة، فإذا شرط فيه منفعة خرج عن موضوعه، فيكون القرض صحيحاً والشرط باطلاً، سواء أكانت المنفعة نقداً أم عيناً كثيرة أم قليلة. فإن أقرض شخص غيره مطلقاً من غير شرط، فقضاه خيراً منه في الصفة، أو زاده في القدر، أو باع منه داره، جاز. ولا يكره للمقرض أخذه، لما روى أبو رافع رضي الله عنه قال: «استسلف رسول الله صلّى الله عليه وسلم من رجل بَكْراً (¬2)، فجاءته إبل الصدقة، فأمرني أن أقضي الرجل بكراً، فقلت: لم أجد في الإبل إلا جملاً خِياراً رَباعياً (¬3)، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: أعطه إياه، فإن خيركم أحسنكم قضاء» (¬4). وروى جابر بن عبد الله رضي الله عنه، قال: «كان لي على رسول الله صلّى الله عليه وسلم حق، فقضاني وزادني» (¬5) وأما النهي عن قرض جر نفعاً، فهو ليس بحديث، كما أثبت الحافظ ¬
القرض جائز بشرطين
الزيلعي في نصب الراية، وكما ذكر في الحاشية السابقة، ويمكن فهمه على أنه في القرض الذي شرط فيه النفع أو جرى عليه العرف، كما قرر الكرخي وغيره. والإقراض ممن تعود رد الزيادة، فيه وجهان: أوجههما عند الشافعية الكراهية. وعند الحنابلة: روايتان أصحهما الجواز بدون كراهة (¬1). والخلاصة أن القرض جائز بشرطين (¬2): 1 - ألا يجر نفعا ً، فإن كانت المنفعة للدافع، منع اتفاقاً للنهي عنه، وخروجه عن باب المعروف، وإن كانت للقابض جاز، وإن كانت بينهما لم يجز لغير ضرورة. واختلف في الضرورة وهي حالة السفاتج الآتية، فيجوز السلف في حال عموم الخوف على المال في الطرق، كأن يسلفه لشخص يعلم أنه يَسْلم معه، كما يجوز إن قام دليل على نفع المقترض فقط كمجاعة، أو كان بيع الحب المسوس الآن أحظ للمقترض لغلائه ورخص الجديد في إبّانه. 2 - ألا ينضم إلى السلف عقد آخر كالبيع وغيره، لما أخرجه الخمسة عن عبد الله بن عمرو: «لا يحل سلف وبيع». وأما هدية المديان: فلا يجوز للدائن عند المالكية قبولها؛ لأنه يؤول إلى زيادة على التأخير، وأجازها الجمهور، إن لم تكن مشروطة، كما تجوز إن كان بين المقرض والمقترض من الصلات ما يعلم أن الهدية له لا للدين. ويلاحظ أن إيداع المال في صندوق التوفير، وشهادات الاستثمار يطبق عليه ¬
الحساب الجاري
حكم القرض أو السندات الحكومية أو ما يسمى بسندات الخزينة، وتدفع الدولة فوائد ربوية على أرصدة صندوق التوفير، وتتملك الأرصدة، وتتصرف فيها، وتستفيد منها في عمليات الإقراض الربوي. فلا تحل الفائدة التي يدفعها الصندوق لواضعي أموالهم فيها، إذ ليست العلاقة مجرد وديعة كما زعم بعض المفتين، إذ لو كان هذا المال وديعة محضة، لما جاز شرعاً للقائمين على هذا الصندوق أن يستغلوه ويستثمروه في الأعمال، إذ الذي يملكه الوديع من الوديعة حفظها فقط، لا التصرف فيها، لكن المودع إذا أذن بالتصرف في الوديعة كانت قرضاً، لأن العبرة للمعاني والبنك يملك المال المودع لديه، ويتعهد برد المثل، وكذلك الربح المقطوع المحدد بفائدة سنوية معينة في شهادات الاستثمار ليس مشروعاً؛ إذ لا يجوز ذلك في الشركات وبخاصة شركة المضاربة، وطريق الجواز: أن يكون الربح غير محدد المقدار وأن يتفق على المساهمة في الخسارة الحادثة لو وقعت الخسارة أثناء الاستثمار في مشروع معين. وكذلك الحساب الجاري يعتبر عقد قرض بين المودع والبنك، وبالرغم من أن البنك لا يدفع فائدة على هذا القرض، فهو يستخدم أرصدة الحسابات الجارية في الإقراض بالربا وغير ذلك من الأعمال المحرمة. وإذا اضطر المسلم لفتح الحساب الجاري لتغطية استيراد بضاعة من دولة أجنبية مثلاً، جاز له ذلك؛ لأن الضرورات تبيح المحظورات، والضرورة تقدر بقدرها. السُفْتَجة (¬1): هي معاملة مالية يقرض فيها إنسان قرضاً لآخر في بلد ليوفيه المقترض أو نائبه أو مدينه إلى المقرض نفسه أو نائبه أو دائنه في بلد آخر معين. ¬
أنواع شهادات الاستثمار
وحكمها عند الحنفية: الكراهة التحريمية إذا كانت المنفعة المقصودة منها (أي الوفاء في بلد آخر لتفادي خطر الطريق) مشروطة في صلب العقد، أو بمقتضى العرف. قال المرغيناني: ويكره السفاتج وهي قرض استفاد به المقرض سقوط خطر الطريق، وهذا نوع نفع استفيد به، وقد نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن قرض جر نفعاً (¬1). وقال الشافعية بمنع السفتجة؛ لأنها من قبيل القرض الذي يجر منفعة للمقرض بربحه فيها خطر الطريق (¬2). وكذلك قال المالكية، فهي عندهم ممنوعة لأنها قرض جر نفعاً إلا في حالة الضرورة حفظاً لماله (¬3). والراجح عند الحنابلة هو جواز تلك المعاملة إن كانت بلا مقابل، واختار ابن تيمية وابن القيم وابن قدامة القول بالجواز مطلقاً؛ لأن المنفعة لا تخص المقرض بل ينتفعان بها جميعاً (¬4). أنواع شهادات الاستثمار: صدرت أنواع ثلاثة من شهادات الاستثمار فئة أ، ب، ج: أما المجموعة أو الفئة (أ): فتشمل الشهادات ذات القيمة المتزايدة، حيث يبقى القرض عشر سنوات لدى المؤسسة، ثم يسترد صاحبه القرض مع الزيادة المحددة المعلن عنها، وهي ربا عشر سنوات كاملة. وأما المجموعة أو الفئة (ب): فتشمل الشهادات ذات العائد الجاري، حيث يمكن سحب الأرباح كل فترة زمنية كسنة أو نصف سنة، أي رأس المال، وهو أن القرض يبقى كما هو، وتؤخذ الزيادة المحددة مع مرور الزمن. ¬
المجموعة أو الفئة (ج)
وكلا هذين النوعين يعد قرضاً، وتكون الزيادة المحددة من ربا الديون، وكلاهما من القروض الإنتاجية الربوية، فهما حرام مثل ودائع البنوك التي هي قرض، سواء قصد بها مجرد الإيداع كالحساب الجاري، أم الاستثمار مع الإيداع وهي الودائع ذات الفائدة. وأما المجموعة أو الفئة (ج): فلا تعطي ربحاً محدداً كل سنة، ولكنها خصصت مبلغاً من أرباحها تمنحه للمتعاملين معها بالقرعة. وقد انزلق بعض العلماء فأفتى بجوازها بناء على أن المال كله من جانب رب المال، والربح كله للعامل في مقام تبرع صاحب المال له به كله، وهذا جائز على المشهور من مذهب مالك. وجاء في التقنين المالكي ص 300 ما يفيد إباحة فوائد صندوق التوفير اعتماداً على وجهين: أحدهما ـ أن هذه معاملة لم تكن موجودة في عصر نزول التشريع الإسلامي، فتكون من قبيل المسكوت عنه، فتكون مباحة شرعاً؛ لأنها معاملة نافعة لكل من العامل ورب المال، ولا ضرر فيها لواحد منهما. ولأن الكثير الغالب هو حصول العامل على نصيب وافر من الربح، والحكم الشرعي يبنى على الكثير الغالب، لا على القليل النادر وهو احتمال الخسارة. والثاني ـ أن هذه المعاملة من قبيل القراض، وهو جائز بالإجماع، لأنها نوع من أنواعه، ويتغاضى عن اشتراط كون الربح جزءاً شائعاً لا قدراً معيناً؛ لأن القراض العادي يقع بين أفراد الناس، وهذه المعاملة مع مؤسسة للدولة!! والحق أن هذه المجموعة الثالثة حرام أيضاً لاعتمادها على الميسر أو القمار، من طريق تقسيم مجموع الربا إلى مبالغ مختلفة، لتشمل عدداً أقل من مجموع عدد المقرضين، موزعة باسم الجوائز عن طريق القرعة، وفي هذا أيضاً غبن واضح؛ لأن صاحب قرض ضئيل قد يأخذ آلاف الدنانير أو الليرات، وصاحب الآلاف قد لايأخذ شيئاً.
الفصل الثالث: عقد الإيجار
الفَصْلُ الثَّالث: عَقْدُ الإيجار عقد الإجارة كالبيع من العقود المسماة (¬1) التي عني التشريع الإسلامي ببيان أحكامها الخاصة بها بحسب ما تقتضيه طبيعة عقدها، وهي تختلف عن عقد البيع في أنها مؤقتة المدة، بينما عقد البيع لا يقبل التأقيت، وإنما هو مؤبد، لأنه يترتب عليه انتقال ملكية العين. وعقد الإجارة من العقود المهمة في الحياة العملية، لذا فإني سأتكلم عن أهم خصائصها وأحكامها في المباحث الآتية: المبحث الأول ـ مشروعية الإجارة وركنها ومعناها. المبحث الثاني ـ شروط الإجارة. المبحث الثالث ـ صفة عقد الإجارة وحكمه. المبحث الرابع ـ نوعا الإجارة وأحكامها. المبحث الخامس ـ ضمان العين المستأجرة وضمان الأجير وسقوط أجره بهلاك العين. ¬
المبحث السادس ـ اختلاف المتعاقدين في الإجارة. المبحث السابع ـ انتهاء عقد الإجارة. المبحث الأول ـ مشروعية الإجارة وركنها ومعناها: مشروعية الإجارة: اتفق الفقهاء على مشروعية عقد الإجارة ما عدا أبا بكر الأصم وإسماعيل بن عُلَية والحسن البصري والقاشاني والنهرواني وابن كيسان فإنهم لم يجيزوه؛ لأن الإجارة بيع المنفعة، والمنافع حال انعقاد العقد معدومة القبض، ثم تستوفى شيئاً فشيئاً مع الزمن، والمعدوم لا يحتمل البيع، ولا يجوز إضافة البيع إلى شيء في المستقبل. ورد عليهم ابن رشد بأن المنافع، وإن كانت معدومة في حال العقد، فهي مستوفاة في الغالب. والشرع إنما لحظ من هذه المنافع ما يستوفي في الغالب، أو يكون استيفاؤه وعدم استيفائه على السواء (¬1). واستدل الجمهور على جواز عقد الإيجار بالقرآن والسنة والإجماع: أما القرآن: فقوله تعالى: {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} [الطلاق:6/ 65] وقوله عز وجل حاكياً قول إحدى ابنتي شعيب عليه السلام: {قالت إحداهما: يا أبت استأجره، إن خير من استأجرت القوي الأمين. قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج، فإن أتممت عشراً فمن عندك} [القصص:26/ 28 - 27] والاستدلال بهذه الآية صحيح عند القائلين: بأن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم ينسخ. ¬
وأما السنة: فقوله عليه الصلاة والسلام: «أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه» (¬1). فالأمر بإعطاء الأجر دليل على صحة الإيجار، وقوله صلّى الله عليه وسلم: «من استأجر أجيراً فليعلمه أجره» (¬2). وروى سعيد بن المسيب عن سعد رضي الله عنه قال: «كنا نكري الأرض بما على السواقي من الزرع، فنهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن ذلك، وأمرنا أن نكريها بذهب أو وَرِق» (¬3). وروى ابن عباس رضي الله عنه: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم احتجم وأعطى الحجام أجره» (¬4). وأما الإجماع: فقد أجمعت الأمة في زمن الصحابة على جواز الإيجار قبل ¬
ركن الإجارة ومعناها
وجود الأصم وابن علية وغيرهما، لحاجة الناس إلى المنافع كالحاجة إلى الأعيان المحسوسة، فلما جاز عقد البيع على الأعيان، وجب أن يجوز عقد الإجارة على المنافع (¬1). ركن الإجارة ومعناها: ركن الإيجار عند الحنفية: الإيجاب والقبول، وذلك بلفظ الإجارة والاستئجار والاكتراء والإكراء. وأركانه عند الجمهور (¬2) أربعة: عاقدان (مؤجر ومستأجر)، وصيغة (إيجاب وقبول)، وأجرة ومنفعة. ومعنى الإيجار لغة: بيع المنفعة. ومعناه الشرعي هو معناه اللغوي، ولذا قال الحنفية: الإيجار: عقد على المنافع بعوض (¬3). وكما لا يصح تعليق البيع، لا يصح تعليق الإجارة، إلا أن الإجارة يصح إضافتها إلى زمن في المستقبل عند جمهور الفقهاء، على عكس البيع كما ذكر سابقاً. ولم يجز الشافعية إضافة إجارة العين للمستقبل كالبيع. وأجازوا إضافة الإجارة في الذمة، مثل: ألزمت ذمتك حمل متاعي هذا إلى بلد كذا أول شهر كذا؛ لأن الدين يقبل التأجيل، كما لو أسلم في شيء إلى أجل معلوم. وكذلك يصح عندهم في الأصح في إجارة العين: أن ¬
الشافعية
يؤجر المالك مدة جديدة لمستأجر عين مدة سابقة قبل انقضائها، لاتصال المدتين مع اتحاد المأجور (¬1). وعرف الشافعية الإيجار فقالوا: هو عقد على منفعة مقصودة معلومة مباحة قابلة للبذل والإباحة بعوض معلوم. ومحترزات قيود التعريف هي أنه خرج بقولهم: «منفعة»: العين، فالعقد عليها بيع أو هبة، وبقولهم: «مقصودة»: المنفعة التافهة كاستئجار بياع على كلمة لا تتعب، وبقولهم: «معلومة»: المضاربة والجعالة على عمل مجهول. وأما قيد «قابلة للبذل والإباحة» فهو لإخراج منفعة البُضع، فإن العقد عليها لا يسمى إجارة، والقيد الأخير (أي بعوض) لإخراج هبة المنافع والوصية بها والشركة والإعارة (¬2). وقال المالكية: الإيجار: تمليك منافع شيء مباحة مدة معلومة بعوض (¬3). وبمثل ذلك قال الحنابلة (¬4). وإذا كانت الإجارة بيع المنافع فلايجوز عند أكثر الفقهاء إجارة الشجر والكرم للثمر؛ لأن الثمر عين، والإجارة بيع المنفعة لا بيع العين. ولا تجوز إجارة الشاة للبنها أو سمنها أو صوفها أو ولدها؛ لأن هذه أعيان، فلا تستحق بعقد الإجارة. ولا تجوز إجارة ماء في نهر أو بئر أو قناة أوعين؛ لأن الماء عين، ولا يجوز استئجار ¬
رأي ابن القيم في إجارة الأعيان
الآجام التي فيها الماء للسمك وغيره من القصب والصيد؛ لأن كل ذلك عين. وعلى هذا فلا تجوز إجارة البِرك أو البحيرات للاصطياد أي ليصاد منها السمك (¬1). ولا تجوز إجارة المراعي؛ لأن الكلأ عين فلا تحتمل الإجارة. ولا يجوز عند جمهور الفقهاء استئجار الفحل للضراب؛ لأن المقصود منه النسل، بإنزال الماء وهو عين، وقد ثبت أنه صلّى الله عليه وسلم: «نهى عن عَسْب الفحل» (¬2) أي كرائه. وقد حذفت كلمة «الكراء» من باب المجاز المرسل مثل: {واسأل القرية} [يوسف:82/ 12]. ولا يجوز استئجار الدراهم والدنانير والمكيلات والموزونات؛ لأنه لا يمكن الانتفاع بها إلا بعد استهلاك أعيانها، والمعقود عليه في الإجارة هو المنفعة لا العين (¬3). لهذا كله فإن المقرر أن: «كل ما ينتفع به مع بقاء عينه تجوز إجارته وما لا فلا». واستثنوا استئجار المرضع للضرورة كما يأتي. وأجاز المالكية كراء الفحل للنزو على الإناث، وأجرة الحمام جائزة عند أكثر العلماء (¬4). رأي ابن القيم في إجارة الأعيان: قال ابن القيم: إن الأصل الذي سار عليه الفقهاء (وهو أن المستحق بعقد الإجارة إنما هو المنافع لا الأعيان) أصل فاسد، فهو لم يدل عليه كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح، بل الذي دلت عليه الأصول أن الأعيان التي تحدث شيئاً فشيئاً مع بقاء أصلها حكمها حكم المنافع ¬
المبحث الثاني ـ شروط الإجارة
كالثمر في الشجر، واللبن في الحيوان، والماء في البئر، ولذلك سوي بين العين والمنفعة في الوقف، فجاز وقف المنفعة كالسكنى، وجاز وقف العين كوقف الماشية للانتفاع بلبنها، وكذلك سوي بينهما في التبرعات كالعارية لمن ينتفع بالمتاع ثم يرده، والمنيحة لمن يشرب الشاة ثم يردها، والقرض لمن ينتفع بالدراهم ثم يرد بدلها، فكذلك في الإجارة تارة تكون على منفعة، وتارة تكون على عين تحدث شيئاً فشيئاً مع بقاء الأصل كلبن الظئر ونفع البئر، فإن هذه الأعيان لما كانت تحدث شيئاً فشيئاً مع بقاء الأصل كانت كالمنفعة، والجامع بينهما هو حدوث المقصود بالعقد شيئاً فشيئاً، سواء أكان الحادث عيناً أم منفعة (¬1). المبحث الثاني ـ شروط الإجارة يشترط في عقد الإيجار أربعة أنواع من الشروط كما في عقد البيع: وهي شروط الانعقاد، وشروط النفاذ، وشروط الصحة، وشروط اللزوم. وأذكر هنا بعض هذه الشروط، وأحيل ما بقي منها على ما هو مقرر في عقد البيع. شروط الانعقاد: وهي ثلاثة أنواع: بعضها يرجع للعاقد، وبعضها يرجع لنفس العقد، وبعضها يرجع لمكان العقد. وأقتصر على ذكر ما يرجع للعاقد: وهو العقل، أي أن يكون العاقد عاقلاً، فلا تنعقد الإجارة من المجنون والصبي غير المميز كما لا ينعقد البيع منهما. ولا يشترط البلوغ للانعقاد ولا للنفاذ عند الحنفية، فلو أجر الصبي المميز ماله أو نفسه: فإن كان مأذوناً في ذلك وغيره ينفذ عقده، وإن كان محجوراً عن التصرفات يقف على إجازة وليه (¬2). ¬
المالكية
وقال المالكية: إن التمييز شرط في الإيجار والبيع، والبلوغ شرط للنفاذ، فالصبي المميز إذا أجر نفسه أو سلعته صح عقده، وتوقف العقد على رضا وليه (¬1). وقال الشافعية والحنابلة: يشترط التكليف: وهو البلوغ والعقل لانعقاد الإيجار، لأنه عقد تمليك في الحياة، فأشبه البيع (¬2). شروط النفاذ: يشترط لنفاذ عقد الإجارة توافر الملك أو الولاية، فلا تنفذ إجارة الفضولي لعدم الملك أوالولاية، وإنما العقد ينعقد موقوفاً على إجازة المالك عند الحنفية والمالكية كما في عقد البيع، خلافاً للشافعية والحنابلة. والإجازة تلحق الإجارة الموقوفة بشروط، منها قيام المعقود عليه. فإذا أجر الفضولي، وأجاز المالك العقد ينظر (¬3): إن أجاز العقد قبل استيفاء المنفعة، جازت إجارته، وكانت الأجرة للمالك، لأن المعقود عليه قائم. وإن أجاز العقد بعد استيفاء المنفعة لم تجز إجارته، وكانت الأجرة للعاقد، لأن المنافع المعقود عليها تلاشت في الماضي، فتكون عند الإجازة معدومة، فلا يبقى العقد بعدئذ، لفوات محله، فلا تصح الإجارة، كما عرفنا في عقد البيع ويصير العاقد الفضولي حينئذ غاصباً بالتسليم. وقال الحنفية: إن الغاصب إذا آجر ما غصبه وسلم ذلك، ثم قال المالك: (أجزت ما آجرت): فإن كانت مدة الإجارة قد انقضت فللغاصب الأجر؛ لأن المعقود عليه قد انعدم، والإجازة لا تلحق المعدوم كما بينت. وإن كانت الإجازة ¬
شروط صحة الإجارة
بعد مضي بعض المدة فالأجر كله للمالك عند أبي يوسف، لأنه إذا بقي بعض المدة لم يبطل العقد، فكان محلاً للإجازة، فهو قد نظر إلى المدة. وقال محمد: أجر ما مضى للغاصب، وأجر ما بقي للمالك؛ لأن كل جزء من أجزاء المنفعة معقود عليه مستقل عن غيره، فإذا مضى بعض مدة الإجارة، كان الماضي منعدماً حين الإجارة، فلا يصح إلحاق الإجازة به لانعدامه، فهو قد نظر إلى المعقود عليه. ويجري هذا الخلاف بين أبي يوسف ومحمد فيمن غصب أرضاً فأجرها للزراعة، فأجاز صاحب الأرض عقد الإجارة. وأضاف محمد: إن أعطاها الغاصب مزارعة فهنا تفصيل: إن كان الزرع قد سنبل، ولم ييبس، فأجاز صاحب الأرض، جازت المزارعة، ولا شيء للغاصب من الزرع، لأن المزارعة بمنزلة شيء واحد، لا ينفصل بعض عملها عن بعض، فكانت إجازة العقد قبل الاستيفاء بمنزلة ابتداء العقد. وأما إذا كان الزرع قد يبس فقد انقضى عمل المزارعة، فلا تلحق الإجازة العقد، ويكون الزرع حينئذ للغاصب. شروط صحة الإجارة: يشترط لصحة الإجارة شروط تتعلق بالعاقد والمعقود عليه والمحل المعقود عليه، والأجرة، ونفس العقد وهي: 1 - رضا المتعاقدين: يشترط توافر رضا المتعاقدين كما في البيع، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم} [النساء:29/ 4] والإجارة تجارة، لوجود معنى مبادلة المال بالمال فيها (¬1). وهذا الشرط يتعلق بالعاقد، وما سيأتي متعلق بالمعقود عليه. ¬
2 - أن يكون المعقود عليه وهو المنفعة معلوما
2 - أن يكون المعقود عليه وهو المنفعة معلوما ً علماً يمنع من المنازعة، فإن كان مجهولاً جهالة مفضية إلى المنازعة لا يصح العقد؛ لأن هذه الجهالة تمنع من التسليم والتسلم، فلا يحصل المقصود من العقد. والعلم بالمعقود عليه: يكون ب بيان محل المنفعة وبيان المدة وبيان العمل في استئجار الصناع والعمال. أما بيان محل المنفعة: فيحصل بمعرفة العين المستأجرة بعينها، فلو قال إنسان لآخر: آجرتك إحدى هاتين الدارين، أو أحد هذين المركبين أو أحد هذين الصانعين، لم يصح العقد لجهالة المعقود عليه جهالة فاحشة. ولو استأجر إنسان من آخر نهراً يابساً أو موضعاً من الأرض معلوماً ليسوق منه الماء إلى أرض له، فيسقيها، لم يجز في المشهور عند الحنفية، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن مقدار ما يسيل من الماء في النهر مختلف قلة وكثرة، والكثير منه مضر بالنهر، والمضر منه مستثنى ضمناً، وغير المضر غير منضبط، فصار محل المعقود عليه مجهولاً. وروي عن محمد أنه يجوز؛ لأن المانع من جواز العقد جهالة البقعة وقد زالت الجهالة بالتعيين (¬1). وأما بيان المدة: فهو مطلوب في إجارة الدور والمنازل والبيوت والحوانيت وفي استئجار الظئر (المرضع)؛ لأن المعقود عليه لا يصير معلوم القدر بدونه، فترك بيانه يفضي إلى المنازعة. ¬
وتصح الإجارة على أي مدة طالت أو قصرت وهو قول أكثر العلماء ومنهم الشافعية على الصحيح (¬1)، فإنهم قالوا: يصح عقد الإجارة مدة تبقى فيها العين غالباً بحسب رأي أهل الخبرة، ولا يقدر للإجارة أقصى مدة، إذ لا دليل من الشرع على ذلك (¬2). ولا يشترط عند الحنفية تعيين ابتداء مدة الإجارة، فإذا كان العقد مطلقاً عن تعيين ابتداء المدة، تعين الزمن الذي يعقب العقد، وهو الشهر الذي يأتي بعد العقد. وقال الشافعية: يشترط تعيين مدة الابتداء التي تلي العقد نصاً؛ لأن عدم التعيين يؤدي إلى جهالة الوقت الموجبة لجهالة المعقود عليه (¬3). وإن وقعت الإجارة شهراً أو شهوراً أو سنين معلومة في أول الشهر يعتبر الشهر بالأهلة، وإن وقعت في بعض الشهر يعتبر الشهر بالأيام ثلاثين يوماً لتعذر اعتبار الأهلة، فتعتبر الأيام. وكذلك الأمر في الشهور والسنين، فإذا كان العقد في أول الشهر فشهور السنة كلها بالأهلة، لأنها هي الأصل، وإن كان في أثناء الشهر فالكل بالأيام عند أبي حنيفة، وفي رواية عن أبي يوسف. وهناك رواية أخرى عن أبي حنيفة وهو رأي محمد ومذهب الشافعية: إذا ¬
الإجارة مشاهرة
استأجر داراً لمدة سنة في بعض الشهر، فإنه يسكن بقية هذا الشهر بالأيام، ويكمل ما بقي من الشهر الأول من الشهر الأخير، والباقي من السنة وهو أحد عشر شهراً بالأهلة؛ لأن الأيام يصار إليها ضرورة، والضرورة قائمة في الشهر الأول فقط من السنة. ووجه الرواية الأولى أنه متى تم الشهر الأول بالأيام ابتدأ الثاني بالأيام ضرورة، وهكذا إلى آخر السنة (¬1). الإجارة مشاهرة: تشدد الشافعية في شرط معرفة المدة، فقالوا في الصحيح عندهم: إن آجر شخص داره كل شهر بدينار مثلاً، أو كل يوم أو كل جمعة أو كل سنة بكذا، فالإجارة باطلة؛ لأن كل شهر يحتاج إلى عقد جديد لإفراده بأجرة معينة، ولم يوجد عقد، وذلك يقتضي البطلان، هذا بالإضافة إلى جهالة مدة الإجارة، فصار كما لو قال: آجرتك مدة أو شهراً (¬2). وقال جمهور الفقهاء: تصح الإجارة في الشهر الأول وتلزم، وأما ما عدها من الشهور فلا يلزم إلا بالدخول فيه أو التلبس فيه؛ لأن شروعه مع ما تقدم في العقد من الاتفاق على تقدير أجره والرضا ببذله جرى مجرى ابتداء العقد عليه، وصار كبيع المعاطاة إذا جرى من المساومة ما دل على التراضي بها (¬3). وأما بيان العمل في استئجار الصناع والعمال فهو أمر مطلوب منعاً من الجهالة؛ لأن جهالة العمل في الاستئجار على الأعمال جهالة مفضية إلى المنازعة، فيفسد العقد، فلو استأجر عاملاً، ولم يسم له العمل من الخياطة والرعي وعزق الأرض ونحوه لم يجز العقد. ¬
تعيين المدة والعمل
وإذا كان الأجير مشتركاً فلابد من بيان المعمول فيه إما بالإشارة والتعيين، أو ببيان الجنس والنوع والقدر والصفة، فلو استأجر شخص حفاراً لحفر بئر فلا بد من بيان مكان الحفر وعمق البئر ونوعها وعرضها؛ لأن عمل الحفر يختلف باختلاف هذه الأوضاع (¬1). تعيين المدة والعمل: إذا كان لا بد من تعيين المدة في إجارة المنافع كإجارة المنازل ونحوها، وتعيين نوع العمل في الإجارة على الأعمال كالخياطة ونحوها، فهل يجوز الجمع بين اشتراط المدة والعمل معاً؟ قال الحنفية: لا يشترط في إجارة المنافع تعيين العمل، فلو استأجر رجل داراً أو حانوتاً، ولم يسم ما يعمل فيه، جازت الإجارة، وله أن يسكن فيه بنفسه مع غيره، وله أن يسكن فيه غيره بالإجارة والإعارة، وله أن يضع فيه متاعاً وغيره، غير أنه لا يستعمل البناء بما يضره ويوهنه ولا يجعل فيه حداداً ولا قصاراً ولا طحاناً؛ لأن العقد المطلق عن الشرط مقيد بالعرف المألوف. وأما في الإجارة على الأعمال، فيشترط بيان المدة في استئجار الراعي المشترك لأن قدر المعقود عليه لا يصير معلوماً بدونه. وأما في استئجار القصار المشترك والخياط المشترك، فلا يشترط بيان المدة؛ لأن المعقود عليه يصير معلوماً بدونه. وأما الأجير الخاص، فلا يشترط في العقد معه بيان جنس المعمول فيه ونوعه وقدره وصفته، وإنما يشترط بيان المدة فقط. وكذلك يشترط بيان المدة في استئجار الظئر. واختلف أبو حنيفة مع صاحبيه في اجتماع المدة مع العمل (¬2)، فقال ¬
أبو حنيفة: متى تعينت المدة لم يجز تقدير العمل. وقال الصاحبان: يجوز التقدير بهما معاً. وعلى هذا: إذا قال رجل لآخر: استأجرتك لتخيط هذا الثوب اليوم، أو لتقصر هذا الثوب اليوم، أو لتخبز قفيز دقيق اليوم، فالإجارة فاسدة عند أبي حنيفة. وجائزة عند الصاحبين. وإذا استأجر شخص دابة إلى بلد أياماً معينة، فالإجارة فاسدة عند الإمام. وعند صاحبيه جائزة. وجه قول الصاحبين: أن المعقود عليه هو العمل لأنه هو المقصود، والعمل معلوم، والقصد من ذكر المدة هو التعجيل، فلم تكن المدة معقوداً عليها، فلا يمنع ذكرها جواز العقد. وإذا وقعت الإجارة على العمل: فإن فرغ الأجير منه قبل تمام المدة فله كمال الأجر، وإن لم يفرغ منه في اليوم، فعليه أن يعمله في الغد. ووجه قول أبي حنيفة: أن المعقود عليه مجهول، لأن العاقد ذكر أمرين: هما العمل والمدة، وكل واحد منهما يجوز أن يكون معقوداً عليه، وجهالة المعقود عليه توجب فساد العقد. هذا مع العلم بأنه لا يمكن الجمع بين العمل والمدة في كون كل واحد منهما معقوداً عليه؛ لأن حكمهما مختلف؛ إذ أن العقد على المدة يقتضي وجوب الأجر من غير عمل؛ لأن الأجير يصبح أجيراً خاصاً؛ والعقد على العمل يقتضي وجوب الأجر بالعمل؛ لأن الأجير يصبح أجيراً مشتركاً، فكان المعقود عليه أحدهما، وليس أحدهما بأولى من الآخر، فكان المعقود عليه مجهولاً. وقال الحنابلة: إذا عقدت الإجارة على عمل كبناء حائط، وخياطة قميص، وحمل إلى موضع معين، فإذا كان المأجور مما له عمل ينضبط كالحيوان، جاز تقدير إجارته بمدة وعمل؛ لأن المأجور له عمل تتقدر منافعه به. وإن لم يكن المأجور له عملاً كالدار والأرض، لم تجز إجارته إلا على مدة، ومتى تقدرت المدة، لم يجز
3 - أن يكون المعقود عليه مقدور الاستيفاء حقيقة وشرعا
تقدير العمل، لأن الجمع بينهما يزيد الإيجار غرراً، لأنه قد يفرغ من العمل قبل انقضاء المدة، فإن استعمل المأجور في بقية المدة، فقد زاد على ما وقع عليه العقد، وإن لم يعمل كان تاركاً للعمل في بعض المدة. وقد لا يفرغ الأجير من العمل في المدة، فإن أتمه بعدها عمل في غير المدة، وإن لم يعمله، لم يأت بما وقع عليه العقد، وهذا غرر أمكن التحرز عنه (¬1). وقال المالكية والشافعية في الأصح: لا يجوز في إجارة الأعمال كخياطة الثوب ونحوها الجمع بين الزمان والعمل، فلا يصح أن يعين زمان الخياطة بأن يقول الشخص للخياط: اليوم أو بعد أسبوع مثلاً، فتفسد الإجارة؛ لأنه يوجب الغرر بتوقع تعذر العمل في ذلك اليوم أو الأسبوع، فقد يتقدم العمل أو يتأخر، كما لو أسلم رجل في قفيز حنطة بشرط كون وزنه كذا، لا يصح العقد لاحتمال أن يزيد الوزن أو ينقص. وعلى هذا فالمصلحة ونفي الغرر عن العقد يوجبان بقاء العقد مطلقاً دون تحديد مدة معينة (¬2). 3 - أن يكون المعقود عليه مقدور الاستيفاء حقيقة وشرعا ً: فلا تجوز إجارة متعذر التسليم حقيقة كإجارة البعير الشارد والأخرس للكلام، أو شرعاً كإجارة الحائض لكنس المسجد، والطبيب لقلع سن صحيحة، والساحر على تعليم السحر، وهذا باتفاق الفقهاء. ولا تجوز إجارة المشاع من غير الشريك عند أبي حنيفة وزفر والحنابلة، كأن يؤجر نصيباً من داره، أو نصيبه من دار مشتركة من غير الشريك، سواء أكان النصيب معلوماً كالربع ونحوه، أم مجهولاً؛ لأن منفعة المشاع غير مقدورة الاستيفاء؛ لأن استيفاءها بتسليم المشاع، والمشاع غير مقدور ¬
التسليم بنفسه؛ لأنه سهم شائع ضمن كل، وإنما يتصور تسليمه مع غيره وهو غير معقود عليه، فلا يتصور تسليمه شرعاً. وأما الإجارة من الشريك فهي جائزة على الرواية المشهورة عن أبي حنيفة؛ لأن المعقود عليه مقدور الاستيفاء بدون المهايأة، إذ منفعة كل الدار تحدث مثلاً على ملك المستأجر لكن بسببين مختلفين: بعضها بسبب الملك، وبعضها بسبب الإجارة. وأما الشيوع الطارئ فلا يؤثر على الإجارة في الروية المشهورة عن أبي حنيفة أيضاً؛ لأن المانع من جواز العقد وهو الشيوع كان بسبب عدم القدرة على التسليم، والقدرة على التسليم ليست بشرط لبقاء العقد ودوامه، إذ ليس كل ما يشترط في إنشاء العقد عند ابتدائه يشترط لبقاء العقد (¬1). وقال الصاحبان وجمهور الفقهاء: تجوز إجارة المشاع مطلقاً من الشريك وغيره؛ لأن للمشاع منفعة، والتسليم ممكن بالتخلية أو بالتهايؤ، كما يجوز ذلك في البيع، والإجارة أحد نوعي البيع (¬2). ويترتب على اشتراط القدرة على الاستيفاء عند الحنفية مسائل: أـ لو استأجر إنسان طريقاً في دار غيره ليمر فيها وقتاً معلوماً لم يجز عند أبي حنيفة، ويجوز في قول الصاحبين؛ لأن إجارة المشاع فاسدة عند الإمام، وجائزة عند الصاحبين. ب ـ لو استأجر شخص أرضاً فيها رطبة (¬3) (فصفصة) لمدة سنة مثلاً فلا تجوز الإجارة، وإنما تقع فاسدة، لأنه لا يمكن تسليم الأرض إلا بإحداث ضرر، وهو قلع الرطبة، والإنسان لا يجبر على إلحاق الضرر بنفسه، فلم تكن المنفعة مقدورة ¬
الاستيفاء شرعاً، فلم تجز. فإن قلع صاحب الأرض الرطبة، وسلم الأرض بيضاء، جاز العقد، لأن المانع قد زال، مثل أن يشتري إنسان جذعاً في سقف إذا نزعه البائع وسلمه إلى المشتري جاز العقد، ويجبر المشتري على القبول في الحالتين. جـ ـ لو استأجر شخص رجلاً للقيام بالبيع والشراء، فلا تجوز الإجارة؛ لأن البيع والشراء لا يتم بشخص واحد، بل بعاقدين هما البائع والمشتري، وذلك غير مقدور للشخص، فتفسد الإجارة على هذه المهمة، إذ أن الأجير لا يقدر على إيفاء المنفعة بنفسه، والمستأجر لا يقدر بالتالي على الاستيفاء، فصار العقد، كما لو استأجر رجلاً ليحمل خشبة بنفسه، وهو لا يقدر على حملها بنفسه. فإن عين المستأجر للقيام بمهمة البيع والشراء مدة، كأن استأجره شهراً ليبيع له ويشتري، جاز العقد؛ لأن الإجارة وقعت على منفعة المدة، وهي معلومة. د ـ لا يصح استئجار الفحل للإنزاء، واستئجار الكلب المعلم، والبازي المعلم للاصطياد؛ لأن المنفعة غير مقدورة الاستيفاء في حق المستأجر إذ لا يمكن إجبار الفحل على الضراب والإنزال، ولا إجبار الكلب والبازي على الصيد. هذا رأي جمهور العلماء من الحنفية والشافعية والحنابلة (¬1)؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلم نهى عن عسب الفحل أي أجرة ضرابه (¬2). وأجاز الإمام مالك العقد إذا كانت الإجارة على مدة معلومة تشبيهاً للمذكور بسائر المنافع (¬3). ¬
4 - أن تكون المنفعة المعقود عليها مباحة شرعا
4 - أن تكون المنفعة المعقود عليها مباحة شرعا ً: كاستئجار كتاب للنظر والقراءة فيه والنقل منه، واستئجار دار للسكنى فيها، وشبكة للصيد ونحوها. يتفرع على هذا الشرط أنه باتفاق الفقهاء (¬1): لا يجوز الاستئجار على المعاصي كاستئجار الإنسان للعب واللهو المحرم وتعليم السحر والشعر المحرم وانتساخ كتب البدع المحرمة، وكاستئجار المغنية والنائحة للغناء والنوح، لأنه استئجار على معصية، والمعصية لا تستحق بالعقد. أما الاستئجار لكتابة الغناء والنوح فهو جائز عند الحنفية فقط؛ لأن الممنوع عنه نفس الغناء والنوح، لا كتابتهما. فالقاعدة الفقهية إذن: أن «الاستئجار على المعصية لا يجوز» (¬2). وكذلك لا يجوز استئجار رجل لقتل رجل أو سجنه أوضربه ظلماً أو لأي مظلمة أخرى، لأنه استئجار لفعل معصية، فلا يكون المعقود عليه مقدور الاستيفاء شرعاً. فإن كان الفعل بحق كأن استأجر رجل غيره لقطع عضو فيجوز؛ لأنه مقدور الاستيفاء؛ لأن محله معلوم. أما الاستئجار على القصاص فلا يجوز عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن القتل بضرب العنق قد يصيب العنق فيكون مشروعاً، وقد يصيب غير العنق فيكون محظوراً؛ لأنه مُثْلة بالإنسان. ويجوز العقد عند محمد؛ لأن القصاص هو حز الرقبة، والرقبة معلومة، فكان المعقود عليه مقدور الاستيفاء (¬3). وكذلك لا يجوز لذمي استئجار دار من مسلم في بلد إسلامية ليتخذها ¬
5 - ألا يكون العمل المستأجر له فرضا ولا واجبا على الأجير قبل الإجارة
مصلى للناس أو لبيع الخمر أو للقمار؛ لأنه استئجار على المعصية، وهذا رأي جمهور العلماء. وكان أبو حنيفة يجيز الاستئجار للمصلى في سواد العراق؛ لأن أكثر أهل السواد في زمانه كانوا أهل ذمة من المجوس، فكان لا يؤدي ذلك إلى الإهانة والاستخفاف بالمسلمين (¬1). 5 - ألا يكون العمل المستأجر له فرضاً ولا واجباً على الأجير قبل الإجارة: ويترتب عليه أنه لا تصح الإجارة إذا كانت واردة على القيام بفرض أو واجب على الأجير قبل العقد؛ لأن من أتى بعمل يستحق عليه لا يستحق الأجرة على فعله، كمن قضى ديناً عليه، فلا تصح الإجارة إذن على القرب والطاعات كالصلاة والصوم والحج والإمامة والأذان وتعليم القرآن؛ لأنه في الفرائض استئجار على عمل مفروض، ولأن الاستئجار على الأذان والإقامة والإمامة وتعليم القرآن والعلم سبب لتنفير الناس عن الصلاة بالجماعة، وعن تعليم القرآن والعلم (¬2) وقد روي أن عثمان بن أبي العاص قال: «إن آخر ما عهد إلى النبي صلّى الله عليه وسلم أن اتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً» قال الترمذي: حديث حسن (¬3)، وهذا محل اتفاق بين الحنفية والحنابلة. ومن قواعد الحنفية في هذا «لا يستحق الأجر من استؤجر على الطاعة» «الاستئجار لما هو مستحق عليه لا يجوز» فمن استأجر امرأته شهراً لخدمة البيت لا تجوز هذه الإجارة لأنها مستحقة عليها. ¬
ثم أفتى المتأخرون من العلماء بجواز أخد المعلم أجرة المثل في زمانه على تعليم القرآن. وقال الإمامان مالك والشافعي (¬1): تجوز الإجارة على تعليم القرآن لأنه استئجار لعمل معلوم ببدل معلوم، ولأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم «زوج رجلاً بما معه من القرآن» (¬2) فجاز جعل القرآن عوضاً، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله» (¬3) وهو حديث صحيح. وثبت أن أبا سعيد الخدري رقى رجلاً بفاتحة الكتاب على جُعْل، فبرئ، وأخذ أصحابه الجعل، فأتوا به رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأخبروه وسألوه فقال: «لعمري من أكْل برقيةِ باطلٍ (أي كلام باطل) فقد أكلتَ برقيةِ حقٍ، كلوا واضربوا لي معكم بسهم» (¬4). قال صاحب الكنز الحنفي: والفتوى اليوم على جواز الاستئجار لتعليم القرآن، وهو مذهب المتأخرة من مشايخ بلخ (¬5). وأجاز المالكية أخذ الأجرة على الأذان مع الإمامة والقيام بالمسجد لا على الصلاة بانفرادها قياساً على الأفعال غير الواجبة، كما أجازوا هم والشافعية ¬
6 - ألا ينتفع الأجير بعمله
الإجارة على الحج لإقرار الرسول عليه السلام حج صحابي عن غيره، أما الإمامة في الفروض فلا يجوز فيها الإجارة عند الشافعية، ولا يجوز ذلك بانفرادها عن الأذان في المشهور عند المالكية (¬1). ويجوز بالاتفاق الاستئجار على تعليم اللغة والأدب والحساب والخط والفقه والحديث ونحوها وبناء المساجد والقناطر والرباطات؛ لأنها ليست بفرض ولابواجب. وقد تقع قربة تارة، وتارة غير قربة. ولا يجوز عند الحنفية الاستئجار على غسل الميت؛ لأنه واجب، ويجوز على حفر القبور، وعلى حمل الجنائز. وأجاز الشافعية الإجارة لتجهيز ميت ودفنه. والتجهيز يشمل الغسل والتكفين؛ لأن ذلك من فروض الكفايات، ولا يضر طروء تعين الواجب كالمضطر، فإنه يتعين إطعامه مع تغريمه البدل. ولا يجوز استئجار الرجل الزوجة على رضاع ولده منها؛ لأنه استئجار على خدمة الولد، وإنما اللبن يدخل فيه تبعاً، فكان الاستئجار على أمر واجب عليها فيما بينها وبين الله تعالى (¬2). 6 - ألا ينتفع الأجير بعمله: فإن كان ينتفع به لم يجز (¬3)، فلا تصح الإجارة ¬
7 - أن تكون المنفعة مقصودة يعتاد استيفاؤها بعقد الإجارة
على الطاعات؛ لأن القائم بها عامل لنفسه، كما لا يصح استئجار رجل ليطحن لآخر قفيزاً من حنطة بجزء من دقيقها، أو ليعصر له قفيزاً من سمسم بجزء معلوم من دهنه، لأن الأجير ينتفع بعمله من الطحن والعصر، فيكون عاملاً لنفسه، وقد روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عن قفيز الطحان (¬1): وهو أن يعطي الرجل أقفزة معلومة يطحنها بقفيز دقيق منها. وهذا هو رأي الشافعية أيضاً (¬2) عملاً بالنهي في هذا الحديث، ولأن فيه نقضاً لشرط من شرائط الإجارة وهو القدرة على تسليم الأجر وقت التعاقد. والقاعدة المقررة عند الحنفية في هذا الشأن هي: «تعيين الأجر مما يعمل فيه الأجير مفسد للعقد». وقال الحنابلة والمالكية: يجوز ذلك إذا كان الكيل معلوماً، والحديث لم تثبت صحته عندهم (¬3). ومنه: ما يتعامل به الزراع في الريف من إعطاء بعض القمح لدارسه أو حامله فقد أجازه الحنابلة. 7 - أن تكون المنفعة مقصودة يعتاد استيفاؤها بعقد الإجارة، ويجري بها ¬
شروط في المنفعة
التعامل بين الناس، فلا يجوز استئجار الأشجار لتجفيف الثياب (¬1) عليها والاستظلال بها؛ لأن هذه منفعة غير مقصودة من الشجر (¬2). وأما شرط المحل المعقود عليه: فهو أن يكون مقبوضاً إذا كان منقولاً، وإن لم يكن مقبوضاً فلا تصح إجارته لنهي النبي صلّى الله عليه وسلم عن بيع ما لم يقبض (¬3)، والإجارة نوع من البيع فيشملها النهي (¬4). فإن كان الشيء المأجور عقاراً فهو على الاختلاف الذي ذكر في مبحث البيع الفاسد. وأما شروط الأجرة فهي اثنان (¬5): أولاً ـ أن تكون الأجرة مالاً متقوماً معلوماً: وهذا باتفاق العلماء. ¬
استئجار الظئر
ومحترزات هذا الشرط معروفة كما مر في عقد البيع. والأصل في اشتراط العلم بالأجرة قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «من استأجر أجيراً فليعلمه أجره» والعلم بالأجرة لا يصح إلا بالإشارة والتعيين، أو بالبيان (¬1). ولا بد من معرفة مكان إيفاء الأجرة فيما يحتاج لحمل ومؤنة عند أبي حنيفة. وأما عند الصاحبين: فلا يشترط ذلك، ويتعين مكان العقد للإيفاء (¬2). ومما يتفرع على شرط العلم بالأجرة: أنه لو استأجر إنسان شخصاً بأجر معلوم وبطعامه، أو استأجر دابة بأجر معلوم وبعلفها، لم تجز الإجارة؛ لأن الطعام أو العلف يصير أجرة، وهو قدر مجهول، فكانت الأجرة مجهولة. وأجاز المالكية (¬3) استئجار الأجير للخدمة، والدابة بالطعام، والخادم بالكسوة ونحوها عملاً بالمتعارف بين الناس، وكذا استئجار الظئر بطعام أو غيره. استئجار الظئر: ولو استأجر شخص ظئراً (مرضعاً) بطعامها وكسوتها لاتجوز الإجارة بمقتضى الأخذ بالقياس: وهو قول الصاحبين والشافعية، لجهالة الأجرة وهي الطعام والكسوة، إلا أن أبا حنيفة استحسن الجواز بالنص: وهو قوله تعالى: {وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف} [البقرة:233/ 2] نفى الله سبحانه الجناح في الاسترضاع مطلقاً. وجهالة الأجرة في تلك الحالة لا تفضي إلى المنازعة؛ لأن العادة جرت بالمسامحة مع الأظآر والتوسعة عليهن شفقة على الأولاد، فأشبهت حالة جهالة القفيز من الصبرة (¬4). ¬
كون الأجرة جزءا من المعقود عليه
وقال المالكية والحنابلة أيضاً بهذا الرأي (¬1). كون الأجرة جزءاً من المعقود عليه: قال الجمهور: تفسد الإجارة ولو استأجر السلاّخ بالجلد، والطحان بالنخالة أو بصاع من الدقيق؛ لأنه لا يعلم هل يخرج الجلد سليماً أو لا، وهل هو ثخين أو رقيق، وما مقدار الطحين، فقد تكون الحبوب مسوسة، فلا تصح الإجارة لجهالة العوض (¬2)، ولأنه صلّى الله عليه وسلم نهى عن عَسْب الفحل وعن قفيز الطحان (¬3)، وأجازه المالكية (¬4) لأنه استأجره على جزء من الطعام معلوم، وأجرة الطحان ذلك الجزء وهو معلوم أيضاً، وأجابوا عن الحديث بأن مقدار القفيز مجهول. ووافق الهادوية والإمام يحيى من الزيدية والمزني والحنابلة على هذا الرأي إذا كانت الأجرة بقدر من الدقيق معلوم. والمشهور لدى المالكية: أن الإجارة فاسدة في حالة استئجار السلاّخ بالجلد؛ لأنه لا يستحق جلد الشاة إلا بعد السلخ، ولا يدري هل يخرج سليماً أو مقطعاً؟ وهي فاسدة أيضاً باستئجار الطحان بنُخالة، لجهالة قدرها، فلو استأجره بقدر معلوم جاز، كما لو استأجر شخصاً بجلد مسلوخ معلوم على أن يسلخ له شاة. مقابل الخلو: إن ما يؤخذ اليوم مما يسمى (بالفروغ أو خلو الرجل أو اليد) لا مانع منه شرعاً في تقديري، فللمالك المؤجر أن يأخذ من المستأجر مقداراً مقطوعاً من المال مقابل الخلو أو الفروغ. ويعد المأخوذ جزءاً معجلاً من الأجرة المشروطة في العقد. وأما ما يدفع في المستقبل شهرياً أو سنوياً فهو بالإضافة إلى ما تم تعجيله يعد جزءاً آخر مكملاً من الأجرة مؤجل الوفاء. ¬
وأما ما يأخذه المستأجر من الفروغ مقابل تنازله عن اختصاصه بمنفعة العقار المأجور لشخص آخر يحل محله فهو جائز أيضاً إذا كانت مدة الإجارة باقية، وإلا كان غصباً حراماً، فقد صرح الشافعية أثناء كلامهم عن صيغة عقد البيع بما يقارب هذا المعنى فقالوا: «لا يبعد اشتراط الصيغة في نقل اليد في الاختصاص ـ أي عند التنازل عن حيازة النجاسات لتسميد الأرض ـ كأن يقول: رفعت يدي عن هذا الاختصاص، ولا يبعد جواز أخذ العوض عن نقل اليد، كما في النزول عن الوظائف» (¬1) إلا أن ذلك كله مقيد شرعاً ضمن مدة الإيجار المتفق عليها. وتنازل المستأجر لغيره بعوض بعد انتهاء المدة مرهون برضا المالك. وبالرغم من أن أصل المذهب الحنفي لا يجيز الاعتياض عن الحقوق المجردة كحق الشفعة، وكذا لا يجيز بيع الحق، فإن كثيراً من الحنفية أفتى بجواز النزول عن الوظائف بمال كالإمامة والخطابة والأذان ونحوها، وتستند هذه الفتوى إلى الضرورة وتعارف الناس وبالقياس على ترك المرأة قَسْمها لصاحبتها؛ لأن كلاً منهما مجرد إسقاط للحق، وقياساً على أنه يجوز لمتولي النظر على الأوقاف عزل نفسه عند القاضي، ومن العزل: الفراغ لغيره عن وظيفة النظر أو غيره، وقد جرى العرف بالفراغ بعوض (¬2). هذا وقد وجدت رسالة للمتأخرين من علماء المالكية بعنوان (جملة تقارير وفتاوى في الخلوات والإنزالات (¬3) عند التونسيين) لمفتي المالكية إبراهيم الرياحي ¬
قرار مجمع الفقه الإسلامي
بتونس (المتوفى سنة 1266 هـ) والشيخ محمد بيرم الرابع التونسي، والشيخ الشاذلي بن صالح باس مفتي المالكية بتونس، والشيخ محمد السنوسي قاضي تونس يقررون فيها جواز المعاوضة عن الخلوات عملاً بالعرف والعادة، ولأن المستأجر يملك المنفعة، فله أن يتنازل عنها بعوض كالإجارة وبغير عوض كالإعارة (¬1)، فقد نقل البناني عن البرزلي في النزول عن الوظيفة ما يقتضي جوازه، ونقل فتوى الفاسيين بجواز بيع الخلو. وقال الشيخ محمد بيرم: وماأشبه الخلو بالمغارسة، غير أن الخلو لا تحصل به ملكية الرقبة لتعلقه بالمنفعة. قرار مجمع الفقه الإسلامي في جدة رقم (6) لعام 1408 هـ الموافق 1988م: يحسن إيراد ما تضمنه هذا القرار الذي كنت فيه رئيس لجنة صياغته: أولاً ـ إذا اتفق المالك والمستأجر على أن يدفع المستأجر للمالك مبلغاً مقطوعاً زائداً عن الأجرة الدورية (وهو ما يسمى في بعض البلاد خلواً) فلا مانع شرعاً من دفع هذا المبلغ المقطوع، على أن يعد جزءاً من أجرة المدة المتفق عليها، وفي حالة الفسخ تطبق على هذا المبلغ أحكام الأجرة. ثانياً ـ إذا تم الاتفاق بين المالك وبين المستأجر أثناء مدة الإجارة على أن يدفع المالك إلى المستأجر مبلغاً مقابل تخليه عن حقه الثابت بالعقد في ملك منفعة بقية المدة، فإن بدل الخلو هذا جائز شرعاً؛ لأنه تعويض عن تنازل المستأجر برضاه عن حقه في المنفعة التي باعها للمالك. أما إذا انقضت مدة الإجارة، ولم يتجدد العقد صراحة أو ضمناً عن طريق التجديد التلقائي حسب الصيغة المفيدة له، فلا يحل بدل الخلو؛ لأن المالك أحق بملكه بعد انقضاء حق المستأجر. ¬
ثانيا ـ ألا تكون الأجرة منفعة هي من جنس المعقود عليه
ثالثاً ـ إذا تم الاتفاق بين المستأجر الأول وبين المستأجر الجديد أثناء مدة الإجارة على التنازل عن بقية مدة العقد، لقاء مبلغ زائد عن الأجرة الدورية، فإن بدل الخلو هذا جائز شرعاً، مع مراعاة مقتضى عقد الإجارة المبرم بين المالك والمستأجر الأول، ومراعاة ما تقضي به القوانين النافذة الموافقة للأحكام الشرعية. على أنه في الإجارات الطويلة المدة خلافاً لنص عقد الإجارة طبقاً لما تسوغه بعض القوانين، لا يجوز للمستأجر إيجار العين لمستأجر آخر، ولا أخذ بدل الخلو فيها إلا بموافقة المالك. أما إذا تم الاتفاق بين المستأجر الأول وبين المستأجر الجديد بعد انقضاء المدة، فلا يحل بدل الخلو، لانقضاء حق المستأجر الأول في منفعة العين. ثانياً ـ ألا تكون الأجرة منفعة هي من جنس المعقود عليه: كإجارة السكنى بالسكنى والخدمة بالخدمة، والركوب بالركوب، والزراعة بالزراعة. وهذا الشرط متفرع عند الحنفية عن الربا، فإنهم يعتبرون اتحاد الجنس وحده صالحاً لتحريم العقد في ربا النسيئة، كما عرفنا في بحث الربا. وتطبيق المبدأ في الإجارة: هو أن انعقاد هذا العقد عندهم ينعقد شيئاً فشيئاً على حسب حدوث المنفعة، فتكون المنفعة وقت العقد معدومة، فيتأخر قبض أحد العاقدين، فيتحقق ربا النَّساء (¬1). وقدعرفنا أن الجنس بانفراده لا يحرم العقد بسبب الربا عند الشافعية، فيجوز هذا العقد عندهم، ولايشترط هذا الشرط. وأما الشرط العائد لركن العقد: فهو أن يخلو العقد من شرط لا يقتضيه العقد ولا يلائمه: فلو أجر المالك ¬
شروط لزوم الإجارة
داره على أن يسكنها هو شهراً، ثم يسلمها إلى المستأجر، أو أجر أرضاً على أن يزرعها، ثم يسلمها إلى المستأجر، أو أجر دابة على أن يركبها شهراً ونحوه، فالإجارة فاسدة؛ لأن هذا الشرط لا يقتضيه العقد ولا يلائمه؛ إذ أن فيه منفعة زائدة لأحد المتعاقدين مشروطة في العقد، لا يقابلها عوض، فتكون ربا، أو فيها شبهة الربا، وهو مفسد للعقد (¬1) وأجاز الحنابلة والمالكية هذه الإجارة. شروط لزوم الإجارة: يشترط لبقاء عقد الإجارة لازماً شرطان: أولهما ـ سلامة العين المؤجرة من حدوث عيب يخل بالانتفاع بها: ويترتب عليه أنه لو حدث عيب يخل بالانتفاع (¬2)، فيكون المستأجر بالخيار بين الإبقاء على الإجارة ودفع كامل الأجرة وبين فسخها، كما إذا حدث بالدابة المؤجرة مرض أو عرج أو انهدم بعض بناء الدار (¬3)؛ لأن المعقود عليه وهو المنافع يحدث شيئاً فشيئاً، فإذا حدث العيب بالشيء المستأجر كان هذا عيباً قبل القبض، فيوجب الخيار كما في عقد البيع (¬4). فإذا انهدمت الدار كلها أو انقطع الماء عن الرحى (الطاحون) أو انقطع الشِّرْب عن الأرض انفسخت الإجارة؛ لأن المعقود عليه قد هلك، والهلاك موجب لفسخ ¬
العقد؛ إلا أن الأصح عند الحنفية هو أن العقد لا ينفسخ ولكن يثبت حق الفسخ، لأن المعقود عليه قد فات على وجه يتصور عوده، فصار كمن اشترى شيئاً فهرب قبل القبض، ويمكنه الانتفاع في المأجور في الجملة بأن يضرب فيه خيمة. وإن زال العيب قبل أن يفسخ المستأجرعقد الإجارة بأن صح المريض، وزال العرج عن الدابة وبنى المؤجر ماسقط من الدار، بطل خيار المستأجر بالفسخ؛ لأن الموجب للخيار قد زال، والعقد قائم، فيزول الخيار. وحق الفسخ يثبت للمستأجر إذا كان العيب مما يضر بالانتفاع؛ لأن النقصان حينئذ يرجع للمعقود عليه. فإن كان العيب مما لا يضر بانتفاع المستأجر كسقوط حائط من الدار لا ينتفع فيه في سكناها، فلا يثبت حق الفسخ. والمستأجر يمارس الفسخ إذا كان المؤجر حاضراً أثناء الفسخ، فإن كان غائباً فحدث بالشيء المستأجر ما يوجب الفسخ، فليس للمستأجر الفسخ؛ لأن فسخ العقد لا يجوز إلا بحضور العاقدين أو من يقوم مقامهما. أما في حالة سقوط الدار أو انهدامها فللمستأجر أن يخرج منها، سواء أكان المؤجر حاضراً أم غائباً، وهذا دليل الانفساخ. ويثبت أيضاً للمستأجر حق الفسخ بحدوث تفرق الصفقة في المنافع بعد حصولها مجتمعة؛ لأن الصفقة تفرقت في المعقود عليه وهو المنافع، وتفرق الصفقة يوجب الخيار. مثاله أن يستأجر شخص دارين صفقة واحدة، فتسقط إحداهما، أو يطرأ ما نع يمنع المستأجر من إحداهما، أو أن يستأجر شخص داراً واحدة ثم يمتنع المؤجر عن تسليم بيت منها، فيحق للمستأجرفسخ العقد لتجزئة الصفقة عليه (¬1). ¬
ثانيهما ـ عدم حدوث عذر يجيز فسخ الإجارة
ثانيهما ـ عدم حدوث عذر يجيز فسخ الإجارة: كما إذا حدث عذر بأحد العاقدين أو بالشيء المأجور فيحق للمتعاقد فسخ العقد. وسأبين فيما يلي الأعذار التي تفسخ الإجارة بها. أعذار فسخ الإجارة: تفسخ الإجارة بالأعذار عند الحنفية؛ لأن الحاجة تدعو إلى الفسخ عند العذر؛ لأنه لو لزم العقد عند تحقق العذر للزم صاحب العذر ضرر لم يلتزمه بالعقد. والعذر: هو ما يكون عارضاً يتضرر به العاقد مع بقاء العقد، ولا يندفع بدون الفسخ. قال ابن عابدين: كل عذر لا يمكن معه استيفاء المعقود عليه إلا بضرر يلحقه في نفسه أو ماله يثبت له حق الفسخ (¬1). وقال جمهور العلماء: الإجارة عقد لازم كالبيع، فلا تفسخ كسائر العقود اللازمة من أي عاقد بلا موجب كوجود عيب أو ذهاب محل استيفاء المنفعة. وعبارة الشافعية هي: لا تنفسخ الإجارة بعذر كتعذر وقود (بفتح الواو) حمام على مستأجر، وسفر عرض لمستأجر دار مثلاً، ومرض مستأجر دابة لسفر عليها، إذ لا خلل في المعقود عليه، والاستنابة من كل منهما ممكنة، وإنما تنفسخ الإجارة فقط عند فوات المعقود عليه وهو المنفعة كانهدام الدار وموت الدابة والأجير المعينين. والفسخ بالنسبة للمستقبل لا في الزمن الماضي، أو عند وجود عيب في الشيء المؤجر مثل جموح الدابة أو نفورها، أو كونها عضوضاً، أو تعثر الظهر في المشي، أو العرج أو ضعف البصر أو الجذام أو البرص (¬2). ¬
قسم الحنفية الأعذار الموجبة للفسخ إلى ثلاثة أنواع
والخلاصة: تنفسخ الإجارة بالاتفاق باستيفاء المنفعة المعقود عليها، وبالفسخ في حالتين هما: هلاك العين المؤجرة في إجارة العين، وعدم تسليم العين المؤجرة في المدة، واختلفوا في فسخ الإجارة بالأعذار، فتنفسخ عند الحنفية بالعذر ولا تنفسخ به عند الجمهور. واختلفوا في فسخ الإجارة بموت أحد العاقدين، فتفسخ به عند الحنفية خلافاً للجمهور. ولا تنفسخ الإجارة بخروج العين المؤجرة من ملك المؤجر بالاتفاق، كإجارة دار ثم هبتها أو بيعها لغيره. وقد قسم الحنفية الأعذار الموجبة للفسخ إلى ثلاثة أنواع (¬1): 1 - عذر من جانب المستأجر: مثل إفلاس المستأجر، أوانتقاله من الحرفة إلى الزراعة أو من الزراعة إلى التجارة، أو من حرفة إلى أخرى؛ لأن المفلس أو المنتقل من عمل لا ينتفع به إلا بضرر، لا يجبر على البقاء في الحرفة الأولى مثلاً. ومثله السفر أي انتقال المستأجر عن البلد؛ لأن في إبقاء العقد مع السفر ضرراً به. ويترتب عليه أنه إذا لم يحصل النفع للمستأجر إلابضرر يلحقه في ملكه أو بدنه فله فسخ الإجارة، كما إذا استأجر شخص رجلاً لتنظيف ثياب وكيها، أو خياطتها، أو داراً له، أو ليقطع شجراً أو ليزرع أرضاً، أو ليحدث في ملكه شيئاً من بناء أو حفر أو ليحتجم أو يفتصد أو يقلع ضرساً له، ونحوه، ثم بدا له ألا يفعل، فله أن يفسخ الإجارة، ولا يجبر على شيء مما ذكر؛ لأنه تبين له ألا مصلحة له في العمل، فبقي الفعل ضرراً في نفسه. 2 - عذر من جانب المؤجر: مثل لحوق دين فادح به لا يجد طريقاً لقضائه ¬
3 - عذر في العين المؤجرة أو الشيء المأجور
إلا ببيع الشيء المأجور وأدائه من ثمنه، هذا إذا ثبت الدين قبل الإجارة بالبينة أو بالإقرار، أو ثبت عقد الإجارة بالبينة، وكذا بالإقرار عند أبي حنيفة؛ لأن الظاهر أن الإنسان لا يقر بالدين على نفسه كاذباً. وأما عند الصاحبين: فلا يقبل ثبوت الدين بالإقرار بعد الإجارة، لأنه متهم في هذا الإقرار. ومثل أن يشتري المؤجر شيئاً ثم يؤجره، ثم يطلع على عيب به، فله أن يفسخ الإجارة ويرده بالعيب. ولا يعد السفر أو النقلة عن البلد عذراً للمؤجر يبيح له فسخ الإجارة على عقار؛ لأن استيفاء منفعة العقار في غيبته لا ضرر عليه فيه. وأما مرض الحمال والجمال بحيث يضره الحمل فيعد عذراً في رأي أبي يوسف؛ لأن غير الحمال أو الجمال لا يقوم مقامهما على الدابة أو الإبل إلا بضرر، والضرر لا يستحق بالعقد. وأما محمد: فقد ذكر في كتاب «الأصل» أن مرض الجمال لا يعتبر عذراً؛ لأن خروج الجمال بنفسه مع الإبل غير مستحق بالعقد، فإن له أن يبعث غيره معها. 3 - عذر في العين المؤجرة أو الشيء المأجور: مثال الأول: أن يستأجر رجل حماماً في قرية ليستغله مدة معلومة، ثم يهاجر أهل القرية فلا يجب عليه الأجر للمؤجر. ومثلوا للثاني بعتق العبد المأجور كأن يؤجر رجل عبده سنة، فلما مضت ستة أشهر، أعتقه، فيكون العبد بالخيار بين الإبقاء على الإجارة وبين فسخها. وقال الشافعية: الأصح أنه لا تنفسخ الإجارة؛ لأن العتق انصب على
خلاصة شروط الإجارة عند الشافعية
الرقبة، وأما المنافع فلم تكن للسيد وقت العتق، فكان العتق واقعاً على الرقبة مسلوبة المنفعة، والأصح أنه لاخيار للعبد في فسخ الإجارة بعد العتق؛ لأن سيده تصرف في خالص ملكه، فلا ينقض، والأظهر أنه لا يرجع على سيده بأجرة ما بعد العتق (¬1) ومثال آخر للثاني: استئجار عامل موظف لعمل، ثم منعه من العمل قانوناً. خلاصة شروط الإجارة عند الشافعية: يشترط في أركان الإجارة الأربعة: وهي العاقدان والصيغة والمنفعة والأجرة ما يأتي من الشروط (¬2): 1ً - أهلية التعاقد في العاقدين: يشترط في العاقدين وهما المؤجر والمستأجر أن يكون كل منهما بالغاً عاقلاً غير محجور عليه، فلا تصح إجارة الصبي والمجنون والمحجور عليه، إذ لا ولاية لكل منهم على نفسه ولا على ماله. 2ً - الصيغة: بأن تتم الإجارة بالإيجاب والقبول، أو بما يقوم مقامهما وهو التعاطي إن جرى العرف بذلك. قال في التوشيح: ولا أدري هل يختار النووي صحة المعاطاة فيها، كما اختاره في البيع أو لا، والأظهر: لا، فإنه لا عرف فيها، بخلاف البيع. ويشترط في الصيغة توافق القبول مع الإيجاب، وألا يطول الفصل بينهما بسكوت أو كلام أجنبي عن العقد، وعدم تعليقها بشرط، مثل إن جاء فلان فقد آجرتك الدار بكذا. 3ً - المنفعة: يشترط أن تكون متقومة أي ذات قيمة شرعاً أو عرفاً، فلا يصح ¬
- الأجرة
استئجار آلات الملاهي، ولا استئجار كلب لصيد أو حراسة في الأصح، ولا استئجار رجل ليقول كلمة لا تتعب، وإن روجت السلعة، ولا استئجار دراهم ودنانير للتزيين بها. ويشترط فيها أن يكون في مقدور المؤجر تسليمها، فلا تصح إجارة المغصوب لغير من في يده، ولا إجارة أرض للزراعة ليس فيها ماء دائم ولا يكفيها المطر المعتاد، ولا استئجار المرأة الحائض أو النفساء لخدمة المسجد. وأن تحصل المنفعة للمستأجر لا للمؤجر، فلا تصح الإجارة على القُرَب التي تحتاج إلى نية ولا تدخلها النيابة كالصلاة والصوم؛ لأن منفعتها وهي الثواب تعود على المؤجر لا المستأجر. وألا يكون في المنفعة استيفاء عين قصداً، فلا تصح إجارة البستان لأخذ ثمرته، ولا الشاة لأخذ صوفها أو لبنها. وأن تكون المنفعة معلومة عيناً وقدراً وصفة ببيان محل المنفعة وعينها وصفتها، وتقديرها بالزمن كإجارة الدور للسكنى مدة سنة، أو بالعمل كالاستئجار لخياطة ثوب، وطلاء جدار وطبخ طعام، أو بأحد الأمرين: الزمن أو العمل كاستئجار رجل لخياطة، واستئجار سيارة للركوب، يصح التقدير بالزمن كيوم أو شهر، وبالعمل كالإيصال إلى مكان معين، كالمزرعة الفلانية أو دمشق أو مكة. ولا يصح تقدير المنفعة بالزمن والعمل معاً كاستئجار شخص لخياطة ثوب في يوم، لأن العمل قد لا يستغرق الوقت المعين، وقد يزيد عنه، فيكون في ذلك غرر، فيمنع صحة العقد، بسبب الغرر لاحتمال تقدم العمل أو تأخره. 4ً - الأجرة: يشترط فيها ما يشترط في الثمن في عقد البيع، بأن تكون طاهرة، فلا تصح الإجارة إذا كانت كلباً أو خنزيراً أو جلد ميتة، أو خمراً؛ لأنها نجسة العين.
المبحث الثالث ـ صفة الإجارة
وأن تكون منتفعاً بها، فلا يصح كون الأجرة لا ينتفع بها، إما لخستها كالحشرات، وإما لإيذائها كالحيوانات المفترسة، وإما لحرمة استعمالها شرعاً كآلات اللهو والأصنام والتماثيل. وأن تكون مقدوراً على تسليمها، فلا يصح كون الأجرة طيراً في الهواء، ولا سمكاً في الماء، ولا شيئاً مغصوباً إلا للغاصب أو القادر على انتزاعها منه. وأن تكون معلومة للعاقدين: فلاتصح إجارة سيارة بوقودها، ولا دابة بعلفها، لجهالة الأجرة، ولا تصح إجارة العامل على حصاد الزرع بجزء من المحصول، ولا يصح إعطاء جباة الأموال للجمعيات والمساجد ونحوها جزءاً مما يجبونه من الأموال، ولا إعطاء سماسرة الدور جزءاً من قيمة ما يبيعونه كاثنين في المئة، لجهالة الأجرة، كما أن ما يأخذه هؤلاء الجباة بحجة كونهم من العاملين على الصدقات يعد كسباً خبيثاً غير مشروع؛ لأن المتبرع إنما يتصدق للفقراء والمساكين أوللمساجد ونحوها، لا إلى جيوب هؤلاء العاملين، فإذا أخذوا غير تكاليف السفر وحدها عدّ ذلك ظلماً وزوراً. المبحث الثالث ـ صفة الإجارة وحكمها صفة الإجارة: الإجارة عند الحنفية عقد لازم، إلا أنه يجوز فسخه بعذر كما عرفنا، لقوله تعالى: {أوفوا بالعقود} [المائدة:1/ 5] والفسخ بحسب الأصل ليس من الإيفاء بالعقد (¬1). وقال جمهور العلماء: الإجارة عقد لازم لا ينفسخ إلا بما تنفسخ به العقود اللازمة من وجود العيب بها أو ذهاب محل استيفاء المنفعة، لقوله تعالى: {أوفوا ¬
بالعقود} [المائدة:1/ 5] ولأن الإجارة عقد على منافع، فأشبه النكاح، ولأنه عقد على معاوضة، فلم ينفسخ كالبيع (¬1). ويترتب على هذا الخلاف أن الحنفية يقولون: تنفسخ الإجارة بموت أحد المتعاقدين: المستأجر أو المؤجر، لأنه لو بقي العقد تصير المنفعة التي ملكها المستأجر بالعقد أو الأجرة التي ملكها المؤجر مستحقة لغير العاقد بالعقد وهو لا يجوز؛ لأن الانتقال من المورث إلى الوارث لا يتصور في المنفعة أو الأجرة المملوكة، إذ عقد الإجارة ينعقد ساعة فساعة على المنافع. فلو قلنا بالانتقال كان قولاً بانتقال ما لم يملك المورث إلى الوارث؛ لأن ملكية العين انتقلت إلى الورثة، والمنافع تحدث على ملك الوارث، فلا يستحقها المستأجر، لأنه لم يعقد العقد مع الوارث (¬2). وقال الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة: لا تنفسخ الإجارة بموت أحد المتعاقدين؛ لأن الإيجار عقد لازم، وعقد معاوضة، فلا ينفسخ بموت العاقد كالبيع (¬3). الخيارات في عقد الإجارة: يثبت خيار العيب في العين المؤجرة في إجارة العين، كانقطاع ماء بئر الأرض الزراعية، وتعطل عجلات السيارة، ولا يثبت خيار العيب في إجارة الذمة، وعلى المؤجر إذا تعيبت العين المؤجرة إحضار بدلها. ولا يثبت خيار المجلس ولا خيار الشرط في عقد الإجارة؛ لأن الإجارة من عقود الغرر، والخيار أيضاً غرر، فلا يضم غرر إلى غرر. ¬
حكم الإجارة
حكم الإجارة: حكم الإجارة الصحيحة: هو ثبوت الملك في المنفعة للمستأجر، وثبوت الملك في الأجرة المسماة للمؤجر، لأنها عقد معاوضة إذ هي بيع المنفعة (¬1). وحكم الإجارة الفاسدة أنه إذا استوفى المستأجر المنفعة يجب أجر المثل، بحيث لا يجاوز به الأجر المسمى، أي أن الواجب عند الحنفية هو الأقل من أجر المثل ومن المسمى إذا كان فساد الإجارة بسبب شرط فاسد، لا باعتبار جهالة المسمى، ولا باعتبار عدم التسمية، فإنه في هاتين الحالتين يجب الأجر بالغاً ما بلغ (¬2). وقال زفر ومالك والشافعي: يجب في الإجارة الفاسدة أجر المثل بالغاً ما بلغ، كما في البيع، فإن البيع إذا فسد وجبت القيمة بالغة ما بلغت (¬3). وسأتكلم عن كيفية ثبوت حكم الإجارة الصحيحة في المطلب التالي عند الكلام على نوعي الإجارة. المبحث الرابع ـ نوعا الإجارة وأحكامها: الإجارة نوعان: إجارة على المنافع، أي أن المعقود عليه هو المنفعة، وإجارة على الأعمال، أي أن المعقود عليه هو العمل. ¬
أحكام إجارة المنافع
أحكام إجارة المنافع: إجارة المنافع كإجارة الدور والمنازل والحوانيت والضياع، والدواب للركوب والحمل، والثياب والحلي للبس، والأواني والظروف للاستعمال. ويجوز العقد على المنافع المباحة، أما المنافع المحرمة كما عرفنا فلا تجوز الإجارة عليها، لأنها محرمة، فلا يجوز أخذ العوض عليها كالميتة والدم، وذلك باتفاق العلماء. وكيفية ثبوت حكم عقد الإجارة على المنافع عند الحنفية والمالكية: هو أنه يثبت شيئاً فشيئاً على حسب حدوث ووجود محل العقد وهو المنفعة؛ لأنها تحدث أو تستوفى شيئاً فشيئاً (¬1). وقال الشافعية والحنابلة: يثبت حكم الإجارة في الحال، وتجعل مدة الإجارة موجودة تقديراً كأنها أعيان قائمة (¬2). ويترتب على هذا الخلاف: 1 - أن الأجرة تثبت الملكية فيها بمجرد العقد إذا أطلق عند الشافعية والحنابلة؛ لأن الإجارة عقد معاوضة، والمعاوضة إذا كانت مطلقة عن الشرط تقتضي الملك في العوضين عقب العقد، كما يملك البائع الثمن بالبيع. وعند الحنفية والمالكية: لا تملك الأجرة بنفس العقد، وإنما تلزم جزءاً فجزءاً ¬
متى تجب الأجرة وتملك عند الحنفية والمالكية؟
بحسب ما يقبض من المنافع، فلا يستحق المؤجر المطالبة بها إلا تدريجياً يوماً فيوماً؛ لأن المعاوضة المطلقة عن الشرط إذا لم يثبت الملك فيها في أحد العوضين لا يثبت في العوض الآخر؛ لأن المساواة في العقود مطلوبة بين المتعاقدين. متى تجب الأجرة وتملك عند الحنفية والمالكية؟ تجب الأجرة وتملك بأحد أمور ثلاثة: أحدها: بأن يشترط تعجيلها في نفس العقد. ثانيها: بتعجيلها من غير شرط؛ لأن تأخير التزام المستأجر بالأجرة ثبت حقاً له، فيملك إبطاله بالتعجيل، كما لو كان عليه دين مؤجل فعجله. ثالثها: باستيفاء المعقود عليه وهو المنافع شيئاً فشيئاً، أو بالتمكين من الاستيفاء بتسليم العين المؤجرة إلى المستأجر، وتسليم المفتاح أيضاً؛ لأن المستأجر يملك حينئذ المعوض، فيملك المؤجر العوض في مقابلته تحقيقاً للمعاوضة المطلقة وتسوية بين العاقدين في حكم العقد. وإذا تم الاتفاق بين العاقدين على أن الأجرة لا تجب إلا بعد انقضاء مدة الإجارة فهو جائز، إذ أنه يكون تأجيلاً للأجرة بمنزلة تأجيل الثمن. وأما إذا لم يشترط في العقد شيء فلأبي حنيفة قولان: متقدم ومتأخر، فأما قوله المتقدم أولاً وهو قول زفر: فهو أن الأجرة لا تجب إلا في آخر مدة الإجارة؛ لأن منافع المدة أو المسافة من حيث إنها معقود عليها شيء واحد، فما لو يستوفها كلها لا يجب شيء من بدلها. وأما قول أبي حنيفة المتأخر وهو المشهور الذي استقر عليه، وقول الصاحبين: فهو أن الأجرة تجب حالاً فحالاً، كلما مضى يوم يسلم المستأجر أجرته؛ لأن الأجرة تملك على حسب ملك المنافع، وملك المنافع يحدث
تسليم العين المستأجرة عقب العقد
شيئاً فشيئاً على ممر الزمان، فتملك الأجرة شيئاً فشيئاً بحسب ما يقابلها (¬1). وبما أن هذه القاعدة توجب تسليم الأجرة ساعة فساعة، وهو أمر متعذر، فتقدر الأجرة باليوم أو بالمرحلة استحساناً. وأما بالنسبة لتأجيل الأجرة وتعجيلها عند الشافعية والحنابلة: فقد قرروا أنه إذا كانت الإجارة إجارة ذمة فيشترط فيها تسليم الأجرة في مجلس العقد؛ لأنها بمثابة رأس المال في عقد السلم كأن يقول المستأجر: أسلمت إليك عشر ليرات في جمل صفته كذا يحمل لي متاعي إلى جهة كذا، أو يقول: استأجرت منك بكذا .. إلخ، لأن تأخير الأجرة حينئذ من باب بيع الدين بالدين. وإن كانت الإجارة إجارة عين: فإن كانت الأجرة فيها معينة مثل: استأجرتك لتخدمني سنة بهذا الجمل، فإنه لا يصح تأجيلها، وإن كانت الأجرة في الذمة كأن يقول: بجمل صفته كذا، فيجوز تأجيلها وتعجيلها وفي حالة الإطلاق يجب تعجيلها، كما في عقد البيع يصح بثمن حالّ أو مؤجل (¬2). 2 - ويترتب أيضاً على الخلاف السابق في كيفية وجوب الأجرة أنه يجب على المؤجر عند الحنفية والمالكية تسليم العين المستأجرة عقب العقد لتملك المستأجر منفعة العين المستأجرة، وليس له أن يحبسها عن المستأجر لاستيفاء الأجرة؛ لأن الأجرة لا تجب بمجرد العقد عندهم، فلا يستحق المطالبة بها إلا يوماً فيوماً؛ لأن المعقود عليه وهو المنافع لم يستوفها المستأجر، فكانت معدومة، فلا يجب عليه الأجر، وذلك بعكس البيع، فإن الثمن واجب الدفع عقيب العقد. ¬
الإجارة المضافة إلى زمن مستقبل
3 - ويترتب على الخلاف أيضاً أن الإجارة المضافة إلى زمن مستقبل تجوز عند الحنفية والمالكية والحنابلة: كأن يقول شخص لآخر: أجرتك هذه الدار رأس شهركذا، أو أجرتك هذه الدار سنة أولها غرة شهر رمضان، وكان العقد في رجب مثلاً؛ لأن عقد الإيجار ينعقد شيئاً فشيئاً على حسب حدوث المعقود عليه شيئاً فشيئاً، فكان العقد مضافاً إلى حين وجود المنفعة من طريق الدلالة الضمنية، وقد أجيزت الإضافة في الإجارة دون البيع للضرورة (¬1). وترتب على مذهب الحنفية أن المؤجر لو باع الدار المؤجرة لا يصح في حق المستأجر، وإن لم يجئ الوقت الذي أضيف إليه عقد الإجارة. واستدل الحنابلة على صحة هذا الحكم عندهم: بأن هذه المدة في المستقبل يجوز العقد عليها مع غيرها، فجاز العقد عليها مفردة، واشتراط القدرة على التسليم إنما يكون عند وجوب التسليم كالمسلم فيه. وقال الشافعية: لا تصح إجارة عين لمنفعة مستقبلة كإجارة الدار السنة المستقبلة أو سنة أولها من الغد، ما لم تكن المدة متصلة بالعقد؛ لأن الإجارة بيع المنفعة، وطريق جوازها عندهم: أن تجعل منافع المدة موجودة تقديراً عقيب العقد، إذ لا بد من أن يكون محل حكم العقد موجوداً فجعلت المنافع كأنها أعيان قائمة بنفسها، وإضافة العقد إلى عين ستوجد لا تصح، كما في بيع الأعيان. أما إجارة الذمة: فيصح تأجيل المنفعة فيها إلى أجل معلوم في المستقبل مثل: ألزمت ذمتك الحمل إلى مكة أول شهر كذا (¬2). ¬
كيفية الانتفاع بالعين المؤجرة
وهناك أحكام أخرى لإجارة المنافع أبينها فيما يأتي: كيفية الانتفاع بالعين المؤجرة: إذا استأجر شخص داراً أو حانوتاً ونحوهما من المنازل فله الانتفاع بها كيف شاء من السكنى بنفسه أو إسكان غيره بالإجارة أم بالإعارة، وله أن يضع فيه متاعه وغيره، غير أنه لا يسكن فيه حداداً ولا قصاراً ولا طحاناً ولا ما يضر البناء ويوهنه من آلات المعامل الحديثة. والدليل عليه أن الإجارة للانتفاع، والدور ونحوها معدة للانتفاع بها بالسكنى، والناس في العادة لا يتفاوتون في السكنى، فكانت أوجه الانتفاع معلومة من غير تسمية أو تعيين. وإنما لم يصح إسكان الحداد ونحوه؛ لأن مطلق العقد ينصرف إلى المتعارف بين الناس، وذوو الحرف يؤثِّرون على البناء بآلاتهم، مما قد يؤدي إلى إتلاف العين المؤجرة، والإجارة بيع المنفعة لا بيع العين. وبما أن المستأجر ملك المنفعة فله أن ينتفع بها بنفسه أو بغيره بواسطة الإجارة أو الإعارة. وأما في إجارة الأرض: فلا بد فيها من بيان ما تستأجر له من الزراعة والغرس والبناء وغيرها وإلا كانت الإجارة فاسدة، وكذلك إذا كانت الإجارة للزراعة فلا بد من بيان ما يزرع فيها، أو يجعل له أن يزرع فيها ما شاء، وإلا فسدت الإجارة؛ لأن منافع الأرض تختلف باختلاف البناء والزراعة والمزروعات، والزروع مختلفة التأثير في الأرض. وفي إجارة الدواب: لا بد من بيان أحد الشيئين: المدة أو المكان فإن لم يبين أحدهما فسدت الإجارة، وكذلك لا بد من بيان ما تستأجر له الدابة من الحمل أو الركوب، لأنهما منفعتان مختلفتان. ولا بد أيضاً من بيان ما يحمل عليها ومن يركبها؛ لأن الحمل يتفاوت بتفاوت المحمول، والناس يتفاوتون في الركوب،
إصلاح العين المستأجرة
فترك البيان يفضي إلى المنازعة وتكون الإجارة فاسدة، وحينئذ إذا استوفى المستأجر المنفعة بعقد فاسد، فيجب عليه أجر المثل بمقتضى القياس؛ لأنه استوفى المنفعة بحكم عقد فاسد، كما عرفنا في بيان حكم الإجارة، إلا أنه بمقتضى الاستحسان يجب الأجر المسمى؛ لأن المفسد وهو الجهالة التي تفضي إلى المنازعة قد زال، وبانعدام العلة المفسدة ينعدم الفساد (¬1). إصلاح العين المستأجرة: قد تحتاج الدار المؤجر ة مثلاً في مدة الإيجار إلى بعض الإصلاحات كتطيين الجدران، وانسداد مجاري المياه، وتعطل الأدوات الصحية، فمن الملتزم بالإصلاح والترميم؟ قرر الحنفية أن المؤجر صاحب الدار هو الملزم وحده دون المستأجر بتطيين الجدران وإصلاح ميازيب الدار وما ينهدم ويسقط من بنائها، حتى تكون صالحة للانتفاع؛ لأن الدار ملك للمؤجر، وإصلاح الملك يكون على المالك، لكن لا يجبر على الإصلاح؛ لأن المالك لا يجبر على إصلاح ملكه، وإنما يثبت للمستأجر الخيار في فسخ الإجارة؛ لأن هذا الخلل يعتبر عيباً في المعقود عليه. وكذلك على المؤجر إصلاح دلو الماء والبئر والبالوعة والمخرج، وإن امتلأ بفعل المستأجر، لكن لا يجبر عليه لما عرفنا. وأما المستأجر: فيلزم برفع التراب الذي يحدث من كنسه إذا انقضت مدة الإجارة؛ لأن التراب حدث بفعله، فصار كتراب وضعه في الدار. والقياس يقضي بأن المستأجر هو المطالب بنقل ما يمتلئ به المخرج والبالوعة، لأن الملء حدث بفعله، فيلزمه نقله كالكناسة والرماد، إلا أن الحنفية استحسنوا ¬
التزامات المستأجر بعد انتهاء الإجارة
وجعلوا نقله على صاحب الدار أخذاً بمقتضى العرف والعادة، إذ العادة بين الناس أن ما كان مغيباً في الأرض فنقله على صاحب الدار. فإن أصلح المستأجر شيئاً مما ذكر متبرعاً به، ولا يحتسب له؛ لأنه أصلح ملك غيره بغير طلب منه ولا ولاية عليه، فإن فعل ذلك بطلب من المؤجر أو نائبه احتسب له (¬1). التزامات المستأجر بعد انتهاء الإجارة: إذا انتهت مدة الإيجار فعلى المستأجر بعض الالتزامات، وأهمها ما يأتي (¬2): أولاً - يلتزم المستأجر بتسليم مفتاح الدار والحانوت إلى المؤجر بعد انتهاء المدة. ثانياً ـ إذا استأجر شخص دابة من موضع معين في البلد ليركبها، أو يحمل عليها شيئاً إلى مكان معلوم غادياً ورائحاً، فإن على المستأجر أن يأتي بها إلى الموضع الذي قبضها منه؛ لا لأن الزاد واجب عليه بل لأجل المسافة التي تناولها العقد؛ لأن عقد الإجارة لا ينتهي إلا برد الدابة إلى موضعها، فإن ذهب بالدابة إلى منزله، فأمسكها حتى عطبت، ضمن قيمتها، لأنه تعدى في أخذها إلى غير موضع العقد. فإن قال المستأجر: (أركبها من هذا الموضع إلى موضع كذا وأرجع إلى منزلي) فليس على المستأجر ردها إلى منزل المؤجر؛ لأنه لما عاد إلى منزله، فقد انقضت مدة الإجارة، فبقيت الدابة أمانة في يده، فلا يلزم بردها كالوديعة. ¬
أحكام الإجارة على الأعمال
أما إذا استأجر الدابة ليركبها في حوائجه في بلد ما وقتاً معلوماً، فمضى الوقت، فليس على المستأجر تسليمها إلى صاحبها: بأن يذهب بها إلى منزله، وإنما على المؤجر أن يتسلمها من منزل المستأجر؛ لأن المنفعة التي حصل عليها المستأجر كانت مقابلة بعوض وهو الأجر المستحق للمؤجر فلم يكن على المستأجر الرد، فبقيت في يده أمانة كالوديعة، حتى إنه لو أمسكها أياماً فهلكت في يده، لم يضمن شيئاً. وهذا بخلاف المستعير والغاصب، فإنهما ملزمان برد الشيء على صاحبه؛ لأن المستعير ينتفع بالعارية بدون مقابل، والغاصب لا حق له في المغصوب. أحكام الإجارة على الأعمال: الإجارة على الأعمال: هي التي تعقد على عمل معلوم كبناء وخياطة قميص وحمل إلى موضع معين وصباغة ثوب وإصلاح حذاء ونحوه. والأجير نوعان: أجير خاص وأجير مشترك. ف الأجير الخاص أو أجير الوَحَد: هو الذي يعمل لشخص واحد مدة معلومة. وحكمه: أنه لا يجوز له العمل لغير مستأجره. والأجير المشترك: هو الذي يعمل لعامة الناس كالصباغ والحداد والكواء ونحوهم. وحكمه: أنه يجوز له العمل لكافة الناس، وليس لمن استأجره أن يمنعه عن العمل لغيره (¬1). ويلاحظ أن الظئر التي تستأجر للإرضاع هي بمنزلة الأجير الخاص، لا يجوز ¬
نوعا الإجارة عند الشافعية
لها أن ترضع صبياً آخر، فإن أرضعته مع الصبي الأول فقد أساءت وأثمت إن كانت أضرت بالصبي، ولها أجر على إرضاع الصبيين استحساناً؛ لأن المعقود عليه مطلق الإرضاع، وقد وجد. والقياس ألا يكون لها الأجر؛ لأن العقد وقع على عملها، فلا تستحق الأجر بعمل غيرها. وعلى الظئر القيام بالرضاع، وبأمر الصبي مما يحتاج إليه من غسله وغسل ثيابه وطبخ طعامه، وعلى الأب نفقات الطعام، وما يحتاج إليه الصبي من الريحان والدهن ونحوهما. وأما ما ذكر في كتاب الأصل من أن على الظئر ما يعالج به الصبي من الريحان والدهن، فهو محمول على عادة أهل تلك البلاد في الماضي (¬1). نوعا الإجارة عند الشافعية: الإجارة نوعان عند الشافعية: إجارة عين وإجارة ذمة. أما إجارة العين: فهي الواردة على منفعة متعلقة بعين معينة، كهذه الدار، وهذه السيارة. ويشترط فيها ثلاثة شروط: أن تكون الأجرة معينة أو معلومة فلا تصح إجارة إحدى هاتين الدارين، وأن تكون العين المؤجرة مشاهدة من العاقدين، فلا تصح إجارة دار أو سيارة لم يرها العاقدان إلا إذا شاهداها قبل العقد بمدة لا تتغير فيها غالباً، وأن لا تضاف الإجارة للمستقبل، كإجارة داره الشهر المقبل أو العام القادم. وأما إجارة الذمة: فهي الواردة على منفعة متعلقة بذمة المؤجر، كاستئجار دابة أو سيارة ذات أوصاف معينة لإيصاله إلى مكان معين، أو مدة معينة، أو القيام بعمل معين كبناء أو خياطة ونحو ذلك. ويشترط فيها شرطان: ¬
المبحث الخامس ـ ضمان العين المستأجرة
أن تكون الأجرة حالّة أي نقداً في مجلس العقد؛ لأن هذه الإجارة سَلَم في المنافع، فيشترط تسليم رأس مال السلم. وأن تعين العين المستأجرة جنساً ونوعاً وصفة، كسيارة أو باخرة كبيرة أو صغيرة، حديثة أو قديمة. المبحث الخامس ـ ضمان العين المستأجرة وضمان الأجير وسقوط أجره بهلاك العين: الكلام هنا عن ضمان الأجير العين التي استؤجر عليها، وعن ضمان العين التي يستأجرها أحد الناس للانتفاع بها. ضمان العين المستأجرة: تعتبر يد المستأجر على العين المستأجرة في إجارة المنافع يد أمانة، فلا يضمن ما يتلف بيده إلا بالتعدي أو التقصير في الحفظ، ويتقيد في الانتفاع بمقتضى العقد وما شُرط فيه وما جرى به العرف. ضمان الأجير: عرفنا أن الأجير نوعان: خاص وعام، ف الأجير الخاص (وهو الذي يستحق الأجر بتسليم نفسه في المدة، وإن لم يعمل) كالخادم في المنزل والأجير في المحل، اتفق أئمة المذاهب وهم (الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة) على أنه لا يكون ضامناً العين التي تسلم إليه للعمل فيها؛ لأن يده يد أمانة كالوكيل والمضارب، كما إذا استأجر إنسان خياطاً أو حداداً مدة يوم أو شهر ليعمل له وحده، فلا يضمن العين التي تهلك في يده، ما لم يحصل منه تعدٍ أو تقصير في حفظه، سواء تلف الشيء في يده أو أثناء عمله. وأما الأجير المشترك وهو الذي يعمل لعامة الناس أو هو الذي يستحق الأجرة بالعمل لا بتسليم النفس كالصانع والصباغ والقصار ونحوهم فقد اختلفوا
فيه: فقال أبو حنيفة وزفر والحسن بن زياد والحنابلة في الصحيح من مذهبهم، والشافعي في الصحيح من قوليه إلا أنه لم يكن يفتي به لفساد الناس: إن يده يد أمانة كالأجير الخاص، فلا يضمن ما تلف عنده إلا بالتعدي أو التقصير؛ لأن الأصل ألا يجب الضمان إلا بالاعتداء لقوله تعالى: {فلا عدوان إلا على الظالمين} [البقرة:193/ 2] ولم يوجد التعدي من هذا الأجير، لأنه مأذون في القبض، والهلاك ليس هو سبباً فيه (¬1). وقال الصاحبان وأحمد في رواية أخرى: يد الأجير المشترك يد ضمان، فهو ضامن لما يهلك في يده، ولو بغير تعد أو تقصير منه، إلا إذا حصل الهلاك بحريق غالب عام، أو غرق غالب ونحوهما، واستدلوا بفعل عمر وعليّ الآتي بيانه (¬2). قال البغدادي عن بعض كتب الحنفية: وبقول الصاحبين يفتى اليوم لتغير أحوال الناس، وبه يحصل صيانة أموالهم (¬3). وقال المالكية: يضمن الأجير المشترك الذي يؤثره الأعيان بصنع، ما تلف بيده ولو بغير تعد أو تقصير إذا كان الشيء مما يغاب عليه (أي يمكن إخفاؤه) فالقصار ضامن لما يتخرق بيده، والطباخ ضامن لما أفسد من طبيخه، والخباز ضامن ¬
ما يغير الشيء من صفة الأمانة إلى صفة الضمان
لما أفسد من خبزه، والحمال يضمن ما يسقط من حمله عن رأسه، أو تلف أثناء عثرته، والجمال يضمن ما تلف بقيادته وسوقه وانقطاع حبله الذي يشد به بعيره، والملاح يضمن ما تلف من يده أو مما يعالج به السفينة (¬1). ودليلهم قول النبي صلّى الله عليه وسلم «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» (¬2) وماروي عن علي رضي الله عنه أنه كان يضمِّن الصباغ والصواغ ويقول: «لا يصلح الناس إلا هذا» وروي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يضمِّن الأجير المشترك احتياطاً لأموال الناس (¬3)، ولأن الأجير المشترك قبض العين لمنفعته من غير استحقاق، فيضمن كالمستعير (¬4). وكذلك عند الإمام مالك يضمن الأجير الطعام الذي يحمله إذا كانت تتوق النفس إلى تناوله سداً للذرائع. ما يغيِّر الشيء من صفة الأمانة إلى صفة الضمان: إذا كان الشيء المأجور، ¬
أولا ـ ترك الحفظ
كثوب الصباغة والخياطة والمتاع المحمول في السفينة أو على الدابة، يعتبر أمانة في يد الأجير، فذلك بحسب الأصل العام عند أبي حنيفة ومن وافقه، وبناء عليه، قد تتغير صفة الأمانة إلى الضمان في الأحوال الآتية (¬1): أولاً ـ ترك الحفظ: أي أن الأجير يهمل في حفظ المتاع، فيلتزم بضمانه؛ لأن الأجير لما قبض المأجور فقد التزم حفظه، وترك الحفظ موجب للضمان، كالوديع إذا ترك حفظ الوديعة حتى ضاعت. ثانياً ـ الإتلاف والإفساد: إذا تعدى الأجير بأن تعمد الإتلاف أو بالغ في دق الثوب مثلاً، ضمن سواء أكان الأجير مشتركاً أم خاصاً. وإن لم يكن الأجير متعدياً في الإفساد بأن أفسد الثوب خطأ بعمله من غير قصده: فإن كان الأجير خاصاً لم يضمن اتفاقاً، وإن كان مشتركاً كالقصار إذا دق الثوب فتخرق، أو ألقاه في المواد الكيماوية فاحترق، أو كالملاح إذا غرقت السفينة من عمله، أو الحمال إذا سقط على الأرض وفسد الحمل، أو الراعي المشترك إذا ساق الدواب، فضرب بعضها بعضاً في حال سوقه حتى هلك بعضها، ففي كل هذه الحالات يكون الهالك مضموناً عند أبي حنيفة وصاحبيه؛ لأن العمل المأذون فيه هو العمل المصلح لا المفسد؛ لأن العاقل لا يرضى بإفساد ماله ولا يلتزم الأجرة بمقابلة الفاسد، فيتقيد الأمر بما يصلح دلالة. وقال الشافعية وزفر: لا يضمن الأجير في تلك الحالات ما لم يحصل منه تعدٍ أو تقصير في عمله؛ لأن عمله مأذون فيه في الجملة، وإذا لم يكن مأذوناً فيه ¬
تلميذ الأجير المشترك
فلا يمكنه التحرز عن هذا الفساد؛ لأنه ليس في وسعه القيام بأصل مهمته إلا بحرج، والحرج منفي (¬1). تلميذ الأجير المشترك: إذا تلف الشيء المأجور في الحالات السابقة بيد تلميذ (صانع) الأجير، فلا ضمان عليه، وإنما الضمان على معلمه، لأنه هو المسؤول أصالة، فكأنه فعل بنفسه. وإذا وطئ التلميذ ثوباً في مهنة القصارة «أي المصبغة في عرفنا» فخرقه، يضمن لأن وطء الثوب غير مأذون فيه. ولو وقع من يد التلميذ سراج فأحرق ثوباً من القصارة، فالضمان على المعلم، لا على التلميذ؛ لأن الذهاب والمجيء بالسراج عمل مأذون فيه فيكون المعلم هو المسؤول، كأنه فعل الفعل بنفسه. وكذلك لو وقعت مدقة القصار من يد التلميذ على ثوب فخرقته، فالضمان على المعلم، لأن هذا من عمل القصار فيضاف الفعل إليه. فإن كان الثوب الذي وقعت المدقة عليه وديعة فخرقته، فالضمان على الغلام، لأن المعلم يسأل عن عمل التلميذ فيما يملك تسليطه عليه واستعماله فيه، وهو مايتعلق بشؤون الصنعة فقط (¬2). البزاغ والفصاد والختان (¬3): يلاحظ أن حكم هؤلاء بخلاف حكم الحالات ¬
ثالثا ـ مخالفة المستأجر شرط المؤجر نصا أو دلالة
السابقة، فإذا كانوا يقومون بعمله، ثم سرى أثر العمل إلى تلف النفس والموت فلا ضمان عليه، لأنه ليس في وسعهم الاحتراز من ذلك (¬1). ثالثاً ـ مخالفة المستأجر شرط المؤجر نصاً أو دلالة: المخالفة سبب لوجوب الضمان. وللمخالفة صور وهي إما في الجنس أو في القدر أو في الصفة، أو في المكان أو في الزمان، وتحصل المخالفة إما في استئجار الدواب وإما في استئجار الصناع. أما استئجار الدواب: فإما أن يكون ضرر الدابة من جهة الخفة والثقل أو بسبب اختلاف الجنس (¬2). آـ فإن كان ضرر الدابة من حيث قدر الخفة والثقل: فإن كان الشيء المحمول مثل المتفق عليه من المؤجر أو أخف فلا شيء على المستأجر بهلاك الدابة، لأن التعيين بشيء محمول لا فائدة فيه، وليس هناك مخالفة في المعنى في تحميل مثل الشيء أو دونه. وإن كان الشيء المحمول أثقل من المتفق عليه: فإن كان بخلاف جنسه، بأن حمّل مكان الشعير الحنطة، فعطبت الدابة، فهوضامن قيمتها، ولا أجر عليه، لأنها هلكت بفعل غير مسموح به من المؤجر؛ لأن الأجر مع الضمان لا يجتمعان؛ إذ وجوب الضمان لصيرورته غاصباً، ولا أجرة على الغاصب (¬3). وإن كان الشيء المحمول الذي هو أثقل: من جنس المتفق عليه بأن حمل أحد ¬
ب ـ وإن كان ضرر الدابة لا من حيث الخفة والثقل، وإنما بسبب اختلاف الجنس
عشر رطلاً مثلاً مكان عشرة أرطال، فإذا سلمت الدابة، فعليه ما سمي من الأجرة، ولا ضمان عليه. وإن عطبت ضمن جزءاً من أحد عشر جزءاً من قيمة الدابة وعليه الأجر الذي سمي؛ لأن الدابة ماتت بفعل مأذون فيه وغير مأذون فيه، فيقسم التلف على قدر ذلك أي أحد عشر جزءاً، ويضمن بقدر الزيادة. ب ـ وإن كان ضرر الدابة لا من حيث الخفة والثقل، وإنما بسبب اختلاف الجنس: كأن يستأجر إنسان دابة ليحمل عليها قنطاراً من قطن فحمل عليها قنطاراً من حديد أو أقل، فتلفت الدابة، فيضمن قيمتها لأن ثقل القطن ينبسط على ظهر الدابة، وأما ثقل الحديد فيجتمع في موضع واحد، فيكون أنكى لظهر الدابة وأعقر لها، فلم يكن مأذوناً فيه فصار غاصباً، فيضمن، ولا أجرة لما عرفنا قريباً. ويترتب عليه أنه لو استأجر إنسان دابة ليركبها بنفسه، فأركبها غيره ممن هو مثله في الثقل أو أخف منه ضمن قيمتها بالتلف؛ لأن المخالفة ههنا، لا من جهة الخفة والثقل، بل من حيث الحذق والعلم، فالناس يختلفون فيه اختلافاً واضحاً. ولو استأجر دابة ليركبها بنفسه فأركب معه غيره فعطبت فهو ضامن لنصف قيمتها إذا كانت الدابة مما يمكن أن يركبها اثنان؛ لأن التلف حصل بركوبهما المشتمل على مأذون فيه وغير مأذون فيه، فإن كانت الدابة لا تطيق أن يركبها اثنان، فيضمن جميع قيمتها، لأنه أتلفها بإركاب غيره. وإذا استأجر دابة بإكاف (أي برذعة) فنزعه منها، وأسرجها، فلا ضمان عليه، لأن ضرر السرج أقل من ضرر الإكاف، لأنه يأخذ من ظهر الدابة أقل مما يأخذ الإكاف. وإن استأجر حماراً بسرج فأسرجه سرجاً آخر: فإن كان مثل السرج الأصلي الأول لا يضمن، إذ لا تفاوت بين السرجين في الضرر، وإن أسرجه بسرج الفرس يضمن؛ لأن ضرره أكثر بسبب كبره، فكان إتلافاً للدابة.
ج ـ وإن كانت المخالفة في المكان
ولو استأجر حماراً بسرج، فنزع منه السرج وأوكفه فعطب، ففي كتاب الأصل لمحمد: يضمن قدر ما زاد الإكاف على السرج. وفي كتاب الجامع الصغير ذكر محمد اختلافاً بين أئمة الحنفية فيه، ففي قول أبي حنيفة: يضمن كل القيمة؛ لأن الإكاف لا يخالف السرج في الثقل، وإنما يخالفه من وجه آخر: وهو أنه يأخذ من ظهر الدابة أكثر مما يأخذ السرج، والمخالفة إذا لم تكن بسبب الثقل توجب الضمان لجميع الشيء التالف. وفي قول الصاحبين: يضمن بمقدار الزيادة؛ لأن الإكاف والسرج كل واحد منهما يركب به عادة، وإنما يختلفان بالثقل والخفة؛ لأن الإكاف أثقل، فيضمن بقدر الثقل. ولو استأجر حماراً عرياناً فأسرجه، ثم ركب فعطب، كان ضامناً؛ لأن السرج أثقل على الدابة، وقيل: هذا إذا استأجره ليركبه في داخل مصر، وهو ممن يركب في المصر عادة بغير سرج، أما إذا استأجره ليركبه خارج المصر، أو هو من ذوي الهيئات لا يضمن؛ لأن الحمار لا يركب من بلد إلى بلد بغير سرج ولا إكاف، وذو الهيئة لا يركب عادة بغير سرج، فكان الإسراج مأذوناً فيه دلالة، فلا يضمن. ج ـ وإن كانت المخالفة في المكان: كأن يستأجر دابة للركوب أو للحمل إلى مكان معلوم، فجاوز المكان، فيضمن كل القيمة (¬1). د ـ وأما المخالفة في الزمان: كأن يستأجر دابة ليركبها أو يحمل عليها مدة معلومة، فانتفع بها زيادة على المدة، فعطبت في يده، فيضمن القيمة أيضاً، لأنه صار غاصباً بالانتفاع بها فيما وراء المدة المحدودة. ¬
استئجار الصناع
وأما استئجار الصناع: كالحائك والخائط والصباغ ونحوهم (¬1): ففي حالة المخالفة في الجنس كأن يسلّم إنسان ثوباً إلى صباغ ليصبغه لوناً معيناً فصبغه لوناً آخر: يكون صاحب الثوب بالخيار: إن شاء ضمن الصباغ قيمة الثوب، وإن شاء أخذ الثوب وأعطى الصباغ ما زاد الصبغ فيه. ومثله أن يسلم شخص خياطاً قماشاً ليخيطه قميصاً، فخاطه معطفاً مثلاً، فيكون صاحب القماش بالخيار بين أن يضمن الخياط قيمة القماش، أو أن يأخذ المخيط ويعطي أجر المثل. هـ ـ وأما المخالفة في الصفة: كأن يسلم صباغاً ليصبغه بصبغ معين، فصبغه بصبغ آخر من جنس اللون المتفق عليه، فيكون صاحب الثوب أيضاً مخيراً بين تضمين قيمة الثوب أو أخذه وإعطاء أجر المثل. وكذلك الخلاف في القدر مثل أن يسلم شخص غزلاً إلى حائك ينسجه بغلظ معين: ثخين أو رفيع، فخالف بالزيادة أو بالنقصان، يكون صاحب الثوب حال الزيادة مخيراً بين تضمين مثل الغزل، أو أن يأخذ الغزل ويعطي الأجر المسمى. وفي حال النقصان يوجد روايتان: رواية في كتاب الأصل: مفادها أن لصاحب الثوب أن يأخذه، ويعطي الحائك من الأجر بحسابه. ورواية أخرى: مفادها أن على صاحب الثوب أجر المثل. وأدلة كل ما سبق ذكره يمكن ملاحظتها، ويرجع إلى «البدائع» وغيرها من الكتب عند العجز عن إدراك المقصود. سقوط أجر الأجير بهلاك العين في إجارة الأعمال: عرفنا فيما سبق رأي الجمهور في صفة يد الأجير المشترك وهي أنها يد أمانة، فلا يضمن هلاك العين إلا بالتعدي أو بالتقصير. ¬
الحنفية
وأما غير الجمهور وهم المالكية والصاحبان من الحنفية، فيرون أن يد الأجير المشترك هي يد ضمان، فيضمن الشيء التالف، ولو بغير تعد أو تقصير (¬1). أما ضمان العين المستأجرة، فلا خلاف بين العلماء أن العين المستأجرة أمانة في يد المستأجر، فلا يضمنها إن تلفت أو تعيبت بغير تفريط منه لأنه قبض العين لاستيفاء منفعة يستحقها منها، فكانت أمانة (¬2). وبناء على الخلاف في صفة يد الأجير: هل تسقط الأجرة بهلاك العين في عقد إجارة الأعمال؟ قال الشافعية: إذا عمل الأجير في ملك المستأجر أو بحضرته وجبت له الأجرة، لأنه تحت يده، فكلما عمل شيئاً صار مسلّماً له. وإن كان العمل في يد الأجير لم يستحق الأجرة بهلاك الشيء في يده، لأنه لم يسلّم العمل (¬3). وقال الحنابلة بنحو مذهب الشافعية: وهو أن الأجير لا أجر له فيما عمل في يده، لأنه لم يسلم عمله إلى المستأجر، فلم يستحق عوضه (¬4). وقال الحنفية بنحوه أيضاً، ولكن يحتاج مذهبهم إلى شيء من التفصيل، فقالوا: إن العين التي يعمل فيها الأجير إما أن تكون في يد الأجير أو في المستأجر (¬5). ¬
إن كانت العين في يد الأجير
ف إن كانت العين في يد الأجير ففيه حالتان: 1 - إن كان لعمل الأجير أثر ظاهر في العين كالخياطة والصباغة والقصارة فيجب الأجر بتسليم الأثر المطلوب، فإن هلك الشيء قبل التسليم في يد الأجير سقط الأجر؛ لأن الأثر المعقود عليه وهو صيرورة القماش مثلاً مخيطاً لم يسلم، والبدل يقابل ذلك الأثر، فكان كالمبيع. 2 - وإن لم يكن لعمل الأجير أثر ظاهر في العين كالحمال والملاح فيجب الأجر بمجرد انتهاء العمل، وإن لم يسلم العين لصاحبها؛ لأن البدل يقابل نفس العمل، فإذا انتهت مدة الإجارة، فقد فرغ من العمل، وصار مسلِّماً للعين التي هي ملك صاحبها، فلا يسقط الأجر بالهلاك بعدئذ. حبس العين لاستيفاء الأجرة: وبناء على اختلاف الحكم في الحالتين السابقتين قال الحنفية: إن كان للعمل أثر في العين المملوكة لصاحبها يجعل للأجير حق حبس العين، حتى يستوفي الأجر؛ لأن البدل مستحق بمقابلة الأثر المطلوب. وما لا أثر له لا يثبت فيه حق الحبس، إذ العمل المقعود عليه ليس في العين. ولهذا قال الحنفية: إن الحمال إذا حبس المتاع الذي هو في يده ليستوفي الأجر فهلك يضمن؛ لأن العين أمانة في يده، فإذا حبس صار غاصباً، فيضمن. وأما إذا كانت العين المعمول فيها في يد المستأجر: بأن يعمل الأجيرفي ملك المستأجر أو فيما في يده من فناء ملكه ونحوه، فيستحق الأجير أجرته بعد الفراغ من العمل إذا أكمله، وإن لم يكمله وعمل بعض العمل، فيستحق من الأجر بقدر ما أنجزه من العمل، ويصير المعمول مسلماً إلى صاحبه، ويملك المطالبة بقدره من المدة. فلو استأجر شخص رجلاً ليبني له بناء في داره أو فيما في يده كأن
يستأجره لبناء حجرة في داره أو لبناء سقيفة أو إيوان أو لحفر بئر أو قناة أو نهر في ملكه أو فيما في يده، فعمل بعضه، فله أن يطالب بقدر العمل من الأجرة. ولكن يجبر على إتمام العمل حتى إنه لو انهدم البناء أو انهارت البئر أو سقط الإيوان، فإن كان بعد الفراغ من العمل لم يسقط شيء من الأجرة، وإن كان قبل الفراغ من العمل يجب بقدر حصة العمل. هذا بخلاف ما إذا كان العمل في غير ملك المستأجر أو في يده، فإن الأجرة حينئذ يتوقف وجوبها على تمام العمل، فما لم يسلم الأجير العمل لا يصير المستأجر قابضاً للمعقود عليه، ويسقط الأجر إذا فسد المعقود عليه أو هلك قبل التسليم. وبناء عليه: إذا استأجر شخص إنساناً ليضرب له لبناً في ملكه أو فيما في يده فلا يستحق اللبّان الأجرة، ولا يصير المستأجر قابضاً حتى يجف اللبن وينصبه في قول أبي حنيفة؛ لأن ذلك من تمام هذا العمل. وفي قول الصاحبين: لا يستحق الأجرة حتى يشرجه (¬1)؛ لأن تمام العمل به، ويترتب على هذا الخلاف أنه لو تلف اللبن قبل نصبه في قول أبي حنيفة، وقبل التشريج في قول الصاحبين، فلا أجر له لأنه تلف قبل تمام العمل (¬2). أما إذا كان ضرب اللبن في غير ملك المستأجر أو في غير يده، فلا يستحق الأجير الأجرة إلا بالتسليم إلى صاحب اللبن، والتسليم: هو أن يخلي الأجير بين اللبن وبين المستأجر، بعد نصبه عند أبي حنيفة، وبعد تشريجه عند الصاحبين؛ لأن اللبن لم يكن في يد المستأجر، حتى يصير العمل مسلماً إليه، فلا بد من التخلية بعد الفراغ من العمل. ¬
المبحث السادس ـ اختلاف المتعاقدين في الإجارة
ومثله إذا استأجر إنسان خياطاً ليخيط له في منزله قميصاً: فإن خاط بعضه لم يكن له أجر؛ لأن هذا العمل لا ينتفع ببعضه، فإذا فرغ منه، ثم تلف، فله الأجر، ولا ضمان عليه في قول أبي حنيفة؛ لأنه صار مسلماً للعمل لحصوله في ملك صاحبه. وفي قول الصاحبين: تكون العين مضمونة، فلا يبرأ عن ضمانها إلا بتسليمها إلى مالكها، فإن هلك الثوب فإن شاء ضمنه قيمته صحيحاً ولا أجر له، وإن شاء ضمنه قيمته مخيطاً وله الأجر. المبحث السادس ـ اختلاف المتعاقدين في الإجارة إذا اختلف المتعاقدان في عقد الإجارة في مقدار البدل أو المبدل، وكانت الإجارة صحيحة فإما أن يحصل الاختلاف قبل استيفاء المنافع أو بعد استيفائها (¬1). فإن اختلفا قبل استيفاء المنافع تحالفا أي حلَّف كل منهما الآخر، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «إذا اختلف المتبايعان تحالفا وترادّا» (¬2). وبما أن الإجارة نوع من البيع فيتناولها الحديث، وإذا تحالفا تفسخ الإجارة، وإذا نكل أحدهما عن اليمين لزمه ما ادعى به صاحبه. ¬
وإن أقام كل منهما بينة على مدعاه: فإن كان الاختلاف في البدل فبينة المؤجر أولى؛ لأنها تثبت زيادة الأجرة، وإن كان الاختلاف في المبدل فبينة المستأجر أولى؛ لأنها تثبت زيادة المنفعة. وإن كان اختلاف العاقدين بعد استيفاء المستأجر بعض المنفعة بأن سكن الدار المستأجرة بعض المدة، أو ركب الدابة المستأجرة بعض المسافة فالقول قول المستأجر فيما مضى مع يمينه، ويتحالفان وتفسخ الإجارة فيما بقي؛ لأن العقد على المنافع ساعة فساعة على حسب حدوثها شيئاً فشيئاً، فكان كل جزء من أجزاء المنفعة مقعوداً عليه عقداً مبتدءاً، فيجعل ما بقي من المدة والمسافة منفرداً بالعقد، فيتحالفان فيه. وإن كان اختلافهما بعد انتهاء مدة الإجارة أو بعد بلوغ المسافة التي تم العقد عليها لا يتحالفان، والقول قول المستأجر في مقدار البدل مع يمينه، ولا يمين على المؤجر؛ لأن التحالف يؤدي إلى فسخ الإجارة، والمنافع غير الموجودة لا تحتمل فسخ العقد، فلا يثبت التحالف. وإن اختلف الخياط وصاحب الثوب، فقال صاحب الثوب: أمرتك أن تعمله قَبَاء (¬1) وقال الخياط: أمرتني أن أعمله قميصاً، أو قال صاحب الثوب للصباغ: أمرتك أن تصبغه بلون أحمر، فصبغته بلون أصفر، وقال الصباغ: لا، بل أمرتني بلون أصفر، فالقول قول صاحب الثوب مع يمينه. وهذا هو القول الأظهر في مذهب الشافعية (¬2)؛ لأن أصل الإذن صادر من المالك، فلو أنكر الإذن مطلقاً كان القول قوله، فكذا إذا أنكر صفة الإذن. ¬
وإذا حلف المالك في هذه الحالة يكون الخياط ضامناً، أي أن المالك بالخيار: إن شاء ضمن الخياط، وإن شاء أخذ الثوب وأعطى الخياط أجر المثل، والخيار ثابت أيضاً للصباغ. وإذا اختلف مالك الثوب مع الصانع في وجود الأجرة، فقال صاحب الثوب: عملته لي بغير أجر، وقال الصانع: بأجر، فالقول قول صاحب الثوب عند أبي حنيفة؛ لأنه ينكر تقوم عمله؛ لأن تقومه بالعقد، وينكر الضمان، والصانع يدعيه، والقول قول المنكر. وقال أبو يوسف: إن تكررت تلك المعاملة بينهما بأجر، فللصانع الأجر وإلا فلا؛ لأن ما سبق بينهما يعين جهة الطلب بأجر، جرياً على المعتاد بينهما. وقال محمد: إن كان الصانع معروفاً بهذه الصنعة بالأجر، فالقول قوله؛ لأنه لما فتح الحانوت لأجل أخذ الأجور جرى فعله مجرى التنصيص على الأجر، أخذاً بظاهر الأمور، قال المرغيناني في الهداية ما معناه: والقياس ما قاله أبو حنيفة، لأن المالك منكر. والجواب عن استحسان الصاحبين: أن ظاهر الحال يتمسك به لدفع الحق لا للاستحقاق، والمطلوب هنا إثبات الاستحقاق (¬1)، وهو لا يكفي في إثباته مجرد التمسك بظاهر الحال أو القرينة، بل لا بد من حجة أقوى كالبينة والإقرار. وقال الشافعية: إذا كان الاختلاف بين المؤجر والمستأجر في دعوى التلف أو التعيب، فالقول قول المستأجر، لأنه أمين، فيصدق بيمينه. وإن كان الاختلاف في دعوى الرد، بأن ادعى المستأجر أنه رد العين المستأجرة إلى المؤجر، وأنكر المؤجر ذلك، فالقول قول المؤجر بيمينه؛ لأن الأصل عدم الرد، والقول قول المنكر بيمينه. ¬
المبحث السابع ـ انتهاء عقد الإجارة
المبحث السابع ـ انتهاء عقد الإجارة 1 - تنتهي الإجارة عند الحنفية كما عرفنا في مبحث صفة الإجارة بموت أحد المتعاقدين؛ لأن الإرث يجري في الموجود المملوك، وبما أن المنافع في الإجارة تحدث شيئاً فشيئاً، فتكون عند موت المورث معدومة، فلا تكون مملوكة له، وما لم يملكه يستحيل توريثه فيحتاج عقد الإجارة للتجديد مع الوارث، حتى يكون العقد قائماً مع المالك. ولو مات الوكيل بالعقد لا تبطل الإجارة؛ لأن العقد لم يقع له، وإنما هو عاقد، ولو ماتت الظئر أو الصبي انتقضت الإجارة لأن كل واحد منهما معقود له. وقال الجمهور: لا ينفسخ عقد الإيجار بموت أحد المتعاقدين؛ لأنه عقد لازم كالبيع، أي أن المستأجر ملك المنافع بالعقد دفعة واحدة ملكاً لازماً فيورث عنه، ولكن تنفسخ الإجارة بموت الظئر أو الصبي لفوات المنفعة بهلاك محلها وهو الظئر، ولتعذر استيفاء المعقود عليه؛ لأنه لا يمكن إقامة غير هذا الصبي مقامه (¬1). 2 - تنتهي الإجارة أيضاً بالإقالة؛ لأن الإجارة معاوضة مال بمال، فكانت محتملة للإقالة كالبيع. 3 - الإجارة تنقضي بهلاك العين المؤجرة المعينة كالدارأو الدابة المعينة وهلاك المؤجر عليه كالثوب المؤجر للخياطة أو للقصارة لوقوع اليأس عن استيفاء المعقود عليه بعد هلاكه، فلم يكن في بقاء العقد فائدة. فإن كانت الإجارة على دواب بغير أعيانها للحمل أو الركوب، فتسلم المستأجر الدواب، فهلكت لاتبطل الإجارة، وعلى المؤجر أن يأتي بغيرها لتحمل المتاع وليس له أن يفسخ العقد؛ لأن الإجارة ¬
بانقضاء المدة إلا لعذر
وقعت على منافع في الذمة، ولم يعجز المؤجر عن وفاء ما التزمه بالعقد، وهو حمل المتاع إلى موضع كذا، وهذا باتفاق المذاهب الأربعة (¬1). وقال الزيلعي أخذاً برأي الإمام محمد بن الحسن: والأصح أن الإجارة لا تنفسخ في هذ هـ الحالة؛ لأن المنافع قد فاتت على وجه يتصور عودها، وساحة الدار بعد انهدام البناء يتأتى فيها السكنى بنصب فسطاط (خيمة) ونحوها. ويظهر أن هذا الرأي عند الحنفية هو الأصح، أي أن الإجارة لا تنفسخ بالقوة القاهرة، كانهدام الدار كلها، بدليل ما قاله صاحب الدر المختار وأيده ابن عابدين: لو خربت الدار، سقط كل الأجر، ولا تنفسخ به ما لم يفسخها المستأجر، هو الأصح. وأضاف ابن عابدين: وبانهدام الدار كلها للمستأجر الفسخ بغيبة المؤجر، ولا تنفسخ ما لم يفسخ هو الصحيح، لصلاحيتها لنصب الفسطاط. 4 - تنتهي الإجارة بانقضاء المدة إلا لعذر؛ لأن الثابت إلى غاية ينتهي عند وجود الغاية، فتنفسخ الإجارة بانتهاء المدة إلا إذا كان هناك عذر بأن انقضت المدة، وفي الأرض زرع لم يستحصد، فإنه يترك إلى أن يستحصد بأجر المثل (¬2). وانتهاء الإيجار بانقضاء المدة في الجملة محل اتفاق بين الفقهاء. ¬
الفصل الرابع: الجعالة
الفَصْلُ الرّابع: الجِعَالَة ـ أو الوعد بالجائزة ـ الكلام فيها يتناول تعريفها، ومشروعيتها، وصيغتها، الفرق بينها وبين الإجارة على الأعمال، شروطها، صفة حكمها، الزيادة والنقص في الجُعل، حكم اختلاف العامل ورب المال. تعريف الجعالة: الجعالة أو الجُعْل أو الجعلية لغة: هي ما يجعل للإنسان على فعل شيء أو ما يُعْطاه الإنسان على أمر يفعله. وتسمى عند القانونيين: الوعد بالجائزة (أي المكافأة أو الجُعْل أو الأجر المعين)، فهي عقد أو التزام بإرادة منفردة. وشرعاً: التزام عوض معلوم على عمل معين، أو مجهول، عسر علمه (¬1). وعرفها المالكية (¬2): بأنها الإجارة على منفعة مظنون حصولها. مثل قول القائل: من رد علي دابتي الشاردة، أو متاعي الضائع، أو بنى لي هذا الحائط أو حفر لي هذا البئر حتى يصل إلى الماء، أو خاط لي قميصاً أو ثوباً، فله كذا. ¬
مشروعية الجعالة
ومنها ما يخصص من المكافآت لأوائل الناجحين، أو المتسابقين فيما يحل فيه السباق، أو ما يلتزمه القائد من مبلغ معين أو سهم من الغنيمة لمن يقتحم حصناً للعدو، أو يسقط عدداً من الطائرات. ومنها الالتزام بمبلغ مالي لطبيب يشفي مريضاً من مرض معين، أو لمعلم يحفِّظ ابنه القرآن. ويمثل لها الفقهاء عادة بحالة رد الدابة الضالة (الضائعة)، والعبد الآبق (الهارب). مشروعية الجعالة: لا تجوز الجعالة عند الحنفية (¬1) لما فيها من الغَرَر أي جهالة العمل والمدة قياساً على سائر الإجارات التي يشترط لها معلومية العمل والمأجور والأجرة والمدة. وإنما أجازوا فقط استحساناً دفع الجعل لمن يرد العبد الآبق (¬2)، ولو بلا شرط، من مسيرة ثلاثة أيام فصاعداً، ومقدار الجعل أربعون درهماً، تغطية للنفقة في مدة السفر. وإن رده لأقل من ذلك المقدار، فبحسابه، اعتباراً للأقل بالأكثر، فإذا رده مثلاً من مسافة يومين فله ثلثاها، ومن يوم ثلثها، ومن رده من أقل منه، أو وجده في البلد يرضخ له، أي يعطى بنسبة عمله. وسبب استحقاق الجعل: هو أخذ الآبق لصاحبه. فدفع الجعل طريق للمالك لصيانة ماله. ¬
صيغة الجعالة
وتجوز الجعالة شرعاً عند المالكية والشافعية والحنابلة (¬1)، بدليل قوله تعالى في قصة يوسف مع إخوته: {قالوا: نفقد صُواع الملك (¬2)، ولمن جاء به حمل بعير، وأنا به زعيم} [يوسف:72/ 12] أي كفيل. وبدليل ما جاء في السنة من أخذ الأجرة على الرقية بالفاتحة (أم القرآن)، وهو ما رواه الجماعة إلا النسائي عن أبي سعيد الخدري: «أن ناساً من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم أتوا حياً من أحياء العرب، فلم يُقْروهم (يضيفوهم)، فبينما هم كذلك إذ لدغ سيد أولئك، فقالوا: هل فيكم راقٍ؟ فقالوا: لم تقرونا، فلا نفعل أو تجعلوا لنا جعلاً، فجعلوا لهم قطيع شاء، فجعل رجل يقرأ بأم القرآن، ويجمع بزاقه، ويتفل، فبرأ الرجل، فأتوهم بالشاء، فقالوا: لا نأخذها حتى نسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن ذلك، فضحك، وقال: وما أدراك، إنها رقية؛ خذوها واضربوا لي فيها بسهم» (¬3). والمعقول يؤيد ذلك: وهو أن الحاجة تدعو إلى الجعالة، من رد ضالة، وآبق، وعمل لا يقدر عليه صاحبه، فجاز بذل الجعل، كالإجارة والمضاربة، إلا أن جهالة العمل والمدة لا تضر بخلاف الإجارة؛ لأن الجعالة غير لازمة، والإجارة لازمة، وتفتقر إلى تعيين المدة لمعرفة قدر المنفعة، ولأن الجعالة رخصة اتفاقاً لما فيها من الجهالة، وأجيزت لإذن الشارع بها. صيغة الجعالة: الجعالة التزام بإرادة واحدة فلا تتحقق إلا بصيغة (¬4) من الجاعل من الصيغ ¬
الفرق بين الجعالة والإجارة على الأعمال
السابقة في تعريفها ونحوها، تدل على إذن بالعمل بطلب صريح، بعوض معلوم مقصود عادة ملتزم به، فلو عمل العامل بلا إذن، أو أذن الجاعل لشخص، فعمل غيره، فلا شيء له؛ لأن الأول عمل متبرعاً، والشخص المعين في الحالة الثانية لم يعمل ولا يشترط في الجاعل كونه مالكاً، فيصح لغيره أن يلتزم بجعل ويستحقه العامل الذي رد الشيء. كما لا يشترط قبول العامل، وإن عينه الجاعل؛ لأن الجعالة التزام من جانب واحد، كما أوضحت. ويصح أن تكون الجعالة لواحد معين، أو لغير معين، كما يصح أن يجعل الجاعل للمعين عوضاً ولسائر الناس عوضاً آخر. الفرق بين الجعالة والإجارة على الأعمال: تفترق الجعالة عن الإجارة على عمل معلوم كبناء وخياطة ثوب وحمل شيء إلى موضع معلوم من نواح أربع وهي (¬1): أولاً ـ لا يتم استيفاء المنفعة للجاعل إلا بتمام العمل كرد الشارد وبرء المريض. أما في الإجارة فيتم استيفاء المنفعة للمستأجر بمقدار ما عمل الأجير. وبعبارة أخرى: لا تتحقق المنفعة في الجعالة إلا بتمام العمل، أما في الإجارة فتتحقق المنفعة للمستأجر بجزء من العمل. وبناء عليه، لا يستحق العامل في الجعالة شيئاً إلا بتمام العمل. وإذا عمل الأجير في الإجارة بعض العمل استحق من الأجر بحساب (أو مقدار) ما عمل. ثانياً ـ إن الجعالة عقد يحتمل فيها الغرر، وتجوز جهالة العمل والمدة بخلاف ¬
شروط الجعالة
الإجارة، فالعمل في الجعالة قد يكون معلوماً، أو مجهولاً غير معلوم، كرد بهيمة ضالة، وحفر بئر حتى يخرج منها الماء، وكما تصح الجعالة على عمل مجهول أو معلوم، تصح جهالة المدة. أما الإجارة فلا بد من أن يكون العمل فيها معلوماً كالخياطة والبناء، والمدة معلومة. وإذا قدرت الإجارة بمدة لزم الأجير العمل في جميع المدة، ولا يلزمه العمل بعدها. أما الجعالة فالمهم فيها إنجاز العمل دون تقيد بالمدة. ثالثاً ـ لا يجوز اشتراط تقديم الأجرة في الجعالة، بخلاف الإجارة. رابعاً ـ الجعالة عقد جائز غير لازم، فيجوز فسخه، بخلاف الإجارة، فإنها عقد لازم لا يفسخ. شروط الجعالة: يشترط في الجعالة ما يأتي (¬1): أولاً ـ أهلية التعاقد: يشترط عند الشافعية والحنابلة في الجاعل ما لكاً كان أو غيره أن يكون مطلق التصرف (بالغاً عاقلاً رشيداً)، فلا يصح من صبي ومجنون ومحجور سفه. وأما العامل: فإن كان معيناً اشترط فيه أهلية العمل، فلا يصح كونه عاجزاً عن العمل كصغير لا يقدر على العمل؛ لأن منفعته معدومة. وإن كان غير معين مبهماً كفى علمه بإعلان النداء على الجعل. وتصح الجعالة عند المالكية والحنفية من المميز، وأما التكليف فهو شرط لزوم. ¬
ثانيا ـ كون الجعل (أو الأجرة) مالا معلوما.
ثانياً ـ كون الجعل (أو الأجرة) مالاً معلوماً. فإن كان الجعل مجهولاً فسد العقد لجهالة العوض، مثل من وجد سيارتي فله ثوب، أو أرضيه، ونحوه، ويكون للواجد (الرادّ) أجرة مثله، كالإجارة الفاسدة. وإن كان الجعل حراماً كخمر أو مغصوب، فسد العقد أيضاً لنجاسة عين الخمر، وعدم القدرة على تسليم المغصوب. ثالثاً ـ أن تكون المنفعة معلومة حقيقة، مباحاً الانتفاع بها شرعاً، فلا تجوز الجعالة على إخراج الجن من شخص، ولا على حل سحر مثلاً، لأنه يتعذر معرفة كون الجن خرج أم لا، أو انحل السحر أم لا. كما لا تجوز الجعالة على ما يحرم نفعه كالغناء والزمر والنواح وسائر المحرمات. والقاعدة في ذلك (¬1): أن كل ما جاز أخذ العوض عليه في الإجارة، جاز أخذ العوض عليه في الجعالة، ومالا يجوز أخذ العوض عليه في الإجارة، لا يجوز أخذ الجعل عليه، لقوله تعالى: {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} [المائدة:2/ 5] وأضاف المالكية: «كل ما جاز فيه الجعل كحفر الآبار في فلاة، جازت فيه الإجارة، لا العكس، فليس كل ما جازت فيه الإجارة، جاز فيه الجعل» مثل بيع سلع (¬2) وخدمة شهر، وحفر بئر بملك، تصح فيه الإجارة دون الجعالة، فالإجارة أعم، من ناحية المحل المعقود عليه. والسبب في عدم صحة الجعالة فيما ذكر: أن الجعالة تكون فيما لا يحصل للجاعل نفع إلا بتمام العمل، وهذه الأمور يبقى فيها للجاعل منفعة إذا لم يتم العامل العمل. ¬
رابعا ـ اشترط المالكية ألا يحدد للجعالة أجل،
وأما أعمال العبادة البدنية التي لا يتعدى نفعها غير فاعلها كالصلاة والصيام ونحوهما من القربات الدينية، فلا يجوز أخذ الجعل عليه. وما يتعدى نفعه لغير فاعله كالأذان وتعليم الفقه والقرآن والقضاء والإفتاء فيجوز أخذ الجعل عليه، لحديث أبي سعيد السابق في الرقية بالفاتحة. والمشهور عند المالكية أنه لا بد من تحقيق منفعة مقصودة للجاعل، فمن جعل ديناراً لمن يصعد جبلاً مثلاً، لا لشيء يأتي به، لا يصح التزامه ولا جعالته. واشترط الشافعية في العمل: أن يكون فيه كلفة، وإلا فلا يستحق شيئاً؛ لأن ما لا كلفة فيه لا يقابل بعوض. رابعاً ـ اشترط المالكية ألا يحدد للجعالة أجل، وقال غيرهم: يصح الجمع بين تقدير المدة والعمل، مثل من خاط لي هذا الثوب في يوم فله كذا، فإن أتى به في المدة استحق الجعل، ولم يلزمه شيء آخر، وإن لم يف به فيها فلا يلزمه شيء له، وذلك بخلاف الإجارة. وأضاف بعض المالكية (القاضي عبد الوهاب خلافاً لابن رشد) شرطاً خامساً: وهو أن تكون الجعالة في العمل اليسير، ولو كان متعدداً كإبل كثيرة شردت. واشترط المالكية كما تقدم عدم شرط النقد للجعل، فإن شرط النقد يفسدها؛ لأنه سلف جر نفعاً بطريق الاحتمال، وأما تعجيل الجعل بلا شرط فلا يفسدها. صفة حكم الجعالة ووقت استحقاق الجعل: اتفق الفقهاء القائلون بجواز الجعالة (¬1) على أنها بخلاف الإجارة عقد جائز ¬
غير لازم، فيجوز لكل من الجاعل والعامل فسخها، لكنهم اختلفوا في وقت جواز الفسخ. فقال المالكية: يجوز الفسخ قبل الشروع في العمل، ويلزم الجاعل دون العامل بالشروع في العمل. أما العامل المجعول له فلا يلزم بشيء قبل العمل أو بعده أو بعد الشروع فيه. وقال الشافعية والحنابلة: يجوز الفسخ في أي وقت شاء الجاعل والمجعول له المعين، كسائر العقود الجائزة مثل الشركة والوكالة، قبل تمام العمل. فإن فسخ العقد من المالك أو العامل المعين قبل الشروع في العمل، أو فسخ العامل بعد الشروع في العمل، فلا شيء له في الحالتين، لأنه في الأولى لم يعمل شيئاً، وفي الثانية لم يتحقق غرض المالك. أما إن فسخ المالك بعد الشروع في العمل، فعليه للعامل أجرة مثل عمله في الأصح عند الشافعية، لأنه عمل بعوض، ولم يسلم له أجرة عمله، كما لو فسخ رب المال المضاربة بعد الشروع في العمل ويستحق العامل الجعل أو الأجر المعين بإتمام العمل، فإن فسخ العامل قبل الفراغ من العمل، لم يستحق شيئاً (¬1). وإن حدد المالك مكاناً لرد المتاع المفقود، فرده العامل من مكان أقرب منه، فله قسطه من الجعل، كما يرى الشافعية (¬2). ولو اشترك اثنان في رد المتاع، اشتركا في الجعل، لحصول الرد منهما (¬3). وإذا رد العامل الشيء المجعول عليه فليس له حبسه لقبض الجعل، كما لا ¬
الزيادة والنقص في الجعل
يحبسه لاستيفاء ما أنفقه عليه بإذن المالك؛ لأن استحقاق الجعل بتسليم الشيء، ولا حبس قبل الاستحقاق (¬1). ولا يستحق العامل الجُعْل إلا بإذن صاحب العمل، وبالفراغ من العمل، فإذا عمل عامل بدون إذن صاحب العمل لم يستحق شيئاً، وإذا لم يفرغ العامل من العمل كشفاء المريض، وتعلم القراءة والكتابة، لم يستحق الجعل. الزيادة والنقص في الجعل: يرى الشافعية والحنابلة (¬2) أنه يجوز للمالك الجاعل أن يزيد أو ينقص من الجعل؛ لأن الجعالة عقد جائز غير لازم، فجاز فيه ذلك كالمضاربة، إلا أن الشافعية أجازوا ذلك قبل الفراغ من العمل، سواء أكان قبل الشروع، أم بعده، كأن يقول: من رد متاعي الفلاني فله عشرة، ثم يقول: فله خمسة، أو بالعكس. وتظهر فائدة ذلك بعد الشروع في العمل، فتجب حينئذ أجرة المثل، لأن هذا التعديل بالزيادة أو النقص فسخ للإعلان السابق، والفسخ من المالك يقتضي الرجوع إلى أجرة المثل؛ وقيد الحنابلة هذا التعديل بما قبل الشروع في العمل، فيجوز ويعمل به. حكم اختلاف المالك والعامل: إذا حدث اختلاف بين المالك والعامل فأيهما يصدق بيمينه؟ في الأمر تفصيل (¬3): إن اختلفا في أصل اشتراط الجعل بأن أنكره أحدهما، فيصدق المنكر بيمينه، كأن يقول العامل: شرطت لي جعلاً، وأنكر المالك، صدق المالك بيمينه؛ ¬
أوجه الاختلاف بين الجعالة والإجارة
لأن الأصل عدم اشتراط الجعل. وإن اختلفا في نوع العمل كرد السيارة الضائعة أو المتاع الضائع، أو اختلفا فيمن قام بالعمل، يصدق صاحب العمل بيمينه، لأن العامل يدعي شيئاً والأصل عدمه، فيصدق المنكر بيمينه. وكذلك يصدق المنكر إن اختلفا في سعي العامل، بأن قال المالك: لم ترده، وإنما رجع بنفسه، يصدق المالك؛ لأن الأصل عدم الرد. وإن اختلفا في قدر الجعل أوفي قدر المسافة أو المكان المحدد لوجود الضائع فقال المالكية والشافعية: تحالف الطرفان (¬1)، وفسخ العقد، ووجب أجرة المثل، كما لو اختلفا في عقد الإجارة. وقال الحنابلة: القول قول المالك بيمينه؛ لأن الأصل عدم الزائد المختلف فيه، ولأن القول قوله في أصل العوض، فكذلك في قدره، كرب المال في المضاربة، ولأنه منكر لما يدعيه العامل زيادة عما يعترف به، والأصل براءته منه. ويحتمل أن يتحالفا كالمتبايعين إذا اختلفا في قدر الثمن، والأجير والمستأجر إذا اختلفا في قدر الأجر. فإن تحالفا فسخ العقد ووجب أجر المثل. أوجه الاختلاف بين الجعالة والإجارة: تختلف الجعالة عن الإجارة من خمسة وجوه هي: 1 - تصح الجعالة مع عامل غير معين، ولا تصح الإجارة مع مجهول. 2 - تجوز الجعالة على عمل مجهول، أما الإجارة فلا تصح إلا على عمل معلوم. ¬
3 - لا يشترط في الجعالة قبول العامل لأنها تصرف بإرادة منفردة، أما الإجارة فلا بد من قبول الأجير القائم بالعمل لأنها عقد بإرادتين. 4 - الجعالة عقد جائز غير لازم، أما الإجارة فهي عقد لازم، لا يفسخها أحد العاقدين إلا برضا الآخر. 5 - لا يستحق الجعل في الجعالة إلا بالفراغ من العمل، ولو شرط تعجيله فسدت، وفي الإجارة يجوز اشتراط تعجيل الأجرة.
الفصل الخامس: الشركات
الفَصْلُ الخامِسُ: الشَّرِكَات ويتضمن مبحثين ـ الأول: شركات الأموال، والثاني ـ شركة المضاربة المبحث الأول ـ شركات الأموال: تمهيد في تعريف الشركة ومشروعيتها: الشركة لغة: هي الاختلاط أي خلط أحد المالين بالآخر بحيث لا يمتازان عن بعضهما. ثم أطلقت عند الجمهور على العقد الخاص بها، وإن لم يوجد اختلاط النصيبين؛ لأن العقد سبب الخلط (¬1). واختلفت عبارات الفقهاء في تعريف الشركة اصطلاحاً، فقال المالكية: هي إذن في التصرف لهما مع أنفسهما أي أن يأذن كل واحد من الشريكين لصاحبه في أن يتصرف في مال لهما مع إبقاء حق التصرف لكل منهما (¬2). وقال الحنابلة: الشركة: هي الاجتماع في استحقاق أو تصرف (¬3). ¬
مشروعية الشركة
وقال الشافعية: الشركة: ثبوت الحق في شيء لاثنين فأكثر على جهة الشيوع (¬1). وقال الحنفية: الشركة: عبارة عن عقد بين المتشاركين في رأس المال والربح (¬2). وهو أولى التعاريف لأنه يعبر عن حقيقة الشركة في أنها عقد، أما التعاريف الأخرى فهي بالنظر إلى هدف الشركة وأثرها أو النتيجة المترتبة عليها. مشروعية الشركة: ثبتت مشروعية الشركة بالكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب: فقوله تعالى: {فهم شركاء في الثلث} [النساء:12/ 4] وقوله سبحانه: {وإنَّ كثيراً من الخُلَطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وقليل ما هم} [ص:24/ 38] والخلطاء: هم الشركاء. وأما السنة: ففي الحديث القدسي فيما يروى عن أبي هريرة رفعه إلى النبي صلّى الله عليه وسلم قال: إن الله عز وجل يقول: «أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإذا خانه خرجت من بينهما» رواه أبو داود والحاكم وصحح إسناده (¬3) والمعنى: أنا معهما بالحفظ والإعانة، أمدهما بالمعونة في أموالهما وأنزل البركة في تجارتهما، فإذا وقعت بينهما الخيانة رفعت البركة والإعانة عنهما. وقد بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم، والناس يتعاملون بالشركة فأقرهم عليها، كما ¬
حكمة مشروعيتها
ثبت في أحاديث كثيرة (¬1) وقال عليه الصلاة والسلام: «يد الله على الشريكين ما لم يتخاونا» (¬2). والمسلمون أجمعوا على جواز الشركة في الجملة، وإنما اختلفوا في أنواع منها (¬3)، ولذا سيكون الكلام عن الشركة بأنواعها. وحكمة مشروعيتها: تمكين الناس من التعاون في استثمار أموالهم وتنميتها وإقامة المشاريع الكبرى الصناعية والتجارية والزراعية التي يتعذر على الواحد الاستقلال بالقيام بها. أقسام الشركة: الشركة قسمان: شركة أملاك، وهي الشركات الإجبارية في القوانين الوضعية، وشركة عقود، وهي الشركات الاختيارية في القوانين. شركة الأملاك: هي أن يتملك شخصان فأكثر عيناً من غير عقد الشركة، وهي نوعان (¬4): 1 - شركة اختيار: وهي التي تنشأ بفعل الشريكين، مثل أن يشتريا شيئاً أو يوهب لهما شيء أو يوصى لهما بشيء، فيقبلا، فيصير المشترى والموهوب والموصى به مشتركاً بينهما شركة ملك. 2 - شركة جبر: وهي التي تثبت لشخصين فأكثر بغير فعلهما، كأن يرث اثنان شيئاً، فيكون الموروث مشتركاً بينهما شركة ملك. ¬
شركة العقود
وحكم هذه الشركة بنوعيها: هو أن كل واحد من الشريكين كأنه أجنبي في نصيب صاحبه، فلا يجوز له التصرف فيه بغير إذنه، إذ لا ولاية لأحدهما في نصيب الآخر (¬1). شركة العقود: هي عبارة عن العقد الواقع بين اثنين فأكثر للاشتراك في مال وربحه (¬2)، وهو تعريف الحنفية السابق. وهي أنواع خمسة عند الحنابلة: شركة العنان، وشركة المفاوضة، وشركة الأبدان، وشركة الوجوه، والمضاربة. وقسمها الحنفية إلى ستة أنواع: وهي شركة الأموال، وشركة الأعمال، وشركة الوجوه. وكل نوع من هذه الأنواع إما مفاوضة وإما عنان (¬3). وفي الجملة فإن الشركة عند فقهاء الأمصار ومنهم المالكية والشافعية أربعة أنواع: شركة العنان، وشركة المفاوضة، وشركة الأبدان، وشركة الوجوه (¬4). واتفق العلماء على أن شركة العنان جائزة صحيحة. وأما الأنواع الأخرى فقد اختلفوا في مشروعيتها: فالشافعية والظاهرية والإمامية يجعلون كل الشركات باطلة ما عدا شركة العنان وشركة المضاربة. والحنابلة أجازوا كل الشركات ما عدا شركة المفاوضة. والمالكية أجازوا كل الشركات ما عدا شركة الوجوه، وماعدا شركة المفاوضة بالمعنى المذكور عند الحنفية. ¬
المطلب الأول ـ كيفية انعقاد شركات العقود
وأما الحنفية والزيدية فأجازوا كل هذه الشركات دون استثناء إذا توافرت شروط معينة. وسأبحث شركة العقود وفقاً لمنهج الحنفية في التقسيم، في المطالب الآتية. وأما شركة المضاربة فأخصص مبحثاً مستقلاً لها. خطة الموضوع: المطلب الأول ـ كيفية انعقاد شركات العقود. المطلب الثاني ـ شرائط شركة العقود. المطلب الثالث ـ أحكام شركة العقود. المطلب الرابع ـ صفة عقد الشركة ويد الشريك. المطلب الخامس ـ مبطلات عقد الشركة. المطلب السادس ـ الشركة الفاسدة. المطلب الأول ـ كيفية انعقاد شركات العقود ركن شركة العقود عند الحنفية: الإيجاب والقبول: وهو أن يقول أحد الشريكين للآخر: شاركتك في كذا وكذا، ويقول الآخر: قبلت وهي ثلاثة أنواع: شركة أموال، وشركة وجوه، وشركة أعمال أو صنايع (¬1). وسأذكر تعاريف كل نوع منها. وأركان الشركة عند الجمهور ثلاثة: عاقدان ومعقود عليه وصيغة. ¬
أولا ـ تعريف شركة الأموال
أولاً ـ تعريف شركة الأموال: وهي أن يشترك اثنان في مال، فيقولا: اشتركنا فيه على أن نبيع ونشتري معاً، أو أطلقا (أي لم يحددا البيع أو الشراء)، على أن ما رزق الله عز وجل من ربح فهو بيننا على شرط كذا، أو يقول أحدهما ذلك، ويقول الآخر: قبلت. وهي إما مفاوضة أو عنان. 1 - شركة العنان (¬1): وهي أن يشترك اثنان في مال لهما على أن يتجرا فيه والربح بينهما (¬2)، وهي جائزة بالإجماع كما ذكر ابن المنذر (¬3). وإنما اختلف في بعض شروطها، كما اختلف في علة تسميتها، فقيل: سميت بالعنان؛ لأن الأصل في الشريكين أن يتساويا في المال والتصرف، كالفارسين إذا سوَّيا بين فرسيهما وتساويا في السير، فإن عناني فرسيهما يكونان سواء. وشركة العنان: اتفاق الرجلين على الاشتراك في شيء معلوم من مالهما، وانفراد كل بباقي ماله، فهما متساويان فيما يشتركان فيه. وقال الفراء: هي مشتقة من عَنَّ الشيء: إذا عرض، يقال: عنَّت لي حاجة: إذا عرضت، فسميت الشركة عناناً؛ لأن كل واحد منهما عنَّ له أن يشارك صاحبه، أو أنها تقع على حسب ما يعن لهما في كل التجارات أو في بعضها. قال السبكي: المشهور أنها مأخوذة من ¬
2 - شركة المفاوضة
عنان الدابة وهو ما تقاد به، كأن كل واحد من الشريكين أخذ بعنان صاحبه، لا يطلقه يتصرف حيث شاء (¬1). وهذا النوع من الشركات هو السائد بين الناس (¬2)؛ لأن شركة العنان لا يشترط فيها المساواة لا في المال ولافي التصرف، فيجوز أن يكون مال أحد الشريكين أكثر من الآخر، كما يجوز أن يكون أحدهما مسؤولاً عن الشركة والآخر غير مسؤول، وهي من أجله ليس فيها كفالة، فلا يطالب أحدهما إلا بما عقده بنفسه من التصرفات، أما تصرفات شريكه فهوغير مسؤول عنها، ويجوز مع ذلك أن يتساويا في الربح أو يختلفا، فيوزع الربح بينهما حسب الشرط الذي اتفقا عليه، أما الخسارة فتكون بنسبة رأس المال فحسب، عملاً بقاعدة: «الربح على ما شرطا، والوضيعة على قدر المالين». 2 - شركة المفاوضة: المفاوضة في اللغة. وسمي هذا النوع من الشركة مفاوضة لا عتبار المساواة في رأس المال والربح وفي القدرة على التصرف وغيرها، قال في الهداية: لأنها شركة عامة في جميع التجارات، يفوض كل واحد من الشريكين أمر الشركة إلى صاحبه على الإطلاق. وقيل: هي من التفويض؛ لأن كل واحد منهما يفوض التصرف إلى صاحبه على كل حال في غيبته وحضوره. وقال المالكية والشافعية: سميت مفاوضة من تفاوض الرجلان في الحديث: شرعا فيه جميعاً. ¬
وهي في الاصطلاح: أن يتعاقد اثنان فأكثر على أن يشتركا في عمل بشرط أن يكونا متساويين في رأس مالهما وتصرفهما ودينهما أي (ملتهما)، ويكون كل واحد منهما كفيلاً عن الآخر فيما يجب عليه من شراء وبيع، أي أن كل شريك ملزم بما ألزم شريكه الآخر من حقوق ما يتجران فيه، وما يجب لكل واحد منهما يجب للآخر، أي أنهما متضامنان في الحقوق والواجبات المتعلقة بما يتاجران فيه، ويكون كل واحد منهما فيما يجب لصاحبه بمنزلة الوكيل له، وفيما يجب عليه بمنزلة الكفيل عنه. فهما يتساويان في رأس المال وفي الربح، فلا يصح أن يكون أحدهما أكثر مالاً من الآخر، كأن يملك أحدهما ألف دينار والآخر خمس مئة، ولو لم يكن المبلغ مستعملاً في التجارة، أي أنه لا يجوز أن يبقيا شيئاً من جنس مال الشركة إلا ويدخلانه في الشركة. ويشترط التساوي في التصرف فلا تصح بين صبي وبالغ، ولا بين مسلم وكافر (¬1)، ولا يصح أن يكون تصرف أحدهما أكثر من تصرف الآخر. فإذا تحققت المساواة الكاملة انعقدت الشركة، وكان كل واحد منهما وكيلاً عن صاحبه وكفيلاً عنه يطالب بما يعقده صاحبه، ويسأل عن جميع تصرفاته. فإذا اختل شرط من هذه الشروط، أو تملك أحد الشريكين مالاً يصلح أن يكون رأس مال لشركة العقد، تحولت الشركة إلى شركة عنان، لعدم تحقق المساواة (¬2). وعلى هذا فإن هذه الشركة تتطلب الاشتراك بين الشريكين في كل ما لهما من الحقوق كإرث نقدي وركاز ولقطة، وما عليهما من الواجبات التي يلتزم بها كل ¬
واحد من دين بسبب التجارة واستقراض وضمان غصب وقيمة متلف وأرش (¬1) جناية على الدابة أو الثوب مثلاً ونحوها من مغارم الأموال (¬2) في قول أبي حنيفة ومحمد (¬3). وبعبارة أخرى: تنعقد شركة المفاوضة على أساس الاشتراك فيما يملكه كل شريك من مال يصح أن يكون رأس مال للشركة وهو النقود الحاضرة، مع تساوي جميع الشركاء في الربح وفي رأس المال، وعلى أن يعمل كل شريك في مال صاحبه مستبداً برأيه. فإذا اختص أحد الشركاء فيها بملك مال يصلح أن يكون رأس مال لشركة العقد كالنقود لا تكون شركة مفاوضة، وإن عقدت بلفظها، لانعدام المساواة في المال، ولكن إذا اختص أحدهم بملك عَرْض أو دين على إنسان، أو بملك عقار لم يؤثر المملوك في صحتها؛ لأن كل ذلك لا يصلح أن تعقد عليه الشركة، فكان كاختصاص الشريك فيها بالزوجة (¬4). فإذا استحق الشريك مالاً من إرث ونحوه، تفسد المفاوضة إذا كان المال نقوداً دراهم أو دنانير وتم قبضه فعلاً، أما إذا قبض عروضاً أو عقاراً فلا تفسد المفاوضة. وقد أجاز الحنفية والزيدية هذه الشركة لقوله عليه الصلاة والسلام: «إذا ¬
تفاوضتم فأحسنوا المفاوضة»، «فاوضوا فإنه أعظم للبركة» (¬1) ولأن الناس يتعاملون بها في سائر الأعصار من غير نكير من أحد. وأما الجهالة الحاصلة فيها وهي أنها تتضمن الوكالة بشراء مجهول الجنس، والكفالة بمجهول، فإنها متحملة، لأنها تثبت تبعاً، والتصرف قد يصح تبعاً ولا يصح مقصوداً، كما هو الحال في المضاربة، فإنها تتضمن الوكالة بشراء مجهول الجنس. وأما المالكية: فأجازوا شركة المفاوضة بغير هذا المعنى الذي ذكره الحنفية: وهو أن تعقد الشركة على أن يكون كل شريك مطلق التصرف في رأس المال استقلالاً، دون حاجة إلى أخذ رأي شركائه، حاضرين أم غائبين، بيعاً وشراء وأخذاً وعطاء وكراء واستكراء، وضماناً وتوكيلاً وكفالة وقراضاً وتبرعاً وغيرها مما تحتاج إليه التجارة من تصرف. ويلزم كل شريك بكل ما يعمله شريكه. ولا تكون إلا فيما تم العقد عليه من أموالهم، دون ما ينفرد به كل منهم من مال لم يدخله في الشركة. أما إذا عقدت الشركة على ألا يستبد (ينفرد) أحد الشركاء بالتصرف في رأس المال، وليس له إلا أن يعمل مع شركائه جميعاً، فإنها حينئذ تسمى عندهم شركة عنان (¬2). وعلى هذا فشركة المفاوضة بمفهومها عند المالكية، لا خلاف فيها عند الفقهاء. ¬
ثانيا ـ تعريف شركة الوجوه أو الشركة على الذمم
أما شركة المفاوضة بالمعنى الذي ذكره الحنفية والزيدية، فلا يجيزها الشافعية والحنابلة وجمهور الفقهاء، لأنه عقد لم يرد الشرع بمثله، ولأن تحقق المساواة بالمعنى المطلوب في هذه الشركة أمر عسير، ولأن فيها غرراً كثيراً وجهالة لما فيها من الوكالة بالمجهول والكفالة به، فلم تصح كبيع الغرر. وبيان وجه الغرر فيه: هو أنه يلزم كل واحد منهما ما لزم الآخر، وقد يلزمه شيء لا يقدر على القيام به، ولهذا قال الشافعي رضي الله عنه: «إن لم تكن شركة المفاوضة باطلة، فلا باطل أعرفه في الدنيا» وأما الحديث السابق فهو غير معروف، ولا رواه أصحاب السنن؛ بل إنه ليس فيه ما يدل على أنه أراد هذا العقد، فيحتمل أنه أراد المفاوضة في الحديث، ولهذا روي فيه: «ولا تجادلوا فإن المجادلة من الشيطان» (¬1). والواقع أن شركة المفاوضة بالمعنى المذكور عند الحنفية غير متيسرة الوجود، إن لم تكن متعذرة التحقيق (¬2). ثانياً ـ تعريف شركة الوجوه أو الشركة على الذمم: هي أن يشترك وجيهان عند الناس، من غير أن يكون لهما رأس مال، على أن يشتريا في ذممهما بالنسيئة (أي بمؤجل)، ويبيعا بالنقد، بما لهما من وجاهة عند ¬
الناس، فيقولا: اشتركنا على أن نشتري بالنسيئة ونبيع بالنقد، على أن ما رزق الله سبحانه من ربح أي (من فرق الأثمان)، فهو بيننا على شرط كذا. وسمي هذا النوع شركة الوجوه، لأنه لا يباع بالنسيئة إلا لوجيه من الناس عادة. وهي معروفة بالشركة على الذمم من غير صنعة ولا مال. وهي جائزة عند الحنفية والحنابلة والزيدية، لأنها شركة عقد تتضمن توكيل كل شريك صاحبه في البيع والشراء، وتوكيل كل واحد منهما صاحبه بالشراء على أن يكون المشترى بينهما صحيح، فكذلك الشركة التي تتضمن ذلك. هذا بالإضافة إلى أن الناس تعاملوا بها في سائر الأعصار من غير إنكار من أحد. والخلاصة: أن ما اتفقا عليه يعد عملاً من الأعمال، فيجوز أن تنعقد عليه الشركة (¬1). وقال المالكية والشافعية والظاهرية والإمامية والليث وأبو سليمان وأبو ثور: إن هذه الشركة باطلة؛ لأن الشركة تتعلق بالمال أو بالعمل، وكلاهما معدومان في هذه المسألة (¬2)، فلا يوجد مال مشترك بين الشركاء، مع ما فيها من الغرر إذ إن كل شريك يعاوض صاحبه بكسب غير محدد بصناعة، أو بعمل مخصوص، فلم يكن الربح نماء للمال، ولا مقابلاً للعمل، فلايستحق. وبناء على الرأي الأول يصح تباين الشريكين في حصتهما في ملكية الشيء المشترى، فيصح أن يكون لأحدهما النصف أو أكثر من النصف، لحديث الرسول عليه السلام: «المسلمون على شروطهم». وأما الربح فيكون بينهما على قدر ¬
ثالثا ـ تعريف شركة الأعمال أو الأبدان
الحصة في الملك، ولا يجوز أن يزيد أحدهما على ربح حصته شيئاً؛ لأن الربح في هذه الشركة يستحق بقدر ضمان ثمن السلع المشتراة (¬1) بالمال والعمل، والضمان يكون بقدر الحصة في الملك، فيكون الربح بقدر ذلك، فإن زاد الربح على مقدار الضمان، زاد بلا مقابل وهو لا يجوز. وأما الخسارة: فهي على قدر ضمان كل من الشركاء اتفاقاً. ثالثاً ـ تعريف شركة الأعمال أو الأبدان: وهي أن يشترك اثنان على أن يتقبلا في ذمتهما عملاً من الأعمال، ويكون الكسب بينهما كالخياطة والحدادة والصباغة ونحوها، فيقولا: اشتركنا على أن نعمل فيه على ما رزق الله عز وجل من أجرة، فهو بيننا على شرط كذا، وهي المعروفة بشركة الحمالين وسائر المحترفة كالخياطين والنجارين والدلاّلين (السماسرة) ليكون بينهما كسبهما متساوياً أو متفاوتاً، سواء اتحدت حرفتهما كنجار ونجار، أو اختلفت كخياط ونجار. وتسمى شركة الصنايع وشركة التقبل وشركة الأبدان وشركة الأعمال. وهي اليوم شائعة في ورشة الحدادة أو النجارة ونحوهما، وتعتبر شركة التنقيب عن النفط وشركة التفريغ والشحن ونحوها من شركات الأعمال. وهي جائزة عند المالكية والحنفية والحنابلة والزيدية؛ لأن المقصود منها تحصيل الربح، وهو ممكن بالتوكيل، وقد تعامل الناس بها ولأن الشركة تكون بالمال، أو بالعمل كما في المضاربة، وهذا هنا عمل من الأعمال (¬2). وقال ابن مسعود: ¬
«اشتركت أنا وعمار وسعد يوم بدر، فأصاب سعد أسيرين. ولم أصب أنا وعمار شيئاً، فلم ينكر النبي صلّى الله عليه وسلم علينا» (¬1). فهذه شركة فيما يصيبون من سلَب في الحرب. إلا أن المالكية يشترطون لصحة هذه الشركة اتحاد الصنعة وإن كان العمل بمكانين، فتجوز بين محترفي صنعة واحدة، ولا تجوز بين مختلفي الصنائع إلا إذا كان عَمَلا الشريكين متلازمين، بأن يتوقف وجود عمل أحدهما على وجود عمل الآخر كنساج وغزال. ويشترطون أيضاً لها الاتفاق في العقد على اقتسام الربح بقدر عمل كل من الشريكين، ولا يضر التبرع بعد ذلك، وتفسد الشركة إن شرطا التفاوت في الربح، ويكفي فيه التقارب عرفاً بين الربح والعمل، ولا يضر التفاوت اليسير في العمل مع كون الربح بينهما بالسوية. ويرى الحنابلة جواز هذه الشركة حتى في المباحات كالحطب والحشيش ونحوهما، فتجوز عندهم فيما يشترك فيه الشريكان بأبدانهما من مباح كالاحتشاش والاصطياد والتلصص على دار الحرب، وأخذ سلَب قتلى الحرب، إلا أنهم قالوا: لا تصح شركة الدلالين. وقال الشافعية والإمامية وزفر من الحنفية: هي شركة باطلة؛ لأن الشركة تختص عندهم بالأموال لا بالأعمال (¬2)؛ لأن العمل لا ينضبط، فكان فيه غرر ¬
المطلب الثاني ـ شرائط شركة العقود
وعدم انضباط، إذ لا يدري أحدهما أن صاحبه يكسب أم لا، وربما قام أحد الشريكين بالعمل كله دون أن يقوم غيره بشيء، فيكون في ذلك غبن حين يتقاسم الشريكان ثمار العمل، ولأن كل واحد منهما متميز عن الآخر ببدنه ومنافعه، فيختص بفوائده، كما لو اشتركا في الاحتطاب والاصطياد وسائر المباحات، فإن ذلك لا يجوز حتى عند الحنفية؛ لأن الشركة مقتضاها الوكالة، ولا تصح الوكالة في تملك المباح، لأنه يملك بالاستيلاء (¬1). المطلب الثاني ـ شرائط شركة العقود اشترط علماء الحنفية شروطاً في شركات العقود، منها ما هو عام لكل أنواع شركة العقود، ومنها ما هو خاص. أولاً ـ الشروط العامة في شركات العقود: يشترط لصحة شركات العقود شرائط هي (¬2): 1 - قابلية الوكالة: وهي أن يكون التصرف المعقود عليه عقد الشركة قابلاً للوكالة (¬3)؛ لأن من حكم الشركة: ثبوت الاشتراك في الربح المستفاد بالتجارة، ولا يصير المستفاد بالتجارة مشتركاً بينهما، إلا أن يكون كل واحد منهما وكيلاً عن صاحبه في بعض أموال الشركة، وعاملاً لنفسه في البعض الآخر. وبناء عليه ¬
2 - أن يكون الربح معلوم القدر بجزء محدد
تتطلب الشركة أن يأذن كل شريك لصاحبه في التصرف بالشراء والبيع وتقبل الأعمال، والوكيل هو المتصرف بإذن غيره. وبما أن الشركة على اختلاف أنواعها تتضمن معنى التوكيل، أي وكالة كل شريك عن صاحبه، فيشترط في الشركة قابلية الوكالة، وأن يكون كل شريك أهلاً للوكالة والتوكيل. ومالا يجوز التوكيل فيه عند الحنفية خلافاً للجمهور: هو الاستيلاء على المباحات. 2 - أن يكون الربح معلوم القدر بجزء محدد: أي بحيث تكون حصة كل شريك من الربح نسبة معلومة منه، كخمسه أو ثلثه أو عشرة في المئة، فإن كان الربح مجهولاً تفسد الشركة؛ لأن الربح هو المعقود عليه، وجهالة المعقود عليه تستوجب فساد العقد. 3 - أن يكون الربح جزءاً شائعاً في الجملة لا معيناً: فإن عينا ربحاً معيناً لأحدهما كعشرة أو مئة، كانت الشركة فاسدة؛ لأن العقد يقتضي تحقق الاشتراك في الربح، ومن الجائز ألا يتحقق الربح إلا في القدر المعين لأحد الشريكين، فكان التعيين منافياً لمقتضى عقد الشركة. ثانياً ـ الشروط الخاصة بعقود شركات الأموال: يشترط في شركات الأموال شروط خاصة بها، سواء أكانت الشركة عناناً أم مفاوضة، وهي (¬1): 1 - أن يكون رأس مال الشركة عيناً حاضرة، إما عند العقد أو عند الشراء، وهو رأي جمهور الفقهاء: فلا يجوز أن يكون رأس المال ديناً ولا مالاً غائباً؛ لأن المقصود من الشركة الربح، وهو يتم بواسطة التصرف، والتصرف لا يمكن في ¬
هل يشترط خلط المالين؟
الدين ولا في المال الغائب، فلا يتحقق المقصود من الشركة، ولأن المدين ربما لا يدفع الدين، وقد لا يحضر الغائب. وعلى هذا: لو دفع إنسان لآخر ألف درهم، وقال له: أخرج مثلها، واشتر بها وبع، فما ربحت يكون بيننا، فأخرج ألفاً واشترى بها، جاز، وإذن فالمهم هو حضور المال عند الشراء، ولا يشترط عند العقد؛ لأن الشركة تتم بالشراء، فيطلب الحضور عندئذ. هل يشترط خلط المالين؟ قال الجمهور (وهم الحنفية والمالكية والحنابلة) (¬1): لا يشترط خلط المالين، لأن الشركة يتحقق معناها بالعقد لا بالمال، ومورد العقد هو العمل، والربح نتيجته والمال تبع، فلا يشترط خلط المال كالمضاربة، ولأن الشركة عقد على التصرف، ففيها معنى الوكالة، والوكالة جائزة في المالين قبل خلطهما، فتجوز الشركة كذلك (¬2)، فإن الشركاء إذا صرحوا بأن يشتري أحدهم بهذه الدراهم، والآخر بهذه الدنانير على أن المشترى بينهما صح. إلا أن المالكية قالوا: إن عدم اشتراط اختلاط المالين لا يعني عزلهما من كل الوجوه، بل لا بد من أن يكون الخلط إما حساً أو حكماً، مثل أن يكون المالان في صندوق واحد، وأيديهما مطلقة عليهما. ¬
زفر والشافعية والظاهرية والزيدية والإمامية
وقال زفر والشافعية والظاهرية والزيدية والإمامية: يشترط خلط المالين بحيث لا يتميز أحدهما عن الآخر، ولا بد من كون الخلط قبل العقد، فإن وقع بعده لم يكف في الأصح؛ لأن الشركة تعني الاختلاط، والاختلاط لا يتحقق مع تميز المالين، فلا يتحقق معنى الشركة، ولأن من أحكام الشركة أن الهلاك يكون من المالين، وإذا هلك أحد المالين قبل الخلط يهلك على صاحبه وحده، وهذا ليس من مقتضى الشركة (¬1). ويترتب على هذا الخلاف: أن الشركة تصح عند الجمهور إذا كان المالان من جنسين مختلفين كدراهم ودنانير، أو من جنس واحد لكن بصفتين مختلفتين كحنطة جديدة وحنطة عتيقة، أو بيضاء وسوداء، أو بيضاء وحمراء، إذ لا يشترط عندهم خلط المالين. ولا يصح ذلك عند الشافعية وزفر، لإمكان التمييز وإن كان فيه عسر، لأنه يشترط خلط المالين خلطاً تاماً بحيث يتعذر التمييز بين المالين، وهو لا يتحقق في مختلفي الجنس أو الصفة. قال ابن رشد المالكي: «والفقه أن بالاختلاط يكون عمل الشريكين أفضل وأتم؛ لأن النصح يوجد منه لشريكه كما يوجد لنفسه» (¬2). 2 - أن يكون رأس مال الشركة أثماناً مطلقة (¬3) أي نقوداً وهي الدراهم والدنانير في الماضي، والنقود المتداولة الآن. وهذا الشرط عند جمهور العلماء (¬4) ¬
فلا تجوز الشركة في العروض (¬1) من عقار أو منقول، لأنها ليست من ذوات الأمثال، وإنما هي من ذوات القيمة التي تختلف باختلاف أعيانها، والشركة فيها تؤدي إلى جهالة الربح عند قسمة مال الشركة؛ لأن رأس المال يتكون من قيمة العروض لا عينها، والقيمة مجهولة؛ لأنها تعرف بالحزر والظن، وهو يختلف باختلاف التقويم، فيصير الربح مجهولاً؛ فيؤدي إلى المنازعة عند القسمة. ثم إن الشركة تتضمن الوكالة، والوكالة لا تصح في العروض، فلو قال شخص لغيره: بع عرضك (أي متاعك أو دارك) على أن يكون ثمنه بيننا، لا يجوز إذ الولاية عليه له وحده دون غيره، أما لو قال: اشتر بألف درهم من مالك على أن ما اشتريته يكون بيننا، وأنا أشتري بألف درهم من مالي على أن ما أشتري يكون بيننا، جاز؛ لأن الشركة تكون في النقود. وقال الإمام مالك: لا يشترط كون رأس مال الشركة نقداً، وإنما تصح الشركة في الدراهم والدنانير، كما تصح في العروض سواء اتفقا جنساً أو اختلفا، وتكون الشركة في العروض مقدرة بقيمتها، ودليله أن الشركة عقدت رأس مال معلوم، فأشبه النقود (¬2). ويترتب على هذا الشرط عند الحنفية في الرواية الراجحة، وعند الحنابلة: أنه لا تصح الشركة في التبر (أي ما لم يضرب من الذهب والفضة) والنُقرة (أي القطعة المذابة من الذهب أو الفضة) بناء على أنه كالعروض. أما في الرواية الأخرى عند الحنفية فتجوز الشركة فيه؛ لأنه كالأثمان المطلقة، والمدار على تعامل الناس به، فإذا تعاملوا به فحكمه حكم النقود، وإن لم يتعاملوا ¬
الفلوس
به فحكمه حكم العروض. وأما الشافعية فقد أجازوا الشركة فيه؛ لأنهم عدوه من المثليات (¬1). وأما الفلوس (¬2): فلا تجوز الشركة فيها في الرواية المشهورة عن أبي حنيفة وأبي يوسف، لأنها إذا كانت كاسدة فهي كالعروض، وإن كانت نافقة (أي رائجة) فهي ليست أثماناً مطلقة عندهما (أي لا تلازمها صفة الثمنية) لأنها تتعين بالتعيين في الجملة، وتصير مبيعاً باصطلاح العاقدين. وإذا لم تكن أثماناً مطلقة لاحتمالها التعيين بالجملة في عقود المعاوضات، لم تصلح رأس مال الشركة كسائر العروض. وهذا هو رأي الشافعية والحنابلة وابن القاسم من المالكية؛ لأنها تنفق مرة وتكسد مرة أخرى فأشبهت العروض. وقال محمد: يصح أن تكون الفلوس الرائجة رأس مال الشركة؛ لأنها بحسب الأصل عنده تعتبر من الأثمان المطلقة، لأن الثمنية لازمة لها (¬3). وأما الشركة في المثليات التي ليست بأثمان مطلقة من المكيل والموزون والعددي المتقارب كالجوز والبيض: فتصح الشركة فيها عند الشافعية والمالكية؛ لأن الشافعية جعلوا العدديات المتقاربة من المثليات فتصح الشركة فيها على الأظهر عندهم؛ ولأن المكيل أو الموزون إذا اختلط بجنسه ارتفع التمييز بينهما، فأشبه النقدين. وأما المالكية فأجازوا الشركة فيها بحسب قيمتها عند الخلط، لا قيمتها عند البيع، كما في العروض؛ لأن خلط الطعامين مثلاً يجعل من المتعذرفصلهما بخلاف العروض، فإنه يمكن تمييز كل عرض عن غيره (¬4). ¬
وقال الحنابلة: لا تجوز الشركة في ظاهر المذهب في المكيل والموزون والعدديات المتقاربة، كما لا تجوز في سائر العروض (¬1). وقال الحنفية والشيعة الإمامية والزيدية: لا تجوز الشركة في المكيلات والموزونات والعدديات المتقاربة قبل الخلط؛ لأنها إنما تتعين بالتعيين إذا كانت عيناً، فكانت كالعروض، فهي ليست أثماناً مطلقة، مع العلم بأن شرط جواز الشركة أن يكون رأس المال مما لا يتعين بالتعيين، فلو قال شخص لغيره: بع حنطتك على أن يكون ثمنها بيننا لم يجز، وأما بعد الخلط: فإن كانت الشركة في جنسين مختلفين كالحنطة والأرز والشعير فلا تجوز، وإن كانت من جنس واحد فلاتصح أيضاً عند أبي يوسف، وإنما تصير شركة أملاك. وقال أبو حنيفة ومحمد: تصح الشركة فيها بعد الخلط، فيكون مذهب الحنفية قريباً من مذهب الشافعية. وتظهر فائدة الخلاف عند التساوي في المالين واشتراط التفاضل في الربح، بأن كان المكيل نصفين بين شريكين، ولكنهما شرطا أن يكون الربح أثلاثاً، فخلطاه، واشتريا به، فعلى قول أبي يوسف: يكون الربح بينهما على قدر المالين نصفين. وعلى قول محمد: يكون الربح بحسب ما شرطا. وجه قول أبي يوسف: هو أنه متمشٍ مع الأصل الذي بنى عليه الحنفية عدم جوازالشركة في المكيلات والموزونات ونحوها قبل الخلط: وهو أنها ليست أثماناً مطلقة على كل حال، بل قد تكون تارة ثمناً، وتارة مبيعاً؛ لأنها تتعين بالتعيين في الجملة فكانت كالفلوس، وشرط جواز الشركة ألا يكون رأس المال مما يتعين بالتعيين. ¬
ثالثا ـ الشروط الخاصة بشركة المفاوضة
ووجه قول محمد: هو أن معنى الوكالة التي تتضمنها الشركة ثابت في هذه الأشياء بعد الخلط، فأشبهت الدراهم والدنانير، بخلاف ما قبل الخلط؛ لأن الوكالة التي هي من مقتضيات الشركة لا تصح في هذه الأشياء قبل الخلط. والحيلة عند أبي يوسف في جواز الشركة بهذه الأشياء: أن يخلط المالان حتى تصير شركة ملك بينهما، ثم يعقدا عليهما عقد الشركة (¬1). ثالثاً ـ الشروط الخاصة بشركة المفاوضة: اشترط الحنفية شروطاً خاصة بشركة المفاوضة وهي (¬2): 1 - أن يكون لكل من الشريكين أهلية الوكالة والكفالة: بأن يكونا حرين بالغين عاقلين راشدين؛ لأن من أحكام المفاوضة أن ما يلزم أحدهما من الحقوق والواجبات فيما يتجران فيه يلزم الآخر، ويكون كل واحد منهما فيما وجب على صاحبه بمنزلة الكفيل عنه، كما أنه يكون كل واحد منهما فيما وجب لصاحبه بمنزلة الوكيل. 2 - المساواة في رأس المال قدراً وقيمة ابتداء وانتهاء، في الرواية المشهورة: فلو كان المالان متفاضلين قدراً لم تكن مفاوضة؛ لأن المفاوضة تنبئ عن المساواة فلابد من اعتبار المساواة فيها ما أمكن. وإذا كان المالان متفاضلين قيمة في الرواية المشهورة، كأن تفاضل النقدان في قيمة الصرف لم تجز المفاوضة؛ لأن زيادة القيمة بمنزلة زيادة في الوزن، فلا تثبت المساواة التي هي من مقتضى العقد. ¬
3 - أن يكون كل ما يصلح أن يكون رأس مال للشركة لأحد المتفاوضين داخلا في الشركة
3 - أن يكون كل ما يصلح أن يكون رأس مال للشركة لأحد المتفاوضين داخلاً في الشركة (¬1): فإن لم يكن داخلاً في الشركة لم تكن مفاوضة؛ لأن ذلك يتنافى مع مبدأ المساواة. أما ما لا تصلح فيه المفاوضة كالعروض والعقارات والديون والأموال الغائبة، فلا تلزم المشاركة فيه كالتفاضل في الزوجات والأولاد. ولا تشترط المجانسة في المال ما دامت القيمة متحدة خلافاً للزيدية. وعليه إذا كان رأس مال أحدهما ذهباً ورأس مال الآخر فضة، وهما متساويان قيمة، صحت المفاوضة على أشهر الروايتين. كذلك لا يشترط كما ذكر اختلاط المالين خلافاً لزفر. 4 - المساواة في الربح في المفاوضة: فإن شرطا التفاضل في الربح لم تكن مفاوضة لعدم المساواة. 5 - أن تكون المفاوضة في جميع التجارات المباحة: فلا يختص أحد الشريكين بتجارة دون شريكه؛ لأن في الاختصاص إبطالاً لمعنى المفاوضة: وهو المساواة. وعلى هذا: يفهم سبب اشتراط أبي حنيفة ومحمد أن تكون المفاوضة بين مسلمين، فلا تصح بين مسلم وكافر؛ لأن الكافر الذمي مثلاً يختص بتجارة لا تجوز للمسلم: وهي تجارة الخمر والخنزير. وقال أبو يوسف: تجوز المفاوضة بين مسلم وكافر، لاستوائهما في أهلية الوكالة والكفالة. ¬
6 - أن تكون الشركة بلفظ المفاوضة
6 - أن تكون الشركة بلفظ المفاوضة: لأن للمفاوضة شرائط لا يجمعها إلا لفظ المفاوضة أو عبارة أخرى تقوم مقامها. هذه هي شروط شركة المفاوضة، فإذا فقد شرط منها انقلبت الشركة عناناً؛ لأن شركة العنان لا تتطلب هذه الشروط (¬1). فلا يشترط في شركة العنان أهلية الكفالة، فتصح ممن لا تصح منه الكفالة، كالصبي المأذون بالتجارة، ولا المساواة في رأس المال، فتجوز مع تفاضل الشريكين في رأس المال، وأن يكون لأحدهما مال آخر لم يدخل في عقد الشركة. ولا يشترط أن تكون في عموم التجارات، فتجوز أن تكون عامة أو خاصة ببعض أنواع التجارة كالحبوب والأقمشة والحديد ونحوها، كما أنها تجوز بين المسلم والذمي؛ لأنه لا تشترط المساواة في شركة العنان. كما لا يشترط التساوي في الربح، فيجوز تفاضلهما وتساويهما فيه. قال أستاذ نا الشيخ علي الخفيف: والواقع أن شركة المفاوضة على ما ذهب إليه الحنفية والزيدية لا تعد شركة واقعية، وليس لوجودها بقاء إذا ما وجدت، فإن اشتراط تساوي أموال الشركاء في القيمة، وعدم اختصاص كل شريك بمال يصلح أن يكون رأس مال للشركة في جميع مراحل وجودها لا يبقي عليها زمناً طويلاً. فإن استمرار كل شريك على ما كان له من نقود عند تكوينها وعدم زيادتها بعد ذلك، أمر يكاد أن يكون أمراً عسيراً (¬2). ¬
رابعا ـ شروط شركة الأعمال
رابعاً ـ شروط شركة الأعمال: إذا كانت شركة الأعمال مفاوضة، فيشترط فيها شرائط المفاوضة السابق ذكرها، مثل أهلية الكفالة، والتساوي في الأجر، ومراعاة لفظ المفاوضة. أما إذا كانت الشركة عناناً، فلا يشترط لها شيء من شروط المفاوضة وإنما تشترط أهلية الوكالة فقط. قال أبو حنيفة: ما تجوز فيه الوكالة تجوز فيه الشركة، ومالا تجوز فيه الوكالة لا تجوز فيه الشركة. وإذا احتاجت الصنعة إلى استعمال آلة، فاستعملها أحد الشريكين فلا يؤثر ذلك في ثبوت الشركة، وهذا بشرط ألا يكون من عمله إجارتها لغيره. أما إذا أجرها فإن أجرتها تكون له خاصة، لا مشتركة، لأنها مقابل استعمال آلة مملوكة له، فكانت مختصة به. وبناء عليه تفسد الشركة بين رجلين لأحدهما بغل وللآخر بعير على أن يؤجرهما، كما سيذكر في بحث الشركة الفاسدة، وهذا ما ذهب إليه الحنفية والحنابلة (¬1). خامساً ـ شروط شركة الوجوه: إذا كانت شركة الوجوه مفاوضة، فيشترط أن يكون الشريكان من أهل الكفالة، وأن يلتزم كل منهما بنصف ثمن الشيء المشترى، وأن يكون المشترى بينهما نصفين، وأن يكون الربح بينهما نصفين، وأن يتلفظا بلفظ المفاوضة؛ لأن هذه الشركة قائمة على المساواة التامة بين الشريكين. وأما إذا كانت الشركة عناناً، فلا تشترط الشروط المذكورة في المفاوضة، فيصح تفاضلهما في الشيء المشترى، ويكون التزامهما بثمن المشترى على قدر ¬
المطلب الثالث ـ أحكام شركة العقود
ملكيهما، كما يكون الربح بينهما على قدر تحملهما ثمن المشترى، فإذا شرط لأحدهما زيادة ربح على حصته يكون الشرط باطلاً؛ لأن الربح يتقدر بقدر ضمانهما ثمن المشترى (¬1). المطلب الثالث ـ أحكام شركة العقود شركة العقود إما أن تكون صحيحة أو فاسدة. فإن كانت فاسدة: وهي التي اختل فيها شرط من شرائط الصحة السابق ذكرها، فلا تفيد شيئاً مما سيذكر في أحكام الشركة (¬2) الصحيحة. وفي الجملة قال الحنفية والشافعية والحنابلة: إن فسدت الشركة يقتسمان الربح على قدر رأس أموالهما، ويرجع كل شريك على الآخر بأجرة عمله في ماله؛ لأن المسمى يسقط في العقد الفاسد (¬3). وأما الشركة الصحيحة: وهي التي استوفت شروط صحتها، فيعرف حكمها بحسب كل نوع من أنواع الشركة، كما يتبين مما يأتي. أولاً ـ أحكام شركة العنان في الأموال: 1 - شرط العمل: يجوز في شركة العنان أن يشترط الشريكان العمل عليهما أو على أحدهما دون الآخر، كأن يشترط على أن يبيعا ويشتريا على أن ما رزق الله من التجارة فهو بينهما على شرط كذا، أو أن يبيع ويشتري أحدهما دون الآخر. ¬
2 - توزيع الربح
2 - توزيع الربح: وأما الربح فيكون على قدر رأس المال متساوياً أو متفاضلاً، فإن كان رأس المال متساوياً بينهما (أي مناصفة) يكون الربح بينهما متساوياً، سواء شرط العمل عليهما أو على أحدهما؛ لأن استحقاق الربح عند الحنفية إما بالمال أو بالعمل أو بالتزام الضمان (¬1)، وقد وجد التساوي في رأس المال، فينبغي التساوي في الربح. ويصح أيضاً عند الحنفية ما عدا زفر أن يتفاضل الشريكان في الربح حالة التساوي في رأس المال، بشرط أن يكون العمل عليهما أو على الذي شرط له زيادة الربح؛ لأن الربح كما قالوا يستحق إما بالمال أو بالعمل أو بالضمان، وزيادة الربح في هذه الحالة كانت بسبب زيادة العمل؛ لأنه قد يكون أحد الشريكين أحذق وأهدى وأكثر عملاً وأقوى، فيستحق زيادة ربح على حساب شريكه، لحديث: «الربح على ما شرطا، والوضعية على قدر المالين» (¬2). وإن شرط العمل على أقلهما ربحاً، فلا تجوز الشركة؛ لأنه شرط لأحد الشريكين زيادة ربح بغير عمل ولا ضمان، والربح لا يستحق إلا بمال أو عمل أو ضمان. وكذلك لا تصح الشركة إذا شرط جميع الربح لأحد الشريكين، ويلاحظ أنه ليس المراد بالعمل وجوده، وإنما يكفي شرط العمل (¬3). ¬
االخسارة
ورأي الحنابلة والزيدية كالحنفية: يجوز أن يتفاضل الشريكان في الربح (¬1). وأم االخسارة فهي على قدر رأس المال باتفاق المذاهب. وقال المالكية والشافعية والظاهرية والإمامية وزفر من الحنفية: يشترط لصحة شركة العنان أن يكون الربح والخسران على قدر المالين، أي نسبتهما؛ لأن الربح نماء مالهما والخسران نقصان ما لهما، فكانا على قدر المالين، أي أن الربح يشبه الخسران، فكما أنه لو اشترط أحد الشريكين أن يتحمل فقط جزءاً من الخسران لم يجز، كذلك إذا اشترط جزءاً من الربح زائداً عن رأس ماله لا يجوز، فكان الربح والخسران تابعين للمال. ويترتب عليه أنه لو شرط الشريكان التفاضل في الربح والخسران مع تساوي المالين، أو التساوي في الربح أو الخسران مع تفاضل المالين لم يصح العقد؛ لأنه شرط ينافي مقتضى الشركة، فلم يصح، كما لو شرط أن يكون الربح لأحدهما (¬2). 3 - هلاك مال الشركة: قال الحنفية والشافعية: إذا هلك مال الشركة أو أحد المالين قبل الشراء وقبل الخلط، بطلت الشركة؛ لأن المعقود عليه في عقد الشركة هو المال، وقد تعينت الشركة فيه، وإذا هلك المعقود عليه يبطل العقد، كما في البيع. هذا إذا هلك المالان. وأما بطلان العقد حال هلاك أحد المالين، فلأن الشريك الذي لم يهلك ماله، ما رضي بشركة صاحبه في ماله إلا ليشركه في ماله، فإذا فات المقصود لم يكون راضياً بشركته، فيبطل العقد لعدم فائدته، وأي مال هلك يهلك من مال صاحبه. وهذا بخلاف ما بعد الخلط حيث يهلك على الشركة. ¬
4 - التصرف بمال الشركة
وإن اشترى أحد الشريكين بماله، وهلك مال الآخر بعد الشراء، فيكون ما اشتراه بينهما؛ لأنه اشتراه حالة قيام الشركة، فيصبح مملوكاً للشريكين، فهلاك المال بعدئذ لا يغير حكم المالك، وإذا وقع المشترى على الشركة يرجع الشريك على شريكه بحصته من الثمن، لأنه اشترى نصفه بوكالته، ونقد الثمن من مال نفسه (¬1). وقال المالكية والحنابلة: تنشأ الشركة بمجرد العقد ويصير به رأس المال مشتركاً بين الشركاء. فإذا هلك أحد المالين قبل الخلط أو قبل التصرف يهلك على حساب الشركاء (¬2). 4 - التصرف بمال الشركة: لكل واحد من شريكي العنان أن يبيع مال الشركة؛ لأنهما بعقد الشركة أذن كل واحد لصاحبه ببيع مال الشركة، ولأن الشركة تتضمن الوكالة، فيصير كل واحد من الشريكين وكيلاً عن صاحبه بالبيع. ولكل شريك أن يبيع مال الشركة بالنقد والنسيئة (أي بالدفع حالاً أو مؤجلاً) لأنه وجد الإذن بالبيع مطلقاً بمقتضى الشركة، ولأن الشركة تنعقد على عادة التجار، ومن عادتهم البيع نقداً ونسيئة. ولا يجوز البيع نسيئة عند الشافعية. وعند الحنابلة فيه روايتان، أرجحهما أنه يجوز البيع نسيئة (¬3). وللشريك أن يبيع بقليل الثمن وكثيره إلا بما لا يتغابن الناس في مثله؛ لأن المقصود من العقد وهو الاسترباح لا يحصل به، فكان مستثنى من العقد دلالة. ¬
آـ إبضاع مال الشركة وإيداعه
وللشريك أيضاً أن يشتري بالنقد وبالنسيئة إذا كان في يده نقود (دراهم أو دنانير) أو مكيل أو موزون، فاشترى بالدراهم والدنانير شيئاً نسيئة، أو اشترى بالمكيل أو الموزون شيئاً نسيئة؛ لأن الشريك وكيل بالشراء، والوكيل بالشراء يملك الشراء بالنسىئة، ولأنه يمكنه حينئذ وفاء الثمن مما تحت يده من هذا المال في الحال. فإن لم يكن في يده دراهم ولا دنانير، وصار رأس مال الشركة كله أعياناً وأمتعة، فاشترى بدراهم أو بدنانير شيئاً نسيئة، فيكون المشترى له خاصة دون شريكه؛ لأنه لو صح في حق شريكه صار مستديناً على مال الشركة، والشريك لايملك الاستدانة على مال الشركة من غير أن يؤذن له بها، كالشريك المضارب؛ لأنه يصير رأس مال الشركة أكثر مما رضي الشريك بالمشاركة فيه، فلا يجوز من غير رضاه (¬1). وأذكر هنا أهم أنواع التصرفات: آـ إبضاع مال الشركة وإيداعه: للشريك أن يبضع (¬2) مال الشركة؛ لأن الشركة تنعقد على عادة التجار، والإبضاع من عاداتهم، ولأن له أن يستأجر على العمل في البضاعة بأجر، فيكون الإبضاع أولى، إذ أن من يملك الأعلى يملك الأدنى، وللشريك أيضاً أن يودع مال الشركة؛ لأن الإيداع من عادة التجار، ومن ضرورات التجارة أيضاً. ¬
ب ـ المضاربة بمال الشركة
وخالف الشافعية في ذلك، وللحنابلة في جواز الإبضاع روايتان. ب ـ المضاربة بمال الشركة: وللشريك أن يدفع المال إلى شخص للمضاربة فيه، وهو ظاهر الرواية عند الحنفية والأصح؛ لأن الشريك يملك أن يستأجر أجيراً يعمل في مال الشركة، فلأن يملك الدفع مضاربة أولى؛ لأن الأجير يستحق الأجر، سواء حصل في الشركة ربح أم لم يحصل، والمضارب لا يستحق شيئاً بعمله إلا إذا كان في المضاربة ربح، فلما ملك الاستئجار فلأن يملك الدفع مضاربة أولى. جـ ـ التوكيل بالبيع وبالشراء: وللشريك أن يوكل بالبيع؛ لأن التوكيل دون المضاربة، كما له أن يوكل بالشراء؛ لأن التوكيل بالبيع والشراء من أعمال التجارات، إذ التاجر لا يمكنه مباشرة جميع التصرفات بنفسه، فيحتاج إلى التوكيل، فكان التوكيل من ضرورات التجارة. د ـ الرهن والارتهان: وله بإذن شريكه أن يرهن متاعاً من الشركة بدين وجب بعقد مارسه وهو الشراء، وأن يرتهن بما باعه؛ لأن الرهن إيفاء الدين، والارتهان استيفاؤه، وأنه يملك الإيفاء والاستيفاء (¬1). هـ ـ الحوالة بثمن البضاعة: وله أن يقبل الحوالة بالثمن وأن يحيل؛ لأن الحوالة من أعمال التجارة؛ لأن التاجر يحتاج إليها لاختلاف الناس في الغنى والإعسار، فكانت الحوالة وسيلة إلى الاستيفاء، فكانت في معنى الرهن في التوثق للاستيفاء. وـ الالتزام بحقوق العقد: كل ما يتعلق بحقوق العقد من القبض وتسليم ¬
ز ـ السفر بمال الشركة
المبيع والخصومة (¬1) يلتزم بها الشريك الذي مارس العقد دون شريكه، فلو باع أحدهما شيئاً لم يكن للآخر أن يقبض شيئاً من الثمن، وكذلك كل دين لزم إنساناً بعقد مارسه أحدهما ليس للآخر قبضه، وللمدين أن يمتنع عن دفعه إليه؛ لأن القبض من حقوق العقد، وهي متعلقة بالعاقد، وليس لأحد الشريكين أن يخاصم في أمر صدر من شريكه كبيع أو إدانة؛ لأن الخصومة من حقوق العقد، وحقوق العقد تتعلق بالعاقد. ولو اشترى أحدهما شيئاً لا يطالب الآخر بالثمن، وليس للشريك قبض المبيع لما ذكر. ز ـ السفر بمال الشركة: أما السفر بمال الشركة فيجوز عند أبي حنيفة ومحمد في أصح الروايات والمالكية والحنابلة؛ لأن الإذن بالتصرف يثبت بمقتضى الشركة، والشركة صدرت مطلقة عن المكان، والمطلق يجري على إطلاقه إلا لدليل. وعند أبي يوسف والشافعي: لا يجوز له السفر إلا بإذن شريكه، لأن السفر له خطر، فلا يجوز في ملك الغير إلا بإذنه. ح ـ التبرع بمال الشركة أو الإقراض: ليس لأحد الشريكين أن يهب شيئاً من مال الشركة؛ لأن الهبة تبرع، وهو لا يملك التبرع على شريكه، كما ليس له أن يقرض شيئاً من مال الشركة؛ لأن القرض لا عوض له في الحال، فهو بمثابة التبرع، وهو لا يملك التبرع على شريكه (¬2). وخلاصة كلام الشافعية: أن الشريك يتصرف بلا ضرر كالوكيل، فلا يبيع ¬
ثانيا ـ أحكام شركة المفاوضة في الأموال
نسيئة بسبب الغرر، ولا بغير نقد البلد، ولا بغبن فاحش ولا يسافر بالمال ولا ببعضه بغير إذن؛ لأن الشركة في الحقيقة توكيل وتوكل. ثانياً ـ أحكام شركة المفاوضة في الأموال: إن كل ما ذكرمن الأحكام مما يجوز لأحد شريكي العنان أن يفعله، يجوز لأحد شريكي المفاوضة أن يفعله، وإذا فعله فهو جائز على شريكه؛ لأن المفاوضة أخص من العنان، وكذلك كل ما كان شرطاً لصحة العنان فهو شرط لصحة المفاوضة، وكل ما فسدت به شركة العنان تفسد به شركة المفاوضة؛ لأن المفاوضة عنان وزيادة. أما الأحكام الخاصة بشركةالمفاوضة فهي ما يأتي (¬1): 1 - الإقرار بالدين: يختص شريك المفاوضة بأنه يجوز إقراره بالدين على نفسه وعلى شريكه ويطالب المقر له أيهما شاء؛ لأن كل واحد منهما كفيل عن الآخر فيلزم المقر بإقراره ويلزم شريكه بكفالته. وكذلك يختص بجواز الرهن والارتهان على شريكه بدون إذن شريكه، خلافاً لما هو مقرر في شركة العنان. 2 - الالتزام بديون التجارة وما في معناها: ويختص أيضاً بأن كل ما وجب على كل واحد منهما من دين التجارة أو ما في معنى التجارة يجب على الآخر تحقيقاً للمساواة بينهما، وذلك كالالتزمات الثابتة بسبب عقود التجارة كثمن المبيع في البيع الصحيح، وقيمته في البيع الفاسد، ¬
3 - الالتزام بالكفالة المالية
وأجرة الشيء المأجور، أو ما في معنى التجارة كضمان الشيء المغصوب، وضمان الودائع والعواري (¬1) بسبب مخالفة طلب المودع في كيفية الحفظ، وضمان الاستهلاكات والإجارات والرهن والارتهان. والسبب في التزام كل شريك بدين التجارة: هو أنه دين بسبب الشركة؛ لأن من مقتضيات عقد الشركة وجود البيع أو التجارة، وكل شريك منها كفيل عن صاحبه فيما يلزمه بسبب الشركة. وأما ضمان الغصب فلأنه في معنى ضمان التجارة، لأن تقرر الضمان فيه يفيد تملك الشيء المضمون، فكان في معنى ضمان البيع. وأما المخالفة في الودائع والعواري والإجارات ونحوها فضمانها في معنى ضمان الغصب، لأنه من باب التعدي على مال الغير بغير إذن مالكه. 3 - الالتزام بالكفالة المالية: ويلتزم كل شريك بما يقوم به أحدهما من كفالة مالية عن شخص أجنبي عند أبي حنيفة؛ لأن الكفالة وإن كانت تبرعاً في مبدأ الأمر، فهي في النتيجة معاوضة لوجود معنى التمليك والتملك بين الكفيل والمكفول عنه، فيرجع الكفيل عن المكفول عنه بما كفل إذا كانت الكفالة بطلب منه. وقال الصاحبان: الكفالة لا تلزم الشريك، لأنه تبرع بدليل أنها لا تصح من الصبي، وتعتبر من ثلث التركة فقط إذا صدرت من الكفيل في حالة مرضه. 4 - المطالبة بحقوق عقد البيع والشراء: ويطالب كل شريك بكل ما يتعلق بحقوق عقد البيع والشراء، فلو اشترى أحد الشريكين شيئاً يطالب الآخر بالثمن، كما يطالب المشتري نفسه، وله أن ¬
5 - ضمان الجناية على الإنسان والمهر ونحوه والنفقة ونفقات المنزل
يقبض المبيع كما للمشتري نفسه، وله أن يرد المبيع على البائع إذا وجد فيه عيباً، وله حق المطالبة بالثمن عند استحقاق المبيع لغير البائع، وله إقامة البينة عند حصول منازعة على شيء، كما له أن يحلف الطرف المتنازع معه في حالة إنكاره العيب على عدم علمه به. 5 - ضمان الجناية على الإنسان والمهر ونحوه والنفقة ونفقات المنزل: أما أرش (¬1) الجنايات على الآدمي، والمهر، والنفقة، وبدل الخلع والصلح عن دم العمد، فلا يؤاخذ بها الشريك؛ لأن هذه الديون بدل عما لا يصح الاشتراك فيه، فلا يلزم إلا المباشر لسببها؛ لأن كل واحد لم يلتزم عن صاحبه بالعقد إلا بديون التجارة، وهذه الأشياء ليست متعلقة بالتجارة ولا بما في معنى التجارة، لعدم وجود معنى معاوضة المال بالمال. وكذلك كل ما يشتريه أحد الشريكين من طعام لأهله أو كسوة أو ما لا بد منه، ويشمل شراء بيت للسكنى، واستئجار للسكنى أو للركوب لحاجته كالحج وغيره، فهو كله جائز، وهو له خاصة استحساناً للضرورة؛ لأن ذلك مما لا بد منه، فكان مستثنى من المفاوضة، لأن المعلوم بدلالة الحال كالمشروط بالمقال. لكن للبائع أن يطالب بثمن المشتريات أي شريك شاء، وإن وقع المشترى للذي اشتراه خاصة، لأن هذا ما يجوز فيه الاشتراك، وكل واحد من الشريكين كفيل عن الآخر ببدل ما يجوز فيه الاشتراك، إلا أنهم قالوا: إن الشريك يرجع على شريكه بما أدى بقدر حصته؛ لأنه قضى ديناً عليه من مال مشترك بينهما لا على وجه التبرع بإذنه دلالة. ومقتضى القياس أن يكون ما اشتراه أحد الشريكين من الطعام والكسوة ¬
ثالثا ـ أحكام شركة الوجوه
والإدام لأهله مشتركاً بينهما؛ لأن هذه من عقود التجارة، فكانت من جنس ما يتناوله عقد الشركة. ثالثاً ـ أحكام شركة الوجوه: الشريكان في شركة الوجوه مفاوضة أوعناناً فيما يجب لهما وما يجب عليهما وما يجوز فيه فعل أحدهما على شريكه ومالا يجوز: هما بمنزلة شريكي العنان والمفاوضة في الأموال. فإذا أطلقا الشركة بينهما كانت شركة عنان؛ لأن الشركة المطلقة تقتضي العنان. وإذا اشتركا بوجوههما شركة مفاوضة فيجوز؛ لأنهما ضما إلى الوكالة المطلقة الكفالة، وهو جائز، إلا أنه لا بد من التساوي فيما يتبايعانه؛ لأن المفاوضة تمنع من التفاضل (¬1). ويلاحظ أن الحنابلة وإن أجازوا شركة الوجوه إلا أنهم قصروها على ما إذا كانت الشركة شركة عنان، أما إذا كانت الشركة شركة مفاوضة فلا تجوز عندهم مطلقاً، لأنها عقد لم يرد الشرع بمثله، لما فيه من الغرر، فلم يصح كبيع الغرر. ووجه الغرر كما تقدم: أنه يلزم كل واحد ما لزم الآخر، وقد يلزمه شيء لا يقدر على القيام به. رابعاً ـ أحكام شركة الأعمال: أـ إذا كانت شركة الأعمال مفاوضة: بأن ذكر لفظ المفاوضة أو ما هو في معنى المفاوضة، فيلزم كل شريك بما لزم صاحبه بسبب هذه الشركة، ويطالب به، ¬
ب- وإذا كانت شركة الأعمال عنانا
ويجوز إقرار أحد الشريكين بالدين كثمن صابون أو أشنان أو أجر أجير أو حانوت على نفسه، وعلى شريكه، وللمقر له أن يطالب بالدين أي شريك شاء؛ لأن كل واحد منهما كفيل عن صاحبه، فيلزم المقر بمقتضى إقراره، والشريك بسبب كفالته (¬1). ومثال شركة المفاوضة في الأعمال: أن يشترك صانعان مثلاً في أن يتقبل كل منهما الأعمال، وأن يضمنا جميعاً العمل على التساوي، وأن يتساويا في الربح والخسارة (أي الوضيعة)، وأن يكون كل واحد منهما كفيلاً عن صاحبه فيما لزمه بسبب هذه الشركة. ب- وإذا كانت شركة الأعمال عنانا ً: فما يتقبله كل شريك من العمل يلزمه ويلزم شريكه (¬2)، وهي تشبه شركة المفاوضة بالنسبة لضمان العمل استحساناً، فلصاحب العمل أن يطالب بالعمل أيهما شاء لوجوبه على كل واحد منهما، كما أنه لكل شريك أن يطالب صاحب العمل بكل الأجرة لأنه قد لزمه كل العمل، فكان له المطالبة بكل الأجرة، ويبرأ صاحب العمل بالدفع إلى أي شريك شاء. وأما القياس: فلا يحق لصاحب العمل أن يطالب بالعمل أي شريك شاء، كما أنه ليس للشريك الذي لم يتقبل العمل أن يطالب صاحب العمل بالأجرة، ووجه القياس ظاهر: وهو أن هذه الشركة هي شركة عنان، لا شركة مفاوضة، وحكم شركة العنان: أن ما يلزم كل شريك بعقده لا يطالب به الآخر. ووجه الاستحسان: أن هذه الشركة تقتضي وجوب العمل على كل واحد ¬
جـ ـ اقتسام الربح في هذه الشركة
من الشريكين، وإذا كانت كذلك كانت مقتضية وجوب ضمان العمل (¬1)، فكانت في معنى المفاوضة بالنسبة لوجوب الضمان عن الشريك الآخر، ولكنها ليست مفاوضة حقيقية، بدليل أن غير هذين الشيئين (وهما مطالبة كل واحد منهما بالعمل واقتضاء البدل) تطبق عليه أحكام شركة العنان. فإذا أقر أحد الشريكين بدين كثمن صابون أو أشنان صار مستهلكاً، وأقر بأجر أجير أو حانوت بعد مضي مدة الإجارة، فلا يصدق إقراره على صاحبه إلا بإقراره بنفسه أو بالبينة؛ لأن نفاذ الإقرار على الآخر من مقتضيات المفاوضة ولم ينصا عليها. أما إذا كان المشتري لم يستهلك أو المدة لم تمض، فإنه يلزمهما الدين بإقرار أحدهما، مما يدل على أنه ليس لهذه الشركة حكم المفاوضة من جميع الأوجه، وإنما من ناحية حق وجوب العمل فقط، فيكون كل شريك كفيلاً عن الآخر فيما تقبله من عمل. وهذا مذهب الحنابلة أيضاً (¬2). وأما الزيدية فإن هذه الشركة تتضمن عندهم التوكيل لا الكفالة على أصح القولين عندهم. جـ ـ اقتسام الربح في هذه الشركة: أما اقتسام الربح في هذه الشركة فيكون بحسب الضمان لا بالعمل حقيقة، فإذا عمل أحد الشريكين دون الآخر بأن مرض أو سافر فالأجر بينهما بحسب ما شرطا؛ لأن الأجر في هذه الشركة إنما يستحق بضمان العمل لا بالعمل فعلاً؛ لأن العمل قد يكون من نفس الشريك، وقد يكون من غيره كالخياط إذا استعان برجل على الخياطة، فإنه يستحق الأجر، وإن لم يعمل لوجود ضمان العمل منه، ويكفي اشتراط العمل عليهما. ¬
د ـ اقتسام الخسارة في هذه الشركة
ويجوز في هذه الشركة شرط التفاضل في الكسب إذا شرط التفاضل في ضمان العمل، بأن شرط لأحدهما ثلثي الكسب وهو الأجر، وللآخر الثلث، وشرطا العمل عليهما أيضاً، سواء عمل الذي شرط له الزيادة في الكسب أم لم يعمل؛ لأن استحقاق الأجرة في هذه الشركة بالضمان لا بالعمل. وإذا كان استحقاق أصل الأجر بأصل ضمان العمل لا بالعمل في الواقع، كان استحقاق زيادة الأجر بزيادة الضمان لا بزيادة العمل، فلو كان عمل الذي شرط له الأجر القليل أكثر جاز؛ لأن الربح بقدر ضمان العمل لا بحقيقة العمل. د ـ اقتسام الخسارة في هذه الشركة: وأما الوضيعة (¬1)، فهي أيضاً على قدر الضمان، حتى إنه لو شرط الشريكان أن ما يتقبلانه من أعمال: ثلثاه على أحدهما، وثلثه على الآخر، والخسارة بينهما نصفان، كان هذا الشرط العائد للخسارة باطلاً، والشركة جائزة على ما شرطا على كل واحد منهما من ضمان العمل؛ لأن الربح إذا انقسم على قدر الضمان، كانت الوضيعة على قدر الضمان أيضاً. ولو جنت يد أحدهما فالضمان عليهما جميعاً؛ لأن ضمان الجناية مبني على ضمان العمل، وهذا قد ضمناه جميعاً (¬2). ¬
المطلب الرابع ـ صفة عقد الشركة ويد الشريك
المطلب الرابع ـ صفة عقد الشركة ويد الشريك: أولاً ـ حكم لزوم الشركة: يرى جمهور الفقهاء أن عقد الشركة عقد جائز غير لازم (¬1)، فيجوز لكل شريك أن يفسخ العقد، إلا أن من شروط جواز الفسخ: أن يكون بعلم الشريك الآخر؛ لأن الفسخ من غير علم الشريك إضرار به، ولهذا لم يصح عزل الوكيل من غير علمه، وبما أن الشركة تتضمن الوكالة وعلم الوكيل بالعزل شرط جواز العزل، فيشترط العلم في الوكالة التي تضمنتها الشركة. وكون الشركة عقداً غير لازم عند المالكية هو كما ذكر ابن رشد في بداية المجتهد وفي المقدمات. لكن جاء في مختصر خليل وشراحه أن المذهب المشهور لزومها بالعقد، حصل خلط بين أموال الشركاء أم لا. وقال ابن عبد السلام: المذهب لزومها بالعقد، ولا يتوقف ذلك على الشروع فيها بالتصرف. وهذا رأي سحنون من فقهاء المالكية، ورجح بعضهم أنها تلزم بالشروع بالتصرف أو العمل، وهو رأي ابن القاسم وابن الحاجب. والخلاصة: إن الشركة في المذهب المعتمد لدى المالكية عقد لازم، وهو الذي استظهره الحطاب إذا كانت شركة أموال. أما شركة الأعمال فلا تلزم بالعقد بل بالعمل. ثانياً ـ يد الشريك يد أمانة: اتفق الفقهاء على أن يد الشريك في المال يد أمانة كالوديعة، لأنه قبض المال ¬
المطلب الخامس ـ مبطلات عقد الشركة
بإذن صاحبه، لا لأجل أن يدفع ثمنه كما في المقبوض على سوم الشراء، فإنه مقبوض لأجل أن يدفع الثمن، ولا لأجل التوثق به كما في الرهن، فإنه مقبوض لأجل التوثق بدينه، وبناء عليه فإنه إذا هلك المال في يد الشريك من غير تفريط لم يضمن؛ لأنه نائب عن شريكه في الحفظ والتصرف، فكان الهالك في يده كالهالك في يد شريكه. ويقبل قوله بيمينه في مقدار الربح والخسران وضياع بعض المال أو كله، ولو من غير تجارة. ويضمن بالتعدي أو التقصير، كما في سائر الأمانات (¬1). المطلب الخامس ـ مبطلات عقد الشركة: هناك مبطلات تعم كل الشركات، ومبطلات تخص بعضها دون بعض. فأما المبطلات التي تعم الشركات كلها فهي (¬2): 1 - فسخ الشركة من أحد الشريكين، لأنها عقد جائز غير لازم عند الجمهور، كما عرفنا، فكان محتملاً للفسخ. ولا تنفسخ عند المالكية إلا باتفاق الطرفين على الفسخ؛ لأنها عقد لازم عندهم. قال الحنابلة: من قال من الشركاء: عزلت شريكي، ولو لم ينض (¬3) المال انعزل، ويتصرف المعزول في قدر نصيبه. ولو قال: فسخت الشركة: انعزلا، فلا يتصرف كل شريك إلا في قدر نصيبه. ¬
2 - موت أحد الشريكين
2 - موت أحد الشريكين: إذا مات أحد الشريكين انفسخت الشركة لبطلان الملك، وزوال أهلية التصرف بالموت، سواء علم الشريك الآخر بالموت أو لم يعلم؛ لأن كل شريك وكيل عن صاحبه، وموت الموكل يكون عزلاً للوكيل علم به أو لم يعلم؛ لأن الموت عزل حكمي. 3 - ارتداد أحد الشريكين ولحوقه بدار الحرب، لأن ذلك بمنزلة الموت. 4 - جنون الشريك جنوناً مطبقاً؛ لأن بالجنون يخرج الوكيل عن الوكالة، وقد عرفنا أن الشركة تتضمن الوكالة. والإغماء مثل الجنون، ويقدر إطباق الجنون بشهر أو بنصف حول على الخلاف عند الحنفية. وأما المبطلات التي تخص بعض الشركات دون بعض فهي (¬1): 1 - هلاك مال الشركة كله أو مال أحد الشريكين قبل القيام بشراء شيء في شركة الأموال، سواء أكان المالان من جنسين أم من جنس واحد قبل خلط المالين. والسبب فيه هو أن المعقود عليه في عقد الشركة هو المال، والمال في الشركة يتعين بالتعيين (¬2)، وبهلاك المعقود عليه يبطل العقد كما في عقد البيع. هذا إذا هلك مال الشركة. ¬
أما إذا هلك أحد مالي الشريكين فتبطل الشركة أيضاً؛ لأن الشريك لم يرض بشركة صاحبه إلا ليشركه في ماله، فإذا هلك ماله لم يكن راضياً بشركته عند عقد الشركة، فيبطل العقد لعدم فائدته. ويهلك المال حينئذ على ذمة صاحبه، لأنه إذا كان المال في يده، فالأمر ظاهر، وإذا كان في يد صاحبه فإنه أمانة في يده كما عرفنا. فإن حصل الهلاك لمال شريك بعد خلطه بمال الشريك الآخر، فإنه يهلك على الشركة؛ لأنه لا يتميز عن غيره، فيجعل الهلاك من المالين. وكذلك إن اشترى أحد الشريكين بماله، وهلك مال الآخر بعد الشراء قبل أن يشتري به شيئاً، فإن المشترى يكون بين الشريكين بحسب ما شرطا؛ لأن تملك الشيء المشترى حيث حدث أي (بالشراء) حدث مشتركاً بينهما لقيام الشركة وقت الشراء، فلا يتغير حكم الشركة بهلاك مال الآخر بعدئذ. ثم الشركة الواقعة في هذا الشيء المشترى بعد هلاك مال الآخر شركة عقد عند الإمام محمد خلافاً للحسن بن زياد، فإنها شركة ملك عنده، فلا ينعقد بيع أحدهما إلافي نصيبه؛ لأن شركة العقد بطلت بهلاك المال كما لو هلك قبل الشراء بمال الآخر، ولم يبق إلا حكم الشراء وهو الملك، فكانت شركتهما في المتاع شركة ملك. وعلى قول محمد وهو الراجح: يجوز لأي منهما بيع كل المتاع، وينفذ بيعه، لأن الشركة قد تمت في المشترى، فلا تنتقض بهلاك المال بعد تمامها، كما لو كان الهلاك بعد الشراء بالمالين جميعاً. وإذا وقع الشيء المشترى على الشركة فيرجع المشتري على صاحبه بحصته من الثمن؛ لأنه اشترى نصفه له بوكالته، ونقد الثمن من ماله نفسه، فيرجع عليه بحسابه.
2 - عدم تحقق المساواة بين رأسي المال في شركة المفاوضة بعد وجودها في ابتداء العقد
وإن هلك مال أحد الشريكين ثم اشترى الآخر بماله الذي في يده ينظر: إن صرحا بالوكالة في عقد الشركة بأن نصا في العقد على أن (ما اشتراه كل منهما بماله هذا يكون مشتركاً بيننا) فالمشترى بينهما على ما شرطا؛ لأن الشركة إن بطلت فالوكالة المصرح بها قائمة، فتكون شركة ملك. وإن لم يصرحا بالوكالة في العقد وذكرا مجرد الشركة، كان المشترى للذي اشتراه خاصة؛ لأن الشركة لما بطلت بطل ما في ضمنها من الوكالة (¬1). 2 - عدم تحقق المساواة بين رأسي المال في شركة المفاوضة بعد وجودها في ابتداء العقد؛ لأن وجود المساواة بين المالين في ابتداء العقد شرط في انعقاد هذا العقد على الصحة، فيكون بقاء تلك المساواة شرطاً لبقاء هذه الشركة منعقدة؛ لأنها شركة مفاوضة، سواء في ابتداء العقد أم في أثناء بقائه. ويترتب على هذا إذا انعقدت شركة المفاوضة، وكان رأس المال متساوياً بين الشريكين، ثم ورث أحدهما مالاً تصح فيه الشركة من الدراهم والدنانير، وصار المبلغ في يده، فتبطل المفاوضة لبطلان المساواة التي هي معنى العقد. وكذا لو ازداد أحد المالين على الآخر قبل الشراء، بأن كان أحدهما دراهم، والآخر دنانير، فزادت قيمة أحدهما قبل الشراء، بطلت المفاوضة. المطلب السادس ـ الشركة الفاسدة عند الحنفية: عرفنا حكم الشركة الفاسدة، وأذكر هنا أنواع الشركة الفاسدة عند الحنفية وهي: ¬
أولا ـ الاشتراك في أعمال جميع المباحات التي تملك بالأخذ،
أولاً ـ الاشتراك في أعمال جميع المباحات التي تملك بالأخذ، مثل الاصطياد والاحتطاب والاحتشاش، والاستقاء، واجتناء الثمر، وحفر الأرض لاستخراج المعادن. فإن اشترك اثنان في تلك الأعمال على أن ما أصابا من المباح فهو بينهما، فالشركة فاسدة عند الحنفية، ولكل واحد منهما ما أخذه؛ لأن الشركة تتضمن معنى الوكالة، والتوكيل في أخذ المال المباح باطل؛ لأن أمر الموكل بأخذه غير صحيح، لعدم ملكه وولايته، والوكيل يملك أخذ المباح بدون توكيل، فلا يصلح الوكيل نائباً عن الموكل في المباح؛ لأن التوكيل إثبات ولاية لم تكن ثابتة للوكيل، وهذا غير متحقق ههنا، فإذا لم تثبت الوكالة لم تثبت الشركة. وإذا كانت الشركة في المباحات فاسدة، فيثبت الملك لكل واحد منهما بالأخذ، وإحراز المباح، ثم ينظر: آـ إن أخذاه جميعاً معاً، فهو بينهما نصفان، لاستوائهما في سبب الاستحقاق، فيستويان في الاستحقاق. ب ـ وإن أخذ كل واحد منهما شيئاً من المذكور على الانفراد، كان المأخوذ ملكاً له؛ لأن سبب ثبوت الملك في المباحات هو الأخذ والاستيلاء، وكل واحد منهما انفرد بالأخذ والاستيلاء فينفرد بالملك. جـ ـ وإن أخذ كل واحد منهما شيئاً على الانفراد، ثم خلطاه، وباعاه: فإن كان مما يكال أو يوزن يقسم الثمن بينهما على قدر الكيل والوزن الذي لكل واحد منهما. وإن كان مما لا يكال ولا يوزن، قسم الثمن بينهما بالقيمة، فيأخذ كل واحد منهما بقيمة الذي له؛ لأن المكيل والموزون من الأشياء المتماثلة، فتمكن قسمة الثمن بينهما على قدر الكيل والوزن، أما غير المكيل والموزون من الأشياء المتفاوتة، فلا تمكن قسمة الثمن بينهما بحسب العين، فيقسم بحسب القيمة.
وإن لم يعلم الكيل والوزن والقيمة، يصدق كل واحد منهما فيما يدعيه إلى النصف من المأخوذ، مع اليمين على دعوى صاحبه. فإن ادعى أكثر من النصف لا يقبل قوله إلا ببينة. د ـ وإن عمل أحدهما وأعانه الآخر في عمله، بأن قلعه أحدهما وجمعه الآخر، أو قلعه وجمعه أحدهما وحمله الآخر، فكله للعامل وللمعين أجر المثل بالغاً ما بلغ عند محمد؛ لأن المسمى مجهول، إذ لم يدر أي نوع من الحطب يصيبان، وأي قدر منه يجمعان، ولا يدريان أيضاً هل يصيبان شيئاً أو لا، والرضا بالمجهول لغو، فسقط اعتبار رضاه بالنصف للجهالة، وصار مستوفياً منافعه بعقد فاسد، فله أجر مثله بالغاً ما بلغ. وقال أبو يوسف: له أجر مثله على ألا يجاوز به نصف المسمى أو قيمته أي (نصف الشيء الذي أعانه فيه أو قيمته)؛ لأنه رضي بنصف مجموع ما سيأخذانه. وقاس حكمه على سائر الإجارات الفاسدة؛ لأنه لا يزاد على المسمى هناك، كذا الأمر هنا، والجامع بينهما: أنه رضي بأن لا يكون له زيادة على المسمى، فلا يستحق الزيادة، وصار حكمه كمن قال لرجل: (بع هذا الثوب على أن لك نصف ثمنه فباعه) كان له أجر المثل لا يجاوز به نصف الثمن (¬1). ويرى الجمهور في الأظهر عند الشافعية صحة الشركة في الاحتطاب والاحتشاش والاصطياد والاستقاء وما يؤخذ من الجبال والمعادن وشبهه من المباحات، لجواز التوكيل بها، فيحصل الملك للموكل إذا قصده الوكيل به؛ لأن ¬
ثانيا ـ من أنواع الشركات الفاسدة أن يكون لأحد الشريكين بغل وللآخر حمار
تملك المباحات أحد أسباب الملك، فأشبه الشراء، كما يقول الشافعية (¬1). ثانياً ـ من أنواع الشركات الفاسدة أن يكون لأحد الشريكين بغل وللآخر حمار مثلاً، فيشترك اثنان على أن يؤجر الدابتين، فما رزق الله من شيء يكون بينهما، فأجراهما جميعاً بأجر معلوم وحمل معلوم، فهذه الشركة فاسدة؛ لأن الشركة متضمنة معنى الوكالة، والوكالة على هذا الوجه لا تصح؛ لأن كل واحد منهما في المعنى موكل لصاحبه بأن يؤجر دابته ليكون نصف الأجر له، وهذا التوكيل باطل، كما إذا قال الرجل: (آجر بعيرك على أن أجره بيننا) فإن التوكيل فاسد، فكذا الشركة؛ لأن الوكالة والشركة يشتركان في معنى واحد: وهو أن التوكيل إنما يكون فيما لا يملك الوكيل مباشرته قبل التوكيل، وللمالك أن يبيع دابته ويؤجرها قبل التوكيل. فإذا لم يؤجرا دابتيهما، ولكنهما تقبلا حمولة معلومة ببدل معلوم، فحملا الحمولة عليهما، فالأجر على حسب الشرط؛ لأن الشركة حينئذ صحيحة، إذ أن الحمل صار مضموناً عليها بالعقد بمنزلة أي عمل يتقبلانه. غير أنه إذا فسدت الشركة فالإجارة صحيحة، لوقوعها على منافع معلومة ببدل معلوم، فيقسمان ما أخذا من الأجر على قدر مثل أجر البغل وأجر الحمار (¬2). وهناك مثال آخر: وهو أن يكون لاثنين سيارتان، فلا يصح لصاحبي هاتين السيارتين الاشتراك من أجل قسمة الربح الناتج من الحمولة من طريق إجارة السيارتين للناس؛ لأن كل واحد يختص بثمرة ما يملكه. ¬
ثالثا ـ من أنواع الشركة الفاسدة أن يدفع شخص إلى رجل دابة ليؤجرها على أن الأجر بينهما،
ولم يجز الشافعية (¬1) أيضاً هذه الشركة؛ لأنها تقوم على منافع أشياء متميزة، وعلى كل شريك لصاحبه أجرة مثل ماله. ثالثاً ـ من أنواع الشركة الفاسدة أن يدفع شخص إلى رجل دابة ليؤجرها على أن الأجر بينهما، فتكون الشركة فاسدة، والأجر كله أي (الربح) لصاحب الدابة؛ لأن المدفوع إليه هو وكيله في إجارتها، وإجارة الوكيل كإجارة الموكل. ومثله إيجار السفينة أو الدار. وسبب الفساد: هو أن العقد ورد على ملك الغير بإذنه، وإذا فسد العقد وجب للذي أجرها أي (العامل) أجر المثل؛ لأنه ابتغى عن منافع الدابة عوضاً، ولم ينل العوض لفساد العقد، فكان له أجر مثله. رابعاً ـ من أنواع الشركة الفاسدة أيضاً أن يشتري رجل شيئاً، فيقول له آخر: «أشركني فيه» فهذا بمنزلة البيع والشراء بمثل ما اشترى في النصف، فإن تم ذلك قبل أن يقبض المشتري الأول المبيع لم يجز الإشراك، لأن الإشراك والتولية كما عرفنا في عقود البيع لا يجوزان قبل القبض، ويكون العقد فاسداً؛ لأنه بيع لمبيع منقول قبل القبض، وهو لا يجوز كما عرفنا سابقاً. وإن كان ذلك بعد القبض جاز، ويُلْزِم ُالمشتري الشريك نصف الثمن، فإن كان الشريك لا يعلم بمقدار الثمن فهو بالخيار إذا علم: إن شاء أخذ حصته من المبيع وإن شاء ترك. ولو اشترى رجلان فرساً فأشركا فيها رجلاً بعد القبض فمقتضى القياس: أن يكون للشريك النصف؛ لأن كل واحد منهما لو أشركه في نصيبه على الانفراد استحق نصفه، فكذا إذا أشركاه جميعاً معاً. ¬
المبحث الثاني ـ شركة المضاربة
ومقتضى الاستحسان: أن يكون للشريك الثلث؛ لأن الشركة تقتضي المساواة، فإذا قالا للرجل: (أشركناك في الفر س) فكأنهما قالا: (شاركناك). فإن أشركه أحدهما في نصيبه ونصيب صاحبه، فأجاز شريكه قوله كان للشريك الجديد النصف، وللأولين النصف، لأنه لما أجاز شريكه في نصيبه صار نصف نصيبه له، وقد أشركه في نصيب نفسه هذا، فيكون مجموع ما استحقه الشريك الجديد هو النصف، وبقي لكل واحد منهما الربع. وكل شركة فاسدة يقسم الربح فيها على قدر رأس المال، ويبطل شرط التفاضل (¬1) كما عرفنا في حكم الشركة. المبحث الثاني ـ شركة المضاربة: المضاربة أو القراض أو المعاملة من أنواع الشركات. وهي في لغة أهل العراق تسمى مضاربة وفي لغة أهل الحجاز تسمى قراضاً، وهو مشتق من القرض وهو القطع؛ لأن المالك يقطع للعامل قطعة من ماله يتصرف فيها ويعطيه قطعة من الربح، أو مشتق من المقارضة: وهي المساواة لتساويهما في استحقاق الربح، أو لأن المال من المالك والعمل من العامل، وهي لهذا تشبه الإجارة؛ لأن العامل فيها يستحق حصته من الربح جزاء عمله في المال. وأهل العراق يسمون القراض مضاربة؛ لأن كلاً من العاقدين يضرب بسهم في الربح، ولأن العامل يحتاج إلى السفر، والسفر يسمى ضرباً في الأرض (¬2). ¬
المطلب الأول ـ تعريف المضاربة
والكلام عن هذا العقد في المطالب الخمسة الآتية: المطلب الأول ـ تعريف المضاربة ومشروعيتها وركنها وصفة عقدها. المطلب الثاني ـ شرائط المضاربة. المطلب الثالث ـ أحكام المضاربة. المطلب الرابع ـ حكم اختلاف رب المال والعامل المضارب. المطلب الخامس ـ مبطلات المضاربة. المطلب الأول ـ تعريف المضاربة ومشروعيتها وركنها ونوعاها وصفة عقدها: تعريف المضاربة: المضاربة: هي أن يدفع المالك إلى العامل مالاً ليتجر فيه، ويكون الربح مشتركاً بينهما بحسب ما شرطا (¬1). وأما الخسارة فهي على رب المال وحده، ولا يتحمل العامل المضارب من الخسران شيئاً وإنما هو يخسر عمله وجهده. وعرفها صاحب الكنز بقوله: هي شركة بمال من جانب، وعمل من جانب. ومحترزات التعريف الأول: هي أنه بكلمة (يدفع): تبين أن المضاربة لاتصح على منفعة كسكنى الدار، وأنها لا تصح على دين، سواء أكان على العامل أم على غيره. وبكلمة (الربح مشتركاً) تبين أن الوكيل ليس مضارباً. والسبب في اشتراك العاقدين في الربح: هو أن رب المال يستحق الربح بسبب ماله؛ لأنه نماء ماله، والمضارب يستحقه باعتبار عمله الذي هو سبب وجود الربح. ¬
مشروعية المضاربة
وعليه إذا شرط جميع الربح لرب المال كان العقد مباضعة، ولو شرط جميعه للمضارب كان قرضاً. مشروعية المضاربة: اتفق أئمة المذاهب على جواز المضاربة بأدلة من القرآن والسنة والإجماع والقياس، إلا أنها مستثناة من الغرر والإجارة المجهولة. أما القرآن: فقوله تعالى: {وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله} [المزمل:20/ 73] والمضارب: يضرب في الأرض يبتغي من فضل الله عز وجل، وقوله سبحانه: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} [الجمعة:10/ 62]. فهذه الآيات بعمومها تتناول إطلاق العمل في المال بالمضاربة. وأما السنة: فما روى ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «كان سيدنا العباس بن عبد المطلب إذا دفع المال مضاربة اشترط على صاحبه أن لا يسلك به بحراً، ولا ينزل به وادياً، ولايشتري به دابة ذات كبد رطبة، فإن فعل ذلك ضمن، فبلغ شرطه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأجازه» (¬1)، وروى ابن ماجه عن صهيب رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ثلاث فيهن البركة: البيع إلى أجل، والمقارضة، وخلط البر بالشعير للبيت لا للبيع» (¬2). وأما الإجماع: فما روي عن جماعة من الصحابة أنهم دفعوا مال اليتيم مضاربة (¬3) ولم ينكر عليهم أحد، فكان إجماعاً، وروي أن عبد الله وعبيد الله ابني ¬
عمر بن الخطاب رضي الله عنهما خرجا في جيش العراق، فلما قفلا مرا على عامل لعمر: وهو أبو موسى الأشعري، فرحب بهما وسهل، وقال: لو أقدر لكما على أمر أنفعكما به لفعلت، ثم قال: بلى ههنا مال من مال الله، أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين، فأسلفكما، فتبتاعان به متاعاً من متاع العراق، ثم تبيعانه في المدينة، وتوفران رأس المال إلى أمير المؤمنين، ويكون لكما ربحه. فقالا: وددنا، ففعل، فكتب إلى عمر أن يأخذ منهما المال، فلما قدما باعا وربحا، فقال عمر: أكل الجيش قد أسلف كما أسلفكما؟ فقال: لا. فقال عمر: ابنا أمير المؤمنين فأسلفكما!! فأدّيا المال وربحه، فأما عبد الله فسكت، وأما عبيد الله فقال: يا أمير المؤمنين، لو هلك المال ضمناه. فقال: أدياه، فسكت عبد الله، وراجعه عبيد الله، فقال رجل من جلساء عمر: يا أمير المؤمنين، لو جعلته قراضاً (أي لو عملت بحكم المضاربة: وهو أن يجعل لهما النصف، ولبيت المال النصف) فرضي عمر، وأخذ رأس المال ونصف ربحه، وأخذ عبد الله وعبيد الله نصف ربح المال (¬1).وأثبت ابن تيمية مشروعية المضاربة بالإجماع القائم على النص، فإن المضاربة كانت مشهورة بينهم في الجاهلية لا سيما قريش، فإن الأغلب كان عليهم التجارة، وكان أصحاب الأموال يدفعونها إلى العمال، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم قد سافر بمال غيره قبل النبوة، كما سافر بمال خديجة، والعير التي كان فيها أبو سفيان كان أكثرها مضاربة مع أبي سفيان وغيره، فلما جاء الإسلام أقرها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكان أصحابه يسافرون بمال غيره مضاربة، ولم ينه عن ذلك، والسنة: قوله وفعله وإقراره، فلما أقرها كانت ثابتة بالسنة (¬2). ¬
ركن المضاربة وألفاظها ونوعاها
وأما القياس: فالمضاربة قيست على المساقاة لحاجة الناس إليها، لأن الناس بين غني وفقير، والإنسان قد يكون له مال، لكنه لا يهتدي إلى أوجه التصرف والتجارة به، وهناك من لا مال له، لكنه مهتد في التصرفات، فكان في تشريع هذا العقد تحقيق للحاجتين، والله تعالى ما شرع العقود إلا لمصالح العباد ودفع حوائجهم (¬1). وحكمة مشروعية المضاربة: تمكين الناس من تنمية الأموال وتحقيق التعاون بينهم، وضم الخبرات والمهارات إلى رؤوس الأموال لتحقيق أطيب الثمرات. ركن المضاربة وألفاظها ونوعاها: ركن عقد المضاربة عند الحنفية: هو الإيجاب والقبول، بألفاظ تدل عليهما. فألفاظ الإيجاب: هي لفظ المضاربة والمقارضة والمعاملة، وما يؤدي معاني هذه الألفاظ بأن يقول رب المال: (خذ هذا المال مضاربة على أن ما رزق الله عز وجل من ربح فهو بيننا على كذا من نصف أو ربع أو ثلث أو غير ذلك من الأجزاء المعلومة). وكذا إذا قال: مقارضة أو معاملة، أو قال (خذ هذا المال واعمل به على أن مارزق الله من شيء فهو بيننا على كذا) ولم يزد على هذا فهو جائز، لأنه أتى بلفظ يؤدي معنى هذا العقد، والعبرة في العقود لمعانيها، لا لصور الألفاظ. وألفاظ القبول: هي أن يقول العامل المضارب: أخذت، أو رضيت أو قبلت، ونحوها. وإذا توافر الإيجاب والقبول انعقد العقد (¬2). ¬
نوعاها
وأركان المضاربة عند الجمهور ثلاثة: عاقدان (مالك وعامل) ومعقود عليه (رأس المال، والعمل والربح)، وصيغة (إيجاب وقبول) وعدها الشافعية خمسة: مال وعمل وربح (¬1) وصيغة وعاقدان. نوعاها: المضاربة نوعان: مطلقة ومقيدة (¬2): ف المطلقة: هي أن يدفع شخص المال إلى آخر بدون قيد، ويقول: «دفعت هذا المال إلىك مضاربة على أن الربح بيننا كذا مناصفة أو أثلاثاً، ونحو ذلك» أو هي أن يدفع المال مضاربة من غير تعيين العمل والمكان والزمان وصفة العمل ومن يعامله. والمقيدة: هي أن يعين شيئاً من ذلك أو أن يدفع إلى آخر ألف دينار مثلاً مضاربة على أن يعمل بها في بلدة معينة، أو في بضاعة معينة، أو في وقت معين، أو لا يبيع ولا يشتري إلا من شخص معين. وهذان النوعان الأخيران (حالة التأقيت وتخصيص شخص) جائزان عند أبي حنيفة وأحمد، وغير جائزين عند مالك والشافعي. وكذلك يجوز إضافتها إلى المستقبل عند الأولين ولا يجوز عند الآخرين كأن يقول رب المال: ضارب بهذا المال ابتداء من الشهر الآتي. وأما تعليق المضاربة على شرط كما إذا قال صاحب المال: إذا جاءك فلان بالدين الذي لي في ذمته (ومقداره ألف دينار) وسلمك إياه فضارب به، فقد أجازه الحنابلة والزيدية ولم يجزه الحنفية والمالكية والشافعية؛ لأن المضاربة تفيد تمليك جزء من الربح، والتمليك لا يقبل التعليق (¬3). ¬
صفة عقد المضاربة
ويشترط في المضاربة عند الشافعية والمالكية أن تكون مطلقة، فلا تصح مقيدة بنوع معين من التجارة، ولا بشخص معين، ولا ببلد معين. ولا يشترط تعيين مدة فيها، فإن عينت مدة لا يتمكن فيها العامل من المتاجرة، فسدت الشركة، وإن عينت مدة يتمكن فيها من التجارة، ثم منع العامل من الشراء، ولم يمنع من البيع، صح ذلك لتمكنه من الربح بالبيع. صفة عقد المضاربة: اتفق العلماء على أن عقد المضاربة قبل شروع العامل في العمل غير لازم، وأنه لكل من المتعاقدين فسخه. واختلفوا فيما إذا شرع العامل في المضاربة، فقال الإمام مالك: هو عقد لازم بالشروع، وهوعقد يورث، فإن المضارب إذا كان له بنون أمناء كانوا في المضاربة أو القراض مثل أبيهم، وإن لم يكونوا أمناء كان لهم أن يأتوا بأمين. وإن شرع العامل لا يفسخ العقد حتى ينض المال أي يتحول نقوداً لا عروضاً. وقال أبو حنيفة والشافعي وأحمد: العقد غير لازم، ولكل من العاقدين الفسخ إذا شاء، وليس هو عقداً يورث. ومرجع الخلاف بين الفريقين: أن الإمام مالك جعل العقد لازماً بعد الشروع في العمل لما يترتب على الفسخ من ضرر، فكان من العقود الموروثة. وأما الفريق الثاني فقد شبهوا الشروع في العمل بما قبل الشروع في العمل؛ لأن المضاربة تصرف في مال الغير بإذنه، فيملك كل واحد من العاقدين فسخ العقد، كما في الوديعة والوكالة (¬1). ¬
تعدد المضارب
ولكن الحنفية ومن وافقهم اشترطوا لصحة الفسخ وانتهاء المضاربة علم المتعاقد الآخر بالفسخ، كما في سائر أنواع الشركات، وأن يكون عند الحنفية رأس المال ناضاً أي نقوداً (¬1) وقت الفسخ، فإن كان من العروض من عقار أو منقول، لم يصح الفسخ عندهم. وقال الشافعية والحنابلة: إذا انفسخت المضاربة ورأس المال عروض، فاتفق المتعاقدان على بيعه أو قسمته جاز؛ لأن الحق لهما لا يعدوهما. وإن طلب العامل البيع، وأبى رب المال، أجبر رب المال على البيع؛ لأن حق العامل في الربح، وهو لا يحصل إلا بالبيع (¬2). تعدد المضارب: قال المالكية (¬3): إذا تعدد عامل القراض، فإن الربح يوزع عليهم على قدر العمل كشركاء الأبدان، أي فيأخذ كل منهما من الربح بقدر عمله، فلا يجوز أن يتساويا في العمل، ويختلفا في الربح، أو بالعكس، بل الربح على قدر العمل على المشهور. حكم الشركات القانونية الحديثة: إن شركات الأشخاص التجارية في القانون الوضعي وهي شركة التضامن وشركة التوصية البسيطة وشركة المحاصة تعتبر جميعها في الجملة من قبيل شركة المضاربة في الفقه الإسلامي مع اختلاف بعض الأحكام بين القانون والشريعة حسبما تقتضيه مصلحة الناس وطبيعة التطور. ففي شركة التضامن حيث يكون المال من جميع الشركاء، والعمل من بعضهم، يكون العامل مضارباً في مال غيره. وفي شركة التوصية البسيطة حيث ¬
المطلب الثاني ـ شرائط المضاربة
تتكون الشركة من شركاء متضامنين مسؤولين عن التزامات الشركة، وشركاء موصين تنحصر مسؤولية كل واحد فيما يقدمه من حصة في المال، تكون الشركة مضاربة في مال الموصين. وفي شركة المحاصة إذا سلمت الحصص لأحد الشركاء لاستثمارها، يكون هذا الشريك وكيلاً عنهم في استثمار هذا المال، وعمله في مال غيره يكون قراضاً (مضاربة). وكذلك شركات الأموال أو شركات المساهمة حيث يكون العمل في مالها عادة لغير أرباب الأموال فيها، تعد من قبيل القراض في هذه الحال. وكذلك الشركات ذات المسؤولية المحدودة التي لا يزيد عدد الشركاء فيها على خمسين شريكاً، يكون عمل المدير فيها قراضاً، كما يرى أستاذنا الشيخ علي الخفيف (¬1). والأدق أن يعتبر عمله من باب التوظف، فهو يعمل بأجر بحكم التوظف لا بحكم المشاركة. ولا مانع شرعاً في شركة المساهمة وشركة التضامن من اعتبار مدير الشركة أجيراً موظفاً على العمل، ولا مانع من وجود صفتي الشركة والإجارة في شيء واحد؛ لأن المنع من وجود عقدين أو شرطين في عقد يزول إذا زالت علته أو حكمته وهو عدم إثارة النزاع والخلاف، وعدم التنازع جرى عليه العرف والعادة، فلم يعد شرطاً مفسداً. وسأوضح ذلك قريباً. المطلب الثاني ـ شرائط المضاربة: يشترط لصحة المضاربة شروط في العاقدين وفي رأس المال وفي الربح: أما ما يشترط في العاقدين وهما رب المال والمضارب: فهو أهلية التوكيل والوكالة؛ لأن المضارب يتصرف بأمر رب المال، وهذا معنى التوكيل، ولا يشترط ¬
شروط رأس المال
كونهما مسلمين، فتصح المضاربة بين المسلم والذمي والمستأمن في دار الإسلام، والمذهب عند المالكية الكراهة بين مسلم وذمي إذا لم يعمل بمحرم كالربا. وأما شروط رأس المال فهي: أولاً ـ أن يكون رأس المال من النقود الرائجة أي الدراهم والدنانير ونحوها، كما هو الشرط في شركة العنان. فلا تجوز المضاربة بالعروض من عقار أو منقول عند جمهور العلماء، ولو كان المنقول مثلياً عند الحنفية والحنابلة، وأجازها ابن أبي ليلى والأوزاعي، وتنعقد حينئذ على قيمها عند انعقاد المضاربة. وحجة الجمهور أن رأس المال إذا كان عروضاً كان غرراً؛ لأن المضاربة تؤدي حينئذ إلى جهالة الربح وقت القسمة، إذ أن قيمة العروض تعرف بالحزر والظن، وتختلف باختلاف المقومين، والجهالة تفضي إلى المنازعة، والمنازعة تفضي إلى الفساد (¬1)، وللعامل حينئذ أجر مثله في ذمة رب المال. وكون القراض لا يجوز بالعروض عند المالكية مع جواز ذلك في شركة العنان، فلأن القراض رخصة يقتصر على ما ورد فيها. أما إذا كان رأس المال ما به تباع العروض، بأن دفع إنسان لآخر عروضاً، وقال: بعها واعمل بثمنها مضاربة، فباعها بنقود، وتصرف فيها، جاز العقد عند أبي حنيفة ومالك وأحمد، لأنه لم يضف المضاربة إلى العروض، وإنما أضافها إلى الثمن، والثمن تصح به المضاربة. ¬
ثانيا ـ أن يكون رأس المال معلوم المقدار
ولم يجز العقد عند الشافعي، لأنه قارضه على ماتباع به السلعة، وذلك مجهول، فكأنه قارضه على رأس مال مجهول. وكما أنه لا تصح المضاربة على العروض لا تصح أيضاً على تبر الذهب والفضة والنقرة (القطعة الخالصة من الذهب والفضة)، ولا على الفلوس عند أبي حنيفة وأبي يوسف ومالك، لأنها لا تعتبر أثماناً مطلقة، وعند محمد: تجوز، لأنها أثمان للأشياء عنده، كما عرفنا في بحث شركات الأموال. والخلاصة: أن كل ما يصلح رأس مال في الشركة، ويصح به عقد الشركة، تصح به المضاربة، وإلا فلا. ثانياً ـ أن يكون رأس المال معلوم المقدار: فإن كان مجهولاً لا تصح المضاربة؛ لأن جهالة رأس المال تؤدي إلى جهالة الربح، وكون الربح معلوماً شرط لصحة المضاربة. ثالثاً ـ أن يكون رأس المال عيناً (¬1) حاضرة لا ديناً: فلا تصح المضاربة على دين ولا على مال غائب. وعليه لا يجوز أن يقال لمن عليه دين: ضارب بالدين الذي عليك. وهذا الشرط والذي قبله باتفاق العلماء. والمضاربة بالدين فاسدة؛ لأن المال الذي في يد من عليه دين له، وإنما يصير لدائنه (أوغريمه) بقبضه، ولم يوجد القبض ههنا (¬2). ¬
قبض الدين
والشرط أن يكون المال حاضراً عند التصرف، فلا يشترط الحضور في مجلس العقد، فلو وفي الدين، وسلم إلى المضارب أو أحضر المال الغائب، فسلم إليه، صحت المضاربة. وبناء عليه: إذا كان لرب المال دين على رجل، فقال له: «اعمل بديني الذي في ذمتك مضاربة بالنصف» فقال أبو حنيفة: إذا اشترى المدين بذلك وباع، فجميع ما اشترى وباع يملكه هو، وله ربحه وعليه وضيعته (خسارته) والدين يظل قائماً في ذمته بحاله، وهذا مبني على الأصل المقرر عنده فيمن وكل رجلاً ليشتري له بالدين الذي في ذمته: وهو أنه لا يجوز. وهذا متفق مع مذهب المالكية والشافعية والحنابلة أيضاً، فلا تصح عندهم المضاربة بما في ذمة المضارب من دين لآخر، وإنما لا بد من تسليمه إلى الدائن، ثم يسلمه الدائن مرة أخرى للمضارب. وقال الصاحبان: إن جميع ما اشترى وباع لرب المال، له ربحه وعليه خسارته. وهذا مبني على الأصل المقرر عندهما في الوكالة السابقة: وهو أن هذا التوكيل جائز، ويبرأ المدين من الدين، ولكن المضاربة فاسدة؛ لأن الشراء وقع للموكل، فتصير المضاربة بعدئذ مضاربة بالعروض، كأنه وكله بشراء العروض، ثم دفعه إليه مضاربة، والمضاربة بالعروض لا تصح. قبض الدين: أما إذا قال إنسان لرجل: (اقبض ما لي على فلان من الدين واعمل به مضاربة) جاز باتفاق العلماء؛ لأن المضاربة هنا أضيفت إلى المقبوض الذي هو أمانة في يده، فكان رأس المال عيناً لا ديناً، أي أن المضارب يكون وكيلاً في قبضه مؤتمناً عليه؛ لأنه قبضه بإذن مالكه من غيره، فجاز أن يجعله مضاربة، كما لو قال: اقبض المال من غلامي وضارب به.
المودع
الوديعة: وكذلك تجوز المضاربة عند الحنفية والشافعية والحنابلة إذا كان في يد شخص وديعة، فقال له المودع: ضارب بها؛ لأن الوديعة ملك رب المال، فجاز أن يضاربه عليها، كما لو كانت حاضرة، فقال: (قارضتك على هذا الألف) وأشار إليه في زاوية البيت. والفرق بين هذه الحالة والدين: أن عين المال في حالة الدين لا يصير ملكاً للدائن إلا بقبضه. وقال المالكية: المرهون أو الوديعة لا يجوز أن يكون أحدهما رأس مال القراض؛ لأنه شبيه بالدين. المغصوب: والمضاربة تجوز أيضاً فيما إذا كان المال مغصوباً، فضارب به الغاصب؛ لأنه مال لرب المال يباح له بيعه من غاصبه ومن يقدر على أخذه منه، فأشبه الوديعة (¬1). رابعاً ـ أن يكون رأس المال مسلَّماً إلى العامل: ليتمكن من العمل فيه، ولأن رأس المال أمانة في يده، فلا يصح إلا بالتسليم وهو التخلية كالوديعة، ولا تصح المضاربة مع بقاء يد رب المال على المال، لعدم تحقق التسليم مع بقاء يده. ويترتب عليه أنه لو شرط بقاء يد المالك على المال فسدت المضاربة، إذ لا بد من استقلال العامل بالتصرف والعمل بمقتضى طبيعة التجارة وظروفها التي يتعذر فيها الاشتراك في العمل الذي يحتاج إنجازه لسرعة واهتبال الفرصة المواتية. فإن استعان العامل بصاحب المال في العمل، دون اشتراط، جاز ذلك، لأن الاستعانة به لا تخرج المال من العامل. وهذا الشرط محل اتفاق بين الجمهور (أبي حنيفة وأصحابه ومالك والشافعي ¬
والأوزاعي وأبي ثور وابن المنذر). وأما الحنابلة فقد أجازوا اشتراط بقاء يد المالك على المال. وأجاز المالكية للعامل أن يشترط عمل رب المال مجاناً أن يعمل معه في مال القراض، أو يشترط تقديم دابة رب المال حيث كان المال كثيراً. كما أجازوا أيضاً لمريد القراض أن يدفع مالين متعاقبين، أي واحداً بعد واحد لعامل واحد، إذا شرطا خلط المالين عند دفع الثاني؛ لأنه يرجع حينئذ إلى أجر واحد معلوم. وفي هذا الشرط تختلف المضاربة عن شركات الأموال، فإنها تصح مع بقاء يد رب المال على ماله. والفرق هو أن المضاربة انعقدت على رأس مال من أحد الجانبين، وعلى العمل من الجانب الآخر، ولا يتحقق العمل إلا بعد خروج المال من يد صاحبه ليتمكن من التصرف فيه. أما الشركة فإنها انعقدت على العمل من الجانبين، فإذا شرط زوال يد رب المال عن العمل، فيكون هذا الشرط مناقضاً لمقتضى العقد، كما لو شرط في المضاربة عمل رب المال، فإن المضاربة تفسد، سواء عمل رب المال مع المضارب، أم لم يعمل؛ لأن شرط عمله معه معناه اشتراط بقاء يده على المال، وهذا شرط فاسد، لأنه يمنع المضارب من التمكن من التصرف، فلا يتحقق المقصود من العقد (¬1). وهذا الشرط مطلوب، سواء أكان المالك عاقداً أم غير عاقد، فلا بد من زوال يد رب المال عن ماله لتصح المضاربة. ويترتب عليه أن الأب أوا لوصي إذا ضارب في مال الصغير، وشرط عمل ¬
شروط الربح
الصغير، لم تصح المضاربة؛ لأن يد الصغير ثابتة له، وبقاء يده يمنع التسليم إلى المضارب (¬1). وكذلك أحد شريكي المفاوضة أو العنان إذا دفع مالاً مضاربة وشرط عمل شريكه مع المضارب، فالمضاربة فاسدة لقيام الملك لشريكه، وإن لم يكن عاقداً، فيمنع تحقق التسليم (¬2). ويترتب على هذا الشرط أن المضارب لو دفع إلى رب المال مضاربة بالثلث فالمضاربة الثانية فاسدة، والمضاربة الأولى على حالها جائزة. وأما شروط الربح فهي ما يأتي: أولاً ـ أن يكون الربح معلوم القدر: لأن المعقود عليه أو المقصود من العقد هو الربح، وجهالة المعقود عليه توجب فساد العقد (¬3). وإذا دفع شخص لآخر ألف درهم على أن يشتركا في الربح، ولم يبين مقدار الربح، جاز العقد، ويكون الربح بينهما نصفين؛ لأن الشركة تقتضي المساواة كما في قوله تعالى: {فَهُمْ شُرَكاء ُفي الثلث} [النساء:12/ 4]. حالة فساد المضاربة وحالة فساد الشرط فقط عند الحنفية: إن كان هناك شرط يؤدي إلى جهالة الربح فسدت المضاربة، لاختلال المقصود من العقد: وهو الربح. ¬
وإن كان الشرط لا يؤدي إلى جهالة الربح يبطل الشرط ويصح القعد. مثل أن يشترط المالك أن تكون الخسارة على المضارب أو عليهما، فالشرط يبطل، ويبقى العقد صحيحاً، والخسارة تكون على المالك في مال المضاربة. والسبب في أن شرط الخسارة عليهما شرط فاسد: هو أن الخسارة تعتبر جزءاً هالكاً من المال، فلا يكون إلا على رب المال، لا أنه يؤدي إلى جهالة الربح، فيؤثر في العقد فيجعله فاسداً. ومثله أيضاً: أن يدفع شخص لآخر ألف دينار مضاربة على أن الربح بينهما نصفان، وعلى أن يدفع إليه رب المال أرضه ليزرعها سنة أو داراً ليسكنها سنة فالشرط باطل، والمضاربة جائزة، لأنه ـ أي رب المال ـ ألحق بها شرطاً فاسداً لا يقتضيه العقد. أما لو كان المضارب هو المشروط عليه بأن شُرط عليه أن يدفع أرضه ليزرعها رب المال سنة أو يدفع داره إلى رب المال ليسكنها سنة، فإن المضاربة تفسد، لأنه جعل نصف الربح عوضاً عن عمله وعن أجرة الدار أو الأرض، فصارت حصة العمل مجهولة بالعقد، فلم يصح العقد (¬1). وخلاصة ضابط الفساد عند الحنفية باقتران شرط في المضاربة: هو أنه إذا كان الشرط مؤدياً إلى عدم توافر شرط من شروط صحة المضاربة، فإنه يفسدها، كجهالة الربح أو عدم كمال تسليم المال إلى المضارب. أما إذا كان الشرط لا يمس شروط صحة المضاربة، فإن اشتراط شرط فاسد في المضاربة، لا يفسدها، وإنما يفسد الشرط ويلغو، وتصح المضاربة، كاشتراط الوضيعة (الخسارة) على المضارب، يبطل الشرط، وتصح المضاربة. ولو جعل الربح كله لرب المال وقبل المضارب أن يعمل فيه بالمجان لم يكن العقد مضاربة، ولكن صار إبضاعاً أو مباضعة، والعامل فيه مستبضعاً. ¬
ثانيا ـ أن يكون الربح جزءا مشاعا
ولو شرط في المضاربة كون جميع الربح للمضارب، فالعقد قرض عند الحنفية والحنابلة، وهو مضاربة فاسدة عند الشافعية، وحينئذ يكون للعامل أجرة مثل عمله؛ لأن مقتضى المضاربة الاشتراك في الربح، فإذا شرط استئثار العامل بالربح، كان الشرط فاسداً. ويجوز عند الحنفية أن يشترط لأحد العاقدين دراهم معدودة معلومة إن زاد الربح على مقدار كذا من الدراهم، فذلك شرط صحيح لا يؤثر في صحة المضاربة؛ لأنه لا يؤدي إلى جهالة الربح (¬1). وقال المالكية: يجوز أن يشترط العامل الربح كله له (¬2)، وعبارتهم: يجوز اشتراط الربح كله في القراض لرب المال أو للعامل أو لغيرهما؛ لأنه من باب التبرع، وإطلاق القراض عليه حينئذ مجاز، وليس هو بقراض حقيقة، أي أن العامل يضمن المال إذا أخذه على أن الربح كله له، لأنه حينئذ يشبه السلف. ووجه قول الحنفية والحنابلة: أنه إذا لم يمكن تصحيح العقد مضاربة يجعل قرضاً؛ لأنه أتى بمعنى القرض، والعبرة في العقود لمعانيها (¬3). ويترتب على هذا أنه إذا شرط جميع الربح لرب المال فهو مباضعة عندهم، لوجود معنى الإبضاع (¬4) كما تقدم. ثانياً ـ أن يكون الربح جزءاً مشاعاً: أي نسبة عشرية أو سهماً من الربح، كأن يتفقا على ثلث أو ربع أو نصف، وهذا مستثنى من حكم الإجارة المجهولة؛ ¬
لأن جواز عقد المضاربة كان للرفق بالناس، فإذا عين المتعاقدان مقداراً مقطوعاً محدداً، بأن شرطا مثلاً أن يكون لأحدهما مئة دينار أو أقل أو أكثر، والباقي للآخر، فلا يصح هذا الشرط، والمضاربة فاسدة؛ لأن المضاربة تقتضي الاشتراك في الربح، وهذا الشرط يمنع الاشتراك في الربح، لاحتمال ألا يربح المضارب إلا هذا القدر المذكور، فيكون الربح لأحدهما دون الآخر، فلا تتحقق الشركة، وبالتالي لا يكون التصرف مضاربة. ولا تجوز المضاربة إذا جعل للعامل جزء من ربح غير المال المتجر فيه، وصرح المالكية أنه يجوز أن يتراضى العاقدان بعد العمل على جزء قليل أو كثير. وكذلك تفسد المضاربة إذا شرط زيادة ربح كعشرة مثلاً لأحد الشريكين، لاحتمال ألا يربح العامل إلا هذا القدر، فلا تتحقق الشركة في الربح. وحينئذ يلزم للعامل أجر المثل كما في سائر أنواع المضاربة الفاسدة (¬1). قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على إبطال القراض إذا شرط أحدهما أو كلاهما لنفسه دراهم معلومة. وبناء عليه: لا تصح المضاربة بربح محدد كالفائدة التي تقدمها المصارف على الودائع؛ لأن المضاربة تقتضي الاشتراك في الربح بدون تحديد نسبة مقطوعة كسبعة في المئة مثلاً. ولا تصح المضاربة على أن يأخذ العامل راتباً شهرياً معيناً، ونسبة من الأرباح عند تصفية الشركة أو الجرد السنوي وغيره. ¬
المطلب الثالث ـ أحكام المضاربة
المطلب الثالث ـ أحكام المضاربة: المضاربة إما صحيحة أو فاسدة، ولكل واحد منهما أحكام، وسأبدأ في أحكام المضاربة الفاسدة التي اختل فيها شرط من شروط صحتها، لأن الكلام فيها يسير. حكم المضاربة الفاسدة: إذا كانت المضاربة فاسدة كأن يقول شخص لآخر: صد بشبكتي والصيد بيننا، فليس للمضارب عند الحنفية والشافعية والحنابلة (¬1) أن يعمل شيئاً مما تقتضيه المضاربة الصحيحة، ولا يثبت بها شيء من أحكام المضاربة الصحيحة التي سنعرفها، ولا يستحق النفقة ولا الربح المسمى، وإنما له أجر مثل عمله، سواء أكان في المضاربة ربح أم لم يكن؛ لأن المضاربة الفاسدة في معنى الإجارة الفاسدة، والأجير لا يستحق النفقة ولا المسمى في الإجارة الفاسدة، وإنما يستحق أجر المثل. وعلى هذا إذا لم يربح المضارب، فله أجر مثل عمله؛ لأن رب المال استعمله مدة في عمله، فكان عليه أجر العمل، وينفذ تصرف العامل، والربح للمالك. وأما الربح الحاصل حينئذ أو الصيد في مثالنا، فيكون كله لرب المال؛ لأن الربح نماء ملكه، ولم يستحق المضارب منه شيئاً نظراً لفساد العقد. وكذلك الخسران يكون على رب المال. والقول قول المضارب مع يمينه إذا فسد العقد، وذلك في دعوى الهلاك والضياع، والمال في يده أمانة، كما في المضاربة الصحيحة. ¬
ومذهب الشافعية والحنابلة في المضاربة الفاسدة كالحنفية إلا أنهم قالوا: إذا تصرف المضارب نفذ تصرفه، لأنه أذن له فيه، فإذا بطل العقد بقي الإذن، فملك به التصرف كما في الوكالة الفاسدة، وهذا بخلاف البيع، فإنه لو فسد لاينفذ تصرف المشتري، مع أن البائع قد أذن له في التصرف، والفرق هو أن المشتري إنما يتصرف بالملك لا بالإذن، ولا ملك في البيع الفاسد. والربح جميعه في هذين المذهبين حين الفساد لرب المال؛ لأنه نماء ملكه، وعليه الخسران أيضاً. ويكون للمضارب أجرة مثل عمله، وإن لم يكن ربح، لأنه عمل طامعاً في المسمى، فإذا لم يحصل له المسمى وجب رد عمله إليه، وهو متعذر، فتجب قيمته وهي أجرة مثله، كما لو تبايعا بيعاً فاسداً وتقابضا وتلف أحد العوضين في يد القابض له، وجب رد قيمته (¬1). وقال المالكية: يرد العامل في جميع أحكام المضاربة الفاسدة إلى قراض مثله في الربح والخسارة وغيرها في أحوال معدودة، وله أجر مثل عمله في غيرها من الحالات. وعليه إذا حدث ربح في الحالات الأولى، فيثبت حق المضارب في الربح نفسه، لا في ذمة رب المال، حتى إذا هلك المال لم يكن للمضارب شيء، وإذا لم يكن ربح فلا شيء له (¬2). والفرق بين قراض المثل وأجرة المثل: أن الأجرة في أجرة المثل تتعلق بذمة رب المال، سواء كان في المال ربح أو لم يكن، وقراض المثل: هو على سنة القراض، إن كان فيه ربح كان للعامل منه، وإلا فلا شيء له (¬3). ¬
حالات رد المضاربة الفاسدة إلى قراض المثل
وأهم حالات رد المضاربة الفاسدة إلى قراض المثل: حالة القراض بالعروض، وحالة جهالة الربح وليس هناك عادة يحتكم إليها، وحالة توقيت القراض كسنة مثل: اعمل به سنة، أو إضافة القراض للمستقبل مثل: إذا جاء الوقت الفلاني فاعمل به، وحالة الاشتراط على العامل ضمان رأس المال إن تلف بلا تفريط، أو قال له: اشتر بدين مؤجل فاشترى نقداً، فالربح له والخسارة عليه؛ لأن الثمن صار قرضاً في ذمته، أو شرط عليه ما يقل وجوده، بأن يوجد تارة ويعدم أخرى، أو اختلف العاقدان بعد العمل في جزء الربح، وادعى كل من رب المال والعامل مالاً يشبه أن يكون له، كأن يقول العامل: الثلثين، ورب المال: الثلث. وأهم حالات وجوب أجرة المثل في الذمة (أي ذمة رب المال) سواء حصل ربح أم لا في المضاربة الفاسدة ما يأتي: ـ وقوع القراض بدين لرب المال على العامل قبل قبضه منه، أو بوديعة له عند العامل قبل قبضها منه. ـ واشتراط يد رب المال مع العامل في البيع والشراء والأخذ والعطاء. أو اشتراط مشاورته عند البيع والشراء بحيث لا يعمل عملاً فيه إلا بإذنه. أو اشترط المالك أميناً على العامل يراقبه. أو اشترط على العامل أن يخيط ثياب التجارة، أو يخرز الجلود المشتراة لها. أو اشترط عليه أن يشارك غيره في مال القراض، أو يخلط المال بماله أو بمال القراض عنده، أو أن يبضع بمال القراض (أي يرسله أو بعضه مع غيره ليشتري به ما يتجر العامل به مجاناً) ففي كل هذه الحالات يجب للعامل أجرة مثله. وأما أحكام المضاربة الصحيحة: فكثيرة، منها ما يرجع إلى حال يد
- أما حال يد المضارب
المضارب، وبعضها يرجع إلى عمل المضارب، وبعضها يرجع إلى ما يستحقه المضارب بالعمل، ومايستحقه رب المال بالمال. 1 ً - أما حال يد المضارب: فقد اتفق أئمة المذاهب (¬1) على أن العامل المضارب أمين فيما في يده من رأس المال بمنزلة الوديعة، لأنه قبضه بإذن مالكه، لا على وجه البدل (أي المبادلة) كالمقبوض على سوم الشراء، ولا على وجه الوثيقة كالرهن. وإذا اشترى المضارب شيئاً صار بمنزلة الوكيل بالشراء والبيع، لأنه تصرف في مال الغير بإذنه وهو معنى الوكيل، فتطبق عليه أحكام الوكالة المعروفة بالنسبة للشراء: وهو أن يكون الشيء بمثل قيمته أو بما يتغابن الناس في مثله كالوكيل بالشراء. وأما بالنسبة للبيع فيعتبر كالوكيل بالبيع المطلق، كما سنعرف. فإذا ربح المضارب صار شريكاً فيه بقدر حصته من الربح؛ لأنه ملك جزءاً من المال بعمله، والباقي لرب المال، لأنه نماء ماله، فهو له. وإذا فسدت المضاربة بسبب من الأسباب صارت إجارة، والمضارب بمنزلة الأجير لرب المال، ويستحق حينئذ أجر المثل. وإذا خالف المضارب شرط رب المال، كأن فعل ما ليس له فعله أو اشترى شيئاً منع من شرائه، صار بمنزلة الغاصب، ويصير المال مضموناً عليه؛ لأنه تعدى في ملك غيره. ¬
- وأما تصرفات المضارب
وإذا تلف المال في يده من غير تفريط لم يضمن؛ لأنه نائب عن رب المال في التصرف، فلم يضمن من غير تفريط، كالوديع. وإذا ظهرت خسارة كانت على رب المال وحده، واحتسب أولاً من الربح إن كان في المال ربح. وإن شرط على العامل ضمان رأس المال إن تلف، بطل الشرط والعقد صحيح عند الحنفية والحنابلة. وبناء عليه: يكون تشغيل المال على حساب الربح مع ضمان رأس المال صحيحاً والشرط باطل. وقال المالكية والشافعية: تفسد المضارب حينئذ، لأنه شرط فيه زيادة غرر يتنافى مع طبيعة العقد (¬1). لكن قال ابن قدامة في المغني 144/ 5 في المضاربة: «وإن قال: خذ هذا المال فاتجر به، وربحه كله لك، كان قرضاً لا قراضاً. وقال الدردير: يجوز أن يضمن العامل مال القراض ـ أي المضاربة ـ لربه لو تلف أو ضاع بلا تفريط في اشتراط الربح له، أي للعامل، بأن قال ربه (صاحب المال): اعمل فيه والربح لك؛ لأنه حينئذ صار قرضاً، وانتقل من الأمانة إلى الذمة (¬2). 2 ً - وأما تصرفات المضارب: فيختلف حكمها بحسب ما إذا كانت المضاربة مطلقة أو مقيدة. والمطلقة كما عرفنا: أن يدفع المالك المال مضاربة من غير تعيين العمل والمكان والزمان وصفة العمل ومن يعامله. والمقيدة: أن يعين المالك شيئاً من ذلك. فإذا كانت المضاربة مطلقة: فللمضارب أن يتصرف في مال المضاربة ما بدا ¬
له من أنواع التجارات، في سائر الأمكنة، مع سائر الناس، لإطلاق العقد، فله أن يشتري به ويبيع؛ لأن المقصود من المضاربة: هو تحصيل الربح، والربح لا يحصل إلا بالشراء والبيع، إلا أنه في الشراء مقيد بالمعروف، وهو أن يكون بمثل قيمة المشترى، أو بأقل منه مما يتغابن الناس في مثله؛ لأنه وكيل، وشراء الوكيل يقع على ما هو متعارف. وأما بيعه فهو على الاختلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه في التوكيل بمطلق البيع. فعند أبي حنيفة رضي الله عنه: يملك البيع نقداً ونسيئة وبغبن فاحش. وعند الصاحبين: لا يملك البيع بالنسيئة، ولا بما لا يتغابن الناس في مثله، وإنما يتقيد بالمتعارف وهذا هو الرأي الأرجح. وهو ما ذهب إليه الشافعية والمالكية والحنابلة، إلا أن الحنابلة أجازوا للمضارب أن يبيع نقداً ونسيئة كما يقول أبو حنيفة. وللمضارب أن يدفع المال بضاعة (¬1)؛ لأن الإبضاع من عادة التجار، ولأن المقصود من هذا العقد هو الربح، والإبضاع طريق إليه، ولأنه يملك الاستئجار فالإبضاع أولى؛ لأن الاستئجار استعمال شخص في المال بعوض، والإبضاع استعماله فيه بغير عوض، فكان أولى. ولا يجوز عند المالكية الإبضاع إلا بإذن رب المال، وإلا ضمن (¬2). وللمضارب عند الحنفية أن يودع، لأن الإيداع من عادة التجار ومن ¬
ضرورات التجارة. وليس للمضارب عند المالكية أن يأتمن على المال أحداً ولا أن يودعه، فإن خالف فهو ضامن. وله أن يستأجر أجيراً ليعمل في المال؛ لأن الاستئجار من عادة التجار وضرورات التجارة. كما له أن يستأجر البيوت ليجعل المال فيها؛ لأنه لا يقدر على حفظ المال إلا به. وله أيضاً أن يستأجر السفن والدواب للعمل؛ لأن الحمل من مكان إلى مكان طريق لتحصيل الربح، ولا يمكنه النقل بنفسه. وله أن يوكل بالشراء والبيع؛ لأن التوكيل من عادة التجار، ولأنه طريق الوصول إلى الربح. وله أن يرهن بدين عليه في المضاربة من مال المضاربة، وأن يرتهن بدين له منها على رجل؛ لأن الرهن بالدين والارتهان من باب إيفاء الدين واستيفائه، وهو يملكها. ولكن ليس له أن يرهن بعد نهي رب المال عن العمل ولا بعد موته؛ لأن المضاربة تبطل بالنهي والموت. وللمضارب أن يسافر بالمال في الرواية المشهورة عند الحنفية، وكذلك عند المالكية وفي وجه عند الحنابلة (¬1)؛ لأن المقصود من المضاربة استنماء المال، ولأن العقد مطلق، كما أن اسم المضاربة دليل على جواز السفر؛ لأن المضاربة مشتقة من الضرب في الأرض وهو السير (¬2). وقال الشافعي وفي وجه آخر عند الحنابلة: لا يسافر به إلا بإذن رب المال. ¬
ما لا يجوز للمضارب فعله
ما لا يجوز للمضارب فعله: ليس للمضارب في المضاربة المطلقة أن يفعل بعض الأفعال إلا بالنص عليها صراحة (¬1)، فليس له أن يستدين على مال المضاربة إلا بإذن صريح، ولو استدان لم يجز على رب المال، ويكون ديناً على المضارب في ماله؛ لأن الاستدانة إثبات زيادة في رأس المال من غير رضا رب المال، بل فيه إثبات زيادة ضمان على رب المال من غير رضاه؛ لأن ثمن المشترى مضمون على رب المال، فلو جوزنا الاستدانة على المضاربة لألزمناه زيادة ضمان لم يرض به، وهذا لا يجوز. وإذا كانت الاستدانة لا تجوز، فلا يجوز الإقراض من رأس المال من باب أولى. وعدم جواز الاستدانة إلا بإذن صاحب المال هو مذهب الحنابلة والشافعية أيضاً. وقال المالكية: لا يجوز للمضارب أن يشتري سلعاً بالدين وإن أذن له رب المال بالشراء، فإن فعل ضمن ما اشتراه، وكان الربح له وحده، ولا شيء منه لرب المال؛ لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن ربح ما لم يضمن، فكيف يأخذ رب المال ربح ما يضمنه العامل في ذمته؟! ولا يجوز للمضارب أيضاً أن يشتري سلعاً للقراض بأكثر من مال المضاربة نقداً أو إلى أجل، للنهي عن ربح ما لم يضمن، وذلك لأن العامل يضمن ما زاد في ذمته. فإن فعل كان ما يشتريه شركة بينه وبين رب المال بنسبة ما زاد على مال ¬
القراض. وهذا إذا لم يرض رب المال، فإذا رضي بالتصرف، كان ذلك من جملة القراض. ولا يجوز للمضارب أن يهب شيئاً كثيراً من مال القراض بغير ثواب (¬1). وليس للمضارب أخذ المال على سبيل القرض ليسلمه إلى مدين في بلد آخر يريده المقرض؛ لأنه يكون محتملاً تبعة مخاطر الطريق، ولأن دافع المال (وهو المقرض) استفاد من هذه العملية، وقد ثبت النهي عن قرض جر نفعاً. وهذه هي المسألة المعروفة في الفقه بمسألة السفاتج (¬2). وكذلك ليس للمضارب أن يدفع المال إلى غيره مضاربة، أو أن يشارك به، أو أن يخلطه بمال نفسه أو بمال غيره، إلا إذا قال له رب المال: اعمل برأيك، أو أذن له بالتصرف. أما المضاربة فلا تجوز لأنها مثل المضاربة الأولى، والشيء لا يستتبع مثله، فلا يستفاد بمطلق عقد المضاربة مثله، كما لا يملك الوكيل التوكيل بمطلق العقد. وأما الشركة فهي أولى ألا يملكها بمطلق العقد؛ لأنه أعم من المضاربة، والشيء لا يستتبع مثله فما فوقه أولى. وأما الخلط فلأنه يوجب في مال رب المال حقاً لغيره، فلا يجوز إلا بإذنه (¬3). ما يجب على العامل المضارب: يجب على العامل القيام بأعمال المضاربة بحسب المعتاد من أمثاله، وبحسب عادة التجار فيما يتعاملون به، فإذا استأجر ¬
المضارب يضارب
على عمل يلزمه القيام به، وجبت الأجرة عليه في ماله خاصة لا في مال القراض. وله أن يستأجر على عمل من مال المضاربة إذا كان من الأعمال التي لا يلزمه القيام بها بحسب العرف التجاري. المضارب يضارب: أولاً ـ مذهب الحنفية: لا يجوز للمضارب أن يضارب بالمال مع شخص آخر، إلا إذا فوضه رب المال، فإذا دفع المضارب المال إلى غيره مضاربة ولم يأذن له رب المال، فإن المال لا يكون عند أبي حنيفة مضموناً على المضارب الأول بمجرد الدفع إلى الثاني، ولا بتصرف المضارب الثاني فيه حتى يربح. فإذا ربح ضمن المضارب الأول لرب المال، أما قبل الربح فلا يضمن. فلو هلك المال في يد الثاني قبل أن يربح، هلك هلاك الأمانات. وجه الحالة الأولى (أي قبل العمل): أن مجرد الدفع من المضارب إيداع منه، وهو يملك إيداع مال المضاربة، فلا يضمن بالدفع. ووجه الحالة الثانية (أي بعد العمل): أن الدفع من المضارب الأول إلى المضارب الثاني يعتبر إبضاعاً، وهو يملك الإبضاع. فإذا ربح الثاني فقد أثبت للأول شركة في المال، فيضمن الأول لرب المال كما لو خلط المال بغيره. هذا إذا كانت المضاربة صحيحة. فإن كانت فاسدة فلا يضمن المضارب الأول بعد الربح؛ لأن المضارب الثاني أجير في المال حينئذ، وله أجر مثله، فلم تثبت الشركة الموجبة للضمان. وقال زفر: يضمن المضارب الأول بمجرد الدفع، عمل الثاني أو لم يعمل؛
ثانيا ـ مذاهب غير الحنفية
لأن المضارب يملك الدفع على وجه الإيداع، وهذا الدفع على وجه المضاربة، فإذا دفع صار بالدفع مخالفاً، فصار ضامناً كالوديع إذا أودع الوديعة عند غيره. وقال الصاحبان وهو ظاهر الرواية: إذا عمل المضارب الثاني ضمن الأول المال، ربح أو لم يربح؛ لأن المضارب الثاني لما عمل فقد تصرف الأول في المال بغير إذن المالك، فيتعين به الضمان سواء ربح أم لم يربح (¬1). وحينئذ إذا عمل المضارب الثاني يخير رب المال: إن شاء ضمن المضارب الأول رأس ماله، وإن شاء ضمن الثاني. فالراجح عند الحنفية: أن المضارب الأول لا يضمن في المضاربة الصحيحة بمجرد دفع المال إلى المضارب الثاني، وإنما يضمن إذا عمل الثاني، ربح المال أو لم يربح. وأما الربح الناتج من المضاربة فيوزع حسب الشرط، فيعطى لرب المال ربحه على حسب شرطه في عقد المضاربة الأولى؛ وما يبقى من الربح بعدئذ يكون بين المضارب الأول والثاني على حسب شرطيهما في عقد المضاربة الثاني. هذا ما ذهب إليه الحنفية والقاضي أبو يعلى من الحنابلة (¬2). وقال ابن قدامة: ليس هذا موافقاً لأصول المذهب، ولا لنص أحمد، فإن أحمد قال: لا يطيب الربح للمضارب (¬3). ثانياً ـ مذاهب غير الحنفية: قال المالكية: يضمن العامل إذا قارض في مال ¬
خلاصة أحكام تصرفات المضارب في المضاربة المطلقة عند الحنفية
القراض بغير إذن رب المال، أي دفعه لعامل غيره يعمل فيه، لتعديه، والربح حينئذ للعامل الثاني ولرب المال، ولا ربح للعامل الأول؛ لأن ربح القراض جُعْل لايستحق إلا بتمام العمل، والعامل الأول لم يعمل، فلا ربح له، ويغرم العامل الأول للثاني ماشرطه له من زيادة في الربح المستحق له من رب المال. وقال الشافعية في الأصح، لا يجوز للعامل أن يقارض آخر ليشاركه في العمل والربح، ولو كان ذلك بإذن رب المال. وحينئذ يظل القراض مع العامل الأول صحيحاً، ويستحق العامل الثاني من الأول أجر المثل إذا عمل (¬1)؛ لأن القراض على خلاف القياس، وموضوعه أن يكون أحد العاقدين مالكاً لا عمل له، والآخر عاملاً ولو متعدداً، فلا يعدل عما ذكر إلى أن يعقده عاملان مع نفسيهما، فيصير القراض بين عاملين فلا يصح. والخلاصة: أن المذاهب الأربعة متفقة على أن الضمان بمضاربة العامل غيره يستقر على الأول. وأما خلاصة أحكام تصرفات المضارب في المضاربة المطلقة عند الحنفية فهي ثلاثة أنواع: 1 - نوع يملكه المضارب عرفا ً: وهو جميع ما تتناوله أعمال التجارة عادة، كالبيع والشراء، والتوكيل فيهما، وإن لم يؤذن له بذلك صراحة، ويكون شراؤه على المعروف، فلا يتجاوز ما يتغابن فيه الناس عادة، لأنه وكيل، وشراء الوكيل يقع بحسب المعتاد، أما البيع ففيه خلاف بين الحنفية، والراجح أنه يتقيد أيضاً بالمعتاد. ¬
2 - ونوع لا يملكه إلا إذا فوض إليه العمل في المضاربة برأيه
2 - ونوع لا يملكه إلا إذا فوض إليه العمل في المضاربة برأيه، فقال له: اعمل فيها برأيك، أو كما ترى: وهو ما يحتمل أن يلحق بأعمال التجارة، كإعطاء المال مضاربة لشخص آخر يضارب فيه، أو جعله رأس مال لشركة عنان، فإذا فوض له ذلك صح. 3 - ونوع لا يملكه المضارب إلا بالنص عليه صراحة، كالتبرعات، من هبة أو محاباة بالبيع والشراء، والإقراض، والشراء لأجل عند الشافعية والمالكية والحنابلة، والشراء بأكثر من رأس المال والربح عند أكثر الفقهاء. وأما المضاربة المقيدة: فحكمها حكم المضاربة المطلقة في جميع الأحكام التي ذكرت، وإنما تفارقها في قدر القيد الذي قيدت به، فإن خصص رب المال تصرف المضارب في بلد بعينه، أو في سلعة بعينها لم يجز له أن يتجاوزها، لأنه توكيل، وفي التخصيص بما ذكر فائدة، فيتخصص به. أـ تعيين المكان: وعلى هذا إذا كان القيد متعلقاً بالمكان، كأن دفع رجل إلى رجل مالاً مضاربة على أن يعمل به في بلدة معينة كدمشق مثلاً، فليس له أن يعمل في غير دمشق؛ لأن قوله «على أن» من ألفاظ الشرط، وهو شرط مفيد؛ لأن الأماكن تختلف بالرخص والغلاء، وفي السفر خطر. وكذا لا يعطيها بضاعة (¬1) لمن يخرج بها من دمشق، لأنه إذا لم يملك الإخراج بنفسه فلأن لا يملك الإذن به أولى. فإن أخرجها من دمشق: فإن اشترى بها وباع ضمن؛ لأنه تصرف لا على الوجه المأذون فيه فصار مخالفاً فيضمن، وكان ما اشتراه لنفسه له ربحه وعليه ¬
خسارته، لكن لا يطيب له الربح عند أبي حنيفة ومحمد. وعند أبي يوسف: يطيب. وإن لم يشتر بمال المضاربة شيئاً حتى رده إلى البلدة المعينة المذكورة برئ من الضمان، ورجع المال مضاربة على حاله، كالوديع إذا خالف أمر المودع ثم عدل عن المخالفة (¬1). ولو دفع المال إلى رجل ليعمل في سوق دمشق العام، فعمل في دمشق نفسها في غير سوقها، فهو جائز على أساس المضاربة استحساناً عند الحنفية. والقياس ألا يجوز. وجه القياس: أنه شرط عليه العمل في مكان معين، فلا يجوز في غيره، كما لو شرط العمل في بلد معين. ووجه الاستحسان: أن التقييد بسوق دمشق غير مفيد غالباً؛ لأن البلد الواحد بمنزلة بقعة واحدة، فلا فائدة في هذا الشرط، فيلغو، ومن المقرر أن الشرط معتبر إذا كان مفيداً. ولو قال له: (لا تعمل به إلا في سوق دمشق) فعمل في غير السوق، فباع واشترى، فهو ضامن؛ لأن قوله السابق حجر له، فلا يجوز تصرفه بعد الحجر. وفي المثال الأول لم يحجر عليه، وإنما شرط عليه أن يكون عمله في السوق، والشرط غير مفيد، فيلغو. وكذلك إذا قال له: (خذ هذا المال تعمل به في دمشق أو فاعمل به في دمشق) لم يجز له العمل في غيرها؛ لأن (في) كلمة ظرف، فتصبح دمشق ظرفاً للتصرف الذي أذن له فيه، فلو جاز في غير دمشق لم تكن دمشق ظرفاً لتصرفه. ¬
ب ـ تعيين الشخص
وأما قوله (فاعمل به .. ) فالفاء للوصل والتعقيب، والمتصل المتعقب للمبهم تفسير له. وكذا قوله: (خذه بالنصف بدمشق) لأن الباء تفيد الإلصاق، فتقتضي التصاق الصفة بالموصوف: يعني أنه يجب عليه العمل بالمال ملصقاً بدمشق، وهو أن يكون العمل فيها. أما لو قال: (خذ هذا المال واعمل به بدمشق) فله أن يعمل به فيها وفي غيرها، لأن الواو للعطف، وهو مما يجوز الابتداء به، فيجعل مشورة، كأنه قال: (إن فعلت كذا كان أنفع). ب ـ تعيين الشخص: ولو قال: (على أن تشتري من فلان وتبيع منه) صح التقييد عند الحنفية والحنابلة لأنه مفيد لزيادة الثقة به في المعاملة. وخالف في هذا المالكية والشافعية كما عرفنا؛ لأن هذا التقييد يمنع مقصود المضاربة وهو التقلب في الأسواق وطلب الربح. جـ ـ توقيت المضاربة: ولو وقَّت المضاربة بوقت معين، على أنه إذا مضى بطل العقد، صح العقد عند الحنفية والحنابلة؛ لأنه توكيل، فيتأقت بما وقته، والتوقيت مفيد، وأنه تقييد بالزمان، فصار كالتقييد بالنوع والمكان (¬1). ولم يصح العقد عند الشافعية والمالكية كما عرفنا لإخلال التأقيت بمقصود القراض، إذ قد لا يربح في المدة، وقد يكون الربح والحظ في إبقاء المتاع وبيعه بعد المدة المعينة (¬2). ¬
الضابط في تقييد المضاربة عند الحنفية
والضابط في تقييد المضاربة عند الحنفية: هو أن المضاربة تقبل التقييد المفيد ولو بعد العقد ما لم يصر المال عرضاً؛ لأنه إذا صار المال من العروض التجارية، لا يملك رب المال عزل المضارب، فلا يملك تخصيصه. أما التقييد بغير المفيد فلا يعتبر أصلاً كنهيه عن بيع المال حالاً (¬1). ويرى الشافعية والمالكية: أن وظيفة المضارب هو التجارة في المال للاسترباح والتنمية، وهو بالبيع والشراء مما جرت العادة بأن يتولاه التجار. وعليه فكل شرط يحول دون عمله المعتاد المتعارف مفسد للقراض عندهم (¬2). التقيد الطارئ على المضاربة المطلقة: قال الحنفية: إذا كانت المضاربة مطلقة فخصصها رب المال بعد العقد: فإن كان رأس المال بحاله نقداً أو اشترى به المضارب متاعاً ثم باعه وقبض ثمنه من النقود: فإن تخصيصه جائز، كما لو خصص المضاربة في الابتداء؛ لأن رب المال يملك التخصيص إذا كان فيه فائدة. أما إذا كان مال المضاربة عروضاً فلا يصح تقييد رب المال للمضارب أو نهيه عن أمر حتى يصير رأس المال نقداً، مثل أن يقول له: (لا تبع بالنسيئة) لأن المضاربة تمت بالشراء. 3ً - وأما حقوق المضارب: التي يستحقها بعمله في مال المضاربة فهي شيئان: النفقة، والربح المسمى في العقد. أولاً ـ أما النفقة من مال المضاربة: فاختلف الفقهاء في وجوبها للمضارب ¬
على أقوال ثلاثة، فقال الإمام الشافعي في الأظهر من قوليه: لا نفقة للمضارب على نفسه من مال المضاربة لا حضراً ولا سفراً إلا أن يأذن له رب المال؛ لأن للمضارب نصيباً من الربح، فلا يستحق شيئاً آخر، ويكون المأخوذ زيادة منفعة في المضاربة، ولأن النفقة قد تكون قدر الربح، فيؤدي أخذه إلى انفراده به، وقد تكون أكثر فيؤدي إلى أن يأخذ جزءاً من رأس المال، وهذا ينافي مقتضى العقد، فلو شرطت النفقة للمضارب في العقد فسد (¬1). وقال قوم منهم إبراهيم النخعي والحسن البصري: له نفقته حضراً وسفراً (¬2). وقال جمهور الفقهاء منهم أبو حنيفة ومالك والزيدية: للمضارب النفقة في السفر لا في الحضر من مال المضاربة من الربح إن وجد وإلا فمن رأس المال بما يحتاج إليه من طعام وكسوة (¬3)، إلا أن الإمام مالك قال: إذا كان المال يحمل ذلك. ولا نفقة له من مال المضاربة في حال الإقامة، وإنما في مال نفسه، إلا إذا كانت المضاربة تشغله عن الوجوه التي يقتات منها، فله حينئذ الإنفاق من مال المضاربة. وأما الحنابلة فأجازوا اشتراط المضارب نفقة نفسه في الحضر أو في السفر (¬4)، أي أنهم في هذا كالشافعية لا يوجبون النفقة للمضارب في السفر أو الحضر إلا بالشرط. ¬
قدر النفقة
ودليل هؤلاء المجيزين: هو أنه لو لم تجعل نفقة المضارب من مال المضاربة لامتنع الناس من قبول المضاربات مع مساس الحاجة إليها. والسبب في استحقاق المضارب النفقة في السفردون الحضر: هو أنه حبس نفسه عن الكسب وسافر لأجل المضاربة، فأشبه حبس الزوجة التي تستحق النفقة بالاحتباس بخلاف الحضر، فلو أنفق المضارب في السفر من ماله الخاص تضرر بذلك. والنفقة الواجبة للمضارب في مال المضاربة، كما ذكر الحنفية: هي ما تصرف إلى الحاجة الراتبة وهي الطعام والكسوة والإدام والشراب، وأجر الأجير وأجرة الحمام، ودهن السراج والحطب، وفراش ينام عليه وعلف دابته التي يركبها في سفره ويتصرف عليها في حوائجه، وغسل ثيابه ونحوه مما لا بد في السفر منه عادة. أما ثمن الدواء ففي مال المضارب خاصة في ظاهر الرواية؛ لأن الحاجة إلى النفقة معلومة الوقوع، وإلى الدواء بعارض المرض، ولهذا كانت نفقة المرأة على الزوج، ودواؤها في مالها كما يذكر متقدمو الحنفية، وهذا محل نظر. وعن أبي حنيفة رحمه الله: أن الدواء يدخل في نفقة المضارب؛ لأنه لإصلاح بدنه، ولا يتمكن من التجارة إلا به، فصار كالنفقة (¬1). وأما قدر النفقة: فهو أن يكون بالمعروف عند التجار من غير إسراف، فإن جاوز المعروف ضمن الفضل؛ لأن الإذن ثابت بالعادة، فيعتبر القدر المعتاد. ولو سافر فلم يتفق له شراء متاع من حيث قصد، وعاد بالمال، فنفقته ما دام مسافراً في مال المضاربة؛ لأن عمل التجار على هذا، وهو أن الشراء قد يحصل في وقت دون وقت، ومكان دون مكان. ¬
ما تحتسب النفقة منه
ويكون للمضارب النفقة، سواء سافر بمال المضاربة وحده، أو بماله ومال المضاربة، أو بمال المضاربة لواحد أو لاثنين، إلا إذا سافر بماله ومال المضاربة أو بمالين لرجلين، كانت النفقة من المالين بالحصص؛ لأن السفر لأجل المالين، فتكون النفقة فيهما (¬1). وأما ما تحتسب النفقة منه: فالنفقة تحتسب من الربح إن حدث ربح، فإن لم يحدث فهي من رأس المال؛ لأن النفقة جزء هالك من المال، والأصل أن الهلاك ينصرف إلى الربح. ولو أقام المضارب في بلد من البلدان للبيع والشراء، ونوى الإقامة خمسة عشر يوماً، فنفقته من مال المضاربة، ما لم يتخذ من البلد داراً للتوطن. وقال المالكية: ما لم يتزوج. وإذا رجع المضارب إلى بلده: فما فضل عنده من الكسوة والنفقة رده إلى مال المضاربة؛ لأن الإذن له بالنفقة كان لأجل السفر، فإذا انقطع السفر لم يبق الإذن، فيجب رد ما بقي إلى مال المضاربة. وإذا أنفق المضارب من ماله على نفسه فيما يحق له أن ينفقه من مال المضاربة، فما أنفقه فهو دين في مال المضاربة، كالوصي إذا أنفق على الصغير من مال نفسه؛ لأن تدبير أمره مفوض إليه (¬2). ثانياً ـ وأما الحق الثاني للمضارب فهو الربح المسمى: يستحق المضارب بعمله في المضاربة الصحيحة الربح المسمى إن كان في المضاربة ربح، فإن لم يكن ربح فلا شيء للمضارب، لأنه عامل لنفسه فلا يستحق الأجر. ¬
وإنما يظهر الربح بالقسمة، وشرط جواز القسمة قبض رأس المال، فلا تصح قسمة الربح قبل أخذ رأس المال من يد المضارب. فلو دفع رجل إلى آخر ألف دينار مضاربة بالنصف، فربح ألفاً فاقتسما الربح، ورأس المال في يد المضارب لم يقبضه رب المال، فهلك (¬1) في يد المضارب بعد قسمة الربح، فلا تصح هذه القسمة، ويكون ما قبض رب المال محسوباً عليه من رأس ماله، وما قبضه المضارب دين عليه يرده إلى رب المال حتى يستوفي رأس ماله، فإن فضل ربح فهو بينهما. والدليل على أن رب المال يأخذ رأس ماله قبل قسمة الربح: هو ما روي عن الرسول صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «مثل المؤمن مثل التاجر لا يسلم له ربحه حتى يسلم له رأس ماله، كذلك المؤمن لا تسلم له نوافله حتى تسلم له عزائمه» (¬2) فدل الحديث على أن قسمة الربح قبل قبض رأس المال لا تصح؛ لأن الربح زيادة، والزيادة على الشيء لا تكون إلا بعد سلامة الأصل. وإذا اختلف المضارب مع رب المال في رد المال، فقال المضارب: قد كنت دفعت إليك رأس مالك قبل قسمة الربح، وقال رب المال: لم أقبض رأس المال قبل القسمة، فالقول عند الحنفية والحنابلة قول رب المال، ويرد المضارب ما قبضه لنفسه لإتمام رأس المال. فإن بقي شيء بعدئذ مما قبضه المضارب كان بينهما نصفين. وإنما كان الحكم هو قبول قول رب المال؛ لأن المضارب في هذه الحالة مدعٍ، ورب المال منكر، والمضارب وإن كان أميناً لكن القول قول الأمين في إسقاط الضمان عن نفسه، لا في التسليم إلى غيره (¬3). ¬
- وأما حق رب المال
ويتفق الحنفية مع المالكية والشافعية في الأظهر عندهم، في أنه لا يملك العامل حصة من الربح الحاصل بعمله إلا بقسمة المال لا بظهور الربح. وقال الحنابلة والزيدية: إن العامل يملك حصته من الربح بظهوره ولو لم يقسم المال. واتفق الفقهاء على أنه يجب على العامل أن يسلم لرب المال أولاً رأس ماله، فلا يستحق شيئاً من الربح حتى يسلم رأس المال إلى ربه. وما زاد عنه فهو ربحه، ويكون بين العامل ورب المال بحسب الشرط (¬1). 4ً - وأما حق رب المال: فهو أن يأخذ حصته من الربح المسمى إذا كان في المال ربح، وإن لم يكن فلا شيء له على المضارب (¬2). ولا ربح للعامل في المال حتى يَنِضّ إلى رب المال رأس ماله، أي يتحول نقوداً ويسلم إليه نقداً (¬3) قال ابن رشد: أجمع علماء الأمصار على أنه لا يجوز للعامل أن يأخذ نصيبه من الربح إلا بحضرة رب المال، وأن حضور رب المال شرط في قسمة المال، وأخذ العامل حصته، وأنه ليس يكفي في ذلك أن يقسمه بحضور بيّنة ولا غيرها. ويغرم رب المال جميع ما تتعرض له تجارة القراض من خسارة أو تلف سماوي مما ليس فيه تعدٍ ولا تقصير من المضارب (¬4). نقص رأس المال: إذا نقص رأس المال بعد التصرف أو العمل بسبب رخص الأسعار أو عيب حدث في الشيء المشترى أو بسبب آفة سماوية كحريق أو غريق أو غصب أو سرقة، يحسب من الربح ويجبر به؛ لأن العامل أمين لا يسأل عن النقص أو التلف إلا بتعد أو تقصير منه. المطلب الرابع ـ حكم اختلاف رب المال والعامل المضارب: قد يختلف رب المال والمضارب في أمور تتعلق بتنفيذ مقتضى المضاربة ¬
أ - فإن اختلفا في عموم التصرفات أو خصوصها
كالاختلاف في عموم التصرفات أو خصوصها، وفي تلف المال، وفي رد المال، وفي قدر الربح المشروط، وفي قدر رأس المال. أ - فإن اختلفا في عموم التصرفات أو خصوصها، فيقبل قول من يدعي العموم، كأن ادعى أحدهما المضاربة في عموم التجارات أو في عموم الأمكنة أو مع عموم الأشخاص الذين يضارب معهم، وادعى الآخر نوعاً دون نوع، ومكاناً دون مكان، وشخصاً دون شخص، فيقبل قول مدعي العموم؛ لأنه يتفق مع مقصود عقد المضاربة، إذ المقصود من العقد هو الربح، وهذا المقصود يتحقق بنحو أوفر في التعميم. وكذلك يقبل قول من يدعي الإطلاق إذا اختلفا في الإطلاق والتقييد كأن قال رب المال: أذنت لك أن تتجر في الحنطة دون ما سواها، وقال المضارب: ما سميت لي تجارة بعينها، فيقبل قول المضارب مع يمينه؛ لأن الإطلاق أقرب إلى تحقيق المقصود من العقد. أما لو اختلف المتعاقدان في النوع المخصص للمضاربة فيه، فقال رب المال: دفعت المال إليك مضاربة في القماش، وقال المضارب: في الحبوب، فالقول قول رب المال؛ لأنه لا يمكن الترجيح هنا بالمقصود من العقد؛ لأن المضاربة تصلح في النوعين فيرجح أحدهما بالإذن الصادر من رب المال (¬1). ب ـ وإن اختلف رب المال والمضارب في تلف المال، فادعاه المضارب وأنكره رب المال، أو اختلفا في الخيانة أو (التعدي) فادعاها رب المال وأنكر المضارب، فالقول قول المضارب باتفاق العلماء؛ لأن المضارب ـ كما عرفنا ـ أمين، والأصل عدم الخيانة، فكان القول قوله كالوديع. جـ ـ وإن اختلف العاقدان في رد المال، فادعاه العامل وأنكره رب المال، فالقول عند الحنفية والحنابلة قول رب المال، كما تقدم، ولأن المضارب قبض المال لنفع نفسه، فلم يقبل قوله بالنسبة للرد كالمستعير. ¬
د ـ وإن اختلفا في قدر رأس المال
وعند المالكية والشافعية في الأصح: القول هو قول المضارب، لأنه مأمون كالوديع (¬1). د ـ وإن اختلفا في قدر رأس المال يقبل قول المضارب باتفاق الفقهاء (¬2) كأن قال رب المال: دفعت إليك ألفين، وقال المضارب: دفعت إلي ألفاً، فيقبل قول المضارب؛ لأن المتعاقدين اختلفا في مقدار المقبوض، فكان القول قول القابض بدليل أنه لو أنكر القبض أصلاً، وقال: لم أقبض منك شيئاً كان القول قوله، فكذا لو أنكر البعض دون البعض. ولو اختلف المتعاقدان في قدر رأس المال وفي مقدار الربح أيضاً، كأن قال رب المال: رأس المال ألفان، والمشروط ثلث الربح. وقال المضارب: رأس المال ألف، والمشروط نصف الربح، فقال الحنفية والحنابلة: القول قول المضارب أيضاً في قدر رأس المال، وقول رب المال في مقدار الربح. ويرى الشافعية أن المصدق بيمينه في الحالتين هو العامل؛ لأن الأصل عدم دفع زيادة على رأس المال، والأصل عدم الربح. هـ ـ وإذا اختلف رب المال مع المضارب في مقدار الربح المشروط في العقد: فقال الحنفية والحنابلة في أرجح الروايتين عن أحمد: القول قول رب المال، مثل أن يقول المضارب: شرطت لي نصف الربح، فيقول رب المال: بل ثلثه، فيقبل قول رب المال؛ لأن صاحب المال ينكر الزيادة على النصف والقول قول المنكر (¬3)؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ولكن اليمين على المدعى عليه» (¬4). ¬
وـ وإن اختلف المتعاقدان في صفة رأس المال
وقال المالكية: القول قول المضارب بيمينه في قدر جزء الربح؛ لأنه أمين، وذلك بشرطين: أولهما ـ أن يأتي بما يشبه أحوال الناس في المضاربة. وثانيهما ـ أن يكون المال ما زال موجوداً في يد المضارب حساً أو معنى، ككونه وديعة عند شخص أجنبي (¬1). وقال الشافعية: إذا اختلفا في القدر المشروط للعامل من الربح، كأن قال: شرطت النصف، فقال المالك: بل الثلث، تحالفا، كاختلاف المتبايعين في قدر الثمن، فلا ينفسخ العقد بالتحالف، بل يفسخانه أو يفسخه أحدهما أو الحاكم. ويكون للعامل حينئذ أجرة المثل لعمله، بالغة ما بلغت، لتعذر رجوع عمله إليه، فوجب له قيمته وهو الأجرة (¬2). فإن اختلفا في الربح، فقال العامل: لم أربح شيئاً أو لم أربح إلا كذا، صُدِّق العامل بيمينه؛ لأن الأصل عدم الربح. وـ وإن اختلف المتعاقدان في صفة رأس المال، فقال رب المال: دفعت إليك مضاربة أو وديعة أو بضاعة لتشتري به وتبيع (¬3)، وقال العامل: بل أقرضتني المال، والربح لي، فالقول عند الحنفية والحنابلة والشافعية قول رب المال؛ لأن الشيء المدفوع ملكه، فالقول في صفة خروجه عن يده، ولأن المضارب يدعي على رب المال التمليك، وهو منكر، وذلك كالخلاف في نوع رأس المال. وقال المالكية: القول للعامل بيمينه كالاختلاف في جزء الربح، لرجحان جانب العامل بالعمل، ولأنه أمين (¬4). ¬
المطلب الخامس ـ مبطلات المضاربة
ولو قال رب المال: أقرضتك، وقال المضارب: دفعت إلي مضاربة، فالقول قول المضارب عند جمهور العلماء؛ لأنهما اتفقا على أن الأخذ كان بإذن رب المال، ورب المال يدعي على المضارب الضمان، وهو ينكر، فكان القول قوله. وقال المالكية: القول لرب المال بيمين؛ لرجحان جانبه بأن الأصل في وضع اليد على مال الغير هو الضمان، كما هو مقتضى دعوى رب المال (¬1). المطلب الخامس ـ مبطلات المضاربة: تبطل المضاربة في الحالات التالية (¬2): 1 - الفسخ والنهي عن التصرف أو العزل: تبطل المضاربة بالفسخ، وبالنهي عن التصرف أو العزل إذا وجد شرط الفسخ والنهي: وهو علم صاحبه بالفسخ والنهي، وأن يكون رأس المال ناضاً أي نقداً وقت الفسخ والنهي، حتى يتبين ما إذا كان هناك ربح مشترك بين المضارب ورب المال، فإن كان متاعاً لم يصح العزل. ويترتب عليه أنه إذا لم يعلم المضارب بالفسخ أو بالنهي وتصرف، جاز تصرفه، وإذا علم بالعزل وكان المال أمتعة (عروضاً) فله أن يبيعها لينض رأس المال ويظهر الربح، ولا يملك رب المال عندئذ نهيه عن البيع لما فيه من إبطال حقه. وهذا متفق عليه بين فقهاء المذاهب الأربعة. إلا أن المالكية قالوا: يصبح العقد بالشروع في العمل لازماً للطرفين، فلا يفسخ إلا باتفاقهما. وغير المالكية يعتبرون العقد غير لازم قبل الشروع وبعده، كما تقدم. 2 - موت أحد العاقدين: إذا مات رب المال أو المضارب بطلت المضاربة عند الجمهور؛ لأن المضاربة تشتمل على الوكالة، والوكالة تبطل بموت الموكل ¬
3 - جنون أحد العاقدين
أو الوكيل. ويتم بطلان المضاربة سواء علم المضارب بموت رب المال أو لم يعلم؛ لأن الموت عزل حكمي، فلا يقف على العلم، كما في الوكالة. وقال المالكية: لا تنفسخ المضاربة بموت أحد العاقدين، ولورثة العامل القيام بالمضاربة إن كانوا أمناء، أو يأتوا بأمين (¬1). 3 - جنون أحد العاقدين: تبطل المضاربة بجنون أحد المتعاقدين إذا كان عند غير الشافعية مطبقاً؛ لأن الجنون يبطل الأهلية، وكل ما تبطل به الوكالة تبطل به المضاربة، مثل الإغماء والحجر على رب المال نفسه. أما الحجر على المضارب للسفه فإنه لا ينعزل عند الحنفية؛ لأنه يصبح كالصبي المميز، والمميز عندهم أهل لأن يوكل عن غيره، فكذلك السفيه. 4 - ارتداد رب المال عن الإسلام: إذا ارتد رب المال عن الإسلام، ومات أو قتل على الردة، أو لحق بدار الحرب وقضى القاضي بلحاقه، بطلت المضاربة من يوم الردة عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن اللحوق بدار الحرب بمنزلة الموت، وهو يزيل أهلية رب المال بدليل أن المرتد يقسم ماله بين ورثته. وإذا ارتد المضارب فالمضاربة على حالها لتوافر أهليته، حتى إنه لو اشترى وباع وربح، ثم قتل على ردته أو مات أو لحق بدار الحرب فإن جميع ما فعل مما ذكر جائز، والربح بينهما على ما شرطا؛ لأن عبار ة المرتد صحيحة لتوافر التمييز والآدمية دون خلل فيهما. ويلاحظ أنه إذا صار رأس المال متاعاً، فبيع المضارب فيه وشراؤه جائز حتى ينض رأس المال (أي يتحول إلى النقدية)، وحينئذ لا ينعزل المضارب بالعزل والنهي ولا بموت رب المال ولا بردته أيضاً (¬2). ¬
5 - هلاك مال المضاربة في يد المضارب
5 - هلاك مال المضاربة في يد المضارب: إذا هلك رأس المال في يد المضارب قبل أن يشتري به شيئاً بطلت المضاربة؛ لأن المال تعين لعقد المضاربة بالقبض، فيبطل العقد بهلاكه كالوديعة. وكذا تبطل المضاربة باستهلاك المضارب مال المضاربة أو إنفاقه أو دفعه إلى غيره، فاستهلكه، حتى إن المضارب لا يملك أن يشتري به شيئاً للمضاربة. فإن أخذ المضارب مثل المال من الذي استهلكه، كان له أن يشتري به على المضاربة. هذه هي الحالات التي تبطل بها المضاربة كما ذكر الحنفية. وإذا انفسخت المضاربة ومال المضاربة ديون على الناس، وامتنع المضارب عن تقاضي الديون وقبضها: فإن كان المضارب قد ربح، أجبره الحاكم على اقتضاء الديون، لأنه بمنزلة الأجير، والربح كالأجر له، والأجير مجبور على العمل فيما التزم. وإن لم يكن هناك ربح لم يلزمه اقتضاء الدين، لأنه يعتبر وكيلاً، والوكيل متبرع، والمتبرع لا يجبر على إيفاء ما تبرع به، غير أنه يؤمر المضارب أو الوكيل أن يحيل رب المال على الذي عليه الدين، حتى يمكنه قبضه؛ لأن حقوق العقد ترجع إلى العاقد، فلا تثبت ولاية القبض لرب المال إلا بالحوالة من العاقد، فيلزمه أن يحيله حتى لا يضيع حقه. وما هلك من مال المضاربة فهو من الربح دون رأس المال؛ لأن الربح تابع للمال، ورأس المال أصل له، ولا يعتبر التبع قبل حصول الأصل، فيكون صرف الهلاك إلى التابع أولى. فإذا زاد الهلاك على الربح فلا ضمان على المضارب؛ لأنه أمين.
الشركات بين القديم والحديث ........................... ................................... في الفقه الإسلامي .................................
........ الشركات بين القديم والحديث ........................... ................................... في الفقه الإسلامي ................................. الإسلام دين الحياة كما هو معروف، فما من كسب مشروع حلال إلا أقرته الشريعة، وما من كسب مشبوه يوقع في النزاع والجدال، ويحطم علاقات الود والتعاون بين الناس إلا حظرته الشريعة، وأوصدت الباب أمامه، فالشريعة مع الناس يسراً وسماحة إذا تحققت مصالحهم دون تصادم بينهم، وهي لا تقرهم إذا هم أوقعوا أنفسهم في متاهات الجهالة والمنازعات والظلم والاستغلال، وعليه نظمت الشركات في الإسلام على أساس التراضي المشترك، والعدل، ومراعاة المصالح، والأعراف الصحيحة المشروعة، وأن الأصل في العقود هو الإباحة والحل، وما أجمل قول الفقهاء في هذا الصدد: «الشركة تنعقد على عادة التجار». ومن أهم موارد الكسب المشروع ثلاثة هي: التجارة والصناعة والزراعة، وقد يقوم الفرد عند استطاعته بها، والغالب أنه يحتاج إلى التعاون مع غيره، لعدم توافر القدرات والإمكانات المالية أو البشرية لديه، سواء بالنسبة للخبرة الفنية، أو الجهد، أو من أجل التخفيف من احتمالات المخاطر التي قد تصادف المرء في خضم الحياة الرهيب. ومن هنا شرعت الشركة في الشرائع السماوية؛ لأن التعاون بين الناس أمر ضروري، وقد قص القرآن الكريم علينا على لسان داود عليه السلام نبأ الشركاء، فقال تعالى: {وإن كثيراً من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض، إلا
مشروعية الشركة
الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وقليل ما هم} [ص:24/ 38] (¬1)، وأشرك الله بعض الورثة في بعض الأنصبة فقال عن الإخوة لأم: {فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث} [النساء:12/ 4]. وأكدت السنة النبوية مبدأ مشروعية الشركة، ففي الحديث القدسي: «إن الله عز وجل يقول: أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإذا خانه خرجت من بينهما» والمعنى: أنا معهما بالحفظ والإعانة، أمدهما بالمعونة في أموالهما، وأنزل البركة في تجارتهما، فإذا وقعت بينهما الخيانة رفعت البركة والإعانة عنهما. وقد أقر النبي صلّى الله عليه وسلم تعاون الناس بالشركة، كما في أحاديث كثيرة، وقال: «يد الله على الشريكين ما لم يتخاونا» وصح أن السائب بن أبي السائب قال للنبي صلّى الله عليه وسلم بعد بعثته: «كنت شريكي في الجاهلية، فكنت خير شريك لا تداريني ولا تماريني» [أي لاتمانعني ولاتحاورني] رواه أبو داود. ولفظ ابن ماجه: «كنت شريكي ونعم الشريك، كنت لا تداري ولا تماري» وجاء السائب يوم الفتح، فقال له النبي عليه السلام: «مرحباً بأخي وشريكي، كان لا يداري ولا يماري». والشركة كما أبان الحنفية هي: عبارة عن عقد بين المتشاركين في رأس المال والربح. وتعددت أنواع الشركات قديماً وحديثاً، إما على أساس الاشتراك في الأموال، أو في الأعمال والتصرفات، أو في الضمان (الالتزام). فشركة الأموال تعتمد على عنصر الاشتراك في رأس المال. وشركة الأعمال تعتمد على الحرفة والصنعة وضمان العمل، وشركة الوجوه ترتكز على عنصر ثقة الناس بالشريكين، من غير أن يكون لهما رأس مال. ¬
أجاز فقهاء الحنفية والزيدية كل أنواع الشركات
وأجاز فقهاء الحنفية والزيدية كل أنواع الشركات: الإجبارية وهي شركات الأملاك، والاختيارية وهي شركات العقود. ومن أهم أنواع الشركات في الماضي والحاضر: شركة المضاربة وهي التي يكون المال فيها من جانب، والعمل من جانب آخر، أجازها الشرع لحاجة الناس إليها، إذ قد يوجد ذو المال الذي لا يتمكن من التصرف فيه، ويوجد من يحسن التصرف ولا مال له، ويوزع الربح بينهما بحسب الاتفاق، ويتحمل صاحب رأس المال الخسارة وحده، ويكفي العامل ضياع جهده وعمله. وتعارف الناس في عصرنا أنواعاً جديدة من الشركات، نظم القانون المدني بعضها كشركة التضامن والتوصية البسيطة والمساهمة وغيرها، وأغفل تنظيم بعضها الآخر كشركة المحاصة والشركة على البهائم، وشركات السيارات إما مع إجارة أو بدون إجارة، ولا بد لنا من بيان حكم هذه الشركات في الشريعة، لكثرة سؤال الناس عنها، وتعارفهم ألواناً من الشركات قد تكون معقدة وغير جائزة. واكتفى القانون المدني الأردني المستمد من الشريعة ببيان أحكام بعض أنواع الشركات بنحو خاص وهي شركة الأعمال، وشركة الوجوه، وشركة المضاربة في المواد 611 - 635 بعد بيان الأحكام العامة للشركات بوجه عام في المواد 582 - 610، وقد استقى هذا القانون شركتي الأعمال والوجوه من المذهبين الحنفي والحنبلي، وأحكام شركة المضاربة من المذهب الحنفي. والقانون المدني الوضعي في سورية ومصر قسم الشركات إلى قسمين: شركات أشخاص وشركات أموال. أما شركات الأشخاص: فهي التي يبرز فيهاالعنصر الشخصي، فتقوم على شخصية الشركاء والثقة المتبادلة بينهم، بصرف النظر عن المال الذي يقدمه كل
شركات الأموال
شريك. وهي تشمل شركة التضامن، وشركة التوصية البسيطة، وشركة المحاصة. وأما شركات الأموال: فهي التي تعتمد عند تكوينها على عنصر المال، بقطع النظر عن شخصية الشريك، وهي تشمل شركة المساهمة، وشركة التوصية بالأسهم، والشركة ذات المسؤولية المحدودة. فما حكم كل نوع من هذه الأنواع في الشريعة الإسلامية؟ 1 - شركة التضامن: وهي الشركة التي يعقدها اثنان أو أكثر بقصد الاتجار في جميع أنواع التجارات أو في بعضها، ويكون الشركاء فيها مسؤولين بالتضامن عن جميع التزامات الشركة، ليس في حدود رأس المال فقط، بل قد يتعدى ذلك إلى الأموال الخاصة لكل شريك. ويلاحظ أن لعنصر الضمان (أو الكفالة أو الالتزام) في هذه الشركة شبهاً فيما تتميز به شركة المفاوضة التي لم يجزها غير الحنفية والزيدية، وهي التي تتطلب الاشتراك في عموم التجارات، بشرط التساوي بين الشركاء في رأس المال والتصرف والدين أي الملة، ويكون كل شريك كفيلاً عن الآخر فيما يلتزم به من التزامات تتعلق بالشركة. وبما أن تحقيق المساواة بين الشركاء أمر عسير، لاحتمال حدوث زيادة في أموال كل من الشركاء، فتصبح هذه الشركة نادرة الوجود، أو قصيرة الأجل وعديمة الاستمرار، مما يجعلها سريعة التحول والانقلاب إلى شركة عنان. وشركة العنان لا تتطلب المساواة في المال ولا في التصرف ولا في الملة، وهي أن يشترك اثنان في مال لهما على أن يتجرا فيه، والربح بينهما. فيجوز أن يكون مال أحدهما أكثر من الآخر، كما يجوز أن يكون أحدهما مسؤولاً عن الشركة،
2 - شركة التوصية البسيطة
والآخر غير مسؤول، فليس فيها كفالة، فلا يطالب أحدهما إلا بما عقده بنفسه من التصرفات، أما تصرفات شريكه فهو غير مسؤول عنها. ويقسم الربح بينها بحسب شرطهما الذي اتفقا عليه عند جمهور الفقهاء (خلافاً للشافعي فإن الربح عنده على قدر المال)، فيجوز أن يزيد ربح أحدهما عن الآخر بسبب خبرته في التجارة، مع التساوي في رؤوس الأموال أو التفاوت فيها، وتكون الوضيعة أو الخسارة على قدر رأس المال باتفاق المذاهب عملاً بالحديث: «الربح على ما شرطا، والوضيعة على قدر المالين»، ولا مانع في تقديري خلافاً لرأي الكمال بن الهمام الحنفي من اشتراط الكفالة في شركة العنان، فيصبح كل شريك كفيلاً عن صاحبه وضامناً له؛ لأن الكفالة عقد تبرع، وقد شرطها الشريكان، وهي جائزة في غير الشركة، وإذا جازت الكفالة بين شخصين لا علاقة مالية بينهما، فلأن تجوز بين شخصين ارتبطا بعقد الشركة أولى. ويؤكد ذلك أن الأصل في العقود هو التراضي، والشركة عقد يقوم على التراضي، فيلزم الوفاء بكل شرط لا يصادم النصوص الشرعية. 2 - شركة التوصية البسيطة: هي الشركة التي تعقد بين شركاء بعضهم متضامنون، وبعضهم موصون، فالمتضامنون هم الذين لهم أموال ويقومون بأعمال إدارة الشركة، وهم مسؤولون عن الإدارة، متحملون لالتزاماتها، متضامنون في هذه المسؤولية وفي إيفاء ديون الشركة. والموصون: يقدمون المال، ولا يسألون عن إدارتها، ولا يتحملون التزاماتها. وهذه الشركة جائزة أيضاً، لأن فقهاءنا أجازوا في شركة العنان أن يشترط العمل لأحد الشريكين، ويسأل عنه دون غيره، ويجوز بناء على ذلك أن تشترط زيادة الربح للعامل، أو يقدر له مرتب خاص، ويكون أجيراً. ولا فرق بين أن
3 - شركة المحاصة
يكون المسؤول عن إدارة الشركة شريكاً واحداً أو أكثر، وغير المسؤول واحداً أو أكثر، فاشتراط الكفالة والمسؤولية بين الفريق الأول دون الثاني جائز، كما تبين في شركة التضامن. كما أنه يمكن جعل هذه الشركة نوعاً من أنواع شركة المضاربة، الشريك المتضامن هو المضارب، المتصرف في الشركة، المسؤول عن الحقوق المتعلقة بها أمام الغير. والشريك الموصي هو رب المال في شركة المضاربة، وهو غير مسؤول عن إدارة الشركة، ولا يضمن لأصحاب الحقوق المتعاملين حقوقهم، ولا يتحمل من الالتزامات إلا خسارة رأس مال في حالة الخسارة، ولا يسأل العامل المضارب عن الخسارة فيما يسمح له من التصرفات، ويكون المضارب حر التصرف بحسب عادة التجار، وتوزع الأرباح على حسب الاتفاق بين المتشاركين في شركة المضاربة. والخلاصة: إن هذه الشركة تعتبر شركة مضاربة مع بعض الفروق الطفيفة بينهما في الأحكام الفقهية. ويلاحظ أن انتشار شركات المساهمة حدَّ كثيراً من انتشار شركات التوصية؛ لأن شركات المساهمة تمارس عادة نشاطاً واسعاً في الاستثمارات، وكثيراً ما يكون التوفيق حليفها لما يتوفر لها من رؤوس أموال كبيرة. ومزية شركة التوصية تتحقق في شركة المساهمة، وهذه المزية هي أن المساهم لا يكتسب صفة التاجر، ولا يسأل إلا في حدود قيمة الأسهم التي اكتتب فيها. 3 - شركة المحاصة: هي عقد كباقي العقود، بمقتضاه يلتزم شخصان أو أكثر بأن يساهم كل منهم في مشروع مالي، بتقديم حصة من مال، أو من عمل، لاقتسام ما قد ينشأ عن هذا المشروع من ربح أو من خسارة، إلا أنها تمتاز بخفائها عن الجمهور، فليس لها رأس مال شركة، ولا عنوان شركة، فهي غير معروفة من الناس، وليس لها وجود ظاهر، وليس لها شخصية معنوية مستقلة كباقي
4 - شركة المساهمة
الشركات. فهي شركة وقتية كالتي تنشأ في مزاد مثلاً أو في صفقة تنتهي بانتهائها، وتصفى الأرباح عقب الفراغ منها. فالذي يبرز منها شريك واحد يتعامل في الظاهر باسمه، وتبقى الشركة مستترة، ليس لها شخصية اعتبارية. وهذه الشركة إجمالاً جائزة شرعاً؛ لأنها نوع من أنواع شركة العنان، ليست فيها مساواة، ولا تضامن، ولا تكافل، وهي معقودة على نوع خاص من أنواع التجارات، والربح يوزع فيها بحسب الاتفاق، والخسارة تكون بحسب رؤوس الأموال التي استعملت فيها. وبصفة دقيقة تعد شركة المحاصة شركة عنان إذا كانت حصص الشركاء شائعة الملكية بين الشركاء. وتعد شركة عنان ومضاربة إذا احتفظ كل شريك بملكية حصته، لكنه سلمها لواحد لاستثمارها مع بقية الحصص لمصلحة الكل، على أن يقتسموا الربح أو الخسارة فيما بينهما بحسب الاتفاق أو الحصص. فالمال المقدم من أصحابه إلى أحدهم يعد مضاربة، ويكون الشريك المتصرف مضارباً، لكنه لما كان متقدماً بجزء من رأس المال فهو شريك عنان أيضاً، كما أنه إذا تصرف معه بعض الشركاء في إدارة الشركة، كانت الشركة شركة عنان بينهم. وأما الذين لم يساهموا في الإدارة فهم شركاء مضاربون. ومن المعلوم أن شركة المفاوضة: هي اشتراك أنواع من شركة العنان والوجوه والأبدان؛ لأن ما صح بانفراده؛ صح مع غيره. فيجوز بناء عليه تعدد أنواع الشركات في شركة واحدة. 4 - شركة المساهمة: هي أهم أنواع شركات الأموال، وهي التي يقسم فيها رأس المال إلى أجزاء صغيرة متساوية، يطلق على كل منها سهم غير قابل للتجزئة، ويكون قابلاً للتداول. وتتحدد مسؤولية المساهم بقدر القيمة الاسمية لأسهمه. ويعتبر مدير الشركة وعمالها أجراء عند المساهمين، لهم مرتبات خاصة، سواء
5 - شركة التوصية بالأسهم
أكانوا مساهمين أم غير مساهمين. وليس لمدير الشركة أن يستدين عليها بأكثر من رأس مالها، فإن فعل ضمن هو، ولا ضمان على المساهمين إلا في حدود أسهمهم. وتوزع الأرباح بنسبة الأسهم أي بنسبة رؤوس الأموال. وتسمى شركة مغْفَلة لإغفال الاعتبار الشخصي فيها، وإنما الاعتبار الأول في تكوينها هو للمال، وليس لشخصية الشركاء، بل لا يعرف الشركاء بعضهم بعضاً، ولا يعرفون شيئاً عن إدارة الشركة إلا ما يعرضه مجلس إدارتها على الجمعية العمومية عند اجتماعها كل سنة. ورأى المشرع الوضعي قصر نشاطات الشركات المساهمة على المشروعات الكبيرة نسبياً التي تحتاج إلى رؤوس أموال ضخمة لا تتوافر عادة لدى الأشخاص، كصناعة الغزل والنسيج، والمنسوجات القطنية وغيرها، والحديد والصلب، والخزف ونحو ذلك. وهذه الشركة جائزة شرعاً؛ لأنها شركة عنان، لقيامها على أساس التراضي، وكون مجلس الإدارة متصرفاً في أمور الشركة بالوكالة عن الشركاء المساهمين، ولا مانع من تعدد الشركاء، واقتصار مسؤولية الشريك على أسهمه المالية مشابه لمسؤولية رب المال في شركة المضاربة. ودوام الشركة أو استمرارها سائغ بسبب اتفاق الشركاء عليه، والمسلمون على شروطهم فيما هو حلال. وإصدار الأسهم أمر جائز شرعاً. أما إصدار السندات أي القروض بفائدة فلا يحل شرعاً. 5 - شركة التوصية بالأسهم: هي التي تضم نوعين من الشركاء: متضامنين ومساهمين، والمساهمون كالشركاء الموصين في شركة التوصية البسيطة، لا يسأل الواحد منهم إلا في حدود الحصة التي يقدمها، إلا أن المساهمين عددهم أكثر بحيث يسمح بقيام جمعية عمومية منهم، ويختلف المساهم عن الموصي في أن الأول يملك أسهماً قابلة للتداول، على عكس الثاني. ولا اعتبار لأشخاص الشركاء، وإنما الاعتبار لأموالهم في هذه الشركة.
6 - الشركة ذات المسؤولية المحدودة
وهي شركة جائزة شرعاً؛ لأنها نوع من شركات العنان التي يشترط فيها التضامن بين بعض الشركاء، وتلك كفالة جائزة. وحرية الشريك المتضامن بالتصرف مستمدة من إذن الشركاء الآخرين. وعمل المتضامنين في أموال المساهمين خاضع لأحكام شركة المضاربة، ولا مانع من كون بعض الشركاء مساهمين كما بان في شركة المساهمة؛ لأن تقديم الحصة بالأسهم جائز شرعاً، خصوصاً إذا انحصر عدد المساهمين، وعرف بعضهم بعضاً. 6 - الشركة ذات المسؤولية المحدودة: هي شركة تجارية كباقي شركات الأموال، لا اعتبار فيها لشخصية الشركاء، واشترط القانون فيها ألا يزيد عدد الشركاء عن خمسين شريكاً، لا يكون كل منهم مسؤولاً إلا بقدر حصته. فهي تجمع بين خصائص شركات الأموال وشركات الأشخاص. ففيها من شركات الأموال أن مسؤولية الشريك محدودة بمقدار حصته، وأن حصته تنتقل إلى ورثته، وإدارتها كما في شركات المساهمة، يجوز أن يعين لها مدير من المساهمين أو من غيرهم بمرتب محدد، ويكون أجيراً، أو يديرها أحد الشركاء نظير جزء من الأرباح. وفيها من شركات الأشخاص أن الشريك يكون صاحب حصة في الشركة وليس مساهماً، ولا تكون حصص الشركاء قابلة للتداول كالأسهم التجارية. وأهم ما يميزها أنها تتم بالاشتراك الشخصي لا بالاكتتاب العام. وكل ذلك جائز شرعاً، وتعتبر هذه الشركة من شركات العنان، وقد يكون فيها بعض خصائص المضاربة كما في تحديد مسؤولية الشريك بمقدارحصته، كما أن رب المال في المضاربة لا يسأل إلا في حدود رأسماله. والخلاصة: إن هذه الشركات التي أقرها القانون المدني ليست غريبة عن قواعد الفقه الإسلامي، وإنما هي منسجمة مع أنظمة الشركات التي عرفها
شركات السيارات
فقهاؤنا، ولكنها متطورة بحسب حاجة العصر وعرفه، فشركات الأشخاص تعتبر جميعها من قبيل شركة المضاربة في الفقه الإسلامي مع اختلاف في بعض الأحكام بين الشريعة والقانون حسبما تقتضيه مصلحة الناس وطبيعة التطور. وشركات الأموال تعتبر في الغالب من قبيل شركات العنان، مع بعض أوصاف شركة المفاوضة في حال التضامن، وأوصاف شركة المضاربة في حال تحديد مسؤولية الشريك بمقدار حصته فقط. والإدارة توكيل في القيام بالأعمال، إذا كان المدير شريكاً مساهماً، والوكالة تصح بأجر أو بغير أجر أو أن المدير أجير بعقد الاستئجار أو التوظف إذا كان غير مساهم، فهو يعمل بأجر بحكم التوظف، لا بحكم المشاركة. شركات السيارات: كثيراً ماتنعقد الشركة في ملكية سيارة شاحنة أو صغيرة سياحية أو لنقل الركاب، ويكون بعض الشركاء ملاَّكاً لحصص معينة، وواحد منهم سائق للسيارة وشريك يملك بعض الأسهم معاً، ويتقاضى السائق عادة أجراً أو راتباً شهرياً معيناً، وقد يوافق مالك السيارة على أن يتنازل عن ربعها مثلاً للسائق على أن تسدد قيمة الربع من الأرباح في المستقبل. وهذا كله جائز لتعارف الناس؛ لأن الشركة تنعقد على حسب العادة، وهي مبنية على التوسع والمسامحة، وتنعقد أيضاً على الضمان أو على ذمم الشركاء أو على عملهم، والشركة تنبني على الوكالة أو على الوكالة والكفالة. ويأخذ السائق حصته من الأرباح، كما يتقاضى الأجر المتفق عليه، ولا مانع من أن يكون الأجر مقطوعاً محدداً أو مسمى، أو جزءاً نسبياً من الربح. وقد بينت في بحث شركة المساهمة وشركة التضامن أنه لا مانع شرعاً من اعتبار مدير الشركة أجيراً موظفاً على العمل. ولا مانع من وجود صفتي الشركة والإجارة، في شيء واحد، في رأي المالكية والشافعية قياساً على المزارعة والمساقاة، ولأن المنع من وجود عقدين في عقد أو شرطين في عقد يزول إذا زالت علته أو حكمته وهو عدم إثارة النزاع والجدال، وعدم المنازعات جرى عليه العرف والعادة، فلم يعد الشرط مفسداً، وللناس فيها حاجة.
شركة البهائم
شركة البهائم: تقوم شركات متعددة في وقتنا الحاضر بين الناس لرعي الماشية أو لتربية الأبقار والأغنام، فيقدم المال من شريك، والعمل من الشريك الآخر، وقد يشترك الشريكان في دفع ثمن البهائم، ثم ينفرد أحدهما في العمل إما بالرعي أو بتقديم الطعام والشراب، والحراسة والتنظيف. وذلك كله جائز شرعاً بشرط انتفاء الجهالة الفاحشة المفضية الى النزاع والخصام، ولا تضر الجهالة اليسيرة التي لا تفضي الى التنازع، ويتسامح الناس فيها عادة. وبناء على هذا المبدأ يعرف حكم الصور الآتية: 1 - إذا اشترى شخص بعض البهائم، ودفع ثمنها كله من ماله، وتعهد شخص آخر بتربيتها وشراء الطعام لها، فهذه الشركة لا تصح؛ لأن ما يشتريه العامل من الطعام مجهول جهالةفاحشة تؤدي إلى المنازعة فيفسد أو يبطل العقد. 2 - إذا كان ثمن العلف يستوفى مما تنتجه البهائم من ألبان، ويوزع باقي ريع اللبن على الشريكين، فلا تصح الشركة، إذ قد يكفي اللبن للطعام وقد لا يكفي. فإذا تكفل صاحب رأس المال بما قد تحتاجه من طعام، صح العقد. 3 - إذا اقتصر عمل العامل على التربية والرعاية والإطعام. وتكفل أو تعهد رب المال بأثمان النفقات والطعام، صحت الشركة، وتكون شركة مضاربة. ولايقال: إن تناول الحيوان طعامه باختياره أمر طبيعي، لا أثر له في نمو وزيادة الحيوان، كما تصور الحنفية؛ لأن عمل العامل ضروري من تقديم الطعام بنسب معينة وفي وجبات مخصصة، والقيام بالخدمة والإشراف والتنظيف والرعاية، وفي ذلك أثر ملحوظ في تسمين الحيوانات وزيادة سعرها وتحسين نتاجها. 4 - إذا اشترك اثنان في دفع ثمن الحيوان ونفقة الطعام والشراب، وتبرع
أحدهما بالخدمة، صحت الشركة؛ لأنها اقتصرت على المشاركة في رأس المال، دون العمل. 5 - الصورة الغالبة الآن: هي الاشتراك في أثمان الماشية، وأخذ الراعي أو العامل ألبان الماشية وأسمانها نظير القيام بما يلزمها من خدمة وعناية ورعاية، وأما النتاج من أولاد وأصواف فيقسم بين الشريكين مناصفة. هذه الشركة جائزة شرعاً كما قررت لجنة الفتوى بالأزهر عام 1948م، لتعامل الناس بها وتعارفهم عليها، وحاجتهم إليها، ولم يوجد نص يحظرها من كتاب أو سنة أو إجماع، ولا يترتب عليها حدوث منازعات وعداوات، فتجوز تيسيراً على الناس، وأما الجهالة فهي يسيرة لا تفضي إلى المنازعة. والخلاصة: إن دين الله يسرلا عسر، والأعراف الصحيحة التي لا تصادم الشريعة معتبرة، والاجتهاد في ذلك متعين، والتجديد والتطور أمران ضروريان.
الفصل السادس: الهبة
الفَصْلُ السّادس: الهِبَة خطة الموضوع: بيان الهبة في المباحث الستة الآتية: المبحث الأول ـ تعريف الهبة ومشروعيتها. المبحث الثاني ـ ركن الهبة. المبحث الثالث ـ شروط الهبة. المبحث الرابع ـ حكم الهبة. المبحث الخامس ـ موانع الرجوع في الهبة. المبحث السادس ـ عطية الأبناء. المبحث الأول ـ تعريف الهبة ومشروعيتها: الهبة تشمل الهدية والصدقة؛ لأن الهبة والصدقة والهدية والعطية معانيها متقاربة، فإن قصد منها طلب التقرب إلى الله تعالى بإعطاء محتاج، فهي صدقة، وإن حملت إلى مكان المهدى إليه، إعظاماً له وتودداً، فهي هدية، وإلا فهي هبة. والعطية: الهبة في مرض الموت. والهبة في الاصطلاح الشرعي: عقد يفيد
التمليك بلا عوض حال الحياة تطوعاً (¬1)، وعرفها الحنابلة (¬2) بأنها: تمليك جائز التصرف مالاً معلوماً أو مجهولاً تعذر علمه (¬3)، موجوداً، مقدوراً على تسليمه، غير واجب، في الحياة، بلا عوض، بما يعد هبة عرفاً (¬4) من لفظ هبة وتمليك ونحوهما. والقيود احتراز عن العارية، ونحو كلب، وحَمْل، ونفقة زوجة، ووصية، ونحو بيع. فكلمة تمليك لإخراج العارية، والمال لإخراج ما ليس بمال كالكلاب، والمقدور على تسليمه لإخراج الحمل، وغيرا لواجب لإخراج الديون والنفقات، وفي الحياة لإخراج الوصية، وبلا عوض لإخراج عقود المعاوضات. والهبة مشروعة مندوب إليها لقوله تعالى: {فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مرئياً} [النساء:4/ 4]. وقوله سبحانه: {وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ... } [البقرة:177/ 2] الآية. ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «تهادوا تحابوا» (¬5)، وقوله عليه الصلاة والسلام: «لاتحقرن جارة أن تهدي لجارتها ولو فرسن شاة» (¬6): أي ¬
المبحث الثاني ـ ركن الهبة
ظلفها، وهو في الأصل خف البعير، فاستعير للشاة، وقوله أيضاً: «العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه» (¬1). والسنة: المكافأة على الهبة حينما يتيسر ذلك للموهوب له، لما أخرجه البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقبل الهدية، ويثيب عليها». وانعقد الإجماع على استحباب الهبة بجميع أنواعها، قال الله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى} [المائدة:2/ 5]. وهي للأقارب أفضل؛ لأن فيها صلة الرحم (¬2)، ولقوله تعالى: {واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام} [النساء:1/ 4] ولما أخرجه البخاري ومسلم أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من أحب أن يُبْسَط له في رزقه، ويُنْسأ له في أثره، فليصل رحمه» وبسط الرزق: التوسعة فيه والمباركة له فيه. وينسأ له في أثره: يطيل الله عمره ويؤخر له فيه. واتفق الأئمة على أن الهبة تصح بالإيجاب والقبول والقبض، وأجمعوا على أن الوفاء بالوعد في الخير مطلوب، وعلى أن تخصيص بعض الأولاد بالهبة مكروه، وكذا تفضيل بعضهم على بعض (¬3). المبحث الثاني ـ ركن الهبة: ركن الهبة عند الحنفية: هو الإيجاب والقبول قياساً؛ لأنه عقد كالبيع، وكذا ¬
القبض ركن كما في المبسوط؛ لأنه لا بد منه لثبوت الملك، بخلاف البيع. واستحساناً عند الكاساني وبعض الحنفية: ليس القبول من الموهوب له ركناً، وإنما الركن فقط هو الإيجاب من الواهب؛ لأن الهبة في اللغة عبارة عن مجرد إيجاب المالك من غير شرط القبول، وإنما القبول لثبوت حكمها أي الأثر المترتب عليها، وهو نقل الملكية. وفائدة الاختلاف تظهر فيمن حلف: لا يهب هذا الشيء لفلان، فوهبه منه، فلم يقبل: يحنث استحساناً، ولا يحنث قياساً، وأكثر شراح الحنفية (¬1) على أن الهبة تتم بالإيجاب وحده في حق الواهب، وبالإيجاب والقبول في حق الموهوب له؛ لأن الهبة عقد تبرع، فيتم بالمتبرع كالإقرار والوصية، لكن لا يملكه الموهوب له إلا بالقبول والقبض، لكن نصت المادة 837 من المجلة على أنه «تنعقد الهبة بالإيجاب والقبول، وتتم بالقبض». وأركان الهبة عند الجمهور (¬2) أربعة: هي الواهب، والموهوب له، والموهوب، والصيغة. أما الواهب: فهو المالك إذا كان صحيحاً مالكاً أمر نفسه. فإن وهب المريض ثم مات، كانت هبته في ثلث تركته عند الجمهور. وأما الموهوب له: فهو كل إنسان ويجوز أن يهب الإنسان ماله كله لأجنبي اتفاقاً. وأما هبة جميع ماله لبعض ولده دون بعض أو تفضيل بعضهم على بعض في الهبة، فمكروه عند الجمهور، وإن وقع جاز. وأما الموهوب: فكل مملوك. وأما الصيغة: فكل ما يقتضي الإيجاب والقبول من قول وفعل كلفظ الهدية والهبة والعطية والنحلة، وشبه ذلك. ¬
العمرى
والإيجاب: إما صريح، مثل: أن يقول الواهب: وهبت هذا الشيء لك، أو ما يجري مجرى الصريح كقوله، ملكته منك، أو جعلته لك أو هو لك، أو أعطيته، أو نحلته، أو أهديته إليك، أو أطعمتك هذا الطعام، أو حملتك على هذه الدابة، ونوى به الهبة؛ لأن تمليك العين للحال أو جعلها له من غير عوض هو معنى الهبة، ولأن بقية الألفاظ تفيد التمليك في الحال في عرف الناس أو في استعمالهم. هذا في الإيجاب المطلق، أما إذا كان مقروناً بقرينة فهي لا تخلو إما أن تكون القرينة وقتاً، أو شرطاً، أو منفعة (¬1). مثال الإيجاب المقترن بقرينة الوقت (العمرى): أن يقول: (أعمرتك هذه الدار، أو جعلت هذه الدار لك عمري (¬2)، أو عمرك، أو حياتك أو حياتي، فإذا مت أنا فهي رد على ورثتي) فهذا كله هبة، وهي للمعمر له في حياته، ولورثته بعد وفاته، لصحة التمليك، والتوقيت باطل، لقوله عليه الصلاة والسلام: «أمسكوا عليكم أموالكم، لا تعمروها، فإن من أعمر شيئاً، فإنه لمن أعمره» (¬3) أي المعمر له أوالموهوب له؛ ولأن الهبة لا تبطل بالشرط الفاسد بخلاف عقود المعاوضات المالية، ومنها البيع فإنها أي المعاوضات تفسد بالشرط الفاسد للنهي عن بيع وشرط. ¬
الرقبى
ومثال الإيجاب المقترن بشرط (الرقبى): أن يقول: (هذه الدار لك رقبى (¬1) أو حبيسة) فهي عارية في يده، ويأخذها منه متى شاء عند أبي حنيفة ومحمد، واستدلا بما روي عن الرسول صلّى الله عليه وسلم أنه أجاز العمرى وأبطل الرقبى (¬2)، ولأن قوله ذلك تعليق للتمليك بأمر على خطر الوجود وخطر العدم، والتمليكات لا تحتمل التعليق بالخطر الاحتمالي المتردد بين الوجود وعدم الوجود فلم تصح هبة، وصحت عارية؛ لأنه دفع الدار إليه، وأطلق له الانتفاع به، وهذا معنى العارية. وقال أبو يوسف والشافعية والحنابلة (¬3): إذا قبضها فهي هبة، وقوله: (رقبى، وحبيسة) باطل: ودليلهم ما روي عن الرسول صلّى الله عليه وسلم أنه أجاز العمرى والرقبى (¬4)،ولأن قوله: (داري لك) تمليك العين، لا تمليك المنفعة، وقياساً على قوله: (هي عمرى). أما المالكية (¬5) فقد أجازوا العمرى وأبطلوا الرقبى كالحنفية، وعرفوا العمرى ¬
المنحة
بأنها تمليك منفعة عقار أو غيره لشخص بغير عوض مدة حياته. فإذا مات المعمر له رجع الشيء المعمر لمن أعمره له، إن كان حياً، ولورثته إن كان ميتاً. وأما الرقبى: فهي اتفاق اثنين على أن من مات منهما قبل الآخر يكون ماله للآخر الحي. والخلاصة: أجاز أكثر العلماء العمرى والرقبى، على أنهما نوعان من الهبة يفتقران إلى الإيجاب والقبول والقبض ونحوه. ومنع الحنفية والمالكية الرقبى وأجازوا العمرى. ومثال الإيجاب المقترن بالمنفعة (المنحة): أن يقول: (هذه الدار لك سكنى)، أو (هذه الشاة، أو هذه الأرض لك منحة) فهي عارية باتفاق الحنفية (¬1)؛ لأنه لما ذكر (السكنى) دل على أنه أراد تمليك المنافع، ولأن المنحة عبارة عن بذل المنافع، فإذا أضاف ذلك إلى عين ينتفع بها مع بقائها، عمل بحقيقته. أما إذا أضاف إلى شيء لا ينتفع به إلا باستهلاكه، كما إذا منحه طعاماً، أو لبناً، فإنه يكون هبة؛ لأنه لا منفعة له مع قيام عينه. وبناء على هذه التفرقة قالوا: إن عارية الأعيان تمليك المنافع، وعارية المكيل والموزون ومنها الدراهم والدنانير قرض، ويكون تمليك العين (¬2)، فالعارية: هي عارية استعمال. والقرض: هو عارية استهلاك. وكذا لو قال: (هذه الدار لك سكنى عمرى، أو عمرى سكنى) فهي عارية، لأنه لما ذكر السكنى دل على أنه أراد تمليك المنافع، ولأن قوله: (سكنى) موضوع ¬
المبحث الثالث ـ شروط الهبة
للمنفعة لا تستعمل إلا لها. وكلمة (عمرى) صفة أو نعت وهي قيد في الموصوف قبلها، فدل على أنها عارية. وكذا إذا قال: (هبة سكنى، أو سكنى هبة) فهي عارية، لأنه لما ذكر (سكنى) بعد ذكر (الهبة) كان تفسيراً للهبة، لأن الهبة تحتمل هبة العين، وهبة المنافع، فإذا قال: (سكنى) فقد عيَّن هبة المنافع (¬1)؛ لأن هذه الكلمة نعت أو صفة لما تقدمها، والصفة قيد في الموصوف. وإن قال: (هذه الدار لك عمرى تسكنها، أو صدقة تسكنها) فهي هبة وصدقة، لأن في هذا المثال لم يفسر الهبة عن طريق النعت، وإنما وهب الدار منه، ثم أشار عليه فيما يعمل بملكه، والمشورة في ملك الغير باطلة، فيكون شرطاً فاسداً، والهبة لا تبطل بالشروط الفاسدة (¬2)، فتعلقت الهبة بالعين. وأما قوله (تسكنها) فهو بمنزلة قوله (لتسكنها) كما إذا قال: (وهبتها لك لتؤجرها). ولو قال: هي لك هبة تسكنها» كانت هبة أيضاً، كما في المثال السابق (¬3). المبحث الثالث ـ شروط الهبة: هناك شروط في الواهب، وشروط في الموهوب. وقد ذكر الحنابلة (¬4) أحد عشر شرطاً في الهبة وهي: كونها من جائز التصرف، مختار جادّ، بمال يصح ¬
شروط الواهب
بيعه، بلا عوض، لمن يصح تملكه، مع قبوله، أو وليه قبل تشاغل بقاطع، مع تنجيز، وعدم توقيت. وجائز التصرف: هو الحر المكلف الرشيد. وكون الموهوب مالاً لإخراج الاختصاصات. أما شروط الصيغة: فهي عند الشافعية اتصال القبول بالإيجاب من غير فاصل معتبر شرعاً، وعدم تقييدها بشرط؛ لأن الهبة تمليك، والتمليكات لا تحتمل التعليق بماله خطر الوجود والعدم، وعدم تقييدها بوقت كشهر أو سنة لأن الهبة تفيد التمليك المطلق الدائم كالبيع. شروط الواهب: يشترط أن يكون الواهب له أهلية التبرع بالعقل والبلوغ مع الرشد، وهذا شرط انعقاد؛ لأن الهبة تبرع، فلا تجوز هبة الصبي والمجنون؛ لأنهما لا يملكان التبرع، لكونه ضرراً محضاً، وكذا الأب لا يملك هبة مال الصغير من غير شرط العوض بلا خلاف؛ لأن ولايته قاصرة على وجوه النفع، والهبة تبرع فيه ضرر محض فلا تجوز منه. فإن شرط الأب العوض لم يجز أيضاً عند أبي حنيفة، وأبي يوسف؛ لأن الهبة بشرط العوض تبرع ابتداء أي قبل القبض، ثم تصير بيعاً انتهاء، أي بعد القبض، والأب لا يملك التبرع، وقال محمد: تجوز الهبة من الأب بشرط العوض؛ لأن ذلك في معنى البيع، والعبرة باتفاق المعنى (¬1). شروط الموهوب: يشترط في الموهوب شروط: ¬
1 - أن يكون موجودا وقت الهبة
1 - أن يكون موجوداً وقت الهبة: فلا تنعقد هبة ما ليس بموجود وقت العقد (¬1) مثل أن يهب ما يثمر نخله في هذا العام، أو ما تلد أغنامه هذه السنة؛ لأنه تمليك لمعدوم، فيكون العقد باطلاً (¬2). ومثل: أن يهب ما في بطن هذه الشاة، وسلطه على القبض عند الولادة، فلا ينعقد لاحتمال الوجود والعدم؛ لأن انتفاخ البطن قد يكون للحمل أو لداء في البطن. وكذلك لو وهب دقيقاً في حنطة أو دهناً في سمسم أو زبداً في لبن، أو زيتاً في زيتون: لا يجوز، وإن سلطه على قبضه عند حدوثه؛ لأنه معدوم للحال، والمعدوم ليس بمحل للملك، فوقع العقد باطلاً، فلا ينعقد إلا بالتجديد. أما هبة اللبن في الضرع، والصوف على ظهر الغنم، والزرع والنخيل في الأرض، والتمر في النخيل: فهي كهبة المشاع الآتية تقع فاسدة، فلو فصل ذلك وسلم إلى الموهوب له، جاز؛ لأن الموهوب موجود مملوك للحال، إلا أنه لم ينفذ لمانع، وهو كونه مشغولاً بغيره، فإذا فصل فقد زال المانع، فتجوز الهبة وتصير صحيحة (¬3). ووافق الشافعية والحنابلة مذهب الحنفية في هذا الشرط، فقالوا: كل ما صح ¬
2 - أن يكون مالا متقوما
بيعه صحت هبته. وقال المالكية: تجوز هبة ما لا يصح بيعه كالعبد الآبق والبعير الشارد والمجهول والثمرة قبل بدو صلاحها والمغصوب. 2 - أن يكون مالاً متقوماً: فلا تنعقد هبة ما ليس بمال أصلاً كالحر والميتة والدم وصيد الحرم والإحرام وغير ذلك، ولا تجوز هبة ما ليس بمتقوم كالخمر (¬1). 3 - أن يكون مملوكاً في نفسه: فلا تنعقد هبة المباحات، وهذه الشروط السابقة كلها شروط انعقاد. 4 - أن يكون مملوكاً للواهب: فلا تنفذ هبة مال الغير بغير إذنه، لاستحالة تمليك ما ليس بمملوك (¬2)، وهذا شرط نفاذ عند الحنفية. وبناء على الشرط الأخير يجوز عند الحنفية هبة المملوك، سواء أكان عيناً أم ديناً، فتجوز هبة الدين لمن عليه الدين؛ لأن ما في الذمة مقدور التسليم والقبض؛ لأن قبض العين قائم مقام قبض عين ما في الذمة. كما تجوز هبة الدين لغير من عليه الدين إن أذن له صراحة بالقبض، وقبضه استحساناً، كما سيتضح في شرط الإذن بالقبض. 5 - أن يكون محرزاً أي مفرزاً: فلا تصح عند الحنفية هبة المشاع إذا كان يحتمل القسمة كالدار والبيت الكبير، وتكون الهبة فاسدة، فإن قسم المشاع وسلم، جازت الهبة، وهذا شرط صحة للهبة. وتجوز الهبة إذا كان مشاعاً لا يحتمل القسمة، كالسيارة والحمام، والبيت الصغير والجوهر. وجواز الهبة للضرورة، لأنه قد يحتاج إلى هبة بعض ذلك، ويكتفى بصورة التخلية مقام القبض (¬3). ودليلهم على الحالة الأولى: أن القبض ¬
هبة المشاع
في الهبة شرط كالرهن، كما سأبين، والشيوع يمنع من القبض؛ لأن التصرف في النصف الشائع وحده، لا يتصور، فإن سكنى نصف الدار شائعاً محال، ولا يتمكن من التصرف فيه إلا بالتصرف في الكل، والعقد لم يتناول كل الدار، فعدم قسمة الموهوب يمنع صحة القبض وتمامه (¬1). وقال المالكية والشافعية والحنابلة: إن هبة المشاع جائزة، كالبيع، فإن القبض في هبة المشاع يصح كالقبض في المبيع المشاع. وصفة قبضه: أن يسلم الواهب جميع الشيء إلى الموهوب له، فيستوفي منه حقه، ويكون نصيب شريكه في يده كالوديعة (¬2)، والدليل على ذلك من السنة أن وفد هوازن لما جاؤوا يطلبون من رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يرد عليهم ما غنمه منهم، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم» (¬3) وهذا هبة المشاع: وهي هبة الشخص ما له من حصة غير معينة في شيء. أو هبة ما يملكه من شيء لاثنين أو أكثر. وهذا الخلاف يجري في التصدق بالمشاع على الغني؛ لأن الصدقة عليه هبة. وأما الصدقة بعشرة على مسكينين مثلاً فتجوز؛ لأن الصدقة تقع من المتصدق لله تعالى، لا للفقير، فلا يتحقق الشيوع. ويترتب على قاعدة الحنفية: وهو أنه لاتجوز الهبة في المشاع الذي يحتمل القسمة ما يلي (¬4): ¬
الهبة لاثنين
الهبة لاثنين: لو وهب إنسان داراً من رجلين أو مداً من حنطة أو ألف درهم أو نحو ذلك مما يقسم، فإنه لا يصح عند أبي حنيفة. وعند الصاحبين: يصح، ويجري الخلاف فيما لو وهب رجل داراً لرجلين وقال: (وهبت لكما هذه الدار: لهذا نصفها، ولهذا نصفها). ومنشأ الخلاف في ذلك: أن أبا حنيفة يعتبر الشيوع عند القبض ما نعاً من صحة الهبة. وأما الصاحبان: فيعتبران الشيوع عند العقد والقبض معاً هو المانع من صحة الهبة. وبناء عليه: يجوز هبة الاثنين من الواحد بالاتفاق، لعدم وجود الشيوع عند القبض في رأي أبي حنيفة، ولانعدام الشيوع في الحالتين معاً في رأي الصاحبين؛ لأن الشيوع وجد عند العقد، ولم يوجد عند القبض. ولا تجوز هبة الواحد من الاثنين عند أبي حنيفة، لوجود الشيوع عندا لقبض، ويجوز ذلك عند الصاحبين؛ لأنه لم يوجد الشيوع عند العقد والقبض جميعاً. ولا تجوز الهبة بالاتفاق إذا قال في هبة الدار: (وهبت لك نصفها، ولهذا نصفها) لأن الشيوع دخل على العقد نفسه، فمنع الجواز، بخلاف المثال السابق: (وهبت لكما هذه الدار: لهذا نصفها ولهذا نصفها) فعند أبي حنيفة: لا يجوز؛ لأن هذا تمليك مضاف إلى الشائع. وعند الصاحبين: يجوز، لأن قوله: (لهذا نصفها، ولهذا نصفها) لا يمكن جعله تفسيراً لنفس العقد؛ لأن العقد وقع على تمليك الدار جملة منهما، وإنما هو تفسير للحكم الثابت بالعقد أي أثر العقد، فلا يوجب ذلك إشاعة في العقد نفسه. ولو قال: (وهبت لكما هذه الدار: لهذا ثلثها، ولهذا ثلثاها) لم يجز عند أبي يوسف وأبي حنيفة، وجاز عند محمد. أما أبو حنيفة فكما قال في المثال
6 - أن يكون الموهوب متميزا عن غيره، ليس متصلا به، ولا مشغولا بغير الموهوب
السابق. وأما محمد فقال كما في المثال السابق أيضاً: إن العقد متى جاز لاثنين يستوي فيه حالة التساوي والتفاضل في الأنصباء كما في البيع. وأما أبو يوسف فقد خالف قاعدته حالة التفاضل في الأنصباء؛ لأن مطلق العقد لا يحتمل التفاضل، فكان تفضيل أحد النصيبين في معنى إفراد العقد لكل منهما، فكان ذلك هبة المشاع، فيتعذر جعل قوله: (لهذا ثلثها ولهذا ثلثاها) مفسراً للحكم الثابت بالعقد، بخلاف حالة التساوي. والخلاصة: إن الشيوع حالة القبض يمنع صحة الهبة، أما حالة العقد فلا يمنع صحتها، وكذا الشيوع الطارئ لا يفسد الهبة، وهو كأن يرجع الواهب في نصف الموهوب شائعاً. 6 - أن يكون الموهوب متميزاً عن غيره، ليس متصلاً به، ولا مشغولاً بغير الموهوب: لأن معنى القبض، وهو التمكن من التصرف في المقبوض لا يتحقق مع شغل الموهوب بغيره (¬1) وهذا شرط صحة للهبة. وبناء عليه لو وهب شخص أرضاً فيها زرع للواهب دون الزرع، أو زرعاً دون الأرض، أو نخلاً فيها ثمرة للواهب معلقة بها دون الثمرة، أو ثمرة النخل دون النخل: لا يجوز، وإن قبض الموهوب، وتكون الهبة فاسدة، فلو جز الثمر، وحصد الزرع، ثم سلمه فارغاً، جاز؛ لأن المانع من نفاذ حكم العقد وهو ثبوت الملك، قد زال. وكذا لو وهب داراً فيها متاع للواهب، أو ظرفاً فيه متاع للواهب دون المتاع، أو وهب دابة عليها حمل للواهب دون الحمل، وقبض الموهوب، فإنه لاتجوز ¬
مسألة استثناء ما في البطن
الهبة، ولا يزول الملك عن الواهب إلى الموهوب له؛ لأن الموهوب مشغول بغيره، فيكون بمنزلة هبة المشاع، وتكون الهبة حينئذ فاسدة، فلو ميز الموهوب عن غيره، وسلمه وحده، جازت الهبة. والخلاصة: إن هبة المشغول لا تصح بخلاف الشاغل، وهبة المتصل بغير الهبة اتصال خلْقة مع إمكان الفصل لا تجوز (¬1). مسألة استثناء ما في البطن: يتفرع على هذا الشرط السابق، بمقتضى القياس: أنه لو وهب دابة واستثنى ما في بطنها، لا يجوز، لأنه هبة ما هو مشغول بغيره. وأما استحساناً فقالوا: تجوز الهبة في الأم والحِمْل جميعاً، ويبطل الاستثناء. والعقود في هذه المسألة في الجملة ثلاثة أنواع (¬2). 1 - قسم يفسد فيه العقد أي لا يجوز فيه أصل التصرف: وهو البيع والإجارة والرهن (¬3)، فإذا عقد على الأم، دون الحَمْل، بأحد هذه العقود، فسد العقد، وبطل الاستثناء؛ لأن الحمل تبع للأم، فاستثناؤه إخراج لبعض ما اقتضاه ¬
7 - الشرط السابع وهو قبض الموهوب
العقد، لأن العقد ثبت في الأم وولدها، ففسد العقد، والقاعدة المقررة: أن الشرط الفاسد في المعاوضات المالية يفسد العقد (¬1). 2 - وقسم يصح فيه العقد ويبطل الشرط أو الاستثناء: وهو النكاح والخلع، والصلح عن دم العمد، والهبة؛ لأن موجب العقد أن يثبت الحكم في الكل، وقد استثني بعض الموجَب؛ فيكون شرطاً فاسداً، والقاعدة المقررة: أن الشرط الفاسد لايبطل عقود التبرعات والتوثيقات والزواج، بل العقد صحيح، والشرط لغو باطل، فالهبة إذن لا تبطل بالشروط الفاسدة. والأصل في ذلك بالنسبة للهبة أنه صلّى الله عليه وسلم أجاز العمرى وأبطل شرط المعمر (¬2)، وهي بخلاف البيع، لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع وشرط (¬3). 3 - وقسم يجوز فيه العقد والاستثناء جميعاً: وهو الوصية، كما إذا أوصى بفرس إلا حَملْها، صحت الوصية في الفرس، وبقي الحَمْل لورثة الموصي؛ لأن الحمل أصل على حدة بالنسبة للوصية، حتى إنه يجوز إفراده بالوصية، فيجوز استثناؤه إذن؛ لأن عقد الوصية والإيصاء، كل منهما بطبيعته لا يكون إلا مضافاً لزمن مستقبل، ولا يثبت الملك في الموصى به إلا بعد وفاة الموصي. 7 - الشرط السابع وهو قبض الموهوب: وهو أهم الشروط، وهو شرط لزوم وتمام الهبة، لا شرط صحة وركن عند بعض الحنفية وابن عقيل من الحنابلة ¬
ما نوع شرط القبض؟
كما سبق بيانه، وقد أخر إلى هنا، لكثرة ما يتبعه من أمور. فالقبض في الهبة: أن يكون الموهوب مقبوضاً، فلا يثبت الملك للموهوب له قبل القبض بل لا تتحقق الهبة إلا بالقبض، فبالقبض توجد الهبة، والقبض مولد لآثار الهبة عند الحنفية. وأتكلم هنا في بيان أصل القبض أنه شرط أم لا عند الفقهاء. ما نوع شرط القبض؟ اختلف الفقهاء، فقال الحنفية والشافعية (¬1): القبض شرط للزوم الهبة، حتى إنه لا يثبت الملك للموهوب له قبل القبض، بدليل ما روت عائشة رضي الله عنها أن أباها نحلها جداد عشرين وَسقاً (¬2) من ماله، فلما حضرته الوفاة، قال: يابنية: إن أحب الناس عندي بعدي لأنت، وإن أعز الناس علي فقراً بعدي لأنت، وإني كنت نحلتك جداد عشرين وسقاً من مالي، ولو كنت جددتيه وأحرزتيه لكان لك، وإنما هو اليوم مال الوارث، وإنما هما أخواك وأختاك فاقتسموه على كتاب الله، قالت: هذان أخواي، فمن أختاي، إنما هي أسماء، فمن الأخرى؟ قال: ذو بطن بنت خارجة، فإني أظنها جارية (¬3). فهذا نص في اشتراط القبض للزوم الهبة، وإن الهبة تملك بالقبض لقوله: «لو كنت جددتيه وأحرزتيه لكان لك»، وقال عمر رضي الله عنه: ما بال رجال ¬
يَنْحَلون أبناءهم نُحلاً، ثم يمسكونها فإن مات ابن أحدهم، قال: «مالي بيدي، لم أعطه أحداً، وإن مات هو قال: هو لابني، قد كنت أعطيته إياه، فمن نحل نحلة فلم يَحُزْها الذي نحلها ـ وأبقاها ـ حتى تكون إن مات لورثته، فهي باطلة» (¬1). وهذا هو قول عثمان وعلي أيضاً (¬2)، وفي الجملة فإن الخلفاء الراشدين وغيرهم اتفقوا على أن الهبة لا تجوز إلا مقبوضة محوزة (¬3). وقال الحنابلة في أرجح الروايتين عن أحمد: القبض شرط لصحة الهبة في المكيل أو الموزون، لإجماع الصحابة على ذلك، ويظهر أن المراد بكون القبض شرط صحة أنه شرط لزوم، بدليل قول ابن قدامة: إن المكيل والموزون لا تلزم فيه الصدقة والهبة إلا بالقبض، وهو قول أكثر الفقهاء. أما غير المكيل أو الموزون فتلزم الهبة فيه بمجرد العقد، ويثبت الملك في الموهوب قبل قبضه، لما روي عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما قالا: الهبة جائزة إذا كانت معلومة، قبضت أو لم تقبض (¬4). ¬
8 - يشترط لصحة القبض عند جمهور العلماء: أن يكون بإذن الواهب
وقال المالكية: لايشترط القبض لصحة الهبة، ولا للزوم الهبة، وإنما هو شرط لتمامها، أي لكمال فائدتها، بمعنى أن الموهوب يملك بمجرد العقد أي القول، على المشهور عندهم. والقبض أو الحيازة لتتم الهبة، ويجبر الواهب على تمكين الموهوب له من الموهوب. ودليلهم تشبيه الهبة بالبيع وغيره من سائر التمليكات، ولقول الأصحاب: الهبة جائزة إذا كانت معلومة، قبضت أو لم تقبض (¬1). والخلاصة: أن غير المالكية يرون أن الموهوب يملك بالقبض لا بالعقد (¬2)، وعند المالكية: يملك بالعقد. 8 - يشترط لصحة القبض عند جمهور العلماء: أن يكون بإذن الواهب: فلو قبض بلا إذن لم يملكه، ودخل في ضمانه؛ لأن التسليم غير مستحق على الواهب، فلا يصح التسليم إلا بإذنه، ولأن الإذن بالقبض شرط لصحة القبض في البيع، ففي الهبة من باب أولى؛ لأن القبض فيها شرط لصحتها، بعكس البيع (¬3) إلا أن الحنفية قالوا: القياس أن لا يجوز قبض الهبة إلا بإذن الواهب، سواء تم القبض في مجلس العقد أم بعد الافتراق. والاستحسان أن الموهوب له إذا قبض الموهوب في مجلس العقد بغير أمر الواهب، جاز. وإن قبض بعد الافتراق عن المجلس لم يجز إلا أن يأذن له الواهب في القبض. ¬
وجه القياس: أن القبض تصرف في ملك الواهب لأن ملكه قبل القبض باق، فلا يصح بدون إذنه. ووجه الاستحسان: أن القبض في الهبة بمنزل القبول؛ لأنه يتوقف عليه ثبوت الملك، والمقصود من الهبة إثبات الملك، فيكون الإيجاب من الواهب تسليطاً للموهوب له على القبض، فكان إذناً دلالة. وإنما قيد ذلك بالمجلس لأنه ثبت التسليط فيه، إلحاقاً له بالقبول، والقبول يتقيد بالمجلس، فكذلك ما يلحق به. وقال المالكية: يصح القبض ولو بلا إذن من الواهب، ويجبر الواهب على تمكين الموهوب من القبض حيث طلبه؛ لأن الهبة تملك بالقول أي بالإيجاب، على المشهور عندهم (¬1). ويترتب على مذهب الحنفية: أنه لو وهب إنسان ثوباً، أو عيناً من الأعيان، مفرزاً، مقسوماً، ولم يأذن له في قبضه، فقبضه الموهوب له فإن كان بحضرة الواهب: يجوز استحساناً، والقياس أن لا يجوز قبضه بعد الافتراق من المجلس، وهو قول زفر؛ لأن القبض عنده ركن بمنزلة القبول في حق إثبات الحكم، فلا يجوز القبض بعد الافتراق عن المجلس، كما لا يجوز القبول بعد الافتراق. ووجه الاستحسان: أن الإذن بالقبض وجد من طريق الدلالة؛ لأن الإيجاب فيه دلالة الإذن بالقبض. وأما في هبة الدين لغير من عليه الدين، فلا بد من الإذن صراحة بالقبض، ولا يكفي الإذن دلالة. وجه الفرق بين هبة العين وهبة الدين: هو أن الإيجاب في هبة العين يدل على الإذن بالقبض دلالة؛ لأن قصده تمليك ما هو ملكه للموهوب ¬
له، أما في هبة الدين: فالإيجاب لايعطي تلك الدلالة؛ لأن الدلالة متوقفة على قصد التملك، وتمليك الدين من غير من عليه الدين لايتحقق إلا بالتصريح بالإذن بالقبض؛ لأنه بالتصريح يقوم قبضه مقام قبض الواهب، فيصير المقبوض ملكاً له أولاً، ثم يصير الموهوب له قابضاً لنفسه من الواهب. وبناء على هذا التقدير: يصير الواهب واهباً ملك نفسه، والموهوب له قابضاً ملك الواهب. وتجويز هبة الدين لغير من عليه الدين ثابت استحساناً، وصورتها: أن يهب رجل لرجل ديناراً له على رجل، ويأمر بقبضه ويقبضه فعلاً، فيجوز استحساناً؛ لأنه أنابه في القبض مناب نفسه، فيجعل قبض الموهوب له كقبض الواهب. وأما قياساً فلا يجوز، وهو قول زفر؛ لأن الدين ليس بمال عند الحنفية، حتى إن حلف لا مال له، وله دين على إنسان: لا يحنث في يمينه. والهبة عقد مشروع لتمليك المال، فإذا أضيف إلى ما ليس بمال لا يصلح (¬1). ويشترط أيضاً عند الحنفية والشافعية شرطان آخران لصحة القبض وهما أهلية القبض: بالعقل عند الحنفية، وبالعقل والبلوغ عند الشافعية، فلا يصح عندهم قبض الصبي والمجنون؛ لأن القبض من باب الولاية، ولا ولاية لغير البالغ العاقل على نفسه وماله. والشرط الثاني ـ ألا يكون الموهوب مشغولاً بغيره مما ليسبموهوب؛ لأن معنى القبض: التمكن من التصرف في المقبوض، وهو لا يتحقق مع شغل الشيء بغيره. وأضاف الحنفية شرطاً ثالثاً، كماتقدم: وهو أن يكون الموهوب مفرزاً عن غيره حتى يتمكن الموهوب له من قبضه، فلا يصح عندهم هبة المشاع كما تقدم. ¬
نوعا القبض
نوعا القبض: قبض الهبة عند الحنفية نوعان: قبض بطريق الأصالة، وقبض بطريق النيابة (¬1). أما القبض بطريق الأصالة: فهو أن يقبض بنفسه لنفسه، وشرط جوازه العقل فقط، فلا يجوز قبض الصبي غير المميز والمجنون. وأما البلوغ: فليس بشرط لصحة القبض استحساناً، فيجوز قبض الصبي العاقل (أي المميز) ما وهب له. والقياس وهو رأي غير الحنفية: أن يكون البلوغ شرطاً؛ لأن القبض من باب الولاية، ولا ولاية للصبي على نفسه، فلا يجوز قبضه في الهبة، كما لا يجوز في البيع. ووجه الاستحسان: أن قبض الهبة من التصرفات النافعة نفعاً محضاً، فيملكه الصبي العاقل. وأما القبض بطريق النيابة، فالنيابة في القبض نوعان: نوع يرجع إلى القابض، ونوع يرجع إلى القبض نفسه. أما الأول ـ فهو القبض للصبي، وشرط جوازه وجود ولاية أو عيلة أي كون الصبي في حِجْر وعيال شخص أي في رعايته وتربيته عند عدم الولي. فلو وهب أجنبي للصغير شيئاً، فيقبض عنه وليه على هذا الترتيب عند الحنفية: الأب، ثم وصيه، ثم الجد، ثم وصيه، ومن غاب من هؤلاء غيبة منقطعة ¬
تنتقل الولاية إلى الأبعد، كما في ولاية النكاح؛ لأن التأخير إلى قدوم الغائب يؤدي إلى تفويت المنفعة على الصغير، فتنتقل الولاية إلى ما يتلوه. وبناء على ذلك لو وهب أحد هؤلاء الأولياء للصغير شيئاً، والمال في أيديهم صحت الهبة، ويصيرون قابضين للصغير، وكذلك إذا باع الأب ماله من ابنه الصغير، ثم هلك المبيع عقب البيع، كان الهلاك على الصغير؛ لأنه صار قابضاً بقبض الأب. ولو قبض الصغير العاقل ما وهب له أحد أوليائه المذكورين، جاز قبضه استحساناً، والقياس: أن لا يجوز، كما تبين في القبض بطريق الأصالة. ولا يجوز قبض غير هؤلاء الأولياء الأربعة المذكورين مع وجود واحد منهم، أجنبياً كان أو ذا رحم محرم منه، كالأخ والعم والأم؛ لأنه ليس لهم ولاية التصرف في مال الصبي. فإن لم يكن أحد من هؤلاء الأولياء الأربعة، جاز قبض من كان الصبي في حجره وعياله استحساناً، والقياس: أن لا يجوز لعدم الولاية، وإنما جاز ذلك استحساناً؛ لأن من هو في عياله، له عليه نوع ولاية، إذ أنه يؤدبه، ويعمل له ما فيه المنفعة، وللصبي في قبض الهبة منفعة محضة، فكيون ذلك من باب الحفظ. وأما النوع الثاني من النيابة: وهو الذي يرجع إلى القبض نفسه فهو أن القبض الموجود بسبب من الأسباب ينوب عن قبض الهبة، سواء أكان مثل قبض الهبة أم أقوى منه، وبيانه: أـ إذا كان الموهوب في يد الموهوب له وديعة أو عارية، فوهب منه، جازت الهبة، ولا يحتاج إلى تجديد القبض بعد العقد استحساناً، والقياس: أن لا يصير
قابضاً ما لم يجدد القبض، وهو أن يخلي بين الموهوب له وبين الموهوب بعد العقد؛ لأن يد الوديع هي يد صورية، وهي في الحقيقة والمعنى يد المودع، فكان المال في يده فيحتاج إلى تجديد القبض. ووجه الاستحسان: أن قبض الهبة وقبض الوديعة أو العارية متماثلان في القوة؛ لأن كل واحد منهما قبض أمانة غير مضمون، إذ الهبة عقد تبرع، وكذا الوديعة والعارية، فتماثل القبضان، فيقوم أحدهما مقام الآخر. ب ـ وإذا كان الموهوب في يد الموهوب له مضموناً بنفسه، كالمغصوب والمقبوض على سوم الشراء (¬1)، والمقبوض ببيع فاسد، فوهب منه: تصح الهبة، ويبرأ عن الضمان؛ لأن قبض الضمان أقوى من قبض الأمانة، فينوب عنه، لوجود المستحق بالعقد وهو القبض، وزيادة ضمان. ج ـ وإذا كان الموهوب في يد الموهوب له مضموناً بغيره، كالمرهون المضمون بالدين، والمبيع المضمون بالثمن، فوهبه مالكه لصاحب اليد: فإنه لا يصير قابضاً بذلك عند الكرخي ما لم يجدد القبض؛ لأن قبض الرهن أو البيع، وإن كان قبض ضمان، لكنه ضمان لا تصح البراءة منه، فلا يحتمل الإبراء بالهبة، ليصير قبض أمانة، وبالتالي يتماثل القبضان، وحينئذ على سوم الشراء؛ لأن ذلك الضمان مما تصح البراءة عنه، فيبرأ عنه بالهبة؛ ويبقى قبضاً بغير ضمان، فتماثل القبضان فيتناوبان. ¬
المبحث الرابع ـ حكم الهبة
وفي الجامع الصغير والبدائع، وهو الأرجح: يصير الموهوب له في المضمون بغيره قابضاً؛ لأن قبض الضمان أقوى من قبض الأمانة، والأقوى ينوب عن الأدنى. المبحث الرابع ـ حكم الهبة: أصل حكم الهبة: هو ثبوت الملك للموهوب له في الموهوب من غير عوض. صفة حكم الهبة: قال الحنفية: حكم الهبة ثبوت الملك للموهوب له غير لازم، فيصح الرجوع والفسخ، لقوله عليه السلام: «الواهب أحق بهبته ما لم يُثَب منها» (¬1) أي يعوض، فإنه عليه السلام جعل الواهب أحق بهبته ما لم يصل إليه العوض، وهذا نص في المراد، فيصح الرجوع ما لم يحصل تعويض، وإن تم القبض، وهناك موانع أخرى من الرجوع ستذكر. ولكن يكره الرجوع؛ لأنه من باب الدناءة، وللموهوب له أن يمتنع عن الرد. ولا يصح الرجوع إلا بتراض أو بقضاء القاضي؛ لأن الرجوع فسخ بعد تمام العقد، فصار كالفسخ بسبب العيب بعد القبض (¬2)، فالرجوع في الهبة بالتراضي يعد من الإقالة. وقال المالكية: يثبت الملك في الهبة بمجرد العقد ويصبح لازماً بالقبض، فلا ¬
يحل الرجوع بعدئذ، أما قبل القبض أو بعده فيصح للواهب الأب فقط أن يرجع فيما وهبه لابنه، ما لم يترتب عليه حق الغير كأن يتزوج مثلاً، أو يستحدث ديناً. والرجوع في الهبة يعرف عندهم بالاعتصار في الهبة (¬1). والاعتصار أو الرجوع في الهبة جائز عند المالكية فيما يهبه الوالد لولده صغيراً أو كبيراً بشروط خمسة: وهي ألا يتزوج الولد بعد الهبة، ولا يحدث ديناً لأجل، وألا يتغير الموهوب عن حاله، وألا يحدث الموهوب له في الموهوب حدثاً، وألا يمرض الواهب أو الموهوب له. فإن وقع شيء من ذلك يمتنع الرجوع، هذا في هبة التردد والمحبة. أما الهبة لوجه الله تعالى وهي التي تسمى صدقة فلا رجوع فيهاأصلاً ولا اعتصار، ولا ينبغي للواهب أن يرتجعها بشراء ولا غيره، وإن كانت شجراً فلا يأكل من ثمرها، وإن كانت دابة فلا يركبها إلا أن ترجع إليه بالميراث، وأما هبة الثواب على أن يكافئه الموهوب له فهي جائزة عند المالكية، والموهوب له مخير بين قبولها أو ردها، فإن قبلها فيجب أن يكافئه بقيمة الموهوب، ولا يلزمه الزيادة عليها، ولا يلزم الواهب قبول ما دونه. وقال الشافعية والحنابلة: لا يحل للواهب أن يرجع في هبته، إلا الوالد فيما أعطى ولده، لقوله عليه الصلاة والسلام: «العائد في هبته كالعائد في قيئه»، «ليس لنا مثل السوء: العائد في هبته، كالكلب يعود في قيئه» (¬2) وقال صلّى الله عليه وسلم: «ليس ¬
المبحث الخامس ـ موانع الرجوع في الهبة عند الحنفية
لأحد أن يعطي عطية، فيرجع فيها إلا الوالد، فيما يعطي ولده» (¬1)، وكالوالد: سائر الأصول عند الشافعية (¬2). والخلاصة: إن حكم الهبة غير لازم عند الحنفية، ولازم عند الجمهور إلا هبة الوالد لولده، فيصح له الرجوع قبل القبض عند المالكية، وبعد القبض أيضاً عند الشافعية والحنابلة. ويثبت ذلك الحق عند الشافعية في هبة الأصل (الوالد والجد) للفرع مطلقاً. المبحث الخامس ـ موانع الرجوع في الهبة عند الحنفية: نظم بعضهم هذه الموانع وهي سبعة، فقال: ومانع من الرجوع في الهبة يا صاحبي حروف (دمع خزقة) الدال رمز للزيادة المتصلة في نفس العين، والميم للموت، والعين للعوض، والخاء لخروج الموهوب عن ملك الموهوب له، والزاي للزوجية، والقاف للقرابة، والهاء للهلاك. وتفصيل ذلك يعرف مما يأتي: ¬
أولا ـ العوض المالي
أولاً ـ العوض المالي: إذا عوض الموهوب له الواهب من هبته عوضاً، وقبضه الواهب، امتنع على الواهب الرجوع في هبته، لقوله عليه الصلاة والسلام: «الواهب أحق بهبته ما لم يُثَب منها» أي يعوض وذلك هو هبة الثواب أي العوض، ولأن التعويض دليل على أن مقصود الواهب هو الوصول إلى العوض، فإذا عوض امتنع الرجوع، لكن يشترط في المعوض أن يقول شيئاً من الألفاظ يؤذن بالعوض، أما إذا سكت ولم يقل شيئاً، جاز الرجوع فيما أعطى. والعوض نوعان: عوض مشروط في العقد، وعوض متأخر عن العقد (¬1). أـ العوض المشروط في العقد (أو الهبة بشرط العوض أو هبة الثواب): إذا قال الواهب: «وهبت لك هذا القلم على أن تعوضني هذا الثوب» فقد اتفق الأئمة الأربعة على صحة هذا الشرط، والعقد الذي اشتمل عليه، واختلفوا في تكييف العقد المذكور. فقال الحنفية ما عدا زفر: يعتبر هذا العقد هبة ابتداء، بيعاً انتهاءً، فتطبق عليه أحكام الهبة قبل القبض، فلا تجوز هبة المشاع ويشترط القبض، ويجوز الرجوع في السلعتين، ما لم يتقابضا. وأما بعد التقابض فيعد العقد بمنزلة البيع، بحيث يرد البدلان بالعيب وعدم الرؤية، ويرجع في الاستحقاق، وتجب الشفعة في العقار. وقال زفر: هو عقد بيع ابتداءً وانتهاءً، وتثبت فيه أحكام البيع، فلا يفسد بالشيوع، ويفيد الملك بنفسه، بدون اشتراط القبض؛ لأن معنى البيع موجود في هذا العقد، إذ البيع تمليك العين بعوض. ¬
ب ـ العوض المتأخر عن العقد
واعتمد جمهور الحنفية على أنه وجد في هذا العقد لفظ الهبة، ومعنى البيع، فيعطى شبه العقدين (¬1). وقال المالكية: يعتبر هذا العقد كالبيع في غالب الأحوال، ويخالفه في الأقل منها؛ لأن هبة الثواب تجوز مع جهل عوضها، وجهل أجله، وليس للواهب رد الثواب المعيب، وإنما يلزم بقبوله، ما لم يكن العيب فادحاً كجذام وبرص، وإلا فلا يلزم الواهب قبوله، ولو كمل له القيمة (¬2). وقال الشافعية والحنابلة: يعتبر العقد بيعاً على الصحيح، فيلتزم الموهوب له بدفع العوض المشروط، وتطبق عليه أحكام البيع من الشفعة والخيار وضمان الدرَك أي ما يدرك المبيع من استحقاق، ونحو ذلك (¬3). والسب هو أن اشتراط العوض صراحة يبطل الهبة، لأنه شرط مخالف لمقتضى العقد. ب ـ العوض المتأخر عن العقد: العوض المتأخر عن العقد إما أن يضاف إلى الهبة الأولى مثل: هذا عوض عن هبتك، أو بدل عنها أو مكانها، وإما ألا يضاف إليها. فإذا لم يضف العوض إلى الهبة الأولى، تكون الهبة الثانية هبة مبتدأة، ويثبت حق الرجوع في الهبتين. وأما إذا أضيف العوض إلى الهبة الأولى، فيكون التعويض المتأخر عن الهبة ¬
ثانيا ـ العوض من حيث المعنى
الأولى هبة مبتدأة بلا خلاف، تصح بما تصح به الهبة، وتبطل بما تبطل به الهبة، ولكن يخالف الهبة المبتدأة في إسقاط الرجوع في الهبة الأولى، فكان فيه معنى العوض (¬1). ولكن هل الهبة المطلقة عن شرط التعويض عنها تقتضي الإثابة والتعويض؟ اختلف العلماء: فقال الحنفية، والحنابلة، والشافعية في الأرجح عندهم: لاتقتضي ثواباً، سواء أكانت من الإنسان لمثله، أم دونه، أم أعلى منه، فلا يلزم الموهوب له بالإثابة والتعويض للواهب (¬2). وقال المالكية: الهبة تقتضي الثواب وتحمل على إرادة التعويض إذا اختلف الواهب والموهوب له في ذلك، وخصوصاً: إذا دلت قرينة الحال على قصد الثواب. مثل: أن يهب الفقير الغني، أو لمن يرى أنه إنما قصد بذلك الثواب. ودليلهم قول عمر رضي الله عنه: ومن وهب هبة أراد بها الثواب، فهو على هبته يرجع فيها، إذا لم يرض منها (¬3). ثانياً ـ العوض من حيث المعنى: وهو ليس بعوض مالي، وهو ثلاثة أنواع (¬4). الأول ـ الثواب من الله تعالى: فلا رجوع في الهبة من الفقير بعد قبضها؛ لأن الهبة إلى الفقير صدقة، ويطلب بها الثواب، ولا رجوع في الصدقة. ¬
الثاني ـ صلة الرحم
الثاني ـ صلة الرحم: فلا يصح الرجوع في هبة ذوي الأرحام المحارم؛ لأن هذه الصلة عوض معنوي؛ لأن التواصل سبب التناصر والتعاون في الدنيا، فيكون وسيلة إلى استيفاء النصرة، وسبب الثواب في الدار الآخرة، فكان ذلك أقوى من المال. الثالث ـ صلة الزوجية: فلا يصح الرجوع في هبة الزوجين؛ لأن هذه الصلة تجري مجرى صلة القرابة الكاملة، بدليل أنه يتعلق بها التوارث في جميع الأحوال. ثالثاً ـ الزيادة المتصلة في الموهوب بفعل الموهوب له أو بفعل غيره: هذه الزيادة تمنع الرجوع، سواء أكانت متولدة أم غير متولدة، كأن يكون الموهوب داراً، فبنى الموهوب له فيها بناء، أو كان أرضاً فغرس فيها أشجاراً، أو أقام مضخة ماء وثبّتها في الأرض وبنى عليها، أو كان الموهوب ثوباً فصبغه بصباغ زادت به قيمته، أو قطعه قميصاً وخاطه، أو طرأ سمن وجمال، فلا يصح الرجوع؛ لأن الموهوب اختلط بغيره، والرجوع لا يمكن في غير الموهوب، لأنه ليس بموهوب، وبما أنه لا يمكن الرجوع في الأصل بدون الزيادة، فامتنع الرجوع أصلاً. وأما الزيادة المنفصلة: فلا تمنع من الرجوع، سواء أكانت متولدة من الأصل كالولد واللبن والثمر، أم غير متولدة كالأرش (¬1) والكسب والغلة؛ لأن هذه الزوائد لم يرد عليها العقد، فلا يرد عليها الفسخ، وإنما ورد على الأصل، ويمكن فسخ العقد في الأصل دون الزيادة، بخلاف المتصلة، وبخلاف زوائد المبيع، فإنها تمنع الرد بالعيب، حتى لا يحصل هناك ربا؛ لأنه يترتب على فسخ البيع وردِّ ¬
رابعا ـ خروج الموهوب عن ملك الموهوب له
الأصل أن يبقى الولد مثلاً عند المشتري بدون مقابل، وهذا هو معنى الربا، ومعنى الربا لا يتصور في الهبة؛ لأن الربا يختص بالمعاوضات. وأما نقصان الموهوب فلا يمنع من الرجوع في الهبة، لأنه ما دام له الحق في الرجوع في كل الموهوب، فيكون له الرجوع في بعض الموهوب مع بقائه، فكذا عند نقصانه. ولا يضمن الموهوب له النقصان؛ لأن قبض الهبة ليس بقبض مضمون (¬1). رابعاً ـ خروج الموهوب عن ملك الموهوب له: بأي سبب كان، كالبيع أو الهبة ونحوهما؛ لأن الملك يختلف بهذه التصرفات، واختلاف الملكين كاختلاف العينين، فلو وهب عيناً لم يكن له أن يرجع في عين أخرى، فكذا إذا أوجب ملكاً لم يكن له أن يفسخ ملكاً آخر (¬2). خامساً ـ موت أحد العاقدين: إذا مات الموهوب له امتنع الرجوع؛ لأن الملك انتقل إلى ورثته، فصار كما إذا انتقل في حياته. وكذا إذا مات الواهب؛ لأن الملك ينتقل إلى وارثه، وهو أجنبي، لم تحدث منه الهبة (¬3). سادساً ـ هلاك الموهوب أو استهلاكه: لأنه لا سبيل إلى الرجوع في الهالك، ولا سبيل إلى الرجوع في قيمته؛ لأنها ليست بموهوبة، لعدم ورود العقد عليها، وقبض الهبة غير مضمون (¬4). ¬
ماهية الرجوع
ماهية الرجوع: لا خلاف في أن الرجوع في الهبة بقضاء القاضي فسخ. واختلف العلماء في الرجوع فيها بالتراضي، فقال جمهور الحنفية: إنه فسخ أيضاً كالرجوع بالقضاء، فيجوز بالمشاع، ولا يشترط لصحته القبض. وقال زفر: إنه هبة مبتدأة؛ لأن ملك الموهوب عاد إلى الواهب بتراضيهما، فصار يشبه الرد بالعيب، فيعتبر عقداً جديداً بالنسبة لشخص ثالث غير المتعاقدين. واستدل جمهور الحنفية بأن الواهب بالفسخ يستوفي حق نفسه، واستيفاء الحق لا يتوقف على قضاء القاضي، بخلاف الرد بالعيب بعد القبض بغير قضاء القاضي: إنه يعتبر بيعاً جديداً في حق شخص ثالث (أي غير المتعاقدين)، لأنه لا حق للمشتري في الفسخ، وإنما حقه في كون المبيع سالماً من العيوب، فإذا لم يسلم اختل رضاه (¬1). المبحث السادس ـ عطية الأولاد: لا خلاف بين جمهور العلماء في استحباب التسوية في العطاء بين الأولاد، وكراهة التفضيل بينهم في حال الصحة كما تقدم، واختلفوا في بيان المراد من التسوية المستحبة. فقال أبو يوسف من الحنفية، والمالكية والشافعية وهو رأي الجمهور: يستحب للأب أن يسوي بين الأولاد ـ الذكور والإناث ـ في العطية، فتعطى الأنثى مثلما يعطى الذكر؛ لقوله صلّى الله عليه وسلم: «سووا بين أولادكم في العطية، ولو كنت مؤثراً ¬
حكم التسوية في العطية
لآثرت النساء على الرجال» (¬1) رواه سعيد بن منصور في سننه والبيهقي بإسناد حسن، وفي رواية للبخاري: «اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم» (¬2)، ولأن العدل في القسمة والمعاملة مطلوب (¬3)، وقدحملوا الأمر في هذه الأحاديث على الندب. وقال الحنابلة، ومحمد من الحنفية: للأب أن يقسم بين أولاده على حسب قسمة الله تعالى في الميراث، فيجعل للذكر مثل حظ الأنثيين؛ لأن الله تعالى قسم بينهم كذلك، وأولى ما اقتدى به: هو قسمة الله، ولأن العطية في الحياة أحد حالي العطية، فيجعل للذكر مثل حظ الأنثيين كحالة الموت، والميراث المترتب عليه. يدل لهذا أن العطية استعجال لما يكون بعد الموت، فينبغي أن تكون على حسبه (¬4). أما عن حكم التسوية في العطية: فقال جمهور العلماء (¬5): لا تجب التسوية بل تندب، فإن فضل بعض الورثة صح وكره، وحملوا الأمر بالتسوية في الأحاديث على الندب؛ لأن الإنسان حر التصرف بماله، لوارث وغيره، وكذلك حملوا النهي الثابت في رواية لمسلم بلفظ «أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال: بلى، قال: فلا إذن» على التنزيه، فالعدل: هو التسوية بين الأولاد. ¬
وقال جماعة (وهم أحمد والثوري وطاووس وإسحاق وآخرون): تجب التسوية بين الأولاد في العطية أو الهبة، وتبطل العطية مع عدم المساواة، عملاً بظاهر الأمر في الأحاديث، الذي يقتضي الوجوب مثل قوله عليه السلام: «اتقوا الله» وقوله: «اعدلوا بين أولادكم» (¬1) وقوله: «فلا إذن» وقوله في حالة إعطاء بعض دون بعض: «لا أشهد على جور». واختلف هؤلاء في كيفية التسوية، فقيل بأن تكون عطية الذكر والأنثى سواء وهو ظاهر رواية عند النسائي: «ألا سويت بينهم» وعند ابن حبان: «سووا بينهم» وحديث ابن عباس: «سووا بين أولادكم في العطية، فلو كنت مفضلاً أحداً لفضلت النساء». وقال الحنابلة: بل التسوية أن يجعل للذكر مثل حظ الأنثيين على حسب التوريث. وروي عن أحمد: أنه يجوز التفاضل إن كان له سبب، كأن يحتاج الولد لزمانته المرضية أو لعمى، أو لقضاء دينه، أو كثرة عائلته، أو للاشتغال بالعلم، أو نحو ذلك دون الباقين (¬2). ¬
العطية للوالدين
العطية للوالدين: تسن التسوية أيضاً في العطية للوالدين، ويجوز تفضيل الأم أحياناً وتخصيصها بمزيد من العطاء والإكرام؛ لما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «جاء رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمُّك، قال: ثم من؟ قال: أمُّك، قال: ثم من؟ قال: أمُّك، قال: ثم من؟ قال: أبوك». العطية للإخوة والأخوات: يستحب كذلك التسوية بين الإخوة والأخوات في العطاء والهبات والهدايا في المناسبات وغيرها، إذا كانوا بدرجة واحدة من الحاجة، ويجوز تخصيص الأكبر بشيء، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «حقُّ كبير الإخوة على صغيرهم كحق الوالد على ولده» وفي رواية «الأكبر من الإخوة بمنزلة الأب» (¬1). ¬
الفصل السابع: الإيداع
الفَصْلُ السّابع: الإِيدَاع خطة الموضوع: الكلام عن عقد الإيداع في المباحث الستة الآتية: المبحث الأول ـ تعريف الإيداع ومشروعيته. المبحث الثاني ـ ركن الإيداع وشرائطه. المبحث الثالث ـ حكم عقد الإيداع، وطريقة حفظ الوديعة. المبحث الرابع ـ حال الوديعة: هل يد الوديع يد أمانة أو يد ضمان؟. المبحث الخامس ـ حالات ضمان الوديعة. المبحث السادس ـ انتهاء الإيداع. المبحث الأول ـ تعريف الإيداع ومشروعيته: الودع في اللغة: الترك، والوديعة لغة: الشيءالموضوع عند غير صاحبه للحفظ. وشرعاً: تطلق على الإيداع، وعلى العين المودعة، والراجح أنها عقد إلا أن الأصح أن يقال: الإيداع عقد، لا الوديعةعقد؛ لأن الأرجح أنها عقد. وتعريف الإيداع عند جماعة من شراح الحنفية: هو تسليط الغير على حفظ ماله
صريحاً أو دلالة (¬1) مثل قول المودع لغيره: أودعتك (¬2)، فيقبل الآخر ويتم الإيداع صراحة عندئذ، أو دلالة كأن يجيء رجل بثوب إلى رجل ويضعه بين يديه، ويقول: هذا وديعة عندك، ويسكت الآخر، فيصير مودعاً دلالة. وعرفه الشافعية والمالكية بقولهم: توكيل في حفظ مملوك، أو محترم مختص، على وجه مخصوص (¬3)، فيصح إيداع الخمر المحترمة (¬4)، وجلد ميتة يطهر بالدباغ، وزبل وكلب معلم للصيد. أما غير المختص كالكلب الذي لا يقتنى، والثوب الذي طيرته الريح ونحوه، فهذا لا اختصاص فيه؛ لأنه مال ضائع مغاير لحكم الوديعة. ويقال لدافع الوديعة: مودع ـ بكسر الدال ـ ولآخذها: مودع ـ بفتح الدال ـ ووديع. والإيداع مشروع ومندوب إليه لقوله سبحانه: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} [النساء:58/ 4] وقوله تعالى: {فليؤد الذي اؤتمن أمانته} [البقرة:283/ 2] وقال صلّى الله عليه وسلم: «أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك» (¬5)، ¬
المبحث الثاني ـ ركن الإيداع وشرائطه
وأجمع العلماء في كل عصر من العصور الإسلامية على جواز الإيداع والاستيداع، لأن بالناس حاجة، بل ضرورة إلى الإيداع (¬1). المبحث الثاني ـ ركن الإيداع وشرائطه: ركن الإيداع عند الحنفية هو الإيجاب والقبول. وهو أن يقول لغيره: أودعتك هذا، أو احفظ هذا الشيء لي، أو خذ هذا الشيء وديعة عندك، ونحو ذلك ويقبله الآخر (¬2). وأركانه عند الجمهور أربعة (¬3): عاقدان (مودع ووديع)، ووديعة (الشيء المودع) وصيغة (إيجاب وقبول) والقبول إما أن يكون لفظاً مثل: قبلت، أو دلالة كمن يضع ماله عند شخص فيسكت، فيكون السكوت قائماً مقام القبول كالمعاطاة في البيع. شرائط الركن: يشترط عند الحنفية في العاقدين: العقل، فلا يصح الإيداع من الصبي الذي لا يعقل، والمجنون، كما لا يصح قبول الوديعة من المجنون والصبي الذي لا يعقل، ولا يشترط البلوغ، فيصح الإيداع من الصبي المأذون في التجارة؛ لأن ذلك ¬
يشترط في الوديعة
مما يحتاج إليه التاجر، كما يصح قبول الوديعة من الصبي المأذون؛ لأنه من أهل الحفظ. وأما الصبي المحجور عليه فلا يصح قبول الوديعة منه؛ لأنه لا يحفظ المال عادة (¬1). ويشترط عند الجمهور في الإيداع ما يشترط في الوكالة من البلوغ والعقل والرشد. ويشترط في الوديعة: أن يكون المال قابلاً لإثبات اليد عليه، فلو أودع الآبق أو الطير في الهواء أو المال الساقط في البحر: لم يضمن (¬2). المبحث الثالث ـ حكم عقد الإيداع وطريق حفظ الوديعة: حكم عقد الإيداع: لزوم الحفظ للمالك؛ لأن الإيداع من جانب المالك استحفاظ وائتمان، ومن جانب الوديع التزام بالحفظ، فيلزمه الحفظ، لقوله عليه السلام: «المسلمون على شروطهم» (¬3). إيداع رجلين من رجل: لو أودع رجلان عند رجل وديعة، وغابا ثم حضر أحدهما وطلب نصيبه، فليس له أن يدفع إليه حصته، حتى يحضر الآخر، وقال ¬
إيداع رجل من رجلين
الصاحبان: للوديع أن يقسم الوديعة، ويدفع إلى أحد المودعين نصيبه، ولا يكون ذلك قسمة على الغائب، حتى إنه لو هلك النصف الباقي في يد الوديع، كان للغائب أن يشارك القابض فيما قبض. دليلهما: أن أحد المودعين طالب الوديع بدفع نصيبه، فيؤمر بالدفع إليه كما في الدين المشترك. واستدل لأبي حنيفة: بأنه لا نسلم أن أحد المودعين طالب بتسليم نصيبه، بل بدفع نصيب الغائب؛ لأنه يطالب بالنصيب المفرز، وحقه ليس فيه، وإنما في المشاع، وهو كل الوديعة، والمفرز المعين منها يشتمل على الحقين، ولا يتميز حقه إلا بالقسمة، وليس للوديع ولاية القسمة؛ لأنه ليس بوكيل في ذلك، بخلاف الدين المشترك؛ لأن الشريك يطالب المديون بتسليم حقه أي بقضاء حقه، وحقه من حيث القضاء ليس بمشترك بين الدائنين؛ لأن الديون تقضى بأمثالها، والمثل مال المديون ليس بمشترك بين الدائنين، فلا يكون هذا تصرفاً في حق الغير، بل يكون المدين متصرفاً في مال نفسه، فيجوز (¬1). إيداع رجل من رجلين: لو أودع رجل عند رجلين وديعة مما يقسم، فلهما أن يقسماه، ويأخذ كل واحد نصفه للحفظ؛ لأن المالك رضي بحفظهما، ولم يرض بحفظ أحدهما لكل الوديعة. ولو دفع أحدهما الوديعة كلها إلى صاحبه، ضمن النصف عند أبي حنيفة؛ لأنه رضي بحفظهما، لا بحفظ أحدهما؛ لأن الأصل أن فعل الاثنين إذا أضيف إلى ما يقبل التجزئة، تناول البعض، فإذا سلم أحدهما الكل إلى الآخر، ولم يرض المالك به، ضمن. ¬
طريقة حفظ الوديعة
وقال الصاحبان: لايضمن؛ لأنه رضي بأمانتهما، فكان لكل واحد منهما أن يسلم إلى الآخر، ولا يضمنه، كما هو الشأن فيما لا يقسم. واتفقوا على أن الوديعة إذا كانت لا تقسم، لا تضمن؛ لأنه لا يمكن حفظها إلا في مكان واحد، فكان المالك راضياً بحفظ أحدهما لعلمه أنهما لا يجتمعان عليه أبداً (¬1). طريقة حفظ الوديعة: اختلف العلماء في طريقة حفظ الوديعة، فقال الحنفية والحنابلة: على الوديع أن يحفظ الوديعة، كما يحفظ به ماله في حرز مثله، وذلك بيده أو بيد من هو في عياله (¬2) ممن تلزمه نفقته، كامرأته وولده وغلامه وخادمه؛ لأن حفظها بهؤلاء مثلما يحفظ به ماله، فأشبه ما لو حفظها بنفسه. وله عند الحنفية أن يحفظ الوديعة أيضاً بيد من ليس في عياله، ممن يحفظ عنده ماله بنفسه عادة كشريكه المفاوض والعنان، لا المستأجر مياومة (¬3). فإن حفظ الوديع الوديعة عند غير هؤلاء فتلفت، ضمنها؛ لأن المالك رضي بيده لا بيد غيره والأيدي تختلف في الأمانة إلا أن يقع في دار الوديع حريق، فيسلمها إلى جاره أو يكون الوديع في سفينة وهاجت الريح وصار بحيث يخاف الغرق، فيلقيها إلى سفينة أخرى، فله ذلك لأنه إجراء تعين طريقاً للحفظ في هذه الحالة، فيرتضيها المالك. ولا يصدق الوديع على ذلك إلا ببينة؛ لأنه يدعي ضرورة مسقطة للضمان بعد تحقق سبب الضمان. ¬
المبحث الرابع ـ حال الوديعة: هل هي أمانة أو مضمونة
وقال المالكية: للوديع حفظها عند عياله الذين يأمنهم كالزوجة والابن والأجير الذين اعتيد حفظ ماله عندهم بأن طالت إقامتهم عنده، ووثق بهم بالتجربة، بخلاف ما لم يعتادوا ذلك كالزوجة إثر تزوجه بها، والأجير إثر استئجاره (¬1). وقال الشافعية: على الوديع أن يحفظ الوديعة بنفسه، ولا يجوز حفظها عند زوجته أو ولده بلا إذن من المودع، أو إذا لم يكن هناك عذر بذلك؛ لأن المودع لم يرض بأمانة غير هذا الوديع لا بيد غيره. فإن خالف الوديع طريق الحفظ ضمن، إلا إذا كان الإيداع لعذر كمرض أو سفر، فإنه لا يضمن (¬2). المبحث الرابع ـ حال الوديعة: هل هي أمانة أو مضمونة؟ اتفق علماء المذاهب على أن الوديعة قربة مندوب إليها، وأن في حفظها ثواباً، وأنها أمانة محضة، لا مضمونة، وأن الضمان لا يجب على الوديع إلا بالتعدي أو التقصير، لقوله عليه الصلاة والسلام: «ليس على المستودع غير المغل ضمان» (¬3) وقوله «لا ضمان على مؤتمن» (¬4) واشتراط الضمان على الأمين باطل، وهو المفتى به عند الحنفية. ¬
تعارض الادعاءات والبينات
ويترتب عليه أنه يجب ردها عند طلب المالك مع الإمكان، لقوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} [النساء:58/ 4]. ولكل واحد من العاقدين فسخ الإيداع متى شاء دون إذن العاقد الآخر؛ لأن عقد الإيداع جائز غير لازم، فللمودع استرداد الوديعة متى شاء، وللوديع ردها على المودع أيضاً متى شاء. فإذا طالب المالك الوديع بها، فقال: (ما أودعتني شيئاً) ثم قال بعدئذ: ضاعت، فيضمن، لخروجه عن حد الأمانة، وإذا قال: ما تستحق عندي شيئاً، ثم قال: ضاعت، كان القول قوله بيمينه. ويترتب عليه أنه يجب أداء الوديعة إلى المالك نفسه؛ لأن الله تعالى أمر بأداء الأمانات إلى أهلها، فلو ردها إلى منزل المالك، من غير حضرته، أو دفعها إلى من هو في عيال المالك يضمن؛ لأنه لم يرض بيد عياله حيث أودع عند غيرهم. بخلاف العارية والإجارة: لو رد المستعار أو العين المؤجرة إلى بيت المالك أو إلى من في عياله: لا يضمن، لعادة الناس الجارية في رد المستعار ونحوه، حتى لو كانت العارية شيئاً نفيساً كعقد جوهر ونحوه، يضمن، لعدم جريان العادة به. ويترتب عليه أيضاً أن القول قول الوديع في التلف والرد على الإطلاق مع يمينه على التفصيل الآتي (¬1): تعارض الادعاءات والبينات: إذا اختلف المودع مع الوديع، فقال الوديع: هلكت الوديعة عندي أو (رددتها ¬
المبحث الخامس ـ حالات ضمان الوديعة
إليك) وأنكر المودع، وقال: (لا، بل أتلفتها) فالقول قول الوديع، لأنه أمين في الحفظ، ولكن مع اليمين، كما تقدم. فإن أقام المودع البينة على الإتلاف: يضمن الوديع، وكذا إذا استحلف الوديع على الإتلاف، فنكل. فلو أقام المودع البينة على أن الوديع أتلفها، وأقام الوديع البينة على أنها هلكت بنفسها، فبينة المودع أولى؛ لأنها أكثر إثباتاً؛ لأن فيها إثبات الهلاك وزيادة عليه وهو التعدي. فإذا أقام الوديع البينة على إقرار المودع أنها هلكت، تقبل بينته، ويكون هذا الإثبات تكذيباً لبينة المودع. المبحث الخامس ـ حالات ضمان الوديعة: يتغير حال الوديعة من الأمانة إلى الضمان بحالات، هي (¬1): 1 - ترك الوديع الحفظ: لأنه بالعقد التزم حفظ الوديعة على وجه لو ترك حفظها حتى هلكت، يضمن بدلها بطريق الكفالة، فلو رأى إنساناً يسرق الوديعة، وهو قادر على منعه ضمن، لترك الحفظ الملتزم بالعقد. 2 - إيداع الوديع عند من ليس في عياله، ولا هو ممن يحفظ ماله بيده عادة: إذا أخرج الوديع الوديعة من يده، وأودعها عند غيره بغير عذر، يصير ضامناً؛ لأن المودع ارتضى بحفظ الوديع الأول، دون حفظ غيره إلا إذا كان هناك عذر فلا يضمن، كأن وقع في داره حريق، أو كان في سفينة فخاف الغرق، فدفعها ¬
إلى غيره؛ لأن الدفع إليه في هذه الحالة تعين طريقاً للحفظ، فكان الدفع بإذن المالك دلالة (¬1). وإذا أودعها عند شخص آخر بغير عذر، فهلكت أو ضاعت وهي في يد الثاني، فالضمان على الأول، لا على المودع الثاني عند أبي حنيفة والحنابلة (¬2)؛ لأن الثاني محسن إلى المالك بصيانة الوديعة عن أسباب الهلاك، والله سبحانه يقول: {ما على المحسنين من سبيل} [التوبة:91/ 9] وأما المودع الأول فهو مخصوص من النص. وقال الصاحبان: المالك بالخيار، إن شاء ضمن الأول، وإن شاء ضمن الثاني، فإن ضمن الأول، لا يرجع بالضمان على الثاني؛ لأنه ملك الوديعة بأداء الضمان، وإن ضمن الثاني يرجع به على الأول؛ لأن الأول غره بالإيداع، فيلزمه ضمان الغرور. وسبب التخيير هو أنه وجد من كل منهما سبب لوجوب الضمان فيخير المالك. أما الأول: فلأنه دفع مال الغير إلى غيره بغير إذنه، وأما الثاني: فلأنه قبض مال الغير بغير إذنه. وأما إذا استهلك المودع الثاني الوديعة، فالمالك بالخيار: إن شاء ضمن وإن شاء ضمن الثاني بالاتفاق، غير أنه إن ضمن الأول يرجع بالضمان على الثاني، وإن ضمن الثاني لا يرجع بالضمان على الأول؛ لأن سبب وجوب الضمان وجد من الثاني حقيقة وهو الاستهلاك، ولم يوجد من الأول إلا الدفع إلى الثاني على طريق الاستحفاظ (¬3). ¬
3 - استعمال الوديعة
والقاعدة عند جمهور الحنفية: أن الوديعة إذا صارت مضمونة، ثم أزيل سبب الضمان، كأن يسترد الوديع الأول من المودع الثاني الوديعة، ويحفظها بنفسه أو نحو ذلك مما سيأتي، فإنه يبرأ عن الضمان؛ لأنه في عودته لحالته الأولى يعتبر وديعاً، والوديع إذا هلكت الوديعة بدون سبب منه لا ضمان عليه (¬1). هذا بخلاف المستأجر والمستعير، إذا خالفا، ثم تركا الخلاف بقي الضمان. والقاعدة عند زفر والشافعي وبقية الأئمة: أن الوديعة متى صارت مضمونة بانتفاع وغيره مما سيأتي، ثم ترك الوديع الخيانة، لم يبرأ من الضمان؛ لأن الوديعة لما صارت مضمونة، فقد ارتفع العقد، لتغيرطبيعته، فلا يعود إلا بالتجديد، ولم يوجد، فصار كما لو جحد الوديعة، ثم أقر بها (¬2). 3 - استعمال الوديعة: إذا انتفع الوديع بالوديعة كركوب الدابة ولبس الثوب، فإنه يصير ضامناً، فإن ترك الاستعمال، فقال جمهور الحنفية كما عرفنا من قاعدتهم: لا ضمان عليه؛ لأنه ممسك لها بإذن مالكها، فأشبه ما قبل الاستعمال (¬3). وقال المالكية والشافعية والحنابلة: إذا تلفت الوديعة بعد استعمالها يضمنها، ولو كان التلف بسبب سماوي؛ لأنه بالتعدي في الاستعمال قد ارتفع حكم الوديعة وبطل الاستئمان، فصار كما لو جحد الوديعة ثم أقر بها، فلا يبرأ من الضمان إلا بالرد على المالك، كما تقرر (¬4). ¬
4 - السفر بالوديعة
4 - السفر بالوديعة: قال أبو حنيفة: للوديع أن يسافر بالوديعة إذا كان الطريق آمناً، ولم ينهه صاحب الوديعة، بأن كان العقد مطلقاً؛ لأن الأمر بحفظ الوديعة صدر مطلقاً عن تعيين المكان، فلا يجوز التعيين إلا بدليل، وعلى هذا فلو سافر فتلفت الوديعة لا يضمن. وقال الصاحبان: إن كان للوديعة حمل ومؤنة، لا يملك المسافرة بها؛ لأن في المسافرة بما له حمل ومؤنة ضرراً بالمالك، لجواز أن يموت الوديع في السفر، فيحتاج المالك إلى الاسترداد من موضع يكلفه حِمْلاً ومؤنة عظيمة، فيتضرر به، بخلاف ما إذا لم يكن لها حمل ومؤنة (¬1). وقال المالكية: ليس للوديع أن يسافر بالوديعة، إلا أن تعطى له في سفر، فإذا أراد السفر، فله إيداعها عند ثقة مؤتمن من أهل البلد، ولا ضمان عليه، سواء قدر على دفعها إلى الحاكم، أو لم يقدر (¬2). وقال الشافعية والحنابلة: ليس للوديع المسافرة بالوديعة، فإن أراد السفر ردها إلى صاحبها أو وكيله إن قدر على الرد، فإن لم يقدر، كأن لم يجد صاحبها سلمها إلى الحاكم؛ لأنه متبرع بإمساكها، فلا يلزمه استدامته، والحاكم يقوم مقام صاحبها عند غيبته، فإن سافر بها ضمن؛ لأنه عرضها للضياع، والحرز في السفر دون حرز الحضر، سواء أكان الطريق آمناً أم مخوفاً (¬3)، وقال عليه الصلاة والسلام «إن المسافر وماله لعلى قَلَت إلا ما وقى الله» أي على خطر الهلاك (¬4). ¬
5 - جحود الوديعة
5 - جحود الوديعة: إذا طلب المودع الوديعة فجحدها الوديع، أو حبسها عنه وهو يقدر على تسليمها ضمن؛ لأنه لما طالبه بالرد، فقد عزله عن الحفظ، فيكون بعدئذ بالإمساك غاصباً مانعاً، فيضمنها إذا أقام المودع البينة على الإيداع أو لكل الوديع عن اليمين أو أقر به. فإن جحد ثم عاد إلى الاعتراف لم يبرأ عن الضمان لارتفاع العقد. ولو جحد الوديعة ثم أقام الوديع البينة على هلاكها فثلاثة أوجه: إن أقام البينة على أنها هلكت بعد الجحود أو مطلقاً لا ينتفع ببينته؛ لأن العقد ارتفع بالجحود، أو عنده، فيضمن. وإن أقام البينة على أنها هلكت قبل الجحود تسمع بينته، ولا ضمان عليه؛ لأن الهلاك قبل الجحود يؤدي إلى انتهاء العقد. ولو ادعى الهلاك قبل الجحود، ولا بينة له، وطلب اليمين من المودع حلفه القاضي (بالله تعالى ما يعلم أنها هلكت قبل جحوده) فإن حلف، يقضى بالضمان، وإن نكل، يقضى بالبراءة (¬1). 6 - خلط الوديعة بغيرها: إذا خلط الوديع الوديعة بمال نفسه فإن كان يمكن التمييز بينهما، لاشيء عليه ويميز. وإن كان لايمكن التمييز، يضمن المثل عند أبي حنيفة؛ لأن الخلط إتلاف للوديعة من حيث المعنى. ¬
وكذلك إذا كانت وديعتان كدراهم مثلاً، فخلط إحداهما بالأخرى، يضمن مثلها لكل منهما عنده. وكذا في سائر المكيلات والموزونات إذا خلط الجنس بالجنس خلطاً لا يتميز، كالحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير، أو بغير جنسه كخلط الحنطة بالشعير، يضمن عند أبي حنيفة لكل واحد مثل حقه، دليله: أنه لما خلطهما خلطاً لا يتميز، فقد عجز كل منهما عن الانتفاع بالمخلوط، فكان الخلط منه إتلافاً للوديعة لكل واحد منهما فيضمن. وقال الصاحبان في كل ما سبق: المالك بالخيار إن شاء ضمن الوديع مثل حقه، وإن شاء أخذ نصف المخلوط أو باعه المالكان وقبضا الثمن، دليلهما: أن الوديعة قائمة بعينها، لكن عجز المالك عن الوصول إليها بعارض الخلط (¬1). ولو مات الوديع ولم يبين الوديعة، فإن كانت معروفة وهي قائمة، ترد إلى صاحبها؛ لأن هذا عين ماله و «من وجد عين ماله، فهو أحق به» على لسان الرسول صلّى الله عليه وسلم (¬2)، وإن لم تعرف بعينها، يضمن، وتكون ديناً في تركته لأنه لما مات مجهلاً الوديعة فقد أتلفها معنى. وعلى هذا فالأمانات تصبح مضمونة بالموت عن تجهيل إلا في ثلاثة أحوال: 1 - إذا مات ناظر الوقف مجهلاً غلات الوقف. ¬
7 - مخالفة شرط المودع في حفظ الوديعة
2 - إذا مات القاضي مجهلاً أموال اليتامى عند من أودعها أو عنده. 3 - إذا مات الحاكم ولم يبين عند من أودع بعض الغنائم الحربية، ونحو ذلك (¬1). والأئمة الآخرون قالوا مثل قول أبي حنيفة: إذا تعذر التمييز بين الوديعة وغيرها أو تعسر كخلط الدراهم بالدراهم، والدهن بالدهن، والزيت بالزيت، والسمن بغيره، سواء خلطها بمثلها، أو دونها أو أجود منها، من جنسها، أو من غير جنسها، فيضمنها الوديع؛ لأن المودع لم يرض بذلك. إلا أن المالكية قالوا: إذا كان الخلط بالمثل كخلط الحنطة بمثلها، والدنانير بمثلها، فلا يضمن الوديع، إذا كان الخلط بقصد الإحراز والحفظ والرفق، وإلا ضمن. وأما إذا لم يتعذر التمييز بين الوديعة وغيرها، كخلط الدراهم بالدنانير أو الجيد بالرديء، فإن الوديع لا يضمن شيئاً، إلا إذا حدث بالخلط نقص في القيمة، فيضمن عند الشافعية والحنابلة (¬2). 7 - مخالفة شرط المودع في حفظ الوديعة: إذا شرط المودع على الوديع حفظ الوديعة في مكان معين كدار أو بيت أو صندوق، فنقلها إلى مكان آخر بدون عذر، فقال الحنفية وغيرهم من الأئمة: إذا نقلها إلى حرز دون الحرز السابق في الحفظ يضمن، وإن نقلها إلى مكان مماثل للحرز السابق، أو أحرز منه، فلا يضمن. أما إذا أمره بحفظ الوديعة في مكان، ونهاه عن حفظها في مكان آخر، كأن قال له: احفظها في هذه الدار، ولا تحفظها في دار أخرى. ¬
فقال الحنفية والمالكية والشافعية: إذا نقلها إلى الدار الأخرى، وكانت مماثلة للدار الأولى في الحرز، أو أحرز منها، فلا يضمن؛ لأن التقييد غير مفيد (¬1)، فإن نقلها من بلد إلى بلد ضمنها عند المالكية. وقال الحنابلة في الأرجح عندهم: يضمن سواء نقلها إلى مثل المكان أو دونه أو فوقه، لأنه خالف صاحب الوديعة لغير فائدة ولا مصلحة، ولا يجوز تفويت غرض رب الوديعة من تعيينه المكان من غير ضرورة. ولكن إن خاف عليها في موضعها فعليه نقلها، فإن تركها فتلفت ضمنها؛ لأن نهي صاحبها عن نقلها إنما كان لحفظها، وحفظها ههنا في نقلها، فأشبه ما لو لم ينهه عن نقلها (¬2). وإذا قال صاحب الوديعة للوديع: (لا تسلمها إلى زوجتك) فسلمها إليها وهلكت، لم يضمن عند الحنفية؛ لأنه لا يجد بداً من التسليم، فإنه إذا خرج، كان البيت وما فيه مسلَّماً إليها، فلا يمكنه الحفظ مع مراعاة هذا الشرط وإن كان مفيداً (¬3). وبه يتبين أن أسباب ضمان الوديعة عند المالكية (¬4) ستة هي: 1 - إيداع الوديعة عند غير الوديع لغير عذر، حتى ولو استردها بعدئذ فضاعت. 2 - نقل الوديعة من بلد إلى بلد، بخلاف نقلها من منزل إلى منزل. ¬
3 - خلط الوديعة بما لا يتميز عنها مما هو غير مماثل لها كخلط القمح بالشعير، فإن خلطها بما تنفصل عنه، لم يضمن. 4 - الانتفاع بالوديعة، فلو لبس الثوب أو ركب الدابة فهلكت في حال الانتفاع، ضمن، وكذا إن تسلف الدنانير والدراهم أو ما يكال أو يوزن، فهلك في تصرفه فيه. 5 - التضييع والإتلاف بأن يلقيه في مضيعة أو يدل عليها سارقاً. 6 - المخالفة في كيفية الحفظ، مثل أن يأمره ألا يقفل عليها، فقفل، فإنه يضمن. وكذلك قال الشافعية (¬1) قريباً من مذهب المالكية: إن أسباب الضمان ستة: 1 - إيداع الوديعة عند غيره بلا إذن ولا عذر له. 2 - وضعها في غير حرز مثلها. 3 - نقلها إلى دون حرز مثلها. 4 - إهمال حفظها الواجب عليه بالتزامه، كما لو ترك علف دابة فماتت. 5 - العدول عن الحفظ المأمور به مع تلفها بذلك. 6 - الانتفاع بها، كما لو لبس الثوب أو ركب الدابة لغير غرض المالك، فإنه يضمن لتعديه، كما يضمن كل أنواع التعدي عليها. ومتى صارت مضمونة بانتفاع أو غيره، ثم ترك الخيانة، لم يبرأ إلا أن يحدث المالك له استئماناً. ¬
أحكام فرعية للوديعة
وقال الحنابلة (¬1): تضمن الوديعة بما يلي: 1 - إيداعها عند غيره بلا عذر. 2 - إهمال حفظها أو دلالة لص عليها. 3 - المخالفة في كيفية الحفظ المتفق عليه ولو أنه حرز مثلها. 4 - خلطها بغيرها خلطاً لا يتميز. 5 - الانتفاع بها. ومتى خان لا تعود وديعة بغير عقد متجدد. أحكام فرعية للوديعة: ذكر ابن جزي المالكي طائفة من أحكام الفروع الفقهية في الوديعة، وهي ما يأتي (¬2): أولاً ـ الاتجار بالوديعة: من اتجر بمال الوديعة، فالربح له حلال. وقال أبو حنيفة: الربح صدقة. وقال قوم: الربح لصاحب المال. ثانياً ـ سلف الوديعة: من أقرض الوديعة، فإن كانت عيناً كره، وأجازه أشهب إن كان له وفاء بها، وإن كانت عروضاً لم يجز، وإن كانت مما يكال أو يوزن كالطعام، ففيه قولان مفرعان على موضوع: هل يلحق الطعام بالنقد أو بالعروض؟. ثالثاً ـ الاختلاف في الوديعة: إذا طولب الوديع بالوديعة، فادعى التلف، فالقول قوله مع يمينه، وكذلك إذا ادعى الرد، إلا أن يكون قبضها ببينة، فلا يقبل قوله في الرد إلا ببينة. وقال ابن القاسم وأبو حنيفة والشافعي: إن القول قوله وإن قبضها ببينة. ¬
رابعا ـ طلب الأجرة على حفظ الوديعة
رابعاً ـ طلب الأجرة على حفظ الوديعة: إذا طلب الوديع أجرة على حفظ الوديعة، لم يكن له ذلك، إلا أن تكون مما يشغل منزله، فله كراؤه. وإن احتاجت إلى غلق أو قفل فهو على صاحبها. خامساً ـ الجحود المماثل لوديعة أخرى: إذا أودع شخص وديعة عند آخر، فخانه وجحده، ثم إن الوديع الأول استودع المودع مثلها، فهل له أن يجحده فيها؟ المشهور عند المالكية المنع، وقيل: بالكراهة، وقيل بالإباحة. المبحث السادس ـ انتهاء الإيداع: ينتهى عقد الإيداع بما يأتي: 1 ً - استرداد الوديعة أو ردها: إذا استرد المودع الوديعة أو رد الوديع الوديعة، انتهى الإيداع، لأن الإيداع عقد غير لازم ينتهي بالاسترداد أو الرد. 2 ً - موت المودع أو الوديع: ينتهي العقد بالموت، لأنه جرى بين العاقدين. 3 ً - جنون أحد العاقدين أو إغماؤه، لزوال الأهلية. 4 ً - الحجر على المودع للسفه وعلى الوديع للفلس، رعاية للمصلحة. 5 ً - نقل ملكية الوديعة لغير المالك: ينتهي الإيداع بنقل المالك ملكية الوديعة لغيره ببيع أو هبة أو نحوهما.
الفصل الثامن: الإعارة
الفَصْلُ الثَّامن: الإِعَارة خطة الموضوع: الكلام في عقد الإعارة يشتمل على المباحث الستة التالية: المبحث الأول ـ تعريف الإعارة ومشروعيتها. المبحث الثاني ـ ركن الإعارة وشرائطها. المبحث الثالث ـ حكم عقد الإعارة. المبحث الرابع ـ حال العارية، هل هي مضمونة أو أمانة؟. المبحث الخامس ـ الاختلاف بين المعير والمستعير. المبحث السادس ـ انتهاء الإعارة. المبحث الأول ـ تعريف الإعارة ومشروعيتها: العارية: بتشديد الياء، وقد تخفف، والأول أفصح وأشهر. وهي اسم لما يعار، أو لعقد العارية: مأخوذة من عار إذا ذهب وجاء، وقيل: من التعاور أي التداول أو التناوب. وقال الجوهري: كأنها منسوبة إلى العار؛ لأن طلبها عار
وعيب، واعترض عليه بأنه صلّى الله عليه وسلم فعلها، ولو كانت عاراً وعيباً ما فعلها (¬1). وعرف السرخسي والمالكية الإعارة بأنها: تمليك المنفعة بغير عوض. سميت إعارة: لتعريها عن العوض (¬2). وعرفها الشافعية والحنابلة (¬3) بأنها إباحة المنفعة بلا عوض. فهي تختلف عن الهبة بأنها واردة على المنافع، أما الهبة فترد على عين المال، والفرق بين التعريفين أن الأول يفيد التمليك، فللمستعير إعارة الشيء لغيره، والثاني يفيد الإباحة، فليس له إعارة الشيء لغيره، أو إجارته. والإعارة قربة مندوبة إليها، لقوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى} [المائدة:2/ 5] وفسر جمهور المفسرين قوله تعالى: {ويمنعون الماعون} [الماعون:7/ 107] بما يستعيره الجيران بعضهم من بعض، كالدلو والفأس والإبرة، ونحوها (¬4). وفي الصحيحين أنه صلّى الله عليه وسلم استعار فرساً من أبي طلحة فركبه (¬5). وفي رواية لأبي داود بإسناد جيد أنه صلّى الله عليه وسلم استعار درعاً من صفوان بن أمية يوم حنين، فقال: أغصباً يا محمد؟ فقال: بل عارية مضمونة (¬6). ¬
المبحث الثاني ـ ركن الإعارة وشرائطها
المبحث الثاني ـ ركن الإعارة وشرائطها: ركن الإعارة عند الحنفية: هو الإيجاب من المعير. وأما القبول من المستعير فليس بركن عند جمهور الحنفية استحساناً. والقياس أن يكون ركناً وهو قول زفر كما في الهبة، حتى إن من حلف: لا يعير فلاناً، فأعاره، ولم يقبل، يحنث عند جمهور الحنفية، ولا يحنث عنده، كما سبق في الهبة. والإيجاب: أن يقول: أعرتك هذا الشيء، أو منحتك هذا الثوب، أو هذه الدار، أو أطعمتك هذه الأرض، فلفظ الإعارة صريح فيها، والمنحة: هي العطية التي ينتفع الإنسان بها زماناً، ثم يردها على صاحبها وهو معنى العارية. والإطعام المضاف إلى الأرض: هو إطعام منافعها التي تحصل منها بالزراعة من غير عوض عرفاً وعادة، وهو معنى العارية (¬1). واشترط الشافعية في الأصح عندهم وجود لفظ من المعير أو المستعير في صيغة العقد: مثل أعرتك أو أعرني؛ لأن الانتفاع بمال الغير يعتمد إذنه (¬2). وأركان الإعارة عند الجمهور (¬3) أربعة: المعير والمستعير والمعار، والصيغة وهي كل ما يدل على هبة المنفعة من قول أو فعل. ¬
شروط الإعارة
شروط الإعارة: يشترط عند الفقهاء ما يأتي: 1 ً - كون المعير عاقلاً، فلا تصح الإعارة من المجنون والصبي غير العاقل. ولا يشترط البلوغ عند الحنفية، ويشترط عند غيرهم كون المعير أهلاً للتبرع مختاراً؛ لأن العارية تبرع بإباحة المنفعة، فلا تصح ممن لا يصح تبرعه كصبي وسفيه ومفلس، ولا من مستكره (¬1). 2 ً - القبض من المستعير: لأن الإعارة عقد تبرع، فلا يثبت حكم العارية بدون القبض كالهبة. 3 ً - أن يكون المستعار مما يكن الانتفاع به بدون استهلاكه، وإلا لم تصح إعارته (¬2). وقد قرر العلماء أنه تصح الإعارة في كل عين ينتفع بها مع بقائها كالدور والأرضين والثياب والدواب وسائر الحيوان، وجميع ما يعرف بعينه، إذا كانت منفعته مباحة الاستعمال. فلا تجوز إباحة الجواري للاستمتاع، ويكره للاستخدام، إلا أن تكون لذي رحم محرم؛ لأنه لا يأمن أن يخلو بها فيواقعها (¬3)، ويحرم إعارة السلاح والخيل للحربي، والمصحف وما في معناه للكافر، وإعارة الصيد للمحرم (¬4). ¬
المبحث الثالث ـ حكم عقد الإعارة
المبحث الثالث ـ حكم عقد الإعارة: البحث هنا في أصل حكم الإعارة، وفي بيان صفته. أصل حكم الإعارة: يطلق اسم العارية في العرف بطريقتين: بطريق الحقيقة، وبطريق المجاز، أما الإطلاق بطريق الحقيقة فهو محل البحث هنا، وهو إعارة الأعيان التي ينتفع بها، مع بقائها. وحكمها عند المالكية وجمهور الحنفية: هو ملك المنفعة للمستعير، بغير عوض، أو ما هو ملحق بالمنفعة عرفاً وعادة (¬1). وقال الكرخي والشافعية والحنابلة: إن موجب الإعارة هو إباحة الانتفاع بالعين، فهي عقد إباحة (¬2). والإعارة عندهم: إباحة الانتفاع بعين من أعيان المال. ويترتب على الخلاف بين الفريقين: أن المستعير يجوز له عند الفريق الأول إعارة الشيء المستعار لغيره، وإن لم يأذن له المالك، إذا كان لا يختلف باختلاف المستعمل. غير أن المالكية قالوا: إذا منع المستعير من الإعارة، فلا يجوز له أن يعير. ودليل الحنفية: أن المعير سلط المستعير على تحصيل المنافع، والتسليط على هذا الوجه تمليك، لا إباحة، كما في الأعيان، ومقتضى التمليك أن للمستعير حرية التصرف في الانتفاع بالعارية بنفسه أو بغيره. ¬
إعارة المكيل والموزون والمعدود المتقارب
ولا يجوز للمستعير عند الفريق الثاني أن يعير العارية لغيره؛ لأن الإعارة إباحة المنفعة، فلا يملك بها الإباحة لغيره، كإباحة الطعام، فالضيف لا يبيح لغيره ما قدم له. ودليلهم أيضاً اتفاق العلماء على أن عقد الإعارة يجوز من غير أجل، فلو كان مقتضى الإعارة تمليك المنفعة، لما جازت من غير أجل، كالإجارة. واتفق الفريقان على أن المستعير لا يملك إجارة العين المعارة. والسبب عند الفريق الثاني هو أن العارية تبيح المنافع فقط، ولكن لا تملكه إياها. وأما السبب عند الفريق الأول فهو أن المستعير لا يملك الإجارة، لأنها عقد لازم، والإعارة عقد تبرع، جائز غير لازم، فلا يملك به ما هو لازم، فيؤدي إلى تغيير طبيعة الإعارة. كذلك ليس للمستعير أن يرهن ما استعاره؛ لأن الشيء لا يتضمن ما فوقه (¬1). وأما إطلاق الإعارة بطريق المجاز: فهو إعارة المكيل والموزون والمعدود المتقارب، مثل الجوز والبيض وكل ما لا يمكن الانتفاع به إلا باستهلاكه كإعارة الدراهم والدنانير، فهو قرض حقيقة، فعليه المثل أو القيمة، ولكنه إعارة مجازاً، لأنه لا يمكن الانتفاع به إلا باستهلاكه، ولا سبيل إليه إلا بالتصرف بالعين، بخلاف الإعارة حقيقة، فإن محل العقد فيها هو المنفعة لا العين، سواء قلنا: إنها تفيد تمليك المنفعة أو إباحة المنفعة (¬2). حقوق الانتفاع بالعارية: قال الجمهور غير الحنفية: للمستعير الانتفاع بالعارية بحسب الإذن. ¬
الإعارة المطلقة
وقال الحنفية: الحقوق التي يمنحها عقد الإعارة للمستعير تختلف بين ما إذا كانت الإعارة مطلقة أو مقيدة. ف الإعارة المطلقة: هي أن يستعير إنسان شيئاً، ولم يبين في العقد أنه يستعمله بنفسه أو بغيره، ولم يبين كيفية الاستعمال، مثل: أن يعير شخص دابته لآخر، ولم يسم مكاناً ولا زماناً، ولم يحدد الركوب ولا الحمل. فحكمها: أن المستعير ينزل منزلة المالك، فكل ما ينتفع به المالك ينتفع به المستعير، فله أن يستعمل الدابة في أي مكان وزمان، وله أن يركب أو يحمل، أو يركب غيره؛ لأن الأصل في المطلق أن يجري على إطلاقه، وقد ملَّكه منافع العارية مطلقاً، إلا أنه لا يحمل عليها فوق المعتاد لمثلها ولا يستعملها ليلاً ونهاراً، مالم يستعمل مثلها من الدواب، فلو فعل فعطبت، يضمن؛ لأن العقد المطلق مقيد بالعرف والعادة ضمناً، كما يتقيد نصاً، كما في الإجارة (¬1). وأما الإعارة المقيدة: فهي أن تكون مقيدة في الزمان والانتفاع معاً أو في أحدهما. وحكمها: أنه يراعى فيها القيد ما أمكن؛ لأن الأصل في المقيد اعتبار القيد فيه، إلا إذا تعذر اعتباره لعدم الفائدة ونحوه، فيلغو القيد؛ لأن التقييد يجري مجرى العبث (¬2). وبيانه فيما يأتي: إذا قيده في استعمال العارية بنفسه: فإن كان الاستعمال مما يتفاوت الناس فيه كالركوب واللبس، فإنه يختص به، ولا يجوز أن يركب غيره، أو يلبس الثوب غيره. ¬
إذا حدد زمانا أو مكانا،
وإن كان الاستعمال لا يتفاوت بتفاوت الناس، مثل سكنى الدار فله أن يسكن غيره؛ لأن المملوك بالعقد هو السكنى، والناس لا يتفاوتون فيه عادة، فلم يكن التقييد بسكناه مفيداً، فيلغو القيد، إلا إذا كان الذي يسكنها إياه حداداً، أو قصاراً (¬1)، ونحوهما ممن يوهن البناء، فليس له أن يسكنها إياه ولا أن يعمل بنفسه ذلك؛ لأن المعير لا يرضى به عادة. وإذا حدد زماناً أو مكاناً، فجاوز ذلك المكان، أو زاد على الوقت: يضمن؛ لأن التخصص مفيد. وإذا بين مقدار الحمل والجنس: فإن حمله عليه وزاد، يضمن، بقدر الزيادة، فلو ركب الدابة بنفسه، وأردف غيره، فعطبت فإن كانت الدابة مما تطيق حملها جميعاً، يضمن نصف قيمة الدابة؛ لأنه لم يخالف إلا في قدر النصف، وإن كانت الدابة مما لا تطيق حملهما، ضمن جميع قيمتها، لأنه استهلكها. ولو حمل على الدابة شيئاً بخلاف الجنس المحدد في العقد: فإن كان مثله في الخفة أو أخف منه، لا يضمن. وإن كان أثقل منه، يضمن. وإن كان الحمل مثل المعين في العقد في الوزن والثقل: بأن استعار دابة ليحمل عليها مئة رطل من القطن، فحمل عليها مئة رطل من الحديد، فإنه يضمن؛ لأن ثقل الحديد يتركز في موضع واحد على ظهر الدابة، وثقل القطن يتوزع على جميع ظهرها وبدنها، فكان ضرره بالدابة أكثر، والرضا بأدنى الضررين لا يكون رضا بأعلاهما. وإن كان الحمل أثقل من المبين في العقد: فإن كان من الجنس المذكور في العقد، يضمن بقدر الزيادة، وإن كان من خلاف الجنس، يضمن كل القيمة. ¬
صفة حكم الإعارة
وإن اختلف المعير والمستعير في مدة العارية أو في مقدار الحمل، أو في المكان، فالقول قول المعير (¬1)؛ لأن المعير هو الذي يأذن بالانتفاع بالعارية، فيقبل قوله في تحديد وجه الانتفاع، والمستعير يدعي بأن وجه الانتفاع هو على النحو الذي يريده، والمعير منكر لذلك فيقبل قوله بيمينه. صفة حكم الإعارة: قال الحنفية والشافعية والحنابلة: إن الملك الثابت للمستعير ملك غير لازم؛ لأنه ملك لا يقابله عوض، فلا يكون لازماً، كالملك الثابت بالهبة، فيجوز للمعير أن يرجع في الإعارة، كما للمستعير أن يردها في أي وقت شاء، سواء أكانت الإعارة مطلقة أم مؤقتة بوقت، ما لم يأذن المعير في شغل المستعار بشيء يتضرر بالرجوع فيه، أو كانت العارية لازمة. كمن أعار أرضاً لدفن ميت محترم، فلا يجوز للمعير الرجوع في الموضع الذي دفن فيه، وامتنع على المستعير رده، فهذه إعارة لازمة من الجانبين، حتى يندرس أثر المدفون بأن يصير تراباً (¬2). ومثله: لو استعار مكاناً لسكنى معتدة، فليس للمعير الاسترداد. ودليلهم على أن العارية عقد جائز (غير لازم) قوله صلّى الله عليه وسلم: «المنحة مردودة، والعارية مؤداة» (¬3). ¬
مطلقة
وقال المالكية في المشهور عندهم: ليس للمعير استرجاع العارية، قبل الانتفاع بها، وإذا كانت العارية إلى أجل، فلا يجوز للمعير الرجوع إلا بعد انقضاء الأجل. وإن لم يتحدد أجل، يلزم المعير من المدة ما يرى الناس أنه مدة لمثل تلك العارية، وقال الدردير في الشرح الكبير: الراجح أن للمعير أن يرجع في الإعارة ال مطلقة متى أحب (¬1). وبهذا يظهر أن المالكية يسوغون الرجوع في العارية المطلقة ويمنعونه في العارية المقيدة بالشرط أو العمل أو الزمن أو العرف والعادة. وسبب الخلاف بين الفريقين: هو ما يوجد في العارية من شبه العقود اللازمة وغير اللازمة. الرجوع في الأرض المعارة للبناء أو الغراس أو الزراعة: قال الحنفية: إذ اكانت الإعارة مطلقة، فللمعير صاحب الأرض أن يستردها في أي وقت شاء؛ لأن الإعارة غير لازمة، ويجبر المستعير على قلع الغرس ونقض البناء؛ لأن في الترك ضرراً بالمعير، ولا يضمن المعير شيئاً من قيمة الغرس أو البناء؛ إذ أنه لم يغرر المستعير بشيء حيث أطلق العقد، بل هو الذي غرر بنفسه، حيث حمل المطلق على الأبد فهو مغتر غير مغرور. وإن كانت الإعارة مؤقتة بوقت: فللمعير استرداد العارية أيضاً للحديث السابق: «المنحة مردودة، والعارية مؤداة». ولكن يكره الرجوع قبل انتهاء الوقت، لما فيه من خلف الوعد، وليس له إجبار المستعير على النقض والقلع، والمستعير حينئذ بالخيار: إن شاء ضمن المعير قيمة غرسه وبنائه؛ لأنه غره بتوقيت العارية، ¬
ثم بإخراجه قبل الوقت، وإن شاء أخذ غرسه وبناءه إن لم يضر القلع بأرض المعير، فإن أضر القلع بها كان الخيار للمعير: إن شاء أخذ الغرس والبناء بالضمان، وإن شاء رضي بالقطع. هذا ما ذكر الحاكم الشهيد في مختصره. وعند القدوري: يضمن المعير ما نقص البناء والغرس بالقلع؛ لأن المستعير مغرور، حيث وقت له المعير، إذ الظاهر الوفاء بالعهد، والمغرور يرجع على الغار، دفعاً للضرر عن نفسه. وأما إذا استعار شخص أرضاً للزراعة، فلا تؤخذ منه، حتى يحصد الزرع، وقّت العارية أو لم يوقت؛ لأن للزرع نهاية معلومة، وفي ترك الزرع لوقت الحصاد بطريق الإجارة بأجر المثل مراعاة لحقي المعير والمستعير، بخلاف الغرس، لأنه ليس له نهاية معلومة، فيقلع دفعاً للضرر عن المالك (¬1). وقال المالكية: الراجح أن للمعير أن يرجع في الإعارة المطلقة متى أحب، أما إذا كانت الإعارة مقيدة بشرط أو بعرف أو عادة، فلا يجوز الرجوع قبل انقضاء الأجل، وبناء عليه: إذا أعار أرضاً لبناء أو غرس، وبنى أوغرس، فإن لم يحصل تقييد بأجل، فللمعير إخراج المستعير، ويملك المعير بناء المستعير وغرسه، إن دفع له ما أنفق. ففي الإعارة المقيدة على هذا النحو: ليس للمعير الرجوع في الأرض، إذا حصل البناء أو الغرس، قبل انقضاء أجل الإعارة، مالم يدفع للمستعير ما أنفقه، فإن انقضت مدة البناء أو الغرس المشترطة أو المعتادة، فالمالك بالخيار: إن شاء أمر المستعير بهدم البناء، وقلع الشجر، وتسوية الأرض، كما كانت؛ وإن شاء دفع ¬
قيمة ذلك منقوضاً أو مقلوعاً، إذا كان مما له قيمة بعد القلع، بعد إسقاط أجرة من يهدمه ويسوي الأرض، إذا كان المستعير لا يتولى الأمر بنفسه أو خادمه (¬1). وقال الشافعية والحنابلة: إذا كانت الإعارة للبناء أو الغراس، مطلقة المدة، فللمستعير أن ينتفع بالأرض مالم يرجع المعير، فإن رجع المعير بعد أن بنى المستعير أو غرس، فإن كان المعير قد شرط عليه القلع، لزمه قلعه، عملاً بالشرط، فإن امتنع فللمعير القلع. ويلزم المستعير تسوية الأرض المحفورة، إن شرطت وإلا فلا يلزمه تسوية الحفر؛ لأنه لما شرط عليه القلع، رضي بما يحصل بالقلع من الحفر، ولأنه مأذون فيه، فلا يلزمه ضمان ما حصل به من النقص. وإن لم يشرط عليه القلع: فإن اختار المستعير القلع، قلع، دون أن يلتزم المعير بدفع قيمة النقص. ويلزم المستعير بتسوية الأرض في الأصح عند الشافعية، ويحتمل أن تلزمه التسوية عند الحنابلة؛ لأن القلع حصل باختياره، فإنه لو امتنع منه لم يجبر عليه، فلزمه تسوية الحفر كما لو خرب أرضه التي لم يستعرها، إلا أن القاضي من الحنابلة ذكر أنه لا يلزمه تسوية الحفر؛ لأن المعير رضي بذلك، حيث أعاره مع علمه بأن له قلع غرسه، وهو الأصح عندهم. وإن لم يختر المستعير القلع، فللمعير الخيار بين أن يبقيه بأجرة المثل، أو يقلع ويضمن قدرالنقص بين قيمته قائماً ومقلوعاً. وإن كانت الإعارة لبناء أو غراس أو غيره مؤقتة، فللمعير الرجوع أيضاً، فإذا رجع أو انتهت المدة، طبقت الأحكام السابقة نفسها في الإعارة المطلقة: من ناحية اشتراط القلع أو عدم اشتراطه، وآثار ذلك. ¬
المبحث الرابع ـ حال العارية: هل هي مضمونة أو أمانة؟
وإذا أعار شخص أرضاً للزراعة، فله الرجوع، ما لم يزرع، فإذا زرع لم يملك الرجوع فيها إلى وقت الحصاد، وعليه إبقاء الزرع إلى ذلك الوقت، فإن رجع المعير قبل الحصاد، وجب على المستعير دفع أجرة المثل من وقت الرجوع إلى الحصاد (¬1). والخلاصة: إن المعير له الرجوع في الإعارة للبناء أو الغراس عند الشافعية والحنابلة والحنفية، سواء أكانت الإعارة مطلقة أم مؤقتة، وأما في الإعارة للزراعة فيقتصر أثر الرجوع على إعطاء المعير حق المطالبة بأجرة المثل، في المدة التي بين الرجوع والحصاد. وعند المالكية: للمعير الرجوع في الإعارة المطلقة، وليس له الرجوع في الإعارة المقيدة، قبل انقضاء أجل العقد، فهذه الإعارة لازمة لانتهاء الأجل المعلوم. المبحث الرابع ـ حال العارية: هل هي مضمونة أو أمانة؟ قال الحنفية: إن الشيء المستعار أمانة في يد المستعير، في حال الاستعمال وفي غير حال الاستعمال، لا يضمن على كل حال إلا بتعدٍ أو تقصير؛ لأنه لم يوجد من المستعير سبب وجوب الضمان، فلا يجب عليه الضمان، كالوديعة والإجارة؛ لأن الضمان لا يجب على المرء بدون فعله، ولم يفعل ما يوجب الضمان؛ لأنه يقوم بحفظ مال الغير، وهذا إحسان في حق المالك، قال تعالى: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} [الرحمن:60/ 55] (¬2). ¬
وقال المالكية (¬1): يضمن المستعير ما يُغاب عليه: وهو ما يمكن إخفاؤه كالثياب والحلي والسفينة السائرة في عرض البحر، وذلك إذا لم يكن على التلف أو الضياع بينة على حصوله بلا سبب منه، ولا يضمن فيما لا يغاب عليه كالحيوان والعقار، ولا فيما قامت البينة على تلفه. ودليلهم الجمع والتوفيق بين حديثين: أولهما ـ أنه عليه الصلاة والسلام قال لصفوان بن أمية: «بل عارية مضمونة مؤداة» وفي رواية «بل عارية مؤداة» وثانيهما ـ حديث: «ليس على المستعير غير المغل ـ أي الخائن ـ ضمان، ولا على المستودع غير المغل ضمان» فحمل الضمان على ما يغاب عليه، والحديث الآخر على ما لا يغاب عليه. وهذا المذهب قريب في شطره من مذهب الحنفية في أن العارية أمانة (¬2). والأصح عند الشافعية: أن العارية مضمونة على المستعير بقيمتها يوم التلف إذا تلفت بغير الاستعمال المأذون فيه وإن لم يفرط، لحديث صفوان: «بل عارية مضمونة» ولأنه مال يجب رده لمالكه، فيضمن عند تلفه كالشيء المتسلم، أي المقبوض على سوم الشراء، أما إذا تلفت بالاستعمال المأذون فيه فلا ضمان (¬3)، لحدوث التلف عن سبب مأذون فيه، فلو تعسرت الدابة من ثقل حمل مأذون فيه أو ماتت به، أو انمحق أي (تلف بالكلية) ثوب يلبسه المأذون فيه، أو سقط ثور في ¬
ساقية استعير لاستعماله فيها، فلا ضمان في هذه الحالات كلها (¬1). كذلك لايضمن المستعير ما استعاره ليرهنه، فرهنه، فتلف عند المرتهن. لكن يشترط ذكر جنس الدين وقدره وصفته والمرهون عنده. ويد المستعير على العارية عند الشافعية يد ضمان في أثناء الاستعمال غير المأذون فيه، فيضمنها بالتلف سواء تعدى أم لم يتعد، وسواء قصر في حفظها أم لم يقصر، قال النووي في المنهاج: فإن تلفت (أي العين المستعاره عند المستعير) لا باستعمال لها مأذون فيه، ضمنها، وإن لم يفرط، لقوله صلّى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم: «بل عارية مضمونة» ولأنه مال يجب رده لمالكه، فيضمن عند تلفه، كالمستام، أي الذي يسوم السلعة. والأصح أن العارية تضمن بقيمة يوم التلف، لا بأقصى القيم، ولا بيوم القبض. وقال الحنابلة في ظاهر المذاهب (¬2): إن العارية مضمونة على المستعير مطلقاً، تعدى أو لم يتعد، بقيمتها يوم التلف، بدليل حديث صفوان بن أمية السابق الإشارة إليه، وهو أن النبي صلّى الله عليه وسلم استعار منه درعاً يوم حنين، فقال ـ فيما رواه أحمد وأبو داود ـ أغصباً يا محمد؟ قال: «بل عارية مضمونة» فهذا إخبار بصفة العارية وحكمها، وهو مروي عن ابن عباس وأبي هريرة. ¬
شرط المعير الضمان
ولقوله عليه الصلاة والسلام: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» (¬1)، ولأنه مال لغيره، أخذه لمنفعة نفسه، لا على وجه الوثيقة كالرهن، ومن غير استحقاق، ولا إذن في الإتلاف، فكان مضموناً كالمغصوب. وأضاف الحنابلة أن المستعير لو استعاروقفاً ككتب علم وأدرع موقوفة على المجاهدين فتلفت بغير تفريط ولا تعد، فلا ضمان، لكون تعلم العلم وتعليمه والجهاد من المصالح العامة. والخلاصة: إن يد المستعير يد ضمان عند الشافعية والحنابلة، ويد أمانة عند الحنفية والمالكية، على التفصيل السابق عند المالكية والشافعية. ويبرأ المستعير برد العارية إلى من جرت العادة بتسلم الشيء منه كزوجة وخازن ووكيل عام في قبض الحقوق. شرط المعير الضمان: قال الحنفية: إذا شرط المعير على المستعير ضمان العارية يكون الاشتراط باطلاً، وبه يفتى، كما في الوديعة، وكشرط عدم الضمان في الرهن، لأن في ذلك تغييراً لمقتضى العقد (¬2). وقال المالكية: إذا اشترط المعير الضمان في الموضع الذي لا يجب فيه الضمان، لا يضمنه المستعير بإجارة المثل في استعماله العارية؛ لأن الشرط يخرج ¬
تغير حال العارية من الأمانة إلى الضمان
العارية عن حكمها إلى باب الإجارة الفاسدة، إذا كان صاحبها لم يرض أن يعيرها، بغير ضمان، فهو عوض مجهول، فيجب أن يرد إلى معلوم (¬1). وقال الشافعية والحنابلة: إذا شرط المستعير أن تكون العارية أمانة أو نفي الضمان لم يسقط الضمان ويلغو الشرط؛ لأن كل عقد اقتضى الضمان لم يغيره الشرط، كالمقبوض ببيع صحيح أو فاسد (¬2). تغير حال العارية من الأمانة إلى الضمان: يتغير حال العارية عند الحنفية من الأمانة إلى الضمان بالأسباب نفسها التي يتغير بها حال الوديعة، منها (¬3): 1 - التضييع، والإتلاف حقيقة بإلقائها في مضيعة أو كأن يدل عليها سارقاً؛ أو الإتلاف معنى بمنع العارية بعد طلبها أوبعد انقضاء المدة. 2 - ترك الحفظ في استعمال العارية، أو إيجارها. 3 - استعمال العين المعارة استعمالاً غير مشروط أو غير مألوف عادة. 4 - المخالفة في كيفية الحفظ: مثل أن يأمره ألا يغفل عنها، فغفل، فيضمن. فإن عاد إلى موافقة مطلب المعير لا يبرأ عن الضمان، بخلاف ما عرفناه في الوديعة عند الحنفية، فإنه يبرأ عن الضمان؛ لأن المقصود في الوديعة، هو الحفظ للمالك، والحفظ يتحقق بعد المخالفة كما كان قبل المخالفة. وهناك فرق آخر: وهو أن المستعير لو رد العارية إلى منزل المالك، كما إذا رد الدابة إلى إصطبل مالكها، يبرأ عن الضمان بخلاف الوديعة، للعادة الجارية في ¬
مؤنة رد العارية
العارية بردها إلى بيت المالك أو بدفعها إلى عياله، ولم تجر العادة بذلك في الوديعة، فخصصت العارية من عموم آية {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} [النساء:58/ 4]، وبقيت الوديعة على ظاهر النص، كما سبق ذكره. والعين المغصوبة مثل الوديعة ترد إلى المالك نفسه. لكن إذا كانت العارية شيئاً نفيساً فرده المستعير إلى دار المالك ولم يسلمه إليه ضمن؛ لأن الأعيان النفيسة لا ترد إلا إلى صاحبها في العادة. وكذلك إذا اختلف المعير والمستعير، فالقول قول المالك كما تقدم بخلاف الوديعة: القول قول الوديع (¬1). مؤنة رد العارية: إن أجرة رد العارية على المستعير؛ لأن الرد واجب عليه؛ لأنه قبضها لمنفعة نفسه، والأجرة مؤنة الرد، فتكون عليه. وكذلك أجرة رد العين المغصوبة على الغاصب؛ لأن الرد واجب عليه دفعاً للضرر عن المالك، فتكون مؤنته عليه. أما أجرة رد العين المستأجرة فعلى المؤجر؛ لأن الواجب على المستأجر التمكين من الرد والتخلية بين الشيء وصاحبه، دون الرد (¬2). والفرق أن غرض المؤجر والغاصب ومثلهما المرتهن هو حصول المنفعة لهم بخلاف المستعير، قبض الشيء لمنفعته الخاصة. وكذلك أجرة رد الوديعة على المالك المودع؛ لأن الوديع يجب علىه فقط رد الوديعة عند طلب المالك لقوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} [النساء:58/ 4]. ¬
المبحث الخامس ـ الاختلاف بين المعير والمستعير
المبحث الخامس ـ الاختلاف بين المعير والمستعير: قد يحدث اختلاف في بعض الأمور بين المعير والمستعير، فمن الذي يصدق قوله؟ 1ً - الاختلاف في أصل العقد أو صفته: إذا ادعى المنتفع الإعارة وادعى المالك الإجارة، وادعى المنتفع الإعارة وادعى المالك الغصب بأن المنتفع غصب الشيء منه، يصدق المالك بيمينه على المذهب عند الشافعية؛ لأن الأصل عدم الإذن بالانتفاع، فيحلف ويستحق أجرة المثل. 2ً - الاختلاف في التلف: إذا تلفت العين المستعارة، وادعى المستعير أنها تلفت بالاستعمال المأذون فيه، وأنكر المعير ذلك، وقال: بل تلفت بغير الاستعمال، أو باستعمال غير مأذون فيه، يصدق المستعير بيمينه بالاتفاق، لأنه يصعب عليه إثبات قوله بالبينة عند القائلين بأن يد المستعير يد ضمان، ولأن الأمين يقبل قوله عند القائلين بأن يد المستعير يد أمانة. 3ً - الاختلاف في الرد: إذا ادعى المستعير أنه رد العين المستعارة على المعير، وأنكر المعير ذلك، فيحلف المعير على قوله ويصدق بيمينه، لأن الأصل عدم الرد، والمستعير مدع فعليه البينة، والمعير منكر، واليمين على المنكر (¬1). المبحث السادس ـ انتهاء الإعارة: تنتهي الإعارة بما يلي: 1 ً - طلب المعير رد العارية: لأن الإعارة عقد غير لازم، فتنتهي بالفسخ. ¬
- رد العارية
2 ً - رد العارية: إذا رد المستعير العين المستعارة على المعير، انتهت الإعارة، سواء قبل انتهاء مدة الإعارة أم قبلها. 3 ً - جنون أحد العاقدين أو إغماؤه: تنتهي الإعارة بالجنون أو الإغماء، لزوال أهلية التبرع المطلوبة لإبرام العقد وأثناء بقائه. 4 ً - موت أحد العاقدين- المعير أو المستعير: لأن الإعارة إباحة الانتفاع بالإذن، وبالموت لم يبق الآذن أو المأذون له. 5 ً - الحجر على أحد العاقدين بالسفه: لأنه بالحجر يفقد المحجور أهلية التبرع، فتفسخ الإعارة. 6 ً - الحجر بالإفلاس على المعير المالك: لأنه يمتنع عليه تفويت منافع أمواله، لمصلحة دائنيه.
الفصل التاسع: الوكالة
الفَصْلُ التَّاسع: الوَكَالة خطة الموضوع: الكلام عن عقد الوكالة في المباحث الخمسة الآتية: المبحث الأول ـ تعريف الوكالة وركنها ومشروعيتها. المبحث الثاني ـ شرائط الوكالة. المبحث الثالث ـ أحكام الوكالة. المبحث الرابع ـ تعدد الوكلاء. المبحث الخامس ـ طرق انتهاء الوكالة. المبحث الأول ـ تعريف الوكالة وركنها ومشروعيتها: تعريف الوكالة: الوكالة بفتح الواو وكسرها، وهي تطلق لغة ويراد بها الحفظ، كما في قوله عز وجل: {وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل} [آل عمران:173/ 3] أي الحافظ، وقوله سبحانه: {لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً} [المزمل:9/ 73] قال الفراء: أي حفيظاً. وتطلق ويراد بها التفويض، يقال: وكل أمره إلى فلان: فوضه إليه واكتفى به، ومنه? توكلت على الله) قال تعالى: {وعلى الله
ركن الوكالة
فليتوكل المتوكلون} [إبراهيم:12/ 14]، وقال سبحانه مخبراً عن هود عليه السلام: {إني توكلت على الله ربي وربكم} [هود:56/ 11] أي اعتمدت على الله، وفوضت أمري إليه. والوكالة شرعاً عند الحنفية (¬1): هي عبارة عن إقامة الإنسان غيره مقام نفسه في تصرف جائز معلوم. أو هي تفويض التصرف والحفظ إلى الوكيل. والتصرف يشمل التصرفات المالية من بيع وشراء وغيرهما من كل ما يقبل النيابة شرعاً كالإذن بالدخول. وقال الشافعية: الوكالة تفويض شخص ماله فعله مما يقبل النيابة إلى غيره ليفعله في حياته (¬2). والتقييد بالحياة للتمييز عن الوصية. ركن الوكالة: ركن الوكالة عند الحنفية: هو الإيجاب والقبول، فالإيجاب من الموكل ويسمى الأصيل: أن يقول: وكلتك بكذا، أو افعل كذا، أو أذنت لك أن تفعل كذا ونحوه. والقبول من الوكيل: أن يقول: قبلت وما يجري مجراه (¬3). ويتم القبول بكل فعل دل على القبول، ولا يشترط كونه لفظاً؛ لأن التوكيل إباحة ورفع حجر، فأشبه إباحة الطعام (¬4). ويجوز بالاتفاق قبول الوكالة على الفور والتراخي؛ لأن قبول وكلائه صلّى الله عليه وسلم كان بفعلهم، وكان متراخياً عن توكيله إياهم. فإذا لم يوجد الإيجاب والقبول لا يتم العقد، فلو وكل إنسان غيره بقبض دينه، فأبى أن يقبل، ثم ذهب الوكيل فقبضه، لم يبرأ المدين؛ لأن تمام العقد ¬
الوكالة الدورية
بالإيجاب والقبول، وكل واحد منهما يرتد بالرد قبل وجود الآخر، كما في البيع ونحوه. وللوكالة عند الجمهور أركان أربعة: هي الموكل والوكيل والموكل فيه والصيغة. وتصح الوكالة الدورية (¬1) عند الحنابلة (¬2): وهي وكلتك، وكلما عزلتك أو انعزلت فقد وكلتك أو فأنت وكيلي، ويصح عزله بقوله: كلما وكلتك أو عدت وكيلي فقد عزلتك. تعليق الوكالة على شرط أو زمن: الوكالة عند الحنفية والحنابلة قد تكون مطلقاً وقد تكون معلقة بالشرط، مثل: إن قدم زيد فأنت وكيلي في بيع هذا الكتاب، ولا يصح تصرف الوكيل قبل تحقق الشرط، وقد تكون مضافة إلى وقت في المستقبل بأن يقول: وكلتك في بيع هذا الكتاب غداً، ولا يصير وكيلاً قبل الغد. ودليلهم على جواز ذلك أن التوكيل عقد يبيح التصرف مطلقاً، والإطلاقات مما تحتمل التعليق بالشرط والإضافة إلى الوقت كالطلاق، وبما أن التوكيل إذن في التصرف فهو يشبه الوصية (¬3). وقال الإمام الشافعي في الأصح من مذهبه: لا يصح تعليق الوكالة بشرط من صفة أو وقت، مثل: إن جاء زيد أو رأس الشهر فقد وكلتك بكذا. ودليله أن التوكيل عقد تؤثر الجهالة في إبطاله، فلم يصح تعليقه على شرط كسائر العقود من ¬
تأقيت الوكالة
بيع وإجارة. ويخالف الوصية لأنها لايؤثر فيها غرر الجهالة، فلا يؤثر فيها غرر الشرط، فتقبل التعليق. أما الوكالة فتؤثر الجهالة في إبطالها فيؤثر غرر الشرط فيها، فلا تقبل التعليق. لكن لو تصرف الوكيل في هذه الحالة صح تصرفه لوجود الإذن، وإن كان العقد فاسداً، وحينئذ إذا كان وكيلاً بأجر سقط المسمى، ووجب له أجر المثل، لأنه عمل في عقد فاسد لم يرض فيه بغير بدل، فوجب أجر المثل كالعمل في الإجارة الفاسدة (¬1). وإذا نجَّز الوكالة وشرط للتصرف شرطاً جاز اتفاقاً، مثل: وكلتك بشراء شيء، ولكن لا تشتره إلا بعد شهر. تأقيت الوكالة: اتفق الفقهاء على صحة تأقيت الوكالة بزمن معين كشهر أو سنة؛ لأن الوكالة بحسب الحاجة. الوكالة بأجر: تصح الوكالة بأجر وبغير أجر؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يبعث عماله لقبض الصدقات ويجعل لهم عمولة (¬2)، ولهذا قال له أبناء عمه: «لو بعثتنا على هذه الصدقات، فنؤدي إليك ما يؤدي الناس، ونصيب ما يصيبه الناس» أي العمولة، ولأن الوكالة عقد جائز لا يجب على الوكيل القيام بها، فيجوز أخذ الأجرة فيها، بخلاف الشهادة فإنها فرض يجب على الشاهد أداؤها. فإن كانت الوكالة بغير أجرة فهي معروف من الوكيل، وإذا كانت الوكالة ¬
عموم الوكالة وتخصيصها
بأجر أي (بجعل) فحكمها حكم الإجارات، فيستحق الوكيل الجُعْل بتسليم ما وكل فيه إلى الموكل إن كان مما يمكن تسليمه كثوب يخيطه، فمتى سلمه مخيطاً، فله الأجر. وإن وكل في بيع أوشراء أو حج استحق الأجر، إذا عمله، وإن لم يقبض الثمن في البيع (¬1). وفي الوكالة بأجر يجوز للموكل أن يشترط على الوكيل ألا يخرج نفسه منها إلا بعد أجل محدود، وإلا لما كان عليه التعويض. عموم الوكالة وتخصيصها: تصح الوكالة العامة عند الحنفية والمالكية (¬2)؛ لأنها تجوز في كل ما يملكه الموكل وفي كل ما تصح فيه النيابة من التصرفات المالية وغيرها. وقال الشافعي والحنابلة (¬3): لا تصح الوكالة العامة؛ لما فيها من عظيم الغرر. واتفق الفقهاء على جواز الوكالة الخاصة، وهو الأصل الغالب فيها. مشروعية الوكالة: الوكالة جائزة بالكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب: فقوله تعالى حكاية عن أهل الكهف: {فابعثوا أحدكم بوَرِقكم هذه إلى المدينة، فلينظر أيها أزكى طعاماً فليأتكم برزق منه} [الكهف:19/ 18] وهذه وكالة في الشراء، وقوله عز وجل: {فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها} [النساء:35/ 4] وقوله سبحانه: {اذهبوا بقميصي هذا} [يوسف:93/ 12] وقوله تعالى حكاية عن سيدنا يوسف: {اجعلني على خزائن الأرض} [يوسف:55/ 12]. وقوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها} [التوبة:60/ 9] أي السعاة والجباة الذين يبعثهم الإمام لتحصيل الزكاة، لأن الله سبحانه جوز العمل ¬
على الصدقات، وهو بحكم النيابة عن المستحقين. وقوله سبحانه: {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها} [النساء:35/ 4] والحكمان وكيلان عن الزوجين. وأما السنة: فأحاديث كثيرة، منها خبر الصحيحين: «أنه صلّى الله عليه وسلم بعث السعاة لأخذ الزكاة»، ومنها: «توكيله صلّى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضَّمري في نكاح أم حبيبة بنت أبي سفيان» (¬1) ومنها «توكيله أبا رافع في قبول نكاح ميمونة بنت الحارث» (¬2) ومنها «توكيله حكيم بن حزام بشراء الأضحية، وتوكيله عروة البارقي في شراء الشاة» (¬3). ومنها خبر البخاري في التوكيل بإعطاء بعير سداداً لدين رجل، وقوله عليه السلام: «إن خياركم أحسنكم قضاء». وأما الإجماع، فقد أجمعت الأمة على جواز الوكالة، ولأن الحاجة داعية ¬
حكمة تشريع الوكالة
إليها، فإن الشخص قد يعجز عن قيامه بمصالحه كلها (¬1)، فكانت جائزة لأنها نوع من أنواع التعاون على البر والتقوى. وحكمة تشريع الوكالة واضحة: وهي رعاية المصلحة وسد الحاجة ودفع الحرج عن الناس، فقد تتوافر القدرة والكفاءة والخبرة عند إنسان دون آخر، وقد يكون الإنسان محقاً، ولكنه عاجز عن تقديم الحجة والبيان، وخصمه أقدر وأعرف بالحجج، فيكون محتاجاً لتوكيل غيره للدفاع عنه، وإظهار حقه. الحكم التكليفي للوكالة: الأصل في الوكالة الإباحة، وقد تصبح مندوبة إن كانت إعانة على مندوب. وقد تصير مكروهة إن أعانت على مكروه، وقد تكون حراماً إن أعانت على حرام، وقد تكون واجبة إن دفعت ضرراً عن الموكل. المبحث الثاني ـ شرائط الوكالة: يشترط لصحة الوكالة شروط في الصيغة وفي العاقدين وفي محل العقد. والعاقدان هما: الموكل والوكيل، والموكل يجوز أن يكون غائباً أو امرأة أو مريضاً بالاتفاق، أو حاضراً صحيحاً خلافاً لأبي حنيفة. والوكيل: كل من جاز له التصرف لنفسه في شيء، جاز له أن ينوب فيه عن غيره، إلا أنه لا يجوز توكيل العدو على عدوه. ولا يجوز عند المالكية توكيل الكافر على بيع أو شراء أو عقد سلَم لئلا يفعل الحرام، ولا توكيله على قبض من المسلمين لئلا يستعلي عليهم. ¬
ما يشترط في الصيغة
أما ما يشترط في الصيغة: فهو شرطان عند الشافعية: 1ً - أن تتم الوكالة بلفظ يدل على الرضا بالتوكيل إما صراحة أو كناية، مثل وكلتك ببيع داري، أو أقمتك مقامي في بيعه، ولا يشترط اللفظ في القبول، بل يكفي الفعل، كإباحة الطعام للضيف. 2ً - عدم تعليقها على شرط عند الشافعية، مثل إن جاء فلان من السفر فأنت وكيلي بكذا. ولكن يصح تعليق التصرف بأمر إذا كانت الوكالة منجزة، مثل وكلتك في بيع داري على أن يتم البيع عند قدوم فلان. ويصح تقييد الوكالة بوقت، كأن يتم التوكيل لمدة شهر أوسنة. أما شرط الموكل: فهو أن يكون مالكاً للتصرف الذي يوكل فيه، وتلزمه أحكام ذلك التصرف. فلا يصح التوكيل من المجنون والمغمى عليه والصبي غير المميز؛ لعدم وجود العقل الذي هو من شرائط الأهلية، ولأنه لا تلزمهما أحكام التصرفات، كما لا يصح التوكيل من الصبي المميز بما لايملكه بنفسه من التصرفات كالطلاق والهبة والصدقات ونحوها من التصرفات الضارة ضرراً محضاً به. أما التصرفات النافعة نفعاً محضاً كقبول التبرعات، فيجوز للصبي المميز التوكيل بها. وأما التصرفات المترددة بين النفع والضرر كالبيع والإجارة: فإن كان المميز مأذوناً في التجارة يصح منه التوكيل بها، لأنه يملكها بنفسه، وإن كان ممنوعاً من التصرف ينعقد التوكيل منه موقوفاً على إجازة وليه، وعلى إذن وليه بالتجارة أيضاً (¬1). ¬
شروط الوكيل
وقال الإمام الشافعي: لا يصح توكيل الصبي مطلقاً، إذ لا تصح عنده مباشرته لأي تصرف. وهذا هو رأي المالكية والحنابلة (¬1). واكتفى أبو حنيفة باشتراط أن يكون التوكيل حاصلاً بما يملكه الوكيل، وبناء عليه يجوز عنده توكيل المسلم ذمياً بشراء الخمر والخنزير. ولا يصح توكيل المحجور عليه لسفه في تصرف مالي؛ لأنه لا يملك مباشرته. ولا يصح للمرأة والمحرم بحج أو عمرة عند الجمهور غير الحنفية التوكيل بمباشرة عقد الزواج؛ لأنه لا يصح منهما مباشرته. كما لا يصح للأب الفاسق أن يوكل في تزويج ابنته؛ لأنه لا يملك مباشرة ذلك بنفسه. ويستثنى من ذلك الأعمى عند الشافعية فإنه لا يصح له البيع والشراء ونحوهما مما يتوقف على الرواية، ويصح أن يوكل في ذلك للضرورة. وأما شروط الوكيل: فهو: 1 - أن يكون عاقلاً أي يعقل العقد بأن يعرف مثلاً أن البيع سالب والشراء جالب، ويعرف الغبن اليسير من الغبن الفاحش، فلا تصح وكالة المجنون والصبي غير المميز. أما الصبي المميز فتصح وكالته عند الحنفية سواء أكان مأذوناً في التجارة أم محجوراً. واشترط هذا الشرط؛ لأن الوكيل يقوم مقام الموكل في العبارة، فلابد من أن يكون من أهل العبارة، وأهلية العبارة لاتكون إلا بالعقل والتمييز، وقد زوج ابن أم سلمة - وكان صبياً - النبي صلّى الله عليه وسلم. وقال الشافعي والمالكية والحنابلة: وكالة الصبي والمجنون والمغمى عليه غير صحيحة؛ لأن كل واحد منهم غير مكلف، فلا تصح مباشرته التصرف لنفسه، ¬
فلا يصح توكله، وأجاز الشافعية على الصحيح توكيل الصبي المميز في الإذن بدخول دار وإيصال هدية وحج وتطوع وذبح ضحية وتفرقة زكاة. ولا يصح توكيل السفيه في تصرف مالي، ولا توكيل المحرم بحج أو عمرة، ولا توكيل المرأة في إبرام عقد نكاح عند الجمهور غير الحنفية، لعدم صحة مباشرة المحرم والمرأة عقد الزواج. ولا يصح عند الشافعية توكيل الأعمى في تصرف يتطلب الرؤية. 2 - ويشترط عند الحنفية أيضاً: أن يكون الوكيل قاصداً العقد، بألا يكون هازلاً، وأن يعلم بالتوكيل في الجملة، فلو وكل رجلاً ببيع كتابه، فباعه الوكيل من رجل قبل أن يعلم بالوكالة، لا يجوز بيعه، حتى يجيزه الموكل أو الوكيل بعد علمه بالوكالة؛ وعلم الوكيل بالوكالة يثبت بالمشافهة أو الكتابة إليه، أو بإرسال رسول إليه، أو بإخبار رجلين أورجل واحد عدل أو غير عدل وصدقه الوكيل (¬1). 3 - أن يكون الوكيل معيناً إما بنسبة أو إشارة إليه، فلو وكل أحد رجلين لم تصح الوكالة للجهالة. وأن يكون عالماً بموكله بوصف له أو شهرة (¬2). واشترط المالكية في الموكل والوكيل ثلاثة شروط: الحرية، والرشد، والبلوغ، فلا يصح التوكيل بين الأرقاء والأحرار، ولا بين السفهاء والمحجورين، ولا بين الصبيان أو بينهم وبين البالغين. واشترط الشافعية في الوكيل أن يكون عدلاً إذا كان وكيلاً عن القاضي أو عن الولي في بيع مال من تحت ولايته. ¬
شروط الموكل به
وأما شروط الموكل به فهي: 1 - ألا يكون الموكل فيه من الأمور المباحة: فلا يصح لإنسان أن يوكل غيره بالاحتطاب والاحتشاش واستقاء الماء واستخراج المعادن كالنحاس والرصاص والجواهر، فإذا حصل التوكيل في شيء مما ذكر فهو للوكيل، وليس للموكل فيه شيء. وهذا الشرط عند الحنفية، وأجاز الجمهور في الأظهر عند الشافعية التوكيل في هذه الأمور، ويقسم بينهم على قدر أجر كل منهم بلا ترجيح بينهم لحصوله بمنافع مختلفة (¬1)؛ لأن تملك المباحات أحد أسباب الملك، فأشبه الشراء والبيع، فصح التوكيل فيه. 2 - أن يكون الموكل به مملوكاً للموكل: لأن ما لا يملكه لا يتصور تفويض التصرف به لغيره، وهذا متفق عليه. 3 - أن يكون معلوماً من بعض الوجوه بحيث لا يعظم الغرر فيه، وهذا شرط للشافعية. 4 - ألا يكون الموكل فيه طلب قرض من الغير، فإذا وكل إنسان غيره في أن يقترض له من شخص مالاً، فقال الوكيل: أقرضني كذا، فأقرضه، كان القرض للوكيل لا للموكل، لكن يصح ذلك بطريق الرسالة، بأن يقول: أرسلني فلان ليستقرض كذا. 5 - أن يكون قابلاً للنيابة شرعاً: وهو كل ما تصح النيابة فيه من الأمور المالية وغيرها، فلا تصح الوكالة في العبادات البدنية المحضة كالصلاة والصيام والطهارة من الحدث؛ لأن المقصود منها الابتلاء والاختبار بإتعاب النفس، وهو لا يحصل ¬
أولا ـ الوكالة في حقوق الله تعالى
بالتوكيل، ولا يصح التوكيل باليمين؛ لأن المقصود منها إظهار صدق الحالف وتعتمد على الإجلال والتعظيم والعبودية لله تعالى، وهذا أمر شرعي، ولا يصح التوكيل بالنكاح بمعنى الوطء؛ لأن المقصود به الإعفاف وإنجاب ولد ينسب إليه. وتجوز الوكالة عند الجمهور في العبادات التي لها تعلق بالمال قبضاً وإخراجاً ودفعاً إلى المستحق كالزكاة والكفارة والنذر والصدقة والحج والعمرة عند العجز وبعد الموت، وذبح الهدي وجبران النقص في الإحرام بالحج أو العمرة وذبح الأضحية ونحوها (¬1)؛ لأن المقصود بها إيصالها لأهلها، ولم يجز المالكية التوكيل بالحج؛ لأن المقصود به تهذيب النفس وتعظيم شعائر الله (¬2)، وأما إنفاق المال فهو أمر عارض. وقد اختلف الفقهاء في بعض الأمور التي يجوز التوكيل بها، مما يقتضينا قسمة ما يجوز التوكيل به وما لا يجوز إلى قسمين: إما أن يكون التوكيل بحقوق الله عز وجل وهي كل الحدود عند الحنفية، وعند غيرهم ما عدا حد القذف. وإما أن يكون بحقوق العباد. أولاً ـ الوكالة في حقوق الله تعالى: التوكيل في حقوق الله تعالى نوعان: أحدهما ـ بالإثبات، والثاني ـ بالاستيفاء. 1 - التوكيل بإثبات الحدود: قال الحنفية: إن كان الحد لايحتاج في إظهاره ¬
لكن استثناء القود محل نظر كما سيأتي. عند القاضي إلى الخصومة (أي للدعوى) كحد الزنا وشرب الخمر فلا يصح فيه التوكيل بإثباته؛ لأنه يثبت عند القاضي بالبينة أو الإقرار من غير حاجة إلى رفع دعوى من صاحب الحق، فتكفي فيه شهادة الحسبة بدون دعوى. فيتلخص من هذا أنه يشترط في الموكل فيه ألا يكون حداً من الحدود التي لا يشترط فيها إقامة الدعوى كحد الزنا وحد شرب الخمر. وإن كان مما يحتاج فيه إلى الخصومة (أي إقامة دعوى) كحد السرقة وحد القذف فيجوز التوكيل بإثباته عند أبي حنيفة ومحمد، بإقامة البينة على الجريمة الموجبة للحد. ولا يجوز التوكيل بذلك عند أبي يوسف وإنما لا يثبت إلا بالبينة أو الإقرار من الموكل، وهذا الخلاف يجري أيضاً في إثبات القصاص، استدل أبو يوسف على رأيه؛ وهو أن الوكالة لا تجوز في إثبات الحدود والقصاص بالقياس على عدم جواز الوكالة بالاستيفاء، فكما لا يجوز التوكيل باستيفاء الحدود والقصاص لا يجوز التوكيل بإثباتها؛ لأن الإثبات وسيلة إلى الاستيفاء. ورد أبو حنيفة ومحمد على دليل أبي يوسف بأن هناك فرقاً بين الإثبات والاستيفاء، فإن امتناع التوكيل بالاستيفاء بسبب وجود شبهة كما سنعرف، وتلك الشبهة غير متوفرة في التوكيل بالإثبات (¬1). وقال الشافعية: لا يجوز التوكيل في إثبات حدود الله تعالى، لأن الحق فيها لله سبحانه، وهو قد أمرنا بدرء الحدود والتوصل إلى إسقاطها، وبالتوكيل يتوصل إلى إيجاب الحد، فلا يجوز. أما إثبات القصاص وحد القذف فيجوز التوكيل فيهما؛ لأنهما حق آدمي، فجاز التوكيل في إثباته، كالحق في المال (¬2). ويجوز التوكيل عندهم في استيفاء الحدود كما سيأتي بيانه. ¬
2 - التوكيل في استيفاء الحدود
وقال الحنابلة (¬1): يجوز التوكيل في إثبات القصاص وحد القذف في حضرة الموكل وغيبته؛ لأنهما من حقوق الآدميين، وتدعو الحاجة إلى التوكيل فيهما. وكذلك الحدود الخالصة لله تعالى كحد الزنا والسرقة: يجوز التوكيل في إثباتها؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلم وكل أنيساً في إثبات واستيفاء حد الزنا، فإنه قال: «فإن اعترفت فارجمها» وهذا يدل على أنه لم يكن ثبت، وقد وكله في إثبات الحد واستيفائه جميعاً. والوكيل يقوم مقام الموكل في درء الحدود بالشبهات. 2 - التوكيل في استيفاء الحدود: اتفق أئمة المذاهب الأربعة في الجملة على أنه يجوز للحاكم التوكيل في استيفاء (¬2) حدود الله تعالى وفي القصاص، غير أنه قد يوجد خلاف في المذهب في صحة التوكيل بالاستيفاء حال غياب الموكل عن مجلس الاستيفاء أي والموكل غير حاضر. وأذكر هنا تفصيل كل مذهب على حدة: قال أبو حنيفة ومحمد: أما التوكيل من صاحب الحق باستيفاء الحدود التي تحتاج إلى إقامة الدعوى كحد القذف وحد السرقة، فإن كان الموكل حاضراً بأن يحضر هو ووكيله حال تنفيذ الحد، فإنه يجوز التوكيل إذ ليس كل أحد يحسن الاستيفاء إما لضعف قلبه أو لنقص خبرته ومعرفته. وأبو يوسف: لا يجيز التوكيل في استيفاء حد القذف وحد السرقة، كما لا يجوز التوكيل في إثباتهما، والظاهر أنه يقول: إن التوكيل في الحدود التي هي من حقوق الله تعالى لا معنى له، سواء ¬
التعازير
احتاجت لدعوى أم لا؛ لأن ولي الأمر مطالب باستيفائها، فلا بد له من تنفيذها، وليس للمجني عليه فيها شأن (¬1). وأما إن كان المقذوف والمسروق منه غائباً وقت الاستيفاء فاختلفت فيه مشايخ الحنفية. فقال بعضهم: يجوز التوكيل؛ لأن عدم الجواز لاحتمال حدوث العفو والصلح، وهنا لا يتأتى ذلك الاحتمال؛ لأن الأمر وصل إلى القاضي، والحق صار لله تعالى وحده، فلو عفا عنه المسروق منه لا يلتفت إليه. وقال بعضهم وهو الأرجح عند الحنفية: لا يجوز التوكيل بالاستيفاء؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات، وغيبة الموكل شبهة؛ لأنه لو كان حاضراً وقت الاستيفاء وإن لم يملك العفو والصلح إلا أنه إذا كان مقذوفاً قد يصدق القاذف فيما قذفه به، وإذا كان مسروقاً منه فقد يترك الخصومة (أي يسقط ادعاءه)، فلا يجوز استيفاء الحد مع الشبهة. والنتيجة: أنه لا يصح وقوع الحد بدون حضور الموكل وهو المجني عليه. وأما التعازير: فيجوز التوكيل بإثباتها واستيفائها باتفاق الحنفية وباقي المذاهب (¬2)، وللوكيل أن يستوفي سواء أكان الموكل غائباً أم حاضراً؛ لأن التعزير حق الشخص، ولا يسقط بالشبهات بخلاف الحدود. وأما التوكيل باستيفاء القصاص: فإن كان الموكل وهو ولي الدم حاضراً جاز، لأنه قد لا يقدر على الاستيفاء، فيحتاج إلى التوكيل، وإن كان غائباً لا ¬
يجوز، لاحتمال صدور العفو منه عن القاتل إذا كان حاضراً، فلا يجوز استيفاء القصاص مع قيام الشبهة. هذا هو مذهب الحنفية في الاستيفاء (¬1)، وخلاصته: أنه لا يجوز التوكيل باستيفاء الحدود والقصاص بدون حضور الموكل وهو المجني عليه وقت الاستيفاء؛ لأنها تدرأ بالشبهات، وشبهة العفو ثابتة حال غيبة الموكل، بخلاف حال حضرته أو وجوده لانتفاء الشبهة. وقال المالكية: تجوز الوكالة باستيفاء العقوبات في حضرة الموكل وغيبته (¬2). وقال الحنابلة في ظاهر المذهب عندهم: تجوز الوكالة باستيفاء الحدود والقصاص في حضرة الموكل وغيبته؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «اغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها، فغدا عليها أنيس، فاعترفت، فأمر بها فرجمت» (¬3) وأمر النبي صلّى الله عليه وسلم برجم ماعز، فرجموه، ووكل عثمان علياً في إقامة حد الشرب على الوليد بن عقبة، ووكل علي الحسن في ذلك، فأبى الحسن، فوكل عبد الله بن جعفر، فأقامه وعلي يعد، ولأن الحاجة قد تدعو إلى التوكيل؛ لأن الإمام لا يمكنه تولي الحد بنفسه. وقال بعض الحنابلة كالحنفية: لا يجوز استيفاء القصاص وحد القذف في غيبة الموكل؛ لأنه يحتمل أن يعفو الموكل في حال غيبته فيسقط العقاب، وهذا الاحتمال شبهة تمنع الاستيفاء، ولأن العفو مندوب إليه، فإذا حضر احتمل أن يرحم المقتص منه أو القاذف، فيعفو. ¬
إلا أن الرأي الأول هو ظاهر مذهب الحنابلة كما ذكرت؛ لأن ما جاز استيفاؤه في حضرة الموكل جاز في غيبته كالحدود وسائر الحقوق، واحتمال العفو بعيد، والظاهر أنه لو عفا أعلم وكيله بعفوه، والأصل عدم العفو فلا يؤثر (¬1). وقال الشافعية: يصح التوكيل في استيفاء عقوبة آدمي كقصاص وحد قذف كسائر الحقوق المالية، بل قد يجب التوكيل في حد القذف، وكذا في حد قطع الطريق، سواء في حضرة الموكل أو في غيبته. ويصح التوكيل أيضاً للإمام في استيفاء حدود الله تعالى؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم بعث أنيساً لإقامة الحد، وقال: «واغد ياأنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» وقال عليه الصلاة والسلام في قصة ماعز: «اذهبوا به فارجموه» ووكل عثمان رضي الله عنه علياً كرم الله وجهه ليقيم حد الشرب على الوليد بن عقبة (¬2). جاء في البخاري أنه صلّى الله عليه وسلم وكل في رجم من ثبت زناه. وجلد من ثبت شربه المسكر. والخلاصة: إن المالكية والشافعية والحنابلة يجيزون استيفاء الحدود والقصاص مع غيبة الخصم، أما الحنفية: فلا يجيزون ذلك إلا بحضور الخصم. ولا يجوز التوكيل في المعصية أو المحرَّم كالظهار، فلا يوكل من يظاهر عنه زوجته؛ لأنه منكر ومعصية (¬3). ولا يصح التوكيل في غصب شيء أو سرقته أو ارتكاب جناية؛ لأن حكم المعاصي أو المحرمات مختص بمرتكبها، فيسأل عنها بذاته دون غيره. ¬
ثانيا ـ الوكالة في حقوق العباد
ثانياً ـ الوكالة في حقوق العباد: حقوق العباد تنقسم إلى قسمين: نوع لا يجوز استيفاؤه مع وجود شبهة كالقصاص في القتل أو الأطراف. ونوع يجوز استيفاؤه مع الشبهة. وحكم النوع الأول كما عرفنا: هو أنه يصح التوكيل في إثباته عند أبي حنيفة ومحمد. ولا يجوز التوكيل في استيفائه حال غيبة المجني عليه؛ لأنه قد يرتفع بحضور المجني عليه وعفوه عنه، ففيه شبهة العفو، والحدود تدفع بالشبهات كما تقدم. وأما النوع الثاني: وهو ما يجوز استيفاؤه مع الشبهة فهو كالديون والأعيان وسائر الحقوق غير القصاص، فإنه يجوز للوكيل أن يتسلمها مع وجود شبهة عفو صاحبها، وتركها لمن هي عليه. حكم هذا النوع: أنه يصح التوكيل باستيفائه وإثباته باتفاق العلماء، والدليل على جواز التوكيل بالخصومة هو حاجة الناس؛ إذ ليس كل أحد يهتدي إلى وجوه الخصومات، وقد صح أن علياً وكل عقيلاً عند أبي بكر رضي الله عنهم، وبعد ما أسن وكل عبد الله بن جعفر عند عثمان رضي الله عنهما، وقال: إن للخصومة قُحَماً، وإن الشيطان ليحضرها، وإنى لأكره أن أحضرها (¬1). غير أن الحنفية اختلفوا في اشتراط توافر رضا الخصم للزوم التوكيل بإثبات الدين والعين وسائر الحقوق. فقال أبو حنيفة: لا يلزم التوكيل بالخصومة إذا لم يكن الموكل حاضراً مجلس القضاء مع الوكيل إلا برضا الخصم إلا أن يكون الموكل مريضاً أو مسافراً مسيرة ثلاثة أيام فصاعداً أو لا يحسن الادعاء والتقاضي؛ أو كانت امرأة مستورة في خدرها، أو كانت المرأة حائضاً أو نفساء والقاضي في المسجد؛ لأنها تستحي من ¬
الصاحبان وبقية الأئمة غير الحنفية
الحضور لمحافل الرجال، وعن الجواب بعد الخصومة، فيضيع حقها، وفي غير المذكور للخصم أن يمتنع من محاكمة الوكيل إذا لم يكن حاضراً مجلس القضاء؛ لأن حضوره مجلس الحكم ومخاصمته حق لخصمه عليه، فلم يكن له نقله إلى غيره بغير رضا خصمه كالدين الذي عليه (¬1). والخلاصة: أن أبا حنيفة لا يجيز التوكيل بغير رضا الخصم لمن لا عذر له إذا لم يكن الموكل حاضراً مجلس القضاء مع الوكيل. أما إذا كان الموكل حاضراً مجلس الحكم فتجوز الوكالة بلا خلاف بين الإمام وصاحبيه. وقال الصاحبان وبقية الأئمة غير الحنفية: يجوز التوكيل في مطالبة الحقوق وإثباتها والمحاكمة فيها، حاضراً كان الموكل أو غائباً، صحيحاً أو مريضاً وإن لم يرض الخصم، بشرط ألا يكون الوكيل عدواً للخصم؛ لأن المذكور حق تجوز النيابة فيه، فكان لصاحبه الاستنابة بغير رضا خصمه كحال غيبته ومرضه، وكدفع المال الذي عليه، ولأنه إجماع الصحابة رضي الله عنهم، فإن علياً رضي الله عنه وكل عقيلاً عند أبي بكر رضي الله عنه، وقال: «إن للخصومة قُحَماً، ـ أي مهالك ـ وإن الشيطان ليحضرها، وإني لأكره أن أحضرها» ولأن الحاجة تدعو إلى التوكيل في الخصومات، فإنه قد يكون له حق أو يدعى عليه ولا يحسن الخصومة (¬2)، أو لايريد أن يتولاها بنفسه (¬3). ¬
اشترط الحنابلة شرطين لجواز الوكالة بالخصومة
واستثنى المالكية حالة ما إذا جالس الموكل خصمه ثلاث جلسات فأكثر عند القاضي، فحينئذ لا يجوز له التوكيل إلا لعذر كمرض. واشترط الحنابلة شرطين لجواز الوكالة بالخصومة وهما: 1 - ألا يكون التوكيل ممن علم ظلم موكله في الخصومة، لقوله تعالى: {ولا تكن للخائنين خصيماً} [النساء:105/ 4]. 2 - ألا يخاصم الوكيل عن الموكل في إثبات حق أو نفيه وهو غير عالم بحقيقة أمر موكله. والمختار للفتوى عند الحنفية تفويض التوكيل للحكم، فإن علم القاضي التعنت من الخصم يقبل التوكيل من غير رضاه. وإن علم قصد الموكل إضرار خصمه لا يقبل التوكيل (¬1). والتوكيل بالشهادة: لا يجوز؛ لأن الشهادة تتعلق بعين الشاهد، لكونها خبراً عما رآه أو سمعه، ولا يتحقق هذا المعنى في وكيله (¬2). وكذلك لا تصح الوكالة في النذور والأيمان، لأن فيها تعظيم الله تعالى، فأشبهت العبادة المحضة، وتعلقت بعين الحالف والناذر. ولا تصح الوكالة أيضاً في الإيلاء واللعان والقسامة؛ لأنها أيمان. وأما التوكيل بالإقرار في الوكالة بالخصومة: فيجوز عند الحنفية كما ذكر محمد في (الأصل) وعند المالكية والحنابلة، كأن يقول (وكلتك لتقر عني لفلان بكذا) فيقول الوكيل: (أقررت عنه بكذا، أو جعلته مقراً بكذا)؛ لأن هذا الإقرار معناه إثبات حق في الذمة بالقول، فجاز التوكيل فيه كالبيع (¬3). ¬
التوكيل بقبض الدين
وأما الشافعية: فلا يجوز عندهم في الأصح التوكيل في الإقرار؛ لأنه إخبار عن حق، فلا يقبل التوكيل كالشهادة، فإنه لا يصح التوكيل بها؛ لأنها تتعلق بعين الشاهد؛ لكونها خبراً عما رآه أو سمعه، ولا يتحقق هذا المعنى في نائبه (¬1). ورد الجمهور على قياس الإقرار على الشهادة بأن هناك فرقاً بينهما، فإن الشهادة لا تثبت الحق، وإنما هي إخبار بثبوت الحق على غيره. ويجوز فيما عدا ذلك التوكيل بقبض الدين؛ لأن الموكل قد لا يقدر على الاستيفاء بنفسه، فيحتاج إلى التفويض إلى غيره كالوكيل بالبيع والشراء وسائر التصرفات، إلا أن التوكيل بقبض رأس مال السلم وبدل الصرف: إنما يجوز في مجلس العقد، لا خارج المجلس؛ لأن الموكل نفسه يملك القبض فيه لا في غيره، وبالقبض يبرأ المدين (¬2). وتجوز الوكالة بقضاء الدين، لأن الموكل يملك القضاء بنفسه، وقد لايتهيأ له القضاء بنفسه، فيحتاج إلى التفويض إلى غيره. وتجوز الوكالة بالإبراء من الدين؛ لأنه إذا جاز التوكيل في إثباتها واستيفائها، جاز التوكيل في الإبراء عنها. وتجوز الوكالة بطلب الشفعة وبالرد بالعيب وبالقسمة؛ لأن هذه حقوق يتولاها المرء بنفسه، فيملك توليتها غيره. ويجوز التوكيل بالنكاح والخلع والصلح عن دم العمد والصلح عن إنكار؛ لأنه يملك هذه التصرفات بنفسه، فيملك تفويضها إلى غيره. ¬
بعض هذه العقود لا يصح للوكيل فيها أن يسندها إلى نفسه
ويجوز أيضاً بالهبة والصدقة والإعارة والإيداع والرهن والاستعارة والارتهان والاستيهاب (أي طلب الهبة من الغير) كما ذكر. ويجوز بالشركة والمضاربة أيضاً، كما يجوز بالإقراض والاستقراض، إلا أن في التوكيل بالاستقراض لا يملك الموكل ما استقرضه الوكيل إلا إذا قال: (أرسلني فلان إليك ليستقرض كذا) وحينئذ يكون المرسل رسولاً، لا وكيلاً. ويجوز التوكيل بالصلح والإبراء، كما يجوز بالطلاق والإجارة والاستئجار لما ذكر. ويجوز بالسلم والصرف، لأنه يملكها بنفسه، فيملك تفويضهما إلى غيره، ولكن بشرط قبض البدل في مجلس العقد، كما هو معروف (¬1). إلا أن بعض هذه العقود لا يصح للوكيل فيها أن يسندها إلى نفسه، بل لا بد من إسنادها إلى الموكل، ومنها النكاح، فلا بد من أن يقول الوكيل: (قبلت الزواج لفلان موكلي) أو (زوجت فلانة موكلتي) فإذا قال: (قبلت الزواج) ولم يقيده بأحد غيره، أو قال: (قبلت الزواج لنفسي) فإنه ينعقد له، لا لموكله. ومنها ـ الهبة فإنه لا بد من أن يقول الوكيل فيها: (وهب موكلي) فإذا قال: (وهبت) لا تصح الهبة. ومنها ـ الصلح عن دم العمد، والصلح عن إنكار: فإذا ادعى شخص على آخر مئتي درهم، فأنكر المدعى عليه، ثم وكل من يصالح على مئة، فإنه لا بد في الصلح من أن يقول الوكيل: (قبلت الصلح لفلان على مئة مثلاً) وإلا لم يصح الصلح. وهذا بخلاف الصلح عن إقرار فإنه يصح إضافته إلى الوكيل والموكل. ¬
التصدق
ومنها ـ التصدق: فإذا وكله في أن يتصدق من ماله بكذا، فإنه ينبغي للوكيل أن يضيف الصدقة إلى موكله، وإلا كانت من ماله. ومنها ـ الإيداع والإعارة والرهن والشركة والمضاربة، فلا بد من إضافتها إلى الموكل (¬1). والخلاصة: إن كل عقد جاز أن يعقده الإنسان بنفسه، جاز أن يوكل به غيره، كما قال الحنفية (¬2). وتجوز الوكالة بفسخ العقود؛ لأنه إذا جاز التوكيل في عقدها، ففي فسخها أولى. وأما التوكيل في تملك المباحات وتحصيلها: كإحياء الموات وسقاية الماء والاصطياد والاحتشاش واستخراج المعادن، فلا يجوز عند الحنفية، فإذا حصل الوكيل على شيء مما ذكر فهو له، وليس للموكل منه شيء. ويجوز عند المالكية وعند الشافعية في الأظهر، وعند الحنابلة، لأنها تملك مال بسبب لا يتعين عليه، فجاز التوكيل فيه كسائر أسباب الملك من بيع أو هبة ونحوهما (¬3). أما الوكالة بالخصومة كالمحاماة اليوم: فتجوز في حقوق الناس، لما روي أن علياً وكل عقيلاً في الخصومة عند أبي بكر وعمر، ووكل عبد الله بن جعفر عند عثمان (¬4)، ولأن الحاجة تدعو إلى التوكيل فيها، إذ قد لا يحسن المرء الدفاع عن حقوقه، أو يكره أن يتولى الخصومة بنفسه (¬5). ¬
التوكيل بالبيع والشراء
وأما التوكيل بالبيع والشراء: فيجوز بلا خلاف بين الفقهاء، لأنهما مما يملك الموكل مباشرتهما بنفسه، فيملك التفويض إلى غيره، إلا أن لجواز التوكيل بالشراء شرطاً: وهو الخلو عن الجهالة الكثيرة إذا كانت الوكالة خاصة. وبيان المذكور عند الحنفية أن التوكيل بالشراء نوعان: عام وخاص (¬1): الوكالة العامة: كأن يقول الموكل: اشتر لي ما شئت أو ما رأيت، أو أي ثوب شئت أو أي دار شئت ونحوها. وهي تصح مع الجهالة الفاحشة من غير بيان النوع والصفة والثمن؛ لأنه فوض الرأي إليه، فتصح مع الجهالة الكثيرة، كما في عقد المضاربة. ووافق المالكية الحنفية في تجويز الوكالة العامة، ويدخل فيها جميع ما تصح فيه النيابة من الأمور المالية والزواج والطلاق وغيرها، إلا ما يستثنيه الموكل من الأشياء. وقال الشافعية والحنابلة: لا يصح التفويض العام، كأن يوكله في كل قليل وكثير، لوجود الغرر الكثير الذي لا ضرورة إلى احتماله. والوكالة الخاصة: كأن يقول الموكل: اشتر لي ثوباً أو بيتاً أو جوهراً أو شاة ونحوها، ويتنازع أمر الجهالة فيها قياس واستحسان. فالقياس: أنها لا تصح مع الجهالة قليلة كانت أم كثيرة، فلا بد من بيان الجنس والنوع والصفة ومقدار الثمن؛ لأن البيع والشراء لا يصحان مع الجهالة اليسيرة، فلا يصح التوكيل بهما أيضاً. والاستحسان: أن الجهالة اليسيرة لا تؤثر، وإنما تؤثر الجهالة الكثيرة في صحة التوكيل. وجه الاستحسان: ما ثبت أن الرسول صلّى الله عليه وسلم «دفع ديناراً إلى حكيم ابن حزام ليشتري له به أضحية». ¬
ضابط الجهالة القليلة
ولو كانت الجهالة القليلة ما نعة من صحة التوكيل بالشراء، لما فعله الرسول عليه السلام؛ لأن جهالة الصفة لا ترتفع بذكر الأضحية وقدر الثمن، ولأن الجهالة القليلة في باب الوكالة لا تفضي إلى المنازعة؛ لأن مبنى التوكيل على المسامحة. وضابط الجهالة القليلة: هو أنه إذا كان اسم ما وكل بشرائه مما لا يتناول إلا نوعاً واحداً، وذكر فيه أحد أمرين: إما الصفة أو مقدار الثمن، فتكون الجهالة قليلة. وأما إذا كان اسم ما وكل بشرائه يتناول أنواعاً مختلفة أو في حكم الأنواع المختلفة، فإن الجهالة تكون كثيرة، فلا تجوز الوكالة إلا إذا بين النوع الموكل بشرائه، ولا يكفي بيان مقدار الثمن أو الصفة. وعلى هذا فإن الجهالة اليسيرة: هي جهالة النوع المحض أي الذي لا تتفاوت قيم آحاده تفاوتاً فاحشاً. وأما الجهالة الكثيرة: فهي جهالة الجنس. وعلى هذا، يغتفر الحنفية من الغرر في الوكالة ما لا يغتفرونه في البيع، والجهالة التي اعتبروها هنا: هي جهالة فاحشة مانعة من صحة البيع عند أكثرهم ومن لزومه عند بعضهم (¬1). من أمثلة الجهالة القليلة ما يلي: إذا قال الموكل للوكيل: (اشتر لي صوفاً انكليزياً أو هندياً أو يابانياً) تصح الوكالة لأنه بين الصفة، أو قال: (اشتر لي صوفاً بألف ليرة) تصح الوكالة، لأنه بين مقدار الثمن. ¬
أمثلة الجهالة الكثيرة
ولو قال: (اشتر لي حماراً أو بغلاً أو فرساً أو بعيراً) ولم يبين له صفة ولا ثمناً، قالوا: تصح الوكالة؛ لأن النوع معلوم، وهو لا يختلف باختلاف أفراده، وأما الصفة فهي معلومة هنا أيضاً، وذلك بحسب حال الموكل. ولو قال (اشتر لي شاة أو بقرة) ولم يذكر صفة ولا ثمناً: لا تصح الوكالة؛ لأن الشاة والبقرة لا تصير معلومة الصفة بحال الموكل، ولا بد من أن يكون أحدهما معلوماً كما ذكر. ومن أمثلة الجهالة الكثيرة ما يأتي: إذا قال الموكل للوكيل: اشتر لي حيواناً أو ثوباً أو دابة أو أرضاً أو جوهراً أو حنطة أو داراً ونحوها، لا تصح الوكالة لوجود الجهالة الفاحشة؛ لأن كل واحد من هذه الأشياء اسم يقع على أنواع مختلفة، الثوب مثلاً يطلق على ثوب الحرير والقطن والكتان والصوف ونحوها، فكان لا بد من ذكر نوع معين بأن يقول: اشتر لي ثوباً قطنياً من صنع دمشق مثلاً، أو يقول: (اشتر لي حنطة بثمن كذا، أو بوزن كذا) (¬1). المبحث الثالث ـ أحكام الوكالة: إذا وقعت الوكالة صحيحة كان لها أحكام تتعلق بالتصرفات التي يملكها الوكيل، وبالحقوق التي ترجع له في التوكيل بالبيع والشراء، وبحال المقبوض في يده، هل يعتبر أمانة أو مضموناً؟ ¬
أولا ـ تصرف الوكيل
أولاً ـ تصرف الوكيل: يترتب على الوكالة ثبوت ولاية التصرف الذي تناوله التوكيل، وسأذكر هنا أنواع الوكالات لمعرفة أوجه التصرف التي يملكها الوكيل والتي لا يملكها. 1 - الوكيل بالخصومة (المحامي): أ - صلاحية الإقرار: الوكيل بالخصومة أي بالمرافعة أمام القاضي مثل المحامي اليوم، يملك الإقرار على موكله بغير القصاص والحدود عند جمهور الحنفية؛ لأن الوكيل بالخصومة وكيل بالجواب عن دعوى المدعي لبيان الحق وإثباته، لا المنازعة فيه. والجواب قد يكون إنكاراً، وقد يكون إقراراً (¬1). وقيده أبو حنيفة ومحمد أن يكون الإقرار في مجلس القاضي، بينما لم يقيده أبو يوسف، فأجاز إقرار الوكيل في مجلس القاضي وغيره. وقال زفر ومالك والشافعي وأحمد: إذا كانت الوكالة مطلقة، فلا تتضمن الإقرار على الموكل، فلو وكل رجلاً في الخصومة لم يقبل إقراره على موكله بقبض الحق وغيره؛ لأن الوكالة بالخصومة معناها التوكيل بالمنازعة، والإقرار مسالمة؛ لأنه معنى يقطع الخصومة، فهو يتنافى مع معنى الوكالة بالخصومة، فلا يملكه الوكيل فيها كالإبراء. وفارق الإقرار الإنكار: بأنه لا يقطع الخصومة، ولأن الوكيل لا يملك الإنكار على وجه يمنع الموكل من الإقرار، فلو ملك الإقرار لامتنع على الموكل الإنكار، وهو لا يجوز بدليل أن الوكيل لا يملك المصالحة عن الحق ولا الإبراء منه بدون خلاف (¬2). ¬
واستثنى المالكية حالة كون الوكيل عاماً وجعل له الموكل الإقرار في عقد الوكالة، وحالة اشتراط خصم الموكل أن يجعل الإقرار لوكيله، بأن يقول له: لاأتعاطى المخاصمة مع وكيلك حتى تجعل له الإقرار. ومنشأ الخلاف في الحقيقة هو في قاعدة «هل الأمر المطلق الكلي يقتضي الأمر بشيء من جزئياته أو لا يقتضي؟» قال الحنفية: يقتضي ما ذكر، لاشتمال الكلي على الجزئي ضرورة، فيصح إقرار الوكيل بالخصومة. وقال غير الحنفية: لا يقتضي ما ذكر، إذ لا اختصاص للجنس بنوع من أنواعه ولا فرد من أفراده، فلم يصح إقرار الوكيل بالخصومة؛ لأن اللفظ من حيث إطلاقه لا يتناوله، والقرينة العرفية إن لم تنفه فلا تقتضيه. وبناء عليه قال الجمهور غير الحنفية: ليس للوكيل المطلق ببيع شيء كأن يقول الموكل للوكيل: بع هذه العين، أن يبيعه بالغبن الفاحش ولا بثمن المثل ولا بدون ثمن المثل، ولا بالنقد ولا بالنسيئة، إذ لا اختصاص للجنس بنوع من أنواعه ولا فرد من أفراده، وإنما ملك البيع بثمن المثل، لقيام القرينة الدالة على الرضا بسبب العرف (¬1). ثم إن الحنفية القائلين بجواز إقرار الوكيل اختلفوا في مكان صحته: فقال أبو حنيفة ومحمد: يصح إقرار الوكيل في مجلس القاضي لا في غيره، فيما عدا الحدود والقصاص؛ لأن الموكل فوض الأمر إليه، لكن في مجلس القضاء؛ لأن التوكيل هو بالخصومة أو بجواب الخصومة، وكل ذلك يختص بمجلس القاضي، بدليل أن الجواب لا يلزم في غير مجلس القاضي. ¬
ب ـ صلاحية القبض
وقال أبو يوسف: يصح إقرار الوكيل في مجلس العقد وفي غيره؛ لأن التوكيل تفويض ما يملكه الموكل إلى غيره، وإقرار الموكل لا تقف صحته على مجلس القاضي، فكذا إقرار الوكيل (¬1). واتفق الحنفية على أنه إذا وكل بالخصومة، واستثنى الإقرار وتزكية الشهود في عقد الوكيل يصح، ويكون وكيلاً بالإنكار. وإذا كان الاستثناء بكلام منفصل عن العقد بعد أن تم التوكيل مطلقاً، فيصح عند أبي يوسف. ولا يصح عند محمد. واتفق العلماء على أن إقرار الأب والوصي وأمين القاضي على الصغير لايصح. ب ـ صلاحية القبض: إن الوكيل بالخصومة في مال إذا قضى القاضي به يملك قبضه عند جمهور الحنفية، وعند زفر: لا يملك، ودليله: أن المطلوب من الوكيل بالخصومة الاهتداء إلى الحق، ومن الوكيل بالقبض الأمانة، وليس كل من يهتدي إلى شىء يؤتمن عليه، فلا يكون التوكيل بالخصومة توكيلاً بالقبض. ورد جمهور الحنفية على دليل زفر بأن الموكل لما وكل غيره بالخصومة فقد ائتمنه على قبضه؛ لأن الخصومة فيه لا تنتهي إلا بالقبض، فكان التوكيل بها توكيلاً بالقبض (¬2). قال صاحب الهداية: والفتوى اليوم على قول زفر رحمه الله، لظهور الخيانة في الوكلاء، وقد يؤتمن على الخصومة من لا يؤتمن على المال (¬3). ¬
جـ ـ صلاحية الصلح والإبراء
وقال الشافعية والحنابلة: إن الوكيل بالخصومة لا يملك القبض؛ لأنه غير مأذون به صراحة ولا عرفاً، إذ ليس كل من يرضاه لتثبيت حقه يرضاه لقبضه (¬1). جـ ـ صلاحية الصلح والإبراء: لا يملك الوكيل بالخصومة عند الحنفية والشافعية المصالحة عن الحق الموكل به ولا الإبراء عنه (¬2). د ـ توكيل الوكيل بالخصومة غيره: ليس للوكيل بالخصومة أن يوكل غيره، إلا إن أذن له الموكل؛ لأن الناس متفاوتون في الكفاءة في الخصومة، وقد رضي الموكل برأي الوكيل لا برأي غيره (¬3). 2 - الوكيل بتقاضي الدين (¬4): إن أصل المنقولة عن أئمة الحنفية تقضي بأن الوكيل بتقاضي الدين يملك قبض الدين؛ لأن حق التقاضي لا يتم المقصود منه إلا بالقبض، فكان التوكيل به توكيلاً بالقبض، ولأن التقاضي بمعنى القبض في الوضع اللغوي، يقال: تقاضيته ديني وبديني، واقتضيته ديني واقتضيت منه حقي أي أخذته. وقال في القاموس: وتقاضاه الدين: قبضه منه. ولكن المتأخرين من الحنفية قالوا: إن الوكيل بتقاضي الدين لا يملك القبض عرفاً؛ لأن الناس في هذا الزمان فسدت أحوالهم، فلا يرضون بقبض الوكلاء لتهمة الخيانة في أموال بعضهم بعضاً. وهذا هو المفتى به عملاً بتعارف الناس، والعرف قاض على أصل وضع المذهب (¬5). ¬
3 - الوكيل بقبض الدين
والوكيل بتقاضي الدين لا يملك أن يوكل غيره؛ لأن الناس يتفاوتون في التقاضي، فقد يتضايق المدين من تقاضي بعض الناس. 3 - الوكيل بقبض الدين: اختلف أئمة الحنفية في أن الوكيل بقبض الدين، هل يملك الخصومة في إثبات الدين إذا أنكر المدين أو لا؟ فقال أبو حنيفة: يملك الخصومة في إثبات الدين، حتى لو أقيمت عليه البينة على استيفاء الموكل الدين من المدين أو إبرائه المدين عن الدين تقبل البينة. ودليله: أن التوكيل بقبض الدين توكيل بالمبادلة (أي أن يتملك المقبوض بمقابلة ما في ذمة المدين قاصاً) والحقوق في مبادلة المال بالمال تتعلق بالعاقد كما في البيع والإجارة، والوكيل هنا هو العاقد. ولإيضاح كون قبض الدين يعتبر مبادلة قيل: إن الديون تقضى بأمثالها؛ لأن قبض نفس الدين غير متصور استيفاؤه، لأنه وصف ثابت في ذمة من عليه الدين، فكان استيفاء الدين عبارة عن نوع مبادلة، وهو مبادلة ما يأخذه عيناً بما في ذمة المدين، فأشبهت هذه العملية عملية البيع، وحقوق عقد البيع يمارسها العاقد نفسه، فإذا كان البيع قد تم بواسطة وكيل عن البائع، فإن الوكيل هو المسؤول أمام المشتري عن كل ما يتعلق بالتزامات العقد مثل تسليم المبيع وكونه خالياً من العيوب ونحوهما، كما أنه هو الذي يطالب بتسليم الثمن. وقال الصاحبان: إن الوكيل بقبض الدين لا يكون وكيلاً بالخصومة؛ لأن القبض هو استيفاء عين الحق، فهو غير الخصومة، وليس كل من يؤتمن على المال يهتدي إلى وجه الخصومة، فلا يكون الرضا بالقبض رضا بالخصومة. واتفق الحنفية على أن الوكيل بقبض العين كالكتاب مثلاً لا يملك الخصومة، لأنه أمين محض حيث لا مبادلة هنا، لكونه وكيلاً بقبض عين حق الموكل،
والقبض ليس بمبادلة، فأشبه الرسول. وعلى هذا إذا وكل إنسان غيره بقبض كتاب له من شخص آخر، فأقام من بيده الكتاب بينة على أن الموكل باعه إياه، وقف الأمر حتى يحضر الموكل. واتفقوا أيضاً على أن الوكيل بملازمة المدين ليحمله على وفاء الدين: لا يملك قبض الدين ولا الخصومة فيه. وكذلك اتفق أئمة الحنفية الثلاثة على أن الوكيل بالخصومة وكيل بالقبض؛ لأن من ملك شيئاً ملك تمامه، وتمام الخصومة بالقبض. وقال زفر: ليس وكيلاً بالقبض لأن الموكل رضي بخصومته والقبض غير الخصومة، ولم يرض به. والفتوى على قول زفر، لظهور الخيانة في الوكلاء، وقد يؤتمن على الخصومة من لا يؤتمن على المال. أما الوكيل بطلب الشفعة أو بالرد بالعيب أو بالقسمة فإنه يملك الخصومة بالاتفاق أيضاً؛ لأن الوكيل بأخذ الشفعة وكيل بالمبادلة؛ لأن الأخذ بالشفعة بمنزلة الشراء، وكذا الرد بالعيب والقسمة فيهما معنى المبادلة، فكانت الخصومة فيها من حقوقها (¬1). وقال الشافعية والحنابلة: إن الوكيل بقبض الدين أو العين يكون وكيلاً بالخصومة في إثباته في أحد الوجهين؛ لأنه لا يتوصل إلى القبض إلا بالإثبات، فكان إذناً فيه عرفاً، ولأن القبض لا يتم إلا به. وفي وجه آخر لا يكون وكيلاً بالخصومة؛ لأن الإذن بالقبض ليس بإذن في الإثبات لا نطقاً ولا عرفاً؛ لأنه ليس ¬
توكيل الوكيل بالقبض غيره
في العرف أن من يرضاه للقبض يرضاه للإثبات. وكذلك هناك وجهان عندهم في الوكالة لطلب الشفعة أو قسمة شيء (¬1). ويظهر لنا أن الأصح من الوجهين هو الثاني عند الشافعية، والأول عند الحنابلة. وهناك أحكام أخرى عند الحنفية تتعلق بالوكيل بالقبض، منها: توكيل الوكيل بالقبض غيره: القاعدة العامة هي أن الوكيل لا يجوز له أن يوكل غيره فيما وكل به، بدون إذن موكله أو أن يقول له: اعمل برأيك؛ لأن الموكل رضي برأيه وأمانته وحده، والناس متفاوتون في الآراء والأمانة. ولكن مع هذا ينبغي أن نقسم الوكالة عند الحنفية إلى قسمين لمعرفة مدى انطباق هذه القاعدة، وهما: الوكالة العامة والوكالة الخاصة. فإذا كانت الوكالة عامة: بأن قال الموكل وقت التوكيل بالقبض: اصنع ما شئت، أو ما صنعت من شيء فهو جائز علي، أو نحوه، فإنه يجوز للوكيل أن يوكل غيره بالقبض، عملاً بمقتضى العموم. وإذا كانت الوكالة خاصة: بأن لم يقل الموكل لفظاً يشعر بعموم الإذن بالتصرف، فإنه لا يجوز للوكيل أن يوكل غيره بالقبض؛ لأن الوكيل يتصرف بتفويض الموكل، فيملك قدر ما فوض إليه. فإن وكل مع ذلك وقبض الوكيل الثاني لم يبرأ المدين من الدين، لأن توكيله بالقبض إذا لم يصح، فقبضه وقبض الأجنبي سواء، إلا إذا وصل ما قبض إلى الوكيل الأول، فيبرأ المدين من الدين، لأنه وصل إلى يد من هو نائب الموكل في القبض. ¬
أخذ العوض عن الدين
فإن هلك المقبوض في يد القابض قبل أن يصل إلى الوكيل الأول، ضمن القابض للمدين، وكان للدائن أن يأخذ الدين من المدين؛ لأن التوكيل بالقبض لم يصح، فإذا أخذه منه، رجع على من دفعه إليه، فيرجع هذا بما ضمن على الوكيل الأول إن هلك ما قبض في يده، لأنه صار مغروراً به من جهته بتوكيله بالقبض، فيرجع عليه، إذ كل غار ضامن للمغرَّر به بما لحقه من المسؤولية من جهة ضمان الكفالة (¬1). وقال المالكية: ليس للوكيل أن يوكل غيره إلا أن يكون الوكيل لا يليق به تولي ما وكل فيه بنفسه، كأن يكون وجيهاً، والموكل به أمر حقير، فله التوكيل حينئذ (¬2). وقال الشافعية والحنابلة: ليس للوكيل أن يوكل فيما وكل به بلا إذن الموكل متى كان قادراً على ما وكل فيه، أما إذا لم يكن قادراً على القيام بكل ما وكل فيه فله أن يوكل غيره (¬3). أخذ العوض عن الدين: ليس للوكيل بقبض الدين أن يأخذ عيناً مكان الدين؛ لأن هذا يعتبر معاوضة، وعقد المعاوضة ليس من صلاحية الوكيل بالقبض، لأنه موكل بقبض الحق لا غير، لا بالاستبدال ولا بالاعتياض (¬4). توكيل اثنين بقبض الدين: لو وكل إنسان وكيلين بقبض دينه، فليس لأحدهما أن ينفرد بالقبض دون صاحبه؛ لأن الموكل رضي برأيهما لا برأي أحدهما، فإن قبض أحدهما لم يبرأ الغريم، حتى يصل ما قبض أحدهما إلى ¬
قبض الشيء معيبا
صاحبه، فيقع المقبوض في أيديهما جميعاً، أو يصل إلى الموكل؛ لأن المقصود بالقبض قد حصل، فكأنهما قد قبضاه من ابتداء الأمر (¬1). قبض الشيء معيبا ً: لو أن الوكيل بقبض الدين قبضه، فوجده معيباً، فما كان للموكل رده فله رده، وأخذ بدله، لأنه قائم مقام الموكل، فهو يملك قبض حقه أصلاً ووصفاً، فكذا الوكيل (¬2). ادعاء الوكالة عن الغائب في قبض الدين: إذا ادعى إنسان أنه وكيل فلان الغائب في قبض دينه، فصدقه المدين، أمر بتسليم الدين إليه (¬3)؛ لأن تصديق المدين إياه معناه: أنه أقر بالدين على نفسه، ومن أقر على نفسه بشيء أمر بتسليمه إلى المقر له. وحينئذ إذا حضر رب الدين الغائب، فصدق مدعي الوكالة بأنه وكيله، فبها ونعمت، وإن لم يصدقه، فهناك ثلاثة أوجه: أحدها: إن صدق المدين مدعي الوكالة، ودفع الدين إليه، فإنه يدفع إلى الدائن دينه مرة أخرى؛ لأنه إذا أنكر الوكالة، لم يثبت للدائن استيفاء حقه، والقول في إنكار الوكالة قول رب الدين مع يمينه؛ لأن الدين كان ثابتاً، والمدين يدعي أمراً عارضاً وهو سقوط الدين بأدائه إلى الوكيل، ورب الدين ينكر الوكالة، ومن المعروف أن القول قول المنكر مع يمينه، وإذا لم يثبت الاستيفاء يفسد الأداء إلى مدعي الوكالة، وحينئذ يجب الدفع ثانية إلى رب الدين؛ لأن أداء الدين واجب على المدين، ثم يرجع المدين بما دفعه ثانياً على مدعي الوكالة إن كان المال باقياً في ¬
يده؛ لأن غرض المدين من الدفع إلى الوكيل براءة ذمته من الدين، ولم تحصل تلك البراءة، فيحق للمدين أن ينقض قبض الوكيل. وإن كان ما دفعه إليه، ضاع في يده، لم يرجع المدين على الوكيل؛ لأن المدين بتصديق الوكيل اعترف أن الوكيل محقّ في القبض، والمحق في القبض لا رجوع عليه، ولأن المدين بتصديقه اعترف أنه مظلوم في أخذ الدين مرة ثانية، والمظلوم لا يظلم غيره. ولكن إذا قال مدعي الوكالة: إني وكيل فلان الغائب بقبض الوديعة التي عندك، فصدقه الوديع، لم يؤمر بالتسليم إليه؛ لأنه أقر له بمال الغير، بخلاف الدين، لأن الدين حق شخصي ثابت في الذمة، فيلزم المدين إذا صدق المدعي بتسليمه الدين عملاً بإقراره، أما في حالة الوديعة فلا يلزم بتسليمها إلى مدعي الوكالة؛ لأن حق المودع فيها حق عيني، وهو الملكية المتعلقة بعينها، فلا يعمل بإقراره لمساسه بحق الغير. أما الدين فيقتصر أثر الإقرار فيه على المقر فينفذ. والثاني: إن صدق المدين مدعي الوكالة وضمنه عند الدفع بأن يقول له: اضمن لي ما دفعته عن الدائن، حتى لو أخذ مني الدائن ماله آخذ منك ما دفعته إليك، فإن المدين يرجع على الوكيل حينئذ بما دفعه له أولاً؛ لأن الذي أخذه الدائن منه مرة ثانية ضامن له في زعم الوكيل والمدين؛ لأن الدائن في نظرهما يعتبر غاصباً فيما يقبضه ثانياً. وكأن هذا يعتبر كفالة من مدعي الوكالة كما لو قال: «أنا ضامن لك ما يقبضه منك فلان»، وهذه الكفالة صحيحة؛ لأنها كالكفالة المضافة إلى وجوب شيء في المستقبل على المكفول عنه، أي بما يجب على إنسان في المستقبل. والثالث: إذا كذب المدعي مدعي الوكالة، أو لم يصدق ولم يكذب ومع ذلك دفع الدين إليه على ادعائه، فإن رجع صاحب المال على المدين، رجع المدين على الوكيل، لأنه إذا كذبه، صار الوكيل في حقه، بمنزلة الغاصب، وللمغصوب
4 - الوكيل بالبيع
منه حق الرجوع على الغاصب قطعاً. وإذا لم يصدقه ولم يكذبه في ادعاء الوكالة، فهو إنما دفع إليه على رجاء أن يجيزه صاحب المال، فإذا انقطع رجاؤه بسبب أخذ الدائن حقه منه، رجع المدين الغريم على الوكيل (¬1). 4 - الوكيل بالبيع: الوكيل بالبيع إما أن يكون مطلق التصرف أو مقيد التصرف. فإن كان مقيد التصرف، فيراعى فيه القيد بالاتفاق، فإذا خالف قيده، لا ينفذ تصرفه على الموكل، ولكن يتوقف على إجازته إلا إذا كانت مخالفته إلى خير؛ لأنه محقق لمقصوده ضمناً. بيانه بالمثال: أن يقول الموكل: بع بستاني هذا بألف ليرة، فباعه بأقل من ألف، لا ينفذ لأنه خلاف إلى شر، وإن باعه بأكثر من ألف ليرة نفذ لأنه خلاف إلى خير. وإذا وكله بالبيع نقداً، فباع مؤجلاً لم ينفذ، بل يتوقف على إجازة الموكل. أما إذا وكله بالبيع مؤجلاً فباع نقداً نفذ. وإذا وكله بالبيع في مكان معين لكون الثمن فيه أجود أو أكثر، لا يجوز له البيع في غيره عند الشافعية والحنابلة؛ لأنه قد يفوت غرضه. وكذا عند الحنفية إن أكده بالنفي، فقال له: لا تبعه إلا في سوق كذا. وإذا وكله بالبيع في زمان معين، لزمه بيعه فيه؛ لأنه قد يحقق له مصلحة أو حاجة في ذلك الزمان بعينه. وإذا وكله بالبيع من رجل بعينه، لا يجوز له أن يبيعه لغيره؛ لأنه قد يؤثر الموكل تمليك هذا الرجل دون غيره. وإذا وكله بالبيع بمئة مثلاً، لا يجوز أن يبيع بأقل منها، لفوات المقدار المنصوص عليه، ومخالفته للإذن الصادر. ¬
وإن كان الوكيل مطلق التصرف، فيعمل بمقتضى الإطلاق عند أبي حنيفة، فيجوز له أن يبيع بأي ثمن كان، قليلاً أو كثيراً، وإن كان بغبن فاحش، أو كان الثمن عيناً أو ديناً في الذمة. دليله: أن الأصل في اللفظ المطلق أن يجري على إطلاقه، ولا يجوز تقييده إلا بدليل كوجود تهمة، فيتناول كل ما يطلق عليه البيع، ولا يعتمد على العرف؛ لأن العرف متعارض، فإن البيع بغبن فاحش ليتوصل بثمن المبيع إلى شراء ما هو أربح منه متعارف أيضاً، فلا يجوز تقييد المطلق مع تعارض العرف. وقال الصاحبان وبه أخذ الطحاوي وهو الراجح المفتى به عند الحنفية: لا يجوز للوكيل بالبيع مطلقاً أن يبيع إلا بالنقود الرائجة في البلد (أي الأثمان المطلق في اصطلاح الفقهاء) وبمثل القيمة، فلا يجوز البيع إلا بما يتغابن الناس فيه عادة، والمقدار الذي يتغابن الناس فيه عند الطحاوي كما ذكر محمد في الجامع الصغير: هو نصف العشر فأقل منه، ودليلهما: أن الوكالة بالبيع مطلقاً تنصرف إلى البيع المتعارف، والبيع بغير النقود أوبغبن فاحش ليس بمتعارف، وإنما المتعارف هو البيع بالنقود وبثمن المثل، فيتقيد الإطلاق بالعرف، كما في التوكيل بالشراء (¬1). والصحيح في تقدير الغبن الذي يفصل بين الغبن اليسير والغبن الفاحش: هو ما روي عن محمد رحمه الله في النوادر: وهو أن كل غبن يدخل تحت تقويم المقومين، فهو يسير، وما لا يدخل تحت تقويم المقومين فهو فاحش (¬2). ¬
صفة البيع نقدا أو نسيئة
وضبطاً للمقاييس القضائية حددت مجلة الأحكام العدلية (م 165) الغبن الفاحش بما يعادل 5% في المنقولات، و 10% في الحيوان، والخمس أو 20% في العقارات، أو أزيد من ذلك، وما دونه غبن يسير. وقال جمهور العلماء بما قال به الصاحبان، فلم يجيزوا البيع بأقل من ثمن المثل بما لا يتغابن الناس به من غير إذن الموكل؛ لأن الوكيل منهي عن الإضرار بالموكل، مأمور بالنصح له، كما لم يجيزوا البيع بغير نقد البلد (أي بلد البيع) بدلالة القرينة العرفية عليه (¬1). فإن كان في البلد نقدان باع بالغالب منهما، وإن استويا باع بما هو أنفع للموكل. ويجري هذا الخلاف في صفة البيع نقداً أو نسيئة: فقال أبو حنيفة: يملك الوكيل البيع بالنقد وبالنسيئة، لإطلاق الوكالة. وقال الصاحبان وجمهور العلماء: لا يملك الوكيل إلا البيع بالنقد أي حالاً غير مؤجل؛ لأن الأصل في البيع النقد، وإنما يحصل التأجيل لظروف طارئة كما في أحوال الكساد (¬2). وأما الوكيل بالشراء: فلا يجوز له بالاتفاق أن يشتري إلا بثمن المثل أو بما يتغابن الناس في مثله عادة، ولا يجوز بما لا يتغابن الناس في مثله. ففي الوكالة بالشراء يتفق أبو حنيفة مع بقية العلماء. والسبب في تفرقته بين البيع والشراء: هو أن الشراء يشتمل على التهمة، فإن الوكيل الذي يشتري الشيء الموكل به يستحسن ¬
بيع الوكيل بعض الموكل ببيعه
هذا الشيء فيشتريه لنفسه، فإذا لم يوافقه بأن تبين فيه الغبن، ألحق الشراء بغيره وهو الموكل، ومثل هذه التهمة غير متحققة في البيع (¬1). بيع الوكيل بعض الموكل ببيعه: إذا باع الوكيل بعض الموكل ببيعه فهو على وجهين: أـ إن كان ذلك مما لا ضرر في تبعيضه، جاز باتفاق الحنفية، وذلك مثل المكيل والموزون، أو بيع شيئين كدارين، فباع إحداهما، جاز اتفاقاً. ب ـ وإن كان في تبعيضه ضرر بأن وكله ببيع كتاب، فباع نصفه، جاز عند أبي حنيفة رحمه الله. وعند الصاحبين والشافعية والحنابلة: لا يجوز إلا بإجازة الموكل، أو بيع النصف الباقي، دليلهم: أن التوكيل ينصرف إلى المتعارف، وبيع النصف غير متعارف، لما فيه من ضرر الاشتراك بملكية الأعيان، ويجب دفع الضرر. ودليل أبي حنيفة: هو أنه كما يجوز للوكيل بيع الكل بهذا القدر من الثمن الذي باع به، يجوز بيع البعض به من باب أولى؛ لأنه نفع موكله حيث أمسك البعض على ملكه. وأما الوكيل بالشراء: فلا يجوز له باتفاق الحنفية أن يشتري البعض إلا بإجازة الموكل، أو بشراء البعض الآخر. والفرق بين الوكيل بالشراء والوكيل بالبيع عند أبي حنيفة: هو أن الشراء تتحقق فيه التهمة بعكس البيع، كما عرفنا، فلا يجوز للوكيل بالشراء أن يشتري البعض بثمن الكل (¬2). ¬
إبراء المشتري من الثمن
أخذ الشافعية والحنابلة كما تقدم بمذهب الصاحبين في بيع بعض الموكل ببيعه (¬1). وأما المالكية فقالوا: إن لفظ الموكل العام يتخصص بالعرف (¬2). والعرف في بيع كتاب مثلاً أن يعقد على جميعه. إبراء المشتري من الثمن: الوكيل بالبيع يملك عند أبي حنيفة إبراء المشتري من الثمن، وله أن يؤخره عنه كما له أن يأخذ عوضاً به أو أن يصالحه على شيء، أو يحال به على شخص آخر، ويكون حينئذ ضامناً الثمن للموكل. دليله: أن قبض الثمن من حق الوكيل. فتكون هذه التصرفات حقاً له، ولكن يضمن الثمن للموكل؛ لأنه وإن كان التصرف في حق نفسه، لكنه تعدى إلى ملك غيره بالإتلاف، فيجب عليه الضمان (¬3). ولا يملك الوكيل عند الصاحبين شيئاً مما ذكر؛ لأنه تصرف في حق الموكل بغير إذنه. توكيل الوكيل بالبيع غيره: ليس للوكيل بالبيع بالاتفاق أن يوكل غيره بدون إذن موكله؛ لأن الوكالة ملحوظ فيها خصوص شخص الوكيل لاعتبارات تتعلق بالرأي والخبرة والأمانة ونحوها (¬4). واستثنوا مما قالوا ما يأتي: أـ أن يكون الموكل فيه مما لا يليق بمروءة الوكيل، كبيع دابة في السوق، والحال أن الوكيل شريف النفس لا يناسبه تولي مثل البيع بنفسه. ¬
التصرفات المشبوهة أو المتهم فيها بالمحاباة
ب ـ أن يكون الموكل فيه كثيراً مما لايمكنه تولي العمل كله بنفسه إلا بمساعدة غيره. جـ ـ أن يكون الموكل فيه مما يحتاج إلى مهارة خاصة كالهندسة ونحوها، والوكيل ليس أهلاً لذاك. وهذا في الوكيل الخاص، أما الوكيل العام عند الحنفية والمالكية فيجوز له توكيل غيره مطلقاً. التصرفات المشبوهة أو المتهم فيها بالمحاباة: ليس للوكيل بالبيع أن يبيع لنفسه؛ لأنه متهم في تصرفه، ولأن حقوق العقد تعود إلى الوكيل، فيؤدي بيعه من نفسه إلى أن يكون الشخص الواحد في زمان واحد مسلِّماً ومتسلماً مطالِباً ومطالَباً، هذا محال. وبناء عليه اشترط الفقهاء لانعقاد البيع تعدد العاقد. كما أنه ليس للوكيل عند أبي حنيفة أن يبيع أو يشتري بثمن المثل أو أقل (¬1) من أبيه وجده وولده وسائر من لا تقبل شهادته له كولد ولده وزوجته؛ لأن البيع من هؤلاء بيع من نفسه من حيث المعنى، لاتصال منافع ملك كل واحد منهم به (¬2)، فكان في بيعه لهم تهمة بإيثار العين المبيعة لهم، بدليل أنه لا تقبل شهادة أحدهما لصاحبه بخلاف الأجنبي. وقال الصاحبان: يجوز له أن يبيع لهؤلاء أي لا لنفسه بمثل القيمة؛ لأن التوكيل مطلق، والبيع من هؤلاء ومن شخص آخر أجنبي عنهم سواء، ولا تهمة هنا؛ لأن أملاكهم متباينة، فلا يملك أحدهم ما يملكه الآخر، وإذا كانت الأملاك متباينة تكون المنافع منقطعة فيما بينهم (¬3). ¬
وقال المالكية: لا يجوز للوكيل أن يبيع ما وكل ببيعه لنفسه أو من في حِجْره من صغير أو سفيه أو مجنون، ويجوز أن يبيع لزوجته وولده الرشيد إذا لم يحابهما، وروي عن الإمام مالك أنه يجوز للوكيل أن يشتري الشيء لنفسه (¬1). وقال الشافعية في الأصح عندهم، والحنابلة في إحدى الروايتين عن أحمد: لا يجوز للوكيل أن يبيع لنفسه وولده الصغير، ويجوز أن يبيع لأبيه وجده وابنه البالغ وسائر فروعه المستقلين؛ لأنه باع بالثمن الذي لو باع به لأجنبي لصح، فلا تهمة حينئذ، فهو كما لو باع من صديقه (¬2). وبه يتبين أن الحنفية لا يجيزون مطلقاً بيع الوكيل لنفسه، وأما الجمهور فلا يجيزون هذا البيع إلا إن أذن له الموكل بالبيع. واشترط المالكية أيضاً شرطين آخرين: 1ً - أن يكون البيع بحضرة الموكل ولم ينكر عليه. 2ً - أن تتناهى الرغبات فيه ويسمى الثمن. ومنع أبو حنيفة البيع للأصول والفروع والزوجة، وأجاز الجمهور البيع للأصول والزوجة بثمن المثل دون الفروع. ورأي أبي حنيفة أرجح لدي لا سيما في عصرنا بعداً عن التهمة. والخلاصة: أن على الوكيل أن يلتزم بواجباته، وتنفيذ ما التزم به في حق الموكل. وعلى الموكل واجب تحمل الخسارة العارضة إن لم تكن بتعدٍ أو تقصير، وواجب دفع ما يستحقه الوكيل من أجر إذا كانت الوكالة مأجورة، وأدى الوكيل العمل المأمور به. ¬
5 - تصرفات الوكيل بالشراء
5 - تصرفات الوكيل بالشراء: بينت حكم الجهالة في نوعي الوكالة بالشراء العامة والخاصة، وأبيّن هنا تصرفات الوكيل بالشراء في نوعي الوكالة المطلقة والمقيدة (¬1).- إذا كانت الوكالة مقيدة فإنه يراعى فيها القيد ما أمكن، سواء أكان القيد راجعاً إلى الْمُشتَرى، أم إلى الثمن، فإذا خالف الوكيل لا يلزم الموكل بالشراء إلا إذا كان خلافاً إلى خير، فيلزمه. مثال القيد العائد للمشتَرى: أن يقول الموكل: اشتر لي ثلاجة من صنع بلدة معينة، فاشترى ثلاجة من صنع بلدة أخرى، فلا يلزم الموكل بالشراء، ويلزم الوكيل؛ لأن الأصل في كل مقيد اعتبار القيد فيه إلا قيداً لا فائدة من اعتباره، وهذا القيد المذكور مفيد. ومثال القيد العائد للثمن: أن يقول الموكل: اشتر لي ثلاجة بألف ليرة، فاشترى ثلاجة بأكثر من الألف، فيلزم الشراء بالوكيل دون الموكل؛ لأنه خالف أمر الموكل، فيصير مشترياً لنفسه. وإن اشترى ثلاجة بثمان مئة ليرة، ومثله يشترى عادة بألف، لزم الشراء الموكل؛ لأن الخلاف إلى خير لا يكون خلافاً معنى. وإن وكله بشراء شيء فاشترى بعضه: فإن كان في تبعيضه ضرر كالسيارة لم يلزم الموكل بشراء البعض، وإن لم يكن في تبعيضه ضرر، كالأرض الواسعة، لزم الموكل الشراء عند الحنفية والشافعية والحنابلة. ¬
ولو وكله بالشراء بالتقسيط أو مؤجلاً، فاشترى بثمن حالّ، لزم الشراء الوكيل، لأنه خالف قيد الموكل. فإن كانت الوكالة بالعكس، فاشترى بالتقسيط أو مؤجلاً، لزم الشراء الموكل؛ لأنه وإن خالف الوكيل مخالفة صورية، فقد وافق طلب الموكل في المعنى، والعبرة للمعنى لا للصورة. ولو وكله أن يشتري ويشترط الخيار للموكل، فاشترى بغير خيار، لزم الشراء الوكيل. وإذا وكله بشراء شيء بعينه، فاشترى الوكيل غيره، يكون الموكل عند الحنفية مخيراً بين القبول والرد، وعند الجمهور: إن الشراء لازم للوكيل. وفي الجملة: إن القاعدة العامة هي أن الوكيل بالشراء إذا خالف أمر الموكل يكون عند الحنفية مشترياً لنفسه إلا إذا كان خلافاً إلى خير فيلزم به الموكل باتفاق الفقهاء، والوكيل بالبيع إذا خالف أمر الموكل يتوقف بيعه على إجازة الموكل. والفرق بينهما كما عرفنا سابقاً: هو أن الوكيل بالشراء متهم في جعل الشراء لنفسه، فينفذ عليه (¬1). وبناء عليه: إذا وكله في شراء شاة بدينار فاشترى بالدينار شاتين يلزم الموكل بهما عند الحنفية؛ لأنه خلاف إلى خير. وكذا يلزم الموكل بهما بلا خيار عند المالكية. ويلزم بها عند الشافعية والحنابلةإن ساوت كل واحدة منهما أو إحداهما ديناراً (¬2) عملاً بقصة عروة البارقي وكيل النبي صلّى الله عليه وسلم. ¬
الزيادة الكثيرة
على التقييد من عرف أو غيره، فيتقيد به. وعليه إذا وكل رجلاً بشراء دابة وسمى نوعها وثمنها، بأن قال: حماراً أو نحوه، فاشترى دابة عوراء، جاز الشراء ولزم الموكل، وكذا إذا اشترى دابة عمياء أو مشلولة اليدين أو الرجلين، ألزم الموكل بالشراء عند أبي حنيفة؛ لأن اسم الدابة بإطلاقها يقع على هذه الدابة، كما يقع على سليمة الأعضاء، فلا يجوز تقييد المطلق إلا بدليل. وقال الصاحبان: لا يلزم الموكل بهذا الشراء، ويلزم الوكيل به؛ لأن الدابة تشترى لاستخدامها عرفاً وعادة، وغرض الاستخدام لايحصل عند فوات جنس المنفعة، فيتقيد المشترى بالسلامة عن هذه الصفة بدلالة العرف. وإذا وكِّل إنسان بشراء شيء وكالة صحيحة ولم يسمِّ له الموكل ثمناً، فاشترى الوكيل الشيء بمثل القيمة، أو بأقل من القيمة، أو بزيادة يتغابن الناس في مثلها، جاز الشراء على الموكل. وإن اشترى الوكيل بزيادة لا يتغابن الناس في مثلها، يلزم الوكيل بالشراء؛ لأن الزيادة القليلة مما لا يمكن الاحتراز عنها، فجاز الشراء على الموكل، حتى لا يضيق الأمر على الوكلاء، ولتأمين حاجة الناس إلى الوكالات، وهذا هو الراجح لدى الحنفية. وأما الزيادة الكثيرة فلا ضرورة فيها، لإمكان الاحتراز عنها (¬1). والضابط المميز بين الزيادة القليلة والكثيرة في الراجح عند الحنفية هو كما عرفنا سابقاً: إن كانت الزيادة داخلة تحت تقويم المقومين لثمن الشيء، فهي قليلة، وإن كانت غير داخلة تحت تقويمهم فهي كثيرة؛ لأن الزيادة حينئذ تكون متحققة. ¬
ومنعاً من الاختلاف: لا بد للموكل الذي يوكل غيره بشراء شيء من تسمية جنسه وصفته، أو جنسه ومقدار ثمنه، إلا أن يوكله وكالة عامة، فيقول: اشتر لي ما رأيت؛ لأنه فوض الأمر إلى رأيه، فأي شيء يشتريه يكون ممتثلاً في رأي أبي حنيفة خلافاً للصاحبين إذ يتقيد بالعرف والعادة (¬1). وقال المالكية والشافعية والحنابلة: إذا كانت الوكالة بالشراء مطلقة، فيلزم المشتري أن يشتري بثمن المثل، ولا يشتري بأكثر من ثمن المثل بما لا يتغابن الناس به من غير إذن الموكل؛ لأن الوكيل منهي عن الإضرار بالموكل، مأمور بالنصح له، وفي الزيادة على ثمن المثل في الشراء إضرار وترك للنصح (¬2). ولا يشتري شيئاً معيباً مع العلم بالعيب؛ لأن الموكل لم يأذن له بشراء المعيب، وقد لا يتمكن الموكل من رد المبيع لهرب البائع، فيتضرر بذلك. وإذا وُكل رجل بشراء شيء بعينه لا يملك أن يشتريه لنفسه، وإذا اشترى يقع الشراء للموكل؛ لأن شراءه لنفسه عزل لنفسه عن الوكالة، وهو لا يملك العزل إلا بمحضر من الموكل. أما إذا وكل بشراء شيء بغير عينه، فيكون الشراء لنفسه، إلا أن ينويه للموكل. والوكيل بالشراء لا يملك الشراء من نفسه، كما لا يملكه الوكيل بالبيع، وهذا باتفاق الحنفية والشافعية والحنابلة وكذا المالكية؛ لأن حقوق العقد كما عرفنا ترجع عند الحنفية والشافعية إلى الوكيل، ولا يمكن أن يكون الشخص الواحد في زمان واحد مسلِّماً ومتسلماً، مطالِباً ومطالباً، ولأنه متهم في الشراء من نفسه. وروي عن الإمام مالك: أنه يجوز للوكيل أن يشتري من نفسه بثمن المثل فأكثر (¬3). ¬
ويجوز عند المالكية: أن يبيع الوكيل لزوجته وولده الرشيد إذا لم يحابهما، كما يجوز له الشراء منهما مما وكل فيه إذا لم يكن محاباة لهما وقت الشراء. وكذلك لا يملك الشراء من أبيه وجده وولده وولد زوجته، وكل من لا تقبل شهادته له عند أبي حنيفة. وأما عند الصاحبين: فيجوز إذا اشترى بمثل القيمة أو بأقل أو بزيادة يتغابن الناس في مثلها. وقد ذكرت أدلة مختلف الآراء في الوكالة بالبيع، وتعرف آراء المذاهب الأخرى في الشراء لنفسه وأصوله وفروعه من حكم البيع لنفسه. وإذا وُكل إنسان بشراء طعام، فيراد به الحنطة والدقيق بقرينة الشراء في العرف. وإذا وكل بشراء لحم ينصرف المقصود إلى اللحم الذي يباع في السوق، ويشتري الناس منه في الأغلب من لحم الضأن والمعز والبقر والإبل إن جرت العادة بشرائه، ولا ينصرف المراد إلى المشوي والمطبوخ إلا إذا كان مسافراً، ولا إلى لحم الطير والوحش والسمك ولا إلى شاة حية ولا إلى مذبوحة غير مسلوخة، لعدم جريان العادة بشرائه، ولا إلى البطن والكرش والكبد والرأس والكراع، لأنها ليست بلحم عرفاً. ولو وكل إنسان بشراء سمك، فيراد به الطري الكبير، لا المملح ولا الصغير، لأن العادة كذلك. ولو وكل بشراء الرأس، فيقصد منه الرأس النيء لا المطبوخ والمشوي ويحدد المطلوب برأس الغنم دون الإبل والبقر إلا في موضع جرت العادة بما اشتراه. ولو وكل بشراء فاكهة، فله أن يشتري أي فاكهة تباع في السوق عادة. وإذا
علاقة الوكيل بالشراء بموكله
وكل بشراء البيض فيراد به بيض الدجاج. وإذا وكل بشراء لبن فيراد به ما يباع عادة في السوق من الغنم والبقر والإبل. وبه يلاحظ أن المقصود فيما يوكل الإنسان بشرائه يتحدد بحسب العرف السائد عادة وفعلاً بحسب كل زمان ومكان. علاقة الوكيل بالشراء بموكله: إذا دفع الوكيل بالشراء الثمن من ماله من غير صريح إذن الموكل وقبض المبيع، فله أن يرجع به على الموكل لوجود الإذن دلالة؛ لأن حقوق العقد كما سأبين لما كانت عائدة إلى العاقد وقد علم الموكل بالثمن، يكون راضياً بدفعه. فإن هلك المبيع في يد الوكيل قبل حبسه عن الموكل، هلك من مال الموكل، ولم يسقط الثمن؛ لأن يده كيد الموكل. وللوكيل بالشراء أن يحبس المبيع في يده حتى يستوفي الثمن، وإن لم يكن قد دفعه بعد؛ لأنه مع الموكل بمنزلة البائع. فإن حبسه لاستيفاء الثمن، فهلك في يده، كان مضموناً عليه ضمان الرهن عند أبي يوسف، فيضمن الأقل من قيمته ومن الثمن، وضمان الغصب عند زفر فيجب مثله أو قيمته بالغة ما بلغت، وضمان المبيع عند أبي حنيفة ومحمد، فيسقط الثمن قليلاً كان أو كثيراً (¬1). وأما علاقة الوكيل بمن تعامل معه لحساب الموكل فهي تنفيذ حقوق العقد، كدفع الثمن والرد بالعيب ما دام المبيع في يده. ثانياً ـ حقوق العقد وحكمه في الوكالة: حقوق العقد: هي الأعمال التي لا بد منها للحصول على الغاية والغرض من ¬
الحنفية
العقد، مثل تسليم المبيع، وقبض الثمن، والرد بالعيب أو بخيار الرؤية أو الشرط، وضمان رد الثمن إذا استحق المبيع مثلاً (¬1). وقد اتفق الفقهاء على أن الوكيل إذا أضاف العقد إلى الموكل في العقود التي تتم بالإيجاب والقبول كالبيع، تنصرف حقوق العقد إلى الموكل. فإن أضاف العقد إلى نفسه، فالقاعدة العامة في التوكيل بالبيع والشراء: أن حقوق العقد ترجع عند الجمهور إلى الوكيل، فهو الذي يلتزم بتسليم المبيع ويقوم بتسليمه فعلاً وبقبضه، وهو الذي يقبض الثمن ويطالب به، ويخاصم في الرد بالعيب، ونحو ذلك. وعند الحنابلة ترجع إلى الموكل، على تفصيل سيأتي قريباً. قال الحنفية: الوكالة: منها ـ ما لا حقوق له إلا ما أمر به الوكيل، كالوكالة بتقاضي الدين، والوكالة بالملازمة (¬2) ونحوهما. ومنها ـ ما تعود حقوقه للوكيل، ومنها ما تعود حقوقه للموكل. أـ والقاعدة العامة في هذا عند الحنفية أن كل عقد لا يحتاج فيه إلى إضافته إلى الموكل ويكتفي فيه بالإضافة إلى نفسه: فحقوقه راجعة إلى العاقد، كالبياعات والأشرية والإجارات والصلح الذي هو في معنى البيع (أي الصلح عن إقرار) فحقوق هذه العقود ترجع للوكيل وعليه، مثل تسليم المبيع، وقبض الثمن، والمطالبة بالثمن إذا اشترى، وقبض المبيع، والمخاصمة بالعيب. فيجب عليه تسليم المبيع إلى المشتري، وقبض الثمن. وإذا وجد المشتري بالمبيع عيباً فله أن يخاصم الوكيل، وإذا ظهر أن المبيع مستحق لغير البائع، فيجب ¬
ب ـ وكل عقد يحتاج فيه إلى إضافته إلى الموكل، أي أن يذكر اسم الموكل في عبارته ليدل على أنه يتصرف له
على الوكيل الضمان، إلا إذا كان العاقد ليس من أهل لزوم العهدة (أي ليس أهلاً للمسؤولية والتزام الحقوق) كالصبي المحجور عن التصرف، والقاضي، وأمين القاضي، ونحوهم، فحينئذ ترجع حقوق العقد للموكل نفسه لا إلى الوكيل، وكذلك ترجع حقوق العقد للموكل، إذا أضاف الوكيل العقد إلى الموكل. وللوكيل أن يوكل غيره في تحمل حقوق العقد، وليس للموكل أن يباشر شيئاً منها بنفسه ما دام الوكيل قائماً، فإذا طالب الموكل بالبيع المشتري بالثمن، فللمشتري أن يمنعه من قبضه؛ لأنه أجنبي عن العقد وحقوقه؛ لأن الحقوق إلى العاقد. فإن دفع المشتري الثمن إلى الموكل جاز؛ لأن نفس الثمن المقبوض يعتبر حقه، وليس للوكيل أن يطالبه به ثانياً لعدم الفائدة لأنه لو أخذه منه لوجب عليه إعادته له. ب ـ وكل عقد يحتاج فيه إلى إضافته إلى الموكل، أي أن يذكر اسم الموكل في عبارته ليدل على أنه يتصرف له: فحقوقه ترجع إلى الموكل كالنكاح، والطلاق على مال، والخلع، والصلح عن دم العمد، والصلح عن إنكار المدعى عليه، ونحوها، فحقوق هذه العقود تكون للموكل وعليه، والوكيل فيها يكون سفيراً ومعبراً محضاً، حتى إن وكيل الزوج في النكاح لا يطالب بالمهر، وإنما يطالب به الزوج، إلا إذا ضمن المهر، فحينئذ يطالب به بحكم الضمان، ووكيل المرأة في النكاح لا يملك قبض المهر، ولا يلزم وكيل المرأة تسليمها. وكذا الوكيل بالخلع لا يملك قبض بدل الخلع إن كان وكيلاً عن الزوج، وإن كان وكيلاً عن المرأة لا يطالب ببدل الخلع إلا بالضمان، وكذا الوكيل بالصلح عن دم العمد. جـ ـ وكذلك العقود التي لا تتم إلا بالقبض، أي العقود العينية كالهبة والقرض والإعارة والرهن ونحوها لا بد من إضافتها إلى الموكل وترجع الحقوق
الشافعية
له، وإلا وقع العقد للوكيل. والسبب في أن هاتين الفئتين من العقود لا بد فيها من نسبة العقد للأصيل: هو أنه يكون للاعتبار الشخصي فيها المقام الأول. هذا مذهب الحنفية (¬1)، ويذكرون في كتبهم كعادتهم في كثير من الأحيان: أن الشافعية يخالفونهم، فيجعلون حقوق العقد راجعة للموكل دون الوكيل (¬2)، إلا أن الواقع يوجب الاعتماد في نقل أحكام المذاهب على الكتب المعتمدة عند أصحابها، ففي كتاب المنهاج للنووي نص صريح على أن أحكام العقد أي (حقوقه) تتعلق بالوكيل دون الموكل (¬3)، فهم كالحنفية في هذا. وكذلك قال المالكية: ترجع حقوق العقد للوكيل من قبض الثمن وغيره لا للموكل (¬4). أما الحنابلة فيقولون: إن حقوق العقد ترجع للموكل دون الوكيل؛ لأن الوكيل عندهم مجرد سفير ومعبر عن العاقد الأصيل (¬5). وفي هذا الرأي إضاعة للغرض من الوكالة؛ لأن الموكل يوكل غيره في أموره ليخفف من عناء مباشرته لها بنفسه أو لأنه لا يليق به أن يباشرها، أو لعدم قدرته على القيام بها، فإذا عادت الحقوق للموكل نفسه لم يتحقق له الغرض من الوكالة (¬6). ¬
حقوق كل من الموكل والوكيل وواجباتهما في البيع
هذا الاختلاف بين المذاهب محصور فيما إذا لم يصرح الوكيل بأن التعاقد لحساب الأصيل، فإن صرح بأن التعاقد باسم الأصيل فالمذاهب مجمعة على ثبوت حكم العقد وحقوقه معاً تقع للأصيل دون النائب. يستفاد من هذا البحث معرفة حقوق كل من الموكل والوكيل وواجباتهما في البيع، ف واجبات الموكل في الوكالة بالبيع: تحمل الخسارة العارضة إذا لم يكن تعد أو تفريط، ودفع الأجر للوكيل إن كانت الوكالة بأجر ونفذ العمل، وحق الموكل: تنفيذ الوكيل ما التزم به في حقه. وواجبات الوكيل بالبيع: التقيد بالقيود ومراعاة الشروط المبينة في الوكالة المقيدة، ومراعاة العرف والعادة في الوكالة المطلقة. وواجبات الموكل في الوكالة بالشراء: دفع ثمن السلعة المشتراة، وتحمل الخسارة العارضة في التصرف الموكل فيه إذا لم تكن بتعدٍ أو تفريط، ودفع أجر الوكيل إن كانت الوكالة بأجر. وواجبات الوكيل بالشراء: الشراء بثمن المثل عملاً بالعرف، وشراء السلعة السليمة من العيوب عند الجمهور غير أبي حنيفة، وعليه عند الحنفية شراء الشيء المعين للموكل لا لنفسه وأقاربه، وعليه عند المالكية فعل كل ما فيه مصلحة للموكل، فإن خالف الوكيل شروط الموكل كان عند الحنفية مشترياً لنفسه. وحقوق الوكيل بالشراء: الشراء بأقل مما عينه له الموكل؛ لأنه خلاف إلى خير، والرجوع على الموكل بما دفع من ماله ثمناً للسلعة المشتراة للموكل، وحبس ما اشتراه للموكل حتى يستوفي الثمن منه، والرد بالعيب ما دام المعيب في يده. حكم العقد: تكلمنا عن حقوق عقد الوكالة التي ترجع إلى الوكيل عند الحنفية والشافعية. وقد رأينا من المناسب أن نذكر حكم العقد هنا استطراداً.
المراد بحكم العقد
المراد بحكم العقد: هو الغرض والغاية منه: أـ ففي عقد البيع ونحوه مما يتوقف على الإيجاب والقبول يكون الحكم: هو ثبوت الملكية في المبيع للمشتري وفي الثمن للبائع. واتفق الفقهاء على أن حكم العقد الذي يتم بواسطة وكيل يقع للموكل نفسه لا للوكيل؛ لأن الوكيل متكلم باسم الموكل وعاقد له، فهو قد استمد ولايته منه. وينصرف حكم العقد للموكل عند الجمهور مطلقاً، سواء أضاف الوكيل العقد لنفسه أم أسنده إلى الموكل. وعند المالكية: ينصرف الحكم للموكل إذا أعلن الوكيل في العقد أنه يعمل لحساب موكله. وتثبت الملكية للموكل مباشرة بمجرد تمام العقد أي من ابتداء الأمر دون حاجة لثبوتها للوكيل أولاً، ثم انتقالها عنه لموكله، وهذا في المذاهب الأربعة؛ لأن الوكيل يعمل في الحقيقة لموكله وبأمره (¬1). ويترتب عليه أن المسلم لو وكل ذمياً بشراء خمر أو خنزير لم يصح الشراء؛ لأن المسلم ليس له أن يتملك شيئاً من هذين. هذا هو مذهب الحنفية لا ما تذكره كتب الحنابلة والمالكية من أن مذهب أبي حنيفة أن الملكية تنتقل إلى الوكيل ثم إلى الموكل. ب ـ العقود التي لا تتم إلا بالقبض كالهبة والإعارة: يقع حكم العقد للموكل ولو أضاف الوكيل العقد لنفسه بأن قال: وهبت أو أعرت هذا الشيء؛ لأن الوكيل في هذه العقود مجرد سفير ومعبر. جـ ـ عقد الزواج: إذا أضاف العقد لموكله بأن قال: تزوجك فلان، انصرف ¬
ثالثا ـ حال المقبوض في يد الوكيل
حكمه إلى الموكل. وإذا أضافه إلى نفسه فقال: تزوجتك، كان الزواج له لا لموكله. د ـ الطلاق مثل الزواج في التفصيل السابق، إن كان وكيلاً عن الزوج، فإن كان وكيلاً عن الزوجة، فلا بد من إضافة الطلاق إليها، فيقول: طلِّق فلانة على كذا. ثالثاً ـ حال المقبوض في يد الوكيل: اتفق الفقهاء على أن المقبوض في يد الوكيل يعتبر أمانة بمنزلة الوديعة ونحوها؛ لأن يده نيابة عن الموكل بمنزلة يد الوديع، فيضمن بما يضمن في الودائع، ويبرأ بما يبرأ فيها، ويكون القول قوله في دفع الضمان عن نفسه (¬1). ومجمل القول في سبب الحكم: هو أن الوكيل أمين فلا ضمان عليه لموكله إلا إذا حدث منه تعد أو تفريط، ويتحمل الموكل الخسارة العارضة إذا لم تكن بتعدٍ أو تفريط من الوكيل. وبناء على هذه القاعدة ذكر ابن قدامة في المغني حكم ستة أحوال يختلف فيها الوكيل والموكل عادة، أذكرها باختصار: أحدها ـ أن يختلفا في تلف أو ضياع المال، فقال الوكيل: تلف مالك في يدي، أو ضاع، فيكذبه الموكل، فالقول بالاتفاق قول الوكيل مع يمينه، لأنه أمين، وهذا مما يتعذر إقامة البينة عليه، فلا يكلف بالبينة كالوديع. واستثنى الحنابلة حالة ادعاء الوكيل التلف بأمر ظاهر كالحريق والنهب ونحوهما، فعليه إقامة البينة على وجود التلف. ¬
ثانيها ـ أن يختلفا في تعدي الوكيل أو تفريطه في الحفظ ومخالفته أمر الموكل
ثانيها ـ أن يختلفا في تعدي الوكيل أو تفريطه في الحفظ ومخالفته أمر الموكل، مثل: أن يدعي عليه أنه حمل الدابة فوق طاقتها أو فرط في حفظها، أو أمره برد المال فلم يفعل، ونحوها، فالقول قول الوكيل أيضاً مع يمينه، لأنه أمين كما تقدم. والمشهور عند المالكية أن يحكم بقول الموكل (¬1). والوكيل أمين سواء أكانت الوكالة بجعل أم بغير جعل؛ لأن الوكيل نائب عن الموكل في اليد (أي الحيازة) والتصرف، فكان الهلاك في يده كالهلاك في يد المالك، فلا يضمن ما تلف في يده بلا تعد. ثالثها ـ أن يختلفا في التصرف، فيقول الوكيل: بعت الثوب وقبضت الثمن، فتلف، فيقول الموكل: لم تبع ولم تقبض. أو يقول: بعت ولم تقبض شيئاً، أي أن الخلاف إما في حدوث البيع، أو في قبض الثمن بعد الاتفاق على البيع، فالقول قول الوكيل عند الحنابلة والحنفية؛ لأنه يملك البيع والقبض، فيقبل قوله فيهما (¬2). وعند الشافعية قولان: أصحهما أنه يصدق قول الموكل بيمينه؛ لأن الأصل عدم التصرف، وبقاء ملك الموكل (¬3). رابعها ـ أن يختلفا في رد الشيء الموكل فيه إلى الموكل، فيدعيه الوكيل وينكره الموكل، فالقول قول الوكيل عند أئمة المذاهب الأربعة في الراجح منها، سواء أكانت الوكالة بجعل أم بغير جعل؛ لأن الموكل ائتمنه، وإذا كانت الوكالة بجعل، فإن الوكيل ينتفع بالعمل بالعين لا بالعين نفسها، فلم يكن قبضه لنفع نفسه كالمستعير (¬4). ¬
خامسها ـ إذا اختلفا في أصل الوكالة
خامسها ـ إذا اختلفا في أصل الوكالة، فقال الوكيل: وكلتني، فأنكر الموكل، فالقول قول الموكل بيمينه في المذاهب الأربعة؛ لأن الأصل عدم الوكالة، فلم يثبت أنه أمينه، ليقبل قوله عليه (¬1). سادسها ـ أن يختلفا في صفة الوكالة بأن يقول الوكيل: وكلتني في البيع نسيئة، أو الشراء بعشرين ليرة مثلاً، أو ببيع هذا الكتاب، فقال الموكل: بل نقداً، أو بعشرة، أو هذا القلم، فالقول قول الموكل بيمينه في المذاهب الأربعة؛ لأن الأصل عدم الإذن فيما ذكره الوكيل، ولأن الموكل أعرف بحال الإذن الصادر منه (¬2). وإن تنازعا في الثمن المدفوع للسلعة في الوكالة بالشراء فالقول عند الحنفية قول الوكيل إن كان الشيء يساوي ما ادعاه الوكيل، وإن كان لا يساويه فالقول قول الموكل. وقال الشافعية والحنابلة: القول قول الوكيل مع يمينه؛ لأنه أمين (¬3). وإن تنازعا في نوع الشيء المشترى كأن اشترى الوكيل تمراً فزعم الموكل أنه أمره بشراء عنب، فالقول قول الوكيل مع يمينه. وقال المالكية: إن اشترى الوكيل شيئاً بالثمن المدفوع له لشراء سلعة، فزعم الموكل أنه أمره بشراء سلعة غيرها، فالقول قول الوكيل مع يمينه، وكذا إذا وكل شخص غيره ببيع سلعة، فباعها بعشرة، وادعى أن الموكل أمره بذلك، وقال الموكل: بل أمرته بأكثر من ذلك، فالقول قول الوكيل بيمينه (¬4). ¬
المبحث الرابع ـ تعدد الوكلاء
المبحث الرابع ـ تعدد الوكلاء قد يتعدد الوكلاء عن الشخص الواحد في التصرفات والخصومات، أو المرافعة أمام القضاء كما يحدث عادة في كثير من الأحيان، فيكون هناك وكيلان أو أكثر. فإن وكل إنسان وكلاء متعددين كلاً في عقد خاص وأعمال خاصة، كان للواحد منهم عند الحنفية أن يقوم بما وكل فيه وحده دون حاجة لاستشارة غيره. وإن كانت الوكالة لعمل واحد كان لأي وكيل القيام به وحده أيضاً. وإن كانت الوكالة للجميع في عقد واحد فليس لأحدهم ـ دون إذن الموكل ـ الانفراد بالقيام بما وكلوا فيه، إلا إذا كان التصرف مما لا يحتاج لتبادل الرأي كرد الودائع ووفاء الديون، أو مما لا يمكن الاجتماع فيه كالوكالة بالخصومة، أي المرافعة أمام مجلس القضاء، وكالطلاق. وأجاز المالكية تعدد وكلاء الخصومة بشرط موافقة الخصم على التعدد. ولم يجز الشافعية لأحد وكلاء الخصومة المتعددين الانفراد بالخصومة؛ لأن الموكل لم يرض إلا بتصرفهما معاً، وعند الحنابلة قولان: قول كالشافعية، وقول يجيز الانفراد بالتصرف عرفاً (¬1). هذه هي القواعد العامة لتعدد الوكلاء، وتطبيقها يظهر في استعراض أنواع الوكالات فيما يأتي: إذا كان التصرف مما يحتاج فيه لأخذ الرأي، فليس لأحد الوكلاء أن يتصرف فيما وكلوا به دون الآخرين؛ لأن الموكل رضي برأيهم المشترك، لا برأي ¬
إذا كان التصرف مما لا يحتاج فيه لأخذ الرأي
أحدهم، فإذا وكل اثنان بالبيع، فلا يملك أحدهما التصرف بدون صاحبه، ولو فعل لم يجز البيع حتى يجيزه صاحبه، أو الموكل؛ لأن البيع يحتاج فيه إلى أخذ الرأي، والموكل رضي برأيهما، لا برأي أحدهما. وإذا وكل اثنان بالشراء فلا يملك أحدهما الانفراد بالتصرف إلا أنه في الشراء إذا اشترى أحدهما بدون وجود الآخر ينفذ العقد على المشتري، ولا يقف على الإجازة، بخلاف البيع؛ لأن الوكيل بالشراء متهم بمراعاة مصلحته كما عرفنا. وإذا وكل اثنان بعقد الزواج أو الطلاق على مال ونحوهما من كل عقد فيه عوض مالي، فلا يملك أحدهما إجراء العقد بدون الآخر؛ لأن الأمر هنا يحتاج إلى تبادل وجهات النظر وأخذ الآراء. والوكيلان بقبض الدين لا يملك أحدهما أيضاً أن يقبض دون وجود صاحبه؛ لأن قبض الدين مما يحتاج إلى أخذ الرأي والأمانة، وقد فوض الموكل الرأي لهما، لا إلى أحدهما، ورضي بأمانتهما، لا بأمانة أحدهما. وأما إذا كان التصرف مما لا يحتاج فيه لأخذ الرأي، فيملك أحد الوكيلين أن ينفرد بالتصرف دون الآخر، مثل الوكيلين بالطلاق بغير عوض، أو برد الوديعة أو قضاء الدين، فينفرد أحدهما بالتصرف فيما وكلا به؛ لأن هذه التصرفات مما لا يحتاج فيها إلى أخذ الرأي، وإنما هي تعبير محض، وعبارة الواحد أو أكثر سواء. وأما الوكيلان بالخصومة أي القيام بالمرافعة فعلاً أمام المحكمة فكل واحد منهما يتصرف بانفراده عند جمهور الحنفية؛ لأن الاجتماع فيها في وقت واحد أمر متعذر؛ لأن الغرض من الخصومة إعلام القاضي بما يملكه الخصم من وسائل الدفاع واستماع القاضي إليها، واجتماع الوكيلين على الدفاع يخل بالإعلام والاستماع، كما هو واضح. أما إعداد المذكرات للدفاع بها فيمكن طبعاً الاجتماع على
المبحث الخامس ـ طرق انتهاء الوكالة
تحضيرها، كما يمكن تقسيم الدفاع على المحامين الموكلين فيما بينهم، فيقوم كل واحد منهما بقسم منه. وقال زفر: لا ينفرد أحد الوكيلين بالخصومة بالقيام بها دون الآخر؛ لأن الخصومة مما تحتاج إلى أخذ الرأي، ولم يرض الموكل برأي أحدهما (¬1). وقال الجمهور (¬2) (المالكية والشافعية والحنابلة): إذا تعدد الوكلاء فليس لأحدهم الانفراد بالتصرف بدون مشاورة الآخر؛ لأنه لم يرض بتصرف أحدهما دون الآخر، إلا إذا أذن لهما الموكل بإفراد التصرف، فيجوز لكل واحد منهما أن يستقل بالتصرف. المبحث الخامس ـ طرق انتهاء الوكالة صفة عقد الوكالة: اتفق الفقهاء (¬3) على أن عقد الوكالة بغير أجر جائز غير لازم بالنسبة للعاقدين، أما من جانب الموكل: فلأنه قد يرى المصلحة في ترك ما وكل فيه، أو في توكيل شخص آخر. وأما من جانب الوكيل: فلأنه قد لا يتفرغ لأعمال الوكالة، فيكون لزوم العقد مضراً بالطرفين. وبناء عليه، لكل من طرفي عقد الوكالة الرجوع عنه متى شاء، وتنتهي حينئذ الوكالة. وأذكر هنا طرق انتهاء الوكالة. وأما الوكالة بأجر: فإن كانت على سبيل الجعالة بأن لم يعين في العقد الزمن أو العمل فهي غير لازمة أيضاً بالاتفاق، إلا أن المالكية قالوا: تلزم الجاعل فقط بعد الشروع في العمل. ¬
تنتهي الوكالة بأمور كثيرة
وإن كانت على سبيل الإجارة بأن عين الزمن والعمل كالبياع والسمسار، فهي لازمة عند الحنفية وفي المشهور لدى المالكية؛ وغير لازمة عند الشافعية والحنابلة. وتنتهي الوكالة بأمور كثيرة وهي (¬1): 1 - عزل الموكل وكيله: تنتهي الوكالة بالاتفاق بعزل الموكل وكيله؛ لأن الوكالة كما عرفنا عقد غير لازم، فكان بطبيعته قابلاً للفسخ بالعزل، ولكن يشترط لصحة العزل عند الحنفية والمالكية شرطان: أحدهما ـ أن يعلم الوكيل بالعزل؛ لأن العزل فسخ للعقد، فلا يلزم حكمه إلا بعد العلم به كالفسخ. والعلم بالعزل يتم إما بحضور الوكيل، أو بالكتابة له، أو بإرسال رسول إليه، أو بإخبار رجلين أو رجل واحد عدل، أوغير عدل وصدقه بالعزل. وأما قبل العلم بالعزل، فتكون تصرفات الوكيل كتصرفاته قبل العزل في جميع الأحكام. وهذا الشرط مشروط أيضاً في الأرجح عند المالكية وفي رواية عن الإمام أحمد: والسبب في اشتراط هذا الشرط: هو أن العزل يترتب عليه إضرار بالوكيل من ناحيتين: أولهما ـ أنه يترتب عليه إبطال ولايته بالعزل. وثانيهما ـ أنه يكون متحملاً لحقوق العقد، فيدفع الثمن إن كان وكيلاً بالشراء، ويسلم المبيع إن كان وكيلاً بالبيع. وقال الشافعي في الأصح عنده، وأحمد في الرواية الثانية عنه وهي الراجحة في مذهبه: لا يشترط هذا الشرط، فلو عزل الموكل وكيله في حضوره أو أثناء غيبته ¬
2 - تصرف الموكل فيما وكل به
انعزل في الحال، لأنه رفع عقد لايفتقر إلى رضا صاحبه، فلا يحتاج إلى علمه كالطلاق، وقياساً على ما لو وكل شخص غيره، وكان الوكيل غائباً (¬1). واتفقت المذاهب على أنه في حال عزل الوكيل نفسه عن الوكالة يشترط إخبار الموكل بالأمر، صيانة لحق الموكل، ومنعاً من التغرير به. ثانيهما ـ ألا يتعلق بالوكالة حق للغير، فإذا تعلق حق للغير بها لم يصح العزل بغير رضا صاحب الحق، مثل وكيل المدين ببيع الرهن لسداد الدين عند حلول الأجل، فإنه لا يملك المدين الموكل عزل وكيله هذا إلا برضا الدائن، لتعلق حقه بالوكالة إذ أنه يريد أخذ دينه عن طريق بيع العين. ومثل وكيل الزوج بطلاق زوجته متى شاء، فإنه لا يملك الزوج الموكل الرجوع عن وكالته إلا برضا المرأة. ومثل الوكالة بالخصومة بطلب الدائن عند غيبة المدين، كأن يكون لشخص عند آخر دين، ثم يعزم المدين السفر إلى بلاد بعيدة، فيطلب صاحب الدين من المدين أن يوكل عنه شخصاً ليخاصمه في طلب الدين حال غيابه، فوكل عنه بناء على هذا الطلب، فيصبح هذا لوكيل غير قابل للعزل، لأنه قام مقام المدين الغائب، وليس لصاحب الدين من يطالبه بدينه سواه، فلو عزله ضاع عليه حقه. 2 - تصرف الموكل فيما وكل به: أي أن يقوم الموكل صاحب الشأن بالعمل الذي وكل فيه غيره، كأن يوكل إنسان غيره ببيع شيء ثم يبيعه الموكل، فتنتهي الوكالة بالاتفاق (¬2)؛ لأن العقد يصبح حينئذ غير ذي موضوع، فينعزل الوكيل وإن لم يعلم بالعزل. 3 - انتهاء الغرض من الوكالة: وهو أن يتم تنفيذ التصرف الذي وكل فيه الوكيل، لأن العقد يصبح حينئذ غير ذي موضوع. ¬
4 - خروج الموكل أو الوكيل عن الأهلية
4 - خروج الموكل أو الوكيل عن الأهلية: بموت بالاتفاق أو جنون مطبق (¬1) عند الجمهور خلافاً للشافعية، أو حجر عليه لسفه باتفاق المذاهب الأربعة، وألحق الشافعية الإغماء بالجنون في الأصح عندهم. وقال غيرهم: الإغماء لا يخرج عن أهلية التصرف. ولا يشترط عند الحنفية والشافعية والحنابلة أن يعلم العاقد بخروج الطرف الآخر عن الأهلية بهذه العوارض (¬2). وقال المالكية: الأرجح أن الوكيل لا ينعزل بموت الموكل حتى يعلم به (¬3). واختلف أبو يوسف ومحمد في حد الجنون المطبق، فقال أبو يوسف: هو ما استوعب شهراً؛ لأن الشهر يسقط به صوم شهر رمضان. وقال محمد: هو ما استوعب حولاً كاملاً؛ لأن الحول يسقط به جميع العبادات فيقدر به احتياطاً. قال قاضي زاده صاحب تكملة فتح القدير: والمختار ما قاله أبو حنيفة أنه مقدر بالشهر؛ لأن ما دون الشهر في حكم العاجل، فكان قصيراً، والشهر فصاعداً في حكم الآجل، فكان طويلاً، قال صاحب الدر: وبه يفتى. 5 - لحاق الموكل مرتداً بدار الحرب: هذه الحالة عند أبي حنيفة؛ لأنه يصير حينئذ من أهل الحرب. وقال الصاحبان: لا تنتهي الوكالة بذلك؛ لأن تصرفات المرتد عندهما نافذة، فلا تبطل الوكالة إلا بموته أو بقتله بسبب ردته، أو بحكم القاضي بلحاقه. وأما مذهب أبي حنيفة في هذا فهو أن تصرفات المرتد موقوفة عنده، ومنها الوكالة، فإن أسلم الموكل نفذت، وإن قتل على الردة أو لحق بدار الحرب بطلت الوكالة. ¬
6 - عزل الوكيل نفسه أو أن يخرج الوكيل نفسه من الوكالة
وأما الوكيل إذا لحق بدار الحرب مرتداً فإنه لا يخرج عن الوكالة باتفاق الحنفية إلا أن يقضي القاضي بلحاقه، لكن بمجرد لحوقه لا يجوز له التصرف إلا أن يعود مسلماً، فإن عاد مسلماً من دار الحرب إلى دار الإسلام قال محمد: تعود الوكالة إليه لزوال المانع من التصرف. وقال أبو يوسف: لا تعود الوكالة؛ لأنه بلحاقه بدار الحرب يلحق بالأموات، فيبطل ما ملكه من ولاية تنفيذ التصرف على الموكل، وإذا بطلت الولاية بطل التوكيل، وإذا بطلت الولاية لا تعود. وقال المالكية: ينعزل الوكيل بردته أيام الاستتابة، وأما بعدها فإن قتل انعزل، وإن أخر قتله لمانع كوجود حمل عند المرأة، فإن العلماء ترددوا في عزله، وكذا ينعزل بردة الموكل بعد مضي أيام الاستتابة، ولم يرجع ولم يقتل لمانع (¬1). وقال الشافعية والحنابلة: لا تبطل الوكالة بردة الوكيل، سواء لحق بدار الحرب أو أقام بدار الإسلام؛ لأن الردة لا تمنع ابتداء وكالته، فلم تمنع استدامتها كسائر أنواع الكفر. وأما ارتداد الموكل فلا يبطل الوكالة فيما له التصرف فيه عند الحنابلة، وهو الظاهر عند الشافعية لعدم زوال ملكه (¬2). 6 - عزل الوكيل نفسه أو أن يخرج الوكيل نفسه من الوكالة: إذا قال الوكيل: عزلت نفسي أو رددت الوكالة أو خرجت منها ونحوها انعزل (¬3)، لدلالة ذلك عليه. وقد اشترط الفقهاء لانتهاء الوكالة مما ذكر أن يعلم الموكل بهذا، حتى لا يتضرر مما فعل الوكيل. وذكر المالكية أن للوكيل بغير أجر أن يعزل نفسه متى شاء إلا حيث يمنع موكله من عزل نفسه. 7 - هلاك العين الموكل بالتصرف فيها: تنتهي الوكالة أيضاً باتفاق ¬
8 - خروج الموكل فيه عن ملك الموكل
الفقهاء (¬1) بهلاك العين التي وكل فيها إنسان بالتصرف فيها بالبيع أو الشراء، أو الإيجار مثلاً؛ لأن العقد يصبح في هذه الحالة غير ذي موضوع، فيكون التصرف في المحل المعقود عليه غير متصور بعد هلاكه، والوكالة بالتصرف فيما لا يحتمل التصرف محال، فتبطل الوكالة. 8 - خروج الموكل فيه عن ملك الموكل: كأن وكله ببيع منزل فصادرته الدولة، فتزول الوكالة (¬2). 9 - الإفلاس: تنتهي الوكالة بإفلاس الموكل إذا كانت الوكالة بأعيان ماله؛ لأنه بالإفلاس ينتقل مال الموكل لغرمائه (¬3). 10 - الجحود: تنتهي الوكالة عند الحنفية والشافعية بحجودها من الموكل أو الوكيل؛ لأن الجحود بمثابة رد الوكالة. ولا تبطل الوكالة عند الحنابلة بالجحود (¬4). 11 - التعدي: تنتهي الوكالة في أحد وجهين عند الشافعية بتعدي الوكيل في التصرف الموكل فيه، كأن يوكله ببيع ثوب فيلبسه؛ لأن الوكالة عقد أمانة تبطل بخيانة الوكيل فيها. وفي الوجه الثاني لا تبطل، وإنما تبطل الأمانة ويصير ضامناً، ويبقى التصرف (¬5)، ويظهر لي أن الوجه الثاني أصح وهو رأي الحنابلة. 12 - الفسق: تبطل الوكالة عند الشافعية والحنابلة بفسق الوكيل في عقد ينافيه الفسق كإيجاب في الزواج لخروجه عن أهلية التصرف (¬6)، بخلاف قبول الزواج أو الشراء. 13 - الطلاق: قال المالكية: ينعزل الزوج عن وكالته لزوجته بالطلاق إذا طلقها؛ لأن الطلاق بيده، ولا تنعزل الزوجة عن وكالتها بطلاقه لها، إلا أن يعلم ¬
14 - مضي الوقت
من الموكل كراهة ذلك منها. وقال الحنابلة: لا تبطل الوكالة بطلاق امرأة وكلها زوجها بشيء (¬1). 14 - مضي الوقت: تنتهي الوكالة بمضي المدة المحددة لها كعشرة أيام مثلاً عند المالكية والشافعية والحنابلة، ولا تنتهي به على الأصح عند الحنفية (¬2). هذه هي أهم الحالات التي تنتهي بها الوكالة عند الفقهاء، وهي فيما عدا حالة العزل تنتهي بها الوكالة على رأي الحنفية، سواء علم بها الوكيل أم لم يعلم. انتهى الجزء الخامس ويتبعه الجزء السادس تتمة العقود وما يتعلق بها الملكية وتوابعها ¬
الفصل العاشر: الكفالة
الفَصْلُ العاشِر: الكَفَالة الكفالة والحوالة والرهن هي عقود الاستيثاق، تبحث تباعاً. خطة الموضوع وأسماء الكفالة: الكفالة لها أسماء وهي: كفالة وحمالة وضمانة وزعامة. ويقال للملتزم بها: ضمين وكفيل وقبيل وحميل وزعيم وصبير. قال الماوردي من كبار الشافعية: غير أن العرف جار بأن الضمين مستعمل في الأموال، والحميل الديات، والزعيم في الأموال العظام، والكفيل في النفوس، والصبير في الجميع. والشائع الاستعمال أن الكفالة بالدين تسمى الضمان، والكفالة بإحضار الملزم بحق من دين أو قصاص وغيرهما تسمى كفالة بالنفس، أو الكفالة بالوجه. والكلام عن هذا العقد في المباحث الخمسة الآتية: المبحث الأول ـ مشروعية الكفالة وتعريفها وركنها وألفاظها. المبحث الثاني ـ شرائط صحة الكفالة. المبحث الثالث ـ أحكام الكفالة. المبحث الرابع ـ انتهاء الكفالة. المبحث الخامس ـ رجوع الكفيل على الأصيل (المكفول عنه).
المبحث الأول: مشروعية الكفالة وتعريفها وركنها وألفاظها
المبحث الأول: مشروعية الكفالة وتعريفها وركنها وألفاظها: مشروعية الكفالة: الكفالة في الجملة مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى: {ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم} [يوسف:72/ 12] قال ابن عباس: الزعيم: الكفيل. وأما السنة: فقوله عليه الصلاة والسلام: «الزعيم غارم» رواه أبو داود والترمذي وحسنه، وابن حبان وصححه (¬1). وجاء في صحيح البخاري أن النبي صلّى الله عليه وسلم أتي بجنازة رجل ليصلي عليه، فقال: «هل ترك شيئاً؟ قالوا: لا، قال: هل عليه دين؟ قالوا: نعم، ديناران (¬2). فقال: صلوا على صاحبكم. قال أبو قتادة: هما علي يا رسول الله، فصلى عليه النبي صلّى الله عليه وسلم» (¬3). وأما الإجماع: فقد أجمع المسلمون على جواز الضمان في الجملة لحاجة الناس إليها ودفع الضرر عن المدين (¬4). وإنما اختلفوا في بعض الفروع التي ستذكر إن شاء الله تعالى. ويلاحظ أن الكفالة بالنية الحسنة تكون طاعة يثاب عليها ¬
حكمة تشريعها
فاعلها. أما في الواقع، فأولها ملامة، وأوسطها ندامة، وآخرها غرامة (¬1)، فبعد تمامها في أول الأمر يلوم الكفيل نفسه أو يلومه الناس، وعند المطالبة بالمال يندم على إتلافه لماله، ثم بعدئذ يغرم المال. وحكمة تشريعها: توثيق الحقوق وتحقيق التعاون بين الناس وتيسير معاملاتهم في إقراض الديون والأموال وإعارة الأعيان، ليطمئن صاحب الحق في الدين أو العين المعارة للوصول إلى حقه ورعاية مصالحه، ودفع الحرج عن الناس. تعريفها: الكفالة لغة كما في كتب الحنفية والحنابلة: هي الضم. وفي كتب الشافعية: هي الالتزام. واصطلاحاً في الأصح عند الحنفية: هي ضم ذمة إلى ذمة في المطالبة مطلقاً أي ضم ذمة الكفيل إلى ذمة المدين في المطالبة بنفس أو بدين أو عين كمغصوب ونحوه، فلا يثبت الدين في ذمة الكفيل، ولا يسقط عن الأصيل (¬2). وقال المالكية والشافعية والحنابلة: الكفالة: هي ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه في التزام الحق أي في الدين، فيثبت الدين في ذمتهما جميعاً، كما جاء في المغني لابن قدامة الحنبلي (¬3). ويلاحظ أنه ليس من ضرورة ثبوت الدين في ذمة الكفيل مع بقائه في ذمة الأصيل أن يترتب عليه زيادة حق للدائن؛ لأن الدين وإن ثبت في ذمة الكفيل، فلا يحق لرب الدين إلا استيفاء قيمة واحدة: إما من الكفيل أو من الأصيل. ¬
كما يلاحظ أيضاً أنه لا مانع من ثبوت الدين في أكثر من ذمة؛ لأن الدين أمر اعتباري من الاعتبارات الشرعية، فجاز أن يعتبر الشيء الواحد في ذمتين، وإنما الممتنع هو ثبوت عين في زمن واحد في ظرفين حقيقيين. والدليل على ثبوت الدين في ذمة الكفيل أنه لو وهب الدين للكفيل صحت الهبة، وأن الكفيل يرجع بالدين على الأصيل مع أن هبة الدين لغير من عليه الدين لا تجوز. ويصح أيضاً للدائن أن يشتري شيئاً من الكفيل بالدين الذي له، مع أن الشراء بالدين من غير من عليه الدين لا يصح. وأما دليل الحنفية على مذهبهم: فهو أن الدين وإن أمكن شرعاً اعتباره في ذمتين لا يجب الحكم بوقوع كل ممكن إلا بموجب، ولا موجب هنا؛ لأن التوثق بالدين يحصل بثبوت حق المطالبة، وأجابوا عن صحة الهبة ونحوها بأنهم جعلوا الدين في حكم الدينين لضرورة تصحيح تصرف صاحب الحق (¬1). ومن أدلة الحنفية أيضاً أن الكفالة كما تصح بالمال تصح بالنفس مع أنه لا دين فيها، والمضمون بالكفالة بالنفس هو إحضار المكفول به، وكما تصح بالدين تصح بالأعيان المضمونة، وتعريف الكفالة بما يفيد ثبوت حق المطالبة فيها هو من أجل شمول جميع هذه الأنواع بخلاف ما لو قصرنا معناها على الضم في الدين، فإنه يراد بها الكفالة بالمال فقط. والخلاصة: إن تعريف الكفالة بالضم في المطالبة أعم لشموله أنواع الكفالة: وهي الكفالة بالمال وبالنفس وبالأعيان، وهو معنى كون هذا التعريف أصح. وأما من عرفها بالضم في الدين فإنه أراد تعريف نوع منها وهو الكفالة بالمال. وأما النوعان الآخران فمتفق على كون الكفالة بهما كفالة بالمطالبة. فيكون ¬
ركن الكفالة
تصحيح الحنفية للتعريف الذي اختاروه مقبولاً من هذه الزاوية فقط وهي كونه أعم وأشمل لأنواع الكفالة الثلاث. أما من ناحية الواقع بالنسبة لأحكام الكفالة فقد استظهر ابن عابدين أن الفقهاء متفقون على ثبوت الدين في ذمة الكفيل مع بقائه في ذمة الأصيل، بدليل الاتفاق على صحة هبة الدين والشراء به كما عرفنا، ولأن اعتبار الدين في ذمتين ممكن كما تقدم، ولو كانت الكفالة ضَمّاً في المطالبة فقط بدون دين لزم ألا يؤخذ المال من تركة الكفيل؛ لأن المطالبة تسقط عنه بموته كالكفيل بالنفس، مع أن المنصوص عليه حتى عند الحنفية هو أن المال يحل بموت الكفيل، ويؤخذ من تركته. وبدليل أنه يجوز أن يكفل الكفيل كفيل آخر بالمال المكفول به. وتظهر ثمرة الخلاف بين التعريفين فيما إذا حلف الكفيل ألا دين عليه، فإنه يحنث إذا قلنا بأن الكفالة ضم ذمة إلى ذمة في الدين، ولا يحنث إذا قلنا بأنها ضم في المطالبة (¬1). ركن الكفالة: ركن الكفالة عند أبي حنيفة ومحمد: هو الإيجاب والقبول أي الإيجاب من الكفيل، والقبول من الدائن (¬2). وقال أبو يوسف وجمهور الفقهاء: ركن الكفالة هو الإيجاب وحده. وأما القبول فليس بركن. وعلى هذا تتم الكفالة بالكفيل وحده في الكفالة بالمال والنفس، ولا يشترط عند جمهور الفقهاء قبول المكفول له وهو الدائن، ولا رضاه لعدم التعرض للقبول في حديث أبي قتادة السابق ذكره، فإنه صحت الكفالة بمجرد أن قال أبو قتادة: هما ¬
ألفاظ الكفالة
علي يا رسول الله، فصلى عليه، ولم ينقل أنه قبل الدائن. ولأن الكفالة ضم لغة والتزام المطالبة بما على الأصيل شرعاً، ومعنى الضم والالتزام يتم بإيجاب الكفيل، فأشبه النذر (¬1). وقال أبو حنيفة ومحمد: يشترط رضا المكفول له، كما سيأتي في شروط الكفالة. وأما رضا المكفول عنه أي الأصيل فلا يشترط بالاتفاق بين العلماء؛ لأن قضاء دين الغير بغير إذنه جائز، فالتزامه أولى، ولأنه يصح الضمان عن الميت اتفاقاً ما عدا أبا حنيفة وإن لم يترك وفاء لدينه أي كان مفلساً. وأركان الكفالة أو الضمان عند الجمهور (¬2) أربعة: ضامن (وهو كل من يجوز تصرفه في ماله فلا يجوز ضمان الصغير ولا السفيه). ومضمون (وهو كل حق تصح النيابة فيه، وهو الدين أو العين المضمونة، وذلك في الأموال، لا في الحدود ولا في القصاص؛ لأنه لا تصح النيابة فيه) ومضمون عنه (وهو كل مطلوب بمال، حياً كان أو ميتاً) وصيغة (إيجاب) وأضاف الشافعية ركناً خامساً وهو المضمون له (وهو مستحق الدين). ألفاظ الكفالة: تنعقد الكفالة بصيغة معينة، وألفاظها عند الحنفية والشافعية: إما صريح أو كناية: وهي كل لفظ ينبئ عن العهدة في العرف والعادة (¬3). الصريح: أن يقول الكفيل: تكفلت أو ضمنت أو أنا ضامن ما عليه، أو أنا زعيم، أو قبيل، أو هو إلي أو علي، أو لك عندي، أو لك قبلي، أو على أن أوافيك به، أو على أن ألقاك به، أو دعه إلي. ¬
الكفالة نوعان
والكناية: أن يقول: خل عن فلان، والدين الذي عليه عندي، أو دين فلان إلي، أو ضمنت فلاناً، أو ضمان فلان علي، فإن نوى المال، أو البدن لزم وإلا لغا. وإذا قال: لفلان عندي كذا، فهو يحتمل كونه وديعة ويحتمل كونه في الذمة، لأن كلمة (عند) تفيد القرب والحضرة، وهو موجود في المعنيين السابقين، فإذا أطلق اللفظ يحمل على كونه وديعة في يده، وعند قرينة الدين يحمل على ما في الذمة أي في ذمتي؛ لأن الدين لا يحتمله إلا الذمة. والكفالة نوعان: كفالة بالنفس وكفالة بالمال. وتنعقد الكفالة بالنفس إذا قال الكفيل: تكفلت بنفس فلان أو برقبته أو بروحه أو بجسده أو برأسه أو ببدنه، وكذا إذا قال: بنصفه أو بثلثه، أو بجزء منه؛ لأن القاعدة الفقهية: «ذكر بعض ما لا يتجزأ كذكر كله» فيكون كفيلاً بكله؛ لأنه مما لا يتجزأ (¬1) بخلاف ما إذا قال: بيد فلان أو برجله. وكذا تنعقد إذا قال: ضمنته، أو قال: علي، أو قال: أنا زعيم به أو قبيل، بخلاف قوله: أنا ضامن بمعرفته. أحوال ركن الكفالة: الاتفاق على الكفالة إما أن يكون مطلقاً أو مقيداً بوصف، أو معلقاً بشرط، أو مضافاً إلى وقت (¬2). أـ إن كانت الكفالة مطلقة: فتجوز بالشروط التي ستذكر، غير أنها تتقيد بوصف الدين: فإن كان حالاً كانت الكفالة حالة، وإن كان مؤجلاً كانت الكفالة مؤجلة. ¬
ب ـ وإن كانت الكفالة مقيدة
ب ـ وإن كانت الكفالة مقيدة: فإما أن تقيد بوصف التأجيل أو بوصف الحلول. فإن كانت مؤجلة إلى أجل معلوم كشهر أو سنة، جازت. ويجوز أن يكون أجل الكفالة مماثلاً لأجل الدين أو أزيد منه أو أنقص؛ لأن المطالبة بالدين حق الدائن المكفول له، فله أن يتفق مع الكفيل والمدين على ما يشاء. وإن كان الدين حالاً، جاز التأجيل في الكفالة، ويستفيد المدين نفسه من الأجل أيضاً في ظاهر الرواية؛ لأن التأجيل إذا كان في نفس العقد، يجعل الأجل صفة للدين، والدين واحد. أما إذا كان التأجيل بعد تمام العقد، فيختص به الكفيل فقط. وإذا كان التأجيل عن الأصيل، فيستفيد الكفيل من الأجل، أما إذا أجل الكفيل، فلم يستفد الأصيل من الأجل؛ لأن المقصود تأخير المطالبة، لا إسقاط الحق. وإذا كانت الكفالة مؤجلة إلى سنة مثلاً، فمات الأصيل قبل تمام السنة، يحل الدين في ماله، ويبقى الأجل للكفيل، وكذا يحل الدين في مال الكفيل إذا مات، ويبقى الأصيل على أجله. هذا هو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية (¬1)؛ لأن الموت عند الحنفية يعصف بذمة الإنسان ويبطل الأهلية إلا بمقدار ما تقتضيه ضرورة تسوية الحقوق وثبوت الأحكام التي لها سبب في حال الحياة. وعند الحنابلة روايتان، رجح ابن قدامة أن الدين لا يحل بالموت؛ لأن الدين مؤجل، فلا تجوز المطالبة به قبل الأجل، كما لو لم يمت (¬2). ¬
وإن كان التأجيل إلى وقت مجهول، فتجوز الكفالة عند الحنفية والحنابلة والمالكية إذا كان الأجل متعارفاً بين الناس كالحصاد والدياس والنيروز ونحوه؛ لأن هذه الجهالة ليست فاحشة فتتحملها الكفالة. وقال الشافعي: لا يجوز التأجيل إلى هذه الأوقات، لأنه أجل مجهول (¬1). وإن لم يكن الأجل متعارفاً بين الناس كالتأجيل إلى مجيء المطر أو هبوب الريح، فالأجل باطل، والكفالة صحيحة؛ لأن هذه جهالة فاحشة، فلا تتحملها الكفالة، فلا يصح التأجيل، فبطل. هذا إذا كانت الكفالة مؤجلة. فإن كانت الكفالة حالَّة، فيجوز للدائن أن يشرط الحلول على الكفيل، سواء أكان الدين حالاً أم مؤجلاً. ولو كفل الكفيل حالاً يصح للدائن أن يؤجله بعدئذ، ويكون التأجيل خاصاً به. وفي الجملة: يجوز في المذاهب الأربعة ضمان الدين الحال مؤجلاً، وضمان المؤجل حالاًّ؛ لأن الضمان تبرع، والحاجة تدعو إليه، فيصح على حسب ما التزم به الضامن (¬2)، وقد روى ابن ماجه في سننه عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلم ضمن مديناً لوفاء دينه لمدة شهر. وفي الكفالة بالنفس: لو تكفل شخص برجل إلى شهر أو ثلاثة أيام ونحوها: جاز، ولكن الكفيل إنما يطالب بتسليم المكفول بنفسه بعد مضي تلك المدة المتفق عليها ولا يطالب به في الحال في ظاهر الرواية. ¬
ج ـ إن كانت الكفالة معلقة بشرط
وقال أبو يوسف: إنه يطالب به للحال، إذا مضى الأجل يبرأ الكفيل. وهو قول الحسن بن زياد، وقال القاضي النسفي: وقول أبي يوسف أشبه بعرف الناس. وكان بعضهم يفتي به (¬1). ج ـ إن كانت الكفالة معلقة بشرط: فتجوز عند الحنفية إذا كان الشرط ملائماً لمقتضى العقد، مثل أن يكون الشرط سبباً لوجوب الحق، كأن يقول الكفيل: إذا استحق المبيع فأنا كفيل، أو شرطاً لإمكان الاستيفاء (أي لسهولته) مثل قوله: إذا قدم زيد ـ وكان هو المكفول عنه ـ فأنا كفيل، أو شرطاً لتعذر الاستيفاء وصعوبته مثل: إن غاب زيد عند البلدة فأنا كفيل. وفيما عدا مثل هذه الحالات كالتعليق بهبوب الريح أو مجيء المطر، أو دخول زيد الدار بأن يقول: إذا جاء المطر أو نحوه فأنا كفيل، تثبت الكفالة حالة، ويبطل الأجل (¬2). والخلاصة: أنه يصح تعليق الكفالة بنوعيها بشرط متعارف، والمتعارف كأن يعلق الكفالة بما هو سبب الحق، أو سبب لإمكان التسليم. وأما التعليق بهبوب الريح ونحوه فهو غير متعارف. وقال الشافعية: الأصح أنه لا يجوز تعليق الكفالة بشرط مثل: إذا جاء رأس الشهر، فقد ضمنت ما على فلان، أو تكفلت ببدنه (¬3). تعليق كفالة المال على عدم الموافاة بالنفس: لو كفل إنسان بنفس آخر، فقال: إن لم أحضر غداً فأنا ضامن ما عليه، فلم ¬
يحضر به، أو مات المكفول، فالمال لازم للكفيل عند الحنفية، لأن هنا كفالتين: بالنفس والمال، وكل ما في الأمر أنه كفل بالنفس مطلقاً، وعلق الكفالة بالمال بشرط عدم الموافاة بالنفس، وهذا التعليق صحيح إذا أقر المدين بالمدعى به، أو ثبت بالبينة وقضى به القاضي (¬1). وقال الشافعية: لايضمن المال (¬2). وذكر الحنفية تفريعات أخرى قريبة من هذا الموضوع. منها: لو كفل إنسان بنفس رجل، وقال: إن لم أوافك به غداً، فعلي ألف ليرة، ولم يقل الألف التي عليه أو الألف التي ادعيت، وكان المطالب بالمبلغ ينكر المال، فالمال لازم للكفيل عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وعند محمد: لا يلزمه. وجه قول محمد: أن هذا إيجاب المال معلقاً بالخطر أي بالاحتمال، لأنه لم توجد الإضافة إلى الواجب، ووجوب المال لا يتعلق بالخطر، أما الكفالة بمال ثابت فتتعلق بالخطر. ووجه قول الشيخين: أن مطلق الألف ينصرف إلى الألف المعهودة، وهي الألف المضمونة. ولو كفل رجل بالمال، وقال للمكفول له: «إن وافيتك به غداً، فأنا بريء» فوافاه من الغد يبرأ من المال في رواية؛ لأن هذا ليس بتعليق البراءة بشرط الموافاة، بل هو جعل الموافاة غاية للكفالة بالمال، والشرط قد يذكر بمعنى الغاية لمناسبة بينهما. وفي رواية وهي الراجحة: لا يبرأ من المال لأن قوله: «إن وافيتك به غداً ¬
د ـ وإن كانت الكفالة مضافة إلى وقت في المستقبل
فأنا بريء» تعليق البراءة عن المال بشرط الموافاة بالنفس، والبراءة لا تحتمل التعليق بالشرط؛ لأن فيها معنى التمليك، والتمليكات لا يصح تعليقها بالشرط (¬1). د ـ وإن كانت الكفالة مضافة إلى وقت في المستقبل: جازت عند الحنفية مثل أن يضمن إنسان لآخر ما يقرضه لفلان، أو ما يستهلكه من ماله أو ما يغصبه منه، أو ثمن ما يبايعه به، فهذه الكفالة صحيحة لأنها أضيفت إلى سبب الضمان. وقد أجاز القانون المدني تعليق الكفالة على شرط أو إضافتها إلى زمن مستقبل. الخيار في الكفالة: اتفق العلماء على أنه لا يدخل في الضمان والكفالة خيار؛ لأن الخيار جعل ليعرف ما فيه الحظ، والضمين والكفيل على بصيرة أنه لاحظ لهما، ولأن الضمان عقد لا يفتقر إلى القبول، فلم يدخله خيار كالنذر (¬2). المبحث الثاني ـ شروط الكفالة: تشترط في الكفالة شروط تتعلق إما بالصيغة أو بالكفيل، أو بالأصيل، أو بالمكفول له، أو بالمكفول به، فالذي تلزمه المطالبة بالمال الذي على المدين هو الكفيل، والمدين: هو المكفول عنه، ويسمى الأصيل أيضاً، والمدعي ـ وهو الدائن: مكفول له، ومحل الكفالة ـ وهو المال أو النفس المكفولة: هو المكفول به. شروط الصيغة: يشترط في صيغة الكفالة ثلاثة شروط وهي: 1ً - أن تكون بلفظ يدل على الالتزام صراحة أو كناية كما تقدم، مثل ضمنت دينك على فلان أو تكفلت به أو تكفلت بنفس فلان ونحو ذلك من الصريح، أو يقول: الدين الذي لك على فلان هو علي ونحو ذلك من الكنايات. ¬
- التنجيز في العقد
2ً - التنجيز في العقد: فلا تصح الكفالة المعلقة على شرط غير متعارف، مثل إن قدم فلان من السفر فأنا كفيل لك بما على فلان، أو إن فعلت كذا تكفلت بإحضار فلان، أو إن نزل المطر فأنا كفيل؛ لأن الكفالة عقد يفيد أثره في الحال، فلا يقبل التعليق. 3ً - عدم التأقيت: سواء في كفالة المال؛ لأن المقصود منها الأداء، أم في كفالة البدن؛ لأن المقصود الإحضار. لكن يصح ضمان النفس في الحال بشرط تأخير إحضار المكفول إلى أجل معلوم. ويصح تنجيز الكفالة بالدين الحال على أن يؤديه في أجل معين؛ لأنه قد لا يتيسر للضامن الأداء حالاً، ويصح ضمان الدَّيْن المؤجل حالاً؛ لأنه تبرع بالتزام التعجيل؛ ولكن لا يلزمه التعجيل، بل له الحق في الأجل تبعاً للأصيل الذي عليه الدَّين، كما تقدم. شروط الكفيل: اشترط فقهاء الحنفية وغيرهم في الكفيل شرطين (¬1): أولهما ـ أهلية العقل والبلوغ أي أهلية التبرع: فلا تنعقد كفالة الصبي والمجنون؛ لأن الكفالة عقد تبرع بالتزام المال، فلا تنعقد ممن ليس من أهل التبرع، وهذا شرط متفق عليه، وهو المعبر عنه بالرشد أي صلاح الدين والمال عند الشافعية خلافاً للجمهور الذين يكتفون بصلاح المال. لأن الكفالة تصرف مالي، فلا تصح من مجنون وصبي ومحجور عليه بسفه، لعدم رشدهم. أما ضمان المريض مرض الموت المخوف فحكمه حكم تبرعه، لا يصح فيما يزيد عن ثلث ماله، وإلا توقف على إجازة الوارث. ¬
ثانيهما ـ الحرية
ولم يجز المالكية خلافاً لجمهور الفقهاء كفالة المرأة في الديون إلا في حدود ثلث مالها كالمريض، لأنها محجورة عندهم عن التصرف فيما يزيد عن ثلث مالها، منعاً من الإضرار بالزوج، فإن زاد الدين عن ثلث مالها، لم يلزمها الضمان، بل يتوقف على إجازة الزوج. ثانيهما ـ الحرية: وهذا شرط نفاذ للتصرف، فلا يجوز كفالة العبد؛ لأنها تبرع، والعبد لا يملك التبرع بدون إذن سيده، ولكن الكفالة تنعقد، حتى إن العبد يطالب بموجبها بعد عتقه. شروط الأصيل: يشترط في الأصيل المكفول عنه شرطان أيضاً (¬1): أولهما ـ أن يكون قادراً على تسليم المكفول به إما بنفسه أو بنائبه. وهذا الشرط خاص عند أبي حنيفة، فلا تصح الكفالة عنده بالدين عن ميت مفلس مات ولم يترك وفاء لدينه؛ لأنه دين ساقط، فلم يصح ضمانه، كما لو سقط بالإبراء، ولأن ذمة الميت قد زالت بالموت، فلم يبق فيها دين، والضمان: ضم ذمة إلى ذمة في المطالبة به. وقال الصاحبان وجمهور الفقهاء (¬2): يصح ضمان الدين عن الميت المفلس بدليل حديث أبي قتادة السابق ذكره، فإنه ضمن دين ميت لم يترك شيئاً لوفاء دينه. والنبي صلّى الله عليه وسلم حض الصحابة على ضمان دين الميت في حديث أبي قتادة بقوله: «ألا قام أحدكم فضمنه؟» ولأن دين الميت دين ثابت، فصح ضمانه ما لو خلف وفاء لدينه. والدليل على ثبوت هذا الدين: أنه لو تبرع رجل بقضائه، جاز ¬
ثانيهما ـ أن يكون الأصيل معروفا (أي معلوما) عند الكفيل
لصاحب الدين اقتضاؤه، وكذا لو ضمنه حياً، ثم مات لم تبرأ ذمة الضامن، مما يدل على أنه لم تبرأ ذمة المضمون عنه. ثانيهما ـ أن يكون الأصيل معروفاً (أي معلوماً) عند الكفيل: فإذا قال الكفيل: كفلت ما على أحد من الناس، لا تصح الكفالة؛ لأن الناس لم يتعارفوا ذلك، ولأن اشتراط هذا الشرط إنما هو لأجل معرفة المكفول عنه: هل هو موسراً وممن يبادر إلى قضاء دينه أو يستحق اصطناع المعروف أو لا، وأجاز بعض الفقهاء أن يكون المكفول عنه مجهولاً. ولا يشترط حضرة الأصيل، فتجوز الكفالة عن غائب أو محبوس؛ لأن الحاجة إلى الكفالة في الغالب تظهر في مثل هذه الأحوال (¬1). وقال الشافعية والحنابلة: الأصح أنه لا يشترط معرفة المكفول عنه قياساً على رضاه، فإنه ليس بشرط، وأما اصطناع المعروف فهو معروف، سواء أكان لأهله أم لغير أهله (¬2). شروط المكفول له: يشترط في المكفول له وهو الدائن شروط (¬3) وهي: أولاً ـ أن يكون معلوماً: فلو كفل إنسان لأحد من الناس، فلا تجوز الكفالة، لأنه إذا كان المكفول له مجهولاً لا يتحقق المقصود من الكفالة وهو التوثق. ويوافق الشافعية على هذا الشرط في الأصح عندهم؛ لأن مستحقي الدين يتفاوتون عادة في استيفاء الدين تشديداً وتسهيلاً (¬4). ¬
ثانيا ـ أن يكون المكفول له حاضرا في مجلس العقد
وأجاز المالكية والحنابلة الضمان مع جهالة المكفول له، نحو: أنا ضامن زيداً بالدين الذي عليه للناس. ويستدلون بقوله تعالى: {قالوا: نفقد صُواع الملك، ولمن جاء به حمل بعير، وأنا به زعيم} [يوسف:72/ 12] لأن المنادي لم يكن مالكاً، وإنما كان نائباً عن يوسف عليه السلام، فشرط حمل البعير على يوسف لمن جاء بالصواع، وتحمل هو به عن يوسف (¬1). ثانياً ـ أن يكون المكفول له حاضراً في مجلس العقد: وهذا شرط انعقاد عند أبي حنيفة ومحمد إذا لم يكن هناك نائب عن المكفول له يقبل الكفالة في المجلس. فلو كفل إنسان لغائب عن المجلس، فبلغه الخبر، فأجاز لا تجوز الكفالة عندهما إذا لم يقبل به حاضر في المجلس. دليلهما: أن في الكفالة معنى التمليك، والتمليك لا يحصل إلا بالإيجاب والقبول، فلا بد من توافره لإتمام صيغة العقد. وأما أبو يوسف فعنه روايتان، والقول المتأخر عنه أن الكفالة عن الغائب تجوز؛ لأن معنى الكفالة وهو الضم والالتزام يتم بإيجاب الكفيل، فكان إيجابه صالحاً وحده لإتمام العقد، وهذا رأي جمهور الفقهاء القائلين بأن الكفالة تنعقد بالإيجاب وحده. ثالثاً ـ أن يكون المكفول له عاقلاً: وهذا متفرع على مذهب أبي حنيفة ومحمد في اشتراط الشرط السابق، فلا يصح قبول المجنون والصبي غير المميز، لأنهما ليسا أهلاً لصدور القبول عنهما باعتباره ركناً في العقد. شروط المكفول به: يشترط في المكفول به شروط ثلاثة (¬2): ¬
أولا ـ أن يكون المكفول به مضمونا على الأصيل،
أولاً ـ أن يكون المكفول به مضموناً على الأصيل، سواء أكان ديناً أم عيناً أم نفساً أم فعلاً عند الحنفية بشرط أن تكون العين مضمونة بنفسها (¬1) كالمغصوب والمقبوض بالبيع الفاسد، والمقبوض على سوم الشراء. أما العين التي هي أمانة سواء أكانت غير واجبة التسليم كالودائع ومال الشركات، أم واجبة التسليم كالعارية والمستأجر في يد الأجير أو المضمونة بغيرها، كالمبيع قبل القبض، والرهن، فلا تصح الكفالة بهما؛ لأن العين التي هي أمانة ليست بمضمونة، ولأن المضمون بغيره ليس بمضمون بنفسه. فإذا هلك المبيع قبل القبض لا يجب على البائع شيء، ولكن يسقط الثمن عن المشتري، وإذا هلك الرهن لا يجب على المرتهن شيء ولكن يسقط الدين عن الراهن بقدره. والمراد بالفعل المكفول به: هو فعل التسليم مثل الكفالة بتسليم المبيع والرهن، وتصح الكفالة بالفعل؛ لأن التسليم مضمون على الملتزم به، فالمبيع مضمون التسليم على البائع، والرهن مضمون التسليم على المرتهن في الجملة بعد قضاء الدين. ضمان الأعيان: يتبين من هذا أنه يجوز ضمان الأعيان المضمونة، ولا يصح ضمان الأعيان إذا لم تكن مضمونة على من هي في يده، وهذا رأي جمهور الفقهاء، وأحد قولي الشافعي الراجح في المذهب؛ لأن الأعيان المضمونة مضمونة على من هي في يده، فصح ضمانها كالحقوق الثابتة في الذمة. أما القول الآخر للشافعي فلا يصح ضمان الأعيان؛ لأن الأعيان غير ثابتة في الذمة، والجواب: ¬
الكفالة بالنفس
الضمان في الحقيقة إنما هو ضمان استنقاذها وردها، والتزام تحصيلها أو قيمتها عند تلفها، وهذا مما يصح ضمانه كعهدة المبيع، فإن ضمانها يصح وهو في الحقيقة التزام رد الثمن أو عوضه إن ظهر بالمبيع عيب أو خرج مستحقاً. وظاهر كلام أحمد صحة ضمان الأمانات كالوديعة والعين المؤجرة والشركة والمضاربة والعين التي يدفعها إلى القصار والخياط إن صارت مضمونة على صاحبها إن تعدى فيها. الكفالة بالنفس: وعلى هذا تصح الكفالة بنفس من عليه الحق لأن الكفالة بالنفس (¬1) كفالة بالفعل: وهو تسليم النفس، وفعل التسليم مضمون على الأصيل، فجازت الكفالة به. وقد أجاز الكفالة بالنفس إذا كانت بسبب المال جمهور الفقهاء ومنهم أئمة المذاهب الأربعة، لقوله تعالى: {قال: لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقاً من الله لتأتُنني به إلا أن يحاط بكم} [يوسف:66/ 12] ولقوله عليه الصلاة والسلام «الزعيم غارم» وهذا يشمل الكفالة بنوعيها، ولأن ما وجب تسليمه بعقد، وجب تسليمه بعقد الكفالة كالمال، ولأن الكفيل يقدر على تسليم الأصيل بأن يعلم من يطلبه مكانه، فيخلي بينه وبينه، أو يستعين بأعوان القاضي في التسليم. وأما قول الشافعي: «كفالة البدن ضعيفة» فإنه أراد أنها ضعيفة من جهة القياس؛ لأن الشخص الحر لا يدخل تحت اليد، ولا يقدر على تسليمه (¬2). هذا هو تحقيق مذهب الشافعي وهو المشهور بخلاف ما تذكره كتب الحنفية. ¬
أحكام الكفالة بالنفس
إلا أن الشافعية قالوا: المذهب صحة الكفالة بالنفس أو البدن لمن عليه مال أو لمن عليه عقوبة لآدمي كقصاص وحد قذف، والمذهب منعها في حدود الله تعالى كحد الخمر والزنا والسرقة؛ لأنه يسعى في دفعها ما أمكن. وقال الحنابلة والمالكية: لا تصح الكفالة ببدن من عليه حد، سواء أكان حقاً لله تعالى، كحد الزنا والسرقة، أم لآدمي كحد القذف والقصاص. ومن أحكام الكفالة بالنفس: أنه إذا شرط الأصيل في الكفالة تسليم المكفول به في وقت بعينه، لزم الكفيل إحضار المكفول به إذا طالبه به في الوقت، وفاء بما التزمه كالدين المؤجل إذا حل، فإن أحضره، فبها، وإن لم يحضره، حبسه الحاكم لامتناعه عن إيفاء حق مستحق عليه. وإن أحضره وسلمه في مكان يقدر المكفول له على محاكمته كالمصر، برئ من الكفالة، لأنه أتى بما التزمه. وإذا تكفل به على أن يسلمه في مجلس القاضي، فسلمه في السوق برئ أيضاً؛ لأن المقصود هو إمكان الخصومة وإثبات الحق، وهذا حاصل متى سلمه في السوق لتعاون الناس معه على إحضاره إلى القاضي. ويلاحظ أن المالكية يمنعون الزوجة من كفالة النفس مالم يأذن زوجها؛ لأنها قد تحبس أو تخرج لخصومة أو لطلب المضمون، وفي ذلك معرة، وأجازوا ما سموه بضمان الطلب وهو في الحقيقة نوع من كفالة النفس أو الوجه، ولكن بشرط عدم غرم المال إلا إذا فرط في الطلب، فهو التزام طلب المكفول والبحث عنه إن تغيب، وإرشاد صاحب الحق عليه، كأن يقول: أنا كفيل أو حميل بطلبه أو علي طلبه بشرط عدم غرم المال إن لم أجده (¬1). ¬
ثانيا ـ أن يكون المكفول به مقدور الاستيفاء من الكفيل
ثانياً ـ أن يكون المكفول به مقدور الاستيفاء من الكفيل ليكون العقد مفيداً، وذلك في الأموال عند جمهور العلماء. وعليه لا تجوز الكفالة بالحدود والقصاص لتعذر الاستيفاء من الكفيل (أي لأن النيابة لا تجري في العقوبات)، فلا تفيد الكفالة فائدتها. هذا مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة (¬1). ودليلهم ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: «لا كفالة في حد» (¬2) ولأن الكفالة استيثاق، والحدود مبناها على الدرء والإسقاط بالشبهات، فلا يلائمها الاستيثاق، ولأن الحق لا يجوز استيفاؤه من الكفيل إذا تعذر عليه إحضار المكفول به. ويلاحظ أن عدم جواز الكفالة بالحدود والقصاص معناه عند الحنفية: عدم جواز الإجبار على إعطاء الكفالة، فإن سمحت نفس المدعى عليه وتبرع بإعطاء الكفالة في حالة القصاص والحد الذي فيه حق للعبد وهو حد القذف وحد السرقة، جازت الكفالة بالنفس؛ لأنها كفالة بمضمون على الأصل مقدور الاستيفاء من الكفيل، فتصح كالكفالة بتسليم نفس من عليه الدين. فإن لم يتبرع المدعى عليه وهو الذي توجه عليه الحد أو القصاص، فلا يجبر عند أبي حنيفة على تقديم كفيل بنفسه بإحضاره في مجلس القضاء لإثبات دعوى المدعى عليه؛ لأن الكفالة لا تتلاءم مع الحدود كما عرفنا، وحينئذ يحبسه القاضي حتى تقام عليه البينة أو يستوفى الحد. وقال الصاحبان: يجبر على تقديم كفيل بنفسه في القصاص وفي حد القذف؛ لأن فيهما حق العبد. ¬
ثالثا - أن يكون الدين لازما صحيحا
والخلاصة: أنه لا تجوز الكفالة بنفس الحد أو القصاص بدون نفس من عليه الحد، إذ الحد عقوبة لا تجري فيها النيابة، أما لو كفل بنفس من عليه الحد فتصح الكفالة. وقال الشافعية: المذهب أنه لا تجوز كفالة النفس (أو البدن) في الحدود الخالصة لله تعالى كحد الخمر والزنا والسرقة، لأنه يسعى في دفعها ما أمكن. وتجوز كفالة تسليم النفس في الحدود الخالصة للآدمي كقصاص وحد قذف وتعزير؛ لأنها حق لآدمي، فصحت الكفالة، كسائر حقوق الآدميين المالية (¬1). ويتفرع على هذا الشرط عند الحنفية: أنه تصح الكفالة بالتزام حمولة شيء في ذمة متعهد النقل بوسيلة نقل غير معينة بذاتها كأي سيارة أو دابة لأن المستحق حينئذ مقدور للكفيل. لكن لا تصح الكفالة بالتزام نقل حمل من مكان إلى آخر على سيارة أو دابة معينة بذاتها دون غيرها؛ لأن الكفيل قد يعجز عن الحمولة بتلف وسيلة النقل المخصصة. ثالثاً - أن يكون الدين لازماً صحيحاً: وهو ما لا يسقط إلا بالأداء أو بالإبراء. وهذا الشرط خاص بالكفالة بالمال. ويترتب عليه أنه لا تصح الكفالة ببدل الكتابة، لأنه ليس بدين لازم، أو أنه دين ضعيف؛ لأن للمكاتب إسقاط الدين عن نفسه بالتعجيز لا بالكسب، فلا معنى للتوثق به، ولا تصح أيضاً الكفالة بما ليس بدين كنفقة الزوجة قبل القضاء بها أو التراضي عليها؛ لأنها لا تصير ديناً إلا بالقضاء أو الرضا (¬2). ¬
قال البغدادي: لو كفل بالنفقة المقررة الماضية صحت الكفالة مع أنها تسقط بدون الأداء أو الإبراء، بموت الكفيل أو المكفول له. وكذا لو كفل بنفقة شهر مستقبل، وقد قرر لها في كل شهر كذا، أو بيوم يأتي وقد قرر لها في كل يوم، فإنها صحيحة (¬1). ضمان ما لم يجب: لا خلاف في جواز ضمان الدين اللازم في الحال إذا كان معلوماً، أما غير اللازم في الحال فلا خلاف أيضاً في عدم جواز ضمانه إن كان لا يؤول إلى اللزوم، فإن كان يؤول إلى اللزوم في المستقبل كجعل الجعالة، وكقول قائل لآخر: داينْ فلاناً أو بايعه أو عامله، وأنا ضامن، فهو جائز عند الجمهور، بدليل تجويزهم ضمان ما يلقيه في البحر قبل وجوبه بقوله: ألق متاعك في البحر وعلي ضمانه، وهو أحد وجهين عند الشافعية في ضمان الجعل في الجعالة قبل العمل، والراجح عندهم عدم الجواز، فلا يصح عندهم ضمان ما لم يجب، سواء أجرى سبب وجوبه: كنفقة ما بعد اليوم للزوجة وخادمها، أم لا كضمان ما سيقرضه لفلان؛ لأن الضمان وثيقة بالحق، فلا يسبقه كالشهادة، فيصح بنفقة اليوم للزوجة وما قبله لثبوته، لا بنفقة القريب لمستقبل. ضمان المجهول: لا يشترط في الكفالة بالمال عند جمهور الفقهاء (¬2) أن يكون الدين معلوم القدر والصفة والعين، فتصح الكفالة بالمعلوم كقوله: تكفلت عنه بألف، أو بالمجهول كقوله: تكفلت عنه بمالك عليه، أو بما يدركك في هذا البيع من الضمان؛ لأن الكفالة عقد تبرع مبينة على التوسع، فيحتمل فيها الجهالة بعكس ¬
ضمان الدرك
البيع، وقد أجمع الفقهاء على صحةضمان الدَّرَك (¬1): وهو أن يضمن شخص للمشتري الثمن إن خرج المبيع مستحقاً أو معيباً أو ناقصاً إما لرداءته أو لنقص صنجات الوزن التي وزن بها. وصحح الحنفية الكفالة فيما لو قال إنسان لغيره: اسلك هذا الطريق فإن أخذ مالك فأنا ضامن، فأخذ ماله، صح الضمان، والمضمون عنه مجهول، وكذا لو قال: لو غصب مالك فلان أو واحد من هؤلاء القوم فأنا ضامن، صح الضمان (¬2). ومذهب الشافعي الجديد: أنه ينبغي أن يكون المضمون به معلوماً جنساً وقدراً وصفةً وعيناً؛ لأن الضمان إثبات مال في الذمة لآدمي بعقد، فلم يجز مع الجهالة، كالثمن في البيع، فلا يصح المجهول ولا غير المعين كأحد الدينين. وأما ضمان الدَّرَك فهو جائز عندهم لحاجة الناس إليه (¬3). المبحث الثالث ـ أحكام الكفالة: للكفالة حكمان (¬4): ¬
أحدهما ـ ثبوت ولاية مطالبة الكفيل بما على الأصيل
أحدهما ـ ثبوت ولاية مطالبة الكفيل بما على الأصيل. والمطالب به يختلف بحسب محل الكفالة. فإن كانت الكفالة بالدين، فيطالب الكفيل بما على الأصيل بالدين كله إن كان واحداً. فإن كان هناك كفيلان والدين ألف مثلاً، فيطالب كل واحد منهما بخمس مئة إذا لم يكفل كل واحد منهما عن صاحبه، لأنهما استويا في الكفالة، والمكفول به يحتمل الانقسام، فينقسم عليهما في حق المطالبة. ولو أدى أحدهما لا يرجع على صاحبه؛ لأنه يؤدي عن نفسه، لا عن صاحبه، لكن يرجع على الأصيل بما أدى. وإن كانت الكفالة بالنفس: فيطالب الكفيل بإحضار المكفول بنفسه إن لم يكن غائباً. وإن كان غائباً يؤخر الكفيل إلى مدة يمكنه إحضاره فيها، فإن لم يحضر في المدة ولم يظهر عجزه، للقاضي حبسه إلى أن يظهر عجزه له. فإذا ظهر للقاضي أنه لا يقدر على الإحضار بدلالة الحال، أو بشهادة الشهود أو غيرها، أطلقه من الحبس وأنظره إلى حال القدرة على إحضاره، لأنه بمنزلة المفلس بالنسبة للدين. وإذا أخرجه القاضي فإن الدائنين الغرماء يلازمونه، ولا يحول القاضي بينه وبين الغرماء، ولكن ليس للغرماء أن يمنعوه من أشغاله أو من الكسب وغيره. هذا مذهب الحنفية. وقال الشافعية: يلزم الكفيل بإحضار المكفول إن علم مكانه، فإن جهل مكانه لم يلزم بإحضاره، وإذا ألزم بالإحضار يمهل مدة الذهاب والإياب، فإن مضت تلك المدة ولم يحضره حبس إلى أن يتعذر إحضار المكفول بموت أو جهل بموضعه أو إقامة عند شخص يمنعه من إمكان الوصول إليه (¬1). وإن كانت الكفالة بالعين، فيطالب الكفيل بتسليم العين إن كانت قائمة وبمثلها أو قيمتها إن كانت هالكة. ¬
هل يبرأ الأصيل من الدين؟
هل يبرأ الأصيل من الدين؟ يلاحظ أنه لا يترتب على الكفالة عند جمهور الفقهاء براءة الأصيل (¬1)، فيكون الدائن بالخيار بين أن يطالب الأصيل أو يطالب الكفيل إلا إذا كانت الكفالة بشرط براءة الأصيل؛ لأنها حوالة معنى (¬2). ولم يجز الشافعية في الأصح عندهم الكفالة بشرط براءة الأصيل؛ لأنه شرط ينافي مقتضى الضمان. وقال الإمام مالك في أحد قوليه: ليس للدائن أن يطالب الكفيل إلا إذا تعذر مطالبة المكفول عنه؛ لأن الضمان وثيقة، فلا يستوفى الحق منها إلا عند تعذر استيفائه من الأصيل كالرهن. وقال ابن أبي ليلى وابن شُبْرمة وأبو ثور وابن سيرين والظاهرية والإمامية: إن الكفالة توجب براءة الأصيل، وينتقل الحق إلى ذمة الكفيل، فلا يملك الدائن مطالبة الأصيل أصلاً كما في الحوالة، واحتجوا بقصة ضمان أبي قتادة رضي الله عنه الدينارين عن ميت، فإن الرسول صلّى الله عليه وسلم قال له: «جزاك الله خيراً وفك رهانك كما فككت رهان أخيك» (¬3) فدل هذا على أن المضمون عنه برئ من الضمان. والصحيح هو قول الجمهور؛ لأن الكفالة معناها ضم ذمة إلى ذمة في حق المطالبة أو في حق أصل الدين على الخلاف السابق، والبراءة تنافي الضم، ولأنَّ الكفالة لو كانت مبرئة، لكانت حوالة، وهما متغايران؛ لأن تغاير الأسامي دليل ¬
الحكم الثاني للكفالة: هو ثبوت ولاية مطالبة الكفيل الأصيل
واستدلوا من السنة بقوله صلّى الله عليه وسلم: «نفس المؤمن معلَّقة بدينه حتى يقضى عنه» (¬1). وقوله في قصة أبي قتادة: «الآن بردت جلدته» (¬2) حين أخبره أنه قضى دينه. وأما صلاة النبي صلّى الله عليه وسلم على المضمون عنه، فلأنه بالضمان صار له وفاء، وإنما امتنع عن الصلاة على مدين لم يخلف وفاء. وأما قوله: «فك الله رهانك إلخ» فإنه كان بحال لا يصلي عليه النبي صلّى الله عليه وسلم، فلما ضمن عنه فكه عن ذلك أو عما في معناه (¬3). وهناك فرق بين وضع الكفالة ووضع الغاصب وغاصب الغاصب، فإن للمالك المغصوب منه أن يضمن أيهما شاء، وإذا اختار تضمين أحدهما لا يملك اختيار تضمن الآخر. ووجه الفرق: أن المالك المغصوب منه إذا اختار تضمين الغاصب أو غاصب الغاصب أي إن قضى القاضي عليه فاختياره يتضمن التمليك منه للمضمون، فيبرأ الآخر بالضرورة، بخلاف المطالبة بمقتضى الكفالة، فإنها لا تقتضي التمليك للمضمون؛ لأن مقتضى الكفالة هو الضم، ولا يحصل التمليك فيها، حتى ولو قضى القاضي ما لم توجد حقيقة الاستيفاء. الحكم الثاني للكفالة: هو ثبوت ولاية مطالبة الكفيل الأصيل إذا كانت الكفالة بأمره في جميع أنواع الكفالات، فإذا كانت الكفالة بدين مثلاً يطالب ¬
الكفيل المكفول عنه بالخلاص إذا طولب، وإن حبس فله أن يحبس المكفول عنه؛ لأنه هو الذي أوقعه في هذه التبعة (المسؤولية)، فكان عليه تخليصه منها. أما إذا كانت الكفالة بغير أمر الأصيل فليس للكفيل حق ملازمة الأصيل إذا لوزم، ولا حق الحبس إذا حبس. وإذا قضى الكفيل الدين متبرعاً به، لا ينوي الرجوع به على المكفول عنه، برئ المدين، وأصبح غير ملتزم بالدين، سواء تمت الكفالة والأداء بأمر المكفول عنه وبغير أمره. وليس للكفيل أن يطالب بالمال قبل أن يؤدي هو، وإن كانت الكفالة بأمر الأصيل؛ لأن ولاية المطالبة إنما تثبت بحكم القرض والتمليك، وكل ذلك يقف على الأداء ولم يوجد فلا يكون الرجوع إلا بعد الأداء، وهذا بخلاف الوكيل بالشراء، فإن له مطالبة الموكل بالثمن بعد الشراء قبل أن يؤدي هو من مال نفسه؛ لأن الثمن هنا يقابل المبيع، وملك المبيع وقع للموكل، فكان الثمن عليه، فيكون للوكيل الحق في أن يطالبه به. وأما في الكفالة فإن حق المطالبة هو بسبب القرض أو التمليك، ولم يوجد بعد. فإذا أدى الكفيل كان له أن يرجع على الأصيل إذا كانت الكفالة بأمره؛ لأن العلاقة بينهما تكون حينئذ علاقة قرض واستقراض، فالأصيل مستقرض والكفيل بأداء المال مقرض، والمقرض يرجع على المستقرض بما أقرضه.
المبحث الرابع ـ انتهاء الكفالة
المبحث الرابع ـ انتهاء الكفالة: أذكر هنا طرق انتهاء الكفالة بإيجاز بحسب كل نوع من أنواعها. فإذا كانت الكفالة بالمال فهي تنتهي بأحد أمرين (¬1): أولهما ـ أداء المال إلى الدائن أو ما هو في معنى الأداء، سواء أكان الأداء من الكفيل أم من الأصيل؛ لأن حق المطالبة بالدين طريق إلى الأداء، فإذا وجد فقد حصل المقصود من الكفالة، فينتهي حكم العقد. وتنتهي الكفالة إذا وهب الدائن المال إلى الكفيل أو إلى الأصيل؛ لأن الهبة بمنزلة الأداء. ومثل الهبة التصدق بالدين على الكفيل أو على الأصيل. ومثله أيضاً إذا مات الدائن وورثه الكفيل أو الأصيل؛ لأن بالميراث يملك ما في ذمته، فإن كان الوارث هو الكفيل فقد ملك ما في ذمته، فيرجع على الأصيل، كما لو ملكه بالأداء. وإن كان الوارث هو المكفول عنه برئ الكفيل، كأنه أدى. ثانيهما ـ الإبراء وهو في معناه: إذا أبرأ الدائن الكفيل أو الأصيل انتهت الكفالة، غير أنه إذا أبرأ الكفيل لا يبرأ الأصيل، وإذا أبرأ الأصيل يبرأ الكفيل؛ لأن الدين على الأصيل لا على الكفيل، فكان إبراء الأصيل إسقاطاً للدين عن ذمته، فيسقط حق المطالبة للكفيل بالضرورة؛ لأنه إذا سقط الأصل سقط الفرع. أما إبراء الكفيل فهو إبراء عن المطالبة لا عن الدين، إذ لا دين عليه وليس من ضرورة إسقاط حق المطالبة عن الكفيل سقوط أصل الدين عن الأصيل، لأنه إذا سقط الفرع لا يسقط الأصل. ¬
إذا أحال الكفيل أو المدين الدائن بمال الكفالة على رجل
ولو قال الدائن للكفيل أو المدين: (برئت إلي من المال) يبرأ، لأن هذا إقرار بالقبض والاستيفاء؛ لأنه جعل نفسه غاية لبراءته (¬1)، وتلك هي براءة القبض والاستيفاء، ويبرأ الكفيل والأصيل جميعاً؛ لأن استيفاء الدين يوجب براءتهما جميعاً، فيرجع الكفيل على الأصيل إذا كانت الكفالة بأمره. وإذا قال الدائن للكفيل أو للمدين: (برئت من المال) ولم يقل: (إلي) فيبرأ أيضاً عند أبي يوسف مثل الصورة السابقة. فهو إقرار بالقبض؛ لأن البراءة المضافة إلى المال تستعمل في الأداء عرفاً وعادة فتحمل عليه. وعند محمد: يبرأ الكفيل دون الأصيل، مثل قوله: (أبرأتك) لأن البراءة عن المال قد تكون بالأداء، وقد تكون بالإبراء، فلا تحمل على الأداء إلا بدليل زائد، وقد وجد هذا في الصورة السابقة وهي قوله: (إلي) لأن الكلام ينبئ عن معنى الأداء لما ذكر، ولم يوجد هنا. وإذا أحال الكفيل أو المدين الدائن بمال الكفالة على رجل، وقبل المحال، فتنتهي الكفالة؛ لأن الحوالة مبرئة عن الدين والمطالبة جميعاً. وكذلك تنتهي الكفالة بالصلح: بأن يصالح الكفيل الدائن على بعض المدعى به، ويبرأ حينئذ الكفيل والأصيل في حالتين: إحداهما ـ أن يقول: على أني والمكفول عنه بريئان من الباقي. والثانية ـ أن يقول: (صالحتك على كذا) مطلقاً عن شرط البراءة. ¬
الكفالة بالنفس
ويبرأ الكفيل وحده في حال واحدة وهي أن يقول: (على أني بريء من الباقي) (¬1). وتنتهي الكفالة أيضاً بفسخ سبب الكفالة أو إبطاله وهو الدين المكفول: كأن يكفل شخص ما في ذمة المشتري من ثمن الشراء، أو يكفل البائع في تسليم المبيع، ثم فسخ عقد البيع، فتنتهي الكفالة حيث لا يوجد دين مكفول ويسقط حق المكفول له في مطالبة الكفيل. وإذا كانت الكفالة بالنفس فإنها تنتهي بثلاثة أمور (¬2): الأول ـ تسليم النفس (¬3) إلى المطالب بها في موضع يقدر على إحضاره مجلس القاضي، مثل أن يكون في مصر من الأمصار؛ لأن الكفيل أتى بما التزمه، وحصل المقصود من الكفالة بالنفس: وهو إمكان المحاكمة عند القاضي، وإذا تحقق المقصود تنتهي الكفالة. فإن سلمه في صحراء أو برية، لم يبرأ الكفيل؛ لأنه لا يقدر على المحاكمة فيها، فلم يحصل المقصود. وكذا إذا سلمه في بلد ليس فيها قاض أو أعوان القاضي، كالشرطة مثلاً، لعدم إمكان المحاكمة فيها. وإن سلمه في السوق أو في المصر، فإنه يبرأ؛ لأن المطلوب هو أن يتحقق التسليم في مكان يقدر فيه على إحضاره إلى مجلس القاضي. ¬
الثاني ـ الإبراء
وإن شرط على الكفيل أن يسلم المكفول بنفسه في مصر معين، فسلمه في مصر آخر، فيبرأ عند أبي حنيفة لوجود القدرة على المحاكمة في المصر المعين. ولا يبرأ عند الصاحبين إلا بتسليمه في المكان المشروط؛ لأن التقييد بالمصر قد يكون لغرض مفيد، كأن يكون له شهود فيما عينه دون غيره. ولو شرط على الكفيل أن يسلم المكفول بنفسه عند الأمير، فسلمه عند القاضي، فإنه يبرأ. الثاني ـ الإبراء: أي أن يبرئ صاحب الحق الكفيل من الكفالة بالنفس فتنتهي الكفالة؛ لأن مقتضى الكفالة ثبوت حق المطالبة بتسليم النفس، فإذا أسقط حق المطالبة بالإبراء فينتهي الحق ضرورة. ولا يبرأ الأصيل في هذه الحالة؛ لأن الإبراء صدر للكفيل دون الأصيل. فإن صدر الإبراء للأصيل برئا جميعاً. الثالث ـ موت المكفول بنفسه: إذا مات الأصيل المكفول به برئ الكفيل بالنفس من الكفالة؛ لأنه عجز عن إحضاره، ولأنه سقط الحضور عن الأصيل، فيسقط الإحضار عن الكفيل. وكذلك تنتهي الكفالة إذا مات الكفيل؛ لأنه لم يبق قادراً على تسليم المكفول بنفسه. وأما ماله فلا يصلح لتنفيذ هذا الواجب بخلاف الكفيل بالمال. ولو مات المكفول له فلا تسقط الكفالة بالنفس كما لا تسقط الكفالة بالمال؛ لأن الكفيل ما زال قادراً على تنفيذ واجبه، ويقوم الوصي أو الوارث مقام الميت في المطالبة.
الكفالة بالأعيان المضمونة
وأما الكفالة بالأعيان المضمونة بنفسها، فتنتهي بأحد أمرين (¬1): أحدهما ـ تسليم العين المضمونة بنفسها إن كانت قائمة، وتسليم مثلها أو قيمتها إن كانت هالكة. الثاني ـ الإبراء: أي إبراء الكفيل من الكفالة، بأن يقول له: (أبرأتك من الكفالة) فيبرأ؛ لأن الكفالة حقه، فيسقط بإسقاطه كالدين، أو إبراء الأصيل. المبحث الخامس ـ رجوع الكفيل على الأصيل: الكلام في هذا البحث عن ناحيتين: شرائط الرجوع، وبيان ما يرجع به ومتى يرجع. أما شرائط الرجوع فهي ما يأتي (¬2): 1 - أن تكون الكفالة بأمر المكفول عنه أي بإذنه: فإن لم تكن بأمره لم يرجع بما يؤديه؛ لأن الكفيل حينئذ يكون متبرعاً بما أدى، ولو كان له الرجوع لما صلى النبي صلّى الله عليه وسلم على الميت بضمان أبي قتادة، هذا هو مذهب الحنفية والشافعية (¬3). وقال الإمام مالك والإمام أحمد في رواية عنه: لا يشترط أن يكون الضمان بإذن المضمون عنه، لأنه قضاء مبرئ من دين واجب، فكان من ضمان من هو عليه، كالحاكم إذا قضاه عنه عند امتناعه، كما قال ابن قدامة. وأما أبو قتادة فإنه تبرع بالقضاء والضمان، إذ أنه قضى دين الميت قصداً لتبرئة ذمته، ليصلي عليه النبي صلّى الله عليه وسلم مع علمه بأنه لم يترك وفاء، والمتبرع لا يرجع بشيء (¬4). ¬
2 - أن تكون الكفالة بإذن صحيح
2 - أن تكون الكفالة بإذن صحيح: أي بإذن شخص أهل لصدور الإقرار على نفسه بالدين، فلا يعتبر إذن الصبي المحجور عن التصرفات، وبالتالي لايحق للكفيل الرجوع عليه بما أداه عنه؛ لأن العلاقة علاقة استقراض، واستقراض الصبي لا يتعلق به الضمان. 3 - إضافة الضمان إلى الأصيل بأن يقول للكفيل: اضمن عني، لأنه إذا لم يضف إلى نفسه، فلا يتحقق معنى الإقراض الذي تقوم عليه العلاقة بين الكفيل والأصيل؛ لأن الكفالة بالنسبة للمكفول عنه استقراض (أي طلب القرض) وبالنسبة للكفيل بعد الأداء إقراض للمكفول عنه ونائب عنه في الأداء إلى المكفول له. أما بالنسبة للمكفول له: فهو تمليك ما في ذمة المكفول عنه من الكفيل بما أخذه من المال، فيرجع عليه بما أقرضه. 4 - ألا يكون للأصيل على الكفيل دين مثل الدين الذي أداه الكفيل؛ لأنه إذا أدى الدين، حصلت مقاصة بينهما: ولو وهب صاحب الدين المال للكفيل يرجع على الأصيل؛ لأن الهبة في معنى أداء المال. وإذا وهب الدين إلى الأصيل برئ الكفيل؛ لأن هذا وأداء المال سواء. ولو مات الدائن فورثه الكفيل يرجع على الأصيل، ولو ورثه الأصيل يبرأ الكفيل؛ لأن الإرث من أسباب الملكية، ومتى ملك الأصيل المال برئ، فيبرأ الكفيل. ولو أبرأ الدائن الكفيل لا يرجع على الأصيل؛ لأن الإبراء إسقاط وهو بالنسبة للكفيل إسقاط حق المطالبة لا غير.
وإذا أبرأ الكفيل الأصيل مما ضمنه عنه بإذنه أو وهبه منه جاز، فلو أدى الكفيل الدين بعدئذ، لا يرجع على الأصيل. ولو قال الدائن للكفيل: (برئت إليَّ من المال) يرجع الكفيل على الأصيل باتفاق الحنفية؛ لأن هذا إقرار بالقبض والاستيفاء، باعتبار أن اللفظ يستعمل في الأداء، فيرجع: أي أن هذه البراءة لا تكون إلا بالإيفاء فكان ذلك بمنزلة قوله: (دفعت إليَّ المال أو قبضته منك) وهو إقرار بالقبض. أما إذا قال: (برئت من المال) فهو إقرار بالقبض عند أبي يوسف كأنه قال: (برئت إليَّ من المال) لأنه أقر ببراءة خاصة بالكفيل وهو يكون بفعل صادر عنه، كما إذا قيل: (قمت وقعدت مثلاً) وهذا الفعل هنا هو الإيفاء. وعند محمد: لا يرجع الكفيل على المكفول عنه؛ لأن هذا بمنزلة قوله: (أبرأتك من المال) لأنه يحتمل البراءة بالأداء إليه (أي بالقبض والإبراء) فيثبت القدر الأدنى وهو براءة الكفيل، وأما الزائد عليه (وهو الأداء) ففيه شك، فلا يثبت القبض بالشك، وبالتالي لا يحق للكفيل الرجوع حينئذ على المكفول عنه، وهذا هو الرأي الأرجح عند الحنفية. وأما سبب عدم رجوع الكفيل على المكفول عنه في قول الدائن له: (أبرأتك) فهو أن هذا اللفظ يفيد تخصيص البراءة بالكفيل، ولا يتعدى أثره إلى غيره بإسقاط الدين عن المدين، فلم يكن هذا اللفظ متضمناً إقرار الدائن بإيفاء الدين. والفرق بين هذه الصورة وصورة: (برئت من المال) عند أبي يوسف: هو أن البراءة بالإبراء لا تتحقق بفعل الكفيل بل بفعل الدائن، فلا يكون الفعل حينئذ منسوباً إلى الكفيل (¬1). ¬
رجوع الكفيل على الأصيل حالة تعدد الكفلاء
والخلاصة: أن الراجح عند الحنفية هو أن الكفيل لا يرجع على الأصيل في قول الدائن للكفيل: (برئت) بدون إلي أو (أبرأتك) لأنه إبراء لا إقرار بالقبض. رجوع الكفيل على الأصيل حالة تعدد الكفلاء: إذا كفل رجلان رجلاً بألف ليرة مثلاً، ولم يكفل كل واحد منهما عن صاحبه، فأدى أحدهما ما عليه، فلا يرجع على صاحبه بشيء مما أدى؛ لأنه أدى عن نفسه لا عن صاحبه، ولكنه يرجع على الأصيل؛ لأنه كفيل عنه بأمره. فإن كفل واحد منهما عن صاحبه بما عليه، فالقول قول الكفيل فيما أدى أنه من كفالة الكفيل الآخر، أو من كفالة نفسه؛ لأنه لزمه المطالبة بالمال من وجهين: أحدهما ـ من جهة كفالة نفسه عن الأصيل. والثاني ـ من جهة الكفالة عن صاحبه. وليس أحد الوجهين أولى من الآخر، فكان له ولاية الأداء عن أيهما شاء. وإذا كفل كل واحد منهما عن صاحبه بما عليه، فما أدى كل واحد منهما، يكون عن نفسه إلى نصف المكفول به: وهو خمس مئة ليرة في مثالنا. ولا يقبل قوله فيه أنه أدى عن شريكه لا عن نفسه، بل يكون عن نفسه إلى هذا القدر، فلا يرجع على شريكه. كما لا يقبل قوله أيضاً حين الأداء أنه يؤدي عن شريكه لا عن نفسه. ولا يرجع على شريكه ما لم يزد المؤدى عن نصف المكفول به وهو خمس مئة في مثالنا، فإن زاد على خمس مئة يرجع بالزيادة إن شاء على شريكه، وإن شاء على الأصيل. وهذه القاعدة تنطبق أيضاً في فروع أخرى منها: لو اشترى رجلان شيئاً بألف
ما يرجع به الكفيل على الأصيل
ليرة، وكفل كل واحد منهما عن صاحبه بحصته من الثمن، فما أدى أحدهما يقع عن نفسه، ولا يرجع على شريكه حتى يزيد على النصف. ومنها: أن الشريكين شركة مفاوضة إذا افترقا وعليهما دين، فلصاحب الدين أن يطالب كل واحد منهما، وأيهما أدى شيئاً لا يرجع على شريكه حتى يزيد المؤدى على النصف (¬1). وأما ما يرجع به الكفيل على الأصيل: فهو أنه يرجع عند الحنفية بما ضمن، لا بما أداه؛ لأنه ملك ما في ذمة الأصيل، فيرجع بما تمت الكفالة عليه. فلو كانت الكفالة على شيء جيد، فأدى ما هو أدون منه، فإنه يرجع على الأصيل بالجيد. وكذلك إذا كفل ديناً نقدياً، فأدى عنه مكيلاً أو موزوناً أو عروض تجارة، فإنه يرجع بما كفل، لا بما أدى. وهذا بخلاف الوكيل بقضاء الدين، فإنه يرجع على الموكل بما أدى لا بالدين، لأنه بالأداء ما ملك الدين، بل أقرض ما أداه الموكل، فيرجع عليه بما أقرضه. أما في حالة الصلح على بعض الدين فإنه يرجع بما صالح به، لا بكل الدين، لأنه بأداء البعض لم يملك ما في ذمة الأصيل وهو كل الدين، إذ لا يمكن اعتبار الصلح تمليكاً؛ لأنه يؤدي إلى الربا (¬2). وقال المالكية والشافعية في الأصح عندهم: يرجع الكفيل بما غرم (أي بما أدى فعلاً) لأنه هو الشيء الذي بذله. وكذلك في حالة الصلح أو الإبراء من بعض ¬
متى يرجع الكفيل على الأصيل؟
الدين يرجع الكفيل بما أدى عند الشافعية، وبالأقل من الدين وقيمة الشيء المصالح به عند المالكية (¬1). وقال الحنابلة: يرجع الكفيل على الأصيل بأقل الأمرين مما قضى أو قدر الدين؛ لأنه إن كان الأقل هو الدين، فالزائد لم يكن واجباً، فهو متبرع بأدائه. وإن كان المقضي أقل فإنما يرجع بما غرم (¬2)، فيكون مذهبهم كالمالكية والشافعية. متى يرجع الكفيل على الأصيل؟ ليس للكفيل أن يطالب الأصيل (المكفول عنه) بالمال الذي كفله عنه قبل أن يؤديه عنه؛ لأنه لا يملكه قبل الأداء، بخلاف الوكيل بالشراء، حيث يرجع قبل الأداء كما بان سابقاً؛ لأنه بمنزلة البائع. فإن لوزم الكفيل بالمال المكفول به، كان له أن يلازم الأصيل المكفول عنه. وإن حبس به، كان له أن يحبسه، حتى يخلصه؛ لأنه لم يلحقه من السوء ما لحقه، إلا بسببه، فيجازى بمثله (¬3). ملحق ـ أخذ الأجر على الكفالة في الوقت الحاضر: الكفالة عقد تبرع، وطاعة يثاب عليها الكفيل؛ لأنها تعاون على الخير، وللكفيل الرجوع على المكفول عنه بما تحمله من مسؤولية الضمان إذا دفعه لصالح الجهة المكفول لها. والأولى تتم تبرعاً بدون مقابل، فذلك أبعد عن الشبهة. ولو قام المكفول له بتقديم شيء من المال للكفيل هبة أو هدية، جاز، جزاء المعروف ¬
الاعتماد المستندي
الذي أسداه له الكفيل. لكن إن شرط الكفيل تقديم مقابل أو أجر على كفالته، وتعذر على المكفول عنه تحقيق مصلحته من طريق المحسنين المتبرعين، جاز دفع الأجر للضرورة أو الحاجة العامة، لما يترتب على عدم الدفع من تعطيل المصالح كالسفر للخارج للدراسة أو للارتزاق، أو لتأجيل الجندية ونحوها، وأساس القول بالجواز فيه: أن الفقهاء أجازوا دفع الأجر للحاجة لأداء القربات والطاعة من تعليم قرآن وممارسة الشعائر الدينية، كما أنهم أجازوا دفع شيء من المال على سبيل الرشوة للوصل إلى الحق أو دفع الظلم، أو الدفع لعدو لدرء خطره وضرره عن البلاد. والمكفول عنه يحقق بالكفالة منفعة له تتعين الكفالة المأجورة سبيلاً إليها، لكن يجب عدم الاستغلال أو المغالاة في اشتراط المقابل، مراعاة لأصل مشروعية الكفالة وهو التبرع. كما يمكن اعتبار الأجر لمكاتب الكفالات مقابل الأتعاب في إنجاز معاملة الكفالة. الاعتماد المستندي: الاعتماد المستندي يستعمل في تمويل التجارة الخارجية، وهو تعهد كتابي صادر من مصرف بناء على طلب مستورد لصالح مورد، يتعهد فيه المصرف بدفع المبالغ التي يستحقها المورد ثمناً لسلع يصدرها للمستورد طالب فتح الاعتماد، متى قدم المورد المستندات المتعلقة بالسلع، والشحن، على أن تكون هذه المستندات مطابقة لشروط الاعتماد. وحكم الاعتماد المستندي المغطى غطاء كلياً يكون المصرف فيه وكيلاً عن فاتح الاعتماد، وإن كان كفيلاً بالنسبة للمصدِّر الذي يعتبر مكفولاً له، وللمصرف أن يأخذ عمولة أو أجراً عن وكالته، لا عن كفالته. أما في الاعتماد غير المغطى كلياً أو جزئياً، فالمصرف كفيل، وفاتح الاعتماد غير المغطى مكفول عنه، فإذا أخذ المصرف عمولة مقابل المبلغ المكفول به، لا مقابل
العمل الذي يقوم به، فقد أخذ أجراً مقابل الكفالة ذاتها، وهو لا يجوز (¬1). وينطبق حكم الكفالة على خطابات الضمان (¬2) التي تصدرها البنوك إذا كان الخطاب غير مغطى من العميل، والحكم الشرعي أنه لا يجوز للبنك أخذ الأجر على هذا العمل؛ لأنه أجر على الكفالة. أما إذا كان الخطاب مغطى بالغطاء النقدي من العميل ولو غطاءً جزئياً لا كلياً، فيجوز للبنك أخذ مقابل إصدار الخطاب وما يقترن به من العمل على أساس الوكالة، ومن المعلوم أنه يجوز أخذ الأجر على الوكالة، ولا يجوز أخذ الأجر على الكفالة، ويكون أجر الوكالة ـ كما جاء في المؤتمر الأول للمصارف الإسلامية في دبي ـ مراعى فيه حجم التكاليف التي يتحملها المصرف في سبيل أدائه لما يقترن بإصدار خطاب الضمان من أعمال يقوم بها المصرف بحسب العرف المصرفي. وتشمل هذه الأعمال بوجه خاص تجميع المعلومات، ودراسة المشروع الذي سيعطى بخصوصه خطاب الضمان، كما يشمل ما يعهد به العميل إلى المصرف من خدمات مصرفية تتعلق بهذا المشروع، مثل تحصيل المستحقات من أصحاب المشروع. ويجوز للمصرف أخذ مقابل الخدمات والمصاريف في الضمان غير المغطى. ¬
تطبيقات على الكفالات المعاصرة
تطبيقات على الكفالات المعاصرة أولاً ـ أهم أنواع الكفالات التجارية: عرف الفقهاء أنواعاً مهمة من الكفالات التجارية التي تشبه في جوهرها الكفالات المصرفية أهمها ما يلي: 1 - ضمان الدرك أو ضمان العهدة: وهو كما تقدم ضمان الثمن للبائع، وضمان المبيع للمشتري. 2 - ضمان السوق: وهو أن يضمن الضامن ما يجب على التاجر من الديون، وما يقبضه من الأعيان المضمونة، وهو ضمان ما لم يجب، وضمان المجهول. وقد أجازه الجمهور وأبطله الشافعي (¬1). ودليل جوازه قوله تعالى: {ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم} [يوسف:72/ 12]. وصرح صاحب الفتاوى الحامدية بجوازه (¬2). نصت مجلة الأحكام الشرعية (م 1094) على هذا النوع: «يصح ضمان السوق، مثلاً: لو ضمن ما يلزم التاجر أو مايبقى عليه للتجار أو ما يقبض من الأعيان المضمونة، صح الضمان». 3 - ضمان نقص الصنجة أو المكيال أو الذراع: وهو كما تقدم وكما هو واضح: التعهد بضمان نقص أدوات الكيل أو الوزن أو المساحة كالذراع ونحوه. جاء في مجلة الأحكام الشرعية (م 1091): «يصح ضمان نقص الصنجة أو المكيال أو الذراع، مثلاً، لو اشترى موزوناً فشك في نقص الصنجة، أو مكيلاً فشك في نقص المكيال أو مذروعاً، فشك في نقص الذراع فضمن شخص النقص صح ضمانه، فيرجع المشتري بما نقص والقول له بيمينه». ¬
ثانيا ـ الاعتمادات المستندية
وهذه الأنواع الثلاثة ضمان مجرد: وهو عقد تبرع خالص لا أجر له، بخلاف أنظمة المصارف الربوية. ثانياً ـ الاعتمادات المستندية: الاعتماد المستندي: تعهد كتابي من المصرف لصالح مورِّد، يتعهد فيه المصرف بدفع ثمن السلع المصدرة لمستورد طالب فتح الاعتماد، متى قدم المورد مستندات السلع والشحن، على أن تكون هذه المستندات مطابقة لشروط الاعتماد. ويستعمل في تمويل التجارة الخارجية (¬1). وحكمه حكم خطاب الضمان: إن كان مغطى غطاء كلياً، كان المصرف وكيلاً عن فاتح الاعتماد، وله أن يأخذ عمولة أو أجراً عن وكالته. وإن كان غير مغطى كلياً أو جزئياً، كان المصرف كفيلاً، وفاتح الاعتماد مكفول عنه، فلا يجوز للمصرف أخذ أجر مقابل الكفالة ذاتها، وإنما مقابل الإجراءات والمصاريف الإدارية فقط. وإذا كان الغطاء جزئياً لاستيراد سلعة معينة، فإن البنك يصبح شريكاً لفاتح الاعتماد في الكسب أو الخسارة بنسبة معينة هي 2% مثلاً، وليس كفالة مجردة. ثالثاً ـ التأمين التجاري ذو القسط الثابت: يسمى هذا التأمين أيضاً بالضمان، ومنه شركة الضمان السورية، وذلك حتى يلتبس بالكفالة ويوهم الناس بمشروعيته، وربما أدخل تحت كفالة المجهول وضمان ما لم يجب. ¬
تعريفه قانونا
وتعريفه قانونا ً: هو عقد يلتزم المؤمِّن بمقتضاه أن يؤدي إلى المؤمَّن له (المستأمن) أو إلى المستفيد الذي اشترط التأمين لصالحه مبلغاً من المال، أو إيراداً مرتباً، أو أي عوض مالي آخر، في حالة وقوع الحادث، أو تحقق خطر مبين في العقد، وذلك في مقابل قسط، أو أية دفعة أخرى يؤديها المؤمَّن له إلى المؤمِّن. فهو كما يتبين عقد من العقود الاحتمالية ومن عقود المعاوضات المالية، وليس العوض تبرعاً من المؤمِّن. والعقود الاحتمالية داخلة تحت فئة عقود الغرر؛ إذ لايعرف وقت العقد مقدار ما يعطي كل من العاقدين أو يأخذ، فقد يدفع المستأمن قسطاً واحداً من الأقساط، ثم يقع الحادث، وقد يدفع جميع الأقساط، ولا يقع الحادث (¬1). وهو بهذه الأوصاف غير جائز شرعاً لاشتماله على الغرر والربا. أما الغرر: فواضح فيه؛ لأنه من عقود الغرر: وهي العقود الاحتمالية المترددة بين وجود المعقود عليه وعدمه، وقد ثبت «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر» (¬2). ويقاس على البيع عقود المعاوضات المالية، فيؤثر الغرر فيها، كما يؤثر في عقد البيع. وقد وضعه رجال القانون تحت عنوان (عقود الغرر) لأن التأمين لا يكون إلا من حادث مستقبل غير محقق الوقوع أو غير معروف وقوعه، فالغرر عنصر لازم لعقد التأمين. والغرر في التأمين كثير لا يسير ولا متوسط؛ لأن من أركان التأمين: الخطر، والخطر حادث محتمل لا يتوقف على إرادة العاقدين. والمؤمَّن له (المستأمن) لا يعرف وقت العقد مقدار ما يعطي أو يأخذ، فقد يدفع قسطاً واحداً، ويقع الخطر، فيستحق جميع ما التزم به المؤمِّن، وقد يدفع جميع الأقساط، ولا يقع الخطر، فلا يأخذ شيئاً. ¬
الربا
وكذلك حال المؤمِّن، لا يعرف عند العقد مقدار ما يأخذ أو ما يعطي، وإن كان يستطيع إلى حد كبير معرفة كل ذلك بالنسبة لجميع المؤمن لهم، بالاستعانة بقواعد الإحصاء الدقيق. وبالرغم من ذلك لا تنتفي مع هذه القواعد صفة الاحتمال والغرر والغبن في الظروف العادية؛ لأن انتفاء الغرر بالنسبة للمؤمِّن وحده لا يكفي لانتفاء الغرر عن عقد التأمين، فلا بد من انتفائه بالنسبة للمستأمن أيضاً. وليس الأمان بالنسبة للمستأمن هو محل العقد، وإنما هو الباعث على عقد التأمين، ولو كان هو محل العقد، لكان عقد التأمين باطلاً؛ لأن المحل يلزم أن يكون ممكناً غير مستحيل، والأمان يستحيل الالتزام به. وأما الربا: فمن المؤكد أن عوض التأمين ناشئ من مصدر مشبوه، لأن كل شركات التأمين تستثمر أموالها في الربا، وقد تعطي المستأمن (المؤمن له) في التأمين على الحياة جزءاً من الفائدة، والربا حرام قطعاً. ثم إن الربا واضح بين العاقدين: المؤمِّن والمستأمن؛ لأنه لا تعادل ولا مساواة بين أقساط التأمين وعوض التأمين، فما تدفعه الشركة قد يكون أقل أو أكثر، أو مساوياً للأقساط، وهذا نادر، والدفع متأخر في المستقبل، فإن كان التعويض أكثر من الأقساط، كان فيه ربا فضل وربا نسيئة، وإن كان مساوياً ففيه ربا نسيئة، وكلاهما حرام. وكان ابن عابدين المتوفى سنة 1252 هـ أول من اعتبر عقد التأمين البحري غير مشروع، قال بعد بيان ما يسمى سوكرة وتضمين الحربي ما هلك في المركب: «والذي يظهر لي: أنه لا يحل للتاجر أخذ بدل الهالك من ماله؛ لأن هذا التزام ما لايلزم» (¬1). ¬
التأمين التعاوني
وتأيد هذا بما قرره المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي في مكة المكرمة عام (1396 هـ/1976 م) وكذا مجمع الفقه في جدة عام 1406هـ/1985م من عدم مشروعية التأمين التجاري. وقال ابن نجيم المصري (¬1): الغرور لا يوجب الرجوع، فلو قال: اسلك هذا الطريق، فإنه آمن، فسلكه فأخذه اللصوص، أو كل هذا الطعام، فإنه ليس بمسموم، فأكله فمات فلا ضمان. ثم استثنى من ذلك ثلاث حالات، منها إذا كان الغرور بالشرط، كما لو زوجه امرأةً على أنها حرة، ثم استحقت، فإنه يرجع على المخبر بما غرمه للمستحق من قيمة الولد. أما التأمين التعاوني بين فئة من الناس، فهو جائز شرعاً؛ لأنه عقد من عقود التبرعات، ومن قبيل التعاون المطلوب شرعاً على البر والخير؛ لأن كل مشترك يدفع اشتراكه بطيب نفس، لتخفيف آثار المخاطر وترميم الأضرار التي تصيب أحد المشتركين، أياً كان نوع الضرر من حريق أو غرق أو سرقة أو حادث سيارة أو بسبب حوادث العمل أو موت حيوان ونحو ذلك، ولأنه لا يهدف إلى تحقيق الأرباح، كما تفعل شركات التأمين ذات القسط الثابت. وقد أجاز مؤتمر علماء المسلمين الثاني في القاهرة عام (1385 هـ/1965 م) ومؤتمر علماء المسلمين السابع عام (1392هـ/1972 م) كلاً من التأمين الاجتماعي والتأمين التعاوني، وهو ما قرره المجمع الفقهي في مكة المكرمة عام (1398هـ/1978 م) ومجمع الفقه الإسلامي في جدة في قراره رقم 9 عام 1406هـ/ 1985م. ¬
رابعا ـ كفالات الإقامة والسفر
والخلاصة: لا يجوز التأمين التجاري لاشتماله على الربا والغرر، وليس هو من باب الكفالة سواء كفالة المجهول وضمان ما لم يجب؛ لأن الكفالة تبرع، والتأمين عقد معاوضة احتمالي. ويجوز التأمين الاجتماعي والتأمين التعاوني لقيامه على التبرع، والتعاون على البر والخير والإحسان المحض من غير معاوضة. رابعاً ـ كفالات الإقامة والسفر: عرفنا أن الكفالة عقد تبرع وطاعة يثاب عليها الكفيل؛ لأنها تعاون على الخير، وللكفيل أن يرجع على المكفول عنه بما تحمله من مسؤولية الضمان إذا دفعه لصالح الجهة المكفول لها. والكفالة مشروعة سواء كانت كفالة بالمال (أو الدين) أو كفالة بالنفس. ومن المعروف أن دول الخليج تشترط تقديم كفيل بالنفس والمال على العمال وأرباب العمل الذين يمارسون أعمالهم فيها، ويلتزم الكفيل من أجل منح هؤلاء الإقامة في هذه البلاد التي يعملون فيها تقديم الأجنبي للسلطات المختصة لترحيله عند انتهاء إقامته أو إلغائها، أو صدور قرار بإبعاده، مع سداده نفقات الترحيل. كما يلتزم بجميع الديون والالتزامات التي تترتب في ذمة مكفوله الأجنبي خلال مدة إقامته في البلاد، إذا لم يف بها، ولم تكن له أموال ظاهرة يمكن التنفيذ عليها. كما توجب قوانين بعض الدول تقديم كفيل بالنفس والمال عند السماح لبعض رعاياها بالسفر للخارج من أجل العمل أو الدراسة أو تأجيل خدمة العلم (الجندية) ونحوها، ويلتزم الكفيل بدفع مبلغ من المال إذا لم يقدم المكفول بنفسه للدولة حال مطالبة السلطات الحكومية بإحضاره.
وحكم هذين النوعين من الكفالة: كفالة الإقامة والسفر للخارج: أن الكفالة بالرغم من كونها عقد تبرع، يجوز بموجبها للكفيل أخذ مقابل عمله وجهده فقط، وله الرجوع بما يغرم، وما زاد عن هذا فهو سحت حرام (¬1)، بل هو ظلم وغبن فاحش إذا تجاوز الكفيل هذه الحدود المشروعة، بأن طالب المكفول بتقديم نسبة من أرباح العمل، أو بأقساط شهرية دورية، دون أن يقدم الكفيل لمكفوله أي عمل، أو يتحمل أي جهد، أو يؤدي عنه أي نفقة. وقد نصت المادة (1098) من قانون المعاملات المدنية في دولة الإمارات، المستمد من الفقه الإسلامي على ما يلي: «لا يجوز للكفيل أن يأخذ عوضاً عن كفالته، فإن أخذ عوضاً عنها وجب عليه رده لصاحبه، وتسقط عنه الكفالة إن أخذه من الدائن أو من المدين أو من أجنبي بعلم من الدائن، فإن أخذه بدون علم منه لزمته الكفالة مع رد العوض». وجاء في المذكرة الإيضاحية لهذه المادة: وإنما منع أخذ الضامن عوضاً عن ضمانه؛ لأن الدين إن دفعه المدين، كان أخذ الضامن للعوض من أكل أموال الناس بالباطل. وإن دفعه الضامن ثم رجع به على المدين، كان دفعه للدين وأخذه من المدين سلفاً للمدين بزيادة، وهي العوض الذي أخذه، وهذا ممنوع. والخلاصة: يجوز أخذ الأجر على كفالة الإقامة أو السفر إذا كانت مقابل عمل وجهد فقط أو بسبب غرم الكفيل، وما زاد على ذلك فهو مال حرام. ¬
الفصل الحادي عشر: الحوالة
الفَصْلُ الحادي عَشَر: الحَوالَة خطة الموضوع: الكلام عن عقد الحوالة في المباحث الآتية: المبحث الأول ـ تعريف الحوالة ومشروعيتها وركنها وصيغتها. المبحث الثاني ـ شروط الحوالة. المبحث الثالث ـ أحكام الحوالة. المبحث الرابع ـ انتهاء الحوالة. المبحث الخامس ـ رجوع المحال عليه على المحيل. وأبدأ الكلام عن: المبحث الأول ـ تعريف الحوالة ومشروعيتها وركنها وصيغتها: تعريف الحوالة: الحوالة في اللغة: الانتقال، يقال: حال عن العهد: أي انتقل عنه وتغير. وفي الاصطلاح عند الحنفية: نقل المطالبة من ذمة المدين إلى ذمة الملتزم، بخلاف الكفالة، فإنها ضم في المطالبة لا نقل، فلا يطالب المدين بعد الحوالة بالاتفاق. وهل ينتقل الدين أو لا؟ اختلف أئمة الحنفية فيه، والصحيح أنه ينتقل كما سيأتي بيانه. لذا عرف صاحب العناية الحوالة بقوله: الحوالة في
اصطلاح الفقهاء: تحويل الدين من ذمة الأصيل إلى ذمة المحال عليه على سبيل التوثق به (¬1). وعرفها غير الحنفية بأنها عقد يقتضي نقل دين من ذمة إلى ذمة (¬2). مشروعيتها: الحوالة بالدين جائزة بالسنة والإجماع استثناء من منع التصرف في الدين بالدين. أما السنة فقوله صلّى الله عليه وسلم: «مَطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على مليء (¬3) فليتَّبع» (¬4): أي فليحتل، كما رواه البيهقي. وفي رواية الطبراني في معجمه الوسط: «ومن أحيل على مليء فليتبع» وفي رواية أحمد وابن أبي شيبة: «ومن أحيل على مليء فليحتل» وقد يروى: «فإذا أحيل». وجمهور العلماء على أن الأمر المذكور أمر استحباب فلا يجب قبول الحوالة. وقال داود وأحمد: الأمر للوجوب، فيجب على المحال قبول الحوالة (¬5). ¬
ركن الحوالة
وأما الإجماع: فقد أجمع أهل العلم على جواز الحوالة في الجملة (¬1). فهي عقد جائزفي الديون دون الأعيان؛ لأنها تنبئ عن النقل، والتحويل يكون في الدين لا في العين، أي أن النقل الحكمي لا يكون في العين فلا تصح فيها الحوالة. ركن الحوالة: ركن الحوالة عند الحنفية: الإيجاب من المحيل، والقبول من المحال والمحال عليه، بألفاظ مخصوصة هي صيغة الحوالة. فالإيجاب: أن يقول المحيل للدائن: أحلتك على فلان. والقبول من المحال والمحال عليه: أن يقول كل واحد منهما: قبلت أو رضيت أو نحوهما. والسبب في أنه لا بد من رضا المحال عليه عند الحنفية: هو أن الحوالة تصرف على المحال عليه بنقل الحق إلى ذمته، فلا يتم إلا بقبوله ورضاه، إذ أنه الذي يلزمه الدين، ولا لزوم إلا بالتزامه، وكونه مديناً للمحيل لا يمنع من تغير صفة الالتزام؛ لأن الناس يتفاوتون في اقتضاء الدين سهولة ويسراً، أو صعوبة وعسراً. وأما رضا المحال: فلا بد منه؛ لأن الدين حقه، وهو في ذمة المحيل، والدين هو الذي ينتقل بالحوالة، والذمم متفاوتة في حسن القضاء والمطل، فلا بد من رضاه، وإلا لزم الضرر بإلزامه اتباع من لا يوافيه. وأما المحيل فقد شرط القدوري رضاه؛ لأن ذوي المروءات قد يأنفون بتحمل غيرهم ما عليهم من الدين، وذكر في الزيادات وهو الرأي المختار عند بعضهم: أن الحوالة تصح بدون رضاه؛ لأن التزام الدين من المحال عليه تصرف في حق نفسه، والمحيل لا يتضرر به بل فيه نفعه (¬2). ¬
وقال الحنابلة والظاهرية: يشترط رضا المحيل فقط، وأما المحال والمحال عليه فيلزمهما قبول الحوالة؛ لأن الأمر في الحديث عندهم للوجوب كما عرفنا، ولايعتبر رضاهما (¬1)، بعكس الحنفية تماماً، واكتفى الحنابلة باشتراط علم المحال به والمحال عليه. والسبب في عدم اشتراط رضا المحال عليه هو أن للمحيل أن يستوفي الحق بنفسه وبوكيله، وقد أقام المحال مقام نفسه في القبض، فلزم المحال عليه الدفع إليه كالوكيل. وقال المالكية في المشهور عندهم والشافعية في الأصح عندهم: يشترط لصحة الحوالة رضاالمحيل والمحال فقط؛ لأن للمحيل إيفاء الحق من حيث شاء، فلا يلزم بجهة معينة، وحق المحال في ذمة المحيل، فلا ينتقل إلا برضاه؛ لأن الذمم تتفاوت في الأداء والقضاء. وأما المحال فلا يجب عليه الرضا بالحوالة؛ لأن الأمر في الحديث الوارد بمشروعية الحوالة للاستحباب، فلا يلزم المحال قبول الإحالة. ولايشترط رضا المحال عليه؛ لأنه محل الحق والتصرف، ولأن الحق للمحيل فله أن يستوفيه بغيره، والأمر هو مجرد تفويض بالقبض، فلا يعتبر رضا من عليه، كما لو وكل إنسان غيره بقبض دينه، ويخالف المحال عليه المحال بأن الحق له فلا ينقل بغير رضاه كالبائع، أما المحال عليه فالحق عليه، فلا يعتبر رضاه، كالشيء المبيع (¬2). يفهم مما سبق أن للحوالة عند الجمهور غير الحنفية أركاناً أو عناصر ستة تقوم عليها وهي: محيل وهو المدين، ومحال ويسمى أيضاً محتالاً وحويلاً وهو رب الدين أو الدائن، ومحال عليه أو محتال عليه وهو الذي التزم الدين للمحال، ¬
المبحث الثاني ـ شروط الحوالة
ومحال أو محتال به: وهو نفس الدين الذي للمحال على المحيل، ودين للمحيل على المحال عليه، وصيغة (¬1). المبحث الثاني ـ شروط الحوالة: يشترط لصحة الحوالة عند الحنفية شروط تتعلق إما بالصيغة أو بالمحيل، أو بالمحال، أو بالمحال عليه، أو بالمحال به. شروط الصيغة: تنعقد الحوالة بتوافر الإيجاب والقبول أو ما في معناهما كالتوقيع على سند الحوالة والكتابة والإشارة، والإيجاب: أن يقول المحيل: أحلتك على فلان، والقبول: أن يقول المحال: قبلت أو رضيت. ويشترط في الإيجاب والقبول كونهما في مجلس العقد. وأن يكون العقد باتاً، فلا يثبت فيه خيار المجلس ولا خيار الشرط. شروط المحيل: يشترط في المحيل شرطان: أولاً ـ أن يكون أهلاً للعقد بأن يكون عاقلاً بالغاً، فلا تصح حوالة المجنون والصبي الذي لا يعقل، لأن العقل شرط لممارسة أي تصرف. ولا تنفذ حوالة الصبي المميز، وإنما تتوقف على إجازة وليه، فالبلوغ إذن شرط نفاذ لا انعقاد. ثانياً ـ رضا المحيل: فلو كان مكرهاً على الحوالة لا تصح؛ لأن الحوالة إبراء فيها معنى التمليك، فتفسد بالإكراه كسائر التمليكات (¬2). ووافقهم المالكية والشافعية والحنابلة في هذا الشرط. ¬
شروط المحال
وقال ابن كمال في الإيضاح: وأما رضا المحيل فإنما يشترط للرجوع عليه. شروط المحال: يشترط في المحال شروط ثلاثة: أولاً ـ أن يكون أهلاً للعقد كالشرط في المحيل بأن يكون عاقلاً؛ لأن قبوله ركن في العقد، وغير العاقل ليس من أهل القبول. وبأن يكون بالغاً وهو شرط نفاذ لا شرط انعقاد كما تبين، فإذا كان المحال غير بالغ، فيحتاج في الحوالة لإجازة وليه. ثانياً ـ الرضا: فلا تصح الحوالة إذا كان المحال مكرهاً، لما ذكر، ووافقهم المالكية والشافعية في هذا الشرط. ثالثاً ـ أن يتم قبوله في مجلس الحوالة: وهذا شرط انعقاد عند أبي حنيفة ومحمد، فلو كان المحال غائباً عن المجلس، فبلغه الخبر، فأجاز، لا ينفذ عندهما. وعند أبي يوسف: هذا شرط نفاذ. قال الكاساني: والصحيح قولهما؛ لأن قبول المحال أحد أركان الحوالة (¬1). شروط المحال عليه: يشترط في المحال عليه شروط ثلاثة هي شروط المحال نفسها: أولاً ـ أن يكون أهلاً للعقد، بأن يكون عاقلاً بالغاً، فلا تصح الحوالة على الصبي والمجنون، إلا أن البلوغ يعتبر هنا شرط انعقاد، فلا يصح من الصبي قبول الحوالة أصلاً. ثانياً ـ الرضا: فلو أكره على قبول الحوالة، لا يصح العقد، ولم يشترط المالكية رضا المحال عليه. ¬
ثالثا ـ أن يتم قبوله في مجلس العقد،
ثالثاً ـ أن يتم قبوله في مجلس العقد، وهو شرط انعقاد عند أبي حنيفة ومحمد (¬1). شروط المحال به: يشترط شرطان في المحال به وهما (¬2): أولاً ـ أن يكون دَيْناً: أي أن يكون هناك دين للمحال على المحيل. فإن لم يكن هناك دين، فيكون العقد وكالة تثبت فيها أحكامها، وليس حوالة. ويترتب عليه أنه لا تصح الحوالة بالأعيان القائمة؛ لأنها لا تثبت في الذمة. ثانياً ـ أن يكون الدين لازماً: مثل دين القرض فلا تصح الحوالة ـ في الماضي ـ على المكاتب ببدل الكتابة؛ لأنه دين غير لازم؛ لأن السيد لا يجب له على عبده دين. وفي الجملة: إن كل دين لا تصح الكفالة به لا تصح الحوالة به، وهو الدين الحقيقي غير الاحتمالي الذي يعبرون عنه بالدين الصحيح. واشترط كون الدين لازماً هو رأي الجمهور غيرالحنابلة، وأجاز الحنابلة الحوالة بدين الكتابة أو بدين الثمن في مدة الخيار. وأجاز الشافعية كون الدين آيلاً إلى اللزوم بنفسه، كدين الثمن المقترن بخيار في العقد، والصداق قبل الدخول، والأجرة قبل استيفاء المنفعة. وكذلك لا تصح الحوالة إذا كان دين المحيل في ذمة المحال عليه غير لازم كدين صبي وسفيه بغير إذن ولي، فلا تصح الإحالة عليهما لعدم لزوم هذا الدين؛ لأن لولي الصغير والسفيه طرح الدين عنهما وإسقاطه. ومثله أيضاً ثمن سلعة مبيعة بالخيار قبل لزومه؛ لأنه يعد ديناً غير لازم. ¬
اشترط المالكية والشافعية
وأما وجوب الدين على المحال عليه للمحيل قبل الحوالة، فليس بشرط عند الحنفية لصحة الحوالة، فإن الحوالة تصح سواء أكان للمحيل على المحال عليه دين أم لم يكن، وسواء أكانت الحوالة مطلقة أم مقيدة. واشترط المالكية والشافعية (¬1) في المحال به ثلاثة شروط: الأول ـ أن يكون الدين المحال به قد حل ّ. الثاني ـ أن يكون الدين المحال به مساوياً للمحال عليه في الصفة والمقدار، فلا يجوز أن يكون أحدهما أقل أو أكثر أو أدنى أو أعلى؛ لأنه يخرج عن الإحالة إلى البيع، فيدخله الدين بالدين. الثالث ـ ألا يكون الدينان أو أحدهما طعاماً من سلَم؛ لأنه من بيع الطعام قبل قبضه، وهو لا يجوز، فإن كان أحدهما من بيع والآخر من قرض، جاز إذا حل الدين المحال به. نوعا الحوالة عند الحنفية: الحوالة نوعان: مطلقة ومقيدة. المطلقة: أن يحيل شخص غيره بالدين على فلان، ولا يقيده بالدين الذي عليه، ويقبل الرجل المحال عليه. ولم يقل بجوازها غير الحنفية، ووافقهم فيها الشيعة الإمامية والزيدية على الراجح عندهم. والحوالة المطلقة في المذاهب الثلاثة غير الحنفية حيث لا يكون للمدين دين في ذمة المحال عليه تعد كفالة محضة، ولا بد فيها من رضاء الأطراف الثلاثة بها (وهم الدائن والمدين والمحال عليه جميعاً). ¬
المقيدة
والمقيدة: أن يحيله ويقيده بالدين الذي له عليه. وهذه هي الحوالة الجائزة باتفاق العلماء (¬1). وكلا النوعين جائز لقوله عليه الصلاة والسلام: «من أحيل على مليء فليتبع» إلا أن الحوالة المطلقة تختلف عن الحوالة المقيدة في بعض الأحكام كما يأتي (¬2): 1 - إذا كانت الحوالة مطلقة ولم يكن للمحيل على المحال عليه دين، فإن المحال يطالب المحال عليه بدين الحوالة فقط. وإن كان له عليه دين، ولم يقيد الحوالة به بأن لم يقل: (أحيله عليك بما لي عليك) أو (على أن تعطيه مما عليك) وقبل المحال عليه، فإن المحال عليه يطالب بدينين: دين الحوالة ودين المحيل، فالمحال يطالب بدين الحوالة، والمحيل يطالب بالدين الذي له عليه، كما إذا كان عند رجل ألف ليرة وديعة، فأحال شخصاً عليه بألف ليرة، ولم يقيده بالألف الوديعة، فقبله، فللمحيل أن يأخذ الوديعة، وعلى المحال عليه أداء الألف بالحوالة. فأما إذا قيد الحوالة بالدين الذي له عليه، فليس للمحيل أن يطالبه بالأداء إليه؛ لأنه قيد الحوالة بهذا الدين، فيقيد به، أي يتعلق به حق المحال، ويكون هذا الدين، بمنزلة الرهن عنده، وإن لم يكن رهناً حقيقة، فإذا أدى المال تقع المقاصة بين المحال عليه والمحيل. ¬
2 - إذا كانت الحوالة مقيدة وظهرت براءة المحال عليه من الدين الذي قيدت به الحوالة، بأن كان الدين ثمن مبيع فاستحق المبيع، تبطل الحوالة؛ لأنه لما قيد الحوالة بالدين فقد تعلق الدين بالحوالة، فإذا ظهر أنه لا دين، فقد ظهر أنه لا حوالة. أما إذا كانت الحوالة مطلقة وظهرت براءة المحال عليه من الدين، فإنها لا تبطل؛ لأن الدين لم يتعلق بالحوالة، وإنما تعلق بالذمة، فلا يظهر أن الحوالة كانت باطلة. 3 - إذا كانت الحوالة مقيدة ثم مات المحيل قبل أن يؤدي المحال عليه الدين إلى المحال، وكان على المحيل ديون أخرى غير دين المحال، وليس له مال سوى هذا الدين الذي على المحال عليه، فإنه لا يكون المحال أحق به من بين سائر الغرماء (أي الدائنين) عند أئمة الحنفية الثلاثة. وعند زفر: يكون أحق به من بين سائر الغرماء كالرهن. ورد عليه بأن هناك فرقاً بين الحوالة والرهن وهو أن المرتهن يتحمل وحده غرم الرهن، فيختص بغنمه أخذاً بالحديث: «الخراج بالضمان» (¬1) أي أن الغنم بالغرم، أما المحال فلم يختص بتحمل غرم المال، فلا يكون له الحق في أن يختص بالغنم، وحينئذ يكون له الحق في مقاسمة الغرماء فقط. أما إذا كانت الحوالة مطلقة: فإنه يؤخذ من المحال عليه جميع الدين الذي ¬
حوالة الحق
عليه، ويقسم بين غرماء المحيل، ولا يدخل المحال في تلك المقاسمة؛ لأن الحوالة لم تتعلق بالدين، ولأن حق المحال ثبت عند المحال عليه فقط. حوالة الحق: هي نقل الحق من دائن إلى دائن، أو بتعبير آخر: حلول دائن محل دائن بالنسبة إلى المدين. فإذا تبدل دائن بدائن في حق مالي متعلق بالذمة، لا بعين، كانت الحوالة حوالة حق. والدائن فيها هو المحيل، إذ هو يحيل غيره ليستوفي حقه. وهي تقابل حوالة الدين: وهي تبدل المدين بالنسبة إلى الدائن أي تبديل مدين بمدين، والمحيل فيها: هو المدين، إذ هو إنما يحيل على غيره لوفاء دينه. وهي مشروعة باتفاق العلماء كما تقدم. وحوالة الحق جائزة أيضاً باتفاق المذاهب الأربعة، وليس فقط عند غير الحنفية، كما فهم بعض أساتذة الشريعة، والقانون؛ لأن الحوالة المقيدة المشروعة عند الحنفية تتضمن حوالة حق، إذ يكون الإنسان فيها مديناً لشخص ودائناً لآخر، فيحيل دائنه على مدينه، ليقبض الدائن المحال دين المحيل من مدينه المحال عليه، فهي حوالة حق وحوالة دين في وقت واحد. وقد عرفنا أن غير الحنفية لا يجيزون إلا الحوالة المقيدة، فهي الحوالة إطلاقاً، ويشترط في المقيدة عندهم تساوي الدين المحال به والدين المحال عليه في الصفة والمقدار، فإن تساويا جنساً وقدراً صحت الحوالة، وإن اختلفا في شيء مما ذكر لم تصح الحوالة. أما الحوالة المطلقة فهي حوالة دين فقط، إذ يحيل بها المدين دائنه على آخر، فيتبدل فيها المدين، ويبقى الدائن هو نفسه.
ومن صور حوالة الحق ضمن الحوالة المقيدة: أن يحيل البائع دائنه على المشتري بالثمن. ويحيل المرتهن على الراهن بالدين، وتحيل الزوجة على زوجها بالمهر. ويحيل صاحب الحق في ريع الوقف دائنه على ناظر الوقف في حقه من الغلة بعد حصولها في يد الناظر. ويحيل الغانم حقه في الغنيمة المحرزة على الإمام. ففي كل هذه الأمثلة حل دائن جديد ـ وهو المحال ـ محل الدائن الأصلي وهو البائع، أو المرتهن أو الزوجة، أو مستحق غلة الوقف، أو الغانم. ومنشأ اللبس في فهم مذهب الحنفية حول حوالة الحق راجع إلى أن الحنفية لا يرون الحوالة نوعاً من البيع تجري فيها كل أحكامه، بل هي عندهم عقد مستقل شرع لغاية معينة يحتاج إليه التعامل، وليس فرعاً من غيره، ولكن فيه تشابه مع عقود وتصرفات أخرى في بعض النواحي، فالحوالة تشبه البيع (بيع الدين أو الحق) وليست ببيع، وتشبه الكفالة وليست بكفالة، وتشبه قبض الدين وليست قبضاً، وتشبه الوكالة بالقبض أو بالأداء وليست بوكالة، وتشبه ما يسمى بلغة العصر اليوم فتح الاعتماد، وليست به، وفيها بعض سمات التبرع، وبعض سمات المعاوضة إلخ .. وقد أخذت الحوالة أحكاماً متنوعة تتناسب مع تلك المشابهات العديدة فيها. وإذا كان الحنفية لا يجيزون تمليك أو بيع الدين لغير من عليه الدين، فلا يعني أنهم ينكرون حوالة الحق، إذ أن تبدل دائن بدائن، لا يفيد عندهم تمليك الدين لغير من هو عليه؛ لأن مقتضى الحوالة هو نقل الدين أو نقل المطالبة به إلى المحل الجديد، نقلاً مؤقتاً بعدم التوى (أي موت المحال عليه أو إفلاسه أو جحوده الحوالة) لا تمليكه، وإنما يملك المحال ما يقبضه وفاءً به بعد تنفيذ الحوالة بالقبض، وبذلك تكون الحوالة عندهم غير البيع.
المبحث الثالث ـ أحكام الحوالة
أما غير الحنفية الذين يجيزون حوالة الحق فمستندهم هو إطلاق الترخيص الشرعي الثابت في شأن الحوالة، سواء بعدئذ أكانت بيع دين بدين أم لم يكن. إذ أن هؤلاء مختلفون في مسألة بيع الدين بالدين أو هبته لغير من هو عليه، فالمالكية والشافعية يجيزونه بشروط، مثل شرط قبض العوض أو تعينه في مجلس البيع وأن يكون الدين المبيع غير طعام، وأن يكون الثمن من غير جنس المبيع، وأن يقع البيع لغير خصم المدين، حتى لا يكون في البيع إعنات للمدين بتمكين خصمه منه. فليست حوالة الحق عندهم بيع دين بدين. والحنابلة: لا يجيزونه. والخلاصة: إن الحوالة عند الفقهاء المسلمين ليست بيعاً، وإنما هي عقد خاص، يفترق عن البيع في شرائطه ونتائجه (¬1). والمالكية والشافعية الذين يجيزون هبة الدين لغير المدين تظهر عندهم حوالة الحق في هذين العقدين بنحو كامل واضح. لكن بشرط تحقيق شروط الهبة كالإذن بالقبض، وشروط بيع الدين. المبحث الثالث ـ أحكام الحوالة يترتب على الحوالة أحكام (¬2): أولاً ـ براءة المحيل: إذا تمت الحوالة بالقبول برئ المحيل من الدين عند جماهير الفقهاء. ولا تنتقل تأمينات الدين من رهن أو كفالة، بل تنقضي. ¬
كيفية النقل الذي يتم بالحوالة
وقال الحسن البصري: لا يبرأ المحيل إلا بالإبراء. وقال زفر من الحنفية: الحوالة لا توجب براءة المحيل، ويبقى الحق في ذمته بعد الحوالة على ما كان عليه قبلها، وقاس الحكم على الكفالة، إذ كل واحد منهما عقد توثق. وهذا ليس بصحيح؛ لأن الحوالة مشتقة من التحويل وهو نقل الحق فكان معنى الانتقال لازماً فيها، والشيء إذا انتقل إلى موضع لا يبقى في المحل الأول، ومعنى التوثق يحصل بسهولة التوصل إلى الحق باختيار الأكثر ملاءة والأحسن قضاء. أما الكفالة: فهي مشتقة من الضم أي ضم ذمة إلى ذمة، فعلق على كل من الكفالة والحوالة مقتضاه، وما دل عليه لفظه؛ لأن أحكام العقود الشرعية تتنزل على وفق المعاني اللغوية (¬1). واختلف أئمة الحنفية في كيفية النقل الذي يتم بالحوالة: فقال أبو حنيفة وأبو يوسف: إنها نقل المطالبة والدين جميعاً من ذمة المدين إلى ذمة المحال عليه، ولكن الدين يعود إلى ذمة المدين إذا توي عند المحال عليه (والتوى: هو الموت مفلساً، وجحود الحوالة ولا بينة، وزاد الصاحبان: الإفلاس وهو حي). فلو أبرأ الدائن المحال عليه من الدين، صح الإبراء، ولو أبرأ المدين لا يصح، وقال محمد: إنها نقل المطالبة وحدها دون الدين، فأصل الدين باق في ذمة المحيل. وقد استدل كل منهم بأدلة يظهر منها أن أدلة الفريق الأول أرجح بدليل أنه لو أبرئ ¬
ثانيا ـ ثبوت ولاية المطالبة للمحال على المحال عليه بدين في ذمته؛
المحيل من الدين أو وهب الدين له لا يصح التصرف؛ لأن الدين انتقل إلى ذمة المحال عليه، وفرغت ذمة المحيل من الدين، وبدليل أن الحوالة يترتب عليها النقل؛ لأنها مشتقة من التحويل وهو النقل، فتقتضي نقل ما أضيفت إليه وهو الدين، لا المطالبة فقط. وعند زفر كما تقدم: لا ينتقل الدين ولا المطالبة إلى ذمة المحال عليه، بل تضم ذمة المحال عليه إلى ذمة المدين في المطالبة فيكون المحال عليه كفيلاً للمدين. ثانياً ـ ثبوت ولاية المطالبة للمحال على المحال عليه بدين في ذمته؛ لأن الحوالة اقتضت النقل إلى ذمة المحال عليه بدين في ذمته، وهو نقل الدين والمطالبة جميعاً كما رجحت. ثالثاً ـ ثبوت حق الملازمة للمحال عليه على المحيل إذا لازمه المحال، فكلما لازمه المحال، فله أن يلازم المحيل ليتخلص من ملازمة المحال، وإذا حبسه له أن يحبسه إذا كانت الحوالة بأمر المحيل، ولم يكن على المحال عليه دين يماثله للمحيل، أي أن الحوالة مطلقة. أما إذا كانت الحوالة بغير أمره، أو كانت بأمره ولكن للمحيل على المحال عليه دين مثله، أي أن الحوالة مقيدة، فليس للمحال عليه أن يلازم المحيل إذا لوزم، ولا أن يحبسه إذا حبس. المبحث الرابع ـ انتهاء الحوالة تنتهي الحوالة بأمور (¬1): 1 - فسخ الحوالة: إذا فسخت الحوالة يعود الحق للمحال في أن يطالب المحيل. والفسخ في اصطلاح الفقهاء: هو إنهاء العقد قبل أن يبلغ غايته. ¬
- أن يتوى حق المحال بموت أو إفلاس أو غيره
2 - أن يتوى (¬1) حق المحال بموت أو إفلاس أو غيره: وهو مذهب الحنفية بدليل ما روي عن سيدنا عثمان رضي الله عنه أنه قال في المحال عليه: «إذا مات مفلساً عاد الدين إلى ذمة المحيل»، ولأن الحوالة مقيدة بسلامة حق المحال له، لأنه هو المقصود، فصار كوصف السلامة في المبيع. والتوى عند أبي حنيفة بأحد أمرين: إما أن يموت المحال عليه مفلساً أو أن يجحد الحوالة ويحلف ولا بينة للمحال؛ لأن العجز عن الوصول إلى الحق يتحقق بكل واحد منهما، وهو التوى في الحقيقة. وقال الصاحبان: يتحقق التوى بوجه ثالث: وهو أن يفلس المحال عليه حال حياته، ويقضي القاضي بإفلاسه حال حياته. وهذا مبني على قاعدة أخرى مختلف فيها بين الإمام وصاحبيه: وهي أن القاضي يقضي بالإفلاس حال الحياة عندهما، وعنده: لا يقضي به لأن مال الله غاد ورائح. وإذا تحقق التوى يرجع صاحب الدين على المحيل. وقال الحنابلة والشافعية والمالكية: إذا تمت الحوالة وانتقل الحق ورضي المحال، لم يعد الحق إلى المحيل أبداً، سواء أمكن استيفاء الحق، أو تعذر لمطل أو فلس أو موت أو غيرها. فلو كان المحال عليه مفلساً عند الحوالة، وجهله المحال، فلا رجوع له على المحيل؛ لأنه مقصر بترك البحث، فأشبه من اشترى شيئاً هو مغبون فيه، فإن شرط المحال يسار المحال عليه، فبان معسراً، رجع على المحيل عند الحنابلة والمالكية، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «المسلمون عند شروطهم» (¬2). ¬
3 - أداء المحال عليه المال إلى المحال
والمالكية قالوا أيضاً: لكن يرجع المحال على المحيل إذا غرره بأن أحاله على معدم مفلس. ودليل هؤلاء في الجملة أن جد سعيد بن المسيب: «كان له على علي رضي الله عنه دين، فأحاله به، فمات المحال عليه، فأخبره، فقال: اخترت علينا، أبعدك الله» فأبعده بمجرد الحوالة، ولم يخبره أن له الرجوع، ولأن الحوالة تقتضي البراءة من الدين، وقد حصلت مطلقة عن شرط سلامة الحق، فتفيد البراءة مطلقاً. وأما حديث عثمان (الذي استدل به الحنفية) فلم يصح، ولو صح كان قول علي مخالفاً له (¬1). 3 - أداء المحال عليه المال إلى المحال: وهذا أمر بدهي، فإذا أدى المحال عليه المال انتهت الحوالة، إذ أن حكمها قد انتهى. 4 - أن يموت المحال ويرث المحالُ عليه مالَ الحوالة؛ لأن الإرث من أسباب الملك، فيملك المحال عليه الدين في هذه الحال. وتنتهي الحوالة المقيدة عند أبي حنيفة وصاحبيه، خلافاً لبقية الفقهاء، بموت المحيل لدخول المال الذي قيدت به الحوالة في تركة المحيل. 5 - أن يهب المحال المال للمحال عليه ويقبل الهبة. 6 - أن يتصدق المحال على المحال عليه، ويقبل الصدقة؛ لأن الهبة والصدقة في معنى الإرث أو الأداء. 7 - أن يبرئ المحال المحال عليه. ¬
المبحث الخامس ـ رجوع المحال عليه على المحيل
المبحث الخامس ـ رجوع المحال عليه على المحيل الكلام هنا في موضعين: شرائط الرجوع، وبيان ما يرجع به. أما شرائط الرجوع فهي ما يأتي: 1 - أن تكون الحوالة بأمر المحيل: فإن كانت بغير أمره لا يرجع مثل أن يقول رجل للدائن: إن لك على فلان كذا وكذا من الدين، فاحتل بها علي، فرضي بذلك، جازت الحوالة. ولكنه إذا أدى المحال عليه المال لا يرجع على المحيل؛ لأنه سيكون حينئذ متبرعاً، ولم يحصل معنى التمليك للدين من المحال للمحال عليه، فلا يحق له الرجوع. 2 - أداء مال الحوالة أو ما هو في معنى الأداء كالهبة والصدقة إذا قبل المحال عليه، وكذا إذا ورث المحال عليه المحال؛ لأن الإرث من أسباب الملك، فإذا ورثه فقد ملك الشيء الموروث، فكان له حق الرجوع. ولو أبرئ المحال عليه من الدين لا يرجع على المحيل؛ لأن الإبراء إسقاط حقه، فلم يملك المحال عليه شيئاً فلا يرجع. 3 - ألا يكون للمحيل على المحال عليه دين مماثل للدين الذي أحيل به المحال. فإن كان هناك دين وقعت المقاصة بينهما (¬1). وأما ما يرجع به المحال عليه على المحيل: فهو أنه يرجع بالمحال به، لا بالمؤدى، كالكفيل، فلو أدى عروضاً مكان النقود، فإنه يرجع على المحيل بالنقود؛ ¬
اختلاف المحيل مع المحال
لأن الرجوع يحق له بحكم ما تم له من الملك، وأنه يملك دين الحوالة، لا المؤدى، وذلك بخلاف الوكيل بقضاء الدين كما ذكر في الكفالة. اختلاف المحيل مع المحال: لو قبض المحال مال الحوالة ثم اختلف مع المحيل، فقال المحيل: لم يكن لك علي شيء، وإنما أنت وكيلي في القبض، والمقبوض لي، وقال المحال: لا، بل أحلتني بألف مثلاً كانت لي عليك، فحينئذ القول قول المحيل مع يمينه؛ لأن المحال يدعي عليه ديناً، والمحيل ينكر، والقول قول المنكر عند عدم البينة مع يمينه (¬1). السفاتج: هي كما بينت في بحث القرض جمع سُفْتَجة: وهي الورقة. وهي أن يدفع امرؤ إلى تاجر مبلغاً قرضاً ليدفعه إلى صديقه في بلد آخر ليستفيد به سقوط خطر الطريق. وهذا مكروه تحريماً عند الحنفية؛ لأنه في الحقيقة قرض استفاد به المقرض أمن خطر الطريق. وهو نوع من النفع المستفاد على حساب القرض، وقد نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن قرض جر نفعاً (¬2). كراهة هذا التصرف ناشئة عما إذا كان أمن خطر الطريق مشروطاً. فإذا تم القرض دون أن يشترط المقرض في عقد القرض دفع المال في بلد آخر بالحوالة ونحوها، جاز القرض. ويجوز أيضاً إذا دفع المال إليه أمانة لتسليمها في بلد آخر (¬3). ¬
الفصل الثاني عشر: الرهن
الفَصْلُ الثَّاني عَشَر: الرَّهن خطة البحث: الكلام عن عقد الرهن في المباحث السبعة التالية: المبحث الأول ـ تعريف الرهن ومشروعيته وركنه وعناصره وأحواله. المبحث الثاني ـ شروط الرهن: (شروط العاقدين، والصيغة، والمرهون به، والمرهون، وشروط تمام الرهن، قبض الرهن، ما يجوز ارتهانه، وما لا يجوز، وما يتفرع عن القبض وغيره من الشروط). المبحث الثالث ـ أحكام الرهن أو آثاره الرهن الصحيح والرهن الفاسد المبحث الرابع ـ نماء الرهن أو زوائده المبحث الخامس ـ الزيادة في الرهن والدين المبحث السادس ـ انتهاء الرهن وحالاته المبحث السابع ـ اختلاف الراهن والمرتهن
المبحث الأول ـ تعريف الرهن ومشروعيته وركنه وعناصره وأحواله: تعريف الرهن: الرهن لغة: إما الثبوت والدوام، يقال: ماء راهن أي راكد، وحالة راهنة: أي ثابتة. وإما الحبس واللزوم، قال تعالى: {كل نفس بما كسبت رهينة} [المدثر:38/ 74] أي محبوسة. والظاهر أن في الحبس معنى الدوام والثبوت، فأحد المعنيين تطور للمعنى الآخر، والظاهر أن المعنى الأول هو الحبس؛ لأنه المعنى المادي. وعلى كل حال، فالمعنى الشرعي ذو صلة بالمعنى اللغوي، وقد يطلق الرهن لغة على الشيء المرهون: وهو ما جعل وثيقة للدين، من باب تسمية المفعول بالمصدر. وعقد الرهن شرعاً (¬1): حبس شيء بحق يمكن استيفاؤه منه، أي جعل عين لها قيمة مالية في نظر الشرع وثيقة بدين بحيث يمكن أخذ الدين كله أو بعضه من تلك العين. أو هو عقد وثيقة بمال، أي عقد على أخذ وثيقة بمال، لا بذمة شخص، فامتاز عن الكفالة؛ لأن التوثق بها إنما يكون بذمة الكفيل، لا بمال يقبضه الدائن، ومعنى «وثيقة» أي متوثق بها، فقد توثق الدين وصار مضموناً محكماً بالعين المرهونة، وكون الوثيقة ذات قيمة مالية لإخراج العين النجسة والمتنجسة بنجاسة لا يمكن إزالتها، فإنها لا يجوز أن تكون وثيقة للدين. وعرفه الشافعية (¬2) بقولهم: جعل عين وثيقة بدين يستوفى منها عند تعذر وفائه. وقولهم «جعل عين» يفيد عدم جواز رهن المنافع؛ لأنها تتلف فلا يحصل بها استيثاق. ¬
صفة الرهن العامة
وعرفه الحنابلة (¬1) بأنه: المال الذي يجعل وثيقة بالدين ليستوفى من ثمنه إن تعذر استيفاؤه ممن هو عليه. وعرفه المالكية (¬2): بأنه شيء متموَّل يؤخذ من مالكه، توثقاً به، في دين لازم، أو صار إلى اللزوم، أي أنه تعاقد على أخذ شيء من الأموال عيناً كالعقار والحيوان والعروض (السلع)، أو منفعة، على أن تكون المنفعة معينة بزمن أو عمل، وعلى أن تحسب من الدَّين. ولا بد من أن يكون الدين لازماً كثمن مبيع، أو بدل قرض، أو قيمة متلف، أو صائراً إلى اللزوم، كأخذ رهن من صانع أو مستعير، خوفاً من ادعاء ضياع، فيكون الرهن في القيمة على ما يلزم. وليس المراد من الأخذ عند المالكية: التسليم الفعلي؛ لأن التسليم بالفعل ليس شرطاً عندهم في انعقاد الرهن، ولا في صحته، ولا في لزومه، بل ينعقد ويصح ويلزم بالصيغة أي بمجرد الإيجاب والقبول، ثم يطلب المرتهن أخذه. صفة الرهن العامة: والرهن عقد من عقود التبرع؛ لأن ما أعطاه الراهن للمرتهن غير مقابل بشيء (¬3)، وهو من العقود العينية: وهي التي لا تعتبر تامة الالتزام إلا إذا حصل تسليم العين المعقود عليها، وهذه العقود خمسة: الهبة، والإعارة، والإيداع، والقرض، والرهن. والسبب في اشتراط القبض لتمامها: هو أنها تبرع، والقاعدة تقول: «لا يتم التبرع إلا بالقبض» فيعتبر العقد فيها عديم الأثر قبل القبض، والتنفيذ هو المولد لآثار العقد. مشروعيته وحكمه: الرهن مشروع بالقرآن والسنة والإجماع. أما القرآن: ¬
فقوله تعالى: {وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة} [البقرة:283/ 2]. والرهن باتفاق الفقهاء جائز في الحضر والسفر، خلافاً لمجاهد والظاهرية (¬1)، لإطلاق مشروعيته في السنة، وذكر السفر في الآية خرج مخرج الغالب، لكون الكاتب في الماضي غير متوافر في السفر غالباً، ولا يشترط أيضاً عدم وجود الكاتب، لثبوت جوازه في السنة مطلقاً. والآية أرادت إرشاد الناس إلى وثيقة ميسَّرة لهم عند فقدان كاتب يكتب لهم الدين. وأما السنة: فروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاماً، ورهنه درعاً من حديد» (¬2) وعن أنس قال: «رهن رسول الله صلّى الله عليه وسلم درعاً عند يهودي بالمدينة، وأخذ منه شعيراً لأهله» (¬3). وعن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه كان يقول: «الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهوناً، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهوناً، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة» (¬4). وعن أبي هريرة أيضاً أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يَغْلَق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه، وعليه غُرْمة» (¬5) وغلق الرهن: استحقاق المرتهن إياه، لعجز الراهن عن فكاكه، أي لا ينفك ملك الرهن عن صاحبه، ولا يستحقه المرتهن، إذا ¬
حكم الرهن التكليفي شرعا
لم يفتكه في الوقت المشروط. وفي هذا رد على ما كان في الجاهلية، من أن المرتهن كان يتملك الرهن إذا لم يؤد الراهن إليه ما يستحقه في الوقت المعيّن، فأبطله الشارع. والحكمة من تشريع الرهن توثيق الديون، فكما أن الكفالة توثق الدين شخصياً، يوثق الرهن الدين مالياً، تسهيلاً للقروض. والرهن يفيد الدائن بإعطائه حق الامتياز أو الأفضيلة على سائر الدائنين الغرماء. وأما الإجماع فقد أجمع المسلمون على جواز الرهن. أما الكفالة أو الكتابة أو الإشهاد فلا تُحقق بنحو مؤكد مصلحة الدائن؛ لأن الرهن وثيقة بالدين في يد المرتهن مقابل حقه، ويتمكن من استيفاء دينه منه ببيعه بإذن القاضي أو بإذن مالكه الراهن. ويحقق الرهن أيضاً مصلحة الراهن بالحصول على الدين أي النقد، أو بتأجيل الثمن بدفع متاع يكون رهناً، فيكون الرهن محققاً مصلحة الطرفين. وحكم الرهن التكليفي شرعا ً: أنه جائز غير واجب بالاتفاق؛ لأنه وثيقة بالدين، فلم يجب، كما لم تجب الكفالة. وقوله تعالى: {فرهان مقبوضة} [البقرة:283/ 2] أمر إرشاد للمؤمنين، لا إيجاب عليهم، بدليل قوله تعالى عقبه: {فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي اؤتمن أمانته} [البقرة:283/ 2]، ولأنه تعالى أمر به عند عدم وجود الكاتب، وبما أن الكتابة غير واجبة، بدليل: {فإن أمن ... } [البقرة:283/ 2] فكذلك بدلها (¬1). ركن الرهن وعناصره: للرهن عناصر أربعة: هي الراهن، والمرتهن، والمرهون، والمرهون به. فالراهن: معطي الرهن، والمرتهن: آخذه، والمرهون أو الرهن: ما أعطي من المال وثيقة للدين، والمرهون به هو الدين. ¬
أحوال الرهن
وركن الرهن عند الحنفية (¬1): هو الإيجاب والقبول، من الراهن والمرتهن، كسائر العقود، ولكن لا يتم ولا يلزم إلا بالقبض أي التخلية أو النقل كأن يقول الراهن: رهنتك هذا الشيء بما لك علي من الدين، أو هذا الشيء رهن بدينك، ونحوه. ويقول المرتهن: ارتهنت أو قبلت، أو رضيت ونحوه. ولا يشترط لفظ «الرهن» فلو اشترى شيئاً بدراهم، وسلم إلى البائع شيئاً، وقال له: أمسكه، حتى أعطيك الثمن، انعقد الرهن؛ لأن العبرة في العقود للمعاني. وقال غير الحنفية (¬2): للرهن أركان أربعة: صيغة، وعاقد، ومرهون، ومرهون به. وهكذا الخلاف في قضية الركن بين الحنفية وغيرهم في كل العقود، فالركن عند الجمهور أوسع منه عند الحنفية، فإن الركن عند الحنفية: ما كان جزءاً من شيء، وتوقف وجوده عليه؛ لأن من الأجزاء ما يتوقف عليها الوجود، ومنها مالايتوقف عليها الوجود. أما الركن عند الجمهور: فهو ما توقف عليه وجود الشيء، ولا يمكن تصوره إلا به، سواء أكان جزءاً منه، أم لا. فالعاقد ركن، إذ لايتصور عقد بدون عاقد، وإن لم يكن جزءاً من العقد، أما العاقد عند الحنفية، فيعد من شروط العقد. أحوال الرهن: للرهن المتفق عليه أحوال ثلاثة (¬3): ¬
المبحث الثاني - شروط الرهن
الأولى ـ أن يقع مع العقد المنشئ للدين: كأن يشترط البائع على المشتري بثمن مؤجل إلى المستقبل في مدة معينة تسليم رهن بالثمن. وهذا صحيح باتفاق المذاهب، لأن الحاجة داعية إليه. الثانية ـ أن يقع بعد الحق أو نشوء الدين: وهو صحيح أيضاً بالاتفاق؛ لأنه دين ثابت تدعو الحاجة إلى أخذ الوثيقة به، فجاز أخذها به كالضمان (الكفالة). وآية {فرهان مقبوضة} [البقرة:283/ 2] تشير إليه؛ لأن الرهن بدل عن الكتابة، والكتابة بعد وجوب الحق. الثالثة ـ أن يقع قبل نشوء الحق: مثل: رهنتك متاعي هذا بمئة تقرضنيها: يصح عند المالكية والحنفية؛ لأنه وثيقة بحق، فجاز عقدها قبل وجوبه، كالكفالة وهذا هو المعقول. ولا يصح عند الشافعية والحنابلة في ظاهر المذهب؛ لأن الوثيقة بالحق لا تلزم قبله، كالشهادة، ولأن الرهن تابع للحق، فلا يسبقه. المبحث الثاني - شروط الرهن: للرهن شروط انعقاد، وشروط صحة، وشرط لزوم وهو القبض. المطلب الأول ـ شروط العاقدين: يشترط في عاقدي الرهن (الراهن والمرتهن) ما يأتي (¬1): الأهلية: الأهلية عند الحنفية والمالكية: هي أهلية البيع، فكل من يصح بيعه يصح رهنه؛ لأن الرهن تصرف مالي كالبيع، فوجب أن يراعى في عاقديه ما يراعى ¬
في عاقدي البيع. فيشترط في عاقدي الرهن: العقل أو التمييز، فلا يجوز الرهن والارتهان من المجنون والصبي غير المميز أو الذي لا يعقل. ولا يشترط البلوغ، فيجوز الرهن من الصبي المأذون في التجارة؛ لأن ذلك من توابع التجارة. ويصح رهن الصبي المميز والسفيه، موقوفاً على إجازة وليه. والأهلية عند الشافعية والحنابلة تتمثل في أهلية البيع والتبرع، فيصح الرهن ممن يصح بيعه وتبرعه؛ لأن الرهن تبرع غير واجب، فلا يصح من مستكره، ولا من صبي غير بالغ، ولا مجنون، ولا سفيه، ولا مفلس، ولا يصح من ولي أباً أو جداً أو وصي أو حاكم إلا لضرورة أو مصلحة ظاهرة للقاصر، مثال الضرورة: أن يرهن على ما يقترض لحاجة المؤنة (القوت)، ليوفي مما ينتظر من غلة، أو حلول دين، أو رواج متاع كاسد (بائر)، أو أن يرتهن ما يقرضه أو يبيعه مؤجلاً لضرورة نهب أو نحوه. ومثال المصلحة (أو الغبطة) الظاهرة للقاصر: أن يرهن ما يساوي مئة على ثمن ما اشتراه بمئة نسيئة مؤجلة، وهو يساوي مئتين حالّتين. وأن يرتهن على ثمن ما يبيعه نسيئة بمصلحة ظاهرة. وإذا رهن الولي أو الوصي: فلا يرهن إلا من أمين غير خائن، موسر، وأن يشهد على الرهن، وأن يكون الأجل قصيراً عرفاً. فإن فقد شرط من هذه الشروط، لم يجز الرهن (¬1). ولا يصح للولي أو الوصي أن يرهن مال موليه لدين عليهما لأجنبي، إذ ليس فيه مصلحة المولى عليه. وعبر الحنابلة عن هذا الحكم بشرطين: أن يكون عند ثقة، وأن يكون للقاصر ¬
رهن الولي والوصي مال الصغير عند الحنفية
فيه حظ أي حاجة إلى نفقة أو كسوة أو إصلاح عقاره المتهدم أو رعاية بهائمه (¬1). وللأب أن يرهن من نفسه لولده، ولنفسه من ولده، والجد كالأب عند الشافعية لوفور شفقتهما. رهن الولي والوصي مال الصغير عند الحنفية: هنا أمور ثلاثة: رهن مال الصغير بدين للصغير، أو بدين للولي، وموقف الصغير من الرهن بعد البلوغ (¬2). وقد عرفنا قبله مباشرة حكم رهن مال القاصر عند غير الحنفية. 1ً - رهن مال الصغير أو المجنون بدين لهما: للولي أو الوصي أو القيم أن يرهن مال القاصر (صبي أو مجنون ونحوهما) لدين للقاصر استدين من أجل كسوته وطعامه، أو بسبب الاتجار في ماله؛ لأن الاستدانة جائزة للحاجة، والتجارة تثمير لمال القاصر، والرهن إيفاء للحق، فيجوز. وإذا كان الأب أو الجد هو الدائن للقاصر أو كان كل من الدائن والمدين تحت ولايته، جاز له أن يتولى طرفي العقد، فيكون راهناً بالنيابة عن موليه، ومرتهناً بالنسبة إلى نفسه، في الحالة الأولى. وراهناً عن أحد مولييه، ومرتهناً بالنسبة إلى الآخر، في الحالة الثانية، لأنه لوفور شفقته، نزل منزلة شخصين، وقامت عبارته مقام عبارتين، كما في بيعه مال القاصر لنفسه. ¬
- رهن مال القاصر بدين للولي
ولا يجوز ذلك للحاكم، ولا للوصي، لقصور شفقتهما بالنسبة للأب، ولأن كليهما وكيل محض، والأصل أن الشخص الواحد لا يتولى طرفي العقد، سواء في البيع أو الرهن ونحوهما. 2ً - رهن مال القاصر بدين للولي: الاستحسان عند أبي حنيفة ومحمد: يقتضي أن يجوز للأب أو الجد أو الوصي أن يرهن مال موليه بدين نفسه عند دائنه؛ لأن للولي أو الوصي إيداع مال موليه، والرهن أولى من الإيداع؛ لأن الوديع أمين لا يضمن إلا بالتعدي أو التقصير، والمرتهن يضمن الرهن إن هلك، ولو بلا تعدٍ ولا تقصير. والقياس وهو رأي أبي يوسف وزفر: ألا يجوز للولي أو الوصي رهن مال القاصر بدين لهما؛ لأنهما لا يملكان إيفاء دينهما بأموال موليهما، وفي إقدامهما على رهن مال موليهما إيفاء لدينهما حكماً، فيمنع، كالإيفاء حقيقة. وإذا جاز الرهن عملاً بمقتضى الاستحسان، ثم هلك عند الدائن، يضمن الولي للمولى عليه الأقل من قيمة الرهن ومن الدين، دون زيادة عليه، أما الوصي فيضمن قيمة الرهن في جميع الأحوال؛ لأن للأب أو الجد أن ينتفع بمال الصغير، وليس للوصي الحق في الانتفاع. وللولي أباً أو جداً رهن ماله بدين عليه للصغير عند ولده الصغير، ويحبسه الولي لأجل الصغير، ولا يجوز هذا الرهن للوصي. كما يجوز للولي عكس المذكور: وهو أن يرهن عنده مال الصغير بدين عليه؛ لأنه لوفور شفقته جعل كشخصين، وتقوم عبارته مقام عبارتين أي عبارتي الإيجاب والقبول، كشرائه مال طفله. ولا يجوز هذا الرهن للوصي، لأنه وكيل
- موقف الصغير من الرهن بعد البلوغ
محض، فلا يتولى طرفي العقد في رهن ولا بيع ونحوهما مما يتطلب وجود عاقدين في عقود ذات حقوق متباينة. 3ً - موقف الصغير من الرهن بعد البلوغ: إذا بلغ الصغير أو زال عارض الحجر، فوجد مالاً له مرهوناً، فليس له إبطال الرهن، أو استرداده حتى يقضى الدين؛ لأن تصرف الولي بالرهن وقع نافذاً لازماً، وصدر ممن له ولاية إصداره، سواء أكان الرهن بدين على الصغير، أم بدين على الولي نفسه، أم بدين عليهما معاً. فإن قضي الدين عن الولي نفسه من مال الصغير المرهون أو هلك المرهون قبل أن يفتكه الراهن، كان للصغير بعد بلوغه حق الرجوع طبعاً في مال الولي، والمطالبة بتسديد حقه؛ لأنه مضطر إلى إحياء ملكه، والمحافظة على حقوقه سواء أكان الولي حياً أم ميتاً، ويكون في هذه الحالة مثل من أعار متاعه لآخر، ليرهنه المستعير بدين عليه لشخص ثالث، فللمعير أن يفتك ـ عند الضرورة ـ رهنه، بدفع دين المستعير، ويرجع بما أوفى من الدين على المستعير. تعدد أطراف الرهن: قد يتعدد الراهن أو المرتهن، كما لو رهن رجلان بدين عليهما رهناً عند آخر، أو يرهن رجل شيئاً بدين عليه عند رجلين، يصح الرهن في الحالتين لعدم الشيوع المانع من صحة الرهن عند الحنفية (¬1)؛ لأنه في حالة تعدد الراهن يحصل قبض المرهون من المرتهن بدون إشاعة، فصار كرهن الواحد من الواحد، وفي حالة تعدد المرتهن أضيف الرهن إلى جميع العين المرهونة بصفقة واحدة، ومقتضى الرهن (أو ¬
في حالة تعدد الراهنين
موجبه) حبس المرهون بالدين، والحبس لا يتجزأ، فصار الرهن محبوساً بكل من المرتهنين. وذلك بخلاف هبة الواحد لاثنين لا تجوز عند أبي حنيفة؛ لأن المقصود من الهبة هو التملك، والشيء الواحد الموهوب لا يتصور كونه ملكاً لكل من الموهوب لهما على سبيل الكمال والاستقلال، فلا بد من قسمة الموهوب ليتصور تملك الموهوب له للموهوب. وأحكام الحالتين كما يأتي: في حالة تعدد الراهنين: يصح الرهن بكل الدين، وللمرتهن حبس المرهون حتى يستوفي كل الدين من الراهنين. فإذا أدى أحد الراهنين ما عليه من الدين، لم يكن له أن يقبض شيئاً من الرهن؛ لأن فيه تفريق الصفقة على المرتهن في الإمساك. ويرى الشافعية أنه إذا وفى أحد الراهنين ما عليه من الدين، انفك من الرهن بمقدار نصيبه أو قسطه، ولا يبقى الشيء كله رهناً حتى يفك الراهن الآخر حصته. في حالة تعدد المرتهنين: يعتبر المرهون كله أيضاً رهناً محبوساً عند كل واحد منهما بدينه، لحمل الراهن على وفاء الدين، ما دام الرهن قائماً. فإن قضى الراهن أحد المرتهنين دينه، كانت العين المرهونة كلها رهناً في يد الآخر، حتى يستوفي دينه؛ لأن العين كلها رهن في يد كل منهما بلا تفرق أو تجزئة. وكيفية حبس المرهون عند المرتهنين: هو أنه إذا كان المرهون مما يقبل التجزؤ، فعلى كل واحد من المرتهنين حبس النصف، فلو سلم أحدهما كل المرهون للآخر، ضمنه عند أبي حنيفة، خلافاً للصاحبين. وأما إذا كان المرهون مما لا يتجزأ،
المطلب الثاني ـ شروط الصيغة
فيحبسه المرتهنان على طريق المهايأة (¬1)، فإن تهايآ، كان كل واحد منهما في نَوْبته كالعَدْل في حق الآخر. ويرى الشافعية أنه إذا وفى الراهن دين أحد المرتهنين، انفك من المرهون قسطه الذي يقابله من الدين. أما إن تعددت العين المرهونة كرهن سيارتين مقابل دين مقداره مئتا ألف، ثم وفى المدين بعض الدين الذي يقابل إحدى السيارتين، فإن كان رهن السيارتين مقابل الدين بلا تفريق، لم يكن له الحق بقبض سيارة حتى يوفّي الدين كله. وإن كان رهن السيارتين مفرقاً بأن قال: كل سيارة بمئة ألف، كان له الحق بقبضها؛ لأن العقد صار في حكم عقدين حين عين حصة كل من المرهونين. وإذا هلك المرهون، صار كل واحد من المرتهنين مستوفياً حصة دينه من المرهون؛ لأن الاستيفاء يتجزأ. وفي حالة الهلاك هذه لو قضى الراهن دين أحدهما، استرد ما قضاه من الدين؛ لأن ارتهان كل منهما باق، حتى يعود الرهن إلى الراهن؛ لأن كل مرتهن كالعدل بالنسبة للمرتهن الآخر في حالة عدم قابلية تجزئة المرهون. المطلب الثاني ـ شروط الصيغة: اشترط الحنفية (¬2) في صيغة الرهن ألا يكون معلقاً بشرط، ولا مضافاً إلى زمن مستقبل؛ لأن عقد الرهن يشبه عقد البيع من ناحية كونه سبيلاً إلى إيفاء الدين واستيفائه، فلا يقبل التعليق بشرط، والإضافة للمستقبل، وإذا علق الرهن أو أضيف، كان فاسداً كالبيع (¬3). ¬
وإذا اقترن الرهن بالشرط الفاسد أو الباطل، صح الرهن، وبطل الشرط؛ لأن الرهن ليس من عقود المعاوضات المالية. جاء في الزيادات والبزازية: والرهن لا يبطل بالشروط الفاسدة؛ لأنه تبرع بمنزلة الهبة، إذ لا يستوجب الراهن على المرتهن شيئاً، بتمليكه حبس الرهن عنده. ولكن جاء في البدائع (¬1): أن الرهن تبطله الشروط الفاسدة كالبيع، بخلاف الهبة. والأصح في تقديري هو رواية البزازية والزيادات؛ لأن الرهن ليس من المعاوضات، فيصح الرهن وإن سقط الدين بهلاكه، جاء في الهداية: الرهن عقد تبرع، لأنه لا يستوجب بمقابلته شيئاً على المرتهن (¬2). والشرط المشروط في الرهن عند غير الحنفية إما صحيح أو فاسد، والفاسد إما مفسد للعقد، وإما لاغٍ باطل وحده والعقد صحيح، على تفصيل فيما يأتي. قال الشافعية (¬3): الشروط المشروطة في الرهن ثلاثة أنواع: 1 - الشرط الصحيح: وهو أن يشترط في الرهن ما يقتضيه كتقدم وفاء المرتهن عند تزاحم الغرماء، ليستوفي منه دينه، مفضلاً على بقية الدائنين، أو أن يشرط فيه مصلحة للعقد ولا يترتب عليه جهالة، كالإشهاد به، فيصح العقد والشرط، كالبيع. 2 - الشرط الباطل أو اللغو: وهو أن يشرط فيه مالا مصلحة فيه ولا غرض، كأن لا يأكل الحيوان المرهون كذا، فيبطل الشرط، ويصح العقد. ¬
3 - الشرط المفسد للعقد: وهو أن يشرط ما يضر المرتهن، كشرط ألا يبيعه بعد حلول أجل وفاء الدين إلا بعد شهر، أو ألا يباع بأكثر من ثمن المثل، أو أن يشرط ما يضر الراهن وينفع المرتهن، كشرط منفعة غير مقدرة بمدة للمرتهن ولا بأجر عليها، أو إعطاء المرتهن زوائد الرهن، فيبطل الشرط للجهل بها ولعدمها حين الاشتراط ولحديث: «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل» (¬1)، ويبطل العقد في الأظهر، لمخالفة الشرط مقتضى العقد، كالشرط الذي يضر المرتهن. وكذلك يفسد الشرط والعقد إذا شرط جعل زوائد الرهن كالصوف والثمرة والولد مرهونة؛ لأنها معدومة حين الاشتراط ومجهولة. والظاهر أن الرهن يفسد أيضاً بتعليقه أو إضافته للمستقبل. وبه يتبين أن الشرط الفاسد: هو ما كان ضاراً بأحد العاقدين، أو كان فيه جهالة. والأظهر أنه متى فسد الشرط، فسد العقد. وقال المالكية (¬2): يصح الشرط الذي لا يتنافى مع مقتضى العقد، ولا يؤول إلى حرام، أما ما يتنافى مع مقتضى العقد، فهو شرط فاسد، مبطل للرهن، كأن يشترط في الرهن أن يكون تحت يد الراهن، لا يقبضه المرتهن، أو ألا يباع المرهون في الدين عند حلول الأجل، أو ألا يباع الرهن إلا بما يرضى به الراهن من الثمن. وأما الشرط الحرام الممنوع الفاسخ للعقد: فهو أن يرهن الرجل رهناً، على أنه لو جاء بحقه عند أجله، وإلا فالرهن له، فهذا فاسخ للعقد، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يَغْلَقِ الرهن» (¬3). ¬
والخلاصة أن الشرط عند المالكية نوعان: صحيح وفاسد. ومذهب الحنابلة (¬1) كالمالكية: قالوا: الشرط في الرهن نوعان: شرط صحيح، وشرط فاسد. الصحيح: ما كان فيه مصلحة للعقد، ولايتنافى مع مقتضاه، ولا يؤول إلى حرمة يكرهها الشرع، مثل أن يشترط في الرهن أن يكون عند عدل، أو عدلين، أو أكثر، أو أن يبيعه العدل عند حلول أجل الدين أو الحق. والفاسد: هو ما ينافي مقتضى العقد، مثل ألا يباع الرهن عند حلول أجل الحق، أو لا يستوفى الدين من ثمنه، أولا يباع إذا ما خيف تلفه، أو أن يباع بأي ثمن كان، أو ألا يباع إلا بما يرضى به الراهن. فهذه كلها شروط فاسدة، لمنافاتها مقتضى عقد الرهن؛ لأنها شروط تحول دون الوفاء بالدين عادة، وذلك يتنافى مع الغرض المقصود من الرهن. ومن الشروط الفاسدة: أن يشترط الخيار للراهن نفسه، أو ألا يكون الرهن لازماً في حقه، أو توقيت الرهن، أو أن يكون الرهن يوماً، ويوماً لا يكون، أو كون الرهن في يد الراهن، أوأن ينتفع به، أو أن ينتفع به المرتهن، أو يكون مضموناً عليه، أو أنه متى حل أجل الحق ولم يوفه الراهن، فالرهن للمرتهن بالدين أو فهو مبيع بالدين، ولا يصح الرهن معلقاً بشرط كالبيع، أي أنه فاسد. وهل يفسد الرهن بالشرط الفاسد عند الحنابلة؛ فيه آراء عندهم. قال القاضي أبو يعلى: يحتمل أن يفسد الرهن بهذا الاشتراط؛ لأن العاقد إنما بذل ملكه، ورضي بالرهن على هذا الشرط، فإذا لم يسلم له، لم يصح العقد لعدم الرضا به بدونه. ¬
المطلب الثالث ـ شروط المرهون به
وقيل: إن شرط الرهن مؤقتاً، أو رهنه يوماً، ويوماً لا، فسد الرهن، وإن شرط غيرذلك من الشروط الفاسدة، فعلى وجهين: قيل: يفسد الرهن، وقيل: لا يفسد، وأيد أبو الخطاب عدم فساده؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يغلق الرهن» وقد قاله في رهن شرط فيه شرط فاسد، ولم يحكم بفساده، ولأن الراهن قد رضي برهنه مع هذا الشرط، فمع بطلانه أولى أن يرضى به. وقيل: ما ينقص حق المرتهن يبطله وجهاً واحداً، وما لا، فعلى وجهين، والمعتمد عندهم كما جاء في مجلة الأحكام الشرعية (م962): «لايفسد عقد الرهن بفساد الشرط، وإنما يلغو الشرط فقط». المطلب الثالث ـ شروط المرهون به: المرهون به: هو الحق الذي أعطي به الرهن. ويشترط فيه عند الحنفية ما يأتي: الشرط الأول ـ أن يكون حقاً واجب التسليم إلى صاحبه: لأنه إذا لم يكن واجب التسليم، فلا محل لأن يعطى به رهن لتوثيقه، إذ لا إلزام على المطالب بالحق حتى يستوجب التوثق به (¬1). وعبر الحنفية عن هذا الشرط بقولهم: أن يكون ديناً مضموناً (¬2)، أي أن ¬
أولا - إن كان دينا،
يكون الدين واجب التسليم على الراهن، وعبارتنا أوضح؛ لأن الحق المرهون به: إما أن يكون ديناً، وإما أن يكون عيناً واجبة التسليم. أولاً - إن كان ديناً، جاز الرهن به، أياً كان سبب هذا الدين، قرضاً أو بيعاً، أو إتلافاً أو غصباً؛ لأن الديون واجبة الوفاء، فكان الرهن بها رهناً بحق واجب التسليم إلى صاحبه. وسواء في هذا أن يكون الدين مما يجوز استبداله قبل قبضه، أو مما لا يجوز استبداله قبل قبضه، كرأس مال السلم، وبدل الصرف، والمسلم فيه. وهذا عند أئمة الحنفية الثلاثة. وقال زفر: لا يجوز الرهن بما لا يصح الاستبدال فيه قبل القبض؛ لأن سقوط الدين بهلاك الرهن إذا هلك، إنما يكون نتيجة لاستبداله بما وجب في ذمة المرتهن بذلك الهلاك، بمعنى أن عين الرهن صارت بدلاً عن الدين الذي رهنت به، واستبدال هذه الديون لا يصح، كما تبين في بحث السلم، فلو جاز الرهن بهذه الديون، لزم منه استبدال هذه الديون قبل قبضها، إذا هلك الرهن، وهو لا يجوز شرعاً. ولا يقال في هذه الحال: إن سقوط الدين، كان بطريق الاستيفاء؛ لأن الاستيفاء لايتحقق إلا عند اتحاد الرهن والدين جنساً، والغالب أن يكونا مختلفي الجنس. فيختص جواز الرهن بدين يمكن استبداله. ودليل جمهور الحنفية: أن سقوط الدين دائماً عند هلاك الرهن، إنما هو بطريق الاستيفاء، لا بطريق الاستبدال. ويكفي في تحقق الاستيفاء وجود المجانسة في المالية، إذ أن الاستيفاء يتم بمالية الرهن، لا بصورته، والأموال كلها من ناحية المالية جنس واحد. وقد يسقط اعتبار المجانسة من حيث الصورة، ويكتفي
ثانيا ـ وإن كان المرهون به عينا،
بالمجانسة المالية للحاجة والضرورة، كما في إتلاف مالا مثل له من جنسه (¬1)، وقد تحققت الحاجة والضرورة في الرهن، لحاجة الناس إلى توثيق ديونهم في جميع الأحوال (¬2). وأما غير الحنفية (¬3): فروي عن الإمام أحمد روايتان في دين المسلم، رواية بالجواز، ورواية بعدم الجواز. وعلى الرواية الأولى: إذا كان الرهن بالمسلم فيه، ثم تقايلا السلم أو فسخ العقد، بطل الرهن، لزوال الدين الذي رهن به. وعلى المسلم إليه رد رأس مال السلم في الحال إلى رب السلم (المسلم). وقال مالك والشافعية: لا يجوز الرهن في بدل الصرف ورأس مال السلم المتعلق بالذمة؛ لأنه يشترط التقابض في مجلس العقد. ويجوز أخذ الرهن في المسلم فيه؛ لأنه دين، والآية أجازت الرهن في المداينة. ثانياً ـ وإن كان المرهون به عيناً، ففيه تفصيل: إن كانت العين أمانة كالوديعة والعارية والمأجور ومال الشركة والمضاربة ¬
إن كانت العين مضمونة بنفسها
فلايجوز الرهن بها بالاتفاق؛ لأن قبض الرهن مضمون، فلا بد من أن يقابله مضمون، أي لا رهن إلا بمضمون، ليصبح القبض موصلاً إلى الاستيفاء. وإن كانت العين مضمونة بنفسها: وهي التي يجب ضمان مثلها إن كان لها مثل، أو قيمتها إن لم يكن لها مثل كالمغصوب في يد الغاصب، والمقبوض على سوم الشراء، والمهر في يد الزوج، وبدل الخلع في يد الزوجة، وبدل الصلح عن دم العمد، فيجوز الرهن بها عند الحنفية، وللمرتهن أن يحبس الرهن حتى يسترد العين المرهون بها. وإن هلك الرهن في يد المرتهن قبل استرداد العين، وهي قائمة باقية، يقال للراهن: سلِّم العين إلى المرتهن، وخذ منه الأقل من قيمة الرهن، ومن قيمة العين؛ لأن المرهون مضمون بالأقل المذكور. وأجاز المالكية والحنابلة (¬1) كالحنفية كون المرهون به عيناً مضمونة بنفسها. وقال الشافعية (¬2) لا يصح الرهن بالعين التي هي أمانة أو مضمونة لاشتراطهم كون المرهون به ديناً؛ لأنه تعالى ذكر الرهن في المداينة، فلا يثبت في غيرها؛ ولأن هذه العين لا تستوفى من ثمن المرهون، وذلك مخالف لغرض الرهن عند البيع (¬3). وأما إن كانت العين مضمونة بغيرها: كالمبيع في يد البائع، فإنه مضمون بغيره، وهو الثمن، فلو هلك المبيع في يد البائع، سقط الثمن عن المشتري، فلا يصح الرهن به، في رواية النوادر عن أبي حنيفة؛ لأن قبض الرهن قبض استيفاء، ولا يتحقق معنى الاستيفاء في المضمون بغيره، إذ لو هلك الرهن في يد المشتري، لا يصير مستوفياً شيئاً بهلاك الرهن. ¬
بناء على اشتراط كون المرهون به حقا واجب التسليم إلى صاحبه يتفرع ما يأت
وفي ظاهر الرواية: إنه يصح الرهن بالمبيع قبل القبض؛ لأنه مضمون، وللمشتري أن يحبس المرهون حتى يقبض المبيع؛ لأن الاستيفاء المطلوب يتحقق من حيث المعنى؛ لأن المبيع قبل قبضه، إن لم يكن مضموناً بقيمته، مضمون بالثمن، ويعد سقوط الثمن عن المشتري بهلاك المبيع قبل تسليمه إليه، كالعوض عنه، فيصير المشتري مستوفياً مالية المبيع. وبناء على اشتراط كون المرهون به حقاً واجب التسليم إلى صاحبه يتفرع ما يأت: 1 - الرهن على نقود بعينها: لو تزوج شخص امرأة على نقود بعينها، أو اشترى شيئاً بنقود بعينها، فأعطى بها رهناً، لم يجز الرهن عند أبي حنيفة وصاحبيه؛ لأن النقود لا تتعين بالتعيين، وجاز عند زفر؛ لأن النقود تتعين عنده بالتعيين. 2 - الرهن بالدين الموعود به أو بما سيقرضه المرتهن للراهن: مقتضى هذا الشرط ألا يصح الرهن بالدين الموعود به، أو بما سيقرضه المرتهن للراهن؛ لأن الدين لا وجود له عند عقد الرهن، حتى يكون واجب التسليم. ولكن الحنفية والمالكية: أجازوا الرهن بالدين الموعود به الذي سيقرض في المستقبل، استحساناً لحاجة الناس إليه (¬1)، أما إذا ارتهن المرتهن بما يثبت له على الراهن في المستقبل بدون وعد فلا يجوز، ولا يصح الرهن عند الشافعية، والحنابلة في ظاهر المذهب (¬2) بما سيقرضه، أي بدين مستقبل؛ لأنه ليس بحق ثابت في الذمة عند عقد الرهن، وقد شرع الرهن عند ثبوت الدين، لا عند الوعد به. ¬
3 - الرهن بالدرك
3 - الرهن بالدَّرَك (¬1): أي بما يدرك المبيع من استحقاق، كأن باع شخص شيئاً وقبض الثمن، وسلم المبيع إلى المشتري، فخاف المشتري الاستحقاق، فأخذ بالثمن من البائع رهناً قبل الدَّرَك: لا يجوز هذا الرهن وإن جاز ضمانه (كفالته)؛ لأن استحقاق الشيء المبيع قد يتحقق وقد لا يتحقق، فكان الرهن به رهناً بما لا يجب فيه التسليم حالاً، بل وبما لا وجود له في الحال، وربما في المستقبل. وأما الكفالة بالدرك فجائزة؛ لأن الكفالة التزام وضمان المطالبة، ويصح التزام الأفعال وضمانها في المستقبل، كالنذور. قال الحنفية: الرهن بالدرك باطل، والكفالة بالدرك جائزة (¬2). أما الرهن فهو لاستيفاء الديون، وإذا لم يثبت الدين، فكيف يستوفى؟ فلا استيفاء قبل ثبوت الدين أو وجوبه، والاستيفاء فيه معنى المعاوضة، والمعاوضات والتمليكات لا يصح أن تضاف إلى المستقبل، لما في الإضافة من الخطر والغرر، والرهن بالدرك من هذا القبيل. فكأن الراهن البائع يقول للمرتهن المشتري: إن ظهر مستحق، فهذا الشيء رهن، تستوفي منه عوض الثمن. والفرق بين حالة الدرك والدين الموعود: أن الأول معدوم، والثاني كالموجود أي على وشك الثبوت، وقد صحح الحنفية الثاني للحاجة، كما تقدم. الشرط الثاني ـ أن يمكن استيفاء الدين من المرهون به: فإن لم يمكن الاستيفاء منه، لم يصح الرهن؛ لأن الارتهان استيفاء، فإذا انتفى الاستيفاء، انتفى الرهن والغرض منه (¬3). وعليه فلا يصح الرهن بما يأتي: ¬
الشرط الثالث ـ أن يكون الحق المرهون به معلوما
1 - القصاص بالنفس أو ما دونها، لا يجوز الرهن به؛ لأنه لا يمكن أو يتعذر استيفاء القصاص من المرهون. لكن يجوز الرهن بأرش (تعويض) الجناية؛ لأن استيفاء الأرش من الرهن ممكن. 2 - الكفالة بالنفس أي إحضار شخص إلى مجلس القضاء ونحوه: لا يجوز الرهن بها؛ لأن المكفول به لا يحتمل استيفاؤه من الرهن. مثل أن يكفل زيد نفس خالد، على أنه إن لم يواف به إلى سنة، فعليه الألف الذي عليه. ثم قدم خالد رهناً بالمال إلى سنة، فالرهن باطل، لأنه لم يجب المال بعد على خالد، ولأن استيفاء المكفول به (وهو تسليم نفس من عليه الحق) من الرهن غير ممكن. 3 - الشفعة: أي لا يجوز أخذ الرهن من المشتري الذي وجب عليه تسليم المبيع من أجل الشفعة، فلا يصح للشفيع أن يقول للمشتري: أعطني رهناً بالدار المشفوعة؛ لأن حق الشفعة لا يمكن استيفاؤه من الرهن، فلم يصح الرهن به. كما أن الشفعة ليست بمضمونة (واجبة التسليم) على المشتري، بدليل أنه لو هلك العقار المشفوع فيه، لا يجب عليه شيء. 4 - أجرة على فعل محرم: كأجر النائحة أو المغنية، أو الراقصة، كأن استأجرها شخص، وأعطاها بالأجرة رهناً، لا يصح الرهن، لعدم صحة الإجارة، فلا تجب الأجرة، فكان الرهن بشيء غير مضمون لعدم مقابلته بشيء مضمون، فلم يصح الرهن. كما لا يصح الرهن بالمنفعة الثابتة في الذمة التي يلتزم بها الأجير المشترك، إذ لا يمكن استيفاء المنفعة من المال. الشرط الثالث ـ أن يكون الحق المرهون به معلوما ً: فلا يصح الرهن بحق مجهول، فلو أعطاه رهناً بأحد دينين له، دون أن يعينه، لم يصح الرهن.
اشترط الشافعية والحنابلة في المرهون به
واشترط الشافعية والحنابلة (¬1) في المرهون به شروطاً ثلاثة: 1 ً - أن يكون ديناً ثابتاً واجباً كقرض وقيمة متلف، أو منفعة كالعمل في إجارة الذمة كالأجير المشترك الذي استؤجر لخياطة ثوب وبناء دار، وحمل معلوم إلى موضع معين، لإمكان استيفاء المنفعة ببيع المرهون وتحصيلها من ثمنه، فإذا لم يقم الأجير بفعل المنفعة المستأجر عليها، بيع الرهن، واستؤجر منه من يعمل العمل المأجور عليه، وذلك خلافاً للحنفية، أما إجارة العين فلا يصح الرهن بها، لتعذر استيفاء المرهون به من غيرالمعين، وإن بيع المرهون. ويترتب على اشتراط الدين ألا يصح الرهن عند الشافعية بالأعيان المستعارة أو المغصوبة. وأجاز الحنابلة أخذ الرهن على عين مضمونة كالمغصوب والعاريّة، والمقبوض على سوم الشراء، والمقبوض بعقد فاسد، لأنهم قالوا: يصح الرهن بكل دين واجب أو مآله إلى الوجوب، كثمن في مدة الخيار. ولا يصح عند الشافعية والحنابلة الرهن بدين لم يثبت بعد، وهو الدين الموعود به خلافاً للحنفية. ولا فرق في الدين بين أن يكون مستقراً، كدين القرض، وثمن المبيع المقبوض، أوغير مستقر، كثمن المبيع قبل قبضه، والأجرة قبل الانتفاع في إجارة العين، والصداق قبل الدخول. أما الأجرة في إجارة الذمة فلا يصح الرهن بها لعدم لزومها في الذمة، إذ يلزم قبضها في مجلس العقد قبل التفرق، فهي كرأس مال السلم. ¬
- أن يكون الدين لازما في الحال أو آيلا إلى اللزوم
2 ً - أن يكون الدين لازماً في الحال أو آيلاً إلى اللزوم: فيصح الرهن بالثمن بعد لزوم البيع، كما يصح أثناء مدة الخيار قبل لزوم العقد؛ لأن العقد آيل إلى اللزوم بعد انتهاء مدة الخيار. ولا يصح الرهن بدين أونجوم الكتابة، ولا بجعل الجعالة قبل الفراغ من العمل، لعدم لزوم الدين؛ لأن للعبد المكاتب، أو المجعول له أن يفسخ العقد متى شاء، فيتنافى ذلك مع معنى الرهن: وهو التوثق. 3 ً - أن يكون الدين معلوماً أو معيناً قدره وصفته للعاقدين: فلو جهلاه أو جهله أحدهما، أو رهن بأحد الدينين، لم يصح الرهن. وأما المالكية (¬1) فقالوا: يصح الرهن في المرهون فيه: وهو جميع الحقوق من بيع أو سلف أوغيرهما، إلا بدل الصرف ورأس مال السلم. واشترطوا في المرهون فيه أن يكون ديناً فلا يصح الرهن بالأمانة من وديعة أو مضاربة، وأن يكون في الذمة فلا يصح الرهن بالمعين ومنفعته (¬2)، وأن يكون لازماً أو آيلاً للزوم، فلا يصح الرهن في نجوم الكتابة. المطلب الرابع ـ شروط المال المرهون: المرهون: مال حبس لدى المرتهن لاستيفاء الحق الذي رهن به. فإذا كان المرهون من جنس الحق، أخذ الحق منه، وإن كان من غير جنسه بيع واستوفي الحق ¬
شروط المرهون عند الحنفية
من ثمنه، إن أدى البيع إلى الاستيفاء، كأن يكون الدين نقوداً (دنانير أو ليرات مثلاً) والمرهون من الأموال القيمية، وإلا كان الوفاء من طريق المعاوضة، كأن يكون الدين حنطة، والرهن نقوداً أو مالاً مثلياً من غير النقود. ولذا اتفق الفقهاء على أنه يشترط في المرهون ما يشترط في المبيع حتى يمكن بيعه، لاستيفاء الدين منه (¬1). وطريقة البيع عند الحنفية تتم بإذن الحاكم إذا كان الراهن غائباً، لا يعرف موته ولا حياته. أما إن كان حاضراً، فيجبر على بيع المرهون، فإذا امتنع، باعه القاضي، أو نائبه، وأوفى المرتهن حقه (¬2). وشروط المرهون عند الحنفية (¬3): أن يكون مالاً متقوماً، معلوماً، مقدور التسليم، مقبوضاً، محازاً، فارغاً عما ليس بمرهون، منفصلاً، متميزاً عنه، عقاراً كان أو منقولاً، مثلياً كان أو قيمياً. وأشرح هذه الشروط تباعاً: 1 ً - أن يكون المرهون قابلاً للبيع: وهو أن يكون موجوداً وقت العقد، مقدور التسليم، فلا يجوز رهن ما ليس بموجود عند العقد، ولا رهن ما يحتمل الوجود والعدم، كما لو رهن ما يثمر شجره هذا العام، أو ما تلد أغنامه هذه السنة، أورهن الطير الطائر، والحيوان الشارد، ونحوه، مما لا يتأتى استيفاء الدين منه ولا يمكن بيعه. رهن الثمر أو الزرع الأخضر قبل بدو صلاحه: هذا الشرط متفق عليه بين أغلب الفقهاء، فهو رأي الحنفية، والشافعية في الأظهر، وظاهر الروايات عند ¬
- أن يكون مالا
المالكية كما حقق الدسوقي، وفي وجه عند الحنابلة. فلا يجوز عندهم رهن الثمر قبل بدو صلاحه، ولا الزرع الأخضر من غير شرط القطع، لأنه لا يجوز بيعه، فلا يصح رهنه، كسائر ما لا يجوز بيعه (¬1). وقال ابن القاسم وابن الماجشون المالكيان، والحنابلة في الأصح عندهم: يستثنى من قاعدة: «ما لا يصح بيعه لا يصح رهنه»: رهن الثمرة قبل بدو صلاحها من غير شرط القطع، ورهن الزر ع الأخضر بلا شرط القلع، ورهن الشارد والضال من الحيوان؛ لأن النهي عن البيع، إنما كان لعدم الأمن من العاهة أو للغرر والخطر، ولهذا أمر الشرع بوضع الجوائح، وهذا المعنى مفقود في الرهن؛ لأن الدين في ذمة المدين الراهن، والغرر أو الخطر قليل في الرهن، لأنه إذا تلف المرهون لا يضيع حق المرتهن من الدين، وإنما يعود الحق إلى ذمة الراهن. وإذا لم يتلف المرهون بأن أدرك الزرع، وأثمر الثمر، وعاد الضال، تحققت منفعة المرتهن، فيباع متى حل الحق، ويؤخر البيع متى اختار المرتهن. وعليه يجوز عند بعض المالكية، والحنابلة ارتهان ما لا يحل بيعه في وقت الارتهان، ولا يباع إلا إذا بدا صلاحه، وإن حل أجل الدين. 2 ً - أن يكون مالاً: فلا يصح رهن ما ليس بمال، كالميتة، وصيد الحرم والإحرام، لأن هذا الصيد ميتة لا يحل تناوله. رهن المنفعة: ولا يصح أيضاً رهن المنفعة عند جمهور الفقهاء غير المالكية، كأن يرهن سكنى داره مدة شهر أو أكثر (¬2) لأنها عند الحنفية ليست بمال، وعند غير ¬
- أن يكون متقوما
الحنفية: ليست مقدورة التسليم، لأنها وقت العقد غير موجودة، ثم إذا وجدت فنيت (¬1)، ووجد غيرها، فلا يكون لها استقرار ولا ثبوت، فلا يمكن تسليمها ولا وضع اليد عليها، ولا بقاؤها إلى حلول أجل الدين أو وقت الاستيفاء. لكن امتناع رهن المنفعة عند الشافعية هو في حالة الابتداء، فيجوز جعل المنفعة مرهوناً بلا إنشاء الرهن، كما لو مات الشخص عن المنفعة وعليه دين. 3 ً - أن يكون متقوماً: أي يباح الانتفاع به شرعاً بحيث يمكن استيفاء الدين منه. رهن الخمر والخنزير: بناء على هذا الشرط: لا يصح للمسلم أن يرهن خمراً أو خنزيراً، ولا أن يرتهنهما من مسلم أو ذمي؛ لأن الرهن إيفاء الدين، والارتهان استيفاء، ولا يجوز للمسلم إيفاء الدين من الخمر ونحوه، ولا استيفاؤه. ولو رهن المسلم خمراً ونحوه عند ذمي، لم يضمنها هذا للمسلم، كما لا يضمنها بالغصب منه لعدم ماليتها. ولو كان الراهن للخمر هو الذمي عند مسلم، فعليه عند الحنفية ضمانها للذمي، كما يضمنها بالغصب منه؛ لأنها مال بالنسبة للذمي، والتقى الدينان حينئذ قصاصاً أو مقاصة. ويصح لأهل الذمة رهن الخمر والخنزير، وارتهانهما بينهم؛ لأن كلاً منهما مال متقوم في حقهم، كالخل والشاة عندنا. 4 ً - أن يكون معلوماً: كما يشترط في المبيع أن يكون معلوماً. ¬
رهن المجهول
رهن المجهول: وعليه فكل ما صح بيعه مع نوع من الجهالة، يصح رهنه، وما لا يصح بيعه للجهالة، لا يصح رهنه. والعلم المشترط في المبيع: هو ما يرتفع به النزاع، أو هو ما لا يقع منه نزاع في العادة. فلو قال الراهن: رهنتك هذا المنزل بما فيه، وقبل المرتهن، وتسلم المنزل، صح الرهن عند الحنفية، لصحة بيعه، على هذا الوضع. ولم يصح عند الشافعية والحنابلة (¬1)، لعدم صحة بيعه على هذا الوضع، لجهالة ما يحويه. ولو قال: رهنتك أحد هذين البيتين، صح عند الحنفية (¬2)، لصحة بيعه على أن يكون للمرتهن خيار التعيين. ولم يصح عند الشافعية والحنابلة، لعدم التعيين (¬3). ولو دفع الراهن للمرتهن ثوبين، وقال له: خذ أيهما شئت رهناً بدينك، فأخذهما، لم يكن واحد منهما رهناً، قبل أن يختار أحدهما، لأنه إنما رهن ما يختاره المرتهن منهما، ففيما قبل الاختيار يكون المرهون غير معلوم، وبعده يكون معلوماً، فيصح الرهن. ولو هلك الثوبان، ذهب نصف قيمة كل منهما بالدين، إن ساوى الدين قيمة أحدهما. 5 ً - أن يكون مملوكاً للراهن: وهذا ليس شرطاً لجواز صحة الرهن، وإنما هو عند الحنفية والمالكية شرط لنفاذ الرهن، وبه يعرف حكم رهن مال الغير. فيجوز رهن مال الغير بغير إذن وإنما بولاية شرعية كالأب والوصي، يرهن ¬
- أن يكون مفرغا
مال الصبي بدينه، وبدين نفسه، ويجوز رهن مال الغير بإذنه، كالمستعار من إنسان ليرهنه بدين على المستعير. فإن لم يكن هناك إذن من المالك بالرهن، كان الرهن كالبيع موقوفاً على الإجازة، فإن أجاز نفذ، وإلا بطل. وقال الشافعية والحنابلة (¬1): لا يصح رهن مال الغير بغير إذنه، لأنه لا يصح بيعه، ولا يقدر على تسليمه، ولا على بيعه في الدين، فلم يجز رهنه، كالطير الطائر، والحيوان الشارد. فإن رهن شيئاً يظنه لغيره، ثم تبين أنه لأبيه، وأنه قد مات، وصار ملكاً له بالميراث، صح الرهن عند الحنابلة وفي وجه عند الشافعية، إذ العبرة في المعاملات بما في نفس الأمر. والمنصوص عند الشافعية: أن العقد باطل، لأنه عُقِد، والعاقد لاعب، فلم يصح. فإن استعار الراهن الشيء ليرهنه، جاز عن أئمة المذاهب اتفاقاً (¬2)؛ لأنه بالاستعارة يقبض ملك غيره لينتفع به وحده من غير عوض. وهو شأن الإعارة، فهي جائزة لتحصيل منفعة واحدة من منافع العين المستعارة. 6 ً - أن يكون مفرَّغاً أي غير مشغول بحق الراهن، فلا يصح رهن النخل المشغول بالثمرة بدون الثمر، ولا الأرض المشغولة بالزرع بدون الزرع، ولا الدار المشغول بأمتعة الراهن بدون الأمتعة ونحوها. أما رهن الشاغل كحمل السيارة ومتاع الدار، غيرالمتصل بالمشغول، فجائز رهنه. 7ً - أن يكون محوزا ً (¬3) أي مجموعاً منفصلاً، لا متفرقاً متصلاً بغيره، فلا ¬
- أن يكون متميزا
يجوز رهن الثمر على شجر بدون الشجر، والزرع في الأرض بدون الأرض، إذ لا يمكن حيازة الثمر أو الزرع بدون الشجر أو الأرض. 8 ً - أن يكون متميزاً: أي غير مشاع، فلا يجوز رهن نصف دار أو ربع سيارة، ولو من الشريك. والسبب في اشتراط التفرغ، والحيازة، والتميز: هو أن القبض شرط لازم لاشرط صحة في الرهن، والقبض متعذر مع وجود هذه الموانع. فإذا قبض الرهن مفرغاً محوزاً متميزاً، تم العقد فيه ولزم، وما لم يقبضه المرتهن، فالراهن بالخيار: إن شاء سلمه، وإن شاء رجع عن الرهن، كما في الهبة: لأن الرهن كالهبة عقد تبرع غير لازم إلا بالقبض. وبه يظهر أن هذه الشروط الثلاثة هي في الواقع العناصر التي يتحقق بتوافرها قبض المرهون. المطلب الخامس ـ شرط تمام الرهن ـ قبض المرهون: اتفق الفقهاء في الجملة على أن القبض شرط في الرهن، لقوله تعالى: {فرهان مقبوضة} [البقرة:283/ 2]، واختلفوا في تحديد نوع الشرط، هل هو شرط لزوم، أو شرط تمام؟ وفائدة الفرق: أن من قال: شرط لزوم، قال: ما لم يقع القبض، لم يلزم الراهن بالرهن، وله أن يرجع عن العقد. ومن قال: شرط تمام، قال: يلزم الرهن بالعقد، ويجبر الراهن على الإقباض، إلا أن يتراخى المرتهن عن المطالبة حتى يفلس الراهن أو يمرض أو يموت (¬1). ¬
1 - قال الجمهور غير المالكية (¬1): القبض ليس شرط صحة وإنما هو شرط لزوم الرهن، فلا يلزم الرهن إلا بالقبض، فما لم يتم القبض يجوز للراهن أن يرجع عن العقد، وإذا سلمه الراهن للمرتهن وقبضه، لزم الرهن، ولم يجز للرهن أن يفسخه وحده بعد القبض. ودليلهم قوله تعالى: {فرهان مقبوضة} [البقرة:283/ 2] فلو لزم بدون القبض، لم يكن للتقييد به فائدة فقد علقه سبحانه بالقبض فلا يتم إلا به، ولأن الرهن عقد تبرع أو إرفاق (أي نفع) يحتاج إلى القبول، فيحتاج إلى القبض ليكون دليلاً على إمضاء العقد وعدم الرجوع، فلا يلزم إلا بالقبض كالهبة والقرض. 2 - وقال المالكية (¬2): لا يتم الرهن إلا بالقبض أوا لحوز، فهو شرط تمام الرهن أي لكمال فائدته، وليس شرط صحة أو لزوم، فإذا عقد الرهن بالقول (الإيجاب والقبول) لزم العقد، وأجبر الراهن على إقباضه للمرتهن بالمطالبة به. فإن تراخى المرتهن في المطالبة به، أو رضي بتركه في يد الراهن، بطل الرهن. ودليلهم: قياس الرهن على سائر العقود المالية اللازمة بالقول، لقوله تعالى: {أوفوا بالعقود} [المائدة:1/ 5] والرهن عقد فيجب الوفاء به. كما أن الرهن عقد توثق كالكفالة، فيلزم بمجرد العقد قبل القبض. وبناء على اشتراط القبض: لو تعاقد الراهن والمرتهن على أن يكون الرهن في يد الراهن، لم يصح الرهن. فلو هلك الرهن في يده لا يسقط الدين، ولو أراد ¬
كيفية القبض أو ما يتحقق به القبض
المرتهن أن يقبضه من يد الراهن ليحبسه رهناً، ليس له قبضه، إذ لا يصير الرهن صحيحاً بعد فساده (¬1). كيفية القبض أو ما يتحقق به القبض: اتفق الفقهاء على أن قبض العقار يكون بالتسليم الفعلي أو بالتخلية أي رفع المانع من القبض أو التمكن من إثبات اليد بارتفاع الموانع، فيُخلّى بين المرتهن والمرهون، ويمكن من إثبات يده عليه. أما قبض المنقول: ففي ظاهر الرواية عند الحنفية (¬2): أنه يكتفى فيه بالتخلية، فإذا حصلت، صار الراهن مسلِّماً، والمرتهن قابضاً؛ لأن التخلية تعتبر إقباضاً في العرف والشرع، أما في العرف: فلأنه لا يكون في العقار إلا بها، فيقال: هذه الأرض أو الدار في يد فلان، فلا يفهم منه إلا التخلي: وهو التمكن من التصرف. وأما في الشرع: فإن التخلية تعتبر إقباضاً في البيع بالإجماع من غير نقل أو تحويل. وهذا الرأي هو المعقول تمشياً مع طبيعة التعامل وسرعته. وقال أبو يوسف: لا تكفي التخلية في المنقول، وإنما يشترط فيه النقل والتحويل، فما لم يوجد لا يصير المرتهن قابضاً؛ لأن القبض ورد مطلقاً في الآية: {فرهان مقبوضة} [البقرة:283/ 2] فينصرف إلى القبض الحقيقي، وهو لا يتحقق إلا بالنقل، أما التخلية فالذي يتحقق بها قبض حكمي، فلا يكتفى فيه. ثم إن قبض الرهـ*ن يترتب عليه إنشاء ضمان على المرتهن لم يكن ثابتاً قبل العقد، فلا ¬
الرهن الرسمي للعقار أو ما ينوب مناب القبض
بد فيه من تمام النقل بالقبض ليحدث الضمان، كالشأن في الغصب، بخلاف البيع، فإن الذي يترتب عليه إنما هو نقل الضمان من البائع للمشتري، فيكتفى فيه بالتخلية. لكن يلاحظ أن هذا الفرق بين الرهن والبيع لا تأثير له. ويتفق الشافعية والحنابلة (¬1) مع أبي يوسف: فإنهم قالوا: المراد بالقبض هو القبض المعهود في البيع، فقبض الرهن كقبض البيع، فإن كان عقاراً أو مما لا ينقل كالدور والأرضين، يكون قبضه بالتخلية أي التخلية من الراهن بين المرهون والمرتهن من غير حائل. وذلك ينطبق على الثمر على الشجر والزرع في الأرض وإن كان منقولاً، فقبضه يكون بنقله أو تناوله، أي أخذه إياه من راهنه فعلاً. فإن كان كالحلي فيتم قبضه بنقله، وإن كان كالدراهم والثوب، فيتم نقله بتناوله، وإن كان مكيلاً أوموزوناً، فقبضه يكون بكيله أو وزنه. وإن كان مذروعاً، فقبضه بذرعه، وإن كان معدوداً فقبضه بعدّه. ويعتبر العرف المتعارف في المذكور كله. الرهن الرسمي للعقار أو ما ينوب مناب القبض: الظاهر أن المقصود من قبض الرهن هو تأمين الدائن المرتهن، وإلقاء الثقة والطمأنينة لديه، بتمكينه من حبس المرهون تحت يده، حتى يستوفي منه دينه، وليس المقصود من اشتراط القبض هو التعبد أي تنفيذ المطلوب بدون معنى. وقياساً عليه: يصح أن يقوم مقام القبض كل وسيلة تؤدي إلى تأمين الدائن، ومنها ما أحدثه القانون المدني من الرهن الرسمي في العقار بوضع إشارة الرهن في صحيفة العقار في دائرة التسجيل العقاري، فهو محقق لحفظ المرهون وبقائه ضماناً ¬
شروط القبض
للدائن، وتأميناً لمصلحته، فيقوم هذا مقام القبض المطلوب شرعاً. وهذا ما أقره المالكية من جواز الرهن الرسمي، بالإضافة لمشروعية الرهن الحيازي المتفق عليه بين الفقهاء. شروط القبض: يشترط لصحة القبض ما يأتي: أولاً ـ أن يكون بإذن الراهن: اتفق الفقهاء (¬1) على أنه لا بد لصحة القبض من إذن الراهن بالقبض، إذ به يلزم الرهن، ويسقط حق الراهن في الرجوع عن الرهن. فإن تعدى المرتهن، فقبضه بغير إذن، لم يثبت حكمه وكان بمنزلة من لم يقبض رهناً. وإن أذن الراهن في القبض، ثم رجع عن الإذن قبل القبض، زال حكم الإذن. أما رجوعه بعد القبض فلا يؤثر. وإذا قبض المرتهن شيئاً بغصب، ثم أقره المغصوب منه في يده رهناً، فقال مالك: يصح أن ينقل الشيء من ضمان الغصب إلى ضمان الرهن، فيجعل المغصوب منه الشيء المغصوب رهناً في يد الغاصب قبل قبضه منه. وقال الشافعي: لا يجوز، بل يبقى على ضمان الغصب، حتى يعود إلى الراهن ثم يأذن بقبضه ولايبرأالغاصب على الضمان بارتهان المغصوب منه. والإذن نوعان: صريح، ودلالة. الصريح: أن يقول الراهن: أذنت لك في القبض، أو رضيت به، أو يأمر ¬
ثانيا ـ أن يكون كل من عاقدي الرهن حين القبض أهلا للعقد
المرتهن بقبض الرهن بأن يقول له: اقبض، ونحوه، سواء تم القبض في مجلس العقد، أم بعده. والإذن دلالة أو ضمناً: أن يقبض المرتهن المال المرهون في مجلس العقد، والراهن ساكت، لا يعترض، فيصح قبضه؛ لأن الإيجاب بالرهن يدل على إرادة ترتب الأثر على العقد، ولا يترتب إلا بالقبض، فكان الإيجاب إذناً بالقبض ضمناً، في مجلس العقد، لا بعده، إذ قد يتغير رأيه بعد انتهاء المجلس. وقياس قول زفر في الهبة: أنه لا بد من الإذن بالقبض صراحة، ولا يجوز القبض بعد الافتراق من مجلس عقد الرهن؛ لأن القبض ركن في نظره. ثانياً ـ أن يكون كل من عاقدي الرهن حين القبض أهلاً للعقد: بأن يكون عاقلاً بالغاً، غير محجور عليه لصغر، أو جنون أو سفه، أو فلس عند مجيزي الحجر على المفلس؛ لأن القبض هو المولد لآثار الرهن، فوجب فيه ما يجب للعقد. وهذا رأي الشافعية والحنابلة، وصرح الحنفية بأن الصبي المأذون يجوز له الرهن والارتهان؛ لأن الرهن من توابع التجارة، فيملكه من يملك التجارة، أي أن البلوغ ليس بشرط في العقد والقبض، والمالكية مثلهم (¬1). فإن جن أحد العاقدين بعد العقد، وقبل القبض، أو عته، أو مات، بطل العقد عند الحنفية لزوال أهلية العاقد قبل تمام العقد. وقال الشافعية في الأصح والحنابلة: لا يبطل الرهن، كالبيع الذي فيه الخيار، ويقوم ولي المجنون أو المعتوه مقامه، كما يقوم الوارث مقام الميت المورث، وكذلك ¬
ثالثا ـ استدامة قبض الرهن
يقوم القيم على السفيه مقامه لو حجر عليه لسفه، أما إن حجر عليه لفلس لم يكن له تسليم الرهن. وإن أغمي عليه، لم يكن للمرتهن قبض الرهن. وقال المالكية: يبطل الرهن بموت الراهن أو جنونه أو إفلاسه، أو مرضه المتصل بموته قبل القبض. ولا يبطل بموت المرتهن، أو تفليسه، أو الحجر عليه للجنون؛ لأن العقد تم بالقول، وفي إمضائه منفعة ظاهرة للمرتهن، فيقوم وارثه مقامه في القبض. وإذا مرض الراهن مرض الموت قبل القبض، لم يجز له عند الحنفية إقباض أو تسليم المرهون، إذا كان ماله مستغرقاً بالدين، وله غرماء آخرون، إذ ليس له أن يوفي بعض الغرماء ديونهم دون بعض، لتعلق حقوقهم جميعاً حينئذ بماله، إلا إذا رضي سائر الغرماء. وهذا موافق لرأي المالكية أيضاً كما تقدم. وقال الشافعية في الأصح، والحنابلة في قول: للمريض أن يخص بعض غرمائه بالوفاء، ولو أحاط الدين بماله؛ لأنه يؤدي ما وجب عليه، فله إقباض الرهن. وقيل في المذهبين: ليس له تسليم الرهن. ثالثاً ـ استدامة قبض الرهن: يشترط لصحة القبض عند الحنفية والمالكية والحنابلة (¬1) دوام القبض، فإن قبض الرهن، ثم رده المرتهن باختياره إلى الراهن أو عاد إليه بإعارة أو إيداع أو إجازة أو استخدام أو ركوب دابة أو سيارة، بطل الرهن عند المالكية ولم يبطل عند الحنفية، وإنما يخرج من ضمان المرتهن، وللمرتهن أن يسترجعه إلى يده، وزال لزوم الرهن وبقي العقد كأن لم يوجد فيه قبض عند ¬
القبض السابق للرهن، أو رهن ما في يد المرتهن
الحنابلة، فإن عاد الراهن فرده إلى المرتهن، عاد اللزوم عند الحنابلة بحكم العقد السابق. وعند الحنفية والمالكية: لا يعود الرهن إلا بعقد جديد. ودليلهم عموم قوله تعالى: {فرهان مقبوضة} [البقرة:283/ 2] الذي يفهم منه اشتراط وجود القبض واستدامته. وقال الشافعية (¬1): ليس استدامة القبض فيما يمكن الانتفاع به مع بقائه من شروط صحة القبض، فلا يمنع القبض إعارة المرهون للراهن، أو أخذ الراهن المرهون بإذن المرتهن، واستعماله للركوب والسكنى والاستخدام، ويبقى وثيقة بالدين، لخبر الدارقطني والحاكم: «الرهن مركوب ومحلوب» وخبر البخاري «الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهوناً»، ولأن الرهن عقد يعتبر القبض في ابتدائه، فلم يشترط استدامته كالهبة. وأما إذا كان المرهون مما لا يمكن الانتفاع به إلا باستهلاكه، لم يكن للراهن طلب استرداده للانتفاع به بعد قبضه، ووجب استمرار يد المرتهن عليه؛ إذ لا ضمان لحقه إلا بذلك، حتى لا يتعرض حقه للضياع والتلف. القبض السابق للرهن، أو رهن ما في يد المرتهن: إذا كان المرهون موجوداً في يد المرتهن بطريق الإعارة أو الإيداع أو الإجارة أو الغصب، فهل يكتفى بالقبض السابق على عقد الرهن عن قبض الرهن بعده، فيصح العقد ويلزم بمجرد الإيجاب والقبول، أو يلزم تجديد القبض المطلوب للرهن بعد العقد مرة أخرى؟ فيه رأيان: رأي الجمهور ورأي الشافعية: ¬
1 - قول الجمهور: يرى الحنفية والمالكية والحنابلة (¬1): أنه يكتفى بالقبض السابق عن قبض الرهن، ولا حاجة لتجديد القبض. أما الحنفية فقرروا بالمناسبة مبدءاً ينطبق على الهبة والرهن ونحوهما. فقالوا: إن المرهون إذا كان مقبوضاً عند العقد، فينوب عن قبض الرهن إذا تجانس القبضان، بأن كان كل منهما مماثلاً للآخر في قوته، وإذا اختلفا ناب الأعلى عن الأدنى. وتوضيحه أن القبض كما تبين في الهبة نوعان: قبض أمانة، وقبض ضمان. فقبض الأمانة كقبض الوديعة. وقبض الضمان كقبض الغصب، والثاني أقوى من الأول. فإذا تجانس القبضان: السابق واللاحق المطلوب، أي أنهما كانا من نوع واحد، بأن كان كلاهما قبض أمانة أو قبض ضمان، قام القبض الأول مقام القبض الثاني المطلوب. وقبض الرهن قبض أمانة (¬2)، وليس هناك حالة يكون فيها القبض أدنى من قبض الرهن. فلو كان المال موجوداً بيد الدائن سابقاً على سبيل الإيداع أو الإعارة أو الإجارة ثم رهنه الراهن لدى الدائن، لزم الرهن، دون حاجة لتجديد قبض آخر؛ لأن قبض الوديعة ونحوه وقبض الرهن متجانساً، فكل منهما قبض أمانة، فينوب أحدهما مناب الآخر. ¬
ولو كان المال موجوداً بيد الدائن سابقاً بطريق الغصب، فرهنه صاحبه لدى الغاصب بسبب علاقة دين من بيع أو قرض، ناب قبض الغصب؛ لأنه قبض ضمان أقوى، عن قبض الرهن؛ لأنه قبض أمانة أدنى، والأعلى ينوب مناب الأدنى، أو الأقوى ينوب مناب الأضعف. وأما المالكية: فينوب عندهم أيضاً أي قبض سابق عن قبض الرهن؛ لأن غرضهم من القبض هو الحيازة، وهي متحققة. وقد نصوا على أنه يجوز رهن العين المستأجرة عند مستأجرها قبل انتهاء مدة الإجارة، ورهن البستان عند العامل فيه بعقد المساقاة، ويكفي حوزها السابق بالإجارة والمساقاة. وأما الحنابلة فقالوا أيضاً: إذا ارتهن المرتهن ما في يده بطريق الإعارة أو الإيداع أو الغصب ونحوه، صح الرهن، ولزم بالإيجاب والقبول، من غير حاجة إلى أمر زائد عليهما، لثبوت يده حينئذ على المال المرهون، ولم يشترط القبض إلا لإثبات اليد. 2 - وقال الشافعية والقاضي أبو يعلى من الحنابلة (¬1): يكفي القبض السابق، لكن لا يصير الشيء رهناً مقبوضاً حتى تمضي مدة يتأتى فيها قبضه. فإن كان منقولاً، فبمضي مدة يمكن نقله فيها، وإن كان مكيلاً فبمضي مدة يمكن اكتياله فيها، وإن كان غير منقول فبمضي مدة التخلية. وإن كان غائباً عن المرتهن، لم يصر مقبوضاً حتى يوافيه هو أو وكيله، ثم تمضي مدة يمكن قبضه فيها؛ لأن العقد يفتقر إلى القبض، والقبض إنما يحصل بفعله أو بإمكانه، وهو لا يكون إلا في زمن. ¬
والجمهور يقولون: إذا كانت يد المرتهن على المال المرهون قبل رهنه يد ضمان، فإنها تنقلب يد أمانة بارتهانه؛ لأن السبب المقتضي للضمان قد زال بالارتهان، فيزول أثره وهو الضمان بزوال سببه، بدليل أن الضمان يزول برد المال إلى مالكه لزوال السبب المقتضي للضمان، وسبب الضمان هو الغصب أو الاستعارة عند من يقول بأن يد المستعير يد ضمان، وهم الحنابلة، والشافعية أحياناً. وبارتهان المال لم يبق المرتهن غاصباً ولا مستعيراً، فلا يبقى الحكم مع زوال سببه. وقال الشافعية: تظل اليد السابقة إذا كانت يد ضمان كما هي. فإذا كان المال المرهون في يد المرتهن بطريق اغتصابه أو إعارته، لا يبرئه ارتهانه عن الغصب (¬1)، أو الإعارة، لأنه لا منافاة بين الأمرين، فلا منافاة بين يد الغرض منها التوثق وهي يد المرتهن ـ يد الأمانة، وبين اعتبارها ضامنة، بدليل أن المرتهن لو تعدى على المرهون، ضمنه، مع بقاء الرهن، بدليل اختصاصه بضمانه دون باقي الغرماء. وإذا كان عقد الرهن لا يبطل أو لا يرتفع بالضمان، بل يبقى معه، فلا يرفع الضمان الرهن ابتداء من طريق أولى. لكن إيداع الشيء عند الغاصب يبرئه عن الغصب في الأصح؛ لأن الإيداع ائتمان، وهو ينافي الضمان، بدليل أنه لو تعدى في الوديعة لم يبق أميناً، بخلاف الرهن. ¬
من يتولى قبض الرهن
من يتولى قبض الرهن: يتولى قبض الرهن المرتهن أو وكيله. ولا يصح أن يكون وكيله هو الراهن؛ لأن المقصود من القبض تأمين المرتهن، ولا يتم مع بقاء الرهن في يد الراهن. ويجوز أن يتفق الراهن والمرتهن على أن يوضع الرهن عند شخص يختارانه، فيقبضه ويحفظه عنده، ويسمى ب العدل، لأن الراهن قد يكره وضعه عند المرتهن، والمرتهن قد يكره وضعه عنده، خوف الضمان إذا تلف، أو لسبب آخر (¬1). العدل ـ تعيينه، عزله، ما له وما عليه أو أحكامه. تعيين العدل: العدل: هو الذي يثق الراهن والمرتهن بكون الرهن في يده (¬2)، لحفظه وحيازته. ويعتبر نائباً عن الراهن والمرتهن جميعاً. أما الراهن فلقيامه على حفظ المرهون باختيار الراهن وثقته به واطمئنانه إلى أمانته. وأما المرتهن فيعد العدل وكيلاً عنه في القبض، برضا المرتهن، بل إنه يعد احتباسه للرهن استيفاء للدين من وجه. فللعدل أو الأمين صفتان: صفة الأمانة، باعتباره نائباً عن الراهن المالك، فهو وديعة في عين المرهون. وصفة الضمان، باعتباره نائباً عن المرتهن، فهو وديعة في مالية المرهون. وبما أن العدل وكيل عن الراهن والمرتهن، فيشترط فيه ما يشترط في الوكيل (¬3)، فلا يكون صغيراً غير مميز، ولا محجوراً عليه لجنون أو عته عند جميع الفقهاء، كما لا يكون صبياً مميزاً ولا محجوراً عليه لسفه عند الجمهور غير الحنفية. ¬
ولا يصلح المدين المكفول عنه أن يكون عدلاً في رهن يقدمه كفيله؛ لأنه يكون عاملاً لنفسه، والشريك لا يصلح عدلاً في رهن يقدمه شريكه، ورب المال في المضاربة لايصلح أن يكون عدلاً في رهن يقدمه المضارب في دين للمضاربة؛ لأن يده كيد المضارب. ولو اتفق عاقدا الرهن على أن يكون العدل هو الراهن: فإن كان الاتفاق قبل قبض المرتهن، لم يصح الرهن اتفاقاً لوجود شرط فاسد لحق العقد. وإن كان الاتفاق بعد قبض المرتهن الرهن، فهو جائز عند الشافعية (¬1)، إذ لا يشترط عندهم استدامة قبض الرهن لدى المرتهن، ولا يصح الرهن عند غير الشافعية. ويحصل تعيين العدل باتفاق الراهن والمرتهن، سواء قبل أن يقبضه المرتهن، أو بعد قبض المرتهن، إذ قد تدعو الحاجة إليه، كأن يأبى الراهن أن يكون الرهن في يد الدائن؛ لأنه لا يثق به، أو لا يطمئن إلى حفظه، أو يخشى عليه منه، وهو في حاجة إليه. وإذا قبض العدل الرهن، صح قبضه، ولزم الرهن به عند جمهور الفقهاء؛ لأنه قبض في عقد، فجاز فيه التوكيل، كسائر أنواع القبض، وكان العدل وكيلاً عن المرتهن في القبض، بالنسبة لمالية الرهن بصفة الضمان، وإن كان وكيلاً أيضاً عن الراهن بالنسبة لعين الرهن، بصفة الأمانة، ويد الضمان غير يد الأمانة. وقال بعضهم كابن أبي ليلى وزفر وقتادة: لا يصح قبض العدل؛ لأن القبض من تمام العقد، فوجب أن يقوم به أحد العاقدين، وهو المرتهن، كالقبول والإيجاب (¬2). ¬
عزل العدل
ويجوز لعاقدي الرهن أن يجعلا المرهون في يد عدلين، فيحفظانه معاً، ولا ينفرد أحدهما بحفظه، وإن سلمه أحدهما إلى الآخر، كان ضامناً لنصفه: وهو القدر الذي تعدى فيه، وهذا عند الحنابلة، والأصح عند الشافعية (¬1)؛ لأن المتراهنين لم يرضيا إلا بحفظهما، فلم يجز لأحدهما الانفراد بالحفظ، ويجعلانه في مخزن لكل واحد منهما مفتاح. وقال أبو حنيفة: إن كان مما ينقسم اقتسماه، وإلا فلكل واحد منهما إمساك جميعه؛ لأن اجتماعهما على حفظه يشق عليهما. وقال الصاحبان: إذا رضي أحدهما بإمساك الآخر، جاز. عزل العدل: ينعزل العدل في الأحوال التالية (¬2): 1ً - الاستقالة: إذا استقال العدل، ورد الرهن إلى العاقدين، انتهت وكالته، لأنه أمين متطوع بالحفظ. فلا يلزمه الاستمرار عليه. فإن امتنعا رفع أمره إلى القاضي، فأجبرهما على قبول استقالته، أو دفعه إلى عدل آخر. 2ً - إنهاء ولايته: إذا اتفق العاقدان على عزل العدل، أو تغييره، أو أن يكون المرهون بيد المرتهن، انعزل العدل؛ لأنه وكيل عنهما جميعاً. فإن لم يتفقا رفع الأمر إلى القاضي ليرى رأيه، فإن شاء غيره، وإن شاء أبقاه. 3ً - بيع الرهن وتسديد دين المرتهن من ثمنه. 4ً - موت الراهن، لا موت المرتهن، في ظاهر الرواية عند الحنفية، فإذا توفي ¬
الراهن، وكان تعيين العدل متأخراً عن عقد الرهن، انعزل العدل؛ لأنه في هذه الحالة وكيل، وتنتهي الوكالة بموت الموكل. أما إذا مات المرتهن فلورثته عند الحنفية إمساك الرهن؛ لأن الدين قد انتقل إليهم بوثيقته، فينتقل إليهم حق إمساكه. أما إذا كان تعيين العدل في عقد الرهن، فلا ينعزل بموت الراهن، ولا بموت المرتهن؛ لأن تعيين العدل تابع للرهن، والرهن لا يبطل بموت أحد العاقدين، فلا ينعزل العدل الذي هو تابع. وقال الحنابلة والشافعية (¬1): ينعزل العدل بموت الراهن؛ لأنه وكيله، ولا ينعزل بموت المرتهن؛ لأنه ليس وكيلاً له. 5ً - موت العدل: إذا توفي العدل لم يكن لورثته حق إمساك الرهن إلا إذا اتفق العاقدان على ذلك. 6ً - جنون العدل: إذا جن العدل جنوناً لا ينتظر برؤه منه، انعزل به. أما إذا كان يرجى شفاؤه منه فلا ينعزل به. 7ً - عزل الراهن العدل: ينعزل العدل عند الشافعية والحنابلة (¬2) بعزل الراهن له، سواء اشترط تعيينه في عقد الرهن، أم بعده لأنه وكيله. ولا ينعزل عندهم بعزل المرتهن؛ لأنه ليس وكيلاً له، كما هو الحكم في موت الراهن. وقال الحنفية (¬3): إذا كان تعيين العدل عقب الرهن، فللراهن عزله، ولاينعزل فيما إذا كان التعيين في نفس عقد الرهن. وقال مالك: لا ينعزل العدل بعزل الراهن؛ لأن وكالته صارت من حقوق الرهن، فلم يكن للراهن إسقاطه كسائر حقوقه. ¬
أحكام العدل أو ما له وما عليه
والخلاصة: إن موت الراهن وعزله العدل، ينعزل به العدل عند الشافعية والحنابلة؛ لأن الوكالة عقد جائز غير لازم، فلا يجبر الراهن على إبقائها. وقال الحنفية: ينعزل في تعيين متأخر عن الرهن، ولا ينعزل في تعيين مقترن بالرهن. وقال المالكية: لا ينعزل. واتفقوا على أن العدل لا ينعزل بعزل المرتهن له ولا بموته؛ لأنه وكيل الراهن، إذ الرهن ملكه، ولو انفرد بتوكيله صح، فلم ينعزل بعزل غيره. أحكام العدل أو ما له وما عليه: للعدل حقوق وواجبات هي ما يأتي (¬1): 1ً - يجب على العدل أن يحفظ الرهن، كما يحفظ ماله. فيحفظه بنفسه أو بواسطة من يحفظ ماله عنده؛ لأنه في الحفظ بحكم الوديع. 2ً - وعليه أن يبقيه تحت يده، فليس له أن يدفعه إلى الراهن أو إلى المرتهن إلا بإذن الآخر، لاتفاقهما على وضع الرهن تحت يده، وعدم رضا كل منهما عن حفظ الآخر له. وليس للمرتهن ولا للراهن أخذ الرهن من يد العدل؛ لأن لكل منهما حقاً في الرهن، فحق الراهن في الحفظ، وحق المرتهن في الاستيفاء، ولا يملك أحدهما إبطال حق الآخر. ولو دفعه العدل إلى أحدهما من غير رضا صاحبه، فلصاحبه أن يسترده ويعيده إلى يد العدل. ¬
وإذا هلك الرهن في يد أحدهما قبل استرداده، ضمن العدل قيمته، بسبب اعتدائه عليه بدفعه إلى أحدهما، أي ضمن الأقل من قيمته ومن الدين، وهذا باتفاق الحنفية، والمالكية. ومثله في الحكم أن يسلمه العدل إلى أجنبي بدون رضاها قبل سقوط الدين. وإذا ضمن العدل قيمته، فدفعها إليهما، فلهما عندئذ أن يجعلاها رهناً في يده، إلى وفاء الدين. وليس للعدل بنفسه أن يجعل القيمة رهناً في يده؛ لأنه هو الذي دفع القيمة، فلو جعلها رهناً يصير قاضياً ومقضياً وبينهما تناف. فإن وفى الراهن الدين وأراد أن يأخذ قيمة الرهن من العدل، نظرنا في الأمر: إن كان العدل قد ضمن بسبب دفعه إلى الراهن، لم يكن للراهن أخذ قيمة الرهن منه؛ لأن حقه قد وصل إليه حين دفع إليه الرهن، فتكون القيمة حقاً للعدل. وإن كان العدل قد ضمن بسبب دفعه إلى المرتهن، كان للراهن أن يأخذ قيمة الرهن منه؛ لأنها بدل عن عين الرهن. وعندئذ ليس للعدل أن يرجع بما ضمن على المرتهن، إذا كان قد دفعه إليه على وجه العارية أو الوديعة؛ لأن العدل قد دفع إليه ملكه الذي تملكه من وقت الدفع حين ضمن قيمته (¬1). وإن كان قد دفعه إليه رهناً فيكون مضموناً على المرتهن كالمقبوض على سوم الرهن أو على سوم البيع؛ لأنه دفعه إليه على وجه الضمان. 3ً - ليس للعدل أن ينتفع بالرهن، ولا أن يتصرف فيه بالإجارة، أو الإعارة، أو الرهن؛ لأن الواجب عليه الإمساك، وليس له حق الانتفاع والتصرف. وليس ¬
له أن يبيعه إلا إذا كان مسلطاً على بيعه في عقد الرهن، أو بعده. وإذا توفي العدل، لم يحل وارثه محله في بيع الرهن؛ لأن الوكالة لا تورث. وكذلك لا يحل وصيه محله في البيع أيضاً، لأن الراهن لم يرض برأي وصيه. وعن أبي يوسف: أنه يحل محله؛ لأن الوكالة لازمة، فصار وصيه كوصي العامل المضارب إذا مات. ورد عليه بأن للمضارب ولاية التوكيل في حياته بدون إذن صاحب المال، بخلاف العدل، فجاز أن يقوم وصيه مقامه، كالأب في مال الصغير. وإذا باع العدل الرهن، لم يعد رهناً؛ لأنه صار ملكاً للمشتري، وصار ثمنه هو الرهن، لأنه قام مقامه. وللعدل أن يبيع الزيادة المتولدة من الرهن، لكونها مرهونة تبعاً للأصل. وله أن يبيع بمثل قيمة الرهن أو بأقل منه قدر ما يتغابن الناس فيه، وبالنقد والنسيئة عند أبي حنيفة. وله أن يبيع قبل حلول الأجل ويكون الثمن حينئذ رهناً عنده إلى أن يحل الأجل؛ لأن ثمن المرهون مرهون. وقال الشافعية والحنابلة: لا يبيع العدل إلا بثمن المثل حالاً، من نقد بلده كالوكيل. وإذا باع العدل وقبض الثمن، كان الثمن عنده من ضمان الراهن لأنه ملكه، والعدل أمينه، حتى يقبضه المرتهن. 4ً - إذا هلك الرهن في يد العدل من غير تعد، كان كهلاكه في يد المرتهن؛ لأن يد العدل بالنسبة لمالية الرهن، كيد المرتهن، ويكون عند الحنفية مضموناً على المرتهن بالأقل من قيمته (أي قيمة الرهن) ومن الدين. وإذا ضمن العدل قيمة الرهن بتعديه، أو ضمنها الأجنبي المتعدي على الرهن
بعد أن دفعه العدل إليه بلا حق، لم يستطع العدل أن يجعل القيمة رهناً في يده؛ لأنها واجبة عليه في الحالين، ولا يصلح الشخص الواحد أن يكون في آن واحد قاضياً ومقتضياً، ولكن يأخذها الراهن والمرتهن، فيجعلانها رهناً عند العدل أو عند غيره. وقال الشافعية والحنابلة: تجعل القيمة رهناً في حالة كون الأجنبي هو المتعدي على الرهن. وإذا استحق الرهن وهو قائم في يد العدل أخذه المستحق وبطل الرهن. وإذا استحق بعد هلاكه كان المستحق بالخيار بين أن يضمن الراهن قيمته أو يضمن العدل ويرجع العدل على الراهن بما ضمن لأنه غرّه. 5ً - ليس للعدل المسلط على البيع عند الحنفية أن يعزل نفسه إلا برضا المرتهن، مراعاة لحقه، إذا كانت الوكالة بالبيع مشروطة في عقد الرهن. فيجبر على البيع إذا حل أجل الدين وأبى البيع. وإجباره بأن يحبسه القاضي أياماً ليبيع، فإن أبى بعد الحبس باعه القاضي؛ لأن بيع الرهن في هذه الحالة صار حقاً للمرتهن. أما إذا كانت وكالة العدل بالبيع بعد عقد الرهن، فللعدل أن يعزل نفسه؛ لأنها تعد وكالة مستقلة مبتدأة، فتطبق عليها أحكام الوكالة، وقال أبو يوسف: ليس له أن يعزل نفسه. وقال الشافعية والحنابلة: للعدل في جميع الأحوال أن يعزل نفسه؛ لأنه وكيل منفصل، فلا يجبر على المضي في الوكالة.
المطلب السادس ـ ما يترتب على شروط الرهن أو ما يجوز ارتهانه وما لا يجوز
المطلب السادس ـ ما يترتب على شروط الرهن أو ما يجوز ارتهانه وما لا يجوز: بالإضافة لما ذكر سابقاً من الأمور المترتبة على شروط الرهن، ولا سيما شرط القبض، هناك حالات تتطلب مزيد بيان وتفصيل، أهمها ما يأتي: 1 - رهن المشاع: اختلف الفقهاء في رهن جزء مشاع كنصف وثلث وربع، فمنعه الحنفية، وأجازه الجمهور. وسبب الخلاف: هل تمكن حيازة المشاع أو لا تمكن (¬1)؟ أما مذهب الحنفية (¬2): فهو أنه لا يجوز رهن المشاع، سواء كان يحتمل القسمة أو لا، من شريكه أو غيره. والصحيح أن الرهن حينئذ فاسد، يضمن بالقبض؛ لأن القبض شرط تمام العقد ولزومه، لا شرط جوازه أو انعقاده. ودليلهم: أن الرهن يستوجب ثبوت يد الاستيفاء، واستحقاق الحبس الدائم للمرهون، والحبس الدائم لا يتصور في المشاع، لما فيه من مهايأة في حيازته، وكأن الراهن قد رهنه يوماً، ويوماً لا، فلم يصح سواء فيما يقبل القسمة أو فيما لايقبلها، ولو من الشريك، لوجود المهايأة في الحيازة. بل إن قبض أو حيازة الجزء الشائع وحده لا يتصور، والجزء الآخر ليس بمرهون، فلا يصح قبضه. والشيوع يمنع تحقق الجزء الشائع، سواء فيما يقبل القسمة، وما لا يقبلها، بخلاف الهبة حيث تصح فيما لا يحتمل القسمة للضرورة؛ لأنها تفيد الملك، والشيوع لا ينافيه، فاكتفي بالقبض الممكن. ¬
وهذا الحكم سواء أكان الشيوع مقارناً لعقد الرهن أم طارئاً عليه، فإذا طرأ الشيوع على الرهن، أفسده. وروي عن أبي يوسف: أن الشيوع الطارئ على العقد، لا يفسده؛ لأنه يغتفر في البقاء ما لا يغتفر في الابتداء، كالهبة التي يطرأ عليها الشيوع بعد القبض، فلا يفسدها. ورد عليه: أن العلة في المنع كون الشيوع ما نعاً من تحقق القبض، وهذا يستوي فيه الابتداء والبقاء، بخلاف الهبة؛ لأن الملك لا يتنافى مع الشيوع. وأما مذهب الجمهور غير الحنفية (¬1): فهو أنه يصح رهن المشاع أو هبته أو التصدق به أو وقفه، كرهن كله، من الشريك وغيره، محتملاً للقسمة أم لا؛ لأن كل ما يصح بيعه يصح رهنه، ولأن الغرض من الرهن استيفاء الدين من ثمن المرهون ببيعه عند تعذر الاستيفاء من غيره، والمشاع قابل للبيع، فأمكن الاستيفاء من ثمنه. والقاعدة عندهم: كل ما جاز بيعه جاز رهنه من مشاع وغيره. وأما كيفية الحيازة، فقال المالكية: يجب قبض جميع ما يملكه الراهن، ما رهنه وما لم يرهنه، لئلا تجول يد الراهن فيما رهنه، فيبطل الرهن. فإن كان الجزء غير المرهون غير مملوك للراهن، اكتفي بحيازة الجزء المرهون. ولا يستأذن الراهن شريكه في رهن حصته، إذ لا ضرر على الشريك، وهذا قول ابن القاسم المشهور. نعم يندب الاستئذان لما فيه من جبر الخواطر. وقال أشهب: يجب استئذانه. ويرى الشافعية والحنابلة: أن قبض المشاع في العقار يكون بالتخلية، وإن لم يأذن الشريك، وفي المنقول يكون بالتناول، ويشترط فيه إذن الشريك، ولا يجوز نقله بغير إذن الشريك. فإن أبى ورضي المرتهن بكونه في يد الشريك، جاز وناب ¬
2 - رهن المتصل بغيره والمشغول
عنه في القبض. وإن تنازع الشريك والمرتهن عين الحاكم عدلاً يكون في يده، إما أمانة أو بأجرة. وتجري المهايأة بين المرتهن والشريك كجريانها بين الشريكين. 2 - رهن المتصل بغيره والمشغول: الخلاف في هذا كالخلاف في رهن المشاع، على رأيين: قال الحنفية (¬1): لا يصح رهن شيء متصل بغير المرهون كالثمر على الشجر بدون الشجر، والزرع في الأرض بدونها، والشجر في الأرض بدونها، والأرض بدون ما عليها من زرع أو شجر؛ لأن المرهون متصل بغيره، فيتعذر الحبس بدونه، فهوكرهن المشاع. ولا يصح رهن المشغول بغير المرهون، كرهن دار فيها متاع الراهن دونه؛ لأن المرهون مشغول بغيره، ولا يمكن حبسه، فهو في معنى رهن المشاع. وأما الجمهور الذين جوزوا رهن المشاع، فجوزوا رهن المتصل والمشغول، لإمكان تسليمه مع ما هو متصل به. وأما المتاع الموضوع في الدار، فلا يدخل في الرهن إلا بالنص عليه؛ لأنه ليس بتابع للدار. ويدخل في رهن الأرض أو الدار عند الحنابلة ما يدخل في البيع، فإذا رهن أرضاً، كان في دخول الشجر وجهان. وإذا رهن شجراً مثمراً، لم تدخل الثمرة الظاهرة، كما لا تدخل في البيع، وإن لم تكن ظاهرة دخلت. وذهب الشافعية إلى عدم دخول الثمرة مطلقاً ـ ظهرت أو لم تظهر، في الرهن بحال. ¬
3 - رهن الدين
ولو رهن داراً فخلى بينه وبينها، وعاقدا الرهن فيها، ثم خرج الراهن، صح الرهن عند الشافعية والحنابلة. وقال الحنفية: لا يصح حتى يخلي بينه وبينها بعد خروجه منها (¬1). 3 - رهن الدين: أجاز المالكية دون غيرهم رهن الدين. فقال الحنفية (¬2): لا يجوز رهن الدين؛ لأنه ليس مالاً لأن المال عندهم لا يكون إلا عيناً، ولا يتصور فيه القبض، والقبض لا يكون إلا للعين. فلو كان خالد دائناً لعمر بمئة دينار، وعمر دائن لخالد بمئة مد حنطة، لم يجز لعمر أن يجعل دينه من الحنطة رهناً عند خالد بدينه الذي يستحقه قبل عمر، فهذا رهن الدين عند المدين، حيث جعل الدين الذي للدائن رهناً في الدائن الذي عليه. وكذلك قال الشافعية والحنابلة في الأصح عندهم (¬3): شرط المرهون كونه عيناً يصح بيعها، فلا يصح رهن دين ولو ممن هو عليه، أو من هو عنده؛ لأنه غير مقدور على تسليمه. لكن امتناع رهن الدين عند الشافعية هو في حالة جعل الدين رهناً ابتداء، أما في حالة البقاء فلا مانع من الرهن كضمان المرهون عند الجناية عليه، فبدله في ذمة الجاني يكون رهناً بالدين على الأرجح؛ لأن الدين قد يصير رهناً ضرورة في البقاء، حتى امتنع على الراهن أن يبرئه منه بلا رضاء المرتهن. ¬
لكن أقول: لا حاجة أن يعد ما في الذمة من ضمان رهناً بالدين، وإنما هو في الواقع دين تعلق به حق المرتهن، كتعلق حق الدائن بما يكون للمدين المتوفى من ديون عند الغير. وأما المالكية (¬1): فقالوا: يجوز رهن كل ما يباع، ومنه الدين، لجواز بيعه عندهم، فيجوز رهنه من المدين ومن غيره. وقد ذكرت صورة رهنه من المدين. أما صورة رهنه من غير المدين: أن يكون لخالد دين عند عمر، ولعمر دين على أحمد، فيرهن عمر دينه الثابت له في ذمة أحمد لدى خالد بدينه الثابت له في ذمته (أي ذمة عمر). والطريقة: هي أن يدفع له وثيقة الدين الذي له على أحمد، حتى يوفيه دينه. ويشترط لصحة هذه الصورة الأخيرة قبض الوثيقة، والإشهاد على حيازتها، أما في الصورة الأولى فيشترط لصحتها، سواء أكان الدينان من قرض أم مبايعة، أن يكون أجل الدين المرهون هو أجل الدين المرهون به، أو أبعد منه، بأن يحل الدينان في وقت واحد، أو يحل دين الرهن بعد حلول الدين المرهون به. أما إذا كان أجل حلول الدين المرهون أقرب، أو كان الدين المرهون حالاً، فرهنه لا يصح؛ لأنه يؤدي إلى إقراض نظير إقراض، إن كان الدينان من قرض. وإلى اجتماع بيع وسلف إن كانا من بيع؛ لأن بقاء الدين المرهون بعد أجله عند المدين به يعد سلفاً في نظير سلف الدين المرهون به. وإذا كان الدينان من بيع، فبقاء الدين المرهون يعد سلفاً مصاحباً للبيع، وهو ممنوع عند المالكية. ¬
4 - رهن العين المستأجرة أو المعارة
4 - رهن العين المستأجرة أو المعارة: يجوز عند أئمة المذاهب رهن المدين مالاً له، ولو كان مأجوراً أو مستعاراً (¬1)، على النحو التالي (¬2): قال الحنفية: يجوز رهن المستعار والمستأجَر عند المستعير أو المستأجر، وينوب قبض العارية وقبض الإجارة مناب قبض الرهن (¬3). إلا أنهم قرروا: إذا اتفق المتراهنان على الرهن، تبطل الإجارة والإعارة، فلا يبقى في يد المرتهن مستأجراً ولا مستعاراً، ويصح الرهن، إذ لا يجتمع على عين واحدة، في وقت واحد إجارة ورهن. وإذا طرأت الإجارة على الرهن، بطل الرهن وصحت الإجارة؛ لأن الرهن عقد غير لازم، والإجارة عقد لازم. وعبارة المالكية تتضمن جواز رهن العين المستأجرة، فإن رهنها مؤجرها عند مستأجرها بدين له عليه، ناب القبض السابق لها بعقد الإجارة عن قبض الرهن. وإن رهنها عند غير مستأجرها بدين له عليه، جاز إذا عين الدائن المرتهن أميناً ليلازم مستأجرها يكون قبضه وحيازته بدلاً عن قبض المرتهن وحيازته؛ لأن قبض المستأجر إنما كان لنفسه، فلا يقوم قبضه مقام قبض المرتهن. ويلاحظ أن الأرض في يد المزارع، والبستان في يدالمساقي يجوز رهنها كالعين المستأجرة. ¬
5 - رهن المستعار
وأجاز الحنابلة أيضاً رهن المأجور أو المعار أو الوديعة أو المغصوب، وينوب القبض السابق مناب قبض الرهن، ولا حاجة لتجديد القبض، كما بينت سابقاً. والشافعية أيضاً أجازوا رهن العين المستأجرة والمستعارة والوديعة، بشرط مضي زمان يتأتى فيه القبض. فإن رهنها لدى المستأجر والمستعير، بقي الرهن لبقاء يد المرتهن، وعدم المنافاة بين كونه مستأجراً، وكونه مرتهناً. وإن رهنها عند غير المستأجر أو المستعير، صح إذا رضي به المرتهن عدلاً، فتبقى في يد المستأجر والمستعير على اعتبار أنه أمين عن كل من عاقدي الرهن، ويظل الرهن أيضاً. وإن لم يرض المرتهن بالمستأجر أو بالمستعير عدلاً، ينظر: فإن كان الرهن بإذن المستأجر بطلت الإجارة، وإن كان بغير إذنه بطل الرهن، وأما العارية فهي عقد غير لازم، فإذا رهن المستعار، فسخت الإعارة. 5 - رهن المستعار: يلاحظ أنه في الحالة السابقة: الراهن هو المالك للعارية، فيرهن ملك نفسه، أما في هذه الحالة: فالراهن غير مالك للعارية وإنما يرهن مستعاراً مملوكاً لغيره. اتفق الفقهاء كما تقدم سابقاً على أنه يجوز للإنسان أن يستعير مال غيره، ليرهنه بإذن مالكه، في دين عليه (¬1)؛ لأن مالكه متبرع حينئذ بإثبات اليد أو الحيازة عليه، والمالك حر التصرف بملكه، فله إثبات ملك العين واليد معاً عن طريق الهبة مثلاً، كما له إثبات اليد فقط بالإعارة للرهن. وفي حالة الإذن من المالك بالرهن، قال الحنفية (¬2): للمستعير عند إطلاق ¬
المعير وعدم تقييده بشيء أن يرهن العارية عند من يشاء، وبأي دين أراد، وفي أي بلد أحب. وهو رأي الشافعية أيضاً. أما إذا قيده بقيود فإنه يتقيد بها، فإن قيده بقدر، لم يرهن بأكثر منه، ولا بأقل إذا كان ما رهنه به أقل من قيمة الرهن؛ لأن المتصرف بإذن يتقيد تصرفه بقدر الإذن، ولأن المرهون مضمون، والمالك جعله مضموناً بقدر ما حدد، وقد يكون له غرض بالقيد. أما إذا كان المستعار مساوياً لقيمة الرهن أو كانت هي أكثر، فلا يعد مخالفاً الإذن؛ لأنه خلاف إلى خير؛ لأن المالك حين يريد فكاك الرهن لا يكلف إلا بقدر الدين، ولا يناله ضرر بسبب الرهن عند الهلاك؛ لأن الضائع عليه أقل من قيمة الرهن. وإذا قيده بجنس من الدين لم يجز له أن يرهنه بجنس آخر؛ لأن قضاء الدين من بعض الأجناس قد يكون أيسر من بعض. وإذا قيده بدائن أو بلد، لم يجز له أن يخالف القيد. فإن خالف في شيء من هذه القيود، فهو ضامن لقيمته، إذا هلك؛ لأنه بهذه المخالفة يصير غاصباً، وكان الرهن باطلاً؛ لأنه وقع على مال مغصوب. وإذا هلك المال المستعار عند المرتهن، كان مالكه بالخيار: إن شاء ضمن المستعير قيمته لاعتباره غاصباً بسبب مخالفته، وبأدائه الضمان يتملكه المستعير من وقت قبضه من المعير، وإن شاء ضمن المرتهن لهلاك المال في يده، فصار كغاصب الغاصب، وإذا ضمن المرتهن رجع على الراهن. والخلاصة: أنه بالمخالفة يبطل الرهن ويضمن المستعير. وكذلك قال المالكية (¬1): إن خالف المستعير قيود المعير، فهلكت العارية أو ¬
انتفاع المستعير بالعارية
سرقت أو نقصت، ضمن المستعير مطلقاً لتعديه. ولو لم تتلف العارية فللمعير ردها وتبطل الإعارة. ويتقيد المستعير عند الشافعية والحنابلة (¬1) بقيود المعير، إلا أنهم قالوا: إذا قيده بمقدار من الدين، فرهنه بأقل منه، لم يكن مخالفاً؛ لأن الإذن بما زاد يعتبر إذناً بما نقص عنه، وليس في النقص ضرر؛ لأن الرهن عندهم أمانة في يد المرتهن. انتفاع المستعير بالعارية: إن مستعير العارية لرهنها يعتبر عند الحنفية وديعاً قبل الرهن، لا مستعيراً؛ لأنه غير مأذون له إلا بالرهن، فليس له أن ينتفع بالعارية، لا قبل رهنها، ولا بعد فكاكها، فإن فعل ضمن، لأنه لم يؤذن له إلا بانتفاع على وجه خاص وهو رهنها. فإذا انتفع بغير الرهن، كان مخالفاً، فيضمن، وإذا انتفع بها قبل رهنها، ثم رهنها، برئ من الضمان، حيث رهن؛ لأنه بالرهن عاد إلى وفاق المعير، فيبرأ بسبب الوفاق من الضمان، وبما أنه كالوديع، فالوديع إذا عاد إلى الوفاق بعد خلاف في الوديعة لا يضمن لأن القصد من الوديعة وهو الحفظ للمالك قد تحقق. وهذا بخلاف المستعير، إذا خالف، ثم عاد إلى الوفاق، فإنه لايبرأ من الضمان لثبوت التعدي، كما بينت وجه الفرق في بحث العارية. نوع ضمان هلاك العارية: إذا قبض المستعير العارية لرهنها، فهلكت في يده قبل رهنها أو هلكت في يده بعد فكاكها، لم يضمنها؛ لأنها هلكت وهي مقبوضة قبض العارية، لا قبض الرهن، وقبض العارية قبض أمانة، لا قبض ضمان عند ¬
طلب المعير فكاك العارية من الرهن
الحنفية. وذلك بخلاف المالكية والشافعية، والحنابلة في أظهر القولين عندهم، فإن العارية مضمونة مطلقاً عند الحنابلة، وفي بعض الحالات عند المالكية والشافعية، كما تبين في بحث الإعارة. وإذا هلكت العارية عند المرتهن، فليس لمالكها عند الحنفية إلا ما كان مضموناً منها، وهو الأقل من قيمتها ومن الدين. وإذا كان الدين هو الأقل، فلا يرجع المالك على المستعير بالزيادة؛ لأن العارية أمانة، وهي لا تضمن إلا بالتعدي. وقال المالكية: يرجع المالك على المستعير بقيمة العارية يوم استعارها. وقال الشافعية، والحنابلة في أظهر القولين: إذا تلفت العارية لدى المرتهن من غير تعد، ضمن المستعير (الراهن) قيمتها يوم تلفها، إذ العارية مضمونة مطلقاً عند الحنابلة، ومضمونة أحياناً عند الشافعية والمالكية. طلب المعير فكاك العارية من الرهن: إذا رهن المستعير العارية، كان لمالكها أن يطلب من الراهن فكاكها في أي وقت شاء عند الجمهور (الحنفية والشافعية والحنابلة)؛ لأن العارية عندهم عقد غير لازم، وللمستعير أن يستردها متى شاء، ولو كانت مقيدة بوقت. فإن افتكها الراهن ردها إلى مالكها وإن عجز عن فكاكها، كان لمالكها أن يفتكها، تخليصاً لحقه، ويرجع بجميع ما أداه للمرتهن على المستعير. وقال المالكية: الراجح أن للمعير الرجوع في الإعارة لمطلقها متى أحب، وليس له الرجوع في العارية المقيدة بالشرط أو العرف، أو العادة، كما ذكر في بحث العارية.
الاستئجار للرهن
الاستئجار للرهن: إذا جاز استعارة عين لترهن، جاز كذلك استئجارها لترهن (¬1). وإذا هلكت بلا تعد، فلا ضمان؛ لأن المستأجر أمانة غير مضمونة في يد المستأجر اتفاقاً، وليس للمؤجر فكها قبل انتهاء مدة الإجارة. 6 - رهن ملك الغير: يجوز للإنسان كما بان سابقاً أن يرهن ملك الغير بإذنه كالمستعار والمستأجر، وليس لأحد رهن ملك غيره إلا بولاية عليه، فإذا لم يكن له ولاية في الرهن، وسلم المرهون إلى المرتهن، كان بهذا التسليم متعدياً وغاصباً، وكان الرهن عند الحنفية موقوفاً على الإجازة، فإن لم يجزه مالك المرهون بطل الرهن، وكانت العين في ضمان الراهن بسبب غصبه. هذا بالنسبة للراهن. أما بالنسبة للمرتهن: فقال الحنفية (¬2): إذا هلك الرهن عند المرتهن، ثم تبين أنه مستحق لغير الراهن، أي لم يكن المرتهن عالماً بأنه ملك لغير الراهن، فإن المالك المستحق بالخيار بين أن يضمن الراهن قيمته، أو يضمن المرتهن؛ لأن كل واحد متعدٍ في حقه، أما الراهن فباستيلائه عليه بغير حق وتسليمه للمرتهن، وأما المرتهن فبقبضه وتسلمه. فإن ضمن المستحق (المالك) الراهنَ، صار المرتهن بسبب الضمان مستوفياً لدينه، بقدر قيمة الرهن، لهلاك الرهن في يده؛ لأن الراهن قد ملكه إذا أدى ضمانه ملكاً مستنداً إلى وقت استيلائه عليه بغير حق، قبل عقد الرهن، فيصبح راهناً ما يملك، ثم يصير المرتهن مستوفياً لدينه بالهلاك عنده إذا كانت قيمته مساوية لدينه، أو أكثر، وإلا فبقدر قيمته. ¬
وإن ضمن المستحق المرتهنَ ابتداء (مباشرة)، رجع المرتهن على الراهن بما ضمن، كما يرجع بدينه. أما رجوعه بما ضمن من مثل أو قيمة فلأنه تسلم الرهن مغروراً من جهة الراهن، والمغرور يرجع بما ضمن، وأما رجوعه بالدين، فلأن استيفاءه لدينه، قد انتقض بظهور أنه قد تسلم عيناً مملوكة لغير راهنها، فبطل الرهن، وعاد حقه كما كان. وقال الحنابلة (¬1): إما أن يكون المرتهن عالماً بالغصب، وإما أن يكون غير عالم به. فإن كان عالماً به، وأمسك الشيء حتى تلف في يده، استقر عليه الضمان. وكان المالك حينئذ بالخيار: إن شاء ضمن المرتهن، وغرم القيمة من ماله، وإن شاء ضمن الراهن. وعندئذ يرجع الراهن بما ضمن على المرتهن، لاستقرار الضمان عليه، إذا كان عليه أن يرد الشيء إلى مالكه، ولم يفعل حتى تلف في يده. وإن أمسك المرتهن الشيء غير عالم بغصبه حتى تلف في يده بتفريطه، فالحكم كما تقدم. وإن تلف بغير تفريط منه ولا تقصير فثلاثة أقوال: أحدها: أنه يضمن، ويستقر عليه الضمان؛ لأنه متعد بإمساك مال غيره، وتلف المال تحت يده، فيضمن كما لو علم بالغصب. ويلاحظ أنه في الحقيقة غير متعد؛ لأنه أمسك المال بإذن الراهن ولا علم له بالغصب. ثانيها: أنه لا ضمان عليه؛ لأن المرتهن قبضه على أنه أمانة من غير علمه بالغصب، فيكون الضمان على الراهن. ¬
7 - رهن العين المرهونة (تعدد الرهن)
ثالثها: أن للمالك الخيار في تضمين أيهما شاء، ولكن الضمان يستقر على الراهن. وهذا في تقديري أولى الآراء. ومثل هذا في الحكم ما لو حكم باستحقاق الرهن لغير راهنه، مع ملاحظة أن الرهن لا يهلك بالدين، وإنما هو أمانة عند الحنابلة والشافعية. 7 - رهن العين المرهونة (تعدد الرهن): الرهن إما أن يقع على بعض الشيء أو على كله، وفي الحالتين يتعدد الرهن. أـ فإن وقع الرهن على بعض الشيء، ثم رهن البعض الآخر، طبقت أحكام رهن المشاع. فعند الجمهور (مالكية وشافعية وحنابلة) القائلين بجواز رهن المشاع: إذا رهُن جزء من عين على الشيوع بدين، جاز رهن الجزء الباقي منها شائعاً بذلك الدين، أو بدين آخر، لنفس الدائن المرتهن الأول أو لغيره. لكن إذا كان الرهن لشخص آخر غير المرتهن الأول، لزم رضا الثاني بيد المرتهن الأول (¬1)، أو أن يحدث اتفاق جديد بين الثلاثة (الراهن والمرتهن الأول والثاني) على وضع الرهن تحت يد عدل. وأما عند الحنفية الذين لا يجيزون رهن المشاع أصلاً، فلا يتصور عندهم هذه الحالة، إلا إذا أفرزت العين أو قسمت، وسلمت غير مشغولة بغيرها. ب ـ وأما إن رهن الشيء كله بدين، وأريد رهنه بدين آخر، فلا يجوز الرهن ¬
الثاني عند الحنفية والشافعية والحنابلة (¬1)؛ لأن فيه مساساً بحق المرتهن الدائن، إذ مالية المرهون له، فلا يكون لغيره أن يتعلق حقه به. لكن إذا أجاز المرتهن الأول الرهن الثاني نفذ، وبطل ارتهانه للشيء، ويبطل ارتهان المرتهن أيضاً، إذا رهن الشيء وهو بدين عليه، بإذن مالكه، ويصير رهناً بدينه، ويكون حكمه حكم رهن الشيء المستعار للرهن. أما إن رهنه المرتهن الأول بدون إذن مالكه الراهن، كان رهنه غير صحيح، وكان للمالك إعادة الشيء إلى يد المرتهن الأول كما كان. فلو هلك الشيء في يد المرتهن الثاني قبل إعادته للأول، فمالكه بالخيار عند الحنفية: إن شاء ضمن المرتهن الأول، وإن شاء ضمن المرتهن الثاني، كما هو الحكم في رهن ملك الغير. فإن ضمن الأول، جاز رهنه؛ لأن بدل المرهون يصير مرهوناً. وإن ضمن المرتهن الثاني، بطل رهن الأول، وكان الضمان رهناً لدى المرتهن الأول، ويرجع الثاني على الأول بما ضمن، لأنه غرره. وقال المالكية (¬2): يجوز رهن العين المرهونة إذا كانت قيمتها تزيد على قيمة الدين، فيكون الرهن الجديد لتلك الزيادة، ويكون الدين الثاني المتعلق بالمرهون في المنزلة الثانية، فإذا بيعت العين في الدين يوفى الدين الأول، والباقي يوفى به الدين الثاني. وبه يظهر أن حق الدائن الأول لم يمس، فلا يتوقف نفاذ الرهن الثاني على إجازته. وإذا كانت العين في يد عدل، والرهن الجديد للمرتهن الأول أو لأجنبي غيره، لم يتم الرهن الثاني إلا برضا العدل بحوزه على الوضع الجديد. ¬
8 - رهن الوارث جزءا من التركة المديونة
وهذا الرأي بجواز الرهن على الرهن يتفق مع القانون المدني. وإذا كان الرهن الثاني لأجنبي، فهل يشترط رضا المرتهن الأول؟ عند المالكية أقوالاً ثلاثة: قيل: لا يشترط رضاه، وقيل: لا بد من رضاه، وقيل: لا يجوز وإن رضي. وإذا كانت العين بيد عدل، ففيه القولان: الأول والثاني. وإذا كان الرهن الثاني لأجنبي، وكان الدينان بأجل واحد فلا إشكال. فإن اختلف الأجلان، وحل أجل الدين الثاني أولاً، قسم الرهن بين الدينين إن أمكنت قسمته بلا ضرر، كنقص قيمته، ويدفع للمرتهن الأول قدر ما يفي بدينه، والباقي للثاني. وإن لم تمكن قسمته، بيع المرهون، وقضي الدينان، على أن يكون للدين الأول الأسبقية في الوفاء، والباقي للثاني. وهذا كله إن كان في الرهن فضل يفي بالثاني، وإن لم يوجد، لا يباع الرهن إلا بعد أن يحل الدين الأول. أما إن حل أجل الدين الأول أولاً، فإن الرهن يباع، ويقضى الدينان من ثمنه على الوضع السابق، إن لم تمكن قسمته بين الدينين من غير ضرر. ولا يضمن المرتهن الأول الجزء الفاضل للثاني إن هلك الرهن بيده، وكان مما يغاب عليه (يمكن إخفاؤه كالثياب والحلي) إلا بالتعدي؛ لأنه أمين في الجزء الفاضل. 8 - رهن الوارث جزءاً من التركة المديونة: قد يكون هناك حق لغير الراهن في المرهون يمنع الرهن كرهن المرهون ورهن التركة المدينة، كما أن رهن ملك الغير يكون موقوفاً على إجازة المالك.
فإذا رهن الوارث بعض أعيان التركة التي يتعلق بها دين على الميت، فقال الحنفية: يكون الرهن موقوفاً على تخليص أو تطهير التركة من الدين، لكي تخلص العين المرهونة لمرتهنها، ولأن الدين يمنع تملك الورثة للتركة، على خلاف بين الحنفية في الدين الذي لا يحيط بها. وكذلك قال المالكية: إن رهن الوارث في هذه الحال صحيح، ولكن نفاذه موقوف على سداد الدين، فإذا لم يسدد، نقض هذا التصرف؛ لأن الدين يمنع من تملك الورثة عندهم. وقال الحنابلة (¬1) في أصح الوجهين عندهم: لو رهن الوارث تركةا لميت، أو باعها، وعلى الميت دين، ولو من زكاة، صح الرهن والبيع، لانتقال التركة إليه بموت مورثه، فتصرفه صادف ملكه، ولم يرتب عليه من قبله أوباختياره حقاً لغيره، فلم يكن مثل رهن المر هون الذي رهنه من قبل والذي تعلق به حق الغير باختياره، وإنما في التركة لم يتعلق دين المتوفى بالمال باختيار الوارث، بل بحكم الشرع. وهكذا الحكم في كل حق ثبت وتعلق بالمال من غير إثباته وفعله كالزكاة والجناية، فلا يمنع ذلك من رهن ما تعلق به الحق. فيصح الرهن، وتكون أعيان التركة محملة بالدين. فإن تم الرهن، ثم وفى الوارث الحق الذي تعلق بالتركة: وهو الدين الذي على المتوفى، من مال آخر، فالرهن على حاله، وإن لم يقض الحق، فلغرماء التركة انتزاع ما رهن منها؛ لأن حقهم أسبق. وهذا مثل ما لو تصرف الوارث في التركة، ثم رد عليه مبيع باعه المورث بعيب ظهر فيه، أو تعلق بالتركة حق بعد وفاة المورث بسبب سابق، كأن وقعت ¬
9 - رهن ما يتسارع إليه الفساد
بهيمة بعد موته في بئر حفره في غير ملكه، فتصرف الوارث في هذه الأحوال صحيح غير لازم، فإن وفى الوارث الحق من ماله مثلاً أجزأه، وإلا فسخ تصرفه. ويراعى حينئذ أن يكون الوارث مختصاً بالعين التي رهنها، حتى لا يكون رهنه لما يملك غيره من الورثة. وقال الشافعية (¬1): يبطل رهن الوارث بعض أعيان التركة؛ لأن التصرف عندهم، إما صحيح نافذ وإما باطل، وتصرف الفضولي عندهم كالحنابلة غير صحيح، وقد منع من صحة هذا الرهن ونفاذه تعلق الدين بالتركة، وتعلق الدين وإن كان لا يمنع تملك الورثة، لكن تعتبر التركة مرهونة بالدين رهناً شرعياً، لا نتيجة لعقد رهن. والأظهر عندهم ألا فرق بين أن يكون الدين محيطاً بالتركة (مستغرقاً)، أو غير محيط (غير مستغرق) بها. ولهذا يمنعون الوارث من أن يتصرف في التركة مع تعلق حق الدين بها، كما يمنعون الراهن من أن يتصرف في العين المرهونة مع قيام الدين الذي رهنت العين به. 9 - رهن ما يتسارع إليه الفساد: يصح رهن ما يسرع إليه الفساد بالدين الحال والمؤجل عند الحنابلة وغيرهم (¬2)، سواء أكان مما يمكن إصلاحه بالتجفيف كالعنب والرطب، أم لا يمكن كالبطيخ والطبيخ. فإن كان قابلاً للتجفيف، فعلى الراهن تجفيفه؛ لأنه من مؤنة حفظه وتبقيته. وإن كان مما لا يجفف، فإنه يباع ويقضى الدين من ثمنه، إن كان ¬
10 - رهن العصير
حالاً، أو يحل قبل فساده، وإن كان لا يحل قبل فساده، جعل ثمنه مكانه رهناً، سواء شرط في الرهن بيعه أو أطلق؛ لأن العرف يقتضي ذلك، لحرص المالك على ملكه، فإذا تعين حفظ ملكه ببيعه، حمل عليه مطلق العقد، كتجفيف ما يجف والإنفاق على الحيوان. وقال الشافعية (¬1): إن رهنه بدين مؤجل لا يحل قبل فساد المرهون، ينظر فيه: فإن شرط أن يبيعه إذا خاف عليه الفساد، جاز رهنه. وإن أطلق فلم يشترط، ففيه قولان: الصحيح أنه لا يصح رهنه؛ لأنه لا يمكن بيعه بالدين قبل حلول أجل الحق، كما لا يصح إن شرط منع بيعه. وإن لم يعلم، هل يفسد المرهون قبل حلول الأجل، صح الرهن المطلق في الأظهر؛ لأن الأصل عدم فساده قبل الحلول. 10 - رهن العصير: يجوز رهن العصير؛ لأنه يجوز بيعه، وتعرضه للخروج عن المالية بالتخمر لا يمنع صحة رهنه. فإن صار خلاً، فالرهن بحاله. وإن صار خمراً بعد القبض وجبت إراقته، وزال لزوم العقد، فإن أريق بطل العقد فيه، ولا خيار للمرتهن؛ لأن التلف حصل في يده. وإن استحال خمراً قبل قبض المرتهن له بطل الرهن عند الحنابلة، وقال الحنفية والمالكية، وفي الأصح عند الشافعية: لم يبطل الرهن، وهو بحاله؛ لأنه يغتفر في الدوام والبقاء مالا يغتفر في الابتداء، ولأنه كانت له قيمة حالة كونه عصيراً، ويجوز أن يصير له قيمة (¬2). قال ابن قدامة: وهذا أقرب إلى الصحة؛ لأنه يعود رهناً باستحالته خلاً. ¬
11 - رهن المصحف
11 - رهن المصحف: يصح عند الحنفية والمالكية. وفي الأصح عند الشافعية (¬1): رهن المصحف وكتب الحديث والتفسير والآثار، ولا يقرأ فيها المرتهن؛ لأن عقد الرهن يفيد حق الحبس، لاحق الانتفاع، فإن انتفع بالمرهون، فهلك في حال الاستعمال يضمن كل قيمته، لأنه صار غاصباً. والأصح عند الحنابلة (¬2): أنه لا يصح رهن المصحف؛ لأنه لا يصح بيعه، والمقصود من الرهن استيفاء الدين من ثمنه، ولا يحصل ذلك إلا ببيعه، وبيعه غير جائز. ولكن يصح رهن كتب الحديث والتفسير، ولو لكافر إذا شرط أن تكون بيد مسلم عدل. المبحث الثالث ـ أحكام الرهن أو آثاره: الكلام عن أحكام الرهن يتناول أمرين: أولاً ـ أحكام الرهن الصحيح. وثانياً ـ أحكام الرهن الفاسد. الرهن الصحيح: هو ما توافرت فيه شروط الرهن. وغير الصحيح: هو ما لم تتوافر فيه شروط الرهن. وغير الصحيح عند الحنفية نوعان: باطل وفاسد. الباطل: هو ما كان الخلل فيه في أصل العقد، بأن يفقد أهلية التعاقد عند العاقد كالمجنون والمعتوه، أو يزول محل العقد مثل رهن غير مال أصلاً، أو أن يكون المرهون به لا يستوفى بالمال كالقصاص والشفعة، أو يفقد معناه كاشتراط ألا يباع المرهون في الدين، أو ألا يكون للمرتهن فيه امتياز على سائر الغرماء. ¬
أحكام الرهن الصحيح
والفاسد: ما لحق الخلل فيه وصف العقد، كأن يكون المرهون مشغولاً بغيره، أو أن يكون المرهون به مضموناً بغيره كالمبيع في يد البائع، على رواية النوادر. وظاهر الرواية أنه يصح الرهن بالمبيع قبل القبض، كما بينت في بحث الشروط. وغير الصحيح عند غير الحنفية نوع واحد: باطل أو فاسد: وهو ما لم تتوافر فيه شروط الرهن الصحيح التي يشترطونها، على خلاف بينهم في بعضها. أحكام الرهن الصحيح: فيه بيان حكم لزوم الرهن، وعشرة مطالب في آثار الرهن: حكم الرهن الصحيح أو حكم لزوم الرهن: يلزم الرهن بالنسبة للراهن لا للمرتهن، فلا يملك الراهن فسخه؛ لأنه عقد وثيقة بالدين، ويملك المرتهن فسخه في أي وقت؛ لأن العقد لمصلحته (¬1)، ولا تترتب آثاره عند جميع الفقهاء إلا بالقبض، فلا يختص المرتهن بثمن العين المرهونة، ولا يثبت له حق الامتياز على غيره من الدائنين إلا بالقبض. ولا يتحقق لزوم الرهن عند الجمهور إلا بالقبض، ويلزم عند المالكية بالإيجاب والقبول. وتفصيل المذاهب فيما يأتي: قال الجمهور من الحنفية والشافعية، والحنابلة في الأصح (¬2): لا يلزم الرهن في جميع أحواله إلا بالقبض، أما قبل القبض، فللراهن إمضاء الرهن أو فسخه. ¬
ودليلهم ـ كما بان سابقاً ـ قوله تعالى: {فرهان مقبوضة} [البقرة:283/ 2] إذ المعنى فرهن رهان مقبوضة، لأن المصدر المقترن بالفاء في جواب الشرط هو في معنى الأمر، أي «فارهنوا»، والأمر بالشيء الموصوف يقتضي أن يكون الوصف شرطاً فيه، فما شرع بصفة لا يوجد شرعاً إلا بها، فلا يلزم الرهن إلا بالقبض، ولأن الرهن عقد تبرع، لا يجبر الراهن على شيء فيه، فوجب لنفاذه وإمضائه القبض، إذ ليس للرهن قبل قبضه مظهر في الخارج إلا القبض، كما هو الشأن في الهبة والصدقة، فلا يوجد عقد الرهن شرعاً، ولا يترتب عليه أثره إلا مع القبض، ولا يلزم إلا بالقبض. وقال المالكية (¬1): يلزم الرهن بالإيجاب والقبول، ويتم بالقبض. فإذا ما صدر الإيجاب والقبول، لزم العقد، ويجبر الراهن على تسليم الرهن إلى المرتهن ما لم يوجد أحد الموانع الأربعة التالية وهي: موت الراهن بعد العقدوقبل التسليم، مطالبة الغرماء بأداء الراهن ديونهم، حالة التفليس العام (أي أن تكون الديون محيطة بمال الراهن). مرض الراهن المخوف، أو جنونه المتصلان بوفاته. ودليلهم ـ كما سبق بيانه ـ على أن الرهن يلزم بالعقد: أن العقد والالتزام يتحققان بالإيجاب والقبول، وقد قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة:1/ 5] والرهان عقد، والأمر للوجوب، فكان الوفاء به واجباً، من طريق لزومه بالنسبة للراهن، لأنه هو الملتزم. ¬
آثار عقد الرهن
آثار عقد الرهن: إذا تم عقد الرهن بتسليم العين المرهونة إلى المرتهن، ترتب على تمامه وتسليمه الأحكام الآتية: 1 - تعلق الدين بالمرهون. 2 - حق حبس الرهن. 3 - حفظ الرهن. 4 - مؤنة الرهن. 5 - منع الراهن من التصرف بالرهن. 6 - عدم الانتفاع بالرهن. 7 - ضمان الر هن (ضمان ما قابل الدين من الرهن عند الحنفية). 8 - بيع الرهن، أو مطالبة المرتهن ببيع الرهن لسداد الدين. 9 - امتياز الدائن المرتهن عن سائر الغرماء. 10 - تسليم الرهن أو رده عند انتهاء الدين. المطلب الأول ـ تعلق الدين بالمرهون: المبدأ العام في هذا هو عدم تجزئة الرهن، فإذا رهنت عين بدين، تعلق هذا الدين بجميع أجزاء العين المرهونة، أو بجميع وحداتها، كما أنها هي رهن بجميع أجزاء الدين. فإذا سقط جزء من الدين بإبراء أو وفاء مثلاً، ظل باقيه متعلقاً بجميع العين المرهونة. وبه أخذ القانون المدني المصري والسوري.
والدين الذي تعلق بالرهن: هو الذي جعل المال رهناً به فقط، ولا يتعلق غيره من الديون بالمرهون. وعلى أساس هذا التعلق، يثبت حق الحبس للمرتهن، فله حبس جميع المرهون، حتى يوفى كل الدين، سواء أكان المال شيئاً أم عدة أشياء. وهذا المبدأ أو الأصل السابق متفق عليه فقهاً، لكن الفقهاء اختلفوا في تطبيقه في حالة تعدد العقد، وعدم تعدده. فقال الحنفية (¬1): إن اتحاد العقد يقوم على اتحاد الصيغة، فإذا اتحدت الصيغة اتحد العقد، سواء أكان الرهن في دين واحد أم أكثر، فلو وفى المدين الديون لا يسترد ما يقابله من المرهون، سواء اتحد المرهون أم تعدد. فلو وفى الراهن ما يقابل أحد الأعيان المرهونة لا يسترده، حتى ولو سمى في عقد الرهن لكل عين مرهونة حصة من الدين؛ لأن العقد واحد، لا يتعدد بالتسمية. وسواء تعدد الراهن (كأن يرهن مدينان شيئاً عند دائن) أو تعدد المرتهن (بأن كانا شريكين أو كان لكل واحد منهما دين مستقل على الراهن). فإذا اتحد العقد لا يتحرر شيء من الرهن؛ لأن الرهن محبوس بجميع الديون، أو بجميع الدين. وإذا تعدد العقد بتعدد الصيغة يتحرر من الرهن ما يقابله. وقال المالكية (¬2): يتعدد العقد بتعدد كل من الراهن والمرتهن، أو بتعدد أحد الطرفين. ويكون عقد الرهن واحداً إذا كان كل من الراهن والمرتهن واحداً. فإذا ¬
اتحد عقد الرهن، يكون جميع المرهون رهناً بما بقي من الدين بعد وفاء بعضه؛ لأن كل جزء من المرهون رهن بكل جزء من الدين. وإذا تعدد الرهن، بأن كان الراهن اثنين، والمرتهن واحداً، فوفى أحد الراهنين ما عليه من الدين، استرد حصته. أو كان الراهن واحداً والمرتهن متعدداً، فوفى الراهن حصة أحد الدائنين، فإنه يسترد من الرهن ماقابلها. ويلاحظ أن الراهن إذا كان واحداً، والمرتهن متعدداً، وكان المرهون مما لا ينقسم، ووفى أحد الدائنين، يجعل الرهن تحت يد أمين، أو تبقى الحصة في يد المرتهن أمانة. وقال الحنابلة (¬1) بمثل قول المالكية: يتعدد العقد بتعدد الموجب أو القابل، فإذا كان الموجب اثنين والقابل واحداً، نشأ عقدان. وإذا كان الموجب واحداً، والقابل اثنين، نشأ أيضاً عقدان. وإذا كان كل من الموجب والقابل اثنين، نشأ أربعة عقود. ويكون عقد الرهن واحداً إذا كان كل من الراهن والمرتهن واحداً، سواء أكان الدين واحداً أم متعددا. فإذا وفى المدين بعض الدين، أو ديناً من الديون، لم يكن له أن يسترد ما يقابله من الرهن. وإذا تعدد الراهن، فمن وفى دينه، خرجت حصته من الرهن. وإذا تعدد المرتهن، فوفى الراهن أحد الدائنين، خرجت حصته من الرهن، واستردها الراهن. وإذا تعدد الراهن والمرتهن معاً، وهذه أربعة عقود، فيصير كل ربع من المرهون رهناً بربع الدين، فإذا وفى ربع الدين أو أكثر، انفك من الرهن ما يقابله قدراً، قال القاضي أبو يعلى: وهذا هو الصحيح. ¬
وقال الشافعية (¬1):يتعدد الرهن ويتحد بتعدد الدين ووحدته. والغالب أن يتعدد الدين بتعدد العاقدين، ولو اتحد وكيلهما، بخلاف البيع، العبرة فيه بتعدد العاقد المباشر للعقد، ولو وكيلاً؛ لأن المال المرهون وثيقة بالدين، فإذا تعدد الدين، تعددت الوثيقة، وتعدد الدائن أو المدين يستلزم تعدد الدين غالباً. أما البيع فهو عقد ضمان، فكان النظر فيه لمن باشره. فالمناط عندهم هو تعدد الدين وعدم تعدده، ويتعدد الدين بتعدد المدين أو الدائن غالباً، ويتحد بعدم تعددهما، أو بكون الدين مشتركاً ولو كان الدائن اثنين، وبهذه الحالة الأخيرة يفترق مذهب الشافعية عن مذهبي المالكية والحنابلة. وبناء عليه: لو رهن شخص داراً عند دائنين، ثم وفى دين أحدهما، انفك من الرهن ما يقابل هذا الدين من المرهون، لتعدد الدين بسبب تعدد الدائن، بشرط أن يختص أحد الدائنين بما يقبضه، فإن شاركه فيه الآخر، لم ينفك شيء من الرهن، لعدم وفاء الدين على التمام. ولو استعار مالاً من اثنين ليرهنه، ثم أدى نصف الدين، انفك نصف المال المرهون. والخلاصة: أن العبرة باتفاق الفقهاء في فكاك شيء من المرهون أو عدم فكاكه بتعدد عقد الرهن وعدم تعدده، إلا أن مناط تعدده عند الحنفية: هو تعدد الصيغة، دون نظر لتعدد العاقدين أو عدم تعددهما. ومناطه عند المالكية والحنابلة: هو تعدد العاقد. وعند الشافعية: هو تعدد الدين وعدم تعدده، ويتعدد الدين عندهم بتعدد المدين أو الدائن غالباً، فيصبح مذهبهم قريباً من مذهبي المالكية والحنابلة. ¬
المطلب الثاني ـ حق حبس الرهن
المطلب الثاني ـ حق حبس الرهن: حق الحبس: يترتب على تعلق الدين بالمرهون؛ لأن التعلق شرع وسيلة لوفاء الدين من المرهون أو من غيره، ولا يتم التعلق على وضع مأمون إلا بحبس مايتعلق به الدين لدى المرتهن، حتى يكون حبسه حاملاً للمدين على الوفاء، مخافة بيع المال المحبوس جبراً عنه عند إبائه. فكان تعلق الدين بالرهن، وحبس المرهون من عناصر التوثق. وبناء عليه قال الحنفية (¬1): يترتب على صحة الرهن ثبوت حق المرتهن في حبس العين المرهونة، على وجه الدوام، وعدم تمكين الراهن من استرداد المرهون قبل وفاء الدين؛ لأن الرهن شرع للتوثق، والتوثق لا يكون إلا بحبس ما يكون به الوفاء، وهو المال المرهون. وإثبات حق الحبس يكون عند الحنفية بإثبات يد استيفاء الدين للمرتهن على المرهون؛ لأن معنى الاستيفاء: هو ملك عين المستوفى، وملك اليد عليه معاً، وبما أن ملك عين المرهون ممنوع شرعاً بالحديث الصحيح: «لا يغلق الرهن من صاحبه» بقي ملك اليد، ويصير موجب عقد الرهن الذي شرع وثيقة للاستيفاء: وهو ثبوت ملك اليد فقط دون ملك العين؛ لأنه مدلول لفظ الرهن لغة وهو الحبس، والمعاني الشرعية تثبت على وفق المعاني اللغوية. وبما أن المرهون عين لها مالية، والوفاء إنما هو بماليتها، كانت يد المرتهن هي بالنظر إلى ماليتها، فتكون يد استيفاء بالنسبة لماليتها، فتقتصر على ما يقابل الدين من ماليتها، والزائد عنه أمانة في يد المرتهن. ¬
قال الجمهور
وقال الجمهور (الشافعية والمالكية والحنابلة): إن موجب الرهن هو موجب سائر الوثائق، وهو أن تزداد به طرائق المطالبة بالوفاء، فيثبت به للمرتهن حق تعلق الدين بالعين المرهونة عيناً، والمطالبة بإيفائه من ماليتها، عن طريق بيعها واختصاصه بثمنها. أما حق الحبس، فليس بحكم لازم لعقد الرهن عند الشافعية، فللراهن أن يسترد الرهن لينتفع به بدون استهلاكه، فإذا انتهى انتفاعه، رده إليه. بدليل الحديث «لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه» أي لا يحبس، وأضافه النبي صلّى الله عليه وسلم إلى الراهن بلام التمليك، وسماه صاحباً، فاقتضى أن يكون هو المالك للرهن رقبة وانتفاعاً وحبساً. والحبس على الدوام يتنافى مع كون الرهن توثيقاً، فقد يهلك الرهن، فيسقط الدين أي كما قال الحنفية، فيكون توهيناً لا توثيقاً. ثم إن في الحبس تعطيلاً للانتفاع بالرهن، فهو تسييب، والتسييب ممنوع شرعاً. والخلاصة: إن عقد الرهن يثبت حق الحبس الدائم للمرتهن على المرهون عند الجمهور. أما عند الشافعية: فيقتضي الرهن عندهم فقط تعين المرهون للبيع لوفاء الدين. وفي تقديري أن رأي الجمهور أسلم لاتفاقه مع واقع الرهن وهو الاحتفاظ به لحمل المدين على الوفاء بالدين. لذا قرر المالكية والحنابلة كما تبين في شروط القبض ضرورة استدامة قبض المرهون في يد الدائن، حتى يؤدي الراهن ماعليه (¬1). ¬
مطالبة المرتهن بوفاء دينه مع استمرار حبس الرهن
وانبنى على الخلاف بين الحنفية والشافعية في مقتضى عقد الرهن، أهو الحبس، أم تعينه للبيع مسائل هي: 1 - استرداد الرهن: لا يجيز الحنفية استرداد الرهن لينتفع به؛ لأنه يتنافى مع مقتضى عقد الرهن وهو حبس المرهون لدى المرتهن. ويجيز الشافعية استرداده للانتفاع به؛ لأن استرداده لا يتنافى مع مقتضى العقد: وهو تعين المرهون للبيع في سبيل وفاء الدين. 2 - الزوائد المنفصلة المتولدة: يسري الحبس عند الحنفية إلى الزوائد المنفصلة المتولدة، فتحبس مع أصلها، لأنها كالجزء منها. ولا يسري عليها حكم الرهن عند الشافعية، فلا تباع في الدين، لأنها عين أخرى. 3 - رهن المشاع: لا يصح رهن المشاع عند الحنفية؛ لأن الحبس الدائم لايتصور فيه. وعند الشافعية والمالكية والحنابلة: يجوز لجواز بيعه، وحكم الرهن هو تعينه للبيع واستيفاء الدين من ثمنه. مطالبة المرتهن بوفاء دينه مع استمرار حبس الرهن: قال الحنفية (¬1): للمرتهن أن يطالب الراهن بدينه مع استمرار حبسه للمال المرهون إذا كان الدين حالاً. فإذا أراد المدين أداء الدين، كان له أن يطالب المرتهن بإحضار الرهن، وعلى المرتهن إحضاره ليعلم أنه لا يزال موجوداً لم يهلك. وهذا إذا لم يكن للرهن حمل ومؤنة، كأن كان في بلد عقد الرهن. ولا يكلف المرتهن بإحضار الرهن إذا كان ¬
المطلب الثالث ـ حفظ المال المرهون
للرهن حمل ومؤنة، وكانت المطالبة في بلد غير عقد الرهن؛ لأن الواجب عليه حينئذ التخلية، لا نقله إلى مكان الإيفاء، لئلا يترتب عليه ضرر كبير. فإن كانت المطالبة في البلد الذي تم فيه عقد الرهن، فإنه يحضره، لعدم ترتب ضرر كبير على إحضاره. كذلك لا يكلف المرتهن إحضاره إذا كان في يد عدل (أمين)، لأنه لا قدرة له على إحضاره؛ إذ العدل ممنوع من تسليم الرهن إلى أحد العاقدين، وإلا كان ضامناً وآخذه غاصباً. والخلاصة: أن المطالبة إن كانت في بلد الرهن، يؤمر المرتهن بإحضاره مطلقاً. وإلا فإن لم يكن له حمل ومؤنة فيؤمر كذلك، وإن كان له حمل، لا يؤمر. وقال ابن عابدين: فيه نظر، فالمعول عليه على وجود المؤنة، فإن احتاج إلى نفقة حمل بأن كان في موضع آخر، لم يكلف إحضاره، وإن لم يحتج كلف إحضاره. وفي تقديري أن هذا هو الأدق والأولى. المطلب الثالث ـ حفظ المال المرهون: بناء على ثبوت حق حبس المال المرهون عند المرتهن في مذهب الحنفية، فإن المرتهن يحفظ المرهون تحت يده بما يحفظ به مال نفسه عادة، فيحفظه بنفسه، وزوجته، وولده وخادمه إذا كانا يسكنان معه، وبأجيره الخاص؛ لأن عين المرهون أمانة في يد المرتهن، فصار من هذه الناحية كالوديعة، يحفظه كما تحفظ. ولا يجوز له حفظه بغير هؤلاء، فإذا أودعه أو قصر في حفظه، ضمن قيمته بالغة ما بلغت. والضامن عند أبي حنيفة: هو المرتهن لا الوديع، وعند الصاحبين: كلاهما ضامن، المرتهن بالدفع، والوديع بتسلمه ما ليس مملوكاً للدافع، لكن يستقر الضمان في النهاية على المرتهن، كما في وديع الوديع.
المطلب الرابع ـ الإنفاق على الرهن أو مؤنة الرهن
ويجوز للمرتهن السفر بالمرهون إذا كان الطريق آمناً، كما في الوديعة، وإن كان له حمل ومؤنة (¬1). المطلب الرابع ـ الإنفاق على الرهن أو مؤنة الرهن: اتفق الفقهاء على أن نفقة أو مؤنة الرهن على المالك الراهن؛ لأن الشارع قد جعل الغنم والغرم للراهن: «لا يغلق ـ لا يُتملك ـ الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه، وعليه غرمه» (¬2). لكنهم اختلفوا على رأيين في نوع النفقة الواجبة على الراهن. 1 - فقال الحنفية (¬3): توزع النفقة على الراهن، باعتباره مالك العين، وعلى المرتهن، باعتباره مكلفاً بحفظها، على النحو التالي: كل ما يحتاج إليه من النفقات لمصلحة المرهون وتبقيته، فهو على الراهن؛ لأنه ملكه. وكل ما كان لحفظ المرهون، فهو على المرتهن؛ لأن حبسه له، فلزمه توابعه. وبناء عليه، على الراهن: طعام الحيوان وشرابه وأجرة الراعي. وعليه سقي الشجر ونفقة تلقيحه وجذاذه (قطفه) والقيام بمصالحه، وسقي الأرض وإصلاحها وكري أنهارها وإنشاء مصارفها، وضريبة خراجها وعشر حاصلاتها؛ لأن كل ما ذكر من مؤونة (ما به بقاؤه) المال المملوك، ومؤُونة المملوك على مالكه. ¬
ولا يجوز للراهن أن يجعل النفقة على الرهن، أو من زوائده، إلا برضا المرتهن، لأن المرهون كله قد تعلق به حق المرتهن، وفي بيعه للإنفاق على الباقي اعتداء على حقه، فلا يجوز بغير إذنه. وعلى المرتهن أجرة الحفظ، للحارس أو المحل الذي يحفظ فيه المرهون، مثل أجر حظيرة الحيوان، وأجرة المخزن المحفوظ فيه، لأن الأجرة مؤنة الحفظ، وهي عليه. وبناء عليه لا يجوز أن يشترط في عقد الرهن أجر للمرتهن على قيامه بحفظ الرهن، لأنه واجب عليه، ولا أجر على واجب. وروي عن أبي يوسف: أن أجرة المأوى على الراهن، بمنزلة النفقة؛ لأنه سعي في تبقيته. وأما نفقات رد المرهون عند ضياعه، ونفقات علاجه من القروح أو الأمراض (¬1)، فعلى كل من الراهن والمرتهن، المرتهن بقدر ضمانه: وهو ما يقابل الدين، والباقي: وهو ما زاد على قدر الدين، وهو الأمانة التي لا تدخل في ضمان المرتهن، على الراهن، إذا كانت قيمته أكثر من الدين، وإلا فعلى المرتهن. 2 - وقال المالكية والشافعية والحنابلة (الجمهور) (¬2): إن جميع نفقات أو مؤونات الرهن على الراهن، سواء منها ما كان لبقاء عينه، أو بقصد حفظه وعلاجه، للحديث السابق: «لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه» وكل إنفاق من غرمه، ولأن نفقة المملوك على مالكه. فإن لم ينفق الراهن، ما الحكم؟ ¬
المطلب الخامس ـ الانتفاع بالرهن
قال المالكية: إن لم ينفق الراهن، واحتاج الرهن إلى نفقة كعلف حيوان وإصلاح عقار، أنفق المرتهن، ويرجع بجميع ما أنفق على الراهن، وإن زاد على قيمة الرهن. وتكون النفقة ديناً في ذمة الراهن، لا بمالية الرهن أو عينه، سواء أنفق بإذن منه، أم بغير إذن، لأنه قام بواجب على الراهن. وقال الشافعية: يجبر القاضي الراهن على النفقة على المرهون إذا كان حاضراً موسراً، فإن تعذر الجبر بسبب إعساره أو غيبته، ففي حال الغيبة يمونه القاضي من مال الراهن إن كان له مال. وفي حال الإعسار: يقترض القاضي، أو يبيع جزءاً من الرهن لإبقائه، أو يأمر المرتهن بالإنفاق عليه، على أن يكون ديناً في ذمة الراهن. وإذا أنفق المرتهن، رجع على الراهن إن كان الإنفاق بإذن القاضي، أو أشهد عند الإنفاق. وعند غيبة الراهن: أشهد أنه إنما أنفق ليرجع. وقال الحنابلة: إن أنفق المرتهن بدون إذن الراهن، مع قدرته على استئذانه، كان متبرعاً، لا حق له في الرجوع بما أنفق. فإن عجز عن استئذانه لغيبة أو نحوها، وأنفق، يرجع بأقل المبلغين: نفقة المثل، وما أنفقه فعلاً، بشرط أن ينوي الرجوع بالنفقة. ولا يشترط استئذان القاضي، ولا الإشهاد على النفقة. المطلب الخامس ـ الانتفاع بالرهن: لا يجوز تعطيل منفعة الرهن؛ لأنه تضييعٌ للمال وإهدارٌ له، وإنما يجب الإفادة منه أثناء الرهن، فمن الذي ينتفع به، الراهن أم المرتهن؟ تبحث كل حالة على حدة، انتفاع الراهن، ثم انتفاع المرتهن.
أولا ـ انتفاع الراهن بالرهن
أولاً ـ انتفاع الراهن بالرهن: هناك في انتفاع الراهن بالرهن رأيان: رأي الجمهور غير الشافعية بعدم جواز الانتفاع. ورأي الشافعية بجوازه ما لم يضر بالمرتهن (¬1). وتفصيل الأقوال فيما يأتي: 1 - قال الحنفية (¬2): ليس للراهن أن ينتفع بالمرهون استخداماً أو ركوباً أو لبساً أو سكنى وغيرها، إلا بإذن المرتهن، كما أنه ليس للمرتهن الانتفاع بالرهن إلا بإذن الراهن، ودليلهم على الحالة الأولى: أن حق الحبس ثابت للمرتهن على سبيل الدوام، وهذا يمنع الاسترداد. فإن انتفع الراهن من غير إذن المرتهن، فشرب لبن البقرة المرهونة، أو أكل ثمر الشجر المرهون، ونحوهما، ضمن قيمة ما انتفع به؛ لأنه تعدى بفعله على حق المرتهن، وتدخل القيمة التي هي بدل الاستهلاك في حبس المرتهن للرهن، ويتعلق بها الدين. وإذا استعاد الراهن الرهن لاستعماله بدون إذن المرتهن، فركب الدابة المرهونة، أو لبس الثوب المرهون، أو سكن الدار المرهونة أو زرع الأرض، ارتفع ضمان المرتهن للرهن، وكان غاصباً للرهن، فيرد إلى المرتهن جبراً عنه. وإذا هلك في يده هلك عليه. فإن لم يترتب على انتفاع الراهن بالرهن رفع يد المرتهن، فله الانتفاع به، كإيجار آلة يشغلها المرتهن، مثل آلة طحن ونحوه، فأجر ما تطحنه حينئذ للراهن؛ لأن نماء الرهن وزوائده للراهن (¬3)، وإذا أخذه المرتهن احتسب من دينه. وهذا المذهب مبني على أن الرهن يلحق الزيادة المتولدة من الرهن متصلة أو منفصلة عنه. ¬
إصلاح الرهن
2 - وقال الحنابلة (¬1) مثل الحنفية: لا يجوز للراهن الانتفاع بالرهن إلا بإذن أو رضا المرتهن. فليس له استخدامه ولا ركوبه ولا لبسه ولا سكناه. وتعطل منافعه أي على كره من الشرع، إذا لم يتفق الراهن والمرتهن على انتفاع الراهن، فتغلق الدار مثلاً حتى يفك الرهن؛ لأن الرهن عين محبوسة، فلم يجز للمالك أن ينتفع بها، كالمبيع المحبوس لدى البائع حتى يوفى ثمنه. وهذا المذهب مبني على مبدأ أن جميع منافع الرهن ونمائه تكون رهناً مع أصلها، كالحنفية تماماً. إصلاح الرهن: ولا يمنع الراهن من إصلاح الرهن ودفع الفساد عنه ومداواته إن احتاج إليها، وإنزاء الفحل على الأنثى المرهونة عند الحاجة. 3 - وتشدد المالكية (¬2) أكثر من المذهبين السابقين، فقرروا عدم جواز انتفاع الراهن بالرهن، وقرروا أن إذن المرتهن للراهن بالانتفاع مبطل للرهن، ولو لم ينتفع؛ لأن الإذن بالانتفاع يعد تنازلاً عن حقه في الرهن. وبما أن منافع الرهن مملوكة للراهن، فله أن ينيب المرتهن في أن ينتفع بالرهن نيابة عنه ولحساب الراهن، حتى لا تتعطل منافع الرهن. فإن عطل المرتهن استغلال المرهون، كإغلاق الدار، ضمن عند بعض المالكية أجرة المثل في مدة التعطيل؛ لأنه ضيعها عليه. وقال بعضهم: لا يضمن، إذ ليس عليه أن يستغل للراهن ماله. وقال بعضهم: يضمن إلا إذا علم الراهن بالاستغلال ولم ينكر عليه التعطيل. 4 - وأما الشافعية (¬3) فقالوا خلافاً للجمهور السابق: للراهن كل انتفاع ¬
ثانيا ـ انتفاع المرتهن بالرهن
بالرهن لا يترتب عليه نقص المرهون، كالركوب، والاستخدام، والسكنى، واللبس، والحمل على الدابة أو السيارة؛ لأن منافع الرهن ونماءه ملك للراهن، ولا يتعلق بها الدين عندهم، ولخبر الدارقطني والحاكم: «الرهن مركوب ومحلوب» وخبر البخاري: «الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهوناً». أما ما يترتب عليه نقص قيمة الرهن كالبناء والغرس في الأرض المرهونة، فلا يجوز للراهن إلا بإذن المرتهن مراعاة لحقه. وللمرتهن أن يرجع عن إذنه قبل تصرف الراهن. وإذا أمكن الراهن الانتفاع بالمرهون بغير استرداد كإيجار آلة عند المرتهن، لم يسترد من المرتهن. وإن لم يمكن الانتفاع به بغير استرداد كأن يكون داراً يسكنها، أو دابة أو سيارة يركبها، فيسترد للحاجة إليه، حتى إذا انتهى انتفاعه به، رده على المرتهن. ثانياً ـ انتفاع المرتهن بالرهن: يرى الجمهور غير الحنابلة: أنه ليس للمرتهن أن ينتفع بشيء من الرهن. وحملوا ما ورد من جواز الانتفاع بالمحلوب والمركوب بمقدار العلف على ما إذا امتنع الراهن من الإنفاق على الرهن، فأنفق عليه المرتهن، فله الانتفاع بمقدار علفه. والحنابلة يجيزون الانتفاع للمرتهن بالرهن إذا كان حيواناً، فله أن يحلبه ويركبه بقدر ما يعلفه وينفق عليه (¬1). وتفصيل المذاهب كما يأتي: 1 - قال الحنفية (¬2): ليس للمرتهن أن ينتفع بالمرهون استخداماً ولا ركوباً ولا ¬
سكنى ولا لبساً ولا قراءة في كتاب، إلا بإذن الراهن؛ لأن له حق الحبس دون الانتفاع. فإن انتفع به، فهلك في حال الاستعمال يضمن كل قيمته، لأنه صار غاصباً. وإذا أذن الراهن للمرتهن في الانتفاع بالمرهون، جاز مطلقاً عند بعض الحنفية. ومنهم من منعه مطلقاً؛ لأنه ربا أو فيه شبهة الربا، والإذن أو الرضا لا يحل الربا ولا يبيح شبهته. ومنهم من فصل فقال: إن شرط الانتفاع على الراهن في العقد، فهو حرام؛ لأنه ربا، وإن لم يشرط في العقد، فجائز؛ لأنه تبرع من الراهن للمرتهن. والاشتراط كما يكون صريحاً، يكون متعارفاً، والمعروف كالمشروط. وهذا التفصيل هو المتفق مع روح الشريعة، والغالب من أحوال الناس أنهم عند دفع القرض إنما يريدون الانتفاع، ولولاه لما أعطوا الدراهم، وهذا بمنزلة الشرط؛ لأن المعروف كالمشروط، وهو مما يُعيِّن المنع، كما قال ابن عابدين. وأرى أن الاحتياط في الدين أمر واجب، وكل قرض جر نفعاً مشروطاً أو متعارفاً فهوعند الحنفية ربا، وقد صرح ابن نجيم في الأشباه أنه يكره (أي تحريماً) للمرتهن الانتفاع بالرهن (¬1). وقال في التتارخانية ما نصه: «ولو استقرض دراهم، وسلم حماره إلى المقرض ليستعمله إلى شهرين، حتى يوفيه دينه، أو داره ليسكنها، فهو بمنزلة الإجارة الفاسدة، إن استعمله، فعليه أجر مثله، ولا يكون رهناًَ». وعليه نرى أن مااعتاده الناس في زماننا من رهن الدور على أن يسكنها المرتهن، ريثما يرد إليه الراهن دينه، وهو قرض، غير جائز باتفاق المذاهب، وليس العقد من قبيل بيع الوفاء، لعدم انصراف مقاصد الناس إلى البيع. ¬
2 - وفصل المالكية (¬1) فقالوا: إذا أذن الراهن للمرتهن بالانتفاع أو اشترط المرتهن المنفعة، جاز إن كان الدين من بيع أو شبهة (معاوضة)، وعينت المدة بأن كانت معلومة، للخروج من الجهالة المفسدة للإجارة، لأنه بيع وإجارة، وهو جائز. والجواز كما قال الدردير بأن يأخذ المرتهن المنفعة لنفسه مجاناً، أو لتحسب من الدين على أن يعجل دفع باقي الدين. ولايجوز إن كان الدين قرضاً (سلفاً)؛ لأنه قرض جر نفعاً. ولا يجوز الانتفاع في حالة القرض إن تبرع الراهن للمرتهن بالمنفعة أي لم يشترطها المرتهن؛ لأنها هدية مديان، وقد نهى عنها النبي صلّى الله عليه وسلم (¬2). والخلاصة: إن هناك ثماني صور لاشتراط المرتهن منفعة الرهن لنفسه، سبعة منها ممنوعة، وواحدة منها فقط جائزة. أما الممنوعة فأربع صور منها في القرض: وهي ما إذا كانت مدة المنفعة معينة، أو مجهولة، مشترطة أو متطوعاً بها، وثلاث صور منها في البيع: وهي ما إذا كانت متطوعاً بها، سواء كانت مدتها معينة أم مجهولة، أو كانت مشترطة ولم تعين مدتها أي المدة مجهولة. وأما الصورة الجائزة: فهي ما إذا كانت المنفعة مشترطة في عقد البيع، والمدة معينة. ومحل الجواز فيها إذا اشترطت ليأخذها المرتهن مجاناً، أو لتحسب من الدين على أن يعجل الباقي منه. 3 - وقال الشافعية (¬3) كالمالكية إجمالاً: ليس للمرتهن أن ينتفع بالعين المرهونة لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «لا يغلق الرهن من صاحبه، الذي رهنه، له غنمه وعليه ¬
غرمه» قال الشافعي: غنمه: زياداته. وغرمه: هلاكه ونقصه. ولا شك أن من الغُنم سائر وجوه الانتفاع. وهذا رأي ابن مسعود. فإن شرط المرتهن في عقد القرض ما يضر الراهن، كأن تكون زوائد المرهون أو منفعته له، أي للمرتهن، بطل الشرط، والرهن في الأظهر، لحديث «كل شرط ليس في كتاب الله تعالى، فهو باطل». وأما بطلان الرهن فلمخالفة الشرط مقتضى العقد، كالشرط الذي يضر المرتهن نفسه. أما إن كانت المنفعة مقدرة أو معلومة، وكان الرهن مشروطاً في بيع، فإنه يصح اشتراط جعل المنفعة للمرتهن؛ لأنه جمع بين بيع وإجارة في صفقة، وهو جائز. مثل أن يقول شخص لغيره: بعتك حصاني بمئة بشرط أن ترهنني بها دارك، وأن تكون منفعتها لي سنة، فبعض الحصان مبيع، وبعضه أجرة في مقابلة منفعة الدار. فإن لم يكن الانتفاع مشروطاً في العقد، جاز للمرتهن الانتفاع بالرهن، بإذن صاحبه، لأن الراهن مالك، وله أن يأذن بالتصرف في ملكه لمن يشاء، وليس في الإذن تضييع لحقه في المرهون؛ لأنه لا يخرج عن يده، ويبقى محتبساً عنده لحقه. 4 - وأما الحنابلة (¬1) فقالوا في غير الحيوان: ما لا يحتاج إلى مؤنة (قوت) كالدار والمتاع ونحوه، لا يجوز للمرتهن الانتفاع به بغير إذن الراهن بحال؛ لأن الرهن ومنافعه ونماءه ملك الراهن، فليس لغيره أخذها بغير إذنه، فإن أذن الراهن للمرتهن في الانتفاع بغير عوض، وكان دين الرهن من قرض لم يجز؛ لأنه قرض جر منفعة، وذلك حرام، قال أحمد: أكره قرض الدور وهو الربا المحض، يعني إذا كانت الدار رهناً في قرض ينتفع بها المرتهن. ¬
وعبارتهم في الموضوع: «لا ينتفع المرتهن من الرهن بشيء، إلا ما كان مركوباً أو محلوباً، فيركب ويحلب بقدر العلف». وإن كان الرهن بثمن مبيع، أو أجر دار أو دين غير القرض، فأذن له الراهن في الانتفاع، جاز، أي ولو مع المحاباة في الأجرة. وإن كان الانتفاع بعوض هو أجر المثل من غير محاباة، جاز في القرض وغيره، لكونه لم ينتفع بالقرض، بل بالإجارة. وإن حاباه لا يجوز في القرض، ويجوز في غيره. والخلاصة: أن الانتفاع إن كان بعوض جاز في القرض وغيره إن كان بأجر المثل، وإن كان بغير عوض لا يجوز في القرض، وإذا انتفع المرتهن من غير إذن الراهن، حسب من دينه. وأما الحيوان: فيجوز للمرتهن أن ينتفع به إن كان مركوباً أو محلوباً، على أن يركب ويحلب، بقدر نفقته، متحرياً العدل في النفقة، وإن لم يأذنه الراهن. ودليلهم الحديث السابق: «الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهوناً، ولبَن الدَّر يُشرب بنفقته إذا كان مرهوناً، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة» وجملة «الظهر يركب، والدر يشرب» جملة خبرية في معنى الإنشاء مثل: {والوالدات يرضعن أولادهن} [البقرة:233/ 2]، ولأن التصرف معاوضة، والمعاوضة تقتضي المساواة بين البدلين. لكن قال ابن القيم في أعلام الموقعين: لا ضرورة إلى المساواة بين البدلين؛ لأن الشارع ساوى بينهما، ويعسر علينا أمر الموازنة بين الركوب واللبن وبين النفقة. ولم يعمل الجمهور بهذا الحديث، وقالوا: إنه حديث ترده أصول وآثار صحيحة. ويدل على نسخه حديث: «لا تحلب ماشية امرئ بغير إذنه» (¬1)، وحديث: «لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه». ¬
المطلب السادس ـ التصرف في الرهن
وأجاب الحنابلة: بأن السنة أصل، فكيف تردها الأصول؟! وأما الحديث الناسخ فهو عام، وحديث الرهن خاص، فيكون الخاص مقيداً له. وأرى الأخذ بهذا الاستثناء الوارد عند الحنابلة؛ لأن الحديث صحيح. وفيما عداه القول الراجح هو ما عليه اتفاق المذاهب، بدليل أن الحنابلة قالوا: إن شرط في الرهن أن ينتفع به المرتهن، فالشرط فاسد؛ لأنه ينافي مقتضى الرهن، وأما الرهن في البيع فجائز لأنه بيع وإجارة كما قال الشافعية. المطلب السادس ـ التصرف في الرهن: إما أن يصدر التصرف في الرهن من الراهن أو من المرتهن. أولاً ـ تصرف الراهن بالرهن: أـ قبل التسليم: ينفذ عند الحنفية والشافعية والحنابلة تصرف الراهن بالرهن قبل القبض بدون إذن المرتهن؛ لأنه لم يتعلق به حق المرتهن حينئذ. أما المالكية (¬1) القائلون بأن الرهن يلزم بالإيجاب والقبول، وبأن الراهن يجبر على تسليم الرهن للمرتهن، فيجيزون ـ بالرغم مما ذكر ـ للراهن أن يتصرف في الرهن قبل القبض، فلو باع الراهن الرهن المشترط في عقد البيع أو القرض نفذ بيعه، إن فرط مرتهنه في طلبه حتى باعه، وصار دينه بلا رهن لتفريطه. فإن لم يفرط في الطلب وجدَّ في المطالبة، ففيه ثلاثة آراء: الأول لابن القصار: وهو أن للمرتهن رد البيع ولا ينفذ، إن كان المبيع باقياً. وإن فات (ذهب من يد البائع) كان ثمنه رهناً عنده مكانه، وينفذ البيع. ¬
ب ـ بعد التسليم
الثاني لابن أبي زيد: وهو نفاذ البيع، وجعل الثمن بدله رهناً. الثالث لابن رشد: وهونفاذ البيع، ويصير الدين بلا رهن، ولا يكون الثمن رهناً بدله. وأما إن كان الرهن متطوعاً به بعد العقد، وباعه الراهن قبل أن يقبضه المرتهن، فينفذ بيعه، وهل يكون ثمنه رهناً أو لا يكون؟ فيه خلاف، كالخلاف في بيع الهبة قبل قبضها. ب ـ بعد التسليم: إذا سلم الراهن المرهون، بقي على ملكه، ولكن تعلق به دين المرتهن، فاستحق حبسه وثيقة بالدين إلى أن يوفى عند الحنفية، ويصبح متعيناً للبيع وثيقة بالدين عند الجمهور غير الحنفية. وعلى كلا الرأيين: لا يجوز للراهن أن يتصرف بالرهن إلا بإذن المرتهن، لتعلق حقه به، فيتنازل عن حقه في حبس الرهن أو تعينه للبيع. وتفصيل المذاهب فيما يأتي: 1 - قال الحنفية (¬1): إذا باع الراهن الرهن بغير إذن المرتهن، فالبيع موقوف لتعلق حق الغير به، فإن أجازه المرتهن، أو قضاه الراهن دينه، أو أبرأه المرتهن عن الدين، جاز البيع ونفذ، وصار ثمنه في غير حال الوفاء بالدين رهناً مكانه في ظاهر الرواية؛ لأن البدل له حكم المُبْدَل. وإن لم يجزه، لم ينفسخ وبقي موقوفاً في أصح الروايتين، وكان المشتري ـ في حال عدم علمه بأنه مرهون ـ بالخيار: إن شاء صبر إلى فك الرهن، أو رفع الأمر إلى القاضي بفسخ البيع. ¬
ووجه ظاهر الرواية: أن حق المرتهن متعلق بمالية المرهون، فإذا بيع وأصبح الثمن بدلاً عن المال المرهون، لم يتضرر المرتهن؛ لأن حقه لم يزل بالبيع. وإذا تكرر بيع الراهن قبل أن يجيز المرتهن، كأن باعه مرة ثانية، كان البيع الثاني موقوفاً أيضاً على إجازة المرتهن، فأي البيعين أجازه لزم، وبطل الآخر. وإذا كان التصرف الثاني (الوارد بعد بيع الراهن الرهن) هبة أو إجارة أو رهناً فأجاز المرتهن هذا التصرف، نفذ البيع الأول، دون هذه التصرفات؛ لأن إجازته هذه التصرفات إسقاط لحقه في الحبس، وبها يزول المانع من نفاذ البيع، فينفذ، وتتحقق مصلحة المرتهن بتحول حقه لثمن المبيع، أما تلك التصرفات فليس في نفاذها منفعة للمرتهن، لعدم تحول حقه فيها إلى بدل يقوم مقام المرهون. وإذا تصرف الراهن أولاً بالإعارة أو الإجارة أو الهبة أو الرهن، كان تصرفه أيضاً موقوفاً على إجازة المرتهن. أما في حال الإعارة: فإن ردها المرتهن بطلت، وإن أجازها نفذت، ولا يبطل بإجازتها عقد الرهن؛ لأن الإعارة عقد غير لازم، فلكل من الراهن والمرتهن بعد نفاذها استرداد العارية، وإعادتها رهناً كما كانت. وأما في حال الإجارة: فإجارتها مبطلة لعقد الرهن؛ لأنها عقد لازم. وإذا تصرف الراهن بعقد من هذه العقود مع المرتهن، فحكمها حكم إجازة المرتهن لهذه العقود إذا كانت لغيره. فإذا كان هو المشتري أو الموهوب له أو المتصدق عليه (أي المتملك)، فإن الرهن يبطل بذلك. وإذا كان هو المستعير لم يبطل الرهن، ولكن يرتفع ضمانه وقت انتفاعه بالعين المرهونة فقط، فإذا هلك أثناء انتفاعه، هلك هلاك الأمانات، وإذا هلك قبل انتفاعه، أو بعد انتهائه هلك هلاك الرهن.
وإذا كان هو المستأجر، فإن جدد القبض للإجارة (وهو أمر شكلي) بطل الرهن، ونفذت الإجارة؛ لأن قبض الرهن دون قبض الإجارة، فلا ينوب منابه؛ لأن قبض الرهن قبض لا يؤدي إلى جواز الانتفاع، وقبض الإجارة يؤدي إليه، فهو أقوى، فلم ينب منابه. وإذا جدد القبض للإجارة، فهلك المقبوض، هلك هلاك الأمانات، لا يضمن إلا بالتعدي أو بالتقصير. ومن التعدي: أن يمنع المرتهن الرهن عن مالكه بعد انتهاء مدة الإجارة. 2 - وقال المالكية (¬1): إذا تصرف الراهن بالرهن من غير إذن المرتهن، ببيع أو إجارة أو هبة، أو صدقة، أو إعارة ونحوها، كان التصرف موقوفاً على إجازة المرتهن، فيخير مثلاً بين أن يرد البيع ويرجع الرهن لما كان عليه من الرهنية، أو يجيزه. وبطل الرهن على المعتمد بمجرد الإذن (أي إذن المرتهن للراهن بالتصرف) وإن لم يتصرف الراهن، لاعتبار الإذن تنازلاً عن الرهن. 3 - وقال الشافعية (¬2): ليس للراهن المُقْبِض تصرف يزيل الملك، كالهبة والبيع والوقف، مع غير المرتهن بغير إذنه؛ لأنه لو صح لفاتت الوثيقة. كما لا يصح له رهن المرهون لغير المرتهن الأول عنده، ولا إجارة المرهون إن كان الدين حالاً، أو يحل أجله قبل انقضاء مدة الإجارة، ويعد التصرف حينئذ باطلاً. فإن كان هذا التصرف مع المرتهن أو بإذنه، فيصح ويبطل الرهن، إلا في الإجارة فيستمر الرهن، ويصح للراهن كل تصرف لا يضر المرتهن كالسكنى والركوب كما بان سابقاً، ويصح له أيضاً الإجارة والإعارة إلى مدة لا تمتد إلى ما ¬
ثانيا ـ تصرف المرتهن بالرهن
بعد حلول الدين، لأنه تصرف لا يمس حق المرتهن في بيع الرهن عند حلول الدين، وعدم الوفاء. 4 - والحنابلة (¬1) كالشافعية قالوا: إذا تصرف الراهن بالرهن تصرفاً بغير إذن المرتهن، بطل التصرف؛ لأنه يؤدي إلى إبطال حق المرتهن بالوثيقة، سواء أكان التصرف بيعاً أم إجارة أم هبة أم وقفاً، أم رهناً وغيره. وإذا أذن المرتهن بهذا التصرف، صح، وبطل الرهن، إلا في الإجارة فيستمر الرهن في الأصح. كما أن الرهن يبقى بحاله مستمراً إذا كان التصرف إعارة أذن بها المرتهن. والخلاصة: إن تصرف الراهن بالرهن بغير إذن المرتهن موقوف عند الحنفية، باطل عند الأئمة الآخرين. ثانياً ـ تصرف المرتهن بالرهن: تبين مما سبق أن حق الراهن قائم في عين الرهن، فهو ملكه، وحق المرتهن ثابت في ماليته، فله حبسه لوفاء الدين. وبناء عليه، لا يجوز للمرتهن أن يتصرف في الرهن بغير إذن الراهن، كما في تصرف الراهن، لأنه تصرف فيما لا يملك، ويكون تصرفه موقوفاً عند الحنفية والمالكية كتصرف الفضولي، وباطلاً عند الشافعية والحنابلة، وتفصيل المذاهب فيما يأتي: 1 - قال الحنفية (¬2): ليس للمرتهن أن يتصرف بغير إذن الراهن؛ لأنه تصرف فيما لا يملك، إذ لا حق له إلا في حبس المرهون، فإن تصرف بغير إذنه بالبيع أو الهبة، أو الصدقة أو الإعارة ونحوها، كان تصرفه موقوفاً على إجازة الراهن، إن ¬
أجازه نفذ، وإلا بطل. لكن إن أجره المرتهن بلا إذن، فالأجرة له، وإن كان بإذن فللمالك الراهن، وبطل الرهن (¬1). وإن هلك المرهون عند المتصرف إليه، ففيه تفصيل: أـ إن باعه المرتهن أو وهبه أو تصدق به أو أعاره فهلك عند المتصرف إليه، فللراهن الخيار: إما أن يضمن المرتهن لتعديه، ويستقر الضمان عليه، فلا يرجع على أحد، وبأدائه الضمان يتبين أنه تصرف في ملكه. وإما أن يضمن المتصرف إلىه ولا يرجع أحدهم على المرتهن؛ لأن كل واحد عامل لنفسه، فالمشتري أو الموهوب له أو المتصدق له قبض لنفسه، وفي ضمان نفسه، سواء أكان عالماً بأنه معتد، أم غير عالم، لأنه في الحالة الأخيرة أقدم على تصرف يتبعه ضمانه، كما لو كان ملكاً للمرتهن. وأما المستعير فقد قبض لنفسه لينتفع مجاناً. ب ـ وإن أجره المرتهن أو أودعه، أو رهنه، ثم هلك، فللراهن الخيار: إما أن يضمن المرتهن، فلا يرجع على أحد، ويتبين أنه تصرف في ملك نفسه، أو يضمن المتصرف إليه، ولكن يرجع كل منهم على المرتهن؛ لأنه ليس عاملاً لنفسه، وإنما هو عامل للمؤجر أو المودع أو الراهن في حفظ العين لصالحه أي المؤجر ونحوه، وإذا كان كل منهم عاملاً للمرتهن فيرجعون بالضمان عليه. وإذا كان الهلاك بتعدي المتصرف إليه، كان هو الضامن لتعديه، ويستقر الضمان عليه لو ضمن الراهن المرتهن. ويلاحظ أنه إذا اختار الراهن تضمين المرتهن أو المتصرف إليه، لا يعود إلى ¬
تضمين الآخر؛ لأن اختياره تضمين أحدهما بمثابة تمليك له، وإذا ملك شخصاً لم يكن له أن يملِّك غيره، ولأن اختياره تضمين أحدهما يعتبر منه إقراراً بأنه هو المعتدي على حقه دون الآخر، فلا يقبل منه بعدئذ تضمينه. 2 - وقال المالكية (¬1) كالحنفية: لا يجوز تصرف المرتهن في الرهن بغير إذن الراهن؛ لأنه تصرف فيما لا يملك. فإن تصرف فيه بغير إذنه بيعاً أو هبة أو إجارة أوإعارة، كان موقوفاً على إجازة الراهن، كتصرف الفضولي عندهم. وإن تصرف بإذن الراهن نفذ، وبطل رهنه إذا كان التصرف بيعاً أو هبة، أو إجارة لمدة تمتد إلى ما بعد حلول أجل الدين. أما إذا كانت مدتها تنتهي قبل حلول أجل الدين، فلا يبطل الرهن، ويسترده المرتهن بعد انتهاء مدتها. كما يبطل الرهن بإعارته لمدة تمتد إلى ما بعد حلول أجل الدين، ولم يشترط رد المرهون إلى المرتهن عند حلول الدين، أو لم يكن هناك عرف يقضي برده. فإن انتهت مدة الإعارة قبل حلول الأجل، أو اشترط الرد عند الحلول، أو وجد عرف يقضي برده، فلا يبطل الرهن حينئذ. 3 - وقال الحنابلة والشافعية (¬2): ليس للمرتهن أن يتصرف في الرهن بغير إذن الراهن؛ لأنه ليس ملكاً له، فإن أقدم على التصرف كان تصرفه باطلاً، ولا يبطل الرهن. أما إن تصرف بإذن الراهن فتصرفه ينفذ، ويبطل الرهن إن كان تمليكاً. ولا يبطل الرهن إن كان إجارة أو إعارة، سواء أكان التصرف للراهن أم لغيره، وإنما يزول عند الحنابلة لزوم الرهن بالتصرف بالمرهون، وكأنه لم يلحقه ¬
المطلب السابع ـ ضمان الرهن
قبض. فإذا عاد المرهون للمرتهن عاد رهناً كما كان. وأما عند الشافعية الذين لايشترطون استدامة قبض الرهن، فيظل الرهن ولو كان بيد غير المرتهن. المطلب السابع ـ ضمان الرهن: البحث هنا في ثلاثة أمور: أولها ـ صفة يد المرتهن. وثانيها ـ كيفية ضمان المرتهن عند الحنفية وعند الجمهور. وثالثها ـ استهلاك الرهن. أولاً ـ صفة يد المرتهن: هل هي يد أمانة أو يد ضمان؟ فيه رأيان: الأول للحنفية، والثاني للجمهور. 1 - قال الحنفية (¬1): يد المرتهن يد أمانة بالنظر لعين المال المرهون، ويد استيفاء أو ضمان بالنسبة لمالية المرهون فيما يقابل الدين من مالية الرهن. بمعنى أن ما يساوي الدين من مالية الرهن تعتبر يد المرتهن عليه يد ضمان أو استيفاء، فإذا امتنع رد المرهون لصاحبه بسبب هلاك أو غيره، كان المرتهن مستوفياً من دينه هذا المقدار، واحتسب من ضمانه، وأما ما زاد من قيمة الرهن على الدين فهو أمانة، يهلك هلاك الأمانة، فلا يضمن إلا بالتعدي أو التقصير. وأدلتهم: حديث «الرهن بما فيه» (¬2) أي يهلك بما رهن فيه، وما روي أن رجلاً ¬
رُهن فرساً، فنَفَق (مات) في يده، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم للمرتهن: «ذهب حقك» (¬1). وقد عمل الحنفية بالحديث الأول: «إذا عُمِّي فهو بما فيه» فقالوا (¬2): معناه: إذا اشتبهت قيمته بعد هلاكه، بأن قال كل: لا أدري كم كانت قيمته، ضمن بما فيه من الدين. أـ وقال الجمهور غير الحنفية (¬3): يد المرتهن على الرهن يد أمانة، فلا يضمن إلا بالتعدي أو التقصير، ولا يسقط شيء من الدين بهلاك الرهن. إلا أن المالكية بالرغم من قولهم بأن يد المرتهن يد أمانة استحسنوا تضمين المرتهن عند وجود التهمة: وهي عندما يكون الرهن مما يغاب عليه (أي يمكن إخفاؤه) كالحلي والثياب والكتب والسلاح والسفينة وقت جريها ونحوه مما يمكن إخفاؤه وكتمه، إذا كان المرهون بيد المرتهن، لا بيد أمين (عدل) ولم تقم بينة (شهادة اثنين) أوشاهد مع يمين على احتراقه أو سرقته أو تلفه، بلا تعدٍ ولا إهمال من المرتهن. أما إذا كان المرهون مما لا يغاب عليه كالعقار والحيوان، أو كان الرهن بيد أمين، أو قامت بينة على تلفه بلا تعد ولا إهمال من المرتهن، فلا يضمنه المرتهن عند هلاكه. ودليل الجمهور على كون يد المرتهن يد أمانة: حديث أبي هريرة السابق: «لا ¬
ثانيا ـ كيفية ضمان المرتهن
يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه» فقد جعل النبي غرم الرهن ـ ومنه هلاكه ـ على الراهن، وإنما يكون غرمه عليه إذا هلك أمانة؛ لأن عليه قضاء دين المرتهن. أما إذا هلك مضموناً، فإن غرمه على المرتهن، حيث سقط حقه، لا على الراهن. ثم إن الرهن وثيقة بالدين، فلا يجوز أن يسقط الدين بهلاكه، إذ يتنافى السقوط مع كونه وثيقة. كما أن وجود المرهون في يد المرتهن حدث برضا الراهن، فكان بسبب الرضا أميناً، كالوديع بالنسبة للمودع. ويلاحظ أن رأي الجمهور أقوى لقوة أدلتهم، وضعف أحاديث الحنفية. ثانياً ـ كيفية ضمان المرتهن: 1 - مذهب الحنفية: إن المرهون مضمون بالأقل من قيمته ومن الدين (¬1)، فإن كانت القيمة أقل من الدين، فهو مضمون بالقيمة وسقط من الدين بقدرها، ورجع المرتهن بالفضل الزائد على الراهن، وإن تساوى الدين وقيمة المرهون، صار المرتهن مستوفياً دينه حكماً، لتعلق قيمة الرهن بذمته، وإن كانت قيمة الرهن أكثر من الدين، فالفضل الزائد أمانة في يد المرتهن لا يضمن مالم يتعد عليه، أو يقصر في حفظه (¬2). شرائط الضمان: اشترط الحنفية لضمان الرهن على النحو المذكور شروطاً ثلاثة (¬3): ¬
الأول ـ شرط بقاء الدين أي وجود الدين عند هلاك المرهون، أو أن يكون موعوداً به عند قبض الرهن: فإذا سقط الدين قبل هلاك الرهن، بالإبراء أو بالوفاء ونحوهما، ثم هلك الرهن، فإنه يهلك على الراهن بغير شيء، ولا ضمان على المرتهن حينئذ. الثاني ـ شرط بقاء القبض أي أن يكون هلاك الرهن في يد المرتهن أو في يد العدل، وفي حال قبضه على حكم الرهن: فإذا هلك المرهون، وهو في يد الراهن، أو في يد غاصبه، لم يهلك هلاك الرهن، وإنما يهلك على ضمان الراهن إذا كان في يده، أو على ضمان الغاصب إذا هلك في يده. وإذا أذن الراهن المرتهن في الانتفاع بالرهن، فهلك حال انتفاعه به، بناء على الإذن، فإنه أيضاً يهلك هلاك الأمانة، ولا يسقط بهلاكه شيء من الدين، لأنه لم يهلك في قبض الرهن، وإنما هلك في قبض العارية. أما إن هلك قبل أن يبدأ انتفاعه به، أو بعد انتهائه، فإنه يهلك هلاك الرهن، لأنه هلك في قبض الرهن. وكذلك لو أعاره أحدهما بإذن الآخر لأجنبي، فهلك عنده، هلك هلاك العارية. وإن أودعه المرتهن لدى الراهن، فهلك في يده، لم يسقط شيء من الدين بهلاكه، لانتقاض قبض الرهن برده إلى الراهن. الثالث ـ شرط كون المرهون مقصوداً بالرهن أي ألا يكون الهالك من زيادة الرهن ونمائه، مما يدخل في الرهن تبعاً، كالولد واللبن والثمرة والصوف ونحوها، من كل زيادة متولدة منفصلة. فإذا هلك النماء أو الزيادة، هلك هلاك الأمانة؛ لأن الزيادة لم تدخل في الرهن إلا تبعاً للأصل، فكانت يد المرتهن عليها يداً تابعة ليده على أصلها.
نقص سعر المرهون
نقص سعر المرهون: لا يؤثر نقص سعر المرهون عند جمهور الحنفية خلافاً لزفر في ضمان الرهن؛ لأن ما يسقط من الدين بهلاك الرهن مراعى فيه قيمته وقت قبضه، لا وقت هلاكه؛ لأن قبضه قبض استيفاء، فتراعى قيمته في وقت القبض. فإذا نقصت قيمته بسبب تغير الأسعار، لا يسقط بسبب التغير شيء من الدين (¬1). نقص قيمة الرهن بسبب هلاك بعضه أو تعيبه: إذا كان الرهن متعدداً، فهلك بعضه، أو كان سليماً فتعيب عند المرتهن، سقط من الدين بمقدار ما نقص من قيمة الرهن بسبب هلاك بعضه أو تعيبه، وكان الباقي من الرهن رهناً بالباقي من الدين. إلا أنه إذا كان المرهون من الأموال الربوية بأن كان مكيلاً أو موزوناً ورهن بجنسه كسوار ذهب بليرات ذهبية وكسبيكة فضية بحلي من فضة، ثم هلك، فيهلك عند أبي حنيفة بمثله وزناً من الدين (¬2)، وإن اختلف الرهن والدين في الجودة والصناعة؛ لأنه لا عبرة بالجودة، أي لا ينظر إليها عند المقابلة بالجنس في الأموال الربوية (¬3). وإن رهنت بخلاف جنسها كقمح بذهب هلكت بقيمتها كسائر الأموال. 2 - مذهب الجمهور غير الحنفية في كيفية ضمان الرهن: لا يضمن الرهن عند جمهور الفقهاء (¬4) إذا هلك بلا تعد ولا تقصير، وهو في يد المرتهن، وإنما يضمن بالتعدي أو التقصير، ولا يسقط شيء من الدين بتلف ¬
ثالثا ـ حكم استهلاك الرهن
المرهون إلا أن المالكية ـ كما تقدم ـ ضمنوا المرتهن إذا كان الرهن في يده وحيازته لا في يد أمين مما يغاب عليه، كالحلي والسلاح والثياب والكتب والسفينة وقت جريها وكان المرهون في يده وحيازته، لا في يد أمين، ولم تقم بينة على هلاكه من غير تعد ولا تقصير، وحينئذ يضمن قيمته بالغة ما بلغت، ويستمر الضمان إلى تسليم الرهن لصاحبه، فلا يرفعه وفاء الدين ولا سقوطه. ويسقط دين المرتهن إن كان مساوياً للرهن. ولديهم قولان في وقت تقدير قيمة المرهون: قول بتقديرها يوم الضياع (أي التغيب) وقول بتقديرها يوم الارتهان (¬1)، وكيفية الضمان عندهم: أن العاقدين يترادان الفضل بينهما، فإن كانت قيمة الدين أكثر من قيمة الرهن، رجع المرتهن على الراهن بالفضل، وإن كانت قيمة الرهن أكثر، رجع الراهن على المرتهن بما فضل من قيمة الرهن على الدين. ثالثاً ـ حكم استهلاك الرهن: اتفقت المذاهب على وجوب ضمان الرهن باستهلاكه، وعلى أن قيمة الضمان تحل محل المرهون، واختلفوا في جزئيات مثل تحديد الخصم الذي يطالب بالضمان، وتعيين وقت تقدير القيمة. فقال الحنفية (¬2): إذا استهلك أو أتلف الراهن الرهن، ضمن قيمته إن كان قيمياً، ومثله إن كان مثلياً، يوم الاستهلاك أو الإتلاف (وقت التعدي) ويكون المرتهن هو الخصم الذي يطالب الراهن بالضمان؛ لأنه صاحب الحق بحبس المرهون، ويأخذ المرتهن المضمون (القيمة أو المثل) رهناً في يده؛ لأنه قائم مقام ¬
أصل المرهون، إلى حلول أجل الدين. فإن كان الدين حالاً، أخذ المرتهن دينه كله من القيمة. وإذا استهلك المرتهن الرهن أو أتلفه بتعدٍ أو تقصير من جهته، ضمن قيمته إن كان قيمياً، ومثله إن كان مثلياً، والمعتبر قيمته يوم قبضه؛ لأن المرهون دخل في ضمانه من يوم قبضه. فإن أتلفه أجنبي، ضمن قيمته يوم التعدي، كما هو المقرر في اعتداء الراهن؛ لأن نشوء الضمان كان بالتعدي. وسواء أتلفه المرتهن أو الأجنبي أو الراهن يكون المضمون (مثلاً أو قيمة) رهناً مكان أصله؛ لأنه بدله، فيتعلق به حق المرتهن، كما كان متعلقاً بأصله. ويكون الخصم في مطالبة الأجنبي أو الراهن بالضمان هو المرتهن، ويعطى لمن كان أصل المرهون في يده، من مرتهن أو عدل. وقال الشافعية والحنابلة (¬1): يضمن المتعدي على الرهن قيمته أو مثله، وقت التعدي، ويكون بدله رهناً مكانه، ولو لم يقبض هذا الضمان، حتى يظل المرتهن صاحب امتياز أو أفضلية على سائر الغرماء في مقدار بدل الرهن من تركة المتعدي. والخصم في اقتضاء بدل الرهن: هو الراهن؛ لأنه المالك، ولكن يقبضه من كان الأصل في يده من مرتهن أو عدل. وقال المالكية (¬2): تكون قيمة الرهن عند ضمانه، بسبب التعدي عليه من الراهن أو من أجنبي إن لم يأت الراهن برهن مثل الأول وتقدر القيمة يوم التعدي. ¬
المطلب الثامن ـ بيع الرهن
فإن كان المرتهن هو المتعدي على الرهن، فيضمن قيمته يوم ضياعه (تغيبه)، وقيل: يوم ارتهانه. المطلب الثامن ـ بيع الرهن: الكلام عن بيع المرهون يتطلب أموراً خمسة: ولاية البيع الاختياري والجبري، وبيع مايتسارع إليه الفساد، وحق امتياز المرتهن، واشتراط المرتهن تملك المرهون عند عدم الوفاء، واستحقاق الرهن بعد بيعه. أولاً ـ ولاية بيع المرهون: أـ البيع الاختياري: اتفق الفقهاء على أن المرهون يظل ملكاً للراهن بعد تسليمه للمرتهن، كما دلت السنة: «لا يغلق الرهن من صاحبه» فتكون ولاية بيع المرهون للراهن، لا لغيره، لكن لتعلق حق المرتهن به، وثبوت حق حبسه إياه عند الجمهور غير الشافعية، وكونه أولى بماليته من الراهن، يتوقف عند الحنفية والمالكية نفاذ بيعه على رضا المرتهن وإذنه، ما دام حقه قائماً، فإذا انتهى هذ الحق، نفذ البيع بانتهائه، كما بان في بحث التصرف بالرهن. وعليه يكون للراهن باتفاق الفقهاء أن يبيع الرهن بإذن المرتهن. فإذا توفي الراهن، كانت ولاية البيع لوصيه أو لوارثه، كما يكون له في حال حياته، أن يوكل في البيع غيره، فيوكل المرتهن، أو العدل، أو أجنبياً آخر غيرهما. وذكر الحنفية (¬1) فروقاً بين الوكالة المشروطة في عقد الرهن، والوكالة المفردة الحادثة بعد عقد الرهن، من هذه الفروق: ¬
أن الوكالة المشروطة في عقد الرهن لا ينعزل الوكيل فيها بعزل الموكل ولابموت الراهن أو المرتهن، ولا تقبل التقييد بعد الإطلاق، ويجبر فيها الوكيل ببيع الرهن على بيعه إذا امتنع عنه؛ لأن الوكالة صارت شرطاً أو وصفاً من شروط الرهن، فتلزم بلزومه. بخلاف الوكالة المفردة في كل هذه الأحكام، فإنها تنتهي بالعزل أو بموت الراهن والمرتهن، ... إلخ؛ لأنها لم تصر وصفاً من أوصاف الرهن، ولم يتعلق بها حق المرتهن. وأوضح المالكية (¬1) بعض الأمور في حالة إذن الراهن بالبيع، فقالوا: ليس للعدل أو المرتهن بيع الرهن إلا بإذن الراهن؛ لأن ولاية البيع له، فإذا أذن الراهن لأحدهما بالبيع، فإما أن يكون الإذن مطلقاً أو مقيداً. فإن قيده بعدم وفاء الدين في وقت معين، لم يجز لأحدهما بيعه قبل الوقت، بل يجب الرجوع إلى القاضي، ليبين أن الدين قد وفي أم لا. وإن كان الإذن مطلقاً: فإن كان للعدل، استقل حينئذ ببيعه بدون رجوع إلى القاضي. وإن كان للمرتهن، فله البيع بدون الرجوع للقاضي إذا صدر الإذن بعد العقد، أما إذا صدر حال العقد، فلا يبيع إلا أن يرجع إلى القاضي، حتى ترتفع شبهة إكراه الراهن على إصدار الإذن. وينفذ البيع، إذا لم يكن فيه غبن، أما إن بيع بأقل من قيمته، فللراهن أخذه من المشتري، وإن تداولته الأيدي بأي ثمن شاء مما بيع به. وقالوا كالحنفية: لايملك الراهن ولا المرتهن عزل الوكيل في بيع الرهن، كما لا يجوز له أن يعزل نفسه، ولا ينعزل إلا باتفاقهما على عزله. ¬
ب ـ البيع الجبري
وكذلك قرر الشافعية والحنابلة (¬1): أن ولاية البيع للراهن، بإذن المرتهن، فلا يبيعه هو أو وكيله من غير إذنه، إلا إذا تعنت، فرفض أن يأذن بالبيع، فيرفع الراهن الأمر للقاضي، فيأمره بأن يأذن بالبيع أو يبرئ الراهن، دفعاً للضرر عنه، وإلا أذن القاضي للراهن بالبيع لوفاء الدين. ب ـ البيع الجبري: الرهن وثيقة بالدين كما عرفنا، والهدف المقصود من الرهن هو الحصول على الدين من ثمن المرهون، إذا لم يوف الراهن المدين بالدين عند حلول أجل الدين، عن طريق بيع المرهون. ويتم البيع في الأحوال العادية بواسطة الراهن أو وكيله؛ لأنه هو المالك للمرهون. وبناء عليه، إذا حل أجل الدين، طالب المرتهن الراهن بوفاء الدين، فإن استجاب إلى طلبه، فوفى، فبها ونعمت، وإن لم يستجب لمطل أو إعسار، أو لغيبة، أجبره القاضي على البيع باتفاق الفقهاء. ويجبر القاضي عند الحنفية والمالكية وكيل الراهن على البيع، كما تقدم، ولا يجبر عند الشافعية والحنابلة؛ لأن الوكيل متفضل، له أن يتخلى عن وكالته، فلا يجبر على البيع، وإنما يتم البيع بواسطة القاضي إذا كان الرهن غائباً. أو كان حاضراً وأبى البيع. ويطلب القاضي أولاً من الراهن الحاضر بيع المرهون، فإن امتثل، تم ¬
ثانيا ـ بيع ما يتسارع إليه الفساد
المقصود، وإن امتنع، باعه القاضي عند المالكية والشافعية والحنابلة وصاحبي أبي حنيفة بدون حاجة إلى إجباره بحبس أو ضرب أو تهديد (¬1). وقال أبو حنيفة: ليس للقاضي أن يبيع الرهن بدين المرتهن من غير رضا الراهن، لكنه يحبس الراهن حتى يبيعه بنفسه (¬2). وإذا وجد في مال المدين الراهن مال من جنس الدين، وُفِّيَ الدين منه، ولا حاجة حينئذ إلى البيع جبراً. وإذا احتاج بيع المال المرهون إلى نفقات، كانت على الراهن؛ لأنه هوالمالك، وهو ملزم بقضاء الدين، والبيع نتيجة لعدم وفائه. ثانياً ـ بيع ما يتسارع إليه الفساد: عرفنا فيما مضى أنه يصح رهن ما يسرع إليه الفساد من أنواع الفواكه، فإن أمكن تجفيفه تجنباً لفساده، جفف، والمؤنة على الراهن، ولا يطلب رضاه؛ لأن الجفاف من مؤونته وحفظه وتبقيته، وهو على الراهن. وإن كان مما لا يجفف: فللمرتهن أن يبيعه في الحال؛ لأن بيعه ضروري لحفظه، ولكن بإذن القاضي؛ لأن له ولاية في مال غيره في الجملة، فإن باع بغير إذنه، ضمن لأنه لا ولاية له عليه. فإن كان الدين حالاً، يقضى من ثمنه، وإن كان مؤجلاً، يكون الثمن رهناً إلى وقت الحلول. وإن كان لا يحل الدين قبل أوان فساده، بل يحل بعد فساده أو معه، فإنه يباع ¬
ثالثا ـ حق امتياز المرتهن
أيضاً، ويجعل الثمن رهناً مكانه، سواء شرط في عقد الرهن بيعه، أو أطلق أي خلا العقد من الشرط (¬1). وخالف الشافعية في الصورة الأخيرة، وهي ما إذا كان يحل بعد فساده، أو معه، فقالوا: إن شرط في الرهن بيعه، وجعل ثمنه رهناً مكانه، صح الرهن، ونفذ الشرط. وإن أطلق فعلى قولين، وهما وجهان عند الحنابلة: أحدهما: لا يصح الرهن، وهو الصحيح عند الشافعية، وعكسه هو الأصح عند الحنابلة، ودليل الشافعية أن بيع الرهن قبل حلول أجل الدين، لا يقتضيه عقد الرهن، فلا يجوز. وحينئذ إذا بقي الرهن على حاله إلى أن يفسد، ذهبت الوثيقة (¬2). ثالثاً ـ حق امتياز المرتهن: حق الامتياز: معناه أن يكون المرتهن أولى أو أحق بثمن المرهون من سائر الغرماء (الدائنين) حتى يستوفي حقه، حياً كان الراهن أو ميتاً. ويثبت هذا الحق للمرتهن باتفاق الفقهاء (¬3) ما عدا الظاهرية بناء على تعلق حقه أو دينه بالمال المرهون، وكون الرهن وثيقة بالدين، وثبوت حق المرتهن في حبسه عند غير الشافعية (الجمهور)، ومنع الراهن من التصرف بالرهن إلا بإذن المرتهن باتفاق المذاهب. ¬
رابعا ـ اشتراط المرتهن تملكه للرهن عند عدم الوفاء (غلق الرهن)
وعليه إذا ضاق مال الراهن عن وفاء ديونه، وطالب الغرماء بديونهم، أو حجر على المدين لإفلاسه عند مجيزي الحجر خلافاً لأبي حنيفة، وأريد قسمة ماله بين غرمائه (دائنيه)، فأول من يقدم هو المرتهن لاستيفاء حقه من ثمن المرهون، أو من قيمته عند ضمانه عوضاً عنه من قيمة أو مثل، أياً كان الضامن، بسبب الإتلاف. ولا يحق الاعتراض لباقي الغرماء، ولهم أخذ ما فضل من الثمن؛ لأن حق المرتهن متعلق بعين الرهن، وذمة الراهن معاً، فهو صاحب حق عيني، وأما سائر الغرماء، فيتعلق حقهم بالذمة، دون العين، فكان حقه أقوى، وحقهم شخصي فقط. هذا إن كان ثمن المرهون كافياً لحق المرتهن، ويفضل منه شيء، فيوزع الفاضل أو الباقي على الغرماء بالتساوي، فإن فضل من دين المرتهن شيء، أخذ ثمن المرهون، وساهم مع الغرماء ببقية دينه. ويسدد دين المرتهن من ثمن المرهون، إذا كان الدين حالاً، فإن كان مؤجلاً، وبيع الرهن لسبب من الأسباب التي تستوجب بيعه قبل حلول أجل الدين كما في بيع ما يسرع إليه الفساد، فإن الثمن يبقى رهناً بدل أصله، إلى أن يحل الدين. رابعاً ـ اشتراط المرتهن تملكه للرهن عند عدم الوفاء (غَلَق الرهن): اتفق جمهور الفقهاء (¬1) على أنه إذا شرط المرتهن في عقد الرهن أنه متى حل الدين، ولم يوف، فالمرهون له بالدين، أو فهو مبيع له بالدين الذي على الراهن، ¬
فهو شرط فاسد، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يَغْلَق الرهن من صاحبه»، أي لا يستحقه ولا يملكه المرتهن إذا لم يُفْتَكَّ في الوقت المشروط. قال مالك: «لا يغلق الرهن» معناه ـ والله أعلم ـ لا يمنع من فكه، والنهي عن الشيء يقتضي فساد المنهي عنه. وقال الأزهري: الغَلَق في الرهن: ضد الفك، فإذا فك الراهن الرهن، فقد أطلقه من وثاقه عند مرتهنه. وروى عبد الرزاق عن معمر: أنه فسر غَلَق الرهن بما إذا قال الرجل: إن لم آتك بمالك، فالرهن لك. والخلاصة: أن المراد بالحديث: لا يستحق المرتهن الرهن، إذا لم يُفْتَكَّ في الوقت المشروط، فلو هلك الرهن، لم يذهب حق المرتهن، وإنما يهلك من رب الرهن، إذ له غنمه وعليه غرمه. قال النووي في المنهاج وشراحه: ولو شرط كون المرهون مبيعاً له عند الحلول، فسد، أي الرهن لتأقيته، والبيع لتعليقه. والمرهون قبل المَحِل، أي وقت الحلول أمانة؛ لأنه مقبوض بحكم الرهن الفاسد، وبعده مضمون بحكم الشراء الفاسد. وهناك قول لأبي الخطاب من الحنابلة، ولبعض الحنفية: أن الرهن لا يفسد بهذا الشرط؛ لأن الحديث: «لا يغلق الرهن» نفى غَلَقه دون أصله، فيدل على صحته، ولأن الراهن قد رضي برهنه مع هذا الشرط، فمع بطلانه أولى أن يرضى به. ورد ابن قدامة الحنبلي: أنه رهن بشرط فاسد، فكان فاسداً، كما لو شرط توقيته. وليس في الخبر أنه شرط ذلك في ابتداء العقد، فلا يكون فيه حجة.
خامسا ـ استحقاق الرهن بعد بيعه
خامساً ـ استحقاق الرهن بعد بيعه: قال الحنفية (¬1): إذا ظهر كون الرهن بعد بيعه مستحقاً لغير الراهن، فإما أن يكون المرهون المبيع موجوداً حين ادعاء الاستحقاق، أو هالكاً. فإن كان موجوداً، أخذه المستحق إن أراد؛ لأنه وجد عين ماله، فلا يمنع عنه إلا بحق لزمه، ولم يوجد. ويكون مشتريه حينئذ بالخيار: إن شاء رجع على من باعه إياه بما دفع إليه من ثمن؛ لأنه هو العاقد، وإن شاء رجع به على المرتهن إذا كان قد قبض الثمن؛ لأن البيع قد انتقض بالاستحقاق، وبطل أن يكون المدفوع ثمناً، وقد وصل إلى يد المرتهن على هذا الأساس، فيجب عليه رده، ونقض قبضه حكماً. وإذا كان البائع هو العدل، رجع العدل بالثمن على الراهن، إن شاء؛ لأنه وكيل عنه في البيع، فتلحقه العهدة بسبب الوكالة، وبه يصح الوفاء بما دفع العدل للمرتهن. وإن كان الرهن عند الاستحقاق هالكاً، فإن المستحق بالخيار: إن شاء ضمن الراهن قيمته؛ لأنه غاصب حقه، بأخذه ورهنه. وإن شاء ضمن العدل؛ لأنه متعد في حقه بالبيع والتسليم. وإن شاء على ما يظهر ضمن المشتري لهلاك ملكه في يده. فإن ضمن الراهنَ، نفذ البيع، وصح الوفاء؛ لأن الراهن بأدائه الضمان، ملك الشيء المضمون أي العين المرهونة، ملكاً مستنداً إلى وقت الاعتداء، فتبين أنه رهن ملك نفسه، وأمر ببيع ملك نفسه. ¬
المطلب التاسع ـ تسليم المرهون
وإن ضمن العدلَ ـ البائعَ، نفذ البيع أيضاً؛ لأن العدل قد ملكه بأداء الضمان، فتبين أنه قد باع ملك نفسه. وبتضمينه يرجع العدل بالخيار: إن شاء على الراهن بما ضمن، لأنه وكيله، وينفذ البيع، ويصح الوفاء. وإن شاء على المرتهن بالثمن، لا بالقيمة؛ لأنه تبين أنه أخذ الثمن بغير حق؛ لأن العين صارت ملكه بالضمان، ونفذ بيعه بسبب تملكه، وصار الثمن له، وقد أداه إليه على حساب أنه للراهن، لا له، يرجع به لهذا السبب، وإذا رجع بطل الوفاء، ويرجع المرتهن على الراهن بدينه. وإن ضمن المشتري، رجع بالثمن على العدل؛ لأنه البائع له، ويرجع العدل به على الراهن؛ لأن العهدة عليه، وبه يصح الوفاء، إن وصل إلى المرتهن. المطلب التاسع ـ تسليم المرهون: للمرتهن عند الجمهور غير الشافعية كما تبين حق الحبس الدائم للمرهون حتى يستوفي دينه، ليضطر المدين إلى تسديد دينه، لاسترداد المرهون، لحاجته إليه، والانتفاع به. وللمرتهن أيضاً عند حلول أجل الدين المطالبة بدينه، مع بقاء الرهن تحت يده (¬1). وعلى المرتهن تسليم المرهون لصاحبه إما ب انتهاء الدين، أو بانتهاء عقد الرهن. وانتهاء الدين: يكون بأسباب كالإبراء من الدين أو هبته أو وفاء الدين، أو شراء سلعة من الراهن بالدين، أو إحالة الراهن المرتهن على غيره. فإذا بقي المرهون في يد المرتهن بعدئذ، كان وديعة عند الشافعية والحنابلة (¬2). ¬
ويبقى وديعة عند أبي حنيفة إذا كان انتهاء الدين بالإبراء أو بالهبة؛ فإن كان بغيرهما كالوفاء بأدائه، وبشراء سلعة به من الراهن، أو بواسطة الإحالة، فيظل المرهون مضموناً استحساناً، كما كان قبل، فإذا هلك يهلك بالأقل من قيمته ومن الدين. وسبب التفرقة بين الحالين أن الدين بالإبراء أو الهبة للمدين، يسقط نهائياً، فيزول ضمان الرهن. أما في الوفاء فلايسقط، وإنما يثبت في ذمة الدائن دين مثله، يمنع الدائن من المطالبة به، وتحدث المقاصة بين الدينين، وإذا ظل الدين قائماً في ذمة المدين، ظل الضمان به قائماً (¬1). وقال المالكية (¬2): إذا كان الرهن مما يغاب عليه (يمكن إخفاؤه) كالحلي والكتب والثياب والسلاح، والسفن وقت جريها، لزم المرتهن أن يقوم برده عند انقضاء الدين، وإلا استمر ضامناً؛ لأن الرهن بعد الوفاء ليس كالوديعة؛ لأن الوديعة عقد يتم لمنفعة المودع، وعقد الرهن يتم لمنفعة العاقدين جميعاً، فإذا طلب الراهن إبقاء المرهون بعد إيفاء الدين عند المرتهن، كان أمانة. وانقضاء عقد الرهن أو انتهاؤه: يكون بأسباب كالإبراء والهبة والوفاء، أو بالفسخ قبل سقوط الدين وزواله. وقد ينتهي إذا تبين أن لا دين عند إنشاء الرهن، وسأبين تلك الأسباب. فإذا رد المال المرهون إلى الراهن نتيجة لانتهاء عقد الرهن، فلا خلاف في أنه لا يبقى للرهن أثر في هذه الحال. أما إن بقي المرهون عند المرتهن، سواء أكان هناك دين وانتهى، أم تبين أن لا دين، أم تصادق الراهن والمرتهن على أنه لم يكن دين عند الرهن، فهو أمانة عند الشافعية والحنابلة. ¬
متى يتم تسليم المرهون؟
وكذلك هو أمانة عند المالكية إن تصادق الراهن والمرتهن على عدم وجود الدين عند الرهن. أما الحنفية (¬1) فيرون في حالة التصادق هذه أن ضمان المرتهن يستمر إذا كان التصادق بعد هلاك الرهن. فإن كان التصادق والرهن قائم، ثم هلك، فاختلف الحنفية: فذهب بعضهم إلى أن الرهن يرتفع، ويصبح المال المرهون أمانة في يد المرتهن. وذهب آخرون إلى أن الضمان يستمر ما بقي المال المرهون في يد المرتهن، والرأي الأول أرجح. وأما حالات غير التصادق، فكما بينت في حالة انتهاء الدين. متى يتم تسليم المرهون؟ يسلم الراهن الدين أولاً، ثم يسلم المرتهن المرهون، كتسليم المبيع والثمن في البيع، يسلم الثمن أولاً، ثم يسلم المبيع؛ لأن حق المرتهن يتعين بتسلم الدين، وحق الراهن متعين في تسلم المرهون، فيتم التسليم على هذا الترتيب تحقيقاً للتسوية بين الراهن والمرتهن (¬2). وإذا سلم الراهن بعض الدين يظل المرهون كله رهناً بحاله على ما بقي من الدين باتفاق المذاهب الأربعة (¬3)؛ لأن الرهن كله وثيقة بالدين كله، وهو محبوس بكل الحق، والحبس بالدين الذي هو موجب الرهن لا يتجزأ، فيكون محبوساً بكل جزء من الدين، لا ينفك منه شيء حتى يقضى جميع الدين، سواء أكان الرهن مما يمكن قسمته أم لا يمكن. ¬
مكان تسليم المرهون
مكان تسليم المرهون: قال الحنفية (¬1): إما أن يكون للرهن حمل ومؤنة أو لا. أـ فإن كان للرهن حمل ومؤنة، وطالب المرتهن بإيفاء دينه في غير البلد الذي تم فيه العقد، فإنه يؤدى دينه، ولا يكلف إحضار المرهون؛ لأنه يتطلب نفقة، وإنما يجب عليه فقط تسليم المرهون بمعنى التخلية بينه وبين الراهن، لا النقل من مكان إلى آخر؛ لأنه يتضرر به، ولم يلتزمه في العقد. ب ـ وإن لم يكن للرهن حمل ومؤنة، يؤمر المرتهن بإحضار الرهن؛ لأن الأماكن كلها في حق تسليم ما لا حمل له ولا مؤنة، كمكان واحد، وعليه لا يشترط بيان مكان الإيفاء في الرهن وهذا مثل عقد السلم. ويلاحظ من هذا التفصيل أن المرتهن يكلف بإحضار الرهن إذا كانت المطالبة بالدين في بلد العقد، سواء أكان الرهن محتاجاً لحمل ومؤنة أم لا. لكن عقب ابن عابدين على هذا بأن فيه نظراً؛ لأن الواجب على المرتهن التخلية، لا النقل، وهذا المتبادر من كلام المؤلفين يخالف ما في البزازية حيث قال: إن لم يلحقه مؤنة في الإحضار يؤمر به، وإن كان مما يلحقه مؤنة، بأن كان في موضع آخر، لا يؤمر به. أحكام الرهن الفاسد: عرفنا مما سبق أن أهم أحكام الرهن الصحيح: هو اختصاص المرتهن بالرهن، دون سائر الغرماء، وحق حبسه وضمانه عند الحنفية. ¬
واتفق أئمة المذاهب على أن الرهن غير الصحيح باطلاً أو فاسداً لا حكم له حال وجود المرهون، فلا يثبت للمرتهن حق الحبس، وللراهن أن يسترد المرهون منه، فإن منعه حتى هلك صار غاصباً، فيضمن مثله إن كان له مثل، وقيمته إن لم يكن له مثل، كضمان المغصوب. وإن هلك المرهون المقبوض بيد المرتهن بناء على عقد غير صحيح، مثل: رهن المشاع عند الحنفية، فإنه يهلك عندهم (¬1) هلاك الرهن، أي بالأقل من قيمته ومن الدين، وهو الرأي الأصح. وقال الكرخي: إنه يهلك هلاك الأمانة؛ لأن الرهن إذا لم يصح، كان القبض قبض أمانة؛ لأنه قبض بإذن المالك، فأشبه قبض الوديعة. ومن مات وله غرماء، فالمرتهن في الرهن الفاسد أحق به، كما في الرهن الصحيح. والمالكية في الجملة كالحنفية، قالوا (¬2): إذا قبض المرتهن المرهون بناء على عقد فاسد، فالمرتهن أحق بالرهن من سائر الغرماء، حتى يقبض حقه. وإذا هلك المرهون في يد المرتهن بعقد فاسد، فحكم هلاكه مثل حكم هلاك المرهون فيما إذا كان العقد صحيحاً. أما حق الاحتباس، فيظهر أنه ثابت للمرتهن بناء على ثبوت حق امتيازه، لكن ليس له بناء على عقد فاسد طلب المرهون وتسلمه من الراهن. وقال الشافعية والحنابلة (¬3): حكم فاسد العقود حكم صحيحها في الضمان ¬
المبحث الرابع ـ نماء الرهن أو زوائده
وعدمه؛ لأن العقد إن اقتضى صحيحه الضمان بعد التسليم، كالبيع والإعارة، ففاسده أولى، فالمبيع بعقد صحيح مضمون، فكذا المقبوض ببيع فاسد. وإن اقتضى العقد الصحيح عدم الضمان كالرهن، والهبة بلا ثواب، والعين المستأجرة، ففاسده كذلك؛ لأن واضع اليد أثبتها بيد مالكها، ولم يلتزم بالعقد ضماناً. وعليه، إذا فسد الرهن كالمرهون المحرم، والمجهول، والمعدوم، وما لا يقدر على تسليمه، أوغير المعين، وقبضه المرتهن، فلا ضمان عليه إن تلف بيده؛ لأن الرهن الصحيح غير مضمون، ففاسده كذلك. المبحث الرابع ـ نماء الرهن أو زوائده: يشمل الرهن نماء المرهون ويتعلق الدين المرهون به بزوائد المرهون عند الفقهاء على تفصيل بينهم في التضييق والتوسع، ولكنهم متفقون على أن النماء ملك للراهن، لأنه مالك للأصل، وهذا نماء ملكه. 1 - قال الحنفية (¬1): يدخل في الرهن كل زيادة متولدة من الأصل متصلة به كالثمر واللبن والصوف، أو منفصلة عنه كالولد، فيكون رهناً مع الأصل؛ لأنه تبع له، والرهن حق لازم، فيسري إليه. ولا يدخل في الرهن الزيادة غير المتولدة، كالأجرة، وغلة الأرض، فلا تكون رهناً مع أصلها، وإنما هي للراهن خالصة، فلا يتعلق بها الدين، لأنها نتيجة تعاقد بين مالك الرهن وغيره، لا متولدة من المال، فكانت خالصة لمن استحقها بالعقد، وهو مذهب المالكية والشافعية أيضاً. ¬
2 - وقال المالكية (¬1): يدخل في الرهن كل زيادة متولدة متصلة لا تنفصل، كالسمن والجمال، أو منفصلة متناسلة كالولد والنتاج وفسيل النخيل أو الشجر؛ لأنه كولد الحيوان، ونحوه مما كان من نماء الرهن المنفصل على خلقته وصورته، ويدخل أيضاً صوف الغنم إذا كان وقت الرهن قد تم على ظهرها تبعاً لها، وإلا لم يدخل. أما ما لم يكن على خلقه المرهون وصورته، فلا يدخل في الرهن، سواء أكان متولداً عنه كثمر الشجر أو النخل واللبن، أم غير متولد ككراء الدار وسائر الغلات. 3 - وقال الشافعية (¬2): يدخل في الرهن الزيادة المتصلة أي الزيادة الوصفية كالسمن والكبر والجمال ونمو الثمر، لأنها تتبع أصلها، لعدم تميزها عنه. ولا يدخل في الرهن، أي زيادة منفصلة أو نماء متميز، كثمرة وولد وصوف وشعر ولبن وبيض أو أجرة دار، لحديث أبي هريرة المتقدم: «لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه» والنماء من الغنم، فوجب أن يكون له. ولأن الرهن عقد لا يزيل الملك عن رقبة المرهون، فلا يسري إلى النماء المتميز كالإجارة. 4 - وقال الحنابلة (¬3): إن جميع نماء الرهن وغلاته، متصلاً أو منفصلاً، متولداً أو غير متولد، غلة أو غيرها، يكون رهناً في يد المرتهن، أو نائبه، وتباع مع الأصل، وفاء للدين إن دعت الحاجة إلى بيعه؛ لأن تعلق الدين بالمال المرهون يثبت فيه بعقد، فيدخل فيه النماء والمنافع، كما في البيع، ولأن النماء المنفصل متولد من عين مرهونة، فيكون حكمه حكم المتصل بها، فيسري إليه حكم الرهن. ¬
المبحث الخامس ـ الزيادة على الرهن أو على الدين المرهون به
والخلاصة: أن مذهب الحنابلة موسع، يلحق نماء الرهن وزياداته في الرهنية مطلقاً، ثم يليهم الحنفية الذين يلحقون بالرهن النماء المتولد المنفصل أو المتصل، دون غير المتولد، ثم يليهم المالكية الذين يلحقون بالرهن النماء المنفصل الذي ليس في معنى الغلة كالولد والفسيل والصوف التام وقت الرهن، دون المتولد المنفصل الذي فيه معنى الغلة. ثم يليهم الشافعية الذين يلحقون بالرهن الزيادة الوصفية فقط، ولا يدخل في الرهنية أي زيادة منفصلة. المبحث الخامس ـ الزيادة على الرهن أو على الدين المرهون به: الزيادة في الرهن: بأن يضم الراهن إلى المرهون عيناً أخرى تصير معها رهناً بالدين المرهون به، كأن يستدين من شخص مئة، يرهن بها ثوباً، ثم يزيد الراهن عليه ثوباً آخر أو كتاباً، ليكون مع الأول رهناً بالمئة. وهي جائزة عند الجمهور؛ لأنها زيادة في التوثيق، وهو الغرض من الرهن. وقال زفر: لا تجوز، لأنها تؤدي إلى الشيوع في الدين؛ لأنه لا بد للرهن الثاني من أن تكون له حصة من الدين، فيخرج من الرهن الأول بقدره من أن يكون رهناً، وهو شائع، والشيوع مفسد للرهن. ورد عليه بأن الشيوع في الدين غير مانع من صحة الرهن. ويقسم الدين على الأصل وعلى الزيادة بحسب قيمتها يوم القبض. وأما الزيادة في الدين المرهون به: فهي أن يقترض الراهن من المرتهن قرضاً آخر على رهن واحد، كأن يقترض منه ألفاً ويرهنه سجادة، ثم يقترض منه ألفاً آخر على أن تكون السجادة رهناً بالألفين. وللفقهاء رأيان فيها:
المبحث السادس ـ انتهاء عقد الرهن
أـ لا تجوز الزيادة في الدين عند أبي حنيفة ومحمد، والحنابلة، وفي قول للشافعي؛ لأنها تقتضي رهناً ثانياً، أو رهن مرهون، ولا يجوز رهن المرهون، لتعلق الدين الأول به كاملاً. ب ـ وقال مالك وأبو يوسف، وأبو ثور والمزني وابن المنذر: تجوز الزيادة، لأنه لو زاده رهناً جاز، فكذلك إذا زاد في دين الرهن، ولأن الزيادة في الدين فسخ للرهن الأول، وإنشاء رهن جديد بالدينين جميعاً، وهو جائز اتفاقاً (¬1). المبحث السادس ـ انتهاء عقد الرهن: ينتهي عقد الرهن بحالات كالإبراء والهبة ووفاء الدين ونحوها، وهي ما يأتي: 1ً - تسليم المرهون لصاحبه: ينتهي به الرهن عند الجمهور غير الشافعية؛ لأنه وثيقة بالدين، فإذا سلم المرهون، لم يعد الاستيثاق قائماً، فينتهي الرهن، كما ينتهي عند الجمهور بإعارة المرتهن المرهون بإذن المرتهن للراهن، أو لغيره بإذنه. 2ً - تسديد الدين كله: إذا وفى الراهن الدين المرهون به، انتهى الرهن. 3ً - البيع الجبري: الصادر من الراهن بأمر القاضي، أو من القاضي إذا أبى الراهن البيع، فإذا بيع المرهون وفِّي الدين من ثمنه، وزال الرهن. أما البيع الاختياري الحاصل من الراهن بإذن المرتهن، فإن كان بعد حلول أجل الدين، تعلق الحق بثمنه. وإن كان قبل حلوله، تعلق الحق أيضاً عند ¬
أبي حنيفة ومحمد بالثمن، فيصبح رهناً؛ لأن الراهن باع الرهن بإذن المرتهن، فوجب أن يثبت حقه فيه، كما لو حل الدين. وقال المالكية والشافعية والحنابلة: يبطل الرهن ببيع المرهون بإذن المرتهن، ولم يكن على الراهن عوضه، ويبقى الدين بلا رهن (¬1). 4ً - البراءة من الدين بأي وجه، ولو بحوالة المرتهن على مدين للراهن. ولو اعتاض المرتهن عن الدين عيناً أخرى غير الأولى، انفك الرهن (¬2). 5ً - فسخ الرهن من قبل المرتهن، ولو بدون قبول الراهن؛ لأن الحق له، والرهن جائز غير لازم من جهته. ولا ينتهي الرهن بفسخه من الراهن، للزومه من جهته (¬3). ويشترط الحنفية لانفساخ الرهن بقول المرتهن رد المال المرهون إلى الراهن؛ لأن الرهن لا يلزم إلا بالقبض، فكذا فسخه لا يتم إلا بالقبض، عن طريق رد المال المرهون إلى الراهن. ويبطل الرهن عند المالكية بترك الرهن قبل القبض في يد الراهن حتى باعه؛ لأن تركه على هذا الوضع كتسليم المرتهن بالأمر، فصار في معنى الفسخ (¬4). وكذلك ينتهي الرهن عندهم بإذن المرتهن للراهن في بيع الرهن بعد أن سلمه له، وباعه فعلاً، ويبقى الدين بلا رهن. 6ً - يبطل الرهن عند المالكية (¬5) قبل قبضه بموت الراهن أو إفلاسه، أو قيام ¬
الغرماء بمطالبته بأداء الدين، أو برفع أمره إلى الحاكم يطلبون الحجر عليه، أو بمرضه أو بجنونه المتصلين بوفاته؛ لأن الرهن يلزم عندهم بمجرد الإيجاب والقبول. ويبطل الرهن عند الحنفية بموت الراهن أو المرتهن قبل التسليم، ولا يبطل بإفلاس الراهن، ولا يبطل الرهن عند الشافعية والحنابلة بوفاة الراهن أو المرتهن، قبل التسليم، ولا بجنون أحدهما، ولا بإفلاس الراهن. أما بعد قبض المرهون فلا يبطل الرهن بالاتفاق بموت الراهن أو المرتهن، أو بإفلاس الراهن. 7ً - هلاك المرهون: ينتهي عقد الرهن باتفاق الفقهاء بهلاك المال المرهون، سواء عند الجمهور القائلين بأن المرهون أمانة غير مضمونة على المرتهن إلا بالتعدي أو التقصير، أو عند الحنفية القائلين بأن المرهون بالنسبة لماليته مضمون إذا هلك بالأقل من قيمته ومن الدين، لانعدام محل العقد. 8ً - التصرف بالمرهون بالإجارة أو بالهبة أو الصدقة: ينتهي الرهن إذا أقدم كل من الراهن أو المرتهن على إجارة الرهن أو هبته أو التصدق به أو بيعه لأجنبي بإذن صاحبه. كما ينقضي باستئجار المرتهن العين المرهونة من الراهن إذا جدد القبض بناء على الإجارة. أما البيع من المرتهن للراهن فلا ينقضي به الرهن؛ لأن للمال المرهون خلفاً، هو الثمن، فيحل الثمن محل أصله في الرهنية (¬1)، كما تبين في بحث التصرف بالرهن. ¬
المبحث السابع ـ اختلاف الراهن والمرتهن
المبحث السابع ـ اختلاف الراهن والمرتهن: هذا المبحث يتعلق بدور القاضي أو غيره في توزيع عبء الإثبات على الطريق المتنازعين في قضايا الرهن أو الدين المرهون به. أـ إذا اختلف الراهن والمرتهن في قدر الحق أو الدين المرهون به، فقال الراهن: رهنتك متاعي بألف، وقال المرتهن: بل بألفين، فالقول عند الجمهور (الحنفية والشافعية والحنابلة): قول الراهن بيمينه؛ لأنه منكر للزيادة التي يدعيها المرتهن، والقول قول المنكر، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى قوم دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه» (¬1). والراهن هنا مدعى عليه، والمرتهن مدع فوجب أن تكون اليمين على الراهن على ظاهر السنة المشهورة. وقال المالكية: القول قول المرتهن، إلا فيما زاد على قيمة الرهن، فالقول قول الراهن؛ لأن المرتهن، وإن كان مدعياً، فله ههنا شبهة، بنقل اليمين إلى حيِّزه، وهو كون الرهن شاهداً له لأنه أكثر من قدر المرهون به. ومن أصول مالك: أن يحلف أقوى المتداعيين شبهة. وهذا لا يلزم عند الجمهور؛ لأنه قد يرهن الراهن الشيء، وقيمته ليست أكثر من المرهون فيه. ولا خلاف في أنه إن اختلف المتراهنان في قدر الرهن، فقال الراهن: رهنتك هذا الشيء، فقال المرتهن: بل هو وشيء آخر، فالقول قول الراهن؛ لأنه منكر (¬2). ¬
ب ـ إذا اختلف المتراهنان في تلف العين المرهونة، فقال المرتهن: هلكت، ولم يذكر سبباً، فالقول باتفاق أئمة المذاهب قول المرتهن بيمينه؛ لأنه أمين (¬1). والقول للمرتهن أيضاً إذا اختلفا في مقدار المرهون بعد هلاكه؛ لأنه غارم (¬2). فإن اختلفا في قدر قيمة المرهون يوم الرهن، أو في أصل الرهن، هل هو موجود أو لا، فالقول قول الراهن بيمينه (¬3)، كالاختلاف في قدر الرهن. ج ـ إن اختلف المتراهنان في قبض المرهون، هل حدث أو لا، فالقول عند الحنفية والشافعية للراهن بيمينه، سواء أكان في يد الراهن أم في يد المرتهن؛ لأن الأصل عدم لزوم الرهن، وعدم إذنه في القبض. وقال الحنابلة: القول قول صاحب اليد في حالة الاختلاف في القبض، فإن كان بيد الراهن فالقول له؛ لأن الأصل عدم القبض، وإن كان بيد المرتهن فالقول له؛ لأن الظاهر قبضه بحق. فإن اختلفا في الإذن في القبض، فقال الراهن: أخذت المرهون بغير إذني، فلم يلزم، وقال المرتهن: بل أخذته بإذنك، وهو الآن في يد المرتهن، فالقول للراهن؛ لأنه منكر (¬4). د ـ إن اختلفا في وقت هلاك الرهن، فقال المرتهن: هلك في وقت العمل، وقال الراهن: هلك في غير وقت العمل، فالقول للمرتهن عند الحنفية؛ لأنه منكر، والبينة للراهن (¬5). ¬
هـ ـ قال الحنفية: إن اختلفا في نوع المرهون، فقال الراهن: الرهن غير هذا، وقال المرتهن: بل هذا هو الذي رهنته عندي، فالقول للمرتهن؛ لأنه القابض (¬1). والقول للمرتهن أيضاً إن حدث اختلاف في مقدار ثمن بيع المرهون، أو في بيعه بثمن المثل أم لا؛ لأن المرهون خرج عن كونه رهناً بالمبيع، وتحول الضمان إلى الثمن، والراهن يدعي زيادة الضمان، والمرتهن ينكر، فكان القول قوله (¬2). وـ قال المالكية (¬3): إذا تنازع الراهن والمرتهن في كيفية وضع الرهن، فقال الراهن مثلاً: يوضع على يد أمين، وقال المرتهن: يوضع عندي، أو بالعكس، فالقول قول من طلب وضعه عند الأمين، وهو الراهن. ¬
الفصل الثالث عشر: الصلح
الفَصْلُ الثَّالث عَشَر: الصُّلح خطة الموضوع: الكلام عن عقد الصلح في المباحث الآتية: المبحث الأول ـ تعريف الصلح ومشروعيته وأنواعه وركنه. المبحث الثاني ـ شروط الصلح. المبحث الثالث ـ حكم الصلح. المبحث الرابع ـ مبطلات عقد الصلح وحكمه بعد البطلان. وأبدأ بأولها: المبحث الأول ـ تعريف الصلح ومشروعيته وأنواعه وركنه: تعريف الصلح: الصلح لغة: قطع النزاع. وشرعاً: عقد وضع لرفع المنازعة (¬1). وبعبارة أخرى عند الحنابلة: معاقدة يتوصل بها إلى الإصلاح بين المختلفين. ولا يقع غالباً إلا بالأقل من المدعى به على سبيل المداراة لبلوغ الغرض (¬2). ¬
والمقصود من الكلام هنا هو الصلح في المعاملات بين الناس، لا الصلح بين المسلمين والكفار، ولا الصلح بين الإمام والبغاة، ولا الصلح بين الزوجين عند الشقاق. مشروعيته: الصلح بين الناس مندوب، ولا بأس بأن يشير الحاكم بالصلح على الخصوم، ولا يجبرهم عليه، ولا يلح فيه إلحاحاً يشبه الإلزام، وإنما يندبهم إلى الصلح ما لم يتبين له أن الحق لأحدهما، فإن تبين له أنفذ الحكم لصاحب الحق. والصلح مشروع بالكتاب والسنة والإجماع (¬1): أما الكتاب: فقوله تعالى: {والصلح خير} [النساء:128/ 4] الوارد عقب ذكر مشروعية الصلح بين الزوجين. قال تعالى: {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً، فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً، والصلح خير} [النساء:128/ 4]. وأما السنة: فهو ما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم مرفوعاً، وموقوفاً على عمر، وهو: «الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً» رواه ابن حبان وصححه (¬2). مثال ما أحل حراماً: الصلح على حل الخمر ونحوه أو على أكثر من الدراهم المدعاة، ومثال ما حرم حلالاً: الصلح على ألا يطأ الزوج الضَّرة وهي امرأته الأخرى، أو يصالح زوجته على ألا يطلقها ونحو ذلك. ¬
حكمته
وأما الإجماع: فقد أجمع العلماء على مشروعية الصلح، لكونه من أكثر العقود فائدة، لما فيه من قطع النزاع والشقاق (¬1). ولا يقع الصلح في الغالب إلا من رتبة لما هو دونها، على سبيل المداراة للوصول إلى بعض الحق. وحكمته: الحفاظ على المودة والألفة بين المسلمين، ونبذ التفرقة واستئصال أسبابها المؤدية إليها. ثبت في السنة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولاتقاطعوا، وكونوا عباد الله إخواناً» وقال أيضاً: «لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض» ويجوز الكذب في الصلح لإزالة النزاع وتحقيق الوفاق، أخرج البخاري ومسلم حديث «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، فيَنمي (¬2) خيراً ويقول خيرًا». أنواع الصلح: يكون الصلح بين مسلمين وأهل حرب بعقد الذمة أو الهدنة أو الأمان، وبين أهل بغي وأهل عدل، وبين زوجين إذا خيف الشقاق بينهما أو خافت المرأة إعراض زوجها عنها، وبين متخاصمين في غير مال، وبين متخاصمين في المال، وهذا هو محل البحث هنا، وقسمه المالكية قسمين: صلح إسقاط وإبراء وهو جائز مطلقاً، وصلح على عوض، وهذا يجوز إلا إن أدى إلى حرام، وحكمه حكم البيع. والصلح في الأموال قسمان: أحدهما ـ أن يجري بين المدعي والمدعى عليه. وثانيهما ـ أن يجري بين المدعي والأجنبي أي الشخص الآخر غير المدعى عليه. وكل واحد من هذين القسمين أنواع ثلاثة: 1 - صلح مع إقرار المدعى عليه: وهو أن يدعي شخص على شخص شيئاً، ¬
2 - صلح مع إنكار المدعى عليه
فيقر به المدعى عليه، ثم يصالح المدعى عنه على عين غير المدعاة كدار، أو على منفعة لغير العين المدعاة، كخدمة في مكان مدة معينة أو سكنى دار أو على بعض العين المدعاة كربع الدار، وهو جائز باتفاق المسلمين (¬1). وهذا الصلح إن وقع عن مال بمال، أي إن وقع على عين غير المدعاة كثوب بدلاً عن بساط، فهو كالبيع لوجود معنى البيع فيه ـ وهو مبادلة المال بالمال ـ في حق المتعاقدين بتراضيهما. فتجري فيه الشفعة إذا كان عقاراً، ويرد بالعيب، ويثبت فيه خيار الشرط، ويفسده جهالة العوض أو البدل، لأنها هي المفضية إلى المنازعة دون جهالة المصالح عنه؛ لأنه يسقط بالصلح. ويشترط القدرة على تسليم البدل. وإن وقع هذا الصلح عن مال بمنافع كسكنى دار، فله حكم الإجارة لوجود معنى الإجارة، وهو تمليك المنافع بمال. والاعتبار في العقود لمعانيها، فيشترط التوقيت فيها، ويبطل العقد بموت أحد العاقدين في أثناء مدة الإجارة لأنه إجارة. 2 - صلح مع إنكار المدعى عليه: وهو أن يكون للمدعي حق لا يعلمه المدعى عليه، كأن يدعي شخص على آخر شيئاً، فينكره المدعى عليه، ثم يصالح عنه ببعض الحق المدعى به، وهذا هو الغالب في منازعات الناس، وهو جائز عند المالكية والحنفية والحنابلة، وغير جائز عند الشافعية وابن أبي ليلى (¬2). وجوازه عند القائلين به مشروط بأن يكون المدعي معتقداً أن ما ادعاه حق، والمدعى عليه يعتقد أنه لا حق عليه، فيدفع إلى المدعي شيئاً قطعاً للخصومة (¬3). ¬
وصورة الصلح على الإنكار: صالح فلان فلاناً على جميع الدار الفلانية التي ادعى المصالح الأول على الثاني استحقاقها من وجه شرعي، وأنكر المدعى عليه الاستحقاق، وطلب من المدعى عليه يمينه على استحقاقها، فرأى أن يصالحه عن هذه الدعوى بمال، افتداء ليمينه، ودفعاً للخصومة، وقطعاً للمنازعة، فاصطلحا عن المدعى به، مع الإنكار لصحة الدعوى، واعتقاده بطلانها، وإصراره على الإنكار إلى حين هذا الصلح وبعده، ودفع إليه مبلغ كذا وكذا، فقبضه منه قبضاً شرعياً ... إلخ (¬1). استدل الفريق الأول وهم الجمهور بعموم قوله تعالى: {والصلح خير} [النساء:128/ 4] وقوله عليه الصلاة والسلام: «الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً» فدل هذا العموم على أن كل صلح مشروع إلا ما خص بدليل، قال سيدنا عمر رضي الله عنه: «ردوا الخصوم حتى يصطلحوا، فإن فصل القضاء يورث بينهم الضغائن» وقال أبو حنيفة رحمه الله: «أجوز مايكون الصلح على الإنكار» أي لأنه يحقق الحاجة إلى قطع الخصومة والمنازعة. ودليل الشافعية وابن أبي ليلى: هو القياس على ما لو أنكر الزوج الخلع، ثم تصالح مع زوجته على شيء، فلا يصح، ودليلهم أيضاً أن المدعي إن كان كاذباً في دعواه، فقد استحل من المدعى عليه ماله، وهو حرام عليه. وإن كان صادقاً في دعواه فقد عاوض على ما لم يثبت له، فلم تصح المعاوضة، كما لو باع مال غيره، ولأن الصلح عقد معاوضة خلا عن العوض في أحد جانبيه، فبطل، كالصلح على حد القذف. وفي الملة: يكون ما يأخذه المدعي أكلاً للمال بالباطل من غير عوض فدخل هذا الصلح في قوله صلّى الله عليه وسلم: «إلا صلحاً أحل حراماً، أو حرم حلالاً» ولو بذل المدعى عليه المال لقطع الخصومة يكون البذل رشوة. ¬
3 - الصلح مع سكوت المدعى عليه
وهذا مناقش، ولا يسلم الفريق الأول بدخول الصلح مع الإنكار في مفهوم هذا الحديث؛ لأن الممنوع أن يحل الصلح شيئاً محرماً مع بقائه على تحريمه، كما لو تم الصلح على استرقاق حر أو إحلال بُضْع (فرج) محرم، أو تم الصلح بخمر أو خنزير، ثم إن للمدعي أن يأخذ حقه الثابت له بأي طريق. وأما المدعى عليه فإنه يدفع ادعاء المدعي لدفع المسؤولية عنه، ولإنهاء النزاع ولصيانة نفسه من التبذل وحضور مجلس الحاكم، فإن ذوي النفوس الشريفة والمروءة يصعب عليهم هذا، ويرون أن دفع ضررها عنهم من أعظم مصالحهم، والشرع لا يمنعهم من وقاية أنفسهم وصيانتها ودفع الشر عنهم ببذل أموالهم، والمدعي يأخذ المبذول عوضاً عن حقه الثابت له، فلا يمنعه الشرع منه أيضاً، سواء أكان المأخوذ من جنس حقه، أم من غير جنسه بقدر حقه أو دونه. 3 - الصلح مع سكوت المدعى عليه: وهو ألا يقر المدعى عليه ولا ينكر، كأن يدعي شخص شيئاً على شخص آخر فيسكت من غير إقرار ولا إنكار، ثم يصالح عنه، وهو جائز عند الجمهور، ومنهم ابن أبي ليلى، وغير جائز عند الشافعية، ودليل كل فريق: هو ما ذكر في الصلح عن إنكار، وقد قرر الشافعية أن الساكت منكر حكماً، فيعامل معاملة المنكر (¬1). والخلاصة: إن الصلح بأنواعه الثلاثة السابقة جائز عند الحنفية بحيث يثبت الملك للمدعي في بدل الصلح، ويزول حق المدعى عليه في استرداد شيء؛ لأن الصلح سبب لرفع التنازع المحظور، قال تعالى: {ولا تنازعوا} [الأنفال:46/ 8] فكان مشروعاً. والصلح عن السكوت أو الإنكار عند الحنفية: هو في حق المدعى عليه لافتداء اليمين وقطع الخصومة؛ لأنه في زعمه أنه مالك لما في يده، وفي حق ¬
أقسام الصلح عند الشافعية
المدعي بمعنى المعاوضة؛ لأنه في زعمه يأخذ عوضاً من حقه، فيعامل كل طرف على حسب معتقده (¬1). أقسام الصلح عند الشافعية: قسم الشافعية (¬2) الصلح إلى قسمين أذكرهما هنا لكثرة التفريعات: أحدهما ـ الصلح الذي يجري بين المتداعيين: وهو الصلح الذي يجري بين المدعي والمدعى عليه، وهو نوعان: 1ً - صلح على إقرار: وهو أن يدعي شخص على آخر حقاً من دين أوعين، فيقر المدعى عليه بهذا الحق، ثم يطلب المصالحة عن ذلك. وهذا جائز بالاتفاق كما تقدم. أـ وهذا إما أن يكون صلحاً على عين: كأن يتصالحا على شيء معين بذاته من دار أو متاع أو سلعة أو دابة أو سيارة مثلاً. فإن جرى على عين غير المدعاة، كما إذا ادعى عليه داراً، فأقر له بها وصالحه عنه بمعين كثوب، فهو بيع للعين المدعاة من المدعي للمدعى عليه، بلفظ الصلح، ويسمى (صلح المعاوضة) وتثبت فيه أحكام البيع كالشفعة والرد بالعيب ومنع التصرف في المصالح عليه قبل قبضه. واشتراط التقابض في المصالح عنه والمصالح عليه إن اتفقا في علة الربا، وغير ذلك من أحكام البيع كالخيارات، وإفساده بالشروط المفسدة، وتحريم الغرر وإفساده به وبالجهل. وإن جرى الصلح من العين المدعاة على منفعة عين أخرى لغير العين المدعاة، كأن صالحه عن الدار على استعمال سيارته مثلاً سنة معلومة، فالعقد إجارة، تثبت فيه أحكامها؛ لأن معنى الإجارة قائم فيه. ¬
وإن جرى الصلح على منفعة العين المدعاة نفسها، كأن صالحه على أن يسكن الدار المدعاة مثلاً مدة خمس سنوات، ثم يردها إليه، فهو إعارة، تثبت فيه أحكامها؛ لأنه في معناها. وإن جرى الصلح على بعض العين المدعاة، كأن يصالحه على ربع السيارة المدعاة، فهو هبة من المدعي لبعضها الباقي لصاحب اليد عليها وهو المدعى عليه، فتثبت أحكامها فيه، لأنه في معناها، كاشتراط قبول المدعى عليه ونحو ذلك، ويسمى هذا صلح الحطيطة؛ لأن صاحب الحق قد حط جزءاً من حقه للمدعى عليه. ب ـ وإما أن يكون الصلح عن إقرار صلحاً عن الدين: كأن يدعي شخص على آخر مبلغاً من المال كألف دينار، فيقر المدعى عليه به، ثم يتصالحان عنه، ويصح هذا الصلح بلفظ الصلح أو البيع أو الإبراء أو الحط أو الإجارة. ويشترط للصلح عن الدين: أن يجوز الاعتياض عنه على غيره من عين أو دين أو منفعة، فلا يصح الصلح عن دين لا يصح الاعتياض عنه كدين السلَم. والدليل على جواز الصلح عن بعض الدين وهو صلح الحطيطة: ما أخرجه البخاري ومسلم عن كعب بن مالك رضي الله عنه: «أنه تقاضى (¬1) عبد الله بن أبي حدرد رضي الله عنه ديناً كان له عليه، في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم في المسجد، فارتفعت أصواتهما، حتى سمعها رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو في بيت، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم، حتى كشف سَجْف حُجْرته (¬2)، فنادى كعب بن مالك، فقال: يا كعب، فقال: لبيك يا رسول الله، فأشار بيده: أن ضعِ الشطر، فقال كعب: قد فعلت يا رسول الله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: قم فاقضه». ¬
- الصلح على الإنكار أو السكوت من المدعى عليه
2ً - الصلح على الإنكار أو السكوت من المدعى عليه: كأن ادعى شخص على آخر شيئاً فأنكره المدعى عليه أو سكت، ثم صالح عنه. فإن جرى الصلح على نفس المدَّعى به، كأن يدعي عليه داراً، فيصالحه عليها، بأن تجعل للمدّعي أو للمدعى عليه، فهو صلح باطل في الصورتين عند الشافعية، خلافاً للأئمة الثلاثة، ويبطل الصلح أيضاً في الأصح إن جرى على بعض الشيء المدعى به. وإنما بطل هذا الصلح؛ لأن المدعي إن كان كاذباً، فقد استحل من المدعى عليه ماله، وهو حرام، وإن كان صادقاً، فقد حرم عليه ماله الحلال، فدخل في قوله صلّى الله عليه وسلم: «إلا صلحاً أحلّ حراماً أو حرم حلالاً». القسم الثاني ـ الصلح بين المدعي والأجنبي: كأن يدعي شخص حقاً على آخر، فيأتي شخص آخر غير المدعى عليه، ويصالح المدعي عما ادعاه. وله صور أربع: 1 - أن يدعي الأجنبي الوكالة عن المدعى عليه: كأن يقول: وكلني المدعي عليه في الصلح عن المدعى به، وهو مقر لك به في الظاهر، أو فيما بيني وبينه، ولم يظهره خوفاً من أخذ المالك له، فيكون الصلح صحيحاً بينهما؛ لأن ادعاء الإنسان الوكالة في المعاملات مقبولة. 2 - أن يصالح الأجنبي عن العين لنفسه بعين ماله أو بدين في ذمته: كأن يقول: إن المدعى عليه مقر لك بالمدّعى به ونحو ذلك، وأنا أصالحك عنه على كذا، يكون الصلح صحيحاً أيضاً، وكأن الأجنبي اشتراه بلفظ الشراء. 3 - أن يكون المدعى عليه منكراً ويقول الأجنبي: هو مبطل في إنكاره، لأنك صادق عندي، فصالحني لنفسي، فهو في حكم شراء المغصوب من
ما يتضمنه الصلح من العقود
الغاصب، فإن كان قادراً على انتزاعه من يد المدعى عليه، فيصح الصلح، وإن لم يكن قادراً على ذلك فلا يصح. 4 - أن يكون المدعى عليه منكراً ولم يقل الأجنبي: إن المدعى عليه مبطل في إنكاره، وصالح المدعي عن الحق المدعى به لنفسه أو للمدّعى عليه، لم يصح الصلح ولغا، لأنه اشترى منه ما لم يثبت ملكه له. ما يتضمنه الصلح من العقود: يتضمن الصلح أحد معان ستة هي ما يأتي: (¬1) 1 - صلح بمعنى البيع: وهو أن يدعي شيئاً في يد رجل، فيصالح عنه على دراهم أو دنانير، أي أن الصلح تم على عين غير المدعاة، وكان عوض الصلح ذهباً أو فضة، فهو بيع بلفظ الصلح ويسمى صلح المعاوضة. 2 - صلح بمعنى الهبة: وهو أن يدعي الرجل عيناً في يد رجل، ثم يصالح عنها على بعضها، فيكون الباقي هبة. 3 - صلح بمعنى الإجارة: وهو أن يجري الصلح من العين المدعاة على منفعة لغير العين المدعاة، كخدمة مدة معلومة، وسكنى في دار معينة. 4 - صلح بمعنى الإعارة: وهو أن يصالح على منفعة العين المدعاة، فإن عين مدة فإعارة مؤقتة وإلا فمطلقة. 5 - صلح بمعنى الإبراء والحطيطة: وهو أن يدعي دراهم أو دنانير في ذمة رجل، فيصالح منها على بعضها، ويبرئ عن البعض الأخر، كأبرأتك من خمس مئة من الألف الذي لي عليك أو نحوها. ¬
ركن الصلح
6 - صلح بمعنى السَّلَم: وهو أن يصالح عن شيء بعوض موصوف في الذمة كثوب موصوف بصفة السلم. ركن الصلح: ركن الصلح عند الحنفية: هو الإيجاب والقبول، وهو أن يقول المدعى عليه: صالحتك من كذا على كذا، أو من دعواك كذا على كذا. ويقول الآخر: قبلت أو رضيت، أو ما يدل على قبوله ورضاه، فإذا وجد الإيجاب والقبول تم عقد الصلح (¬1). وأركان الصلح عند الجمهور أربعة: عاقدان (متصالحان) وصيغة (إيجاب وقبول) ومصطلح عنه (محل النزاع) ومصطلح عليه (بدل الصلح). المبحث الثاني ـ شروط الصلح يشترط في عقد الصلح شروط تتعلق إما بالصيغة أو بالمصالح أو بالمصالح عليه أو بالمصالح عنه. الصيغة: يشترط في الصلح كونه بإيجاب وقبول من المتصالحين، بأن يقول أحدهما: صالحتك على كذا بكذا، ويقول الآخر: قبلت أو رضيت أو صالحت. ويصح الصلح في بعض أنواعه بلفظ الإبراء والحط ونحوهما. شروط المصالح: يشترط في المصالح شروط هي ما يأتي (¬2): 1 - أن يكون عاقلا ً: فلا يصح صلح المجنون والصبي الذي لا يعقل، لانعدام أهلية التصرف بانعدام العقل، ولا يشترط البلوغ عند الحنفية، فيصح صلح الصبي المأذون في التصرف إذا كان له فيه نفع ظاهر، أو لا يكون له فيه ضرر ¬
2 - ألا يكون المصالح بالصلح على الصغير مضرا به مضرة ظاهرة
ظاهر. ويشترط البلوغ عند الشافعية، فلا يصح الصلح من الصبي وإن كان مميزاً، لأن تصرفاته غير معتبرة شرعاً. 2 - ألا يكون المصالح بالصلح على الصغير مضراً به مضرة ظاهرة: سواء أكان الصغير مدعى عليه أم كان وليه مدعياً له. فإذا ادعى إنسان على صبي ديناً فصالح أبوه مما ادعي به على مال الصغير: فإن كان للمدعي بينة وكان ما أعطاه الأب من المال مثل الحق المدعى به، أو بزيادة يتغابن الناس في مثلها، فالصلح جائز؛ لأن الصلح في هذه الصورة فيه معنى المعاوضة، والأب يملك المعاوضة من مال الصغير بالغبن اليسير. وإن لم تكن للمدعي بينة لا يجوز الصلح؛ لأن الصلح حينئذ يقع تبرعاً بمال الصغير، والتبرع ضرر محض، فلا يملكه الأب، فإن صالح الأب من مال نفسه جاز، لأنه لم يضر الصغير، وإنما نفعه حيث أنهى أمر الخصومة أو الدعوى عنه. وإذا ادعى أبو الصغير على إنسان ديناً للصغير، فصالح المدعى عليه على أن يحط بعضه عنه ويأخذ الباقي: فإن كان للأب بينة على المدعى به كسند مثلاً فلا يجوز الصلح؛ لأن الحط منه تبرع من مال الصغير، والأب لا يملك ذلك. وإن صالحه على مثل قيمة الشيء، أو نقص منه شيئاً يسيراً جاز الصلح؛ لأنه في هذه الصورة بمعنى البيع، وهو يملك البيع، فيملك الصلح. 3 - أن يكون المصالح عن الصغير ممن يملك التصرف في ماله، كالأب والجد والوصي؛ لأن الصلح تصرف في المال، فيختص بمن يملك التصرف فيه. 4 - ألا يكون المصالح مرتدا ً: وهذا شرط عند أبي حنيفة بناء على أن القاعدة عنده في تصرفات المرتد هي أنها موقوفة. وأما عند الصاحبين فلا يشترط هذا
شروط المصالح عليه
الشرط بناء على القاعدة المقررة عندهما: وهي أن تصرفات المرتد نافذة. وأما المرتدة فصلحها جائز بلا خلاف عندهم. شروط المصالح عليه: يشترط في بدل الصلح الذي يتم عليه العقد شروط هي ما يلي: 1 - أن يكون المصالح عليه مالا ً (¬1): فلا يصح الصلح على الخمر والميتة والدم وصيد الحرم والإحرام ونحوها مما ليس بمال؛ لأن في الصلح معنى المعاوضة، فما لا يصلح عوضاً في البيوع لا يصلح بدل الصلح. ولا فرق في المال المصالح عليه بين أن يكون عيناً أو ديناً أو منفعة؛ لأن العوض في المعاوضات قد يكون عيناً، وقد يكون ديناً، وقد يكون منفعة، إلا أنه يشترط القبض في بعض الأعواض في بعض الأحوال دون بعض. وهذا الموضوع يحتاج إلى البحث والتفصيل. قال الحنفية: إن المدعى به في الدعوى إما أن يكون عيناً: وهو ما يحتمل التعيين جنساً ونوعاً وقدراً وصفة واستحقاقاً كالعروض (الأمتعة) من الثياب، والعقار من الأرضين والدور، والحيوان من الدواب، والمكيل من الحنطة والشعير، والموزون من الحديد والنحاس ونحوها. وإما أن يكون ديناً: وهو ما لا يحتمل التعيين كالنقود والمكيلات والموزونات الموصوفة في الذمة والثياب والحيوانات الموصوفة في الذمة. وإما أن يكون منفعة كسكنى دار معينة. ¬
بدل الصلح
وإما أن يكون حقاً ليس بعين ولا دين ولا منفعة، كالقصاص والتعزير. وبدل الصلح: إما أن يكون عيناً أو ديناً أو منفعة، والصلح إما أن يكون عن إقرار المدعى عليه أو عن إنكاره، أو عن سكوته كما عرفنا، وهنا بيان حكم كل حالة. ف إن كان المدعى به عيناً والصلح عن إقرار: فإن هذا الصلح يجوز، سواء أكان بدل الصلح عيناً أو ديناً إذا كان معلوم القدر والصفة؛ لأن هذا الصلح في معنى البيع من الجانبين، فكان بدل الصلح في معنى الثمن، وهذه الأشياء تصلح ثمناً في البيوع عيناً كانت أم ديناً. فإن كان بدل الصلح عيناً، قائماً، معيناً، مملوكاً، فيجوز الصلح سواء أكانت العين مكيلة أم موزونة، أم غيرهما من العروض والحيوان. وإن كان بدل الصلح ديناً، فإن كان شيئاً من المكيل والموزون معلوم القدر والصفة يجوز الصلح، كما في البيع؛ لأن هذه الأشياء تصلح ثمناً. وإن كان بدل الصلح ثياباً موصوفة في الذمة: فلا يجوز الصلح، ما لم تتوافر فيه جميع شرائط السلم التي عرفناها في عقد السلم، كبيان القدر والوصف والأجل؛ لأن الثياب لا تثبت ديناً إلا بشرائط السلم. وهذا بخلاف المكيل والموزون فإنهما يثبتان في الذمة مطلقاً في المعاوضات، فيصلح كل منهما ثمناً من غير ذكر أجل، ولا يشترط قبضهما في المجلس. وإن كان البدل حيواناً موصوفاً في الذمة: فلا يجوز الصلح؛ لأنه لا يصير أصلاً ديناً ثابتاً في الذمة في مقابلة مال بمال، فلا يصلح ثمناً.
إن كان المدعى به دينا والصلح عن إقرار
وإن كان المدعى به ديناً والصلح عن إقرار: أـ فإن كان دراهم أو دنانير فصالح منها، فلا يخلو الأمر من إحدى حالتين: إما أن يصالح منها على خلاف جنسها أو على جنسها. ففي الحالة الأولى: إن كان بدل الصلح عين مال معلوم جاز الصلح، ويكون العقد بمنزلة بيع الدين بالعين، وإن كان بدل الصلح ديناً من الدراهم والدنانير، لايجوز الصلح، حتى لا يؤدي الاتفاق إلى بيع الدين بالدين. وفي الحالة الثانية أي (الصلح على جنس الدين) كأن صالح من دراهم على دراهم: فإن صالح على مثل حقه قدراً وصفة، مثل أن يصالح من ألف جياد على ألف جياد، فلا شك في جواز هذا الصلح؛ لأن المدعي استوفى عين حقه. وإن صالح على أقل من حقه قدراً وصفة، مثل أن يصالح من الألف الجياد على خمس مئة رديئة يجوز الصلح أيضاً، ويصير المدعي مستوفياً بعض حقه، ومبرئاً المدعى عليه من الباقي. وإن صالح على أكثر من حقه قدراً وصفة، مثل أن يصالح من الألف الرديئة على ألف وخمس مئة جيدة لا يجوز الصلح؛ لأنه ربا في هذه الحالة؛ لأن القاعدة المقررة في هذه الحالات كلها هي: أن الصلح متى وقع على جنس ما هو المستحق بعقد المداينة يعتبر استيفاء من المدعي لحقه، فإذا تعذر جعله استيفاء يعتبر معاوضة، فتطبق شروط المعاوضة (¬1). وفي الحالة الأخيرة يعتبر العقد معاوضة؛ لأنه بعكس الحالة التي سبقتها؛ فإنه يتعذر اعتبار المدعي مستوفياً بعض حقه ومسقطاً البعض الآخر. ¬
وعلى هذا: إذا صالح على أكثر من حقه صفة لا قدراً بأن صالح من ألف رديئة على ألف جيدة، جاز الصلح، ويشترط تطبيق شروط عقد الصرف حينئذ، ومنها الحلول أو التقابض، فإذا وجد التقابض وهما في مجلس واحد جاز؛ لأن الجودة لا قيمة لها عند مقابلتها بجنسها. وإن افترقا ولم يتم القبض في المجلس بطل العقد، لأن هذا عقد صرف. وإذا صالح على أكثر من حقه صفة وأقل منه قدراً بأن صالح من ألف درهم رديئة على خمس مئة جيدة، لا يجوز الصلح في ظاهر الرواية عند الحنفية؛ لأن الصلح من الرديء على الجيد اعتياض عن صفة الجودة، وهذا لا يجوز؛ لأن الجودة في الأموال الربوية لا قيمة لها عند مقابلتها بجنسها، للقاعدة الشرعية المروية حديثاً: «جيدها ورديئها سواء» (¬1) والعقد هنا عقد صرف، وليس استيفاء للحق؛ لأن مستحق الرديء لا يستحق الجيد، وإذا كان العقد صرفاً فإن من المقرر أن بيع ألف درهم رديئة بخمس مئة جيدة لا يجوز لأنه ربا. والخلاصة: أن الصلح متى وقع على أقل من جنس حق المدعي من الدراهم والدنانير يعد استيفاء لبعض الحق، وإبراء عن الباقي. ومتى وقع على أكثر من جنس حقه منها، أو وقع على جنس آخر من دين أو عين يعتبر معاوضة (¬2). وبناء عليه: إذا صالح المدعي من الدين الحال على الدين المؤجل وهما في القدر سواء، كأن يصالح من ألف حالَّة على ألف مؤجلة، جاز الصلح، ويكون ¬
هذا تأجيلاً للدين، ولو كان الصلح على العكس من الحالة السابقة: يجوز أيضاً، ويكون استيفاء من المدعي لحقه، ويصير المدعى عليه تاركاً حقه في تأجيل الدين. ولو كان الدين مؤجلاً، فصالح صاحب الدين على بعضه معجلاً، كأن يصالح من الألف المؤجلة على خمس مئة معجلة: لا يجوز الصلح؛ لأن صاحب الدين المؤجل لا يستحق المعجل، فلا يمكن أن يجعل هذا استيفاء للحق، فصار التعاقد معاوضة عن الأجل، فلا يجوز؛ لأن الأجل ليس بمال، وبيع خمس مئة بألف لا يجوز (¬1). أما لو كان الدين معجل الوفاء، فعين الدائن وقت الأداء، كأن كان له على المدين ألف ليرة حل أداؤها بحكم عقد المداينة، فقال له: (صالحتك على خمس مئة على أن تعطيها اليوم أو على أن تعجلها اليوم) فإن أعطاه في نفس اليوم برئ عن خمس مئة باتفاق الحنفية. وإن لم يعطه حتى مضى اليوم بطل الصلح وعادت الألف عليه كما كانت عند أبي حنيفة ومحمد. وعند أبي يوسف: يمضي الصلح ويبرأ عن الخمس مئة ويبقى عليه خمس مئة فقط. وجه قول أبي يوسف: أن هذا الصلح تضمن تعليق البراءة عن بعض الدين بشرط تعجيل البعض الآخر، والبراءة لا يصح تعليقها بالشروط، فإذا لم يوجد الوفاء بالتعجيل لم ينفسخ العقد بدون شرط الفسخ صراحة، ولم يوجد شرط الفسخ، فبقي الحط عن بعض الدين صحيحاً. ووجه قول أبي حنيفة ومحمد: هو أن شرط تعجيل بعض الدين هو شرط لانفساخ العقد عند عدم التعجيل، وهو كأنه نص صريح على شرط الفسخ، كما قال شخص لغيره: (أبيعك هذا المتاع بألف ليرة على أن تعجلها اليوم، فإن لم ¬
تعجلها فلا بيع بيننا) فالبيع في هذه الصورة جائز؛ لأن شرط التعجيل شرط في الفسخ، لا في العقد، فكذا هذا في الصورة المختلف فيها؛ لأن المفهوم ضمناً أو دلالة كالمفهوم صراحة، فصارت الصورة كأن المصالح قال: (فإن لم تعجل فلا صلح بيننا). يفهم منه أن الحنفية متفقون على أن الدائن إذا قال: (أصالحك عن الألف التي لي عليك على خمس مئة تعجلها اليوم، فإن لم تعجلها فالألف عليك) ولم يعجلها اليوم، فالصلح باطل، وعليه الألف باتفاق الحنفية، لوجود النص الصريح على الفسخ. ولو صالح على أن (يعطيه خمس مئة إلى شهر على أن يحط عنه خمس مئة في الحال، فإن لم يعطه إلى شهر، فعليه الألف) فهو صلح صحيح؛ لأنه إبراء للحال، وتعليق لفسخ الإبراء بالشرط. وكذلك لو أخذ الدائن من المدين كفيلاً بألف ليرة، وتصالح معه على أن يحط عنه خمس مئة، وشرط على الكفيل أنه إن لم يوفه خمس مئة إلى رأس الشهر، فعليه كل المال وهو الألف، فهو جائز، والألف لازمة للكفيل إن لم يوفه، لأنه جعل عدم إيفاء الخمس مئة إلى رأس الشهر شرطاً للكفالة بألف. ولو ضمن الكفيل الألف ليرة بدون شرط شيء، ثم قال له الدائن: (حططت عنك خمس مئة على أن توفيني رأس الشهر خمس مئة، فإن لم توفني فالألف عليك) فهذا صحيح أيضاً، بل هو شرط أوثق من شرط الحالة الأولى؛ لأنه جعل هنا عدم التعجيل شرطاً لانفساخ الحط لا شرطاً للعقد. ولو قال الدائن لمن عليه الألف ليرة? إن أديت إلي خمس مئة فأنت بريء من الباقي) أو قال? متى أديت خمس مئة فأنت بريء من خمس مئة) فإنه لا يصح،
ب ـ وإن كان المدعى به دينا سوى الدراهم والدنانير
ويبقى عليه الألف؛ لأنه تعليق البراءة بالشرط، ولا يبرأ عن الباقي حتى يبرئه (¬1). ب ـ وإن كان المدعى به ديناً سوى الدراهم والدنانير: فإن كان مكيلاً بأن كان مد حنطة مثلاً، فصالح منه فله حالتان: إما أن يصالح على جنسه أو على خلاف جنسه (¬2). الحالة الأولى ـ إن صالح على جنسه فله أحوال: إن صالح على مثل حقه قدراً وصفة، جاز الصلح، ولايشترط القبض؛ لأنه استوفى عين حقه. وإن صالح على أقل من حقه قدراً وصفة جاز، ويعتبر الصلح حطاً عن الباقي، لا معاوضة؛ لأنه يعتبر استيفاء لبعض حقه وإبراء عن الباقي، ولايشترط القبض. وإن صالح على أقل من حقه صفة لا قدراً، جاز أيضاً، ويكون استيفاء لعين حقه وإبراء للمدعى عليه عن الصفة، ولايشترط القبض. وإن صالح على أكثر من حقه قدراً وصفة أو قدراً لا صفة: لا يجوز الصلح؛ لأنه ربا. وإن صالح على أكثر منه صفة لا قدراً: بأن صالح من مد حنطة رديء على مد جيد جاز، ويعتبر معاوضة. الحالة الثانية ـ إن صالح على خلاف جنس حقه: فإن كان بدل الصلح من الدراهم والدنانير جاز الصلح، ويشترط القبض حتى لا يفترق المتعاقدان عن دين بدين. ¬
إن كان المدعى به حيوانا موصوفا في الذمة
وإن كان بدل الصلح من المكيلات، وهو شيء معين بذاته، جاز الصلح، ولا يشترط القبض. وإن كان موصوفاً في الذمة، جاز الصلح أيضاً، ولكن يشترط القبض في المجلس احترازاً من الافتراق عن دين بدين، وعليه فإن الصلح عن دين بدين لا يجوز، فلو كان لشخص على آخر مد حنطة، فصالحه عليه بدراهم إلى أجل لا يصح؛ لأنهما افترقا عن دين بدين (¬1). وإن كان المدعى به حيواناً موصوفاً في الذمة: بأن وجب في الذمة عن قتل الخطأ أو شبه العمد أو عن المهر أو بدل الخلع، فصالح على مكيل أو موزون سوى الدراهم والدنانير، جاز الصلح، ويكون معاوضة، ويشترط التقابض احترازاً عن افتراق العاقدين عن دين بدين. ولو صالح على قيمة الحيوان أو أكثر مما يتغابن الناس فيه، جاز؛ لأن قيمة الحيوان دراهم ودنانير، وهي ليست من جنس الحيوان، فكان الصلح عليها معاوضة، فيجوز سواء قل أو كثر، ولا يشترط القبض. وكذا إذا صالح من الحيوان على دراهم في الذمة، وافترق العاقدان من غير قبض، جاز الصلح، وإن كان افتراقاً عن دين بدين؛ لأن هذا المعنى ليس بمعاوضة، بل هو استيفاء عين حقه؛ لأن الحيوان الذي وجب في الذمة، وإن كان ديناً لكنه ليس بدين لازم، بدليل أن من عليه الحيوان إذا جاء بقيمته يجبر من له على القبول، بخلاف سائر الديون، فلا يكون افتراقاً عن دين بدين حقيقة (¬2). بدل الصلح منفعة: ذكرت أحكام الشرط الأول من شروط المصالح عليه إذا كان بدل الصلح عيناً أو ديناً. فأما إذا كان منفعة، بأن كان على رجل عشر ليرات ¬
2 - الشرط الثاني من شروط المصالح عليه (بدل الصلح) أن يكون متقوما
مثلاً، فصالح منها على منفعة بيت بأن يسكنه شهراً أو على ركوب دابة أياماً معلومة أو على زراعة أرض مدة معينة ونحوها جاز الصلح (¬1)، ويكون التصالح إجارة (أي في معنى الإجارة) سواء أكان الصلح عن إقرار المدعى عليه أم عن إنكاره أم سكوته؛ لأن الإجارة تمليك المنفعة بعوض، وقد وجد العوض هنا، والمعاوضة ظاهرة المعنى في الصلح عن إقرار، وأما في الصلح عن إنكار، فالمعاوضة عن الخصومة واليمين. وكذا في الصلح عن سكوت؛ لأن الساكت منكر حكماً. وإذا اعتبر الصلح على المنافع إجارة، فيصح بما تصح به الإجارات ويفسد بما تفسد به، وهذا باتفاق المذاهب الأربعة (¬2). 2 - الشرط الثاني من شروط المصالح عليه (بدل الصلح) أن يكون متقوما ً: فلا يصح على الخمر والخنزير من المسلم؛ لأنه ليس بمال متقوم في حقه (¬3)، لكن في هذه الحالة إذا تم الصلح على ما لا يصلح أن يكون عوضاً أصلاً نفذ الصلح ولم يجب شيء، لأنه يدل على أن المتصالحين ما أرادا المعاوضة، ويكون الصلح عفواً من المصالح. ¬
3 - الشرط الثالث ـ أن يكون مملوكا للمصالح
3 - الشرط الثالث ـ أن يكون مملوكاً للمصالح: فلو صالح على مال، ثم استحق من يد المدعي، لم يصح الصلح؛ لأنه تبين أنه ليس مملوكاً للمصالح (¬1). 4 - الشرط الرابع ـ أن يكون معلوما ً: لأن جهالة البدل تؤدي إلى المنازعة، فتوجب فساد العقد (¬2). شروط المصالح عنه: يشترط في محل عقد الصلح شروط هي ما يأتي: أحدها ـ أن يكون حقاً للإنسان لا حقاً لله عز وجل، سواء أكان مالاً عيناً أم ديناً، أم حقاً ليس بمال كالقصاص والتعزير (¬3). فلا يصح الصلح من حد الزنا والسرقة وشرب الخمر بأن يأخذ رجل زانياً أو سارقاً أو شارب خمر، وأراد أن يرفعه إلى الحاكم، فصالحه المأخوذ على مال ليتركه، فالصلح باطل؛ لأن الحد حق الله تعالى، والاعتياض عن حق الغير لا يجوز، وهو الصلح على تحريم الحلال أو تحليل الحرام. وكذا لا يصح الصلح من حد القذف بأن قذف الإنسان رجلاً، فصالحه على مال على أن يعفو عنه؛ لأن هذا الحد، وإن كان للإنسان فيه حق، فالمغلَّب فيه عند الحنفية هو حق الله تعالى. وكذا لا يصح الصلح مع شاهد يريد أن يشهد عليه على مال، على ألا يشهد ¬
عليه فهو باطل؛ لأن الشاهد في إقامة الشهادة محتسب حقاً لله تعالى، والصلح عن حقوق الله عز وجل باطل، ويجب على العاقد رد ما أخذ من المال؛ لأنه أخذ بغير حق. ولو علم القاضي به أبطل شهادته؛ لأنه فسق، إلا أن يتوب، فتقبل. ويجوز الصلح باتفاق المذاهب الأربعة عن القصاص في النفس وما دون النفس من الأعضاء؛ لأن القصاص حق للإنسان، فالصلح يجوز حينئذ، سواء أكان بدل الصلح عيناً أم ديناً، لكن إذا كان البدل ديناً يشترط القبض في المجلس، حتى لا يكون افتراقاً دين بدين (¬1). وسواء أكان البدل معلوماً أم مجهولاً غير فاحشة، فإذا صالح مثلاً على ثوب أو دابة أو دار لا يجوز؛ لأن الثياب والدواب والدور أجناس ذات أنواع مختلفة، وجهالة النوع تعتبر فاحشة، فتمنع الجواز. والضابط في هذا: أن كل جهالة تمنع صحة تسمية المهر في النكاح تمنع صحة الصلح من القصاص، وما لا يمنع التسمية فلا يمنع الصحة؛ لأن كلاً من بدل الصلح والمهر يجب بدلاً عما ليس بمال. وعليه إن كان البدل مما يصلح مهراً في النكاح فيصلح بدلاً في الصلح، وإذا لم يصلح تسمية المهر بسبب الجهالة يجب مهر المثل، وإذا لم يصلح تسمية بدل الصلح يسقط القصاص وتجب دية النفس في القتل، وأرش الجناية فيما دون النفس، إلا أن بين النكاح والصلح فرقاً من وجه وهو أنه إذا صالح عن القصاص على خمر أو خنزير، يسقط القصاص، ولا يجب شيء آخر، ويكون الصلح عفواً من صاحب الدم؛ أما في النكاح فإنه يجب مهر المثل. وجه الفرق: هو أن لفظ (الصلح) كناية عن العفو، فإذا لم يذكر مال متقوم ¬
الصلح عن المجهول
في الصلح عن القصاص كان بمثابة السكوت عن ذكر عوض، وإذا لم يذكر العوض كان معناه هو العفو، وبعد العفو لا يجب شيء. أما في النكاح فلا يحتمل العفو عن المهر؛ لأنه إذا سكت عنه يجب حكماً لأنه من ضرورات عقد النكاح، فإنه ما شرع إلا بالمال، فإذا لم يكن المسمى صالحاً للمهر، صار كما لو لم يسم العاقد مهراً، وإذا لم يسم مهراً وجب مهر المثل. وأما الصلح: فليس من ضروراته وجوب المال، فإنه لو عفا بلا تسمية شيء لم يجب شيء (¬1). والصلح عن القصاص جائز سواء أكان بدل الصلح قدر الدية أم أقل أم أكثر لقوله تعالى: {فمن عفي له (¬2) من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان} [البقرة:178/ 2] قال ابن عباس: «إنها نزلت في الصلح عن دم العمد» واسم الشيء يتناول القليل والكثير، فدلت الآية على جواز الصلح من القصاص على القليل والكثير. وهذا بخلاف الصلح عن القتل الخطأ وشبه العمد: فإنه إذا صالح على أكثر من الدية والأرش لا يجوز الصلح؛ لأن الأرش والدية مقدران شرعاً بمقدار معلوم لا زيادة عليه، فالزيادة على المقدر تكون ربا، فلا يجوز، أما بدل الصلح عن القصاص فعوض عن القصاص، والقصاص ليس بمال، حتى يكون البدل عنه زيادة على المال المقدر، وليس فيه تقدير شرعي، فلا يتحقق الربا (¬3). الصلح عن المجهول: لا يشترط عند الحنفية والحنابلة: أن يكون المصالح عنه ¬
معلوماً، فيصح الصلح عن المجهول، سواء أكان عيناً أم ديناً، فمن ادعى على آخر حقاً في عين، فأقر به المدعى عليه، أو أنكر، فصالح على مال معلوم، جاز (¬1)؛ لأن الصلح كما يصح بطريق المعاوضة يصح بطريق الإسقاط، وهذا إسقاط حق، فصح في المجهول كالعتاق والطلاق، ولأنه إذا صح الصلح مع العلم، وإمكان أداء الحق بعينه، فلأن يصح مع الجهل أولى، إذ لو لم يجز الصلح حينئذ أدى إلى ضياع المال، والصلح هنا ليس بيعاً وإنما هو إبراء، وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال في رجلين اختصما في مواريث درست: «استهما، وتوخيا، وليحلل أحدكما صاحبه» (¬2)، وهذا صلح على المجهول كما قال ابن قدامة. وقال المالكية: ينبغي أن يعرف المدعي قدر ما يصالح عنه من الدين، فإن كان مجهولاً لم يجز. وقال الشافعي: لا يصح الصلح على المجهول؛ لأن الصلح بيع، ولايصح على المجهول (¬3). ¬
الشرط الثاني ـ أن يكون المصالح عنه حقا للمصالح،
الشرط الثاني ـ أن يكون المصالح عنه حقاً للمصالح، فإذا لم يكن حقاً له، بطل الصلح (¬1). الشرط الثالث ـ أن يكون حقاً ثابتاً للمصالح في محل الصلح، فإذا لم يكن حقاً ثابتاً له، لا يجوز الصلح عنه، كما يظهر من الحالات الآتية (¬2). ـ لو أن امرأة طلقها زوجها ادعت عليه صبياً في يده أنه ابنه منها، فصالحت عن النسب على شيء، فالصلح باطل؛ لأن النسب حق الصبي، لاحقها فلا تملك المعاوضة عن حق غيرها. ـ ولو صالح الشفيع المشتري عن حق الشفعة الذي وجب له، على مال معلوم على أن يسلم الدار المبيعة مثلاً للمشتري، فالصلح باطل؛ لأنه لا حق للشفيع في محل الصلح، إنما الثابت له حق التملك، وهذا عبارة عن ولاية له، وهي صفة له، فليس هذا الحق لمعنى في المحل، فلا يحتمل الصلح عنه (¬3) وهو بخلاف الصلح عن القصاص؛ لأن المحل هنا يصير مملوكاً في حق الاستيفاء. ـ وإذا صالح الكفيل بالنفس المكفول له على مال معلوم على أن يبرئه من الكفالة، فالصلح باطل، والكفالة لازمة؛ لأن الثابت للدائن المكفول له: هو حق مطالبة الكفيل بتسليم المكفول بنفسه، وهو عبارة عن ولاية المطالبة، وهي صفة للدائن، فلا يجوز الصلح عنها فأشبه الشفعة. ¬
ـ ولو كان لرجل ظلَّة (¬1) على طريق نافذ أو كنيف (¬2) ممتد إلى الشارع أو ميزاب، فخاصمه رجل فيه، وأراد طرحه وإزالته، فصالحه على مال فالصلح باطل؛ لأن الطريق حق لجماعة المسلمين، وليس لأحد منهم حق معتبر ثابت في الطريق، وإنما له فقط حق المرور، وولاية المرور، وهما صفة للمار، فلا يجوز الصلح عنه. هذا فضلاً عن أنه لا فائدة من هذا الصلح، لأنه إن سقط حق واحد بالصلح، فللباقين حق القلع (¬3). أما إذا كان الطريق غير نافذ، فخاصمه رجل من أهل الطريق على مال لترك الظلة ونحوها، فالصلح جائز؛ لأن الطريق هنا مملوكة ملكاً مشتركاً بين جماعة محصورة، فكان لكل واحد منهم جزء مملوك له، فجاز الصلح عنه، وفي هذا الصلح فائدة لاحتمال أن يصالح الباقون بخلاف حالة ما إذا كان الطريق نافذاً، فإنه لا يتصور الصلح من جميع الناس. ـ ولو ادعى رجل على رجل مالاً، فأنكره المدعى عليه، ولا بينة للمدعي، فطلب من المدعى عليه اليمين، فصالح عن اليمين على ألا يستحلفه، جاز الصلح، وبرئ من اليمين. ـ ولو ادعى رجل على آخر مئة ليرة مثلاً، فأنكرها المدعى عليه، فتصالحا على أنه (إن حلف المدعى عليه، فهو بريء) فحلف المدعى عليه: (ما لهذا المدعي قليل ولا كثير عندي) فإن الصلح باطل، والمدعي على دعواه، فإن أقام بينة أخذ حقه بها؛ لأن قوله: (على أنه إن حلف المدعى عليه فهو بريء) تعليق البراءة ¬
بالشرط، وهو باطل؛ لأن في الإبراء معنى التمليك، والأصل في التمليك ألا يحتمل التعليق بالشرط. وإن لم تكن له بينة وأراد استحلاف المدعى عليه، فهناك وجهان: أـ إن كان ذلك الحلف الذي صدر من المدعى عليه عند غير القاضي: فله أن يستحلفه عند القاضي مرة أخرى؛ لأن تلك اليمين غير معتبرة. ب ـ وإن كان حلف عند القاضي: فلا يستحلفه مرة ثانية؛ لأن حق المدعي في الاستحلاف صار مستوفى مرة، فلا يجب عليه الإيفاء مرة ثانية. ـ ولو تصالحا على أن (يحلف المدعي، فمتى حلف، فالدعوى لازمة للمدعى عليه) (¬1) فحلف المدعي على دعواه، فإن الصلح باطل، ولا يلزم المدعى عليه بشيء؛ لأن هذا تعليق وجوب المال بشرط وهو باطل لكونه قماراً (¬2). ـ ولو ادعى رجل على امرأة نكاحاً، فجحدته، فصالحته على مال بذلته، حتى يترك الدعوى، جاز الصلح؛ لأن النكاح حق ثابت من حقوق المدعي، فكان الصلح على حق ثابت، فكان في معنى الخلع، إذ هو أخذ المال بدلاً عن الحقوق الزوجية، ومن حقها بذل مال لإسقاط الخصومة (¬3). ـ ولو قال رجل لامرأة: (أعطيتك مئة ليرة على أن تكوني امرأتي) فهو جائز إذا قبلت الزواج بمحضر من الشهود، ويكون هذا كناية عن إنشاء النكاح ابتداء. ـ وكذا لو قال: (تزوجتك أمس على ألف ليرة) فجحدت، وقالت: (لا) ¬
فقال: (أزيدك مئة على أن تقري لي بالنكاح) فأقرت، جاز الصلح، ولها ألف ومئة، والنكاح جائز، ويحمل إقرارها على الصحة (¬1). ـ ولو ادعت امرأة على رجل نكاحاً، فجحد الرجل، فصالحها على مال بذله لها، لا يجوز الصلح، لأنه لا يخلو إما أن يكون النكاح ثابتاً أو لم يكن ثابتاً، فإن لم يكن ثابتاً كان دفع المال إليها من الرجل في معنى الرشوة، إذ ليس هناك شيء يقابله العوض وقد بذل لها المال لتترك الدعوى. وإن كان ثابتاً لا تثبت الفرقة بهذا الصلح؛ لأن العوض في مثل هذه الفرقة تعطيه المرأة لا الزوج فهو لا يعطي العوض في الفرقة، فلا يكون المال الذي تأخذه المرأة عوضاً عن شيء، فلا يجوز. لكن لو ادعى الدعوى، جاز الصلح، وكان الصلح في معنى الخلع في جانبه، لزعمه أن النكاح قائم، ولدفع الخصومة في جانبها (¬2). ـ ولو ادعى إنسان على آخر ألف ليرة، فأنكر المدعى عليه، فصالحه المدعي على مئة ليرة على أن يقر له بالألف، فالصلح باطل؛ لأن المدعي لا يخلو إما أن يكون صادقاً في ادعائه الألف، وإما أن يكون كاذباً فيها، فإن كان صادقاً فيها، فالألف واجبة على المدعى عليه، ويكون أخذ العوض عليه في معنى الرشوة، وهو حرام. وإن كان كاذباً في ادعائه فإقرار المدعى عليه بالألف التزام المال من بادئ الأمر، وهذا لا يجوز (¬3). ¬
الصلح على العيب
ـ ولو ادعى إنسان على رجل وديعة، أو عارية، أو مال مضاربة أو إجارة، فقال الأمين: (قد رددتها عليك) أو (هلكت) وكذبه المدعي، وقال: (استهلكتها) ثم تصالحا على مال، فالصلح باطل عند أبي يوسف. وعند محمد: صحيح. وجه قول محمد: أن هذا صلح وقع عن دعوى صحيحة، ويمين موجهة، فيصح. ووجه قول أبي يوسف: أن المدعي مناقض نفسه في هذه الدعوى؛ لأن الوديع أمين المالك، وقول الأمين قول المؤتمن، فكان إخباره بالرد أو الهلاك إقراراً من المودِع، فكان مناقضاً نفسه في ادعاء الاستهلاك، والتناقض يمنع صحة الدعوى، إلا أنه يستحلف لكن لا لدفع الدعوى، لأنها مندفعة لبطلانها، بل للتهمة، وإذا لم تصح الدعوى لا يصح الصلح (¬1). الصلح على العيب: لو اشترى رجل شيئاً فوجده معيباً، فصالحه البائع من العيب على شيء دفعه إليه، أو حط عنه من ثمنه شيئاً: فإن كان المبيع مما يجوز رده على البائع، أو كان له حق المطالبة بأرش العيب دون رده، فالصلح جائز؛ لأن الصلح عن العيب صلح عن حق ثابت في المحل وهو (صفة سلامة المبيع عن العيب) (¬2). وإن لم يكن للمشتري حق رد المبيع ولا أخذ الأرش (التعويض عن العيب) بأن باع الشيء أو حدثت زيادة منفصلة متولدة من الأصل أو حدث عيب جديد ¬
الصلح بين المدعي والأجنبي
عند المشتري عدا العيب القديم المجيزللرد: فلا يجوز الصلح؛ لأن هذا أخذ مال لا بمقابلة شيء، فلا يجوز. وإذا جاز الصلح عن العيب، فزال العيب، كأن كان العيب بياضاً في عين الدابة فانجلى البياض، يبطل الصلح، ويأخذ البائع ما أداه، لأن صفة سلامة المبيع قد عادت إليه، فيعوض العوض، ويزول حق المشتري فيه. ولو طعن المشتري بعيب في المبيع، فصالحه البائع على أن يبرئه من العيب المذكور ومن كل عيب، فالصلح جائز؛ لأن الإبراء عن العيب إبراء عن صفة السلامة في المبيع وإسقاط لها. وكذلك لو لم يطعن المشتري بعيب، فصالحه البائع من كل عيب على مال، فالصلح جائز؛ لأنه وإن لم يطعن بعيب فله حق الخصومة، فيجوز الصلح لإبطال هذا الحق. ولو طعن المشتري بنوع من العيوب كالعمى والقروح، فصالحه البائع عليه، جاز الصلح؛ لأنه لما جاز عن كل عيب، جاز عن العيب الواحد. فإذا ظهر عيب آخر، كان للمشتري حق الخصومة فيه؛ لأن الصلح وقع عن نوع خاص، فكان له حق الخصومة في غيره (¬1). الصلح بين المدعي والأجنبي: كان الكلام السابق عن الصلح بين المدعي والمدعى عليه. أما إذا كان الصلح بين المدعي والأجنبي المتوسط أو المتبرع بالصلح فلا يخلو الحال بين أن يكون الصلح بإذن أو أمر من المدعى عليه أو بغير إذنه أو أمره. ¬
صلح الفضولي
فإن كان الصلح بإذن من المدعى عليه: فإنه يصح الصلح، ويكون المصالح وكيلاً عن المدعى عليه، والصلح مما يحتمل التوكيل به، ويجب المال على المدعى عليه دون الوكيل، سواء أكان الصلح عن إقرار أم عن إنكار؛ لأن الوكيل في الصلح لا ترجع إليه حقوق العقد. والمال لازم للموكل دون الوكيل إلا إذا ضمن الوكيل بدل الصلح عن المدعى عليه، فإنه يجب عليه حينئذ بموجب عقد الكفالة والضمان، لا بموجب عقد الصلح (¬1) وقال الشافعية كما تقدم بيانه: إن قال الأجنبي للمدعي: وكلني المدعى عليه في الصلح وهو مقر لك بما تدعي، صح الصلح بينهما؛ لأن ادعاء الوكالة في المعاملات مقبول، ولو صالح الأجنبي عن العين (المدعاة) لنفسه بماله، وقال الأجنبي للمدعي: إن المدعى عليه مقر لك بالمدعى، صح الصلح إيضاً، وكأن اشترى المدعى به. وإن كان المدعى عليه منكراً، وقال الأجنبي: هو مبطل في إنكاره؛ لأنك صادق عندي، فصالحني: فإن كان المدعى به عيناً، فيطبق عليه حكم شراء المغصوب، أي فإن كان قادراً على انتزاعه من المدعى عليه صح الصلح، وإن لم يقدر على انتزاعه فلا يصح. وإن لم يقل الأجنبي: هو مبطل في إنكاره، لغا الصلح (¬2). وإن كان الصلح بغير إذن من المدعى عليه: فهو صلح الفضولي، وهو على خمسة أوجه: في أربعة منها يصح الصلح، ويجب المال على المصالح الفضولي، ولا يجب على المدعى عليه شيء. وهذه الأوجه هي: ¬
أولاً ـ أن يضيف الضمان إلى نفسه: بأن يقول الفضولي للمدعي: (صالحتك من دعواك هذه على فلان بألف ليرة على أني ضامن لك هذه الألف)، أو (على أن علي الألف). ثانياً ـ أن يضيف المال إلى نفسه: بأن يقول: (على ألفي هذا، أو على متاعي هذا). ثالثاً ـ أن يعين البدل وإن كان لا ينسبه إلى نفسه بأن يقول: (على هذا الألف أو على هذا المتاع). رابعاً ـ أن يسلم البدل، وإن لم يعين ولم ينسب إلى نفسه: بأن قال: (صالحتك على ألف) وسلمها إليه. والدليل على صحة الصلح في هذه الأوجه الأربعة هو قوله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة، فأصلحوا بين أخويكم} [الحجرات:10/ 49]، وقوله عز وجل: {والصلح خير} [النساء:128/ 4] ولأن الفضولي بالصلح عن غيره في هذه الوجوه متصرف على نفسه بالتبرع بإسقاط الدين عن الغير، بأن يقضي دينه من مال نفسه إذا كان الصلح عن إقرار. وإن كان الصلح عن إنكار فهو متبرع بإسقاط الخصومة عن غيره، فيجوز التبرع في الحالتين. وفي وجه واحد: لا يصح الصلح، وإنما يكون موقوفاً على إجازة المدعى عليه، وهو بأن يقول الفضولي: (صالحتك من دعواك هذه مع فلان على ألف ليرة أو على متاع كذا: الوسط)، ففي هذه الحالة إن أجاز المدعى عليه صلح الفضولي نفذ، ويجب البدل عليه دون المصالح؛ لأن الإجازة اللاحقة بمنزلة الوكالة السابقة، وحكم الوكالة كذلك.
الخلع من الأجنبي
وإن لم يجز بطل الصلح؛ لأن التصرف على الإنسان لا يصح من غير إذنه وإجازته، والأصل في العقد إنما هو المدعى عليه (¬1). وهذه الأحكام تطبق على الخلع من الأجنبي: فإن كان خلع الزوجة بإذن الزوج أو المرأة: يصير المخالع وكيلاً، ويجب المال على المرأة للزوج دون الوكيل؛ لأنه سفير ومعبر عن الأصيل، فلا يرجع إليه بشيء من حقوق العقد. وإن كان الخلع بغير إذن: فإن وجد من الفضولي ضمان بدل الخلع، أو قال: (خالع امرأتك على كذا ليرة علي) أو (على متاعي هذا) أو (على هذا الألف) أو (على هذا المتاع) فإن الخلع صحيح، ويجب المال على الفضولي، وليس له أن يرجع على الأصيل، لأنه متبرع. وإن قال الفضولي للزوج: (اخلع امرأتك على كذا) فقال: (خلعت) فإن الخلع يكون موقوفاً على إجازة المرأة: فإن أجازت صح الخلع، ويجب البدل عليها دون الفضولي، وإن لم تجز بطل الخلع، ولا يقع الطلاق. وتطبق هذه الأحكام أيضاً على الصلح عن دم العمد من الأجنبي، كما تطبق كذلك على الزيادة في الثمن من الأجنبي: إن كانت بإذن المشتري يكون الشخص الفضولي وكيلاً، وتجب الزيادة على المشتري. وإن كانت بغير إذن المشتري، فعلى التفصيل السابق الذي ذكر في الصلح (¬2). ¬
المبحث الثالث ـ أحكام الصلح
المبحث الثالث ـ أحكام الصلح: للصلح أحكام هي (¬1): أولاً ـ انقطاع الخصومة والمنازعة بين المتداعيين شرعاً: فلا تسمع دعواهما بعدئذ، وهذا حكم ملازم جنس الصلح. ثانياً ـ حق الشفعة للشفيع: إذا كان المدعى به داراً وبدل الصلح ليس داراً، وإنما هو نقد أو غيره، فإن حق الشفعة يثبت للشفيع إذا كان الصلح عن إقرار من المدعى عليه؛ لأن الصلح حينئذ يكون في معنى البيع بالنسبة لطرفي العقد. أما إذا كان الصلح عن إنكار من المدعى عليه، فلا يثبت حق الشفعة، لأنه ليس في معنى البيع بالنسبة للمدعى عليه، بل هو بذل المال لدفع الخصومة واليمين. وإن كان بدل الصلح داراً، والصلح عن إقرار المدعى عليه يثبت حق الشفعة للشفيع في الدارين، لما عرفنا أن الصلح هنا في معنى البيع من الطرفين. وإن كان الصلح عن إنكار يثبت للشفيع حق الشفعة في الدار التي هي بدل الصلح، ولا يثبت في الدار المدعاة؛ لأنها لم تعتبر مبيعة، إذ أن الصلح عن إنكار يعتبر معاوضة بالنسبة للمدعي، وأما بالنسبة للمدعى عليه فليس بمعاوضة، بل هو إسقاط للخصومة ودفع اليمين عن نفسه، فلم يكن للدار المدعاة حكم المبيع في حقه، فلا يثبت للشفيع حق أخذها بالشفعة. ثالثاً ـ حق الرد بالعيب، وحكم الاستحقاق: فحق الرد بالعيب يثبت لطرفي عقد الصلح إن كان الصلح عن إقرار؛ لأنه بمنزلة البيع. وإن كان عن إنكار يثبت حق الرد بالنسبة للمدعي، ولا يثبت بالنسبة ¬
للمدعى عليه؛ لأن هذا الصلح بمنزلة البيع بالنسبة للمدعي، لا بالنسبة للمدعى عليه. وتطبق هذه الأحكام إذا كان الصلح عن إقرار، واستحق بعض المصالح عنه، فيرجع المدعى عليه على المدعي بحصة المستحق من العوض المصالح به؛ لأن الصلح مع الإقرار كالبيع، وهذا هو حكم الاستحقاق في البيع. وإذا كان الصلح عن إنكار أو سكوت فاستحق المتنازع فيه كله، رجع المدعي بالخصومة على المستحق، لقيامه مقام المدعى عليه، ورد العوض المصالح به على من أخذه منه (¬1)؛ لأن المدعى عليه ما بذل العوض للمدعي إلا ليدفع خصومته عن نفسه، فإذا ظهر الاستحقاق تبين أنه لا خصومة له، فيبقى العوض في يده غير مشتمل على غرضه، فيسترده. وإن استحق بعض المتنازع فيه، رد حصته، ورجع بالخصومة فيه على المستحق. رابعاً ـ الرد بخيار الرؤية في نوعي الصلح: لأن الخيار ثبت للمدعي فيستدعي كون الصلح معاوضة عن حقه. خامساً ـ إنه لا يجوز التصرف في بدل الصلح قبل القبض إذا كان منقولاً في نوعي الصلح؛ فلا يجوز للمدعي بيعه وهبته ونحوهما. وإن كان عقاراً يجوز عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمد: لا يجوز، كما هو معروف في بحث عقد البيع. ويجوز للمصالح في الصلح عن القصاص أن يبيع بدل الصلح أو يبرئ عنه قبل القبض، كما يجوز البيع ونحوه في المهر والخلع؛ لأن المانع من جواز التصرف في الشيء قبل القبض: هو المحافظة على العقد من الانفساخ نتيجة هلاك الشيء، ¬
المبحث الرابع ـ مبطلات عقد الصلح وحكمه بعد البطلان
واحتمال الفسخ لا يتأتى في الصلح عن القصاص، لأنه مما لا يحتمل الفسخ، فلا حاجة إلى القول بعدم جواز التصرف في بدل الصلح قبل القبض. سادساً ـ إن الوكيل بالصلح يلتزم ببدل الصلح دون المدعى عليه إذا كان الصلح في معنى المعاوضة، كما إذا تم الصلح على جنس آخر خلاف جنس حق المدعي، لأنه يكون حينئذ جارياً مجرى البيع، وحقوق البيع ترجع إلى الوكيل. وإن كان الصلح في معنى استيفاء عين الحق، كمن له على آخر ألف ليرة، فصالحه على خمس مئة، فيلتزم الوكيل ببدل الصلح إن ضمنه، وإن لم يضمنه لم يلزمه؛ لأنه يكون حينئذ سفيراً بمنزلة الرسول، فلا ترجع إليه حقوق العقد. أما إن ضمنه لزمه بحكم الكفالة لا بحكم العقد. وقد سبق أن أشرت إليه. والخلاصة: أن الصلح كما قال الشافعية إذا كان عن إقرار وجرى على عين غير المدعاة، فهو بيع بلفظ الصلح تثبت فيه أحكامه، كالشفعة، والرد بالعيب، ومنع التصرف قبل القبض، واشتراط التقابض إن اتفق المصالح عنه والمصالح عليه في علة الربا (¬1). المبحث الرابع ـ مبطلات عقد الصلح وحكمه بعد البطلان: مبطلات الصلح: يبطل الصلح بأشياء هي ما يأتي (¬2): 1 - الإقالة في غير حالة الصلح على القصاص: فلو أقال أحد المتصالحين الآخر انفسخ الصلح؛ لأن فيه معنى معاوضة المال بالمال، فكان محتملاً للفسخ كالبيع ونحوه. أما القصاص: فالصلح فيه إسقاط محض لحق ولي الدم في استيفاء القصاص من القاتل؛ لأنه عفو عن القاتل، فلايحتمل الفسخ كالطلاق ونحوه. ¬
حكم الصلح بعد بطلانه
2 - لحاق المرتد بدار الحرب أو موته على الردة عند أبي حنيفة: وهذا مبني على القاعدة المقررة عنده: وهي أن تصرفات المرتد موقوفة على العودة إلى الإسلام أو اللحاق بدار الحرب أو الموت، فإن أسلم نفذت تصرفاته، وإن لحق بدار الحرب وقضى القاضي بلحاقه، أو قتل أو مات على الردة بطلت تصرفاته. وعند الصاحبين: تعتبر تصرفات المرتد نافذة. 3 - الرد بخيار العيب أو الرؤية: لأن الرد يفسخ العقد. 4 - هلاك أحد المتعاقدين في الصلح على المنافع قبل انقضاء المدة: لأن في الصلح على المنفعة معنى الإجارة، والإجارة تبطل بموت أحد العاقدين. وكذا يبطل الصلح إذا هلك ما وقع الصلح على منفعته. حكم الصلح بعد بطلانه: إذا بطل الصلح يرجع المدعي إلى أصل دعواه إن كان الصلح عن إنكار. ويرجع المدعي على المدعى عليه بالمدعى به لا غيره إن كان الصلح عن إقرار؛ لأنه إذا بطل الصلح، جعل كأن لم يكن، فعاد الأمر على ما كان من قبل. لكن في الصلح عن القصاص: يرجع المدعي على القاتل بالدية دون القصاص، وفي الصلح عن المنفعة، إذا بطل بموت أحد العاقدين ونحوه من المبطلات في أثناء المدة، يرجع المدعي بالمدعى به، بقدر ما لم يُستوف من المنفعة إن كان الصلح عن إقرار. وإن كان عن إنكار المدعي إلى أصل الدعوى في قدر ما لم يستوف من المنفعة (¬1). الصلح عن التركة (التخارج): يصح الصلح عن حصة الوارث في التركة، ¬
وتطبق أحكام البيع، ويسمى هذا الصلح مخارجة. والمخارجة: هي عقد يتصالح فيه أحد الورثة على أن يخرج من التركة، فلا يأخذ نصيبه، نظير مال يأخذه من التركة، أو من غيرها. ويختلف الحكم فيما إذا كانت التركة أشياء عينية، أو أشياء نقدية. فإن كانت التركة أشياء عينية كعقار أو عروض تجارية، صح الصلح مهما كان مقدار العوض قليلاً كان أو كثيراً؛ لأنه بيع، وقد صالح عثمان امرأة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم على ربع ثمنها على ثمانين ألف دينار. أما إن كانت التركة نقداً ذهباً أو فضة، فيصح الصلح مهما كان العوض إذا كان من جنس غير جنس مال التركة، كإعطاء ذهب بفضة أو بالعكس؛ لأنه بيع الجنس بخلاف الجنس، فلا يعتبر التساوي، ولكن بشرط قبض العوضين في مجلس العقد، لأنه عقد صرف. وإن كانت التركة خليطاً من أشياء عينية ونقدية وهو الغالب فلا بد من أن يكون العوض أكثر من نصيبه في التركة، حتى يتساوى نصيبه بمثله، وتغطي الزيادة الأشياء العينية الأخرى مثل العروض التجارية والعقارات ونحوها، منعاً من الوقوع في الربا، ولا بد من التقابض فيما يقابل نصيبه من الذهب أو الفضة؛ لأن هذا عقد صرف في هذا القدر (¬1). والخلاصة: أنه يشترط عند الحنفية كون التركة معلومة، ولا يشترط أن يكون التخارج بمقدار الحصة تماماً؛ لأن هذا العقد بيع، والعلم بالمبيع شرط لإمكان التسليم، ولا يلزم كون الثمن مساوياً لقيمة المبيع، لكن يشترط أن يكون المتخارج عالماً بنصيبه من التركة خشية الغرر، ويشترط أيضاً التقابض فيما هو عقد صرف، لعدم الوقوع في الربا. ¬
الفصل الرابع عشر: الإبراء
الفَصْلُ الرّابع عَشَر: الإِبراء فيه ستة مباحث تشمل تعريف الإبراء ومشروعيته، وأركانه، وشروطه ومحله، وأنواعه، وحكمه. المبحث الأول ـ تعريف الإبراء ومشروعيته: الإبراء لغة: التنزيه والتخليص والمباعدة عن الشيء. وفقهاً: هو إسقاط شخص حقاً له في ذمة آخر أو قِبَله، كإسقاط الدائن دينه الذي له في ذمة المدين. فإذا لم يكن الحق في ذمة شخص، كحق الشفعة، وحق السكنى الموصى به، فلا يعتبر التنازل عنه أو تركه إبراء، بل هو إسقاط محض، وعليه يكون كل إبراء إسقاطاً، وليس كل إسقاط إبراء. والإبراء وإن تضمن معنى الإسقاط، ففيه معنى آخر وهو التمليك فهو إسقاط من الدين، وتمليك للمدين. وقد رجح كل مذهب أحد المعنيين. الحنفية رجحوا معنى الإسقاط مع بقاء معنى التمليك، ورتبوا عليه عدم صحة الإبراء عن الأعيان؛ لأنه إسقاط، وملكية الأعيان لا تقبل الإسقاط، فلو أسقط أحد ملكيته عن شيء مملوك له، لا تسقط ويبقى ملكاً له، ولا يصح الإبراء عن المبيع؛ لأنه إسقاط، وإسقاط العين لا يصح، والإبراء عن العين المغصوبة لا يكون سبباً لملكها، وإنما يكون إبراء عن ضمانها، وتصير أمانة في يد الغاصب.
المالكية
ولكن يصح إبراء الدين الثابت في الذمة كضمان قيمة المغصوب المتلف، ويصح الإبراء عن الدعوى المتعلقة بالأعيان. ولا يصح إقالة الإبراء عن الدين ولا إقالة السلم؛ لأن الإبراء يسقط الدين من الذمة، والساقط لا يعود؛ لأنه معدوم، والمسلم فيه دين سقط. ويعد الإبراء من الدين تبرعاً؛ لأن فيه معنى التمليك، وإن كان في صورة إسقاط. والراجح عند المالكية: كما أبان الدسوقي (¬1) أن الإبراء نقل للملك فيكون من قبيل الهبة، فيحتاج لقبول. والجديد عند الشافعية (¬2): أن الإبراء تمليك المدين ما في ذمته، فيشترط علم الطرفين به إن كان في ضمن معاوضة كخلع، وإلا فيكفي علم المبرئ فقط، والإبراء من المجهول باطل. وقال بعض الشافعية: الأصح أن الإبراء إسقاط. والراجح عند الحنابلة (¬3): أن الإبراء إسقاط، ولا مانع يمنع الإنسان من إسقاط بعض حقه أو هبته، فقد كلم النبي صلّى الله عليه وسلم غرماء جابر ليضعوا عنه. مشروعية الإبراء: الإبراء في الحكم الغالب له مندوب، قال الخطيب الشربيني: الإبراء مطلوب، فوُسِّع فيه بخلاف الضمان (أي الكفالة)؛ لأنه نوع الإحسان والبر والصلة، لتضمنه إسقاط الحق عن المدين، ولو لم يكن معسراً، قال تعالى: {وإن كان ذو عُسْرَة، فَنَظِرة إلى مَيْسرة، وأن تَصدَّقُوا خير لكم إن كنتم تعلمون} [البقرة:280/ 2]. ¬
المبحث الثاني ـ ركن الإبراء
المبحث الثاني ـ ركن الإبراء: ركن الإبراء عند الحنفية: هو الإيجاب فقط الصادر من صاحب الحق المبرئ، الدال دلالة واضحة على ترك حقه والتنازل عنه. باعتبار أن الركن هو جزء الشيء الذي لا يتحقق بدونه. أما بقية عناصر الإبراء من متعاقدين ومحل فهي أطراف العقد، وليست ركناً. أما الجمهور فقالوا: للإبراء أركان أربعة: صاحب الحق المبرئ، والمدين (المبرأ)، والصيغة، والمبرأ منه (محل الإبراء من دين أو عين أو حق) باعتبار أن الركن: هو كل ما يتوقف عليه وجود الشيء، سواء أكان جزءاً داخلاً فيه وهو الإيجاب وحده، أو الإيجاب والقبول معاً، أم خارجاً عنه كالأطراف والمحل. هل يحتاج الإبراء إلى قبول؟ يرى الجمهور غير المالكية (¬1): أن الإبراء لا يحتاج إلى قبول، فينعقد بمجرد الإيجاب؛ لأنه عند الحنفية والحنابلة إسقاط، والإسقاطات كالطلاق والعتق لا تحتاج إلى قبول، سواء أكان التعبير بلفظ الإبراء أم بلفظ هبة الدين للمدين، وطالب بعض الحنفية بالقبول في هبة الدين للمدين، والمشهور هو الأول. وبالرغم من أن الراجح لدى الشافعية أن الإبراء تمليك المدين ما في ذمته كما بينت، فلا يحتاج إلى القبول؛ لأن المقصود منه الإسقاط. ومثال الإيجاب: أن يقول: أبرأتك من ديني، أو أحللتك منه، أو أسقطته عنك، أو ملكتك إياه، أو تركته لك، ونحو ذلك. نصت المادة 1561 مجلة: «إذا قال أحد: ليس لي مع فلان نزاع ولا دعوى، أو ليس لي عند فلان حق، أو فرغت ¬
رد الإبراء
من دعواي التي هي مع فلان، أو تركتها، أو ما بقي لي عنده، أو استوفيت حقي من فلان بالتمام، يكون قد أبرأه». ويرى المالكية على الراجح: أن الإبراء يحتاج إلى قبول؛ لأنه نقل للملك، كالهبة فلا بد من القبول في هبة الدين، لمن هو عليه؛ لأنه إبراء. ويكون القبول في مجلس العقد بالاتفاق، إلا أن الشافعية (¬1) اشترطوا القبول لفظاً فوراً فيما لو وكله في إبراء نفسه، ولو من الحاكم. وظاهر المذهب المالكي جواز تأخير القبول عن الإيجاب، وعبارتهم: من سكت عن قبول صدقته زماناً، فله قبولها بعدئذ. واستثنى الحنفية من عدم توقف الإبراء على القبول: الإبراء عن بدلي الصرف، وعن رأس مال السلم، فيتوقف فيهما الإبراء على القبول؛ لأن الإبراء يؤدي إلى تفويت القبض المستحق، وفواته يوجب بطلان العقد، ونقض العقد لا ينفرد به أحد العاقدين، بل لا بد من قبول الطرف الآخر، فإن قبله برئ، وإن لم يقبله لم يبرأ، وإذا تم الإبراء مع القبول انفسخ عقد الصرف والسلم، لعدم تحقق القبض المشروط لصحة كل منهما. أما الإبراء عن المسلم فيه أو عن ثمن المبيع، فيجوز من غير قبول؛ لأن قبض المسلم فيه أو الثمن ليس بشرط، والإبراء عن دين لا يجب قبضه شرعاً إسقاط لحق المبرئ لا غير، فيملك الإبراء من نفسه فقط (¬2). رد الإبراء: ذهب الشافعية في الراجح والحنابلة: إلى أن الإبراء يتم بالإيجاب دون حاجة ¬
الرد المعتبر
إلى قبول، ولا يرتد بالرد من المدين؛ لأنه إسقاط عند الحنابلة، كإسقاط القصاص والشفعة، والمقصود منه الإسقاط عند الشافعية، فيصح الإبراء من الدين ولو رده المدين. وذهب الحنفية والمالكية: إلى أن الإبراء يرتد بالرد، في المجلس أو بعده، مادام لم يحدث منه قبول صريح قبل رده؛ لأن الإبراء عند المالكية يفتقر إلى القبول، ولأن فيه معنى التمليك. ولمراعاة معنى التمليك عند الحنفية وإن كان إسقاطاً (¬1)، فنظراً لما فيه من معنى التمليك فإنه يرتد بالرد. والرد المعتبر: هو ما يصدر من المبرأ، أو من وارثه بعد موته. واستثنى الحنفية مسائل أربعاً لا يرتد فيها الإبراء بالرد وهي (¬2): 1 و 2 - الإبراء في الحوالة، والكفالة على الراجح؛ لأن الإبراء فيهما إسقاط محض، ليس فيه تمليك مال، والإسقاط المحض لا يحتمل الرد، لانعدام الساقط وتلاشيه، فلو أبرأ المحال المحال عليه فرده لا يرتد، ولو أبرأ الدائن الكفيل فرده لايرتد. 3 - إذا تقدم من المبرأ على الإبراء طلب بأن قال للمبرئ: أبرئني، فأبرأه، فردّ، لا يرتد. 4 - إذا سبق للمبرأ أن قبل الإبراء، فإذا رده بعدئذ لا يرتد. أما المجلة العدلية فقد نصت في المادة 1568 على ما يلي بالنسبة للقبول والرد أخذاً برأي الحنفية: ¬
المبحث الثالث ـ شروط الإبراء
«لايتوقف الإبراء على القبول، ولكن يكون بالرد مردوداً؛ لأنه إذا أبرأ أحد آخر، فلا يشترط قبوله، ولكن إذا رد الإبراء في ذلك المجلس بقوله: لا أقبل، يكون ذلك الإبراء مردوداً، يعني لا يبقى له حكم، لكن لو رده بعد قبول الإبراء لا يكون الإبراء مردوداً، وأيضاً إذا أبرأ المحال له المحال عليه، أو صاحبُ الطلبِ الكفيل، ورد ذلك المحال عليه أو الكفيل، لا يكون الإبراء مردوداً». المبحث الثالث ـ شروط الإبراء: هناك شروط في المبرئ، وشروط في المبرأ، وشروط في صيغة الإبراء، وشروط في المبرأ منه (محل الإبراء). أولاً ـ شروط المبرئ: يشترط في المبرئ ما يلي (¬1): 1 ً - أن يكون من أهل التبرع، أي عاقلاً بالغاً راشداً غير محجور لسفه أو لدين؛ لأن الإبراء تبرع من الدائن؛ إذ لا يقابله عوض من المدين. وشرْط عدم الحجر لدين عند الحنفية على المفتى به من رأي الصاحبين بجواز الحجر على المدين هو شرط نفاذ، فإبراء المحجور عليه بسبب الدين صحيح موقوف على إجازة الدائنين، حفاظاً على حقوقهم. 2 ً - أن يكون ذا ولاية على الحق المبرأ منه: بأن يكون مالكاً له، أو موكلاً بالإبراء منه، أو وصياً على الدائن. والإجازة اللاحقة عند من يجيز تصرف الفضولي لها حكم الوكالة السابقة. ¬
- الرضا
والعبرة عند الحنفية والحنابلة في ولاية المبرئ بالواقع لا في الظن، فلو أبرأ عن شيء من مال أبيه ظاناً أنه حي، فتبين حين الإبراء أنه ميت، صح الإبراء؛ لأنه إسقاط، ولأن الشيء المبرأ منه كان مملوكاً له في الواقع، كبيع مال مورثه الميت مع ظن الحياة. وإذا اعتبر الإبراء تمليكاً كما يرى الشافعية في الأصح، لم يصح هذا الإبراء. 3 ً - الرضا: يشترط الرضا والاختيار من المبرئ، فلا يصح إبراء المكرَه. التوكيل بالإبراء: يصح التوكيل بالإبراء، بشرط وجود إذن خاص به، ولا يكفي له الإذن بعقد ما. ولا يجوز عند الحنفية للوكيل المأذون بالإبراء توكيل غيره. ويكفي عند الشافعية (¬1) في صحة الوكالة بالإبراء: علم الموكل بقدر الدين، وإن جهله الوكيل والمديون. ولا يصح عندهم بناء على أن الإبراء تمليك توكيل المدين ليبرئ نفسه، كما لو وكله ليبيع من نفسه، وأما بناء على القول الثاني وهو أن الإبراء إسقاط فيصح توكيل المدين ليبرئ نفسه. الإبراء في مرض الموت: يتفرع عن الشرط الأول ألا يكون المبرئ مريضاً مرض الموت: فإن أبرأ المريض وارثاً، توقف الإبراء على إجازة الورثة، ولو كان الدين أقل من الثلث. وإن أبرأ أجنبياً، والدين يجاوز ثلث التركة، توقف الإبراء في الزائد عن الثلث على إجازة الورثة؛ لأن الإبراء تبرع له حكم الوصية. وإن أبرأ المريض أحد المدينين، وكانت التركة مستغرقة بالديون، لم ينفذ إبراؤه، لتعلق حق الغرماء (¬2). ¬
ثانيا ـ شروط المبرأ
ثانياً ـ شروط المبرأ: يشترط باتفاق الفقهاء على المذهب لدى الحنابلة (¬1) في الطرف المبرأ أن يكون معلوماً معيناً، غير مجهول، ولا مبهم، فلو أبرأ أحد غريميه (مدينيه)، فقال لهما: أبرأت أحدكما، فلا يصح. وكذا لو قال: أبرأت كل مدين لي، أو كل مدين لمورثي، لا يصح كما أن الإقرار ببراءة كل مدين له، لا يصح، إلا إذا قصد مديناً معيناً أو أناساً محصورين. فإذا قال: أبرأت هؤلاء المدينين لي، صح. وعلل الشافعية عدم صحة الإبراء مع جهالة المدين المبرأ بأن الإبراء فيه معنى التمليك، ولا يصح تمليك المجهول، والإبراء تمليك من المبرئ، إسقاط عن المبرأ عنه، فيشترط علم الأول دون الثاني. وقد نصت المجلة (م 1567) على هذا الشرط: يلزم أن يكون المبرأون معلومين ومعينين، بناء عليه، لو قال أحد: أبرأت كافة مديونيّ، أو ليس لي عند أحد حق، لا يصح إبراؤه. وأما لو قال: أبرأت أهالي المحلة الفلانية، وكان أهل تلك المحلة معينين، وعبارة عن أشخاص معدودين، فيصح الإبراء. ويصح إبراء المبرأ، سواء أكان مقراً بالحق أم منكراً له، بل ولو حلف المنكر؛ لأن الإبراء عند الجمهور غير المالكية ينعقد بمجرد الإيجاب، ولا يفتقر إلى القبول، ولا حاجة فيه إلى تصديق الغريم. ¬
ثالثا ـ شروط المبرأ منه (محل الإبراء)
ثالثاً ـ شروط المبرأ منه (محل الإبراء): يشترط في المحل المبرأ منه مايلي (¬1): 1 ً - أن يكون عند الشافعية في الجديد معلوماً: فلا يصح الإبراء من المجهول: وهو ما لا تسهل معرفته، ويكون الإبراء من المجهول جنساً أو قدراً أو صفة باطلاً؛ لأن الإبراء تمليك وهو يتوقف على الرضا، ولا يعقل الرضا مع الجهالة. ولو أبرأه من الدراهم التي عليه، ولا يعلم قدرها، برئ من ثلاثة؛ لأنها أقل الجمع على المعتمد. لكنهم قالوا: طريق الإبراء من المجهول: أنه يذكر عدداً يتحقق أنه يزيد على قدر الدين، كمن لا يعلم، هل له عليه خمسة أو عشرة، فيبرئه من خمسة عشر مثلاً. واستثنوا من بطلان الإبراء من المجهول: الإبراء من إبل الدية فيصح الإبراء منها، وإن كانت مجهولة الصفة؛ لأنها معلومة السن والعدد، فيرجع في صفتها إلى غالب إبل البلد. واستثنوا أيضاً: ما لو أبرأه بعد موته، فيصح مع الجهل؛ لأنه وصية. ولم يشترط الجمهور (الحنفية والمالكية والحنابلة) هذا الشرط، وأجازوا الإبراء من المجهول قدراً ووصفاً، ولو لم يتعذر علمه؛ لأنه إسقاط حق أو إسقاط محض كالإعتاق والطلاق، فينفذ مع العلم والجهل، فلو أبرأه من أحد الدينين صح الإبراء، لكن قال الحنابلة: لو كتم المدين الدين عن الدائن خوفاً من أن الدائن ¬
- ألا يكون المبرأ منه عينا من الأعيان
لو علم الدين، لم يبرئه، وجهله رب الدين، لم تصح البراءة عنه؛ لأن فيه تغريراً للمبرئ، وقد أمكن التحرز عنه. 2 ً - ألا يكون المبرأ منه عيناً من الأعيان: لأن العين لا تثبت في الذمة، والإبراء إسقاط، والذي يقبل الإسقاط: ما يشغل الذمم من الحقوق، فيكون الإبراء من الأعيان باطلاً، فلو غصب إنسان كتاباً، لم يصح الإبراء منه. ويصح الإبراء من الديون، ولو كان الدين من الأعيان كالدية من الإبل مثلاً. ويصح الإبراء من الحقوق، كالإبراء عن حق الدعوى، وإبراء الدائن الكفيل من الكفالة، والمحال عليه من الحوالة، إذ البراءة فيهما عن حق الكفالة أو الحوالة. 3 ً - أن يكون المبرأ منه موجوداً عند الإبراء: فيبطل الإبراء من الحق قبل وجوده، كأن تبرئ شخصاً مما سيقرضه لك، أو مما سيجب له. وبناء عليه، لم يجز الحنفية إبراء الزوجة زوجها من نفقة مستقبلة، ولا من نفقة العدة قبل أن يطلقها؛ لأن الإبراء إسقاط، وما سيوجد ساقط فعلاً، فلا يقبل إسقاطاً. واستدل الفقهاء لعدم صحة الإبراء من الدين قبل وجوبه، بقوله صلّى الله عليه وسلم: «لاطلاق إلا فيما تملك، ولا عتق إلا فيما تملك» (¬1) والإبراء في معناهما. رابعاً ـ شروط صيغة الإبراء: يشترط في صيغة الإبراء وذاته أربعة شروط هي ما يلي (¬2): ¬
- أن يكون منجزا
1 ً - أن يكون منجزاً غير معلق بشرط ولا مضاف للمستقبل (¬1): وهذا شرط عند الجمهور غير المالكية. فالتنجيز شرط كأن يقول الدائن لمدينه: أبرأتك من ديني؛ لأن في الإبراء معنى التمليك، والتمليكات لا تقبل التعليق. والتعليق على شرط: إن كان على شرط موجود بالفعل، فهو في حكم المنجز. وإن كان على شرط ملائم، مثل: إن كان لي عليك دين، أو إن مت، فأنت بريء، فهو جائز اتفاقاً، بدليل قول أبي اليسر الصحابي لغريمه: «إن وجدتَ قضاء فاقض، وإلا فأنت في حلّ» ولم ينكر ذلك عليه. ومنه قول الحنفية في الإبراء من الكفالة أو الحوالة: إذا قال الدائن للكفيل: إن وافيتني بالدين غداً، فأنت بريء من الكفالة، فإن وافاه في الغد برأ منها. وإن علق على الموت، صح في رأي الحنفية والحنابلة؛ لأنه يكون حينئذ في معنى الوصية، والوصية بالبراءة من الدين جائزة. وإن علق الإبراء على الشرط المتعارف، لم يجز في مذهب الحنفية، وجاز عند بعض الحنفية. أما إن كان التعليق على غير ما ذكر فلا يجوز عند الجمهور، لما في الإبراء من معنى التمليك، والتمليكات لا تقبل التعليق، والتعليق مشروع في الإسقاطات المحضة. وأجاز المالكية تعليق الإبراء مطلقاً، لما فيه من معنى الإسقاط. ¬
التقييد بالشرط
وأما التقييد بالشرط: فيجوز تقييد الإبراء بشرط صحيح باتفاق المذاهب الأربعة، ولا يصح التقييد بشرط غير صحيح، فإذا أبرأه على أنه بالخيار، صح الإبراء وبطل الشرط، وإذا أبرأه عن كل حق له عليه، شمل حق الخيار، لكن بالنسبة لسقوط الخيار، يصح الإبراء ويبطل الشرط؛ لأن الإبراء دون الهبة في كونه تمليكاً. وأما إضافة الإبراء إلى المستقبل ولو إلى وقت معلوم غير الموت، فلا يصح؛ لأن الأصل في الإبراء هو التنجيز، ولأن الإبراء فيه معنى التمليك، والتمليك لا يحتمل الإضافة للوقت. وأما الإبراء بشرط أداء البعض: آـ فإن صدر مطلقاً عن الشرط: كأن يعترف له بدين في ذمته، فيقول الدائن: قد أبرأتك من نصفه أو ثلثه، فأعطني الباقي، فالإبراء صحيح اتفاقاً؛ لأنه منجز غير معلق ولا مقيد بشرط، والمبرئ متطوع بإسقاط بعض حقه بطيب من نفسه، وقد صح أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لكعب: «ضع الشطر من دَيْنك» (¬1). ب ـ وإن كان الإبراء فيه معلقاً على أداء الباقي، لم يجز عند الجمهور، وجاز عند المالكية، كما تبين في حكم التعليق. جـ ـ وإن كان الإبراء فيه مقيداً بشرط أداء الباقي، مثل أن يقول: من له على آخر ألف: أبرأتك عن خمس مئة، بشرط أن تعطيني ما بقي، جاز عند الحنفية والمالكية والشافعية؛ لأنه استيفاء البعض، وإبراء عن الباقي. واشترط الشافعية الجمع بين لفظي الإبراء والصلح، ليكون من أنواع الصلح، لكن لا يحتاج لقبول، نظراً للفظ الإبراء. ¬
- ألا يتنافى مع الشرع
ولا يصح الإبراء المقيد بشرط أداء البعض عند الحنابلة؛ لأنه إبراء عن بعض الحق في مقابل بقيته، فكأنه عاوض بعض حقه ببعض. هذا إذا كان الشرط أداء الباقي، أما إن أبرأه عن البعض بشرط تعجيل الباقي، لم يجز كما أبان الشافعية؛ لأنه يشبه ربا الجاهلية. فإن عجل المدين وفاء بعض الدين بغير شرط، فأخذه منه الدائن، وأبرأه مما بقي، فإنه يصح. 2 ً - ألا يتنافى مع الشرع: كالإبراء من شرط التقابض في الصرف، والإبراء من حق السكنى في بيت العدة، والإبراء من حق الولاية على الصغير، فلا يصح؛ لأن كل ما يؤدي إلى تغيير المشروع باطل، ولا يستطيع أحد تغيير حكم الله تعالى. ويشترط أيضاً ألا يؤدي الإبراء إلى ضياع حق الغير، كالإبراء الصادر من الأم المطلَّقة عن حق الحضانة، لأنه حق للصغير وللحاضنة. 3 ً - أن يكون للمبرئ ملك سابق في الحق المبرأ منه: لأنه لا يصح تصرف الإنسان في ملك غيره دون إنابة منه، أو فضالة عنه عند من يصحح تصرف الفضولي. وهذا شرط متفق عليه؛ لأن تصرف الفضولي جائز عند القائلين به في حالة الظهور بمظهر المالك، وإلا كان من بيع ما لا يملك، وهو منهي عنه. أما الإبراء بعد سقوط الحق أو وفائه، أي بعد قضاء الدين، فهو صحيح عند الحنفية؛ لأن الساقط بقضائه هو المطالبة، لا أصل الدين، فتسقط مطالبة كل من طرفي الدين للآخر، لانشغال ذمة كل منهما بدين الآخر، وأما الدينان فيتساقطان بطريق المقاصة؛ لأن الديون تقضى بأمثالها. فإذا أبرأ الدائن المدين بعد وفاء الدين، كان للمدين الرجوع بما أداه، إذا أبرأه براءة إسقاط، أما إذا أبرأه براءة استيفاء فلا رجوع. ويعرف نوع البراءة عند الإطلاق بالعرف. وعليه، لو تبرع إنسان بقضاء
- أن يقع الإبراء بعد وجوب الحق المبرأ منه أو وجود سببه
دين لآخر، ثم أبرأ الدائن المدين على وجه الإسقاط، فللمتبرع أن يرجع على المبرئ بما تبرع به. هذا رأي الحنفية، ووافقهم الحنابلة فيه (¬1). 4 ً - أن يقع الإبراء بعد وجوب الحق المبرأ منه أو وجود سببه: لأن الإبراء إسقاط ما في الذمة، ويكون بعد انشغالها. وقد اتفق الفقهاء على عدم صحة الإبراء قبل وجود السبب، إذ لا معنى لإسقاط ما هو ساقط فعلاً، ويكون الإبراء مجرد وعد، وهو غير ملزم. أما بعد وجود السبب ففيه خلاف: أما الجمهور غير المالكية فاشترطوا كون الإبراء من الدين بعد وجود السبب، فلا يصح الإبراء قبله، للحديث المتقدم: «لا طلاق ولا عتاق فيما لا يملك» والإبراء في معناهما. والأمثلة عند الحنفية: الإبراء عن نفقة الزوجية قبل القضاء بتقديرها، والإبراء عن ثمن ما تشتريه مني غداً، فلا يصح الإبراء في الحالتين، لأنه قبل وجود السبب. ومثل الشافعية بإبراء المفوّضة (¬2) عن مهرها قبل التقدير والدخول، والإبراء عن المتعة قبل الطلاق، لعدم الوجوب. واستثنوا صورة يصح فيها الإبراء قبل الوجوب: وهي ما لو حفر بئراً في ملك غيره بلا إذن، وأبرأه المالك من ذلك التصرف أو رضي ببقاء البئر، فإن حافرها يبرأ مما يقع فيها. ولو أبرأ المشتري البائع عن ضمان المبيع إذا تلف قبل القبض، لم يبرأ في الأظهر؛ لأنه أبرأ عما لم يجب. أما المالكية فاختلفوا على قولين في صحة الإبراء قبل وجود السبب، وهو التصرف الذي ينشأ به الحق المبرأ منه، مثل إسقاط المرأة عن زوجها نفقة المستقبل، ¬
المبحث الرابع ـ محل الإبراء
والقول الراجح أنه يلزمها ذلك أي يصح إبراؤها. ومثل: إسقاط الشفيع شفعته قبل الشراء، في لزومه قولان. ومثل: عفو المجروح عما يؤول إليه الجرح، وكإجازة الوارث الوصية للوارث أو بأكثر من الثلث للأجنبي في مرض الموصي، ونحوهما، فيه قولان. المبحث الرابع ـ محل الإبراء: محل الإبراء: إما الأعيان، وإما الديون، وإما الحقوق (¬1): أما الإبراء عن الأعيان: فقد يكون عن دعوى العين أو عن العين نفسها. أما الإبراء عن دعوى العين فيشمله الكلام الآتي عن الإبراء عن الحقوق. وهو صحيح بالاتفاق؛ لأنه إسقاط لحق. وأما الإبراء عن العين نفسها بمعنى إسقاط ملكية الأعيان فهو غير صحيح اتفاقاً؛ لأن الأعيان ـ كما تبين في شروط محل الإبراء ـ لا تقبل الإسقاط، فلا يترتب على الإبراء عنها بذاتها أي أثر، فلا يتملكها المبرأ، بل تظل في يد واضع اليد عليها مملوكة له، فالإبراء عن الأعيان بمعنى تمليكها لمن هي في يده لا يصح، ويحق لمن ظفر بها أن يأخذها. وإذا أطلق هذا التعبير أي البراءة عن العين كان المراد منه عند الحنفية والشافعية والحنابلة سقوط حق الادعاء بها بعد الإبراء. وفي بعض كتب الحنفية: يبقى له حق الادعاء بها. ¬
الإبراء عن الديون الثابتة في الذمم
وعند المالكية: يراد بها سقوط الطلب بقيمة العين إذا فوتها المبرأ، وسقوط الطلب برفع اليد عنها إن كانت قائمة. وهناك أثر آخر عند الحنفية للإبراء عن العين نفسها إذا كانت مضمونة كالدار المغصوبة: وهو سقوط ضمانها، سواء أكانت قائمة أم هالكة، فتصير العين بعد الإبراء عنها أمانة كالوديعة في يد الغاصب. فإذا كانت العين قائمة كان الإبراء عنها إبراء عن ضمانها لو هلكت، فتصبح كالأمانة لا تضمن إلا بالتعدي عليها. وإذا كانت العين هالكة، كان الإبراء عنها إبراء عن قيمتها. وأما الإبراء عن أعيان هي أمانة فلا محل له، ولا وجه للإبراء عنها، إذ لم تلحقه عهدتها، فلا يجوز للقاضي أن يسمع دعواه بها بعد البراءة، فتصح البراءة قضاء، لكن لا تعتبر ديانة بمعنى أنه إذا ظفر بها صاحبها أخذها. وأما الإبراء عن الديون الثابتة في الذمم: فهو صحيح بالاتفاق؛ لأن مدار الإبراء هو إسقاط ما في الذمم. وأما الإبراء عن الحقوق: آـ فإن كان عن الحقوق الخالصة للعبد كالكفالة والحوالة فهو صحيح اتفاقاً. ب ـ وإن كان عن الحقوق الخالصة لله عز وجل كحد الزنا، وحد القذف وحد السرقة بعد الرفع للحاكم عند الحنفية والمالكية، فلايصح الإبراء عنها. جـ ـ وإن كان عن الحقوق التي يغلب فيها حق العبد كالتعزير والقصاص والدية وحق القسم بين الزوجات وحق الانتفاع وحق الفسخ بخيار العيب وغرامة تلف المال، ونحوها من الحقوق الشخصية التي تثبت في الذمم، فيصح الإبراء عنه. ويجوز الإبراء عن دين المدين بعد وفاته بالاتفاق، وهل يرتد بالرد من الوارث؟ فيه خلاف عند الحنفية.
بعض أحكام الإبراء عن بعض الحقوق لاختصاصها بأحكام خاصة
ولا يصح عند الحنفية الإبراء عن الحقوق التي لا تقبل الإسقاط، كحق الرجوع في الهبة، والرجوع في الوصية؛ لأن في جوازه تغييراً للمشروع، وهو غير جائز خلافاً للجمهور في رجوع الهبة. ولا يصح أيضاً الإبراء من خيار رؤية المبيع، ولا من حق الاستحقاق في الوقف، وحق الإرث. وأبحث على التخصيص بعض أحكام الإبراء عن بعض الحقوق لاختصاصها بأحكام خاصة: 1 ً - الإبراء من نفقة الزوجة: لا يصح بالاتفاق الإبراء من نفقة الزوجة حتى تصبح ديناً قائماً في ذمة زوجها، أما قبل شغل ذمة الزوج بها، فلا يصح إبراء الزوج عنها؛ لأن الإبراء لا يكون إلا من دين قائم موجود. لكن لا تصبح النفقة المستحقة ديناً واجباً عند الحنفية إلا إذا كانت مفروضة بالقضاء أو التراضي عليها. ويصح الإبراء عن النفقة المتجمدة التي سبق فرضها، ويصح الإبراء عن نفقة الشهر بدخول الشهر إذا كانت مفروضة مشاهرة، وعن السنة في بداية السنة إذا فرضت مسانهة، وعن اليوم الأول إن فرضت مياومة. 2ً - المبارأة بين الزوجين: تكون المبارأة بين الزوجين لفسخ الزواج، وإسقاط الحقوق المترتبة عليه، ويترتب عليها عند الحنفية بينونة الزوجة بطلقة بائنة، كالخلع، مثل أن يقول الزوج لزوجته: بارأتك على ألف دينار، فتقول له: قبلت، أو نحوه، والمعنى: خالعتك من الزواج على ألف، وعليها دفع عوض المبارأة.
- الإبراء عن حق الدعوى
3ً - الإبراء عن حق الدعوى: الإبراء عن الدعوى إما عام أو خاص: الإبراء عن الدعوى إبراء عاماً بإسقاط الحق في المخاصمة لا يجوز اتفاقاً؛ لأنه يتناول الموجود وما لم يوجد، والإبراء عما لم يوجد سبب وجوبه باطل. لكن الإبراء العام عن جميع الدعاوى السابقة بين شخصين صحيح، كأن يقول شخص: أبرأت فلاناً من جميع الدعاوى، أو ليس لي عنده حق أبداً (¬1). والإبراء الخاص عن دعوى معينة صحيح اتفاقاً، ولا تسمع دعواه بعدئذ عن موضوع تلك الدعوى (¬2). وقد يحصل الإبراء ضمناً أو تبعاً، وهو الإبراء عن العين، يكون عند الحنفية إبراء عن ضمانها أو دعواها، كما بينا. المبحث الخامس ـ أنواع الإبراء: لإبراء الإسقاط تقسيمات باعتبارات متعددة، فقد ينقسم بحسب الشمول وعدمه إلى خاص وعام، وقد ينقسم بحسب الزمن إلى ماض ومستقبل، وقد ينقسم بحسب صيغته إلى إبراء إسقاط وإبراء استيفاء. التقسيم الأول ـ الإبراء من حيث الشمول وعدمه: الإبراء نوعان: عام وخاص (¬3). ¬
التقسيم الثاني ـ الإبراء من حيث الزمن والأشخاص
أما العام: فهو الإبراء عن كل عين ودين وحق لشخص عند آخر. ويشمل كما أبان الحنفية البراءة عن كل حق، ولو غير مالي كالكفالة بالنفس والقصاص وحد القذف، والبراءة عما هو بدل مالي كالثمن والأجرة، وبدل غير مالي كالمهر وأرش الجناية، وما هو مضمون كالمغصوب، أو أمانة كالوديعة والعارية. وأما الإبراء الخاص: فهو ما يتناول حقاً معيناً، وحكمه: أنه يختص بمحله، فإذا أبرأ عن دين خاص برئ عنه، أو عن دين عام كالإبراء عمَّا لشخص عند آخر، برئ أيضاً. وإذا أبرأ عن دار أو عين أو أمانة برئ. التقسيم الثاني ـ الإبراء من حيث الزمن والأشخاص: يقتصر أثر الإبراء على ما سبق تاريخه، فلا يشمل ما بعده من ديون أو حقوق، للاتفاق على اشتراط وجود سبب سابق لصحة الإبراء، جاء في فتاوى قاضيخان: «البراءة السابقة لا تعمل في الدين اللاحق». وأما أثر الإبراء على غير المبرأ، كإبراء البائع المشتري من بعض الثمن، فرأى أبو حنيفة ومالك أن الشفيع يستفيد من الإبراء، فيسقط عنه مقدار ما حطه البائع عن المشتري، ويلتحق حط البعض بأصل العقد. ورأى الحنابلة والشافعية أن الإبراء يصح، ولا يستفيد منه سوى المشتري، وأما الشفيع فيدفع الثمن كله أويترك (¬1). التقسيم الثالث ـ الإبراء بحسب صيغته: ينقسم الإبراء عند الحنفية (¬2) بحسب صيغته إلى إبراء إسقاط وإبراء استيفاء. ¬
المبحث السادس ـ حكم الإبراء وحكم الرجوع عنه
أما براءة الإسقاط: فتسقط الدين عن الذمة، مثل: أسقطت، وحططت، وأبرأت براءة إسقاط، وهي قد تكون بالنسبة للدين كله أو بعضه. وأما براءة الاستيفاء: فهي عبارة عن الإقرار بأنه استوفى حقه وقبضه، مثل: أبرأتك براءة استيفاء، أو قبض، أو أبرأتك عن الاستيفاء. وتفيد عدم جواز المطالبة بالدين بعدئذ. والفرق بينهما بالنسبة للرجوع على الدائن المبرئ: أن المدين المبرأ يرجع بما دفع في براءة الإسقاط، لا في براءة الاستيفاء اتفاقاً، ويتفرع عنه أنه لو علق رجل طلاق امرأته بإبرائها عن المهر، ثم دفعه لها، لا يبطل التعليق، وإذا أبرأته براءة إسقاط وقع الطلاق ورجع عليها بالمهر. وبالنسبة لأثرهما يختص إبراء الإسقاط بالديون؛ لأن العبارة فيه صريحة في إسقاطها، ولا يصح في الأعيان، لعدم صحة إسقاط الأعيان. أما إبراء الاستيفاء: فإنه يكون في الدين والعين جميعاً؛ إذ الإقرار بالوفاء كما يكون في الدين يكون في العين، عن طريق دفعها إلى مالكها. المبحث السادس ـ حكم الإبراء وحكم الرجوع عنه: حكم الإبراء، أي أثره المترتب عليه إذا صدر مستوفياً شروطه: هو سقوط الحق المبرأ منه بحسب كون الإبراء خاصاً أو عاماً، فإذا كان خاصاً، لم تجز المطالبة بالحق، ولا تسمع دعواه فيما تناوله الإبراء. وإذا كان عاماً شمل جميع الحقوق الموجودة عند صدوره، ولا يشمل ما يحدث بعده من الحقوق. ولا يقبل من المبرئ الرجوع عن الإبراء ولا العدول عنه في رأي الحنفي
والحنابلة، وفي الراجح عند الشافعية (¬1)، كما لا يقبل الرجوع بالاتفاق إذا زال الملك عن الموهوب. وكذلك لا يجوز الرجوع عن الإبراء في مذهب المالكية بعد القبول؛ إذ ظاهر المذهب كما عرفنا اشتراط القبول (¬2)، كما لا يجوز في الهبة. واستثنى الحنفية (¬3) من أثر الإبراء بعدم سماع الدعوى بعده المسائل الآتية: 1 - ادعاء ضمان الدَّرَك في البيع السابق للإبراء: لأنه وإن كان البيع متقدماً على الإبراء ومشمولاً بأثره، فإن ضمان الدرك متأخر عنه. وضمان الدرك: هو التزام سلامة المبيع مما يمكن أن يلحقه ويدركه من حقوق لغير البائع في عينه، وتحمل التبعة عند ظهور حق فيه. 2 - ظهور شيء من الحقوق للقاصر، لم يكن يعلم به، بعد أن بلغ وأبرأ وصيه إبراءً عاماً، بأن أقر بأنه قبض كامل تركة والده. 3 - ادعاء الوصي ديناً للميت، بعد أن أقر باستيفاء جميع ماله على الناس. 4 - ادعاء الوارث ديناً للمورث، بعد إقراره على النحو السابق. وسبب استثناء هذه الصور طروء خفاء يعذر به المبرئ في دعواه مع صدور الإبراء العام منه. ويلاحظ أن سقوط حق الادعاء بسبب الإبراء إنما هو عند الحنفية بالنسبة لأحكام القضاء لا الديانة، فلو ظفر المبرئ بحقه أخذه (¬4). ¬
سماع الدعوى بعد الإبراء العام
وقال الشافعية (¬1): الإبراء في الدنيا إبراء في الآخرة. وللمالكية قولان (¬2)، الظاهر منهما أن الإبراء مطلقاً يشمل أحكام الدنيا والآخرة، فلا يؤاخذ المولى أحداً بحق جحده، وأبرأه صاحبه منه. والقول الآخر: لا تسقط عنه مطالبة الله في الآخرة بحق خصمه. سماع الدعوى بعد الإبراء العام: لا تسمع الدعوى بعد الإبراء، كما تقدم، ولكن فصَّل الحنفية (¬3) في الموضوع، فقالوا: إن كان الإبراء العام عن الدين، فلا تسمع الدعوى بعده إلا عن دين حادث بعد الإبراء. وإن كان الإبراء عن عين: فلا تسمع الدعوى بعده إن كان المدعى عليه منكراً كون العين للمدعي؛ لأن الإبراء من المدعى موافقة على الإنكار. أما إن كان المدعى عليه مقراً بأن العين للمدعي، لكنه تمسك بإبراء المدعي، فإن كانت العين قائمة تسمع الدعوى بعد الإبراء عنها، وإن كانت هالكة، كان الإبراء عن ضمانها، فلا تسمع الدعوى بها بعد الإبراء كالدين. أثر الإقرار بعد الإبراء: لا يعتبر ـ كما أبان الحنفية والمالكية (¬4) ـ الإقرار بالدين بعد صدور الإبراء العام من الدين إبراء عاماً؛ لأن الدين قد سقط بالإبراء، والساقط لا يعود. ¬
الإبراء بعوض
الإبراء بعوض: الإبراء بعوض عند الحنفية (¬1): هو صلح بمال. وأجاز الشافعية (¬2) بذل العوض في الإبراء، كأن يعطيه متاعاً مثلاً مقابل الإبراء عما عليه من الدين، فيملك الدائن العوض المبذول له، ويبرأ المدين. لكن لو أعطاه بعض الدين على أن يبرئه من الباقي، فليس العطاء تعويضاً، وإنما هو من الدائن قبض بعض حقه، ويظل الباقي في ذمة المدين، ويبطل الإبراء عند الجمهور غير المالكية، كما تقدم في شروط الصيغة. ¬
الفصل الخامس عشر: الاستحقاق
الفَصْلُ الخامِس عَشر: الاستِحقاق الكلام فيه يتناول تعريفه، وحكمه المترتب عليه من فسخ ورجوع، وحكم الاستحقاق في عقود البيع والمقايضة والرهن والقسمة والصلح، والإجارة، والمساقاة والمزارعة، والزواج بالنسبة للصداق وبدل الخلع، والوصية، والوقف، وحكم استحقاق الأضحية والهدي، وفيه ثلاثة مباحث: الأول ـ التعريف والحكم، والثاني ـ أثر الاستحقاق في طائفة من العقود، والثالث ـ حكم استحقاق الأضحية والهدي. المبحث الأول ـ تعريف الاستحقاق وحكمه المترتب عليه: الاستحقاق لغة: طلب الحق، فالسين والتاء للطلب، لكن في المصباح: استحق فلان الأمر: استوجبه، فالأمر مستَحق (اسم مفعول) ومنه خرج المبيع مستحقاً، فصار المعنى الشرعي موافقاً للمعنى اللغوي. وفقهاً: ظهور كون الشيء حقاً واجباً للغير. وبعبارة أخرى: الاستحقاق: هو أن يدعي شخص ملكية شيء، ويثبت دعواه، ويقضي له القاضي بملكيته، وانتزاعه من يد حائزة. وعرفه المالكية بقولهم: هو رفع ملك شيء بثبوت ملك قبله.
الاستحقاق بالنسبة لفسخ العقد نوعان
والاستحقاق بالنسبة لفسخ العقد نوعان (¬1): 1 - مبطل للملك بالكلية: بحيث لا يبقى لأحد عليه غير المدعي حق التملك، كالعتق والحرية الأصلية. وحكمه: أنه يوجب فسخ العقد بلا حاجة لحكم القاضي، ولكل واحد من الباعة الرجوع على بائعه بالثمن، فلو أقام العبد بيِّنة أنه حر الأصل، أو أنه كان عبداً لفلان فأعتقه، فلكل واحد وإن لم يرجع عليه أن يرجع على بائعه قبل القضاء عليه، ويرجع هو أيضاً على بائعه. 2 - وناقل للملك من شخص إلى آخر، وهذا هو الغالب: كأن ادعى زيد على خالد أن ما في يده من المتاع ملك له، وبرهن على ادعائه. وحكمه: أنه لا يوجب فسخ العقد؛ لأنه لا يوجب بطلان ملك المشتري، وإنما يتوقف على إجازة المستحق أو فسخه، والصحيح عند الحنفية أن العقد لا ينفسخ ما لم يرجع المشتري على بائعه بالثمن، ويفسخ العقد في الأصح من ظاهر الرواية بالفسخ أي بالتراضي، لا بمجرد القضاء بالاستحقاق. وليس لأحد من المشترين أن يرجع على بائعه بالثمن، ما لم يُرجع عليه، لئلا يجتمع الثمنان في ملك واحد، أي فليس للمشتري الأوسط أن يرجع على بائعه قبل أن يرجع عليه المشتري الأخير. والحكم بالاستحقاق يشمل ذا اليد فيؤخذ المدعى به من يده، ويشمل أيضاً كل من تلقى ذو اليد الملك منه. قال صاحب الدر: الحكم بالاستحقاق حكم على ذي اليد، وعلى من تلقى ذو اليد الملك منه، ولو كان مورثه، ويتعدى الأمر إلى بقية الورثة. ¬
إثبات المستحق حقه
إثبات المستحق حقه: يرجع المشتري على البائع بالثمن إذا ثبت الاستحقاق ببينة المستحق؛ لأنها حجة متعدية تظهر في حق كافة الناس، ولا تصير حجة معتبرة إلا بقضاء القاضي، حتى ينفذ قضاؤه في حق الكافة بماله من ولا ية عامة. أما إذا ثبت الاستحقاق بإقرار المشتري أو وكيله بالخصومة، أو بنكُولهما، فلا رجوع؛ لأن الإقرار حجة قاصرة على المقر لا يتعداه إلى غيره، لعدم ولايته عليه (¬1). تناقض الادعاءات: التناقض في الدعوى (¬2): أي التدافع في الكلام، يمنع دعوى الملك لعين أو منفعة، إذا كان الكلام الأول قد أثبت حقاً لشخص معين، كأن ادعى شخص على آخر أنه أخوه، وطالبه بالنفقة، فقال المدعى عليه: ليس هو بأخي، ثم مات المدعي عن تركة، فجاء المدعى عليه يطلب ميراثه، فإن قال: هو أخي، لم يقبل، للتناقض. أما إذا لم يثبت الكلام الأول لآخر حقاً، لم يمنع دعوى الملك، لقول المدعي: لا حق لي على أحد من أهل بلدة كذا، ثم ادعى شيئاً على أحد منهم، تصح دعواه. ولا يمنع التناقض أيضاً دعوى ما خفي سببه كالنسب والطلاق، والحرية، كما إذا اشترى ثوباً في شيء مغلَّف، ثم زعم أنه له، ولم يعرّفه، تقبل دعواه. ومثال النسب: لو باع عبداً مثلاً، ثم باعه المشتري لآخر، ثم ادعى البائع الأول أنه ابنه، تقبل دعواه، ويبطل الشراء الأول والثاني؛ لأن النسب يبتنى على العلوق، فيخفى عليه، فيعذر في التناقض. ¬
المبحث الثاني ـ حكم الاستحقاق في طائفة من العقود
ومثال الطلاق: إذا قاسمت المرأة ورثة زوجها، وقد أقروا بالزوجية كباراً، ثم برهنوا على أن زوجها كان طلقها في حال صحته ثلاثاً، رجعوا عليها بما أخذت. ومثال الحرية: أن يبرهن البائع أو المشتري أن البائع حرر العبد المبيع قبل بيعه، يقبل قوله؛ إذ التناقض متحمل في العتق. المبحث الثاني ـ حكم الاستحقاق في طائفة من العقود: أولاً ـ الاستحقاق في عقد البيع والمقايضة: أما أثر الاستحقاق في المقايضة: فلو استحق بدل المبيع، كأن اشترى داراً بسيارة ثم استحقت السيارة، وأخذت الدار بالشفعة، بطلت الشفعة، ويأخذ البائع الدار من الشفيع، لبطلان البيع؛ لأن الاستحقاق في بيع المقايضة، يبطل البيع (¬1). وأما أثر الاستحقاق في البيع، ففيه تفصيل وآراء: رأي الحنفية (¬2): 1 ً - استحقاق بعض المبيع: أـ إن استحق بعض المعقود عليه قبل القبض، ولم يجز المستحق، بطل العقد في القدر المستحق؛ لأنه تبين أن ذلك القدر لم يكن ملك البائع، ولم توجد الإجازة من المالك، فبطل، وللمشتري الخيار في الباقي: إن شاء رضي به بحصته ¬
ب ـ وإن كان الاستحقاق بعد قبض البعض دون البعض أو بعد قبض الكل
من الثمن، وإن شاء رده سواء أحدث عيباً في الباقي أم لا، وسواء استحق الجزء المقبوض أو غيره؛ لأنه إذا لم يرض المستحق، فقد تفرقت الصفقة على المشتري قبل تمام العقد، والتفرق يوجب الخيار، فكذا هذا. ب ـ وإن كان الاستحقاق بعد قبض البعض دون البعض أو بعد قبض الكل، بطل البيع في القدر المستحق. ثم ينظر في حالة قبض الكل: إن كان استحقاق ما استحق يوجب العيب في الباقي، بأن كان المعقود عليه شيئاً واحداً كالدار والسيارة والدابة ونحوها، فالمشتري بالخيار في الباقي: إن شاء رضي بحصته من الثمن، وإن شاء رد؛ لأن الشركة في الأعيان عيب. وإن كان استحقاق ما استحق لا يوجب عيباً في الباقي، بأن كان المعقود عليه شيئين كالدابتين أو كمية من المثليات من مكيل كالقمح أو موزون كالزيت، فاستحقت إحداهما، فإنه يلزم المشتري الباقي بحصته من الثمن؛ لأنه لا ضرر في تبعيضه، فلم يكن له خيار الرد. والخلاصة: أنه في حال استحقاق بعض المبيع تتفرق الصفقة على المشتري الأخير، فيثبت للمشتري خيار تفرق الصفقة، فإن شاء احتفظ بباقي المبيع، وإن شاء فسخ العقد فيه ورده للبائع، إلا إذا كان استحقاق البعض قد وقع بعد قبض المشتري جميع المبيع، ولم تضر المبيع التجزئة، فلا يثبت للمشتري حينئذ خيار تفرق الصفقة باستحقاق البعض، بل يلتزم بالباقي بحصته من الثمن. 2ً - استحقاق المبيع كله: إن أثبت المستحق ملكية المبيع كله بالبينة، فقضي له به، لا ينفسخ البيع، بل
شروط الرجوع بالثمن
يصبح متوقفاً على إجازة المستحق: فإن أجاز البيع بقي المبيع للمشتري، ويأخذ المستحق الثمن من البائع، ويصبح البائع كوكيل عنه بالبيع؛ لأن الإجازة اللاحقة كالوكالة السابقة. وإن لم يجز المستحق البيع، بل اختارأخذ المبيع، ينفسخ البيع السابق بالفسخ أي بالتراضي عليه في ظاهر الرواية، ويكون البائع ملتزماً للمشتري برد الثمن. لكن إن كان الاستحقاق لموقوف أثبت المتولي وقفيته، فإن البيع ينفسخ حتماً، إذ ليس لأحد أن يجيز بيع الوقف. شروط الرجوع بالثمن: يشترط لرجوع المشتري على البائع بالثمن بعد استحقاق المبيع شروط ثلاثة (¬1): 1 ً - أن يكون الاستحقاق ناقلاً لملك البائع: بأن يدعي المستحق ملكاً مطلقاً أو من تاريخ أقدم من تاريخ الشراء، فإن ادعى المستحق الملك منذ شهر، وكان شراء المشتري من سنة مثلاً، فلا رجوع له على بائعه؛ لأن الاستحقاق حدث على ملك المشتري لا على ملك البائع. 2 ً - ألا يتصالح المشتري والمستحق على أن يدفع المستحق إلى المشتري بعض الثمن ويأخذ المبيع؛ لأن المشتري عندئذ يكون قد أبطل حق رجوعه على البائع بهذا الصلح أما إن تم الصلح على ترك المبيع للمشتري مقابل شيء يدفعه المشتري للمستحق، فلا يسقط حق الرجوع. ¬
- ألا يكون البائع قد أبرأ المشتري عن الثمن قبل الاستحقاق
3 ً - ألا يكون البائع قد أبرأ المشتري عن الثمن قبل الاستحقاق: فلو كان قد أبرأه عنه، فلا رجوع للمشتري عليه بشيء؛ لأنه لم يدفع شيئاً. شرط سماع دعوى الاستحقاق قبل قبض المبيع: لا تسمع دعوى الاستحقاق على المبيع قبل قبضه، حتى يحضر البائع والمشتري عند القاضي للحكم عليهما؛ لأن الملك للمشتري، واليد للبائع، والمدعي يدعيهما، فشرط حضورهما للقضاء عليهما. أما إذا رفعت دعوى استحقاق المبيع بعد قبض المشتري، فيطلب حضور المشتري فقط، ولا يشترط حضور البائع، لكن يحق للمشتري طلب إدخاله في المحاكمة بصفة شخص ثالث، لما له من علاقة بحق الرجوع (¬1). وأما زوائد المبيع كالولد: فإن أثبت المستحق حقه بالبينة أخذها؛ لأن البينة حجة مطلقة في حق جميع الناس، ولكن بشرط القضاء بها، وإن كان الإثبات بمجرد إقرار المشتري له بها أو بالنكول لأنه في حكم الإقرار، فلا يستحق أخذها؛ لأن الإقرار حجة على المقر فقط (¬2). 3ً - استحقاق احتباس المبيع: إذا ظهر أن المبيع مستحق الاحتباس لغير البائع بسبب كونه مرهوناً (إشارة رهن) أو مأجوراً، وثبت الاستحقاق بالبينة، ففيه تفصيل: أـ إن أجاز المرتهن أو المستأجر البيع، انفسخ الرهن والإجارة، ويصبح ثمن المبيع رهناً مكان البيع، وللمرتهن حبس المبيع حتى يقبض الثمن، وللمستأجر ¬
رأي المالكية
حبس المبيع حتى تعاد إليه الأجرة عن المدة الباقية من الإجارة لو كانت مدفوعة (¬1). ب ـ وإن لم يجز المرتهن أو المستأجر البيع، ليس له فسخه، بل يبقى المبيع في يده، ويخير المشتري بين أن ينتظر فكاك الرهن وانتهاء مدة الإجارة، أو يفسخ البيع، ويسترد الثمن المدفوع. رأي المالكية (¬2): إذا استحق إنسان شيئاً من يد آخر وأثبت حقه بما تثبت به الأشياء في الشرع، فلا يخلو من أن يستحق من الشيء أقله، أو كله أو جله. فإن كان المستحق أقل الشيء: فيرجع على المشتري بقيمة ما استحق من يده، وليس له أن يرجع بالجميع. وإ ن كان المستحق كل الشيء أو جله: فإن كان لم يتغير أخذه المستحق، ورجع المشتري على البائع بالثمن. وإن تغير تغيراً يوجب اختلاف قيمته، رجع بقيمته يوم الشراء. وإن تغير الشيء بزيادة: فإن كانت الزيادة من ذات الشيء، أخذها المستحق، مثل أن تسمن الدابة أو يكبر نتاجها. وإن كانت الزيادة من قبل المشتري المستحق منه، كأن يبني في الدار بناء، فتستحق من يده، فيخير المستحق بين أن يدفع قيمة الزيادة ويأخذ ما استحقه، وبين أن يدفع إليه المشتري قيمة ما استحق، أو يكونا شريكين: هذا بقدر قيمة ما استحق من يده، وهذا بقدر قيمة ما بنى أو ما غرس، وهو قضاء عمر بن الخطاب. ¬
رأي الشافعية
وإن تغير الشيء بنقصان: فإن كان من غير سبب المستحق من يده، فلا شيء على المستحق منه. وإن كان بسبب من المستحق منه كأن يهدم الدار، ويبيع أنقاضها، ثم تستحق منه، فيرجع المستحق على المستحق منه بثمن ما باع من الأنقاض. رأي الشافعية (¬1): إذا استحق بعض المبيع دون البعض الآخر ففيه خيار تفرق الصفقة، والأظهر من القولين عندهم في تفريق الصفقة تجزئة البيع، وإعطاء كل جزء من المبيع حكمه، فيصح البيع فيما يأخذه المشتري، ويبطل في المستحق، ويرجع المشتري على البائع بحصة المستحق من الثمن. وأما إذا استحق المبيع كله، فيرجع المشتري بالثمن كله على البائع، سواء علم بالاستحقاق حال العقد، أم لم يعلم؛ لأنه أزيلت يده عن المبيع بسبب كان في يد البائع، وينفسخ البيع. ولو خرج المبيع مستحقا قبل القبض، فلم يقبضه المشتري، لم يكن للمستحق مطالبة المشتري به، لعدم قبضه له حقيقة، وكذا لو باعه قبل نقله، فنقله المشتري الثاني، فليس للمستحق مطالبة المشتري الأول، لعدم قبضه له حقيقة. وإن وضع البائع المبيع بين يدي المشتري، فخرج مستحقاً، لم يضمنه المشتري، أي لم يطالب ببدله؛ لأن الوضع بين يدي المشتري يكون قبضاً في البيع الصحيح دون الفاسد، وكذا تخلية الدار ونحوها إنما تكون قبضاً في الصحيح دون الفاسد. ¬
رأي الحنابلة
ولو اعترف المشتري للبائع بالملك، ثم استحق المبيع، فإنه يرجع على البائع بالثمن؛ لأنه اعتراف بظاهر اليد. ولو استحق المبيع باعتراف المشتري أو بنكوله عن يمين نفي العلم باستحقاق المبيع مع يمين المدعي المردودة، لم يرجع بالثمن على البائع، لتقصيره باعترافه مع شرائه أو بنكوله، وهذا موافق للحنفية. أما إن استحق المبيع ببينة، أو بتصديق البائع والمشتري للمدعي، رجع المشتري على البائع بالثمن إن كان باقياً، وببدله إن كان تالفاً. رأي الحنابلة (¬1): إذا استحق المبيع رجع المشتري على البائع بالثمن وبما غرمه من أجل بناء أو غرس في أرض؛ لأن البائع غرَّ المشتري ببيعه الأرض مثلاً وأوهمه أنها ملكه، لكن لا يرجع بما أنفق على الحيوان ولا بخراج الأرض؛ لأن المشتري التزم ضمان النفقة باعتبار أن عقد البيع يقتضي النفقة على المبيع ودفع خراجه. ولمستحق الأرض قلع الغراس والبناء، بلا ضمان نقص لموضعه. وعبارتهم: إذا بنى المشتري على الأرض ثم أخذها المستحق، وهدم البناء، فالأنقاض للمشتري؛ لأنها أعيان ماله، ويرجع بقيمة التالف على البائع؛ لأنه غره، وقيده الشيخ التقي في موضع بما إذا كان عالماً، وإلا فلا تغرير. وهذا الرأي يصلح في الجملة أساساً للتعويض عن الخسارة. ¬
ثانيا ـ الاستحقاق في عقد الرهن (استحقاق المرهون)
ثانياً ـ الاستحقاق في عقد الرهن (استحقاق المرهون): رأي الحنفية (¬1): لو استحق بعض المرهون بعد الرهن، ينظر إلى الباقي: أـ إن كان الباقي بعد الاستحقاق مما يجوز رهنه ابتداء، لا يفسد الرهن فيه. ب ـ وإن كان مما لا يجوز رهنه ابتداء، فسد الرهن في الكل، كاستحقاق بعض الرهن شائعاً؛ لأنه لما استحق بعضه تبين أن العقد لم يصح في القدر المستحق، وأنه لم يقع إلا على الباقي، وبما أن الباقي شائع، فيفسد الرهن؛ لأن الشيوع عندهم يمنع صحة الرهن. رأي المالكية (¬2): إذا استحق بعض الرهن المعين، فإن الباقي يكون رهناً عن جميع الدين. وأما غير المعين: فيأتي الراهن للمرتهن ببدل البعض المستحق. وإذا استحق كل المرهون: فإن كان قبل قبض الرهن، فيخير المرتهن بين إمضاء العقد بلا رهن، وبين الفسخ. وإن استحق بعد القبض يبقى دينه بلا رهن، إلا أن يغره، فيخير بين الفسخ وعدمه. ومن رهن عقاراً أو حيواناً فاستحق شخص حصته منه، وتركها تحت يد المرتهن، فتلفت، فلا يضمنها المرتهن؛ لأنها باستحقاقها خرجت من الرهينة، وصار المرتهن أميناً فلا يضمن إلا ما بقي. ¬
رأي الشافعية
رأي الشافعية (¬1): إن استحق المرهون المبيع، رجع المشتري على الراهن؛ لأن المبيع له، فكانت العهدة عليه، ويستقر الضمان عليه، لو رجع المشتري على العدل الذي وضع عنده الرهن، إذ يجوز الرجوع عليه لوضع يده عليه. رأي الحنابلة (¬2): إذا قبض المرتهن الرهن، فوجده مستحقاً، لزمه رده على مالكه، والرهن باطل من أصله. وإن استحق الرهن المبيع، رجع المشتري على الراهن؛ لأن المبيع له، فالعهدة عليه، كما لو باع بنفسه، وحينئذ لا رجوع له على العدل إن أعلمه العدل أنه وكيل. ثالثاً ـ الاستحقاق في القسمة (استحقاق المقسوم كله أو بعضه): رأي الحنفية (¬3): إذا استحق العين المقسومة بطلت القسمة في الظاهر، ولكن تبين أنها في الحقيقة لم تصح. ولو استحق شيء منها، فإنها تبطل في القدر المستحق. رأي المالكية (¬4): أـ إن استحق جل ما بيد أحد المتقاسمين، فإن القسمة تنفسخ، وترجع الشركة كما كانت قبل القسمة. ¬
ب ـ وإن استحق نصف أو ثلث من نصيب أحد المتقاسمين، خير المستحق بين التمسك بالباقي ولا يرجع بشيء، وبين رجوعه شريكاً فيما بيد شريكه بنصف قدر ما استحق. جـ ـ وإن كان المستحق ربع ما بيد أحد المتقاسمين، فلا خيار له، والقسمة باقية لا تنقض، وليس له إلا الرجوع بنصف قيمة ما استحق من يده، ولا يرجع شريكاً بنصف ما يقابله. رأي الشافعية (¬1): أـ إن استحق بعد القسمة بعض مشاع من المقسوم كثلث أو ربع بطلت القسمة في البعض المستحق، وفي الباقي قولا تفريق الصفقة والأظهر منهما صحة القسمة وثبوت الخيار، لعدم حصول مقصود القسمة: وهو التمييز، ولظهور انفراد بعض الشركاء بالقسمة. ب ـ وإن استحق من النصيبين قدر معين على السواء، بقيت القسمة في الباقي؛ لأن كلاً من الشريكين وصل إلى حقه. جـ ـ وإن كان المستحق من النصيبين لم يستو مع الآخر، بأن اختص المستحق بأحد النصيبين أو شملهما، لكنه في أحدهما أكثر من المستحق من نصيب الآخر، بطلت القسمة في الجميع؛ لأن ما بقي لكل واحد ليس قدر حقه، بل يحتاج أحدهما إلى الرجوع على الآخر، وتعود الإشاعة. رأي الحنابلة (¬2): أـ إذا تقاسم الشركاء، ثم استحق من حصة أحدهما شيء معين، بطلت القسمة، لفوات التعديل، أي لم تعدل فيها السهام، فكانت باطلة. ¬
رابعا ـ الاستحقاق في الصلح (استحقاق محل الصلح أو عوض الصلح)
ب ـ وإن كان المستحق من الحصتين على السواء، بأن اقتسما أرضاً، فاستحق من حصتهما معاً قطعة معينة على السواء في الحصتين، لم تبطل القسمة فيما بقي من الأرض، كما قرر الشافعية؛ لأن القسمة إفراز حق كل واحد منهما، وقد أفرز، كما لو كان المقسوم عينين، فاستحق إحداهما. جـ ـ وإن كان المستحق في نصيب أحدهما أكثر من نصيب الآخر، أو كان ضرره في نصيب أحدهما أكثر من ضرره في نصيب الآخر، كسد طريقه، أو سد مجرى مائه، أو سد محل طريقه ونحوه مما فيه ضرر، بطلت القسمة، لفوات التعديل، كالحالة الأولى. وكذلك تبطل القسمة إن كان المستحق مشاعاً في نصيبهما؛ لأن الشريك الثالث لم يرض، ولم يحكم عليه بالقسمة. وتبطل القسمة أيضاً إن كان المستحق مشاعاً في أحد النصيبين، لفوات التعديل. رابعاً ـ الاستحقاق في الصلح (استحقاق محل الصلح أو عوض الصلح): رأي الحنفية (¬1): أـ إذا صالح على مال (عوض الصلح) ثم استحق من يد المدعي، لم يصح الصلح؛ لأنه تبين أن المصالح عليه (العوض) ليس مملوكاً للمصالح، وهذا شرط لصحة الصلح. ب ـ إذا كان الصلح عن إقرار، واستحق بعض المصالح عنه (محل الصلح) ¬
رأي المالكية
رجع المدعى عليه بحصة المستحق من العوض؛ لأن هذا الصلح معاوضة مطلقة كالبيع. وإن استحق كل المصالح عنه، رجع بكل المصالح عليه. جـ ـ وإن وقع الصلح عن سكوت أو إنكار، فاستحق المتنازع فيه، رجع المدعي بالخصومة على المستحق لقيامه مقام المدعى عليه، ورد العوض؛ لأن المدعى عليه ما بذل العوض إلا لدفع الخصومة عن نفسه، فإذا ظهر الاستحقاق ظهر ألا خصومة له، فيبقى في يده غير مشتمل على غرض المدعى عليه، فيسترده، كالمكفول عنه إذا دفع المال إلى الكفيل بغرض دفعه إلى رب الدين (الدائن) ثم أدى الدين بنفسه قبل أداء الكفيل، فإنه يسترده، لعدم اشتماله على تحقيق غرضه. رأي المالكية (¬1): أ - استحقاق ما بيد المدعي: من ادعى على شخص بشيء كحصان، فأقر له به، ثم صالحه عنه بشيء معلوم قيمي كثوب، أو مثلي كطن قمح، ثم استحق ذلك المصالح به، فإن المدعي يرجع في عين شيئه الذي أقر به المدعى عليه إن لم يفت، فإن فات ذلك الشيء المقر به، فإن المدعي يرجع في عوضه، أي يرجع بقيمته إن كان قيمياً، أو بمثله إن كان مثلياً. ب ـ استحقاق ما بيد المدعى عليه: من ادعى على شخص بحصان مثلاً، وأنه ملكه، فأنكره، ثم صالحه بقيمي، أو مثلي، ودفعه له، ثم استحق الحصان فإن المدعى عليه المنكر يرجع على المدعي بما دفعه له إن لم يفت، أما إن فات، رجع بقيمته إن كان قيمياً، أو بمثله إن كان مثلياً. وإن استحق ما بيد المدعى عليه في الصلح بإقرار، لا يرجع المقر على المدعي بشيء، لاعترافه أنه ملكه، وأن المستحق أخذه منه ظلماً. ¬
رأي الشافعية
فمن اشترى سلعة وهو عالم بصحة ملك بائعها، فاستحقت من المشتري، فلا رجوع له على البائع، لعلمه أن المستحق ظالم في أخذها منه. رأي الشافعية (¬1): لو صالح شخص غيره على دار مثلاً على شيء معين، فاستحق الشيء، انفسخ العقد. فإن تعذر الرد بتلف في يده ونحوه، رجع في جزء من الدار بقدر ما نقص من قيمة الشيء، كما لو باع الدار. رأي الحنابلة (¬2): لو صالح المدعى عليه عن دار بعوض، فبان العوض مستحقاً، رجع المدعي في الدار المصالح عنها؛ لأن الصلح عن إقرار ههنا بيع في الحقيقة، فإذا بان كون العوض مستحقاً، كان البيع فاسداً، فرجع فيما كان له. وذلك بخلاف الصلح عن القصاص، فإنه ليس بيعاً، فلو صالح عن القصاص بمتاع نفيس، فخرج مستحقاً، رجع بقيمته. وإن كان الصلح عن إنكار، وظهر العوض مستحقاً، رجع المدعي إلى دعواه قبل الصلح، لتبين بطلانه. خامساً ـ الاستحقاق في الإجارة (استحقاق الأجرة أو المأجور): رأي الحنفية (¬3): لو آجر شخص داراً له، ثم استحقت، وأجاز المستحق الإجارة: فإن كانت ¬
رأي المالكية
الإجازة قبل استيفاء المنفعة، جازت إجارته، وكانت الأجرة للمالك؛ لأن المعقود عليه قائم. وإن أجاز العقد بعد استيفاء المنفعة، لم تجز إجارته، وكانت الأجرة للعاقد؛ لأن المنافع عند الإجازة كانت معدومة، فلا يبقى العقد بعدئذ. وإن كانت الإجازة بعد مضي بعض المدة فيما لو آجرها غاصب، فالأجر كله للمالك في قول أبي يوسف. وقال محمد: أجر ما مضى للغاصب، وأجر ما بقي للمالك: رأي المالكية (¬1): إذا أجر الأرض من هي في يده، وهو ذو شبهة، مدة سنين أو شهور مثلاً، وقد مضى بعضها، ثم استحقت الأرض بعد الزرع، فيخير المستحق بين أن يفسخ العقد فيما بقي من مدة الإجارة، وبين أن يجيز ما بقي منها، ولا شيء له فيما مضى من الأجرة؛ لأن ذا الشبهة يفوز بالغلة. رأي الشافعية (¬2): الظاهر أن استحقاق المأجور مثل تلفه، والإجارة عندهم تنفسخ بانهدام الدار، لفوات المنفعة المعقود عليها قبل قبضها أو استيفائها، كما ينفسخ البيع بتلف المبيع قبل قبضه. وتنفسخ أيضاً باستحقاق مأجور معين، لفوات المعقود عليه. رأي الحنابلة (¬3): إذا وقعت الإجارة على عين، مثل أن يستأجر جملاً للحمل أو للركوب، فخرج مستحقاً، تبينا أن العقد باطل، ولا يلزم المؤجر بالبدل. ¬
سادسا ـ الاستحقاق في المساقاة والمزارعة
وإذا وقعت الإجارة على عين موصوفة في الذمة، فخرجت مستحقة لم يبطل العقد، ولزمه بدلها؛ لأن المعقود عليه موصوف غير متعين. سادساً ـ الاستحقاق في المساقاة والمزارعة: رأي الحنفية (¬1): إذا استحق النخيل، يرجع العامل بأجر مثله، إذا كان فيه ثمر وإلا فلا أجر له، فإذا لم تخرج النخيل شيئاً حتى استحقت، لا شيء للعامل؛ لأن في المزارعة لو استحقت الأرض بعد العمل قبل الزراعة لا شيء للمزارع، فكذا هنا. أما في المزروعة فيرجع العامل بقيمة الزرع، على التفصيل السابق. رأي المالكية (¬2): ينفسخ عقد المساقاة إذا استحق البستان المساقى عليه إن شاء المستحق، إذ له الخيار بين إبقاء العامل وبين فسخ عقده، لأنه تبين أن العاقد له غير مالك. وإذا فسخ كانت الغلة للمستحق، وعليه دفع أجر المثل للعامل بحساب ما عمل، حتى لايتضرر. رأي الشافعية (¬3): لو خرج الثمر بعد العمل أو قبله مستحقاً لغير المساقي، كأن أوصى المالك بثمر الشجر المساقى عليه، أو خرج الشجر مستحقاً، فللعامل على المساقي أجرة ¬
رأي الحنابلة
المثل لعمله؛ لأنه فوت منافعه بعوض فاسد، فيرجع ببدلها، وذلك إذا عمل جاهلاً بالحال، فإن علم الحال فلا شيء له. رأي الحنابلة (¬1): إن ساقاه على شجر، فبان مستحقاً بعد العمل، أخذه المستحق وثمرته؛ لأنه عين ماله، ولا حق للعامل في ثمرته؛ لأنه عمل فيها بغير إذن مالكها، ولا أجر له عليه، وله أجر مثله على الغاصب؛ لأنه غرّه واستعمله، فلزمه الأجر. سابعاً ـ الاستحقاق في عقد الزواج: 1 ً - استحقاق الصداق: رأي الحنفية (¬2): إذا استحق المهر المعين قبل التسليم كدار مثلاً، صحت التسمية، ووجب على الزوج قيمة الدار، لتعذر تسليمها بالاستحقاق، ولم يجب مهر المثل. ولو استحق نصف الدار، خيرت المرأة في النصف الباقي في يدها: إن شاءت ردته بالعيب الفاحش: وهو التشقيص في الأملاك المجتمعة، ورجعت بقيمة الدار، وإن شاءت أمسكته، ورجعت بقيمة نصفها. ولو طلقها قبل الدخول، كان لها النصف الذي في يدها خاصة. رأي المالكية (¬3): إذا استحق الصداق من يد المرأة أو وجد به عيب، رجعت بقيمته لا بمهر ¬
المثل، كما قال الحنفية؛ لأن طريق الزواج المكارمة، فقد ترجع بأضعاف مهر المثل وبعشره. وقيل في المذهب: ترجع بالمثل، وقيل: ترجع بالأقل من القيمة أو صداق المثل. رأي الشافعية (¬1): إن تزوجها بمغصوب أو بخمر، وجب مهر المثل في الأظهر، لصحة النكاح وفساد التسمية، لعدم كون المغصوب ملكاً للزوج؛ لأنه مستحق لغير الزوج، وعدم كون الخمر مالاً. رأي الحنابلة (¬2): إن تزوجها على شيء معين كدار، فظهر مغصوباً أي مستحقاً للغير، فلها قيمته؛ لأن العقد وقع على التسمية المذكورة، فكان لها قيمته، ولأنه رضيت بقيمته، وذلك بخلاف ما لو قال: أصدقتك هذه الدار المغصوبة، فلها مهر المثل؛ لأنها رضيت الزواج بلا شيء، لرضاها بما تعلم أنه لا يقدر على تمليكه إياها، فكان وجود التسمية كعدمها. وتخير الزوجة فيما إذا بان جزء من الصداق مستحقاً بين أخذ قيمة الشيء كله، أو أخذ الجزء المستحق وقيمة المستحق؛ لأن الشركة عيب، فكان لها الفسخ كغيرها من العيوب. والخلاصة: إن الجمهور يوجبون في حالة استحقاق المهر المعين القيمة، والشافعية يوجبون مهر المثل. ¬
- استحقاق بدل الخلع
2ً - استحقاق بدل الخلع: رأي الحنفية (¬1): لو اختلعت المرأة على شيء معين، فاستحق، لزمها قيمته؛ لأنه تعذر تسليمه مع بقاء السبب الموجب لتسليمه. رأي المالكية (¬2): إذا خالع الرجل زوجته على شيء قيمي معين كثوب، ثم استحق بملك، فترد له قيمته يوم الخلع، أما إن خالعها على شيء مثلي غير معين كقمح، فترد له مثله، وذلك إذا لم يعلم كلاهما بأنه ملك الغير، فإن علما معاً أو علم دونها فلا شيء له، وإن جهلا معاً رجع بالقيمة في القيمي المعين، وبالمثل في الموصوف في الذمة، وإن علمت دونه، فإن كان بدل الخلع معيناً فلا خلع، وإن كان موصوفاً في الذمة، رجع بمثل المستحق. والمغصوب والمسروق كالمستحق، فيرجع الزوج على امرأته بقيمته إن كان معيناً، وبمثله إن كان موصوفاً. رأي الشافعية (¬3): لو خالعها على عين معينة كدار، فتلفت قبل القبض، أو خرجت مستحقة، فردها، أو فاتت منها صفة مشروطة، فردها، رجع عليها بمهر المثل. والعوض في يدها كالمهر في يده في أنه مضمون ضمان عقد، وقيل: ضمان يد. ¬
ثامنا ـ الاستحقاق في الوصية والوقف (استحقاق الموصى به والموقوف)
رأي الحنابلة (¬1): إذا خالع الرجل امرأته على عوض معين، فاستحق وبان غير مملوك لها، فالخلع صحيح؛ لأن الخلع معاوضة بالبضع، فلا يفسد بفساد العوض كالنكاح، ولكن يرجع عليها بقيمته. ثامناً ـ الاستحقاق في الوصية والوقف (استحقاق الموصى به والموقوف): رأي الحنفية (¬2): أما حكم استحقاق الموصى به فقالوا: من أوصى بأن يباع بيته، ويتصدق بثمنه على المساكين، فباعه الوصي، وقبض الثمن، فاستحق البيت، ضمن الوصي؛ لأنه هو العاقد، فتكون العهدة عليه، وهذه عهدة؛ لأن المشتري منه ما رضي ببذل الثمن إلا ليسلم له المبيع، ولم يسلم، فقد أخذ البائع مال غيره بغير رضاه، فيجب عليه رده لصاحبه، ويرجع الوصي على تركة الميت؛ لأنه عامل له، فيرجع عليه كالوكيل، ويرجع في جميع التركة، بسبب التغرير من الميت، فكان الضمان ديناً على الميت، والدين يقضى من جميع التركة. أما إذا كان البائع هو القاضي أو أمينه فلا ضمان عليه، منعاً من تعطيل القضاء، بسبب الخوف من الغرامة، فتتعطل مصلحة الأمة. فإن كانت التركة قد هلكت أو لم يكن بها وفاء، لم يرجع الوصي على التركة بشيء، لا على الورثة ولا على المساكين إن كان قد تصدق عليهم؛ لأن البيع لم يقع إلا للميت، فصار كما إذا كان على الميت دين آخر. ¬
حكم استحقاق الموقوف
وأما حكم استحقاق الموقوف: فقالوا: لو وقف شيئاً بكامله ثم استحق جزء منه شائعاً، بطل الوقف عند محمد رحمه الله؛ لأن بالاستحقاق ظهر أن الشيوع كان مقارناً للوقف، كما في الهبة إذا وهب الكل، ثم استحق بعضه، بطلت لمقارنة الشيوع للهبة. وإذا بطل الوقف في غير المستحق رجع الموقوف إلى الواقف، لو كان حياً، وإلى ورثته إن ظهر الاستحقاق بعد موته. أما لو كان المستحق جزءاً معيناً، فلم يبطل الوقف في الباقي، لعدم الشيوع، فلهذا جاز في الابتداء أن يقف الباقي فقط. رأي الشافعية (¬1): إن أوصى شخص لآخر بثلث بيت معين مثلاً، فاستحق ثلثاه، فللموصى له الثلث الباقي؛ لأن المقصود نفع الموصى له. وقيل: له ثلث الباقي، وصححه الإسنوي. هذا إن احتمله الثلث، وإلا فله ما يحتمله الثلث. رأي الحنابلة (¬2): من أوصى لآخر بثلث شيء معين كبيت، فاستحق ثلثاه، فللموصى له ثلث الباقي إن خرج من ثلث التركة، وإلا فله ثلث الثلث إن لم تجز الورثة. وهذا متفق مع تصحيح الإسنوي كما تقدم. ¬
المبحث الثالث ـ حكم استحقاق الأضحية والهدي
المبحث الثالث ـ حكم استحقاق الأضحية والهدي: ورأي الحنفية (¬1): إن اشترى رجل شاة ليضحي بها، فضحى بها، ثم استحقها رجل آخر بالبينة، فإن أخذها المستحق مذبوحة، لا تجزئ أضحية عن واحد منهما، وعلى كل واحد منهما أن يضحي بشاة أخرى ما دام في أيام النحر، وإن مضت أيام النحر، فعلى الذابح أن يتصدق بقيمة شاة وسط، ولا يلزمه التصدق بقيمة الشاة المشتراة؛ لأنه بالاستحقاق تبين أن شراءه إياها للأضحية وعدم شرائه سواء. بخلاف ما إذا اشترى شاة للأضحية، ثم باعها، فإنه يلزمه التصدق بقيمتها؛ لأن شراءه إياها للأضحية قد صح، لوجود الملك، فيجب عليه التصدق بقيمتها. وإن ترك المستحق الشاة للذابح، وضمنه قيمتها، جاز الذبح، كما إذا اغتصب شاة إنسان كان قد اشتراها للأضحية، فضحاها عن نفسه بغير أمر صاحبها، تجزئ عن الذابح إن ضمنه صاحبها قيمتها حية؛ لأنه ملكها بالضمان من وقت الغصب بأثر رجعي (أي بالاستناد إلى الماضي) فصار ذابحاً شاة هي ملكه، فتجزيه، لكنه يأثم؛ لأن ابتداء فعله وقع محظوراً فتلزمه التوبة والاستغفار. وهذا قول أئمة الحنفية ماعدا زفر. رأي المالكية (¬2): من اشترى شاة ثم ذبحها، ثم استحقت، فأجاز المستحق البيع، أجزأت لفعله ذلك في شيء ضمنه بالعوض الذي وجب للمستحق. ¬
رأي الشافعية
رأي الشافعية (¬1): إذا صارت الأضحية معينة بأن قال: هذه أضحية، أو نذر أضحية معينة، فقال: (لله علي أن أضحي بهذه البقرة مثلاً) أو (علي أن أضحي بها) ولو لم يقل: لله تعالى، لزمه ذبحها في وقت الأضحية، فإن أتلفت هذه الأضحية المعينة أو المنذورة، لا إن تلفت، وجب عليه بدلها بأن يشتري بقيمتها مثلها ويذبحها في الوقت المطلوب شرعاً، والظاهر لدي أن الاستحقاق مثل الإتلاف. وإن نذر أضحية في ذمته، ثم عين المنذور كهذا البعير، فإن تلفت المعينة عن النذر بقي الأصل في ذمته عليه في الأصح؛ لأن ما التزمه ثبت في الذمة، والمعين وإن زال ملكه عنه، فهو مضمون عليه. رأي الحنابلة (¬2): إن اشترى أضحية أو هدياً وعينها، ثم بانت مستحقة بعد التعيين، لزمه بدلها، ولو بانت مستحقة قبل التعيين، لم يلزمه بدلها، لعدم صحة التعيين. ¬
الفصل السادس عشر: المقاصة
الفَصْلُ السَّادس عَشَر: المقاصّة وفيه مباحث أربعة تشمل: معنى المقاصة ومشروعيتها، ومحلها، وأنواعها وأحكامها (¬1). المبحث الأول ـ معنى المقاصة ومشروعيتها: المقاصة لغة: المساواة، وفقهاً عرفها ابن جزي (¬2) بأنها اقتطاع دين من دين، وفيها متاركة ومعاوضة وحوالة. وعرفها الدردير (¬3) بقوله: هي إسقاط مالَكَ من دين على غريمك في نظير ما لَه ُ عليك بشروط. وهذا تعريف يشمل المقاصة الاتفاقية والمقاصة التي يطلبها أحد الطرفين وإن أبى الآخر. وعرفها الحنابلة بأن يستوي الدينان جنساً وصفة وحلولاً وأجلاً وقدراً. وعرفها ابن القيم بقوله: المقاصة: سقوط أحد الدَّيْنين بمثله جنساً وصفة (¬4). فإذا كان لخالد دينار عند محمد، ولمحمد دينار عند خالد، تلاقى الدينان قصاصاً، وسقط حق أحدهما في مطالبة الآخر. ¬
المبحث الثاني ـ محل المقاصة
والمقاصة مشروعة بالاتفاق بين المذاهب لحديث ابن عمر قال: «أتيت النبي صلّى الله عليه وسلم، فقلت: إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير، وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، فقال: لا بأس أن تأخذ بسعر يومها، ما لم تفترقا، وبينكما شيء» (¬1) فقوله: لا بأس فيه دليل على جواز الاستبدال عن الثمن الذي في الذمة بغيره. وقال البابرتي في العناية (¬2): إن هذا الحديث يدل على المقاصة استحساناً، وهي المقاصة بين الدين والعين؛ لأن قبض نفس الدين لا يتصور؛ لأنه عبارة عن مال حكمي في الذمة، والدين لا يتعين بالتعيين، فكان قبضه بقبض بدله، وهو قبض العين. أما القياس فيقتضي ألا تقع المقاصة بين الدين والعين، لعدم المجانسة. والعقل يقضي بجواز المقاصة؛ لأنها الطريقة الوحيدة التي يمكن قضاء الديون بها، ولا يمكن أن تقضى بسواها. وذكر الشافعية والحنابلة أن التقاص يحصل بنفس ثبوت الدينين، ولا حاجة إلى الرضا؛ لأن مطالبة أحدهما الآخر بمثل ما عليه عبث ولا فائدة (¬3). المبحث الثاني ـ محل المقاصة: الأصل في المقاصة أن تقع بين دينين، بأن يكون للمدين دين آخر على دائنه، فيتقاص الدينان، فلا تقع المقاصة بين عين وعين ولا بين دين وعين. ولكن صرح الحنفية بحصول المقاصة بين الدين والعين. كما تبين، فمن ¬
المقاصة الجبرية
اشترى ديناراً بعشرة دراهم هي دين له على بائع الدينار، وقبض الدينار، وقعت المقاصة بنفس العقد. والحقيقة أن هذه المقاصة وقعت بين دينين من جنس واحد، لا بين دين وعين من جنسين؛ لأن مشتري الدينار لما قبضه، كان قبضه قبض ضمان بالثمن الذي اتفقا عليه وهو العشرة، فثبت بالقبض في ذمته مثلها للبائع، فالتقى الدينان قصاصا، وإن كان الظاهر يوهم أن المقاصة وقعت بين دين وعين من جنسين مختلفين. فهذه الصورة وأمثالها من باب مقاصة الدينين. ويمكن القول بأن المقاصة الجبرية لا تكون إلا في دينين (¬1). أما المقاصة الرضائية أو الاتفاقية بين صاحبي الحقين فإنها جائزة بين دين وعين. المبحث الثالث ـ أنواع المقاصة: المقاصة إما جائزة أو غير جائزة. والجائزة إما جبرية أو اختيارية (اتفاقية). أولاً ـ المقاصة الجبرية وشروطها: المقاصة الجبرية: هي التي تحدث بنفسها بين دينين متماثلين جنساً وصفة وقدراً وحلولاً وتأجيلاً، ولا تتوقف على تراضي الطرفين ولا على طلب أحدهما. مثل أن يقترض شخص من آخر نقوداً أو شيئاً يثبت ديناً في الذمة كالمثليات، ثم يبيع المقترض لدائنه متاعاً بثمن معجل من جنس الدين الذي عليه، فتقع المقاصة بين هذين الدينين، بمجرد ثبوت الدين الثاني، جبراً على الطرفين، ولا تتوقف على تراضيهما ولا على طلب من أحدهما. ¬
شروط المقاصة الجبرية
وهي جائزة عند الحنفية والشافعية والحنابلة (الجمهور) (¬1) إذا تحققت الشروط وانتفت الموانع. ولم يجز المالكية (¬2) المقاصة الجبرية إلا بناء على طلب أو اتفاق، وأكثر التعريفات عندهم كانت للمقاصة الاتفاقية. شروط المقاصة الجبرية: يشترط في المقاصة الجبرية أربعة شروط (¬3): 1ً - تلاقي الحقين أو الدينين: وهو اجتماعهما في حيِّز واحد أي اجتماعهما لشخص باعتبارين، بأن يكون الشخص دائناً لأحدهما ومديناً بالنسبة للآخر، فلا تتحقق المقاصة إلا إذا كان كل من المتقاصين دائناً ومديناً معاً. مثاله: لو كان للمشتري على الموكل دين تقع المقاصة لتلاقي الدينين، ولا تقع المقاصة في دين على ولي أو وصي نظير دين المولى عليه لعدم تلاقي الحقين، وتقع المقاصة بين دين لحاضنة الصغير ودين عليها، ولا تقع المقاصة بين الدائن ومدين غريمه، لعدم التلاقي بين هذين الدينين. ولا تجتمع المقاصة الجبرية مع الحوالة؛ لأن الحوالة عند الجمهور تنقل الدين من ذمة المدين إلى ذمة المحال عليه، فإذا ثبت للمدين على دائنه مثل دينه وقعت المقاصة جبراً، ولا يبقى عليه دين يحيل به دائنه على آخر، وإذا ثبت للمدين هذا الدين بعد الحوالة، لا تقع المقاصة لعدم التلاقي، فإن دائنه لم يبق دائناً له، وصار دائناً للمحال عليه. ¬
- تماثل الدينين
2ً - تماثل الدينين (¬1): باتحادهما جنساً ونوعاً وصفة وحلولاً وأجلاً. فإذا كان الدينان من جنسين، أو متفاوتين في الوصف، أو مؤجلين، أو أحدهما حالاً والآخر مؤجلاً، لم تقع المقاصة عند الحنفية، وقال المالكية: تصح المقاصة عند اختلاف الجنسين، كأن يكون أحد الدينين عيناً (ذهباً أو فضة) والآخر طعاماً أو عرضاً، أو يكون أحدهما عرضاً والآخر طعاماً، والعرض: ما ليس عيناً (نقداً) ولا طعاماً. ومن المعلوم أن صنف كل من الدراهم والدنانير جنسان مختلفان عند الحنفية في ظاهر الرواية وعند الشافعية والحنابلة، لكن في المقاصة تعتبر جنساً واحداً استحساناً في رأي بعض مشايخ الحنفية، جاء في الفتاوى الظهيرية: إذا اختلف الجنس وتقاصا، كما لو كان له عليه مئة درهم، وللمديون مئة دينار عليه، فإذا تقاصا تصير الدراهم قصاصاً بمئة من قيمة الدنانير، ويبقى لصاحب الدنانير على صاحب الدراهم ما بقي منها. وبما أن الأوراق النقدية حلت محل الفلوس الرائجة، فالنقود في زماننا بناء على رأي بعض مشايخ الحنفية تعد جنساً واحداً في المقاصة، عملاً بالعرف في التعامل، والمراعى فيها القيمة لا ذات النقد بخصوصه. أما عند الشافعية والحنابلة فتعتبر النقود الورقية أجناساً مستقلة بناء على أن صنف الدنانير والدراهم عندهم جنسان، فلا تقع المقاصة بين دينين أحدهما دنانير والآخر دراهم لاختلاف الجنس. ¬
أما تماثل الدينين في الصفات فهو شرط عند الحنفية والحنابلة،. ويعنون بذلك الصفات التي يكون لاختلافها اختلاف في القيمة والانتفاع. واشترط الحنفية أن يكون الدينان حالّين، فإذا كانا مؤجلين أو كان أحدهما حالاً والآخر مؤجلاً، حتى وإن كان أجلهما واحداً، لم تقع المقاصة الجبرية. واشترط الشافعية والحنابلة اتفاق الدينين في الحلول وفي قدر الأجل، فإذا كان أحدهما حالاً والآخر مؤجلاً، أو كانا مؤجلين واختلف أجلهما، لم تقع المقاصة. أما لو كانا مؤجلين لأجل واحد، فتقع المقاصة في رأي الحنابلة وفي الأصح عند الشافعية. أما المالكية فقالوا: تجوز المقاصة إن حل الدينان معاً، ولم تجز إن لم يحلا أو حل أحدهما دون الآخر إن اختلف الجنس بأن كان أحدهما ذهباً والآخر فضة، فإن كانا ذهبين أو فضتين، جازت المقاصة إذا كان أجل الدينين قد حل، فإن لم يحل أجلهما أو حل أجل الواحد منهما دون الآخر ففيه قولان، والمشهور الجواز بناء على أن المقاصة متاركة تبرأ بها الذمم، ونظراً إلى بُعْد التهمة. هذا إذا كان الدينان من النقد. فإن كان الدينان طعاماً: فإن كانا من قرض، جازت المقاصة، سواء حل الأجل أم لم يحل. وإن كانا من بيع، لم تجز المقاصة، سواء حل الأجل أم لم يحل؛ لأنه من بيع الطعام قبل قبضه. وإن كان الدينان عرضين فتجوز المقاصة إذا اتفقا في الجنس والصفة سواء حل الأجل أم لم يحل. واشترط الفقهاء أيضاً اتفاق الدينين في الجودة والرداءة، فإن كان هناك تفاوت فيهما لم تقع المقاصة. واشترط الحنفية تماثل الدينين في القوة والضعف، فدين النفقة للزوجة لا يقع
اختلاف السببين
قصاصاً بدين للزوج عليها إلا بالتراضي، بخلاف سائر الديون؛ لأن دين النفقة أدنى. أما المالكية والشافعية والحنابلة فلم يشترطوا التماثل في القوة. واشترط الحنفية والشافعية والحنابلة أيضاً التماثل في الرواج والكساد والرخص والغلاء، فلا تقع المقاصة بنفسها إذا كان أحد الدينين من الدراهم الصحيحة، والآخر من الدراهم الغلة: وهي التي يقبلها التجار، ويردها بيت المال، لا لأنها زائفة، بل لأنها مكونة من قطع، وهي التي تسمى مكسرة أو مقطعة (¬1). اختلاف السببين: ليس من شرط المقاصة في الدينين أن يكون سببا الدينين من نوع واحد، كأن يكون سبب أحدهما القرض والآخر ثمن مبيع أو أجرة، فإن كان أحدهما من قرض والآخر ثمن مبيع، وقعت المقاصة، وإن اختلف السبب. وليس من شرط المقاصة في الدينين أن يكون سبب كل منهما جائزاً غير محظور، فلو كان سبب أحدهما جائزاً كالبيع، والآخر محظوراً كالغصب أو كان السببان محظورين كالاستهلاك، وقعت المقاصة، ولا أثر لعدم مشروعية السبب في منع المقاصة، بعد توفر السبب: وهو ثبوت الدين في الذمة بحيث صار كغيره من الديون التي يجب الوفاء بها. 3ً - انتفاء الضرر: يشترط في المقاصة الجبرية ألا يترتب على وقوعها ضرر لأحد، فإذا ترتب عليها ضرر لأحد الطرفين أو لغيرهما، لم تقع المقاصة. قال الحنابلة (¬2): من عليها ¬
دين من جنس واجب نفقتها، لم يحتسب به عليها من نفقتها مع عسرتها؛ لأن قضاء الدين إنما يكون بما فضل عن النفقة ونحوها، أي أن المقاصة الجبرية بين دين نفقة المرأة ودين عليها لا تقع في حالة الإعسار؛ لأن النفقة مقدمة على وفاء الدين. وهذا ضرر للمدين. وتجهيز الميت مقدم على الدين كالنفقة، فمن باع شيئاً من التركة لدائن الميت من جنس دينه، لم تقع المقاصة، مراعاة لحق الميت ودفعاً للضرر، وهذا ضرر للمدين. والدين الموثق بالرهن مقدم على غيره من الديون العادية في استيفاء الدين من الرهن، فلو باع الراهن المرهون لدائن غير مرتهن، ليوفي دين المرتهن، وكان الثمن مثل الدين الذي للمشتري عليه، لم تقع المقاصة. وهذا ضرر لمن تعلق حقه بالعين. وكما أن ضرر المدين نفسه، وضرر من تعلق حقه بالعين يمنع من المقاصة، كذلك يمنع منها تعلق حق باقي الغرماء، فللقاضي عند الجمهور غير أبي حنيفة أن يحجر على المدين المفلس بطلب غرمائه، وله أن يمنعه من البيع بأقل من ثمن المثل، ومن التصرف والإقرار، حتى لا يضر بالغرماء. والخلاصة: إذا تعلق بأحد الدينين حق الغير لا تجوز المقاصة. مثال تعلق حق أحد الدينين: أن يبيع الرهن لإيفاء دين الدائن غير المرتهن، ومثال تعلق حق الغرماء: أن يبيع المفلس بعض غرمائه بثمن في الذمة من جنس دينه. فلا مقاصة في الحالتين، لتعلق حق المرتهن بالمال في الأولى، ولتعلق حق باقي الغرماء في المبيع في الثانية.
حق الدائن طالب البيع
حق الدائن طالب البيع: إن باع المدين (المحجور عليه) شيئاً لإيفاء دين دائن، وكان المشتري دائناً للمدين البائع بدين من نوع الثمن، وقعت المقاصة جبراً بين دين البائع ودين المشتري؛ لأن هذا المدين غير محجور عليه وتصرف المدين غير المحجور عليه نافذ، ولا حرج على المدين في أن يوفي بعض دائنيه دون البعض الآخر، ولا مانع يمنع المدين المحجور عليه من بيع المال المحجوز، ولا من وقوع المقاصة بثمنه مع المشتري إذا كان غير الدائن طالب البيع الذي حجز له بدينه. 4ً - ألا يترتب على المقاصة محظور ديني: يشترط في المقاصة الجبرية أخيراً ألا يترتب عليها محظور ديني، كالافتراق قبل قبض رأس مال السلم، والتصرف في المسلم فيه قبل قبضه، وعدم التقابض في مجلس الصرف وفي الربويات التي يجب أن تكون يداً بيد، والتصرف على قاعدة «ضع وتعجل» عند الجمهور ونحو ذلك من المحظورات الشرعية. ثانياً ـ المقاصة الاتفاقية: هي التي تتم بتراضي الطرفين ما لم يترتب على ذلك محظور شرعي، سواء اتحد جنس الدينين أم لم يتحد، اتفقت الأوصاف أم اختلفت، وسواء أكان أحد الحقين ديناً والآخر عيناً. ثالثاً ـ المقاصة غير الجائزة: لا تجوز المقاصة إذا تخلف شرط من شروطها، ومنها أن يترتب على وقوعها مخالفة حكم شرعي، ويظهر هذا في بعض مسائل الصرف، وفي رأس مال السلم، وفي المسلم فيه، وفيما إذا وجدت شبهة الربا، ولو تراضيا.
- الصرف
1ً - الصرف (¬1): إذا وقعت المقاصة بين ديني المتصارفين بعد انتهاء مجلس عقد الصرف، كانت المقاصة باطلة؛ لأن عقد الصرف يقع باطلاً ولا يثبت به دين، فتبطل المقاصة لعدم قيام الدين في ذمة أحد المتقاصين. وفيما عدا ذلك تكون المقاصة صحيحة، سواء أكانت بدين سابق، أم بدين لاحق، أم بدين ثبت للمدين على دائنه في المجلس من طريق قبض مضمون. أـ إذا تصارف شخصان بدين سابق أضافا العقد إليه، جاز، كما إذا كان لرجل على آخر عشرة دراهم، فباعه هذا المدين ديناراً بالدراهم العشرة التي هي عليه دين؛ لأنه بإضافة العقد إلى هذا الدين، تقع المقاصة بالعقد نفسه بلا توقف على إرادة العاقدين لها، ووجه الجواز: أنه جعل ثمن الدينار دراهم لا يجب قبضها ولا تعيينها بالقبض، وهو جائز إجماعاً؛ لأن التعيين بالقبض للاحتراز عن ربا النسيئة، ولا ربا في دين سقط، إنما الربا في دين يقع الخطر في عاقبته (أي احتمال القبض وعدمه) ولذا لو تصارفا دراهم ديناً بدنانير ديناً، صح لفوات الخطر. ب ـ إذا باع المدين بالعشرة التي لدائنه ديناراً بعشرة مطلقة عن التقييد بدين عليه، ودفع له الدينار، وتقاصا العشرة الثمن بالعشرة الدين، جاز استحساناً (¬2)؛ لأنه بالتقابض انفسخ العقد الأول، وانعقد صرف آخر مضاف إلى الدين؛ لأنهما لما غيّرا موجب العقد، فقد فسخاه إلى آخر اقتضاه، كما لو جدد البيع بأكثر من ¬
- المقاصة برأس مال السلم
الثمن الأول، أي أن المقاصة تتضمن فسخ العقد الأول، ويكون الفسخ ثابتاً اقتضاء. وهاتان الحالتان مقاصة في دين سابق. جـ ـ إذا كان الدين لاحقاً للصرف، كما لو باع ديناراً لآخر بعشرة دراهم، وباع مشتري الدينار لبائعه ثوباً بعشرة دراهم في مجلس الصرف، وسلم الثوب، ثم تقاصا العشرة بالعشرة في المجلس، جازت المقاصة في أصح الروايتين؛ لأن العقد الأول ينفسخ اقتضاء، لما قصدا إلى المقاصة. د ـ إذا حصل الصرف ببيع عين بدين مطلق، ثم ثبت للمدين على دائنه دين في المجلس من طريق قبض مضمون، وقعت المقاصة جبراً من غير حاجة إلى تراض، كما لو استقرض الدائن من المدين مثل الثمن أو غصبه منه؛ لأن القبض قد تحقق. ويلاحظ أنه في جميع هذه الحالات ما عدا الصورة الأولى لا بد من وقوع المقاصة قبل انتهاء مجلس عقد الصرف، فإذا انتهى المجلس بطلت المقاصة لبطلان الصرف كما تبين. 2ً - المقاصة برأس مال السلم: اتفق الحنفية ـ على ما عليه عامة الكتب عدا البدائع ـ والشافعية والحنابلة (¬1) على أنه لا تجوز المقاصة برأس مال السلم مع دين آخر مطلقاً، سواء وجب الدين بعقد متقدم أو متأخر عن عقد السلم، ولو تراضيا عليها؛ لأن المقاصة تصرف في دين السلم قبل قبضه، وهو غير صحيح، إذ يشترط قبض جميع رأس مال السلم في مجلس العقد. ¬
- المقاصة بالمسلم فيه
3ً - المقاصة بالمسلم فيه: لا تجوز المقاصة أيضاً بالمسلم فيه كما أبان محمد في كتابه «الأصل» (¬1) فمن أسلم إلى رجل في مد حنطة، ثم أسلم الآخر إليه في مد حنطة، وأجلهما واحد، وصفتهما واحدة أو مختلفة، فلا تصح المقاصة بينهما؛ لأنه بيع ما لم يقبض، فكل منهما لم يقبض شيئاً من مد الحنطة، وإنما أخذ به ديناً عليه، ولايجوز أن يأخذ إلا رأس ماله أو سلمه الذي أسلم فيه. فإن كان أولهما سلماً والآخر قرضاً، لا يصير أحدهما قصاصاً في الحال؛ لأن المقاصة عبارة عن المساواة، ولا مساواة بينهما؛ لأن أحدهما معجل، والآخر مؤجل، والمعجل خير من المؤجل، فإن حل أجل السلم، كان أحدهما قصاصاً بالآخر. وإن كان الأول منهما قرضاً والآخر سلماً، فلا مقاصة بينهما، وإن تراضيا على المقاصة. 4ً - رأس مال السلم بعد الإقالة: حكم رأس مال السلم إذا حصلت فيه إقالة كحكم المسلم فيه، وبما أنه لا تجوز المقاصة في المسلم فيه؛ لأنه مبيع منقول لا يجوز التصرف فيه قبل القبض، لا تجوز المقاصة في رأس مال السلم بعد الإقالة، فإن تقايلا السلم، لم يكن له أن يشتري من المسلم إليه برأس المال شيئاً حتى يقبضه كله (¬2)، لقوله عليه الصلاة والسلام: ¬
- شبهة الربا
«لا تأخذ إلا سلمك أو رأس مالك» (¬1) أي عند الفسخ، ولأنه أخذ شبهاً بالمبيع، فلا يحل التصرف فيه قبل قبضه. 5ً - شبهة الربا: اتفق الأئمة على تحريم ما فيه شبهة الربا، فكل قرض جر نفعاً فهو ربا حرام، وعملاً بمبدأ سد الذرائع المتفق عليه بين الأئمة، وإن اختلفوا في مداه وتطبيقاته. فإذا أدت المقاصة إلى شيء من الربا، كانت غير جائزة. ومن أمثلتها في بيوع الآجال كما ذكر المالكية (¬2): باع له عشرة أرادب من الطعام بعشرة دراهم أي إلى أجل، وبعد أن غاب على الطعام وانتفع به، باع لبائعه عشرين أردباً من نوع ما اشتراه بعشرة دراهم، وتقاصا العشرة بالعشرة، لم يجز؛ لأنه أسلفه عشرة أرادب انتفع بها، ثم رد إليه عشرين أردباً، والثمن بالثمن ملغى؛ لأنه مقاصة، فهو قرض جر نفعاً. المبحث الرابع ـ أحكام المقاصة: يراد بالحكم هنا الأثر المترتب على الشيء أو مقتضاه. مقتضى المقاصة (¬3): هو الإسقاط، لكنه ليس إسقاطاً محضاً، وإنما هو إسقاط فيه معنى الوفاء، أي إسقاط بعوض، والعوض هو إسقاط فيه معنى. ¬
ما الذي يسقط بالمقاصة؟ أهو نفس الدين أو المطالبة به؟
الوفاء، أي إسقاط بعوض، والعوض هو إسقاط الآخر حقه، كما هو الحال في الطلاق على الإبراء، فكل من الطلاق والإبراء إسقاط، وكل منهما في مقابلة الآخر، فتكون المقاصة إسقاطاً فيها معنى المعاوضة، قال المالكية: إن المقصود من المقاصة: المعاوضة والإبراء. وقال الحنفية: إن في المقاصة وفاء، بل الوفاء في نظرهم لا يكون إلا من طريق المقاصة. وهو إسقاط يقع جبراً، حتى في المقاصة التي لا تكون إلا عن تراض في رأي الحنفية. ولكن ما الذي يسقط بالمقاصة؟ أهو نفس الدين أو المطالبة به؟ قال الجمهور غير الحنفية: إن المقاصة تسقط الدينين إن كانا متساويين، وتسقط مقدار الأقل منهما إن كانا متفاضلين، فيسقط من الأكثر بقدر الأقل إن تفاوتا قدراً، وتبرأ الذمم بها براءة إسقاط، لا براءة مطالبة فحسب. ويرى الحنفية أن المقاصة لا تسقط أصل الدين، وإنما تسقط المطالبة به فقط، أما الدين فيبقى شاغلاً للذمة، وإن لم تصح المطالبة به، فهو أشبه بالحق الذي لا تسمع الدعوى به للتقادم، ويترتب عليه أنه يصح الإبراء من الدين بعد المقاصة براءة إسقاط، وتصح هبته، ويصح الحط منه، ويرجع من تبرع بقضاء دين عن إنسان على من أداه له إذا أبرأه غريمه منه، بعد هذا، براءة إسقاط. وهذا في الواقع رأي غريب تأباه العدالة، فمن أدى دينه إلى غريمه أو قاصه فيه، لا يفهم منه إلا أنه قام بما يلغي تبعته، ويطهر ذمته، لا أنه يسعى إلى دفع المطالبة فقط. وإن كانت العين خيراً من الدين وتفضله؛ لأن الدين على خطر التوى والضياع، فهذا يظهر في دين يبقى دائماً، لا في دين ثابت يوفيه صاحبه بالعين،
نقض المقاصة
فينقضي بحصول هذا الوفاء. وإذا قلنا بأن الوفاء يثبت به دين في ذمة المستوفي، ووجد إذ ذاك دينان متماثلان متلاقيان، فلم لا يسقط أصل الدين، وتسقط المطالبة به وحدها (¬1)؟ نقض المقاصة: إذا تمت المقاصة على وجه صحيح، لا يمكن نقضها لا بالفسخ ولا بغيره، إذ أن الساقط لا يعود، فمتى سقط الدين وتلاشى لا يمكن النقض. لكن قد يطرأ بعد وقوع المقاصة الصحيحة ما يجعل أحد الدائنين لا حق له في استيفاء كل الدين الذي وقعت فيه المقاصة، فتنقض بالقدر الذي لا حق له في استيفائه، كما أنه يطرأ بعد وقوعها ما يقتضي زوال أحد الدينين، فتنقض من أجل ذلك. مثال الحالة الأولى: إذا كان على رجل ألف دينار قرضاً، ثم باع المقترض لمقرضه في حال الصحة عيناً كسجادة مثلاً بألف دينار مؤجلة، ثم مرض المقترض، وحل الأجل، وعليه ديون، وقعت المقاصة. فإن مات وعليه ديون، كان الغرماء أسوة المشتري فيما عليه من الثمن. ومعنى هذا أن المقاصة وقعت في حياته بكل الثمن، إذ لا يمكن للغرماء الاعتراض عليه في حياته، لعدم تبين أنه في حالة مرض موت، فإذا مات في مرضه هذا، تبين أن حق الغرماء متعلق بماله من وقت ثبوت سببه وهو مرض الموت، فلا يكون للمشتري أن يستوفي من دينه إلا بقدر ما يصيبه مع الغرماء، وتبطل المقاصة التي وقعت صحيحة في حياة المريض، بالقدر الذي زاد على حصة المشتري. ومثال الحالة الثانية: إذا كان على الوكيل دين للمشتري، يصير الثمن قصاصاً. فإذا لم يسلم الوكيل ما باع حتى هلك المبيع في يده، بطلت المقاصة؛ لأن المبيع لما هلك قبل التسليم، انفسخ البيع من الأصل، وصار كأن لم يكن. ¬
الفصل السابع عشر: الإكراه
الفَصْلُ السّابع عشر: الإكْرَاه خطة الموضوع: الكلام عن الإكراه (¬1) في المباحث الأربعة التالية: المبحث الأول ـ حقيقة الإكراه ونوعاه. المبحث الثاني ـ شروط الإكراه. المبحث الثالث ـ أثر الإكراه في التصرفات الحسية. المبحث الرابع ـ أثر الإكراه في التصرفات الشرعية. وبحثها على الترتيب المذكور. المبحث الأول ـ حقيقة الإكراه ونوعاه: حقيقة الإكراه: الإكراه لغة: حمل الغير على أمر لا يرضاه قهراً. وهذا ينافي المحبة والرضا، ولذا اقترن الحب والإكراه في قوله تعالى: {وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم} [البقرة:216/ 2]. وهو في اصطلاح الفقهاء: حمل الغير على أن يفعل ما لا يرضاه، ولا يختار ¬
نوعا الإكراه
مباشرته، لو ترك ونفسه. وقد عرفه السرخسي في المبسوط بأنه: «فعل يفعله الإنسان بغيره، فينتفي به رضاه، أو يزول به اختياره». والمقصود بالرضا: هو الارتياح إلى فعل الشيء والرغبة به. والمقصود بالاختيار: هو ترجيح فعل الشيء على تركه أو العكس. نوعا الإكراه: الإكراه عند الحنفية نوعان: إكراه ملجئ أو كامل، وإكراه غير ملجئ أو قاصر. والإكراه الملجئ: هو الذي لا يبقى للشخص معه قدرة ولا اختيار، وهو بأن يهدده بما يلحق به ضرراً في نفسه، أو في عضو من أعضائه. وحكمه: أنه يعدم الرضا ويفسد الاختيار، مثاله التهديد بالقتل أو التخويف بقطع عضو أو بضربٍ مبرِّح (أي شديد) متوال يخاف منه إتلاف النفس أو العضو، سواء قل الضرب أم كثر. والإكراه غير الملجئ أو الناقص: هو التهديد بما لا يضر النفس أو العضو، كالتخويف بالحبس أو القيد، أو الضرب اليسير الذي لا يخاف منه التلف، أو بإتلاف بعض المال. وحكمه: أنه يعدم الرضا، ولا يفسد الاختيار (¬1). وهناك نوع ثالث عند الحنفية وهو الإكراه الأدبي: وهو الذي يعدم تمام الرضا، ولا يعدم الاختيار، كالتهديد بحبس أحد الأصول أو الفروع، أو الأخ أو الأخت، أو نحوهم. وحكمه أنه إكراه شرعي استحساناً لا قياساً، كما قرر الكمال بن الهمام من الحنفية، ويترتب عليه عدم نفاذ التصرفات المكره عليها (¬2). ¬
المبحث الثاني ـ شروط الإكراه
ويرى الشافعي أن الإكراه نوع واحد وهو الإكراه الملجئ، وأما غير الملجئ فلا يسمى إكراهاً. قال الشافعية: يحصل الإكراه بتخويف بمحذور كضرب شديد وحبس طويل وإتلاف مال. ويختلف أثره باختلاف أحوال الناس، فلا يحصل الإكراه بالتخويف بالعقوبة الآجلة كقوله: لأضربنك غداً، ولا بالتخويف بالمستحق كقوله لمن عليه قصاص: افعل كذا وإلا اقتصصت منك. وشرط الإكراه: قدرة المُكْرِه على تحقيق ما هدد به بولاية أو تغلب عاجلاً ظلماً، وعجز المستكره عن دفعه بهرب أو غيره وظن أنه إن امتنع من فعل ما أكره عليه حقق المهدد به. ولا ينفذ تصرف المستكره بغير حق، لكن يقتص منه بمباشرته جناية القتل ونحوه (¬1). المبحث الثاني ـ شروط الإكراه: يشترط لتحقق الإكراه أحد عشر شرطاً، وهي ما يأتي: الأول ـ أن يكون المكره قادراً على تنفيذ ما هدد به، وإلا كان هذياناً، وبناء عليه كان أبو حنيفة يقول: لا إكراه إلا من السلطان؛ لأن غير السلطان لا يتمكن من تحقيق ما هدد به. وقال الصاحبان والأئمة الثلاثة: يتحقق الإكراه من السلطان وغيره؛ لأن إلحاق الضرر بالغير يمكن أن يتحقق من كل متسلط. وهذا الاختلاف بين الإمام وصاحبيه اختلاف عصر وزمان، لا اختلاف حجة وبرهان، فقد أفتى الإمام بحسب زمانه، ثم تغير الحال في زمان الصاحبين، ¬
الثاني ـ أن يغلب على ظن المستكره أن المكره سينفذ تهديده لو لم يحقق ما أكره عليه
فتغيرت الفتوى على حسب الحال. قال البغدادي: الإكراه يثبت حكمه إذا حصل ممن يقدر على إيقاع ما توعد به سلطاناً كان أو غيره (¬1). الثاني ـ أن يغلب على ظن المستكره أن المكره سينفذ تهديده لو لم يحقق ما أكره عليه، وأنه عاجز عن التخلص من التهديد بالهرب أو الاستغاثة أو المقاومة. الثالث ـ أن يكون الأمر المكَره به متضمناً إتلاف نفس أو عضو أو مال أو متضمناً أذى بعض الناس الذين يهمه أمرهم، كالتهديد بحبس الزوجة، أو الوالدين، أو يلحق به غماً يعدم الرضا بحسب حاله، فمن الناس من يغتم بكلام خشن، ومنهم من لا يغتم إلا بالضرب المبرح. الرابع ـ أن يكون المستكره ممتنعاً عن الفعل الذي أكره عليه قبل الإكراه: إما لحقه كبيع ماله، أو لحق شخص آخر كإتلاف مال الغير، أو لحق الشرع كشرب الخمر والزنا. الخامس ـ أن يكون المهدد به أشد خطراً على المستكره مما أكره عليه، فلو هدد إنسان بصفع وجهه إن لم يتلف ماله أو مال الغير، وكان صفع الوجه بالنسبة إليه أقل خطراً من إتلاف المال، فلا يعد هذا إكراهاً. السادس ـ أن يترتب على فعل المكره به الخلاص من المهدد به: فلو قال إنسان لآخر: (اقتل نفسك، وإلا قتلتك) لا يعد هذا إكراهاً عند الجمهور، والراجح عند الحنابلة؛ لأنه لا يترتب على قتل النفس الخلاص مما هدد به، فلا يصح حينئذ للمستكره أن يقدم على ما أكره عليه. السابع ـ أن يكون المهدد به عاجلا ً: فلو كان آجلاً لم يتحقق الإكراه؛ لأن ¬
الثامن ـ ألا يخالف المستكره المكره بفعل غير ما أكره عليه أو بالزيادة عليه، أو بالنقصان عنه
التأجيل مظنة التخلص مما هدد به بالاستغاثة والاحتماء بالسلطات العامة. وهذا شرط عند الحنفية والشافعية وبعض الحنابلة. وقال المالكية: لا يشترط أن يكون المهدد به عاجلاً، وإنما الشرط أن يكون الخوف حاَّلاً. وهذا هو الأرجح في تقديري. الثامن ـ ألا يخالف المستكره المكره بفعل غير ما أكره عليه أو بالزيادة عليه، أو بالنقصان عنه، فإن خالفه في هذه الأحوال الثلاثة، كان طائعاً فيما أتى به، فلا يكون مستكرهاً. وهذا رأي الشافعية والمالكية. فلو أكره إنسان شخصاً على طلاق امرأته، فباع داره، أو أكره على طلقة واحدة رجعية، فطلقها ثلاثاً، أو أكرهه على طلاق امرأته ثلاثاً، فطلقها واحدة، فهذه الصور الثلاث نافذة عندهم؛ لأنها ليست من الإكراه في شيء. وقال الحنفية والحنابلة: المخالفة بالنقصان، بأن أتى الشخص أنقص مما أكره عليه، تجعل الشخص مكرهاً غير مختار، أما في حالة الزيادة أو فعل غير المكره عليه فلا تجعله مكرهاً، وإنما يكون مختاراً، كما قال الشافعية والمالكية. التاسع ـ اشترط الشافعية أن يكون المكره عليه معينا ً بأن يكون شيئاً واحداً، فلو أكره إنسان على طلاق زوجته (فلانة) عد هذا إكراهاً، أما لو أكره على طلاق إحدى امرأتيه، أو على قتل زيد أو عمرو، فلا يعد هذا إكراهاً. ولم يشترط الحنفية والمالكية والحنابلة هذا الشرط، فلو أكره رجل على أن يطلق إحدى امرأتيه، فطلق واحدة كان مكرَهاً، وهو الرأي الأرجح لدي. العاشر ـ ألا يكون المهدد به حقاً للمكره يتوصل به إلى ما ليس حقاً له ولا واجباً: فإذا كان المكره به حقاً للمكره يتوصل به إلى ما ليس حقاً له ولا واجباً
الحادي عشر ـ ألا يكون المكره عليه مستحقا على المستكره
كتهديد الزوج زوجته بطلاقها إن لم تبرئه من دينها، فلا يكون إكراهاً، وقال بعضهم: يعتبر إكراهاً لأن الزوج سلطان زوجته، فيتحقق منه الإكراه. وهذا الشرط عند المتأخرين من الشافعية، ويوافقهم الحنفية فيه. أما الإمام أحمد فلم يشترط هذا الشرط، فالإكراه يتحقق عنده، ولو كان المهدد به حقاً للمكره (¬1). وهذا هو المعقول. الحادي عشر ـ ألا يكون المكره عليه مستحقاً على المستكره: كتهديد المفلس المحجور عليه ببيع ماله، وتهديد القاتل عمداً بالقصاص، وتهديد المولي (حالف يمين الإيلاء) بالتطليق عليه، فكل هذا ليس بإكراه، لأن الأمر المهدَّد به مستَحَق على المستكره. والخلاصة: اتفق الشافعية والحنابلة على شروط ثلاثة للإكراه هي: أولاً ـ قدرة المكره على تحقيق ما هدد به بسلطان أو تغلب كاللص ونحوه. وثانياً ـ عجز المستكره عن دفع الإكراه بهرب أو غيره، وأن يغلب على ظنه نزول الوعيد به إن لم يجبه إلى ماطلبه. وثالثاً ـ أن يكون مما يستضر به ضرراً كثيراً كالقتل والضرب الشديد، والقيد والحبس الطويلين، وإتلاف مال ونحوه. أما الشتم أو السب فليس بإكراه. واشترط الشافعية أيضاً أن يكون الإكراه بغير حق. ¬
المبحث الثالث ـ أثر الإكراه في التصرفات الحسية (أي الفعلية أو الوقائع المادية)
المبحث الثالث ـ أثر الإكراه في التصرفات الحسية (أي الفعلية أو الوقائع المادية): الذي يقع عليه الإكراه من الفعل أو الترك: إما أن يكون من الأمور الحسية أو من الأمور الشرعية، والمكره به في كل منهما: إما معين أو مخير فيه. أما التصرفات الحسية المعينة فيتعلق بها حكمان: أحدهما بالنسبة للآخرة، والثاني بالنسبة للدنيا. أما أحكام الآخرة في التصرفات الحسية المكره عليها، فتختلف بحسب نوع التصرف، وأنواع التصرف الحسي ثلاثة: مباح، ومرخص فيه، وحرام. 1 - التصرف الحسي المباح بالإكراه: هو أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وشرب الخمر، وحكمه أنه يختلف بحسب نوع الإكراه: فإن كان الإكراه ملجئاً أو تاماً كالتخويف بالقتل أو قطع العضو ونحوه، فتباح هذه الأفعال؛ لأن الله تعالى أباحها عند الضرورة، فقال سبحانه {إلا ما اضطررتم إليه} [الأنعام:119/ 6] فلو امتنع المستكره عن تناولها حتى قتل يؤاخذ به؛ لأن امتناعه إلقاء بالنفس إلى التهلكة، والله تعالى يقول: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة:195/ 2]. وإن كان الإكراه ناقصاً كالتهديد بالحبس والضرب اليسير، فلا يباح الإقدام عليها، ولا يرخص فيها أيضاً، حتى إنه يأثم بالإقدام عليها؛ لأنه يجب عليه تقديم حق الله تعالى على حق نفسه (¬1). والخلاصة: أن هذه التصرفات لاتباح إلا بالإكراه الملجئ. ¬
2 - التصرف الحسي المرخص بالإكراه
2 - التصرف الحسي المرخص بالإكراه: هو كإجراء كلمة الكفر على اللسان مع اطمئنان القلب بالإيمان، أو سب النبي محمد صلّى الله عليه وسلم، أو الصلاة إلى الصليب، أو إتلاف مال المسلم، فهذه الأمور لا تباح، ولكن يرخص فعلها عند الإكراه التام، وإن امتنع المستكره عن فعلها حتى قتل، كان مثاباً ثواب الجهاد؛ لأن تحريمها لم يسقط عن فاعلها. وأما وإن كان الإكراه ناقصاً، فلا يرخص فيها أصلاً، ويحكم بكفر فاعلها، وإن كان قلبه مطمئناً بالإيمان، وهذا مذهب الحنفية والمالكية. وعليه، لا يرخص بهذا التصرف إلا في حالة الإكراه الملجئ. ورخص الشافعية والحنابلة والظاهرية التلفظ بالكفر عند الإكراه الناقص؛ لأن الكثير من حوادث الإكراه على الكفر في بدء الإسلام كانت إكراهاً ناقصاً، فهذا هو الراجح إذن من الرأيين. والترخيص بإجراء كلمة الكفر عند الإكراه التام ثابت بقوله تعالى: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم} [النحل:16/ 106]. وهذا هو مذهب الجمهور والظاهرية. أما المالكية: فلا يبيحون إجراء كلمة الكفر على اللسان إلا في الإكراه على القتل فقط، أما الإكراه بقطع عضو، فلا يعتبرونه مبيحاً لإجراء كلمة الكفر على اللسان. ويلاحظ أن الامتناع عن الكفر أفضل، بدليل ما روي أن مسيلمة الكذاب أخذ اثنين من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال لأحدهما: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله، قال: فما تقول في؟ قال: وأنت أيضاً، فخلى سبيله. وقال للآخر: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله، قال: كما تقول في؟ قال: أنا أصم، لا
أسمع، فأعاد عليه ثلاث مرات، فأعاد جوابه، فقتله، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: «أما الأول فقد أخذ برخصة الله تعالى، وأما الثاني فقد صدع بالحق، فهنيئاً له» (¬1). وأما الترخيص بسبِّ النبي صلّى الله عليه وسلم عند الإكراه، فهو جائز لما روي أن عمار بن ياسر رضي الله عنهما، لما أكرهه الكفار على سبِّ محمد صلّى الله عليه وسلم، رجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال له: ما وراءك يا عمار؟ قال: شر يا رسول الله، ما تركوني حتى نلت منك، فقال له الرسول صلّى الله عليه وسلم: «إن عادوا فعد» (¬2). ولو امتنع المستكره عن سب النبي حتى مات كان مأجوراً، بدليل ما روي من قصة خبيب، فقد أخذه المشركون وباعوه من أهل مكة، فأخذوا يعذبونه على أن يذكر آلهتهم بخير، ويسب محمداً، فلم يسب إلا آلهتهم، ولم يذكر محمداً إلا بخير، ولما يئسوا من كفره، أجمعوا على قتله، فسألهم أن يصلي ركعتين، فأوجز في صلاته حتى لا يظنوا أنه يخشى الموت، ثم سألهم أن يلقوه على وجهه ليموت وهو ساجد، فأبوا عليه ذلك، فرفع يديه إلى السماء، ثم قال: اللهم إني لا أرى إلا وجه عدو، فاقرأ رسول الله مني السلام، ثم قال: اللهم أحص هؤلاء عدداً، واجعلهم بدَد َا َ، ولا تبق منهم أحداً، ثم أنشأ يقول: ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي فلما قتلوه وصلبوه، تحول وجهه نحو القبلة، فقال فيه الرسول صلّى الله عليه وسلم: «هو سيد الشهداء، وهو رفيقي في الجنة» (¬3). ¬
3 - التصرف الحسي الحرام الذي لا يباح ولا يرخص بالإكراه
فهذا دليل على أن الامتناع عن شتم النبي أفضل (¬1). وأما إتلاف مال المسلم: فيرخص فيه عند الإكراه التام؛ لأن مال الغير يستباح للضرورة، كما في حال المخصمة، والضرورة متحققة هنا؛ لأن الإكراه نوع منها. غير أن أثر الرخصة يظهر في سقوط المؤاخذة الأخروية، لا في سقوط أصل الحرمة؛ إذ الحرمة قائمة بقوله صلّى الله عليه وسلم: «كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه» (¬2) والمراد بالإكراه التام في إتلاف المال: هو الإحراق أو ما في معناه عند الشافعية والحنفية والحنابلة في المعتمد عندهم. ويرى المالكية والظاهرية أنه لا يرخص في الإحراق لتعلق حق العبد به (¬3): لأن الشارع حرم إضرار الغير، قال صلّى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار» (¬4). وأما الإكراه على الإسلام: وإن كان ممنوعاً شرعاً، فإن وقع اعتبر إسلام المستكره صحيحاً، وعومل معاملة المسلمين؛ لأنه إكراه في صالح المستكره، وإعلاء للدين الحق. 3 - التصرف الحسي الحرام الذي لا يباح ولا يرخص بالإكراه: هو قتل المسلم بغير حق أو قطع عضو من أعضائه ولو أنملة؛ لأن القتل حرام ¬
الأحكام الدنيوية
محض، قال تعالى: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق} [الإسراء:33/ 17]، ولأن الاعتداء حرام أيضاً، قال تعالى: {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً} [الأحزاب:58/ 33]، والتحريم سواء أكان الإكراه ناقصاً أم كاملاً. ومثله أيضاً: ضرب الوالدين قل أو كثر، فإنه لا يباح بالإكراه؛ لأنه حرام، قال تعالى: {فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما} [الإسراء:23/ 17] والنهي عن التأفيف نهي عن الضرب من باب أولى، فلو فعل شيئاً مما ذكر أثم. وكذلك أيضاً: الزنا، فإنه لا يباح ولا يرخص للرجل بالإكراه مطلقاً، ولو فعل أثم؛ لأن حرمة الزنا ثابتة عقلاً، قال تعالى: {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً} [الإسراء:32/ 17]. وكذا المرأة لا يرخص لها أيضاً عند الإكراه ولو كان تاماً، كما رجح الكاساني صاحب البدائع (¬1). والخلاصة: إن الكفروالقتل والزنا لا يباح بحال فيظل الإثم قائماً، وإن رخص بالنطق بالكفر، وهناك فرق بين الرخصة والإباحة، ففي الرخصة لا يباح الفعل أحياناً في حد ذاته، وإنما ترتفع المسؤولية فقط، أما في حال الإباحة فيصبح الشيء مباحاً في ذاته، فيرتفع الإثم والمسؤولية الدنيوية أيضاً. وأما الأحكام الدنيوية في هذه الأنواع الثلاثة فهي مايأتي (¬2): النوع الأول، والكلام فيه عن: 1ً ـ الإكراه على شرب الخمر: إذا كان الإكراه تاماً فلا يجب الحد على ¬
ـ الإكراه على السرقة
المستكره على شرب الخمر اتفاقاً؛ لأن الحد شرع زاجراً عن الجناية في المستقبل، والشرب المكره عليه ليس جناية، بل هو مباح. ولا تنفذ تصرفات السكران المكره على الشرب عند جمهور الفقهاء؛ لأن نفاذ تصرفات السكران حالة الاختيار عند القائلين به (¬1) كان تغليظاً عليه وزجراً له، ولامعنى للتغليظ في حالة الإكراه؛ لأنه ليس قائم العقل، فهو كالمجنون. وأما إذا كان الإكراه ناقصاً فيجب الحد عند الحنفية؛ لأن شرب الخمر حينئذ يعتبر حراماً، فيطبق عليه حكم الشُّرب. وقال جمهور الفقهاء: لا يجب الحد على المستكره على شرب الخمر إكراهاً ناقصاً، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (¬2). 2ً ـ الإكراه على السرقة: إذا كان الإكراه تاماً فلا إثم على السارق المستكره، ولا حد عليه للحديث السابق: «إن الله تجاوز عن أمتي ... » ولأن الحدود تدرأ بالشبهات. وإن كان الإكراه ناقصاً، فلا يرتفع الإثم ولا الحد عند بعض الفقهاء ¬
النوع الثاني
(الحنفية)، إذ لا ضرورة لفعل السرقة، ويرى جمهور الفقهاء أنه لا إثم ولا حد، عملاً بمقتضى إطلاق الحديث السابق: «إن الله تجاوز عن أمتي» فهذا الحديث ناطق بالعفو عن موجب الإكراه مطلقاً؛ تاماً أو ناقصاً. النوع الثاني وفيه بحثان: 1ً ـ الإكراه على الكفر: إذا كان الإكراه تاماً، فلا يحكم بالردة، ولا تبين امرأة المستكره اتفاقاً بين الفقهاء، ما عدا المالكية فيما إذا كان التهديد بغير القتل، وأقدم المهدد على الكفر، فإنه يرتد عندهم؛ لأن غير القتل أقل خطورة من الكفر. وإن كان الإكراه ناقصاً، وتلفظ المستكره بالكفر لا يصبح مرتداً عند الشافعية والحنابلة والظاهرية، عملاً بقوله تعالى: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان .. } [النحل:16/ 106]. وقال المالكية والحنفية: يحكم بكفر المستكره إكراهاً ناقصاً، ويصبح مرتداً تلحقه أحكام المرتدين؛ لأنه ليس بمكره حقيقة بل أقدم على ما أقدم عليه لدفع الغم عن نفسه لا للضرورة. ويظهر أن الرأي الأول أرجح عملاً بالنص. ويجري هذا الخلاف في الإكراه على الصلاة للصليب أو على السجود للصنم. وإذا كان الإكراه على الكفر لا يجعل المستكره كافراً، فإن الإكراه على الإسلام يجعل المستكره مسلماً كما تقدم، والفرق بين الحالتين: أن الإيمان في الحقيقة تصديق، والكفر تكذيب، وذلك يحصل في القلب، والإكراه لا شأن له بالقلب، ففي حالة الاختيار جعل اللسان دليلاً على ما في القلب ظاهراً، وفي حالة الإكراه على الكفر لا يجعل اللسان دليلاً على ما في القلب؛ لأن الإيمان أمر
ـ الإكراه على إتلاف المال
قلبي، أما في حال الإكراه على الإسلام، فيحكم بالإسلام مع احتمال أنه كافر في قلبه؛ لأن ترجيح جانب الإسلام إعلاء الدين الحق، وإعلاء الدين الحق واجب (¬1)، قال عليه الصلاة والسلام: «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه» (¬2). ويلاحظ أن الذي يجوز إكراهه على الإسلام هو الحربي عند جمهور العلماء، وكذا يجوز إكراه الذمي والمستأمن عند الحنفية، ولا يجوز إكراههما عند جمهور العلماء، والأدلة تعرف في كتب الفقه المطولة، والراجح مذهب الجمهور في الذمي، كما أن الراجح في تقديري هو أن الحربي أيضاً لا يكره على الإسلام كما يقرر جماعة من العلماء لقوله تعالى: {لا إكراه في الدين} [البقرة:256/ 2] (¬3). 2ً ـ الإكراه على إتلاف المال: إذا أكره شخص غيره على إحراق أثاث منزل لآخر مثلاً، ف إن كان الإكراه تاما ً، فالضمان على المكره عند الحنفية والحنابلة في الأرجح عندهم وبعض الشافعية؛ لأن المستكره مسلوب الإرادة، وما هو إلا آلة للمكره، ولا ضمان على الآلة اتفاقاً. وقال المالكية والظاهرية وبعض الشافعية: الضمان على المستكره؛ لأنه يكون في هذه الحالة كالمضطر إلى أكل طعام الغير، بجامع الإباحة في كل منهما، وكما يجب ضمان المضطر يجب ضمان المستكره. ¬
إن كان الإكراه ناقصا
وقال الشافعية في الأرجح عندهم وفي وجه عند الحنابلة: الضمان على المكره والمستكره؛ لأن الإتلاف صدر من المستكره حقيقة، ومن المكره بالتسبب، والتسبب في الفعل والمباشرة سواء، لكن يستقر الضمان في النهاية على المكره في الأصح. وإن كان الإكراه ناقصا ً: فالضمان على المستكره عند الحنفية والمالكية والظاهرية والشافعية والحنابلة؛ لأن الإكراه الناقص لا يسلب الاختيار أصلاً، فلم يكن المستكره مجرد آلة للمكره، فكان الإتلاف من المستكره، فوجب الضمان عليه (¬1). النوع الثالث، وفيه بحثان: 1ً ـ الإكراه على القتل: اتفق الفقهاء على تأثيم من أكره على القتل، فقتل، واختلفوا في القصاص منه إذا كان الإكراه تاما ً. فقال أبو حنيفة ومحمد، وداود، وأحمد في رواية، والشافعي في أحد قوليه: لا قصاص على المستكره، وإنما يقتص من المكره، ويعزر المستكره فقط، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «عفوت عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» والعفو عن الشيء عفو عن مقتضاه، فكان مقتضى ما أكره عليه عفواً، ولأن المستكره مجرد آلة للمكره، إذ القاتل في المعنى هو المكره، وإنما الموجود من المستكره صورة القتل، فأشبه المستكره الآلة، ولا قصاص على الآلة. ¬
إذا كان الإكراه ناقصا
وقال زفر وابن حزم الظاهري: يقتص من المستكره؛ لأن القتل وجد منه حقيقة حساً ومشاهدة، ولأنه أتى محرماً عليه إتيانه. وأما المكره فهو متسبب، ولا قصاص بالتسبب عندهم، ورجح الطحاوي هذا الرأي. وقال أبو يوسف: لا يقتص من المستكره ولا من المكره، للشبهة لأن المكره ليس بقاتل حقيقة وإنما هو مسبب للقتل، وإنما القاتل هو المستكره، ولما لم يجب القصاص على المستكره، فلأن لا يجب على المكره أولى. وإنما يجب على المكره الدية ولا يرجع على المستكره بشيء. وقال المالكية والشافعية في الأرجح، والحنابلة في المذهب عندهم: يقتص من المكره والمستكره؛ لأن المستكره وجد منه القتل حقيقة، والمكره متسبب في القتل، والمتسبب كالمباشر كما ثبت شرعاً. ويظهر أن الرأي الأول أرجح الآراء، وهو مذهب أبي حنيفة. وأما إذا كان الإكراه ناقصا ً فيجب القصاص على المستكره بلا خلاف؛ لأن الإكراه الناقص لا يسلب الاختيار، فلا يمنع وجوب القصاص (¬1). وأما الدية حال الإكراه: ففي وجوبها روايتان عند الحنفية أرجحها أنها تجب على المكره. وأما الإرث: فلا يمنع منه المستكره الذي أكره على قتل مورثه عند أئمة الحنفية ما عدا زفر. والمستكره على قطع يد إنسان إذا قطعهما يجري فيه الخلاف المذكور في الإكراه على القتل. ¬
ـ الإكراه على الزنا
فإذا أذن المجني عليه للمستكره بقطع يده أو قتله، فلا يباح له الفعل؛ لأن هذه الجنايات لا تباح بالإذن. فإن تم القطع في هذه الحالة، فلا ضمان على أحد، لوجود الإذن من جهة المجني عليه، وأما في القتل فلا عبرة بالإذن، وتجب حينئذ الدية على المكره، كما في ظاهر الرواية. وفي رواية: لا تجب (¬1). 2ً ـ الإكراه على الزنا: الإكراه على الزنا إما أن يقع على المرأة أو على الرجل. ف إذا أكرهت المرأة على الزنا: فلا يقام عليها الحد عند جمهور الفقهاء، سواء أكان الإكراه تاماً أم ناقصاً، لقوله تعالى: {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم} [النور:33/ 24] فدلت الآية على انتفاء الإثم عن المرأة المكرهة على الزنا، وإذا انتفى الإثم عنها ارتفع الحد. وإذا أكره الرجل على الزنا إكراهاً تاماً أو ناقصاً، فالمختار عند الحنابلة وجوب الحد عليه؛ لأن الزنا لا يتحقق إلا بانتشار العضو، والانتشار لا يكون مع الخوف، فحيث يوجد الانتشار، توجد الطواعية في الفعل، فيكون المستكره على الزنا إذا حدث منه طائعاً، فيجب عليه الحد. والواقع أن الانتشار طبيعي ليس دليلاً على الاختيار؛ لأن الانتشار الطبيعي عند مقابلة المرأة، ولذا يحدث للنائم ولا اختيار له. وقال الشافعية في المعتمد عندهم: لا يجب الحد على المستكره على الزنا سواء أكان الإكراه تاماً أم ناقصاً؛ لأن الإكراه أياً كان نوعه يورث شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات. ¬
الإكراه على أحد أمرين
وأما الحنفية: فكان أبو حنيفة يرى وجوب الحد على المستكره على الزنا، ثم قال: إذا كان الإكراه تاماً ـ وهو الذي يتحقق فقط من السلطان بحسب عرف زمانه ـ فلا يجب الحد. وأما إكراه غير السلطان فيوجب الحد. وقال الصاحبان: لا يجب الحد حالة الإكراه التام، سواء أكان الإكراه من السلطان أم من غيره، ورأيهما هو الأرجح عند الحنفية. وهو رأي أبي حنيفة أخيراً. وإن كان الإكراه ناقصاً: فيجب الحد عند أبي حنيفة وصاحبيه؛ لأن الإكراه الناقص لا يسلب الاختيار، فيكون الزاني في هذه الحالة مختاراً، فيحد. والخلاصة: إن الحنفية لا يوجبون الحد في حالة الإكراه التام، ويوجبونه في حالة الإكراه الناقص. وقال المالكية: إن كان الرجل والمرأة مكرهين على الزنا فيجب الحد. وإن كانت المرأة طائعة ولم تكن ذات زوج، فقد أسقطت حقها برضاها، فلم يبق سوى حق الله تعالى، وحق الله يسقط بالإكراه، فلا يجب الحد عند بعض المالكية إذا كان التهديد بالقتل. أما بغير القتل فيجب الحد، وهذا هو المفتى به. والمشهور في المذهب: وجوب الحد على الرجل والمرأة. وكذلك يحد المكره على الزنا في مذهب الحنابلة. والذي يظهر هو رجحان مذهب الشافعية؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات (¬1). الإكراه على أحد أمرين: كل ما ذكر إذا كان التصرف الحسي المكره عليه معيناً، فإن كان المكره عليه مخيراً فيه: فبالنسبة للحكم الأخروي يظل المباح ¬
المبحث الرابع ـ أثر الإكراه في التصرفات الشرعية
والمرخص فيه والحرام كما هو في حالة التعيين، ولكن عليه اختيار الأخف، فإذا أكره إنسان على أكل ميتة أو قتل مسلم، يباح له الأكل، ولا يرخص له القتل، ولو امتنع من الأكل حتى قتل يأثم. ولو أكره على إتلاف مال إنسان أو قتله رخص له الإتلاف. ولو أكره على القتل أو الزنا، لا يرخص له أن يفعل أحدهما، ولا يأثم إذا قتل. ولو أكره على القتل أو الكفر، يرخص له إجراء كلمة الكفر إذا كان قلبه مطمئناً بالإيمان. وأما بالنسبة للحكم الدنيوي: فقد يختلف الحكم بالتخيير عن حالة التعيين، فلو أكره على أكل الميتة أو قتل المسلم، فلم يأكل وقتل، يجب القصاص على المستكره عند الحنفية؛ لأنه أمكنه دفع الضرورة بتناول المباح، فكان القتل حاصلاً باختياره. ولو أكره على الكفر أو القتل، فقتل ولم يكفر بلسانه، فالقياس: أنه يجب عليه القصاص؛ لأنه اختار القتل الذي هو حرام على المرخص فيه، ومقتضى الاستحسان. أنه لا قصاص عليه، ولكن تجب عليه الدية، إن لم يكن عالماً أنه مرخص له بلفظ الكفر (¬1). المبحث الرابع ـ أثر الإكراه في التصرفات الشرعية: (أي في التصرفات القولية أو التصرفات القانونية). أبدأ الكلام على التصرفات الشرعية المعينة وأقول: ¬
أولا ـ التصرفات التي لا تحتمل الفسخ (أي الرد، وهي التصرفات اللازمة)
التصرفات الشرعية المعينة إما أن تكون إنشاء أو اقراراً. والتصرفات الإنشائية نوعان: نوع لا يحتمل الفسخ، ونوع يحتمل الفسخ. أما التصرفات التي لا تحتمل الفسخ: فهي كالطلاق والنكاح والظهار واليمين والعفو عن القصاص. وقد أوصلها بعض الحنفية إلى عشرين، والتحقيق أنها خمسة عشر (¬1). وأما التصرفات التي تحتمل الفسخ: فهي كالبيع والإجارة ونحوهما من كل تصرف يعتبر سبباً للملك. أولاً ـ التصرفات التي لا تحتمل الفسخ (أي الرد، وهي التصرفات اللازمة): يرى الحنفية أنه لا تأثير للإكراه على التصرفات الشرعية التي لا تحتمل الفسخ أي الرد، ولا يشترط فيها الرضا، فتعتبر هذه التصرفات نافذة مع الإكراه؛ لأنها لا تقبل الفسخ، فتصبح لازمة. فلو أكره الرجل على الطلاق أو النذر أو اليمين أو الظهار أو النكاح أو الرجعة، أو الإيلاء أو الفيء فيه باللسان، أو العفو عن القصاص، وقع المكره عليه؛ لأنها تصرفات يستوي فيها الجدل والهزل، والإكراه في معنى الهزل لعدم القصد الصحيح للتصرف فيهما، والأصل فيه حديث حذيفة ابن اليمان رضي الله عنه، وهو «أن المشركين لما أخذوه واستحلفوه على أن لا ينصر رسول الله صلّى الله عليه وسلم في غزوة، فحلف مكرهاً، ثم أخبر به رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: أوف لهم بعهدهم ونحن نستعين بالله عليهم» وقد أخرج عبد الرزاق في مصنفه عن ابن ¬
عمر أنه أجاز طلاق المكره (¬1). ويؤيده عموم قوله تعالى: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد} [البقرة:230/ 2] الآية. والخلاصة: أن هذه التصرفات تصح وتلزم من المستكره. ويرى جمهور الأئمة غير الحنفية أن الإكراه يؤثر في هذه التصرفات، فيفسدها، فلا يقع طلاق المكره مثلاً، لا يثبت عقد النكاح بالإكراه ونحوهما. وهذا هو الأرجح. واستدلوا بأن الله تعالى لما لم يرتب على التلفظ بالكفر حالة الإكراه أثراً في قوله تعالى: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} [النحل:106/ 16] فلا يترتب على أي تصرف قولي مع الإكراه أي أثر. وقد ثبت في السنة أن خنساء بنت خزام الأنصارية زوجها أبوها وهي ثيب، فكرهت ذلك، فأتت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فرد نكاحها (¬2)، ويؤيدها حادثة أخرى وهي أن فتاة زوجها أبوها من ابن أخيه وهي كارهة، فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم الأمر إليها (¬3). ¬
وقال صلّى الله عليه وسلم: «لا طلاق في إغلاق» (¬1) وفسر الشافعي الإغلاق بالإكراه، وقال عليه السلام أيضاً: «إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (¬2) أي رفع حكم الإكراه وغيره. ثم إن هذه التصرفات لا تصح مع الإكراه حتى لا يترتب عليها زوال حقوق الناس وأملاكهم بدون رضاهم. وبناء عليه قال الشافعية: إن طلاق المستكره وعتاقه وبيعه وإجارته ونكاحه ورجعته وغيرها من التصرفات لا تصح؛ لأن رفع حكم الإكراه إنما يكون بانعدام الحكم المتعلق به، كوقوع الطلاق، وصحة البيع والنكاح. وأما وجوب القصاص عندهم على القاتل المستكره، فيستثنى من عموم الصيغة، تعظيماً لأمر الدم، فإنه لا سبيل إلى استباحته، وتجب رعاية حرمته (¬3). وأما حديث: «ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة» (¬4) الذي تمسك به الحنفية فهو ضعيف على الأرجح، وأما حديث حذيفة فهو حديث مكذوب كما قال ابن حزم. وأما ما روي عن ابن عمر أنه أجاز طلاق المكره، فيقدح فيه ما رواه ابن حجر في فتح الباري أن عبد الرزاق أخرج عن ابن عمر عدم جواز طلاق المكره في قصة ¬
ثانيا ـ التصرفات التي تحتمل الفسخ
ثابت الأعرج، ويؤيده أن عدم جواز طلاق المكره روي عن ابن عمر في سنن البيهقي، وفي صحيح البخاري، وفي موطأ مالك. وأما ما استدل به الحنفية من عموم قوله تعالى: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد} [البقرة:230/ 2] فهو معارض لقوله تعالى: {ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} [البقرة:225/ 2] والمستكره لم يطلق قط، بل إن حديث «لا طلاق في إغلاق» يقيد إطلاق آية الطلاق، حتى على مذهب الحنفية القائلين بأن هذا الحديث ظني، والظني لا يقيد القطعي؛ لأن هذه الآية قيدت بحديث مشهور وهو قوله صلّى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يكبر (أو يعقل أو يحتلم)، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يعقل أو يفيق» (¬1) فصارت ظنية، فأصبحت بعدئذ صالحة لتقييدها بخبر ظني (¬2). ثانياً ـ التصرفات التي تحتمل الفسخ: إذا أكره الإنسان إكراهاً تاماً أو ناقصاً على تصرف يحتمل الفسخ أي يقبل الرد، ويشترط فيه الرضا كالبيع والشراء والهبة والإجارة ونحوها، فإن الإكراه عند جمهور الحنفية يفسده أي أن التصرف نافذ، ولكنه فاسد، وحينئذ يملك المشتري المبيع بالقبض. وسبب الفساد: هو أن الرضا شرط نفاذ هذه التصرفات، والإكراه ¬
يعدم الرضا، وانتفاء الشرط يترتب عليه انتفاء المشروط، وهو النفاذ، فيفسد التصرف. وعليه يكون بيع المستكره وإجارته وهبته فاسدة، ولكن للمستكره بعد زوال الإكراه الخيار بين إمضاء التصرف وفسخه؛ لأن الرضا كما ذكرت شرط لصحة هذه التصرفات. وقال المالكية وزفر من الحنفية: تعتبر هذه التصرفات بالإكراه موقوفة؛ لأن الرضا شرط في صحة العقد، لا في انعقاده، حتى لو أجاز المستكره ما أكره عليه بعد زوال الإكراه أصبح العقد صحيحاً، ولو كان العقد فاسداً لما جاز؛ لأن الفاسد لا يجوز بالإجازة، ولا يرتفع الفساد بالإجازة كسائر البيوع الفاسدة، فأشبه بيع الفضولي، وبما أنه بيع موقوف، لا يثبت به الملك بالقبض. والخلاصة: إن أبا حنيفة وصاحبيه ذهبوا إلى أن الإكراه يفسد العقد إفساداً فقط، لا إبطالاً، وتترتب عليه الأحكام المقررة لفساد العقود إلا من ناحية واحدة، وهي أنه بعد زوال الإكراه، لو أجاز المستكره العقد، صح هذا العقد، ويصبح ملزماً؛ لأن الفساد إنما كان صيانة لمصلحته الخاصة لا لمصلحة عامة. وأما زفر فيجعل العقد غير نافذ كعقد الفضولي، فهو صحيح موقوف بالنسبة للمستكره، ويتوقف على إجازته بعد زوال الإكراه، وبما أن هذا العقد يجوز ويلزم بالإجازة، فهذا دليل على كون العقد موقوفاً لا فاسداً؛ لأن العقد الفاسد يفسخ فسخاً ولا يجاز إجازة. ويلاحظ أن دليل زفر أقوى وأوجه، ولكن المعتمد عند الحنفية هو رأي الإمام وصاحبيه (¬1). وقال باقي الفقهاء: تعتبر هذه التصرفات مع الإكراه باطلة غير صحيحة (¬2). ¬
حكم بيع المستكره
مثاله: حالة الإكراه على البيع سواء أكان تاماً أم ناقصاً. وبه يلاحظ أن للعلماء في حكم بيع المستكره أربعة مذاهب: 1 - ذهب أبو حنيفة وصاحباه إلى فساد بيع المكره عملاً بعمومات نصوص البيع، ولا فرق بين فساد البيع بسبب الجهالة أو الربا أو غيرهما وبين فسا ده بالإكراه، لعدم توافر الرضا إلا في أن المستكره له حق إجازة العقد بعد زوال الإكراه، كما له حق الفسخ مطلقاً، فيسترد المبيع الذي أكره على بيعه، ولو تداولته الأيدي كأن تصرف المشتري به، صيانة لمصلحته ومحافظة على إرادته ورضاه. أما بقية البيوع الفاسدة فلا تلحقها الإجازة؛ لأن فسادها لحق الشرع من حرمة الربا ونحوه، كما أنه إذا تصرف المشتري الجديد بالمبيع نفذ تصرفه، وليس للبائع الأصلي حق الفسخ نظراً لتعلق حق المشتري الجديد بالمبيع، وحق العبد مقدم على حق الله، لاستغناء الله واحتياج العبد. 2 - وذهب زفر من الحنفية إلى أن بيع المستكره موقوف. 3 - وقرر المالكية أن بيع المستكره غير لازم أي أن للعاقد المكره الخيار في إمضاء العقد أو فسخه، وهذا يتفق مع ما ذكره القدوري الحنفي في بيان حكم بيع المستكره وشرائه وإقراره. 4 - وذهب الشافعية والحنابلة والظاهرية إلى بطلان بيع المستكره. أثر الإكراه على الإقرارات: تحدثت عن أثر الإكراه في التصرفات الإنشائية، وأذكر هنا أثر الإكراه في الإقرارات.
إذا أكره رجل بغير حق على أن يقر بشيء، ففي هذا الإقرار للفقهاء مذهبان: 1 - مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة والظاهرية: يقرر إلغاء الإقرار وعدم ترتب أي أثر عليه، سواء أكان المقر به مما يحتمل الفسخ كالبيع والإجارة، أم مما لا يحتمل الفسخ كالطلاق والرجعة. استدل الحنفية بأن الإقرار خبر يحتمل الصدق والكذب، إلا أنه يصح الإقرار حالة الاختيار؛ لأن الإنسان غير متهم على نفسه، ولم يصح حالة الإكراه، لترجح جانب الكذب بسبب وجود التهديد. واستدل غير الحنفية بحديث «إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» فلفظ «ما» في الحديث يفيد العموم، فيكون حكم كل تصرف أكره عليه الإنسان مرفوعاً، والإقرار تصرف من التصرفات، فيكون حكمه مرفوعاً عند الإكراه، فلا يترتب عليه أي أثر من آثاره. 2 - مذهب المالكية يقرر عدم لزوم إقرار المستكره بغير حق، أي أن المستكره بعد زوال الإكراه مخير بين أن يجيز الإقرار وبين ألا يجيز. واستدلوا بأن إقرار المستكره كطلاقه بجامع عدم الرضا في كل، فكما لا يلزم طلاق المستكره لا يلزم إقرار المستكره. وأما الإقرار مكرهاً بالزنا أو شرب الخمر أو السرقة أو القذف أو القتل، فإنه يعتبر ملغياً، ولا يقام عليه حد ولا قصاص عند أغلب الفقهاء، ومنهم المالكية؛ لأن الإكراه شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات (¬1). ¬
أثر الإكراه في التصرفات الشرعية المخير فيها
أثر الإكراه في التصرفات الشرعية المخير فيها: عرفنا أن التصرفات الشرعية إما أن تكون قابلة للفسخ أو غير قابلة للفسخ. أما التصرفات الشرعية التي لا تحتمل الفسخ والمخير فيها بالإكراه، فللفقهاء في حكمها رأيان: الأول ـ رأي الشافعية: وهو أنهم يشترطون تعيين الشيء المكره عليه، فلا إكراه مع التخيير، وتكون التصرفات المخير فيها التي لا تقبل الفسخ نافذة. الثاني ـ رأي جمهور الأئمة: وهو أنهم يقولون: لا يشترط التعيين في المكره عليه، فالإكراه باق مع التخيير، ويترتب على الإكراه أثره في التصرفات الشرعية المخير فيها التي لا تحتمل الفسخ بحسب المقرر في كل مذهب، كما تقدم. فإذا أكره إنسان على أن يطلق امرأته المدخول بها أو امرأته غير المدخول بها وطلق إحدى المرأتين: لم يعتبر الإكراه عند الشافعية، ويقع الطلاق؛ لأنه وجدت قرينة على الاختيار فيما أتى به. وعند بقية الأئمة: يعتبر الإكراه، ولكنهم فصلوا في وقوع الطلاق أي ترتيب أثر الإكراه، فعند الحنفية: يقع الطلاق إذ لا أثر للإكراه عندهم في التصرفات القولية التي لا تحتمل الفسخ. وفي المعتمد عند المالكية: لا يلزم الطلاق، وللمستكره بعد زوال الإكراه حق إجازة الطلاق. وعند الحنابلة: يقع الطلاق؛ لأن التخيير كالتعيين عندهم. وأما التصرفات الشرعية المخير فيها التي تحتمل الفسخ، فكذلك للفقهاء في أثر الإكراه فيها رأيان: الأول ـ رأي الشافعية القائلين بأنه لا إكراه مع التخيير.
الثاني ـ رأي باقي الأئمة الذين يقولون بأنه لا مانع من وجود الإكراه مع التخيير. مثلاً: إذا أكره الرجل على بيع إحدى العمارتين المملوكتين له، فباع إحداهما، كان البيع نافذاً عند الشافعية لانعدام الإكراه هنا. وعند باقي الأئمة: يترتب على الإكراه أثره كما في حالة التعيين. وبناء عليه يكون بيع إحدى العمارتين باطلاً عند الحنابلة والظاهرية، وفاسداً عند جمهور الحنفية، وموقوفاً عند المالكية وزفر. وأدلة كل منهم تعرف في مثال الإكراه على البيع السابق ذكره (¬1). ¬
الفصل الثامن عشر: الحجر
الفَصْلُ الثَّامن عَشَر: الحَجْر الكلام عن الحجرفي مباحث أربعة: أولها ـ في تعريف الحجر ومشروعيته وحكمة تشريعه. وثانيها ـ في أسباب الحجر. وثالثها ـ في رفع الحجر. ورابعها ـ تعلق الدين بالتركة. المبحث الأول ـ تعريف الحجر ومشروعيته وحكمة تشريعه ونوعاه: أولاً ـ تعريف الحجر: الحَجْر في اللغة: المنع والتضييق، يقال: حجر عليه حجراً أي منعه من التصرف، ومنه سمي الحرام: حِجْراً، قال تعالى: {ويقولون حجراً محجوراً} [الفرقان:22/ 25] أي حراماً محرماً، وسمي العقل حجراً، قال تعالى: {هل في ذلك قسم لذي حِجْر} [الفجر:5/ 89] أي عقل؛ لأنه يمنع صاحبه من ارتكاب ما يقبح من المفاسد وتضر عاقبته، وسمي الحطيم حِجْراً لأنه منع من الكعبة، وقطع منها، كما منع من أن يدخل في الحرم.
والحَجْر في الشريعة: هو منع الإنسان عن التصرف في ماله. ويقابله الإذن وهو فك الحجر وإسقاط حق المنع (¬1) وللحجر تعاريف متقاربة عند الفقهاء هي مايأتي: قال الحنفية (¬2): الحجر: هو المنع من لزوم العقود والتصرفات القولية. فإذا باشر المحجور عقداً أو تصرفاً قولياً كالبيع أو الهبة لا ينفذ أي لا يلزم، ولا يترتب عليه حكمه، فلا يملك بالقبض. وكون الحجر من التصرفات القولية؛ لأنها هي التي يتصور الحجر فيها بالمنع من نفاذها، أما الأفعال فلا يتصور الحجر فيها؛ لأن الفعل بعد وقوعه لا يمكن رفعه، بخلاف القول، فإنه يمكن رفعه بمنع انعقاده شرعاً أو منع نفاذه. وللحنفية تعريف آخر أدق: وهو عبارة عن منع مخصوص متعلق بشخص مخصوص، عن تصرف مخصوص أو عن نفاذه، أي لزومه؛ لأن عقد المحجور ينعقد موقوفاً (¬3). فالحجر على الصغير أو المجنون قد يجعل تصرفه غير منعقد أصلاً، كما إذا كان ضرراً محضاً، كطلاق زوجته، وقد يجعله موقوفاً على إجازة الولي كالبيع والشراء من المميز، أما إذا كان لا يعقل أصلاً فتصرفه باطل. وأما الحجر على الأفعال، فلا يفيد، ويكون كل من الصبي والمجنون ضامناً لما يتلفه من مال غيره، ويؤخذ ثمنه من ماله إن كان له مال، ويطالب بالأداء وليه أو وصيه؛ لأن الضمان من خطاب الوضع، وهو لا يشترط فيه التكليف أو التمييز، لكن لا يطبق عليهما العقاب البدني كالحدود والقصاص، لعدم توافر القصد الصحيح، وإنما تجب عليهما الدية في حال القتل، لأنه يعتبر منهما خطأ. ¬
ثانيا ـ دليل مشروعية الحجر
وعرفه الما لكية (¬1) بأنه صفة حكمية ـ أي يحكم بها الشرع ـ توجب منع موصوفها من نفوذ تصرفه فيما زاد على قوته، أو تبرعه بما زاد على ثلث ماله. فشمل الأول: الحجر على الصبي والمجنون والسفيه والمفلس ونحوهم، فإنهم يمنعون من التصرف بالبيع أو التبرع فيما زاد على قوتهم ويكون تصرفهم موقوفاً على إجازة الولي. وشمل الثاني: الحجر على مريض الموت والزوجة، فإنهما لا يمنعان من البيع والشراء، وإنما يمنعان من التبرع فيما يزيد عن ثلث مالهما. وعرفه الشافعية والحنابلة (¬2): بأنه المنع من التصرفات المالية. سواء أكان المنع من الشرع كمنع الصغير والمجنون والسفيه، أم من الحاكم كمنع المشتري من التصرف في ماله حتى يؤدي الثمن الحال الذي عليه. ولا يمنع المحجور (السفيه والمفلس والمريض) من التصرفات غير المالية، كالتصرف بالطلاق والإقرار بما يوجب العقوبة، وكالعبادة البدنية واجبة أو مندوبة، وتنفذ منه العبادة المالية الواجبة كالحج، دون المندوبة. لكن الصبي والمجنون لا يصح تصرفهما في شيء مطلقاً من الأموال والذمم والأحوال الشخصية من زواج وطلاق. ثانياً ـ دليل مشروعية الحجر: ورد في القرآن الكريم آيات ثلاث تدل على مشروعية الحجر من حيث المبدأ، أولها قوله تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولاً معروفاً} [النساء:5/ 4] نهى الله تعالى فيها الأولياء عن إعطاء السفهاء أموالهم؛ لأن في إعطائهم تعريضاً لضياعها، فدل النص على منعهم من التصرف في أموالهم، وهو معنى الحجر عليهم. ¬
ثالثا ـ حكمة تشريع الحجر
والآية الثانية قوله تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم} [النساء:6/ 4] أمر الله تعالى باختبار اليتامى في حفظ أموالهم، بأن يدفع لهم شيء من أموالهم، لمعرفة خبرتهم في التصرفات، فإن آنس منهم الرشد قبل البلوغ، سلموا أموالهم، فدل النص على منع دفع أموالهم إليهم، قبل الرشد، وحجرهم عنها، حتى لا يتصرفوا فيها. والآية الثالثة قوله سبحانه: {فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل} [البقرة:282/ 2] فسَّر الشافعي رضي الله عنه السفيه بالمبذر، والضعيف بالصبي، والكبير بالمختل، والذي لا يستطيع أن يمل بالمغلوب على عقله، فأخبر الله تعالى أن هؤلاء ينوب عنهم أولياؤهم، فدل على ثبوت الحجر عليهم. وثبت في السنة الصحيحة أن النبي صلّى الله عليه وسلم حجر على معاذ ماله وباعه في دين كان عليه (¬1).وحجر عثمان بسبب التبذير على عبد الله بن جعفر (¬2). ثالثاً ـ حكمة تشريع الحجر: ليس في الحجر إهدار حقيقي لكرامة الإنسان، وإنما هو رحمة ومصلحة وصون وتعاون، فهو رحمة بالمحجور عليه حتى يوفر له ماله في وقت تكثر فيه مسؤولياته، وتتعدد واجباته، فلا يواجه الحياة بوجه عبوس مقطب، ولا تتراكم عليه الهموم والمشكلات، ولا تصادمه الصعاب والمشاق، وإنما يجد في ماله سبيلاً للنجاة، والعيش الكريم، وشق طريق الحياة، وهو صون لماله من عبث العابثين، وحد لهوى النفس بالإنفاق في وجوه غير صحيحة. ¬
وهو مصلحة للفرد والمجتمع ودفع للضرر عنهما، بتدريب المحجور وتوفير الخدمة اللازمة له بالتصرفات وممارسة شؤون التجارات، حتى لا يصبح عالة على المجتمع، وكيلا تبدد الأموال. وهو عون ضروري من الكبير الراشد ليتيم قاصر مثلاً للأخذ بيده في سفينة الحياة، ولتثمير ماله، والإنفاق منه على الأمور الضرورية له، والبعد عن الأوجه المتنوعة للصرف فيما لا يحق النفع والخير له. فالمحجور عليه إن كان صغيراً أو مجنوناً أو معتوهاً، هو ناقص العقل ليس أهلاً لتقدير المصلحة، ولا يتصور منه الرضا الصحيح، ولا القصد والاختيار. فالحجر عليه إنما كان لعجزه عن التصرف في ماله على وجه المصلحة حفظاً لماله عليه. وإن كان سفيهاً مبذراً لأمواله هو متلف له ومضيعة في غير الوجوه النافعة. وإن كان مغفلاً فلا يهتدي إلى التصرفات الرابحة، وإنما يغبن في البيوع ويتضرر بها. وإن كان مديناً فلا بد من رعاية حق الدائنين في أموالهم وحفظ مصالحهم وعدم إضاعتها دفعاً للضرر عنهم، وحتى لا ينضب معين الخير في الناس، ولا ينفر أو يتبرم امرؤ من إقراض غيره قرضاً حسناً ينقذه من ورطات السوء. لذا كان الحجر محققاً لمصلحة المحجور عليه نفسه بحفظ ماله وحقوقه، ولمصلحة المجتمع أيضاً بإيصاد منافذ العوز والفاقة والفقر؛ لأن المال عصب الحياة، فيجب إنفاقه في غير إسراف ولا تبذير لقوله تعالى: {إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين} [الإسراء:27/ 17]. وقد أوصى الله الأولياء والأوصياء عن اليتامى والمساكين بضرورة الإشراف على شؤونهم بالحق والعدل والمعروف، إذ أنه ربما ترك الإنسان ذرية ضعافاً يحتاجون لمعاونة غيرهم لهم، فقال سبحانه: {وليخش الذين لو تركوا من خلفهم
رابعا ـ تقسيم الحجر بحسب نوع المصلحة
ذرية ضعافاً خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديداً، إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً} [النساء:9/ 4 - 10] وروى الإمام أحمد والنسائي وأبو داود وغيرهم عن ابن عباس قال: لما نزلت {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} [الإسراء:34/ 17] عَزَلوا أموال اليتامى، حتى جَعَل الطعامُ يفسدُ، واللحم ينتُن، فذكر ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلم فنزلت: {وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح} [البقرة:220/ 2] وأوجب الحق تبارك وتعالى اختبار الأيتام قبل دفع أموالهم إليهم، فقال: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم} [النساء:6/ 4]. ومنع القرآن الكريم من إيتاء السفيه ماله حرصاً على مصلحته ولمصلحة الناس، فقال تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً} [النساء:5/ 4]. وثبت في السنة كما ذكرت الحجر على المدين، دفعاً للضرر عن الدائنين، كما ثبت عن عثمان الحجر على المبذر، حفظاً لماله من الضياع. وروى الدارقطني عن كعب بن مالك: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم حجر على معاذ ماله، وباعه في دين عليه» وروى الشافعي في مسنده عن عروة بن الزبير أن عثمان حجر على عبد الله بن جعفر بسبب تبذيره. رابعاً ـ تقسيم الحجر بحسب نوع المصلحة: الحجر بحسب نوع المصلحة المقصودة منه نوعان (¬1): ¬
الأول ـ حجر لمصلحة المحجور عليه
الأول ـ حجر لمصلحة المحجور عليه: وهو كحجر المجنون والصغير والسفيه والمبذر، إذ فائدة الحجر لا تتعداهم، فقد شرع لمصلحتهم أنفسهم. الثاني ـ حجر لمصلحة الغير: وهو كحجر المدين المفلس لحق الغرماء (الدائنين)، ومريض الموت لحق الورثة فيما زاد عن ثلث التركة حيث لا دين، وحجر الراهن بعدم لزوم الرهن لحق المرتهن في العين المرهونة، فقد شرع الحجر لصالح غير المحجور عليه. المبحث الثاني ـ أسباب الحجر: للحجر أسباب كثيرة، منها ما هو متفق عليه كالحجر بسبب الصغر والجنون والعته، لفقد الأهلية أو نقصها. ومنها ما هو مختلف فيه كالحجر بسبب السفه والغفلة والدين، وسبب الخلاف راجع لا لقصور الأهلية، وإنما لدفع الضرر عنهم وعن الناس. والحجر بسبب الرق متفق عليه، فالرقيق محجور عن التصرف في ملك غيره إلا بإذنه، لكونه ليس أهلاً للملك. ويختلف أثر الحجر في تصرفات المحجور عليه باختلاف سببه، ويظهر الاختلاف في المطالب الآتية: المطلب الأول ـ أثر الحجر في تصرفات الصغير: الصغر طور يمر به كل إنسان، يبدأ من حين الولادة إلى البلوغ، وقد أجمع العلماء على وجوب الحجر على الأيتام الذين لم يبلغوا الحُلُم (¬1)، لقوله تعالى: ¬
حكم تصرفات الصغير
{وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح} [النساء:6/ 4] ولعدم توافر أهلية التصرف لعدم اكتمال الإدراك اللازم لتقدير مايترتب على التصرفات. وقد اختلف الفقهاء في حكم تصرفات الصغير وفي أمور أخرى متعلقة به. أولاً ـ آراء الفقهاء في حكم تصرفات الصغير أو أثر الحجر عليه: للفقهاء مذاهب في أثر الحجر على الصغير، فيرى الحنفية والمالكية ضرورة التفرقة بين المميز وغير المميز، ولم يفرق الشافعية والحنابلة بينهما. 1 - قال الحنفية والمالكية (¬1): الصغير إما مميز أو غير مميز، وغير المميز: هو الذي لم يتم سن السابعة من العمر. والمميز هو الذي أكمل سن السابعة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين» (¬2). والتصرفات إما قولية أو فعلية: أما التصرفات الفعلية: وهي الغصوب والإتلافات، فلا أثر لحجر الصبي والمجنون عليها، فيجب على كل منهما ضمان ماأتلف من مال أو نفس، إذ لا حجر على الأفعال، وإنما على الأقوال (¬3). وأما التصرفات القولية: ¬
فإن صدرت من غير مميز فجميع تصرفاته باطلة لفقده أهلية الأداء أو التصرف، إذ لا عقل له ولا تمييز، فلا يعتبر رضاه ولا قصده، سواء أكان التصرف نافعاً له، أو ضاراً به، أو متردداً بين الضرر والنفع، فلا يصح عقده ولا إقراره ولا طلاقه كالمجنون لعدم اعتبار أقوالهما. وإن صدرت من مميز فهي ثلاثة أنواع: أـ التصرف النافع له نفعاً محضاً، كقبوله الهبة أو الوصية، واعتناق الإسلام، يصح منه وينفذ بدون توقف على إجازة وليه أو وصيه، رعاية لجانب نفعه. ب ـ التصرف الضار به ضرراً محضاً، كتبرعه بشيء من ماله، أو إقراضه، أو إعارته، أو طلاق زوجته، يبطل منه، ولا ينفذ ولا تصححه إجازة الولي؛ لأن الإجازة لا تلحق الباطل، ومن قواعد الحنفية: «كل طلاق واقع إلا طلاق الصبي والمعتوه» وقد رووه حديثاً، لكنه لم يصح أصلاً (¬1). جـ ـ التصرف المتردد بين الضرر والنفع، كالبيع والشراء، والإيجار والاستئجار، والزواج، ينعقد منه موقوفاً على إجازة الولي، إذا كان المميز يعقل البيع بأن يعلم أن البيع سالب، والشراء جالب، ويقصده بأن يكون غير هازل؛ لأن تصرفه يحتمل الضرر فإن أجازه نفذ، وإن لم يجزه بطل، وليس له إجازة ما فيه غبن فاحش، والولي بالخيار: إن شاء أجازه إذا كان فيه مصلحة، وإن شاء فسخه. 2 - وقال الشافعية والحنابلة (¬2): تعتبر التصرفات المالية من الصبي مميزاً أو غير مميز باطلة. لكن الشافعية قالوا: لا تصح تصرفات المميز وإن أذن له الولي، ويعتبر إذن الصبي المميز في إذن الدخول وإيصاله الهدية، ويصح إحرامه بإذن وليه، وتصح عبادته، وله إزالة المنكر ويثاب عليه كالبالغ، كما يعتبر إسلامه، كإسلام سيدنا علي رضي الله عنه صغيراً. ¬
ثانيا ـ عدم تسليم الصغير أمواله
أما الحنابلة فقالوا: يصح تصرف المميز بإذن الولي، وينفك عنه الحجر فيما أذن له فيه من تجارة وغيرها، ويصح إقراره فيما أذن له فيه. واتفق المذهبان على تضمين إتلافات الصغير من مال أو نفس، كالحنفية والمالكية. والخلاصة: أنه لا تنفذ عند الحنفية والمالكية عقود الصبي والمجنون ولا إقرارهما، ولا تصح عند الشافعية والحنابلة. ثانياً ـ عدم تسليم الصغير أمواله: اتفق العلماء على أنه لا تسلم للصغير أمواله، حتى يبلغ راشداً (¬1)؛ لأن الله تعالى علق دفع المال إليه على شرطين: وهما البلوغ والرشد في قوله تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم} [النساء:6/ 4] والحكم المعلق على شرطين لا يثبت بدونهما. فإذا بلغ الصغير، فإما أن يبلغ رشيداً أو غير رشيد. أـ فإن بلغ رشيدا ً ـ مصلحاً للمال: دفع ماله إليه، وفك عنه الحجر (¬2)، لقوله تعالى: {فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم} [النساء:6/ 4] وفي سنن أبي داود: «لا يُتم بعد الاحتلام». وإذا دفع إليه ماله أشهد عليه عند الدفع لقوله تعالى: {فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم} [النساء:6/ 4]. وهل يحتاج رفع الحجر عن الصغير لحكم القاضي؟ ¬
إن كان ذكرا
قال الجمهور (الحنفية والشافعية في الأرجح، والحنابلة) (¬1): يرتفع حجر الصغير ببلوغه رشيداً بدون حكم الحاكم؛ لأن الحجر عليه ثبت بغير حكم حاكم، فيزول من غير حكم، كالحجر على المجنون. والوجه الآخر عند الشافعية: أنه يفتقر إلى الحاكم؛ لأنه يحتاج إلى نظر واختبار كفك الحجر عن السفيه. ورأي الجمهور هو الأرجح لاتفاقه مع الواقع، والتيسير. وقال المالكية (¬2): إما أن يكون الصغير ذكراً أو أنثى: ف إن كان ذكرا ً فهناك ثلاث حالات: أحدها ـ أن يكون أبوه حياً: فإنه ينطلق من الحجر ببلوغه بدون حكم، ما لم يظهر منه سفه أو يحجره أبوه. الثاني ـ أن يكون أبوه قد مات وعليه وصي: فلا ينطلق من الحجر إلا بالترشيد، فإن كان وصيه مقدَّم الأب أي باختياره (وهو الوصي المختار): فله أن يرشده من غير إذن القاضي؛ لأنه ثبت عليه الحجر بالأصالة من غير فرض من أحد، فلا يحتاج رفعه لحكم القاضي. وإن كان وصي القاضي ليس له ترشيده إلا بإذن القاضي كما ذكر ابن جزي، وأما ما قرره الدردير وهو الراجح فهو أن الوصي سواء كان وصي الأب أم وصي القاضي لا يحتاج في ترشيده لإذن القاضي. والترشيد بأن يقول الوصي أمام العدول: اشهدوا أني فككت الحجر عن فلان، وأطلقت له التصرف، لما ثبت عندي من رشده وحسن تصرفه. وللقاضي ترشيد المحجور مطلقاً إذا ثبت عنده رشده. ¬
المهمل
الثالث ـ أن يبلغ الصغير، وليس له أب ولا وصي، وهو المُهْمل: فهو محمول على الرشد إلا أن يتبين سفهه. والخلاصة: أن الصبي ذا الأب أو الوصي المختار لا يحتاج رفع الحجر عنه إلى حاكم، ولكن ذو الأب لا يحتاج إلى ترشيد، وذو الوصي يحتاج إلى ترشيد. وأما ذو الوصي المعين من القاضي، فيحتاج لحكم القاضي في رأي ابن جزي، ولايحتاج لإذن القاضي فيما قرره الدردير، وهو الراجح. وأما الأنثى: فذات الأب لا ينفك الحجر عنها إذا لم يرشدها أبوها إلا بأمور أربعة: بلوغها، وحسن تصرفها، وشهادة العدول بذلك، ودخول الزوج بها. وللأب ترشيدها قبل دخول الزوج بها بأن يقول لها: رشدتك ورفعت الحجر عنك. فيرتفع الحجر عنها وتنفذ تصرفاتها، ولو لم يشهد العدول بصلاح حالها. وأما ذات الوصي (المختار أو المعين من القاضي): فلا ينفك الحجر عنها إلا بأمور خمسة: البلوغ، وحسن تصرفها، وشهادة البينة بذلك، ودخول الزوج بها، وفك الوصي حجرها بترشيدها، ولا يحتاج في الفك لإذن الحاكم؛ أي أن الأنثى لا تحتاج في رفع الحجر عنها إلى قضاء القاضي. وعليه يكون مذهب المالكية قريباً من مذهب الجمهور، إذ لا يحتاج رفع الحجر عن الصغير لقضاء القاضي إلا إذا كان الصغير تحت ولاية القاضي، فيحتاج لترشيد القاضي، كما يحتاج ذو الوصي لترشيد الوصي. والخلاصة: أن ما يرفع الحجر عن الصبي شيئان عند الجمهور غير الشافعية: هما إذن الولي إياه بالتجارة، وبلوغه رشيداً. وعند الشافعية شيء واحد هو البلوغ. ب ـ وإن بلغ الصغير غير رشيد، لا تسلم إليه أمواله، بل يحجر عليه بسبب
ثالثا ـ البلوغ
السفه، باتفاق المذاهب، لقوله تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم} [النساء:6/ 4]. إلا أن أبا حنيفة (¬1) قال: يستمر الحجر على البالغ غير الرشيد إلى بلوغه خمساً وعشرين سنة، ثم يسلم إليه ماله، ولو لم يرشد؛ لأن في الحجر عليه بعد هذه السن إهداراً لكرامته الإنسانية، ولقوله تعالى: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده} [الإسراء:34/ 17] وهذا قد بلغ أشده، ويصلح أن يكون جَدَّاً في هذه السن، ولأن المنع عنه للتأديب، ولا يتأدب بعدئذ غالباً، فلا فائدة في المنع، فلزم الدفع إليه. وقال الصاحبان وباقي الأئمة (¬2): إذا بلغ الولد غير رشيد، لا يسلم إليه ماله، ويستمر الحجر عليه، حتى يؤنس رشده، ولو بلغ الستين من عمره، للآية السابقة {فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم} [النساء:6/ 4] حيث شرط الله تعالى لدفع أموال اليتامى إليهم شرطين: البلوغ وإيناس الرشد، والحكم المعلق على شرطين لا يثبت بدونهما، ولقوله تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم} [النساء:5/ 4] أي أموالهم. ثالثاً ـ البلوغ: يحدث البلوغ إما بالأمارات الطبيعية أو بالسن. أما الأمارات أو العلامات الطبيعية، فاختلفت المذاهب في تعدادها: فقال الحنفية (¬3): يعرف البلوغ في الغلام بالاحتلام، وإنزال المني، وإحبال المرأة. والمراد من الاحتلام هو خروج المني في نوم أو يقظة، بجماع أو غيره. ¬
والدليل على كونه علامة البلوغ قوله تعالى: {وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا} [النور:59/ 24] وخبر «رفع القلم عن ثلاثة، منها: عن الصبي حتى يحتلم (¬1)» وروى أبو داود عن علي بن أبي طالب قال: حفظت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا يُتم بعد الاحتلام». وإذا تحقق البلوغ بالاحتلام تحقق بالإنزال؛ لأن الاحتلام سبب لنزول الماء عادة، فعلق الحكم به. وكذا الإحبال؛ لأنه لا يتحقق بدون الإنزال عادة. ويعرف البلوغ في الأنثى بالحيض لخبر رواه الخمسة إلا النسائي: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار» (¬2) أو بالحبل لأن الحمل دليل على إنزال المرأة فيحكم ببلوغها منذ حملت. وأدنى مدة البلوغ للغلام اثنتا عشرة سنة، وللأنثى تسع سنين، وهو المختار عند الحنفية. فإذا لم يحصل بلوغ طبيعي، ثبت البلوغ بالسن، فمتى بلغ الولد (ذكراً أو أنثى) سن الخامسة عشرة فقد بلغ الحلم على المفتى به، وهو سن المراهقة. وقال أبو حنيفة: يبلغ الغلام إذا أتم ثماني عشرة سنة، والأنثى سبع عشرة سنة؛ لأنه إنما يقع اليأس عن الاحتلام الذي علق الشرع الحكم به بهذه السن. ومذهب المالكية (¬3): علامات البلوغ الطبيعية سبعة، خمسة منها مشتركة بين ¬
الجنسين، واثنان مختصان بالأنثى. فالحيض والحبل خاص بالمرأة. وإنزال المني مطلقاً في نوم أو يقظة، وإنبات شعر العانة الخشن، لا الزغب، ونتن الإبط، وفرق أرنبة الأنف، وغلظ الصوت: مشترك بين الذكر والأنثى. ودليل حصول البلوغ بالإنبات: حديث الترمذي عن سمرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «اقتلوا شيوخ المشركين، واستحيوا شَرْخهم، والشرخ: الغلمان الذين لم يُنْبتوا». فإن لم يظهر شيء مما ذكر، كان بلوغ الصغير بتمام ثماني عشرة سنة، وقيل: بالدخول فيها. ومذهب الشافعية (¬1): يحصل البلوغ إما باستكمال خمس عشرة سنة قمرية، أو بالاحتلام أو بخروج المني وقت إمكانه من ذكر أو أنثى، ووقت إمكانه: استكمال تسع سنين، أو بنبات شعر العانة الخشن الذي يحتاج في إزالته لنحو حلق. وأما نبات شعر الإبط واللحية، فليس دليلاً للبلوغ لندورهما دون خمس عشرة سنة. ويزيد على المذكور بالنسبة للمرأة: الحيض والحبل. والخلاصة: أن البلوغ عندهم يحصل بخمسة أشياء: ثلاثة يشترك فيها الرجل والمرأة، وهي الإنزال (الاحتلام) والإنبات والسن. واثنان تختص بهما المرأة وهما الحيض والحبل. ودليلهم على تحديد السن بـ 15 سنة: خبر ابن عمر: «عُرضت على النبي صلّى الله عليه وسلم يوم أحد، وأنا ابن أربع عشرة سنة، فلم يجزني، ولم يرني بلغت، وعرضت عليه ¬
رابعا ـ الرشد
يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة، فأجازني، ورآني بلغت (¬1)». ومذهب الحنابلة (¬2) كالشافعية تماماً. رابعاً ـ الرشد: الرشد عند الجمهور (الحنفية والمالكية والحنابلة) (¬3): هو صلاح المال ولو كان فاسقاً، أي توفر الخبرة في إدارة المال واستثماره وحفظه وإصلاحه، وحسن التصرف به، وتمييز النافع من الضار، فلا ينفق ماله في غير مصلحة، ولا يضيعه بالتبذير والإسراف، لقوله تعالى: {فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم} [النساء:6/ 4] قال ابن عباس: يعني صلاحاً في أموالهم. فمن كان مصلحاً لماله، فقد وجد منه الرشد، ولم يكن الحجر عليه إلا لحفظ ماله، فكان المؤثر فيه ما أثر في تضييع المال، أو حفظه. وقال الشافعية (¬4): الرشد صلاح الدين والمال، فإصلاح الدين؛ ألا يرتكب من المعاصي ما يسقط به العدالة، وإصلاح المال: أن يكون حافظاً لماله غير مبذر، فلا يفعل محرماً يبطل العدالة: من كبيرة أو إصرار على صغيرة، ولم تغلب طاعاته على معاصيه، ولا يبذر بأن يضيع المال بغبن فاحش (¬5) في المعاملة ونحوها، أو ¬
خامسا ـ ولي المحجور عليه
رميه في بحر، أو إنفاقه في محرم. فإذا بلغ الصغير غير رشيد لاختلال صلاح الدين أو المال، دام الحجر عليه، فيتصرف في ماله من كان يتصرف فيه قبل بلوغه. والأصح عندهم أن صرفه في الصدقة ووجوه الخير والمطاعم والملابس التي لا تليق بحاله ليس بتبذير. ويختبر الولي رشد الصبي في الدين والمال، لقوله تعالى: {وابتلوا اليتامى} [النساء:4/ 6] أي اختبروهم. أما في الدين فمشاهدة حاله في العبادات، وتجنب المحظورات، وتوقي الشبهات، ومخالطة أهل الخير. وأما اختباره في المال فبحسب أمثاله، فيختبر ولد التاجر بالبيع والشراء، والمماكسة فيهما، أي طلب النقصان عما طلبه البائع، وطلب الزيادة على ما يبذله المشتري. ويختبر ولد الزارع بالزراعة، والنفقة على العمال فيها، ويختبر المحترف بما يتعلق بحرفة أبيه وأقاربه. وتختبر المرأة بما يتعلق بالغزل والقطن حفظاً وحياكة وغيرها. ويشترط تكرر الاختبار مرتين أو أكثر، قبل البلوغ. وقيل: بعده. خامساً ـ ولي المحجور عليه: الولي: هو صاحب السلطة الشرعية التي يتمكن بها صاحبها من التصرف في مال غيره من غير توقف على إجازة أحد. وقد اتفق أئمة المذاهب على أن ولي المحجور عليه صبياً أو غيره في الأموال هو الأب إن كان موجوداً، ولم يكن مجنوناً أو محجوراً عليه، واختلفوا في غير الأب. قال الحنفية (¬1): الولي الذي له حق التصرف في مال المحجور عليه: هو ¬
أبو الصبي، ثم وصيه بعد موته، ثم وصي وصيه، ثم جده (أبو أبيه)، ثم وصي جده، ثم وصي وصيه، ثم الوالي، ثم القاضي أو وصي القاضي. وهذا الترتيب مبني على درجة الشفقة، فشفقة الأب فوق شفقة الكل، وشفقة وصيه فوق شفقة الجد؛ لأنه مرضي الأب ومختاره، وشفقة الجد فوق شفقة القاضي، لوجود القرابة. وما عدا المذكورمن العَصَبة كالأخ أو العم، أو غيرهما كالأم ووصيها فليس لهم الإشراف على أموال المحجور عليه، ولا يملكون الإذن للقاصر بالتجارة. وهذا الترتيب للأولياء هو في شأن المال، أما في قضايا الزواج فللأولىاء ترتيب آخر. وقال المالكية (¬1): الولي على المحجور عليه من صغير أو سفيه لم يطرأ عليه السفه بعد بلوغه (¬2): هو الأب الرشيد، ثم لوصيه، ثم للحاكم، فإن لم يكن حاكم فالولاية لجماعة المسلمين. فلا تثبت الولاية المالية للجد والأخ والعم إلا بإيصاء الأب. وقال الشافعية (¬3): ولي الصبي: أبوه، ثم جده، ثم وصي من تأخر موته من الأب أو الجد، ثم القاضي أو نائبه، لخبر «السلطان ولي من لا ولي له» (¬4). ولا ولاية لسائر العصبات كالأخ والعم، كما لا ولاية للأم في الأصح: ولا ية مال أو ولاية نكاح. وإني مع هذا الرأي إذ لا أكاد أصدق أن عاطفة وصي الأب غير القريب أولى من الجد، فرابطة الدم والقرابة أشد باعثاً على الرعاية والحفظ والاهتمام بشؤون القصر. ¬
سادسا ـ تصرفات ولي القاصر
وقال الحنابلة (¬1) كالمالكية تماماً: تثبت الولاية على الصبي والمجنون للأب، ثم لوصيه بعده، ثم للحاكم. لكن إن جدد الحجر على الشخص بعد بلوغه، فالولاية عليه للحاكم؛ لأن الحجريفتقر إلى حكم حاكم، وزواله يفتقر إليه، فكذلك النظر في ماله. سادساً ـ تصرفات ولي القاصر: اتفق الفقهاء على أن الولي يتصرف وجوباً في مال الصبي القاصر بالمصلحة وعدم الضرر لقوله تعالى: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} [الإسراء:34/ 17] وقوله سبحانه: {وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح} [البقرة:220/ 2] كما أنهم اتفقوا على أن الغني لا يأكل من مال اليتيم، وللفقير أن يأكل بالمعروف من غير إسراف؛ لقوله تعالى: {ومن كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف} [النساء:6/ 4] وروى الشيخان عن عائشة أنها نزلت في ولي اليتيم إذا كان فقيراً أنه يأكل منه مكان قيامه عليه بالمعروف. وروي أن رجلاً سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: ليس لي مال، ولي يتيم، فقال عليه الصلاة والسلام: «كل من مال يتيمك غير مُسْرف، ولا مُبذِّر، ولا مُتأثِّل مالاً، ولا تقِ مالك بماله» (¬2). وتفصيل المذاهب في تحقيق المصلحة كما يأتي: قال الحنفية (¬3): لا يملك الولي شيئاً من التبرعات من مال الصغير؛ لأن ذلك ¬
ضرر محض، فلا يقرض ماله ولا يوصي به، ولا يتصدق بماله، ولا يطلق امرأته، ولا يهب شيئاً من ماله من غير عوض، كما ليس له أن يهب بعوض عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن الهبة بعوض هبة ابتداء، وإنما تصير معاوضة انتهاء، وهو لا يملك الهبة. وتجوز الهبة بعوض عند محمد لأنها في معنى البيع. لكن للقاضي إقراض مال اليتيم، لأنه من باب حفظ الدين. وللولي أن يقبل الهبة والصدقة والوصية للصغير، لأن التصرف نفع محض، فيملكه الولي، وقال عليه الصلاة والسلام: «خير الناس أنفعهم للناس» (¬1). وللولي إعارة مال القاصر استحساناً، وإيداعه، ورهنه بدين القاصر؛ لأن التصرف من توابع التجارة، وهو يملكها، كما له أن يرهن مال القاصر بدين للولي نفسه؛ لأن عين المرهون تحت يد المرتهن، إلا أنه إذا هلك يضمن مقدار ما صار مؤدياً منه دين نفسه. وللولي أن يبيع مال القاصر بأكثر من قيمته، ويشتري له شيئاً بأقل من قيمته لأنه نفع محض له. كما له أن يبيعه بمثل قيمته، وبأقل من قيمته قدر ما يتغابن الناس فيه عادة. وله أن يشتري له شيئاً بمثل قيمته وبأكثر من قميته قدر ما يتغابن الناس فيه عادة. وله أن يؤاجر نفس القاصر وماله بأكثر من أجر مثله، أو بأجر مثله، أو بأقل منه قدر ما يتغابن الناس فيه عادة. وله أن يستأجر للقاصر شيئاً بأقل من أجر المثل أو بأجر المثل، أو بأكثر منه قدر ما يتغابن الناس فيه عادة. وفي حالة إجارة نفس القاصر إذا بلغ، له الخيار: إن شاء أمضاها، وإن شاء أبطلها، دفعاً للإضرار، ولا خيار له في إجارة المال؛ لأن الأب يملك ذلك بحسب المصلحة، وينفذ تصرفه. ¬
المالكية
وللولي أن يسافر بمال الصغير، وأن يضارب به، وأن يوكل بالبيع والشراء، والإجارة والاستئجار؛ لأن هذه التصرفات من توابع التجارة، وكل من ملك التجارة، ملك ما هو من توابعها. وأما بيع عقار القاصر: فيجوز للولي العدل (محمود السيرة بين الناس أو مستور الحال) أن يبيعه بمثل القيمة فأكثر، ولا يجوز بيعه للوصي إلا للضرورة كبيعه لتسديد دين لا وفاء له إلا بهذا المبيع. وهذا هو المفتى به. وينفذ بيع الوصي بإجازة القاضي، وله رده إذا كان خيراً. ويجوز للأب أو الجد أن يشتري مال الصغير لنفسه، أو يبيع مال نفسه من الصغير، بمثل قيمته أو بأقل مما يتغابن فيه عادة. ولا يجوز بغبن فاحش. وينفذ البيع إذا أجازه القاضي، وللقاضي نقض البيع إذا رأى ذلك خيراً للصبي. ولا يجوز الشراء أو البيع للوصي عند محمد. ويجوز عند أبي حنيفة وأبي يوسف إن كان البيع للوصي أو الشراء منه خيراً لليتيم، وإلا فلا يجوز. وفسرت الخيرية: بأن تزيد السلعة التي يشتريها الوصي بعشرة من أجنبي (غير الصغير) فإنه يلزم أن يشتريها من الصغير بخمسة عشر. وقال المالكية (¬1): يتصرف الولي في مال الصغير بالمصلحة، فللأب بيع مال ولده المحجور عليه مطلقاً، عقاراً أو منقولاً، ولا يتعقب بحال، ولا يطلب منه بيان سبب البيع؛ لأن تصرفه محمول على المصلحة. وله أيضاً هبة الثواب (أي بعوض). أما الوصي فلا يبيع عقار محجوره إلا لسبب يقتضي بيعه، كما ليس له هبة ¬
الثواب من مال محجوره إلا لضرورة، لأنه إذا هلك الموهوب، لم يلزم إلا قيمته يوم الهلاك، ومن الجائز أن تنقص قيمته يوم الهلاك عن قيمته يوم الهبة، وهذا ضرر باليتيم. كذلك يبيع الحاكم كالوصي مال المحجور عند الضرورة كالنفقة ووفاء الدين ونحوهما. فيكون هذا المذهب كالحنفية من حيث المبدأ. وذكر المالكية أحد عشر سبباً لجواز بيع عقار القاصر من وصي أو حاكم للضرورة وهي: 1 - الحاجة البينة للبيع كنفقة أو وفاء دين لا قضاء له إلا من ثمنه. 2 - الخوف عليه من ظالم يأخذه منه غصباً، أو يعتدي على ريعه ولم يستطع رده. 3 - المصلحة الظاهرة (الغبطة): بأن يبيعه بزيادة الثلث على ثمن المثل فأكثر. 4 - أن يكون موظفاً عليه ضريبة ظالمة، فيباع ليشترى له ما لا توظيف عليه إلا أن يكون الأول أكثر ريعاً. 5 - أن يكون حصته مع شريك، فيباع ليشترى له عقار مستقل لا شركة فيه تخلصاً من ضرر الشركة. 6 - أن يكون ريعه قليلاً أو لا ريع له أصلاً، فيباع ليستبدل له ما فيه ريع أكثر. 7 - أن يكون العقار بين جيران سوء في الدين أو الدنيا، أو لكونه بين جيران ذميين، فيباع ليستبدل به عقار بين جيران صالحين.
الشافعية
8 - أن يكون مشتركاً غير قابل القسمة، فيبيع شريكه حصته، فيباع مع بيع شريكه. 9 - أن يخاف خرابه، ولا مال للمحجور عليه يعمر به إذا خرب، فيباع. 10 - أن يخاف خرابه، وله مال يعمر به، ولكن بيعه أولى من تعميره. 11 - أن يصبح المنزل منفرداً في مكان لانتقال العمارة عنه. وقال الشافعية (¬1): يتصرف الولي للقاصر بالمصلحة وجوباً، فيحفظ ماله عن أسباب التلف، ويستثمره ويتجر له في ماله، حتى لا تأكله المؤن من نفقة وغيرها، لقوله تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً، وارزقوهم فيها .. } [النساء:5/ 4] وقوله «فيها» لا «منها» تنبيه على أن الولي ينفق على موليه من ريع ماله بعد تشغيله، لا من عينه. ولقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «من ولي يتيماً، وله مال فليتجر له بماله، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة» (¬2)، ويبني له داره بأمتن مواد البناء عند الإمكان. ويشتري له العقار إذا حصل من ريعه الكفاية لأنه يبقى وينتفع بغلته، هذا إذا لم يخف جوراً من سلطان أو غيره، أو خراباً للعقار. وله أن يسافر بمال الصبي والمجنون وقت الأمن إذا اقتضت المصلحة السفر به، ولا يشتري له ما يسرع فساده، وإن كان مربحاً. ولا يبيع عقاره إلا في موضعين: أحدهما لحاجة كنفقة وكسوة بأن لم تف غلة العقار بهما، ولم يجد من يقرضه، أو لم ير المصلحة في الاقتراض، أو خاف خرابه، والثاني ـ لمصلحة (غبطة) ظاهرة، كأن يرغب فيه شريك أو جار بأكثر من ثمن مثله، وهو يجد مثله ببعضه، أو خيراً منه بكله، أو يكون ثقيل الخراج، أي المغارم والضرائب مع قلة ريعه. ¬
الحنابلة
وله بيع مال القاصر مبادلة بعرض آخر، ونسيئة (مؤجلة) للمصلحة التي يراها فيهما، كأن يكون في الأول ربح، وفي الثاني زيادة لائقة، أو خاف عليه من نهب أو إغارة. وإذا باع نسيئة أشهد على البيع وجوباً وارتهن بالثمن رهناً وافياً به. ويشترط أن يكون المشتري موسراً ثقة، والأجل قصيراً عرفاً، احتياطاً للمحجور عليه، فإن لم يفعل ذلك، ضمن، وبطل البيع على الأصح. ولا يودع ماله، ولا يقرضه من غير حاجة؛ لأنه يخرجه من يده. ويزكي ماله وجوباً، لأن الولي قائم مقام القاصر، وينفق عليه بالمعروف في طعام وكسوة مما لا بد منه، بما يليق به في إعساره ويساره، فإن قتَّر أثم، وإن أسرف أثم وضمن. فإن ادعى الصغير بعد بلوغه على الأب والجد بيعاً لماله، ولو عقاراً، بلا مصلحة، صدق الأب والجد باليمين؛ لأنهما لا يتهمان لوفور شفقتهما. وإن ادعاه على الوصي أو أمين القاضي، صدق الولد للتهمة في حقهما. وإن أراد الولي أن يبيع مال القاصر بماله: فإن كان أباً أو جداً جاز البيع؛ لأنهما لا يتهمان فيه، لكمال شفقتهما، وإن كان غيرهما لم يجز، لما روي أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يشتري الوصي من مال اليتيم» (¬1) ولأنه متهم بمراعاة مصلحته في بيع مال القاصر من نفسه. وقال الحنابلة (¬2) كالشافعية تقريباً: لا يجوز لولي الصغير والمجنون أن يتصرف في مالهما إلا على وجه الحظ (المصلحة) لهما، لقوله تعالى: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} [الإسراء:34/ 17]. فإن تبرع بهبة أو صدقة، أو حابى بأن اشترى بزيادة، أو باع بنقصان، أو زاد ¬
على النفقة عليهما بالمعروف، ضمن؛ لأنه مفرط، كتصرفه في مال غيرهما. وللولي الإنفاق عليهما من مالهما بغير إذن الحاكم. ولايصح للولي أو الوصي أو الحاكم أن يشتري من مال الصغير والمجنون شيئاً لنفسه، أو يبيعهما شيئاً من نفسه، أو يرتهن من مالهما لنفسه؛ لأنها مظنة التهمة، إلا الأب لوفور شفقته، وسعيه في مصلحة ابنه، فلا يفعل إلا ما فيه حظه، بخلاف غيره. ويجب على الولي إخراج زكاة مالهما من مالهما. ولايصح إقرار الولي عليهما بمال ولا إتلاف ونحوه؛ لأنه إقرار على الغير. وللولي السفر بمالهما لتجارة وغيرها في مواضع الأمن وغلبة السلامة؛ لأنه أحظ لهما. وللولي التجارة بالمال بنفسه ولا أجرة له، والربح كله للمولى عليه؛ لأنه نماء ماله، والتجارة بما لهما أولى من تركها، لقول عمر وغيره: «اتجروا في أموال اليتامى لئلا تأكلها الصدقة». وللولي دفع المال مضاربة إلى أمين يتجر فيه بجزء من الربح، وله إبضاعه أي دفع مالهما إلى من يتجر به، والربح كله للمولى عليه. وله بيعه نسيئاً لمليِّ، وله قرضه لمصلحة فيهما، بأن يكون الثمن المؤجل أكثر مما يباع به حالاً، وذلك لحاجة سفر أو خوف على المال من نهب أو غرق أو غيرهما، ولو بلا رهن ولا كفيل به. فإن ضاع المال أو تلف بسبب ترك الرهن والكفيل لم يضمن الولي؛ لأن الظاهر السلامة. وله إيداع مال المولى عليه لثقة، أو قرضه لمليء أمين، لمصلحة فيه؛ لأنه أحفظ له، ولا ضمان على الولي إن تلف لعدم تفريطه. ولا يقرض وصي ولا
حاكم منه شيئاً لنفسه، كما لا يشتري من نفسه، ولا يبيع لنفسه للتهمة، أما الأب فيجوز له لعدم التهمة، كما تقدم. وله هبة المال بعوض قدر قيمته فأكثر، أما بدونها فمحاباة لاتصح. وله رهنه عند ثقة لحاجة. وللولي شراء العقار للمولى عليه ليستغل، وله أيضاً بناؤه بما جرت به عادة أهل بلده. وله تعليمه الخط والرماية والأدب وما ينفعه، وأداء الأجرة عنه من مال المولى عليه؛ لأنه لمصلحته، وله تسليمه للعمل في صناعة، ومداواته لمصلحة بلا إذن حاكم. وللولي بيع عقار المولى عليه لمصلحة، ولو لم يحصل زيادة على ثمن مثله. وأنواع المصلحة كثيرة منها: ـ الحاجة إلى نفقة أو كسوة أو قضاء دين ونحوها مما لا بد منه للصغير أو المجنون إذا لم يكن لهما ما تندفع به الحاجة سوى المبيع. ـ أن يخاف على العقار الهلاك بغرق أو حرق أو خراب، ونحوها. ـ أن يكون في بيع العقار صفقة رابحة للقاصر، كأن يباع بزيادة كثيرة على ثمن مثله، ولا يتقيد بالثلث. ـ أن يكون العقار في مكان لا ينتفع به، كأن يكون في حي غير عامر، أو قليل النفع، فيبيعه ليشتري له عقاراً في مكان آهل بالسكان، أو أكثر نفعاً. ـ أن يرى الولي شيئاً يباع بسعر رخيص، لا يمكن شراؤه إلا ببيع العقار.
سابعا ـ الإذن للقاصر في التصرفات
ـ أن يكون العقار في مكان يتضرر الغلام بالمقام فيه، كسوء الجوار أو غيره. ونحوه مما لا ينحصر مما يكون فيه مصلحة. ولا يباع إلا بثمن المثل. سابعاً ـ الإذن للقاصر في التصرفات: الإذن في اللغة: الإعلام، ومنه الأذان؛ لأنه إعلام بوقت الصلاة، قال تعالى: {وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر} [التوبة:3/ 9] أي إعلام. وقال تعالى: {وأذن في الناس بالحج} [الحج:27/ 22] أي أعلمهم به. وفي الشرع: الإذن: فك الحجر في التجارة، وإطلاق التصرف، وإسقاط الولي حق المنع من التصرف للقاصر. واتفق الفقهاء على اختبار المميز في التصرفات، لمعرفة رشده، لقوله تعالى: {وابتلوا اليتامى} [النساء:6/ 4] أي اختبروهم. واختباره بتفويض التصرفات التي يتصرف فيها أمثاله. فإن كان من أولاد التجار، اختبر بالمماكسة في البيع والشراء، وإن كان من أولاد الزراع اختبر بالزراعة، وإن كان من أولاد أصحاب الحرف اختبر بالحرفة. والمرأة تختبر في شؤون البيت من غزل وطهي طعام وصيانته وشراء لوازم البيت، ونحوها (¬1). واختلفوا في إذن الولي للقاصر بالتجارة وفي أثر الإذن على التصرفات: 1 - فقال الشافعية (¬2): لا يجوز الإذن له في التجارة، وإنما يسلم إليه المال، ويمتحن في المماكسة، فإذا أراد العقد عقد الولي؛ لأن تصرفاته وعقوده باطلة لعدم توافر العقل الكافي لتقدير المصلحة في مباشرة التصرف، فلا يثبت له أحكام ¬
2 - وقال الحنفية
العقلاء قبل وجود مظنةكمال العقل. لكن يختبر السفيه، فإذا ظهر رشده عقد؛ لأنه مكلف. 2 - وقال الحنفية، والمالكية في المعتمد عندهم، والحنابلة في الرواية الراجحة (¬1): يجوز للولي المالي الإذن للقاصر في التجارة إذا أنس منه الخبرة، لتدريبه على طرق المكاسب، لقوله تعالى: {وابتلوا اليتامى} [النساء:6/ 4] أي اختبروهم لتعلموا رشدهم. وإنما يتحقق الاختبار بتفويض التصرف إليهم في البيع والشراء، ولأن المميز عاقل محجور عليه، فيرتفع حجره بإذن وليه، ويصح تصرفه بهذا الإذن، فلو تصرف بلا إذن لم يصح عند الحنابلة، ولم ينفذ عند المالكية والحنفية. وهذا الرأي هو الأرجح والمعقول، لاتفاقه مع طبيعة التدريب على التصرفات. والإذن عند الحنفية والمالكية قد يكون صريحاً، مثل أذنت لك في التجارة، أو دلالة، كما لو رآه يبيع ويشتري، فسكت؛ لأن سكوته دليل الرضا، ولو لم يعتبر سكوته، لأدى إلى الإضرار بمن يعاملونه. وقال الحنابلة وزفر من الحنفية: لا يثبت الإذن بالدلالة، لأن سكوته محتمل للرضا، ولعدم الرضا. وأما أثر الإذن: فقال الحنفية: الإذن فك الحجر لا توكيل، فيكون عاماً، وإن قيده بنوع خاص، فلا يتوقت ولا يتخصص بنوع ولا بمكان؛ لأنه إسقاط، والإسقاطات لا تقبل التقييد. فإذا أذن الولي في التجارة، نفذت جميع تصرفات ¬
مذهب المالكية
المأذون التي تحتمل النفع والضرر، فله أن يبيع ويشتري ويضارب ويرهن ويسترهن، ويؤجر ويستأجر. وليس له أن يهب أو يتصدق أو يقرض أو يتكفل، لأن التصرف تبرع، وليس تجارة ولا من مستلزمات التجارة. ويجوز للمأذون عند أبي حنيفة أن يتصرف بغبن فاحش؛ لأنه أصبح بالإذن كامل الأهلية، ولكامل الأهلية التصرف بشؤون التجارة ولو بغبن فاحش. وقال الصاحبان: لا يجوز تصرفه بغبن فاحش؛ لأن الزيادة الناجمة عن الغبن بمنزلة التبرع، وهو لا يملكه. وهذا في تقديري أولى لأن هذا التصرف مشتمل على ضرر له، وهو لا يملك التصرف الضار. ومذهب المالكية في نفاذ تصرفات المأذون في المعاوضات المالية دون التبرعات هو كالحنفية، إلا أنهم قالوا كالصاحبين: لا ينفذ التصرف المشتمل على غبن فاحش. ومذهب الحنابلة: أن الإذن بمثابة التوكيل، فلا ينفك الحجر بالإذن إلا فيما أذن له فيه وليه فقط، فإذا أذن الولي في التجارة في مئة، لم يصح تصرف المأذون فيما زاد عليها، وإذا أذن في نوع من التجارة، يتقيد فيه فقط؛ لأن تصرفه جاز بالإذن، فيزول الحجر عنه ويتقيد فيما أذن له فيه. لكن المأذون في التجارة من مميز ونحوه كمضارب في البيع، له البيع نسيئة أو بعرض (متاع)، لا كوكيل؛ لأن الغرض هنا الربح كالمضاربة. ويصح إقرار المميز المأذون بقدر ما أذن له فيه؛ لأن الحجر انفك عنه فيه، وليس له التوكيل فيما أذن له فيه. أجر الولي على ولايته: إن كان الولي غنياً لم يجز له الأجر على رعايته
المطلب الثاني ـ أثر الحجر في تصرفات المجنون
أموال المحجور وتنميتها وتشغيلها، وإن كان فقيراً، وانشغل بهذه الرعاية عن كسبه والتفرغ لشأن نفسه، جاز له أن يأخذ أجراً معتدلاً على رعايته، ويعين الأجر بحسب العرف الشائع، ودليل هذا التفصيل قوله تعالى: {ومن كان غنياً فليستعفف، ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف .. } [النساء:6/ 4]. المطلب الثاني ـ أثر الحجر في تصرفات المجنون: المجنون: هو من زال عقله. فإن استمر جنونه في جميع الأوقات، كان جنوناً مُطْبِقاً، وإذا ذهب عقله في وقت، وأفاق في وقت، كان جنونه متقطعاً. ففي وقت الجنون يكون المجنون كالصبي غير المميز، تنسلب عنه الولايات الثابتة بالشرع كولاية الزواج، أو الثابتة بالتفويض كالإيصاء والقضاء، وتبطل أقواله في الدين والدنيا كالإسلام والمعاملات، لعدم قصده. فلا تعتبر تبرعاته كالصدقة والهبة، وتبطل جميع عقوده وتصرفاته كالبيع والشراء وإقراراته وطلاقه؛ لأنه فاقد الأهلية. وتعتبر أفعاله كالإحبال وإتلاف مال غيره، فينسب الولد له، ويضمن جنايته على نفس أو طرف أو جرح، فيلتزم بأرش (تعويض) الجناية. وأما في وقت الإفاقة التامة بحيث يكون المصاب كامل العقل والتمييز فتعتبر تصرفاته صحيحة نافذة. فإن كانت إفاقته غير تامة، بأن كان يعقل بعض الأشياء دون بعض، فتعد تصرفاته كالمميز موقوفة على إجازة وليه إذا كانت محتملة الضرر والنفع، وتبطل إذا كانت ضارة، وتنفذ إذا كانت نافعة. وهذا عند الحنفية والمالكية.
المطلب الثالث ـ أثر الحجر في تصرفات المعتوه
المطلب الثالث ـ أثر الحجر في تصرفات المعتوه: المعتوه: هو من كان قليل الفهم، مختلط الكلام، فاسد التدبير لاضطراب عقله، سواء من أصل الخلقة، أو لمرض طارئ. فإن كان العته شديداً، والمعتوه غير مميز، فهو كالمجنون والصغير غير المميز، تكون تصرفاته كلها باطلة. وقد ألحقت كتب الفقهاء العته بالجنون (¬1). وإن كان العته خفيفاً، والمعتوه مميزاً، فتصرفه الضار عند الحنفية والمالكية يكون باطلاً، والنافع يكون صحيحاً، والدائر بين النفع والضرر يكون موقوفاً على إجازة وليه، فهو كالصبي المميز (¬2). المطلب الرابع ـ أثر الحجر على السفيه: يحجر على السفيه باتفاق المذاهب، كما يحجر على الصبي والمجنون، والحجر على السفيه هو المفتى به والمختار في المذهب الحنفي. والسفيه: هو من يبذر ماله، ويصرفه في غير موضعه الصحيح، بما لا يتفق مع الحكمة والشرع. وفسر المالكية (¬3) السفه: بصرف المال في معصية كخمر وقمار (اللعب بالدراهم على أن من غلب صاحبه فله من المعلوم كذا، وهو محرم إجماعاً) أو بصرفه في معاملة من بيع أو شراء بغبن فاحش خارج عن العادة بلا ¬
1 - مذهب الحنفية
مصلحة (من غير مبالاة) أو صرفه في شهوات نفسانية على خلاف عادة مثله في مأكله ومشربه وملبوسه ومركوبه ونحوها، أو بإتلافه هَدَراً، كأن يطرحه على الأرض أو يرميه في بحر ونحوه. وقد اختلفت المذاهب في تعريفه وفي أحكامه. 1 - مذهب الحنفية (¬1): السفه: هو تبذير المال وتضييعه على خلاف مقتضى الشرع أو العقل، ولو في الخير، كأن يصرفه في بناء المساجد ونحوها. والتبذير كالإسراف في النفقة، وأن يتصرف تصرفات لا لغرض، أو لغرض لا يعده العقلاء المتدينون غرضاً كدفع المال إلى المغنين، والغبن في التجارات من غير محمدة (¬2). والسفيه: الخفيف العقل، المتلف لماله فيما لا غرض له فيه، ولا مصلحة. وحكمه مختلف فيه، فقال أبو حنيفة: لا يحجر على الحر العاقل البالغ بسبب السفه والدَّيْن والفسق والغفلة. فلا يحجر على السفيه ويظل تصرفه في ماله جائزاً، وإن كان مبذراً مفسداً يتلف ماله فيما لا غرض له فيه ولا مصلحة؛ لأن في سلب ولايته على ماله إهدار آدميته، وإلحاقه بالبهائم، وهو أشد ضرراً من التبذير، فلا يتحمل الضرر الأعلى لدفع الأدنى. قال تعالى: {وآتوا اليتامى أموالهم، ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب} [النساء:2/ 4] والمراد به بعد البلوغ (¬3). لكن إذا بلغ الغلام غير رشيد لإصلاح ماله، لم يسلم إليه ماله في أوائل بلوغه، حتى يبلغ خمساً وعشرين سنة. وإن تصرف في ماله بعد البلوغ قبل أن ¬
يبلغ تلك السن، نفذ تصرفه، لوجود الأهلية، وإذا بلغ خمساً وعشرين سنة، سلِّم إليه ماله، وإن لم يؤنس منه الرشد؛ لأن المنع عنه للتأديب، ولا يتأدب بعد هذه السن غالباً، فقد يصير جَدَّاً في هذه السن، فلا فائدة في المنع. وهذا كله غير المفتى به. وقال الصاحبان: يحجر على السفيه والمديون والمغفل، ولا يحجر على الفاسق. وبقولهما يفتى صيانة لمال السفيه والمغفل، ورعاية لمصلحة الدائنين الغرماء. ودليل الصاحبين وأئمة المذاهب الأخرى على جواز الحجر على السفيه: قوله تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً} [النساء:5/ 4] فقد نهى الله الأولياء عن إعطاء السفهاء أموالهم، مما يدل على منعهم من التصرف، إذ لو أبيح لهم التصرف، لأمكنهم إتلاف أموالهم، وهي في يد أوليائهم، فلا يكون لمنع المال عنهم فائدة. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم فيما يرويه الطبراني بإسناد صحيح: «خذوا على يد سفهائكم». ثم إن في الحجر على السفيه رعاية لمصلحته، ودفع الضرر عنه بحفظ ماله وعدم وقوعه في الحاجة والفقر، كما أن فيه رعاية المصلحة العامة بدفع الضرر عن الناس الذين يعاملونه، حتى لا يصبح الشخص عالة على المجتمع، ومنعاً من إلحاق الضرر بالأموال، ودفع الضرر واجب شرعاً لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا ضرر ولا ضرار» (¬1). وبناء على قول الصاحبين المفتى به: حكم السفيه المحجور عليه كحكم الصبي المميز، في التصرفات التي تحتمل الفسخ كالبيع والشراء، تصح موقوفة ¬
2 - مذهب المالكية
على إجازة القيم عليه. فإن باع بعد الحجر لم ينفذ بيعه، وإن كان في بيعه مصلحة، أجازه الحاكم. أما التصرفات التي لا تحتمل الفسخ كالزواج والطلاق، فتصح منه، فإن تزوج امرأة أو أربع نسوة، جاز نكاحه؛ لأنه من حوائجه الأصلية، ولأنه لا يبطله الهزل. ثم إن سمى لها مقدار مهر مثلها، وإن زاد على مهر المثل، بطل الزائد؛ لأنه لا ضرورة فيه. ولو طلقها قبل الدخول، وجب نصف المهر المسمى. وتصح وصيته بمقدار الثلث من ماله، بشرط أن تكون الوصية لجهة خيرية كالإنفاق على الفقراء، أو بناء المساجد أو المشافي أو المدارس؛ لأن الوصية لا تنفذ إلا بعد وفاته. ويجوز إقراره على نفسه بالحدود والقصاص، ولا يصح إقراره بالمال بعد الحجر عليه. وتجب عليه نفقة أولاده وزوجته ومن تجب عليه نفقته من ذوي أرحامه، وتخرج زكاة ماله؛ لأن السفه لا يبطل حقوق الناس. وتصح منه عباداته، ومنها الحج المفروض عليه، لكن لا يسلم القاضي النفقة إليه، وإنما يسلمها إلى ثقة من الحجاج، ينفقها عليه في طريق الحج، كيلا يتلفها في غير الحج. ويلاحظ أنه لا يثبت الحجر على السفيه أو المدين إلا بقضاء القاضي، بخلاف الصغر والجنون والعته. 2 - مذهب المالكية (¬1): السفيه هو المبذر لماله إما لإنفاقه باتباعه لشهوته، ¬
وإما لقلة معرفة بمصالحه وإن كان صالحاً في دينه. والسفه: صرف المال في غير ما يراد له شرعاً. والحجر على السفيه من حقوق الأب إذا كان السفه قريباً من البلوغ كالصبي، فإن كان طروء السفه بعد البلوغ بأكثر من عام، فلا بد من حكم الحاكم بالحجر عليه. وحكم تصرفاته ما يأتي: ينفذ على الراجح قبل الحجر تصرف السفيه الذكر البالغ الذي لا ولي له ولا قيِّم عليه (ويسمى المُهْمَل) المحقق السفه، بدون إجازة من أحد، ولو تصرف بغير عوض، سواء أكان سفهه أصلياً (أي حدث قبل البلوغ) غير طارئ، أم طرأ بعد أن بلغ رشيداً. أما غير محقق السفه أي مجهوله فتصرفه نافذ اتفاقاً. وأما الصبي السفيه والأنثى البالغة السفيهة المُهْمَلان (أي لا ولي لهما) فترد تصرفاتهما، إلى أن يبلغ الصبي، وإلى أن تعنس الأنثى وتقعد عن المحيض وهو سن الأربعين أو من خمسين إلى ستين، أو تمضي سنة بعد دخول الزوج بها. وتصح وصية السفيه المحجور، وتنفذ، كما ينفذ طلاق زوجته وخلعه لها، ولا تلزمه هبة ولا صدقة ولا عطية، ولا شيء من المعروف. ويصح إقراره بموجب عقوبة من حد أو قصاص. وأما تصرف السفيه المحجور بعوض، فهو موقوف على نظر وليه، أي أن حكم تصرفه كحكم تصرف الصبي المميز، المتقدم. ويتصرف الولي على المحجور وجوباً بالمصلحة العائدة على محجوره حالاً أو مآلاً، فله ترك شفعة وقصاص، ولا يعفو عن عمد أو خطأ مجَّاناً بلا أخذ مال، لما فيه من عدم المصلحة.
3 - مذهب الشافعية
3 - مذهب الشافعية (¬1): السفه: تبذير (¬2) المال، وسوء التصرف، بأن يُضيِّع المال باحتمال غبن فاحش في المعاملة ونحوها، أو يرمي المال وإن قل في بحر أو نار، أو نحوه، أو ينفقه في محرَّم ولو معصية صغيرة، لما فيه من قلة الدين. والأصح أن صرف المال، وإن كثر، في الصدقة وباقي وجوه الخير، والمطاعم والملابس التي لا تليق بحاله، ليس بتبذير؛ لأن له في الصرف في الخير غرضاً وهو الثواب، فإنه لا سرف في الخير، كما لا خير في السرف، ولأن المال يتخذ لينتفع به ويلتذ. ولا بد في الحجر على السفيه من حكم القاضي عليه، لا غيره من أب أو جد لأنه محل اجتهاد، ويسن أن يشهد القاضي على حجر السفيه، ليتجنب في المعاملة. ولو عاد رشيداً لا يرتفع الحجر عنه إلا برفع القاضي له، كما لا يثبت إلا به. وولي السفيه: هو القاضي، إذ ولاية الأب ونحوه قد زالت، فيشرف عليه من له النظر العام. وأما تصرفاته: فيصح بإذن الولي نكاحه. ويصح طلاقه ورجعته وخلعه زوجته بمثل المهر وبدونه، وظهاره وإيلاؤه، ونفيه النسب لما ولدته زوجته بلعان، واستلحاقه نسب ولد منه. ولا يصح تصرفه المالي في الأصح ولو بإذن الولي؛ لأن عبارته مسلوبة، كما لو أذن لصبي فلا يصح من المحجور عليه لسفه بيع ولا شراء ولا هبة، فلو اشترى ¬
4 - مذهب الحنابلة
أو اقترض وقبض وتلف المأخوذ في يده أو أتلفه فلا ضمان عليه، ولا يصح إقراره بدين قبل الحجر عليه أو بعده، كالصبي. كما لا يصح إقراره بإتلاف المال أو جناية توجب المال في الأظهر، كدين المعاملة. ويصح إقراره بالحد والقصاص، لعدم تعلقهما بالمال، ولبعد التهمة. وتقطع يده لو كان الحد سرقة. ولا يلزمه المال لو عفا مستحق القصاص؛ لأن المال ثبت باختيار غيره، لا بإقراره. وحكمه في العبادة الواجبة مطلقاً، والمندوبة البدنية كالرشيد، لاجتماع الشرائط فيه. أما المندوبة المالية كصدقة التطوع، فليس هو فيها كالرشيد. لكن لا يفرق الزكاة بنفسه؛ لأنه ولاية وتصرف مالي، لكن لو أذن له الولي، وعين له المدفوع إليه، صح صرفه، كالصبي المميز، بشرط أن يكون تصرفه بحضرة الولي أو نائبه، لأنه قد يتلف المال إذا خلا به، أو يدّعي صرفه كاذباً. ويصح نذره في الذمة بالمال، لا بعين ماله. وإذا أحرم بحج مفروض (أصلي أو قضاء أو منذور قبل الحجر)، أعطى الولي كفايته لثقة ينفق عليه في طريقه، كما قال الحنفية. وإن أحرم حال الحجر بتطوع من حج أو عمرة، أو بنذر بعد الحجر، وزادت مؤنة سفره عن نفقته المعتادة في أثناء الإقامة (أو الحضر)، فللولي منعه من الإتمام، أو الإتيان به، صيانة لماله، والمذهب أنه يكون كمُحْصَر (ممنوع من إكمال الحج)، فيتحلل؛ لأنه ممنوع من المضي، ويتحلل بالصوم؛ لأنه ممنوع من المال. لكن لو كان له في طريقه كسب، قدرَ زيادة المُؤنة، لم يجز منعه؛ لأن الإتمام بدون التعرض للمال ممكن. 4 - مذهب الحنابلة (¬1): السفيه: هو الذي لا يحسن التصرف. ¬
ولا بد للحجر عليه ـ كما قال سائر الأئمة ـ من حكم الحاكم، كما أن رفع الحجر عنه لا بد له من الحكم؛ لأنه حجر ثبت بحكمه، فلم يزل إلا به، كالمدين المفلس. ومن حجر عليه الحاكم استحب له إظهاره والإشهاد على الحجر عليه، لتجتنب معاملته، كما قال الشافعية، ومن عامله بعدئذ فهو المتلف لماله. وولي السفيه: هو الأب، أو وصيه بعده، أو الحاكم عند عدمهما، إن كان محجوراً عليه صغيراً، واستديم الحجر عليه لسفهه. وإن جدد الحجر عليه بعد بلوغه، لم ينظر في ماله إلا الحاكم؛ لأن الحجر وإزالته يفتقر إلى حكم الحاكم، فكذلك النظر في ماله. وأما تصرفاته: فيصح نكاحه بإذن وليه وبغير إذنه، كما قال الحنفية، إن احتاج إليه؛ لأنه في هذه الحالة مصلحة محضة، ويتقيد بمهر المثل فلا يزيد عليه؛ لأن الزيادة تبرع، وليس السفيه من أهله. فإن لم يكن السفيه محتاجاً إلى التزوج، لا يصح تزوجه إلا بإذن وليه؛ لأنه تصرف يجب به مال، فلم يصح بغير إذن وليه كالشراء. ويصح طلاقه؛ لأن الطلاق ليس بتصرف في المال، كما يصح خلعه زوجته؛ لأنه إذا صح الطلاق من دون دفع مال منه، فالخلع الذي يجلب له المال أولى، لكن لا يدفع العوض إليه. وهو متفق عليه فقهاً، كما لا حظنا. ويصح ظهاره وإيلاؤه ولعانه ونفي النسب باللعان عن السفيه، وإقراره بنسب ولد منه. وتصح وصيته، كما قال سائر الفقهاء، لأنها محض مصلحته، لأنها تقرب إلى الله تعالى بماله، بعد استغنائه عنه.
ويصح إقراره بما يوجب حداً أو قصاصاً، كما قال سائر الفقهاء، كالزنا والسرقة والشرب والقذف والقتل العمد أو قطع اليد وما أشبهها. وإذا أقر بما يوجب القصاص، فعفا المقر له على مال، فالصواب: أنه لا يجب المال الذي عفا عليه في الحال، كما قال الشافعية؛ لأن السفيه والمقر له قد يتواطآن على العفو، بل يجب إذا انفك الحجر عنه. ولا يصح إقراره بدين، أو بما يوجب الدين كجناية الخطأ، وشبه العمد وإتلاف المال وغصبه وسرقته، ولا يلزمه ما أقر به في حال حجره؛ لأنه محجور عليه لمصلحته، لكن الظاهر من قول الحنابلة: أنه يلزمه ما أقرَّ به بعد فك الحجر عنه. والحكم في السفيه كالحكم في الصبي والمجنون في وجوب الضمان بإتلاف مال الغير بغير إذنه، كما قال سائر الفقهاء. ولا تصح تبرعاته، كالهبة والوقف، كما قال بقية الفقهاء؛ لأن التبرع ضرر محض، وليس السفيه من أهله، حفظاً لماله. ولا تصح شركة السفيه ولا حوالته ولا الحوالة عليه، ولا كفالته لغيره، لأن المذكور تصرف مالي، فلم يصح منه كالبيع والشراء. ولا تصح تصرفاته من بيع وشراء بغير إذن وليه، فتكون باطلة؛ لأنه محجور عليه لحفظ ماله عليه. فإن أذن ولي السفيه له بالبيع والشراء، فهل يصح منه؟. على وجهين: أحدهما ـ يصح لأنه عقد معاوضة، فملكه بالإذن كالنكاح، ويظهر أن هذا هو الأرجح عندهم.
والثاني ـ لا يصح؛ لأن الحجر عليه لتبذيره وسوء تصرفه، فإذا أذن له، فقد أذن فيما لا مصلحة فيه، فلم يصح. وقد عرفنا أن هذا الوجه هو الأصح عند الشافعية. ويلتزم السفيه بواجباته الشرعية كنفقة زوجته وخادمه ومن تلزمه نفقته، وتجب عليه الفرائض الدينية المتعلقة بالأموال، كالزكاة، لكن لا يباشر توزيعها بنفسه، بل يفرقها وليه، كسائر تصرفاته المالية. ويصح منه نذر كل عبادة بدنية كالحج والصيام والصلاة؛ لأنه غير محجور عليه في بدنه. ولا يصح منه نذر عبادة مالية كصدقة وأضحية لأنه تصرف في مال. وإن أحرم السفيه بحج فرض، صح إحرامه به، كسائر عباداته، وتدفع النفقة من ماله إلى ثقة، ينفق عليه في الطريق، حتى يعود، كما قال باقي الفقهاء. وإن كان الحج الذي أحرم به تطوعاً، وكانت نفقته في السفر كنفقته في الحضر، أو كانت نفقته في السفر أزيد، لكن يكتسب السفيه الزائد في سفره، لم يمنعه وليه من إتمام الحج؛ لأنه وجب بالشروع. فإن كانت نفقة السفر أزيد، ولم يكتسبها فلوليه تحليله من الإحرام بحج النفل، لما عليه من الضرر فيه، ويتحلل بالصيام أي صيام عشرة أيام، كالمعسر إذا أحصر، كما قال الشافعية. وحكم تصرف ولي السفيه، كحكم تصرف ولي الصغير والمجنون مقيد بتحقيق المصلحة للمولى عليه. والخلاصة: أن تصرفات السفيه بالبيع والشراء ونحوهما موقوفة على إجازة وليه عند الحنفية والمالكية، وباطلة ولو بإذن الولي عند الشافعية، وباطلة بغير إذن الولي، وتصح وتنفذ بإذنه عند الحنابلة على الراجح.
المطلب الخامس - أثر الحجر على المغفل
المطلب الخامس - أثر الحجر على المغفل: المغفل أو ذو الغفلة: هو من يغبن في البيوع، ولا يهتدي إلى التصرفات الرابحة في بيعه وشرائه، لقلة خبرته وسلامة قلبه. ويختلف عن السفيه بأنه ليس بمفسد لماله، ولا بمتابع هواه، ولا يقصد الإفساد. والسفيه عكسه، مفسد قصداً لماله، متابع لهواه. والمغفل ليس هو المعتوه؛ يخلط في كلامه. ولا يحجر على المغفل عند أبي حنيفة، ويحجر عليه عند الصاحبين، ويفتى بقولهما، وهو رأي باقي الفقهاء، رعاية لمصلحته وحكم تصرفاته كالسفيه (¬1). بدء الحجر على السفيه والمغفل ونهايته: قال محمد بن الحسن، وابن القاسم المالكي (¬2): يثبت الحجر على السفيه والمغفل من وقت ظهور أمارات السفه أو الغفلة، ويزول بزوالهما، دون توقف على قرار القاضي بالحجر؛ لأن المسبب يدور مع سببه وجوداً وعدماً. وبناء عليه، لا تصح ولا تنفذ تصرفاتهما بمجرد ظهور الأمارات المذكورة، ويكون محجوراً عليهما ولو قبل صدور قرار القاضي. وقال أبو يوسف (ورأيه هو الراجح عند الحنفية) وجمهور الفقهاء (¬3): لايثبت الحجر على السفيه وذي الغفلة، ولا يرفع إلا بقرار القاضي بثبوته أو رفعه؛ لأن كلاً من السفه والغفلة ليس أمراً محسوساً كالجنون والعته، وإنما يستدل عليه ¬
المطلب السادس ـ الحجر على الفاسق
بالتصرفات الحاصلة من السفيه والمغفل، وهذه أمور تقديرية اجتهادية، تختلف باختلاف وجهات النظر، فلا بد من حكم القاضي للتثبت من الأمر ورفع الخلاف، ومنعاً من تغرير المتعاملين معهما، وعدم إضرارهم بهما؛ لأنهم لا يعلمون أمرهما إلا بقرار الحجر عليهما. ويترتب على هذا الرأي الراجح لدي لضبطه وعدم إضرار أحد أو تغريره نفاذ تصرفات السفيه والمغفل قبل الحجر القضائي عليهما، فينفذ مثلاً ما باعه أحدهما قبل حجر القاضي. المطلب السادس ـ الحجر على الفاسق: اتفقت المذاهب الأربعة في الأصح عند الشافعية (¬1): على أنه لا يحجر على الفاسق بسبب الفسق وحده دون تبذير ماله، فلو فسق السفيه مثلاً ولم يبذر: أي مع صلاح تصرفه في ماله بعد بلوغه رشيداً، لم يحجر عليه؛ لأن الفاسق أهل للولاية على نفسه وأولاده، ولأن الحجر شُرع لدفع الإسراف والتبذير، وهو مصلح لماله، ولأن السلف لم يحجروا على الفسقة. والفسق الأصلي بأن بلغ فاسقاً، والطارئ بعد البلوغ: سواء في عدم جواز الحجر على صاحبه. ملاحظة حول الحجر على الغائب: قال الحنفية خلافاً لمبدئهم في عدم جواز القضاء على الغائب (¬2): يصح الحجر على الغائب، لكن لا ينحجر مالم يعلم بالحجر. ¬
المطلب السابع ـ الحجر للمصلحة العامة
المطلب السابع ـ الحجر للمصلحة العامة: صرح الحنفية (¬1) بأنه يجوز الحجر للمصلحة العامة؛ لأنه يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام أو يدفع الضرر الأعلى بالأدنى، فيحجر (أي يمنع) على الطبيب الجاهل، والمفتي الماجن، والمُكاري المفلس. وذلك بأن يسقي المتطبب الناس دواء مهلكاً، أو لا يقدر على إزالة ضرر دواء اشتد تأثيره على المرضى. والمفتي الماجن: بأن يعلم العوام الحيل الباطلة، كتعليم الارتداد لتبين المرأة من زوجها، أو لتسقط عنها الزكاة، ولا يبالي بما يفعل من تحليل الحرام، وتحريم الحلال؛ أو أن يفتي عن جهل. والمُكَارِي المفلس: وهو الذي يتقبل الكراء، ويؤجر وسائل النقل من إبل أو سيارات مثلاً، وليست عنده تلك الوسائل، كما أنه لا مال له، ليشتري بها الوسائل، ويعتمد الناس عليه، ويدفعون الكراء إليه، ويصرف هو ما أخذه منهم في حاجته، فإذا جاء موعد النقل، يختفي عن الأنظار، فتذهب أموال الناس، وتتعطل مصالحهم. وبكلمة موجزة: المكاري المفلس: هو متعهد النقل بدون إمكانات، فهو محتال نصاب. فيحجر على هؤلاء وأمثالهم؛ لأن دفع الضرر العام واجب، وإن كان فيه إلحاق الضرر الخاص ومصادمة الحريات. والحجر في هذه الحالات عقوبة مناسبة لزجرهم ودرء المفاسد عن الناس، لهذا روي عن أبي حنيفة أنه كان لا يجري الحجر إلا على هؤلاء الثلاثة؛ لأن الطبيب يضر الأبدان، والمفتي يضر الأديان، والمكاري يضرّ الأموال. ¬
المطلب الثامن ـ الحجر على المريض مرض الموت
لكن ليس المراد بالحجر عليهم هو حقيقة الحجر: وهوالمنع الشرعي الذي يمنع نفوذ التصرف؛ لأن المفتي لو أفتى بعد الحجر، وأصاب، جاز، وكذا الطبيب لو باع الأدوية، نفذ بيعه، فدل على أن المراد هو المنع الحسي أي يمنع هؤلاء الثلاثة عن عملهم حساً؛ لأن المنع من العمل من باب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر بسبب أن الطبيب الجاهل يفسد أبدان الناس، والمفتي الماجن يفسد دين المسلمين، والمكاري المفلس يفسد أموال الناس، ويلحق ضرراً بهم. المطلب الثامن ـ الحجر على المريض مرض الموت: مرض الموت: هو الذي يغلب بسببه الموت بحسب رأي الأطباء، أو يحدث منه الموت، ولو لم يحصل الموت به غالباً، أي أن المدار على كثرة الموت من المرض، ولو لم يكن غالباً (¬1). وعرفته مجلة الأحكام العدلية (م 1595) بأنه المرض الذي يعجز الرجل أو المرأة عن ممارسة أعمالهما المعتادة، ويتصل به الموت قبل مضي سنة من بدئه، إذا لم يكن في حالة تزايد أو تغير، فإن كان يتزايد، اعتبر مرض موت من تاريخ اشتداده أو تغيره، ولو دام أكثر من سنة. ويقال لصاحبه: المريض، ويقابله: الصحيح وهو من ليس في حال مرض الموت، ولو كان مريضاً بمرض آخر. ويعد المرض الذي صح منه المريض كالصحة، والمقعد والمفلوج والمسلول إذا تطاول زمن المرض ولم يقعده في الفراش كالصحيح. وبناء عليه قال المالكية (¬2): المريض نوعان: مريض لايخاف عليه الموت غالباً كالأبرص والمجذوم والأرمد، وغيرهم، فلا حجر عليه أصلاً. ¬
ومريض يخاف عليه في العادة كالُحمَّى القوية والسُّل وذات الجنب وشبهها. وفي رأيي أن تقدير خطر الموت عائد لظروف تقدم الطب في كل عصر. فإذا كان السل مثلاً مرضاً خطيراً في الماضي، فقد أصبح في عصرنا غير خطير بعد اكتشاف عصيات السل؛ وعلاجه المناسب له. واتفق أئمة المذاهب (¬1) على جواز الحجر على مريض الموت لحق الورثة. وصرح المالكية أنه يلحق به: من يخاف عليه الموت كالمقاتل في صف القتال، والمحبوس للقتل، أو المحكوم بالإعدام، والحامل إذا بلغت ستة أشهر، ودخلت في السابع ولو بيوم. واختلف في راكب البحر وقت الهول بشدة ريح أو غيرها، والأصح أنه لايعتبر كمريض الموت. والذي يحجر به على مريض الموت: هو تبرعاته فقط فيما زاد عن ثلث تركته، حيث لا دين، فيحجر على المريض في تبرع كهبة وصدقة ووصية ووقف وبيع محاباة، وبيع مشتمل على غبن، فيما يزيد عن ثلث ماله، أي أن حكم تبرعاته كحكم وصيته، تنفذ من الثلث، وتكون موقوفة على إجازة الورثة في الزائد عن الثلث. فإن برئ من مرضه، صح تبرعه. وهذا رأي الحنفية والشافعية والحنابلة. فإن استغرقت الديون جميع تركته حجر عليه جميع تصرفاته دون نظر إلى الثلث رعاية لحقوق الدائنين الغرماء. وقال المالكية: لاينفذ من الثلث تبرع المريض في الحال أو لا ينجز للمتبرع له إلا إذا كان المال المتبرع منه مأموناً أي لايخشى تغيره وهو العقار كدار وأرض ¬
المطلب التاسع ـ الحجر على الزوجة
وشجر، فإن كان المال غير مأمون فلا ينفذ وإنما يوقف ولو بدون الثلث حتى يظهر حاله من موت أو حياة. ويمنع عند المالكية تصرف المريض فيما زاد على قدر الحاجة من الأكل والشرب والكسوة والتداوي، كما يمنع من الزواج بما زاد على الثلث. ولايمنع من تصرفات المعاوضات المالية كبيع وشراء وقرض وقراض (مضاربة) ومساقاة وإجارة، إلا إن كان فيها محاباة. فإن مات المريض، نفذ تصرفه من التبرعات في ثلث ماله. وإن عاش، نفذ تصرفه من رأس ماله كله. وقال الحنفية: تنفذ تصرفات المريض الضرورية الخاصة بشخصه وأسرته دون إجازة أحد، وهي النفقات الضرورية اللازمة للطعام والكسوة والسكنى له، ولمن تلزمه نفقته، أو اللازمة للعلاج كأجر الطبيب وثمن الدواء وأجور العملية الجراحية. وله الزواج، لأنه قد يحتاج إلى من يخدمه أو يؤنسه، بشرط كون المهر في حدود مهر المثل، والزائد عنه تبرع في حكم الوصية. وللمريض أن يقر بدين لأجنبي أو لوار ث، فإن كان لأجنبي غير وارث فهو صحيح نافذ دون حاجة لإجازة الورثة، لكن يقدم عليه دين الصحة. المطلب التاسع ـ الحجر على الزوجة: قال المالكية وفي رواية عن أحمد (¬1): يحجر على المرأة المتزوجة الحرة الرشيدة لصالح زوجها في التصرف بغير عوض كالهبة والكفالة فيما زاد على ثلث ¬
مالها قياساً على المريض، ويكون تبرعها بزائد عن الثلث نافذاً، حتى يرد الزوج جميعه أو ما شاء منه، على المشهور عند المالكية. وبناء على هذا المشهور، ينفذ جميع ما تبرعت به، إن لم يعلم الزوج بتبرعها حتى بانت منه بطلاق، أو علم وسكت، أو مات أحدهما. وللزوج رد جميع ما تبرعت به الزوجة إن تبرعت بزائد على ثلثها، وله إمضاؤه وإنفاذه، وله رد الزائد فقط. ورد الزوج رد إيقاف على المعتمد، ورد إبطال عند أشهب. وليس للزوجة بعد الثلث تبرع إلا أن يبعد ما بين التبرعين بنصف عام على المعتمد عندهم. أما واجبات الزوجة من نفقة أبويها، فلا يحجر عليها فيه، ولو قصدت بالإنفاق ضرر الزوج عند ابن القاسم، خلافاً لما روي عن مالك من رد الثلث إذا قصدت به ضرر الزوج، ولها أن تهب جميع مالها لزوجها، ولا اعتراض عليها في الهبة لأحد. ولها التصرف بعوض في جميع مالها. ودليل هذا المذهب أخبار منها: «لا يجوز لامرأة عطية في مالها إلا بإذن زوجها، إذ هو مالك عصمتها» (¬1). وقال الجمهور (الحنفية والشافعية والحنابلة في الراجح عندهم) (¬2):للمرأة الرشيدة التصرف في مالها كله بالتبرع والمعاوضة، لقوله تعالى: {فإن آنستم منهم ¬
ملحق ـ هل للمرأة الصدقة من مال زوجها بالشيء اليسير بغير إذنه؟
رشداً، فادفعوا إليهم أموالهم} [النساء:6/ 4] وهو ظاهر في فك الحجر عنهم، وإطلاقهم في التصرف. وثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «يا معشر النساء! تصدقن، ولو من حُليِّكن ... » (¬1)، وأنهن تصدقن، فقبل صدقتهن، ولم يسأل، ولم يستفصل. وهذا الرأي هو الأوجه؛ لأن ذمة المرأة المالية مستقلة عن ذمة الزوج في الإسلام، وهذا من مفاخر الشريعة التي أعطت المرأة أهلية كاملة في التملك والتصرف. ملحق ـ هل للمرأة الصدقة من مال زوجها بالشيء اليسير بغير إذنه؟ هناك روايتان عن الإمام أحمد تمثلان أهم آراء السلف إجمالاً (¬2): إحداهما ـ الجواز وهو الأصح، وهي الرواية الراجحة المشهورة في المذهب؛ لأن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما أنفقت المرأة من بيت زوجها غير مُُفْسِدة، كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها أجره بما كسب، وللخازن مثل ذلك، لا ينقص بعضهم من أجر بعض شيئاً» (¬3)، ولم تذكر إذناً، إذ العادة السماح، وطيب النفس به، فجرى صريح الإذن، كتقديم الطعام بين يدي الضيفان قام مقام صريح الإذن في أكله. لكن إن منعها الزوج من التصدق، أو كان الزوج بخيلاً، وتشكُّ في رضاه، فيحرم عليها الصدقة بشيء من ماله حينئذ، كما يحرم على الرجل الصدقة بطعام ¬
المطلب العاشر ـ الحجر على المدين وأثره (التفليس)
امرأته بغير إذنها؛ لأن العادة لم تجر به. ومن يقوم مقام المرأة كالأخت والخادمة والغلام المتصرف في مال سيده، هو كالزوجة، يجوز له الصدقة بنحو رغيف من مال رب البيت، ما لم يمنع أو يكن بخيلاً، أو يضطرب العرف ويشك في رضاه. والرواية الثانية ـ لا يجوز، لما روى أبو أمامة الباهلي، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «لا تنفق المرأة شيئاً من بيتها إلا بإذن زوجها، قيل: يا رسول الله، ولا الطعام؟ قال: ذاك أفضل أموالنا» (¬1)، ولأنه تبرع بمال غيره، بغير إذنه، فلم يجز للغير وللزوجة. قال ابن قدامة الحنبلي: والأول أصح؛ لأن الأحاديث فيها (أي في الرواية الأولى) خاصة صحيحة، والخاص يقدم على العام ويبينه، ويعرِّف أن المراد بالعام غير هذه الصورة المخصوصة. وحديث الباهلي ضعيف. ولا يصح قياس المرأة على غيرها؛ لأنه بحكم العادة تتصرف في مال زوجها وتتبسط فيه، وتتصدق منه لحضوره وغيبته، والإذن العرفي يقوم مقام الإذن الحقيقي، فصار كأنه قال لها: افعلي هذا. المطلب العاشر ـ الحجر على المدين وأثره (التفليس): أولاً ـ تعريف التفليس والمفلس: التفليس لغة: النداء على المفلس، وشهره بين الناس بصفة الإفلاس المأخوذ من الفلوس التي هي أخس الأموال. وشرعاً: جعل الحاكم المديون مفلساً بمنعه من التصرف في ماله أو خلع الرجل عن ماله للغرماء. ¬
ثانيا ـ هل يحجر على المدين المفلس؟
والفلس: عدم المال، والمفلس في العرف: من لا مال له. وهو المعدم، وفي الشرع: من لا يفي ماله بدينه، أو الذي أحاط الدين بماله، أو من لزمه من الدين أكثر من ماله الموجود. وسمي مفلساً، وإن كان ذا مال؛ لأن ماله مستحق الصرف في جهة دينه، فكأنه معدوم، أو باعتبار ما يؤول من عدم ماله بعد وفاء دينه، أو لأنه يمنع من التصرف في ماله إلا الشيء التافه الذي لا يعيش إلا به، كالفلوس ونحوها (¬1). ثانياً ـ هل يحجر على المدين المفلس؟ قال أبو حنيفة (¬2): لا أحجر على المفلس في الدَّين؛ لأن مال الله غاد ورائح، فهو لا يرى الحجر على المدين المفلس، كما لا يرى الحجر على السفيه؛ لأن في الحجر إهداراً لحريته وإنسانيته وأهليته، فذلك أخطر من ضرر خاص يلحق الدائن. فتنفذ تصرفاته، ولا يباع ماله جبراً عنه، وإنما يؤمر بسداد ديونه؛ فإن امتثل فلا يتعرض له بشيء، وإن امتنع عن الأداء، حبس حتى يسدد دينه، أو يبيع ماله بنفسه، وشرع حبسه دفعاً لظلمه؛ لأن قضاء الدين واجب عليه، والمماطلة ظلم. وليس للقاضي أن يبيع ماله جبراً عنه؛ لأنه نوع حجر عليه، وهو لا يجوز عنده. والخلاصة: أن أبا حنيفة قال: ليس للحاكم أن يحجر على المفلس، ولا يبيع ماله بل يحبسه، حتى يؤدي أو يموت في السجن. والمفتى به عند الحنفية هو قول الصاحبين، وهو قول جمهور الفقهاء: وهو جواز الحجر على المدين المفلس في تصرفاته المالية، حفاظاً على حقوق الدائنين ¬
ثالثا ـ هل يتوقف الحجر على المدين على قضاء القاضي؟
وأموالهم من الضياع. بدليل ماروى الدارقطني، والخلال، وصحح الحاكم إسناده: أن النبي صلّى الله عليه وسلم حجر على معاذ، وباع ماله في دين كان عليه، وقسمه بين غرمائه، فأصابهم خمسة أسباع حقوقهم، فقال لهم النبي صلّى الله عليه وسلم: ليس لكم إلا ذلك. واختلفت المذاهب في بعض التفصيلات، منها توقف الحجر على قضاء القاضي ومايتبعه من أمور. ثالثاً ـ هل يتوقف الحجر على المدين على قضاء القاضي؟ 1 - مذهب المالكية (¬1): للمفلس الذي أحاط الدين بماله أحوال ثلاثة: الحالة الأولى ـ قبل التفليس أي قبل نزع ماله منه وإعطائه للدائنين: يكون للدائنين الحق في منعه من التصرف في ماله بغير عوض، وإبطال تصرفه، سواء أكان دينهم حالاً أم مؤجلاً. فيمنعونه من التصرفات الضارة بمصلحتهم، كالتبرع والهبة والصدقة والوقف، والكفالة والقرض والإقرار بدين لشخص يتهم بأن إقراره له فراراً من الدين، كولده وزوجه. أما من لايتهم معه، فيعتبر إقراره له. وماعدا المذكور من تصرفات المعاوضة كالبيع والشراء، تنفذ منه. الحالة الثانية (¬2) ـ ألا يرفع الأمر إلى الحاكم، وإنما يقوم الغرماء على المدين، فيستتر منهم ولايجدونه، فلهم أن يحولوا بينه وبين ماله، ويمنعوه من التبرعات ¬
الحالة الثالثة ـ حكم الحاكم بتفليسه،
والتصرفات المالية بالبيع والشراء، والأخذ والعطاء، ولو بغير محاباة، ومن التزوج، ولهم قسم ماله بالمحاصة، أي بنسبة حصص ديونهم. الحالة الثالثة (¬1) ـ حكم الحاكم بتفليسه، أي بخلع ماله لغرمائه، وهو نزع ماله منه وإعطائه للدائنين، لعجزه عن قضاء مالزمه من الديون. ولاتتحقق هذه الحالة إلا بطلب الدائنين (الغرماء) جميعهم أو بعضهم، وأن يكون الدين حالاً، فلا يصح تفليسه بدين مؤجل، وأن يكون الدين زائداً على ماله ومتى فلسه الحاكم اشترك الجميع في ماله، من طلب ومن لم يطلب. ويترتب على تفليسه في هذه الحال أمور أربعة تحقق معنى الحجر عليه وهي: منعه من التبرعات؛ ومن المعاوضات المالية، والزواج بأكثر من زوجة واحدة؛ وقسمة ماله بين الدائنين، وحلول الدين المؤجل، أي يحجر عليه في جميع التصرفات بعوض أو بغير عوض، وللدائنين منعه من سفر التجارة أو غيرها إن حل دينه أو كان يحل بغيبته، كما لهم طلب سجنه، فيحبسه الحاكم استبراء لأمره. 2 ـ مذهب الجمهور (غير المالكية) (¬2): لايحجر على المدين إلا بقضاء القاضي، فتكون تصرفاته قبل القضاء نافذة. وإذا حجر عليه، فإنه يمنع من جميع التصرفات التي تضر بالدائنين، وهي التبرعات والمعاوضات المالية، والإقرار بالدين في حال الحجر، ويبيع الحاكم ماله، ويقسم ثمنه على الغرماء. ¬
الفرق بين حجر المدين وحجر السفيه
وشرط الحنفية في المفتى به وهو قول الصاحبين شرطين للحجر على المدين: أن يكون دينه مستغرقاً أمواله أو يزيد عنها، وأن يطلب الغرماء الحجر عليه. وشرط الشافعية والحنابلة للحجرعلى المدين شرطين أيضاً كالشرطين السابقين: أن تكون عليه ديون حالّة تزيد على ماله، وأن يطلب الغرماء الحجر عليه. ويصح تزوج المفلس بمهر المثل، وطلاقه وخلعه زوجته ورجعتها واستيفاؤه القصاص، وإسقاط القصاص ولو مجاناً. وله أن يرد المبيع الذي اشتراه قبل الحجر بالعيب أو الإقالة، إن كانت المصلحة في الرد. والأصح عند الشافعية سريان الحجر على مايتملكه المدين بعد الحجر بالاصطياد والهبة، والوصية، والشراء في الذمة، على القول الراجح بجواز هذا الشراء؛ لأن مقصود الحجر وصول الحقوق إلى أهلها، وهو لايختص بالمال الموجود وقت الحجر. وينفق على المدين من ماله وعلى زوجته وأولاده الصغار وذوي أرحامه؛ لأن حاجته الأصلية مقدمة على حق الغرماء. الفرق بين حجر المدين وحجر السفيه: فرَق الحنفية (¬1) بين الحجر بالدين والحجر بالسفه من وجوه، منها: 1 ـ أن حجر السفيه لمعنى في نفسه، وهو سوء اختياره، لا لحق الغرماء، أما الحجر للدين فهو لمصلحة الدائنين، ويحتاج كلاهما لحكم القضاء. 2 ـ أن المحجور بالدين لو أقر حالة الحجر ينفذ إقراره بعد زوال الحجر ولو فيما سيحدث له من مال، والمحجور بالسفه لا يجوز إقراره بالدين، لا حال ¬
رابعا ـ سفر المدين المفلس
الحجر، ولا بعده، ولا في المال القائم، ولا الحادث. وهذان الوجهان مقرران أيضاً عند الشافعية والحنابلة والمالكية. وحجر الفلس أقوى من حجر المرض بدليل أن المريض يتصرف في مرض الموت في ثلث ماله، ولا تتعلق حقوق الورثة بماله إلا بعد الموت. أما حجر الفلس فتتعلق حقوق الغرماء بعين مال المدين في الحال كالمرهون (¬1). رابعاً ـ سفر المدين المفلس: للفقهاء في منع المدين من السفر رأيان متقاربان: فقال الحنفية والشافعية (¬2): ليس للدائنين منع المدين من السفر قبل حلول الأجل، سواء أكان الأجل بعيداً أم قريباً؛ لأنه لا حق لهم في مطالبة حلول الأجل. فإذا حل الأجل لهم منعه من المضي في سفره حتى يوفي دينه. وقال المالكية (¬3): للدائن منع المدين من سفر لتجارة أو غيرها إن حل أجل الدين، أو كان يحل في أثناء غيبته، مطلقاً أي ولو لم يكن الدين محيطاً بمال المدين، إذا لم يوكل من يوفي عنه دينه، أو لم يضمنه موسر. فإن كان الدين مؤجلاً، أو لا يحل أثناء الغيبة في السفر، ليس للدائن منعه من السفر. ويتفق الحنابلة (¬4) مع المالكية بالقول: للدائن منع المدين الذي أراد سفراً طويلاً فوق مسافة القصر، إن حل الدين قبل عودته من السفر. وليس له منعه إن كان ¬
خامسا ـ أثر الحجر على المفلس أو أحكام الحجر
الدين لا يحل إلا بعد عودته من سفره. لكنهم قالوا: إن كان سفره لجهاد، فله منعه إلا بضمين (كفيل) أو رهن؛ لأنه سفر يتعرض فيه للشهادة، وذهاب النفس، فلا يأمن فوات الحق. والخلاصة: أن الرأي الأول للحنفية والشافعية: ليس للدائن المنع من السفر ولا المطالبة بكفيل إذا كان الدين مؤجلاً بحال، سواء أكان الدين يحل قبل العودة من السفر أم بعده، وسواء أكان السفر إلى الجهاد أم إلى غيره؛ لأنه لا يملك المطالبة بالدين، فلم يملك منعه من السفر، ولا المطالبة بكفيل كالسفر الآمن القصير. فإن كان الدين حالاً منع المدين من السفر. والرأي الثاني للمالكية والحنابلة أكثر تشدداً في حفظ حق الدائن، فله المنع من السفر إذا كان الدين يحل قبل العودة من السفر؛ لأنه سفر يمنع استيفاء الدين في أجله، فملك منعه من السفر إن لم يوثق بكفيل أو رهن كالسفر بعد حلول الحق. خامساً ـ أثر الحجر على المفلس أو أحكام الحجر: يترتب على الحجر آثار أو أحكام: 1ً - تعلق حق الغرماء بعين ماله، ومنعه من التصرف بماله (¬1): يستحب أن يشهد القاضي على حجر المفلس، ليعلم الناس حاله، ويحذروا معاملته، فلا يعاملوه، إلا على بصيرة (¬2). فإذا حجر عليه تعلقت ديون الغرماء ¬
بماله كالرهن، فلا ينفذ تصرفه فيه بما يضرهم؛ لأنه لا ضرر على الغرماء، فتبطل تبرعاته كالهبة والصدقة، ولا يقبل إقراره أصلاً بعد التفليس على ماله باتفاق الفقهاء، لكن قال المالكية: يقبل إقرار المفلس لغير متهم عليه أي أجنبي، ولا يقبل لمتهم عليه كابن وأخ وزوجة، وقبول إقراره يكون في المجلس الذي فلس فيه، أو قام عليه الغرماء أو قريباً منه. ويبطل بيعه وشراؤه ونحوهما من المعاوضات المالية عند الحنابلة، والشافعية في الأظهر، لتعلق حق الغرماء بعين ماله كالمرهون، ولأنه محجور عليه بحكم الحاكم، فلا يصح تصرفه في ماله ببيع أو غيره مما يناقض مقصود الحجر. وقال الحنفية: يصح بيعه بثمن المثل أو بمثل القيمة، وأما إن كان بغبن فيصح البيع موقوفاً على إجازة الدائنين، وبه يكون قصدهم من منعه من التصرف عندهم هو البيع بأقل من ثمن المثل. وقال المالكية: إن وقع التصرف المالي لم يبطل، بل يوقف على نظر الحاكم والغرماء. وتصح من المفلس المحجور عليه التصرفات المتعلقة بذمته كالبيع على أساس السلم أو بيع شيء موصوف في الذمة، إذ لا ضرر على الغرماء في ذلك. وتصح منه التصرفات التي لا تتعلق بأمواله كالنكاح والطلاق والخلع والقصاص وإسقاط حق القصاص بمقابل الدية أو العفو مجاناً. ويصح إقراره بحق أو مال وجب عليه قبل الحجر عليه، ولا يصح إقراره بحقوق تعلقت بماله بعد الحجر عليه بمعاملة أو مطلقاً بأن لم يقيده بمعاملة ولا غيرها (¬1). ¬
- حلول الديون المؤجلة،
2ً - حلول الديون المؤجلة، كما تحل الديون بالموت عند الحنفية وفي المشهور عند المالكية (¬1)، لخراب الذمة في الحالتين، وهو عند المالكية ما لم يشترط المدين عدم حلوله بهما، وما لم يقتل الدائن المدين عمداً، فلا يحل. وقال الشافعية في الأظهر، والحنابلة في أرجح الروايتين (¬2): لا يحل الدين المؤجل بفلس من هو عليه؛ لأن الأجل حق مقصود للمفلس، فلا يسقط بفلسه كسائر حقوقه، ويفترق الفلس عن الموت في أن الميت خربت ذمته وبطلت. وعليه: لا يشارك أصحاب الديون المؤجلة غرماء الديون الحالة، بل يقسم المال الموجود بين أصحاب الديون الحالة، ويبقى المؤجل في الذمة إلى وقت حلوله. فإن لم يقتسم الغرماء حتى حل الدين، شارك الغرماء، كما لو تجدد على المفلس دين بجنايته. 3ً - الملازمة والحبس الاحتياطي للمدين: اختلف الفقهاء في جواز ملازمة المدين، واتفقوا على جواز حبسه بحكم القاضي بشروط معينة. الملازمة: قال أبو حنيفة وصاحباه (¬3): للدائنين أن يلازموا المدين، فيذهبوا معه حيثما ذهب، فإذا رجع إلى بيته، فأذن لهم في الدخول، دخلوا معه، وإلا انتظروه على الباب ليلازموه بعد الخروج، ولكن لا يمنعونه من التصرف والكسب والسفر حال الملازمة، ولا يحبسونه في مكان خاص؛ لأنه حبس، بل يدورون ¬
حبس المدين
معه، ويدور هو حيث شاء؛ لأنه بذلك يتمكن الدائن من حمل المدين على قضاء الدين، ولقوله عليه الصلاة والسلام: «لصاحب الحق: اليد، واللسان» (¬1) أراد باليد: الملازمة، وباللسان: التقاضي. ولا تلازم المرأة منعاً من الخلوة بالأجنبية. وقال زفر والمالكية والشافعية والحنابلة (¬2): إذا ثبت إعسار المدين عند الحاكم، لم يكن لأحد مطالبته وملازمته، بل يمهل إلى أن يوسر لأنه إذا ثبتت العسرة استحق النَّظِرة إلى الميسرة، كما لو كان الدين مؤجلاً، لقوله تعالى: {وإن كان ذو عسرة، فنَظِرة إلى ميسرة} [البقرة:280/ 2]. وحديث «لصاحب الحق ... » فيه مقال، كما قال ابن المنذر، أو أنه يحمل على الموسر، فقد ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لغرماء الذي أصيب في ثمار ابتاعها، فكثر دينه: «خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك» (¬3). وهذا القول هو الأرجح. حبس المدين: المقرر شرعاً أنه يجب على المدين إيفاء ديونه إذا كان موسراً، فإن كان معسراً فيمهل إلى وقت اليسار عملاً بنظرة الميسرة. وإن كان مماطلاً في الوفاء، وله مال يفي بدينه للحال، حبسه الحاكم، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لَيُّ الواجد ظلم، يحل عرضه وعقوبته» (¬4). واللي: المطل، والواجد: الغني من الوُجد بمعنى ¬
الحنفية
القدرة. وعرضه: شِكايته، وعقوبته: حبسه. وبناء عليه يجوز الحبس، ولكن بشروط أوضحها الفقهاء. قال الحنفية (¬1): للقاضي أن يحبس المدين رجلاً أو امرأة بدينه في كل دين التزمه بعقد كالمهر والكفالة إذا كان غنياً، أو اشتبه على القاضي حال يساره وإعساره، ولم يقم عنده حجة على أحدهما، فإذا حبسه شهرين أو ثلاثة أشهر، ولم يظهر له مال في تلك المدة، فإنه يطلق سراحه، وإن أقام البينة على أن لا مال له أي أنه فقير، خلى سبيله، للآية السابقة {فنظرة إلى ميسرة} [البقرة:280/ 2] ولا يضرب المحبوس بالدين ولا يخوَّف، ولا يغل بقيد، ولا يجرد، ولا يوقف أمام صاحب الدين إهانة له، ولا يؤجر. ويشترط للحبس شروط ثلاثة: في الدين، والمدين، والدائن: أولهما ـ أن يكون الدين حالا ً، فلا يحبس في الدين المؤجل؛ لأن الحبس لدفع الظلم المتحقق بتأخير قضاء الدين، ولم يوجد ممن دينه مؤجل. ثانيهما ـ يشترط في المدين شروط ثلاثة: هي القدرة على وفاء الدين: فلو كان معسراً لا يحبس، لقوله تعالى: {وإن كان ذو عسرة، فنظرة إلى ميسرة} [البقرة:280/ 2]. والمطل: وهو تأخير قضاء الدين، للحديث السابق «مطل الغني ظلم» (¬2) فيحبس دفعاً للظلم، وحديث «ليّ الواجد ... » والحبس عقوبة، وما لم يظهر منه المطل، لا يحبس لانعدام المطل واللي منه. ¬
ثالثها ـ أن يطلب الدائن (صاحب الدين) من القاضي حبس المدين
وأن يكون المدين غير الوالدين، فلا يحبس الوالدون وإن علوا، بدين المولودين، وإن سفلوا، لقوله تعالى: {وصاحبهما في الدنيا معروفاً} [لقمان:15/ 31] {وبالوالدين إحساناً} [الإسراء:23/ 17]، وليس من المصاحبة بالمعروف والإحسان: حبسهما بالدين، لكن يحبس الوالد تعزيراً بالامتناع عن نفقة ولده الذي عليه نفقته (¬1)، ويحبس ولي الصغير إذا كان هو المتسبب في تأخير قضاء الدين. ثالثها ـ أن يطلب الدائن (صاحب الدين) من القاضي حبس المدين، فما لم يطلب لا يحبس؛ لأن الدين حقه، والحبس وسيلة إلى حقه، وممارسة الحق بطلبه. والذي يمنع عنه المحبوس: هو الخروج إلى أشغاله ومهماته الدينية والدنيوية، كحضور الجمع والجماعات والأعياد وتشييع الجنائز وعيادة المرضى والزيارة والضيافة، ليكون المنع باعثاً له على قضاء الدين. ولا يمنع من زيارة أقاربه له، ولا من التصرفات الشرعية كالبيع والشراء والهبة والصدقة والإقرار لغيرهم من الغرماء. ولا يمكن المحبوس من الاشتغال بعمله على الصحيح ليضجر قلبه، فينبعث على قضاء دينه. وقال المالكية (¬2): يسجن المدين استبراء لأمره إن جهل حاله، أو ظهرت ملاءته (غناه) بحسب ظاهر حاله، بلبسه فاخر الثياب، وركوبه جيد المواصلات، وكان له خدم من غير أن يعلم حقيقة حاله، حتى يثبت عسره، أو يأتي بكفيل يكفله، فيطلق سراحه. ¬
الشافعية والحنابلة
فإن وعد غريمه بوفاء الدين، وطلب تأخيره نحو اليومين، أجيب لطلبه، ولا يحبس إن كفله كفيل. كذلك يؤجل المدين المعلوم الملاءة (الغنى) أو ظاهر الملاءة، إن وعد بالوفاء، وطلب التأخير لبيع أمواله وعروضه التجارية، إن قدم كفيلاً بالمال، وإلا سجن، وليس للحاكم بيع تلك العروض، بخلاف المفلس؛ لأن المفلس منع من التصرف في ماله، وتحبس المرأة عند امرأة أمينة، ويحبس الجد لولد ابنه، ويحبس الولد لأبيه في دين أو غيره، ولا العكس: أي لا يحبس والد بولده. فإن أثبت المدين المجهول الحال، أو ظاهر الملاءة عُسْره بشهادة بيِّنة تشهد أنه لا يعرف له مال ظاهر ولا باطن، وحلف كذلك أنه لا مال له، أُنظر لميسرة، فلا يسجن ولا يطالب قبلها، ولا يلزم بتكسب ولا اقتراض لوفاء ما بقي عليه من الدين، ولو كان قادراً عليه؛ لأن الدين إنما تعلق بذمته، فلا يطلب به إلا عند اليسار. ويخرج المجهول الحال من الحبس إن طال حبسه باجتهاد الحاكم بحيث يغلب على الظن أنه لو كان عنده مال، ما صبر على الحبس هذه المدة. وأما ظاهر الملاءة فلا يخرج من الحبس إلا ببينة بعدمه. وأما معلوم الملاءة فيخلد في السجن حتى يؤدي ما عليه أو يأتي بكفيل غارم. وقال الشافعية والحنابلة (¬1): على الموسر إن طولب أداء دينه فوراً بحسب الإمكان، فإن امتنع وله مال ظاهر، وهو من جنس الدين، وُفي منه، فإن كان من غير جنس الدين، باع الحاكم جبراً عليه ماله، وإن كان المال في غير محل ولايته، أو أكرهه مع التعزير بحبس أو غيره على البيع، فإن أخفى المدين ماله، وهو ¬
- بيع مال المدين المحجور عليه وقسمة ثمنه بين الغرماء
معلوم، وطلب غريمه حبسه، حبس، وحجر عليه أولاً حتى يظهره. فإن لم ينزجر بالحبس، ورأى الحاكم ضربه أو غيره، فعل ذلك، وإن زاد مجموعه على الحد. ومن ادعى الإعسار ولم يصدقه الدائن، حبس إلى أن يأتي ببينة تشهد بعسرته. فإن ثبت إعساره، وجب إنظاره ولم تجز ملازمته للآية السابقة: {وإن كان ذو عسرة، فنظِرة إلى ميسرة} [البقرة:280/ 2]. وإن ثبتت قدرته على الوفاء، ولم يؤد ديونه، حبسه الحاكم (¬1)، للحديث السابق: «ليُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته»، وليس للحاكم إخراج المدين من الحبس حتى يتبين له أمره أنه معسر، فيجب حينئذ إطلاقه، أويبرأ المدين من غريمه بوفاء أو إبراء، أو حوالة، فيطلق سراحه لسقوط الحق عنه، أو يرضى غريمه بإخراجه من الحبس. فإن أصر المدين المليء على الحبس، ولم يوف الدين، باع الحاكم ماله، وقضى دينه. ولا يجبر كما قال المالكية على الكسب، للحديث السابق: «خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك» كما لا يجبر على قبول الهدية أو الصدقة أو القرض. 4ً - بيع مال المدين المحجور عليه وقسمة ثمنه بين الغرماء: اتفق الفقهاء (¬2) على أنه يباع مال المدين المحجور عليه بسبب الفلس، ويقسم ثمنه بين الدائنين الغرماء بالمحاصة أي بنسبة ديونهم، ويندب أن يكون البيع فوراً ¬
بعد الحجر، لئلا يطول زمن الحجر عليه، ومبادرة لبراءة ذمته، وإيصال الحق إلى ذويه، ولأنه صلّى الله عليه وسلم لما حجر على معاذ، باع ماله في دينه، وقسم ثمنه بين غرمائه. فإن كانت الديون من جنس مال المدين، قضاها القاضي بغير أمر المدين، وإن كانت من غير جنس مال المدين، وجب على القاضي بيع المال، وقسمة الثمن بين الدائنين. ويستحب للحاكم وقت البيع أن يحضر أو وكيله، لفوائد، منها ضبط متاعه، والتعريف بالجيد منه، وتطييب نفسه وإسكان قلبه، وتكثير الرغبة في شرائه، كما يستحب إحضار الغرماء؛ لأن البيع لهم، وربما رغبوا في شيء، فزادوا في ثمنه، ولتطييب قلوبهم، والبعد عن التهمة، وربما وجد أحدهم عين ماله، فأخذه. ويباع الشيء في عصرنا بالمزاد العلني، ويباع ندباً كل شيء في سوقه، بشرط كون البيع بثمن المثل، حالاً، من نقد البلد. ويقدم في البيع مايخاف فساده كالفواكه والبقول، ثم ما يتعلق به حق كالمرهون، ثم الحيوان لحاجته إلى النفقة، ولأنه معرض للتلف، ثم المنقول؛ لأنه يخشى ضياعه بسرقة ونحوها، ويقدم الملبوس على النحاس ونحوه، ثم العقار، ويقدم البناء على الأرض. وإنما أخر العقار؛ لأنه يؤمن عليه من الهلاك والسرقة؛ ولأن العقار يعد للاقتناء، فيلحقه ضرر ببيعه، فلا يبيعه إلا عند الضرورة، ويستأنى عند المالكية في بيع العقار نحو شهرين. ويلاحظ أن أبا حنيفة خلافاً لصاحبيه لم يجز للحاكم بيع عروض المدين وعقاره. ويترك للمفلس مجموعة كاملة عادية (دَسْت) (¬1) من ثيابه المحتاج إليها عادة، ¬
- استرداد الدائن عين ماله الذي وجده في مال المفلس
كما يترك له قوت يوم القسمة عند الشافعية لمن تلزمه نفقته، من زوجة وخادم وقريب، وعند الحنفية: ينفق على هؤلاء من مال المدين قبل التفليس ولو بعد الحجر، وعند المالكية: يترك له ما يأكله أياماً، وعند الحنابلة: إلى أن يفرغ من قسمة المال بين الغرماء. فالحنابلة كالشافعية. وتترك له آلة صنعته التي لا بد منها، كما يترك للعالم كتبه التي يحتاج لمراجعتها ومطالعتها. وأجاز المالكية بيع الكتب وثياب الجمعة إن كثرت قيمتها؛ لأن شأن العلم ـ على حد تعبيرهم ـ أن يحفظ في القلب، لكن قال العلامة العدوي: إن الحفظ قد ذهب الآن، فلذا أجراها بعضهم على آلة الصانع. ويترك له مسكنه الذي لا غنى له عن سكناه فيه، وخادمه الذي يحتاج إليه، مما يكون كلاهما صالحين لمثله؛ لأن ذلك مما لا غنى له عنه، فلم يبع في دينه كلباسه وقوته. لكن الأصح عند الشافعية: أنه يباع مسكنه ومركوبه، ولا يترك له خادمه القابل للبيع في الماضي، لزمانته ومنصبه؛ لأنه يسهل تحصيل المقصود بالكراء. وقال المالكية: أوجر على المفلس خادمه الذي لا يباع عليه، ويباع ما يباع عليه. 5ً - استرداد الدائن عين ماله الذي وجده في مال المفلس: هذا هو الحكم أو الأثر الخامس من أحكام أو آثار الحجر على المفلس عند الجمهور غير الحنفية. قال الحنفية (¬1): من أفلس (أي حكم الحاكم بتفليسه) وعنده متاع لرجل ¬
بعينه، ابتاعه منه، فصاحب المتاع أسوة الغرماء، أي أنه لا يكون أحق به من سائر الغرماء، فإن أفلس قبل قبض المتاع، أو بعد القبض بغير إذن بائعه، كان له استرداده، وحبسه بالثمن في حالة ما قبل القبض. ودليلهم على عدم استحقاق صاحب المتاع عين ماله: أن الإفلاس يوجب في عقد المعاوضة لا في غيره العجز عن تسليم العين، والعقد غير مستحق الفسخ، فلا يثبت حق الفسخ، وإنما المستحق هو الثمن أو الدين الذي هو وصف في الذمة، وبقبض المشتري عين المبيع، تتحقق المبادلة ما بين الدين والعين. وقال الجمهور غير الحنفية (¬1): إذا فلس الحاكم رجلاً، فأصاب أحد الغرماء عين ماله (أو سلعته التي باعها إياه بعينها)، كان له حق فسخ البيع وأخذ سلعته؛ لأنه عجز المشتري عن إيفاء الثمن، فيوجب ذلك حق الفسخ، كعجز البائع عن تسليم المبيع، ولأنه يجوز فسخ العقد لتعذر العوض كالمسلم فيه إذا تعذر، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال فيما يرويه أبو هريرة: «من أدرك ماله بعينه عند رجل أفلس، أو إنسان قد أفلس، فهو أحق به من غيره» (¬2). وقال الحنفية: إنه معارض بما روى الخصاف بإسناده: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أيما رجل أفلس فوجد رجل عنده متاعه، فهو أسوة غرمائه» وتأويل حديث أبي هريرة: أن المشتري كان قبضه بشرط الخيار للبائع. والحقيقة أن رأي الجمهور أقوى لصحة حديث أبي هريرة الذي لا يعارضه ¬
أمور تتعلق برجوع صاحب المتاع أو المال على المفلس
غيره، ولبعد تأويل الحنفية السابق، إ ذ لا حاجة للحديث في حالة وجود الخيار للبائع بفسخ البيع، فهذا أمر مقرر عام يشمل المفلس وغيره. وأبعد منه تأويلهم الحديث على ما إذا كان المتاع وديعة أو عارية أو لقطة؛ لأن نص الحديث مقيد بحالة الإفلاس. وهناك أمور تتعلق برجوع صاحب المتاع أو المال على المفلس أهمها ما يأتي: أولاً - هل خيار الرجوع على الفور أو على التراخي؟ للشافعية والحنابلة رأيان (¬1): أصحهما أن خيار الرجوع على الفور، كخيار العيب بجامع دفع الضرر، فتأخير الخيار يفضي إلى الضرر بالغرماء، لإفضائه إلى تأخير حقوقهم. ثانياً ـ حق الرجوع في كل المعاوضات: قال الشافعية (¬2): لصاحب المال الرجوع في سائر المعاوضات المحضة كالبيع والإجارة والقرض والسلم، لعموم حديث أبي هريرة السابق، فإذا أجره داراً بأجرة حالَّة، لم يقبضها حتى حجر عليه، فله الرجوع في الدار بالفسخ، تنزيلاً للمنفعة منزلة العين في البيع، ولو سلمه دراهم قرضاً، أو رأس مال سلم حالَّ أو مؤجل، فحل أجل تسليم المسلم فيه، ثم حجر عليه، والدراهم باقية بالشروط الآتية، فله الرجوع فيها بالفسخ. أما غير المعاوضات كالهبة، والمعاوضات غير المحضة كالنكاح والصلح عن دم العمد، فلا يجوز الرجوع فيها. ثالثاً ـ شروط الرجوع: يشترط للرجوع في البيع عند الشافعية شروط (¬3): ¬
(1) ـ كون الثمن حالاً عند الرجوع، لا مؤجلاً؛ لأن المؤجل لايطالب به. (2) ـ أن يتعذر حصول الثمن بالإفلاس. فلو انتفى الإفلاس، وامتنع المدين من دفع الثمن مع يساره، أو هرب، أو مات مليئاً وامتنع الوارث من التسليم، فلا فسخ في الأصح؛ لأن التوصل إلى أخذه بالحكم ممكن. ولو عرض الغرماء فداء المال بدفع ثمنه له، لم يلزمه قبوله، وله الفسخ عند الشافعية والحنابلة لما في الفداء من المنة، ولتعلق حقه بعين ماله. وقال المالكية: ليس له حينئذ حق الرجوع؛ لأن الرجوع لتلافي النقص في الثمن، فإذا بذل له الثمن كاملاً، لم يكن له الرجوع، كما لو زال العيب من المعيب (¬1). (3) ـ كون المبيع باقياً في ملك المشتري: فلو زال (فات) ملكه حساً كالموت أو حكماً كالوقف والبيع والهبة، فلا رجوع، لخروجه عن ملكه بالفوات. تبين من هذه الشروط وما ذكر قبلها أن شروط الرجوع عند الشافعية تسعة (¬2): الأول ـ كونه في المعاوضة المحضة كالبيع. الثاني ـ أن يرجع عقب العلم بالحجر. الثالث ـ أن يكون رجوعه بقوله: فسخت البيع ونحوه، بدون حاجة لحكم حاكم. الرابع ـ أن يكون عوضه غير مقبوض، فإن قبض شيئاً منه ثبت الرجوع فيما يقابل الباقي. ¬
الحنابلة
الخامس ـ أن يكون عدم استيفاء العوض لأجل الإفلاس. السادس ـ كون العوض ديناً، فإن كان عيناً قدم بها على الغرماء. السابع ـ حلول الدين. الثامن ـ كون المال المبيع باقياً في ملك المفلس. التاسع ـ ألا يتعلق بالمال حق لازم، كرهن صادر من المشتري للشيء. وقال الحنابلة (¬1): إنما يستحق البائع الرجوع في السلعة بخمس شرائط، وزاد في كشاف القناع شرطين آخرين: أحدها ـ أن تكون السلعة باقية بعينها، لم يتلف بعضها، فإن تلف جزء منها كتلف ثمرة الشجر المثمر، لم يكن للبائع الرجوع، وكان أسوة الغرماء. وقال المالكية والشافعية: يجوز الرجوع في الباقي، ويساهم مع الغرماء بحصة التالف. وهذا هو الشرط الثامن عند الشافعية. ثانيها ـ ألا يكون المبيع زاد زيادة متصلة كالسمن والكبر. وقال المالكية والشافعية: إنها لا تمنع. ثالثها ـ ألا يكون البائع قبض من ثمنها شيئاً، فإن كان قد قبض بعض ثمنها سقط الرجوع، وهذا هو الشرط الرابع عند الشافعية، فالمذهبان متفقان عليه. وقال المالكية: صاحب السلعة مخير: إن شاء رد ما قبضه ورجع في جميع العين، وإن شاء ساهم مع الغرماء ولم يرجع. رابعها ـ ألا يكون تعلق بها حق الغير، فإن رهنها المشتري، أو وهبها، لم ¬
عند المالكية
يملك البائع الرجوع، كما لو باعها. وهذا هو الشرط التاسع عند الشافعية، ولا خلاف فيه بين الشافعية والحنابلة والمالكية. خامسها ـ أن يكون المفلس حياً، فإن مات، فالبائع أسوة الغرماء، سواء علم بفلسه قبل الموت، فحجر عليه، ثم مات، أو مات، فتبين فلسه. وهذا رأي المالكية أيضاً، لحديث أبي بكر بن عبد الرحمن: «فإن مات المشتري، فصاحب المتاع أسوة الغرماء» (¬1) وقال الشافعية: له الفسخ، واسترجاع العين، عملاً بحديث أبي هريرة السابق. سادسها ـ كون السلعة لم يزل ملك المشتري عنها ببيع أو هبة أو وقف ونحوه. سابعها ـ أن يكون البائع حياً إلى وقت الرجوع. وأما شروط رجوع البائع على المفلس في عين ماله عند المالكية فهي ثلاثة (¬2): أولها ـ ألا يفديه غرماؤه بثمنه الذي على المفلس، فإن فدوه بمالهم أو بمال المفلس، أو ضمنوا له الثمن وهم ثقات، أو أعطوه كفيلاً ثقة، لم يأخذه. ثانيها ـ أن يمكن أخذه واستيفاؤه، فإن لم يمكن أخذه كبضع الزوجة (الاستمتاع بها) فلا يرجع، فالزوجة إذا أفلس زوجها وطلبت صداقها، ساهمت مع الغرماء؛ إذ لا يمكن رجوعها في البضع، ولها الفسخ قبل الدخول إذا أفلس حينئذ (¬3). ¬
رابعا ـ زيادة المبيع عند المشتري المفلس
ثالثها ـ أن يبقى عين المال على حاله، دون أن يتغير أو ينتقل عما كان عليه حين البيع، فإن تغير، ساهم صاحب المال مع الغرماء، فلا يرجع إن طحنت الحنطة أو بذرت أو قليت أو عجنت أو خبزت، أو جعل الزُّبْد سمناً، أو فصل القماش ثوباً، أو قطع الجلد نعالاً أو ذبح الحيوان، أو تتمر الرطب (جعله تمراً)، أو خلط الشيء بغير مثله، ولم يتيسر تمييزه، كخلط عسل بسمن أو زيت، أو قمح جيد بعفن أو مسوس، أو زيت بنوع آخر من الزيوت. فإن خلط الشيء بمثله، أو دبغ الجلد، أو صبغ الثوب، أو نسج الغزل، أو تعيب الشيء بآفة سماوية أو بفعل المشتري أو بفعل أجنبي وعاد لهيئته الأولى، فلصاحبه حق الرجوع وأخذ الشيء. فإن استمر العيب، ولم يعد الشيء لهيئته الأولى، فله أخذه ومشاركة الغرماء بنسبة النقص، أو تركه ومشاركة الغرماء بجميع الثمن. رابعاً ـ زيادة المبيع عند المشتري المفلس: إذا زاد المبيع في يد المفلس فهل لصاحبه حق الرجوع؟ للزيادة حالات: الحالة الأولى ـ الزيادة المتصلة: كالسمن والكبر، وتعلم الصناعة أو الكتابة أو القرآن ونحوها، لا تمنع الرجوع عند المالكية إلا أن يعطيه الغرماء ثمن المبيع، وعند الشافعية، وفي رواية عن أحمد. وتمنع الرجوع في رأي الخرقي الحنبلي، ويظهر أنه الرأي الراجح عند الحنابلة لاتفاق كتبهم عليه (¬1). ¬
الحالة الثانية ـ الزيادة المنفصلة
الحالة الثانية ـ الزيادة المنفصلة: كالثمرة والولد الحادثين بعد البيع في يد المشتري، لا تمنع الرجوع باتفاق المذاهب الثلاثة، ويرجع البائع في الأصل، دون الزيادة، فإنها تكون للمشتري؛ لأن الشارع إنما أثبت لصاحب المال الرجوع في المبيع ذاته، فيقتصر عليه (¬1). الحالة الثالثة ـ الزيادة بسبب الصبغ: إذا اشترى رجل من آخر قماشاً فصبغه بصباغ ما، ثم أفلس، لم يمنع الصبغ باتفاق المذاهب الثلاثة من رجوع البائع بأصل القماش؛ لأن له حق الرجوع بعين ماله. ويكون المفلس شريكاً لصاحب القماش بما زاد في قيمته، وتكون الزيادة له (¬2). وفي احتمال آخر عند الحنابلة: ألا يكون له الرجوع إذا زادت القيمة، لأنه اتصل بالمبيع زيادة للمفلس، فمنعت الرجوع كالسمن. الحالة الرابعة ـ الزيادة بالبناء أو الغرس أو الزراعة: قال المالكية (¬3): من وجد ماله بعينه عند المفلس، وقد أحدث زيادة، مثل أن تكون أرضاً فبناها أو غرسها، امتنع عليه الرجوع، ويساهم مع الغرماء في ماله. وقال الشافعية والحنابلة (¬4): لو اختار البائع الرجوع في الأرض بعد بناء المشتري أو غرس أشجار فيها، فإن اتفق الغرماء والمفلس على تفريغها من البناء ¬
خامسا ـ تغيير المبيع بطحن الحنطة أو غزل الصوف ونحوهما
والغرس، فلهم ذلك؛ لأن الحق لهم لا يعدوهم، فإذا تم التفريغ فللبائع الرجوع في أرضه؛ لأنه وجد متاعه بعينه، ويجب تسوية الحفر وغرامة أرش النقص من مال المفلس إن نقصت بالقلع، وإن امتنعوا عن التفريغ، لم يجبروا، قيل: وللبائع الرجوع في الأرض، ويتملك البناء والغراس بقيمته، وله أن يقلع ويضمن أرش النقص؛ لأن مال المفلس مبيع كله، والضرر يندفع بكل واحد من الأمرين، كالزيادة بالصبغ. والأرجح عند الشافعية والحنابلة: أنه ليس للبائع الرجوع في الأرض، ويبقى البناء والغراس للمفلس، لما في الرجوع من ضرر بالمفلس المشتري والغرماء، والضرر لا يزال بالضرر، فالرجوع إنما شرع لدفع الضرر، فلا يزال ضرر البائع بضرر المفلس والغرماء. وحينئذ يساهم البائع مع الغرماء بالثمن. وبه اتفقت المذاهب الثلاثة على عدم الرجوع في هذه الحالة. فإن زرع المشتري الأرض، ثم أفلس، فيجوز للبائع عند الشافعية (¬1) الرجوع في الأرض؛ لأنه وجد عين ماله مشغولاً بما ينقل، كما لو كان المبيع داراً، وفيها متاع للمشتري. وحينئذ إن استحصد الزرع، وجب نقله، وإن لم يستحصد، جاز تركه إلى أوان الحصاد، من غير أجرة؛ لأن المشتري زرع في أرضه، فإذا زال الملك، جاز ترك الزرع إلى أوان الحصاد، من غير أجرة، كما لو زرع أرضه، ثم باع الأرض. خامساً ـ تغيير المبيع بطحن الحنطة أو غزل الصوف ونحوهما: إن اشترى شخص حنطة فطحنها، أو زرعها، أو دقيقاً فخبزه، أو زيتاً فعمله صابوناً، أو ثوباً قماشاً فقطعه قميصاً، أو غزلاً فنسجه ثوباً، أو خشباً فنجّره أبواباً، ¬
سادسا ـ خلط المبيع بغيره
أو شريطاً فعمله إبراً، أو شيئاً عمل به ما أزال اسمه، ثم أفلس، سقط حق الرجوع للبائع باتفاق المذاهب الثلاثة على الأظهر عند الشافعية إن زادت القيمة. فإن لم تزد القيمة رجع البائع، ولا شيء للمفلس (¬1). سادساً ـ خلط المبيع بغيره: إذا اشترى شخص زيتاً فخلطه بزيت آخر، أو قمحاً فخلطه بما لا يمكن تمييزه منه، سقط حق الرجوع باتفاق المذاهب الثلاثة. لكن قال المالكية: إن خلط الشيء بمثله، فله حق الرجوع، وقال الشافعية: إن خلط المبيع بمثله أو دونه، فللبائع أخذ قدر المبيع من المخلوط، وإن خلطه بأجود منه، فلا رجوع في المخلوط في الأظهر، بل يضارب مع الغرماء بالثمن (¬2). سابعاً ـ نقص المبيع: إذا نقصت مالية المبيع لذهاب صفة مع بقاء عينه، أو لعيب، كهزال، أو مرض، أو بلى ثوب، لم يمنع الرجوع باتفاق المذاهب الثلاثة؛ لأن فقد الصفة لا يخرجه عن كونه عين ماله، لكن البائع عند الشافعية والحنابلة يتخير بين أخذه ناقصاً بجميع حقه، وبين أن يساهم مع الغرماء بجميع الثمن؛ لأن الثمن لا يتقسط على صفة السلعة من هزال أو غيره، فيصير كنقصه بسبب تغير الأسعار. ويتخير البائع عند المالكية بين أخذه ومشاركة الغرماء بنسبة النقص، أو تركه ¬
المبحث الثالث ـ رفع الحجر عن المحجورين
ومشاركة الغرماء بجميع الثمن. وهو مذهب الشافعية أيضاً فيما إذا كان إتلاف بعض الشيء من أجنبي (¬1). المبحث الثالث ـ رفع الحجر عن المحجورين: من المقرر شرعاً أن الحكم يدور مع سببه أو علته وجوداً أو عدماً، وبما أن الحجر كان لسبب، فإذا زال سبب الحجر، زال مسببه الذي بني عليه، وهو الحجر، وقد بينت الحكم في بحث أثر الحجر في المحجورين وأوجزه هنا. يرتفع الحجر عن السفيه إذا ظهر رشده وأمارات حرصه على ماله، ولكن لا بد في الراجح عند الفقهاء، خلافاً لمحمد بن الحسن وابن القاسم كما تبين في السفه، من قرار القاضي برفع الحجر؛ لأن ما ثبت بحكم القاضي لا يزول إلا بحكم آخر. كذلك يرفع الحجر عن المغفل إذا ظهرت خبرته، واهتدى إلى حسن التصرف، عن طريق حكم القاضي، على الخلاف السابق في السفيه. ويرفع الحجر عن المجنون بدون حكم القاضي باتفاق إذا شفي وعاد إليه عقله. ومثله المعتوه إذا اكتملت قواه العقلية وزال تخبطه في الكلام. وأما الصغير: فإن كان غير مميز فيرفع الحجر عن بعض تصرفاته عند الحنفية والمالكية بإتمام سن السابعة. وإن كان مميزاً فيرفع الحجر عنه شيئان (¬2): أحدهما ـ عند الجمهور غير الشافعية: وهو إذن الولي إياه بالتجارة، والإذن بالتجارة يزيل الحجر عن التصرفات الدائرة بين الضرر والنفع. وعند الشافعية: لايزول الحجر عن المميز ولو بالإذن بالتجارة. ¬
المفلس
الثاني ـ بلوغه عاقلاً رشيداً من غير حاجة إلى ترشيد ولي أو حكم من القاضي عند الجمهور غير المالكية. وقال المالكية: الصغير ذو الأب: يزول الحجر عنه ببلوغه رشيداً بغير حكم الحاكم. فإن كان عليه وصي من الأب، فيزول حجره بترشيد منه من غير إذن الحاكم، وإن كان وصيه من القاضي، فيزول حجره بترشيده، بإذن القاضي في رأي ابن جزي المالكي، وأما ما ذكره الدردير في الشرح الكبير والصغير فلا يحتاج الوصي مطلقاً في ترشيده إلى إذن القاضي، وما ذكره الدردير أرجح. والترشيد: أن يقول الوصي أمام العدول: اشهدوا أني فككت الحجر عن فلان، وأطلقت له التصرف، لما قام عندي من رشده وحسن تصرفه. وللقاضي ترشيد المحجور إذا ثبت عنده رشده، سواء كان بوصي أو بغير وصي. والأنثى تظل في ولاية أبيها في مشهور المذهب حتى تتزوج ويدخل بها زوجها، ويؤنس رشدها، أو يشهد العدول بحفظ مالها، أو يرشدها أبوها قبل الدخول أو بعده، أو وصيها المختار بعد الدخول. وليس لوصي القاضي ترشيدها مطلقاً إلا بشهادة البينة برشدها، كما ذكر في بحث حجر الصغير. وأما المفلس إذا قسم ماله بين الغرماء، فهل ينفك عنه الحجر بالقسمة، أو يحتاج إلى حكم القاضي بفك الحجر؟ ذكر الشافعية والحنابلة (¬1) فيه وجهين: أحدهما ـ يزول الحجر، بقسمة مال المفلس؟ لأن المعنى الذي لأجله حجر عليه قد زال، فزال الحجر تبعاً له، كزوال حجر المجنون لزوال جنونه. ¬
المبحث الرابع ـ تعلق الدين بالتركة
والثاني ـ لا يزول إلا بحكم الحاكم؛ لأنه حجر ثبت بالحاكم، فلم يزل إلا بالحاكم، كالحجر على المبذر. ويختلف حكمه عن المجنون؛ لأن حجره ثبت بنفسه فزال بزواله. وفي تقديري: أنه ينبغي أن يتضمن حكم القاضي بحجر المفلس تحديد غاية معينة للحجر، وهي أن يتم تصفية أموال المفلس، فإذا تحقق الهدف، زال أثر الحجر تلقائياً بدون حاجة لحكم القاضي. المبحث الرابع ـ تعلق الدين بالتركة: ههنا أمور ثلاثة: 1ً - هل تحل الديون المؤجلة بالموت؟ يرى جمهور العلماء ومنهم أئمة المذاهب في رواية عن أحمد (¬1) أن الديون المؤجلة تحل بالموت، كما تحل عند الحنفية والمالكية خلافاً لغيرهم بالتفليس. قال الزهري: مضت السنة بأن دينه قد حل حين مات (¬2). وحجتهم أن الله تبارك وتعالى لم يبح التوارث إلا بعد قضاء الدين. وفي رواية أخرى عن أحمد: لايحل الدين المؤجل بالموت أو الجنون إن وثق الورثة الدين برهن يحرز أو كفيل مليء. وإذا لم يحل الدين بالموت، فلا يخلو إما أن يبقى في ذمة الميت، أو الورثة، أو يتعلق بالمال: لا يجوز بقاؤه في ذمة الميت لخرابها وتعذر مطالبته بها، ولا في ذمة الورثة؛ لأنهم لم يلتزموا الدين، ولا رضي صاحب الدين بذممهم، وهي مختلفة متباينة، ولا يجوز تعلق بأعيان أموال التركة، أو تأجيله؛ لأنه ضرر بالميت، وصاحب الدين، ولا نفع للورثة فيه. أما إضرار الميت فلأن ذمته تظل ¬
- كيفية تعلق الدين بالتركة
مشغولة بالدين حتى يوفى عنه لحديث: «نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه» (¬1). وأما إضرار صاحب الدين (الدائن) فيتأخر حقه، وقد تتلف العين، فيسقط حقه، وأما إضرار الوراثة فإنهم لا ينتفعون بأعيان التركة ولا يتصرفون فيها. ولأن الموت ما جعل مبطلاً للحقوق، وإنما هو ميقات للخلافة وعلامة على الوراثة، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «من ترك حقاً أو مالاً فلورثته» (¬2). 2ً - كيفية تعلق الدين بالتركة: يرى أغلب العلماء (¬3) أن الدين يبقى في ذمة الميت كما كان، ويتعلق بعين ماله كتعلق حقوق الغرماء بمال المفلس عند الحجر عليه، أو كتعلق الدين بالمرهون؛ لأنه أحوط للميت، إذ يمتنع على الورثة تصرفهم بأموال التركة قبل قضاء الديون. والأصح عند الشافعية أن يستوي الدين المستغرق وغيره في رهن التركة، فلا ينفذ تصرف الوارث في شيء منها. وبناء عليه لو باع رجل سلعة ثم مات المشتري قبل أداء الثمن، يكون البائع أحق بسلعته عند الشافعية، كما في حال الإفلاس. ودليلهم رواية ابن أبي ذئب بسنده عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أيما رجل مات، أو أفلس، فصاحب المتاع أحق به». وقال الحنابلة والحنفية والمالكية (¬4): صاحب المتاع أسوة الغرماء بدليل رواية ¬
- هل يمنع الدين نقل التركة إلى الورثة؟
أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة، ومعناها «أيما رجل مات أو أفلس، فوجد بعض غرمائه ماله بعينه، فصاحب المتاع أسوة الغرماء». 3ً - هل يمنع الدين نقل التركة إلى الورثة؟ هناك رأيان عند الشافعية والحنابلة (¬1)، الصحيح منهما: أن تعلق الدين بالتركة لا يمنع الإرث؛ لأن تعلقه بها لا يزيد على تعلق حق المرتهن بالمرهون، وحق الدائن بمال المفلس، وحق المجني عليه بمال الجاني، وهو كله لا يزيل الملك في حق الراهن والمفلس والجاني، فلا يمنع تعلق الدين بالتركة من نقل الملك إلى الورثة. فلو تصرف الورثة بالتركة ببيع أو غيره، صح تصرفهم، ولزمهم أداء الدين، فإن تعذر وفاؤه فسخ تصرفهم. وتكون زوائد التركة كالنتاج أو الولد أو الولد من حق الورثة؛ لأنها حدثت في ملكهم. ولو تصرف الوارث ولم يكن هناك دين، ثم طرأ دين برد مبيع معيب، فيظل التصرف في الأصح نافذاً، لكن إن لم يقض الدين، فسخ تصرفه، ليصل المستحق إلى حقه. ولا خلاف في أن للوارث إمساك عين التركةوقضاء الدين من ماله؛ لأنه خليفة المورث، والمورث كان له ما ذكر. وإذا قسم مال الميت أو مال المفلس بين الغرماء، ثم ظهر غريم آخر، رجع على الغرماء، وشاركهم فيما أخذوه على قدر دينه؛ لأن القسمة كانت بحكم الظاهر أنه لا غريم له غيرهم، فإذا بان خلاف الظاهر، وجب نقض القسمة. ¬
والرأي الثاني المرجوح: أن الدين يمنع نقل التركة إلى الورثة لقوله تعالى: {من بعد وصية يوصِي بها أو دين} [النساء:11/ 4] أي من بعد إعطاء وصية أو إيفاء دين إن وجد، فجعل التركة للوارث من بعد الدين والوصية، فلا يثبت لهم الملك قبلهما. فلو تصرف الورثة لم يصح تصرفهم؛ لأنهم تصرفوا في غير ملكهم إلا أن يأذن الغرماء لهم.
القسم الرابع: الملكية وتوابعها
القسْمُ الرَّابع: المِلْكيّة وَتوابعُها يتضمن هذا القسم بحث الملكية في بابين: الباب الأول ـ الملكية، وفيها تمهيد وستة فصول هي: الفصل الأول ـ تعريف الملكية والملك. الفصل الثاني ـ قابلية المال للتملك وعدمها. الفصل الثالث ـ أنواع الملك. الفصل الرابع ـ أنواع الملك الناقص. الفصل الخامس ـ أسباب الملك التام. الفصل السادس ـ طبيعة الملك أو هل الملكية الخاصة في تشريع الإسلام مطلقة أو مقيدة؟ وأما الباب الثاني: فهو توابع الملكية، وبحثها في اثني عشر فصلاً، أذكرها بعد التمهيد التالي:
تمهيد
....................... تمهيد ........................................ إن الملكية وخصائصها من أخطر ما يقوم عليه النظام الاقتصادي في الماضي والحاضر، وهي محور الخلاف بين النظامين العالميين المعاصرين: النظام الرأسمالي والنظام الاشتراكي، لذا كان بحث الملكية وتوابعها من القضايا المهمة التي تشغل بال العالم. وسيجد الباحث أن هناك كثيراً من أوجه الالتقاء والشبه بين الأنظمة الحالية في أهدافها السامية وبين النظام الإسلامي في تنظيم الملكية، على نحو يحقق مصلحة الفرد والجماعة، أو مصلحة الشعب والدولة، وبذلك انحلت عقدة الصراع على قضية الملكية بما كفله الإسلام من صون مبدأ التملك، ولكن مع تقييده بقيود شديدة ومتعددة لتحقيق مصلحة الجماعة، وتطويقه بوازع الدين الحارس الأمين لكل مصلحة عامة، والدافع القوي للمساهمة في دعم الصالح العام. كما سيجد الباحث مع ملاحظة اختلاف وجهات النظر الفقهية: أن الأموال العامة كالنفط والمعادن هي حق للجماعة ممثلة بالدولة، كما أن كثيراً من الأحكام الفقهية القديمة مأخوذ به فعلاً في التقنينات الوضعية الحديثة، سواء في ميدان العقود أم في حال الاعتداء على الأموال، وضمان المتلفات على أساس من العدالة والمساواة بين الضرر والتعويض، ورعاية حق الملكية، والدفاع عن المقدسات من نفس ومال وعرض. وهو كله دليل على سمو المبادئ الإسلامية وعدالتها في التطبيق. والله الموفق إلى سواء السبيل.
هذا وقد سبق في النظريات الفقهية بحث الملكية: تعريفها، أسبابها، أنواعها، ولا بأس من إعادة بحثها هنا بنحو أشمل، مع بحث طبيعة الملكية أو هل الملكية الفردية في الإسلام مطلقة أو مقيدة؟ ثم أذكر ما يتعلق بها، وهو ما يأتي في الفصول الاثنتي عشرة الآتية، وهي موضوع الباب الثاني. الفصل الأول ـ أحكام الأراضي. الفصل الثاني ـ إحياء الموات. الفصل الثالث ـ أحكام المعادن والحمى والإقطاع. الفصل الرابع ـ حقوق الارتفاق. الفصل الخامس ـ عقود استثمار الأرض ـ المزارعة، المساقاة، المغارسة. الفصل السادس ـ اتفاق القسمة. الفصل السابع ـ الغصب والإتلاف. الفصل الثامن ـ دفع الصائل. الفصل التاسع ـ اللقطة واللقيط. الفصل العاشر ـ المفقود. الفصل الحادي عشر ـ المسابقة والمناضلة. الفصل الثاني عشر ـ الشفعة. ملحق ـ معالم النظام الاقتصادي في الإسلام.
الباب الأول: الملكية وخصائصها
البَابُ الأوَّل: الملكيّة وخَصَائِصها وفيه ستة فصول يأتي بحثها تباعاً وهي ما يأتي:
الفصل الأول: تعريف الملكية والملك
الفَصْلُ الأوَّل: تعريف الملكيَّة والمُلْك الملكية أو الملك: علاقة بين الإنسان والمال أقرها الشرع (¬1) تجعله مختصاً به، ويتصرف فيه بكل التصرفات ما لم يوجد مانع من التصرف. والملك كما يطلق على هذه العلاقة، يطلق أيضاً على الشيء المملوك، تقول: هذا الشيء ملكي أي مملوك لي. وهذا المعنى هو المقصود في تعريف المجلة (م125) للملك: بأنه ما ملكه الإنسان، سواء أكان أعياناً أم منافع. وبهذا المعنى يفهم قول الحنفية: إن المنافع والحقوق ملك وليست بمال. وبناء عليه فالملك أعم من المال عندهم. والملك في اللغة: هو حيازة الإنسان للمال والاستبداد به، أي الانفراد بالتصرف فيه. وقد عرف الفقهاء الملك بتعاريف متقاربة مضمونها واحد (¬2)، ولعل أفضلها هو ما يأتي: الملك: اختصاص بالشيء يمنع الغير منه، ويمكن صاحبه من التصرف فيه ابتداء إلا لمانع شرعي. ¬
فإذا حاز الشخص مالاً بطريق مشروع أصبح مختصاً به، واختصاصه به يمكنه من الانتفاع به والتصرف فيه إلا إذا وجد مانع شرعي يمنع من ذلك كالجنون أو العته أو السفه أو الصغر ونحوها. كما أن اختصاصه به يمنع الغير من الانتفاع به أو التصرف فيه إلا إذا وجد مسوغ شرعي يبيح له ذلك كولاية أو وصاية أو وكالة. وتصرف الولي والوصي أو الوكيل لم يثبت له ابتداء، وإنما بطريق النيابة الشرعية عن غيره، فيكون القاصر أو المجنون ونحوهما هو المالك، إلا أنه ممنوع من التصرف بسبب نقص أهليته أو فقدانها، ويعود له الحق بالتصرف عند زوال المانع أو العارض.
الفصل الثاني: قابلية المال للتملك وعدمها
الفَصْلُ الثَّاني: قابليَّة المال للتّملك وعدمها المال في الأصل قابل بطبيعته للتملك، لكن قد يعرض له عارض يجعله غير قابل في كل الأحوال أو في بعضها للتملك، فيتنوع المال بالنسبة لقابليته للتملك إلى ثلاثة أنواع: 1 - ما لا يقبل التمليك ولا التملك بحال: وهو ما خصص للنفع العام كالطرق العامة والجسور والحصون والسكك الحديدية والأنهار والمتاحف والمكتبات العامة والحدائق العامة ونحوها. فهذه الأشياء غير قابلة للتملك لتخصيصها للمنافع العامة. فإذا زالت عنها تلك الصفة عادت لحالتها الأصلية، وهي قابلية التملك، فالطريق إذا استغني عنه أو ألغي جاز تملكه. 2 - ما لا يقبل التملك إلا بمسوغ شرعي: كالأموال الموقوفة وأملاك بيت المال، أي الأموال الحرة في عرف القانونيين. فالمال الموقوف لا يباع ولا يوهب إلا إذا تهدم أو أصبحت نفقاته أكثر من إيراده، فيجوز للمحكمة الإذن باستبداله (¬1). ¬
3 - ما يجوز تملكه وتمليكه مطلقا بدون قيد
وأملاك بيت المال (أو وزارة المالية، أو الحكومة) لا يصح بيعها إلا برأي الحكومة لضرورة أو مصلحة راجحة، كالحاجة إلى ثمنها، أو الرغبة فيها بضعف الثمن ونحوها؛ لأن أموال الدولة كأموال اليتيم عند الوصي لا يتصرف فيها إلا للحاجة أو المصلحة، قال الخليفة عمر رضي الله عنه: «أنزلت نفسي من بيت مال المسلمين بمنزلة وصي اليتيم». 3 - ما يجوز تملكه وتمليكه مطلقاً بدون قيد: وهو ما عدا النوعين السابقين.
الفصل الثالث: أنواع الملك
الفَصْلُ الثَّالث: أنْواع المُلْك الملك إما تام أو ناقص. الملك التام: هو ملك ذات الشيء (رقبته) ومنفعته معاً، بحيث يثبت للمالك جميع الحقوق الشرعية. ومن أهم خصائصه: أنه ملك مطلق دائم لا يتقيد بزمان محدود ما دام الشيء محل الملك قائماً، ولا يقبل الإسقاط (أي جعل الشيء بلا مالك)، فلو غصب شخص عيناً مملوكة لآخر، فقال المالك المغصوب منه: أسقطت ملكي، فلا تسقط ملكيته ويبقى الشيء ملكاً له، وإنما يقبل النقل، إذ لا يجوز أن يكون الشيء بلا مالك. وطريق النقل إما العقد الناقل للملكية كالبيع، أو الميراث أو الوصية. ويمنح صاحبه الصلاحيات التامة من حرية الاستعمال والاستثمار والتصرف فيما يملك كما يشاء، فله البيع أو الهبة أو الوقف أو الوصية، كما له الإعارة والإجارة؛ لأنه يملك ذات العين والمنفعة معاً، فله التصرف بهما معاً، أو بالمنفعة فقط. وإذا أتلف المالك ما يملكه لا ضمان عليه، إذ لا يتصور مالك وضامن في شخص واحد، لكن يؤاخذ ديانة؛ لأن إتلاف المال حرام، وقد يؤاخذ قضاء، فيحجر عليه إذا ثبت سفهه.
الملك الناقص
والملك الناقص: هو ملك العين وحدها، أو المنفعة وحدها. ويسمى ملك المنفعة حق الانتفاع. وملك المنفعة قد يكون حقاً شخصياً للمنتفع أي يتبع شخصه لا العين المملوكة، كالموصى له بمنفعة شيء مدة حياته، وقد يكون حقاً عينياً، أي تابعاً للعين دائماً، بقطع النظر عن الشخص المنتفع. وهذا يسمى حق الارتفاق، ولا يكون إلا في العقار.
الفصل الرابع: أنواع الملك الناقص
الفَصْلُ الرَّابع: أنْواع المُلك النَّاقص وبناء عليه يكون الملك الناقص ثلاثة أنواع: 1 - ملك العين فقط: وهو أن تكون العين (الرقبة) مملوكة لشخص، ومنافعها مملوكة لشخص آخر، كأن يوصي شخص لآخر بسكنى داره أو بزراعة أرضه مدة حياته، أو مدة ثلاث سنوات مثلاً، فإذا مات الموصي وقبل الموصى له، كانت عين الدار ملكاً لورثة الموصي بالإرث، وللموصى له ملك المنفعة مدة حياته أو المدة المحددة. فإذا انتهت المدة صارت المنفعة ملكاً لورثة الموصي، فتعود ملكيتهم تامة. وفي هذه الحالة: ليس لمالك العين الانتفاع بها ولا التصرف بمنفعتها، أو بالعين، ويجب عليه تسليم العين للمنتفع ليستوفي حقه من منافعها، فإذا امتنع أجبر على ذلك. وبه يظهر أن ملكية العين فقط تكون دائمة، وتنتهي دائماً إلى ملكية تامة، وملكية المنافع قد تكون مؤقتة لا دائماً؛ لأن المنافع لا تورث عند الحنفية. أو دائمة كالوقف.
2 - ملك المنفعة الشخصي أو حق الانتفاع
2 - ملك المنفعة الشخصي أو حق الانتفاع (¬1): هناك أسباب خمسة لملك المنفعة: وهي الإعارة والإجارة، والوقف والوصية، والإباحة. أما الإعارة: فهي عند جمهور الحنفية والمالكية: تمليك المنفعة بغير عوض. فللمستعيرأن ينتفع بنفسه، وله إعارة الشيء لغيره، لكن ليس له إجارته؛ لأن الإعارة عقد غير لازم (يجوز الرجوع عنه في أي وقت)، والإجارة عقد لازم، والضعيف لا يتحمل الأقوى منه، وفي إجارة المستعار إضرار بالمالك الأصلي. وعند الشافعية والحنابلة: هي إباحة المنفعة بلا عوض. فليس للمستعير إعارة المستعار إلى غيره. وأما الإجارة: فهي تمليك المنفعة بعوض. وللمستأجر استيفاء المنفعة بنفسه، أو بغيره مجاناً أو بعوض إذا لم تختلف المنفعة باختلاف المنتفعين، حتى ولو شرط ¬
الوقف
المؤجر على المستأجر الانتفاع بنفسه. فإن اختلف نوع المنفعة كان لا بد من إذن المالك المؤجر. وأما الوقف: فهو حبس العين عن تمليكها لأحد من الناس وصرف منفعتها إلى الموقوف عليه. فالوقف يفيد تمليك المنفعة للموقوف عليه، وله استيفاء المنفعة بنفسه، أو بغيره إن أجاز له الواقف الاستثمار، فإن نص على عدم الاستغلال، أو منعه العرف منه، فليس له الاستغلال. وأما الوصية بالمنفعة: فهي تفيد ملك المنفعة فقط في الموصى به، وله استيفاء المنفعة بنفسه، أو بغيره بعوض أو بغير عوض إن أجاز له الموصي الاستغلال. وأما الإباحة: فهي الإذن باستهلاك الشيء أو باستعماله، كالإذن بتناول الطعام أو الثمار، والإذن العام بالانتفاع بالمنافع العامة كالمرور في الطرقات والجلوس في الحدائق ودخول المدارس والمشافي. والإذن الخاص باستعمال ملك شخص معين كركوب سيارته، أو السكن في داره. وسواءأكانت الإباحة مفيدة ملك الانتفاع بالشيء بالفعل أو بإحرازه كما يرى الحنفية، أم مجرد الانتفاع الشخصي كما يرى المالكية، فإن الفقهاء متفقون على أنه ليس للمنتفع إنابة غيره في الانتفاع بالمباح له، لا بالإعارة ولا بالإباحة لغيره. والفرق بين الإباحة والملك هو: أن الملك يكسب صاحبه حق التصرف في الشيء المملوك ما لم يوجد مانع. أما الإباحة: فهي حق الإنسان بأن ينتفع بنفسه بشيء بموجب إذن. والإذن قد يكون من المالك كركوب سيارته، أو من الشرع كالانتفاع بالمرافق العامة، من طرقات وأنهار ومراعٍ ونحوها.
خصائص حق المنفعة أو الانتفاع الشخصي
فالمباح له الشيء لا يملكه ولا يملك منفعته، بعكس المملوك. خصائص حق المنفعة أو الانتفاع الشخصي: يتميز الملك الناقص أو حق المنفعة الشخصي بخصائص أهمها مايأتي: 1 - يقبل الملك الناقص التقييد بالزمان والمكان والصفة عند إنشائه، بعكس الملك التام، فيجوز لمن يعير سيارته لغيره أو يوصي بمنفعة داره أن يقيد المنتفع بمدة معينة كشهر مثلاً، وبمكان معين كالركوب في المدينة لا في الصحراء، وأن يركبها بنفسه لا بغيره. 2 - عدم قبول التوارث عند الحنفية خلافاً لجمهور الفقهاء: فلا تورث المنفعة عند الحنفية؛ لأن الإرث يكون للمال الموجود عند الموت، والمنافع لا تعتبر مالاً عندهم كما تقدم. أما عند غير الحنفية فتورث المنافع في المدة الباقية؛ لأن المنافع عندهم أموال كما أوضحت، فتورث كغيرها من الأموال، فمن أوصى لغيره بسكنى داره مدة معلومة، ثم مات قبل انتهاء هذه المدة، فلورثته الحق بسكنى الدار إلى نهاية المدة. وهذا هو الراجح؛ لأن المنفعة مال. 3 - لصاحب حق المنفعة تسلم العين المنتفع بها ولو جبراً عن مالكها. ومتى تسلمها تكون أمانة في يده، فيحافظ عليها كما يحافظ على ملكه الخاص، وإذا هلكت أو تعيبت لا يضمنها إلا بالتعدي أو بالتقصير في حفظها. وما عدا ذلك لاضمان عليه. 4 - على المنتفع ما تحتاجه العين من نفقات إذا كان انتفاعه بها مجاناً، كما في الإعارة. فإن كان الانتفاع بعوض كما في الإجارة فعلى مالك العين نفقاتها.
انتهاء حق المنفعة
5 - على المنتفع بعد استيفاء منفعته تسليم العين إلى مالكها متى طلبها إلا إذا تضرر المنتفع. كما إذا لم يحن وقت حصاد الزرع في أرض مستأجرة أو مستعارة، فله إبقاء الأرض بيده حتى موسم الحصاد، ولكن بشرط دفع أجر المثل. انتهاء حق المنفعة: حق المنفعة حق مؤقت كما عرفنا، فينتهي بأحد الأمور التالية: 1 - انتهاء مدة الانتفاع المحددة. 2 - هلاك العين المنتفع بها أو تعيبها بعيب لا يمكن فيه معه استيفاء المنفعة. كانهدام دار السكنى، أو صيرورة أرض الزراعة سبخة أو ملحة. فإن حصل ذلك بتعدي مالك العين ضمن عيناً أخرى، كالموصى له بركوب سيارة ثم عطلها، فعليه تقديم سيارة أخرى. 3 - وفاة المنتفع عند الحنفية؛ لأن المنافع لا تورث عندهم. 4 - وفاة مالك العين إذا كانت المنفعة من طريق الإعارة أو الإجارة؛ لأن الإعارة عقد تبرع، وهو ينتهي بموت المتبرع، ولأن ملكية المأجور تنتقل إلى ورثة المؤجر، وهذا عند الحنفية، وقال الشافعية والحنابلة: الإعارة عقد غير لازم فيجوز للمعير أو لورثته الرجوع عنها، سواء أكانت مطلقة أم مؤقتة. وقال المالكية: الإعارة المؤقتة عقد لازم، فمن أعار دابة إلى موضع كذا، لم يجز له أخذها قبل ذلك، وإلا لزمه إبقاؤها قدر ما ينتفع بالمستعار الانتفاع المعتاد. وبه يتبين أن الجمهور يقولون: إن الإعارة لا تنتهي بموت المعير أو المستعير، وكذلك الإجارة لا تنتهي بموت أحد العاقدين؛ لأنها عقد لازم كالبيع.
3 - ملك المنفعة العيني أو حق الارتفاق
أما إذا كانت المنفعة من طريق الوصية أو الوقف، فلا ينتهي حق المنفعة بموت الموصي؛ لأن الوصية تبدأ بعد موته، ولا بموت الواقف؛ لأن الوقف إما مؤبد، أو مؤقت فيتقيد بانتهاء مدته. 4670 3 - ملك المنفعة العيني أو حق الارتفاق: حق الارتفاق: هو حق مقرر على عقار لمنفعة عقار آخر، مملوك لغير مالك العقار الأول. وهو حق دائم يبقى ما بقي العقاران، دون نظر إلى المالك، مثل حق الشِّرب، وحق المجرى، وحق المسيل، وحق المرور، وحق الجوار، وحق العلو. أما حق الشّرب: فهو النصيب المستحق من الماء لسقي الزرع والشجر، أو نوبة الانتفاع بالماء لمدة معينة لسقي الأرض. ويلحق به حق الشَّفَة: وهو حق شرب الإنسان والدواب والاستعمال المنزلي. وسمي بذلك؛ لأن الشرب يكون عادة بالشفة. والماء بالنسبة لهذا الحق أربعة أنواع (¬1): آـ ماء الأنهار العامة كالنيل ودجلة والفرات ونحوها من الأنهار العظيمة: لكل واحد الانتفاع به، لنفسه ودوابه وأراضيه، بشرط عدم الإضرار بالغير لحديث: «الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار» وحديث: «لا ضرر ولا ضرار». ب ـ ماء الجداول والأنهار الخاصة، المملوكة لشخص: لكل إنسان حق الشفة منه، لنفسه ودوابه، وليس لغير مالكه سقي أراضيه إلا بإذن مالك المجرى. ¬
حق الشرب
جـ ـ ماء العيون والآبار والحياض ونحوها المملوكة لشخص: يثبت فيها كالنوع الثاني حق الشفة دون حق الشرب. فإن أبى صاحب الماء، ومنع الناس من الاستقاء لأنفسهم ودوابهم، كان لهم قتاله حتى ينالوا حاجتهم، إذ لم يجدوا ماء قريباً آخر. د ـ الماء المحرز في أوان خاصة: كالجرار والصهاريج، لا يثبت لأحد حق الانتفاع به بأي وجه إلا برضا صاحب الماء؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع الماء إلا ما حمل منه. لكن المضطر إلى هذا الماء الذي يخاف على نفسه الهلاك من العطش، له أخذ ما يحتاجه منه، ولو بالقوة ليدفع عن نفسه الهلاك، ولكن مع دفع قيمته؛ لأن «الاضطرار لا يبطل حق الغير». وحق المجرى: هو حق صاحب الأرض البعيدة عن مجرى الماء في إجرائه من ملك جاره إلى أرضه لسقيها. وليس للجار أن يمنع مرور الماء لأرض جاره، وإلا كان له إجراؤه جبراً عنه، دفعاً للضرر عنه. وحق المسيل: هو مجرى على سطح الأرض، أو أنابيب تنشأ لتصريف المياه الزائدة عن الحاجة، أو غير الصالحة حتى تصل إلى مصرف عام أو مستودع، كمصارف الأراضي الزراعية أو مياه الأمطار أو الماء المستعمل في المنازل. والفرق بين المسيل والمجرى: أن المجرى لجلب المياه الصالحة للأرض، والمسيل لصرف الماء غير الصالح عن الأرض أو عن الدار. وحكمه مثل حق المجرى، ليس لأحد منعه إلا إذا حدث ضرر بيِّن. وحق المرور: وهو حق صاحب عقار داخلي بالوصول إلى عقاره من طريق يمر فيه، سواء أكان الطريق عاماً غير مملوك لأحد، أم خاصاً مملوكاً للغير. فالطريق العام يحق لكل إنسان المرور فيه. والطريق الخاص: يحق لأصحابه المرور فيه وفتح الأبوب والنوافذ عليه، وليس لهم سده أمام العامة للالتجاء إليه.
حق الجوار
وحق الجوار: الجوار نوعان: علوي وجانبي. وفيه حقان: 1 ً - حق التعلي: وهو الثابت لصاحب العلو على صاحب السفل. 2 ً ـ حق الجوار الجانبي: وهو الثابت لكل من الجارين على الآخر. ولصاحب حق التعلي حق القرار على الطبقة السفلى، وهو حق ثابت دائماً لصاحب العلو، لا يزول بهدم العقار كله أو انهدام السفل، وله ولورثته إعادة بنائه حين يريد، وليس لصاحب العلو أو السفل أن يتصرف في بنائه تصرفاً يضر بالآخر. وإذا انهدم السفل وجب على صاحبه إعادة بنائه، فإن امتنع أجبر على ذلك قضاء، فإن رفض كان لصاحب العلو البناء ويرجع على الآخر بالنفقات، إذا بني بإذن القاضي أو إذن صاحب السفل. فإن بنى من غير إذن رجع بقيمة البناء وقت تمامه، لا بما أنفق؛ لأنه لم يكن وكيلاً بالإنفاق. وليس لصاحب الجوار الجانبي إلا حق واحد: وهو ألا يضر أحدهما بصاحبه ضرراً فاحشاً بيناً: وهو كل ما يمنع المنفعة الأصلية المقصودة من البناء كالسكنى أو يكون سبباً لهدم البناء أو وهن فيه. فالضرر في كل أنواع الجوار ممنوع، أما التصرفات التي يشكل أمرها في الجوار العلوي فلا يعلم، أيحصل منها ضرر أم لا، كفتح باب ونافذة في الطابق الأسفل، أو وضع متاع ثقيل في الطابق الأعلى قد يؤثر في السقف، فهذه مختلف في منعها (¬1): فقال أبو حنيفة: يمنع هذا التصرف إلا بإذن الجار؛ لأن الأصل في تصرفات المالك في ملكه، التي يتعلق بها حق الغير: هو المنع والحظر؛ لأن ملكه ¬
أمور ثلاثة متعلقة بحقوق الارتفاق
ليس خالصاً، فلا يباح له إلا ما يتعين فيه عدم الضرر، ويتوقف ماعداه على إذن صاحب الحق ورضاه. وهذا الرأي هو المفتى به عند الحنفية. وقال الصاحبان: الأصل في تصرف الجار الإباحة؛ لأن صاحب العلو تصرف في ملكه، والمالك حر التصرف في ملكه ما لم يكن فيه ضرر لغيره بيقين، فيمنع منه حينئذ، ويبقى ما عداه على الإباحة، وهذا الرأي في تقديري هو المعقول الواجب الاتباع. فيصبح حكم الجوار الجانبي والعلوي واحداً وهو إباحة التصرف في الملك ما لم يترتب على التصرف ضرر فاحش بالجار، فإن وقع الضرر، وجب على المتعدي ضمانه، سواء أكان الضرر مباشراً أم بالتسبب. وهو رأي المالكية وباقي المذاهب أيضاً (¬1). أمور ثلاثة متعلقة بحقوق الارتفاق: الأول ـ الفرق بين حق الارتفاق وحق الانتفاع الشخصي: يفترق حق الارتفاق عن حق الانتفاع من نواح تالية: 1 - حق الارتفاق يكون دائماً مقرراً على عقار، فتنقص به قيمة العقار المقرر عليه. أما حق الانتفاع الشخصي فقد يتعلق بعقار كوقف العقار أو الوصية به أو إجارته أو إعارته. وقد يتعلق بمنقول كإعارة الكتاب وإجارة السيارة. 2 - حق الارتفاق مقرر لعقار إلا حق الجوار فقد يكون لشخص أو لعقار. أما حق الانتفاع فإنه دائماً مقرر لشخص معين باسمه أو بوصفه. ¬
الثاني ـ خصائص حقوق الارتفاق
3 - حق الارتفاق حق دائم يتبع العقار وإن تعدد الملاك. وحق الانتفاع الشخصي مؤقت ينتهي بأحوال معينة كما تقدم. 4 - حق الارتفاق يورث حتى عند الحنفية الذين لا يعتبرونه مالاً؛ لأنه تابع للعقار. وأما حق الانتفاع فمختلف في إرثه بين الفقهاء كما سبق بيانه. الثاني ـ خصائص حقوق الارتفاق: لحقوق الارتفاق أحكام عامة وخاصة. فأحكامها العامة أنها إذا ثبتت تبقى مالم يترتب على بقائها ضرر بالغير، فإن ترتب عليها ضرر أو أذى وجب إزالتها، فيزال السيل القذر في الطريق العام، ويمنع حق الشرب إذا أضر بالمنتفعين، ويمنع سير السيارة في الشارع العام إذا ترتب عليها ضرر كالسير بسرعة فائقة، أو في الاتجاه المعاكس، عملاً بالحديث النبوي: «لا ضرر ولا ضرار» ولأن المرور في الطريق العام مقيد بشرط السلامة فيما يمكن الاحتراز عنه (¬1)، ولأن «الضرر لا يكون قديماً». وأما الأحكام الخاصة فسوف أذكرها في بحث حقوق الارتفاق المخصص لكل نوع منها. الثالث ـ أسباب حقوق الارتفاق: تنشأ حقوق الارتفاق بأسباب متعددة منها: 1 - الاشتراك العام: كالمرافق العامة من طرقات وأنهار ومصارف عامة، يثبت الحق فيها لكل عقار قريب منها، بالمرور والسقي وصرف المياه الزائدة عن ¬
الحاجة؛ لأن هذه المنافع شركة بين الناس فيباح لهم الانتفاع بها، بشرط عدم الإضرار بالآخرين. 2 - الاشتراط في العقود: كاشتراط البائع على المشتري أن يكون له حق مرور بها، أو حق شرب لأرض أخرى مملوكة له. فيثبت هذان الحقان بهذا الشرط. 3 - التقادم: أن يثبت حق ارتفاق لعقار من زمن قديم لا يعلم الناس وقت ثبوته، كإرث أرض زراعية لها حق المجرى أو المسيل على أرض أخرى؛ لأن الظاهر أنه ثبت بسبب مشروع حملاً لأحوال الناس على الصلاح، حتى يثبت العكس.
الفصل الخامس: أسباب الملك التام
الفَصْلُ الخامِس: أسباب المُلك التَّام إن أسباب أو مصادر الملكية التامة في الشريعة أربعة وهي: الاستيلاء على المباح، والعقود، والخلَفية، والتولد من الشيء المملوك. وفي القانون المدني هي ستة: الاستيلاء على ما ليس له مالك من منقول أو عقار، والميراث وتصفية التركة، والوصية، والالتصاق بالعقار أو بالمنقول، والعقد، والحيازة والتقادم (¬1). وهذه الأسباب تتفق مع الأسباب الشرعية (¬2) ما عدا الحيازة والتقادم (وضع اليد على مال مملوك للغير مدة طويلة)، فإن الإسلام لا يقر التقادم المكسب على أنه سبب للملكية، وإنما هو مجرد مانع من سماع الدعوى بالحق الذي مضى عليه زمن معين (¬3)، توفيراً لوقت القضاء، وتجنباً لما يثار من مشكلات الإثبات، وللشك في أصل الحق. أما أصل الحق فيجب الاعتراف به لصاحبه وإيفاؤه له ديانة. فمن وضع يده على مال مملوك لغيره لا يملكه شرعاً بحال. ¬
1 - الاستيلاء على المباح
كذلك لا يقر الإسلام مبدأ التقادم المسقط على أنه مسقط للحق بترك المطالبة به مدة طويلة. فاكتساب الحقوق وسقوطها بالتقادم حكم ينافي العدالة والخلق، ويكفي في ذلك أن يصير الغاصب أو السارق مالكاً. إلا أن الإمام مالك في المدونة خلافاً لمعظم أصحابه يرى إسقاط الملكية بالحيازة، كما يرى تملك الشيء بالحيازة. ولكنه لم يحدد مدة للحيازة، وترك تحديدها للحاكم، ويمكن تحديدها عملاً بحديث مرسل رواه سعيد بن المسيب مرفوعاً إلى النبي صلّى الله عليه وسلم عن زيد بن أسلم: «من حاز شيئاً على خصمه عشر سنين، فهو أحق به منه» (¬1) .وأما الالتصاق بسبب سيل أو فيضان أو كثبان رمل بسبب ريح شديدة، فلا مانع منه شرعاً؛ لأنه زيادة سماوية، تدخل تحت مبدأ «التولد من المملوك». 1 - الاستيلاء على المباح: المباح: هو المال الذي لم يدخل في ملك شخص معين، ولم يوجد مانع شرعي من تملكه كالماء في منبعه، والكلأ والحطب والشجر في البراري، وصيد البر والبحر. ويتميز الاستيلاء على المباح بما يأتي: أـ إنه سبب منشئ للملكية على شيء لم يكن مملوكاً لأحد. أما بقية أسباب الملكية الأخرى (العقد، الميراث ونحوهما)، فإن الملكية الحادثة مسبوقة بملكية أخرى، فهي سبب ناقل. ب ـ إنه سبب فعلي لا قولي: يتحقق بالفعل أو وضع اليد، فيصح من كل ¬
الاستيلاء على المباح له صور أربع
شخص ولو كان ناقص الأهلية كالصبي والمجنون والمحجور عليه. أما العقد فقد لايصح من هؤلاء أو يكون موقوفاً على إرادة أخرى، وهو سبب قولي. ويشترط لهذا الطريق أي إحراز المباح شرطان: أولهما ـ ألا يسبق إلى إحرازه شخص آخر، لأن «من سبق إلى ما لم يسبقه إليه مسلم فهو له» كما قال النبي عليه الصلاة والسلام. ثانيهما ـ قصد التملك: فلو دخل الشيء في ملك إنسان دون قصد منه لايتملكه، كما إذا وقع طائر في حجر إنسان، لا يتملكه. ومن نشر شبكته، فإن كان للاصطياد تملك ما يقع فيها، وإن كان للتجفيف لم يمتلك ما يقع فيها؛ لأن «الأمور بمقاصدها». والاستيلاء على المباح له صور أربع: أولاً ـ إحياء الموات: أي استصلاح الأراضي البور. والموات: ما ليس مملوكاً من الأرضين، ولا ينتفع بها بأي وجه انتفاع، وتكون خارجة عند البلد. فلا يكون مواتاً: ما كان ملكاً لأحد الناس أو ماكان داخل البلد، أو خارجاً عنها، ولكنه مرفق لها كمحتطب لأهلها أو مرعى لأنعامهم. والإحياء يفيد الملك لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «من أحيا أرضاً ميتة فهي له» سواء أكان الإحياء بإذن الحاكم أم لا عند جمهور الفقهاء. وقال أبو حنيفة ومالك: لا بد من إذن الحاكم. وإحياء الأرض الموات يكون بجعلها صالحة للانتفاع بها كالبناء والغرس والزراعة والحرث وحفر البئر. وعمل مستصلح الأرض لإحيائها يسمى فقهاً «التحجير» وقد حدد بثلاث سنين، قال عمر: «ليس لمتحجر بعد ثلاث سنين حق».
ثانيا ـ الاصطياد
ثانياً ـ الاصطياد: الصيد: هو وضع اليد على شيء مباح غير مملوك لأحد. ويتم إما بالاستيلاء الفعلي على المصيد وهو الإمساك، أو بالاستيلاء الحكمي: وهو اتخاذ فعل يعجز الطير أو الحيوان أو السمك عن الفرار، كاتخاذ الحياض لصيد الأسماك، أو الشباك، أو الحيوانات المدربة على الصيد كالكلاب والفهود والجوارح المعلّمة (¬1). والصيد حلال للإنسان إلا إذا كان مُحْرماً بالحج أو العمرة، أو كان المصيد في حرم مكة المكرمة أو المدينة المنورة، قال تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة، وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً} [المائدة:69/ 5]. والصيد من أسباب الملكية، لكن يشترط في الاستيلاء الحكمي لا الاستيلاء الحقيقي قصد التملك عملاً بقاعدة «الأمور بمقاصدها». فمن نصب شبكة فتعلق بها صيد، فإن كان قد نصبها للجفاف، فالصيد لمن سبقت يده إليه؛ لأن نيته لم تتجه إليه. وإن كان قد نصبها للصيد ملكه صاحبها كما تبين، وإن أخذه غيره كان متعدياً غاصباً. ولو أفرخ طائر في أرض إنسان كان لمن سبقت إليه يده إلا إذا كان صاحب الأرض هيأها لذلك. وإذا دخل طائر في دار إنسان، فأغلق صاحبها الباب لأخذه، ملكه. وإن أغلقه صدفة، لم يملكه. وهكذا لو وقع الصيد في حفرة أو ساقية، المعول في تملكه على نية صيده، وإلا فلمن سبقت إليه يده. ¬
ثالثا ـ الاستيلاء على الكلأ والآجام
ثالثاً ـ الاستيلاء على الكلأ والآجام: الكلأ: هو الحشيش الذي ينبت في الأرض بغير زرع، لرعي البهائم. والآجام: الأشجار الكثيفة في الغابات أو الأرض غير المملوكة. وحكم الكلأ: ألا يملك، وإن نبت في أرض مملوكة، بل هو مباح للناس جميعاً، لهم أخذه ورعيه، وليس لصاحب الأرض منعهم منه؛ لأنه باق على الإباحة الأصلية، وهو الراجح في المذاهب الأربعة، لعموم حديث: «الناس شركاء في ثلاثة: الماء والكلأ والنار» (¬1). وأما الآجام: فهي من الأموال المباحة إن كانت في أرض غير مملوكة، فلكل واحد حق الاستيلاء عليها، وأخذ ما يحتاجه منها، وليس لأحد منع الناس منها، وإذا استولى شخص على شيء منها وأحرزه صار ملكاً له. لكن للدولة تقييد المباح بمنع قطع الأشجار، رعاية للمصلحة العامة، وإبقاء على الثروة الشجرية المفيدة. أما إن كانت في أرض مملوكة فلا تكون مالاً مباحاً، بل هي ملك لصاحب الأرض فليس لأحد أن يأخذ منها شيئاً إلا بإذنه؛ لأن الأرض تقصد لآجامها، بخلاف الكلأ، لا تقصد الأرض لما فيها من الكلأ. رابعاً ـ الاستيلاء على المعادن والكنوز: المعادن: ما يوجد في باطن الأرض من أصل الخِلقة والطبيعة، كالذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص ونحوها. والكنز: ما دفنه الناس وأودعوه في باطن الأرض من الأموال، سواء في الجاهلية أو في الإسلام. ¬
حكم المعادن
والمعدن والكنز يشملها عند الحنفية كلمة «الركاز»: وهو ما ركز في باطن الأرض، سواء أكان بخلق الله كفلزات الحديد والنحاس وغيرها، أم كان بصنع الناس كالأموال التي يدفنها الناس فيها. وحكمها واحد في الحديث النبوي: «وفي الركاز الخمس» (¬1). وقال المالكية والشافعية والحنابلة: الركاز: دفين الجاهلية. والمعدن: دفين أهل الإسلام. حكم المعادن: اختلف الفقهاء في تملك المعادن بالاستيلاء عليها، وفي إيجاب حق فيها للدولة إذا وجدت في أرض ليست مملوكة. أما تملك المعادن فللفقهاء فيه رأيان: قال المالكية في أشهر أقوالهم (¬2): جميع أنواع المعادن لا تملك بالاستيلاء عليها، كما لا تملك تبعاً لملكية الأرض، بل هي للدولة يتصرف فيها الحاكم حسبما تقضي المصلحة؛ لأن الأرض مملوكة بالفتح الإسلامي للدولة، ولأن هذا الحكم مما تدعو إليه المصلحة. وقال الحنفية (¬3): المعادن تملك بملك الأرض؛ لأن الأرض إذا ملكت ملكت بجميع أجزائها، فإن كانت مملوكة لشخص كانت ملكاً له، وإن كانت في أرض للدولة فهي للدولة، وإن كانت في أرض غير مملوكة فهي للواجد؛ لأنها مباحة ¬
تبعاً للأرض، وذلك على تفصيل سيأتي في بحث المعادن والإقطاع، فعند الشافعية يملك المحيي المعادن الباطنية، وعند الحنابلة يملك المحيي المعادن الجامدة. وأما حق الدولة في المعادن ففيه رأيان أيضاً: قال الحنفية: في المعادن الخمس؛ لأن الركاز عندهم يشمل المعادن والكنوز بمقتضى اللغة، والباقي للواجد نفسه. وذلك في المعادن الصلبة القابلة للطرق والسحب كالذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص. أما المعادن الصلبة التي لا تقبل الطرق والسحب كالماس والياقوت والفحم الحجري، والمعادن السائلة كالزئبق والنفط فلا يجب فيها شيء للدولة؛ لأن الأولى تشبه الحجر والتراب، والثانية تشبه الماء، ولا يجب فيها شيء للدولة، إلا الزئبق فيجب فيه الخمس. وقال الشافعية: لا يجب في المعادن شيء للدولة، لا الخمس وغيره، وإنما يجب فيها الزكاة، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «العجماء جُبَار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس» (¬1) فأوجب الخمس في الركاز: وهو دفين أهل الجاهلية، ولم يوجب في المعدن شيئاً؛ لأن «الجبار» معناه: لا شيء فيه. وإيجاب الزكاة عندهم هو بعموم أدلة الزكاة، والمعدن: مركز كل شيء، والمعادن: المواضع التي تستخرج منها جواهر الأرض كالذهب والفضة والنحاس وغيرها. ويطلق المعدن أيضاً على الفِلّز في لغة العلم. ¬
حكم الكنز
حكم الكنز: وأما الكنز: فهو ما دفنه الناس، سواء في الجاهلي ة أم في الإسلام. فهو نوعان: إسلامي وجاهلي. الإسلامي: ما وجد به علامة أو كتابة تدل على أنه دفن بعد ظهور الإسلام مثل كلمة الشهادة أو المصحف، أو آية قرآنية أو اسم خليفة مسلم. والجاهلي: ما وجد عليه كتابة أو علامة تدل على أنه دفن قبل الإسلام كنقش صورة صنم أو وثن، أو اسم ملك جاهلي ونحوه. والمشتبه فيه: وهو مالم يتبين بالدليل أنه إسلامي أو جاهلي، قال فيه متقدمو الحنفية: إنه جاهلي. وقال متأخروهم: إنه إسلامي لتقادم العهد. وإن وجد كنز مختلط فيه علامات الإسلام والجاهلية فهو إسلامي؛ لأن الظاهر أنه ملك مسلم، ولم يعلم زوال ملكه. والكنز الإسلامي: يبقى على ملك صاحبه، فلا يملكه واجده، بل يعتبر كاللقطة، فيجب تعريفه والإعلان عنه. فإن وجد صاحبه سلم إليه وإلا تصدق به على الفقراء، ويحل للفقير الانتفاع به. هذا رأي الحنفية (¬1). وأجاز المالكية والشافعية والحنابلة (¬2) تملكه والانتفاع به، ولكن إن ظهر صاحبه بعدئذ وجب ضمانه. وأما الكنز الجاهلي: فاتفق أئمة المذاهب على أن خمسه لبيت المال (خزانة الدولة) وأما باقيه وهو الأربعة الأخماس، ففيه اختلاف: فقيل: إنها للواجد ¬
2 - العقود الناقلة للملكية
مطلقاً سواء وجدها في أرض مملوكة أم لا. وقيل: إنها للواجد في أرض غير مملوكة أو في أرض ملكها بالإحياء. فإن كان في أرض مملوكة فهي لأول مالك لها أو لورثته إن عرفوا، وإلا فهي لبيت المال. وهذا وقد جعل القانون المدني السوري (م 830) ثلاثة أخماس الكنز لمالك العقار الذي وجد فيه الكنز، وخمسه لمكتشفه، والخمس الأخير لخزينة الدولة. 2 - العقود الناقلة للملكية: العقود كالبيع والهبة والوصية ونحوها من أهم مصادر الملكية وأعمها وأكثرها وقوعاً في الحياة المدنية؛ لأنها تمثل النشاط الاقتصادي الذي يحقق حاجات الناس من طريق التعامل. أما الأسباب الأخرى للملكية فهي قليلة الوقوع في الحياة. ويدخل في العقود التي هي سبب مباشر للملكية حالتان (¬1): الأولى: العقود الجبرية التي تجريها السلطة القضائية مباشرة، بالنيابة عن المالك الحقيقي، كبيع مال المدين جبراً عنه لوفاء ديونه، وبيع الأموال المحتكرة. فالمتملك يتملك عن طريق عقد بيع صريح بإرادة القضاء. الثانية: نزع الملكية الجبري. وله صورتان: أ - الشفعة: وهي عند الحنفية حق الشريك أو الجار الملاصق بتملك العقار المبيع جبراً على مشتريه بما بذل من ثمن ونفقات. وقصرها الجمهور على الشريك. ب ـ الاستملاك للصالح العام: وهو استملاك الأرض بسعرها العادل جبراً عن صاحبها للضرورة أو المصلحة العامة، كتوسيع مسجد، أو طريق ونحوهما. ¬
3 - الخلفية
والمتملك من هذا الطريق يتملك بناء على عقد شراء جبري مقدر بإرادة السلطة. وعليه فالعقد المسبب للملكية إما أن يكون رضائياً أو جبرياً، والجبري: إما صريح كما في بيع المدين، أو مفترض كما في الشفعة ونزع الملكية. 3 - الخلَفية: وهي أن يخلف شخص غيره فيما كان يملكه، أو يحل شيء محل شيء آخر، فهي نوعان: خلفية شخص عن شخص وهي الإرث. وخلفية شيء عن شيء وهي التضمين. والإرث: سبب جبري للتملك يتلقى به الوارث بحكم الشرع ما يتركه المورث من أموال التركة. والتضمين: هو إيجاب الضمان أو التعويض على من أتلف شيئاً لغيره، أو غصب منه شيئاً فهلك أو فقد، أو ألحق ضرراً بغيره بجناية أو تسبب. ويدخل فيه الديات وأروش الجنايات، أي الأعواض المالية المقدرة شرعاً الواجبة على الجاني في الجراحات. 4 - التولد من المملوك: معناه أن ما يتولد من شيء مملوك يكون مملوكاً لصاحب الأصل؛ لأن مالك الأصل هو مالك الفرع، سواء أكان التولد بفعل مالك الأصل، أم بالطبيعة والخلقة. فغاصب الأرض الذي زرعها يملك الزرع عند الجمهور غير الحنابلة؛ لأنه
نماء البذر وهو ملكه وعليه كراء الأرض، ويضمن لصاحب الأرض نقصانها بسبب الزرع. وثمرة الشجر وولد الحيوان وصوف الغنم ولبنها لمالك الأصل. وقال الحنابلة: الزرع لمالك الأرض، لما رواه الخمسة إلا النسائي عن رافع بن خديج أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من زرع في أرض قوم بغير إذنهم، فليس له من الزرع شيء، وله نفقته» قال البخاري: هو حديث حسن (¬1). ¬
الفصل السادس: طبيعة الملكية أو هل الملكية الخاصة في تشريع الإسلام مطلقة أو مقيدة؟
الفَصْلُ السّادس: طبيعة الملكيّة أو هل الملكيّة الخاصّة في تشريع الإسلام مطلقة أو مقيّدة؟ البيع كما هو معروف بمثابة قانون منظم لمعاملات الأفراد وحقوق التملك، وللشرع أهداف فيما فرضه من قيود على التعامل، ومن أهم أسباب تقييد البيع بقيود أو شروط هو الحفاظ على حقوق الناس الطبيعية فيما يمتلكونه من أموال، فلا تنتقل ملكية أحد إلى آخر إلا في دائرة الحق والعدل، دون أن يكون هناك غش أو غبن أو تغرير أو استغلال أو جهالة تؤدي إلى المنازعة واضطراب المعاملات، أو أكل أموال الناس بالباطل. وهذه هي أهم الأسباب التي تؤثر على العقد فتجعله فاسداً أو باطلاً، وهو مناط تحريم العقد في شرعة الإسلام. لذا كان جديراً أن نتساءل: هل حرية الشخص في تصرفاته ونشاطه في العمل والإنتاج والتملك مطلقة، أو أن هناك قيوداً من الشرع على حق التملك؟
تمهيد
تمهيد: يسود عالم اليوم نظامان متعارضان في الاقتصاد: وهما النظام الرأسمالي والنظام الاشتراكي: النظام الرأسمالي: يعترف بحق الفرد في تملك الأموال ملكية خاصة، سواء أكانت هذه الأموال من أموال الاستهلاك، أم من أموال الإنتاج، على أنه لا يشترط أن تكون جميع الأموال مملوكة للأفراد، بل يجوز للدولة أو أحد فروعها أن تمتلك جانباً من هذه الأموال، كما لا يشترط أن يكون حق الملكية الخاصة مطلقاً، بل يجوز أن ترد عليه بعض القيود للمنفعة العامة. ويقوم النظام الرأسمالي على أساس الحرية الاقتصادية للأفراد، دون تدخل الدول لتقييد نشاطهم في الميدان الاقتصادي، ويكون السعي للحصول على أكبر كسب نقدي هو الدافع المحرك للنشاط الاقتصاد ي في ظل النظام الرأسمالي. وقد انتقد هذا النظام لأنه يؤدي إلى اختلال التوازن في توزيع الثروة بين الأفراد، وانقسام المجتمع إلى طبقتين: طبقة الرأسمالية الإقطاعية، وطبقة ذوي الدخل المحدود من عمال وفلاحين ونحوهم، كما يؤدي إلى تركز الثروة في أيدي فئة قليلة وانتشار البطالة والاحتكارات الطبيعية والصناعية. وكان من نتيجة ذلك فشل النظام الرأسمالي في تحقيق الاستقرار الاقتصادي، وضمان الحياة الرغدة للبشرية. وأدى هذا الفشل إلى رد فعل معاكس، فازداد تدخل الدولة في الميدان الاقتصادي من ناحية، وانتشرت المبادئ الاشتراكية من ناحية أخرى (¬1). ¬
النظام الاشتراكي
والنظام الاشتراكي: يقوم على أساس امتلاك الدولة لمختلف وسائل الإنتاج (¬1) من صناعة وزراعة وثروة طبيعية وخدمات عامة، ويكون بالتالي لاوجود للملكية الفردية القائمة على أساس الاستغلال والاستعباد، ولا حرية اقتصادية مطلقة للفرد إلا بمقدار ما يمنحه المجتمع إياه وينظمه له. فالملكية الخاصة لم تلغ إلغاء تاماً؛ لأن ملكية الأموال الاستهلاكية من أدوات منزلية ونقود وسلع معترف بها، ويجوز أن تنتقل هذه الملكية لأموال الاستهلاك إلى الغير بطريق الميراث (¬2). وأما ملكية أموال الإنتاج: فهي ملكية اشتراكية تظهر بشكل ملكية للدولة، أو بشكل ملكية تعاونية، ومع ذلك فلم تلغ الملكية الخاصة لأموال الإنتاج إلغاءً كاملاً في روسيا، فيسمح القانون الروسي بالمشاريع الاقتصادية الصغيرة الخاصة بالفلاحين القرويين وبالحرفيين على أن يقوموا بعملهم شخصياً، وبشرط ألا يستغلوا فيه جهد الآخرين (¬3)، مما أوجد نوعاً ثالثاً من أنواع المشروعات الزراعية هو المشروعات الفردية بجانب المزارع الحكومية والمزارع المشتركة. وعلى هذا فليست الملكية الشخصية حقاً مطلقاً ثابتاً، وإنما هي متطورة في محورها نحو الملكية الجماعية؛ لأن الملكية في ذاتها وظيفة اجتماعية تخدم مصالح الجماعة. وغاية النظام الاشتراكي تحقيق العدالة الاجتماعية، لذا فإنه يهتم بالدرجة ¬
نظام الإسلام الاقتصادي والاجتماعي
الأولى في إشباع كل حاجات الأفراد، ولكن بحسب ضرورتها وأهميتها (¬1) من أجل تحقيق مستوى مادي ومعنوي لائق بكرامة الإنسان، ثم السعي لرفع ذلك المستوى بشكل مستمر، مما جعل الجماهير الكادحة تتجه أنظارها إلى النظام الاشتراكي باعتباره المنقذ من أدران الرأسمالية. ويقول منتقدو هذا النظام بأنه يهدر الحق الطبيعي المقدس للفرد: وهو حق الملكية، كما أنه يعطي الجماعة ممثلة بالدولة سلطات واسعة على حساب الأفراد، ويقيد الحرية الاقتصادية. وقد انهار هذا النظام في عام 1989م في روسيا، والاتجاه الحالي نحو النظام الغربي والحرية. وأما نظام الإسلام الاقتصادي والاجتماعي: فهو العدل الوسط بين النظامين السابقين، أو بتعبير أدق: هو نظام قائم بذاته، له فكره الاجتماعي الخاص به، فهو يعترف بقيمة الإنسان، كما يعترف بحقوق المجتمع، فيقيم توازناً بينهما، بل إنه جعل الفرد للجماعة، والجماعة للفرد من طريق التضامن العام بين الأفراد، فهو إذن ليس فردياً فقط يؤدي إلى الرأسمالية، وليس جماعياً يؤدي إلى الماركسية، وإنما يمنح الفرد قدراً من الحرية بحيث لا يطغى على كيان الآخرين، ويمنح المجتمع أو الدولة التي تمثله سلطة واسعة في تنظيم الروابط الاجتماعية والاقتصادية على أساس من الحب المتبادل بين الفرد والجماعة، لا على أساس الحقد وإيجاد العداوات بين الناس. وبناء عليه فهو يعترف بحق الإنسان في التملك الفردي، ويمنحه حق الانتفاع والاستثمار لماله، والتصرف فيه طوال حياته وبعد مماته، في حدود معينة تعتبر ¬
المال والملكية في تقدير الإسلام
أوسع بكثير من القدر الذي تسمح به الشيوعية، ولكنه لا يعطي المالك السلطان المطلق فيما يملك بغير أي قيد عليه كما تفعل الرأسمالية، فهو لا يسمح بالربا والاحتكار، ولا أن تكون الملكية سبيلاً للاستغلال الحرام والطغيان، وبذلك يجمع الإسلام بين مزايا كل من الاشتراكية والرأسمالية ويتجنب أوجه الانحراف والمبالغة في كل منهما (¬1). ولا يمكن القول بأن نظام الإسلام الاقتصادي نظام رأسمالي أو اشتراكي؛ لأن للرأسمالية أو الاشتراكية في الوقت الحاضر معنى محدداً مفهوماً، له خصائص معينة في معالجة الحياة الاقتصادية. وإنما الإسلام نظام قائم بنفسه لا ينسب إلى مذهب جديد أو قديم، مهمته الربط بين قوى الحياة ومواهب الفطرة في كيان المرء وبين ثمار الطبيعة الظاهرة والباطنة؛ فيحدث التفاعل بين الجانبين، وتتكون الحضارة الصالحة بما في الإنسان من مواهب العقل والروح وما في الكون من أسرار الحقائق وكنوز المال والثروة، وبما في الإسلام من حلول جذرية لمشكلات الحياة، وقواعد للفرد والمجتمع في الحقوق والواجبات. وإذا كان في الاشتراكية بعض المعاني الإنسانية التي جاء بها الإسلام من ضرورة التكافل الاجتماعي، فلا يعني ذلك أن نظام الإسلام هو النظام الاشتراكي الماركسي. المال والملكية في تقدير الإسلام: المال عند الحنفية كما عرفنا: هو ما يميل إليه الإنسان طبعاً، ويمكن ادخاره لوقت الحاجة. وعند الجمهور: هو كل ما له قيمة يباع بها ويلزم متلفه وإن قلّت، ¬
وما لا يطرحه الناس مثل الفَلس وما أشبه ذلك. وهذا التعريف مأخوذ عن الإمام الشافعي رضي الله عنه (¬1). وبناء على التعريف الأول لا تكون المنافع والحقوق المجردة مالاً ما عدا منفعة العين المؤجرة، وعلى التعريف الثاني تكون المنافع أموالاً متقومة في ذاتها يمكن أن تورث. والملك: هو اختصاص حاجز شرعاً يسوغ صاحبه التصرف إلا لمانع (¬2). والمال في الحقيقة لله سبحانه: {لله ملك السموات والأرض وما فيهن} [المائدة:120/ 5] (¬3). وتملك الإنسان للمال مجاز، أي أنه مؤتمن على المال ومستخلف عليه: {وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه} [الحديد:7/ 57]. قال عروة رضي الله عنه: «أشهد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قضى: أن الأرض أرض الله، والعباد عباد الله، ومن أحيا مواتاً فهوأحق به». ويترتب عليه أن الإنسان ملزم بالتقيد بأوامر الله سبحانه في التملك بحسب ما يريد صاحب الملك. والناس على السواء، لهم حق في تملك خيرات الأرض. والملكية الفردية حق ممنوح من الله تعالى، والمال ليس غاية مقصودة لذاتها، وإنما هو وسيلة للانتفاع بالمنافع وتأمين الحاجيات (¬4). ¬
تقييد الملكية
ومن الجدير بالذكر أنه لم يحدث في تاريخ الإسلام أن أخذ مال غني بغير رضاه وأعطي لفقير، مهما اشتدت الحاجة وبلغت الفاقة، وإنما كان النبي صلّى الله عليه وسلم يحض المسلمين على البذل، ويرغبهم في العطاء من غير أمر ولا عزيمة، فجاء أبو بكر مرة بماله كله، وجاء عمر بنصف ماله، وجهز عثمان جيش العسرة بجميع ما يلزمه، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم» (¬1). تقييد الملكية: يقول بعض الكاتبين: لما كان المال مال الله، والناس جميعاً عباد الله، وكانت الحياة التي يعملون فيها ويعمرونها بمال الله هي أيضاً لله، كان من الضروري أن يكون المال ـ وإن ربط باسم شخص معين ـ لجميع عباد الله، وينتفع به الجميع، قال الله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} [البقرة:29/ 2] وبهذا يكون للمال وظيفة اجتماعية هدفها إسعاد المجتمع وقضاء حاجياته ومصالحه، وتكون الملكية الشخصية إذن في نظر الإسلام وظيفة اجتماعية (¬2). ويرى أستاذنا الشيخ محمد أبو زهرة أنه لا مانع من وصف الملكية بكونها وظيفة اجتماعية، ولكن يجب أن يعرف أنها بتوظيف الله تعالى، لا بتوظيف الحكام؛ لأن الحكام ليسوا دائماً عادلين (¬3). وفي تقديري أن الإسلام منهج واضح لا غبار عليه، واستعمال هذا التعبير ¬
المأخوذ من تعاليم الشيوعية أو الاشتراكية الماركسية يزج الإسلام في حمأة المبادئ الماركسية، ويناقض حرية الإنسان الطبيعية الفطرية في التملك، ويضلل الأفكار في فهم حقيقة نظرة الإسلام للملكية، فالملكية الخاصة حق مصون في الإسلام، اللهم إلا في حدود حق الغير ومصلحة المجتمع. فحق الملكية ليس وظيفة اجتماعية تجعل المالك مجرد موظف لصالح الجماعة، وإنما هو ذو وظيفة اجتماعية، كما أنه ذو صفة فردية، إذ لو اعتبر الحق وظيفة اجتماعية، لكان صاحب الحق موظفاً أو مجرد وكيل يعمل لصالح الجماعة، دون نظر إلى مصلحته الخاصة، وهذا في الحقيقة إلغاء لفكرة الحق، ويعتبر إلغاء الملكية مناقضاً للفطرة الإنسانية ومصادماً لمشاعر الإنسان وحبه التملك، وسبباً واضحاً في كبت الطاقات البشرية ونزعة الإبداع والتقدم الذاتي. وبعبارة أخرى: إن الإسلام لايمنع الملكية الخاصة مطلقاً، ولايطلقها بلا حدود. قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لاتأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء:29/ 4]، {وفي أموالهم حق للسائل والمحروم} [الذاريات:19/ 51]، {والله فضل بعضكم على بعض في الرزق} [النحل:71/ 16]، {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء} [المائدة:54/ 5] ويقول الرسول صلّى الله عليه وسلم: «كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه» (¬1) «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا» (¬2)، «لايحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه» (¬3). ¬
وبناء عليه يحرم التعدي على ملكيات الأفراد مادامت مشروعة، قال صلّى الله عليه وسلم: «من ظلم شبراً من الأرض طوقه الله من سبع أرضين» (¬1). وقرر الإسلام عقوبات على السرقة والغصب والسلب والغش، والجباية الظالمة ونحوها، وطالب بضمان الأموال المتلفة. وأما الملكية غير المشروعة فيجوز للدولة التدخل في شأنها لرد الأموال إلى صاحبها، بل إن لها الحق في مصادرتها، سواء أكانت منقولة أم غير منقولة، كما فعل سيدنا عمر في مشاطرة بعض ولاته الذين وردوا عليه من ولايتهم بأموال لم تكن لهم، استجابة لمصلحة عامة: وهو البعد بها عن الشبهات وعن اتخاذها وسيلة للثراء (¬2)؛ لأن الملكية مقيدة بالطيبات والمباحات، أما المحرمات التي تجيء عن طريق الرشوة أو الغش أو الربا أو التطفيف في الكيل والميزان أو الاحتكار أو استغلال النفوذ والسلطة، فلا تصلح سبباً مشروعاً للتملك. وكذلك يحق للدولة التدخل في الملكيات الخاصة المشروعة لتحقيق العدل والمصلحة العامة، سواء في أصل حق الملكية، أو في منع المباح وتملك المباحات قبل الإسلام وبعده إذا أدى استعماله إلى ضرر عام، كما يتضح من مساوئ الملكية الإقطاعية، ومن هنا يحق لولي الأمر العادل أن يفرض قيوداً على الملكية في بداية إنشائها في حال إحياء الموات، فيحددها بمقدار معين، أو ينتزعها من أصحابها مع دفع تعويض عادل عنها (¬3) إذا كان ذلك في سبيل المصلحة العامة للمسلمين (¬4). ¬
ومن المقرر عند الفقهاء أن لولي الأمر أن ينهي إباحة الملكية بحظر يصدر منه لمصلحة تقتضيه، فيصبح ما تجاوزه أمراً محظوراً، فإن طاعة ولي الأمر واجبة بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [النساء:59/ 4] وأولو الأمر في السياسة والحكم: الأمراء والولاة كما روى ابن عباس وأبو هريرة، وقال الطبري: إنه أولى الأقوال بالصواب. ومن أمثلة تدخل ولي الأمر في الملكية: ما روي محمد الباقر عن أبيه علي زين العابدين أنه قال: «كان لسمرة بن جندب نخل في حائط (أي بستان) رجل من الأنصار، وكان يدخل هو وأهله فيؤذيه، فشكا الأنصاري ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال رسول الله لصاحب النخل: بعه، فأبى، فقال الرسول: فاقطعه، فأبى، فقال: فهبه ولك مثله في الجنة، فأبى، فالتفت الرسول إليه وقال: أنت مضار، ثم التفت إلى الأنصاري، وقال: اذهب فاقلع نخله» (¬1) ففي هذه الحادثة ما يدل على أن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يحترم الملكية المعتدية، وهو القائل في القضاء في حقوق الارتفاق: «لا ضرر ولا ضرار» (¬2)، وروى أبو هريرة رضي الله عنهم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره» (¬3). وشرع الإسلام حق الشفعة على الملكية، دفعاً للضرر وإقراراً لقاعدة المصلحة. ومن الأمثلة أيضاً: ما روى الإمام مالك في الموطأ: وهو أن رجلاً اسمه ¬
قيود الملكية
الضحاك بن خليفة ساق خليجاً (¬1) من العريض (واد في المدينة)، وأراد أن يمر به في أرض محمد بن مَسْلَمة، فكلم فيه الضحاك عمر بن الخطاب، فدعا عمر محمد بن مسلمة، فأمره أن يخلي سبيله، فقال محمد: «لا، فقال عمر: لم تمنع أخاك ما ينفعه، وهو لك نافع، تسقي به أولاً وآخراً، وهو لا يضرك؟ فقال محمد: لا والله، فقال عمر: والله ليمرن به ولو على بطنك، فأمره عمر أن يمر به، ففعل الضحاك» (¬2) ففي هذا ما يدل على أنه لا يكفي الامتناع من الضرر، بل يجب على المسلم في ملكه أن يقوم بما ينفع غيره ما دام لا ضرر عليه فيه. ويمكن أن يعتبر مسوغاً لتنظيم الملكية أو تقييدها ـ بناء على قاعدة: الضرورات تبيح المحظورات، وعملاً بقانون المصلحة العامة وبمبدأ سد الذرائع ـ كون صاحبها مانعاً لحقوق الله تعالى أو اتخاذها طريقاً للتسلط والظلم والطغيان، أو التبذير والإسراف وتبديد الأموال والوقوع في حمأة الرذيلة والفساد، أو إشعال نار الفتنة والاضطرابات بين الناس، أو الاحتكارات والتلاعب بأسعار الأشياء، ومحاولة تهريب الأموال إلى خارج البلاد، أو دفع ضرر فقر ألم بفئة من الناس، أو لإهدار الأموال المجموعة من الربا (¬3)، على شرط أن يكون إجراء استثنائياً مرهوناً بوقت الحاجة لا تشريعاً دائماً، وبشرط ألا يهتدم رأس المال من أصله. قيود الملكية: قيود الملكية ثلاثة: أولها ـ أن تكون في دائرة منع الضرر. ثانيها ـ ليس كل ¬
القيد الأول ـ منع الإضرار بالآخرين
شيء قابلاً للتملك الفردي. ثالثها ـ للجماعة أو للدولة حقوق مفروضة على الملكية الخاصة. القيد الأول ـ منع الإضرار بالآخرين: إن الحقوق المقررة على الملكية أساسها أمران: 1 - منع ضرر الغير؛ لأن كل حق في الإسلام مقيد بمنع الضرر. 2 - نفع الغير إن لم يكن ثمة ضرر لا حق به (¬1). والضرر أربعة أقسام عند العلماء (¬2): 1 - الضرر المؤكد الوقوع: وهو أن يترتب على تصرف المالك في ملكه ضرر مؤكد بغيره عند استعمال حقه المأذون فيه. وحكمه أنه إذا تمكن صاحب الحق من استعمال ملكه دون إضرار بغيره، فيمنع من الضرر؛ لأنه يتحمل الضرر الخاص في سبيل دفع الضرر العام. وإذا كان الضرر خاصاً بالآحاد، فيكون حق صاحب الحق أولى بالاعتبار. 2 - الضرر الغالب وقوعه: وهو أن يكون الضرر كثير الوقوع عند القيام بالفعل، وهذه الحال تلحق بسابقتها: وهي المقطوع فيها بوقوع الضرر؛ لأن غلبة الظن تقوم مقام اليقين في الأحكام العملية. 3 - الضرر الكثير غير الغالب: وهو أن يكون ترتب المفسدة على الفعل كثيراً في ذاته إذا وقع، ولكن لا يغلب على الظن وقوعه. ¬
4 - الضرر القليل
وفيه اختلف الفقهاء، فالمالكية والحنابلة يرون العمل بقاعدة «دفع المضار مقدم على جلب المصالح» واحتمال وقوع الضرر كاف لمنع الفعل. والحنفية والشافعية يرون أن الفعل مشروع في أصله، واحتمال الضرر لا يصلح دليلاً على الضرر المتوقع، فلا يمنع حق لمجرد احتمال الضرر. 4 - الضرر القليل: وهو أن يكون الضرر المترتب على استعمال الحق المأذون فيه نادر الوقوع، أو كان في ذاته قليلاً، وهو لا يلتفت إليه لقلته، إذ العبرة بأصل الحق الثابت، فلا يعدل عنه إلا لعارض الضرر الكثير بالغير. القيد الثاني - منع الملكية الخاصة في بعض الحالات: ليست كل الأموال قابلة للتملك الفردي، فهناك أنواع ثلاثة من المال لا تقبل الملكية الفردية وإنما هي مملوكة للجماعة (¬1)، وما عداها من المرافق الخاصة كالمزروعات والمصنوعات، يجوز للأفراد تملكها والتصرف فيها. وتلك الأنواع هي ما يأتي: النوع الأول: الأموال ذات النفع العام كالمساجد والمدارس والطرقات والأنهار والأوقاف الخيرية ونحوها من المنافع العامة التي لا تؤدي غايتها إلا إذا كانت للجماعة. النوع الثاني: الأموال الموجودة بخلق الله تعالى، كالمعادن والنفط والأحجار والماء والكلأ والنار، فهذه الأشياء لم يوجدها البشر وإنما هي مخلوقة بخلق الله تعالى. وكون المعادن كلها مملوكة للدولة وتستخدم من أجل المرافق العامة هو الحق ¬
وهو الرأي الراجح عند المالكية، وهو رأي الحنابلة في المعادن الظاهرة أو السائلة: وهي التي يحصل عليها من غير مؤنة ينتابها الناس، كالملح والماء والكبريت والنفط والكحل والياقوت ونحوها. أما المعادن الجامدة فتملك بملك الأرض التي هي فيها (¬1). وأما الحنفية فعندهم تفصيلات تعرف في كتبهم، ولكنهم يقرون أن للدولة فيها حظاً كبيراً. ويظهر رأي الحنابلة في قول ابن قدامة الحنبلي: «وجملة ذلك أن المعادن الظاهرة: وهي التي يوصل ما فيها من غير مؤنة ينتابها الناس وينتفعون بها كالملح والماء والكبريت والقير والمومياء (¬2) والنفط والكحل والبرام (¬3) والياقوت ومقاطع الطين وأشباه ذلك لا تملك بالإحياء، ولا يجوز إقطاعها لأحد من الناس ولا احتجازها دون المسلمين؛ لأن فيها ضرراً بالمسلمين وتضييقاً عليهم» (¬4). النوع الثالث: الأموال التي تؤول ملكيتها للدولة من الأفراد أو يكون للدولة عليها الولاية. فالأولى مثل ما يؤول إلى بيت المال كالأموال الضائعة، أو التي لا وارث لها؛ لأن «بيت المال وارث من لا وارث له» والثاني مثل الأراضي الخراجية الزراعية التي آلت إلى المسلمين بالفتح كأراضي الشام ومصر والعراق وفارس وما وراءها تعتبر كالمعادن مملوكة للدولة، وتعتبر اليد القائمة عليها يد اختصاص وانتفاع فقط، لا يد تملك تام أي (للرقبة والمنفعة معاً). وإذا كانت أغلب أراضي المسلمين هي أراضي خراجية، ويد الزراع عليها ليست يد ملك مطلق، فإن لولي الأمر عند الضرورة أن ¬
القيد الثالث ـ حقوق الجماعة في ملكيات الأفراد
ينتزع الأراضي من أيدي واضعي اليد عليها، ويعوضهم عنها إذا اقتضت المصلحة العامة نزعها، وقد ثبت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم حمى أرضاً بالمدينة وهو النقيع (موضع معروف بالمدينة) لترعى فيها خيل المسلمين (¬1) أي أنه جعلها مشاعة لجميع الناس، أي مؤممة للجماعة بتعبير العصر. وحمى عمر رضي الله عنه أرضاً بالرَبذة والشرَف (وهما موضعان بين مكة والمدينة) وجعل كلأهما للمسلمين كافة، فجاءه أهلها يشكون قائلين: «يا أمير المؤمنين، إنها أرضنا، قاتلنا عليها في الجاهلية وأسلمنا عليها، علام تحميها؟» فأطرق عمر وقال: «المال مال الله، والعباد عباد الله، والله لولا ما أحمل في سبيل الله ـ أي إعداد خيول الجهاد ـ ما حميت من الأرض شبراً في شبر» وظاهر هذا الأثر أن حمى عمر كان في أرض لأهلها فيها منافع ومرافق بسبب الجوار، ولم يمنعه من حمايتها على أهلها حين دعت إلى ذلك مصلحة عامة (¬2)، مثل شركات المياه والكهرباء والنفط وخطوط النقل والبرية والبحرية ونحوها من المرافق الحيوية ذات النفع العام للبلاد. القيد الثالث ـ حقوق الجماعة في ملكيات الأفراد: للجماعة أو للدولة حقوق في أموال وملكيات الأفراد يترتب على أدائها ¬
الحقوق العامة للجماعة في أموال الأغنياء أو الموارد المالية للدولة
تفتيت الثروات الضخمة؛ لأن الإسلام يكره تكديس الأموال واكتنازها وتضخيم الملكيات (¬1)، فيجب إسهام ذوي الحاجات في أموال الأغنياء تحقيقاً للعدالة الاجتماعية في توزيع الثروات، كما يجب على الأغنياء الإسهام في دعم موارد الخزينة العامة للمحافظة على كيان الأمة. وهذه الحقوق العامة للجماعة في أموال الأغنياء أو الموارد المالية للدولة تتلخص فيما يأتي (¬2): 1 - الزكاة: هي تشريع إلزامي في الإسلام يجب على الأغنياء القيام بتنفيذه، وتقوم الدولة بجباية الزكاة من أصحاب رؤوس الأموال، ولها أن تجبرهم على أدائها، فليست الزكاة صدقة ممتهنة، كما فهم بعض الكاتبين في الصحافة الحديثة، كما أنها ليست إذلالاً للفقير، وإنما هي حق مستقيم واجب ديانة وقانوناً، وهي تؤخذ من الأموال النامية المنتجة، وهي أربعة أقسام في عرف المسلمين في الماضي: أـ النعَم: وهي الإبل والبقر والغنم التي ترعى أغلب العام في عشب مباح، ومقادير المأخوذ منها معروفة في كتب السنة والفقه. ب ـ النقدان: الذهب والفضة بنسبة ربع العشر 5،2%، ويمثلها في عصرنا الأوراق النقدية. ¬
2 - تأمين حاجيات الدفاع عن البلاد
جـ ـ أموال التجارة بنسبة ربع العشر. د ـ الزروع والثمار بنسبة العشر فيما يسقى بغير آلة، ونصف العشر إن كانت تسقى بآلة. 2 - تأمين حاجيات الدفاع عن البلاد: إذا اقتضت حاجات الدفاع عن الأمة أوا لجهاد في سبيل الله بعض الأموال، ولم يكن في الخزينة العامة ما يكفي لسد تلك الحاجة، فعلى الدولة أن تفرض في أموال الناس من الضرائب بقدر ما يندفع به الخطر عملاً بالمصالح المرسلة، وقد نص على ذلك كثير من علماء الإسلام مثل الغزالي والقرافي والشاطبي وابن حزم والعز بن عبد السلام وابن عابدين (¬1). 3 - كفاية الفقراء: للدولة أيضاً أن تطالب الأغنياء بإغناء الفقراء، فهي ممثلة لهم، قال عليه الصلاة والسلام ـ فيما يرويه علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الذي يسع فقراءهم، ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا أو عروا إلا بما يصنع أغنياؤهم، ألا وإن الله يحاسبهم حساباً شديداً ويعذبهم عذاباً أليما» (¬2) وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً «أيما أهل عَرْصة (أي بقعة) أصبح فيهم امرؤ جائعاً فقد برئت منهم ذمة الله تبارك وتعالى» (¬3). ¬
4 - الإنفاق على الأقارب
وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً: «إن في المال حقاً سوى الزكاة» (¬1)، وقال سيدنا عمر رضي الله عنه: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء، فرددتها إلى الفقراء». قال ابن حزم (¬2) في كتاب المحلى: «فرض على الأغنياء من كل بلد أن يقوموا بفقرائها، ويجبرهم السلطان على ذلك إن لم تقم الزكوات بهم ولا في سائر أموال المسلمين، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لا بد منه، ومن اللباس في الشتاء والصيف بمثل ذلك، وبمسكن يكنُّهم من المطر والصيف والشمس وعيون المارة» (¬3). 4 - الإنفاق على الأقارب: يجب على الإنسان أن يكفي أقاربه إذ اكانوا محتاجين كالآباء والأجداد والأبناء وفروعهم. وأما الإخوة وفروعهم والأعمام والعمات والأخوال والخالات، فقد اختلفت المذاهب في أمر الإنفاق عليهم، فأوجب الحنفية الإنفاق على كل ذي رحم محرم كالعم والأخ وابن الأخ والعمة والعم والخال، وألزم الحنابلة النفقة لكل قريب وارث بفرض أو تعصيب كالأخ ¬
5 - صدقات الفطر
والعم وابن العم، ولا تجب لذوي الأرحام كبنت العم والخال والخالة. 5 - صدقات الفطر: تجب صدقة الفطر على الرجل بالنسبة لمن تلزمه نفقتهم من زوجة وولد وخادم. 6 - الأضاحي: تجب الأضحية مرة في كل عام عند أبي حنيفة، وهي سنة مؤكدة عند جمهور الأئمة. 7 - النذور والكفارات: يجب على المسلم أن يفي بنذره إذا نذر أن يتبرع لله بمال، كما يجب عليه الكفارة بإطعام الفقراء والمساكين جزاء لبعض الآثام كالحنث في اليمين والظهار، أو بسبب الإخلال ببعض الواجبات الدينية كالإفطار في رمضان بالنسبة للعاجز أو الذي ينتهك حرمة الصيام بالجماع نهاراً، ونحوه كالواجبات التي تجب أثناء الإحرام بالحج. وهناك أوجه كثيرة للإنفاق في سبيل الله حث عليها الإسلام، كما أن هناك موارد أخرى لبيت المال كالأوقاف والغنائم، وهو ما يحقق معنى التكافل الاجتماعي في الإسلام. وهناك أيضاً قيود أخلاقية دينية على الأموال، فينبغي على الدولة ملاحظة المكاسب لمنع الاستغلال واختلال توازن الثروات، مثل تحريم الربا والاحتكار والميسر والغش والتغرير والغبن والتدليس وإنقاص المكيال والميزان ونحوه. والخلاصة: إن هناك قيوداً كثيرة في الإسلام على حق الملكية الشخصية، منها ما هو قانوني إلزامي، ومنها ما هو أخلاقي ديني يتطلب فهما صحيحاً وتطبيقاً شاملاً لدين الإسلام؛ لأن الإسلام منهج عام شامل للحياة، وكل لا يتجزأ، وتشريعاته حتى العبادات منها يكمل بعضها بعضاً، لمعالجة كل متطلبات الحياة الحديثة وضرورات الاقتصاد المعاصر.
الباب الثاني: توابع الملكية
البَابُ الثَّاني: توابِعُ الملكيَّة ويشمل اثني عشر فصلاً:
الفصل الأول: أحكام الأراضي
الفَصْلُ الأوَّل: أحكامُ الأراضِي الأراضي الخاضعة للسلطة الإسلامية إما جديدة آلت إلى المسلمين بالاستيلاء أو الفتح، وإما قديمة استقر بها المسلمون. وأبحث هذين النوعين على النحو التالي: أولاً ـ أحكام الأراضي المستولى عليها بالفتح. ثانياً ـ أحكام الأراضي المستقرة في داخل الدولة. وأبدأ بالنوع الأول. أولاً ـ أحكام الأراضي المستولى عليها بالفتح: الأراضي التي استولى عليها المسلمون تنقسم إلى ثلاثة أقسام: أرض ملكت عَنْوة وقهراً، وأرض ملكت عفواً لجلاء أهلها عنها، وأرض استولي عليها صلحاً. 1 - الأراضي التي فتحت عنوة: تنتقل ملكية الأراضي إلى الفاتحين بمجرد الاستيلاء عليها عند المالكية على المشهور، والحنابلة والشيعة الإمامية والزيدية؛ لأنها مال زال عنه ملك المحاربين بالاستيلاء عليه، فصار كالمباح تسبق إليه اليد، فيتم تملكه بإحرازه.
وعند الشافعية: تملك الأراضي والمنقولات بالاستيلاء والقسمة بالتراضي أو اختيار تملكها. وعند الحنفية: لاتنتقل ملكية الأراضي إلا بالضم إلى دار الإسلام أو حيازتها فعلاً، وجعلها جزءاً من دار الإسلام. وموات الأرض التي فتحت عنوة أو صلحاً لايملك إلا بالإحياء بالاتفاق (¬1). واختلف الفقهاء في حكم مالك هذه الأرض بعد الاستيلاء عليها: فذهب جمهور الصحابة والشافعية والظاهرية (¬2): إلى أنه تنتقل ملكية هذه الأراضي من أصحابها إلى المسلمين، كالغنائم، الخمس لمن ذكرتهم آية الغنائم: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول .. } [الأنفال:41/ 8] والغنائم: ماأخذ من أموال أهل الحرب عنوة بطريق القهر والغلبة. والأربعة الأخماس الباقية للغانمين. فإن طابت بتركها نفوس الغانمين بعوض أو غيره، وقفها ولي الأمر على مصالح المسلمين. وقال المالكية في المشهور عندهم، والإمامية (¬3): تصبح هذه الأراضي وقفاً على المسلمين، بمجرد الحيازة، دون أن تحتاج إلى وقف الإمام، ولا تكون ملكاً ¬
الأدلة
لأحد، ويصرف خراجها (¬1) في مصالح المسلمين من أرزاق المقاتلة، وبناء القناطر والمساجد، وغيرها من سبل الخير، إلا أن يرى ولي الأمر في وقت من الأوقات أن المصلحة تقتضي القسمة. وقال الحنابلة في أظهر الروايات عن أحمد (¬2): إن الإمام يفعل ما يراه الأصلح من قسمتها ووقفها، نظير خراج دائم يقرر عليها كالأجرة، وتكون أرضاً عشرية خراجية، العشر على المستغل، والخراج على رقبة الأرض. وقال الحنفية والزيدية (¬3): الإمام بالخيار، إن شاء قسمها بين المسلمين، كما فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم بخيبر، وإن شاء أقر أهلها عليها، ووضع على رؤوسهم الجزية، وعلى أراضيهم الخراج، فتكون أرض خراج، وأهلها أهل ذمة. قال ابن عابدين: القسمة بين الغانمين أولى عند حاجتهم، وتركها بيد أهلها أولى عند عدم الحاجة لتكون عدة للمسلمين في المستقبل. الأدلة: يتضح مما سبق أن الفقهاء متفقون على جواز قسمة الغنائم بين الغانمين، لعموم قوله تعالى {واعلموا أنما غنمتم من شيء، فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل .. } [الأنفال:41/ 8] أي أن خمس الغنيمة لمن ذكرتهم الآية، أو للدولة، والأربعة الأخماس الباقية ملك للغانمين من ¬
غير خلاف بين الأئمة، بدليل إسناد الحق في الغنيمة للغانمين في قوله تعالى: {غنمتم} [الأنفال:41/ 8] أسنده إليهم إسناد الملك إلى مالكه. وبدليل ما بينته السنة بقوله صلّى الله عليه وسلم وفعله، أما قوله فمثل: «أيما قرية أتيتموها وأقمتم بها فسهمكم فيها، وأيما قرية عصت الله ورسوله، فإن خمسها لله ورسوله، ثم هي لكم» (¬1)، فالمراد بالقرية الأولى: الفيء، ويصرف مصارفه، والمراد بالقرية الثانية: ما أخذ عنوة، فيكون غنيمة يخرج منه الخمس، وباقيه للغانمين، وهو معنى قوله: «ثم هي لكم» أي باقيها. وأما ما فعله عليه الصلاة والسلام: فالثابت عنه أنه قسم خيبر بين الغانمين بعد أن فتحت عنوة أي قهراً لا صلحاً، وقسم أيضاً أموال بني قريظة وبني النضير (¬2) كما ذكر ابن القيم في زاد المعاد. وأما المدينة ففتحت بالقرآن وأسلم عليها أهلها فأقرت بحالها. وأما مكة ففتحها الرسول صلّى الله عليه وسلم عنوة، ولم يقسمها. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «أما والذي نفسي بيده، لولا أن أترك آخر الناس ببّاناً (¬3)، ليس لهم شيء، ما فتحت علي قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلّى الله عليه وسلم خيبر، ولكني أتركها خزانة لهم، يقتسمونها» (¬4)، فكان رأي عمر أن يترك الأرض ولا يقسمها. ¬
هل القسمة ملزمة للإمام أو له الخيار في أمور أخرى؟
هل القسمة ملزمة للإمام أو له الخيار في أمور أخرى؟ أـ قال الشافعية والظاهرية: يجب قسمة الأراضي بين الغانمين، كسائر الأموال، عملاً بمقتضى القرآن والسنة، إذ لا فرق بين العقار والمنقول، وعموم آية الغنائم: {واعلموا أنما غنمتم ... } [الأنفال:41/ 8] بوجوب القسمة يتفق مع فعله صلّى الله عليه وسلم الذي يجري مجرى البيان للمجمل، فضلاً عن العام (¬1). وأما آية الحشر: {وما أفاء الله على رسوله منهم .. } [الحشر:6/ 59] فهي في الفيء (أي الأموال الآيلة للمسلمين بدون قتال) على ما هو الظاهر منها. وإذا لم يقسم الإمام الأرض، فعليه أن يستطيب الغانمين، كما استطاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنفس الغانمين يوم حنين ممن صار في يديه سبي هوازن، وكما فعل في خيبر وبني قريظة (¬2)، وكما استطاب عمر بن الخطاب الغانمين بعد فتح سواد العراق بعوض أو بغيره، فصارت الأرض وقفاً أي فيئاً للمصالح العامة بعد أن كانت غنيمة، فقد أعطى عمر جريراً البَجَلي عوضاً من سهمه، وأعطى امرأة بجلية عوضاً من سهم أبيها؛ لأن حق الغانمين قد ثبت في الغنيمة بعد الفتح بالاستيلاء، فلا يملك الإمام إبطال هذا الحق بترك الأرض في أيدي أهلها كالمنقول، ومن لم يطب نفساً منهم فهو أحق بحقه (¬3). ب ـ وقال المالكية في المشهور عندهم والإمامية (¬4): تصبح الأرض وقفاً بمجرد الاستيلاء عليها، أي كأثر طبيعي لازم دون حاجة لصيغة الإمام، ولا لتطيب ¬
أدلة القائلين بإعطاء الخيار للإمام في وقف الأرض
أنفس المجاهدين، محتجين بفعل عمر، حيث وقف الأراضي التي افتتحها كمصر والشام والعراق. جـ ـ وقال الحنفية والحنابلة: إن الأصل المقرر أن يكون للإمام الخيار في الأراضي، فله أن يقسمها، وله أن يتركها وقفاً، وعمر رضي الله عنه قد استعمل حقه، فقرر أن تكون وقفاً، أي ملكاً للجماعة الإسلامية بأن تكون ملكية الرقبة للدولة، وملكية المنفعة فقط لأهلها القائمين عليها. أدلة القائلين بإعطاء الخيار للإمام في وقف الأرض: استدل هؤلاء، وهي في الواقع أدلة لعمر بما يأتي: 1 - إن آية الأنفال: {واعلموا أنما غنمتم .. } [الأنفال:41/ 8] وآيات الحشر: {وما أفاء الله على رسوله منهم .. } [الحشر:6/ 59] واردة في موضوع واحد، ولكن آية الحشر مخصصة لآية الأنفال، أي أنه بعد أن كانت الثانية شاملة للأرض والمنقول، خصصتها آية الحشر بما عدا الأرض. أما الأرض فقد أعطت آية الحشر الحق للإمام في أن يتصرف بما يجده من المصلحة: إما أن يقف الأرض، أو يقرها في أيدي أهلها ويضع عليها الخراج؛ لأن آية الأنفال توجب التخميس وآية الحشر توجب القسمة بين المسلمين جميعاً دون التخميس، وبذلك يجمع بين الآيتين (¬1)، والجمع بين الأدلة عند كثير من الأصوليين مقدم على القول بالنسخ، أي بنسخ آية الحشر لآية الأنفال، كما قال بعضهم (¬2). ¬
والرسول عليه الصلاة والسلام قد عمل بآية الأنفال، وعمر قد عمل بآية الفيء، وليس فعل النبي صلّى الله عليه وسلم براد لفعل عمر؛ لأن فعل الرسول إما على سبيل الإباحة لجهالة صفة الفعل منه، وإما على سبيل الوجوب فهو واجب مخير، بدليل الآية التي استنبط منها عمر خصلة الواجب الأخرى (¬1)، قال عمر: فاستوعبت هذه الآية (آية الحشر) الناس إلى يوم القيامة (¬2)، وقال أيضاً: «والله ما من أحد من المسلمين إلا وله حق في هذا المال أعطي منه أو منع، حتى راعٍ بعدن» (¬3). وبناء عليه شملت آية الحشر جميع المؤمنين، وشَّركت آخرهم بأولهم في الاستحقاق. ولا سبيل إليه إلا بعدم قسمة الأرض، وهو معنى وقفها عند المالكية. وليس معناه الوقف الذي يمنع من نقل الملك في الرقبة، بل يجوز بيع هذه الأرض، كما هو عمل الأمة، وقد أجمع العلماء على أنها تورث، والوقف لا يورث، إلى آخر ما هنالك من فروق (¬4). 2 - ترك رسول الله صلّى الله عليه وسلم قرى لم يقسمها، وقد ظهر على مكة عنوة (¬5)، وفيها أموال، فلم يقسمها، وظهر على قريظة والنضير، وعلى غير دار من دور العرب، فلم يقسم شيئاً من الأرض غير خيبر. فكان الإمام بالخيار: إن قسم كما قسم رسول الله صلّى الله عليه وسلم فحسن، وإن ترك كما ترك رسول الله غير خيبر فحسن (¬6). ¬
3 - إجماع الصحابة رضي الله عنهم، على ما ارتآه عمر، حينما فتح سواد العراق، فقد ترك الأراضي في أيدي أهلها، وضرب على رؤوسهم الجزية، وعلى أراضيهم الخراج، بمحضر من الصحابة محتجاً بآيات الحشر السابق ذكرها، ولم ينقل أنه أنكر عليه منكر، فكان ذلك إجماعاً منهم. ومن خالف منهم في مبدأ الأمر كبلال وسلمان، عاد فوافق بعدئذ (¬1). 4 - المعقول: إذا قسمت بين الغانمين الأرض المفتوحة التي كادت تشمل معظم العالم في أوج الفتوحات الإسلامية، فماذا يبقى لمن يأتي بعدهم؟ ومن أين تجد خزانة الدولة نفقاتها لإنفاقها في المصالح العامة للمسلمين؟ لهذا قال عمر، بعد أن تلا آيات الفيء في سورة الحشر: «قد أشرك الله الذين يأتون من بعدكم في هذا الفيء، فلو قسمته لم يبق لمن بعدكم شيء، ولئن بقيتُ ليبلغن الراعي بصنعاء نصيبه من هذا الفيء، ودمه في وجهه». وقال أيضاً: «أرأيتم هذه الثغور لا بد لها من رجال يلتزمونها، أرأيتم هذه المدن العظام، كالشام والجزيرة والكوفة والبصرة ومصر، لا بد لها من أن تشحن بالجيوش وإدرار العطاء عليهم، فمن أين يعطى هؤلاء إذا قسمت الأرضون والعلوج؟» فقالوا جميعاً: الرأي رأيك، فنعم ما قلت وما رأيت (¬2). وإذا قسمت الأرض بين الغانمين واشتغلوا بالزراعة، وتركوا الجهاد، فسرعان ما تضعف الأمة الإسلامية، وتصبح نهبة للطامعين؛ بل إن في ذلك أمراً مهماً ¬
2 - الأرض التي جلا عنها أهلها خوفا
بالنسبة للاقتصاد العام، حيث يحافظ على الإنتاج، لو تركت الأرض في أيدي أهلها لطول خبرتهم بها، وتمرنهم على شؤون الزراعة، بخلاف العرب الذين لم يكونوا يألفون حياة الزراعة والاستقرار في المدينة. يتلخص من هذه الأدلة: أنه قد حصل بدلالة الآية وإجماع السلف والسنة تخيير الإمام في قسمة الأرضين، أو تركها ملكاً لأهلها، ووضع الخراج عليها. وأرجح اعتبار الفيء والغنيمة بمعنى واحد: وهو كل ما جاء من العدو، كما تقضي اللغة، فيخير الإمام بكل منهما على حدة بين القسمة وعدمها على وفق مقتضيات المصلحة العامة كما رأى عمر رضي الله عنه. 2 - الأرض التي جلا عنها أهلها خوفا ً: هذا النوع الثاني من الأرضين هو المعروف لدى الفقهاء بالفيء: وهو المال الذي حصل من الحربيين بلا قتال ولا إيجاف خيل ولا ركاب، كالجزية والعشور التجارية (¬1). وحكمها: أنها تنتقل ملكيتها إلى بيت المال بالاستيلاء عليها، وتصير أملاك دولة، وعبر عنها الفقهاء بأنها تصير وقفاً، أي ملكاً للأمة الإسلامية بمجرد الاستيلاء عليها، ويضع الإمام عليها خراجاً يؤخذ كأجرة ممن يعامل عليها من مسلم أو معاهد. وصيرورتها وقفاً لأنها ليست غنيمة، فكان حكمها حكم الفيء يكون للمسلمين كلهم. ولم يختلف في هذا فقهاؤنا بالنسبة للعقار، إلا أن ¬
الشافعية والحنابلة في قول عندهم ذكروا أن وقفها يحتاج إلى صيغة من الإمام، لتصبح هذه الأرض وقفاً، والراجح خلافه (¬1). أما المنقول في الفيء: فيوقف أيضاً عند الجمهور، ويصرف لمصالح المسلمين، أي الأمر فيه للإمام يفعل ما يراه مصلحة. ويخمس عند الشافعية المنقول كالغنيمة؛ لأن آية الفيء؛ {ما أفاء الله على رسوله .. } [الحشر:6/ 59] مطلقة، وآية الغنيمة: {واعلموا أنما غنمتم من شيء ... } [الأنفال:41/ 8] مقيدة، فحمل المطلق على المقيد، جمعاً بينهما لاتحاد الحكم، فإن الحكم واحد، وهو رجوع المال من الحربيين للمسلمين، وإن اختلف السبب بالقتال وعدمه (¬2). غير أن مذهب الجمهور في هذا أصح، ودليلهم ما روى أنس بن مالك عن عمر، قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب، فكانت للنبي صلّى الله عليه وسلم خاصة، فكان ينفق على أهله نفقة سنة، وما بقي يجعله في الكُراع (الخيول) والسلاح عُدَّة في سبيل الله (¬3). فقوله: «كانت للنبي صلّى الله عليه وسلم خاصة» يؤيد مذهب الجمهور في أنه لا يخمس الفيء، إذ من المعروف أن فدَك والعوالي (أموال بني النضير في المدينة) (¬4) كانت للرسول صلّى الله عليه وسلم خاصة، ولمن بعده من الأئمة، لقوله تعالى: {وما أفاء الله على رسوله منهم .. } [الحشر:6/ 59] {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله ¬
3 - الأرض التي فتحت صلحا
وللرسول} [الحشر:59/ 7] أراد أن الفيء لا يقسم كالغنائم، بدليل قوله تعالى: {كيلا يكون دُولة بين الأغنياء منكم} [الحشر:6/ 59]. وإذا أراد الإمام تفريق الفيء بين المسلمين اتخذ ديواناً يحفظهم ويرتبهم، ويجعل العطاء على حسب ما يتيسر له شهرياً أو غيره (¬1). 3 - الأرض التي فتحت صلحا ً: يتحدد حكم هذا النوع من الأراضي بموجب عقد الصلح، فهو إما أن يقع الصلح على أن تكون الأرض للمسلمين، وإما أن يقع على أن تكون الأرض لأصحابها كأرض اليمن والحيرة. ففي الحالة الأولى: تصبح الأرض وقفاً للمسلمين، كأرض العنوة، وتعتبر من بلاد الإسلام، كالأرض التي جلا عنها أهلها؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم فتح خيبر، وصالح أهلها على أن يعمروا أرضها، ولهم نصف ثمرتها، فكانت للمسلمين دونهم. قال ابن عمر رضي الله عنهما: «عامل النبي صلّى الله عليه وسلم خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع» (¬2)، وصالح النبي بني النضير على أن يجليهم من المدينة، ولهم ما أقلت الإبل من المتعة والأموال إلا الحلقة (السلاح) وكانت مما أفاء الله على رسوله (¬3). ويوضع على هذه الأرض الخراج، ويكون تابعاً لها، فإذا اشترى مسلم ¬
بعضاً منها، ظل ملتزماً بضريبة الخراج؛ لأنه يعتبر أجرة في نظير الانتفاع بالأرض، وهذا أمر متفق عليه بين الفقهاء (¬1). وفي الحالة الثانية: تكون الأرض ملكاً لأهلها بموجب الصلح، باتفاق الفقهاء، ويلتزم المسلمون بتنفيذ شروط الصلح كاملة، ما دام هؤلاء قائمين على الصلح، ولكن يوضع الخراج على الأرض يؤدونه عنها، ويكون لبيت المال (¬2)، وهذا الخراج يعتبر في حكم الجزية، فمتى أسلموا سقط عنهم عند الجمهور والشيعة الإمامية (¬3)، بدليل ما كتب عمر بن عبد العزيز لعماله: ولا خراج على من أسلم من أهل الأرض. أما عند الحنفية والشيعة الزيدية: فلا يسقط؛ لأن الخراج عندهم فيه معنى المؤنة ومعنى العقوبة، ولذا يبقى على المسلم ولا يبتدأ به (¬4). وتعبر دار هؤلاء المصالحين دار عهد أو صلح عند الشافعية وبعض الحنابلة (¬5)، وعند الجمهور: تعتبر الدار بالصلح دار إسلام، ويصير أهلها أهل ذمة تؤخذ منهم الجزية. ¬
ثانيا ـ أحكام الأراضي في داخل الدولة
ثانياً ـ أحكام الأراضي في داخل الدولة: الأراضي نوعان: أرض مملوكة وأرض مباحة. والمملوكة نوعان: عامرة وخراب، والمباحة نوعان أيضاً: نوع هو من مرافق البلد للاحتطاب ورعي المواشي، ونوع ليس من مرافقها وهو الأرض الموات أو ما يسمى الآن أملاك الدولة العامة، والمقصود بالأرض العامرة: هي التي ينتفع بها من سكنى أو زراعة أو غيرها. وأما الأرض الخراب: فهي المعروفة بالأرض المملوكة الغامرة: وهي التي انقطع ماؤها أو لم تستغل بسكنى أو استثمار أو غيرهما. وسنعطي هنا فكرة إجمالية عن حكم كل أرض. 1 ً - حكم الأرض المملوكة العامرة: هو أنه لا يجوز لأحد أن يتصرف فيها من غير إذن صاحبها. 2 ً - حكم الأرض الخراب التي انقطع ماؤها: هذه الأرض ملك لصاحبها، وإن طال الزمان على خرابها، حتى إنه يجوز له بيعها وهبتها وإجارتها وتورث عنه إذا مات .... هذا إذا عرف صاحبها، فإن لم يعرف، فحكمها حكم اللقطة. وأما الكلأ (¬1) الذي ينبت في أرض مملوكة فهو مباح للناس غير مملوك لأحد، إلا إذا قطعه صاحب الأ رض، لقوله عليه الصلاة والسلام: «الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار» (¬2) فإذا قطع الكلأ صاحب الأرض وأحرزه صار مملوكاً له؛ لأنه استولى على مال مباح غير مملوك فيملكه كالماء المحرز في الأواني ¬
- حكم الأرض الموات: الأرض الموات كما عرفنا نوعان
والظروف وسائر المباحات، قال صلّى الله عليه وسلم: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له» (¬1). والمروج غير المملوكة، والآجام (¬2) غير المملوكة، والسمك وسائر المباحات كالطير، تعتبر في حكم الكلأ. وأما الحطب والقصب في الأجمة المملوكة: فليس لأحد أن يقطعها إلا بإذن المالك؛ لأن ذلك مملوك لصاحب الأجمة ينبت على ملكه، وإن لم يوجد منه الإنبات أصلاً؛ لأن ملك القصب والحطب مقصود من ملك الأجمة، فيملك بملكها، بخلاف الكلأ، فإنه غير مقصود، وإنما المقصود زراعة الأرض (¬3). وإذا كان الكلأ مستنبتاً في أرض مملوكة، بفعل صاحبها وسقيه، كان ملكاً خاصاً له. 3 ً - حكم الأرض الموات: الأرض الموات كما عرفنا نوعان: أحدهما: ما كان من مرافق أهل بلدة تستعمل مرعى للمواشي ومحتطباً لهم أو مقبرة لموتاهم أو ملعباً لصغارهم، سواء أكانت داخل البلدة أم خارجها، فيكون حقاً لهم لا مواتاً، فلا يجوز للإمام أن يقطعه لأحد، لما يترتب عليه من الإضرار بأهل البلدة، ولكن ينتفع بالحطب والقصب الذي في هذه الأرض من قبل أهل البلدة وغيرهم، وليس لهم أن يمنعوها عن غيرهم؛ لأنها ليست مملوكة لهم. والحد الفاصل فيما يعتبر قريباً من البلدة: هو المكان الذي يسمع فيه الرجل ¬
صوت الشخص الذي يناديه من آخر أرض مملوكة، فإذا لم يسمع الصوت، فهو موات لا يتبع تلك البلدة. ومثل أرض القرية: أرض الملح والقار (¬1) والنفط ونحوها مما لا يستغني عنه المسلمون، فهي لا تعد أرض موات، فلا يجوز إقطاعها لأحد، وإنما تكون حقاً لجماعة المسلمين. والثاني: ما لا يكون تبعاً لقرية من القرى أو مدينة وهو الموات في اصطلاح الفقهاء. والموات: هو ما لا يملكه أحد ولا ينتفع به من الأراضي لانقطاع الماء عنه أو لغلبة الماء عليه وما أشبه ذلك مما يمنع الزراعة: بأن غلبت عليه الرمال مثلاً، ولا يكون مملوكاً لمسلم أو ذمي، وأن يكون في رأي أبي يوسف بعيداً عن القرية بحيث إذا وقف إنسان في طرف الدور، فصاح، لا يسمع الصوت من كان فيه. إلا أن هذا الشرط الأخير لا يعتبر في ظاهر الرواية، وإنما يكفي عدم ارتفاق أهل القرية به، وإن كان قريباً منهم وهو المفتى به عند الحنفية. فإذا كانت الأرض مملوكة لأحد لم تكن مواتاً، وإذا لم يعرف مالكها فهي لقطة يتصرف بها الإمام. وإحياء الأرض. معناه إصلاحها ببناء أو غرس أو سقي أو تفجير ماء أو حرث بحيث تصبح الأرض منتفعاً بها (¬2). أما لو وضع حول الأرض أحجاراً أو تراباً أو حاطها بحائط صغير، وجعل ذلك حداً، فإنه لا يملكها؛ لأن هذا ليس ¬
هل يحتاج إحياء الموات إلى إذن الحاكم؟
بإحياء للأرض، وإنما يصير متحجراً، ويكون أحق بها من غيره باتفاق الأئمة (¬1)، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به». وقوله عليه الصلاة والسلام أيضاً «منى مُناخٌ لمن سبق» (¬2). ومن حجر أرضاً ولم يعمرها ثلاث سنين أخذها الإمام ودفعها إلى غيره؛ لأن التحجير كما قلنا ليس بإحياء، وإنما هو إعلام بوضع الأحجار حول الأرض. وإعطاء المحتجر الحق في ترك الأرض له مدة ثلاث سنين مأخوذ من قول عمر رضي الله عنه: «ليس لمحتجر بعد ثلاث سنين حق» (¬3)، ولأن هذه المدة يحتاج إليها لتهيئة الأمور والاستعداد لإتمام الأحياء. هل يحتاج إحياء الموات إلى إذن الحاكم؟: اختلف العلماء في ذلك، فقال أبو حنيفة والمالكية (¬4): يحتاج إحياء الموات إلى إذن الإمام أو نائبه، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ليس للمرء إلا ما طابت به نفس إمامه» (¬5) فإذا لم يأذن لم تطب نفسه به، فلا يتملكه. ¬
هل للبئر أو النهر في أرض الموات حريم
وقال الصاحبان والشافعية والحنابلة (¬1): يجوز تملك الأرض بالإحياء، وإن لم يأذن الإمام فيه، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من أحيا أرضاً ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق» (¬2) فهذا الحديث أثبت الملك للمحيي من غير اشتراط إذن الإمام، ولأن إحياء الأرض مباح استولى عليه المحيي، فيملكه بدون إذن الإمام، كما لو أخذ إنسان صيداً أو حشَّ كلأ. هل للبئر أو النهر في أرض الموات حريم (¬3)؟ إذا حفر الرجل بئراً في برية أو حفر نهراً في أرض موات، فيعتبر الحفر إحياء للأرض، ولكن هل للبئر أو للنهر حريم؟ اتفق الفقهاء على أن للبئر والنهر حريماً لا يجوز للآخرين التعدي عليه بإحياء الأرض مثلاً فيه؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام جعل للبئر حريماً كما سيبين، إلا أنهم اختلفوا في مقدار حريم البئر. واتفق الحنفية على أن حريم العين خمس مئة ذراع من كل جانب، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «العين خمس مئة ذراع، وحريم بئر العطن أربعون ذراعاً» (¬4). وأما حريم البئر والنهر ففيه خلاف: قال الحنفية: حريم بئر العطَن (¬5): ¬
حريم بئر الناضح
أربعون ذراعاً لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من حفر بئراً فله مما حولها أربعون ذراعاً عطناً (¬1) لماشيته (¬2)». وأما حريم بئر الناضح (¬3): فعند أبي حنيفة: أربعون ذراعاً، عملاً بإطلاق الحديث السابق، ولأن حاجة الناضح تتحقق بأربعين ذراعاً من كل جانب كحاجة بئر العطن. وعند الصاحبين: حريم بئر الناضح ستون ذر اعاً عملاً بالحديث السابق: «حريم العين خمس مئة ذراع، وحريم بئر العطن أربعون ذراعاً، وحريم بئر الناضح ستون ذراعاً» ولأنه قد يحتاج لهذه المسافة لتسيير الدابة للاستقاء. وأما حريم النهر: فاختلف في تقديره أبو يوسف ومحمد. وقال أبو يوسف، ورأيه هو المفتى به: يقدر بنصف أرض النهر من كل جانب. وقال محمد: يقدر بقدر عرض النهر من كل جانب (¬4). وفائدة تملك الحريم: هي أن من أراد أن يحفر فيه بئراً أو ينتفع به بشيء، فإنه يمنع منه، ولمالك الحريم ردم البئر التي تحفر، أو تضمين الحافر النقصان، ثم يردمه بنفسه. ¬
حريم البئر المستحدث
وقال المالكية: إن ما يضر بالماء حريم لكل بئر، ويزاد عليه بالنسبة لبئر الماشية والشِّرب: ما لا يضايق الوارد الذي يشرب من هذه البئر (¬1). وقال الشافعية: حريم البئر المحفورة في أرض الموات: هو بقدر ما يقف فيه النازح منها على رأس البئر ليستقي إن كانت البئر للشرب، وقدر ما يمر فيه الثيران إن كانت للسقي. وحريم النهر عند الشافعية: هو ملقى الطين وما يخرج منه من الرواسب، ويرجع فيه إلى أهل العرف في الموضع (¬2). واستدلوا بالحديث السابق: «من حفر بئراً فله مما حولها أربعون ذراعاً .. » وبحديث مرسل عن سعيد بن المسيب: «حريم البئر البديء ـ أي المستحدث ـ خمسة وعشرون ذراعاً، وحريم البئر العادية ـ أي القديمة ـ خمسون ذراعاً، وحريم بئر الزرع ثلاث مئة ذراع» (¬3). وقال الحنابلة: حريم البئر المستحدث خمسة وعشرون ذراعاً حواليها، وحريم البئر القديم خمسون ذراعاً، بدليل حديث ابن المسيب السابق (¬4). وسيأتي في بحث إحياء الموات تفصيل الكلام في الحريم. ¬
الفصل الثاني: إحياء الموات (استصلاح الأراضي والبناء فيها)
الفَصْلُ الثَّاني: إحياء الموَات (استصلاح الأراضي والبناء فيها) خطة البحث: الكلام في هذا الموضوع يشمل ما يأتي: المبحث الأول ـ تعريف إحياء الموات ومشروعيته والترغيب فيه. المبحث الثاني ـ ما يقبل الإحياء من الموات. المبحث الثالث ـ كيفية الإحياء وطرقه ـ التحجير. المبحث الرابع ـ شروطه. المبحث الخامس ـ أحكامه ـ تملك الأرض ومقدار ما يملك (الحريم). المبحث الأول ـ تعريف إحياء الموات ومشروعيته والترغيب فيه شرعا ً: تعريف إحياء الموات: الإحياء لغة: جعل الشيء حياً، أي ذا قوة حساسة أو نامية. والموات: ما لا روح فيه، أو الأرض التي لا مالك لها، أو الأرض الخراب الدارسة غير العامرة، وبإيجاز: هو الأرض التي لم تعمر، والمراد بإحياء الموات:
التسبب للحياة النامية، شبهت العمارة بالحياة، وتعطيلها بعدم الحياة، وإحياؤها: عمارتها. وشرعاً: الإحياء: إصلاح الأرض الموات بالبناء أو الغرس أو الكِرَاب (¬1)، أو غير ذلك. والموات: الأرض التي لا عمارة ولا ماء فيها، ولا يملكها ولا ينتفع بها أحد (¬2). أو هو عند الحنفية الأرض التي تعذر زرعها لانقطاع الماء عنها، أو لغلبته عليها، غير مملوكة، بعيدة من العامر. أو هو ما سلم عن اختصاص بإحياء أي بسبب إحياء (¬3). وحد الموات عند الشافعية: ما لم يكن عامراً، ولا حريماً لعامر، قرب من العامر أو بعد (¬4). ومضمون التعاريف: هو أن إحياء الموات في الغالب: يعني استصلاح الأراضي الزراعية أو جعلها صالحة للزراعة، برفع عوائق الزراعة من أحجار وأعشاب منها، واستخراج الماء، وتوفير التربة الصالحة للزراعة، وإقامة الأسوار عليها أو تشييد البناء فيها. والإحياء ورد عن الشارع مطلقاً، وما كان كذلك وجب الرجوع فيه إلى العرف؛ لأنه قد يبين مطلقات الشارع، والذي يحصل به الإحياء في العرف أحد خمسة أسباب: تبييض الأرض، وتنقيتها للزرع، وبناء الحائط على الأرض، وحفر الخندق القعير الذي لا يطلع من نزله إلا بمطلع، واستخراج الماء (¬5). ¬
مشروعيته
مشروعيته: ثبتت شرعية إحياء الموات بالسنة النبوية في أحاديث كثيرة منها: «من أحيا أرضاً ميتة فهي له» (¬1)، «من أحيا أرضاً ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق» (¬2) «من عمر أرضاً ليست لأحد، فهو أحق بها» (¬3) «من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له، قال: فخرج الناس يتعادَوْن يتخاطُون» (¬4). دلت هذه الأحاديث على إباحة إحياء الأرض الميتة التي لا مالك لها، ولم ينتفع بها أحد، فيحييها الشخص بالسقي، أو الزرع أو الغرس، أو البناء، أو بالتحويط على الأرض بمقدار ما يسمى حائطاً في اللغة. قال عروة: قضى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته وعامة فقهاء الأمصار على أن الموات يملك بالإحياء، وإن اختلفوا في شروطه. وتدل الأحاديث أيضاً على أن الشرع رغب في الإحىاء، لحاجة الناس إلى موارد الزراعة، وتعمير الكون، مما يحقق لهم رفاهاً اقتصادياً، ويوفر ثروة عامة كبرى. ¬
المبحث الثاني ـ الموات القابل للإحياء
المبحث الثاني ـ الموات القابل للإحياء: لا تصلح كل أرض للإحياء، وإنما منها ما يقبل الإحياء، ومنها ما لا يقبل. وقد اتفق الفقهاء على أن الأرض التي لم يملكها أحد، ولم يوجد فيها أثر عمارة وانتفاع، تملك بالإحياء. كما اتفقوا على أن الأراضي التي لها مالك معروف بشراء أو عطية، لم ينقطع ملكه، لا يجوز إحياؤها لأحد، غير أصحابها. واختلفوا في أنواع أخرى من الأرض (¬1): النوع الأول: ما ملك بالإحياء، ثم ترك حتى دثر (درس) وعاد مواتاً: قال الشافعية والحنابلة (¬2): لا يملك بالإحياء؛ لأن الأحاديث التي أجازت الإحياء مقيدة بغير المملوك: «من أحيا أرضاً ميتة ليست لأحد» «ليس لعرق ظالم حق»، ولأن سائر الأموال لا يزول الملك عنها بالترك. وقال أبو يوسف من الحنفية (¬3). يملك بالإحياء، ما لا يعرف له مالك بعينه إذا كان بعيداً من القرية، بحيث إذا وقف إنسان جهوري الصوت في أقصى العمران من دور القرية، فصاح بأعلى صوته، لم يسمع الصوت فيه. وعند محمد: إن ملكت في الإسلام لا تكون مواتاً، وإذا لم يعرف مالكها تكون لجماعة المسلمين. وظاهر الرواية المفتى به: عدم ارتفاق البلدة به كما سيذكر. وقال المالكية (¬4): يملك بالإحياء ما اندرس من عمارة الأرض، لعموم ¬
الحديث: «من أحيا أرضاً ميتة فهي له»، ولأن أصل هذه الأرض مباح، فإذا تركت حتى تصير مواتاً، عادت إلى الإباحة. النوع الثاني: ما يوجد فيه آثار ملك قديم من الجاهلية كآثار الروم ومساكن ثمود ونحوها يملك بالإحياء في المذاهب الأربعة (¬1)، وهو الأظهر عند الشافعية، إذ لا حرمة لملك الجاهلية، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «عادِيّ الأرض لله ولرسوله ثم هو بعد لكم» (¬2) أي قديم الخراب بحيث لم يملك في الإسلام. والرأي الثاني للشافعي: أنه لا يملك بالإحياء، لأنه ليس بموات. النوع الثالث: ما جرى عليه الملك في الإسلام لمسلم أو ذمي غير معين، أي لم يعرف مالكه: يملك بالإحياء عند الحنفية والمالكية، وفي رواية عن أحمد، لعموم الأخبار الواردة في مشروعية الإحياء، ولأنه أرض موات لا حق فيها لقوم بأعيانهم، فأشبهت ما لم يجر عليه ملك مالك. وقال الشافعية: هو مال ضائع، أمره إلى الإمام الحاكم في حفظه إلى ظهور مالكه، أو بيعه وحفظ ثمنه واستقراضه على بيت المال، أي لا يملك بالإحياء. والصحيح عند الحنابلة: أنه لا يملك بالإحياء، فلا أثر لإحيائه ويكون فيئاً بمنزلة ما جلا عنه الأعداء خوفاً منا، أي يوزع في سبيل المصالح العامة (¬3). والخلاصة: إن الشافعية والحنابلة متفقون على أنه لا يملك بالإحياء، والحنفية والمالكية يقولون بجواز إحيائه. ¬
آراء المذاهب في الموات القابل للإحياء
توضيح آراء المذاهب في الموات القابل للإحياء: يحسن بيان رأي كل مذهب على حدة فيما يقبل الإحياء. 1 - مذهب الحنفية (¬1): الأرض الموات: هي أرض خارج البلد، لم تكن ملكاً لأحد، ولا حقاً له خاصاً. ففي داخل البلد لا يكون موات أصلاً، وكذا ما كان خارج البلدة من مرافقها، محتطباً لأهلها، أو مرعى لهم. فلا يجوز إحياء ماقرب من العامر؛ لأنه من مرافقه التابعة له ويترك مرعى لأهل القرية، ومطرحاً لحصائدهم، لتحقق حاجتهم إليها، فلا يكون مواتاً كالطريق والنهر. فالمهم في الأرض غير المملوكة: عدم الارتفاق من أهل البلد، سواء قربت من العامر أم بعدت. وهذا هو ظاهر الرواية وهو قول الأئمة الثلاثة، وهو المفتى به عند الحنفية. 2 - مذهب المالكية (¬2): موات الأرض: ما سلم عن اختصاص بإحياء (أي بسبب إحياء لها بشيء) أو بسبب كونه حريم عمارة كمحتطب أو مرعى لبلد. فإذا اندرست عمارتها من بناء أو غرس أو تفجير ماء ونحوها، لا يزول ملكها عمن أحياها، إلا بإحياء جديد من غيره بعد اندراسها بمدة طويلة يقدرها عرف الناس، فتصبح حينئذ ملكاً للمحيي الثاني. وذلك سواء أكانت الأرض قريبة من العمران أم بعيدة من العمران، إلا أن الأولى يفتقر إحياؤها إلى إذن الحاكم. ¬
3 - مذهب الشافعية
3 - مذهب الشافعية (¬1): حد الموات: ما لم يكون عامراً، ولا حريماً لعامر قرب من العامر أو بعد. أو هو الأرض التي لم تعمرّ قط في بلاد الإسلام. ولا يملك بالإحياء حريم معمور: وهو ما تمس الحاجة إليه لتمام الانتفاع، مثل مرتكض الخيل ومناخ الإبل ومطرح الرماد ونحوها. 4 - مذهب الحنابلة (¬2): الموات: هو الأرض التي ليس لها مالك، ولا بها ماء، ولا عمارة، ولا ينتفع بها. أو هي الأرض المنفكة عن الاختصاصات وملك معصوم: مسلم كان أو كافر. لكن لا يجوز إحياء ما قرب من العامر وتعلق بمصالحه من طرقه ومسيل مائه ومطرح قمامته وملقى ترابه وآلاته، والمتعلق بمصالح القرية كفنائها ومرعى ماشيتها ومحتطبها وطرقها ومسيل مائها، والحد الفاصل بين القريب والبعيد يتحدد بالعرف. والخلاصة: إن المذاهب متقاربة في أصلها ومختلفة في بعض الشروط والقيود. المبحث الثالث ـ كيفية الإحياء وطرقه: إحياء الأرض الموات: يكون باستصلاحها للزراعة بحسب عرف الناس وعاداتهم، كما قرر الشافعية، لكن للمذاهب آراء في الموضوع. قال الحنفية (¬3): إصلاح الأرض الموات يكون بالبناء أو الغرس أو الكراب (قلبها للحرث)، أو إقامة المسنّاة (السد: وهو ما يبنى ليرد ماء السيل، والمراد هنا ¬
المالكية
الجسر)، أو شق النهر، أو إلقاء البذور، أو السقاية مع حفر الأنهار، أو التحويط والتسنيم بحيث يعصم الماء؛ لأنه من جملة البناء. وعن محمد: أن المحيي لو حفر النهر، ولم يسق الأرض أو فعل العكس، يكون فعله تحجيراً لا إحياء. وقال المالكية (¬1): الإحياء يكون بالبناء والغرس والزراعة والحرث وإجراء المياه فيها وغيرها من أحد أمور سبعة هي: الأول: بتفجير ماء لبئر أو عين، فيملك به، وكذا تملك الأرض التي تزرع به. والثاني: بإزالة الماء منها حيث كانت الأرض غامرة بالماء. والثالث: ببناء أرض. والرابع: بسبب غرس الشجر فيها. والخامس: بسبب تحريك أرض بحرثها ونحوه (الحراثة). والسادس: يكون بسبب قطع شجر بها بنية وضع يده عليها. والسابع: بسب كسر حجرها مع تسوية الأرض. وقال الشافعية (¬2): الإحياء الذي يملك به: يختلف بحسب الغرض المقصود من الأرض، ويرجع فيه إلى العرف، والعرف يمثل المصلحة عادة؛ لأن الشرع أطلقه، ولا حد له في اللغة، فيرجع فيه إلى العرف كالقبض في المبيع والموهوب، والحرز في السرقة: وهو في كل شيء بحسبه، والضابط: التهيئة للمقصود. ¬
الحنابلة
فإن أراد إحياء الموات مسكناً، اشترط فيه تحويط البقعة بآجر أو لبن أو قصب بحسب عادة ذلك المكان. والمعتمد أنه لا يكتفى بالتحويط من غير بناء، بل لا بد من البناء، ويشترط سقف بعض الأرض ليتهيأ للسكنى، وتعليق (نصب) باب؛ لأن العادة في المنازل أن يكون لها أبواب، ولا تصلح الأرض للسكنى بما دون ذلك (أي بالبناء والسقف وتركيب باب). وإن أراد إحياء الموات زريبة دواب أو نحوها، كحظيرة لجمع ثماروغلات وغيرها، فيكتفى بالتحويط بالبناء بحسب العادة، ولا يشترط سقف شيء؛ لأن العادة فيها عدمه. ولا بد فيه من تركيب باب على الأرجح مع البناء أو التحويط بالبناء. وإن أراد إحياء الموات مزرعة، فيطلب جمع التراب حولها، وتسوية الأرض، وترتيب ماء لها بشق ساقية من نهر، أو بحفر بئر أو قناة أو نحوها، إن لم يكفها المطر المعتاد. ولا تشترط الزراعة فعلاً في الأصح، لأنه استيفاء منفعة الأرض، وهو خارج عن الإحياء، كما لا يعتبر في إحياء الدار سكناها. والخلاصة: أنه بالتحويط وتسوية الأرض وإيجاد الماء. وإن أراد إحياء الموات بستاناً، فيشترط جمع التراب حول الأر ض كالمزرعة، والتحويط حيث جرت العادة به عملاً بها، وتهيئة ماء كما تقرر في المزرعة. ويشترط أيضاً في البستان غرس البعض على المذهب. فهذا الإحياء يكون بالتحويط وتسوية الأرض وإيجاد الماء والغرس. وقال الحنابلة (¬1): إحياء الأرض: أن يحوط عليها حائطاً منيعاً، سواء أرادها ¬
هل يحصل الإحياء بالتحجير؟
للبناء أو للزرع أو حظيرة للغنم أو الخشب أو غيرها، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من أحاط حائطاً على أرض، فهي له» (¬1)، ولأن الحائط حاجز منيع، فكان إحياء. وكالحائط: إجراء ماء للأرض من نهر أو بئر إن كانت لا تزرع إلا به، أو حفر بئر فيها ينبع منها الماء، فإن لم يخرج الماء فهو كالمحتجر الشارع في الإحياء. ومثل الحائط: أن يغرس فيها شجراً، أو أن يمنع عن الموات ما لا يمكن زرعها إلا بحبسه عنها كأرض البطائح (¬2). وفي الجملة: الإحياء يكون إما بالتحويط المنيع أو إيجاد الماء أو غرس الشجر. ولا يحصل الإحياء بمجرد الحرث والزرع؛ لأنه لا يراد للبقاء بخلاف الغرس، كما لا يحصل الإحياء أيضاً بخندق يجعله حول الأرض التي يريد إحياءها ولا بشوك وشبهه يحوطها به، ويكون تحجراً. هل يحصل الإحياء بالتحجير؟ التحجير أو التحويط: هو الإعلام بوضع الأحجار حول الأرض، أي وضع سور من الأحجار والأشواك ونحوها على جوانب الأرض، وقد اتفق الفقهاء على عدم صلاحيته للإحياء، لكن المتحجر يكون أحق بها من غيره. قال الحنفية (¬3): إن حجر شخص الأرض، لا يملكها بالتحجير؟ لأنه ليس بإحياء في الصحيح؛ لأن الإحياء جعلها صالحة للزراعة، والتحجير للإعلام مشتق ¬
من الحجر: وهو المنع للغير بوضع علامة من حجر، أو بحصاد ما فيها من الحشيش والشوك ونفيه عنها وجعله حولها، أو بإحراق ما فيها من الشوك وغيره، وكل ذلك لا يفيد الملك، فبقيت مباحة على حالها. لكن المتحجر أولى بها من غيره، ولا تؤخذ منه إلى ثلاث سنين، فإذا لم يعمرها فيها، أخذها الحاكم منه، ودفعها إلى غيرها. والتقدير بثلاث سنين مأخوذ من قول عمر رضي الله عنه: «ليس لمتحجر بعد ثلاث سنين حق» (¬1) لكن هذا حكم ديانة، أما قضاء: فإذا أحياها غيره قبل مضيها، ملكها لتحقق سبب الملك منه، دون الأول أي المتحجر. وقال المالكية (¬2): لا يكون الإحياء بتحويط (تحجير) للأرض بنحو خط عليها، ولا رعي كلأ بها، ولا حفر بئر ماشية أو شرب بها، إلا أن يبين الملكية حين حفر البئر، فإن بينها فإحياء. وقرر الشافعية والحنابلة (¬3) أنه: إن تحجر مواتاً، وهو أن يشرع في إحيائه، ولم يتمه، أو أعلم على بقعة بنصب أحجار، أو غرز خشباً فيها، أو نصب أسلاكاً شائكة، أو حاطها بحائط صغير لم يملكها بما ذكر؛ لأن الملك بالإحياء، وليس هذا إحياء. لكن يصير أحق الناس به لحديث أبي داود: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم، فهو أحق به». ¬
المبحث الرابع ـ شروط الإحياء
فلو أحياه آخر ملكه. فإن لم يتم إحياء المتحجر، وطالت المدة عرفاً، كنحو ثلاث سنين، قيل له: إما أن تحييه فتملكه، أو تتركه لمن يحييه، إن حصل متشوف للإحياء؛ لأنه ضيق على الناس في حق مشترك بينهم، فلم يمكّن من الإحياء، فإن طلب المتحجر المهلة لعذر، أمهل شهرين أو ثلاثة أو أقل، على ما يراه الحاكم لأنه يسير. وإن لم يكن له عذر، فلا يمهل، فهم تقريباً كالحنفية. المبحث الرابع ـ شروط الإحياء: هناك شروط في المحيي، والأرض المحياة، وإجراء الإحياء. المطلب الأول ـ شروط المحيي: المحيي: هو الذي يباشر الإحياء الذي هو من أسباب الاختصاص أو التملك، ويجوز إحياء كل من يملك المال؛ لأنه فعل بملك به كالاصطياد. ولا يشترط عند الجمهور (الحنفية والمالكية والحنابلة) (¬1) كون المحيي مسلماً، فلا فرق بين المسلم والذمي في الإحياء، لعموم قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «من أحيا أرضاً ميتة، فهي له»، ولأن الإحياء أحد أسباب التمليك، فاشترك فيه المسلم والذمي، كسائر أسباب الملكية. واشترط الشافعية (¬2) في المحيي أن يكون مسلماً، ولا يملك الذمي إحياء الأرض الموات، وإن أذن له فيه الإمام؛ لأن الإحياء استعلاء، وهو ممتنع عليهم بدار الإسلام. فلو أحيا ذمي أرضاً، نزعت منه ولا أجرة عليه، فلو نزعها منه مسلم وأحياها، ملكها، وإن لم يأذن له الإمام، إذ لا أثر لفعل الذمي. ¬
المطلب الثاني ـ شروط الأرض المحياة
المطلب الثاني ـ شروط الأرض المحياة: يشترط في الأرض المحياة شروط تتعلق بملكيتها والارتفاق بها ومكانها، وهي ما يأتي: 1 - ألا تكون ملكاً لأحد، مسلم أو ذمي، وليست من اختصاص أحد. وهذا معنى قول الفقهاء: أن تكون الأرض عادياً (أي قديم الخراب بحيث لم يملك في الإسلام، لا مالك لها في الإسلام، فكأنها خربت من عهد عاد). وهذا الشرط متفق عليه فقهاً (¬1). 2 - ألا تكون مرتفقاً بها أي مستعمله ارتفاقاً لأهل البلدة، قريباً أو بعيداً، كمحتطب ومرعى، وناد (مجلس يجتمعون فيه للتحدث)، ومرتكض خيل، ومُناخ إبل، ومطرح رماد، وحريم بئر، وشوارع وطرقات، ونحوها. وهو شرط متفق عليه أيضاً بين المذاهب في الأرجح عند بعضها كالحنفية (¬2). 3 - أن تكون الأرض عند الشافعية في بلاد الإسلام: فإن كانت في دار الحرب فللمسلم إحياؤها إن كانت مما لا يمنعها أهلها عن المسلمين، فإذا منعوها أو دفعوا المسلمين عنها، فلا يملكها المسلم بالاستيلاء (¬3). ولا فرق عند الجمهور غير الشافعية بين دار الحرب ودار الإسلام لعموم الأخيار، ولأن عامر دار الحرب إنما يملك بالقهر والغلبة كسائر أموالهم (¬4). ¬
المطلب الثالث ـ شروط الإحياء الذي يثبت به الملك
المطلب الثالث ـ شروط الإحياء الذي يثبت به الملك: يشترط في الإحياء الذي يثبت به الملك شرطان في بعض الآراء: 1 - أن يكون الإحياء عند أبي حنيفة (¬1) بإذن الحاكم، لحديث: «ليس للمرء إلا ما طابت به نفس إمامه» (¬2)، فإذا لم يأذن لم تطب نفسه به، ولأن هذه الأراضي كانت في أيدي الكفرة، ثم صارت في أيدي المسلمين، فهي فيء، والإمام هو المختص بتوزيع الفيء، كالغنائم، ومثل إعطاء السَّلَب للقاتل في قوله عليه الصلاة والسلام: «من قتل قتيلاً فله سَلَبه» (¬3) فهذا تصرف من الرسول صلّى الله عليه وسلم بطريق الإمامة والسياسة، لا بطريق الشرع والنبوة. وقال المالكية (¬4): إذا كانت الأرض قريبة من العمران، افتقر إحياؤها إلى إذن الإمام، بخلاف البعيدة من العمران، وأن يكون فيها الإذن لمسلم، فلا يأذن الإمام لذمي على المشهور في إحياء الأرض القريبة من العمران، ولا يجوز للذمي إحياء الأرض في جزيرة العرب: مكة والمدينة وما والاها. وقال الصاحبان والشافعية والحنابلة (¬5): من أحيا أرضاً مواتاً، تملكها، وإن لم يأذن له فيها الإمام، اكتفاء بإذن رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من أحيا أرضاً ميتة فهي له» الصادر بطريق الشرع والنبوة، ولأنه مال مباح كالاحتطاب والاصطياد، سبقت ¬
المبحث الخامس ـ أحكام إحياء الموات
إليه يد المحيي، فيملكه. ويؤيده حديث البخاري عن عائشة: «من عَمَر أرضاً ليست لأحد فهو أحق بها» فظاهره أنه لا يشترط إذن الإمام. لكن يستحب استئذانه. خروجاً من الخلاف. 2 - يشترط عند الحنفية في حالة التحجير: أن يتم الإحياء خلال مدة أقصاها ثلاث سنين. فإذا لم يعمرها فيها أخذها الحاكم منه، ودفعها إلى غيره؛ لأن البدء أو الشروع في استصلاحها يتطلب تعميرها، فيحصل النفع للمسلمين بدفع العشر أو الخراج، فإذا لم يحصل المقصود، فلا فائدة في تركها في يده (¬1). والتقدير بثلاث سنين مأخوذ ـ كما عرفنا ـ من قول عمررضي الله عنه: «ليس لمتحجر بعد ثلاث سنين حق» (¬2). وهذه مدة معقولة لاستصلاح الأراضي وتدبير مصالحها. لكن هذا الحكم من طريق الديانة، أما من طريق القضاء، فلو أحياها غيره قبل مضي تلك المدة، ملكها لتحقق سبب الملك منه، دون الأول. ومذهب الشافعية والحنابلة كالحنفية تقريباً. المبحث الخامس ـ أحكام إحياء الموات: يترتب على إحياء الأرض تملكها، وفرض ضريبة العشر أو الخراج عليها، وعدم تملك حريم المعمور، وتملك حريم الموات. ¬
المطلب الأول ـ تملك الأرض المحياة
المطلب الأول ـ تملك الأرض المحياة: هل يثبت بإحياء الموات ملك الاستغلال (حق الانتفاع)، أو ملك الرقبة (ذات الأرض) ملكية مطلقة تشمل حق التصرف والاستعمال والاستغلال؟ قال الفقيه أبو القاسم أحمد البلخي رحمه الله: إن الذي يثبت بإحياء الموات هو حق الاستغلال لا حق الملكية، قياساً على من جلس في موضع مباح، فإن له الانتفاع، فإذا قام عنه، وأعرض، بطل حقه (¬1). وقال عامة الفقهاء: الثابت بالإحياء هو حق الملكية المطلقة، استدلالاً بنص الحديث: «من أحيا أرضاً ميتة فهي له» فإنه أضاف الحق للمحيي بلام التمليك في قوله «فهي له» وملكه لا يزول بالترك (¬2). وهذا هو الحق العيني للمحيي. وبناء عليه نص الحنفية: أنه لو ترك المحيي الأرض بعد الإحياء، وزرعها غيره، فالأول أحق بها في الأصح (¬3). المطلب الثاني ـ وظيفة الأرض المحياة: الحق الثاني في الأرض المحياة هو للدولة، لكن هل الواجب المفروض على تلك الأرض أو الوظيفة: هو العشر أو الخراج؟ قال أبو يوسف: إن أحياها مسلم، فإن كانت تلك الأرض من الأراضي العشرية فالواجب فيها العشر، وإن كانت من حيّز الأراضي الخراجية فالواجب فيها الخراج. ¬
وقال محمد: إن أحياها بماء العشر كماء المطر أو الأنهار الكبيرة فهي عشرية، وإن أحياها بماء الخراج، كالماء المأخوذ من نهر حفره غير المسلمين فهي خراجية. وهذا الرأي هو ما مشى عليه صاحب الهداية. والأراضي العشرية خمسة أنواع: 1 - أرض العرب. 2 - كل أرض أسلم أهلها عليها طوعاً. 3 - الأراضي التي فتحت عنوة وقهراً وقسمت بين الغانمين. 4 - المسلم إذا اتخذ داره بستاناً أو كرماً. 5 - المسلم إذا أحيا الأراضي الميتة بإذن الإمام وهي من توابع الأراضي العشرية، أو تسقى بماء العشر، وهو ماء السماء وماء العيون المستنبط من الأراضي العشرية. والأراضي الخراجية: 1 - سواد العراق كلها، وكل أرض فتحت عنوة وقهر اً وتركت على أيدي أربابها، ومنَّ عليهم الإمام، فإنه يضع الجزية على أعناقهم إذا لم يسلموا، والخراج على أراضيهم إذا أسلموا أو لم يسلموا. وهذا عند الحنفية. 2 - وكذلك إذا جلاهم الإمام ونقل إليها آخرين. 3 - والمسلم أو الذمي إذا أحيا أرضاً ميتة، وهي تسقى بماء الخراج، والذمي إذا اتخذ داره بستاناً (¬1). ¬
المطلب الثالث ـ القيد الوارد على ملكية المحيي والملكية الإضافية ـ الحريم
وقال الحنابلة: لا خراج على من أحيا موات الأرض المفتوحة عنوة، كأرض مصر والشام والعراق. أما إن أحياها ذمي فهي خراجية مطلقاً بالاتفاق (¬1). المطلب الثالث ـ القيد الوارد على ملكية المحيي والملكية الإضافية ـ الحريم: الحريم: هو ما تمس الحاجة إليه لتمام الانتفاع بالمعمور، أو ما يحتاج إليه لمصلحة العامر من المرافق، كحريم البئر، وفناء الدار، والطريق، ومسيل الماء ومرافق القرية مثل ناد (مجلس الاجتماع) ومحتطب ومرعى ومرتكض الخيل ومناخ الإبل، ومطرح الرماد، ونحوها. ولا يجوز باتفاق الفقهاء (¬2) إحياء حريم الأر اضي العامرة قبل الإحياء؛ لأنه تابع للعامر، فلا يملك؛ لأنّا لو جوزنا إحياءها أبطلنا الملك في العامر على أهله. ولا يجوز أيضاً بالإحياء تملك ما بين العامر من الرحاب والشوارع ومقاعد الأسواق؛ لأن المذكور ليس من الموات، وإنما من جملة العامر، ولأنّا لو جوزنا التملك ضيقنا على الناس في أملاكهم وطرقهم. والخلاصة: أن كل مملوك لا يجوز إحياء ما تعلق بمصالحه. ومن جهة أخرى للمحيي ملكية إضافية قررها الشارع: وهو حريم الأرض التي أحياها، فله بالإحياء ما يحتاج إليه من المرافق كفناء الدار (الساحة أمام الدار وما امتد من جوانبها) ومسيل وحريم البئر، وله أن يمنع غيره منه. ¬
مشروعية الحريم
والكلام عن الحريم في أصل مشروعيته، ومقداره. مشروعية الحريم: الأصل في مشروعية الحريم: أن النبي صلّى الله عليه وسلم جعل للبئر حريماً (¬1). وللعين حريم بالإجماع، لأنه عليه الصلاة والسلام جعل لكل أرض حريماً (¬2). مقدار الحريم: للفقهاء تقديرات متقاربة للحريم. مذهب الحنفية (¬3): 1 ـ حريم العين الجارية: الأصح أن حريمها خمس مئة ذراع من كل جانب والذراع ست قبضات، كل قبضة أربع أصابع، وهو من المرفق إلى الأنامل. لقول الزهري: «وحريم العين خمس مئة ذراع، من كل ناحية» وبناء عليه يمنع غير صاحب الحريم من الحفر ونحوه في مسافة الحريم، لأنه ملك له، فله تضمين المعتدي أو ردم الحفرة. 2 ـ وحريم البئر: يختلف بين بئر العطَن (العطن: مُناخ الإبل حول البئر)، وبئر العطن (هي التي ينزح منها الماء باليد) وبين بئر الناضح: (وهي التي ينزح منها الماء بالبعير ونحوه). ¬
3 ـ حريم القناة
وحريم بئر العطن: أربعون ذراعاً من كل جانب باتفاق الحنفية، كما دلت بعض الروايات لكنها غريبة أي لم تثبت، كما قال الزيلعي (¬1). وحريم بئر الناضح أربعون ذراعاً كبئر العطن عند أبي حنيفة، عملاً بحاجة الناس. وعند الصاحبين: ستون ذراعاً لما روي: «وحريم بئر الناضح ستون ذراعاً» والصحيح: أن حريمها على قدر الحاجة من كل الجوانب. بشرط أن يحفرها في موات بإذن الإمام أو في ملكه، فلو حفر في ملك الغير لا يستحق الحريم. 3 ـ حريم القناة: وهي مجرى الماء تحت الأرض. ولم يقدر حريمها بشيء يمكن ضبطه، فحريمها بقدر ما يصلحها لإلقاء الطين ونحوه. وعن محمد: أنها بمنزلة البئر في استحقاق الحريم، وقيل بآراء أخرى، أولاها عندي: أن لها حريماً مفوضاً إلى رأي الإمام؛ لأنه لا نص في الشرع. 4 ـ حريم النهر: اختلف فيه الحنفية. فعن أبي حنيفة: لا حريم للنهر في ملك الغير. وقال الصاحبان: له حريم من الجانبين؛ لأن استحقاق الحريم للحاجة، وصاحب النهر يحتاج إليه كصاحب البئر والعين، إذ أنه يحتاج إلى المشي على حافتي النهر، كما يحتاج إلى موضع لإلقاء الطين عليه عند كري النهر. ثم اختلف الصاحبان في تقديره. فقال أبو يوسف: قدر نصف بطن النهر من كل جانب، أي نصف العرض. وقال محمد: قدر جميع بطن النهر من كل جانب، أي عرض النهر. واتفق الحنفية أن للنهر حريماً بقدر ما يحتاج إليه لإلقاء الطين ونحوه، فيما لو أحياه في أرض موات. وعليه من كان له نهر في أرض غيره، فليس له حريمه عند أبي حنيفة ¬
5 ـ حريم الشجر
بمجرد دعواه أنه له؛ لأن الظاهر لا يشهد له، بل لصاحب الأرض؛ لأنه من جنس أرضه، والقول لمن يشهد له الظاهر، إلا أن يقيم البينة على ذلك؛ لأنها لإثبات خلاف الظاهر. وقال الصاحبان: له مسنّاة (¬1) يمشي عليها، ويلقي عليها طينه؛ لأن النهر لابد له من ذلك. فكان الظاهر أنه له. وثمرة الخلاف: أن ولاية الغرس لصاحب الأرض عند أبي حنيفة، وعند الصاحبين: لصاحب النهر. قال الزيلعي: والصحيح أن هذا الحريم لصاحب النهر، ما لم يفحش. 5 ـ حريم الشجر: حريم الشجر الذي يغرس في الأرض الموات: خمسة أذرع من كل جانب، حتى لا يملك غيره أن يغرس شجراً في حريمه؛ لأنه يحتاج إلى الحريم لجذاذ ثمره، وللوضع فيه. وقد جعل النبي صلّى الله عليه وسلم حريم الشجرة خمسة أذرع (¬2). ومقدار الحريم عند المالكية (¬3): ما يأتي: حريم البئر: ما يتصل بها من الأرض التي حولها، فهو يختلف بقدر كبر البئر وصغرها وشدة الأرض ورخاوتها. ويشمل باطن الأرض. فلا يحق لآخر حفر بئر ينشف ماءها أو يذهبه، أو يغيره بطرح نجاسة يصل إليها وسخها، كما يشمل ظاهر الأرض كالبناء والغرس. ¬
حريم الدار
وحريم الدار: مدخلها ومخرجها، ومواضع مضابطها، وشبهها، مما يرتفق أهلها به من مطرح تراب، ومصب ميزاب لدار. وحريم الفدان (¬1): حواشيه، ومدخله ومخرجه. وحريم القرية: موضع محتطبها ومرعاها. وحريم الشجر: ما فيه مصلحة عرفاً، فلصاحبها منع من أراد إحداث شيء بقربها يضرّ بها، من بناء أو غرس أو حفر بئر ونحوها. وعند الشافعية (¬2): يرجع في تقدير الحريم إلى العرف، حتى إن المنصوص عليه مراعى فيه العرف والحاجة. والحريم كما تقدم: هو ما تمس الحاجة إليه لتمام الانتفاع بالمعمور، وإن حصل أصل الانتفاع بدونه. ف حريم القرية المحياة: النادي (وهو المجلس الذي يجتمعون فيه ويتحدثون)، ومرتكض الخيل، ومناخ الإبل، ومطرح الرماد ونحوها كمراح غنم ومسيل ماء وملعب صبيان. وحريم البئر المحفورة في الموات: موقف النازح منها (وهو القائم على رأس البئر ليستقي) (¬3) والحوض (وهو ما يصب النازح فيه ما يخرجه من البئر)، والدولاب، ومجتمع الماء (الذي يطرح فيه من الحوض لسقي الماشية والزرع)، ومتردد النازح من الدابة إن استقى بها، أو الآدمي. وحريم بئر الشرب: موضع المستقي منها. ¬
حريم النهر
وحريم النهر: هو ملقى الطين وما يخرج منه بحسب العرف في الموضع. بدليل حديث عبد الله بن مغفل السابق أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من احتفر بئراً، فله أربعون ذراعاً حولها، عطناً لماشيته». وحريم الدار المبنية في الموات: مطرح رماد وكناسة وثلج، وممر في صوب الباب (جهته). وحريم آبار القناة: ما لو حفر فيه (أي في الحريم) نقص ماؤها، أو خيف عليها الانهيار، والدار المحفوفة بدور لا حريم لها. ويتصرف كل واحد في ملكه على العادة، فإن تعدى ضمن. ويجوز إحياء موات الحرم المكي، كما يملك عامره بالبيع وغيره، دون عرفات ومزدلفة ومنى، لا يجوز إحياؤها لتعلق الوقوف بعرفات، وأداء شعائر الحج فيها وفي غيرها، كالحقوق العامة من الطرق ومصلى العيد في الصحراء، وموارد الماء. ومذهب الحنابلة (¬1) ما يأتي: البئر العاديّة (بتشديد الياء نسبة إلى عاد) (¬2): هي القديمة التي انطمت وذهب ماؤها، فجدد حفرها وعمارتها، أو انقطع ماؤها، فاستخرجه المحيي الذي يملكها ويملك حريمها. وحريمها: خمسون ذراعاً من كل جانب. والبئر غير العادية (البئر البديء): حريمها على النصف من حريم العادية، وهو خمسة وعشرون ذراعاً من كل جانب. والدليل ما روى أبو عبيد في الأموال عن سعيد بن المسيب قال: «السنة في ¬
البئر العادية
حريم القليب ـ البئر العادية: خمسون ذراعاً، وحريم البديء: خمسة وعشرون ذراعاً، وحريم بئر الزرع ثلاث مئة ذراع». وحريم عين وقناة من موات حولها: خمس مئة ذراع، أي ذراع اليد؛ لأنه المتبادر عند الإطلاق. وحريم نهر من حافتيه: ما يحتاج النهر إليه، لطرح كرايته (أي ما يلقى منه طلباً لسرعة جريه) وما يضر صاحبه، بتملكه عليه، وإن كثر، وكذا ما يرتفق بدخوله؛ لأنه من مصالحه. وحريم شجرة: قدر مد أغصانها. وحريم النخل: بقدر مد جريدها، لحديث أبي سعيد الخدري المتقدم: «اختصم إلى النبي صلّى الله عليه وسلم في حريم نخلة، فأمر بجريدة من جرائدها فذرعت، فكانت سبعة أذرع، أو خمسة أذرع، فقضى بذلك». وحريم أرض زراعة: قدر ما يحتاجه زارعها لسقيها، وربط دوابها، وطرح سبخها ونحوه، كمصرف مائها عند الاستغناء عنه، لأن كل المذكور من مرافقها. وحريم الدار: مطرح تراب وكناسة وثلج وماء وميزاب، وممر إلى بابها؛ لأن هذا كله مما يرتفق بها ساكنها. ولا حريم لدار محفوفة بملك الغير من كل جانب؛ لأن الحريم من المرافق، ولا يرتفق بملك غيره؛ لأن مالكه أحق به، ويتصرف كل واحد منهم في ملكه وينتفع بحسب ما جرت به العادة، فإن تعدى العادة، منع التعدي، عملاً بالعادة. وبناء عليه: لو حفر رجل بئراً في أرضه، فأدى إلى نضوب ماء بئر الجار، وجب سد ماء البئر، عند الحنابلة. ولا شيء عليه عند الحنفية؛ لأن الماء الموجود تحت الأرض غير مملوك لأحد، وهذا منصوص عليه في المجلة (م 1288).
الفصل الثالث: أحكام المعادن والحمى والإقطاع
الفَصْلُ الثَّالث: أحكام المعادن والحِمى والإقطاع فيه مبحثان: الأول ـ الحمى. الثاني ـ الإقطاع، ويتضمن أحكام المعادن المبحث الأول ـ الحمى: معناه وأصله، مشروعيته، ما حماه النبي صلّى الله عليه وسلم أو إمام غيره. أولاً ـ أصل الحمى ومعناه: أصل الحمى عند العرب في الجاهلية: أن الرئيس منهم كان إذا نزل بأرض مخصبة، استعوى كلباً، على مكان عال، فحيث انتهى إليه صوته من كل جانب، حماه لنفسه، فلا يرعى فيه غيره، ويرعى هو مع غيره. وهذا لا يجوز شرعاً، فقد نهى عنه النبي صلّى الله عليه وسلم لما فيه من التضييق على الناس، ومنعهم من الانتفاع بشيء لهم فيه حق. والحمى بمعنى المحمي، مصدر يراد به اسم المفعول، أو المراد به الحماية والتحجير. ومعناه شرعاً. أن يحمي الإمام أرضاً من الموات، فيمنع الناس من رعي ما فيها من الكلأ، ليختص بها دونهم، لمصلحة المسلمين، لا لنفسه. وعرف
ثانيا ـ مشروعيته
المالكية الحمى الشرعي بقولهم: أن يحمي الإمام مكاناً خاصاً لحاجة غيره (¬1). ثانياً ـ مشروعيته: لا يجوز لأحد أن يحمي مواتاً ليمنع إحياء الموات، ورعي ما فيه من الكلأ، لما روى الصعب بن جَثَّامة: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا حمى إلا لله ولرسوله» (¬2). ويجوز باتفاق المذاهب في الصحيح عند الشافعية للإمام أن يحمي لخيل المجاهدين ونَعَم (¬3) الجزية، وإبل الصدقة، والماشية الضعيفة، بدليل أن النبي صلّى الله عليه وسلم حمى النقيع (¬4) للخيل ـ خيل المسلمين (¬5). ويؤيده ما روى عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه، قال: أتى أعرابي من أهل نجد عمر رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين، بلادنا قاتلنا عليها في الجاهلية، وأسلمنا عليها في الإسلام، فعلام تحميها؟ فأطرق عمر رضي الله عنه، وجعل ينفخ، ويفتِل شاربه، وكان إذا كرِه أمراً، فتل شاربه ونفخ، فلما رأى الأعرابي مابه، جعل يردد ذلك، فقال عمر: «المال مال الله، والعباد عباد الله، فلولا ما أحمل عليه في سبيل الله (أي لخيل الجهاد) ماحميت من الأرض شبراً في شبر» (¬6). ¬
قال مالك: بلغني أنه كان يحمل في كل عام على أربعين من الظهر، وقال مرة: من الخيل. وقال البخاري: بلغنا أن النبي صلّى الله عليه وسلم حمى النقيع، وأن عمر حمى شرَف والرّبذة (¬1). وعن أسلم مولى عمر: أن عمر استعمل مولى له، يدعى «هُنيّاً» على الحمى، وقال له: يا هُنَي، اضمم جَنَاحك على المسلمين (¬2)، واتق دعوة المظلوم، فإن دعوة المظلوم مستجابة، وأدخل رب الصُّرَيمة (¬3)، ورب الغُنَيمة، وإياك ونَعمَ ابن عوف، ونعم ابن عفان (¬4)، فإنهما إن تهلك ماشيتهما، يرجعان إلى نخل وزرع. ورب الصريمة ورب الغنيمة، إن تهلك ماشيتهما، يأتيني ببينة يقول: يا أمير المؤمنين أفتاركهم أنا، لا أبالك (¬5)، فالماء والكلأ أيسر عليَّ من الذهب والورِق. وأيم الله، إنهم ليَروْن أني قد ظلمتهم، إنها لبلادُهم، قاتلوا عليها في الجاهلية، وأسلموا عليها في الإسلام. والذي نفسي بيده، لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله، ما حميت عليهم من بلادهم شيئاً (¬6). ¬
ثالثا ـ حكم ما حماه النبي صلى الله عليه وسلم أو إمام غيره
قال ابن قدامة (¬1): وهذا إجماع من الصحابة، ولأن ماكان لمصالح المسلمين، قامت الأئمة فيه مقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال. «ما أطعم الله لنبي طُعْمة، إلا جعلها طعمة لمن بعده» رواه أحمد. وأجاز المالكية (¬2) الحمى الشرعي بشروط أربعة، هي: 1 - حاجة المسلمين إليه: فلا يحمي الإمام أو نائبه لنفسه، ولا لغيره عند عدم الحاجة. 2 - أن يكون المحمي قليلاً، لا كثيراً. والقليل: ما لا يضيق فيه على الناس والكثير: ما ضيق فيه على الناس. 3 - أن يكون المحمي في مكان عفا، أي خالياً من البناء والغرس. 4 - أن يكون الغرض من الحمى تحقيق مصلحة عامة الناس، مثل الجهاد ونحوه، أي لترعى فيه دواب الحرب أو الصدقة أو ضعفة المسلمين. ونائب الإمام مثل الإمام، وإن لم يأذن له الإمام، بخلاف الإقطاع، فليس لنائب السلطان إقطاع إلا بإذن؛ لأن الإقطاع يحصل به التمليك، فلا بد فيه من الإذن، بخلاف الحمى. ثالثاً ـ حكم ما حماه النبي صلّى الله عليه وسلم أو إمام غيره (¬3): ليس لأحد نقضه، ولا تغييره، مع بقاء الحاجة إليه، لأنه كالمنصوص عليه، ومن أحيا منه شيئاً لم يملكه. ¬
المبحث الثاني ـ الإقطاع
وإن زالت الحاجة إليه، ففيه عند الشافعية والحنابلة وجهان: أحدهما ـ يجوز لأنه زال السبب. والثاني ـ لا يجوز، لأن ما حكم به رسول الله صلّى الله عليه وسلم نص، فلا يجوز نقضه بالاجتهاد. وإن حمى إمام آخر بعد النبي، فغيّره هو، أو غيره من الأئمة: جاز. وإن أحياه إنسان بعد الإمام ففيه قولان عند الشافعية والحنابلة: أحدهما ـ لا يملكه، كما لا يملك ما حماه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولأن اجتهاد الإمام لايجوز نقضه. والثاني ـ يملك؛ لأن حمى الإمام اجتهاد، وملك الأرض بالإحياء نص، والنص يقدم على الاجتهاد. المبحث الثاني ـ الإقطاع: تعريفه، مشروعيته، أنواعه وحكم كل نوع. أولاً ـ تعريف الإقطاع: هو جعل بعض الأراضي الموات مختصة ببعض الأشخاص ـ سواء أكان ذلك معدناً، أم أرضاً، فيصير ذلك البعض أولى به من غيره، بشرط أن يكون من الموات الذي لا يختص به أحد. أو هو تسويغ الإمام من مال الله شيئاً لمن يراه أهلاً له. وأكثر ما يستعمل في الأرض: وهو أن يخرج منها لمن يراه ما يحوزه، إما بأن يملكه، فيعمره، وإما بأن يجعل له غلته مدة (¬1). ¬
ثانيا ـ مشروعيته
ثانياً ـ مشروعيته: يجوز للإمام أن يقطع موات الأرض لمن يملكه بالإحياء، لما روى وائل بن حُجر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أقطعه أرضاً بحضرموت، وبعث معاوية ليقطعها إياه» (¬1)، وروى ابن عمر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أقطع الزبير حُضْر فرسه (¬2)، وأجرى الفرس حتى قام، ثم رمى بسوطه، فقال: أقطعوه، حيث بلغ السوط» (¬3). وروى عمرو بن شعيب أن النبي صلّى الله عليه وسلم أقطع ناساً من جهينة أو مزينة أرضاً (¬4). وروي أن أبا بكر أقطع الزبير: وأقطع عمر علياً، وأقطع عثمان رضي الله عنهم خمسة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم: الزبير، وسعد، وابن مسعود، وخباباً، وأسامة بن زيد، رضي الله عنهم. ويروى عن نافع أبي عبد الله: أنه قال لعمر: إن قَبلنا أرضاً بالبصرة، ليست من أرض الخراج، ولا تضر بأحد من المسلمين، فإن رأيت أن تقطعنيها، أتخذ فيها قصيلا (¬5) لخيلي فافعل. قال: فكتب عمر إلى أبي موسى: إن كانت كما يقول، فاقطعها إياه (¬6). ويجوز أيضاً إقطاع المعادن للاستغلال، لا ملك الرقبة (عين الشيء)، لما روى ابن عباس قال: «أقطع رسول الله صلّى الله عليه وسلم بلال بن الحارث المزني معادن القَبَليّة (¬7)، جَلْسيها وغَوْريّها وحيث يصلح الزرع من قُدْس (¬8)، ولم يعطه حق مسلم (¬9)». ¬
ثالثا ـ أنواع الإقطاع
ثالثاً ـ أنواع الإقطاع: الإقطاع ثلاثة أقسام: إقطاع تمليك، وإقطاع استغلال، وإقطاع إرفاق. وإقطاع التمليك ينقسم إلى موات، وعامر، ومعادن. وإقطاع الاستغلال نوعان: عشر، وخراج. 1 - حكم إقطاع الموات: أما إقطاع الموات: فيجوز باتفاق المذاهب للإمام إقطاع موات لمن يحييه، فيؤدي إلى عمارة البلاد، لأنه صلّى الله عليه وسلم ـ كما تقدم ـ أقطع بلال ابن الحارث العقيق، وأقطع وائل بن حجر أرضاً، وأقطع أبو بكر وعمر وعثمان جمعاً من الصحابة. فإن أقطع الإمام أرضاً لشخص، ملكها عند المالكية (¬1) وإن لم يعمرها بشيء، فله بيعها وهبتها، وتورث عنه. وليس هو من الإحياء، بل هو تمليك مجرد. ولا يملك الموات بالإقطاع عند الجمهور (¬2) (غير المالكية)، لأنه لو ملكه ما جاز استرجاعه، بل يصير المقطع كالمتحجر الشارع في الإحياء، فيكون أحق به إذا أحياه في خلال مدة، أقصاها عند الحنفية ثلاث سنين، لقول عمر: «ليس لمتحجر بعد ثلاث سنين حق». ¬
2 - حكم إقطاع العامر وهو إقطاع الإرفاق
ولا ينبغي للإمام أن يقطع من الموات إلا ما قدر المقطع على إحيائه؛ لأن في إقطاعه أكثر من هذا القدر تضييقاً على الناس في حق مشترك بينهم، مما لا فائدة فيه، فيدخل به الضرر على المسلمين. فإن أقطع الإمام أحداً أكثر من القدر الذي يمكن إحياؤه، ثم تبين عجزه عن عمارته أو إحيائه استرجعه الإمام منه، كما استرجع عمر من بلال بن الحارث ماعجز عن عمارته، من العقيق الذي أقطعه إياه رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وهذا هو المراد بالمصلحة التي يجوز الإقطاع لأجلها؛ لأن الحكم يدور مع علته. وللإمام عند الحنابلة إقطاع غير موات تمليكاً، وانتفاعاً للمصلحة (¬1). ويجوز الإقطاع من مال الخراج، كما يجوز من مال الجزية (¬2). وقال المالكية (¬3): لا يقطع الإمام معمور أرض العنوة كأرض مصر والشام والعراق، أي الصالحة لزرع الحب ملكاً؛ لأنها وقف عندهم، بل يقطعها إمتاعاً وانتفاعاً. وأما ما لا يصلح لزرع الحب، وإن صلح لغرس الشجر، وليس من العقار، فإنه من الموات، يقطعه ملكاً وانتفاعاً. وأما أرض الصلح فلا يقطعها الإمام لأحد مطلقاً؛ لأنها مملوكة لأربابها. 2 - حكم إقطاع العامر وهو إقطاع الإرفاق: قال الشافعية والحنابلة (¬4): يجوز إقطاع ما بين العامر من الرحاب للمساجد ونحوها، ومقاعد الأسواق، والطرق الواسعة، إقطاع انتفاع، ولا يملكه المقطع وإنما ينتفع به ما لم يضيق على ¬
3 - حكم إقطاع المعادن وملكيتها
الناس أو يضر بالمارة، فمن أقطع شيئاً مما ذكر صار أحق بالجلوس في الموضع؛ لأن للإمام النظر والاجتهاد، فإذا أقطعه ثبتت يده عليه بالإقطاع، فلم يكن لغيره أن يقعد فيه، بمنزلة السابق إليه من غير إقطاع، إلا في فارق واحد: وهو أن السابق لشيء إذا انتقل عنه بنقل متاعه منه، زال استحقاقه، لزوال المعنى الذي استحق به. وفي الإقطاع لا يزول استحقاقه سواء نقل متاعه إليه أو لم ينقل، جلس فيه أو تركه؛ لأنه استحق بإقطاع الإمام، فلا يزول حقه بترك الجلوس فيه. وللجالس في الرحاب أو الطرق أن يظلل على نفسه بما لا ضرر فيه من حصير وكساء للحاجة إليه، وليس له بناء شيء في الطريق، ولا في رحبة المسجد، لما فيه من التضييق. وليس للجالس بطريق واسع الجلوس بحيث يمنع جاره رؤية المتعاملين معه، أو يضيق على جاره في كيل أو وزن أو أخذ أو عطاء، لحديث «لا ضرر ولا ضرار». 3 - حكم إقطاع المعادن وملكيتها: تعريف المعادن، والفرق بينها وبين الرّكاز أو الكنز، وأنواعها، وحكم ملكيتها وإقطاعها في المذاهب. المستخرج من الأرض بالبحث والتنقيب: إما معدن، أو ركاز أو كنز. تعريف المعادن: المعادن أو الفلزات: هي ما يوجد في باطن الأرض من أصل الخلقة، كالذهب والفضة، والنحاس والحديد والرصاص. والرّكاز أو الكنز: هو المال المدفون في الأرض بفعل صاحبه، أو بأثر حادث إلهي، كزلزال أو رياح عاتية، أدى إلى طمر بلد مع ما فيها من ثروات.
أنواع المعادن
والفرق بين المعدن والركاز: أن المعدن جزء من الأرض، وأن الركاز ليس جزءاً من الأرض، وإنما هو دفين مودع فيها، بفعل الإنسان (¬1). أنواع المعادن: المعادن عند الحنفية أنواع (¬2): 1) ـ ما يقبل الطرق والسحب، فيعمل منه الصفائح والحلي والأسلاك، أو ما يذوب بالإذابة وينطبع بالحلية ـ بتعبير الفقهاء، كالذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص ونحوها. 2) ـ مالا يقبل الطرق والسحب أو ما لا يذوب بالإذابة، كالماس والياقوت والبلور والعقيق والفيروز والكحل والزرنيخ، ونحوها. 3) ـ المعادن السائلة أو المائعة، كالنفط والقار ونحوها من الزيوت المعدنية. وقسم الشافعية والحنابلة (¬3) المعادن قسمين: ظاهرة وباطنة. أـ فالظاهرة: هي البارزة غير المختلطة بالأرض، التي لا تحتاج إلى مشقة في استخراجها أو الوصول إليها، كالنفط والقار (الزفت) والملح والكحل والكبريت. ب ـ والباطنة: هي التي تحتاج إلى جهد وعمل لاستخراجها، كالذهب والحديد والنحاس والرصاص. حكم المعادن عند الحنفية (¬4): لا تكون أرض المعادن، كأرض الملح والقار والنفط ونحوها مما لا يستغني ¬
حكم ملكيتها وزكاتها
عنها المسلمون أو الأمة، أرض موات. فلا يجوز للإمام أن يقطعها لأحد؛ لأنها حق لعامة المسلمين، وفي الإقطاع إبطال حقهم، وهو لا يجوز (¬1). وحكم ملكيتها وزكاتها فيما يأتي: لا يقول الحنفية بالتفرقة في مقدار الزكاة بين المعدن والكنز، والركاز يشمل الاثنين وكلاهما من البّر، وهناك معادن البحر. أولاً ـ المعدن: أـ إن كان في أرض غير مملوكةفي دار الإسلام، وكان مما يقبل الطرق والسحب، كالذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص، قليلاً أو كثيراً: يكون فيه الخمس لبيت المال كالواجب في الغنيمة، والباقي وهو الأربعة الأخماس لمن عثر عليه، كائناً من كان إلا الحربي المستأمن، فإنه يسترد منه الكل. ودليلهم: قوله صلّى الله عليه وسلم: «وفي الركاز الخمس» (¬2) والركاز: اسم للمعدن حقيقة، ويطلق على الكنز مجازاً؛ لأن العرب تقول: أركز الرجل: إذا أصاب ركازاً، وهي قطع من الذهب تخرج من المعادن (¬3). وروى أبو يوسف عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «في الركاز الخمس، قيل: وما الركاز يا رسول الله؟ قال: الذي خلقه الله في الأرض يوم خلقت» (¬4) فدل النص عندهم على أن الركاز يطلق على المعدن، فالمعدن ركاز، وعلى المال المدفون. ب ـ وإن كان المعدن مما لا يقبل الطرق والسحب، كالماس والياقوت وسائر الأحجار الكريمة، فلا خمس فيه، ويكون كله للواجد؛ لأنه من جنس الأرض، كالتراب والأحجار العادية، إلا أنها مضيئة، ولا خمس في الحجر. ¬
ثانيا ـ الكنز
جـ ـ وإن كان المعدن مائعاً كالنفط والقير: فلا شيء فيه لبيت المال، وكله لمن وجده؛ لأنه كالماء، ولا يقصد بالاستيلاء، فلا يعتبر كالغنائم، التي يجب فيها الخمس. أما الزئبق: ففيه الخمس؛ لأنه ينطبع مع غيره، وإن كان مما لا ينطبع بنفسه، فأشبه الفضة. د ـ وإن وجد المعدن في أرض مملوكة لبعض الناس، أو دار أو منزل أو حانوت، فلا خوف عند الحنفية في أن الأربعة الأخماس لصاحب الملك، وإن وجده غيره في أرضه؛ لأن المعدن من توابع الأرض، لأنه من أجزائها التي خلق فيها. وأما الخمس فهو لبيت المال إذا كان الموجود مما يقبل الطرق والسحب عند الصاحبين، للحديث المتقدم: «وفي الركاز الخمس» من غير تفصيل بين الأرض المملوكة وغيرها. وعند أبي حنيفة: لا خمس فيه، على من وجده في أرضه أو داره. ثانياً ـ الكنز: أـ إن كان إسلامياً، بأن وجد عليه علامة الإسلام، كالمصحف والدراهم المكتوب عليها: «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، ووجد في أرض غير مملوكة، كالجبال والمغاور ونحوها، كان بمنزلة اللقطة، فيجب على واجده التعريف به، ثم الانتفاع به إن كان فقيراً، والتصدق به إن كان غنياً. ب ـ وإن كان غير إسلامي، بأن وجد عليه علامة الجاهلية أو الرومان أو الفرس، كان لبيت المال الخمس، والباقي وهو الأربعة الأخماس للواجد، بلا خلاف عندهم.
ثالثا ـ المستخرج من البحر
جـ ـ وإن كان الكنز في أرض مملوكة: وجب فيه الخمس بلا خلاف، للحديث السابق: «وفي الركاز الخمس». والباقي للمالك ثم لورثته عند أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: هو للواجد؛ لأنه غنيمة وصل إليها قبل غيره. د ـ وإن وجد الكنز في دار الحرب: فإن وجد في أرض غير مملوكة لأحد، فهو للواجد، ولا خمس فيه، لأنه مال أخذه، لا بطريق القهر والغلبة. وإن وجد في أرض مملوكة، ففيه الخمس لبيت المال، والباقي للمالك عند أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف: للواجد؛ لأنه مباح سبقت يده إليه، أي كما هو المقرر في دار الإسلام. ثالثاً ـ المستخرج من البحر: كاللؤلؤ والمرجان والعنبر، وكل حلية تستخرج من البحر، لا شيء فيه لبيت المال عند أبي حنيفة ومحمد، وجميعه للواجد، بدليل ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن العنبر، فقال: هو شيء دسره البحر، لا خمس فيه، ولأن يد الكفرة لم تثبت على باطن البحار التي يستخرج منها اللؤلؤ والعنبر، فلم يكن الخارج منها مأخوذاً بطريق القهر لهم، فلا يكون غنيمة، فلا خمس فيه. والعنبر: هو الطيب المعروف. وعند أبي يوسف: في كل ما خرج من البحر من الحلي والجواهر: الخمس لبيت المال، والباقي لواجده أو مستخرجه، بدليل أن عمر رضي الله عنه كتب لعامل له وجد لؤلؤة بأن فيها الخمس، وبأن الكفار كانوا يملكون الأرض كلها براً وبحراً، فيكون كل ما يصير من أموالهم إلينا غنيمة، وفي الغنائم الخمس بنص القرآن (¬1). وهذا الرأي هو الأولى بالاتباع في الظروف الدولية الحاضرة. ¬
المعادن عند المالكية
وذكر أبو عبيد أقوالاً مختلفة، منها كما قال أبو حنيفة ومحمد، ومنها قول لعمر وعمر بن عبد العزيز: أن معادن البحر كمعادن البر، فيها الزكاة إذا بلغت نصاباً (¬1). المعادن عند المالكية (¬2): المعدن غير الركاز، والركاز هو الكنز، والمعدن: هو ما يخرج من الأرض من ذهب أو فضة بعمل وتصفية. ومذهب المالكية يتفق مع النظرة الحديثة للدول في ملكية المعادن. أولاً ـ المعدن: ملكيته، والواجب فيه: أما ملكيته فأنواع ثلاثة: 1) - إن كان في أرض غير مملوكة لأحد: فهو للإمام أي السلطان أو نائبه، يقطعه لمن شاء من المسلمين، انتفاعاً، لا تمليكاً، أو يجعله في بيت المال للمصلحة أو المنفعة العامة، ولا يختص بشيء منه من وجد في أرضه. 2) ـ أن يكون في أرض مملوكة لمالك معين: هو للإمام في مشهور المذهب، وقيل: لصاحب الأرض. 3) - أن يكون في أرض مملوكة لغير معين، كأرض العنوة والصلح: المعتمد أنه للإمام، وقيل: لمن افتتحها. والخلاصة: أن المعادن الجامدة والسائلة للدولة عند المالكية في مشهور ¬
ثانيا ـ الركاز
المذهب؛ لأن المعادن قد يجدها شرار الناس، فلو لم يكن حكمها للإمام، لأدى الأمر إلى الفتن والهرج. وأما الواجب في المعدن فهو الزكاة: وهي ربع العشر (¬1) إن كان نصاباً. فإن كان دون النصاب، فلا شيء فيه. ولا حول في زكاة المعدن، بل يزكى لوقته، كالزرع. ثانياً ـ الركاز: وهو الكنز، يختلف حكمه باختلاف الأرض التي وجد فيها. وهي أربعة أنواع: الأول ـ أن يوجد في الفيافي، ويكون من دفن (مدفون) الجاهلية، فهو لواجده، وفيه الخمس لبيت المال مطلقاً، ذهباً كان أو غيره، قل أو كثر. الثاني ـ أن يوجد في أرض مملوكة: قيل: يكون لواجده، وقيل: يكون لمالك الأرض. الثالث ـ أن يوجد في أرض فتحت عنوة: قيل: لواجده، وقيل للذين افتتحوا الأرض. الرابع ـ أن يوجد في أرض فتحت صلحاً: قيل: لواجده، وقيل: لأهل الصلح. وهذا كله ما لم يكن بطابع المسلمين. فإن كان بطابع المسلمين فحكمه حكم اللقطة، يعرّف سنة إذا لم يعلم صاحبه أو وارثه، فإن لم يعرف فمحله هو بيت مال المسلمين. ¬
المعادن عند الشافعية والحنابلة
والخلاصة: أن في الركاز الخمس لبيت المال، وباقيه لواجده إن لم تكن الأرض مملوكة. فإن كانت مملوكة، فللمالك الأرض الأصلي الذي ملكها بإحياء ثم لوارثه، لا لمالكها الحالي مطلقاً سواء ملكها بشراء أو هبة. هذا إن علم المالك الأصلي (البائع الأصلي أو الواهب)، وإلا فلقطة. المعادن عند الشافعية والحنابلة (¬1): 1) - المعدن غير الركاز عندهم. فالمعدن: هو ما تولد من الأرض، وكان من غير جنسها فهو جزء من الأرض. والركاز: هو دفين الجاهلية أو من تقدم من الكفار. ويفرقون بين نوعين فيها وهي المعادن الظاهرة: وهي ما برزت بلا عمل، ويتوصل إليها بلا مؤنة أي لا تحتاج لعزل عن غيرها، وإنما العمل والجهد في تحصيلها، كالنفط والقار والملح والكبريت. والمعادن الباطنة: وهي التي تحتاج لاستخراجها إلى عمل ومؤنة كالذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص، أي تحتاج لفصلها عن غيرها لاختلاطها بالتراب. 2) - والمعادن الظاهرة: لا يجوز إقطاعها لأحد من الناس سواء إقطاع تمليك أو إقطاع إرفاق، بل هي للجميع، ينتفعون بها، ولا تملك بإحياء أرض موات، وجدت فيها، عند الشافعية، وفي الأظهر عند الحنابلة؛ لأن هذه الأمور مشتركة بين الناس، مسلمهم وكافرهم كالماء والكلأ، كما في الحديث «الناس شركاء في ¬
3) - ومن أحيا أرضا مواتا،
ثلاث: في الماء والكلأ والنار» ولأنها ليست من أجزاء الأرض، فلم يملكها من أحيا الأرض بملك الأرض، كالكنز؛ ولأنه صلّى الله عليه وسلم أقطع رجلاً ملح مأرب، فقال رجل: يا رسول الله، إنه كالماء العدّ (أي الذي لا ينقطع) قال: فلا، إذن (¬1). والمعادن الباطنة: لا يملكها بمجرد الحفر والعمل من كشفها وأحياها في الأظهر عند الشافعية، وظاهر المذهب عند الحنابلة، كالمعدن الظاهر؛ لأن إحياء الأرض الذي يملك به هو العمارة التي يتهيأ بها المحيا للانتفاع من غير تكرار عمل. وهذا أي حفر المعدن: حفر وتخريب يحتاج إلى تكرار عند كل انتفاع، فمجرد الاكتشاف لا يكون سبباً لملك المعادن. 3) - ومن أحيا أرضاً مواتاً، فملكها بذلك، فظهر فيها معدن باطن كالذهب أو الفضة، ملكه عند الشافعية؛ لأنه بالإحياء ملك الأرض بجميع أجزائها، ومن أجزائها المعدن، بخلاف الركاز أو الكنز، فإنه مودع فيها للنقل عنها. أما المعدن الظاهر، فلا يملك كما عرفنا بالإحياء عند الشافعية؛ لأنه حق للجميع (¬2). وقال الحنابلة (¬3): من أحيا أرضاً مواتاً، فملكها، فيملك المعادن الجامدة؛ لأنه ملك الأرض بجميع أجزائها وطبقاتها، وهذا المعدن منها، فدخل في ملكه على سبيل التبعية. وأما المعادن الجارية كالنفط والقار والماء، فأظهر الروايتين عندهم أن محيي الأرض لا يملكها؛ لأن الناس شركاء فيها، لحديث «الناس شركاء في ثلاث: في الماء والكلأ والنار» (¬4). ¬
4) - ومن سبق في الموات إلى معدن ظاهر أو باطن
4) - ومن سبق في الموات إلى معدن ظاهر أو باطن، فهوأحق بما ينال منه دون أن يملكه، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم، فهو له» رواه أبو داود. والخلاصة: أن المعادن الظاهرة للدولة في ظاهر المذهب عند الشافعية والحنابلة. وأما المعادن الباطنة فلا يملكها مكتشفها، وتكون للدولة أيضاً. فإن ظهرت المعادن في أرض أحياها شخص، فيملك المحيي المعدن الباطن عند الشافعية. ويملك عند الحنابلة فقط المعدن الجامد دون السائل. 5) - أما الواجب في المعدن: فهو ربع العشر، إن كان ذهباً أو فضة فقط عند الشافعية، وكذلك إن كان من غيرهما وبلغت قيمته نصاباً عند الحنابلة. 6) - وأما الكنز: وهو دفين الجاهلية، فيجب فيه الخمس في بيت المال، والباقي إن وجد بأرض مملوكة، فهو عند الشافعية والحنابلة لمالك الأرض بيمينه إن ادعاه، وإلا فهو لمن ملك منه أي لمن سبقه من المالكين. أما إن وجد في موات أو ملك أحياه، فهو لواجده. وإن كان الكنز إسلامياً، وعلم مالكه، فهو له، وإلا فهو لقطة. وكذلك إن جهل كونه إسلامياً أم جاهلياً، هو لمالكه إن عرف، وإلا فهو لقطة. وهذا باتفاق الشافعية والحنابلة.
الفصل الرابع: حقوق الارتفاق
الفَصْلُ الرّابع: حقوق الارتفاق الكلام فيها في مبحثين: المبحث الأول ـ تعريف حق الارتفاق، والفرق بينه وبين حق الانتفاع، ووصفه الفقهي، وأحكامه العامة. المبحث الثاني ـ أنواع حقوق الارتفاق. المبحث الأول ـ تعريف حق الارتفاق، والفرق بينه وبين حق الانتفاع، ووصفه الفقهي أحكامه العامة: أولاً ـ تعريف حق الارتفاق: الارتفاق في اللغة: الانتفاع بالشيء. وشرعاً هو أحد أنواع الملك الناقص (¬1). وهو حق عيني (¬2) قصر على عقار، لمنفعة عقار ¬
ثانيا ـ الفرق بين حق الارتفاق وحق الانتفاع
آخر مملوك لغير الأول، أيا كان شخص المالك، كإجراء الماء من أرض الجار، أو تصريف الماء الملوث في مصرف معين، أو المرور في أرض الغير، أو البناء فوق دار غيره (حق التعلي)، سواء أكانت الأرض المرتفق بها مملوكة ملكاً عاماً أم خاصاً، وبقطع النظر عن شخصيةمالك العقار المرتفق، والمرتفق به، ولذا وصف حق الارتفاق بأنه «حق عيني» فلو كان العقاران لمالك واحد، لم يثبت حق الارتفاق. ثانياً ـ الفرق بين حق الارتفاق وحق الانتفاع: كل من هذين الحقين من أنواع الحقوق العينية لا الشخصية، لكن يظل بينهما فروق (¬1). 1 - إن حق الارتفاق مقرر لعقار. وأما حق الانتفاع فهو مقرر لشخص. فحق المرور من أرض إلى أخرى حق مقرر للأرض الثانية، فينتفع به كل مالك لها، ولا يقتصر الانتفاع به على شخص معين. أما حق الانتفاع به فإنه خاص بشخص المنتفع، فإذا مات انتهى حقه، سواء أكان ناشئاً بين الأحياء كالإجارة والإعارة، أم بين ميت وحي كالوصية والوقف. 2 - يكون حق الارتفاق مقرراً دائماً على عقار، ولذا تقل به قيمته عن الأرض الخالية من مثل هذا الحق. أما حق الانتفاع فقد يتعلق بالعقار، كأرض أعيرت، وقد يتعلق بالمنقول مثل كتاب أعير. 3 - حق الارتفاق دائم لا ينتهي بوقت، فيورث باتفاق المذاهب. أما حق الانتفاع فهو مؤقت ينتهي بموت شخص المنتفع كالموصى له بمنفعة أرض. ¬
ثالثا ـ وصفه الفقهي
ثالثاً ـ وصفه الفقهي: حق الارتفاق عند الحنفية ليس مالاً، وإنما هو حق مالي يسوغ لمالكه الانتفاع به. ويترتب على كونه ليس مالاً عند الحنفية (¬1): أنه لا يجوز بيعه مستقلاً عن الأرض، وإنما يباع تبعاً لها، ولا يجوز هبته أو التصدق به؛ لأنه تمليك، والحقوق المجردة لا تحتمل التمليك. ولا يجوز أيضاً الصلح عليه في دعوى تتعلق بالمال أو الحق في القصاص في النفس وما دونها؛ لأن الصلح في معنى البيع أي المبادلة المالية، والبيع لا يجوز. ولا يصح جعله مهراً في عقد الزواج؛ لأنه يترتب عليه التمليك، وحق الارتفاق لا يقبل التمليك، وإنما يجب في هذه الحالة مهر المثل. كما لا يصح جعله بدل الخلع، بأن اختلعت المرأة نفسها عليه؛ لأن بذل العوض تمليك، والارتفاق لا يحتمل التمليك. ويجب على المرأة حينئذ رد المأخوذ من المهر. ويترتب على كونه حقاً مالياً (¬2): أنه يمكن أن يورث؛ لأن الإرث عند الحنفية يجري في الأموال وفي بعض الحقوق كخيار العيب. ويصح أن يوصى بالانتفاع به، كالإيصاء لرجل بأن يسقي أرضه مدة معلومة من حق الشرب لفلان. والإيصاء كالإرث يصح في الأموال والحقوق، لكن إذا مات الموصى له تبطل الوصية. ¬
رابعا ـ أحكام حق الارتفاق العامة
ويصح بيع الأرض دون حق الارتفاق، ولا يدخل حق الارتفاق كحق الشِرْب مثلاً في بيع الأرض إلا بالنص عليه صراحة، أو بذكر ما يدل عليه، كأن يقول البائع: بعت الأرض بحقوقها أو بمرافقها، أو كل قليل وكثير حولها. رابعاً ـ أحكام حق الارتفاق العامة: لحقوق الارتفاق أحكام عامة وخاصة، أما الخاصة فتذكر مع أنواع الارتفاقات وأما الأحكام العامة فمنها ما يأتي: 1 - يجب ألا يؤدي استعمالها إلى الإضرار بالغير عملاً بقاعدة: «لا ضرر ولا ضرار»، فلا يجوز للمار بأرض غيره إلحاق الأذى بغيره. وليس لمن يسقي أرضه بحق الشرب مثلاً أن يسرف في الماء بحيث يضر بمن تحته من المنتفعين بمجرى الماء. 2 - إما أن تثبت حقوق الارتفاق على أملاك عامة أو خاصة. أما الأملاك العامة: فمثل الأنهار الكبيرة كالنيل ودجلة والفرات، أو الطرق والمرافق العامة كالقناطر والجسور التي لا تختص بأحد. وحق الارتفاق المقرر عليها ثابت للناس جميعاً، بلا إذن من أحد عند غير أبي حنيفة (¬1). وأما الأملاك الخاصة بفرد أو أفراد فلا يثبت حق الارتفاق عليها إلا بإذن المالك. 3 - وإذا لم يعرف سبب حق الارتفاق، يترك لصاحبه حق الانتفاع به، ويفترض كونه قديماً حادثاً بسبب مشروع عملاً بقاعدة «القديم يترك على قدمه» ¬
المبحث الثاني ـ أنواع حقوق الارتفاق
بشرط ألا يكون ضاراً بالغير كالمسيل القذر الذي يلوث ماء بئر الجيران، أو النافذة المنخفضة التي تطل على مقر نساء الجار، فيجب إزالة منشأ الضرر، عملاً بقاعدة أخرى هي قيد في سابقتها وهي: «الضرر لا يكون قديماً» (¬1). المبحث الثاني ـ أنواع حقوق الارتفاق: حقوق الارتفاق المهمة عند الحنفية تنحصر في ستة: هي حق الشِّرب، والطريق، والمجرى، والمسيل، والتعلي، والجوار، ولا يجوز عند الحنفية إنشاء حقوق ارتفاق أخرى؛ لأن في إنشائها تقييداً للملكية، والأصل فيها ألا تقبل تقييداً، وما قيدت به هو استثناء، لا يتوسع فيه. ورأي المالكية أنها غير محصورة فيما ذكر، فيجوز إنشاء حقوق ارتفاق أخرى بالإرادة، كأن يلتزم شخص ألا يقيم في ناحية من أرضه بناء أو يغرس شجراً، أو ألا يرتفع إلى ارتفاع معين (¬2). المطلب الأول ـ حق الشرب: معناه، أنواع المياه، وحكم ملكية كل نوع، الأحكام العامة للانتفاع بالمياه، كري الأنهار. أولاً ـ معنى حق الشرب: الشرب (بكسر الشين) في اللغة: النصيب من الماء، قال صالح عليه السلام فيما قصه الله في القرآن: {هذه ناقة لها شِرْب ولكم ¬
ثانيا ـ أنواع المياه بالنسبة لحق الشرب والشفة
شِرْب يوم معلوم} [الشعراء:155/ 26]. ويطلق أيضاً على زمن الشرب. ويستعمله الشرعيون في المعنيين. فالشرب في الشرع: النصيب من الماء لسقي الزرع والأشجار. وهذا عند أكثر الفقهاء. وقد يستعمل في نوبة الانتفاع بالماء أو زمن الانتفاع لسقي الشجر أو الزرع. ويلحق به حق الشفة: وهو حق الشرب (بضم الشين): وهو ما يخص الإنسان والحيوان من الماء لشربه. ويراد به تحقيق حاجة الإنسان إلى الماء لشربه وشرب دوابه. ثانياً ـ أنواع المياه بالنسبة لحق الشرب والشفة: المياه تنقسم باعتبار هذين الحقين إلى أنواع أربعة: الماء المحرز في أوان خاصة، ماء العيون والآبار ونحوها، ماء الأنهار أو الجداول الخاصة، ماء الأنهار العامة. النوع الأول ـ الماء المحرز في أوان خاصة: هو ما حازه صاحبه في آنية أو ظروف خاصة كالجرار والصهاريج والحياض والأنابيب، ومنه مياه الشركات في المدن المتخصصة لتأمين ماء الدور. وهذا الماء ملك خاص لمن أحرزه، بالاستيلاء عليه ككل مباح يمتلك بإحرازه. فليس لأحد حق الانتفاع به إلا بإذن صاحبه، ولصاحبه بيعه أو التصرف به كما يشاء (¬1)، فقد روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه «نهى عن بيع الماء إلا ما حمل منه» (¬2). وخصص حديث المنع من بيع فضل الماء (¬3) بالقياس ¬
النوع الثاني ـ ماء العيون والآبار والحياض
على جواز بيع الحطب إذا أحرزه الحاطب، لحديث الرجل الذي أمره النبي صلّى الله عليه وسلم بالاحتطاب ليستغني به عن السؤال (¬1). وبالرغم من كون هذا الماء مملوكاً لصاحبه، فيجوز للمضطر الذي خاف على نفسه الهلاك من العطش: أن يشرب منه أو يأخذ منه حاجته، ولو بالقوة، ليدفع الهلاك عن نفسه إذا كان فاضلاً عن حاجة صاحبه، بأن كان يكفي لحفظ رمقهما، ولم يجد المضطر ماء آخر، ولكن يجب عليه دفع قيمة الماء؛ لأن «الاضطرار لا يبطل حق الغير» أو أن حل الأخذ للاضطرار لا ينافي الضمان. والأولى أن يقاتله بغير سلاح كالعصا؛ لأنه ارتكب معصية، فكان ذلك كالتعزير له. النوع الثاني ـ ماء العيون والآبار والحياض: وهو الذي يستخرجه الشخص لنفسه: وحكمه عند الحنفية (¬2): أنه ليس بمملوك لصاحبه، بل هو مباح في نفسه ولصاحبه حق خاص فيه، سواء أكان في أرض مباحة، أو مملوكة؛ لأن الماء في الأصل مباح لجميع الناس، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار» (¬3). وعليه، فإنه يثبت فيه حق الشفة، دون حق الشرب، فالأول لا يختص بشخص دون آخر، فهو لمستحقه، ولغيره من الناس، يأخذون منه حاجتهم لشربهم وشرب دوابهم واستعمالهم المنزلي. ¬
فإن أبى صاحبه، كان للمحتاج أخذه جبراً، ولو بالقوة، وله أن يقاتله بسلاح؛ لأن الماء في البئر مباح غير مملوك، ولكن يشترط ألا يجد المحتاج ماء آخر قريباً منه. والدليل لحق المحتاج: أن قوماً سَفْراً وردوا ماء، فطلبوا من أهله السماح لهم بالشرب منه، وبسقي دوابهم التي كادت أن تهلك من العطش، فأبوا، فذكروا ذلك لعمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: «هلا وضعتم فيهم السلاح» (¬1). ويلاحظ أن حكم هذين النوعين متشابه تقريباً إلا أن الأول ملك لصاحبه، والثاني غير مملوك، وللمضطر الذي يخاف الضرر على نفسه أن يأخذ الماء الفائض عن الحاجة، ولو بالقوة، لكن في النوع الأول بغير سلاح، وفي الثاني يجوز استخدام السلاح. ويتجلى في هذا النوع صفة حق الارتفاق بنحو أوضح من غيره. وقال الشافعية في الأصح عندهم (¬2): يملك الشخص ماء البئر المحفورة في الأرض الموات للتملك، أو المحفورة في ملك خاص؛ لأنه نماء ملكه، كالثمرة واللبن والشجر النابت في ملكه. ولا يلزم المالك عند الشافعية بذل مافضل عن حاجته لزرع وشجر، ويجب بذل الفاضل منه عن شربه وشرب ماشيته، وزرعه، لشرب غيره من الآدميين ولماشية غيره، على الصحيح لحرمة الروح، ولخبر الصحيحين: «لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ» أي من حيث إن الماشية إنما ترعى بقرب الماء، فإذا منع من الماء فقد منع من الكلأ، والمراد: هو نفع البئر المباحة، أي ليس لأحد أن يَغلِب عليه، ويمنع الناس منه، حتى يحوزه في إناء ويملكه. ¬
النوع الثالث ـ ماء الأنهار الخاصة
النوع الثالث ـ ماء الأنهار الخاصة: وهو ماء الأنهار أو الجداول الصغيرة الخاصة المملوكة لبعض الناس، وحكمه كالنوع الثاني (¬1): يثبت لكل أحد فيه حق الشفة، لا حق الشرب، فلكل إنسان الحق في الانتفاع به لنفسه ودوابه وإن لحق به ضرر يسير؛ لأن «الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف» ولكن ليس له أن يسقي منه زرعه وشجره، إلا بإذن صاحبه، فلصاحبه أن يمنع الغير من سقي الزرع والأشجار (حق الشرب) لأن له في مائه حقاً خاصاً. ولا يجوز لصاحبه عند الحنفية بيع حق الشرب منفرداً، بأن باع شرب يوم، أو أكثر؛ لأنه عبارة عن حق الشرب والسقي، والحقوق لا تحتمل عندهم الإفراد بالبيع والشراء. فلو باع الأرض مع الشرب، جاز تبعاً للأرض، ويجوز أن يجعل الشيء تبعاً لغيره، وإن كان لا يجوز بيعه مستقلاً عن غيره. ولا يدخل الشرب في بيع الأرض ـ كما ذكرت سابقاً ـ إلا بالتسمية صراحة، أو بذكر ما يدل عليه، بأن يقول: بعتها بحقوقها أو بمرافقها. لكنهم أجازوا بيع الماء المعلوم القدر المحرز أو المملوك، للشرب، لا للشفة (شرب الإنسان والحيوان). كذلك أجاز المالكية والشافعية والحنابلة بيع الماء المملوك مستقلاً عن الأرض، ولكن يستحب لصاحبه أن يبذله بغير ثمن. ولا يجبر على بذله، إلا أن يكون قوم اشتد بهم العطش فخافوا الموت، فيجب عليه سقيهم (حق الشفة) فإن منعهم، فلهم أن يقاتلوه على منعه. ¬
النوع الرابع ـ ماء الأنهار العامة
وصرح الشافعية بأنه يشترط في بيع الماء تقديره بكيل أو وزن، لا بريّ الماشية أو الزرع (¬1). النوع الرابع ـ ماء الأنهار العامة: وهو الذي يجري في مجار عامة غير مملوكة لأحد، وإنما هي للجماعة، مثل النيل ودجلة والفرات ونحوها من الأنهار العظيمة. وحكمه (¬2): أنه لا ملك لأحد في هذه الأنهار، لا في الماء ولا في المجرى، بل هو حق للجماعة كلها، فلكل واحد حق الانتفاع بها، بالشفة (سقي نفسه ودوابه) والشرب (سقي زروعه وأشجاره)، وشق الجداول منها، ونصب الآلات عليها لجر الماء لأرضه، ونحوها من وسائل الانتفاع بالماء، وليس للحاكم منع أحد من الانتفاع بكل الوجوه، إذا لم يضر الفعل بالنهر أو بالغير أو بالجماعة. كما هو الحكم المقرر بالانتفاع في الطرق أو المرافق العامة. فإذا أضر، فلكل واحد من المسلمين منعه أو الحد من تصرفه لإزالة الضرر؛ لأنه حق لعامة المسلمين، وإباحة التصرف في حقهم مشروطة بانتفاء الضرر، كالانتفاع بالمرافق العامة، إذ لا ضرر ولا ضرار. والدليل على كون هذه الأنهار غير مملوكة لأحد، وإنما الحق فيها مشاع للجميع: هو قوله عليه الصلاة والسلام: ¬
ثالثا ـ الأحكام العامة لحق الشرب أو الانتفاع بالمياه
«الناس شركاء في ثلاث: في الماء والكلأ والنار» (¬1) وفي رواية «والملح» وشركة الناس فيها شركة إباحة، لا شركة ملك، لعدم إحرازها، فهم سواء في الانتفاع بها ومنها الماء العام، فيثبت لهم حق الشرب. ثالثاً ـ الأحكام العامة لحق الشرب أو الانتفاع بالمياه: للانتفاع بالمياه أحكام عامة أهمها ما يأتي (¬2): 1ً ـ المحافظة على حافة البئر أو العين أو النهر (مجرى الماء مطلقاً): فإن لم يفعل كان لصاحب المجرى منعه من الانتفاع، دفعاً للضرر عنه، عملاً بالحديث النبوي: «لا ضرر ولا ضرار». ومن الضرر تسرب الماء إلى أرض الجار على وجه غير معتاد، وعليه الضمان إذا كان متعدياً. قال الحنفية: ولا يضمن من ملأ أرضه ماء، فنزت أرض جاره أو غرقت، أي في حال السقي المعتاد الذي تتحمله الأرض عادة، لأنه متسبب غير متعد، فإن كان السقي غير معتاد، ضمن وعليه الفتوى (¬3). 2ً ـ يجب على المنتفع إمرار الماء من طريق عام إن وجد، فإن لم يوجد، كان على صاحب الطريق الخاص الإذن بإمرار الماء، أو إخراج حاجته من الماء، لقول ¬
عمر رضي الله عنه لمحمد بن مَسْلَمة حينما شكاه الضحاك بن خليفة الذي أراد إمرار ماء من أرض ابن مَسْلمة: «والله، ليمرَّن به، ولو على بطنك» (¬1). 3ً ـ حق الشرب يورث، وتصح الوصية بالانتفاع به، حتى عند الحنفية، الذين يرون عدم توارث الحقوق والمنافع إلا ما استثني، ويجوز بيعه تبعاً للأرض، لامستقلاً منفرداً عنها عند الحنفية، كما أوضحت سابقاً؛ لأنه مجهول الكمية، وبيع المجهول لا يصح لما فيه من الضرر أو الظلم، ولأن الحقوق عند الحنفية ليست بمال متقوم في ظاهر الرواية، فلا تقبل الإفراد بالبيع أو الهبة أو الإجارة أو التصدق بها (¬2). والأولى الأخذ برأي غير الحنفية القائلين بجواز التصرف في الحقوق والمنافع؛ لأنها أموال متقومة، في عرف الناس. 4ً ـ إذا كان الماء مملوكاً لشخص واحد، كان له حق الانتفاع به كيفما شاء، فإن كان الماء لجماعة مشتركة أو أناس كثيرين، وزع بينهم بالعدل، إما بالمناوبة الزمانية (المهايأة): بأن يستقل واحد بالماء في زمن معين. وإما بالكوى، أي بفتحات جانبية للماء إلى المزارع والجداول، بما يتناسب ومساحة أرض كل منتفع بهذا الماء. وهذا رأي الشافعية أيضاً (¬3). ومقتضى العدل في التوزيع: أنه إذا كان نهر بين قوم، واختصموا في الشرب، كان الشرب بينهم على قدر مساحة أراضيهم، كما بينت؛ لأن المقصود هو الانتفاع بسقي الأراضي، فيقدر حقهم بقدرها، بخلاف الطريق؛ ¬
لأن المقصود منه هو المرور، وهو لا يختلف قدره سعة وضيقاً، ولا عبرة لسعة الدار وضيقها؛ لأن المقصود الاستطراق. كما أن مقتضى العدل أيضاً أن يتم تغيير التوزيع برضا الجميع، فليس لمشترك بلا رضاهم أن يشق جدولاً من النهر، أو ينصب عليه رحى، أو آلة نزح، أو جسراً، أو يوسع فم النهر، أو أن يقسم بالأيام بعد أن كانت القسمة بالفتحات أو أن يسوق نصيبه إلى أرض أخرى ليس لها فيه شرب؛ لأن القديم يترك على قدمه لظهور الحق فيه، ولأنه يمنع الضرر بالآخرين، وفي التوسعة وغيرها إضرار بهم (¬1). 5ً ـ يصح رفع دعوى الشِرْب بغير أرض استحساناً عند الحنفية (¬2)؛ لأن الشرب مرغوب فيه، منتفع به، ويمكن أن يملك بغير أرض بالإرث، أو الوصية، ولأنه قد تباع الأرض دون الشرب فيبقى الشرب وحده، فإذا استولى عليه غيره، كان له أن يدفع الظلم عن نفسه، بإثبات حقه بالبينة. 6ً ـ ينتفع الناس بماء الأمطار أو السيول أو النهر الصغير الذي يزدحم الناس فيه: بأن يبدأ بالأعلى، فيسقي أرضه، حتى يصل إلى الكعب (النهاية)، ثم يرسله إلى من يليه، فيسقي ويحبس الماء حتى يصل إلى كعبه، ثم يرسله إلى من يليه، فيفعل كذلك، وهلم جرا إلى آخره (¬3)، لحديث عبادة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قضى في شرب النخل من السيل: أن الأعلى يشرب قبل الأسفل، ويترك الماء إلى الكعبين، ¬
رابعا ـ كري الأنهار التي يكون منها الشرب
ثم يرسل الماء إلى الأسفل الذي يليه، وكذلك حتى تنقضي الحوائط، أو يفنى الماء» (¬1).وروى عبد الله بن الزبير: «أن الزبير ورجلاً من الأنصار تنازعا في شراج الحرة (¬2) التي يسقى بها النخل، فقال الأنصاري للزبير: سرِّح الماء، فأبى الزبير، فاختصما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم للزبير: اسق أرضك، ثم أرسل الماء إلى أرض جارك. فقال الأنصاري: أن كان ابن عمتك يا رسول الله، فتلوَّن وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: يا زبير، اسق أرضك، إلى أن يبلغ الجدر» (¬3) أي الجدار قال الزبير: فوالله، إني لأحسب هذه الآية نزلت فيه: {فلا، وربك لا يؤمنون حتى يحكِّموك فيما شجر بينهم} [النساء:65/ 4]. وروى مالك في الموطأ أيضاً عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنه بلغه: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال في سيل مهزور ومذينب: «يمسك حتى الكعبين، ثم يرسل الأعلى على الأسفل» (¬4). رابعاً ـ كري الأنهار التي يكون منها الشرب: الكري: إخراج الطين من أرض النهر، وحفره، وإصلاح ضفتيه. ويلحق به إصلاح الجسور ونحوها. ¬
مؤنة الكري
ومؤنة الكري أي نفقته بحسب نوع النهر، والأنهار أنواع ثلاثة (¬1): الأول: النهر العام غير المملوك لأحد، كالفرات والنيل: نفقة كريه وإصلاحه من بيت مال المسلمين، من الخراج والجزية، دون العشور والصدقات؛ لأنه للمصلحة العامة، فيختص بنفقته بيت المال، عملاً بالحديث النبوي: «الخراج بالضمان» (¬2). فإن لم يكن في بيت المال شيء، أجبر الحاكم الناس على إصلاح النهر، إن امتنعوا عنه، دفعاً للضرر، وتحقيقاً للمصلحة العامة. قال عمر في مثله: «لو تركتم، لبعتم أولادكم». وتفرض مؤنة الإصلاح على الأغنياء الموسرين الذين لا يطيقون الإصلاح بأنفسهم، كما هو الشأن في تجهيز الجيوش. ويكلف القادرون على العمل بأنفسهم، وتكون نفقتهم على الأغنياء. الثاني: النهر العام المملوك لأهله الداخل في المقاسم، ويمكن قسمته، ويشترك به جماعة هم أصحاب النهر، فهو عام من وجه، وخاص من وجه: نفقة إصلاحه على أهله؛ لأن الحق لهم والمنفعة تعود إليهم على الخصوص، فعليهم إصلاحه لأن الغنم بالغرم. ومن أبى منهم يجبر على الإنفاق، دفعاً للضرر العام الذي يلحق بقية الشركاء. ¬
الثالث: النهر المملوك، لأهله الخاص بفئة محدودة
والمملوك: بأن دخل في المقاسم: عام وخاص (¬1). والخاص هو النوع الثالث: هو ما يشترك فيه فئة محصورة. والعام: هو المملوك لجماعة غير محصورة. الثالث: النهر المملوك، لأّهله الخاص بفئة محدودة: نفقة إصلاحه على أهله أيضاً؛ لأن نفعه عائد إليهم. لكن إن امتنع جميعهم عن الإصلاح، لم يجبرهم الحاكم، كالممتنع عن عمارة أرضه وداره. فإن امتنع بعضهم دون الآخرين، فقيل: يجبر الآبي؛ لأن النفع للكل، وقيل: لا يجبر؛ لأن في إجباره إضراراً به. ويمكن دفع الضرر عن شركائه برجوعهم عليه بحصته من النفقة، إذا تم الإصلاح بأمر القاضي. واختلف في كيفية الكري على الشركاء، إذا احتاج النهر في مسيله إلى إصلاح منطقة ليست في أعلاه: فقال أبو حنيفة: مؤنة كري النهر المشترك على الشركاء من أعلاه، فإذا جازوا أرض رجل منهم دون حاجة إلى الكري، برئ من مؤنة الكري؛ لأن المقصد من الكري الانتفاع بالسقي، وقد حصل لصاحب الأعلى، فلا يلزمه نفع غيره. وقال الصاحبان: الكري على الشركاء جميعهم، من أوله إلى آخره، بحصص الشرب والأراضي؛ لأن لصاحب الأعلى حقاً في الأسفل، لاحتياجه إلى تسييل ما فضل من الماء فيه. وهذا الرأي هو المعقول في تقديري. ¬
المطلب الثاني ـ حق الشفة
واتفق أئمة الحنفية على أن الإصلاح إذا كان من أعلى النهر، فمؤنة إصلاحه على الشركاء جميعاً، لتوقف انتفاعهم به على إصلاحه. المطلب الثاني ـ حق الشفة: يلحق حق الشفة بحق الشرب، وتكاد تكون أحكامه ما واحدة مع بعض الفوارق البسيطة: معنى حق الشفة: هو حق الانتفاع بالماء لشرب الإنسان والاستعمال المنزلي من طبخ وغسل ونحوهما، ولسقي البهائم بالشفاه لدفع العطش ونحوه. أو هو حاجة الإنسان إلى الماء لشربه أو لشرب دوابه ولانتفاعه المنزلي (¬1). وأحكامه تختلف بحسب نوع الماء. والمياه أربعة أقسام (¬2): الأول ـ ماء البحار: لكل واحد من الناس فيها حق الشفة وسقي الأراضي، والانتفاع بها بأي وجه؛ لأنها غير مملوكة، والانتفاع بماء البحر كالانتفاع بالشمس والقمر والهواء. الثاني ـ ماء الأنهار العظيمة كالفرات ودجلة والنيل، وسيحون وجيحون ونحوها: للناس فيه الشفة مطلقاً، وحق سقي الأراضي؛ لأنها مباحة في الأصل لكل إنسان شرباً وسقياً، ما لم يضر بالجماعة؛ لأن دفع الضرر عنهم واجب، ولأن الانتفاع بالمباح إنما يجوز إذا لم يضر بأحد، كتخريب النهر أو كسر ضفته، فتغرق القرى والأراضي. ¬
الثالث ـ ماء الأنهار الصغيرة المملوكة الخاصة بقوم محصورين وهو المسمى عند الفقهاء «ماء المقاسم»
الثالث ـ ماء الأنهار الصغيرة المملوكة الخاصة بقوم محصورين وهو المسمى عند الفقهاء «ماء المقاسم»: حق الشفة ثابت فيه، للضرورة، ولأن الأصل في الماء اشتراك الناس فيه، لقوله عليه الصلاة والسلام: «الناس شركاء في ثلاث: الماء، والكلأ والنار» ولأن استصحاب الماء إلى كل مكان أمر متعذر، والناس بحاجة إليه، فلو منعوا منه، وقعوا في حرج عظيم. لكن إذا كان ماء النهر أو البئر المملوك لجماعة في أرض مملوكة: فلصاحب الأرض أن يمنع من يريد الشفة من الدخول في ملكه، إذا كان يجد ماء بقربه (¬1). فإن لم يجد يقال له: إما أن تخرج الماء إليه، أو تتركه، بشرط ألا يضر النهر أو البئر كأن يكسر ضفته أي جانبه؛ لأن للمضطر أو المحتاج حق الشفة في ماء النهر أو البئر أو الحوض عند الحاجة. فلو منعه صاحب الأرض، وهو أو دابته في حالة عطش، كان له أن يقاتله بالسلاح ليأخذ قدر ما يدفع عن نفسه الهلاك، لقوله عمر السابق: «هلا وضعتم فيهم السلاح؟» ولأنه قصد إتلافه بمنع الشفة عنه، وهو حقه؛ لأن ماء البئر أو النهر ونحوهما مباح غير مملوك. والأصح أن للناس الأخذ من هذا الماء ونقله للوضوء وغسل الثياب؛ لأن منعه من الدناءة، قال عليه الصلاة والسلام: «إن الله تعالى يحب معالي الأمور، ويكره سفسافها» (¬2). والأصح أن لصاحب الماء منع من أراد الأخذ منه لسقي الشجر أو الخضر في داره، بحمله بالجرار ونحوها إلا بإذنه. ¬
الرابع ـ الماء المحرز في الأواني
كذلك إذا كانت الشفة تأتي على الماء كله، بأن كان جدولاً صغيراً، والمواشي الواردة عليه كثيرة، فقال أكثر الفقهاء منهم الحنفية: للمالك حق المنع، لأنه يلحقه ضرر به، كسقي الأرض. الرابع ـ الماء المحرز في الأواني: مملوك لصاحبه بالإحراز، فلا يحق لغيره الانتفاع به إلا بإذن صاحبه، لا شرباً ولا سقياً ولا غيره. لكن للمضطر الذي يخاف على نفسه من الهلاك بسبب العطش، ولم يجد سوى هذا الماء المحرز: أن يأخذ هذا الماء من صاحبه، ولو بالقوة، لكن بغير سلاح إذا كان الماء فاضلاً عن حاجة صاحبه، كما تبين في حق الشرب. المطلب الثالث ـ حق المجرى: تعريفه، وأحكامه. تعريف حق المجرى: هو حق صاحب الأرض البعيدة عن مجرى الماء، في إجراء الماء إلى أرضه لسقيها. وقد يكون المجرى نفسه مملوكاً لصاحب المجرى، أو لصاحب الأرض التي هو فيها وهو الكثير، أو لهما معاً، أو مشتركاً بين كثيرين. أحكامه: المبدأ العام في الشرع أنه ليس لصاحب الأرض منع جاره من إمرار الماء في أرضه، عملاً بقول عمر المتقدم، لمن منع جاره من إرسال الماء في أرضه: «والله ليمرن به، ولو على بطنك». وليس لصاحب الأرض أيضاً أن ينقل المجرى من مكانه إلا برضا أصحاب الحق فيه، ولهم الحق في ترميمه، ومنع تسرب الماء منه، وتعميقه، وتقوية جانبيه. كما أن لصاحب الأرض مطالبتهم بإصلاحه، حتى لا يتسرب الماء منه، فيتلف مزروعاته.
وإذا كان المجرى مشتركاً بين جماعة، فليس لأحدهم سده إلا برضا الجميع على أن يسده كل واحد في نوبته. فإن منعوه من سده، كان له رفع الماء إلى أرضه بآلة (¬1)، ودليل اشتراط رضا الجميع بسد المجرى هو قاعدة: «يتحمل الضرر الخاص لدفع ضرر عام». وحق المجرى إن كان قديماً في أرض الغير يترك على حاله (¬2)، عملاً بقاعدة: «القديم يترك على قدمه» ولا يُزال، إلا إذا كان فيه ضرر على صاحب الأرض، عملاً بقاعدة: «الضرر لا يكون قديماً». وإن أريد إحداث مجرى جديد: فإن كان في طريق عام، أنشئ بإذن السلطة، لمنع الضرر وتحقيق المصلحة العامة. وإن كان في أرض مملوكة لغيره، أحدث بإذن المالك، ولكن ليس للمالك المنع من إحداثه، ما لم يلحق به ضرر بسببه، عملاً بقول عمر السابق: «والله ليمرن به ولو على بطنك» (¬3). ¬
المطلب الرابع ـ حق المسيل
المطلب الرابع ـ حق المسيل: تعريفه، وأحكامه. حق المسيل: هو حق تصريف الماء الزائد عن الحاجة، أو غير الصالح، إلى المصارف والمجاري العامة، بواسطة مجرى سطحي أو أنبوب مستور، سواء من أرض أو دار أو مصنع. والفرق بينه وبين حق المجرى: هو أن حق المجرى لجلب الماء الصالح للأرض، وحق المسيل لتصريف الماء غير الصالح عن الأرض أو الدار ونحوها. والمسيل قد يكون مملوكاً للمنتفع به، أو لصاحب الأرض التي يمر فيها، وقد يكون في مرفق عام. وإذا تعينت أرض الجار لإحداث المسيل، لم يجز لمالكها المعارضة أو الممانعة فيه، إلا إذا ترتب عليه ضرر بيّن. ويظل هذا الحق قائماً، وإن تغيرت صفة الأرض المقرر لها، كأن كانت أرضاً زراعية، فصارت منزلاً أو مصنعاً مثلاً. وإذا كان حق المسيل قديماً، بقي على حاله، ما لم يكن ضاراً بالمصلحة العامة أو الخاصة، فيجب حينئذ إزالته؛ لأن «الضرر يزال»، ولا يحتج بتقادم الضرر؛ لأن «الضرر لا يكون قديماً». وتجب نفقات إصلاح المسيل، على المنتفع به، إذا كان في ملكه، أو في ملك غيره. فإن كان في أرض عامة، فنفقة الإصلاح على بيت المال (¬1). المطلب الخامس ـ حق المرور: تعريفه، وأحكامه. ¬
حكمه
حق المرور: هو حق أن يصل الإنسان إلى ملكه، داراً أو أرضاً، بطريق يمر فيه، سواء أكان من طريق عام، أم من طريق خاص مملوك له أو لغيره، أو لهما معاً. وحكمه يختلف بحسب نوع الطريق: 1 ً ـ فإن كان الطريق عاماً: فلكل إنسان حق الانتفاع به، لأنه من المباحات، سواء بالمرور، أو بفتح نافذة أو طريق فرعي عليه، أو إنشاء شرفة ونحوها، وله إيقاف الدواب أو السيارات أو إنشاء مركز للبيع والشراء. ولا يتقيد إلا بشرطين (¬1): الأول: السلامة، وعدم الإضرار بالآخرين، إذ لا ضرر ولا ضرار (¬2). الثاني: الإذن فيه من الحاكم. فإن أضر المار أو المنتفع بالآخرين، كأن أعاق المرور، منع. وإن لم يترتب على فعله ضرر، جاز بشرط إذن الحاكم عند أبي حنيفة، ولا يشترط الإذن عند الصاحبين، على ما سأبيّن في حق التعلي. كذلك لا يشترط إذن الإمام عند الشافعية والحنابلة (¬3) كقوله عليه الصلاة والسلام: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم، فهو أحق به». وقال المالكية (¬4): من بنى في طريق المسلمين أو أضاف شيئاً من الطريق إلى ملكه، منع منه باتفاق. ¬
ـ وأما إن كان الطريق خاصا
وقال الشافعية (¬1): الطريق النافذ أي الشارع لا يتصرف فيه بما يضر المارّة في مرورهم فيه؛ لأن الحق فيه للمسلمين كافة، فلا يشرع فيه جَناح أي روشن، ولا ساباط (أي سقيفة على حائطين والطريق بينهما) يضر الناس كلٌ منهما. 2 ً ـ وأما إن كان الطريق خاصاً: فحق الانتفاع به مقصور على صاحبه أو أهله أو المشتركين فيه، فليس لغيرهم أن يفتح عليه باباً أو نافذة إلا منهم، ولكل الناس حق المرور فيه عند زحمة الطريق العام، وليس لأصحابه سده أو إزالته، احتراماً لحق العامة فيه. كذلك ليس لأحد من أصحاب الحق في الطريق الخاص الارتفاق به على غير الوجه المعروف إلا بإذن الشركاء كلهم، حتى المشتري من أحدهم بعد الإذن، كإحداث غرفة، أو بناء شرفة، أو ميزاب ونحوه (¬2). المطلب السادس ـ حق التعلي: تعريفه، وحكم تصرف المالك الأعلى أو الأسفل في ملكه. حق التعلي: هو حق القرار الدائم أو الاستناد لصاحب الطبقة العليا، على الطبقة السفلى، والانتفاع بسقوفها، مثل الملكية المشتركة للطوابق الحديثة. وهذا حق دائم ثابت لصاحب العلو، على حساب السفل، فيكون للعلو حق البقاء والقرار على ذلك السفل، دون أن يتملك عند الحنفية سقفه، فلا يزول الحق بهدمه، أو انهدام السفل، أو هما معاً، ويظل هذا الحق قائماً، يجري فيه التوارث. ¬
وقال المالكية (¬1): السقف الذي بين الطابقين لصاحب السفل، وعليه إصلاحه وبناؤه إن انهدم، ولصاحب العلو الجلوس عليه، أي كما قال الحنفية. وقال الشافعية (¬2): السقف مشترك بين صاحب العلو والسفل كالجدار بين ملكين، لاشتراكهما في الانتفاع به، فإنه ساتر لصاحب السفل وأرض لصاحب العلو، فلصاحب العلو الاستناد إليه، وليس لأحدهما دق وتد أو فتح كوة ونحوه مما يضايق إلا بإذن الآخر. ولصاحب العلو الانتفاع بالسقف بحسب العادة، وإذا انهدم المشترك بين اثنين ليس لأحدهما إجبار الآخر على العمارة؛ لأن الضرر لا يزال بالضرر، والممتنع يتضرر بتكليف العمارة. ولا يباع حق التعلي عند الحنفية استقلالاً، فبيعه غير صحيح، لأنه ليس بمال. وقال غير الحنفية: يجوز بيعه استقلالاً؛ لأن الحقوق أموال عندهم. وهذا هو المعقول والأصح فقهاً وعرفاً وعملاً. واختلف أبو حنيفة مع صاحبيه في مدى حق التصرف لكل من صاحب العلو وصاحب السفل (¬3): فقال أبو حنيفة: الأصل في تصرفات المالك في ملكه، إذا تعلق به حق الغير: الحظر؛ لأنه تصرف في محل تعلق به حق محترم للغير، فليس للجار التصرف في ملكه من غير رضا صاحب الحق، وإن لم يضره هذا التصرف. ¬
المطلب السابع ـ حق الجوار
وبناء عليه: ليس لصاحب السفل أن يحدث في بنائه أي تغير، كدق وتد، أو فتح نافذة، أو رفع جدار، إلا برضا صاحب العلو، وإن لم يضر به. وليس لصاحب العلو زيادة بناء يوهن السفل. وقال الصاحبان: الأصل في تصرف الجار الإباحة؛ لأنه تصرف في ملكه، والملك يقتضي إطلاق التصرف، كما يشاء المالك، إلا إذا لحق بسببه ضرر بالغير، فيمنع حينئذ المالك منه، وبناء عليه: لصاحب السفل أو الطابق الأدنى أن يصنع ما لا يضر بالبناء الأعلى. وهذا الرأي هو المعقول، والأصح في تقديري، وهو الاستحسان المفتى به عند الحنفية (¬1). المطلب السابع ـ حق الجوار: تعريفه، ومدى صلاحية الجار أو حق الجار بالتصرف في ملكه. حق الجوار: المراد به هو حق الجوار الجانبي: وهو الناشئ عن تلاصق الحدود وتجاورها، ويكون لكل من الجارين الحق في الارتفاق بعقار جاره، على ألا يلحق به ضرراً بيناً فاحشاً. والامتناع عما يؤذي الجار واجب ديانة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه» (¬2) أي غوائله وشروره، ومع ذلك للفقهاء آراء قضائية في منع الضرر بالجار (¬3): ¬
فقال أبو حنيفة بمقتضى القياس: والشافعية والظاهرية: لصاحب الملك أن يفعل في ملكه ما يشاء، وهو مطلق التصرف في خالص ملكه، وإن ألحق الضرر بغيره، فله فتح ما شاء من النوافذ، وهدم ما شاء من الجدران، وحفر ما رأى من الآبار، وإنشاء ما يشاء من المصانع، واتخاذ ما أراد من السكنى أو المتجر. لكن في الجدار المشترك: قال الشافعية في الجديد (¬1): ليس لأحد الشريكين وضع جذوعه عليه بغير إذن شريكه، وليس له أن يدق وتداً أو يفتح كوَّة أو نحوهما مما يضايق فيه عادة إلا بإذن شريكه، ولا أن يستند إليه ويسند متاعاً لا يضر، وله ولغيره مثل هذا الانتفاع في جدار الأجنبي؛ لأنه لا ضرر على المالك، فلا يضايق فيه، بل له الانتفاع، ولو منعه المالك. وقال الصاحبان بمقتضى الاستحسان الذي أخذت به المجلة: يتقيد استعمال مالك العقار وتصرفه بما لا يؤدي إلى ضرر بيّن فاحش بجاره، ولقوله عليه الصلاة والسلام: «لا ضرر ولا ضرار». وهذا هو المفتى به عند الحنفية. والضرر البين الفاحش: ما يكون سبباً لهدم أو سقوط بناء الجار، أو ما يوهن البناء، أو ما يؤذي الجار أذىً بالغاً على وجه دائم، أو ما يؤدي إلى سلخ حق الانتفاع بالكلية: وهو ما يمنع من الحوائج الأصلية، كأن يحول داره إلى فرن أو مصنع للحديد أو مطحنة للحبوب، أو حمام أو تنور أو يبني جداراً يمنع به النور عن جاره. فإن فعل شيئاً مما ذكر، منع منه، وأمر بإزالته، وكان ضامناً ما يترتب عليه من تلف بدار جاره، سواء أكان بالمباشرة أم بالتسبب. ¬
وقال المالكية والحنابلة (¬1): يتقيد استعمال المالك بألا يضر بالآخرين، ولو بالنية والقصد، فإ لم تكن له مصلحة ظاهرة في التصرف، أو لم يقصد سوى الإضرار بالآخرين، منع منه؛ لأن المسلم ممنوع من قصد الإضرار. لكن المشهور عند المالكية أن الشخص لا يمنع إذا أراد أن يعلي بنياناً يمنع جاره الضوء والشمس، ويمنع إذا أراد أن يبني بنياناً يمنع الهواء. واتفق المالكية على منع أنواع من الضرر المحدث، هي: فتح كوة أو طاقة يكشف منها على جاره، فيؤمر بسدها أو سترها، وأن يبني شخص في داره فرناً أو حماماً أو كير حداد، أو صائغ، مما يضر بجاره دخانه، فيمنع منه إلا إن احتال في إزالة الدخان. وأن يصرف ماءه على دار جاره أو على سقفه، أو يجري في داره ماء، فيضر بحيطان جاره. ومن طرق تجنب الضرر: كاتم الصوت وعازل الحرارة، وصفاية الدخان. والخلاصة: أن الاتجاه الأقوى في الفقه الإسلامي يجيز للمالك أن يتصرف في ملكه بما لا ضرر فيه على الجار، أما ما بان ضرره الفاحش، أو أشكل فيه الحال، فإنه ممنوع. وإذا كان الشيء قديماً قبل الجوار، يظل قائماً، ما لم يكن فيه ضرر بالجار الجديد. ¬
الفصل الخامس: عقود استثمار الأرض: المزارعة والمساقاة والمغارسة
الفَصْلُ الخامِس: عقود استثمار الأرض: المزارعة والمساقاة والمغارسَة العقد الأول ـ المزارعة أو المخابرة تعريفها، ومشروعيتها، وركنها وصفة العقد، وشرائطها، وأنواعها أو أحوالها، وحكمها وانتهاؤها وحالات فسخها، وفيها مباحث خمسة: المبحث الأول ـ تعريف المزارعة ومشروعيتها وركنها وصفة العقد: أولاً ـ تعريف المزارعة: المزارعة لغة: مفاعلة من الزرع: وهو الإنبات. وشرعاً: عقد على الزرع ببعض الخارج (¬1). وعرفها المالكية: بأنها الشركة في الزرع (¬2). وعرفها الحنابلة بأنها: دفع الأرض إلى من يزرعها أو يعمل عليها، والزرع بينهما (¬3). وتسمى أيضاً المخابرة (من الخَبار: وهي الأرض اللينة)، والمحاقلة، ¬
ثانيا ـ مشروعيتها
ويسميها أهل العراق: القَراح. ووصف الشافعية (¬1) المخابرة بأنها: عمل الأرض ببعض ما يخرج منها، والبذر من العامل. والمزارعة: هي المخابرة، ولكن البذر فيها يكون من المالك. والخلاصة: المزارعة عقد استثمار أرض زراعية بين صاحب الأرض، وآخر يعمل في استثمارها، على أن يكون المحصول مشتركاً بينهما بالحصص التي يتفقان عليها. ثانياً ـ مشروعيتها: لم يجز أبو حنيفة وزفر المزارعة، وقالا: هي فاسدة، وبعبارة أخرى: المزارعة بالثلث والربع في رأيهما باطلة (¬2). وكذلك لم يجز الشافعي المزارعة، وإنما تجوز عند الشافعية فقط تبعاً للمساقاة للحاجة، فلو كان بين النخل بياض صحت المزارعة عليه مع المساقاة على النخل بشرط اتحاد العامل، وعسر إفراد النخل بالسقي، والبياض بالعمارة: وهي الزراعة لانتفاع النخل بسقي الأرض وتقليبها. والأصح أنه يشترط: ألا يفصل العاقدان بين العقدين وإنما يؤتى بهما على الاتصال، وألا يقدم المزارعة على المساقاة، لأنها تابعة، والتابع لا يقدم على متبوعه. ولا تجوز المخابرة عند الشافعية تبعاً للمساقاة، لعدم ورود مشروعيتها (¬3). ودليل أبي حنيفة وزفر والشافعي على عدم مشروعية المزارعة أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة (¬4): وهي المزارعة. ولأن أجر المزارع: وهو مما تخرجه ¬
الأرض إما معدوم لعدم وجوده عند العقد، أو مجهول لجهالة مقدار ما تخرجه الأرض، وقد لا تخرج شيئاً، وكل من الجهالة وانعدام محل العقد مفسد عقد الإجارة. وأما معاملة النبي صلّى الله عليه وسلم أهل خيبر ـ كما سيأتي ـ فكان خراج مقاسمة (¬1) كثلث أو ربع غلة الأرض، بطريق المن والصلح، وهو جائز. ومع هذا قال كثير من فقهاء الشافعية بمشروعية المزارعة استقلالاً، بدليل معاملة النبي صلّى الله عليه وسلم أهل خيبر، واعتبروا المخابرة في معنى المزارعة. وقال صاحبا أبي حنيفة (أبو يوسف ومحمد)، ومالك وأحمد وداود الظاهري، وهو رأي جمهور الفقهاء: المزارعة جائزة، بدليل أن النبي صلّى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج من ثمر أو زرع (¬2). ولأنها عقد شركة بين المال والعمل، فتجوز كالمضاربة، لدفع الحاجة، فصاحب المال قد لا يحسن الزراعة، والعامل يتقنها، فيتحقق بتعاونهما الخير والإنتاج والاستثمار. والعمل والفتوى عند الحنفية على قول الصاحبين، لحاجة الناس إليهم ولتعاملهم. وهذا هو الراجح. وهي تشبه الشركة والإجارة، فهي مشاركة في الناتج بين صاحب الأرض والمزارع بنسبة متفق عليها كالنصف أو الثلث للمزارع. وهي كالإجارة عن طريق المشاركة في استغلال الأرض، والأجرة فيها حصة معينة من المحصول. لكنها تتميز عن الشركة بأن نصيب المالك فيها حصة من نفس المحصول الناتج من الأرض، وليس من صافي الأرباح. ¬
ثالثا ـ ركن المزارعة وصفة العقد
وتتميز عن إيجار الأرض الزراعية بأن تكون الأجرة جزءاً من محصول الأرض المؤجرة كالربع أو الثلث أو النصف، فإن كانت الأجرة مقداراً معيناً من المحصول كطن قمح أو أرز، فلا يكون العقد مزارعة، ولكنه إيجار عادي للأرض. ثالثاً ـ ركن المزارعة وصفة العقد: ركن المزارعة عند الحنفية: الإيجاب والقبول، وهو أن يقول صاحب الأرض للعامل: دفعت إليك هذه الأرض مزارعة بكذا، ويقول العامل: قبلت، أو رضيت، أو ما يدل على قبوله ورضاه، فإذا وجدا تم العقد بينهما (¬1). أطرافها ثلاثة: صاحب الأرض أو المالك، والعامل أو المزارع، ومحل العقد، المتردد بين أن يكون منفعة الأرض أو عمل العامل. وهي عند الحنفية: عقد إجارة ابتداء، شركة انتهاء، فإن كان البذر من العامل فالمعقود عليه منفعة الأرض، وإن كان من صاحب الأرض فالمعقود عليه منفعة العامل. وقال الحنابلة (¬2): ولا تفتقر المزارعة والمساقاة إلى القبول لفظاً، بل يكفي الشروع في العمل قبولاً، كالوكيل. وأما صفة المزارعة: فهي عند الحنفية كبقية الشركات عقد غير لازم. وقال المالكية (¬3): وتلزم بالبذر ونحوه أي بإلقاء الحب على الأرض لينبت، أو بوضع الزريعة في الأرض مما لا بذر لحبه كالبصل ونحوه. والمعتمد عند المالكية أن شركات الأموال تلزم بالصيغة. ¬
المبحث الثاني ـ شرائط المزارعة
وقال الحنابلة (¬1): المزارعة والمساقاة عقدان غير لازمين، لكل طرف فسخهما، ويبطل العقد بموت أحد المتعاقدين. المبحث الثاني ـ شرائط المزارعة: اشترط الصاحبان من الحنفية (¬2) في المزارعة شرائط: في العاقد، وفي الزرع والمزروع، وفي الخارج من الزرع، وفي الأرض المزروعة، وفي محل العقد، وفي آلة الزراعة، وفي مدة المزارعة. شروط العاقد: يشترط شرطان عامان في العقود. أـ أن يكون العاقد عاقلاً (مميزاً): فلا تصح مزارعة المجنون والصبي غير المميز؛ لأن العقل شرط أهلية التصرفات. وأما البلوغ فليس بشرط لجواز المزارعة عند الحنفية، فتجوز مزارعة الصبي المأذون، كالإجارة. والمزارعة استئجار ببعض الناتج. واشترط الشافعية والحنابلة البلوغ لصحة المزارعة كغيرها من العقود. 2 - ألا يكون مرتداً ـ في رأي أبي حنيفة ـ لأن تصرفات المرتد موقوفة عنده، فلا تصح للحال. ولا يشترط هذا الشرط عند الصاحبين، فتعتبر مزارعة المرتد نافذة للحال. أما المرتدة فتصح مزارعتها باتفاق الحنفية. ¬
شرط الزرع
شرط الزرع: أن يكون معلوماً، بأن يبين ما يزرع؛ لأن حال المزروع يختلف باختلاف الزرع، بالزيادة والنقصان، فرب زرع يزيد في الأرض، وآخر ينقصها. ومقتضى الاستحسان: أن بيان ما يزرع في الأرض ليس بشرط، إذ نص على المزارعة، فإن ما يزرع مفوض للعامل. شرط المزروع: أن يكون قابلاً لعمل الزراعة: وهو أن يؤثر فيه العمل بالزيادة بحسب العادة. شروط الخارج الناتج من الزرع: تشترط شروط إذا لم تتحقق فسد العقد وهي: 1 - أن يكون معلوماً في العقد؛ لأنه بمثابة الأجرة وجهالتها تفسد الإجارة. 2 - أن يكون مشتركاً بين العاقدين: فلو شرط تخصصه بأحدهما فسد العقد. 3 - أن يكون الناتج معلوم القدر كالنصف والثلث والربع ونحوه؛ لأن ترك التقدير يؤدي إلى الجهالة المفضية إلى المنازعة. 4 - أن يكون الناتج جزءاً مشاعاً بين العاقدين، فلو شرط لأحدهما مقدار معلوم كأربعة أمداد أو بقدر البذر، لم يصح العقد، لجواز ألا ينتج إلا ذلك القدر. ولا يصح أيضاً اشتراط كون الناتج على السواقي أو الجداول لأحدهما، لاحتمال ألا ينبت الزرع إلا في ذلك الموضع. ولا يصح أيضاً اشتراط كون التبن لأحدهما، وللآخر الحب؛ لأن الزرع قد تصيبه آفة، فلا ينعقد الحب، ولا يخرج إلا التبن.
شروط الأرض المزروعة
واشترط المالكية تساوي العاقدين في قسمة الناتج، وأجاز الشافعية والحنابلة كالحنفية تفاوت العاقدين في الخارج الناتج. شروط الأرض المزروعة: يشترط في الأرض المزروعة ما يأتي: 1 - أن تكون صالحة للزراعة: فلو كانت سبخة أو نزة، لا يجوز العقد؛ لأن المزارعة عقد استئجار ببعض الناتج، والسبخة والنزة لا تجوز إجارتها، فلا تجوز مزارعتها. 2 - أن تكون معلومة: فإن كانت مجهولة لا تصح المزارعة؛ لأنها تؤدي إلى المنازعة. 3 - التخلية بين الأرض والعامل، فتسلم إلى العامل مخلاة: وهو أن يوجد من صاحب الأرض التخلية بين الأرض وبين العامل، فلو شرط العمل على رب الأرض أو عليهما معاً، لا تصح المزارعة، لانعدام التخلية. شرط محل العقد: أن يكون المعقود عليه في المزارعة مقصوداً بحسب العرف والشرع: أي من الأعمال الزراعية عرفاً وشرعاً، من حيث إنها إجارة أحد أمرين: إما منفعة عمل العامل: بأن كان البذر من صاحب الأرض. وإما منفعة الأرض: بأن كان البذر من العامل. وإذا اجتمع الأمران في الاستئجار، فسدت المزارعة، وتفسد إذا كان العمل غير زراعي كقطع الأحجار ونقلها ورصف جوانب الطرقات مثلاً بالحجارة؛ لأنها ليست من أعمال المزارعة. شرط آلة الزراعة: أن تكون الآلة من دابة أو آلة حديثة أمراً تابعاً في العقد، لا مقصوداً، فإن جعلت أمراً مقصوداً، فسدت المزارعة.
شرط مدة المزارعة
شرط مدة المزارعة: أن تكون المدة معلومة، فلا تصح المز ارعة إلا بعد بيان المدة؛ لأنها استئجار ببعض الناتج، ولا تصح الإجارة مع جهالة المدة، والمدة متعارفة، فتفسد بما لا يتمكن العامل فيها، وبما لا يعيش إليها أحد العاقدين. والمفتى به أن المزارع تصح بلا بيان مدة، وتقع على أول زرع واحد (¬1). وفي الجملة: تصح المزارعة عند الصاحبين بشروط ثمانية: 1 - أهلية العاقدين 2 - وتعيين مدة العقد، والمفتى به أنه لا يشترط ذلك. 3 - وصلاحية الأرض للزراعة 4 - والتخلية بين الأرض والعامل 5 - وأن يكون الناتج مشتركاً مشاعاً بين العاقدين تحقيقاً لمعنى الشركة 6 - وبيان من عليه البذر منعاً للمنازعة، وإعلاماً للمعقود عليه: وهو منافع الأرض أو منافع العامل 7 - وبيان نصيب كل من العاقدين (¬2) سواء من قدم البذر أو من لم يقدمه 8 - وبيان جنس البِذْر ليصير الأجر معلوماً؛ لأن الأجر جزء من الناتج، فلا بد من بيانه، ليعلم أن الناتج من أي نوع؛ لأنه ربما يعطي بذاراً لا يحصل الناتج به إلا بعمل كثير. والاستحسان: أن بيان ما يزرع في الأرض ليس بشرط. والخلاصة: لا يشترط تقدير المدة في المفتى به عند الحنفية وظاهر كلام أحمد، ويشترط كون المدة معلومة غير مجهولة في رأي المالكية والشافعية. ¬
عند المالكية
شروط المزارعة عند المالكية (¬1): اشترط المالكية ثلاثة شروط للمزارعة: 1 - السلامة من كراء الأرض بأجر ممنوع كراؤها به، بألا تقع الأرض أو بعضها في مقابلة بذر، أو طعام ولو لم تنبته الأرض كعسل، أو ما تنبته ولو غير طعام كقطن وكتان، إلا الخشب، أي إنه لا بد لصحة المزارعة من كرائها بذهب أو فضة أو عرض تجاري أو حيوان. ولا بد من كون البذر من صاحب الأرض والعامل معاً، فلو كان البذر من أحدهما والأرض للآخر، فسدت المزارعة. وسبب اشتراط هذا الشرط: ورود النهي في السنة عن كراء الأرض بما يخرج منها (¬2). فلا تصح في مقابل جزء من الخارج. 2 - تكافؤ الشريكين أو تساويهما فيما يخرجان أو يقدمان: بأن يقابل أجرَ الأرض مساوٍ غير بذر كعمل حيوان ونحوه، وعلى قدر الربح الواقع بينهما، كأن تكون أجرة الأرض مئة، وما يقابلها من تقديم حيوان وعمل سوى البذر مئة، والربح بينهما مناصفة، فتصح وإلا فسدت. ويجوز لأحدهما التبرع للآخر بالزيادة من عمل أو ربح، بعد لزوم الشركة. 3 - تماثل البذرين المقدمين من كليهما نوعاً كقمح أو شعير أو فول. فإن اختلف بذر أحدهما عن الآخر، كأن أخرج أحدهما من البذر غير ما أخرجه الآخر، فسدت المزارعة، ولكل ما أنبته بذره. ¬
الشافعية
ومذهب مالك وابن القاسم، وهو الراجح الذي به الفتوى: أنه لا يشترط -كما في شركة الأموال- خلط البذرين حقيقة ولا حكماً، بل إذا خرج كل منهما ببذره وكان بذر كل منهما مستقلاً عن الآخر، فالشركة صحيحة. وبه يتبين أن المالكية يشترطون تقديم البذر من كلا العاقدين، وتساويهما فيه نوعاً، وتماثلهما في الربح وفيما يقدم كل منهما من شيء عيني كالأرض، وما يقابلها من منفعة حيوان وعمل، وألا تكون المزارعة بجزء ناتج من الأرض، وإنما بعوض آخر غير محصول الأرض. ويلاحظ أن هذه الشروط شديدة لا تنطبق مع واقع المزارعة القائم. أما الشافعية (¬1): فلم يشترطوا في المزارعة التي تصح تبعاً للمساقاة أن يتساوى العاقدان في الجزء المشروط من الثمر والزرع، فيصح أن يشرط للعامل نصف الثمر، وربع الزرع مثلاً. كذلك حددوا محل منع كراء الأرض بما يخرج منها بما إذا كان المشروط من خصوص بقعة معينة. وقالوا: إن المزارعة: هي عمل الأرض بما يخرج منها، والبذر من المالك. وأما الحنابلة (¬2): فأجازوا المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض، ولم يشترطوا تساوي العاقدين في الناتج. واشترطوا كالشافعية في ظاهر المذهب كون البذر من المالك رب الأرض، وروي عن أحمد ما يدل على أن البذر يجوز أن يكون من العامل. واشترطوا بيان نصيب كل واحد من العاقدين، فإن جهل النصيب فسدت المزارعة، كما اشترطوا أيضاً معرفة جنس البذر وقدره؛ لأن المزارعة معاقدة على عمل، فلم تجز على غير معلوم الجنس والقدر، كالإجارة. ¬
المبحث الثالث ـ أحوال المزارعة
والخلاصة: يجوز تقديم البذر من أحد العاقدين عند الحنفية، ويشترط تقديمه من كلا العاقدين عند المالكية، ويكون البذر من صاحب الأرض والعمل من العامل في رأي الشافعية والحنابلة. المبحث الثالث ـ أحوال المزارعة: للمزارعة عند الصاحبين أربعة أحوال، تصح في ثلاثة، وتبطل في واحد (¬1). الأولى: أن تكون الأرض والبذر من واحد، والعمل والحيوان واسطة الزراعة من آخر: تجوز المزارعة، وصار صاحب الأرض والبذر مستأجراً للعامل، والحيوان المستخدم للحراثة تبعاً له؛ لأن الحيوان آلة العمل. الثانية: أن تكون الأرض لواحد، والحيوان والبذر والعمل لواحد: جازت المزارعة أيضاً، وصار العامل مستأجراً للأرض ببعض الخارج الناتج. الثالثة: أن تكون الأرض والحيوان والبذر لواحد، والعمل لواحد: جازت أيضاً، وصار رب الأرض مستأجراً للعامل ببعض الخارج (¬2). الرابعة: إذا كانت الأرض والحيوان لواحد، والبذر والعمل لآخر: فهي فاسدة، في ظاهر الرواية، لأنه لو قدر العقد إجارة للأرض، فاشتراط الحيوان على صاحبها، مفسد للإجارة؛ إذ لا يمكن جعل الحيوان تبعاً للأرض، لاختلاف ¬
المبحث الرابع ـ حكم المزارعة الصحيحة والفاسدة
المنفعة، أي إن منفعة الحيوان ليست من جنس منفعة الأرض؛ لأن الأرض للنماء والإنبات، والحيوان للعمل وشق الأرض. ولوقدر العقد إجارة للعامل، فاشتراط البذر عليه مفسد؛ لأنه ليس تبعاً له. وعليه تفسد المزارعة إذا اشترطت الآلة أو الحيوان أو العمل على صاحب الأرض، كما تفسد إذا اشترط الخارج كله لأحد العاقدين، أو اشترط الحصاد والدياس أو الحمل والحفظ على العامل المزارع؛ لأنه لا يتعلق به صلاح الزرع. المبحث الرابع ـ حكم المزارعة الصحيحة والفاسدة: أولاً ـ حكم المزارعة الصحيحة عند الحنفية: للمزارعة الصحيحة عند الحنفية (¬1) أحكام هي ما يأتي: 1 - كل ما كان من عمل المزارعة مما يحتاج الزرع إليه لإصلاحه، كنفقة البذر ومؤنة الحفظ، فعلى المزارع، لأن العقد تناوله. 2 - كل ما كان نفقة على الزرع، كالسماد وقلع الأعشاب والحصاد والدياس، فعلى العاقدين على قدر نصيبهما من الناتج. وقال المالكية: على العامل بعد الحرث والزرع ما يحتاج الزرع إليه من خدمة وسقي وتنقية وحصاد ونقله إلى الأندر (البيدر) ودراسته فيه، وتصفيته إلى أن يصير حباً مصفى، فيقسمانه على الكيل (¬2). ¬
3 - الناتج من الأرض يقسم بين العاقدين بحسب الشرط المتفق عليه، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «المسلمون عند شروطهم» (¬1). فإن لم تخرج الأرض شيئاً، فلا شيء لواحد من العاقدين على الآخر، أما إنه لا شيء للعامل، فلأنه مستأجر ببعض الخارج الناتج، ولم يوجد. هذا بخلاف المزارعة الفاسدة: يجب للعامل أجر المثل إن لم تخرج الأرض شيئاً. والفرق أن الواجب في العقد الصحيح هو المسمى وهو بعض الخارج، فإذا لم يوجد لم يجب شيء. وأما الواجب في المزارعة الفاسدة فهو أجر مثل العمل في الذمة لا في الخارج، فعدم الخارج لا يمنع وجوبه في الذمة. 4 - عقد المزارعة كما تقدم في صفته غير لازم عند الحنابلة، ويلزم بالبذر عند المالكية، وقال الحنفية: هو عقد غير لازم في جانب صاحب البذر لازم في جانب العاقد الآخر. ولا يجوز له فسخ المزارعة إلا بعذر كما سيأتي. فإذا امتنع صاحب البذر من العمل، لم يجبر عليه. وإن امتنع الذي ليس من قبله البذر، أجبره الحاكم على العمل؛ لأنه لا يلحقه بالعقد ضرر، والعقد لازم بمنزلة الإجارة إلا إذا كان هناك عذر تفسخ به الإجارة، فتفسخ به المزارعة. وسبب التفرقة بين العاقدين: أن صاحب البذر لا يمكنه تنفيذ العقد إلا بإتلاف ملكه وهو البذر، في التراب، فلا يكون الشروع فيه ملزماً في حقه، إذ لا يجبر الإنسان على إتلاف ملكه، أما العاقد الآخر فليس من قبله إتلاف ملكه، فكان الشروع في حقه ملزماً. 5 - الكراب (الحراثة) والسقي: إن تم الإتفاق عليه أو الاشتراط يجب الوفاء به على من شرط عليه. وإن لم يتفق عليه يجبر عليه العاقد بحسب الزراعة المعتادة. فإن كانت الأرض تسقى بماء السماء لا يجبر أحد على السقي، وإلا فعلى ¬
النحو المعتاد. فإذا قصر المزارع في عقد المزارعة الصحيحة في سقي الأرض حتى هلك الزرع بهذا السبب يضمن لوجوب العمل عليه فيها، ويضمن ضمان الأمانات بالتقصير؛ لأن الأرض في يده أمانة. ولا يضمن في المزارعة الفاسدة. 6 - تجوز الزيادة على الشرط المذكور من الخارج الناتج، والحط عنه، والقاعدة فيه: هي أنه كلما احتمل إنشاء العقد عليه، احتمل الزيادة، وما لا فلا، والحط جائز في الحالتين جميعاً، كالزيادة في الثمن في عقد البيع. فلو زاد العامل المزارع في حصة صاحب الأرض بعد الحصاد، وكان البذر منه أي من العامل، لم يجز؛ لأن الزيادة على الأجرة تمت بعد انتهاء عمل المزارعة واستيفاء المعقود عليه وهو المنفعة، وهو لا يجوز، إذ لو أنشأ العقد بعد الحصاد، لايجوز، فلا تجوز الزيادة. وإن كانت الزيادة للمزارع في هذه الحالة من صاحب الأرض، جازت؛ لأنها حط من الأجرة المستحقة له، وهو لا يتطلب قيام المعقود عليه. فإن كان البذر من صاحب الأرض، فزاد في حصة المزارع بعد الحصاد، فالحكم أنه لا تجوز الزيادة من المالك؛ لأنها تمت بعد استيفاء المعقود عليه، وتجوز الزيادة من المزارع؛ لأنها حط من الأجرة المستحقة له. أما إن حدثت الزيادة من كل واحد من العاقدين، قبل الحصاد، فيجوز. 7 - لو مات أحد المتعاقدين قبل إدراك الزرع، ترك إلى الإدراك، ولا شيء على المزارع لبقاء عقد الإجارة ههنا ببقاء المدة. والخلاصة: يلتزم صاحب الأرض بالتزامين: تسليم الأرض مع حقوقها الارتفاقية، وإصلاح الأدوات الزراعية، ويلتزم العامل المزارع بالتزامين آخرين في
حكم المزارعة عند الشافعية
مواجهة التزامي المالك، وهما العناية بالزراعة وتحمل نفقاتها المعتادة وأعمالها المعروفة، من حراثة وعزق وسقي ونحو ذلك، والمحافظة على الأرض، وصيانة الزرع. حكم المزارعة عند الشافعية: عرفنا أنه لا تجوز المزارعة (البذر من المالك) عند الشافعية إلا تبعاً للمساقاة. ولا يجوز أن يخابر الشخص (البذر من العامل) تبعاً للمساقاة. فإن أفردت أرض بالمزارعة، فالغلة للمالك، لأنها نماء ملكه، وعليه للعامل أجرة مثل عمله ودوابه وآلاته. وطريق جعل الغلة للطرفين العاقدين، ولا أجرة لأحدهما على الآخر، يحصل بصورتين إذا كان البذر من المالك: إحداهما: أن يستأجر المالك العامل بنصف البذر شائعاً كنصفه أو ربعه مثلاً، أي استئجاراً على الشيوع ليزرع له النصف الآخر في الأرض، ويعيره في الوقت نفسه نصف الأرض شائعاً، فيقوم العامل بالعمل في الأرض، ويقسم الحاصل أو الناتج بينهما بنسبة ما ملك كل منهما من البذر. وهذه إجارة وإعارة. الثانية: أن يستأجر المالك العامل بنصف البذر شائعاً، ونصف منفعة الأرض شائعاً أيضاً، ليزرع له النصف الآخر من البذر، في النصف الآخر من الأرض. فيكون الطرفان شريكين في الزرع على المناصفة، ولا أجرة لأحدهما على الآخر؛ لأن العامل يستحق في منفعة الأرض بقدر نصيبه من الزرع، والمالك يستحق من منفعة الأرض بقدر نصيبه من الزرع (¬1). وهذه إجارة. ¬
ثانيا ـ حكم المزارعة الفاسدة عند الحنفية
فإن كان البذر من العامل: استأجر من المالك جزءاً شائعاً معيناً من الأرض كالنصف بنصف شائع من البذر وبعمله في النصف الآخر منها، أو يستأجر نصف الأرض بنصف البذر، ويتبرع بالعمل في النصف الآخر. فيملك كل منهما من الغلة بنسبة ما ملك من البذر ومنفعة الأرض. ثانياً ـ حكم المزارعة الفاسدة عند الحنفية: للمزارعة الفاسدة أيضاً أحكام (¬1). 1 - لا يجب على المزارع شيء من أعمال المزارعة؛ لأن إيجابه بالعقد، وهو لم يصح. 2 - الخارج الناتج كله لصاحب البذر، سواء أكان رب الأرض أم المزارع؛ لأن الخارج استحقه بسبب كونه نماء ملكه، لا بالشرط. ويتفق المالكية والحنابلة (¬2) مع الحنفية في هذا الحكم، وهو أن العقد إذا فسد لزم كون الزرع لصاحب البذر. 3 - إذا كان البذر من صاحب الأرض، استحق المزارع بسبب فساد المزارعة أجر مثل عمله. وإذا كان البذر من العامل، كان عليه لصاحب الأرض أجر مثل أرضه؛ لأن العقد في الحالتين يكون استئجاراً. وفي الحالة الأولى يطيب الخارج كله لصاحب الأرض؛ لأنه نماء ملكه، وهو البذر في ملكه وهو الأرض. وفي الحالة الثانية: لا يطيب كل الخارج للمز ارع، وإنما يأخذ منه قدر بذره وقدر أجر مثل الأرض، ويتصدق بالفضل الزائد. ¬
المبحث الخامس ـ انتهاء المزارعة وحالات فسخها
4 - يجب أجر المثل في المزارعة الفاسدة، وإن لم تخرج الأرض شيئاً، بعد أن استعملها المزارع؛ لأن المزارعة عقد إجارة، والأجرة في الإجارة الفاسدة لاتجب إلا بحقيقة الاستعمال، أما في المزارعة الصحيحة فلا يجب شيء على أحدهما إذا لم تخرج الأرض شيئاً. وقد بينت الفرق في أحكام المزارعة الصحيحة رقم (3). 5 - يجب أجر المثل في المزارعة الفاسدة مقدراً بالمسمى عند أبي حنيفة وأبي يوسف، عملاً برضا الطرفين ورعاية للجانبين بالقدر الممكن، وقد رضي العامل سلفاً بسقوط الزيادة. وعند محمد: يجب أجر المثل تاماً مهما بلغ، إذ هو قدر قيمة المنافع المستوفاة، وقد استوفى منافعه بعقد فاسد، فيجب عليه قيمتها، إذ لا مثل لها. حكم المزارعة الفاسدة عند المالكية: إذا وقع عقد المزارعة فاسداً، وعرف فساده قبل الشروع في العمل، وجب فسخه، فإن عرف بعد الشروع فيه، فلا يفسخ، ويكون الزرع بين الشريكين بحسب ما لكل من الأرض والعمل والبذر، إلا أن ينفرد أحدهما باثنين منها، فله جميع الزرع، وللآخر أجرة ما انفرد به إن كان أرضاً أو عملاً، ومثله إن كان بذراً (¬1). المبحث الخامس ـ انتهاء المزارعة وحالات فسخها: قد تنقضي المزارعة بتحقق المقصود منها، وقد تنتهي بإنهائها قبل تحقق المقصود منها، وذلك في الأحوال التالية عند الحنفية: ¬
1 - انقضاء مدة المزارعة
1 - انقضاء مدة المزارعة: تنتهي المزارعة بانقضاء مدة العقد، فإذا انقضت المدة، فقد انتهى العقد، وهو معنى انفساخ العقد (¬1). لكن إذا انتهت المدة، وأدرك الزرع، وقسم المتعاقدان الناتج بحسب الاتفاق أو الاشتراط بينهما، لم يحدث إشكال، وينتهي العقد حينئذ. أما إذا انتهت المدة المقررة في العقد أو انقضت مدة المزارعة، والزرع لم يدرك بعد، استمر المزارع في عمله، حتى يدرك الزرع ويستحصد، رعاية لمصلحة الجانبين، بقدر الإمكان، كما في الإجارة. وعلى العامل في هذه الحالة أجر مثل نصيبه من الأرض، إلى أن يستحصد الزرع، كما في الإجارة، لأنه استوفى منفعة بعض الأرض لتربية حصته فيها إلى وقت الحصاد. وتكون نفقة الزرع ومؤنة الحفظ وكري الأنهار حينئذ، على المتعاقدين بمقدار حصصهما، لانتهاء العقد بانقضاء المدة، وكانت هذه الأمور على العامل أثناء بقاء مدة العقد، فإذا انتهى العقد، وجبت هذه النفقات عليهما؛ لأن الزرع مال مشترك بينهما. وهذا بخلاف ما لو مات أحد العاقدين قبل إدراك الزرع، يترك الزرع في مكانه إلى أن يدرك ويكون العمل ونفقاته على العامل؛ لأن الحنفية قرروا حينئذ بقاء عقد الإجارة استحساناً، لبقاء مدة الإجارة، فيستمر العامل أو وارثه على ما كان عليه من العمل. أما في حال انقضاء المدة فلا يمكن إبقاء العقد لانقضاء المدة. ¬
2 - موت أحد العاقدين
2 - موت أحد العاقدين: تنتهى المزارعة أو تنفسخ بموت أحد العاقدين (¬1)، كما تنفسخ الإجارة به، سواء حدث الموت قبل الزراعة أم بعدها، وسواء أدرك الزرع أم لم يدرك بأن كان بقلاً أي طرياً. وهذا رأي الحنفية والحنابلة، وقال المالكية والشافعية: لا تنقضي المزارعة كالإجارة بموت أحد العاقدين. لكن لو مات رب الأرض، والزرع لم يدرك، فإن العامل أو وارثه يظل ملزماً بالعمل؛ لأن العقد يوجب على العامل عملاً يحتاج إليه الزرع إلى انتهاء أو نضوج الزرع، ويبقى العقد كما تقدم للضرورة استحساناً لانتهاء الزرع إذا مات أحد العاقدين، وقد نبت الزرع، ويبقى الزرع إلى الحصاد، ولا يلزم العامل بأجر للأرض، ثم ينتقض العقد فيما بقي من السنين في مدة العقد، لعدم الضرورة؛ لأن في بقاء العقد حتى يستحصد الزرع مراعاة لمصلحة طرفي العقد، فيعمل العامل أو ورثته على النحو المتفق عليه. 3 - فسخ العقد بالعذر: إذا حدث فسخ العقد قبل اللزوم، انتهت المزارعة. ومن المقرر عند الحنفية: أن الملتزم بالبذر لا يلتزم بالمزارعة بمجرد العقد. وعند المالكية: لا تلزم المزارعة إلا بشروع العامل في العمل، فما لم يشرع في عمل المزارعة، له فسخ العقد. ويجوز عند الحنفية فسخ المزارعة بعد لزومها لعذر من الأعذار، سواء من قبل صاحب الأرض، أم من قبل العامل، ومن الأعذار ما يأتي (¬2): ¬
1) ـ لحوق دين فادح لصاحب الأرض، فيحتاج لبيع الأرض التي تم الاتفاق على مزارعتها، ولا مال له سواها، فيجوز بيعها بسبب هذا الدين الفادح، ويفسخ العقد بهذا العذر، كما في عقد الإجارة؛ لأنه لا يمكن المضي في العقد إلا بضرر يلحقه، فلا يلزمه تحمل الضرر، فيبيع القاضي الأرض بدين صاحبها أولاً، ثم يفسخ المزارعة. ولا تنفسخ بنفس العذر. هذا .. إن أمكن الفسخ بأن كان قبل الزراعة، أو بعدها إذا أدرك الزرع، وبلغ مبلغ الحصاد. فإن لم يمكن الفسخ، بأن كان الزرع لم يدرك، ولم يبلغ مبلغ الحصاد، لا تباع الأرض في الدين، ولا يفسخ إلى أن يدرك الزرع؛ لأن في البيع إبطال حق العامل، وفي الانتظار إلى وقت إدراك الزرع تأخير حق صاحب الدين، فيؤخر البيع، رعاية لمصلحة الجانبين، لأنه الطريق الأولى. ثم هناك عند الحنفية ـ من أجل التعويض على العامل قضاءً ـ صور ثلاث للفسخ بعد عقد المزارعة وعمل العامل: الأولى ـ إذا فسخ العقد، بعدما كَرَب (حرث) المزارع الأرض، وحفر الأنهار، فليس للعامل شيء مقابل عمله؛ لأن أعماله منافع لا تتقوم على صاحب الأرض إلا بالعقد، والعقد إنما قوم بالخارج الناتج، ولم يخرج، لكن يجب استرضاء العامل ديانة فيما بينه وبين الله تعالى. الثانية ـ إذا كان الزرع قد نبت، ولم يستحصد بعد، لم تبع الأرض بالدين، حتى يحصد الزرع؛ لأن في البيع إبطال حق المزارع، وتأخير تسديد الدين أهون من الإبطال، فيؤخر كما تقدم. الثالثة ـ إذا أريد فسخ عقد المزارعة، بعد ما زرع العامل الأرض، إلا أنه لم ينبت الزرع، حتى لحق صاحب الأرض دين فادح، فهل له أن يبيع الأرض؟ فيه
العقد الثاني ـ المساقاة أو المعاملة
اختلاف عند مشايخ الحنفية: قال بعضهم: له البيع، لأنه ليس لصاحب البذر في الأرض عين مال قائم، لأن البذر استهلاك والمستهلك ليس بمال، فتباع الأرض في الحال. وقال بعضهم: ليس له البيع، لأن البذر استنماء مال، وليس باستهلاك، فكان للمزارع عين مال قائم، فلا تباع الأرض حتى الحصاد، كما لا تباع بعد نبات الزرع، ولعل هذا اختيار صاحب الهداية. 2) ـ طروء أعذار للمزارع، مثل المرض؛ لأنه معجز عن العمل، والسفر، لأنه يحتاج إليه، وترك حرفة إلى حرفة، طلباً للكسب الذي يوفر المعيشة، والمانع الذي يمنع من العمل كالتطوع للجهاد في سبيل الله، كما في الإجارة، والخيانة بالسرقة ونحوها. وهل يحتاج الفسخ لقضاء القاضي، أو أنه يصح بالتراضي؟ هناك روايتان عند الحنفية: في رواية: لا بد لصحة الفسخ من القضاء أو الرضا، لأن المزارعة كالإجارة، ولا بد فيها لصحة الفسخ من القضاء أو الرضا. والرواية الراجحة: يجوز فسخ المزارعة، ولو بلا قضاء ورضا. العقد الثاني ـ المساقاة أو المعاملة: تعريفها ومشروعيتها وركنها، وموردها، والفرق بينها وبين المزارعة، وشرائطها، وحكم المساقاة الصحيحة والفاسدة، وانتهاء المساقاة. المبحث الأول ـ تعريف المساقاة ومشروعيتها وركنها وموردها، والفرق بينها وبين المزارعة
: أولا ـ تعريف المساقاة
: أولاً ـ تعريف المساقاة: المساقاة لغة: مفاعلة من السقي. وتسمى عند أهل المدينة المعاملة: مفاعلة من العمل. ويفضل اسم المساقاة لما فيها من السقي غالباً. وشرعاً: هي معاقدة دفع الأشجار إلى من يعمل فيها على أن الثمرة بينهما. أو هي عبارة عن العقد على العمل ببعض الخارج. وبعبارة أخرى: هي دفع الشجر إلى من يصلحه بجزء معلوم من ثمره. وهي عند الشافعية: أن يعامل غيره على نخل أو شجر عنب فقط، ليتعهده بالسقي والتربية على أن الثمرة لهما (¬1). ثانياً ـ مشروعيتها: المساقاة عند الحنفية كالمزارعة حكماً وخلافاً وشروطاً ممكنة فيها، فلا تجوز عند أبي حنيفة وزفر، فالمساقاة بجزء من الثمر باطلة عندهما، لأنها استئجار ببعض الخارج، وهو منهي عنه. قال عليه الصلاة والسلام: «من كانت له أرض، فليزرعها، ولا يكريها بثلث ولا بربع ولا بطعام مسمى» (¬2). وقال الصاحبان وجمهور العلماء (منهم مالك والشافعي وأحمد): تجوز المساقاة بشروط، استدلالاً بمعاملة النبي صلّى الله عليه وسلم أهل خيبر، روي عن ابن عمر: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج من ثمر أو زرع» رواه الجماعة، ولحاجة الناس إليها؛ لأن مالك الأشجار قد لا يحسن تعهدها، أو لا يتفرغ له، ومن يحسن ويتفرغ قد لا يملك الأشجار، فيحتاج الأول للعامل، ويحتاج العامل للعمل. والفتوى عند الحنفية على قول الصاحبين، لعمل النبي صلّى الله عليه وسلم وأزواجه والخلفاء ¬
ثالثا ـ ركنها
الراشدين وأهل المدينة، وإجماع الصحابة على إباحة المساقاة (¬1). قال ابن جُزَي المالكي: وهي جائزة مستثناة من أصلين ممنوعين، وهما الإجارة المجهولة، وبيع ما لم يخلق (¬2). ثالثاً ـ ركنها: ركن المساقاة عند الحنفية: الإيجاب والقبول، كالمزارعة. الإيجاب من صاحب الشجر، والقبول من العامل أو المزارع. والمعقود عليه: هو عمل العامل فقط دون تردد، بخلاف المزارعة. وتلزم عند المالكية باللفظ لا بالعمل. وذكر الحنابلة أنها كالمزارعة لا تفتقر إلى القبول لفظاً، بل يكفي الشروع في العمل قبولاً، كالوكيل. وقال الشافعية: يشترط فيها القبول لفظاً دون تفصيل الأعمال، ويحمل المطلق في كل ناحية على العرف الغالب (¬3). وهي عند الجمهور غير الحنابلة من العقود اللازمة، فليس لأحد العاقدين فسخها بعد العقد، دون الآخر، ما لم يتراضيا عليه (¬4). رابعاً ـ موردها: مورد المساقاة عند الحنفية (¬5): الشجر المثمر، فتصح المساقاة في النخل والشجر والكرم والرطاب (الفصة أو البرسيم) وأصول الباذنجان؛ لأن الجواز للحاجة وهي تعم الجميع، وأجاز متأخرو الحنفية المعاملة على الشجر غير المثمر، كشجر الحور والصفصاف، والشجر المتخذ للحطب، لاحتياجه إلى السقي والحفظ، فلو لم يحتج لا تجوز المساقاة. ¬
ومورد المساقاة عند المالكية (¬1): على الزروع كالحمص والفاصولياء، وعلى الأشجار المثمرة ذات الأصول الثابتة، مثل كرم العنب والنخيل والتفاح والرمان ونحوها بشرطين: أحدهما ـ أن تعقد المساقاة قبل بدو صلاح الثمرة، وجواز بيعها، وبشرط ألا يخلف، فإن كان يخلف كالموز والتين، فلا تصح فيه مساقاة إلا تبعاً لغيره. الثاني ـ أن تعقد إلى أجل معلوم، ولو لسنين، وتكره فيما طال من السنين. ولا تجوز المساقاة لمدة من السنين كثيرة جداً، وهي المدة التي تتغير فيها الأصول عادة بحسب اختلاف الأشجار والأمكنة، لما في ذلك من الضرر قياساً على الإجارة، كما لا تجوز إذا اختلف الجزء المساقى به المجعول للعامل في السنين، بأن كان في سنة يخالف غيره في أخرى. ويشترط لصحتها عند ابن القاسم أن تكون بلفظ المساقاة، ولا تنعقد بلفظ الإجارة، وتجوز عنده فيما ليس له أصل ثابت كالمقاثي من نحو قثاء وبطيخ، والزرع، بأربعة شروط: (الشرطان المذكوران). والثالث ـ أن تعقد بعد ظهوره من الأرض. والرابع ـ أن يعجز عنه صاحبه. ويشترط في الجزء المساقى به من الثمر: شيوعه في ثمر البستان، فلا يصح بشجر معين ولا بكيل، كما يشترط علمه كربع أو ثلث أو أقل أو أكثر. والمساقاة عند الحنابلة (¬2): ترد على الأشجار المثمرة المأكولة فقط، فلا تصح في الشجر غير المثمر، كالصفصاف والحور والعفص ونحوه، والورد ونحوه. ¬
خامسا ـ الفرق بين المساقاة والمزارعة
وقال الشافعية في المذهب الجديد (¬1): مورد المساقاة النخل والعنب فقط، أما النخل فلخبر الصحيحين السابق: «أنه صلّى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر» وفي رواية: «دفع إلى يهود خيبر نخلها وأرضها بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع» والعنب مثل النخل، لأنه في معناه، بجامع وجوب الزكاة فيهما. وجوزها الشافعي في المذهب القديم في سائر الأشجار المثمرة. خامساً ـ الفرق بين المساقاة والمزارعة: قال الحنفية: المساقاة كالمزارعة إلا في أربعة أمور (¬2): 1 - إذا امتنع أحد العاقدين في المساقاة عن تنفيذ العقد، يجبر عليه، إذ لا ضرر عليه في بقاء العقد، بخلاف المزارعة، فإن رب البذر إذا امتنع قبل الإلقاء، لا يجبر عليه، للضرر اللاحق به في الاستمرار، ولأن المساقاة عقد لازم عند الجمهور غير الحنابلة. وأما المزارعة فلا تلزم المتعاقدين إلا بإلقاء البذر. وقال الحنابلة (¬3): الوكالة والمضاربة والمساقاة والمزارعة والوديعة والجعالة: عقود جائزة من الطرفين، لكل فسخها. 2 - إذا انقضت مدة المساقاة تترك، أي يستمر العقد بلا أجر، ويعمل العامل بلا أجر عليه لصاحب الشجر، فللعامل البقاء في عمله إلى انتهاء الثمرة، لكن بلا أجر عليه؛ لأن الشجر لا يجوز استئجاره عند الحنفية، ولأن العمل كله على العامل. أما في المزارعة فيستمر العامل بأجر مثل نصيبه من الأرض؛ لأن الأرض ¬
المبحث الثاني ـ شروط المساقاة
يجوز استئجارها، والعمل عليها، بحسب الملك في الزرع، فيكون العمل على العامل وعلى صاحب الأرض، وإذا وجب الأجر لرب الأرض على العامل، لم يجب على العامل العمل في نصيب صاحب الأرض بعد انتهاء المدة. 3 - إذا استحق النخيل المثمر لغير رب الأرض، يرجع العامل بأجر مثله؛ لأن أجرته صارت عيناً أي تمثلت بجزء من الشجر، ومتى صارت عيناً واستحقت، رجع بقيمة المنافع. ولا يرجع بشيء إذا لم تخرج النخيل ثمراً. أما في المزارعة: لو استحقت الأرض بعد الزراعة، فيرجع العامل بقيمة حصته من الزرع نابتاً، ولو استحقت الأرض بعد العمل قبل الزراعة لا شيء للمزارع. 4 - ليس بيان المدة في المساقاة بشرط استحساناً، اكتفاء بعلم وقتها عادة؛ لأن لإدراك الثمرة وقتاً معلوماً قلما يتفاوت، بخلاف الزرع، قد يتقدم الحصاد، وقد يتأخر بحسب التبكير أو التأخر في إلقاء البذر. أما في المزارعة فيشترط تعيين المدة في أصل المذهب، لكن المفتى به ـ كما تقدم ـ أنه لا يشترط. وتعتبر المساقاة والمزارعة عند الحنفية والشافعية إجارة ابتداء، شركة انتهاء. وألحق الحنابلة المساقاة بالمضاربة (¬1). المبحث الثاني ـ شروط المساقاة: يشترط في المساقاة ما يمكن من شروط المزارعة، فلا يشترط في المساقاة بيان جنس البذر، وبيان صاحبه، وصلاحية الأرض للزراعة، وبيان المدة. ¬
وبقي من شروط المزارعة الثمانية الممكنة في المساقاة: أهلية العاقدين، وبيان حصة العامل، والتخلية بينه وبين الأشجار، والشركة في الخارج الناتج، ويدخل في الأخير: كون الجزء المشروط للعامل جزءاً مشاعاً (¬1). ويمكن توضيح شروط المساقاة فيما يأتي (¬2): 1 - أهلية العاقدين: بأن يكونا عاقلين، فلا يجوز عقد من لا يعقل، وهو غير المميز. أما البلوغ فليس بشرط عند الحنفية، وشرط عند بقية الأئمة. 2 - محل العقد: أن يكون من الشجر الذي فيه ثمرة. وقد بينت في بحث مورد المساقاة الخلاف فيه. وأن يكون محل العمل وهو الشجر معلوماً. 3 - التسليم إلى العامل: وهو التخلية بين العامل وبين الشجر المعقود عليه. فلو شرط العمل على العاقدين، فسدت المساقاة، لعدم التخلية. 4 - أن يكون الناتج شركة بين الاثنين، وأن تكون حصة كل واحد منهما جزءاً مشاعاً معلوم القدر، فلو شرط أن يكون الناتج لأحدهما فسدت المساقاة، ولو شرط جزء معين لأحدهما، أو جهل مقدار الحصص فسدت المساقاة أيضاً. ولا يشترط عند الحنفية بيان مدة المساقاة استحساناً، عملاً بالمتعارف المتعامل به، وتقع المساقاة على أول ثمر يخرج في أول السنة. وفي الرِّطاب (الفصة أو البرسيم) عند الحنفية تقع المساقاة على الجزة الأولى، كما في الشجرة المثمرة، فإن لم يخرج في تلك السنة ثمرة، فسدت المساقاة. ولو ذكرت مدة لا تخرج الثمرة فيها عادة، فسدت المساقاة أيضاً، لفوات ¬
أركان المساقاة عند الجمهور
المقصود منها وهو الشركة في الثمار، أما إن كان العقد صحيحاً، ولم تثمر الشجرة أصلاً في المدة المتفق عليها، فلا شيء لأحد العاقدين على صاحبه، ويبقى العقد صحيحاً. ولو ذكرت مدة يحتمل فيها بلوغ الثمرة وعدمه، صح العقد، لعدم التيقن بفوات المقصود. فلو ظهرت الثمرة في الوقت المتفق عليه، قسمت بحسب الشرط المتفق عليه في العقد، وإن لم تظهر في الوقت المسمى، فسدت المساقاة، وللعامل أجر المثل لفساد العقد؛ لأنه تبين الخطأ في المدة المسماة. أما شروط المساقاة عند المالكية فقد ذكرت في بحث مورد المساقاة المتقدم، والمفهوم منها أنه يشترط عندهم كون المساقاة لمدة معلومة كالإجارة. أركان المساقاة عند الجمهور: ذكر الشافعية ومثلهم الحنابلة والمالكية للمساقاة أركاناً خمسة: وهي العاقدان ومورد العمل، والثمار، والعمل، والصيغة (¬1). أما الركن الأول (العاقدان): فيصح من جائز التصرف لنفسه (عاقل بالغ)؛ لأن المساقاة عقد معاوضة أو معاملة على مال، كالمضاربة، فيطلب فيها الأهلية كالبيع. ويمارس الولي عن الصبي والمجنون والسفيه هذا العقد، بالولاية عليهم، عند المصلحة، للاحتياج إليه. والركن الثاني ـ مورد المساقاة: أي ما ترد صيغة عقد المساقاة عليه. هو عند الشافعية: النخل والعنب، وعند الحنابلة: ما له ثمر مأكول من الشجر، المغروس ¬
الركن الثالث ـ وهو الثمار
المعلوم بالمشاهدة لمن يعمل عليه، ويقوم بمصلحته بجزء مشاع معلوم من ثمرته، كما تبين في بحث موردها. ولا تجوز المساقاة إلا على شجر معلوم، فإن كان مجهولاً، لم يصح العقد. والركن الثالث ـ وهو الثمار: يشترط فيه تخصيص الثمر بالعاقدين (المالك والعامل)، فلا يجوز شرط بعضه لغيرهما. ويشترط اشتراكهما فيه، فلا يجوز شرط كل الثمرة لأحدهما، ويشترط العلم بالنصيبين (الحصص) بالجزئية، وإن قل، أي كون الحصة مشاعة كالمضاربة. والأظهر عند الشافعية، وهو مذهب الحنابلة: صحة المساقاة بعد ظهور الثمر، لكن قبل بدو الصلاح، فإن ساقاه على صغار النخل مثلاً ليغرسها، ويكون الشجر لهما، لم يجز، إذ لم ترد المساقاة إلا على أصل ثابت، ولأن الغرس ليس من أعمال المساقاة. فلو كان الشجر مغروساً، وشرط المالك للعامل جزءاً من الثمر على العمل، فإن قدر له مدة يثمر فيها غالباً كخمس سنين، صح العقد، ولايضر كون أكثر المدة لا ثمر فيها، كما لو ساقاه خمس سنين، والثمرة يغلب وجودها في الخامسة خاصة. فإن لم يثمر الشجر في تلك المدة، لم يستحق العامل شيئاً، كما لو ساقاه على أشجار النخيل المثمرة، فلم تثمر. وإن قدر مدة لا يثمر فيه الشجر غالباً لم تصح المساقاة لخلوها عن العوض، كالمساقاة على شجر لا يثمر. وهذا باتفاق المذاهب. والركن الرابع ـ العمل: يشترط فيه أن ينفرد العامل بالعمل، وباليد أي التخلية والتسليم للعامل، ليتمكن العامل من العمل متى شاء، فلو شرط عمل
الركن الخامس ـ الصيغة
المالك مع العامل، أو كون البستان في يد المالك أو في يدهما معاً، لم يصح العقد، وفسدت المساقاة. ويشترط ألا يشرط على العامل ما ليس من جنس أعمال المساقاة التي اعتادها الناس، كحفر بئر مثلاً، فإن شرطه، لم يصح العقد؛ لأنه استئجار بعوض مجهول، واشتراط عقد في عقد. ويشترط أيضاً عند الشافعية معرفة العمل بتقدير المدة كسنة أو أكثر، وأقلها مدة تبقى فيها الأشجار غالباً للاستغلال، فلا تصح على مدة مطلقة ولا مؤبدة ولا مدة لا يثمر فيها الشجر غالباً؛ لأن المساقاة عند الشافعية عقد لازم، فيطلب فيها تحديد المدة كالإجارة. فإن كانت المدة لا يثمر فيها الشجر غالباً لم تصح لخلوها عن العوض، كالمساقاة على شجرة لا تثمر. ولا يجوز في الأصح التوقيت بإدراك الثمر، لجهالته بالتقدم تارة، والتأخر أخرى. ولا يطلب عند الحنابلة تحديد مدة في المساقاة والمزارعة، لأنه صلّى الله عليه وسلم لم يحدد لأهل خيبر مدة، ومشى خلفاؤه على منهجه من بعده، ولأن المساقاة ومثلها المزارعة عندهم عقد جائز غير لازم كما تقدم، فلكل واحد من العاقدين فسخها متى شاء. واختار ابن قدامة الحنبلي أن المساقاة عقد لازم، فوجب تقديره بمدة كالإجارة. ولا يقدر أكثر المدة، بل يجوز ما يتفقان عليه من المدة التي يبقى الشجر فيها، وإن طالت، وأقل المدة: ما تكمل الثمرة فيها فلا يجوز على أقل منها؛ لأن المقصود الاشتراك في الثمرة، ولا توجد في أقل من هذه المدة. والركن الخامس ـ الصيغة: مثل ساقيتك على هذا النخل بثلث أو ربع ثمره، أو سلمته إليك لتتعهده، أو اعمل في نخيلي أو تعهد نخيلي بكذا من ثمره. ولو ساقاه عند الشافعية بلفظ الإجارة لم يصح في الأصح؛ لأن لفظ الإجارة صريح في عقد آخر. وتصح عند الحنابلة بلفظ المساقاة والمعاملة والمفالحة، وبلفظ
المبحث الثالث ـ حكم المساقاة الصحيحة والفاسدة
الإجارة، كما تصح المزارعة بلفظ الإجارة، أي بإجارة أرض بجزء شائع معلوم، مما يخرج منها، لأن القصد المعنى، فإذا أتى به بأي لفظ دل عليه، صح العقد، كالبيع. وتصح أيضاً بالمعاطاة. ويشترط عند الشافعية القبول لفظاً من الناطق، للزومها كإجارة وغيرها، وتصح بإشارة الأخرس المفهمة، ككتابته، دون تفصيل الأعمال فيها، فلا يشترط التعرض له في العقد، ويحمل المطلق في كل ناحية على العرف الغالب فيها في العمل، إذ المرجع في مثله إلى العرف. وقال الحنابلة: لا تفتقر المساقاة (ومثلها المزارعة) إلى القبول لفظاً، بل يكفي الشروع في العمل قبولاً كالوكالة، كما تقدم في بحث صيغة المزارعة. المبحث الثالث ـ حكم المساقاة الصحيحة والفاسدة: إذا استكملت المساقاة شرائطها، كانت صحيحة، وإذا اختل شرط منها كانت فاسدة. المطلب الأول ـ حكم المساقاة الصحيحة: للمساقاة الصحيحة عند الفقهاء أحكام، وأحكامها عند الحنفية ما يأتي (¬1): 1 - كل ما كان من أعمال المساقاة التي يحتاج إليها الشجر وحقل العنب والرِّطاب وأصول الباذنجان، من السقي وإصلاح النهر، والحفظ والتلقيح، فعلى العامل، لأنها من توابع المعقود عليه. وكل ما يحتاجه الشجر ونحوه من النفقة كالسرقين وتقليب الأرض، والجذاذ والقطاف، فعلى العاقدين على قدر نصيبهما، لأن العقد لم يشمله. ¬
عند المالكية
2 - أن يكون الخارج بين الطرفين على الشرط المتفق عليه. 3 - إذا لم يخرج الشجر شيئاً، فلا شيء لواحد منهما على الآخر. 4 - العقد لازم للجانبين، فلا يملك أحدهما الامتناع عن التنفيذ، أو الفسخ من غير رضا صاحبه، إلا لعذر، بخلاف المزارعة، فإنها غير لازمة في جانب صاحب البذر عند الحنفية. 5 - لصاحب الأرض إجبار العامل على العمل إلا لعذر. 6 - تجوز الزيادة على الشرط والحط منه، على وفق القاعدة المقررة في المزارعة وهي: كل موضع احتمل إنشاء العقد، احتمل الزيادة، وإلا فلا، والحط جائز في الموضعين. فما لم يتناه عظم الثمرة في النخيل مثلاً، تجوز الزيادة من كلا الطرفين، لأن إنشاء العقد في هذه الحالة جائز. ولو تناهى عظم الثمرة، جازت الزيادة من العامل لصاحب الأرض، ولا تجوز الزيادة من صاحب الأرض للعامل؛ لأن زيادة العامل حط من الأجرة، ولا يشترط فيه احتمال إنشاء العقد، وأما زيادة صاحب الأرض فهي زيادة في الأجرة، والمحل لا يحتمل الزيادة. 7 - لا يملك العامل مساقاة غيره، إلا إذا فوض له صاحب الأرض فقال له: (اعمل فيه برأيك). فلو خالف العامل، فعامل غيره على الشجر، كانت الثمرة لصاحب الشجر، ولا أجر للعامل الأول، وللعامل الثاني أجر مثل عمله على العامل الأول. وأحكام المساقاة الصحيحة عند المالكية: تتفق في الغالب مع مذهب الحنفية، فقالوا (¬1): العمل في الحائط (بستان الشجر) ثلاثة أقسام: ¬
الشافعية والحنابلة
أحدها ـ ما لا يتعلق بالثمرة: فلا يلزم العامل به بالعقد، ولا يجوز أن يشترط عليه. الثاني ـ ما يتعلق بالثمرة، ويبقى بعدها: كحفر بئر أو عين أو ساقية، أو بناء بيت لتخزين الثمر، أوغرس شجر، فلا يلزم العامل به أيضاً، ولا يجوز أن يشترط عليه. الثالث ـ ما يتعلق بالثمرة، ولا يبقى: فهو على العامل بالعقد، كالتقليم والجذاذ والسقي، وعليه أيضاً جميع المؤن من الآلات والأجراء والدواب ونفقتهم من كل ما يلزم الشجر عرفاً، وليس على العامل تحصين الجدران، وإصلاح مجاري المياه إلى الأرض، ويجوز اشتراطها عليه، لأن المذكور يسير. وأما حق العامل: فله جزء من الثمرة كالثلث أو النصف أو غيرهما حسبما يتفقان عليه. ويجوز أن تكون له كلها، وإذا لم يثمر الشجر، فلا شيء لأحد العاقدين على الآخر، لأن انعدام الثمر بسبب آفة سماوية، لا بسبب فساد العقد. ولا يجوز أن يشترط أحدهما لنفسه منفعة زائدة كدنانير أو دراهم. ويتفق الشافعية والحنابلة مع المالكية في تحديد الملزم بالعمل، وحق العامل، فقالوا في العمل: كل مايتكرر كل عام فهو على العامل، وما لا يتكرر فهو على رب المال (¬1). فعلى العامل ما يحتاج إليه لصلاح الثمر، واستزادته، مما يتكرر كل سنة في العمل، ولا يقصد به حفظ الأصل، كسقي، وتنقية نهر وبئر، أي مجرى الماء من ¬
الجذاذ (القطاف)
الطين ونحوه، وإصلاح حُفر الأشجار التي يجتمع فيها الماء للشرب، وتلقيح النخل (¬1) وإزالة الحشائش والقضبان والأعشاب الضارة وتعريش الدوالي (¬2)، وحفظ الثمر وجذاذه (أي قطعه)، وتجفيفه في الأصح عند الشافعية، لأنه من مصالحه. وأما ما قصد به حفظ الأصل (أصل الثمر: وهو الشجر)، ولا يتكرر كل سنة، كبناء حيطان البستان، وحفر نهر جديد له، وإصلاح ما انهار من النهر، وإصلاح الدولاب والأبواب فعلى المالك، عملاً بالعرف، وعليه أيضاً خراج الأرض الخراجية. وبه يتبين أن الجذاذ (القطاف) على العامل عند المالكية والشافعية والحنابلة، وعلى المالك والعامل بقدر نصيبهما عند الحنفية. والمساقاة عقد لازم من الجانبين، كالإجارة عند الشافعية والحنفية، والمالكية (أي الجمهور) وغير لازمة عند الحنابلة (¬3)؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم في قصة خيبر ـ فيما رواه مسلم عن ابن عباس - قال: «نقركم على ذلك ما شئنا». أما المزارعة فهي غير لازمة عند الحنفية والحنابلة، وتلزم بالبذر عند المالكية. وبناء على كونها لازمة، والمزارعة تبعاً لها عند الشافعية: لو هرب العامل قبل الفراغ من العمل، وأتمه المالك متبرعاً بالعمل، بقي استحقاق العامل، كتبرع الأجنبي بأداء الدين. ولو لم يتبرع المالك بالعمل استأجر الحاكم بعد رفع الأمر إليه، على العامل، من يتم العمل من مال العامل. فإن لم يقدر المالك على مراجعة ¬
المطلب الثاني ـ حكم المساقاة الفاسدة
الحاكم لبعد مسافة، أو لعدم تلبية طلب المالك، فليشهد المالك على العمل بنفسه، أو الإنفاق إن أراد الرجوع بما يعمله أو ينفقه؛ لأن الإشهاد حال العذر كالحكم ويصرح في الإشهاد بضرورة الرجوع. وقال الحنابلة: إن هرب العامل، فلرب المال الفسخ؛ لأن المساقاة عقد جائز غير لازم. صفة يد العامل: يد العامل في المساقاة والمزارعة والمغارسة يد أمانة، فإذا ادعى هلاك شيء من الثمر أو الزرع أو الشجر، بغير تقصير ولا تعد، كان القول قوله، فيصدق بيمينه، كذلك يصدق بيمينه إن اتهمه المالك بخيانة وأنكر هو؛ لأنه أمين، والقول قول الأمين بيمينه. المطلب الثاني ـ حكم المساقاة الفاسدة: تفسد المساقاة باختلال شرط من شرائطها المطلوبة شرعاً، فإذا لم يتوافر شرط صحة مثلاً فسد العقد. وأهم حالات الفساد عند الحنفية (¬1) ما يأتي: 1 - اشتراط كون الناتج (الخارج) كله لأحد العاقدين، لعدم توافر معنى الشركة به. 2 - شرط كون جزء معين من الثمرة لأحد العاقدين، كنصف قنطار عنب أو تمر، أو شرط جزء محدد من غير الثمرة، كمبلغ نقدي؛ لأن المساقاة شركة في الثمرة فقط. 3 - شرط مشاركة المالك في العمل، إذ لا بد من التخلية بين العامل والعمل في الشجر، ومهمة العامل الأصلية في هذا العقد هي العمل. ¬
4 - اشتراط الجذاذ أو القطاف على العامل؛ لأنه ليس من المساقاة في شيء عندهم، ولعدم التعامل به بين الناس؛ لأن الأصل: كل ما كان من عمل قبل الإدراك كسقي وتلقيح وحفظ فعلى العامل، وما بعده كجذاذ وحفظ، فعلى العاقدين. 5 - شرط كون الحمل والحفظ بعد القسمة على العامل؛ لأنه ليس من أعمال المساقاة. 6 - اشتراط عمل تبقى منفعته على العامل بعد انقضاء مدة المساقاة، كغرس الأشجار، وتقليب الأرض، ونصب العرايش، ونحوه؛ لأنه لا يقتضيه العقد، ولا من أعمال المساقاة. 7 - الاتفاق على مدة لا يحصل فيها الإثمار عادة، لإضرار العامل، ولفوات المقصود وهو الشركة في الخارج. كما أن المساقاة تفسد، إذا كانت الثمرة قد انتهت ونضجت؛ لأن العامل إنما يستحق بالعمل، ولا أثر للعمل بعد الإدراك والتناهي. 8 - المساقاة مع الشريك، كأن يكون بستان مشترك بين اثنين مناصفة، فيدفعه أحدهما للآخر مساقاة، على أن له الثلثين، وللشريك المساقي الثلث؛ لأن في المساقاة معنى الإجارة، ولا يجوز كون الشخص أجيراً وشريكاً، أي مستأجراً من شريكه، وشريك المستأجر؛ لأن استئجار الشريك على العمل في المشترك لا يصح، إذ يجب أن يكون عمل الأجير في خالص ملك المستأجر. فإذا عمل لا يستحق الأجر على شريكه، ويقع عمل العامل لنفسه. وهذا، أي الحكم بالفساد اختاره الحنابلة من بين وجهين، إذا لم يجعل للعامل شيء في مقابل العمل.
وأجاز الشافعية العقد إذا شرط للعامل زيادة على حصته، أي أن الشافعية والحنابلة يجيزون هذه الصورة، وهي حالة الاتفاق على زيادة حصة العامل مقابل عمله (¬1)، كأن يكون الشجر بينهما نصفين، فيشترط له ثلثا الثمرة، ليكون السدس عوض عمله، فإن شرط له مقدار نصيبه أو دونه، لم يصح، لاستحقاقه نصيبه بالملك. ويكون الاتفاق بأن يقول الشريك لشريكه: ساقيتك على نصيبي، أو أطلق. فإذا قال: ساقيتك على كل الشجر، لم يصح. ويترتب على فساد المساقاة عند الحنفية الأحكام التالية (¬2): 1 - لا يجبر العامل على العمل؛ لأن الجبر على العمل بحكم العقد، وهو لم يصح. 2 - الخارج كله لصاحب الشجر، لكونه نماء ملكه، وأما العامل فلا يأخذ منه شيئاً؛ لأن استحقاقه بالشرط في العقد، ولم يصح. 3 - وإذا فسدت المساقاة، فللعامل أجر مثله، كالإجارة الفاسدة. 4 - يجب أجر المثل عند أبي يوسف في حال الفساد مقدراً بالمسمى، لايتجاوز عنه. وعند محمد: يجب أجر المثل تاماً بالغاً ما بلغ. أثر فساد العقد في المذاهب الأخرى: قال المالكية (¬3): إذا وقعت المساقاة فاسدة، فإن عثر عليها قبل العمل، فسخت. وإن عثر عليها بعد العمل، فسخت في أثنائه، ووجب فيها أجرة المثل إن خرج المتعاقدان عن المساقاة إلى إجارة فاسدة ¬
أو بيع فاسد؛ لأن للعامل فيها أجر ما عمل، قلّ أو كثر، فلا ضرر عليه في الفسخ. ومثال التحول إلى الإجارة الفاسدة: اشتراط زيادة شيء معين أو عرض تجاري من صاحب البستان للعامل؛ لأنه يصبح المالك كأنه استأجر العامل على أن يعمل له في بستان بهذه الزيادة وبجزء من ثمرة البستان، وهي إجارة فاسدة توجب الرد لأجرة مثل أجر العامل ويحسب منها تلك الزيادة، ولا شيء للعامل من الثمرة، ولو بعد تمام العمل. فإن كانت الزيادة من العامل للمالك، فقد خرج العاقدان إلى بيع فاسد: هو بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، إذ كأن العامل اشترى الجزء المسمى بما دفعه للمالك من الزيادة، وبأجرة عمله، فوجب له أجرة مثله، وأخذ ما دفعه، ولا شيء له من الثمرة. وإن لم يخرج المتعاقدان عن المساقاة لعقد آخر، بأن كان الفساد لضرر، أو لفقد شرط غير الزيادة المتقدمة، أو لوجود مانع، أو بسبب الغرر كالمساقاة على حوائط (بساتين) مختلفة، استمرت المساقاة بمساقاة المثل، كالمساقاة على ثمر بدا صلاحه وآخر لم يبد صلاحه، لاحتواء العقد على بيع ثمر مجهول (وهو الجزء المسمى للعامل) بشيء مجهول (وهو العمل)، وكاشتراط عمل المالك مع العامل بجزء من الثمرة أو مجاناً، وكاشتراط آلة أو دابة للمالك في بستان صغير، لأنه ربما كفاه ذلك، فيصير كأن العامل اشترط جميع العمل على المالك. ويجوز اشتراط الدابة على المالك في بستان كبير. وهذا التفصيل لابن القاسم. وقال ابن الماجشون: ترد إلى إجارة المثل في كل نوع من أنواع الفساد. وقال الشافعية والحنابلة (¬1): إذا خرج الثمر بعد العمل مستحقاً لغير المساقي المالك، كأن أوصى بثمر الشجر المساقى عليه، أو خرج الشجر مستحقاً، فللعامل ¬
المبحث الرابع ـ انتهاء المساقاة
على من ساقاه أجرة المثل لعمله، لأنه ضيّع عليه منافعه بعوض فاسد، فيرجع ببدلها على المالك، وإذا فسدت المساقاة، فللعامل أجرة مثله مقابل عمله، والثمر كله لصاحب الشجر، لأنه نماء ملكه. وتفسد المساقاة بجهالة نصيب كل واحد من العاقدين، أو اشتراط نصيب مجهول، أو دراهم معلومة، أو كمية معينة من الثمرة، أو شرط اشتراك المالك في العمل، أو عمل العامل في شيء آخر غير الشجر الذي ساقاه عليه. والخلاصة: أنه يجب باتفاق الفقهاء فسخ المساقاة الفاسدة إذا عرف الفساد قبل العمل. فإن شرع العامل بالعمل ثم اطلع على الفساد، يجب له عند الجمهور أجر المثل. كما يجب له الأجر عند المالكية إذا خرج المتعاقدان إلى عقد آخر، وإن لم يخرجا لعقد آخر، استمرت المساقاة بمساقاة المثل. المبحث الرابع ـ انتهاء المساقاة: تنقضي المساقاة عند الحنفية كالمزارعة بأحد أمور ثلاثة: انتهاء المدة المتفق عليها، موت أحد المتعاقدين، فسخ العقد إما بالإقالة صراحة أو بالأعذار، كما تفسخ الإجارة (¬1). ومن الأعذار: أن يكون العامل سارقاً معروفاً بالسرقة يخاف منه سرقة الثمر أو الأغصان قبل الإدراك؛ لأنه يلزم صاحب الأرض ضرر لم يلتزمه، فيفسخ به. ومن الأعذار أيضاً: مرض العامل إذا كان يضعفه عن العمل؛ لأن في إلزامه استئجار أجراء، زيادة ضرر عليه، ولم يلتزمه فيجعل عذراً. وفي اعتبار سفر ¬
العامل عذراً للفسخ روايتان، الصحيح أنه يوفق بينهما، كما في مرض العامل، فهو عذر إذا شرط عليه عمل نفسه، وغير عذر إذا أطلق العقد عن الشرط. وإذا مات العامل، كان لورثته تعهد الثمر حتى يدرك، وإن كره صاحب الشجر رعاية لمصلحة الجانبين. وإن مات المالك استمر العامل بعمله كما كان، وإن كره ورثة المالك. وإن مات العاقدان، كان الخيار في الاستمرار لورثة العامل، فإن أبى ورثة العامل الاستمرار في العمل، كان الخيار فيه لورثة صاحب الأرض. وإذا انقضت مدة المساقاة ولم ينضج الثمر، بأن كان فجاً، بقيت المساقاة استحساناً لوقت النضوج، ويخير العامل، إن شاء ترك وإن شاء عمل كما في المزارعة، ولكن بدون أجر، أي لا يجب على العامل أن يدفع للمالك أجر حصته إلى أن يدرك الثمر؛ لأن الشجر لا يجوز استئجاره، بخلاف المزارعة، حيث يجب على العامل أجر مثل الأرض؛ لأن الأرض يجوز استئجارها. ويكون العمل كله في المساقاة على العامل، وفي المزارعة على العاقدين، لأنه لما وجب أجر المثل للأرض في المزارعة بعد انتهاء المدة، لم يستحق العمل على العامل، كما كان يستحق عليه قبل انتهائها. وإن أبى العامل العمل، خير المالك أو ورثته بين أمور ثلاثة: إما أن يقتسم الثمر على حسب الشرط، وإما أن يعطي العامل قيمة نصيبه من الثمر، وإما أن ينفق على الثمر حتى يبلغ أو ينضج، ثم يرجع بالنفقة بقدر حصة العامل من الثمر؛ لأنه ليس للعامل إلحاق الضرر بغيره. لكن قال الزيلعي: الرجوع على العامل بالنفقة بنسبة حصته فقط: فيه إشكال، وكان ينبغي أن يرجع عليه بجميع النفقة؛ لأن العامل إنما يستحق بالعمل، وكان العمل كله عليه، فلو رجع عليه بحصته فقط، أدى الرجوع إلى استحقاق العامل بلا عمل في بعض المدة.
وقال المالكية (¬1): المساقاة عقد موروث، ولورثة المساقي أن يأتوا بأمين يعمل إن لم يكونوا أمناء، وعلى المالك العمل إن أبى ورثة العامل من العمل من تركته. ولا تنفسخ المساقاة إذا كان العامل لصاً أو ظالماً أو عجز عن العمل، وعلى العامل استئجار من يعمل، أو يستأجر من حظه من الثمر إن لم يكن له شيء؛ لأن المساقاة عندهم عقد لازم، لا يفسخ بالأعذار، فليس لعاقد فسخها بعد العقد، دون الآخر ما لم يتراضيا عليه. وقال الشافعية (¬2): لاتنفسخ المساقاة بالأعذار، فلو ثبتت خيانة عامل مثلاً، ضم إليه مشرف إلى أن يتم العمل؛ لأن العمل واجب عليه. فإن لم يتحفظ عن الخيانة بالمشرف، أزيلت يده بالكلية، واستؤجر عليه من مال العامل من يتم العمل، لتعذر استيفاء العمل الواجب عليه منه. وتنتهي المساقاة عند الشافعية بانقضاء المدة، فإذا انقضت المدة كعشر سنين مثلاً، ثم ظهرت ثمرة السنة العاشرة لم يكن للعامل فيها حق؛ لأنها ثمرة حدثت بعد انقضاء العقد. وإذا ظهرت الثمرة، ولم تكتمل، قبل انقضاء المدة كأن صارت طَلْعاً (¬3) أو بلحاً، تعلق بها حق العامل؛ لأنها حدثت قبل انقضاء المدة، ويجب على العامل تمام العمل. وتنفسخ المساقاة بموت العامل إذا كانت على عين (ذات) العامل كالأجير المعين، ولا تنفسخ بموت المالك في أثناء المدة، بل يتم العامل العمل ويأخذ نصيبه، ¬
لكن إذا ساقى المورث من يرثه ثم مات المورث، فإن المساقاة تنفسخ؛ لأنه أي الوارث لا يكون عاملاً لنفسه. وإذا التزم العامل المساقاة في ذمته، ثم مات قبل تمام العمل، وخلّف تركة، أتم الوارث العمل منها، لأنه حق وجب على مورثه، فيؤدَّى من تركته كغيره من الحقوق. وللوارث أن يتم العمل بنفسه أو بماله، وعلى المالك تمكينه من العمل إن كان الوارث عارفاً بعمل المساقاة أميناً، وإلا استأجر الحاكم من التركة عاملاً كفئاً. فإن لم يخلف العامل تركة، لم يقترض عليه؛ لأن ذمته خربت بالموت. وبه يتبين أن المساقاة في الذمة لا تنتهي عند الشافعية بموت أحد العاقدين، فإذا مات المالك أو العامل، استمر العامل بعمله. ولا تنتهي المساقاة بخيانة العامل ولا بهربه أو حبسه أو مرضه قبل تمام العمل، لكن في حال الخيانة يضم إليه مشرف آخر يراقبه، وفي حال الحبس ونحوه يستأجر عليه الحاكم من يتم العمل على حسابه. وإذا اختلف المالك والعامل في مقدار الثمرة المشروطة لكل منهما، حلف كل منهما يميناً على إثبا ت دعواه ونفي دعوى خصمه، لأن كلاً منهما منكر لدعوى الآخر، فإذا تحالفا انفسخ عقد المساقاة، وكان الثمر كله للمالك، وللعامل أجرة مثله. وقال الحنابلة (¬1): المساقاة كالمزارعة عقد جائز غير لازم، فيجوز لكل طرف فيها فسخها. فإن فسخت المساقاة بعد ظهور الثمرة، كانت الثمرة بينهما (أي بين المالك والعامل) على حسب الشرط المتفق عليه في العقد. لأنها (أي الثمرة) حدثت على ملكهما. ¬
ويملك العامل كالمالك حصته من الثمرة بالظهور. ويلزم العامل تمام العمل في المساقاة، كما يلزم المضارب بيع العروض التجارية إذا فسخت المضاربة. وهذا موافق لما قال الشافعية. ولا تنفسخ المساقاة بموت العامل، فإن مات العامل قام وارثه مقامه في الملك والعمل؛ لأنه حق ثبت للمورث وعليه، فكان لوارثه. فإن أبى الوارث أن يأخذ ويعمل، لم يجبر، ويستأجر الحاكم من التركة من يعمل، فإن لم تكن له تركة، أو تعذر الاستئجار منها، بيع من نصيب العامل مايحتاج إليه لتكميل العمل واستؤجر من يعمله. وإن فسخ العامل، أو هرب قبل ظهور الثمرة، فلا شيء له، لأنه قد رضي بإسقاط حقه، مثل عامل المضاربة إذا فسخ قبل ظهور الربح، وعامل الجعالة إذا فسخ قبل تمام عمله. لكن إن فسخ المالك المساقاة قبل ظهور الثمرة وبعد شروع العامل في العمل، فعليه للعامل أجر مثل عمله، بخلاف المضاربة؛ لأن الربح في المضاربة لا يتولد من المال بنفسه وإنما يتولد من العمل، ولم يحصل بعمله ربح، والثمر في المساقاة متولد من عين الشجرة، وقد عمل العامل على الشجر عملاً مؤثراً في الثمر فكان لعمله تأثير في حصول الثمر وظهوره بعد الفسخ. وإن مات العامل والمساقاة على عينه (ذاته)، أو جنّ، أو حجر عليه لسفه انفسخت المساقاة، كما قال الشافعية. أما لو مات المالك أو جنّ، أو حجر عليه لسفه، فتفسخ المساقاة، خلافاً للشافعية.
العقد الثالث ـ المغارسة أو المناصبة
وفي حالة العذر عند الحنابلة مع عدم الفسخ: إن عجز العامل عن العمل لضعفه مع أمانته، ضم إليه غيره، ولا ينزع من يده، كما قرر الشافعية؛ لأن العمل مستحق عليه، ولا ضرر في بقاء يده عليه، وإن عجز بالكلية، أقام المالك مقامه من يعمل، والأجرة عليه في الحالتين لأن عليه توفية العمل. وتنتهي المساقاة بمضي المدة المتفق عليها إن قدرت مدة عند الحنابلة أي كما قرر باقي المذاهب، لكن إن ساقى المالك إلى مدة تكمل فيها الثمرة غالباً، فلم تحمل الثمرة تلك السنة، فلا شيء للعامل، كالمضاربة. العقد الثالث ـ المغارسة أو المناصبة: تعريفها، وحكمها عند الفقهاء: أولا ـ تعريف المغارسة: هي أن يدفع الرجل أرضه لمن يغرس فيها شجراً (¬1) وعرفها الشافعية: بأن يسلم إليه أرضاً ليغرسها من عنده، والشجر بينهما (¬2). وتسمى عند أهل الشام المناصبة، أو المشاطرة؛ لأن الشجيرة الغرسة تسمى عند العامة نصباً، أي منصوباً، ولأن الناتج يقسم بينهما مناصفة لكل واحد منهما الشطر. ثانياً ـ حكم المغارسة عند الفقهاء: المغارسة المختلف فيها بين الفقهاء، هي التي يقسم فيها الشجر والأرض نصفين بين المالك والعامل، فمنعها الجمهور وأجازها المالكية بشروط. فإن كان ¬
الحنفية
الاشتراك فيها في الشجر فقط، فهي جائزة عند الحنفية والحنابلة، ولا تجوز عند المالكية، وممنوعة في الحالتين عند الشافعية، لعدم الحاجة إليها. قال الحنفية (¬1): من دفع أر ضاً بيضاء (أي لا شجر ولازرع فيها) سنين معلومة، يغرس فيها شجراً، على أن تكون الأرض والشجر بين رب الأرض والغارس نصفين، لم يجز، لثلاثة أوجه: أولها: لاشتراط الشركة فيما كان موجوداً قبل الشركة، وهو الأرض، لا بعمل العامل، فكان ذلك في معنى قفيز الطحان (¬2) المنهي عنه (¬3). وقال صاحب الهداية عن هذا الوجه: إنه أصحها، لأنه ـ كما قال صاحب العناية ـ نظير من استأجر صباغاً ليصبغ ثوبه، على أن يكون نصف المصبوغ للصباغ، وهو مفسد للعقد، فهو شركة فاسدة. وثاني الأوجه التي عللوا بها الفساد: أن المالك جعل نصف الأرض عوضاً عن جميع الأغراس، ونصف الخسارة عوضاً لعمل العامل، فصار العامل مشترياً نصف الأرض بالغراس المجهول المعدوم عند العقد، فيفسد العقد. وهذا الوجه رجحه ابن عابدين؛ لأن كون المغارسة في معنى (قفيز الطحان) لا يضر، إذ هو جار في معظم مسائل المزارعة والمعاملة (المساقاة)، ولهذا قال الإمام بفسادهما، وترك صاحباه القياس استدلالاً بمعاملة النبي صلّى الله عليه وسلم أهل خيبر، وهذا هو الأولى، فهو شراء فاسد. ¬
الشافعية
وثالث الأوجه: أن المالك استأجر أجيراً ليجعل أرضه بستاناً مشجراً بآلات الأجير، على أن يكون له نصف البستان الذي يظهر بعمله، وهو مفسد للعقد؛ لأنها إجارة بأجر مجهول وغرر، فهي إجارة فاسدة. وإذا فسدت المغارسة، كان جميع الثمر والغرس لصاحب الأرض، وللغارس قيمة غرسه يوم الغرس، وأجرة مثله فيما عمل. وحيلة جواز المغارسة عند الحنفية: أن يبيع المالك نصف الأرض بنصف الغراس، ويستأجر رب الأرض العامل ثلاث سنين مثلاً، بشيء قليل، ليعمل في نصيبه. وصحح الحنفية أيضاً ـ كما في الفتاوى الخانية ـ كون المغارسة على الاشتراك في الشجر والثمر فقط، دون الأرض. وعبارة الشافعية (¬1) في حكم المغارسة: لا تصح المغارسة، إذ لا يجوز العمل في الأرض ببعض ما يخرج منها، ولأن الغرس ليس من عمل المساقاة، فضمه إليها يفسده، ويمكن تحقيق المقصود بالإجارة. أما المساقاة في الشجر، فلا يمكن عقد الإجارة عليه، فجوزت المساقاة للحاجة. والغرس الحاصل يكون للعامل، ويكون لرب الأرض أجرة مثلها على العامل، كما أن من زارع على أرض بجزء من الغلة، فعطل بعض الأرض، يلزمه أجرة ما عطل منها. ¬
الحنابلة
وعبارة الحنابلة (¬1): إن دفع المالك للعامل على أن الأرض والشجر بينهما، فالمعاملة فاسدة وجهاً واحداً، لأنه شرط اشتراكهما في الأصل (الأرض والشجر) ففسد، كما لو دفع إليه الشجر أو النخل، ليكون الأصل والثمرة بينهما، أو شرط في المزارعة كون الأرض والزرع بينهما، وحينئذ يكون للعامل أجر المثل. لكن إن ساقاه على شجر يغرسه، ويعمل فيه حتى يحمل، ويكون للعامل جزء من الثمرة معلوم، صح؛ لأنه ليس فيه أكثر من أن عمل العامل يكثر، ونصيبه يقل. هذه أقوال الجمهور (المذاهب الثلاثة) المانعة من صحة المغارسة، حفاظاً على حقوق العاقدين، ولكثرة الجهالة الناجمة عن انتظار نمو الشجر، وللاشتراك في الأصل، كاشتراك الشريكين في رأس المال في شركة المضاربة، ولأن الغرس ليس من أعمال المساقاة، على النحو المشروع في السنة النبوية، كما لا تصح المساقاة على صغار الشجر إلى مدة لا يحمل فيها غالباً. وقال المالكية (¬2): العمل لإنماء الشجر يتم إما بالإجارة: وهو أن يغرس العامل للمالك بأجرة معلومة، وإما بالجعالة: وهو أن يغرس له شجراً على أن يكون له نصيب فيما ينبت، وإما بالمغارسة. وتصح المغارسة (وهو أن يغرس العامل على أن يكون له نصيب من الشجر والثمر ومن الأرض) بخمسة شروط، وهي: 1 - أن يغرس العامل في الأرض أشجاراً ثابتة الأصول، دون الزرع والمقاثي والبقول. ¬
2 - أن تتفق أصناف الشجر، أو تتقارب، في مدة إطعامها (إثمارها) فإن اختلفت اختلافاً بيناً، لم يجز. 3 - ألا يكون أجلها إلى سنين كثيرة، فإن حدد لها أجل إلى ما فوق الإطعام (إنتاج الثمرة)، لم يجز، وإن كان دون الإطعام، جاز، وإن كان إلى الإطعام، فقولان. 4 - أن يكون للعامل حظه من الأرض والشجر، فإن كان له حظه من أحدهما خاصة، لم يجز، إلا إن جعل له مع الشجر مواضعها على الأرض، دون سائر الأرض. 5 - ألا تكون المغارسة في أرض محبسة (موقوفة) لأن المغارسة كالبيع. ويلاحظ أنه يمنع في المغارسة والمساقاة والمزارعة عند المالكية شيئان: الأول ـ أن يشترط أحدهما لنفسه شيئاً دون الآخر، إلا اليسير. الثاني ـ اشتراط السلف أو السلَم، كأن يقول له: أسلفت إليك في مئة دينار أن تغرس الغرس أو يأمره بقلعه. والخلاصة: أن المغارسة تصح إذا كان للعامل جزء معين من الثمرة فقط، كالمساقاة، كما ذكر الحنابلة، وتصح المغارسة أيضاً إذا غرس العامل غرساً على أن تكون الأغراس والثمار بينهما كما أبان الحنفية، ويمكن تصحيح المغارسة على الاشتراك في الأرض والشجر معاً، بواسطة عقدي البيع والإجارة، كأن يبيع المالك نصف الأرض بنصف الغراس، ويستأجر المالك العامل مدة كثلاث سنين مثلاً، بشيء يسير ليعمل في نصيبه، كما ذكر الحنفية. وصحح المالكية المغارسة بشروط، وأبطلها الشافعية لعدم الحاجة إليها.
الفصل السادس: اتفاق القسمة
الفَصْلُ السّادس: اتّفاق القسمة وفيه نوعان: الأول ـ في قسمة الأعيان، والثاني ـ في قسمة المنافع (المهايأة) وكل منهما يرد على الأموال المشتركة. النَّوع الأوَّل: قسمة الأعيان أو الرّقاب تسمى قسمة الأعيان أي الذوات قسمة رقاب أيضاً. وفيه ستة مباحث: المبحث الأول ـ تعريف القسمة ومشروعيتها وركنها وصفتها. المبحث الثاني ـ أنواع القسمة. المبحث الثالث ـ شروط القسمة. المبحث الرابع ـ كيفية القسمة. المبحث الخامس ـ القاسم. المبحث السادس ـ أحكام القسمة.
أولا ـ تعريف القسمة
المبحث الأول ـ تعريف القسمة ومشروعيتها وركنها وصفتها: أولاً ـ تعريف القسمة: القسمة لغة: هي إفراز النصيب، أو التفريق. وشرعاً لها تعاريف متقاربة عند الفقهاء، فقال الحنفية: القسمة: جمع نصيب شائع في مكان معيّن، أو مخصوص (¬1)، وعرفتها المادة (1114) مجلة بقولها: «القسمة: هي تعيين الحصة الشائعة، يعني إفراز الحصص بعضها من بعض بمقياس ما كالذرع والوزن والكيل» أو هي عبارة عن إفراز بعض الأنصباء عن بعض، ومبادلة بعض ببعض؛ لأن نصيب كل شريك أو ملكه منتشر في جميع أجزاء الشيء المقسوم، فإذا حدثت القسمة، وقع في حصته جزء مملوك له، وجزء مملوك لصاحبه شائعاً في كل الأجزاء، فتتم المبادلة بين الشريكين بتنازل كل واحد منهما عن نصف نصيبه بعوض: وهو نصف نصيب صاحبه (¬2). ومعنى المبادلة أي (أخذ عوض حقه) واضح في القسمة الرضائية، أما القسمة الجبرية فتحدث بناء على طلب الشريكين للقاضي، يتضمن رضاهما بالمبادلة. فالقسمة تتضمن معنى المبادلة؛ لأن ما يؤول لأحدهما، بعضه كان له، وبعضه كان لصاحبه، فهو يأخذه عوضاً عما يبقى من حقه في نصيب صاحبه، فكان ذلك مبادلة من وجه، وإفرازاً من وجه، والإفراز هو الظاهر في المكيلات والموزونات لعدم التفاوت، والمبادلة هي الظاهر في غير المكيل والموزون للتفاوت، ويجوز الإجبار على المبادلة كما في بيع مال المدين. وعرف المالكية القسمة بما يقارب تعريف الحنفية، فقالوا: هي تعيين نصيب ¬
ثانيا ـ مشروعية القسمة
كل شريك في مشاع (عقار أو غيره)، ولو كان التعيين باختصاص تصرف فيما عين له، مع بقاءالشركة في الذات، وهذا التعريف يشمل عندهم أنواع القسمة الثلاثة: قسمة المهايأة، وقسمة المراضاة، وقسمة القرعة (¬1). وعرفها الشافعية والحنابلة (¬2) بأوضح تعريف في تقديري، فقالوا: القسمة: تمييز بعض الأنصباء عن بعض، وإفرازها عنها، بتجزئة الأنصباء بالكيل أو غيره. ثانياً ـ مشروعية القسمة: أجمع العلماء على جواز القسمة لثبوت شرعيتها في القرآن والسنة: أما القرآن فقوله تعالى: {ونبئهم أن الماء قسمة بينهم، كل شرب محتضر} [القمر:28/ 54] يدل على جواز قسمة المهايأة، وقوله سبحانه: {وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه} [النساء:8/ 4] الوارد في قسمة التركة، وقوله سبحانه في قسمة الغنائم: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول .. } [الأنفال:41/ 8] ولا يعلم هذا الخمس عن الأربعة الأخماس المستحقة للغانمين إلا بالقسمة. وأما السنة: فقد قسم النبي صلّى الله عليه وسلم غنائم خيبر وحنين بين الغانمين، وقسم المواريث (¬3)، مما يدل على الإباحة. ويؤيده حاجة الناس إلى القسمة ليتمكن كل واحد من الشركاء من التصرف المستقل في حصته، وليتخلص من سوء المشاركة، وكثرة الأيدي (¬4). ¬
ثالثا ـ ركن القسمة وسببها وشرط لزومها
ثالثاً ـ ركن القسمة وسببها وشرط لزومها: ركن القسمة: هو الفعل الذي يحصل به الإفراز والتمييز بين الأنصباء، ككيل وذرع، وسببها: طلب الشركاء أو بعضهم الانتفاع بملكه على وجه الخصوص، فلو لم يطلبوا لا تصح القسمة. وشرط لزومها بطلب أحد الشركاء: عدم فوت المنفعة بالقسمة، أي عدم إبطال فائدة الشيء المتعارفة، فلا يقسم مثلاً الحائط والحمام والبيت الصغير (¬1). رابعاً ـ صفة القسمة: تتردد صفة القسمة عند الفقهاء بين وصفين: الإفراز أو التمييز، والبيع أو المبادلة. فقال الحنفية (¬2): تشتمل القسمة مطلقاً (في المثليات أو القيميات) على وصفين: هما الإفراز: وهو أخذ عين حقه، والمبادلة: وهو أخذ عوض حقه. والسبب في اشتمالها على معنى المبادلة: أن ما يأخذه كل شريك، بعضه كان له، وبعضه كان لصاحبه، فهو يأخذه عوضاً عما يبقى من حقه في حصة صاحبه، فتكون القسمة مبادلة من وجه، وإفرازاً من وجه. والإفراز: هو الظاهر الغالب في المثليات، أي المكيلات والموزونات وما في حكمها: وهي الذرعيات والعدديات المتقاربة كالجوز والبيض، لعدم التفاوت بين أجزائها، حتى كان لأحد الشريكين أن يأخذ نصيبه حال غيبة صاحبه. والمبادلة: هي الظاهر الغالب في غير المثليات أي القيميات كالحيوانات ¬
والدور وأصناف العروض التجارية، للتفاوت بين أفرادها، حتى لا يكون لأحد الشريكين أخذ نصيبه عند غيبة صاحبه (¬1). إلا أنه إذا كانت الأشياء المشتركة متحدة الجنس، جازت القسمة الجبرية، أي يجبر القاضي على القسمة عند طلب أحد الشركاء؛ لأن فيها معنى الإفراز، ويصح الجبر في المبادلة، كما هو المقرر في حالة بيع ملك المدين، لوفاء دينه. وإن كانت الأشياء المشتركة أجناساً مختلفة، لم تجز القسمة الجبرية، فلا يجبر القاضي على القسمة، لتعذر المعادلة. وتجوز القسمة الرضائية حينئذ؛ لأن الحق للشركاء. وقال المالكية (¬2): قسمة المراضاة: وهي التي تتم بلا قرعة كالبيع، وقسمة القرعة: تمييز حق في مشاع بين الشركاء، لا بيع، وقسمة المهايأة في المنافع كالإجارة. وقال الشافعية (¬3): القسمة إفراز النصيبين وتمييز الحقين إلا إذا كان في القسمة رد، أي تعويض (أورد مال أجنبي عن المقسوم)، فهي بيع، كأن يكون في أحد جانبي الأرض المشتركة بئر أو شجر مثلاً، لا يمكن قسمته، فيرد من يأخذه بالقسمة بالقرعة قسط قيمة البئر أو الشجر، في المثال المذكور. وكذلك تكون القسمة بيعاً إذا كانت بالتعديل للسهام (وهي الأنصباء) ¬
المبحث الثاني ـ أنواع القسمة
بالقيمة، كأرض تختلف قيمة أجزائها بقوة إنبات أو قرب ماء، وتكون الأرض بينهما نصفين، ويساوي ثلث الأرض مثلاً لجودته ثلثيها، فيجعل الثلث سهماً، والثلثان سهماً. وهذا الرأي أدق ما عرفته من المذاهب. وقال الحنابلة (¬1): القسمة: إفراز حق وتمييز أحد النصيبين من الآخر، وليست بيعاً؛ لأنها لا تفتقر إلى لفظ التمليك، ولا تجب فيها الشفعة، ويدخلها الإجبار، وتلزم بإخراج القرعة، ويتقدر أحد النصيبين بقدر الآخر، والبيع لا يجوز فيه شيء من ذلك، ولأنها تنفرد عن البيع باسمها وأحكامها، فلم تكن بيعاً كسائر العقود. وفائدة الخلاف: أنها إذا لم تكن بيعاً، جازت قسمة الثمار خرصاً، والمكيل وزناً، والموزون كيلاً، والتفرق قبل القبض فيما يعتبر فيه القبض في البيع، وإن قلنا: هي بيع، انعكست هذه الأحكام. لكن إذا كانت القسمة رداً، أي رد عوض عما حصل لشريك من حق شريكه، فتكون بيعاً فيما يقابل الرد (أي العوض الذي رد من أحدهما على الآخر)، وإفرازاً في الباقي. والخلاصة أن القسمة عند الحنابلة إفراز، إلا إذا كانت قسمة رد، فتكون بيعاً فيما يقبل الرد. المبحث الثاني ـ أنواع القسمة: للقسمة أنواع في المذاهب الفقهية، إذ كل مذهب ينظر إلى القسمة من جانب فقال الحنفية (¬2): القسمة نوعان: ¬
1 - قسمة جبرية
1 - قسمة جبرية: وهي التي يتولاها القاضي، بطلب أحد الشركاء. ولو قسم القاضي أو نائبه بالقرعة، فليس لبعض الشركاء الإباء بعد خروج بعض السهام (¬1). 2 - قسمة رضائية: وهي التي يفعلها الشركاء بالتراضي، وهي تعتبر عقداً من العقود، ركنها ككل عقد: هو الإيجاب والقبول، ومحلها: العين المشتركة التي يجوز الاتفاق على قسمتها (¬2). وكل واحد منهما على نوعين: 1 - قسمة تفريق أو فرد: وهي تخصيص كل شريك بحصة جزئية معينة من المال المشترك، كقسمة دار كبيرة بين شريكين أو ثلاثة، يختص كل واحد منهم بنصف أو بثلث. وهي تحدث في كل ما لا ضرر في تبعيضه بالشريكين كالمكيل والموزون والعددي المتقارب، سواء قسمة رضا أو قسمة جبر. 2 - وقسمة جمع: وهي أن يجمع نصيب كل شريك في عين على حدة (¬3)، كأن يكون الشيء المشترك أقطاناً بين شريكين، فيتقاسمان، على أن يختص أحدهما بكمية منها والآخر بالباقي. وهي جائزة في جنس واحد، ولا تجوز في ¬
المالكية
جنسين مختلفين، فتصح في المثليات وهي المكيلات والموزونات والعدديات المتقاربة كأصناف الحنطة، ولا تصح في جنسين من المكيل والموزون والمذروع والعددي كالحنطة والشعير، والقطن والحديد، والجوز واللوز، واللآلئ واليواقيت. وتصح بين أفراد الإبل، أو أفراد البقر، أو أفراد الغنم، أي في ضمن الجنس الواحد، والتفاوت القليل ملحق بالعدم. ولا تصح بين خيل وإبل، أو بين بقر وغنم، لاختلاف الجنس، فيتضرر أحدهما. ولا تقسم الدور والأراضي المتعددة عند أبي حنيفة قسمة جمع منعاً للضرر، لوجود التفاوت الفاحش بين دار ودار، وأرض وأرض، بسبب اختلاف البناء والبقاع، فتعتبر في حكم جنسين مختلفين. وعند الصاحبين: تجوز قسمة الدور والأراضي قسمة جمع، ويعدل ما فيها من التفاوت بالقيمة. ولا تقسم الدار والضيعة (الأرض)، أو الدار والحانوت المشتركتان قسمة جمع باتفاق الحنفية، بل يقسم كل واحد على حدة، لاختلاف الجنس. وقال المالكية (¬1): قسمة الرقاب أو الأعيان نوعان: قسمة مراضاة وقسمة قرعة. أما قسمة المراضاة: فهي أن يتراضيا على أن كل واحد يأخذ شيئاً مما هو مشترك بين الشريكين، يرضى به بلا قرعة. وهي كالبيع، فمن رضي بشيء منه، ¬
قسمة القرعة
ملك ذاته، وليس له رده إلا بتراضيهما كالإقالة، ولا رد فيها بالغبن إلا إذا أدخلا بينهما مقوماً. وتصح في متحد الجنس كالثياب، أو في مختلف الجنس كثوب ودابة. وأما قسمة القرعة: فهي تمييز حق مشاع بين الشركاء، لا بيع. فيرد فيها بالغبن، ولا بد فيها من مقوم، ويجبر عليها من أباها، ولا تكون إلا فيما تماثل أو تجانس، ولا يجوز فيها الجمع بين حظ اثنين. وقال الشافعية (¬1): القسمة ثلاثة أنواع؛ لأن المقسوم إن تساوت الأنصباء منه صورة وقيمة فهو الأول، وإلا، فإن لم يحتج إلى رد شيء فالثاني، وإلا فالثالث. 1 - قسمة الإفراز (أو قسمة الأجزاء أو قسمة المتشابهات): وهي إفراز حق كل من الشركاء، فهي تمييز للحق لا بيع. وتحدث فيما لا ضرر فيه، كالمثليات من حبوب ودراهم وأدهان، ودور متفقة الأبنية، وأرض مستوية الأجزاء. ويجري فيها الإجبار، فيلزم الشريك بالقسمة بطلب شريكه، إذ لا ضرر عليه فيها، فيجزأ ما يقسم كيلاً في المكيل، ووزناً في الموزون، وذرعاً في المذروع، وعدّاً في المعدود بعدد الأنصباء إن استوت. ثم بعدئذ يقرع بين الأنصباء لتعيين كل نصيب منها لأحد الشركاء. 2 - قسمة التعديل للسهام: وهي أن تعدل الأنصباء المختلفة بالقيمة، لتحقيق المساواة بين الشركاء، كأرض تختلف قيمة أجزائها بسبب قوة إنبات، أو قرب ماء ونحوهما، أو يختلف جنس ما فيها، كبستان بعضه نخل، وبعضه عنب. فإذا كانت الأرض مناصفة بين شريكين، وكانت قيمة ثلثها المشتمل على ما ذكر كقيمة الثلثين الباقيين، فيجعل الثلث سهماً، والثلثان سهماً، ويقرع بينهما كما سبق. ¬
3 - قسمة الرد
ويجري فيها الإجبار، فيلزم الشريك بالقسمة بطلب شريكه، كما في النوع الأول، فإن أمكن قسم الجيد وحده، والرديء وحده، لم يجبر الشريك على التعديل. ويجبر الشريكان على هذه القسمة في منقولات متحدة القيمة، مختلفة الصفة، كثياب من نوع واحد، كما يجبران عليها في نحو دكاكين صغيرة متلاصقة، متماثلة الأعيان أو الذوات، للحاجة إلى القسمة، بخلاف نحو الدكاكين الكبيرة، أو الصغيرة غير المتلاصقة لشدة اختلاف الأغراض، أو المقاصد باختلاف المحالّ والأبنية. 3 - قسمة الرد: وهي التي تحتاج إلى رد مال أجنبي عن ذات المقسوم، كأن يكون بأحد جانبي الأرض المشتركة بئر أو شجر مثلاً، لا يمكن قسمته، فيردّ من يأخذه بالقسمة الناتجة عن القرعة قسط قيمة البئر أو الشجر. فلو كانت قيمة البئر أو الشجر ألفاً، وحصته النصف، رد الآخذ خمس مئة. ولا يجري فيها الإجبار. ويعتبر النوع الأول إفرازاً للحق، لا بيعاً، والنوعان الآخران بيعاً. وبه يتبين أن القسمة عند الشافعية كغيرهم نوعان رئيسيان: قسمة إجبار، وقسمة تراض. وقال الحنابلة (¬1) كما قال الحنفية: القسمة نوعان: 1 - قسمة تراض: لا تجوز إلا برضا الشركاء كلهم: وهي التي فيها ضرر، ورد عوض من أحدهما على الآخر، كالدور الصغيرة، والحمام والطاحون الصغيرين، والدكاكين اللطاف الضيقة. ولا إجبار فيها، فإن طلب أحد الشريكين ¬
2 - وقسمة الإجبار
قسمة بعضها في مقابلة بعض، لم يجبر الآخر؛ لأن كل عين منها تختص باسم وصورة. وهي تشبه قسمة الرد عند الشافعية، بدليل أن الحنابلة قالوا: كل ما لا يمكن قَسْمه بالأجزاء، أو التعديل، لا يقسم بغير رضا الشركاء كلهم. وحكم قسمة التراضي كالبيع، أي كما قال الشافعية؛ لأن صاحب الزائد بذل المال عوضاً عما حصل له من حق شريكه، وهذا هو البيع، والبيع محصور فيما يقابل الرد (أي العوض الذي رد من أحدهما على الآخر) وإفراز في الباقي، كما تبين في صفة القسمة. وإذا كانت هذه القسمة بيعاً، فلا يجوز فيها ما لا يجوز في البيع، ولا يجبر عليها الممتنع منها، لحديث ابن عباس مرفوعاً: «لا ضرر ولا ضرار» (¬1). 2 - وقسمة الإجبار: ما لا ضرر فيها على الشريكين، ولا على أحدهما، ولا رد عوض، كأرض واسعة وقريبة، وبستان ودار كبيرة، ودكان واسع ونحوها، سواء أكانت متساوية الأجزاء أم لا. وتحدث إن أمكن قسمتها بتعديل السهام من غير شيء يجعل معها، فإن لم يمكن تعديل السهام إلا بجعل شيء معها، فلا إجبار، لأنه معاوضة، فلا يجبر عليها من امتنع منها، كسائر المعاوضات. ومن أمثلتها: قسمة مكيل أو موزون من جنس واحد، كدهن من زيت وسيرج وغيرهما، ولبن ودبس وخل وتمر وعنب ونحوهما، وسائر الحبوب والثمار المكيلة. وإذا طلب أحد الشركاء القسمة في المذكورات وأبى الشريك الآخر، أجبر الممتنع، ولو كان ولياً على صاحب الحصة؛ لأنه يتضمن إزالة الضرر ¬
المبحث الثالث ـ شروط القسمة
الحاصل بالشركة، وحصول النفع للشريكين، فيمكنهما التصرف بالحصص، أو الاستثمار بأي طريق يختاره الشريك. المبحث الثالث ـ شروط القسمة: فيه مطلبان: الأول ـ في شروط قسمة التراضي، والثاني ـ في شروط قسمة الإجبار. المطلب الأول ـ شروط قسمة التراضي: اشترط الحنفية شروطاً في قسمة التراضي هي ما يأتي (¬1): 1 - أهلية المتقاسمين: وهي العقل فقط، فلا يجوز قسمة المجنون والصبي الذي لا يعقل (غير المميز)؛ لأن القسمة عقد متردد بين الضرر والنفع وفيها معنى البيع، فيشترط فيها ما يشترط في البيع. ولا يشترط البلوغ عند الحنفية، فتجوز قسمة الصبي العاقل (المميز) بإذن وليه، كما لا يشترط الإسلام والذكورة والحرية لجواز القسمة، فتجوز قسمة الذمي والمرأة والعبد المكاتب والمأذون، لجواز البيع منهم. 2 - الملك أو الولاية: فلا تجوز القسمة بدونهما. أما الملك: فهو أن يكون القاسم مالكاً عين ما يقسمه وقت القسمة، فيقسمه الشركاء بالتراضي، فإن لم يكن المقسوم مملوكاً للقاسم، لا تجوز القسمة؛ لأن القسمة إفراز بعض الأنصباء، ومبادلة البعض، وكل ذلك لا يصح إلا في الشيء ¬
3 - حضور الشركاء أو نوابهم
المملوك (¬1). وبناء عليه: لا تصح عند الحنفية قسمة الديون المشتركة قبل القبض؛ لأنها لا تملك إلا بالقبض؛ لأن الدين في حكم المعدوم، ووجوده اعتباري، والمقسوم يشترط فيه كونه عيناً. ويترتب عليه أيضاً أن قسمة الفضولي موقوفة على الإجازة قولاً أو فعلاً. وأما الولاية: فهي ولاية القرابة المالية، بأن يكون القاسم ذا ولاية مالية على الصغير والمجنون والمعتوه، وهو الأب ووصيه، والجد ووصيّه. والقاعدة في هذه الولاية: أن كل من له ولاية البيع، فله ولاية القسمة، ومن لا فلا، ولهؤلاء ولاية البيع، فلهم ولاية القسمة. وأما وصي الأم، ووصي الأخ والعم، فيقسم المنقول، دون العقار؛ لأن له ولاية بيع المنقول، دون العقار. ولا يقسم وصي الميت على الموصى له، لانعدام ولايته عليه، وكذا لا يقسم الورثة عليه، لانعدام ولايتهم عليهم؛ لأن الموصى له كواحد من الورثة. وكذا لا يقسم بعض الورثة على بعض، لانعدام الولاية فيما بينهم. 3 - حضور الشركاء أو نوابهم: فلا تصح القسمة على غائب، وتنقض القسمة، لو اقتسم الشركاء، وأحدهم غائب. هذا في قسمة التراضي. أما في قسمة القاضي، فتنفذ القسمة ولا تنقض. 4 - رضا الشركاء فيما يقسمونه بأنفسهم: إذا كانوا من أهل الرضا أو رضا من يقوم مقامهم. فإن لم يوجد الرضا لا تصح القسمة، فلو كان في الورثة صغير لا وصي له، أو كبير غائب، فاقتسموا فالقسمة باطلة؛ لأن القسمة فيها معنى ¬
المطلب الثاني ـ شروط قسمة الإجبار أو التقاضي
البيع، كما تقدم، وقسمة الرضا ـ عند الحنفية ـ أشبه بالبيع، وكما لا يصح البيع إلا بالتراضي، لا تصح القسمة إلا به. وإذا لم يكن شريك من أهل الرضا، كالصبي والمجنون، قام وليه أو وصيه مقامه. وإذا لم يكن للصغير ونحوه ولي ولا وصي، كان موقوفاً على أمر الحاكم، فينصب وصي من طرف الحاكم ليقسم بمعرفته (¬1). وكذلك قال الشافعية (¬2): يشترط في قسمة التراضي بأنواعها من رد وغيره رضا الشركاء حتى بعد خروج القرعة، ولو ثبت بحجة غلط أو حيف في قسمة الإجبار أو قسمة التراضي التي تكون بالإفراز، نقضت القسمة بنوعيها، فإن كانت بالتعديل أو بالرد، لم تنقض، لأنها بيع. المطلب الثاني ـ شروط قسمة الإجبار أو التقاضي: يشترط لقسمة القضاء أو القسمة الجبرية ما يأتي: الشرط الأول ـ طلب أحد الشركاء أو كلهم من القاضي قسمة المشترك: فلا تجوز القسمة من غير طلب أصلاً؛ لأنها تصرف في ملك الآخرين، وهو أمر محظور شرعاً (¬3). وإذا طلب شريك وأبى الآخر، يقسم الشيء المشترك جبراً بين الشركاء إذا كان قابلاً للقسمة (¬4) دفعاً للضرر، كالتملك بالشفعة دفعاً لضرر الشفيع. ¬
الشرط الثاني ـ ألا يترتب على القسمة ضرر
فإن لم يكن قابلاً للقسمة، تناوب الشركاء في الانتفاع بطريق المهايأة. والخلاصة: أنه تجب القسمة عند الطلب، إلا إذا كان الطالب قاصداً الضرر، فلا تجب، كما سيبين في الشرط الثاني. الشرط الثاني ـ ألا يترتب على القسمة ضرر: وهذه في قسمة التفريق، لأنه إذا كان في القسمة ضرر لم تتحقق المنفعة المطلوبة من المال. ويتضح هذا الشرط في معرفة طبيعة المال، والمال في هذا الشأن نوعان (¬1): أـ إن كان المال مما لا ضرر في تبعيضه أو تجزئته، بل فيه منفعة للشريكين، كالمكيل والموزون والعددي المتقارب، فتجوز قسمة التفريق قسمة جبر، ويجبر القاضي من أبى من الشركاء على قبولها تحقيقاً لمصلحة الطرفين. ب ـ وإن كان في القسمة ضرر: فإن أضرّت بكل واحد من الشريكين لم تجز قسمة الجبر في المال المشترك كاللؤلؤ والياقوت والثوب الواحد والسرج والقوس والمصحف الكريم، والخيمة والحائط، والحمام والبيت، أو الحانوت الصغير، والفرس والجمل والشاة والبقرة؛ لأن الضرر يلحق بالشريكين معاً، والقاضي لا يملك الجبر على الإضرار. وأما إن أضرّت القسمة بأحد الشريكين دون الآخر، كالأرض المشتركة بين شريكين ولأحدهما حصة قليلة، وللآخر الأكثر، فتجب القسمة إن طلبها صاحب الأكثر، إزالة للشيوع ومنعاً من الضرر، فهو ينتفع بنصيبه، فيجاب طلبه؛ لأن الحق لا يبطل بتضرر الغير. وإن طلبها صاحب الحصة القليلة: ففيه رأيان: ¬
رأي الحاكم الشهيد في مختصره الكافي: إنه يقسم المال المشترك، إذ لا ضرر على صاحب الكثير، بل له فيه منفعة، وصاحب القليل قد رضي بالضرر، حيث طلب القسمة، فيجبر على القسمة. ورأى القدوري في الكتاب: لا يقسم؛ لأن صاحب القليل متعنِّت في طلب القسمة، لكون القسمة ضرراً محضاً في حقه، فلا يعتبر طلبه، وقسمة الجبر لاتشرع بدون الطلب. وهذا هو الأصح. وإن كانت حصة كل من الشريكين قليلة، لم يقسم القاضي بينهما، إلا بتراضيهما؛ لأن الجبر على القسمة لتكميل المنفعة، وفي هذا تفويتها، وإنما تجوز القسمة بتراضيهما؛ لأن الحق لهما وهما أعرف بشأنهما (¬1). ومذهب الشافعية في قسمة الضرر والجبر قريب من مذهب الحنفية، قالوا (¬2): إن ما عظم ضرر قسمته: إن بطل نفعه الحالي المقصود منه بالكلية كجوهرة وثوب نفيسين، منعهم الحاكم منها، وانتفعوابه مهايأة. وإن لم يبطل نفعه بالكلية، كأن ينقص نفعه كسيف يكسر، أو أبطل نفعه المقصود، كحمام وطاحونة صغيرين، لم يمنعهم ولم يجبهم إلى القسمة، لما فيه من إضاعة المال. ولو كان هناك مال مشترك بين اثنين، لأحدهما حصة قليلة، كعشر دار أو حمام، أو أرض، وللآخر الأكثر وهو الباقي، أجبر صاحب الأقل على القسمة، بطلب الآخر لا عكسه. ¬
وكذلك قال الحنابلة (¬1): يجبر الحاكم على القسمة إذا كان المال قابلاً للقسمة، وأمكن انتفاع الشريكين به مقسوماً، أي إنه يشترط لصحة القسمة عندهم ألا يكون فيها ضرر، فإن كان فيها ضرر، لم يجبر الممتنع لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار». والضرر المانع من القسمة عند الشافعي وأحمد: هو أن تنقص قيمة نصيب كل شريك بالقسمة عن حال الشركة، سواء انتفعوا به مقسوماً أم لم ينتفعوا؛ لأن نقص قيمته ضرر، والضرر منفي شرعاً. وقال المالكية (¬2): إن كان الشيء المشترك مما يحتمل القسمة بلا ضرر كالأرضين وغيرها، أجبر على القسمة من أباها، وإما إذا كان المال المشترك غير قابل للقسمة كحانوت وبيت صغير وسيف، فيباع ويوزع ثمنه بين الشريكين بحسب الحصة، ويجبر على البيع من أباه من الشركاء، بشروط أربعة وهي: 1 - أن تنقص حصة مريد البيع لو باعها مفردة عن حصة شريكه، فإن لم تنقص لو بيعت مفردة لم يجبر له الآبي عن البيع، لعدم الضرر، كما لا يجبر فيما يقبل القسمة، أي في المال المثلي. 2 - ألا يلتزم رافض البيع لشريكه بتحمل فرق النقصان. 3 - ألا يملك مريد البيع حصته مفردة: فإن ملكها مفردة، وأراد بيعها، وأبى صاحبه من البيع معه، لم يجبر على البيع معه، وعلى هذا فإن تملك الشريكان المال المشترك معاً بإرث أو شراء أو غيرهما، جاز إجبار الممتنع على البيع. ¬
الشرط الثالث ـ أن تكون القسمة عادلة، غير جائرة
4 - ألا يكون المال المشترك متخذاً للاستغلال أي الكراء، أو مشترىً للتجارة فإن كان متخذاً للغلة، أو اشتروه للانتفاع في غير غلة ولو للتجارة على المعتمد، لم يجبر الآبي على البيع، مع من أراد البيع. الشرط الثالث ـ أن تكون القسمة عادلة، غير جائرة، لأن القسمة إفراز بعض الأنصباء، ومبادلة البعض بالبعض، ومبنى المبادلات على المراضاة، فإذا وقعت جائرة لم يوجد التراضي، ولا إفراز النصيب على نحو كامل، لبقاء الشركة في جزء ما، فتعاد (¬1). وبناء عليه لو ظهر في القسمة غلط أو غبن فاحش، بطلت القسمة. الشرط الرابع ـ أن يكون المال المشترك في قسمة الجمع (¬2) من جنس واحد، كالمثلي من حنطة أو قطن أو جوز. فإن كان من أجناس مختلفة كالحنطة والشعير، والقطن والحديد، والجوز واللوز، واللآلئ واليواقيت، وأنواع الحيوان كالخيل مع الإبل، لم تجز القسمة؛ لأن قسمة الجمع عند اتحاد الجنس تقع وسيلةإلى تحقيق المقصود منها، وهو تكميل منافع الملك. وعند اختلاف الجنس تقع تفويتاً للمنفعة، لا تكميلاً لها. وكذا الدور والأراضي والكروم (حقول العنب) لا تقسم قسمة جمع عند أبي حنيفة للتفاوت الفاحش بين دار ودار وأرض، بسبب اختلاف الدور والأراضي في بنائها وموقعها، فتعتبر في حكم جنسين مختلفين؛ لأن المعتبر والمقصود في الدور والأراضي هو المعنى، فتقسم قسمة تفريق (¬3) عنده. ¬
المبحث الرابع ـ كيفية القسمة
وقال الصاحبان: تقسم الدور ونحوها قسمة جمع، لأنها من جنس واحد من حيث الصورة وأصل السكنى، وإن كانت أجناساً متعددة من حيث اختلاف المقاصد، ويمكن تعديل التفاوت فيها بالقيمة، وينظر القاضي في الأمر بما يحقق المصلحة. واتفق أئمة الحنفية على أنه يقسم البيتان (الغرفتان) قسمة جمع، سواء أكانا متصلين أم منفصلين (¬1). هذا ما يقوله متقدمو الحنفية، وأما في زماننا فإن المنازل والبيوت كالدور تتفاوت تفاوتاً فاحشاً، فلا تقسم قسمة جمع، وإنما تقسم قسمة تفريق. المبحث الرابع ـ كيفية القسمة: أبان الحنفية كيفية القسمة وإجراءاتها التي يتبعها القاسم على النحو التالي (¬2)، وهو في تقديري مجرد اجتهاد يتغير بحسب العصور. 1 - يمسح القاسم الأرض، لحفظ الخريطة، ورفعها للقاضي، ويقوّم البناء ليعرف كل شريك قيمة نصيبه. 2 - يفرز كل نصيب عن غيره مع ارتفاقاته من طريق ونحوه على حدة، ليتحقق معنى التمييز والإفراز تمام التحقيق، ويمنع تعلق نصيب كل شريك بنصيب الآخر. ¬
تعديل القسمة بالنقود
3 - تحدد الأنصباء بالأرقام المتوالية، ويطلق على كل نصيب اسم «السهم». 4 - تسجل أسماء المتقاسمين في أوراق متساوية مستقلة، وتوضع في وعاء أو نحوه، ثم يقرع بينهم على سبيل الندب والاستحسان، تطييباً للقلوب، وبعداً عن تهمة الميل والتحيز لأحد الشركاء، فمن خرج اسمه أولاً، فله السهم الملقب بالأول، ويعطى من خرج اسمه ثانياً السهم الثاني، وهكذا ... إذا اتحدت مقادير السهام. فلو اختلفت السهام ـ بأن كانت بين ثلاثة مثلاً، لأحدهم عشرة أسهم، ولآخر خمسة أسهم، ولآخر سهم ـ جعلها القاسم ستة عشر سهماً، وكتب أسماء الثلاثة، فإن خرج أولاً اسم صاحب العشرة، أعطاه السهم الأول، وتسعة متصلة به، لتكون سهامه متصلة مع بعضها، وهكذا حتى يتم التوزيع. والقرعة مندوبة عند الحنفية، فلو عين القاسم لكل شريك نصيبه، من غير اقتراع، جاز؛ لأن عمله في معنى القضاء، فيملك إلزام كل شريك بنصيبه. 5 - آلة القسمة: نصت المادة (1147) مجلة على ذلك، فقالت: المال المشترك: إن كان من المكيلات، فبالكيل، أو من الموزونات فبالوزن، أو من العدديات فبالعدد، أو من الذرعيات فبالذراع يصير تقسيمه. ونصت المادة (1148) مجلة على أنه: حيث كانت العرصة والأراضي من الذرعيات، فتقسم بالذرع، أما ما عليها من الأشجار والأبنية، فيقسم بتقدير القيمة. تعديل القسمة بالنقود: أجاز الشافعية والحنابلة كما تقدم تعديل القسمة بالقيمة والنقود في غير الأموال المثلية، مما لا يقبل الإفراز، كأرض تختلف قيمة أجزائها (¬1)، وهذا مذهب المالكية أيضاً كما سيأتي بيانه. ¬
نماذج من القسمة
أما الحنفية فلم يجيزوا في قسمة التقاضي قسمة تفريق إدخال النقود (الدراهم والدنانير) في القسمة، إلا بتراضي الشركاء فيما بينهم؛ لأن القسمة تجري في المشترك والمشترك بينهما العقار، لا النقود، فلو كان بين اثنين دار، وأراد قسمتها، وكان في أحد الجانبين فضل بناء، فأراد أحدهما أن يكون عوض البناء دراهم، وأراد الآخر أن يكون عوضه عن الأرض، فإنه يجعل عوضه من الأرض، ولا يكلف الذي وقع البناء في نصيبه أن يرد دراهم بدلاً عن الزيادة، إلا بالتراضي، لما في القسمة من معنى المبادلة، فيجوز دخول الدراهم فيها بالتراضي دون جبر القاضي، إلا إذا تعذر، فحينئذ للقاضي التعديل بالدراهم، للضرورة (¬1). نماذج من القسمة: أبان الفقهاء أهم حالات القسمة، وهي كيفية قسمة الدور، والأرض والبناء، والدار والضيعة (الأرض العرصة غير المبنية)، والدار والحانوت والسفل والعلو، والطريق. المطلب الأول ـ قسمة الدور: اتفق الحنفية (¬2): على أنه إذا كانت الدور المشتركة في بلدين، فلا تجتمع في القسمة، وتقسم دار كل بلد على حدة. أما إذا كانت الدور المشتركة في بلد واحد، فتقسم أيضاً عند أبي حنيفة كل دار على حدة؛ لأن الدور أجناس مختلفة، لاختلاف المقاصد باختلاف المحالّ (المواقع) والجيران، والقرب من المسجد والماء والسوق مثلاً، فلا يمكن التعديل في ¬
القسمة وإنما تقسم قسمة تفريق، ولا يضم بعض الأنصبة إلى بعض، إلا إذا تراضوا. وهذا هو الصحيح عند الحنفية. وقال الصاحبان: الرأي في هذه القسمة (وهي قسمة التقاضي) إلى القاضي، يفعل ما يراه الأصلح، فإن وجد الأصلح للشركاء في قسمة جمع، بأن يجمع حصة كل شريك في دار، فعل، وإن وجد الأصلح في قسمة التفريق بأن يقسم كل دار على حدة، فعل؛ لأن الدور ـ في رأيهما ـ من جنس واحد من حيث الاسم والصورة، وأصل السكن، فيفوض الأمر إلى القاضي لاختيار الأصلح من القسمة: إما قسمة الجمع أو قسمة التفريق. وهذا الخلاف بين الإمام وصاحبيه جارٍ في قسمة الدار الواحدة. فعند الإمام: لا تقسم قسمة جمع إلا بالتراضي. وعند الصاحبين: يفوض الأمر إلى القاضي، ليحقق المصلحة والعدل في اختيار نوع القسمة. وأما البيوت (الغرف) فتقسم باتفاق الحنفية قسمة جمع، سواء أكانت متباينة أم متلاصقة، لتقاربها في معنى السكنى (¬1). والشافعية يرون أن الدار المختلفة الأبنية تقسم قسمة تعديل بالقيمة، لاختلاف الأغراض باختلاف المحالّ والأبنية (¬2). ¬
المطلب الثاني ـ الأرض والبناء
وكذلك قال المالكية: تقسم الدور بالتراضي، أو بالسهام على أن تعدل بالقيمة (¬1). ولا تقسم الحمام والبئر والرحى والحائط المشترك إلا بتراضي الشركاء، باتفاق الحنفية منعاً للضرر بكل شريك. المطلب الثاني ـ الأرض والبناء: إذا كان المال المشترك أرضاً عليها بناء، ففي كيفية قسمتها أقوال ثلاثة عند الحنفية (¬2). 1 - قال أبو حنيفة: تقسم الأرض بالمساحة، لأنه هو الأصل في الممسوحات، ثم يردّ من وقع البناء في نصيبه، أو من كان نصيبه أجود، دراهم، على الآخر، حتى يساويه، فتدخل الدراهم في القسمة ضرورة؛ لأن قسمة التقاضي جبراً لا يدخل فيها النقود في أصل مذهب الحنفية، وهنا دخلت للضرورة، كما في ولاية الأخ على أخيه الصغير، ليست له عليه ولاية مالية، ولكن إذا زوجه، ملك تسمية الصداق، لضرورة التزويج. وهذا الرأي يتفق مع قسمة الرد عند الشافعية. 2 - وقال أبو يوسف: تقسم الأرض والبناء، باعتبار القيمة، لأنه لا يمكن اعتبار المعادلة إلا بالتقويم. وهذا يتفق مع رأي الشافعية في قسمة التعديل. 3 - وقال محمد: يرد الشريك على شريكه بمقابلة البناء ما يساويه من العرصة (الأرض) (¬3) وإذا بقي فضل، ولم يمكن تحقيق التسوية، بأن كانت العرصة ¬
المطلب الثالث ـ الدار والضيعة، والدار والحانوت
لا تفي بقيمة البناء، فيرد على شريكه دراهم بمقدار الفضل (الزيادة)؛ لأن الضرورة تقدر بقدرها، وهي هنا في هذا المقدار، فلا يترك الأصل (وهو التقسيم باعتبار المساحة) إلا بمقدار الضرورة الحاصلة. المطلب الثالث ـ الدار والضيعة، والدار والحانوت: الضيعة: أرض غير مبنية، والحانوت: الدكان. قال الحنفية: إذا كان المال المشترك داراً مع ضيعة، أو داراً مع حانوت، قسم القاضي كلاً منها على حدة، قسمة تفريق، لا قسمة جمع؛ لأنها أجناس مختلفة، أو في حكم الأجناس المختلفة. ومثل الدور: الأقرحة جمع قَراح: وهي قطعة من الأرض على حيالها، لا شجر فيها ولا بناء، أي إنها أرض مخلاة للزرع وليس عليها بناء. وتقسم الأرض (العرصة) بالذراع ونحوه، وتقسم الدار بالقيمة (¬1). المطلب الرابع ـ السُفْل والعُلْو: إذا كان الذي يراد قسمته، بعضه سفل ليس فوقه علو، أو فوقه علو للغير، وبعضه علو لا سفل له، بأن كان السفل للغير، وبعضه سفل له علو، وكل ذلك في دار واحدة، أو في دارين، قوّم كل واحد من السفل والعلو على حدة، وقسم بواسطة القاضي بالقيمة، ولا يعتبر غير ذلك؛ لأن كلاً منهما يصلح لما لا يصلح له الآخر، فصارا بمثابة جنسين مختلفين، وهذا يقتضي القسمة بالقيمة، ليتحقق التعديل. ¬
المطلب الخامس ـ قسمة الطريق
وهذا رأي محمد، وهو الذي اختاره المشايخ، وعليه الفتوى. وقال الشيخان (أبو حنيفة وأبو يوسف): يقسم ذلك بالذَّرْع؛ لأن السفل والعلو من المذروعات. ثم اختلفا في كيفية تلك القسمة، فقال أبو حنيفة: ذراع من السفل بذراعين من العلو. وقال أبو يوسف: ذراع بذراع. ثم قيل: كل منهما على عادة أهل عصره (¬1). وقال الحنابلة (¬2): إن كان بين الشريكين دار لها علو وسفل، فطلب أحدهما قسمها، لأحدهما العلو وللآخر السفل، فلا إجبار. أو طلب أحد الشريكين قسمة السفل دون العلو أو عكسه، فلا إجبار أيضاً؛ لأن كل واحد منهما مسكن منفرد، ولأن أحدهما قد يتضرر بالقسمة. ولو طلب أحدهما قسمة كل من االعلو والسفل على حدة، فلا إجبار أيضاً، لما فيه من الضرر. ولو طلب أحدهما قسمة العلو والسفل معاً، ولا ضرر، ولا رد عوض، وجب قبول القسمة، وأجبر الممتنع، وعدل بالقيمة؛ لأنه أحوط؛ أي كما هو المفتى به عند الحنفية. ولا يجعل ذراع أسفل بذراعي علو، ولا عكسه، ولا ذراع بذراع، إلا أن يتراضى الشريكان على القسمة. المطلب الخامس ـ قسمة الطريق: قد تثور عدة مشكلات في شأن قسمة الطريق منها: ¬
أولا ـ مصير الطريق ونحوه من الارتفاقات
أولاً ـ مصير الطريق ونحوه من الارتفاقات: لو قسم القسّام الدار المشتركة بين الشريكين، ولأحدهما مسيل ماء في ملك الآخر، أو طريق أو نحوه، ولم يتفق على الارتفاق في القسمة (¬1): أـ فإن أمكن صرف الطريق والمسيل عن نصيب شريكه، أي الاستغناء عنه بوسيلةأخرى، وجب التحويل والصرف، فليس له بعدئذ أن يستطرق، ويسيل في نصيب الشريك الآخر، لأنه أمكن تحقيق القسمة من غير ضرر. ب ـ وإن لم يمكن الصرف فسخت القسمة؛ لأنها مختلفة، لبقاء الاختلاط بين الحصص، فتستأنف القسمة. ثانياً ـ اختلاف الشركاء في إلغاء الطريق: لو اختلف الشركاء حول إلغاء الطريق بينهم في القسمة، نظر الحاكم في أمره. أـ فإن كان يستقيم أن يفتح كل واحد منهم طريقاً في نصيبه، قسم الحاكم بينهم من غير طريق مشترك بينهما، ويلغى الطريق، تكميلاً للمنفعة، وتحقيقاً للإفراز من كل وجه. ب ـ وإن كان لا يستقيم الفتح، شق طريقاً مشتركاً بينهم، ليتحقق تكميل المنفعة فيما وراء الطريق (¬2). ¬
ثالثا ـ اختلاف الشركاء في مقدار الطريق
ثالثاً ـ اختلاف الشركاء في مقدار الطريق: إذا اختلف الشركاء في مقدار عرض الطريق: أـ ففي طريق الدار: يجعل عرض الطريق، بمقدار عرض باب الدار وارتفاعه، حتى يتمكن كل واحد منهم من إخراج جناح أو إقامة شُرْفة في نصيبه، إن كان فوق الباب، لا فيما دونه؛ لأن في ذلك القدر كفاية في الدخول، وفي السلوك، أي المرور. ب ـ وفي الطريق إلى الأرض: يترك بقدر ما يمر فيه حيوان، لتحقق الكفاية به في المرور (¬1). رابعاً ـ تبعية الطريق للحصص: الحق في الطريق بمقدار سهام المقتسمين، كما كان عليه الحال قبل القسمة؛ لأن القسمة تمت في غير الطريق، فبقي الطريق مشتركاً كما كان قبل القسمة (¬2). خامساً ـ التفاوت في مقدار حصة الطريق: يجوز الاتفاق بين الشركاء على أن تتفاوت حصص الشركاء في الطريق، وإن كانت سهامهم في الدار أو في الأرض متساوية، كأن تكون النسبة في الطريق أثلاثاً، وفي الدار ونحوها متناصفة؛ لأن القسمة مع التفاوت أو التفاضل جائزة بالتراضي، في غير الأموال الربوية (¬3). ¬
المبحث الخامس ـ القاسم
المبحث الخامس ـ القاسم تعيينه، وشروطه، وأجرته، وتعدد القسام. أولاً ـ تعيين القاسم: القاسم: هو الذي يمارس القسمة. وقد يتولى الشركاء أنفسهم بالتراضي إجراء القسمة إلا إذا كان فيهم صغير فيحتاج إلى أمر القاضي، لأنه لا ولاية لهم عليه، وقد يعينون وكيلاً عنهم، وهو الغالب، وقد يعينه القاضي. ويندب للإمام أو للقاضي تعيين قاسم دائم، يُرزق من بيت المال، ليقسم بلا أخذ أجر، وهو أحب وأولى؛ لأنه أرفق بالناس وأبعد عن التهمة، ولأن القسمة من جنس عمل القضاء، لأن به يتم فصل الخصومة وقطع المنازعة، ونفعه يعم الناس، فتكون كفايته في مالهم، غرماً بالغنم. فإن لم يعين قاسم دائم، عين القاضي قاسماً يقسم بأجر المثل على حساب المتقاسمين؛ لأن النفع عائد لهم على الخصوص، وبقدر أجر مثله، كيلا يتحكم بطلب الزيادة عن المثل، كما أنه لا يجبر القاضي الناس على قاسم واحد، لأنه لو تعين لتحكم أيضاً بالزيادة على أجر مثله. ولا يترك القاضي القسّام يشتركون (تكوين شركة مثلاً) كيلا يتواضعوا على مغالاة الأجر، فيتضرر الناس (¬1)، فإن كونوا نقابة على النحو الحديث بإشراف الحاكم جاز؛ لأن الحاكم يوافق على نظام النقابة، ويمنع المغالاة. ثانياً - شروط القاسم: اشترط الحنفية استحباباً وندباً في القاسم شروطاً هي مايأتي (¬2): ¬
1 - أن يكون عدلاً أميناً عالماً بالقسمة، لأنه لو كان غير عدل، خائناً أو جاهلاً بأمور القسمة يخاف منه الجور في القسمة لا يجوز. 2 - أن يكون معيناً من القاضي، لأن قسمة غيره لا تنفذ على الصغير والغائب، ولأنه أجمع لشرائط الأمانة. 3 - المبالغة في تعديل الأنصباء، والتسوية بين السهام، بأقصى الإمكان لئلا يدخل القصور في سهم. وينبغي ألا يدع القاسم حقاً بين شريكين غير مقسوم من الطريق والمسيل والشِّرب إلا إذا لم يمكن. وينبغي ألا يضم القاسم نصيب بعض الشركاء إلى بعض، إلا إذا رضوا بالضم، لأنه يحتاج إلى القسمة ثانياً. 4 - أن يقرع بين الشركاء بعد الفراغ من القسمة، تطييباً للنفوس ولورود السنة بها (¬1)، ولأن القرعة أنفى للتهمة. واشترط الشافعية والحنابلة في القاسم المعين من قبل القاضي سبعة شروط وهي (¬2): الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية، والذكورة، والعدالة، وعلم المساحة والحساب؛ لأن علمهما آلة القسمة. وأضاف الشافعية اشتراط السمع والبصر ¬
ثالثا ـ تعدد القسام
والنطق والضبط، إذ لابد مما ذكر؛ لأن للقاسم ولاية على من يقسم لهم بسبب كون قسمته ملزمة، ومن لم تتوافر فيه هذه الشروط، فليس من أهل الولاية. فإن كان القاسم كافراً أو فاسقاً أو جاهلاً بالقسمة، لم تلزم القسمة إلا بتراضي الشركاء بها، كما لو اقتسموا بأنفسهم. هذا إذا كان القاسم معيناً من قبل القاضي، فإن تراضى الشركاء بمن يقسم بينهم لم تشترط الشروط السابقة، إلا التكليف، لأنه وكيل عنهم. ثالثاً ـ تعدد القسّام: يصح إجراء القسمة بقاسم واحد أو أكثر، وقال المالكية: يكفي في قسمة القرعة قاسم واحد؛ لأن مهمته الإخبار عن نتيجة الاقتراع، كالقائف (العالم بالأنساب) والطبيب والمفتي. ويكتفى بقاسم واحد عند المالكية والشافعية والحنابلة إن لم يكن في القسمة تقويم؛ لأنه في قسمه كالحاكم في حكمه. فإن كان في القسمة تقويم: أي تقدير قيمة السلع المشتركة، فلا بد فيها من التعدد عند هؤلاء الفقهاء، فلا تجوز بأقل من اثنين؛ لأن التقويم شهادة بالقيمة، ولابد في الشهادة من اثنين (¬1). رابعاً ـ أجرة القاسم: اتفق الفقهاء على أنه إذا كان القاسم معيناً من قبل القاضي، فأجره (أو رزقه) ¬
المبحث السادس ـ أحكام القسمة
من بيت مال المسلمين، إذا كان فيه سعة، لأن القسمة من جنس عمل القاضي، ولأن منفعته تعم الناس كما بان سابقاً. وأما إن كان القاسم باختيار الشركاء في مقابل أجر، فالأجر على الشركاء. ويتم توزيع الأجرة عند أبي حنيفة ومالك على الشركاء بحسب العدد، أو الرؤوس؛ لأن الأجرة في مقابل العمل، وهو تمييز الحصص، والتمييز عمل واحد؛ لأن تمييز القليل من الكثير هو بعينه تمييز الكثير من القليل، فيتعلق الحكم بأصل التمييز، وتعب القاسم في تمييز النصيب اليسير كتعبه في تمييزه الكبير، وإذا لم يتفاوت العمل، لا تتفاوت الأجرة. وقال الصاحبان والشافعية والحنابلة: يتم توزيع الأجرة بقدر الحصص أو الأنصباء؛ لأن العمل في الكثير أكثر منه في القليل، ولأن الأجرة كالنفقة التي يحتاجها الملك، فتقدر بقدر الملك، ويؤيده أن أجرة الكيال والوزّان بقدر الأنصباء إجماعاً، وكذا سائر المؤن كأجرة الراعي والحمل والحفظ وغيرها (¬1). وهذا في تقديري هو الأولى والأصح؛ لأنه أعدل وأرفق بالناس. المبحث السادس ـ أحكام القسمة للقسمة أحكام عامة، وأحكام خاصة في الإثبات. المطلب الأول ـ أحكام القسمة العامة: لقسمة الأعيان أحكام عامة، أهمها ما يأتي: ¬
أولا ـ لزوم القسمة
أولاً ـ لزوم القسمة: القسمة من العقود اللازمة باتفاق الفقهاء (¬1)، لا يجوز نقضها، ولا الرجوع فيها إلا بالطوارئ كما سأبين في حكم نقض القسمة. ولكن لبعض المذاهب تفصيل في مبدأ اللزوم: قال الحنفية (¬2): تلزم قسمة التراضي وقسمة التقاضي بعد تمامها، فلا يجوز الرجوع عنها إذا تمت. أما قبل التمام، فكذلك تلزم قسمة التقاضي، فلو قسم القاضي المال المشترك بين قوم، فخرجت السهام كلها بالقرعة، لا يجوز لهم الرجوع، وكذا لا رجوع إذا لم تتم القسمة، كأن خرج بعض السهام دون بعض. وأما قسمة التراضي: فيجوز للشركاء الرجوع عنها قبل تمامها؛ لأن قسمة التراضي لا تتم إلا بعد خروج السهام كلها، كما هو الشأن في كل عقد كالبيع مثلاً، يجوز الرجوع عنه قبل تمامه. إلا أنه إذا خرج جميع السهام إلا واحداً، لم يجز الرجوع في قسمة التراضي، لصيرورة السهم متعيناً لمن بقي من الشركاء أو لتعيين نصيب ذلك الواحد. وأطلق المالكية القول باللزوم فقالوا: ولزم ما خرج بالقسمة، فليس لأحدهم نقضها، وكذا يلزم الشريك في قسمة التراضي، فمن أراد الفسخ لم يكن منه (¬3). ¬
ثانيا ـ ثبوت حق الخيار في القسمة
وقال الشافعية (¬1): تلزم قسمة الإجبار من غير تراضٍ، ومن المعلوم أن قسمة الإفراز والتعديل فيهما الإجبار، وأما قسمة التراضي قسمة رد دون غيرها، فالأرجح عندهم أنه لا بد من الرضا بها بعد خروج القرعة، ولا يلزم حكم القاسم إلا برضا الشركاء؛ لأنه لما اعتبر الرضا بالقسمة ابتداء، اعتبر بعد خروج القرعة. والحنابلة (¬2) قالوا: تلزم عندهم قسمة الإجبار، فهم كالشافعية، وفي قسمة التراضي عندهم وجهان كالشافعية، لكن الأرجح عندهم أنه إذا خرجت القرعة لزمت القسمة؛ لأن القاسم كالحاكم، وقرعته كالحاكم، لأنه مجتهد في تعديل السهام كاجتهاد الحاكم في طلب الحق، فوجب أن تلزم قرعته. ثانياً ـ ثبوت حق الخيار في القسمة: قال الحنفية (¬3): القسمة ثلاثة أنواع: قسمة لا يجبر الآبي، كقسمة الأجناس المختلفة، وقسمة يجبر الآبي، في ذوات الأمثال كالمكيلات والموزونات، وقسمة يجبر الآبي، في غير المثليات المتحدة الجنس، كالثياب من نوع واحد، والبقر والغنم. والخيارات ثلاثة: خيار شرط، وخيار عيب، وخيار رؤية. 1 - ففي قسمة الأجناس المختلفة، حيث لا يجبر الآبي بها: تثبت الخيارات كلها؛ لأنها مبادلة من كل وجه، فهي كالبيع. 2 - وفي قسمة ذوات الأمثال كالمكيلات والموزونات، حيب يجبر الآبي ¬
عليها، يثبت خيار العيب، دفعاً للضرر والجور، دون خيار الشرط والرؤية، إذ لا فائدة في إثباتهما، لعدم الضرر. 3 - وفي قسمة القيميات، غير المثليات، كالثياب من نوع واحد، وكالبقروالغنم، حيث يجبر الآبي في متحد الجنس، ولا يجبر في غير متحد الجنس، كالغنم مع الإبل: يثبت خيار العيب دفعاً للضرر. أما خيار الشرط والرؤية، ففي ثبوتهما روايتان، والصحيح منهما والذي عليه الفتوى: أنه يثبت. والخلاصة: تثبت هذه الخيارات الثلاثة في تقسيم الأجناس المختلفة، وفي قسمة القيميات المتحدة الجنس أو المختلفة الجنس، ويثبت خيار العيب دون خيار الشرط والرؤية في قسمة المثليات المتحدة الجنس. وقال المالكية في الأرجح (¬1): يثبت خيار العيب في قسمة المراضاة: (بأن يتراضيا على أن كل واحد يأخذ شيئاً مما هو مشترك بينهم، يرضى به بلا قرعة) لأنها كالبيع. وقال الحنابلة (¬2): إذا ظهر في نصيب أحد الشريكين عيب لم يعلمه قبل القسمة، فله فسخ القسمة، أو الرجوع بأرش العيب؛ لأنه نقص في نصيبه، فملكه كالمشتري. واكتفى الشافعية بالنص على أن قسمة الإفراز تنقض في حال الحيف أو الغلط. وأما قسمة الرد أو التعديل فهي بيع (¬3)، أي يثبت فيها خيار العيب. ¬
ثالثا ـ آثار القسمة
ثالثاً ـ آثار القسمة: يترتب على القسمة الأحكام التالية (¬1): 1 - يتعين نصيب كل شريك مستقلاً عن نصيب غيره، فيملك حصته مستقلاً بعد القسمة. 2 - يملك الشريك المقسوم له جميع التصرفات الثابتة لصاحب الملكية المطلقة، من بيع وإيجار ورهن، وبناء وهدم، ونحوها. 3 - لا تثبت الشفعة في القسمة؛ لأن حق الشفعة في المبادلة المحضة، والقسمة مبادلة من وجه واحد، فلا تحتمل الشفعة. والظاهر أن هذا الحكم متفق عليه في المذاهب (¬2). رابعاً ـ نقض القسمة: تنقض القسمة بالإقالة أو بالتراضي على فسخها. ويجب نقض القسمة بعد وجودها، وبالرغم من لزومها في حالات هي عند الحنفية ما يأتي: 1 - ظهور دين على الميت: إذا وقعت القسمة، ثم ظهر دين على الميت يحيط بالتركة المقسومة، تفسخ القسمة، إذا لم يكن للميت مال سواه، إلا إذا قضى الورثة الدين، أو أبرأ الغرماء الدائنون ذمم الورثة، أو بقي من التركة ما يفي بالدين لزوال المانع من لزوم القسمة، فتمضي القسمة على ما هي عليه. ¬
2 - ظهور وارث آخر أو موصى له في قسمة التراضي
والدليل على مسوغ الفسخ لهذا السبب: قوله تعالى: {من بعد وصية يوصي بها أو دين} [النساء:11/ 4]، ولأن الدين إذا كان محيطاً بالتركة (مستغرقاً)، تبين أنه لا ملك للورثة فيها، بل هي ملك للميت يتعلق بها حق الغرماء، وقيام ملك الغير في المحل المقسوم، يمنع صحة القسمة. وإذا لم يكن الدين محيطاً بالتركة، بقي للغرماء حق الاستيفاء ثابتاً في قدر الدين من التركة، على الشيوع، فيمنع نفاذ القسمة (¬1). وهذا الرأي عندي هو الأرجح، رعاية لحقوق الدائنين. وقال الحنابلة (¬2): لا تبطل القسمة بظهور دين على الميت؛ لأن تعلق الدين بالتركة لا يمنع صحة التصرف فيها، لأنه تعلق بها بغير رضا الورثة. وقال الشافعية (¬3): إذا ظهر دين على الميت، فإن قالوا: القسمة: تمييز الحقين لم تنقض القسمة، وإن قالوا: إنها بيع: ففي نقضها وجهان: في وجه إنها تنقض لتعلق حق الغير بالمال. وفي وجه: لا تنقض إذا قضى الوارث الدين. 2 - ظهور وارث آخر أو موصى له في قسمة التراضي: إذا تمت القسمة، ثم ظهر وارث آخر، أو موصى له بالثلث أو الربع مثلاً، نقضت القسمة؛ لأن الوارث، والموصى له شريك الورثة. ولا تنقض قسمة التقاضي في الأصح؛ لأن القسمة حينئذ محل اجتهاد، وقضاء القاضي إذا صادف محل الاجتهاد ينفذ ولا ينقض (¬4). ¬
3 - ظهور غبن فاحش
3 - ظهور غبن فاحش: إذا حدثت القسمة، ثم تبين فيها غبن فاحش: وهو الذي لا يدخل تحت تقويم المقومين، كأن قوّم المال بألف وهو لا يساوي خمس مئة، فسخت قسمة التقاضي باتفاق الحنفية؛ لأن تصرف القاضي مقيد بالعدل ولم يوجد، والغبن حصل بغير رضا المالك فصار كبيع الأب والوصي، ينقض بالغبن الفاحش. وتفسخ أيضاً قسمة التراضي في الأصح؛ لأن شرط جوازها المعادلة، ولم توجد، فوجب نقضها. وهذا هو الصحيح المعتمد المفتى به عند الحنفية كما ذكر ابن عابدين، أي أن قسمة التراضي تفسخ بالغبن الفاحش كقسمة التقاضي. وتسمع دعوى الغبن الفاحش إن لم يقر المدعي باستيفاء حقه، فإن أقر باستيفاء حقه لا تسمع دعوى الغبن، أو الغلط للتناقض بين الإقرار والادعاء. ولا تسمع دعوى الغبن اليسير الذي يدخل تحت المقومين، ولا تقبل بينته (¬1). ونقض القسمة بالغبن الفاحش أو الجور متفق عليه بين الفقهاء (¬2)، إلا أن الشافعية فصلوا في الأمر، كما سيذكر في حالة الغلط. 4 - وقوع غلط في المال المقسوم: إذا ادعى أحد الشركاء بعد القسمة أن شيئاً من نصيبه وقع في يد صاحبه غلطاً، وكان قد أقر أو أشهد على نفسه باستيفاء حقه (¬3)، لم يصدق على الذي يدعيه، إلا ببينة (إقرار الخصم أو نكوله)؛ لأنه يدعي فسخ القسمة بعد وقوعها، ¬
فلا يصدق إلا بحجة، ولا يكون متناقضاً لأنه اعتمد على فعل الأمين، ثم ظهر غلطه. فإن لم يكن له بينة، استحلف الشركاء، فمن نكل منهم، جمع بين نصيبه ونصيب المدعي، فيقسم بينهما على قدر أنصبائهما، لأن النكول حجة في حقه خاصة، فيعاملان على زعمهما. وإن لم يكن قد أقر بالاستيفاء، تحالف الشركاء (حلف كل منهم يميناً) وفسخت القسمة؛ لأن الاختلاف في مقدار ما حصل له بالقسمة، فصار كالاختلاف في مقدار المبيع. وإن قال: (أصابني إلى موضع كذا، فلم تسلم إلي) ولم يشهد على نفسه بالاستيفاء، وكذبه شريكه، تحالفا، وفسخت القسمة، لاختلافهما في نفس القسمة، فإنهما اختلفا في قدر ما حصل بالقسمة، فأشبه الاختلاف في قدر المبيع. وإن قال (استوفيت حقي). ثم قال (أخذت بعضه) فالقول قول خصمه مع يمينه، لأنه يدعي عليه الغصب، وهو منكر، فالقول قول المنكر (¬1). والقول بنقض القسمة في حال ادعاء الغلط، وإثباته بالبينة، محل اتفاق أيضاً بين الفقهاء (¬2). إلا أن الشافعية قالوا: لو ثبت بحجة (شاهدي عدل أو رجل وامرأتين، أو شاهد ويمين) غلط أو حيف في قسمة إجبار أو قسمة تراض، وهي بالإفراز (أو الأجزاء)، نقضت القسمة بنوعيها. ¬
5 - استحقاق بعض المال المقسوم
فإن لم تكن بالأجزاء بأن كانت بالتعديل أو الرد، لم تنقض؛ لأنها بيع، وإن لم يثبت ذلك، فللمدعي تحليف شريكه. 5 - استحقاق بعض المال المقسوم: إذا ظهر مستحق في المال المقسوم، أي تبين وجود شريك آخر في المال، فله صور ثلاث عند الحنفية (¬1) علماً بأن الاستحقاق: هو أن يدعي شخص ملكية شيء أو بعضه، ويثبت دعواه، ويقضي له القاضي بملكيته وانتزاعه من يد آخر كالمشتري أو المقسوم له. أـ لو كان المستحق بعضاً شائعاً في كل المقسوم، كالخمس أو الربع، فسخت القسمة باتفاق الحنفية، لعدم تحقق معنى الإفراز والتمييز. ب ـ ولو كان المستحق بعضاً معيناً من نصيب أحد الشركاء، لم تفسخ القسمة باتفاق الحنفية؛ لأن الاستحقاق، لما ورد على جزء معين، لم يظهر أن المستحق كان شريكاً في المال، فلا تبطل القسمة، لكن يرجع المستحق منه على صاحبه بقدر ما يخصه من الجزء المستحق، إذ تبين أنه لم يكن ملكه، فيرده. جـ ـ ولو كان المستحق بعضاً شائعاً في أحد النصيبين، لم تفسخ القسمة جبراً على المستحق منه عند أبي حنيفة ومحمد، وإنما يخير المستحق منه، بين أن يرجع بحصة البعض في نصيب صاحبه، وبين أن يفسخ؛ لأنه بالاستحقاق ظهر أن القسمة لم تصح في القدر المستحق فقط. وقال أبو يوسف: تفسخ القسمة؛ لأنه بالاستحقاق تبين أن للشركاء شريكاً ¬
المطلب الثاني ـ الأحكام الخاصة بالإثبات
آخر، ولو كان هناك شريك، لم تصح القسمة، كما في استحقاق بعض شائع في النصيبين. أما الشافعية والحنابلة، فقالوا (¬1): إن استحق من حصة أحد الشريكين شيء معين لغيرهما، بأن اختص به أحدهما، أو أصابه منه أكثر من نصيب الآخر، بطلت القسمة، لاحتياج أحدهما إلى الرجوع على الآخر بسبب عدم تحقق التعديل بين الأنصباء. وإن كان البعض المستحق مقسوماً بين الشريكين بالسوية، كأن اقتسما أرضاً، فاستحق من حصتهما معاً قطعة معينة على السواء في الحصتين، لم تبطل القسمة فيما بقي من الأرض؛ لأن القسمة إفراز حق كل واحد منهما، وقد أفرز. وإن استحق بعض المال المقسوم شائعاً في الحصتين أو إحداهما، بطلت القسمة فيه، لا في الباقي عند الشافعية في الأصح، عملاً بمبدأ تفريق الصفقة. وبطلت القسمة في الجميع عند الحنابلة؛ لأن المستحق شريك ثالث، وقد اقتسم المال من غير حضوره، ولا إذنه، وذلك سواء في قسمة التراضي أوالإجبار، ولأن القصد من القسمة تمييز الحقين، ولم يحصل. وهذا رأي أبي يوسف كما تقدم. المطلب الثاني ـ الأحكام الخاصة بالإثبات: هناك أحكام خاصة بالقسمة متعلقة بكيفية فض النزاع بين المتقاسمين إذا اختلفوا في بعض الأمور، مثل الاختلاف حول الحدود، أو تقويم الغبن، أو بقاء بعض الحق في يد الشريك الآخر، حيث تعارضت أدلة الإثبات. ¬
أولا ـ الاختلاف في الحدود
أولاً ـ الاختلاف في الحدود: إذا اختلف المتقاسمان في الحدود، فادعى كل واحد منهما بيتاً في يد صاحبه لدخوله في حده، بعد القسمة، وأقام كل منهما البينة على دعواه، قضي لكل واحد بالجزء الذي في يد صاحبه؛ لأنه خارج، وبينة الخارج ترجح على بينة ذي اليد. وإن أقام أحدهما بينة على أن بيتاً له في يد صاحبه أصابه بالقسمة وأنكر الآخر قضي له بالبينة. وإن لم تقم لأحدهما بينة، تحالفا، وترادا كما في البيع (¬1). وتفسخ القسمة (¬2). ثانياً ـ الاختلاف في تقويم الغبن: إذا اختلف المتقاسمان في تقويم الغبن، فإما أن يكون يسيراً أو فاحشاً. أـ فإن كان الغبن يسيراً: وهو الذي يدخل تحت تقويم المقومين، لم يلتفت للادعاء، سواء أكانت القسمة بالتراضي، أم بقضاء القاضي، لأن الاحتراز عن مثله عسير جداً. ومثلا الغبن اليسير: أن يكون ثمن السلعة عشرة، فيقدره أهل الخبرة بعضهم بعشرة وبعضهم بتسعة، فالواحد يعتبر غبناً يسيراً. ب ـ وإن كان الغبن فاحشاً: وهو الذي لا يدخل تحت تقويم المقومين (¬3)، كأن يقدر أهل الخبرة سعر السلعة ذات العشرة بثمانية أو سبعة، ولا يقدرها أحد ¬
ثالثا ـ الاختلاف في استيفاء النصيب
بعشرة. فإن كانت القسمة بقضاء القاضي، فسخت؛ لأن الرضا لم يوجد بين المتخاصمين، وتصرف القاضي مقيد بالعدل، ولم يوجد. وإن كانت القسمة بالتراضي، لم يلتفت للادعاء عند بعض الحنفية؛ لأن القسمة في معنى البيع، ودعوى الغبن فيه من المالك لا توجب نقضه (¬1). أما البيع من غير المالك كبيع الأب والوصي، فإنه ينقض بالغبن الفاحش (¬2). والأصح كما تقدم أنه تسمع دعواه وتفسخ قسمة التراضي كقسمة التقاضي بالغبن الفاحش؛ لأن شرط جواز القسمة المعادلة، ولم توجد، فوجب نقضها. ثالثاً ـ الاختلاف في استيفاء النصيب: إذا اختلف المتقاسمان بعد القسمة، فأنكر بعض الشركاء استيفاء نصيبه، وادعى أن بعضه في يد صاحبه، وأنكر الآخر. أـ فإن شهد قاسمان أو أكثر باستيفاء المدعي حقه، تقبل شهادتهما عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأنهما شهدا على فعل غيرهما، وهو القبض، لا على فعل أنفسهما؛ لأن فعلهما هو التمييز، ولا حاجة للشهادة عليه. وقال محمد: لا تقبل شهادتهما؛ لأنهما يشهدان على فعل أنفسهما؛ لأن فعلهما التمييز. ب ـ وإن شهد قاسم واحد باستيفاء الحق، لا تقبل شهادته؛ لأن شهادة الفرد الواحد لا تقبل على غيره (¬3). ¬
النوع الثاني: قسمة المنافع أو المهايأة
النَّوع الثَّاني: قسمة المنافع أو المهايأة وفيه مباحث خمسة: المبحث الأول ـ تعريف قسمة المهايأة، ومشروعيتها. المبحث الثاني ـ محل المهايأة. المبحث الثالث ـ صفة المهايأة. المبحث الرابع ـ أنواع المهايأة. المبحث الخامس ـ ما يملكه كل شريك من التصرف بعد اتفاق المهايأة. المبحث الأول ـ تعريف المهايأة ومشروعيتها: أولاً ـ تعريف المهايأة: المهايأة في اللغة: مفاعلة من الهيئة، وهي الحالة الظاهرة للمتهيء للشيء، فكل من الشريكين يرضى بهيئة واحدة، ويختارها. أو أن الشريك الثاني ينتفع بالعين على الهيئة التي ينتفع بها الشريك الأول، فهي لغة: أن يتواضع الشريكان على أمر، ويتراضيا به. والمهايأة فقهاً: هي عبارة عن قسمة المنافع (¬1). ¬
ثانيا ـ مشروعيتها
وعرفها المالكية (¬1): بأنها اختصاص كل شريك عن شريكه في شيء متحد كدار، أو متعدد كدارين، بمنفعة شيء متحد أو متعدد في زمن معلوم. وبناء عليه: تعين الزمن شرط، إذ به يعرف قدر الانتفاع، وإلا فسدت المهايأة. ثانياً ـ مشروعيتها: المهايأة جائزة استحساناً للحاجة إليها، إذ قد يتعذر الاجتماع على الانتفاع. ومحلها: منافع الأعيان المشتركة التي يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها. ولا تبطل بموت الشريكين ولا بموت أحدهما. ولو طلب أحدهما القسمة أعياناً بطلت (¬2). وقسمة الأعيان أقوى من المهايأة؛ لأن الأولى جمع المنافع في زمان واحد على الدوام، والتهايؤ جمع المنافع على التعاقب بصفة وقتية (¬3). فإذا طلب أحد الشريكين القسمة، والآخر المهايأة، يجيب القاضي الأول ويقسم. واستدلوا على مشروعية المهايأة بالقرآن والسنة. أما القرآن: فقوله تعالى حكاية عن قسمة مهايأة ناقة صالح عليه السلام: {هذه ناقة لها شِرْب، ولكم شِرْب يوم معلوم} [الشعراء:155/ 26] وهو المهايأة بعينها. وأما السنة: فوقائع منها: أنه صلّى الله عليه وسلم قسم في غزوة بدر كل بعير من الأبعرة السبعين بين ثلاثة نفر، وكانوا يتعاقبون على ركوبه (¬4). ¬
المبحث الثاني ـ محل المهايأة
المبحث الثاني ـ محل المهايأة: محل المهايأة: المنافع دون الأعيان، لأنها قسمة المنفعة دون العين، فكان محلها المنفعة دون العين. وعلى هذا: لو اتفق اثنان على أن يسكن أحدهما في قسم من دار، والآخر في القسم الباقي، أو على أن يسكن أحدهما العلو، والآخر السفل، صح، وله إجارته وأخذ غلته. وكذا تجوز المهايأة في الأراضي المشتركة. أما لو تهايآ في نخل أو شجر بين شريكين، على أن يأخذ كل واحد منهما جزءاً يستثمره، لا يجوز؛ أو تهايآ في الغنم المشتركة على أن يأخذ كل واحد منهما عدداً معيناً منهما، وينتفع بألبانها، لا يجوز؛ لأن المهايأة عقد يرد على قسمة المنافع، والثمر واللبن عين، فلا يصلح محلاً للمهايأة، وهذا متفق عليه بين الفقهاء (¬1). وقال الشافعية: ولا تصح قسمة الديون في الذمم ولو بالتراضي، وكل من أخذ منها شيئاً لا يختص به. ونصت المادة (1175) من المجلة على أن «المهايأة لا تجري في المثليات، بل في القيميات، ليكون الانقطاع بها ممكناً حال بقاء عينها». المبحث الثالث ـ صفة المهايأة: للفقهاء رأيان في لزوم المهايأة، رأي للجمهور غيرالمالكية بأنها غير لازمة، ورأي للمالكية بأنها لازمة. وعباراتهم ما يأتي: ¬
قال الحنفية (¬1): المهايأة بالتراضي زماناً أو مكاناً عقد غير لازم، فلو طلب أحد الشريكين من الحاكم المهايأة، والآخر القسمة، يجاب الثاني؛ لأن قسمة العين أقوى من قسمة المنفعة؛ لأن في الأولى تجتمع المنافع في وقت واحد على الدوام، وفي الأخرى تجتمع على التعاقب (¬2). وبناء عليه تكون المهايأة عقداً جائزاً محتملاً للفسخ، كسائر العقود الجائزة، تفسخ ولو بغير عذر، ولا تبطل المهايأة بموت أحد الشريكين أو بموتهما، بخلاف الإجارة، لأنها لو بطلت أي المهايأة أعادها القاضي للحال أي استأنفها حالاً، ولا فائدة من الاستئناف، كما لا فائدة في الانقضاء والإبطال، لأنه يجوز لكل واحد فسخها، بغير رضا الآخر. أما المهايأة بالتقاضي: فهي عقد لازم، كما أوضح ابن عابدين، فلا يجوز لكل من الشريكين نقضها بلا عذر، ما لم يصطلحا. وقال الشافعية (¬3): المهايأة عقد غير لازم، لكل من الشريكين الرجوع عنها متى شاء، ولا إجبار فيها من القاضي. وكذلك قال الحنابلة (¬4): لا تلزم المهايأة، فمتى رجع أحد الشريكين عنها، انقضت المهايأة، والمهايأة معاوضة لا يجبر عليها كالبيع كما قال الشافعية. ولو طلب أحدهما القسمة كان له ذلك، وانتقضت المهايأة، أي كما قال الحنفية. أما المالكية فقالوا (¬5): وتلزم المهايأة كالإجارة، فهي من العقود اللازمة، ¬
المبحث الرابع ـ أنواع المهايأة
فليس لأحدهما فسخها، فإذا تراضيا على شيء وقعت صحيحة، لا تفسخ إلا برضاهما أو برضاهم إن كانوا جماعة. المبحث الرابع ـ أنواع المهايأة: للمهايأة تقسيمان ـ الأول من حيث التراضي والجبر، والثاني ـ من حيث الزمان والمكان. التقسيم الأول ـ المهايأة من حيث الرضا والجبر: تقسم المهايأة بهذا الاعتبار إلى نوعين: مهايأة بالتراضي، ومهايأة بالتقاضي. 1 - المهايأة بالتراضي: هي أن يتفق شخصان على كيفية الانتفاع بالشيء المشترك بينهما، على طريق التعاقب أو التناوب زماناً أو مكاناً. وهي جائزة باتفاق الفقهاء. 2 - المهايأة بالتقاضي: هي التي تتم بواسطة القاضي جبراً بناء على طلب أحد الشريكين. فيهايئ القاضي بينهما جبراً إما بالمناوبة الزمانية مدة معينة بنسبة حصة كل منهما، وإما بالمهايأة المكانية بالاختصاص بمنفعة بعض المال المشترك بنسبة الحصص. وهي جائزة عند الحنفية (¬1)، تحقيقاً للعدل بين الشركاء، وتوفيراً لمصلحتهم (¬2)، فللقاضي جبرهم في الأصح، لاحتياج الناس إلى ما هو أعدل وهو القسمة بالقضاء. وقد نصت المادة (1181) مجلة على ما يأتي لبيان أحوال المهايأة الجبرية: ¬
التقسيم الثاني ـ المهايأة من حيث الزمان والمكان
«إذا طلب المهايأة أحد أصحاب الأشياء المشتركة المتعددة، وامتنع الآخر: فإن كانت الأعيان المشتركة متفقة المنفعة، فالمهايأة جبرية. وإن كانت مختلفة المنفعة فلا جبر. مثلاً: داران مشتركتان طلب أحد الشريكين المهايأة على أن يسكن إحداهما، والأخرى للآخر. أو حيوانان على أن يستعمل أحدهما واحداً، والآخر الآخر، وامتنع شريكه، فالمهايأة جبرية. أما لو طلب أحدهما المهايأة على سكنى الدار، وللآخر إيجار الحمام، أو على سكنى أحدهما في الدار وزراعة آخر الأراضي، فالمهايأة بالتراضي، وإن لم تكن جائزة، إلا أنه إذا امتنع الآخر لا يجبر عليها (¬1)». ولا يجبر على المهايأة من أباها عند المالكية والشافعية والحنابلة (¬2) (الجمهور)، لأنها معاوضة، فلا يجبر عليها كالبيع، ولأن حق كل واحد في المنفعة شيء عاجل، فلا يجوز تأخيره بغير رضاه، كالدين، أي فلا تجوز المهايأة بالتقاضي عند الجمهور. وقال المالكية: لا تجوز قسمة المنافع بالقرعة. وقال الشافعية: إذا اتفقوا عليها، وتنازعوا في البداءة (بدء المناوبة) أقرع بينهم. التقسيم الثاني ـ المهايأة من حيث الزمان والمكان: تنقسم المهايأة بهذا الاعتبار إلى نوعين: مهايأة زمانية، ومهايأة مكانية. فالأولى ترجع للزمان، والثانية ترجع للمكان. والمهايأة عند المالكية (¬3) ¬
1 - المهايأة الزمانية
قسمان: المهايأة بالأزمان، والمهايأة بالأعيان. والأولى: هي أن ينتفع كل واحد من الشريكين بالعين (الشيء المشترك كله) مدة مساوية لمدة انتفاع صاحبه كأن يسكن أحدهما الدار شهراً، ويسكنها الآخر شهراً آخر، مثل أن يسكن أحدهما الدار شهراً ويسكنها الآخر شهراً أخر. والثانية: هي أن يقسما الرقاب على أن ينتفع كل واحد منهما بما حصل له مدة محدودة، كأن يسكن أحدهما داراً، ويسكن الآخر داراً أخرى مدة من الزمان، أو يركب أحدهما فرساً والآخر فرساً أخرى مدة معينة. 1 - المهايأة الزمانية: أولاً ـ تعريفها: هي أن ينتفع كل واحد من الشريكين على التعاقب بجميع العين المشتركة مدة مساوية لمدة انتفاع صاحبه، أو بنسبة حصته (¬1). كأن يتهايأ اثنان على أن يزرعا الأرض المشتركة بينهما، هذا سنة، والآخر سنة أخرى. أو على سكنى الدار بالمناوبة، هذا سنة، والآخر سنة. أو على استعمال كتاب، هذا أسبوعاً، والآخر مثله. وقد نصت المادة (1187) مجلة على أنه لا تجوز المهايأة على الأعيان، فلا تصلح المهايأة على ثمرة الأشجار المشتركة، ولا على لبن الحيوانات وصوفها على أن يكون لأحد الشريكين ثمرة مقدار من هذه الأشجار، ولآخر ثمرة مقدار منها، أو على لبن قطيع من الغنم المشترك أو صوفه لواحد، ولبن قطيع ثان، وصوفه للآخر. ثانياً ـ مشروعيتها: وهي جائزة لقوله تعالى حكاية عن مهايأة ناقة صالح عليه السلام في الشِّرب: {هذه ناقة لها شرب، ولكم شرب يوم معلوم} [الشعراء:155/ 26] {ونبئهم أن الماء قسمة بينهم، كل شرب محتضر} [القمر:28/ 54] ولحاجة الناس إليها. ¬
ثالثا ـ تكييفها أو تأصيلها الفقهي
ثالثاً ـ تكييفها أو تأصيلها الفقهي: المهايأة الزمانية عند الحنفية كقسمة الأعيان: إفراز من وجه، مبادلة من وجه؛ لأن المهايئ كالمستقرض لنصيب شريكه، فكان فيها معنى المبادلة من وجه (¬1)، فتكون منفعة أحد أصحاب الحصص في نوبته مبادلة بمنفعة حصة الآخر في نوبته، وبناء على ذلك يكون ذكر المدة وتعيينها في المهايأة مثلاً كذا يوماً أو كذا شهراً، لازماً. وقال الحنابلة: المهايأة معاوضة، فلا يجبر عليها كالبيع (¬2). وصرح الشافعية: أن من استوفى زائداً على حقه، لزمه أجرة ما زاد على قدر حصته من الزائد (¬3). ويفهم منه أن المهايأة مبادلة. ونصت المادة (1178) من المجلة على أن «المهايأة زماناً نوع مبادلة، فتكون منفعة أحد أصحاب الحصص في نوبته مبادلة بمنفعة حصة الآخر في نوبته .. ». رابعاً ـ تعيين المدة: يشترط في المهايأة الزمانية تعيين المدة، بخلاف المهايأة المكانية؛ لأن تعيين الزمان يعرف به قدر الانتفاع، فتصير به المنافع معلومة، ولا تصير معلومة إلا ببيان زمان معلوم، ولأن هذه المهايأة مقدرة بالزمان، أما المهايأة المكانية فمقدرة مجموعة بالمكان، ومكان المنفعة معلوم (¬4). وقد رتبت المادة السابقة (1178) من المجلة على كون هذه المهايأة نوع مبادلة، فقررت: «وبناء على ذلك ذكر المدة وتعيينها في المهايأة، مثلاً كذا يوماً، أو كذا شهراً: لازم». ¬
خامسا ـ انتهاؤها
وفصل المالكية (¬1) في مقدار المدة بعد اشتراطهم تعيين الزمن، وانتفاء الغرر، فقالوا: تجوز المهايأة في المنقولات في المدة اليسيرة، ولا تجوز في المدة الكثيرة، فلا تصح لزمن طويل في الحيوان ونحوه كالثوب. وتجوز المهايأة في العقارات كالدار والأرض المأمونة (بأن كانت ملكاً) لمدة بعيدة، فيسكن أحدهما في الدار مدة معينة، ويسكن الآخر مدة أخرى، ويزرع أحدهما الأرض عاماً، والآخر عاماً مثله. أما الأرض غير المأمونة (غير المملوكة) كالمعارة، فلا يجوز قسمها مهايأة، وإن قلت المدة، إذ قد يرجع المستعير في إعارته، فيفوت على الآخر الذي لم تأت نوبته حقه من الانتفاع. خامساً ـ انتهاؤها: لا تبطل المهايأة بموت أحد العاقدين، ولا بموتهما؛ لأنها ـ كما ذكرت سابقاً ـ لو بطلت لاستأنفها الحاكم، ولا فائدة في الاستئناف. وإنما تنقضي باتفاق الطرفين على إنهائها، ببيع المال المشترك (¬2). 2 - المهايأة المكانية: أولاً ـ تعريفها: هي أن يخصص كل واحد من الشريكين ببعض المال المشترك بنسبة حصته (¬3)، فيتم الانتفاع معاً في وقت واحد. ففي المهايأة في دار تجمع منفعة أحدهما في جزء من الدار، ومنفعة الآخر في جزء آخر. ثانياً ـ مشروعيتها: المهايأة المكانية جائزة؛ لأنها نوع من القسمة، مثل قسمة الأعيان، فلو تهايآ على أن يأخذ أحد الشريكين في الأبنية الطابقية السفل، والآخر العلو، جاز، فتكون قسمة المنفعة بالمهايأة المكانية جائزة أيضاً (¬4). ¬
ثالثا ـ محلها
وبما أن المهايأة الزمانية جائزة للحاجة عند تعذر اجتماع الشريكين على الانتفاع بالعين الواحدة، فكذلك المكانية. ثالثاً ـ محلها: تجري المهايأة المكانية في المال المشترك الذي يقبل القسمة كالدار الكبيرة. أما ما لا يقبل القسمة كالسيارة والحيوان والكتاب والبيت الصغير، فلا تمكن فيه المهايأة المكانية، وإنما تتعين فيه المهايأة الزمانية. المهايأة في الدور: وبناء عليه تجوز في ظاهر الرواية المهايأة في الدور، سواء أكانت زمانية أم مكانية، للاستعمال الشخصي أو للاستغلال (الانتفاع بواسطة الغير بالأجرة ونحوها)؛ لأن الظاهر عدم التغير في العقار، ولأن المهايأة المكانية إفراز لجميع الأنصباء، والمهايأة الزمانية تتم بالمناوبة أو التعاقب في الانتفاع، فكانت كالقرض، ويعتبر كل واحد في نوبته وكيلاً عن الآخر (¬1). المهايأة في الحيوان: وأما المهايأة في الحيوان كدابتين مثلاً، يركب أحدهما إحداهما مدة، والآخر مدة أخرى، لا تجوز عند أبي حنيفة لا استعمالاً ولا استغلالاً؛ لأن الظاهر التغير في الحيوان، ولأن الاستعمال يتفاوت بتفاوت الراكبين حذقاً وخرقاً. وتجوز المهايأة استعمالاً عند الصاحبين في الحيوان والحيوانين، كما تجوز للاستغلال في الحيوانين، ولا تجوز في الحيوان الواحد؛ لأن المعادلة تمكن بين الحيوانين، لاتحاد وقتهما، ولا تمكن المعادلة في الحيوان الواحد؛ لأن الظاهر التغير ¬
رابعا ـ تكييفها أو تأصيلها الفقهي
في الحيوان، لتوالي أسباب التغير عليه، إذ يكون جهد الحيوان في الزمان الثاني أقل منه في الزمان الأول (¬1). وقد نصت المادة (1177) مجلة: على جواز المهايأة الاستعمالية في الحيوان المشترك لاستعماله بالمناوبة، وكذلك تجوز في الحيوانين المشتركين، على أن يستعمل أحدهما هذا والآخر الآخر، وهو رأي الصاحبين، وهذا يتفق مع رأي المالكية في قسمة المنافع بالأعيان. رابعاً ـ تكييفها أو تأصيلها الفقهي: المهايأة المكانية: إفراز لجميع الأنصبة، وليست مبادلة، إذ لو كانت مبادلة لما صحت؛ لأن المبادلة في الجنس الواحد نسيئة، لا تجوز لتوافر ربا النسيئة فيها، باعتبار أن اتحاد الجنس وحده كاف عند الحنفية في وجود هذا النوع من الربا (¬2). خامساً ـ مدتها: لا يشترط في المهايأة المكانية ذكر المدة وتعيينها، بخلاف المهايأة الزمانية؛ لأن الزمانية تحتاج إلى بيان الوقت لتصير المنافع معلومة، وأما المكانية فلا تحتاج لبيان الوقت؛ لأن مكان المنفعة معلوم، فصارت المنافع معلومة بمكانها (¬3). ولكن المالكية قالوا: في قسمة المنافع بالأعيان يشترط أن تكون المدة محدودة. سادساً ـ انقضاؤها: لا تنقضي المهايأة المكانية كالزمانية بموت أحد الشريكين، ولاتنقضي بموتها، ¬
المبحث الخامس ـ ما يملكه كل شريك من التصرف بعد المهايأة
إذ لو بطلت لاستؤنفت ولا فائدة في الاستئناف؛ لأن لكل شريك فسخها متى شاء، إنما تنقضي بالتراضي على إنهائها، ببيع المال المشترك (¬1). المبحث الخامس ـ ما يملكه كل شريك من التصرف بعد المهايأة: إذا تم الاتفاق على المهايأة، ملك كل واحد من المتهايئين استعمال الشيء كما يريد، سواء أكانت المهايأة مكانية أم زمانية. ففي الزمانية: يجوز السكنى والركوب ونحوهما، وفي المكانية: يجوز السكنى ونحوها. ويملك كل متهايئ في المهايأة المكانية حق استغلال (استثمار) الشيء المتهايأ فيه، بالإجارة والإعارة ونحوهما، سواء أكان ذلك مشروطاً في العقد، أم غير مشروط، وسواء تهايآ في دار واحدة أو دارين؛ لأن كل متهايئ ملك المنفعة، فيملك التصرف فيها بالتمليك وغيره؛ لأن المهايأة المكانية ليست إعارة. وأما في المهايأة الزمانية: فلا يملك كل من المتهايئين في نوبته استغلال حصته، باتفاق الحنفية، إذ لم يشترطا ذلك. فإن شرطا في المهايأة حق الاستغلال، ففيه اختلاف عند الحنفية: أـ قال القدوري: لا يملك، لأن المهايأة الزمانية في معنى الإعارة، والعارية لاتؤجر. وهذا هوالراجح. ب ـ وقال محمد في الأصل: يجوز التهايؤ في الدار الواحدة على السكنى والغلة، فلكل متهايئ إيجار غيره ما في يده. وتأول الحنفية هذا المنقول في (الأصل) وهو الغلة بأنه غير الاستغلال؛ لأن الغلة أي الناتج عين، والتهايؤ: قسمة المنافع دون الأعيان (¬2). ¬
الفصل السابع: الغصب والإتلاف
الفَصْلُ السّابع: الغَصْبُ والإتلاف قال الكاساني (¬1): الجناية في الأصل نوعان: جناية على البهائم والجمادات، وجناية على الآدمي. أما الجناية على البهائم والجمادات فنوعان أيضاً: غصب وإتلاف. وهذان النوعان أو ما يدل عليهما: وهو وضع اليد عدواناً أحد أسباب الضمان أو التعويض المالي عن الاعتداء على مال الغير أو حقه. ويلحق بهما بحث دفع الصائل لما يترتب على الصيال من إتلاف وضمان. فيكون الكلام في مبحثين: الأول ـ في الغصب وأحكامه، والثاني ـ في الإتلاف وأحكامه. المبحث الأول ـ الغصب وأحكامه: وفيه مطلبان المطلب الأول: تحريم الغصب، وتعريفه، وأثر اختلاف الفقهاء في ضابطه. المطلب الثاني: أحكام الغصب الأخروية والدنيوية. الأول: التأثيم والمؤاخذة. الثاني ـ رد المغصوب ما دام موجوداً. ¬
المطلب الأول ـ تحريم الغصب، وتعريفه، وأثر اختلاف الفقهاء في ضابطه
الثالث ـ ضمان المغصوب حال هلاكه. وفيه الموضوعات التالية: 1 - كيفية الضمان. 2 - وقت وجوب الضمان. 3 - ما يخرج به الغاصب عن عهدة الضمان. 4 - تغير العين المغصوبة أو خلطها بغيرها. 5 - نقصان المغصوب. 6 - زيادة المغصوب، وحكم البناء والغرس والزرع في الأرض المغصوبة. 7 - منافع المغصوب أو غلته. 8 - اختلاف الغاصب والمغصوب منه. 9 - غاصب الغاصب. المطلب الأول ـ تحريم الغصب، وتعريفه، وأثر اختلاف الفقهاء في ضابطه: أولاً ـ تحريم الغصب: ثبت تحريم الغصب في القرآن والسنة والإجماع (¬1). أما القرآن: فقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء:29/ 4] {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، وتدلوا بها إلى الحكام، لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم، وأنتم تعلمون} [البقرة:188/ 2]. ¬
ثانيا ـ تعريف الغصب
وأما السنة: فقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا» (¬1) وقوله: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه» (¬2) «من أخذ شبراً من الأرض ظلماً، فإنه يطّوقه يوم القيامة من سبع أرضين» (¬3) «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» (¬4) ونحوها من الأحاديث. وأجمع المسلمون على تحريم الغصب. وهو معصية كبيرة وإن لم يبلغ المغصوب نصاب سرقة. ثانياً ـ تعريف الغصب: الغصب لغة: أخذ الشيء ظلماً، أو قهراً جهاراً. وشرعاً: له عند الفقهاء في الجملة حقيقتان تختلفان جذرياً عند الحنفية وغيرهم. 1 - عند الحنفية (¬5): الغصب: هو أخذ مال متقوم محترم بغير إذن المالك، على وجه يزيل يده. أخذ المال: يشمل المغصوب وغيره، وقولهم (متقوم) لإخراج غير المتقوم كالخمر والخنزير، وقولهم (محترم) احتراز عن مال الحربي فإنه غير محترم. والمراد بغير إذن المالك: لإخراج المأذون فيه كالموهوب وغيره مما يتم المبادلة عليه بعقد من العقود. والقيد الأخير: (إزالة يد المالك) لا بد منها لتصور معنى الغصب عند الحنفية، فلا تعتبر زوائد المغصوب كالولد والثمرة مضمونة عندهم. ¬
2 - وعرف المالكية
وبناء عليه يعتبر الاستخدام والتحميل غصباً؛ لأنه تصرف بالمال، ولا يعتبر الجلوس على البساط مثلاً غصباً؛ لأن البسط فعل المالك، والجلوس استعمال لم يزل يد المالك عنه. ولا بد من زيادة قيدين آخرين على التعريف: وهما أولاً: «على سبيل المجاهرة» لإخراج السرقة التي تكون على سبيل الخفية. وثانياً: «أو يقصر يده إن لم يكن في يده» فيصبح التعريف: «أخذ مال متقوم محترم على سبيل المجاهرة بغير إذن المالك على وجه يزيل يد المالك إن كان في يده، أو يقصر يده إن لم يكن في يده» ليشمل الأخذ من المستأجر أو من المرتهن أو من الوديع؛ لأن الأخذ من هؤلاء، وإن لم يكن في يد المالك؛ إلا أنه يترتب عليه أن الغاصب قصر يد المالك عن ماله، أي أنه قيد يده في التصرف بماله، فلم يعد قادراً على التصرف. 2 - وعرف المالكية (¬1) الغصب بأنه «أخذ مال قهراً تعدياً بلا حرابة» فكلمة: «أخذ المال» أي الاستيلاء عليه جنس يشمل الغصب وغيره كأخذ إنسان ماله من وديع أو مدين أو غيرهما. وكلمة «المال» يراد بها الذوات أي الأعيان المادية، فخرج بها «التعدي»: وهو الاستيلاء على المنافع كسكنى الدار وركوب الدابة مثلاً. و «قهراً» لإخراج السرقة ونحوها إذ لا قهر فيها حال الأخذ، وإن أعقبها القهر بعدها، كما أنها أيضاً لإخراج المأخوذ اختياراً كالمستعار والموهوب، و «تعدياً» خرج به المأخوذ قهراً بحق كالدين المأخوذ من مدين مماطل أو من غاصب، وأخذ الزكاة كرهاً من ممتنع عن أدائها، ونحوه، والمقصود بقوله «بلا حرابة» أي بدون مقاتلة، لإخراج المأخوذ بالحرابة؛ لأن حقيقتها غير حقيقة الغصب. من هذا التعريف يتبين أن الغصب عند المالكية أخص، والتعدي أعم؛ لأن ¬
التعدي يكون في الأموال والفروج والنفوس والأبدان، والتعدي في النفوس والأبدان يدخل تحت باب الجنايات أو الدماء والقصاص. فالغصب: هو أخذ ذات الشيء، والتعدي: أخذ المنفعة (¬1). والتعدي في الأموال أربعة أنواع (¬2): الأول ـ أخذ الرقبة أي ذات الشيء وهو الغصب. والثاني ـ أخذ المنفعة، دون الرقبة، وهو نوع من الغصب، يجب فيه الكراء مطلقاً. والثالث ـ الاستهلاك بإتلاف الشيء كقتل الحيوان، أو تحريق الثوب كله أو تخريقه، وقطع الشجر، وكسر الزجاج، وإتلاف الطعام والدنانير والدراهم، وشبه ذلك. والرابع ـ التسبب في التلف، من فتح حانوتاً لرجل، وتركه مفتوحاً، فسرق، أو فتح قفص طائر فطار، أو حل رباط دابة فهربت، أو أوقد ناراً في يوم ريح، فأحرقت شيئاً، أو حفر بئر تعدياً، فسقط فيه إنسان أو بهيمة، أو مزق وثيقة، فضاع ما فيها من الحقوق. فمن فعل شيئاً مما ذكر فهو ضامن لما استهلكه، أو أتلفه، أو تسبب في إتلافه، سواء تم الفعل عمداً أو خطأ. ¬
3 - وعرف الشافعية والحنابلة
3 - وعرف الشافعية والحنابلة (¬1) الغصب بأنه: الاستيلاء على حق الغير (من مال أو اختصاص) عدواناً، أي على وجه التعدي أو القهر بغير حق. وهذا التعريف يشمل أخذ الأموال المتقومة والمنافع وسائر الاختصاصات كحق التحجر (أي إحياء الأرض الموات بوضع الأحجار على حدودها)، والأموال غير المتقومة كخمر الذمي، وما ليس بمال، كالكلب والسرجين وجلد الميتة، وأما أخذ مال الحربي فهو أخذ بحق. ثالثاً ـ أثر اختلاف الفقهاء في ضابط الغصب: اختلف الفقهاء في ضابط الغصب الذي يتحقق به على رأيين: 1 - فقال أبو حنيفة وأبو يوسف (¬2): الغصب: هو إزالة يد المالك عن ماله المتقوم على سبيل المجاهرة والمغالبة، بفعل في المال، أي أن الغصب لا يتحقق إلا بأمرين هما: إثبات يد الغاصب (وهوأخذ المال) وإزالة يد المالك أي بالنقل والتحويل. وعبارتهم فيه: الغصب يتحقق بوصفين: إثبات اليد العادِيَة، وإزالة اليد المحقة (¬3). 2 - وقال جمهور الفقهاء ومنهم المذاهب الثلاثة، ومحمد وزفر من الحنفية (¬4): يتحقق الغصب بمجرد الاستيلاء، أي إثبات اليد على مال الغير بغير ¬
أثر الاختلاف
إذنه، ولا يشترط إزالة يد المالك. وليس المقصود من الاستيلاء أو أخذ مال الغير: هو الأخذ أو الاستيلاء الحسي بالفعل، وإنما يكفي الحيلولة بين المال وصاحبه، ولو أبقاه بموضعه الذي وضعه فيه. ويظهر أثر الاختلاف بين الرأيين في غصب العقار وفي زوائد المغصوب وفي منافعه. كما يظهر أثر الاختلاف بين الحنفية وغيرهم باشتراط تقوم المال في غصب المال غير المتقوم. 1ً ـ غصب العقار: لا يتصور الغصب عند أبي حنيفة وأبي يوسف إلا في غصب المنقول فقط (¬1)؛ لأن إزالة يد المالك بالنقل والتحويل التي يتحقق بها معنى الغصب عندهما، لا تتحقق إلا في المنقولات. وأما العقار كالأرض والدار، فلايتصور وجود الغصب فيه، لعدم إمكان نقله وتحويله، فمن غصب عقاراً فهلك في يده بآفة سماوية كغلبة سيل، لم يضمنه عندهما، لعدم تحقق الغصب بإزالة اليد؛ لأن العقار في محله لم ينقل، فصار كما لو حال بين المالك وبين متاعه، فتلف المتاع. أما لو كان الهلاك بفعل الغاصب كأن هدمه، فيضمنه؛ لأن الغصب إذا لم يتحقق في العقار، فيعتبر الإتلاف. وقال محمد وزفر من الحنفية وأئمة المذاهب الثلاثة (¬2): يتصور غصب العقار من الأراضي والدور، ويجب ضمانها على غاصبها؛ لأنه يكفي ـ عند غير الحنفية ـ لتوافر معنى الغصب: إثبات يد الغاصب على الشيء بالسكنى ووضع الأمتعة وغيرها، ويترتب عليه ضمناً بالضرورة إزالة يد المالك، لاستحالة اجتماع اليدين ¬
ـ زوائد المغصوب أو النماء السماوي
على محل واحد في حالة واحدة، ويتحقق أيضاً عند محمد وزفر مبدؤهما: وهو إزالة يد المالك وإثبات يد الغاصب، وتحقق هذين الوصفين هو معنى الغصب، فصار العقار كالمنقول في تحقيق الوصفين المطلوبين لتصور الغصب. ولأن ما يضمن في الإتلاف يجب أن يضمن في الغصب، فالعقار والمنقول مضمونان على السواء؛ وما يضمن في البيع يضمن أيضاً في الغصب؛ ولأن الغاية المطلوبة من الغصب وهي الانتفاع على وجه التعدي توجد في العقار، كما توجد في المنقول. ويؤكدما سبق كله قوله صلّى الله عليه وسلم: «من ظلم شبراً من الأرض طوقه الله من سبع أرضين» (¬1) وفي لفظ «من غصب شبراً من الأرض» فإنه يدل على تحقق الغصب في العقار؛ لأنه سماه غصباً. وهذا الرأي هو الأرجح. 2ً ـ زوائد المغصوب أو النماء السماوي: لا تضمن زوائد المغصوب إذا هلكت بلا تعدّ، وإنما هي أمانة في يد الغاصب في رأي أبي حنيفة وأبي يوسف (¬2)، سواء أكانت منفصلة كالولد واللبن والثمرة، أم متصلة كالسمن والجمال؛ لأن الغصب عندهما هو إثبات يد الغاصب على مال الغير على وجه يزيل يد المالك كما تقدم، ويد المالك لم تكن ثابتة على هذه الزيادة حتى يزيلها الغاصب، أي أن عنصر (إزالة يد المالك) لم يتحقق هنا، كما لم يتحقق في غصب العقار. فإن تعدّى الغاصب على الزيادة، لأن أتلفها أو أكلها أو باعها، أو طلبها مالكها فمنعها عنه، ضمنها؛ لأنه بالتعدي أو المنع صار غاصباً. ¬
ـ منافع المغصوب وغلته
وقال المالكية في الأرجح عندهم (¬1): إذا كانت الزيادة التي بفعل الله متصلة كالسمن والكبر فلا تكون مضمونة على الغاصب. وأما إذا كانت الزيادة منفصلة ولو نشأت من غير استعمال الغاصب كاللبن والصوف وثمر الشجر، فهي مضمونة على الغاصب إن تلفت أو استهلكت، ويجب ردها مع المغصوب الأصلي على صاحبها. وقال محمد من الحنفية، والشافعية والحنابلة (¬2): تضمن زوائد المغصوب في يد الغاصب، سواء أكانت متصلة كالسمن ونحوه، أم منفصلة كثمرة الشجرة وولد الحيوان، متى تلف شيء منه في يد الغاصب، لتحقق إثبات اليد العادِيَة (الضامنة)، لأنه بإمساك الأصل تسبب في إثبات يده على هذه الزوائد، وإثبات يده على الأصل محظور. 3ً ـ منافع المغصوب وغلته: لا يضمن الغاصب عند الحنفية (¬3) منافع ما غصبه من ركوب الدابة، وسكنى الدار، سواء استوفاها أم عطلها؛ لأن المنفعة ليست بمال عندهم؛ ولأن المنفعة الحادثة على يد الغاصب لم تكن موجودة في يد المالك، فلم يتحقق فيها معنى الغصب، لعدم إزالة يد المالك عنها. وهذا فيما عدا ثلاثة مواضع يجب فيها أجر المثل، في اختيار متأخري ¬
الحنفية، وعليه الفتوى، وهي أن يكون المغصوب وقفاً، أو ليتيم، أو معداً للاستغلال بأن بناه صاحبه أو اشتراه لذلك الغرض. وإن نقص المغصوب أي ذاته باستعمال الغاصب غرم النقصان، لاستهلاكه بعض أجزاء العين المغصوبة، كما سأبين. وأما غلة المغصوب كما سيأتي بيانه: فلا تطيب في رأي أبي حنيفة ومحمد للغاصب؛ لأنه لا يحل له الانتفاع بملك الغير. وقال أبو يوسف وزفر: تطيب له. وقال المالكية في المشهور (¬1): يضمن الغاصب غلة مغصوب مستعمل، أي أنه يضمن غلة المغصوب ذاته الذي استعمله الغاصب، سواء كان المغصوب عقاراً من دور أو أرض سكنها أو زرعها أو كراها، أم منقولاً: حيواناً أو غيره، كراه أو استعمله، ولا يضمن ما نشأ من غير استعمال، ولو عطّله على صاحبه. هذا في حالة غصب الذات، أما إن قصد الغاصب غصب المنفعة (وهي حالة التعدي عندهم كما تبين) فيلزمه كراء المثل. والخلاصة: أن الغاصب يضمن فقط غلة ما استعمل، والمتعدي يضمن غلة ما عطل كدار أغلقها، وأرض بورها، ودابة حبسها، كما بان سابقاً. وقال الشافعية والحنابلة (¬2): يضمن الغاصب منفعة المغصوب، وعليه أجر المثل، سواء استوفى المنافع، أم تركها تذهب، وسواء أكان المغصوب عقاراً كالدار، أم منقولاً كالكتاب والدابة ونحوهما؛ لأن المنفعة مال متقوم، فوجب ¬
ـ غصب غير المتقوم
ضمانه كالعين المغصوبة ذاتها. وهذا الرأي هو المتفق مع العدالة، ومع ظروف العصر الحاضر المتجه إلى المادية، وتقويم كل الأشياء، حتى النواحي الأدبية أو الذهنية. 4ً ـ غصب غير المتقوم: قال الحنفية (¬1): لا يضمن الغاصب خمر المسلم أو خنزيره إذا غصبه وهلك في يده أو استهلكه أو خلل الخمر، سواء أكان الغاصب مسلماً أم ذمياً؛ لأن الخمر ليست بمال متقوم في حق المسلم ويجب إراقتها، وكذا الخنزير غير متقوم، لكن لو قام الغاصب بتخليل خمر المسلم ثم استهلكها يضمن خلاً مثلاً لا خمراً؛ لأن الغصب حين وجوده لم ينعقد سبباً لوجوب الضمان، فإن استهلكه فقد وجد منه سبب الضمان، وهو إتلاف خلّ مملوك للمغصوب منه، فيضمن. وكذلك يضمن الغاصب جلد الميتة إذا دبغه، ويجب عليه فقط ما زاد الدباغ فيه؛ لأنه بالدبغ صار مالاً متقوماً. ويضمن المسلم أو الذمي خمر الذمي أو خنزيره إذا استهلكه؛ لأن كلاً منهما مال عند أهل الذمة، فالخمر عندهم كالخل عندنا، والخنزير عندهم كالشاة عندنا؛ لأن لهم ماللمسلمين وعليهم ما على المسلمين، ونحن أمرنا بتركهم وما يدينون (¬2)، وبه يقرون على بيعها. لكن تجب على المسلم قيمة الخمر، وإن كان من ¬
المثليات؛ لأن المسلم ممنوع من تملكه، وغير المسلم يجوز له تسليم المثل؛ لأنه يجوز له تملك الخمر وتمليكها بالبيع وغيره. أما الميتة والدم ولو لذمي فلا يضمنان بالغصب؛ لأنهما ليسا بمال، ولا يدين أحد من أهل الأديان تمولهما. كما لا يضمن متروك التسمية عمداً ولو كان مملوكاً لمن يبيحه. وكذلك يضمن المسلم قيمة صليب غصبه من نصراني فهلك في يده؛ لأنه مقر على ذلك. وقال أبو حنيفة: ومن كسر لمسلم آلة من آلات اللهو والطرب كالطبل والمزمار والدف ونحوها، فهو ضامن؛ لأنها أموال لصلاحيتها لما يحل من وجوه الانتفاع لغير اللهو، وإن استعملت فيما لا يحل، كالمغنية إذا اعتدي عليها، وتضمن قيمة هذه الآلات خشباً منحوتاً صالحاً لغير اللهو، أي تضمن قيمتها قبل التصنيع. أما الصاحبان فقالا: لا تضمن آلات الملاهي؛ لأن هذه الأشياء أعدت للمعصية، فبطل تقومها كالخمر، ولأنه يجب شرعاً إتلافها، وقد فعل المتلف ما أمر به الشرع، فلا ضمان عليه، كما إذا فعل أمراً بإذن الإمام. وقال المالكية (¬1) مثلما قال الحنفية: لا تضمن خمر المسلم أو خنزيره، ولا آلات الملاهي والأصنام، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام» (¬2)، ولأنه لا قيمة لها، وما لا قيمة له لا يضمن. لكن يضمن الغاصب خمر الذمي لتعديه عليه، ولأنها مال محترم عند غير ¬
المسلمين يتمولونها. وإذا تخللت الخمر، وكانت لمسلم خير صاحبها بين أخذها خلاً، أو مثل عصيرها إن علم قدرها، وإلا فقيمتها. أما خمر غير المسلم فيخير صاحبها بين أخذ قيمتها يوم الغصب، أوأخذ الخل، على المفتى به عند المالكية. وإن كان المغصوب جلد ميتة لم يدبغ أو دبغ، أو كلباً مأذوناً في اتخاذه، مثل كلب صيد أو ماشية أو حراسة، فأتلفه الغاصب، فإنه يغرم القيمة، ولو لم يجز بيع الجلد أو الكلب. وقال الشافعية والحنابلة (¬1): لا تضمن الخمر والخنزيز، سواء أكان متلفها مسلماً أم ذمياً، وسواء أكانت لمسلم أم لذمي، إذ لا قيمة لها كالدم والميتة وسائر الأعيان النجسة، وما حرم الانتفاع به لم يضمن ببدل عنه؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلم حرم بيعها، وأمر بإراقتها، فما لايحل بيعه ولا تملكه، لا ضمان فيه. كذلك لا ضمان عندهم بإتلاف الأصنام وآلات الملاهي، إلا أن الشافعية أجازوا ضمانها خشباً منحوتاً فقط (¬2) كما قال أبو حنيفة، إذا كانت صالحة لمنفعة مباحة، فإن لم تصلح لذاك لم يلزم المتلف شيء، لأنه لم يتلف ما له قيمة. لكن إذا كانت خمر الذمي ما زالت باقية عند الغاصب، فيجب ردها عليه؛ لأنه يقر على شربها. فإن غصبها من مسلم لم يلزم عند الحنابلة ردها، يجب إراقتها؛ لأنه لا يقر على اقتنائها، ويحرم ردها إلى المسلم إذا لم يكن صانع خل (خلالاً) لأنه إعانة له على ما يحرم عليه. ¬
المطلب الثاني ـ أحكام الغصب
وفصل الشافعية فقالوا: ترد الخمر المحترمة (¬1) المغصوبة من مسلم إليه، ولا ترد الخمر غير المحترمة بل تراق. ولو غصب غاصب عصيراً، فتخمر، ثم تخلل، فالأصح عند الشافعية أن الخل للمالك، وعلى الغاصب أرش ما نقص من قيمة العصير، إن كان الخل أنقص قيمة من العصير، لحصوله في يده. وقال الحنابلة: إنه يجب عليه مثل العصير. ولو غصب جلد ميتة فدبغه، فالأصح عند الشافعية أيضاً أن الجلد للمغصوب منه كالخمر التي تخللت، فإذا تلفا في يده ضمنهما. وقال الحنابلة: إن غصب جلد ميتة نجسة لم يلزم الغاصب رده ولو دبغه؛ لأنه لا يطهر بدبغه عندهم، ولا قيمة له؛ لأنه لا يصح بيعه. المطلب الثاني ـ أحكام الغصب: للغصب أحكام ثلاثة: الإثم لمن علم أنه مال الغير، ورد العين المغصوبة مادامت قائمة، وضمانها إذا هلكت (¬2). الحكم الأول ـ الإثم: وهو استحقاق المؤاخذة في الآخرة، إذا فعل الغصب عالماً أن المغصوب مال الغير؛ لأن ذلك معصية، وارتكاب المعصية عمداً موجب ¬
الحكم الثاني ـ رد العين المغصوبة ما دامت قائمة
للمؤاخذة (¬1)، لقوله عليه الصلاة والسلام: «من غصب شبراً من أرض، طوقه الله تعالى من سبع أرضين يوم القيامة». ويؤدب بالضرب والسجن عند الحنفية والمالكية (¬2) غاصب مميز صغير أو كبير لحق الله تعالى، ولو عفا عنه المغصوب منه، باجتهاد الحاكم لدفع الفساد، وإصلاح حاله، وزجره هو وأمثاله. أما غير المميز من صغير ومجنون فلا يعزر. كذلك نص الشافعية (¬3) على أنه يعزر الغاصب لحق الله تعالى، واستيفاؤه للإمام. فإن حدث الغصب لا عن علم بأن ظن أن الشيء ملكه، فلا إثم ولا مؤاخذة عليه؛ لأنه خطأ، والخطأ لا مؤاخذة عليه شرعاً لقوله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة:286/ 2] وقوله عليه الصلاة والسلام: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (¬4). ولكن في هذه الحالة يبقى الحكمان الأخيران وهما: رد العين ما دامت قائمة، والغرم إذا صارت هالكة. الحكم الثاني ـ رد العين المغصوبة ما دامت قائمة: والكلام فيه في مواضع: ¬
الحكم الثالث ـ ضمان المغصوب إذا هلك
هي سبب وجوب الرد، وشرط الرد ومكانه ومؤنته، وما يصير به المالك مسترداً (¬1). اتفق الفقهاء على أنه يجب رد العين المغصوبة إلى صاحبها حال قيامها ووجودها بذاتها لقوله صلّى الله عليه وسلم: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» «لا يأخذن أحدكم متاع أخيه جاداً، ولا لاعباً، وإذا أخذ أحدكم عصا أخيه، فليردها عليه» (¬2) وترد إلى مكان الغصب لتفاوت القيم باختلاف الأماكن. ومؤنة الرد (نفقته) على الغاصب؛ لأنها من ضرورات الرد، فإذا وجب عليه الرد، وجب عليه ما هو من ضروراته كما في رد العارية. ويصير المالك مسترداً للمغصوب: بإثبات يده عليه، لأنه صار مغصوباً بتفويت يده عنه. فإذا أثبت يده عليه، فقد أعاده إلى يده، وزالت يد الغاصب عنه، إلا أن يغصبه مرة أخرى. ويبرأ الغاصب من الضمان بالرد، سواء علم المالك بحدوث الرد أم لم يعلم؛ لأن إثبات اليد على الشيء أمر حسي لا يختلف بالعلم أو الجهل بحدوثه. الحكم الثالث ـ ضمان المغصوب إذا هلك: والكلام فيه يتناول عدة مواضع هي مايأتي: 1 - كيفية الضمان: إذا هلك المغصوب أو تلف أو أتلف عند الغاصب، وكان من المنقولات عند ¬
الحنفية (¬1)، أو من العقارات أو المنقولات عند غير الحنفية (¬2)، بفعله أو بغير فعله، فعليه ضمانه، أي غرامته أو تعويضه. لكن إن كان الهلاك بتعد من غيره، لا بآفة سماوية، رجع الغاصب عليه بما ضمن؛ لأنه يستقر عليه ضمان الشيء الذي يمكنه أن يتخلص منه برده إلى من كان في يده. وعبارتهم فيه: «الغاصب ضامن لما غصبه، سواء تلف بأمر الله، أو من مخلوق» (¬3). وكيفية الضمان أو قاعدته: أنه يجب ضمان المثل باتفاق العلماء إذا كان المال مثلياً، وقيمته إذا كان قيمياً، فإن تعذر وجود المثل وجبت القيمة للضرورة. أما ضمان المثل فلقوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم، فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} [البقرة:194/ 2] {وإ ن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} [النحل:126/ 16] {وجزاء سيئة سيئة مثلها} [الشورى:40/ 42] ولأن المثل تماماً أقرب إلى الأصل التالف، فكان الإلزام به أعدل وأتم لجبران الضرر، والواجب في الضمان الاقتراب من الأصل بقدر الإمكان تعويضاً للضرر. وأما ضمان القيمة فلأنه تعذر الوفاء بالمثل تماماً صورة ومعنى، فيجب المثل المعنوي وهو القيمة؛ لأنها تقوم مقامه، ويحصل بها مثله، واسمها ينبئ عنه. والمال المثلي: هو مايوجد له مثل في الأسواق بلا تفاوت يعتد به. أو هو ما تماثلت آحاده أو أجزاؤه بحيث يمكن أن يقوم بعضها مقام بعض دون فرق يعتد به. ¬
والأموال المثلية أربعة: هي المكيلات والموزونات، والعدديات المتقاربة، وبعض أنواع الذرعيات. والمكيلات: هي التي تباع بالكيل كالقمح والشعير، وكبعض السوائل التي تباع اليوم بالليتر كالبترول والبنزين. والموزونات: هي التي تباع بالوزن كالسمن والزيت والسكر. والذرعيات: هي التي تباع بالذراع ونحوه كالقطع الكبرى من المنسوجات الصوفية أو القطنية أو الحريرية. والعدديات المتقاربة: هي التي لاتتفاوت آحادها إلا تفاوتاً بسيطاً كالبيض والجوز. وكالمصنوعات المتماثلة من صنع المعامل كالكؤوس وصحون الخزف والبلور ونحوها من الدفاتر والأقلام والمطبوعات. والقيمي: هو ما ليس له مثل في الأسواق، أويوجد لكن مع التفاوت المعتد به في القيمة. أو هو ما تفاوتت أفراده، فلا يقوم بعضها مقام بعض بلا فرق كالدور والأراضي المختلفة المواقع أو المبنية والأشجار والحيوان والمفروشات والمخطوطات ونحوها (¬1). وتجب القيمة في ثلاث حالات (¬2): 1 - إذا كان الشيء غير مثلي كالحيوانات والدور والمصوغات، فلكل واحد منها قيمة تختلف عن الأخرى باختلاف الصفات المميزة لكل واحد. ¬
2 - وقت وجوب الضمان أو وقت تقدير التعويض
2 - إذا كان الشيء خليطاً مما هو مثلي بغير جنسه، كالحنطة مع الشعير. 3 - إذا كان الشيء مثلياً تعذر وجود مثله، والتعذر إما حقيقي حسي كانقطاع وجود المثل في السوق بعد البحث عنه، وإن وجد في البيوت، أو حكمي: كأن لم يوجد إلا بأكثر من ثمن المثل، أو شرعي: بالنسبة للضامن كالخمر بالنسبة للمسلم يجب عليه للذمي عند أئمة المذاهب كما أبنت ضمان القيمة، وإن كانت الخمر من المثليات؛ لأنه يحرم على المسلم تملكها بالشراء. وبه يتبين أن الواجب الأصلي في الضمان (أو التعويض أو الغرامة): هو إزالة الضرر عيناً كإصلاح الحائط، ورد عين المغصوب مادام قائماً، ورد الخمر المغصوبة مادامت باقية بالنسبة للمسلم، إذ له عند الحنفية إمساكها لتصير خلاً، وجبر التلف وإعادته صحيحاً كما كان، عند الإمكان، كإعادة المكسور صحيحاً. فإن تعذرت الإعادة وجب التعويض: المثلي في المثليات، والنقدي أو القيمة في القيميات. 2 - وقت وجوب الضمان أو وقت تقدير التعويض: للفقهاء آراء متقاربة في وقت الضمان أو تقدير قيمة التعويض، فقال الحنفية على المختار عندهم (¬1) والمالكية (¬2): تقدر قيمة المغصوب يوم الغصب؛ لأن الضمان يجب بالغصب، فتقدر قيمة المغصوب يوم الغصب، فلا يتغير التقدير ¬
بتغير الأسعار؛ لأن سبب الضمان لم يتغير كما لم يتغير محل الضمان، لكن فرق المالكية بين ضمان الذات وضمان الغلة، فتضمن الأولى يوم الاستيلاء عليها، وتضمن الغلة من يوم استغلالها، وأما المتعدي: وهو غاصب المنفعة فيضمن المنفعة بمجرد فواتها على صاحبها وإن لم يستعملها. وقال الشافعية (¬1): الأصح أن المعتبر في الضمان هو أقصى قيمة للمغصوب من وقت الغصب في بلد الغصب إلى وقت تعذر وجود المثل. وإذا كان المثل مفقوداً عند التلف، فالأصح وجوب الأكثر قيمة من الغصب إلى التلف، سواء أكان ذلك بتغير الأسعار، أم بتغير المغصوب في نفسه. وأما المال القيمي: فيضمن بأقصى قيمة له من يوم الغصب إلى يوم التلف. وقال الحنابلة (¬2): إن كان المغصوب من المثليات، وفقد المثل، وجبت قيمته يوم انقطاع المثل؛ لأن القيمة وجبت في الذمة حين انقطاع المثل، فقُدِّرَت القيمة حينئذ كتلف المتقوم. وإن كان المغصوب من القيميات وتلف، فالواجب القيمة أكثر ما كانت من حين الغصب إلى حين الرد، إذا كان التغير في المغصوب نفسه من كبر وصغر، وسمن وهزال، ونحوها من المعاني التي تزيد بها القيمة وتنقص؛ لأن هذه المعاني مغصوبة في الحال التي زادت فيها، والزياد ة لمالكها مضمونة على الغاصب. وإن كانت زيادة القيمة لتغير الأسعار، لم تضمن الزيادة؛ لأن نقصان القيمة لهذا السبب لا يضمن إذا ردت العين المغصوبة بذاتها، فلا يضمن عند تلفها. ¬
3 - ما يخرج به الغاصب عن عهدة الضمان
3 - ما يخرج به الغاصب عن عهدة الضمان: يخرج الغاصب عن عهدة الضمان بأحد أربعة أمور: الأول ـ رد العين المغصوبة إلى صاحبها ما دامت باقية بذاتها، ولم تشغل بشيء آخر. الثاني ـ أداء الضمان إلى المالك أو من يقوم مقامه؛ لأنه المطلوب أصالة. الثالث ـ الإبراء عن الضمان، إما صراحة مثل: أبرأتك عن الضمان أو أسقطته عنك أو وهبته منك ونحوه، أو يجري مجرى الصريح: وهو أن يختار المالك تضمين أحد الغاصبين، فيبرأ الآخر؛ لأن اختيار تضمين أحدهما إبراء للآخر ضمناً (دلالة). الرابع ـ إطعام الغاصب المغصوب لمالكه أو لدابته، وهو يعلم أنه طعامه، أو تسلم الغاصب الشيء المغصوب على سبيل الأمانة كالإيداع أو الهبة أو الإجارة أو الاستئجار على قصارته (تبييضه) أو خياطته، وعلم المالك أنه ماله المغصوب منه، أو على وجه ثبوت بدله في ذمته، كالقرض، وعلم أنه ماله، فإن لم يعلم بذلك لم يبرأ الغاصب حتى تتغير صفة الغصب (¬1). وهل يملك الغاصب الشيء المغصوب بالضمان؟ قال الحنفية (¬2): يملك الغاصب الشيء المغصوب بعد ضمانه من وقت وجود الغصب، حتى لا يجتمع البدل والمبدل في ملك المالك. وينتج عن التملك أن ¬
الغاصب لو تصرف في المغصوب بالبيع أو الهبة أو الصدقة قبل أداء الضمان، ينفذ تصرفه، كما تنفذ تصرفات المشتري في المشترى شراء فاسداً، وكما لو غصب شخص عيناً فغيبها (أخفاها) فضمنه المالك قيمتها، ملكها الغاصب؛ لأن المالك ملك البدل كله، والمبدل قابل للنقل، فيملكه الغاصب لئلا يجتمع البدلان في ملك شخص واحد. ولكن في رأي أبي حنيفة ومحمد (¬1): لا يحل للغاصب الانتفاع بالمغصوب بأن يأكله بنفسه أو يطعمه غيره قبل أداء الضمان. وإذا حصل فيه فضل (أي نماء وزيادة) يتصدق بالفضل استحساناً، وعليه، إن غلة المغصوب المستفادة من إركاب سيارة مثلاً لا تطيب له؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يبح الانتفاع بالمغصوب قبل إرضاء المالك، روى أبو حنيفة بسنده عن أبي موسى رضي الله عنه: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان في ضيافة قوم من الأنصار، فقدَّموا إليه شاة مصلية (مشوية)، فأخذ منها لقمة، فجعل يمضغها ولا يسيغها، فقال عليه الصلاة والسلام: إن هذه الشاة لتخبرني أنها ذبحت بغير حق، قالوا: هذه الشاة لجار لنا، ذبحناها لنرضيه بثمنها، فقال صلّى الله عليه وسلم: أطعموها الأسارى (¬2)» فقد حرم عليهم الانتفاع بها، مع حاجتهم، ولو كانت حلالاً لأطلق لهم إباحة الانتفاع بها. وقال المالكية (¬3): يمنع الغاصب من التصرف في المغصوب برهن أو كفالة خشية ضياع حق المالك، ولا يجوز لمن وهب له منه شيء قبوله ولا الأكل منه مثلاً ¬
4 - تغير العين المغصوبة عند الغاصب
ولا السكنى فيه مثل أي شيء حرام، لكن لو تلف المغصوب عند الغاصب أو استهلكه (أي فات عنده بتعبيرهم)، فالأرجح عندهم أنه يجوز للغاصب الانتفاع به؛ لأنه وجبت عليه قيمته في ذمته، فقد أفتى بعض المحققين بجواز الشراء من لحم الأغنام المغصوبة إذا باعها الغاصب للجزارين، فذبحوها؛ لأنه بذبحها ترتبت القيمة في ذمة الغاصب، إلا أنهم قالوا: ومن اتقاه فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومعناه أن الغاصب يتملك بالضمان الشيء المغصوب من يوم التلف. وقال الشافعية والحنابلة (¬1): لا يملك الغاصب العين المغصوبة بدفع القيمة؛ لأنه لا يصح أن يتملكه بالبيع لغيره لعدم القدرة على التسليم، فلا يصح أن يتملكه بالتضمين، كالشيء التالف لا يملكه بالإتلاف. وبناء عليه تحرم عندهم تصرفات الغاصب بعقد أو غيره، ولا تصح (¬2)، لحديث: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (¬3) أي مردود، فلا يجوز له بيعه أو إجارته، كما لا يجوز له إتلافه واستعماله كأكل ولبس وركوب وحمل عليه وسكنى العقار، لحديث «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم». 4 - تغير العين المغصوبة عند الغاصب: قال الحنفية: قد يتغير المغصوب عند الغاصب بنفسه أوبفعل الغاصب، وهذا ¬
الأخير قد يكون تغيراً في الوصف أو تغيراً في الاسم والذات (¬1). وكل حالات التغير يكون المغصوب فيها موجوداً. أـ فإذا تغير المغصوب بنفسه كما لو كان عنباً فأصبح زبيباً، أو رطباً فأصبح تمراً، فيتخير المالك بين استرداد عين المغصوب، وبين تضمين الغاصب قيمته. ب ـ وأما تغير وصف المغصوب بفعل الغاصب من طريق الإضافة أو الزيادة، كما لو صبغ الثوب، أو خلط الدقيق (السويق) بسمن، أواختلط المغصوب بملك الغاصب بحيث يمتنع تمييزه كخلط البر بالبر أو يمكن بحرج كخلط البر بالشعير، فيجب إعطاء الخيار للمالك: إن شاء ضمّن الغاصب قيمة المغصوب قبل تغييره، وإن شاء أخذه وأعطى الغاصب قيمة الزيادة مثل ما زاد الصبغ في الثوب؛ لأن في التخيير رعاية للجانبين. وهذا مذهب المالكية أيضاً (¬2). وقال الشافعية (¬3): إن أمكن فصل الزيادة من الصباغة أو السمن، أجبر الغاصب عليه في الأصح، وإن لم يمكن: فإن لم تزد قيمة المغصوب فلا شيء للغاصب فيه، وإن نقصت قيمته لزم الغاصب أرش النقص؛ لأن النقص حصل بفعله، وإن زادت قيمة المغصوب اشترك الغاصب والمالك فيه أثلاثاً: ثلثاه للمغصوب منه، وثلثه للغاصب. فإن حدث في ملك أحدهما نقص لانخفاض سعره أوزيادة لارتفاع سعره عمل به. ¬
وقال الحنابلة (¬1) كالشافعية إجمالاً: إلا أنهم قالوا: لا يجبر الغاصب على قلع الصبغ من الثوب؛ لأن فيه إتلافاً لملكه وهو الصبغ. وإن حدث نقص ضمن الغاصب النقص؛ لأنه حصل بتعديه، فضمنه، وإن حصلت زيادة، فالمالك والغاصب شريكان بقدر ملكيهما، فيباع الشيء، ويوزع الثمن على قدر القيمتين. وبه يظهر أن الفقهاء متفقون على ضمان النقص، وعلى حق الغاصب في الزيادة. جـ ـ وأما تغير ذات المغصوب واسمه بفعل الغاصب بحيث زال أكثر منافعه المقصودة: كما لو غصب شاة فذبحها وشواها، أو طبخها، أو غصب حنطة فطحنها دقيقاً، أو حديداً فاتخذه سيفاً، أونحاساً فاتخذه آنية، فإنه يزول ملك المغصوب منه عن المغصوب، ويملكه الغاصب، ويضمن بدله: المثل في المثلي، والقيمة في القيمي. ولكن لا يحل له الانتفاع به حتى يؤدي بدله استحساناً؛ لأن في إباحة الانتفاع قبل أداء البدل فتح باب الغصب، فيحرم الانتفاع قبل إرضاء المالك بأداء البدل أو إبرائه، حسماً لمادة الفساد. وكذلك قال المالكية كما بان في فرع (3) السابق. وقال الشافعية والحنابلة (¬2): لا ينقطع حق المالك في ملكه، وله أن يأخذه، وأرش نقصه إن نقص، ولا شيء للغاصب في زيادته في الصحيح من مذهب الحنابلة. وقال أبو حنيفة (¬3) مثل الشافعية والحنابلة فيمن غصب فضة أو ذهباً، فصكها (ضربها) دراهم أو دنانير، أو صنعها آنية، لا يزول ملك مالكها عنها، ولا شيء ¬
5 - نقصان المغصوب
للغاصب؛ لأن العين باقية من كل وجه، فاسمها باق، وأحكامها الأربعة المتعلقة بالذهب والفضة باقية، وهي (الثمنية، وكونها موزونة، وجريان الربا فيها، ووجوب الزكاة عليها) فلم ينقطع حق المالك بها. وظل الصاحبان في ذلك على أصلهما السابق (¬1): وهو أنه يملكها الغاصب، وعليه مثلها؛ لأنه أحدث فيها صنعة معتبرة، صيَّر بها حق المالك في حكم الهالك (التالف)، وتغاير الأصل مع الحادث المصنوع في الاسم والمعنى، فكان قبل الصنع يسمى تبراً، وبعده سمي دراهم ودنانير أو آنية. 5 - نقصان المغصوب: نقص المغصوب في يد الغاصب قد يكون معنوياً أو حسياً مادياً، وهو يشمل عند الحنفية صوراً أربعاً هي ما يأتي (¬2): أـ أن يحدث النقص بسبب هبوط الأسعار في الأسواق: وهذا لا يكون مضموناً إذا رد العين في مكان الغصب؛ لأن نقصان السعر ليس نقصاً مادياً في المغصوب بفوات جزء من العين، وإنما يحدث بسبب فتور الرغبات التي تتأثر بإرادة الله تعالى، ولا صنع للعبد فيها. ب ـ أن يكون النقص بسبب فوات وصف مرغوب فيه، كضعف الحيوان، وزوال سمعه أو بصره، أوطروء الشلل أو العرج أو العور أوسقوط عضو من الأعضاء، فيجب على الغاصب ضمان النقص في غيرمال الربا، ويأخذ المالك العين المغصوبة، لبقاء العين على حالها. ¬
فإن كان المغصوب من أموال الربا كتعفن الحنطة، وكسر إناء الفضة، فليس للمالك إلا أخذ المغصوب بذاته، ولا شيء له غيره بسبب النقصان؛ لأن الربويات لا يمكنهم فيها ضمان النقصان، مع استرداد الأصل؛ لأنه يؤدي إلى الربا. جـ ـ أن يكون النقص بسبب فوات معنى مرغوب فيه في العين، مثل الشيخوخة بعد الشباب، والهرب، ونسيان الحرفة، فيجب ضمان النقص في كل الأحوال. د ـ أن يكون النقص بفوات (زوال) جزء من العين المغصوبة، كخرق الثوب، فيجب الضمان في جميع الأحوال. لكن إن كان النقص يسيراً كالخرق اليسير في الثوب، فليس للمالك سوى تضمين الغاصب مقدار النقصان لبقاء العين بذاتها. وإن كان النقص فاحشاً كالخرق الكبير في الثوب بحيث يبطل عامة منافعه، فالمالك بالخيار بين أخذه وتضمينه النقصان، لتعيبه، وبين تركه للغاصب وأخذ جميع قيمته؛ لأنه أصبح مستهلكاً له من وجه. والصحيح في ضابط الفرق بين اليسير والفاحش هو مايأتي (¬1): اليسير: ما لا يفوت به شيء من المنفعة، وإنما يدخل فيه نقصان في المنفعة. والفاحش: هو ما يفوت به بعض العين وجنس المنفعة، ويبقى بعض العين وبعض المنفعة. وقدرت المجلة (م 900): اليسير بما لم يكن بالغاً ربع قيمة المغصوب. والفاحش: بما ساوى ربع قيمة المغصوب أوأزيد. ¬
وإذا وجب ضمان النقصان قوّمت العين صحيحة يوم غصبها، ثم تقوّم ناقصة، فيغرم الغاصب الفرق بينهما. وإذا كان العقار مغصوباً، فإنه وإن لم تضمن عينه بهلاكه بآفة سماوية عند الحنفية، فإن النقص الطارئ عليه بفعل الغاصب أو بسكناه أو بسبب زراعة الأرض مضمون، كما ذكرت سابقاً؛ لأنه إتلاف وتعد منه (¬1). وقال غير الحنفية (¬2): لا يضمن نقص المغصوب ولا زيادته بسبب هبوط الأسعار، أي كما قال الحنفية؛ لأن النقص كان بسبب فتور رغبات الناس، وهي لاتقابل بشيء، والمغصوب لم تنقص عينه ولا صفته (¬3)، لكن الشافعية وأبو ثور قالوا: إذا نقصت القيمة بسبب تغير الأسعار، يلزم الغاصب بضمان النقصان. وأما النقص الحاصل في ذات المغصوب أو في صفته، فيكون مضموناً، سواء حصل النقص بآفة سماوية أو بفعل الغاصب. إلا أن المالكية قالوا في المشهور عندهم: إذا كان النقص بأمر من السماء، فليس للمغصوب منه إلا أن يأخذ المغصوب ناقصاً كما هو، أو يُضمن الغاصب قيمة المغصوب كله يوم الغصب، ولا يأخذ قيمة النقص وحدها. وإن كان النقص بجناية الغاصب، فالمالك مخير في المذهب بين أن يضمن الغاصب القيمة يوم ¬
6 - زيادة المغصوب
الغصب، أو يأخذه، مع ما نقصته الجناية (أي يأخذ قيمة النقص) يوم الجناية عند ابن القاسم، ويوم الغصب عند سحنون. ولم يفرق أشهب بين نقص السماء وجناية الغاصب. 6 - زيادة المغصوب: عرفنا أن زيادة المغصوب المتصلة أوا لمنفصلة لاتضمن عند شيخي الحنفية (أبي حنيفة وأبي يوسف) لعدم إزالة يد المالك عنها. وتضمن الزوائد مطلقاً عند محمد والشافعية والحنابلة لتولدها من عين مملوكة، وتضمن الزوائد المنفصلة فقط دون المتصلة عند المالكية. ومما يتصل بزيادة المغصوب ما يأتي وهو: البناء على الأرض المغصوبة أو زرعها أو غرسها: اتفق أئمة المذاهب الأربعة ـ من حيث المبدأ ـ على أن الغاصب يلزم برد المغصوب إلى صاحبه، وإزالة ما أحدثه فيه من بناء أو زرع أو غرس، لقوله صلّى الله عليه وسلم «ليس لعرق ظالم حق» (¬1). وتفصيل آراء المذاهب ما يأتي: 1 - قال الحنفية (¬2): من غصب ساجة (خشبة عظيمة تستعمل في أبواب الدور وبنائها) فبنى عليها أو حولها، وكانت قيمة البناء أكثر من قيمتها، زال ملك ¬
مالكها عنها، ولزم الغاصب قيمتها، لصيرورتها شيئاً آخر، وفي القلع ضرر ظاهر لصاحب البناء (الغاصب) من غير فائدة تعود للمالك، وضرر المالك ينجبر بالضمان، ولا ضرر في الإسلام. أما إذا كانت قيمة الساجة أكثر من البناء، فلم يزل ملك مالكها، لأنه يرتكب أخف الضررين وأهون الشرين، كما هو القاعدة. وعقب القاضي زاده في تكملة الفتح على هذه التفرقة، فقال: لا فرق في المعنى بين أن تكون قيمة البناء أكثر من قيمة الساجة وبين العكس؛ لأن ضرر المالك مجبور بالقيمة، وضرر الغاصب ضرر محض، ولا ريب أن الضرر المجبور دون الضرر المحض، فلا يرتكب الضرر الأعلى عند إمكان العمل بالضرر الأدنى. وهذه مسألة الساجة يعمل فيها بقاعدة «الضرر الأشد يزال بالأخف» (¬1). وأما مسألة الساحة فهي: لو غصب غاصب أرضاً، فغرس فيها، أو بنى فيها، وكانت قيمة الأرض (الساحة) أكثر، أجبر الغاصب على قلع الغرس، وهدم البناء، ورد الأرض فارغة إلى صاحبها كما كانت؛ لأن الأرض لا تغصب حقيقة عندهم، فيبقى فيهاحق المالك كما كان، والغاصب جعلها مشغولة فيؤمر بتفريغها، إذ ليس لعرق ظالم حق. فإن كانت قيمة البناء أكثر، فللغاصب أن يضمن للمالك قيمة الأرض ويأخذها. وإذا كانت الأرض تنقص بقلع الغرس منها أو هدم البناء، فللمالك أن ¬
2 - وقال المالكية
يضمن للغاصب قيمة البناء والغرس مقلوعاً (أنقاضاً) رعاية لمصلحة الطرفين ودفعاً للضرر عنهما، فتقوم الأرض بدون الشجر والبناء، وتقوم وبها شجر وبناء مستحق القلع والهدم، فيضمن الفرق بينهما. وإذا زرع الغاصب الأرض، فإن كانت الأرض ملكاً: فإن أعدها صاحبها للزراعة، فيكون الأمر مزارعة بين المالك والغاصب، ويحتكم إلى العرف في حصة كل منهما، النصف أو الربع مثلاً، وإن كانت معدة للإيجار فالناتج للزارع، وعليه أجر مثل الأرض. وإن لم يكن شيء مما ذكر فعلى الغاصب نقصان ما نقص الزرع، وأما إذا كانت الأرض وقفاً أو مال يتيم، اعتبر العرف إذا كان أنفع، وإن لم يكن العرف أنفع وجب أجر المثل لقولهم: يفتى بما هو أنفع للوقف. 2 - وقال المالكية (¬1): أـ البناء: من غصب أرضاً أو عموداً أو خشباً، فبنى فيها أو بها، فيخير المالك بين المطالبة بهدم البناء على المغصوب، وبين إبقائه على أن يعطي الغاصب قيمة الأنقاض، بعد طرح أجرة القلع أو الهدم، ولا يعطيه قيمة التجصيص والتزويق وشبههما مما لا قيمة له، أي أنهم يرجحون مصلحة المالك؛ لأنه صاحب الحق. ومن غصب سارية أو خشبة فبنى عليها، فلصاحبها أخذها، وإن هدم البنيان وهو قول الشافعية. ب ـ الغرس: ومن غصب أرضاً، فغرس فيها أشجاراً لا يؤمر بقلعها، وللمغصوب منه أن يعطيه قيمتها بعد طرح أجرة القلع كالبنيان. فإن غصب أشجاراً، فغرسها في أرضه أمر بقلعها. ¬
3 - وقال الشافعية
جـ ـ الزرع: وإن زرع في الأرض المغصوبة زرعاً: فإن أخذها صاحبها في إبان الزراعة، فهو مخيّر بين أن يقلع الزرع أو يتركه للزارع ويأخذ الكراء. وإن أخذها بعد إبان الزراعة، فقيل: هو مخيّر كما ذكر، وقيل: ليس له قلعه وله الكراء، والزرع لزارعه. 3 - وقال الشافعية (¬1): يكلف الغاصب بهدم البناء وقلع الغراس على الأرض المغصوبة، وأرش النقص إن حدث، وإعادة الأرض كما كانت، وأجرة المثل في مدة الغصب إن كان لمثلها أجرة إذ ليس لعرق ظالم حق، ولو أراد المالك تملكها بالقيمة، أو إبقاءها بأجرة، لم يلزم الغاصب إجابته في الأصح، لإمكان القلع بلا أرش، ولو بذر الغاصب بذراً في الأرض، فللمالك تكليفه إخراج البذر منها وأرش النقص، وإن رضي المالك ببقاء البذر في الأرض لم يكن للغاصب إخراجه. كما لا يجوز للغاصب قلع تزويق الدار المغصوبة إن رضي المالك ببقائه، والخلاصة: أن للمالك الحق في إزالة آثار الغصب بلا ضرر عليه. 4 - وقال الحنابلة (¬2): مثل الشافعية تماماً في البناء والغرس على الأرض المغصوبة عملاً بحديث «ليس لعرق ظالم حق». أما في حالة زرع الأرض فقالوا: يخير المالك بين إبقاء الزرع إلى الحصاد، وأخذ أجر الأرض وأرش النقص من الغاصب وبين أخذ الزرع له ودفع النفقة للغاصب عملاً بحديث «من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء، وعليه نفقته» (¬3) وفي حديث آخر: ¬
7 - ضمان غلة المغصوب ومنافعه
«خذوا زرعكم وردوا عليه نفقته» (¬1) أي للغاصب. وهذا أعدل الآراء وأكثرها قابلية للتطبيق. 7 - ضمان غلة المغصوب ومنافعه: تبين سابقاً في بحث منافع المغصوب وغلته: أن غلة المغصوب كالأجرة المستفادة من إيجار الأعيان المغصوبة لا تطيب في رأي أبي حنيفة ومحمد للغاصب، لأن الربح حصل بسبب خبيث: وهو التصرف في ملك الغير، وسبيله التصدق به. وقال أبو يوسف وزفر: يطيب الربح للغاصب إذا دفع ضمانه، لأن المغصوب صار مملوكاً له بالضمان عملاً بالقاعدة المقررة عند الحنفية: «المضمونات تملك بأداء الضمان مستنداً إلى وقت الغصب». وأما منافع المغصوب من سكنى العقار وركوب السيارة أو الدابة، ولبس الثوب، واستعمال الشيء وزراعة الأرض، فلا تضمن كما ذكر عند الحنفية، إلا في ثلاث حالات: أن يكون المغصوب وقفاً، أو مال يتيم، أو مالاً معداً للاستغلال، أي الاستثمار لأن المنفعة ليست بمال متقوم عندهم، ولا تتقوم إلا بورود عقد الإجارة عليها، ولأن المغصوب لو هلك يضمنه الغاصب عملاً بحديث «الخراج ¬
8 - اختلاف الغاصب والمغصوب منه
بالضمان» (¬1) أي الغنم بالغرم. وحينئذ ليس للقاضي إلا الحكم برد المغصوب لصاحبه ما دام قائماً، ورد مثله أو قيمته إذا هلك. وقال غير الحنفية كما تقدم: تضمن منافع المغصوب؛ لأن المنافع أموال متقومة كالأعيان ولأن «الغرض الأظهر من جميع الأموال هو منفعتها» كما قال العز بن عبد السلام (¬2). إلا أن المالكية قالوا: تضمن منافع الأموال من دور وأرض بالاستعمال فقط. ولا تضمن حالة الترك، أي تضمن بالتفويت دون الفوات. وهذا إذا غصب ذات الشيء. أما إذا غصب المنفعة فقط كأن يغلق الدار ويحبس الدابة ونحوهما، فيضمنها بمجرد فواتها على صاحبها وإن لم يستعملها. أما الشافعية والحنابلة فقالوا: تضمن منافع الأموال التي يستأجر المال من أجلها بالغصب أو التعدي، سواء استوفى الغاصب المنافع، أم تركها حتى ذهبت، أي تضمن بالتفويت أو بالفوات في يد عادية، أي ضامنة معتدية (¬3). 8 - اختلاف الغاصب والمغصوب منه: هناك مظاهر كثيرة لاختلاف الغاصب والمالك المغصوب منه، لها أثر في تحمل تبعة الضمان، فإن صدقنا كلام الغاصب برئ من الضمان، وإن صدقنا كلام ¬
أـ قال الحنفية
المالك تحمل الغاصب الضمان. وللفقهاء كلام مطول في هذا الشأن نلخصه فيما يأتي: أـ قال الحنفية (¬1): إذا قال الغاصب: هلك المغصوب في يدي (أي قضاء وقدراً) ولم يصدقه المغصوب منه، ولا بينة للغاصب، فالقاضي يحبس الغاصب مدة يظهر فيها عادة لو كان قائماً، ثم يقضي عليه بالضمان؛ لأن الحكم الأصلي للغصب هو ـ كما تقدم ـ وجوب رد عين المغصوب؛ وأما القيمة فهي بدل (أو خلف) عنه، وإذا لم يثبت العجز عن الأصل، لا يُقضى بالقيمة التي هي خلَف. ولو اختلف الغاصب والمالك في أصل الغصب، أو في جنس المغصوب ونوعه، أو قدره، أو صفته، أو قيمته وقت الغصب، فالقول قول الغاصب بيمينه في ذلك كله؛ لأن المالك يدعي عليه الضمان، وهو ينكر، فكان القول قوله؛ لأن اليمين في الشرع على من أنكر. ولو ادعى الغاصب رد المغصوب إلى المالك، أو ادعى أن المالك هو الذي أحدث العيب في المغصوب، فلا يصدق الغاصب إلا ببينة؛ لأن البينة في الشرع على المدعي. ولو تعارضت البينتان، فأقام المالك البينة على أن الدابة أو السيارة مثلاً تلفت عند الغاصب من ركوبه، وأقام الغاصب البينة على أنه ردها إلى المالك، فتقبل بينة المالك، وعلى الغاصب قيمة المغصوب؛ لأن بينة الغاصب لا تَدْفع بينة المغصوب منه؛ لأنها قامت على رد المغصوب، ومن الجائز أنه ردها، ثم غصبها ثانياً وركبها، فتلفت في يده. ¬
ب ـ والمالكية
ب ـ والمالكية (¬1) قالوا مثل الحنفية: إن اختلف الغاصب والمغصوب منه في دعوى تلف المغصوب، أو في جنسه، أو صفته، أو قدره، ولم يكن لأحدهما بينة، فالقول قول الغاصب مع يمينه. جـ ـ وقال الشافعية والحنابلة (¬2): إن اختلف الغاصب والمغصوب منه في قيمة المغصوب، بأن قال الغاصب: قيمته عشرة، وقال المالك: اثنا عشر، صدق الغاصب بيمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته من الزيادة، وعلى المالك البينة. وإن اختلفا في تلف المغصوب، فقال المغصوب منه: هو باق، وقال الغاصب: تلف، فالقول قول الغاصب مع يمينه؛ لأنه يتعذر إقامة البينة على التلف. وكذلك لو اختلفا في قدر المغصوب أو في صناعة فيه، ولا بينة لأحدهما، فالقول قول الغاصب بيمينه؛ لأنه منكر لما يدعيه المالك عليه من الزيادة. وإن اختلفا في رد المغصوب، فقال الغاصب: رددته، وأنكره المالك، فالقول للمالك؛ لأن الأصل معه وهو عدم الرد، وكذا لو اختلفا في عيب في المغصوب بعد تلفه؛ بأن قال الغاصب: كان مريضاً أو أعمى مثلاً، وأنكره المالك، فالقول للمالك بيمينه؛ لأن الأصل السلامة من العيوب، وهذا موافق لرأي الحنفية. والخلاصة: يصدق الغاصب بيمينه حال الاختلاف بتلف المغصوب وبقائه، والاختلاف في تقدير قيمة المغصوب، وفي صفة المغصوب أو قدره. ويصدق المالك بيمينه في ادعاء رد العين المغصوبة على المغصوب منه. ¬
9 - غاصب الغاصب ومن في حكمه
وهكذا يلاحظ أن المذاهب الأربعة متفقة في دعاوى اختلاف الغاصب والمالك. 9 - غاصب الغاصب ومن في حكمه: لو غصب شخص من آخر شيئاً، فجاء آخر وغصبه منه، فهلك في يده، فالمالك باتفاق المذاهب الأربعة (¬1) بالخيار: إن شاء ضمن الغاصب الأول، لوجود فعل الغصب منه: وهو إزالة يد المالك عنه، وإن شاء ضمن الغاصب الثاني، أو المتلف، سواء علم بالغصب أم لم يعلم؛ لأن الغاصب الثاني أزال يد الغاصب الأول الذي هو بحكم المالك في أنه يحفظ ماله، ويتمكن من رده عليه (أي على المالك)، ولأنه أثبت يده على مال الغير بغير إذنه، والجهل غير مسقط للضمان، ولأن المتلف أتلف الشيء. وهذا بمقتضى ما يعرف قانوناً بالحق العيني للمالك المغصوب منه الذي من خواصه إثبات حق تتبع العين المغصوبة في أي يد وجدت فيها العين. فإن اختار المالك تضمين الأول، وكان هلاك المغصوب في يد الغاصب الثاني، رجع الغاصب الأول بالضمان على الثاني؛ لأنه بدفعه قيمة الضمان، ملك ـ عند الحنفية ـ الشيء المضمون (أي المغصوب) من وقت غصبه، فكان الثاني غاصباً الملك الأول. وسبب رجوع الغاصب الأول على الثاني عند غير الحنفية هو أنه غرم المال بدون تسبب منه في هلاكه. وإن اختار المالك تضمين الثاني أو المتلف، لا يرجع هذا بالضمان على أحد، ¬
ويستقر الضمان في ذمته؛ لأنه ضمن فعل نفسه: وهو إزالة يد المالك، أو استهلاكه، وإتلافه. وللمالك أن يأخذ بعض الضمان من شخص، وبعضه الآخر من الشخص الآخر إلا أن الحنفية استثنوا من مبدأ تخيير المالك في هذه الحالة: الموقوف المغصوب إذا غصب، وكان الغاصب الثاني أملأ من الأول، فإن متولي الوقف يضمن الثاني وحده. والراجح عند الحنفية أن المالك متى اختار تضمين أحدهما (الغاصب الأول، أو الثاني) يبرأ الآخر عن الضمان، بمجرد الاختيار، فلو أراد تضمينه بعدئذ، لم يكن له ذلك. وإذا رد الغاصب الثاني المغصوب على الأول، برئ من الضمان، وإذا رده إلى المالك برئ الاثنان (¬1). الغاصب الأول ومن تصرف معه بالرهن ونحوه: وكذلك للمالك عند الحنفية (¬2) تضمين الغاصب الأول أو المرتهن أو المستأجر أو المستعير أو المشتري من الغاصب الأول، أو الوديع الذي أودعه الغاصب الأول الشيء المغصوب، فهلك في يده، فإن ضمن الغاصب الأول استقر الضمان عليه، ولم يرجع بشيء على أحد. وإن ضمن المرتهن أو المستأجر أو الوديع أو المشتري، رجعوا على الغاصب بالضمان، لأنهم عملوا له والمشتري إذا ضمن القيمة يرجع بالثمن على الغاصب البائع؛ لأن البائع ضامن استحقاق المبيع، ورد القيمة كرد العين. ¬
وأما المستعير من الغاصب أو الموهوب له، أو المتصدق عليه منه، فيستقر الضمان عليه وإن كان جاهلاً الغصب؛ لأنه يعمل في القبض لنفسه. أما الشافعية (¬1) فقالوا: الأيدي المترتبة على يد الغاصب أيدي ضمان وإن جهل صاحبها الغصب؛ لأنه (أي الواضع) وضع يده على ملك غيره بغير إذنه، والجهل ليس مسقطاً للضمان بل يسقط الإثم فقط، فيطالب المالك من شاء منهما. لكن لايستقر الضمان على الآخذ من الغاصب إلا بعلمه بالغصب، حتى يصدق عليه معنى الغصب، أو إن جهل به وكانت يد الواضع في أصلها يد ضمان، كالمستعير والمشتري والمقترض والسائم؛ لأنه تعامل مع الغاصب على الضمان، فلم يغرّه. أما إن جهل الواضع يده على المغصوب بالغصب، وكانت يده يد أمانة بلا اتهاب، كوديع ومضارب، فيستقر الضمان على الغاصب دون الآخذ، لأنه تعامل مع الغاصب على أن يده نائبة عن يد الغاصب. وأما الموهوب له فقرار الضمان عليه في الأظهر؛ لأنه وإن كانت يده ليست يد ضمان، إلا أن أخذه الشيء للتملك. وعلى هذا، في حالة الجهل بالغصب: يستقر الضمان عند الحنفية والشافعية على المستعير والموهوب له، والمتصدق عليه فقط. وأما الوديع والمضارب المعتبر كل منهما أميناً، فيستقر الضمان الذي دفعه على الغاصب عند كل من الحنفية والشافعية. ولا خلاف بين الحنفية والشافعية في تضمين الغاصب أو الآخذ منه في كل الأحوال. ¬
10 - نفقة المغصوب
10 - نفقة المغصوب: تكون نفقة المغصوب أثناء غصبه على الغاصب بسبب ظلمه وتعديه، جاء في كتب المالكية (¬1): وما أنفق الغاصب على المغصوب، كعلف الدابة، وسقي الأرض وعلاجها وخدمة شجر ونحو ذلك مما لا بد للمغصوب منه، يكون في نظير الغلة التي استغلها الغاصب من يد المغصوب؛ لأنه وإن ظَلَم لا يُظْلَم، فإن تساوت النفقة مع الغلة فواضح، وإن زادت النفقة على الغلة، فلا رجوع للغاصب بالزائد، كما أنه إذا كان لا غلة للمغصوب، فلا رجوع له بالنفقة لظلمه، وإن زادت الغلة على النفقة، فللمالك الرجوع على الغاصب بزائدها. وانفرد الحنابلة (¬2) بالقول كما تقدم بأن للغاصب النفقة في حال غصب أرض وزراعتها، واختيار المالك أن يكون الزرع له، وأن يدفع للغاصب نفقته، عملاً بالحديث المتقدم: «من زرع في أرض قوم بغير إذنهم، فليس له من الزرع شيء، وعليه نفقته (¬3)» والخيار الثاني: أن يقر المالك الزرع في الأرض إلى الحصاد، ويأخذ من الغاصب أجر الأرض وأرش نقصها. المبحث الثاني ـ إتلاف المال وحكمه وفيه مطالب ثلاثة، وملحق به، ويبحث الإتلاف المالي عادة بعد الغصب أو معه؛ لأنه يأخذ حكمه من حيث التضمين. المطلب الأول ـ تعريف الإتلاف وكونه سبب الضمان. ¬
المطلب الثاني ـ شروط إيجاب الضمان بالإتلاف. المطلب الثالث ـ كيفية الضمان أو ماهيته. وأبدأ ببحث كل منها فيما يأتي: المطلب الأول ـ تعريف الإتلاف وكونه سبب الضمان: الإتلاف (¬1): هو إخراج الشيء من أن يكون منتفعاً به منفعة مطلوبة منه عادة (¬2) وهو سبب موجب للضمان؛ لأنه اعتداء وإضرار، والله تعالى يقول: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} [البقرة:194/ 2] وقال عليه الصلاة والسلام: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» وإذا وجب الضمان بالغصب فبالإتلاف أولى؛ لأنه اعتداء وإضرار محض. ولا فرق بين أن يقع الإتلاف مباشرة: وهو إلحاق الضرر من غير واسطة بمحل التلف، أو تسبباً: وهو ارتكاب فِعلٍ في محل يفضي إلى تلف غيره. كما لا فرق في ضمان الإتلاف بين العمد والخطأ، ولا بين وجود البلوغ أو التمييز أو عدمه، فالمتلف عمداً أو خطأ ضامن باتفاق المذاهب الأربعة، والكبير أو الصغير أو المجنون أوالنائم المتلف ضامن أيضاً عند جمهور الفقهاء. وفرق المالكية بين الصبي المميز وغيره، فيغرم المميز ما أتلفه إن كان له مال، فإن لم يكن له مال ¬
أولا ـ فتح الباب أو حل الرباط
أما غير المميز فلا شيء عليه فيما أتلفه من نفس أو مال كالعجماء، ومثله المجنون (¬1). والمعتمد لدى المالكية إطلاق الضمان من المميز وغير المميز، جبراً للضرر. إلا أن الفقهاء اختلفوا في تقدير وجود السبب في بعض الحالات. منها ما يأتي: أولاً ـ فتح الباب أو حل الرباط: من فتح باب حانوت، ثم تركه مفتوحاً، فسرق، أو دل لصاً أو ظالماً على شيء فأخذه أو فتح قفص طائر، فطار، أو حل رباط دابة فهربت، أو فتح باب الإصطبل فخرجت، أو حل رباط سفينة، فغرقت أو ذهبت بها الريح. لا يضمن المتسبب في هذه الأمثلة عند أبي حنيفة وأبي يوسف (¬2)؛ لأن مجرد الفتح ونحوه ليس بإتلاف مباشرة ولا تسبباً، لتدخل عنصر آخر من التلف، وهو السرقة أو الطيران أوا لهرب أو الغرق ونحوها، والسارق هو المباشر، والطير أو الدابة هو الذي اختار الهرب، والماء أو الريح كان السبب في الإغراق أو الضياع، فلم يكن مجرد فتح الباب أو حل الرباط سبباً محضاً، فلا حكم له. ويضمن هذا المتسبب عند المالكية والحنابلة ومحمد بن الحسن (¬3)؛ لأنه تسبب في الإتلاف، وحدوث الضرر أمر متوقع في الطبع أو العادة. وهو الرأي المنطقي العادل في تقديري، وقد أخذت به المجلة: م (922). ¬
ثانيا ـ فتح وعاء السمن (الزق)
وفصل الشافعية في الأمر (¬1) فقالوا: من فتح قفصاً عن طائر، وهيجه، فصار في الحال، ضمنه، لأنه ألجأه إلى الفرار، وإن اقتصر على الفتح، فالأظهر أنه إن طار في الحال: ضمن؛ لأن طيرانه في الحال يشعر بتنفيره، وإن وقف ثم طار، فلا يضمنه؛ لأن طيرانه بعد الوقوف يشعر باختياره. وهذا التفصيل ينطبق على حل رباط بهيمة، أو فتح باب إصطبل ونحوه. وكذلك لو حلّ رباطاً عن علف في وعاء، فأكلته بهيمة في الحال، ضمنه، أما من فتح باب حانوت فسرقه إنسان، أو دلّ سارقاً، فسرق، فلا ضمان عليه؛ لأنه لم يوجد منه سبب يمكن تعليق الضمان عليه به. وإن حلّ رباط سفينة، فغرقت، فإن غرقت في الحال ضمن؛ لأنها تلفت بفعله. وإن وقفت، ثم غرقت: فإن كان بسبب حادث كريح هبت، لم يضمن لأنها غرقت بغير فعله. وإن غرقت من غير سبب حادث ففيه رأيان: أحدهما ـ لا يضمن كالزِّق إذا ثبت بعد فتحه، ثم سقط. والثاني ـ يضمن لأن الماء أحد المتلفات. ثانياً ـ فتح وعاء السمن (الزق): لو فتح إنسان زقاً (ظرفاً) فيه زيت أو سمن ونحوهما، فخرج ما فيه: فقال أبو حنيفة وأبو يوسف (¬2): إن كان الزيت ذائباً، فسال منه، ضمن. وإن كان السمن جامداً، فذاب بالشمس، وزال، لم يضمن؛ لأن المائع يسيل ¬
ثالثا ـ الترويع
بطبعه إن وجد منفذاً بحيث يستحيل استمساكه عادة، فكان حل الرباط إتلافاً له تسْبيباً، أما الجامد فلا يسيل بطبعه، فإن سال بحرارة الشمس، فلا يعد فاتح الظرف سبباً في إتلافه، ولا مباشراً له. وقال المالكية والحنابلة ومحمد بن الحسن (¬1): يضمن من شق زق إنسان فيه دهن مائع، فسال، وهلك. أو حل وكاء زق جامد، فأذابته الشمس، فاندفق. أو بقي الزق بعد حله قاعداً، فألقته ريح، أو زلزلة، فاندفق، فخرج ما فيه كله في الحال، أو خرج قليلاً قليلاً، أو خرج منه شيء بلَّ أسفله فسقط فاندفق؛ لأن المتسبب متعد في جميع ذلك، سواء حدث الضرر عقب فعله أو تراخى عنه. وهذا الرأي هو المعقول. وفصل الشافعية فقالوا (¬2): إذا كان الزِّق مطروحاً على الأرض، فخرج ما فيه بالفتح وتلف، يضمن، حتى ولو كان التقاطر بإذابة شمس، أو حرارة، أو ريح، مع مرور الزمن؛ لأن الإتلاف ناشئ عن فعله، سواء حضر المالك، وأمكنه تدارك الأمر، فلم يفعل، أم لا. وهذا كما قال المالكية ومن معهم. أما إذا كان الزق منصوباً على شيء، ففتحه: فإن سقط بالفتح وخرج ما فيه أو بابتلال أسفله منه، ضمن، وإن سقط بسبب ريح، أو نحوها كزلزلة، ووقوع طائر، أو جهل الحال، فلم يعلم سبب سقوطه، لم يضمن؛ لأن التلف لم يحصل بفعله. ثالثاً ـ الترويع: إذا بعث الحاكم إلى امرأة يستدعيها إلى مجلس القضاء، فأجهضت جنينها فزعاً، أو زال عقلها: ¬
رابعا ـ الحيلولة والحبس
فقال أبو حنيفة وابن حزم (¬1): لا ضمان في شيء من ذلك على أحد، إذ ليس السبب متصلاً بالنتيجة قطعاً. وقال جمهور الفقهاء (¬2): يضمن الحاكم الدية، لحادثة عمر الذي استدعى امرأة فأجهضت، وقد سبق الكلام عنها في الجنايات. رابعاً ـ الحيلولة والحبس: من حبس المالك عن ماله حتى تلف المال، أو عن ماشيته حتى تلفت، فقال جمهور الحنفية (¬3): إن كان المال منقولاً ضمن، وإن كان عقاراً لم يضمن. وهذا هو رأي أبي حنيفة وأبي يوسف اللذين يريان إمكان تحقق الغصب في المنقول دون العقار. وقال محمد: يجري الغصب فيهما. وقال المالكية والحنابلة (¬4): على من فعل ذلك ضمان ما تلف به؛ لأنه سبب هلاكه. وقال الشافعية (¬5): إن قصد المتسبب منع المالك عن ملكه، ضمن، وهو مبدأ الحيلولة: وهي أن يحول بين الشخص وبين ملكه حائل حتى تلف. وإن لم يقصد منعه عن ملكه، ولم يضمن لأنه لم يتصرف في المال، وإنما تصرف في المالك. وبه يظهر أن الحيلولة بين المالك وملكه سبب رابع من أسباب الضمان بعد ¬
المطلب الثاني ـ شروط إيجاب الضمان بالإتلاف
(العقد، واليد، والإتلاف) عند جمهور الفقهاء، وعند الحنفية في المنقول دون غيره. المطلب الثاني ـ شروط إيجاب الضمان بالإتلاف: يشترط لإيجاب الضمان بسبب الإتلاف ما يأتي (¬1): 1 - أن يكون الشيء المتلف مالا ً، فلا ضمان بإتلاف الميتة وجلدها، والدم، والتراب العادي، والكلب، والسرجين النجس، ونحوها مما ليس بمال عرفاً وشرعاً. 2 - أن يكون متقوّماً بالنسبة للمتلف عليه، والمتقوم: هو ما يباح الانتفاع به شرعاً في غير حال الاضطرار، فلا ضمان بإتلاف خمر أو خنزير لمسلم، سواء أكان المتلِف مسلماً أم ذمياً، لعدم تقوم الخمر والخنزير في حق المسلم، إذ لايباح له الانتفاع بهما شرعاً، فلا قيمة لهما. أما خمور وخنازير غير المسلم أي الذمي، فيضمنها المتلف مسلماً أو غيره، ويلزم المسلم بالقيمة، وغير المسلم بالمثل، عند الحنفية والمالكية، لتعديه عليها، ولأنها مال محترم عند غير المسلمين. ولا تضمن عند الشافعية والحنابلة؛ إذ لا قيمة لها كالدم والميتة وسائر الأعيان النجسة، وما حرم الانتفاع به لم يضمن ببدل عنه، كما بان في غصب غير المتقوم. ¬
3 - أن يكون التلف (أو الضرر) محققا بنحو دائم
ولا ضمان عند جمهور الفقهاء ومنهم الصاحبان بإتلاف الأصنام وآلات اللهو والفساد كالمزمار والرباب والعود ونحوها من أدوات الموسيقا، لعدم تقوّمها؛ لأن منفعتها محرمة لا تقابل بشيء باعتبارها أدوات لهو، فلا قيمة لها، كما تبين في غصب غير المتقوم. وقال أبو حنيفة والشافعي: تضمن باعتبارها خشباً منحوتاً فقط؛ لأن هذه الآلات كما تصلح للهو والفساد، تصلح للانتفاع بها من وجه آخر، فكانت مالاً متقوماً من تلك الناحية فقط. ولا ضمان أيضاً بإتلاف الأموال المباحة التي ليست مملوكة لأحد لعدم تقوّمها؛ لأن التقوم ينبني على كون الشيء عزيز المنال، خطير الأهمية، وهذا المعنى لا يتحقق إلا بالإحراز والاستيلاء. ولا ضمان كذلك بتحريق كتب الفسق والضلال، لاشتمالها على الكذب ولإلحاقها ضرراً بعقيدة الناس ووحدتهم، فيجب إتلافها وإعدامها، وهي أولى بالإتلاف من إتلاف آلات اللهو والمعازف وإتلاف آنية الخمر الذي أمر به الرسول صلّى الله عليه وسلم (¬1)، فإن ضررها أعظم من ضرر هذه، ولا ضمان فيها كما لا ضمان في كسرأواني الخمر وشق زقاقها (أي ظروفها وأوعيتها)، وقد حرق الصحابة جميع المصاحف المخالفة للمصحف الموحد الخط: وهو مصحف عثمان، لما خافوا على الأمة من الاختلاف في التلاوة لاختلاف اللهجات وطرائق النطق (¬2). 3 - أن يكون التلف (أو الضرر) محققاً بنحو دائم: فإذا أعيد الشيء إلى الحالة التي كان عليها فلا ضمان، كأن عولج المرض أو نبتت سن الحيوان في المدة ¬
4 - أن يكون المتلف أهلا لوجوب الضمان
التي بقي فيها الشيء في يد المعتدي؛ لأن النقص الحاصل عندما أزيل أو السن عندما نبتت ثانياً، جعل الضرر كأن لم يكن، ويرد على المعتدي ما أخذ منه بسبب النقصان، لأنه تبين أن النقصان لم يكن موجباً للضمان لعدم تحقق شرط الوجوب وهو العجز عن الانتفاع على طريق الدوام. وهذا رأي أبي حنيفة. وقال الصاحبان: على الجاني الأرش كاملاً؛ لأن الجناية وقعت موجبة له، والذي نبت نعمة جديدة من الله (¬1). 4 - أن يكون المتلف أهلاً لوجوب الضمان: فلا يضمن ما تتلفه بهيمته من أموال؛ لأن فعل العجماء جُبَار أي هدر. ولا يشترط التمييز عند بعض المالكية لإيجاب الضمان كما تقدم (¬2). 5 - أن يكون في إيجاب الضمان فائدة: حتى يتمكن صاحب الحق من الوصول إلى حقه، فإن لم يكن في التضمين فائدة، أي عدم القدرة على تنفيذ الحكم الصادر بالتعويض، فلا ضمان. وعليه فلا ضمان على المسلم بإتلاف مال الحربي (¬3)، ولا على الحربي بإتلاف مال المسلم في دار الحرب؛ إذ ليس لحاكم بلد سلطة أو ولاية لتنفيذ الأحكام على رعايا بلد آخر. وليس مال الحربي بالنسبة للمسلم وعكسه محترماً، أي مصوناً يجب الحفاظ عليه، وإنما هو هَدَر. لهذا اشترط الفقهاء في الضمان أن يكون المال محترماً، فمال الحربي في نظر الشرع مباح، فمن أخذه لا يعد غاصباً (¬4). ¬
شروط الضمان في الإتلاف تسببا
ولا ضمان أيضاً على العادل إذا أتلف مال الباغي، ولا على الباغي إذا أتلف مال العادل (¬1)، لعدم إمكان الوصول إلى الضمان لعدم وجود الولاية والسلطة. وقيّد غير الحنفية (¬2) عدم الالتزام بالضمان بين العادلين والبغاة بحال الحرابة (أو الحرب أو الخروج على الإمام) لعذر البغاة بالتأويل. وأضاف الشافعية (¬3) على هذه الشروط أن تثبت اليد على المال: فلا يضمن الشخص طائراً فزع من مسيره من غير قصد، فخرج من القفص الذي كان مفتوحاً، ولا يضمن المشتري مبيعاً تلف قبل القبض. وأما شروط الضمان في الإتلاف تسببا ً فهي ثلاثة كما ذكر الحنفية (¬4): 1 - التعدي: أن يحدث تعد من فاعل السبب. والتعدي: هو تجاوز الحق، أو ما يسمح به الشرع، كأن يحفر شخص بئراً في الطريق العام من غير إذن الحاكم، أو في غير ملكه عدواناً، أو لا يتخذ الاحتياطات الواقية من وقوع الضرر ولو بإذن، فإذا سقط فيه إنسان أو حيوان، فالحافر ضامن. ومثله أن يؤجج رجل ناراً في يوم ريح عاصف، فيتعدى إلى إتلاف مال الغير؛ أو يحل وكاء وعاء فيه شيء مائع فاندفق؛ أو يمزق وثيقة فضاع ما فيها من الحقوق؛ أو يفتح قفصاً عن طائر، ¬
2 - التعمد
فطار في رأي غير أبي حنيفة وأبي يوسف، أو يحمل حملاً في الطريق، فيقع على شيء فيتلفه، أو يعثر أحد بالحمل، فيضمن في كل تلك الحالات لأنه أثر فعله الذي هو تعدي. 2 - التعمد: وهو أن يصدر الفعل عن قصد وإرادة، كأن يتلف شِرْب (¬1) إنسان بأن يسقي أرضه بشرب غيره، أو يسد الماء عن أرض جاره، فتيبس مزروعاته، أو يجذب ثوب إنسان فيسقط منه ما يحمله فيه، فيتلف، فيضمن. أما إذا لم يكن هناك تعمد، كما لو جفلت دابة من رجل، فهربت وضاعت، فلا يضمن، لأنه غير متعمد أو غير متعد في الأدق. والحقيقة أن المراد بالتعمد هو التعدي، سواء أكان هناك قصد أم لا، فلو صاح مجنون بدابة شخص، فجفلت ووقع الراكب أو الحمل، فتلف، كان ضامناً المال. وإن لم يكن عنده قصد الإضرار، لكنه متعد. وتكون القاعدة؛ «المتسبب لا يضمن إلا بالتعدي» و «المباشر ضامن وإن لم يتعد». 3 - أن يؤدي السبب إلى النتيجة قطعاً، دون تدخل سبب آخر بحسب العادة: وبعبارة أخرى: ألا يتخلل بين السبب والمسبب فعل شخص آخر، أو ألا يكون التلف قد نشأ عن فعل آخر مختار مباشر، فإن تدخل عنصر آخر مختار، نسب الفعل إليه مباشرة. أي إن اشترك المباشر والمتسبب، ضمن المباشر إن كان السبب لا يؤثر في التلف بانفراده عادة، كمن حفر بئراً في مكان عدواناً، فجاء غير الحافر، وأردى فيه ¬
حالة الضرورة
إنساناً أو حيواناً، فالضمان عليه دون الحافر، أما إن تردى فيه بهيمة أو غيرها بنفسها، فالحافر هو الضامن. وإن كان السبب يؤثر بانفراده، فإن المتسبب والمباشر يشتركان في الضمان، كما لو نخس رجل دابة آخر بإذنه، فوطئت إنساناً، فالضمان عليهما؛ لأن السبب هنا يؤثر بانفراده، كما أوضحت سابقاً في الجنايات. هذا ... ولا يشترط في الضامن التمييز أو كونه بالغاً عاقلاً عند الفقهاء، فإن الصبي والمجنون يضمنان ما يتلفانه من أموال، كما بان سابقاً في تعريف الإتلاف. ولا تكون حالة الضرورة سبباً للإعفاء من الضمان، فمن اضطرحال الجوع مثلاً لتناول مال الغير، فإنه يلزمه ضمانه بالرغم من إباحة التناول حفاظاً على النفس من الهلاك؛ لأن القاعدة تقول: «الاضطرار لا يبطل حق الغير». ولا يصلح الجهل بكون المال المتلف مال الغير سبباً أيضاً للتخلص من الضمان. فالعلم بكون المتلف مال الغير، ليس بشرط لوجوب الضمان، فمن أتلف مالاً ظاناً أنه ملكه، ثم تبين أنه مملوك لغيره، ضمنه؛ لأن الإتلاف واقعة مادية لا يتوقف وجودها على العلم بكون التلف مال الغير. كل ما في الأمر أن الإتلاف إذا تم مع العلم، فيوجب الضمان والإثم الأخروي، وإذا حدث جهلاً فيوجب الضمان فقط، ويرتفع الإثم؛ لأن الخطأ مرفوع المؤاخذة شرعاً، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه» (¬1). ¬
المطلب الثالث ـ كيفية الضمان أو ماهيته
المطلب الثالث ـ كيفية الضمان أو ماهيته: الواجب بالإتلافات المالية هو الواجب بالغصب: وهو ضمان المثل إن كان المتلف مثلياً، وضمان القيمة يوم الإتلاف فيما لا مثل له؛ لأن ضمان الإتلاف ضمان اعتداء، والاعتداء لم يشرع إلا بالمثل. فعند الإمكان يجب العمل بالمثل المطلق (وهو المثل صورة ومعنى)، وعند التعذر يجب المثل معنى، وهو القيمة، كما في الغصب (¬1). ¬
الفصل الثامن: دفع الصائل
لكن إن تلف المغصوب المثلي، وفقد مثله، فتجب قيمته يوم انقطاع المثل عند الحنابلة، لأن القيمة وجبت في الذمة حينئذ (المغني: 258/ 5). الفَصْلُ الثَّامن: دَفع الصَّائِل وحكم ضمان الفعل الدفاعي ـ الدفاع الشرعي وفيه مباحث أربعة: في مشروعية الدفاع ومراحله وحكمه، وشروطه، وهل هو حق أو واجب، وضمان الفعل. المبحث الأول ـ مشروعية الدفاع ومراحله وحكمه: إذا اعتدى إنسان على غيره في نفس أو مال أو عرض، أوصال عليه يريد ماله أو نفسه ظلماً، أو يريد امرأة ليزني بها أو صالت عليه بهيمة، فللمعتدى عليه، أو المصول عليه، ولغيره: أن يرد العدوان بالقدر اللازم لدفع الاعتداء بحسب تقديره في غالب ظنه، وللغير أن يعاونه في الدفاع، ولو عرض اللصوص لقافلة، جاز لغير أهل القافلة الدفع عنهم. ويبتدئ المدافع بالأخف فالأخف إن أمكن، فإن أمكن دفع المعتدي بكلام واستغاثة بالناس، حرم عليه الضرب، وإن أمكن الدفع بضرب اليد، حرم استخدام السوط، وإن أمكن الدفع بالسوط، حرم استعمال العصا، وإن أمكن الدفع بقطع عضو، حرم القتل، وإن لم يمكن الدفع إلا بالقتل أبيح للمدافع القتل؛ لأنه من ضرورات الدفع. فإن شهر عليه سيفاً أبيح للمدافع أن يقتله؛ لأنه لا يقدر
على الدفع إلا بالقتل، إذ لو استغاث بالناس لقتله، قبل أن يلحقه الغوث، إذ تأثير السلاح فوري. والخلاصة: أن المدافع إن كان يعلم أن المهاجم ينزجر بصياح أو ضرب بما دون السلاح، فعل، وإلا جاز له استعمال السلاح، فالقتل أو السلاح جوز للضرورة استثناء من قاعدة «الضرر لا يزال بالضرر» ولا ضرورة في الأثقل مع إمكان تحصيل المقصود بالأسهل. ومن المعلوم أن (الضرورة تقدر بقدرها) حتى إن تمكن المعتدى عليه أو المصول عليه من الهرب أو الالتجاء لحصن أو جماعة، فيجب عليه ذلك، كما أوضح الشافعية والمالكية، وفي وجه عند الحنابلة، ويحرم قتال المعتدي أو الصائل حينئذ؛ لأن المعتدى عليه مأمور بتخليص نفسه بالأهون، وبما أن الهرب ونحوه أسهل من غيره، فلا يلجأ إلى الأشد (¬1)، قال العز بن عبد السلام: «إذا انكف الصوال عن الصيال حرم قتالهم وقتلهم» (¬2). وأدلة مشروعية الدفاع كثيرة في القرآن والسنة والمعقول: أما من القرآن فقوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم، واتقوا الله، واعلموا أن الله مع المتقين} [البقرة:194/ 2] فالأمر بالتقوى دليل على ضرورة التزام مبدأ المماثلة أو التدرج في الأخذ بالأخف فالأخف. ومن السنة: أحاديث منها «من قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد» (¬3) فهذا ¬
الدفاع عن الغير
دليل على جواز الدفاع عن الدين والنفس والمال والعرض، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم لما جعل المدافع شهيداً، دل على أن له القتل والقتال. وأما جواز الدفاع عن الغير: فأساسه الحفاظ على الحرمات مطلقاً من نفس أو مال، فلولا التعاون، لذهبت أموال الناس وأنفسهم؛ لأن قطاع الطرق مثلاً إذا انفردوا بأخذ مال إنسان لم يُعنه غيره، فإنهم يأخذون أموال الكل واحداً واحداً، وكذلك غيرهم. وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلم «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قيل: كيف أنصره ظالماً؟ قال: تحجزه عن الظلم، فإن ذلك نصره» (¬1) وقال أيضاً: «من أذل عنده مؤمن، فلم ينصره، وهو يقدر على أن ينصره، أذله الله على رؤوس الأشهاد يوم القيامة» (¬2) وفي حديث «إن المؤمنين يتعاونون على الفُتّان» (¬3). وحكم الدفاع الشرعي: هو الإباحة، فتكون أفعال الدفاع مباحة باتفاق الفقهاء (¬4)، فلا مسؤولية على المدافع من الناحيتين المدنية والجنائية، إلا إذا تجاوز حدود المشروع، فيصبح عمله جريمة يسأل عنها مدنياً وجزائياً، وعليه القصاص. ولا يجوز للمدافع القتل إلا إذا ثبت ببينة أن الصائل لم يندفع إلا به، كأن يرى الشهود أن الصائل أقبل بسلاح مشهور على المدافع، فضربه هذا. ولا يقبل القول بمجرد ادعاء المدافع أنه قد هاجم منزله، فلم يمكنه دفعه إلا بالقتل، كما لا يقبل قول الشهود بأنهم رأوا الصائل داخلاً الدار ولم يذكروا سلاحاً. فإن لم يحضر أحد من الناس يقبل عند المالكية قول المدافع بيمينه (¬5). ¬
المبحث الثاني ـ شروط دفع الصائل
المبحث الثاني ـ شروط دفع الصائل: يشترط لجواز دفع الصائل أربعة شروط وهي (¬1): 1 - أن يكون هناك اعتداء في رأي جمهور الفقهاء، وعند الحنفية: أن يكون الاعتداء جريمة معاقباً عليها. وعلى هذا فممارسة حق التأديب من الأب أو الزوج أو المعلم، وفعل الجلاد لا يوصف بكونه اعتداء. وفعل الصبي والمجنون وصيال الحيوان لا يوصف بكونه جريمة عند الحنفية. فإذا قتل الإنسان الجمل الصؤول ونحوه، ضمن قيمته على كل حال عند الحنفية؛ لأن الأموال تضمن حال الضرورة إلى إتلافها، والقاعدة عندهم أن «الاضطرار لا يبطل حق الغير» وأن جناية (العجماء جُبَار) أي هدر. وقال الجمهور عند الحنفية: لا غرم ولا ضمان على المدافع إذا لم يقدر على الامتناع منه إلا بضربه وقتله، لأنه قتله أثناء الدفاع الجائز، ولدفع شره، وقياساً على قتل الإنسان الصائل، وحرمة النفس أعظم من حرمة المال. وقياساً أيضاً على إهدار دم الصيد الحرمي إذا صال. ويختلف هذا عن حالة المضطر إلى طعام الغير، بأن الطعام لم يلجئ المضطر إلى إتلافه، ولم يصدر منه ما يزيل عصمته (¬2). ومذهب غير الحنفية في صيال الحيوان والصبي والمجنون هو المعقول. 2 - أن يكون الاعتداء حالاً: أي واقعاً بالفعل، لا مؤجلاً ولا مهدداً به فقط. ¬
المبحث الثالث ـ هل دفع الصائل حق مباح أو واجب؟
3 - ألا يمكن دفع الاعتداء بطريق آخر، فإذا أمكنه ذلك بوسيلة أخرى كالاستغاثة أو الاستعانة بالناس أو برجال الأمن، ولم يفعل، فهو معتد. 4 - أن يدفع الاعتداء بالقوة اللازمة: أي بالقدر اللازم لرد الاعتداء بحسب ظنه. بالأيسر فالأيسر، كما بينت في المطلب الأول. المبحث الثالث ـ هل دفع الصائل حق مباح أو واجب؟ الكلام على هذا المطلب يقتضي التفصيل في كل حالة من حالات الدفاع الشرعي على حدة. حكم الدفاع عن النفس: إذا هوجم إنسان بقصد الاعتداء على نفسه، أو عضو من أعضائه، سواء أكان الهجوم من إنسان آخر أم من بهيمة، فيجب على المعتدى عليه أن يدافع عن نفسه في رأي أبي حنيفة والمالكية، والشافعية (¬1)، إلا أن الشافعية قيدوا وجوب دفع الصائل في هذه الحالة بما إذا كان الصائل كافراً أو بهيمة؛ لأن الاستسلام للكافر ذل في الدين، والبهيمة تذبح لاستبقاء نفس الإنسان. وأما إذا كان الصائل مسلماً فالأظهر عند الشافعية أنه يجوز الاستسلام له، بل يسن لخبر أبي داود: «كن خير ابني آدم» يعني قابيل وهابيل، واشتهر ذلك عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ولم ينكر عليه أحد، وأضاف الشافعية بأن الدفع عن نفس غيره في الإيجاب وعدمه كالدفع عن نفسه. ¬
وقيد المالكية وجوب الدفاع بأن يكون بعد الإنذار ندباً كالمحارب إن أمكن: بأن يقول له: ناشدتك الله إلا ما تركتني ونحوه، فإن لم ينكف أو لم يمكن، جاز له دفعه بالقتل وغيره. ودليل القائلين بإيجاب الدفاع عن النفس قوله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة:195/ 2] وقوله سبحانه {فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} [الحجرات:9/ 49] {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} [البقرة:194/ 2] {وجزاء سيئةٍ سيئةٌ مثلها} [الشورى:40/ 42] وبما أن الإنسان يجب عليه صيانة نفسه بأكل ما يجده حال الجوع، فيجب عليه الدفاع عن نفسه. وقال الحنابلة (¬1)، ورأيهم هو المتفق مع السنة: إن دفع الصائل على النفس جائز لا واجب، سواء أكان الصائل صغيراً أم كبيراً أم مجنوناً، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم في حال الفتنة: «اجلس في بيتك، فإن خفت أن يَبهرك شعاع الشمس، فغطِّ وجهك» وفي لفظ «تكون فتن، فكن فيها عبد الله المقتول، ولا تكن القاتل» (¬2) وقد صح أن عثمان رضي الله عنه منع عبيده أن يدافعوا عنه، وكانوا أربع مئة، وقال: «من ألقى سلاحه فهو حر». قالوا: وهذا مخالف لحال المضطر إلى الطعام: يلزمه الأكل منه؛ لأن في القتل شهادة، وإحياء نفس غيره، وفي الأكل إحياء نفسه من غير مساس بنفس أحد غيره. ¬
المبحث الرابع ـ ضمان الفعل
المبحث الرابع ـ ضمان الفعل: اتفق الفقهاء (¬1) على أن المعتدى عليه (المدافع) إذا قتل الصائل، فلا مسؤولية عليه من الناحيتين المدنية والجنائية، فلا دية ولا قصاص، لقوله عليه السلام: «من شهر سيفه ثم وضعه ـ ضرب به ـ فدمه هَدَر» (¬2)، ولأن الصائل باغ، والمصول عليه كان يؤدي واجبه في الدفاع عن نفسه، ودفع الشر (¬3). إلا أن الحنفية استثنوا مما ذكر: ما إذا كان الصائل صبياً أو مجنوناً أو دابة، فقتله المصول عليه، فيسأل مدنياً فقط لا جنائياً، فلا قصاص عليه، وإنما يدفع الدية عن الصبي والمجنون، ويضمن قيمة الدابة كما بينت في المبحث الثاني. وروي عن أبي يوسف: أنه يكون مسؤولاً مدنياً فقط عن قيمة الحيوان، ولاتجب الدية عليه في قتل الصبي والمجنون. ودليل الحنفية بالنسبة للدابة قوله صلّى الله عليه وسلم: «العجماء جُرْحها جُبَار» (¬4) أي هَدر. وأما فعل الصبي والمجنون فلا يوصف بكونه جريمة أو بغياً، فلا تسقط به عصمة النفس، ولا يتوافر بالتالي شرط جواز الدفاع عن النفس؛ لأن من شرائطه أن يكون هناك اعتداء أو عدوان عندهم، كما تقدم، ولأن الدفاع شرع لدفع الجرائم، ولا جريمة ههنا. وقال أبو يوسف: يعد فعل الصبي والمجنون جريمة، بدليل أنه يجب عليهما ¬
حكم العاض
ضمان المتلفات، إلا أنه رفع العقاب عنهما لعدم الإدراك. أما فعل الدابة، فليس جريمة، ولا يجب الضمان على ما تتلفه؛ لأن العجماء جبار والشرط أن يكون الاعتداء جريمة. والخلاصة: أن أبا حنيفة لا يرى وجوداً لحالة الدفاع في صيال الصبي والمجنون والحيوان، وإنما يحق الدفاع على أساس الضرورة، أي فيجب الضمان أو التعويض. وأما أبو يوسف فيرى وجود حالة الدفاع إذا صال الصبي أو المجنون، كما هو رأي غير الحنفية. أما إذا صال الحيوان فيدفع على أساس الضرورة، فتجب قيمته بإتلافه. وأما جمهور الفقهاء فيرون توافر حالة الدفاع في كل الحالات المذكورة؛ لأن من واجب الإنسان أن يدافع عن النفس والمال عند كل اعتداء، وإن فعل الاعتداء بذاته لا يحل دم الصائل، ولكنه يوجب أو يجيز منع الاعتداء، على الخلاف السابق بينهم على رأيين، فالمطالبة بمنع الاعتداء هو الذي أحل دم الصائل، وليس الاعتداء ذاته، فلايشترط إذن أن يكون الاعتداء ذاته جريمة معاقباً عليها. ورأي الحنابلة (¬1): أن من دفع صائلاً عن نفسه أو عن ولده ونسائه ومحارمه كأخته وعمته بالقتل لم يضمنه، ولو دفعه عن غيره بالقتل ضمنه. حكم العاض: وأما من عض يد إنسان، فانتزعها منه، فسقطت أسنانه، فلاضمان عليه، أي لا يسأل مدنياً بدفع الدية عند غير المالكية، بدليل حديث عمران بن حصين «أن رجلاً عض يد رجل، فنزع يده من فيه، فوقعت ثنيتاه (¬2)، فاختصموا إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: يَعضُّ أحدكم يد أخيه، كما يعض الفَحْل (¬3)، لا ¬
حكم الدفاع عن العرض
دية لك» (¬1) وحديث يعلى بن أمية قال: «كان لي أجير، فقاتل إنساناً، فعض أحدهما صاحبه، فانتزع أصبعه، فأنذر ثنيته (أي أزالها)، فسقطت، فانطلق إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فأهدر ثنيته، وقال: أيدع يده في فيك، تقضَمها كما يَقْضَم الفحل» (¬2). وقال المالكية: إنه يجب الضمان في مثل ذلك، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «في السن خمس من الإبل» (¬3) ولكن قال يحيى بن يعمر وابن بطال: لو بلغ مالكاً هذا الحديث ـ حديث ابن الحصين ويعلى ـ لم يخالفه (¬4). حكم الدفاع عن العرض: إذا أراد فاسق الاعتداء على شرف امرأة، فيجب عليها باتفاق الفقهاء (¬5) أن تدافع عن نفسها إن أمكنها الدفع؛ لأن التمكين منها للرجل حرام، وفي ترك الدفاع تمكين منها للمعتدي، ولها قتل الرجل المكره، ولو قتلته كان دمه هَدراً، إذا لم يمكن دفعه إلا بالقتل. وكذلك يجب على الرجل إذا رأى غيره يحاول الاعتداء على امرأة أن ¬
الزاني بامرأته
يدفعه، ولو بالقتل إن أمكنه الدفاع، ولم يخف على نفسه؛ لأن الأعراض حرمات الله في الأرض، لا سبيل إلى إباحتها بأي حال، سواء عرض الرجل أو عرض غيره. ولا يسأل المدافع جنائياً ولا مدنياً، فلا قصاص ولا دية عليه، لظاهرالحديث: «من قتل دون أهله فهو شهيد» (¬1) ولما ذكره الإمام أحمد من حديث الزهري بسنده عن عبيد بن عمير: «أن رجلاً أضاف ناساً من هذيل، فأراد امرأة على نفسها، فرمته بحجر فقتلته، فقال عمر: والله لا يودى أبداً»، ولأنه إذا جاز الدفاع عن المال الذي يجوز بذله وإباحته، فدفاع المرأة أو الرجل عن أنفسهم، وصيانتهم عن الفاحشة التي لاتباح بحال: أولى. الزاني بامرأته: كذلك لاقصاص ولا دية في المذاهب الأربعة (¬2) على من وجد رجلاً يزني بامرأته، فقتله، لما روي: «أن عمر رضي الله عنه بينما هو يتغدى يوماً، إذ أقبل رجل يعدو، ومعه سيف مجرد ملطخ بالدم، فجاء حتى قعد مع عمر، فجعل يأكل، وأقبل جماعة من الناس، فقالوا: يا أمير المؤمنين، إن هذا قتل صاحبنا مع امرأته، فقال عمر: ما يقول هؤلاء؟ قال: ضرب الآخر فخذي امرأته بالسيف، فإن كان بينهما أحد، فقد قتله، فقال لهم عمر: مايقول؟ قالوا: ضرب بسيفه فقطع فخذي امرأته، فأصاب وسط الرجل، فقطعه باثنين، فقال عمر: إن عادوا فعد» (¬3). وإذا كانت المرأة مطاوعة فلا ضمان عليه فيها. وإن كانت مكرهة فعليه القصاص. ¬
الاطلاع على داخل البيوت
ولا بد من البينة كما تقدم في حكم الدفاع. وفي البينة روايتان عند الحنابلة: في رواية: أنها أربعة شهداء، لما روي عن علي رضي الله عنه أنه سئل عن رجل دخل بيته، فإذا مع امرأته رجل، فقتلها وقتله، قال علي: إن جاء بأربعة شهداء، وإلا فليعط برمته أي تضمين ديته. ولما روى أبو هريرة: «أن سعد بن عبادة قال: يا رسول الله، أرأيت إن وجدت مع امرأتي رجلاً أمهله، حتى آتي بأربعة شهداء؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: نعم» (¬1). وفي رواية أخرى: إنه يكفي شاهدان، لأنه البينة تشهد على وجوده على المرأة، وهذا يثبت بشاهدين، وإنما الذي يحتاج إلى أربعة هو الزنا، وهذا لا يحتاج إلى إثبات الزنا. فإن لم تكن بينة فادعى الزوج علم ولي المرأة بالزنا، فالقول قول الولي بيمينه، عند الحنابلة. الاطلاع على داخل البيوت: لو اطلع إنسان بدون إذن على بيت إنسان من ثقب أو شق باب أو نحوه، فرماه صاحب البيت بحصاة أو طعنه بعود، فقلع عينه، فلا مسؤولية عليه جنائياً ولا مدنياً، أي لا قصاص ولا دية عند الشافعية والحنابلة (¬2)،لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لو أن رجلاً اطلع عليك بغير إذن، فخذفته (¬3) بحصاة، ففقأت عينه، ما كان عليك جناح» (¬4). وقوله عليه الصلاة والسلام: «من اطَّلع في بيت قوم بغير إذنهم، فقد ¬
حل لهم أن يفقؤوا عينه» (¬1) وفي لفظ «من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم، ففقؤوا عينه، فلا دية له ولا قصاص» (¬2). هذا إذا رماه بشيء خفيف كحصاة. أما إذا رمى صاحب الدار الناظر بما يقتله عادة كحجر قاتل، أو حديدة ثقيلة، أو نشاب، فيلزم بالقصاص، أو الدية عند العفو عنه؛ لأن له ما يقلع به العين المبصرة التي حصل الأذى منها، دون مايتعدى إلى غيرها. فإن لم يندفع الناظر بالشيء اليسير، جاز ـ كما في الصيال ـ رميه بأشد منه، حتى القتل، سواء أكان الناظر في الطريق، أم في ملك نفسه، أم في غيرهما. وقد بين النبي صلّى الله عليه وسلم الحكمة من منع الاطلاع على البيوت فقال: «إنما جعل الاستئذان من أجل البصر» (¬3). وقال الحنفية والمالكية (¬4): يسأل جنائياً صاحب الدار في هذه الحالة، فيجب عليه القصاص أو الدية، لقوله عليه الصلاة والسلام: «في العين نصف الدية» (¬5)، ولأن مجرد النظر بالعين لايبيح الجناية على الناظر، كما لو نظر من الباب المفتوح، وكما لو دخل منزله، ونظر فيه، أو نال من امرأته ما دون الجماع، لم يجز قلع عينه، فمجرد النظر أولى. ¬
حكم الدفاع عن المال
ويلاحظ أن الاختلاف بين الرأيين هو فيمن نظر من خارج الدار، أما لو أدخل شخص رأسه، فرماه صاحب الدار بحجر، ففقأ عينه، فلا يضمن إجماعاً. حكم الدفاع عن المال: قرر جمهور الفقهاء أن الدفاع عن المال جائز، لا واجب، سواء أكان المال قليلاً أم كثيراً، إذا كان الأخذ بغير حق، ولا قصاص على المدافع إن التزم الدفع بالأسهل فالأسهل، لما رواه أبو هريرة. قال: «جاء رجل، فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: فلا تعطه مالك (وفي لفظ: قاتل دون مالك)، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد، قال: أرأيت إن قتلتُه؟ قال: هو في النار» (¬1) قال العلماء: فإن قتله فلا ضمان عليه، لعدم التعدي منه عليه، والحديث عام لقليل المال وكثيره. وسبب التفرقة بين الدفاع عن المال، والدفاع عن النفس أو العرض عند القائلين بوجوب الدفاع عن غير المال: هو أن المال مما يباح بالإباحة والإذن، أما النفس فلا تباح بالإباحة. وقال بعض المالكية: لا يجوز الدفاع عن المال إذا كان شيئاً يسيراً. ولكن ظاهر الأحاديث السابقة وعمومها يرد على التفرقة بين القليل والكثير كما تقدم. وقال بعض العلماء: إن المقاتلة عن المال واجبة. وهذا رأي المالكية بعد الإنذار كما أوضحت (¬2). ¬
وفرق الشافعية (¬1) بين أنواع المال فقالوا: لا يجب الدفع عن مال لا روح فيه، لأنه يجوز إباحته للغير. أما ما فيه روح: فيجب الدفع عنه إذا قصد إتلافه، ما لم يخش على نفسه أو عرضه، لحرمة الروح، حتى لو رأى أجنبي شخصاً يتلف حيوان نفسه إتلافاً محرماً، وجب عليه دفعه على الأصح. وكذلك يجب عليه الدفع عن مال متعلق به حق الغير كرهن وإجارة. لكن أضاف الشافعية: لو سقطت جرة ولم تندفع عنه إلا بكسرها، ضمنها في الأصح، إذ لا قصد لها ولا اختيار، حتى يحال السبب عليها، فصار المدافع عن المال كالمضطر إلى طعام غيره، يأكله ويضمنه. ¬
الفصل التاسع: اللقطة واللقيط
الفَصْلُ التَّاسِع: اللّقطة واللّقيط اللقطة لغة: بسكون القاف أو فتحها: ما وجد بعد طلب أي ما يلتقط، قال تعالى: {فالتقطه آل فرعون} [القصص:8/ 28] وهي بهذا المعنى اللغوي العام تشمل ما يلتقطه الإنسان من بني آدم أو الأموال، أو الحيوان. واللقَطة بفتح القاف أيضاً: الكثير الالتقاط. إلا أن الحنفية وغيرهم ميزوا في بحوثهم الفقهية بين اللقيط، واللقطة، والضالة. لذا أذكر معنى اللقيط، وأحكامه، ومعنى اللقطة وأحكامها، وأبين نوعي اللقطة: لقطة الأموال، ولقطة الحيوان أي الضالة، وأختم البحث بمعرفة ما يصنع باللقطة. ويكون الكلام في مبحثين: المبحث الأول ـ حقيقة اللقيط وأحكامه: اللقيط لغة: هو ما يلقط أي يرفع من الأرض، وعرفاً: هو الطفل المفقود المطروح على الأرض عادة، خوفاً من مسؤولية إعالته، أو فراراً من تهمة الريبة أو الزنا فلا يعرف أبوه ولا أمه، أو لسبب آخر. أحكامه: الالتقاط عند الحنفية مندوب إليه وهو من أفضل الأعمال؛ لأنه يترتب عليه إحياء النفس، ويكون فرض كفاية إن غلب على الظن هلاك الولد لو لم يأخذه، كأن وجد في مغارة ونحوها من المهالك، لحصول المقصود بالبعض وهو صيانته.
1 - إن الملتقط أولى بإمساك اللقيط من غيره
وقال باقي الأئمة: التقاط الولد فرض كفاية إلا إذا خاف هلاكه ففرض عين. وهناك أحكام فرعية أخرى تتعلق باللقيط منها (¬1): 1 - إن الملتقط أولى بإمساك اللقيط من غيره: فإن شاء تبرع بتربيته والإنفاق عليه، وإن شاء رفع الأمر إلى الحاكم، ليأمر أحداً بتربيته على نفقة بيت المال؛ لأن بيت المال معدّ لحوائج جميع المسلمين .. هذا إذا لم يكن للقيط مال، فإن كان له مال، بأن وجد الملتقط معه مالاً، فتكون النفقة من مال اللقيط؛ لأنه غير محتاج إليه، فلا يثبت حقه في بيت المال، وهذا الحكم مجمع عليه بين العلماء (¬2). ولو أنفق عليه الملتقط من مال نفسه: فإن أنفق بإذن القاضي، فله أن يرجع على اللقيط بعد بلوغه، وإن أنفق بغير إذن القاضي يكون متبرعاً، ولا يرجع على اللقيط بما أنفق عليه بعد استكماله البلوغ. واللقيط كاللقطة أمانة في يد الملتقط. 2 - إن الولاية على اللقيط في نفسه وماله للقاضي: أي بالنسبة للحفظ والتعليم والتربية والتزويج والتصرف من ماله، لقوله عليه الصلاة والسلام: «السلطان ولي من لا ولي له» (¬3) وليس للملتقط ولاية التزويج أو التصرف في المال. ¬
3 - إن اللقيط حر مسلم
وإذا زوج الحاكم اللقيط فالمهر يدفع من بيت المال، إلا إذا كان للقيط مال، فيكون في ماله. كذلك يدفع للقيط من بيت المال ما يحتاج إليه من نفقة وكسوة ودواء ونحوها، وهو مروي عن عمر وعلي رضي الله عنهما، ولأن بيت المال معد للصرف إلى مثله من المحتاجين، كالمقعد الذي لا مال له، ولأن ميراثه لبيت المال، والخراج بالضمان أي لبيت المال غنمه أي (ميراثه) وديته، وعليه غرمه. 3 - إن اللقيط حر مسلم: لأن الأصل في الإنسان إنما هو الحرية، والأصل بقاء ما كان حتى يوجد ما يغيره، ولأن الدار دار إسلام ودار حرية، فمن كان فيها يكون حراً بمقتضى الأصل العام، إذ هو الحكم الغالب والأمر الظاهر، ويكون أيضاً مسلماً تبعاً لدار الإسلام. وبناء عليه، إذا وجد اللقيط مسلم في بلد إسلامي يكون مسلماً، حتى لو مات يغسل ويصلى عليه، ويدفن في مقابر المسلمين، أما إذا وجده ذمي أو مسلم في بِيعة (معبد) النصارى أو كنيسة اليهود أو في قرية ليس فيها مسلم يكون ذمياً تحكيماً للظاهر. ولو وجده ذمي في بلد إسلامي يكون مسلماً، أي أن العبرة للمكان. وفي رواية النوادر عند ابن سماعة: ينظر إلى حال الواجد من كونه مسلماً أو ذمياً ولا يلتفت إلى المكان؛ لأن اليد (أي الحيازة) أقوى من المكان، بدليل أن تبعة الأبوين فوق تبعة الدار. وفي رواية أخرى يكون اللقيط مسلماً بحسب حال الواجد، أو المكان. قال الكاساني: والصحيح هذه الرواية، فإذا وجده مسلم في بلد إسلامي
4 - حكم النسب
كان مسلماً تبعاً للدار، وإذا وجده كافر في دار الإسلام كان مسلماً، أو وجده ذمي أو مسلم في كنيسة كان ذمياً (¬1). فتكون الأقوال ثلاثة: العبرة للمكان، أو العبرة للواجد، أو العبرة للمكان أو الواجد، والقول الثالث هو الأصح عند الحنفية. وقال الشافعية والحنابلة: إذا وجد لقيط بدار الإسلام فهو مسلم، وإن وجد بدار الكفار فكافر إن لم يسكنها مسلم كأسير وتاجر، فإن سكنها مسلم فهو مسلم في الأصح (¬2) تغليباً للإسلام، بدليل ما روى أحمد والدارقطني: «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه». 4 - حكم النسب: يعتبر اللقيط مجهول النسب، حتى لو ادعى إنسان نسبة اللقيط تصح دعوته،،ويثبت النسب منه. وبناء عليه: لو ادعى الملتقط أو غيره أن اللقيط ابنه تسمع دعواه من غير بينة، والقياس ألا تسمع إلا ببينة. وجه القياس ظاهر، وهو أنه يدعي أمراً يحتمل الوجود وعدمه، فلا بد من ترجيح أحد الجانبين على الآخر بمرجح، وذلك بالبينة، ولم توجد. ووجه الاستحسان: أن هذا الادعاء إقرار بما ينفع اللقيط؛ لأنه يتشرف بالنسب ويعير بفقده، وتصديق المدعي في مثل هذا لا يتطلب البينة. لكن لو ادعى نسبه ذمي تقبل دعواه، ويثبت نسبه منه، لكنه يكون مسلماً؛ لأن ادعاء النسب يقبل فيما ينفع اللقيط لا فيما يضره، ولا يلزم من كونه ابناً له أن يكون كافراً، كما لو أسلمت أمه مثلاً، فيلحق الولد خير الأبوين ديناً، كما هو معروف. ¬
ولو ادعاه رجلان أنه ابنهما، ولا بينة لهما، فإن كان أحدهما مسلماً، والآخر ذمياً، فالمسلم أولى بثبوت نسبه منه؛ لأنه أنفع للقيط. وإن كان المدعيان مسلمين حرين: فإن وصف أحدهما علامة في جسد الولد، فهو أحق به عند الحنفية؛ لأن ذكر العلامة يدل على أنه كان في يده، فالظاهر أنه له، فيترجح بها، بدليل قوله تعالى مخبراً عن أهل امرأة عزيز مصر: {إن كان قميصه قدّ من قُبُل فصدقت وهو من الكاذبين، وإن كان قميصه قدّ من دُبُر، فكذبت وهو من الصادقين} [يوسف:26/ 12 - 27]. وإن لم يصف أحدهما علامة، أو أقام كل منهما البينة، يحكم بكونه ابناً لهما، إذ ليس أحدهما بأولى من الآخر، وقد روي عن سيدنا عمر في مثل هذا أنه قال: إنه ابنهما يرثهما ويرثاه. وإن ذكر أحدهما بينة، والآخر علامة، فصاحب البينة أولى؛ لأنه ترجح جانبه بمرجح. وقال الشافعية: إن ادعى اللقيط اثنان ولم يكن لأحدهما بينة، عرض اللقيط على القائف (¬1) فيلحق من ألحق به؛ لأن في إلحاقه أثراً في الانتساب عند الاشتباه (¬2). وإن ادعت امرأة أن اللقيط ابنها: فإن لم يكن لها زوج، لا يصح ادعاؤها؛ لأن فيه حمل نسب شخص على الغير وهو الزوج، وهو لا يجوز. وإن كان لها ¬
المبحث الثاني ـ اللقطة وأحكامها
زوج فصدقها في ادعائها أو شهدت لها القابلة، أو شهد لها شاهدان، ثبت النسب منها. ولو ادعته امرأتان، وأقامت إحداهما البينة فهي أولى به، وإن أقامت كل منهما البينة، فهو ابنهما عند أبي حنيفة. وعند أبي يوسف: لا يكون لواحدة منهما. وعن محمد روايتان: في رواية يجعل ابنهما، وفي رواية: لا يجعل ابن واحدة منهما. المبحث الثاني ـ اللقطة وأحكامها ونوعاها وما يصنع بها: ينقسم هذا المبحث إلى مطالب ثلاثة: المطلب الأول ـ معنى اللقطة وأحكامها: اللقطة ـ بضم اللام وفتح القاف أو سكونها، وحكى ابن مالك فيها أربع لغات: وهي لقاطة، ولقطة بضم اللام وسكون القاف، وبضم اللام وفتح القاف، ولقط بفتح اللام والقاف بلا تاء مربوطة. وقال الخليل بن أحمد: هي بفتح القاف وصف مبالغة لاسم الفاعل: وهو الملتقط، مثل هُمَزة ولُمَزة، وبسكون القاف وصف مبالغة لاسم المفعول: مثل ضُحْكة للذي يضحك منه، وهُزْأة للذي يهزأ به، وإنما قيل للمال الملتقط لقطة؛ لأن طباع النفوس في الغالب تبادر إلى التقاطه؛ لأنه مال. وهي شرعاً كما قال ابن قدامة الحنبلي: المال الضائع من ربه يلتقطه غيره. وبنحوه في التتارخانية من كتب الحنفية: هي مال يوجد، ولا يعرف مالكه، وليس بمباح كمال الحربي.
1 - أما حكمها من حيث الندب وغيره
أحكامها: للقطة أحكام من حيث الندب ومن حيث الضمان وغيرهما: 1 - أما حكمها من حيث الندب وغيره: فهو مختلف فيه عند الفقهاء، فقال الحنفية والشافعية: الأفضل الالتقاط؛ لأن من واجب المسلم أن يحفظ مال أخيه المسلم، لقوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى} [المائدة:2/ 5] وقوله صلّى الله عليه وسلم: «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» (¬1) فيكون الالتقاط سبيلاً لحفظ المال، ثم رده على صاحبه، لأنه ربما وقع في يد إنسان غير مؤتمن، فيأخذه، أما الأمين فيساعد في رد المال لصاحبه، وكف الأيدي الآثمة عنه. فإن لم يثق بأمانة نفسه وخشي استباحته، كره له الالتقاط، وإن علم من نفسه الخيانة، دون الرد على صاحبه، حرم الالتقاط، لقوله صلّى الله عليه وسلم فيما يرويه أحمد عن جرير بن عبد الله: «لا يأوي الضالة إلا ضال، مالم يعرّفها». وقال المالكية والحنبلية بكراهية الالتقاط، لقول ابن عمر وابن عباس، ولأنه تعريض لنفسه لأكل الحرام، ولما يخاف أيضاً من التقصير فيما يجب لها من تعريفها وردها لصاحبها وترك التعدي عليها (¬2). هذا هو الحكم العام، ثم فصل علماء كل مذهب تفصيلات مذهبية، المهم منها الإشارة إلى مذهب الحنفية، ومثلهم الشافعية، فإنهم قالوا: يستحب الالتقاط لواثق بأمانة نفسه إذا خاف ضياع اللقطة لئلا يأخذها فاسق، فإن لم يخف ضياعها فالتقاطها مباح، وإن علم من نفسه الخيانة بأن يأخذ اللقطة لنفسه، لا لصاحبها ¬
2 - وأما حكمها من حيث الضمان وعدمه
فيحرم الالتقاط، لما روي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يأوي الضالة إلا ضال» (¬1). 2 - وأما حكمها من حيث الضمان وعدمه: فقال الحنفية: اللقطة أمانة في يد الملتقط لا يضمنها إلا بالتعدي عليها، أو بمنع تسليمها لصاحبها عند الطلب، وذلك إذا أشهد الملتقط على أنه يأخذها ليحفظها ويردها إلى صاحبها؛ لأن الأخذ على هذا الوجه مأذون فيه شرعاً، قال صلّى الله عليه وسلم: «من وجد لقطة فليشهد ذوي عدل» (¬2). وهو أمر يقتضي الوجوب، ولأنه إذا لم يشهد كان الظاهر أنه أخذها لنفسه، ويكفيه للإشهاد أن يقول: من سمعتموه ينشد لقطة فدلوه علي. وكذلك تكون أمانة إذا تصادق صاحب اللقطة والملتقط أنه التقطها ليحفظها للمالك. فإن لم يشهد الملتقط ولم يتصادقا، وإنما قال الآخذ: أخذتها للمالك وكذبه المالك يضمن اللقطة عند أبي حنيفة ومحمد؛ لأن الظاهر أنه أخذ اللقطة لنفسه، لا للمالك. وقال المالكية والشافعية والحنابلة: اللقطة أمانة، ولكن لا يشترط الإشهاد على اللقطة وإنما يستحب فقط، وإذا لم يشهد الآخذ فلا يضمن عندهم وعند أبي يوسف أيضاً؛ لأن اللقطة وديعة، فلا ينقلها ترك الإشهاد من الأمانة إلى الضمان، ¬
بدليل ما جاء من حديث سليمان بن بلال وغيره أنه قال: «إن جاء صاحبها، وإلا فلتكن وديعة عندك» (¬1). وأما عدم اشتراط الإشهاد، فلأن الرسول صلّى الله عليه وسلم أمر زيد بن خالد وأبي بن كعب بتعريف اللقطة فقط دون الإشهاد (¬2)، ومن المعلوم أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فلو كان الإشهاد واجباً لبينه النبي صلّى الله عليه وسلم حينما سئل عن حكم اللقطة، وحينئذ تعين حمل الأمر بالإشهاد في حديث عياض الذي استدل به الحنفية على الندب والاستحباب فقط (¬3). أـ وبناء على رأي أبي حنيفة ومحمد: لو أخذ الشخص اللقطة ثم ردها إلى مكانها الذي أخذها منه، لا ضمان عليه في ظاهر الرواية؛ لأنه أخذها محتسباً متبرعاً ليحفظها على صاحبها، فإذا ردها إلى مكانها فقد فسخ التبرع. فصار كأنه لم يأخذها أصلاً. هذا إذا كان المالك قد صدق الملتقط أنه أخذها ليحفظها، أو كان الملتقط قد أشهد على ذلك ثم ضاعت. فإن كان لم يشهد يجب عليه الضمان عند أبي حنيفة ومحمد. وعند أبي يوسف: لا يجب الضمان، سواء أشهد أم لم يشهد، ويكون القول قول الملتقط بيمينه أنه أخذها ليحفظها لصاحبها. ¬
وقال مالك: لا ضمان على من رد اللقطة إلى موضعها، لما روي عن عمر أنه قال لرجل وجد بعيراً: «أرسله حيث وجدته». ولكن المشهور في مذهب المالكية أن الملتقط يضمن اللقطة إذا ردها لموضعها أو لغيره بعد أخذها للحفظ. ورأى الشافعية والحنابلة: أنه إذا أخذ اللقطة إنسان، ثم ردها إلى موضعها ضمنها؛ لأنها أمانة صارت في يده، فلزمه حفظها، فإذا ضيعها لزمه ضمانها كما لو ضيع الوديعة. فصار رأي الجمهور هو وجوب الضمان برد اللقطة إلى مكانها. ب ـ ويضمن الملتقط اللقطة إذا دفعها إلى غيره بغير إذن القاضي؛ لأنه يجب عليه حفظها بنفسه، بالتزامه الحفظ بالالتقاط. جـ ـ فإن هلكت اللقطة في يد الملتقط: فإن أشهد على اللقطة، بأن قال للناس: (إني وجدت لقطة، فمن طلبها فدلوه علي): فإنه لا يضمن. وإن لم يشهد فعند أبي حنيفة ومحمد: يضمن. وعند أبي يوسف: لا يضمن إذا كان قد أخذ اللقطة ليردها إلى صاحبها، ويحلف على فعله إن لم يصدقه صاحبها، كما ذكرت قريباً. د ـ ولو أقر الملتقط أنه كان قد أخذ اللقطة ليمتلكها لنفسه، لا يبرأ عن الضمان إلا بالرد على المالك؛ لأنه ظهر أنه أخذها غصباً، فكان الواجب عليه الرد إلى المالك (¬1) لقوله صلّى الله عليه وسلم: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» (¬2). ¬
المطلب الثاني ـ نوع اللقطة وما يصنع بها
المطلب الثاني ـ نوع اللقطة وما يصنع بها: اللقطة نوعان: لقطة غير الحيوان: وهو المال الساقط الذي لا يعرف مالكه، ولقطة الحيوان: وهو الضالة من الإبل والبقر والغنم من البهائم. وحكم لقطة الحيوان: أنه يجوز التقاطها عند الحنفية والشافعية في الأصح عندهم، لحفظها لصاحبها صيانة لأموال الناس ومنعاً من ضياعها ووقوعها في يد خائنة. وقال مالك وأحمد: يكره التقاط ضالة الحيوان، ولقطة المال أيضاً (¬1)، لما رواه أصحاب الكتب الستة عن زيد بن خالد الجهني، قال: «سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن لقطة الذهب والورق (¬2)، فقال اعرف وكاءها، وعفاصها (¬3)، ثم عرِّفها سنة، فإن لم تعرف فاستنفقها (¬4)، ولتكن وديعة عندك، فإن جاء طالبها يوماً من الدهر، فأدّها إليه». وسأله رجل عن ضالة الإبل، فقال: «مالك ولها، دعها، فإن معها حذاءها وسقاءها (¬5) ترد الماء، وتأكل الشجر حتى يجدها ربها. وسأله عن الشاة فقال: خذها فإنما هي لك، أو لأخيك أو للذئب» (¬6) أي أن لقطة الإبل غير جائزة، ولقطة الأموال الأخرى جائزة. ¬
وروى أبو داود وأحمد وابن ماجه عن جرير بن عبد الله أنه أمر بطرد بقرة لحقت ببقرة حتى توارت، فقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «لا يأوي الضالة إلا ضال» (¬1) وقال صلّى الله عليه وسلم: «إن ضالة المسلم حرق النار» (¬2) أي تؤدي به إلى النار إذا تملكها. وأخرج مسلم وأحمد والترمذي عن أبي بن كعب في حديث اللقطة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «عرفها فإن جاء أحد يخبرك بعدَّتها ووعائها ووكائها، فأعطها إياه، وإلا فاستمتع بها» (¬3). وأجاب الفريق الأول عن الأحاديث بأن حكمها كان في الماضي حين غلبة أهل الصلاح والأمانة، فلا تصل إليها يد خائنة، أما في زماننا فنظراً لكثرة الخيانة يكون في أخذها حفظها على صاحبها. وهذا كله ما عدا لقطة الحج، فإن العلماء أجمعوا على أنه لا يجوز التقاطها لنهيه عليه السلام عن ذلك (¬4)، ولا يجوز لقطة مكة أيضاً، لقوله صلّى الله عليه وسلم في بلد مكة ¬
ما يصنع باللقطة
يوم الفتح: «ولا تحل لقطتها إلا لمعرِّف» وفي لفظ: «ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد» (¬1). وأما ما يصنع باللقطة: فهو أن الملتقط يعرفها، لما روى البخاري ومسلم عن زيد بن خالد الجهني، قال: «سأل رجل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن اللقطة، فقال: عرفها سنة» وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً: «لا تحل اللقطة، فمن التقط شيئاً فليعرِّف سنة» الحديث (¬2). والكلام عن تعريف اللقطة يستتبع بحث كيفية التعريف، ومدة التعريف، ومكان التعريف، ونفقات التعريف، وما تحتاجه الضالة، وشرط ردِّ اللقطة إلى صاحبها، وحكم تملكها: 1 - كيفية تعريف اللقطة وحكم بيان المعرِّف: المراد بتعريف اللقطة: هو المناداة عليها، أو الإعلان عنها حيث وجدها، وفي المجتمعات العامة كالأسواق وأبواب المساجد، والمقاهي، ونحوها. وتعريفها: يكون بذكر بعض أوصافها كأن يذكر جنسها، فيقول: (من ضاع له نقود، أو ثياب) ونحوه، وأن يبين وعاءها أو وكاءها الذي يربط به كيسها، ولا يصف أوصافها التفصيلية لأنه لو وصفها، لعلم صفتها من يسمعها، فلا تبقى صفتها دليلاً على ملكها. ¬
2 - مدة التعريف
ويجب على الملتقط عند الجمهور تعريف اللقطة؛ لأن ظاهر أمر الرسول صلّى الله عليه وسلم لزيد بن خالد في قوله: «عرفها سنة» يقتضي الوجوب، إذ ظاهر الأمر للوجوب، كما هو معروف عند علماء الأصول. وقال أكثر الشافعية: لا يجب تعريفها لمن أراد حفظها لصاحبها؛ لأن الشرع إنما أوجب التعريف إذا كان بقصد التملك، لكن المعتمد عندهم وجوب التعريف. وبه اتفقت المذاهب الأربعة على وجوب الإعلان عن اللقطة أو تعريفها. وللملتقط أن يتولى تعريفها بنفسه، أو يستنيب عنه أحداً يقوم بالتعريف (¬1). 2 - مدة التعريف: اتفق العلماء على أن لواجد ضالة الغنم في المكان القفر البعيد عن العمران أن يأكلها، لقوله صلّى الله عليه وسلم في الشاة: «هي لك أو لأخيك أو للذئب». واختلفوا هل يضمن قيمتها لصاحبها أو لا؟. قال جمهور العلماء: إنه يضمن قيمتها، إذ لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه (¬2). وقال مالك في أشهر أقواله: إنه لا يضمن أخذاً بظاهر هذا الحديث. وأما غير ضالة الغنم: فاتفق العلماء على تعريف ما كان منها له أهمية وشأن مدة سنة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر بتعريف اللقطة سنة واحدة كما عرفنا. ¬
الشيء الحقير
وما رواه البخاري ومسلم في حديث أبي من تعريف اللقطة ثلاثة أحوال (أعوام) أو أربعة أو عشرة، هو غلط من بعض الرواة كما حقق ابن الجوزي، أو هو محمول على مريد الورع عن التصرف في اللقطة (¬1). وأما الشيء الحقير: فقال الشافعية: الأصح أن الشيء الحقير، أي القليل المتمول وهو بقدر الدينار أو الدرهم لا يعرَّف سنة، لقول عائشة: «لا بأس بما دون الدرهم أن يستنفع به» وقدر بما لا تقطع به يد السارق وهو ربع دينار عند الجمهور، وعشرة دراهم عند الحنفية، بل يعرف زمناً يظن أن فاقده يعرض عنه غالباً، وهذا هو الراجح عند المالكية. وفي رواية عن أبي حنيفة: مضمونها إن كانت قيمة الشيء أقل من عشرة دراهم (أي دينار) يعرّفه أياماً بحسب ما يرى، وإن كانت عشرة دراهم فصاعداً عرّفها حولاً، إلا أن هذه الرواية ليست هي ظاهر الرواية عند الحنفية فقد قال الطحاوي: وإذا التقط لقطة فإنه يعرفها سنة، سواء أكان الشيء نفيساً أم خسيساً في ظاهر الرواية. وظاهر الرواية عند الحنفية هو ظاهر المذهب عند الحنابلة (¬2). وأما الشيء التافه فقد قال الفقهاء: لا خلاف في إباحة أخذ اليسير من الأشياء والانتفاع به من غير تعريف كالتمرة والكسرة والخرقة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم لم ينكر على واجد التمرة حيث أكلها بل قال له: «لو لم تأتها لأتتك» ورأى النبي صلّى الله عليه وسلم تمرة فقال: «لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها» (¬3) ويلاحظ أن الأمر ¬
3 - مكان التعريف
بإكمال مدة التعريف إذا كانت اللقطة مما لا يتسارع إليها الفساد، فإن كانت مما يتسارع بها تصدق بها أو أنفقها على نفسه عند الحنفية. وعند الشافعية: يتخير الملتقط بين أن يبيعها ليمتلك ثمنها بعد التعريف، أو يتملكها في الحال ويأكلها ويغرم قيمتها. 3 - مكان التعريف: تعرّف اللقطة في الأسواق وأبواب المساجد ومجامع الناس؛ لأن المقصود إشاعة خبرها وإظهارها ليعلم بها صاحبها، ولا ينشدها في المسجد؛ لأن المسجد لم يبن لهذا، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد، فليقل: لا ردَّها الله إليه، فإن المساجد لم تبن لهذا» (¬1). وأمر سيدنا عمر واجد اللقطة بتعريفها على باب المسجد. وأجاز الشافعية استثناء مما سبق المسجد الحرام، فإنه يجوز فيه الإعلان عن فقد الأشياء الضائعة، لأن تعريفها لمصلحة مالكها؛ لأن الملتقط ليس له تملكها. أما من ينشد اللقطة في غير المسجد الحرام، فهو متهم أنه يفعل ذلك ليتملك اللقطة بعد تعريفها. وأرى أن الاستعانة بمكبرات الصوت على المآذن للإعلان عن اللقطة أمر لا بأس به في غير أوقات الصلاة، منعاً من التشويش على المصلين، ولأن الحاجة داعية لذلك بسبب ازدحام المدن واتساع مناطق السكان، والأولى كتابة إعلانات وإلصاقها على أبواب المساجد وغيرها، فتتحقق الغاية المطلوبة من التعريف، وقد أصبح هذا مألوفاً في عصرنا. كما يمكن التعريف بالجرائد والصحف اليومية. وأبان الشافعية طريق التعريف في أثناء السنة، فقالوا: يعرّف اللقطة، في ¬
4 - نفقات التعريف وما تحتاجه الضالة
أول السنة كل يوم مرتين في طرفي النهار، ثم يعرف في كل يوم مرة، ثم كل أسبوع مرة أو مرتين، ثم كل شهر مرة تقريباً (¬1). 4 - نفقات التعريف وما تحتاجه الضالة: إذا احتاج تعريف اللقطة إلى نفقة كأجور الإعلان في الصحف في عصرنا الحاضر مثلاً، فقد قال الحنفية والحنابلة: تكون تلك النفقة على الملتقط؛ لأن هذا أجر واجب على المعرف نفسه، فكان عليه كما لو قصد تملك اللقطة، ولأنه لو تولى الملتقط تعريف اللقطة بنفسه لم يكن له أجر على صاحبها، فكذلك إذا استأجر على التعريف لا يلزم صاحبها بشيء. وقال المالكية: إن أنفق الملتقط على اللقطة شيئاً من عنده، فيخير صاحبها بين أن يفتديها من الملتقط بدفع نفقتها، أو يسلم اللقطة لملتقطها مقابل نفقتها (¬2). وقال الشافعية: بما أن تعريف اللقطةواجب على الملتقط، على ما هو المعتمد، فإن الملتقط لا يلزم بمؤنة التعريف إن أخذ اللقطة بقصد حفظها لمالكها، وإنما يرتبها القاضي من بيت المال (¬3)، أو يقترض على المالك. أما إن أخذ اللقطة لتملكها، فيلزمه مؤنة التعريف، سواء أتملكها أم لا. وهذا هو الرأي المعقول. أما ما تحتاجه الضالة أو اللقطة من نفقة: فقال المالكية: للملتقط الرجوع بالنفقة على صاحب اللقطة، وقال الشافعية والحنابلة: ملتقط اللقطة متطوع بحفظها، فلا يرجع بشيء من النفقة على صاحب اللقطة، إلا أن الشافعية قالوا: فإن أراد الرجوع استأذن الحاكم، فإن لم يجده أشهد على النفقة. ¬
5 - شرط رد اللقطة إلى صاحبها
وكذلك قال الحنفية: إن أنفق الملتقط على اللقطة بغير إذن الحاكم فهو متبرع، لأنه لا ولاية له على ذمة المالك في أن يشغلها بالدين بدون أمره، وإن أنفق عليها بإذن الحاكم، كان ما ينفقه ديناً على المالك؛ لأن للقاضي ولاية في مال الغائب رعاية لمصالحه، فإذا رفع الأمر إلى القاضي ينظر في الأمر: فإن كان للبهيمة منفعة، وهناك من يستأجرها أجَرَها وأنفق عليها من أجرتها؛ لأن في إجارتها رعاية لمصلحة المالك، وإن كانت البهيمة لا منفعة لها بطريق الإجارة وخاف أن تستغرق النفقة قيمتها، أمر القاضي الملتقط ببيعها وحفظ ثمنها. وإن رأى الأصلح ألا يبيعها، بل ينفق عليها، أذن له في النفقة وجعل النفقة ديناً على مالكها، فإذا حضر المالك فللملتقط أن يحبس اللقطة عنده حتى يحضر النفقة، وإن أبى أن يؤدي النفقة باعها القاضي، ودفع للملتقط قدر النفقات التي أنفقها (¬1). 5 - شرط رد اللقطة إلى صاحبها: يشترط لرد اللقطة إلى صاحبها أن يذكر علامة يميزها عن غيرها، أو يثبت أنها له بالبينة، أي بشهادة شاهدين، فإذا أثبت كونها له أو ذكر علامة تميزها، كأن يصف عفاصها (وعاءها) ووكاءها (ما تربط به من الخيول وغيرها) ووزنها وعددها، فيحل حينئذ للملتقط أن يدفعها إليه، وإن شاء أخذ منه كفيلاً؛ لأن ردها إليه بالعلامة مما قد ورد به الشرع. وهذا باتفاق العلماء، لكن هل يجبر الملتقط قضاء على رد اللقطة بمجرد وصف العلامة المميزة لها، أو لابد من البينة؟ خلاف بين العلماء (¬2). ¬
قال الحنفية، والشافعية على المذهب عندهم: لا يجبر الملتقط على تسليم اللقطة إلى من يدعيها بلا بينة، لأنه مدع، فيحتاج إلى بينة كغيره، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، لكن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر» (¬1). ولأن اللقطة مال للغير، فلا يجب تسليمه بالوصف كالوديعة، لكن يحل للملتقط دفع اللقطة لمن يدعيها عند إصابة العلامة عند الحنفية، أو إذا غلب على ظن الملتقط صدق المدعي عند الشافعية، عملاً بقول الرسول صلّى الله عليه وسلم: «فإن جاء صاحبها، وعرَّف عفاصها، ووكاءها، وعددها فأعطها إياه، وإلا فهي لك». وقال المالكية والحنابلة: يجبر الملتقط على تسليم اللقطة لصاحبها إذا وصفها بصفاتها المذكورة، سواء غلب على ظنه صدقه أم لم يغلب، ولا يحتاج إلى بينة، عملاً بظاهر قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «فإن جاء أحد يخبرك بعددها، ووعائها، ووكائها، فادفعها إليه». وفي حديث زيد السابق: «اعرف وكاءها وعفاصها، ثم عرفها سنة فإن لم تعرف، فاستنفقها، وإن جاء طالبها يوماً من الدهر، فأدِّها إليه» يعني إذا ذكر صفاتها؛ لأن هذا هو المذكور في صدر الحديث، ولم يذكر البينة في شيء من الحديث، ولو كانت شرطاً للدفع لم يجز الإخلال به، ولا أمر بالدفع بدونه، ولأن إقامة البينة على اللقطة متعذر؛ لأنها ضاعت حال الغفلة والسهو. وقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «البينة على المدعي» يعني إذا كان هناك منكر، ولا منكر ههنا. وهذا هو الرأي الأرجح حقاً. ¬
6 - حكم تملك اللقطة
6 - حكم تملك اللقطة: اختلف فقهاؤنا في حكم اللقطة بعد تعريفها سنة على رأيين: رأي يجيز تملكها للفقير دون الغني، ورأي يجيز تملكها مطلقاً. قال الحنفية (¬1): إذا كان الملتقط غنياً لم يجز له أن ينتفع باللقطة، وإنما يتصدق بها على الفقراء، سواء أكانوا أجانب أم أقارب، ولو أبوين أو زوجة أو ولداً، لأنه مال الغير، فلا يجوز الانتفاع به بدون رضاه، لإطلاق النصوص من قرآن وسنة، مثل قوله تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} [البقرة:188/ 2]، وقوله: {ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} [البقرة:190/ 2] وقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه». ولقوله صلّى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة: «لا تحل اللقطة، فمن التقط شيئاً فليعرِّف سنة، فإن جاء صاحبها، فليردها عليه، وإن لم يأت فليتصدق» (¬2). وفي حديث عياض بن حمار المجاشعي: «من وجد لقطة فليشهد عليها ذا عدل أو ذوي عدل، ولا يكتم ولا يغيب، فإن وجد صاحبها فليردها إليه، وإلا فهي مال الله يؤتيه من يشاء». وأما إذا كان الملتقط فقيراً فيجوز له الانتفاع باللقطة بطريق التصدق، لقوله عليه الصلاة والسلام: «فليتصدق بها». فإن عرف صاحبها بعد التصدق بها أو الانتفاع بها، فهو بالخيار: إن شاء ¬
أمضى الصدقة، وله ثوابها، وإن شاء ضمن الملتقط، وإن شاء أخذها من الفقير المتصدق عليه بها إن وجده، وأيهما ضمن لم يرجع على صاحبه. وقال جمهور الفقهاء: يجوز للملتقط أن يتملك اللقطة، وتكون كسائر أمواله سواء أكان غنياً أم فقيراً؛ لأنه مروي عن جماعة من الصحابة كعمر وابن مسعود وعائشة وابن عمر، وهو ثابت بقوله صلّى الله عليه وسلم في حديث زيد بن خالد: «فإن لم تعْرَف فاستنفقها» وفي لفظ «فشأنك بها» وفي حديث أبي بن كعب: «فاستنفقها»، وفي لفظ «فاستمتع بها» وهو حديث صحيح. وحديث الحنفية عن أبي هريرة لم يثبت، ولا نقل في كتاب يوثق به، ودعواهم في حديث عياض أن ما يضاف إلى الله لا يتملكه إلا من يستحق الصدقة، لا برهان لها ولا دليل عليها، وبطلانها ظاهر، فإن الأشياء كلها تضاف إلى الله تعالى خلقاً وملكاً، قال الله تعالى: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} [النور:33/ 24]. أما طريق التملك عند الجمهور فمختلف فيه: قال الحنابلة: تدخل اللقطة في ملك الملتقط عند تمام التعريف حكماً كالميراث، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «فإذا جاء صاحبها، وإلا فهي كسبيل مالك» ولقوله: «فاستنفقها» ولو توقف ملكها على تملكها لبين الرسول صلّى الله عليه وسلم له المطلوب. وقال المالكية: يملكها الملتقط بأن ينوي تملكها، أي تجديد قصد التملك، لعدم الإيجاب من الغير. وقال الشافعية: يملكها الملتقط باختياره بلفظ من ناطق يدل عليه مثل: تملكت ما التقطته؛ لأن تملكها تمليك ببدل، فافتقر إلى اختيار التملك، كما يتملك الشفيع بالشفعة.
لقطة الحل والحرم
واتفق العلماء إلا أهل الظاهر على أن الملتقط إذا أكل اللقطة، ضمنها لصاحبها (¬1). لقطة الحل والحرم: ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الأحكام المذكورة في تعريف اللقطة تنطبق على ما إذا كانت اللقطة في مكة وغيرها من البلدان؛ لأن اللقطة أمانة، فلم يختلف حكمها بالحل والحرم كالوديعة، ولأن الأحاديث الواردة في اللقطة لم تفرق بين الحل والحرم، مثل قوله عليه الصلاة والسلام: «اعرف عفاصها ووكاءها، ثم عرِّفها سنة» وغيره. وأما الحديث الوارد بتخصيص تعريف لقطة مكة، فالمقصود به دفع توهم بعض الناس أنه لا حاجة لتعريف لقطة مكة، لعدم الفائدة باعتبارها مكان الغرباء (¬2). وقال الشافعية على الصحيح المنصوص عندهم: يجب تعريف لقطة الحرم أبداً، إذ لا تحل لقطة الحرم للتملك، بل للحفظ أبداً، لخبر الصحيحين: «إن هذا البلد حرمه الله، لا يلتقط لقطته إلا من عرفها». وفي رواية للبخاري «لا تحل لقطة الحرم إلا لمنشد» قال الشافعي رضي الله عنه: أي لمعرِّف، ففرق صلّى الله عليه وسلم بينها وبين غيرها، وأخبر أنها لا تحل إلا للتعريف ولم يؤقت التعريف بسنة كغيرها، فدل على أنه أراد التعريف على الدوام، وإلا فلا فائدة من التخصيص، والمعنى فيه: أن حرم مكة شرفه الله تعالى مثابة للناس يعودون إليه، المرة بعد الأخرى، فربما يعود مالكها من أجلها، أو يبعث في طلبها، فكأنه جعل ماله به محفوظاً عليه، كما غلظت الدية فيه. ¬
الفصل العاشر: المفقود
الفَصْلُ العَاشِر: المفقود الكلام فيه عن معنى المفقود، وكيفية اعتبار حاله، وما يقوم به القاضي نحو ماله وأهله ووقت الحكم بموته وأثر ذلك (¬1). من المفقود؟ هو الشخص الذي غاب عن بلده بحيث لا يعرف أثره، ومضى على فقده زمان بحيث لا يعرف أنه حي أو ميت. كيف نعتبر حال المفقود حياة أو موتاً؟ يعتبر المفقود حياً في حق نفسه، ميتاً في حق غيره، فتثبت له عند الحنفية الحقوق السلبية دون الإيجابية، فبالنسبة له لا يورث ماله، ولا تبين منه امرأته، كأنه حي. وبالنسبة لغيره: لا يرث أحداً من أقاربه كأنه ميت، وكذلك لو أوصى أحد للمفقود ومات الموصي لا يستحق الموصى به، وإنما يوقف نصيبه من الإرث أو الوصية إلى أن يظهر حاله أنه حي أو ميت. ووافقهم الشافعية في أن الزوجة لا يحق لها فسخ الزواج، وتنتظر حتى يعلم موت زوجها. وقال الإمامان مالك وأحمد: إذا مضى أربع سنوات يفرق القاضي بين المفقود وبين امرأته، وتعتد عدة الوفاة، ثم تتزوج من شاءت؛ لأن عمر رضي الله عنه قضى بذلك في مفقود. ¬
صلاحيات القاضي في مال المفقود وأهله
صلاحيات القاضي في مال المفقود وأهله: للقاضي صلاحيات على مال المفقود وأهله وهي عند الحنفية ما يلي: 1 - يعين القاضي أميناً يحفظ مال المفقود، ويشرف على شؤونه ويستثمره، ويستوفي حقوقه العائدة إليه، كالقيِّم على مال الصبي والمجنون. 2 - يبيع من ماله ما يتسارع إليه الفساد ويحفظ ثمنه؛ لأن البيع من مقتضيات الحفظ. وإذا كان له ودائع يتركها في يد الوديع ليحفظها؛ لأن يده يد نيابة عن المفقود في الحفظ. 3 - ينفق من مال المفقود على زوجته إن كان يعلم بقاء الزوجية، وكذا ينفق من ماله على أولاده الصغار الذكور والإناث، وعلى أولاده الفقراء الزمنى من الذكور والإناث. وإن لم يكن له مال وله ودائع، فإنه ينفق منها، إذا كانت من الطعام والثياب والدراهم والدنانير. فإن كان مال المفقود من غير الدراهم والدنانير أو الطعام والثياب، كأن كان له عروض تجارة أو عقارات، فلا ينفق منه القاضي على هؤلاء؛ لأنه لا يمكن الإنفاق إلا بالبيع، وليس للقاضي أن يبيع العقار والعروض على الغائب؛ ولكن للأب أن يبيع العروض في نفقته؛ لأن للأب ولاية التصرف في مال الابن في الجملة، بخلاف القاضي، أما العقار فليس للأب أن يبيعه في نفقة الغائب إلا بإذن القاضي. متى يحكم بموت المفقود وما أثر ذلك؟ إذا مضت مدة طويلة على المفقود من وقت ولادته، بحيث لا يعيش مثله إلى تلك المدة يقيناً أو غائباً، يحكم بموته،
وتقع الفرقة بينه وبين نسائه، ويقسم ماله بين ورثته الأحياء، ولا يرث هو من أحد. والمدة التي نقدرها لحياة المفقود ليس في ظاهر الرواية تقدير محدد فيها، وإنما يقدر بموت الأقران. وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه قدر تلك المدة بمئة وعشرين سنة من وقت الولادة. والأرفق أن يقدر بتسعين عاماً.
الفصل الحادي عشر: المسابقة والمناضلة
الفَصْلُ الحادي عشر: المسابقة والمناضلة المبحث الأول ـ السَّبْق (¬1) أو المسابقة أو الرهان: وفيه بيان تعريف المسابقة ومشروعيتها. شروط جواز المسابقة. تعريف المسابقة ومشروعيتها: السبق: بسكون الباء مصدر سبق أن تقدم، وبتحريك الباء: المال الموضوع بين أهل السباق، أي الجائزة أو الرهن، أوالخطر في اصطلاح المتقدمين: وهو الشيء الذي يسابق عليه، فمن سبق أخذه. والسباق: هو أن يسابق الرجل صاحبه في الخيل أو الإبل ونحوها. والمسابقة جائزة بالسنة والإجماع. أما السنة فهو أن النبي صلّى الله عليه وسلم سابق بين الخيل المضمَّرة وبين التي لم تضَّمر (¬2). وأجمع المسلمون على جواز المسابقة. والمسابقة مستثناة من ثلاثة أمور ممنوعة: هي القمار، وتعذيب الحيوان لغير الأكل، وحصول العوض والمعوض عنه لشخص واحد، وذلك إذا قدم العوض كلا المتسابقين ليأخذه السابق (¬3). ¬
هي نوعان
وهي نوعان: مسابقة بغير عوض، ومسابقة بعوض. أما المسابقة بغير عوض: فتجوز مطلقاً من غير تقييد بشيء معين كالمسابقة على الأقدام والسفن والطيور والبغال والحمير والفيلة. وكذلك تجوز المصارعة ورفع الحجر ليعرف الأشد، بدليل ماقالت عائشة رضي الله عنها: «سابقني رسول الله صلّى الله عليه وسلم فسبقته، فلبثنا حتى إذا أرهقني اللحم سابقني، فسبقني، فقال: هذه بتلك» (¬1) وسابق سلمة ابن الأكوع رجلاً من الأنصار بين يدي النبي صلّى الله عليه وسلم، فسبقه سلمة (¬2)، وصارع النبي صلّى الله عليه وسلم رُكانة، فصرعه النبي صلّى الله عليه وسلم (¬3). ومر الرسول صلّى الله عليه وسلم بقوم يرفعون حجراً ليعرفوا الأشد منهم، فلم ينكر عليهم. وتقاس بقية أنواع المسابقة على المذكور. وأما المسابقة بعوض: فلا تجوز عند الحنفية إلا في أربعة أشياء: في النصل، والحافر، والخف (¬4)، والقدم؛ لأن الثلاثة الأولى آلات الحرب المأمور بتعلمها، لقوله تعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} [الأنفال:60/ 8] فسر النبي صلّى الله عليه وسلم القوة بالرمي (¬5). وقال عليه الصلاة والسلام: «ليس من اللهو إلا ثلاث: تأديب الرجل فرسه، وملاعبته أهله، ورميه بقوسه ونبله، فإنهن من الحق» (¬6). ودليل المسابقة على الأقدام والمصارعة، ما ذكر أن النبي صلّى الله عليه وسلم سابق عائشة، ¬
شروط جواز المسابقة
وصارع رُكَانة، ولأن المشي بالقدم والمصارعة مما يحتاج للكر والفر في الجهاد وضرب العدو. قال الشافعية: المسابقة والمناضلة على السهام سنة بالإجماع، ويحل أخذ عوض عليهما؛ لأن فيهما ترغيباً للاستعداد للجهاد. وقال الجمهور غير الحنفية: لا يجوز السباق بعوض إلا في النصل والخف والحافر، أي في التدرب على حمل السلاح وفي أعمال الفروسية، لقول الرسول صلّى الله عليه وسلم: «لا سَبَق إلا في خف أو حافر أو نصل» (¬1) والسبق بفتحتين: (هو ما يجعل للسابق على السبق من جعل) ولأن هذه الأمور آلات القتال، فيجوز التسابق إذن على كل ما هو نافع في الحرب. أما المسابقة على الأقدام والمصارعة، فلا تجوز بعوض؛ لأنها لا تنفع في الحرب وكانت مصارعة الرسول لرُكَانة على شياه، كما روى أبو داود في مراسيله، أو أن الغرض من مصارعته أن يريه شدته ليسلم، وقد أسلم فعلاً (¬2). فإن كانت المسابقة بغير عوض جازت مطلقاً في الخيل وغيرها من الدواب والسفن وبين الطير لإيصال الخبر بسرعة، وتجوز هذه المسابقة على الأقدام وفي رمي الأحجار والمصارعة. شروط جواز المسابقة: يشترط لجواز المسابقة والرمي بعوض شروط أهمها ما يأتي: ¬
1 - أن تكون المسابقة في الأنواع النافعة في الجهاد
1 - أن تكون المسابقة في الأنواع النافعة في الجهاد وهي الأنواع الأربعة عند الحنفية: النصل والخف والحافر والقدم. وعند الجمهور: الأنواع الثلاثة الأولى. 2 - أن يكون العوض من أحد الجانبين المتسابقين أو من شخص ثالث، كأن يقول أحدهما لصاحبه: إن سبقتني فلك علي كذا، وإن سبقتك فلا شيء عليك، أو يقول ولي الأمر أو شخص ثالث: من سبق منكما فله في بيت المال أو فله علي كذا؛ لأنه في هذه الحالات لا يوجد قمار محرم؛ وإنما يكون دفع العوض على سبيل المكافأة أو الجعالة والتحريض على الاستعداد لإتقان فنون الجهاد. فإن كان العوض من الجانبين وهو الرهان: فلا يصح الرهان إلا بمحلِّل (¬1) كأن يتفقا على أن يخصص كل منهما عشر ليرات (¬2) أو أحدهما عشرة والآخر ثمانية، يدفعها كل منهما لشخص آخر يكون فرسه أو بعيره مكافئاً لفرسيهما أو بعيرهما مثلاً، وذلك إذا سبقهما، فإن سبقهما جميعاً أخذ الغنم، وإن سبق أحدهما لم يغرم هو شيئاً، ولا يأخذ أحدهم شيئاً، بدليل ما روي أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من أدخل فرساً بين فرسين، وهو لا يأمن أن يُسبَق، فليس بقمار. ومن أدخل فرساً بين فرسين وقد أمن أن يَسبِق فهو قمار» (¬3) أي أنه يشترط أن يكون فرس المحلل مكافئاً لفرسي الشخصين اللذين جعل العوض منهما، فلو كان ضعيفاً عنهما أو أقوى منهما، فإنه لا يصح؛ لأن الواضح من الحديث أنه جعل القمار متحققاً إذا أمن الثالث أن يَسبق، وإذا لم يأمن أن يَسبق لم يكن قماراً. ¬
صور السباق
وأما إن كان العوض من الجانبين بدون محلل، فيحرم السباق، كما إذا قال شخصان: من سبق منا فله على الآخر كذا؛ لأن هذا من القمار المحرم. وهكذا تكون صور السباق أربعاً: ثلاث منها حلال، وواحدة منها حرام لها حكم الميسر (القمار)، أما الصور الحلال: ف أولها: أن يكون العوض من السلطان أو أحد الرؤساء أو شخص ثالث، يأخذه السابق، وهذا جائز اتفاقاً. وثانيها: أن يكون العوض من أحد الجانبين يؤخذ منه إذا سبقه الآخر، وهذا جائز اتفاقاً. وثالثها: أن يكون العوض من المتسابقين أو من الجماعة، ومعهم محلل يأخذ العوض إن سَبَق، ولا يغرم إن سَبَقه غيره؛ لأنهما لم يقصدا القمار، وإنما قصدا التقوي على الجهاد، وهذا جائز عند الجمهور. ومنعه الإمام مالك لجواز عود الجعل لمن قدمه إذا سبَق. وأما الصورة الحرام اتفاقاً: فهي أن يكون العوض من كل واحد، على أنه إن سَبَق فله العوض، وإن سُبق فيغرم لصاحبه مثله. وبه يتبين أن السباق يحرم حينما يكون هناك احتمال الأخذ والعطاء من الطرفين، بأن يقال: السابق يأخذ، والخاسر يغرم أو يدفع. وهذا معنى الميسر أو القمار المحرم شرعاً. 3 - أن تكون المسابقة فيما يحتمل أن يسبق أحدهما، ويسبق الآخر، فإن كانت فيما يعلم غالباً أنه يسبق غيره، فلا يجوز، لأن معنى التحريض في هذه الصورة لا يتحقق، فصار الرهان التزام المال للغير بشرط لا منفعة له فيه.
4 - العلم بالمال المشروط، ومعرفة نقطة البدء والنهاية
4 - العلم بالمال المشروط، ومعرفة نقطة البدء والنهاية، وتعيين الفرسين مثلاً، كما قرر الشافعية (¬1). تبين من هذا أن السباق الذي يجري الآن على رهان من المتسابقين لا من طرف ثالث محايد هو حرام؛ لأنه قمار. المبحث الثاني ـ المناضلة: تعريفها وأنواعها ولزومها وحكمها وشروطها (¬2): تعريف المناضلة ومشروعيتها: المناضلة لغة بمعنى المغالبة، قال الأزهري: النضال في الرمي، والرهان في الخيل، والسباق يكون في الخيل والرمي، كما في قوله تعالى: {إنا ذهبنا نستبق} [يوسف:17/ 12] وعليه تكون المسابقة على الخيل ونحوها، من السلاح. وهذا الموضوع المتعلق بالمسابقة والمناضلة لم يسبق الشافعيَ رضي الله تعالى عنه أحد إلى تصنيفه كما قال المزني رحمه الله. والمناضلة أو الرمي: التدرب على استعمال السلاح والتنافس على التفوق بإصابة الهدف على مال بشروط مخصوصة. وكل من المناضلة والمسابقة للرجال المسلمين غير ذوي الأعذار سنة جائزة بالإجماع، ولقوله تعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} [الأنفال:60/ 8] روى مسلم عن عقبة بن عامر رضي الله ¬
أنواعها
عنه: أن النبي صلّى الله عليه وسلم فسَّر القوة بالرمي، فقال: ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي. وقد حث النبي صلّى الله عليه وسلم على الرمي، روى أحمد والبخاري عن سلمة بن الأكوع قال: «مرَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم على نفر من أسلم ينتضلون (¬1) بالسوق، فقال: ارموا يا بني إسماعيل، فإن أباكم كان رامياً، ارموا وأنا مع بني فلان، قال: فأمسك أحد الفريقين بأيديهم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ما لكم لا ترمون؟ قالوا: كيف نرمي وأنت معهم؟ فقال ارموا وأنا معكم كلِّكم». وروى الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) عن عقبة بن عامر عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعَه الذي يحتسب في صنعته الخير، والذي يجهِّز به في سبيل الله، والذي يرمي به في سبيل الله، وقال: ارموا واركبوا، فإن ترموا خير من أن تركبوا، وقال: كل شيء يلهو به ابن آدم فهو باطل إلا ثلاثاً: رميه عن قوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله فإنهن من الحق». أنواعها: تصح المناضلة على سهام ورماح ورمي بأحجار بمقلاع أو يد، ومنجنيق وكل نافع في الحرب كالرمي بالمسلاّت والإبر والتردد بالسيوف والرماح. ولا تصح المسابقة بعوض على الكرة بأنواعها المختلفة، ولا على البندق الذي يرمى به إلى حفرة ونحوها (¬2)، ولا على السباحة في الماء، ولا على الشطرنج، ولا على خاتم، ولا على وقوف على رِجْل، ولا على معرفة ما في يده من شفع ووتر، ولا على سائر أنواع اللعب كالمسابقة على الأقدام (الركض) وبالسفن والزوارق؛ لأن هذه الأمور لا تنفع في الحرب. ¬
صفة عقد المسابقة والمناضلة
هذا إذا عقد عليها بعوض، فإن كانت بغير عوض فمباح كما يرى الشافعية. وقال القرطبي: لا خلاف في جواز المسابقة على الخيل وغيرها من الدواب، وعلى الأقدام، وكذا الرمي بالسهام واستعمال الأسلحة، ما في ذلك من التدرب على الجري. ودليله: ما رواه أحمد وأبو داود أن النبي صلّى الله عليه وسلم تسابق مع عائشة على الأقدام، وروى أحمد والشيخان: أن الأحباش لعبوا بالحراب عند النبي صلّى الله عليه وسلم في المسجد. صفة عقد المسابقة والمناضلة: الأظهر عند الشافعية أن كلاً من هذين العقدين إذا تم على مال مشروط لازم لا جائز، فليس لأحد الطرفين إذا التزما المال وبينهما محلِّل فسخه، كما هو شأن العقود اللازمة، ولا ترك العمل قبل الشروع فيه ولا بعده، إلا إذا فسخ الطرفان العقد الأول، واستأنفا عقداً جديداً إن وافقهما المحلِّل. حكم المناضلة: حكم المناضلة والمسابقة واحد، ثلاث صور منها حلال، وصورة رابعة منها حرام؛ لأنه ميسر أو قمار، وهي أن يتراهن المتناضلان على أن يتعهد كل منهما للآخر دفع عوض معين إن فاز بالإصابة. فإن كان العوض من الإمام من بيت المال، أو أحد الرعية الأثرياء، أو أحد المتناضلين أو كليهما جاز، فيقول الإمام أو أحد الرعية: ارميا كذا، فمن أصاب من كذا فله في بيت المال، أو عليّ كذا، أو يقول أحدهما: نرمي كذا، فإن أصبت أنت منها كذا فلك علي كذا، وإن أصبتها أنا فلا شيء لي عليك. أما إن شرط كل منهما على صاحبه عوضاً، فلا تصح المناضلة إلا بمحلِّل، أي شخص ثالث وسيط، يكون رميه كرميهما في القوة والعدد المشروط، يأخذ مالهما إن غلبهما، ولا يغرم إن غُلب.
شروط صحة المناضلة
شروط صحة المناضلة: يشترط لصحة المناضلة ما يأتي: 1ً - تعيين الرماة والهدف المطلوب وتعيين الموقف الذي يقفان فيه وتحديدمسافة (¬1)، ومقدار الغرض طولاً وعرضاً وسمكاً وارتفاعاً من الأرض، وتعيين العدد المطلوب من الإصابة أو الرميات لينضبط العمل؛ لأن المناضلة كالميدان في المسابقة. ويشترط إمكان الإصابة والخطأ. 2ً - اتحاد جنس السلاح من مسدس أو بندقية أو مدفع ونحوها، فلا تصح المناضلة بسلاحين مختلفي الجنس، ولو رضي الطرفان بذلك. 3ً - بيان مقدار الإصابة وصفة الرمي من قَرْع أو خَزْق أو خَسْق أو مَرْق (¬2) إذا كان النضال بالسهام ونحوها، بأن يتفق المتناضلان على كون الرمي المطلوب مجرد قَرْع أو إصابة للهدف أو خَزْق له، فإن أطلقا ولم يبينا، حمل الرمي المطلوب على القرع. 4ً - العلم بالمال وقدره، ووجود المحلل إن كانت المناضلة من النوع المحرم المذكور في المسابقة وفيما تقدم هنا. 5ً - والأظهر اشتراط بيان البادئ من المتناضلين بالرمي، لاشتراط الترتيب بينهما فيه، حذراً من اشتباه المصيب بالمخطئ، كما لو رميا معاً، فإن لم يبيناه فسد العقد. ¬
الفصل الثاني عشر: الشفعة
الفَصْلُ الثَّاني عَشَر: الشُّفعة تبحث الشفعة في المباحث الثمانية الآتية: المبحث الأول ـ تعريف الشفعة، ودليلها وحكمتها، وركنها وعناصرها، وسببها، وحكمها وصفتها. المبحث الثاني ـ محل الشفعة (المشفوع فيه، أو ما تجب فيه الشفعة وما لا تجب). المبحث الثالث ـ الشفيع، مراتب الشفعة (أو أسباب استحقاقها) تزاحم الشفعاء (أي تعددهم) غيبة بعض الشفعاء، إسقاط بعض الشفعاء حقه. المبحث الرابع ـ أحكام الشفعة. المبحث الخامس ـ شروط الشفعة. المبحث السادس ـ إجراءات الشفعة (طلب الشفعة). المبحث السابع ـ مايطرأ على المشفوع فيه بيد المشتري من تصرفات أو نماء أو نقص. المبحث الثامن ـ مسقطات الشفعة. وبحثها على ترتيبها المذكور.
المبحث الأول ـ تعريف الشفعة، ودليلها وحكمتها، وركنها وأطرافها، وحكمها وصفتها
المبحث الأول ـ تعريف الشفعة، ودليلها وحكمتها، وركنها وأطرافها، وحكمها وصفتها: أولاً ـ تعريف الشفعة: الشفعة لغة: مأخوذة من الشفع بمعنى الضمّ أو الزيادة والتقوية، تقول: شفعت الشيء: ضممته، سميت شفعة؛ لأن الشفيع يضم مايتملكه بهذا الحق إلى نصيبه أو ملكه، فيزيده عليه، ويتقوى به، فقد كان الشفيع منفرداً في ملكه، فبالشفعة ضم المبيع إلى ملكه، فصار شفعاً ضد الوتر. وفي الاصطلاح الفقهي: هي حق تملك العقار المبيع جبراً عن المشتري، بما قام عليه، من ثمن وتكاليف (أي النفقات التي أنفقها) لدفع ضرر الشريك الدخيل أو الجوار. وهذا عند الحنفية (¬1)؛ لأن الشفعة تثبت عندهم للشريك والجار. وعرفها الجمهور غير الحنفية: بأنها استحقاق شريك أخذ ما عاوض به شريكه، من عقار، بثمنه أو قيمته، بصيغة. وبعبارة أخرى: هي حق تملك قهري يثبت للشريك القديم على الحادث، فيما ملك بعوض (¬2). وهذا لأن الشفعة حق للشريك فقط دون الجار عند الجمهور. ويلاحظ أن المذاهب الأربعة حصروا الشفعة في العقار. أما الظاهرية فقد أجازوها أيضاً في المنقول، كالحيوان ونحوه (¬3). ثانياً ـ دليلها وحكمة مشروعيتها: الدليل على مشروعية الشفعة هو السنة والإجماع: ¬
أما السنة، فأحاديث كثيرة: منها حديث جابر رضي الله عنه: «قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصُرِّفت الطرق، فلا شفعة» (¬1) وفي رواية «في أرض، أو رَبْع، أو حائط» والربع: المنزل، والحائط: البستان. ومنها حديث آخر لجابر: «الجار أحق بشفعة جاره يُنتظر بها، وإن كان غائباً، إذا كان طريقهما واحداً» (¬2). ومنها حديث سمرة: «جار الدار أحق بالدار من غيره» (¬3). ومنها حديث أبي رافع: «الجار أحق بسقبه» أو «بصقبه» (¬4) أي أحق بقربه وبشفعته؛ لأن السقب أو الصقب: ما قرب من الدار. وأما الإجماع: فقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على إثبات الشفعة للشريك الذي لم يقاسم، فيما بيع من أرض أو دار أو حائط .. ولا نعلم أحداً خالف هذا إلا الأصم، فإنه قال: لا تثبت الشفعة؛ لأن في ذلك إضراراً بأرباب الأملاك، فإن المشتري إذا علم أنه يؤخذ منه إذا ابتاعه لم يبتعه، ويتقاعد الشريك عن الشراء، فسيتضر المالك؛ أي أن الشفعة تصادم مبدأ حرية المتعاقد في التصرف. ورد عليه: بأن قوله ليس بشيء لمخالفته الآثار الثابتة والإجماع المنعقد قبله (¬5). ¬
حكمتها
وحكمتها: دفع ضرر الدخيل الأجنبي الذي يأتي على الدوام، بسبب سوء المعاشرة والمعاملة، في استعمال أواستحداث المرافق المشتركة، أو إعلاء الجدار، أو إيقاد النار، أو منع ضوء النهار، وإثارة الغبار، وإيقاف الدواب، ولعب الأولاد، لاسيما إذا كان خصماً أو ضداً. وقد تكون الحكمة: دفع ضرر مؤنة القسمة، كما قال المالكية والشافعية والحنابلة. وكل ما ذكر مظاهر للضرر، والمقرر في الإسلام أنه «لا ضرر ولا ضرار». كما أن حسن العشرة يقتضي رعاية مصلحة الشريك أو الجار، ورعاية المصلحة أمر مطلوب شرعاً أيضاً (¬1). وهذه المعاني كما هي متوقعة بين الناس بسبب الشركة، أو الخلطة في المنافع، كذلك هي متوقعة ـ في رأي الحنفية ـ بسبب الجوار. ثالثاً ـ ركنها وعناصرها وسببها (سبب الأخذ): قال الحنفية (¬2): ركن الشفعة: أخذ الشفيع من أحد المتعاقدين عند وجود سببها وشرطها. ويسمى العقار الذي بسببه تطلب الشفعة: المشفوع به، والعقار الذي يتملك بالشفعة: المشفوع فيه، ومشتري العقار: هو المشفوع عليه، والمطالب بالشفعة: هو الشفيع. وسببها: اتصال ملك الشفيع بالمشتري بشركة أو جوار. ¬
رابعا ـ حكمها وصفتها
وشرطها: أن يكون المحل المبيع عقاراً، سفلاً كان أو علواً. وقال المالكية (¬1): للشفعة أركان أربعة: آخذ (شافع)، ومأخوذ منه (مشفوع عليه) ومشفوع فيه، وصيغة. والمراد بالصيغة: ما يدل على الأخذ، لفظاً أو غيره. وقال الشافعية والحنابلة (¬2): أركان الشفعة ثلاثة: آخذ، ومأخوذ منه، ومأخوذ. وأما الصيغة فتجب في التمليك، فيشترط لفظ من الشفيع، مثل تملكت، أو أخذت بالشفعة. رابعاً ـ حكمها وصفتها: إن الأخذ بها بمنزلة شراء مبتدأ (جديد)، قال الحنفية (¬3): حكمها: جواز الطلب عند تحقق السبب، ولو بعد سنين، أي إذا لم يعلم بها. وصفتها: أن الأخذ بها بمنزلة شراء مبتدأ، يستحقها الشفيع بعد البيع، فيثبت بها ما يثبت بالشراء، كالرد بخيار الرؤية، والعيب. المبحث الثاني ـ محل الشفعة (المشفوع فيه، أو ما تجب فيه الشفعة وما لا تجب): اتفق المسلمون على أن الشفعة حق في العقار من دور وأرضين وبساتين وبئر، وما يتبعها من بناء وشجر، واختلفوا فيما عداها. قررت المذاهب الأربعة أنه لا شفعة في منقول كالحيوان والثياب والعروض التجارية للحديث السابق: «قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالشفعة في أرض أو ربَعْ أو حائط .. » ورواية الحديث عند مسلم والنسائي وأبي داود: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قضى ¬
العلو والسفل
بالشفعة في كل شركة لم تقسم، ربعة أو حائط .. » ولأن الشفعة شفعت لدفع ضرر سوء الشركة بالاتفاق، أو الجوار عند الحنفية، بسبب الاستمرار والدوام، والمنقول لا يدوم، بخلاف العقار، فيتأبد فيه ضرر المشاركة؛ ولأن الشفعة تملك بالقهر، فهي كما بينت «استحقاق الشريك ـ عند الحنفية ـ انتزاع حصة شريكه المنتقلة عنه، من يد من انتقلت إليه»، فناسب أن تكون عند شدة الضرر، وإطلاقاً لحرية التصرف والبيع (¬1). الِعُلْوُ والسُفْل: ألحق الحنفية بالعقار: ما في حكمه كالعلو، وإن لم يكن طريقه في السفل؛ لأنه التحق بالعقار بماله من حق القرار، فلا فرق في العقار بين كونه سفلاً أو علواً (¬2)، وهذا هو المعقول. ولم يجز الشافعية في الأصح والحنابلة الشفعة في العلو، لأن البناء يرتكز على السقف، والسقف الذي هو أرض البناء لا ثبات له، فكان كالمنقولات (¬3). وسواء عند الحنفية أكان العقار مما يحتمل القسمة، أم لا يحتملها، كالدار الصغيرة والحمام والطاحون والبئر؛ لأن علة الشفعة عندهم دفع ضرر الشركة أو الجوار مطلقاً، وهو يتحقق فيما لا يقبل القسمة. واشترط الجمهور غير الحنفية، في المشهور عند المالكية، وفي ظاهر مذهب الحنابلة، وفي الأصح عند الشافعية: أن يكون العقار قابلاً للقسمة، استدلالاً ¬
حقوق الارتفاق
بدليل الخطاب في حديث جابر السابق: «الشفعة فيما لم يقسم ... » فكأنه قال: الشفعة فيما تمكن فيه القسمة، ما دام لم يقسم. وقد أجمع عليه في هذا الموضوع فقهاء الأمصار، مع اختلافهم في صحة الاستدلال به؛ ولأن علة مشروعية الشفعة عندهم هو دفع ضرر القسمة، ومالا ينقسم لا تتيسر القسمة فيه، فلا حاجة للشفعة فيه، فلا يترتب فيه ضرر الشريك بعدم الشفعة (¬1). حقوق الارتفاق: تثبت الشفعة عند الحنفية (¬2) في حقوق العقار، كالشِّرْب (النصيب من الماء في نوبة مالك الأرض) (¬3) والطريق الخاصين. فإن لم يكونا خاصين، فلا يستحق بهما الشفعة. والطريق الخاص: أن يكون غير نافذ، فإن كان نافذاً فليس بخاص. فلو كان هناك شِرْب نهر صغير مشترك بين قوم، تسقى أراضيهم منه، فبيعت أرض منها، فلكل أهل الشِّرْب من ذلك النهر الخاص الشفعة. أما لو كان النهر عاماً، فالشفعة فقط للجار الملاصق. ومثله الطريق الخاص، فكل أهله شفعاء. وقال المالكية (¬4): لا شفعة في الطريق (أي المجاز الذي يتوصل منه إلى ساحة الدار) إذا قسم بين الشريكين أو الشركاء متبوعُهما من البيوت إذا بقي الممر مشتركاً بينهما؛ لأنه لما كان تابعاً لما لا شفعة فيه، وهو البيوت المنقسمة، كان لا شفعة فيه. وكذلك العَرْصة (ساحة الدار التي بين بيوتها، تسمى في عرف العامة بالحوش) لا شفعة فيها إذا قسم متبوعها، كحكم الطريق السابق. ¬
الشفعة في السفن
وقال الشافعية (¬1): لا شفعة قطعاً في ممر الدار المبيعة من الدرب النافذ؛ لأنه غير مملوك. وأما الدرب غير النافذ، فالصحيح ثبوت الشفعة في الممر، بما يخصه من الثمن، إن كان لمشتري الممر الخاص المشترك طريق آخر لداره، أو أمكن من غير مؤنة وضرر عليه الوصول لداره من طريق آخر، بفتح باب إلى شارع عام مثلاً، فلا تثبت الشفعة في الممر، لما فيها من ضرر المشتري، والشفعة شرعت لدفع الضرر، فلا يزال ضرر بآخر؛ لأن الضرر لا يزال بالضرر. والحنابلة كالشافعية قالوا (¬2): إذا بيعت الدار، ولها طريق في شارع أو درب نافذ، فلا شفعة في تلك الدار، ولا في الطريق؛ لأنه لا شركة لأحد فيهما. وإن كان الطريق في درب غير نافذ، ولا طريق للدار سوى ذ لك الطريق، فلا شفعة أيضاً؛ لأن إثباتها يضر بالمشتري؛ لأن الدار تبقى لا طريق لها. وإن كان للدار باب آخر يستطرق منه، أو كان لها موضع يفتح منه باب لها إلى طريق نافذ، نظرنا في الطريق المبيع مع الدار: فإن كان ممراً لا تمكن قسمته، فلا شفعة فيه. وإن كان تمكن قسمته، وجبت الشفعة فيه؛ لأنه أرض مشتركة، تحتمل القسمة، فوجبت فيه الشفعة كغير الطريق. الشفعة في السفن: لا تثبت الشفعة في السفن عند فقهاء المذاهب (¬3) لأنها ¬
الشفعة في الزرع والثمر والشجر
كالعروض التجارية من المنقولات، والشفعة مشروعة في الأرض التي تبقى على الدوام، ويدوم ضررها. ونقل الكاساني (¬1) عن الإمام مالك: أنه يرى الشفعة في السفن؛ لأن السفينة أحد المسكنين، فتجب فيها الشفعة، كما تجب في المسكن الآخر، وهو العقار، لكن هذا لم يصح عن مالك، كما حقق ابن عبد السلام. وبه يتبين أن المذاهب الأربعة متفقة على عدم الشفعة في السفن. الشفعة في الزرع والثمر والشجر: لا شفعة عند الجمهور (غير المالكية) (¬2) فيما ليس بعقار كالبناء والشجر المفرد عن الأرض، فإن كان تبعاً في البيع للأرض، وجبت الشفعة فيه (¬3). ومما يتبع الأرض عند الشافعية في الأصح: ثمر لم يؤبر؛ لأنه يتبع الأصل في البيع، فيتبعه في الأخذ، قياساً على البناء والغراس. واقتصر الحنابلة على إتباع الغراس والبناء للأرض؛ لأنهما يؤخذان تبعاً للأرض، ففيهما الشفعة تبعاً. ولم يتبعوا الزرع والثمرة للأرض؛ لأن من شروط وجوب الشفعة أن يكون المبيع أرضاً؛ لأنها هي التي تبقى على الدوام، ويدوم ضررها. ¬
وأجاز المالكية (¬1) الشفعة في البناء والشجر إذا بيع أحدهما مستقلاً عن الأرض؛ لأن كلاً منهما عندهم عقار، والعقار: هو الأرض وما اتصل بها من بناء وشجر، فلا شفعة في حيوان أو عرض تجاري إلا إذا بيع تبعاً للأرض. مثاله: الشجر أو البناء في أرض موقوفة (محبَّسة) أو معارة: بأن اقتضت المصلحة إجارة الأرض الموقوفة، سنين، ثم بنى فيها المستأجر أو غرس بإذن ناظرها، على أن ذلك له، فإذا كان المستأجر متعدداً، وباع أحدهم، فللآخر الشفعة. وأجاز المالكية أيضاً الشفعة في الثمار (¬2) (الفاكهة) والخضر، كالقِثَّاء، والبطيخ بنوعيه الأخضر والأصفر، والخيار، والباذنجان والفول الأخضر، ونحوه مما له أصل تجنى ثمرته، ويبقى في الأرض وقتاً ما، فإذا باع أحد الشريكين نصيبه منها، ولو مفرداً عن أصله، فللآخر أخذه بالشفعة. واشترطوا في الثمرة المأخوذة بالشفعة منفردة: أن تكون موجودة حين الشراء، بشرط كونها مؤبرة. ولم يجز المالكية الشفعة في زرع كقمح وكتان وبرسيم، ولا في بَقْل مما ينزع أصله كفجل وجزر وبصل وقلقاس، وملوخية. فلو بيع الزرع أو البقل مع أرضه، فلا شفعة فيه، وإنما هي في الأرض فقط، بما ينو بها من الثمن. وأما الظاهرية: فقد توسعوا في إيجاب حق الشفعة للشفيع أكثر من سائر ¬
المبحث الثالث ـ الشفيع
المذاهب الأخرى، فأجازوا الشفعة في كل مبيع، عقاراً أو منقولاً، سواء أكان المنقول متصلاً بالعقار أم لا، وسواء أكان الشيء المبيع مما ينقسم، أم مما لا ينقسم، من أرض أو شجرة واحدة فأكثر، أو ثوب، أو سيف أوطعام أو حيوان، أو أي شيء بيع، فلا يحل لمن له الجزء، أن يبيعه حتى يعرضه على شريكه أو شركائه فيه (¬1). المبحث الثالث ـ الشفيع أولاً ـ من الشفيع؟ للفقهاء رأيان فيمن يحق له الأخذ بالشفعة: رأي للحنفية: في أن الشفيع: هو الشريك، أو الجار. ورأي للجمهور: في أن الشفيع هو الشريك فقط. قال الحنفية (¬2): تثبت الشفعة للشريك (الخليط) في المبيع نفسه، أو في حق من حقوق الارتفاق الخاصة، كالشِّرب (النصيب من الماء)، والطريق الخاصين، كما تثبت للجار الملاصق للمبيع، ولو كان باب داره من سكة أخرى. والملاصق من جانب واحد ولو بشبر، كالملاصق من ثلاثة جوانب، وواضع جذع على حائط، وشريك في خشبة على حائط: جار لا شِريك؛ لأن وضع الجذوع على الحائط لا يصير صاحبه شريكاً في الدار، والشفعة تثبت في العقار دون المنقول، والخشبة منقول. ولا فرق بين مسلم وذمي في استحقاق الشفعة، لعموم أدلة مشروعيتها، ولتساويهما في سبب الشفعة وحكمتها، فيتساويان في الاستحقاق. ¬
ودليلهم الأحاديث السابقة في مشروعية الشفعة، والتي منها: «جار الدار أحق بسقبه» (¬1) و «جار الدار أحق بدار الجار، والأرض» (¬2) و «الجار أحق بشفعته» (¬3). ويؤكده أن العلة الموجب للشفعة هو دفع الضرر الدائم، الذي يلحق المرء بسبب سوء العشرة على الدوام. وهذا يتحقق في الجار، كما يتحقق في الشريك، فتكون حكمة مشروعية الشفعة ظاهرة فيهما، وهو دفع الضرر عنهما. وقال الجمهور (غير الحنفية) (¬4): لا شفعة إلا لشريك في ذات المبيع، لم يقاسم (أي أن حقه مشاع لم يقسم) فلا شفعة عندهم لشريك مقاسم، ولا لشريك في حق من حقوق الارتفاق الخاصة بالمبيع، ولا للجار. وتثبت الشفعة عند المالكية والشافعية والظاهرية للذمي الكافر على المسلم، كما قال الحنفية. ولا تثبت للكافر عند الحنابلة في بيع عقار لمسلم، للحديث النبوي: «لا شفعة لنصراني» (¬5) فهو يخص عموم ما احتجوا به، ولأن الأخذ بالشفعة يختص به العقار فأشبه الاستعلاء في البنيان، والكافر ممنوع من ذلك بالنسبة للمسلم، ولأن في شركته ضرراً بالمسلم. ولكن رأي الجمهور في هذا أرجح، بسبب ضعف الحديث الذي احتج به الحنابلة. ¬
واتفق الفقهاء ماعدا الحنابلة على أن الشفعة تثبت للذمي على الذمي، لعموم الأخبار الواردة في الشفعة، ولأنهما تساويا في الدين والحرمة، فتثبت لأحدهما على الآخر كالمسلم على المسلم. وتثبت الشفعة لأهل البدع الذين حكم بإسلامهم؛ لأن عموم الأدلة يقتضي ثبوتها لكل شريك. وأما أصحاب البدع الذين حكم بكفرهم فلا شفعة لهم على مسلم عند الحنابلة، بخلاف الجمهور (¬1). وأدلة الجمهور: حديث جابر السابق: «قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يُقْسم، فإذا وقعت الحدود، وصرِّفت الطرق، فلا شفعة» وحديث سعيد بن المسيب: «إذا قسمت الأرض، وحُدَّت، فلا شفعة فيها» (¬2)، فإذا كانت الشفعة غير واجبة للشريك المقاسم، فهي أحرى ألا تكون واجبة للجار، والشريك المقاسم إذا قاسم: جارٌ. ولأن الشفعة تثبت على خلاف الأصل، فيقتصر فيها على مورد النص. وأما حديث أبي رافع: «الجار أحق بصقبه» فليس بصريح في الشفعة، فيحتمل أنه أراد بالصقب: إحسان جاره وصلته وعيادته ونحوها. وخبر جابر صريح صحيح، فيقدم. وبقية الأحاديث في أسانيدها مقال، فحديث سمرة يرويه عنه الحسن، ولم يسمع منه إلا حديث العقيقة. ويتعين حمل أحاديث شفعة الجوار على مثل ما دلت عليه أحاديث شفعة الشركة، فيكون لفظ الجار مراداً به الشريك. وهذا الرأي في تقديري أولى؛ لأن الشفعة تثير مشكلات متعددة، والأصل المقرر في الشريعة هو حرية التعاقد، فيقتصر فيها على حالة الشركة فقط. وقد توسط ابن القيم بين الرأيين، فقرر ثبوت الشفعة للجار إذا كان شريكاً مع ¬
ثانيا - مراتب الشفعة (أو أسباب استحقاقها) وكيفية التوزيع عند تزاحم الشفعاء
جاره في حق من حقوق الارتفاق الخاصة، مثل الطريق أو الشرب، وإلا فلا شفعة له (¬1). وارتأى الشوكاني وبعض الشافعية هذا الحل الوسط عملاً بلفظ في حديث جابر: «إذا كان طريقهما واحداً» (¬2) ثانياً - مراتب الشفعة (أو أسباب استحقاقها) وكيفية التوزيع عند تزاحم الشفعاء: قال الحنفية (¬3): الشفعة واجبة للخليط (الشريك) في نفس المبيع، ثم إذا لم يكن، أو كان وسَلَّم (تنازل عن الشفعة) تثبت للشريك في حق من حقوق الارتفاق الخاصة بالمبيع: وهو الذي قاسم وبقيت له شركة في حق العقار الخاص، كالشِّرب والطريق الخاصين، ثم تثبت الشفعة لجار ملاصق. ولا فرق في ثبوت حق الشفعة لصاحب حق الارتفاق بين الأرض المجاورة للمبيع والبعيدة عنه، ولا بين التي تسقى من المجرى الخاص مباشرة، أو من جدول مأخوذ منه، ما دام أن الكل يشرب من المجرى، وأن سبب الاستحقاق واحد: وهو الاشتراك في المرفق الخاص. والمقصود من الشِّرب الخاص عند أبي حنيفة ومحمد (¬4): شرب نهر صغير: وهو الذي لا يجري فيه أصغر السفن، وما تجري فيه السفن فهو عام، وعامة المشايخ على أن الشركاء في النهر إن كانوا يحصون، فصغير، وإلا فكبير. وما لا ¬
كيفية التوزيع عند تزاحم الشفعاء
يحصى: قيل: أربعون، وقيل: خمس مئة، وقيل: الأصح تفويضه إلى رأي كل مجتهد في زمان. والمقصود بالطريق الخاص: هو الذي لا يكون نافذاً، فكل أهله شفعاء. فإن كان الشرب والطريق عامين، فلا شفعة بهما. والمراد بعدم نفاذ الطريق: أن يكون بحيث يمنع أهله من أن يستطرقه غيرهم. وتصور الشفعة بسبب الشرب مثلاً: إذا بيعت أرض لها حق الشرب في مجرى نهر خاص مشترك بين قوم تسقى أراضيهم منه، فلكل أهل الشرب الشفعة، سواء أكانت أراضيهم المجاورة للنهر ملاصقة له، أم بعيدة عنه. ودليل الحنفية على ترتيب الشفعاء على النحو المذكور (الشريك في المبيع، ثم شريك الارتفاق، ثم الجار) هو قوله عليه الصلاة والسلام: «الشريك أحق من الخليط، والخليط أحق من الشفيع» (¬1) ولأن الاتصال في المبيع أقوى من غيره، والاتصال في حق الارتفاق أقوى من الجار؛ لأنه اشتراك في مرافق الملك، والترجيح يكون بقوة السبب؛ ولأن دفع ضرر مؤنة القسمة، وإن لم يصلح علة عند الحنفية لاستحقاق الشفعة، صلح مرجحاً للأخذ عند تزاحم الشفعاء. كيفية التوزيع عند تزاحم الشفعاء: يتبين مما سبق كيفية توزيع حق الشفعة عند تزاحم الشفعاء، بأن كانوا أكثر من واحد، وكل منهم يطلب الشفعة. ¬
أـ فإن لم يكونوا من مرتبة واحدة
أـ فإن لم يكونوا من مرتبة واحدة: بأن كان أحدهم شريكاً في المبيع، والآخر شريكاً في حق الارتفاق، والآخر جاراً ملاصقاً، فيقدم الشريك في المبيع أولاً، ثم الشريك في حق المبيع (حق الارتفاق)، ثم الجار (م 1009) مجلة. والمشارك في حائط الدار في حكم المشارك في الدار نفسها. وأما صاحب الأخشاب الممتدة على حائط جاره، فيعد جاراً ملاصقاً، لا شريكاً (م 1012) مجلة. وكل من صاحب الطابق الأعلى والأسفل: جار ملاصق (م 1011) مجلة. وحق الشرب مقدم على حق الطريق (م 1016) مجلة. وإذا باع صاحب حق الشرب أو الطريق الخاص أرضه فقط، دون حق الارتفاق، فليس للشركاء في الارتفاق شفعة (م 1015) مجلة. وإذا اجتمع صنفان من الشركاء يقدم الأخص على الأعم، فالمشترك في شرب من جدول من الشرب أولى من المشترك في الشرب (م 1014). ب ـ وإن كان الشفعاء من مرتبة واحدة، كالشركاء في المبيع، قسم العقار المشفوع فيه بين الطالبين جميعاً، بالتساوي بحسب عدد الرؤوس، لا بمقدار الملك أو السهام، عند الحنفية (¬1) والظاهرية (¬2)، لاستوائهم في سبب استحقاق الشفعة، وهو الاتصال بالشركة أو الجوار، أي لأنهم متساوون في أصل الملك. ¬
وقال الجمهور (¬1) (غير الحنفية والظاهرية): يقسم العقار المشفوع فيه بين الشفعاء على قدر حصصهم أو أنصبائهم في الملك، لا على الرؤوس؛ لأن الشفعة حق ناشئ بسبب الملك، فكان على قدر الملك، كالغلة والثمرة والأجرة المستفادة من الملك، وكالربح في شركة الأموال، فيأخذ كل واحد من الشركاء الشفعاء بقدر ما يملكه في العقار (المشفوع به وفيه). فلو كانت الأرض بين ثلاثة، لواحد نصفها، ولآخر ثلثها، ولآخر سدسها، فباع الأول حصته، أخذ الثاني سهمين، والثالث سهماً. ولأن الشفعة شرعت لإزالة الضرر، والضرر داخل على كل واحد من الشركاء بحسب نسبة ما يملكه، لا بحسب التساوي، فوجب أن يكون استحقاقهم لدفع الضرر على تلك النسبة من الحصص. وقال المالكية في تزاحم الشركاء الشفعاء (¬2): يقدم في الأخذ بالشفعة الأخص في الشركة على غيره، وهو المشارك في السهم أي الفرض، فلو مات ذو عقار عن جدتين وزوجتين وأختين، فباعت إحداهن نصيبها، فالشفعة لمن شاركها في السهم، دون بقية الورثة، حتى ولو كان المشارك في السهم أختاً لأب مع أخت شقيقه، أو بنتَ ابن مع بنت، فإذا باعت الشقيقة أو البنت نصيبها، فللأخت لأب أو لبنت الابن الأخذ بالشفعة، دون العاصب. ويدخل الأخص (¬3) من ذوي السهام (الفروض) على الأعم، وهو غير المشارك في السهم، أي غير ذوي الفروض وهو غير الأقوى في القرابة، كالعاصب ¬
ثالثا ـ غيبة بعض الشفعاء
وغيره، فإذا مات شخص عن بنت فأكثر، وعن أخوين أو عمين، فباع أحد الأخوين، فإن البنات يدخلن في الشفعة، ولا يختص الحق بالأخ أو العم الذي لم يبع. وإذا مات شخص عن ثلاث بنات، ثم ماتت إحداهن عن بنتين، فباعت إحدى أخوات الميتة حصتها، فأولاد الميتة يدخلن على خالاتهن، إذ الطبقة السفلى أخص؛ لأنهن أقرب للميت الثاني، والعليا أعم. ويدخل الوارث ذو الفرض أو العاصب على الموصى لهم بعقار، باع أحدهم حصته، فلا يختص بالشفعة بقية الموصى لهم، بل يدخل معه الوارث. ثم يقدم الوارث مطلقاً، سواء أكان ذا فرض أم عاصباً، على أجنبي. ثم يقدم الأجنبي، إن أسقط الوارث حقه. ثالثاً ـ غيبة بعض الشفعاء: قال الحنفية (¬1): لو كان بعض الشفعاء حين البيع وطلب الشفعة غائباً، فطلبها الحاضر، يقضى له بالشفعة؛ لأن الحاضر ثابت بيقين، والغائب مشكوك في طلبه الشفعة، فلا يؤخر الحاضر؛ لأن المشكوك فيه لا يزاحم المتيقن، لاحتمال عدم طلب الغائب، فلا يؤخر بالشك. ثم إذا جاء الغائب وطلب الشفعة، وكان مع الحاضر في مرتبة واحدة، قاسم الحاضر فيما أخذ، أي تنقض القسمة الأولى، ويعاد تقسيم العقار. وإن لم يكن الغائب في مرتبة واحدة مع الحاضر الذي أخذ بالشفعة ـ وهذا لا يتصور إلا عند الحنفية ـ كالشريك والجار، فإن كان الغائب فوق الحاضر (أعلى منه) ¬
رابعا ـ إسقاط بعض الشفعاء حقه
كالشريك مع الجار قضي له بكل المشفوع فيه، وإن كان دونه كالجار مع الشريك منع من الشفعة. ويتفق المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية (¬1) مع الحنفية في ثبوت حق الشفعة للغائب، لعموم قوله عليه السلام: «الشفعة فيما لم يقسم» ولأن الشفعة حق مالي، وجد سببه بالنسبة إلى الغائب، فيثبت له، كالإرث، ولأن الغائب شريك لم يعلم بالبيع، فتثبت له الشفعة عند علمه كالحاضر، إذا كتم عنه البيع، ويندفع ضرر المشتري المشفوع عليه بدفع القيمة له. رابعاً ـ إسقاط بعض الشفعاء حقه: قال الحنفية (¬2): إذ أسقط بعض الشفعاء حقه: أـ فإن كان قبل أن يقضى لهم، فلمن بقي أخذ كل المشفوع فيه، لزوال المزاحمة. ب ـ وأما إن أسقط حقه بعد القضاء بالشفعة، فليس لمن بقي أخذ نصيب التارك؛ لأنه بالقضاء قطع حق كل واحد منهم في نصيب الآخر. وقال المالكية، والشافعية في الأصح، والحنابلة (¬3): إذا أسقط بعض الشفعاء حقه في الشفعة، بأن عفا، سقط حقه، كسائر الحقوق المالية، وتخير الآخر بين أخذ جميع المشفوع فيه، أو تركه كله، وليس له أخذ حقه فقط، أو الاقتصار على ¬
المبحث الرابع ـ أحكام الشفعة
حصته، لأن الشفيع الواحد إذا أسقط بعض حقه، سقط كله كالقصاص، لئلا تتبعض الصفقة على المشتري. قال ابن المنذر: أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم هذا؛ لأن في أخذ البعض إضراراً بالمشتري بتبعيض الصفقة عليه، والضرر لا يزال بالضرر. المبحث الرابع ـ أحكام الشفعة: أولاً ـ طريق التملك بالشفعة: قال الحنفية (¬1): الشفعة تجب بعقد البيع أي تستحق بعد البيع، حتى ولو كان البيع فاسداً وسقط الفسخ بوجه ما، أو كان مشتملاً على خيار للمشتري، ولا شفعة بمجرد الشراء الفاسد لأنه مستحق الفسخ شرعاً، وفي إثبات حق الشفعة تقرير الفساد، فلا يجوز، فإن سقط الفسخ بوجه من الوجوه كالتصرف بالمبيع أو البناء عليه، وجبت الشفعة لزوال المانع. كما لا شفعة إذا كان الخيار للبائع؛ لأنه يمنع زوال الملك عن البائع، أما خيار المشتري فلا يمنع زوال الملك عن البائع، والشفعة تبتنى عليه. ولا بد من طلب المواثبة (أي طلب الشفعة كما سمع، على وجه السرعة)، وتستقر بالإشهاد بعد الطلب، أي بالطلب الثاني: وهو طلب التقرير، وتملك بالأخذ بالتراضي، أو بقضاء القاضي. أي أن طريق التملك بالشفعة للشفيع يكون بأحد طريقين: إما بتسليم المشتري المبيع للشفيع بالتراضي، وإما بقضاء القاضي أي بحكم الحاكم من غير ¬
أخذ؛ لأن الملك للمشتري قد تم بالشراء، فلا ينتقل إلى الشفيع إلا بالتراضي، أو قضاء القاضي، كما في الرجوع في الهبة؛ لأن للحاكم ولاية عامة، فيقدر على القضاء في ضمن الحكم بالحق. ويترتب عليه: أنه لا يثبت للشفيع في شفعته شيء من أحكام الملك قبل تملكه بأحد الأمرين المذكورين، فلا تورث عنه عند الحنفية إذا مات في هذه الحالة، وتبطل شفعته إذا باع داره التي يشفع بها، ولو بيعت دار بجنبها في هذه الحالة لا يستحقها بالشفعة لعدم ملكه فيها. والتملك بأحد هذين الطريقين متفق عليه بين المذاهب (¬1)، لكن قال المالكية: تملك الشفعة بأحد أمور ثلاثة: بحكم من حاكم، أو دفع ثمن للمشتري، أو إشهاد بالأخذ بالشفعة ولو في غيبة المشتري. ولا شفعة عند غير الحنفية في بيع فاسد؛ لأنه باطل عندهم أي منعدم شرعاً. واستثنى المالكية حالة تصرف المشتري بشراء فاسد بالشيء إلى غيره ببيع صحيح، فللشفيع أن يأخذه من المشتري الثاني بما دفعه من الثمن. فإن طرأ في يد المشتري على المبيع بيعاً فاسداً ما يغير ذاته كالهدم مثلاً، فللشفيع الأخذ بما لزم المشتري: وهو القيمة إن كان الفساد متفقاً عليه، والثمن إن كان الفساد مختلفاً فيه. وتملك العقار بالشفعة هو بمنزلة شراء جديد مبتدأ، فيثبت للشفيع حق الرد بخيار الرؤية وخيار العيب (¬2)، كما هو مقرر في كل عقد بيع. والذي يتملكه الشفيع بالشفعة: هو الذي ملكه المشتري بالشراء، سواء ملكه ¬
ثانيا ـ ما يلزم الشفيع دفعه أو ما يؤخذ به المشفوع
أصلاً، أو تبعاً لغيره إذا كان متصلاً به وقت التملك بالشفعة، كالبناء والغرس والزرع والثمر. وهذا استحسان عند الحنفية؛ لأن الحق إذا ثبت في العقار، ثبت فيما هو تبع له إن كان منقولاً متصلاً به؛ لأن حكم التبع حكم الأصل (¬1). ثانياً ـ ما يلزم الشفيع دفعه أو ما يؤخذ به المشفوع: 1) ـ الثمن الواجب دفعه: اتفق الفقهاء على أن الشفيع يأخذ المبيع بالثمن، أو العوض الذي ملك به، أوبمثل الثمن الذي تملك به المشتري، لا بمثل المبيع الذي يملكه المشتري؛ لأن الشرع أثبت للشفيع ولاية التملك على المشتري بمثل ما يملك به (¬2) قدراً وجنساً، لحديث جابر «فهو أحق به بالثمن» (¬3)، كما يلزم بما أنفقه المشتري كأجرة دلال وكاتب ورسوم، فإن كان الثمن مثلياً كالمكيل والموزون، أخذه الشفيع بقيمته (أي قيمة الثمن)؛ لأنها بدله في القرض والإتلاف، وقت لزوم العقد؛ لأنه حين استحقاق الأخذ. وإن بيع عقار بعقار (مقايضة) وكان شفيعهما واحداً، أخذ الشفيع كل واحد من العقارين بقيمة الآخر، لأنه بدله، وهو من ذوات القيم (القيميات)، فيأخذه بقيمته. وإن اختلف شفيعهما، يأخذ شفيع كل منهما ماله فيه الشفعة بقيمة الآخر. وإن اشترى ذمي داراً بخمر أو خنزير، وكان الشفيع ذمياً، أخذها بمثل ¬
2) ـ الحط من الثمن أو الزيادة عليه
الخمر، وقيمة الخنزير، وإن كان الشفيع مسلماً أخذها عند غير الحنابلة بقيمة الخمر والخنزير. أما الخنزير فظاهر أنه مال قيمي، وأما الخمر فلمنع المسلم عن التصرف فيه، فالتحق بغير المثلي. وتحسب قيمة الشيء المبيع يوم البيع، لا يوم الأخذ بالشفعة، باتفاق الفقهاء، لأنه وقت إثبات العوض، واستحقاق الشفعة. وقال الحنابلة (¬1): لا شفعة فيما اشتراه الذمي بخمر أو خنزير، لأنهما ليسا بمال. 2) ـ الحط من الثمن أو الزيادة عليه: قال الحنفية (¬2): إذا حط البائع عن المشتري بعض الثمن سواء قبل الأخذ بالشفعة أم بعدها، سقط قدر المحطوط عن الشفيع؛ لأن حط البعض يلتحق بأصل العقد، فيظهر ذلك في حق الشفيع؛ لأنه يأخذ الشفعة بالثمن، والثمن هو الباقي المستقر عليه. أما إن حط البائع عن المشتري جميع الثمن، لم يسقط عن الشفيع منه شيء؛ لأن حط الكل لا يلتحق بأصل العقد بحال، لخروج العقد عن موضوعه، فيصبح هبة، ولم يبق ما يعد ثمناً. وإذا زاد المشتري البائع في الثمن، أو جَدَّد العقد بأكثر من الثمن الأول، لم تلزم تلك الزيادة الشفيع، لأن في الزيادة ضرراً به، لاستحقاقه الأخذ بالثمن الأول الأصلي، بخلاف مسألة الحط من الثمن، لأن فيه منفعة له. ¬
3) ـ تأجيل الثمن
والخلاصة: أنه يثبت في حق الشفيع الحط أو النقص من الثمن دون الزيادة. واتفق بقية الفقهاء مع الحنفية على أنه لو حط البائع جميع الثمن، فلا شفعة، لانتفاء البيع. وقال الشافعية والحنابلة (¬1): لو حط بعض الثمن عن المشتري أو زيد قبل لزوم العقد أي في مدة الخيار، انحط عن الشفيع مقدار النقص، ويلزم بالزيادة؛ لأن حق الشفيع إنما يثبت إذا تم العقد، وزال الخيار، والتغيير يلحق العقد. فأما إذا انقضى الخيار وانبرم العقد، فحط أو زيد في الثمن، لم يلحق بالعقد؛ لأن النقص حينئذ إبراء مبتدأ جديد، ولا يثبت ذلك في حق الشفيع، والزيادة بعد مدة الخيار هبة، تطبق عليها شروط الهبة. 3) ـ تأجيل الثمن: قال الحنفية ما عدا زفر، والشافعية في الأظهر من أقوال الشافعي في الجديد (¬2): إذا أجل الثمن كله أو بعضه، ليس للشفيع الاستفادة من هذا الأجل الممنوح للمشتري، وإنما يكون الشفيع بالخيار بين أن يعجل (يدفع الثمن حالاً) ويأخذ المبيع (أو الشقص أي الحصة) في الحال، أو يصبر حتى ينقضي الأجل، ولا يسقط حقه بتأخيره إلى حلول الأجل، لعذره، لكن يجب عليه طلب الشفعة في حينها، وإلا سقط حقه فيها؛ لأن العقد هو شرط ثبوتها، وقد وجد. والسبب في عدم إفادته من الأجل: هو أن الشفعة ليست تحويل الصفقة ¬
4) ـ هل يتوقف القضاء بالشفعة على دفع الشفيع الثمن؟
بصفتها للشفيع من المشتري، وإنما هي نقض العقد الذي تم بين البائع والمشتري، ثم انعقاد بيع آخر للشفيع. وقال زفر: للشفيع الاستفادة من الأجل؛ لأن الأجل وصف في الثمن كالزيافة، والأخذ بالشفعة يكون بالثمن، فيأخذه به وصفاً وأصلاً. وقال المالكية والحنابلة (¬1): للشفيع الاستفادة من تأجيل الثمن الذي تم به العقد، إذا كان مليئاً ثقة، أو كفله مليء ثقة. فإن لم يكن موسراً، ولا ضمنه مليء، وجب عليه دفع الثمن حالاً، رعاية للمشتري. وهذا الرأي أولى بالاتباع ضماناً لمصلحة المشتري الذي فقد الصفقة بسبب الشفعة. 4) ـ هل يتوقف القضاء بالشفعة على دفع الشفيع الثمن؟ قال الحنفية في ظاهر الرواية، والشافعية والمالكية والحنابلة (¬2): لا يشترط في التملك بالشفعة حكم الحاكم، ولا إحضار الثمن، ولا حضور المشتري، فلا يتوقف صدور الحكم القضائي بالشفعة على إحضار الشفيع الثمن إلى مجلس القضاء؛ لأن حقه ثبت بمجرد البيع لأجنبي دفعاً للضرر عنه، فصار كما لو صدر الشراء له من البائع من أول الأمر، أو لأن الشفيع يصير متملكاً المشفوع فيه بمقتضى القضاء بالشفعة، فكأنه اشتراه من البائع، والتملك بالشراء لا يتوقف على إحضار الثمن، كالشراء أو البيع المبتدأ بجامع أنه تملك بعوض. ¬
5) ـ استحقاق المشفوع فيه
لكن قال المالكية: إن قال الشفيع: أنا آخذ الشفعة، أجل ثلاثة أيام لإحضار الثمن، فإن أتى به فيها وإلا سقطت شفعته. وقال محمد بن الحسن: لا يقضي القاضي بالشفعة حتى يحضر الشفيع الثمن، دفعاً للضرر عن المشتري؛ لأن الشفيع ربما يكون مفلساً، فيتوقف القضاء على إحضار الثمن، ويؤجله القاضي يومين أو ثلاثة تمكيناً له من نقد الثمن، إذ لا يصح دفع الضرر عن الشفيع بإضرار غيره. لكن ما يخشاه محمد من هذا المحذور يمكن دفعه، كما يقول أبو حنيفة وأبو يوسف، بأن للمشتري حبس العين في يده، حتى يدفع الشفيع الثمن. ووفق الكاساني بين الرأيين، فقال: هذا عندي ليس باختلاف على الحقيقة، وللقاضي أن يقضي بالشفعة قبل إحضار الثمن بلا خلاف؛ لأن لفظ محمد رحمه الله: «ليس ينبغي للقاضي أن يقضي بالشفعة، حتى يحضر الشفيع المال» لا يدل على أنه ليس له أن يقضي، بل هو إشارة إلى نوع احتياط، ولهذا لو قضى جاز، ونفذ قضاؤه، نص عليه محمد. 5) ـ استحقاق المشفوع فيه: إذا استحق المشفوع فيه فمن الذي يتحمل العهدة وضمان الثمن؟ الأمر مختلف فيه على رأيين. والمراد بالعهدة: رجوع من انتقل الملك إليه وهو الشفيع على من انتقل الملك عنه من بائع أو مشتر بالثمن عند الاستحقاق أو الأرش (التعويض) عند ظهور عيب من العيوب. فقال الحنفية (¬1): إن ضمان الثمن عند الاستحقاق يكون على المشتري، إن ¬
6) ـ اختلاف الشفيع والمشتري في قدر الثمن
أخذ الشفيع المبيع منه، ونقده الثمن؛ لأنه هو الذي قبض الثمن، ولأن المبيع قد انتقل منه إلى الشفيع. وهذا هو الغالب. وقد يكون على البائع، إذا كان الشفيع قد أخذ المبيع منه قبل تسليمه إلى المشتري؛ لأنه هو الذي قبض الثمن، وانتقل المبيع منه إلى الشفيع. وقال الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) (¬1): إذا أخذ الشفيع الشقص (الجزء المبيع المشترك فيه) فظهر مستحقاً أو معيباً، فيرجع بالثمن أو الأرش (التعويض) على المشتري، ويرجع المشتري على البائع؛ لأن الشفيع أخذ المبيع من المشتري على أنه ملكه، فيرجع بالعهدة عليه كما لو اشتراه منه. 6) ـ اختلاف الشفيع والمشتري في قدر الثمن: إذا اختلف الشفيع والمشتري في قدر الثمن، فادعى المشتري ـ بطبيعة الحال ـ الأكثر، وادعى الشفيع الأقل، فمن الذي يصدق قوله؟ يرى جمهور الفقهاء (في المذاهب الأربعة وغيرها) (¬2): أن الشفيع والمشتري إذا اختلفا في قدر الثمن، فقال المشتري: اشتريته بمئة، وقال الشفيع: بل بخمسين، فالقول قول المشتري بيمينه؛ لأنه أعلم بما باشره من الشفيع، ولأن الشفيع مدع الأقل، والمشفوع عليه مدعى عليه، ينكر ذلك، والقول قول المنكر مع يمينه. ¬
إلا أن المالكية قيدوا الأخذ بقول المشتري بقيد، فقرروا أن القول قول المشتري إذا أتى بما يشبه تقدير المقدرين، أو ثمن المثل، وإلا أي إن أتى بما لا يشبه تقديرهم، بأن ادعى ما شأنه ألا يكون ثمناً، فالقول قول الشفيع إن أتى بما يشبه التقدير المعقول. فإن لم يكن قول كل من المشتري والشفيع مشبهاً التقدير المعقول، حُلِّف كل منهما على مقتضى دعواه، ورد دعوى صاحبه، ورد الثمن إلى القيمة الوسط بين الناس وهي قيمة الحصة يوم البيع، كما لو نكلا معاً عن حلف اليمين. وأضاف الحنفية (¬1) أن القول قول المشتري إذا اختلف مع الشفيع في جنس الثمن أو في صفته، مثال الأول: أن يقول المشتري: اشتريت بمئة دينار، وقال الشفيع: لا، بل بألف درهم، فالقول قول المشتري؛ لأن الشفيع يدعي عليه التملك بهذا الجنس، وهو ينكر، والقول قول المنكر مع يمينه، ولأن المشتري أعرف بجنس الثمن من الشفيع؛ لأن الشراء وجد منه، لا من الشفيع، فكان أعرف به من الشفيع، فيرجع في معرفة الجنس إليه. ومثال الاختلاف في صفة الثمن: أن يقول المشتري: اشتريت بثمن معجل، وقال الشفيع: لا، بل اشتريته بثمن مؤجل، فالقول قول المشتري؛ لأن الحلول في الثمن أصل، والأجل عارض، والمشتري يتمسك بالأصل، فيكون القول قوله بيمينه، ولأن العاقد أعرف بصفة الثمن من غيره، ولأن الأجل يثبت بالشرط، والشفيع يدعي عليه شرط التأجيل، وهو ينكر، فكان القول قوله. ¬
المبحث الخامس ـ شروط الشفعة
المبحث الخامس ـ شروط الشفعة: للأخذ بالشفعة شروط، وقع في بعضها اختلاف بين الفقهاء، وهي ما يلي: 1 - خروج العقار عن ملك صاحبه خروجاً باتاً لا خيار فيه. 2 - أن يكون العقد عقد معاوضة وهو البيع وما في معناه. 3 - أن يكون العقد صحيحاً. 4 - أن يكون الشفيع مالكاً وقت الشراء وإلى القضاء له بالشفعة: (شرط ملك الشفيع). 5 - عدم رضا الشفيع بالبيع. واشترط الجمهور غير الحنفية أن يكون الشفيع شريكاً، فلا شفعة لجار عندهم، وقد ذكر في بحث الشفيع، كما اشترطوا أن يكون المبيع شقصاً (جزءاً) مشاعاً مع شريك قابلاً لقسمة الإجبار، وقد ذكر في بحث المشفوع فيه، ولم يشترطه الحنفية. واشترط كل الفقهاء أن يأخذ الشريك جميع الشقص المبيع، لئلا يتضرر المشتري بتبعيض الصفقة في حقه، بأخذ بعض المبيع، وترك البعض الآخر؛ لأن الضرر لا يزال بالضرر، فإن أخذ البعض وترك البعض سقطت شفعته. ولم أجد حاجة للكلام عن اشتراط كون المشفوع فيه عقاراً، لأن الكلام عنه في بحث مستقل في المبحث الثاني. كما لا داعي للبحث في اشتراط عدم كون المشفوع فيه ملكاً للشفيع وقت البيع، فإن كان ملكاً له لم تجب الشفعة، لاستحالة تملك الإنسان مال نفسه. فهذا مفهوم بداهة، إذ لا يثير نزاعاً يؤدي إلى اللجوء إلى الشفعة.
الشرط الأول ـ خروج العقار عن ملك صاحبه خروجا باتا
وأما اشتراط المبادرة إلى طلب الشفعة بالتراضي أو بالتقاضي، فمحله بحث مستقل في إجراءات الشفعة. الشرط الأول ـ خروج العقار عن ملك صاحبه خروجاً باتاً: يجب أن يزول ملك البائع عن العقار المبيع، من طريق البيع البات النهائي اللازم الذي لا خيار فيه، فلا تستحق الشفعة في العقار إذا بيع بشرط الخيار. وهذا شرط متفق عليه بين المذاهب الأربعة، فقد اتفق فقهاؤهم على أن البيع المشتمل على خيار فيه للبائع، لا شفعة فيه، حتى يجب البيع أو يلزم. وعلى هذا لو كان الخيار لكل من العاقدين، فلا شفعة، لأجل خيار البائع. واختلفوا في البيع المشتمل على خيار للمشتري، فقال الحنفية، والشافعية في الأظهر الراجح عندهم (¬1): لو كان الخيار للمشتري، تجب الشفعة؛ لأن خياره عند الحنفية لا يمنع زوال المبيع عن ملك البائع، ولأن المبيع في زمن الخيار للمشتري على الراجح عند الشافعية. هذا في خيار الشرط. أما خيار العيب والرؤية، فلا يمنع وجوب الشفعة؛ لأنه لا يمنع زوال ملك البائع. وقال المالكية والحنابلة (¬2): لا تثبت الشفعة في بيع الخيار قبل انقضائه، سواء أكان الخيار لكل من البائع والمشتري، أم لأحدهما، فوجود الخيار للمشتري يمنع ¬
الشرط الثاني ـ أن يكون العقد عقد معاوضة
الشفعة؛ لأن الأخذ بالشفعة يلزم المشتري بالعقد بغير رضاه، ويوجب العهدة (¬1) عليه، ويفوت حقه من الرجوع في عين الثمن، فلم يجز، كما لو كان الخيار للبائع. الشرط الثاني ـ أن يكون العقد عقد معاوضة: لا يثبت الحق في الشفعة إلا إذا خرج العقار عن ملك صاحبه بعقد معاوضة، وهو البيع، أو ما في معناه كالهبة بشرط العوض إن تقابضا، والصلح عن مال لأنه معاوضة، سواء أكان العقار المبيع وقفاً أم غير وقف. ففي البيع تجب الشفعة، لانتقال المبيع إلى المشتري بعوض، لحديث جابر السابق: «فإن باعه، ولم يؤذنه، فهو أحق به». وفي الهبة بعوض تجب الشفعة عند الحنفية إن تقابضا، لوجود معنى المعاوضة، عند التقابض؛ لأن الهبة لا تثبت إلا بالقبض، فإن قبض أحدهما دون الآخر، فلا شفعة عند أئمة الحنفية الثلاثة (أبي حنيفة وصاحبيه). وعند زفر: تجب الشفعة بنفس العقد؛ لأن الهبة بشرط العوض عند الثلاثة: تقع تبرعاً ابتداء، معاوضة انتهاء، وبناء عليه: يشترط ألا يكون الموهوب ولا عوضه شائعاً، لأنه هبة ابتداء. وعند زفر: تقع معاوضة ابتداء وانتهاء. ولم يشترط التقابض عند الجمهور غير الحنفية في الهبة بشرط العوض (الثواب)؛ لأن الهبة عندهم عقد لازم، ولأن الموهوب له يملك الموهوب بعوض هو مال، فلم يفتقر إلى القبض في استحقاق الشفعة. ¬
وتجب الشفعة في الدار التي هي بدل الصلح، سواء أكان الصلح على الدار عند الحنفية عن إقرار أم إنكار، أم سكوت، لوجود معنى المعاوضة. وهذا الشرط متفق عليه بين الفقهاء في المشهور عن مالك (¬1)، فلا شفعة بناء عليه إذا زالت ملكية البائع عن ملكه بلا عوض مطلقاً، كالهبة بغير شرط العوض، والوقف، والوصية والميراث؛ لأن الشفعة حق تملك جبري، يملك به المبيع جبراً عن المشتري بمثل ما ملك (أي بالثمن والتكاليف التي دفعها). وهذه التصرفات تؤدي إلى نقل الملكية بغير عوض أي بالمجان، فلا يتأتى تحقق شرط الشارع في تملك الشفعة وهو البيع بمعاوضة وما في معناه. لكن الفقهاء اختلفوا في التملك بعوض غير مالي، كالمهر، وبدل الخلع، أو أجر طبيب أو محام مثلاً، أو أجرة دار، أو عوض في الصلح عن دم عمد. فقال الحنفية والحنابلة (¬2): يشترط أن يكون عقد المعاوضة مال بمال، فلا شفعة إذا كان العوض غيرمال، كما في هذه الأحوال، لأن الشيء في المعاوضة غير المالية يشبه الموهوب والموروث، ولأن هذه الأعواض لا مثل لها، حتى يأخذ الشفيع الشيء بمثلها، فلا يمكن مراعاة شرط الشرع فيه، وهو التملك بما تملك به المشتري، فلم يكن مشروعاً. وأوضح الحنابلة أنه لا تجب الشفعة بفسخ يرجع به المبيع إلى البائع، كرده بعيب أو إقالة. وقال الحنفية: إذا اقتسم الشركاء العقار المشترك بينهم فلا شفعة لجارهم بالقسمة، لأنها ليست بمعاوضة مطلقاً، ولأن ¬
الشرط الثالث ـ أن يكون العقد صحيحا
الشريك أولى من الجار. وإذا سلّم (أي تنازل) الشفيع الشفعة، ثم رد المشتري ما اشتراه بخيار رؤية أو شرط أو عيب بقضاء قاض، فلا شفعة للشفيع؛ لأن هذا الرد فسخ تام، فعاد المبيع لقديم ملكه، والشفعة تكون في حالة إنشاء العقد. وإن كان الرد للمبيع بغير قضاء، أو تقايلا (فسخا) البيع، فللشفيع الشفعة؛ لأن الرد فسخ في حق الطرفين، وبيع جديد في حق شخص ثالث، لوجود معنى البيع (وهو مبادلة المال بالمال بالتراضي) والشفيع هنا هو الثالث (¬1). وقال المالكية والشافعية (¬2): يكفي أن يكون العقد عقد معاوضة، سواء أكانت بمال أم غير مال، فتثبت الشفعة بالمعاوضة على غير مال؛ لأن الغرض من الشفعة دفع ضرر الدخيل، وهذا متحقق هنا، ولأنه عقار مملوك بعقد معاوضة، فأشبه البيع، ويطالب الشفيع حينئذ بدفع قيمة البدل، كما لو باعه بعرض تجاري؛ لأن هذه الأعواض أموال متقومة عندهم، فيؤخذ الشيء بقيمته عند تعذر الأخذ بالمثل، فيدفع الشفيع مهر المثل، وعوض الخلع. الشرط الثالث ـ أن يكون العقد صحيحا ً: اتفق الفقهاء على هذا الشرط (¬3)،لأن المطلوب هو زوال حق البائع في المبيع، فلا تثبت الشفعة في المشترى شراء فاسداً؛ لأن هذا العقد يجب ديناً نقضه، ورد المبيع إلى ملك بائعه، للتخلص من الفساد، فلا يكون البيع لازماً، لاحتمال فسخه من كل العاقدين، وفي إثبات الشفعة تقرير الفساد. ¬
الشرط الرابع ـ ملك الشفيع المشفوع به وقت البيع
لكن لو سقط حق فسخ البيع الفاسد بأسباب مسقطة للفسخ، كزيادة المبيع، وزوال ملك المشتري بالتصرف في المشترى إلى غيره، كان للشفيع عند الحنفية والمالكية (¬1) أن يأخذ بالشفعة؛ لأن المانع قيام احتمال الفسخ ولقد زال المانع، كما لو باع شخص بشرط الخيار له، ثم أسقط الخيار، وجبت الشفعة لزوال المانع من ثبوت الحق، وهو الخيار، فكذا هو. وفي حالة بيع المشتري الشيء المشترى شراء فاسداً، يكون الشفيع عند الحنفية بالخيار، إن شاء أخذ الشفعة بالبيع الأول، وإن شاء أخذها بالبيع الثاني؛ لأن حق الشفيع ثابت عند كل من البيعين، غير أنه إن أخذ بالبيع الثاني أخذ بالثمن، وإن أخذ بالبيع الأول، أخذ بقيمة المبيع يوم القبض؛ لأن البيع الفاسد يفيد الملك بقيمة المبيع لا بالثمن. وإنما تقدر القيمة يوم القبض؛ لأن المبيع بيعاً فاسداً مضمون بالقبض، كالمغصوب. ورأي المالكية قريب من هذا، كما ظهر في مبدأ الكلام عن المبحث الرابع. الشرط الرابع ـ ملك الشفيع المشفوع به وقت البيع: اتفق الفقهاء على شرط كون الشفيع مالكاً ما يشفع به قبل البيع، واختلفوا في استمرار الملك حتى القضاء بالشفعة على رأيين: فقال الحنفية (¬2): يشترط استمرار ملك الشفيع حتى يقضى له بالشفعة، فلو بيع عقار، فطلبه الشريك أو الجار بالشفعة، ثم باع ما يشفع به، سقط حقه فيها؛ لأن الشفعة شرعت لدفع الضرر عن الشفيع (الشريك أو الجار عندهم) ولا ضرر يصيبه من المشتري بعد بيع ملكه. ¬
وكذا لو باع الشفيع ما يشفع به قبل أن يقضى له بالشفعة، سقط حقه، سواء أكان عالماً ببيع الدار المشفوع فيها، أم لم يعلم. وقال جمهور الفقهاء (غير الحنفية) (¬1): يشترط ثبوت ملك الشفيع وقت البيع فقط، ولايشترط استمرار الملك إلى وقت القضاء بالشفعة. وعليه نص الشافعية فقالوا: لو باع الشفيع حصته، أو أخرجها عن ملكه بغير البيع كالهبة، جاهلاً بالشفعة، فالأصح بطلانها، لزوال سببها، وهو الشركة أي حين البيع. أـ ويترتب على هذا الشرط بالاتفاق أنه لا شفعة لشخص بدار يسكنها بالإجارة، أو الإعارة، ولا بدار باعها قبل بيع المشفوع فيه، ولا بدار جعلها مسجداً، ولا بدار جعلها وقفاً، فلا شفعة للوقف، أي ليس لناظر الوقف أن يطلب تملك العقار المبيع بجوار الأراضي الموقوفة، إذ لا مالك للوقف. أما إذا بيع الوقف عند الحنفية القائلين بجواز الاستبدال بالعين الموقوفة للضرورة أو للحاجة والمصلحة، فيثبت حق الشفعة للجار؛ لأنه بالبيع يصبح غير موقوف، فيجوز أخذه بالشفعة. كذلك تثبت الشفعة عند الحنفية في حالة بيع العقار الموقوف غير المحكوم به (¬2)، كما تثبت في بيع الأراضي العشرية والخراجية لأنها مملوكة، بخلاف الأراضي السلطانية، فإنه لا شفعة فيها. ¬
الشرط الخامس ـ عدم رضا الشفيع بالبيع وحكمه
وأجاز المالكية (¬1) لا للسلطان الأخذ بالشفعة لبيت المال، كما إذا مات أحد الشريكين، ولا وارث له، فأخذ السلطان نصيبه لبيت المال، ثم باع الشريك الآخر حصته، فللسلطان الأخذ بالشفعة لبيت المال. وكما لو مات إنسان عن بنت مثلاً، فأخذت النصف، ثم باعته، كان للسلطان الأخذ من المشتري لبيت المال. ب ـ ويتفرع على الخلاف السابق بين الفقهاء في شرط استمرار ملك المشفوع به: إرث حق الشفعة. قال الحنفية: لا يثبت للوارث حق الأخذ بالشفعة إذا مات الشفيع بعد طلب الشفعة قبل القضاء، فليس للوارث الشفعة في عقار بيع في حياة مورثه؛ لأن الوارث لم يكن مالكاً ما ورثه وقت العقد. وقال الجمهور: يثبت حق الشفعة للوارث، إذا طالب به الشفيع المورث بعد البيع قبل موته، بخلاف ما إذا مات قبل الطلب؛ لأن الوارث خليفة المورث، فله كل حقوق مورثه، ومنها حق الشفعة، دفعاً لضرر الدخيل عن نفسه. ومنشأ الخلاف في هذه المسألة كالخلاف في إرث خيار الشرط: هو هل تورث الحقوق كما تورث الأموال؟ عند أبي حنيفة: لا تورث، وعند الجمهور: تورث (¬2). الشرط الخامس ـ عدم رضا الشفيع بالبيع وحكمه: اتفق الفقهاء على اشتراط ألا يصدر من الشفيع ما يدل على رضاه ببيع العقار المشفوع فيه، فإن رضي بالبيع أو بحكمه قولاً، أو فعلاً بأن باع الشفيع المشفوع به ¬
أو سكت مدة طويلة من غير عذر، سقط حقه في طلب الشفعة؛ لأن الشفيع بالخيار بين الأخذ والترك؛ لأن الشفعة حق ثبت له لدفع الضرر عنه، فيخير بين أخذه وتركه. وقدر المالكية مدة السكوت فقالوا: ألا يظهر من الشفيع ما يدل على إسقاط الشفعة من قول أو فعل أو سكوت مدة سنة كاملة بعد العقد فأكثر بلا مانع، مع علمه وحضوره. لكن يشترط لسقوط هذا الحق: ألا يكون هناك تدليس أو خديعة للشفيع لإسقاط الشفعة، من طريق المشتري، أو الثمن، أو قدر المبيع نفسه (¬1). فإذا أخبر أن المشتري فلان، وكان المشتري بالفعل غيره؛ أو أن الثمن كذا، وكان الثمن بالفعل أقل أو من جنس أو نوع أو وصف آخر، أو أن المبيع جزء معين، وكان المبيع بالفعل جزءاً وأكثر أو كل المبيع، فسلم الشفعة أي أعرض عنها، ثم تبين الحقيقة والوافع، بقي حقه، وكان له الشفعة؛ لأنه إنما تركها لغرض بان خلافه ولم يتركه رغبة عنه. لكن لو كان الأمر على عكس بعض هذه الحالات الثلاث السابقة، كأن أخبر بأن الثمن ألف، فبان أكثر من ألف، أو أن المبيع كله، فبان بعضه، أو أن الثمن مؤجل، فبان حالاً نقداً، سقط حقه في الشفعة، لأنه إذا لم يرغب فيه بالأقل، أو بالمؤجل، فبالأكثر، أو المعجل أولى. ومن رغب عن شراء الكل، رغب عن شراء البعض بالأولى، خوف ضرر الشركة. والحالة الأخيرة هي الرواية المشهورة (ظاهر ¬
الاحتيال لإسقاط الشفعة
الرواية) عند الحنفية، وهي مذهب المالكية، أي أن الشفعة تسقط إذا أخبر الشفيع أن شريكه باع الكل، فترك الشفعة، ثم تبين أنه لم يبع إلا النصف مثلاً. وقال أبو يوسف والحنابلة: إن للشفيع في الحالة الأخيرة؛ لأنه قد يعجز عن ثمن الكل ويقدر على ثمن النصف مثلاً، وقد تكون حاجته إلى النصف لإتمام مرافق ملكه، ولا يحتاج إلى الكل. والخلاصة عند الجمهور: أن الشفيع إذا أخبر بما هو الأنفع له، فترك الأخذ بالشفعة، بطل حقه، وإلا فلا. الاحتيال لإسقاط الشفعة: اتفق الحنفية على كراهية الحيلة تحريماً لإسقاط الشفعة بعد ثبوتها أي بعد البيع، أما الحيلة لدفع ثبوت الشفعة قبل البيع، فيروى عن أبي يوسف، وبقوله يفتى: أنه لا تكره، إذا كان الجار غير محتاج للمشفوع فيه؛ لأنها منع عن إثبات الحق، فلا يعد ضرراً. وتكره عند محمد؛ لأن الشفعة إنما وجدت لدفع الضرر، ولو أبحنا الحيلة لما تحقق دفع الضرر (¬1). والخلاصة: أن المقرر عند الحنفية ومثلهم الشافعية: أنه يجوز الاحتيال لإسقاط الشفعة، كأن يقر له ببعض الملك ثم يبيعه الباقي. أما الحنابلة والمالكية: فقد حرموا صراحة الاحتيال لإسقاط الشفعة، وإن فعل لم تسقط؛ لأنها شرعت لدفع الضرر، فلو سقطت بالتحيل لترتب الضرر (¬2). ¬
المبحث السادس ـ إجراءات الشفعة
المبحث السادس ـ إجراءات الشفعة بما أن الشفعة حق ضعيف كما يقول الفقهاء، فلا تكون سبيلاً للتملك بها إلا باتخاذ إجراءات خاصة بطلبها من الشفيع بمجرد العلم بالبيع، حتى يحكم له بها. قال الحنفية: يلزم في الشفعة طلبات ثلاثة: هي طلب المواثبة، وطلب التقرير والإشهاد، وطلب الخصومة والتملك (¬1). ويحسن قبل الكلام عن هذه الإجراءات بيان اختلاف الفقهاء حول وقت وجوب الشفعة. وقت وجوب الشفعة: اشترط الحنفية طلب الشفعة فور العلم بالبيع؛ لأنها حق ضعيف، فيتقوى بالطلب الفوري بحسب المعتاد. ولم يشترط الإمام مالك المطالبة بالشفعة على الفور، وإنما وقت وجوب الأخذ بالشفعة عنده متسع، وهو في حدود السنة بعد العقد، على أشهر الأقوال عنه (¬2). واشترط الشافعية على الأظهر (¬3): المبادرة إلى طلب الشفعة على الفور، أي بعد علم الشفيع بالبيع؛ لأنها حق ثبت لدفع الضرر، فكان على الفور كالرد بالعيب، فإذا علم الشفيع بالبيع، فليبادر على العادة، فلو كان الشفيع في الصلاة أو في الحمام أو في حال قضاء الحاجة، لم يكلف قطع ما هو فيه، وإنما له التأخير ¬
إلى الفراغ مما هو فيه. والضابط فيه: أن ما عد توانياً في طلب الشفعة أسقطها، وإلا فلا. وإن كان مريضاً أو غائباً عن بلد المشتري، أو خائفاً من عدو، فليوكل إن قدر، وإلا بأن عجز عن التوكيل، فليشهد على طلب الشفعة رجلين عدلين أو عدلاً وامرأتين. فإن ترك الشفيع المقدور عليه من التوكيل والإشهاد، بطل حقه في الأظهر. والحنابلة كالشافعية قالوا (¬1): يشترط المطالبة بالشفعة على الفور بمجرد العلم بالبيع، بأن يشهد الشفيع على طلب الشفعة، حين يعلم بالبيع، إن لم يكن له عذر يمنعه من الطلب. ثم إذا أشهد على الطلب له أن يخاصم المشتري، ولو بعد أيام أو أشهر أو سنين. وبه يتبين أن الجمهور يقولون: إن الشفعة على الفور، للحديث النبوي: «الشفعة كحل العقال» (¬2)، ولأن ثبوتها على التراخي ربما أضر بالمشتري لعدم استقرار ملكه. وأما المالكية: فلم يشترطوا الفورية، فلو سكت الشفيع بلا مانع سنة كاملة بعد العقد، فما دونها، أو غاب وعاد في أثناء السنة، ثم طلب الشفعة، أخذها؛ لأن السكوت لا يبطل حق امرئ مسلم ما لم يظهر من قرائن الأحوال ما يدل على إسقاطه. لكن يحق للمشتري المطالبة عند الحاكم للشفيع بعد الشراء بأن يحدد موقفه، إما بالأخذ بالشفعة أو الترك، فإن أجاب بواحد منهما فظاهر، وإلا أسقط الحاكم شفعته. ¬
مراحل طلب الشفعة
مراحل طلب الشفعة: يبدأ الشفيع بطلب الشفعة عند الحنفية كما يلي: 1 - طلب المواثبة: أي المبادرة والسرعة، وهو أن يطلب الشفيع في مجلس علمه بالبيع الأخذ بالشفعة، بلفظ يفهم منه طلبها مثل: أطلب الشفعة أو أنا طالبها، أو أنا شفيع المبيع وأطلبه بالشفعة ونحوه (¬1)، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «الشفعة لمن واثبها» (¬2) ولا يلزم الإشهاد من الشفيع على هذا الطلب، وإنما هو أفضل، لمخافة جحود أو إنكار الخصم (المشتري) الطلب في ساحة القضاء. فالمعتبر هو الطلب، وإنما الإشهاد ليثبت الطلب بالشهادة عند الإنكار، كالطلب والإشهاد لهدم الحائط المائل، لا يشترط الإشهاد للضمان، وإنما لإثبات سبب الضمان. ويلاحظ أن أصح الروايتين عند الحنفية: هو بقاء الحق في الطلب ما دام الشفيع في مجلس العلم بالبيع، مهما امتد. والأظهر عند الشافعية كما تقدم أن هذا الطلب على الفور. وكذلك قال الحنابلة: الشفعة بالمواثبة ساعة العلم بالبيع أي على الفور. وأما المالكية: فوقت الطلب عندهم كما تبين على التراخي، لمدة سنة، على أشهر أقوال مالك. 2 - طلب التقرير: وهو أن يتقدم الشفيع بطلب آخر يؤكد به طلبه الأول. إذ قد يكون الطلب الأول عن رغبة عارضة من الشفيع، ثم يتبين أمره وظروفه وإمكاناته المادية، فلا بد من هذا الطلب لتأكيد وتقرير الطلب الأول (¬3). ¬
حكم الطلب
ويشترط في هذا الطلب: أن يكون على فور الطلب الأول، والإشهاد عليه، بأن يشهد الشفيع على رغبته بالشفعة رجلين أو رجل وامرأتين، ومدة هذا الطلب ليست على فور المجلس في الأكثر، بل هي مقدرة بمدة التمكن من الإشهاد. والإشهاد يكون على البائع إن كان المبيع في يده، أو على المشتري، وإن لم يكن قد تسلم المبيع؛ لأنه مالك؛ أوعند العقار لتعلق الحق به. وصورة الإشهاد والطلب: أن يقول الشفيع: إن فلاناً اشترى هذه الدار، وأنا شفيعها، وقد كنت طلبت الشفعة، وأطلبها الآن، فاشهدوا على ذلك، أو نحوه. ويلاحظ أن الإشهاد على هذا الطلب ليس بشرط لصحته، كما ليس بشرط لصحة طلب المواثبة، وإنما هو لتوثيقه عند إنكار الخصم. وإن كان الشفيع في محل بعيد، ولم يمكنه طلب التقرير والإشهاد بهذا الوجه، يوكل آخر، وإن لم يجد وكيلاً أرسل مكتوباً. وإذا كان الشفيع قد تقدم بطلب المواثبة أمام شهود، عند البائع إذا كان المبيع في يده، أو عند المشتري، أو عند المبيع نفسه، كفاه ذلك عن طلب التقرير، لحصول المقصود، وهو إظهار كونه مصراً على طلب الشفعة. حكم الطلب: إذا فعل الشفيع طلب التقرير، استقرت شفعته أي حقه، ولم تسقط بعده بالتأخير عند أبي حنيفة وفي رواية عن أبي يوسف، وهو ظاهر المذهب وعليه الفتوى؛ لأن الحق متى ثبت واستقر لا يسقط إلا بالإسقاط. وقال محمد: إن تركها شهراً بعد الإشهاد من غير عذر، بطلت شفعته، لئلا يتضرر المشتري بالتأخير. وقد قال بعض الحنفية: والفتوى اليوم على قول محمد، لتغير أحوال الناس في قصد الإضرار، وقد أخذت المجلة بهذا الرأي في المادة (1034).
3 - طلب الخصومة والتملك
وقال الحنابلة: إذا حدث الإشهاد على الطلب، فللشفيع مخاصمة المشتري ولو بعد سنين. وحدد المالكية لطلب الشفعة الأول مدة سنة تامة، فإذا سكت بلا مانع سنة كاملة بعد العقد، أو سكت بلا مانع مع علمه بهدم أو بناء سقطت شفعته، لأن سكوته دليل الإعراض عن أخذه بالشفعة. 3 - طلب الخصومة والتملك: وهو أن يقدم الشفيع طلباً للقضاء يطلب فيه الحكم بالشفعة وتسليم المبيع، بأن يقول: اشترى فلان دار كذا، وأنا شفيعها بدار كذا لي، أو أنا شريكه فيها، فأطلب منه تسليم الدار إلي (¬1). جزاء التأخر في هذه الطلبات: لو أخر الشفيع طلب المواثبة عن مجلس علمه بالبيع بدون عذر، كأن اشتغل بأمر آخر، أو بحث في أمر آخر، أو قام من المجلس من دون أن يطلب الشفعة، سقط حقه في الشفعة. فإن وجد عذر مانع من المبادرة بالطلب كوجود حائل مخيف من وحش أو سيل مثلاً، لا تبطل شفعته حتى يزول المانع (¬2). ولو أخر الشفيع طلب التقرير والإشهاد، مدة يمكن إجراؤها فيها، ولو بإرسال مكتوب، يسقط حق شفعته (م 1033) مجلة. ولو أخر الشفيع طلب الخصومة بعد طلب التقرير والإشهاد شهراً، من دون عذر شرعي، ككونه في ديار أخرى، يسقط حق شفعته (م 1034) مجلة. طالب الشفعة للمحجور: للصغير الأخذ بالشفعة عند أكثر الفقهاء. وطلب ¬
نظر القاضي في طلب الشفعة وإثبات الدعاوى
الولي حق شفعة الصغير ونحوه من المحجورين، فاعلاً ما يراه المصلحة للصغير في الأخذ بها، مثل كون ثمن المبيع رخيصاً أو بثمن المثل، وللصغير مال لشراء العقار. فإذا أخذ الولي بالشفعة لم يملك الصغير نقضها بعد البلوغ باتفاق المذاهب الأربعة. وإن لم يطلب الولي حق شفعة الصغير، فلا تبقى له عند أبي حنيفة وأبي يوسف صلاحية طلب حق الشفعة بعد البلوغ؛ لأن من ملك الأخذ بها، ملك العفو عنها، كالمالك. وقال المالكية والشافعية: ليس للصغير إذا بلغ المطالبة بالشفعة إذا عفا عنها وليه لمصلحة رآها للصغير، أو لم يكن للصغير ما يأخذها به، فتسقط الشفعة؛ لأن الولي فعل ماله فعله، فلم يجز للصبي نقضه كالرد بالبيع، ولأنه فعل ما فيه الحظ للصبي. فإن أسقط الولي الشفعة بلا نظر ولا تقدير للمصلحة، لم تسقط، ويكون للصغير الحق فيها إذا بلغ. وقال الحنابلة، وزفر ومحمد من الحنفية: للصغير إذا بلغ المطالبة بالشفعة، سواء عفا عنها الولي أو لم يعف، وسواء أكان في الأخذ بها أم في تركها مصلحة، أم لا؟ لأن المستحق للشفعة يملك الأخذ بها، سواء أكان له فيها الحظ، أم لم يكن، فهي حق ثابت للصغير، لا يملك الولي إبطاله، فلم يسقط بترك غير الصغير له، كالغائب إذا ترك وكيله الأخذ بها (¬1). نظر القاضي في طلب الشفعة وإثبات الدعاوى: إذا تقدم الشفيع ليأخذ بالشفعة، وادعى شراء الدار المشفوعة، سأل ¬
القاضي (¬1) أولاً الشفيع عن موضع الدار وحدودها، لدعواه فيها حقاً. ثم هل قبض المشتري الدار؛ إذ لو لم يقبض لم تصح دعواه على المشتري ما لم يحضر البائع. ثم يسأل القاضي عن سبب شفعة الشفيع وحدود ما يشفع به، إذ قد تكون دعواه بسبب غير صالح، ثم يسأل عن طلب التقرير كيف كان وعند من أشهد. فإذا تحقق ذلك كله صحت الدعوى. ثم سأل القاضي المدعى عليه عن مالكية الشفيع لما يشفع به، فإن أقر بملكية الشفيع ما يشفع به، فبها، وإن أنكر تلك الملكية، كلف القاضي الشفيع إقامة البينة على ملكه؛ لأن ظاهر اليد (أو الحيازة) لا يكفي لإثبات الاستحقاق. فإن عجز الشفيع عن البينة، استحلف ـ بطلب الشفيع ـ المشتري، بالله ما يعلم أن الشفيع مالك لما ذكره، مما يشفع به. فإن نكل المشتري عن اليمين، أو قامت بينة للشفيع، ثبت ملكه الدار التي يشفع بها، وثبت له حق الشفعة. ثم يسأل القاضي المدعى عليه أيضاً: هل اشترى (ابتاع) الدار المشفوعة، أو لا؟ فإن أقر فبها، وإن أنكر الابتياع، قيل للشفيع: أقم البينة على شرائه؛ لأن الشفعة لا تثبت إلا بعد ثبوت البيع بالحجة. فإن عجز عنها، استحلف المشتري بالله، ما ابتاع هذه الدار، أو بالله، ما يستحق عليَّ في هذه الدار شفعة، من الوجه الذي ذكره الشفيع. ¬
المبحث السابع ـ ما يطرأ على المشفوع فيه بيد المشتري
فإن نكل المشتري عن اليمين، أو أقر بالشراء، أو بَرْهن الشفيع على مايدعي، قضي له بها، إذا لم ينكر المشتري طلب الشفيع الشفعة: فإن أنكر، فالقول له (للمشتري) بيمينه (¬1). فإن أنكر طلب المواثبة حلف على العلم أي ما يعلم به؛ وإن أنكر طلب التقرير، حلف على البتات، أي الحزم بأنه لم يحصل. ويلاحظ أن الخصم للشفيع: هو المشتري مطلقاً، سواء تسلم المبيع أم لا؛ لأنه مالك، والبائع قبل التسليم لقيام يده (حيازته). لكن لا تسمع البينة على البائع، حتى يحضر المشتري؛ لأنه المالك، ويفسخ بحضوره. فإن سلم المبيع للمشتري، لا يلزم حضور البائع، لزوال الملك واليد عنه (¬2). المبحث السابع ـ ما يطرأ على المشفوع فيه بيد المشتري: قد يطرأ على المشفوع فيه في يد المشتري قبل القضاء بالشفعة للشفيع بعض التغيرات من عقود وتصرفات ناقلة للملكية كالبيع والهبة، أو مرتبة لحق انتفاع وغيره كالإجارة والإعارة، أو حدوث زيادة كبناء وغرس، أو نقص كهلاك وهدم أو نقض. فما أثر هذه التغيرات الطارئة على حق الشفيع، وهل تسقط شفعته؟ أولاً ـ العقود والتصرفات: قد تصدر تصرفات من المشتري في الشيء المشترى قبل أن يقضى للشفيع بالشفعة. وتلك التصرفات: ¬
إما ناقلة للملكية كالبيع والهبة مع التسليم والوقف، وجعل المبيع مهراً في زواج. وإما مرتبة لحق انتفاع، أو حبس كالإجارة والإعارة، والرهن. وقد اتفقت المذاهب الأربعة (¬1) على جواز نقض بعض التصرفات الناقلة للملكية وهو البيع، بعد حكم القاضي بالشفعة لمستحقها، لتعلق حق الغير في المبيع. كما اتفقوا على جواز نقض الرهن والإجارة والإعارة، مما لا شفعة فيه ابتداء. وفي حالة البيع: يخير الشفيع بين أن يأخذ العقار المبيع بالثمن الذي تم به الشراء الأول، أو الثاني؛ لأن كل واحد من العقدين سبب تام لثبوت حق الأخذ له بالشفعة كما قال السرخسي، ولأن حق الشفيع سابق على هذا التصرف، فلا يبطل به. واتفق الحنفية والشافعية والمالكية على جواز نقض ما لا شفعة فيه ابتداء، كالوقف وجعله مسجداً أو مقبرة، والهبة له، والوصية به. وقال الحنابلة: تسقط الشفعة إذا تصرف المشتري بالمبيع قبل طلب الشفعة بهبة أو صدقة، أو وقف على معين كمسجد كذا، أو على الفقراء أو المجاهدين، أو جعله عوضاً عن طلاق أو خلع أو صلح عن دم عمد ونحوه، مما لا شفعة فيه ابتداء؛ لأن في الشفعة إضراراً بالموقوف عليه، والموهوب له، والمتصدق عليه ونحوه، بسبب زوال ملكه يزول عنه بغير عوض؛ لأن الثمن إنما يأخذه المشتري، ¬
ثانيا ـ نماء المشفوع فيه وزيادته
والضرر لا يزال بالضرر. ولا يصح عند الحنابلة تصرف المشتري بعد طلب الشفيع الشفعة، لانتقال الملك إلى الشفيع بالطلب في الأصح. ولو أوصى المشتري بالشقص المشترى (الحصة المبيعة) فإن أخذه الشفيع قبل القبول بطلت الوصية، واستقر الأخذ للشفيع، لسبق حقه على حق الموصى له، والوصية قبل القبول بعد الموت جائزة، لا لازمة. ثانياً ـ نماء المشفوع فيه وزيادته: قد يَحْدث نمو طبيعي في العقار المشفوع فيه، وقد يُحدث المشتري فيه زيادة بالبناء أو الغراس، قبل الحكم بالشفعة لصاحبها، فمن الأحق بذلك، الشفيع أم المشتري، وإذا كان المستحق هو المشتري، فهل يعوض عن حقه، وما التعويض؟ 1 - النماء الطبيعي: إذا نما المبيع في يد المشتري، كأن أثمر الشجر في يده بعد الشراء: قال الحنفية (¬1): القياس ألا يكون للشفيع، لأنه نما على ملك المشتري وبعلمه. والاستحسان أنه للشفيع؛ لأن الثمر متصل خلقه بالشجر، فكان تبعاً له، ولأنه متولد من المبيع، فيسري إليه الحق الثابت في الأصل (الشجر) الحادث قبل الأخذ، كالمبيعة إذا ولدت قبل القبض، فإن المشتري يملك الولد تبعاً للأم. والخلاصة: أنه يأخذه الشفيع؛ لأنه مبيع تبعاً لأصله. وقال المالكية (¬2): الغلة قبل الشفعة للمشتري؛ لأن الضمان عليه، والغلة (أو الخراج) بالضمان. ¬
2 - الزيادة المحدثة
وقال الشافعية والحنابلة (¬1): للنماء حالتان: أـ إذا كان نماء متصلاً، كالثمرة غير الظاهرة، والشجر إذا تكاثر، فهو للشفيع، يأخذ المبيع مع زيادته، لأن مالا يتميز يتبع الأصل في الملك، كما يتبعه في حالة الرد بالعيب أو الخيار أو الإقالة. ب ـ وإذا كان نماء منفصلاً، كالثمرة الظاهرة، والطلع المؤبر، والغلة والأجرة، فهي للمشتري لاحق للشفيع فيها عند الحنابلة، وفي المذ هب الجديد للشافعي؛ لأنها حدثت في ملك المشتري، فلا تتبع المبيع، فلا يؤخذ به إلا ما دخل بالعقد، ولا يستحق شيء بغير تراض. والخلاصة: أن هذين المذهبين يلتقيان مع مقتضى القياس عند الحنفية. 2 - الزيادة المحدثة: إذا أحدث المشتري زيادة في المبيع، بالبناء أو الغرس أو الزرع. أـ ففي حالة الزرع الذي له نهاية معلومة: اتفق الفقهاء على أن للشفيع الأخذ بالشفعة، ويكون الزرع للمشتري على أن يبقى في الأرض إلى أوان الحصاد، وعليه الأجرة عند الحنفية عن المدة التي تمضي بين القضاء بالشفعة وبين الحصاد (¬2). وقال الشافعية والحنابلة: يبقى الزرع بلا أجر على المشتري، لأنه زرعه في ملكه (¬3). ¬
ب ـ وأما في حالة البناء والغرس: فللشفيع الأخذ بالشفعة أيضاً، لكن الفقهاء اختلفوا فيما يجب عليه من دفع قيمة البناء والغراس. قال الحنفية في ظاهر الرواية (¬1): إذا بنى المشتري أو غرس فيما اشتراه، ثم قضي للشفيع بالشفعة، كان للشفيع الخيار: إن شاء كلف المشتري بالقلع وتخلية الأرض مما أحدث فيها؛ لأنه وضعه في محل تعلق به حق متأكد للغير من غير إذن، وتكون الأنقاض للمشتري، لا للشفيع، لزوال التبعية بالانفصال. وإن شاء أخذ الأرض بالثمن الذي دفعه المشتري، على أن يدفع قيمة البناء والغرس مقلوعاً أي مستَحَق القلع أنقاضاً. وقال الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) (¬2)، ورأيهم هو الأعدل: إن اختار المشتري قلع الغراس والبناء، لم يمنع إذا لم يكن فيه ضرر؛ إذ لا ضرر ولا ضرار؛ لأنه ملكه، فيملك إزالته ونقله، ولا يلزمه تسوية الأرض؛ لأنه غير متعد. وإن لم يختر المشتري القلع، فالشفيع بالخيار بين ترك الشفعة، وبين دفع قيمة البناء والغراس مستَحَق البقاء. وهذا هو رأي أبي يوسف أيضاً. والسبب في اختلاف الرأيين كما قال ابن رشد الحفيد الفيلسوف في بداية المجتهد: تردد تصرف المشفوع عليه، العالم بوجوب الشفعة عليه بين شبهة تصرف الغاصب، وتصرف المشتري الذي يطرأ عليه الاستحقاق، عندما بنى في الأرض ¬
ثالثا ـ نقص المشفوع فيه
أو غرس. فمن غلب على فعله شَبَه الاستحقاق وهم الجمهور، قرر أنه لا بد للمشتري من أن يأخذ القيمة. ومن غلب على فعله شَبَه التعدي قال وهم الحنفية: للشفيع أن يعطي قيمة البناء والغراس منقوضاً. ثالثاً ـ نقص المشفوع فيه: للفقهاء حول هذا الموضوع رأيان متعارضان: رأي الحنفية وقريب منه مذهب المالكية، ورأي الشافعية والحنابلة. قال الحنفية (¬1): قد يكون النقص جزءاً من توابع الأرض، أو متصلاً بالأرض، أو بعضاً من الأرض نفسها. أـ فإن كان النقص جزءاً من توابع الأرض، مثل قطف الثمر، وهلاك الآلات الزراعية أو الصناعية، ثم حكم بالشفعة للشفيع، سقط من الثمن قيمة هذه الثمار والآلات، سواء أكان النقص بفعل المشتري؛ لأنها مقصودة بالبيع، وقد أخذها المشتري، أم كان الهلاك بآفة سماوية؛ لأنها كانت بعض المعقود عليه، ودخلت في البيع مقصودة، فيقابلها حصتها من الثمن. ب ـ وإن كان النقص جزءاً متصلاً بالأرض، مثل يبس الشجر أو جفافه، وانهدام البناء، واحتراقه، ونقضه، ثم قضي للشفيع بالشفعة، فإن كان ذلك بصنع المشتري أو غيره، نقص من الثمن قيمة ما زال، كالحالة الأولى، فتقوَّم الأرض بدون شجر وبناء، وتقوَّم وفيها البناء والشجر، ويسقط عن الشفيع مقدار التفاوت أو الفرق بينهما، لوجود التعدي والإتلاف، فيقابله شيء من الثمن. وتكون الأنقاض حينئذ للمشتري. ¬
وأما إن حدث ذلك بلا تعد من أحد، وإنما بآفة سماوية، كزلزال أو صقيع أو ريح عاتية، كان على الشفيع دفع الثمن كله، ولا يسقط منه شيء مقابل الجزء التالف أو الضائع؛ لأن النقص ليس بجناية أحد، ولأن الشجر والبناء تابعان للأرض، حتى إنهما يدخلان في عقد البيع بدون ذكر، فلا يقابلهما شيء من الثمن؛ لأن الأصل أن الثمن يقابل الأصل لا الوصف. وأما مصير الأنقاض من أحجار وأخشاب: فإن لم يبق منها شيء، فلا إشكال. وإ ن بقي منها شيء، وأخذه المشتري لانفصاله من الأرض وعدم تبعيته لها، سقطت حصته من الثمن، بقيمته يوم الأخذ. وأما الدار فتقوم يوم العقد، ويوزع الثمن بين الدار والأنقاض بحسب قيمتها على النحو المذكور. وإن لم يأخذ المشتري الأنقاض، كأن هلكت بعد انفصالها، لم يسقط شيء من الثمن، لعدم حبس الأنقاض من قبله، ولأنها من التوابع، والتوابع لا يقابلها شيء من الثمن، وبالأخذ بالشفعة تحولت الصفقة إلى الشفيع. جـ ـ وأما إن كان النقص في الأرض نفسها، لا فيما عليها من شجر أو بناء، كأن أغرقها السيل، فأزال بعضها، كان للشفيع الخيار بين ترك الشفعة، وبين أخذ الباقي بحصته من الثمن؛ لأن حقه ثابت في الكل، وقد تمكن من أخذ البعض، فيأخذه بحصته من الثمن، لهلاك بعض الأصل. ومذهب المالكية إجمالاً كالحنفية، فإنهم قالوا (¬1): لا يضمن المشتري نقص الشقص (الجزء المشفوع فيه) إذا طرأ عليه بسب سماوي، أو بسبب من المشتري لمصلحة، كأن هدم ليبني أو لأجل توسعة. فإن كان النقص بسبب من المشتري، كأن هدم لا لمصلحة، ضمن. فإن هدم وبنى، فللمشتري قيمته يوم البناء على الشفيع قائماً، لعدم تعديه. ¬
المبحث الثامن ـ مسقطات الشفعة
وتحسب للشفيع من الثمن قيمة الأنقاض يوم الشراء، فيحط عنه من الثمن، ويغرم ما بقي مع قيمة البناء قائماً. وقال الشافعية والحنابلة (¬1): إن تلف الشقص (الجزء المشفوع فيه) أو بعضه، في يد المشتري، فهو من ضمانه، لأنه ملكه، تلف في يده. ثم إن أراد الشفيع الأخذ بعد تلف بعض المشفوع فيه، أخذ الموجود بحصته من الثمن، سواء أكان التلف بفعل الله تعالى، أم بفعل آدمي، وسواء تلف باختيار المشتري كنقضه البناء، أو بغير اختياره كانهدام البناء نفسه. والأنقاض إن كانت موجودة أخذها الشفيع مع الأرض بحصتها من الثمن، وإن كانت معدومة أخذ الأرض وما بقي من البناء. المبحث الثامن ـ مسقطات الشفعة: تعرف الأسباب التي تؤدي إلى إسقاط حق الشفعة، عند الكلام على شروط الأخذ بالشفعة، لذا أوجز الكلام في بيان ما تسقط به الشفعة فيما يأتي، مع ملاحظة أن بعض الحالات متفق عليها، وبعضها مختلف فيها: 1 - بيع الشفيع ما يشفع به من عقار قبل أن يقضى له بالشفعة: إذا باع الشفيع ما يشفع به قبل العلم بالشفعة، أو بعد العلم بالشفعة، وقبل الحكم بها، سقطت شفعته، باتفاق الفقهاء ما عدا ابن حزم الظاهري، لزوال السبب الذي يستحق به الشفعة، وهو الملك الذي يخاف الضرر بسببه. فبطلان هذه الشفعة أمر منطقي بدهي، لانتفاء الضرر عن الشفيع الذي شرعت الشفعة من أجل دفعه عن الشريك باتفاق الفقهاء. أو عن الجار عند الحنفية (¬2). ¬
2 - تسليم الشفعة أو الرغبة عنها بعد البيع
2 - تسليم الشفعة أو الرغبة عنها بعد البيع: سواء أكان عالماً بحقه فيها، أم غير عالم، صراحة، أم دلالة وضمناً؛ لأن الشفعة حق ضعيف يسقط بأوهى الأسباب، وذلك في المذاهب الأربعة (¬1). أما تسليم الشفعة صراحة: فمثل أن يقول الشفيع: لا أرغب فيها، أو لا أريدها، أو أسقطتها أو أبطلتها، أو أبرأتك عنها أو عفوت عنها أو سلمتها، ونحوها على أن يكون تسليمها بعد البيع وقبل الحكم بها؛ لأنه لا حق له قبل البيع فيسقطه، ولأنه بعد الحكم لا يملك إسقاطها إلا بعقد ناقل للملكية. وأما تسليم الشفعة دلالة: فهو أن يوجد من الشفيع ما يدل على رضاه بالعقد وحكمه للمشتري، وهو ثبوت الملك له، مثل ترك طلب المواثبة أو طلب التقرير بعد العلم بالبيع مع القدرة عليه بأن يترك الطلب على الفور من غير عذر، أو قام عن المجلس الذي علم فيه بالبيع، أو تشاغل عن الطلب بعمل آخر؛ لأن ترك الطلب مع القدرة عليه دليل الرضا بالعقد وحكمه للمشتري الدخيل. ومثل: أن يساوم الشفيع المشتري على شراء ما اشتراه أو إيجاره له، لأن مساومته دليل على إعراضه عن الأخذ بالشفعة. ومثل أن يكون الشفيع وكيلاً عن البائع فيما باعه؛ لأنه يسعى في نقض ما تم من جهته. أما إذا كان الشفيع وكيل المشتري فيما ابتاع أي اشترى لموكله، فله الشفعة، لأنه لا ينتقض شراؤه بالأخذ بها (أي الشفعة)؛ لأنها مثل الشراء. وهذا التفصيل عند الحنفية، وبعض الحنابلة وبعض الشافعية. ¬
أمران في تسليم الشفعة
وقال الشافعية والحنابلة في الأرجح (¬1): إذا وكل الشفيع في البيع، لم تسقط شفعته بالتوكيل، سواء أكان وكيل البائع أم وكيل المشتري، لأنه وكيل فلا تسقط شفعته كالآخر. أما التهمة فلا تؤثر؛ لأن الموكل وكله مع علمه بثبوت شفعته راضياً بتصرفه مع ذلك، فلا يؤثر، كما لو أذن لوكيل في الشراء من نفسه. وهناك أمران في تسليم الشفعة: وهما تسليم الولي شفعة الصبي، والصلح عن الشفعة. أـ تسليم الشفعة من الولي: أوضحت هذا الموضوع في بحث طلب الشفعة، وأشير إليه هنا بإيجاز يتصل بأمر سقوط الشفعة. قال الشيخان (أبو حنيفة وأبو يوسف) (¬2): تسليم الأب والوصي الشفعة على الصغير جائز، فيسقط حقه فيها حينئذٍ؛ لأن الأخذ بالشفعة في معنى التجارة، بل عين التجارة؛ لأنه مبادلة المال بالمال، وترك الأخذ بها ترك التجارة، فيملكه الولي، كما يملك ترك التجارة برد بيع شيء للصبي، عندما يقال للأب مثلاِ: بعتك هذا المال لابنك الصغير؛ ولأنه أي الأخذ بالشفعة تصرف دائر بين النفع والضرر، وقد تكون المصلحة في ترك الشراء للصبي، رعاية لمصلحته، ليبقى الثمن على ملكه، والولاية: نظر بحسب المصلحة. وفصل المالكية في الأمر (¬3): فقالوا: إن كان ترك الشفعة لمصلحة القاصر، صح إسقاطها من الأب أو الوصي، وإلا فلا يصح، وللقاصر حينئذ طلبها متى بلغ. ¬
ب ـ الصلح عن الشفعة
وقال زفر ومحمد والحنابلة (¬1): ليس للولي إسقاط شفعة الصغير، سواء لمصلحة أو لغير مصلحة، ويظل الصغير على شفعته متى بلغ؛ لأن هذا حق ثابت للصغير، فلا يملك الولي إبطاله، كالتنازل عن ديته، وقَوَده (حقه في القصاص) ولأنه شرع لدفع الضرر، فكان إبطاله إضراراً به. ويجري هذا الخلاف عند الحنفية في تسليم الوكيل طلب الشفعة عن موكله. عند أبي حنيفة: يصح منه تسليمها في مجلس القاضي؛ لأن الوكيل قائم مقام الموكل في الخصومة ومحلها مجلس القاضي. وعند أبي يوسف: يصح للوكيل تسليم الشفعة في مجلس القاضي وفي غيره، لكونه نائباً عن الموكل مطلقاً. وعند محمد وزفر: لا يصح من الوكيل تسليم الشفعة أصلاً. ب ـ الصلح عن الشفعة: قال الحنفية (¬2): إن صالح الشفيع عن حقه في الشفعة بأخذ عوض عنه، سقطت شفعته لتضمن فعله الإعراض عن الشفعة، وعليه رد العوض الذي أخذه، لبطلان الصلح وبيع الحق؛ لأن الشفعة مجرد حق في التملك، وقد شرعت لدفع الضرر عن الشفيع، فلا تصح المعاوضة عن هذا الحق، ويكون الاعتياض عنه رشوة. والخلاصة: أن الصلح وإن لم يصح، فإسقاط حق الشفعة صحيح؛ لأن صحته لا تتوقف على العوض، بل هو شيء من الحقوق المالية لا تصح المعاوضة عنه، فصار الشفيع كأنه سلَّم الشفعة بلا عوض. ¬
3 - ضمان الدرك
3 - ضمان الدَّرَك: تسقط الشفعة عند الحنفية (¬1) إذا ضمن الشفيع الدرك عن المشتري للبائع أي ضمن له الثمن عند المشتري؛ لأن هذا دليل على الرضا بالبيع الحادث للمشتري. كما أن البائع إذا شرط الخيار للشفيع في إمضاء البيع أو عدم إمضائه، فأمضى المشروط له الخيار (وهو الشفيع) البيع؛ لأن البيع تم بإمضائه، وهذا في تقديري هو الأحق بالاتباع. وقال الشافعية والحنابلة (¬2): لا تسقط الشفعة إن ضمن الشفيع العهدة (المطالبة بالثمن عند استحقاق المبيع أو عيبه) للمشتري، أو شرط له الخيار، فاختار إمضاء العقد، لم تسقط شفعته؛ لأن المسقط لها هو الرضا بتركها بعد وجوبها بالبيع، وهذا لم يوجد، فإنه سبب سَبَق وجوب الشفعة، فلم تسقط به الشفعة، كالإذن بالبيع، والعفو عن الشفعة قبل تمام البيع. 4 - تجزئة المشفوع فيه: اتفق الفقهاء (¬3) على أن الشفعة حق لا يقبل التجزئة، فإذا تنازل (سلم) الشفيع عن بعض المشفوع فيه كالنصف مثلاً، سقط حقه في كل المبيع؛ لأنه لما سلَّم في النصف بطل حقه فيه بصريح الإسقاط، وبطل حقه في الباقي؛ لأنه لا يملك حق تفريق الصفقة على المشتري، فسقطت شفعته في الكل، منعاً من إضرار المشتري في تفريق الصفقة عليه، والضرر لا يزال بالضرر، لكن كما لو قال أبو يوسف، ورأيه هو الراجح عند الحنفية: لا تسقط الشفعة في حال طلب نصف المشفوع فيه ويظل الحق للشفيع في أخذ الكل أو ترك الكل. ¬
5 - وفاة الشفيع
وإذا تعدد الشفعاء، فليس لبعضهم أن يهب حصته لبعض، وإن فعل أحدهم أسقط حق شفعته م (1042) مجلة (¬1). وإن أسقط أحد الشفعاء حقه قبل حكم الحاكم، فللشفيع الآخر أن يأخذ تمام العقار المشفوع. وإن أسقطه بعد حكم الحاكم، فليس للآخر أن يأخذ حقه م (1043) مجلة. 5 - وفاة الشفيع: تسقط الشفعة عند الحنفية (¬2) بوفاة الشفيع، سواء بعد الطلب (أي طلبي المواثبة والتقرير) أو قبله، قبل الأخذ بالقضاء له أو تسليم المشتري إليه؛ لأن حق الشفعة لا يورث كخيار الشرط، إذ الحقوق لا تورث عندهم، ولأنه بالموت يزول ملك الشفيع عن داره ويثبت الملك للوارث بعد البيع، والمطلوب تحقق الملك وقت البيع. ولا تبطل الشفعة بموت المشتري لبقاء المستحق، أي أن المستحق باق، ولم يتغير سبب حقه. وفصل الظاهرية والحنابلة في الأمر (¬3)، فقالوا: إن مات الشفيع قبل أن يطلب الشفعة، سقطت شفعته (¬4)، ولا حق لورثته في الأخذ بالشفعة أصلاً؛ لأن الله تعالى إنما جعل الحق له، لا لغيره، والخيار لا يورث. وتورث الشفعة إن أشهد الشفيع على مطالبته، ثم مات، وللورثة المطالبة بها؛ لأن الإشهاد على الطلب عند العجز عنه يقوم مقامه. ¬
من الكلام في مسقطات الشفعة يتبين لنا الحقائق التالية
وهذا التفصيل يؤدي إلى الاتفاق مع مذهب الحنفية في عدم إرث الشفعة قبل الطلب. وقال المالكية والشافعية (¬1): يورث حق الشفعة، إذا مات الشفيع بعد الطلب قبل الأخذ، فالشفعة موروثة عندهم؛ لأنه خيار ثابت لدفع الضرر عن المال، فيورث كخيار العيب. والظاهر مما نقل عن هذين المدهبين في كتب غيرهم أن حق الشفعة يورث، ولو قبل طلبها من الشفيع أيضاً، لإطلاق عباراتهم. لكن الحق أنه لا بد عند الشافعية من الطلب وإلا سقط حق الشفيع نفسه فيكون مذهبهم كالحنابلة (¬2). والخلاصة: أن الشفعة لا تورث عند الحنفية بعد الطلب، وتورث بعد الطلب في المذاهب الثلاثة وعند الظاهرية. والخلاف محصور فيما إذا مات الشفيع قبل القضاء بالشفعة له، فإذا مات بعد القضاء قبل نقد الثمن وقبض المبيع، فالبيع لازم لورثته بالاتفاق. ومن الكلام في مسقطات الشفعة يتبين لنا الحقائق التالية (¬3): 1 - الشفعة حق ضعيف، يجب أن يتقوى ويتأكد بالطلب. 2 - الشفعة شرعت لدفع الضرر عن صاحبها وهو الشريك باتفاق الفقهاء، والجار عند الحنفية. 3 - لا يصح أن تكون الشفعة سبباً لضرر المشتري بتفريق الصفقة عليه، إذا طلب الشفيع أخذ بعض المبيع فقط. ¬
انتهى الجزء السادس ويتبعه الجزء السابع: الفقه العام - معالم النظام الاقتصادي - الحدود والجنايات
معالم النظام الاقتصادي في الإسلام
معالم النظام الاقتصادي في الإسلام الكلام في موضوع الاقتصاد يحتاج إلى بحث طويل وتخصص وتعمق، ولا يمكن الإحاطة بمضمون نظرية اقتصادية إلا بعد دراسة مستفيضة لها، والحق أن النظريات الاقتصادية الحديثة يصعب أن نجد لها مثيلاً مفصلاً عند فقهاء الإسلام وكل مالدينا هو مبادئ وخطط عامة في الاقتصاد، يمكن التماسها والسير في هديها لمعرفة مدى مطابقتها أو مغايرتها إجمالاً لما هو سائد اليوم في عالم الاقتصاد. وهكذا يمكننا رسم معالم السياسة الاقتصادية في الإسلام من عدة وجوه منها ما يأتي من البحوث: المبحث الأول ـ الاقتصاد الإسلامي ومعالمه الكبرى: تمهيد: إن الاقتصاد في الماضي والحاضر والمستقبل هو عصب الحياة النابض وشريانها المتدفق حيوية وغزارة وفاعلية، لذا فإنه يؤثِّر في الإنسان تأثيراً مباشراً في جميع أحواله الفكرية والدينية والسلوكية، ويؤثِّر في الأمة من جميع نواحيها العسكرية والسياسية والقانونية والاجتماعية، فالاقتصاد القوي عنوان المجد والقوة والسيادة، والاقتصاد الضعيف رمز التخلف والتأخر والانحطاط، ولقد كانت الحروب والمنازعات على الصعيدين القبلي والدولي ترجع في أغلبها إلى أسباب اقتصادية. وما زال الناس أفراداً وجماعات منذ فجر التاريخ مهتمين بوسائل
المعاش ومتاع الحياة، وينعكس أثر الاقتصاد على السياسة الدولية بشكل واضح، فما الاستعمار وآثامه، والمؤتمرات الدولية التي يتكررا انعقادها في المناسبات والأزمات والأسواق الدولية المشتركة سوى انعكاس لاقتصاد الدولة، وتخطيط سياستها المالية، والتنمية المطلوبة لديها. وإذا كان هذا هو شأن الاقتصاد وتأثيره في العالم، فلا بد من أن يكون للإسلام خطة واضحة في القضايا الاقتصادية، إذ إنه شريعة الخلود الدائمة التي تقدر تماماً ما للوضع الاقتصادي من تأثير كبير في حياة الأمة، والتي تتجاوب مع مقتضيات التطوروالتبدل الذي يمر على البشرية. وليس من المعقول ألا يكون هناك أساس اقتصادي للحضارة الإسلامية التي سادت العالم عدة قرون من الزمان، وكان الرفاه والرخاء يعم الأوساط الإسلامية، حتى إنه لايكاد يجد الغني أحداً من الفقراء يعطيه زكاة أمواله في بعض عهود الدولة الإسلامية الزاهرة. لذا فإني أذكر أهم معالم النظام الاقتصادي الإسلامي، تلك المعالم التي لم يستغرب المرء منها أن تكون أساساً صالحاً للمجتمعات المتحضرة في مختلف مراحل التطور البشري؛ لأنها تتلاءم مع الفطرة الإنسانية، وتلتقي مع العدالة والحرية والرحمة، وتصدر عن تخطيط إلهي أو عن تنظيم اقتصادي مستقل، مجرد عن النزعات والأهواء الخاصة. وأسس هذا النظام الاقتصادي الإسلامي تجمع بين ما هو معروف في مجال الفكر الاقتصادي بصفة عامة من (السياسة الاقتصادية) و (المذهب الاقتصادي) والمقصود بالسياسة الاقتصادية: هو ذلك النوع من الفكر الاقتصادي الذي يحاول حل المشكلات الاقتصادية الطارئة على المجتمع. وموضوع هذه السياسة دراسة خير السبل والوسائل التي يجب أن تتبعها السلطات العامة للوصول إلى هدف معين أو غاية محدودة.
أولا ـ لمحة عابرة عن خصائص النظامين الاشتراكي والرأسمالي
وأما المقصود بالمذهب الاقتصادي: فهو المرحلة الثانية من مراحل التفكير الاقتصادي الذي يحاول فيه الباحث أن يتخذ موقفاً معيناً بالحكم التقييمي على نظام اقتصادي معين، فيحبِّذ قبوله أو رفضه، ويدافع عن الأخذ به أو العدول عنه. وبعبارة أخرى: هو الطريق التي يفضل المجتمع اتباعها في حياته الاقتصادية وحل مشكلاتها العملية. ولقد تضمن النظام الإسلامي أحكاماً تتعلق بموضوع السياسة الاقتصادية، كما أن هذه الأحكام حددت رأياً مذهبياً واضحاً تجاه القضايا الاقتصادية حسبما يتطابق مع المثل العليا التي يجب أن تكون عليها الحياة الإنسانية. وأبدأ بما يأتي: أولاً ـ لمحة عابرة عن خصائص النظامين الاشتراكي والرأسمالي: أما النظام الرأسمالي: فإنه كما تقدم يقوم على أساس الاعتراف بمبدأ الملكية الفردية، فللأفراد الحق في تملك أموال الاستهلاك والإنتاج، ويمكن توارث ذلك عنهم، إلا أن الدولة تتدخل دائماً لانتزاع جزء كبير من ثروة المتوفى. وتعتبر حرية التعاقد والتبادل من ركائز هذا النظام فهو يعتبر دائماً نظام سوق، كما أنه يقوم على مبدأ الحرية الاقتصادية للأفراد، دون تدخل من الدولة لوضع قيود على الإنتاج أو الاستهلاك، فالحرية الاقتصادية تقتضي ترك تحديد الإنتاج، وأن الفرد حر في التصرف في ثروته استهلاكاً وادخاراً، ويكون السعي للحصول على أكبر كسب نقدي هو الدافع المحرِّك للنشاط الاقتصادي في ظل النظام الرأسمالي. وقد انتقد هذا النظام كما تقدم؛ لأنه يؤدي إلى اختلال التوازن في توزيع الثروة بين الأفراد، وانقسام المجتمع إلى طبقتين: طبقة الرأسمالية الإقطاعية، وطبقة ذوي الدخل المحدود من العمال والفلاحين وغيرهم، كما أن هذا النظام يؤدي إلى تركيز الثروة في أيدي فئة قليلة مستبدة، وإلى انتشارا لبطالة،
النظام الاشتراكي
والاحتكارات الطبيعية والصناعية التي تتكون وتستغل المستهلك والطبقات الضعيفة. ومن أخطر عيوب هذا النظام: استعمار الشعوب الذي ترتكز عليه سياسة الدول الرأسمالية النامية، فكان من نتيجة كل ذلك فشل النظام الرأسمالي في تحقيق الاستقرار الاقتصادي، وضمان الحياة الرغد ة للبشرية، وبالتالي انهيار مذهب الحرية الاقتصادية المطلقة. وهذا ما جعل أنصار المذهب الرأسمالي ينادون بضرورة تدخل الدولة لتنظيم الحريات الاقتصادية، وعلى الدول أن تقوم بنفسها بجمع المشاريع الاقتصادية التي يحتاجها المجتمع ... وأما النظام الاشتراكي فإنه كما تقدم يقوم على أساس امتلاك الدولة لمختلف وسائل الإنتاج من صناعة وزراعة وثروة طبيعية وخدمات عامة، فلا وجود للملكية الفردية، ولا مجال للحرية الاقتصادية إلا بقدر ما يمنحه المجتمع للفرد، وتطالب المذاهب الاشتراكية من الناحية الاجتماعية بتحقيق المساواة بين الأفراد، أي بإلغاء الفوارق بين الطبقات، ولا يقصد من ذلك تحقيق المساواة التامة الكاملة، وإنما إلغاء الفوارق التي لا يكون مردها الكفاءة في الإنتاج أو العلم، أو العمل لصالح المجموع. فالاشتراكية تكافئ كل فرد بحسب عمله مع مراعاة ظروفه ومواهبه الشخصية على أن يتحقق أولاً إشباع الحاجات الضرورية لكل إنسان. وقد انتقد هذا النظام كما تقدم بأنه يصادم ما استقر في فطرة الإنسان من حبه التملك الفردي، واستئثاره بثمرات جهوده التي يبذلها كاملة وبإضراره بمصلحة الإنتاج العام لانعدام روح المنافسة الشرعية، كما أن النظرية الماركسية التي تجعل قيمة أي سلعة بحسب ما يبذل في إنتاجها من عمل منتقدة أيضاً؛ لأن عنصر العمل ليس هو العنصر الإنتاجي الوحيد، وإنما هناك عناصر إنتاج أخرى من طبيعة ورأس
الفروق الأساسية بين الفكر الإسلامي والفكر الماركسي
مال لا يمكن ردها إلى العمل. وكذلك مبدأ التوزيع القائل: (من كل حسب طاقته، ولكل حسب عمله) يخلق لوناً جديداً من الطبقية: طبقة القيادة الحاكمة، وغيرها من الطبقات، كالتي تنشأ بين العمال مثلاً بحسب اختلاف مواهبهم وكفاءاتهم ونوعية العمل ودرجة تعقيده، فيظهر مثلاً الصراع بين العمال الفنيين والعمال اليدويين. وهذه الانتقادات دفعت الاشتراكيين في روسيا إلى التزام جانب الاعتدال فاعترفوا بالملكية الخاصة بالأموال الاستهلاكية من أدوات منزلية ونقود وسلع ودخول ومدخرات متأتية من العمل ويحترم ميراث هذه الأشياء. كما أن الروس سمحوا بملكية خاصة لأموال الإنتاج عن طريق قيام مشاريع زراعية صغيرة خاصة بالفلاحين ومشروعات حرفية للصناع، وكذلك أجازو للأفراد مزاولة المهن الحرة كالطب والكتابة والفن، وبالرغم من محاولات إصلاح هذا النظام وتدارك سلبياته وعيوبه، فلم يكتب له النجاح، حتى أدى أخيراً إلى سقوطه كنظام اقتصادي شامل في عهد جورباتشوف رئيس جمهوريات الاتحاد السوفييتي عام 1989م في خطته المسماة بالبيروستريكا أي إعادة البناء والإصلاح. الفروق الأساسية بين الفكر الإسلامي والفكر الماركسي: من أهم هذه الفروق مايأتي: أولاً - إن الفكر الماركسي فكر ملحد يقوم على أساس المادة، وأن المادة وتطور قوى الإنتاج هو الذي يحدد علاقات الأفراد ويصنع تطور المجتمع. بخلاف الأمر في الإسلام فهو فكر مؤمن بالله وحساب اليوم الآخر، وإن خشية الله تعالى وابتغاء مرضاته والتزام تعاليم الإسلام، هي التي تصوغ علاقات الأفراد بعضهم ببعض وتحدد مسار المجتمع.
ثانيا - إن الفكر الماركسي يستهدف إلغاء الملكية الخاصة،
ثانياً - إن الفكر الماركسي يستهدف إلغاء الملكية الخاصة، لتحل محلها الملكية العامة أياً كانت صورتها: ملكية الدولة (قطاع عام) أو ملكية الجماعة (ملكية جماعية أو تعاونية) بخلاف الأمر في الإسلام، فالتأميم ليس هدفاً، وإنما هو وسيلة. وتبدو أهمية هذا الفارق في أن الملكية العامة في الاقتصاد الماركسي هو الأصل، والملكية الخاصة هي استثناء، أما في الاقتصاد الإسلامي فالملكية الخاصة والملكية العامة كلاهما على السواء أصل. فإن الإسلام أقر الملكية الخاصة، وفرض عليها عدة قيود، كما أنه أوجد منذ أربعة عشر قرناً الملكية العامة بالقدر الذي تتطلبه احتياجات المجتمع وقتئذ ودرجة تطوره الاقتصادي، ومن قبيل ذلك أرض الحمى للرعي .. والوقف الخيري .. ومؤسسات المساجد، وانتزاع الملكية الخاصة من أجل توسيعها .. وموقف عمر من الأراضي المفتوحة ورفض تمليكها للفاتحين، وتحويلها إلى ملكية جماعية. ويمكن فقهاً التوسيع من دائرة أي نوع من الملكية بحسب ظروف الزمان والمكان. ثالثاً ـ إن الفكر الماركسي يقوم على أساس الصراع بين الطبقات، وإقامة دكتاتورية الطبقة الواحدة وهي طبقة البروليتاريا (العمال). وفي حين إن الفكر الإسلامي يقوم على أساس تعاون جميع أفراد المجتمع، وإقامة تحالف قوى الشعب العاملة. استطاع المسلمون الروس التوفيق بقدر الإمكان بين الاشتراكية والإسلام وقد استطاع المسلمون الروس مثل سلطان جالييف وحنفي مظهر التوفيق بقدر الإمكان بين الاشتراكية والإسلام، وحاولوا إقناع القادة الروس بما يعارض الإسلام. أولاً ـ أوضح سلطان جالييف أنه لا علاقة بين المادية والاشتراكية، وأن محاولة الربط بين التفسير المادي للكون الذي يرفض الدين بالضرورة وبين
ثانيا ـ وأظهر سلطان جالييف أن إلغاء الملكية الخاصة والتأميم الكامل ليس هدفا في ذاته،
الاشتراكية هي محاولة لا ضرورة لها ولا محل لها، فقد يكون المادي (الملحد) اشتراكياً وقد يكون غير اشتراكي. كما أن الاشتراكي قد يكون مادياً أو غير مادي. ثم إن التصور المادي للوجود والقول بأن المادة هي سبب كل موجود هو من قبيل التصورات الميتافيزيقية، وهو على هذا النحو نوع من عملية الاستبدال بإله حقيقي هو الله إلهاً آخر هو المادة. وقد بدأ كثير من الماركسيين يسلمون بهذه الحقيقة. ثانياً ـ وأظهر سلطان جالييف أن إلغاء الملكية الخاصة والتأميم الكامل ليس هدفاً في ذاته، وليس هو السبيل الوحيد للاشتراكية، وإنما المهم هو سيطرة الشعب على أدوات الإنتاج. وقد اعتنق هذا الاتجاه المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي سنة 1956. ثالثاً ـ أبرز سلطان جالييف أنه بعد انتصار الثورة البلشفية، لم يعد هناك محل لفكرة صراع الطبقات أو الكراهية، كما لم يعد هناك محل لتمييز العمال على الفلاحين، أو إقامة دكتاتورية الطبقة الواحدة. وحل محل كل ذلك فكرة تعاون أفراد المجتمع، وإقامة تحالف قوى الشعب العاملة. وقد أخذت بذلك دول أوربا الشرقية. رابعاً ـ يرى سلطان جالييف أن المجال الحيوي لثورة أكتوبر البلشفية هو الشرق وليس الغرب (¬1). ثانياً ـ وظيفة المال وحق الملكية الفردية والقيود الواردة عليه في الإسلام: المال في الحقيقة لله سبحانه وتعالى كما قال: {لله ملك السموات والأرض وما فيهن} [المائدة:120/ 5] والناس جميعاً عباد الله، فهم شركاء في توزيع المال، ¬
سواء تمثّل هذا المال في سلعة اقتصادية أو في سلعة حرة، وتملك الإنسان للمال يعتبر تملكاً مجازياً، أي إنه مؤتمن على المال ومستخلف فيه ونائب أو خليفة عن الله فيه لقوله تعالى: {وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه} [الحديد:7/ 57] {هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها} [هود:61/ 11] {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض، ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم} [الأنعام:165/ 6] {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} [البقرة:29/ 2]. ويترتب على هذا التصور للمال واستخلاف الإنسان فيه، أو وكالته عليه أنه يجب التقيد بأوامر الله تعالى، في التملك حسبما يريد صاحب الملك الحقيقي. والناس على السواء لهم حق في تملك خيرات الأرض، والمال ليس غاية مقصودة لذاتها، وإنما هو وسيلة للانتفاع بالمنافع وتأمين الحاجات، وإذا كانت الخلافة عن الله في المال للجماعة، فإن الملكية الخاصة تعتبر أسلوباً من أساليب قيام الجماعة بمهمتها في الخلافة، وإن لها صفة اجتماعية، لا صفة حق مطلق وسيطرة واستبداد. وللجماعة حق مراقبة ذوي الملكيات الخاصة لاستخدامها في سبيل الصالح العام، فيعتبر صاحب المال حينئذ مسؤولاً أمام الله عن ماله، ومسؤولاً أمام الجماعة أيضاً. وليس المال مقياساً للاحترام والتعظيم، ولا لاحتكار النفوذ، فمن قواعد فقهنا: «من عظم غنياً لماله وغناه فقد كفر». بهذه النظرة الإسلامية إلى المال بأنه وسيلة لا غاية مقصودة لذاتها، ولا للتجميع والتكديس، يدق الإسلام أول معول في هدم الرأسمالية الظالمة. وأما حق الملكية في الإسلام فهو نزعة فطرية وحق شخصي أقرته الشريعة وصانته الديانات السماوية، لقوله تعالى: {زُيِّن للناس حب الشهوات من النساء
والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة} [آل عمران:14/ 3] {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء:29/ 4] {والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم} [المعارج:24/ 70 - 25]. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم» «كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه» «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه» (¬1). إلا أن هذا الحق الشخصي مقيد بقيود كثيرة ستذكر قريباً، ومن أهمها عدم جواز الإضرار بالغير، مما يدل على أن لحق الملكية الفردية في تقدير الإسلام صفتين مزدوجتين: صفة الفردية وصفة الجماعية العامة في وقت واحد. أما الصفة الفردية: فلأن الحق ليس في أصله وظيفة، بل هو ميزة تمنح صاحبها الحق في الانتفاع بثمرات ملكه والتصرف فيه، ولكن لا تعتبر هذه الملكية الخاصة هي الأصل العام الذي يسمح للأفراد وحدهم بتملك أموال الثروة في البلاد وبحسب النشاط والظروف، وإن الملكية العامة أمر استثنائي تقتضيه الظروف الاجتماعية، كما هو مقرر في النظام الرأسمالي. وعلى هذا فلا يمكن أن يعتبر المجتمع الإسلامي مجتمعاً رأسمالياً، وإن اعترف بالملكية الخاصة. وأما صفة الحق الجماعية العامة فتتجلى في تقييد حق الملكية الخاصة بمنع اتخاذها سبيلاً إلى الإضرار بالآخرين، وأنه يمكن أن تقوم ملكيات عامة للجماعة أو الدولة، كالحمى والوقف والأموال العامة بجوار الملكية الخاصة. وعلى هذا فلا يعتبر النظام الإسلامي وإن أخذ بنظام الملكية العامة أو ملكية الدولة لبعض الثروات ¬
حق الملكية في الإسلام حق مزدوج
ورؤوس الأموال متطابقاً مع النظام الاشتراكي الذي يعتبر الملكية الجماعية هي المبدأ العام، ومع هذا فإن الحمى الذي قرره عمر رضي الله عنه إنما كان (تأميمه) صريحاً وبدون مقابل، فقد كانت الأرض التي حماها مملوكة لبني ثعلبة، فلما اعترضوا عليه قال: إنه فعل ذلك في سبيل الله. والخلاصة: إن حق الملكية في الإسلام حق مزدوج يقوم على ركيزتين: الصفة الفردية والصفة الجماعية، وإن الملكية نوعان: ملكية خاصة وملكية عامة. ويكون لحق الملكية الفردية وظيفة اجتماعية، يوجه الحق بمقتضاها نحو البر والخير والصالح العام، وليس هو بذاته وظيفة اجتماعية يمنحها المجتمع له ويقبل الزوال؛ لأن هذا المعنى يؤدي في النتيجة إلى إلغاء فكرة الحق من أصلها. وأما القيود الواردة على الملكية الفردية في الإسلام فهي كثيرة: منها قيود سلبية ومنها قيود إيجابية. أما القيود الإيجابية فسأذكرها في بحث وسائل تحقيق العدالة الاجتماعية ومبدأ تدخل الدولة. وأما القيود السلبية فهي ما يأتي: 1 - منع الإضرار بالآخرين: إن حق الفرد في التملك أو الانتفاع بالملك ينظر إليه في الإسلام على أن الفرد عضو في الجماعة المستخلفة عن الله في الأموال، فلا يصح بداهة أن يكون التملك أو استعمال الملك طريقاً للإضرار بالجماعة أو أن يكون مصدر قلق أو اضطراب ومنازعة وسيطرة، لذا فإن المالك يمنع أثناء استعمال ماله من إضرارغيره، لقول الرسول صلّى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار» (¬1) فلا يصح اعتبار المال وسيلة ضارة أو طريقاً للتسلط والإيذاء، سواء أكان الضرر خاصاً أم عاماً. ¬
2 - عدم جواز تنمية المال بالوسائل غير المشروعة
2 - عدم جواز تنمية المال بالوسائل غير المشروعة: أوجب الإسلام استثمار المال وتنميته بالطرق المشروعة من زراعة وصناعة وتجارة ونحوها، وحرم كل الوسائل التي لا تتفق مع الإنسانية الحقة الرحيمة مما هو جاثم في بلدان الحضارة المادية والرأسمالية الغاشمة. وأخطرها الربا أو الفائدة، والقمار، والغش، والاحتكار والتدليس، وبذلك هدم الإسلام صرح الرأسمالية التي يمتص فيها الغني دماء الفقراء والطبقة العاملة، كما أنه قضى على مفاسد الرأسمالية والملكية الفردية، كما يظهر فيما يلي: أما الربا فقد شن الإسلام عليه حرباً شعواء لا هوادة فيها لاستئصاله من جذوره مهما كانت أشكاله، سواء أكان في القروض الاستهلاكية والإنتاجية أم في عقود المبادلات الأخرى التي يتفق فيها على بيع سلعة بسلعة من النوع نفسه الذي يعتبر من الأقوات الضرورية أو السلع الأساسية للمجتمع كالحبوب والأقطان والمعادن، قال الله تعالى: {وأحل الله البيع وحرم الربا} [البقرة:275/ 2] {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله، وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظْلمون ولا تُظْلمون} [البقرة:278/ 2 - 279] ومن المعلوم أن مهاجمة الربا في الإسلام دليل على محاربة مختلف أشكال النظم الرأسمالية التي تتحكم فيها مصالح المرابين، وذلك حتى يكون المجتمع الإسلامي مجتمعاً متراحماً ومتعاوناً على الخير، لا يستغل القوي فيه حاجة الضعيف، ولا تتكون فيه طبقة تعيش على حساب رأسمالها دون بذل جهد من عمل ولا كسب، أو دون أن تتعرض هذه الفئة كبقية المشروعات الاقتصادية لاحتمالات الربح أو الخسارة. وأما القمار بمختلف أنواعه ومنه اليانصيب فقد حرمه الإسلام؛ لأنه مرض
الغش في المعاملات
فتاك خبيث يهدد طاقة الإنسان الجسدية والفكرية من دون فائدة مشروعة، ويعوِّد الإنسان على الخمول والكسل؛ لأنه محاولة للتوصل إلى كسب بلا جهد ولا عمل، وفضلاً عن ذلك فإنه يولّد بين الناس أحقاداً عميقة الجذور، ويثير شرارات نارية من المنازعات والاختلافات التي لا تنتهي ذيولها، حتى وصفه القرآن الكريم بأنه رجس من عمل الشيطان. وأما الغش في المعاملات: فهو ممنوع منعاً مطلقاً لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من غشنا فليس منا» (¬1) إذ يهدم الثقة بين المتعاملين، ويجعل الحياة التجارية في اضطراب. ويشمل الغش كل أنواع الخلابة (أي خديعة المشتري) من خيانة (كذب في مقدار الثمن) .. وتناجش (إيهام الغير برغبة الشراء إغراء له به) وتغرير (إغراء بوسيلة كاذبة للترغيب في العقد) وتدليس العيب (كتمان عيب خفي في المعقود عليه) وغبن فاحش (وهو الإضرار بما يعادل نصف عشر القيمة في المنقولات والعشر في الحيوان، والخمس في العقارات) ومن صور الغبن: حالة تلقي الركبان، أي تلقي ابن المدينة قوافل الباعة الواردة من القرى والبوادي، وشراؤها بأقل من سعر السوق بغبن فاحش. وأما الاحتكار فقد حرمه الإسلام تحريماً عاماً في كل ما يضرُّ بالناس حبسه ومنعه، وبخاصة السلع الغذائية وضروريات الناس الاستهلاكية؛ لقوله صلّى الله عليه وسلم: «الجالب مرزوق والمحتكر ملعون» (¬2) لأن الاحتكار أمر لصيق بتنظيم السوق، ولأن فيه من المخاطر التي يعاني منها النظام الرأسمالي، والسبب في تحريم الاحتكار أمر واضح وهو منع استغلال المحتكر للمستهلكين بمغالاته في الثمن، ¬
3 - منع الإسراف والتقتير
ومنع السلعة أحياناً من السوق لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من احتكر طعاماً يريد أن يغلي بها على المسلمين، فهو خاطئ، وقد برئت منه ذمة الله ورسوله» (¬1). وهكذا حرَّم الإسلام كل أوجه الكسب غير المشروع مثل ما ذكر، ونحوه من الرشوة والاختلاس وابتزاز أموال الغير بالباطل واستغلال الحاكم أو الموظف لمنصبه ليقتنص أموال الناس ظلماً وعدواناً. والقصد من تحريم ذلك هو دفع الإنسان إلى العمل وإبعاده عن البطالة والكسل. وبهذا كله أوصد الإسلام الباب أمام تضخم الثروات؛ لأن الطرق غير المشروعة تؤدي عادة إلى ربح عظيم: قال عليه الصلاة والسلام: «الدنيا خضرة حلوة. من اكتسب فيها مالاً من حِلّه، وأنفقه في حقه، أثابه الله عليه، وأورده جنته، ومن اكتسب فيها مالاً من غير حِلّه، وأنفقه في غير حقه، أحله الله دار الهوان، ورب متخوض في مال الله ورسوله، له النار يوم القيامة» (¬2). 3 - منع الإسراف والتقتير: أوجب الإسلام الاعتدال في النفقة لقوله تعالى: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط، فتقعد ملوماً محسوراً} [الإسراء:29/ 17] فلا يكون التقتير مقبولاً لما يترتب عليه من اكتناز الثروات الضخمة الذي يحول بدوره دون توفر نشاط تداول الأموال، الذي هو أمر ضروري لانتعاش الحياة الاقتصادية في كل مجتمع، فحبس المال تعطيل لوظيفته في توسيع ميادين الإنتاج وتهيئة وسائل العمل للعاملين، قال الله سبحانه وتعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشِّرهم بعذاب أليم} [التوبة:34/ 9]. ¬
4 - ليس المال سبيلا إلى الجاه والسلطان
وكذلك يحرم الإسلام الإسراف وتبذير الأموال من دون وجه مشروع أو يؤدي إلى الضرر ولو في سبيل الخير، قال الله تعالى: {إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين} [الإسراء:27/ 17] فالتبذير طريق الفقر الذي يصبح به المبذر في النهاية عالة على المجتمع، مما ينذر بمخاطر اجتماعية سيئة، فضلاً عن أن التبذير سبيل لغرس الأحقاد والبغضاء بين الناس والمحرومين، وهكذا أوضح الإسلام مبدأ سياسة الاعتدال في الاستهلاك والادخار، فقال الله سبحانه: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} [الأعراف:31/ 7]. 4 - ليس المال سبيلاً إلى الجاه والسلطان: حظر الإسلام على أرباب الأموال استخدامها في هضم الحقوق عن طريق الرشوة أو للتوصل إلى منصب سياسي أو جاه أو وظيفة ليس أهلاً لها، قال الله تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون} [البقرة:188/ 2] وفي هذا إيصاد الباب أمام ما تفعله التكتلات الاحتكارية والشركات العالمية في التأثير على السياسة الداخلية والخارجية في الدول الرأسمالية .. 5 - توزيع المال بعد الوفاة مقيّدٌ بنظام الإرث: ليس المرء حراً بالتصرف في ماله بعد وفاته حسبما يشاء كما هو مقرر في النظام الرأسمالي، وإنما هو مقيد بنظام الإرث الذي يعتبر في الإسلام من قواعد النظام الإلهي العام التي لا يجوز للأفراد الاتفاق على خلافها، فالإرث حق جبري، ولا يجوز الإيصاء بأكثر من ثلث المال، ولا يصح تفضيل بعض الورثة على حساب الآخرين، أو حرمان وارث أو الإضرار بالدائنين، وللسلطة القضائية
ثالثا ـ مبدأ الحرية الاقتصادية
الحق في إبطال التصرفات غير الشرعية في الإرث والوصية، فيكون تشريع الإرث عاملاً مهماً من عوامل تفتيت الثروات الضخمة، وتوزيع الملكيات والقضاء على التفاوت الفاحش بين الطبقات. ثالثاً ـ مبدأ الحرية الاقتصادية: إذا كان مبدأ الاعتراف بالملكية المزدوجة (الخاصة والجماعة) وبمبدأ الملكية الفردية المقيدة بقيود كثيرة هو الركن الأول من أركان الاقتصاد الإسلامي كما تقدم، فإن مبدأ الحرية الاقتصادية المقيدة في حدود معينة هو الركن الثاني من أركان هذا النظام، وليست هذه الحرية مطلقة غير محدودة كما في النظام الرأسمالي، ولا هي غير موجودة كما في النظام الاشتراكي، وإنما هي مقررة ضمن حدود معينة، بقول الرسول صلّى الله عليه وسلم: «دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض» (¬1). ولقد نادى ابن خلدون بمبدأ الاقتصاد الحر، وحبَّذ الإسلام نظام المنافسة الكاملة الشريفة الذي يمنع فيه الاحتكار، والذي يتحدد فيه ثمن السلع طبقاً لمساومات البائعين والمشترين دون تدخل من جانب الدولة، إلا أن هذا كان في عصر صدر الإسلام حيث كانت صفات الورع والتقوى والتدين لها السيطرة المطلقة على النفوس، ثم أفتى الفقهاء السبعة في المدينة بجوار تدخل الدولة لتسعير الحاجيات ووضع حد لجشع التجار، ومنع الغبن، لأنه يجب أن يكون الثمن عادلاً غير مجحف بالبائع والمشتري. وبه يتبين أن مبدأ الحرية الاقتصادية أصبح مقيداً فيما يجيزه تشريع الإسلام من نشاط اقتصادي اجتماعي للأفراد، ولايجوز للإنسان الخروج عليه كالتعامل بالربا والاحتكار ونحو ذلك. ¬
رابعا - قيمة العمل ودوره في الحياة الاقتصادية وأثره على أثمان الأشياء
كما أن هذا المبدأ مقيد بالرقابة الحازمة للدولة وإشراف الحاكم على النشاط العام، وتوجيهه وجهة تتمشى مع حفظ المصالح العامة، ومنع الضرر عن الجماعة، حسبما يقدر الاقتصاديون المتخصصون، قال الله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [النساء:59/ 4] وأولو الأمر: هم الحكام والعلماء المختصون، فما يقرره أهل الخبرة واجب الطاعة لحماية الأمة، وللحفاظ على كيان الدولة، ولتحقيق مبدأ التوازن الاجتماعي الإسلامي على وفق ما تقرره الشريعة. رابعاً - قيمة العمل ودوره في الحياة الاقتصادية وأثره على أثمان الأشياء: العمل شرف ومجد وفريضة على كل قادر عليه، ولقد حث الإسلام عليه، وحارب الكسل والخمول والبطالة والتسول؛ لأن الفقر مذلة ومرض اجتماعي خطير، وتنفير الإسلام منه لأنه يضر بالمصلحة العامة، فالأمة قوية بقوة أفرادها، ضعيفة بضعف أبنائها، قال عليه الصلاة والسلام: «كاد الفقر أن يكون كفراً» (¬1) واعتبر الإسلام العمل هو الوسيلة المفضلة الأغلبية للتملك، وأن لاعمل من غير أجر، وأن الأجر على قدر العمل، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «أطيب الكسب كسب الرجل من عمل يده» (¬2)، «ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده» (¬3) «من أمسى كاَّلا ـ أي متعباً ـ من عمل يده أمسى مغفوراً له» (¬4) «إن الله يحب العبد المحترف» (¬5) «طلب الحلال فريضة ¬
بعد الفريضة» (¬1) «إن من الذنوب ذنوباً لايكفّرها الصلاة ولا الصيام ولا الحج ولا العمرة، يكفرها الهموم في طلب المعيشة» (¬2) «إن أطيب ماأكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم» (¬3) ... وقال عمر رضي الله عنه «والله لئن جاءت الأعاجم بالأعمال وجئنا بغير عمل، فهم أولى بمحمد منا يوم القيامة، فإن من قصَّر به عمله لم يسرع به نسبه» وهذه الأحاديث النبوية مستمدة من القرآن الكريم وملتقية معه. قال الله تعالى: {ولكلٍ درجاتٌ مما عملوا وليوفيهم أعمالهم، وهم لايُظلمون} [الأحقاف:19/ 46] {ولا تبخسوا الناس أشياءهم} [هود:85/ 11] {فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور} [الملك:15/ 67] {فابتغوا عند الله الرزق} [العنكبوت:17/ 29]. وعقد النبي صلّى الله عليه وسلم موازنة بين العمل والاستجداء فقال: «لأن يأخذ أحدكم حَبْله، فيذهب به إلى الجبل، ثم يأتي به فيحمله على ظهره، فيأكل، خير له من أن يسأل الناس» (¬4) «لاتزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله تعالى، وليس في وجهه مُزْعة لحم» (¬5) «اليد العليا خير من اليد السفلى» (¬6) «اطلبوا الحوائج بعزة الأنفس فإن الأمور تجري بالمقادير» (¬7) «لاتحل الصدقة لغني ولا لذي مِرَّة سوي» (¬8). كل هذه الآيات والأحاديث النبوية تدل على تقديس الإسلام للعمل وتقدير ¬
تأثيره في الحياة الاقتصادية، وإن من حق العمال أن يتقاضوا من الأجور بقدر مايبذلونه من جهود، وبما يتفق مع خبراتهم ومواهبهم، فالكفاية وحدها، والمقدرة وحدها، هما معيار أهلية الفرد، وبذلك كفل الإسلام تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص بين الناس كافة في السعي، والجد المشروع في اكتساب المعاش والتماس الرزق، ولكن لاتشترط المساواة في ثمار هذا السعي؛ لأن الإسلام لايقول بالمساواة في الرزق نفسه، ولايعقل بل من الظلم الفاحش عدم الاعتراف بالتفاوت الفطري بين الأفراد في الإمكانات والمواهب والجهود، قال الله تعالى: {نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا، ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات} [الزخرف:32/ 43] {والله فضَّل بعضكم على بعض في الرزق} [النحل:71/ 16]. إن العمل في تقدير الإسلام سبب لملكية العامل نتيجة عمله. وتكون القاعدة في الإسلام: (أن العمل سبب الملكية) لا قاعدة (أن العمل سبب لتملك المجتمع لا الفرد) أو قاعدة (أن العمل سبب لقيمة المادة، وبالتالي سبب تملك العامل لها). ويشترك العمل أحياناً مع رأس المال المستثمر في كسب الملكية كما في شركة المضاربة، وكما تقرر نظرية كينز، فالعامل يتملك الربح بسبب عمله في المضاربة ورب المال يستثمر ماله ويشغله، فيكون ربح العامل بسبب جهده، وربح رب المال بسبب رأسماله الذي يحرك عجلة التجارة، كما أن ماله سبب في انتعاش السوق الاقتصادية، وفي ربح العامل بدون مشاركة في الخسارة، وإنما رب المال يتحمل وحده الخسارة التي هي حالة اضطرارية وغير غالبة. وإذا كان ابن خلدون مؤسس علم الاقتصاد ومن بعده ريكاردو وما ركس واضع نظرية الاشتراكية العلمية يرون أن العمل أساس القيمة، أي أن قيمة السلع والأشياء تتحدد بقيمة العمل الداخل فيها أو ساعات العمل التي بذلت في صنعها، فإن النظرية الإسلامية تجعل قيمة السلعة تتحدد بحسب العرض والطلب
خامسا ـ مبدأ تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي للأفراد
الواقعين عليها مع التزام مبدأ السعر العادل، وفي ظل من رقابة الدولة على تطبيق العدالة، أي أن قيمة الأشياء تتدخل فيها اعتبارات الندرة في المال، وسعر السوق النسبي، بحسب حاجة الشخص للسلعة وهو ما يريده الفقهاء من سعر المثل. وإذا كان مبدأ الاشتراكية في التوزيع (من كل حسب طاقته ولكل حسب عمله) فإن مبدأ الإسلام (لكل حسب عمله، أو حسب حاجته) إذ قد يعجز الإنسان عن العمل، فتلتزم الجماعة بإغنائه وتوفير حاجياته رحمةً به، وتكريماً لإنسانيته. خامساً ـ مبدأ تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي للأفراد: الكلام في تدخل الدولة وحدود هذا التدخل يتضح فيما يأتي: 1 - رقابة الدولة على أعمال الأفراد: يقول الرسول صلّى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» (¬1) في هذا الحديث دلالة واضحة على أن الدولة مسؤولة عن كل شيء يجري في داخلها. فلها الإشراف على نشاط الأفراد العام، ولها حق التدخل بالمصالح الخاصة لحماية المصالح العامة وكفالة تطبيق وتنفيذ الشريعة، ولها محاسبة الموظفين وأصحاب الولاية والسلطة في نواحي الدولة. ويمكنها أن تحاكمهم على أساس المبدأ القائل: (من أين لك هذا). ليتبين الوجه المشروع لكسب المال. ولقد كان سيدنا عمر رضي الله عنه يحاسب ولاته ويشاطر عماله كما فعل مع عمرو بن العاص عامله على مصر، حينما شك في ماله وكسبه وطريقة إنمائه، وشاطر خالد بن الوليد أمواله، حتى زوجي نعله، وللدولة أن تراقب أرباب الأموال في كيفية استثمار أموالهم، فإذا جنحوا إلى تعطيل استثمار المال، جاز اتخاذ التدابير التي تحمي المصلحة ¬
2 - إقرار الملكية الجماعية
العامة، فإذا وضع امرؤ يده على أرض موات بقصد إحيائها وتعميرها واستصلاحها وهو ما يعرف بالاحتجار، ثم لم يقم بواجبه جاز سلخها عنه وإعطاؤها لغيره، قال صلّى الله عليه وسلم: «من أحيا أرضاً ميتة فهي له» (¬1) «ليس لمحتجر حق بعد ثلاث سنين» (¬2) لأنه لا بد من مداومة استثمار المال، حتى لا يؤدي الإهمال إلى فقر المال والإضرار بمصالح المجتمع وإفقار الأمة وخسارة الدخل القومي العام وضآلة الإنتاج. وإذا حاول الناس تركيز استثمار أموالهم في نشاط اقتصادي معين، كان لولي الأمر حق التدخل بما يراه من إجراءات لتوزيع الناس أموالهم بين مختلف مصادر الإنتاج (وهي الأرض والعمل والمال)، وعندئذ تضمن الدولة الحد الأدنى من إنتاج السلع الضرورية، والحد الأعلى الذي لا يجوز التجاوز عنه. وإذا تضخمت الثروة في أيدي فئة قليلة من المواطنين، ثم ثبت عجز أصحابها عن استثمارها، كان للحاكم أن يتدخل في استثمار الأموال أو وضعها تحت ولاية الدولة بما يدرأ الضرر العام عن المجتمع، كإلزامهم باتباع الأساليب الرشيدة في استثمار الأموال، ووضعها تحت ولاية الدولة لضمان تشغيلها بما ينفع البلاد. 2 - إقرار الملكية الجماعية: قال الرسول صلّى الله عليه وسلم: «الناس شركاء في ثلاث» وفي رواية: «في أربع: الماء والكلأ والنار والملح» (¬3) والنص على هذه الأمور فقط لأنها كانت من ضروريات ¬
3 - التأميم أو نزع الملكية الخاصة
الحياة في بيئة العرب، فهي مباحة لجميع الناس، والدولة هي التي تمثل مصالح الجماعة، فلها وضع اليد عليها، وعلى كل الأشياء الضرورية التي تعتبر من قبل الثروات الطبيعية الخام، والصناعات الاستخراجية وإنتاج المواد الأولية، والاستيلاء على المرافق العامة والتي تتغير وتتبدل وتتطور بحسب البيئات والعصور، مثل مختلف الأنهار العامة، والمعادن والنفط ولو وجدت في أرض مملوكة ملكية خاصة، والكهرباء، والمنشآت العامة ونحوها من المرافق الحيوية الأساسية لمصلحة الجماعة. ومما يؤيد وجود الملكية الجماعية: أن النبي صلّى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين قد اعتبروا بعض الأراضي كالنقيع والرَّبذَة (موضعين قرب المدينة) حمىً في سبيل الله لترعى فيها خيل المسلمين، أي من أجل الصالح العام وهو المعروف بـ (الحمى) قال عليه الصلاة والسلام: «لاحمى إلا لله ولرسوله» (¬1) أي لا حمى لأحد الأشخاص العاديين. 3 - التأميم أو نزع الملكية الخاصة: إذا كان المبدأ العام في الإسلام هو الاعتراف بالملكية الفردية وبالحرية الاقتصادية كما أوضحت، فإنه لا مانع من تدخل الدولة لحماية مصلحة الأمة في وقت معين، بأن تتخذ من التدابير ماتجده محققاً للصالح العام، بناء على المبدأ المعروف في الإسلام بالاستحسان والمصالح المرسلة، وقواعد دفع الضرر العام، وأنه يتحمل الضرر الخاص من أجل دفع الضرر العام، وأنه يجب على الجماعة كفاية الجائع والعريان عملاً بالمبدأ الشرعي القائل: (إذا بات مؤمن جائعاً فلا مال لأحد) ولكن بشرط دفع الثمن. وقال عمر قبيل وفاته: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء فرددتها على الفقراء»: وهذا ما ¬
يجعل النظام الاقتصادي الإسلامي أبعد عن النظام الرأسمالي القائم في أصله على أساس من الحرية الفردية المطلقة. لذا فإنه يحق للدولة التدخل في الملكيات غير المشروعة، كالملكية الحادثة بالسلب والقهر أو الاغتصاب، فترد الأموال إلى أصحابها أو تصادرها، وتستولي عليها بغير تعويض، سواء أكانت منقولة أم عقارية، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» (¬1) وقوله: «ليس لعرْقٍ ظالمٍ حق» (¬2)، وقوله: «من زرع أرض قوم بغير إذنهم، فليس له من الزرع شيء وله نفقته» (¬3). وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يشاطر بعض ولاته الذين وردوا عليه من ولاياتهم بأموال لم تكن لهم، استجابة لمصلحة عامة، وهو البعد بالملكية عن الشبهات، وعن اتخاذها وسيلة للثراء غير المشروع، وكذلك يحق للدولة التدخل في الملكيات الخاصة المشروعة لتحقيق العدل في التوزيع، سواء في حق أصل الملكية، أو منع المباح، أو في تقييد حرية التملك الذي هو من باب تقييد المباح، والملكية من المباحات قبل الإسلام وبعده إذا أدى استعمال الملك إلى ضرر عام. وعلى هذا فيحق لولي الأمر العادل أن يفرض قيوداً على الملكية الزراعية، فيحددها بمقدار مساحة معينة، أو ينتزعها من أصحابها إذا عطلها أو أهملها حتى خربت، أو ينزع ملكيتها من أي شخص مع دفع تعويض عادل عنها، إذا اقتضت المصلحة العامة أو النفع العام ذلك. كماحدث في وقتنا الحاضر من تأميم المصارف والشركات الكبرى، وكما فعل عمر بن الخطاب في سبيل توسعة المسجد الحرام حينما ضاق على الناس، ¬
مبدأ تقدير الضرر مقيد بثلاثة أمور
فأجبر الناس المجاورين للمسجد على بيع دورهم المحيطة به، وقال لهم: «إنما أنتم الذين نزلتم على الكعبة، ولم تنزل الكعبة عليكم». وكذلك فعل عثمان بن عفان رضي الله عنه هذا الفعل مرة أخرى وقال: «إنما جرأكم علي حلمي، فقد فعل عمر بكم ذلك فلم تتكلموا» ثم أمر بحبسهم لمدة، مما يدل على جواز نزع الملكية الفردية لمصلحة المرافق العامة كتوسيع الطرق والمقابر وإقامة المساجد وإنشاء الحصون والمرافئ والمؤسسات العامة كالمشافي والمدارس والملاجئ ونحوها؛ لأن المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة. ثم إن فقهاء المذاهب قرروا أن لولي الأمر أن ينهي إباحة الملكية بحظر يصدر منه لمصلحة تقتضيه، فيصبح ما تجاوزه أمراً محظوراً، فإذا منع من فعل مباح صار حراماً، وإذا أمر به صار واجباً. والدليل على إعطاء ولي الأمر مثل هذه الصلاحيات في غير المنصوص على حكمه صراحة هو قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [النساء:59/ 4] وأولو الأمر في السياسة والحكم: هم الأمراء والحكام والعلماء، كما تبين سابقاً. ولكن ليس كل مايتوهم من ضرر، أو يتخيل من مصلحة يكون مسوغاً لتقييد الملكية أو مصادرتها بالتعويض، وإنما ينبغي أن تكون المصلحة العامة محققة الحدوث، أو الضرر العام محقق الوقوع، أو غالب الوقوع، لا نادراً ولا محتملاً، ويكفي عند فقهاء المالكية والحنابلة أن يكون احتمال وقوع الضرر مسوغاً لمنع الفعل أخذاً بقاعدة: «دفع المضار والمفاسد مقدم على جلب المصالح». ويلاحظ أن مبدأ تقدير الضرر مقيد بثلاثة أمور: أولاً ـ أن كل ضرر يلحق الناس كافة هو ممنوع.
ثانياً ـ لا ينظر في الأضرار العامة إلى قصد الضرر أو عدم قصده وإنما ينظر إلى النتائج المترتبة في الواقع .. ثالثاً ـ لا يعتبر الضرر الواقع بآحاد الناس إلا إذا قصد الشخص إضرار غيره بالفعل بأن يتعسف في استعمال حقه، أو يستعمله استعمالاً غير عادي. ومن هنا يمكن أن يعتبر مسوغاً لتنظيم الملكية أو تقييدها: كون صاحبها مانعاً لحقوق الله فيها، أو اتخاذها طريقاً للتسلط والظلم والطغيان أو للتبذير والإسراف، أو لإشعال نار الفتن والاضطرابات الداخلية أو للاحتكار والتلاعب بأسعار الأشياء، ومحاولة تهريب الأموال إلى خارج البلاد، أو لتأمين متطلبات الدفاع عن البلاد، أو لدفع ضرر فقر مدقع ألم بفئة من الناس على أن يكون كل هذا إجراء استثنائياً بحسب الحاجة وبشرط عدم استئصال أصل رأس المال، مع دفع العوض. ولقد قرر دارسو الأوضاع الاقتصادية في البلاد العربية أن تركز أكثر الثروة القومية في أيدي فئة قليلة من الأغنياء ينشأ عنه ضرر عام جسيم بمصلحة البلاد، على عكس ما يتطلبه القرآن الكريم الذي يطالب بتداول الأموال في المجتمع في قوله تعالى: {كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم} [الحشر:7/ 59] ومما لا شك فيه أن تأميم المرافق العامة التي تقدم خدمات للشعب كالمواصلات والكهرباء والماء يرفع الحرج عن الناس، ومثل ذلك تحديد ملكية الأراضي الزراعية برفع الحرج عن الناس، وأما تأميم المصانع والشركات المملوكة للأفراد، فيتطلب وجود مصلحة عامة فيه. ومن أدلة منع الضرر: الحديث النبوي السابق ذكره: «لا ضرر ولا ضرار» (¬1) وحديث «لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره» (¬2) ومن الوقائع التاريخية ¬
لتدخل الحاكم المسلم في ملكيات الأفراد في دائرة منع الضرر: «أنه كان لسمرة بن جندب نخل في بستان رجل من الأنصار، وكان يدخل هووأهله فيؤذي صاحب الأرض، فشكا الأنصاري ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال الرسول لصاحب النخل: بعه: فأبى: فقال الرسول صلّى الله عليه وسلم فاقطعه، فأبى، قال: فهبه ولك مثله في الجنة فأبى، فالتفت رسول إليه، وقال: أنت مضار، ثم التفت إلى الأنصاري، وقال، اذهب فاقلع نخله» (¬1) ففي هذه الحادثة مايدل على أن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يحترم الملكية المعتدية. ومن الأمثلة أيضاً: (أن رجلاً اسمه الضحاك بن خليفة أراد أن يمر بماء له في أرض محمد بن مَسْلمة، فأبى، فاشتكى الضحاك إلى عمر فدعا محمد بن مسلمة فأمره أن يخلي سبيل جاره، فقال محمد: لا، فقال عمر: لم تمنع أخاك ماينفعه، وهو لك نافع، تسقي به أولاً وآخراً وهو لايضرك، فقال محمد: لا والله، فقال عمر: والله ليمرن به ولو على بطنك) (¬2) ففي هذه الواقعة مايدل على أنه لايكفي الامتناع عن الضرر، بل يجب على المسلم في ملكه أن يقوم بما ينفع غيره، مادام لاضرر عليه فيه .. وعندما حمى عمر رضي الله عنه أرضاً بالرَّبَذَة قرب المدينة، قال: «المال مال الله والعباد عباد الله، والله لولا ما أحمل في سبيل الله ما حميت من الأرض شبراً في شبر» فهذا يدل على أن تخصيص بعض الأراضي للمصلحة العامة أمر جائز، وأن نزع الملكية لضرورة المصلحة العامة للجماعة أو لدفع الحرج عن الناس لا مانع منه شرعاً .. ¬
حدد الفقهاء أربع حالات يجوز فيها شرعا أن تنزع الأملاك
هذا .. وقد حدد الفقهاء أربع حالات يجوز فيها شرعاً أن تنزع الأملاك وهي: الحالة الأولى: أن تنزع الملكية للمنافع العامة كفتح الطرق وتوسيع المساجد والمقابر ونحوها، ولم يوجد عنه بديل، ودليل ذلك فعل الصحابة رضي الله عنهم، فإنهم أجازوا توسيع المسجد الحرام مرتين في عهد عمر وفي عهد عثمان. الحالة الثانية: أن يترتب على صاحب الملك دين من نفقة أو خراج أو معاملة أو غير ذلك، ويمتنع عن أدائه، فيحكم القاضي بالبيع جبراً لوفاء الدين، فيبدأ بما بيعه أهون. وقد نصت على ذلك المادة 998 من المجلة. الحالة الثالثة: أن تنزع الملكية منعاً من الاحتكار. وذلك كما إذا احتكرت طائفة من التجار أقوات الناس وحصل بذلك ضرر، فإنه يجوز للحاكم أن يمنعه ببيع أو تسعير دفعاً للضرر؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلم «نهى عن احتكار الطعام» وقد بيَّن ابن قدامة في المغني: 198/ 4 شروط الاحتكار المحرم. الحالة الرابعة: حالة الأخذ بالشفعة للشريك، وذلك مراعاة لحق المالك القديم على الجديد. وما عدا ذلك لا يؤخذ ملك أحد إلا برضاه لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء:29/ 4] وحديث سابق: «إن دماءكم وأموالكم علي حرام». 4 - تحقيق التوازن الاقتصادي: إذا كان الإسلام يسمح بقيام ودوام الملكية الشخصية، فلا يدل ذلك أنه يجيز ما يعرف في النظام الرأسمالي بنظام الطبقات الذي يسمح لطبقة معينة تملك المال أن تملك السلطات ووسائل التشريع مباشرة، أو بطريقة غير مباشرة، فطبيعة نظام كم
سادسا ـ أسس العدالة الاجتماعية في الإسلام
التشريع الإسلامي الذي يمنع من اكتناز النقود، ويحرم الفائدة المصرفية في غير حال الضرورة القصوى، ويفتت الملكية عن طريق الإرث، ويلغي الاستثمار الرأسمالي للثروات الطبيعية الخام، كل ذلك يؤدي إلى إذابة الفوارق بين الطبقات، ويقلل التفاوت الصارخ بين الأفراد في تملك الأموال. وهكذا جفف الإسلام كل المنابع التي تؤدي إلى الطبقية، كما أن لولي الأمر صلاحيات واسعة النطاق في تحقيق العدالة ومنع الضرر والتعسف في استعمال الحق، مما يوجد نوعاً من التوازن الاقتصادي. ومن أمثلة ذلك أن الرسول صلّى الله عليه وسلم حينما هاجر إلى المدينة آخى بين المهاجرين الفقراء وبين الأنصار، فكان يقاسم المهاجري مال الأنصاري، وكان أبو بكر الصديق يسوي في العطاء من الغنائم بين الناس، وحينما اتسعت الفتوحات الإسلامية، أجمع الصحابة بقيادة عمر بن الخطاب على عدم توزيع الأراضي بين الفاتحين، وإنما تركت في أيدي أهلها حفاظاً على مبدأ التوازن الاقتصادي بين الرعية جميعاً، سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين، قال الله تعالى: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، كيلا يكون دُولة بين الأغنياء منكم} [الحشر:7/ 59] أي إن أموال الفيء والأراضي ملك للجميع. سادساً ـ أسس العدالة الاجتماعية في الإسلام: مبدأ العدالة الاجتماعية هو الركن الثالث من أركان النظام الاقتصادي الإسلامي، ولقد استطاع المسلمون أن يترجموا هذا المبدأ إلى واقع فعلي فعّال، جعل المجتمع الإسلامي مجتمعاً متراحماً متعاوناً متآخياً متحاباً، متناصراً متضامناً وقت اليسار والإعسار. وتلك هي صفات المجتمع الإنساني الأفضل، ذلك المجتمع الذي صانه الإسلام من مختلف العيوب الخلقية والاجتماعية
الأمر الأول ـ وهو واجب الدولة في تحقيق مبدأ الضمان الاجتماعي
والاقتصادية، فقرر ضرورة القضاء على الفقر والجهل والمرض والبطالة والتخلف الاقتصادي والضعف العسكري والخضوع السياسي أو الإذلال المدني. والكلام عن العدالة الاجتماعية في الإسلام كثير معروف يهمنا الإشارة فقط إلى أمرين: أولهما ـ واجب الدولة في تحقيق مبدأ الضمان الاجتماعي. ثانياً ـ القيود الإيجابية الواردة على حق الأفراد في الملكية الخاصة. أما الأمر الأول ـ وهو واجب الدولة في تحقيق مبدأ الضمان الاجتماعي: فإنه يستمد وجوده من اعتبار الدولة مسؤولة عن رعاياها، وأن المسلمين جميعاً يكفل بعضهم بعضاً. فالإسلام ألزم الدولة بضمان معيشة أفرادها، وعليها أن تهيء لهم سبل الكسب المشروع ووسائل العمل الشريف، وفرصة المساهمة في أوجه النشاط الاقتصادي المختلفة التي تعود عليهم بالخير والثمار اليانعة بما يحقق لهم أولاً إشباع الحاجات الأساسية من مأكل وملبس ومسكن، ثم الحاجات الكمالية بقدر المستطاع، قال عليه الصلاة والسلام: «من أصبح منكم آمناً في سِرْبه، معافىً في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حِيزت له الدنيا بحذافيرها» (¬1)، هذا يدل على أن الحاجات الأساسية هي المأكل والملبس والمسكن، وما عداها فهو من الحاجات الكمالية، وإذا أصبح المرء عاجزاً عن العمل، ومحتاجاً إلى النفقة فعلى الدولة كفايته وتأمين حاجياته وسد عوزه ليعيش عيشة حرة كريمة تليق بعزة الإنسان، وتستطيع الدولة تأمين المال اللازم لهذه الغاية السامية، مما يساهم به الأفراد، ويلتزمون بدفعه من التكاليف المالية الآتية وهي موضوع الأمر الثاني. ¬
الأمر الثاني ـ هو القيود الإيجابية المفروضة على أصحاب الملكيات الخاصة
والأمر الثاني ـ هو القيود الإيجابية المفروضة على أصحاب الملكيات الخاصة: فرض الإسلام طائفة من القيود المتعددة على حق الملكية الفردية لتحقيق العدل والمصلحة العامة، منها قيود سلبية ذكرت أهمها، كمنع الاحتكار والتسعير الجبري، وعدم الضرر بالآخرين، ومنع تملك المباح إذا أفضى استعماله إلى ضرر عام. ومنها قيود إيجابية تجعل حق الملكية ذا هدف أو معنى اجتماعي أو ذا وظيفة اجتماعية تبعد فكرة الحق عن معنى السلطة المطلقة، أو حب الذات وتخفف من وجود الملكيات الكبيرة، وتقيم بناء التكافل الاجتماعي بين الأفراد في الإسلام على أمتن الأسس وأقوى الدعائم الدينية والخلقية والتشريعية من أجل رفع مستوى المعيشة العامة ورعاية مصالح الفقراء، وليؤخذ بأيديهم نحو الكسب المستقل، وأهم هذه القيود الإيجابية هي: 1 - فريضة الزكاة: تعتبر الزكاة كما هو معلوم ـ من أركان الإسلام، فهي تشريع مدني إلزامي يجب على الأغنياء القيام بتنفيذه وإعطائه لمستحقيه من الفقراء، وتقوم الدولة في الأصل بجباية الزكوات من أصحاب رؤوس الأموال وتجبرهم على أدائها، فليست الزكاة كما يظن بعض الناس مجرد صدقة مستحبة، كما أنها ليست طريقاً لإذلال الفقير وإنما هي حق مستقيم واجب الأداء، قال الله تعالى: {والذين في أموالهم حق معلوم، للسائل والمحروم} [المعارج:24/ 70 - 25] والهدف منها أن يؤخذ بيد الضعيف، ويتجه إلى الاعتماد على نفسه من طريق الكسب الحر، فهو علاج مؤقت لحالة كل فقير، وليست طعمة دائمة إلا للعاجزين عن العمل، وتستوفى الزكاة كما هو معروف من ثلاثة أنواع من الأموال: هي النقود المتداولة والسلع التجارية بنسبة 25%، والإبل والبقر والغنم السائمة (أي التي ترعى الكلأ المباح)
2 - كفاية الفقراء
بنسب تصاعدية، والزروع والثمار بنسبة العشر فيما يعتمد على الأمطار والأنهار العامة، ونصف العشر فيما يسقى بآلة ونحوها. وإذا لم تكف حصيلة زكاة هذه الأموال، فلا مانع شرعاً في رأي فقهاء العصر من إيجابها على أصناف الأموال المستحدثة في زمننا وهي الآلات الصناعية، الأوراق المالية (كالأسهم والسندات) وكسب العمل والمهن الحرة، والدور والأماكن المستغلة عن طريق الإيجارات. غير أن قرار مجمع الفقه الإسلامي في جدة لم يوجب الزكاة على المستغلات العقارية ونحوها إلا بعد حولان الحول على الأموال المدخرة. والعلماء يطالبون المسؤولين بالعودة إلى جباية فريضة الزكاة في وقتنا الحاضر كما فعلت بعض الدول الإسلامية والعربية بقانونها الحديث؛ لأنه مبدأ حيوي يحل كثيراً من المشكلات الاجتماعية. 2 - كفاية الفقراء: للدولة أيضاً أن تطالب الأغنياء بإغناء الفقراء، فهي المسؤولة عن رعاية مصالحهم؛ لأن الإسلام يجعل العلاقات الاجتماعية قائمة على أساس من التراحم والتعاطف والتوادد، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «كاد الفقر أن يكون كفراً» (¬1). وقال صلّى الله عليه وسلم لعلاج ذلك: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» (¬2) ولقد أوجب الدين الحنيف أيضاً تكليفاً في المال غير الزكاة، فقال عليه الصلاة والسلام: «إن في المال حقاً سوى ¬
3 - الإنفاق في سبيل الله
الزكاة» (¬1) بل إن مبدأ كفاية الفقراء للعاجزين على العمل يتجلى في أصدق صورة في قوله عليه الصلاة والسلام: «إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الذي يسع فقراءهم؛ ولن يُجهد الفقراء إذا جاعوا أو عروا إلا بما يصنع أغنياؤهم، ألا وإن الله يحاسبهم حساباً شديداً، ويعذبهم عذاباً أليماً» (¬2) هذا بالإضافة إلى حث الإسلام على تقديم الصدقات المستحبة تقرباً إلى الله عز وجل كما هو معروف، يقول عليه الصلاة والسلام: «من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له» (¬3). وكذلك يجب على الإنسان تقديم النفقات لكفاية أقاربه الفقراء المحتاجين كالآباء والأجداد والأبناء وفروعهم. 3 - الإنفاق في سبيل الله: أوجب الإسلام على المسلمين الإسهام بالإنفاق في سبيل الله، والمقصود به الإنفاق على كل مايتطلبه المجتمع من مصالح ضرورية كالدفاع عن البلاد، وتزويد الجيش العامل بالمؤن والسلاح، وبناء المؤسسات الخيرية العامة التي لاغنى لأي بلد متحضر عنها. وللحاكم كيفية تنظيم الحصول على هذه الموارد الكافية لسد العجز في موازنة الخزينة العامة، من طريق وضع نظام ضريبي عادل يلتزم خطة التصاعد بحيث يرتفع سعر الضريبة كلما زاد دخل المكلف، وبحسب درجة الغنى واليسار، ونص فقهاء الإسلام كالغزالي والشاطبي والقرطبي على مشروعية طرح ضرائب ¬
سابعا ـ موقف الإسلام من تعارض مصلحتي الفرد والجماعة
جديدة على الأغنياء والغلات والثمار وغيرها بقدر مايكفي حاجات البلاد العامة، وأقر ذلك مجمع البحوث الإسلامية في مؤتمره الأول المنعقد سنة 1964م في قراره الخامس (¬1). والخلاصة: إن الشريعة الإسلامية قيدت المالك في استعمال سلطاته على ملكيته، وفي حق التملك ذاته بقيود كثيرة، تحقيقاً لمبادئ المصلحة والعدل والمساواة بقدر الإمكان. سابعاً ـ موقف الإسلام من تعارض مصلحتي الفرد والجماعة: إن النظام الرأسمالي يقدس حرية الفرد ومصلحته، ويعتبر مصلحة الجماعة هي حصيلة المصالح الفردية، وإن النظام الاشتراكي يلغي دور الفرد ويقدس مصلحة الجماعة ويفضلها على مصلحة الفرد. ويعتبر التضامن الاجتماعي هو الأساس الوحيد لحياة الجماعة. والفرد مسخر لخدمة مصالحها. وأما الإسلام فقد راعى مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة، وأقام توازناً فعالاً بين المصلحتين على وجه يحقق التضامن والتكافل الاجتماعي، فلم يسمح في الحالات العادية للفرد أن ¬
يطغى على حساب المجموع، ولا للجماعة أن تسحق مصلحة الفرد لحساب المجتمع، وذلك منعاً من الإخلال بميزان العدالة، ورعاية للحقين معاً بقدر الإمكان، فإذا تعارضت المصلحتان في ظرف استثنائي مثلاً، وتعذر التوفيق بينهما، قدمت المصلحة العامة على المصلحة الخاصة دفعاً للضرر العام، ولكن مع المحافظة على حق الفرد في التعويض. وعلى أساس هذه النظرة المتوازنة، نظر الإسلام إلى المال، فاعترف بمصلحة الفرد فيه وبحقه في تملكه، كما أنه اعترف بمصلحة الجماعة وبحقها في التملك، وحينئذ تتجاور في الوجود الإسلامي الملكية الخاصة مع الملكية العامة وملكية الدولة، ويكون للإسلام عندئذ غاية مزدوجة رسم لها الشرع حدوداً معينة واضحة، فهو حين يبيح الملكية الفردية من حيث المبدأ فإنه يضع لها حدوداً وقيوداً تمنع اتخاذها سبيلاً للضرر كما ذكرت، ويسخرها نحو مصلحة المجتمع، وللمجتمع استرداد هذه الملكية أو تعديلها إذا وجد فيما يفعل مصلحة عامة، وذلك كله حماية للمصالح الأساسية التي شرعت من أجلها الحقوق، ودرءاً للتعسف والظلم. وبه يتبين أنه لا خطورة في تشريع الإسلام في اعترافه بالملكية الفردية مادام يملك إلغاءها أو تعديلها. وبإيجاد هذا النوع من التوازن الاقتصادي بين مصلحتي الفرد والجماعة على أسس من العدل، وحسبما تقتضي المصلحة، استطاع الإسلام حل المشكلة الاقتصادية التي يثيرها الاقتصاديون وهي: كيف يستطيع المجتمع تأمين إشباع الحاجات الكثيرة المتعددة بموارد الطبيعة المحدودة لديه؟ إن إجابة الإسلام عن هذه المشكلة هي أن الطبيعة ليست بخيلة ولا عاجزة عن تلبية حاجات الإنسان، فهي من صنع الله الذي تكفل بالرزق. لجميع مخلوقاته،
ثامنا ـ أثر الدين والأخلاق والتزام كل مبادئ الإسلام في تكوين مذهبنا الاقتصادي
وإنما المشكلة تتجسد في الإنسان نفسه، فظلم الإنسان في حياته العملية في توزيع الثروة، وعدم استثماره واستغلاله موارد الطبيعة هما السببان المزدوجان للمشكلة التي يعانيها الإنسان منذ القدم، فمتى انمحى الظلم في التوزيع، وجنَّد الإنسان كل طاقاته للاستفادة من الطبيعة المخلوقة المتجددة زالت المشكلة الاقتصادية. ثامناً ـ أثر الدين والأخلاق والتزام كل مبادئ الإسلام في تكوين مذهبنا الاقتصادي: لا يمكن الحكم على نجاح المذهب الاقتصادي الإسلامي إلا بتطبيق كل أنظمة الإسلام السياسية والاجتماعية والمالية؛ لأن الإسلام كل لا يتجزأ، ووحدة متكاملة مترابطة لا يمكن تجزئة بعضه عن بعض، والاقتصاد الإسلامي يعتمد في الدرجة الأولى على الإطار العام من الدين أو العقيدة، والخلق أو السلوك، والمفهوم الشامل عن الكون والحياة. العقيدة الإسلامية في قلب المسلم ووجدانه هي الدافع المحرك لاحترام النظام الاقتصادي والإيمان به والإذعان لتعاليمه. والقيم الخلقية في الإسلام لا تقل أهمية عن النصوص التشريعية الملزمة في توجيه سلوك الفرد بالنسبة لغيره، واحترامه حقوق الآخرين، ورعايته لمصلحة الجماعة، وغيرته على حرمات بلاده والحفاظ عليها بطواعية واختيار ودافع ذاتي ورقابة داخلية للنفس على ذاتها، فالبر والإحسان والرحمة والإخاء العام والتضحية والإيثار والمحبة والتناصر والتعاون على البر والتقوى، كل تلك العواطف التي هي من صميم الدين تؤثر تأثيراً واضحاً في تكييف الحياة الاقتصادية، وتساند المذهب فيما ينشده من غايات، وتسمو بالإنسان دائماً إلى
مفهوم الإنسان عن الكون والحياة
مواطن الخير، وتبعده عن عوامل الشر، وتُسهم في إيجاد قاعدة عتيدة من التكافل والتضامن الاجتماعي بين جميع الأفراد، فالمؤمن المخلص التقي هو الذي يرعى مصالح غيره، كما يرعى مصالح نفسه، وهذه هي مقومات المجتمع الإنساني الفاضل. ومفهوم الإنسان عن الكون والحياة والعلاقات الاجتماعية في أن الدنيا مزرعة الآخرة، وأن الله هو القابض والباسط والرازق والمتصرف، وأن المال مال الله، والإنسان خليفة ووكيل عن الله في ملكه، وأن المال وسيلة لا غاية، فهو خير إن استعمله صاحبه في الخير، وشر إن أدى إلى الشر والضرر، قال صلّى الله عليه وسلم: «نعم المال الصالح للرجل الصالح» (¬1). وإن الملكية الخاصة لها طابع ووظيفة اجتماعية، وإنها نعمة كبرى يجب صيانتها، والتوصل إليها من طرق حلال، وأن الربح المعقول هو الخالد الدائم والذي يصون التجارة ومصلحة التاجر، وأن العدو يجب جهاده، وأن الحاكم عادل أمين على مصالح الرعية، كل هذه المفاهيم ونحوها تؤثر في الحقل الاقتصادي تأثيرات بعيدة المدى. تاسعاً ـ خلاصة هذا المبحث: إن الإسلام ـ كشأنه في كل ما جاء به ـ هو شريعة التوسط والتوازن والاعتدال، وإنه نظام فريد مستقل بنفسه، قائم بذاته، له خصائص ومزايا تميزه عن كل ما عداه من النظم الأخرى في السياسة والاقتصاد والاجتماع والتشريع، وإنه لا قصور فيه عن معالجة المشكلات والأوضاع الحديثة. ¬
المبحث الثاني ـ المعالم الكبرى لاشتراكية الإسلام
لذا فإنه يلتقي مع أحسن ما في النظامين الحاضرين: الاشتراكي والرأسمالي من مزايا وصفات، ويتجنب ما فيهما من مغالاة وانحراف عن سنن الفطرة الإنسانية، ويسير بأبنائه إذا التزموا مبادئه نحو السعادة الحقيقية التي من أبرز مظاهرها شعور الإنسان بالاستقرار المادي، والاطمئنان النفسي والثقة بالذات، والتمتع بالحرية والكرامة. وليست فلسفة الإسلام في بناء الحضارة الإنسانية قائمة على مجرد إشباع البطون؛ لأن الإنسان جسم وروح، لا مجرد آلة، وإنما هو يفيض بمشاعر الآمال والآلام، ويحس في قرارة نفسه العجز في يوم ما، والناس يتفاوتون عادة في قدراتهم الإنتاجية بحسب تفاوت استعدادهم الفطري وقواهم الفكرية والجسدية، وليس من العدل ولا من المعقول حرمان إنسان من ثمرات عمله أو الحد منها ما دامت مشروعة. ولقد حارب الإسلام الثالوث الهدّام المخيف (وهو الفقر والجهل والمرض) وقاوم كل عوامل التخلف الاقتصادي: وهي البطالة ووسائل الكسب غيرالمشروع وإضعاف الإنتاج الزراعي والصناعي والتجاري، كما أنه حقق في الواقع التاريخي مبادئه في التكافل الاجتماعي. المبحث الثاني ـ المعالم الكبرى لاشتراكية الإسلام: تمهيد حول مصطلح الاشتراكية: شاعت كلمة (الاشتراكية) في عصرنا الحاضر بدءاً من القرن التاسع عشر، وتحمس لها الناس لأنها نشأت كرد فعل لظلم الرأسمالية، ولأنهم وجدوا فيها ملامح الإنسانية والعدل والرفاه والمساواة، باعتبار أن النظام الاشتراكي يتضمن
الأسس اللازمة لإسعاد الإنسان سعادة عادلة، ومنع استغلال الإنسان لغيره فرداً أو جماعة، سواء أكان استغلالاً اقتصادياً أم اجتماعياً أم سياسياً. وتتفاوت أنواع الاشتراكية تطرفاً واعتدالاً، بمقدار تنازل أفراد المجتمع للدولة عن الحريات السياسية والمالية. فكلما كان ذلك القدر المتنازل عنه أبعد عن محو شخصية الفرد ومسؤليته، كان أقرب إلى الوضع الطبيعي للإنسان. ولكن الوسط الديني الإسلامي والمسيحي وأي دين نفر مما صاحب الاشتراكية السائدة من إلحاد وجحود لوجود الله وأصول الدين وعقيدة البعث بالذات بقصد إنصاف الطبقة الكادحة، مع أن هذا الجحود يذوب أمام براهين إثبات الإله المعروفة، بل ولا حاجة إليه إطلاقاً في ميدان العقل والتجربة لإنصاف تلك الطبقات المظلومة أو الكادحة، وإنما على العكس يقتضي العقل والتجربة أن تكون الدعوة لإنصاف هذه الطبقات أجدى فيما إذا اعتمدت على الإيمان بوجود الله وبالحساب يوم الجزاء. ونتيجة لهذه النفرة مما اقترنت به الاشتراكية من إلحاد أو شيوع في الأموال والأعراض، فضّل كثير من كتاب الإسلام استخدام كلمة أخرى بديلة عنها وهي (العدالة الاجتماعية) أو (التكافل الاجتماعي) أو الضمان الاجتماعي: أي أن يكون كل فرد في الدولة في حمايتها ورعايتها بوصفها ممثلة للجماعة. وعندئذ يتحقق الضمان لآحاد الناس حين يجدون من المجتمع حماية وأمناً واستقراراً. والحقيقة أن اللغة العربية لا تمنع قبول هذا المصطلح الذي ينبئ عن الاشتراك في الملكيات، كما أن فقه الإسلام الذي يقرر الاعتماد على المقاصد والمعاني لا ينفر من هذه الكلمة فيما تستهدفه من غايات إنسانية، مجردة من العيوب التي صاحبتها، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلم عن اشتراك الناس في مصادر الإنتاج الأساسية
معالم اشتراكية الإسلام
والأموال الضرورية: «الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار» (¬1). وكان الهدف الجوهري من رسالات السماء هو إقامة المجتمع الفاضل القائم على أساس من المحبة والإيثار والمساواة بين الأفراد والتزام الحق والعدل ومنع الظلم بمختلف أشكاله. فالاشتراكية في جوهرها الإنساني وغاياتها النبيلة قديمة منذ المجتمعات البدائية، ولا يضيرنا الاعتزاز بالإسلام والاعتراف بسموه وذاتيته واستقلاله عن الأنظمة الأخرى أن نعرف موقفه من نظام (الاشتراكية) الحالي، بل ونتعرف مبادئه وأسبقيته في الأخذ بأحسن ما ينشده هذا النظام، وإصلاح عيوبه وتجريد أخطائه، مما يؤدي إلى إعلان هذه الحقيقة وهي القول بـ (اشتراكية الإسلام). معالم اشتراكية الإسلام: للإنسان منذ القدم مشكلة مثلثة تتطلب حلاً مناسباً في كل عصر، وهي تتكون أولاً من حاجاته البدنية الطبيعية المتنوعة كالغذاء والكساء والمسكن والثقافة والعلاج ونحوها، وثانياً غرائزه المتعارضة التي من أهمها غريزة التملك، وغريزة الاجتماعية أي العيش في مجتمع، وثالثاً حبه الحرية المطلقة في السلوك والتصرفات. وقد أجاب الإسلام عن هذه المشكلة بوضع المبادئ التالية: أولاً ـ التكافل الاجتماعي: أبنت في المبحث الأول أسس العدالة الاجتماعية، وأوضح بعض جوانبها هنا. ¬
1 - المسلمون كالجسد الواحد (المشاركة الوجدانية والعملية)
1 - المسلمون كالجسد الواحد (المشاركة الوجدانية والعملية): لا تتحقق سعادة الفرد في الإسلام إلا بسعادة الجماعة، فكل فرد يكمل الفرد الآخر لإقامة بنيان واحد، دل على ذلك أحاديث نبوية كثيرة مثل: «ذمة المسلمين واحدة، تتكافأ بها دماؤهم، وهم يد على من سواهم» (¬1) «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً» (¬2) «مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» (¬3) وهكذا تنمي الشريعة في نفس كل مسلم الشعور بالمسؤولية الجماعية، وتدفعه إلى المشاركة العملية بباعث المشاركة الوجدانية أو الإيمان الذي يربطه بإخوته في العقيدة برباط متين لا تنفصم عراه. فيتضامن جميع الأفراد في سبيل تحقيق سعادة المجموع، قال الله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى} [المائدة:2/ 5]. 2 - كفالة المجتمع الحاجات الأساسية لكل إنسان فيه: يترتب على مبدأ التكافل الاجتماعي: كفالة الحاجات الضرورية لكل عضو في المجتمع، لا على أن ذلك مجرد صدقة، وإنما قياماً بحق يمنح صاحبه حق الادعاء به أمام القاضي حتى يستوفي ما يكفيه من بيت المال، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «ما من مؤمن إلا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة .. ومن ترك ديناً أو ضياعاً (¬4) فليأتني فأنا مولاه» «ابغوني في ضعفائكم، إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم» (¬5) ¬
3 - توفير العمل والحث عليه
والضعيف يشمل ضعف الجسد وضعف الفقر والعذر والحاجة. وابغوني: أي اطلبوا إلي ضعفاءكم. ويتم تنفيذ هذا الواجب عن طريق الزكاة التي هي التزام مدني واجب على الغني، لا مجرد التزام ديني، ويجب على الدولة جبايته، فإن لم تكف الزكوات جاز فرض ضرائب أخرى على الأغنياء لتحقيق كفاية الفقراء كما بان سابقاً. ويسأل كل حاكم مباشرة عن أي فرد من أفراد الفقراء كما ذكر سابقاً. ويسأل كل حاكم مباشرة عن أي فرد من أفراد الرعية، كما بدا ذلك واضحاً في إحساس الخلفاء الراشدين بهذه المسؤولية. وفي عهد عمر تكافل المسلمون جميعاً لدفع غائلة المجاعة عام الرمادة، وقال عمر وقتذاك: «لو أصابت الناس الشدة لأدخلت على أهل كل بيت مثلهم، فإن الناس لا يهلكون على أنصاف بطونهم». 3 - توفير العمل والحث عليه: على المجتمع ممثلاً بالدولة تهيئة فرص العمل المناسب لكل قادر عليه (¬1)، ومقاومة كل أسباب التعطل والبطالة، حتى لا يثقل كاهل بيت المال بتأمين حاجات العاطلين. ويراعى في كل عمل مدى حاجة المجتمع إليه، وما يتطلبه العامل من حماية وتأمين وعدالة في التوزيع وراحة مناسبة. وعلى رب العمل إيفاء حق العامل بمجرد الفراغ من عمله لقوله عليه الصلاة والسلام: «أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه» (¬2) وعليه ألا يكلفه ما لا يطيق، وأن يعاونه عليه إن كان ¬
4 - كفالة القاصرين والعجزة عن العمل
مرهقاً. وعلى الدولة العناية بالاستثمار والاستغلال المشروع والتنمية أكثر من اهتمامها بجباية ضرائب الإنتاج في الزراعة ونحوها، قال علي رضي الله عنه لأحد ولاته: «وليكن نظرك في عمارةالأرض (أي الإنتاج) أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج (أي من فرض الضرائب)؛ لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة. ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلاً». وحث الإسلام في آيات وأحاديث متعددة كما عرفنا على العمل، واعتبره من أفضل موارد الكسب المشروع، ورأس وسائل الإنتاج. كما أنه هو أساس التفاضل بين الأفراد ومعيار تقييم الناس: «قيمة كل امرئ ما يحسنه» وقال سيدنا عمر: «إني لأرى الرجل فيعجبني، فإذا قيل: لا عمل له سقط من عيني». ومن هذا وجب إتقان الأعمال وتحسينها، قال عليه الصلاة والسلام: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه» (¬1). وينبغي الاتجاه إلى الكسب والعمل المنتج بدافع أو حافز داتي لقوله صلّى الله عليه وسلم «اليد العليا خير من اليد السفلى» (¬2). 4 - كفالة القاصرين والعجزة عن العمل: يجب على الأب كفاية ولده حتى البلوغ، وعلى الغني الموسر كفالة قريبه المعسر والإنفاق عليه إذا كان من الأصول والفروع. وأوجب بعض الفقهاء وهم الحنفية النفقة للمحارم كالإخوة والأعمام والعمات والأخوال والخالات. وجعل المذهب الحنبلي وجوب النفقة مع قاعدة الميراث، فإذا لم يكن للولد أو العاجز عن العمل أو الشيخ الهرم أحد يكفيه من أقاربه، وجبت كفايته من بيت المال. وكان عمر رضي الله عنه يرتب نفقة للطفل منذ فطامه، ثم جعله منذ الولادة ¬
5 - التعاون في درء الأخطار
بمقدار مئة درهم، حتى لا تعجل الأمهات فطام أولادهن، ثم إذا ترعرع جعلها مئتين. وفرض عمر أيضاً نفقة لشيخ من أهل الذمة حينما وجده يسأل الناس بسبب الحاجة والسن وأداء الجزية. ومثل الولد والشيخ الهرم: كل عاجز عن العمل بسبب الإصابة في عمله أو بسبب آفة صحية أو عقلية تمنع من التكسب، أو بسبب فقد العائل أو بسبب كارثة مؤقتة كغرق أو حريق. وقد ذكرت مبدأ (كفاية الفقراء) في المبحث الأول، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن في المال حقاً سوى الزكاة» (¬1) «ما آمن بي من بات شبعان، وجاره جائع إلى جنبه، وهو يعلم به» (¬2) «أيما أهل عَرْصة ـ أي بقعة ـ أصبح فيهم امرؤ جائعاً، فقد برئت منهم ذمة الله تبارك وتعالى» (¬3). وإذا كان الصحابة كما لاحظنا قرروا صوراً من التكافل لمطلق المصلحة والعدل، فإن كل ما تسنه الدولة من قوانين للتأمين الاجتماعي أو للتقاعد أو للمساعدات لفئة من المواطنين نقداً أو عيناً كرعاية الطفولة أو إصلاحيات المنحرفين من الأحداث ونحوها بحسب الحاجة وتطور الزمن: يكون مقبولاً بشرط ألا يخالف أصلاً من أصول الشريعة. قال مجاهد: «ثلاثة من الغارمين: رجل ذهب السيل بماله، ورجل أصابه حرق فذهب بماله، ورجل معه عيال وليس معه مال» وقد طلب النبي صلّى الله عليه وسلم إلى المسلمين أن يتصدقوا على من أصابته جائحة. 5 - التعاون في درء الأخطار: أبنت سابقاً أن للدولة الحق في فرض الضرائب على الأغنياء في حالة فقر بيت المال، وتهديد المجتمع بأي خطر كالمجاعة والوباء والحرب إذ «يتحمل الضرر ¬
الخاص لدفع الضرر العام» ويجوز للجائع حال الضرورة أخذ الطعام من الآخرين، لإنقاذ نفسه من الهلاك، على أن يدفع ثمنه لأن (الاضطرار لا يبطل حق الغير). وعلى مالك الطعام أن يدفعه إلى المحتاج إليه، وإلا كان آثماً، ويجوز للمضطر إليه مقاتلته، كما له أن يقاتل صاحب الماء الذي يمنعه عن العطشان، فإن قتل الجائع وجب القصاص على القاتل. وقد نوه سيدنا عمر بهذا المبدأ وما قبله فقال: «لو استقبلت من أمري مااستدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء، فرددتها على الفقراء» وقال ابن حزم الظاهري: «فرض على الأغنياء من كل بلد أن يقوموا بفقرائها، ويجبرهم السلطان على ذلك إن لم تقم الزكوات بهم ولا في سائر أموال المسلمين، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لا بد منه، ومن اللباس في الشتاء والصيف بمثل ذلك وبمسكن يكنّهم من المطر والصيف والشمس وعيون المارة». وهكذا يظهر لنا أن هناك تضامناً فعالاً بين الفرد والجماعة الممثلة بالدولة لتحقيق السعادة والرفاه، فكما أن الدولة مسؤولة عن رعاياها (مجتمعها) يعتبر كل فرد في المجتمع مسؤولاً عن أي فرد آخر، وهذا ليس مجرد تكافل أخلاقي، وإنما هو تكافل قانوني إلزامي، وإن لم يوجد جزاء أو عقاب دنيوي على تقصير الإنسان بواجبه فيه. وعليه تكون الدولة في النظام الإسلامي أشبه بدولة اشتراكية، وكل فرد فيها أقرب إلى أنه عضو اشتراكي فعال يساهم في تحمل المسؤولية الاشتراكية على وفق ترتيب منطقي وهو: «وابدأ بمن تعول» (¬1) أي ابدأ بنفسك ثم بمن تجب عليك نفقتهم من الأهل، ثم العناية بشأن الجار، والضيف، ثم كل محتاج، ثم التعاون في استغلال موارد الطبيعة. ولا يقتصر الأمر على جانب الاقتصاد، بل لا ¬
ثانيا ـ الملكية الخاصة ووظيفتها الاجتماعية
بد من المشاركة في نواحي الحياة الأخرى من تربية وتعليم، وممارسة أصول الحياة السياسية والمدنية كالحرية والكرامة والعدالة والشورى وتكافؤ فرص الحياة السياسية. ثانياً ـ الملكية الخاصة ووظيفتها الاجتماعية: 1) ـ إقرار الملكية الفردية: أوضحت سابقاً أن الإسلام يقر الملكية الفردية ويحترمها، تجاوباً مع فطرة الإنسان وغريزة التملك والاقتناء، فطلب الغنى ليس محرماً في ذاته، ولكن يشترط أن يتخذ الإنسان وسائل الكسب المشروعة له، ومن أهمها وأشرفها العمل، ومن أفضل الأعمال إحياء الأرض الموات التي لا مالك لها واستثمارها. وإذ يجيز الإسلام التملك بدون عمل عن طريق الإرث أو الوصية أو الهبة، فما ذلك إلا لأن الوارث امتداد لشخصية المورث، وأما الوصية أو الهبة ونحوهما من التبرعات فهي أثر لحرية الإنسان في التصرف، وتشجيع على أعمال البر والخير وعمل المعروف الذي يدعم فريضة الزكاة، ويغطي نواحي الحاجة والنقص أو الحالات التي لا تصرف فيها الزكاة، مع توافر بعض المقتضيات الإنسانية لها. 2) ـ قيود الملكية: عرفنا أيضاً أن إقرار الملكية الخاصة ليس بصفة مطلقة، وإنما هي مقيدة بقيود كثيرة تجعل للملكية وظيفة اجتماعية وطابعاً إنسانياً كريماً. وهذه القيود منها عام يرتبط بالنظام الإلهي العام للإسلام كتحريم المعاملات الربوية أو القمار أو الاتجار بالخمر وسائر ما حرمه الله، ومنها خاص يمس النشاط الفردي ويجعله ذا طابع أو اتجاه اشتراكي معتدل، كتحريم الاستغلال الممنوع والاحتكار والغش، وكراهية تكدس الثروات المالية.
وتحريم الاستغلال شامل استغلال رب العمل فقر العامل فيظلمه، واستغلال التاجر حاجة المستهلك، فيغلي قيمة السلعة، أو جهل المنتج أو المصدر، فيشتري بضاعته بثمن بخس (تلقي الركبان)، أو سذاجة البدوي فيبيعه السلعة بأزيد من ثمنها (بيع الحاضر للبادي) واستغلال النفوذ بسبب الولاية أو القرابة أو الحسب والنسب. والاحتكار محرم لأنه يمنع تداول الثروة، ويؤدي إلى السيطرة والاستغلال، وقد يعطل الاستثمار، كمافي حال احتجار الأرض بغير استثمار مما يوجب سلبها من محتجرها بعد ثلاث سنين، كما تقدم. وتكدس الثروات المكروه في الإسلام، وإن لم يصل إلى درجة التحريم، فهو ممقوت لا يتفق مع الهدف الأمثل للشريعة، وللدولة أن تتخذ السياسة التي تمنعه، لما يؤدي إليه من ترف وفساد وسيطرة، كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلم من إقرار التوازن الاقتصادي بين المهاجرين والأنصار، وسار على نهجه الخلفاء الراشدون، فترك سيدنا عمر الأراضي المفتوحة في العراق والشام ومصر بيد أهلها، ولم يقسمها بين الفاتحين، حتى لا تنحصر الثروة بأيديهم، ولا يبقى شيء لمن يأتي بعدهم، واستدل على صحة فعله الذي وافقه عليه الصحابة بقوله تعالى: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كيلا يكون دُولة بين الأغنياء منكم} الآيات [الحشر:7/ 59 - 10]. وكان النبي حريصاً على عدم اتساع الملكيات الزراعية، فنهى عن كراء الأرض، كما سيتضح في بحثه المخصص له. ويعتبر نظام الإرث في الشريعة من أكبر العوامل على تفتيت الثروة ومنع تركيزها في أيدي فئة قليلة. وقد أوردت أهم القيود التي تقيد حق الملكية الفردية، والتي تجعلها ذات
وظيفة اجتماعية يمارسها صاحبها لمصلحة المجموع، ودون تمسك بأنها حق مطلق، باعتبار أن المالك الحقيقي للأموال هو الله تعالى، والناس لهم عليها حق الاستخلاف، قال الله تعالى: {وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه} [الحديد:7/ 57] وهذه القيود الشرعية الواردة على الملكية الخاصة: هي ألا تؤدي الملكية إلى الإضرار بالغير، وأن يخرج مالكها منها الزكاة والنفقات الواجبة على الغني الموسر لقريبه المعسر، سواء أكان من الأصول أم الفروع أم الحواشي أم الزوجات. وأن تستخدم الملكية في صالح النفع العام، أي أنه يجوز تحديدها أو انتزاعها من مالكها إذا اقتضت المصلحة العامة ذلك بشرط دفع ثمنها لصاحبها. وأما إنه لم يحدث في تاريخ الإسلام أن أخذ مال غني بغير رضاه، وأعطي لفقير، فذلك صحيح، لا يتنافى مع مبدأ مشروعية التأميم في أحوال استثنائية فقط؛ لأن واقع المجتمع قد تغير عما كان عليه حال المسلمين في صدر الإسلام، فقد كان أغنياء المسلمين يبذلون أموالهم في سبل الخيرالعامة عن طواعية واختيار، عملاً بما ندبهم إليه الإسلام ورسوله، والقيام بالواجب بدافع ذاتي أفضل وأكرم بلا شك من القهر عليه. واشتكى أحد الولاة في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز رحمه الله من تكدس الأموال في بيت المال، دون أن يجد فقيراً يعطيه، فأمر عمر بصرفه في قضاء ديون الغرماء المدينين، وكان الفقراء يتعففون من أخذ الزكوات، حتى نشأت مشكلة البحث عنهم في عهد عمر بن الخطاب، مما اضطره إلى إحداث نظام الخفراء (أو العَسس) في الليل للبحث عن المحتاجين لإعطائهم حقهم من بيت المال. وبما أنه قد تغيرت ظروف المجتمع اليوم، وساءت أحوال المسلمين وضنَّ الناس بما عندهم وقصروا في أداء واجبهم، فلا مانع من اتخاذ بعض الإجراءات
3) ـ مبدأ المساواة الاجتماعية في الإسلام
الاستثنائية المرهونة بوقت الحاجة لتصحيح بعض الأوضاع الفاسدة، وإجبار الأغنياء على إعطاء حق الفقراء، أو تأميم بعض أموالهم ليقوم الفقير باستثمارها، بعد أن منعوا الزكاة ونحوها من الواجبات المفروضة. قال النبي صلّى الله عليه وسلم عن مانع الزكاة: «ومن منعها ـ أي الزكاة ـ فإنا آخذوها وشطر ماله، عَزْمة من عزمات ربنا عز وجل» (¬1). هذا بالإضافة إلى أن بعض ملكيات الإقطاعيين الكبيرة كانت قد اكتسبت بوسائل غير مشروعة، إما بخدمة المستعمر، أو الحاكم الظالم. ولا شك بأنه يجوز مصادرة الأراضي والأموال المكتسبة بوسيلة غير شرعية كما عرفنا سابقاً. كما أنه إذا لم تتحقق كفاية الفقراء، لا مانع شرعاً من فرض الكفاية اللازمة على الأغنياء عملاً بالمبدأ الشرعي: «إذا بات مؤمن جائعاً فلا مال لأحد». 3) ـ مبدأ المساواة الاجتماعية في الإسلام: من البدهيات المسلمة المعروفة أن الإسلام دين المساواة في الحقوق والواجبات بين أفراد المجتمع المسلم، فلا تمييز بين الناس بسبب الجنس أو اللون، أو الحسب والنسب، أو الغنى والفقر، وإنما الكل أمام الله تعالى، وفي المنزلة الاجتماعية سواء، حتى يقضى على كل بواعث الجرائم التي يدفع إليها وجود الامتياز المادي والأدبي. وحينئذ فلا يسمح الإسلام بوجود طبقات اجتماعية تتفاوت في الدرجة الاجتماعية، وإن كان هناك تفاوت مادي بين غني وفقير، في حدود كفاية الفقير، وعدم اكتناز المال لدى الغني، قال الله تعالى: {نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات} [الزخرف:32/ 43] {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم} [التوبة:34/ 9] والآية الأولى لا تعني وجود مجتمع طبقي في نظام الإسلام، إذ ليس في ¬
ثالثا ـ الحرية الاشتراكية في الإسلام
الإسلام طبقات ذات امتيازات اجتماعية، وإنما يقر الإسلام وجود تفاوت مادي بين الإسلام؛ لأن الغنى والفقر كل منهما محل مسؤولية وابتلاء واختبار، فلا طبقية إذن، وإنما هي مسؤولية على كل منهما، الغني في استغلال ماله، والفقير في اختبار صبره ومدى جهاده في الحياة. والتفاوت المادي لا عيب فيه؛ لأنه يتمشى مع الفطرة الإنسانية في حب التملك والاقتناء، ويولد عنصر المنافسة الحرة الشريفة، وتقتضيه طبيعة الناس بحسب تفاوتهم في العلم والعمل والقدرة على الكفاح والإنتاج. وهذا يعطينا الدليل لتوزيع الأعمال والكفايات بين الأفراد. وبذلك تكون أسباب التفاوت المحدودة في المجتمع الإسلامي محصورة في سببين: العمل والعلم. فبالعمل تشتد المنافسة في الإنتاج، وبالتالي في الحفاظ على ثمرات الكسب والغنى واليسار. وبالعلم تتقدم الأمم، ويستفيد العالم من ثمرات علمه لنفع المجتمع وإعلاء كلمة الحق وإبداء النصيحة والإرشاد إلى الخير. والتفاوت في المقدرة والنشاط والعلم لايخلق طبقية اجتماعية لها امتياز أو استعلاء، وإنما هومسؤولية أمام الله، ومسؤولية أمام المجتمع، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وماذا عمل فيما علم» (¬1). ثالثاً ـ الحرية الاشتراكية في الإسلام: الناس جميعاً أحرار في ميزان الإسلام، ولا خضوع إلا لله وحده، ولا يخضع إنسان لغيره إلا بالحق والمعروف، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. ¬
رابعا ـ القيم الخلقية في النظام الاشتراكي الإسلامي
فمن هذا المبدأ تتأصل الحرية والكرامة للإنسان. فهي شيء ينبع من ذات الإنسان وتكوينه، لا أنها منحة من المجتمع للإنسان. والحرية تكون مصدر الاعتزاز بالشخصية، والشجاعة الأدبية في إعلاء كلمة الحق، ومجابهة الصعاب وعدم خشية أحد إلا الله قال عليه الصلاة والسلام: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر» (¬1) وحرية الفرد تستتبع حرية الجماعة السياسية والاقتصادية. غير أن هذه الحرية ليست مطلقة، وإنما هي مقيدة بالمعيار الاشتراكي الذي يقوم على تكافل أفراد المجتمع، سواء في ذلك الحاكم والمحكومون. فالحاكم الذي ترشحه الأمة وتبايعه مقيد بالعمل بنظام الشريعة، وبمشاورة أهل الخبرة والاختصاص (أهل الحل والعقد) قال الله تعالى آمراً نبيه: {وشاورهم في الأمر} [آل عمران:159/ 3] والمحكومون من الرعية مطالبون بالطاعة في المعروف، وبالنصرة، إذ «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» (¬2) وقال الله تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} [التوبة:71/ 9] أي، متناصرون، ولهم إبداء الرأي في تصرفات الحاكم كما طالب بذلك أبو بكر في خطبته المعروفة، والدولة الإسلامية مقيدة في علاقتها مع الدول الأخرى بعدم الاعتداء، لقوله تعالى: {ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} [البقرة:190/ 2]. رابعاً ـ القيم الخلقية في النظام الاشتراكي الإسلامي: أشرت سابقاً إلى دور الأخلاق في بناء الفرد والجماعة، وأضيف هنا أن أفضل أنواع الاشتراكية هي التي لا تفرض بالحديد والنار وبالمجازر الدموية ¬
والصراع الحاد بين الطبقات، وإنما التي تنبع من الذات المؤمنة السامية والضمير الإنساني اليقظ والمثل الدينية العليا. فالاشتراكية السياسية والاقتصادية الوطيدة الأركان هي التي تقوم على الاقتناع بضرورة التنازل عن شيء من المصالح الفردية في سبيل تحقيق مصلحة المجموع، وهذا الاقتناع يحتاج إلى تذوق خلقي للعلاقات الإنسانية بين أفراد المجتمع، والفهم الخلقي يحتاج إلى قوة دافعة من العقيدة السامية التي قررتها الأديان، وتبلورت ـ أخيراً في الإسلام، لأن الدين سند الأخلاق وحارسها وحافظها من الضعف والانهيار أثناء الأزمات. ومن أهم الأخلاق الاشتراكية: الإحساس المرهف بالمسؤولية والسمو البشري في التعاطف والتعامل وحب الخير والحق والإيثار. أما الإحساس بالمسؤولية فموزع على الحكام والأفراد، قال صلّى الله عليه وسلم: «كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسؤولة عن رعيتها» (¬1) وقد بلغ الإحساس بالمسؤولية عند الخلفاء الراشدين ومن تبعهم بإحسان درجة عالية انعكست على كل الولاة والعمال في الدولة، بل على سائر أفراد المسلمين، إذ كان الواحد يندفع إلى تلبية الواجب وتنفيذ أوامر الإسلام من دون حاجة إلى مراسيم وقوانين وأوامر متتابعة ومتراكمة من الخليفة والحكام بحيث يزحم بعضها بعضاً، وقد ينقض واحد منها الآخر. وكان أخطر أنواع المسؤولية: هو توزيع الحقوق المالية على الناس في أجزاء البلاد، وقيام الحاكم بواجبه نحو الرعية، وهو الذي أحس به سيدنا عمر حينما قال: «لئن عشت إلى قابل ليبلغنَّ الراعيَ في صنعاء نصيبه من هذا الفيء ودمه في ¬
وجهه» وقال أيضاً: «لئن ضلت شاة على شاطئ الفرات لخشيت أن يسألني الله عنها يوم القيامة». وأما التعاطف بين أبناء المجتمع فهو السمة البارزة لاشتراكية الإسلام القائمة على المحبة والإيثار، والأخوة والتضامن والسعي في سبل الخير، قال الله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} [الحجرات:10/ 49] {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} [الحشر:9/ 59] وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (¬1) «الخلق كلهم عيال الله، فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله» (¬2) «عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به» (¬3) «تحب للناس ما تحب لنفسك، وتكره لهم ما تكره لنفسك» (¬4). وهناك أحاديث نبوية كثيرة ترغّب في فعل الخير وعمل المعروف وبذل المال، ومساعدة المحتاج، وتقديم القربات، مثل قوله عليه الصلاة والسلام: «من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له» (¬5) «يا ابن آدم إنك إن تبذل الفضل خير لك، وإن تمسكه شر لك، ولا تلام على كفاف، وابدأ بمن تعول، واليد العليا خير من اليد السفلى» (¬6). بهده الأصول الخلقية قامت اشتراكية الإسلام، وبها وحدها تم التوصل لحل مشكلة الإنسان المعقّدة المثلثة، فتحقق التقاء الفرد والمجتمع، والتوافق بين غرائز ¬
المبحث الثالث ـ نظرية القيمة في الإسلام
الإنسان الذاتية الخاصة ومصلحة المجموع، وأثبت التطبيق العملي للاشتراكية بالاعتماد على القيم الخلقية أن القوانين والأنظمة أو السلطة والقهر لا تكفي لنجاح الاشتراكية في إسعاد الإنسان، بل ولن يكتب لها الدوام والاستمرار. وهذه مقولة أعلنتُ عنها منذ عام 1965م قبل انهيار الاتحاد السوفييتي. المبحث الثالث ـ نظرية القيمة في الإسلام: تكلمت في المبحث الأول عن هذه النظرية، وبينت أن الإسلام حض على العمل، وطالب القرآن باستخراج خيرات الطبيعة لقوله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} [البقرة:29/ 2] لأن العمل في الحقيقة أساس التقدم وبناء الكون كله. وبه يتم التفاضل بين الناس في الدنيا والآخرة، أما العمل في الدنيا: فهو كل جهد يؤدي إلى جلب نفع عام أو خاص، أو منع أذى خاص أو عام، أو ازدهار صناعة مفيدة، أو زيادة طيبات الحياة، أو انتشار عمران. وأما العمل للآخرة: فهو أداء الفروض الدينية فكراً وتعلماً وعملاً وامتناعاً عن الشر ومختلف أنواع الجرائم. ويشمل أيضاً النية الطيبة في إنجاز الأعمال الدنيوية. والمهم الآن تكرار ما قلته من أن العمل وإ ن كان هو الأساس الأول للقيمة الاقتصادية للسلع وللقيمة الاجتماعية للفرد وللتنمية الاقتصادية، ولاستغلال الثروة الطبيعية، فإن قيمة السلعة تتحدد بحسب العرض والطلب الواقعين عليها، مع التزام مبدأ السعر العادل، وفي ظل من رقابة الدولة. بدليل قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض» (¬1) ويضم إليه إفتاء فقهاء المدينة السبعة ¬
المبحث الرابع ـ كراء الأرض في الإسلام
في عصر التابعين والمالكية والحنابلة ومتأخري الزيدية بجواز تسعير السلع، حينما استبد الجشع والطمع ببعض الناس، وتغالوا في قيم البضائع (¬1)، وذلك عملاً بالمصلحة المرسلة مما أوجب القول بتدخل الحاكم لرد التجار إلى مبدأ السعر العادل (أو قيمة المثل) الذي لا يشتمل على غبن فاحش (¬2). وعلى هذا فإن أسعار البضائع المصنوعة الآن يدخل العمل أساساً في تقدير أثمانها، ويراعى في ذلك المصلحة العامة، والعدالة في التقييم. المبحث الرابع ـ كراء الأرض في الإسلام: قبل أن أذكر اختلاف العلماء الكثير في موضوع كراء الأرض، أبيّن اتجاهات الإسلام وغاياته العامة وروحه التشريعية ومبادئ اشتراكية الإسلام التي أشرت إليها. إن الإسلام بلا شك يرغب ترغيباً أكيداً في استثمار خيرات الطبيعة واستخراج كنوزها، ويكره تعطيل المال وإضاعته، كما يكره بطالة العامل، ومن هنا كره بعض العلماء تعطيل الأرض عن الزراعة، لأن فيه تضييع المال. ويحرص الإسلام أيضاً على تعميم الرفاه والرخاء على الناس وقصد النفع العام، وتوزيع الملكيات، وعدم اتساع الملكيات الزراعية بالذات خشية العجز عن ¬
الفريق الأول الذي يمنع كراء الأرض
استثمارها، ويكره تكدس الثروات واحتكار ملكية الأراضي، وحرمان الأغلبية من تملكها؛ لأن الأرض لله، والله يحب العدالة في التوزيع. ويفضل الإسلام أن يكون مورد الإنسان من طريق العمل، ويمقت بصفة عامة كون الإيراد بدون عمل، ومن هنا حرم الربا والقمار والتدليس والغبن والاستغلال والاحتكار. وتأثر بعض العلماء بهذا الاتجاه التشريعي، فحرم أيضاً إجارة الأرض، وتمسك برأيه القائلون بجواز التأميم أو تحديد الملكية. واشتراكية الإسلام ينبغي أن تنبع كما بينت من الباعث الذاتي والدافع الخلقي، وتكره إجمالاً القهر والجبر وفرض الأمر على الناس بالقوانين الرادعة والزواجر الصارمة ما لم يضطر الحاكم إليها ويقصر الناس بواجباتهم، حتى يكون احترام الحكم قائماً على الرضا والطواعية والاختيار، وليتوفر له الخلود والدوام والبقاء وتمتنع الشحناء والبغضاء والحقد بين الأفراد. ومن هذه الروح أجاز جمهور العلماء كراء الأرض، ولم يجبروا مالكها على استثمارها أو إعارتها للآخرين أو بذلها مجاناً لمن يحرثها، عملاً بمبدأ الحرية الاقتصادية، أي أن كل مالك حر التصرف بماله. فمن هذه الاتجاهات اختلف الفقهاء في حكم كراء الأرض من أجل زراعتها على رأيين: رأي يمنع ذلك إطلاقاً، ورأي يجيز. ثم إن المجيزين لكراء الأرض اختلفوا فيما بينهم اختلافات جزئية يحسن ذكرها. أما الفريق الأول الذي يمنع كراء الأرض وهم الأقل فهم بعض التابعين: طاوس وأبو بكر بن عبد الرحمن وطائفة قليلة، وأخذ برأيهم ابن حزم الظاهري، قالوا: لا يجوز كراء الأرض مطلقاً، لا بجزء من ثمرها أو طعامها من الحبوب ونحوها، ولا بشيء من النقود ذهباً أو فضة، ولا بغير ذلك. واستدلوا على رأيهم بدليلين:
الفريق الثاني وهم الجمهور المجيزون لكراء الأرض مبدئيا
أـ دليل عقلي: وهو أن مثل هذا الكراء يتضمن الغرر، أي احتمال إضرار المكتري وهو الفلاح؛ لأنه يمكن أن يصاب الزرع بآفة سماوية أو جائحة من نار أو قحط، أو غرق، فتلزمه الأجرة أو الكراء من غير أن ينتفع من ذلك بشيء. ب ـ دليل نقلي من السنة النبوية: وردت أحاديث صحيحة عن النبي صلّى الله عليه وسلم تنهى عن كراء المزارع. منها: مارواه مالك عن رافع بن خديج: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع. وروي عن رافع بن خديج عن أبيه قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن إجارة الأرضين (¬1). وعن جابر قال: «خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: من كانت له أرض فليزرعها، أو ليُحرثها أخاه وإلا فليدعها» (¬2). وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من كانت له أرض فليزرعها، أو ليُحرثها أخاه، فإن أبى فليمسك أرضه» (¬3) ومعنى «فليُحرثها» أي يجعلها مزرعة لأخيه بلا عوض، وذلك بأن يعيره إياها، بدليل ماروى ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لأن يمنح أحدكم أخاه - أي أرضاً - خير له من أن يأخذ عليها خراجاً معلوماً» (¬4). فهذه الأحاديث تدل صراحة على أن كل مالك مكلف بزراعة أرضه بنفسه، فإن لم يستطع زراعتها كلها أو بعضها، منحها أو منح الجزء الزائد عن طاقته لبعض إخوانه بدون مقابل. وأما الفريق الثاني وهم الجمهور المجيزون لكراء الأرض مبدئيا ً فقد اختلفوا ¬
اختلافات تتعلق بنوع الأجرة منشؤها ضرورة رعاية بعض قواعد الشريعة الأخرى التي تحرم الربا والغرر. وينحصر اختلافهم في جواز كراء الأرض بجزء مما يخرج منها: 1 ً - مذهب بعض التابعين: ربيعة وسعيد بن المسيب: لايجوز كراء الأرض إلا بالدراهم والدنانير فقط، بدليل ماروى رافع بن خديج عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة، وقال: إنما يزرع ثلاثة: رجل له أرض، ورجل مُنح أرضاً فهو يزرع مامُنح، ورجل اكترى بذهب أو فضة» (¬1)، قالوا: فهذا تصنيف لمستثمري الأرض، ولايجوز تعدي مافي هذا الحديث. وأما الأحاديث الأخرى فهي مطلقة الكلام، وهذا الحديث مقيد، فيحمل المطلق على المقيد، أي أنها تفهم وتفسر بحسب مادل عليه هذا الحديث، أو أن النهي المطلق عن المخابرة والمزارعة يحمل على حالة اشتمال العقد على الجهالة والغرر، أو يحمل على اجتنابها ندباً واستحباباً. قال ابن حجر في فتح الباري: إن النهي عن المزارعة محمول عند الجمهور على الوجه المفضي إلى الغرر والجهالة، لا عن كرائها مطلقاً حتى بالذهب والفضة. 2 - مذهب المالكية على المشهور: يجوز كراء الأرض بكل شيء من النقود والمعادن والحيوان وعروض التجارة ومنافع الأموال ماعدا شيئين: الطعام سواء أكان خارجاً من الأرض أم لم يكن، وماتنبته الأرض سواء أكان طعاماً أم غيره سوى الخشب والحطب والقصب ونحوها من كل ما يطول مكثه في الأرض حتى يعد كأنه أجنبي عنها. ¬
المزارعة
فالطعام المستثنى يشمل كل ما أنبتته الأرض كالقمح، وما لم تنبته كاللبن والعسل. وغير الطعام الذي تنبته الأرض، ولا يجوز الكراء به مثل القطن والكتان والعصفر والزعفران. والسبب في استثناء الطعام هو عدم الوقوع في الربا ببيع الطعام بالطعام لأجل. وأما استثناء غير الطعام مما تنبته الأرض فسببه وجود الغرر في هذا العقد (أي احتمال أن تخرج الأرض قدر ما أكرى به المكتري أو أقل أو أكثر) ووجود الجهالة أيضاً أي العقد على معلوم هو الأرض بمجهول وهو ما يخرج منها. وكل من الغرر والجهالة يوجب المشاجرة. وعلى هذا فإن المساقاة والمزارعة جائزة عند المالكية. أما المساقاة فهي عقد بين صاحب الأرض والعامل على القيام بخدمة أو مؤنة شجر مثمر كنخل أو كرم عنب بجزء معلوم من الثمرة للأجير. ويجوز أن يضم إليه تباعاً استثمار جزء من الأرض بشرط أن يكون قليلاً بأن تكون أجرته بالنسبة للأجرة الكلية من الثمرة الثلث فأقل. والمزارعة: هي المعاملة على استغلال الأرض ببعض مايخرج منها، وتجوز عند المالكية بشرط خلوها من كراء الأرض بممنوع بأن لاتقع الأرض أو بعضها في مقابلة بذر، أو طعام ولو لم تنبته، أو ماتنبته ولو غير طعام، كما تقدم. ولم يجز أبو حنيفة المزارعة، ويرى الشافعية عدم صحة المزارعة إلا تبعاً للمساقاة، وتعسر إفراد الشجر بالسقي وبياض الأرض التي لازرع فيها بالعمارة، أي الاستثمار. ودليل المالكية على ماذهبوا إليه: ما رواه رافع بن خديج قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه، ولايكرها بثلث ولا بربع ولا بطعام معين» (¬1) واستكراء الأرض بالحنطة يعرف بالمحاقلة وقد نهى عنها ¬
النبي صلّى الله عليه وسلم في حديث آخر، وهذا دليلهم على منع كراء الأرض بالطعام. أما حجتهم على منع كراء الأرض مما تنبت فهو ماورد من نهيه صلّى الله عليه وسلم عن المخابرة (¬1): وهي كراء الأرض مما يخرج منها. 3 - مذهب أبي يوسف ومحمد من الحنفية، والحنابلة، والثوري والليث وابن أبي ليلى والأوزاعي وجماعة: يجوز كراء الأرض بكل شيء، ولو بجزء مما يخرج منها. وهذا ما عليه المسلمون في كل مكان، لأن ذلك كراء منفعة معلومة (وهي العمل في الأرض) بشيء معلوم (وهو الأجرة)، فجاز قياساً على إجارة سائر المنافع مثل سكنى الدور واستعمال الحوانيت ونحوها. ويؤكد ذلك من ناحية الأثر حديث ابن عمر الثابت: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر مايخرج منها من ثمر أو زرع» (¬2)، أي دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعملوها من أموالهم على نصف ماتخرجه الأرض والثمرة. ورويت أحاديث أخرى بمعناه عن ابن عباس وأبي هريرة، وكان كل المهاجرين في المدينة يزرعون على ثلث أو ربع إنتاج الأرض، وقد زارع علي كرم الله وجهه وسعد بن مالك وابن مسعود وعمر بن عبد العزيز والقاسم وعروة وآل أبي بكر وآل علي وآل عمر، ومعاذ بن جبل في عهد النبي والخلفاء الراشدين. ورد هؤلاء على أحاديث غيرهم بأن أحاديث رافع ضعيفة لأنها مضطربة المتون أي متغايرة الألفاظ. وإن فرض كونها صحيحة فهي محمولة على الكراهية لا الحظر أو الحرمة، بدليل ما أخرجه البخاري ومسلم عن ابن عباس أنه قال: «إن النبي صلّى الله عليه وسلم لم ينه عنها» ولكن قال: «إن يمنح أحدكم أخاه يكن خيراً له من أن يأخذ ¬
المبحث الخامس - الأجر في الإسلام
منه شيئاً» أو إن النهي عن كراء الأرض محمول على ما إذا كانت الأجرة مجهولة أو مضمونة من إنتاج مكان معين من الأرض، مثل اشتراط صاحب الأرض ناحية منها، أو اشتراط ماينبت على حفة النهر لصاحب الأرض، لما فيه من الغرر والجهالة. فدل ذلك على أن الأحاديث التي تمنع من كراء الأرض محمولة على الندب والاستحباب، والأفضل بذلها مجاناً للفلاحين والعمال، بدليل إجماع الصحابة على أن الإجارة جائزة، ولاتجب الإعارة بالإجماع. المبحث الخامس - الأجر في الإسلام: الإجارة نوعان: إجارة على المنافع بأن يكون المعقود عليه هو المنفعة، وإجارة على الأعمال بأن يكون المعقود عليه هو العمل. ومثال النوع الأول: إجارة العقارات والدور والمنازل والحوانيت والضياع، والدواب للركوب والحمل، والثياب والحلي للبس، والأواني والظروف للاستعمال، ونحو ذلك بشرط أن تكون المنافع مباحة، فإن كانت محرمة كالميتة والدم وأجر النوائح وأجر المغنيات فلا تصح الإجارة عليها. ومثال النوع الثاني: وهي التي تعقد على عمل معلوم: الاستئجار من أجل البناء والخياطة والحمل إلى موضع معين وصباغة ثوب وإصلاح حذاء، ونحو ذلك من كل مايباح الاستئجار عليه، روي عن رافع بن رفاعة، قال: «نهانا النبي صلّى الله عليه وسلم عن كسب الأمة إلا ماعملت بيديها، وقال: هكذا بأصابعه نحو الخبز والغزل والنفش» (¬1) أي عجن العجين وخبزه، وغزل الصوف والقطن والكتان والشعر، أو نفشه وندفه، وفي رواية (النقش) وهو التطريز. والإجارة بنوعيها مشروعة مباحة بالقرآن والسنة والإجماع، قال الله تعالى: ¬
{فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} [الطلاق:6/ 65]، {يا أبت استأجره، إن خير من استأجرت القوي الأمين} [القصص:26/ 28] وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه» (¬1)، «من استأجر أجيراً فليسمّ له أجرته» (¬2). وأجمعت الأمة في زمن الصحابة على جواز الإجارة، لحاجة الناس إلى المنافع مثل حاجتهم إلى أعيان الأشياء. لكن أحاط الشرع حق الأجير بضمانات متعددة: وهي الرضا، والعدالة أو الكفاءة، والعرف. فينبغي أن يكون الأجر عادلاً متمشياً مع العرف السائد ومراعى فيه نوع الخبرة، ومعتمداً في التقدير على الحرية والرضا والطواعية، فلا يجوز الإكراه على العمل، ولا إلحاق الظلم بالأجير، ولا منعه حقه أو المماطلة في أدائه، أو استيفاء منفعة منه بغير عوض، إذ إن من استخدم عاملاً بغير أجرة فكأنه استعبده، كما قال فقهاء الإسلام أخذاً من حديث نبوي اعتبر آكل جهد العامل بمثابة من باع حراً وأكل ثمنه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «قال الله عز وجل: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ومن كنت خصمه خصمته: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً وأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يوفه أجره» (¬3) قال ابن التين: هو سبحانه وتعالى خصم لجميع الظالمين، إلا أنه أراد التشديد على هؤلاء بالتصريح. وأكد النبي صلّى الله عليه وسلم في أحاديث أخرى على ضرورة إيفاء حق العامل، كما ذكرت، وكما في قوله: «ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله» (¬4). ¬
وحرصاً من الشريعة على حقوق العامل والعمال، ومن أخصها الأجور اشترطت شروط معينة عند الاتفاق على عقد الاستئجار، منها: أن تكون الأجرة مالاً متقوماً معلوماً قدره للعامل جنساً وقدراً وصفة كالثمن في البيع، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم المتقدم: «من استأجر أجيراً فليسمّ له أجرته» والعلم بالأجرة لا يحصل إلا بالإشارة والتعيين، أو بالبيان الصريح. ويشترط أيضاً أن تكون المنفعة المؤجرعليها معلومة القدر، وذلك إما بغايتها مثل خياطة الثوب وعمل الباب ونحوهما من إجارة الأعمال، وإما بتحديد الأجل إذا لم تكن هناك غاية معروفة، مثل خدمة الأجير مياومة أو مشاهرة أو سنوياً، وذلك إما بالزمان إن كان المأجور عليه عملاً واستيفاء منفعة متصلة الوجود متتابعة التحصيل، مثل كراء الدور والحوانيت، وإما بالمكان إن كان المطلوب مشياً مثل كراء الرواحل، أي وسائط النقل من مكان إلى مكان آخر. واستحقاق تسلم الأجرة يكون بالعمل أو إنجاز المطلوب من العامل، للحديث السابق: «ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله» فإذا لم يكمل عمله، يلزم المستأجر قدر عمل الأجير. أما ثبوت حق العامل في تملك الأجرة ففيه رأيان للفقهاء: قال الشافعية والحنابلة: تثبت الملكية في الأجرة بمجرد انعقاد العقد، أي بنفس عقد الإجارة، لأنه عقد معاوضة، والمعاوضة تقتضي الملك في العوضين عقب العقد، كما يملك البائع الثمن بالبيع. وبناء عليه إذا كانت الإجارة في الذمة، أي تعهد شيء كخياطة أو بناء في ذمة العامل، يلزم تسليم الأجرة في مجلس العقد. وإن كانت الإجارة واردة على شيء معين كعقار معين بذاته أو دابة معينة بذاتها، ملكت الأجرة في الحال ويجب تعجيلها إلا إذا وجد شرط يقتضي التأجيل.
وقال المالكية والحنفية: تجب الأجرة باستيفاء المنفعة فعلاً أو بالتمكين من الاستيفاء، ولا تملك الأجرة بالعقد نفسه؛ لأن المستأجر يملك حينئذ الشيء المأجور عليه، فيملك الأجير العوض المستحق تحقيقاً لمبدأ المساواة المطلوبة العاقدين. وذلك إلا إذا اشترط تعجيل الأجرة بالعقد نفسه، أو عجلت فعلاً من غير شرط أو تم الاتفاق على تأجيل الأجرة. وبناء عليه: يستحق الأجير أجرته شيئاً فشيئاً بحسب المنفعة التي قدمها للمستأجر وملكها شيئاً فشيئاً على ممر الزمان. وبعبارة أخرى: يلزم المكري دفع الكراء جزءاً فجزءاً بحسب ما يقبض من المنافع، إلا إذا وجد شرط خلافه، أو كان هناك ما يقتضي التقديم، مثل أن يكون الكراء عوضاً معيناً بذاته، أو يكون كراء في الذمة. والخلاصة: إن العلاقة بين رب العمل والعامل تقوم في الإسلام على أساس الإنسانية والرحمة والتعاون، والعدالة أو الكفاءة والرضا والعرف. ويرغِّب الإسلام أيضاً في إكرام العامل زيادة على أجره؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «خيركم أحسنكم قضاء» (¬1) ويتحدد قدر الشيء المقابل بحسب ما يتعارفه الناس في مثله إذا لم يكن هناك اتفاق صريح على التقدير، أو فوض شخص بأداء شيء لآخر ولم يقدر حدود الشيء المدفوع. ويلزم رب العمل بتعويض العامل عما قد يصيبه من أضرار الآلة والعمل منعاً من الضرر، وللحكومة أن تتدخل في علاقات أرباب العمل والعمال بأن تقرر أن تكون أجور العمال متفقة مع مشقة العمل، ولا تجحف بمصلحة الملاك، منعاً لاستغلال حاجة العمال، ومحافظة على نمو رأس المال للأمة. ¬
المبحث السادس ـ السوق المالية
المبحث السادس ـ السوق المالية: تمهيد: هذا بحث يتناول حكم الإسلام في أهم المعاملات المعاصرة التي تتم فيما يسمى بالبورصة أو السوق المالية. والمقصود بالبورصة هنا: مجموعة العمليات التي تتم في مكان معين بين مجموعة من الناس لإبرام صفقات تجارية حول منتجات زراعية أو صناعية أو أوراق مالية، سواء أكان محل الصفقة حاضراً ـ وجود نموذج أو عينة منه ـ أو غائباً عن مكان العقد، أو حتى لا وجود له أثناء التعاقد (معدوم) لكن يمكن أن يوجد (¬1)، فيكون التعامل به أمراً احتمالياً، أو ما يسمى في فقهنا غرراً. وليست البورصة في الحقيقة سوقاً بالمعنى الشائع من كلمة السوق، لأن البورصة تختلف عن السوق في ثلاثة أمور: 1 - تتم الصفقات في الأسواق على أشياء موجودة بالفعل، أما في البورصة فيتم التعامل بالنموذج (عينة) أو بالوصف الشامل لسلعة. 2 - التعامل في السوق يحدث في جميع السلع، أما في البورصة فلا بد من أن تتوافر في السلعة: القابلية للادخار، وأن تكون من المثليات وتكرار التعامل، وكون أثمانها عرضة للتغير في فترة زمنية معينة بسبب ظروف العرض والطلب أو الأحوال المناخية. 3 - تكون الأسعار في الأسواق ثابتة لا تؤثر الأسواق فيها لقلتها، بينما تؤثر البورصات على مستوى الأسعار، لكثرة ما يعقد فيها من صفقات، ولذلك وصفت البورصة بأنها كجهنم. ¬
أهم وظائف البورصة
ومن أهم وظائف البورصة: المضاربة، أي المخاطرة بالبيع أو الشراء بناء على التنبؤ بتقلبات الأسعار بغية الحصول على فارق الأسعار، والبورصة ثلاثة أنواع: 1 - بورصة البضاعة الحاضرة: وهي التي يتم التعامل فيها بناء على عيّنة، ثم يدفع غالب الثمن عند التعاقد، والباقي عند التسليم. 2 - بورصة الأوراق المالية: وهي التي تباع فيها أسهم الشركات المختلفة، أو السندات بسعر بات أو بسعر البورصة في تصفية محددة بتاريخ معين. وهذه الأوراق قد تكون حاضرة، وقد تكون على المكشوف، أي لا يملكها بائعها. 3 - بورصة العقود أو بورصة (الكونتراتات): وهي التي يتم البيع فيها لسلع غائبة غير حاضرة بسعر بات أو بسعر معلق على سعر البورصة في تصفية محددة، ويكون البيع فيها على المكشوف، أي بيع مقدور التسليم في المستقبل لا في الحال. وعمليات البورصة ذات أشكال ثلاثة هي: 1 - العمليات العاجلة: ويلجأ إليها الراغبون في استثمار أموالهم بشراء أوراق مالية، ويتم بيعها عند توافر فرصة للربح، أو وجود أمل في الحصول على الجوائز التي تعطى لبعض السندات بطريق السحب للأرقام. 2 - العمليات الآجلة: وهي نوعان: أـ العمليات الشرطية البسيطة: وهي التي يكون فيها الخيار للمضارب بين فسخ العقد في ميعاد التصفية أو قبله، أو تنفيذ العملية إذا رأى تقلب الأسعار لصالحه، على أن يدفع تعويضاً متفقاً عليه سلفاً.
ب ـ العمليات الشرطية المركبة
ب ـ العمليات الشرطية المركبة: وهي التي يكون فيها الخيار للمضارب بين أن يكون مشترياً أو بائعاً، وأن يفسخ العقد، إذا رأى مصلحة له في ذلك عند التصفية أو قبلها، مقابل تعويض أكبر مما يدفع في العمليات البسيطة، يدفعه لصاحبه. جـ ـ العمليات المضاعفة: وهي التي يكون فيها الحق للمضارب في مضاعفة الكمية التي اشتراها أو باعها، بسعر التعاقد، إذا رأى مصلحة في التصفية، على أن يدفع تعويضاً مناسباً متفقاً عليه، يختلف بنسبة الكمية المضاعفة. ويختلف معنى المضاربة في البورصة عن معناها الشرعي، فمضاربة البورصة: هي المخاطرة على سعر السلعة في البورصة في تصفية معينة. وهي إما مضاربة على الصعود: وهي أن المضارب يشتري السلعة بسعر، وهو يخاطر في أنه سيرتفع، فيبيع حالاً ما اشتراه مؤجلاً بالسعر المرتفع، ويقبض الفرق. وإما مضاربة على الهبوط: وهي أن يبيع الشخص سلعة بسعر، وهو يخاطر في أنه سينخفض يوم التصفية، حيث يبيع بالثمن الحال، ويشتري ما اتفق عليه مؤجلاً، ويقبض الربح. وفي كلتا الحالتين قد يحدث خلاف المتوقع فيخسر المضارب، ويتم البيع على المكشوف، فلا تكون السلعة في حيازة البائع، ولا الثمن في حيازة المشتري وقت التعاقد، ولا يتم تسليم أو تسلم إلا يوم التصفية. وهذا كله حرام شرعاً. أما المضاربة الشرعية أو القراض فهي عقد يقوم على تقديم المال من أحد طرفي العقد، والعمل من الطرف الآخر. خطة البحث: يتضمن البحث قسمين:
القسم الأول ـ أحكام بورصة الأوراق المالية
الأول: أحكام بورصة الأوراق المالية. والثاني: أحكام بورصة العقود «الكونتراتات». القسم الأول ـ أحكام بورصة الأوراق المالية: الأوراق المالية: هي الأسهم والسندات. أما الأسهم: فهي حصص الشركاء في الشركات المساهمة، فيقسم رأس مال الشركة إلى أجزاء متساوية، يسمى كل منها سهماً، والسهم: جزء من رأس مال الشركة المساهمة، وهو يمثل حق المساهم مقدراً بالنقود، لتحديد مسؤوليته ونصيبه في ربح الشركة أو خسارتها. فإذا ارتفعت أرباح الشركة ارتفع بالتالي ثمن السهم إذا أراد صاحبه بيعه، وإذا خسرت انخفض بالتالي سعره إذا أراد صاحبه بيعه. ويجوز شرعاً وقانوناً بيع الأسهم، بسعر بات، أما إذا كان السعر مؤجلاً لوقت التصفية فلا يجوز البيع لجهالة الثمن، لأن العلم بالثمن شرط لصحة البيع عند جماهير العلماء. وأجاز الإمام أحمد وابن تيمية وابن القيم البيع بما ينقطع عليه السعر، قياساً على القول بمهر المثل في الزواج، وأجر المثل في الإجارة، وثمن المثل في البيع، وعملاً بالمتعارف، وبما يحقق مصالح الناس. أما بيع الأسهم على المكشوف، أي إذا كان البائع لا يملكها في أثناء التعاقد، فلا يجوز، للنهي الثابت شرعاً عن بيع ما لا يملك الإنسان. أما السندات: فهي أوراق مالية، ضماناً لدين على الدولة، أو على إحدى الشركات، ويقدر لها فائدة ثابتة أو ربح ثابت، كما يكون هناك خصم في إصدار السندات بمعنى أن يدفع المكتتب أقل من القيمة الاسمية على أن يسترد القيمة
القسم الثاني ـ أحكام بورصة العقود (الكونتراتات)
الاسمية كاملة عند الاستحقاق، علاوة على الفوائد السنوية، والخلاصة: أنها قرض بفائدة سنوية، لا تتبع الربح والخسارة. والرأي الراجح المتعين في حكم هذه السندات أنها حرام شرعاً، ولا يجوز التعامل بها بيعاً أو شراء، لأن كل قرض جر نفعاً فهو ربا، وهذا قرض جر نفعاً، فهو من الربا الواضح. والبديل لاستمرار الشركات التي تصدرها أن تتحول هذه السندات إلى أسهم، وأن تباع أو تشترى بعقد حالّ، بحيث يشارك حاملوها في الربح والخسارة، وهذا يناقض المبدأ الشرعي: «لا ضرر ولا ضرار» ويناقض قاعدة «الغنم بالغرم» وتكون المساهمة في الربح والخسارة عدلاً، والعدل واجب، وغيره ظلم، والظلم حرام شرعاً وعقلاً وعرفاً وقانوناً، ولأن التعامل بالسندات يعتمد على الفكر الربوي الرأسمالي وهو أن المال يولد المال، أما الفكر الإسلامي فهو أن العمل هو الذي يثمر المال. أما الذين أجازوا التعامل بالسندات من المعاصرين كالشيخ محمد عبده والأستاذ عبد الوهاب خلاف بالاعتماد على أن تحديد الفائدة أو الربح أصبح ضرورياً بعد فساد ذمم الكثير من الناس، فإنهم يصادمون صراحة النصوص التي تحرّم الفائدة الثابتة أو الربا، ويعتمدون على مصالح تصادم النص، فلا تعتبر كما أنه لا تتوافر ضوابط الضرورة الشرعية التي تسوغ الاستثناء. القسم الثاني ـ أحكام بورصة العقود (الكونتراتات) الكلام في هذا القسم يتناول حكم بيع الإنسان مالا يملك، وبيع الشيء قبل القبض، والعقد دون تحديد السعر، والعمليات الآجلة الشرطية البسيطة، والعمليات الآجلة الشرطية المركبة، والعمليات المضاعفة، وحكم بدل التأجيل
أولا: حكم بيع الإنسان مالا يملك (بيع المعدوم وبيع معجوز التسليم في الحال وبيع الغرر)
للتسليم والتسلم، وبيع الدين بالدين، وعمولات المصارف مقابل الخدمات أو الضمانات. أولاً: حكم بيع الإنسان مالا يملك (بيع المعدوم وبيع معجوز التسليم في الحال وبيع الغرر): اشترط جمهور العلماء لانعقاد العقد أن يكون محل العقد موجوداً وقت التعاقد، فلا يصح التعاقد على معدوم، كبيع الزرع قبل ظهوره لاحتمال عدم نباته، ولا على ماله خطر العدم، أي احتمال عدم الوجود كبيع الحمل في بطن أمه، لاحتمال ولادته ميتاً، وكبيع اللبن في الضرع، لاحتمال عدمه بكونه انتفاخاً، وكبيع اللؤلؤ في الصدف، ولا يصح التعاقد على مستحيل الوجود في المستقبل، كالتعاقد مع طبيب على علاج مريض توفي، فإن الميت لا يصلح محلاً للعلاج، وكالتعاقد مع عامل على حصاد زرع احترق، فكل هذه العقود باطلة. هذا الشرط مطلوب عند الحنفية والشافعية (¬1)، سواء أكان التصرف من عقود المعاوضات أم من عقود التبرعات، فالتصرف بالمعدوم باطل، سواء بالبيع أو الهبة أو الرهن، لنهي النبي صلّى الله عليه وسلم عن بيع حبل الحبلة (¬2) ونهيه عن بيع المضامين والملاقيح (¬3) وعن بيع ما ليس عند الإنسان فيما رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك». ¬
واستثنى هؤلاء الفقهاء من قاعدة المنع من التصرف بالمعدوم عقود السلم والإجارة والمساقاة والاستصناع، مع عدم وجود المحل المعقود عليه حين إنشاء العقد، استحساناً، مراعاة لحاجة الناس إليها، وتعارفهم عليها، وإذن الشرع في السلم والإجارة والمساقاة ونحوها. واكتفى المالكية باشتراط هذا الشرط في المعاوضات المالية، دون التبرعات كالهبة والوقف والرهن (¬1). ولم يشترط الحنابلة هذا الشرط، واكتفوا بمنع البيع المشتمل على الغرر الذي نهى عنه الشرع، كبيع الحمل في البطن دون الأم، وبيع اللبن في الضرع، والصوف على ظهر الغنم، وأجازوا فيما عدا ذلك بيع المعدوم عند العقد إذا كان محقق الوجود في المستقبل بحسب العادة، كبيع الدار على الهيكل أو الخريطة، لأنه لم يثبت النهي عن بيع المعدوم، لا في الكتاب ولا في السنة ولا في كلام الصحابة، وإنما ورد النهي عن بيع الغرر: وهو ما لا يقدر على تسليمه، سواء أكان موجوداً أم معدوماً، كبيع الفرس الهارب والجمل الشارد، فليست العلة في المنع، لا العدم ولا الوجود، فبيع المعدوم إذا كان مجهول الوجود في المستقبل باطل للغرر، لا للعدم. بل إن الشرع صحح بيع المعدوم في بعض المواضع، فإنه أجاز بيع الثمر بعد بدء صلاحه، والحب بعد اشتداده، والعقد في هذه الحالة ورد على الموجود والمعدوم الذي لم يخلق بعد. وأما حديث النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان المتقدم، فالسبب فيه هو الغرر، لعدم القدرة على التسليم، لا أنه معدوم (¬2). ¬
وعلى أي حال فقد اتفقت المذاهب الثمانية (¬1) وجميع الفقهاء، ومنهم ابن حزم وابن تيمية وابن القيم على أن بيع الإنسان ما لا يملك لا يجوز، إما لأنه معدوم أثناء العقد عند الأغلبية الساحقة، وإما لأنه غرر عند الحنابلة للأحاديث الثلاثة التالية: 1 - حديث حكيم بن حزام الذي أخرجه أصحاب السنن قال: «قلت: يا رسول الله، يأتيني الرجل، فيسألني البيع ليس عندي أبيعه منه، ثم أبتاعه له من السوق؟ فقال: لا تبع ما ليس عندك». 2 - حديث عبد الله بن عمرو المتقدم الذي أخرجه أحمد وأصحاب السنن الأربعة والدارمي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا يحل سلف وبيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك». 3 - حديث أبي هريرة الذي أخرجه مسلم وأحمد وأصحاب السنن: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، وعن بيع الحصاة». واتفقت المذاهب الأربعة على بطلان بيع معجوز التسليم، أي ما لا يقدر على تسليمه كالطير في الهواء، والسمك في الماء والجمل الشارد والفرس الهارب والمال المغصوب في يد الغاصب، وكبيع الدار أو الأرض تحت يد العدو، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم ـ كما تقدم ـ نهى عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر، وهذا غرر (¬2). واتفق الفقهاء على عدم صحة بيع الغرر، كبيع اللبن في الضرع، والصوف ¬
ثانيا: بيع الشيء المملوك قبل قبضه من آخر
على الظهر، واللؤلؤ في الصدف، والحمل في البطن، والسمك في الماء، والطير في الهواء قبل صيدهما، وبيع مال الغير على أن يشتريه فيسلمه قبل ملكه له، لأن البائع باع ما ليس بمملوك له في الحال، سواء أكان السمك في البحر أم في النهر، أي في حظيرة لا يؤخذ منها إلا باصطياد، وسواء أكان الغرر في المبيع أم في الثمن (¬1). ثانياً: بيع الشيء المملوك قبل قبضه من آخر: اتفق الفقهاء من حيث المبدأ على عدم جواز بيع الشيء قبل قبضه من مالك آخر، ولكنهم اختلفوا في مدى عموم الحكم وإطلاقه وتقييده، لاختلاف روايات الأحاديث المانعة منه، أو بسبب تأويل معنى الحديث، أو للعمل بظاهر الحديث فقط. منهم كالشافعية، ومحمد وزفر من الحنفية من منع التصرف في المبيع قبل قبضه مطلقاً. ومنهم من منع منه في المنقولات دون العقارات وهو مذهب الشيخين أبي حنيفة وأبي يوسف، ومنهم من جوزه في غير الطعام وهم المالكية، ومنهم من جوزه في غير المعدود والموزون والمكيل من الطعام (أي غير المقدرات) وهم الحنابلة، وقريب منهم الإمامية والزيدية، ومنهم من جوزه في غير القمح خاصة وهم الظاهرية. وأما الشافعية ومحمد بن الحسن وزفر فقالوا: لا يجوز بيع ما لم يستقر ملكه عليه مطلقاً قبل قبضه، عقاراً كان أو منقولاً، لعموم النهي عن بيع ما لم يقبض، في حديث أحمد وغيره المتقدم عن حكيم بن حزام: «لا يحل سلف وبيع، ولا ¬
العقار
ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عند ك» وهذا من باب ما لم يضمن، ومعناه: مالم يقبض، لأن السلعة قبل تلفها ليست في ضمان المشتري، لأنه ربما هلك، فانفسخ العقد، وفيه غرر من غير حاجة، فلم يجز، فالعلة في منع البيع هي الغرر (¬1). وأما المعتمد عند الحنفية وهو رأي الشيخين أبي حنيفة وأبي يوسف فهو التفصيل، وهو أنه لا يجوز التصرف في المبيع المنقول قبل القبض، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيع ما لم يقبض، والنهي يوجب فساد المنهي عنه، ولأنه بيع فيه غرر الانفساخ بهلاك المعقود، أي إنه يحتمل الهلاك، فلا يدري المشتري: هل يبقى المبيع أو يهلك قبل القبض، فيبطل البيع الأول، وينفسخ الثاني، وقد نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن بيع فيه غرر، كما تقدم. وأما العقار: كالأراضي والدور، فيجوز بيعه قبل القبض، استحساناً استدلالاً بعمومات البيع من غير تخصيص، ولا يجوز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد، ولا غرر في العقار، إذ لا يتوهم هلاك العقار، ولا يخاف تغيره غالباً بعد وقوع البيع وقبل القبض، أي إن تلف العقار غير محتمل، فلا يتقرر الغرر (¬2). والخلاصة: أن العلة في مذهب الحنفية في عدم جواز بيع الشيء قبل قبضه هي الغرر، كما قال الشافعية. وبما أن السلع التي تباع في البورصة (بيع الكنتراتات) هي منقولات لها مقدرات مثلية، وليست عقارات، فلا يجوز بيعها قبل قبضها عند الحنفية والشافعية. ¬
ويكون البيع فاسداً عند الحنفية باطلاً عند الشافعية، لأنه يتم فيه البيع قبل القبض وبثمن مختلف. أما المالكية: فإنهم قصروا المنع في بيع الشيء قبل قبضه على بيع الطعام (¬1) خاصة، إذا بيع بالكيل أو الوزن أو العد، أما غير الطعام أو الطعام المبيع جزافاً: فيجوز بيعه قبل قبضه، لغلبة تغير الطعام بخلاف ما سواه، ولمفهوم حديث ابن عمر الذي رواه أصحاب الكتب الستة ما عدا ابن ماجه أن رسول لله صلّى الله عليه وسلم قال: «من ابتاع طعاماً، فلا يبعه حتى يقبضه». والعلة في منع بيع الطعام قبل قبضه عندهم: هي أنه قد يتخذ ذريعة للتوصل إلى ربا النسيئة، فهو شبيه ببيع الطعام بالطعام نسيئة، فيحرم سد اً للذرائع (¬2). وأما الحنابلة: فقالوا: لا يجوز بيع الشيء قبل قبضه إذا كان كيلاً أو موزوناً أو معدوداً أي المقدرات، لسهولة قبض المكيل والموزون والمعدود عادة، فلا يتعذر عليه القبض، واستدلالاً بمفهوم حديث الطعام السابق، فإن تخصيصه الطعام بالنهي عن بيعه قبل قبضه، يدل على إباحة البيع فيما سواه، ولم يصح غيره من الأحاديث. واشتراط الكيل أو الوزن أو العد، لأن المكيل والموزون والمعدود لا يخرج من ضمان البائع إلى ضمان المشتري إلا بالكيل أو الوزن أو العدد، وقد نهى الرسول صلّى الله عليه وسلم عن بيع ما لم يضمن. فالعلة في منع البيع عندهم هي الغرر كما قال الحنفية (¬3). وأما غير المكيل والموزون والمعدود، أي غير المقدرات، فيصح عند الحنابلة بيعه قبل قبضه. ¬
وبناء عليه يصح عند المالكية للمشتري التصرف في المبيع قبل قبضه، سواء كان البيع أعياناً منقولة أو أعياناً ثابتة كالأرض والنخيل ونحوها إلا الطعام المكيل أو الموزون أو المعدود. ويصح عند الحنابلة بيع غير المكيل أو الموزون أوالمعدود. فما يجري داخل البورصة من بيع العقود قبل قبضها يصح في هذين المذهبين بالتخلية، أي بتسليم البائع المبيع وقبض المشتري برفع الحوائل وإزالة المانع. وأما الظاهرية: فأجازوا بيع الشيء قبل قبضه إلا القمح خاصة، سواء بيع كيلاً أو وزناً أوجزافاً، عملاً بظاهر النهي في الحديث، والطعام عندهم لا يكون إلا في القمح. ومعنى القبض: أن يطلق البائع يد المشتري في المبيع، بألا يحول بينه وبينه (¬1). وأما الإمامية: فقالوا: لا بأس ببيع ما لم يقبض، ويكره فيما يكال أو يوزن، وتتأكد الكراهية في الطعام، وقيل: يحرم (¬2). وأما الزيدية: فأجازوا بيع الشيء قبل القبض إن كان مما لا يكال ولا يوزن، ومنعوا في الأظهر البيع بالربح فيما يكال أو يوزن قبل القبض (¬3). والظاهر رجحان رأي الشافعية، لعموم النهي عن بيع الشيء قبل قبضه في حديث حكيم بن حزام، دون قصره على الطعام، ويكون حديث النهي عن الطعام في حالة من حالات النهي لا تمنع غيرها، وهو احتجاج بالمفهوم المخالف من الحديث، والمنطوق في حديث حكيم بن حزام مقدم عليه، ويؤيده حديث زيد بن ثابت الذي أخرجه أبو داود بسند صحيح: أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث ¬
ثالثا ـ البيع دون تحديد السعر (أو البيع بما ينقطع عليه السعر)
تبتاع، حتى يحوزها التجار إلى رحالهم، ثم إن الملكية في الشيء قبل القبض ضعيفة، وفيها غرر أي احتمال الحصول وعدم الحصول، ويترجح عدم الحصول في حال احتكار المنتجين للسلع وإيقاع البائعين على المكشوف في حرج. ثالثاً ـ البيع دون تحديد السعر (أو البيع بما ينقطع عليه السعر): اتفقت المذاهب الثمانية على اشتراط معرفة الثمن في عقد البيع حال العقد أو قبله، فلا يجوز البيع بثمن مجهول، ولا بد من بيان جنس الثمن وقدره وصفته (¬1). وعليه فلا يصح عندهم البيع بما ينقطع عليه السعر أو بسعر السوق في يوم معين أو في فترة محددة. لكن روي عن الإمام أحمد جواز البيع بما ينقطع عليه السعر في المستقبل بتاريخ معين من غير تقدير الثمن أو تحديده وقت العقد، لتعارف الناس، ولتعاملهم به في كل زمان ومكان. وقد رجح ابن تيمية وابن القيم هذا الرأي، وأرادوا به سعر السوق وقت البيع، لا أي سعر في المستقبل (¬2). وبه يتبين أن جميع المذاهب لا تجيز البيع الحالي في البورصة حيث تباع السلع الحاضرة بثمن السوق في يوم محدد أو في خلال فترة محددة هي فترة التصفية، حتى عند ابن تيمية وابن القيم ورواية عن أحمد الذين يجيزون البيع بما ينقطع عليه السعر، فإنهم أرادوا كما تقدم سعر السوق وقت البيع، لا أي سعر في المستقبل، كمن يشتري شيئاً من خباز أو لحام أو سمّان أو غيرهم، بسعر يومه، ثم يحاسبه في نهاية الشهر ويعطيه ثمنه، وهذا ما يسمى ببيع الاستجرار. ¬
رابعا: العمليات الآجلة الشرطية البسيطة
وقد تورط بعض الأساتذة المعاصرين برأي بعض الحنابلة، فأجازوا البيع بسعر السوق يوم كذا، أو بسعر الإقفال في بورصة كذا، لرضا المتعاقدين بذلك، ولأن جهالة الثمن حينئذ لا تؤدي إلى المنازعة، واحتجاجاً بقول ابن تيمية بأنه عمل الناس في كل عصر ومصر، وقوله: هو أطيب لقلب المشتري من المساومة، يقول: لي أسوة بالناس. وكل ذلك في رأيي محل نظر وتأمل، فإن ما أراده ابن تيمية غير ما يحدث في بورصة العقود الحالية، كما أن بيع الاستجرار ونحوه روعي فيه حاجة بعض الناس، وأين مثل هذه الحاجة في البورصة؟! رابعاً: العمليات الآجلة الشرطية البسيطة: وهي كما عرفنا أن يكون من حق المضارب فسخ العقد في ميعاد التصفية أو قبله إذا أحس بانقلاب الأسعار في غير صالحه، على أن يدفع أولاً تعويضاً للطرف الآخر، ولا يرد إليه، ويسمى هذا بالشرط البسيط. ويمكن معرفة حكم هذه العمليات في ضوء ما يعرف في فقهنا بشرط الخيار، وقد أجاز جميع الفقهاء ما عدا الظاهرية خيار الشرط (¬1)، ولكنهم اختلفوا في مدة الخيار المشروع: فقال أبو حنيفة وزفر والشافعي: يجوز شرط الخيار في مدة معلومة لا تزيد على ثلاثة أيام، عملاً بحديث حبان بن منقذ الذي أخرجه البخاري ومسلم ¬
وأبو داود والنسائي وغيرهم عن ابن عمر، فقد شكا أنه يغبن في البياعات إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: «إذا بايعت فقل؛ لا خلابة (¬1)، ولي الخيار ثلاثة أيام». وأجاز أبو يوسف ومحمد والحنابلة والإمامية والزيدية اشتراط مدة الخيار حسبما يتفق عليه البائع والمشتري من المدة المعلومة، قلت مدته أو كثرت، لأن الخيار يعتمد الشرط، فيرجع في تقديره إلى مشترطه كالأجل. وأجاز المالكية الخيار بقدر ما تدعو إليه الحاجة. ويختلف ذلك باختلاف الأحوال، فخيار الشرط في الفاكهة يوم، وفي الثياب والدابة ثلاثة أيام، وفي الأرض أكثر من ثلاثة أيام، وفي الدار ونحوها مدة شهر. وبناء على هذا الرأي للمالكية والحنابلة ومن وافقهم، تجوز العمليات الآجلة الشرطية البسيطة إذا كانت مدة استعمال حق الخيار معلومة على النحو المذكور، ومدة الخيار في هذه العمليات معلومة وهي الفترة ما بين وقت العقد إلى وقت أقرب تصفية. ويجوز دفع المال بشرط متفق عليه أو التبرع به لاستعمال حق الخيار، لأن المسلمين على شروطهم، ولأن دفع المال يؤيد ما شرعه الشرع من حق الخيار. لكن لا يجوز الاتفاق على إسقاط حق الخيار بعوض، فقد نص فقهاؤنا على أنه لو صالح شخص بعوض عن خيار في بيع أو إجارة، لم يصح الصلح، لأن الخيار لم يشرع لاستفادة مال، وإنما شرع للنظر في الأحظ، فلم يصح الاعتياض عنه (¬2). ¬
خامسا: العمليات الشرطية المركبة
خامساً: العمليات الشرطية المركبة: وهي العمليات التي يكون للبائع الحق فيها في أن يتحول إلى مشتر وأن يفسخ العقد، أو أن يظل بائعاً حسبما يتراءى له من تقلبات الأسعار عند التصفية أو قبلها، مقابل تعويض أكبر مما يدفع في العمليات البسيطة يدفعه لصاحبه. وهي جائزة كالعمليات الشرطية البسيطة (¬1)، عملاً بما يراه الجهور من اشتراط مدة في خيار الشرط بحسب الحاجة أو الأحوال. سادساً ـ العمليات المضاعفة: وهي التي يكون فيها الحق لأحد العاقدين: البائع أو المشتري في مضاعفة الكمية التي باعها أو اشتراها، بسعر يوم التعاقد، مقابل تعويض يدفعه الراغب في المضاعفة عند اتضاح الأسعار، ولا يرد إليه، وتختلف قيمة التعويض بحسب كمية الزيادة وموضوع التخزين. وهذا أيضاً جائز إذا كانت الكمية المضاعفة معلومة (¬2)، لأنه لا يجوز تعديل العقد بشرط إضافي، ويعتبر التعويض مضافاً إلى أصل الثمن، والمسلمون عند شروطهم. سابعاً ـ حكم بدل التأجيل: إذا تم تسليم المبيع والثمن في وقت التسليم، فلا إشكال وتنتهي الصفقة، أما إذا اتفق العاقدان على تأجيل التسليم والتسلم لوقت لاحق هو وقت التصفية القادمة مقابل تعويض يدفعه إلى الآخر الذي يقبل نقل الصفقة إليه، وهو شخص ¬
ثامنا ـ بيع الدين بالدين
آخر غير العاقدين، فهذا ربا واضح، لأنه يبيع ديناً حالاً بثمن مؤجل مع زيادة، كربا الجاهلية: إما أن تدفع أو تربي، لأن مشتري الصفقة الذي يحل محل المشتري، إنما يأخذ فائدة المبلغ الذي سيدفعه إليه العاقد الأصلي، وهذا ربا محقق، لأن دافع التعويض يدفعه مضطراً لنقل تصفية صفقته إلى وقت مؤجل، يأمل فيه تغير الأسعار لمصلحته، ولم يدفعه متبرعاً كالعمليات الثلاث السابقة، كما أن الآخذ لم يأخذ التعويض مقابل حق تنازل عنه كما هو الحال في العمليات المتقدمة. ثامناً ـ بيع الدين بالدين: الدين هو الشيء الثابت في الذمة، كثمن مبيع، وبدل قرض، وأجرة مقابل منفعة، وغرامة متلف، ومسلم فيه في عقد السلم (بيع آجل بعاجل). وبيع الدين: إما أن يكون لمن في ذمته الدين، أو لغير من عليه الدين، وفي كل من الحالين إما أن يباع الدين في الحال، أو نسيئة مؤجلاً. وبيع الدين نسيئة: هو ما يعرف ببيع الكالئ بالكالئ، أي بيع الدين بالدين، وهو بيع ممنوع شرعاً، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم فيما يرويه الدارقطني عن ابن عمر، والطبراني عن رافع بن خديج نهى عن بيع الكالئ بالكالئ (¬1). ومع أن الحديث ضعيف لكن أجمع الناس على أنه لا يجوز بيع دين بدين، سواء أكان البيع للمدين، أم لغير المدين. مثال الأول ـ وهو بيع الدين للمدين: أن يقول شخص لآخر: اشتريت منك هذه السلعة بدينار على أن يتم تسليم العوضين بعد شهر مثلاً، أو أن يشتري شخص شيئاً إلى أجل، فإذا حل الأجل، لم يجد البائع ما يقضي به دينه، فيقول ¬
تاسعا ـ عمولات المصارف (البنوك) مقابل الخدمات أو الضمانات
للمشتري: بعني هذا الشيء إلى أجل آخر بزيادة شيء، فيبيعه، ولا يجري بينهما تقابض، فيكون هذا ربا حراماً تطبيقاً لقاعدة: «زدني في الأجل، وأزيدك في القدر» كما تقدم في النوع السابق: سابعاً. ومثال بيع الدين لغير الدين: أن يقول رجل لغيره: بعتك السلعة التي لي عند فلان بكذا تدفعها لي بعد شهر. وهذا أيضاً حرام. وإذا كانت أغلب عمليات البورصة تتم في صورة بيع الدين بالدين دون تسليم ولا تسلم كما هو ملاحظ، فلا تجوز هذه العمليات، ولا بد من تعجيل تنفيذ الصفقة دون تأخير. أما بيع الدين نقداً في الحال: فمختلف فيه، فقد أجاز جمهور الفقهاء غيرالظاهرية بيع الدين لمن عليه الدين أو هبته له، ولم يجز الجمهور غير المالكية بيع الدين لغير المدين، وأجازه المالكية بشروط ثمانية تبعده عن الغرر والربا وأي محظور آخر كبيع الطعام قبل قبضه (¬1). ولا داعي لتفصيل الكلام في هذا النوع من البيع في الحال، لأنه غير موجود في البورصة، لاعتماد أغلب العمليات فيها على التأجيل. تاسعاً ـ عمولات المصارف (البنوك) مقابل الخدمات أو الضمانات: إن ما يأخذه المصرف (البنك) مقابل خدمات الحراسة، واستئجار الأرض، واستعمال المخازن (التخزين) وأجرة إعداد الفواتير وكتابة الحسابات، جائز مشروع لا شبهة فيه، لأنه مقابل منفعة، وإجارة المنافع والأعمال جائزة شرعاً. ¬
أما ما يأخذه المصرف من الفوائد على المال المودع زيادة على الخدمات، أو مقابل القروض أو الضمانات غير المغطاة فعلاً، فهو غير مشروع، إلا إذا دخل البنك مع المضارب في شركة صحيحة، أو مضاربة شرعية، في الحالات التي لا يجوز فيها البيع أو الشراء داخل البورصة وهي حالات البيع الحال أو الشراء الحال. أما المؤجل فقد بينت عدم جوازه للغرر والتصرف فيما لا يملك، وبيع الشيء قبل القبض (¬1). والخلاصة: إن حكم عمليات العقود داخل السوق المالية أو البورصة ما يلي: 1 - إذا كانت البضاعة حاضرة (أي وجود عيِّنة) والسعر بات، فهذا حلال. 2 - إذا كانت البضاعة حاضرة، والسعر مؤجل ليوم التصفية، فهذا غير جائز عند جماهير العلماء، وأجازه بعض المعاصرين عملاً برأي الإمام أحمد وابن تيمية وابن القيم في البيع بما ينقطع عليه السعر. 3 - العقود المؤجلة: وهي الحاصلة في بعض عمليات البورصة، فهذه غير جائزة، لأنها بيع الإنسان ما ليس عنده، وهو غير جائز بسبب وجود الغرر فيه، ولأنها بيع للشيء قبل قبضه، وهو الرأي الذي رجحته من مذهب الشافعية ومن وافقهم، وهي بيع دين بدين. والبديل الشرعي عن العقود المؤجلة هو عقد السلم الجائز شرعاً، وهو بيع آجل بعاجل، أو بيع شيء موصوف في الذمة ببدل عاجل يجب قبضه عند الجمهور في مجلس العقد، ويجوز تأخيره مدة قليلة كيوم أو ثلاثة أيام عند المالكية، ويصح عقد السلم بلفظ البيع، ولا يشترط كون المعقود عليه موجوداً عند التعاقد، ولا أن ¬
المبحث السابع - عائد الاستثمار
يكون في ملك البائع المسلم إليه، وإنما يكفي وجوده عند التسليم، وإنما يشترط فيه ألا يكون العقد مشتملاً على ربا النسيئة، أي ألا يكون مطعوماً أو نقداً في مقابل مطعوم أو نقد، ويصح أن يكون مطعوماً مؤجلاً في مقابل نقود. المبحث السابع - عائد الاستثمار: تمهيد: التنمية أو المزيد من استثمار الأموال من قواعد الإسلام وثوابته الاقتصادية، لأن في ذلك إنعاش الاقتصاد، والإسهام في تنشيط الحركة التجارية، وتحقيق الرخاء أو الرفاه الذي يستفيد منه أكبر مجموعة من الناس. لذا رغب الإسلام في التجارة وحث عليها لكسب المعاش، وبارك الله فيها لتحصيل الربح، وتنمية الإنتاج، وجعل الإسلام العمل هو أساس الاسترباح، والعقود المشروعة هي أعمال تتطلب خبرة وجهداً، فقال الله تعالى: {وأحل الله البيع وحرم الربا} [البقرة:275/ 2]، فالبيع التجاري طريق للكسب المشروع، فهو حلال، والربا أو الفائدة حرام، لأن النقود لا تولد النقود، فالكسب الحاصل بالمراباة حرام؛ لأنه من غير جهد ولا عمل، وإنما هو ظلم واستغلال، ومن أهم عوامل التضخم النقدي، وانتشار الاحتكارات، ووجود التفاوت الصارخ بين فئة الأغنياء المترفين، والفقراء المستضعفين والمعدِمين. بل إن الإسلام حرم كل المكاسب الخبيثة كالغصب والرشوة والسرقة والنهب والغش، قال الله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم} [النساء:29/ 4]. وجاءت آيات قرآنية أخرى تؤيد كسب العمل والتجارة والاحتراف، مثل قوله تعالى: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} [الجمعة:10/ 62] وقوله سبحانه: {هو الذي
خطة البحث
جعل لكم الأرض ذَلولاً، فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه، وإليه النشور} [الملك:15/ 67]. وقوله عز وجل على سبيل تزكية التجارة المباحة المبارك فيها: {يرجون تجارةً لن تبور} [فاطر:29/ 35]. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم حينما سئل عن أي الكسب أطيب: «عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور» (¬1) أي لا غش فيه ولا خيانة، وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً: «تسعة أعشار الرزق في التجارة» (¬2). وفي الحياة الاقتصادية الحديثة وجدت استثمارات مشروعة تختلف عن الأحوال الضيقة ذات الصبغة المنفردة (المضاربة الخاصة) بين عاقدين فأكثر، متمثلة في (المضاربة المشتركة) حيث يتعدد أرباب المال وهم جماعة المستثمرين، الذين يقدمون المال بصورة انفرادية ليعمل به مضاربة، ويتلقاه جماعة المضاربين في صورة مصرف (بنك) شركة أو جماعة، وهم الذين يأخذون المال منفردين أيضاً، ويقومون بتشغيله لدى شخص أو جهة للعمل فيه بالمضاربات المعقودة مع كل منهم على انفراد. وأصبح هذا اللون من الاستثمار أكثر رغبة واجتذاباً لرؤوس الأموال المكدسة لتوافر قدر أكبر من الثقة والائتمان. خطة البحث: - ماهو المراد من العائد، وما الفرق بينه وبين الربح؟ - ماهي أنواع العوائد وما حكم كل منها؟ ¬
- ماهي الطريقة السائغة شرعاً لتحديد العائد على الاستثمار؟ - في الحالات التي يتغير فيها المستثمرون (المودعون) هل يجوز توزيع نسبة مئوية بصفة دورية محسوبة على اعتبار ماسيقع من الأرباح أو العائد؟ -وإذا وافق جميع المستثمرين على هذه الطريقة السابقة، فهل تكون جائزة؟ - وفي الحالات التي لايمكن فيها الرجوع على عميل قبض حصته، ثم يظهر أن الربح لم يتحقق في نهاية المدة، كيف تكون المحاسبة؟ ومن يتحمل الفرق، الشركة أم المستثمر، أم غير ذلك؟ - إذا أنشأ البنك حافظة استثمارية (صندوق) مقسمة إلى حصص يقوم بإدارتها نيابة عن المستثمرين، فهل يجوز له اقتطاع أجر لنفسه محسوب كنسبة من الربح؟ وهل يجوز أن يكون مبلغاً محدداً مقطوعاً؟ وهل يجب على البنك أن يوضح هذا؟ - ماهي التكاليف التي يجوز تحميلها للشركة في عقد المضاربة؟ -إذا كان العامل في المضاربة شركة (شخصية معنوية مستقلة) فهل تعتبر جميع رواتب الموظفين والإدارة من ضمن التكاليف؟ - هل يجوز تنازل المستثمرين عن كل حق في التدخل في الإدارة؟ - هل يجوز حساب العائد يومياً؟ وأبدأ ببحث هذه العناصر:
ما المراد من العائد، وما الفرق بينه وبين الربح
- ما المراد من العائد، وما الفرق بينه وبين الربح؟: عائد الاستثمار: هو ربح الاستثمار المشروع الذي يوزع من باقي الربح على الأعضاء المستثمرين - بعد احتجاز الاحتياطي ومايخصص للخدمات العامة - بنسبة المعاملات التي أبرمها كل منهم مع المصرف (البنك) أو الجمعية التعاونية (¬1). إن القدر المخصص لفئة من المستثمرين يوزع بينهم بنسبة تعاملهم مع البنك الإسلامي، وهذا التعامل امتزاج بين المال المودع بالبنك لاستثماره، وبين الزمن، أي المدة التي ظل فيها المال مستثمراً بالبنك. ويكون التوزيع العادل لحصة المستثمرين فيما بينهم على أساس حواصيل ضرب المبالغ المستثمرة في المدد التي بقيت في الاستثمار، وهذه الحواصل هي المتعارف عليها في أعمال البنوك باسم (النِّمر) أو الأعداد. وعائد الاستثمار يحدث بسبب الاستثمار التعاقدي للنقود وهو المضاربة (أو القراض) وغيرها كالمرابحة للآمر بالشراء. والمقصود المضاربة المشتركة كنظام جماعي للاستثمار. أما الربح: فهو كما قال ابن قدامة: الفاضل عن رأس المال، ومالم يفضل فليس بربح، ولانعلم في هذا خلافاً (¬2). وكما قال الزيلعي: الربح تابع لرأس المال، فلا يسلم الربح بدون سلامة الأصل (¬3). ¬
والربح يعتبر بعد الأجر (¬1) النوع الثاني من الدخول (جمع دخل) التي يقرها الاقتصاد الإسلامي، ويستحق شرعاً لكل من قام بإنفاق عمل في سبيل إنتاج سلعة أو الاتجار بها، سواء كان إنفاق العمل في السابق أو في الحال. والربح عائد للتنظيم، أي أن رب العمل المنظم الذي يقوم على المشروع يستحق الناتج أو الربح المتأتي من العملية الإنتاجية كعوص عن إسهامه في هذه العملية. وقد يشترك معه آخرون من مديرين وموظفين وعمال. أما رأس المال التجاري فلا يتقاضى أجراً مقابل إسهامه في العملية الإنتاجية، إنما يتقاضى نصيباً في الأرباح مقابل إسهامه في أعباء العملية الإنتاجية، وإذا دفعه صاحب رأس المال إلى غيره ليتجر به، تحمل وحده الخسارة، وإذا حدث ربح يقتسم بين صاحب رأس المال التجاري وبين العامل المنظِّم بالنِّسَب المتفق عليها (¬2). ودور المنظِّم في التوصل للربح إما أن يكون في مال الإنسان الخاص، فيكون صافي الناتج من المشروع الذي نهض به (عمل + تنظيم) وإما أن يكون في مال الغير من طريق الشركة، ومنها المضاربة (¬3). إن الحصول على الربح يكون إذن إما بالأجر أو من طريق المغامرة بالدخول في عمل غير مضمون العائد، بدلاً من العمل بأسلوب الأجر التعاقدي. وإذا فعل ذلك وحصل على رأس مال نقدي أو عيني من شخص آخر، أو من مؤسسة من المؤسسات، على أساس اقتسام الربح، فإنه في هذه الحالة يسمى (منظِّماً) أو مستحدثاً. ويمكن اشتراك العمال في شراكة في عمل واحد كالخياطة أو الغسيل أو ¬
غير ذلك، ثم يقتسمان صافي الربح بطريقة يتفقان عليها، كما يمكن للمتخصصين من محامين ومهندسين وأطباء وغيرهم التجمع في مؤسسة تقدم الخدمات الاستشارية ليقتسموا أيضاً الأرباح على وفق نسب متفق عليها. ويختلف هذا النوع من الدخول عن الأجور؛ لأن الحصول عليه لايتم عن طريق التعاقد الثابت، فهو أقرب في طبيعته إلى الربح، لاشتماله على احتمال الخسارة (¬1). ويشترك عائد الاستثمار والربح في أغلب الخصائص والضوابط، فإن كلاً منهما غير مضمون، بعكس الفائدة الربوية فإنها مضمونة، وقد يصبح عائد الاستثمار مضموناً كله لرب المال في حال دفع العامل المضارب رأس المال كله أو بعضه إلى مضارب ثان، والعمل به عند الحنفية، أو في حال خلط مال المضاربة بمال المضارب نفسه أو بمال قراض (مضاربة) عنده؛ لأن المضاربة تكون حينئذ فاسدة. وفي حال فساد المضاربة يكون الربح كله لرب المال، وللعامل أجر المثل عند الجمهور (الحنفية والشافعية والحنابلة) (¬2). ويزول فساد المضاربة المشتركة بإذن المودعين المستثمرين في خلط أموالهم مع غيرها، كما هو حاصل الآن في هذه المعاملة. ويرد العامل عند المالكية (¬3) في جميع أحكام المضاربة الفاسدة إلى قراض مثله في الربح والخسارة في أحوال معدودة (¬4)، وله أجر مثل عمله في غيرها من ¬
الحالات. فإذا حدث ربح في الأحوال المعدودة يثبت حق المضارب في الربح نفسه، لا في ذمة رب المال، حتى إذا هلك المال، لم يكن للمضارب شيء، وإذا لم يكن ربح فلا شيء له. والفرق عند المالكية بين قراض المثل وأجره المثل: أن الأجرة تتعلق بذمة رب المال، سواء كان في المال ربح أو لم يكن، وقراض المثل: هو على سنة القراض، إن كان فيه ربح كان للعامل منه، وإلا فلا شيء له (¬1). ويشترط في عائد الاستثمار والربح كون كل منهما معلوم القدر، وجزءاً شائعاً من الجملة، والربح حينئذ بالمقاسمة بحسب الاتفاق، فإذا كان هناك جهالة في المقدار، فسد العقد، وإذا شُرط ربح أو عائد مقطوع لأحد العاقدين، مثل كل شهر كذا درهماً فسد العقد أيضاً، وإذا لم يكن ربح، فصاحب المال عطّل ماله، والعامل خسر جهده (¬2). والفرق بين الربح وعائد الاستثمار يظهر في حال قسمة الربح، والأمر يختلف بين المضاربة الخاصة، والمضاربة المشتركة، ففي حال المضاربة الخاصة: لايكون الربح إلا بعد تنضيض رأس المال (أي تحويله من أعيان إلى نقود) وذلك ¬
لايتم إلا بعد التصفية الكاملة للعملية، ووجود الربح الفعلي، والغاية من ذلك: هي أن يعود رأس المال نقوداً كما كان، حتى يتمكن رب المال من استرداد رأس ماله أولاً، ثم تجري قسمة الربح المتبقي بعد ذلك الاسترداد؛ لأن الأصل في الربح أنه وقاية لرأس المال، فلا ربح إلا بعد سلامة رأس المال لصاحبه. أما عائد الاستثمار فيكون بسبب الاستثمار الجماعي المشترك أو المضاربة المشتركة، وهذا الاستثمار يقوم على فكرة استمرار الاستثمار من ناحية، وإجراء توزيع للأرباح في فترات دورية من الناحية الأخرى، حيث يتعذر إجراء التصفية الكلية في نهاية كل فترة يوزع فيها الربح على المستثمرين. ويكون المضارب المشترك بمثابة الأجير المشترك، والمضاربة المشتركة مستمرة بطبيعتها لاتتوقف أو تصفى إلا إذا صفّي العمل بكامله. ولامجال للقول بالربح المقدر أو المفترض لمعرفة عائد الاستثمار، مع استمرار المضاربة المشتركة؛ لأن الربح لايستقر إلا بالقسمة، والقسمة لاتصح إلا بعودة رأس المال نقوداً كما كان، لكي يقبضه المضارب المشترك الذي هو ممثل المالك بالنسبة للمضاربين. واستمرار المضاربة إلى أجل غير محدد يلجئنا إلى أن نجري القسمة سنوياً كما تفعل الشركات المساهمة، بقصد تحقيق نوع من الانتظام، وإيجاد طريقة لتأدية عائد دوري للمستثمرين في مواعيد محددة. ففي نهاية كل عام تحصى الأرباح المتحققة حتى يجري تقسيمها بنسبة الأموال المخصصة للاستثمار، سواء أكانت أموالاً للمستثمرين وحدهم، أم كانت مشتركة بينهم وبين المضارب المشترك الذي هو المصرف اللاربوي أو أية مؤسسة مالية عاملة في مجال الاستثمار بهذا الأسلوب الجديد (¬1). ¬
وحساب عائد الاستثمار على هذا النحو يجعله مختلفاً عن حساب الربح الفعلي في المضاربة الخاصة. والخلاصة: إن عائد الاستثمار نوع خاص من الربح، له طريقة حسابية معينة تختلف عن الطريقة العادية في حساب الربح من المضاربة الخاصة القائمة بين رب المال والعامل المضارب، تعتمد على استثمار النقود على أساس تعاقدي بين من يملك مالاً، وبين من يعمل في ذلك المال. وإنما تعتمد على المضاربة المشتركة كنظام جماعي للاستثمار وهي تختلف عن المضاربة الخاصة في أشخاصها، باعتبار أن المضاربة الخاصة - وإن تعدد الأشخاص المتعاملون فيها - مقصورة على علاقة ثنائية بين مالك المال والعامل فيه، أما المضاربة المشتركة فإنها تضم ثلاث علاقات مترابطة، تمثل مالكي المال، والعاملين فيه وهم جماعة المضاربين، والجهة الوسيطة بين الفريقين لتحقيق التوافق والانتظام في توارد الأموال، وإعطائها للراغبين من الفريق الثاني للعمل فيها بالمضاربات المعقودة مع كل منهم على انفراد. كما تنفرد المضاربة المشتركة - كنظام جماعي - بعدد من المزايا يتعذر تحقيقها في نطاق المضاربة الخاصة ومايذكر فيها من قيود، مجملها مباراة النظام المصرفي الحديث في تجميع المدخرات واستثمارها، حيث لا حاجة للبحث في السوق عن شخص أمين مستقيم خبير بالتجارة الرابحة، ويستطيع المستثمر استرداد نقوده المستثمرة قبل إجراء التصفية والمحاسبة، ويجد المضاربون لدى المضارب المشترك - كما يجد المقترضون عند المصرف الحديث - استعداداً لتلبية طلباتهم من غير تعرض لحساسيات وانفعالات شخصية يتعرضون لها في حال المضاربة الخاصة مع المستثمرين المنفردين (¬1). ¬
ماهي أنواع العوائد وما حكم كل منها؟
- ماهي أنواع العوائد وما حكم كل منها؟ إن أنواع عوائد الاستثمار في البنوك الإسلامية (¬1) كثيرة ومتنوعة، فالبنك الإسلامي يقوم بالعمل في الاتجاهات أو المجالات الثلاثة الآتية (¬2): 1 - في مجال الاستثمار والمشا ركات، ويشمل الاستثمار المباشر وغير المباشر في مجال الزراعة والصناعة والتجارة والخدمات، ويشمل أيضاً العمليات التجارية ذات الآجال القصيرة وهي شراء السلع وغيرها من الأموال المنقولة، وعمليات الاستيراد والتصدير لكافة السلع، وتخزين السلع والمحاصيل والمنقولات، وتخليص بوالص الشحن والمستندات الأخرى. وكذلك يشمل المشاركات في الاستثمار لآجال طويلة المدى، والمشاركات في العمليات التجارية لآجال قصيرة نسبياً. وهذه كلها مشروعة. 2 - في مجال الأعمال والخدمات المصرفية الأخرى التي لا تعارض الطبيعة الإسلامية، وهي قبول الودائع: ودائع تحت الطلب (الحسابات الجارية) وودائع التوفير، وودائع مع التفويض في الاستثمار، وتحصيل الشيكات لحساب العملاء بالعملات المحلية والأجنبية، وتحويل الأموال، وإصدار خطابات ضمان أو فتح اعتمادات مستندية، وخطابات الضمان تشمل الابتدائية، والنهائية لضمان تنفيذ عمليات مشاركة أو عن دفعات مقدمة. وتحصيل كمبيالات خاصة بعملاء لاتتضمن فوائد، ومقابل أتعاب معينة للبنك، وشراء وبيع أوراق مالية باسم العملاء، لاتتضمن سندات أو فوائد بشكل عام، وحفظ الأوراق المالية وتحصيل ¬
مستحقاتها والحقوق المترتبة عليها، وحفظ جميع المعادن الثمينة والمستندات وإيجار الخزائن الخاصة، والقيام بأعمال أمناء الاستثمار والوكلاء، وإصدار الأسهم لحساب المؤسسات والشركات ومعاونتها في عمليات الاكتتاب عند تأسيسها أو زيادة رؤوس أموالها. وهذه كلها أعمال مشروعة في الإسلام إذا التزمت الشروط والأحكام الإسلامية. 3 - في مجال التكافل الاجتماعي: بإيتاء الزكاة، وصناديق التأمين ضد المخاطر، والقروض الاجتماعية: قروض المرضى، وقروض المسنّين وصغار الحرفيين والطلبة. وهذا المجال لايحقق عوائد استثمار فيما عدا استثمار أموال التأمين التعاوني المشروع في الإسلام. ويلاحظ أن أهم حالات الاستثمار والمشاركة: هي المضاربة على النحو المذكور سابقاً، والمضاربة مشروعة في الإسلام بالإجماع، وكذلك بيع المرابحة للآمر بالشراء، وهو مشروع كما ذكر الإمام الشافعي في كتابه الأم (¬1) حيث قال: « ... وإذا أرى الرجلُ الرجلَ السلعة، فقال: اشتر هذه وأربحك فيها كذا، فاشتراها الرجل، فالشراء جائز، والذي قال: أربحك فيها بالخيار، إن شاء أحدث فيها بيعاً، وإن شاء تركه .. » وهذه المعاملة ليست من قبيل بيع الإنسان ماليس عنده؛ لأن المصرف لايعرض أن يبيع شيئاً ولكنه يتلقى أمراً بالشراء، وهو لايبيع حتى يملك ماهو مطلوب ويعرضه على المشتري الآمر، ليرى ما إذا كان مطابقاً لما وصف. كما أن هذه العملية لاتنطوي على ربح مالم يَضْمن؛ لأن المصرف قد اشترى، فأصبح مالكاً، يتحمل تبعة الهلاك، فلو عطبت الأجهزة المشتراة أو تكسرت قبل تسليمها لطالبها الذي أمر بشرائها، فإنها تهلك على حساب المصرف، وليس على حساب الآمر (¬2). ¬
- ماهي الطريقة السائغة شرعا لتحديد العائد على الاستثمار
- ماهي الطريقة السائغة شرعاً لتحديد العائد على الاستثمار: يتحدد عائد الاستثمار في المصارف الإسلامية على النحو الذي يجري في الشركات المساهمة، في خلال فترة زمنية معينة، وهي سنة مالية، نظراً لاستمرار المضاربة المشتركة. وعلى ذلك فإن الربح المعلن في نهاية كل سنة مالية، لايتقرر إلا للمبلغ الذي يبقى من أول السنة إلى نهايتها. فإذا استرد المستثمر في المضاربة المشتركة كامل مبلغه أو جزءاً منه قبل انتهاء السنة، حيث لايكون هناك إعلان للربح، فإن هذا المبلغ المسترد لايكون له نصيب من الربح الذي يجري حسابه وإعلانه للتوزيع في نهاية تلك السنة (¬1). ولهذا نظير مماثل في المضاربة الخاصة المقرر أحكامها لدى فقهائنا، ذكر الرملي في نهاية المحتاج: أنه إذا استرد المالك بعض مال القراض قبل ظهور ربح أو خسارة، فإن المال المضارب به يرجع إلى الباقي، لأن مالك المال لم يترك في يد المضارب غيره، فصار كما لو اقتصر في الابتداء على إعطائه (¬2). ويعرف العائد بضرب المبلغ المستثمر في المدة التي بقي فيها في الاستثمار، والحاصل هو المعروف في أعمال البنوك الربوية بنظام الأعداد أو النِّمر (¬3): وهو ضرب الرصيد اليومي في عدد الأيام التي مكثها هذا الرصيد. والعدد الناتج هو مقدار الفائدة لمدة يوم واحد. علماً بأن الربح يكون بالمال، أو بالعمل حسب الاتفاق، أو بضمان العمل كما في شركة الأعمال، وتضمين الغاصب؛ لأن الغنم ¬
مقابل الغرم أو الخراج بالضمان، أي مستحق بسببه (¬1). فإذا صار الشريك ضامناً بسبب ما، كان جميع الربح له لضمانه إياه، لأنه خراج المال. وبما أن الاستثمار اللاربوي استثمار إنتاجي يعتمد على الربح الفعلي الذي لايتحقق بالسرعة التي يبدأ فيها الاستثمار المصرفي حركة الحساب في ميدان الفوائد، فإن الطريقة الحسابية المصرفية في البنوك الإسلامية تكون المدة فيها على أساس الشهور بدل الأيام. فمن يدفع ألف دينار للاستثمار السنوي لايتساوى مع من يدفع نفس الألف في منتصف العام، أي الاستثمار لمدة ستة أشهر فقط، ويكون عائد الاستثمار السنوي أكثر بنسبة 9% مثلاً، وعائد الاستثمار النصف سنوي 7%، فإن اقتصر الاستثمار على نصف سنة فقط، فتكون النسبة نصف نسبة العائد السنوي. وذكر الدكتور أحمد النجار: أن وحدة المدة إما اليوم أو الأسبوع أو الشهر وفقاً لما تقرره اللوائح التنظيمية المعتمدة للبنك، وتكون معلنة للمستثمرين (¬2). وهذا مقبول من حيث المبدأ، إن تحقق الربح كما سيأتي بيانه. وأضاف الدكتور النجار: أنه في حالات تغير مبلغ المستثمر الواحد خلال السنة، بأن تتناولها الإضافة أو السحب، يكون حساب النِّمر على أساس أرصدة الاستثمار عقب كل تعديل، مابين تاريخ التعديل وتاريخ إنهاء الاستثمار، أو نهاية السنة المالية أيهما أقرب. كما يمكن - كطريق آخر - أخذ الفرق بين نمر المبالغ المضافة للاستثمار، ونمر المبالغ المسحوبة محسوبة من تاريخ الإضافة ومن تاريخ السحب إلى تاريخ إنهاء الاستثمار أو تاريخ انتهاء السنة المالية أيهما أقرب، وإن اتباع أي من الطريقين يعطي نفس النمر التي تعطيها الطريقة الأخرى. ¬
في الحالات التي يتغير فيها المستثمرون (المودعون) هل يجوز توزيع نسبة مئوية بصفة دورية محسوبة على اعتبار ماسيقع من الأرباح أو العائد؟
- في الحالات التي يتغير فيها المستثمرون (المودعون) هل يجوز توزيع نسبة مئوية بصفة دورية محسوبة على اعتبار ماسيقع من الأرباح أو العائد؟. الأصل العام المقرر في المضاربة الخاصة: أن كل تعاقد ثنائي قائم بذاته، تصفى فيه الأرباح بعد وفاء رأس المال إلى المالك، ولايوزع الربح ولايعرف الحظ منه إلا بعد تنضيض جميع رأس المال، أي تحويله إلى نقود (¬1). وأرباح المضاربات المشتركة يجب أن تبقى قائمة على الأسس التي أبانها الفقهاء، وفقاً لأصول المحاسبة التامة، حيث يسترد رأس المال، وتقسم الأرباح الفاضلة، بحسب الاتفاق. وبناء عليه، لا مجال للقول بالربح المقدر أو المفترض مع استمرار المضاربة؛ لأن الربح لايستقر إلا بالقسمة، والقسمة لاتصح إلا بعودة رأس المال نقوداً كما كان (¬2). وهذا يرشدنا إلى أنه لايجوز توزيع نسبة مئوية بصفة دورية محسوبة على اعتبار ماسيقع من الأرباح أو العائد. ويتبع بنك ناصر الاجتماعي طريقة محاسبية في تقدير الربح، على أساس الافتراض المبني على دراسة ميدانية للمشروع الذي يقدم له البنك قرض المشاركة بالأرباح. وعقب على ذلك الدكتور سامي حمود بقوله: إننا نرى أن هذا التطبيق لايتفق مع الأسس الفقهية المقررة من ناحية مسألة تحقق الربح. وهذا الأسلوب المتبع لايعدو في نظرنا أن يكون أسلوباً من أساليب الإقراض الربوي. وإنني أؤيده تأييداً تاماً في هذا الرأي - فهو محق، وأما طريقة الافتراض فهي غير سائغة شرعاً، منعاً من الغرر والظلم، فكثيراً مايكون الواقع خلاف الأمر المفترض. ¬
إذا وافق جميع المستثمرين على هذه الطريقة السابقة، فهل تكون جائزة؟
- وإذا وافق جميع المستثمرين على هذه الطريقة السابقة، فهل تكون جائزة؟ الوضع في الشريعة يختلف عن القوانين الوضعية التي تقرر أن «العقد شريعة المتعاقدين» أما في الشريعة فهذا المبدأ مقيد بما تقرره أحكام شرع الله التي تسمو على النظرة الضيقة أو المحدودة، ولاتقر الظلم أو الغبن أو الاستغلال أو أكل أموال الناس بالباطل، كما ذكرت في مقدمة البحث. فلا قيمة مثلاً لاتفاق المتراهنين على الرهان، أو العاقدين في البيع أو القرض على الربا، فهذا اتفاق مصادم لأصول الشريعة، فيكون باطلاً، وإن تراضى عليه الطرفان؛ لأن شرع الله عادل يحمي مصالح الناس على الدوام، ويقيهم من سوء تصرفاتهم وتورطهم فيما يضرهم ولاينفعهم في نهاية الأمر، وإن تراءى لهم أن هناك مصلحة موقوتة، أو تسوية سريعة لأوضاع تجارية متشابكة، لكنها تتجاوز الحق، وتوقع الناس في الباطل. - وفي الحالات التي لايمكن فيها الرجوع على عميل قبض حصته، ثم يظهر أن الربح لم يتحقق في نهاية المدة، كيف تكون المحاسبة؟ ومن يتحمل الفرق، الشركة أم المستثمر أم غير ذلك؟. الأصل المقرر في شركات المضاربة أن الخسارة على رب المال، ويكفي العامل أنه خسر جهده، وحينئذ يتحمل المودعون (المستثمرون) الخسارة الواقعة. وإذا تعذر الرجوع على عميل قبض حصته، وهذا خطأ من إدارة شركة المضاربة المشتركة، فإن هذه الإدارة تتحمل تَبِعَة الخطأ الصادر منها، وهو الفرق الحاصل بسبب المدفوع خطأ، أي تضمن ما دفع لعميل من غير حق، وتوزع بقية الخسارة على المستثمرين بنسبة ودائعهم الاستثمارية؛ لأن القاعدة الشرعية في شركات
إذا أنشأ البنك حافظة استثمارية (صندوق) مقسمة إلى حصص يقوم بإدارتها نيابة عن المستثمرين، فهل يجوز له اقتطاع أجر لنفسه محسوب كنسبة من الربح
العنان وغيرها هي: «الربح على ماشرطا، والوضيعة على قدر المالين» (¬1) أي أن الخسارة في الشركة على كل شريك بقدر ماله. ولايتحمل شيئاً من الخسارة أحد غير ماذكر على النحو السابق إلا إذا كان متبرعاً بالضمان، لأنه يجوز لشخص آخر غير العاقدين الالتزام بهذا الضمان تبرعاً وإحساناً، لإنقاذ سمعة شركة مضاربة معينة. - إذا أنشأ البنك حافظة استثمارية (صندوق) مقسمة إلى حصص يقوم بإدارتها نيابة عن المستثمرين، فهل يجوز له اقتطاع أجر لنفسه محسوب كنسبة من الربح، وهل يجوز أن يكون مبلغاً محدداً مقطوعاً، وهل يجب على البنك أن يوضح هذا؟ يعتبر البنك مضارباً بالنسبة للمستثمرين (وهم أصحاب الأموال) فيقوم بالإدارة والعمل نيابة عن المستثمرين، ومن قواعد الربح أو ضوابطه كما تقدم: أن يكون جزءاً شائعاً مقسوماً بين العاقدين، فإذا عين المتعاقدان مقداراً مقطوعاً محدداً لأحدهما، فلا يصح هذا الشرط، والمضاربة فاسدة؛ لأن المضاربة تقتضي الاشتراك في الربح، وهذا الشرط يمنع الاشتراك في الربح، لاحتمال ألا يربح المضارب إلا هذا القدر، فيكون الربح لأحدهما دون الآخر، فلا تتحقق الشركة، ولايكون التصرف مضاربة. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على إبطال القراض، أي المضاربة إذا شرط أحدهما أو كلاهما لنفسه دراهم معلومة (¬2). ¬
وذكر ابن قدامة علة عدم جواز أن يجعل لأحد الشركاء فضل دراهم، قائلاً (¬1)، وإنما لم يصح ذلك لمعنيين: أحدهما: أنه إذا شرط دراهم معلومة احتمل أن لايربح غيرها، فيحصل على جميع الربح، واحتمل أن لايربحها، فيأخذ من رأس المال جزءاً، وقد يربح كثيراً، فيستضرر من شرطت له الدراهم. والثاني: أن حصة العامل المضارب ينبغي أن تكون معلومة بالأجزاء، لما تعذر كونها معلومة بالقدر. فإذا جهلت الأجزاء فسدت كما لو جهل القدر فيما يشترط أن يكون معلوماً به. ولأن العامل متى شرط لنفسه دراهم معلومة ربما توانى في طلب الربح لعدم فائدته فيه وحصول نفعه لغيره، بخلاف ما إذا كان له جزء من الربح. وإذا أخذ المضارب شيئاً من العائد قبل القسمة أو الاستحقاق على أن يحتسب من حصته، جاز ذلك موقوفاً على القسمة، قال البغدادي في مجمع الضمانات (¬2): قسمة الربح قبل قبض رب المال رأس ماله موقوفة: إن قبض رأس المال صحت القسمة وإلا بطلت؛ لأن الربح فضْل على رأس المال، ولايتحقق الفضل إلا بعد سلامة الأصل، وما هلك من مال المضاربة، فهو من الربح دون رأس المال بقسمته، حتى لو اقتسما الربح قبل قبض رب المال رأس المال، ثم هلك في يد المضارب، فالقسمة باطلة. يتبين مما ذكر أمران: ¬
ماهي التكاليف التي يجوز تحميلها للشركة في عقد المضاربة؟
الأول - لايجوز للبنك اقتطاع أجر لنفسه محسوب كنسبة من الربح، ولايجوز أن يكون أجره مبلغاً محدداً مقطوعاً، سواء أوضح هذا للعملاء، أم لا. الثاني - لايجوز حصول المضارب على حصة من ربح المضاربة إضافة إلى مايناله من أجر ثابت (أجير + شريك) (¬1). ولا عبرة لرضا حملة الصكوك بهذا الأجر، ولا إلى معقولية أجر المضارب (المؤلف من عنصرين: ثابت ومتغير). - ماهي التكاليف التي يجوز تحميلها للشركة في عقد المضاربة؟ بحث فقهاؤنا في نطاق المضاربة الخاصة مسألة التكاليف أو النفقات التي يجوز للمضارب أخذها من مال المضاربة، والشركة الآن كالمضارب الخاص. ولهم في ذلك اتجاهان: - اتجاه لايجيز للعامل المضارب اقتطاع النفقة من مال المضاربة. - واتجاه يجيز ذلك بقيود. أما الاتجاه الأول: فهو للظاهرية والشافعية (¬2)، أما الظاهرية فيقولون: لايحل للعامل أن يأكل من مال المضاربة شيئاً، ولا أن يلبس منه شيئاً لا في سفر ولا حضر. وأما الشافعية فقالوا في الأظهر من قولي الإمام الشافعي: لا نفقة للمضارب على نفسه من مال المضاربة، لا حضراً ولا سفراً، إلا أن يأذن له رب المال؛ لأن ¬
للمضارب نصيباً من الربح، فلا يستحق شيئاً آخر، ويكون المأخوذ زيادة منفعة في المضاربة، ولأن النفقة قد تكون قدر الربح، فيؤدي أخذه إلى انفراده به، وقد تكون أكثر، فيؤدي إلى أن يأخذ جزءاً من رأس المال، وهذا ينافي مقتضى العقد، فلو شرطت النفقة للمضارب في العقد فسد. وأما الاتجاه الثاني فهو لجمهور الفقهاء ومنهم الزيدية والإمامية. أما الحنفية ومثلهم الزيدية والإمامية (¬1) فأجازوا للمضارب أن ينفق من مال المضاربة في السفر دون الحضر، وهي النفقة الخاصة بحاجة الطعام والشراب والإدام والكسوة والتنقل وأجر الأجير وأجرة الحمام ودهن السراج والحطب، وعلف الدابة، والفراش الذي ينام عليه وغسل الثياب ونحو ذلك مما لابد في السفر منه عادة. وأما المالكية (¬2): فأجازوا للعامل النفقة من مال القراض في السفر لا في الحضر، إن كان المال يحمل ذلك، إلا إذا كانت المضاربة في الإقامة (الحضر) تشغله عن الوجوه التي يقتات منها، فله حينئذ الإنفاق من مال المضاربة. وأما الحنابلة (¬3): فأجازوا النفقة للمضارب في الحضر أو في السفر إذا اشترطت، فهم كالشافعية؛ لأن الإذن أو الشرط في النتيجة شيء واحد، وإن كان الشافعية لايجيزون الاشتراط كما تقدم. أما في نطاق المضاربة المشتركة: فذهب الدكتور محمد عبد الله العربي إلى ¬
جواز خصم (حسم) البنك الإسلامي مصاريفه العمومية بما فيها أجور موظفيه وعماله (¬1). وجاء في نظام الشركة الإسلامية للاستثمار الخليجي بالشارقة التي طرحت «صكوك المضاربة والقروض الإسلامية» مايلي: تتحمل شركة المضاربة مصاريفها الفعلية الخاصة بها تحت إشراف مراقب الاستثمار وموافقته. وتشمل هذه المصاريف الأعباء الإدارية العامة والمباشرة للمضارب وتكاليف إدارة أموال شركة المضاربة .. على أن لاتتجاوز كل هذه المصروفات سنوياً دولارين عن كل 100 دولار أمريكي من أصول شركة المضاربة، ويتحمل المضارب المصاريف الزائدة من نصيبه في الأرباح إذا وجدت. وحامل الصك ينيب المضارب في سداد الزكاة المستحقة عليه شرعاً تحت إشراف هيئة الرقابة الشرعية (¬2). وذهب الدكتور سامي حمود (¬3) إلى أن حكم التكاليف أو النفقات تختلف فيه المضاربة المشتركة عن المضاربة الخاصة، باعتبار أن المضارب المشترك لايتقيد بطبيعة عمله بالشروط التي يمكن أن يتقيد بها المضارب الخاص، فليس له أن يشترط النفقة للاعتبارات التالية: 1 - إن النفقة التي أجاز الفقهاء تحميلها على المال المضارب به هي النفقة الطارئة بمناسبة السفر، وليست النفقة العادية. 2 - إن النفقة التي أجازها الحنفية محصورة في حوائج السفر، والتي أجازها الحنابلة محددة بالطعام والكسوة وهي نفقة منضبطة بحسب العرف. ¬
إذا كان العامل في المضاربة شركة (شخصية معنوية) فهل تعتبر جميع رواتب الموظفين والإدارة من ضمن التكاليف؟
3 - إن النفقة بالنسبة للعمل المصرفي، سواء بالنسبة لأجور الموظفين والعمال أو المصاريف الإدارية والعمومية، تعتبر من المستويات العالية في الإنفاق، وهي حالات لاتدخل في حسبان الشخص العادي بالنسبة لما يراه في تقديره أمراً معقولاً، وهذا بخلاف ما راعاه الفقهاء حيث اعتبروا أن لنفقة شخص المضارب حدوداً -قابلة للتوقع- في الطعام والكساء والانتقال من مكان إلى مكان. وبالنظر للواقع فإن تحميل الأرباح مصاريف البنك وأجور عماله وموظفيه، قد يؤدي إلى أن تأكل هذه المصاريف والأجور كل الأرباح المتحققة، ولاسيما في السنوات الأولى من بدء العمل. لذا فلا تتحمل الأرباح أية نفقات سوى مايتعلق بعمل المضاربة نفسه من سجلات ومطبوعات خاصة بالعمل الاستثماري. أما أجور العمال والموظفين ومصاريف البنك والإدارة، فهي من حصة البنك في الربح باعتباره مضارباً مشتركاً. فإذا لم يكن ربح، تحمل البنك خسران مصاريفه، كما يتحمل المستثمرون عدم الحصول على أرباح طوال العام. أما المضاربون الذين يعملون مع البنك، فتكون النفقة بحسب الاتفاق المحدد لكل حالة بظروفها. وإني أؤيد رأي الدكتور سامي حمود، مع إضافة شيء من التعديل عليه: وهو أن الموظف الذي يبعثه البنك لدولة أجنبية من أجل استيراد سلع معينة لحساب المضاربة تكون نفقاته في السفر على حساب مال المضاربة. - إذا كان العامل في المضاربة شركة (شخصية معنوية) فهل تعتبر جميع رواتب الموظفين والإدارة من ضمن التكاليف؟ تبين مما سبق أنه يصعب الإفتاء بمثل هذا، فلا يجوز صرف شيء من رواتب
هل يجوز تنازل المستثمرين عن كل حق في التدخل في الإدارة؟
الموظفين والإدارة من مال المضاربة؛ لأن هؤلاء مقيمون في مراكز تجارية، وهم ذوو كفاءات عالية لتحسين مستوى الخدمة والأداء، ولكسب العملاء وزيادة حجم العمل في المستقبل. وقد عرفنا في البحث السابق أن الفقهاء إما مانعون لأخذ شيء من النفقات من مال المضاربة، وإما مقيِّدون لتلك النفقة في السفر لا في الحضر. إلا أن إبراهيم النخعي والحسن البصري أجازا للمضارب أخذ نفقته حضراً وسفراً في باب المضاربة الخاصة. وقد لاحظنا أن ظروف عمل المؤسسات المصرفية في نطاق المضاربة المشتركة لاتتفق مع أوضاع المضاربة الخاصة، فلا يحق حينئذ للبنك صرف الرواتب والنفقات الإدارية من مال المضاربة، ماعدا ما ذكرته سابقاً وهو نفقات التسجيل والطباعة أو الكتابة والتوثيق ونحو ذلك. - هل يجوز تنازل المستثمرين عن كل حق في التدخل في الإدارة؟. من المعلوم أن إدارة المضاربة الخاصة والمشتركة للمضارب ليتمكن من استثمار الأموال بحسب خبرته وبمقتضى ضرورات وحاجات التجارة وغيرها. وأرباب المال في المضاربة لايستطيعون التدخل في أعمال الشركة، وإن كانوا يستطيعون المراقبة طبعاً. ويترتب عليه أن ليس للمستثمرين الحق في التدخل في شؤون الإدارة، وإذا لم يكن لهم الحق في ذلك، فلا يملكون شيئاً يتنازلون عنه. أما حق الرقابة فهو حق طبيعي شرعي لايتنازل عنه إلا بالتراضي، ومن له حق مقرر يثبت له حق التنازل عنه.
- هل يجوز حساب العائد يوميا؟
ومن أهم عناصر الإدارة التي شرطها جمهور فقهائنا (¬1): أن يسلّم رأس المال إلى العامل المضارب، ولاتصح المضاربة مع بقاء يد رب المال على المال، لعدم تحقق التسليم مع بقاء يده، فلو شرط بقاء يد المالك على المال أو مشاركة المالك في عمل المضاربة، فسدت المضاربة. أما الحنابلة (¬2) فأجازوا اشتراط بقاء يد المالك على المال، ويقتضي هذا جواز مشاركة المالك في إدارة أعمال المضاربة. - هل يجوز حساب العائد يومياً؟ عرفنا فيما سبق أن نظام المضاربة اللاربوي يعتمد على الربح الفعلي، والطريقة الحسابية المصرفية المعروفة بنظام الأعداد أو النِّمر يَسْهُل في نظام المضاربة المشتركة تحقيقها أو الأخذ بها على أساس الشهور بدل الأيام، نظراً لأن الاستثمار اللاربوي استثمار إنتاجي يعتمد على الربح الفعلي الذي لايتحقق بالسرعة التي يبدأ فيها الاستثمار المصرفي الربوي حركة الحساب في ميدان الفوائد (¬3). وبناء عليه لايجوز حساب العائد يومياً؛ لأن حساب الفوائد الربوية يعتمد على عنصر الزمن، وحساب الأرباح أو العوائد الاستثمارية في الشريعة يعتمد على وجود الربح فعلاً. فإذا كانت عجلة الإنتاج دائمة والربح دورياً، فيجوز حساب العائد يومياً، ¬
وهذا متروك لطبيعة العمل الاقتصادي وتقدير المضارب وإشرافه على النشاط التجاري وغيره بالنيابة عن المستثمرين، فهو أدرى بظروف العمل ومردوده. ويقوم البنك عادة بتسوية حسابات المضاربة في نهاية كل ربع سنة، فيقوم بإعداد بيان عن جميع أنشطته، ويقوم كذلك بتحديد إجمالي الربح والخسارة، وفي ضوئها يقوم البنك بتحديد قيمة حساب المضاربة. ولاينبغي تخمين ربح وخسارة المشروع قبل انتهائه. واختيار مدة ربع السنة ليست لها أهمية خاصة، إذ يمكن اقتراح فترات أقصر أو أطول كما قال البروفيسور نجاة صديقي (¬1). والخلاصة: إن المهم معرفة الربح، فإذا عرف جاز اقتسام وحداته، سواء في اليوم أو الأسبوع أو الشهر ونحوه. ¬
قرارات مجمع الفقه الإسلامي
............ قرارات مجمع الفقه الإسلامي ............................... ................................ في مقره الأصلي ـ جدّة .................................. .............................. التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي ................................ نظراً لأهمية هذه القرارات البناءة والتي هي ثمرة بحوث واجتهاد جماعي ومناقشات طويلة لمدة أسبوع في كل دورة، ونظراً لكثرة سؤال الناس عنها، وتمكينهم من معرفتها، رأيت إضافة هذه القرارات ليسهل الاطلاع عليها وهي ولله الحمد موفقة وموضوعية ومعتدلة، لقيت القبول والاستحسان من الجميع. علماً بأنني أحد ثلاثة أسهموا في وضع منهج وخطة عمل هذا المجمع، ورسم سياسته، وتطلعاته. وكنت في دورتين أوليين ممثلاً لسورية، وأصبحت بعدهما خبيراً علمياً فيه، شاركت في جميع دوراته ببحث أو أكثر، وقمت مع لجنة الصياغة بصياغة كثير من قراراته. وأبدأ بإيراد قرار حقوق التأليف في طليعة القرارات.
(حقوق التأليف مصونة شرعا لا يجوز الاعتداء عليها)
(حقوق التأليف مصونة شرعاً لا يجوز الاعتداء عليها) قرار مجمع الفقه الإسلامي لمنظمة المؤتمر الإسلامي القرار رقم (5) د 88/ 09/5 بشأن الحقوق المعنوية إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 10/ 1409 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988م. بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع (الحقوق المعنوية) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله. قرر: أولاً: الاسم التجاري، والعنوان التجاري، والعلامة التجارية، والتأليف والاختراع أو الابتكار هي حقوق خاصة لأصحابها، أصبح لها في العرف المعاصر قيمة مالية معتبرة لتمول الناس لها. وهذه الحقوق يعتد بها شرعاً فلا يجوز الاعتداء عليها. ثانيا ً: يجوز التصرف في الاسم التجاري أو العنوان التجاري أو العلامة التجارية ونقل أي منها بعوض مالي إذا انتفى الغرر والتدليس والغش باعتبار أن ذلك أصبح حقاً مالياً. ثالثاً: حقوق التأليف والاختراع أو الابتكار مصونة شرعاً، ولأصحابها حق التصرف فيها، ولا يجوز الاعتداء عليها. والله أعلم ..
الدورة الثانية لمجلس مجمع الفقه الإسلامي
القَرارات والتوصيَات الدَّورَة الثانية لمجلس مجْمَع الفقه الإسلامي جدة: 10 - 16 ربيع الثاني هـ/22 - 28 ديسمبر 1985 م بسم الله الرَّحمن الرَّحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. قرار رقم (1) بشأن زكاة الديون أما بعد: فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10 - 16 ربيع الثاني 1406 هـ/22/-28 ديسمبر (كانون الأول) 1985 م. بعد أن نظر في الدراسات المعروضة حول «زكاة الديون» وبعد المناقشة المستفيضة التي تناولت الموضوع من جوانبه المختلفة تبين:
1 - أنه لم يرد نص من كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلّى الله عليه وسلم يُفصل زكاة الديون. 2 - أنه قد تعدد ما أثر عن الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم من وجهات نطر في طريقة إخراج زكاة الديون. 3 - أنه قد اختلفت المذاهب الإسلامية بناءً على ذلك اختلافاً بيناً. 4 - أن الخلاف قد انبنى على الاختلاف في قاعدة: هل يعطى المال الممكَّن من الحصول عليه صفة الحاصل؟. وبناء على ذلك قرر: 1 - أنه تجب زكاة ـالدين على رب الدين عن كل سنة إذا كان المدين مليئاً باذلاً. 2 - أنه تجب الزكاة على رب الدين بعد دوران الحول من يوم القبض إذا كان المدين معسراً أو مماطلاً. والله أعلم ..
زكاة العقارات والأراضي المأجورة غير الزراعية
قرار رقم (2) بشأن زكاة العقارات والأراضي المأجورة غير الزراعية أما بعد: فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني من 10 - 16 ربيع الثاني 1406 هـ/18 - 22 ديسمبر 1985 م. بعد أن استمع المجلس لما أعد من دراسات في موضوع «زكاة العقارات والأراضي المأجورة غير الزراعية». وبعد أن ناقش الموضوع مناقشة وافية ومعمقة، تبين: أولاً: أنه لم يؤثر نص واضح يوجب الزكاة في العقارات والأراضي المأجورة. ثانياً: أنه لم يؤثر نص كذلك يوجب الزكاة الفورية في غلة العقارات والأراضي المأجورة غير الزراعية. ولذلك قرر: أولاً: أن الزكاة غير واجبة في أصول العقارات والأراضي المأجورة. ثانياً: أن الزكاة تجب في الغلة وهي ربع العشر بعد دوران الحول من يوم القبض مع اعتبار توافر شروط الزكاة، وانتفاء الموانع. والله أعلم
أجوبة استفسارات المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن
قرار رقم (3) بشأن أجوبة استفسارات المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن أما بعد: فإن مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني من 10 - 16 ربيع الثاني 1406 هـ22/-28 ديسمبر 1985 م. إذ ألف لجنة من أعضاء المجمع للنظر في الأسئلة الواردة من المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن. وبعد التأمل فيما قدم في الأمر من إجابات تبين منها: ـ أن الإجابات قد صيغت بطريقة مختصرة جداً لا يحصل معها الاقتناع وقطع دابر الخلاف أو الرفض. ـ أنه لا بد من قيام المجمع بإزاحة الإشكالات الحاصلة لإخواننا المسلمين في الغرب. قرر: 1 - تكليف الأمانة العامة بإحالة هذه الأسئلة على من تراه من الأعضاء أو الخبراء لإعداد إجابات معللة عن تلكم الأسئلة مستندة إلى الأدلة الشرعية. وأقوال من تقدم من فقهاء المسلمين وإبرازها في صورة مقنعة بينة. 2 - تكليف الأمانة العامة برفع ما تتحصل عليه إلى الدورة الثالثة. والله أعلم
القاديانية
قرار رقم (4) بشأن القاديانية أما بعد: فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10 - 16 ربيع الثاني 1406 هـ/22 - 28 ديسمبر 1985 م. بعد أن نظر في الاستفتاء المعروض عليه من «مجلس الفقه الإسلامي في كيبتاون بجنوب أفريقيا» بشأن الحكم في كل من (القاديانية) والفئة المتفرعة عنها التي تدعى (اللاهورية) من حيث اعتبارهما في عداد المسلمين أو عدمه، وبشأن صلاحية غير المسلم للنظر في مثل هذه القضية. وفي ضوء ما قدم لأعضاء المجمع من أبحاث ومستندات في هذا الموضوع عن (ميرزا غلام أحمد القادياني) الذي ظهر في الهند في القرن الماضي وإليه تنسب نحلة القاديانية واللاهورية. وبعد التأمل فيما ذكر من معلومات عن هاتين النحلتين وبعد التأكد من أن (ميرزا غلام أحمد) قد ادعى النبوة بأنه نبي مرسل يوحى إليه وثبت عنه هذا في مؤلفاته التي ادعى أن بعضها وحي أنزل عليه وظل طيلة حياته ينشر هذه الدعوى ويطلب إلى الناس في كتبه وأقواله الاعتقاد بنبوته ورسالته، كما ثبت عنه إنكار كثير مما علم من الدين بالضرورة كالجهاد.
وبعد أن اطلع المجمع (أيضاً) على ما صدر عن (المجمع الفقهي بمكة المكرمة) في الموضوع نفسه. قرر ما يلي: 1 - أن ما ادعاه (ميرزا غلام أحمد) من النبوة والرسالة ونزول الوحي عليه إنكار صريح لما ثبت من الدين بالضرورة ثبوتاً قطعياً يقينيّاً من ختم الرسالة والنبوة بسيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم، وأنه لا ينزل وحي على أحد بعده. وهذه الدعوى من (ميرزا غلام أحمد) تجعله وسائر من يوافقونه عليها مرتدين خارجين عن الإسلام. وأما (اللاهورية) فإنهم كالقاديانية في الحكم عليهم بالردة، بالرغم من وصفهم (ميرزا غلام أحمد) بأنه ظل وبروز لنبينا محمد صلّى الله عليه وسلم. 2 - ليس لمحكمة غير إسلامية، أو قاض غير مسلم، أن يصدر الحكم بالإسلام أو الردة، ولا سيما فيما يخالف ما أجمعت عليه الأمة الإسلامية من خلال مجامعها وعلمائها، وذلك لأن الحكم بالإسلام أو الردة، لا يقبل إلا إذا صدر عن مسلم عالم بكل ما يتحقق به الدخول في الإسلام، أو الخروج منه بالردة، ومدرك لحقيقة الإسلام أو الكفر، ومحيط بما ثبت في الكتاب والسنة والإجماع، فحكم مثل هذه المحكمة باطل. والله أعلم
أطفال الأنابيب
قرار رقم (5) بشأن أطفال الأنابيب أما بعد فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10 - 16 ربيع الثاني 1406 هـ/22 - 28 ديسمبر 1985 م. إذ استعرض البحوث المقدمة من السادة الفقهاء والأطباء الذين عرضوا موضوع «أطفال الأنابيب» من جانبيه الفقهي والفني الطبي، ناقش ما قدم من دراسات وافية، وما أثير من جوانب مختلفة لاستيضاح الموضوع. وإذ تبين له أن الموضوع يحتاج إلى مزيد من الدراسة طبياً وفقهياً، وإلى مراجعة الدراسات والبحوث السابقة، واستيفاء التصور من جميع جوانبه. قرر: 1 - تأجيل البت في هذا الموضوع إلى الدورة القادمة للمجمع. 2 - يعهد لفضيلة الشيخ الدكتور بكر أبو زيد ـ رئيس المجمع ـ بإعداد دراسة وافية في الموضوع تلم بكل المعطيات الفقهية والطبية. 3 - توجيه الأمانة ما يصل إليها إلى جميع الأعضاء قبل انعقاد الدورة القادمة بثلاثة أشهر على الأقل. والله الموفق
بنوك الحليب
قرار رقم (6) بشأن بنوك الحليب أما بعد فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10 - 16 ربيع الثاني 1406 هـ/22 - 28 ديسمبر 1985 م. بعد أن عرض على المجمع دراسة فقهية، ودراسة طبية حول بنوك الحليب: وبعد التأمل: فيما جاء في الدراستين ومناقشة كل منهما مناقشة مستفيضة شملت مختلف جوانب الموضوع تبين: 1 - أن بنوك الحليب تجربة قامت بها الأمم الغربية، ثم ظهرت مع التجربة بعض السلبيات الفنية والعلمية فيها فانكمشت وقل الاهتمام بها. 2 - أن الإسلام يعتبر الرضاع لحمة كلحمة النسب يحرم به ما يحرم من النسب بإجماع المسلمين. ومن مقاصد الشريعة الكلية المحافظة على النسب، وبنوك الحليب مؤدية إلى الاختلاط أو الريبة. 3 - أن العلاقات الاجتماعية في العالم الإسلامي توفر للمولود الخداج أو ناقص الوزن أو المحتاج إلى اللبن البشري في الحالات الخاصة ما يحتاج إليه من الاسترضاع الطبيعي، الأمر الذي يغني عن بنوك الحليب.
أجهزة الإنعاش
وبناء على ذلك قرر: أولاً: منع إنشاء بنوك حليب الأمهات في العالم الإسلامي. ثانياً: حرمة الرضاع منها. والله أعلم قرار رقم (7) بشأن أجهزة الإنعاش أما بعد فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10 - 16 ربيع الثاني 1406 هـ/22 - 28 ديسمبر 1985 م. بعد أن نظر فيما قدم من دراسات فقهية وطبية في موضوع «أجهزة الإنعاش». وبعد المناقشات المستفيضة، وإثارة متنوع الأسئلة، وخاصة حول الحياة والموت نظراً لارتباط فك أجهزة الإنعاش بانتهاء حياة المنعش. ونظراً لعدم وضوح كثير من الجوانب. ونظراً لما قدمت به جمعية الطب الإسلامي في الكويت من دراسة وافية لهذا الموضوع، يكون من الضروري الرجوع إليها.
استفسارات البنك الإسلامي للتنمية
قرر: أولاً: تأخير البت في هذا الموضوع إلى الدورة القادمة للمجمع. ثانياً: تكليف الأمانة العامة بجمع دراسات وقرارات مؤتمر الطب الإسلامي في الكويت وموافاة الأعضاء بخلاصة محددة واضحة له. والله الموفق قرار رقم (8) بشأن استفسارات البنك الإسلامي للتنمية أما بعد فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10 - 16 ربيع الثاني 1406 هـ/22 - 28 ديسمبر 1985 م. بعد استماعه إلى عرض البنك الإسلامي للتنمية لجملة من الأسئلة والاستفسارات قصد الإفتاء بشأنها. وبعد استماعه إلى تقرير اللجنة الفرعية التي تألفت أثناء الدورة من أصحاب الفضيلة الأعضاء الذي تقدموا بردود عن المسائل المستفسر عنها ومن انضم إليهم. ولكون الموضوع يحتاج إلى دراسة أوسع وأكمل تقتضي الاتصال بالبنك وتداول النظر معه في مختلف جزئياته في لجنة مكونة من طرفه.
التأمين وإعادة التأمين
وبناء على ذلك قرر: 1 - إرجاء هذا الموضوع للدورة القادمة. 2 - مطالبة البنك بتقديم تقرير من هيئته العلمية الشرعية. والله الموفق قرار رقم (9) بشأن التأمين وإعادة التأمين أما بعد: فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10 - 16 ربيع الثاني 1406 هـ/22 - 28 ديسمبر 1985 م. بعد أن تابع العروض المقدمة من العلماء المشاركين في الدورة حول موضوع «التأمين وإعادة التأمين». وبعد أن ناقش الدراسات المقدمة. وبعد تعمق البحث في سائر صوره وأنواعه، والمبادئ التي يقوم عليها والغايات التي يهدف إليها. وبعد النظر فيما صدر عن المجامع الفقهية والهيئات العلمية بهذا الشأن.
حكم التعامل المصرفي بالفوائد وحكم التعامل مع المصارف الإسلامية
قرر: 1 - أن عقد التأمين التجاري ذا القسط الثابت الذي تتعامل به شركات التأمين التجاري عقد فيه غرر كبير مفسد للعقد. ولذا فهو حرام شرعاً. 2 - أن العقد البديل الذي يحترم أصول التعامل الإسلامي هو عقد التأمين التعاوني القائم على أساس التبرع والتعاون. وكذلك الحال بالنسبة لإعادة التأمين القائم على أساس التأمين التعاوني. 3 - دعوة الدول الإسلامية للعمل على إقامة مؤسسات التأمين التعاوني وكذلك مؤسسات تعاونية لإعادة التأمين، حتى يتحرر الاقتصاد الإسلامي من الاستغلال ومن مخالفة النظام الذي يرضاه الله لهذه الأمة. والله أعلم قرار رقم (10) بشأن حكم التعامل المصرفي بالفوائد وحكم التعامل مع المصارف الإسلامية أما بعد: فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10 - 16 ربيع الثاني 1406 هـ/22 - 28 ديسمبر 1985 م.
بعد أن عرضت عليه بحوث مختلفة في التعامل المصرفي المعاصر. وبعد التأمل فيما قدم ومناقشته مناقشة مركزة أبرزت الآثار السيئة لهذا التعامل على النظام الاقتصادي العالمي، وعلى استقراره خاصة في دول العالم الثالث. وبعد التأمل فيما جره هذا النظام من خراب نتيجة إعراضه عما جاء في كتاب الله من تحريم الربا جزئياً وكلياً تحريماً واضحاً بدعوته إلى التوبة منه، وإلى الاقتصار على استعادة رؤوس أموال القروض دون زيادة ولا نقصان قل أو كثر، وما جاء من تهديد بحرب مدمرة من الله ورسوله للمرابين. قرر: أولاً: أن كل زيادة أو فائدة على الدين الذي حل أجله وعجز المدين عن الوفاء به مقابل تأجيله، وكذلك الزيادة (أو الفائدة) على القرض منذ بداية العقد! هاتان الصورتان ربا محرم شرعاً. ثانياً: أن البديل الذي يضمن السيولة المالية والمساعدة على النشاط الاقتصادي حسب الصورة التي يرتضيها الإسلام، هو التعامل وفقاً للأحكام الشرعية. ثالثاً: قرر المجمع التأكيد على دعوة الحكومات الإسلامية إلى تشجيع المصارف التي تعمل بمقتضى الشريعة الإسلامية، والتمكين لإقامتها في كل بلد إسلامي لتغطي حاجة المسلمين كيلا يعيش المسلم في تناقض بين واقعه ومقتضيات عقيدته. والله أعلم
توحيد بدايات الشهور القمرية
قرار رقم (11) بشأن توحيد بدايات الشهور القمرية أما بعد فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10 - 16 ربيع الثاني 1406 هـ/22 - 28 ديسمبر 1985 م. بعد أن استعرض البحوث المقدمة إليه من الأعضاء والخبراء حول توحيد بدايات الشهور القمرية. وبعد أن ناقش الحاضرون العروض المقدمة في الموضوع مناقشة مستفيضة واستمعوا لعديد من الآراء حول اعتماد الحساب في إثبات دخول الشهور القمرية. قرر: 1 - تكليف الأمانة العامة لمجمع الفقه الإسلامي بتوفير الدراسات العلمية الموثقة من خبراء أمناء في الحساب الفلكي والأرصاد الجوية. 2 - تسجيل موضوع توحيد بدايات الشهور القمرية في جدول أعمال الجلسة القادمة لاستيفاء البحث فيه من الناحيتين الفنية والفقهية الشرعية. 3 - تكليف الأمانة العامة باستقدام عدد كاف من الخبراء المذكورين وذلك لمشاركة الفقهاء في تصوير جوانب الموضوع كلها تصويراً واضحاً يمكن اعتماده لبيان الحكم الشرعي. والله الموفق
خطاب الضمان
قرار رقم (12) بشأن خطاب الضمان أما بعد فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10 - 16 ربيع الثاني 1406 هـ/22 - 28 ديسمبر 1985 م. بحث مسألة خطاب الضمان: وبعد النظر فيما أعد في ذلك من بحوث ودراسات وبعد المداولات والمناقشات المستفيضة تبين ما يلي: 1 - أن خطاب الضمان بأنواعه الابتدائي والانتهائي لا يخلو إما أن يكون بغطاء أو بدونه، فإن كان بدون غطاء، فهو: ضم ذمة الضامن إلى ذمة غيره فيما يلزم حالا أو مآلاً، وهذه هي حقيقة ما يعنى في الفقه الإسلامي باسم: (الضمان) أو (الكفالة). وإن كان خطاب الضمان بغطاء فالعلاقة بين طالب خطاب الضمان وبين مصدِّره هي (الوكالة) والوكالة تصح بأجر أو بدونه مع بقاء علاقة الكفالة لصالح المستفيد (المكفول له). 2 - إن الكفالة هي عقد تبرع يقصد للإرفاق والإحسان. وقد قرر الفقهاء عدم جواز أخذ العوض على الكفالة، لأنه في حالة أداء الكفيل مبلغ الضمان يشبه القرض الذي جر نفعاً على المقرض، وذلك ممنوع شرعاً.
ولذلك فإن المجمع قرر ما يلي: أولاً: أن خطاب الضمان لا يجوز أخذ الأجر عليه لقاء عملية الضمان (والتي يراعى فيها عادة مبلغ الضمان ومدته) سواء أكان بغطاء أم بدونه. ثانياً: أما المصاريف الإدارية لإصدار خطاب الضمان بنوعيه فجائزة شرعاً، مع مراعاة عدم الزيادة على أجر المثل، وفي حالة تقديم غطاء كلي أو جزئي، يجوز أن يراعى في تقدير المصاريف لإصدار خطاب الضمان ما قد تتطلبه المهمة الفعلية لأداء ذلك الغطاء. والله أعلم
الدورة الثالثة لمجلس مجمع الفقه الإسلامي
القَرارَات وَالتوصيَات الدّورة الثالثة لمجلس مجمع الفقه الإسلامي عمَّآن: 8 - 13 صفر 1407 هـ/11 - 16 اكتوبر 1986 م بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه وسلم. قرار رقم (1) بشأن استفسارات البنك الإسلامي للتنمية إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 - 13 صفر 1407 هـ/11 إلى 16 أكتوبر 1986 م. ـ بعد دراسة مستفيضة ومناقشات واسعة لجميع الاستفسارات التي تقدم بها البنك إلى المجمع، انتهى إلى ما يلي: (أ) بخصوص أجور خدمات القروض في البنك الإسلامي للتنمية: قرر مجلس المجمع اعتماد المبادئ التالية:
1 - جواز أخذ أجور عن خدمات القروض. 2 - أن يكون ذلك في حدود النفقات الفعلية. 3 - كل زيادة على الخدمات الفعلية محرمة لأنها من الربا المحرم شرعاً. (ب) بخصوص عمليات الإيجار: قرر مجلس المجمع اعتماد المبادئ التالية فيها: المبدأ الأول: أن الوعد من البنك الإسلامي للتنمية بإيجار المعدات إلى العميل بعد تملك البنك لها أمر مقبول شرعاً. المبدأ الثاني: أن توكيل البنك الإسلامي للتنمية أحد عملائه بشراء ما يحتاجه ذلك العميل من معدات وآليات ونحوها مما هو محدد الأوصاف والثمن لحساب البنك بغية أن يؤجره البنك تلك الأشياء بعد حيازة الوكيل لها هو توكيل مقبول شرعاً. والأفضل أن يكون الوكيل بالشراء غير العميل المذكور إذا تيسر ذلك. المبدأ الثالث: أن عقد الإيجار يجب أن يتم بعد التملك الحقيقي للمعدات وأن يبرم بعقد منفصل عن عقد الوكالة والوعد. المبدأ الرابع: أن الوعد بهبة المعدات عند انتهاء أمد الإجارة جائز بعقد منفصل.
المبدأ الخامس: أن تبعة الهلاك والتعيب تكون على البنك بصفته مالكاً للمعدات ما لم يكن ذلك بتعد أو تقصير من المستأجر فتكون التبعة عندئذ عليه. المبدأ السادس: أن نفقات التأمين لدى الشركات الإسلامية كلما أمكن ذلك، يتحملها البنك. (جـ) بخصوص عمليات البيع بالأجل مع تقسيط الثمن: قرر مجلس المجمع اعتماد المبادئ التالية فيها: المبدأ الأول: أن الوعد من البنك الإسلامي للتنمية ببيع المعدات إلى العميل بعد تملك البنك لها أمر مقبول شرعاً. المبدأ الثاني: أن توكيل البنك أحد عملائه بشراء ما يحتاجه ذلك العميل من معدات وآليات ونحوها مما هو محدد الأوصاف والثمن لحساب البنك، بغية أن يبيعه البنك تلك الأشياء بعد وصولها وحصولها في يد الوكيل، هو توكيل مقبول شرعاً. والأفضل أن يكون الوكيل بالشراء غير العميل المذكور إذا تيسر ذلك. المبدأ الثالث: أن عقد البيع يجب أن يتم بعد التملك الحقيقي للمعدات والقبض له، وأن يبرم بعقد منفصل.
زكاة الأسهم في الشركات
(د) بخصوص عمليات تمويل التجارة الخارجية: قرر مجلس المجمع أنه ينطبق على هذه العمليات المبادئ المطبقة على عمليات البيع بالأجل مع تقسيط الثمن. (هـ) بخصوص التصرف في فوائد الودائع التي يضطر البنك الإسلامي للتنمية لإيداعها في المصارف الأجنبية: قرر مجلس المجمع بشأن ذلك ما يلي: يحرم على البنك أن يحمي القيمة الحقيقية لأمواله من آثار تذبذب العملات بواسطة الفوائد المنجرة من إيداعاته. ولذا يجب أن تصرف تلك الفوائد في أغراض النفع العام كالتدريب والبحوث وتوفير وسائل الإغاثة، وتوفير المساعدات المالية للدول الأعضاء وتقديم المساعدة الفنية لها، وكذلك للمؤسسات العلمية والمعاهد والمدارس وما يتصل بنشر المعرفة الإسلامية. والله أعلم قرار رقم (2) بشأن زكاة الأسهم في الشركات إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 - 13 صفر 1407 هـ/11 إلى 16 أكتوبر 1986 م. ـ
توظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع بلا تمليك فردي للمستحق
بعد مناقشته لموضوع «زكاة الأسهم في الشركات» من جميع جوانبه والاطلاع على البحوث المقدمة بخصوصه. قرر: تأجيل إصدار القرار الخاص به إلى الدورة الرابعة للمجلس، والله الموفق. قرار رقم (3) بشأن توظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع بلا تمليك فردي للمستحق أما بعد: إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 - 13 صفر 1407 هـ/11 إلى 16 أكتوبر 1986 م. بعد اطلاعه على البحوث المقدمة في موضوع «توظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع بلا تمليك فردي للمستحق» وبعد استماعه لآراء الأعضاء والخبراء فيه. قرر: يجوز من حيث المبدأ توظيف أموال الزكاة في مشاريع استثمارية تنتهي بتمليك أصحاب الاستحقاق للزكاة، أو تكون تابعة للجهة الشرعية المسؤولة عن جمع الزكاة وتوزيعها، على أن تكون بعد تلبية الحاجة الماسة الفورية للمستحقين وتوافر الضمانات الكافية للبعد عن الخسائر. والله أعلم
أطفال الأنابيب
قرار رقم (4) بشأن أطفال الأنابيب إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 - 13 صفر 1407 هـ/11 إلى 16 أكتوبر 1986 م. بعد استعراضه لموضوع التلقيح الصناعي «أطفال الأنابيب» وذلك بالاطلاع على البحوث المقدمة والاستماع لشرح الخبراء والأطباء. وبعد التداول. تبين للمجلس: أن طرق التلقيح الصناعي المعروفة في هذه الأيام هي سبع: الأولى: أن يجري تلقيح بين نطفة مأخوذة من زوج وبييضة مأخوذة من امرأة ليست زوجته ثم تزرع اللقيحة في رحم زوجته. الثانية: أن يجري التلقيح بين نطفة رجل غير الزوج وبييضة الزوجة ثم تزرع تلك اللقيحة في رحم الزوجة. الثالثة: أن يجري تلقيح خارجي بين بذرتي زوجين ثم تزرع اللقيحة في رحم امرأة متطوعة بحملها.
الرابعة: أن يجري تلقيح خارجي بين بذرتي رجل أجنبي وبييضة امرأة أجنبية وتزرع اللقيحة في رحم الزوجة. الخامسة: أن يجري تلقيح خارجي بين بذرتي زوجين ثم تزرع اللقيحة في رحم الزوجة الأخرى. السادسة: أن تؤخذ نطفة من زوج وبييضة من زوجته ويتم التلقيح خارجياً ثم تزرع اللقيحة في رحم الزوجة. السابعة: أن تؤخذ بذرة الزوج وتحقن في الموضع المناسب من مهبل زوجته أو رحمها تلقيحاً داخلياً. وقرر: أن الطرق الخمسة الأولى كلها محرمة شرعاً وممنوعة منعاً باتاً لذاتها أو لما يترتب عليها من اختلاط الأنساب وضياع الأمومة وغير ذلك من المحاذير الشرعية. أما الطريقان السادس والسابع فقد رأى مجلس المجمع أنه لا حرج من اللجوء إليهما عند الحاجة مع التأكيد على ضرورة أخذ كل الاحتياطات اللازمة. والله أعلم
أجهزة الإنعاش
قرار رقم (5) بشأن أجهزة الإنعاش إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 - 13 صفر 1407 هـ/11 إلى 16 أكتوبر 1986 م. بعد تداوله في سائر النواحي التي أثيرت حول موضوع «أجهزة الإنعاش» واستماعه إلى شرح مستفيض من الأطباء المختصين. قرر ما يلي: يعتبر شرعاً أن الشخص قد مات وتترتب جميع الأحكام المقررة شرعاً للوفاة عند ذلك إذا تبينت فيه إحدى العلامتين التاليتين: 1 - إذا توقف قلبه وتنفسه توقفاً تاماً وحكم الأطباء بأن هذا التوقف لا رجعة فيه. 2 - إذا تعطلت جميع وظائف دماغه تعطلاً نهائياً، وحكم الأطباء الاختصاصيون الخبراء بأن هذا التعطل لا رجعة فيه، وأخذ دماغه في التحلل. وفي هذه الحالة يسوغ رفع أجهزة الإنعاش المركبة على الشخص وإن كان بعض الأعضاء كالقلب مثلاً لا يزال يعمل آلياً بفعل الأجهزة المركبة. والله أعلم
توحيد بدايات الشهور القمرية
قرار رقم (6) بشأن «توحيد بدايات الشهور القمرية» إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 - 13 صفر 1407 هـ/11 إلى 16 أكتوبر 1986 م. بعد استعراضه في قضية «توحيد بدايات الشهور القمرية» مسألتين: الأولى: مدى تأثير اختلاف المطالع على توحيد بداية الشهور الثانية: حكم إثبات أوائل الشهور القمرية بالحساب الفلكي. وبعد استماعه إلى الدراسات المقدمة من الأعضاء والخبراء حول هذه المسألة. قرر: 1 - في المسألة الأولى: إذا ثبتت الرؤية في بلد وجب على المسلمين الالتزام بها ولا عبرة لاختلاف المطالع لعموم الخطاب بالأمر بالصوم والإفطار. 2 - في المسألة الثانية: وجوب الاعتماد على الرؤية، ويستعان بالحساب الفلكي والمراصد مراعاة للأحاديث النبوية والحقائق العلمية. والله أعلم
الإحرام للقادم للحج والعمرة بالطائرة والباخرة
قرار رقم (7) بشأن «الإحرام للقادم للحج والعمرة بالطائرة والباخرة» إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 - 13 صفر 1407 هـ/11 إلى 16 أكتوبر 1986 م. بعد اطلاعه على البحوث المقدمة بخصوص موضوع «الإحرام للقادم للحج والعمرة بالطائرة والباخرة». قرر: أن المواقيت المكانية التي حددتها السنة النبوية يجب الإحرام منها لمريد الحج أو العمرة، للمار عليها أو للمحاذي لها أرضاً أو جواً أو بحراً لعموم الأمر بالإحرام منها في الأحاديث النبوية الشريفة. والله أعلم
صرف الزكاة لصالح صندوق التضامن الإسلامي
قرار رقم (8) بشأن «صرف الزكاة لصالح صندوق التضامن الإسلامي» إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 - 13 صفر 1407 هـ/11 إلى 16 أكتوبر 1986 م. بعد استماعه لبيان الأمين العام المساعد لمنظمة المؤتمر الإسلامي حول أنشطة صندوق التضامن الإسلامي وحاجته الماسة إلى الدعم المادي، واقتراحه أن يكون مصرفاً من مصارف الزكاة. قرر: تكليف الأمانة العامة بالتعاون مع صندوق التضامن الإسلامي بإعداد الدراسات اللازمة لبحث الموضوع وعرضها على مجلس المجمع في دورته القادمة. والله الموفق
أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملة
قرار رقم (9) بشأن «أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملة» إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 - 13 صفر 1407 هـ/11 إلى 16 أكتوبر 1986 م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع «أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملة». قرر: أولاً: بخصوص أحكام العملات الورقية: أنها نقود اعتبارية فيها صفة الثمنية كاملة ولها الأحكام الشرعية المقررة للذهب والفضة من حيث أحكام الربا والزكاة والسلم وسائر أحكامهما. ثانياً: بخصوص قيمة العملة: تأجيل النظر في هذه المسألة حتى تستوفى دراسة كل جوانبها لتنظر في الدورة الرابعة للمجلس. والله الموفق
سندات المقارضة وسندات التنمية والاستثمار
قرار رقم (10) بشأن «سندات المقارضة وسندات التنمية والاستثمار» إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 - 13 صفر 1407 هـ/11 إلى 16 أكتوبر 1986 م. بعد اطلاعه على البحث المقدم في موضوع «سندات المقارضة وسندات التنمية والاستثمار» واستماعه للمناقشات التي دارت حوله. وجرياً على خطة المجمع في وجوب إعداد عدد من الدراسات في الموضوع الواحد. ونظراً لأهمية هذا الموضوع وضرورة بحث استكمال جميع جوانبه وتغطية كل تفصيلاته والتعرف على جميع الآراء فيه. قرر: أن تقوم الأمانة العامة للمجمع بتكليف من تراه لإعداد عدد من البحوث فيه ليتمكن المجمع من اتخاذ القرار المناسب في دورته الرابعة. والله الموفق
استفسارات المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن
قرار رقم (11) بشأن «استفسارات المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن» إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 - 13 صفر 1407 هـ/11 إلى 16 أكتوبر 1986 م. بعد اطلاعه على الاستفسارات التي عرضها «المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن» وما أعد من إجابات عليها من بعض الأعضاء والخبراء. قرر: تكليف الأمانة العامة للمجمع بتبليغ المعهد المذكور بما أقره المجلس من إجابات. بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. ما أقره المجمع من أجوبة على الاستفسارات (¬1). السؤال الثالث: ما حكم زواج المسلمة بغير المسلم خاصة إذا طمعت في إسلامه بعد الزواج ¬
حيث تدعي مسلمات كثيرات أنه لا يتوفر لهن الأكفاء من المسلمين في غالب الأحيان، وأنهن مهددات بالانحراف أو يعشن في وضع شديد الحرج؟ الجواب: زواج المسلمة بغير المسلم ممنوع شرعاً بالكتاب والسنة والإجماع. وإذا وقع فهو باطل، ولا تترتب عليه الآثار الشرعية المترتبة على النكاح، والأولاد المولودون عن هذا الزواج أولاد غير شرعيين. ورجاء إسلام الرجال لا يغير من هذا الحكم شيئاً. السؤال الرابع: ما حكم استمرار الزوجية والمعاشرة بين زوجة دخلت الإسلام وبقي زوجها على الكفر ولها منه أولاد تخشى عليهم الضياع والانحراف، ولها طمع في أن يهتدي زوجها إلى الإسلام لو استمرت العلاقة الزوجية بينها وبينه. وما الحكم فيما إذا لم يكن هناك طمع في إسلامه، ولكنه يحسن معاشرتها وتخشى لو تركته ألا تعثر على زوج مسلم؟ الجواب: بمجرد إسلام المرأة وأبى الزوج الإسلام ينفسخ نكاحهما، فلا تحل معاشرته لها، ولكنها تنتظر مدة العدة، فإن أسلم خلالها عادت إليه بعقدهما السابق. أما إذا انقضت عدتها ولم يسلم فقد انقطع ما بينهما فإن أسلم ـ بعد ذلك ـ ورغب للعودة إلى زواجهما عاد بعقد جديد. ولا تأثير لما يسمى بحسن المعاشرة في إباحة استمرار الزوجية.
السؤال الخامس: ما حكم دفن المسلم في مقابر غير المسلمين، حيث لا يسمح للدفن خارج المقابر المعدة لذلك ولا توجد مقابر خاصة بالمسلمين في معظم الولايات الأمريكية والأقطار الأوربية؟ الجواب: إن دفن المسلم في مقابر غير المسلمين في بلاد غير إسلامية جائز للضرورة. السؤال السادس: ماحكم بيع المسجد «إذا انتقل المسلمون عن المنطقة التي هو فيها وخيف تلفه أو الاستيلاء عليه». فكثيراً ما يشتري المسلمون منزلاً ويحولونه مسجداً فإذا انتقلت غالبية المسلمين من المنطقة لظروف العمل هجر المسجد أو أهمل، وقد يستولي عليه آخرون. ومن الممكن بيعه واستبداله بمسجد يؤسس في مكان فيه مسلمون. فما حكم هذا البيع أو الاستبدال؟ وإذا لم تتيسر فرصة استبداله بمسجد آخر فما أقرب الوجوه التي يجوز صرف ثمن المسجد فيها؟ الجواب: يجوز بيع المسجد الذي تعطل الانتفاع به، أو هجر المسلمون المكان الذي هو فيه أو خيف استيلاء الكفار عليه، على أن يشترى بثمنه مكاناً آخر يتخذ مسجداً. السؤال الثامن: بعض النساء أو الفتيات تضطرهن ظروف العمل أو الدراسة إلى الإقامة بمفردهن، أو مع نسوة غير مسلمات، فما حكم هذه الإقامة؟ الجواب: لا يجوز للمرأة المسلمة أن تقيم وحدها شرعاً في بلاد الغربة.
السؤال التاسع: كثيرات من النساء هنا، يذكرن أن أقصى ما بإمكانهن ستره من أجسادهن هو ما عدا الوجه والكفين، وبعضهن تمنعهنّ جهات العمل من ستر رؤوسهن فما أقصى ما يمكن السماح بكشفه من أجزاء جسم المرأة بين الأجانب في محلات العمل أو الدراسة؟ الجواب: إن حجاب المرأة المسلمة ـ عند جمهور العلماء ـ ستر جميع بدنها عدا الوجه والكفين إذا لم تخش فتنة، فإن خيفت فتنة يجب سترهما أيضاً. السؤال العاشر والسؤال الحادي عشر: ـ يضطر الكثير من الطلاب المسلمين إلى العمل في هذه البلاد لتغطية نفقات الدراسة والمعيشة لأن كثيراً منهم لا يكفيه ما يرده من ذويه مما يجعل العمل ضرورة له لا يمكن أن يعيش بدونه، وكثيراً ما لا يجد عملاً إلا في مطاعم تبيع الخمور أو تقدم وجبات فيها لحم الخنزير وغيره من المحرمات فما حكم عمله في هذه المحلات؟ ـ وما حكم بيع المسلم للخمور والخنازير، أو صناعة الخمور وبيعها لغير المسلمين؟ علماً بأن بعض المسلمين في هذه البلدان قد اتخذوا من ذلك حرفة لهم. الجواب: للمسلم إذا لم يجد عملا مباحاً شرعاً، العمل في مطاعم الكفار بشرط ألا يباشر بنفسه سقي الخمر أو حملها أو صناعتها أو الاتجار بها، وكذلك الحال بالنسبة لتقديم لحوم الخنازير ونحوها من المحرمات.
السؤال الثاني عشر: هناك كثير من الأدوية تحوي كميات مختلفة من الكحول تترواح بين 01% و25% ومعظم هذه الأدوية من أدوية الزكام واحتقان الحنجرة والسعال وغيرها من الأمراض السائدة. وتمثل هذه الأدوية الحاوية للكحول ما قارب 95% من الأدوية في هذا المجال مما يجعل الحصول على الأدوية الخالية من الكحول عملية صعبة أو متعذرة، فما حكم تناول هذه الأدوية؟ الجواب: للمريض المسلم تناول الأدوية المشتملة على نسبة من الكحول إذا لم يتيسر دواء خال منها، ووصف ذلك الدواء طبيب ثقة أمين في مهنته. السؤال الثالث عشر: هناك الخمائر والجلاتين توجد فيها عناصر مستخلصة من الخنزير بنسب ضئيلة جداً، فهل يجوز استعمال هذه الخمائر والجلاتين؟ الجواب: لا يحل للمسلم استعمال الخمائر والجلاتين المأخوذة من الخنازير في الأغذية، وفي الخمائر والجلاتين المتخذة من النباتات أو الحيوانات المذكاة شرعاً غُنية عن ذلك. السؤال الرابع عشر: اضطر معظم المسلمين إلى إقامة حفلات الزفاف لبناتهم في مساجدهم، وكثيراً ما يتخلل هذه الحفلات رقص وإنشاد أو غناء، ولا تتوفر لهن أماكن تتسع لمثل هذه الحفلات فما حكم إقامة هذه الحفلات في المساجد؟
الجواب: يندب عقد النكاح في المساجد، ولا تجوز إقامة الحفلات فيها إذا اقترنت بمحظور شرعي كاختلاط الرجال بالنساء وتبرجهن والرقص والغناء. السؤال السادس عشر: ما حكم زواج الطالب أو الطالبة المسلمة زواجاً لا ينوي استدامته بل النية منعقدة عنده على إنهائه بمجرد انتهاء الدراسة والعزم على العودة إلى مكان الإقامة الدائم، ولكن العقد يكون ـ عادة ـ عقداً عادياً بالصيغة نفسها التي يعقد بها الزواج المؤبد، فما حكم هذا الزواج؟ الجواب: الأصل في الزواج الاستمرار والتأبيد وإقامة أسرة مستقرة ما لم يطرأ عليه ما ينهيه. السؤال السابع عشر: ما حكم ظهور المرأة في محلات العمل أو الدراسة بعد أن تأخذ من شعر حاجبيها وتكتحل؟ الجواب: الاكتحال للرجال والنساء جائز شرعاً. أما نتف بعض الحاجبين فلا يجوز إلا إذا كان الشعر مشوهاً لخلقة المرأة. السؤال الثامن عشر: بعض المسلمات يجدن حرجاً في عدم مصافحتهن للأجانب الذين يرتادون
الأماكن التي يعملن أو يدرسن فيها، فيصافحن الأجانب دفعاً للحرج، فما حكم هذه المصافحة؟ وكذلك الحال بالنسبة لكثير من المسلمين الذين تتقدم إليهم نساء أجنبيات مصافحات، وامتناعهم عن مصافحتهن يوقعهم في شيء من الحرج على حد ما يذكرون ويذكرن؟ الجواب: مصافحة الرجل المرأة الأجنبية البالغة ممنوعة شرعاً وكذلك العكس. السؤال التاسع عشر: ما حكم استئجار الكنائس أماكن لإقامة الصلوات الخمس أو صلاة الجمعة والعيدين، مع وجود التماثيل وما تحتويه الكنائس عادة .. علماً بأن الكنائس ـ في الغالب ـ أرخص الأماكن التي يمكن استئجارها من النصارى وبعضها تقدمه الجامعات أو الهيئات الخيرية للاستفادة منه في هذه المناسبات دون مقابل؟ الجواب: استئجار الكنائس للصلاة لا مانع منه شرعاً عند الحاجة، وتجتنب الصلاة إلى التماثيل والصور وتستر بحائل إذا كانت باتجاه القبلة. السؤال العشرون: ما حكم ذبائح أهل الكتاب من اليهود والنصارى وما يقدمونه من طعام في مطاعمهم مع عدم العلم بالتسمية عليها؟
الجواب: ذبائح الكتابيين جائزة شرعاً إذا ذكيت بالطريقة المقبولة شرعاً، ولم يذكر اسم الله عليها، ويوصي المجمع بدراسة متعمقة للموضوع في دورته القادمة. السؤال الحادي والعشرون: كثير من المناسبات العامة التي يدعى المسلمون لحضورها تقدم فيها الخمور ويختلط فيها النساء والرجال، واعتزال المسلمين لبعض هذه المناسبات قد يؤدي إلى عزلهم عن بقية أبناء المجتمع، وفقدانهم لبعض الفوائد. فما حكم حضور هذه الحفلات من غير مشاركة لهم في شرب الخمر أو الرقص أو تناول الخنزير؟ الجواب: في حضور حفلات تقدم فيها الخمور لا يجوز للمسلم أو المسلمة حضور مجالس المعاصي والمنكرات. السؤال الثالث والعشرون: في كثير من الولايات الأمريكية وكذلك الأقطار الأوربية تصعب أو تتعذر رؤية هلال رمضان أو شوال، والتقدم العلمي الموجود في كثير من هذه البلدان يمكن من معرفة ولادة الهلال بشكل دقيق بطريق الحساب، فهل يجوز اعتماد الحساب في هذه البلدان؟ وهل تجوز الاستعانة بالمراصد وقبول قول الكفار المشرفين عليها علماً أن الغالب على الظن صدق قولهم في هذه الأمور؟
ومما يجدر بالملاحظة أن اتباع المسلمين في أمريكا وأوربا لبعض البلدان الإسلامية المشرقية في صيامها أو إفطارها قد أثار بينهم اختلافات كثيرة، غالباً ما تذهب بأهم فوائد الأعياد، وتثير مشكلات شبه دائمة، وفي الأخذ بالحساب ما قد يقضي على هذا في نظر البعض أو يكاد. الجواب: يجب الاعتماد على الرؤية، ويستعان بالحساب الفلكي والمراصد مراعاة للأحاديث النبوية والحقائق العلمية. وإذا ثبتت الرؤية في بلد وجب على المسلمين الالتزام بها ولا عبرة لاختلاف المطالع لعموم الخطاب بالأمر بالصوم والإفطار. السؤال الرابع والعشرون: ما حكم عمل المسلم في دوائر ووزارات الحكومة الأمريكية أو غيرها من حكومات البلاد الكافرة، خاصة في مجالات هامة كالصناعات الذرية أو الدراسات الاستراتيجية ونحوها؟ الجواب: يجوز للمسلم العمل المباح شرعاً في دوائر ومؤسسات حكومات غير إسلامية إذا لم يؤد عمله ذلك إلى إلحاق ضرر بالمسلمين. السؤال الخامس والعشرون والسؤال السادس والعشرون: ـ ما حكم تصميم المهندس المسلم لمباني النصارى كالكنائس وغيرها علماً بأن هذا هو جزء من عمله في الشركة الموظفة له، وفي حالة امتناعه قد يتعرض للفصل من العمل؟ ـ
ما حكم تبرع المسلم فرداً كان أو هيئة لمؤسسات تعليمية أو تنصيرية أو كنَسِية؟ الجواب: لا يجوز للمسلم تصميم أو بناء معابد الكفار أو الإسهام في ذلك مالياً أو فعلياً. السؤال السابع والعشرون: كثير من العائلات المسلمة يعمل رجالها في بيع الخمور والخنزير وما شابه ذلك، وزوجاتهم وأولادهم كارهون لذلك علماً بأنهم يعيشون بمال الرجل، فهل عليهم من حرج في ذلك؟ الجواب: للزوجة والأولاد غير القادرين على الكسب الحلال أن يأكلوا للضرورة من كسب الزوج المحرم شرعاً، كبيع الخمر والخنزير وغيرهما من المكاسب الحرام بعد بذل الجهد في إقناعه بالكسب الحلال والبحث عن عمل. السؤال الثامن والعشرون: ما حكم شراء منزل السكنى وسيارة الاستعمال الشخصي وأثاث المنزل بواسطة البنوك والمؤسسات التي تفرض ربحاً محدداً على تلك القروض لقاء رهن تلك الأصول، علماً بأنه في حالة البيوت والسيارات والأثاث عموماً، يعتبر البديل عن البيع هو الإيجار بقسط شهري يزيد في الغالب عن قسط الشراء الذي تستوفيه البنوك؟ الجواب: لا يجوز شرعاً. والله أعلم
المشاريع العلمية للمجمع
قرار رقم (12) بشأن «المشاريع العلمية للمجمع» إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 - 13 صفر 1407 هـ/11 إلى 16 أكتوبر 1986 م. بعد دراسة تقرير شعبة التخطيط عن اجتماعها يومي 8 و 9 صفر 1407 هـ 11 - 12 أكتوبر 1986 م، والذي بحثت فيه عدداً من الأمور المدرجة على جدول أعمالها. قرر: أولاً: الموافقة على المشاريع التالية بعد أن أدخل عليها بعض التعديلات: 1 - الموسوعة الفقهية. 2 - معجم المصطلحات الفقهية. 3 - معلمة القواعد الفقهية. 4 - مدونة أدلة الأحكام الفقهية. 5 - إحياء التراث الفقهي. 6 - اللائحة المالية للموسوعة الفقهية.
7 - اللائحة المالية لمعجم المصطلحات الفقهية. 8 - اللائحة المالية لإحياء التراث الفقهي. 9 - منهج سير عمل ومناقشات وإدارة جلسات المجلس. ثانياً: تأليف لجنة علمية رباعية لوضع منهج لكل من مشروعي معلمة القواعد الفقهية ومدونة أدلة الأحكام الفقهية بالتشاور بين رئيس المجلس والأمين العام. والله الموفق
توصيات الدورة الثالثة لمجلس مجمع الفقه الإسلامي
توصيات الدورة الثالثة لمجلس مجمع الفقه الإسلامي إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 - 13 صفر 1407 هـ/11 إلى 16 أكتوبر 1986 م. بعد استماعه إلى بيان سمو ولي عهد المملكة الأردنية الهاشمية الأمير الحسن ابن طلال، حول المشكلات الملحة التي يعاني منها المسلمون في مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وضرورة التوجه لتلبية الحاجات الملحة للمسلمين في مواجهة آثار الفقر والمرض والجهل، وتحقيق الحياة الكريمة للإنسان. وبعد اطلاعه على نداء سمو ولي عهد المملكة الأردنية الهاشمية الموجه إلى العالم العربي والإسلامي لإغاثة السودان. وبعد استشعاره وهو ينعقد على مقربة من المسجد الأقصى المبارك بضرورة مضاعفة الجهد من أجل استنقاذ أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين. وفي ضوء قناعته بضرورة الاهتمام بالدرجة الأولى بالقضايا التي تتصل بحياة المسلمين الاجتماعية والاقتصادية والتضامنية، وبضرورة تعميق الدراسة والبحث فيها بالتركيز على الندوات العلمية والأيام الدراسية ونحوها. يوصي بما يلي: أولاً:
ضرورة تبني برنامج إسلامي واسع للإغاثة ينفق عليه من صندوق مستقل ينشأ لهذا الغرض ويمول من أموال الزكاة والتبرعات والأوقاف الخيرية. ثانياً: مناشدة الأمة الإسلامية شعوباً وحكومات أن تعمل جهدها لاستنقاذ أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين وتحرير الأرض المحتلة بحشد طاقاتها وبناء ذاتها وتوحيد صفوفها والتسامي على كل أسباب الاختلاف بينها وتحكيم شريعة الله سبحانه في حياتها الخاصة والعامة. ثالثاً: الاهتمام بأعمال المجمع في مجالات الدراسات والبحوث والفتوى والمشاريع، وبالقضايا الهامة للمسلمين والتي تتصل بحياتهم الاجتماعية والاقتصادية وتوحيد صفوفهم وجمع كلمتهم وتحقيق أسباب التكافل والتضامن بينهم وتمكينهم من مواجهة كل التحديات ومن إقامة حياتهم على هدي من شريعة الله سبحانه. رابعاً: التمييز بين قضايا الدراسات والبحوث وموضوعات الفتوى وذلك بالتركيز في البحوث والدراسات بصفة خاصة على الندوات العلمية والأيام الدراسية وفق خطة تعدها شعبة التخطيط في المجمع لتعرض على المجلس. والله الموفق
الدورة الرابعة لمجلس مجمع الفقه الإسلامي
القَرارَات وَالتوصيَات الدَّورَة الرابعة لمجلس مجْمع الفقه الإسلامي جدة: 18 - 23 جمادى الآخرة 1408 هـ/ 6 - 11 فبراير 1988م القرارات بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه قرار رقم (1) بشأن انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حياً كانَ أو ميتاً إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18 - 23 جمادى الآخرة 1408 هـ، الموافق 6 - 11 فبراير 1988 م. بعد اطلاعه على الأبحاث الفقهية والطبية الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع «انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حياً أو ميتاً». وفي ضوء المناقشات التي وجهت الأنظار إلى أن هذا الموضوع أمر واقع فرضه التقدم العلمي والطبي، وظهرت نتائجه الإيجابية المفيدة والمشوبة في كثير
من الأحيان بالأضرار النفسية والاجتماعية الناجمة عن ممارسته دون الضوابط والقيود الشرعية التي تصان بها كرامة الإنسان، ومع مراعاة مقاصد الشريعة الإسلامية الكفيلة بتحقيق كل ما هو خير ومصلحة غالبة للفرد والجماعة، والداعية إلى التعاون والتراحم والإيثار. وبعد حصر هذا الموضوع في النقاط التي يتحرر فيها محل البحث وتنضبط تقسيماته وصوره وحالاته التي يختلف الحكم تبعاً لها. قرر ما يلي: من حيث التعريف والتقسيم: أولاً: يقصد هنا بالعضو: أي جزء من الإنسان، من أنسجة وخلايا ودماء ونحوها، كقرنية العين، سواء أكان متصلاً به، أم انفصل عنه. ثانياً: الانتفاع الذي هو محل البحث، هو استفادة دعت إلىها ضرورة المستفيد لاستبقاء أصل الحياة، أو المحافظة على وظيفة أساسية من وظائف الجسم كالبصر ونحوه. على أن يكون المستفيد يتمتع بحياة محترمة شرعاً. ثالثاً: تنقسم صور الانتفاع هذه إلى الأقسام التالية: 1 - نقل العضو من حي 2 - نقل العضو من ميت 3 - النقل من الأجنّة الصورة الأولى: وهي نقل العضو من حي، تشمل الحالات التالية:
أـ نقل العضو من مكان من الجسد إلى مكان آخر من الجسد نفسه، كنقل الجلد والغضاريف والعظام والأوردة والدم ونحوها. ب ـ نقل العضو من جسم إنسان حي إلى جسم إنسان آخر. وينقسم العضو في هذه الحالة إلى ما تتوقف عليه الحياة وما لا تتوقف عليه. أما ما تتوقف عليه الحياة، فقد يكون فردياً، وقد يكون غير فردي، فالأول كالقلب والكبد، والثاني كالكلية والرئتين. وأما ما لا تتوقف عليه الحياة، فمنه ما يقوم بوظيفة أساسية في الجسم ومنه ما لا يقوم بها. ومنه ما يتجدد تلقائياً كالدم، ومنه ما لا يتجدد، ومنه ما له تأثير على الأنساب والموروثات، والشخصية العامة، كالخصية والمبيض وخلايا الجهاز العصبي، ومنه ما لا تأثير له على شيء من ذلك. الصورة الثانية: وهي نقل العضو من ميت: ويلاحظ أن الموت يشمل حالتين: الحالة الأولى: موت الدماغ بتعطل جميع وظائفه تعطلاً نهائياً لا رجعة فيه طبياً. الحالة الثانية: توقف القلب والتنفس معاً توقفاً تاماً لا رجعة فيه طبياً. فقد روعي في كلتا الحالتين قرار المجمع في دورته الثالثة. الصورة الثالثة: وهي النقل من الأجنة، وتتم الاستفادة منها في ثلاث حالات: حالة الأجنة التي تسقط تلقائياً. حالة الأجنة التي تسقط لعامل طبي أو جنائي. حالة «اللقائح المستنبتة خارج الرحم».
من حيث الأحكام الشرعية: أولاً: يجوز نقل العضو من مكان من جسم الإنسان إلى مكان آخر من جسمه، مع مراعاة التأكد من أن النفع المتوقع من هذه العملية أرجح من الضرر المترتب عليها، وبشرط أن يكون ذلك لإيجاد عضو مفقود أو لإعادة شكله أو وظيفته المعهودة له، أو لإصلاح عيب أو إزالة دمامة تسبب للشخص أذى نفسياً أو عضوياً. ثانياً: يجوز نقل العضو من جسم إنسان إلى جسم إنسان آخر، إن كان هذا العضو يتجدد تلقائياً، كالدم والجلد، ويراعى في ذلك اشتراط كون الباذل كامل الأهلية، وتحقق الشروط الشرعية المعتبرة. ثالثاً: تجوز الاستفادة من جزء من العضو الذي استؤصل من الجسم لعلة مرضية لشخص آخر، كأخذ قرنية العين لإنسان ما عند استئصال العين لعلة مرضية. رابعاً: يحرم نقل عضو تتوقف عليه الحياة كالقلب من إنسان حي إلى إنسان آخر. خامساً: يحرم نقل عضو من إنسان حي يعطل زواله وظيفة أساسية في حياته وإن لم تتوقف سلامة أصل الحياة عليها كنقل قرنية العينين كلتيهما، أما إن كان النقل يعطل جزءاً من وظيفة أساسية فهو محل بحث ونظر كما يأتي في الفقرة الثامنة. سادساً: يجوز نقل عضو من ميت إلى حي تتوقف حياته على ذلك العضو، أو تتوقف سلامة وظيفة أساسية فيه على ذلك. بشرط أن يأذن الميت أو ورثته بعد موته، أو بشرط موافقة وليّ المسلمين إن كان المتوفى مجهول الهوية أو لا ورثة له.
سابعاً: وينبغي ملاحظة أن الاتفاق على جواز نقل العضو في الحالات التي تم بيانها، مشروط بأن لا يتم ذلك بوساطة بيع العضو. إذ لا يجوز إخضاع أعضاء الإنسان للبيع بحال ما. أما بذل المال من المستفيد، ابتغاء الحصول على العضو المطلوب عند الضرورة أو مكافأة وتكريماً، فمحل اجتهاد ونظر. ثامناً: كل ما عدا الحالات والصور المذكورة، مما يدخل في أصل الموضوع، فهو محل بحث ونظر، ويجب طرحه للدراسة والبحث في دورة قادمة، على ضوء المعطيات الطبية والأحكام الشرعية. والله أعلم
صرف الزكاة لصالح صندوق التضامن الإسلامي
قرار رقم (2) بشأن صرف الزكاة لصالح صندوق التضامن الإسلامي إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18 - 23 جمادى الآخرة 1408 هـ، الموافق 6 - 11 فبراير 1988 م. بعد اطلاعه على المذكرة التفسيرية بشأن «صندوق التضامن الإسلامي ووقفيته» المقدمة إلى الدورة الثالثة للمجمع، وعلى الأبحاث الواردة إلى المجمع في دورته الحالية بخصوص موضوع «صرف الزكاة لصالح صندوق التضامن الإسلامي». يوصي: ـ عملاً على تمكين صندوق التضامن الإسلامي من تحقيق أهدافه الخيرة (المبينة في نظامه الأساسي) والتي أنشئ من أجلها، والتزاماً بقرار القمة الإسلامي الثاني الذي نص على إنشاء هذا الصندوق وتمويله من مساهمات الدول الأعضاء، ونظراً لعدم انتظام بعض الدول في تقديم مساعداتها الطوعية له، يناشد المجمع الدول والحكومات والهيئات والموسرين المسلمين القيام بواجبهم في دعم موارد الصندوق بما يمكنه من تحقيق مقاصده النبيلة في خدمة الأمة الإسلامية. ويقرر:
أولاً: لا يجوز صرف أموال الزكاة لدعم وقفية صندوق التضامن الإسلامي، لأن في ذلك حبساً للزكاة عن مصارفها الشرعية المحددة في الكتاب الكريم. ثانياً: لصندوق التضامن الإسلامي أن يكون وكيلاً عن الأشخاص والهيئات في صرف الزكاة في وجوهها الشرعية بالشروط التالية: أـ أن تتوافر شروط الوكالة الشرعية بالنسبة للموكل والوكيل. ب ـ أن يدخل الصندوق على نظامه الأساسي، وأهدافه، التعديلات المناسبة التي تمكنه من القيام بهذا النوع من التصرفات. جـ ـ أن يخصص صندوق التضامن حساباً خاصاً بالأموال الواردة من الزكاة بحيث لا تختلط بالموارد الأخرى التي تنفق في غير مصارف الزكاة الشرعية، كالمرافق العامة ونحوها. د ـ لا يحق للصندوق صرف شيء من هذه الأموال الواردة للزكاة في النفقات الإدارية ومرتبات الموظفين وغيرها من النفقات التي لا تندرج تحت مصارف الزكاة الشرعية. هـ ـ لدافع الزكاة أن يشترط على الصندوق دفع زكاته فيما يحدده من مصارف الزكاة الثمانية، وعلى الصندوق ـ في هذه الحالة ـ أن يتقيد بذلك. وـ يلتزم الصندوق بصرف هذه الأموال إلى مستحقيها في أقرب وقت ممكن حتى يتيسر لمستحقيها الانتفاع بها، وفي مدة أقصاها سنة. والله أعلم
زكاة الأسهم في الشركات
قرار رقم (3) بشأن زكاة الأسهم في الشركات إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18 - 23 جمادى الآخرة 1408 هـ، الموافق 6 - 11 فبراير 1988 م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع «زكاة أسهم الشركات». قرر ما يلي: أولاً: تجب زكاة الأسهم على أصحابها، وتخرجها إدارة الشركة نيابة عنهم إذا نص في نظامها الأساسي على ذلك، أو صدر به قرار من الجمعية العمومية، أو كان قانون الدولة يلزم الشركات بإخراج الزكاة، أو حصل تفويض من صاحب الأسهم لإخراج إدارة الشركة زكاة أسهمه. ثانياً: تخرج إدارة الشركة زكاة الأسهم كما يخرج الشخص الطبيعي زكاة أمواله، بمعنى أن تعتبر جميع أموال المساهمين بمثابة أموال شخص واحد وتفرض عليها الزكاة بهذا الاعتبار من حيث نوع المال الذي تجب فيه الزكاة، ومن حيث النصاب، ومن حيث المقدار الذي يؤخذ، وغير ذلك مما يراعى في زكاة الشخص الطبيعي، وذلك أخذاً بمبدأ الخلطة عند من عممه من الفقهاء في جميع الأموال.
ويطرح نصيب الأسهم التي لا تجب فيها الزكاة، ومنها أسهم الخزانة العامة، وأسهم الوقف الخيري، وأسهم الجهات الخيرية، وكذلك أسهم غير المسلمين. ثالثاً: إذا لم تزك الشركة أموالها لأي سبب من الأسباب، فالواجب على المساهمين زكاة أسهمهم، فإذا استطاع المساهم أن يعرف من حسابات الشركة ما يخص أسهمه من الزكاة لو زكت الشركة أموالها على النحو المشار إليه، زكى أسهمه على هذا الاعتبار، لأنه الأصل في كيفية زكاة الأسهم. وإن لم يستطع المساهم معرفة ذلك: فإن كان ساهم في الشركة بقصد الاستفادة من ريع الأسهم السنوي، وليس بقصد التجارة فإنه يزكيها زكاة المستغلات. وتمشّياً مع ما قرره مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثانية بالنسبة لزكاة العقارات والأراضي المأجورة غير الزراعية، فإن صاحب هذه الأسهم لا زكاة عليه في أصل السهم، وإنما تجب الزكاة في الريع، وهي ربع العشر بعد دوران الحول من يوم قبض الريع مع اعتبار توافر شروط الزكاة وانتفاء الموانع. وإن كان المساهم قد اقتنى الأسهم بقصد التجارة، زكاها زكاة عروض التجارة، فإذا جاء حول زكاته وهي في ملكه، زكى قيمتها السوقية وإذا لم يكن لها سوق، زكى قيمتها بتقويم أهل الخبرة، فيخرج ربع العشر 2.5% من تلك القيمة ومن الربح إذا كان للأسهم ربح. رابعاً: إذا باع المساهم أسهمه في أثناء الحول ضم ثمنها إلى ماله وزكاه معه عندما يجيء حول زكاته. أما المشتري فيزكي الأسهم التي اشتراها على النحو السابق. والله أعلم
انتزاع الملكية للمصلحة العامة
قرار رقم (4) بشأن انتزاع الملكية للمصلحة العامة إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18 - 23 جمادى الآخرة 1408 هـ، الموافق 6 - 11 فبراير 1988 م. بعد الاطلاع على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع «انتزاع الملك للمصلحة العامة». وفي ضوء ما هو مسلَّم في أصول الشريعة، من احترام الملكية الفردية، حتى أصبح ذلك من قواطع الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة، وأن حفظ المال أحد الضروريات الخمس التي عرف من مقاصد الشريعة رعايتها وتواردت النصوص الشرعية من الكتاب والسنة على صونها، مع استحضار ما ثبت بدلالة السنة النبوية وعمل الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم من نزع ملكية العقار للمصلحة العامة، تطبيقاً لقواعد الشريعة العامة في رعاية المصالح وتنزيل الحاجة العامة منزلة الضرورة وتحمل الضرر الخاص لتفادي الضرر العام. قرر ما يلي: أولاً: يجب رعاية الملكية الفردية وصيانتها من أي اعتداء عليها، ولا يجوز تضييق نطاقها أو الحد منها، والمالك مسلط على ملكه، وله - في حدود المشروع- التصرف فيه بجميع وجوهه وجميع الانتفاعات الشرعية.
ثانياً: لا يجوز نزع ملكية العقار للمصلحة العامة إلا بمراعاة الضوابط والشروط الشرعية التالية: 1 - أن يكون نزع العقار مقابل تعويض فوري عادل يقدره أهل الخبرة بما لا يقل عن ثمن المثل. 2 - أن يكون نازعه ولي الأمر أو نائبه في ذلك المجال. 3 - أن يكون النزع للمصلحة العامة التي تدعو إليها ضرورة عامة أو حاجة عامة تنزل منزلتها كالمساجد والطرق والجسور. 4 - أن لا يؤول العقار المنزوع من مالكه إلى توظيفه في الاستثمار العام أو الخاص، وألا يعجل نزع ملكيته قبل الأوان. فإن اختلت هذه الشروط أو بعضها كان نزع ملكية العقار من الظلم في الأرض والغصوب التي نهى الله تعالى عنها ورسوله صلّى الله عليه وسلم. على أنه إذا صرف النظر عن استخدام العقار المنزوعة ملكيته في المصلحة المشار إليها تكون أولوية استرداده لمالكه الأصلي، أو لورثته بالتعويض العادل. والله أعلم
سندات المقارضة وسندات الاستثمار
قرار رقم (5) بشأن سندات المقارضة وسندات الاستثمار إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18 - 23 جمادى الآخرة 1408 هـ، الموافق 6 - 11 فبراير 1988 م. بعد اطلاعه على الأبحاث المقدمة في موضوع «سندات المقارضة وسندات الاستثمار» والتي كانت حصيلة الندوة التي أقامها المجمع بالتعاون مع المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب بالبنك الإسلامي للتنمية بتاريخ 6 - 9 محرم 1408 هـ/8/ 30 - 1987/ 9/2 م تنفيذاً لقرار رقم (10) المتخذ في الدورة الثالثة للمجمع وشارك فيها عدد من أعضاء المجمع وخبرائه وباحثي المعهد وغيره من المراكز العلمية والاقتصادية وذلك للأهمية البالغة لهذا الموضوع وضرورة استكمال جميع جوانبه، وللدور الفعال لهذه الصيغة في زيادة القدرة على تنمية الموارد العامة عن طريق اجتماع المال والعمل. وبعد استعراض التوصيات العشر التي انتهت إليها الندوة ومناقشتها في ضوء الأبحاث المقدمة في الندوة وغيرها. قرر ما يلي: أولاً: من حيث الصيغة المقبولة شرعاً لصكوك المقارضة: 1 - سندات المقارضة هي أداة استثمارية تقوم على تجزئة رأس مال القراض
(المضاربة) بإصدار صكوك ملكية برأس مال المضاربة على أساس وحدات متساوية القيمة ومسجلة بأسماء أصحابها باعتبارهم يملكون حصصاً شائعة في رأس مال المضاربة وما يتحول إليه، بنسبة ملكية كل منهم فيه. ويفضل تسمية هذه الأدلة الاستثمارية (صكوك المقارضة). 2 - الصورة المقبولة شرعاً لسندات المقارضة بوجه عام لا بد أن تتوافر فيها العناصر التالية: العنصر الأول: أن يمثل الصك ملكية حصة شائعة في المشروع الذي أصدرت الصكوك لإنشائه أو تمويله، وتستمر هذه الملكية طيلة المشروع من بدايته إلى نهايته. وترتب عليها جميع الحقوق والتصرفات المقررة شرعاً للمالك في ملكه من بيع وهبة ورهن وإرث وغيرها، مع ملاحظة أن الصكوك تمثل رأس مال المضاربة. العنصر الثاني: يقوم العقد في صكوك المقارضة على أساس أن شروط التعاقد تحددها (نشرة الإصدار) وأن (الإيجاب) يعبر عنه (الاكتتاب) في هذه الصكوك، وأن (القبول) تعبر عنه موافقة الجهة المصدِّرة. ولا بد أن تشتمل نشرة الإصدار على جميع البيانات المطلوبة شرعاً في عقد القراض (المضاربة) من حيث بيان معلومية رأس المال وتوزيع الربح مع بيان الشروط الخاصة بذلك الإصدار على أن تتفق جميع الشروط مع الأحكام الشرعية.
العنصر الثالث: أن تكون صكوك المقارضة قابلة للتداول بعد انتهاء الفترة المحددة للاكتتاب باعتبار ذلك مأذوناً فيه من المضارب عند نشوء السندات مع مراعاة الضوابط التالية: أـ إذا كان مال القراض المتجمع بعد الاكتتاب وقبل المباشرة في العمل بالمال ما يزال نقوداً، فإن تداول صكوك المقارضة يعتبر مبادلة نقد بنقد وتطبق عليه أحكام الصرف. ب ـ إذا أصبح مال القراض ديوناً تطبق على تداول صكوك المقارضة أحكام تداول التعامل بالديون. ج ـ إذا صار مال القراض موجودات مختلطة من النقود والديون والأعيان والمنافع، فإنه يجوز تداول صكوك المقارضة وفقاً للسعر المتراضى عليه، على أن يكون الغالب في هذه الحالة أعياناً ومنافع. أما إذا كان الغالب نقوداً أو ديوناً فتراعى في التداول الأحكام الشرعية التي ستبينها لائحة تفسيرية توضع وتعرض على المجمع في الدورة القادمة. وفي جميع الأحوال يتعين تسجيل التداول أصولياً في سجلات الجهة المصدِّرة. العنصر الرابع: أن من يتلقى حصيلة الاكتتاب في الصكوك لاستثمارها وإقامة المشروع بها هو المضارب، أي عامل المضاربة ولا يملك من المشروع إلا بمقدار ما قد يسهم به بشراء بعض الصكوك فهو رب مال بما أسهم به بالإضافة إلى أن المضارب شريك
في الربح بعد تحققه بنسبة الحصة المحددة له في نشرة الإصدار وتكون ملكيته في المشروع على هذا الأساس. وأن يد المضارب على حصيلة الاكتتاب في الصكوك وعلى موجودات المشروع هي يد أمانة لا يضمن إلا بسبب من أسباب الضمان الشرعية. 3 - مع مراعاة الضوابط السابقة في التداول: يجوز تداول سندات المقارضة في أسواق الأوراق المالية إن وجدت بالضوابط الشرعية وذلك وفقاً لظروف العرض والطلب ويخضع لإرادة العاقدين. كما يجوز أن يتم التداول بقيام الجهة المصدرة في فترات دورية معينة بإعلان أو إيجاب يوجه إلى الجمهور تلتزم بمقتضاه خلال مدة محددة بشراء هذه الصكوك من ربح مال المضاربة بسعر معين، ويحسن أن يستعين في تحديد السعر بأهل الخبرة وفقاً لظروف السوق والمركز المالي للمشروع. كما يجوز الإعلان عن الالتزام بالشراء من غير الجهة المصدرة من مالها الخاص، على النحو المشار إليه. 4 - لا يجوز أن تشتمل نشرة الإصدار أو صكوك المقارضة على نص بضمان عامل المضاربة رأس المال أو ضمان ربح مقطوع أو منسوب إلى رأس المال، فإن وقع النص على ذلك صراحة أو ضمناً بَطَلَ شرط الضمان واستحق المضارب ربح مضاربة المثل. 5 - لا يجوز أن تشتمل نشرة الإصدار ولا صك المقارضة الصادر بناء عليها على نص يلزم بالبيع ولو كان معلقاً أو مضافاً للمستقبل. وإنما يجوز أن يتضمن صك المقارضة وعداً بالبيع. وفي هذه الحالة لا يتم البيع إلا بعقد بالقيمة المقدرة من الخبراء وبرضى الطرفين. 6 - لا يجوز أن تتضمن نشرة الإصدار ولا الصكوك المصدرة على أساسها نصاً يؤدي إلى احتمال قطع الشركة في الربح فإن وقع كان العقد باطلاً.
ويترتب على ذلك: أـ عدم جواز اشتراط مبلغ محدد لحملة الصكوك أو صاحب المشروع في نشرة الإصدار وصكوك المقارضة الصادرة بناء عليها. ب ـ أن محل القسمة هو الربح بمعناه الشرعي، وهو الزائد عن رأس المال وليس الإيراد أو الغلة. ويعرف مقدار الربح، إما بالتنضيض أو بالتقويم للمشروع بالنقد، وما زاد عن رأس المال عند التنضيض أو التقويم فهو الربح الذي يوزع بين حملة الصكوك وعامل المضاربة، وفقاً لشروط العقد. ج ـ أن يعد حساب أرباح وخسائر للمشروع وأن يكون معلناً وتحت تصرف حملة الصكوك. 7 - يستحق الربح بالظهور، ويملك بالتنضيض أو التقويم ولا يلزم إلا بالقسمة. وبالنسبة للمشروع الذي يدر إيراداً أو غلة فإنه يجوز أن توزع غلته. وما يوزع على طرفي العقد قبل التنضيض (التصفية) يعتبر مبالغ مدفوعة تحت الحساب. 8 - ليس هناك ما يمنع شرعاً من النص في نشرة الإصدار على اقتطاع نسبة معينة في نهاية كل دورة، إما من حصة حملة الصكوك في الأرباح في حالة وجود تنضيض دوري، وإما من حصصهم في الإيراد أو الغلة الموزعة تحت الحساب ووضعها في احتياطي خاص لمواجهة مخاطر خسارة رأس المال. 9 - ليس هناك ما يمنع شرعاً من النص في نشرة الإصدار أو صكوك المقارضة على وعد طرف ثالث منفصل في شخصيته وذمته المالية عن طرفي العقد بالتبرع بدون مقابل بمبلغ مخصص لجبر الخسران في مشروع معين، على أن يكون التزاماً
مستقلاً عن عقد المضاربة بمعنى أن قيامه بالوفاء بالتزامه ليس شرطاً في نفاذ العقد وترتب أحكامه عليه بين أطرافه ومن ثم فليس لحملة الصكوك أو عامل المضاربة الدفع ببطلان المضاربة أو الامتناع عن الوفاء بالتزاماتهم بها بسبب عدم قيام المتبرع بالوفاء بما تبرع به بحجة أن هذا الالتزام كان محل اعتبار في العقد. ثانياً: استعرض مجلس المجمع أربع صيغ أخرى اشتملت عليها توصيات الندوة التي أقامها المجمع، وهي مقترحة للاستفادة منها في إطار تعمير الوقف واستثماره دون الإخلال بالشروط التي يحافظ فيها على تأبيد الوقف وهي: أ - إقامة شركة بين جهة الوقف بقيمة أعيانه وبين أرباب المال بما يوظفونه لتعمير الوقف. ب ـ تقديم أعيان الوقف (كأصل ثابت) إلى من يعمل فيها بتعميرها من ماله بنسبة من الريع. ج ـ تعمير الوقف بعقد الاستصناع مع المصاريف الإسلامية لقاء بدل من الريع. د ـ إيجار الوقف بأجرة عينية هي البناء عليها وحده، أو مع أجرة يسيرة. وقد اتفق رأي مجلس المجمع مع توصية الندوة بشأن هذه الصيغ من حيث حاجتها إلى مزيد من البحث والنظر، وعهد إلى الأمانة العامة الاستكتاب فيها، مع البحث عن صيغ شرعية أخرى للاستثمار، وعقد ندوة لهذه الصيغ لعرض نتائجها على المجمع في دورته القادمة. والله أعلم
بدل الخلو
قرار رقم (6) بشأن بدل الخلو إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18 - 23 جمادى الآخرة 1408 هـ، الموافق 6 - 11 فبراير 1988 م. بعد اطلاعه على الأبحاث الفقهية الواردة إلى المجمع بخصوص (بدل الخلو) وبناء عليه. قرر ما يلي: أولاً: تنقسم صور الاتفاق على بدل الخلو إلى أربع صور هي: 1 - أن يكون الاتفاق بين مالك العقار وبين المستأجر عند بدء العقد. 2 - أن يكون الاتفاق بين المستأجر وبين المالك وذلك في أثناء مدة عقد الإجارة أو بعد انتهائها. 3 - أن يكون الاتفاق بين المستأجر وبين مستأجر جديد، في أثناء مدة عقد الإجارة أو بعد انتهائها. 4 - أن يكون الاتفاق بين المستأجر الجديد وبين كل من المالك والمستأجر الأول قبل انتهاء المدة، أو بعد انتهائها.
ثانياً: إذا اتفق المالك والمستأجر على أن يدفع المستأجر للمالك مبلغاً مقطوعاً زائداً عن الأجرة الدورية (وهو ما يسمى في بعض البلاد خلواً)، فلا مانع شرعاً من دفع هذا المبلغ المقطوع على أن يعد جزءاً من أجرة المدة المتفق عليها، وفي حالة الفسخ تطبق على هذا المبلغ أحكام الأجرة. ثالثاً: إذا تم الاتفاق بين المالك وبين المستأجر أثناء مدة الإجارة على أن يدفع المالك إلى المستأجر مبلغاً مقابل تخليه عن حقه الثابت بالعقد في ملك منفعة بقية المدة، فإن بدل الخلو هذا جائز شرعاً، لأنه تعويض عن تنازل المستأجر برضاه عن حقه في المنفعة التي باعها للمالك. أما إذا انقضت مدة الإجارة، ولم يتجدد العقد صراحة أو ضمناً عن طريق التجديد التلقائي حسب الصيغة المفيدة له، فلا يحل بدل الخلو، لأن المالك أحق بملكه بعد انقضاء حق المستأجر. رابعاً: إذا تم الاتفاق بين المستأجر الأول وبين المستأجر الجديد أثناء مدة الإجارة على التنازل عن بقية مدة العقد لقاء مبلغ زائد عن الأجرة الدورية، فإن بدل الخلو هذا جائز شرعاً، مع مراعاة مقتضى عقد الإجارة المبرم بين المالك والمستأجر الأول، ومراعاة ما تقضي به القوانين النافذة الموافقة للأحكام الشرعية. على أنه في الإجارات الطويلة المدة خلافاً لنص عقد الإجارة طبقاً لما تسوغه بعض القوانين لا يجوز للمستأجر إيجار العين لمستأجر آخر، ولا أخذ بدل الخلو فيها إلا بموافقة المالك. أما إذا تم الاتفاق بين المستأجر الأول وبين المستأجر الجديد بعد انقضاء المدة فلا يحل بدل الخلو، لانقضاء حق المستأجر الأول في منفعة العين. والله أعلم
بيع الاسم التجاري والترخيص
قرار رقم (7) بشأن بيع الاسم التجاري والترخيص إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18 - 23 جمادى الآخرة 1408 هـ، الموافق 6 - 11 فبراير 1988 م. بعد اطلاعه على الأبحاث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع «بيع الاسم التجاري والترخيص» والتي تفاوتت في تناولها للموضوع واختلفت المصطلحات المستخدمة فيها تبعاً للأصول اللغوية التي ترجمت عنها تلك الصيغ العصرية، بحيث لم تتوارد الأبحاث على موضوع واحد وتباينت وجهات النظر. قرر ما يلي: أولاً: تأجيل النظر في هذا الموضوع إلى الدورة الخامسة للمجلس حتى تستوفى دراسته من كل جوانبه مع مراعاة الأمور التالية: (أ) اتباع منهجية متقاربة في البحث تبدأ من مقدماته التي يتم فيها تحرير المسألة وتحديد نطاق البحث مع تناول جميع المصطلحات المتداولة في الأبحاث الحقوقية مع مرادفاتها. (ب) الإشارة إلى السوابق التاريخية للموضوع وما طرح فيه من أنظار شرعية أوحقوقية لها أثر في إيضاح التصور وأحكام التقسيم.
ثانياً: محاولة إدراج موضوع (بيع الاسم التجاري والترخيص) تحت موضوع عام لتكون الدراسة أحكم والفائدة أعم وأوسع، وذلك تحت عنوان (الحقوق المعنوية) لكي تستوفي المفردات الأخرى من مثل (حق التأليف ـ حق الاختراع أو الابتكار ـ حق الرسالة ـ حق الرسوم والنماذج الصناعية والتجارية من علامات وبيانات .. إلخ). ثالثاً: يمكن للباحثين أن يركزوا على مفردة معينة من الحقوق المشار إليها، كما يمكنهم توسيع نطاق أبحاثهم لتشمل المفردات المتقاربة في هيكل الموضوع العام. والله الموفق
التأجير المنتهي بالتمليك والمرابحة للآمر بالشراء وتغير قيمة العملة
قرار رقم (8) بشأن التأجير المنتهي بالتمليك والمرابحة للآمر بالشراء وتغير قيمة العملة إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18 - 23 جمادى الآخرة 1408 هـ، الموافق 6 - 11 فبراير 1988 م. قرر مايلي: أولاً: تأجيل النظر في كل من موضوع «التأجير المنتهي بالتمليك» وموضوع «المرابحة للآمر بالشراء» وكذلك تأجيل البت في موضوع «تغير قيمة النقد» للحاجة لاستيفاء جوانبه إلى الدورة القادمة. ثانياً: تكليف الأمانة العامة استيفاء دراسة الموضوعين واستحضار ما قدم من أبحاث في موضوع «التأجير المنتهي بالتمليك» وما صدر فيه من قرارات عن الندوة الفقهية الأولى لبيت التمويل الكويتي التي عقدت عام 1407 هـ (1987 م). وما قدم من أبحاث في موضوع «المرابحة للآمر بالشراء» في ندوة استراتيجية الاستثمار في المصارف الإسلامية التي أقيمت في عمان عام 1407 هـ/1987 م بالتعاون بين المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب للبنك الإسلامي للتنمية، والمجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية. والله الموفق
البهائية
قرار رقم (9) بشأن البهائية إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18 - 23 جمادى الآخرة 1408 هـ، الموافق 6 - 11 فبراير 1988 م. ـ انطلاقاً من قرار مؤتمر القمة الإسلامي الخامس المنعقد بدولة الكويت من 26 إلى 29 جمادى الأولى 1407 هـ (الموافق 26 إلى 29 يناير 1987 م)، والقاضي بإصدار مجمع الفقه الإسلامي رأيه في المذاهب الهدامة التي تتعارض مع تعاليم القرآن الكريم والسنة المطهرة. ـ واعتباراً لما تشكله البهائية من أخطار على الساحة الإسلامية وما تلقاه من دعم من قبل الجهات المعادية للإسلام. ـ وبعد التدبر العميق في معتقدات هذه الفئة والتأكد من أن البهاء مؤسس هذه الفرقة يدعي الرسالة ويزعم أن مؤلفاته وحي منزل، ويدعو الناس أجمعين إلى الإيمان برسالته، وينكر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم هو خاتم المرسلين ويقول: إن الكتب المنزلة عليه ناسخة للقرآن الكريم، كما يقول بتناسخ الأرواح. ـ وفي ضوء ما عمد إليه البهاء في كثير من فروع الفقه بالتغيير والإسقاط، ومن ذلك تغييره لعدد الصلوات المكتوبة وأوقاتها إذ جعلها تسعاً تؤدى على ثلاث
كرات، في البكورة مرة، وفي الآصال مرة، وفي الزوال مرة، وغير التيمم فجعله يتمثل في أن يقول البهائي «بسم الله الأطهر الأطهر» وجعل الصيام تسعة عشر يوماً تنتهي في عيد النيروز في الواحد والعشرين من مارس في كل عام، وحول القبلة إلى بيت البهاء في عكا بفلسطين المحتلة، وحرم الجهاد وأسقط الحدود، وسوى بين الرجل والمرأة في الميراث وأحل الربا. وبعد الاطلاع على البحوث المقدمة في موضوع (مجالات الوحدة الإسلامية) المتضمنة التحذير من الحركات الهدامة التي تفرق الأمة وتهز وحدتها وتجعلها شيعاً وأحزاباً وتؤدي إلى الردة والبعد عن الإسلام. يوصي: بوجوب تصدي الهيئات الإسلامية في كافة أنحاء العالم بما لديها من إمكانات لمخاطر هذه النزعة الملحدة التي تستهدف النيل من الإسلام عقيدة وشريعة ومنهاج حياة. ويقرر: اعتبار أن ما ادعاه البهاء من الرسالة ونزول الوحي عليه ونسخ الكتب التي أنزلت عليه للقرآن الكريم، وإدخاله تغييرات على فروع شرعية ثابتة بالتواتر، هو إنكار لما هو معلوم من الدين بالضرورة، ومنكر ذلك تنطبق عليه أحكام الكفار بإجماع المسلمين. والله أعلم
مشروع تيسير الفقه
قرار رقم (10) بشأن مشروع تيسير الفقه إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18 - 23 جمادى الآخرة 1408 هـ، الموافق 6 - 11 فبراير 1988 م. بعد دراسة التقرير المعد عن مشروع تيسير الفقه والمشتمل على الخطة المقترحة للمشروع كما وردت من اللجنة المكلفة بالإشراف عليه. وبعد اطلاعه على تقرير اللجنة الفرعية المكونة في أثناء انعقاد هذه الدورة لدراسة مشروع تيسير الفقه وتوصيتها باعتماد الخطة المشار إليها وتكليف الأمانة العامة للمجمع متابعة تنفيذه. قرر ما يلي: اعتماد الخطة الواردة في تقرير اللجنة المشرفة على مشروع تيسير الفقه وفق التعديل المقترح منها، وتكليف الأمانة العامة للمجمع متابعة تنفيذه. والله الموفق
مشروع الموسوعة الفقهية
قرار رقم (11) بشأن مشروع الموسوعة الفقهية إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18 - 23 جمادى الآخرة 1408 هـ، الموافق 6 - 11 فبراير 1988 م. بعد دراسة التقرير المعد من اللجنة المكلفة بإعداد الخطة التنفيذية لمشروع الموسوعة الفقهية، والمشتمل على الخطوات المقترحة للتنفيذ، وهيكل الزمرة المرشحة للبدء بها (زمرة المشاركات)، وخطط مقرراتها. وبعد اطلاعه على تقرير اللجنة الفرعية المكونة في أثناء انعقاد هذه الدورة لدراسة مشروع الموسوعة الفقهية وتوصياتها باعتماد الخطة التنفيذية للمشروع وفق التعديل المقترح منها، والجوانب المقترح إدخالها على خطط الموضوعات والمراجع المضافة إلى قائمة المراجع. قرر ما يلي: اعتماد الخطة التنفيذية الواردة في تقرير اللجنة المكلفة بإعدادها وفق الاقتراحات المقترحة من اللجنة الفرعية، وتكليف الأمانة العامة للمجمع متابعة تنفيذه. والله الموفق
مشروع موسوعة القواعد الفقهية
قرار رقم (12) بشأن مشروع موسوعة القواعد الفقهية إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18 - 23 جمادى الآخرة 1408 هـ، الموافق 6 - 11 فبراير 1988 م. وبعد دراسة التقرير المعد عن مشروع معلمة القواعد الفقهية واطلاعه على تقرير اللجنة المكونة في أثناء انعقاد هذه الدورة لدراسة مشروع موسوعة القواعد الفقهية ومراحل السير فيه، والمشتمل على الصياغة النهائية للمشروع ثم المراحل السبع المقترحة لإعداد الموسوعة وما في المرحلة الأولى والخامسة من تعدد الرأي. قرر مايلي: أولاً: اعتماد الصياغة النهائية لمشروع موسوعة القواعد الفقهية والمراحل المتفق على اقتراحها من لجنة المشروع. ثانياً: تكليف الأمانة العامة للمجمع متابعة تنفيذ ما يترك لها واختيار ما تراه مناسباً من الرأيين المطروحين من لجنة المشروع بالنسبة للمرحلة الأولى والخامسة من مراحل إعداده. والله الموفق
ميزان المجمع
قرار رقم (13) بشأن ميزان المجمع إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18 - 23 جمادى الآخرة 1408 هـ، الموافق 6 - 11 فبراير 1988 م. بعد الإحاطة بما أفادته أمانة المجمع من أن تأخر عقد هذه الدورة اقتضى قيامها بنظر (الميزان)، ثم قامت بفحص بنوده لجنة الرقابة التابعة لمنظمة المؤتمر الإسلامي، ثم قدم إلى اللجنة المالية الدائمة التابعة للمنظمة التي أقرته وستدرجه في أعمال مؤتمر وزراء خارجية الدول الإسلامية. قرر: اعتماد الإجراء الذي قامت به الأمانة العامة، واعتماد ميزان المجمع. والله الموفق
توصيات الدورة الرابعة لمجلس مجمع الفقه الإسلامي
توصيات الدورة الرابعة لمجلس مجمع الفقه الإسلامي الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة من 18 - 23 جمادى الآخرة 1408 هـ، الموافق 6 - 11 فبراير 1988 م. أولاً: بعد الاطلاع على البحوث الواردة للمجمع في موضوع «كيفية مكافحة المفاسد الأخلاقية» والتي أوضحت ما يعانيه العالم بأسره من المفاسد الأخلاقية التي أخذت تنتشر في عالمنا الإسلامي بصورة لا ترضي الله تعالى ولا تتوافق مع الدور القيادي المنوط بهذه الأمة في قيادة البشرية نحو الطهر العقدي والأخلاقي والسلوكي. وانسجاماً مع خصائص الإسلام المتكاملة وكون الجانب الأخلاقي من أهم جوانب الدين ولا تتحقق الثمار الكاملة للانتماء إلى الإسلام إلا بتطبيق الشريعة الإسلامية بجميع مبادئها وأحكامها وفي شتى مرافق الحياة. يوصي: أـ العمل على تصحيح وتقوية الوازع العقدي عبر القيام بتوعية شاملة وتحسيس بآثار العقيدة الصحيحة في النفوس.
ب ـ السعي إلى تطهير الإعلام المقروء، والمرئي والمسموع والإعلانات التجارية في عالمنا الإسلامي من كل ما يشكل معصية لله تعالى وتنقيته تماماً من كل ما يثير الشهوة أو يسبب الانحراف ويوقع في المفاسد الأخلاقية. جـ ـ وضع الخطط العملية للمحافظة على الأصالة الإسلامية والتراث الإسلامي والقضاء على كل محاولات التغريب والتشبه واستلاب الشخصية الإسلامية والوقوف أمام كل أشكال الغزو الفكري والثقافي الذي يتعارض مع المبادئ والأخلاق الإسلامية. وأن توجد رقابة إسلامية صارمة على الأنشطة السياحية والابتعاث إلى الخارج حتى لا تتسبب في هدم مقومات الشخصية الإسلامية وأخلاقها. د ـ توجيه التعليم وجهة إسلامية وتدريس كل العلوم من منطلق إسلامي وجعل المواد الدينية مواد أساسية في كل المراحل والتخصصات مما يقوي العقيدة الإسلامية ويؤصل الأخلاق الإسلامية في النفوس. كما يجب أن تحرص الأمة أن تكون رائدة في مجالات العلم المتعددة. هـ ـ بناء الأسرة الإسلامية بناء صحيحاً وتيسير الزواج والحث عليه وحث الآباء والأمهات على تنشئة البنين والبنات تنشئة صحيحة حتى يكونوا جيلاً قوياً يعبد الله على حق ويتولى المهمة الدائمة لنشر الإسلام والدعوة إليه. وأن تهيأ المرأة لتقوم بدورها أمّاً وربة بيت حسبما تقضي به الشريعة الإسلامية والقضاء على ظاهرة انتشار استخدام المربيات الأجنبيات خاصة غير المسلمات. وـ تهيئة جميع الوسائل التي تحقق تربية النشء تربية إسلامية بحيث يلتزم بأركان الإسلام وسلوكياته ويدرك واجباته تجاه ربه وأمته ويتخلص من الخواء الروحي الذي يتسبب في تعاطي المخدرات والمسكرات والتفسخ الأخلاقي
بأشكاله المتعددة وإشغال الشباب بمهمات الأمور وإعطائه المسؤوليات كل حسب قدرته وكفاءته وإشغال أوقات الفراغ لديهم بما هو مفيد وإيجاد وسائل الترفيه والرياضيات والمسابقات البريئة الطاهرة وأن توجه وجهة إسلامية كاملة. ثانياً: بعد الاطلاع على البحوث الواردة للمجمع في موضوع (مجالات الوحدة الإسلامية وسبل الاستفادة منها) وانطلاقاً من أولوية رابطة الإسلام بين شعوب الأمة الإسلامية وهي رابطة لا انفصام لها، وأساس متين للتضامن المنشود وقاعدة ثابتة لكل بناء حضاري يرمي إلى توحيد صفوفها وإلى التأليف بين الجهود المبذولة في مجابهة التحديات المعاصرة وتحقيق العزة والتقدم. وبما أن في رابطة الإسلام حافزاً قوياً وعاملاً باقياً لأحكام التوجه ولتنسيق سياسات الدول الإسلامية في مختلف ميادين التنمية الاقتصادية والاجتماعية ولتوثيق علاقات التناصر والتعاون والمرحمة بين شعوب الأمة في رفع ما يعوق سيرها من ألوان التبعية ويجابهها من التحديات المعاصرة وفي بلوغ ما تسعى لتحقيقه من رقي ومنعة وازدهار. يوصي أيضاً بما يلي: أـ الذود عن العقيدة الإسلامية، وتمكينها بصورتها النقية من الشوائب، والتحذير من كل ما يؤدي إلى هدمها أو التشكيك في أصولها، ويقسم وحدة المسلمين ويجعلهم مختلفين متنابذين. ب ـ تأكيد عناية مجمع الفقه الإسلامي بالأبحاث والدراسات الفقهية التي ترمي إلى مجابهة التحديات الفكرية الناشئة عن مقتضيات المعاصرة واهتمام الفقه
الإسلامي بمشكلات المجتمع واعتماده كعنصر أساسي في النهضة الفكرية للأمة وتوسيع دائرة اعتماده فيما تسنه الدول الإسلامية من تشاريع وقوانين في عامة شؤون المجتمع. جـ ـ وجوب التناسق الوثيق في ميدان التربية والتعليم مضموناً ومنهاجاً على السبيل القويمة للحضارة الفكرية التي بناها الإسلام بغية تكوين أجيال من المسلمين متوحدين في المرجع التعبدي متقاربين في التوجه الفكري متشاركين في الاعتزاز بالانتساب الحضاري. د ـ إعطاء درجة عالية من الأولوية للبحث العلمي في مختلف ميادين المعرفة وتخصيص نسبة 1% من الناتج الإجمالي لتمويل البرامج البحثية وإنشاء المخابر العلمية على أساس وثيق من التكامل والتعاون بين الجامعات الإسلامية. هـ ـ العمل مع الجامعات الإسلامية على ضبط برنامج دراسي يتألف من عدد من المحاور الكبرى تكون غرضاً للبحث الفقهي، وإنشاء لجنة عليا من المفكرين المسلمين لمتابعة هذه الأبحاث وإجازتها، وتخصيص جائزة تفوق لمكافأة أحسنها. وـ أن يكون الإعلام في بلاد المسلمين بكل أنواعه المسموعة والمقروءة والمرئية إعلاماً هادفاً إلى تحقيق العبودية لله في أرضه، وبث الخير ونشر الفضيلة والتحرر من المبادئ الهدامة للفكر والخلق، والملحدة في دين الله، والمنحرفة عن الصراط المستقيم. ودعم جهود توحيده. ز ـ إقامة اقتصاد إسلامي لا شرقي ولا غربي، بل اقتصاد إسلامي خالص مع إقامة سوق إسلامية مشتركة، يتعاون فيها المسلمون على الإنتاج وتسويقه دون الحاجة إلى غيرهم؛ لأن الاقتصاد ركن مهم من أركان قيام المجتمعات، وتكامله سبيل للوحدة بين شعوب الأمة الإسلامية.
ثالثاً: انطلاقاً من أن (إسلامية التعليم) في الديار الإسلامية اليوم ضرورة لا مناص منها لبناء الأجيال الإسلامية بناء سوياً متكاملاً في الفكر والتصور والسلوك والعمل. وذلك بجعل جميع العلوم محكومة بالإسلام في المنطلقات والأهداف، وأن يكون الإسلام بنظمه وضوابطه إطاراً لهذا العلوم، وأن تكون العقيدة الإسلامية قاعدة وأصلاً في بناء المنهج التربوي والتعليمي. وتتلخص أهم معالم المنهج المنشود في (إسلامية التعليم) فيما يلي: أـ جعل العقيدة الإسلامية قاعدة التصور الإسلامي الكبير الذي يعطي نظرة كلية شاملة للكون والإنسان والحياة، كما تعرِّف الإنسان بخالق الحياة وعلاقته بالكون، وعلاقة الإنسان بخالقه، وبمجتمعه. ب ـ اتخاذ الإسلام محوراً للعلوم الاجتماعية والإنسانية والاقتصادية والسياسية وإبراز نظرياته الإنسانية وتعلقها بخالق الكون والإنسان والحياة بالتنسيق مع المنظمات الإسلامية العاملة في هذا المجال كالمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية والمنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم. جـ ـ العمل على إظهار فساد ما يخالف العقيدة الإسلامية من علوم مادية وملحدة وأخرى مضللة كالكهانة والسحر والتنجيم والتحذير من العلوم التي ذمها وحرمها الإسلام وكذلك العلوم التي تقوم على الفسق والفجور. د ـ إعادة كتابة تاريخ العلوم والمعارف وبيان تطورها وإسهامات المسلمين في كل منها وتنقيتها مما دس فيهامن نظريات استشراقية وتغريبية تحرِّف المسار التاريخي الحق، وإعادة النظر في تصنيف العلوم ومناهج البحث وفق النظرة الإسلامية من خلال أنشطة مراكز ومعاهد البحث العلمي ومراكز الاقتصاد الإسلامي في شتى البلاد الإسلامية.
هـ ـ إعادة الوشائج بين العلوم التي تبحث في الكون والإنسان والحياة وبين خالقها، فإن العالم الباحث في هذه المجالات يجب أن ينظر فيها على أنها تمثل الإبداع الإلهي، والصنعة الربانية المحكمة. وـ وضع الضوابط والقواعد المستخلصة من الدين الإسلامي أو المنسقة مع أهدافه وغاياته لأن تكون مبادئ لجميع العلوم أو لعلم واحد منها وإبراز عيوب المناهج الغربية التي أقامت فصاماً موهوماً بين الدين والعلم، أو بنت العلوم بناء خاطئاً كعلم التاريخ والاقتصاد والاجتماع. وينبغي أن يؤخذ في الاعتبار أن هناك مشروعاً يشكل ظهيراً لإسلامية التعليم بل ربما كان من الوسائل الضرورية له وهو مشروع (إسلامية المعرفة) وينهض (المعهد العالمي للفكر الإسلامي) بمتطلباته من حيث التخطيط ورسم سبل التنفيذ من خلال مقالات ومؤلفات وندوات. والله الموفق
الدورة الخامسة لمجلس مجمع الفقه الإسلامي
القرَارات وَالتوصيَات الدَّورَة الخامسَة لمجلس مجْمَع الفقه الإسلامي الكويت: 1 - 6 جمادى الأولى 1409 هـ/10 - 15 ديسمبر 1988 م بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد خاتم النبييين وعلى آله وصحبه. قرار رقم (1) بشأن تنظيم النسل إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409 هـ/10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988م. بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع (تنظيم النسل) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله. وبناء على أن من مقاصد الزواج في الشريعة الإسلامية الإنجاب والحفاظ
على النوع الإنساني وأنه لا يجوز إهدار هذا المقصد، لأن إهداره يتنافى مع نصوص الشريعة وتوجيهاتها الداعية إلى تكثير النسل والحفاظ عليه والعناية به باعتبار حفظ النسل أحد الكليات الخمس التي جاءت الشرائع برعايتها. قرر مايلي: أولاً: لا يجوز إصدار قانون عام يحد من حرية الزوجين في الإنجاب. ثانياً: يحرم استئصال القدرة على الإنجاب في الرجل أو المرأة، وهو ما يعرف بـ (الإعقام) أو (التعقيم)، ما لم تدع إلى ذلك ضرورة بمعاييرها الشرعية. ثالثاً: يجوز التحكم المؤقت في الإنجاب بقصد المباعدة بين فترات الحمل، أو إيقافه لمدة معينة من الزمان، إذا دعت إليه حاجة معتبرة شرعاً بحسب تقدير الزوجين عن تشاور بينهما وتراض، بشرط أن لا يترتب على ذلك ضرر، وأن تكون الوسيلة مشروعة، وأن لا يكون فيها عدوان على حمل قائم. والله أعلم
الوفاء بالوعد، والمرابحة للآمر بالشراء
قرار رقم (2،3) بشأن الوفاء بالوعد، والمرابحة للآمر بالشراء إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409 هـ/10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988م. بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع (الوفاء بالوعد، والمرابحة للآمر بالشراء) واستماعه للمناقشات التي دارت حولهما. قرر: أولاً: أن بيع المرابحة للآمر بالشراء إذا وقع على سلعة بعد دخولها في ملك المأمور، وحصول القبض المطلوب شرعاً، هو بيع جائز، طالما كانت تقع على المأمور مسؤولية التلف قبل التسليم، وتبعة الرد بالعيب الخفي ونحوه من موجبات الرد بعد التسليم، وتوافرت شروط البيع وانتفت موانعه. ثانياً: الوعد (وهو الذي يصدر من الآمر أو المأمور على وجه الانفراد) يكون ملزماً للواعد ديانة إلا لعذر، وهو ملزم قضاء إذا كان معلقاً على سبب ودخل الموعود في كلفة نتيجة الوعد. ويتحدد أثر الإلزام في هذه الحالة إما بتنفيذ الوعد، وإما بالتعويض عن الضرر الواقع فعلاً بسبب عدم الوفاء بالوعد بلا عذر. ثالثاً: المواعدة (وهي التي تصدر من الطرفين) تجوز في بيع المرابحة بشرط
الخيار للمتواعدين كليهما أو أحدهما، فإذا لم يكن هناك خيار فإنها لا تجوز، لأن المواعدة الملزمة في بيع المرابحة تشبه البيع نفسه، حيث يشترط عندئذ أن يكون البائع مالكاً للمبيع حتى لا تكون هناك مخالفة لنهي النبي صلّى الله عليه وسلم من بيع الإنسان ما ليس عنده. ويوصي المؤتمر: في ضوء ما لاحظه من أن أكثر المصارف الإسلامية اتجه في أغلب نشاطاته إلى التمويل عن طريق المرابحة للآمر بالشراء. يوصي بما يلي: أولاً: أن يتوسع نشاط جميع المصارف الإسلامية في شتى أساليب تنمية الاقتصاد ولا سيما إنشاء المشاريع الصناعية أو التجارية بجهود خاصة أو عن طريق المشاركة والمضاربة مع أطراف أخرى. ثانياً: أن تدرس الحالات العملية لتطبيق (المرابحة للآمر بالشراء) لدى المصارف الإسلامية، لوضع أصول تعصم من وقوع الخلل في التطبيق وتعين على مراعاة الأحكام الشرعية العامة أو الخاصة ببيع المرابحة للآمر بالشراء. والله أعلم
تغير قيمة العملة
قرار رقم (4) بشأن تغير قيمة العملة إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409 هـ/10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988م. بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع (تغير قيمة العملة) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله. وبعد الاطلاع على قرار المجمع رقم (9) في الدورة الثالثة بأن العملات الورقية نقود اعتبارية فيها صفة الثمنية كاملة، ولها الأحكام الشرعية المقررة للذهب والفضة من حيث أحكام الربا والزكاة والسلم وسائر أحكامهما. قرر مايلي: ـ العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملة ما هي بالمثل وليس بالقيمة لأن الديون تقضى بأمثالها فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة أياً كان مصدرها بمستوى الأسعار. والله أعلم.
الحقوق المعنوية
قرار رقم (5) بشأن الحقوق المعنوية إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409 هـ/10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988م. بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع (الحقوق المعنوية) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله. قرر: أولاً: الاسم التجاري، والعنوان التجاري، والعلامة التجارية، والتأليف والاختراع أو الابتكار هي حقوق خاصة لأصحابها أصبح لها في العرف المعاصر قيمة مالية معتبرة لتمول الناس لها. وهذه الحقوق يعتد بها شرعاً فلا يجوز الاعتداء عليها. ثانياً: يجوز التصرف في الاسم التجاري أو العنوان التجاري أو العلامة التجارية ونقل أي منها بعوض مالي إذا انتفى الغرر والتدليس والغش باعتبار أن ذلك أصبح حقاً مالياً. ثالثاً: حقوق التأليف والاختراع أو الابتكار مصونة شرعاً، ولأصحابها حق التصرف فيها، ولا يجوز الاعتداء عليها. والله أعلم
الإيجار المنتهي بالتمليك
قرار رقم (6) بشأن الإيجار المنتهي بالتمليك إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409 هـ/10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988م. بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع (الإيجار المنتهي بالتمليك) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله. وبعد الاطلاع على قرار المجمع رقم (1) في الدورة الثالثة بشأن الإجابة عن استفسارات البنك الإسلامي للتنمية فقرة (ب) بخصوص عمليات الإيجار. قرر: أولاً: الأولى الاكتفاء عن صور الإيجار المنتهي بالتمليك ببدائل أخرى منها البديلان التاليان: (الأول): البيع بالأقساط مع الحصول على الضمانات الكافية. (الثاني): عقد إجارة مع إعطاء المالك الخيار للمستأجر بعد الانتهاء من وفاء جميع الأقساط الإيجارية المستحقة خلال المدة في واحد من الأمور التالية: ـ مد مدة الإجارة. ـ
التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها
إنهاء عقد الإجارة ورد العين المأجورة إلى صاحبها. ـ شراء العين المأجورة بسعر السوق عند انتهاء مدة الإجارة. ثانياً: هناك صور مختلفة للإيجار المنتهي بالتمليك تقرر تأجيل النظر فيها إلى دورة قادمة بعد تقديم نماذج لعقودها وبيان ما يحيط بها من ملابسات وقيود بالتعاون مع المصارف الإسلامية لدراستها وإصدار القرار في شأنها. والله أعلم قرار رقم (7) بشأن التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409 هـ/10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988م. بعد عرض موضوع (التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها). قرر: تأجيل النظر في موضوع (التمويل العقاري لبناء المساكن) لإصدار القرار الخاص به إلى الدورة السادسة، من أجل مزيد من الدراسة والبحث. والله الموفق
تحديد أرباح التجار
قرار رقم (8) بشأن تحديد أرباح التجار إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409 هـ/10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988م. بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع (تحديد أرباح التجار) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله. قرر: أولاً: الأصل الذي تقرره النصوص والقواعد الشرعية ترك الناس أحراراً في بيعهم وشرائهم وتصرفهم في ممتلكاتهم وأموالهم في إطار أحكام الشريعة الإسلامية الغراء وضوابطها عملاً بمطلق قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم}. [البقرة:2/ 188] ثانياً: ليس هناك تحديد لنسبة معينة للربح يتقيد بها التجار في معاملاتهم، بل ذلك متروك لظروف التجارة عامة وظروف التاجر والسلع، مع مراعاة ما تقضي به الآداب الشرعية من الرفق والقناعة والسماحة والتيسير. ثالثاً: تضافرت نصوص الشريعة الإسلامية على وجوب سلامة التعامل من أسباب الحرام وملابساته كالغش، والخديعة، والتدليس، والاستغفال وتزييف حقيقة الربح، والاحتكار، الذي يعود بالضرر على العامة والخاصة.
العرف
رابعاً: لا يتدخل ولي الأمر بالتسعير إلا حيث يجد خللاً واضحاً في السوق والأسعار ناشئاً من عوامل مصطنعة، فإن لولي الأمر حينئذ التدخل بالوسائل العادلة الممكنة التي تقضي على تلك العوامل وأسباب الخلل والغلاء والغبن الفاحش. والله أعلم قرار رقم (9) بشأن العرف إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409 هـ/10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988م. بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع (العرف) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله. قرر: أولاً: يراد بالعرف ما اعتاده الناس وساروا عليه من قول أو فعل أو ترك، وقد يكون معتبراً شرعاً أو غير معتبر. ثانياً: العرف إن كان خاصاً فهو معتبر عند أهله وإن كان عاماً فهو معتبر في حق الجميع.
تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية
ثالثاً: العرف المعتبر شرعاً هو ما استجمع الشروط الآتية: أـ أن لا يخالف الشريعة، فإن خالف العرف نصاً شرعياً أو قاعدة من قواعد الشريعة فإنه عرف فاسد. ب ـ أن يكون العرف مطرداً (مستمراً) أو غالباً. ج ـ أن يكون العرف قائماً عند إنشاء التصرف. د ـ أن لا يصرح المتعاقدان بخلافه، فإن صرحا بخلافه فلا يعتد به. رابعاً: ليس للفقيه ـ مفتياً كان أو قاضياً ـ الجمود على المنقول في كتب الفقهاء من غير مراعاة تبدل الأعراف. والله أعلم قرار رقم (10) بشأن تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409 هـ/10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988م. بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع (تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله.
وبمراعاة أن مجمع الفقه الإسلامي الذي انبثق عن إرادة خيّرة من مؤتمر القمة الإسلامية الثالثة بمكة المكرمة، بهدف البحث عن حلول شرعية لمشكلات الأمة الإسلامية وضبط قضايا حياة المسلمين بضوابط الشريعة الإسلامية، وإزالة سائر العوائق التي تحول دون تطبيق شريعة الله وتهيئة جميع السبل اللازمة لتطبيقها، إقراراً بحاكمية الله تعالى، وتحقيقاً لسيادة شريعته، وإزالة للتناقض القائم بين بعض حكام المسلمين وشعوبهم وإزالة لأسباب التوتر والتناقض والصراع في ديارهم وتوفيراً للأمن في بلاد المسلمين. قرر: أن أول واجب على من يلي أمور المسلمين تطبيق شريعة الله فيهم، ويناشد جميع الحكومات في بلاد المسلمين المبادرة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية وتحكيمها تحكيماً تاماً كاملاً مستقراً في جميع مجالات الحياة، ودعوة المجتمعات الإسلامية أفراداً وشعوباً ودولاً للالتزام بدين الله تعالى وتطبيق شريعته باعتبار هذا الدين عقيدة وشريعة وسلوكاً ونظام حياة. ويوصي بما يلي: أـ مواصلة المجمع الأبحاث والدراسات المتعمقة في الجوانب المختلفة لموضوع تطبيق الشريعة الإسلامية ومتابعة ما يتم تنفيذه بهذا الشأن في البلاد الإسلامية. ب ـ التنسيق بين المجمع وبين المؤسسات العلمية الأخرى التي تهتم بموضوع تطبيق الشريعة الإسلامية وتعد الخطط والوسائل والدراسات الكفيلة بإزالة العقبات والشبهات التي تعوق تطبيق الشريعة في البلاد الإسلامية.
ج ـ تجميع مشروعات القوانين الإسلامية التي تم إعدادها في مختلف البلاد الإسلامية ودراستها للاستفادة منها. د ـ الدعوة إلى إصلاح مناهج التربية والتعليم ووسائل الإعلام المختلفة، وتوظيفها للعمل على تطبيق الشريعة الإسلامية، وإعداد جيل مسلم يحتكم إلى شرع الله تعالى. هـ ـ التوسع في تأهيل الدارسين والخريجين من قضاة ووكلاء نيابة ومحامين لإعداد الطاقات اللازمة لتطبيق الشريعة الإسلامية. والله الموفق
اللجنة الإسلامية الدولية للقانون
قرار رقم (13) بشأن اللجنة الإسلامية الدولية للقانون إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409 هـ/10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988م. بعد اطلاعه على المذكرة المتعلقة بمشروع النظام الأساسي للجنة الإسلامية الدولية للقانون المحال إليه من المؤتمر السابع عشر لوزراء الخارجية الإسلامية المنعقد بعمان ـ بالمملكة الأردنية الهاشمية بالقرار رقم 17/ 45 س. قرر: الموافقة على دراسة مشروع النظام الأساسي للجنة الإسلامية الدولية للقانون وتسلم المهام الموكلة إلى اللجنة لتكون من ضمن نشاطات المجمع. والله الموفق
القرارات والتوصيات الصادرة عن مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره السادس
القرارات والتوصيات الصادرة عن مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره السادس المنعقد في جدة (المملكة العربية بالسعودية) 17 - 23 شعبان 1410 هـ/14 - 20 مارس 1990 م) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه وسلم. قرار رقم (6/ 1/52) بشأن التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية من 17 - 23 شعبان 1410 هـ الموافق 14 - 20 آذار (مارس) 1990 م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع:
(التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله، قرر: 1 - أن المسكن من الحاجات الأساسية للإنسان، وينبغي أن يوفر بالطرق المشروعة بمال حلال، وأن الطريقة التي تسلكها البنوك العقارية والإسكانية ونحوها، من الإقراض بفائدة قلت أو كثرت، هي طريقة محرمة شرعاً لما فيها من التعامل بالربا. 2 - هناك طرق مشروعة يستغنى بها عن الطريقة المحرمة، لتوفير المسكن بالتملك (فضلاً عن إمكانية توفيره بالإيجار) منها: أـ أن تقدم الدولة للراغبين في تملك مساكن قروضاً مخصصة لإنشاء المساكن، تستوفيها بأقساط ملائمة بدون فائدة سواء أكانت الفائدة صريحة أم تحت ستار اعتبارها (رسم خدمة) على أنه إذا دعت الحاجة إلى تحصيل نفقات لتقديم عمليات القروض ومتابعتها وجب أن يقتصر فيها على التكاليف الفعلية لعملية القرض على النحو المبين في الفقرة (أ) من القرار رقم (1) للدورة الثالثة لهذا المجمع. ب ـ أن تتولى الدول القادرة إنشاء المساكن وتبيعها للراغبين في تملك مساكن بالأجل والأقساط بالضوابط الشرعية المبينة في القرار (6/ 2/53) لهذه الدورة. جـ ـ أن يتولى المستثمرون من الأفراد أو الشركات بناء مساكن تباع بالأجل. د ـ أن تملك المساكن عن طريق عقد الاستصناع ـ على أساس اعتباره لازماً ـ وبذلك يتم شراء المسكن قبل بنائه، بحسب الوصف الدقيق المزيل للجهالة المؤدية
للنزاع، دون وجوب تعجيل جميع الثمن، بل يجوز تأجيله بأقساط يتفق عليها، مع مراعاة الشروط والأحوال المقررة لعقد الاستصناع لدى الفقهاء الذين ميزوه عن عقد السلم. ويوصي: بمواصلة النظر لإيجاد طرق أخرى مشروعة توفر تملك المساكن للراغبين في ذلك.
البيع بالتقسيط
قرار رقم (6/ 2/53) بشأن (البيع بالتقسيط) إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية من 17 - 23 شعبان 1410 هـ الموافق 14 - 20 آذار (مارس) 1990 م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: البيع بالتقسيط واستماعه للمناقشات التي دارت حوله، قرر: 1 - تجوز الزيادة في الثمن المؤجل عن الثمن الحال. كما يجوز ذكر ثمن المبيع نقداً وثمنه بالأقساط لمدد معلومة. ولا يصح البيع إلا إذا جزم العاقدان بالنقد أو التأجيل. فإن وقع البيع مع التردد بين النقد والتأجيل بأن لم يحصل الاتفاق الجازم على ثمن واحد محدد فهو غير جائز شرعاً. 2 - لا يجوز شرعاً في بيع الأجل التنصيص في العقد على فوائد التقسيط مفصولة عن الثمن الحال بحيث ترتبط بالأجل، سواء اتفق العاقدان على نسبة الفائدة أم ربطاها بالفائدة السائدة.
3 - إذا تأخر المشتري المدين في دفع الأقساط عن الموعد المحدد فلا يجوز إلزامه أي زيادة على الدين بشرط سابق أو بدون شرط لأن ذلك ربا محرم. 4 - يحرم على المدين المليء أن يماطل في أداء ما حل من الأقساط ومع ذلك لا يجوز شرعاً اشتراط التعويض في حالة التأخر عن الأداء. 5 - يجوز شرعاً أن يشترط البائع بالأجل حلول الأقساط قبل مواعيدها عند تأخر المدين في أداء بعضها ما دام المدين قد رضي بهذا الشرط عند التعاقد. 6 - لا حق للبائع في الاحتفاظ بملكية المبيع بعد البيع، ولكن يجوز للبائع أن يشترط على المشتري رهن المبيع عنده لضمان حقه في استيفاء الأقساط المؤجلة. ويوصي: بدراسة بعض المسائل المتصلة ببيع التقسيط للبت فيها إلى ما بعد إعداد دراسات وأبحاث كافية فيها، ومنها: أـ حسم (خصم) البائع كمبيالات الأقساط المؤجلة لدى البنوك. ب ـ تعجيل الدين مقابل إسقاط بعضه وهي مسألة (ضع وتعجل). جـ ـ أثر الموت في حلول الأقساط المؤجلة.
إجراء العقود بآلات الاتصال الحديثة
قرار رقم (6/ 3/54) بشأن إجراء العقود بآلات الاتصال الحديثة إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية من 17 - 23 شعبان 1410 هـ الموافق 14 - 20 آذار (مارس) 1990 م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: إجراء العقود بآلات الاتصال الحديثة، ونظراً إلى التطور الكبير الذي حصل في وسائل الاتصال وجريان العمل بها في إبرام العقود لسرعة إنجاز المعاملات المالية والتصرفات. وباستحضار ما تعرض له الفقهاء بشأن إبرام العقود بالخطاب وبالكتابة وبالإشارة وبالرسول، وما تقرر من أن التعاقد بين الحاضرين يشترط له اتحاد المجلس (عدا الوصية والإيصاء والوكالة) وتطابق الإيجاب والقبول، وعدم صدور ما يدل على إعراض أحد العاقدين عن التعاقد، والموالاة بين الإيجاب والقبول بحسب العرف: قرر: 1 - إذا تم التعاقد بين غائبين لا يجمعهما مكان واحد، ولا يرى أحدهما الآخر معاينة، ولا يسمع كلامه، وكانت وسيلة الاتصال بينهما الكتابة أو الرسالة
أو السفارة (الرسول)، وينطبق ذلك على البرق والتلكس والفاكس وشاشات الحاسب الآلي (الكومبيوتر) ففي هذه الحالة ينعقد العقد عند وصول الإيجاب إلى الموجه إليه وقبوله. 2 - إذا تم التعاقد بين طرفين في وقت واحد وهما في مكانين متباعدين، وينطبق هذا على الهاتف واللاسلكي، فإن التعاقد بينهما يعتبر تعاقداً بين حاضرين وتطبق على هذه الحالة الأحكام الأصلية المقررة لدى الفقهاء المشار إليها في الديباجة. 3 - إذا أصدر العارض بهذه الوسائل إيجاباً محدد المدة يكون ملزماً بالبقاء على إيجابه خلال تلك المدة، وليس له الرجوع عنه. 4 - أن القواعد السابقة لا تشمل النكاح لاشتراط الإشهاد فيه، ولا الصرف لاشتراط التقابض، ولا السلم لاشتراط تعجيل رأس المال. 5 - ما يتعلق باحتمال التزييف أو التزوير أو الغلط يرجع فيه إلى القواعد العامة للإثبات.
القبض: صوره وبخاصة المستجدة منها وأحكامها
قرار رقم (6/ 4/55) بشأن القبض: صوره وبخاصة المستجدة منها وأحكامها إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية من 17 - 23 شعبان 1410 هـ الموافق 14 - 20 آذار (مارس) 1990 م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: القبض: صوره وبخاصة المستجدة منها وأحكامها، واستماعه للمناقشات التي دارت حوله، قرر: أولاً: قبض الأموال كما يكون حسياً في حالة الأخذ باليد، أو الكيل أو الوزن في الطعام، أو النقل والتحويل إلى حوزة القابض، يتحقق اعتباراً وحكماً بالتخلية مع التمكين من التصرف ولو لم يوجد القبض حساً، وتختلف كيفية قبض الأشياء بحسب حالها واختلاف الأعراف فيما يكون قبضاً لها. ثانياً: أن من صور القبض الحكمي المعتبرة شرعاً وعرفاً: 1) القيد المصرفي لمبلغ من المال في حساب العميل في الحالات التالية: أ - إذا أودع في حساب العميل مبلغ من المال مباشرة أو بحوالة مصرفية.
ب ـ إذا عقد العميل عقد صرف ناجز بينه وبين المصرف في حال شراء عملة بعملة أخرى لحساب العميل. ج ـ إذا اقتطع المصرف ـ بأمر العميل ـ مبلغاً من حساب له إلى حساب آخر بعملة أخرى، في المصرف نفسه أو غيره، لصالح العميل أو لمستفيد آخر. وعلى المصارف مراعاة قواعد عقد الصرف في الشريعة الإسلامية. ويغتفر تأخير القيد المصرفي بالصورة التي يتمكن المستفيد بها من التسلم الفعلي، للمدد المتعارف عليها في أسواق التعامل. على أنه لا يجوز للمستفيد أن يتصرف في العملة خلال المدة المغتفرة إلا بعد أن يحصل أثر القيد المصرفي بإمكان التسلم الفعلي. 2) تسلم الشيك إذا كان له رصيد قابل للسحب بالعملة المكتوب بها عند استيفائه، وحجزه للمصرف.
زراعة خلايا المخ والجهاز العصبي
قرار رقم (6/ 5/56) بشأن (زراعة خلايا المخ والجهاز العصبي) إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية من 17 - 23 شعبان 1410 هـ، الموافق 14 - 20 آذار (مارس) 1990 م. بعد اطلاعه على الأبحاث والتوصيات المتعلقة بهذا الموضوع الذي كان أحد موضوعات الندوة الفقهية الطبية السادسة المنعقدة في الكويت من 23 - 26 ربيع الأول 1410 هـ، الموافق 23 - 1989/ 10/26م، بالتعاون بين هذا المجمع وبين المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية. وفي ضوء ما انتهت إليه الندوة المشار إليها من أنه لا يقصد من ذلك نقل مخ إنسان إلى إنسان آخر، وإنما الغرض من هذه الزراعة علاج قصور خلايا معينة في المخ عن إفراز مادتها الكيميائية أو الهرمونية بالقدر السوي فتودع في موطنها خلايا مثيلة من مصدر آخر، أو علاج فجوة في الجهاز العصبي نتيجة بعض الإصابات. قرر: 1 - إذا كان المصدر للحصول على الأنسجة هو الغدة الكظرية للمريض نفسه وفيه ميزة القبول المناعي لأن الخلايا من الجسم نفسه، فلا بأس من ذلك شرعاً.
2 - إذا كان المصدر هوأخذها من جنين حيواني، فلا مانع من هذه الطريقة إن أمكن نجاحها ولم يترتب على ذلك محاذير شرعية. وقد ذكر الأطباء أن هذه الطريقة نجحت بين فصائل مختلفة من الحيوان ومن المأمول نجاحها باتخاذ الاحتياطات الطبية اللازمة لتفادي الرفض المناعي. 3 - إذا كان المصدر للحصول على الأنسجة هو خلايا حية من مخ جنين باكر (في الاسبوع العاشر أو الحادي عشر) فيختلف الحكم على النحو التالي: أـ الطريقة الأولى: أخذها مباشرة من الجنين الإنساني في بطن أمه، بفتح الرحم جراحياً وتستتبع هذه الطريقة إماتة الجنين بمجرد أخذ الخلايا من مخه، ويحرم ذلك شرعاً إلا إذا كان بعد إجهاض طبيعي غير متعمد أو إجهاض مشروع لإنقاذ حياة الأم وتحقق موت الجنين، مع مراعاة الشروط التي سترد في موضوع الاستفادة من الأجنة في القرار رقم (6/ 8/59) لهذه الدورة. ب - الطريقة الثانية: وهي طريقة قد يحملها المستقبل القريب في طياته باستزراع خلايا المخ في مزارع للإفادة منها ولا بأس في ذلك شرعاً إذا كان المصدر للخلايا المستزرعة مشروعاً، وتم الحصول عليها على الوجه المشروع. 4 - المولود اللادماغي: طالما ولد حياً، لا يجوز التعرض له بأخذ شيء من أعضائه إلى أن يتحقق موته بموت جذع دماغه، ولا فرق بينه وبين غيره من الأسوياء في هذا الموضوع،
البييضات الملقحة الزائدة عن الحاجة
فإذا مات فإن الأخذ من أعضائه تراعى فيه الأحكام والشروط المعتبرة في نقل أعضاء الموتى من الإذن المعتبر، وعدم وجود البديل وتحقق الضرورة وغيرها مماتضمنه القرار رقم (1) من قرارات الدورة الرابعة لهذا المجمع. ولا مانع شرعاً من إبقاء هذا المولود اللادماغي على أجهزة الانعاش إلى ما بعد موت جذع المخ (والذي يمكن تشخيصه) للمحافظة على حيوية الأعضاء الصالحة للنقل توطئة للاستفادة منها بنقلها إلى غيره بالشروط المشار إليها. قرار رقم (6/ 6/57) بشأن البييضات الملقحة الزائدة عن الحاجة إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية من 17 - 23 شعبان 1410 هـ الموافق 14 - 20 آذار (مارس) 1990 م. بعد اطلاعه على الأبحاث والتوصيات المتعلقة بهذا الموضوع الذي كان أحد موضوعات الندوة الفقهية الطبية السادسة المنعقدة في الكويت من 23 - 26 ربيع الأول 1410 هـ، الموافق 23 - 1980/ 10/26 م، بالتعاون بين هذا المجمع وبين المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية، وبعد الاطلاع على التوصيتين الثالثة عشرة والرابعة عشرة المتخذتين في الندوة الثالثة التي عقدتها المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية في الكويت 20 - 23 شعبان 1407 هـ/18 - 1987/ 4/21 م بشأن مصير البييضات الملقحة والتوصية
استخدام الأجنة مصدرا لزراعة الأعضاء
الخامسة للندوة الأولى للمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية المنعقدة في الكويت 11 - 14 شعبان 1403 هـ/24 - 1982/ 5/27 م في الموضوع نفسه. قرر: 1 - في ضوء ما تحقق علمياً من إمكان حفظ البييضات غير ملقحة للسحب منها، يجب عند تلقيح البييضات الاقتصار على العدد المطلوب للزرع في كل مرة، تفادياً لوجود فائض من البييضات الملقحة. 2 - إذا حصل فائض من البييضات الملقحة بأي وجه من الوجوه تترك دون عناية طبية إلى أن تنتهي حياة ذلك الفائض على الوجه الطبيعي. 3 - يحرم استخدام البييضة الملقحة في امرأة أخرى، ويجب اتخاذ الاحتياطات الكفيلة بالحيلولةدون استعمال البييضة الملقحة في حمل غير مشروع. قرار رقم (6/ 7/58) بشأن استخدام الأجنة مصدراً لزراعة الأعضاء إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية من 17 - 23 شعبان 1410 هـ الموافق 14 - 20 آذار (مارس) 1990 م. بعد اطلاعه على الأبحاث والتوصيات المتعلقة بهذا الموضوع الذي كان أحد
موضوعات الندوة الفقهية الطبية السادسة المنعقدة في الكويت من 23 - 26 ربيع الأول 1410 هـ، الموافق 23 - 1989/ 10/26م، بالتعاون بين هذا المجمع وبين المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية. قرر: 1 - لا يجوز استخدام الأجنة مصدراً للأعضاء المطلوب زرعها في إنسان آخر إلا في حالات بضوابط لابد من توافرها: أـ لا يجوز إحداث إجهاض من أجل استخدام الجنين لزرع أعضائه في إنسان آخر، بل يقتصر الإجهاض على الإجهاض الطبيعي غير المتعمد والإجهاض للعذر الشرعي ولا يلجأ لإجراء العملية الجراحية لاستخراج الجنين إلا إذا تعينت لإنقاذ حياة الأم. ب ـ إذا كان الجنين قابلاً لاستمرار الحياة فيجب أن يتجه العلاج الطبي إلى استبقاء حياته والمحافظة عليها، لا إلى استثماره لزراعة الأعضاء وإذا كان غير قابل لاستمرار الحياة فلا يجوز الاستفادة منه إلا بعد موته بالشروط الواردة في القرار رقم (1) للدورة الرابعة لهذا المجمع. 2 - لا يجوز أن تخضع عمليات زرع الأعضاء للأغراض التجارية على الإطلاق. 3 - لا بد أن يسند الإشراف على عمليات زراعة الأعضاء إلى هيئة متخصصة موثوقة.
زراعة الأعضاء التناسلية
قرار رقم (6/ 8/59) بشأن زراعة الأعضاء التناسلية إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية من 17 - 23 شعبان 1410 هـ، الموافق 14 - 20 آذار/مارس 1990 م. بعد اطلاعه على الأبحاث والتوصيات المتعلقة بهذا الموضوع الذي كان أحد موضوعات الندوة الفقهية الطبية السادسة المنعقدة في الكويت من 23 - 26 ربيع الأول 1410 هـ، الموافق 23 - 1989/ 10/26 م، بالتعاون بين هذا المجمع وبين المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية. قرر: 1 - زرع الغدد التناسلية: بما أن الخصية والمبيض يستمران في حمل وإفراز الصفات الوراثية (الشفرة الوراثية) للمنقول منه حتى بعد زرعهما في متلق جديد، فإن زرعهما محرم شرعاً. 2 - زرع أعضاء الجهاز التناسلي: زرع بعض أعضاء الجهاز التناسلي التي لا تنقل الصفات الوراثية ـ ما عدا العورات المغلظة ـ جائز لضرورة مشروعة ووفق الضوابط والمعايير الشرعية المبينة في القرار رقم (1) للدورة الرابعة لهذا المجمع.
زراعة عضو استؤصل في حد أو قصاص
قرار رقم (6/ 9/60) بشأن زراعة عضو استؤصل في حد أو قصاص إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية من 17 - 23 شعبان 1410 هـ، الموافق 14 - 20 آذار/مارس 1990 م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (زراعة عضو استؤصل في حد أو قصاص) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله. وبمراعاة مقاصد الشريعة من تطبيق الحد من أجل الزجر والردع والنكال، وإبقاء للمراد من العقوبة بدوام أثرها للعبرة والعظة وقطع دابر الجريمة، ونظراً إلى أن إعادة العضو المقطوع تتطلب الفورية في عرف الطب الحديث، فلا يكون ذلك إلا بتواطؤ وإعداد طبي خاص ينبئ عن التهاون في جدية إقامة الحد وفاعليته. قرر: 1 - لا يجوز شرعاً إعادة العضو المقطوع تنفيذاً للحد لأن في بقاء أثر الحد تحقيقاً كاملاً للعقوبة المقررة شرعاً، ومنعاً للتهاون في استيفائها، وتفادياً لمصادمة حكم الشرع في الظاهر.
2 - بما أن القصاص قد شرع لإقامة العدل وإنصاف المجني عليه، وصون حق الحياة للمجتمع، وتوفير الأمن والاستقرار، فإنه لا يجوز إعادة عضو استؤصل تنفيذاً للقصاص، إلا في الحالات التالية: أـ أن يأذن المجني عليه بعد تنفيذ القصاص بإعادة العضو المقطوع. ب ـ أن يكون المجني عليه قد تمكن من إعادة العضو المقطوع منه. 3 - يجوز إعادة العضو الذي استؤصل في حد أو قصاص بسبب خطأ في الحكم أو في التنفيذ.
الأسواق المالية
قرار رقم (6/ 10/61) بشأن الأسواق المالية إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية من 17 - 23 شعبان 1410 هـ، الموافق 14 - 20 آذار/مارس 1990 م. بعد اطلاعه على الأبحاث والتوصيات والنتائج المقدمة من ندوة (الأسواق المالية) المنعقدة في الرباط 20 - 24 ربيع الثاني 1410 هـ، 20 - 1989/ 10/24 م بالتعاون بين هذا المجمع والمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب بالبنك الإسلامي للتنمية، وباستضافة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمملكة المغربية. وفي ضوء ما هو مقرر في الشريعة الإسلامية من الحث على الكسب الحلال واستثمار المال وتنمية المدخرات على أسس الاستثمار الإسلامي القائم على المشاركة في الأعباء وتحمل المخاطر، ومنها مخاطر المديونية. ولما للأسواق المالية من دور في تداول الأموال وتنشيط استثمارها، ولكون الاهتمام بها والبحث عن أحكامها يلبي حاجة ماسة لتعريف الناس بفقه دينهم في المستجدات العصرية ويتلاقى مع الجهود الأصيلة للفقهاء في بيان أحكام المعاملات المالية وبخاصة أحكام السوق ونظام الحسبة على الأسواق، وتشمل الأهمية الأسواق الثانوية التي تتيح للمستثمرين أن يعاودوا دخول السوق الأولية وتشكل
فرصة للحصول على السيولة وتشجع على توظيف المال ثقة بإمكان الخروج من السوق عند الحاجة. وبعد الاطلاع على ما تناولته البحوث المقدمة بشأن نظم وقوانين الأسواق المالية القائمة وآلياتها وأدواتها. قرر: 1 - أن الاهتمام بالأسواق المالية هو من تمام إقامة الواجب في حفظ المال وتنميته باعتبار ما يستتبعه هذا من التعاون لسد الحاجات العامة وأداء ما في المال من حقوق دينية أو دنيوية. 2 - إن هذه الأسواق المالية ـ مع الحاجة إلى أصل فكرتها ـ هي في حالتها الراهنة ليست النموذج المحقق لأهداف تنمية المال واستثماره من الوجهة الإسلامية. وهذا الوضع يتطلب بذل جهود علمية مشتركة من الفقهاء والاقتصاديين لمراجعة ما تقوم عليه من أنظمة، وما تعتمده من آليات وأدوات، وتعديل ما ينبغي تعديله في ضوء مقررات الشريعة الإسلامية. 3 - إن فكرة الأسواق المالية تقوم على أنظمة إدارية وإجرائية، ولذا يستند الالتزام بها إلى تطبيق قاعدة المصالح المرسلة فيما يندرج تحت أصل شرعي عام ولا يخالف نصاً أو قاعدة شرعية، وهي لذلك من قبيل التنظيم الذي يقوم به ولي الأمر في الحرف والمرافق الأخرى وليس لأحد مخالفة تنظيمات ولي الأمر أو التحايل عليها ما دامت مستوفية الضوابط والأصول الشرعية. ويوصي: باستكمال النظر في الأدوات والصيغ المستخدمة في الأسواق المالية بكتابة الدراسات والأبحاث الفقهية والاقتصادية الكافية.
السندات
قرار رقم (6/ 11/62) بشأن السندات إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية من 17 - 23 شعبان 1410هـ، الموافق 14 - 20 آذار/مارس 1990م. بعد اطلاعه على الأبحاث والتوصيات والنتائج المقدمة في ندوة (الأسواق المالية) المنعقدة في الرباط 20 - 24 ربيع الثاني 1410هـ/20 - 1989/ 10/24م، بالتعاون بين هذا المجمع والمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب بالبنك الإسلامي للتنمية، وباستضافة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمملكة المغربية. وبعد الاطلاع على أن السند شهادة يلتزم المصدر بموجبها أن يدفع لحاملها القيمة الاسمية عند الاستحقاق، مع دفع فائدة متفق عليها منسوبة إلى القيمة الاسمية للسند، أو ترتيب نفع مشروط سواء أكان جوائز توزع بالقرعة أم مبلغاً مقطوعاً أم حسماً (خصماً). قرر: 1 - إن السندات التي تمثل التزاماً بدفع مبلغها مع فائدة منسوبة إليه أو نفع مشروط محرمة شرعاً من حيث الإصدار أو الشراء أم التداول، لأنها قروض ربوية سواء أكانت الجهة المصدرة لها خاصة أم عامة ترتبط بالدولة ولا أثر لتسميتها
شهادات أو صكوكاً استثمارية أو ادخارية أو تسمية الفائدة الربوية الملتزم بها ربحاً أو ريعاً أو عمولة أو عائداً. 2 - تحرم أيضاً السندات ذات الكوبون الصفري باعتبارها قروضاً يجري بيعها بأقل من قيمتها الاسمية، ويستفيد أصحابها من الفروق باعتبارها حسماً (خصماً) لهذه السندات. 3 - كما تحرم أيضاً السندات ذات الجوائز باعتبارها قروضاً اشترط فيها نفع أو زيادة بالنسبة لمجموع المقرضين، أو لبعضهم لا على التعيين، فضلاً عن شبهة القمار. 4 - من البدائل للسندات المحرمة - إصداراً أو شراءً أو تداولاً - السندات أو الصكوك القائمة على أساس المضاربة لمشروع أو نشاط استثماري معين، بحيث لايكون لمالكيها فائدة أو نفع مقطوع، وإنما تكون لهم نسبة من ربح هذا المشروع بقدر مايملكون من هذه السندات أو الصكوك ولاينالون هذا الربح إلا إذا تحقق فعلاً. ويمكن الاستفادة في هذا من الصيغة التي تم اعتمادها بالقرار رقم (5) للدورة الرابعة لهذا المجمع بشأن سندات المقارضة. يوصي: 1 - بمراعاة هذه المقترحات، مع تفويض الأمانة العامة للاختيار منها بحسب ماتقدره من مقتضيات المصلحة، وبخاصة ما اقترح درسه في الدورة السابقة. 2 - قيام الأمانة العامة بالإعداد لعقد الندوات المقترحة مع إعطاء الأولوية للموضوعات التي طرحت في الدورات حسب الظروف والإمكانات المتاحة.
القرارات والتوصيات الصادرة عن مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره السابع
القرارات والتوصيات الصادرة عن مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره السابع المنعقد في جدة - المملكة العربية السعودية في: 7 - 12 ذو القعدة 1412 هـ (9 - 14) مايو 1992 م) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه وسلم قرار رقم 7/ 1/64 بشأن الأسواق المالية إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 7 إلى 12 ذو القعدة 1412 هـ الموافق 9 - 14 مايو (أيار) 1992م.
أولا: الأسهم
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (الأسواق المالية) الأسهم، الاختيارات، السلع، بطاقة الائتمان، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، قرر: أولاً: الأسهم 1 - الإسهام في الشركات: أـ بما أن الأصل في المعاملات الحل فإن تأسيس شركة مساهمة ذات أغراض وأنشطة مشروعة أمر جائز. ب ـ لا خلاف في حرمة الإسهام في شركات غرضها الأساسي محرم، كالتعامل بالربا أو إنتاج المحرمات أو المتاجرة بها. ج ـ الأصل حرمة الإسهام في شركات تتعامل أحياناً بالمحرمات، بالربا ونحوه، بالرغم من أن أنشطتها الأساسية مشروعة. د ـ أما المساهمة في الشركات التي تتعامل أحياناً بالمحرمات، فيرى المجلس تأجيل النظر فيها إلى دورة قادمة لمزيد من الدراسة والبحث. 2 - ضمان الإصدار: ضمان الإصدار: هو الاتفاق عند تأسيس شركة مع من يلتزم بضمان جميع الإصدار من الأسهم، أو جزء من ذلك الإصدار، وهو تعهد من الملتزم بالاكتتاب في كل ما تبقى مما لم يكتتب فيه غيره، وهذا لا مانع منه شرعاً إذا كان تعهد الملتزم
بالاكتتاب بالقيمة الاسمية بدون مقابل لقاء التعهد، ويجوز أن يحصل الملتزم على مقابل عن عمل يؤديه ـ غير الضمان ـ مثل إعداد الدراسات أو تسويق الأسهم. 3 - تقسيط سداد قيمة السهم عند الاكتتاب: لا مانع شرعاً من أداء قسط من قيمة السهم المكتتب فيه وتأجيل سداد بقية الأقساط، لأن ذلك يعتبر من الاشتراك بما عجل دفعه، والتواعد على زيادة رأس المال، ولا يترتب على ذلك محذور لأن هذا يشمل جميع الأسهم، وتظل مسؤولية الشركة بكامل رأس مالها المعلن بالنسبة للغير، لأنه هو القدر الذي حصل العلم والرضا به من المتعاملين مع الشركة. 4 - السهم لحامله: بما أن المبيع في (السهم لحامله) هو حصة شائعة في موجودات الشركة وأن شهادة السهم هي وثيقة لإثبات هذا الاستحقاق في الحصة فلا مانع شرعاً من إصدار أسهم في الشركة بهذه الطريقة وتداولها. 5 - محل العقد في بيع السهم: إن المحل المتعاقد عليه في بيع السهم هو الحصة الشائعة من أصل الشركة، وشهادة السهم عبارة عن وثيقة للحق في تلك الحصة. 6 - الأسهم الممتازة: لا يجوز إصدار أسهم ممتازة لها خصائص مالية تؤدي إلى ضمان رأس المال أو ضمان قدر من الربح أو تقديمها عند التصفية، أو عند توزيع الأرباح.
ويجوز إعطاء بعض الأسهم خصائص تتعلق بالأمور الإجرائية أو الإدارية. 7 - التعامل في الأسهم بطرق ربوية: أـ لا يجوز شراء السهم بقرض ربوي يقدمه السمسار أو غيره للمشتري لقاء رهن السهم، لما في ذلك من المراباة وتوثيقها بالرهن وهما من الأعمال المحرمة بالنص على لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه. ب ـ لا يجوز أيضاً بيع سهم لا يملكه البائع وإنما يتلقى وعداً من السمسار بإقراضه السهم في موعد التسليم؛ لأنه من بيع ما لا يملك البائع، ويقوى المنع إذا اشترط إقباض الثمن للسمسار لينتفع به بإيداعه بفائدة للحصول على مقابل الإقراض. 8 - بيع السهم أو رهنه: يجوز بيع السهم، أو رهنه مع مراعاة ما يقتضي به نظام الشركة، كما لو تضمن النظام تسويغ البيع مطلقاً أو مشروطاً بمراعاة أولوية المساهمين القدامى في الشراء، وكذلك يعتبر النص في النظام على إمكان الرهن من الشركاء برهن الحصة المشاعة. 9 - إصدار أسهم مع رسوم إصدار: إن إضافة نسبة معينة تدفع مع قيمة السهم، لتغطية مصاريف الإصدار، لا مانع منها شرعاً ما دامت هذه النسبة مقدرة تقديراً مناسباً. 10 - إصدار أسهم بعلاوة إصدار أو حسم (خصم) إصدار: يجوز إصدار أسهم جديدة لزيادة رأس مال الشركة إذا أصدرت بالقيمة الحقيقية للأسهم القديمة (حسب تقويم الخبراء لأصول الشركة) أو بالقيمة السوقية.
11 - ضمان الشركة شراء الأسهم: يرى المجلس تأجيل إصدار قرار في هذا الموضوع لدورة قادمة لمزيد من البحث والدراسة. 12 - تحديد مسؤولية الشركة المساهمة المحدودة: لا مانع شرعاً من إنشاء شركة مساهمة ذات مسؤولية محدودة برأس مالها، لأن ذلك معلوم للمتعاملين مع الشركة وبحصول العلم ينتفي الغرور عمن يتعامل مع الشركة. كما لا مانع شرعاً من أن تكون مسؤولية بعض المساهمين غير محدودة بالنسبة للدائنين بدون مقابل لقاء هذا الالتزام، وهي الشركات التي فيها شركاء متضامنون وشركاء محدودو المسؤولية. 13 - حصر تداول الأسهم بسماسرة مرخصين، واشتراط رسوم للتعامل في أسواقها: للجهات الرسمية المختصة أن تنظم تداول بعض الأسهم بأن لا يتم إلا بواسطة سماسرة مخصوصين ومرخصين بذلك العمل، لأن هذا من التصرفات الرسمية المحققة لمصالح مشروعة. وكذلك يجوز اشتراط رسوم لعضوية المتعامل في الأسواق المالية لأن هذا من الأمور التنظيمية المنوطة بتحقيق المصالح المشروعة، وذلك لتغطية النفقات أو لجباية ضريبة غير مباشرة.
ثانيا: بيع الاختيارات
14 - حق الأولوية: يرى المجلس تأجيل البت في هذا الموضوع إلى دورة قادمة لمزيد من البحث والدراسة. 15 - شهادة حق التملك: يرى المجلس تأجيل البت في هذا الموضوع إلى دورة قادمة لمزيد من البحث والدراسة. ثانياً: بيع الاختيارات: صورة العقد: إن المقصود بعقود الاختيارات الاعتياض عن الالتزام ببيع شيء محدد موصوف أو شرائه بسعر محدد خلال فترة زمنية معينة أو في وقت معين إما مباشرة أو من خلال هيئة ضامنة لحقوق الطرفين. حكمه الشرعي: إن عقود الاختيارات ـ كما تجري اليوم في الأسواق المالية العالمية ـ لا تنضوي تحت أي عقد من العقود الشرعية المسماة، فهي عقود مستحدثة. وبما أن المعقود عليه ليس مالاً ولا منفعة ولا حقاً مالياً يجوز الاعتياض عنه فإنه عقد غير جائز شرعاً. وبما أن هذه العقود لا تجوز ابتداء فلا يجوز تداولها.
ثالثا: التعامل بالسلع والعملات والمؤشرات في الأسواق المنظمة
ثالثاً: التعامل بالسلع والعملات والمؤشرات في الأسواق المنظمة: 1 - السلع: يتم التعامل بالسلع في الأسواق المنظمة بإحدى أربع طرق هي التالية: الطريقة الأولى: أن يتضمن العقد حق تسلم المبيع وتسلم الثمن في الحال مع وجود السلع أو إيصالات ممثلة لها في ملك البائع وقبضه. وهذا العقد جائز شرعاً بشروط البيع المعروفة. الطريقة الثانية: أن يتضمن العقد حق تسلم المبيع وتسلم الثمن في الحال مع إمكانهما بضمان هيئة السوق. وهذا العقد جائز شرعاً بشروط البيع المعروفة. الطريقة الثالثة: أن يكون العقد على تسليم سلعة موصوفة في الذمة في موعد آجل ودفع الثمن عند التسليم وأن يتضمن شرطاً يقتضي أن ينتهي فعلاً بالتسليم والتسلم. وهذا العقد غير جائز لتأجيل البدلين، ويمكن أن يعدل ليستوفي شروط السلم المعروفة، فإذا استوفى شروط السلم جاز. وكذلك لا يجوز بيع السلعة المشتراة سلماً قبل قبضها.
الطريقة الرابعة: أن يكون العقد على تسليم سلعة موصوفة في الذمة في موعد آجل ودفع الثمن عند التسليم دون أن يتضمن العقد شرط أن ينتهي بالتسليم والتسلم الفعليين بل يمكن تصفيته بعقد معاكس. وهذا هو النوع الأكثر شيوعاً في أسواق السلع وهذا العقد غير جائز أصلاً. 2 - التعامل بالعملات: يتم التعامل بالعملات في الأسواق المنظمة بإحدى الطرق الأربعة المذكورة في التعامل بالسلع. ولا يجوز شراء العملات وبيعها بالطريقتين الثالثة والرابعة. أما الطريقتان الأولى والثانية فيجوز فيهما شراء العملات وبيعها بشرط استيفاء شروط الصرف المعروفة. 3 - التعامل بالمؤشر: المؤشر هو رقم حسابي يحسب بطريقة إحصائية خاصة يقصد منه معرفة حجم التغير في سوق معينة، وتجري عليه مبايعات في بعض الأسواق العالمية. ولا يجوز بيع وشراء المؤشر لأنه مقامرة بحتة وهو بيع شيء خيالي لا يمكن وجوده. 4 - البديل الشرعي للمعاملات المحرمة في السلع والعملات: ينبغي تنظيم سوق إسلامية للسلع والعملات على أساس المعاملات الشرعية وبخاصة بيع السلم والصرف والوعد بالبيع في وقت آجل والاستصناع وغيرها.
رابعا: بطاقة الائتمان
ويرى المجمع ضرورة القيام بدراسة وافية لشروط هذه البدائل وطرائق تطبيقها في سوق إسلامية منظمة. رابعاً: بطاقة الائتمان: تعريفها: بطاقة الائتمان هي مستند يعطيه مصدره لشخص طبيعي أو اعتباري ـ بناء على عقد بينهما ـ يمكنه من شراء السلع أو الخدمات ممن يعتمد المستند دون دفع الثمن حالاً لتضمنه التزام المصدر بالدفع. ومن أنواع هذا المستند ما يمكن من سحب نقود من المصارف، ولبطاقات الائتمان صور: ـ منها ما يكون السحب أو الدفع بموجبها من حساب حاملها في المصرف وليس من حساب المصدر فتكون بذلك مغطاة، ومنها ما يكون الدفع من حساب المصدر ثم يعود على حاملها في مواعيد دورية. ـ ومنها ما يفرض فوائد ربوية على مجموع الرصيد غير المدفوع خلال فترة محددة من تاريخ المطالبة، ومنها ما لا يفرض فوائد. ـ وأكثرها يفرض رسماً سنوياً على حاملها ومنها ما لا يفرض فيه المصدر رسماً سنوياً. وبعد التداول قرر المجلس تأجيل البت في التكييف الشرعي لهذه البطاقة وحكمها إلى دورة قادمة لمزيد من البحث والدراسة. والله أعلم
البيع بالتقسيط
قرار رقم 7/ 2/65 بشأن البيع بالتقسيط إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 17إلى 12 ذو القعدة 1412 هـ الموافق 9 - 14 مايو 1992م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (البيع بالتقسيط). وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله. قرر: 1 - البيع بالتقسيط جائز شرعاً، ولو زاد فيه الثمن المؤجل على المعجّل. 2 - الأوراق التجارية (الشيكات ـ السندات لأمر ـ سندات السحب) من أنواع التوثيق المشروع للدين بالكتابة. 3 - إن حسم (خصم) الأوراق التجارية غير جائز شرعاً، لأنه يؤول إلى ربا النسيئة المحرم. 4 - الحطيطة من الدين المؤجل، لأجل تعجيله، سواء أكانت بطلب الدائن أو المدين (ضع وتعجل) جائزة شرعاً، لا تدخل في الربا المحرم إذا لم تكن بناء على
اتفاق سابق، وما دامت العلاقة بين الدائن والمدين ثنائية، فإذا دخل بينهما طرف ثالث لم تجز، لأنها تأخذ عندئذ حكم حسم الأوراق التجارية. 5 - يجوز اتفاق المتداينين على حلول سائر الأقساط عند امتناع المدين عن وفاء أي قسط من الأقساط المستحقة عليه مالم يكن معسراً. 6 - إذا اعتبر الدين حالا لموت المدين أو إفلاسه أو مماطلته، فيجوز في جميع هذه الحالات الحط منه للتعجيل بالتراضي، ويجب هذا الحط من الدين لتعجيله إذا كان قد زيد فيه لتأجيله. 7 - ضابط الإعسار الذي يوجب الإنظار: ألا يكون للمدين مال زائد عن حوائجه الأصلية يفي بدينه نقداً أو عيناً. والله أعلم
عقد الاستصناع
قرار رقم 7/ 3/66 بشأن عقد الاستصناع إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 17إلى 12 ذو القعدة 1412 هـ الموافق 9 - 14 مايو 1992م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (عقد الاستصناع)، واستماعه للمناقشات التي دارت حوله، ومراعاة لمقاصد الشريعة في مصالح العباد والقواعد الفقهية في العقود والتصرفات، ونظراً لأن عقد الاستصناع له دور كبير في تنشيط الصناعة، وفي فتح مجالات واسعة للتمويل والنهوض بالاقتصاد الإسلامي. قرر: 1 - أن عقد الاستصناع ـ هو عقد وارد على العمل والعين في الذمة ـ ملزم للطرفين إذا توافرت فيه الأركان والشروط. 2 - يشترط في عقد الاستصناع ما يلي: أـ بيان جنس المستصنع ونوعه وقدره وأوصافه المطلوبة.
ب ـ أن يحدد فيه الأجل. 3 - يجوز في عقد الاستصناع تأجيل الثمن كله، أو تقسيطه إلى أقساط معلومة لآجال محددة. 4 - يجوز أن يتضمن عقد الاستصناع شرطاً جزائياً بمقتضى ما اتفق عليه العاقدان ما لم تكن هناك ظروف قاهرة. والله أعلم
بيع الوفاء
قرار رقم 7/ 4/67 بشأن بيع الوفاء إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 17إلى 12 ذو القعدة 1412 هـ الموافق 9 - 14 مايو 1992م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (بيع الوفاء). واستماعه إلى المناقشات التي دارت حول بيع الوفاء، وحقيقته: «بيع المال بشرط أن البائع متى رد الثمن يرد المشتري إليه المبيع». قرر: 1 - أن حقيقة هذا البيع «قرض جر نفعاً» فهو تحايل على الربا، وبعدم صحته قال جمهور العلماء. 2 - يرى المجمع أن يبقى هذا العقد غير جائز شرعاً. والله أعلم
العلاج الطبي
قرار رقم 7/ 5/68 بشأن العلاج الطبي إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 17إلى 12 ذو القعدة 1412 هـ الموافق 9 - 14 مايو 1992م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (العلاج الطبي)، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله. قرر: أولاً: التداوي الأصل في حكم التداوي أنه مشروع، لما ورد في شأنه في القرآن الكريم والسنة القولية والعملية، ولما فيه من (حفظ النفس) الذي هو أحد المقاصد الكلية من التشريع. وتختلف أحكام التداوي باختلاف الأحوال والأشخاص: ـ فيكون واجباً على الشخص إذا كان تركه يفضي إلى تلف نفسه أو أحد أعضائه أو عجزه، أو كان المرض ينتقل ضرره إلى غيره، كالأمراض المعدية. ـ ويكون مندوباً إذا كان تركه يؤدي إلى ضعف البدن ولا يترتب عليه ما سبق في الحالة الأولى.
ثانيا: علاج الحالات الميئوس منها
ـ ويكون مباحاً إذا لم يندرج في الحالتين السابقتين. ـ ويكون مكروهاً إذا كان بفعل يخاف منه حدوث مضاعفات أشد من العلة المراد إزالتها. ثانياً: علاج الحالات الميئوس منها: أـ مما تقتضيه عقيدة المسلم أن المرض والشفاء بيد الله عز وجل، وأن التداوي والعلاج أخذ بالأسباب التي أودعها الله تعالى في الكون وأنه لا يجوز اليأس من روح الله أو القنوط من رحمته، بل ينبغي بقاء الأمل في الشفاء بإذن الله. وعلى الأطباء وذوي المرضى تقوية معنويات المريض، والدأب في رعايته وتخفيف آلامه النفسية والبدنية بصرف النظر عن توقع الشفاء أو عدمه. ب ـ إن ما يعتبر حالة ميئوساً من علاجها هو بحسب تقدير الأطباء وإمكانات الطب المتاحة في كل زمان ومكان وتبعاً لظروف المرضى. ثالثاً: إذن المريض: أـ يشترط إذن المريض للعلاج إذا كان تام الأهلية، فإذا كان عديم الأهلية أو ناقصها اعتبر إذن وليه، حسب ترتيب الولاية الشرعية ووفقاً لأحكامها التي تحصر تصرف الولي فيما فيه منفعة المولى عليه ومصلحته ورفع الأذى عنه. على أنه لا عبرة بتصرف الولي في عدم الإذن إذا كان واضح الضرر بالمولى عليه، وينتقل الحق إلى غيره من الأولياء ثم إلى ولي الأمر.
ب ـ لولي الأمر الإلزام بالتداوي في بعض الأحوال، كالأمراض المعدية والتحصينات الوقائية. ج ـ في حالات الإسعاف التي تتعرض فيها حياة المصاب للخطر لا يتوقف العلاج على الإذن. د ـ لا بد في إجراء الأبحاث الطبية من موافقة الشخص التام الأهلية بصورة خالية من شائبة الإكراه (كالمساجين) أو الإغراء المادي (كالمساكين). ويجب أن لا يترتب على إجراء تلك الأبحاث ضرر. ولا يجوز إجراء الأبحاث الطبية على عديمي الأهلية أو ناقصيها ولو بموافقة الأولياء ويوصي مجلس المجمع: الأمانة العامة للمجمع بالاستكتاب في الموضوعات الطبية التالية لطرحها على دورات المجمع القادمة: ـ العلاج بالمحرمات وبالنجس، وضوابط استعمال الأدوية. ـ العلاج التجميلي. ـ ضمان الطبيب. ـ معالجة الرجل للمرأة، وعكسه، ومعالجة غير المسلمين للمسلمين. ـ العلاج بالرقى (العلاج الروحي). ـ أخلاقيات الطبيب (مع توزيعها على أكثر من دورة إن اقتضى الأمر). ـ التزاحم في العلاج وترتيب الأولوية فيه. والله أعلم
الحقوق الدولية في نظر الإسلام
قرار رقم 7/ 6/69 بشأن الحقوق الدولية في نظر الإسلام إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 17إلى 12 ذو القعدة 1412 هـ الموافق 9 - 14 مايو 1992م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (الحقوق الدولية في نظر الإسلام)، واستماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، رأى المجلس ما يلي: أولاً: يثني المجلس على الجهود المشكورة في البحوث التي قدمت ونوقشت في دورته السابعة حول هذا الموضوع، وقد رأى أن الموضوع من الأهمية والسعة بحيث يدعو إلى مزيد من البحث والدراسة في الجوانب المتعددة التي ما زال الموضوع في حاجة إليها. ثانياً: يقترح المجلس تشكيل لجنة تحضيرية لإعداد ورقة عمل لندوة متخصصة تعقد لمعالجة تفاصيل هذا الموضوع والخروج بمشروع لائحة للحقوق الدولية في الإسلام تعرض على المجلس في دورته القادمة.
ثالثاً: يقترح المجلس أيضاً أن يكون من محاور ورقة العمل ما يلي: 1 - مصادر القانون الدولي الإسلامي والعلاقات الدولية وهي: القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة والتطبيقات العملية عند الخلفاء الراشدين، كما يستفاد من اجتهادات الفقهاء في هذا. 2 - المقاصد والخصائص العامة للشريعة الاسلامية، والتي تترك أثرها العملي على المواقف كلها: أـ المقاصد الشرعية. ب ـ الخصائص العامة. 3 - مفهوم الأمة ووحدتها في الإسلام. 4 - مذاهب الفقهاء في أقسام الديار. 5 - الجذور التاريخية للحالة القائمة في العالم الإسلامي. 6 - علاقات الدولة الإسلامية في داخلها (الشعب والأقليات). 7 - علاقات الدولة الإسلامية بالدول الأخرى. 8 - موقف الدولة الإسلامية من المواثيق والمعاهدات والمنظمات الدولية. رابعاً: يقترح المجلس على اللجنة التحضيرية أن تقوم بوضع أوراق شارحة يسترشد بها الباحثون في تفصيل هذه المحاور وأن يكون ذلك في خلال الأشهر القادمة. والله ولي التوفيق
الغزو الفكري
قرار رقم 7/ 7/70 بشأن الغزو الفكري إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 7 إلى 12 ذو القعدة 1412 هـ الموافق 9 - 14 مايو 1992م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (الغزو الفكري) والتي بينت بداية هذا الغزو وخطورته وأبعاده وما حققه من نتائج في بلاد العرب والمسلمين، واستعرضت صوراً مما أثار من شبه ومطاعن، ونفذ من خطط وممارسات، استهدفت زعزعة المجتمع المسلم ووقف انتشار الدعوة الإسلامية، كما بينت هذه البحوث الدور الذي قام به الإسلام في حفظ الأمة وثباتها في وجه هذا الغزو وكيف أحبط كثيراً من خططه ومؤامراته. وقد اهتمت هذه البحوث ببيان سبل مواجهة هذا الغزو وحماية الأمة من كل آثاره في جميع المجالات وعلى كل الأصعدة. وبعد استماعه للمناقشات التي دارت حول هذه البحوث. يوصي بضرورة مايلي: 1 - العمل على تطبيق الشريعة الإسلامية واتخاذها منهجاً في رسم علاقتنا السياسية المحلية منها والعالمية.
2 - الحرص على تنقية مناهج التربية والتعليم والنهوض بها بهدف بناء الأجيال على أسس تربوية إسلامية معاصرة وبشكل يعدهم الإعداد المناسب الذي يبصرهم بدينهم ويحميهم من كل مظاهر الغزو الثقافي. 3 - تطوير مناهج إعداد الدعاة من أجل إدراكهم لروح الإسلام ومنهجه في بناء الحياة الإنسانية بالإضافة إلى اطلاعهم على ثقافة العصر ليكون تعاملهم مع المجتمعات المعاصرة عن وعي وبصيرة. 4 - إعطاء المسجد دوره التربوي المتكامل في حياة المسلمين لمواجهة كل مظاهر الغزو الثقافي وآثاره وتعريف المسلمين بدينهم التعريف السليم الكامل. 5 - رد الشبهات التي أثارها أعداء الإسلام بطرق علمية سليمة وبثقة المؤمن بكمال هذا الدين دون اللجوء إلى أساليب الدفاع التبريري الضعيف. 6 - الاهتمام بدراسة الأفكار الوافدة والمبادئ المستوردة والتعريف بمظاهر قصورها ونقصها بأمانة وموضوعية. 7 - الاهتمام بالصحوة الإسلامية ودعم المؤسسات العاملة في مجالات الدعوة والعمل الإسلامي لبناء الشخصية الإسلامية السوية التي تقدم للمجتمع الإنساني صورة مشرقة للتطبيق الإسلامي على المستوى الفردي والجماعي وفي كل مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية. 8 - الاهتمام باللغة العربية والعمل على نشرها ودعم تعليمها في جميع أنحاء العالم باعتبارها لغة القرآن الكريم واتخاذها لغة التعليم في المدارس والمعاهد والجامعات في البلاد العربية والإسلامية. 9 - الحرص على بيان سماحة الإسلام وأنه جاء لخير الإنسان وسعادته في الدنيا
والآخرة، وبحيث يكون ذلك على المستوى العالمي وباللغات الحية جميعها. 10 - الاستفادة الفعالة والمدروسة من الأساليب المعاصرة في الإعلام مما يمكن من إيصال كلمة الحق والخير إلى جميع أنحاء الدنيا ودون إهمال لكل وسيلة متاحة. 11 - الاهتمام بمواجهة القضايا المعاصرة بحلول إسلامية والعمل على نقل حلول الإسلام لهذه المشكلات إلى التنفيذ والممارسة لأن التطبيق الناجح هو أفعل طرق الدعوة والبيان. 12 - العمل على تأكيد مظاهر وحدة المسلمين وتكاملهم على كل الأصعدة وحل خلافاتهم ومنازعاتهم فيما بينهم وبالطرق السلمية وفق أحكام الشريعة المعروفة إفساداً لمخططات الغزو الثقافي في تفتيت وحدة المسلمين وزرع الخلافات والمنازعات بينهم. 13 - العمل على بناء قوة المسلمين واكتفائهم الذاتي اقتصادياً وعسكرياً. 14 - مناشدة الدول العربية والإسلامية مناصرة المسلمين الذين يتعرضون للاضطهاد في شتى بقاع الأرض ودعم قضاياهم ودرء العدوان عنهم بشتى الوسائل المتاحة. كما يوصي المجلس أيضاً الأمانة العامة للمجمع باستمرار الاهتمام بطرح أهم قضايا الموضوع في لقاءات المجمع وندواته القادمة نظراً لأهمية موضوع الغزو الفكري وضرورة وضع استراتيجية متكاملة لمجابهة مظاهره ومستجداته ويمكن البدء بقضيتي التبشير والاستشراق في الدورة القادمة. والله ولي التوفيق.
القرارات والتوصيات الصادرة عن مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره الثامن
القرارات والتوصيات الصادرة عن مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره الثامن المنعقد ببندر سري بجاون (بروناي دار السلام) 1 - 7 محرم 1414هـ / 21 - 27 يونيو 1993م بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه. قرار رقم: 1/ 74/د8 بشأن الأخذ بالرخصة وحكمه إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سري بجاون، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414هـ الموافق 21 - 27 يونيو 1993م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: «الأخذ بالرخصة وحكمه».
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، قرر مايلي: 1 - الرخصة الشرعية: هي ماشرع من الأحكام لعذر، تخفيفاً عن المكلفين، مع قيام السبب الموجب للحكم الأصلي. ولا خلاف في مشروعية الأخذ بالرخص الشرعية إذا وجدت أسبابها، بشرط التحقق من دواعيها، والاقتصار على مواضعها، مع مراعاة الضوابط الشرعية المقررة للأخذ بها. 2 - المراد بالرخص الفقهية: ماجاء من الاجتهادات المذهبية مبيحاً لأمر في مقابلة اجتهادات أخرى تحظره. والأخذ برخص الفقهاء: بمعنى اتباع ماهو أخف من أقوالهم، جائز شرعاً بالضوابط الآتية في (البند 4). 3 - الرخص في القضايا العامة تعامل معاملة المسائل الفقهية الأصلية إذا كانت محققة لمصلحة معتبرة شرعاً، وصادرة عن اجتهاد جماعي ممن تتوافر فيهم أهلية الاختيار ويتصفون بالتقوى والأمانة العلمية. 4 - لايجوز الأخذ برخص المذاهب الفقهية لمجرد الهوى، لأن ذلك يؤدي إلى التحلل من التكليف، وإنما يجوز الأخذ بالرخص بمراعاة الضوابط التالية: أـ أن تكون أقوال الفقهاء التي يترخص بها معتبرة شرعاً ولم توصف بأنها من شواذ الأقوال. ب ـ أن تقوم الحاجة إلى الأخذ بالرخصة، دفعاً للمشقة سواء أكانت حاجة عامة للمجتمع أم خاصة أم فردية.
ج ـ أن يكون الآخذ بالرخص ذا قدرة على الاختيار، أو أن يعتمد على من هو أهل لذلك. د - ألا يترتب على الأخذ بالرخص الوقوع في التلفيق الممنوع الآتي بيانه في (البند 6). هـ ـ ألا يكون الأخذ بذلك القول ذريعة للوصول إلى غرض غير مشروع. وـ أن تطمئن نفس المترخص للأخذ بالرخصة. 5 - حقيقة التلفيق في تقليد المذاهب: هي أن يأتي المقلد في مسألة واحدة ذات فرعين مترابطين فأكثر بكيفية لا يقول بها مجتهد ممن قلدهم في تلك المسألة. 6 - يكون التلفيق ممنوعاً في الأحوال التالية: أـ إذا أدى إلى الأخذ بالرخص لمجرد الهوى، أو الإخلال بأحد الضوابط المبينة في مسألة الأخذ بالرخص. ب ـ إذا أدى إلى نقض حكم القضاء. ج ـ إذا أدى إلى نقض ما عمل به تقليداً في واقعة واحدة. د ـ إذا أدى إلى مخالفة الإجماع أو ما يستلزمه. هـ ـ إذا أدى إلى حالة مركبة لا يقرها أحد من المجتهدين. والله أعلم
حوادث السير
قرار رقم: 2/ 75/د 8 بشأن حوادث السير إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سري بجاون، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414هـ الموافق 21 - 27 يونيو 1993م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: «حوادث السير». وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، وبالنظر إلى تفاقم حوادث السير وزيادة أخطارها على أرواح الناس وممتلكاتهم، واقتضاء المصلحة سَنّ الأنظمة المتعلقة بترخيص المركبات بما يحقق شروط الأمن كسلامة الأجهزة وقواعد نقل الملكية ورخص القيادة والاحتياط الكافي بمنح رخص القيادة بالشروط الخاصة بالنسبة للسن والقدرة والرؤية والدراية بقواعد المرور والتقيد بها وتحديد السرعة المعقولة والحمولة. قرر ما يلي: 1 - أ- إن الالتزام بتلك الأنظمة التي لا تخالف أحكام الشريعة الإسلامية واجب شرعاً، لأنه من طاعة ولي الأمر فيما ينظمه من إجراءات بناء على دليل
المصالح المرسلة. وينبغي أن تشتمل تلك الأنظمة على الأحكام الشرعية التي لم تطبق في هذا المجال. ب ـ مما تقتضيه المصلحة أيضاً سَنّ الأنظمة الزاجرة بأنواعها، ومنها التعزير المالي، لمن يخالف تلك التعليمات المنظمة للمرور لردع من يعرض أمن الناس للخطر في الطرقات والأسواق من أصحاب المركبات ووسائل النقل الأخرى أخذاً بأحكام الحسبة المقررة. 2 - الحوادث التي تنتج عن تسيير المركبات تطبق عليها أحكام الجنايات المقررة في الشريعة الإسلامية وإن كانت في الغالب من قبيل الخطأ. والسائق مسؤول عما يحدثه بالغير من أضرار سواء في البدن أم المال إذا تحققت عناصرها من خطأ وضرر، ولا يعفى من هذه المسؤولية إلا في الحالات الآتية: أـ إذا كان الحادث نتيجة لقوة قاهرة لا يستطيع دفعها وتعذر عليه الاحتراز منها، وهي كل أمر عارض خارج عن تدخل الإنسان. ب ـ إذا كان بسبب فعل المتضرر المؤثر تأثيراً قوياً في إحداث النتيجة. ج ـ إذا كان الحادث بسبب خطأ الغير أو تعديه فيتحمل ذلك الغير المسؤولية. 3 - ما تسببه البهائم من حوادث السير في الطرقات يضمن أربابها الأضرار التي تنجم عن فعلها إن كانوا مقصرين في ضبطها، والفصل في ذلك إلى القضاء. 4 - إذا اشترك السائق والمتضرر في إحداث الضرر كان على كل واحد منهما تبعة ما تلف من الآخر من نفس أو مال.
5 - أـ مع مراعاة ما سيأتي من تفصيل، فإن الأصل أن المباشر ضامن ولو لم يكن متعدياً، وأما المتسبب فلا يضمن إلا إذا كان متعدياً أو مفرطاً. ب ـ إذا اجتمع المباشر مع المتسبب كانت المسؤولية على المباشر دون المتسبب إلا إذا كان المتسبب متعدياً والمباشر غير متعد. ج ـ إذا اجتمع سببان مختلفان كل واحد منهما مؤثر في الضرر، فعلى كل واحد من المتسببين المسئولية بحسب نسبة تأثيره في الضرر. وإذا استويا أو لم تعرف نسبة أثر كل واحد منهما فالتبعة عليهما على السواء. والله أعلم.
بيع العربون
قرار رقم: 3/ 76/د 8 بشأن بيع العربون إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سري بجاون، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414هـ الموافق 21 - 27 يونيو 1993م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: «بيع العربون». وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، قرر مايلي: 1 - المراد ببيع العربون: بيع السلعة مع دفع المشتري مبلغاً من المال إلى البائع على أنه إن أخذ السلعة احتسب المبلغ من الثمن وإن تركها فالمبلغ للبائع. ويجري مجرى البيع الإجارة، لأنها بيع المنافع. ويستثنى من البيوع كل ما يشترط لصحته قبض أحد البدلين في مجلس العقد (السلم) أو قبض البدلين (مبادلة الأموال الربوية والصرف) ولا يجري في المرابحة للآمر بالشراء في مرحلة المواعدة ولكن يجري في مرحلة البيع التالية للمواعدة. 2 - يجوز بيع العربون إذا قيدت فترة الانتظار بزمن محدود. ويحتسب العربون جزءاً من الثمن إذا تم الشراء، ويكون من حق البائع إذا عدل المشتري عن الشراء.
عقد المزايدة
قرار رقم: 4/ 77/د 8 بشأن عقد المزايدة إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سري بجاون، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414هـ الموافق 21 - 27 يونيو 1993م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (عقد المزايدة) وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، وحيث إن عقد المزايدة من العقود الشائعة في الوقت الحاضر، وقد صاحب تنفيذه في بعض الحالات تجاوزات دعت لضبط طريقة التعامل به ضبطاً يحفظ حقوق المتعاقدين طبقاً لأحكام الشريعة الإسلامية، كما اعتمدته المؤسسات والحكومات، وضبطته بتراتيب إدارية، ومن أجل بيان الأحكام الشرعية لهذا العقد. قرر مايلي: 1 - عقد المزايدة: عقد معاوضة يعتمد دعوة الراغبين نداء، أو كتابة للمشاركة في المزاد ويتم عند رضا البائع.
2 - يتنوع عقد المزايدة بحسب موضوعه إلى بيع وإجارة وغير ذلك، وبحسب طبيعته إلى اختياري كالمزادات العادية بين الأفراد، وإلى إجباري كالمزادات التي يوجبها القضاء. وتحتاج إليه المؤسسات العامة والخاصة، والهيئات الحكومية والأفراد. 3 - إن الإجراءات المتبعة في عقود المزايدات من تحرير كتابي، وتنظيم، وضوابط وشروط إدارية أو قانونية، يجب أن لا تتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية. 4 - طلب الضمان ممن يريد الدخول في المزايدة جائز شرعاً، ويجب أن يرد لكل مشارك لم يرس عليه العطاء، ويحتسب الضمان المالي من الثمن لمن فاز بالصفقة. 5 - لا مانع شرعاً من استيفاء رسم الدخول (قيمة دفتر الشروط بما لا يزيد عن القيمة الفعلية) لكونه ثمناً له. 6 - يجوز أن يعرض المصرف الإسلامي، أو غيره مشاريع استثمارية ليحقق لنفسه نسبة أعلى من الربح، سواء أكان المستثمر عاملاً في عقد مضاربة مع المصرف أم لا. 7 - النجش حرام، ومن صوره: أـ أن يزيد في ثمن السلعة من لا يريد شراءها ليغري المشتري بالزيادة. ب ـ أن يتظاهر من لا يريد الشراء بإعجابه بالسلعة وخبرته بها، ويمدحها ليغر المشتري فيرفع ثمنها.
ج ـ أن يدعي صاحب السلعة، أو الوكيل، أو السمسار، ادعاء كاذباً أنه دفُع فيها ثمن معين ليدلس على من يسوم. د ـ ومن الصور الحديثة للنجش المحظورة شرعاً اعتماد الوسائل السمعية، والمرئية، والمقروءة، التي تذكر أوصافاً رفيعة لا تمثل الحقيقة، أو ترفع الثمن لتغر المشتري، وتحمله على التعاقد. والله أعلم.
تطبيقات شرعية لإقامة السوق الإسلامية
قرار رقم: 5/ 78/د8 بشأن تطبيقات شرعية لإقامة السوق الإسلامية إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سري بجاون، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414هـ الموافق 21 - 27 يونيو 1993م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (تطبيقات شرعية لإقامة السوق الإسلامية) التي كانت استكمالاً لموضوعات الأسواق المالية، والأوراق المالية الإسلامية التي سبق بحثها في الدورات السابقة، ولاسيما في دورة مؤتمره السابع بجدة، وفي الندوات التي أقامها لهذا الغرض للوصول إلى مجموعة مناسبة من الأدوات المشروعة لسوق المال، حيث إنها الوعاء الذي يستوعب السيولة المتوافرة في البلاد الإسلامية، ويحقق الأهداف التنموية، والتكافل والتوازن، والتكامل للدول الإسلامية. وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حول كيفية الإفادة من الصيغ التي بها تكتمل السوق الإسلامية، وهي الأسهم، والصكوك والعقود الخاصة لإقامة السوق الإسلامية على أسس شرعية. قرر مايلي: 1 - الأسهم: أصدر مجمع الفقه الإسلامي قراره رقم 1/ 65/د7، بشأن الأسواق المالية:
الأسهم، والاختيارات، والسلع، والعملات، وبين أحكامها مما يمكن الإفادة منها لإقامة سوق المال الإسلامية. 2 - الصكوك (السندات): أ - سندات المقارضة وسندات الاستثمار: أصدر مجمع الفقه الإسلامي قراره رقم /5د4 بشأن صكوك المقارضة. ب - صكوك التأجير، أو الإيجار المنتهي بالتمليك. وقد صدر بخصوصها قرار المجمع رقم 6/د5، وبذلك تؤدي هذه الصكوك دوراً طيباً في سوق المال الإسلامية في نطاق المنافع. 3 - عقد السلم: بما أن عقد السلم - بشروطه - واسع المجال إذ أن المشتري يستفيد منه في استثمار فائض أمواله لتحقيق الربح، والبائع يستفيد من الثمن في النتاج، فهو أداة فعالة لإقامة سوق مال إسلامية في مجال بيع شيء موصوف في الذمة. مع التأكيد على قرار المجمع رقم 1/ 64/د7 بشأن عدم جواز بيع المسلم فيه قبل قبضه ونصه: «لايجوز بيع السلعة المشتراة سلماً قبل قبضها». 4 - عقد الاستصناع: أصدر المجمع قراره رقم 3/ 66/د7 بشأن عقد الاستصناع. 5 - البيع الآجل: البيع الآجل صيغة تطبيقية أخرى من صيغ الاستثمار، تيسر عمليات الشراء، حيث يستفيد المشتري من توافر الحصول على السلع حالاً، ودفع الثمن بعد أجل،
كما يستفيد البائع من زيادة الثمن، وتكون النتيجة اتساع توزيع السلع ورواجها في المجتمع. 6 - الوعد والمواعدة: أصدر المجمع قراره رقم 2 - 3/د5 بشأن الوعد، والمواعدة في المرابحة للآمر بالشراء. 7 - يدعو المجمع الباحثين من الفقهاء والاقتصاديين لإعداد بحوث ودراسات في الموضوعات التي لم يتم بحثها بصورة معمقة، لبيان مدى إمكانية تنفيذها، والاستفادة منها شرعاً في سوق المال الإسلامية وهي: أـ صكوك المشاركة بكل أنواعها. ب ـ صياغة صكوك من الإيجار أو التأجير المنتهي بالتمليك. ج ـ الاعتياض عن دين السلم، والتولية والشركة فيه، والحطيطة عنه والمصالحة عليه ونحو ذلك. د ـ المواعدة في غير بيع المرابحة، وبالأخص المواعدة في الصرف. هـ ـ بيع الديون. وـ الصلح في سوق المال (معاوضة أو نحوها). ز ـ المقاصة. والله أعلم.
قضايا العملة
قرار رقم: 6/ 79/د8 بشأن قضايا العملة إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سري بجاون، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414هـ الموافق 21 - 27 يونيو 1993م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (قضايا العملة) وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، قرر ما يلي: 1 - يجوز أن تتضمن أنظمة العمل واللوائح والترتيبات الخاصة بعقود العمل التي تتحدد فيها الأجور بالنقود شرط الربط القياسي للأجور، على ألا ينشأ عن ذلك ضرر للاقتصاد العام. والمقصود هنا بالربط القياسي للأجور: تعديل الأجور بصورة دورية تبعاً للتغيرفي مستوى الأسعار وفقاً لما تقدره جهة الخبرة والاختصاص. والغرض من هذا التعديل حماية الأجر النقدي للعاملين من انخفاض القدرة الشرائية لمقدار الأجر بفعل التضخم النقدي وما ينتج عنه من الارتفاع المتزايد في المستوى العام لأسعار السلع والخدمات.
وذلك لأن الأصل في الشروط الجواز إلا الشرط الذي يحل حراماً أو يحرم حلالاً. على أنه إذا تراكمت الأجرة وصارت ديناً تطبق عليها أحكام الديون المبينة في قرار المجمع رقم (4/د5). 2 - يجوز أن يتفق الدائن والمدين يوم السداد ـ لا قبله ـ على أداء الدين بعملة مغايرة لعملة الدين إذا كان ذلك بسعر صرفها يوم السداد. وكذلك يجوز في الدين على أقساط بعملة معينة الاتفاق يوم سداد أي قسط أيضاً على أدائه كاملاً بعملة مغايرة بسعر صرفها في ذلك اليوم. ويشترط في جميع الأحوال أن لا يبقى في ذمة المدين شيء مما تمت عليه المصارفة في الذمة، مع مراعاة القرار الصادر عن المجمع برقم 1/ 55/د6 بشأن القبض. 3 - يجوز أن يتفق المتعاقدان عند العقد على تعيين الثمن الآجل أو الأجرة المؤجلة بعملة تدفع مرة واحدة أو على أقساط محددة من عملات متعددة أو بكمية من الذهب وأن يتم السداد حسب الاتفاق. كما يجوز أن يتم حسبما جاء في البند السابق. 4 - الدين الحاصل بعملة معينة لا يجوز الاتفاق على تسجيله في ذمة المدين بما يعادل قيمة تلك العملة من الذهب أو من عملة أخرى، على معنى أن يلتزم المدين بأداء الدين بالذهب أو العملة الأخرى المتفق على الأداء بها. 5 - تأكيد القرار رقم (4/د5) الصادر عن المجمع بشأن تغير قيمة العملة. 6 - يدعو مجلس المجمع الأمانة العامة لتكليف ذوي الكفاءة من الباحثين
الشرعيين والاقتصاديين من الملتزمين بالفكر الإسلامي بإعداد الدراسات المعمقة للموضوعات الأخرى المتعلقة بقضايا العملة، لتناقش في دورات المجمع القادمة إن شاء الله، ومن هذه الموضوعات ما يلي: أـ إمكان استعمال عملة اعتبارية مثل الدينار الإسلامي وبخاصة في معاملات البنك الإسلامي للتنمية ليتم على أساسها تقديم القروض واستيفاؤها، وكذلك تثبيت الديون الآجلة ليتم سدادها بحسب سعر التعادل القائم بين تلك العملة الاعتبارية بحسب قيمتها، وبين العملة الأجنبية المختارة للوفاء كالدولار الأمريكي. ب ـ السبل الشرعية البديلة عن الربط للديون الآجلة بمستوى المتوسط القياسي للأسعار. ج ـ مفهوم كساد النقود الورقية وأثره في تعيين الحقوق والالتزامات الآجلة. د ـ حدود التضخم التي يمكن أن تعتبر معه النقود الورقية نقوداً كاسدة.
مشاكل البنوك الإسلامية
قرار رقم: 7/ 80/د8 بشأن مشاكل البنوك الإسلامية إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سري بجاون، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414هـ الموافق 21 - 27 يونيو 1993م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (مشاكل البنوك الإسلامية) وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، وبعد استعراض مجلس المجمع ما جاء في الأوراق المقدمة بشأن مشاكل البنوك الإسلامية، والمتضمنة مقترحات معالجة تلك المشاكل بأنواعها من شرعية وفنية وإدارية ومشاكل علاقاتها بالأطراف المختلفة وبعد الاستماع إلى المناقشات التي دارت حول تلك المشكلات. قرر: 1 - عرض القائمة التالية المصنفة على أربعة محاور على الأمانة العامة للمجمع لاستكتاب المختصين فيها وعرضها في دورات المجمع القادمة بحسب الأولوية التي تراها لجنة التخطيط:
المحور الأول: الودائع وما يتعلق بها: أـ ضمان ودائع الاستثمار بطرق تتلاءم مع أحكام المضاربة الشرعية. ب ـ تبادل الودائع بين البنوك على غيرأساس الفائدة. ج ـ التكييف الشرعي للودائع والمعالجة المحاسبية لها. د ـ إقراض مبلغ لشخص بشرط التعامل به مع البنك عموماً أوفي نشاط محدد. هـ ـ مصاريف المضاربة ومن يتحملها (المضارب أو وعاء المضاربة). وـ تحديد العلاقة بين المودعين والمساهمين. ز ـ الوساطة في المضاربة والإجارة والضمان. ح ـ تحديد المضارب في البنك الإسلامي (المساهمون أو مجلس الإدارة، أو الإدارة التنفيذية). ط ـ البديل الإسلامي للحسابات المكشوفة. ي ـ الزكاة في البنوك الإسلامية لأموالها وودائعها. المحور الثاني: المرابحة: أـ المرابحة في الأسهم. ب ـ تأجيل تسجيل الملكية في بيوع المرابحة لبقاء حق البنك مضموناً في السداد. ج ـ المرابحة المؤجلة السداد مع توكيل الآمر بالشراء واعتباره كفيلاً.
د ـ المماطلة في تسديد الديون الناشئة عن المرابحة أو المعاملات الآجلة. هـ ـ التأمين على الديون. وـ بيع الديون. المحور الثالث: التأجير: أـ إعادة التأجير لمالك العين المأجورة أو لغيره. ب ـ استئجار خدمات الأشخاص وإعادة تأجيرها. ج ـ إجارة الأسهم أو إقراضها أو رهنها. د ـ صيانة العين المأجورة. هـ ـ شراء عين من شخص بشرط استئجاره لها. وـ الجمع بين الإجارة والمضاربة. المحور الرابع: العقود: أـ الشرط الاتفاقي على حق البنك في الفسخ في حال التخلف عن سداد الأقساط. ب ـ الشرط الاتفاقي على تحويل العقد من صيغة إلى صيغة أخرى عند التخلف عن سداد الأقساط. ويوصي مجلس المجمع بما يلي: 1 - مواصلة البنوك الإسلامية الحوار مع البنوك المركزية في الدول الإسلامية لتمكين البنوك الإسلامية
من أداء وظائفها في استثمار أموال المتعاملين معها في ضوء المبادئ الشرعية التي تحكم أنشطة البنوك وتلائم طبيعتها الخاصة. وعلى البنوك المركزية أن تراعي متطلبات نجاح البنوك الإسلامية للقيام بدورها الفعال في التنمية الوطنية ضمن قواعد الرقابة بما يلائم خصوصية العمل المصرفي الإسلامي ودعوة منظمة المؤتمر الإسلامي والبنك الإسلامي للتنمية لاستئناف اجتماعات البنوك المركزية للدول الإسلامية، مما يتيح الفرصة لتنفيذ متطلبات هذه التوصية. 2 - اهتمام البنوك الإسلامية بتأهيل القيادات والعاملين فيها بالخبرات الوظيفية الواعية لطبيعة العمل المصرفي الإسلامي، وتوفير البرامج التدريبية المناسبة بالتعاون مع المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب وسائر الجهات المعنية بالتدريب المصرفي الإسلامي. 3 - العناية بعقدي السلم والاستصناع، لما يقدمانه من بديل شرعي لصيغ التمويل الإنتاجي التقليدية. 4 - التقليل ما أمكن من استخدام أسلوب المرابحة للآمر بالشراء وقصرها على التطبيقات التي تقع تحت رقابة المصرف ويؤمن فيها وقوع المخالفة للقواعد الشرعية التي تحكمها. والتوسع في مختلف الصيغ الاستثمارية الأخرى من المضاربة والمشاركات والتأجير مع الاهتمام بالمتابعة والتقويم الدوري، وينبغي الاستفادة من مختلف الحالات المقبولة في المضاربة مما يتيح ضبط عمل المضاربة ودقة المحاسبة لنتائجها. 5 - إيجاد السوق التجارية لتبادل السلع بين البلاد الإسلامية بديلاً عن سوق السلع الدولية التي لاتخلو من المخالفات الشرعية.
6 - توجيه فائض السيولة لخدمة أهداف التنمية في العالم الإسلامي، وذلك بالتعاون بين البنوك الإسلامية لدعم صناديق الاستثمار المشتركة وإنشاء المشاريع المشتركة. 7 - الإسراع بإيجاد المؤشر المقبول إسلامياً الذي يكون بديلاً عن مراعاة سعر الفائدة الربوية في تحديد هامش الربح في المعاملات. 8 - توسيع القاعدة الهيكلية للسوق المالية الإسلامية عن طريق قيام البنوك الإسلامية فيما بينها، وبالتعاون مع البنك الإسلامي للتنمية، للتوسع في ابتكار وتداول الأدوات المالية الإسلامية في مختلف الدول الإسلامية. 9 - دعوة الجهات المنوط بها سن الأنظمة لإرساء قواعد التعامل الخاصة بصيغ الاستثمار الإسلامية، كالمضاربة والمشاركة والمزارعة والمساقاة والسلم والاستصناع والإيجار. 10 - دعوة البنوك الإسلامية لإقامة قاعدة معلومات تتوافر فيها البيانات الكافية عن المتعاملين مع البنوك الإسلامية ورجال الأعمال، وذلك لتكون مرجعاً للبنوك الإسلامية وللاستفادة منها في تشجيع التعامل مع الثقات المؤتمنين والابتعاد عن سواهم. 11 - دعوة البنوك الإسلامية إلى تنسيق نشاط هيئات الرقابة الشرعية لديها، سواء بتجديد عمل الهيئة العليا للرقابة الشرعية للبنوك الإسلامية أم عن طريق إيجاد هيئة جديدة بما يكفل الوصول إلى معايير موحدة لعمل الهيئات الشرعية في البنوك الإسلامية. والله أعلم.
المشاركة في أسهم الشركات المساهمة المتعاملة بالربا
قرار رقم: 8/ 81/د 8 بشأن المشاركة في أسهم الشركات المساهمة المتعاملة بالربا إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سري بجاون، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414هـ الموافق 21 - 27 يونيو 1993م. بعد اطلاعه على توصيات الندوة الاقتصادية حول حكم المشاركة في أسهم الشركات المساهمة المتعاملة بالربا، والأبحاث المعدة في تلك الندوة. ونظراً لأهمية هذا الموضوع وضرورة استكمال جميع جوانبه وتغطية كل تفصيلاته والتعرف إلى جميع الآراء فيه. قرر: أن تقوم الأمانة العامة للمجمع باستكتاب المزيد من البحوث فيه ليتمكن المجمع من اتخاذ القرار المناسب في دورة قادمة. والله أعلم.
بطاقات الائتمان
قرار رقم: 9/ 82/د8 بشأن بطاقات الائتمان إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سري بجاون، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414هـ الموافق 21 - 27 يونيو 1993م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: «بطاقات الائتمان». وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، ونظراً لأهمية هذا الموضوع وضرورة استكمال جميع جوانبه وتغطية كل تفصيلاته والتعرف إلى جميع الآراء فيه، قرر: أن تقوم الأمانة العامة للمجمع باستكتاب المزيد من البحوث فيه ليتمكن مجلس المجمع من اتخاذ القرار المناسب في دورة قادمة. والله الموفق.
السر في المهن الطبية
قرار رقم: 10/ 83/د8 بشأن السر في المهن الطبية إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سري بجاون، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414هـ الموافق 21 - 27 يونيو 1993م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: «السر في المهن الطبية» وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، قرر مايلي: 1 - أـ السر: هو ما يفضي به الإنسان إلى آخر مستكتماً إياه من قبل أو من بعد، ويشمل ما حفت به قرائن دالة على طلب الكتمان إذا كان العرف يقضي بكتمانه، كما يشمل خصوصيات الإنسان وعيوبه التي يكره أن يطلع عليها الناس. ب ـ السر: أمانة لدى من استودع حفظه، التزاماً بما جاءت به الشريعة الإسلامية وهو ما تقضي به المروءة وآداب التعامل. ج ـ الأصل حظر إفشاء السر. وإفشاؤه بدون مقتض معتبر موجب للمؤاخذة شرعاً.
د ـ يتأكد واجب حفظ السر على من يعمل في المهن التي يعود الإفشاء فيها على أصل المهنة بالخلل، كالمهن الطبية، إذ يركن إلى هؤلاء ذوو الحاجة إلى محض النصح وتقديم العون فيفضون إليهم بكل ما يساعد على حسن أداء هذه المهام الحيوية، ومنها أسرار لا يكشفها المرء لغيرهم حتى الأقربين إليه. 2 - تستثنى من وجوب كتمان السر حالات يؤدي فيها كتمانه إلى ضرر يفوق ضرر إفشائه بالنسبة لصاحبه، أو يكون في إفشائه مصلحة ترجح على مضرة كتمانه، وهذه الحالات على ضربين: أـ حالات يجب فيها إفشاء السر بناء على قاعدة ارتكاب أهون الضررين لتفويت أشدهما، وقاعدة تحقيق المصلحة العامة التي تقضي بتحمل الضرر الخاص لدرء الضرر العام إذا تعين ذلك لدرئه. وهذه الحالات نوعان: ـ ما فيه درء مفسدة عن المجتمع. ـ وما فيه درء مفسدة عن الفرد. ب ـ حالات يجوز فيها إفشاء السر لما فيه: ـ جلب مصلحة للمجتمع. ـ أو درء مفسدة عامة. وهذه الحالات يجب الالتزام فيها بمقاصد الشريعة وأولوياتها من حيث حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال. ج ـ الاستثناءات بشأن مواطن وجوب الإفشاء أو جوازه ينبغي أن ينص عليها
في نظام مزاولة المهن الطبية وغيره من الأنظمة، موضحة ومنصوصاً عليها على سبيل الحصر، مع تفصيل كيفية الإفشاء، ولمن يكون، وتقوم الجهات المسؤولة بتوعية الكافة بهذه المواطن. 3 - يوصي المجمع نقابات المهن الطبية ووزارات الصحة وكليات العلوم الصحية بإدراج هذا الموضوع ضمن برامج الكليات والاهتمام به وتوعية العاملين في هذا المجال بهذا الموضوع. ووضع المقررات المتعلقة به، مع الاستفادة من الأبحاث المقدمة في هذا الموضوع. والله أعلم.
أخلاق الطبيب: مسؤوليته وضمانه
قرار رقم: 11/ 84/د8 بشأن أخلاق الطبيب: مسؤوليته وضمانه إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سري بجاون، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414هـ الموافق 21 - 27 يونيو 1993م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: «أخلاقيات الطبيب: مسؤوليته وضمانه» وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، قرر ما يلي: 1 - تأجيل إصدار قرار في موضوع أخلاقيات الطبيب: مسؤوليته وضمانه وموضوع التداوي بالمحرمات، والنظر في دستور المهنة الطبية المعد من المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بالكويت، والطلب إلى الأمانة العامة لاستكتاب المزيد من الأبحاث في تلك الموضوعات لعرضها في دورة قادمة للمجمع. والله أعلم.
مداواة الرجل للمرأة
قرار رقم: 12/ 85/د8 بشأن مداواة الرجل للمرأة إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سري بجاون، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414هـ الموافق 21 - 27 يونيو 1993م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (مداواة الرجل للمرأة) وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، قرر ما يلي: 1 - الأصل أنه إذا توافرت طبيبة متخصصة يجب أن تقوم بالكشف على المريضة وإذا لم يتوافر ذلك فتقوم بذلك طبيبة غير مسلمة ثقة، فإن لم يتوافر ذلك يقوم به طبيب مسلم، وإن لم يتوافر طبيب مسلم يمكن أن يقوم مقامه طبيب غير مسلم. على أن يطلع من جسم المرأة على قدر الحاجة في تشخيص المرض ومداواته وألا يزيد عن ذلك وأن يغض الطرف قدر استطاعته، وأن تتم معالجة الطبيب للمرأة هذه بحضور محرم أو زوج أو امرأة ثقة خشية الخلوة. 2 - يوصي المجمع أن تولي السلطات الصحية جل جهدها لتشجيع النساء على الانخراط في مجال العلوم الطبية والتخصص في كل فروعها، وخاصة أمراض النساء والتوليد، نظراً لندرة النساء في هذه التخصصات الطبية، حتى لا نضطر إلى قاعدة الاستثناء. والله أعلم.
مرض نقص المناعة المكتسب (الإيدز)
قرار رقم: 13/ 86/د8 بشأن مرض نقص المناعة المكتسب (الإيدز) إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سري بجاون، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414هـ الموافق 21 - 27 يونيو 1993م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: «مرض نقص المناعة المكتسب (الإيدز)» وبعد استماعها إلى المناقشات التي دارت حوله، قرر ما يلي: 1 - بما أن ارتكاب فاحشتي الزنا واللواط أهم سبب للأمراض الجنسية التي أخطرها الإيدز (متلازمة العوز المناعي المكتسب)، فإن محاربة الرذيلة وتوجيه الأعلام والسياحة وجهة صالحة تعتبر عوامل مهمة في الوقاية منها. ولا شك أن الالتزام بتعاليم الإسلام الحنيف ومحاربة الرذيلة وإصلاح أجهزة الإعلام ومنع الأفلام والمسلسلات الخليعة ومراقبة السياحة تعتبر من العوامل الأساسية للوقاية من هذه الأمراض. ويوصي مجلس المجمع الجهات المختصة في الدول الإسلامية باتخاذ كافة التدابير للوقاية من الإيدز ومعاقبة من يقوم بنقل الإيدز إلى غيره متعمداً. كما يوصي حكومة المملكة العربية السعودية بمواصلة تكثيف الجهود لحماية ضيوف الرحمن واتخاذ ما تراه من إجراءات كفيلة بوقايتهم من احتمال الإصابة بمرض الإيدز.
2 - في حالة إصابة أحد الزوجين بهذا المرض، فإن عليه أن يخبر الآخر وأن يتعاون معه في إجراءات الوقاية كافة. ويوصي المجمع بتوفير الرعاية للمصابين بهذا المرض. ويجب على المصاب أو حامل الفيروس أن يتجنب كل وسيلة يعدي بها غيره، كما ينبغي توفير التعليم للأطفال الذين يحملون فيروس الإيدز بالطرق المناسبة. 3 - يوصي مجلس المجمع الأمانة العامة باستكتاب الأطباء والفقهاء في الموضوعات التالية، لاستكمال البحث فيها وعرضها في دورات قادمة: أـ عزل حامل فيروس الإيدز ومريضه. ب ـ موقف جهات العمل من المصابين بالإيدز. ج ـ إجهاض المرأة الحامل المصابة بفيروس الإيدز. د ـ إعطاء حق الفسخ لامرأة المصاب بفيروس الإيدز. هـ ـ هل تعتبر الإصابة بمرض الإيدز من قبيل مرض الموت من حيث تصرفات المصاب؟ وـ أثر إصابة الأم بالإيدز على حقها في الحضانة. ز ـ ما الحكم الشرعي فيمن تعمد نقل مرض الإيدز إلى غيره؟ ح ـ تعويض المصابين بفيروس الإيدز عن طريق نقل الدم أو محتوياته أو نقل الأعضاء. ط ـ إجراء الفحوصات الطبية قبل الزواج لتجنب مخاطر الأمراض المعدية وأهمها الإيدز. والله أعلم.
تنظيم استكتاب الأبحاث ومناقشتها في دورات المجمع
قرار رقم: 14/ 87/د8 بشأن تنظيم استكتاب الأبحاث ومناقشتها في دورات المجمع إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سري بجاون، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414هـ الموافق 21 - 27 يونيو 1993م. بعد اطلاعه على قواعد النشر لأبحاث المجمع، والشروط المطلوب توافرها في البحوث. وبعد استماعه إلى الملابسات التي تحصل في عملية الاستكتاب وتحديد أجل معين لتسلم الأبحاث بحيث تتمكن الأمانة العامة للمجمع من تقويم البحوث في ضوء قواعد النشر المشار إليها. قرر ما يلي: 1 - في حالة انتهاء الأجل المحدد لتلقي البحوث يحق للأمانة العامة الاقتصار على الأبحاث الواردة خلال الأجل دون أي التزام تجاه ما تأخر عنه. 2 - لا تستقبل الأمانة العامة للمجمع أي بحوث يتطوع أصحابها بإعدادها دون استكتاب من الأمانة العامة. 3 - تقتصر المناقشة في الدورة القادمة على من تمت استضافتهم من أعضاء المجمع وخبرائه وباحثيه. والله أعلم.
قرارات وتوصيات الدورة التاسعة لمجمع الفقه الإسلامي
قرارات وتوصيات الدورة التاسعة لمجمع الفقه الإسلامي في أبو ظبي 1 - 6 من ذي القعدة 1415 هـ 1 - 6 من نيسان (أبريل) 1995م بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه قرار رقم: 1/ 88 /د 9 بشأن «تجارة الذهب، الحلول الشرعية لاجتماع الصرف والحوالة» إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره التاسع بأبو ظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة من 1 إلى 6 ذي القعدة 1415هـ، الموافق 1 - 6 أبريل 1995م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: «تجارة الذهب، الحلول الشرعية لاجتماع الصرف والحوالة». وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، قرر أولاً بشأن تجارة الذهب مايلي: أ - يجوز شراء الذهب والفضة بالشيكات المصدقة، على أن يتم التقابض بالمجلس. ب-تأكيد ماذهب إليه عامة الفقهاءمن عدم جوازمبادلة الذهب المصوغ بذهب مصوغ أكثر مقداراً منه، لأنه لا عبرة في مبادلة الذهب بالذهب بالجودة أو
الصياغة، لذا يرى المجمع عدم الحاجة للنظر في هذه المسألة، مراعاة لكون هذه المسألة، لم يبق لها مجال في التطبيق العملي، لعدم التعامل بالعملات الذهبية بعد حلول العملات الورقية محلها، وهي إذا قوبلت بالذهب تعتبر جنساً آخر. جـ - تجوز المبادلة بين مقدار من الذهب ومقدار آخر أقل منه مضموم إليه جنس آخر، وذلك على اعتبار أن الزيادة في أحد العوضين مقابلة بالجنس الآخر في العوض الثاني. د - بما أن المسائل التالية تحتاج إلى مزيد من التصورات والبحوث الفنية والشرعية عنها، فقد أرجئ اتخاذ قرارات فيها، بعد إثبات البيانات التي يقع بها التمييز بينها وهي: - شراء أسهم شركة تعمل في استخراج الذهب أو الفضة. - تملّك وتمليك الذهب من خلال تسليم وتسلّم شهادات، تمثِّل مقادير معينة منه، موجودة في خزائن مصدّر الشهادات، بحيث يتمكن بها من الحصول على الذهب، أو التصرف فيه متى شاء. قرر ثانياً بشأن الحلول الشرعية لاجتماع الصرف والحوالة مايلي: أ - الحوالات التي تقدم مبالغها بعملة ما، ويرغب طالبها تحويلها بالعملة نفسها جائزة شرعاً، سواء أكان بدون مقابل أم بمقابل في حدود الأجر الفعلي، فإذا كانت بدون مقابل، فهي من قبيل الحوالة المطلقة عند من لم يشترط مديونية المحال إليه، وهم الحنفية، وهي عند غيرهم سفتجة، وهي إعطاء شخص مالاً لآخر لتوفيته للمعطي أو لوكيله في بلد آخر. وإذا كانت بمقابل فهي وكالة بأجر، وإذا كان القائمون بتنفيذ الحوالات يعملون لعموم الناس، فإنهم ضامنون للمبالغ، جرياً على تضمين الأجير المشترك. ب-إذا كان المطلوب في الحوالة دفعهابعملة مغايرة للمبالغ المقدمة من طالبها،
السلم وتطبيقاته المعاصرة
فإن العملية تتكون من صرف وحوالة بالمعنى المشار إليه في الفقرة (أ)، وتجري عملية الصرف قبل التحويل، وذلك بتسليم العميل المبلغ للبنك، وتقييد البنك له في دفاتره بعد الاتفاق على سعر الصرف المثبت في المستند المسلَّم للعميل، ثم تجري الحوالة بالمعنى المشار إليه. قرار رقم: 2/ 89 /د9 بشأن «السلم وتطبيقاته المعاصرة» إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره التاسع بأبو ظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة من 1 إلى 6 ذي القعدة 1415هـ، الموافق 1 - 6 أبريل 1995م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: «السلم وتطبيقاته المعاصرة». وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، قرر أولاً بشأن (السلم) مايلي: أ - السلع التي يجري فيها عقد السلم تشمل كل مايجوز بيعه ويمكن ضبط صفاته ويثبت ديناً في الذمة، سواء أكانت من المواد الخام أم المزروعات أم المصنوعات. ب - يجب أن يحدد لعقد السلم أجل معلوم، إما بتاريخ معين، أو بالربط بأمر مؤكد الوقوع، ولو كان ميعاد وقوعه يختلف اختلافاً يسيراً، لا يؤدي للتنازع كموسم الحصاد. جـ - الأصل تعجيل قبض رأسمال السلم في مجلس العقد، ويجوز تأخيره ليومين أو ثلاثة ولو بشرط، على أن لاتكون مدة التأخير مساوية، أو زائدة عن الأجل المحدد للسلم.
د - لا مانع شرعاً من أخذ المسلم (المشتري) رهناً أو كفيلاً من المسلَم إليه (البائع). هـ - يجوز للمسلم (المشتري) مبادلة المسلم فيه بشيء آخر - غير النقد - بعد حلول الأجل، سواء كان الاستبدال بجنسه أم بغير جنسه. حيث إنه لم يرد في منع ذلك نص ثابت ولا إجماع، وذلك بشرط أن يكون البدل صالحاً لأن يجعل مسلماً فيه برأس مال السلم. وإذا عجز المسلم إليه عن تسليم المسلم فيه عند حلول الأجل، فإن المسلم (المشتري) يخير بين الانتظار إلى أن يوجد المسلم فيه وفسخ العقد وأخذ رأس ماله، وإذا كان عجزه عن إعسار، فنظِرة إلى ميسرة. ز - لايجوز الشرط الجزائي عن التأخير في تسليم المسلم فيه، لأنه عبارة عن دين، ولايجوز اشتراط الزيادة في الديون عند التأخير. ح - لايجوز جعل الدين رأس مال للسلم؛ لأنه من بيع الدين بالدين. قرر ثانياً بشأن (التطبيقات المعاصرة للسلم): يعد السلم في عصرنا الحاضر أداة تمويل ذات كفاءة عالية في الاقتصاد الإسلامي وفي نشاطات المصارف الإسلامية، من حيث مرونتها واستجابتها لحاجات التمويل المختلفة، سواء أكان تمويلاً قصير الأجل أم متوسطة أم طويلة، واستجابتها لحاجات شرائح مختلفة ومتعددة من العملاء، سواء أكانوا من المنتجين الزراعيين أم الصناعيين أم المقاولين أم من التجار، واستجابتها لتمويل نفقات التشغيل والنفقات الرأسمالية الأخرى. ولهذا تعددت مجالات تطبيق عقد السلم، ومنها مايلي: أ - يصلح عقد السلم لتمويل عمليات زراعية مختلفة، حيث يتعامل المصرف الإسلامي مع المزارعين الذين يتوقع أن توجد لديهم السلعة في الموسم من محاصيلهم، أو محاصيل غيرهم التي يمكن أن يشتروها ويسلّموها إذا أخفقوا
الودائع المصرفية (حسابات المصارف)
في التسليم من محاصيلهم، فَيُقَدِّم ُ لهم بهذا التمويل نفعاً بالغاً، ويدفع عنهم مشقة العجز المالي عن تحقيق إنتاجهم. ب - يمكن استخدام عقد السلم في تمويل النشاط الزراعي والصناعي، ولاسيما تمويل المراحل السابقة لإنتاج وتصدير السلع والمنتجات الرائجة، وذلك بشرائها سَلَماً، وإعادة تسويقها بأسعار مجزية. جـ - يمكن تطبيق عقد السلم في تمويل الحرفيين وصغار المنتجين الزراعيين والصناعيين، عن طريق إمدادهم بمستلزمات الإنتاج في صورة معدات وآلات أو مواد أولية كرأس مال سلم، مقابل الحصول على بعض منتجاتهم وإعادة تسويقها. ويوصي المجلس باستكمال صور التطبيقات المعاصرة للسلم بعد إعداد البحوث المتخصصة. قرار رقم: 90/ 3 / د9 بشأن «الودائع المصرفية (حسابات المصارف)» إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره التاسع بأبو ظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة من 1 إلى 6 ذي القعدة 1415هـ، الموافق 1 - 6 أبريل 1995م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: «الودائع المصرفية (حسابات المصارف)». وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، قرر مايلي: أولاً - الودائع تحت الطلب (الحسابات الجارية) سواء أكانت لدى البنوك
الإسلامية أو البنوك الربوية: هي قروض بالمنظور الفقهي، حيث إن المصرف المتسلِّم لهذه الودائع يده يد ضمان لها، وهو ملزم شرعاً بالرد عند الطلب. ولايؤثر على حكم القرض كون البنك (المقترض) مليئاً. ثانياً - إن الودائع المصرفية تنقسم إلى نوعين بحسب واقع التعامل المصرفي: أ - الودائع التي تدفع لها فوائد، كما هو الحال في البنوك الربوية: هي قروض ربوية محرمة، سواء أكانت من نوع الودائع تحت الطلب (الحسابات الجارية) أم الودائع لأجل، أم الودائع بإشعار، أم حسابات التوفير. ب - الودائع التي تسلم للبنوك الملتزمة فعلياً بأحكام الشريعة الإسلامية بعقد استثماري على حصة من الربح: هي رأس مال مضاربة، وتطبق عليها أحكام المضاربة (القراض) في الفقه الإسلامي التي منها عدم جواز ضمان المضارب (البنك) لرأس مال المضاربة. ثالثاً - إن الضمان في الودائع تحت الطلب (الحسابات الجارية) هو على المقترضين لها (المساهمين في البنوك) ماداموا ينفردون بالأرباح المتولدة من استثمارها، ولايشترك في ضمان تلك الحسابات الجارية المودعون في حسابات الاستثمار، لأنهم لم يشاركوا في اقتراضها ولا استحقاق أرباحها. رابعاً - إن رهن الودائع جائز، سواء أكانت من الودائع تحت الطلب (الحسابات الجارية) أم الودائع الاستثمارية، ولايتم الرهن على مبالغها إلا بإجراء يمنع صاحب الحساب من التصرف فيه طيلة مدة الرهن. وإذا كان البنك الذي لديه الحساب الجاري هو المرتهن، لزم نقل المبالغ إلى حساب استثماري، بحيث ينتفي الضمان للتحول من القرض إلى القراض (المضاربة) ويستحق أرباح الحساب صاحبه تجنباً لانتفاع المرتهن (الدائن) بنماء الرهن. خامساً - يجوز الحجز من الحسابات إذا كان متفقاً عليه بين البنك والعميل.
الاستثمار في الأسهم والوحدات الاستثمارية
سادساً - الأصل في مشروعية التعامل: الأمانة والصدق بالإفصاح عن البيانات بصورة تدفع اللبس أو الإيهام، وتطابق الواقع، وتنسجم مع المنظور الشرعي، ويتأكد ذلك بالنسبة للبنوك تجاه مالديها من حسابات لاتصال عملها بالأمانة المفترضة ودفعاً للتغرير بذوي العلاقة. قرار رقم: 91/ 4 /د9 بشأن «الاستثمار في الأسهم والوحدات الاستثمارية» إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره التاسع بأبو ظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة من 1 إلى 6 ذي القعدة 1415هـ الموافق 1 - 6 أبريل 1995م. بعد اطلاعه على الأبحاث الثلاثة الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: «الاستثمار في الأسهم والوحدات الاستثمارية» التي تبين منها أن الموضوع تضمن بين عناصره مسألة شراء أسهم الشركات التي غرضها وأنشطتها الأساسية مشروعة، لكنها تقترض أو تودع أموالها بالفائدة، وهي لم يقع البتّ في أمرها، بالرغم من عقد ندوتين لبحثها، وصدور قرار مبدئي فيها للمجمع في دورته السابعة، ثم قرار لاحق في دورته الثامنة بأن تقوم الأمانة العامة باستكتاب المزيد من البحوث في هذا الموضوع، ليتمكن من اتخاذ القرار المناسب في دورة قادمة. وبعد الشروع في المناقشات التي دارت حوله، تبين أن الموضوع يحتاج إلى الدراسات المتعددة المعمَّقة، لوضع الضوابط المتعلقة بهذا النوع من الشركات الذي هو الأكثر وقوعاً داخل البلاد الإسلامية وخارجها. قرر مايلي: أولاً - تأجيل النظر في هذا الموضوع على أن يعدّ فيه مزيد من الدراسات والأبحاث بخصوصه، وتستوعب فيه الجوانب الفنية والشرعية. وذلك
المناقصات
ليتمكن المجمع من اتخاذ القرار المناسب فيه حسب توصية الدورة الثامنة (قرار 8/ 81/د8). ثانياً - الاستفادة مما تضمنته الأبحاث الثلاثة عن الصناديق والإصدارات الاستثمارية لإعداد اللائحة الموصى بوضعها في القرار (5) للدورة الرابعة (بند أولاً /2 في العنصر الرابع). قرار رقم: 5/ 92/د9 بشأن «المناقصات» إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره التاسع بأبو ظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة من 1 إلى 6 ذي القعدة 1415هـ، الموافق 1 - 6 أبريل 1995م. بعد اطلاعه على البحثين الواردين إلى المجمع بخصوص موضوع: «المناقصات»، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، وجرياً على خطة المجمع في وجوب إعداد عدد من الدراسات في كل موضوع لاستقصاء التصورات الفنية له، واستيعاب الاتجاهات الفقهية فيه، قرر مايلي: أولاً - تأجيل إصدار القرار الخاص بالنقاط التي درست في هذا الموضوع، نظراً لأهميته، وضرورة استكمال بحث جميع جوانبه وتغطية كل تفصيلاته، والتعرف على جميع الآراء فيه، واستيفاء المجالات التي تجري المناقصات من أجلها، ولاسيما ماهو حرام منها كالأوراق المالية الربوية وسندات الخزانة.
قضايا العملة
ثانياً - أن يقوم أعضاء المجمع وخبراؤه بموافاة الأمانة العامة - قبل انتهاء الدورة إن أمكن أو خلال فترة قريبة بعدها - بما لديهم من نقاط فنية أو شرعية تتعلق بموضوع «المناقصات» سواء تعلقت بالإجراءات، أم بالصيغ والعقود التي تقام المناقصة لإبرامها. ثالثاً - استكتاب أبحاث أخرى في موضوع (المناقصات) يسهم فيها أهل الخبرات الفنية والفقهية والعملية في هذا الموضوع. قرار رقم: 93/ 6 /د9 بشأن «قضايا العملة» إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره التاسع بأبو ظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة من 1 إلى 6 ذي القعدة 1415هـ، الموافق 1 - 6 أبريل 1995م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: «قضايا العملة»، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دلت على أن هناك اتجاهات عديدة بشأن معالجة حالات التضخم الجامح الذي يؤدي إلى الانهيار الكبير للقوة الشرائية لبعض العملات منها: أ - أن تكون هذه الحالات الاستثنائية مشمولة أيضاً بتطبيق قرار المجمع الصادر في الدورة الخامسة، ونصه «العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملة ماهي بالمثل وليس بالقيمة؛ لأن الديون تقضى بأمثالها، فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة أياً كان مصدرها بمستوى الأسعار». ب - أن يطبق في تلك الأحوال الاستثنائية مبدأ الربط بمؤشر تكاليف المعيشة (مراعاة القوة الشرائية للنقود).
جـ - أن يطبق مبدأ ربط النقود الورقية بالذهب (مراعاة قيمة هذه النقود بالذهب عند نشوء الالتزام). د - أن يؤخذ في مثل هذه الحالات بمبدأ الصلح الواجب، بعد تقرير أضرار الطرفين (الدائن والمدين). هـ - التفرقة بين انخفاض قيمة العملة عن طريق العرض والطلب في السوق، وبين تخفيض الدولة عملتها، بإصدار قرار صريح في ذلك، بما قد يؤدي إلى تغير اعتبار قيمة العملات الورقية التي أخذت قوتها بالاعتبار والاصطلاح. والتفرقة بين انخفاض القوة الشرائية للنقود الذي يكون ناتجاً عن سياسات تتبناها الحكومات، وبين الانخفاض الذي يكون بعوامل خارجية. ز - الأخذ في هذه الأحوال الاستثنائية بمبدأ (وضع الجوائح) الذي هو من قبيل مراعاة الظروف الطارئة. وفي ضوء هذه الاتجاهات المتباينة المحتاجة للبحث والتمحيص. قرر مايلي: أولاً - أن تعقد الأمانة العامة للمجمع - بالتعاون مع إحدى المؤسسات المالية الإسلامية - ندوة متخصصة يشارك فيها عدد من ذوي الاختصاص في الاقتصاد والفقه، وتضم بعض أعضاء وخبراء المجمع، وذلك للنظر في الطريق الأقوم والأصلح الذي يقع الاتفاق عليه للوفاء بما في الذمة من الديون والالتزامات في الأحوال الاستثنائية المشار إليها أعلاه. ثانياً - أن يشتمل جدول الندوة على: أ - دراسة ماهية التضخم وأنواعه وجميع التصورات الفنية المتعلقة به. ب - دراسة آثار التضخم الاقتصادية والاجتماعية وكيفية معالجتها اقتصادياً. جـ - طرح الحلول الفقهية لمعالجة التضخم من مثل ماسبقت الإشارة إليه في ديباجة القرار.
مرض نقص المناعة المكتسب (الأيدز) والأحكام الفقهية المتعلقة به
ثالثاً - ترفع نتائج الندوة - مع أوراقها ومناقشاتها - إلى مجلس المجمع في الدورة القادمة. قرار رقم: 94/ 7 / د9 بشأن «مرض نقص المناعة المكتسب (الأيدز) والأحكام الفقهية المتعلقة به» إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره التاسع بأبو ظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة من 1 إلى 6 ذي القعدة 1415هـ، الموافق 1 - 6 أبريل 1995م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: «مرض نقص المناعة المكتسب (الأيدز) والأحكام المتعلقة به». وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، اعتبر الموضوعات المطروحة على الدورة ذات صبغتين: الأولى تناولت الجوانب الطبية لمرض نقص المناعة المكتسب (الأيدز) من حيث أسبابه وطرق انتقاله وخطورته. والثانية تناولت الجوانب الفقهية، وتشتمل هذه على: 1 - حكم عزل مريض نقص المناعة المكتسب (الأيدز). 2 - حكم تعمد نقل العدوى. 3 - حقوق الزوج المصاب وواجباته. أ - حكم إجهاض الأم المصابة بعدوى مرض نقص المناعة المكتسب (الأيدز).
ب - حكم حضانة الأم المصابة بمرض نقص المناعة المكتسب (الأيدز) لوليدها السليم وإرضاعه. جـ- حق السليم من الزوجين في طلب الفرقة من الزوج المصاب بعدوى مرض نقص المناعة المكتسب (الأيدز). هـ - حق المعاشرة الزوجية. 4 - اعتبار مرض نقص المناعة المكتسب (الأيدز) مرض موت. أولاً - عزل المريض: تؤكد المعلومات الطبية المتوافرة حالياً أن العدوى بفيروس العوز المناعي البشري مرض نقص المناعة المكتسب (الأيدز) لاتحدث عن طريق المعايشة أو الملامسة أو التنفس أو الحشرات أو الاشتراك في الأكل والشرب أو حمامات السباحة أو المقاعد أو أدوات الطعام، ونحو ذلك من أوجه المعايشة في الحياة اليومية العادية، وإنما تكون العدوى بصورة رئيسية بإحدى الطرق التالية: 1 - الاتصال الجنسي بأي شكل كان. 2 - نقل الدم الملوث أو مشتقاته. 3 - استعمال الإبر الملوثة، ولاسيما بين متعاطي المخدرات، وكذلك أمواس الحلاقة. 4 - الانتقال من الأم المصابة إلى طفلها في أثناء الحمل والولادة. وبناء على ماتقدم فإن عزل المصابين إذا لم تخش منه العدوى، عن زملائهم الأصحاء غير واجب شرعاً، ويتم التصرف مع المرضى وفق الإجراءات الطبية المعتمدة. ثانياً - تعمد نقل العدوى: تعمد نقل العدوى بمرض نقص المناعة المكتسب (الأيدز) إلى السليم منه بأية
صورة من صور التعمد عمل محرم، ويعد من كبائر الذنوب والآثام، كما أنه يستوجب العقوبة الدنيوية، وتتفاوت هذه العقوبة بقدر جسامة الفعل وأثره على الأفراد وتأثيره على المجتمع. فإن كان قصد المتعمد إشاعة هذا المرض الخبيث في المجتمع، فعمله هذا يعد نوعاً من الحرابة والإفساد في الأرض، ويستوجب إحدى العقوبات المنصوص عليها في آية الحرابة (سورة المائدة - آية 33). وإن كان قصده من تعمد نقل العدوى إعداء شخص بعينه وتمت العدوى ولم يمت المنقول إليه بعد، عوقب المتعمد بالعقوبة التعزيرية المناسبة، وعند حدوث الوفاة ينظر في تطبيق عقوبة القتل عليه. وأما إذا كان قصده من تعمد نقل العدوى إعداء شخص بعينه ولكن لم تنتقل إليه العدوى، فإنه يعاقب عقوبة تعزيرية. ثالثاً - إجهاض الأم المصابة بعدوى مرض نقص المناعة المكتسب (الأيدز): نظراً لأن انتقال العدوى من الحامل المصابة بمرض نقص المناعة المكتسب (الأيدز) إلى جنينها لا تحدث غالباً إلا بعد تقدم الحمل (نفخ الروح في الجنين) أو أثناء الولادة، فلا يجوز إجهاض الجنين شرعاً. رابعاً - حضانة الأم المصابة بمرض نقص المناعة المكتسب (الأيدز) لوليدها السليم وإرضاعه: أ - لما كانت المعلومات الطبية الحاضرة تدل على أنه ليس هناك خطر مؤكد من حضانة الأم المصابة بعدوى مرض نقص المناعة المكتسب (الأيدز) لوليدها السليم، وإرضاعها له، شأنها في ذلك شأن المخالطة والمعايشة العادية، فإنه لامانع شرعاً من أن تقوم الأم بحضانته ورضاعته مالم يمنع من ذلك تقرير طبي.
مبدأ التحكيم في الفقه الإسلامي
خامساً - حق السليم من الزوجين في طلب الفرقة من الزوج المصاب بعدوى مرض نقص المناعة المكتسب (الأيدز): للزوجة طلب الفرقة من الزوج المصاب باعتبار أن مرض نقص المناعة المكتسب (الأيدز) مرض مُعْد تنتقل عدواه بصورة رئيسية بالاتصال الجنسي. سادساً - اعتبار مرض نقص المناعة المكتسب (الأيدز) مرض موت: يعد مرض نقص المناعة المكتسب (الأيدز) مرض موت شرعاً إذا اكتملت أعراضه، وأقعد المريض عن ممارسة الحياة العادية، واتصل به الموت. سابعاً - حق المباشرة الزوجية: تؤجل لاستكمال بحثها. ويوصي مجلس المجمع بضرورة الاستمرار على التأكد في موسم الحج من خلو الحجاج من الأمراض الوبائية، وبخاصة مرض نقص المناعة المكتسب (الأيدز). قرار رقم 95/ 8 /د 9 بشأن «مبدأ التحكيم في الفقه الإسلامي» إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره التاسع بأبو ظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة من 1 إلى 6 ذي القعدة 1415هـ، الموافق 1 - 6 أبريل 1995م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: «مبدأ التحكيم في الفقه الإسلامي». وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، قرر مايلي:
أولاً - التحكيم: اتفاق بين طرفي خصومة معينة، على تولية من يفصل في منازعة بينهما، بحكم ملزم، يطبق الشريعة الإسلامية. وهو مشروع، سواء أكان بين الأفراد أم في مجال المنازعات الدولية. ثانياً - التحكيم: عقد غير لازم لكل من الطرفين المحتكمين والحكَم، فيجوز لكل من الطرفين الرجوع فيه مالم يشرع الحكَم في التحكيم، ويجوز للحكَم أن يعزل نفسه - ولو بعد قبوله - مادام لم يصدر حكمه، ولايجوز له أن يستخلف غيره دون إذن الطرفين، لأن الرضا مرتبط بشخصه. ثالثاً - لايجوز التحكيم في كل ماهو حق لله تعالى كالحدود، ولا فيما استلزم الحكم ُفيه إثبات حكم أو نفيه بالنسبة لغير المتحاكمين ممن لا ولاية للحَكَم عليه، كاللعان، لتعلق حق الولد به، ولا فيما ينفرد القضاء دون غيره بالنظر فيه. فإذا قضى الحكَم فيما لايجوز فيه التحكيم، فحكمه باطل ولاينفذ. رابعاً - يشترط في الحكَم بحسب الأصل توافر شروط القضاء. خامساً - الأصل أن يتم تنفيذ حكم المُحكَّم طواعية، فإن أبى أحد المحتكمين، عرض الأمر على القضاء لتنفيذه، وليس للقضاء نقضه مالم يكن جوراً بيِّناً أو مخالفاً لحكم الشرع. سادساً - إذا لم تكن هناك محاكم دولية إسلامية يجوز احتكام الدول أو المؤسسات الإسلامية إلى محاكم دولية غير إسلامية توصلاً لما هو جائز شرعاً. سابعاً - دعوة الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي إلى استكمال الإجراءات اللازمة لإقامة محكمة العدل الإسلامية الدولية، وتمكينها من أداء مهامها المنصوص عليها في نظامها.
«سد الذرائع»
قرار رقم: 96/ 9 / د9 بشأن «سدّ الذرائع» إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره التاسع بأبو ظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة من 1 إلى 6 ذي القعدة 1415هـ، الموافق 1 - 6 أبريل 1995م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: «سد الذرائع»، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، قرر مايلي: 1 - سدّ الذرائع أصل من أصول الشريعة الإسلامية، وحقيقته: منع المباحات التي يتوصل بها إلى مفاسد أو محظورات. 2 - سدّ الذرائع لايقتصر على مواضع الاشتباه والاحتياط، وإنما يشمل كل مامن شأنه التوصل به إلى الحرام. 3 - سد الذرائع يقتضي منع الحيل إلى إتيان المحظورات أو إبطال شيء من المطلوبات الشرعية، غير أن الحيلة تفترق عن الذريعة باشتراط وجود القصد في الأولى دون الثانية. 4 - والذرائع أنواع: (الأولى) مجمع على منعها: وهي المنصوص عليها في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة أو المؤدية إلى المفسدة قطعاً أو كثيراً غالباً، سواء أكانت الوسيلة مباحة أم مندوبة أم واجبة. ومن هذا النوع العقود التي يظهر منها القصد إلى الوقوع في الحرام بالنص عليه في العقد.
معلمة القواعد الفقهية
(والثانية) مجمع على فتحها: وهي التي ترجح فيها المصلحة على المفسدة. (والثالثة) مختلف فيها: وهي التصرفات التي ظاهرها الصحة، لكن تكتنفها تهمة التوصل بها إلى باطن محظور، لكثرة قصد ذلك منها. 5 - وضابط إباحة الذريعة: أن يكون إفضاؤها إلى المفسدة نادراً، أو أن تكون مصلحة الفعل أرجح من مفسدته. وضابط منع الذريعة: أن تكون من شأنها الإفضاء إلى المفسدة لا محالة (قطعاً) أو كثيراً، أو أن تكون مفسدة الفعل أرجح مما قد يترتب على الوسيلة من المصلحة. قرار رقم: 97/ 10 / د9 بشأن «معلمة القواعد الفقهية» إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره التاسع بأبو ظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة من 1 إلى 6 ذي القعدة 1415هـ، الموافق 1 - 6 أبريل 1995م. بعد استحضار القرار المتخذ في الدورة الثالثة بإصدار معلمة القواعد الفقهية، وبعد اطلاعه على المذكّرة المعدة من الأمانة العامة عن المشروع المتضمنة بيان محتويات المعلمة، ومصادرها من الكتب المفردة للقواعد ومتعلقاتها أو المدونات الفقهية والأصولية، والخطة العملية المقترحة للشروع في إعداد المعلمة والنموذج المقترح للبطاقات المستخدمة في الإعداد، لضمان توفية كل قاعدة حقها من البيانات، ومنهج إعداد المعلمة ومراحل الإعداد، مع تفصيل المرحلة الأولى
المراحل المنجزة من مشروع الموسوعة الفقهية الاقتصادية
والتجهيزات التقنية، باستخدام الحاسوب (الكومبيوتر) لاختصار الوقت اللازم للإعداد والتحقق من الاستقصاء والتناسق. قرر مايلي: أولاً - المضي في الخطوات التنفيذية لإعداد معلمة القواعد الفقهية وفق المنهج المقترح من الأمانة العامة بالتعاون مع اللجنة المكونة منها لهذا المشروع. ثانياً - الاستفادة من خدمات الحاسوب للاطمئنان إلى استيعاب ماجاء في الكتب المتخصصة والكتب الفقهية والأصولية العامة، بصورة شاملة لكل من القواعد والضوابط والمقاصد العامة للتشريع. ثالثاً - موافاة الأعضاء والخبراء الأمانة العامة في أقرب وقت بما يبدو لهم من ملاحظات أو مقترحات حول المرحلة الأولى من الإعداد، للاستفادة منها قبل الشروع في التكليف باستخراج البيانات. قرار رقم: 98/ 11/د9 بشأن «المراحل المنجزة من مشروع الموسوعة الفقهية الاقتصادية» إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره التاسع بأبوظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة من 1 إلى 6 ذي القعدة 1415هـ، الموافق 1 - 6 أبريل 1995م. بعد استحضار القرار المتخذ في الدورة الثالثة بإصدار الموسوعة الفقهية الاقتصادية. وبعد اطلاعه على المذكرة المعدة من الأمانة العامة عن المشروع المتضمنة بيان الخطوات والإجراءات التي قامت بها الأمانة العامة في هذا الصدد من عقد جلسات عمل، وتشكيل لجنة فنية لإعداد الخطة التنفيذية، واستخلاص قائمة
توصيات الندوة الثامنة للمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بالكويت
بالموضوعات الأساسية للموسوعة، وقد تضمنت المذكرة الخطة التفصيلية بعدة زمر منها، مع الاستكتاب المشترك للمختصين من الاقتصاديين والفقهاء في موضوعات الزمرة الأولى منها: قرر مايلي: أولاً - مواصلة العمل في إنجاز الموسوعة الفقهية الاقتصادية وفق المنهج المعد من الأمانة العامة بالتعاون مع اللجنة المكونة منها لهذا المشروع. ثانياً - العمل على نشر ماينجز من موضوعات الموسوعة طبعة تمهيدية (كل بحث على حدة) لوضع نماذج تساعد على الإنجاز، وتمكن المختصين من تقديم ملاحظاتهم واقتراحاتهم بشأن هذا الموضوع. توصيات الندوة الثامنة للمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بالكويت من 22 - 1415/ 12/24هـ الموافق لـ 22 - 1995/ 5/24م استمراراً لمسيرة المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية في تصديها للمشاكل الطبية والصحية من خلال رؤية إسلامية والتي تمثلت في العديد من ندواتها المتتابعة. ولما كانت الحاجة تدعو لاستخدام الترقيع الجلدي وسبله لإنقاذ حياة من يتعرض لحروق نسبتها كبيرة، فقد رأت المنظمة أن تعرض هذا الموضوع في ندوتها التالية. كما أن المنظمة رأت ضرورة بحث «المواد المحرمة والنجسة في الغذاء والدواء» نظراً للتوسع الكبير في تكنولوجيا الغذاء والدواء واستخدام مواد فيها شبهة الحرمة والنجاسة. فقد تم بفضل من الله وعونه عقد الندوة الثامنة، وموضوعها «رؤية إسلامية لبعض المشاكل الصحية» وذلك بمشاركة الأزهر الشريف، ومجمع الفقه الإسلامي
التوصيات الخاصة
بجدة، والمكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية بالإسكندرية، ووزارة الصحة بدولة الكويت، وذلك في الفترة من 22 - 24 من شهر ذي الحجة 1415هـ الذي يوافقه 22 - 24 من شهر مايو 1995م. التوصيات الخاصة أولاً - الترقيع الجلدي: 1 - للآدمي مسلماً وغير مسلم حرمة ذاتية. وتكريم الآدمي والحفاظ على حرمته مقصد من مقاصد الشريعة، لذا فإن عمليات الترقيع الجلدي الجائزة بالشروط المبينة فيما يلي، لا تتنافى مع هذا المقصد بل تحققه وترسخه. 2 - الجلد عضو حي ينطبق عليه من حيث النقل ماينطبق على نقل الأعضاء وزرعها طبقاً لما قررته المجامع الفقهية. 3 - عمليات الترقيع الجلدي برقعة من مصدر آدمي ربما تكون ضرورة شرعية تخضع في أحكامها للشروط العامة للضرورة. 4 - الرقعة الجلدية المأخوذة من مصدر آدمي حي أو ميت، ذاتية (من الشخص لنفسه)، أو مثلية (من آدمي لآدمي)، طاهرة شرعاً. 5 - يتوقف جواز عمليات الترقيع الجلدي برقعة من مصدر آدمي على توافر الشروط التالية: أ - أن يكون الترقيع الجلدي هو الوسيلة الطبية الوحيدة الممكنة لعلاج المريض. ب - أن لايتسبب نزع الجلد في حالة التبرع من الحي في ضرر يماثل ضرر المتبرع له أو يفوقه. ج - أن يبلغ نجاح عملية الترقيع حد غلبة الظن. د - أن يكون الحصول على الجلد الآدمي عن غير طريق البيع أو الإكراه أو
ثانيا - المواد المحرمة والنجسة في الغذاء والدواء
التغرير، ولا مانع من بذل المال من قبل المحتاج من أجل الحصول على الجلد اللازم إذا لم يجد متبرعاً. 6 - الرُّقَع الجلدية المأخوذة من حيوان طاهر مذكىً حسب الشروط الشرعية مصدر يبيحه الشرع. 7 - الرُّقَع الجلدية المأخوذة من حيوان غير مأكول (باستثناء الكلب والخنزير) يجوز الترقيع بها إن ذكيّ تذكية شرعية. 8 - الرقع الجلدية المأخوذة من الميتة أو من حيوان حي، نجسة لايجوز استخدامها إلا عند الضرورة. 9 - الرقع الجلدية المأخوذة من الكلب أو الخنزير لايجوز استخدامها إلا عند عدم وجود البديل الجائز شرعاً وعند الضرورة، شريطة أن تكون مؤقتة. 10 - يجوز إنشاء بنك لحفظ الجلد الآدمي مع مراعاة مايلي: أ - أن يكون البنك بيد الدولة أو هيئة مؤتمنة تحت إشراف الدولة. ب - أن يكون الاختزان للجلود الآدمية على قدر الحاجة الواقعية والمتوقعة. ج - أن تحترم قطع الجلد التي يستغنى عنها، فتدفن، ولا تلقى في مصبّ الفضلات. ثانياً - المواد المحرمة والنجسة في الغذاء والدواء: المبادئ العامة 1 - يجب على كل مسلم الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية، وبخاصة في مجال الغذاء والدواء، وذلك محقق لطيب مطعمه ومشربه وعلاجه، وإن من رحمة الله بعباده، وتيسير سبيل الاتباع لشرعه مراعاة حال الضرورة والحاجة العامة إلى مبادئ شرعية مقررة، منها: أن الضرورات تبيح المحظورات،
وأن الحاجة تنزّل منزلة الضرورة مادامت متعينة، وأن الأصل في الأشياء الإباحة مالم يقم دليل معتبر على الحرمة، كما أن الأصل في الأشياء كلها الطهارة مالم يقم دليل معتبر على النجاسة. ولايعتبر تحريم أكل الشيء أو شربه حكماً بنجاسته شرعاً. 2 - مادة الكحول غير نجسة شرعاً، بناء على ماسبق تقريره من أن الأصل في الأشياء الطهارة، سواء كان الكحول صرفاً أم مخففاً بالماء ترجيحاً للقول بأن نجاسة الخمر وسائر المسكرات معنوية غير حسية، لاعتبارها رجساً من عمل الشيطان. وعليه، فلا حرج شرعاً من استخدام الكحول طبياً كمطهر للجلد والجروح والأدوات وقاتل للجراثيم، أو استعمال الروائح العطرية (ماء الكولونيا) التي يستخدم الكحول فيها كمذيب للمواد العطرية الطيارة، أو استخدام الكريمات التي يدخل الكحول فيها. ولا ينطبق ذلك على الخمر لحرمة الانتفاع به. 3 - لما كان الكحول مادة مسكرة فيحرم تناولها، وريثما يتحقق مايتطلع إليه المسلمون من تصنيع أدوية لايدخل الكحول في تركيبها ولاسيما أدوية الأطفال والحوامل، فإنه لا مانع شرعاً من تناول الأدوية التي تصنع حالياً ويدخل في تركيبها نسبة ضئيلة من الكحول، لغرض الحفظ، أو إذابة بعض المواد الدوائية التي لاتذوب في الماء على ألا يستعمل الكحول فيها كمهدئ، وهذا حيث لايتوافر بديل عن تلك الأدوية. 4 - لايجوز تناول المواد الغذائية التي تحتوي على نسبة من الخمور مهما كانت ضئيلة، ولاسيما الشائعة في البلاد الغربية كبعض الشوكولاته وبعض أنواع المثلجات (الآيس كريم، الجيلاتي، البوظة) وبعض المشروبات الغازية، اعتباراً للأصل الشرعي في أن ما أسكركثيره فقليله حرام، ولعدم قيام موجب شرعي استثنائي للترخيص فيها.
5 - المواد الغذائية التي يستعمل في تصنيعها نسبة ضئيلة من الكحول لإذابة بعض المواد التي لاتذوب بالماء من ملونات وحافظات وما إلى ذلك، يجوز تناولها لعموم البلوى ولتبخر معظم الكحول المضاف أثناء تصنيع الغذاء. 6 - المواد الغذائية التي يدخل شحم الخنزير في تركيبها دون استحالة عينه مثل بعض الأجبان وبعض أنواع الزيت والدهن والسمن والزبد وبعض أنواع البسكويت والشوكولاته والآيس كريم، هي محرمة ولايحل أكلها مطلقاً، اعتباراً لإجماع أهل العلم على نجاسة شحم الخنزير وعدم حل أكله، ولانتفاء الاضطرار إلى تناول هذه المواد. 7 - الإنسولين الخنزيري المنشأ يباح لمرضى السكري التداوي به للضرورة بضوابطها الشرعية. 8 - الاستحالة التي تعني انقلاب العين إلى عين أخرى تغايرها في صفاتها تحوّل المواد النجسة أو المتنجسة إلى مواد طاهرة، وتحول المواد المحرمة إلى مواد مباحة شرعاً. وبناءً على ذلك: أ - الجيلاتين المتكون من استحالة عظم الحيوان النجس وجلده وأوتاره: طاهر وأكله حلال. ب - الصابون الذي ينتج من استحالة شحم الخنزير أو الميتة يصيرطاهراً بتلك الاستحالة ويجوز استعماله. ج - الجبن المنعقد بفعل إنفحة ميتة الحيوان المأكول اللحم طاهر، ويجوز تناوله. د - المراهم والكريمات ومواد التجميل التي يدخل في تركيبها شحم الخنزير لايجوز استعمالها إلا إذا تحققت فيها استحالة الشحم وانقلاب عينه. أما إذا لم يتحقق ذلك فهي نجسة.
التوصيات العامة
9 - المواد المخدرة محرمة لايحل تناولها إلا لغرض المعالجة الطبية المتعينة، وبالمقادير التي يحددها الأطباء وهي طاهرة العين. ولا حرج في استعمال جوزة الطيب ونحوها في إصلاح نكهة الطعام بمقادير قليلة لاتؤدي إلى التفتير أو التخدير. التوصيات العامة 1 - توصي الندوة بضرورة الاستفادة من جلود وعظام الحيوانات المذكاة لاستخراج مادة الجيلاتين التي تستخدم في الغذاء والدواء، وذلك حفاظاً على الثروة الوطنية وتجنباً لشبهات استعمال مواد من مصادر غير مقبولة شرعاً. 2 - توصي الندوة المسؤولين في البلاد الإسلامية بأن تراعى في الصناعة الدوائية والغذائية الشروط والمواصفات المقبولة شرعاً من حيث المواد الخام وطرق التحضير. 3 - توصي اللجنة المسؤولين في البلاد الإسلامية بإلزام الشركات المنتجة والمستوردة للمواد الغذائية المحفوظة ببيان التركيب التفصيلي لجميع مقومات كل عبوة بشكل واضح وباللغة الوطنية.
القسم الخامس: الفقه العام
القِسْمُ الخامِس: الفقهُ العَّام (¬1) يشتمل على ستة أبواب وهي ما يأتي: الباب الأول - الحدود الشرعية الباب الثاني - التعزير الباب الثالث - الجنايات وعقوباتها: القصاص والديات الباب الرابع - الجهاد وتوابعه الباب الخامس - القضاء وطرق إثبات الحق الباب السادس - نظام الحكم في الإسلام ¬
البَاب الأول: الحدود الشّرعيّة يشتمل هذا الباب على تمهيد وستة فصول وهي مايأتي: الفصل الأول - حد الزنا الفصل الثاني - حد القذف الفصل الثالث - حد السرقة الفصل الرابع - حد الحرابة الفصل الخامس - حد الشُّرْب وحد السُّكْر الفصل السادس - حد الردة
تمهيد
تمهيد هدفنا: كلما نقب الإنسان في آفاق الفقه وكتب الفقهاء المسلمين، ازداد إيماناً بخلود شريعة الإسلام في تنظيم الحياة، وسلامة الفكر الإسلامي، وعبقرية الفقهاء، وعظمة الفقه، الذي لا تقتصر أحكامه على الدليل النقلي من القرآن والسنة فحسب، وإنما تتغلغل في أعماق الوجدان والعقل الإنساني لتجد لها ما يؤيدها ويدعمها حتى اليوم، ويساندها من أجل التطبيق العملي، ويشد أزرها للنهوض من جديد في حكم العلاقات الاجتماعية والمعاملات المتكررة يومياً بين الأفراد، وفي العلاقات الدولية أيضاً. والهدف من الأخذ بأحكام الإسلام هو إقامة مجتمع إسلامي عزيز كريم نظيف آمن مطمئن، لا محل فيه لإعطاء الدنية أو الاستسلام للعدو، ولا قرار فيه للجريمة والفوضى، ولا اعتبار للشذوذ والانحراف، والفساد أو المنكر والمعصية، وذلك بقدر الإمكان، وضمن مبادئ الإسلام التي من أهمها مبدأ الستر على المعصية الخفية غير المعلنة، ومبدأ درء الحدود ـ لا التعزيرات ـ بالشبهات. ومما يشدنا إلى إسلامنا بحق أن الناس جربوا في عصرنا المستورد من القوانين والأنظمة، والأفكار والثقافات والمعارف المتعددة، المصطبغة كلها بصبغة مادية ضيقة أو بحتة، وآب الواعون في النهاية إلى حظيرة الإسلام ليجدوا فيه الحل الأفضل، بعد أن أفلست البضاعة المستوردة، في تقدم الفرد والجماعة، وانكشف طلاؤها المزيف بزيف الحضارة، التي أخذنا منها الساقط الحقير، وتركنا الجوهر أو النافع المفيد، فنقم الناس على تلك الأنظمة والثقافات، لما أدت إليه من إفساد
الضمائر والأفكار، وزرع الشك وعدم الثقة بالنفس، واهتزاز القيم والفضائل والأخلاق، ولم تفلح في النهاية إلا في إبقائنا ضعفاء عالة على الغير، مجهولي الهوية، ليست لنا ذاتية مستقلة، إسلاماً أو عروبة، شرقاً أو غرباً. وبدافع قوي من الشعور أو اللاشعور اتجه المجتمع إلى الإسلام ـ طريق الخلاص، ولكنهم ظلوا في فلك العبادات وحدها يعملون، فأصبحت نظم الحياة في جانب، والعبادة في جانب، فصاروا في ازدواجية وترنح وتناقض، وحيرة وملل، واضطراب جديد أقل سوءاً من البعد النهائي عن الإسلام. ولا نجاة من تلك الازدواجية إلا بتطبيق كامل لشرعة الله في المعاملات والجنايات والحدود وغيرها، وتغيير القوانين الوضعية. وبالفعل برقت آمال في اتجاهات صادقة نحو قوانين الشريعة في دنيا العرب والإسلام لتطهير المجتمع من الرذيلة والانحراف، وإثبات الذات، ومعالجة شؤون الحياة بفكر الإسلام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والعسكري، ولتحطيم قيود الذل والهوان، ودحر العدوان بمختلف أشكاله، ومحاربة الاستغلال بكل أصنافه، والاعتماد على النفس، وجمع المسلمين تحت راية القرآن، وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، والإفادة من فقه الشريعة الذي لا يخرج عن هذين المصدرين. وأحسَّ كل مسلم أن سبيل العزة، ورد العدوان، وتخليص الأراضي والحقوق المغتصبة، هو بالانضمام تحت راية الجهاد المقدس لإعلاء كلمة الله تعالى، على النحو الذي وُجد به العدو، وجمَّع قواته، وقاتلنا تحت شعار مذهبه العنصري البغيض. ومعرفة أحكام العقود، كما بان سابقاً، وتنظيم الجهاد في الفقه، وتفصيل الكلام عن الحدود والجنايات، والقضاء الإسلامي العادل، ومبادئ الحكم
الإسلامي، فرع من تلك الدوحة العظيمة والثروة الكبرى لفقهنا الذي له من المكانة العالية عند كل رجال التشريع والفقه والقضاء في العالم. ومع الأسف الشديد وصف بعض الجاهلين هذا الفقه الخصب بأنه «مجرد ركام» تأثراً منهم بحب الغرب، وشعوراً منهم بالنقص، وعدم الثقة بالنفس، وجهلاً فاضحاً بما تتطلبه الحياة من فرضيات واحتمالات كثيرة موجودة في ظل تطبيق القوانين الحالية، ويحلو لهم بعدها التطفل على موائد الغرب، وترديد ما قال (المسيو فلان والمستر فلان) متجاهلين أو تاركين عمداً ما قاله شيوخ الإسلام العظام، الذين ما زالت أفكارهم ونظرياتهم وجهودهم مرقى العظماء، ومطمح العلماء، ومأوى الفلاسفة والمفكرين. فإلى فقه الإسلام يا جيلنا، وإلى ثروته الخصبة، وإلى ينابيعه العذبة لتغترف منها ما تراه مناسباً لعصرك، فالله يسَّر لك الطريق باختيار السمح السهل من الأحكام، وزودك باليقين الصادق والعقل الناضج والحس المرهف لأخذ الصالح، وكشف الحق في مهاده، وقمع الباطل في وهاده. وحينئذ تعلم أن رفع راية الإسلام تتطلب تهيئة أرضية صلبة لها، من الواقع العملي المتمثل بالفقه الإسلامي، والفكر الإسلامي، والدعوة الإسلامية البناءة؛ لأن الدعوة ليست مجرد عاطفة تؤجج، أو هيكل فارغ المضمون والمحتوى والمنهج. وإعداد هذه الأرضية إنما هو من أجل ضمان بقاء هذه الدعوة، حتى لا تهتز أمام تحرك العواصف الهوجاء، أو تدابير الأعداء. ففي فقه الإسلام بكل مذاهبه إذن دليل على صلاحية الإسلام للتطبيق في كل عصر، وطريق لتحقيق تماسك الشخصية الإسلامية، فهو عامل بناء وتجميع وتوحيد لا تفريق وتمزيق كما يرى السطحيون، وأما اختلاف الفقهاء فليس إلا في
تعريف الحد
الفروع والجزئيات الاجتهادية لا في الأصول والغايات، لكن ما أشد الحاجة حينئذ لعرض الفقه بأسلوب سهل حديث مدعم بالدليل الصحيح، لموازنة الآراء الفقهية، وتعرف سبل الترجيح بينها، أو اختيار الأصلح المناسب للزمن منها. وهذا ما حاولت فعله في إعداد هذا الكتاب، بعد بذل جهود ـ الله أعلم بها ـ لتحقيق كل رأي فقهي، ومعرفة حكم كل مسألة في متاهات الكتب القديمة، رجاء تحقيق النفع به والإفادة منه. تعريف الحد: الحد في اللغة: المنع، ولذا سمي البواب حداداً لمنعه الناس عند الدخول، وسميت العقوبات حدوداً، لكونها مانعة من ارتكاب أسبابها، وحدود الله: محارمه؛ لأنها ممنوعة، بدليل قوله تعالى: {تلك حدود الله فلا تقربوها} [البقرة:187/ 2] وحدود الله أيضاً: أحكامه أي ما حده وقدره، فلا يجوز أن يتعداه الإنسان، وسميت حدوداً؛ لأنها تمنع عن التخطي إلى ما وراءها، بدليل قوله تعالى: {تلك حدود الله فلا تعتدوها} [البقرة:229/ 2]. والحد في الشرع في اصطلاح الحنفية: عقوبة مقدرة واجبة حقاً لله تعالى، فلا يسمى التعزير حداً؛ لأنه ليس بمقدر، ولا يسمى القصاص أيضاً حداً؛ لأنه وإن كان مقدراً، لكنه حق العباد، فيجري فيه العفو والصلح، وسميت هذه العقوبات حدوداً؛ لأنها تمنع من الوقوع في مثل الذنب. والمراد من كونها حقاً لله تعالى: أنها شرعت لصيانة الأعراض والأنساب والأموال والعقول والأنفس عن التعرض لها (¬1). غير أن بعض هذه الحدود كحد ¬
الحدود أنواع
الزنا وشرب الخمر حق خالص لله تعالى، أي حق للمجتمع، وبعضها الآخر مثل حد القذف فيه حق لله، وحق للعبد، أي أنه يشترك فيه الحق الشخصي والحق العام (¬1). والحد في اصطلاح الجمهور غير الحنفية: عقوبة مقدرة شرعاً، سواء أكانت حقاً لله أم للعبد. والحدود أنواع: حد الزنا وحد القذف وحد السرقة وحد الحرابة أو قطع الطريق وحد شرب الخمر ونحوه، قال الحنفية: الحدود خمسة: وهي حد السرقة وحد الزنا وحد الشرب وحد السُكْر وحد القذف (¬2). أما قطع الطريق فهو داخل تحت مفهوم السرقة بالمعنى الأعم، ويضاف إليها لدى غير الحنفية حدان آخران وهما حد القصاص وحد الردة، فيصبح مجموع الحدود سبعة في رأي هؤلاء باعتبار أن الحد هو عقوبة مقدرة حدها الله تعالى وقدرها، فلا يجوز لأحد أن يتجاوزها، وباعتبار أن الحد يشمل في الأصح ما كان من حقوق الله تعالى، وما كان من حقوق الناس، ومنها القصاص. وعلى هذا يكون لدينا اصطلاحان في الحدود: أولهما ـ مذهب الحنفية المشهور: وهو تخصيص الحد بالعقوبة المقدرة المقررة حقاً لله تعالى، أي لصالح الجماعة، وهي خمسة أنواع ذكرتها، بإدخال حد الحرابة في حد السرقة، والتفرقة بين حد الخمر (ماء العنب النيء المتخمر) وحد السكر للأشربة المسكرة المتخذة من غير العنب كالشعير والذرة والعسل ونحوها. وثانيهما ـ مذهب الجمهور غير الحنفية: وهو إطلاق لفظ الحد على كل عقوبة ¬
الحكمة من تشريع الحدود
مقدرة، سواء أكانت مقررة رعاية لحق الله تعالى أم لحق الأفراد، وهي سبعة أنواع، منها القصاص وحد الردة. وسأذكر هذه الأنواع السبعة مبيناً أن جرائم الحدود ثمانية: وهي الزنا، والقذف، وشرب المسكر، والسرقة، والحرابة، والبغي، والردة، والقتل العمد الموجب للقصاص، على أساس أن عقوباتها جميعاً مقدرة شرعاً. وقال ابن جزي المالكي (¬1): الجنايات أي الجرائم الموجبة للعقوبة ثلاث عشرة وهي: القتل والجرح، والزنى، والقذف، وشرب الخمر، والبغي، والحرابة، والردة، والزندقة، وسب الله، وسب الأنبياء والملائكة، وعمل السحر، وترك الصلاة والصيام. ويلاحظ أن الجناية هي الجريمة في اصطلاح الفقه الإسلامي. قال الماوردي (¬2): الجرائم محظورات شرعية زجر الله تعالى عنها بحد أو تعزير، كما يلاحظ أن عقوبة الزندقة والمذكور بعدها هنا هي القتل، كعقوبة الردة. وقد أفردت الجنايات ببحث مستقل؛ لأن الكلام عنها لدى فقهائنا لا يقتصر على ما يوجب القصاص الذي هو حدٌ عند الجمهور، وإنما يشمل بحث الديات والاعتداء على الحيوان، وكيفية التعويض عن الأضرار الناجمة من سقوط الحائط أو البناء، وطرق إثبات الجناية. الحكمة من تشريع الحدود: إن الحكمة من هذه الحدود أو العقوبات: هي زجر الناس وردعهم عن اقتراف تلك الجرائم، وصيانة المجتمع عن الفساد، والتطهر من الذنوب، قال ابن تيمية: «من رحمة الله سبحانه وتعالى أن شرع العقوبات في الجنايات الواقعة بين ¬
تطبيق الحدود يتطلب أمورا أربعة
الناس بعضهم على بعض في النفوس والأبدان والأعراض والأموال والقتل والجراح والقذف والسرقة، فأحكم سبحانه وتعالى وجوه الزجر الرادعة عن هذه الجنايات غاية الإحكام، وشرعها على أكمل الوجوه المتضمنة لمصلحة الردع والزجر، مع عدم المجاوزة لما يستحقه الجاني من الردع، فلم يشرع في الكذب قطع اللسان ولا القتل، ولا في الزنا الخصاء، ولا في السرقة إعدام النفس، وإنما شرع لهم في ذلك ما هو موجب أسمائه وصفاته من حكمته ورحمته، ولطفه وإحسانه وعدله، لتزول النوائب وتنقطع الأطماع عن التظالم والعدوان، ويقتنع كل إنسان بما آتاه مالكه وخالقه، فلا يطمع في استلاب غيره حقه» (¬1). وتطبيق الحدود يتطلب أموراً أربعة: أولها ـ الإيمان بالإسلام عقيدة وشريعة ومنهاجاً. وثانيها ـ تطبيق شريعة الله في جميع أحكامها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وثالثها ـ الإدراك العقلي والتجريبي بفائدة الحدود. ورابعها ـ الحرص على مصلحة الجماعة وتفضيلها على مصلحة الفرد. هل في قطع اليد تعذيب وقسوة وتنكيل؟ إن في تطبيق عقوبة القطع زجراً مناسباً للمجرم ولأمثاله في المجتمع، فهو رحمة بالناس عامة، وقد جاء في المذكرة الإيضاحية لقانون حدي السرقة والحرابة رقم 148 لسنة 1972م الصادر في ليبيا ما يأتي: ولقد يحلو لبعض المرتابين والمتشككين أن يصفوا عقوبة القطع (أي في حدي السرقة والحرابة) بأنها لا تتفق مع المدنية والتقدم، ويرمونها بالعنف والغلظة. وهؤلاء يركزون النظر على شدة العقوبة ويتناسون فظاعة الجريمة وآثارها الخطيرة على المجتمع، إنهم يتباكون على يد سارق أثيم تقطع، ولا تهولهم جريمة ¬
السرقة ومضاعفاتها الخطيرة، كم من جرائم ارتكبت في سبيل السرقة، كم من جرائم اعتداء على الأشخاص وإحداث عاهات جسام وقعت على الأبرياء بسبب السرقة، كم من أموال اغتصبت وثروات سلبت وأناس تشردوا بسبب السطو على أموالهم ومصدر رزقهم، كل ذلك لا يخطر ببال المشفقين على أيد قليلة في سبيل أمن المجموع واستقراره، فيكون الهدف من إقامة الحدود توفير سلامة المجتمع وتحقيق أمنه واستقراره ومنع كل ما يهدد المصالح الكبرى للأمة. ألا يتساءل هؤلاء، أيهما أهون على المجتمع: أن تقطع يد أو يدان في كل عام، وتختفي السرقة، ولا تكاد تقطع يد بعد ذلك، ويعيش الناس مطمئنين على أموالهم وأنفسهم، أم يحبس ويسجن ويحكم بالأشغال الشاقة المؤقتة والمؤبدة في جريمة السرقة وحدها، في أغلب الدول، عشرات الآلاف كل عام، ثم لا تنقضي السرقة، بل تزداد وتتنوع وتستفحل، فما زلنا نسمع عن مصارف بأسرها تسرق، وقطارات تنهب في وضح النهار، وخزائن تسلب، وجرائم على الأموال تصحبها جرائم على الأشخاص والأعراض لا تقع تحت حصر، ولا يكاد يلاحقها علم ولا فن ولا سلطة. ثم إن الجرائم الخطيرة لا يفلح في صدها ومقاومة أخطارها إلا عقوبات شديدة فعالة، فاسم العقوبة مشتق من العقاب، ولا يكون العقاب عقاباً إذا كان موسوماً بالرخاوة والضعف. والعقاب الناجح هو ذلك الذي ينتصر على الجريمة، وليس ذلك الذي تنتصر عليه الجريمة. ثم إن المشرعين الوضعيين لم يستغلظوا عقوبة الإعدام بالنسبة إلى بعض الجرائم الخطيرة، وما من شك في أن هذه العقوبة أشد من عقوبة القطع في السرقة والحرابة، فالعبرة إذن بالعقوبة المناسبة والفعالة في مقاومة الجريمة.
والحقيقة التي لا مراء فيها أن قطع يد سارق أو عدو معدود من السراق أهون كثيراً من ترك السرقة ترتع في المجتمع تروع الآمنين بما تفضي إليه من العديد من الجرائم والمنكرات. ولقد أثبت التاريخ أن المجتمع الإسلامي عندما طبق الحدود، عاش آمناً مطمئناً على أمواله وأعراضه ونظامه، حتى إن المجرم نفسه كان يسعى لإقامة الحد عليه، رغبة في تطهير نفسه، والتكفير عن ذنبه. وقد كانت الحجاز ـ بل وسائر الجزيرة العربية ـ مرتعاً خصباً لأشنع جرائم السرقة وقطع الطريق، حتى على حجاج بيت الله الحرام رجالاً ونساء، فلم يكن يعود إلى بلده منهم إلا النزر اليسير. فما أن طبقت الحجاز ـ أي الدولة السعودية ـ هذين الحدين حتى استتب الأمن وانقطعت السرقات، وانهارت عصابات قطع الطريق، حتى أصبحت البلاد مضرب المثل المستغرب في انقطاع دابر جريمتي السرقة وقطع الطريق، بالرغم من أن ما قطع من الأيدي منذ تطبيق الحدود لا يمثل إلا عدداً ضئيلاً جداً لا يوازي ما كان يقطعه قطاع الطريق من رقاب الأبرياء في هجمة واحدة. ويذكر أن عدد الأيدي التي قطعت في المملكة السعودية ستة عشر يداً خلال أربعة وعشرين عاماً. ومما تقدم جميعه يتضح أن القسوة التي تتسم بها عقوبة القطع في السرقة والحرابة، هي في الواقع رحمة عامة بالمجتمع في مجموعه حتى يتخلص من شرور هاتين الجريمتين، وأخطارهما الوبيلة، فإن التضحية بعدد محدود جداً من الأيدي والأرجل بالنسبة لأناس آثمين خارجين على حكم الله، أهون كثيراً من ترك الجريمة تفتك بآلاف الأبرياء في أرواحهم وأبدانهم وثرواتهم. بل إن شدة العقوبة ذاتها رحمة بمن توسوس لهم أنفسهم بالإجرام حيث تمنعهم تلك الشدة من الإقدام على الجريمة، فتحول بينهم وبين التردي في مهاوي
الإجرام، فهي شدة في نطاق محدود، تفضي إلى رحمة واسعة شاملة بالنسبة إلى المجتمع الواسع العريض، كيف لا، وشريعة الإسلام هي شريعة الرحمة، أليس الله هو القائل: {كتب ربكم على نفسه الرحمة} [الأنعام:54/ 6] وهو الرحمن الرحيم حيث نذكر الله في كل وقت وحين. والرسول يقول: «الراحمون يرحمهم الرحمن» (¬1)، بل أمرنا بالشفقة على الحيوان. وشريعة هذا شأنها لا يمكن أن تحمل أحكامها في الحدود على محمل الشدة والقسوة، وإنما هي رحمة بالناس في مجموعهم. والنظر إلى أثر الحدود على القلة التي تتعرض لها دون نظر إلى أثرها في المجتمع ككل، هو نظر مقلوب ومعكوس. ويكاد أن يكون نظراً مغرضاً ومريباً؛ لأن العبرة بمصلحة الناس في مجموعهم، وليست بمصلحة مجرمين ثبت جرمهم، ولم يدرأ عنهم الحد شبهة. ومع ذلك فلا يغرب عن البال أن الإسلام حريص كل الحرص على ألا يقام الحد، إلا حيث يتبين على وجه اليقين ثبوت ارتكاب الجرم، وذلك بتشدده في وسائل الإثبات. ثم إنه بعدئذ يدرأ الحد بالشبهات، كل هذا تفادياً لتوقيع الحدود إلا في حالات استثنائية محضة، ويكفي توقيعها في هاتيك الحالات حتى يتحقق أثرها الفعال في منع الجريمة وتضييق الخناق عليها إلى أقصى حد ممكن. بل إن تطبيق بعض الحدود كالجلد ـ بأصوله الشرعية ـ أحب إلى كثير من العصاة من الحبس في غياهب السجون مدة من الزمن، قلت أم كثرت. وأما الرجم فهو مجرد قتل بوسيلة إعلامية زاجرة تمثل انتقام المجتمع ممن سطا على الأعراض. ومما يجب الانتباه له أن الإسلام قبل تشريع الحدود، شرع تشريعات واقية من ¬
الفرق بين الحدود والتعازير
الوقوع في الجريمة، فأمر بالستر والحجاب ونهى عن الاختلاط والخلوة بالمرأة، وأمر بالتبكير في الزواج، ومنع كل وسائل الإغراء والفتنة، ووفر للإنسان حاجياته بتهيئة فرص العمل، وتكافل المجتمع عند العجز والتعطل ورغّب في العمل، وجعل التكافل سبيلاً للتوجه نحو العمل والإنتاج، لا الإبقاء في دائرة العوز والكسل والاعتماد على الآخرين. الفرق بين الحدود والتعازير: ذكر القرافي المالكي عشرة فروق بين الحدود والتعازير وهي ما يأتي (¬1): 1ً - التقدير: إن عقوبات الحدود والقصاص مقدرة مقدماً في الشرع للجرائم الموجبة لها، وليس للقاضي تقدير العقوبة بحسب ظروف المجرم أو ظروف الجريمة. أما عقوبات التعزير فمفوض تقديرها إلى القاضي، يختار العقوبة المناسبة بحسب ظروف المتهم وشخصيته وسوابقه ودرجة تأثره بالعقوبة، ودرجة ظروف الجريمة وأثرها في المجتمع. لكن يلاحظ أن إعطاء هذه السلطة التقديرية للقاضي في التعزير مقيد بضوابط أهمها اختيار ما يراه مناسباً من العقوبات المشروعة في التعزير، للحالات التي تعرض عليه، وتعتبر من المعاصي. فضلاً عن أن القاضي المسلم يجب أن يكون في غاية العدالة والورع، وينبغي أن يكون عند المالكية والشافعية والحنابلة بالغاً رتبة الاجتهاد. وبه يتبين أن سلطته ليست تحكمية لا ضابط لها، أو ليس فيها ضمانات للمتهمين، أو أن المتهم قد يضار بها، حتى بخطأ القاضي أو بجهله، إن لم يكن بميله وظلمه (¬2). ومع ذلك فلا بأس بتقنين العقوبات واعتماد الدولة نظاماً ¬
محدداً للجرائم والعقوبات التعزيرية، فإن أصل التفويض في تقدير التعزير هو للإمام أي رئيس الدولة إذا كان مجتهداً، وتصدى للقضاء، فإذا ناب عنه قضاة متخصصون، تقيدوا بما يقيدهم به من أنظمة وقواعد. هذا وقد اتفق الفقهاء على عدم تحديد أقل التعزير، ولكنهم اختلفوا في تحديد أكثره، فقال المالكية: هو غير محدود، بدليل إجماع الصحابة على أن معن بن زائدة (¬1) زوركتاباً على عمر رضي الله عنه، ونقش خاتماً مثل خاتمه، فجلده مئة، فشفع فيه قوم، فقال: أذكروني الطعن، وكنت ناسياً، فجلده مئة أخرى، ثم جلده بعد ذلك مئة أخرى، ولأن الأصل مساواة العقوبات للجنايات، ولأن الخليفة عمر ابن عبد العزيز رحمه الله قال: تحدث للناس أقضية على قدر ما أحدثوا من الفجور. وقال أبو حنيفة: لا يجاوز بالتعزير أقل الحدود، وهو أربعون جلدة (حد العبد في الخمر والقذف) بل ينقص منه سوط واحد. وللشافعي قولان: أصحهما كرأي أبي حنيفة. وسأوضحه في بحثه أيضاً، ودليلهم خبر في الصحيحين: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لا تجلدوا فوق عشر، في غير حدود الله تعالى» (¬2) وقد أجيب عن هذا الحديث بسبب تقرير هؤلاء الفقهاء الزيادة على عشرة أسواط بأنه محمول على التأديب للمصالح، الصادر من غير الولاة كالسيد يضرب عبده، والزوج يضرب زوجته، والأب يضرب ولده. أو أن المراد به جلد غير المكلفين كالصبيان والمجانين والبهائم. ¬
- وجوب التنفيذ
وقال الحنابلة (¬1): لا يبلغ بتعزير الحر أدنى حدوده، إلا فيما سببه الوطء، فيجوز أن يبلغ بالتعزير عليه في حق الحر مئة جلدة بدون نفي. وقيل: لا يبلغ المئة، بل ينقص منه سوطاً، ويجوز النقص منه على ما يراه السلطان. 2 ً - وجوب التنفيذ: الحدود، والقصاص إذا لم يكن عفو من ولي الدم واجبة التنفيذ على ولاة الأمر، فليس فيها عفو ولا إبراء ولا شفاعة ولا إسقاط لأي سبب من الأسباب. وأما التعزير فمختلف فيه، فقال مالك وأبو حنيفة وأحمد (الجمهور): إن كان التعزير لحق الله تعالى وجب تنفيذه كالحدود، إلا أن يغلب على ظن الإمام أن غير الضرب من الملامة والكلام يحقق المصلحة، أي أن التعزير، إذا كان من حق الله تعالى، لا يجوز للإمام تركه، لكن يجوز فيه العفو والشفاعة إن رئيت في ذلك المصلحة، أو كان الجاني قد انزجر بدونه. أما التعزير الذي يجب حقاً للأفراد، فإن لصاحب الحق فيه أن يتركه بالعفو أو بغيره، وهو يتوقف على رفع الدعوى إلى القضاء، لكن إذا طلبه صاحبه لا يكون لولي الأمر فيه عفو ولا شفاعة ولا إسقاط. وقال الشافعي: التعزير غير واجب على الإمام، إن شاء أقامه، وإن شاء تركه، بدليل ما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يعزر الأنصاري الذي قال له في حق الزبير في أمر السقي: أن كان ابن عمتك؟! يعني فسامحته (¬2)، ولأن ¬
- الاتفاق مع الأصل أو القاعدة العامة
التعزير غير مقدر، فلا يجب كضرب الأب والمعلم والزوج (¬1). وأساس الخلاف بين الحدود والتعازير في هذا: أن الحدود خالصة لله تعالى، وأن القصاص من حق الأفراد، فيجوز لهم العفو عنه، وأن التعزير منه ما هو من حق الله تعالى، ومنه ما هو من حق الأفراد. 3ً - الاتفاق مع الأصل أو القاعدة العامة: إن التعزير موافق الأصل أو القاعدة العامة التي تقرر ضرورة اختلاف العقوبة باختلاف الجريمة. أما الحدود فلا تختلف باختلاف جسامة الجريمة، بدليل تسوية الشرع في السرقة بين سرقة القليل كدينار، وسرقة الكثير كألف دينار، وفي شرب الخمر سوَّى الشرع في الحد بين شارب القطرة، وشارب الجرة مثلاً. وفي القصاص سوى بين قتل الرجل العالم الصالح التقي الشجاع البطل وقتل الوضيع، وهكذا. 4ً - وصف الجريمة بالمعصية وعدمها: إن التعزير تأديب يتبع المفاسد، وقد لا يصحبها العصيان في كثير من الصور كتأديب الصبيان والبهائم والمجانين استصلاحاً لهم، مع عدم المعصية. أما الحدود المقدرة فلم توجد في الشرع إلا في معصية، عملاً بالاستقراء. 5ً - سقوط العقوبة: إن التعزير قد يسقط، وإن قلنا بوجوبه، كما إذا كان الجاني من الصبيان، أوا لمكلفين إذا جنى جناية حقيرة، لا تحقق العقوبة فيها المقصود، لعدم كون العقوبة الخفيفة رادعة، ولعدم إيجاب العقوبة الشديدة، أما الحد فلا يسقط بعد وجوبه بأي حال. ¬
- أثر التوبة
6ً - أثر التوبة: إن التعزير يسقط بالتوبة، دون أن يعلم فيه خلاف. أما الحد كما سأبين فلايسقط بالتوبة على الصحيح عند جمهور العلماء غيرالحنابلة، إلا الحرابة لقوله تعالى: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} [المائدة:34/ 5]. 7ً - التخيير: التخيير يدخل في التعازير مطلقاً، ولا يدخل في الحدود، إلا في الحرابة. 8ً - مراعاة الظروف المخففة: إن التعزير يختلف باختلاف الفاعل والمفعول معه، والجناية، أي أنه يختلف باختلاف الأشخاص والجريمة، فلا بد في عقوبة التعزير من اعتبار مقدار الجناية والجاني والمجني عليه. أما الحدود فلا تختلف باختلاف فاعلها، وليس للظروف المخففة أي أثر على جرائم الحدود والقصاص. ويلاحظ أن هذا متمم للفرق الأول. 9ً - مراعاة مكان الجريمة وزمانها: إن التعزير يختلف باختلاف الأعصار والأمصار، فرب تعزير في بلاد يكون إكراماً في بلد آخر. 10ً - حق الله وحق العبد: يتنوع التعزير نوعين: فمنه ما هو مقرر، رعاية لحق الله تعالى، كالاعتداء على الصحابة أو القرآن ونحوه من انتهاك الحرمات الدينية. ومنه ما هو مقرر رعاية لحق العبد، أي الحق الشخصي، كشتم فلان وضربه ونحوه. أما الحدود فكلها عند أئمة المذاهب حق لله تعالى، إلا القذف ففيه خلاف، كما سيأتي بيانه. ومن الفروق عند الشافعي بين الحد والتعزير: أن ما يحدث عن الحد من التلف هدر، لكن إن حصل تلف من التعزير فإنه يوجب الضمان بدليل فعل عمر حينما استدعى امرأة حاملاً فخافت منه فألقت جنيناً ميتاً، فشاور علياً في
السياسة العقابية في الإسلام وأثرها الإصلاحي في المجتمع
الأمر فألزمه بدية الجنين، قيل: على عاقلة ولي الأمر. وقيل: إنها تكون في بيت المال. وأما عند أبي حنيفة ومالك وأحمد، فلا ضمان مطلقاً، فمن حده الإمام أو عزره فمات من ذلك، فدمه هدر؛ لأن الإمام في الحالتين مأمور بالحد والتعزير، وفعل المأمور لا يتقيد بشرط السلامة (¬1). السياسة العقابية في الإسلام وأثرها الإصلاحي في المجتمع تمهيد: إن نظام الشريعة في تبيان الحرام والمحظور، وفي الحملة الشديدة على مرتكبي المنكرات والفواحش في القرآن والسنة، والقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتأييد الأحكام الأصلية بالمؤيدات المدنية كالبطلان والفساد في العقود والمعاملات، والجزائية كالحدود والتعزيرات من توبيخ وحبس وضرب غير مهين ولا مشين، إن ذلك كله ساهم مساهمة بناءة في إقامة المجتمع الإسلامي النظيف الذي تقل فيه الجرائم، ويمتنع فيه إلى حد كبير شيوع الكبائر. وقد أكد سلامة هذا النظام وكفاءته واقع الأمة الإسلامية في عصورها المتلاحقة بنحو إجمالي لا تفصيلي، فإنها بالمقارنة مع الأمم الأخرى والدول المتحضرة المعاصرة التي تقع فيها جريمة أو جريمتان كل ثانية، تعد أقل الأمم نزعة إلى الإجرام، والنسبة الإجرامية فيها أقل النسب إحصائياً، ما دامت متمسكة بدينها، ¬
خطة البحث
ملتزمة بأخلاقها الإسلامية الرصينة، متبعة هدي القرآن والسنة وسيرة السلف الصالح، باستثناء وقائع فردية لشذوذ أو جهالة أو بدائية، أو دوافع عصبية سياسية لم يتوافر لها التكوين الإسلامي الصحيح، والتربية والثقافة الدينية الرادعة الكافية. ويمكن لكل مطلع على هذا البحث وهو (السياسة العقابية في الإسلام وأثرها الإصلاحي في المجتمع) تكوين قناعة كافية بصدق هذه الحقيقة الواقعية وإدراك سلامتها ونقائها، من خلال المبادئ النظرية والواقع العملي في البلاد التي تطبق فيها أحكام الشريعة. وخطة البحث كما يلي: أولاً: مفاهيم عامة عن الجريمة وأوضاعها في الحاضر بسبب غيبة الوازع الديني. ثانياً: أصول السياسة العقابية أو الجنائية الإسلامية. ثالثاً: أنواع الأحكام الشرعية ودورها الوقائي والعلاجي. رابعاً: أنواع العقوبات في الإسلام وأثرها في منع الجريمة. خامساً: تطبيق مبادئ السياسة الجنائية الإسلامية: الوسائل وأهداف العقوبة وغاياتها المنشودة ومدى تأثيرها في قمع الإجرام. سادساً: مبادئ العقاب في الشريعة ومالها من أثر في تخفيف الجريمة. سابعاً: الحدود الشرعية وحكمتها وأثر تطبيقها في منع الجريمة. ثامناً: العقوبات وحقوق الإنسان في الإسلام. تاسعاً: شرعية الجريمة والعقوبة أو مبدأ لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، وتأثير ذلك على ظاهرة الإجرام.
أولا - مفاهيم عامة عن الجريمة وأوضاعها في العصر الحاضر بسبب غيبة الوازع الديني
عاشراً: موانع العقاب وموانع المسؤولية، وأسباب الإباحة، وإنسانية العقوبة. حادي عشر: الآثار الإصلاحية الكبرى لسياسة العقاب في الإسلام. أولاً - مفاهيم عامة عن الجريمة وأوضاعها في العصر الحاضر بسبب غيبة الوازع الديني: الجريمة ظاهرة اجتماعية قديمة ومستمرة ومتطورة، ولها تأثيرات ضارة ومؤذية وهي في مفهوم الناس سلوك شاذ يحظره قانون الدولة، ويرتب له جزاء، أو هي الخروج على أوامر قانون العقوبات ونواهيه (¬1). ويتطور مفهوم الجريمة من زمن لآخر، ومن مجتمع لآخر في الزمن الواحد. والجريمة هي الجناية بالمعنى الخاص في اصطلاح الفقه الإسلامي، قال القاضي الماوردي: الجرائم محظورات شرعية زجر الله تعالى عنها بحد أو تعزير (¬2). والمحظور إما إتيان منهي عنه أو ترك مأمور به. والجناية بالمعنى العام: هي كل فعل محرَّم شرعاً، سواء وقع الفعل على نفس أو مال أوغيرهما. وهذا هو معنى الجريمة عند أغلب القانونيين، فإنهم صوروها بأنها كل فعل ينهى عنه القانون ويفرض له عقوبة. والظاهرة الإجرامية إحدى سمات المجتمعات بسبب الصراع على إشباع حاجات الأفراد غير المتناهية. ووجدت فكرة الجزاء بالفطرة في كل جماعة إنسانية، وإن اختلفت صورته، أو تباينت وجهات النظر في تحديد أهداف العقوبة ¬
بالانتقام من الجاني، أو تطبيق العدالة، أوإصلاح المتهم وتهذيبه (¬1). والواقع أن الهدف من العقوبة مجموع هذه الأمور، فإن الجزاء للردع والتخويف، وللإصلاح والتهذيب معاً، ولإرضاء الشعور بالعدالة في ضمير المجتمع، وقد أدى التطور أخيراً إلى اعتبار العقوبة وسيلة دفاع عن المجتمع من خطر الجريمة، فالعقوبة بمعناها الحديث تؤدي وظيفتها الدفاعية عن المجتمع في لحظات ثلاث: اللحظة التشريعية: أي عند سن قانون العقوبات لإظهار الخشية من العقاب، واللحظة القضائية: أي عند إصدار الحكم بالعقوبة، لحماية المجتمع من جرائم جديدة تحدث فيه لو لم تلق الجريمة جزاءها، واللحظة التنفيذية: أي عند توقيع العقوبة المحكوم بها لإصلاح الجاني عن طريق إيلامه، حتى لا يعود إلى الجريمة مرة أخرى، وللجرائم أنواع كثيرة من الناحية الاجتماعية، فهناك جرائم ضد الممتلكات كالسرقة وتسميم الماشية، والحريق، وجرائم ضد النفوس والأفراد، كالضرب والقتل وهتك العرض، وجرائم ضد النظام العام، كجرائم أمن الدولة والتخريب والتجسس، وجرائم على الدين وأهله كالاعتداء على أماكن العبادة وعلى المصلين، وجرائم على الأسرة كإهمال الأطفال والزنا والخيانة الزوجية، وجرائم ضد الأخلاق كالأفعال الفاضحة الجارحة للحياء في الأماكن العامة (¬2). وتنوعت الجرائم وتفنن المجرمون فيها في العصر الحاضر، فارتكبوا جرائم لاتكاد تخطر على بال، كاغتصاب المرأة وهي تسير في شارع عام، وخطف الأطفال والنساء للبيع، وهو الرقيق الأبيض، ذكرت وكالة رويتر أن ضابطاً كبيراً في قوة حرس الحدود في بنغلاديش قال: إن أفراد الحرس أنقذوا حوالي (60) رجلاً وامرأة وطفلاً من البيع خارج البلاد للعمل في البغاء واستخدامهم كمصادر ¬
لعمليات زرع الأعضاء البشرية. وقد تقدمت الحكومة في (1988/ 7/1) بمشروع قانون إلى البرلمان يقضي بإعدام بائعي بنات حواء (¬1). وتصاعدت عملية الاتجار بالأطفال، فهناك مليون طفل يخطفون ويباعون سنوياً في العالم (¬2)، ويوجد في الكيان الصهيوني اليوم 2000 طفل برازيلي مخطوفين، تزودهم لإسرائيل (16) عصابة تقوم بدراسة عمليات خطف الأطفال. وتعيش فرنسا من عدة أشهر في عامي (87)، (1988) ظاهرة اجتماعية خطيرة هي ظاهرة خطف الفتيات دون العاشرة من الأماكن العامة لاغتصابهن ثم قتلهن بصورة وحشية (¬3)، وبدأت فئات كثيرة تنادي بإعادة عقوبة الإعدام. وكثر تعاطي المخدرات والإدمان عليها، حتى ارتفع عدد ضحاياها في إيطاليا مثلاً إلى (500) قتيل من جراء الإدمان، وكشفت إحصائية لمنظمة الصحة العالمية في عام (1985) عن وجود (32) مليون مدمن في العالم، وطالب مفتي مصر بإعدام تجار المخدرات علانية أمام الشعب في الساحات العامة، للعظة والعبرة والزجر بسبب شيوع المخدرات في مصر (¬4). وتزايدت نسبة الجرائم في بريطانيا، وكذا في المجتمع الأمريكي من قتل وسرقة واغتصاب واعتداء، حتى بلغت في أمريكا أكثر من عشرة أضعاف ما كانت عليه بين (1950، 1964) بسبب الرخاء والازدهار الاقتصادي في كل من مدينة نيويورك وأطلنطا وبوسطن، وتفشت ظاهرة المخدرات في أوربا وآسيا وأفريقيا، وكثر المصابون بالإيدز أو الشذوذ الجنسي، حتى بلغ عددهم في العالم ¬
أكثر من عشرة ملايين من الذكور والإناث (¬1). وزادت نسبة جرائم النهب والسلب في بريطانيا في عام (1987) بنسبة (12%) وبلغت (000،45) جريمة، بسبب زيادة معدل الرخاء، وغيبة الوازع الديني، فإن المدنية الحديثة البعيدة عن هدي الله والدين وتعاليمه أفرزت مثل هذه الظواهر الإجرامية الشاذة، كما أفرزت فلسفات مادية منحدرة، وكلها تؤذن بتدمير وتخريب معالم الحضارة الحديثة القائمة على مجرد المادة، وتغفل جانب الأخلاق والدين والقيم الإنسانية، والخروج عن مبادئ العدالة والمساواة. ومثال ذلك: يعتبر عدد السجناء الذين ينتظرون الموت في الولايات المتحدة الأمريكية أعلى رقم سجل في ذلك البلد عام (1986)، ويتزايد معدل تنفيذ الإعدام بصورة مستمرة، وتشير الأدلة إلى أن استخدام عقوبة الإعدام في أمريكا يقوم على أساس تعسفي ومتحيز عنصرياً وغير عادل، ويشمل من ينتظرون الموت رجالاً ونساء، مرضى عقليين أو متخلفين عقلياً، وأشخاصاً ما زالت أعمارهم أقل من (18 عاماً)، أو كانت أعمارهم أقل من (18 عاماً) عندما ارتكبوا جرائمهم، ونصف هؤلاء تقريباً من السود، والكثير منهم قد أدين بموجب سلطات قضائية، وجسدت الدراسات أن تطبيق عقوبة الإعدام فيها قائمة على التمييز العنصري (¬2). وتقدم العلوم والفنون لم يكن سبباً لمنع الجرائم؛ لأن الغالب على العلوم المعاصرة الصبغة المادية المحضة، البعيدة في الأكثر عن النزعة الإنسانية، أما العلوم الإنسانية فهي التي تهذب المشاعر، وتقوّم الطبائع، وتقلّل الجرائم، ولكن دورها في الحياة الحاضرة والحضارة المادية الحديثة ضعيف التأثير في الغالب، مع أن الشأن ¬
ثانيا - أصول السياسة العقابية أوالجنائية الإسلامية
في العلم أو المعرفة أن يكون طريقاً لانخفاض معدل الجرائم، وإذا وجد الجهل ارتفعت نسبة الجرائم. ثانياً - أصول السياسة العقابية أوالجنائية الإسلامية: إن استراتيجية منع الجريمة وقيامها بوظيفتها تتطلب في رأي فلاسفة القوانين الوضعية تحقيق أهداف السياسة الجنائية، وضرورة تميزها بالخصائص التالية: 1 - الشمول: بمعنى أن تطبيق الاستراتيجية على جميع مجالات السياسة الجنائية بالتجريم والعقاب والمنع. 2 - متكاملة: بمعنى أن تتفق مع الأهداف السياسية والاجتماعية والاقتصادية. 3 - عملية: بمعنى قيام الاستراتيجية على منهج عملي، فينظر مثلاً في مدى فاعلية العقوبات السالبة للحرية من حبس وسجن مع الأشغال الشاقة في تحقيق غاية معينة هي تأهيل المجرم للحياة الاجتماعية (¬1). ونحن نلاحظ أن هذه الخصائص كلها مرعية في نظام السياسة العقابية في الإسلام، أما الشمول فكل المجالات الجنائية للحياة المعاصرة تستوعبها أنظمة التحريم والحظر والمنع والتجريم والعقاب، فما من أمر ضارّ بمصلحة الفرد والجماعة إلا وقد حرَّمته الشريعة وعاقبت عليه إما بعقاب أخروي أو دنيوي. وأما التكامل، فإن أنظمة التجريم والعقاب في الإسلام تحقق جميع الأهداف المرجوة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، مثل عقوبات البغاة وقطاع الطرق والزنى والقذف والاعتداء على الأموال والأشخاص بالسرقة والخطف والاغتصاب والاختلاس والنهب والحريق ونحو ذلك. ¬
ثالثا - أنواع الأحكام الشرعية ودورها الوقائي والعلاجي
وأما الهدف العملي من العقوبة فواضح من خلال تطبيقها إذا التزمت ضوابط الشريعة وآدابها في التنفيذ والرقابة والرعاية والتوجيه، ومحاولات الإصلاح المتكررة في السجون بأساليب مختلفة تشمل الوعظ والإرشاد، والتشغيل وإيقاظ الضمير، والإحساس بمخاطر الجريمة، فإن كثيراً من السجناء ما عدا زمرة شاذة كان السجن مثلاً في الجرائم التعزيرية وسيلة لصلاحهم وعودتهم أسوياء ومواطنين صالحين، استقاموا على منهج الحياة الصحيحة. وفضلاً عن ذلك فإن للسياسة الجنائية الإسلامية مجالاً آخر يتمثل في أسلوب المنع والوقاية من الجريمة قبل وقوعها، بواسطة نظام الحسبة وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في جميع مرافق الحياة، وبخاصة في الأسواق العامة، كما أن اتباع أساليب الدين وأحكامه الشرعية والاهتداء بهديها في العبادات والمعاملات والأخلاق، ووعظ الناس بتعاليم دينهم، وإرشادهم إلى الطريق السوي، والاعتماد على عناصر الترغيب والترهيب بآي القرآن الكريم والأحاديث النبوية، كل ذلك سيؤدي حتماً إلى صلاح المجتمع والأفراد، ويقلل من عدد الجرائم المرتكبة، لما له من أثر ملحوظ في التربية والثقافة والتهذيب الأخلاقي والاجتماعي، وتقويم الانحراف، والدفع الإيجابي إلى حياة أفضل وأقوم. ثالثاً - أنواع الأحكام الشرعية ودورها الوقائي والعلاجي: يلاحظ أن الأحكام الشرعية نوعان: أحكام أصلية وأحكام مؤيدة أو زجرية، أما الأحكام الأصلية الأساسية فهي التي تكوّن نظام الشريعة الأصلي في دائرة الإيجاب والمنع، والقصد من المنع وقاية الإنسان من المحظورات التي يترتب على اقترافها ضرر واضح في الدين أو النفس أو المال أو العقل أو العرض، فكان تحريم الحرام لاتقاء الإضرار والأذى، وليس لأغلب المحرّمات عقاب دنيوي، وإنما
العقاب عليها أخروي، فالشرك، وعقوق الوالدين، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف من السبع الموبقات أو الكبائر لا عقاب عليها في الدنيا، إلا إذا رأى الحاكم مصلحة في ذلك بسبب الإخلال بالنظام الاجتماعي، وكذلك في مجال العبادات قد يرتكب الإنسان فيها الحرام، كالصلاة من غير طهارة، والصيام مع الغيبة والنميمة، والحج مع الرفث والفسوق (الكلام الفاحش) والزكاة باختيار رديء المال، ولاعقوبه عليه. وفي المعاملات: قد يقع الإنسان في غش أو غبن أو استغلال أو ظلم، وقد يحتكر أو يغصب، أو يغرر بآخر، أو يبيع على بيع أخيه ولا يعاقب في الدنيا، وفي العلاقات الدولية قد ينقض الحاكم المعاهدة من غير مسوغ شرعي، ولا يعاقب على فعله، وفي المواريث والحقوق العامة قد يجور أحد الورثة فيأخذ شيئاً من التركة، وقد يأخذ المجاهد شيئاً من الغنيمة من غير حق، ولايعجل له عقاب في الدنيا، وفي الأحوال الشخصية قد يلحق الرجل ضرراً بالمرأة، وقد يعضلها (يمنعها) عن الزواج من كفء وقد يخطب على الخطبة ولا يعاقب، وفي دائرة الأخلاق الاجتماعية قد يقع الإنسان في الغيبة والنميمة وقد يسعى ببريء ظلماً إلى حاكم، ولا عقاب على ذلك في الدنيا ما لم ينكشف أمره. وعدم العقاب الدنيوي لا يعني الإباحة أو الحل، فإن العقاب الأخروي أشد وأنكى، وأخطر وأدوم، فيكون تحريم الحرام أمراً وقائياً لتجنب الوقوع في المخاطر والمضار والمفاسد والشرور والمنازعات، والتأمل في ذلك يدفع المرء إلى التزام جادة الاستقامة، والبعد عن كل ما حرمه الشرع، لئلا يؤدي اقترافه الحرام إلى جريمة، وهذا من خصائص الشريعة والدين السماوي الذي يميزه عن أي نظام قانوني وضعي لا يهتم بالممنوع إلا إذا أدى إلى المساس بالعلاقات الاجتماعية.
وقد يشمل المنع دائرة المشتبهات خشية التورط في الحرام والممنوع، فيكون اجتناب المشتبه فيه أولى وأسلم، لئلا يقع الإنسان في جريمة، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات، وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا إن حمى الله محارمه .. » (¬1). فهذه الأحكام الحاظرة أو المانعة أحكام وقائية ذات أثر تربوي واضح، تعمل على منع الجريمة واقترافها. ومن أهم الأحكام الوقائية كما تقدم نظام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يطلب من كل مسلم في صريح كثير من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، ويتكرر التذكير به أيام الجمعة والأعياد، قال الله عز وجل: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون} [آل عمران:104/ 3]. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكراً، فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» (¬2). وفي حديث آخر أخرجه الترمذي عن أبي هريرة: «من غشنا فليس منا». وقام على أساس هذه الأوامر نظام الحسبة الذي يقي الأفراد والمجتمع من غائلة الجريمة. والحسبة كما تقدم: أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن منكر إذا ¬
ظهر فعله (¬1). أو هي وظيفة دينية من باب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، كما قال ابن خلدون (¬2). والحسبة وإن كانت واجباً عاماً على كل مسلم، إلا أنها إذا أصبحت نظاماً أو وظيفة صارت فرض عين على المحتسب بحكم ولايته أو وظيفته المأجورة. ويتولى المحتسب وظائف لها صلة بالقضاء والمظالم والشرطة، فهو ينظر في المنازعات الظاهرة التي تحتاج إلى أدلة إثباتية، كدعاوى الغش، والتدليس والتطفيف، فهو بهذا كالقاضي، ويؤدب مرتكبي المعاصي التي ترتكب جهراً، أو تخل بآداب الإسلام، فهو بهذا كناظر المظالم يرعى النظام العام والآداب والأمن في الشوارع والأسواق مما لا تجوز مخالفته، فيكون بذلك كالشرطة أوالنيابة العامة (¬3). ويشمل قيامه بواجبه في نطاق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما يتعلق بالجماعة أو الأفراد كترك الواجبات الدينية العامة، الشعائر وغيرها، وتعطل مرافق البلد العامة من مساجد وشوارع، ومماطلة في أداء الحقوق والديون، وكفالة الصغار والمطالبة بترويج الفتيان والفتيات. وفي المحظورات يمنع الناس من مواقف الريب ومظان التهمة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» (¬4) مثل اختلاط النساء بالرجال في المساجد والأماكن العامة، والمجاهرة بإظهار المسكرات والملاهي المحرمة. ويمنع المعاملات المنكرة كالربا والبيوع الفاسدة وما منع الشرع منه كالغش والتدليس وبخس الكيل والميزان. ¬
المؤيدات
وأما المؤيدات فهي إما مدنية أو جزائية، والمؤيدات المدنية أربعة: هي البطلان والفساد والتوقف (عدم النفاذ) وعدم اللزوم، فكل عقد لم تكتمل أركانه أو شرائطه، فهو إما باطل أو فاسد أو موقوف أو غير لازم. والمؤيدات الجزائية هي العقوبات الرادعة، وهي الحدود والتعزيرات. والمؤيدات بقسميها شرعت لحماية أحكام الشريعة الأصلية، فيكون لأحكام الشريعة إما دور وقائي، أو علاجي، وكل من الوقاية والعلاج سبب للإصلاح ومنع الإجرام والانحراف، كما سيأتي بيانه. رابعاً - أنواع العقوبات في الإسلام وأثرها في منع الجريمة: الجزاء أو العقاب في شرعة الإسلام إما أخروي وإما دنيوي، والعقاب الأخروي مردّه إلى الله تعالى، إن شاء عذب العاصي أو المجرم، وإن شاء غفر ورحم، والله غفور رحيم، وهو شديد العقاب، والمؤمن الحق يخشى من عقاب الآخرة وعذاب النار أكثر من عقاب الدنيا. والعقوبة الأخروية: يمليها قانون الحق والعدل، قال الله تعالى: {أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض، أم نجعل المتقين كالفجار} [ص:28/ 38] وقال سبحانه: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين، ما لكم كيف تحكمون} [القلم:35/ 68 - 36]. فليس عدلاً أبداً ولا منطقاً وعقلاً أن يتساوى العاصي مع الطائع، والمنحرف مع المستقيم، لذا كان يوم الدين أو يوم القيامة يوم الجزاء الفاصل هو أمل المعذبين والمظلومين في الدنيا. روى الإمام مسلم في صحيحه عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في مجلس: فقال: «تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق، فمن وفّى منكم فأجره على الله، ومن
العقوبات الدنيوية في الإسلام
أصاب شيئاً من ذلك، فعوقب به، فهو كفارة له، ومن أصاب شيئاً من ذلك، فستره الله عليه، فأمره إلى الله: إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه». وما أكثر الآيات القرآنية المعبرة عن مبدأ الإنصاف المطلق المذكور، وعن عدالة الله الشاملة في عباده الذين امتثلوا، أوخالفوا وقصروا، أو كانوا رسل خير وهداية وإصلاح أو دعاة شر وضلال وفساد، ليكون ذلك مبعث الاستقامة، وتهديداً وترهيباً للجناة والمجرمين، قال الله تعالى: {ولتكن منكم أمةٌ يَدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف، ويَنْهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون. ولاتكونوا كالذين تفرّقوا واختلفوا، من بعد ما جاءهم البيِّنات، وأولئك لهم عذاب عظيم. يوم تبْيَضُّ وجوه، وتسوّد وجوه، فأما الذين اسوّدت وجوههم، أكفرتم بعد إيمانكم، فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون. وأما الذين ابيضت وجوههم، ففي رحمة الله هم فيها خالدون. تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق، وما الله يريد ظلماً للعالمين} [آل عمران:104/ 3 - 108]. وأما العقوبات الدنيوية في الإسلام، فهي نوعان: 1 ـ الحدود: وهي العقوبات المقدرة من الشارع نوعاً ومقداراً بالنصوص الصريحة (¬1)، وهي محدودة جداً، وعددها خمسة أنواع في رأي الحنفية: حد الزنا، وحد القذف، وحد السرقة، ويشمل حد الحرابة أو قطع اليد، وحد شرب الخمر، وحد المسكر، وقد قصروها على ما شرع حقاً لله تعالى، أي مراعاة للصالح أو النفع العام، ولم يجعلوا القصاص من الحدود، لأن المقصود به والغالب فيه مراعاة حق العبد أو الإنسان. ¬
والحدود عند جمهور العلماء (¬1) غير الحنفية سبعة: هي حد الزنا، وحد القذف، وحد السرقة، وحد الحرابة، وحد المسكرات الشامل للخمر وجميع الأنبذة المسكرة، وحد القصاص، وحد الردة، باعتبار أن الحد عقوبة مقدرة حدّها الله تعالى وقدرها، فلا يجوز لأحد أن يتجاوزها، سواء أكان المقصود منها مراعاة حقوق الله تعالى، أي الحق العام أو مصلحة المجتمع، أم مراعاة حقوق الناس الخاصة، ومنها القصاص. وسميت هذه العقوبات حدوداً، لأنها تمنع من الوقوع في الجرم أو الذنب. ويقصد بالحدود كلها مراعاة حق المجتمع في أصل العقاب للتأديب والانزجار عما يتضرر به الناس، وتحقيقاً لمصلحة الأمن والاستقرار، والحفاظ على حرمات الحياة وصيانة الأعراض والنفوس والعقول والأموال عن التعرض لها (¬2)، ويراعى فيها أيضاً حق الشرع في نوع العقوبة المقدرة المنصوص عليها إما في القرآن الكريم: وهي حدود الزنا والقذف والسرقة والحرابة والقصاص، وإما في السنة النبوية وهي حد المسكرات والرجم. والقصد من النص على هذه الحدود بالذات تقدير الشرع مالجرائمها من خطورة بالغة، تمس أصول القيم الإنسانية، وهي الحفاظ على حق الحياة (النفس) والفكر الإنساني (العقل) والعرض (حد الزنا والقذف) والمال (السرقة والحرابة) والدين أو العقيدة الذي هو أسمى شيء في الوجود. وتطبيق هذه الحدود الشرعية بضوابطها وشرائطها المقررة شرعاً، وهي كثيرة ¬
2 - التعزيرات
جداً، مما يجعل احتمال تطبيق الحد نادراً، كفيل بمنع هذه الجرائم الخطيرة، والواقع أصدق شاهد في البلاد التي تطبق فيها الحدود كالسعودية. وجرائم الحدود عند الجمهور ثمانٍ: هي الزنا، والقذف، وشرب المسكر، والسرقة، والحرابة، والبغي، والردة، والقتل العمد الموجب للقصاص، على أساس أن عقوباتها جميعاً مقدرة شرعاً. وقال ابن جزي المالكي: الجنايات أي الجرائم الموجبة للعقوبة ثلاث عشرة: وهي القتل والجرح، والزنا، والقذف، وشرب الخمر ـ علماً بأن كل مسكر خمر ـ والسرقة، والبغي، والحرابة، والردة، والزندقة، وسب الله، وسب الأنبياء والملائكة، وعمل السحر، وترك الصلاة والصيام (¬1). وزيادة العدد في تقدير ابن جزي منشؤه ضم عقوبات تعزيرية ليس منصوصاً عليها صراحة في القرآن والسنة، وإنما باجتهاد الفقهاء إجماعاً، أو بالأكثرية، علماً بأن العقوبة واحدة وهي القتل في القصاص، وفي الزندقة والسب والسحر وترك الصلاة والصيام. 2 - التعزيرات: وهي العقوبات غير المقدرة شرعاً، وإنما فوض الشرع النظر في نوعها ومقدارها إلى ولي الأمر (الدولة) لمعاقبة المجرم بما يكافئ جريمته، ويقمع عدوانه، ويحقق الزجروالإصلاح، ويراعي أحوال الشخص والزمان والمكان والتطور، وذلك يختلف باختلاف درجة الرقي وتحضر المجتمعات، وتهذيب الجماعات وأحوال الناس في مختلف الأزمنة والأمكنة. وأغلب العقوبات في القوانين الوضعية من قبيل التعزير، لأنها مجرد تنظيم ¬
يراعى فيه ما يلائم الجريمة وحال المجرم للزجر والإصلاح والتقويم والتهذيب، وتحقيق الأمن والاستقرار. والتعزير يكون في كل جريمة لا حد فيها ولا كفارة، سواء أكانت اعتداء على حق الله تعالى، كالأكل في نهار رمضان بغير عذر، وترك الصلاة في رأي الجمهور، والربا وطرح النجاسة وأنواع الأذى في طريق الناس، أم على حق الأفراد أو العباد، كتقبيل الأجنبية أو المفاخذة، وسرقة ما دون النصاب الشرعي (دينار أوعشرة دراهم في رأي الحنفية) والسرقة من غير حرز، وخيانة الأمانة، والرشوة، والقذف والسب والإيذاء بغير ألفاظ القذف. قال ابن القيم: إن المعاصي ثلاثة أنواع: نوع فيه الحد ولا كفارة فيه، كالسرقة والشُّرب والزنا والقذف، فالحد فيه مغنٍ عن التعزير. ونوع فيه الكفارة ولا حد فيه كالوطء في نهار رمضان عند الشافعية والحنابلة بعكس الحنفية والمالكية، والوطء في الإحرام. ونوع ثالث لا حد فيه ولا كفارة، مثل قبلة الأجنبية والخلوة بها، ودخول الحمام بغير مئزر، وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير، ونحو ذلك، وهذا النوع فيه التعزير، ولا يجوز للإمام تركه في قول الجمهور، وقال الشافعية: إنه راجع إلى اجتهاد الإمام في إقامته وتركه، كما يرجع إلى اجتهاده في قدره (¬1). والعقوبات التعزيرية كالتوبيخ، والحبس، والضرب، والتغريم بالمال، والقتل سياسةً لمعتادي الإجرام وفي جرائم أمن الدولة والتجسس واللواط وسب النبي صلّى الله عليه وسلم، ونحو ذلك مما يراه الحاكم ولي الأمر رادعاً للشخص، بحسب اختلاف حالات الناس والزمان والمكان ودرجة الرقي والحضارة. ¬
خامسا - تطبيق مبادئ السياسة الجنائية الإسلامية
وتطبيق هذه العقوبات دون إفساح المجال للتحايل والشفاعة والرشوة يؤدي إلى الإقلال من الجريمة أو منعها. والخلاصة: أن تطبيق الحدود الشرعية بمعاييرها وضوابطها وشرائطها والتعازير دون تلكؤ ولا مجاملة، ومراعاة التفاوت بين موجب الحد وموجب التعزير، يؤدي إلى تحقيق سلامة المجتمع، وأمن الناس واستقرارهم، والقضاء على ظاهرة الإجرام تدريجياً. خامساً - تطبيق مبادئ السياسة الجنائية الإسلامية: إن تطبيق أصول السياسة الجنائية الإسلامية يعرفنا على الوسائل وأهداف العقوبة وغاياتها المنشودة ومدى تأثيرها في قمع الإجرام على وفق التصور التالي: تقويم المجرم: إن الهدف من العقوبة في الشريعة والأنظمة الوضعية هو تقويم المجرم، ومعنى هذا المبدأ أن ألم العقوبة ليس غاية في ذاته، وإما هو وسيلة إلى غاية، هي تقويم الجاني، فلا داعي لإ يلام المجرم أوإذلاله، ولا تكليفه بعمل في السجن، ما لم يكن وراء ذلك تقويم المجرم (¬1). العقاب ليس مقصوداً لذاته: ليس أصل العقاب أيضاً غاية مقصودة لذاتها في مفهوم الإسلام، وليس هو أولى وسائل الإصلاح والتهذيب الفردي والجماعي، وإحداث التغيير الجذري في حياة الناس والمجتمع، وإنما هو آخر الوسائل إذا استعصت الحلول، كما أن آخر الدواء الكي في عرف العرب في الماضي. الإنذار السابق: إذا أردنا التوصل إلى غاية العقوبة فيجب تقديم البيان الكافي ¬
التدرج في الإصلاح
للاقتناع بسلامة المبدأ أو تنفيذ الأحكام وطاعة الشريعة، فكما لا يصح الإيمان بالقهر والإكراه من غير استدامة عليه، وكما لا يتعين الجهاد بالقتال، وربما كان الأفيد هو الإقناع والبرهان، والدعوة والإرشاد، والكلمة الطيبة، والموعظة الحسنة، كذلك لا يلجأ إلى العقاب دائماً، ويقبح العقاب ولا يسوغ بحال بلا بيان وإنذار وتحذير، كما أن الثواب والجزاء لا يكون قبل التكليف الشرعي القائم على توافر الأهلية من العقل الكافي والبلوغ الجسدي، وإصدار الأوامر والنواهي وتعليل الأحكام الشرعية، وبيان الحكمة التشريعية، فإن كل العقلاء يستهجنون توجيه اللوم والعتاب، وتطبيق العقوبة والعذاب، دون سبق هداية أو إنذار. لذا قدم الله سبحانه للناس جميعاً كل وسائل الإقناع، والبراهين العقلية والحسية، والإرشاد إلى الإيمان الصحيح وتوحيد الله، ونبذ كل هياكل الوثنية والشرك، ثم أرشدهم إلى ما فيه السعادة في الدنيا والآخرة، ودلهم على طرق الخير والبر والإحسان، ونوّع الأساليب، وألقى المواعظ والعبر، وضرب الأمثال من قصص الأمم الغابرة، وشد الأنظار نحو التأمل في الكون، ونبّه العقول والأفكار، وأيقظ الضمير والوجدان، وأهاب باستقلال الشخصية عن الآخرين، وحارب الموروثات السيئة والتقليد الأعمى للآباء والأجداد، من أجل تغيير العقيدة الفاسدة أو المشوهة أو المنعدمة وإصلاح الأخلاق، ووضع الأنظمة الصالحة للحياة الهانئة السعيدة المستقرة، والتخلص من فوضى الجاهلية، والوثنية الدينية. التدرج في الإصلاح: في حال البيان السابق تدرج القرآن في خطوات الإصلاح الاجتماعي والفردي، ولم يفاجئ الناس بجميع بنود التغيير والإصلاح، وإنما روّضهم على تقبل أحكام الشريعة ببطء وانتظار وقت غير قصير، فلما استحكم العناد بالزعماء والقادة والكبراء، واستكبروا عن سماع الحق، والإصغاء للأفضل، وتكررت منهم محاولات الاعتداء على أهل القرآن والإيمان، وتعذيب
أدلة وجوب البيان السابق
المستضعفين، وفتنة الأتباع الضعفاء لمدة ثلاثة عشر عاماً في مكة، بعد أن حصل منهم كل هذا وغيره، تنزلت آيات الوحي ملأى بالزجر والقوة والتهديد والوعيد، والإنذار بالعقاب والتحذير من تعجيل العذاب الشديد، فأعذر الحق سبحانه وتعالى نفسه من هؤلاء المعاندين المعرضين علواً في الأرض واستكباراً ومكراً سيئاً، وحفاظاً على الزعامات والرياسات والمصالح المادية، وتبين للناس قاطبة أن شيئاً سيحدث، وأن المقصرين والمعرضين عن إجابة نداء الوحي والقرآن بالإصلاح والإقلاع عن الجريمة جديرون بالتأديب مستحقون للعقاب. أدلة وجوب البيان السابق: تم الإعلان الشهير في آي القرآن عن قبح العقاب بلا بيان، فقال الله تعالى: {رسلاً مبشرين ومنذرين، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} [النساء:165/ 4] ثم أوضح القرآن كل ما يقطع الأعذار والإمهال والتراخي في الاستجابة لرسالة الإصلاح، فقال تعالى: {ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قَبْله، لقالوا: ربَّنا لولا أرسلت إلينا رسولاً، فنتَّبِع آياتِك من قبل أن نَذِل ونَخْزَى} [طه:134/ 20] وقدَّم سبحانه العذر قبل مفاجأة العذاب الأخروي، فقال: {كلما ألقي فيها فوج، سألهم خزنتها: ألم يأتكم نذير؟ قالوا: بلى قد جاءنا نذير فكذَّبنا وقُلْنا: مانزَّل الله من شيء، إن أنتم إلا في ضلال كبير} [المُلك:8/ 67 - 9] ونفى القرآن الكريم احتمال تطبيق العقاب قبل بعثة الرسل المزوَّدين بأنواع الهداية، والتعريف بأصول الحياة المستقيمة والازدهار والحضارة والإرشاد إلى أرقى الأنظمة، فقال الله تعالى: {وما كنا معذّبين حتى نبعث رسولاً} [الإسراء:15/ 17]. وسواء قلنا: إن الرسول: هو المرسل بهداية إلهية ومواعظ سماوية وأحكام تشريعية، وهو الحق المتبادر إلى الذهن، وهوقول جمهور المسلمين، أو إن الرسول هو العقل، كما يقول المعتزلة، فإن العقل لا يعدو أن يكون أحد وسائل الهداية
أدلة التسامح في العقاب
الإلهية؛ لأن الهداية أنواع: هداية الله وتوفيقه وعونه، وهداية الحواس من السمع والبصر والفؤاد وهداية العقل والفكر، وكل هذه الأنواع مقدمة على الحساب والعقاب والتكليف وتنفيذ النظام أو القانون الإلهي. أدلة التسامح في العقاب: مما يدل على عدم الحرص الشديد في الشريعة على تطبيق العقاب كما ذكر سابقاً: أن القرآن في مجال تبيان مهام الأنبياء والرسل جعل العقوبة أو القوة آخر ما يلجأ إليه في أساليب الحكم في الإسلام، فقال الله تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبيِّنات، وأنزلنا معهم الكتاب والميزانَ، ليقوم الناسُ بالقِسْط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافعُ للناس، وليعلمَ الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قويَّ عزيز} [الحديد:25/ 57] قرن الله سبحانه إنزال الكتب والأمر بالعدل بإنزال الحديد، إشارة إلى أن الكتاب يمثل القوة التشريعية، والعدل يمثل القوة القضائية، وإنزال الحديد، وهو آخر الأسس، يمثل القوة التنفيذية المؤيدة للأحكام التشريعية، سواء بعقوبة المجرمين في داخل الدولة الإسلامية أو بعقوبة المعتدين غير المسلمين خارج حدود الدولة بالجهاد واستخدام السلاح، والاستعداد للقتال، لأن الاستعداد للحرب يمنع الحرب في العرف الشائع، قال الإمام ابن جرير الطبري شيخ المفسرين في تفسيره المشهور عند هذه الآية: يقول الله تعالى في الآية السالفة: لقد أرسلنا رسلنا بالمفصَّلات من البيان والدلائل وهذا هو الأول، وأنزلنا معهم الكتاب بالأحكام والشرائع، وهذا هو الثاني، والميزان بالعدل، وهذا هو الثالث، وأنزلنا الحديد، وهذا هو الرابع، لما فيه من قوة شديدة ومنافع للناس، وذلك ما ينتفعون به عند لقائهم العدو، وغير ذلك من منافعه. التوبة: كما أن هداية الله سبقت إنذاراته وتهديداته وعقوباته، كذلك بعد ارتكاب الجرم أو الذنب سبقت رحمته غضبه وسخطه، ولم يكن الإسلام في كل تشريعاته حريصاً على إنزال العقوبة الصارمة فوراً بالمخطئين، وإنما ترك لهم فرصة
الشبهة
للإصلاح الداخلي النابع من القناعة الذاتية، والرضا بالإقلاع عن الجريمة، والندم والتوبة المكفِّرة للذنوب، حتى إن التوبة في رأي فقهاء الحنابلة، وعلى رأسهم الإمام أحمد رحمه الله تسقط جميع العقوبات من الحدود وغيرها، من غير اشتراط مضي زمان؛ لقوله صلّى الله عليه وسلم: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» (¬1) وقوله عليه الصلاة والسلام: «التوبة تجبُّ ما قبلها» (¬2) ولأن في إسقاط الحد ترغيباً في التوبة، وذلك ما عدا حد القذف، فإنه لا يسقط، لأنه حق آدمي، أو حق شخصي. ولا خلاف بين العلماء في أن المحاربين أو قطاع الطرق إن تابوا قبل القدرة عليهم، وإلقاء سلطة القبض عليهم، تسقط عنهم حدود الله تعالى من قتل، وقطع يد ورجل من خلاف، ونفي وصلب؛ لقوله تعالى في آية المحاربين: {إلا الذين تابوا من قبل أن تَقْدِروا عليهم فاعلموا أن الله غفورٌ رحيمٌ} [المائدة:34/ 5]. ولقد اشتد غضب النبي صلّى الله عليه وسلم على ماعز بن مالك الأسلمي الذي أقر أمامه بالزنا، وأعرض عنه ثلاث مرات، وأظهر الكراهية من قوله، بل لقنه الرجوع عن الإقرار بالزنا بقوله: «لعلك مسستها، لعلك قبَّلتها!» وقال لأصحابه حينما هرب ماعز أثناء رجمه، فاتبعوه: «هلا تركتموه، لعله أن يتوب، فيتوب الله عليه» (¬3). الشبهة: إن الشبهة بأنواعها العديدة في الجريمة، سواء أكانت شبهة في الفعل، أم شبهة في الفاعل، أم شبهة في المحل، تدرأ الحدود وتسقطها (¬4)؛ لقوله ¬
تقدير المخاوف والمخاطر
صلّى الله عليه وسلم: «ادرأوا الحدود بالشبهات، ادفعوا القتل عن المسلمين ما استطعتم» (¬1). «ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن وجدتم للمسلمين مخرجاً فخلوا سبيله، فإن الإمام لأن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة» (¬2). قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن الحدود تدرأ بالشبهات، فمن زنى أو سرق أو شرب خمراً جاهلاً بالتحريم بأن أسلم حديثاً أو نشأ في بلد بعيد عن العلماء أو سرق الدائن من مدينه مايعادل دينه، ولو كان الدين مؤجلاً، أو سرق الضيف من مضيفه، أو سرق أحد الزوجين من الآخر، أو سرق الشخص من أحد أقاربه المحارم، أو ادعى المتهم وجود زوجية بينه وبين امرأة، فلا يقام عليه الحد؛ لأن الشبهة تجعل له معذرة. تقدير المخاوف والمخاطر: هناك بواعث داخلية نفسية ودينية كثيرة تبعث النفس على الإقلاع عن الخطيئة، وهي مقبولة عرفاً وقضاءً، أهمها الشعور بالندم، والخوف من عقاب الله وعذابه في الآخرة، وخشية الله في السر والعلن، والحياء من الله ومن الناس، ومن رقابة السلطة أو الدولة، وتقدير مخاطر الزج في قيعان السجون والتشهير وتشويه السمعة بالمثول أمام القضاء، ومحاكم الجنايات والجرائم، والتأثير على مورد المعيشة بالفصل من العمل أو الوظيفة مثلاً، وسقوط الاعتبار وسوء السمعة بين الناس، وغير ذلك من المثبِّطات التي تضعف روح الإقدام على الجريمة، وكلها من الدواعي والأسباب المانعة من الإجرام. كما أن تنمية الوازع الديني وإذكاء العاطفة والحرارة الدينية، والتربية الخلقية التي يغرسها ¬
الأمل في العفو
الإسلام في نفوس المؤمنين، كلها عوامل أيضاً لإضغاف بواعث الإقدام على الجريمة، والصد عن اقتراف المعصية حتى يكاد ذلك كله يمنع الانحراف، وليس أدل على ذلك من أن نسبة الجرائم في البلاد الإسلامية أقل عدداً، وأخف خطراً، وأرقى نوعاً مما نسمعه ونشاهده من جرائم عديدة ومتنوعة في البلاد المتطورة أو المتقدمة المتمدنة حديثاً كما سبق بيانه. الأمل في العفو: هناك آمال معقودة في القضاء يقرها الشرع عند النظر في التهمة، بإصدار الحكم بالبراءة لعدم ثبوت أو كفاية الأدلة، أو العفو من الحاكم أو رئيس الدولة، أو بإسقاط المدعي حقه الشخصي، أو بحكم القاضي بوقف التنفيذ أو تأجيل تنفيذ الحكم الجزائي، أو بإعطاء القاضي سلطة تقديرية مرنة في اللجوء إلى أخف العقوبات، أو العفو عنها في نطاق التعزيرات «أي العقوبات المفوضة إلى رأي القضاة نوعاً ومقداراً» في غير دائرة الحدود أو بالتخيير بين حدين أدنى وأعلى، وهي دائرة واسعة تشمل أكثر الجرائم، وتكاد تكون عقوبات القوانين الجزائية كلها والمطبقة في البلاد العربيةوالإسلامية، تدخل تحت اسم التعزيرات، كما أن احتمالات العفو من صاحب الحق الشخصي كثيرة، لترغيب القرآن الكريم بالعفو والصفح، قال الله تعالى: {والكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس، والله يحب المحسنين} [آل عمران:134/ 3] وقال تعالى: {وأن تعفوا أقرب للتقوى} [البقرة:237/ 2]. حكمة تنوع العقاب: اقتضت الحكمة الإلهية كما تقدم أن يكون العقاب في الإسلام نوعين: العقاب الأخروي، والعقاب الدنيوي. الأول: الذي هو أشد وأنكى وأدوم وأخطر مؤجل أو مرجأ لنهاية الحياة الإنسانية، كما عرفنا، لإعطاء الفرصة الكافية أمام البشر عبر مسيرة حياتهم
لتدارك ما قصروا فيه، وإصلاح ما أفسدوه، وتصحيح ما أخطؤوا فيه، والإقلاع عن كل مخالفة تغضب الله عز وجل. ولعل أخطر ما تجب ملاحظته أن أخطر الجرائم في الإسلام من شرك أو كفر أو نفاق، لا تعجل عقوبته في الدنيا، كما عرفنا، وإنما أرجأ الله الفصل في أمره إلى عالم الآخرة، جرياً على سنة الله تعالى في خلقه، قال الله تعالى: {وربُّك الغفور ذو الرَّحْمة، لو يؤاخذهم بما كَسَبوا، لعجَّل لهم العذابَ، بل لهم موعدٌ، لن يجدوا من دونه مَوْئلاً، وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا، وجعلنا لِمَهْلِكِهم موعداً} [الكهف:58/ 18 - 59]. وهذا دليل واضح على أنه ليس العدل فوق الرحمة أو على العكس، وإنما العدل والرحمة قرينان، لكن الرحمة فوق القوة، ورحمة الله وسعت كل شيء، قال الله تعالى: {ورحمتي وسِعَتْ كلَّ شيء ... } [الأعراف:156/ 7] وقال سبحانه: {ربَّنَا وَسِعَتْ كلَّ شيء رحمة ً وعلماً ... } [غافر:7/ 40]. وبالرغم من ترك العقاب الدنيوي على الشرك ما لم يقترن بالعدوان أو الإشاعة والترويج بين الناس، فإن الله سبحانه إعذاراً وإنذاراً وإبعاداً للوم والعقاب، حذر تحذيراً شديداً من الشرك، وجعله قمة الجرائم ورأس الكفر وذروة الكفر وذروة الطغيان، وسمى القرآن أداة الشرك وهي الأصنام والشيطان طاغوتاً، فقال الله تعالى: {إن الله َ لا يَغْفِرُ أن يُشْرَكَ به ويِغْفِرُ ما دُون ذلك لمن يشاء ُ، ومن يُشْرِكْ بالله، فقد افترى إثماً عظيماً} [النساء:48/ 4] وقال سبحانه: {لا إكراهَ في الدِّين قد تبيَّن الرشدُ من الغيَّ، فمن يكفرْ بالطاغوت، ويؤمنْ بالله، فقد استمسك بالعُرْوةِ الوثقى، لا انفصامَ لها، والله ُ سميعٌ عليم} [البقرة:256/ 2] وقال عزَّ وجل: {والذين كفروا أولياؤهم الطاغوتُ .. } [البقرة:257/ 2] وقال سبحانه {الذين آمنوا يُقاتِلون في سبيلِ الله، والذين كفَروا يقاتلون في سبيل الطاغوت .. } [النساء:76/ 4]: والطاغوت: كل ماعبد من دون الله.
والنفاق كالشرك جرم عظيم، لذا أنذر الحق سبحانه جماعة المنافقين بما ينتظرهم من أشد العذاب، فقال: {إن المنافقين في الدَرْك الأسفل من النار، ولن تجدَ لهم نصيراً} [النساء:145/ 4]. وكذلك العقاب على كثير من الرذائل الخلقية المشينة والموقعة في أشرار كثيرة مؤجل تنفيذه إلى الآخرة، مثل الحسد والحقد والنميمة والسعاية بالإفساد بين الناس أو إلى الحاكم ظلماً، والغيبة، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور التي لم يكشف أمرها ونحو ذلك، كما تقدم. وأما العقاب الدنيوي: فليس مراداً به التنكيل والتشفي وإلحاق الضرر بالبنية الإنسانية، وإنما يستهدف الزجر والتهديد والإصلاح والتنفير من الجريمة، بل إن الله تعالى لم يوقع عقوبة دنيوية على المنافقين بالرغم من أخطارهم الشديدة على الدولة والمجتمع، وبخاصة وقت الأزمات والحروب. وما أحسن ما قاله الجصاص الرازي عند بيان عقوبة المنافقين الأخروية في الآية التي هي: {إن المنافقين في الدّرك الأسفل من النار} [النساء:145/ 4]: ومع ما أخبر بذلك من عقابهم وما يستحقونه في الآخرة، خالف بين أحكامهم وأحكام سائر المظهرين للشرك، في رفع القتل عنهم، بإظهارهم الإيمان، وأجراهم مجرى المسلمين في التوارث وغير ذلك، فثبت أن عقوبات الدنيا ليست موضوعة على مقادير الإجرام، وإنما هي على ما يعلم الله من المصالح فيها، وعلى هذا أجرى الله تعالى أحكامه، فأوجب رجم الزاني المحصن، ولم يزل عنه الرجم بالتوبة، ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام في ما عز بعد رجمه، وفي الغامدية بعد رجمها: «لقد تاب توبة لو تابها صاحب مكس ـ جمارك ظالمة ـ لغفر له». والكفر أعظم من الزنا، ولو كفر رجل، ثم تاب قبلت توبته، وقال تعالى: {قل
الشعور القوي بضرورة التطهر من الذنب
للذين كفروا، إن ينتهوا يُغْفَرْ لهم ما قد سَلَف}. [الأنفال:38/ 8]. وحكم في القاذف بالزنا بجلد ثمانين، ولم يوجب على القاذف بالكفر الحد، وهو أعظم من الزنا. وأوجب على شارب الخمر الحد، ولم يوجبه على شارب الدم وآكل الميتة، فثبت بذلك أن عقوبات الدنيا غير موضوعة على مقادير الإجرام، ولأنه لما كان جائزاً في العقل ألا يوجب في الزنا والقذف والسرقة حداً رأساً، ويكل أمرهم إلى عقوبات الآخرة، جاز أن يخالف بينها، فيوجب في بعضها أغلظ ما يوجب في بعض، ولذلك قال أصحابنا (أي الحنفية): «لا يجوز إثبات الحدود من طريق المقاييس، وإنما طريق إثباتها التوقيف أو الاتفاق» أي أن العقوبة لا تثبت إلا بالنص عليها لا بالاجتهاد (¬1). وهذا مطابق لقول القانونيين: «لا جريمة ولا عقوبة إلا بالنص». الشعور القوي بضرورة التطهر من الذنب: تمتاز شريعة الله بأنها تلقي في نفس الإنسان شعوراً قوياً بمخاطر الجريمة أو المعصية، وإحساساً متدفقاً بضرورة تطهير نفسه من آثار الذنب، فيبادر إلى الإقرار بالجريمة، كما فعلت المرأة الغامدية حين اعترفت بالزنا في حال حياة النبي صلّى الله عليه وسلم، وكذا امرأة العسيف (الأجير) وماعز ابن مالك الأسلمي. ورُجم الكل (¬2)، إحساساً منهم بضرورة التطهر من أثر المعصية. وهذا الشعور يولد الخوف من اقتراف الجريمة، وينمي ذلك الشعور معرفة فضل الله بعدم تكرار العقوبة الأخروية، في رأي أكثر العلماء غير الحنفية القائلين بأن الحدود جوابر للمسلم تسقط عقوبتها في الآخرة إذا استوفيت في الدنيا، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من أصاب حداً، فعُجِّل عقوبته في الدنيا، فالله أعدل من أن يُثنِّي على عبده ¬
حكمة العقاب في ذاته
العقوبة في الآخرة، ومن أصاب حداً فستره الله وعفا عنه، فالله أكرم من أن يعود في شيء قد عفا عنه» (¬1). حكمة العقاب في ذاته: تبين مما سبق أن الحكمة من الحدود والتعزيرات في شريعة الله واضحة الأهداف، وهي تقويم المجرم وإصلاح حاله ومنعه من العود أو التكرار، وزجر الناس وردعهم عن اقتراف تلك الجرائم المخلة بأمن الجماعة ومصالحها، وصيانة المجتمع من ألوان الفوضى والفساد، وتطهير النفوس الجانحة أو المنحرفة من آثار الذنوب والمعاصي، التي تؤثر في صفاء القلب، وطهارة النفس، وتركيز الضمير، وترقية الوجدان وإذكاء الشعور الإنساني بمراعاة حقوق الآخرين، والبعد عن مختلف أنواع الأذى والضرر، قال ابن تيمية رحمه الله: من رحمة الله سبحانه وتعالى: أن شرع العقوبات في الجنايات الواقعة بين الناس بعضهم على بعض، في النفوس والأبدان والأعراض والأموال والقتل والجرح والقذف والسرقة، فأحكم سبحانه وتعالى وجوه الزجر الرادعة عن هذه الجنايات غاية الإحكام وشرعها على أكمل الوجوه المتضمنة لمصلحة الردع والزجر، مع عدم المجاوزة لما يستحقه الجاني من الردع، فلم يشرع في الكذب قطع اللسان، ولا القتل، ولا في الزنا الخصاء، ولا في السرقة إعدام النفس، وإنما شرع لهم في ذلك ما هو موجب أسمائه وصفاته من حكمته ورحمته، ولطفه وإحسانه وعدله لتزول النوائب، وتنقطع الأطماع عن التظالم والعدوان، ويقتنع كل إنسان بما آتاه مالكه وخالقه، فلا يطمع في استلاب غيره حقه (¬2). ¬
أهداف أو غايات العقوبة في شريعة الله تعالى
يمكننا في ضوء ما تقدم بيان أهداف أو غايات العقوبة في شريعة الله تعالى بإيجاز فيما يلي: 1 - الزجر والردع: إن في تطبيق العقوبة الشرعية زجراً للمتهم ولأمثاله من الإقدام على الجريمة مرة أخرى، وذلك يساهم إلى حد كبير في إضعاف وتقليل نسبة الجريمة؛ لأن الحكمة من العقوبات أو الحدود الشرعية كما تبين هي زجر الناس، وردعهم عن اقتراف الجرائم الموجبة لها، وصيانة المجتمع عن ممارسة ألوان الفساد، والتخلص من ظاهرة الإجرام بقدر الإمكان. 2 - الإصلاح والتهذيب والتقويم: إن من أهداف العقوبة أيضاً هو إصلاح النفوس، وتهذيب الحواس، وإقناع المتهم بخطئه، وحماية الجماعة من طبائع النفوس الشريرة، وليس تأديب المجرم بقصد الانتقام أو التشفي منه، قال الماوردي عن الحدود: «الحدود زواجر وضعها الله تعالى للردع عن ارتكاب ما حظر، وترك ما أمر» (¬1). وقال عن التعازير (العقوبات المفوضة للحاكم) وعن الحدود أيضاً: «إنها تأديب واستصلاح وزجر، يختلف بحسب اختلاف الذنب» (¬2). 3 - محاربة الجريمة في ذاتها: الجريمة في واقعها ضرر بالنفس وبالمال وبالجماعة، فهي وباء فتاك أو نار تقتضي الحصر في أضيق نطاق ممكن للحد من آثارها الفاحشة، وعدم إشاعتها، حتى لا يتجرأ الناس على اقتحامها، ويستسهلوا أمر اقترافها أو ارتكابها ويستمرئوا فعلها. لذا كان العقاب عليها أمراً لازماً، لاستئصالها من جنبات المجتمع، قال الماوردي: الجرائم محظورات شرعية، زجر الله تعالى عنها بحد أو تعزير، ولها ¬
4 - منع عادة الأخذ بالثأر، وإطفاء نار الغيظ لدى المعتدى عليه أو أقاربه
عند التهمة حال استبراء تقتضيه السياسة الدينية، ولها عند ثبوتها وصحتها حال استيفاء توجبه الأحكام الشرعية (¬1). 4 - منع عادة الأخذ بالثأر، وإطفاء نار الغيظ لدى المعتدى عليه أو أقاربه: إن عادة الانتقام أو الأخذ بالثأر التي كانت سائدة في الجاهلية، والتي هي من طبائع النفوس، عادة قبيحة توسع من رقعة انتشار الجريمة، وتطول غير المجرم غالباً. لذا كان من حكمة الإسلام المبادرة إلى تطبيق العقوبة على المجرمين، منعاً من التورط في تلك العادة الذميمة، وإطفاءً لنار الحقد والغيظ المضطرمة في نفس المعتدى عليه أو أقاربه. ومن الحكمة أن تكون العقوبة من جنس الجريمة كالقصاص، أو أشد منها تحقيقاً للمصلحة العامة بالحفاظ على الأموال والأعراض والدماء والعقول، فلا تكون المطالبة بإلغاء عقوبة الإعدام في مصلحة أحد سواء المجتمع أو أقارب المجني عليه. سادساً ـ مبادئ العقاب في الشريعة وما لها من أثر في تخفيف الجريمة: اشتملت الشريعة الإسلامية على مبادئ كثيرة تبدد المخاوف من تطبيقها في جانب العقوبات، وتقتلع من بعض النفوس في ديار العرب والإسلام وفي العالم الخارجي التهمة بقسوة أحكام الشريعة، وما فيها من تنكيل وتعذيب تتنافى مع الإنسانية وأوضاع الحضارة الحديثة، وتعد هذه المبادئ صمَّام أمان لحقوق الناس الاجتماعية، وقيوداً على الحرية بمعناها المطلق، وحاجزاً منيعاً من الجريمة. وهذه المبادئ التي تنطلق منها أنواع العقاب في الشريعة تلازم وجدان ¬
مبدأ الرحمة
القاضي وضميره وشعوره وأصوله في القضاء، وهي الرحمة والعدالة وحماية الكرامة الإنسانية، ورعاية المصالح العامة والخاصة أو حقوق المجتمع والشخص معاً، والمساواة بين الجريمة والعقوبة، وعدم الحرص على توقيع العقوبة في ظل مبدأ الستر حيث لا مجاهرة ولا إعلان بالفسق، والعفو عن المتهم في حالات كثيرة، ودرء الحد بالشبهة، والتركيز على العقوبة في حال المجاهرة والإعلان والمفاخرة بالمعصية، والاستخفاف بالقيم الإنسانية، وتحدي مشاعر المجتمع وإحساسه ونظامه العام وآدابه العامة. أما مبدأ الرحمة: فمراعى أصلاً من الشرع حين وضع العقوبات، لأن الله رحيم حقاً بعباده، قال الله تعالى: {كتب ربُّكم على نفسه الرحمةَ} [الأنعام:6/ 54] وقال جل جلاله: {ورحمتي وسعت كلَّ شيء} [الأعراف:156/ 7]. ووصف الله تعالى مهمة أو وظيفة نبيه محمد صلّى الله عليه وسلم بأنها رسالة الرحمة والهداية، فقال: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء:107/ 21]. والمقصود من الرحمة المرعية في العقاب والتطبيق القضائي: الرحمة العامة بالجماعة، فينظر إلى المصلحة العامة من ناحية المبدأ والحكم المطبق، بقطع النظر عن مصلحة كل شخص بعينه. أما التسامح الخاص والشفقة والرفق بالم بعينه، أو ما يسمى بالرأفة بالمتهم الذي ثبتت عليه الجريمة، فلا ينظر إليه، وتستبعد مراعاته ومحاولة إعفاء الجاني من العقوبة، لذا قال الله تعالى في تطبيق الحد على الزناة: {ولا تأخذْكم بهما رأفةٌ في دينِ الله} [النور:2/ 24] فإذا ثبت الجرم وبلغ الألى الحاكم أو القضاء فلا مجال لترك العقوبه عليه. أما في مجال التعاون العام من أجل الخير المشترك، والتضامن في سبيل الصالح العام، والدفاع عن الأمة في مواجهة العدو الخارجي، فإن المجتمع الإسلامي مجتمع متراحم متعاون، كما قال مر إتهموما أرسل
العدالة
الله تعالى: {محمدٌ رسول ُالله، والذين معه أشدَّاء على الكفّار، رُحَماء ُ بينهم ... } [الفتح:29/ 48] وسمة المسلم وشأنه وخاصيته الرحمة بالآخرين، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض، يرحمْكم من في السماء» (¬1) وقال أيضاً، «من لا يرحم الناس لا يرحمه الله» (¬2) وفي حديث آخر: «لا تنزع الرحمة إلا من شقي» (¬3). قال ابن تيمية رحمه الله: إن إقامة الحد من العبادات، كالجهاد في سبيل الله، فينبغي أن يعرف أن إقامة الحدود رحمة من الله بعباده، فيكون الوالي شديداً في إقامة الحد، لا تأخذه رأفة في دين الله فيعطله، ويكون قصده رحمة الخلق، بكف الناس عن المنكرات لإشفاء غيظه، وإرادة العلو على الخلق، بمنزلة الوالد إذا أدّب ولده فإنه لو كف عن تأديب ولده، كما تشير به الأم رقة ورأفة، لفسد الولد، وإنما يؤدبه رحمة به، وإصلاحاً لحاله، مع أنه يود ويؤثر ألا يحوجه إلى تأديب (¬4). وأما العدالة: فتقتضيها موازين العقوبات العامة، ويوجبها إلزام السلطة الحاكمة بالعدل، حتى لا تضطرب الموازين، ولئلا يتجرأ المفسدون في الأرض على متابعة فسادهم دون رقيب ولا عتيد، ولأن مبدأ الإسلام أن كل إنسان مجزي بعمله، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، قال الله تعالى مبيناً مهام الأنبياء والمرسلين ووظائفهم العامة: {لقد أرسلنا رُسلنا بالبيِّنات، وأنزلنا معهم الكتابَ والميزانَ، ليقوم الناسُ بالقِسْط، وأنزلنا الحديدَ فيه بأسٌ شديدٌ، ومنافعُ للناس} [الحديد:25/ 57]. ¬
حماية كرامة الإنسان
والعدل والقسط بين الناس ملازم للرحمة الشاملة، كما تقدم، فليست الرحمة فوق العدل، ولا العدل فوق الرحمة، كما ذكر سابقاً، بدليل قول الحق سبحانه وتعالى: {وربُّك الغفورُ ذو الرحمةِ، لو يؤاخذُهم بما كَسَبوا، لعجَّل لهم العذابَ، بل لهم موعدٌ لن يجدوا من دونه موئلاً} [الكهف:58/ 18]. وحماية كرامة الإنسان: أصل من أصول العقاب في الإسلام، فليس في الشريعة ما ينافي الكرامة، ولا تسمح الشريعة للحاكم باتخاذ عقوبات تخل بالشرف والمروءة والكرامة، فلا يجوز ضرب الأعضاء الحساسة المخوفة التي قد تؤدي إصابتها إلى القتل، كالوجه والرأس والصدر والبطن والفرج والأعضاء التناسلية، لما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «ليس في هذه الأمة مدٌ ولا تجريد ولا غَل ولا صفد» (¬1) وجلد أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلم ينقل عن أحد منهم مدّ ولا تجريد، ولا ينزع عن المجلود ثيابه، بل يكون عليه الثوب والثوبان (¬2). ومن مظاهر حماية الكرامة الإنسانية تحريم التمثيل أو الممثلة بالقتيل، ولو كان من الأعداء، قال الله تعالى: {ولقد كرّمنا بني آدم ... } [الإسراء:70/ 17]. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن الله كتب الإحسانَ على كل شيء ... » (¬3) ونهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن المُثْلة والنهبى، وفي وصية أبي بكر الصديق رضي الله عنه ليزيد بن أبي سفيان: «ولا تمثّلوا». ¬
رعاية المصالح العامة والخاصة أو حقوق الجماعة والأفراد معا
ورعاية المصالح العامة والخاصة أو حقوق الجماعة والأفراد معا ً: هي ميزان الإسلام في كل ما شرع وحكم، فحفظ النظام للجماعة واجب أساسي لا يجوز للأفراد إسقاطه أو العفو عنه، أو إهمال إقامته، كما أنه ليس للجماعة الحق في مصادرة حقوق الأفراد الخاصة كالملكية الشخصية والحرية المنظمة. وتعتبر الحدود على الجرائم الخطيرة كالزنا والسرقة والقذف وشرب المسكرات، كما تقدم، من مقومات المصلحة أو حقوق الجماعة أو حقوق الله، مثل الصلاة والصوم والزكاة؛ لأن المقصود بها إقامة الدين، والدين في تشريع الإسلام أساس نظام الجماعة العام؛ لأن المصالح التي لاحظها الإسلام هي الأصول الخمسة الكلية الضرورية لكل مجتمع، وهي مقاصد الشريعة المعروفة وهي حفظ الدين أو العقيدة، وحفظ النفس (أو حق الحياة) وحفظ العقل وحفظ النسل أو العرض، وحفظ المال والممتلكات، فلا تتوافر الحياة الإنسانية الصحيحة إلا بها. والمساواة بين الجريمة والعقوبة: أساس تشريع العقوبات الإسلامية، فلا تجاوز عن الحدود المقررة شرعاً، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «من بلغ حداً في غير حد، فهو من المعتدين» (¬1). ومن مبادئ الإسلام أنه لا افتئات فيه على أحد بجرم لم يصدر عنه، وأن الأصل في المتهم البراءة حتى تثبت إدانته. والقصاص أو إمكان المماثلة بين الجناية والعقوبة شرط جوهري في العقوبة، حتى يطمئن الناس إلى عدالة الحكم القضائي، ولتسهم العقوبة في توفير عنصر الرهبة والزجر المانع في الغالب من ¬
عدم الحرص من المشرع الإسلامي على إيقاع العقوبة
الإقدام على الجريمة دون إثارة ولا تشنيع ولا نقد، لذا قال الله تعالى: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب} [البقرة:179/ 2]. وعدم الحرص من المشرع الإسلامي على إيقاع العقوبة: ليترك المجال للإنسان لإصلاح عيوب نفسه وأخطائه بنفسه، لذا أمر الشرع بالستر على المخطئ غير المجاهر، جاء في الحديث الصحيح: «ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة» (¬1) وفي حديث آخر: «من ستر عورة أخيه المسلم، ستر الله عورته يوم القيامة، ومن كشف عورة أخيه، كشف الله عورته حتى يفضحه في بيته» (¬2). وتجوز الشفاعة في الحدود قبل بلوغها إلى الحاكم، ترغيباً في الستر ومنع إشاعة الفاحشة، وتحرم الشفاعة وقبولها في حدود الله بعد أن تبلغ الحاكم؛ لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من حالت شفاعته دون حد من حدود الله، فهو مضادٌ الله في أمره» (¬3). وقصة إنكار النبي صلّى الله عليه وسلم على أسامة بن زيد شفاعته في حد السرقة على المرأة المخزومية معروفة مشهورة (¬4). ولا توقع العقوبة أو يحكم بها إلا بعد انتفاء الشبهات المقررة فقهاً وشرعاً، لقوله صلّى الله عليه وسلم في الحديث السابق عند ابن عدي عن ابن عباس: «ادرؤوا الحدود بالشبهات». ولصاحب الحق الخاص العفو عن القاتل أوالمخطئ؛ لقوله تعالى: {وجزاء ُ سيئة سيئةٌ مِثْلها، فمن عفا وأصلح فأجرهُ على الله} [الشورى:40/ 42] وقوله ¬
الحالة التي لا بد فيها من العقاب
سبحانه في القصاص: {فمن عُفي له من أخيه شيء، فاتباعٌ بالمعروف، وأداءٌ إليه بإحسان} [البقرة:178/ 2]. والعفو كثيراً ما يلجأ إليه في الأوساط الإسلامية بسبب محاولات الصلح والتسوية الودية والتقاليد المتبعة بين القبائل والعشائر وفي الأرياف. وهذا سبيل رحب للتخلص من العقوبة، والدفع إلى الاستحياء من الجريمة حتى في القتل، والعفو يكون بالاختيار والرضا والطواعية لا بالإكراه أو بإلغاء العقوبة من القوانين. والحالة التي لا بد فيها من العقاب: هي حالة المجاهرة بالمعصية وإشاعة الفاحشة، والإصرار على الإقرار أمام القاضي، وإعلان الردة عن الإسلام المتضمن الخروج عن نظام الجماعة، والكيد للمجتمع وحرماته والعمل على تقويض أركان العقيدة الإسلامية بالترويج للشكوك والشبهات، جاء في الحديث الثابت: «أيها الناس من ارتكب من هذه القاذورات، فاستتر، فهو في ستر الله، ومن أبدى صفحته، أقمنا عليه الحد». وقد وصف الله تعالى الذين يعلنون الجرائم ويكذبون على الناس ويرمونهم بالتهم الباطلة ويفترون عليهم، بأنهم أعداء المؤمنين، فقال الله تعالى: {إن الذين يحبِّون أن تشيع الفاحشةُ في الذين آمنوا، لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة، والله يعلم وأنتم لا تعلمون} [النور:19/ 24]. وإن رقابة الله في السر والعلن: أو تكوين وازع الدين، وإيقاظ سلطان الضمير هو كما تقدم من أهم عوامل منع الجريمة والإجرام، وهو العنصر الأساسي المساعد للقاضي في الحكم على المتهم، وإصدار الحكم بالعقاب تخفيفاً أو تشديداً عليه؛ لأن من لا يصلح حاله بنفسه، صعب على الدولة أو المجتمع إصلاحه. وإذا كانت الغاية من العقاب كما عرفنا إصلاح الإنسان، فبالأولى أن يكون
سابعا - الحدود الشرعية وحكمتها وأثر تطبيقها في منع الجريمة في عصرنا
تجنب كل ما يوقع في الجرائم بوازع الدين للإصلاح، لأن الدفع أو المنع أولى من الرفع «ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح» كما جاء في القواعد الشرعية الكلية. ولقد بلغ من شدة الخوف من الله ومن قوة ضمير المسلم أن كان المؤمن الصادق الإيمان يقدم على الموت بلا تردد ولا وجل من أجل تطهير نفسه، وإرضاء ربه، فهل لهذا مثيل في قوانين الدين أو عادات الشعوب؟!. والخلاصة: أن هذه المبادئ أو القواعد الشرعية تساهم مساهمة فعالة في منع الجريمة أو التخفيف منها أو توجيهها الوجهة الصالحة. سابعاً - الحدود الشرعية وحكمتها وأثر تطبيقها في منع الجريمة في عصرنا: لا شك بأن حقيقة الحد الشرعي قاسية، ولكن القسوة تفيد أحياناً في الزجر والردع والإصلاح، وهي أفعل وأمضى وأنفذ من العقوبات التعزيرية كالحبس والضرب البسيط، وليس أدل على أثرها في منع الجريمة من تطبيقها في البلاد السعودية، حيث استتب الأمن، وانقطعت السرقات، وانتهت عصابات قطع الطريق أو المحاربين، بالرغم من أن قطع اليد في ربع قرن فأكثر لا يزيد عن ستة عشر يداً. وكذلك عندما طبقت الحدود في السودان في عام (1983)، قلّت الجرائم، وعندما جمدت وأوقفت كثرت وانتشرت. فالعقوبةالحدية أداة زجر وإصلاح معاً، ووسيلة تهذيب وتقويم فعال، لكني ألاحظ أن البدء في تطبيق الشريعة الإسلامية بأقسى ما فيها من عقوبات الحدود وما يصحبها من تصورات مغلوطة وأوهام فاسدة ومبالغات مسرفة، ليس منهجاً
صحيحاً ولربما أدى عند تغير السلطة ورئاسة الدولة إلى ردود فعل عنيفة تسيء إلى الإسلام ديناً وعقيدة ونظام حياة، كما حدث في السودان في أواسط الثمانينات في رجب سنة (1406 هـ) الموافق (1985) بعد تطبيق الحدود سنة (1983) وحدث عام (1409 هـ) في الباكستان بعد أن فجرت طائرة الرئيس ضياء الحق الذي طبق الشريعة، لأن شريعة الإسلام منهج متكامل وكل لا يتجزأ، يشمل آفاق الحياة المختلفة سياسياً واجتماعياً واقتصادياً. وطريقة الإسلام أو أسلوبه في الإصلاح يبدأ أولاً بالتوجيه والإقناع، والبرهان والبيان، والدعوة بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة، والإرشاد الهادئ غير الثائر في الداخل، المعتمد على الإقناع ومناقشة أولئك الذي ألفوا تطبيق القوانين الغربية البعيدة عن فلسفة الإسلام وتصوراته. وبالحكمة ونشر تعاليم الإسلام في أوساط الناس يمكن تحويل المجتمع بما فيه من طاقات خيّرة عن تقاليده وموروثاته الاستعمارية، وتصوراته الغربية الدنيوية، إلى عدل الإسلام ورحمته الشاملة ويسره وإسعاده الفرد والجماعة في عالمه القائم. ولا بد أيضاً من إصلاح أنظمة الحكم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بجعل الشورى أصلاً للحكم، والعدل والإنصاف رائداً للقضاء والسياسة فعلاً، لا مجرد شعار، والعمل بقدر الإمكان على تحقيق الرخاء أو الرفاه الاقتصادي للجميع، وتوزيع الثروة العامة بالعدل، ومحاولة إنهاء مشكلة الفقر والبطالة ومحو الأمية، وتغيير معالم المجتمع الجاهلية، وإصلاح مناهج التربية والتعليم ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة، وإزالة كل ما فيها من تناقضات وإشكالات، حتى تزول الاضطرابات الفكرية، وتستأصل العُقَد لدى الشباب، وتبدد الشبهات والمشكلات الطارئة في الأوساط العامة، بتأثير بعض النظريات المادية الخالية من تفسير ظواهر الكون تفسيراً دينياً مقبولاً، فإذا ما توافرت القاعدة الإسلامية، واستعد المجتمع
ثامنا - العقوبات الشرعية وحقوق الإنسان في الإسلام
نسبياً للعمل بالإسلام، وساد الاحترام لمبادئه وأحكامه، سهل حينئذ البدء بتطبيق أحكام الإسلام وشرعه المتكامل الشامل، ووضع خطة شاملة لتنفيذ جميع أحكامه فور العمل بشريعة الله عز وجل، ودون تدرج. أما أن تصدر قوانين الحدود شكلاً واسماً، ويعلّق أو يجمد تطبيقها فعلاً أو أن نقتصر من تطبيق الإسلام على الحدود الشرعية، وترك الناس في متاهة أو جهالة أو مجاعة أو غليان داخلي بسبب الحاجة والفقر، فذلك ليس من شرع الله ودينه الذي يراد له الهيمنة على كل شؤون الحياة، وربما كان الاقتصار على تطبيق الحدود الشرعية فقط وسيلة لتنفير الناس من الإسلام، وإظهار فشله وعدم صلاحيته أو العمل على تجزئة أحكامه، قال الله تعالى: {أفتؤمنون ببعض الكتاب، وتكفرون ببعض، فما جزاء ُمن يفعل ُذلك منكم إلا خزيٌ في الحياة الدنيا ويومَ القيامة يُرَدُّون إلى أشدِّ العذاب، وما الله ُ بغافلٍ عما تعملون} [البقرة:85/ 2]. ثامناً - العقوبات الشرعية وحقوق الإنسان في الإسلام: ترى بعض الجهات العلمية والاجتماعية في أوساط الغرب أن الحدود الشرعية تتنافى مع حقوق الإنسان في الحياة والحرية والكرامة الإنسانية. وتطالب منظمة العفو الدولية بإلغاء عقوبة الإعدام من قوانين العقوبات في الدول المعاصرة، وقد استجابت بعض الدول الغربية لهذا الاتجاه، كفرنسا وإيطاليا وألمانيا وبعض الولايات المتحدة الأمريكية التي ألغت هذه العقوبة، وبعضها أو أكثرها لم تلغها. ويردد بعض رجال القانون الوضعي في البلاد العربية مثل هذه الأفكار واصفين العقوبات الشرعية أو الشريعة الإسلامية بأوصاف غير لائقة، ربما أدت بهم إلى الكفر. وتروّج بعض أجهزة الإعلام من صحف وإذاعات، في طليعتها
إذاعة لندن بالقسم العربي، الإشاعات المغرضة من جراء تطبيق أحكام الشريعة، ويكثر الحديث في بلاد الغرب عما سمي بحركة الأصوليين الإسلاميين، ويتهمون كل من يطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية بأنهم متزمتون متشددون متعصبون، مع أنهم هم المتعصبون ضد الإسلام وأهله، أو هم الجاهلون السطحيون الذين لم يعرفوا حقيقة الإسلام، ولديهم استعداد لفهم الإسلام خطأ بسبب الدعايات المغرضة والأفكار الشائعة المشوهة. ويعلن في أديس أبابا عاصمة الحبشة اتفاق يوم الثلاثاء الواقع في (1988/ 11/16) بين رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي السوداني السيد محمد عثمان الميرغني والعقيد جون قرنق زعيم حركة التمرد لتحقيق السلام في جنوب السودان، مقابل تجميد تطبيق الشريعة الإسلامية في السودان (¬1). ومصدر جميع هذه الاتجاهات المشبوهة شيء واحد هو التعصب ضد الإسلام ومقاومة الاتجاه الإسلامي، ودوافع ذلك وبواعثه معروفة يقصد بها تشويه أحكام الشريعة بسبب الجهل البيِّن بالحكم الشرعي ومسوغاته وحقيقته، أو عدم الربط بين الوسائل والغايات التشريعية، أو تجزئة أحكام الشريعة والنظر إلى جانب واحد منها دون إلمام باتجاهها العام ومراعاة بقية أحكامها. فمن نظر إلى حكم إسلامي ما من زاوية الوسيلة وحدها دون ربطه بالهدف التشريعي العام، بدا له وجه من النقد في تقديره الشخصي من خلال البيئة التي يعيش فيها، والغريبة عن ¬
الادعاء بوجود التعارض والمنافاة بين حقوق الإنسان وبين الحدود الشرعية أمر باطل
الوسط الإسلامي، وحينئذ يتهم الشريعة بعدم صلاحيتها للمجتمع المتمدن المعاصر ذي النزعة الفردية المتحيزة لواحد من الناس، ويصف عقوباتها بالقسوة والعنف، أو التنكيل والتعذيب والوحشية في زعمه وتصوره القاصر. والواقع أن الادعاء بوجود التعارض والمنافاة بين حقوق الإنسان وبين الحدود الشرعية أمر باطل للأسباب التالية: أولاً: إن الله سبحانه وتعالى الذي شرع الحدود في الشريعة الإلهية هو أرحم بعباده وبالناس جميعاً من أنفسهم، وهو أدرى وأعلم بما يصلحهم وينفعهم، ويحقق الخير والنفع والأمن والطمأنينة لهم. ثانياً: إن الجاني الذي يرتكب جريمة موجبة للحد الشرعي قد خرج عن الحدود الإنسانية الصحيحة، وشذ شذوذاً واضحاً عن معاير الحياة السوية، وطعن المجتمع في أقدس مقدساته، وإن شوهت معالم التقديس في الأوساط الغربية، فأصبح ما يسمى لدينا بالعِرْض مثلاً مفقوداً من المفاهيم الأخلاقية العامة والخاصة عند الغربيين، ومثل هذا المعتدي على حرمات المجتمع الجوهرية بمقتضى النظرة الصحيحة، لم يعد يردعه إلا مثل هذه العقوبة الشرعية المقررة في شرع الله ودينه. ثالثاً: إن العقوبات البديلة عن الحدود الشرعية في القوانين الوضعية لم تحقق الهدف المطلوب، فانتشرت ظاهرة الجريمة، وكثر المجرمون، وتفننوا في ابتكار عجائب وألوان الإجرام مما لا يكاد يصدّق به عقل. رابعاً: إن القرآن الكريم واضح الدلالة في الإعلان عن حقوق الإنسان في قوله تعالى: {ولقد كرمنا بني آدم} [الإسراء:70/ 17] وإن الفقهاء المسلمين أشد العلماء حرصاً على رعاية كرامة الإنسان فيما استنبطوه من أحكام شرعية، فقرروا ضوابط كثيرة وشرطوا شرائط عديدة لتطبيق الحدود، وقد عرفنا أنه لا غل ولا
تجريد ولا تصفيد ولا تمثيل في الإسلام، وأن للسجين الحق على الدولة في الغذاء والكساء (¬1) والمأوى الملائم، ومنع التعذيب الوحشي وغير ذلك من أصول الحفاظ على الكرامة الإنسانية. خامساً: إن دعاة حقوق الإنسان أخطؤوا حينما رأوا أن تطبيق العقوبة الشرعية بشرائطها وضوابطها وموازينها العادلة يتنافى مع حقوق الإنسان، كما أخطؤوا أيضاً في محاولة الرأفة بشخص معين لذاته، وليس هو في الواقع أهلاً للرأفة، وإنما مراعاة للمصلحة الشخصية، وإهدار مصلحة الجماعة، والاعتداء على المصلحة العامة، وما يؤدي إليه من فقد الأمن والاستقرار، وانتشار ظاهرة القلق والخوف وعدم الاطمئنان على حق الحياة المقدس والحرية والأموال والممتلكات. والخلاصة: إن العقوبات الشرعية أدوات فعالة في القضاء على الجريمة والمجرمين، ووسائل بناءة نفاذه في نشر الأمن والسلام واستئصال نزعة الإجرام بدليل الفارق الواضح والواقع المرّ الأليم في أرقى دول العالم تحضراً كأمريكا زعيمة العالم الحر وبريطانيا وغيرها، حيث تزداد نسبة الجريمة والاعتداء على الأشخاص والأموال، مما لا يردع المجرمين غير الحكم بشرع الله أحكم الحاكمين وأعدل القضاة. قال الله تعالى عن القرآن الكريم: {قد جاءكم من الله ِ نورٌ وكتابٌ مبين، يهدي به الله ُ من اتبَّع رضوانَه سبُلَ السلام ويخرجُهم من الظلُمات إلى النور بإذنه، ويهديهم إلى صراطٍ مستقيم} [المائدة:15/ 5 - 16] وقال سبحانه: {وهذا كتابٌ أنزلناه مباركٌ فاتَّبعوه واتقوا لعلكم تُرْحَمون} [الأنعام:155/ 6] وهذا بلا شك يحتاج إلى إيمان برسالة السماء وهدي الله تعالى. ¬
تاسعا - شرعية الجريمة والعقوبة، أو مبدأ (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص)،
تاسعاً - شرعية الجريمة والعقوبة، أو مبدأ (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص)، وتأثير ذلك على ظاهرة الإجرام: إن التصور السابق للجريمة المنصوص على تجريمها في قوانين الدولة العقابية، ومعرفة نوع العقوبة المقررة قانوناً في تقنين منشور متداول، يعد حاجزاً قوياً ما نعاً من الإجرام والتفكير بالجريمة والتخطيط لها. لذا ظلت النظم الديمقراطية تحترم مبدأ قانونية أو شرعية الجرائم والعقوبات، بمعنى تركيز سلطة التجريم في يد الشارع أو من يفوضه في ذلك ضمن حدود معلومة، وقد أعلنت هذا المبدأ الثورة الفرنسية ونصت عليه وثيقة «إعلان حقوق الإنسان والمواطن عام (1789م) في المادة الثامنة، استجابة لصيحات الفلاسفة والمفكرين الذين حملوا على ما كان عليه القضاة من سلطة تحكمية أدت إلى إسراف في العقاب وعسف بحريات الأفراد، ونص عليه في المادة الرابعة من قانون العقوبات الذي أصدره نابليون سنة (1810م)، ثم انتقل إلى الشرائع الأخرى، وصاغه العرف القانوني بعبارة موجزة هي «لا جريمة ولا عقوبة بغير نص». والحكمة منه كفالة حقوق الأفراد وحريتهم في أفعالهم وتصرفاتهم، إذ لو ترك أمر التجريم للقاضي، لأضحى الأفراد في حيرة من أمرهم، ثم إن العدالة والمنطق يقضيان به حتى لا تواجه الدولة الأفراد بعقاب لا علم لهم به. وبما أن هذا المبدأ يؤدي إلى جمود التشريع الجنائي وتخلفه عن مسايرة التطورات الحديثة، فقد اتجه الفقه والقضاء عامة إلى ضرورة التخفيف من حدته، وتوسيع سلطة القاضي في تقرير العقوبة أو إيقاف تنفيذها أحياناً، ولكن دون إخلال بأصل المبدأ، وهو حرمان القاضي من سلطة التجريم. وفي هذا المجال أيضاً نجد بعض رجال القانون الوضعي يتهمون الشريعة
الإسلامية جهلاً وغلطاً وظلماً وتعصباً ضدها بأنها تترك أمر التجريم للقاضي. ومنشأ الاتهام راجع في تقديرنا إلى ناحية تنظيمية: هي عدم وجود تقنين خاص بالجرائم والعقوبات عند الفقهاء الشرعيين المعاصرين، مع أن الأمر سهل جداً، إذ لا مانع شرعاً من وجود مثل هذا التقنين، ومن اليسير على فقهاء الشريعة إيجاده وصياغته في أشهر معدودة، إذا أظهرت السلطة الحاكمة استعدادها لتطبيق وإنفاذ العمل به، وقد وجد فعلاً بعض هذه التشريعات في ليبيا والسودان والإمارات. ولكن لا يعني عدم التقنين أن القاضي حر التصرف بالعقاب حرية مطلقة، وإنما الأمر في شأن التعازير (العقوبات غير المنصوص صراحة على نوعها ومقدارها) راجع شرعاً وفقهاً لتقدير ولي الأمر الحاكم أي الدولة، فالدولة تضع للقضاة من الأنظمة والقوانين الجزائية ما يناسب العصر، وعلى وفق ما تراه اللجان المتخصصة المكونة عادة من العلماء والفقهاء، بحسب متطلبات المصلحة العامة، ومقتضيات الزمان وتطور الأحداث. لذا كان ينبغي أن يعرف هؤلاء القانونيون أن مبدأ التفويض لولي الأمر في تقدير العقوبات التعزيرية في الإسلام، هو في الأصل مبدأ دستوري تمارسه الدولة مقيدة بأحكام الشريعة، كما هو الشأن في أن كل دولة لها الحق في وضع القوانين الداخلية التي تريدها. وعليهم أن يعرفوا أن الإسلام يفترض في كل مسلم ومسلمة تعلم أحكام شريعته، ومعرفة الفرائض والحلال والحرام، والمعاصي والعقوبات أو الجزاءات المقررة في الإسلام؛ لأن من الفرائض الشرعية العينية المطلوبة من كل المسلمين تعلم الحد الأدنى المفروض العلم به من الشريعة، فلا يصلح الاحتجاج بتقصير المسلمين في التعلم سبباً للقول بأن الأفراد لا يعلمون ما هو ممنوع ولا أنواع العقوبات، حتى توجد التقنينات.
ثم إن كتب الشريعة، سواء القرآن والسنة ومصنفات الفقهاء المطولة والموجزة، فيها البيان الواضح المفصل لكل المعاصي والمخالفات، والكبائر والصغائر، والتحذير من مخاطرها وبيان مدى ضررها، والتصريح بالعقوبات الدنيوية والأخروية المقررة لها. والقاضي لا يملك في الشريعة سلطة التجريم وتحديد أصل العقاب بحسب رغبته وهواه، كما يفهم خطأ، وإنما هو مقيد في ذلك بأحكام الشريعة، وبما تضعه له الدولة من نظام، إذ ليس لأي مسلم سلطة التشريع، وإنما السلطان في الأحكام إنشاء ووضعاً للشريعة والمشرع وهو الله تعالى، كل ما في الأمر هو أن للقاضي سلطات تقديرية في التطبيق فقط، حسبما يرى ملائماً لظروف الجريمة والجاني ولكن في غير دائرة الحدود والقصاص المنصوص على أحكامها صراحة، وإنما في مجال التعزيرات التي يمكن إدخال أغلب نصوص القوانين الجزائية الحديثة في مضمونها. ويوضح ذلك أن الشريعة ـ كما هو معروف ـ جاءت حرباً على الأهواء الشخصية والنزعات والميول الفردية، كما دل على ذلك القرآن الكريم في آيات كثيرة منها قوله تعالى: {ولا تَقْفُ ما ليس لك به علم} [الإسراء:36/ 17] وقوله سبحانه: {إن يتّبعون إلا الظن، وما تهوى الأنفس، ولقد جاءهم من ربهم الهدى} [النجم:23/ 53] وقوله عز وجل: {وما لهم به من علم، إن يتَّبعون إلا الظن، وإن الظنَّ لا يُغْني من الحق شيئاً، فأعرضْ عمن تولَّى عن ذِكْرنا، ولم يرِدْ إلا الحياة الدنيا} [النجم:28/ 35 - 29] وقوله جل جلاله: {ولو اتّبعَ الحقُّ أهواءهم، لفسدت السموات والأرضُ ومن فيهن، بل أتيناهم بِذِكْرهم، فهم عن ذِكْرهم مُعْرضون} [المؤمنون:23/ 71].
لذا وضعت الشريعة نظاماً تشريعياً متكاملاً ودقيقاً للحياة، وسبق الفقهاء المسلمون إلى معرفة قاعدة «لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص» كما يتضح من القاعدتين الأصوليتين التاليتين: 1 - «لا حكم لأفعال العقلاء قبل ورود النص». 2 - «الأصل في الأشياء والأفعال والأقوال: الإباحة». ومصدر هاتين القاعدتين قول الله تبارك وتعالى: {وما كنا معذِّبين حتى نبعث رسولاً} [الإسراء:15/ 17] وقوله سبحانه: {وما كان ربُّك مُهْلِكَ القرى حتى يبعثَ في أمّها رسولاً يتلو عليهم آياتنا} [القصص:59/ 28] وأمها: أصلها وعاصمتها ومركزها، وقوله جل وعز: {رسلاً مبشرِّين ومنذِرِين، لئلا يكون للناس على الله حجةٌ بعد الرسُلِ} [النساء:165/ 4]. هذه النصوص الشريفة قاطعة بأن لا جريمة إلا بعد بيان، ولا عقوبة إلا بعد إنذار. وترتب على هذا المبدأ أن فترة الجاهلية عند جمهور المسلمين لا عقاب على الجرائم التي حدثت أثناءها، سواء أكانت إراقة دم حرام أم غيرها من الربا والزنا والنهب والغصب والمنكرات. ويمكن القول إجمالاً: إن الشريعة والقانون الوضعي الجنائي يلتقيان في أنه إذا لم يكن هناك نص مانع من شيء، فهو مباح، بيد أن المنصوص عليه قانوناً صريح محصور في دائرة التقنين الموضوع، أما المنصوص عليه شرعاً فهو غير مقنن في مجموعة قانونية محدودة وموحدة بين المذاهب، وليس ذلك بعسير علينا عند الطلب، فقد يكون التحريم أو التجريم والعقاب مأخوذاً من نص القرآن الكريم أو
السنة النبوية، أو من إجماع الأمة، أو من اجتهاد المجتهدين في ضوء النصوص، وروح التشريع الإسلامي. والنص الحاظر شرعاً أو المانع من فعل قد يكون صريحاً، كما هو الشأن في الحدود (العقوبات المقدرة نوعاً ومقداراً) وقد يفهم دلالة وضمناً من طريق اجتهاد علماء الإسلام الثقات. ودور العلماء في الحقيقة مجرد كاشف ومظهر لحكم الله في الحادثة، ومبيّن للقيود والشروط والأوصاف. أما أصل الحكم حظراً وعقاباً، فمرده إلى الحكم الإلهي، إذ لا بد لصحة الاجتهاد من مستند شرعي يعتمد عليه في الاستنباط. ثم إن المحذور الذي يخشى منه القانونيون من مخالفة قاعدة: «لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص» وهو أن يلجأ القاضي فيما لا نص بتجريمه إلى الأخذ بالقياس، هذا المحذور قد فرغ من بحثه علماء الأصول من الحنفية ومن وافقهم الذين قرروا بصراحة عدم جواز القياس في الحدود والمقدرات الشرعية، سواء بالنسبة للمجتهد الفقيه أم للقاضي، وقرروا عدم جواز القياس في الحدود والكفارات والرخص والتقديرات؛ لأن القياس إنما يفيد الظن، والظن سبيل الخطأ، فكان في سلوكه شبهة، فلا يثبت من طريقه عقاب أو تجريم لحادثة لا نص فيها؛ لأن «الحدود تدرأ بالشبهات» وفي هذا التقعيد الأصولي ضمانة كافية أكيدة لحقوق وحريات الأفراد في تصرفاتهم وأفعالهم. والقائلون بالقياس في الحدود كالمالكية والشافعية لا ينشئون حكماً جديداً بناء على تحريم حادثة، وإنما يطبقون النص المذكور في حادثة على حادثة مشابهة تماماً، مساوية للواقعة المنصوص عليها، فيكون عملهم من قبيل تطبيق النص على الوقائع، إذ ليست الوقائع كلها منصوصاً عليها حتى في القوانين النافذة الآن،
ويكون القياس المنفي قانوناً في التجريم والعقاب معمولاً به شرعاً باتفاق الفقهاء، إذ ليس للمجتهد سلطة التشريع، أو إنشاء ووضع أحكام جديدة بالمنع والعقاب فيما لم يأذن به الشرع. وتوضيحاً لذلك يحسن بيان مضمون التشريع الإسلامي في مجال العقوبات: إن الجرائم والعقوبات محددة بذاتها ونوعها، معروفة تماماً في الإسلام، وهي كل ما نهى عنه القرآن الكريم أو السنة النبوية أو أبانه الفقهاء، والعقوبات الإسلامية منها كما تقدم ما هو مستوجب للإثم والعقاب الأخروي فقط، ومنها ما يجتمع فيه الوصفان: العقاب في الدنيا، والعقاب في الآخرة. والعقوبات الدنيوية تكون على فعل محرّم أو ترك واجب، وهي كما عرفنا نوعان: عقوبة مقدّرة، وعقوبة غير مقدّرة الكمّ شرعاً، والمقدّرة تختلف مقاديرها وأجناسها وصفاتها باختلاف أحوال الجرائم وكبرها وصغرها، وبحسب حال العاصي أو المذنب أو المجرم نفسه، كما أبان ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله. والعقوبات المقدرة نوعاً ومقداراً وهي الحدود الشرعية الخمسة أو السبعة كما تبين سابقاً لدى الفقهاء قد نص عليها القرآن الكريم أو السنة النبوية صراحة، ثم أجمع عليها الصحابة الكرام والفقهاء من بعدهم. والسبب في نص الشرع عليها: هو حرصه على إقامة ركائز وحصون أساسية في حياة المجتمع، تعد بمثابة القواعد الصلبة، لتوفير الأمن والاستقرار والطمأنينة في الأنفس والأموال والأعراض والعقول وإقرار دين التوحيد الحق، ومنع الرذيلة، ودرء المفسدة، واستئصال نزعة الشر، وبتْر أسباب المنازعات والأمراض والفوضى الأخلاقية عن الناس في أخطر ما يمس جوهر حياتهم الاجتماعية التي لا بد لها من وجود نظام ثابت صحيح، غيرمِعْوَج.
وليس للقاضي بداهة مخالفة النصوص في تجريم وعقاب هذه الجرائم التي قدر لها الشرع نوعاً ومقداراً معيناً من العقوبات، ولم يجز الشرع في العقوبات المقدرة عدا القصاص العفو عنها، ولا الشفاعة فيها، ولا الصلح والتنازل عنها، ولا إسقاطها والإبراء عنها، ولا المعاوضة عنها، بعد رفع الأمر فيها إلى القاضي، صوناً لحق الجماعة العام فيها وفي تطبيقها. ولا يملك القاضي التدخل في شأن هذه العقوبات إلا بإصدار الحكم فيها بعد ثبوت الجريمة، بطرق الإثبات الشرعية المقبولة، لأنها تمس النظام العام للمجتمع: وهو المحافظة على مقاصد الشريعة أو أصولها الكلية الخمسة، وهي الدين والنفس والعرض أو النسب والعقل والمال. وأما العقوبات غير المقدرة نوعاً ومقداراً وهي التعزيرات، فهي أيضاً معروفة لدى كل مسلم، ويجب عليه تعلم أحكام شرعه، والتعزير: هو العقوبة المشروعة على معصية أو جناية (جريمة) لا حد فيها ولا كفارة، سواء أكانت الجريمة على حق الله تعالى، أي حق المجتمع، كالأكل في نهار رمضان عمداً، والإخلال بأمن الدولة، والتجسس، وترك الصلاة، وطرح النجاسة ونحوها في طريق الناس، أو على حق الأفراد، كمباشرة المرأة الأجنبية (غير القريبة قرابة رحم محرم) فيما دون الجماع، والتقبيل واللمس، والنظر والخلوة المحرمة ونحوها، وسرقة الشيء القليل الذي هو دون النصاب الشرعي الموجب للحد (دينار أو ربع دينار على الخلاف بين الفقهاء) والسرقة من غير حرز حافظ للمال، والقذف بغير لفظ الزنا ونحوه من أنواع السب، والضرب والإيذاء بأي وجه، كالقول: يا فاسق، يا خبيث، يا سارق، يا فاجر، يا زنديق، يا آكل الربا، يا شارب الخمر أو يا حمار، أو بغل أو ثور، في رأي الأكثرين، وخيانة الأمانة من الحكام وولاة الوقف ونظّار الأوقاف، وتبديد أموال الأيتام، وإهمال الوكلاء والشركاء، والغش في المعاملة، وتطفيف المكيال والميزان (النقص من البائع والزيادة من المشتري) وشهادة الزور التي كشف
أمرها، والرشوة، والحكم بغير ما أنزل الله تهاوناً، والاعتداء على الرعية، والدعاء بدعوة الجاهلية وعصبيتها ونحو ذلك (¬1). ويمكن وضع ضابط عام للتعزير بمثابة تقنين أو تعريف عام: وهو كل ما فيه اعتداء على النفس أو المال أو العرض أو العقل أو الدين مما لا حدّ فيه، وذلك يشمل كل الجرائم التي هي ترك واجب ديني أو دنيوي، أو فعل محرم محظور شرعاً للمصلحة العامة أو الخاصة بالشخص. وذكر فقهاء الحنفية ضابطاً مختصراً لجرائم التعزير وهو: يعزر كل مرتكب منكر ـ خطيئة لا حد فيها ـ أو معصية ليس فيها حد مقدر أو مؤذي مسلم أو غير مسلم بغير حق، بقول أو فعل أو إشارة بالعين أو باليد (¬2). أو بعبارة أخرى: إن ضابط موجب التعزير: هو كل من ارتكب منكراً أو آذى غيره بغير حق بقول أو فعل أو إشارة، سواء أكان المعتدى عليه مسلماً أم كافراً (¬3). وهذا الضابط، وإن كان فيه عموم وإجمال، خلافاً لما تتطلبه قوانين العصر من النص صراحة على كل جريمة بعينها وعقوبتها، إلا أنه بمثابة القاعدة الفقهية الكلية المفيدة في التفقيه ووضع الإطار العام للجرائم غير الحدية، ويمكن بسهولة إفراد كل جريمة بالبيان، لأن مرجع القاضي في التجريم ـ كما تقدم ـ إنما هو الشرع، وليس هو العقل والهوى الشخصي، الذي ليس له أثر في شرع الله بإنشاء الأحكام، وما على القاضي إلا أن يتقيد في كل تجريم بأوامر الشرع ونواهيه في القرآن والسنة، ويهتدى بما أجلاه الفقهاء تماماً في هذا الشأن، فما قبّحه الشرع أو منعه فهو قبيح ممنوع، وما حسّنه الشرع أو طلبه، فهو حسن مطلوب أو مباح، كما ¬
يقول الأصوليون غير المعتزلة. وحكم الشرع دائماً مقيد بالمصلحة العامة، ودفع الضرر العام. فإن لم تكن هناك مصلحة عامة أو ضرر عام، روعيت المصلحة الشخصية، دون إضرار بالآخرين. ويقسم ابن تيمية رحمه الله الجرائم التعزيرية، من ناحية أصل التكليف إلى قسمين: الأول: ما تكون العقوبة فيه على إتيان فعل نهى الله عنه كالغش، والتزوير، وشهادة الزور (أي التي ظهر أمرها للقاضي) وخيانة الأمانة، والتدليس ... الخ. الثاني: ما تكون العقوبة فيه على ترك واجب أو على الامتناع من أداء حق، وتكون هذه العقوبة بقصد حمل الشخص على أداء الواجب أو الحق، كعقوبة تارك الزكاة، فهي للحمل على الأداء وليست على ترك الزكاة، فإن أداها التارك فلا عقاب. وكذلك الحال بالنسبة لحبس المرتد، فإن تاب فلا عقاب، وحبس المدين المماطل، فإن وفى الدين فلا عقاب (¬1). والعقوبات التعزيرية: هي التوبيخ أو الزجر بالكلام، والحبس، والنفي عن الوطن، والضرب. وقد يكون التعزير بالقتل سياسة في رأي الحنفية وبعض المالكية، وبعض الشافعية إذا كانت الجريمة خطيرة تمس أمن الدولة أو النظام العام في الإسلام، مثل قتل المفرّق جماعة المسلمين، أو الداعي إلى غير كتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلم، أو التجسس، أو انتهاك عرض امرأة بالإكراه، إذا لم يكن هناك وسيلة أخرى لقمعه وزجره (¬2). ¬
يدل هذا على أن العقوبات التعزيرية معروفة أيضاً في الشريعة، وقد أوضحها الفقهاء في كتبهم، لكنهم قد يذكرونها إجمالاً، ويتركون اختيار إحداها للقاضي يفعل ما يراه محققاً للمصلحة من العقاب، وفي هذا مرونة ومنح للقاضي شيئاً من الحرية، وإعطاؤه سلطة تقديرية، وقد يحدد الفقهاء العقوبة الخاصة بكل جريمة على حدة، فتكون الكتب الفقهية بمثابة التقنينات، وإن كان ينقصها الجمع والتنظيم والإيجاز وحسن التبويب والتفصيل، لتعرف عقوبة كل جريمة بعينها. وليس للقاضي أصلاً الحكم بعقوبة غير مألوفة شرعاً، أما إن لم يكن في الكتب أحياناً تقدير محدد لعقوبة كل جريمة بذاتها، فحينئذ يتمكن القاضي من اختيار نوع العقوبة الملائم قدرها للجريمة، ومراعاة ظروف الجاني وأحواله تغليظاً أو تخفيفاً، لأن المقصود من التعزير: هو الزجر، والناس يتفاوتون بتفاوت مراتبهم فيما يحقق الهدف المقصود من العقاب، ولأنه قد تحدث جرائم لم يألفها الناس، حسبما تقتضي طبيعة التطورات الاجتماعية والاقتصادية، وقد يتفنن المجرمون في ابتكار ألوان مختلفة لجريمة واحدة، كما قال الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز رحمه الله: «سيحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور» (¬1). وإذا حكم القاضي بالضرب، فليس لأقله حد معين، فهو سوط فأكثر، ويفعل ما يراه محققاً للمصلحة والزجر. وأما أقصى الضرب فهو مقيد بألا يتجاوز مقداراً معيناً، وهو ما دون أقل الحدود الشرعية، للحديث المتقدم: «من بلغ حداً في غير حد فهو من المعتدين». لكن اختلف الفقهاء في أكثر الضرب، فقال أبو حنيفة ومحمد والشافعية والحنابلة: لا يبلغ بالتعزير أدنى الحدود الشرعية، وهو أربعون جلدة، وإنما ينقص ¬
منه سوط واحد، فلا يتجاوز الحكم تسعة وثلاثين سوطاً، باعتبار أن أقل الحدود للعبيد أربعون جلدة. وقال أبو يوسف: لا يبلغ بالحد ثمانين جلدة، وينقص منه خمسة أسواط، فلا يتجاوز خمسة وسبعين سوطاً، باعتبار أن أقل حد الأحرار ثمانون جلدة (¬1). وقال المالكية: يجوز التعزير بمثل الحدود فأقل وأكثر بحسب الاجتهاد (¬2). وتقدير مدد الحبس أو السجن متروك للقاضي. وعلى كل حال يمكن إصدار نظام أو قانون عام يحدد الحدود الدنيا والقصوى لكل عقوبة، ويبين مدى سلطة القاضي، فهذا متروك لاجتهاد ولاة الأمور، ولا حظر فيه شرعاً، أو عقلا، وإنما هو مستحسن بحسب الأعراف المعاصرة، ويمكننا بسهولة وضع تقنين شرعي يتناسب مع ظروف العصر، وقد حدث هذا فعلاً في القوانين الجنائية المستمدة من الشريعة الإسلامية كما تقدم. ومن صفات التعزير عند الحنفية والشافعية: أنه ليس واجباً على القاضي الحكم به، وإنما يجوز له العفو عنه وتركه، إذ الم يتعلق به حق شخصي لإنسان معين (¬3)، لما روي أن النبي قال: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا في الحدود» (¬4). وهذا يدل على أنه يراعى في التعزير مصلحة المتهم، ويسلك معه مسلك التخفيف. ¬
عاشرا ـ موانع العقاب أو موانع المسؤولية، وأسباب الإباحة وإنسانية العقوبة
يتجلى مما سبق أن العقوبات التعزيرية تتصف بصفة المرونة في التطبيق، فيترك فيها للقاضي الحرية في اختيار نوع العقاب الملائم، أو الإعفاء من العقوبة أو التفاوت بين المجرمين بحسب الظروف والأحوال، وليس للقاضي أصلاً سلطة في التجريم والعقاب كيفما يشاء، وإنما هو مقيد في حكمه بأوامر الشرع وقيوده وقواعده، ويستأنس بتصنيف الفقهاء للعقوبات. وهذا كله يساعد في إصلاح المجرم وبالتالي الإقلال من الجريمة ومنعها، بسبب رهبته من العقاب المحدد مطلقاً، وهو أسمى ما ينشده رجال القانون للتخفيف من حدة مبدأ قانونية الجرائم، وإعطاء سلطات تقديرية للقاضي في العقاب، مثل ترتيب العقوبة بين حد أقصى وحد أدنى يتراوح بينهما تقديره، أو ائتمانه على تطبيق نظام الظروف المخففة، أو تخويله سلطة الأمر بإيقاف تنفيذ العقوبة في بعض الأحوال. وبذلك بدأت الشريعة الإسلامية في العقوبات التعزيرية بما انتهت إليه القوانين الحديثة في أفضل وأسمى نظرياتها. عاشراً ـ موانع العقاب أو موانع المسؤولية، وأسباب الإباحة وإنسانية العقوبة: قد يمتنع تطبيق العقوبة لأسباب إنسانية تؤدي إلى منع الجريمة وحماية المجتمع من تكرار وقوع الجريمة وهي نوعان: 1 - موانع العقاب أو موانع المسؤولية: هي أسباب شخصية ترجع إلى تخلف الركن المعنوي للجريمة وهو القصد الجنائي (أو الإرادة الآثمة) إما لانعدام أهلية الفاعل وهو عذر صغر السن أو عدم التمييز والجنون، وإما بسبب انتفاء التكوين الطبيعي للإرادة وهو عذر الإكراه.
2 - أسباب الإباحة
2 - أسباب الإباحة: هي أسباب موضوعية ترجع إلى ظروف خارجة عن شخص الفاعل تمنع توافر علة التجريم، وتؤدي إلى عدم تطبيق العقوبة على من يرتكب فعلاً يعد في الأصل جريمة، مثل ممارسة حق الدفاع الشرعي واستعمال الحق، فتعتبر أفعال الدفاع مباحة باتفاق الفقهاء، فلا مسؤولية على المدافع من الناحيتين المدنية والجنائية، إلا إذا تجاوز حدود الدفاع المشروع، فيصبح عمله جريمة يسأل عنها مدنياً وجزائياً. والدفاع عامل مهم من عوامل منع الجريمة. واستعمال الحق مثل رضاء المجني عليه يسقط القصاص للشبهة، ورفع العقاب عن المكره ومثله المضطر في الشريعة يتمشى مع مراعاة الوظيفة الإنسانية للعقوبة، فلا قصاص في رأي الحنفية والظاهرية على المستكره على القتل، ولا عقاب عند جمهور الفقهاء على المرأة المستكرهة على الزنا، لقوله تعالى: {ولا تُكْرِهُوا فتياتِكم على البِغَاءِ إن أردن تحصناً لتبتغوا عرض الحياة الدنيا، ومَنْ يكرِههن، فإنَّ الله من بعد إكراهِهِن غفورٌ رحيمُ} [النور:33/ 24] وكذا لا عقاب على الرجل المكره على الزنا في مذهبي الحنفية والشافعية، لأن الإكراه يوّرث شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات (¬1). والمضطر لا عقاب عليه، لأن عمر رضي الله عنه أوقف قطع يد السارق عام الرمادة أو المجاعة العامة بالناس، وقال: «لا أقطع في عام سنة» (¬2). وذكر ابن القيم أن عمر رضي الله عنه أتي بامرأة جهدها العطش، فمرت على راع فاستقت، فأبى أن يسقيها إلا أن تمكنه من نفسها، ففعلت، فشاور الناس في رجمها، فقال ¬
حادي عشر ـ الآثار الإصلاحية الكبرى لسياسة العقاب في الإسلام
علي رضي الله عنه: هذه مضطرة أرى أن يخلى سبيلها: {فمن اضْطُرَّ غير باغ ولا عاد فلا إثمَ عليه} [الأنعام:145/ 6] فخلى عمر سبيلها (¬1). وهذا يتفق أيضاً مع مبدأ انتفاء القصد الجنائي، وتطبيق قاعدة رفع الحرج، ودرء الحدود بالشبهات. حادي عشر ـ الآثار الإصلاحية الكبرى لسياسة العقاب في الإسلام: تبين مما سبق، وهذا بمثابة الخاتمة للبحث أن تطبيق الشريعة الإسلامية في مجال العقوبات، ومراعاة مبادئ السياسة الجنائية الإسلامية يؤدي إلى تحقيق الهدف المنشود من العقاب وهو تقويم المجرم، ومنع الجريمة أو التخفيف والإقلال منها، وهذه هي أهم آثار التطبيق للنظام الجنائي في الإسلام: 1 - تحقيق الزجر والردع للجاني ولأمثاله وللناس قاطبة، وإصلاح المجرم وتهذيبه أيضاً وعودته إلى الحياة عضواً صالحاً مستقيماً، كما سأبين، ففي إقامة الحدود الشرعية الزجر الكافي الذي يمنع من الجريمة، وليس أدل على صدق ذلك من أن تطبيق العقوبات الشرعية في السعودية وغيرها أدى إلى تحقيق الأمن والاطمئنان مما لا نجد له مثيلاً في العالم. وأن الخوف من العقوبة الأخروية ومن العذاب الشديد في نار جهنم يملأ النفس رهبة وخشية من اقتراف الجريمة. والتوبة باب مفتوح لصلاح الجناة والمجرمين، كما أن المواعظ والإرشادات المتكررة في الحياة الإسلامية من أمر بمعروف ونهي عن منكر، وسماع خطب الجمعة والعيدين وغيرهما في المناسبات الإسلامية يعد عاملاً مهماً جداً في الإصلاح والتقويم، والزجر الردع معاً. 2 - عدم الحرص الشديد على تطبيق الحدود الشرعية: إن الأخذ بمبدأ ¬
3 - منع الجريمة أو التخفيف منها
الستر على غير المجاهر بالمعصية، ودرء الحدود بالشبهات الكثيرة يؤديان إلى ندرة العقوبة وعدم الحرص الشديد على تطبيقها. 3 - منع الجريمة أو التخفيف منها: لا يمكن في الغالب استئصال الجريمة في أي مجتمع ولكن يمكن إضعافها وتقليل نسبتها باتباع نظام صحيح يحقق الهدف من العقوبة وهو صيانة الأمن، واستتباب النظام، ومنع الفوضى وجعل احتمال الجريمة أمراً بعيد الحصول. 4 - إصلاح المجرم وتقويمه واستقامته: إن كل إنسان يشعر ذاتياً بفداحة المسؤولية والعقاب، ويحس بضرر ذلك على سمعته وشرفه واعتباره، فإذا عوقب مرة، دفعه ذلك في الغالب إلى العزم على عدم العود إلى جرم آخر، وصلح حاله واستقام أمره. 5 - نظافة المجتمع وطهره وحمايته من ظاهرة الإجرام: وهذا هدف أساسي في سياسة العقاب في الإسلام، لأن أمن الفرد من أمن الجماعة، والعيش في سلام هو غاية كل إنسان، فيكون توقيع العقوبة المناسبة أدعى إلى صون مصلحة المجتمع أكثر من رعاية مصلحة فرد أو إنسان معين. 6 - تقدير المخاطر، والتوعية بأن الوقاية خير من العلاج: إن تطبيق العقوبة في الإسلام أمر علني لينزجر الناس، ويحاسبوا أنفسهم، ويقدروا ما قد يقعون فيه من الحساب العسير والعقاب الصارم؛ لأن كل امرئ بما كسب رهين، والوقاية خير من العلاج، وسد الذرائع المؤدية إلى الفساد أمر واجب، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح. 7 - نشر ظاهرة الخوف من العقاب الدنيوي والأخروي يحقق مصالح عامة كثيرة أهمها صون أمن المجتمع، والتوجه نحو التنمية والإنتاج وتوفير
8 - تحقيق الأمن والاستقرار الدائم
الطاقات، وتقليل الإنفاق على مقاومة الجريمة، فهناك خسائر تلحق بالممتلكات ومصادر الثروة كالسرقة والنصب والاختلاس، وتهريب الأموال، وخسائر في الأرواح بسبب القتل أو الإصابة بالعجز الكلي أو الجزئي، وتعطيل جزء من الطاقة بإيداع المجرمين في السجون، وإن صارت السجون الآن طاقة إنتاجية من خلال التدريب وتأهيل المسجونين ليتعلموا حرفة أو مهنة يتعيشون منها بعد إطلاق سراحهم من السجون. وهناك نفقات طائلة تنفقها الدولة في مكافحة الجريمة، كمرتبات رجال الشرطة والقضاء، ونفقات السجون ودور القضاء والموظفين في هذه المؤسسات وغير ذلك. 8 - تحقيق الأمن والاستقرار الدائم: إن ظاهرة الجريمة تحدث قلقاً بالغاً واضطراباً شديداً وغلياناً لا يهدأ إلا بالعقوبة الصارمة. 9 - بقاء العالم: إن في تطبيق العقوبة كالقصاص (أو الإعدام) صوناً لحياة العالم وأرواح الناس، وبقاء النوع الإنساني، لأن القاتل إذا علم أنه سيقتل إذا قتل، ارتدع وانزجر، فأحيا نفسه، وأحيا غيره، قال الله تعالى: {ولكم في القصاصِ حياةٌ يا أولي الألبابِ، لعلكم تتقون} [البقرة:179/ 2]. لذا كانت المطالبة بمنع عقوبة الإعدام خطأ بيناً لا يتفق مع المصلحة العامة والخاصة في شيء أبداً. 10 - حصر الجريمة في أضيق نطاق ممكن: وهذا من مقاصد التشريع وأصول العقاب في الإسلام، ويتمثل هذا بالترهيب من إشاعة الفاحشة في المجتمع، قال الله تعالى: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم} [النور:19/ 24]. وإذا شاعت الفاحشة تجرأ الناس على ارتكابها وهان عليهم اقترافها، ويتمثل أيضاً بمبدأ تفريد العقاب القضائي في نطاق التعازير
11 - الدفاع عن المجتمع ضد الجريمة
(أي إصدار العقوبة الملائمة لكل فرد على حدة حسبما يلائمه ويزجره، فيحقق فكرة السلطة التقديرية للقاضي ويساير التطور) وكذا المسؤولية الشخصية، قال تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الأنعام:164/ 6]. ثم إن العقوبة واجبة التطبيق عند جمهور الفقهاء غير أبي حنيفة، ولو وقعت خارج دار الإسلام، لأن الممنوع أو الحرام لا تتغير صفته في أي مكان. 11 - الدفاع عن المجتمع ضد الجريمة: لقد حرص الإسلام على هذا المعنى، وأقام مبدأ التكافل الاجتماعي ضد الجريمة، أو المسؤولية الجماعية المفروضة على كل فرد أن يرعى مصالح الجماعة، كأنه حارس لها أو موكل بها، وهذا ما صوره الرسول صلّى الله عليه وسلم في حديث السفينة بقوله: «مثل القائم على حدود الله، والواقع فيها، كمثل قوم استهموا في سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا مرّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً، ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا، هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً» (¬1). 12 - الحفاظ على المقاصد العامة للتشريع أو الأصول الخمس الكلية: تقوم خطة الشريعة في التجريم والعقاب على أساس الحفاظ على المصالح الأساسية المعتبرة في الإسلام، وهي الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، وهي المصالح التي لا تستقيم الحياة الإنسانية إلا بوجودها وصيانتها من الاعتداء، فيكون الاعتداء عليها جريمة يعاقب عليها المعتدى بما يتناسب مع جسامة الجرم وخطورته (¬2). ¬
والخلاصة: إن العقوبات الإسلامية أدوات فعالة في القضاء على الجريمة والمجرمين، ووسائل نفّاذة في نشر الأمن والسلام واستئصال الجريمة، والدليل على ذلك واقع البيئة التي تطبق فيها، وحينئذ لا يلتفت إلى أي نقد أو اعتراض أو تشويه لمعنى العقوبة وأساليبها وأنواعها في شريعة الله تعالى، فتلك المزاعم باطلة، وأفكار مروجيها خطأ، ومصدرها الجهل بحقيقة الأمور في الشريعة، ومراعاة مصلحة شخص على حساب الجماعة كلها.
الفصل الأول: حد الزنا
الفَصْلُ الأوَّل: حَدّ الزِّنا تمهيد: الزنا حرام وفاحشة عظيمة، وهو من الكبائر العظام، واتفق أهل الملل على تحريمه ولم يحل في ملة قط، ولهذا كان حده أشد الحدود؛ لأنه جناية على الأعراض والأنساب، قال الله تعالى: {ولا تقربوا الزنى، إنه كان فاحشة وساء سبيلاً} [الإسراء:32/ 17] وقال سبحانه: {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر، ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا يزنون، ومن يفعل ذلك يلق أثاماً، يضاعف له العذاب يوم القيامة، ويخلد فيه مهاناً} [الفرقان:68/ 25 - 69]. والأصل في مشروعية حد الزنا للبكر قوله عز وجل: {الزانية والزاني، فاجلدوا كل واحدٍ منهما مائة جلدة} [النور:2/ 24]. وأما الرجم للمحصن فقد ثبت في السنة، فإن الرسول صلّى الله عليه وسلم رجم ماعزاً وامرأة من بني غامد، بأخبار بعضها متواتر، كما أثبتنا في تخريج أحاديث تحفة الفقهاء (¬1)، وأجمع الصحابة على مشروعية الرجم. وحد الزنا من حقوق الله تعالى الخالصة له، أي من حقوق المجتمع، لما يترتب على الزنا من اعتداء على الأسرة والنسل ونظام المجتمع. ¬
اللواط
واتفق أئمة المذاهب على أنه لا يجب الحد على الصبي والمجنون، لقوله صلّى الله عليه وسلم «رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يكبر، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يُفيق» (¬1). وكما أن الزنا حرام، اللواط محرم أيضاً، بل هو أفحش من الزنا، لقوله عز وجل: {ولوطاً إذ قال لقومه: أتأتون الفاحشة، ما سبقكم بها من أحد من العالمين} [الأعراف:80/ 7] فسماه الحق تعالى فاحشة، وقال: {ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن} [الأنعام:151/ 6]. وقد عذب الله عز وجل قوم لوط بما لم يعذب به أحداً من الناس. وقال صلّى الله عليه وسلم: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» (¬2). وروى البيهقي عن أبي موسى: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا أتى الرجل ُالرجلَ فهما زانيان». والسحاق: (وهو فعل النساء بعضهن ببعض) حرام أيضاً، ويعزر فاعل المساحقة ولو كان ذلك بين رجل وامرأة، أو بين رجلين. وروى البيهقي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا أتى الرجل ُالرجل فهما ¬
زانيان، وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان» (¬1). وعن واثلة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «سحاق النساء بينهن زنا» (¬2). وفي الجملة: إن العين بريد الزنا، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «العينان تزنيان واليدان تزنيان، والرجلان تزنيان، ويصدق ذلك كله الفرج أو يكذبه» (¬3) مما يدل على أن غض البصر واجب شرعاً. قال تعالى: {قل للمؤمنين: يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم} [النور:30/ 24] {وقل للمؤمنات: يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن} [النور:31/ 24] فمن حرمت مباشرته في الفرج بحكم الزنا أو اللواط، حرمت مباشرته فيما دون الفرج بشهوة، لقوله تعالى: {والذين هم لفروجهم حافظون، إلا على أزواجهم أو ماملكت أيمانهم، فإنهم غير ملومين} [المؤمنون:5/ 23 - 6]. ¬
الاستمناء
ويحرم الاستمناء لقوله عز وجل: {والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم، فإنهم غير ملومين} [المؤمنون:5/ 23 - 6]، ولأنها مباشرة تفضي إلى قطع النسل، فإن فعل عزر ولم يحد؛ لأنها مباشرة محرمة من غير إيلاج، فأشبهت مباشرة الأجنبية فيما دون الفرج. ويحرم إتيان الميتة والبهيمة للآية السابقة (¬1). وسنعرف حكم الحد فيه. خطة الموضوع: الكلام في حد الزنافي المباحث الخمسة الآتية: المبحث الأول ـ سبب حد الزنا «الجريمة» وتعريف الزنا. المبحث الثاني ـ شروط الحد. المبحث الثالث ـ عقوبة الزنا «الحد». المبحث الرابع ـ إثبات الزنا عند القاضي. المبحث الخامس ـ إقامة الحد (كيفيته، حالة المحدود، مكان الإقامة). ويلحق بها بيان حكم اللواط، ووطء البهيمة، ووطء الميتة. المبحث الأول ـ سبب حد الزنا وتعريف الزنا: إن سبب حد الزنا هو ارتكاب جريمة الزنا، ولكن الفقهاء وضعوا ضوابط دقيقة لتحقق هذه الجريمة؛ لأن الحدود عموماً مبنية على الدرء والإسقاط، صيانة ¬
الوطء
للمجتمع من سماع وقوع هذه الفاحشة، فضلاً عن انتشارها والخوض في مساوئها، فإذا لم تتوافر هذه الضوابط سقط الحد. ويجب التعزير أو المهر إذا كان الوطء بشبهة؛ لأن كل وطء حرام لا يخلو عن عَقر (أي عقوبة أو حد زاجر) أو عُقر (¬1) (أي مهر جابر في حالة الشبهة). تعريف الزنا (¬2): الزنا في اللغة والشرع بمعنى واحد: وهو وطء الرجل المرأة في القُبُل في غير الملْك وشبهته (¬3). وقد ذكر الحنفية تعريفاً مطولاً يبين ضوابط الزنا الموجب للحد، فقالوا: هو الوطء الحرام في قُبل المرأة الحية المشتهاة في حالة الاختيار في دار العدل، ممن التزم أحكام الإسلام، الخالي عن حقيقة الملك، وحقيقة النكاح، وعن شبهة الملك، وعن شبهة النكاح، وعن شبهة الاشتباه في موضع الاشتباه في الملك والنكاح جميعاً (¬4). شرح التعريف وبيان محترزات قيوده: الوطء: فعل معلوم وهو إيلاج فرج في فرج بقدر الحشَفة. فالوطء الذي ¬
الحرام
يجب به الحد أن يغيب الحشفة في الفرج، فلا يجب الحد بأدنى من ذلك كالمفاخذة والتقبيل. الحرام: أي الوطء الحاصل من الشخص المكلف (أي العاقل البالغ). أما وطء غير المكلف كالصبي والمجنون فلا يعتبر زنا موجباً للحد؛ لأن فعلهما لا يوصف بالحرمة، لكونهما غير مكلفين، بقوله عليه الصلاة والسلام: «رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يبلغ (¬1)، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يُفيق» السابق ذكره. في قبل: أخرج بذلك الوطء في الدبر في الأنثى أو الذكر، فإنه لايسمى زنا عند الإمام أبي حنيفة، بخلاف الصاحبين والشافعية والحنابلة والمالكية. المرأة: أخرج وطء البهيمة؛ لأنه أمر نادر ينفر منه الطبع السليم كما تقدم. الحية: أخرج وطء الميتة؛ لأنه أمر نادر، كما ذكر. المشتهاة: لا يحد واطئ غير المشتهاة كالصغيرة التي لم تبلغ حداً يشتهى؛ لأن الطبع السليم لا يقبل هذا. حالة الاختيار: يجب أن يكون الواطئ مختاراً، سواء أكان رجلاً أم امرأة موطوءة، فلا يحد المكرَه على الزنا. وقد اتفق العلماء على أنه لا حد على المرأة المكرهة على التمكين من الزنا، لقوله عليه الصلاة والسلام: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ومااستكرهوا عليه» (¬2). ¬
في دار العدل
وأما الرجل المكرَه على الزنا، فلا حد ولاتعزير عليه أيضاً عند الشافعية، وهو المختار عند محققي المالكية، للحديث السابق ولقيام عذره بالإكراه. وقال الحنابلة: يحد؛ إذ أنه ما دام قد حصل الانتشار منه، دل على انتفاء الإكراه. وقال أبو حنيفة أولاً: إن أكرهه السلطان فلا حد عليه، وإن أكرهه غير السلطان حد استحساناً؛ لأن الإكراه لا يتحقق في رأيه إلا من السلطان. وأما وقوع الزنا بإكراه غير السلطان، فإنه يدل على عدم تحقق معنى الإكراه، لوجود الطواعية والرضا من الفاعل، بدلالة الحال وحصول الانتشار والشهوة. ثم استقر رأي أبي حنيفة على أنه لا يحد المستكره؛ لأن الانتشار قد يكون دليل الفحولية لا دليل الاختيار. وقال الصاحبان: لا يحد المكره في الحالتين وهو المعتمد في الفتوى. وقال زفر: يحد فيهما جميعاً (¬1). في دار العدل: أي في دار الإسلام؛ إذ لا ولاية لولي الأمر على دار الحرب أو دار البغي. ¬
ممن التزم أحكام الإسلام
ممن التزم أحكام الإسلام: أي المسلم أو الذمي وهو احتراز عن الحربي، فإنه لم يلتزم أحكام الإسلام. الخالي عن حقيقة الملك: هذا القيد لإخراج وطء المملوكة بملك اليمين، مثل وطء الجارية المشتركة والمجوسية (¬1) والمرتدة والمكاتبة والمحرمة برضاع أو صهرية أو جمع (¬2)، حتى وإن كان الوطء حراماً وعلم بالحرمة (¬3). والصحيح عند الشافعية أن من ملك ذات رحم محرم، فوطئها، لا حد عليه؛ لأنه وطء في ملك، فلم يجب به الحد، كوطء أمته الحائض. وكذا من وطئ جارية مشتركة بينه وبين غيره، لا يجب عليه الحد. الخالي عن حقيقة النكاح: هذا قيد آخر لإخراج وطء المرأة بملك النكاح، مثل وطء الزوجة الحائض أو النفساء، أو الصائمة، أو المُحرمة في الحج، أو التي ظاهر منها زوجها أو آلى منها، فلا يجب الحد وإن كان الوطء حراماً، لقيام ملك النكاح (¬4). شبهة الملك: إذا قامت شبهة في ملك أو نكاح، فلا يجب الحد؛ لقوله عليه السلام: «ادرؤوا الحد بالشبهات» (¬5) وهذا الحديث وإن كان موقوفاً، فله حكم ¬
المرفوع، ولأن الحدود عقوبة كاملة فتستدعي جناية كاملة، ووجود الشبهة ينفي تكامل الجناية، مثل وطء الأب جارية ابنه، فإن فيه شبهة ملك أو حق، لقوله عليه الصلاة والسلام: «أنت ومالك لأبيك» (¬1)؛ ووطء جارية العبد المكاتب؛ لأن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم، فيملك السيد الرقبة، فيورث ملكها شبهة في ملك الكسب؛ ووطء جارية العبد المأذون، سواء أكان عليه دين أم لم يكن، فإذا لم يكن عليه دين، فتكون الجارية ملك السيد، وإن كان عليه دين، فتكون رقبة المأذون مملوكة للسيد، وملك الرقبة يقتضي ملك الكسب، لكن توجد شبهة بسبب كون المكاتب والمأذون يملكان التصرف في الجارية. ومثل وطء الجارية من المغنم في دار الحرب أو بعد الإحراز في دار الإسلام، ولكن قبل القسمة لثبوت حق الاستيلاء. ¬
شبهة النكاح
فلا يجب الحد في هذه الحالات لوجود شبهة الملك وإن علم أن الوطء حرام (¬1). شبهة النكاح: أي شبهة العقد بأن وطئ الرجل امرأة تزوجها بغير شهود أو بغير ولي، أو بنكاح مؤقت وهو نكاح المتعة، فلا يجب الحد وإن كان الواطئ يعتقد التحريم، لاختلاف العلماء في جواز عقد النكاح بغير شهود، أو بغير ولي، أو تأقيت العقد، والاختلاف يورث شبهة. وإذا تزوج إنسان من محارمه بسبب نسب أو رضاع أوصهارة موجبة لتحريم مؤبد، أو جمع بين أختين أو عقد على خمس أو تزوج معتدة الغير، وحصل وطء بموجب العقد، فلا حد عليه عند أبي حنيفة والثوري وإن علم بالحرمة، لكن عليه التعزير؛ لأنه وطء تمكنت الشبهة منه بسبب وجود صورة المبيح، وهو عقد النكاح، فلم يوجب الوطء حداً. وقال جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة والصاحبين من الحنفية: يجب الحد في كل وطء حرام على التأبيد؛ لأن النكاح باطل بالإجماع، ولا عبرة بشبهته؛ لأنها شبهة فاسدة، وما ليس بحرام على التأبيد، كالمحرم بالصهرية مثل أخت الزوجة، أو المختلف في تحريمه، كالنكاح بغير شهود: لا يوجب الحد. لكن قيد المالكية وجوب الحد بوطء ذات الرحم المحرم أو ذات الرضاع أو الزوجة الخامسة بأن كان الواطئ عالماً بالحرمة، فإن لم يعلم بالحرمة، فلا يحد. وكذلك لا يحد عند الشافعية حال الجهل بالتحريم، أو بكون المرأة من المحارم. ومنشأ الخلاف: أن الأصل عند أبي حنيفة أن النكاح إذا وجد من أهل له، في ¬
شبهة الاشتباه
محل قابل لمقاصد النكاح، يمنع وجوب الحد، سواء أكان هذا النكاح حلالاً أم حراماً، وسواء أكان التحريم مختلفاً فيه أم مجمعاً عليه، وسواء ظن الحل فادعى الاشتباه أم علم بالحرمة. والأصل عند الصاحبين والجمهور: أن النكاح إذا كان محرماً على التأبيد، أو كان تحريمه مجمعاً عليه، يجب الحد؛ لأن الوطء فيه صادف محلاً ليس فيه شبهة، وهو مقطوع بتحريمه. وإن لم يكن محرماً على التأبيد أو كان تحريمه مختلفاً فيه لا يجب الحد (¬1). وقول الصاحبين هو الأظهر، وعليه الفتوى عند الحنفية، لكن قال صاحب الدر المختار: «لكن المرجح في جميع الشروح قول الإمام، فكان الفتوى عليه أولى» (¬2). وذكر الشافعية أن من استأجر امرأة ليزني بها فزنى بها، أو تزوج ذات رحم محرم وهو يعتقد تحريمها، وجب عليه الحد؛ لأنه لا تأثير للعقد في إباحة وطئها، فكان وجوده كعدمه. شبهة الاشتباه: الشبهة: هي ما يشبه الثابت وليس بثابت، وهي إما شبهة في الفعل، وتسمى شبهة اشتباه، أي أنها شبهة في حق من اشتبه عليه، وليست بشبهة في حق من لم يشتبه عليه، حتى لو قال: علمت أنها تحرم علي، حد. ¬
شبهة الفعل
أو شبهة في المحل، وتسمى شبهة حكمية وهي تتحقق بقيام دليل على نفي الحرمة، سواء ظن الحل أو علم الحرمة. وشبهة في الفاعل، وسيأتي بيانها (¬1). أما شبهة الفعل: فتثبت في ثمانية مواضع إذا ظن الواطئ الحل، أما لو قال: علمت أنها حرام علي، فيحد. وهذه المواضع هي: 1 - المرأة المطلقة ثلاثاً ما دامت في العدة، فإذا وطئها زوجها لم يحد إذا ظن بقاء حلها، نظراً لبقاء النكاح في حق إلحاق النسب به: (وهو مايعبرون عنه بقيام أثر الفراش) وحرمة زواجها بآخر، ولوجوب النفقة والسكنى على الرجل. 2 - المطلقة طلاقاً بائناً على مال، أو المختلعة، ما دامت في العدة، للأسباب السابقة في المطلقة ثلاثاً (¬2). ¬
شبهة المحل
وأما شبهة المحل فتتحقق في ستة مواضع، سواء ظن الواطئ الحل، أو قال: علمت أنها علي حرام، وهذه المواضع هي: 1 - المرأة المطلقة طلاقاً بائناً بالكنايات، مثل: أنت بائن، أنت بتة، أنت بتلة، فلا يحد الواطئ، لاختلاف الصحابة في كون هذه المرأة رجعية أو بائنة (¬1). وأما شبهة الفاعل: فتظهر فيما لو رأى إنسان ليلاً على فراشه امرأة، فظنها زوجته، فوطئها، أو نادى أعمى زوجته فأجابته امرأة أجنبية فوطئها، وهو يظنها زوجته، ثم بانت الموطوءة أنها أجنبية، فلا حد عليه عند المالكية والشافعية وزفر من الحنفية، لقيام عذره بالظن المجوز للإقدام على الوطء في الجملة. وذلك مثل المرأة التي زفت إلى رجل، وقالت النساء: إنها زوجتك مع أنها لم تكن امرأته، فوطئها، فلا حد عليه، وعليه المهر (¬2). وقال أبو حنيفة وأبو يوسف والحنابلة: يحد الشخص في الحالتين؛ لأن الظن لا يسوغ له الإقدام على الوطء، فكان الواجب عليه التربص حتى يعلم أنها ¬
زوجته، ولا شبهة هنا سوى وجود المرأة على فراش الرجل، وهو لا يصلح شبهة مسقطة للحد (¬1). وقال محمد: إذا دعا الزوج الأعمى امرأته فقال: يافلانة، فأجابت امرأة بقولها: (أنا فلانة امرأتك) فوطئها، لا حد عليه؛ لأنه لا سبيل للأعمى إلى أن يعرف أنها امرأته إلا بذلك الطريق، فكان معذوراً. أما إذا أجابته ولم تقل: (أنا فلانة) فيجب الحد؛ لأنه في وسعه أن يتثبت بأكثر من هذا الجواب، فلا يصير شبهة (¬2). وقال الشافعية والمالكية (¬3): الشبهات دارئة للحدود، وهي ثلاثة: 1 - شبهة في الفاعل: وهو ظن حل الوطء إذا وطئ امرأة يظنها زوجته أو مملوكته. 2 - شبهة في الموطوءة: كوطء الشركاء الجارية المشتركة. 3 - شبهة في السبب المبيح للوطء، كالنكاح المختلف فيه، كنكاح المتعة والشغار (مبادلة فتاة بأخرى) والتحليل والنكاح بلا ولي ولا شهود، ونكاح الأخت في عدة أختها البائن، ونكاح الخامسة في عدة الرابعة البائن، ونكاح المجوسية. قال ابن قدامة الحنبلي: وهذا قول أكثر أهل العلم؛ لأن الاختلاف في إباحة الوطء فيه شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن الحدود تدرأ بالشبهات (¬4). ¬
الجهل بتحريم الزنا
ووافق الحنابلة على اعتبار الشبهة الثانية والثالثة دارئة الحد، أما شبهة الفاعل فلا تدرأ الحد (¬1). أما الشبهة الأولى عند الشافعية والمالكية فدرأت الحد؛ لأن الفاعل غير آثم لاعتقاده الإباحة، والنسب لاحق به، والعدة واجبة على الموطوءة، والمهر واجب عليه. أما الشبهة الثانية: فدرأت الحد؛ لأن ما فيها له من ملك يقتضي الإباحة، وما فيها من ملك غيره يقتضي التحريم، فلا تكون المفسدة فيه كمفسدة الزنا المحض، فيحصل الاشتباه بسبب عدم وجود مقتض للحد في حقه، وإن وجد موجب الحد بسبب ملك غيره. وأما الشبهة الثالثة، فليس اختلاف العلماء هو الشبهة، وإنما الشبهة ناجمة عن التعارض بين أدلة التحريم والتحليل، فإن الحلال: ما قام دليل تحليله، والحرام: ما قام دليل تحريمه، وليس أحدهما أولى من الآخر، كما أن ملك أحد الشريكين يقتضي التحليل، وملك الآخر يقتضي التحريم. وإنما غلب درء الحد مع تحقق الشبهة؛ لأن المصلحة العظمى في استيفاء الإنسان عبادة الله الديان، والحدود أسباب محظرة لا تثبت إلا عند كمال المفسدة وتمحضها. الجهل بتحريم الزنا: يعذر الجاهل بالتحريم إن كان قريب العهد بالإسلام، أو نشأ في بادية بعيدة عن العلماء، أو كان مجنوناً فأفاق وزنى قبل أن يعلم الأحكام (¬2). ¬
المبحث الثاني ـ شروط حد الزنا
المبحث الثاني ـ شروط حد الزنا: لا حد على الزاني والزانية إلا بشروط، منها متفق عليه، ومنها مختلف فيه، وهي عشرة (¬1): الأول ـ أن يكون الزاني بالغاً، فلا يحد الصبي غير البالغ بالاتفاق. الثاني ـ أن يكون عاقلاً، فلا يحد المجنون بالاتفاق، فإن زنى عاقل بمجنونة أو مجنون بعاقلة، حد العاقل منهما. الثالث ـ أن يكون مسلماً، في رأي المالكية، فلا يحد الكافر إن زنى بكافرة ولكنه يؤدب إن أظهره، وإن استكره مسلمة على الزنا قتل، وإن زنى بها طائعة نكَّل به وعزر. وقال الجمهور: يحد الكافر حد الزنا، لكنه لا يرجم المحصن عند الحنفية، وإنما يجلد. ولا حد للزنا وشرب الخمر عند الشافعية والحنابلة على المستأمن؛ لأنه حق لله تعالى، ولم يلتزم بالعهد حقوق الله تعالى. الرابع ـ أن يكون طائعاً مختاراً، واختلف الفقهاء في أنه هل يحد المكره على الزنا، فقال الجمهور (¬2): لا يحد، وقال الحنابلة: يحد، كما بان في التعريف. ولا تحد المرأة إذا استكرهت على الزنا أو اغتصبت. الخامس ـ أن يزني بآدمية، فإن أتى بهيمة فلا حد عليه باتفاق المذاهب الأربعة في الأصح عند الشافعية، ولكنه يعزر، ولا تقتل البهيمة ولا بأس بأكلها عند الجمهور، وتقتل بشهادة رجلين على فعله بها، ويحرم أكلها ويضمنها عند الحنابلة. ¬
السادس ـ أن تكون المزني بها ممن يوطأ مثلها، فإن كانت صغيرة لا يوطأ مثلها، فلا حد عليه ولا عليها عند الحنفية. ولا تحد المرأة إذا كان الواطئ غير بالغ. وقال الجمهور: يحد واطئ الصغيرة التي يمكن وطؤها، وإن كانت غير مكلفة لصدق حد الزنا عليه دونها كالنائمة والمجنونة (¬1). السابع ـ ألا يفعل ذلك بشبهة (انتفاء الشبهة) فإن كان الوطء بشبهة، سقط الحد، مثل أن يظن بامرأة أنها زوجته أو مملوكته، فلا حد عند المالكية والشافعية، ويجب الحد عند أبي حنيفة وأبي يوسف والحنابلة، وهذه هي شبهة الفاعل. وكذلك لا يحد بالاتفاق من وطئ بعد وجود نكاح فاسد مختلف فيه، كالزواج دون ولي أو بغير شهود، وذلك بسبب شبهة العقد. فإن كان الزواج فاسداً بالاتفاق، كالجمع بين الأختين، ونكاح خامسة، ونكاح ذوات المحارم من النسب أو الرضاع، أو تزوج في العدة، أو ارتجاع من طلاق ثلاث دون أن تتزوج غيره، أو شبه ذلك، فيحد فيما ذكر كله، إلا أن يدعي الجهل بتحريم المذكور كله، ففيه قولان عند المالكية. الثامن ـ أن يكون عالماً بتحريم الزنا، فإن ادعى الجهل به، وهو ممن يظن به الجهل، ففيه قولان عند المالكية لابن القاسم وأصبغ، والراجح أنه لا يحد الجاهل والغالط والناسي، كمن نسي طلاق امرأته. التاسع ـ أن تكون المرأة غير حربية في دار الحرب أو دار البغي، وهذا عند الحنفية كما تقدم، أما المذاهب الأخرى، فيحد من وطئ حربية ببلاد الحرب أو دخلت عندنا بأمان. ¬
المبحث الثالث ـ عقوبة الزنا
العاشر ـ أن تكون المرأة حية فلا يحد عند الجمهور واطئ الميتة ويحد في المشهور عند المالكية، كما سيأتي بيانه. ويشترط أيضاً تحقيق معنى الزنا وهو تغييب حشفة أصلية في قبل امرأة كما تقدم، أما الوطء في الدبر أو اللواط، فلا يوجب الحد وإنما يوجب التعزير عند أبي حنيفة، ويوجب الحد كحد الزنا مكرراً أو محصناً عند سائر المذاهب ومنهم الصاحبان، لكن يرجم اللائط والملوط به مطلقاً بشرط التكليف عند المالكية (¬1). وأما من وطئ أجنبية غير محرم فيما دون الفرج، كتفخيذ وتبطين، فيعزر اتفاقاً؛ لأنه فعل منكر ليس فيه شيء مقدر شرعاً. ويشترط كذلك أن يكون الوطء في دار الإسلام، فلا حد على من وطئ في دار الحرب، كما تقدم. ولا يقام حد الزنا إلا بعد ثبوت الزنى بإقرار أو ببينة أربعة شهود عدول، كما سيأتي بيانه. المبحث الثالث ـ عقوبة الزنا: الزاني إما محصن فيجب عليه حد الرجم، أو غير محصن، فيجب عليه حد الجلد. 1 - حد الزاني البكر غير المحصن: حد الزاني البكر هو الجلد، لقوله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} [النور:2/ 24]. وقال المالكية: لا يحد الكافر الذمي والحربي حد الزنا؛ لأن وطأه لا يسمى زنا شرعاً، فيكون الإسلام شرطاً عندهم لهذا الحد، ¬
واختلف العلماء في النفي، فهل يجمع بين الجلد والتغريب على الزاني البكر (¬1). قال الحنفية: لا يضم التغريب أي النفي إلى الجلد؛ لأن الله تعالى جعل الجلد جميع حد الزنا، فلو أوجبنا معه التغريب. كان الجلد بعض الحد، فيكون زيادة على النص، والزيادة عليه نسخ، ولا يجوز نسخ النص بخبر الواحد، ولأن التغريب تعريض للمغرّب على الزنا، لعدم استحيائه من معارفه وعشيرته. فالنفي عندهم ليس بحد، وإنما هو موكول إلى رأي الإمام، إن رأى مصلحة في النفي فعل، كما أن له حبسه حتى يتوب. وقال الشافعية والحنابلة: يجمع بين الجلد والنفي أو التغريب عاماً، لمسافة تقصر فيها الصلاة، لقوله عليه الصلاة والسلام: «خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً: البكر بالبكر جلد مئة، وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مئة والرجم» (¬2) إلا أن الشق الثاني من هذا الحديث غير معمول به عند هؤلاء وغيرهم، بل الواجب على المحصن الرجم فقط للأحاديث الآتية الواردة في الرجم، ولكن لا تغرب المرأة وحدها بل مع زوج أو محرم لخبر: «لا تسافر المرأة إلا ومعها زوج أو محرم» (¬3). ¬
2 - حد الزاني المحصن
ويؤكده قصة العسيف التي رواها الجماعة عن أبي هريرة وزيد بن خالد، والتي قضى فيها النبي صلّى الله عليه وسلم على الولد الأجير بجلد مئة وتغريب عام، وعلى المرأة بالرجم. وقال المالكية: يغرب الرجل سنة، أي يسجن في البلد التي غرب إليها، ولا تغرب المرأة خشية عليها من الوقوع في الزنا مرة أخرى بسبب التغريب. قال الشوكاني (¬1): والحاصل أن أحاديث التغريب قد جاوزت حد الشهرة المعتبرة عند الحنفية فيما ورد من السنة زائداً عن القرآن، فليس لهم معذرة عنها بذلك، وقد عملوا بما هو دونها بمراحل. وبهذا يظهر أنه لا يجمع بين الجلد والرجم بالاتفاق بين المذاهب الأربعة. وقال الظاهرية: يجمع بين الجلد والرجم لظاهر حديث: «والثيب بالثيب جلد مئة، ورجم بالحجارة». 2 - حد الزاني المحصن: اتفق العلماء ما عدا الخوارج على أن حد الزاني المحصن هو الرجم، بدليل ما ثبت في السنة المتواترة وإجماع الأمة، والمعقول (¬2). ¬
أما السنة فكثير من الأحاديث: منها قوله عليه الصلاة والسلام: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» (¬1) ومنها قصة العسيف الذي زنى بامرأة، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام لرجل من أسلم: «واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» (¬2). وقصة ماعز التي وردت من جهات مختلفة، فقد اعترف بالزنا فأمر الرسول عليه السلام برجمه (¬3). وقصة الغامدية التي أقرت بالزنا فرجمها الرسول صلّى الله عليه وسلم بعد أن وضعت (¬4). وأجمعت الأمة على مشروعية الرجم، ولأن المعقول يوجب مثل هذا العقاب؛ لأن زنا المحصن غاية في القبح، فيجازى بما هو غاية من العقوبات الدنيوية (¬5). ¬
شرط الرجم ـ الإحصان
شرط الرجم ـ الإحصان: يشترط لإقامة حد الرجم توافر الإحصان، والإحصان لغة: المنع، وشرعاً جاء بمعنى الإسلام والبلوغ والعقل والحرية والعفة والتزويج، ووطء المكلف الحر في نكاح صحيح. والمراد هنا هو المعنى الأخير عند الشافعية (¬1). وقال الحنفية: الإحصان نوعان: إحصان الرجم وإحصان القذف، أما إحصان الرجم: فهو عبارة في الشرع عن اجتماع صفات اعتبرها الشرع لوجوب الرجم، وهي سبعة: العقل والبلوغ، والحرية، والإسلام والنكاح الصحيح، والدخول في النكاح الصحيح على وجه يوجب الغسل، ولو من غير إنزال، وكون الزوجين جميعاً على هذه الصفات وقت الدخول (¬2). فإذا اختل شرط من هذه الشروط، وجب الجلد، لقوله تعالى: {فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} [النور:2/ 24]. وقد ترتب على اشتراط الشرط الأخير: أنه لو دخل الزوج البالغ العاقل الحر المسلم بزوجته وهي صبية أو مجنونة أو أمة، لا يصير محصناً ما لم يوجد دخول آخر بعد زوال هذه العوارض؛ لأن اجتماع هذه الصفات في الزوجين معاً يشعر بكمال حالهما، وهذا يشعر بكمال اقتضاء الشهوة من الجانبين. وروي عن أبي يوسف: أنه لم يشترط هذا الشرط الأخير، فيصير المسلم محصناً إذا وطئ كافرة مثلاً. وهو رأي الشافعية (¬3)، فإنهم قالوا: لو كان أحد الشريكين في الوطء صغيراً، والآخر بالغاً، أو أحدهما مستيقظاً والآخر نائماً، أو ¬
اختلاف العلماء في اشتراط الإسلام للإحصان
أحدهما عاقلاً والآخر مجنوناً، أو أحدهما عالماً بالتحريم والآخر جاهلاً، أو أحدهما مختاراً والآخر مستكرهاً، أو أحدهما مسلماً والآخر مستأمناً، وجب الحد على من هو من أهل الحد، ولم يجب على الآخر؛ لأن أحدهما انفرد بما يوجب الحد، وانفرد الآخر بما يسقط الحد، فوجب الحد على أحدهما، وسقط عن الآخر. وإن كان أحدهما محصناً، والآخر غير محصن، وجب على المحصن الرجم، وعلى غير المحصن الجلد والتغريب؛ لأن أحدهما انفرد بسبب الرجم، والآخر انفرد بسبب الجلد والتغريب. اختلاف العلماء في اشتراط الإسلام للإحصان: قال أبو حنيفة ومالك: الإسلام من شروط الإحصان، فلا يرجم الذمي إذا تحاكم إلينا، ولا تحصن الذمية مسلماً؛ لأن الرجم تطهير، والذمي ليس من أهل التطهير، بل لا يطهر إلا بحرقه في الآخرة بالنار، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: «من أشرك بالله فليس بمحصن» (¬1). وقال صلّى الله عليه وسلم لكعب بن مالك حين أراد أن يتزوج يهودية: «دعها فإنها لا تحصنك» (¬2). قالوا: وأما رجمه اليهوديين (¬3) فكان بحكم التوراة قبل نزول آية ¬
صفة حد الزنا
الرجم ثم نسخ (¬1). وقال الشافعي وأحمد وأبو يوسف (¬2): ليس الإسلام من شروط إحصان الرجم، فيحد الذمي إذا ترافع إلينا، وإن تزوج المسلم ذمية فوطئها صارا محصنين؛ لما روى ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلّى الله عليه وسلم أتي بيهوديين زنيا، فأمر برجمهما، ولو كان الإسلام شرطاً لما رجم، ولعموم قوله صلّى الله عليه وسلم: «الثيب بالثيب رمياً بالحجارة» (¬3)، ولأن اشتراط الإسلام للزجر عن الزنا، والدين عموماً يصلح للزجر عن الزنا؛ لأن الزنا حرام في الأديان كلها. والخلاصة: إن الفقهاء اتفقوا على خمسة شروط في الإحصان المشترط للرجم، وهي البلوغ والعقل والحرية، وتغييب الحشفة، وتقدم الوطء بنكاح صحيح: وهو أن يتقدم للزاني والزانية وطء مباح في الفرج بتزويج صحيح، فلا يحصن زنا متقدم، ولا وطء بملك اليمين، ولا وطء فيما دون الفرج، ولا وطء بنكاح فاسد أو شبهة، ولا وطء في صيام أو حيض أو اعتكاف أو إحرام، ولا وطء نكاح في الشرك، ولا بعد عقد نكاح دون وطء. واختلفوا في اشتراط الإسلام على رأيين، منها تحقق هذه الشروط في كلا الزوجين. صفة حد الزنا: حد الزنا حق خالص الله تعالى، أي حق للمجتمع؛ لأنه وجب صيانة للأعراض عن التعرض لها، ومحافظة على المصالح العامة، وهي دفع الفساد الراجح إليهم، ويترتب عليه ما يلي: ¬
الفرق بين حق الله تعالى وحق الآدمي
1 - إنه حد لا يحتمل العفو والصلح والإبراء عنه، بعد ما ثبت بالحجة، لأنه كما تقدم حق خالص لله تعالى، لا حق للعبد فيه، فلا يملك أحد إسقاطه. 2 - إنه يجري فيه التداخل (¬1)، حتى لو زنى مراراً لا يجب عليه إلا حد واحد؛ لأن المقصود من إقامة الحد، هو الزجر، وإنه يحصل بحد واحد، لكنه لو زنى فحد، ثم زنى ثانياً حد ثانياً؛ لأنه تبين أن المقصود وهو الزجر لم يحصل بالحد الأول، بدليل وقوعه منه ثانية، فيحد مرة أخرى، رجاء أن يحصل به الزجر المطلوب (¬2). الفرق بين حق الله تعالى وحق الآدمي: حق الله: أمره ونهيه. وحق العبد: مصالحه وتكاليفه، وهو كل ما للعبد إسقاطه. أما حق الله: فهو كل ما ليس للعبد إسقاطه. وتكاليف الشريعة ثلاثة أقسام بالنسبة لهذه القسمة (¬3). 1 - حق الله تعالى فقط كالإيمان وتحريم الكفر. 2 - وحق العباد فقط كالديون وأثمان الأشياء. 3 - وقسم اختلف فيه، هل يغلب فيه حق الله، أو حق العبد كحد القذف. قال القرافي: نعني بحق العبد المحض: أنه لو أسقطه لسقط، كما تبين، وإلا ¬
فما من حق للعبد، إلا وفيه حق لله تعالى: وهو أمره بإيصال ذلك الحق إلى مستحقه، فيوجد حق الله تعالى دون حق العبد، ولا يوجد حق العبد إلا وفيه حق الله تعالى. وإنما يعرف ذلك بصحة الإسقاط، فكل ما للعبد إسقاطه فهو حق العبد، وكل ما ليس له إسقاطه فهو حق الله تعالى. وقد يوجد حق الله تعالى: وهو ما ليس للعبد إسقاطه، ويكون معه حق العبد، كتحريمه تعالى لعقود الربا والغرر والجهالات، فإن الله تعالى إنما حرمها صوناً لمال العبد عليه، وصوناً له عن الضياع بعقود الغرر والجهل، فلا يحصل المعقود عليه بكامله أو أغلبه، فيضيع المال، فحجر الرب تعالى برحمته على عبده في تضييع ماله الذي هو عونه على أمر دنياه وآخرته، ولو رضي العبد بإسقاط حقه في ذلك، لم يؤثِّر رضاه. وكذلك حجر الرب تعالى على العبد في إلقاء ماله في البحر، وتضييعه من غير مصلحة، ولو رضي العبد بذلك لم يعتبر رضاه. وكذلك تحريمه تعالى المسكرات صوناً لمصلحة عقل العبد عليه، وحرم السرقة صوناً لماله، والزنا صوناً لنسبه، والقذف صوناً لعرضه، والقتل والجرح صوناً لنفسه وأعضائه ومنافعها عليه، ولو رضي العبد بإسقاط حقه من ذلك، لم يعتبر رضاه، ولم ينفذ إسقاطه. فهذه كلها وما يلحق بها من نظائرها مما هو مشتمل على مصالح العباد: حق الله تعالى؛ لأنها لا تسقط بالإسقاط، وهي مشتملة على حقوق العباد، لما فيها من مصالحهم ودرء مفاسدهم. وأكثر الشريعة من هذا النوع كالرضا بولاية الفسقة وشهادة الأراذل ونحوها، فحجر الرب تعالى على العبد في هذه المواطن لطفاً به ورحمة له سبحانه وتعالى.
هل يجب الحد والمهر على الرجل المكره على الزنا؟
هل يجب الحد والمهر على الرجل المكرَه على الزنا؟: الرأي الذي استقر عليه أبو حنيفة أخيراً، ورأي الصاحبين: أنه لا يحد المستكره على الزنا، وإنما عليه الصداق؛ لأنه حيث سقط الحد، يجب المهر للمرأة. وقال الحنابلة وبعض المالكية: عليه الصداق والحد جميعاً. وقال الشافعية ومحققو المالكية: عليه الصداق فقط، وليس عليه الحد لوجود الشبهة (¬1) ولحديث: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه» (¬2). والخلاصة: أن الجمهور على الأرجح يرون الصداق على المستكره وليس عليه العقوبة، وأن الحنابلة يوجبون عليه الصداق والعقوبة معاً. المبحث الرابع ـ إثبات الزنا عند القاضي: أجمع العلماء على أن الزنا يثبت بالإقرار أو بالشهادة، ولا تثبت حدود الله تعالى كالزنا والسرقة والمحاربة والشرب بعلم القاضي حالة القضاء أو قبل القضاء؛ لأنها تدرأ بالشبهات ويندب سترها (¬3). أما الحكمة من اشتراط الحجة لإيقاع العقوبة فواضحة، وهي أن من تمام حكمة الله ورحمته أنه لم يأخذ الجناة بغير حجة، كما لم يعذبهم في الآخرة إلا بعد إقامة الحجة عليهم، وجعل الحجة التي يأخذهم بها إما منهم: وهي الإقرار أو ما يقوم مقامه من إقرار الحال، وهو أبلغ وأصدق من إقرار اللسان، فإن من قامت ¬
عليه شواهد الحال بالجناية كرائحة الخمر وقيئها، ووجود المسروق في دار السارق، وتحت ثيابه، أولى بالعقوبة، ممن قامت عليه شهادة على إخباره عن نفسه التي تحتمل الصدق والكذب. وهذا متفق عليه بين الصحابة، وإن نازع فيه بعض الفقهاء. وإما أن تكون الحجة من غير الجناة: وهي البينة، واشترط فيها العدالة، وعدم التهمة. وهما شرطان توجبهما العقول والفطر السليمة ويحققان المصلحة (¬1). وجعل الصحابة الحمل علامة على الزنا (¬2) وقد أخذ بذلك المالكية وابن القيم، أما الحنابلة فقالوا: تحد الحامل بالزنا، وزوجها بعيد عنها، إذا لم تدّع شبهة، ولا يثبت الزنا بحمل المرأة وهي خلية لا زوج لها. ولم يأخذ الحنفية والشافعية بإثبات الزنا بالقرائن. أما البينة: فهي شهادة أربعة رجال، ذكور، عدول، أحرار، مسلمين، على الزنا بأن يقولوا: رأيناه وطئها في فرجها، كالميل في المُكحُلة، على حد تعبير الفقهاء. يفهم مما ذكر ومما قرره الحنفية أنه يشترط في البينة شروط: بعضها وهي البلوغ والعقل والذكورة والحرية والعدالة والأصالة يعم كل الحدود، وبعضها وهو عدم التقادم يخص الزنا والسرقة وشرب الخمر. والباقي خاص بالزنا (¬3). ¬
1 - عدد الأربع في الشهود في حد الزنا لقوله تعالى: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم} [النساء:15/ 4] وقوله عز اسمه: {لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء} [النور:13/ 24] وقوله سبحانه في حد القذف: {والذين يرمون المحصنات، ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} [النور:4/ 24]. فإذا شهد ثلاثة، وقال الرابع: رأيتهما في لحاف واحد، ولم يزد عليه: يحد الثلاثة عند الحنفية حد القذف، ولا حد على الرابع؛ لأنه لم يقذف. وإن شهد شهود دون أربعة في مجلس الحكم بزنا حدوا بالاتفاق حد القذف؛ لأن عمر حد الثلاثة الذين شهدوا على المغيرة بالزنا (¬1). 2 - التكليف: أي البلوغ والعقل، فلا تقبل شهادة الصبيان والمجانين. 3 - الذكورة: فلا تقبل شهادة النساء بحال، تكريماً لهن؛ لأن الزنا فاحشة. وأما الإحصان فيثبت بشهادة الرجال مع النساء عند الحنفية ما عدا زفر. 4 - العدالة: فلا تقبل شهادة الفاسق ولا مستور الحال الذي لا تعلم عدالته لجواز أن يكون فاسقاً. فإن شهد أربعة بالزنا وهم فساق، أو ظهر أنهم فساق لم يحدوا حد القذف؛ لأن الفاسق من أهل الأداء والتحمل، وإن كان في أدائه نوع قصور لتهمة الفسق. 5 - الحرية: فلا تقبل شهادة العبيد. 6 - الإسلام: فلا تقبل شهادة أهل الذمة لعدم تحقق عدالتهم. 7 - الأصالة: فلا تقبل الشهادة على الشهادة، ولا كتاب القاضي إلى القاضي، لتمكن الشبهة في وقوع الجريمة، والحدود لا تثبت مع الشبهات. ¬
8 - اتحاد المشهود به: وهو أن يجمع الشهود الأربعة على فعل واحد، في مكان واحد وزمان واحد. 9 - اتحاد المجلس: أي أن يكون الشهود مجتمعين في مجلس واحد وقت أداء الشهادة. فإن جاؤوا متفرقين واحداً بعد واحد لا تقبل شهادتهم، ويحدون حد القذف، لقول عمر رضي الله عنه: «لو جاؤوا مثل ربيعة ومضر فرادى لجلدتهم» أي أن المراد اتحاد المجلس عند أداء الشهادة. وهذا عند الحنفية، وأما بقية الفقهاء فلم يقولوا بهذا الشرط. 10 - أن يكون المشهود عليه الزنا ممن يتصور منه الوطء، فلو كان مجبوباً لاتقبل شهادتهم، ويحدون حد القذف. 11 - أن يكون المشهود عليه الزنا ممن يقدر على دعوى الشبهة، فإن كان أخرس، لم تقبل شهادتهم، إذ قد يدعي الشبهة لو كان قادراً. 12 - عدم التقادم من غير عذر ظاهر: وهو شرط في حد الزنا والسرقة وشرب الخمر كما تقدم. ومعناه ألا تمضي مدة بعد مشاهدة الجريمة وأداء الشهادة، منعاً من التهمة وإثارة الفتنة، إذ أن أداء الشهادة بعد مضي مدة من غير عذر ظاهر، يدل على أن الضغينة هي الحاملة على الشهادة، كما قال سيدنا عمر رضي الله عنه: «أيما قوم شهدوا على حد، لم يشهدوا عند حضرته، فإنما شهدوا عن ضغن، ولا شهادة لهم». فإذا كان التقادم لعذر ظاهر، كعدم وجود حاكم في موضع أو بُعد مسافة خوف طريق، فلا يمنع من قبول الشهادة. ومدة التقادم متروك تقديرها إلى اجتهاد القاضي عند أبي حنيفة، لاختلاف
اختلاف العلماء في بعض شروط الشهادة على الزنا
أعذار الناس في كل زمان وبيئة. وقال الصاحبان: مدة التقادم شهر أو أكثر، فإن كان دون شهر فليس بمتقادم؛ لأن الشهر أدنى الآجل، فكان ما دونه في حكم العاجل. 13 - بقاء الشهود على أهليتهم حتى يقام الحد: فلو ماتوا، أو غابوا، أو عموا، أو ارتدوا، أو خرسوا، أو ضربوا حد القذف قبل إقامة الحد، أو قبل أن يقضى بشهادتهم، سقط الحد؛ لأن هذه العوارض لو اقترنت بالشهادة منعت من قبولها، فكذلك إذا اعترضتها بعدئذ (¬1)، ويحد الباقي حد القذف؛ لأن الشهود حينئذ أقل من أربعة، ومتى كانوا أقل حدوا حد القذف. وقال الشافعية والحنابلة: لا تؤثر هذه العوارض بعد أداء الشهادة (¬2). ولو رجع الشهود عن شهادتهم على محض بالزنا، بعد أن حكم القاضي عليه بالرجم فرجم، ضمنوا ديته. ولو أنكر الشاهد شهادته بعد الحكم بالرجم، لا يضمن شيئاً من الدية؛ لأن إنكار الشهادة ليس برجوع، بل الرجوع أن يقول: كنت مبطلاً في الشهادة (¬3). اختلاف العلماء في بعض شروط الشهادة على الزنا: 1 - اتحاد المشهود به: قال الأئمة الأربعة: يشترط في شهادة الشهود الأربعة اتحاد المشهود به: وهو أن يجمع الشهود الأربعة على فعل واحد، في المكان والزمان، كما بان عند الحنفية. فإن اختلفوا لا تقبل شهادتهم، فلو شهد اثنان أنه زنى في مكان كذا، وشهد آخران أنه زنى في مكان آخر في بيت صغير وزواياه ¬
2 - اتحاد مجلس الشهادة
متقاربة، أو شهد اثنان أنه زنى بها في يوم كذا، وشهد اثنان آخران أنه زنى بها في يوم آخر، فإنه لا يحد المشهود عليه، ولا حد على الشهود أيضاً عند جمهور الحنفية؛ لأن المشهود به لم يختلف عند الشهود؛ لأن عندهم أن هذا زنا واحد. وعند زفر: يحدون؛ لأن عدد الشهود قد انتقص، ونقصان عدد الشهود يوجب صيرورة الشهادة قذفاً، كما لو شهد ثلاثة بالزنا. واختلفوا فيما لو شهد اثنان أنه زنى بها في هذه الزاوية من البيت، وشهد آخران أنه زنى بها في زاوية أخرى، وكان المكان ضيقاً: فقال أبو حنيفة وأحمد: تقبل هذه الشهادة، لجواز ابتداء الفعل في زاوية، وانتهائه في زاوية أخرى، أما لو كان البيت كبيراً فلا تقبل؛ لأنه يكون بمنزلة البيتين (¬1). وقال مالك والشافعي: لا تقبل هذه الشهادة، ولا يثبت بها الحد؛ لأنهم لم يتفقوا على زنية واحدة (¬2). 2 - اتحاد مجلس الشهادة: قال أبو حنيفة: يشترط أن يكون الشهود مجتمعين، وأن يؤدوا الشهادة في مجلس واحد، فإن جاؤوا متفرقين يشهدون واحداً بعد الآخر، لا تقبل شهادتهم، كما بان سابقاً. وقال مالك وأحمد: يشترط اتحاد مجلس القاضي فقط، فإن جاء الشهود متفرقين، والحاكم جالس في مجلس حكمه لم يقم، تقبل شهادتهم، وإن جاء بعضهم بعد أن قام الحاكم كانوا قَذَفة وعليهم الحد (¬3). ¬
تقادم الشهادة
وقال الشافعي: ليس ذلك بشرط، لا في مجيئهم، ولا في اجتماعهم، بل متى شهدوا بالزنى متفرقين، ولو واحداً بعد الآخر، وجب الحد، لقوله تعالى: {لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء} [النور:13/ 24] ولم يذكر المجلس، ولأن المهم هو اتحاد شهادة الشهود، سواء في مجلس واحد أو في مجالس، كسائر الشهادات (¬1). تقادم الشهادة: قال الحنفية: لا تقبل الشهادة بمضي الزمن، على الخلاف السابق الذي ذكر. وقال مالك والشافعي وأحمد: إن الشهادة في الزنا والقذف وشرب الخمر تقبل بعد مضي زمان طويل من الواقعة، لعموم آية الشهادة في الزنا، ولأنه حق لم يثبت لنا ما يبطله، وقد يكون التأخير لعذر أو غيبة، والحد لا يسقط بمطلق الاحتمال (¬2). دور القاضي مع شهود الزنا: إذا اجتمعت الشروط السابقة في الشهود، وشهدوا عند القاضي، سألهم عن ماهية الزنا، وكيفية الزنا، ومكان الزنا، وزمان الزنا، والمزني بها (¬3). أما سؤاله عن ماهية الزنا: فلأنه يحتمل أن يريد غير الزنا الموجب للحد، كالزنا بالعين، أو باليد. ¬
الإقرار بالزنا
وأما سؤاله عن كيفية الزنا: فلأنه يحتمل أن يريد الجماع فيما دون الفرج، كالمفاخذة. وأما سؤاله عن مكان الزنا: فلأنه يحتمل أنه زنى في دار الحرب، أو في دار البغي في رأي الجمهور غير الشافعية كما سيأتي في حد البغاة. وأما سؤاله عن زمان الزنا: فلأنه يحتمل أن يشهد بزنا متقادم. وأما سؤاله عن المزني بها: فلأنه يحتمل أن تكون الموطوءة ممن لا يجب الحد بوطئها، كالموطوءة بشبهة. الإقرار بالزنا: هو عند الحنفية أن يقر البالغ العاقل، أربع مرات بالزنا، عند القاضي، في أربعة مواطن. شروط الإقرار: اشترط الحنفية شروطاً في الإقرار: منها ما يعم الحدود كلها، ومنها ما يخص بعضها. أما الشرائط التي تعم الحدود كلها، فهي (¬1): 1 - البلوغ: فلا يصح إقرار الصبي في شيء من الحدود؛ لأن فعل الصبي لا يوصف بكونه جناية. 2 - النطق: وهو أن يكون الإقرار بالخطاب والعبارة، دون الكتابة أو ¬
الشرائط التي تخص بعض الحدود
الإشارة، فلا يكفي الإقرار من الأخرس، لا بالكتابة ولا بالإشارة، لأن الشرع علق وجوب الحد بالبيان المتناهي، والبيان لا يتناهى إلا بالصريح. وقال الشافعية: يكفي في ثبوت الحد إشارة الأخرس بالإقرار بالزنا. 3 - الاختيار أو الطواعية: فلا يقبل إقرار المكره في الحدود والأموال. وأما الشرائط التي تخص بعض الحدود فهي: 1 - تعدد الإقرار: أي كون الإقرار مكرراً أربع مرات في حد الزنا خاصة، بأن يقر أربع مرات على نفسه مع كونه بالغاً عاقلاً، طلباً للتثبت في إقامة الحد، ولأن ماعزاً أقر أمام الرسول صلّى الله عليه وسلم أربع مرات (¬1). وهذا هو مذهب الحنفية والحنابلة (¬2). وقال المالكية والشافعية (¬3): يكفي في وجوب الحد إقرار واحد مرة واحدة (¬4)؛ لأن من المستبعد كذب الإنسان على نفسه، واعترافه بما يوجب الحد، ولأن الإقرار إخبار، والخبر لا يزيد رجحاناً بالتكرار، وقد قال الرسول صلّى الله عليه وسلم في قصة العسيف: «اغد يا أنيس ـ رجل من أسلم ـ إلى امرأ ة هذا، فإن اعترفت ¬
فارجمها» (¬1) كما سبق ذكره. واعترفت الغامدية بالزنا، فقال لها الرسول عليه الصلاة والسلام: «ويحك ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه، فقالت: أراك تريد أن ترددني كما رددت ماعز بن مالك، قال: وما ذاك؟ قالت: إنها حبلى من الزنى، قال: أنتِ؟ قالت: نعم، فقال لها: حتى تضعي ما في بطنك» (¬2) ونحوهما من الأحاديث. 2 - تعدد مجالس الإقرار بالزنا: وهو أن يقر في أربعة مجالس متفرقة؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام اعتبر اختلاف مجالس ماعز، حيث كان يخرج من المسجد في كل مرة، ثم يعود، ومجلسه عليه الصلاة والسلام لم يختلف، وهذا هو مذهب الحنفية. وقال جمهور العلماء: يكفي أن يكون الإقرار في مجلس واحد (¬3). 3 - أن يكون الإقرار بين يدي الإمام أو القاضي: وإلا لم يعتبر؛ لأن إقرار ماعز كان عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإن شهد شهود على إقرار شخص أربع مرات في مجالس مختلفة أمام من ليس له إقامة الحد، فلا يقبل القاضي هذه الشهادة؛ لأن الزاني إن كان منكراً، فقد رجع عن الإقرار، وإ ن كان مقراً، فلا عبرة لشهادة مع الإقرار. 4 - الصحو في الإقرار بالزنا والسرقة والشرب والسكر: فإذا أقر شخص وهو سكران، لم يصح إقراره. ¬
الإقرار حجة قاصرة
5 - أن يكون الإقرار بالزنا ممن يتصور منه الزنا: فإن كان لا يتصور كالمجبوب لفقدان آلته، لم يصح إقراره، أما لو كانت آلته موجودة كالعنِّين والخصي، فيصح إقراره، لوجود الآلة عنده. 6 - أن يكون المزني به ممن يقدر على ادعاء الشبهة بأن كان ناطقاً: فإن لم يقدر كأن تكون المزني بها خرساء، أو المزني به أخرس، لم يصح إقراره، لجواز ادعائه وجود عقد النكاح، أو إنكار الزنا. الإقرار حجة قاصرة: إذا أقر أحد الشريكين في الوطء بالزنا وأنكر الآخر، وجب على المقر الحد (¬1)؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال في قصة العسيف: «على ابنك جلد وتغريب عام، واغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» (¬2) وروى سهل بن سعد الساعدي أن رجلاً أقر أنه زنى بامرأة، فبعث النبي صلّى الله عليه وسلم إليها، فجحدت، فحد الرجل (¬3). تقادم الإقرار: اتفق العلماء على أن التقادم لا يؤثر في الإقرار بالزنا؛ لأن الإنسان غير متهم على نفسه. وعلى هذا فيقبل الإقرار بالزنا بعد مدة (¬4). دور القاضي مع المقر بالزنا: إذا أقر إنسان بالزنا عند القاضي، ينبغي أن يظهر له الكراهية، أو يطرده، يفعل ذلك ثلاث مرات، كما فعل الرسول صلّى الله عليه وسلم مع ماعز. فإذا أقر أربع مرات عند الحنفية نظر القاضي في حاله: أهو صحيح العقل أم ¬
الرجوع عن الإقرار
به آفة، كما فعل الرسول عليه السلام مع ماعز، حيث قال له: أبك خبَل أم بك جنون؟ وبعث به إلى قومه، فسألهم عن حاله. فإذا عرف أنه صحيح العقل، سأله عن ماهية الزنا، وعن كيفيته، وعن مكانه، وعن المزني بها، للأسباب التي ذكرت في الشهادة على الزنا. فإذا بين ذلك كله سأله القاضي عن حاله: أهو محصن أم لا؟ لأن حكم الزنا يختلف بالإحصان وعدمه. فإذا قال: أنا محصَن، سأله القاضي عن الإحصان: ماهو؟ لأنه عبارة عن اجتماع شرائط لا يعرفها كل واحد. فإذا فسره التفسير الشرعي المطلوب، حكم عليه بالرجم وأمر بإقامته عليه (¬1). الرجوع عن الإقرار: قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد: إذا اعترف شخص عند القاضي بالزنا، ثم رجع عن إقراره بعد الحكم بالحد، أوبعد إقامة بعض الحد، أو هرب، فإنه يسقط عنه الحد (¬2)، عملاً بحديث «ادرؤا الحدود بالشبهات»، والرسول عليه السلام لقن ماعزاً الرجوع بقوله: «لعلك مسستها أو لعلك قبلتها!» (¬3) وقال لأصحابه حينما هرب ماعز فاتبَعوه: «هلا تركتموه، لعله أن يتوب، فيتوب الله عليه» (¬4). ¬
المبحث الخامس ـ إقامة الحد على الزاني
والمشهور عند المالكية: أن الرجوع عن الإقرار لشبهة أو لا لشبهة، كقوله: كذبت على نفسي، أو وطئت زوجتي وهي محرمة، فظننت أنه زنا، يسقط الحد، وروي عن الإمام مالك أنه قال: لا يعذر إلا إذا رجع لشبهة، عملاً بحديث: «لا عذر لمن أقر» (¬1). والخلاصة: أن الرجوع عن الإقرار جائز بالاتفاق. المبحث الخامس ـ إقامة الحد على الزاني: شروط إقامة الحد: يشترط لإقامة الحد ما يلي: أولاً ـ هناك شرائط لإقامة الحد: منها ما يعم الحدود كلها، ومنها ما يخص حد الرجم. أما ما يعم الحدود كلها فهو الإمامة كما سيأتي، وأما ما يخص حد الرجم: فهو شرط البداية من الشهود في الرجم. وعلى هذا فالإمام أو من ينوب عنه هو مقيم الحد. فإذا كان الحد جلداً فهو الذي يقيمه أو ينيب عنه أحداً. وأما إذا كان الحد رجماً، فيشترط البداية من الشهود في الرجم، إذا ثبت الحد بالشهادة، فإذا ثبت بالإقرار، فيبدأ الإمام بالرجم (¬2). اختلاف العلماء في اشتراط بداءة الشهود بالرجم: قال الحنفية: إن ثبت وجوب الرجم بالشهادة، فيشترط بدء الشهود بالرجم استحساناً، بدليل ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: «يرجم الشهود أولاً ثم ¬
الإمام ثم الناس» (¬1) وكلمة «ثم» للترتيب، وكان ذلك بمحضر من الصحابة، ولم ينكر أحد، فكان إجماعاً، ولأن في اعتبار هذا الشرط احتياطاً في درء الحد؛ لأن الشهود إذا بدؤوا بالرجم ربما استعظموا فعله، فيحملهم هذا على الرجوع عن الشهادة، فيسقط الحد عن المشهود عليه، فإن امتنع بعض الشهود عن الرجم، سقط الرجم عند أبي حنيفة ومحمد، وفي رواية عن أبي يوسف؛ لأن امتناعهم عن الرجم أورث شبهة الكذب في شهادتهم. هذا بخلاف الجلد، فلا يشترط ابتداء الشهود به؛ لأنهم لا يعرفونه على وجهه الصحيح، ولأن الأثر عن علي ورد في الرجم خاصة، فيبقى أمر الجلد على أصل القياس. وقال المالكية: إذا حضر الإمام الرجم، جاز له أن يبدأ هو وأن يبدأ غيره، فلم يثبت عند الإمام مالك في حديث صحيح ولا سنة معمول بها بداءة البينة بالرجم، ثم من بعدهم الإمام، أي الحاكم، ثم الناس عقبه (¬2). وقال الشافعية والحنابلة: السنة إذا ثبت الحد بالبينة أن يبدأ الشهود بالرجم، ثم الحاكم، ثم الناس؛ لأن الشهود في غير أداء الشهادة هم وسائر الناس سواء، فلا يلزم أحد بذاك. والإمام هو الذي يستوفي الحدود، ولأن الرجم أحد نوعي الحد، فيقاس على الجلد، الذي لا يشترط فيه البداية من الشهود (¬3). ¬
وهذا الرأي هو مقتضى القياس عند الحنفية. ثانياً ـ لا يقيم الحدود إلا الإمام أو من فوض إليه الإمام، باتفاق الفقهاء؛ لأنه لم يقم حد على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلا بإذنه، ولا في أيام الخلفاء إلا بإذنهم، ولأن الحد حق لله تعالى يفتقر إلى الاجتهاد، ولا يؤمن فيه الحيف، فلم يجز بغير إذن الإمام (¬1). ثالثاً ـ يشترط عند الحنفية وجود أهلية أداء الشهادة لدى الشهود عند إقامة الحد، فلو بطلت أهليتهم بالفسق أو الردة أو الجنون أو العمى أو الخرس أو نحوها، سقط الحد (¬2) كما سبق بيانه. ولم يشترط الجمهور هذا الشرط. رابعاً ـ يشترط بالاتفاق: ألا يكون في إقامة حد الجلد خوف الهلاك؛ لأن هذا الحد شرع زاجراً لا مهلكاً، فلا يجوز إقامة حد الجلد في الحر الشديد والبرد الشديد، والمرض والنفاس، والحمل؛ لأن الحد إذا أقيم في هذه الأحوال أدى إلى القتل، ولأنه يخشى هلاك الحامل وهلاك ولدها (¬3) لكن الشافعية والحنابلة أجازوا إقامة الحد في المرض الذي لا يرجى برؤه (¬4)، وقالوا في هذه الحالة أو إذا كان نضو الخلق لا يطيق الضرب: يضرب بمئة شمراخ دفعة واحدة، لما روى سهل بن حنيف أنه أمر في رجل مريض أضنى أن يأخذوا مئة شمراخ، فيضربوه بها ضربة واحدة (¬5)، ولأنه لا يمكن ضربه بالسوط؛ لأنه يتلف به، ولا يمكن تركه؛ لأنه يؤدي إلى تعطيل الحد. أما الضمان فقال الشافعية: ¬
حالة المحدود
إن أقيم الحد في الحال التي لا تجوز إقامته، فهلك منه، لم يضمن؛ لأن الحق قتله، وإن أقيم في الحال التي لا تجوز إقامته، فإن كانت حاملاً، فتلف منه الجنين وجب الضمان؛ لأنه مضمون، فلا يسقط ضمانه بجناية غيره، وإن تلف المحدود فإذا أقيم الحد في شدة حر أو برد، فهلك لا ضمان عليه. وقال الجمهور: لا ضمان بهلاك المحدود. وسيأتي مزيد بيان له في بحث التعزير. وأما الرجم فلا يشترط لإقامته عدم خوف الهلاك؛ لأنه حد مهلك، إلا الحامل، فإنه لا يقام عليها الرجم وقت حملها؛ لأنه يؤدي إلى إهلاك ولدها بدون حق، وهو لا يجوز، فيؤخر رجم الحامل حتى تضع حملها؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام رد المرأة الغامدية أو الجهنية حينما قالت: «فوالله إني لحبلى». فقال: «إما لا، فاذهبي حتى تلدي» ثم قال: «اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه» (¬1). حالة المحدود: ذهب الجمهور إلى أن المحدود بالرجم إذا كان رجلاً يقام عليه الحد قائماً، ولا يربط بشيء، ولا يمسك، ولا يحفر له، سواء ثبت الرجم بالبينة أم بالإقرار، كما فعل الرسول عليه السلام بماعز، فلم يحفر له (¬2)، ولأن الحفر له لم يرد به الشرع في حق المحدود فوجب ألا يثبت، ولأن المرجوم قد يفر، فيكون فراره ¬
دلالة على الرجوع عن قراره، وقد هرب ماعز من أرض قليلة الحجارة إلى أرض كثيرة الحجارة (¬1). وإذا كان المحدود امرأة، فقال الحنفية: يخير الإمام في الحفر لها، إن شاء حفر لها وإن شاء ترك الحفر، أما الحفر فلأنه أستر لها، وقد روي أن الرسول صلّى الله عليه وسلم حفر للمرأة الغامدية إلى ثَنْدوتها (أي ثديها) (¬2). وأما ترك الحفر فلأن الحفر للستر وهي مستورة بثيابها؛ لأنها لا تجرد عند إقامة الحد. وقال الشافعية: الأصح استحباب الحفر للمرأة إن ثبت زناها بالبينة، لئلا تنكشف، بخلاف ما إذا ثبت زناها بالإقرار لتتمكن من الهرب إن رجعت عن إقرارها. وقال المالكية والحنابلة: لا يحفر للمرأة، لعدم ثبوته. قال ابن رشد: وبالجملة فإن الأحاديث في ذلك مختلفة. والمشهور عند المالكية أنه لا يحفر للمرجوم حفرة. وقال أحمد (¬3): أكثر الأحاديث على ألا حفر، فإن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يحفر للجهنية ولالماعز، ولا لليهوديين (¬4). ¬
أشد الضرب
وأما حالة المحدود قياماً أو قعوداً في أثناء الجلد، فقال الحنفية: يقام الرجل، وتضرب المرأة قاعدة، وينزع عن الرجل ثيابه إلا الإزار، ويجرد عن ثيابه في كل الحدود والتعزير إلا حد القذف، فيكتفى بنزع الحشو والفرو. وأشد الضرب: هو التعزير إذا رأى الإمام ذلك للزجر والردع، ثم الجلد في الزنا، ثم حد الشرب، ثم حد القذف؛ لأن جناية الزنا أعظم من جناية الشرب والقذف؛ لأن القذف نسبة إلى الزنا، فكان دون حقيقة الزنا، ولأن قبح الزنا ثبت شرعاً وعقلاً. أما جريمة نفس الشرب فقد ثبتت شرعاً لا عقلاً، ولهذا كان الزنا حراماً في كل الأديان بخلاف الشرب، والخمر أيضاً يباح عند المخمصة والإكراه، ولا يباح الزنا عند الإكراه وغلبة الشهوة، وكذا وجوب الجلد ثبت في الزنا بنص الكتاب العزيز، وأما حد الشرب فثبت بالاجتهاد. وأما المرأة فلا ينزع عنها ثيابها إلا الفرو والحشو في كل الحدود؛ لأن كشف عورتها حرام، والفرو والحشو يمنعان وصول الألم إلى المضروب، والستر حاصل بدونهما، فينزعان ليتحقق الزجر، والزجرواجب (¬1). وقال مالك: يضرب الرجل قاعداً لا قائماً، وكذا المرأة ويجرد الرجل في ضرب الحدود كلها ما عدا ما بين السرة والركبة؛ لأن الأمر بجلده يقتضي مباشرة جسمه (¬2). ¬
أداة الحد (كيفية الضرب والرجم)
وقال الشافعي وأحمد: لا يجرد المحدود في الحدود كلها فيما عدا الفرو أو الجبة المحشوة، فإنها تنزع عنه؛ لأنه لو ترك عليه ذلك، لم يبال بالضرب، وما عدا المذكور لا يجرد، لما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أنه قال: «ليس في هذه الأمة مدّ، ولا تجريد، ولا غَل ولا صفَد» (¬1) وجلد أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلم ينقل عن أحد منهم مد ولا تجريد، ولا ينزع عنه ثيابه، بل يكون عليه الثوب والثوبان (¬2). وأما الرجم فترجم المرأة بالاتفاق قاعدة، والرجل يرجم عند الجمهور قائماً، وقال مالك كما تقدم: يرجم قاعداً. أداة الحد (كيفية الضرب والرجم): يقام حد الرجم بالضرب بالمدَر (الطين المتحجر) وبالحجارة المعتدلة (أي بملء الكف) لا بحصيات خفيفة لئلا يطول تعذيبه، ولا بصخرات تقضي عليه بسرعة لئلا يفوت التنكيل المقصود (¬3). وأما الجلد: فيكون بسوط لا ثمرة له، ولا يمدد المحدود على الأرض، كما يفعل اليوم؛ لأنه بدعة، ولا يرفع الجلاد يده إلى ما فوق رأسه (¬4)؛ لأنه يخاف منه ¬
مكان الضرب في حد الجلد
الهلاك أو تمزيق الجلد، ويضرب ضربة متوسطة ليست بمبرحة، ولا بالتي لا مسَّ فيها، حتى لا يؤدي إلى الهلاك، ويتحقق معنى الانزجار. والدليل فعل عمر وعلي وابن مسعود حيث ضربوا حداً بسوط بين سوطين (¬1). ويلاحظ أنه لا خلاف بين العلماء في أن ضرب المحدود في غير حد الخمر يكون بالسوط. أما حد الخمر: فقال بعضهم: يقام بالأيدي والنعال وأطراف الثياب، لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أتي برجل قد شرب، فقال: اضربوه، فقال أبو هريرة: «فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه» (¬2). مكان الضرب في حد الجلد: يجب عند الحنفية ألا يجمع الضرب في عضو واحد؛ لأنه يؤدي إلى إتلاف العضو أو إلى تمزيق جلده، وإنما يفرق الضرب على الأعضاء من الكتفين والذراعين والعضدين والساقين والقدمين، ويتقى المواضع المخوفة التي يخشى من ضربها القتل، وهو الوجه والرأس والصدر والبطن والأعضاء التناسلية (¬3). قال علي للجلاد: «اضربه وأعط كل عضو منه حقه، واتق وجهه ومذاكيره» (¬4). ¬
مكان إقامة الحد
وقال مالك: يضرب في الحدود الظهر وما يقاربه (¬1). وقال الشافعي: يفرق الضرب على الأعضاء ويتقى الوجه والفرج والخاصرة وسائر المواضع المخوفة. ودليلهم قول علي السابق، وما روي عن عمر أنه أتي بجارية قد فجرت، فقال: «اذهبا، واضرباها، ولا تخرقا لها جلداً» ولأن القصد من الحد الردع دون القتل (¬2). وقال أحمد: يضرب في الأعضاء كلها ما عدا ثلاثة: وهي الرأس والوجه والفرج من الرجل والمرأة جميعاً؛ لأن ما عدا هذه الأعضاء ليس بمقتل، فأشبهت الظهر، ودليلهم قول علي السابق للجلاد: اضرب وأوجع واتق الرأس والوجه (¬3). مكان إقامة الحد: قال الحنفية والحنابلة: ينبغي أن تقام الحدود كلها في ملأ من الناس؛ لقوله تعالى: {وليشهد عذابَهما طائفة من المؤمنين} [النور:2/ 24]، ولأن المقصود من الحد هو زجر الناس (¬4). وقال الشافعية والمالكية: يستحب حضور جماعة، وأن يكونوا أربعة على الأقل (¬5). ¬
وقال الجمهور منهم الحنفية والشافعية والحنابلة (¬1): لا تقام الحدود في المساجد لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تقام الحدود في المساجد، ولا يقتل بالولد الوالد» (¬2) وقوله أيضاً: «جنِّبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم ورفع أصواتكم، وشراءكم وبيعكم، وإقامة حدودكم، وجمِّروها في جُمعكم، وضعوا على أبوابها المطاهر» (¬3). ولأن تعظيم المساجد واجب، ولهذا نهينا عن سل السيوف في المساجد، ولأنه لا يؤمن أن يخرج من المحدود نجاسة تلوث المسجد، فيجب الاحتياط في أمرها وتنزيه المسجد عنها (¬4). حكم الميت بالرجم: قال الجمهور: إذا مات المرجوم يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن (¬5)؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال في ماعز: «اصنعوا به ما تصنعون بموتاكم» (¬6). ¬
ثلاثة مباحث ختامية
ثلاثة مباحث ختامية 1 - حكم اللواط: قال مالك والشافعي وأحمد: إن اللواط يوجب الحد؛ لأن الله سبحانه غلظ عقوبة فاعله في كتابه المجيد، فيجب فيه حد الزنا، لوجود معنى الزنا فيه. وقال أبو حنيفة: يعزر اللوطي فقط، إذ ليس في اللواط اختلاط أنساب، ولا يترتب عليه غالباً حدوث منازعات تؤدي إلى قتل اللائط، وليس هو زنا (¬1). وحد اللائط في رأي المالكية والحنابلة في أظهر الروايتين عن أحمد: هو الرجم بكل حال، سواء أكان ثيباً أم بكراً، لقوله عليه السلام: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به» وفي لفظ: «فارجموا الأعلى والأسفل» (¬2). وحد اللائط عند الشافعية: هو حد الزنا، فإن كان اللائط محصناً، وجب عليه الرجم، وإن كان غير محصن، وجب عليه الجلد والتغريب، لما روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا جاء الرجل الرجل فهما زانيان، وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان» ولأنه حد يجب بالوطء، فاختلف فيه البكر والثيب، قياساً على حد الزنا بجامع أن كلاً منهما إيلاج محرم في فرج محرم (¬3). ¬
2 - حكم إتيان البهيمة
2 - حكم إتيان البهيمة: اتفق الأئمة الأربعة على أن واطئ البهيمة يعزره الحاكم بما يردعه؛ لأن الطبع السليم يأبى هذا الوطء، فلم يحتج إلى زاجر بحد، بل يعزر، وفي سنن النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما: «ليس على الذي يأتي البهيمة حد» (¬1)، ومثل هذا لا يقوله صحابي إلا عن توقيف، ونقل عن الرسول صلّى الله عليه وسلم. واختلفوا في حكم البهيمة الموطوءة، فقال المالكية: حكمها كغيرها في الذبح والأكل فلا تحرم ولا تكره. وقال الشافعية: لا تذبح في الأصح، وإن كانت مأكولة وذبحت، حل أكلها على الأصح، ولكنه يكره لشبهة التحريم. وإن كانت البهيمة لغيره، وجب عليه ضمانها إن كانت مما لا تؤكل، وضمان ما نقص بالذبح إذا كانت تؤكل؛ لأنه هو السبب في إتلافها وذبحها. وقيل عند الحنفية: إنها تذبح ولا تؤكل. وقال الحنابلة: يجب قتلها، سواء أكانت مأكولة أم غير مأكولة، لقوله عليه السلام: «من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة» (¬2)، ولأن في بقائها تذكيراً بالفاحشة، فيعيَّر بها صاحبها (¬3). ¬
3 - حد إتيان الميتة
3 - حد إتيان الميتة: قال المالكية: يحد من أتى ميتة في قبلها أو دبرها؛ لأنه وطء في فرج آدمية، فأشبه وطء الحية، ولأنه أعظم ذنباً وأكثر إثماً؛ لأنه انضم إلى الفاحشة هتك حرمة الميتة (¬1). وقال الحنفية والشافعية والحنابلة في الأرجح عندهم: لا يحد واطئ الميتة؛ لأن هذا ينفر الطبع عنه، فلا يحتاج إلى الزجر عنه بحد كشرب البول، بل يعزر ويؤدب (¬2). ¬
الفصل الثاني: حد القذف
الفَصْلُ الثَّاني: حَدّ القَذف خطة الموضوع: توضيح حد القذف في المباحث الستة الآتية: المبحث الأول: مشروعية حد القذف وسبب وجوبه ومقداره. المبحث الثاني: تعريف القذف لغة، وتفسيره شرعاً. المبحث الثالث: شرائط وجوب حد القذف. المبحث الرابع: صفة حد القذف. المبحث الخامس: إثبات القذف. المبحث السادس: صلاحيات القاضي في إثبات القذف. المبحث الأول ـ مشروعية حد القذف وسبب وجوبه ومقداره: مشروعيته: القذف محرم من الكبائر، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله، ما هن؟ قال: الشرك بالله عز وجل، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل
المبحث الثاني ـ تعريف القذف لغة وتفسيره شرعا
الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» (¬1). وحد القذف مشروع بقوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات، ثم لم يأتوا بأربعة شهداء، فاجلدوهم ثمانين جلدة، ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً، وأولئك هم الفاسقون} [النور:4/ 24]. سبب وجوبه: يجب الحد بسبب القذف بالزنا؛ لأنه نسبة إلى الزنا، تتضمن إلحاق العار بالمقذوف، فيجب الحد دفعاً للعار عنه، وصيانة لسمعته (¬2). مقداره: حد القذف مقدر بثمانين جلدة بنص الآية السابقة، ويضم إليه عقوبة أدبية أخرى هي رد الشهادة والتفسيق، فلا تقبل شهادته بعدئذ إلا إذا تاب في رأي غير الحنفية. المبحث الثاني ـ تعريف القذف لغة وتفسيره شرعا ً: القذف لغة: هو الرمي بالحجارة ونحوها، ثم استعمل في الرمي بالمكاره لعلاقة المشابهة بين الحجارة والمكاره في تأثير الرمي بكل منهما؛ لأن في كل منهما أذى، فالقذف إذاية بالقول. ويسمى فرية ـ بكسر الفاء ـ كأنه من الافتراء والكذب (¬3). وأما في الاصطلاح الشرعي: فهو نسبة آدمي غيره لزنا، أو قطع نسب ¬
مسلم. وبعبارة أخرى تُخصص المراد هنا: هو نسبة آدمي مكلف غيره، حراً، عفيفاً، مسلماً، بالغاً عاقلاً أو مطيقاً، للزنا، أو قطع نسب مسلم. وهذا التعريف عند المالكية (¬1). وقد فسره الحنفية بقولهم: القذف نوعان: ـ أن يقذفه بصريح الزنا، وما يجري مجرى الصريح، وهو نفي النسب (¬2). فالأول: أن يقذفه بصريح الزنا الخالي عن الشبهة، الذي لو أقام القاذف عليه أربعة من الشهود، أو أقر به المقذوف، لزمه حد الزنا. والثاني: أن ينفي نسب إنسان من أبيه المعروف، فيقول: (لست بابن فلان) أو (هو ليس بأبيك) فيكون قاذفاً، كأنه قال: (أمك زانية). وبيانه: إذا قال رجل لآخر: يا زاني، أو زنيت، أو أنت زانٍ، يحد؛ لأنه قذفه بصريح الزنا، وكذلك لو قال له: (يا ابن الزاني) أو (يا ابن الزانية) فهو قاذف لأبيه أو أمه. أما لو قال له: (لست لأمك) فلا يكون قذفاً، إذ أنه كذب محض؛ لأنه نفي النسب من الأم، ونفي النسب من الأم لا يتصور؛ لأن أمه ولدته حقيقة. وكذا لو قال له: (لست لأبويك) لأنه نفي نسبه عنهما، ولا ينتفي عن الأم؛ لأنها ولدته، فيكون كذباً. ¬
هذا بخلاف ما لو قال: (لست لأبيك) فهو قاذف لأمه؛ لأن ذلك ليس بنفي لولادة الأم، بل هو نفي النسب عن الأب، ونفي النسب عن الأب يكون قذفاً للأم. ولو قال: (أنت ابن فلان) لعمه أو لخاله، أو لزوج أمه، في غير حال الغضب، لا يكون قذفاً عند الحنفية؛ لأن العم يسمى أباً، وكذلك الخال، وزوج الأم، قال الله سبحانه: {قالوا: نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل} [البقرة:133/ 2] وإسماعيل كان عم يعقوب عليه السلام، وقد سماه أباً. وقال جل وعلا عن يوسف عليه السلام: {ورفع أبويه على العرش} [يوسف:100/ 12] قيل: إنهما أبوه وخالته، وإذا كانت الخالة أماً كان الخال أباً، وقال الله تعالى: {إن ابني من أهلي} [هود:45/ 11] قيل في التفسير: إنه كان ابن امرأته من غيره. فإن كان ذلك في حال الغضب على سبيل الشتم يكون قذفاً. ولو قال: (لست بابن فلان) لجده، لم يكن قاذفاً؛ لأنه صادق في كلامه حقيقة؛ لأن الجد لا يسمى أباً حقيقة بل مجازاً. ولو قال لرجل: (يا زانية) لا يجب الحد عند أبي حنيفة وأبي يوسف، خلافاً لمحمد والشافعي. دليل محمد والشافعي: أن الهاء قد تدخل صلة زائدة في الكلام مثل: {ما أغنى عني ماليهْ، هلك عني سلطانيهْ} [الحاقة:28/ 69 - 29] ومعناه مالي وسلطاني، والهاء زائدة، فيحذف الزائد فيبقى قوله: (يا زاني) وقد تدخل الهاء في الكلام للمبالغة في الصفة مثل: علاَّمة ونسابة ونحوهما، فلا يختل به معنى القذف، كما لو قال لامرأة: «يا زاني» يجب الحد بالاتفاق.
ودليل الشيخين: أنه قذفه بما لا يتصور، فيلغو، ودليل عدم التصور أنه قذفه بفعل المرأة وهو التمكين؛ لأن الهاء في الزانية هاء التأنيث كالضاربة والقاتلة والسارقة ونحوها، وهو لا يتصور من الرجل، بخلاف ما إذا قال لامرأة: (يا زاني)؛ لأنه أتى بمعنى الاسم، وحذف الهاء في نعت المرأة لا يخل بمعنى القذف، وهاء التأنيث قد تحذف في الجملة كالحائض والطالق والحامل ونحوها. فيفهم منه حكم ما لو قال لامرأته: (يا زاني) فإنه يحد بالاتفاق بين الحنفية والشافعية. ولو قال: (يا زانئ) بالهمزة وعنى به الصعود، يحد؛ لأن العامة لا تفرق بين المهموز والملين، وبعض العرب يهمز الملين، فيبقى مجرد النية، فلا يعتبر. ولو قال: (زنأت في الجبل) وعنى به الصعود، فلا يصدق، ويحد عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وعند محمد: يصدق ولا يحد. دليل محمد: أن الزنا الذي هو فاحشة ملين، والزنأ الذي هو صعود مهموز. فإذا قال: عنيت به الصعود، فقد عنى به ماهو موجب اللفظ لغة، فلزم اعتباره. ودليل الشيخين: أن اسم الزنا يستعمل في الفجور عرفاً وعادة، والعامة لا تفصل بين المهموز والملين، فلا يصدق في الصرف عن المتعارف. وقال الشافعية (¬1): إن قال: زنأت في الجبل، فليس بقذف من غير نية؛ لأن الزنأ هو الصعود في الجبل، بدليل قول الشاعر: وارق إلى الخيرات زنأً في الجبل ¬
هل التعريض بالقذف يوجب الحد؟
وإذا قال: (زنأت على الجبل) فيحد بالاتفاق؛ لأنه لا تستعمل كلمة (على) في الصعود، فلا يقال: صعد على الجبل، وإنما يقال: صعد في الجبل. ولو قال: (يا ابن القحبة) لم يكن قاذفاً؛ لأن هذا الاسم كما يطلق على الزانية، يستعمل في المهيأة المستعدة للزنا وإن لم تزن، فلا يجعل قذفاً مع الاحتمال. وكذلك لو قال: (يا ابن الدعية) لا يحد؛ لأن الدعية هي المرأة المنسوبة إلى قبيلة لا نسب لها منهم، فلا يدل على كونها زانية، لجواز ثبوت نسبها من غيرهم. ولكن إذا تغير العرف، وأصبح استعمال اللفظين الأخيرين مقصوداً به القذف في عرف الناس وعاداتهم، وجب الحد. هذا كله في القذف بصريح الزنا، أو بما جرى مجرى الصريح، وفيما ليس قذفاً بالزنا، فما حكم القذف بطريق الكناية والتعريض؟ وجوابه فيما يأتي: هل التعريض بالقذف يوجب الحد؟ اتفق الفقهاء على أن القذف إذا كان بلفظ صريح بالزنا، وجب الحد. واختلفوا إذا كان بتعريض مثل: أن يقول لمن يخاصمه: (ما أنت بزان)، (ما يعرفك الناس بالزنا)، (يا حلال ابن الحلال). أو يقول: (ما أنا بزان، ولا أمي بزانية، ولا أبي بزان). فقال الحنفية: إن التعريض لا يوجب الحد، وإن نوى به القذف؛ لأن التعريض أمر خفيف في الأذى عادة، وهو بمنزلة الكناية المحتملة للقذف ونحوه، ولا يحد الشخص بالاحتمال، لقوله عليه الصلاة وسلام: (ادرؤوا الحدود بالشبهات).
كذلك لا يحد بالألفاظ المشتركة بين الزنا وغيره، أو بما يدل صراحة على وطء غير الزنا. مثال الأول: أن يقول لامرأة: (وطئك فلان وطأً حراماً) أو (فجر بك فلان) أو يقول لرجل: (وطئت فلانة حراماً) أو (جامعتها حراماً) فلا يحد، إذ قد يكون الوطء حراماً ولا يكون زنا، فكان قذفه محتملاً، ولا يجب الحد مع الاحتمال. ومثال الثاني: أن يقول لرجل: (يا لوطي) أو (تعمل عمل قوم لوط) فلا يحد؛ لأنه في الأول نسبه إلى قوم لوط فقط، وفي الثاني قذفه باللواط، وهو ليس زنا عند أبي حنيفة خلافاً لصاحبيه، كما سبق بيانه بالتفصيل (¬1). وقال المالكية: التعريض بالقذف يوجب الحد إن أفهم تعريضه القذف بالزنا بالقرائن، كالخصام، كأن يقول: (أما أنا فلست بزان) أو (أنا معروف) لأنه ثقيل على غالب الناس، والكناية قد تقوم في العادة والاستعمال مقام الصريح، وإن كان اللفظ فيها مستعملاً في غير موضعه أي مقولاً بالاستعارة، وهذا معنى قول الأدباء: الكناية أبلغ من الصريح. وقد وقعت هذه القضية في زمان عمر، فشاور فيها الصحابة، فاختلفوا فيها عليه، فرأى عمر فيها الحد، فجلد القاذف (¬2). وقال الشافعية: التعريض إن نوى به القذف، وفسره به وجب الحد، فهو بمنزلة الكناية، والكناية توجب الحد؛ لأن ما لا تعتبر فيه الشهادة كانت الكناية فيه مع النية بمنزلة الصريح كالطلاق والعتاق. وإن لم ينو به القذف لم يجب الحد، سواء أكان التعريض في حال الخصومة أم غيرها؛ لأنه يحتمل القذف وغيره، ¬
القذف باللواط
والحدود تدرأ بالشبهات (¬1). ومن الكناية عندهم أن يقول: يا فاجر، يا خبيث، ياحلال ابن الحلال، فإن نوى به القذف، وجب به الحد، وإن لم ينو به القذف، لم يجب به الحد، سواء أكان القول في حال الخصومة أم في غيرها؛ لأنه يحتمل القذف وغيره. وقال الحنابلة: اختلفت الرواية عن أحمد في التعريض بالقذف: في رواية لا حد عليه، وهو ظاهر كلام الخرقي واختيار أبي بكر. وفي رواية: عليه الحد بدليل فعل عمر السابق ذكره (¬2). القذف باللواط: قال الشافعية (¬3): إن قال شخص لغيره: لطت أو لاط بك فلان باختيارك، فهو قذف؛ لأنه قذفه بوطء يوجب الحد، فأشبه القذف بالزنا، وإن قال: يا لوطي، وأراد أنه على دين قوم لوط لا يحد؛ لأنه يحتمل ذلك. وإن أراد أنه يعمل عمل قوم لوط وجب الحد. والقذف باللواط موجب للحد عند الجمهور غير الحنفية. قذف الجماعة: قال الحنفية والمالكية: إذا قذف الشخص جماعة يحد حداً واحداً، كأن يقول: «كلكم زان» أو يقول لكل واحد منهم في مجلس، أو متفرقين: «يا زاني» أو «فلان زان، وفلان زان». ودليلهم أن هلال بن أمية قذف أمرأته بشريك بن سحماء، فرفع الأمر إلى النبي عليه الصلاة والسلام فلاعن بينهما، ولم يحد هلالاً لقذفه شريك بن سحماء (¬4)؛ لأن القذف جناية توجب ¬
تكرار القذف
حداً، فإذا تكرر كفى حد واحد، كما لو سرق من جماعة، أو زنى بنساء (¬1). وقال الشافعي، وزفر من الحنفية: إذا قذف شخص جماعة، فيجب لكل واحد منهم حد، سواء أكان القذف لكل واحد على انفراد أم بكلمة واحدة؛ لأنه ألحق العار بقذف كل واحد منهم، فلزمه لكل واحد منهم حد، كما لو أفرد كل واحد منهم بالقذف (¬2). وقال الحنابلة: إن قذف الجماعة بكلمة واحد، فيحد حداً واحداً، إذا طالبوا جميعاً، أو طالب واحد منهم؛ لأن مطلق الآية: {والذين يرمون المحصنات} [النور:4/ 24] لم يفرق فيها بين قذف واحد أو جماعة، ولأنه قذف واحد، فلم يجب إلا حد واحد. فإن قذف الجماعة بكلمات فلكل واحد حد؛ لأن القذف حق للآدمي، وحقوق الآدميين لا تتداخل كالديون والقصاص (¬3)، أي لا يجزئ بعضها عن بعض. تكرار القذف: قال الشافعية (¬4): إن كرر القاذف القذف بنفس الزنا السابق الذي حد عليه، يعزر للأذى، ولم يحد؛ كما فعل عمر مع أبي بكرة الذي كرر قذف المغيرة. وإن قذفه بزنا آخر قبل أن يقام عليه الحد، يلزمه في الصحيح حد واحد؛ لأنهما حدان من جنس واحد، لمستحق واحد، فتداخلا كما لو زنى، ثم زنى. ¬
المبحث الثالث ـ شرائط وجوب حد القذف
وقال المالكية (¬1): من قذف شخصاً واحداً مراراً كثيرة، فعليه حد واحد إذا لم يحد لواحد منها، اتفاقاً، فإن قذفه فحد، ثم قذفه مرة أخرى، حد مرة أخرى اتفاقاً. وأيد الحنابلة (¬2) ذلك فقالوا: إن اجتمعت حدود الله في جنس، بأن زنى أو سرق أو شرب مراراً، تداخلت، فلا يحد سوى مرة، فإن كانت من أجناس وفيها قتل، استوفي وحده، وإلا وجب أن يبدأ بالأخف فالأخف. المبحث الثالث ـ شرائط وجوب حد القذف: اشترط الحنفية لوجوب حد القذف ستة أنواع من الشرائط، يتعلق بعضها بالقاذف، وبعضها بالمقذوف، وبعضها بهما جميعاً، وبعضها بالمقذوف به، وبعضها بالمقذوف فيه، وبعضها بنفس القذف. أولاً ـ شروط القاذف: يشترط في القاذف ستة شروط متفق عليها: 1 - العقل: فلا عبرة بكلام المجنون. 2 - البلوغ: فلا يحد القاذف إذا كان صبياً كالمجنون، والسبب في عدم العقاب أن الحد عقوبة، فتستدعي كون القذف جناية، وفعل الصبي والمجنون، لايوصف بكونه جناية. ولافرق بين كون القاذف مسلماً أو كافراً التزم حقوق المسلمين من مرتد أو ذمي أو معاهد. واشترط الشافعية كون القاذف مختاراً غير مكره. ¬
ثانيا ـ شروط المقذوف
3 - عدم إثباته ما قذف به بأربعة شهود، فإن أتى بهم وشهدوا على المقذوف بالزنا، لم يحد حد القذف، لقوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} [النور:4/ 24] (¬1) واشترط أبو حنيفة أن يأتي الشهود جماعة؛ لأن الشاهد الواحد إذا شهد بانفراده صار قاذفاً، فوجب عليه الحد، وخرج عن كونه شاهداً، فلا خلاص من هذا الإشكال إلا باشتراط الاجتماع. ولم يشترط الجمهور هذا الشرط، إذ الآية مطلقة، بل تفريقهم أولى؛ لأنه أبعد عن التهمة والتواطؤ. وأجاز الحنفية كون الزوج أحد الشهود الأربعة. وقال الجمهور: يلاعن الزوج، ويحد الشهود الثلاثة؛ لأن الشهادة بالزنى قذف. 4 - أن يكون القاذف ملتزماً بأحكام الشريعة، لا الحربي، وعالماً بالتحريم. 5 - الاختيار أو الطواعية، فلا يحد المكره بالقذف. 6 - ألا يأذن المقذوف للقاذف بالقذف بالزنا، فإن أذن له بالقذف لم يحد للشبهة. ثانياً ـ شروط المقذوف: يشترط في المقذوف بالاتفاق شرطان (¬2): 1 - أن يكون المقذوف محصناً: رجلاً كان أو امرأة. وشرائط إحصان ¬
القذف خمسة: العقل، والبلوغ، والحرية، والإسلام، والعفة عن الزنا. وبناء عليه لا يجب الحد بقذف الصبي والمجنون والرقيق والكافر، ومن لاعفة له من الزنا. أما اشتراط العقل والبلوغ: فلأن الزنا لا يتصور من الصبي والمجنون، فكان قذفهما بالزنا كذباً محضاً، فيوجب التعزير، لا الحد. وأما الحرية: فلأن الله سبحانه وتعالى شرط الإحصان في آية القذف، وهي قوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات} [النور:4/ 24] والمراد من المحصنات هنا: الحرائر لا العفائف عن الزنا. فلو أريد من المحصنات: العفائف، لكان تكراراً مع ما بعده من الأوصاف الآتية. وأما الإسلام والعفة عن الزنا، فلقوله تعالى: {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات} [النور:23/ 24] والغافلات: العفائف عن الزنا. وتفسير العفة عن الزنا: هو ألا يكون المقذوف قد وطئ في عمره وطأً حراماً، في غير ملك، ولا نكاح أصلاً، ولا في نكاح فاسد فساداً مجمعاً عليه في عهد السلف، مثل وطء المرأة بشبهة: بأن زفت إليه غير امرأته فوطئها. ومن لا يجب عليه الحد، لعدم إحصان المقذوف أو للتعريض بالقذف، على الخلاف السابق فيه، عزر؛ لأنه آذى من لا يجوز إيذاؤه. 2 - أن يكون المقذوف معلوماً: فإن كان مجهولاً لا يجب الحد، كما إذا قذف جماعة على النحو الذي سبق بيانه، أو قال لجماعة: (ليس فيكم زان إلا واحد) أو قال لرجلين: (أحدكما زان) فإنه في هذه الصور الثلاث لا يجب الحد لكل واحد من الجماعة؛ لأن المقذوف مجهول.
ثالثا ـ ما يشترط في القاذف والمقذوف معا
والمذهب لدى الشافعية (¬1): أنه إذا قذف الوالد ولده، أو قذف الجد ولد ولده، لم يجب عليه الحد؛ لأن الحد عقوبة تجب لحق الآدمي، فلم تجب للولد على الوالد كالقصاص. وإن قذف زوجته، فماتت، وله منها ولد، سقط الحد؛ لأن المطالبة حق للولد، ولم يثبت له هذا الحق على والده. وإن كان لها ابن آخر من غيره، وجب له الحد، لثبوت حقه فيه. ثالثاً ـ ما يشترط في القاذف والمقذوف معاً: يشترط بالاتفاق ألا يكون القاذف أباً للمقذوف، ولا جده وإن علا، ولا أمه ولا جدته وإن علت. فإن كان كذلك، فلا حد عليه، للأوامر التي تطالب بالإحسان إلى هؤلاء، وفي إقامة الحد ترك للتعظيم والاحترام الواجب شرعاً (¬2). رابعاً ـ مايشترط في المقذوف به: يشترط أن يكون القذف بصريح الزنا، أو بما يجري مجرى الصريح. وقد سبق تفصيله في مطلب تفسير القذف شرعاً. خامساً ـ شرط المقذوف فيه أي المكان: يشترط أن يكون القذف حاصلاً في دار العدل، فإن حصل في دار الحرب أو في دار البغي، فلا يجب الحد؛ لأن الإمام هو الذي يقيم الحد، ولا ولاية له على دار الحرب، ولا على دار البغي (¬3) في رأي الجمهور، وقال الشافعية: يستحق الباغي الحد. ¬
سادسا ـ ما يشترط في القذف نفسه
سادساً ـ ما يشترط في القذف نفسه: يشترط أن يكون القذف مطلقاً عن الشرط والإضافة إلى وقت في المستقبل. فإن كان معلقاً بشرط أو مضافاً إلى وقت، لا يجب الحد؛ لأن ذكر الشرط أو الوقت يمنع وقوعه قذفاً للحال، وعند وجود الشرط أو الوقت يجعل كأنه نجز القذف، فكان قاذفاً تقديراً مع انعدام القذف حقيقة، فلا يجب الحد. فإذا قال رجل لآخر: (إن دخلت هذه الدار فأنت زان) فدخل، فلا حد عليه. وكذلك إذا قال لغيره: (أنت زان غداً) أو (أنت زان رأس شهر كذا) فجاء الغد والشهر، لا حد عليه (¬1). والخلاصة: قال القرطبي: للقذف عند العلماء شروط تسعة: شرطان في القاذف، وهما العقل والبلوغ؛ لأنهما أصلا التكليف؛ إذ التكليف ساقط دونهما. وشرطان في المقذوف به: وهو أن يقذف بوطء يلزمه فيه الحد، وهو الزنا واللواطة، أو بنفيه من أبيه دون سائر المعاصي. وخمسة في المقذوف: وهي العقل والبلوغ والإسلام والحرية والعفة عن الفاحشة التي رمي بها، كان عفيفاً من غيرها، أم لا. المبحث الرابع ـ صفة حد القذف: اختلف الفقهاء في تكييف حد القذف، هل هو حق لله تعالى أو حق للعباد (¬2). ¬
قال الحنفية: إن حد القذف فيه حقان: حق للعبد، وحق لله تعالى، إلا أن حق الله تعالى فيه غالب؛ لأن القذف جريمة تمس الأعراض، وفي إقامة الحد على القاذف تتحقق مصلحة عامة: وهي صيانة مصالح العباد، وصيانة الأعراض، ودفع الفساد عن الناس (¬1). وقال الشافعية والحنابلة: إن حد القذف حق خالص للآدمي المقذوف؛ لأن القذف جناية على عرض المقذوف، وعرضه حقه، فكان البدل (وهو العقاب) حقه، كالقصاص (¬2). ويترتب على هذا الخلاف: أنه بناء على القول الأول، وهو مذهب الحنفية: لا يصح للمقذوف إسقاط الحد ولا الإبراء منه والعفو عنه، ولا الصلح والاعتياض عنه (أي بعد أن يرفع الأمر إلى الحاكم، أما قبل ذلك فيسقط بالعفو) ولا يجري فيه الإرث، ولكن يسقط بموت المقذوف؛ لأن الإرث إنما يجري في المتروك من ملك أو حق للمورث، لقوله عليه السلام: «من ترك مالاً أو حقاً فهو لورثته» (¬3) وحد القذف ليس حقاً للمورث عندهم، وإنما هو حق لله تعالى في غالبه، فلا يرثه ¬
ورثته، ويجري فيه التداخل كما في قذف الجماعة، فيجب حد واحد إذا تكرر القذف كما سبق بيانه. وإذا طلب المقذوف من القاضي أن يستحلف القاذف، فلا يحلفه كما في حد الزنا. ومثل حد القذف: حد الزنا والشرب والسكر والسرقة. وبناء على القول الثاني، وهو مذهب الشافعية والحنابلة: يصح للمقذوف ولو بعد رفع الأمر للحاكم إسقاط الحد والإبراء منه، والعفو عنه، والصلح، والاعتياض عنه، ويورث حق المطالبة بحد القذف؛ لأنه من حقوق العباد. أما حديث صفوان الآتي فهو في حد السرقة الذي هو حق لله تعالى. ودليلهم ما رواه ابن السني أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم كان يقول: تصدقت بعرضي» أي بنفسي، والتصدق بالعرض لا يكون إلا بالعفو عما يجب له. وأما التداخل: فلا يجري فيه عندهم، حتى لو قذف جماعةً، كل واحد منهم على انفراد، وجب لكل واحد منهم حد كما سبق بيانه وتفصيله. وإذا ادعى شخص على رجل أنه قذفه فيستحلف؛ لأنه حق لآدمي كالدين. وأما مذهب المالكية فمختلف فيه؛ لأن قول مالك اختلف: فمرة قال بقول الشافعي: وهو أن حد القذف حق للآدمي، فيجوز فيه العفو وهو الأظهر عند ابن رشد، ومرة قال: فيه حقان: حق لله وحق للعبد، إلا أنه يغلب فيه حق الإمام إذا وصل إليه أمر الحد، فإذا رفع أمر الحد إلى الإمام لا يملك المقذوف العفو عن الحد، إلا إذا أراد المقذوف الستر على نفسه، تغليباً لحق ولي الأمر إذا وصل إليه الحد، قياساً على الأثر الوارد في السرقة (¬1)، وهو أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال ¬
المبحث الخامس ـ إثبات القذف
في حادثة سارق رداء صفوان: «فهلا ـ أي عفوت عنه ـ قبل أن تأتيني به» فلم يعمل الرسول بقول صفوان: «إني لم أرد هذا ـ أي قطع يده ـ هوـ أي الرداء ـ عليه صدقة» (¬1). والرأي الأول هو المشهور عن مالك والراجح في مذهبه، فيجوز عنده للمقذوف العفو عن قاذفه قبل بلوغ الإمام أو نائبه، أو بعد بلوغه إليه إن أراد المقذوف ستراً على نفسه، كأن يخشى أنه إن ظهر أمره قامت عليه بينة بما رماه به. أما إن لم يرد المقذوف الستر، فلا يجوز له العفو عن القاذف بعد بلوغ الإمام أو نائبه، لصيرورته حقاً لله تعالى. المبحث الخامس ـ إثبات القذف: تثبت جرائم الحدود كلها عند القاضي بالبينة أو بالإقرار، بشرط توافر شروط معينة، بعضها في وسيلة الإثبات نفسها، أي في البينة أو الإقرار، وبعضها يتوقف عليها النظر في إثبات الحد بالوسائل المذكورة، وهو شرط الخصومة (¬2)، أي رفع الدعوى. الخصومة: الخصومة معناها: رفع الدعوى، وهي ليست بشرط في حد الزنا والشرب، ولكنها شرط في ثبوت حد السرقة كما سأبين، وشرط في ثبوت حد ¬
حكم الخصومة أو الدعوى
القذف بالشهادة والإقرار. أما على أصل الشافعي فلأن حد القذف حق خالص للعبد، فيشترط فيه الدعوى، كما في سائر حقوق العباد، ويسقط إذا عفا عنه، بدليل ما روى ابن السني: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم؟ كان يقول: تصدقت بعرضي» والتصدق بالعرض لا يكون إلا بالعفو عما يجب له. وأما عند الحنفية: فحد القذف وإن كان المغلب فيه حق الله عز وجل، ولكن للشخص فيه حق؛ لأنه ينتفع به بصيانة عرضه عن الهتك، فيشترط فيه رفع الدعوى عن جهة حق الشخص؛ لأن حق الشخص الخاص لا يثبت إلا بمطالبته وخصومته (¬1). وسأتكلم عن الخصومة في موضعين: حكم الخصومة، ومن يملك الخصومة. حكم الخصومة أو الدعوى: الأفضل للمقذوف أن يترك الخصومة؛ لأن فيها إشاعة الفاحشة، وهو مندوب إلى تركها، وكذا العفو عن الخصومة أفضل لقوله تعالى: {وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم} [البقرة:237/ 2] ويستحسن للقاضي إذا رفع الأمر إليه أن يرغب المدعي بترك الدعوى (¬2). من يملك الخصومة ومن لا يملكها: المقذوف: إما أن يكون حياً وقت القذف، وإما أن يكون ميتاً. فإن كان حياً فلا خصومة لأحد سواه، ولو كان ولداً أو والداً له، سواء أكان حاضراً أم غائباً؛ لأنه إذا كان حياً وقت القذف، كان هو المقذوف صورة ومعنى بإلحاق العار به، فكان حق الخصومة له. ¬
وتجوز الإنابة في هذه الخصومة وهو التوكيل بالإثبات بالبينة عند أبي حنيفة ومحمد. وعند أبي يوسف: لا تجوز، إذ لا تصح وكالة في حد ولاقصاص عنده. دليله: أنه كما لا يجوز التوكيل في استيفاء حد القذف، فلا يجوز ذلك في إثباته؛ لأن الإثبات وسيلة إلى الاستيفاء. ودليل الطرفين: أنه يفرق بين الإثبات والاستيفاء، وهو أن امتناع التوكيل في الاستيفاء بسبب الشبهة، وهي منعدمة في التوكيل بالإثبات (¬1). وأما إذا كان المقذوف ميتاً: فإن حق الخصومة للوالد وإن علا، وللولد وإن سفل؛ لأن معنى القذف وهو إلحاق العار عائد إلى الأصل والفرع، لوجود الجزئية بالنسبة للفرع والبعضية بالنسبة للأصل، وقذف الإنسان يكون قذفاً لأجزائه، فكان القذف لاحقاً بهم من حيث المعنى، أما الميت فلا يرجع إليه معنى القذف؛ لأنه ليس بمحل لإلحاق العار به (¬2). فإذا كان المقذوف حياً ثم مات، فليس لأحد من هؤلاء حق الخصومة؛ لأنه حد لا يورث كما عرفنا. ولا حق في الخصومةأصلاً للإخوة والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات؛ لأنه وإن كان يؤلمهم نسبة الزنا إلى قريبهم، ولكنهم لا يلحقهم القذف لا صورة ولا معنى، لعدم انتسابهم إلى المقذوف لا بجزئية ولا بأصل. وأما أولاد البنات فمختلف فيهم: فعند محمد: لا يملكون الخصومة؛ لأن ولد البنت ينسب إلى أبيه، لا إلى جده، فلم يكن مقذوفاً معنى بقذف جده. وعند أبي حنيفة وأبي يوسف: يملكون الخصومة؛ لأن النسبة الحقيقية بين المقذوف وأولاد بناته ثابتة بوساطة أمهاتهم، فصاروا مقذوفين معنى (¬3). ¬
التوكيل في استيفاء الحد
ويلاحظ أن حق الخصومة يثبت لأقارب المقذوف هؤلاء على السواء، دون مراعاة الترتيب في القرابة، فالأقرب والأبعد في هذا الحق سواء؛ لأنه ثابت لهم ابتداء، وليس من طريق الإرث عن الميت وانتقاله لهم. وقال زفر: يراعى الترتيب في القرابة؛ لأن عار الأقرب يزيد على الأبعد (¬1). ونص المالكية والشافعية والحنابلة (¬2): على أن حق القذف يثبت للورثة، فإن كان هناك وارثان، فعفا أحدهما ثبت للآخر جميع الحد، تحقيقاً للردع الذي شرع الحد من أجله. فإن لم يكن وارث، ثبت الحق فيه للمسلمين، ويستوفيه السلطان. التوكيل في استيفاء الحد: عرفنا خلاف الحنفية في التوكيل في إثبات الحد، فهل تصح الوكالة في استيفاء الحد؟ اتفق الحنفية على أنه لا تصح الوكالة في استيفاء الحدود والقصاص، فلا بد من وجود المقذوف، ووجود ولي القصاص حين الاستيفاء؛ لأن الاستيفاء عند غيبة الموكل استيفاء مع الشبهة، فقد يجوز فيما لو حضر المقذوف أن يصدِّق القاذف، والحدود لا تستوفى مع الشبهات (¬3). وإذا حضر المقذوف يقوم ولي الأمر أو نائبه باستيفاء حد القذف، لتطلبه معرفة معينة. وأما القصاص فيستوفيه ولي الدم، أو من يوكله بسبب عجزه وضعف قلبه بإشراف الحاكم. ¬
شرائط البينة لإثبات القذف
وإذا طلب المقذوف إقامة الحد على القاذف، وخاصم بين يدي القاضي، وحكم القاضي بالحد، ثم مات المقذوف، أو مات قبل المطالبة، أو مات بعد ما ضرب بعض الحد، فيبطل الحد ويبطل ما بقي منه، وإن كان سوطاً واحداً. وليس لأحد الحق في متابعة الخصومة أو الاستيفاء، وحينئذ فلا تبطل شهادة القاذف عند الحنفية؛ لأن المغلب في حد القذف هو حق الله تعالى، فلا يورث كما عرفنا (¬1).وقال الشافعي وأحمد: يقوم الوارث مقام المقذوف في إثبات الحد واستيفائه؛ لأن حد القذف حق خالص للإنسان عنده، فيورث كل ما ترتب على القذف من حق الخصومة، ومتابعتها، واستيفاء الحد، وما تبقى منه (¬2). شرائط البينة لإثبات القذف: لا يشترط في بينة المقذوف لإثبات القذف سوى الشروط التي تعم الحدود التي سبق ذكرها، وهي الذكورة والأصالة، فلا تقبل شهادة النساء ولا الشهادة على الشهادة ولا كتاب القاضي (¬3). ولا يشترط عدم التقادم في حد القذف، فلو تأخر الشهود زمناً طويلاً عن أداء الشهادة، ثم شهدوا على القذف، تقبل شهادتهم، بخلاف بقية الحدود كما عرفنا. والسبب في التفرقة بين حد القذف وغيره: هو أن التأخير فيه لا يدل على الضغينة والتهمة؛ لأنه يشترط رفع الدعوى في القذف، فاحتمل أن يكون التأخر في أداء الشهادة لتأخر المدعي في رفع الدعوى (¬4). ¬
شرائط الإقرار بالقذف
شرائط الإقرار بالقذف: كذلك لا يشترط في الإقرار بالقذف سوى الشروط العامة في الإقرارات في كل الحدود: وهي البلوغ والنطق، فلا يصح إقرار الصبي في الحدود، ولا إقرار الأخرس، سواء بالكتابة أم بالإشارة، كما ذكر في حد الزنا. ولا يشترط تعدد الإقرار بالقذف بالاتفاق، ولا عدم التقادم أيضاً (¬1). إثبات القذف بعلم القاضي: اتفق الحنفية على أن حد القذف يثبت بعلم القاضي في زمان القضاء ومكانه. واختلفوا في إثباته في غير زمان القضاء ومكانه (¬2). فقال متقدموهم: له أن يقضي بعلمه في الواقعة، وقال متأخروهم: لا يجوز له أن يقضي بعلمه مطلقاً في الحوادث المتنازع فيها بسبب غلبة الفساد والسوء في القضاة!. تحليف القاذف ونكوله: إذا لم يكن للمدعي بينة على القذف، وطلب من القاضي أن يستحلف القاذف بالله تعالى ما قذفه، فلا يحلف عند الحنفية؛ لأن المقصود من الاستحلاف القضاء بالنكول عند عدم الحلف، والنكول يكون قائماً مقام الإقرار، ولكن الحد لا يقام بما هو قائم مقام غيره (¬3). وقال مالك والشافعي: يحلف، وإذا نكل لا ترد اليمين على المدعي في الحدود. وقال أحمد: يحلف ولا ترد اليمين على المدعي، وإنما يقضي القاضي على المدعى عليه بالنكول عن اليمين، بإلزامه بادعاء المدعي (¬4). ¬
المبحث السادس ـ صلاحيات القاضي في إثبات القذف
ومنشأ الخلاف بين الحنفية والجمهور: هل حد القذف خالص للإنسان، فيجري فيه الاستحلاف كما في سائر حقوق العباد، أو أن فيه حقين، وحق الله غالب، فلا يحلف، وقد سبق بيانه في صفة حد القذف. المبحث السادس ـ صلاحيات القاضي في إثبات القذف: إذا رفعت دعوى القذف إلى القاضي، فإما أن ينكر القاذف، أو يقر. فإن أنكر وطلب المقذوف من القاضي التأجيل لإقامة البينة، وادعى أن له بينة في المصر على قذفه، فإنه يؤجله إلى أن يقوم من مجلسه، ويحبس (¬1) المدعى عليه القذف في تلك الفترة. فإن أحضر البينة قبل قيام الحاكم من مجلسه، تمَّ المقصود، وإلا خلَّى سبيله. ولا يجوز عند أبي حنيفة في فترة الانتظار إلى آخر مجلس الحاكم أن يأخذ كفيلاً بنفس المدعى عليه؛ لأن المقصود من الكفالة إقامة الكفيل مقام المكفول عنه في إيفاء الحد، وهذا لا يتحقق في الحدود والقصاص، ولأن الكفالة شرعت للاستيثاق، والحدود مبناها على الدرء والإسقاط، قال عليه الصلاة والسلام: «ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم» (¬2) فلا يناسبها الاستيثاق بالكفالة، بخلاف الحبس، فإن الحبس للتهمة مشروع. وقال الصاحبان والشافعية: يأخذ القاضي من المدعى عليه كفيلاً بنفسه إلى ثلاثة أيام، ليأتي بالبينة، ولا يحبسه؛ لأنه لا ضرر على المدعى عليه، فتؤخذ منه ¬
موقف القاضي من القاذف بعد ثبوت القذف
الكفالة كما في الأموال، ولأنه إذا كان الحبس جائزاً في الحدود، فالكفالة أولى؛ لأن معنى الوثيقة في الحبس أبلغ منه في الكفالة، فلما جاز الحبس، فالكفالة أحق بالجواز (¬1)، وأما مدة الثلاثة الأيام فهي وقت قريب، لقوله عز وجل: {ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب} [هود:64/ 11] ثم قال: {تمتعوا في داركم ثلاثة أيام} [هود:65/ 11]. وإن قال المقذوف: (لا بينة لي) أو (بينتي غائبة، أو خارج المصر) فإن القاضي يخلي سبيل القاذف، ولا يحبس بالاتفاق لعدم التهمة (¬2). موقف القاضي من القاذف بعد ثبوت القذف: إن أقام المقذوف البينة على صحة القذف، أو أقر القاذف كما ذكر، فإن القاضي يقول للقاذف: «أقم البينة على صحة قولك». فإن أقام أربعة من الشهود على معاينة الزنا، أو على إقرار المقذوف بالزنا، بين يدي الإمام أربع مرات، سقط الحد عن القاذف، ويقام حد الزنا على المقذوف؛ لأنه ظهر أن القاذف صادق في مقالته (¬3). وإن عجز عن إقامة البينة، يقام عليه حد القذف، لقوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات، ثم لم يأتوا بأربعة شهداء، فاجلدوهم ثمانين جلدة} [النور:4/ 24]. فإن طلب التأجيل من القاضي، وقال: (شهودي غيَّب) أو (خارج المصر) لم يؤجله. ¬
وإن قال: (شهودي في المصر) أجله إلى آخر المجلس، ولازمه المقذوف، ويقال له: «ابعث أحداً إلى شهودك فأحضرهم» ولا يؤخذ منه كفيل بنفسه عند أبي حنيفة؛ لأن في التأجيل إلى آخر المجلس الثاني منعاً من استيفاء الحد بعد ظهوره. وقال الصاحبان: يؤجل (أي القاذف) يومين أو ثلاثة، ويؤخذ منه كفيل؛ لأنه يحتمل أن يكون صادقاً في إخباره أن له بينة في المصر، وربما لا يمكنه الإحضار في ذلك الوقت، فيحتاج إلى التأخير إلى المجلس الثاني، وأخذ الكفيل لئلا يفوت حقه. وروي عن محمد رحمه الله أنه قال: إذا ادعى أن له بينة حاضرة في المصر، ولم يجد أحداً يبعثه إلى الشهود، فإن القاضي يبعث معه من الشُّرَط (¬1) من يحفظه ولا يتركه حتى يفر، فإن عجز، أقيم عليه الحد. فإن ضرب القاذف بعض الحد، ثم حضر الشهود، وشهدوا على صدق مقالته، قبلت بينته، وبطل الحد الباقي، ولا تبطل شهادته، ويقام حد الزنا على المقذوف. وإن ضرب القاذف الحد بتمامه، ثم شهد الشهود على صدق مقالته، تقبل شهادتهم. ويظهر أثر القبول في استرداد عدالة القاذف وقبول شهادته؛ لأنه تبين أنه لم يكن محدوداً في القذف حقيقة، حيث ظهر أن المقذوف لم يكن محصناً؛ لأن من شرائط الإحصان: العفة عن الزنا، وقد ظهر زناه بشهادة الشهود، فلم يصر القاذف مردود الشهادة (¬2). ¬
اللعان بعد إثبات القذف
اللعان بعد إثبات القذف: قال الشافعية (¬1): إن ادعت المرأة على زوجها أنه قذفها وأنكر، فشهد شاهدان أنه قذفها، جاز أن يلاعن؛ لأن إنكاره للقذف لايكذب ما يلاعن عليه من الزنا؛ لأنه يقول: إنما أنكرت القذف، وهو الرمي بالكذب، وما كذبت عليها؛ لأني صادق أنها زنت، فجاز أن يلاعن. ما يسقط حد القذف: يسقط حد القذف بأحد أمور ثلاثة: 1 - إثبات الزنى على المقذوف بالبينة أو بإقراره به. 2 - عفو المقذوف عن القاذف في رأي الشافعية؛ لأنه عندهم حق من حقوق العباد. 3 - اللعان بين الزوجين، لقوله تعالى: {والذين يرمون أزواجهم} [النور:6/ 24]. ¬
الفصل الثالث: حد السرقة
الفَصْلُ الثَّالث: حَدّ السَّرقة خطة الموضوع: بيان حد السرقة في المباحث الأربعة الآتية: المبحث الأول: تعريف السرقة وحكمها وصفة حدها. المبحث الثاني: شروط السرقة الموجبة للحد. المبحث الثالث: إثبات السرقة، وإقامة الدعوى بها. المبحث الرابع: ما يسقط الحد بعد وجوبه. المبحث الأول ـ تعريف السرقة وحكمها وصفة حدها: تعريف السرقة: السرقة: هي أخذ مال الغير من حرز المثل على الخفية والاستتار. ومنه استراق السمع ومسارقة النظر إذا كان يستخفي بذلك. ووقت الخفية: هو عند ابتداء وانتهاء أخذ المسروق إذا كانت السرقة نهاراً، ويمتد النهار إلى وقت العشاء، وعند ابتداء الأخذ فقط إذا كانت السرقة ليلاً، حتى لو دخل السارق البيت ليلاً خفية، ثم أخذ المال مجاهرة ولو بعد مقاتلة ممن في يده، قطع استحساناً، إذ لو اعتبروا الخفية في الليل في نهاية الأخذ أيضاً لامتنع الحد في أكثر السرقات في الليالي؛ لأن أكثرها يصير مغالبة عند انتهاء الأخذ، لأنه وقت لايلحق فيه الغوث.
الاختلاس
وهل العبرة في الخفية لزعم السارق أن رب الدار لم يعلم به أم لزعم أحدهما وإن كان رب الدار؟ فيه خلاف عند الحنفية. ويظهر الخلاف فيما لو ظن السارق أن رب الدار علم به، مع أنه لم يعلم، فالخفية هنا في زعم رب الدار، لا في زعم السارق، فعند الزيلعي: لا يقطع؛ لأن شرط السرقة أن تكون خفية على زعم السارق. وفي الخلاصة والمحيط والذخيرة: يقطع اكتفاء بكونها خفية في زعم أحدهما. أما لو زعم اللص أن المالك لم يعلم به مع أنه عالم، يقطع، اكتفاء بزعمه الخفية. وكذا لو يعلما معاً، وأما لو علما بالأخذ معاً فلا قطع (¬1). واتفق العلماء على أنه ليس في الاختطاف أو الخيانة فيما ائتمن عليه أو الاختلاس أو النهب أو الغصب حد، لقوله عليه الصلاة والسلام: «ليس على الخائن ولا المختلس قطع» (¬2) وقوله أيضاً: «ليس على المنتهب قطع» (¬3). والاختلاس: أن يستغل صاحب المال فيخطفه ويذهب بسرعة جهراً، فهو من يتعمد الهرب. والخائن: هو الذي يضمر ما لا يظهره في نفسه. والمراد به: هو الذي يأخذ المال خفية من مالكه، مع إظهاره له النصيحة والحفظ. ¬
المنتهب
والمنتهب: هو المغير، مأخوذ من النهبة: وهي الغارة والسلب، والمراد به: الذي يأخذ المال على جهة الغلبة والقهر (¬1). ورأى الحنابلة أن جاحد عارية قيمتها نصاب يقطع، ولا يقطع جاحد وديعة، أي أن خائن الوديعة لا يقطع عندهم. وقال الجمهور: لا يقطع جاحد المستعار، ولا جاحد الوديعة. والفرق بين السارق الذي تقطع يده، والمختلس والمنتهب والغاصب الذين لا تقطع أيديهم هو ما يأتي (¬2): إن السارق لا يمكن الاحتراز منه، فإنه ينقب الدور ويهتك الحرز ويكسر القفل، ولا يمكن صاحب المتاع الاحتراز بأكثر مما قام به، فلو لم يشرع قطعه، لسرق الناس بعضهم بعضاً، وعظم الضرر، واشتدت المحنة بسبب السراق، بخلاف المنتهب والمختلس. فإن المنتهب: هو الذي يأخذ المال جهرة بمرأى من الناس، فيمكنهم أن يأخذوا على يديه، ويخلصوا حق المظلوم، أو يشهدوا له عند الحاكم. وأما المختلس: فإنه إنما يأخذ المال على حين غفلة من مالكه وغيره، فلا يخلو من نوع تفريط يمكن به المختلس من اختلاسه، وإلا فمع كمال التحفظ والتيقظ، لا يمكنه الاختلاس، فليس كالسارق، بل هو بالخائن أشبه. وأيضاً فالمختلس إنما يأخذ المال من غير حرز مثله غالباً، فإنه الذي يغافلك ويختلس متاعك في حال تخليك عنه وغفلتك عن حفظه، وهذا يمكن الاحتراز منه غالباً، فهو كالمنتهب. ¬
حكم السرقة
وأما الغاصب، فالأمر فيه ظاهر، وهو أولى بعدم القطع من المنتهب. وإذا لم تقطع يد هؤلاء، يكف عدوانهم بالضرب والنكال والسجن الطويل، والعقوبة بأخذ المال. حكم السرقة: الأصل في مشروعية حد السرقة قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة:38/ 5] وقال صلّى الله عليه وسلم: «إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه» (¬1). وفي رواية: «أقاموا عليه الحد» وإذا ثبتت السرقة فالواجب فيها القطع من حيث هي جناية، والغرم إذا لم يجب القطع. واختلفوا: هل يجمع بين الضمان والقطع؟ لا خلاف بين العلماء في أنه إذا قطع السارق، والعين قائمة، ردت على صاحبها، لبقائها على ملكه. فإن كانت تالفة اختلفوا في ضمانها، فقال الحنفية: إذا هلك المسروق، فلا يجتمع على السارق وجوب الغرم (أي الضمان) مع القطع. فإن اختار المسروق منه الغرم لم يقطع السارق، أي قبل وصول الأمر إلى الحاكم. وإن اختار القطع، واستوفي منه لم يغرم السارق؛ لأن الشارع سكت عن الغرم، فلا يجب مع القطع شيء. قال الله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما، جزاء بما كسبا} [المائدة:38/ 5] فالله سبحانه جعل القطع كل الجزاء، فلو أوجبنا الضمان، لصار القطع بعض الجزاء، فيكون نسخاً لنص القرآن (¬2). ¬
وقال عليه الصلاة والسلام: «إذا قطع السارق فلا غرم عليه» (¬1). وقال المالكية: إن كان السارق موسراً عند القطع، وجب عليه القطع والغرم، تغليظاً عليه، وإن كان معسراً لم يتبع بقيمته، ويجب القطع فقط، ويسقط الغرم تخفيفاً عنه، بسبب عذره بالفاقة والحاجة (¬2). وقال الشافعية والحنابلة: يجتمع قطع وضمان، فيرد ما سرق لمالكه، وإن تلف فيرد بدله، فإذا تلف المسروق في يد السارق ضمن بدله: برد مثله إن كان مثلياً، وقيمته إن كان قيمياً، سواء أكان موسراً أم معسراً، قطع أم لم يقطع، فلا يمنع القطع وجوب الضمان، لاختلاف سبب وجوب كل منهما، فالضمان يجب لحق الآدمي، والقطع يجب لحق الله تعالى، فلا يمنع أحدهما الآخر، كالدية والكفارة، والجزاء والقيمة في قتل الصيد الحرمي المملوك (¬3). ويلاحظ أن منشأ الخلاف بين الحنفية وغيرهم: هو قاعدة تملك المضمون عند الحنفية، وهي «أن المضمونات تملك بالضمان، ويستند الملك فيها إلى وقت وجوب الضمان» فلا يجتمع عندهم القطع والضمان؛ لأنه لو ضمن لملك المسروق، واستند ملكه إلى وقت الأخذ، فيحصل القطع في ملك نفسه، وهو لا يجوز. وقال الشافعي وغيره: لا تملك المضمونات بالضمان، فيجتمع القطع والضمان لتعدد السبب، وعدم إسناد الضمان إلى وقت الأخذ (¬4). ¬
حالة تكرار السرقة
والراجح الواضح هو قول الشافعية والحنابلة، لاختلاف سبب كل من الضمان والقطع، ولضعف الحديث الذي استند إليه الحنفية. حالة تكرار السرقة: اتفق العلماء على أن السارق تقطع يده اليمنى في السرقة الأولى، فإذا سرق ثانية تقطع رجله اليسرى. واختلفوا في قطع اليد اليسرى في السرقة الثالثة، والرجل اليمنى في السرقة الرابعة. قال الحنفية والحنابلة: لا يقطع السارق أصلاً بعد اليد اليمنى والرجل اليسرى، ولكنه يضمن المسروق، ويعزر، ويحبس حتى يتوب، بدليل ما روي عن سيدنا علي رضي الله عنه أنه أتي بسارق، فقطع يده، ثم أتي به ثانية وقد سرق، فقطع رجله، ثم أتي به ثالثة، فقال: «لا أقطعه، إن قطعت يده فبأي شيء يأكل، بأي شيء يتمسح، وإن قطعت رجله فبأي شيء يمشي، إني لأستحي من الله» فضربه بخشبة وحبسه (¬1). وروي مثل ذلك عن سيدنا عمر رضي الله عنه (¬2). وهذا استحسان. وقال المالكية والشافعية: إن سرق ثالثة قطعت يده اليسرى، ثم إن سرق رابعة قطعت رجله اليمنى، ثم يعزر (¬3)؛ لأن فعله معصية ليس فيها حد ولا كفارة، فعزر فيها، والدليل لقطع اليد والرجل الأخرى: ما روى أبو هريرة رضي الله عنه: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال في السارق: إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق ¬
الفرق بين اعتبار اليد في السرقة وبين اعتبارها في الدية
فاقطعوا رجله، ثم إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله» (¬1) وهو فعل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما (¬2). وبما أنه لم يثبت حديث صحيح في هذا الأمر، فلا بأس في عصرنا بالأخذ برأي الحنفية والحنابلة. والحكمة في قطع اليد والرجل: أن اعتماد السارق في السرقة على البطش والمشي، فإنه يأخذ بيده وينتقل برجله، فتعلق القطع بهما، وإنما قطع من خلاف، لئلا يفوت جنس المنفعة عليه فتضعف حركته (¬3). الفرق بين اعتبار اليد في السرقة وبين اعتبارها في الدية: إن قطع اليد في ربع دينار، وجعل ديتها عند الاعتداء عليها بالبتر أو القطع خمسمئة دينار (أي نصف دية في الشرع) هو من أعظم المصالح والحكمة البالغة، فإن الشرع احتاط في الموضعين للأموال والأطراف، فقرر قطعها في سرقة ربع دينار فصاعداً، حفظاً لأموال الناس، وإهانة لها حال كونها خسيسة، وجعل ديتها بالعدوان عليها خمسمئة دينار، حفظاً لها وصيانة، وتقديراً لأهميتها حال كونها شريفة (¬4). وقد تساءل بعضهم، قيل: إنه أبو العلاء المعري (¬5)، فقال: ¬
مكان القطع
يد بخمس مئين عسجد وُدِيَت ..... ما باله قطعت في ربع دينار تناقض مالنا إلا السكوت له ..... ونستجير بمولانا من العار فأجابه بعض الفقهاء بأنها كانت ثمينة لما كانت أمينة، فلما خانت هانت، وضمنه الناظم قوله: يد بخمس مئين عسجد وديت ..... لكنها قطعت في ربع دينار عز الأمانة أغلاها، وأر خَصَها ..... ذل الخيانة، فافهم حكمة الباري وروي أن الشافعي رحمه الله أجاب بقوله: هناك مظلومة غالت بقيمتها ..... وههنا ظلمت، هانت على الباري مكان القطع: قال جمهور العلماء: مكان القطع في اليد هو من الكوع أو مفصل الزند (الرسغ)، لما روي أنه عليه السلام قطع يد السارق من مفصل الزند (¬1) وقال قوم: الأصابع فقط. ومكان القطع في الرجل عند الجمهور من مَفْصِل القدم، بدليل ما روى ابن المنذر عن عمر رضي الله عنه أنه قطع الرجل من المفصل. وروى البيهقي عن علي ¬
صفة حد السرقة
رضي الله عنه أنه يقطع من خنصر القدم (¬1) ويبقى له الكعب ليعتمد عليه. وبه قال أبو ثور، والراجح المشهور عملاً هو كون القطع من مفصل الزند ومن مفصل القدم. وإذا قطع فالسنة أن يعلق العضو في عنقه ساعة، لما روى فضالة بن عبيد، قال: «أتي النبي صلّى الله عليه وسلم بسارق، فأمر به فقطعت يده، ثم أمر فعلقت في رقبته» ولأن في ذلك ردعاً للناس. ويحسم موضع القطع، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أتي بسارق، فقال: اذهبوا به فاقطعوه، ثم احسموه، ثم ائتوني به، فأتي به، فقال: تب إلى الله تعالى، فقال: تبت إلى الله تعالى، فقال: تاب الله عليك. والحسم: هو أن يغلى الزيت غلياً جيداً، ثم يغمس فيه موضع القطع لتنحسم العروق، وينقطع الدم (¬2) وعلى المحدود أجرة قاطع، وثمن زيت حسم. صفة حد السرقة: حد السرقة بالاتفاق حق خالص لله تعالى، فلا يحتمل العفو والصلح والإبراء بعد ثبوته، فلو أمر الحاكم بقطع السارق، فعفا عنه المسروق منه، كان عفوه باطلاً؛ لأن صحة العفو تعتمد كون العفو عنه حقاً للعافي، والقطع حق خالص لله سبحانه وتعالى. ومن هنا قرر الحنفية هذه القاعدة: «الصلح عن الحدود باطل» (¬3). ويترتب عليه (¬4): أنه يجري التداخل في حد السرقة، فلو سرق شخص سرقات، فرفع الأمر فيها كلها أو بعضها إلى الحاكم، فيقام حد واحد هو القطع ¬
المبحث الثاني ـ شروط السرقة الموجبة للحد
لكل السرقات؛ لأن الجرائم التي هي من جنس واحد يكتفى فيها بحد واحد، كما في الزنا، إذ المقصود من إقامة الحد هو الزجر والردع، وهو يحصل بإقامة حد واحد. وإذا ثبت الحد عندالسلطان، لم يجز العفو عنه، ولا تجوز الشفاعة فيه؛ لأن الحد لله، فلا يجوز فيه العفو والشفاعة، ولما روت عائشة رضي الله عنها قالت: «أتي لرسول الله صلّى الله عليه وسلم بسارق قد سرق، فأمر به فقطع، فقيل: يا رسول الله، ما كنا نراك تبلغ به هذا، قال: لو كانت فاطمة بنت محمد، لأقمت عليها الحد» (¬1). وقال الزبير: «إذا بلغ ـ أي الحد ـ السلطان فلعن الله الشافع والمشفع» (¬2). المبحث الثاني ـ شروط السرقة الموجبة للحد: يشترط لإقامة حد السرقة شروط، بعضها في السارق، وبعضها في المسروق، وبعضها في المسروق منه، وبعضها في المسروق فيه، وهو المكان. شروط السارق: يشترط في السارق توافر أهلية وجوب القطع: وهي العقل والبلوغ والاختيار والعلم بالتحريم، فلا يقطع الصبي والمجنون، لقوله عليه السلام: «رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ». ولأن القطع عقوبة، فيستدعي جناية، وفعل الصبي والمجنون لا يوصف بأنه جناية. ولا يحد المكرَه لرفع القلم عنه، ولا يحد من أخذ شيئاً جاهلاً بتحريمه لقرب عهده بالإسلام. وإذا اشترك الصبي أو المجنون مع جماعة في سرقة، فلا قطع على الجميع عند أبي حنيفة وزفر رحمهما الله تعالى. ¬
وقال أبو يوسف رحمه الله: العبرة بمباشرة إخراج المتاع، فإن أخرجه الصبي أو المجنون، درئ الحد عن الجميع، وإن باشر الإخراج غيرهما قطع، ولا يقطع الصبي أو المجنون؛ لأن الإخراج من الحرز هو الأصل في السرقة، والإعانة كالتابع. ودليل أبي حنيفة وزفر: أن السرقة واحدة، وقد حصلت ممن يجب عليه القطع وممن لا يجب عليه القطع، فلا يجب القطع على أحد، كالعامد مع الخاطئ إذا اشتركا في جريمة، وإخراج السرقة حصل من الكل من ناحية المعنى (¬1). واشتراط البلوغ والعقل في السارق لإقامة الحد متفق عليه، وأضاف الشافعية والحنابلة شرط كونه مختاراً، التزم أحكام الإسلام، فلا يجب الحد على مكره، لحديث: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» ولا تجب على الحربي؛ لأنه لم يلتزم حكم الإسلام. وفي وجوب الحد على المستأمن والمهادن قولان عندهم: أحدهما ـ أنه لا يجب عليه حد السرقة؛ لأنه حق خالص لله تعالى، فلم يجب عليه كحد الشرب والزنا. والثاني ـ أنه يجب عليه؛ لأنه حد يجب لصيانة حق الآدمي، فوجب عليه كحد القذف. وأضاف المالكية ألا يكون للسارق على المسروق منه ولادة، فلا يقطع الأب في سرقة مال ابنه لقوة الشبهة الآتية من حديث جابر عند ابن ماجه: «أنت ومالك لأبيك». وزاد الشافعي وأحمد ومالك الجد، فلا يقطع في مال حفيده، وزاد أبو حنيفة كل ذي رحم محرم، واختلفوا في الزوج والزوجة إذا سرق كل واحد منهما من مال صاحبه، كما سأوضح. وأضاف المالكية أيضاً ألا يضطر السارق إلى ¬
شروط المسروق
السرقة من جوع. وأضاف الحنابلة شرط كون السارق عالماً بمسروق وبتحريمه اعتباراً بما في ظن المكلف (البالغ العاقل). أما إذا سرق الولد من مال أحد أبويه فيقطع عند المالكية، ولايقطع عند بقية المذاهب، لأن الولد يتبسط في مال والديه عادة، فتكون هناك شبهة في إسقاط الحد. شروط المسروق: يشترط في المسروق عدة شروط: 1 - أن يكون المسروق مالاً متقوما (¬1): والمراد بالمال: ما يتموله الناس ويعدونه مالاً؛ لأن ذلك يشعر بعزته وخطره عندهم، وما لا يتمولونه فهو تافه حقير، ولا تقطع اليد في الشيء التافه، كما كان عليه عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم. والمراد بالمتقوم: ما كان له قيمة يضمنها متلفه عند اعتدائه عليه. وبناء على هذا: لو سرق إنسان صبياً حراً، لا تقطع يده، لأن الحر ليس بمال (¬2)، وإنما يعزر. ولو سرق شخص خمراً أو خنزيراً أو جلد ميتة لا تقطع يده أيضاً؛ لأنه لا قيمة للخمر والخنزير في حق المسلم، ولا مالية في جلد الميتة، وهذا شرط متفق عليه. ولا قطع بسرقة أدوات الملاهي كالعدد والمزمار، والأصنام والصلبان؛ لأنها غير متقومة فلا يباح استعمالها، وإزالة المعصية أمر مندوب إليه. 2 - أن يكون المال المسروق مقدرا ً: أي له نصاب، فلا يقطع السارق في الشيء التافه. واختلف الفقهاء في مقدار النصاب: فقال الحنفية: نصاب السرقة دينار أو عشرة دراهم، أو قيمة أحدهما (¬3)، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا قطع فيما دون ¬
عشرة دراهم» (¬1) وقوله أيضاً: «لا تقطع اليد إلا في دينار، أو في عشرة دراهم» (¬2). وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «لا يقطع السارق إلا في ثمن المِجَنَّ، وكان يقوَّم يومئذ بعشرة دراهم» (¬3).وقال الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة: نصا ب السرقة ربع دينار شرعي من الذهب أو ثلاثة دراهم شرعية خالصة من الفضة (¬4). أو قيمة ذلك من العروض والتجارات والحيوان، إلا أن التقويم عند المالكية والحنابلة في سائر الأشياء المسروقة عدا الذهب والفضة يكون بالدراهم. وعند الشافعية بالربع دينار. ودليلهم: قوله عليه الصلاة والسلام: «تقطع اليد في ربع دينار فصاعداً» (¬5) وأنه ¬
صفات النصاب
عليه الصلاة والسلام: «قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم» (¬1) وهي قيمة ربع الدينار (¬2). وبه يظهر أن منشأ الخلاف: هو تقدير ثمن المجن الذي قطع السارق به في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلم. فالحنفية يقولون: كان ثمنه ديناراً. والآخرون يقولون: كان ثمنه ربع دينار. والأحاديث الصحيحة تؤيد وترجح رأي الجمهور. صفات النصاب: قال الحنفية: يشترط أن تكون الدراهم جياداً، فلو سرق زيوفاً، أو سرق غيرالدراهم، لا يقطع ما لم تبلغ قيمة المسروق عشرة دراهم جياد. وأن تكون الدراهم، وزن سبعة مثاقيل (¬3)؛ لأن اسم الدرهم عند الإطلاق يقع على ذلك، ولأن هذا أوسط المقادير بين الدراهم الكبار والصغار التي كانت على عهد الرسول صلّى الله عليه وسلم. وهل ينبغي أن تكون الدراهم مضروبة؟ قال أبو حنيفة: إذا سرق عشرة دراهم ولو كانت تبراً مما يروج بين الناس في معاملاتهم تقطع يده؛ لأن المهم هو الرواج في التعامل بين الناس، ودليله: إطلاق حديث القطع في عشرة دراهم، ورد عليه بأن المطلق يقيد بالعرف والعادة. ¬
وقت اعتبار قيمة المسروق
وقال الصاحبان والكرخي: ينبغي أن تكون الدراهم مضروبة؛ لأن اسم الدراهم في الحديث يطلق على المضروبة عرفاً، وهو ظاهر الرواية، وهو الأصح، وهو قول الجمهور. فلو سرق تبراً (أي فضة غير مضروبة صكاً) أو نُقْره (هي القطعة المذابة من الذهب والفضة أي السبيكة) قيمتها أقل من عشرة دراهم مضروبة لا يقطع، فإذا ساوت قيمتها عشرة دراهم مسكوكة فأكثر، يقطع سارقها (¬1). وقت اعتبار قيمة المسروق: قال جمهور الحنفية: يجب أن تكون قيمة المسروق عشرة دراهم، من وقت السرقة، إلى وقت القطع، فإن نقص المسروق: فإما أن يكون نقصان العين أو نقصان السعر. فإذا نقصت قيمة المسروق بانتقاص عينه: بأن دخله عيب أو ذهب بعضه، فيقام الحد؛ لأن نقصان العين هو هلاك بعض المسروق، وهلاك جميع المسروق لا يسقط الحد، فهلاك بعضه لا يسقطه من باب أولى. وإن كان نقصان السعر: بأن صار يساوي ثمانية دراهم مثلاً، بعد أن كان يساوي عشرة، فهناك روايتان: ظاهر الرواية: أنه لا يقطع؛ لأن نقصان السعر يورث شبهة نقصان في المسروق وقت السرقة؛ لأن العين بحالها لم تتغير، فيحصل النقصان الطارئ كالموجود عند السرقة، بخلاف نقصان العين؛ لأنه يوجب تغير العين، بهلاك بعضها، والهلاك مضمون على السارق، فلا يمكن افتراض وجوده عند السرقة. وروي عن محمد وهو قول مالك والشافعي وأحمد رحمهم الله تعالى: أنه ¬
كون النصاب من حرز واحد
تعتبر قيمة العين وقت الإخراج من الحرز، ولا يعتبر نقصان السعر بعد أخذ المسروق، قياساً على نقصان العين (¬1)، وهذا في تقديري أولى، لاكتمال الجريمة وقت السرقة. ويجري هذا الخلاف فيما لو سرق الشخص في بلد، وقبض عليه في بلد آخر: لا يقطع في ظاهر الرواية، ما لم تكن قيمة المسروق في البلدين عشرة دراهم. كون النصاب من حرز واحد: النصاب الموجب لحد القطع يجب أن يكون مأخوذاً من حرز واحد، سواء أكان المسروق لواحد أم لجماعة؛ لأنها سرقة واحدة. وبناء على هذا، لو سرق خمسة دراهم من دار لرجل، وخمسة من دار أخرى، لا يجب القطع؛ لأنهما سرقتان مختلفتان من حرزين مختلفين، فلا محل للقطع فيهما. وكذلك لو سرق عشرة دراهم على مرتين، لا يقطع؛ لأن المسروق في كل مرة أقل من نصاب (¬2). اشتراك جماعة في السرقة: اتفق العلماء على أنه إذا اشترك جماعة في سرقة، فحصل لكل واحد منهم نصاب، فعلى كل واحد منهم القطع. أما إذا كان المسروق كله نصاباً، واشترك جماعة في سرقته: فقال أبو حنيفة والشافعي: لا يقطع كل واحد منهم (¬3)؛ لأن كل واحد منهم ¬
لم يسرق نصاباً، فلم تستوجب جنايته عقوبة كاملة، كما لو انفرد بسرقة مادون النصاب، والرسول صلّى الله عليه وسلم يقول: «لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً» وهذا دليل الشافعي. ولكن هذا الحكم يخالف حكم جريمة الاشتراك في القتل؛ لأنه لو لم يجب القصاص على كل واحد منهم، لكان الاشتراك طريقاً إلى إسقاط القصاص، بخلاف الأمر في السرقة، فإنه إذا لم يجب القطع على الشركاء في سرقة نصاب، لم يصر الاشتراك طريقاً إلى إسقاط القطع، لقلة ما يصيب كل واحد منهم، فإذا سرقوا أكثر من نصاب بحيث يصيب كل واحد منهم مقدار نصاب، فإنه يجب القطع. ويقدر المسروق في الحكم عند الحنفية يوم الحكم بالقطع. وقال المالكية: إن اشترك السارقان أو أكثر في سرقة نصاب: فإن كان لكل واحد قدرة على حمله بانفراده، فلا يقطع أحد، وإلا بأن كانوا يحتاجون في إخراجه إلى تعاون بعضهم، فيقطعون جميعاً، ويصيرون كأنهم حملوه على دابة، فإنهم يقطعون إذا تعاونوا على رفعه عليها، ويقدر المسروق عندهم وعند الشافعية والحنابلة بقيمته يوم السرقة (¬1). وقال الحنابلة: إذا اشترك الجماعة في سرقة، قيمتها ثلاثة دراهم قطعوا، لضرورة حفظ المال، فإن الواحد والجماعة يستوون في هتك الحرز، وسرقة النصاب فعل يوجب القطع، فاستوى فيه الواحد والجماعة كالقصاص. قال ابن قدامة في المغني: وقول أبي حنيفة والشافعي أحب إلي؛ لأن القطع ههنا لا نص فيه، ولا هو في معنى المنصوص والمجمع عليه فلا يجب، والاحتياط بإسقاطه أولى من الاحتياط بإيجابه؛ لأنه مما يدرأ بالشبهات (¬2). ¬
3 - أن يكون المسروق محرزا مطلقا، مقصودا ب الحرز
3 - أن يكون المسروق محرزاً مطلقاً، مقصوداً ب الحرز: الأصل في اشتراط هذا الشرط المتفق عليه قوله عليه السلام: «لا قطع في ثَمَر ولا كَثر حتى يؤويه الجرين، فإذا أواه الجرين، ففيه القطع» وفي رواية: «فإذا أواه المُراح أو الجرين» (¬1). والحرز لغة: الموضع الذي يحرز فيه الشيء. وشرعاً: هو ما نصب عادة لحفظ أموال الناس كالدار والحانوت والخيمة والشخص (¬2). وهو نوعان: 1 - حرز بنفسه: وهو كل بقعة معدة للإحراز، ممنوعة الدخول فيها، إلا بالإذن، كالدور والحوانيت والخيام، والخزائن والصناديق. ¬
2 - حرز بغيره
2 - حرز بغيره: وهو كل مكان غير معد للإحراز، يدخل إليه بلا إذن، ولا يمنع منه، كالمساجد والطرق والمفاوز. فالنوع الأول: يكون حرزاً بنفسه، سواء وجد حافظ، أو لا، وسواء أكان الباب مغلقاً، أم مفتوحاً؛ لأن البناء يقصد به الإحراز، وهو معتبر بنفسه بدون صاحبه؛ لأنه عليه الصلاة والسلام علق القطع بإيواء الجرين والمراح من غير شرط وجود الحافظ، لصيرورته حرزاً. وأما النوع الثاني: فحكمه حكم الصحراء إن لم يكن هناك حافظ، فإن كان هناك حافظ قريب من المال يمكنه حفظه، فهو حرز، سواء أكان نائماً، أم يقظان، لأنه عليه الصلاة والسلام قطع سارق رداء صفوان، وصفوان كان نائماً (¬1). والأخذ من الحرز شرط متفق عليه، ولا يجب القطع حتى ينفصل المال عن جميع الحرز. وبناء عليه يعرف حكم الصور الآتية: أـ لو سرق إنسان عِدلاً موجوداً على ظهر دابة تسير ضمن مجموعة من الدواب مقطورة ببعضها، لم يقطع؛ لأنه أخذ نفس الحرز، ونفس الحرز ليس في الحرز، وكون العدل على ظهر الدابة لا يكفي اعتباره محرزاً؛ لأنه ليس بحرز مقصود؛ لأن قصد قائد الدواب هو قطع المسافة دون الحفظ، وإنما القائد حافظ للدابة التي زمامها بيده فقط، هذا مذهب الحنفية. ويظهر أن هذا الرأي متأثر بالعرف، وعرفنا اليوم أن قائد القافلة مطالب بحفظ المتاع المحمول. وقال الأئمة الثلاثة: القائد حافظ لكل الدواب التي يقودها إذا كان بحيث يراها إذا التفت إليها، وهو وإن كان يقصد قطع المسافة يقصد أيضاً الحفظ. ¬
ب ـ إذا علم صاحب الشيء المسروق بالسرقة قبل إخراج المسروق من الحرز، فأخذه منه
فإن شق العدل الموجود على الدابة، وأخرج المتاع: قطع؛ لأن العدل حرز لما فيه (¬1). ب ـ إذا علم صاحب الشيء المسروق بالسرقة قبل إخراج المسروق من الحرز، فأخذه منه، لا يقطع، لأنه لم يوجد منه الإخراج من الحرز. أما إن علم به ولم يأخذه منه خوفاً من الاصطدام معه، أو عجز عن أخذه بعد مقاتلته بسلاح ونحوه، فإن كانت السرقة نهاراً لا تقطع يد السارق؛ إذ لا بد من الخفية عند ابتداء وانتهاء الأخذ كما تقدم، أما إن كانت السرقة ليلاً فتقطع يد السارق في هذه الحالة استحساناً عند الحنفية؛ لأنه يكفي في الليل توافر الخفية عند بدء الأخذ لا نهايته؛ لأن أغلب سرقات الليل تصير مغالبة أو مع خوف المالك من المقاومة، لعدم تيسر النجدة والغوث أثناء الليل. جـ ـ إذا رمى السارق المسروق إلى خارج، فوجده مالكه فأخذه، لا يقطع؛ لأنه لم تثبت يده عليه عند الخروج، لثبوت يد غيره، فإذا رماه من الحرز، ثم خرج وأخذه، يجب القطع، وهذا متفق عليه، خلافاً لزفر، لأنه ثبتت عليه يده حكماً، والرمي حيلة لإتمام السرقة. ودليل زفر: أن الإلقاء غير موجب للقطع، كما لو خرج ولم يأخذه (¬2). د ـ المناولة من الحرز: إذا اشترك اثنان في نَقْب جدار، فدخل أحدهما، وأخذ المتاع، وناوله الآخر، هو خارج الحرز، أو رمى به إليه، فقال أبو حنيفة: لا قطع على كل واحد منهما؛ لأن كل واحد منهما لم يستقل بالنقب والإخراج اللذين لا تكمل السرقة إلا بهما جميعاً بحسب العرف، فالداخل لم تثبت يده على المسروق حين إخراجه، والخارج لم يوجد منه هتك الحرز، فلم تتم السرقة من كل واحد، وهذا هو الراجح لدى الحنفية. ¬
هـ ـ إخراج المسروق من الحرز (سرقة النقب)
وقال محمد: إن أخرج الداخل يده من الحرز، وناول الخارج، يقطع الداخل دون الخارج، فإن أدخل الخارج يده في الحرز، وأخذ المسروق فلا قطع عليهما؛ لأن الداخل لم يوجد منه الإخراج، والآخر لم يوجد منه هتك الحرز، فلم تتم السرقة من كل واحد. وقال أبو يوسف: إذا أخرج الداخل يده، فالقطع على الداخل، وأما الخارج إذا أدخل يده وأخذ منه، فيجب القطع عليهما؛ لأنه لا يشترط عنده دخول الحرز (¬1). وقال المالكية والشافعية والحنابلة: يقطع الداخل وحده، دون الخارج؛ لأنه هو الذي أخرج المتاع، مع المشاركة في النقب (¬2). هـ ـ إخراج المسروق من الحرز (سرقة النقب): إذا نقب شخصان حرزاً، ودخل أحدهما، وقرب المتاع إلى النقب وتركه، فأدخل الخارج يده، فأخرجه من الحرز، فقال أبو حنيفة ومحمد: لا قطع عليهما؛ لأن الداخل لم يوجد منه الإخراج، والخارج لم يوجد منه هتك الحرز، فلم تتم السرقة من كل واحد منهما، وفي هذه المسألة قال علي رضي الله عنه: «إذا كان اللص ظريفاً لا يقطع» (¬3). وقال أبو يوسف: يقطع الخارج؛ لأن المقصود أخذ المال، لا دخول الحرز (¬4). وقال مالك: يقطع المخرج خاصة، لأنه السارق. وقال الشافعية: لو تعاونا في النقب وانفرد أحدهما بالإخراج، أو وضعه ناقب بقرب النقب، فأخرجه آخر، ¬
وـ الاشتراك في السرقة أو تحميل المسروق على ظهر واحد من الجماعة
قطع المخرج، لكن لو وضعه بوسط نقبه فأخذه خارج وهو يساوي نصابين، لم يقطع الاثنان في الأظهر. ولو نقب شخص وأخرج غيره المسروق فلا قطع على واحد (¬1). وقال أحمد: يقطع كل واحد منهما؛ لأنهما اشتركا في هتك الحرز، وإخراج المتاع، فلزمهما القطع، كما لو حملاه معاً فأخرجاه (¬2). وهذا لدي أصح الآراء للاشتراك في السرقة. ويجري هذا الخلاف أيضاً فيمن دخل الحرز، وجمع المتاع عند النقب، ثم خرج، وأدخل يده، وأخرج المتاع. وـ الاشتراك في السرقة أو تحميل المسروق على ظهر واحد من الجماعة: إذا دخل جماعة الدار، فأخذوا متاعاً، وحملوه على ظهر رجل منهم أو رجلين، وخرج الباقون من غير حمل شيء: فالقياس عند الحنفية وهو قول زفر والمالكية والشافعية: ألا يقطع غير الحامل؛ لأن فعل السرقة لا يتم إلا بالإخراج بعد الأخذ (¬3). وفي الاستحسان عندالحنفية وهو قول الحنابلة: يقطعون جميعاً؛ لأن إخراج المسروق تم بمعاونة الجماعة، وهكذا تكون السرقة الجماعية عادة (¬4). ويجري هذا الخلاف فيما لو حملوا المسروق على دابة، حتى خرجت من الحرز، فإنه يجب القطع استحساناً. ز ـ الطرار والنباش: الطرار: هو النشال وعرفه الحنابلة بقولهم بأنه من يبط (يشق) جيباً أو كماً ويأخذ منه أو بعد سقوطه نصاباً. وقد اتفق الفقهاء على أن ¬
النباش
الطرار تقطع يده (¬1). وهو الرأي المتفق مع المصلحة. ومعنى الطرار: هو الذي يسرق من جيب الرجل، أو كمه (¬2) أو صُفْنة (وعاء من أدم يستقى به) سواء بالقطع أو بالشق أو بإدخال اليد في الجيب. غير أن الحنفية فصلوا في طريقة الطر: فإن كان الطر بالقطع، والدراهم مصرورة على ظاهر الكم لم يقطع؛ لأن الحرز هو الكم، والدراهم بعد القطع تقع على ظاهر الكم، فلم يوجد الأخذ من الحرز. وإن كانت الدراهم مصرورة في داخل الكم، يقطع؛ لأنها بعد القطع، تقع في داخل الكم، فكان الطر أخذاً من الحرز، وهو الكم، فيقطع. وإن كان الطر بحل الرباط ينظر: إن كان بحال لو حل الرباط تقع الدراهم على ظاهر الكم، بأن كانت العقدة مشدودة من داخل الكم، لا يقطع؛ لأنه أخذها من غير حرز. وإن كان بحال إذا حل الرباط تقع الدراهم في داخل الكم، وهو يحتاج إلى إدخال يده في الكم للأخذ، يقطع، لوجود الأخذ من الحرز. والخلاصة: أن الحنفية يتطلبون وجود معنى الحرز حقيقة واقعة، والأولى الأخذ برأي الجمهور تفادياً لخطر هؤلاء اللصوص الخطرين. النباش: هو سارق أكفان الموتى، واختلف الفقهاء في حكمه، فقال ¬
ح ـ الدار المشتركة
أبو حنيفة ومحمد: لا يقطع ولو كان القبر في بيت مقفل في الأصح؛ لأن القبر ليس بحرز بنفسه أصلاً، إذ لا تحفظ الأموال فيه عادة (¬1). وقال المالكية والشافعية والحنابلة وأبو يوسف: تقطع يده؛ لأنه سارق، أو ملحق بسارق مال الحي، والله تعالى يقول: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة:38/ 5]، وقالت عائشة رضي الله عنها: «سارق أمواتنا كسارق أحيائنا» (¬2)، وروى البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من حرَّق حرقناه، ومن غرق غرقناه، ومن نبش قطعناه» (¬3)، ولأن القبر حرز للكفن، فإن الكفن يحتاج إلى تركه في القبر، دون غيره، ويكتفى به في حرزه (¬4). إلا أن الشافعية استثنوا القبر الموجود في برية، فلا قطع في السرقة منه؛ لأنه ليس بحرز للكفن، وإنما يكون الدفن في البرية للضرورة بخلاف المقبرة التي تلي العمران، والراجح رأي الجمهور، منعاً من هذه الدناءات. ح ـ الدار المشتركة: إذا كانت الدار مشتركة بين عدة سكان، كالغرف المؤجرة في المنازل لأكثر من واحد، فسرق المتاع من غرفة، يقطع عند الحنفية إذا كانت الدار عظيمة بحيث يستغني أهل كل بيت ببيتهم عن صحن الدار. ¬
ط ـ الأمتعة في الأسواق
وكذلك يقطع عند الحنابلة إذا كان الباب مغلقاً، ويقطع عند مالك والشافعي بإخراج المتاع، ولو لم يخرجه من جميع الدار (¬1). ط ـ الأمتعة في الأسواق: يقطع سارقها عند الحنفية إذا سرق منها ليلاً، ولا يقطع إن سرق منها نهاراً، لاختلال الحرز في النهار بسبب وجود الإذن عادة بالدخول. وقال المالكية والشافعية: يقطع سارق المتاع من حوانيت التجار أو الأسواق إذا كانت الأمتعة قد ضمها أصحابها إلى بعضها في موضع البيت، أوأحرزت في أوعيتها التي تحرز بها عادة، عملاً بالعرف الجاري في إحرازها. وبناء عليه، يقطع - في رأيي - سارق السيارات المتروكة في الشوارع اليوم؛ لأن الشارع هو حرزها، والحرز: هو كل مكان تحفظ فيه الأموال عادة. وقال أحمد: يقطع سارقها إذا كان في السوق حارس، أو كان مع الأمتعة حارس يشاهدها (¬2). 4 - أن يكون المسروق أعياناً، قابلة للادخار والإمساك، ولا يتسارع إليها الفساد: قال أبو حنيفة ومحمد: لا قطع فيما يسرع إليه الفساد، إذا بلغ الحد الذي يقطع في مثله بالقيمة، كالعنب والتين والسفرجل والرطب والبقول والخبز ونحوها من الأطعمة الرطبة، والطبائخ، واللحم الطري أو اليابس، والنبيذ الحلال، والعصير والألبان، سواء أخذت من حرز أم لا، لعدم قابلية الادخار، ودليلهما قوله عليه الصلاة والسلام: «لا قطع في ثمر ولا كَثَر» (¬3). ¬
سرقة الثمر المعلق
ولأن هذه الأشياء لا تعد مالاً عادة، فيقل خطرها عند الناس، فكانت تافهة، ونظراً لأنها معرضة للهلاك أيضاً تشبه ما لم يحرز، فإن كان المسروق مما يبقى من سنة إلى سنة، فيدخر، مثل الجوز واللوز والتمر اليابس والفواكه اليابسة والخل والدبس، فيجب القطع (¬1). وقال أبو يوسف: يجب القطع فيما لا يحتمل الادخار؛ لأنها منتفع بها حقيقة، والانتفاع بها مباح شرعاً على الإطلاق، فكانت مالاً، فيقطع فيها كسائر الأموال (¬2). وهذا الرأي يتفق مع عرفنا اليوم، إذ أن الفواكه أصبحت من الأموال المهمة، وليست تافهة، كما كان عليه عرف الناس في الماضي. وقال المالكية والشافعية والحنابلة: يجب القطع في كل الأموال المتمولة التي يجوز بيعها، وأخذ العوض عنها، سواء أكانت طعاماً أم ثياباً، أم حيواناً، أم أحجاراً، أم قصباً، أم صيداً، أم زجاجاً، ونحوها، لعموم قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة:38/ 5] ولأن هذا مال يتمول عادة ويرغب فيه، فيقطع سارقه إذا اجتمعت فيه شروط السرقة (¬3)، كأن يؤخذ من حرز مثله. سرقة الثمر المعلق: اتفق العلماء على أنه لا يجب القطع في سرقة الثمر المعلق على الشجر أو الحنطة في سنبلها، إذا لم يكن محرزاً، فإن أحرز وجب فيه القطع. ويرجع في تحديد الحرز إلى ما يعرفه الناس حرزاً، فما عرفوه حرزاً قطع بالسرقة منه، وما لا يعرفونه حرزاً لم يقطع بالسرقة منه؛ لأن الشرع دل على اعتبار الحرز، ¬
5 - أن يكون المسروق شيئا ليس أصله مباحا
وليس له حد مقرر في الشرع، فوجب الرجوع فيه إلى العرف. قال الشافعي: إن حديث رافع: «لا قطع في ثمر» خرج على ما كان عليه عادة أهل المدينة من عدم إحراز حوائطها (بساتينها) فذلك لعدم الحرز. فإذا أحرزت الحوائط (أي البساتين) بالجدران أو الأسلاك الشائكة مثلاً، كانت كغيرها. لكن إذا أخذ الثمر من غير حرز، يجب فيه عند الجمهور دفع قيمته. وقال الحنابلة: يجب دفع مثلي قيمته، لقوله عليه السلام: «من أصاب بفيه من ذي حاجة غير متخذ خُبْنة، أي (لا يخبئ شيئاً في ثنيات ثيابه) فلا شيء عليه، ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة، ومن سرق منه شيئاً بعد أن يؤويه الجرين، فبلغ ثمن المجن، فعليه القطع» (¬1). فإن استحكم جفاف الثمر أو الحنطة، وجذَّ وآواه الجرين، ثم سرق، قطع السارق؛ لأنه صار مالاً مطلقاً، قابلاً للادخار، وإليه أشار الرسول صلّى الله عليه وسلم حيث قال: «لا قطع في ثمر ولا كثَر حتى يؤويه الجرين» الحديث (¬2). 5 - أن يكون المسروق شيئاً ليس أصله مباحاً: إذا كان الشيء في أصله مباحاً، كالطيور والتبن والخشب والحطب والقصب والصيود والحشيش والسمك والزرنيخ والطين الأحمر والنُّورة (¬3) واللَّبِن والفحم ¬
والملح والخزف والزجاج لسرعة كسره، فقد اختلف العلماء في حكم سرقته كما في الشرط السابق. قال الحنفية: لا قطع فيما كان أصله مباحاً في دار الإسلام، كهذه الأشياء، واستثنوا منها خشب الساج والأبنوس والصندل والقنا (هو عنقود النخل) والخشب المصنوع. ودليله: أن الناس لا يتمولون تلك الأشياء، وإنما توجد بكثرة، وهي مباحة، فيقل خطرها عندهم، فكانت تافهة كالتراب، إلا ما كان غالي القيمة؛ لأنه يتمول عادة فلا يكون تافهاً، وهو ما استثنوه. ولأنها أيضاً من الأمور التي يشترك فيها الناس جميعاً، فبالنظر للشبهة التي فيها لكل مالك، لا يقطع سارقها، مراعاة لأصلها (¬1). ويلاحظ أن اعتماد أبي حنيفة في هذا الشرط على معنى التفاهة وعدم المالية، لا على إباحة الجنس؛ لأن ذلك موجود في الذهب والفضة. وعليه إذا أصبحت هذه الأشياء من جملة الأموال المعتبرة وجب الحد بسرقتها. وقال المالكية والشافعية والحنابلة (¬2): يقطع سارق الأموال، سواء أكانت مما أصله مباح، كالصيد والماء والحطب والحشيش والمعادن، أم غير مباح لعموم الآية الموجبة للقطع، وعموم الآثار الواردة في اشتراط النصاب، ولأنها مال محرز (¬3)، وهذا هوالأرجح لدي، لتمول الناس هذه الأشياء، وإحرازهم لها. ¬
6 - أن يكون المال المسروق معصوما، ليس للسارق فيه حق الأخذ ولا تأويل الأخذ، ولا شبهة التناول (انتفاء شبهة الأخذ)
6 - أن يكون المال المسروق معصوماً، ليس للسارق فيه حق الأخذ ولا تأويل الأخذ، ولا شبهة التناول (انتفاء شبهة الأخذ): السبب في اشتراط هذا الشرط: أن القطع عقوبة محضة، فيستدعي جناية محضة، وأخذ ما لَه حق أخذه لا يكون جناية أصلاً، فلا يستدعي عقوبة. وكذلك أخذ ما لأخذه فيه تأويل التناول أو شبهة التناول، لا يكون جناية محضة، فلا تناسبه العقوبة المحضة (¬1). ويتفرع على هذا الشرط أنه لا يقام حد القطع فيما يلي: أـ سائر الأموال المباحة التي لا مالك لها. ب ـ مال الحربي المستأمن في دار الإسلام، فإنه لا يقطع استحساناً؛ لأنه مال فيه شبهة الإباحة، والقياس أن يقطع؛ لأن هذا المال أصبح معصوماً بسبب الأمان الذي منحه الحربي، ولهذا كان مضموناً بالإتلاف كمال الذمي. جـ ـ مال المسلم أو الذمي إذا سرقه الحربي المستأمن لاعتقاده إباحته. د ـ مال الباغي إذا سرقه العادل؛ لأنه ليس بمعصوم في حقه. وكذا مال العادل إذا سرقه الباغي، لأنه أخذه متأولاً. هـ ـ المال المسروق من الغريم، أي المدين، على التفصيل الآتي: ¬
إن كان المسروق من جنس حقه، كأن كان له عشرة دراهم، فسرق عشرة دراهم، وكان الدين حالّ الأداء، لم يقطع السارق؛ لأن الأخذ مباح له، لأنه ظفر بجنس حقه، فله أخذه كما هو مقرر، حتى ولو أخذ أكثر من مقدار حقه، لا يقطع؛ لأن بعض المأخوذ حقه على الشيوع، ولا قطع في سرقة حق شائع كما في المال المشترك. فإن كان الدين مؤجلاً لا يقطع استحساناً، ويقطع قياساً. وجه القياس: أن الدين إذا كان مؤجلاً لم يكن لآخذه حق الأخذ قبل حلول الأجل، فصار كما لو سرقه أجنبي، فيقطع فيه. ووجه الاستحسان: أن حق الأخذ، وإن لم يثبت قبل حلول الأجل، إلا أن سبب ثبوت حق الأخذ: وهو الدين، قائم، وأما الأجل فتأثيره في تأخير المطالبة، لا في سقوط الدين، فقيام السسبب المذكور يورث شبهة، والشبهة تمنع إقامة الحد. فإن كان المسروق خلاف جنس حقه، كأن يكون له عشرة دراهم، فسرق ديناراً أو عُروضاً، فيقام عليه حد القطع، كما ذكر الكرخي؛ لأنه أخذ مالاً ليس له حق أخذه. وذكر في كتاب السرقة أنه لا يقطع، وهو قول أبي يوسف والشافعي (¬1). قال ابن عابدين: إن عدم جواز أخذ الدائن شيئاً للمدين من خلاف جنسه حقه، كان في زمانهم ـ أي زمان متقدمي الحنفية ـ لمطاوعتهم في الحقوق، والفتوى اليوم على جواز الأخذ عند القدرة من أي مال كان، لا سيما في ديارنا لمداومتهم للعقوق (¬2). ¬
7 - ألا يكون للسارق في المسروق ملك ولا تأويل الملك، أو شبهته (انتفاء شبهة الملك)
وـ سرقة المصحف الشريف: لا يقطع سارقه؛ لأن له تأويل الأخذ، وهو أنه أخذه لقراءة القرآن العظيم، وهو مذهب الحنابلة أيضاً. وقال مالك والشافعي وأبو يوسف: يقطع بسرقة المصحف؛ لأنه مال متقوم. واستثنى الشافعية في الأصح سرقة المصحف الموقوف على القراءة، فإن سارقه لا يقطع كالسرقة من بيت المال، لوجود الشبهة فيه (¬1). ز ـ الطبل والمزمار، والصليب، والنرد والشطرنج، وجميع آلات اللهو، لا يقطع بسرقتها؛ لأنه يتأول بأخذها منع المالك عن المعصية ونهيه عن المنكر. 7 - ألا يكون للسارق في المسروق ملك ولا تأويل الملك، أو شبهته (انتفاء شبهة الملك): السبب في اشتراط هذا الشرط المتفق عليه: هو ما ذكر في الشرط السابق: وهو أن الجناية حينئذ لا تكون متكاملة، فلا تستدعي عقوبة متكاملة، ويتفرع عن هذا أن السارق لا يقطع بسرقة ما أعاره، أو رهنه، أو آجره لغيره؛ لأنه مملوك له، ولايقطع بسرقة المال المشترك بينه وبين المسروق منه؛ لأن له حقاً فيه، ولا يقطع بسرقة مال الولد وإن سفل؛ لأن له تأويل الملك، أو شبهة الملك، لقوله عليه الصلاة والسلام: «أنت ومالك لأبيك». وكذا لا يقطع بسرقة مال الأصل كالأب والجد وإن علا، لوجود المباسطة في الدخول في الحرز (¬2)، أي أنه لا يقطع بسرقة من عمودي نسبه. وكذلك لا يقطع السارق من بيت المال؛ لأنه مال العامة، فيكون له فيه ملك ¬
8 - ألا يكون السارق مأذونا له بالدخول في الحرز، أو فيه شبهة الإذن
وحق. والدليل هو أن عمر رضي الله عنه لم يقطع من سرق من بيت المال، فقد كتب عامل لعمر يسأله عمن سرق من مال بيت المال، فقال: «لا تقطعه فما من أحد إلا وله فيه حق» وروى الشعبي أن رجلاً سرق من بيت المال، فبلغ علياً كرم الله وجهه، فقال: «إن له فيه سهماً» ولم يقطعه. وإن سرق ذمي من بيت المال، قطع؛ لأنه لا حق له فيه. وإن سرق فقير من غلة وقف على الفقراء، لم يقطع؛ لأن له فيه حقاً، وإن سرق منها غني، قطع؛ لأنه لا حق له فيها. والخلاصة: لا يقطع فيما له فيه شبهة، لحديث «ادرؤوا الحدود بالشبهات» وهو مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة. وقال مالك: يقطع لعموم الكتاب (¬1) أي عموم الآية القرآنية الدالة على وجوب قطع أي سارق. 8 - ألا يكون السارق مأذوناً له بالدخول في الحرز، أو فيه شبهة الإذن: إذا سرق إنسان من ذوي الرحم المحرم (¬2)، أو من زوجه، فلا تقطع يده؛ لأنه يدخل عادة بدون إذن، وجرت العادة بالتبسط بين الزوجين في الأموال، فكان له شبهة الإذن، فيختل معنى توفر الحرز، وهذا شرط متفق عليه في الجملة. ¬
وكذلك لا قطع على خادم قوم سرق متاعهم، ولا على ضيف سرق متاع مضيفه، ولا على أجير سرق من موضع أذن له في دخوله؛ لأن الإذن في الدخول أخرج الموضع من أن يكون حرزاً في حقه (¬1). وهذا متفق عليه في المذاهب الأربعة، إلا أن الإمام مالك اشترط في الخادم حتى يدرأ عنه الحد أن يلي الخدمة بنفسه. ووافق الإمام أحمد أبا حنيفة في رواية عنه في ألا قطع بالسرقة من أحد الزوجين. وقال الشافعي في الأظهر: يجب القطع في السرقة من الأقارب وأحد الزوجين من الآخر، ما عدا قرابة الأصل والفرع، إذا سرق المال المحرز عنه، لعموم آية السرقة والأخبار الواردة فيها، وإلحاقاً للقرابة القريبة، كالأخت والعمة بالقرابة البعيدة، ولأن النكاح عقد على منفعة، فلا يؤثر في درء الحد، كالإجارة لا يسقط بها الحد عن الأجير أو المستأجر إذا سرق أحدهما من الآخر المال المحرز عنه (¬2). ووافق الإمام مالك الشافعي في القطع بالسرقة بين الزوجين، والمعقول هو الرأي الأول، لوجود التسامح في أخذ المال عادة بين الأقارب. ¬
9 - أن يكون المسروق مقصودا بالسرقة لا تبعا لمقصود
9 - أن يكون المسروق مقصوداً بالسرقة لا تبعاً لمقصود: فلو سرق إنسان كلباً أو هراً في عنقه طوق ذهب أو فضة، أو مصحفاً مرصعاً بالذهب والياقوت، أو سرق صبياً حراً عليه حلي أو ثياب ديباج، أو إناء من ذهب أو فضة فيه شراب أو ماء أو طعام: لا يجب القطع عند أبي حنيفة ومحمد وأحمد وفي وجه للشافعية؛ لأن المقصود بالسرقة هو الكلب أو الصبي، والطعام وغيره تابع له، وإذا كان الأصل المقصود لا يجب فيه القطع لقصور في ماليته، فلا يجب بالتابع. وقال أبو يوسف وفي وجه آخر للشافعية: ليس هذا بشرط؛ لأنه قصد سرقة ما عليه من مال، ولأن الطعام الذي في الإناء، ونحوه، إذا كان مما لا يقطع فيه، التحق بالعدم، فيعتبر أخذ الإناء على الانفراد، فيقطع فيه (¬1)، ويظهر لي أن هذا هو المعقول، لولا وجود الشبهة في اشتمال السرقة على ما يقطع من أجله وما لا يقطع. شروط المسروق منه: يشترط في المسروق منه أن تكون له يد صحيحة، واليد الصحيحة ثلاثة أنواع: 1 - يد الملك. 2 - يد الأمانة، كيد الوديع والمستعير ويد الشريك المضارب. 3 - يد الضمان، كيد الغاصب ويد القابض على سوم الشراء، ويد المرتهن. ¬
شروط المسروق فيه
فيجب القطع على السارق من هؤلاء. ولا يجب القطع على السارق من السارق؛ لأن يد السارق ليست بيد صحيحة، فكان الأخذ منه كالأخذ من الطريق (¬1). شروط المسروق فيه: المسروق فيه: هو مكان السرقة. يشترط أن تكون السرقة في دار العدل، فلو سرق في دار الحرب أو في دار البغي: لا يقطع؛ لأنه لا ولاية للإمام على غير دار العدل، فلم تنعقد السرقة موجبة للقطع (¬2). المبحث الثالث ـ إثبات السرقة: تثبت السرقة عند القاضي بأحد أمرين: البينة أو الإقرار. شروط البينة: يشترط لقبول البينة شروط عامة تعرف في باب الشهادات، وشروط خاصة في الحدود والقصاص، وهي (¬3): 1 - الذكورة: فلا تقبل فيها شهادة النساء. 2 - العدالة: فلا تقبل فيها شهادة الفساق. 3 - الأصالة: فلا تقبل فيها الشهادة على الشهادة، لوجود الشبهة. ¬
4 - عدم تقادم العهد، إلا في حد القذف والقصاص: فلو شهدوا بالسرقة بعد حين، لم تقبل شهادتهم، للشبهة. 5 - الخصومة أو الدعوى ممن له يد صحيحة: بأن كان صاحب ملك أو صاحب يد أمانة، أو يد ضمان، كما بان سابقاً. فلو شهدوا أنه سرق مال فلان الغائب من غير خصومة من المسروق منه، لم تقبل شهادتهم، ولكن يحبس السارق؛ لأن إخبارهم أورث تهمة، ويجوز الحبس بالتهمة. ويلاحظ أن حق الخصومة ثابت لمن له يد صحيحة في حق ثبوت ولاية استرداد المسروق وإعادته إلى أيديهم، وفي حق القطع عند جمهور الحنفية؛ لأن يد المالك أو الأمين أو الضامن يد صحيحة، والخصومة مظهرة للسرقة، وإذا ظهرت السرقة بخصومة هؤلاء يقطع السارق، لقوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة:38/ 5]. وقال زفر: لا تعتبر خصومة غير المالك في حق القطع، ولا يقطع السارق بخصومة الأمين أو الضامن؛ لأن يد غير المالك ليست بيد صحيحة في الأصل، وإنما تثبت لهم ولاية الخصومة لإمكان الرد إلى المالك، فكان ثبوتها لهم بطريق الضرورة، والثابت بالضرورة يكون عدَماً فيما وراء محل الضرورة، لانعدام علة الثبوت، وهي الضرورة. وأما السارق الأول فلا تعتبر خصومته باتفاق الحنفية في حق القطع بالنسبة للسارق الثاني بالاتفاق؛ لأن يده ليست يد ملك، ولا يد ضمان، ولا يد أمانة، فصار الأخذ من يده كالأخذ من الطريق. وأما في حق الاسترداد ففيه روايتان: رواية تقرر أن للسارق الأول الاسترداد، إذ من الجائز أن يختار المالك الضمان، ويترك القطع، فيحتاج إلى أن يسترد المسروق من السارق الثاني، ليدفعه إلى
شروط الإقرار
المالك، فيتخلص من الضمان. ورواية: ليس له الاسترداد، إذ ليس له يد صحيحة (¬1). ويلاحظ أن مذهب الشافعية والحنابلة في أظهر الروايتين كالحنفية في افتقار حد القطع إلى مطالبة المسروق منه؛ لأن المغلب عندهم في القطع حق المخلوق (¬2). وقال مالك: إنه لا يفتقر إلى مطالبة المسروق منه صيانة لحق المجتمع، ومحافظة على أموالهم (¬3). ولا تثبت السرقة عند القاضي بالنكول عن الحلف من المدعى عليه، ولا تثبت أيضاً بعلم القاضي، في زمان القضاء أو قبله. شروط الإقرار: تظهر السرقة عند القاضي بالإقرار؛ لأن الإنسان غير متهم في الإقرار على نفسه بالإضرار بها، ويكفي لوجوب القطع الإقرار مرة واحدة عند أبي حنيفة ومحمد وجمهور العلماء. وقال أبو يوسف والحنابلة: لا يقطع إلا بالإقرار مرتين، كما أن عدد الشهود اثنان. ويشترط عند أبي حنيفة ومحمد إقامة دعوى من المسروق منه، فإذا أقر السارق أنه سرق مال فلان الغائب لم يقطع، ما لم يحضر المسروق منه ويخاصمه، كما هو المقرر في البينة. ¬
المبحث الرابع ـ ما يسقط الحد بعد وجوبه
وقال أبو يوسف: الدعوى في الإقرار بالسرقة ليست بشرط لوجوب القطع؛ لأن الإنسان غير متهم على نفسه (¬1). المبحث الرابع ـ ما يسقط الحد بعد وجوبه: يسقط الحد بأنواع هي (¬2): 1 - تكذيب المسروق منه السارق في إقراره بالسرقة، بأن يقول له: لم تسرق مني. 2 - تكذيب المسروق منه بينته، بأن يقول: شهد شهودي بزور. 3 - رجوع السارق عن الإقرار بالسرقة، فلا يقطع، ويضمن المال؛ لأن الرجوع عن الإقرار يقبل في الحدود، ولا يقبل في المال؛ لأنه يورث شبهة في الإقرار، والحد يسقط بالشبهة، ولا يسقط المال. 4 - رد السارق المسروق إلى مالكه قبل المرافعة في السرقة عند أبي حنيفة ومحمد، وإحدى الروايتين عن أبي يوسف. وفي رواية أخرى عنه: إن الرد قبل المرافعة لا يسقط الحد؛ لأن السرقة انعقدت موجبة للقطع، فرد المسروق بعدئذ لا يخل بالسرقة الموجودة. ودليل الطرفين: أن الخصومة شرط لظهور السرقة عند القاضي، ولما رد المسروق على المالك، فقد بطلت الخصومة، بخلاف ما بعد المرافعة؛ لأن المطلوب هو وجود الخصومة لا استمرارها. وعلى هذا، رد المسروق بعد المرافعة وسماع البينة: لا يسقط القطع، سواء أكان الرد قبل القضاء أم بعده. ¬
5 - ملك السارق المال المسروق قبل رفع الأمر إلى القضاء بلا خلاف، فإن ملكه بعدئذ قبل إمضاء الحكم، فاختلف فيه الفقهاء: فقال أبو حنيفة ومحمد: يسقط الحد، كما إذا وهب أو باع المسروق منه المال المسروق للسارق قبل القضاء أو بعده قبل إصدار الحكم. وقال أبو يوسف والشافعي وأحمد ومالك: إذا وهبه بعد القضاء، أي بعد ما رفع إلى الحاكم، لم يسقط القطع، لما روي أن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر في سارق رداء صفوان أن تقطع يده، فقال صفوان: إني لم أرد هذا، هو عليه صدقة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «فهلا قبل أن تأتيني به؟» (¬1). ودليل الطرفين: أن الملك في الهبة يثبت من وقت القبض، فيظهر الملك له من ذلك الوقت، أي أن له أثراً رجعياً. وكون المسروق ملكاً للسارق على الحقيقة أو مع الشبهة، يمنع من القطع، ولهذا لم يقطع قبل القضاء، فكذلك بعده؛ لأن القضاء في باب الحدود إمضاؤها، فما لم يمض الحد (أي ينفَّذ فعلاً بأن يقام على المحدود) فكأنه لم يقض. ولو كان لم يقض لا يقطع، فكذلك إذا لم يمض، أي لم ينفَّذ الحد، والمعنى أنهم اعتبروا الحد قبل استيفائه، كما لو كان قبل القضاء به. زراعة عضو استؤصل في حد: تقدمت ببحث إلى مجمع الفقه الإسلامي بجدة عام 1410 هـ1990/م في دورته السادسة مفاده عدم جواز إعادة العضو المقطوع في حال القصاص، بعملية جراحية، مراعاة لمصلحة المقتص له، وكذلك عدم جواز إعادة العضو المقطوع في حد من الحدود الخالصة للعبد، ورأيت جواز إعادة العضو إذا ثبت الجرم بالإقرار؛ لجواز الرجوع عنه، وكذلك إذا ثبت الجرم ¬
بالشهادة في حقوق الله تعالى كحد السرقة والحرابة والزنى والردة، إذا تاب المحدود، وكانت حالات الإعادة قليلة أو نادرة، حتى لا يتجرأ الجناة على الجرائم والفواحش، ثم وافقت على قرار المجمع المذكور بعدم الجواز، حتى لا يتخذ تطبيق الحد عبثاً أو مجالاً للتلاعب والبعد عن الجدية، ولإبقاء آثار تطبيق الحد لزجر المحدود وبقية الناس، وأذكر هنا نص قرار المجمع رقم (6/ 9/60): 1 - لا يجوز شرعاً إعادة العضو المقطوع تنفيذاً للحد؛ لأن في بقاء أثر الحد تحقيقاً كاملاً للعقوبة المقررة شرعاً، ومنعاً للتهاون في استيفائها، وتفادياً لمصادمة حكم الشرع في الظاهر. 2 - بما أن القصاص قد شرع لإقامة العدل وإنصاف المجني عليه، وصون حق الحياة للمجتمع، وتوفير الأمن والاستقرار، فإنه لا يجوز إعادة عضو استؤصل تنفيذاً للقصاص إلا في الحالات التالية: أـ أن يأذن المجني عليه بعد تنفيذ القصاص بإعادة العضو المقطوع. ب ـ أن يكون المجني عليه قد تمكن من إعادة العضو المقطوع منه. 3 - يجوز إعادة العضو الذي استؤصل في حد أو قصاص بسبب خطأ في الحكم أو في التنفيذ.
الفصل الرابع: حد الحرابة أو قطع الطريق وحكم البغاة
الفَصْلُ الرّابع: حَدّ الحِرابة أو قَطع الطَّريق وحكم البغاة تمهيد: هذا هو الحد الرابع من أنواع الحدود، ونتكلم فيه عن حكم البغاة لوجود التشابه بين جريمتي قطع الطريق والبغي، فقطاع الطرق: هم محاربون على غير التأويل، والبغاة محاربون على التأويل. وقد ألحق الحنفية حد الحرابة بحد السرقة؛ لأن قطع الطريق يسمى سرقة كبرى، إلا أنه ليس بسرقة مطلقة، فإن السرقة هي الأخذ خفية كما يتبادر إلى الذهن، وإنما يطلق عليه اسم السرقة مجازاً بسبب الإخفاء عن الإمام أو عن حراسه لحفظ الطريق. فيسمى سرقة بسبب أخذ المال سراً عن الحارس أو الإمام، وتسميتها «كبرى»؛ لأن فيه ضرراً على أصحاب الأموال وعامة الناس، ولذا غلظ الحد فيه، وخفف في السرقة العادية المسماة بالسرقة الصغرى؛ لأن ضررها يخص الملاك بأخذ مالهم وهتك حرزهم (¬1). والكلام على حد الحرابة يكون في المباحث الخمسة الآتية: المبحث الأول ـ تعريف قطاع الطرق أو المحاربين، وركن قطع الطريق. ¬
المبحث الأول ـ تعريف قطاع الطرق وركن قطع الطريق
المبحث الثاني ـ شروط قطع الطريق. المبحث الثالث ـ إثبات قطع الطريق. المبحث الرابع ـ أحكام قطاع الطرق. المبحث الخامس ـ ما يسقط حكم القطع، وما يترتب على عدم وجوب الحد. ثم يكون الكلام عن تعريف البغاة وأحكامهم. المبحث الأول ـ تعريف قطاع الطرق وركن قطع الطريق: قاطع الطريق أو المحارب: هو كل من كان دمه محقوناً قبل الحرابة وهو المسلم أو الذمي. والأصل في مشروعية حد قطع الطريق هو قوله تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يُقتَّلوا أو يُصلَّبُوا، أو تُقطَّع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو يُنْفَوا من الأرض} [المائدة:33/ 5]. وقد اتفق العلماء على أن من قتل وأخذ المال، وجب إقامة الحد عليه، ولا يسقط العقاب بعفو ولي المقتول، والمأخوذ منه المال، خلافاً للقتل العادي. قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم (¬1). فالحرابة إذن: هي كل فعل يقصد به أخذ المال على وجه تتعذر معه الاستعانة عادة (¬2). ¬
ركن قطع الطريق
ركن قطع الطريق: ركنه: هو الخروج على المارة لأخذ المال على سبيل المغالبة على وجه يمتنع المارة عن المرور وينقطع الطريق، سواء أكان القطع من جماعة أم من واحد، بعد أن يكون له قوة القطع، وسواء أكان القطع بسلاح أم غيره من العصا والحجر والخشب ونحوها، وسواء أكان بمباشرة الكل، أم التسبب من البعض بالإعانة والأخذ؛ لأن القطع يحصل بكل ماذكر كما في السرقة، ولأن هذا من عادة قطاع الطرق (¬1). وبه يظهر أن قطاع الطرق قوم لهم منعة وشوكة، بحيث لا تمكن للمارة مقاومتهم، يقصدون قطع الطريق، بالسلاح أو بغيره. المبحث الثاني ـ شروط قطع الطريق: هناك شروط في القاطع، والمقطوع عليه، وفيهما معاً، وفي المقطوع له، وفي المقطوع فيه. شروط القاطع: يشترط في القاطع أن يكون عاقلاً بالغاً، فإن كان صبياً مجنوناً لا حد عليهما؛ لأن الحد عقوبة تستدعي جناية، وفعل الصبي والمجنون لا يوصف بكونه جناية. ¬
ويشترط أيضاً أن يكون ذكراً في ظاهر الرواية عن أبي حنيفة، ولو كان بين القطاع امرأة لا يقام الحد عليها في الرواية المشهورة؛ لأن ركن القطع وهو (الخروج على المارة على وجه المحاربة والمغالبة) لا يتحقق من النساء عادة، لرقة قلوبهن وضعف بنيتهن، فلا يكنَّ من أهل الحرب. وقال الطحاوي: النساء والرجال في قطع الطريق سواء؛ لأن هذا حد يستوي في وجوبه الذكر والأنثى كسائر الحدود. وسيأتي بيان المذاهب الأخرى. وأما الرجال الذين مع المرأة، فلا يقام عليهم الحد عند أبي حنيفة ومحمد، سواء باشروا معها أو لم يباشروا؛ لأن سبب وجوب الحد شيء واحد، وهو قطع الطريق، وقد حصل ممن يجب عليه، ومن لا يجب عليه، فلا يجب أصلاً كما إذا كان فيهم صبي أو مجنون. وفرق أبو يوسف بين الصبي وبين المرأة، فقال: إذا باشر الصبي لا حد على من لم يباشر من المكلفين. وإذا باشرت المرأة يحد الرجال؛ لأن امتناع وجوب الحد على المرأة ليس لعدم الأهلية؛ لأنها من أهل التكليف، بل لعدم المحاربة منها، أو نقصانها عادة، وهذا لم يوجد في الرجال، فلا يمتنع وجوب الحد عليهم (¬1). لكن نص ابن عابدين في حاشيته (232/ 3) على أن المرأة كالرجل في الحرابة في ظاهر الرواية، إلا أنها لاتصلب. ولم يفرق الجمهور بين الرجل والأنثى، فيقام حد الحرابة على جميع المكلفين ¬
شروط المقطوع عليه
الملتزمين ولو أنثى، الذين يعرضون للناس بسلاح أو غيره، فيغصبون مالاً محترماً مجاهرة (¬1). شروط المقطوع عليه: يشترط في المقطوع عليه أمران: 1 - أن يكون مسلماً أو ذمياً: فإن كان حربياً مستأمناً، لا حد على القاطع؛ لأن عصمة مال المستأمن ليست عصمة مطلقة، وإنما فيها شبهة الإباحة. 2 - أن تكون يده صحيحة: بأن كانت يد ملك أو يد أمانة أو يد ضمان، فإن لم تكن كذلك كيد السارق، لم يجب الحد على القاطع (¬2). شروط القاطع والمقطوع عليه جميعا ً: يشترط ألا يكون في القطاع ذو رحم محرم من المقطوع عليهم، فإن كان أحدهم ذا رحم من المقطوع عليهم لا يجب الحد على القطاع؛ لأنه يوجد بينهم قريب للمقطوع عليهم. والسبب في منع الحد: هو أنه يكون عادة بين هذا القريب وبين المقطوع عليه تبسط في المال والحرز، لوجود الإذن بالتناول عادة. واختلف الحنفية مع بقية المذاهب في هذا الشرط، وفي اشتراط الذكورة في القاطع، وفي اشتراك الصبي أو المجنون مع القطاع. فقال الحنفية كما تقدم: يشترط كون القطاع كلهم أجانب مكلفين ذكوراً، حتى إذا كان أحدهم ذا رحم محرم أو صبياً أو مجنوناً، لا يجب عليهم القطع عند ¬
أبي حنيفة ومحمد؛ لأن الحد عقوبة، فتستدعي جناية، وفعل الصبي والمجنون لا يوصف بكونه جناية، كما سبق بيانه، وأما المرأة: فلا يتحقق منها قطع الطريق لضعفها. وقال أبو يوسف: العبرة بمباشرة القطع، فإذا باشرت المرأة القطع حد الرجل كما تبين، ولا تحد المرأة، فإن قتلت أحداً تقتل قصاصاً، لا حداً، فيجوز لولي القتيل العفو عن القصاص. وإذا باشر الصبي أو المجنون القطع لا يحد أحد، وإن كانت المباشرة من غيرهما، فيحد العقلاء البالغون، ولا يحد الصبي أو المجنون. ودليله أن القطع هو الأصل في قطع الطريق، والإعانة كالتابع، فإذا وليه الصبي، فقد أتى بالأصل، فإذا لم يجب القطع بالأصل، فكيف يجب بالتابع، فإذا وليه البالغ فقد حصل الأصل منه (¬1). وقال المالكية والشافعية والحنابلة: لا يسقط حد القطع عن قطاع الطرق إذا كان فيهم صبي أو مجنون أو ذو رحم من المقطوع عليه؛ لأن وجود هؤلاء شبهة اختص بها واحد، فلم يسقط الحد عن الباقين، كما لو اشتركوا في وطء المرأة. وعلى هذا فلا حد على الصبي والمجنون وإن باشر القتل وأخذ المال؛ لأنهما ليسا من أهل الحدود، وعليهما ضمان ما أخذا من المال في أموالهما، ودية قتيلهما على عاقلتهما، أي أقاربهما من العصبات. وأما المرأة إذا كانت مشتركة مع القطاع، فيثبت في حقها حكم المحاربة؛ لأنها تحد في السرقة، فيلزمها حكم المحاربة كالرجل، وتقتل حداً إن قتلت، وأخذت المال (¬2). ¬
حكم الردء
حكم الردء: اختلف العلماء أيضاً في الردء، أي العون: فقال الحنفية والمالكية والحنابلة: إذا اجتمع محاربون، فباشر بعضهم القتل والأخذ، وكان بعضهم ردءاً، كان للردء حكم المحاربين في جميع الأحوال، اكتفاء بوجود المحاربة، سواء باشر بعضهم القتل أم لم يباشر (¬1). وقال الشافعية: لا يجب على الردء بأن كثَّر جمعهم فقط، ولم يزد على ذلك، غير التعزير بالحبس والتغريب ونحوهما؛ لأن المدار في المحاربة على المباشر، لا على من كان ردءاً له (¬2). شروط المقطوع له: المقطوع له: أي من أجله وهو المال: يشترط فيه الشروط نفسها التي ذكرت في المسروق، وموجزها: أن يكون المأخوذ مالاً، متقوماً، معصوماً، ليس لأحد فيه حق الأخذ، ولا تأويل التناول، ولا تهمة التناول، مملوكاً لا ملك فيه للقاطع، ولا تأويل الملك، ولا شبهة الملك، محرزاً مطلقاً، ليس فيه شبهة الإباحة، نصاباً كاملاً: عشرة دراهم، أو مقدراً بها، لكل من القاطعين (¬3). شروط المقطوع فيه: المقطوع فيه وهو المكان، يشترط فيه ثلاثة شروط: ¬
1 - أن يكون قطع الطريق في دار الإسلام، فإن كان في دار الحرب لا يجب الحد، لعدم ولاية الإمام في دار الحرب، فلا قدرة له على إقامة الحد. 2 - أن يكون القطع عند متقدمي الحنفية خارج المصر. واختلف العلماء في تحقق قطع الطريق في داخل المصر. فقال أبو حنيفة ومحمد وظاهر كلام أحمد: لا يثبت حكم القطع إلا أن يكون خارج المصر؛ لأن القطع لا يحصل بدون الانقطاع، والطريق لا ينقطع في الأمصار وفيما بين القرى؛ لأن الناس يغيثون المقطوع عليه في كثير من الأحيان، فكان القطع في المصر بالغصب أشبه، فعليه التعزير ورد ما أخذ من مستحقه، وهذا أخذ بمقتضى الاستحسان (¬1). وهوظاهر الرواية عند الحنفية، لكن المفتى به خلافه كما سأبين. وقال أبو يوسف والمالكية والشافعية، والحنابلة في المعتمد عندهم: يثبت حكم قطع الطريق داخل المصر، وخارجه على حد سواء. استدل أبو يوسف بمقتضى القياس: وهو أن سبب جوب الحد قد تحقق وهو قطع الطريق، فيجب الحد، كما لو كان في غير مصر. قال ابن عابدين: أفتى المشايخ برواية أبي يوسف التي تقتضي بأن الحرابة تقع في المصر ليلاً أو نهاراً بسلاح أو بدونه دفعاً لشر المتغلبة المفسدين (¬2). واستدل الجمهور بنحوه، فقالوا: إن محاربة شرع الله عز وجل وتعدي حدوده لا يختلف تحريمها بكونها خارج المصر، أو داخله كغيرها من سائر المعاصي من زنا وشرب خمر وغيرهما (¬3). ¬
المبحث الثالث ـ إثبات قطع الطريق
إلا أن الشافعية قالوا: يشترط في قاطع الطريق أن يكون له شوكة، أي قدرة وقوة مغالبة لغيره، ولا يشترط العدد. والمغالبة: إنما تتأتى بالبعد عن العمران، لا بالقرب منه، بحيث لو قال الشخص: ياغوثاه، أغاثه الناس، وتوجد المغالبة في المصر حال ضعف السلطان. 3 - أن يكون بينهم وبين المصر مسيرة سفر، فإن كان أقل منه لم يكونوا قطاع طرق، وهذا الشرط عند أبي حنيفة ومحمد، وأما عند أبي يوسف فليس بشرط. وقد بيّنت في الشرط السابق دليل كل منهم (¬1) وأن المفتى به هو رأي أبي يوسف. المبحث الثالث ـ إثبات قطع الطريق: يثبت قطع الطريق عند القاضي، إما بالبينة، وإما بالإقرار، بعد خصومة صحيحة أي (رفع الدعوى ممن له يد صحيحة) ولا يثبت بعلم القاضي، ولا بالنكول (¬2)، على حسب ما ذكر في السرقة. ويشترط عند الحنابلة وأبي يوسف تكرار الإقرا ر مرتين (¬3). المبحث الرابع ـ أحكام قطاع الطرق (عقوباتهم): اختلف العلماء في عقوبة قطع الطريق، هل العقوبات المذكورة في آية المحاربة على التخيير، أو مرتبة على قدر جناية المحارب؟. فقال الحنفية والشافعية والحنابلة: إن حد قطاع الطريق على الترتيب المذكور ¬
في الآية الكريمة السابق ذكرها؛ لأن الجزاء يجب أن يكون على قدر الجناية، ولكنهم اختلفوا في كيفية الترتيب: فقال الحنفية: إن أخذوا المال، تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف؛ وإن قتَلوا فقط قُتلوا؛ وإن قتلوا وأخذوا المال كان الإمام بالخيار: إن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، ثم قتلهم، أو صلبهم، وإن شاء لم يقطع، وإنما يقتل أو يصلب. وإن أخافوا الطريق فقط دون قتل، ولا أخذ للمال، ينفوا من الأرض، أي يحبسوا ويعزروا (¬1). وما ذكر في الصورة الثالثة وهو (القتل وأخذ المال) هو رأي أبي حنيفة وزفر. وقال الصاحبان: يقتل الإمام القاطع أو يصلبه، ولكن لا يقطعه؛ لأن الجناية وهي قطع الطريق واحدة، فلا توجب حدين، ولأن ما دون النفس في الحدود يدخل في النفس كحد السرقة والرجم إذا اجتمعا كما سأبين، فيقام حد الرجم فقط. ورد أبو حنيفة وزفر على ذلك بأن هذه الجناية وإن كانت واحدة، فإن القطع والقتل أيضاً عقوبة واحدة، ولكنها مغلظة لتغلظ سببها، حيث إن قطع الطريق يخل بالأمن على النفس والمال معاً. وقال الشافعية والحنابلة: إن أخذوا المال فقط قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإن قتلوا ولم يأخذوا المال، قتلوا ولم يصلبوا. ¬
وإن قتلوا وأخذوا المال، قتلوا وصلبوا. وإن أخافوا، ينفوا من الأرض (¬1). ودليلهم على هذا الترتيب: ما روي عن ابن عباس من قصة أبي بُرْدة الأسلمي بهذه الكيفية (¬2). فهم يخالفون الحنفية في الصورة الثالثة فقط. وقال الإمام مالك (¬3): الأمر في عقوبة قطاع الطرق راجع إلى اجتهاد الإمام ونظره ومشورة الفقهاء بما يراه أتم للمصلحة وأدفع للفساد، وليس ذلك على هوى الإمام. 1 - فإن أخاف القاطع السبيل فقط كان الإمام مخيراً بين قتله أو صلبه أو قطعه من خلاف أو نفيه وضربه، على التفصيل الآتي: فإن كان المحارب ممن له الرأي والتدبير والقوة، فوجه الاجتهاد قتله أو صلبه؛ لأن القطع لا يدفع ضرره. وإن كان لا رأي له، وإنما هو ذو قوة وبأس، قطعه من خلاف. وإن كان ليس فيه شيء من هاتين الصفتين أخذ بأيسر عقاب فيه وهو الضرب والنفي. 2 - وأما إذا قتل، فلا بد من قتله، وليس للإمام تخيير في قطعه، ولا في نفيه، وإنما التخيير في قتله أو صلبه. ¬
كيفية الصلب ووقته ومدته
3 - وأما إن أخذ المال، فلم يقتل، فالإمام مخير بين قتله أو صلبه أو قطعه أو نفيه، يفعل مما ذكر ما يراه نظراً ومصلحة ولا يحكم فيه بالهوى. ودليله: أن حرف «أو» المذكور في آية المحاربة يقتضي في اللغة التخيير، مثل قوله تعالى: {فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة} [المائدة:89/ 5] (¬1). ويلاحظ أن الجمهور قالوا: إن «أو» للتنويع، فتكون العقوبة بحسب نوع الجناية كما تبين. كيفية الصلب ووقته ومدته: قال أبو يوسف والكرخي وهو الأصح في مذهب الحنفية، والراجح عند المالكية أيضاً: يصلب قاطع الطريق حياً، على خشبة تغرز في الأرض، بأن يربط جميعه بها بعد وضع قدميه على خشبة عريضة من الأسفل، وربط يديه على خشبة عريضة من الأعلى. ثم يقتل مصلوباً قبل نزوله بأن يطعن بالحربة؛ لأن الصلب عقوبة مشروعة تغليظاً، وإنما يعاقب الحي، أما الميت فليس من أهل العقوبة. وليس صلبه من قبيل المثْلة المنهي عنها؛ لأن المراد بها قطع بعض الجوارح (¬2). وقال أشهب من المالكية والشافعية والحنابلة والطحاوي من الحنفية: الصلب يكون بعد القتل؛ لأن الله تعالى قدم القتل على الصلب لفظاً، وفي صلبه حياً تعذيب له وتمثيل به (¬3)، وقد نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن المثلة وعن تعذيب الحيوان، فقال: ¬
النفي
« إذا قتلتم فأحسنوا القِتْلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبْحة» (¬1). والغرض من صلبه بعد قتله هو التنكيل به، وزجر غيره ليشتهر أمره. ومدة الصلب عند الجمهور: ثلاثة أيام، ولا يبقى أكثر من ذلك. وقال الإمام أحمد: يصلب بقدر ما يقع عليه اسم الصلب. قال ابن قدامة: والصحيح توقيته بما ذكر الخرقي، وهو بقدر ما يشتهر أمره. النفي: النفي عند الحنفية: معناه الحبس؛ لأن فيه نفياً عن وجه الأرض، وخروجاً عن الدنيا مع قيام الحياة، إلا عن الموضع الذي حبس فيه، ومثل هذا في عرف الناس يسمى نفياً عن وجه الأرض، وخروجاً عن الدنيا، كما قال بعض المحبوسين: خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها (¬2) ..... فلسنا من الأحياء فيها ولا الموتى إذا جاءنا السجان يوماً لحاجة ..... عجبنا، وقلنا: جاء هذا من الدنيا وأما التغريب ففيه إضرار ببلد آخر، وتمكين له من الهرب إلى دار الحرب، وتعريض للكفر (¬3). ¬
صفة حكم قطع الطريق
وقال المالكية: النفي أن يخرج من البلد الذي كان فيه إلى بلد آخر ويسجن فيه، إلى أن تظهر توبته. والمسافة بين البلدين: أقل ما تقصر فيه الصلاة (¬1). والنفي هنا هو بمعنى التغريب في حد الزنا، وهو الحبس في بلد آخر. وقال الشافعية: النفي معناه أن يحبسهم الإمام مدة حتى تظهر توبتهم، أو يعزرهم بما يراه رادعاً لهم (¬2). أما التغريب في حد الزنا فمعناه: الإبعاد لبلد آخر كما تقدم. وقال الحنابلة: النفي أن يشردوا، فلا يتركون يأوون إلى بلد. ودليلهم ما روي عن الحسن والزهري: أن النفي هو تشريدهم عن الأمصار والبلدان، فلا يتركون يأوون بلداً (¬3). وأما التغريب في حد الزنا فمعناه مثلما قال الشافعية. صفة حكم قطع الطريق: حد الحرابة: من حقوق الله الخالصة له، فيجري فيه التداخل ولا يحتمل العفو والإسقاط والإبراء والصلح عنه، على نحو ما بان في حد السرقة. وأما اجتماع الغرم والقطع ففيه خلاف بين العلماء: اتفق الفقهاء على أنه إذا أخذ المحاربون المال وأقيمت فيهم حدود الله تعالى، فإن كانت الأموال موجودة ردت إلى مالكها. وإن كانت تالفة أو معدومة، فقال الحنفية: لا يجمع بين الحد والضمان؛ لقوله عليه السلام: «إذا أقيم الحد على ¬
المبحث الخامس ـ ما يسقط حكم القطع، وما يترتب على عدم وجوب الحد أو سقوطه
السارق فلا غرم عليه» (¬1) ولأن التضمين يقتضي التمليك، والملك يمنع الحد، فلا يجمع بينهما (¬2). وقال المالكية والشافعية والحنابلة: يجتمع الحد والضمان كما في السرقة؛ لأن المال عين يجب ضمانها بالرد، لو كانت باقية، فيجب ضمانها إذا كانت تالفة، كما لو لم يقم عليه الحد، ولأن الحد والغرم حقان يجبان لمستحقين، فجاز اجتماعهما كالجزاء والقيمة في الصيد الحرمي المملوك (¬3). المبحث الخامس ـ ما يسقط حكم القطع، وما يترتب على عدم وجوب الحد أو سقوطه: يسقط حكم قطع الطريق وهو الحد بعد وجوبه بأمور: 1 - تكذيب المقطوع عليه القاطع في إقراره بقطع الطريق. 2 - رجوع القاطع عن إقراره بقطع الطريق. 3 - تكذيب المقطوع عليه البينة. 4 - ملك القاطع الشيء المقطوع له وهو المال قبل الترافع أو بعده عند جمهور الحنفية خلافاً لغيرهم، على نحو ما ذكر في السرقة. 5 - توبة القاطع قبل قدرة السلطان عليه، لقوله تعالى: {إلا الذين تابوا من ¬
قبل أن تقدروا عليهم، فاعلموا أن الله غفور رحيم} [المائدة:34/ 5] وهذا باتفاق الأئمة (¬1). ويترتب على سقوط الحد بالتوبة، أو على عدم وجوب الحد لمانع بأن فات شرط من شروط الحد السابق ذكرها كنقصان النصاب: أنه إذا كان المال موجوداً يجب رده إلى صاحبه، وإن كان هالكاً أو مستهلكاً يجب الضمان. فإن قتلوا بسلاح يجب القصاص عند الحنفية، وإن قتلوا بعصا أو حجر، فعلى عاقلة القاتل الدية لورثة المقتول، ويجب القصاص عند الجمهور في القتل العمد، سواء أكان بسلاح أم بغيره. وإن جرحوا، فالجراحات فيها القصاص فيما يمكن فيه القصاص، والأرش (أي الضمان) فيما لا يمكن (¬2). ¬
البغاة
................. البغاة .......................................... أولاً ـ تعريف البغي: البغي لغة: إما الطلب كما في قوله تعالى: {ماكنا نبغِ} [الكهف:64/ 18] أو التعدي. وهو في اصطلاح الفقهاء كما عرفه ابن عرفة المالكي: الامتناع من طاعة من تثبت إمامته في غير معصية بمغالبة، ولو تأولاً (¬1). والبغي حرام لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «من نزع يده من طاعة إمامه، فإنه يأتي يوم القيامة، ولا حجة له، ومن مات وهو مفارق للجماعة، فإنه يموت ميتة جاهلية» (¬2)، وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً: «من حمل علينا السلاح فليس منا» (¬3). وعرف الحنفية البغاة: بأنهم قوم لهم شوكة ومنعة، خالفوا المسلمين في بعض الأحكام بالتأويل، وظهروا على بلدة من البلاد، وكانوا في عسكر، وأجروا ¬
الفرق بين الباغي والمحارب
أحكامهم، كالخوارج وغيرهم. أما الخوارج أو الحرورية: فهم قوم خرجوا على علي واستحلوا دمه ودماء المسلمين وأموالهم وسبي نسائهم، وكفروا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم ورأوا أن كل ذنب كفر (¬1)، وكانوا متشددين في الدين تشدداً زائداً. وأما غيرهم من البغاة فلم يستبيحوا ما استباحه الخوارج من دماء المسلمين وسبي ذراريهم. وعرف المالكية البغاة: بأنهم الذين يقاتلون على التأويل، مثل الطوائف الضالة كالخوارج وغيرهم، والذين يخرجون على الإمام، أو يمتنعون من الدخول في طاعته؛ أو يمنعون حقاً وجب عليهم كالزكاة وشبهها (¬2). وعرفهم الحنابلة بقولهم: هم الخارجون على إمام ولو غير عدل، بتأويل سائغ ولهم شوكة، ولو لم يكن فيهم مطاع. ويحرم الخروج على الإمام ولو غير عدل (¬3). والفرق بين الباغي والمحارب: أن المحارب يخرج فسقاً وعصياناً على غير تأويل، والباغي: هو الذي يحارب على تأويل، فيقتل ويأخذ المال، وإذا أخذ الباغي ولم يتب، فإنه لا يقام عليه حد الحرابة، ولا يؤخذ منه ما أخذ من المال وإن كان موسراً، إلا أن يوجد بيده شيء بعينه، فيرد إلى صاحبه (¬4). ويكون للبغاة قوة ومنعة في مكان يتحصنون فيه. ¬
ثانيا ـ أحكام البغاة
ثانياً ـ أحكام البغاة: 1) ـ قتالهم واستتابتهم: إذا لم يكن للبغاة منعة، فللإمام أن يأخذهم ويحبسهم حتى يتوبوا. وإن تأهبوا للقتال، وكان لهم منَعة (مكان محصن) وشوكة (سلاح)، يدعوهم الإمام إلى التزام الطاعة، ودار العدل، والرجوع إلى رأي الجماعة أولاً، كما يفعل مع أهل الحرب. فإن أبوا ذلك قاتلهم أهل العدل حتى يهزموهم ويقتلوهم، ويجوز قتل مدبريهم وأسراهم، والإجهاز على جريحهم عند الحنفية خلافاً لجمهور الفقهاء (¬1). ولا يبدؤهم الإمام بالقتال حتى يبدؤوه؛ لأن قتالهم لدفع شرهم. ودليل هذه الأحكام: هو قوله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا، فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى، فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله، فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا، إن الله يحب المقسطين} [الحجرات:9/ 49] وقال صلّى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: «إنك تقاتل على التأويل، كما تقاتل على التنزيل» (¬2). ولا بأس أن يقاتل البغاة بسلاحهم، ويرتفق بخيولهم إن احتاج المسلمون إليه؛ لأن للإمام أن يفعل ذلك في مال العادل عند الحاجة، ففي مال الباغي أولى. ¬
2) ـ ضمان ما أتلفوه من الأنفس والأموال
وأما أموالهم: فيحبسها عنهم الإمام إلى أن يزول بغيهم، فإذا زال ردها إليهم؛ لأن أموالهم لا تحتمل التملك بالاستيلاء لكونهم مسلمين (¬1). 2) ـ ضمان ما أتلفوه من الأنفس والأموال: قال الحنفية والمالكية والحنابلة، والشافعية في أظهر القولين عندهم: لايضمن البغاة المتأولون ما أتلفوه حال القتال من نفس ولا مال، بدليل ماروى الزهري، فقال: «كانت الفتنة العظمى بين الناس، وفيهم البدريون، فأجمعوا ـ أي في وقائعهم كوقعة الجمل وصفِّين ـ على ألا يقام حد على رجل استحل فرجاً حراماً بتأويل القرآن، ولا يقتل رجل سفك دماً حراماً بتأويل القرآن، ولا يغرم مال أتلفه بتأويل القرآن» (¬2)؛ ولأن البغاة طائفة ممتنعة بالحرب بتأويل سائغ، فلم تضمن ما أتلفت على الأخرى كأهل العدل، ولأن تضمينهم يفضي إلى تنفيرهم عن الرجوع إلى الطاعة، فلا يشرع كتضمين أهل الحرب. واتفق العلماء أيضاً على أنه لا إثم ولا كفارة على أهل العدل بقتلهم أهل البغي، ولا يضمنون ما أتلفوه عليهم، لخبر الزهري السابق، ولأن العادل قد فعل ما أمر به، وقتل من أحل الله قتله، وأمر بمقاتلته. وكذلك الأموال مهدرة كالأنفس، لأنهم إذا لم يضمنوا الأنفس، فالأموال أولى (¬3). وإذا أتلف البغاة أو العادلون مال بعضهم بعضاً، قبل تمكن المنعة للبغاة، أو ¬
3) ـ عقوبة جرائم البغاة
بعد انهزامهم، فإنهم يضمنون ما أتلفوه من الأنفس والأموال، لأنهم حينئذ من أهل دار الإسلام، فتكون الأنفس والأموال معصومة. وما جباه أهل البغي من البلاد التي غلبوا عليها من الخراج والعشر، لم يأخذه الإمام ثانياً؛ لأن ولاية الأخذ له باعتبار الحماية، ولم يحمهم. فإن صرف البغاة هذا المال في حقه، أجزأ من أخذ منه لوصول الحق إلى مستحقه، وإن لم يكونوا صرفوه في حقه، أفتي أهله فيما بينهم وبين الله تعالى أن يعيدوا دفعه؛ لأنه لم يصل إلى مستحقه (¬1). 3) ـ عقوبة جرائم البغاة: إذا قطع البغاة الطريق على أهل العدل من المسافرين، فلا يجب عليهم الحد؛ لأنه يدعون إباحة أموالهم عن تأويل، ولهم منعة. ولو سرق الباغي مال العادل لا يقطعه الإمام، لعدم ولايته على دار البغي، ولخبر الزهري السابق الذكر. وفي الجملة: لا تقام الحدود على البغاة عند الحنفية، لعدم ولاية الإمام على دار البغي. ويوافقهم المالكية والحنابلة في عدم ضمان ما أتلفوه حال الحرب من نفس أو مال، ولا تقام عليهم الحدود (¬2). وقال الشافعي: يقطع الباغي إذا أصاب شيئاً من أموال المسلمين، ولو في داره؛ لأنه جانٍ، فيستوي في حقه وجود المنعة وعدمها؛ لأن الجاني يستحق التغليظ دون الخفيف. وإذا سرق الباغي مال العادل في دار الإسلام يقطع، وإن استحله؛ لأنه لا ¬
4) ـ الفرق بين قتال البغاة وقتال المشركين
منعة له (¬1). وفي الجملة: حكم البغاة عند الشافعية في ضمان النفس والمال والحد في غير حال الحرب حكم أهل العدل. وإن ارتكب الباغي جريمة القتل: الصحيح عندهم أنه لا يتحتم قتله، ويجوز العفو عنه، لقول علي بعد أن جرحه ابن ملجم: أطعموه واسقوه واحبسوه، فإن عشت فأنا ولي دمه، أعفو إن شئت، وإن شئت استقدت (¬2). 4) ـ الفرق بين قتال البغاة وقتال المشركين: البغاة باتفاق أئمة المذاهب كما عرفنا: هم الذين يخرجون على الإمام يبغون خلعه، أو منع الدخول في طاعته، أو يبغون منع حق واجب بتأويل في ذلك كله. وبهذا التأويل يمتازون عن المحاربين. ويفترق حكم قتالهم عن قتال المشركين بأحد عشر وجهاً عند المالكية كما أبان القرافي المالكي (¬3): وهي أن يقصد بالقتال ردعهم لا قتلهم، ويكف عن مدبرهم، ولا يجهز على جريحهم، ولا يقتل أسراهم، ولا تغنم أموالهم، ولا تسبى ذراريهم، ولا يستعان على قتالهم بمشرك، ولا نوادعهم على مال، ولا تنصب عليهم الرعَّادات (المجانيق)، ولا تحرق عليهم البساتين، ولا يقطع شجرهم. والمعتمد في المذهب المالكي: أن للإمام أن يقاتل البغاة بالسيف والرمي بالنبل والمنجنيق والتغريق والتحريق وقطع الميرة (التموين) والماء عنهم إلا أن يكون فيهم نسوة أو ذراري، فلا نرميهم بالنار، ولا نسبي ذراريهم وأموالهم؛ لأنهم مسلمون. ¬
وقتال الحربيين المشركين كقتال البغاة إلا في خمسة أوجه: يقاتلون أي الحربيون مدبرين، ويجوز تعمد قتلهم، ويطالبون بما استهلكوا من دم أو مال في الحرب وغيرها، ويجوز حبس أسراهم لاستبراء أحوالهم، وما أخذوه من الخراج والزكاة لا يسقط عمن كان عليه كالغاصب إذا أخذ ذلك.
الفصل الخامس: حد الشرب وحد السكر والأشربة
الفَصْلُ الخامِس: حدّ الشُّرْب وحدّ السُّكْر والأشربة خطة الموضوع: الكلام عن حد الشرب وحد السُّكْر بحسب اصطلاح الحنفية، ثم يأتي بيان رأي غيرهم، في المباحث الآتية: المبحث الأول ـ تعريف حد الشرب وحد السكر، وضابط السكر وشروط الحد ومقدار الحد. المبحث الثاني ـ أنواع الأشربة المحرمة والمباحة. المبحث الثالث ـ أحكام الخمر. المبحث الرابع ـ أحكام الأشربة المسكرة غير الخمر. المبحث الخامس ـ إثبات الشرب. المبحث السادس ـ مخاطر المخدرات وأحكامها في الإسلام. المبحث الأول ـ تعريف حد الشرب وحد السكر، وضابط السُّكْر وشروط الحد ومقدار الحد: اعتبر الحنفية لشرب الأشربة المحرمة نوعين من الحد، وهما حد الشرب وحد
السكر، أما حد الشرب: فهو الذي يجب بشرب الخمر خاصة، حتى يجب الحد بشرب قليلها وكثيرها، ولا يتوقف الوجوب على حصول السكر منها. قال صلّى الله عليه وسلم: «من شرب الخمر فاجلدوه .. » (¬1) والخمر كما سأبين: ماء العنب النيء المتخمر، وسميت الخمر خمراً إما لأنها تخمر العقل، أي تستره، وإما لأنها تخامر العقل، أي تخالطه، وإما لأنها تخمر نفسها لئلا يقع فيها شيء يفسدها. وأما حد السكر: فهو الذي يجب عند السكر الحاصل بشرب ما سوى الخمر من الأشربة المعهودة المسكرة (¬2)، التي سيأتي بيانها. ولم يفرق جمهور الفقهاء بين شرب الخمر وغيرها، فقالوا: كل شراب أسكر كثيره، فقليله حرام، وهو خمر، حكمه حكم عصير العنب في تحريمه، ووجوب الحد على شاربه (¬3)، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام» (¬4). ¬
ضابط السكر
ضابط السُكْر: قال أبو حنيفة: إن السكر الذي يتعلق به وجوب الحد، والحرمة: هو الذي يزيل العقل، بحيث لا يفهم السكران شيئاً، ولا يعقل منطقاً، ولا يفرق بين الرجل والمرأة، والأرض من السماء؛ لأن الحدود يؤخذ في أسبابها بأقصاها درءاً للحد، لقوله عليه السلام: «ادرؤوا الحدود بالشبهات». وبناء عليه اعتبر غاية السكر وأكمله هو الموجب للحد. وقال الصاحبان وباقي الأئمة: السكران هو الذي يكون غالب كلامه الهذيان، واختلاط الكلام؛ لأنه هو السكران في عرف الناس وعادتهم، فإن السكران في متعارف الناس اسم لمن هذى وخلط في كلامه، ولا يعرف ثوبه من ثوب غيره، ولا نعله من نعل غيره. وقول الصاحبين مال إليه أكثر المشايخ، وعليه الفتوى كما صرح صاحب تنوير الأبصار وغيره (¬1)، وهو رأي غير الحنفية. شروط الحد: يشترط لحد المسكرات شروط ثمانية (¬2) وهي: الأول ـ أن يكون الشارب عاقلاً: فلا يحد المجنون. الثاني ـ أن يكون بالغاً: فلا يحد الصغير. ¬
مقدار الحد
الثالث ـ أن يكون مسلماً: فلا حد على الكافر في شرب الخمر، ولا يمنع منه. الرابع ـ أن يكون مختاراً غير مكره. الخامس ـ ألا يضطر إلى شربه لغصة. السادس ـ أن يعلم أنه خمر: فإن شربه وهو يظنه شراباً آخر، فلا حد عليه. السابع ـ أن يعلم أن الخمر محرمة، فإن ادعى أنه لا يعلم ذلك، فاختلف المالكية، هل يقبل قوله أو لا. وقال غيرهم: لا تقبل دعوى الجهل ممن نشأ بين المسلمين. الثامن ـ أن يكون مذهبه تحريم ما شرب: فإن شرب النبيذ من يرى أنه حلال، فاختلف العلماء: هل عليه حد أو لا. وذكر الحنابلة أن الحد على المسكرات إنما يلزم من شربها إذا كان عالماً أن كثيرها يسكر، فأما غيره فلا حد عليه؛ لأنه غير عالم بتحريمها، ولا قاصد إلى ارتكاب المعصية بها، فأشبه من زفت إليه غير زوجته. وهذا قول عامة أهل العلم. مقدار الحد: قال جمهور الفقهاء: حد الشرب والسكر ثمانون جلدة (¬1)، لقول علي رضي الله عنه: «إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وحد ¬
المفتري ثمانون» (¬1) ولم ينكر عليه أحد، فكان إجماعاً (¬2). وقال الشافعية: حد الخمر وسائر المسكرات أربعون جلدة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يعين في ذلك حداً، وإنما كان يضرب السكران ضرباً غير محدود، كما روى أبو هريرة (¬3)، فقدروه بأربعين. وروى أنس رضي الله عنه قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يضرب في الخمر بالجريد والنعال أربعين» (¬4). وقال علي كرم الله وجهه: «جلد رسول الله صلّى الله عليه وسلم أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكلٌ سنة، وهذا أحب إلي» (¬5). هذا وقد حرمت الخمر سنة ثمان من الهجرة، كما استظهره الحافظ ابن حجر في فتح الباري. ويضرب في حد الخمر بالأيدي والنعال وأطراف الثياب، ¬
المبحث الثاني ـ أنواع الأشربة
المبحث الثاني ـ أنواع الأشربة: أولاً ـ الأشربة المحرمة: سبعة وهي (¬1): 1 - الخمر: هو اسم للنيء (أي غير النضيج أو الذي لم تمسه النار) من ماء العنب بعد ما غلى، واشتد وقذف بالزبد (أي الرغوة)، وسكن عن الغليان، وصار صافياً. وهذا التعريف هو مذهب أبي حنيفة؛ لأن معنى الإسكار لا يتكامل إلا بالقذف بالزبد، فلا يصير خمراً بدونه. وقال الصاحبان والأئمة الثلاثة: إذا غلى واشتد فهو خمر، وإن لم يسكن عن الغليان؛ لأن معنى الإسكار يتحقق بدون القذف بالزبد، وهذا هو الأظهر عند الحنفية، سداً لباب الفساد أمام العوام. ويحرم وينجس عصير غلى، أو أتى عليه ثلاثة أيام بلياليهن. ودليل تحريم الخمر وحكمة التحريم قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون. إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر، ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون} [المائدة:90/ 5 - 91] وقد نزلت هذه الآية في ¬
2 - السكر
المرحلة الرابعة من مراحل التدرج في تشريع الخمر، التي كان أولها: {ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكَراً ورزقاً حسناً} [النحل:16/ 67] وثانيها: {يسألونك عن الخمر والميسر، قل: فيهما إثم كبير} [البقرة:219/ 2] وثالثها: {لاتقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ماتقولون} [النساء:43/ 4] والحكمة واضحة: وهي دفع الضرر والفساد عن الناس، فالخمر أم الخبائث. 2 - السَّكَر: هونقيع التمر الطري الذي لم تمسه النار، أو هو النيء من ماء الرطب (¬1) إذ غلى واشتد وقذف بالزبد، وسكن غليانه عند أبي حنيفة. وعند الصاحبين والأئمة الآخرين: إذا غلى، ولم يسكن غليانه، على الخلاف السابق. ونبيذ التمر إذا لم يطبخ هو السَّكَر كما حقق قاضي زاده في نتائج الأفكار. 3 - الفضيخ: هو اسم للنيء من ماء البُسْر (¬2) اليابس إذا غلى واشتد وقذف بالزبد، أو لم يقذف، على الاختلاف السابق. وسمي فضيخاً؛ لأنه يفضخ أي يكسر ويرض. 4 - نقيع الزبيب: هو اسم للنيء من ماء الزبيب المنقوع في الماء حتى خرجت حلاوته، من غير طبخ، واشتد وقذف بالزبد، أو لم يقذف، على الخلاف السابق. ¬
5 - الطلاء أو المثلث
5 - الطلاء أو المثلَّث: هو اسم للمطبوخ من ماء العنب إذا ذهب ثلثاه وبقي ثلثه وصار مسكراً على ما هو الصواب عند الحنفية، فيحرم عند أبي حنيفة وأبي يوسف إذا قصد بشر به اللهو والطرب، كما عليه حال الأغلبية الساحقة من الشاربين، فإن قصد بشربه التقوية أو التداوي، وهذا نادر، فيباح شربه عندهما. ويحرم مطلقاً عند الصاحبين وباقي الأئمة. 6 - الباذَق أو المنصَّف: هو المطبوخ أدنى طبخة من ماء العنب حتى ذهب أقل من الثلثين، سواء أكان أقل من الثلث أم النصف، وصار مسكراً. والدليل على أن الزائد على الثلث حرام: هو ما ثبت عن سيدنا عمر أنه أحل ما ذهب ثلثاه وبقي ثلثه، فما لم يذهب ثلثاه، فالقوة المسكرة فيه قائمة. 7 - الجمهوري: هو الطلاء الذي يلقى فيه الماء حتى يرق ويعود إلى المقدار الذي كان في الأصل، ثم طبخ أدنى طبخة، وصار مسكراً، فيحرم عند أبي حنيفة وأبي يوسف إذا قصد بشر به اللهو، ويحرم مطلقاً عند الصاحبين وبقية الأئمة. ثانياً ـ الأشربة الحلال في رأي ضعيف هو رأي أبي حنيفة وأبي يوسف: أربعة إذا كان القصد من شربها التقوي واستمراء الطعام والتداوي، وهي ما يأتي (¬1): 1 - نبيذ التمر والزبيب إن طبخ كل واحد منهما أدنى طبخة: وهو أن يطبخ إلى أن ينضج أي أن يطبخ طبخاً يسيراً، وحكمه أنه يحل شربه وإن اشتد إذا شرب منه بلا لهو ولا طرب، وما لم يسكر. فلو شرب ما يغلب على ظنه أنه مسكر فيحرم القدح الأخير الذي يسكر بشربه؛ لأن السكر حرام من كل شراب. ¬
2 - الخليطان من الزبيب والتمر إذا طبخ أدنى طبخة، وإن اشتد
2 - الخليطان من الزبيب والتمر إذا طبخ أدنى طبخة، وإن اشتد: يحل شربه بلا لهو، كأن يكون بقصد التقوي أو استمراء الطعام. 3 - نبيذ العسل والتين والبُر والذرة: يحل سواء طبخ أو لا، بلا لهو وطرب. ويسمى نبيذ العسل (البِتْع) إذا صار مسكراً. ويسمى نبيذ الحنطة والشعير (الجِعَة) إذا صار مسكراً. ويسمى نبيد الذرة (المِرز) إذا صار مسكراً، وهي مع ذلك حلال عند أبي حنيفة فيما دون الإسكار (¬1)، كما سيأتي بيانه. 4 - الطلاء أو المثلث العنبي وإن اشتد: وهو ما طبخ من ماء العنب حتى ذهب ثلثاه، وبقي ثلثه: يحل شربه إذا قصد به استمراء الطعام والتداوي والتقوي على طاعة الله عند أبي حنيفة وأبي يوسف رضي الله عنهما. والرأي المختار عند الحنفية في حكم شرب هذه الأنواع الأربعة: هو الحرمة مطلقاً، عملاً برأي محمد، كما سيبين. المبحث الثالث ـ أحكام الخمر: يتعلق بالخمر الأحكام التالية (¬2): 1 - يحرم شرب قليلها وكثيرها إلا عند الضرورة؛ لأنها محرمة العين. قال الله تعالى: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان} [المائدة:90/ 5] فوصفها الحق تعالى بكونها رجساً، فيدل على أنها محرمة في نفسها. ¬
الانتفاع بها للتداوي
وقال عليه الصلاة والسلام: «حرمت الخمر بعينها قليلها وكثيرها، والسَكَر من كل شراب» (¬1). إلا أنه رخص في شربها عند ضرورة العطش أو الإكراه قدر ما تندفع به الضرورة. ولا يجوز الانتفاع بها للتداوي وغيره؛ لأن الله تعالى لم يجعل شفاءنا فيما حرم علينا، قال صلّى الله عليه وسلم: «إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حَرَّم عليكم» (¬2) فإنه دل على تحريم التداوي بما حرم الله تعالى، وأنه لم يجعل الشفاء فيه، ولما كانت الخمر محرمة، دل على تحريم التداوي بها. ويحرم على الرجل أن يسقي الصبيان الخمر، فإذا سقاهم، فالإثم عليه في الشرب، دون الصغير؛ لأن خطاب التحريم موجه إليه. قال عليه الصلاة والسلام: «شارب الخمر كعابد الوثن» (¬3) وقال صلّى الله عليه وسلم أيضاً: «الخمر أم الخبائث» (¬4) ¬
2 - يكفر مستحلها
وقال صلّى الله عليه وسلم أيضاً: «لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها» (¬1). 2 - يكفر مستحلها؛ لأن حرمتها ثبتت بدليل مقطوع به، وهو نص القرآن الكريم في الآية السابقة: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام (¬2) رجس من عمل الشيطان، فاجتنبوه، لعلكم تفلحون} [المائدة:90/ 5]. 3 - يحرم على المسلم تمليكها بسائر أسباب الملك من البيع والشراء والهبة وغيرها؛ لأن كل ذلك انتفاع بالخمر، وإنها محرمة الانتفاع على المسلم. قال النبي عليه الصلاة والسلام: «يا أهل المدينة، إن الله تبارك وتعالى قد أنزل تحريم الخمر، فمن كتب هذه الآية، وعنده شيء منها، فلا يشربها، ولا يبيعها، فسكبوها في ¬
4 - لا يضمن متلفها إذا كانت لمسلم
طرق المدينة» (¬1) وقال صلّى الله عليه وسلم: «إن الذي حرم شربها حرم بيعها» (¬2)، إلا أنها تورث؛ لأن الملك في الموروث ثبت شرعاً من غير صنع العبد، فلا يكون ذلك من باب التمليك والتملك، والخمر إن لم تكن متقومة، فهي مال قابل للملك في الجملة. 4 - لا يضمن متلفها إذا كانت لمسلم؛ لأنها ليست متقومة في حق المسلم، وإن كانت مالاً في حقه. 5 - إنها نجسة نجاسة مغلظة، حتى إذا أصاب الثوب ـ في رأي الحنفية ـ أكثر من قدر الدرهم، يمنع جواز الصلاة؛ لأن الله تعالى سماها رجساً، فقال سبحانه: {رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه} [المائدة:90/ 5]. والظاهر أن المراد من كلمة (رجس) هو النجاسة المعنوية الشرعية (¬3)، إلا أن الأمر بالاجتناب يقتضي الابتعاد عن الخمر ابتعاداً شديداً، وقد حكم الجمهور بنجاسة الخمر وسائر المسكرات المائعة فوق تحريم شربها تنفيراً وتغليظاً، وزجراً عن الاقتراب منها (¬4)، يدل لنجاستها حديث أبي ثعلبة الخشني قال: يا رسول الله، إنا بأرض أهل كتاب أفنأكل في آنيتهم؟ قال: (إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، وإن لم ¬
6 - يحد شاربها قليلا أو كثيرا،
تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها). وفي رواية أبي داود: «إنا نجاور أهل الكتاب، وهم يطبخون في قدورهم الخنزير، ويشربون في آنيتهم الخمر، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إن وجدتم غيرها فكلوا اشربوا، وإ ن لم تجدوا غيرها فارحضوها (اغسلوها) بالماء، وكلوا اشربوا» (¬1). قال الشوكاني: والأمر بغسل الآنية في حديث أبي ثعلبة ليس لتلوثها برطوباتهم بل لطبخهم الخنزير، وشربهم الخمر فيها. ولو سقيت بهيمة خمراً ثم ذبحت، فإن ذبحت ساعة ما سقيت به تحل من غير كراهة؛ لأنها في أمعائها، فتطهر بالغسل، وإن مضى عليها يوم أو أكثر، تحل مع الكراهة عند الحنفية، لاحتمال أنها تفرقت في العروق والأعصاب. ولو نقعت فيها الحنطة، ثم غسلت، حتى زال طعمها ورائحتها، يحل أكلها. وإن وجد فيها طعم الخمر ورائحتها، لا يحل أكلها. 6 - يحد شاربها قليلاً أو كثيراً، لقوله عليه الصلاة والسلام: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» (¬2) ولإجماع الصحابة رضي الله عنهم على ذلك (¬3). ¬
7 - إن حد شرب الخمر وحد السكر مقدر بثمانين جلدة
ولو شرب خمراً ممزوجاً بالماء: إن كانت الغلبة للخمر، يجب الحد، وإن غلب الماء عليها حتى زال طعمها وريحها لا يجب الحد، إلا أنه يحرم شرب الماء الممزوج بالخمر، لما فيه من أجزاء الخمر حقيقة. 7 - إن حد شرب الخمر وحد السكر مقدر بثمانين جلدة في الأحرار، لفعل الصحابة رضي الله عنهم، وقياسهم على حد القذف كما عرفنا، وهذا رأي الجمهور، وقال الشافعية: حد الخمر أو المسكر على الأحرار أربعون جلدة؛ لأن عثمان رضي الله عنه جلد الوليد بن عقبة أربعين، وقال علي: جلد رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الخمرأربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكل سُنَّة (¬1). 8 - إذا تخللت الخمر بنفسها يحل شرب الخل بلا خلاف، لقوله عليه الصلاة والسلام: «نعم الإدام الخل» (¬2). ويعرف التخلل بالتغير من المرارة إلى الحموضة بحيث لا يبقى فيها مرارة أصلاً عند أبي حنيفة، فلو بقي فيها بعض المرارة لا يحل؛ لأن الخمر عنده لا يصير خلاً إلا بعد تكامل معنى الخلِّية فيه، كما لا يصير خمراً إلا بعد تكامل معنى الخمرية. وقال الصاحبان: تصير الخمر خلاً بظهور قليل الحموضة فيها، اكتفاء بظهور دليل الخلية فيه، كما أن الخمر تصير خمراً بظهور دليل الخمرية عندها. أما إذا خلل الخمر صاحبها بإلقاء علاج فيها من خل أو ملح أو غيرهما، حتى صارت حامضاً، فيحل شربها، ويكون التخليل جائزاً عند الجمهور، قياساً على ¬
المبحث الرابع ـ أحكام الأشربة المسكرة غير الخمر
دبغ الجلد، فإن الدباغ يطهره، ولقوله عليه السلام: «خير خلكم خل خمركم» (¬1) وقوله أيضاً: «نعم الإدام الخل» ولم يفصل بين تخلل الخمر بنفسها والتخليل، ولأن التخليل يزيل الوصف المفسد، ويجعل في الخمر صفة الصلاح، والإصلاح مباح. وإذا صارت الخمر خلاً يطهر ما يجاورها من الإناء، ويطهر أعلى الإناء إذا غسل بالخل. وقيل: يطهر تبعاً، وهو المفتى به (¬2). وقال الشافعي: لا يحل التخليل بالعلاج، ولا تطهر الخمر حينئذ، لأننا مأمورون باجتنابها، فيكون التخليل اقتراباً من الخمر على وجه التمول، وهو مخالف للأمر بالاجتناب، ولأن الشيء المطروح في الخمر يتنجس بملاقاتها، فينجسها بعد انقلابها خلاً (¬3). وإذا نقلت الخمر من الظل إلى الشمس أو بالعكس، فتخللت، تحل عند الجمهور، وكذا عند الشافعية في الأصح. المبحث الرابع ـ أحكام الأشربة المسكرة غير الخمر: هذه الأشربة ثلاث فئات: الفئةالأولى ـ غير المطبوخ غالباً: وهو السَّكَر والفضيح النيء والباذق المطبوخ ونقيع الزبيب والتمر من غير طبخ: ¬
أي نقيع التمر إذا اشتد وقذف بالزبد أو الذي طبخ من ماء العنب، فذهب أقل من ثلثيه، ونقيع التمر والزبيب إذا اشتد بغير طبخ، فهذه هي الفئة الأولى التي يتعلق بها الأحكام التالية (¬1): 1 - يحرم شرب قليلها وكثيرها باتفاق العلماء، لقوله عليه السلام: «الخمر من هاتين الشجرتين» (¬2). وأشار إلى النخلة والعنبة، وهذه الفئة إما من التمر أو من العنب، ولأنه إذا ذهب أقل من الثلثين بالطبخ، فالحرام فيه باق، وهو مازاد على الثلث. 2 - لا يكفر مستحلها، ولكن يضلل؛ لأن حرمتها دون حرمة الخمر، لثبوتها بدليل غير مقطوع به من أخبار الآحاد، وآثار الصحابة رضي الله عنهم. 3 - لا يحد عند الحنفية بشرب قليلها، وإنما يجب الحد بالسُّكر منها؛ لأن نص الحديث السابق: «والسَكَر من كل شراب» حرم السكر وجعله كحرمة الخمر، والمعاني التي حرم من أجلها الخمر في قوله تعالى: {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر، ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة، فهل أنتم منتهون} [المائدة:91/ 5] هذه المعاني تحصل بالسكر من كل شراب. لهذا قال علي رضي الله عنه: «فيما أسكر من النبيذ ثمانون، وفي الخمر قليلها وكثيرها ثمانون». 4 - مقدار الحد: ثمانون جلدة عند الجمهور كما عرفنا، وأربعون جلدة عند الشافعية. ¬
5 - يحرم التداوي بها، سئل ابن مسعود رضي الله عنه عن التداوي بالمسكر، فقال: «إن الله تبارك وتعالى لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم» (¬1). 6 - يجوز بيعها عند أبي حنيفة مع الكراهة، ويضمن متلفها؛ لأن البيع مبادلة شيء مرغوب فيه بشيء مرغوب فيه، وهذه الأشربة مرغوب فيها، إلا أن الخمر مع كونها مرغوباً فيها لا يجوز بيعها بنص الحديث السابق: «يا أهل المدينة، إن الله تبارك وتعالى قد أنزل تحريم الخمر، فمن كتب هذه الآية، وعنده شيء منها، فلا يشربها ولا يبيعها» والنص ورد في الخمر، فيقتصر على مورد النص. وأيضاً لأن الأخبار تعارضت في هذه الأشربة في الحل والحرمة، قال أبو حنيفة بحرمة شربها احتياطاً، ولكن لا تبطل ماليتها احتياطاً؛ لأن الاحتياط لايجري في إبطال حقوق الناس. وقال الصاحبان: لا يجوز بيعها أصلاً، ولا يضمن متلفها، لعدم كونها مالاً متقوماً؛ لأن المال المتقوم: هو ما يباح الانتفاع به حقيقةً وشرعاً، وهي لا يباح الانتفاع بها. 7 - في نجاستها روايتان عن أبي حنيفة: رواية راجحة تعتبر نجاستها مغلظة كنجاسة الخمر؛ لأنه يحرم شرب قليلها وكثيرها، فلا يعفى عنها أكثر من قدر ¬
الفئة الثانية ـ المطبوخ وهو المثلث (أو الطلاء) والجمهوري والمطبوخ من الزبيب والتمر أدنى طبخ
الدرهم، ورواية تعتبر نجاستها مخففة فيعفى عنها ما دون ربع الثوب عند الحنفية؛ لأن نجاسة الخمر إنما ثبتت بالشرع، بقوله تعالى: {رجس} [المائدة:90/ 5] فتختص النجاسة باسم الخمر. وعن أبي يوسف: أن الكثير الفاحش: هو النجس؛ لأن حرمتها دون حرمة الخمر، واختار السرخسي أن نجاسة السكر ونقيع الزبيب مخففة، والمفتى به أن نجاستها كالخمر (¬1). الفئة الثانية ـ المطبوخ وهو المثلث (أو الطلاء) والجمهوري والمطبوخ من الزبيب والتمر أدنى طبخ: أي أن عصير العنب إذا طبخ فذهب ثلثاه، ونقيع التمر والزبيب إذا طبخ، وإن لم يذهب ثلثاه، فهذه هي الفئة الثانية. المثلث: وهو المطبوخ من ماء العنب حتى ذهب ثلثاه وبقي معتقاً، حكمه وحكم الجمهوري والمطبوخ من الزبيب والتمر أدنى طبخ، أي وإن لم يذهب ثلثاه: أنه يحل شرب القليل منه، ويحرم المسكر منه وهو القدح الأخير الذي يسكر، فإذا سكر يجب الحد، ويجوز بيعه وتمليكه ويضمن متلفه، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف، ودليلهما حديث وآثار: أما الحديث فهو ما روي عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلم أتي بنبيذ فشمه، فقطب وجهه لشدته، ثم دعا بماء، فصبه عليه وشرب منه (¬2). ¬
وأما الآثار، فمنها ماروي عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه كان يشرب النبيذ الشديد، ومنها: ما روي عن سيدنا علي رضي الله عنه أنه أضاف قوماً فسقاهم، فسكر بعضهم، فحده، فقال الرجل: تسقيني ثم تحدني؟ فقال علي: إنما أحدك للسُّكْر (¬1). والحقيقة أن هذا الخبر غير صحيح؛ لأن في سنده مدلساً وضعيفاً. وقد اعتبر أبو حنيفة حل المثلث من علامة مذهب أهل السنة والجماعة، فقال: السنة أن تفضل الشيخين، وتحب الخَتَنين (أي الصهرين) وتمسح على الخفين، ولا تحرم نبيذ الجَرّ، أي المثلث أو الطلاء. والحل محصور في القليل منه أو إذا قصد به التقوي على الطاعة، أو التداوي، أو استمراء الطعام، أما إذا قصد به التلهي، فيحرم. وقال محمد: لا يحل شرب هذين الشرابين، ولكن لا يجب الحد ما لم يسكر، لقوله عليه السلام: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» وبرأيه يفتى عند الحنفية. وقال الشافعية والمالكية والحنابلة: كل شراب أسكر كثيره حرم قليله، وحد شاربه إذا كان مكلفاً مختاراً، لقوله عليه السلام: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام» وقوله أيضاً «أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره» وصحح الترمذي: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» (¬2). ¬
الفئة الثالثة ـ الأشربة الحلال في رأي ضعيف: وهي خليط الزبيب والتمر المطبوخ، والمتخذ من غير العنب والتمر
الفئة الثالثة ـ الأشربة الحلال في رأي ضعيف: وهي خليط الزبيب والتمر المطبوخ، والمتخذ من غير العنب والتمر: الأشربة الأربعة الحلال التي ذكرت كالخليطين والمِزْر والجِعة والبِتْع والمثلث ب قصد التداوي يحل شربها بلا لهو ولا طرب، قليلاً كان أو كثيراً إذا شرب مالا يسكره، ولا يحد شاربها، وإن سكر منها، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأنه ليس في هذه الأشربة معنى الخمرية، إذ لا شدة فيها، ولأنه عليه السلام قال: «الخمر من هاتين الشجرتين: يعني النخلة والكرمة» ذكر صلّى الله عليه وسلم الخمر بلام الجنس، فاقتضى اقتصار الخمرية على ما يتخذ من هاتين الشجرتين. وإنما لا يجب الحد وإن سكر منه؛ لأنه سكر حصل بتناول شيء مباح، فلا يوجب الحد، كالسكر الحاصل من تناول البنج، بخلاف ما إذا سكر بشرب المثلث، فإنه يجب الحد؛ لأن السكر فيه حصل بتناول المحظور وهو القدح الأخيرة. وخلاصة الفرق بين هذه الفئات الثلاث: أن الفئة الأولى يحرم قليلها وكثيرها ويجب الحد بالسكر منها، وأن الثانية يحرم المسكر منه فقط ويجب الحد بالسكر، وأما الثالثة فيحل شربها للتداوي والتقوي، وإن سكر منها، ولا حد فيها وإن سكر منها عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقد حرم محمد رحمه الله تعالى هذه الأشربة الأربعة التي هي حلال عند الشيخين: وهي المتخذة من العسل والتين ونحوهما قليلها وكثيرها، والأصح أنه يحد شاربها بالسكر منها، وبه يفتى في المذهب الحنفي (¬1)، وقال الأئمة الثلاثة: ¬
الحشيش والأفيون والبنج
يحد بشرب القليل منها والكثير (¬1) لقوله عليه الصلاة والسلام: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام» وقوله: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» وقوله: «كل شراب أسكر فهو حرام» وقوله صلّى الله عليه وسلم أيضاً: «إن من العنب خمراً، وإن من العسل خمراً، ومن الزبيب خمراً، ومن الحنطة خمراً، ومن التمر خمراً، وأنا أنهاكم عن كل مسكر» (¬2). الحشيش والأفيون والبنج (¬3): يحرم كل ما يزيل العقل من غير الأشربة المائعة كالبنج والحشيشة والأفيون، لما فيها من ضرر محقق، ولا ضرر ولا ضرار في الإسلام، ولكن لا حد فيها؛ لأنها ليست فيها لذة ولاطرب، ولا يدعو قليلها إلى كثيرها، وإنما فيها التعزير لضررها، ولما رواه أبو داود عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتِّر». ويحل القليل النافع من البنج وسائر المخدرات للتداوي ونحوه؛ لأن حرمته ليست لعينه، وإنما لضرره (¬4). القهوة والدخان: سئل صاحب العباب الشافعي عن القهوة، فأجاب: للوسائل حكم المقاصد، فإن قصدت للإعانة على قربة كانت قربة، أو مباح فمباحة، أو مكروه فمكروهة، أو حرام فمحرمة. وأيده بعض الحنابلة على هذا ¬
التفصيل. وقال الشيخ مرعي بن يوسف الحنبلي صاحب غاية المنتهى: ويتجه حل شرب الدخان والقهوة، والأولى لكل ذي مروءة تركهما (¬1). والواقع، لا تقل مرتبة التدخين عن الكراهة أو الكراهة التحريمية، وقد يصبح التدخين حراماً إذا ثبت ضرره بالنفس أو المال أو كان المدخن محتاجاً إلى المال لإنفاقه على قوته أو قوت أهله أو ملبسه أو ملبس أهله وعياله. وقد حرم الإباضية التبغ؛ لأنه من الخبائث، وأصدرت دولة إيران عام 1991م أمراً بمنعه وتحريمه ومنع توظيف المدخنين، وقد ذكر الشيخ محمد بن جعفر الكتاني في كتابه: حكم التدخين عند الأئمة الأربعة وغيرهم (¬2) سبعة عشر دليلاً على تحريم الدخان، وأبان المفاسد الكثيرة المترتبة على الدخان، وأورد فتاوى علماء المذاهب الإسلامية بالتحريم، وناقش أدلة المبيحين بالتحريم. وتلك الأدلة بإيجاز: 1 - الدخان من الخبائث المحرمة بنص الكتاب، والخبائث: كل ما تستكرهه النفوس وتنفر منه. 2 - الدخان مضرّ بالأبدان ضرراً بيِّناً لا شك فيه، ولا شبهة الآن عند الحكماء وهو من أهم أسباب سرطان الرئة والقلب وغير ذلك من الأمراض الخطيرة أو المنتنة. 3 - الدخان مؤذ بدخانه الخبيث ورائحته المنتنة لمن لا يتعاطاه من زوجة أو زوج وصاحب. ¬
4 - الدخان مؤذ برائحته ونتنه للحفظة الكرام الكاتبين وغيرهم من الملائكة المكرمين. 5 - الدخان مضر بدِين صاحبه، شاغل له عن سلوك المسالك التي يرتقي بها. 6 - الدخان فيه إفساد للجسم والبدن وتخدير له وتفتير بالتجربة والمشاهدة. 7 - الدخان مع كونه مفتراً، أي مخدراً للجفون والأطراف، قد يحصل الإسكار منه لبعض الناس في ابتداء التعاطي، وقد نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتِّر. 8 - فيه إسراف وتبذير، وهو إضاعة المال من أي نوع كان بإتلافه وإنفاقه في غير فائدة دينية ولا مصلحة دنيوية. 9 - إنه مصادم للفطرة الإنسانية، مؤد إلى تردد القلب وقلقه واضطرابه، فهو مشكوك ومشتبه فيه، ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، والبر: ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب. 10 - إنه يؤدي إلى أكل المحروق وتسرب أجزاء منه محروقة للحلق كلما تناول المدخن شيئاً منه. 11 - فيه أكل النار الممتزجة بالحطب الذي هو ورقه، أي من جذبه إلى جوفه. 12 - فيه إفساد مزاج من طبعه السوداء أو الصفراء؛ لأنه يجفف الرطوبات البدنية ويحرقها. 13 - فيه عبث ولهو، وهو حرام عندالحنفية.
المبحث الخامس ـ إثبات شرب الخمر ونحوها
14 - نهى عنه ملوك الإسلام وسلاطينه في الترك والمغرب والسودان وغيرهم، بل وملوك أوروبا. 15 - إنه من البدع ومحدثات الأمور بعد القرون الثلاثة المشهود بخيريتها وفضلها، بل بعد القرون العشرة، أخرج أبو داود من حديث العرباض بن سارية: «إياكم ومُحْدَثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار». 16 - فيه غول، وهو ما يعتري شاربه بتركه من القلق والفساد والأذى في عقله ومزاجه وحواسه، وبسببه يعود له ولا يقدر على الترك، وكل ما فيه غول يغتال العقول ويضعف الإرادة يمنع منه، بدليل وصف الحق تعالى خمر الجنة بأنها {لا فيها غول} [الصافات:47/ 37]. 17 - ما كان مشكوكاً فيه أحرام هو أم حلال، ولم نجد فيه نصاً عن النبي صلّى الله عليه وسلم، يعمل فيه بعمل أهل التقوى والورع واجتناب المشتبهات. المبحث الخامس ـ إثبات شرب الخمر ونحوها: اتفق جمهور الفقهاء على أن شرب الخمر ونحوها يثبت بشهادة رجلين مسلمين عدلين يشهدان أنه مسكر أو بالإقرار مرة واحدة، ولا تقبل فيه شهادة النساء مع الرجال. ويكفي في إقرار وشهادة أن يقال: شرب فلان خمراً. وقال أبو يوسف وزفر: يشترط في الإقرار هنا كما في السرقة: أن يكون مرتين بمجلسين، اعتباراً لعدد الإقرار بعدد الشهود. ولا يعتبر الإقرار والشهادة بعد ذهاب الرائحة وتقادم العهد عند أبي حنيفة
اختلفوا في إثبات الشرب بالرائحة
وأبي يوسف. وقال محمد: يحد بالإقرار أو الشهادة بعد ذهاب الرائحة، ولكن دون شهر في الشهادة. واختلفوا في إثبات الشرب بالرائحة: فقال المالكية: يجب الحد بالرائحة إذا شمها شاهدان عدلان في فمه أو تقيأها، وشهدا بذلك عند الحاكم؛ لأن ابن مسعود جلد رجلاً وجد منه رائحة الخمر (¬1)، وتشبيهاً للشهادة على الرائحة بالشهادة على الصوت (¬2). وقال الحنفية والشافعية والحنابلة: لا حد على من وجد منه رائحة الخمر أو تقيأها؛ لأن الرائحة يحتمل أنه تمضمض بها أو حسبها ماء، فلما صارت في فمه مجها، أو ظنها لا تسكر، أو كان مكرهاً أو مضطراً أو غالطاً، أو شرب شراب التفاح، فإنه يكون منه كرائحة الخمر، وإذا احتمل ذلك لم يجب الحد بالشك؛ لأن الحد يدرأ بالشبهة، ولا يستوفيه القاضي بعلمه أيضاً (¬3). ويلاحظ أنه لا يقام الحد على السكران حال سكره، وإنما يؤخره إلى الصحو باتفاق الأئمة، ليتحقق مقصود الحد من الانزجار. ¬
المبحث السادس ـ مخاطر المخدرات وأحكامها في الإسلام
المبحث السادس ـ مخاطر المخدرات وأحكامها في الإسلام: الشرائع الإلهية وخاتمتها الشريعة الإسلامية تنشد في تشريعها لتنظيم حياة الناس وأحوالهم تحقيق المصالح والمنافع البشرية الحقيقية، ودفع أنواع المضار والمفاسد وألوان الأذى والشر، بدليل الاستقراء التام والتتبع الشامل لكل ما جاءت به شريعة القرآن الكريم من أحكام العبادات والمعاملات والجنايات والعلاقات الاجتماعية الخاصة والعامة، فلا نجد مطلوباً شرعاً: فرضاً أو مندوباً إلا وكان فيه الخير للفرد والجماعة أو الشخص والأمة، ولا نرى ممنوعاً: حراماً أو مكروهاً إلا وفيه الشر أو شبهة السوء للإنسان والناس قاطبة. والعقل المجرد غير المتأثر بالهوى أو النفعية الطائشة أو الوقتية غير المنضبطة يدرك تماماً المصلحة المجردة والمضرة الواضحة، ويؤيد ما جاءت به شريعة السماء، إذ لا يخفى على عاقل أن تحصيل المصالح المحضة أو الدائمة الأثر، ودرء المفاسد المحضة أو الآنية التأثير، عن نفس الإنسان وغيره، محمود حسن، كما أنه لا يخفى أيضاً أن درء المفاسد والمضار الراجحة مقدم على المصالح المرجوحة، كما قال العز بن عبد السلام في مقدمة كتابه: «قواعد الأحكام في مصالح الأنام». وهذا ما اتفق عليه الحكماء، وأجمعت عليه الشرائع، فحرّمت الدماء والأبضاع والأموال والأعراض، واتفقت الملل كلها على الحفاظ على المقاصد الخمسة الكلية الضرورية، وهي الدين والعقل والنفس والنسب أو العرض والمال، ووجهت الأديان ذات المصدر الإلهي إلى تحصيل الأفضل فالأفضل من الأقوال والأعمال والآداب والأخلاق. وكذلك الأطباء يدفعون أعظم المرضين بالتزام بقاء أدناهما.
الضرر الناجم عن تعاطي المسكرات والمخدرات
ومن هذا المنطلق حاربت الشريعة الإسلامية وحرمت تناول المسكرات والمخدرات بأنواعها المختلفة، لما فيها من ضرر واضح على الإنسان وصحته وعقله وكرامته وسمعته أو اعتباره الأدبي. روى ابن ماجه والدارقطني مسنداً، والإمام مالك في الموطأ مرسلاً عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لا ضرر ولا ضرار» وهو حديث حسن، مفاده أن الضرر ممنوع بالنفس أو بالغير، فلا يجوز لأحد أن يضر نفسه أو غيره بغير حق ولا جناية سابقة، ولايجوز مقابلة الضرر بالضرر، فمن سبَّك أو شتمك فلا تسبّه، ومن ضرّ بك فلا تضرّ به، بل اطلب حقك منه عند الحاكم من غير مسابّة. وجاء في الإنجيل المتداول الآن من قول السيد المسيح عليه السلام: «السكّيرون والزناة لا يدخلون ملكوت السموات» وإذا كان السكر والزنى ممنوعين لضررهما وقبحهما، فكذلك المخدرات التي تضر العقل، وتفسد النفس والوجدان أو الضمير. ومن المعلوم أن الضرر الناجم عن تعاطي المسكرات والمخدرات متعدد الجوانب ففيها ضرر بالشخص ذاته، وبأسرته وأولاده، وبمجتمعه وأمته. أما الضرر الشخصي: فهو التأثير الفادح في الجسد والعقل معاً، لما في المسكر والمخدر من تخريب وتدمير الصحة والأعصاب والعقل والفكر ومختلف أعضاء جهاز الهضم وغير ذلك من المضار والمفاسد التي تفتك بالبدن كله، بل وبالاعتبار الأدبي والكرامة الإنسانية، حيث تهتز شخصية الإنسان، ويصبح موضع الهزء والسخرية، وفريسة الأمراض المتعددة. وأما الضرر العائلي: فهو ما يلحق بالزوجة والأولاد من إساءات، فينقلب البيت جحيماً لا يطاق من جراء التوترات العصبية والهياج والسب والشتم وترداد
الضرر العام
عبارات الطلاق والحرام، والتكسير والإرباك، وإهمال الزوجة والتقصير في الإنفاق على المنزل، وقد تؤدي المسكرات والمخدرات إلى إنجاب أولاد معاقين متخلفين عقلياً، وقد شاهدت ذلك بنفسي في حالات كثيرة من أولاد المدمنين. وأما الضرر العام: فهو واضح في إتلاف أموال طائلة من غير مردود نفعي، وفي تعطيل المصالح والأعمال، والتقصير في أداء الواجبات، والإخلال بالأمانات العامة، سواء بمصالح الدولة أو المؤسسات أو المعامل أو الأفراد. هذا فضلاً عما يؤدي إليه السكر أو التخدير من ارتكاب الجرائم على الأشخاص والأموال والأعراض، بل إن ضررالمخدرات أشد من ضرر المسكرات؛ لأن المخدرات تفسد القيم الخلقية. أنواع المخدرات وحكمها الشرعي: المخدرات والمسكرات أنواع متعددة، يتفنن الناس في تناولها بأسماء مختلفة، ويلجأ بعضهم إلى تعاطي أشياء تحقق الهدف المقصود من تغطية العقل، وكلها تشترك في حكم واحد، وهو التحريم بسبب ما فيها من الضرر المؤكد الحصول. ومن أشهر أنواع المخدرات: الحشيشة، والأفيون، والكوكايين والمورفين والبنج (نبات سام يستعمل في الطب للتخدير) وجوزة الطيب (ثمر شجرة) والبرش (مركب من الأفيون والبنج) والقات (نبات تمضغ أوراقه، قليله منبه منشط، وكثيره مخدر مثبّط، يورث الكسل والخمول، ويعطل الأعمال) وغير ذلك مما يؤخذ بالحُقَن أو المضغ أو التدخين أو غيرها، فيؤدي إلى تغييب العقل، وإضرار الصحة، وإفساد الأخلاق.
أدلة تحريم تعاطي المخدرات
والحكم الشرعي للمخدرات أنها حرام في غير حالة التداوي للضرورة أو الحاجة، وفي غير حالة إصلاح البهارات بإضافة بعضها إليها بالقدر القليل فقط مثل خلط شيء قليل من جوزة الطيب مع البهارات أو المقبّلات. وحرمتها كالمسكرات التي جاءت النصوص التشريعية في القرآن والسنة النبوية بتحريمها تحريماً قطعياً. وأدلة تحريم تعاطي المخدرات كثيرة منها ما يلي: 1ً - إن المخدرات تؤدي إلى أضرار جسيمة كثيرة كما تقدم، وقد يفوق ضررها ضرر المسكرات؛ لأنها تفسد أخلاق المجتمع وتضر الأمة في اقتصادها وأعمالها ضرراً بليغاً، وتفسد العقل، وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة، ففيها ضرر عقلي وبدني وديني وأخلاقي، وكل ما هو ضار في نتائجه أو ذاته وعينه فهو حرام، والمضِّرات من أشهر المحرمات. 2ً - روى الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتّر». والمفتر: كل ما يورث الفتور وارتخاء الأعضاء وتخدير الأطراف. قال ابن حجر: وهذا الحديث فيه دليل على تحريم الحشيش بخصوصه، فإنها تسكر وتخدِّر وتفتر. وفي حديث آخر عند أبي داود عن ابن عباس: «كل مخمِّر وكل مسكر حرام» والمخمِّر: ما يغطي العقل. 3ً - حكى القرافي وابن تيمية الإجماع على تحريم الحشيشة، قال ابن تيمية: ومن استحلها فقد كفر، وإنما لم تتكلم فيها الأئمة الأربعة رضي الله عنهم؛ لأنها لم تكن في زمنهم، وإنما ظهرت في آخر المئة السادسة، وأول المئة السابعة حين ظهرت دولة التتار.
4ً - قال ابن تيمية في فتاويه الكبرى: كل ما يغيب العقل فإنه حرام، وإن لم تحصل به نشوة ولا طرب، فإن تغييب العقل حرام بإجماع المسلمين، أي إلا لغرض معتبر شرعاً. وقال أيضاً في كتابه السياسة الشرعية: إن الحشيشة حرام، يُحَدُّ متناولها كما يحد شارب الخمر، وهي أخبث من الخمر من جهة أنها تفسد العقل والمزاج، حتى يصير في الرجل تخنث ودياثة، وغير ذلك من الفساد، وأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهي داخلة فيما حرّمه الله ورسوله من الخمر والمسكر لفظاً أو معنى. وجاء أيضاً في فتاوى ابن تيمية في مواضع متكررة: «هذه الحشيشة الملعونة هي وآكلوها، ومستحلوها، الموجبة لسخط الله تعالى، وسخط رسوله، وسخط عباده المؤمنين، المعرّضة صاحبها لعقوبة الله، تشتمل على ضرر في دين المرء وعقله وخلقه وطبعه، وتفسد الأمزجة حتى جعلت خلقاً كثيراً مجانين، وتورث من مهانة أكلها ودناءة نفسه وغير ذلك ما لا تورث الخمر، ففيها من المفاسد ما ليس في الخمر، فهي بالتحريم أولى. وقد أجمع المسلمون على أن السكر منها حرام. ومن استحل ذلك وزعم أنه حلال، فإنه يُستتاب، فإن تاب وإلا قتل مرتداً، لا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين. وإن القليل منها حرام أيضاً بالنصوص الدالة على تحريم الخمر وتحريم كل مسكر». وأيد ابن القيم أستاذه ابن تيمية في ذلك كله، وقال في زاد المعاد: «إن الخمر يدخل فيها كل مسكر: مائعاً كان أو جامداً، عصيراً أو مطبوخاً، فيدخل فيها لقمة الفسق والفجور ـ أي الحشيشة ـ لأن هذا كله خمر بنص رسول الله صلّى الله عليه وسلم الصحيح
القات
الصريح الذي لا مطعن في سنده ولا إجمال في متنه، إذ صح عنه قوله: كل مسكر خمر». وصح عن أصحابه رضي الله عنهم الذين هم أعلم الأمة بخطابة ومراده، بأن الخمر ما خامر العقل. على أنه لو لم يتناول لفظه صلّى الله عليه وسلم كل مسكر، لكان القياس الصحيح الصريح الذي استوى فيه الأصل والفرع من كل وجهة، حاكماً بالتسوية بين أنواع المسكر، فالتفريق بين نوع ونوع تفريق بين متماثلين من جميع الوجوه». وقال الصنعاني في سبل السلام: «إنه يحرم ما أسكر من أي شيء، وإن لم يكون مشروباً، كالحشيشة». وقال بعض علماء الحنفية: «إن من قال بحل الحشيشة زنديق مبتدع». وقال الحافظ ابن حجر: «إن من قال: إن الحشيشة لا تسكر، وإنما هي مخدر: مكابرٌ، فإنها تحدث ما تحدثه الخمر من الطرب والنشوة». وذكر ابن البيطار أن قبائح خصالها كثيرة، وعدّ منها بعض العلماء مئة وعشرين مضرة دينية ودنيوية. وقال: إن قبائح خصالها موجودة في الأفيون، وفيه زيادة مضار. وأما القات فهو حرام، وإن زعم بعض أهل اليمن أنه لا يخدر وإنما هو منشط ومفتق للذاكرة، وهذا مجرد وهم وهو غير صحيح؛ لأن العبرة بالنتائج، ولقد أثبت الأطباء، وجاء في قرار اليونيسكو في الأمم المتحدة أنه مخدر وضار، ومن أضراره الواضحة: تخلّف اليمنيين، وتعطيل اقتصادهم، وانشغالهم بشرائه، وتعاطيه من منتصف النهار إلى منتصف الليل، وإهدارهم المال الكثير في سبيل الحصول عليه وبذل الجهود في زراعته على حساب المزروعات الأخرى النافعة.
الاتجار بالمخدرات
وذهب أبو بكر المقري الشافعي إلى تحريم القات، وقال: إني رأيت من أكلها الضرر في بدني وديني، فتركت أكلها، فقد ذكر العلماء: إن المضِّرات من أشهر المحرمات، فمن ضررها أن آكلها يرتاح ويطرب وتطيب نفسه ويذهب حزنه، ثم يعتريه بعد ساعتين من أكله هموم متراكمة وغموم متزاحمة وسوء أخلاق. وكذلك حرمه الفقيه حمزة الناشري محتجاً بحديث أم سلمة السابق: أنه صلّى الله عليه وسلم «نهى عن كل مسكر ومُفْتِر» وهو الذي يجعل في الجسم فتوراً، أي ضعفاً وانكساراً. والخلاصة: إن جميع المخدرات الحادثة من قرون بعد القرون الستة الأولى حرام كالخمر، لمخامرتها العقل وتغطيتها إياه. وفيها مفاسد الخمر ومضاره، وتزيد عليها، فهي أكثر ضرراً وأكبر فساداً من الخمر؛ لأنها تضر الأمة ضرراً بليغاً، أفراداً وجماعات، مادياً، وصحياً، وأدبياً. ولا شك بأن الشريعة الإسلامية تحرِّم المفاسد والمضار، وتجيز ما فيه مصالح حقيقية، خالصة أو راجحة. وأما ما يزعمونه من مصالح ومنافع فهي وهمية خادعة. لذا اتفقت أنظمة العالم على منع المخدرات، ولا نجد إجماعاً دولياً على شيء، مثلما نجده في الإجماع على مقاومة كل وسائل تعاطي المخدرات وتهريبها، وإتلاف الكميات المهربة، وعقاب المهربين بالسجن وغيره. الاتجار بالمخدرات: إن الاتجار بالمخدرات بيعاً وشراء وتهريباً وتسويقاً أمر حرام كحرمة تناول المخدرات؛ لأن الوسائل في الشريعة تأخذ حكم المقاصد، ويجب سد الذرائع إلى المحرمات بمختلف الإمكانات والطاقات؛ لأن التاجر يسهِّل رواج المخدرات وتعاطيها، فيكون الثمن حراماً، والمال سُحْتاً، والعمل ضلالاً، والاتجار بها إعانة
زراعة الحشيش والخشخاش والقات وتصنيع الأفيون والكوكايين والهروين
على المعصية، والبيع باطل، قال الله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} [المائدة:2/ 5]. ويكون النهي عن بيع الخمر والحكم ببطلانه شاملاً المخدرات؛ لما في ذلك من الإعانة على المعصية، والتواطؤ على إفساد الناشئة والأمة، وتدمير أخلاقها وقيمها، وتخريب اقتصادها وإضعافها أمام غيرها. ويكون الربح التجاري المغري سبباً واضحاً في التآمر على وجود الأمة وضعضعة كيانها وتحطيم جهود أبنائها، وخيانتها، والإسهام في تخلفها وهزِّ بنيتها. زراعة الحشيش والخشخاش والقات وتصنيع الأفيون والكوكايين والهروين: إن كل ما يؤدي إلى الحرام فهو حرام، وكل ما يعين على المعصية، فهو معصية، فتكون زراعة الحشيش وغيرها واستخراج المواد المخدرة والعناية بها حفظاً وتعليباً وتهريباً ونقلاً من مكان إلى آخر أمراً حراماً في شرع الله ودينه، للأسباب التالية: 1 - إن زراعة ما يؤدي إلى الحرام يعد رضاً صريحاً من الزراع بتعاطي الناس له، واتجارهم فيه، والرضا بالمنكر أو المعصية يعد منكراً وعصياناً. 2 - تبين مما ذكر أن كل مافيه إعانة على المعصية يعد معصية، كما أن الزراعة لوسائل المخدرات معصية. 3 - روى أبو داود في سننه عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إن من حَبَس العنب أيام القطاف حتى يبيعه ممن يتخذه خمراً، فقد تقحم النار». وهذا
ربح المخدرات
دليل صريح على حرمة زراعة الحشيش والقات وكل ما يؤدي لاستخراج عصارة الأفيون والهروين والكوكايين وغير ذلك. 4 - روى أصحاب السنن الأربعة والإمام أحمد عن ابن مسعود: أن النبي صلّى الله عليه وسلم «لعَنَ آكل الربا ومُؤكله وشاهديه وكاتبه». ولفظ النسائي: «آكل الربا ومؤكله وشاهديه وكاتبه إذا علموا ذلك، ملعونون على لسان محمد صلّى الله عليه وسلم يوم القيامة» فهؤلاء أربعة لعنوا في أكل الربا. وروى أبو داود والحاكم عن ابن عمر: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لعن الله الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وآكل ثمنها» فهؤلاء عشرة لعنوا في الخمر وتناولها. والمتبادر إلى الذهن ألا يكون ملعوناً إلا آكل الربا وشارب الخمر دون من ذكر معهما، ولكن الشرع حرم فعل ثلاثة آخرين في الربا، وتسعة آخرين في الخمر؛ لأنهم كانوا سبباً في المعصية، وعوناً على اقتراف الحرام، فيكون المتسبب والمعين أو المساعد، له حكم الفاعل تماماً. وبناء عليه يكون تاجر المخدرات والمهرب والناقل وكل من ساعد في تعاطيها آثماً إثماً عظيماً ومرتكباً حراماً ومنكراً شديداً. ربح المخدرات: إن الأرباح التي يستفيد منها التجار والمتعاملون في المخدرات كلها سحت وحرام، لما يأتي: 1ً - قوله تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} [البقرة:188/ 2] وأكل المال بالباطل يتناول جرائم السرقة والخيانة والظلم والغصب، والقمار، والعقود المحرمة من بيع وشراء ونحوهما من التجارات، وكل الخدمات المبذولة في سبيل ارتكاب المعاصي والمنكرات وكل ما حرمه الشرع، وإن رضي به المالك.
عقوبة متناول المخدرات
2ً - الحديث النبوي وهو ما رواه ابن أبي شيبة عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إن الله إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه» فكل ما حرم الله الانتفاع به، حرم الانتفاع بعوضه أو ثمنه، بدليل ما رواه أحمد ومسلم والنسائي عن ابن عباس، والحميدي عن أبي هريرة في بيع الخمر: «إن الذي حرم شربها حرّم بيعها». وروى مسلم وغيره عن أبي سعيد الخدري: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن الله حرم الخمر، فمن أدركته هذه الآية ـ أي آية {إنما الخمر والميسر} [المائدة:90/ 5]ـ وعنده منها شيء، فلا يشرب ولا يبيع، قال: فاستقبل الناس بما كان عندهم منها طرق المدينة، فسفكوها» وروى أبو داود عن أبي هريرة مرفوعاً: «إن الله حرَّم الخمر وثمنها، وحرم الميتة وثمنها، وحرم الخنزير وثمنه». عقوبة متناول المخدرات: أوجب ابن تيمية - كما تقدم- إقامة حد الخمر على من سكر من الحشيشة؛ لأنها تشتهى وتطلب، فالحكم عنده منوط باشتهاء النفس. وذهب الشافعية إلى أن الأفيون وغيره إذا أذيب واشتد وقذف بالزبد، فإنه يلحق بالخمر في النجاسة وإقامة الحد، كالخبز إذا أذيب وصار كذلك، بل أولى. واتفق الفقهاء على تعزير متناول المخدرات بدون عذر كما في حال التداوي والتعزير يكون بالتوبيخ والضرب والحبس والتشهير والتغريم بالمال وغير ذلك مما يراه القاضي أو الحاكم زاجراً ورادعاً الناس عن اقتراف الجرائم والمنكرات. وأجاز فقهاء الحنفية والمالكية أن تكون عقوبة التعزير هي القتل، ويسمونه القتل سياسة، أي إذا رأى الحاكم المصلحة في ذلك، وكان جنس الجريمة يوجب القتل، كما في حال التكرار أو إدمان المسكرات والمخدرات، واعتياد الإجرام أو اللواط أو القتل بالحجر أو العصا أو الخشب.
وهذا يصلح دليلاً أو مستنداً لما أفتى به بعض المفتين المعاصرين من اقتراح مشروع قانون يقضي بعقوبة متعاطي المخدرات بالإعدام شنقاً. وفي ذلك توفير مؤيد أو رادع من قبل السلطة الحاكمة لكل من يتاجر بالمخدرات أو يتعاطاها، أو يقوم بتهريبها. وقد أصبحت عصابات التهريب وتجار المخدرات خطراً على الدول المختلفة، فلا يجوز التهاون بشأن إنزال أقسى العقوبات في حقهم، لحماية المجتمع من أضرار المخدرات ومفاسدها الجسيمة. ولا شك بأن إتلاف المخدرات التي تُمسِكُ بها الدولة أمر واجب شرعاً؛ لأن الضار بذاته يجب التخلص منه بمختلف وسائل الإتلاف. والمصادرة، وعقاب المتعاملين فيها. وإني أرى ضرورة وجود معاهدات دولية لمنع الاتجار بالمخدرات وتهريبها وعقاب تجارها وسماسرتها ووسطائها، كما أرى ضرورة وجود قانون موحد في البلاد العربية والإسلامية ينص على عقوبة شديدة لتجار المخدرات وكل من يتعاطاها أو يتناولها أو يقوم بنقلها بوسائط مختلفة في الحقائب والطائرات والسيارات ووسائل النقل القديمة وغيرها.
ملحق بالحدود
ملحق بالحدود: أولاً ـ تداخل الحدود: إذا اجتمعت الحدود على شخص، فإما أن تكون حدوداً خالصة لله تعالى، أو حدوداً خالصة للآدمي، أو تجتمع حدود الله، وحدود الآدميين (¬1). ف القسم الأول نوعان: 1 - أن يكون فيها قتل: مثل أن يسرق ويزني وهو محصن، ويشرب الخمر، ويقتل في المحاربة (قطع الطريق). اختلف العلماء فيها: قال الحنفية والمالكية والحنابلة: تتداخل الحدود فيقتل الشخص، ويسقط سائر الحدود، لقول ابن مسعود: «إذا اجتمع حدان: أحدهما القتل، أحاط القتل بذلك». وقال إبراهيم النخعي: يكفيه القتل، ولأنها حدود خالصة لله تعالى، يراد بها الزجر، ومع القتل لا حاجة إلى زجره. وقال الشافعي: يستوفى جميعها؛ لأن ما وجب مع غير القتل، وجب مع القتل، كقطع اليد قصاصاً، فهي حدود وجبت بأسباب، فلم تتداخل. 2 - ألا يكون فيها قتل: كما لو سرق وزنى وشرب الخمر، فلا تداخل، ويستوفى جميعها، من غير خلاف بين العلماء. ويقدم عند الشافعية والحنابلة ¬
القسم الثاني
الأخف فالأخف، فيقدم حد الشرب أولاً، ثم حد الزنى، ثم قطع اليد للسرقة، ويتداخل القطع للسرقة مع القطع للمحاربة؛ لأن محل القطعين واحد. وقال المالكية: يقطع، ثم يجلد. وقال الحنفية: الإمام بالخيار في البداية، إن شاء بدأ بحد الزنى، وإن شاء بحد السرقة، ويؤخر حد الشرب عنهما؛ لأن حد الزنى وحد السرقة ثبتا بنص القرآن، وحد الشرب ثبت بالاجتهاد، ولا يجمع ذلك كله في وقت واحد، بل يقام كل واحد منها بعد البرء من الأول، لئلا يؤدي الحد إلى الهلاك. وأما القسم الثاني: وهو الحدود الخالصة للآدمي، وهي القصاص وحد القذف (على رأي الجمهور). أما عند الحنفية: فإن حد القذف يشتمل على حق الله وحق العبد، إلا أن حق الله فيه غالب، كما عرفنا، وحينئذ يكون عندهم من القسم الأول، فيقدم في الاستيفاء على غيره من الحدود؛ لأن فيه حقاً للعبد أيضاً. وقال المالكية: كل حد يدخل في القتل كردة أو قصاص أو حرابة إلا القذف، فلا بد من استيفائه أولاً، ثم يقتل. فلو اجتمع حد الزنى والشرب والسرقة، فإن هذه الحدود تسقط وتندرج في القتل. وقال الحنابلة والشافعية: يستوفى كل الحدود، ويبدأ بأخفها، فيحد للقذف، ثم يقطع، ثم يقتل؛ لأنها حقوق للآدميين، أمكن استيفاؤها، فوجب كسائر حقوقهم، فإن ما دون القتل حق للآدمي، فلم يسقط به. وقال الحنفية: يدخل ما دون القتل فيه، احتجاجاً بقول ابن مسعود السابق ذكره، وقياساً على الحدود الخالصة لله تعالى.
القسم الثالث
وأما القسم الثالث: وهو أن يجتمع حدود الله، وحدود الآدميين: وهذه ثلاثة أنواع: أحدها ـ ألا يكون فيها قتل: فقال الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة: تستوفى كلها إلا أن المالكية قالوا بتداخل حد الشرب وحد القذف؛ لأن الغرض من العقوبتين واحد، وهو منع الافتراء. ثانيها ـ أن يكون فيها قتل: فقال الجمهور: حدود الله تعالى تدخل في القتل. وأما حقوق الآدميين، فتستوفى كلها. وقال الشافعي: تستوفى الحدود جميعهاً؛ لأنها حدود وجبت بأسباب، فلم تتداخل. ثالثها ـ أن يتفق الحقان في محل واحد، فإن اجتمع حقان: أحدهما لله، والآخر لآدمي، كالقصاص والرجم في الزنى، قدم القصاص عند العلماء، لتأكد حق الآدمي، وبه يتحقق أيضاً حق الله تعالى. ثانياً ـ إسقاط الحدود بالتوبة: إذا تاب العصاة ما عدا المحاربين من شاربي الخمر والزناة والسراق، فلا يسقط الحد عند الحنفية والمالكية والشافعية في الأظهر عندهم، وذلك سواء بعد رفع الأمر إلى الحاكم أو قبله؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلم لم يسقط الحد عن ماعز، حينما جاءه، وأقر بالزنى، ولا شك أنه لم يأت، إلا وهو تائب، ونحوه من الحدود، فإنه لم يرد نص في إسقاط الحد عن هؤلاء. واستثنى الكاساني في البدائع حد السرقة العادية، فإنه يسقط بتوبة السارق قبل أن يظفر الحاكم به، وبشرط رد المال إلى صاحبه. وقال ابن عابدين: الظاهر أن
التوبة لا تسقط الحد الثابت عند الحاكم بعد الرفع إليه. أما قبله فيسقط الحد بالتوبة حتى في قطاع الطرق، سواء أكان قبل جنايتهم أم بعدها. وقال أحمد في أظهر الروايتين عنه: التوبة تسقط الحد عنهم من غير اشتراط مضي الزمان، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» (¬1) وقوله عليه الصلاة والسلام: «التوبة تجبُّ ما قبلها» (¬2)، ولأن في إسقاط الحد ترغيباً في التوبة، وذلك ما عدا حد القذف، فإنه لا يسقط لأنه حق آدمي. وبه يظهر أنه ليس هناك إجماع ـ كما زعم بعضهم ـ على أن التوبة لا تسقط الحد في الدنيا. أما حد المحاربة: فلا خلاف بين العلماء كما تقدم: أن قطاع الطرق إن تابوا قبل القدرة عليهم، فتسقط عنهم حدود الله تعالى، لقوله سبحانه في آية المحاربين: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم، فاعلموا أن الله غفور رحيم} (¬3) [المائدة:34/ 5]. ¬
هل تقبل شهادة المحدود بالقذف إذا تاب؟
وقد رأى الشافعية أن الحدود إذا أقيمت في الدنيا، لم تقم في الآخرة لحديث: «الله أعدل من أن يثني على عبده العقوبة في الآخرة» (¬1)، ولقوله عليه الصلاة والسلام: «الحدود كفارات لأهلها» (¬2). ويسقط حد تارك الصلاة وحد الردة بالتوبة الصادقة النصوح. هل تقبل شهادة المحدود بالقذف إذا تاب؟ اختلف الحنفية والجمهور فيه، فقال الحنفية: لا تقبل شهادة المحدود في القذف أبداً، وإن تاب وأصلح، ومن هنا كانت التوبة عندهم بالنسبة إليه عملاً قلبياً بين العبد وربه، ليس من الضروري اطلاعنا عليه؛ لأنه ليس هناك حكم عملي يترتب على هذه التوبة. وقال الجمهور: إذا تاب المحدود في القذف قبلت شهادته، وتوبة القاذف: إكذابه نفسه. وفسره الإصطخري من أصحاب الشافعي بأن يقول: كذبت فيما أقول، فلا أعود إلى مثله. وقال أبو إسحاق المروزي من أصحاب الشافعي: لا ¬
يقول: كذبت؛ لأنه ربما يكون صادقاً، فيكون قوله: «كذبت» كذباً، والكذب معصية، والإتيان بالمعصية لا يكون توبة عن معصية أخرى، بل يقول: القذف باطل، وندمت على ما قلت ورجعت عنه، ولا أعود إليه. والسبب في أن الشافعي شرط في توبة القاذف التلفظ باللسان، مع أن التوبة من عمل القلب: أنه رتب عليها حكماً شرعياً: وهو قبول شهادة المحدود إذا تاب، فلا بد من أن يعلم الحاكم بتوبته حتى يقبل شهادته. ومنشأ الخلاف بين الحنفية والجمهور: خلافهم في رجوع الاستثناء الوارد في قوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات، ثم لم يأتوا بأربعة شهداء، فاجلدوهم ثمانين جلدة، ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً، وأولئك هم الفاسقون. إلا الذين تابوا} [النور:4/ 24 - 5] هل يرجع إلى جميع الجُمَل التي سبقت، فيرتفع رد الشهادة، كما ارتفع الفسق، أو يرجع إلى الجملة الأخيرة وهي الفسق. والخلاف راجع إلى مسألة أصولية مشهورة وهي: هل الاستثناء عقب الجمل المتعاطفة يعود للجميع أو يعود للجملة الأخيرة؟ قال الحنفية: لا تقبل شهادة المحدود في القذف أبداً، لاختصاص الاستثناء بالجملة الأخيرة؛ لأنها جملة مستأنفة بصيغة الإخبار، منقطعة عما قبلها جيء بها لدفع ما عساه يخطر بالبال من أن القذف لا يصلح أن يكون سبباً لهذه العقوبة. ونوقش قولهم بأن العلة في هذه العقوبة هو فسقهم، والفسق علة في رد الشهادة، فإذا ارتفع الفسق بالتوبة، فيلزم منه ارتفاع رد الشهادة الذي هو معلوله؛ لأن الحكم يزول بزوال علته. وقال الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة: تقبل شهادة المحدود في القذف بالتوبة؛ لأن الاستثناء يرجع إلى الجمل الثلاث المتعاطفة بالواو، فيرتفع رد
هل التوبة مسقطة للقصاص والدية؟
الشهادة كما ارتفع الفسق بالتوبة. لكن لم يسقط الحد بالتوبة، للإجماع على أنه لا يسقط بالتوبة، لما فيه من حق العبد أو الآدمي، فلا يسقط باستيفائه، لا لخلل في اقتضاء صيغة الاستثناء التي أعقبت الجمل السابقة أن تعم كل الجمل، فبقي الاستثناء في ظاهره عائداً إلى رد الشهادة والتفسيق، وهذا ما قرره الزمخشري، وهو رأي أكثر التابعين وفقهاء الأمصار غير الحنفية (¬1). واختلف الفقهاء في وقت رد شهادة القاذف، فقال أبو حنيفة ومالك: لا ترد شهادته إلا بعد جلده، لأن الواو وإن لم تقتض الترتيب، لكن الظاهر من الترتيب في الذكر أنه على وفق الترتيب في الحكم. وقال الشافعي: لا يتوقف رد الشهادة على حد القذف؛ لأن ظاهر الآية أنه متى قذف وعجز عن البينة استحق العقوبات الثلاث: الحد، ورد الشهادة، والتفسيق. هل التوبة مسقطة للقصاص والدية؟ إذا ثبت القتل وجب على القاتل إما القصاص، وإما الدية. ولا يسقط القصاص إلا بعفو أولياء المقتول على أن يأخذوا الدية أو بدون شيء، فلا يسقط القصاص أو الدية إذن بالتوبة لتعلق الحق الشخصي به لأولياء الدم. وبناء عليه لا تصح توبة القاتل حتى يسلِّم نفسه للقود (القصاص) أو يؤدي الدية حين العفو، أو حالة القتل الخطأ. وتوبة القاتل لا تكون بالاستغفار والندامة فقط، بل تتوقف على إرضاء أولياء المقتول، فإن كان القتل عمداً لا بد من أن يمكنهم من القصاص منه، فإن شاؤوا قتلوه، وإن شاؤوا عفوا عنه مجاناً، فإن عفوا عنه كفته التوبة. وبالعفو عنه يبرأ من العقوبة الدنيوية. ¬
هل يبرأ فيما بينه وبين الله تعالى؟
وهل يبرأ فيما بينه وبين الله تعالى؟ استظهر ابن عابدين أن الظلم المتقدم لا يسقط بالتوبة لتعلق حق المقتول به، فيخاصم القاتل يوم القيامة. وأما ظلم القاتل لنفسه بإقدامه على المعصية، فيسقط بالتوبة (¬1). وقال الإمام النووي وأكثر العلماء: إن ظواهر الشرع تقتضي سقوط المطالبة في الآخرة بالعقوبة عن القاتل إذا تاب. فقد دلت أحاديث نبوية على أنه لايطالب، من أشهرها الحديث المروي في الصحيحين الذي ذكر فيه توبة القاتل مئة نفس في الأمم السابقة، وقبول الله توبته (¬2). إسقاط التعازير بالتوبة: بمناسبة بحث أثر التوبة في العقوبات المقدرة (الحدود والقصاص) يحسن الكلام عن أثر التوبة أيضاً على العقوبات غير المقدرة وهي التعازير. يظهر مما ذكره الفقهاء في إسقاط الحدود بالتوبة ضرورة التفرقة في التعزيرات بين حقوق الله وحقوق الأفراد (¬3)؛ لأن ضابط التعزير: هو كل من ارتكب منكراً أو آذى غيره بغير حق بقول أو فعل أو إشارة. فقد يكون التعزير حقاً لله، أو حقاً للإنسان، أو يشترك فيه الحقان وأحدهما غالب على الآخر. فإن كان التعزير حقاً خالصاً للإنسان، أو الغالب فيه حقه كالشتم والسب ¬
والمواثبة والضرب بغير حق، والتزوير وشهادة الزور ونحوها مما يتوقف على الادعاء الشخصي، فلا يسقط بالتوبة، كما لا يسقط بعفو القاضي، إلا أن يصفح المعتدى عليه. وأما إن كان التعزير حقاً لله تعالى كتعزير مفطر رمضان عمداً بدون عذر، وتارك الصلاة، وآكل الربا ظاهراً، ومن يحضر موائد الخمر ومجالس الفسق، أو كان حق الله فيه غالباً كمباشرة امرأة أجنبية فيما دون الجماع، كتقبيل وعناق وخلوة بها ونحوها، فيسقط بالتوبة، كما يسقط بعفو القاضي. وهذا التفصيل في الواقع هو رأي الحنفية والشافعية. ولكن وردت عبارات لبعض الفقهاء يفهم منها بعمومها أن التعزير مطلقاً يسقط بالتوبة باتفاق الفقهاء. قال القرافي المالكي: إن التعزير يسقط بالتوبة، ما علمت في ذلك خلافاً (¬1). وقال صاحب البحر الزخار الزيدي: يسقط التعزير بالتوبة، ويقرب أنه إجماع المسلمين الآن، لكثرة الإساءات فيما بينهم، ولم يعلم أن أحداً طلب تعزير من اعتذر إليه واستغفر، ولامن أقر بأنه قارف ذنباً خفيفاً، ثم تاب منه، ولاستلزامه تعزير أكثر الفضلاء، إذ لم يخل أكثرهم عن مقارفة ذنب، وظهوره في فعل أو قول (¬2). ولعل المراد من هذه العبارات: التعزير الواجب حقاً لله تعالى؛ لأن الخلاف بين التعزير والحد هو في حقوق الله تعالى. أما الحقوق الشخصية فلا تسقط إلا ¬
ثالثا ـ هل الحدود زواجر أو جوابر؟
بمسامحة أو إسقاط أصحابها كما هو معروف، فقد قرر الفقهاء أن حقوق الآدميين لا تسقط بالتوبة ما لم ترد المظالم لأصحابها، كما أنه لا يغفرها الباري سبحانه إلا بمغفرة صاحبها، ولا يسقطها إلا بإسقاطه (¬1). وسيأتي مزيد بيان لموضوع إسقاط العقوبات بالتوبة. ثالثاً ـ هل الحدود زواجر أو جوابر؟ إن المقصود من مشروعية الحدود والتعزيرات هو زجر الناس وردعهم عن ارتكاب المحظورات وترك المأمورات، دفعاً للفساد في الأرض ومنعاً من إلحاق الضرر بالأفراد والمجتمعات (¬2). ولكن الفقهاء اختلفوا في أمر آخر: وهو أنه، هل تتكرر العقوبة على الجاني في الآخرة، مع أن العقوبة استوفيت منه في الدنيا؟ قال الحنفية: إن الحدود والتعزيرات شرعت فقط زجراً لأرباب المعاصي من إفساد العلاقات الزوجية، وإضاعة الأنساب، وإتلاف الأعراض والأموال والعقول والنفوس، ولا يحصل التطهر من الذنب في الآخرة إلا بتوبة الجاني. واستدلوا بعموم آيات العقاب التي تدل على أن المذنب يستحق العقاب في النار، مثل قوله تعالى: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها} [النساء:93/ 4] ومثل قوله سبحانه في قطاع الطرق بعد أن ذكر عقابهم المعروف: {ذلك لهم خزيٌ في الدنيا، ولهم في الآخرة عذابٌ عظيمٌ} [المائدة:33/ 5] فقد أخبر ¬
قاعدة الزواجر والجوابر في الشريعة
الله تعالى أن لهم عقوبة دنيوية، وعقوبة أخروية إلا من تاب، فإن التوبة تسقط عنه العقوبة الأخروية (¬1). وقال أكثر العلماء: إن العقوبات الشرعية فضلاً عن أنها أصلاً للزجر في الدنيا، تعتبر تبعاً بالنسبة للمسلم جوابر لسقوط عقوبتها في الآخرة، إذا استوفيت في الدنيا، وفي الكافر زواجر، فإذا نفذت العقوبة على المسلم في الدنيا، فذلك يقيه عذاب الآخرة، فيكون الهدف منها مزدوجاً، للحديث السابق: «الله أعدل من أن يثني على عبده العقوبة في الآخرة ... » وفي رواية له: «من أذنب فعوقب به في الدنيا لم يعاقب به في الآخرة ... » ولقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: «كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في مجلس، فقال: تبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاً، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، فمن وفَّى منكم فأجره على الله، ومن أصاب شيئآً من ذلك، فعوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب شيئاً من ذلك، فستره الله عليه فأمره إلى الله: إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه» (¬2). قاعدة الزواجر والجوابر في الشريعة: قال العز بن عبد السلام والقرافي وصاحب تهذيب الفروق (¬3): الجوابر: ¬
مشروعة لجلب مافات من المصالح. والزواجر مشروعة لدرء المفاسد. والغرض من الجوابر: جبر ما فات من مصالح حقوق الله، وحقوق عباده. ولا يشترط أن يكون من وجب عليه الجبر آثماً. ويفرق بينهما من أربعة وجوه: 1ً - إن الزواجر مشروعة لدرء المفاسد المتوقعة. والجوابر مشروعة لاستدراك المصالح الفائتة. 2ً - إن معظم الزواجر مقررة على العصاة، زجراً لهم عن المعصية، وزجراً لمن يقدم بعدهم على المعصية. وقد تكون مع عدم العصيان، كما في تأديب الصبيان والمجانين، فإنا نزجرهم ونؤدبهم، لا لعصيانهم، بل لدرء مفاسدهم واستصلاحهم. وكقتال البغاة درءاً لتفريق الكلمة، مع عدم التأثيم؛ لأنهم متأولون. ومعظم الجوابر تقرر على من لا يكون آثماً، بدليل أنه شرع الجبر في حالات الخطأ والعمد والجهل والعلم والنسيان والتذكر، وعلى المجانين والصبيان، بخلاف الزواجر، فإن معظمها لا يجب إلا على عاص زجراً له عن المعصية. 3ً - إن معظم الزواجر إما حدود مقدرة، وإما تعزيرات غير مقدرة، فهي ليست فعلاً للمزجورين، بل يفعلها الأئمة بهم، وإنما الجوابر فعل لمن خوطب بها. وقد اختلف في بعض الكفارات: هل هي زواجر، لما فيها من مشاق تحمل الأموال وغيرها، أو هي جوابر؛ لأنها عبادات لا تصح إلا بنيات، وليس التقرب إلى الله تعالى زجراً، بخلاف الحدود والتعزيرات، فإنها ليست قربات؛ لأنها ليست فعلاً للمزجورين كما علم. والظاهر أنها جوابر؛ لأنها عبادات وقربات لاتصح إلا بالنية.
جوابر العبادات
4ً - إن الجوابر تقع في النفوس والأعضاء ومنافع الأعضاء والجراح والعبادات والأموال والمنافع، بخلاف الزواجر، فإنها إنما تقع في الجنايات والمخالفات، ففي بداية المجتهد لابن رشد (¬1): الجنايات التي لها حدود مشروعة خمس: أحدها: جنايات على الأبدان أو النفوس والأعضاء، وهو المسمى قتلاً وجرحاً. وثانيها: جنايات على الفروج وهو المسمى زناً وسفاحاً. وثالثها: جنايات على الأموال، وهذه ما كان منها مأخوذاً بحراب سمي حرابة إذا كان بغير تأويل، وإن كان بتأويل سمي بغياً. وما كان منها مأخوذاً على وجه المغافصة (¬2) من حرز يسمى سرقة. وما كان منها مأخوذاً بعلو مرتبة وقوة سلطان سمي غصباً. ورابعها: جناية على الأعراض، وهو المسمى قذفاً. وخامسها: جنايات بالتعدي على استباحة ما حرمه الشرع من المأكول والمشروب. وهذه إنما يوجد فيها حد في هذه الشريعة في الخمر فقط، وهو حد متفق عليه بعد صاحب الشرع صلوات الله وسلامه عليه. وأمثلة الجوابر فيما ذكر هي ما يأتي: أما جوابر العبادات: فمثل التيمم مع الوضوء، وسجود السهو للسنن، وجبر ما فات مصلي النوافل من الاتجاه نحو القبلة بالاتجاه جهة السفر أثناء ¬
جوابر المال
الصلاة، واتجاه الخائف في صلاة الخوف جهة العدو إذا ألجأته الضرورة إلى ذلك، وجبر الصوم بالفدية بمد من الطعام في حق الشيخ الكبير، وجبر ارتكاب محظور من محظورات الحج والعمرة بالصيام، والإطعام، وذبح شاة (وهو النسك). ويلاحظ أن الصلاة لا تجبر إلا بعمل بدني. والأموال لا تجبر إلا بجابر مالي، والحج والعمرة يجبران تارة بعمل بدني كالصيام، وتارة يجبران بجابر مالي كذبح النسك والإطعام، والصوم تارة يجبر بمثله في حق من مات وعليه صيام، وتارة يجبر بالمال كالفدية للشيخ الكبير. وأما جوابر المال: فالأصل رد الحقوق بأعيانها عند الإمكان، فإذا ردها كاملة الأوصاف برئ من عهدتها، وإن ردها ناقصة الأوصاف، جبر أوصافها بالقيمة؛ لأن الأوصاف ليست من الأموال المثلية. وأما المنافع فنوعان: أحدهما ـ منفعة محرمة كمنافع الملاهي والفروج المحرمة واللمس والمس والتقبيل والضم المحرم، فلا تجبر احتقاراً لها، كما لا تجبر الأعيان النجسة لحقارتها. والثاني ـ أن تكون المنفعة مباحة متقومة، فتجبر في العقود الفاسدة والصحيحة وفي حالة التلف في يد معتاد عليها كالغاصب؛ لأن الشرع قد قومها ونزلها منزلة الأموال، فلا فرق بين جبرها بالعقود كالإيجارات، وجبرها بالتلف والإتلاف ومنع صاحبها عن الانتفاع بها؛ لأن المنافع هي الغرض الأظهر من جميع الأموال، فمن غصب قرية أو داراً ضمن قيمة منفعتها طوال مدة الغصب، ولا تضمن منافع المغصوب عند الحنفية، إلا مال اليتيم ومال الوقف والأموال المعدة للاستغلال في رأي المتأخرين من الحنفية.
النفوس، والأعضاء، ومنافع الأعضاء، والجراح
وأما النفوس، والأعضاء، ومنافع الأعضاء، والجراح: فما رتبه الشارع عليها من ديات أو كفارات أو حكومة عدل (تعويض الجروح بحسب تقدير القاضي) فجوابر. وما رتبه الشارع عليها من قصاص أو ضرب أو سجن أو تأديب فزواجر. مبدأ الستر والشفاعة في الحدود: يستحب الستر مطلقاً على مرتكب المعصية الموجبة للحد قبل الرفع إلى الإمام (¬1)، لحديث أبي هريرة عند الترمذي والحاكم: «ومن ستر على مسلم ستره الله في الدنيا والآخرة» وحديث ابن عباس مرفوعاً عند ابن ماجه: «من ستر عورة أخيه المسلم، ستر الله عورته يوم القيامة، ومن كشف عورة أخيه كشف الله عورته حتى يفضحه في بيته» وستأتي أدلة أخرى في بحث الشهادة. وتحرم الشفاعة وقبولها في حدود الله بعد أن تبلغ الحاكم (¬2)، أما قبل ذلك فإنه جائز؛ لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من حالت شفاعته دون حد من حدود الله، فهو مضادٌ الله في أمره» (¬3) وقوله صلّى الله عليه وسلم أيضاً: «حد يعمل به في الأرض خير لأهل الأرض من أن يُمطروا أربعين صباحاً» (¬4) وقد أنكر النبي صلّى الله عليه وسلم على من شفع في حد ونهاه عن ذلك، قالت عائشة: «كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي صلّى الله عليه وسلم بقطع يدها، فأتى أهلها أسامة بن زيد، فكلَّموه، فكلَّم النبي صلّى الله عليه وسلم فيها، فقال له ¬
النبي صلّى الله عليه وسلم: يا أسامة لا أُراك تشفع في حد من حدود الله عز وجل، ثم قام النبي صلّى الله عليه وسلم خطيباً، فقال: إنما هلك من كان قبلكم بأنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه، والذي نفسي بيده، لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها، فقطع يد المخزومية» (¬1). ¬
نظام التوبة وأثره في العقوبات
نظام التوبة وأثره في العقوبات خطة البحث المطلب الأول ـ نظام التوبة: أولاً: الباعث على التوبة. ثانياً: تعريف التوبة. ثالثاً: شروط التوبة. رابعاً: حكم التوبة شرعاً. أـ وجوب التوبة فوراً. ب ـ ما تجب التوبة عنه ووقت قبولها. جـ ـ الوعد المضمون الحصول بقبول التوبة. د ـ المشيئة الإلهية وحرية الاختيار في مغفرة الذنوب. خامساً: التوبة والعقوبة. أـ نوعا الجزاء أو العقوبة في الإسلام. ب ـ الهدف من العقوبة. جـ ـ الحاجة إلى العقوبة. د ـ فلسفة التوبة أو هل تؤثر التوبة على المصلحة المقصودة من العقاب.
هـ ـ المعاصي التي يتاب منها، وكيفية التوبة عنها. التقسيم الأول ـ تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر. التقسيم الثاني ـ تقسيم الذنب إلى ما يتعلق بحق الله أو بحق العباد. المطلب الثاني ـ أثر التوبة الصادقة في الجزاءات أو العقوبات الأخروية: 1 - توبة الكافر. 2 - توبة المنافق. 3 - توبة الزنديق. 4 - توبة المبتدع. المطلب الثالث ـ أثر التوبة في الجزاءات أو العقوبات الدنيوية: تمهيد في أنوع العقوبات. أولاً: آراء الفقهاء في إسقاط الحدود بالتوبة. عقوبة الردة والبغي عقوبة القذف. الحقوق الشخصية للناس. عقوبة الزنا والسرقة وشرب الخمر.
المطلب الأول ـ نظام التوبة
ثانياً: هل التوبة مسقطة للقصاص والدية؟. ثالثاً: إسقاط التعازير بالتوبة. خاتمة. المطلب الأول ـ نظام التوبة: أولاً- الباعث على التوبة: الإنسان في أصل فطرته ـ وإن كان ميالاً إلى الشر واقتراف الذنوب والمعاصي لكنه كثيراً ما يدرك خطورة انحرافه وشذوذ سلوكه، فيبادر إلى تصحيح مسيرته إرضاء لشعوره الداخلي، وإحساساً بمرارة الألم والضيق الذي يعقب الفعل الجانح واستجابة لنداء الضمير وندماً على التورط في المعصية، وتأثراً بالوازع الديني الفطري المستقر في النفس الإنسانية، وطمعاً في نيل العفو من الله تعالى، وخوفاً من عقاب السلطة الحاكمة في عالم الدنيا. والتخلص من الخطيئة بالتوبة دليل على قوة الإرادة وبعد النظر وسعة الأفق العقلي. وذلك بسبب قوة تأثير المغريات والشهوات الباعثة على الانحراف، لاسيما إذا اعتادها الإنسان، والعادة طبيعة ثانية، وفي نزع الناس عن عاداتهم حرج عظيم، ولأن الإنسان عادة يتعجل الأمور، وقلما ينتظر المؤجل، إلا بشيء من الأناة والصبر والفهم والتخطيط، لذا لفت القرآن الكريم نظر الناس لطبائعهم، فقال تعالى: {كلاّ بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة} [القيامة:20/ 75 - 21] {بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى} [الأعلى:87/ 16 - 17].
ثانيا - تعريف التوبة
ثانياً - تعريف التوبة: التوبة: عبارة عن ندم يورث عزماً وقصداً على عدم العود أو تكرار الخطيئة (¬1). وتتحقق بأن يرجع الخاطئ عن الفعل القبيح شرعاً وعقلاً، أو عن الإخلال بالواجب في الحال، ويندم على ما مضى، ويعزم على تركه في المستقبل (¬2)، قال عليه الصلاة والسلام: «الندم توبة» (¬3). والحقيقة أن التوبة لغة هي الرجوع، ولا يلزم أن تكون عن ذنب. وشرعاً: هي الرجوع عن التعويج إلى سنن الطريق المستقيم (¬4). وأما الندم والعزم فهما من مقومات الرجوع الصحيح الذي يعد إقلاعاً صادقاً عن المعاصي. ولا بد من أن يكون الباعث على الرجوع مع الندم والعزم دينياً أو شخصياً أمراً ذاتياً بحتاً مع القدرة والإرادة، فلو رجع لسبب آخر من ضعف بدن أو غرامة مالية أو تهديد بحبس أو إكراه من الدولة، لم تكن التوبة محققة نتائجها الدينية المرجوة، وأخصها تكفير الخطايا في عالم الآخرة، وإن حققت نتيجة مدنية تهتم السلطة بها ألا وهو قمع الإجرام وتوفير الأمن والطمأنينة والاستقرار. ثالثاً- شروط التوبة: اشترط العلماء (¬5) لصحة التوبة شروطاً معينة تختلف بحسب كون ¬
حقوق الله تعالى
المعصية بين الإنسان وبين الله تعالى، أو تتعلق بحقوق الناس. فإن كانت المعصية تمس أمراً بين الإنسان وربه، ولا تتعلق بحق شخصي لإنسان آخر، أي في حقوق الله تعالى فلها ثلاثة شروط: أحدها ـ الإقلاع عن المعصية في الحال. ثانيها ـ الندم على المعصية والمخالفة. ثالثها ـ العزم على ألا يعود إلى مثل تلك المعصية أبداً في المستقبل. فالتوبة ذات أركان ثلاثة: الإقلاع، والندم، والعزم، فإن فقدت أحد هذه الأركان الثلاثة لم تصح التوبة. إلا أن من عجز عن العزم والإقلاع كتوبة الأعمى عن النظر إلى المحرم، وتوبة المجبوب عن الزنا، فتوبته مجرد الندم، لأن (الميسور لا يسقط بالمعسور): أي لا يسقط المقدور عليه بالمعجوز عنه، كما لا يسقط ما قدر عليه من أركان الصلاة مثلاً بما عجز عنه، عملاً بقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم (¬1)» أي إذا أمرتكم بمأمور تأتوا من ذلك المأمور ما استطعتموه أو ما قدرتم عليه. وإن كانت المعصية تتعلق ب حق شخصي لإنسان، فشروطها أربعة وهي الثلاثة السابقة، ويضاف إليها الخروج من المظالم بأن يبرأ العاصي من حق صاحبها، فإن كانت المعصية أخذ مال أو نحوه بدون حق رده إليه، وإن كان الفعل قذفاً ونحوه مكن المقذوف منه أو طلب عفوه. وإن كان غيبة استحله منها وطلب مسامحته عن طعنه فيه في غيبته. ¬
رابعا - حكم التوبة شرعا
وأكمل أنواع التوبة ما حدده علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وذلك فيما روى جابر أن أعرابياً دخل مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقال: اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك، وكبر، فلما فرغ من صلاته قال له علي كرم الله وجهه: إن سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين، وتوبتك تحتاج إلى التوبة، فقال: يا أمير المؤمنين، ما التوبة؟ قال: «اسم يقع على ستة معان: على الماضي من الذنوب الندامة، ولتضيع الفرائض الإعادة، ورد المظالم، وإذابة النفس في الطاعة كما ربيتها في المعاصي، وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية، والبكاء بدل كل ضحك ضحكته» (¬1). والتوبة المستوفية كامل شرائطها هي التوبة النصوح المشار إليها في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً} [التحريم:8/ 66]. {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى} [طه:82/ 20]. واختلاف العلماء في تحديد هذه التوبة النصوح على ثلاثة وعشرين قولاً مجرد اختلاف ظاهري في العبارة، من هذه الأقوال ما قال القرطبي: التوبة النصوح يجمعها أربعة أشياء: الاستغفار باللسان، والإقلاع بالأبدان، وإضمار ترك العود بالجنان ومهاجرة سيء الخلاّن (¬2). رابعاً - حكم التوبة شرعاً: 1) ـ وجوب التوبة فورا ً: اتفقت مصادر الشريعة في القرآن والسنة وإجماع الأمة على وجوب المبادرة إلى التوبة فور وقوع الخطيئة، فمن أخرها زماناً صار عاصياً بتأخيرها (¬3) وذلك ¬
حتى يتحقق المقصود الأكمل منها بالتخلص من الأوزار، والظفر بمغفرة الله تعالى في الآخرة، والرضا عن الإنسان في الدنيا، ولتطهير المجتمع من الجرائم، ومنع الاسترسال في الانحراف كيلا تتجدد ظروف العود أو التكرار مرة أخرى في المستقبل، وغير ذلك من وجوه المصلحة المترتبة على التوبة التي يمكن فهمها من الحث المتكرر عليها في القرآن والأحاديث النبوية: فمن آيات القرآن الكريم قوله تعالى: {وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون} [النور:31/ 24] {وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعاً حسناً} [هود:3/ 11] {يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً} [التحريم:8/ 66] {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة، ثم يتوبون من قريب} [النساء:17/ 4] {فإن يتوبوا يك خيراً لهم} [التوبة:74/ 9] {ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه، ثم يستغفر الله، يجد الله غفوراً رحيماً} [النساء:110/ 4]. ومن الأحاديث النبوية المؤكدة للقرآن أو المبينة الموضحة لبعض أحكامه قوله صلّى الله عليه وسلم: «والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» (¬1) «يا أيها الناس توبوا إلى الله، واستغفروه فإني أتوب في اليوم مئة مرة» (¬2) وقد استنبط العلماء من هذين الحديثين أنه يستحب للتائب إذا ذكر ذنبه الذي تاب منه أن يجدد الندم على فعله، والعزم على ترك العود إلى مثله، بل ولا يلزم أن تكون التوبة عن ذنب كما ذكرت سابقاً، فلا يعني الحديثان إذن أن النبي صلّى الله عليه وسلم يذنب في كل يوم سبعين مرة أو مئة مرة، بل معناه تجديد التوبة وتكريرها عن ذنب واحد صغير (¬3) ¬
2) ـ ما تجب التوبة عنه ووقت قبولها
الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع للخطيب الشربيني: 131/ 2. واستعظام التقصير أو التفريط، أو ارتكاب أي خطيئة مهما صغرت، تشريعاً وتعليماً للأمة وإرشاداً للناس وفتحاً لباب التوبة للأمة، كل على قدر منزلته، وعلو رتبته، ومدى مسؤوليته العامة أو الخاصة. أما النبي صلّى الله عليه وسلم فقد تاب الله عليه من أي شيء. ومن الأحاديث المرغبة في التوبة أيضاً: «لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره، وقد أضله في أرض فلاة» (¬1). 2) ـ ما تجب التوبة عنه ووقت قبولها: تجب التوبة من جميع الذنوب أو المعاصي، فإن تاب المرء من بعضها صحت توبته عند أهل السنة من ذلك الذنب وبقي عليه الباقي (¬2). والمقصود بالذنب: كل ما هو مخالف لأمر الله تعالى في ترك أو فعل (¬3). ومما يدل على جواز التوبة عن أي مخالفة لأحكام الإسلام قوله تعالى: {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ... } [النساء:17/ 4] فإنه يعم الكفر وسائر المعاصي، فكل من عصى ربه، فهو جاهل حتى ينزع أو يقلع عن معصيته، قال قتادة: أجمع أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم على أن كل معصية فهي بجهالة عمداً كانت أو جهلاً (¬4). وإيجاب التوبة على الفور هو الأصل المبدئي العام، ومع ذلك يمكن قبول التوبة طوال حياة الإنسان تفضلاً من الله ورحمة، وتيسيراً وسماحة، وفتحاً لباب ¬
الأمل. وإبعاداً لليأس والقنوط عن النفس، إذ «كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون» (¬1). ويرشد لذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» (¬2) أي ما لم تبلغ روحه الحلقوم. وفسر عكرمة قوله تعالى: {ثم يتوبون من قريب} [النساء:17/ 4] بأن الدنيا كلها قريب. وقال الضحاك: كل ما كان قبل الموت فهو قريب (¬3) وفي حديث آخر: «ما من عبد مؤمن يتوب قبل الموت بشهر إلا قبل الله منه أدنى من ذلك، وقبل موته بيوم وساعة، ويعلم الله منه التوبة والإخلاص إليه، إلا قبل منه» (¬4). قال العلماء: إنما صحت التوبة قبل الموت ولو بيوم، لأن الرجاء بإصلاح الإنسان باق، ويصح منه الندم والعزم على ترك الفعل القبيح (¬5). أما من صار في حال اليأس من الحياة، كفرعون الذي آمن حينما صار في غمرة الماء والغرق، فلا تنفعه التوبة، أو إظهار الإيمان في ذلك الوقت؛ لأنها حال زوال التكليف الشرعي، قال الله تعالى عن قصة فرعون: {وجاوزنا ببني إسرائيل البحر، فأتبعهم فرعون وجنوده بغياً وعدْواً، حتى إذا أدركه الغرق، قال: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين، آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين} [يونس:90/ 10 - 91]. ويؤكد ذلك آية أخرى في موضوعها وهي: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت، قال: إني تبت الآن، ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذاباً أليماً} [النساء:18/ 4]. ¬
3) ـ الوعد المضمون الحصول بقبول التوبة
دلت الآيتان على عدم قبول التوبة حال اليأس من الحياة، وهو رأي ابن عباس وابن زيد وجمهور المفسرين (¬1)، لكن قال جماعة من الحنفية: توبة اليأس مقبولة دون إيمان اليأس؛ لقوله تعالى: {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده} [الشورى:25/ 42] (¬2). وقال الشيخ محمد عبده: المراد بالزمن القريب: الوقت الذي تسكن فيه ثورة الشهوة النفسية، أو تنكسر به سورة الغضب، ويثوب إلى فاعل السيئة حلمه، ويرجع إليه دينه وعقله. فالظاهر من آية {من قريب} [النساء:17/ 4] أنها بينت الوقت الذي تقبل فيه التوبة من كل مذنب حتماً. وأما الآية التالية لها: {وليست التوبة} [النساء:18/ 4] فإنها بينت الوقت الذي لا تقبل فيه توبة مذنب قط، وما بين الوقتين مسكوت عنه، وهو محل الرجاء والخوف، فكلما قرب وقت التوبة من وقت اقتراف الذنب، كان الرجاء أقوى، وكلما بعد الوقت بالإصرار وعدم المبالاة والتسويف كان الخوف من عدم القبول هو الأرجح (¬3). 3) ـ الوعد المضمون الحصول بقبول التوبة: وعد الله سبحانه وتعالى المغفرة لمن اجتنب الذنوب الكبائر، فقال: {إن تجتنبوا كبائر ما تُنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} [النساء:31/ 4] أي إذا اجتنبتم كبائر الآثام التي نهيتم عنها كفرنا عنكم صغائر الذنوب، وأدخلناكم الجنة، جزاء على الامتناع عن الكبائر، والصبر عنها، والحث على الدوام أوالبقاء على طريق الاستقامة. فهذا إخبار من الله سبحانه، وهو الصادق في وعده بأنه يقبل التوبة عن ¬
4) ـ المشيئة الإلهية وحرية الاختيار في مغفرة الذنوب
العاصين من عباده. ومثله قوله تعالى: {ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده} [التوبة:104/ 9] وقوله {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى} [طه:82/ 20]. قال القرطبي: فإخباره سبحانه وتعالى عن أشياء أوجبها على نفسه يقتضي وجوب تلك الأشياء. والعقيدة: أنه لا يجب عليه شيء عقلاً، فأما السمع فظاهره قبول توبة التائب، والخلاصة: إن الآيات تتضمن وعداً من الله، ولا خُلْف في وعده أنه يقبل التوبة إذا كانت بشروطها المصححة لها، وهي الأربعة السابق ذكرها. وأما العقل فلا يوجب قبول التوبة على الله خلافاً للمعتزلة، لأن من شرط الموجب أن يكون أعلى رتبة من الموجب عليه، والحق سبحانه خالق الخلق، ومالكهم والمكلف لهم، فلا يصح أن يوصف بوجوب شيء عليه، تعالى عن ذلك (¬1). 4) ـ المشيئة الإلهية وحرية الاختيار في مغفرة الذنوب: قد يعفو الله عن السيئات صغيرها وكبيرها من غير اشتراط شيء كالتوبة من الكبائر واجتناب الصغائر. لقوله تعالى: {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون} [الشورى:25/ 42]. أي يقبل الله التوبة في المستقبل ويعفو عن السيئات في الماضي مطلقاً، سواء الصغائر والكبائر لمن يشاء (¬2) ومشيئة الله: موافقة لحكمته، وجارية على مقتضى سننه. ¬
الإضرار بحقوق الناس المالية والأدبية
وجاءت آية أخرى تستثني الشرك بالله مما يغفره الله تعالى ويراد بالشرك مطلق الكفر الشامل لكفر اليهود وغيرهم. وذلك لأنه تتولد منه سائر الرذائل التي تهدم الأفراد والجماعات، قال عز وجل: {إن الله لا يغفر أن يُشرَك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء:48/ 4]. أي إن مغفرة المعاصي لا لكل الناس، ولكن لمن يشاء الله من عباده الموفقين للإيمان والتوبة والعمل الصالح (¬1). {إن الحسنات يذهبن السيئات} [هود:114/ 11]. {قل يا عباديَ الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعاً} [الزمر:53/ 39]. أي إن رأي جماعة من العلماء تقييد المغفرة في هذه الآيات بشرط التوبة، حتى لا يفهم من القرآن الإغراء بالمعصية والتجرئة عليها. والحقيقة أن الآية فوق ذلك، فهي تقارن بين الشرك وغيره، فالشرك معاقب عليه حتماً لإفساده النفوس البشرية، وأما ما عداه فمغفرته ممكنة بحسب المشيئة الإلهية، لأنه لا يصل إلى درجة الشرك في إفساد النفس (¬2). والكلمة الأخيرة في قضية تكفير السيئات وعدم المؤاخذة عليها في الآخرة هي أنها تتعلق بمقاصد النفس وقوة الإيمان وسلطانه في القلب. وهذا رأي الغزالي (¬3) وتبعه الأستاذ الإمام محمد عبده (¬4)، فمن صح إيمانه واتجه قصده وإرادته إلى كف النفس عن المعاصي استحق المغفرة والرضوان. وأما الإضرار بحقوق الناس المالية والأدبية فهو يعتبر كالشرك بالله لا يقبل ¬
خامسا - التوبة والعقوبة
المغفرة ما لم يسقط صاحبه حقه الشخصي، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «الدواوين عند الله ثلاثة: ديوان لا يعبأ الله به شيئاً، وديوان لا يترك الله منه شيئاً، وديوان لا يغفره الله، فأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك بالله، قال الله عز وجل: {إن الله لا يغفر أن يشرك به} [النساء:48/ 4] وقال: {إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة} [المائدة:72/ 5] وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئاً فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين الله من صوم تركه، أوصلاة، فإن الله لا يغفر ذلك ويتجاوز إن شاء. وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئاً فظلم العباد بعضهم بعضاً، القصاص لا محالة» (¬1). خامسا ً - التوبة والعقوبة: 1) ـ نوعا الجزاء أو العقوبة في الإسلام: من المعلوم أن الشريعة الإسلامية تقرر نوعين من العقاب على الجرائم: وهما عقاب دنيوي وعقاب أخروى. فالعقاب الدنيوي: هو الذي تطبقه السلطة الزمنية الحاكمة في الدنيا. والعقاب الأخروي: هو الذي يوقعه الله تعالى على العاصي في عالم الآخرة كالتعذيب في النار ونحوه. والجنايات الموجبة للعقوبة الدنيوية المحددة هي - كما تقدم - ثلاث عشرة: وهي القتل، والجرح، والزنى، والقذف، وشرب الخمر، والسرقة، والبغي، والحرابة (قطع الطريق)، والردة، والزندقة، وسب الله وسب الأنبياء والملائكة، وعمل السحر، وترك الصلاة والصيام (¬2). ¬
2) ـ الهدف من العقوبة
والسبب في تنوع العقاب في الإسلام هو الحماية الفعلية للأنظمة والأخلاق والفضائل وقمع الرذائل والقضاء عليها. فمن أفلت من عقاب الحاكم الزمني غفلة منه، أو تحايلاً عليه أو لعدم توافر وسائل الإثبات المطلوبة، أو لم يكن لجريمته عقاب مقرر في القوانين المطبقة كالكذب وخلف الوعد والحقد والحسد والغيبة والنميمة ونحوها، عوقب على مخالفاته في عالم الآخرة بين يدي أحكم الحاكمين الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء. كما أن الجزاء الأخروي يمتاز بمكافأة الصالحين على فعل الخير تشجيعاً للفضيلة وحثاً على الاستقامة وصلاح الأعمال في الدنيا. والتوبة النصوح قد تساعد على تطبيق العقوبة في الدنيا بالإقرار بالجريمة أمام القاضي، وقد تسقط الجزاء الأخروي فتساهم في إصلاح المجرم، وإنقاذه من الزلات والأخطاء التي ارتكبها، وتجعله في عداد الصالحين، فيتحقق تلقائياً أو بصفة ذاتية الهدف الجوهري من تشريع العقوبات الزاجرة. 2) ـ الهدف من العقوبة: يلتقي الفقه الإسلامي كأساس عام مع أفضل المبادئ والنظم التي توصلت إليها المدرستان التقليدية والوضعية لتحديد أساس حق العقاب ووظائف العقوبة قانوناً. ففي مواجهة المدرسة التقليدية التي تقيم حق العقاب على أساس منفعة الصالح الاجتماعي عن طريق المنع أو الوقاية في المستقبل، نرى فقهاءنا يقررون أن أساس أو مناط العقوبات المقررة شرعاً هو مصلحة الناس العامة وسعادتهم (¬1)،فكل ما يحقق مصالح البشرية فهو مشروع مطلوب؛ لأن المقصود ¬
الأصلي من مشروعية الحدود والتعزيرات هوزجر الناس وردعهم عن ارتكاب المحظورات وترك المأمورات دفعاً للفساد في الأرض، ومنعاً من إلحاق الضرر بالأفراد والمجتمعات (¬1). قال ابن عابدين: إن مدار الشريعة بعد قواعد الإيمان على حسم مواد الفساد لبقاء العالم (¬2). ومن حرص الشريعة على تحقيق المصلحة في العقاب: أنها تمنع كل الوسائل التي تؤدي إلى الإجرام كتناول المسكرات والمخدرات، بل واعتبرتها جرائم في ذاتها (¬3) وتطبيقات مبدأ (سد الذرائع) تؤكد ذلك، فالفاحشة مثلاً حرام، والنظر إلى عورة الأجنبية حرام، لأنها تؤدي إلى الفاحشة. ثم إنه في مواجهة المدرسة التقليدية الجديدة التي تقول: إن أساس حق العقاب هو العدالة المطلقة مجردة عن فكرة المنفعة، يقرر فقهائنا ضرورة وجود تناسب بين الجريمة وعقوبة التعزير. ولكن دون فصل لمبدأ العدالة عن مراعاة المصلحة. وإنما يستهدف العقاب تحقيق العدالة وحماية المصالح الاجتماعية الثابتة. وفي مواجهة المدرسة الوضعية التي تتفق مع المدرسة التقليدية من حيث ارتكازها على المبدأ النفعي، وتطالب بالعناية بشخص المجرم لتقدير درجة خطورته ومدى قابليته للإصلاح، نرى فقهاءنا يقررون ذلك صراحة عند تقدير القاضي العقوبات التعزيرية لأكثر الجرائم الواقعة، وذلك على قدر الجناية وعلى قدر مراتب الجاني. كما أن فقهاءنا يتميزون أساساً سواء في الحدود والتعزيرات بفتح ¬
3) ـ الحاجة إلى العقوبة
باب التوبة عن المخالفات، ليبادر الجاني إلى إصلاح نفسه إصلاحاً ذاتياً صادراً عن اقتناع واختيار وحرية فكرية. 3) ـ الحاجة إلى العقوبة: في كل إنسان نزعتا الخير والشر، وبما أن الخير سبيل الإصلاح والتقدم والسعادة وجب تقوية دوافع الخير في الإنسان، وإضعاف عوامل الشر في نفسه، فكان لا بد من تشريع العقاب الزاجر، لأنه يساعد في مقاومة الميل إلى الشر، ويرغب في الخير. وحينئذ يعتبر تطبيق العقوبة على الجناة محققاً لمبدأ الرحمة العامة، والرحمة العامة في الحقيقة: هي العدل، والعدالة الحقيقية هي الرحمة الحقيقية، ويعني ذلك أن الرحمة والعدالة في الشريعة متلازمتان (¬1)، فليست الرحمة فوق العدل، ولا العدل فوق الرحمة أو القانون، بدليل صريح القرآن الكر يم: {وربك الغفور ذو الرحمة، لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب، بل لهم موعدٌ لن يجدوا من دونه موئلاً} [الكهف:58/ 18]. فإذا كانت العدالة تقتضي تعجيل العقوبة في الدنيا، فإن الرحمة تستدعي تأخيرها فتحاً لباب الأمل والتوبة والعدول عن المخالفة أمام كل إنسان في الحياة، وبذلك تكون التوبة أثراً من آثار الرحمة الواجب مراعاتها في تشريع العقاب مع مراعاة العدالة، وهذا هو جوهر رسالة الإسلام. قال الله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء:107/ 21] قال ابن القيم «إن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها وحكمة كلها» (¬2). ¬
4) ـ فلسفة التوبة أو هل تؤثر التوبة على المصلحة المقصودة من العقاب؟
وقال ابن تيمية: «من رحمة الله سبحانه وتعالى أن شرع العقوبات في الجنايات الواقعة بين الناس بعضهم على بعض في النفوس والأبدان والأعراض والأموال والقتل والجراح والقذف والسرقة، فأحكم سبحانه وتعالى وجوه الزجر الرادعة عن هذه الجنايات غاية الإحكام؛ وشرعها على أكمل الوجوه، المتضمنة لمصلحة الردع والزجر، مع عدم المجاوزة لما يستحقه الجاني من الردع» (¬1). واستعرض العز بن عبد السلام مفاسد الجرائم التي شرعت عنها الزواجر من الحدود والتعزيرات بعبارة دقيقة البيان عميقة التحليل (¬2). وقال الشاطبي في الموافقات: «إن أحكام الشريعة ماشرعت إلا لمصلحة الناس، وحيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله» ...... 4) ـ فلسفة التوبة أو هل تؤثر التوبة على المصلحة المقصودة من العقاب؟. إن الشريعة الإسلامية ـ كما هو معروف ـ تستهدف في أحكامها حماية مصالح الدنيا، وحفظ مقاصد الآخرة، بل إن الدنيا في الحقيقة مزرعة الآخرة، كما ورد في الأثر. وبناء على هذا فلا يتصور أن تكون التوبة سبباً في ضياع مصلحة الجماعة في تطبيق العقوبة، ولا وسيلة تؤدي إلى الإغراء بالمعاصي والتجرئة عليها أو تسهيل ارتكابها، وإنما على العكس تكون التوبة الصادقة مساعدة على استئصال شأفة الجريمة، لأنه إذا كانت الغاية الأولى للعقاب هي إصلاح المجرم، فإن التوبة أقوى تأثيراً في تحقيق تلك الغاية لصدروها عن باعث ذاتي واقتناع داخلي. فهي إذن تفتح باب الأمل أمام المخطئين، وتدفعهم إلى معترك الحياة بروح إيجابية جديدة وحيوية وفعالية منتجة. ¬
5) ـ المعاصي التي يتاب منها وكيفية التوبة عنها
ثم إن دور التوبة مقصور ـ باتفاق الفقهاء كما سأبين ـ على الحالة التي لم تعرض فيها قضية الجريمة على محاكم القضاء، وفي حقوق المجتمع المحضة (أي حق الله بتعبير فقهائنا) فإن عرضت القضية على الحاكم لم يكن للتوبة تأثير في إسقاط العقوبة. وإن مست الجريمة حقاً شخصياً للفرد لم يَقبَل الحد (أي العقوبة المقدرة شرعاً) الإسقاط أيضاً بالتوبة ولا بغيرها كالإبراء والعفو والتنازل والصلح والمعاوضة. 5) ـ المعاصي التي يتاب منها وكيفية التوبة عنها: يتناول هذا الموضوع أمرين: تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر، وتقسيم الذنوب إلى ما يكون حقاً لله أو للآدميين. التقسيم الأول - تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر: كل معصية في الإسلام تصح التوبة عنها، سواء أكانت من الكبائر أم من الصغائر، ابتداء من جريمة الكفر أو الشرك بالله إلى أدنى المحظورات. والمراد من الصغائر: هي التي تحصل لظرف طارئ كثورة أو غضب، أو نزوة طائشة، ثم يعقبها تأنيب وندم يمحو صفة الإصرار (¬1). كالنظر إلى ما لا يحل النظر إليه من المرأة الأجنبية (أي التي لا قرابة محرمية منها)، وضرب الخادم بدون ذنب، وسماع الملاهي والأوتار، واللعب بالنرد، ومجالسة شاربي الخمر والفساق والخلوة بالمرأة الأجنبية. واختلفت عبارات العلماء في تحديد الكبائر: ¬
فقال ابن عمر: كل ما نهي عنه فهو كبيرة. وقال صحابي آخر: كل ما وعد الله عليه بالنار فهو كبيرة. وقال بعض السلف: كل ما أوجب عليه الحد في الدنيا فهو كبيرة (¬1). وأما غير الصحابة فقال الذهبي: الكبائر: كل ما نهى الله ورسوله عنه في الكتاب والسنة والأثر عن السلف الصالحين (¬2). وذكر في كتابه (الكبائر) سبعين كبيرة، من أهمها: الشرك بالله وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والسحر، وأكل الربا، وأكل ما ل اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات (¬3)، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور، والظلم، والغدر، وعدم الوفاء بالعهد، واليمين الغموس (وهي الكاذبة قصداً وعمداً) والرشوة، والقمار، والزنا، والسرقة، وشرب الخمر، والغصب، وإيذاء الناس وشتمهم. وذكر المفسرون في تفسير المعصية الكبيرة آراء أهمها أربعة (¬4): أحدها: إنها المعصية الموجبة للحد. والثاني: إنها المعصية التي يلحق صاحبها الوعيد الشديد بنص كتاب أو سنة. والثالث: قال إمام الحرمين وغيره: كل جريمة تنبئ بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة فهي مبطلة للعدالة. ¬
التقسيم الثاني - تقسيم الذنوب إلى ما يتعلق بحق الله أو بحق العباد
والرابع: ذكر القاضي أبو سعيد الهروي: إن الكبيرة: كل فعل نص الكتاب على تحريمه، وكل معصية توجب في جنسها حداً من قتل أو غيره. وترك كل فريضة مأمور بها على الفور، والكذب في الشهادة والرواية واليمين. وإذا كان القول الثاني هو لأكثر المفسرين، فإن الرأي الثالث هو أولى الآراء بالقبول؛ لأن الغزالي اعتمده، واستحسنه الرازي (¬1). فالكبيرة إذن: هي كل ما يشعر بالاستهانة بالدين وعدم الاكتراث به (¬2). التقسيم الثاني - تقسيم الذنوب إلى ما يتعلق بحق الله أو بحق العباد (¬3): تنقسم الذنوب إلى مايكون بين العبد وبين الله تعالى، وإلى ما يتعلق بحقوق الأشخاص (¬4). ¬
فأما ما يتعلق بحق الله تعالى: فهو كترك الصلاة والصوم. والتوبة لا تصح منه، حتى ينضم إلى الندم قضاء ما فات منها. وأما ما يتعلق بحقوق العباد: فهو كترك الزكاة وقتل النفس وغصب الأموال وشتم الأعراض، والتوبة منه تكون برد الحق لصاحبه. ففي حال التفريط بالزكاة يجب القضاء. وفي القتل تكون التوبة بالتمكين من القصاص إن كان عليه، وكان مطلوباً منه قضاء. وفي القذف ببذل ظهره للجلد إن كان مطالباً به. فإن عفي عنه أو عن القتل مجاناً كفاه الندم والعزم على ترك العود بالإخلاص. فإن عفي عن القتل بمال فعليه أداؤه إن كان واجداً له، قال الله تعالى: {فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان} [البقرة:178/ 2]. وكذلك شراب الخمر والسراق والزناة إذا أصلحوا وتابوا سقط الحد عنهم في رأي بعض العلماء كما سيأتي تفصيل الكلام فيه. وإن كان الذنب من مصالح العباد، فلا تصح التوبة عنه إلا برده إلى صاحبه والخروج عنه ـ عيناً كان أو غيره ـ إن كان قادراً عليه. فإن لم يكن قادراً فالعزم أن يؤديه إذا قدر في أعجل وقت وأسرعه. وإن كان العاصي أضر بآخر فإنه يزيل ذلك الضرر عنه، ثم يطلب منه العفو والاستغفار له، فإذا عفا عنه، سقط الذنب عنه. وإن أساء رجل إلى آخر بأن فزَّعه بغير حق، أو غمه، أو لطمه، أو صفعه بغير حق أو ضربه بسوط فآلمه، أو شانه بشتم لا حد فيه ثم ندم واستعفى من المضرور، وعزم على ألا يعود فعفا عنه صاحب الحق، سقط عنه ذلك الذنب.
المطلب الثاني - أثر التوبة الصادقة في الجزاءات أو العقوبات الأخروية
المطلب الثاني - أثر التوبة الصادقة في الجزاءات أو العقوبات الأخروية: يترتب على التوبة النصوح ـ كما ذكر ـ إسقاط عقوبة المعصية قطعاً فيما بين التائب وبين الله تعالى، لأن التوبة تسقط أثر المعصية (¬1)، ولو كانت أعظم الجرائم التي هي الكفر أو الشرك بالله، لأنه يغفر كل ذنب للتائب إلا إذا أصر عليه فلا يغفر (¬2)، قال الله تعالى: {غافر الذنب وقابل التوب} [غافر:3/ 40] وقال سبحانه: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يُغفر لهم ما قد سلف، وإن يعودوا، فقد مضت سنة الأولين} [الأنفال:8/ 38] {إن الله يغفر الذنوب جميعاً} [الزمر:53/ 39]: أي بشرط التوبة في رأي الزمخشري وغيره. روى مسلم من حديث عمرو بن العاص، قال: لما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلّى الله عليه وسلم، قلت: ابسط يدك أبايعك فبسط يمينه، فقبضت يدي، فقال: (مالك؟) قلت: أردت أن اشترط، قال: «تشترط بماذا؟» قلت: أن يغفر لي، قال: «أما علمت يا عمرو أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله». ويؤيد ذلك أحاديث نبوية كثيرة منها: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» (¬3) «لو أخطأتم حتى تبلغ السماء، ثم تبتم لتاب الله عليكم» (¬4) «والذي نفسي بيده لو ¬
1 - توبة الكافر
لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله، فيغفر لهم» (¬1) «التوبة تجب ما قبلها» (¬2). وسأذكر هنا نموذجاً من توبة العصاة: 1 - توبة الكافر: الكفر أو الشرك إما في الألوهية أو في الربوبية، فالشرك في الألوهية: هو الشعور بسلطة وتأثير وراء الأسباب والسنن الكونية لغير الله تعالى، وكل قول وعمل ينشأ عن ذلك الشعور. والشرك في الربوبية: هو الأخذ بشيء من أحكام الدين والحلال والحرام عن بعض البشر دون الوحي (¬3). وتوبة المشرك أو الكفر تكون بإعلان الإسلام والإقرار بتوحيد الإله (توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية) سواء أقدر عليه الحاكم أم لم يقدر عليه، لأن عدم القدرة ليست مشترطة في توبة الكفار. والتوحيد الذي يناقض الشرك: هو عبارة عن إعتاق الإنسان من رق العبودية لكل أحد من البشر وكل شيء من الأشياء السماوية والأرضية، وجعله حراً كريماً عزيزاً لا يخضع خضوع عبودية مطلقة إلا لمن خضعت لسنته الكائنات، بما أقامه فيها من النظام في ربط الأسباب بالمسببات، فلسنته الحكيمة يخضع، ولشريعته العادلة المنزلة يتبع. وإنما خضوعه هذا لعقله ووجدانه، لا لأمثاله في البشرية وأقرانه (¬4). وتقبل توبة الكافر اتفاقاً ترغيباً في الإسلام (¬5) ولقوله تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال:38/ 8]. ¬
2 - توبة المنافق
2 - توبة المنافق: النفاق: إظهار الإيمان باللسان، وكتمان الكفر بالقلب (¬1) والمنافق وهو الذي يبطن الكفر ويظهر الإسلام أشد خطراً على المسلمين من الكفار، لأنه يكتم الكفر والكيد للمسلمين ويتربص الدوائر بهم، ويرتكب السيئات بباعث النفاق الظاهر والخبث الباطن، فاستحق العذاب مرتين، وكان في الدرك الأسفل من النار. وتوبة المنافق تكون بتزكية نفسه ومجاهدتها بقدر الاستطاعة والطاقة، وطلب العفو عما لا طاقة له به، وترك الكفر ظاهراً أو باطناً، وإعلانهم الإيمان بالله ورسوله. ويمكن قبول توبة المنافق لقوله تعالى {ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفوراً رحيماً} [الأحزاب:24/ 33] {وآخرون اعترفوا بذنوبهم} ... {عسى الله أن يتوب عليهم} [التوبة:102/ 9] {وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم، وإما يتوب عليهم} [التوبة:106/ 9]. 3 - توبة الزنديق: الزنادقة هم الدهريون الذين ينكرون وجود الإله ويزعمون أن العالم وجد مصادفة (¬2). وقال المالكية: الزنديق هو الذي يظهر الإسلام ويسرّ الكفر (¬3). وقال الحنفية: الزنديق: هو من لا يتدين بدين (¬4). ¬
4 - توبة المبتدع
واختلف العلماء في توبة الزنديق، فقال العترة من الزيدية، وأبو حنيفة ومحمد والشافعي: تقبل توبة الزنادقة ولا يقتلون؛ لعموم قوله تعالى: {قل للذين كفروا: إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال:38/ 8]. وقال مالك وأبو يوسف والجصاص: لا تقبل توبتهم، فإذا عثر على الزنديق قتل ولا يستتاب، ولا يقبل منه ادعاء التوبة إذ يعرف منه عادة التظاهر بالتوبة تقيه، بخلاف ما يبطنه، واستثنى الإمام مالك من جاء تائباً قبل ظهور زندقته فتقبل توبته (¬1). والمفتى به في مذهب الحنفية أن الزنديق إذا أخذ قبل توبته ثم تاب لم تقبل توبته ويقتل، ولو أخذ بعدها قبلت (¬2). قال صاحب البحر الزخار الزيدي: لكن الأقرب العمل بالظاهر، وإن التبس الباطن لقوله صلّى الله عليه وسلم لمن استأذنه في قتل منافق: «أليس يشهد أن لا إله إلا الله» (¬3). 4 - توبة المبتدع: المبتدع: هو الذي أحدث شيئاً في الإسلام ليس منه، ولم يكن عليه الصحابة والتابعون ولم يكن مما اقتضاه الدليل الشرعي. أو هو كل من قال قولاً خالف فيه اعتقاد أهل السنة والجماعة (¬4). فإذا كان ببدعته منكراً لما علم بالتواتر والضرورة (أي البداهة) من الشريعة، فهذا كافر ببدعته، كالمجسمة أو المشبهة، الذين شبهوا معبودهم بإنسان له جسم محدود بسبعة أشبار بشبر نفسه، أو الذين ألهوا أحداً من البشر. ¬
وأما إن كان المبتدع لا يكفر ببدعته، فهو ضال فاسق كأهل البدع والأهواء المخالفين لأهل السنة أو سيرة السلف الصلاح في بعض المسائل الاعتقادية، مثل القدَرية القائلين بخلق الإنسان أفعال نفسه، والخوارج الذين كفروا علياً ومعاوية وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم من الصحابة. وتوبة المبتدع تكون بالتخلص من بدعته والتزام العقيدة الحقة، ولا مانع من قبول توبته وإن كان كافراً، لأن العقل يجوز ذلك، وظاهر الشرع وعموم الآيات القرآنية يدل على إمكان قبول توبة الكفار والمشركين (¬1). والخلاصة: إن قبول التوبة في عالم الآخرة مشروط بعدم الإصرار على المعصية، وعدم التلاعب بالإسلام. وعدم البقاء على الكفر قبل الموت وذلك هو ما يشير إليه القرآن الكريم في الآيات الثلاث الآتية: 1 - {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله، ولم يصروا على ما فعلوا، وهم يعلمون} [آل عمران:135/ 3]. 2 - {إن الذين آمنوا ثم كفروا، ثم آمنوا ثم كفروا، ثم ازدادوا كفراً لم يكن الله ليغفر لهم، ولا ليهديهم سبيلاً} [النساء:4/ 137]. {إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً لن تقبل توبتهم} [آل عمران:90/ 3]. 3 - {إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار، فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به} [آل عمران:91/ 3] و [البقرة:161/ 2]. ¬
المطلب الثالث - أثر التوبة في الجزاءات أو العقوبات الدنيوية
المطلب الثالث - أثر التوبة في الجزاءات أو العقوبات الدنيوية: تمهيد في أنواع العقوبات: العقوبات الدنيوية بحسب نوع المصلحة المقصودة منها ثلاثة أنواع وهي (¬1): 1 - الحدود: وهي العقوبات المقدرة شرعاً الواجبة حقاً لله تعالى في الشريعة، أي التي تستوجبها المصلحة العامة: وهي دفع الفساد عن الناس، وتحقيق الصيانة والسلامة لهم. وتطبق على جرائم سبعة: الزنا، القذف، شرب المسكرات، السرقة، الحرابة، الردة، البغي. 2 - القصاص والدية: أما القصاص فهو معاقبة الجاني على جريمة القتل أو القطع أو الجراح عمداً بمثلها. وأما الدية فهي العوض المالي الواجب دفعه بدل النفس. وقد شرع القصاص مراعاة للحقين: حق الجماعة العام في أصل العقاب، وحق المجني عليه الخاص في نوع العقاب. 3 - التعازير: وهي العقوبة المشروعة على معصية أو جناية لا حد فيها ولا كفارة، سواء أكانت الجناية على حق الله تعالى، كالأكل في نهار رمضان وترك الصلاة، وطرح الأقذار في طريق الناس ونحو ذلك، أو على حق شخصي للعباد كأنواع السب والضرب والإيذاء بأي وجه، وغير ذلك من مختلف أنواع جرائم الاعتداء على الأموال والأنفس التي لا حد فيها. وتعدّ أغلب الجرائم التي نص عليها قانون العقوبات في مصر وسورية داخلة تحت عقوبات التعزير الشرعية، سواء أكانت جنايات وجنحاً مضرة بالمصلحة العامة، أو تحصل لآحاد الناس، أو كانت مخالفات عادية. ¬
أثر التوبات في هذه العقوبات
وأبحث هنا أثر التوبات في هذه العقوبات. أولاً - آراء الفقهاء في إسقاط الحدود بالتوبة: اتفق الفقهاء على أن الحدود إذا رفعت إلى ولي الأمر أو نائبه القاضي، ثم تاب المتهم عن جريمته بعد ذلك، لم يسقط الحد عنه، بل تجب إقامة الحد وإن تاب المجرم حينئذ، سواء أكان قاطع طريق أم لصاً أم زانياً أم قاذفاً وغيرهم، إذ لا يجوز تعطيل الحد، لا بعفو، ولا بشفاعة، ولا بهبة، ولا غير ذلك (¬1) لأن الجريمة تمس مصلحة الجماعة، والتصرف على الرعيةمنوط بالمصلحة العامة. ويرشد لذلك من السنة أن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يقبل العفو عن سارق رداء صفوان بن أمية، وقال لصفوان: «فهلا قبل أن تأتيني به؟» ثم قطع يده (¬2) يريد النبي صلّى الله عليه وسلم أنك لو عفوت عنه قبل أن تأتيني به لكان العفو سائغاً جائزاً. وذكر في الموطأ عن عثمان رضي الله عنه. أنه قال: «إذا بلغت الحدود السلطان فلعن الله الشافع والمشفع». وفي سنن أبي داود والنسائي عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب». واتفق الفقهاء أيضاً على قبول توبة المحارب (قاطع الطريق) قبل قدرة السلطان عليه: وهو أن يأتي إلى الحاكم عن طوع واختيار ويظهر التوبة عنده، ويسقط عنه الحبس، لأن الحبس للتوبة، وقد تاب فلا معنى للحبس (¬3). ودليلهم ¬
ما يسقط عنه بالتوبة
صريح قوله تعالى في حق المحاربين: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم، فاعلموا أن الله غفور رحيم} [المائدة:34/ 5]. ومفهوم الآية ألا يسقط عنه شيء بالتوبة بعد الظفر عليه، لأن الظاهر أن التوبة قبل ذلك توبة إخلاص، ولترغيبه في التوبة، وبعده الظاهر أنها تقيه من إقامة الحد عليه، ولا حاجة لترغيبه في التوبة؛ لأنه قد عجز عن الفساد والمحاربة. أما ما يسقط عنه بالتوبة: فاختلفوا فيه (¬1)، فقال فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والإمامية والزيدية في أرجح الآراء لديهم: تسقط بتوبة المحارب حقوق الله تعالى كحد الزنا واللواط والسرقة وشرب الخمر؛ لأنها حدود الله تعالى، فتسقط بالتوبة كحد المحاربة، ولأن في إسقاطها ترغيباً في التوبة. ولا تسقط عنه حقوق الناس الشخصية كحد القذف والقصاص وضمان الأموال، إذ لا دليل على إسقاطها. وهناك آراء أخرى، قال الهادي من الزيدية، والإباضية: يسقط عنه ما قد أتلف ولو حقاً لآدمي في نفس أو مال أو قتل، لعموم الآية: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} [المائدة:34/ 5]. وقال بعضهم: ترفع التوبة جميع حقوق الله، ولكن يؤاخذ بالدماء (أي جراح النفس من قتل وضرب وجرح) والأموال بما وجد بعينه في يده، ولا تتبع ذمته. وهو قول لمالك. ¬
عقوبة الردة والبغي
وبعضهم قال: إن التوبة تسقط جميع حقوق الله، وحقوق الآدميين من مال ودم، إلا ما كان من الأموال قائم العين بيده، وهو قول الليث بن سعد ورجحه ابن جرير الطبري (¬1). وشدد بعضهم وهو قول عند الشافعية وللإمام مالك. فقال: لا تسقط التوبة عن المحارب إلا حد الحرابة فقط، ويؤاخذ بما سوى ذلك من حقوق الله وحقوق الآدميين. عقوبة الردة والبغي: الردة: ترك الدين الإسلامي والخروج عليه بعد اعتناقه. والبغي: الخروج عن طاعة الحاكم بثورة مسلحة، أو الخروج على الإمام مغالبة. اتفق الفقهاء على إسقاط عقوبة الباغي (وهي القتل) بالتوبة؛ لأن القصد من عقابه توفير الطاعة والولاء والعدول عن البغي (¬2). كما أن عقوبة المرتد (وهي القتل ومصادرة ماله) تسقط أيضاً بالتوبة بأن يتبرأ عن الأديان كلها سوى الإسلام أو عما انتقل إليه من مذهب الكفر، لأن الغاية هي رجوعه إلى الإسلام، لذا استحب الحنفية استتابته وعرض الإسلام عليه قبل القتل، لاحتمال أن يسلم، وأوجب جمهور الفقهاء حصول الاستتابة قبل القتل ثلاث مرات (¬3)، فإن تاب قبلت توبته، وإن لم يتب وجب عليه القتل. ¬
عقوبة القذف
وأضاف الزيدية وأئمة المذاهب أن من تكرر منه الردة والإسلام حتى كثر فهو مقبول التوبة، لقوله تعالى: {يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال:38/ 8] ولم يفصل النص بين من تكرر منه ذلك أو لم يتكرر (¬1). ذكر النسائي عن ابن عباس قال: كان رجل من الأنصار أسلم، ثم ارتد ولحق بالمشركين ثم ندم فأرسل إلى قومه: سلوا لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم: هل لي من توبة؟ فجاء قومه إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقالوا: هل من توبة؟ فنزلت آيات من سورة آل عمران آخرها (¬2) {إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا، فإن الله غفور رحيم} قال ابن عباس: فأرسل إلى الرجل فأسلم. عقوبة القذف: اتفق العلماء على أن التوبة لا تسقط حد القذف، لأنه حق آدمي (¬3). الحقوق الشخصية للناس: يظهر مما سبق أن حقوق الآدميين لا تسقط بالتوبة ما لم ترد المظالم لأصحابها، كما أنه لا يغفرها الباري سبحانه إلا بمغفرة صاحبها، ولا يسقطها إلا بإسقاطه (¬4). عقوبة السرقة والزنا وشرب الخمر: اختلف الفقهاء في إسقاط عقوبات هذه الحدود بالتوبة على رأيين: ¬
الرأي الأول
الرأي الأول: قال الحنفية (¬1) والمالكية والشافعية والظاهرية والزيدية والإباضية في أرجح الآراء لديهم (¬2): إن التوبة لا تسقط سائر الحدود المختصة بالله تعالى كالزنا والسرقة وشرب الخمر، سواء بعد رفع الأمر الى الحاكم أو قبله واستدلوا بالأدلة الآية: 1 - عموم الآيات القرآنية التي تقرر عقوبة هؤلاء العصاة مثل قوله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} [النور:2/ 24] {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة:38/ 5] فكل نص منهما عام في التائبين وغيرهم، ولا يستثنى إلا حد الحرابة كما أبنت، وحد تارك الصلاة لو تاب سقط القتل قطعاً، ولو بعد رفعه إلى الحاكم؛ لأن عقابه على الإصرار على الترك لا على مجرد الترك في الماضي. وكذلك إذا زنى الكافر ثم أسلم يسقط عنه الحد. 2 - أقام النبي صلّى الله عليه وسلم الحد على من جاءه تائباً، إذ رجم ماعزاً والغامدية وقطع الذي أقر بالسرقة، وقد جاؤوا تائبين يطلبون التطهير بإقامة الحد، بدليل أن الرسول صلّى الله عليه وسلم سمى فعلهم توبة، فقال في حق المرأة: «لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم (¬3). وجاء عمرو بن سمرة إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إني سرقت جملاً لبني فلان، فطهرني فأقام الرسول الحد عليه. ¬
الرأي الثاني
3 - إن الحد كفارة، فلم يسقط بالتوبة ككفارة اليمين والقتل، ولو جاز إسقاط الحد بالتوبة، لتمكّن كل مجرم من إسقاط العقوبة عنه بادعاء التوبة، وفي ذلك تشجيع على الإجرام والفساد. 4 - لا تقاس الحدود على حد الحرابة لأن مرتكبها مقدور عليه، فلا تسقط التوبة عنه الحد المقرر، كالمحارب بعد القدرة عليه. الرأي الثاني: قال الحنابلة في الأرجح عندهم (¬1) والشيعة الإمامية (¬2) وبعض علماء الحنفية (¬3) والمالكية (¬4) والشافعية (¬5) والزيدية (¬6): إن التوبة تسقط حد الزنا والسرقة وشرب الخمر عن العصاة من غير اشتراط مضي زمان قبل رفع الأمر إلى الحاكم أو قبل القدرة عليهم أو قبل البينة وثبوت الحد عليهم، واستدلوا بما يأتي: ¬
1 - ثبت في صحيحي البخاري ومسلم من حديث أنس قال: «كنت مع النبي صلّى الله عليه وسلم فجاء رجل فقال: يا رسول الله، إني أصبت حداً فأقمه علي، قال: ولم يسأله عنه فحضرت الصلاة، فصلى مع النبي صلّى الله عليه وسلم، فلما قضى النبي صلّى الله عليه وسلم الصلاة، قام إليه الرجل، فأعاد قوله، قال: أليس قد صليت معنا؟ قال: نعم، قال: فإن الله عز وجل قد غفر لك ذنبك» ففي هذا دليل على أن التائب غفر الله له، ولم يكن بحاجة لإقامة الحد عليه مادام أنه اعترف به. 2 - قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» ومن لا ذنب له لا حد عليه. وقال في ما عز لما أخبر بهربه: «هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه؟» وإقامة الحد عليه بالرغم من توبته تجاوب مع ما اختاره بنفسه كما اختارته المرأة الغامدية، قال ابن تيمية: إن الحد مطهر، وإن التوبة مطهرة، وهما اختارا التطهير بالحد على التطهير بمجرد التوبة وأبيا إلا أن يطهرا بالحد، فأجابهما النبي صلّى الله عليه وسلم إلى ذلك (¬1). 3 - صرح القرآن الكريم بإسقاط حد الزنا بالتوبة في قوله تعالى: {واللذان يأتيانها منكم فآذوهما، فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما} [النساء:16/ 4] وبإسقاط حد السرقة أيضاً في قوله سبحانه: {فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح، فإن الله يتوب عليه} [المائدة:39/ 5]. 4 - لا فرق بين حد الحرابة وبقية الحدود، فإذا أسقطت التوبة حد الحرابة مع شدة ضررها وتعدي المحارب، فلأن تدفع التوبة ما دون حد الحراب بطريق الأولى والأحرى، وقد قال الله تعالى: {قل للذين كفروا: إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال:38/ 8]. ¬
ثانيا- هل التوبة مسقطة للقصاص والدية؟
قال ابن القيم: الله تعالى جعل الحدود عقوبة لأرباب الجرائم، ورفع العقوبة عن التائب شرعاً وقدراً، فليس في شرع الله ولا قدره عقوبة تائب البتة (¬1). والكلمة الأخيرة: إن ظواهر القرآن والسنة والعمل بمبدأ الستر في الإسلام تؤيد الرأي الثاني الذي يسقط الحدود بالتوبة إذا كانت خالصة لله تعالى، أي لمصلحة الجماعة، ولم تكن متعلقة بالحقوق الشخصية للناس. وليس في هذا الرأي إخلال بمصالح المجتمع؛ لأن التائب بتوبته يحقق المصلحة المنشودة، لا سيما إذا لا حظنا اشتراط كون التوبة صادقة نصوحاً. قال الحنابلة: إذا قلنا بسقوط الحد بالتوبة، فهل يسقط بمجرد التوبة أو بهما مع إصلاح العمل؟ فيه وجهان: أحدهما: يسقط بمجردها، وهو ظاهر قول أصحابنا، لأنها توبة مسقطة للحد فأشبهت توبة المحارب قبل القدرة عليه. والثاني: يعتبر إصلاح العمل، لقول الله تعالى: {فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما} [النساء:16/ 4] وقال: {فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه} [المائدة:39/ 5]. فعلى هذا القول: يعتبر مضي مدة يعلم بها صدق توبته وصلاح نيته، وليست مقدرة بمدة معلومة (¬2). ثانياً- هل التوبة مسقطة للقصاص والدية؟ إذا ثبت القتل وجب على القاتل: إما القصاص، وإما الدية، ولا يسقط القصاص إلا بعفو أولياء المقتول على أن يأخذوا الدية أو بدون شيء، فلا يسقط ¬
ثالثا ـ إسقاط التعازير بالتوبة
القصاص أو الدية إذن بالتوبة لتعلق الحق الشخصي به لأولياء الدم. وبناء عليه لا تصح توبة القاتل حتى يسلم نفسه للقود (القصاص)، أو يؤدي الدية حين العفو أو حالة القتل الخطأ. وتوبة القاتل لا تكون بالاستغفار والندامة فقط، بل يتوقف على إرضاء أولياء المقتول، فإن كان القتل عمداً لا بد من أن يمكنهم من القصاص منه، فإن شاؤوا قتلوه، وإن شاؤوا عفوا عنه مجاناً، فإن عفوا عنه كفته التوبة. وبالعفو عنه يبرأ من العقوبة الدنيوية. وهل يبرأ فيما بينه وبين الله تعالى؟. استظهر ابن عابدين أن الظلم المتقدم لا يسقط بالتوبة لتعلق حق المقتول به، فيخاصم القاتل يوم القيامة. وأما ظلم القاتل لنفسه بإقدامه على المعصية فيسقط بالتوبة (¬1). وقال الإمام النووي وأكثر العلماء: إن ظواهر الشرع تقتضي سقوط المطالبة في الآخرة بالعقوبة عن القاتل إذا تاب، فقد دلت أحاديث نبوية على أنه لا يطالب، من أشهرها الحديث المروي في الصحيحين الذي ذكر فيه توبة القاتل مئة نفس في الأمم السابقة، وقبول الله توبته (¬2). ثالثاً ـ إسقاط التعازير بالتوبة: يظهر مما ذكره الفقهاء في إسقاط الحدود بالتوبة ضرورة التفرقة في التعزيرات بين حقوق الله وحقوق الأفراد (¬3)، لأن ضابط التعزير هو: كل من ارتكب منكراً ¬
أو آذى غيره بغير حق بقول أو فعل أو إشارة. فقد يكون التعزير حقاً لله أو حقاً للفرد. ويشترك فيه الحقان وأحدهما غالب على الآخر. فإن كان التعزير حقاً خالصاً للفرد أو الغالب فيه حقه كالشتم والسب والمواثبة والضرب بغير حق والتزوير وشهادة الزور ونحوها مما يتوقف على الادعاء الشخصي، فلا يسقط بالتوبة كما لا يسقط بعفو القاضي، إلا أن يصفح المعتدى عليه. وأما إن كان التعزير حقاً لله تعالى كتعزير مفطر رمضان عمداً بدون عذر، وتارك الصلاة وأكل الربا ظاهراً، ومن يحضر موائد الخمر ومجالس الفسق أو كان حق الله فيه غالباً كمباشرة امرأة أجنبية فيما دون الجماع كتقبيل وعناق وخلوة بها ونحو ذلك، فيسقط بالتوبة، كما يسقط بعفو القاضي. وهذا التفصيل في الواقع هو رأي الحنفية والشافعية. ولكن وردت عبارات لبعض الفقهاء يفهم منها بعمومها أن التعزير مطلقاً يسقط بالتوبة باتفاق الفقهاء. قال القرافي: إن التعزير يسقط بالتوبة، ما علمت في ذلك خلافاً (¬1). وقال في البحر الزخار: يسقط التعزير بالتوبة، ويقرب أنه إجماع المسلمين الآن لكثرة الإساءات فيما بينهم، ولم يعلم أن أحداً طلب تعزير من اعتذر إليه واستغفر، ولا من أقر بأنه قارف ذنباً خفيفاً، ثم تاب منه، ولاستلزامه تعزير أكثر الفضلاء، إذ لم يخل أكثرهم عن مقارفة ذنب وظهوره في فعل أو قول (¬2). ولعل المراد من هذه العبارات التعزير الواجب حقاً لله تعالى، لأن الخلاف بين التعزير والحد هو في حقوق الله تعالى. ¬
خاتمة
.................... خاتمة ......................................... يتبين من هذا البحث أن للتوبة نظاماً دقيقاً في الشريعة الإسلامية، إذ إنه قد يُكشَف عن الجريمة، فيبادر الجاني إلى الإقرار بمعصيته أمام القاضي، وللقاضي حينئذ توقيع العقوبة عليه، كما فعل الرسول صلّى الله عليه وسلم فيمن أقر بالزنا أمامه، وهو رأي ابن تيمية وابن القيم. وقد تساعد التوبة على التقليل من الجرائم بإصلاح الجاني من نفسه ورده الحقوق لأصحابها بدافع ذاتي واقتناع داخلي، إذا توافرت شرائط التوبة الشرعية، فكانت توبة صادقة نصوحاً. ثم إنه قد تكون التوبة دليلاً على تحقيق الولاء والطاعة السياسية فتحقن دماء كثيرة، ولا تهدر الكرامة الإنسانية في سبيل دعم الحكم، فتتخلص الأمة من شر كبير وفساد عظيم وقعت به في الماضي حين قام بعض الحكام بالبطش بخصومهم المعارضين لسياستهم، كما يظهر في توبة البغاة والخوارج وقطاع الطرق. وقد تكون التوبة أيضاً سبيلاً سهلاً لتوفير احترام العقيدة والنظام الإسلامي، كما في توبة المنافقين والمرتدين والزنادقة. لهذا كله أقِرّ الرأي القائل بإسقاط الحدود والتعزيرات بالتوبة إذا كانت الجريمة ماسة بمصلحة المجتمع (حق الله) ما لم يرفع في شأنها دعوى إلى القضاء، أما إذا كانت الجريمة متعلقة بحق شخصي (حق الفرد) أو رفع في شأنها دعوى إلى القضاء، فمن العدل والمنطق ألا تسقط التوبة العقوبة إطفاء لنار الفتنة. ودفعاً للضرر عن المجني عليه، وشفاء لألم المصاب، واستئصالاً للجريمة، فلا يتجرأ أحد على الاعتداء على حقوق الآخرين في نفس أو مال أو عرض.
وهذا هو رأي الحنابلة والشيعة الإمامية وبعض فقهاء المذاهب الأخرى في نطاق الحدود الثلاثة: (حد الزنا والسرقة وشرب الخمر)، وهو رأي الفقهاء عامة فيما يبدو بالنسبة للتعازير، وبقية الحدود الأخرى. وفي ذلك مصلحة للمؤمنين بشرائع الإسلام في وقت عطلت فيه الحدود الشرعية، ولم يبق أمام المؤمن الصادق سوى التوبة لتكفير خطاياه. والله الموفق والهادي إلى سواء الصراط، أخرج الترمذي عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: قال الله: «يا ابن آدم، إنك مادعوتني ورجوتني غفرت لك على ماكان منك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم، إنك لو لقيتني بقُراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لاتشرك بي شيئاً، لأتيتك بقُرابها مغفرة».
الفصل السادس: حد الردة وأحكام المرتدين
الفَصْلُ السّادس: حدّ الرِّدّة وأحكام المرتدّين الكلام هنا عن معنى الردة وشرائطها وأحكام المرتدين: حكم قتل المرتد، وحكم تملك أمواله وتصرفاته، وحكم ميراثه. معنى الردة: الردة لغة: الرجوع عن الشيء إلى غيره، وهي أفحش الكفر وأغلظه حكماً، ومحبطة للعمل إن اتصلت بالموت عند الشافعية، وبنفس الردة عند الحنفية، قال الله تعالى: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر، فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة، وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} [البقرة:217/ 2]. وهي شرعاً: الرجوع عن دين الإسلام إلى الكفر، سواء بالنية أو بالفعل المكفر أو بالقول، وسواء قاله استهزاءً أو عناداً أواعتقاداً. وعلى هذا فالمرتد: هو الراجع عن دين الإسلام إلى الكفر، مثل من أنكر وجود الصانع الخالق، أو نفى الرسل، أو كذب رسولاً، أو حلل حراماً بالإجماع كالزنا واللواط وشرب الخمر والظلم، أو حرم حلالاً بالإجماع كالبيع والنكاح، أو نفى وجوب مجمع عليه، كأنه نفى ركعة من الصلوات الخمس المفروضة، أو اعتقد وجوب ما ليس بواجب بالإجماع، كزيادة ركعة من الصلوات المفروضة، أو وجوب صوم شيء من شوال، أو عزم على الكفر غداً، أو تردد فيه.
للردة أسباب
ومثال الفعل المكفر: إلقاء مصحف أو كتاب حديث نبوي على قاذورة، وسجود لصنم أو شمس (¬1). والخلاصة: للردة أسباب ثلاثة كبرى وهي: 1 - إنكار حكم مجمع عليه في الإسلام، كإنكار وجوب الصلاة والصوم والزكاة والحج، وإنكار تحريم الخمر والربا وكون القرآن كلام الله. 2 - فعل بعض أفعال الكفار: كإلقاء مصحف في قاذورة متعمداً، وكذلك إلقاء كتب التفسير والحديث، وكالسجود لصنم وممارسة بعض عبادات الكفار أو خصائصهم في اللباس والشراب. 3 - التحلل من الإسلام بسب الإله أو سب نبي أو سب الدين، أو استباحة تعري المرأة ومنع الحجاب. المرتد والزنديق والسابّ والساحر: المرتد: هو المكلف الذي يرجع عن الإسلام طوعاً إما بتصريح بالكفر، أو بلفظ يقتضيه، أو بفعل يتضمنه. وأما الزنديق: فهو الذي يظهر الإسلام ويُسرّ الكفر. فإذا عثر عليه قتل ولا يستتاب، ولا يقبل قوله في ادعاء التوبة إلا إذا جاء تائباً قبل ظهور زندقته. وأما الساحر: فيقتل إذا عثر عليه كالكافر، واختلف في قبول توبته أم لا. وأما من سب الله تعالى أو النبي صلّى الله عليه وسلم أو أحداً من الملائكة أو الأنبياء، فإن كان ¬
شروط صحة الردة
مسلماً قتل اتفاقاً. واختلف هل يستتاب أو لا، المشهور عند المالكية عدم الاستتابة وإن كان كافراً، فإن سب بغير ما به كفر، فعليه القتل، وإلا فلا قتل عليه (¬1). شروط صحة الردة: اتفق العلماء على اشتراط شرطين لصحة الردة: الأول ـ العقل: فلا تصح ردة المجنون والصبي الذي لا يعقل؛ لأن العقل من شرائط الأهلية في الاعتقادات وغيرها. وأما السكران الذاهب العقل، فلا تصح ردته استحساناً عند الحنفية؛ لأن الأمر يتعلق بالاعتقاد والقصد، والسكران لا يصح عقده ولا قصده، فأشبه المعتوه، ولأنه زائل العقل فلم تصح ردته كالنائم، ولأنه غير مكلف، فلم تصح ردته كالمجنون (¬2). وقال الشافعية على المذهب عندهم، والحنابلة في أظهر الروايتين عن أحمد: تصح ردة السكران المتعدي بسكره، وإسلامه، كما يصح طلاقه وسائر تصرفاته، ولأن الصحابة أوجبوا عليه حد الفرية التي يأتي بها في سكره، وأقاموا مظنة الافتراء مقامه (¬3)، ولكن لا يقتل وهو سكران إن ارتد حتى يستتاب بعد بلوغ وصحو ثلاثة أيام. وأما البلوغ فليس بشرط عند أبي حنيفة ومحمد والمالكية والحنابلة، فتصح ردة الصبي المميز، لكن عند أبي حنيفة ومحمد: لا يقتل ولا يضرب، وإنما يعرض عليه الإسلام جبراً (¬4) عند البلوغ ويحبس ويضرب. وإذا ¬
حكم بصحة ردته بانت منه امرأته، ولا تطبق عليه العقوبات المقررة للمرتد؛ لأنه ليس أهلاً لالتزام العقوبات في الدنيا. وقال الشافعي وأبو يوسف: البلوغ شرط، فلا تصح ردة الصبي المميز، ولا المجنون لعدم تكليفهما، فلا اعتداد بقولهما واعتقادهما، أي لا يصح أيضاً عندهما إسلام الصبي، لحديث «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ ... » وقد رجع أبو حنيفة إلى رأي أبي يوسف كما في الفتح وغيره. وقال الجمهور غير الشافعية: يصح إسلام الصبي المميز لحديث: «كل مولود يولد على الفطرة .. » (¬1). ولقوله عليه الصلاة والسلام: «من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة» (¬2). والخلاصة: أنه يصح إسلام المميز وردته عند الجمهور، ولا يصح إسلامه ولا ردته عند الشافعية. وأرجح رأي الجمهور في قبول إسلام المميز بدليل إسلام سيدنا علي رضي الله عنه وهو صغير، والأولى الأخذ برأي الشافعي وأبي يوسف في عدم صحة ردة المميز؛ إذ لا تكليف قبل البلوغ. ¬
الشرط الثاني: الاختيار أو الطواعية
وأما الذكورة فليست بشرط اتفاقاً، فتصح ردة المرأة. الشرط الثاني: الاختيار أو الطواعية: فلا تصح ردة المكره اتفاقاً إذا كان قلبه مطمئناً بالإيمان، كما سبق ذكره في بحث الإكراه (¬1). أحكام المرتد: للمرتد أحكام منها: 1 - قتل المرتد: لا يقتل المرتد إلا إذا كان بالغاً عاقلاً، لم يتب من ردته، وثبتت ردته بإقرار أو شهادة. وقد اتفق العلماء على وجوب قتل المرتد، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه» (¬2) وقوله عليه السلام: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» (¬3). وأجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتد، وكذا تقتل المرأة المرتدة عند جمهور العلماء غير الحنفية، بدليل أن امرأة يقال لها: «أم مروان ارتدت عن الإسلام، فبلغ أمرها إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فأمر أن تستتاب، إن تابت وإلا قتلت» (¬4) وقد وقع في حديث معاذ: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم لما أرسله إلى اليمن، قال له: أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه، فإن عاد، وإلا فاضرب عنقه، وأيما امرأة ارتدت عن الإسلام، فادعها، فإن عادت، وإلا فاضرب عنقها» (¬5). قال الحافظ ابن حجر: «وإسناده حسن، وهو نص في موضوع النزاع، فيجب المصير إليه». ¬
الاستتابة قبل القتل
وقال الحنفية: لا تقتل المرأة المرتدة، ولكنها تجبر على الإسلام، وإجبارها يكون بالحبس إلى أن تسلم أو تموت؛ لأنها ارتكبت جرماً عظيماً، وتضرب في كل ثلاثة أيام مبالغة في الحمل على الإسلام، ولو قتلها قاتل لا يجب عليه شيء للشبهة. ودليلهم على عدم جواز قتل المرأة المرتدة هو قوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تقتلوا امرأة» وفي حديث صحيح آخر أن النبي عليه السلام نهى عن قتل النساء، ولأن القتل لدفع شر الحرابة لا بسبب الكفر، إذ جزاؤه أعظم من القتل عند الله تعالى، فيختص القتل لمن يتأتى منه المحاربة، وهو الرجل دون المرأة لعدم صلاحية بنيتها (¬1). أما الاستتابة قبل القتل: فيستحب عند الحنفية أن يستتاب المرتد ويعرض عليه الإسلام، لاحتمال أن يسلم، لكن لا يجب؛ لأن دعوة الإسلام قد بلغته، فإن أسلم فمرحباً به، وإن أبى نظر الإمام في شأنه: فإن تأمل توبته أو طلب هو التأجيل أجله ثلاثة أيام، فإن لم يتأمل توبته، أو لم يطلب هو التأجيل، قتله في الحال، بدليل ما روي عن سيدنا عمر رضي الله عنه: «أنه قدم على رجل من جيش المسلمين، فقال: هل عندكم من مُغربةِ خبر؟ قال: نعم، رجل كفر بالله تعالى بعد إسلامه، فقتلناه، فقال عمر: هلا حبستموه في بيت ثلاثة أيام، وأطعمتموه في كل يوم رغيفاً لعله يتوب، ثم قال: اللهم إني لم أحضر ولم آمر، ولم أرض» (¬2)، إلا أن الكمال بن الهمام قال: لكن ظاهر تبري عمر يقتضي الوجوب. وكيفية توبة ¬
2 - حكم مال المرتد وتصرفاته
المرتد: أن يتبرأ عن الأديان كلها سوى الإسلام، ولو تبرأ عما انتقل إليه كفاه، لحصول المقصود به، وتكون توبة المرتد وكل كافر بإتيانه بالشهادتين (¬1). وقال جمهور العلماء: تجب استتابة المرتد والمرتدة قبل قتلهما ثلاث مرات، بدليل حديث أم مروان السابق ذكره، وثبت عن عمر وجوب الاستتابة، ولا يعارض هذا: النهي عن قتل النساء الذي استدل به الحنفية، لأن ذلك محمول على الحربيات، وهذا محمول على المرتدات (¬2). والخلاصة: أنه يعرض الإسلام استحباباً عند الحنفية (¬3)، ووجوباً عند غيرهم على المرتد، فإن كانت له شبهة كشفت له، إذ الظاهر أنه لا يرتد إلا من له شبهة. ويحبس ثلاثة أيام ندباً عند الحنفية، ويعرض عليه الإسلام في كل يوم، فإن أسلم فبها، وإن لم يسلم قتل، لحديث: «من بدل دينه فاقتلوه» (¬4). ولا يقتل المرتد إلا الإمام أو نائبه، فإن قتله أحد بلا إذنهما، أساء وعزر، ولكن لا ضمان بقتله ولو كان القتل قبل استتابته، أو كان مميزاً، إلا أن يلحق بدار الحرب فلكل أحد قتله وأخذ مامعه. 2 - حكم مال المرتد وتصرفاته: لا خلاف في أن المرتد إذا أسلم تكون أمواله على حكم ملكه السابق، ولا خلاف أيضاً في أنه إذا مات، أو قتل، أو لحق بدار الحرب، تزول أمواله عن ملكه. ¬
واختلف في أن زوال ملكه عن أمواله بالموت أو القتل أو اللحاق بدار الحرب: هل من وقت الردة، أي بأثررجعي، أو عند حدوث هذه الأسباب؟ قال أبو حنيفة (وقوله هو الصحيح في مذهبه)، والشافعي في أظهر أقواله الثلاثة، ومالك على الراجح في مذهبه، وظاهر كلام أحمد: تصبح أموال المرتد بمجرد الردة موقوفة، أي يحجر عليه بالارتداد إلى أن يتقرر مصيره، فإن أسلم تبينا بقاء ملكه، وإن مات أو قتل على ردته أو لحق بدار الحرب وحكم بلحاقه، تبينا زوال ملكيته عن أمواله بمجرد ردته، وعند أبي حنيفة: ينتقل ماكان اكتسبه في حال إسلامه إلى ورثته المسلمين؛ لأن ردته بمنزلة موته، فيتحقق شرط توريث المسلم من المسلم، ويصبح مااكتسبه في حال ردته فيئاً للمسلمين، فيوضع في بيت المال؛ لأن كسبه حال ردته كسب مباح الدم ليس فيه حق لأحد، فكان فيئاً كمال الحربي. وكذلك تكون تصرفات المرتد حال ردته بالبيع والشراء والهبة والوصية ونحوها موقوفة عند أبي حنيفة: إن أسلم تبينا أن تصرفه كان صحيحاً، وإن قتل أو مات على ردته كان تصرفه باطلاً، إلا أن الشافعية قالوا: إذا كان التصرف يحتمل الوقف كالوصية فهو موقوف، وإن لم يحتمل الوقف كالبيع والهبة والرهن، كان التصرف باطلاً؛ لأنهم يقولون ببطلان وقف العقود. ودليل الشافعية: أن المرتد تزول عصمة نفسه بالردة، فيجب قتله، وكذا تزول عصمة ماله، لأنها تبع لعصمة النفس، فتزول ملكيته عن ماله، ولأنه معرض للقتل، والقتل يؤدي به إلى الموت، والموت تزول به الملكية، بأثر رجعي أي (مستند إلى الماضي) يمتد إلى السبب الذي أدى إلى الموت وهو الردة، غير أنه يدعى إلى الإسلام. ونظراً لاحتمال عودته إلى الإسلام نحكم بتوقف زوال ملكه في الحال، فإن أسلم تبين أن الردة لم تكن سبباً لزوال الملك، وإن قتل أو مات أو
لحق بدار الحرب، تبين أنها وقعت سبباً لزوال الملك من حين حدوثها، والحكم لا يتخلف عن سببه. وقال الصاحبان، والحنابلة في الراجح عندهم: لا يزول ملك المرتد بمجرد ردته، وإنما يزول بالموت أو القتل، لأن تأثير الردة يظهر في إباحة دمه، لا في زوال ملكه كالمحكوم عليه بالرجم والقصاص، ولأنه مكلف، فيكون كامل الأهلية، فيحكم ببقاء ملكه. وزوال العصمة عن النفس لا يلزم منه زوال الملك بدليل المحكوم عليه بالرجم ونحوه. إلا أن الحنابلة قالوا: لو لحق المرتد بدار الحرب لم يزل ملكه، وإنما يباح قتله لكل واحد من غير استتابة، ويباح أخذ ماله لمن قدر عليه، لأنه صار حربياً، حكمه حكم الحربيين. وتصبح تصرفات المرتد حينئذ موقوفة. قال ابن مفلح الحنبلي في المبدع: تكون تصرفات المرتد من البيع والهبة والوقف ونحوه موقوفة على المذهب؛ لأنه مال تعلق به حق الغير، فكان التصرف فيه موقوفاً كتبرع المريض، والمذهب أنه يمنع من التصرف فيه. فإن أسلم ثبت ملكه وتصرفاته، وكان ذلك صحيحاً وإلا بطلت، أي إذا مات أو قتل في ردته، كان تصرفه باطلاً، تغليظاً عليه، بقطع ثوابه، بخلاف المريض. أما الصاحبان فقالا: تزول ملكية المرتد عن أمواله بمجرد اللحاق بدار الحرب مثل الموت أو القتل، وتنتقل كل أمواله لورثته. وتعتبر تصرفات المرتد نافذة في أمواله، إلا أن أبا يوسف قال: تنفذ تصرفاته كتصرف الإنسان العادي الصحيح البدن؛ لأنه يمكنه الرجوع إلى الإسلام، فيتخلص عن القتل. أما المريض: فلا يمكنه دفع المرض عن نفسه، فلا تشابه بينهما.
3 - حكم ميراث المرتد
وقال محمد: تنفذ تصرفاته كالمريض مرض الموت، أي لا تنفذ تبرعاته بالنسبة للورثة إلا في حدود الثلث؛ لأن المرتد معرض للموت بتنفيذ العقاب عليه وهو القتل، فأشبه المريض مرض الموت. ويلاحظ أن خلاف أبي حنيفة مع صاحبيه هو في المرتد، أما المرتدة فلا يزول ملكها عن أموالها بلا خلاف عندهم، وتنفذ تصرفاتها في مالها؛ لأنها لا تقتل عندهم، فلم تكن ردتها سبباً لزوال ملكها عن أموالها، فتنفذ تصرفاتها (¬1). 3 - حكم ميراث المرتد: إذا مات المرتد أو قتل، فإنه يبدأ بقضاء دينه وضمان جنايته ونفقة زوجته وقريبه؛ لأن هذه الحقوق لا يجوز تعطيلها. وما بقي من ماله يكون فيئاً لجماعة المسلمين يجعل في بيت المال، وهو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة (¬2)، لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يرث المسلم الكافر، ولا يرث الكافر المسلم» (¬3). ¬
وقال أبو حنيفة: إذا مات المرتد أو قتل، أو لحق بدار الحرب، وترك ماله في دار الإسلام، انتقل ما اكتسبه في الإسلام إلى ورثته، وكان ما اكتسبه في حال ردته فيئاً يوضع في بيت مال المسلمين؛ لأن الإرث له أثر رجعي يمتد إلى الماضي، فما اكتسبه في حال إسلامه يورث لوجود الكسب قبل الردة، فيكون للإرث أثر رجعي بالنسبة إليه، فيتم شرط توريث المسلم من المسلم، وما اكتسبه حال ردته يكون فيئاً؛ لأنه زال ملكه بالردة، فكان الكسب لا مالك له، فلا يورث، إذ لا يمكن هنا أن يكون للإرث أثر رجعي بالنسبة لكسب الردة، لعدم الكسب قبل الردة. وقال الصاحبان: كل مال للمرتد يملكه ورثته، سواء أكان الكسب قبل الردة أم بعدها؛ لأن القاعدة عندهما أن المرتد لا تزول ملكيته عن أمواله، وإنما ملكه باق له؛ لأنه كما عرفنا أهل للملك، وإذا ثبت ملكه فتنتقل أمواله إلى ورثته بالموت أو ما في معناه، ويعتبر للتوريث أثر رجعي إلى ما قبيل ردته، فيجعل كأنه اكتسبه في حال الإسلام، فورثه ورثته منه حال الإسلام، فينطبق شرط توريث المسلم من المسلم. ثم اختلف أبو حنيفة مع صاحبيه في أهلية الوراثة: هل يعتبر حال الوارث إسلاماً وغيره وقت الردة أو وقت الموت؟ قال الصاحبان: تعتبر أهلية الوراثة وقت الموت أو القتل؛ لأن ملك المرتد يزول عندهما بالموت أو ما في معناه، فإن كان الوارث مسلماً حراً يرث، وإلا فلا. وعن أبي حنيفة روايتان: في رواية: يعتبر حال الردة فقط، فلو كان حينئذ أهلاً للإرث ورث، وإن زالت أهليته بعدئذ. وفي رواية: يعتبر حال الردة مع الدوام على الأهلية إلى وقت الموت أو القتل، فمن كان وارثاً حال الردة، بأن كان حراً مسلماً، وبقي كذلك إلى وقت الموت أو اللحاق بدار الحرب، فإنه هو الذي يرث.
هل يشترط قضاء القاضي بلحاق المرتد بدار الحرب؟
والأصح كما قال في المبسوط هو اعتبار حال الوارث عند الموت أو القتل، أوالحكم باللحاق بدار الحرب؛ لأن الحادث بعد انعقاد سبب الملكية ولكن قبل تمام السبب كالحادث عند وجود أصل السبب، فمثلاً إن الزيادة المتولدة من المبيع كالولد، والثمرة قبل قبض المشتري للمبيع، تعتبر ملحقة بالمبيع، فتصير معقوداً عليها، وكأنها موجودة عند ابتداء العقد، ويعتبر الثمن موزعاً على الأصل وعلى الزيادة معاً (¬1). وإن لحق المرتد بدار الحرب، وحكم القاضي بلحاقه، حلت ديونه المؤجلة التي عليه، ونقل ما اكتسبه في حال الإسلام عند الحنفية إلى ورثته المسلمين. هل يشترط قضاء القاضي بلحاق المرتد بدار الحرب؟ فيه عند الحنفية روايتان: في رواية: أنه لا بد لاستقرار لحاقه بدار الحرب من قضاء القاضي لاحتمال عودته إلى دار الإسلام. وظاهر الرواية: أنه لا يحتاج للقضاء. إلا أن الصاحبين ـ في حالة القضاء باللحاق ـ اختلفا في أهلية الوراثة باللحاق بدار الحرب: هل تعتبر الأهلية وقت القضاء باللحاق أو وقت اللحاق؟ عند أبي يوسف: يعتبر وقت القضاء؛ لأن الملك لا يزول إلا بالقضاء، ومجرد اللحاق يعتبر غيبة. وهذا هو الأرجح. وعند محمد: يعتبر وقت اللحاق؛ لأن اللحاق هو سبب زوال الملك، فالملك يزول به، والقضاء إنما يكون لتقرر اللحاق بإزالة احتمال عودة المرتد إلينا. ¬
ديون المرتد
وإذا افترضنا أن المرتد بعد لحاقه بدار الحرب، عاد مسلماً إلى دار الإسلام: فإن كان قبل قضاء القاضي بلحاقه، فماله على حاله، وإن كان بعد القضاء، فما وجد من ماله في يد وارثه فهو أحق به، ويأخذه منه بطريق القضاء؛ لأن حكم القاضي باللحاق صير المال ملكاً لورثة المرتد، فلا يعود الملك له إلا بالقضاء أو بالتراضي. وإذا كان المال قد خرج عن ملك الوارث بالتمليك، أو بالاستهلاك، فلا يحق للمرتد الرجوع على وارثه بذلك (¬1). أما ديون المرتد: فتقضى الديون التي لزمته في حال الإسلام مما اكتسبه في حال الإسلام، وما لزمه من الديون في حال ردته يقضى مما اكتسبه في حال ردته. وهذه رواية عن أبي حنيفة، وقول زفر. ¬
الباب الثاني: التعزير
البَابُ الثّاني: التَّعزِير بعد انتهاء الكلام عن الحدود: وهي العقوبات المقدرة في الشرع، أبيِّن عقوبات الجرائم التي ليس لها حد مقدر شرعاً: وهوما يعرف بالتعزير، وأتكلم عنه بإيجاز عن تعريفه، وشروط وجوبه، وقدره وصفته، وطرق إثبات موجبه، وضمان موت المعزر (¬1). ¬
تعريف التعزير وموجبه ومنفذه وكيفيته
تعريف التعزير وموجبه ومنفِّذه وكيفيته: الأصل في التعزير لغة: المنع، ومنه التعزير بمعنى النصرة؛ لأنه منع لعدوه من أذاه، ثم اشتهر معنى التعزير في التأديب والإهانة دون الحد؛ لأنه يمنع الجاني من معاودة الذنب. وهوشرعاً: العقوبة المشروعة على معصية أو جناية لا حد فيها، ولا كفارة (¬1)، سواء أكانت الجناية على حق الله تعالى، كالأكل في نهار رمضان بغير عذر (¬2)، وترك الصلاة في رأي الجمهور، والربا، وطرح النجاسة ونحوها في طريق الناس ونحوها، أم على حق العباد كمباشرة الأجنبية فيما دون الفرج، وسرقة ما دون النصاب، أو السرقة من غير حرز، وخيانة الأمانة والرشوة، أو القذف بغير الزنى من أنواع السب والضرب والإيذاء بأي وجه، مثل أن يقول الرجل لآخر: يا فاسق، يا خبيث، يا سارق، يا فاجر، يا كافر، يا آكل الربا، يا شارب الخمر، ونحوها. سئل علي كرم الله وجهه عن قول الرجل للرجل: يا فاسق، يا خبيث، قال: هن فواحش فيهن التعزير، وليس فيهن حد. ومن موجبات التعزير: الجناية التي لا قصاص فيها، أو وطء الزوجة في الدبر، أو أثناء الحيض، أو النهب أو الغصب أو الاختلاس. ولو قال شخص لآخر: يا كلب، يا خنزير، يا حمار، يا ثور، لا يعزر في أصل مذهب الحنفية؛ لأنه قذفه بما لا يتصور، فيرجع عار الكذب إليه. وبعضهم ¬
متى يشرع الحبس؟
قال: يعزر في عرفنا، وهذا هو المناسب لعصرنا، إذا كان مثله يتأذى بذلك، ويعزره القاضي بناء على طلب المشتوم، ويؤيد هذا الاتجاه (¬1) أن الشافعية قالوا: من الألفاظ الموجبة للتعزير قوله لغيره: يا فاسق، يا كافر، يا فاجر، يا شقي، يا كلب، يا حمار، يا تيس، يا رافضي، يا خبيث، يا كذاب، يا خائن، يا قواد، يا ديوث (¬2). ويقوم بالتعزير ولي الأمر أو نائبه. ويكون التعزير إما بالضرب، أو بالحبس أو بالتوبيخ، ونحوها بحسب ما يراه ولي الأمر رادعاً للشخص، بحسب اختلاف حالات الناس. متى يشرع الحبس؟ قال جماعة من الفقهاء بمشروعية الحبس، بدليل أن النبي صلّى الله عليه وسلم حبس رجلاً في تهمة، ثم خلى عنه (¬3)، وهذا هو الحبس الاحتياطي. وقال عليه السلام: «لي الواجد يُحلَّ عِرْضه وعقوبته» (¬4). وثبت أن عمر بن الخطاب كان له سجن، وتبعه في ذلك عثمان، وعلي رضي الله عنهم. واستدل الحنفية على مشروعية الحبس بقوله تعالى: {أو ينفوا من الأرض} [المائدة:5/ 33] قالوا: والمقصود من النفي هو الحبس (¬5). ¬
ويشرع الحبس في ثمانية مواضع، كما أبان القرافي المالكي (¬1): الأول ـ يحبس الجاني لغيبة المجني عليه، حفظاَ لمحل القصاص. الثاني ـ حبس الآبق سنة، حفظاً للمالية رجاء أن يعرف صاحبه. الثالث ـ يحبس الممتنع عن دفع الحق إلجاء إليه. الرابع ـ يحبس من أشكال أمره في العسر واليسر، اختباراً لحاله، فإذا ظهر حاله حكم بموجبه عسراً أو يسراً. الخامس ـ الحبس للجاني تعزيراً وردعاً عن معاصي الله تعالى. السادس ـ يحبس من امتنع من التصرف الواجب الذي لا تدخله النيابة، من حقوق العباد، كحبس من أسلم متزوجاً بأختين أو عشر نسوة، أو امرأة وابنتها، وامتنع من تعيين واحدة. السابع ـ من أقر بمجهول، عيناً أو في الذمة، وامتنع من تعيينه، فيحبس حتى يعينه، فيقول: العين هو هذا الثوب أو هذه الدابة ونحوها، أو الشيء الذي أقرت به هو دينار في ذمتي. الثامن ـ يحبس الممتنع في حق الله تعالى الذي لا تدخله النيابة عند الشافعية كالصوم. وعند المالكية: يقتل كالصلاة. قال القرافي: وما عدا هذه الثمانية لا يجوز الحبس فيه، ولا يجوز الحبس ي الحق إذا تمكن الحاكم من استيفائه، فإن امتنع المدين من دفع الدين، وعرف ماله، أخذنا منه مقدار الدين، ولا يجوز لنا حبسه، وكذلك إذا ظفرنا بماله، أو داره، أو ¬
التعزير بالقتل سياسة
شيء يباع له في الدين، رهناً كان أو غيره، فعلنا ذك ولا نحبسه؛ لأن في حبسه استمرار ظلمه، ودوام المنكر في الظلم. التعزير بالقتل سياسة: أجاز الحنفية والمالكية (¬1): أن تكون عقوبة التعزير كما في حال التكرار (العود) أو اعتياد الإجرام، أو المواقعة في الدبر (اللواطة)، أو القتل بالمثقل عند الحنفية: هي القتل، ويسمونه القتل سياسة، أي إذا رأى الحاكم المصلحة فيه، وكان جنس الجريمة يوجب القتل. وقد أفتى أكثر فقهاء الحنفية بناء عليه بقتل من أكثر من سب النبي صلّى الله عليه وسلم من أهل الذمة، وإن أسلم بعد أخذه، وقالوا: يقتل سياسة. وأجمع العلماء كما قال القاضي عياض في الشفا على وجوب قتل المسلم إذا سب النبي صلّى الله عليه وسلم، لقوله تعالى: {إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً} [الأحزاب:57/ 33]. وقالوا أيضاً: إن للإمام قتل السارق سياسة إذا تكررت منه جريمة السرقة، وله قتل من تكرر منه الخنق في ضمن المصر، لسعيه بالفساد في الأرض، ومثله كل من لا يدفع شره إلا بالقتل يقتل سياسة. وذكلك يقتل الساحر عند أكثر العلماء، والزنديق الداعي إلى زندقته، إذا قبض عليه، ولو تاب. وقد روى الترمذي عن جندب موقوفاً ومرفوعاً: «أن حد الساحر ضربه بالسيف». وأجاز المالكية والحنابلة وغيرهم (¬2) قتل الجاسوس المسلم، إذا تجسس للعدو ¬
على المسلمين. ولم يجز أبو حنيفة والشافعي هذا القتل. وجوز طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما قتل الداعية إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة. واتفق الفقهاء على أنه يقتل الجاسوس الحربي الكافر، وأما المعاهد والذمي فقال مالك والأوزاعي: ينتقض عهده بذلك، وعند الشافعية خلاف، وقد ورد في السنة ما يدل على جواز قتل الجاسوس إذا كان مستأمناً أو ذمياً، قال سلمة بن الأكوع: «أتى النبي صلّى الله عليه وسلم عَيْن، وهو في سفر، فجلس عند بعض أصحابه يتحدث، ثم انسل، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: اطلبوه فاقتلواه، فسبقتهم إليه، فقتلته، فنفلني سلبه» (¬1). ومن لم يندفع فساده في الأرض إلا بالقتل قُتل، مثل المفرق لجماعة المسلمين، والداعي إلى البدع في الدين، قال تعالى: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعاً} [المائدة:32/ 5] وفي الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما»، وروى مسلم في صحيحه عن عرفجة الأشجعي رضي الله عنه: «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم فاقتلوه». وأمر النبي صلّى الله عليه وسلم بقتل رجل تعمد عليه الكذب، وسأله ديلم الحميري ـ فيما يرويه أحمد في المسند ـ عمن لم ينته عن شرب الخمر في المرة الرابعة، فقال: «فإن لم يتركوه فاقتلوهم». والخلاصة: أنه يجوز القتل سياسة لمعتادي الإجرام ومدمني الخمر ودعاة الفساد ومجرمي أمن الدولة، ونحوهم. ¬
التعزير بالمال
التعزير بالمال: لا يجوز التعزير بأخذ المال في الراجح عند الأئمة (¬1) لما فيه م تسليط الظلمة على أخذ مال الناس، فيأكلونه. وأثبت ابن تيمية وتلميذه ابن القيم أن التعزير بالعقوبات المالية مشروع في مواضع مخصوصة في مذهب مالك في المشهور عنه، ومذهب أحمد وأحد قولي الشافعي، كما دلت عليه سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلم مثل أمره بمضاعفة غرم ما لا قطع فيه من الثمر المعلَّق والكثَر (جمّار النخل)، وأخذه شطر مال مانع الزكاة، عزمة مات الرب تبارك وتعالى، ومثل تحريق عمر وعلي رضي الله عنهما المكان الذي يباع فيه الخمر، ونحوه كثير. ومن قال كالنووي وغيره: إن العقوبات المالية منسوخة، وأطلق ذلك، فقد غلط في نقل مذاهب الأئمة والاستدلال عليها (¬2). معنى التعزير بأخذ المال: روي عن أبي يوسف: أنه يجوز للسلطان التعزير بأخذ المال. ومعنى التعزير بأخذ المال على القول عند من يجيزه: هو إمساك شيء من مال الجاني عنه مدة، لينزجر عما اقترفه، ثم يعيده الحاكم إليه، لا أن يأخذه الحاكم لنفسه، أو لبيت المال، كما يتوهم الظلمة؛ إذ لا يجوز لأحد من المسلمين أخذ مال أحد بغير سبب شرعي. قال ابن عابدين: وأرى أن يأخذ الحاكم مال الجاني، فيمسكه عنده، فإن أيس من توبته، يصرفه إلى ما يرى من المصلحة. ¬
أقسام العقوبات المالية عند ابن تيمية
وأما مصاردة السلطان لأرباب الأموال فلا تجوز إلا لعمال بيت المال، على أن يردها لبيت المال (¬1). وصادر عمر طعاماً من سائل وجده أكثر من كفايته، وتصادر الأموال من كسب غير مشروع. أقسام العقوبات المالية عند ابن تيمية: تقسم العقوبات المالية في رأي ابن تيمية إلى ثلاثة أقسام: الإتلاف، والتغيير، والتمليك (¬2). 1ً - الإتلاف: هو إتلاف محل المنكرات من الأعيان والصفات تبعاً لها، مثل إتلاف مادة الأصنام، بتكسيرها وتحريقها، وتحطيم آلات الملاهي عند أكثر الفقهاء، وتكسير وتخريق أوعية الخمر، وتحريق الحانوت الذي يباع فيه الخمر، على المشهور في مذهب أحمد ومالك وغيرها، عملاً بما فعله عمر من تحريق حانوت خمار، وبما فعله علي من تحريق قرية كما يباع فيها الخمر؛ لأن مكان البيع مثل الأوعية. ومثل إراقة عمر اللبن المخلوط بالماء للبيع، وبه أفتى طائفة من الفقهاء. ومثله إتلاف المغشوشات في الصناعات كالثياب الرديئة النسج. 2ً - التغيير: قد تقتصر العقوبة المالية على تغيير الشيء، مثل نهي النبي صلّى الله عليه وسلم عن كسر العملة الجائزة بين المسلمين (¬3)، كالدراهم والدنانير، إلا إذا كان بها بأس، فإذا كان بها بأس كسرت. ¬
- التمليك
ومثل فعل النبي عليه السلام في التمثال الذي كان في بيته، والستر الذي به تماثيل، إذ أمر بقطع رأس التمثال فصار كهيئة الشجرة، وبقطع الستر، فصار وسادتين يوطآن. وهكذا اتفق العلماء على إزالة وتغيير كل ما كان من العين أو التأليف المحرم، مثل تفكيك آلات الملاهي، وتغيير الصورة المصورة. لكن العلماء اختلفوا في جواز إتلاف محل هذه الأشياء تبعاً للشيء الحال فيها، قال ابن تيمية: والصواب جوازه كما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف، وهو ظاهر مذهب مالك وأحمد وغيرهما. 3ً - التمليك: مثل ما روى أبو داود وغيره من أهل السنن عن النبي صلّى الله عليه وسلم فيمن سرق من الثمر المعلق، قبل أن يؤويه إلى الجرين، أن عليه جلدات نكال، وغرمه مرتين. وفيمن سرق من الماشية قبل أن تؤوي إلى المراح أن عليه جلدات نكال، وغرمه مرتين، وكذلك قضاء عمر بن الخطاب في الضالة المكتومة: أن يضعف غرمها على كاتمها. وقال بهذا طائفة من العلماء مثل أحمد وغيره. وأضعف عمر وغيره الغرم في ناقة أعرابي أخذها مماليك جياع، أضعف الغرم على سيدهم ودرأ عنه القطع. وأضعف عثمان بن عفان في المسلم إذا قتل الذمي عمداً، أضعف عليه الدية، فتجب عليه الدية الكاملة، إذ إن دية الذمي نصف دية المسلم. وأخذ به أحمد بن حنبل. وأجاز المالكية (¬1) العقوبة في المال إذا كانت جناية الجاني في نفس ذلك لمال أو ¬
نوعا التغريم من حيث الضبط وعدمه
في عوضه، فيتصدق بالزعفران المغشوش على المساكين، وإذا اشترى مسلم من نصراني خمراً، فإنه يكسر وعاؤه على المسلم، ويتصدق بالثمن، تأديباً للنصراني إن كان النصراني لم يقبضه. نوعا التغريم من حيث الضبط وعدمه: تغريم المال أو العقوبات المالية كما أبان ابن القيم (¬1) نوعان: نوع مضبوط، ونوع غير مضبوط. فالمضبوط: ما قابل الشيء المتلف، إما لحق الله تعالى كإتلاف الصيد في الإحرام، أو لحق الآدمي كإتلاف ماله. وقد نبه الله سبحانه وتعالى على أن تضمين الصيد متضمن للعقوبة بقوله: {ليذوق وبال أمره} [المائدة:95/ 5]. ومنه مقابلة الجاني بنقيض قصده من الحرمان، كعقوبة القاتل لمورثه بحرمان ميراثه، وعقوبة الموصى له ببطلان وصيته، وعقوبة الزوجة الناشزة بسقوط نفقتها وكسوتها. وغير المضبوط: هو غير المقدر المتروك لاجتهاد الأئمة بحسب المصالح. ولذلك لم تأت فيه الشريعة بأمر عام، وقدر محدد كالحدود. وقد اختلف فيه الفقهاء: هل حكمه منسوخ أو ثابت؟ والصواب أنه يختلف باختلاف المصالح، ويرجع فيه إلى اجتهاد الأئمة في كل زمان ومكان بحسب المصلحة؛ إذ لا دليل على النسخ، وقد فعله الخلفاء الراشدون ومن بعدهم من الأئمة. شروط وجوب التعزير: يشترط العقل فقط لوجوب التعزير بارتكاب جناية ليس لها حد مقدر في الشرع، فيعزر كل عاقل، ذكر أو أنثى، مسلماً أو كافراً، بالغاً أو صبياً عاقلاً؛ لأن هؤلاء غير الصبي من أهل العقوبة، أما الصبي فيعزر تأديباً لا عقوبة (¬2). ¬
ضابط موجب التعزير
وضابط موجب التعزير: هو كل من ارتكب منكراً أو آذى غيره بغير حق بقول أو فعل أو إشارة، سواء أكان المعتدى عليه مسلماً أم كافراً (¬1). قدر التعزير: يكون التعزيرعلى قدر الجناية، وعلى قدر مراتب الجاني بحسب اجتهاد الحاكم إما بالتغليظ في القول أي الكهر، أو بالحبس، أو بالضرب، أو بالصفع، أو بالقتل، كما في الجماع في غير القبل عند المالكية (¬2)، أو بالعزل من الولاية، وبإقامته من المجلس، وبالنيل من عرضه مثل: يا ظالم، يا معتدي، ولا بأس بتسويد وجهه، ونداء عليه بذنبه، ويطاف به مع ضربه، ويجوز صلبه، ولايمنع من أكل ووضوء، ويصلي بالإيماء ولا يعيد. وحرم تعزير بحلق لحية، وقطع طرف، وجرح، وكذا بأخذ مال وإتلافه عند الحنابلة. وتعزر تعزيراً بليغاً القوادة التي تفسد النساء والرجال، وينبغي شهر ذلك بحيث يستفيض في الناس. وأقل التعزير في الضرب: ثلاثة أسواط فصاعداً، ويمكن أن يكون أقل من ثلاثة بحسب الأشخاص، فليس لأقل التعزير حد معين. واختلف العلماء في أقصاه: فقال أبو حنيفة ومحمد والشافعية والحنابلة: لا يبلغ بالتعزير أدنى الحدود المشروعة، فينقص منه سوط، وأدنى الحدود عند الشافعية بالنسبة للأحرار هو أربعون جلدة وهو حد الخمر، وعند الآخرين هو بالنسبة للماليك: وهو أربعون جلدة، وهو حد القذف للعبيد، لقوله عليه السلام: «من بلغ حداً في غير ¬
حد فهو من المعتدين» (¬1)، ولأن العقوبة على قدر الإجرام والمعصية، والمعاصي المنصوص على حدودها أعظم من غيرها، فلا يجوز أن يبلغ في أهون الأموين عقوبة أعظمهما. وقال أبو يوسف: لا يبلغ الحد ثمانين، وينقص منه خمسة أسواط؛ لأنه حمل الحد المذكور في الحديث السابق: «من بلغ حداً ... » على الأحرار؛ لأن الأحرار هم المقصودون في الخطاب، وغيرهم ملحق بهم (¬2). وقد أخذ برأي الإمام علي في أنه ينقص عن الثمانين جلدة خمسة أسواط. وقال المالكية: يضرب الإمام في التعزير أي عدد أداه إليه اجتهاده، حتى ولو تجاوز أعلى الحدود، فيجوز العزير بمثل الحدود وأقل وأكثر على حسب الاجتهاد؛ لما روي أن معن بن أوس عمل خاتماً على نقش خاتم بيت المال، ثم جاء به صاحب بيت المال، فأخذ منه مالاً، فبلغ عمر رضي الله عنه، فضربه مائة وحبسه، فكلم فيه، فضربه مائة أخرى، فكلم فيه من بعد، فضربه ونفاه (¬3). وكان جلد عمر لمعن على عدة جنايات: وهي تزويره الخاتم، وأخذ المال من بيت المال، وفتحه باب الاحتيال لغيره من الناس. ويؤيد رأي المالكية أيضاً ما روي عن الإمام علي رضي الله عنه أنه جلد من وجد مع امرأة من غير زنا مائة سوط إلا سوطين. ¬
صفات التعزير
صفات التعزير: للتعزير صفات (¬1) أولها ـ أنه عند المالكية والحنابلة: حق واجب لله تعالى إذا رآه الإمام، فلا يجوز للحاكم في الجملة ترك التعزير؛ لأنه زاجر مشروع لحق الله تعالى، فوجب كالحد. وعند الشافعية: ليس التعزير واجباً، فيجوز للسلطان تركه إذا لم يتعلق به حق لآدمي، فهم كالحنفية، لما روي أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا في الحدود» (¬2)، ولأن رجلاً جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلم: فقال: إني لقيت امرأة فأصبت منها ما دون أن أطأها، فقال: «أصليت معنا؟!» قال: نعم، فتلا عليه: {إن الحسنات يذهبن السيئات} [هود:114/ 11] (¬3). وقال رجل للرسول صلّى الله عليه وسلم: «إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله» (¬4)، فلم يعزره، فلو لم يجز ¬
ترك التعزير، لعزره رسول الله صلّى الله عليه وسلم على ما قال، ويؤيده قصة أخرى رواها عبد الله ابن الزبير: أن رجلاً خاصم الزبير عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم في شراج الحرة (¬1) الذي يسقون به النخل، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم للزبير: اسق أرضك الماء، ثم أرسل الماء إلى جارك، فغضب الأنصاري، فقال: ىا رسول الله، وأن كان ابن عمتك، فتلون وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: يا زبير، اسق أرضك الماء، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر، فقال الزبير: فوالله، إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} [النساء:65/ 4] ولو لم يجز ترك التعزير لعزره رسول الله صلّى الله عليه وسلم على ما قال (¬2). والخلاصة: أنه إذا كان التعزير حقاً لله كما في حالة انتهاك الحرمات الدينية فلا يجب تنفيذه، أما إن كان حقاً للعبد ولم يعف عنه مستحقه، فهو واجب التنفيذ. وأما الحنفية فقالوا: إن التعزير إذا كان حقاً شخصياً لإنسان، فهو واجب لا عفو فيه؛ لأن حقوق العباد ليس للقاضي إسقاطها، وإن كان حقاً لله تعالى فهو مفوض إلى رأي الإمام: إن ظهر له المصلحة فيه أقامه، وإن ظهر عدم المصلحة، أو علم انزجار الجاني بدونه، يتركه أي أن العفو فيه للإمام. وعبارة الكمال بن الهمام فيه هي: «ما وجب من التعزير حقاً لله تعالى يجب على الإمام، ولا يحل له تركه إلا فيما علم أنه انزجر الفاعل قبل ذلك» (¬3). ويترتب على أن التعزير حق العبد عند الشافعية: أنه يحتمل العفو والصلح والإبراء؛ وأنه يورث كالقصاص وغيره من سائرحقوق العباد؛ وأنه لا يتداخل؛ لأن حقوق العبد لا تحتمل التداخل. ¬
طرق إثبات جريمة التعزير
ويؤخذ فيه الكفالة؛ لأن التكفيل للتوثيق والتعزير حق العبد، فكان التوثيق ملائماً له، بخلاف الحدود على أصل أبي حنيفة رحمه الله تعالى. ثاني الصفات: أن التعزير أشد الضرب؛ لأنه جرى فيه التخفيف من حيث العدد، فلا يخفف من حيث الوصف، كيلا يؤدي إلى فوات المقصود منه وهو الزجر، ثم يليه حد الزنى ثم حد الشرب، ثم حد القذف (¬1) كما سبق بيانه. طرق إثبات جريمة التعزير: تثبت جريمة التعزير عند الحنفية بماتثبت به سائر حقوق العباد من الإقرار والبينة، والنكول، وعلم القاضي، وتقبل فيه شهادة النساء مع الرجال، والشهادة على الشهادة، وكتاب القاضي إلى القاضي. وسيأتي في بحث القضاء أن المفتى به عدم جواز قضاء القاضي بعلمه الشخصي في الحوادث مطلقاً في زماننا، منعاً للتهمة، وسداً للباب بسبب فساد قضاة الزمان. وروي عن أبي حنيفة أنه لا تقبل فيه شهادة النساء. قال الكاساني: والصحيح هو الأول؛ لأنه حق العبد على الخلوص، فيظهر بما يظهر به حقوق العباد (¬2). ضمان موت المعزر أو المحدود: قال الحنفية والمالكية والحنابلة: إذا عزر الإمام رجلاً، أو حدَّه فمات من التعزير أو الحد، فلا ضمان عليه؛ لأن التعزير عقوبة مشروعة للردع والزجر، فلم ¬
يضمن من تلف بها كالحد، ولأن الإمام مأمور بالحد والتعزير، وفعل المأمور لا يتقيد بشرط السلامة (¬1). وقال الشافعي: لا يجب على الإمام ضمان موت المحدود؛ لأن الحق قتله، سواء في ذلك الجلد والقطع، وسواء جلده في حر وبرد مفرطين أم لا، وسواء أكان الجلد في مرض يرجى برؤه أم لا، إلا أن تكون المرأة حاملاً، فيموت الجنين، فيجب الضمان؛ لأنه مضمون فلا يسقط ضمانه بجناية غيره. ويجب ضمان موت المعزَّر، لما روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال: «ما من رجل أقمت عليه حداً، فمات، فأجد في نفسي أنه لا دية عليه، إلا شارب الخمر، فإنه لو مات وديته؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يسنَّه» (¬2)، أي لم يسن مقداراً معيناً في جلد شارب الخمر، وإنما فعل أفعالاً مختلفة يجوز جميعها، ومنها: أنه عليه السلام حد في الخمر أربعين كما روى علي نفسه (¬3)، وهذا أمر متفق عليه، والخلاف بين الفقهاء إنما هو في الزيادة على الأربعين، فليس المراد إذن من حديث علي أن الشخص مات من الحد؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم حد في الخمر، كما ذكرت، فثبت أنه أراد بقوله: «لو مات وديته» أي من ¬
حق التأديب
الزيادة على الأربعين، وهذا تعزير، ولأن التعزير ضرب جعل إلى اجتهاد الإمام، فإذا أدى إلى التلف ضمن كضرب الزوج زوجته، إذ أن التعزير مشروط بسلامة العاقبة، باعتبار أن المقصود هو التأديب لا الهلاك، فإذا حصل به هلاك تبين أنه جاوز الحد المشروع. والهلاك الحاصل إن كان بضرب يقتل غالباً، فيجب فيه القصاص إذا لم يكن الضارب أصلاً (أباً أو جداً) للمضروب. وإن لم يكن الضرب قاتلاً في الغالب، فيجب دية شبه العمد على العاقلة (العصبات). حق التأديب: وأما إذا ضرب الأب ولده تأديباً، أو ضرب الزوج زوجته، أو المعلم إذا ضرب الصبي تأديباً، فتلف من التأديب المشروع، فإن أبا حنيفة والشافعي قالا في هذه الحالات: إنه يجب الضمان، ودليلهما عرفناه في الحالة السابقة، ولأنه تأديب مباح، فيتقيد بشرط السلامة كالمرور في الطريق ونحوه. وقال مالك وأحمد والصاحبان: لا ضمان عليه في هذه الحالات؛ لأن التأديب فعل مشروع للزجر والردع، فلا يضمن التالف به كما في الحدود (¬1). التعزير للإمام: التعزير كالحدود منوط بالإمام، وليس لأحد حق التعزير إلا لثلاثة: الأب، والسيد، والزوج. أما الأب: فله تأديب ولده الصغير وتعزيره للتعلم والتخلق بالأخلاق الفاضلة وزجره عن سيئها، وللأمر بالصلاة والضرب عليها عند الاقتضاء. والأم مثل الأب في أثناء الحضانة والكفالة، وليس للأب تعزير البالغ وإن كان سفيهاً. ¬
والسيد: يعزر رقيقه في حق نفسه وفي حق الله تعالى. والزوج: له تعزير زوجته في أمر النشوز وأداء حق الله تعالى كإقامة الصلاة وصيام رمضان بما يراه مناسباً في إصلاح زوجته من زجر؛ لأن كل هذا من باب إنكار المنكر، والزوج من جملة المكلفين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (¬1). ¬
الباب الثالث: الجنايات وعقوباتها: القصاص والديات
البَابُ الثَّالث: الجنايات وعقوباتها: القصاص والدّيات خطة البحث: الكلام عن الجنايات طويل ذو فروع متعددة وتفصيلات متشعبة، ويمكن ضبطه والإحاطة به على وفق الخطة التالية في فصول خمسة: الفصل الأول ـ الجناية على النفس (القتل بأنواعه وعقوبة القصاص والدية). الفصل الثاني ـ الجناية على ما دون النفس (الشجاج والجراح والدية والأرش). الفصل الثالث ـ الجناية على نفس غير مكتملة (الجناية على الجنين أو الإجهاض). الفصل الرابع ـ حالات طارئة من الاعتداء بطريق التسبب (جناية الحيوان، وجناية الحائط المائل). الفصل الخامس ـ طرق إثبات الجناية (الشهادة، الإقرار، القسامة ... إلخ).
تمهيد
تمهيد: تعريف الجناية: الجناية أو الجريمة لغة: هي الذنب أو المعصية، أو كل مايجنيه المرء من شر اكتسبه. ولها في الشرع معنى عام وخاص. أما الأول فالجناية: هي كل فعل محرَّم شرعاً، سواء وقع الفعل على نفس أو مال أو غيرهما (¬1). وعرفها الماوردي (¬2) بقوله: الجرائم: محظورات شرعية زجر الله تعالى عنها بحد أو تعزير. والمحظور: إما إتيان منهي عنه، أو ترك مأمور به. وأما المعنى الثاني فهو اصطلاح خاص للفقهاء، وهو إطلاق الجناية على الاعتداء الواقع على نفس الإنسان أو أعضائه. وهو القتل والجرح والضرب (¬3). ويبحثه الفقهاء إما تحت عنوان «كتاب الجنايات» كالحنفية، أو «كتاب الجراح» كالشافعية والحنابلة الذين اعتبروا الجراحة هي السبب الغالب في الاعتداء. وينتقدهم الشراح بقولهم (¬4): التبويب بالجنايات أولى لشمولها الجناية بالجرح وغيره كالقتل بمثقل كالعصا والحجر، وبمسموم، وسحر. أو بعنوان «باب الدماء» كالمالكية، ناظرين إلى نتيجة الجريمة غالباً. أنواع الجناية: الجناية بصفة عامة نوعان (¬5): جناية على البهائم والجمادات، وتبحث عادة في باب الغصب والإتلاف. وجناية على الإنسان الآدمي، وهي محل البحث هنا. ¬
الجناية على الإنسان بحسب خطورتها أنواع ثلاثة
والجناية على الإنسان بحسب خطورتها أنواع ثلاثة: جناية على النفس وهي القتل، وجناية على ما دون النفس وهي الضرب والجرح، وجناية على ما هو نفس من وجه دون وجه وهي الجناية على الجنين، أو الإجهاض في اصطلاح القانونيين. وسميت كذلك؛ لأن الجنين يعد جزءاً من أمه، غير مستقل عنها في الواقع، ومن جهة أخرى يعد نفساً مستقلة عن أمه بالنظر للمستقبل؛ لأن له حياة خاصة، وهو يتهيأ لأن ينفصل عنها بعد حين، ويصبح ذا وجود مستقل (¬1). والجنايات على النفوس بحسب القصد وعدمه ثلاثة: عمد، وشبه عمد، وخطأ. فإذا قصد الجاني الجريمة أو الاعتداء، وترتب على فعله حدوث الأثر المقصود، كانت الجريمة عمداً. أما إذا تعمد الاعتداء ولم يقصد حدوث النتيجة، كانت الجريمة شبه عمد (أي ضرباً مفضياً للموت). فإن لم يقصد الاعتداء أصلاً كانت الجريمة خطأ. ¬
الفصل الأول: الجناية على النفس الإنسانية
الفَصْلُ الأوَّل: الجِناية على النَّفس الإنسانيَّة (القتل وعقوبته) فيه مباحث أربعة: المبحث الأول ـ معنى القتل وتحريمه وأنواعه. المبحث الثاني ـ القتل العمد وعقابه. المبحث الثالث ـ القتل شبه العمد وعقوبته. المبحث الرابع ـ القتل الخطأ وعقوبته. المبحث الأول ـ تعريف القتل وتحريمه وأنواعه: تعريف القتل: القتل هو الفعل المزهق أي القاتل للنفس أو المميت (¬1)، أو هو فعل من العباد تزول به الحياة (¬2)، أي أنه هدم للبنية الإنسانية. تحريم القتل: القتل إذا كان عمداً عدواناً جريمة كبرى، ومن السبع الموبقات التي يترتب عليها استحقاق العقاب في الدنيا والآخرة، وذلك بالقصاص، والخلود في نار جهنم؛ لأنه اعتداء على صنع الله في الأرض، وتهديد لأمن الجماعة وحياة المجتمع. ¬
ففي القرآن الكريم آيات كثيرة في شأن تحريم القتل، منها قوله تعالى: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ومن قتل مظلوماً، فقد جعلنا لوليه سلطاناً، فلا يسرف في القتل، إنه كان منصوراً} [الاسراء:17/ 33]. ودلت جريمة ابن آدم (قابيل) على أن القتل اعتداء على الإنسانية، فقال سبحانه: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس، أوفساد في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعاً} [المائدة:5/ 32]. ودليل القصاص قوله جل ثناؤه: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى: الحر بالحر، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى (¬1)، فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف، وأداء إليه بإحسان، ذلك تخفيف من ربكم ورحمة، فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم. ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب، لعلكم تتقون} [البقرة:2/ 178]. وكان القصاص أيضاً مقرراً في الشرائع السماوية السابقة كشريعة اليهود. بدليل قوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها (¬2) أن النفس بالنفس، والعين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسن بالسن، والجروح قصاص، فمن تصدق به فهو كفارة له، ومن لم يحكم بما أنزل الله، فأولئك هم الظالمون} [المائدة:5/ 45].ونص القرآن العظيم على العذاب الأخروي للقاتل عمداً في قوله تعالى: ¬
{ومن يقتلْ مؤمناً متعمداً، فجزاؤه جهنم خالداً فيها، غضب الله عليه، ولعنه، وأعد له عذاباً عظيماً}. [النساء:4/ 93] وأوضحت السنة النبوية حالات القتل المأذون به شرعاً أي المباح للحاكم، لا للأفراد، فقال النبي عليه السلام: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» (¬1). وفي رواية: «لا يحل دم امرئ إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنى بعد إحصان، أو قتل نفس بغير حق». ورويت أحاديث كثيرة في تحريم القتل والانتحار، وتحريم الدماء والأموال والأعراض، منها: «قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا» (¬2) ومنها: «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا» (¬3) ومنها: «اجتنبوا السبع الموبقات، الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق» (¬4) الحديث. وحددت السنة عقوبة القتل العمد فقال صلّى الله عليه وسلم: «العمد قوَد، إلا أن يعفو ولي المقتول» (¬5) أي أن القتل العمد يوجب القود (أي القصاص) إلا عند العفو. وأجمع العلماء على تحريم القتل، فإن فعله إنسان متعمداً فسق، وأمره إلى الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له. وتوبته مقبولة في قول أكثر أهل العلم خلافاً لابن عباس (¬6)، بدليل قوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ¬
القتل الواجب
ذلك لمن يشاء} [النساء:4/ 116] فجعل التوبة عن القتل وغيره داخلاً في المشيئة، وقال تعالى: {إن الله يغفر الذنوب جميعاً} [الزمر:39/ 53] وحديث القاتل مائة نفس التائب من جرائه معروف مشهور (¬1) صريح في قبول توبة التائب. وأما آية الخلود في جهنم للقال، فهي محمولة على من لم يتب، أو على أن هذا جزاؤه إن جازاه الله، وله العفو إذا شاء. ويلاحظ أن تحريم القتل هو في حالة كون القتل ظلماً، بخلاف حالة غير الظلم وهي القتل بحق، كقتل القاتل والمرتد، فالقتل عموماً نوعان: قتل محرم: وهو كل قتل عدوان، وقتل بحق. ويرى الشافعية أنه يمكن انقسام القتل إلى الأحكام الخمسة: واجب وحرام ومكروه ومندوب ومباح (¬2). ف القتل الواجب: هو قتل المرتد إذا لم يتب، والحربي إذا لم يسلم أو لم يعط الجزية. والقتل الحرام: هو قتل معصوم الدم بغير حق، أي بصفة العدوان، وكان المقتول مؤمناً أو أمناً؛ لأن العصمة بإيمان أو أمان، فهي عصمة مخصوصة. والقتل المكروه: هو قتل المجاهد قريبه الكافر إذا لم يسب الله أو رسوله. والمندوب: هو قتل المجاهد قريبه الكافر إذا سب الله أو رسوله. والمباح: هو قتل المقتص منه أو قتل الإمام الأسير؛ لأنه مخير في قتله حسبما يرى من المصلحة. ومنه القتل دفاعاً عن النفس ضمن ضوابط الدفاع الشرعي. وعدَّ الحنفية (¬3) ما يأتي من القتل المباح، فقالوا: لو دخل رجل بيته فرأى رجلاً مع ¬
أنواع القتل
امرأته أو محرمه يزني بها فقتله، حل له ذلك، ولا قصاص عليه. وهو رأي الحنابلة والشافعية والمالكية أيضاً (¬1). وإذا كان الزنى طواعية باختيار منهما، كان له عند الحنفية والحنابلة قتلهما جميعاً، فلو أكرهها فله قتله، ودمه هدَر إذا لم يمكنها التخلص منه بصياح أو ضرب. أما لو وجد رجلاً مع امرأة لا تحل له، فله قتله إن كان يعلم أنه لا ينزجر بصياح وضرب بما دون السلاح، فإن كان ينزجر بما ذكر لا يحل القتل. أنواع القتل: أولاً ـ يقول الحنفية (¬2): القتل خمسة أنواع: عمد، وشبه عمد، وخطأ، وما جرى مجرى الخطأ، والقتل بالتسبب. ف العمد: ما تعمد فيه القاتل ضرب غيره بسلاح، كالسيف والسكين والرمح والرصاص، أو ما أجري مجرى السلاح في تفريق أجزاء الجسد، كالمحدد من الخشب، والحجر، والنار، والإبرة في مقتل. وذلك لأن العمد معناه القصد وهو أمر خفي لا يمكن الإطلاع عليه ولا معرفته، إلا بدليل يدل عليه، وهو استعمال الآلة القاتلة، فجعلت الآلة دليلاً على القصد، وأقيمت مقامه باعتبارها مظنة لوجوده، كما أن السفر مظنة المشقة. وشبه العمد عند أبي حنيفة: أن يتعمد الضرب بما ليس بسلاح ولا ما أجري مجرى السلاح، أي بما لا يفرق الأجزاء، كاستعمال العصا والحجر والخشب ¬
القتل الخطأ
الكبيرين، أي أن القتل بالمثقل يعتبر شبه عمد؛ لأنه لا يقتل به غالباً، ويقصد به التأديب، والفتوى بقول الإمام. وقال الصاحبان: القتل بالمثقل كالحجر العظيم أو الخشبة العظيمة عمد. وشبه العمد: أن يتعمد ضربه بما لا يقتل غالباً كالحجروالخشب الصغيرين، أو كالعصا الصغيرة، أو اللطمة. وبناء عليه يكون الضرب بما لا يغلب فيه الهلاك كالعصا والحجر الصغيرين والسوط واللطمة متفقاً على كونه شبه عمد بين أئمة الحنفية الثلاثة. واختلفوا في الحجر الكبير والعصا الكبيرة ونحوهما، كالإلقاء من سطح أو جبل ولا يرجى منه النجاة، فهو شبه عمد عند أبي حنيفة، عمد عند الصاحبين. والقتل الخطأ: هو الذي لا يقصد به القتل أو الضرب، وهو نوعان: 1 - خطأ في القصد أو ظن الفاعل: وهو أن يرمي شيئاً، يظنه صيداً، فإذا هو إنسان، أو يظنه حربياً فإذا هو مسلم، أي أن الخطأ راجع إلى فعل القلب وهو القصد. 2 - خطأ في الفعل نفسه: وهو أن يرمي غرضاً (الغرض: هو الهدف الذي يرمي إليه) أو صيداً، فيصيب آدمياً، أو يقصد رجلاً، فيصيب غيره، أي أن الخطأ راجع إلى أداة الرمي. وما أجري مُجرى الخطأ: هو المشتمل على عذر شرعي مقبول، كانقلاب نائم على آخر فيقتله. والقتل بالتسبب: هو الحاديث بواسطة غير مباشرة، كمن حفر حفرة أو بئراً في غير ملكه، في طريق عام بغير إذن السلطات، فوقع فيها فيها إنسان ومات، أو
ثانيا ـ يرى أكثر العلماء ومنهم الشافعية والحنابلة
وضع حجراً أو خشبة على قارعة الطريق، فعثر به إنسان، فمات، ومثل شهود القصاص إذا رجعوا عن شهادتهم، بعد قتل المشهود عليه (¬1). ثانياً ـ يرى أكثر العلماء ومنهم الشافعية والحنابلة (¬2): أن القتل ثلاثة أنواع: قتل عمد، وشبه عمد (¬3)، وخطأ. والقتل العمد: هو قصد الفعل العدوان والشخص بما يقتل غالباً، جارحٍ، أو مثقل، مباشرة، أو تسبباً، كحديد وسلاح وخشبة كبيرة، وإبرة في مقتل، أو غير مقتل كفخذ وألية إن حدث تورم وألم واستمر حتى مات، أو كأن قطع إصبع إنسان، فسرت الجراحة إلى النفس ومات. وشبه العمد: هو قصد الفعل العدوان والشخص بما لا يقتل غالباً، كضرب بحجر خفيف أو لكمة باليد، أو بسوط، أو عصا صغيرين أو خفيفين، ولم يوال بين الضربات، وألا يكون الضرب في مقتل، أو كان المضروب صغيراً أو ضعيفاً، وألا يكون حر أو برد مساعد على الهلاك، وألا يشتد الألم ويبقى إلى الموت. فإن كان شيء من ذلك فهو عمد؛ لأنه يقتل غالباً. ولا قصاص في شبه العمد، وإنما فيه دية مغلظة أبيّنها في بحث الديات. والخطأ: هو القتل الحادث بغير قصد الاعتداء لا للفعل، ولا للشخص، كأن وقع شخص على آخر فمات، أو رمى شجرة أودابة، فأصابت الرمية إنساناً فمات، أو رمى آدمياً فأصاب غيره فمات. وبما أن هذا التقسيم أشهر التقاسيم فإني سأعتمده في بحث أنواع القتل وعقوباته. ¬
ثالثا ـ مشهور مذهب المالكية
ثالثاً ـ مشهور مذهب المالكية (¬1): أن القتل نوعان: عمد، وخطأ، لأنهما المذكوران فقط في القرآن الكريم، لبيان حكم نوعي القتل، فمن زاد قسماً ثالثاً أو رابعاً زاد على النص، وأنكر مالك شبه العمد. أما العمد: فهو أن يقصد القاتل القتل مباشرة بضرب بمحدد أو مثقل، أو تسبباً بإحراق أو تغريق أو خنق، أو سُمّ أو غيرها، كمنع طعام أو شراب قاصداً به موته، فمات، أو قصد مجرد التعذيب، سواء بما يقتل غالباً أو بما لا يقتل غالباً، إن فعل ذلك لعداوة أو غضب لا على وجه التأديب. فإن كان القتل بسبب الضرب على وجه اللعب أو التأديب فهو من الخطأ، إن كان الضرب بنحو قضيب، لا بنحو سيف. وأما الخطأ: فهو ألا يقصد الضرب ولا القتل، كما لو سقط إنسان على غيره فقتله، أو رمى صيداً فأصاب إنساناً. وشبه العمد: هو أن يقصد الضرب ولا يقصد القتل، والمشهور عندهم أنه كالعمد (¬2). ويلاحظ مما سبق أن الفقهاء اتفقوا على بعض حالات القتل العمد كالقتل بسلاح، وعلى حالة القتل الخطأ، واختلفوا في حالات ثلاث: هي القتل شبه العمد، وما أجري مجرى الخطأ، والقتل بسبب. كما يلاحظ أن الفقهاء اعتمدوا في إثبات العمد وشبه الخطأ، على الآلة المستعملة في القتل باعتبارها دليلاً مادياً أو حسياً على توافر القصد أي (العمد) ¬
المبحث الثاني ـ القتل العمد وعقابه
وعدم توفره. وفي عصرنا الحاضر حيث تعددت أساليب القتل، ينبغي البحث في ظروف القتل وملابساته، وفي قرائن الأحوال، للحكم على نية القاتل، أهو متعمد، أم مخطئ. المبحث الثاني ـ القتل العمد وعقابه وفيه مطلبان ـ المطلب الأول ـ أركان القتل العمد. المطلب الثاني ـ عقوبات القتل العمد. المطلب الأول ـ أركان القتل العمد: للقتل العمد أركان ثلاثة: هي أن يكون القتيل آدمياً حياً معصوم الدم، وأن يحدث القتل نتيجة لفعل الجاني، وأن يقصد الجاني إحداث الوفاة (¬1). الركن الأول ـ القتيل آدمي حي معصوم الدم: القتل العمد الموجب للقصاص: هو الحادث اعتداء على آدمي حي معصوم الدم (¬2) على التأبيد، فلا قصاص بالاعتداء على غير الإنسان، أو على الميت الذي فارق الحياة، أو على غير معصوم الدم عصمة مؤقتة غير دائمة، كالمرتد أو الحربي (¬3)، أو المستأمن (¬4) في دار الإسلام؛ لأن المستأمن لم تثبت له عصمة مطلقة ¬
أساس العصمة
دائمة، وإنما عصمته مؤقتة أثناء إقامته في دار الإسلام، فهو في الأصل حربي، ودخل دار الإسلام لحاجة عارضة، ثم يعود إلى وطنه الأصلي، فكان في عصمة دمه شبهة الإباحة بالعود إلى دار الحرب، فلا يقتص من قاتله عمداً، وإنما يعزر، لافتئاته على مصلحة الحاكم. كذلك لا قصاص عند الجمهور بقتل الباغي (¬1) لعدم العصمة، واعتقاد أهل العدل (جماعة المسلمين في دار الإسلام) إباحة دمه. وتلك الإباحة عند غير الحنفية (¬2) مقصورة على حالة الحرب الدائرة بين قومه البغاة وبين أهل العدل. ويرى الحنفية أن عدم عصمة البغاة مطلقة في أي حال بمجرد البغي (¬3). وأساس العصمة عند الحنفية (¬4): هو الوجود في دار الإسلام، فيعد المسلم والذمي والمستأمن معصوم الدم بسبب وجوده في دار الإسلام. أما الحربي أو المسلم في دار الحرب، فليس معصوماً، ولا عقاب على قاتله، لكونه في دار الحرب. وأما عند الجمهور غير الحنفية (¬5): فأساس العصمة هو الإسلام أو الأمان. فيعدّ المسلم والذمي والمستأمن والمهادن معصوماً، إما بسبب الإسلام بالنسبة للمسلم ولو كان في دار الحرب، أو بسبب الأمان بالنسبة لغير المسلم المعاهد، فلا ¬
وقت العصمة
تباح دماؤهم ولا أموالهم، ويعاقب قاتلهم على القتل العمد، إلا أنه لا يقتل المسلم بالكافر عندهم (¬1) كما سيتضح فيما بعد، ويقتل قاتل المسلم ولو كان في دار الحرب. ويظهر أثر الخلاف بين الرأيين في قتل المسلم في دار الحرب. ووقت العصمة عند الحنفية: مختلف فيه بين الإمام وصاحبيه (¬2). فأبو حنيفة: يرى أن وقت العصمة هو وقت الفعل أي فعل القاتل لا غير، فمن رمى إنساناً مسلماً فجرحه، ثم ارتد المجروح بعد الجرح، ومات وهو مرتد، لا يقتص منه؛ لأن فعل الجاني لا يصير قتلاً إلا بفوات حياة القتيل، وقد فاتت حياة المقتول في وقت لم يكن فيه معصوماً، فكان دمه هدراً، لكن على الجاني دية المقتول عند أبي حنيفة؛ لأنه يسأل عن الجرح الذي أحدثه في معصوم عند بدء فعله. وقال الصاحبان: وقت العصمة هو وقت الفعل ووقت الموت جميعاً؛ لأن للفعل تعلقاً بالقاتل والمقتول، فهو فعل القاتل، وأثره يظهر في المقتول بفوات الحياة، فلا بد من ملاحظة العصمة في الوقتين جميعاً، فلا قصاص على الجاني في المثال السابق ولا دية عليه عندهما. فالإمام وصاحباه اتفقوا على عدم القصاص واختلفوا في إيجاب الدية. وقال زفر: إن وقت العصمة هو وقت الموت لا غير. كذلك اختلف أبو حنيفة مع صاحبيه في تحديد وقت العصمة عند الرمي. فقال أبو حنيفة: العبرة بوقت الرمي لا وقت الإصابة، لأن الإنسان يسأل عن فعله، ولا فعل منه سوى الرمي. ¬
الركن الثاني ـ القتل نتيجة لفعل الجاني
وقال الصاحبان: العبرة بوقت الإصابة لا وقت الرمي؛ لأن المعول عليه هو وقت التلف، ووقت التلف هو وقت الإصابة. فمن رمى غيره برصاصة، فارتد المرمي بعد الرمي وقبل الإصابة، يكون الجاني مطالباً بالدية عند أبي حنيفة؛ لأنه كان معصوماً عند الرمي، وليس مطالباً عند الصاحبين؛ لأن المجني عليه لم يكن معصوماً وقت الإصابة. واتفق غير الحنفية (مالك والشافعي وأحمد) (¬1) مع الصاحبين في رأيهما بتحديد وقت العصمة، وهو وقت الفعل (ضرباً أو جرحاً) ووقت الموت معاً، أي حال البدء وحال الانتهاء، فيشترط كون المجني عليه معصوماً من حين الضرب أو الجراح إلى حين الموت. فلو قطع شخص يد مسلم، فارتد، ثم مات بسراية الجرح، فالنفس هَدَر، أي لم يجب في النفس قصاص ولا دية ولا كفارة؛ لأنها نفس مرتد غير معصوم ولا مضمون. لكن اختلف غير الحنفية في تحديد وقت العصمة حال الرمي، فقال المالكية والشافعية: إنه وقت الرمي. وقال الحنابلة: إنه حالة الإصابة. الركن الثاني ـ القتل نتيجة لفعل الجاني: لا تعد الجريمة قتلاً إلا إذا ارتكب الجاني فعلاً من شأنه إحداث الموت. فإن حدث الموت بفعل لا يمكن نسبته إلى الجاني، أو لم يكن فعله مما يحدث الموت، فلا يعد الجاني قاتلاً. والفعل القاتل يصح أن يكون ضرباً أو جرحاً، أو ذبحاً أو حرقاً أو خنقاً أو ¬
أداة القتل
تسميماً أو غير ذلك (¬1). والبحث في هذا الركن في أمرين: أداة القتل، والأفعال المكونة للقتل العمد. أداة القتل: تختلف أدوات القتل قوة وضعفاً في مدى التأثير على الجسم والتأثر بها، لذا حدد الفقهاء لكل منها حكماً وأثراً معيناً، واختلفوا فيما بينهم في ترتيبها كما ذكرت في بيان أنواع القتل إجمالاً. أولاً ـ رأي الحنفية (¬2): اشترط أبو حنيفة في أداة القتل العمد: أن تكون مما يقتل غالباً، ومما يعد للقتل، وهي كل آلة جارحة أوطاعنة ذات حد لها مَوْر في الجسم، أي تفرق أجزاء الجسم، سواء كانت من الحديد أو الرصاص أو النحاس، أو الخشب المحدد أو الحجر المحدد، أو نحوها كالسيف والبندقية والسكين والرمح، والإبرة في مقتل، أو ما يعمل عمل هذه الأشياء في الجرح والطعن، كالنار والزجاج وليطة القصب (¬3) والمروة المحددة (¬4)، والرمح الذي لاسنان له ونحوها. وسواء أكان الحديد وشبهه من المعادن مما له حد يبضع (يقطع الجلد ويشق اللحم) بضعاً، أم هو مثقل ليس له حد يرض رضاً، كالعمود وصنجة الميزان وظهر الفأس والمروة، ونحوها. ¬
أما أداة القتل شبه العمد: فهي كل آلة تقتل غالباً، ولكنها ليست جارحة ولا طاعنة كالخشبة الكبيرة، والحجر الثقيل، ويقصد به غير القتل كالتأديب ونحوه، فإن قصد به الإتلاف فهو عمد. ودليل الإمام قوله عليه الصلاة والسلام: «ألا إن قتيل الخطأ شبه العمد قتل ُ السوط أو العصا، فيه مئة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها» (¬1). واتفق أبو حنيفة مع صاحبيه على أن القتل شبه عمد في حالتين وهما: 1 - أن يقصد الجاني القتل بعصا صغيرة أو بحجر صغير أو بلطمة، أو بسوط ضرب به ضربة أو ضربتين ولم يوال الضربات، ونحوها مما لا يقتل غالباً. 2 - الضرب بالسوط الصغير الذي يوالي به الضربات حتى يموت المجني عليه. وقيل في الحالة الثانية عند الصاحبين: إنها عمد محض. واختلف الإمام مع صاحبيه في حالتين أخريين هما: 1 - استعمال العصا الكبيرة والحجر الكبير والمدقة الكبيرة ونحوها. 2 - الإلقاء في بئر أو من سطح أو جبل، ولا يرجى منه النجاة. عند الإمام: هما شبه عمد. وعند الصاحبين: هما عمد. قال الحنفية (¬2): والصحيح قول الإمام، وبه يفتى في شبه العمد. أما التغريق في الماء القليل وموت الغريق، فليس عمداً ولا شبه عمد، باتفاق الحنفية. ¬
ثانيا ـ مذهب الشافعية والحنابلة
ثانياً ـ مذهب الشافعية والحنابلة: اكتفى الشافعية والحنابلة (¬1) في تحديد أداة القتل العمد: بأن تكون مما يقتل غالباً، سواء أكان القتل بمحدد أم بمثقّل. والمحدد: هو ما يقطع ويدخل في البدن كالسيف والسكين ونحوهما من أي معدن كحديد ورصاص ونحاس وذهب وفضة، أوغير معدن كزجاج وحجر وقصب وخشب له حد قاطع. والمحدد لا ينظر فيه إلي غلبة الظن في حصول القتل، بدليل ما لو قطع شحمة أذنه أو أنملته فمات، كان عمداً. والمثقل: هو ما ليس له حد يجرح ولا سن يطعن، كالعصا والحجر، فإن كان المثقل مما يقتل غالباً، أي يغلب على الظن حصول الموت به عند استعماله، كان القتل عمداً موجباً للقصاص. وإن كان المثقل مما لا يقتل غالباً، كان القتل شبه عمد موجباً للدية. وبناء عليه يكون القتل عمداً إذا استعمل الجاني سلاحاً نارياً أو سلاحاً أبيض كالسيف ونحوه، أو معدناً أو غير معدن له حد جارح يقطع الجلد واللحم، أو له مور (¬2) وغور في الجسم كالمسلّة والنشاب، أو الإبرة المغروزة في مقتل. أو استعمل ما يقتل غالباً كالعصا الغليظة والعمود والخشبة الكبيرة والحجر، أو كانت الأداة مما تقتل كثيراً كالعصا والسوط والحجر الصغير، واللكزة واللطمة، إذا كرر الضرب بما ذكر حتى قتله، أو ضربه في مقتل أو كانت تقتل نادراً في بعض الظروف كما في حال ضعف المضروب لمرض أو صغر، أو في زمن حر أو برد مفرط، أو اشتد الألم وبقي إلى الموت. فإن استعمل الجاني أداة لا تقتل غالباً كالضرب بالسوط أو العصا الخفيفين، ¬
ثالثا ـ مذهب المالكية
ولم يوال الضربات، ولم يكن الضرب في مقتل، أو المقتول صغيراً أو ضعيفاً، ولم يكن حرأو برد معين على الهلاك، ولم يشتد الألم ويستمر إلى الموت، كان القتل شبه عمد. ودليل الشافعية والحنابلة: هو نفس الحديث الذي استدل به الحنفية وهو «ألا إن في قتيل عمد الخطأ، قتيل السوط والعصا والحجر مائة من الإبل» وقالوا: إن الحديث محمول على المثقل الصغير؛ لأنه ذكر العصا والسوط، وقرن به الحجر، فدل على أنه أراد ما يشبههما. واستدلوا أيضاً بحديث آخر: «إن جارية وُجدت، وقد رُضَّ رأسها بين حجرين، فقيل لها: من فعل بك هذا، أفلان أو فلان، حتى سمي يهودي، فأومأت برأسها، فأخذ اليهودي، فاعترف، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم برض رأسه بالحجارة» (¬1) قالوا: فثبت القصاص في هذا أي في المثقل، بالنص، وقيس عليه الباقي، مما يدل على شرعية القصاص في القتل بالمثقل. ثالثاً ـ مذهب المالكية: إن أداة القتل العمد عند المالكية (¬2): هي كل آلة يقتل بها غالباً كالمحدد مثل السلاح، والمثقل مثل الحجر، أو ما لا يقتل بها غالباً كالعصا والسوط ونحوهما، سواء قصد الجاني بالضرب قتل المجني عليه، أو لم يقصد قتلاً، وإنما قصد مجرد الضرب، أو قصد قتل شخص معتقداً أنه (زيد) فإذا هو (عمرو): إن حصل الضرب لعداوة أو غضب لغير تأديب، ففي كل ذلك القَوَد (¬3). ¬
الأفعال المكونة للقتل العمد
ويعتبر كالضرب: الإحراق أو التغريق أو الخنق أو التسميم، أو منع الطعام أو الشراب، سواء قصد الموت أم مجرد التعذيب. فإن كان الضرب على وجه اللعب أو التأديب، فهو قتل خطأ، إن كان بنحو قضيب (أي عصا)، لا بنحو سيف، وكما لو سقط على غيره فقتله، أو رمى صيداً فأصاب إنساناً. وهذا في غير الأب، وأما الأب فلا يقتل بولده، ما لم يقصد إزهاق روحه، كأن يضجعه ويذبحه. وبه يتبين أن القتل عند مالك نوعان فقط كما بان سابقاً: عمد، وخطأ، وليس هناك ما يسمى (شبه العمد) فقد أنكره مالك، وقال: «ليس في كتاب الله إلا العمد والخطأ، فأما شبه العمد فلا يعمل به عندنا» وجعله من قسم العمد. الأفعال المكونة للقتل العمد: القتل العمد الموجب للقصاص في الجملة، مع اختلاف الفقهاء في بعض أنواعه: هو تسعة أقسام (¬1)، أبحثها هنا، مع بيان الرأي الأرجح في عصرنا الحاضر. 1 - القتل بمحدد: المحدد: هو كل آلة جارحة أوطاعنة لها مور في البدن، أي تفرق أجزء الجسد، مثل الأسلحة النارية الحديثة المختلفة، والسلاح الأبيض، والأخشاب والأحجار المحددة والزجاج والعظم ونحوها. ويكاد يكون هناك اتفاق بين الفقهاء على أن القتل بالمحدد هو قتل عمد ¬
موجب للقصاص، مع ملاحظة ضوابط المذاهب في بيان ما يوجب القصاص، على ما بان في المبحث السابق. - الحنفية اشترطوا أن تكون قاتلة غالباً ومعدة للقتل. - واكتفى الشافعية والحنابلة بأن تكون الآلة محددة، ولم يشترطوا غلبة الظن في حصول القتل بها. ولم يشترط المالكية شيئاً في آلة القتل، وإنما يكفي وجود العدوان. وبناء عليه: إذا أحدث الجاني جرحاً كبيراً، فهوقتل عمد بالاتفاق، وإن أحدث جرحاً صغيراً في مقتل كالعين والقلب والخاصرة، باستعمال إبرة أوشوكة، فهو قتل عمد اتفاقاً. وإن استعمل الإبرة في غير مقتل كفخذ وألية فهو شبه عمد عند الحنفية؛ لأن الإبرة معدة للخياطة، ولا تستعمل في القتل عادة (¬1)،وعمد عند الشافعية (¬2) إن تورم محل الغرز وتألم، واستمر الأمران حتى مات. فإن لم يظهر للغرز أثر، بأن لم يشتد الألم، ومات في الحال، فهو قتل شبه عمد، وقيل: هو عمد. ويعد الغرز عند الحنابلة (¬3) في غير مقتل قتل عمد إن بالغ الجاني في إدخال الإبرة في البدن؛ لأن هذا يشتد ألمه ويفضي إلى القتل. وكذا إن كان الغور يسيراً، أو الجرح لطيفاً، واستمر حتى مات يكون عمداً فيه القود. وإن مات في الحال ففيه وجهان: أحدهما - لا قصاص فيه، والثاني - فيه القصاص، وبه يظهر أن مذهبي الشافعية والحنابلة متفقان في حال استعمال الإبرة. ¬
2 - القتل بالمثقل، أو بغير المحدد
وجعل مالك الجرح والغرز قتلاً عمداً، في مقتل أو غير مقتل إذا لم يكن الفعل على وجه اللعب أوا لتأديب (¬1). 2 - القتل بالمثقَّل، أو بغير المحدد: هو ما ليس له حد، كالعصا والحجر. واختلف الفقهاء في شأنه، هل يوجب القود؛ لأنه عمد، أو الدية؛ لأنه شبه عمد؟ قال أبو حنيفة: القتل بمثقل إلا الحديد وما في معناه من نحاس وصنجة ميزان (¬2) شبه عمد (¬3). واستثناء الحديد لأنه يعمل عمل السلاح، لقوله تعالى: {وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد، ومنافع للناس} [الحديد:25/ 57]. ودليله حديث «ألا إن في قتيل عمد الخطأ قتيل السوط والعصا والحجر مئة من الإبل» فإذا أوجب الرسول عليه السلام فيه الدية، كان شبه عمد وليس عمداً. وقال الصاحبان: القتل بمثقل كحجر عظيم أوخشبة عظيمة إذا كان مما يقتل غالباً عمد؛ لأنه لما كان يقتل غالباً، صار بمنزلة الآلة الموضوعة له. فإذا لم يكن المثقل قاتلاً غالباً، كان القتل شبه عمد، ولو توالى الضرب. ورأى الشافعية والحنابلة (¬4): أن القتل بالمثقل الذي يقتل غالباً، سواء كان كبيراً، أم صغيراً وكان في مقتل أو في مرض أو حر أو برد شديدين، أم والى الضربات: هو قتل عمد؛ لأنه يقتل غالباً، ولعموم الآيات الدالة على وجوب القصاص في القتل، ولإيجاب النبي عليه الصلاة والسلام القصاص على يهودي ¬
3 - القتل بالمباشرة
قتل امرأة بحجر، وقوله عليه الصلاة والسلام: «ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين، إما أن يُوديَ، وإما أن يقاد» (¬1). وأما الحديث الذي استدل به أبو حنيفة السابق فهو محمول على المثقل الصغير؛ لأنه ذكر العصا والسوط وقرن به الحجر، فدل على أنه أراد ما يشبههما، كما تقدم. وقال المالكية (¬2): القتل بمثقل قتل عمد، سواء أكان مما يقتل غالباً أم لا يقتل غالباً، ما دام الفعل عدواناً، لا على وجه اللعب والتأديب. والحقيقة أن الذي يلاحظ حالات القتل العمد العدوان وظروفه من غيظ وحقد وعصبية جامحة يرجح رأي المالكية في القتل بمحدد أو بمثقل. 3 - القتل بالمباشرة: المباشرة: ما أثر في التلف وحصله دون واسطة، وكان علة للموت، والقتل بالمباشرة: أن يقصد الجاني عين المجني عليه بالفعل المؤدي إلى الهلاك بلا واسطة (¬3)، كالجرح أو الذبح بالسكين، والخنق، فإنه يؤدي بذاته إلى موت المجني عليه. وقد اتفق الفقهاء على أن القتل بطريق المباشرة موجب للقصاص، واشترط الحنفية (¬4) لإيجاب القصاص أن يكون القتل مباشرة لا تسبباً. والمباشرة إما أن تكون من قاتل واحد، أو من جماعة. فإن حدث القتل من شخص واحد بانفراده، وجب القصاص من القاتل. وأما إن حدث القتل من ¬
قتل الجماعة بالواحد
جماعة اشتركوا في الجريمة، فإما أن يتم الاشتراك في حال التعاقب أو في وقت واحد. قتل الجماعة بالواحد: يجب شرعاً باتفاق الأئمة الأربعة قتل الجماعة بالواحد، سداً للذرائع، فلو لم يقتلوا لما أمكن تطبيق القصاص أصلاً، إذ يتخذ الاشتراك في القتل سبباً للتخلص من القصاص. ثم إن أكثر حالات القتل تتم على هذا النحو، فلا يوجد القتل عادة إلا على سبيل التعاون والاجتماع. وقد بادر الصحابة إلى تقدير هذا الأمر، فأفتوا بالقصاص الشامل. وأول حادثة حدثت هي في عهد عمر، وهي أن امرأة بمدينة صنعاء، غاب عنها زوجها، وترك عندها ابناً له من غيرها، فاتخذت لنفسها خليلاً، فقالت له: إن هذا الغلام يفضحنا فاقتله، فأبى، فامتنعت منه فطاوعها، فاجتمع على قتل الغلام خليل المرأة، ورجل آخر، والمرأة وخادمها، فقطعوه أعضاء، وألقوا به في بئر. ثم ظهر الحادث وفشا بين الناس، فأخذ أمير اليمن خليل المرأة فاعترف، ثم اعترف الباقون، فكتب إلى عمر بن الخطاب، فكتب إليه عمر: أن اقتلهم جميعاً، وقال: «والله لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعاً» (¬1). وحكم حالتي الاشتراك في القتل يظهر فيما يأتي (¬2): ¬
أولا ـ القتل المباشر على التعاقب
أولاً ـ القتل المباشر على التعاقب: كأن يشق رجل بطن آخر، ثم يأتي غيره فيحز رقبته، فالقصاص على الثاني إن كان عمداً، وإن كان خطأ فالدية على عاقلته؛ لأنه هو القاتل، لا الأول، فإن عليه التعزير فقط. وتتم هذه الحالة بانفراد كل من المشتركين عن الآخر، لا مجتمعين، فلا يكون بينهما توافق أو تمالؤ سابق. ثانياً ـ القتل المباشر حالة الاجتماع: كأن تحدث جراحات معاً من عدة جناة، فيجرح كل منهم جرحاً مهلكاً، أو يطلق كل منهم عياراً نارياً، فيصيب المجني عليه إصابة قاتلة، فيجب القصاص عند الحنفية على كل المشتركين إذا باشروا القتل؛ لأن كل واحد منهم يعد قاتلاً عمداً. يظهر من هذا أن الحنفية لا يفرقون بين حالة التوافق (وهو قصد القتل دون اتفاق سابق) وبين التمالؤ (وهو في اصطلاح المالكية قصد القتل بعد اتفاق سابق على ارتكاب الجريمة)، وإنما المهم حدوث الإصابة فعلاً وأن يكون فعل الجاني قاتلاً، بدليل قولهم في القتل العمد: «وتشترط المباشرة من الكل، بأن جرح كل واحد جرحاً سارياً» وقال التمرتاشي: «ويقتل جمع بمفرد إن جرح كل واحد جرحاً مهلكاً، وإلا لا» أي أن المهم عندهم هو حدوث مباشرة القتل. وقال الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) (¬1): تقتل الجماعة غير المتمالئين (أي غير المتفقين سابقاً) بالواحد إذا كان فعل كل واحد منهم صالحاً للقتل به، فيما لو انفرد بالجناية ومات المجني عليه، وضربوه عمداً عدواناً، أي لا بد من كون فعل كل واحد من الجماعة قاتلاً. وفي هذه الحالة يتفق الجمهور مع الحنفية. وكذلك ¬
الشريك
يقتل عند الجمهور الجماعة المتمالئون (المتواطئون) على القتل بالواحد إن قصد الجميع الضرب، وإن لم يصلح فعل كل واحد من الجماعة للقتل، أي ولو لم يكن فعل كل واحد قاتلاً، كأن ضربوه بسياط أو بحجر صغير، فمات، لئلا يتخذ التواطؤ (الاتفاق السابق) ذريعة إلى درء القصاص. وهذا هو الأصح عند الشافعية والحنابلة، إلا أنهم يخالفون المالكية في اشتراط كون كل مشترك في ارتكاب الفعل له صفة الفاعل للجريمة، ويكفي عند المالكية حضور الجميع، وإن لم يتول القتل إلا واحد، إذا كان غير الضارب مستعداً للضرب، ولو لم يضرب غيره، وإنما كان ربيئة أي رقيباً. وبه يظهر أن الجمهور يختلفون مع الحنفية في هذه الحالة (القتل بالتمالؤ) لكني أرجح مذهب الجمهور، لفعل عمر رضي الله عنه في قتل سبعة من أهل صنعاء قتلوا رجلاً، وإجماع الصحابة على فعله. والخلاصة: أنه إذا باشر الجميع القتل يقتل الجميع باتفاق المذاهب. وأما الشريك: الذي لم يباشر فعلاً من أفعال القتل، وإنما اقتصر على الاتفاق على القتل دون حضور القتل، أو على التحريض أو الإعانة على القتل دون مباشرة القتل، فيعاقب بالتعزير، ومنه القتل إذا شاء الإمام عند غير المالكية. ويعاقب بالقصاص عند المالكية. معنى التمالؤ: هذا ويلاحظ أن الفقهاء اختلفوا في تحديد معنى التمالؤ (¬1). قال الحنفية والشافعية والحنابلة في الأرجح عندهم: التمالؤ ـ في اصطلاحهم هو توافق إرادات الجناة على الفعل ولو دون أن يكون بينهم اتفاق سابق، بحيث ¬
قتل الواحد بالجماعة ـ تعدد القتلى
يباشرون الجناية، أي يجتمعون على ارتكاب الفعل في فور واحد ولو دون سابقة من تدبير أو اتفاق. وقال المالكية: التمالؤ: التعاقد والاتفاق، وهو أن يقصد شخصان فأكثر قتل شخص وضربه، فالتمالؤ يتطلب اتفاقاً سابقاً على ارتكاب الفعل، وإن التوافق على الاعتداء لا يعتبر تمالؤاً، لكن يقتل الجميع إذا قصدوا الضرب، وحضروا الجناية، وإن لم يتول القتل إلا واحد منهم، وكان الآخر رقيباً مثلاً، بشرط أن يكونوا بحيث لو استعين بهم أعانوا. ويقتل عند المالكية أيضاً الجمع غير الممالئين بقتل شخص واحد إذا ضربوه عمداً عدواناً ومات مكانه، ولم تتميز الضربات، أو تميزت ولكن لم تعرف الضربة القاتلة. قتل الواحد بالجماعة ـ تعدد القتلى: يقتل أيضاً الواحد بالجماعة قصاصاً، ولا يجب عند الحنفية (¬1) والمالكية (¬2) مع القود شيء من المال، فليس للجماعة إلا القصاص؛ لأن الجماعة لو قتلوا واحداً قتلوا به، فكذلك إذا قتلهم واحد، قتل بهم، كالواحد بالواحد. وحق أولياء المقتول في القتل مقدور الاستيفاء لهم، فلو أوجبنا معه المال، لكان زيادة على القتل، وهذا لا يجوز. وإني أميل لهذا الرأي. وقال الشافعية (¬3): لا يقتل القاتل إلا بواحد، سواء اتفق أولياء الدم على طلب القصاص، أو لم يتفقوا؛ لأن المماثلة مشروطة في القصاص، ولا مماثلة بين ¬
4 - القتل بالتسبب
الواحد والجماعة، فلا يجوز أن يقتل الواحد بالجماعة، وإنما يقتل الواحد بالواحد، وتجب الديات للباقين. واشتراك أولياء الدم في حق المطالبة بالقصاص لايوجب تداخل حقوقهم كسائر الحقوق. وبناء عليه، إن قتل الواحد جماعة على الترتيب، قتل بأولهم، إن لم يعف لسبق حقه. وإن قتلهم معاً دفعة واحدة، كأن جرحهم أو هدم عليهم جداراً، فماتوا في وقت واحد، أو أشكل أمر المعية والترتيب، فيقتص من الجاني لواحد من القتلة بالقرعة وجوباً، وللباقين من المستحقين الديات، لتعذر القصاص عليه، كما لو مات الجاني مثلاً. وقال الحنابلة (¬1): إن اتفق أولياء القصاص على القود أو قتل الجاني قتل بهم، وإن أراد أحدهم القود، والآخر الدية، قتل لمن أراد القود، وأعطي الباقون الدية من مال الجاني، سواء قتلهم دفعة واحدة أو دفعتين، ودليلهم قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «فمن قتل له قتيل، فأهله بين خِيرَتين: إن أحبوا قَتَلوا، وإن أحبوا أخذوا العقل» (¬2) أي الدية، ولأن الجنايات المتعددة لا تتداخل في حالة الخطأ، فلا تتداخل في حالة العمد. 4 - القتل بالتسبب: السبب: ما يؤثر في الهلاك ولا يحصله، أي أنه المؤثر في الموت لا بذاته، ¬
ولكن بواسطة، كحفر بئر في طريق عام دون إذن من السلطات وتغطيتها بحيث يسقط المار فيها ويموت، وشهادة زور على بريء بالقتل، وإكراه رجل على قتل رجل آخر، وحكم جائر من حاكم على رجل بالقتل. السبب أنواع ثلاثة (¬1): الأول ـ حسي: كالإكراه على القتل. الثاني ـ شرعي: كشهادة الزور على القتل، وحكم الحاكم على رجل بالقتل كذباً أو مع العلم بالتهمة متعمداً الأذى. الثالث ـ عرفي: كتقديم الطعام المسموم لمن يأكله، وحفر بئر وتغطيتها في طريق القتيل. وحكم القتل بالتسبب إجمالاً: أنه عند الحنفية (¬2) لا يوجب القصاص؛ لأن القتل تسبيباً لا يساوي القتل مباشرة، والعقوبة قتل مباشر. فمن حفر حفرة أو بئراً على قارعة الطريق، فوقع فيها إنسان، ومات، لا قصاص على الحافر؛ لأن الحفر قتل بالسبب لا بالمباشرة. كما لا قصاص على شهود الزور إذا رجعوا عن شهادتهم بعد قتل المشهود عليه. أما الإكراه على القتل فيوجب القصاص عند الحنفية على المُكرِه؛ لأنه قتل مباشرة، والإكراه يجعل المستكره آلة بيد المكره، ولا قصاص على الآلة. وقال الجمهور غير الحنفية (¬3): يجب القصاص بالسبب، إذا قصد المتسبب ¬
الإكراه على القتل
إحداث الضرر، وهلك المقصود المعين بالسبب المتخذ، كما في حالة الحفر ورجوع الشهود عن شهادتهم، والتسميم، والإكراه. ولا بد من توضيح الكلام في الإكراه على القتل، والتسميم. الإكراه على القتل: إذا أكره رجل غيره على قتل آخر بأن هدده بما يلحق ضرراً بنفسه أو ماله، فقال أبو حنيفة ومحمد: يجب القصاص على المكرِه، دون المستكره المباشر، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «عفي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (¬1) ولأن المستكره آلة للمكره، والقاتل معنى هو المكرِه، والموجود من المستكره صورة القتل فقط. وقال أبو يوسف: لا قصاص على أحد، سواء المكره والمستكره، للشبهة؛ لأن المكره ليس بمباشر للقتل، وإنما هو مسبب له، وإنما القاتل هو المستكره. وقال زفر: القصاص على المستكره؛ لأن القتل وجد منه في الحقيقة والواقع. وبه يتبين أن في المذهب الحنفي (¬2) آراء ثلاثة أرجحها الأول. وقال الجمهور (المالكية والشافعية في الأظهر عندهم، والحنابلة) (¬3): يجب القصاص على المكره والمستكره جميعاً؛ لأن المكره متسبب في القتل بما يفضي إليه غالباً، والمستكره مباشر القتل عمداً عدواناً، ومؤثرْ في فعله استبقاء نفسه. وإني أرجح هذا الرأي. ¬
الأمر بالقتل
لكن لو قال له: اقتلني وإلا قتلتك، فلا قصاص عند الشافعية إذا قتله؛ لأن الإكراه شبهة يدرأ بها الحد. أما لو أمره بقتل نفسه، بأن قال له: اقتل نفسك وإلا قتلتك، فقتل نفسه، لم يجب القصاص؛ لأن هذا ليس إكراهاً، فصار كأنه مختار له، في رأي الشافعية. ويلاحظ أن الإكراه على القتل لا يبيحه، بل يأثم بالاتفاق وكذا لا يباح الزنى بالإكراه. الأمر بالقتل: فرَق الفقهاء بين الإكراه على القتل وبين الأمر بالقتل، لاختلاف طبيعة الحالتين، ففي حالة الإكراه يكون المباشر مجبراً على تنفيذ الفعل، وفي حالة الأمر يكون المباشر مختاراً ارتكاب الجريمة؛ لذا كان في حكمه تفصيل: 1 - إذا كان المأمور غير مميز كصبي أو مجنون، فلا قصاص على الآمر عند الحنفية؛ لأنه قتل بالتسبب، والقتل بالتسبب لا قصاص فيه، وإنما فيه الدية، كما بينت سابقاً. وقال الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) (¬1): يقتص من الآمر؛ لأنه متسبب في القتل. وأما المباشر فهو مجرد آلة يحركها الآمر كيف يشاء. 2 - وإذا كان المأمور مميزاً، أو كبيراً بالغاً عاقلاً، فإما أن يكون للآمر سلطان عليه، أو لا سلطان له عليه. ¬
التسميم
فإن لم يكن سلطان للآمر على المأمور، فقال مالك والشافعي وأحمد (¬1): يقتص من المباشر المأمور، ويعزر الآمر. وأما إذا كان للآمر سلطان على المأمور أي المباشر، كسلطة الأب على ولده الصغير، وسلطة الحاكم على من هو تحت إمرته، بحيث يخاف المأمور أن يقتله الآمر لو لم يطع أمره، فيقتص عند مالك (¬2) من الآمر والمأمور معاً؛ لأن الأمر في هذه الحالة يعتبر إكراهاً. وقال الشافعية والحنابلة (¬3): إن علم المأمور أن القتل بغير حق، فيقتص من المأمور المباشر؛ لأنه غير معذر في فعله، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» (¬4)، ويعزر الآمر بالقتل ظلماً لارتكابه معصية. وإن لم يعلم المأمور أن القتل بغير حق، فالقصاص على الآمر؛ لأن المأمور معذور لوجوب طاعة الإمام في غير معصية، والظاهر من حاله أنه لا يأمر إلا بالحق. وعند أبي حنيفة (¬5): لا قصاص على الآمر إلا إذا كان مُكرِهاً، كما لا قصاص على المأمور إذا كان الأمر صادراً ممن يملكه؛ لأن الأمر أو الإذن شبهة تدرأ القصاص، فإن كان الأمر صادراً ممن لا حق له فيه، فعلى المأمور القصاص. التسميم: التسميم: تسبب لقتل النفس، فلا يوجب القصاص عند الحنفية (¬6). فإن ¬
دس شخص لآخر السم في طعام أو شراب، فأكله أو شربه ولم يعلم به، ومات منه، فلا قصاص عليه، ولا دية، لكن يلزمه الاستغفار والحبس والتعزير، لارتكابه معصية بتسببه لقتل النفس، وتغريره بالمجني عليه. أما في حالة الإكراه على تناول السم، كأن أوجر (صب في الحلق) شخص السم في حلق آخر على كره منه، أو ناوله إياه وأكرهه على شربه حتى شرب، فالفعل قتل شبه عمد؛ لأنه حصل بما لا يجرح، فلا قصاص فيه عند أبي حنيفة، وإنما تجب الدية على عاقلته (أهل ديوانه أو حرفته أو نقابته) (¬1). والتسميم أو تقديم مسموم عند المالكية (¬2) موجب للقصاص، إن مات متناوله، وكان مقدمه عالماً بأنه مسموم، وإلا فلا شيء عليه لأنه معذور، كما لا شيء على مقدِّمه إن علم المتناول بسميته؛ لأنه يكون حينئذ قاتلاً لنفسه. وكذلك يعتبر التسميم عند الحنابلة (¬3) قتلاً عمداً موجباً للقصاص إذا كان مثله يقتل غالباً، لأن التسميم يتخذ كثيراً طريقاً إلى القتل، فيوجب القصاص، وبدليل أن يهودية أتت النبي صلّى الله عليه وسلم بشاة مسمومة، فأكل منها النبي صلّى الله عليه وسلم وبشر بن البراء بن معرور، فلما مات بشر، أرسل إليها النبي صلّى الله عليه وسلم، فاعترفت، فأمر بقتلها (¬4). وعند الشافعية (¬5): يعد تسميم الصبي غير المميز (دون السابعة) والمجنون قتلاً عمداً موجباً للقصاص، وكذلك يجب القصاص إن سقى السم بالغاً عاقلاً مكرَهاً، فمات، لأنه سبب يقتل غالباً. ¬
حالات اشتراك المتسبب مع المباشر
فإن سقاه مميزاً أو بالغاً عاقلاً في غير حالة الإكراه، ولم يعلم المتناول حال الطعام، فهو في الأصح قتل شبه عمد، يوجب الدية فقط لا القصاص؛ لأن آخذه تناوله باختياره من غير إلجاء. والخلاصة: إن التسميم قتل عمد عند المالكية والحنابلة، وعمد عند الشافعية في حالة الإكراه، وإعطائه غير المميزأو المجنون، وشبه عمد عند الحنفية في حالة الإكراه، وكذا في غير حالة الإكراه عند الشافعية، ويوجب التعزير فقط عند الحنفية في غير حالة الإكراه. حالات اشتراك المتسبب مع المباشر في جناية القتل: بينت سابقاً حالة الاشتراك المباشر بين اثنين فأكثر في بحث قتل الجماعة بالواحد، وأبين هنا حالة اشتراك المتسبب مع المباشر، كما سأبين في مبحث تالٍ حالة الاشتراك بين من يجب عليه القصاص وبين من لا يجب عليه. أما حالة اشتراك المتسبب مع المباشر في جريمة القتل، فيخضع حكمها لما قرره الفقهاء من القواعد الفقهية العامة في بحث الضمان (¬1). وأمثلتها: اشتراك الممسك مع القاتل، والدال مع المدلول، والحافر حفرة مع المردي، والملقي من شاهق مع القاد. أولاً ـ ضمان المباشر وحده: المباشر: هو الذي حصل الضرر بفعله بلا واسطة، أي تدخل فعل شخص آخر مختار، ويكون مسؤولاً عن فعله في ضوء قاعدتين عند الحنفية هما: ¬
1 - «المباشر ضامن وإن لم يتعمد»
1 - «المباشر ضامن وإن لم يتعمد»: فمن باشر القتل بسلاح وجب عليه القصاص إذا كان القتل عمداً عدواناً. ومن باشر القتل بغير سلاح كحجر وخشب، أو أطلق عياراً نارياً إلى طائر فأصاب إنساناً، أو انقلب نائم على إنسان فقتله أو سقط من حائط على إنسان في الطريق فقتله، كان القتل شبه عمد في القتل بغير سلاح، وخطأ في الإطلاق على طائر، ومما جرى مجرى الخطأ في الوقوع على إنسان، ويجب عليه الدية (¬1) والأصح أن يقال في القاعدة: «وإن لم يتعدّ». 2 - «إذا اجتمع المباشر والمتسبب يضاف الحكم إلى المباشر»: يلزم المباشر بالضمان أو المسؤولية إذا كان هو المؤثر الأقوى في إحداث العدوان، وكان دور السبب ضعيفاً لا يعمل بانفراده في الهلاك. كمن حفر حفرة أو بئراً في الطريق العام دون إذن السلطات، وجاء آخر وأردى غيره (دفعه أو ألقاه) في البئر، أوألقى حيواناً فيها، ضمن المردي أو الدافع أو الملقي، ووجب عليه الدية أو التعويض، لأنه مباشر للتلف بالذات، وأما حافر البئر فهو متسبب فقط؛ لأن حفره البئر، وإن أفضى إلى التلف، لكنه لا ينفرد بالإتلاف ما لم يوجد الدفع الذي هو المباشر (¬2). ومثله من دل غيره على شخص فقتله المدلول كان الثاني عند أبي حنيفة هو المسؤول. ومثَّل الشافعية والحنابلة (¬3) لهذه القاعدة بمن أمسك شخصاً فقتله آخر أو ¬
حفر بئراً فرداه فيها آخر، أو ألقاه من شاهق، فتلقاه آخر فقدَّه (قطعه نصفين مثلاً قبل وصوله الأرض) فالقصاص على القاتل والمردي والقادّ فقط (¬1). وبناء عليه لو أمسك رجل شخصاً ليقتله آخر، يضمن القاتل فقط عند الحنفية (¬2)، فيقتص منه إن قتله بسلاح؛ لأنه باشر القتل،، ويجب التعزير على الممسك من غير حبس. وقال الشافعية، والراجح عند أحمد (¬3): يقتل القاتل، ويعزر الممسك عند الشافعية بحسب ما يرى الحاكم من المدة. وقال الحنابلة: يحبس الممسك حتى يموت، لقوله عليه السلام: «إذا أمسك الرجلُ الرجلَ، حتى جاء آخر، فقتله، قتل القاتل وحبس الممسك» (¬4) وقوله أيضاً: «إن من أعتى الناس على الله عز وجل: من قتل غير قاتله، أو طلب بدم الجاهلية في الإسلام، أو بصَّر عينيه في النوم ما لم تبصره» (¬5). ¬
ثانيا ـ ضمان المتسبب
لكن المالكية (¬1) قالوا: إذا اجتمعت المباشرة والسبب، فالقصاص عليهما معاً، فيشارك القاتل والممسك في الضمان أو القصاص، لتسبب الممسك ومباشرة القاتل. ومثله الدال الذي لولا دلالته ما قتل المدلول عليه، قياساً على الممسك. كذلك يقتص عندهم من الحافر والمردي معاً. والخلاصة: إن المباشر ضامن إذا تغلبت المباشرة على السبب. ثانياً ـ ضمان المتسبب وحده: المتسبب: هو الذي يحدث أمراً يؤدي إلى تلف شيء آخر بحسب العادة، إلا أن التلف مباشرة لا يقع منه، وإنما بواسطة أخرى هي فعل فاعل مختار. ويضمن المتسبب وحده إذا كان متعدياً، عملاً بقاعدة «المتسبب لايضمن إلا بالتعدي» سواء أكان بقصد أم لا، أو بقاعدة «يضاف الفعل إلى المتسبب إن لم يتخلل واسطة»، وذلك إذا تعذر تضمين المباشر لكونه غير مسؤول أو غير موجود أو غير معروف، أو كان فعل المتسبب أقوى من المباشر. فمن دفع إلى صبي سكيناً ليمسكه له، فوقع عليه، فجرحته، كان الضمان (الدية) على الدافع؛ لأن السبب هنا يشتمل على معنى التعدي، لكون الصبي لم يباشر فعلاً معيناً، فهو غير مسؤول، والسكين بطبيعتها آلة جارحة. ومن طرح على قارعة الطريق حية، فلدغت إنساناً بمجرد إلقائها، فمات، فهو ضامن ديته؛ لأنه متعد في هذا السبب. ومثله لو ألقى عقرباً أوزنبوراً ونحوهما على حيوان أو إنسان، فأتلفه، كان على الملقي الضمان. وشهود الزور ¬
ثالثا ـ تضمين المتسبب والمباشر معا
في قتل إنسان يضمنون الدية عند الحنفية، ويجب عليهم القصاص عند غير الحنفية؛ لأنهم تسببوا في موت المشهود عليه، ولو كان الحاكم هو المباشر. ولو دفع إنسان رجلاً على آخر، فعطب الآخر، كان الضمان (الدية) على الدافع؛ لأن المدفوع كالآلة، والقاعدة فيه هي «المدفوع كالآلة في الضمان». ولو عثر شخص بحجر لم يعرف واضعه، فوقع في بئر، يكون حافر البئر ضامناً الدية، لتعذر معرفة المباشر، ولأن صاحب البئر متسبب. ومن حفر بئراً في داره، وغطاها، أوربط كلباً قرب باب الدار، ثم أذن لرجل بالدخول، فوقع في البئر ومات، أو عقره الكلب، فمات وجب عليه الضمان (الدية عند الحنفية، وفي الأصح عند الشافعية) (¬1). والخلاصة: أن المتسبب هو الضامن إذا تغلب السبب على المباشر. ثالثاً ـ تضمين المتسبب والمباشر معاً: يضمن المتسبب مع المباشر إذا كان للسبب تأثير يعمل بانفراده في الإتلاف متى انفرد عن المباشرة، أي إذا تعادلت قوة التسبب والمباشرة، أو اعتدل السبب والمباشر بأن تساوى أثرهما في الفعل، كان المتسبب والمباشر مسؤولين معاً عن القتل، كأن اجتمع على قيادة دابة سائق وراكب عليها، فما أحدثته من تلف، كان الضمان عليهما؛ لأن سوق الدابة وحده يؤدي إلى التلف، وإن لم يكن هناك شخص راكب عليها. وكذلك إذا نخس رجل الدابة بأمر راكبها، يكون الضمان على الاثنين؛ لأن الناخس بمنزلة السائق. ¬
حالة اشتراك من يجب عليه القصاص ومن لا يجب عليه القصاص
وعند الجمهور غير الحنفية يقتص في حالة الإكراه من المكره والمستكره معاً؛ لأن المكره متسبب، والمستكره مباشر، كما بان سابقاً. وعند المالكية خلافاً لبقية المذاهب: يقتص من الممسك والقاتل؛ لأن الممسك متسبب، والقاتل مباشر، كما أوضحت سابقاً. حالة اشتراك من يجب عليه القصاص ومن لا يجب عليه القصاص: القاعدة المقررة في هذه الحالة عند الحنفية هي أن «القصاص لا يتجزأ» (¬1) فلو اشترك اثنان في قتل رجل: أحدهما ممن يجب عليه القصاص، لو انفرد بالجريمة وحده، والآخر لا يجب عليه، لو انفرد لعدم انطباق شروط القصاص عليه كما سيأتي، مثل اشتراك صبي مع بالغ، ومجنون مع عاقل، ومخطئ وعامد في قتل شخص (¬2)، أو اشتراك الأب مع شخص أجنبي في قتل الابن، أو اشتراك زوج مع أجنبي في قتل زوجته وله منها ولد، أو اشتراك رجل مع سبعٍ أو حية في إماتة إنسان، كأن يجرحه سبع أو تلدغه حية، ويجرحه إنسان عمداً، فيموت بسببها، أو يجرح الشخص نفسه، ويجرحه أجنبي أيضاً، فمات، ففي كل هذه الحالات لا قصاص على أحد في مذهبي الحنفية والحنابلة (¬3)، سواء من توافرت فيه شرائط القصاص أو لم تتوافر فيه لمانع شرعي، لوجود الشبهة في فعل كل واحد منهما، ولا يطبق القصاص مع الشبهة، لكن تجب الدية عليهما. ¬
أما صاحب أهلية القصاص كالبالغ فتجب الدية في ماله. والذي لا يجب عليه القصاص كالمخطئ، تجب الدية على عاقلته. وهذا عند الحنفية في حالة غير شريك الأب، أما في حالة اشتراك الأب والأجنبي، فتجب الدية في مالهما؛ لأن الأب لو انفرد بالقتل تجب الدية في ماله. ورأى الحنابلة: أن على عاقلة الصبي والمخطئ نصف الدية، وعلى البالغ، والمتعمد نصف الدية في ماله. وفي شريك السبع وشريك جارح نفسه وجهان في إيجاب القصاص عليه: أحدهما وهو الأصح: لا قصاص عليه، والثاني: عليه القصاص. وأما شريك الأب فعليه القصاص، كشريك الأجنبي. وقال الشافعية (¬1) بتفصيل آخر: لا يقتل شريك المخطئ، وشبه العمد بسبب الشبهة في القصاص، وإنما تجب الدية عليهما، أما المتعمد فعليه نصف الدية مغلظة في ماله، وغير المتعمد عليه نصف الدية مخففة. ويقتل شريك الأب في قتل ولده (أي كما قال الحنابلة)، وشريك جارح نفسه، كأن جرح الشخص نفسه وجرحه غيره فمات بهما. وكذلك يقتل شريك دافع الصائل (¬2) في الأظهر، وشريك صبي مميز أو مجنون، وشريك السبع والحية القاتلين غالباً، لصدور الجريمة منه، وهو القتل العمد، وأما امتناع القصاص على الآخر فهو لعذر أو مانع خاص به، فلا يتعدى إلى الآخر، ويجب عليه القصاص جزاء لفعله. والأظهر عند الشافعية أن من ألقى غيره في ماء مُغرق كالبحر فالتقمه حوت، وجب القصاص عليه؛ لأنه بسببه، فإن كان الماء غير مغرق فلا قصاص عليه. وقال المالكية (¬3): إن اشترك في القتل عامد ومخطئ، أو مكلف وغير مكلف ¬
5 - الإلقاء في مهلكة
مثل رجل عامد وصبي، أو عامد ومجنون، إن تمالآ على قتله، فعلى العامد القصاص، وعلى عاقلة المخطئ والمجنون والصبي نصف الدية؛ لأن عمد الصبي كخطئه، رعاية للمصلحة وصيانة للدماء، فكأن كل واحد منهما انفرد بالجريمة. فإن لم يتمالأا على قتله، وتعمد الاثنان قتل المجني عليه أوتعمد الكبير، فعلى الكبير نصف الدية في ماله، وعلى عاقلة الصبي نصفها أي كما قال الحنفية. فإن قتلاه خطأ، أو أخطأ الكبير، فعلى عاقلة كل منهما نصف الدية. وفي حالة عدم التمالؤ هناك قولان عند المالكية في أربع مسائل: هي شريك سبع، وشريك جارح نفسه جرحاً يعقبه الموت غالباً، ثم ضربه كبير قاصداً قتله، وشريك حربي، وشريك مرض بعد الجرح، بأن جرح شخص غيره، ثم حصل للمجروح مرض ينشأ عنه الموت غالباً. ثم مات، ولم يدر، أمات من الجرح أو من المرض. والقولان هما: قول بعدم القصاص من الشريك، ولكن على الشريك نصف الدية في ماله، ويضرب مئة، ويحبس عاماً، وقول بالقصاص. والراجح في شريك المرض القصاص في حالة القتل العمد، والدية في الخطأ. ولكن بعد حلف أيمان القسامة الخمسين. وأما المسائل الثلاث الباقية فالقولان فيها على حد سواء. ولعل رأي المالكية أرجح الآراء صوناً للدماء. 5 - الإلقاء في مهلكة: إذا جمع شخص بين إنسان وبين أسد أونمر في مكان ضيق كزُبية (¬1) ونحوها، أوأمام كلب فينهشه، أو يرمي عليه حية أوعقرباً فتلدغه، فهل يعتبر فعله قتلاً عمداً، فيسأل عنه، أو لا يسأل عنه؟ هناك آراء ثلاثة في المذاهب. ¬
قال الحنفية (¬1): لا قود فيه ولا دية، وإنما يعزر ويضرب ويحبس إلى أن يموت. ويروى عن أبي حنيفة أن عليه الدية. وإن فعل ذلك بصبي فعليه الدية. وإن ربط صبياً وألقاه في الشمس أو البرد حتى مات، فعلى عاقلته الدية. وقال المالكية (¬2): الفعل العدوان في هذه الحالة قتل عمد فيه القود، سواء أكان فعل الحيوان بالإنسان مما يقتل غالباً كالنهش، أم مما لا يقتل غالباً ومات الآدمي من الخوف. ولا يقبل الادعاء بأنه قصد بفعله اللعب. وكذلك قال الحنابلة (¬3): الفعل قتل عمد موجب للقصاص إن فعل الحيوان المفترس أو المتوحش بالإنسان ما يقتل به غالباً، أو فعل به فعلاً يقتل مثله. فإن فعل به فعلاً لو فعله الآدمي لم يكن قتلاً عمداً، لم يجب القصاص به؛ لأن السبع صار آلة للآدمي، فكان فعله كفعله. وعلى هذا، إن ألقاه مكتوفاً بين يدي أسد أو نمر، فقتله، فهو عمد. وكذا إن جمع بينه وبين حية في مكان ضيق، فنهشته، فقتلته، فهو عمد. ولو لسعه عقرب من القواتل، فهو عمد. ورأي المالكية والحنابلة أولى في تقديري. وقال الشافعية (¬4): إن جمع بين شخص وبين السبع في زُبية أو بيت صغير ضيق، أو أغراه به، أو أمسكه وعرضه لمجنون فقتله، وجب عليه القود؛ لأن السبع يقتل إذا اجتمع مع الآدمي في موضع ضيق. أما إن كتّف رجلاً وطرحه في أرض مسبعة أو بين يدي سبع (أي في مكان واسع مثل البرية) فقتله، لم يجب القود؛ لأنه سبب غير ملجئ. ¬
6 - التغريق والتحريق
وإن كتَّفه وتركه في موضع فيه حيات، فنهشته، فمات لم يجب القود، سواء أكان المكان ضيقاً أم واسعاً؛ لأن الحية تهرب عادة من الآدمي، فلم يكن تركه معها ملجئاً إلى قتله، بخلاف السبع فإنه يثب على الإنسان في المكان الضيق دون المتسع. وإن أنهشه سبعاً أو حية يقتل مثلها غالباً، فمات منه، وجب عليه القود؛ لأنه ألجأه إلى قتله. 6 - التغريق والتحريق: يفرق الحنفية بين التحريق والتغريق، فالتحريق بالنار عندهم قتل عمد؛ لأن النار كالسلاح في تفريق أجزاء الجسد، فتشق الجلد، وتعمل عمل الذبح. وألحقوا بالنار: الماء المغلي أو الحار، والمعدن المصهور، والتنور أو الفرن المحمي وإن لم يكن فيه نار (¬1). وأما التغريق بالماء الكثير فهو عند أبي حنيفة قتل شبه عمد، لأنه كالقتل بالمثقل. وعند الصاحبين: هو قتل عمد موجب للقود؛ لأنه مما يقتل به غالباً، واستعماله دليل العمدية (¬2)، ويدل لهما قوله عليه السلام: «من غرَّق غرقناه» (¬3). وهذا إذا كان الماء عظيماً بحيث لا تمكن النجاة منه. فلو كان الماء قليلاً لا يقتل غالباً، أو عظيماً تمكن النجاة منه بالسباحة، والملقى بالماء يحسن السباحة، فالقتل ليس شبه عمد باتفاق الحنفية. ¬
ويرى المالكية (¬1): أن التحريق والتغريق قتل عمد موجب للقصاص، إذا كان التغريق عدواناً أو لعباً لغير المحسن للعوم، أوعداوة لمحسن العوم وكان الغالب عدم النجاة لشدة برد، أو طول مسافة، فغرق. فإن كان التغريق لمحسن العوم لعباً، فعليه دية مخففة (مخمسة) لا مغلظة. وقال الشافعية والحنابلة (¬2): إذا ألقى أو طرح شخص غيره في نار أو ماء، لا يمكنه التخلص منه لكثرة الماء أو النار أولعجزه عن التخلص لعدم إحسانه السباحة، أو مع إحسانها، وكان مكتوفاً أو ضعيفاً أو مريضاً أو صغيراً، فمات، كان القتل عمداً موجباً القصاص. وإن ألقاه في ماء مغرق، فالتقمه حوت، وجب القصاص في الأظهر عند الشافعية؛ لأنه ألقاه في مهلكه، وفيه وجهان عند الحنابلة، أصحهما وجوب القود على الملقي. فإن كان الماء يسيراً غير مغرق والتقمه الحوت فلا قصاص، وعليه دية القتل شبه العمد عند الشافعية والحنابلة؛ لأنه هلك بفعله. وإن أمكنه التخلص من الغرق بسباحة أو تعلق بزورق، فتركها، فلا قود ولا دية؛ أي أنه هدر عند الحنابلة، وفي الأظهر عند الشافعية؛ لأنه مهلك لنفسه. كذلك لا دية في الأظهر عند الشافعية إذا ألقاه في نار يمكنه الخلاص منها، فمكث فيها حتى مات. وفي إيجاب ضمان ديته وجهان عند الحنابلة، والصواب إلزامه الدية؛ لأنه جانٍ بالإلقاء المفضي إلى الهلاك. ورأي الشافعية والحنابلة أولى بالاتباع، ويقترب منه رأي المالكية؛ لأن مثل هذا الفعل الذي يباشره المعتدي قاتل غالباً. ¬
7 - الخنق
7 - الخنِق (¬1): الخنق عند أبي حنيفة قتل شبه عمد موجب للدية؛ لأنه ليس وسيلة معدة للقتل. وشرط القتل العمد عنده استعمال آلة قاتلة غالباً، ومعدة للقتل. وهو قتل عمد موجب للقصاص عند الصاحبين؛ لأنه في رأيهما وسيلة معدة للقتل، وذلك عندهما بشرط أن يدوم الجاني على الخنق بمقدار ما يموت منه الإنسان غالباً. فإن لم يتحقق هذا الشرط فلا قصاص باتفاق الحنفية (¬2). وقال المالكية (¬3): الخنق عمد، سواء قصد به الجاني موت المجنى عليه، فمات، أو قصد مجرد التعذيب، ما دام هناك عدوان. فإن كان على وجه اللعب أو التأديب، فهو من القتل الخطأ. وقال الشافعية والحنابلة (¬4): الخنق عمد فيه القصاص، إن فعل به ذلك مدة يموت في مثلها غالباً، فمات، أي كما قال الصاحبان. وإن فعله في مدة لا يموت في مثلها غالباً، فمات، فهو عمد الخطأ أي شبه العمد، إلا أن يكون ذلك يسيراً في العادة بحيث لا يتوهم الموت منه، فلا يوجب ضماناً؛ لأنه بمنزلة لمسه. وإن خنقه وتركه متألماً مثلاً حتى مات، ففيه القود؛ لأنه مات من سراية جنايته. وإن تنفس وصح بعدئذ، ثم مات، فلا قود؛ لأن الظاهر أنه لم يمت بالخنق. ورأي غير أبي حنيفة أولى سداً للباب أمام المعتدين. ¬
8 - القتل بالترك أو الحبس ومنع الطعام والشراب
8 - القتل بالترك أو الحبس ومنع الطعام والشراب: إذا حبس شخص إنساناً في مكان، ومنع عنه الطعام أو الشراب، أو الدفء في الشتاء ولياليه الباردة، حتى مات جوعاً أو عطشاً أوبرداً في مدة يموت في مثلها غالباً، وتعذر عليه الطلب، ففيه آراء: قال أبو حنيفة: لا شيء على الحابس؛ لأن الموت حدث بالجوع ونحوه، لا بالحبس. وقال الصاحبان: تجب عليه الدية؛ لأنه قاتل شبه عمد؛ لأن الطعام والشراب والدفء من لوازم الإنسان، وتتوقف عليها حياته، فمن منعه إياها أهلكه بمنعه. وكونهما لم يعتبرا الفعل قتل عمد، فلأن الحبس في تقديرهما ليس وسيلة معدة للموت، وإن كان في ذاته وسيلة قاتلة غالباً (¬1). واعتبر المالكية (¬2) القتل في هذه الحالة كالخنق قتلاً عمداً، ما دام قد صدر على وجه العدوان. واعتبر الشافعية والحنابلة (¬3) القتل حينئذ عمداً موجباً القصاص، إذا مضت مدة يموت مثله فيها غالباً جوعاً أو عطشاً؛ لظهور قصد الإهلاك به؛ لأن الله تعالى أجرى العادة بالموت عندئذ، فإذا تعمده الإنسان، فقد تعمد القتل، وهذا الرأي وسط معتدل. وتختلف المدة باختلاف حال المحبوس قوة وضعفاً، والزمان حراً وبرداً؛ لأن فقد الماء في الحر ليس كفقده في البرد. ¬
9 ـ القتل تخويفا أو إرهابا
فإن كان لا يموت في مثلها غالباً، كان القتل شبه عمد عند الحنابلة. وفصل النووي في المنهاج في هذه الحالة، فقال: إن لم يكن به جوع وعطش سابق فشبه عمد. وإن كان به بعض جوع أو عطش، وعلم الحابس الحال، كان القتل عمداً، لظهور قصد الاهلاك. 9 ـ القتل تخويفاً أو إرهاباً: يحدث القتل أحياناً بفعل معنوي غير مادي، كالتخويف والإرهاب، والصيحة الشديدة ونحوها من الأمثلة التالية: ـ من شهر سيفاً في وجه إنسان، أو دلاَّه من مكان شاهق، فمات من روعته، أو ذهب عقله. ـ لو صاح إنسان بصبي أو مجنون أو معتوه صيحة شديدة، وهو على سطح أو حائط ونحوهما، فوقع فمات، أو ذهب عقله. ـ لو تغفل أحد بالغاً عاقلاً، فصاح به، فأصابه ذلك. ـ لو طلب الحاكم امرأة إلى مجلس القضاء، فأجهضت جنينها فزعاً، أو زال عقلها. ـ لو ألقى على إنسان حية، ولو كانت ميتة، فمات فزعاً ورعباً. ففي كل هذه الأحوال: لا ضمان لديته عند الحنفية لعدم تعدي السبب، أي لم يكن المذكور سبباً كافياً للضمان، إذ ليس السبب متصلاً بالنتيجة قطعاً، وذلك إذا لم يكن التخويف فجأة. فإن كان الصياح ونحوه على إنسان فجأة، فمات من صيحته أو قال له: قع، فوقع، فهو قاتل له قتلاً شبه عمد، فتجب الدية (¬1). ¬
وقال المالكية (¬1): يكون المتسبب فيما ذكر في غير حال الإجهاض قاتلاً عمداً يجب عليه القصاص إن كان على وجه العداوة. أما إن كان على وجه اللعب أو التأديب فعليه الدية. وقال الشافعية والحنابلة (¬2): إن فعل ما ذكر عمداً فهو شبه عمد موجب الدية، وإلا فهو خطأ؛ لأنه سبب إتلافه. ووافق الشافعية على هذا في الصبي. ولهم في البالغ قولان: تجب الدية؛ لأن الفاعل مسؤول عن فعله ما دام قد أدى للموت، والبالغ في حال غفلته يفزع من الصيحة كما يفزع الصبي. وقيل في وجه آخر: لا تجب الدية؛ لأن البالغ بما يتميز به عادة من ضبط الأعصاب لا يفزع مع الغفلة، وإن فزع فنادراً، ولا حكم للنادر. إلا أن هذين المذهبين اختلفا في حالة الاجهاض من الفزع، فإن أجهضت المرأة، فاتفقا على ضمان الجنين إذا ألقته أمه ميتاً، لقصة عمر الآتية. وأما إن فزعت المرأة فماتت، فقال الشافعية: لم تضمن ديتها؛ لأن ما حدث ليس بسبب لهلاكها في العادة. وقال الحنابلة: تجب ديتها أيضاً؛ لأن الحاكم أفزعها، فكان متسبباً في موتها. وأما قصة عمر: فهي أنه أرسل إلى امرأة مُغِيبة (¬3)، كان يدخل عليها، فقالت: يا ويلها، ما لها ولعمر، فبينا هي في الطريق فزعت، فجاءها الطلق (¬4)، فألقت ولداً، فصاح الصبي صيحتين، ثم مات، فاستشار عمر أصحاب النبي ¬
الركن الثالث ـ القصد الجنائي
صلّى الله عليه وسلم، فأشار بعضهم أن ليس عليك شيء، إنما أنت وال ومؤدب، وصمت علي. فأقبل عليه عمر، فقال: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال: إن كانوا قالوا برأيهم، فقد أخطأ رأيهم، وإن كانوا قالوا في هواك، فلم ينصحوا لك، إن ديته عليك؛ لأنك أفزعتها، فألقته، فقال عمر: أقسمت عليك ألا تبرح حتى تقسمها على قومك، أي قريش. الركن الثالث ـ القصد الجنائي: لا يكون القتل عمداً عند جمهور الفقهاء (الحنفية (¬1) والشافعية (¬2) والحنابلة (¬3)) إلا إذا قصد الجاني قتل المجني عليه، أو ضربه بفعل مزهق (أي قصد الفعل العدوان بما يقتل غالباً). فإن لم يتوافر القصد الجنائي، فلا يعد الفعل قتلاً عمداً. ولو قصد الجاني مجرد الاعتداء على المجني عليه، دون إزهاق روحه، بما لا يقتل غالباً، كان القتل شبه عمد. وبما أن هذا القصد أو النية أمر باطني خفي لا يمكن الاطلاع عليه، أناط الفقهاء حكم القتل العمد بوصف ظاهر يمكن معرفته، وهو استعمال أداة القتل المناسبة؛ لأن الجاني غالباً يختار الآلة المناسبة لتنفيذه قصده الجرمي. فاستعمال الآلة القاتلة غالباً هو المظهر الخارجي لنية الجاني، وهو الدليل المادي الذي لا يكذب في الغالب؛ لأنه من صنع الجاني، لا من صنع غيره. ومن ثم اشترط الفقهاء أن تكون الآلة قاتلة غالباً؛ لأنها دليل على قصد القتل عند الجاني (¬4). ¬
القصد المحدود وغير المحدود
وأما المالكية (¬1)، فاشترطوا للقصاص من الجناية وجود العدوان، ولم يشترطوا في القصاص قصد القتل، فسواء قصد الجاني قتل المجني عليه، أو تعمد الفعل بقصد العدوان المجرد عن نية القتل، فهو قاتل عمداً (¬2)، إذا لم يرتكب الفعل على وجه اللعب أو التأديب، فيكون حينئذ خطأ. القصد المحدود وغير المحدود: لا فرق عند الحنفية والحنابلة (¬3) بين القصد المحدود وغير المحدود، فسواء قصد الجاني قتل شخص معين، أو ضرب جماعة ولو لم يقصد شخصاً معيناً من الجماعة، فهو قاتل عمد. وفرق الشافعية والمالكية (¬4) بين نوعي القصد، فإن قصد معيناً فهو قتل عمد، وإن قصد غير معين فهو قتل شبه عمد عند الشافعية، وخطأ عند المالكية. الرضا بالقتل أو الإذن بالقتل: يرى بعض الفقهاء أن الرضا أو الإذن بالقتل لا يبيح القتل؛ لأن الإنسان غير مالك نفسه، وإنما هي مملوكة لله عز وجل، فلا تباح عصمة النفس إلا بما نص عليه الشرع. ورأي فقهاء آخرون أن الإذن يبيح القتل. وبناء عليه اختلف الفقهاء في عقوبة القاتل المأذون له بالقتل، كما لو قال رجل لآخر: اقتلني، فقتله. ¬
المطلب الثاني ـ عقوبات القتل العمد
قال الحنفية ما عدا زفر (¬1): القتل شبه عمد، يوجب الدية؛ لأن الإذن بالقتل الموجود بالفعل أورث شبهة، والحدود ومنها القصاص تدرأ بالشبهات. وقال زفر: لا يصلح الإذن شبهة، فلا يدرأ القصاص، ويجب تطبيقه. وقال المالكية (¬2): الإذن بالقتل لا يمنع وجوب القصاص، وإنما يلزم القود. وقال الشافعية في الأظهر عندهم والحنابلة (¬3): لا قصاص ولا دية، ودم المقتول أو جرحه هدر؛ لأن الحق له فيه، وقد أذنه في إتلافه، كما لو أذن له في إتلاف ماله. المطلب الثاني ـ عقوبات القتل العمد: عقوبة القتل العمد: هي الجزاء المترتب على الاعتداء على النفس. وللقتل العمد عقوبات: أصلية، وبدلية (عن الأصلية)، وتبعية. واتفق الفقهاء على أن قاتل النفس عمداً يجب عليه أمور ثلاثة: الأول ـ الإثم العظيم لورود القرآن بتخليده في نار جهنم، والثاني ـ القود لآية القصاص، والثالث ـ الحرمان من الميراث لحديث: «لا يرث القاتل شيئاً». النوع الأول ـ العقوبة الأصلية: نص الشرع على عقوبة أصلية للقتل العمد وهي القصاص أو القود (¬4)، وهي ¬
العقوبة الأصلية الأولى المتفق عليها ـ القصاص
عقوبة متفق عليها بين الفقهاء، قال الحنفية (¬1): موجَب العمد: القود عيناً، أي فلا ينتقل عنه إلى المال إلا بالتراضي. وأضاف الشافعية دون غيرهم من الفقهاء عقوبة أخرى للقتل العمد وهي الكفارة، قياساً على عقوبة القتل الخطأ التي نص عليها القرآن الكريم صراحة. العقوبة الأصلية الأولى المتفق عليها ـ القصاص: الكلام عن القصاص يتناول بحث معناه ومشروعيته، والفرق بينه وبين الحدود الأخرى، وشروطه، وموانعه، وكيفية وجوبه، وصاحب الحق فيه، وولاية الاستيفاء، وكيفية الاستيفاء، ومسقطاته. أولاً ـ معنى القصاص: القصاص والقصص لغة: تتبع الأثر، واستعمل في معنى العقوبة؛ لأن المقتص يتبع أثر جناية الجاني، فيجرحه مثلها. وهو أيضاً المماثلة، ومن هذا المعنى أخذت عقوبة «القصاص» شرعاً، أي مجازاة الجاني بمثل فعله، وهو القتل. ويلزم القصاص، سواء كان القتل مع سبق الإصرار أو الترصد أم لا. ثانياً ـ مشروعية القصاص: ثبتت مشروعية القصاص بالقرآن والسنة والإجماع والمعقول. أما القرآن، ففيه ـ كما ذكر سابقاً ـ آيات كثيرة، منها قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى} [البقرة:178/ 2] ومنها أيضاً: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ... } [المائدة:45/ 5] {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب} [البقرة:179/ 2]. ¬
هل القصاص يكفر إثم القتل؟
وفي السنة أحاديث متعددة أيضاً منها: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» (¬1) ومنها حديث ابن عباس مرفوعاً: « ... ومن قتل عمداً فهو قود، ومن حال دونه، فعليه لعنة الله وغضبه، لا يقبل منه صرف ولا عدل» (¬2). وأجمعت الأمة على وجوب القصاص. والعقل يقضي بتشريع القصاص، إما عدالة بأن يفعل بالقاتل مثل جنايته، وإما مصلحة بتوفير الأمن العام وصون الدماء، وحماية الأنفس، وزجر الجناة، ولا يتحقق ذلك إلا به، فلا يلتفت إلى الدعاوى والمزاعم القائلة بأن فيه تهديماً جديداً للبنية الإنسانية؛ لأن في تشريعه صون حق الحياة للمجتمع: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب} [البقرة:179/ 2]. هل القصاص يكفر إثم القتل؟ اختلف العلماء في أمره (¬3) كما اختلفوا في الحدود، هل هي زواجر أو جوابر؟ قال الجمهور: القصاص من القاتل أو العفو عنه يكفر إثم القتل؛ لأن «الحدود كفارات لأهلها» (¬4) وهذا عام لم يخصص قتلاً من غيره. قال النووي: ظواهر الشرع تقتضي سقوط المطالبة بالعقوبة في الآخرة. ¬
ثالثا ـ الفرق بين القصاص والحدود الأخرى
وقال الحنفية: القصاص أو العفو لا يكفر إثم القتل؛ لأن المقتول المظلوم لا منفعة له في القصاص، وإنما القصاص منفعة للأحياء ليتناهى الناس عن القتل: {ولكم في القصاص حياة} [البقرة:179/ 2]. ثالثاً ـ الفرق بين القصاص والحدود الأخرى: الحدود كحد الزنا وحد المسكر حقوق خالصة لله تعالى، أي للمجتمع أو للجماعة، والقصاص حق شخصي للعباد، وفيه عند الحنفية والمالكية حق لله تعالى، أي للجماعة، وحد القذف مشتمل على الحقين: حق الله وحق العبد (الآدمي). وبناء على هذا ذكر الحنفية بين الحدود والقصاص فروقاً سبعة هي ما يأتي (¬1): 1 - القصاص يورث، والحد لا يورث. 2 - القصاص يصح العفو عنه، والحد لا يعفى عنه. 3 - التقادم لا يمنع قبول الشهادة بالقتل، بخلاف الحد ما عدا القذف، فإن التقادم يمنع الشهادة. والتقادم في الشرب بذهاب الريح، وفي حد غيره بمضي شهر. 4 - تجوز الشفاعة في القصاص، ولا تجوز في الحد بعد الوصول للحاكم، ¬
أما قبل الوصول إليه والثبوت عنده، فتجوز الشفاعة فيه لإطلاق سراح المتهم (¬1). 5 - لا بد في القصاص من رفع الدعوى إلى القضاء من ولي الدم، أما الحد ما عدا القذف والسرقة، فلا يشترط فيه الادعاء الشخصي من صاحب المصلحة فيه، وإنما يصح الحسبة فيه. 6 - يثبت القصاص بإشارة الأخرس أو كتابته، أما الحد فلا يثبت بهما، لاشتمالهما على الشبهة. 7 - يجوز للقاضي القضاء بعلمه الشخصي في القصاص دون الحدود، وهذا عند متقدمي الحنفية، وأفتى المتأخرون بعدم القضاء بالعلم مطلقاً سداً للذريعة أمام قضاة السوء، سواء في القصاص والحدود أم في الأموال وغيرها. وأضاف بعض الحنفية فروقاً ثلاثة أخرى هي: 8 - استيفاء الحدود يكون بواسطة الإمام الحاكم، وأما القصاص فيجوز لولي الدم استيفاؤه بشرط وجود الحاكم. 9 - يجوز الاعتياض في القصاص، بخلاف الحدود ومنها حد القذف. وأجاز الشافعية المعاوضة عنه. 10 - يصح الرجوع عن الإقرار في الحد، دون القصاص. ¬
رابعا ـ شروط القصاص
رابعاً ـ شروط القصاص: يشترط لوجوب القصاص شروط في القاتل والمقتول ونفس القتل وولي القتيل. شروط القاتل: يشترط في القاتل الذي يقتص منه شروط أربعة (¬1): 1 - أن يكون مكلفاً (أي بالغاً عاقلاً)، فلا قصاص ولا حد على الصبي أو المجنون؛ لأن القصاص عقوبة، وهما ليسا من أهل العقوبة؛ لأنها لا تجب إلا بالجناية، وفعلهما لا يوصف بالجناية. ومثلهما زائل العقل بسبب يعذر فيه كالنائم والمغمى عليه ونحوهما؛ ولأن هؤلاء ليس لهم قصد صحيح، فهم كالقاتل خطأ. القصاص من السكران: ويقتص من السكران بشراب محرم باتفاق المذاهب الأربعة (¬2)؛ لأن السكر لا ينافي الخطاب الشرعي أي التكليف، فتلزمه كل أحكام الشرع، وتصح عباراته كلها في العقود كالبيع، وفي الإسقاطات كالطلاق، وفي الإقرارات، وإنما ينعدم بالسكر القصد دون العبارة، فلو تكلم بكلمة الكفر لا يرتد استحساناً عند الحنفية. والقصاص من السكران واجب؛ لأنه حق آدمي، وقياساً على إيجاب حد الشرب عليه، وسداً للذرائع أمام المفسدين الجناة، فلو لم يقتص منه لشرب ما ¬
شروط المقتول
يسكره، ثم يقتل ويزني ويسرق، وهو بمأمن من العقوبة والمأثم، ويصير عصيانه سبباً لسقوط عقوبة الدنيا والآخرة عنه. 2 - أن يكون متعمداً القتل: أي قاصداً إزهاق روح المجني عليه، فإن كان مخطئاً، فلا قصاص عليه، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «العمد قود» (¬1) أي القتل العمد يوجب القود، فالحديث شرط العمد لوجوب القود. ولم يشترط المالكية العمد بالذات، وإنما يكفي وجود العدوان. 3 - أن يكون تعمد القتل محضاً: أي لا شبهة في عدم إرادة القتل؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم شرط العمد مطلقاً في قوله «العمد قود». وهو يعني اكتمال وصف العمدية، ولا كمال مع وجود شبهة انتفاء قصد القتل، كما في حالة تكرار الضرب بما لا يقتل عادة، لا يراد به القتل، بل التأديب والتهذيب. 4 - أن يكون القاتل عند الحنفية مختاراً: فلا قصاص على المستكره على القتل عند الحنفية ما عدا زفر، وقال الجمهور: عليه مع المكره القصاص، كما بان سابقاً. شروط المقتول: يشترط لإيجاب القصاص في المعتدى عليه المقتول شروط هي ما يأتي (¬2): ¬
1 - أن يكون معصوم الدم أو محقون الدم (¬1) أي يحرم الاعتداء على حياته. فلا يقتل مسلم ولا ذمي بالكافر الحربي، ولا بالمرتد، ولا بالزاني المحصن، ولا بالزنديق، ولا بالباغي؛ لأن هؤلاء مباحو الدم إما بسبب الحرابة أو الردة أو الزنا أو البغي، فكل واحد منها سبب لإهدار الدم، أي إباحته. والعصمة عند الحنفية تكون ـ كما بان سابقاً ـ بالإسلام والإقامة في دار الإسلام، فمن أسلم في دار الحرب، وبقي مقيماً فيها، لا يقتص من قاتله هناك؛ لأن كمال حقن الدم بالعصمة المقومة والمؤثمة، وبالإسلام حصلت المؤثمة دون المقومة؛ لأن هذه تحصل بالإقامة في دار الإسلام (¬2). وأما العصمة عند الجمهور (غير الحنفية): فتكون بالإيمان (الإسلام) أو الأمان بعقد الذمة أو الهدنة، فمن قتل مسلماً في دار الحرب عامداً عالماً بإسلامه، فعليه القود، سواء أكان قد هاجر أم لم يهاجر إلى دار الإسلام. وصرح الحنفية بأن العصمة لمحقون الدم يجب أن تكون «على التأبيد» لإخراج المستأمن، فلا يقتص من قاتله؛ لأن عصمته مؤقتة أثناء الأمان، لا مؤبدة، ففي دمه شبهة الإباحة. ويتفق الجمهور مع الحنفية على هذا القيد، لأنهم يقولون: لا يقتل مسلم بكافر، سواءأكان مستأمناً أم ذمياً أم معاهداً؛ لأن الكافر ليس بمحقون الدم على التأبيد، فأشبه الحربي (¬3). ¬
قتل الوالد بالولد وبالعكس
قتل الوالد بالولد وبالعكس: 2 - ألا يكون المجني عليه جزء القاتل، أي ألا تكون هناك رابطة الأبوة والبنوة، فلا قصاص على أحد الوالدين (الأب والجد، والأم أو الجدة وإن علوا) بقتل الولد أو ولد الولد وإن سفلوا، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يقاد الوالد بالولد» (¬1). قال ابن عبد البر: هو حديث مشهور عند أهل العلم بالحجاز والعراق، مستفيض عندهم، يستغنى بشهرته وقبوله والعمل به عن الإسناد فيه، حتى يكون الإسناد في مثله مع شهرته تكلفاً (¬2). ولأن في القصاص من الأب شبهة آتية من حديث: «أنت ومالك لأبيك» (¬3) والقصاص يدرأ بالشبهات. ولأن الأوامر المطالبة بالإحسان إلى الآباء تمنع القصاص منهم، فقد كان الأب سبباً في إيجاد ولده، فلا يكون الابن سبباً في إعدامه. وإذا لم يقتل الأب بابنه وجب عليه الدية. وهذا الحكم متفق عليه بين أئمة المذاهب (¬4) إلا أن المالكية استثنوا حالة واحدة: هي أن يتحقق أن الأب أراد قتل ابنه، وانتفت شبهة إرادة تأديبه وتهذيبه، ¬
التكافؤ
كأن يضجعه فيذبحه، أو يبقر بطنه أو يقطع أعضاءه، فيقتل به لعموم القصاص بين المسلمين. فلو ضربه بقصد التأديب، أو في حالة غضب، أو رماه بسيف أو عصا، فقتله لا يقتل به. واتفق الفقهاء على أنه يقتل الولد بقتل والده، لعموم القصاص وآياته الدالة على وجوبه على كل قاتل، إلا ما استثني بالحديث السابق (¬1). وعلة التفرقة بين الأب والابن في هذا الحكم: هو قوة المحبة التي بين الأب والابن، إلا أن محبة الأب غير مشوبة بشبهة مادية بقصد انتظار النفع منه، فتكون محبته له أصيلة لا لنفسه، فتقتضيه بالطبيعة الحرص على حياته. أما محبة الولد لأبيه فهي مشوبة بشبهة انتظار المنفعة؛ لأن ماله له بعد وفاة أبيه، فلا يحرص عادة على حياته، فتكون محبته لنفسه، فقد يقتله. التكافؤ: 3 - اشتراط الجمهور (غير الحنفية) (¬2) أن يكون المقتول مكافئاً للقاتل في الإسلام والحرية، فلا يقتل قصاصاً مسلم بكافر، ولا حر بعبد، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «لا يقتل مسلم بكافر» (¬3) وقوله: «المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ولا يقتل مؤمن بكافر» (¬4) وقوله عليه الصلاة والسلام في العبد: «لا يقتل ¬
حر بعبد» (¬1) وقول علي رضي الله عنه: «من السنة ألا يقتل حر بعبد» (¬2).ولم يشترط الحنفية (¬3) التكافؤ في الحرية والدين، وإنما يكفي التساوي في الإنسانية، لعموم آيات القصاص بدون تفرقة بين نفس ونفس، مثل قوله تعالى: {كتب عليكم القصاص في القتلى} [البقرة:178/ 2] وقوله سبحانه {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} [المائدة:45/ 5] ولعموم حديث «العمد قَوَد» وصوناً لحق الحياة، وتحقيق ذلك في قتل المسلم بالذمي أبلغ منه في قتل المسلم بالمسلم، لما بينهما من العداوة الدينية، وروي أن النبي صلّى الله عليه وسلم أقاد مؤمناً بكافر، وقال: «أنا أحق من وفى بذمته» (¬4)، ولأن العبد آدمي معصوم الدم فأشبه الحر، والقصاص يتطلب فقط المساواة في العصمة. وأما المراد من قوله تعالى: {الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} [البقرة:178/ 2] بعد قوله تعالى: {كتب عليكم القصاص في القتلى} [البقرة:178/ 2] فاختلف فيه الفقهاء، فقال الحنفية: المراد به الرد علي ما كان يفعله بعض القبائل، من أنهم يأبون أن يقتلوا في عبدهم إلا حراً، وفي امرأتهم إلا رجلاً، على ما جاء في حديث الشعبي، فأبطل ما كان من الظلم، وأكد فرض القصاص على القاتل دون غيره، فليس في الآية دلالة على أنه لا يقتل الحر بالعبد أو أنه لا يقتل الرجل بالمرأة. وقال الجمهور: إن الله قد أوجب المساواة في القصاص، ثم بيَّن المساواة المعتبرة، فبين أن الحر يساويه الحر، والعبد يساويه ¬
العبد، والأنثى تساويها الأنثى، لكن جاء الإجماع على أن الرجل يقتل بالمرأة. فمناط الاستدلال عندهم كلمة {القصاص} الموجبة للمساواة والمماثلة في القتل، ومناط الاستدلال عندالحنفية كلمة {القتلى} الموجبة حصر القصاص في القاتل، لا في غيره. وأما حديث «لا يقتل مسلم بكافر، ولا ذو عهد في عهده» فمعناه عند الحنفية أنه لا يقتل المسلم والمعاهد بكافر حربي؛ لأن المراد بالكافر هو الحربي بدليل جعل الحربي مقابلاً للمعاهد؛ لأن المعاهد يقتل بمن كان معاهداً مثله من الذميين إجماعاً، فيلزم أن يقيد الكافر في المعطوف عليه بالحربي، كما قيد في المعطوف؛ لأن الصفة بعد متعدد ترجع إلى الجميع اتفاقاً، ويكون التقدير: لا يقتل مسلم بكافر حربي ولا ذو عهد بكافر حربي؛ لأن الذمي أو المعاهد إذا قتل ذمياً قتل به، فعلم أن المراد به: الحربي، إذ هو الذي لا يقتل به مسلم ولا ذمي. ولا يقال كما يرى الجمهور، معناه: لا يقتل ذو عهد مطلقاً، أي لا يحل قتله، بمعنى أنه يصبح كلاماً مستأنفاً مبتدأ به؛ لأن المراد من الحديث نفي القتل قصاصاً، لا نفي مطلق القتل، فيكون المعطوف مثل المعطوف عليه. وأيد الحنفية قولهم بالقياس أيضاً وهو أن يد المسلم تقطع إذا سرق مال الذمي فإذا كانت حرمة ماله كحرمة مال المسلم، فحرمة دمه كحرمة دمه. لكن رد الجمهور على أدلة الحنفية بأن حديث «أنا أحق من وفى بذمته» ضعيف. وتوجد شبهة في إباحة دم الذمي، بسبب الكفر المبيح للدم، ولا قصاص مع الشبهة. وحديث «ولا ذو عهد في عهده» كلام تام لا يحتاج إلى تقدير، وهي جملة مستأنفة، لبيان حرمة دماء أهل الذمة والعهد بغير نقض، ولو سلمنا أنها للعطف، فالمشاركة في أصل النفي لا من كل وجه، فلو سلمنا تقدير الحربي في
هل يقتل الباغي قصاصا بالعدل وبالعكس؟
الجملة الثانية، فلا يسلم تخصيص الكافر بالحربي. وأما القياس فهو في مقابلة النص: «لا يقتل مسلم بكافر». ثم إن حد السرقة حق الله، والقصاص يشعر بالمساواة، ولا مساواة بين المسلم والكافر. واتفق الفقهاء فيما عدا ذلك على أنه يقتل الرجل بالأنثى، والكبير بالصغير، والعاقل بالمجنون، والعالم بالجاهل، والشريف بالوضيع، وسليم الأطراف بمقطوعها وبالأشل، أي أنه لا يشترط التكافو في الجنس والعقل والبلوغ والشرف والفضيلة وكمال الذات أو سلامة الأعضاء (¬1). وهل يقتل الباغي قصاصاً بالعدل وبالعكس؟: قال الحنفية (¬2) والمالكية (¬3) والحنابلة (¬4) في وجه هو الراجح: لا يقتل الباغي بالعدل وبالعكس؛ لأن كلاً منهما غير معصوم الدم في زعم الآخر، لاستحلاله الدم بتأويل. قال الزهري: «وقعت الفتنة والصحابة متوافرون، فاتفقوا على أن كل دم استحل بتأويل القرآن العظيم فهو موضوع». وقال الشافعية (¬5): يقتص من الباغي بقتل العادل وبالعكس في غير حال القتال؛ لأن المقتول معصوم الدم مطلقاً؛ لأن الإسلام حقن دماء البغاة في غير حال القتال. وحكم البغاة في ضمان النفس والمال والحد إن لم يكن في قتال حكم أهل ¬
قتل الغيلة
العدل، فإذا أتلفوه في غير قتال ضمنوه، وإلا فلا. لكن الصحيح عند الشافعية (¬1) أنه لا يتحتم قتل الباغي ويجوز العفو عنه، لقول علي رضي الله عنه بعد أن جرحه ابن ملجم قبل استشهاده: «أطعموه واسقوه واحبسوه، فإن عشت فأنا ولي دمه: أعفو إن شئت، وإن شئت استقدت، وإن مت فاقتلوه ولا تمثلوا به» وقال الشافعي رضي الله عنه والحنابلة: يكره للعادل أن يتعمد قتل ذي رحمه من أهل البغي، وأضاف الشافعي: وحكم دار البغي دار الإسلام، فإذا جرى فيها ما يوجب إقامة حد، أقامه الإمام إذا استولى عليها. قتل الغيلة: هو القتل لأخذ المال، سواء أكان القتل خفية، كما لو خدعه، فذهب به لمحل، فقتله فيه لأخذ المال، أم كان القتل ظاهراً على وجه يتعذر معه الغوث، وقد يسمى الثاني (أي القتل ظاهراً) حرابة (¬2). وحكم هذا القتل كبقية أنواع القتل الأخرى عند الجمهور (¬3) (غير المالكية) في القصاص والعفو عنه، واشتراط التكافؤ بين القاتل والمقتول. وقال المالكية: يقتل هذا القاتل بسبب الفساد والحرابة، لا قصاصاً، وبما أن هذا القتل يعاقب عليه فاعله بسبب الحرابة والفساد، لا للقصاص، رأى المالكية (¬4): أنه لا يشترط فيه شرط التكافؤ، فيقتل الحر بالعبد، والمسلم بالكافر ولا عفو فيه، ولا صلح، وصلح ولي القتيل مردود، والحكم فيه إلى الإمام. ¬
شرط القتل
شرط القتل: اشترط الحنفية (¬1) في القتل نفسه الموجب للقصاص: أن يكون مباشرة، لاتسبباً، فإن كان تسبباً ففيه الدية، كمن حفر بئراً على قارعة الطريق، فوقع فيه إنسان ومات، فعلى الحافر الدية. وإذا رجع شهود القصاص عن شهادتهم بعد قتل المشهود عليه، فتجب عليهم الدية؛ لأنه لم يوجد منهم القتل مباشرة، وإنما وجد منهم سبب القتل. ولم يشترط غير الحنفية هذا الشرط، وإنما قالوا ـ في الجملة ـ: يجب القصاص بالسبب كالمباشرة؛ لأنهما متماثلان، على النحو الذي بان سابقاً. وملخصه: إنه يجب عند الجمهور القصاص بالسبب الحسي كالإكراه على القتل، وبالسبب الشرعي كشهود الزور، وفي بعض أحوال السبب العرفي كتقديم الطعام المسموم إلى الضيف الصبي غير المميز أو المجنون. واختلفوا في تسميم المميز أو البالغ العاقل، فقال المالكية والحنابلة: على فاعله القصاص. وقال الشافعية في أرجح الأقوال: لا يقتص منه، وإنما عليه الدية (دية شبه العمد). كما اختلفوا في حالة الشرط (وهو مالا يؤثر في الهلاك ولا يحصله بل يحصل التلف عند هـ بغيره، ويتوقف تأثير ذلك الغير عليه) كالحفر مع التردي، والإمساك مع القتل، والدلالة على المجني عليه. فقال غير المالكية: يقتص من مباشر القتل، ويعزر المتسبب. وقال المالكية: يقتص من الاثنين معاً. واختلفوا أيضاً في حالة اشتراك الفاعل والشريك: فمن اتفق أو حرض أي اشترك في الجريمة ولم يباشر القتل فعليه ¬
شرط ولي القتيل
التعزير عند الأئمة ما عدا مالكاً، وكذلك من أعان على القتل ولم يباشر القتل، عليه القصاص عند مالك، والتعزير عند باقي الأئمة (¬1). شرط ولي القتيل: اشترط الحنفية (¬2) في ولي القتيل صاحب الحق في القصاص: أن يكون معلوماً، فإن كان مجهولاً لا يجب القصاص؛ لأن القصد من إيجاب القصاص هو التمكين من استيفاء الحق، والاستيفاء من المجهول متعذر، فتعذر الإيجاب له. وخالف فيه باقي الأئمة. خامساً ـ موانع القصاص: يفهم من المبحث السابق في شروط القصاص أن هناك حالات مانعة من القصاص، وهي ستة، يمكن إدخالها تحت مفهوم الشبهة التي تدرأ الحدود ومنها القصاص. 1 - حالة الأبوة عند فقهاء المذاهب ما عدا حالة إرادة القتل إذا ثبتت ثبوتاً قاطعاً عند المالكية. أما رابطة الزوجية فلا تمنع القصاص باتفاق المذاهب الأربعة، خلافاً للزهري والليث بن سعد (¬3). 2 - عدم التكافؤ بين الجاني والمجني عليه: في الإسلام والحرية عند جمهور الفقهاء خلافاً للحنفية. أما الكفار فيقتلون، بعضهم ببعض دون تفريق، فيقتل الذمي بالذمي، أو المجوسي، أو الحربي، أو المستأمن. ¬
3 - حالة الاشتراك الجرمي أو الاتفاق الجنائي: أي حالة الاتفاق على القتل دون حضور القتل، أو التحريض أو الإعانة على القتل دون مباشرة القتل، فلا قصاص على من لم يباشر القتل، وإنما يعزر عند جمهور الفقهاء، خلافاً للمالكية الذين قالوا: يقتص ممن حضر أو أعان ولم يباشر كالربيئة أو حارس الأبواب ومفارق الطرق. أما في حالة اشتراك الجماعة بالقتل ومباشرتهم القتل فيقتص من الجميع باتفاق المذاهب. 4 - القتل بالتسبب عند الحنفية دون غيرهم من الأئمة. 5 - أن يكون ولي القتيل مجهولاً عند الحنفية دون غيرهم من الأئمة. 6 - أن يكون القتل في دار الحرب عند الحنفية دون غيرهم. فلا قصاص عند الحنفية على من قتل مسلماً في دار الحرب، لعدم ولاية الإمام على دار الحرب، سواء أكان القتيل ممن أسلم في دار الحرب ولم يهاجر إلينا، أم كان مسلماً من أهل دار الإسلام، لكنه دخل دار الحرب بأمان، أو بإذن كالتاجر والأسير. وتجب الدية عند الصاحبين بقتل التاجر أو الأسير؛ لأنهما من أهل دار الإسلام، والأسر أمر طارئ. وعند أبي حنيفة: تجب دية التاجر، لا الأسير: لأن الأسير مقهور في يد أهل الحرب، فصار تابعاً لهم، فلم يعد متقوماً (¬1). وأوجب غير الحنفية القصاص من القاتل في كل هذه الأحوال، كما بان سابقاً. ¬
سادسا ـ كيفية وجوب القصاص (أو مدى لزوم القصاص، أو موجب العمد)
سادساً ـ كيفية وجوب القصاص (أو مدى لزوم القصاص، أو موجب العمد): يجب القصاص من القاتل إلا إذا عفا عنه ولي القتيل. فإذا عفا، هل يلزم القاتل بالدية أو لا؟ قال الحنفية والمالكية، والشافعية في ظاهر مذهبهم الراجح عندهم وفي رواية عن أحمد (¬1): موجَب (¬2) القتل العمد هو القَود عيناً أي متعيناً، لقوله تعالى: {كتب عليكم القصاص في القتلى} [البقرة:178/ 2] وهذا يفيد تعين القصاص واجباً متعيناً للعمد، ولقوله عليه الصلاة والسلام: «من قتل عمداً فهو قَود» (¬3)، ولأن القصاص بدل شيء متلف، فتعين الجزاء من جنسه، كسائر المتلفات. ويحسن إيراد عبارة الشافعية فيه وهي: موجب العمد القود عيناً، والدية بدل عند سقوطه، وفي قول: موجب العمد: أحدهما (القصاص والدية) مبهماً، وعلى القولين: للولي عفو على الدية بغير رضا الجاني، وعلى الأول: لو أطلق العفو فالمذهب لا دية. وبناء على هذا الرأي: قال الحنفية والمالكية والشافعية على المذهب: لو عفا ولي القتيل عن القصاص مطلقاً، أي دون مطالبة بالدية، لا يلزم الجاني بالدية جبراً عنه، وإنما له باختياره أن يدفعها في مقابل العفو عنه. وللولي أن يعفو مجاناً أو يقتص، أي ليس له إن أراد أخذ جزاء الجناية إلا القود، لا الدية. ويجوز العفو على الدية أو أكثر أو أقل برضا الجاني، وتعد الدية حينئذ بدلاً عن القصاص. ولو ¬
تعدد الأولياء فبادر أحدهم، فقتل الجاني قبل إبداء الآخرين رأيهم، سقط حق الباقين في القصاص ولا دية لهم، ويترتب على اعتبار الدية بدلاً من القصاص أنه لا يجوز للقاضي أن يجمع بين عقوبة وبدلها جزاء عن فعل واحد. وقال الحنابلة عملاً برواية أخرى عن أحمد هي الراجحة عندهم (¬1)، وفي قول عند الشافعية: ليس القصاص واجباً عيناً، وإنما الواجب بقتل العمد أحد شيئين: القصاص أو الدية. وللولي خيار التعيين: إن شاء استوفى القصاص، وإن شاء أخذ الدية من غير توقف على رضا القاتل. ويعتبر التعزير بدلاً عن الدية. ودليلهم قوله تعالى: {فمن عفي له من أخيه شيء، فاتباع بالمعروف، وأداء إليه بإحسان} [البقرة:178/ 2] ومعناه فليتتبع القاتل، وليؤد القاتل الدية، فالله أوجب الاتباع بمجرد العفو، ولو أوجب العمد القصاص عيناً، لم تجب الدية عند العفو المطلق. ثم إن الدية أحد بدلي النفس، فكانت بدلاً عنها، لا عن بدلها كالقصاص. وأما حديث «من قتل عمداً فهو قود» فالمراد به وجوب القود. ويخالف القتل سائر المتلفات؛ لأن بدلها لا يختلف بالقصد وعدمه، والقتل بخلافه. وأضاف الحنابلة أدلة أخرى، منها قول ابن عباس: كان في بني إسرائيل القصاص، ولم يكن فيهم الدية، فأنزل الله تعالى هذه الآية: {كتب عليكم القصاص في القتلى} [البقرة:178/ 2] (¬2) وعن أبي هريرة مرفوعاً: «من قتل له قتيل، فهو بخير النظرين: إما أن يُودِي (¬3)، وإما أن يقاد» (¬4). ¬
سابعا ـ صاحب الحق في القصاص
ويترتب على هذا الرأي: أن الولي لو عفا عن القصاص مطلقاً، أو إلى الدية بدلاً عنه، وجبت الدية؛ لأن الواجب غير معين، فإذا ترك أحدهما وجب الآخر، وإن اختار الدية سقط القصاص، وإن اختار القصاص تعين. وفي هذه الحالة الأخيرة: هل له بعدئذ العفو على الدية؟ قال القاضي أبو يعلى الحنبلي: له ذلك؛ لأن القصاص أعلى، فكان له الانتقال إلى الأدنى، ويكون بدلاً عن القصاص. ويحتمل أنه ليس له ذلك؛ لأنه أسقط الدية باختياره القود، فلم يعد إليها. سابعاً ـ صاحب الحق في القصاص: صاحب الحق في القصاص أو مستوفيه أو ولي الدم: هو عند الحنفية والحنابلة، والصحيح عند الشافعية (¬1): كل وارث يرث المال، سواء أكان من ذوي الفروض أم العصبة، أي جميع الورثة نساءً ورجالاً، أزواجاً وزوجات. وقال المالكية (¬2): مستحق القصاص هو العاصب الذكر، أي جميع العصبة بالنفس، يقدم الأقرب فالأقرب من العصبة في إرثه إلا الجد والإخوة، فهم في درجة متساوية في القصاص والعفو، فلا دخل في القصاص للبنات والأخوات والزوجات والزوج؛ لأن القصاص لرفع العار، فاختص بالعصبات كولاية الزواج. وقد تكون المرأة مستحقة القصاص عند المالكية بشروط ثلاثة وهي: 1 - أن تكون وارثة المقتول كبنت أو أخت، فخرج العمة والخالة ونحوهما من ذوي الأرحام. ¬
2 - ألا يساويها عاصب في الدرجة وفي القوة معاً: بأن لم يوجد أصلاً، أو وجد عاصب أنزل منها درجة، كعم مع بنت أو أخت. فتخرج البنت مع الابن، والأخت مع الأخ، فلا كلام لها معه في عفو ولا قود، أي ليس لها حينئذ طلب القصاص، لتساويهما في الدرجة والقوة معاً، بخلاف الأخت الشقيقة مع الأخ لأب، لها الكلام معه؛ لأنه وإن ساواها في الدرجة هو أنزل منها في القوة. 3 - أن تكون عصبة فيما لو فرض كونها ذكراً، فلا كلام للأخت لأم، والزوجة، والجدة لأم (¬1). وللأم المطالبة باستيفاء القصاص، لأنها لو ذكِّرت، كانت أباً؛ لأنها والدة، لكن لا لاكلام لها مع وجود الأب، لمساواة العاصب لها. وإذا تعدد الورثة، هل يثبت حق القصاص لكل وارث على سبيل الاستقلال، أو على سبيل الشركة؟ رأيان: الرأي الأول ـ لأبي حنيفة ومالك (¬2): وهو أن القصاص يثبت لكل وارث على سبيل الاستقلال والكمال؛ لأنه حق مبتدأ لهم بوفاة القتيل؛ لأن المقصود من القصاص في القتلى هو التشفي، والميت لا يتشفى، فيثبت للورثة ابتداء. ثم إن حق القصاص لا يتجزأ، وما لا يتجزأ من الحقوق إذا ثبت لجماعة، يثبت لكل واحد منهم على سبيل الكمال، كأنه ليس معه غيره، كولاية التزويج وولاية الأمان. الرأي الثاني ـ للشافعية والحنابلة في ظاهر المذهب، والصاحبين (¬3): وهو أن حق القصاص يثبت لكل وارث على سبيل الشركة؛ لأن الحق في القصاص أصلاً ¬
هو للمقتول، وبما أنه عجز بالموت عن استيفاء حقه بنفسه، فيقوم الورثة مقامه بالإرث عنه، ويكون مشتركاً بينهم، كما يشتركون في إرث المال. ويتفرع عن هذا الاختلاف على رأيين: أنه إذا تعدد الأولياء، هل ينتظر لاستيفاء القصاص بلوغ أحد الأولياء إذا كان صغيراً، أو عودته إذا كان غائباً، أو إفاقته من جنونه إذا كان مجنوناً؟ فعلى الرأي الأول: لا ينتظر بلوغ الصغير، ولا إفاقة المجنون، ويكون الحق في الاستيفاء للكبير، والعاقل، وأما الغائب فينتظر لاحتمال عفوه. وأما على الرأي الثاني: فينتظر بلوغ الصبي، وكمال المجنون بإفاقته، وقدوم الغائب، ولا يجوز حينئذ للكبير أو للحاضر الاستقلال باستيفاء القصاص. وفي هذه الحالة يحبس القاتل حتى يحضر الغائب، ويكمل الصبي والمجنون، ولا يخلى بكفيل. وإذا لم يكن للمقتول وارث غير جماعة المسلمين، كان الأمر باتفاق الفقهاء إلى السلطان، عملاً بالقاعدة الشرعية: «السلطان ولي من لا ولي له» (¬1) فإن رأ ى السلطان القصاص اقتص، وإن رأى العفو على مال عفا؛ لأن الحق للمسلمين، فوجب على الإمام أن يفعل ما يراه من المصلحة؛ لأن «تصرف الحاكم على الرعية منوط بالمصلحة» فإن أراد أن يعفو على غير مال لم يجز؛ لأنه تصرف لا مصلحة فيه للمسلمين، فلم يملكه (¬2). ¬
ثامنا ـ ولاية استيفاء القصاص
ثامناً ـ ولاية استيفاء القصاص: الكلام فيمن يلي استيفاء القصاص يحتاج لتفصيل بحسب ما إذا كان المستحق منفرداً أو متعدداً. 1 - إذا كان مستحق القصاص منفردا ً فإما أن يكون كبيراً أو صغيراً: أـ فإن كان كبيراً فله استيفاء القصاص؛ لقوله تعالى: {ومن قُتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً، فلا يسرف في القتل، إنه كان منصوراً} [الإسراء:33/ 17]. ب ـ وإن كان صغيراً أو مجنوناً، ففي انتظار كماله عند مشايخ الحنفية رأيان (¬1): قال بعضهم: ينتظر بلوغه أو كماله. وقال آخرون: يستوفيه القاضي نيابة عنه. وقال المالكية (¬2): لا ينتظر البلوغ أو الإفاقة، ولولي الصغير أو المجنون أو وصيهما النظر بالمصلحة في استيفاء القصاص، وفي أخذ الدية كاملة. وقال الشافعية والحنابلة (¬3): ينتظر بلوغ الصغير وإفاقة المجنون؛ لأن القصاص للتشفي، فحقه التفويض إلى اختيار المستحق، فلا يحصل المقصود باستيفاء غيره من ولي أو حاكم أو بقية الورثة. 2 - إذا تعدد مستحقو القصاص: فإما أن يكون الكل كباراً أو فيهم صغير. أـ فإن كان الجميع كباراً حاضرين، فلكل واحد منهم ولاية استيفاء القصاص، حتى لو قتله أحدهم صار القصاص مستوفى للجميع؛ لأن القصاص ¬
إن كان حق الميت (كما يرى الصاحبان وموافقوهما) فكل واحد من الورثة خصم في استيفاء حق الميت، كما هو الحال في استيفاء المال. وإن كان القصاص حق الورثة ابتداءً واستقلالاً (كما يرى أبو حنيفة ومالك) فكل واحد من الورثة يملك حق القصاص على سبيل الكمال. لكن يشترط عند الحنفية حضور جميع المستحقين عند استيفاء القصاص، لاحتمال العفو من الغائب. فإن بادر أحد المستحقين بقتل الجاني، صار القصاص عند الحنفية مستوفى للجميع؛ لأن القصاص واجب عيناً، وليس لباقي الورثة شيء من المال، وإنما يعزر المقتص لافتئاته على إمام المسلمين. وقال الحنابلة، والأظهر عند الشافعية (¬1): إنه لا قصاص في هذه الحالة على من بادر فقتل الجاني، ولكن للباقين من المستحقين نصيبهم من الدية من تركة الجاني، لسقوط حقهم بغير اختيارهم، وكون ذلك من تركة الجاني لا من المبادر على الأرجح؛ لأن المبادر فيما وراء حقه كالشخص الأجنبي، ولو بادر أجنبي فقتل الجاني، أخذ الورثة الدية من تركة الجاني لا من الأجنبي. ب ـ وأما إذا كان مستحقو القصاص كباراً وصغاراً، أو فيهم مجنون أو بعضهم غائب. فللكبار استيفاء القصاص عند أبي حنيفة ومالك (¬2)، ولا ينتظر بلوغ الصغير، ولا إفاقة المجنون (¬3)؛ لثبوت حق القصاص للورثة ابتداء على سبيل الكمال والاستقلال، ولأن القصاص حق لا يتجزأ، لثبوته بسبب لا يتجزأ، وهو ¬
تاسعا ـ كيفية استيفاء القصاص (أداة القصاص)
القرابة. ويؤيده اقتصاص الحسن لأبيه علي من ابن ملجم، وكان في ورثة علي كرم الله وجهه صغار. وأما الغائب فينتظر عودته لاحتمال عفوه حال غيبته، فتقع الشبهة، ولا قصاص مع الشبهة، بعكس الصغير؛ لأن العفو من الصغير ميئوس منه حال استيفاء القصاص؛ لأنه ليس من أهل العفو. وانتظار الغائب عند المالكية هو في حال الغيبة القريبة، بحيث تصل إلىه الأخبار إن أراد الحاضر القصاص. أما في حال الغيبة البعيدة بحيث يتعذر وصول الخبر إليه كأسير ومفقود فلا ينتظر. وللأب والجد عند الحنفية والمالكية استيفاء القصاص عن الصغير، وأضاف المالكية دون الحنفية تلك الولاية للوصي أيضاً. وقال الصاحبان والشافعية والحنابلة (¬1): ليس لبعض أولياء القتيل استيفاء القصاص إلا بإذن الباقين، فإن كان فيهم صغير ينتظر بلوغه، أو مجنون تنتظر إفاقته، أو غائب ينتظر قدومه؛ لأن القصاص حق مشترك بينهم، ولا يملك أحدهم إبطال حق غيره، فيؤخر إلى وقت كمال القاصر، كما يؤخذ لعودة الغائب. وليس للولي أباً أو جداً، ولا للوصي ولا للحاكم استيفاء القصاص للصغير أو المجنون؛ لأن القصد من القصاص هو التشفي، وترك الغيظ، ولايحصل المقصود باستيفاء الأب أو غيره، بخلاف الدية، فإن الغرض يحصل باستيفائه. تاسعاً ـ كيفية استيفاء القصاص (أداة القصاص): هناك رأيان في الفقه في كيفية القصاص. ¬
1 - قال الحنفية، والأصح عن الحنابلة (¬1): لا يكون القصاص في النفس إلا بالسيف (¬2)، سواء أكان ارتكاب جريمة القتل بالسيف ونحوه، أم بمحرم لذاته كسحر وتجريع خمر ولواط، أم بمثقل كحجر وعصا، أم بتغريق أم تحريق أم هدم حائط عليه، أم حبس أم خنق أم قطع عضو ثم ضرب عنقه، أم جنى عليه جناية غير ما ذكر فمات، وتوافرت شروط القصاص بحسب كل مذهب، على ما بان، فمن له قود قاد بالسيف، ولا يفعل بالمقتص منه كما فعل إذا كان القتل بغير السيف لأنه مُثْلة، وقد نهي عن المثلة، ولأن فيه زيادة تعذيب، لكن لو قام ولي الدم بإلقاء الجاني في بئر، أو قتله بحجر، أو بنوع آخر عزر، وكان مستوفياً حقه في القصاص. واستدلوا بقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «لا قَود إلا بالسيف» (¬3). 2 - وقال المالكية والشافعية (¬4): يقتل القاتل بالقِتْلة التي قتل بها، أي بمثل الفعل الذي فعله بالقتيل، من ضربه بمحدد كحديد أو سيف، أو بمثقل كحجر، أو رمي من شاهق، أو خنق أو تجويع أو تغريق أو تحريق أو غيرها. لكن إن عدل الولي عن هذه الوسائل إلى السيف، جاز بل هو أولى للخروج من الخلاف. ويتعين السيف عند هؤلاء إذا كان القتل بسحر أو خمر، أو لواط؛ لأن هذا محرم لعينه، فوجب العدول عنه إلى القتل بالسيف. ¬
تنفيذ القصاص بواسطة ولي القتيل
كما يتعين السيف أيضاً عند المالكية إذا طال تعذيب الجاني بمثل فعله، أو ثبت القصاص بالقسامة، واختلف المالكية على رأيين في القتل بالنار والسم إذا كان القاتل قتل بهما، فقيل: يقتل بالسيف، وقيل: يقتل بما قتل به، وهذا هو مشهور مذهب المالكية. واستدلوا على مذهبهم بالقرآن والسنة والمعقول: أما من القرآن فآيات مثل قوله تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} [النحل:126/ 16] وقوله سبحانه: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} [البقرة:194/ 2] {وجزاء سيئةٍ سيئةٌ مثلها} [الشورى:40/ 42]. ومن السنة: قوله عليه الصلاة والسلام: «من حرَّق حرقناه، ومن غرَّق غرَّقناه» (¬1) وثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلم: «رضَّ رأس يهودي بين حجرين، كان قد قتل بهما جارية من الأنصار (¬2)». ومن المعقول: أن القصاص معناه المماثلة في الفعل، فوجب أن يستوفى من الجاني مثل ما فعل، ثم إن المقصود من القصاص هو التشفي، ولا يكمل المطلوب إلا إذا قتل القاتل بمثل ما قتل. وأما حديث النهي عن المثلة فمحمول على من وجب قتله، لا على وجه المكافأة. تنفيذ القصاص بواسطة ولي القتيل: استيفاء القصاص بالسيف ونحوه قد يكون بالجلاد المتخصص إذا رغب عنه ¬
استعمال وسيلة قصاص غير السيف
مستوفي القصاص، وقد يكون بنفس مستحق القصاص، فيمكَّن من السيف، ولكن بإشراف الحاكم؛ لأن المبدأ الشرعي المتفق عليه أن تنفيذ عقوبات الحدود والقصاص والتعزيرات يكون من اختصاص الإمام، فيشترط وجوده عند استيفاء العقوبة (¬1). وتعتبر مشاركة ولي الدم في القصاص سبيلاً لإطفاء لوعته وإزالة حقده، فتهدأ نفسه، ويوصد الباب أما م أسرته، كيلا تبادر إلى الاقتتال مع أسرة القاتل، قال الله تعالى: {ومن قُتِل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل، إنه كان منصوراً} [الإسراء:33/ 17]. وإذا سلِّم القاتل لولي الدم لأجل استيفاء القصاص منه، وجب على الحاكم أن ينهاه عن العبث بالجاني، فلا يشدد عليه بحبس أو تخشيب أو تكتيف قبل القصاص ولا يمثل به بعد القصاص (¬2). وعليه، يشترط لاستيفاء ولي المقتول القصاص بنفسه شرطان: 1 - أن يكون ذلك بإذن الإمام، وإلا عزر. 2 - أن يكون القصاص في قتل النفس، لا في الأطراف والأعضاء. استعمال وسيلة قصاص غير السيف: بما أن القصد من استعمال السيف كونه أسرع أداة في القتل، وأيسر وسيلة لتفادي الألم والعذاب، فلا مانع شرعاً من استعمال أداة أخرى أسرع من السيف، ¬
عاشرا ـ مسقطات القصاص
وأقل إيلاماً، وأبعد عن المُثْلة، مثل المِقْصلة التي هي من قبيل السلاح المحدد، والكرسي الكهربائي التي تسرع في الصعق (¬1)، والشنق لعدم إسالة الدم فيه، والاعتماد على إيقاف القلب به، والإعدام بغاز معين شبيه بالمخدر. عاشراً ـ مسقطات القصاص: يسقط القصاص بأحد أربعة أسباب هي ما يأتي: موت الجاني، العفو، الصلح، إرث القصاص (¬2). 1 - موت الجاني (فوات محل القصاص): إذا مات من عليه القصاص، أو قتل ظلماً بغير حق، أو بحق بالردة أو القصاص، سقط القصاص؛ لأن محله هو نفس القاتل، ولا يتصور بقاء الشيء في غير محله. وفي هذه الحالة، هل تجب الدية في مال الجاني أو لا؟ قال الحنفية والمالكية (¬3): إذا سقط القصاص بالموت لا تجب الدية في مال القاتل؛ لأن القصاص واجب عيناً، فإذا مات سقط الواجب. وليس للولي أخذ الدية إلا برضا القاتل. ولا تجب الدية إلا برضا القاتل واختياره. وقال الحنابلة (¬4): إذا سقط القصاص بالموت، بقي الخيار للولي في أخذ الدية؛ لأن الواجب بقتل العمد أحد شيئين: القود أو الدية، فإن اختار أخذ الدية ¬
2 - العفو
وجبت ولو لم يرض الجاني. وبالرغم من أن الراجح في المذهب الشافعي وهو أن القصاص واجب عيناً، إلا أن الشافعية قالوا: الدية بدل عن القصاص عند سقوطه بعفو أو غيره كموت الجاني، فيثبت حق المجني عليه في الدية؛ لأن ما ضمن بسببين على سبيل البدل، إذا تعذر أحدهما ثبت الآخر، كذوات الأمثال (¬1). وتلزم الدية حال العفو عن القصاص على الدية باختيار ولي المجني عليه، لا برضا الجاني. وبه يظهر أن الشافعية والحنابلة يقررون بقاء الدية في التركة بموت القاتل. 2 - العفو: الكلام فيه يتناول مشروعيته، وركنه، ومعناه وشروطه، وأحكامه. مشروعيته: يجوز العفو عن القصاص، وهو أفضل من استيفاء القصاص (¬2)، بدليل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى: الحر بالحر، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى، فمن عُفي له من أخيه شيء، فاتِّباع بالمعروف، وأداء إليه بإحسان، ذلك تخفيف من ربكم ورحمة} [البقرة:178/ 2] وقال سبحانه: {والجروحَ قصاص، فمن تصدَّق به فهو كفارة له} [المائدة:45/ 5] وقال تعالى في مناسبة إسقاط الحق في شيء من المهر قبل الدخول: {وأن تعفوا أقرب للتقوى} [البقرة:237/ 2]. ومن السنة قول أنس: «ما رفع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمر فيه القصاص إلا أمر فيه بالعفو» (¬3). وعن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «ما من رجل يصاب بشيء في جسده، فيتصدق به إلا رفعه الله درجة، وحط به عنه خطيئة» (¬4) ¬
ركن العفو
وعن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ما عفا رجل عن مظلمة إلا زاده الله بها عزاً» (¬1). وجعل القصاص قابلاً للسقوط بالعفو مزية فريدة للتشريع الإسلامي، إذ به يقلص من حالات تنفيذ هذه العقوبة الخطيرة، ويتحقق الغرض منها بحفظ حق الحياة، ومنع الثأر، ورفع الأحقاد والضغائن من النفوس. وركن العفو: أن يقول العافي: عفوت أو أسقطت أو أبرأت أو وهبت ونحوها (¬2). ومعنى العفو عند الحنفية والمالكية (¬3): هو إسقاط القصاص مجاناً. أما التنازل عن القصاص مقابل الدية فهو صلح، لا عفو؛ لأن تنازل الولي لا ينفذ إلا إذا قبل الجاني دفع الدية، فلا تثبت الدية عندهم إلا بتراضي الفريقين أي الولي والقاتل. وليس للولي إلا أن يقتص أو يعفو عن غير ديته، إلا أن يرضى القاتل بإعطاء الدية. والعفو عند الشافعية والحنابلة (¬4): هو التنازل عن القصاص مجاناً، أو إلى الدية، وولي الدم بالخيار: إن شاء اقتص، وإن شاء أخذ الدية، رضي القاتل أم لم يرض، عملاً بحديث أبي هريرة: «من قتل له قتيل فهو بخير النظرين، بين أن يأخذ الدية، وبين أن يعفو». ¬
شروط العفو
شروط العفو: يشترط شرطان في العفو (¬1): 1 - أن يكون العافي بالغاً عاقلاً، فلا يصح عفو الصبي والمجنون؛ لأنه تصرف ضار بهما ضرراً محضاً، فلا يملكانه، كالطلاق، والهبة. 2 - أن يصدر العفو من صاحب الحق فيه؛ لأن العفو إسقاط الحق، وإسقاط الحق لا يقبل ممن لا حق له. وصاحب الحق في العفو: هو الورثة رجالاً ونساء عند الجمهور، والعاصب الذكر عند المالكية. ومن لا حق له في العفو: هو الأجنبي غير الوارث عند الجمهور، وغير العاصب عند المالكية، وكذا الأب والجد في قصاص وجب للصغير عند المالكية والحنفية؛ لأن الصغير هو صاحب الحق، ولأبيه وجده ولاية الاستيفاء فقط، كما أن العفو ضرر محض، فلا يملكه أحد سوى الصغير بعد البلوغ، حتى الحاكم لا يملكه، والسبب فيه أن العفو معناه التنازل مجاناً. وأجاز الشافعية والحنابلة للأب والجد والحاكم العفو على مال. أحكام العفو: للعفو أحكام، منها ما يأتي: 1 ً) ـ أثر العفو في إسقاط القصاص والدية: يترتب على العفو عن القاتل عند الحنفية والمالكية (¬2) إسقاط القصاص مجاناً. وليس للعافي حينئذ الحق في أخذ ¬
الدية إلا من طريق الصلح، أي الاتفاق مع الجاني لدفع الدية برضاه؛ لأن موجب العمد عندهم هو القود عيناً. ولكن وجوب القود لا ينافي أن للولي العفو مجاناً، أوأخذ الدية برضا الجاني. وقال الشافعية والحنابلة (¬1): للولي الحق المطلق في العفو، فإن عفا عن القصاص سقط، وإن عفا على الدية، وجبت على الجاني ولو بغير رضاه، لما روى البيهقي عن مجاهد وغيره: «كان في شرع موسى عليه السلام تحتم القصاص جزماً، وفي شرع عيسى عليه السلام الدية فقط، فخفف الله تعالى عن هذه الأمة وخيرها بين الأمرين» لما في الإلزام بأحدهما من المشقة، ولأن الجاني محكوم عليه فلا يعتبر رضاه. وإذا أطلق الولي العفو أو بعبارة أخرى، إذا صدر العفو من الولي مطلقاً عن القود، ولم يتعرض للدية بنفي ولا إثبات، فالمذهب عند الشافعية: أنه لا دية؛ لأن القتل يوجب القود عيناً على الراجح عندهم، ولم يوجب الدية، والعفو إسقاط شيء ثابت، لا إثبات أمر معدوم. وكذلك قال المالكية: لا دية لعاف مطلق في عفوه إلا أن تظهر بقرائن الأحوال إرادتها، فيحلف على مراده (¬2). وتجب الدية عند الحنابلة في هذه الحالة، لانصراف العفو إلى القود؛ لأنه في مقابلة الانتقام، والانتقام إنما يكون بالقتل، ولقوله تعالى: {فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف، وأداء إليه بإحسان} [البقرة:178/ 2] أي اتباع المال، وذلك يشعر بوجوبه بالعفو (¬3). ¬
ـ أثر العفو على حق الغير إذا تعدد الأولياء أو كان الولي واحدا
2 ً) ـ أثر العفو على حق الغير إذا تعدد الأولياء أو كان الولي واحداً: إذا عفا ولي الدم، وكان واحداً، ترتب عليه أثره: فإن كان العفو مطلقاً ترتب عليه عصمة دم القاتل، فلو رجع عن عفوه، وقتل القاتل، اعتبر الولي قاتلاً عمداً، لعموم تشريع القصاص وآياته التي لم تفرق بين شخص وشخص، وحال وحال، ولأن الجاني بالعفو عنه صار معصوم الدم (¬1). وإن كان العفو مقيداً بدفع الدية، وجب على الجاني دفع الدية إن تم ذلك برضاه عند الحنفية والمالكية، أو بغير رضاه عند الشافعية والحنابلة، على ما تقدم سابقاً. وأما إذا تعدد الأولياء، فعفا أحدهم، سقط القصاص عن القاتل؛ لأن القصاص لا يتجزأ، وهو شيء واحد، فلا يتصور استيفاء بعضه دون بعض، ويبقى للآخرين حصتهم من الدية. بدليل ما روي عن جماعة من الصحابة، وهم عمر وابن مسعود وابن عباس: أنهم أوجبوا في عفو بعض الأولياء الذين لم يعفوا نصيبهم من الدية. ويأخذ العافي نصيبه من الدية إذا عفا على الدية، ولا يأخذ شيئاً إذا عفا مجاناً. لكن سقوط القصاص عند المالكية بعفو أحد المستحقين مقيد بما إذا كان العافي مساوياً لدرجة الباقين أو أعلى درجة، أوا ستحقاقاً. فإن كان أنزل درجة أو لم يساو الباقي في الاستحقاق كإخوة لأم مع إخوة لأب، لم يعتبر عفوه (¬2). ¬
3) ـ هل يبقى حق للسلطان بعد عفو ولي الدم؟
وإذا عفا أحد الأولياء، فقتله الآخر، فلا قصاص عند الحنفية (¬1)، للشبهة، إذا كان القاتل غير عالم بالعفو، أو عالماً بالعفو، غيرعالم بحرمة القتل. وقال الشافعية والحنابلة وزفر (¬2): عليه القصاص إذا كان عالماً بالعفو؛ لأنه قتل نفساً بغير حق؛ لأن عصمته عادت إليه بالعفو. 3) ـ هل يبقى حق للسلطان بعد عفو ولي الدم؟: إذا عفا ولي القتيل مطلقاً عن القاتل عمداً، صح العفو، وبقي عند الحنفية والمالكية حق السلطان في عقوبته تعزيراً؛ لأن القصاص فيه حقان: حق الله (أو حق المجتمع أو الحق العام)، وحق المجني عليه. وحدد المالكية نوع التعزير فقالوا: إذا عفا ولي الدم (¬3) عن القاتل عمداً، يبقى للسلطان حق فيه، فيجلده مئة، ويسجنه سنة (¬4). وقال الشافعية والحنابلة: إذا عفي عن القاتل مطلقاً، صح العفو، ولم تلزمه عقوبة أخرى (¬5). وقال الماوردي (¬6): الأظهر أن لولي الأمر أن يعزر مع العفو عن الحدود؛ لأن التقويم من حقوق المصلحة العامة. وقال أبو يعلى الحنبلي (¬7) في حق ¬
4) ـ عفو المقتول عمدا عن دمه قبل موته
السلطنة المشروع للتقويم والتهذيب: ظاهر كلام أحمد رحمه الله تعالى: أنه يسقط؛ لأنه لم يفرق، ويحتمل ألا يسقط للتهذيب والتقويم (¬1). 4) ـ عفو المقتول عمداً عن دمه قبل موته: إذا عفا المقتول عن القاتل قبل موته، فقال الحنفية والشافعية والحنابلة (¬2): يسقط القصاص عن القاتل، ولا تجب الدية لورثة المقتول من بعده، أي لا قصاص فيه ولا دية، وإنما هو هدر، للإذن فيه؛ لأن المقتول أسقط حقه باختياره، وقال تعالى: {فمن تصدق به فهو كفارة له} [المائدة:45/ 5] أي المقتول يتصدق بدمه، في حال إصابته قبل موته. وقال المالكية (¬3): لو قال المقتول لقاتله: إن قتلتني أبرأتك، أو قال له بعد جرحه قبل إنفاذ مقتله: أبرأتك من دمي، فلا يبرأ القاتل، بل للولي القود؛ لأنه أسقط حقاً قبل وجوبه. أما لو أبرأه بعد إنفاذ مقتله، أو قال له: إن مت فقد أبرأتك، فإنه يبرأ؛ لأنه أسقط شيئاً بعد وجوبه. ويشترط أن يكون هذا القول بالإبراء بعد إنفاذ مقتله. أما عفو المقتول خطأ عن الدية، فينفذ في المذاهب من ثلث ماله (¬4). 3 - الصلح: يجوز الصلح على القصاص باتفاق الفقهاء، ويسقط به القصاص، سواء أكان الصلح بأكثر من الدية أم بمثلها أم بأقل منها (¬5)، وسواء أكان حالاً أم مؤجلاً، ¬
ومن جنس الدية، ومن خلاف جنسها بشرط قبول الجاني؛ لأن القصاص ليس مالاً (¬1). أما الصلح على الدية فلا يجوز بأكثر من الدية، حتى لا يقع المتصالحان في الربا. والصلح يختص بالإسقاط بمقابل. أما العفو فقد يقع مجاناً أو في مقابل مال، لكن إن وقع العفو عن القصاص على الدية، اعتبر عند الحنفية والمالكية صلحاً لا عفواً، ويسمى أيضاً عند الشافعية والحنابلة عفواً بمقابل. وقد رغب الشرع في الصلح عموماً في قوله تعالى: {والصلح خير} [النساء:128/ 4] وقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً» (¬2). ودلت السنة على مشروعية الصلح في الدماء لإسقاط القصاص، بدليل قوله صلّى الله عليه وسلم: «من قَتَل عمداً، دفع إلى أولياء المقتول، فإن شاؤوا قتلوا، وإن شاؤوا أخذوا الدية: ثلاثين حقة، وثلاثين جذعة، وأربعين خَلِفة (¬3)، وما صولحوا عليه فهو لهم» (¬4) وذلك لتشديد حرمة القتل. وحكم الصلح: هو حكم العفو، فمن يملك العفو يملك الصلح، وأثر الصلح كأثر العفو في إسقاط القصاص، وإذا تعدد الأولياء، وصالح أحدهم الجاني على مال، سقط القصاص، وبقي حق الآخرين في المال. وإذا بادر أحد الأولياء بقتل الجاني بعد الصلح، فهو قاتل له عمداً، لكنه لا قصاص عليه عند الحنفية ما عدا زفر. وعليه القصاص عند الشافعية والحنابلة. ¬
4 - إرث القصاص
واتفق الفقهاء على أن الصلح الصادر من ولي الصغير أو المجنون أو من الحاكم لا يجوز على غير مال، ولا على أقل من الدية؛ لأنه لا يملك إسقاط حقه، ولأنه تصرف لا مصلحة فيه للصغير. فإن وقع الصلح على أقل من الدية صح عند المالكية والحنفية، ووجب باقي الدية في ذمة الجاني، ويرجع الصغير عند المالكية بعد رشده على القاتل في حال ملاءته (¬1)،أي يسره وغناه. 4 - إرث القصاص: يسقط القصاص إذا كان ولي الدم هو وارث الحق في القصاص، كما إذا وجب القصاص لإنسان، فمات من له القصاص، فورث القاتل القصاص كله، أو بعضه، أو ورثه من ليس له القصاص من القاتل وهو الابن (¬2). فتكون لدينا صورتان لإرث القصاص: 1 - مثال كون القاتل وارث القصاص: أن يقتل ولد أباه، وللولد أخ، ثم يموت الأخ صاحب الحق في القصاص، ولا وارث له إلا أخوه القاتل، فيصبح القاتل وارث دم نفسه من أخيه، فيسقط القصاص؛ لأن القصاص لا يتجزأ أو لا يتبعض، ولا يصح استيفاء القصاص من شخص طالب ومطلوب في آن واحد. كذلك يسقط القصاص إذا ورث القاتل بعض الحق في القصاص، بأن ورث القاتل أحد ورثة القتيل، ويكون لهؤلاء الورثة نصيبهم من الدية. ¬
العقوبة الأصلية الثانية للقتل العمد عند الشافعية ـ الكفارة
2 - ومثال كون وارث القصاص من ليس له القصاص من القاتل: أن يقتل أحد الوالدين الوالد الآخر، وكان لهما ولد (ذكر أو أنثى) فيسقط القصاص؛ لأن الولد هو صاحب الحق فيه، ولا يجب للولد قصاص على والده، بدليل أنه لو جنى الوالد على ولده، وقتله، لا يقتص منه؛ للحديث النبوي: «لا يقاد الوالد بالولد» فمن باب أولى لا يقتص للولد من الوالد إذا جنى الوالد على غير ولده. كذلك يسقط القصاص إذا كان للمقتول ولد آخر، أو وارث آخر؛ لأنه لو ثبت القصاص لوجب له جزء منه، ولا يمكن وجوبه، وإذا لم يثبت بعضه سقط كله، لأنه لا يتبعض، وصار الأمر كما لو عفا بعض مستحقي القصاص عن نصيبه منه. العقوبة الأصلية الثانية للقتل العمد عند الشافعية ـ الكفارة: ورد تشريع الكفارة (¬1) في القتل الخطأ (¬2) في القرآن الكريم في آية: {ومن قَتَل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة، ودية مسلَّمة إلى أهله إلا أن يصدَّقوا ... } [النساء:92/ 4] إلى قوله تعالى: {فمن لم يجدْ فصيام شهرين متتابعين، توبةً من الله، وكان الله عليماً حكيماً} [النساء:92/ 4] أي أن الواجب تحرير رقبة مؤمنة إن وجدت، فإن لم توجد فصيام شهرين متتابعين. فهل يقاس القتل العمد على القتل الخطأ في إيجاب الكفارة أو لا؟ هناك رأيان للفقهاء أو ثلاثة: ¬
1 - قال جمهور الفقهاء (¬1) (غير الشافعية): لا تجب الكفارة في القتل العمد؛ لأنه لا قياس في الكفارات؛ لأنها مقدرات شرعية للتعبد، فيقتصر فيها على محل ورودها، وقد اقتصر النص القرآني على الكفارة في القتل الخطأ جبراً للذنب غير المقصود. أما القتل العمد فجزاؤه جهنم؛ لأنه كبيرة، ولم يوجب القرآن كفارة فيه، فدل النص بمفهومه على أنه لا كفارة فيه، ولو كانت واجبة لبينها القرآن؛ لأن المقام يقتضي البيان. والقتل العمد يوجب القصاص، فلا يوجب كفارة كزنا المحصن. ويرشد إليه: «أن سويد بن الصامت قتل رجلاً، فأوجب النبي صلّى الله عليه وسلم عليه القود، ولم يوجب كفارة»، وعمرو بن أمية الضَّمري قتل رجلين في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم «فو داهما النبي صلّى الله عليه وسلم، ولم يوجب كفارة» (¬2). 2 - وقال الشافعية (¬3): تجب الكفارة في القتل العمد على كل قاتل بالغ وصبي ومجنون وعبد وذمي وعامد ومخطئ، ومتسبب، وفي شبه العمد، أي أن الكفارة تجب سواء أكان القاتل كبيراً عاقلاً أم صغيراً أم مجنوناً، مسلماً أم ذمياً، فاعلاً أصلياً أم شريكاً، مباشرة أم تسبباً، وكان المقتول مسلماً ولو بدار حرب، أوذمياً أو أجنبياً حتى ولو بقتل نفسه. ولا تجب الكفارة بقتل مباح الدم كالحربي والباغي والصائل والمقتص منه، والمرتد والزاني المحصن. هذا .. وقد حدد الشوكاني محل وجوب الكفارة في القتل العمد فيما إذا ¬
عفي عن القاتل أو رضي الوارث بالدية، وأما إذا اقتص منه، فلا كفارة عليه، بل القتل كفارته، لحديث عبادة بن الصامت في أن الحدود كفارات لأهلها، ولما أخرجه أبو نعيم في المعرفة: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «القتل كفارة» (¬1). والدليل على وجوب الكفارة في العمد: أن المقصود من تشريع الكفارة هو رفع الذنب، ومحو الإثم، والذنب في القتل العمد أعظم من القتل الخطأ، فكانت الكفارة في العمد أحرى وأولى، والعامد أحوج إليها لرفع الذنب وتكفير الخطيئة. ويدل له خبر واثلة بن الأسقع، قال: «أتينا النبي صلّى الله عليه وسلم في صاحب لنا، قد استوجب النار بالقتل، فقال: أعتقوا عنه رقبة، يعتق الله بكل عضو منها عضواً منه من النار» (¬2). وكفارة القتل مثل كفارة الظهارفي الترتيب: عتق رقبة أولاً، فإن لم يجد (¬3) فصيام شهرين متتابعين (¬4)، كما نصت الآية، لكن لا إطعام فيها في الأظهر عند العجز عن الصوم، اقتصاراً على الوارد فيها، إذ المتبع في الكفارات النص، لا القياس، ولم يذكر الله تعالى في كفارة القتل غير العتق والصيام. وعلى هذا فمن لم يستطع الصوم ثبت ديناً في ذمته، ولا يجب شيء آخر. والواجب في عصرنا هو الصوم فقط. 3 - وقال المالكية (¬5): تستحب الكفارة في قتل الجنين م وجوب دية الجنين، ¬
النوع الثاني ـ العقوبة البدلية في القتل العمد
ولا تجب، خلافاً لأبي حنيفة؛ لأن الكفارة لما كانت لا تجب عندهم في العمد، وتجب في الخطأ، وكان الاعتداء على الجنين متردداً بين العمد والخطأ، استحسن الإمام الكفارة في الجنين، ولم يوجبها. ولا تجب الكفارة على قاتل الباغي والصائل والحربي والمرتد والزاني المحصن والذي يقتص منه؛ لأن هؤلاء مباحو الدم بالنسبة للقاتل. النوع الثاني ـ العقوبة البدلية في القتل العمد: إذا سقط القصاص بعفو ولي القتيل أو بموت الجاني أو بغيرهما، طبقت عقوبتان أخريان وهما: 1 - الدية التي هي بدل حتمي عن القصاص عند الحنابلة، أو إذا عفي إليها عند الشافعية، وبرضا الجاني عند الحنفية والمالكية. 2 - التعزير الذي هو بدل حتمي أيضاً عند المالكية، وباختيار الحاكم عند الجمهور. ويلاحظ أن صيام شهرين متتابعين عند الشافعية هو أحد خصال الكفارة على الترتيب الواجب بعد عتق الرقبة. ولا يقال: إن الصوم بدل مطلق عن الكفارة، وإنما هو بدل عن الخصلة الأولى فيها، لذا فإنه لا يعدُّ عقوبة بدلية في القتل العمد، وإنما هو عقوبة أصلية كما تقدم. وأبحث هنا فقط حكم الدية والتعزير. العقوبة البدلية الأولى ـ الدية: الكلام فيها يتناول تعريف الدية، ومشروعيتها، وشروط إيجابها، ونوعها ومقدارها، تغليظها وتخفيفها وقت أدائها، الملزم بها (أو من تجب عليه)، متى تجب كاملة، وهل يتساوى كل الناس في مقدارها؟
أولا ـ تعريف الدية
أولاً ـ تعريف الدية: هي في الشرع (¬1): المال الواجب بالجناية على النفس أو ما في حكمها. والأرش: المال الواجب المقدر شرعاً بالاعتداء على ما دون النفس (¬2)، أي مما ليس فيه دية كاملة من الأعضاء. وبناء عليه تطلق الدية على بدل النفس أو ما في حكمها، والأرش على دية العضو. وحكومة العدل: هو الأرش غير المقدر في الشرع، بالاعتداء على ما دون النفس من جرح أو تعطيل وغيرهما. ويترك أمر تقديره للحاكم بمعرفة أهل الخبرة العدول. ثانياً ـ مشروعية الدية: ثبتت مشروعية الدية في القرآن والسنة والإجماع أما القرآن: فقوله تعالى: {ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة، ودية مسلَّمة إلى أهله، إلا أن يصَّدَّقوا} [النساء:92/ 4] وهذه الآية وإن كانت في القتل الخطأ، إلا أن العلماء أجمعوا على وجوب الدية في القتل العمد، في حالات سقوط القصاص المار ذكرها. وأما السنة فأحاديث كثيرة أشهرها حديث عمرو بن حزم في الديات. وهو: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن كتاباً فيه الفرائض والسنن والديات، وكان في كتابه «أن من اعتبط (¬3) مؤمناً قتلاً عن بينة، فإنه قود، إلا أن يرضى أولياء ¬
ثالثا ـ شروط وجوب الدية
المقتول، وإن في النفس: الدية مئة من الإبل ... » (¬1). وأول من سنَّها مئة عبد المطلب جد الرسول صلّى الله عليه وسلم. وأما الإجماع: فقد أجمع أهل العلم على وجوب الدية في الجملة. ثالثاً ـ شروط وجوب الدية: يشترط لوجوب الدية عند الحنفية (¬2) شرطان: 1 - العصمة: وهو أن يكون المقتول معصوماً، أي مصون الدم، فلا دية بقتل الحربي والباغي لفقد العصمة. ورأي الجمهور متفق مع الحنفية في هذا الشرط، إلا أن الباغي معصوم الدم في غير حال الحرب عند الشافعية ومن وافقهم وهم الجمهور غيرا لحنفية. 2 - التقوم: وهو أن يكون المقتول متقوماً، فلا تجب الدية عند الحنفية بقتل الحربي إذا أسلم في دار الحرب، ولم يهاجر إلينا، وكان قاتله مسلماً أو ذمياً خطأ. وقال الجمهور: تجب الدية؛ لأن التقوم عندهم بالإسلام، وهذا مسلم قتل خطأ، والله تعالى يقول: {ومن قتَل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة، ودية مسلَّمة إلى أهله} [النساء:92/ 4]. والتقوم عند الحنفية بدار الإسلام، وهذا ليس من أهل دار الإسلام، والله تعالى يقول: {فإن كان من قوم عدو لكم، وهو مؤمن، فتحرير رقبة مؤمنة} [النساء:92/ 4] فقد أوجب الله جزاء قتله: الكفارة فقط وهي عتق الرقبة، فلا يكون داخلاً تحت صدر الآية، وهي التي احتج بها الجمهور؛ لأنه مؤمن ديناً، لا ¬
هل تضمن الدية بسبب ممارسة حق التأديب؟
داراً، وهو في دار الحرب مكثر سواد الكفار، ومن كثَّر سواد قوم فهو منهم، على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلم (¬1). وأما الاتصاف بصفة «الإسلام» فليس من شرائط وجوب الدية، لا بالنسبة لقاتل، ولا بالنسبة للمقتول، فتجب الدية سواء أكان القاتل أو المقتول مسلماً أم ذمياً أم حربياً مستأمناً. وكذلك العقل والبلوغ ليس شرطاً لإيجاب الدية، فتجب الدية في مال الصبي والمجنون، لعموم قوله تعالى: {ومن قتل مؤمناً خطأ، فتحرير رقبة مؤمنة، ودية مسلَّمة إلى أهله، إلا أن يصدقوا} [النساء:92/ 4]. كما تجب الدية بقتل الذمي والمستأمن، لقوله تعالى: {وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق، فدية مسلَّمة إلى أهله} [النساء:92/ 4]. هل تضمن الدية بسبب ممارسة حق التأديب؟ إذا ضرب السلطان أو الوالي متهماً، أو ضرب الأب ابنه للتأديب المشروع، أو ضرب الولي أو الوصي الصبي اليتيم، أو ضرب الزوج زوجته بسبب نشوزها، أو لتركها الصلاة مثلاً، أو أدَّب المعلم صبياً بغير إذن أبيه، فمات المؤدَّب بسبب هذا التأديب المشروع المعهود في العرف بين الناس، فهل يضمن هؤلاء فعلهم؟ للفقهاء فيه آراء: 1 - قال أبو حنيفة والشافعي (¬2): إنه يجب ضمان الدية في هذه الحالات؛ ¬
رابعا ـ نوع الدية ومقدارها
لأن المقصود هو التأديب والزجر، لا الهلاك، فإذا أفضى التأديب إلى التلف، تبين أنه تجاوز الحد المشروع له، أو تخطى حدود السلطة المخولة إياه، ولأن هذا الفعل وهو التأديب أمر مباح، فيتقيد بشرط السلامة للغير كالمرور في الطريق العام ونحوه، فإن استيفاء الإنسان حقه مقيد بشرط السلامة للآخرين. 2 - وقال المالكية والحنابلة والصاحبان من الحنفية (¬1): لا ضمان في هذه الحالات، ما لم يكن هناك إسراف أو زيادة على ما يحقق المقصود، أو يتجاوز المعتاد؛ لأن التأديب فعل مشروع للزجر والردع، فلا يضمن التالف به، كما هو الشأن عند تطبيق الحدود الشرعية أو التعزيرات (¬2)، والقاعدة الفقهية تقول: «الجواز الشرعي ينافي الضمان». رابعاً ـ نوع الدية ومقدارها: اختلف الفقهاء على آراء ثلاثة في تحديد نوع الدية، وهي ما يأتي: 1 - رأي أبي حنيفة ومالك، والشافعي في مذهبه القديم (¬3): إن الدية تجب في واحد من ثلاثة أنواع: الإبل، والذهب، والفضة. ويجزئ دفعها من أي نوع. ودليلهم ما ثبت في كتاب عمرو بن حزم في الديات: «وإن في النفس الدية، مئة ¬
من الإبل» (¬1) وأن عمر فرض على أهل الذهب في الدية ألف دينار ومن الورِق عشرة آلاف درهم (¬2). ورأي أبي حنيفة هو الصحيح في مذهبه. 2 - رأي الصاحبين وأحمد (¬3): إن الدية تجب من ستة أجناس، وهي الإبل أصل الدية، والذهب، والفضة، والبقر، والغنم، والحُلل. والخمسة الأولى هي أصول الدية عند الحنابلة، وأما الحلل فليست أصلاً عندهم؛ لأنها تختلف ولا تنضبط. وروي عن أحمد: أنها أصل، وقدرها مئتا حلة من حلل اليمن، كل حلة بُرْدان: إزار ورداء جديدان. وأي شيء أحضره الملزم بالدية، لزم ولي القتيل قبوله، سواء أكان الجاني من أهل ذلك النوع، أم لا؛ لأنها أصول في قضاء الواجب، يجزئ واحد منها، فكانت الخيرة إلى من وجبت عليه كخصال الكفارة. ودليل هذا الرأي: أن عمر قام خطيباً فقال: «ألا إن الإبل قد غلت، قال الراوي، فقوَّم على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألفاً، وعلى أهل البقر مئتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مئتي حلة» (¬4). وأخرج أبو داود مثله عن جابر بن عبد الله أنه قال: «فرض رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الدية على أهل الإبل مئة من الإبل ... الخ» (¬5). ¬
3 - رأي الشافعي في مذهبه الجديد (¬1): إن الواجب الأصلي في الدية هو مائة من الإبل إن وجدت، وعلى القاتل تسليمها للولي سليمة من العيوب، فإن عدمت حساً بأن لم توجد في موضع يجب تحصيله منه، أو عدمت شرعاً بأن وجدت فيه بأكثر من ثمن مثلها، فالواجب قيمة الإبل، بنقد البلد الغالب (¬2)، وقت وجوب تسليمها بالغة ما بلغت؛ لأنها بدل متلف، فيرجع إلى قيمتها عند فقد الأصل. ودليله الحديث السابق وهو ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كانت قيمة الدية على عهد الرسول صلّى الله عليه وسلم ثمان مئة دينار، أو ثمانية آلاف درهم، كان ذلك كذلك، حتى استخلف عمر رضي الله عنه، فقام عمر خطيباً، فقال: «ألا إن الإبل قد غلت، فقال: فقوم على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم، وعلى أهل البقر مئتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مئتي حلة» (¬3) ويؤكده من المعقول أن ما ضمن بنوع من المال وتعذر، وجبت قيمته، كذوات الأمثال (¬4). وأما مقدار الدية فيتضح من الأحاديث السابقة، ولم يختلف الفقهاء في المقادير إلا في دراهم الفضة (أي الوَرِق). وسبب الاختلاف فيها: هو سعر صرف الدينار، فعند الحنفية: الدينار يساوي عشرة دراهم بدليل حديث عَبيدة السلماني المتقدم. وعند الجمهور (¬5): ¬
خامسا ـ تغليظ الدية وتخفيفها
الدينار يساوي اثني عشر درهماً، بدليل حديث عمر السابق، وأن رجلاً من بني عدي قتل، فجعل النبي صلّى الله عليه وسلم ديته اثني عشر ألفاً (¬1). وعلى هذا: الواجب من الإبل مئة، ومن الذهب ألف دينار (¬2)، ومن الفضة عشرة آلاف درهم عند الحنفية، واثنا عشر ألف درهم عند الجمهور، ومن البقر مئتا بقرة، ومن الغنم ألفان، ومن الحلل، أي الثياب مئتا حلة: إزار ورداء. خامساً ـ تغليظ الدية وتخفيفها: الدية إما مغلظة أو مخففة، وتجب الدية عند الحنفية في شبه العمد وفي الخطأ وفي شبه الخطأ وفي القتل بسبب، وفي العمد أيضاً إذا اشتمل القتل على شبهة: وهي الحالة التي يقتل فيها الأب ابنه. وقد تجب الدية في العمد برضا القاتل وولي الدم، أي عند التراضي عليها فيما إذا حصل عفو من ولي القتيل أو من بعض الأولياء، فيكون للباقي نصيبه من دية العمد. ولا تتغلظ الدية إلا في حالة الوفاء بها بالإبل خاصة؛ لأن الشرع ورد بها، والمقدرات الشرعية لا تعرف إلا سماعاً ونقلاً من طريق الشرع، إذ لا مدخل للرأي فيها؛ فلا تتغلظ الدية في الدنانير والدراهم، بأن يُزاد على ألف دينار، أو على عشرة آلاف درهم (عند الحنفية). وتتغلظ الدية في القتل العمد وفي شبه العمد عند الجمهور (¬3). وقال ¬
المالكية (¬1): تتغلظ الدية في القتل العمد إذا قبلها ولي الدم، وفي حالة قتل الوالد ولده. وإذا غلظت الدية تجب مثلثة عند المالكية والشافعية ومحمد بن الحسن (أي ثلاثون حقه وثلاثون جَذَعة، وأربعون خَلِفة أي حاملاً، لخبرالترمذي بذلك). وهذا عند المالكية في حال قتل الأصل ولده، أما في القتل العمد إذا عفا ولي الدم، فتجب الدية عندهم مربعة، بحذف ابن اللبون من الأنواع الخمسة الواجبة في القتل الخطأ. وتجب حينئذ مربعة، أي أرباعاً عند الحنفية ما عدا محمداً، والحنابلة (¬2): (خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة) (¬3). وأما الدية المخففة في القتل الخطأ ونحوه، فتجب مخمسة، أي أخماساً باتفاق المذاهب (وهي عشرون بنت مخاض، وعشرون ابن مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة) وهذا رأي الحنفية والحنابلة، بدليل ما روى ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «في دية الخطأ عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون بني مخاض» (¬4) ولأن ابن اللبون يجب على طريق البدل عن ابنة المخاض في الزكاة إذا ¬
لم يجدها، فلا يجمع بين البدل والمبدل في واجب واحد (¬1). وجعل المالكية والشافعية (¬2) مكان (بني المخاض): (بني اللبون) بدليل ما روى الدارقطني وسعيد بن منصور، في سننهما عن النَّخعي عن ابن مسعود، وقال الخطابي: روي أن النبي صلّى الله عليه وسلم ودى الذي قتل بخيبر بمئة من إبل الصدقة، وليس في أسنان الصدقة ابن مخاض. وتغلظ عند الشافعية والحنابلة (¬3) دية القتل الخطأ في النفس والجراح في حالات ثلاث: 1 - إذا حدث القتل في حرم مكة، تحقيقاً للأمن. 2 - أو حدث في الأشهر الحرم: وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب. 3 - أو قتل القاتل قريباً له ذا رحم محرم، كالأم والأخت. وعلى هذا الرأي تغلظ الدية بأحد أسباب خمسة: كون القتل عمداً، أو شبه عمد، أو في الحرم، أو الأشهر الحرم، أو لذي رحم محرم. والدليل على تربيع (¬4) الدية المغلظة عند الحنفية ما عدا محمداً، وعند الحنابلة: هو ما رواه الزهري عن السائب بن يزيد، قال: كانت الدية على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم أرباعاً: «خمساً وعشرين جذعة، وخمساً وعشرين حقة، وخمساً وعشرين بنت لبون، وخمساً وعشرين بنت مخاض» وقضى بذلك ابن مسعود، ¬
ولأن الدية حق يتعلق بجنس الحيوان، فلا يعتبر فيه الحمل في بعضها، كالزكاة والأضحية (¬1). وأما دليل المالكية والشافعية ومحمد بن الحسن في تثليث (¬2) الدية المغلظة، فهو حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «من قَتَل متعمداً، دفع إلى أولياء المقتول، فإن شاؤوا قتلوه، وإن شاؤوا أخذوا الدية، وهي ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خَلِفة، وما صولحوا عليه فهو لهم» (¬3) وذلك لتشديد القتل. وحديث آخر عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «ألا إن في قتيل عمد الخطأ، قتيل السوط والعصا مائة من الإبل، منها أربعون خلفة في بطونها أولادها» (¬4). والخلاصة: أن دية العمد تغلظ عند الجمهور بتخصيصها بالجاني، وتعجيلها عليه، أي كونها حالَّة عند غير الحنفية، وتربيعها في رأي الحنفية والحنابلة، وتثليثها في رأي عند المالكية والشافعية. ودية شبه العمد: تخفف من ناحيتين (وهما فرض الدية على العاقلة، والتأجيل بثلاث سنين) وتغلظ من ناحية واحدة: وهي التربيع في رأي، والتثليث في رأي آخر. ودية الخطأ: تخفف من نواح ثلاث: إلزام العاقلة بها، والتأجيل ثلاث سنين، وتخميسها. ¬
سادسا ـ وقت أداء الدية
سادساً ـ وقت أداء الدية: تجب دية العمد وشبه العمد والخطأ عند الحنفية (¬1) مؤجلة في ثلاث سنين، عملاً بفعل عمر رضي الله عنه، ويكفي العامد تغليظ الدية عليه، وإيجابها في ماله. وقال جمهور الفقهاء (¬2): دية العمد تجب معجلة (حالَّة) في ماله، غير مؤجلة؛ لأن الدية فيه بدل عن القصاص، وبما أن القصاص حالّ الأداء، فبدله وهو الدية حال مثله، ولأن في التأجيل تخفيفاً على القاتل، والعامد يستحق التغليظ لا التخفيف، بدليل وجوب الدية في ماله لا على العاقلة. وأما دية الخطأ فتجب عند الجمهور كالحنفية مؤجلة في مدى ثلاث سنوات، تخفيفاً عن العاقلة، بدليل ما روي عن عمر وعلي أنهما قضيا بالدية على العاقلة في ثلاث سنين، ولا مخالف لهما في عصرنا، فكان إجماعاً (¬3). وكذلك دية شبه العمد عند الجمهور تجب مؤجلة لثلاث سنين، في كل سنة ثلثها. سابعاً ـ الملزم بأداء الدية: اتفق الفقهاء على أن دية القتل العمد تجب على القاتل في ماله وحده، ¬
ولاتحملها العاقلة؛ لأن الأصل في كل إنسان أن يسأل عن أعماله الشخصية المدنية كالإتلافات، والجنائية كالجرائم، ولا يسأل عنها غيره لقوله تعالى: {كل امرئ بما كسب رهين} [الطور:21/ 52] {ولا تزو وازرة وزر أخرى} [الأنعام:164/ 6] {قل: لا تسألون عما أجرمنا، ولا نسأل عما تعملون} [سبأ:25/ 34]. ويؤيده ما جاء في السنة من قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «لا يجني جانٍ إلا على نفسه» (¬1)، وقال النبي صلّى الله عليه وسلم لبعض أصحابه حين رأى معه ولده: «ابنك هذا؟» قال: نعم، قال: «أما إنه لا يجني عليك، ولا تجني عليه» (¬2). وثبت في السنة بنحو خاص: «لا تعقل العاقلة عمداً، ولا عبداً، ولا صلحاً، ولا اعترافاً» (¬3). ويرى الفقهاء ما عدا المالكية (¬4) أن دية شبه العمد، والخطأ على العاقلة، كما سيأتي في عقوبة كل منهما. وأما دية القتل العمد الصادر من الصبي أو المجنون، فقال الحنفية والمالكية والحنابلة (الجمهور) (¬5): إنها على عاقلته، وعبارتهم فيها: عمد الصبي وخطؤه ¬
ثامنا ـ متى تجب الدية كاملة، وهل يتساوى كل الناس في دية العمد؟
سواء، بدليل أن مجنوناً صال على رجل بسيف، فضربه، فرفع ذلك إلى علي رضي الله عنه، فجعل ديته على عاقلته، بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم، وقال: عمده وخطؤه سواء. وقال الشافعية (¬1): الأظهر أن عمد الصبي عمد إذا كان مميزاً، وإن لم يكن له تمييز فهو خطأ قطعاً، أي أنه سواء أكان مميزاً أم غير مميز لا قصاص عليه لعدم تكليفه بالحلال والحرام شرعاً، لكن تجب الدية في ماله، ولا تتحملها عنه عاقلته إذا كان مميزاً، وكان القتل عمداً؛ لأن العاقلة (العصبة) لا تتحمل دية القتل العمد أو حالة الصلح أو الاعتراف، كما تقدم. وبما أن فعله يعدّ عمداً إذا كان مميزاً في الراجح عند الشافعية، فلا تتحمل العاقلة دية القتيل الذي جنى عليه، وتكون الدية عليه مغلظة. ثامناً ـ متى تجب الدية كاملة، وهل يتساوى كل الناس في دية العمد؟ قال الحنفية والمالكية (¬2): دية العمد عند العفو عن القصاص غير محدودة، والواجب هو ما يتم التراضي أو الاتفاق عليه بين الجاني وولي الدم، سواء أكان المال قليلاً أم كثيراً، فإن انبهمت أي لم تحدد الدية كانت بحسب المقدار الشرعي (مئة من الإبل أو ما ينوب منابها من الدنانير والدراهم). وقال الشافعية والحنابلة (¬3): دية العمد بحسب المقدار المحدد شرعاً: مئة بعير، لقوله صلّى الله عليه وسلم في حديث عمرو بن حزم في الديات: «في النفس مائة من الإبل». ¬
تساوي الديات بين الناس
وأما تساوي الديات بين الناس: ففيه خلاف: قال الشافعية (¬1): قد يعرض للدية ما ينقصها، وهو أحد أسباب أربعة: الأنوثة، والرق، وقتل الجنين، الكفر، فالأول يردها إلى الشطر، والثاني إلى القيمة المختلفة بحسب كل شخص، والثالث إلى الغرة، والرابع إلى الثلث أو أقل. وأذكر هنا الخلاف في أمرين: الأنوثة، والكفر. الأنوثة (دية المرأة): اتفق الفقهاء ما عدا النادر (¬2) على أن دية المرأة نصف دية الرجل، عملاً بأحاديث وآثار وبالمعقول. أما الأحاديث، فمنها قوله عليه السلام مرفوعاً عن معاذ: «دية المرأة نصف دية الرجل» (¬3)، وروي موقوفاً عن علي: «عقل المرأة على النصف من عقل الرجل في النفس، وفيما دونها» (¬4). والآثار فيها كثيرة مروية عن عمر وعلي وعثمان وابن عباس وابن عمر وزيد بن ثابت رضوان الله عليهم، فكان هناك إجماع من الصحابة على تنصيف دية المرأة. والمعقول: أن المرأة في ميراثها وشهادتها على النصف من الرجل، فكذلك ديتها. ¬
الكفر (دية غيرالمسلم)
وحكي عن ابن عُلَيَّة وأبي بكر الأصم من نفاة القياس: أن دية المرأة كدية الرجل، لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث عمرو بن حزم: «في النفس المؤمنة مائة من الإبل». الكفر (دية غيرالمسلم): اختلف الفقهاء في تقدير دية غير المسلم على آراء ثلاثة: 1 - قال الحنفية (¬1): إن دية الذمي والمستأمن كدية المسلم، فلا يختلف قدر الدية بالإسلام والكفر، لتكافؤ الدماء، وعملاً بعموم قوله تعالى: {وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق، فدية مسلَّمة إلى أهله} [النساء:92/ 4] ولأنه عليه الصلاة والسلام «جعل دية كل ذي عهد في عهده ألف دينار» (¬2). 2 - وقال المالكية والحنابلة (¬3): دية الكتابي (اليهودي والنصراني) المعاهد أو المستأمن نصف دية المسلم، ونساؤهم نصف ديات المسلمين، أي كنساء المسلمات، لقوله عليه الصلاة والسلام: «دية المعاهد نصف دية المسلم» (¬4) أو «إن دية المعاهد نصف دية المسلم» (¬5) أو «دية عقل الكافر نصف عقل المسلم» (¬6). 3 - وقال الشافعية (¬7): دية اليهودي والنصراني والمعاهد والمستأمن ثلث دية ¬
العقوبة البدلية الثانية للعمد ـ التعزير
المسلم، لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه صلّى الله عليه وسلم «فرض على كل مسلم قتل رجلاً من أهل الكتاب أربعة آلاف درهم» (¬1). وقضى بذلك عمر وعثمان رضي الله عنهما (¬2)، ولأنه أقل ما أجمع عليه في المسألة. واتفق غير الحنفية على أن دية المجوسي والوثني المستأمن كعابد الشمس والقمر والزنديق ثمان مئة درهم، أي ثلثا عشر دية المسلم بتقدير الجمهور، وأن نساءهم نصف دياتهم، أي أربع مئة درهم، كما قال بعض الصحابة مثل عمر وعثمان وابن مسعود رضي الله عنهم، ربعض التابعين كسعيد بن المسيب وسليمان ابن يسار وعطاء وعكرمة والحسن وغيرهم (¬3). والمذهب المنصوص عند الشافعية: أن من لم يبلغه الإسلام: إن تمسك بدين لم يبدَّل، فتجب له دية أهل دينه، فإن كان كتابياً فدية كتابي، وإن كان مجوسياً فدية مجوسي، وإن تمسك بدين بدِّل فديته كدية المجوسي. وقال الحنابلة والحنفية: لا يجوز قتل هذا الشخص إن وجد، حتى يدعى إلى الإسلام، فإن قتل قبل الدعوى من غير أن يعطى أماناً، فلا ضمان فيه؛ لأنه لا عهد له ولا إيمان. العقوبة البدلية الثانية للعمد ـ التعزير: إذا سقط القصاص في القتل العمد، كان التعزير عقوبة بدلية عنه؛ لكن هل التعزير أمر واجب أو جائز؟ وقد أشرت له في حالة عفو ولي الدم. ¬
النوع الثالث ـ العقوبة التبعية للقتل العمد ـ الحرمان من الميراث والوصية
1 - قال المالكية (¬1): يجب تعزير القاتل العمد إذا لم يقتص منه، والعقوبة هي جلد مئة، وحبس سنة، عملاً بأثر ضعيف عن عمر. 2 - وقال الجمهور (¬2): لا يجب التعزير، وإنما يفوض الأمر للحاكم، يفعل ما يراه مناسباً للمصلحة، فيؤدب الشرير بالحبس أو الضرب أوالتأنيب ونحوها. ويمكن أن يكون التعزير عند الحنفية والمالكية هو القتل أو الحبس مدى الحياة. النوع الثالث ـ العقوبة التبعية للقتل العمد ـ الحرمان من الميراث والوصية: ثبت في السنة تشريع عقوبة أخرى للقتل العمد وهي الحرمان من الإرث، والوصية، وذلك في قوله صلّى الله عليه وسلم: «ليس لقاتل ميراث» (¬3) وفي رواية: «لا يرث القاتل شيئاً» (¬4). وفي قوله عليه الصلاة والسلام: «ليس لقاتل وصية» (¬5). فإذا قتل الوارث مورثه، أو الموصى له الموصي، حرم من الميراث والوصية، عملاً بمبدأ سد الذرائع، كيلا يطمع أحد بمال مورثه، فيتعجل موته بالقتل. لكن اختلف الفقهاء في نوع القتل المانع من الميراث أو الوصية. أولاً ـ الحرمان من الميراث: القتل من حيث المبدأ مانع من الميراث بالاتفاق، لكن الخلاف في تحديد صفة القتل. ¬
فقال الحنفية والشافعية والحنابلة (الجمهور) (¬1): إن القتل العدوان بغير حق، الصادر من البالغ العاقل، عمداً أم خطأ، مانع من الميراث. لكن يشترط عند الحنفية أن يكون القتل مباشرة لا تسبباً. ولم يميز الشافعية والحنابلة بينهما، فقالوا: لا فرق بين المباشرة والتسبب، فكلاهما مانع من الإرث. وإذا كان القتل بحق وهو القتل غير المضمون كالقتل قصاصاً أو حداً أو دفاعاً عن النفس أو قتل العادل الباغي، أو كالقتل الحادث بسبب التأديب كضرب الأب والزوج والمعلم، فلا يمنع الميراث عند الحنفية والحنابلة، ويمنع الميراث عند الشافعية، أي أن القتل غير المضمون يمنع الإرث عند الشافعية، وعند الحنابلة لايمنع. والقتل بإكراه مضمون عند الشافعية والحنابلة، فيمنع الميراث. والقتل الصادر من الصبي أو المجنون أو النائم لا يمنع الميراث عند الحنفية، ويمنع الميراث عند الشافعية والحنابلة؛ لأنه قتل بالتسبب. وقال المالكية (¬2): إن القتل العمد، ومثله شبه العمد المعروف عند غيرهم والمقرر استثناء لديهم هو المانع من الميراث، سواء أكان مباشرة أم تسبباً، وأما القتل الخطأ فلا يحرم الإرث. وعلى هذا فأشد المذاهب في جعل القتل مانعاً من الميراث هم الشافعية ثم الحنابلة، ثم الحنفية ثم المالكية. والسبب في التشدد إطلاق حديث: «ليس للقاتل شيء» ولأن القاتل لو ورث لم يؤمن أن يستعجل الإرث بالقتل، فاقتضت المصلحة حرمانه: «من استعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه». ¬
ثانيا ـ الحرمان من الوصية
ثانياً ـ الحرمان من الوصية: القتل المانع من الوصية عند الحنفية (¬1): هو القتل المانع من الإرث وهو أن يكون صادراً من بالغ عاقل، ومباشرة لا تسبباً، وعدواناً أي بغير حق، سواء أكان عمداً أم خطأ. وعند المالكية (¬2): لا يصلح القتل الخطأ مانعاً من الوصية كالميراث، وأما القتل العمد ومثله شبه العمد، فهو مانع من الوصية على الراجح إن لم يعلم الموصي بأن الموصى له ضربه. فإن علم الموصي بمن ضربه أو قتله، ولم يغير وصيته، أو أوصى له بعد الضرب صحت الوصية، سواء قتله عمداً أم خطأ. ومثلهما قال الحنابلة (¬3): الأصح أن القتل بغير حق، سواءأكان عمداً أم خطأ يبطل الوصية؛ لأنه يمنع الميراث، وهو آكد منها، فهي أولى بحرمان القاتل منها. وقال الشافعية (¬4): الأظهر أن الموصى له لو قتل الموصي ولو تعدياً، استحق الموصى به؛ لأن الوصية تمليك بعقد فأشبهت عقد الهبة، وخالفت الإرث. والخلاصة: إن القتل المانع من الميراث مانع عند الجمهور من الوصية. وأما عند الشافعية: فلا يعتبر القتل مانعاً من الوصية، وإن منع الميراث. المبحث الثالث ـ القتل شبه العمد وعقوبته: لايعرف المالكية القتل شبه العمد، فهو في حكم العمد إلا في حالة قتل الأب ¬
النوع الأول ـ العقوبة الأصلية
ابنه فهو شبه عمد عندهم (¬1). وعرفه الجمهور، ولكنهم كما تبين اختلفوا في تحديد معناه، فهو عند أبي حنيفة: أن يتعمد الجاني الضرب بما ليس بسلاح أو ما في حكمه، كالقتل بالمثقل من عصا أو حجر أو خشب كبير. وعند الصاحبين والشافعية والحنابلة: القتل بالمثقل عمد. وشبه العمد: أن يتعمد الجاني الضرب بما لا يقتل غالباً كالحجر والخشب الصغير والعصا الصغيرة. وعقوبات القتل شبه العمد أنواع ثلاثة: أصلية، وبدلية، وتبعية. النوع الأول ـ العقوبة الأصلية: هناك عقوبتان أصليتان للقتل شبه العمد: وهما الدية والكفارة. المطلب الأول ـ الدية المغلظة: لا قصاص في القتل شبه العمد، بل فيه الدية المغلظة على العاقلة وهي العقوبة الأولى فيه (¬2)، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ألا إن دية الخطأ شبه العمد، ما كان بالسوط والعصا، مئة من الإبل: منها أربعون في بطونها أولادها» (¬3) وهو رأي المالكية والشافعية، وتجب هذه الدية مربعة عند الحنابلة والحنفية. ودية شبه العمد مثل دية العمد في نوعها ومقدارها، وتغليظها، لكنها ¬
أولا ـ الملزم بأداء دية شبه العمد
تختلف عنها في الملزم بها، وفي وقت أدائها، فدية العمد تجب على الجاني في ماله معجلة، ودية شبه العمد تجب على العاقلة مؤجلة في مدى ثلاث سنين. لكن الإمام مالك يرى أن شبه العمد كالعمد، في وجوب الدية في مال الجاني. إلا في حالة قتل الأب ابنه فيما إذاحذفه بسيف أو عصا، فقتله، ففيه دية شبه عمد: مغلظة مثلثة، مؤجلة كدية الخطأ. أولاً ـ الملزم بأداء دية شبه العمد: قال الجمهور (الحنفية والشافعية والحنابلة) (¬1): تجب دية شبه العمد بطريق التعاون والتخفيف والمواساة للجاني على العاقلة، لا في مال الجاني. وبما أن المالكية (¬2) يقسمون القتل إلى نوعين فقط: وهما العمد والخطأ، وليس عندهم شبه العمد، وهو في حكم العمد، فإنهم يوجبون دية شبه العمد في مال القاتل، لا في مال العاقلة إلا فيما استثناه الإمام مالك. وهذا موافق لرأي جماعة من فقهاء المذاهب غير المشهورة (وهم ابن سيرين والزهري والحارث العُكلي وابن شُبرمة وقتادة وأبو ثور وأبو بكر الأصم)؛ لأن هذا القتل موجَب فعل قصده الجاني، فلا تتحمله العاقلة عنه كالعمد المحض، ولأن دية هذا القتيل دية مغلظة، فأشبهت دية العمد. ودليل الجمهور حديث أبي هريرة قال: «اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر، فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله ¬
هل تجب الدية ابتداء على العاقلة أو على القاتل؟
صلّى الله عليه وسلم فقضى أن دية جنينها غرّه (¬1): عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها» (¬2). قال ابن تيمية: وفيه دليل على أن دية شبه العمد تحملها العاقلة. ويؤكده أنه قتل لا يوجب قصاصاً، فتجب ديته على العاقلة، كالخطأ، ويختلف عن العمد المحض؛ أن العمد قصد فيه الجاني الفعل وإرادة القتل، فاستحق تغليظ الدية بكونها في ماله، وتدفع فوراً، وشبه العمد قصد فيه الجاني الفعل، ولم يرد القتل، فاستحق التخفيف من ناحيتين: هما كون الدية على العاقلة، وكونها مؤجلة كما في القتل الخطأ. وهل تجب الدية ابتداء على العاقلة أو على القاتل؟ هناك رأيان للفقهاء: قال الحنفية والمالكية والأصح عند الشافعية (¬3): تجب ابتداء على القاتل؛ لأن سبب وجوبها وهو القتل، وجد منه، لا من العاقلة، فكان الوجوب عليه، لا على العاقلة، وإنما العاقلة تتحمل دية واجبة عليه. ويتحمل القاتل جزءاً من الدية مع العاقلة؛ لأنه هو المطالب أصالة بتحمل جريرة فعله، ودور العاقلة تابع، فهو مطالب بحفظ نفسه من ارتكاب الجرائم، وعاقلته مطالبة أيضاً بحفظه من الجريمة، فإذا لم يحفظوا فرَّطوا، والتفريط منهم ذنب. والقاتل يعتمد على مناصرة عاقلته وحمايتها له، فتشاركه في تحمل تبعة المسؤولية، لا أنها تستقل بتحملها عنه. وبناء على هذا الرأي: إذا لم يكن للجاني عاقلة يرجع بالدية كلها عليه، ¬
ثانيا ـ وقت أداء دية شبه العمد
وهذا هو الأظهر عند الشافعية. لكنهم قالوا في حال وجود العاقلة: متى وزع الواجب في السنة الأولى على العاقلة أو بيت المال، وفضل شيء منه فهو على الجاني مؤجلاً عليه كالعاقلة. وقال الحنابلة (¬1): تجب الدية على العاقلة ابتداء؛ لأنه لا يطالب بها غيرهم، ولايعتبر تحملهم ولا رضاهم بها، فلا تجب على غير من وجبت عليه، كما لو عدم القاتل. ولا يتحمل القاتل عند الحنابلة جزءاً من الدية؛ لأن الدية تلزم العاقلة ابتداء، فإن لم توجد عاقلة أو عجزت، وكان الجاني مسلماً أخذت الدية أوباقيها من بيت المال حالَّة دفعة واحدة؛ لأن الدية إنما أجلت على العاقلة تخفيفاً ولا حاجة للتأجيل في بيت المال. ثانياً ـ وقت أداء دية شبه العمد: تؤدى دية شبه العمد كما تقدم في دية العمد مؤجلة في مدى ثلاث سنين، في آخر كل سنة ثلثها، وهو مروي عن النبي صلّى الله عليه وسلم، ومحكي عن عمر وعلي رضي الله عنهما، وكونها في آخر السنة لتتمكن العاقلة دفعها من إنتاج المواسم. وكونها في كل سنة الثلث، توزيعاً لها على السنين الثلاث. ويعتبر بدء السنة عند الحنفية (¬2) من يوم الحكم أو القضاء بها، وهو رأي المالكية (¬3) في دية الخطأ. ¬
ثالثا ـ مقدار ما تتحمله العاقلة من دية شبه العمد
وعند الشافعية والحنابلة (¬1): تبدأ السنة من وقت وجوب الدية، فإن كانت دية نفس، فمن حين الموت؛ لأنه وقت استقرار الوجوب في الذمة، وإن كانت دية غير النفس، فمن حين الجناية؛ لأنها تلك حالة الوجوب. ثالثاً ـ مقدار ما تتحمله العاقلة من دية شبه العمد: يرى الحنفية (¬2): أن العاقلة لاتتحمل ما دون نصف عشر الدية (وهو خمس من الإبل: أرش الموضِحة) إذا كانت الجناية فيما دون النفس. أما بدل النفس فتحمله العاقلة، وإن قل؛ لأن بدل النفس ثبت بالنص على العاقلة. وأما ما دون النفس فعلى الجاني، لقول الشعبي: «لا تعقل العاقلة عمداً، ولا عبداً، ولا صلحاً، ولا اعترافاً، ولا ما دون أرش الموضحة» (¬3). والأصح عند الحنفية: أنه لا يؤخذ في كل سنة من كل واحد من أفراد العاقلة إلا درهم، أو درهم وثلث، بحيث يؤخذ منه في مجموع الثلاث السنوات ثلاثة أو أربعة دراهم. وقال المالكية، والحنابلة (¬4): لا تحمل العاقلة ما دون ثلث الدية؛ لأن عمر رضي الله عنه قضى في الدية ألا يحمل منها شيء، حتى تبلغ عقل المأمومة، أي تعويضها، وهو ثلث الدية. ¬
رابعا ـ هل تحمل العاقلة خطأ الحاكم؟
ويتحمل عندهم كل فرد من أفراد العاقلة على قدر ما يطيق، بحسب اجتهاد الحاكم، وليس فيه تقدير شرعي محدد، فلا يكلف أحد ما يجحف به ويشق عليه؛ لأن تكليف العاقلة مشروع على سبيل المواساة للقاتل والتخفيف عنه. وأقل عدد للعاقلة عند المالكية بحيث لا ينقص عنه: هو سبع مئة، وقيل: ألف، فإذا وجد من العصبة هذا العدد، فلا يضم إليهم أحد، وإن نقصوا عن هذا العدد، ولو كانوا أغنياء، ضم إليهم ما يكمِّلهم من الموالي، أي المعتِقون. وقال الشافعية (¬1): تحمل العاقلة جميع الدية، قلَّت أو كثرت؛ لأنه إذا ألزمت بالكثير فالقليل من باب أولى. وتوزع على النحو التالي: على الغني من العاقلة: نصف دينار ذهب أو قدره، وعلى المتوسط (¬2) ربع دينار أو ثلاثة دراهم، كل سنة من الثلاث السنوات؛ لأنها وجبت مواساة متعلقة بالحول، فتتكرر بتكرره كالزكاة. فيصبح جميع ما يلزم الغني في الثلاث السنين ديناراً ونصفاً، والمتوسط يلزمه نصف دينار وربع. رابعاً ـ هل تحمل العاقلة خطأ الحاكم؟ تتحمل العاقلة الخطأ الشخصي للإمام والحاكم: وهو الذي لا صلة له بالحكم والاجتهاد. أما الخطأ الناجم عن الحكم والاجتهاد ففيه رأيان (¬3): ¬
خامسا ـ من العاقلة، وهل تتحمل الدية في العصر الحاضر؟
قال الجمهور (الشافعية في قول راجح والمالكية والحنابلة): يجب على عاقلته أيضاً، لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه بعث إلى امرأة ذكرت بسوء، فأجهضت جنينها، فقال عمر لعلي: عزمت عليك ألا تبرح حتى تقسمها على قومك (¬1)، أي قريش، ولأن الحاكم جانٍ، فكان خطؤه على عاقلته كغيره. وقال الحنفية (¬2): عقل (أي تعويض) خطأ الحاكم في بيت المال؛ لأن الخطأ يكثر في أحكامه واجتهاده، فإيجاب عقله على عاقلته مجحف بهم، ولأن الحاكم نائب عن الله تعالى في أحكامه وأفعاله، فكان أرش جنايته في مال الله سبحانه. وهذا هو رأي العز بن عبد السلام من الشافعية (¬3). خامساً ـ من العاقلة، وهل تتحمل الدية في العصر الحاضر؟ العاقلة: هي التي تتحمل العقل أي الدية، وسميت الدية عقلاً؛ لأنها تعقل الدماء من أن تسفك، أي تمسكه، ومنه سمي العقل؛ لأنه يمنع القبائح. واختلف الفقهاء في تحديد العاقلة على ثلاثة مذاهب: 1 - قال الحنفية (¬4): العاقلة: هم أهل الديوان (¬5)، إن كان القاتل من أهل ¬
الديوان، وهم الجيش أو العسكر الذين كتبت أساميهم في الديوان: وهو جريدة الحساب. أو هم المقاتلة من الرجال الأحرار البالغين العاقلين، أي أهل الرايات والألوية، تؤخذ من عطاياهم أو من أرزاقهم (¬1) لا من أصول أموالهم. بدليل فعل عمر رضي الله عنه، فإن الدية كانت على أهل النصرة، وكانت بأنواع: بالقرابة، والحلف، والولاء، والعقد، فلما دوَّن عمر الدواوين جعل العقل (الدية) على أهل الديوان بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم (¬2). وإن لم يكن القاتل من أهل الديوان، فعاقلته: قبيلته وأقاربه، وكل من يتناصر هو بهم؛ لأنه يستنصر بهم. فإن لم تتسع القبيلة لذلك ضم إليهم أقرب القبائل نسباً على ترتيب العصبات: الأقرب فالأقرب، فيقدم الإخوة ثم بنوهم، ثم الأعمام ثم بنوهم، وأما من لم يكن له عاقلة كاللقيط والحربي أو الذمي الذي أسلم فعاقلته بيت المال في ظاهر الرواية. والقاتل داخل مع العاقلة، فيكون ـ كما تقدم ـ فيما يؤدي مثل أحدهم؛ لأنه هو الجاني، فلا معنى لإخراجه، ومؤاخذة غيره، بل هو أولى بتحمل تبعة فعله. ولا يدخل في العاقلة آباء القاتل وأبناؤه (¬3) ولا الأزواج؛ لأنه لا يتحقق بهم الكثرة، ولا النساء والصبيان والمجانين؛ لأن تحمل العاقلة تبرع بالإعانة، وهؤلاء ليسوا من أهل التبرع. ولا تتحمل العاقلة جناية العبد، ولاالعمد، ولا ما لزم صلحاً ولا اعترافاً، ¬
2 - ومذهب المالكية
لقول الشعبي السابق ذكره، ولأنه لا يتناصر بالعبد، ولأن الإقرار مقصور على نفس المقر، فلا يتعدى إلى العاقلة، إلا أن يصدقوه في إقراره، ولأن ما لزم بالصلح عن دم العمد، يجب في القصاص، فإذا صالح عنه الجاني كان بدله في ماله. كما لا تتحمل العاقلة أقل من نصف عشر الدية، وتتحمل نصف العشر فصاعداً كما تبين، وما نقص عن هذا المقدار، فهو في مال الجاني. 2 - ومذهب المالكية: أن العاقلة هم أهل الديوان (وهو الدفتر الذي يضبط فيه أسماء الجند وعددهم وعطاءاتهم وقدمهم) فإن لم يكن ديوان فالعصبة (ويبدأ بالإخوة، ثم بالأعمام، ثم من بعدهم من الأقارب) ثم بيت المال إن كان الجاني مسلماً؛ لأن بيت المال لا يعقل عن كافر، فإن لم يكن بيت مال، فتقسط الدية على الجاني (¬1). 3 - وقال الشافعية والحنابلة (¬2): العاقلة: هم قرابة القاتل من قبل الأب، وهم العصبة النسبية كالإخوة لغير أم والأعمام، دون أهل الديوان، بدليل ما روى المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قضى في المرأة بديتها على عصبة القاتل (¬3). ويدخل عند المالكية والحنابلة في أرجح الروايتين عن أحمد: الآباء والأبناء خلافاً لما قال الحنفية؛ لأنهم أحق العصبات بميراث الجاني، فكانوا أولى بتحمل عقله، أي ديته. ¬
واستثنى الشافعية كالحنفية الأصل من أب وإن علا، والفرع من ابن وإن سفل؛ لأنهم أبعاض الجاني، فكما لا يتحمل الجاني الدية لا يتحمل أبعاضه وهم الآباء والأبناء. وروى النسائي: «لا يؤخذ الرجل بجريرة (أي جريمة) ابنه» وفي رواية لأبي داود في خبر المرأتين اللتين اقتتلتا، من هذيل، السابق (¬1): «وبرأ الولد» أي من العقل، وقيس به غيره من الأبعاض. وفيها أيضاً «وبرأ زوجها». ويقدم الأقرب فالأقرب من العصبة: البنوة، ثم الأبوة عند من يدخلهم في العاقلة، ثم الأخوة، ثم العمومة. وأعمام الأب ثم بنوهم مقدمون على أعمام الجد ثم بنوهم. ومن لم تكن له عاقلة أديت ديته من بيت المال، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «أنا وارث من لا وارث له، أعقل عنه وأرثه» (¬2). فإن فقد بيت المال فالواجب عند المالكية والشافعية على الجاني، والجاني أحد العاقلة؛ لأن الدية عندهم تلزمه ابتداء، تتحملها العاقلة. وليس عند الحنابلة على القاتل في هذه الحالة شيء، كما أنه ليس واحداً من العاقلة؛ لأن الدية عندهم لزمت العاقلة ابتداء. وتوزع الدية على أفراد العاقلة قريبهم وبعيدهم، حاضرهم وغائبهم، صحيحهم ومريضهم، ولو هرماً وزمِناً وأعمى؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم قضى في امرأة بني لَحْيان التي توفيت بسبب الاعتداء عليها وعلى جنينها بأن العقل على عصبتها (¬3)، كما أن النبي صلّى الله عليه وسلم في حادثة أخرى قضى أن يعقل عن المرأة عصبتها (¬4). ¬
مصير نظام العواقل في الوقت الحاضر
ولا تؤخذ الدية من فقير من العاقلة ولا امرأة ولا صبي ولا زائل العقل؛ لأن تحمل الدية للتناصر، والمواساة، والفقير لا يقدر على المواساة، وغيره ليس من أهل النصرة. ومن مات من العاقلة أو افتقر أو جُنَّ قبل آخر الحول لم يلزمه شيء؛ لأنه مال يجب في آخر العام على سبيل المواساة، فأشبه الزكاة. مصير نظام العواقل في الوقت الحاضر في رأي متأخري الحنفية: إن نظام العواقل مستثنى من القاعدة العامة في تحمل كل مخطئ وزر نفسه، ولكن دون أن يلزم العاقلة شيء من ذنب الجاني أخروياً. والسبب في هذا الاستثناء هو مواساة القاتل ومناصرته وإعانته والتخفيف عنه، ودعم أواصر المحبة والألفة والإصلاح بين أفراد الأسرة، والحفاظ على حقوق المجني عليه حتى لاتذهب الجناية عليه هدراً إذا كان القاتل فقيراً، وأغلب الناس فقراء، فكان في ذلك النظام عدالة ومساواة في المجتمع، حتى لا يحرم أحد من التعويض بسبب فقر الجاني. ثم إن هذا النظام فيه تقدير للباعث الذي يشاهد عند القاتل، إذ لولا استنصاره بأسرته واعتماده على قوتهم لتثبت في الأمر ملياً، وصدرت أفعاله عن روية كاملة ووعي تام، لذا اعتبر الفقه الإسلامي أن الجناية الواقعة منسوبة ضمناً إلى كل فرد من أفراد العاقلة، فأوجبت الدية عليهم جميعاً (¬1). وكان بذل المال من العاقلة بديلاً عن النصرة التي كانت في الجاهلية، حيث كانت القبيلة تمنع الجاني وتحميه كيلا يدنو منه أولياء القتل للأخذ بالثأر. ¬
وبالرغم من كل هذه المزايا، فإن نظام العاقلة كان مناسباً للبيئة التي كانت فيه الأسرة الواحدة متماسكة البنيان، متناصرة فيما بينها على السراء والضراء. أما وإنه قد تفككت الأسر، وتحللت عرى الروابط بين الأقارب، وزالت العصبية القبلية، ولم يعد الاهتمام بالنسب أمراً ذا بال، فلم يبق بالتالي محل لنظام العواقل، لفقدان معنى التناصر بين أفراد الأسرة. يرشد إليه أن نظام العاقلة تطور ـ في رأي الحنفية ـ من الأسرة إلى العشيرة، فالقبيلة، ثم إلى الديوان، ثم إلى الحرفة (¬1) (أو النقابة في عصرنا) ثم إلى بيت المال. وبما أن نظام العشيرة قد زال، وبيت المال قد تغير نظامه، واختلف النظام الاجتماعي عما كان عليه في زمن العرب، وفقدت عصبية القبيلة بعضهم لبعض، وصار كل امرئ معتمداً على نفسه دون قبيلته كما في النظام الحاضر، فإن دية القتل الخطأ أو شبه العمد، أصبحت في زماننا هذا واجبة في مال الجاني وحده، وقد نص عليه الحنفية (¬2). وهذا موافق لرأي أبي بكر الأصم والخوارج الذين يجعلون الدية على القاتل لا على العاقلة، أخذاً بعموم الآيات والأحاديث التي تقرر مبدأ المسؤولية الفردية أو الشخصية عن الأفعال (¬3). وهو أيضاً منسجم مع رأي باقي المذاهب الذين قرروا وجوب الدية على الجاني إذا لم توجد له عاقلة ولم يوجد بيت المال. ¬
المطلب الثاني ـ العقوبة الأصلية الثانية: الكفارة
المطلب الثاني ـ العقوبة الأصلية الثانية: الكفارة: القتل شبه العمد عند جمهور الفقهاء (¬1) القائلين به وهم غير المالكية: تجب فيه كفارة؛ لأنه ملحق بالخطأ المحض في عدم القصاص، وتحمل العاقلة ديته، وتأجيلها ثلاث سنين، فجرى مجرى الخطأ في وجوب الكفارة على الجاني. والكفارة كما تقدم في القتل العمد: هي عتق رقبة مؤمنة، فمن لم يجدها في ملكه، أو لم يجد ثمنها فاضلاً عن كفايته لشراء الرقبة وإعتاقها، أو لم يجد الرقبة فعلاً، وجب عليه صيام شهرين متتابعين، كما ورد في النص القرآني. والمالكية (¬2) يعتبرون شبه العمد مثل العمد لا يوجب كفارة. ويلاحظ أن حوادث الدهس بالسيارات اليوم توجب الدية وكفارة القتل بالتسبب. النوع الثاني ـ العقوبة البدلية في القتل شبه العمد: إذا سقطت الدية لسبب ما، حل محلها التعزير، وعلى الحاكم عند المالكية تعزير القاتل بما يراه مناسباً. وجمهور الفقهاء يتركون الخيار في التعزير للحاكم، كما تقدم في تعزير القاتل عمداً. وأما الصوم فهو خصلة من خصال الكفارة التي هي عقوبة أصلية، ولكنها تأتي مُرتَّبة بعد العجز عن عتق الرقبة. النوع الثالث ـ العقوبة التبعية في القتل شبه العمد: يعاقب القاتل شبه العمد بعقوبتين أخريين عدا الدية، وهما الحرمان من الميراث والحرمان من ¬
المبحث الرابع ـ القتل الخطأ وعقوبته
الوصية، على النحو المبين في جزاء القتل العمد، عملاً بعموم حديثين هما: «ليس للقاتل ميراث» و «ليس لقاتل وصية» لكن الأول صحيح والثاني في سنده متروك يضع الحديث. المبحث الرابع ـ القتل الخطأ وعقوبته: القتل الخطأ كما عرفنا: هو ألا يقصد به الضرب ولا القتل، مثل لو سقط شخص على غيره فقتله، أو رمى صيداً فأصاب إنساناً، فهو نوع واحد عند الجمهور. ونوعان عند الحنفية؛ لأنهم يعتبرون حالة سقوط النائم على غيره، مما جرى مجرى الخطأ. ولا قصاص في الخطأ وشبهه باتفاق الفقهاء، وإنما له عقوبتان فقط: أصلية: وهي الدية والكفارة، وتبعية: وهي الحرمان من الميراث والوصية. وكذلك عقوبات القتل شبه الخطأ عند الحنفية هي مثل عقوبات الخطأ (الكفارة، والدية على العاقلة، وحرمان القاتل من الميراث والوصية) وأما القتل بالتسبب عند الحنفية كحافر البئر فله عقوبة واحدة هي الدية على العاقلة، وليس فيه كفارة ولا حرمان من الميراث والوصية (¬1)، وهو عند الجمهور كالقتل الخطأ. أما الصيام فهو أحد خصلتي الكفارة المنصوص عليها في القرآن الكريم في آية عقوبة القتل الخطأ: {ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة، ودية مسلَّمة إلى أهله} ... {فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين} .. [النساء:4/ 92] وقد ذكر في الآية ثلاث كفارات: الأولى بقتل المسلم في دار الإسلام خطأ، والثانية بقتله في دار الحرب وهو لا يعرف إيمانه، والثالثة بقتل المعاهد وهو الذمي. ¬
دية الخطأ
أما دية الخطأ فهي ـ كما تقدم في العمد ـ مخمسة، أي تؤخذ أخماساً: 20 بنت مخاض، و 20 ابن مخاض، و20 بنت لبون، و20 حقة، و20 جذعة، وهو مذهب الحنفية والحنابلة. وجعل المالكية والشافعية عشرين بني لبون مكان «عشرين بني مخاض». واستدل كل من الفريقين برواية عن ابن مسعود (¬1). واتفق الفقهاء (¬2) على أن دية الخطأ على العاقلة مؤجلة في ثلاث سنين، عملاً بقضاء النبي صلّى الله عليه وسلم بدية الخطأ على العاقلة (¬3)، وبفعل عمر وعلي رضي الله عنهما بجعل هذه الدية على العاقلة في ثلاث سنين (¬4). والتأجيل عند الحنفية يشمل ما تحمله العاقلة والجاني معاً، وأما عند الجمهور فيجب حالاً كل ما لا تحمله العاقلة؛ لأنه بدل متلف، فلزم حالاً كقيم المتلفات. أما الذي تحمله العاقلة فيجب مواساة، فلزم التأجيل تخفيفاً على متحمله غير الأصلي. والسبب في إلزام العاقلة الدية: أن جنايات الخطأ تكثر، ودية الآدمي كثيرة، فاقتضت الحكمة إيجابها على العاقلة على سبيل المواساة للقاتل، والإعانة له تخفيفاً عنه؛ إذ كان معذوراً في فعله بسبب عدم قصده، وينفرد هو بالكفارة. ولا تتغلظ دية الخطأ عند الحنفية والمالكية. وتتغلظ عند الشافعية والحنابلة في حالات ثلاث، كما تقدم في دية العمد. ¬
كفارة القتل الخطأ
وأما كفارة القتل الخطأ: فتجب في مال القاتل، ولا يشاركه في تحمل شيء منها أحد (¬1)؛ لأنه هو المتسبب بها، ولأن الكفارة شرعت للتكفير عن الجاني، ولا يكفر عنه بفعل غيره؛ لأنها عبادة (¬2). واتفق الفقهاء على وجوب كفارة القتل الخطأ إذا لم يكن المقتول ذمياً ولا عبداً، وأوجبها الجمهور غيرالمالكية بقتل الذمي أيضاً. وقال المالكية: لا تجب الكفارة في قتل الذمي؛ لأنه مهدر الدم في الجملة بسبب كفره. وأما الحرمان من الميراث والوصية: فقد سبق الكلام عنه في عقوبة القتل العمد. ¬
الفصل الثاني: الجناية على ما دون النفس
الفَصْلُ الثّاني: الجِناية على ما دون النَّفس الجناية على ما دون النفس: هي كل اعتداء على جسد إنسان من قطع عضو، أو جرح، أو ضرب، مع بقاء النفس على قيد الحياة. وهي عند الحنفية (والمالكية الذين لا يقولون بشبه العمد): إما عمد أو خطأ. والعمد: ما تعمد فيه الجاني الفعل بقصد العدوان، كمن ضرب شخصاً بحجر بقصد إصابته. والخطأ: هو ما تعمد فيه الجاني الفعل دون قصد العدوان، كمن يلقي حجراً من نافذة، فيصيب رأس إنسان فيوضحه (أي يُوضح العظم)، أو يقع نتيجة تقصير كمن ينقلب على نائم فيكسر ضلعه (¬1). وليس فيما دون النفس عند الحنفية شبه عمد، وإنما هو عمد أو خطأ؛ لأن شبه العمد: هو الضرب بما ليس بسلاح أو ما في حكمه، كالضرب بالمثقل من حجر أو عصا كبيرة. فوجوده يعتمد على آلة الضرب، والقتل هو الذي يختلف حكمه باختلاف الآلة، أما إتلاف ما دون النفس فلايختلف حكمه باختلاف الآلة، وإنما ينظر فيه إلى النتيجة الحاصلة، وهو حدوث الإتلاف أو قصد الاعتداء، فاستوت الآلات كلها في دلالتها على قصد الفعل، فكان الفعل إما عمداً أو خطأ فقط. وعقوبة شبه العمد عندهم هي عقوبة العمد، بدليل قولهم: «ما يكون شبه عمد في النفس فهو عمد فيما سواها» (¬2). ¬
المبحث الأول ـ عقوبة الجناية العمدية على ما دون النفس
ويتصور الشافعية والحنابلة (¬1) شبه العمد فيما دون النفس، كأن يضرب رأس إنسان بلطمة، أو بحجر صغير لا يشج غالباً، فيتورم الموضع إلى أن يتضح العظم. ويقولون: «لا قصاص إلا في العمد، لا في الخطأ وشبه العمد». وعقوبة شبه العمد عندهم كعقوبة الخطأ. والكلام في هذا الفصل على نوعي الجناية على ما دون النفس عمداً أو خطأ في مبحثين: المبحث الأول ـ عقوبة الجناية العمدية على ما دون النفس: الجناية العمدية على ما دون النفس: إما أن تكون على الأطراف بقطعها أو تعطيل منافعها، أوتكون بإحداث جُرْح في غير الرأس وهي الجراح، أو في الرأس والوجه وهي الشجاج. والقاعدة المقررة في عقوبة هذه الجناية: هي (¬2) أنه كلما أمكن تنفيذ القصاص فيه (وهو الفعل العمد الخالي عن الشبهة) وجب القصاص، وكل ما لا يمكن فيه القصاص (وهو الفعل الخطأ، وما فيه شبهة) وجب فيه الدية أو الأرش. وعلى هذا تكون ـ عقوبة إبانة الأطراف (أو قطعها): هو القصاص أو الدية والتعزير، وعقوبة تعطيل منافع الأعضاء (إذهاب معاني الأعضاء) في الواقع العملي: هو الدية، أو الأرش (¬3). وعقوبة الجراح والشجاج: القصاص أو الأرش أو حكومة العدل (¬4). ¬
المطلب الأول ـ عقوبة إبانة الأطراف (أو قطعها)
ففي هذا المبحث أربعة مطالب: المطلب الأول ـ عقوبة إبانة الأطراف (أو قطعها): الأطراف عند الفقهاء: هي اليدان والرجلان، ويلحق بها أو يجري مجراها الأصبع، والأنف والعين والأذن، والشفَة والسن، والشعر والجفن ونحوها. وعقوبة إبانة الأطراف: إما القصاص، أو الدية والتعزير بدلاً عنه، إذا امتنع القصاص لسبب من الأسباب. العقوبة الأصلية الأولى ـ القصاص: يشترط لتطبيق القصاص في الطرف والجُرْح (¬1) ولغيرهما مما دون النفس، الشروط العامة المشروطة للقصاص في النفس، ويضاف إليها شروط خاصة. أما الشروط العامة: فهي عند الحنفية (¬2) أن يكون الجاني عاقلاً بالغاً، متعمداً مختاراً، غير أصل للمجني عليه، وكون المجني عليه معصوماً ليس جزءاً للجاني ولا ملكه، وكون الجناية مباشرة لا تسبباً، وأن يكون القصاص ممكناً بإمكان المماثلة. وأضاف الجمهور (¬3) كما تقدم في القتل العمد: أن يكون المجني عليه مكافئاً للجاني، ولا فرق عندهم بين أن تكون الجناية مباشرة أو تسبباً. وبناء عليه تكون موانع القصاص العامة ما يأتي: ¬
1 - الأبوة
1 - الأبوة: يمتنع القصاص من الوالد لولده فيما دون النفس كالنفس لحديث «لا يقاد الوالد بولده» باتفاق المذاهب الأربعة، حتى عند الإمام مالك؛ لأن الضرب عدواناً أي تعدياً لا على وجه اللعب أو التأديب الذي ينشأ عنه جرح، لا قصاص فيه عنده؛ لأنه من الخطأ (¬1). 2 - انعدام التكافؤ: ينعدم التكافؤ بين الجاني والمجني عليه فيما دون النفس في حالتين أو ثلاث عند الحنفية، وفي حالتين أخريين عند غير الحنفية (الجمهور). أما حالتا انعدام التكافؤ عند الحنفية: فهما الاختلاف في الجنس، وعدم التماثل العددي، فلا قصاص فيما دون النفس بين الرجل والمرأة (¬2)؛ لأن الأطراف عندهم كالأموال، وإذا لم يتحقق التماثل بين دية المرأة والرجل، إذ أن ديتها نصف دية الرجل، فلا تماثل بينهما في دية الأطراف، وإذا انعدم التماثل والمساواة بين أرشي المرأة والرجل، امتنع القصاص بين طرفيها. وإذا تعدد الجناة كأن قطعوا يد رجل أو أصبعه أوقلعوا سنه لا قصاص عليهم، لعدم المماثلة بين الأيدي واليد، والمماثلة فيما دون النفس شرط أساسي للقصاص. وعليهم دية الطرف المقطوع (¬3). وعند الجمهور: يقتص الرجل بالمرأة وبالعكس، وتقطع الأيدي الكثيرة باليد الواحدة. وأما حالتا انعدام التكافؤ عند الجمهور: فهما الحرية والإسلام كما في قصاص النفس. ¬
3 - كون الاعتداء على ما دون النفس شبه عمد عند الشافعية والحنابلة
فلا قصاص بالقطع عندهم من الحر للعبد، ويقطع العبد بالحر، والعبد بالعبد. ويقول الحنفية في هذا خلافاً لمبدئهم في القصاص بالنفس: لا قصاص مطلقاً بين الحر والعبد، وبالعكس، ولا بين العبيد أنفسهم، لعدم التماثل، أو للتفاوت في القيمة؛ إذ أن قيمة كل عبد تختلف عن قيمة غيره (¬1)، أي أن الحرية وعكسها العبودية حالة ثالثة لمنع القصاص فيما دون النفس عند الحنفية. ولا قصاص عند الجمهور فيما دون النفس من المسلم للذمي الكافر، ولكن يقطع الذمي بالمسلم عند الشافعية والحنابلة، لعدم التكافؤ في النفس، ولا يقطع الذمي بالمسلم عند المالكية؛ لأن القصاص فيما دون النفس يقتضي المساواة بين الطرفين، ولا مساواة بين المسلم والكافر مطلقاً (¬2). 3 - كون الاعتداء على ما دون النفس شبه عمد عند الشافعية والحنابلة: كأن يلطم شخص غيره فيفقأ عينه، أو يرميه بحصاة فيشل يده، أو يحدث ورماً ينتهي بموضحة، فلا قصاص عندهم في هذه الحالة، وإنما تجب الدية المقررة شرعاً للعين أو اليد. ويقتص من الجاني عند المالكية والحنفية في هذه الحالة؛ لأن شبه العمد فيما دون النفس له حكم العمد، لتوافر صفة الاعتداء، وما دون النفس يكفي فيه مجرد قصد الاعتداء، والاعتداء بأي آلة أمر متصور ممكن، بعكس القتل، فلا يكون إلا بآلة مخصوصة، كما بان سابقاً. 4 - أن يكون الفعل تسبباً عند الحنفية: فهم يشترطون للقصاص بالجناية على النفس أو ما دون النفس أن تكون الجناية مباشرة لا تسبباً كما ذُكر. ويخالفهم الجمهور فيه. ¬
5 - أن تكون الجناية واقعة في دار الحرب عند الحنفية
5 - أن تكون الجناية واقعة في دار الحرب عند الحنفية: فلا قصاص عندهم في النفس أو ما دونها على جناية وقعت في دار الحرب لعدم ولاية الإمام عليها، خلافاً لباقي الأئمة. 6 - تعذر استيفاء القصاص: يمتنع القصاص في النفس أو ما دونها عند الفقهاء إذا لم يمكن الاستيفاء؛ لأن القصاص يتطلب المماثلة، فإذا لم يتحقق التماثل فلا قصاص، وينتقل إلى الدية (¬1). فلا تقطع إبهام اليد اليمنى ذات المفصلين من الجاني، بقطعه إبهاماً ذات مفصل واحد من المجني عليه، لكونها كانت مقطوعة المفصل الأول قبل الجناية، لعدم التماثل. وأما الشروط الخاصة للقصاص في الجناية على ما دون النفس: فهي التي ترجع إلى أساس واحد، وهو تحقيق التماثل. ومقتضاه تحقيق التماثل بين الجناية والعقوبة في أمور ثلاثة: التماثل في الفعل، والتماثل في المحل (أو الموضع والاسم) والتماثل في المنفعة (أو الصحة والكمال) (¬2). وأضاف الحنفية التماثل في الأرشين، وقد سبق بيانه في مانع القصاص العام بسبب انعدام التكافؤ عندهم بين المرأة والرجل، وبين الحر والعبد؛ لأن ما دون النفس عندهم له حكم الأموال؛ لأنه خلق وقاية للنفس كالأموال، فتعتبر فيه المماثلة كما تعتبر في إتلاف الأموال. والدليل على اشتراط التماثل: قوله تعالى: {والجروحَ قصاص} [المائدة:45/ 5] وقوله عز وجل: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} [النحل:126/ 16] {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} [البقرة:194/ 2] ولأن دم الجاني معصوم إلا بمقدار جنايته، فما زاد عليها معصوم يمنع ¬
موانع القصاص الخاصة
التعرض له، فلا تصح الزيادة في القصاص على قدر الجناية (¬1)، ولاقصاص في الجراح إلا في الموضحة إذا كانت عمداً. وبناء عليه تكون موانع القصاص الخاصة بما دون النفس ثلاثة هي: 1 - عدم التماثل في الفعل (أو عدم إمكان الاستيفاء بلا حيف ولا زيادة): يشترط لجواز استيفاء القصاص: الأمن من الحيف (أي الجور والظلم) ولايؤمن من الحيف إلا إذا كان القطع في الأطراف من المفاصل كمفصل الزند أو مفصل المرفق أو الكتف من اليد أو مفصل الكعب أو الركبة أو الورك من الرجل، أو كان له حد ينتهي إليه كمارن الأنف (وهو ما لان منه). فإن كان القطع من غير مفصل، أو لم يكن له حد ينتهي إليه كالقطع من قصبة الأنف، أو من نصف الساعد أو العضد أو الساق أو الفخذ، فلا قصاص عند الحنفية والراجح عند الحنابلة (¬2)، وتجب دية اليد أو الرِّجل. ويجب القصاص حينئذ عند المالكية (¬3) كلما أمكن، ولم يحدث خطر أو خوف؛ لأن المماثلة مع الإمكان حق لله لا يجوز تركها؛ لقوله تعالى: {والجروحَ قصاص} [المائدة:45/ 5]. ويرى الشافعية (¬4) أنه يقتص من أقرب مفصل إلى محل الجناية دونه، ويعطى المجني عليه حكومة (تعويض) الباقي لتعذر القصاص فيه، فإن قطع رجل يد آخر من نصف الساعد، فللمجني عليه أن يقتص من الكوع (الرسغ)؛ لأنه داخل في جناية يمكن القصاص فيها، ويأخذ الحكومة (التعويض) في الباقي؛ لأنه كسر ¬
2 - عدم المماثلة في الموضع قدرا ومنفعة
عظم لا تمكن المماثلة فيه، فانتقل إلى البدل. وإن قطع رجل يد آخر من نصف العضد، فللمقطوع أن يقتص من المرفق، ويأخذ الحكومة (التعويض) في الباقي، وله أن يقتص من الكوع (الرسغ) ويأخذ الحكومة في الباقي؛ لأن الجميع مفصل واحد في الجناية، وليس له الاقتصاص من الكوع إذا كان القطع من المرفق؛ لأنه يتمكن من القصاص في محل الجناية، أما في الحالة المتقدمة فلا يمكنه الاقتصاص في موضع الجناية. ولا قصاص باتفاق الأئمة في كسر العظام كعظم الصدر أو الصلب أو العنق، ويجب فيها الأرش كاملاً؛ لأن التماثل غير ممكن (¬1). كما لا قصاص بالاتفاق فيما بعد (أو فوق) الموضحة من الشجاج؛ لأن الاستيفاء دون حيف غير ممكن. ويقتص من الموضحة لإمكان القصاص، ولا يقتص فيما دون الموضحة إلا عند المالكية (¬2) ولا قصاص في الضرب بالسوط والعصا واللطمة والوكزة إذا لم تترك أثراً؛ لأن المماثلة فيها غير ممكنة (¬3) وإنما فيها التعزير. واستثنى المالكية السوط، ففي الضرب به قصاص. ويرى ابن القيم القصاص في اللطمة ونحوها. 2 - عدم المماثلة في الموضع قدراً ومنفعة: فلا تقطع اليد بغير اليد، ولا اليمنى باليسرى، ولا الإبهام أو السبابة بغيرها لعدم التجانس، ولا تقلع السن إلا ¬
3 - عدم التماثل في الصحة والكمال
بمثلها ثنية أو ناباً أو ضرساً، ولا الأعلى بالأسفل أو بالعكس، لاختلاف المنفعة (¬1). 3 - عدم التماثل في الصحة والكمال: فلا تقطع اليد الصحيحة بالشلاء، ولا الرجل الصحيحة بالشلاء، ولايؤخذ الكامل بالناقص كيد أو رجل كاملة بأخرى ناقصة الأصابع. إلا أن الإمام مالك يرى قطع اليد أو الرجل الناقصة إصبعاً بالكاملة بلا غرم على الجاني، ولا خيار للمجني عليه في نقص الأصبع، فإن نقصت أكثر من أصبع، خيِّر المجني عليه بين القصاص وأخذ الدية. وإن نقصت يد المجني عليه أو رجله أصبعاً يقتص من الجاني الكامل الأصابع، فإن نقصت أكثر من أصبع كأصبعين فأكثر لا يقتص لها من يد أو رجل كاملة (¬2). وأحسن نموذج تطبيقي للقصاص فيما دون النفس هو قوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس، والعين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسن بالسن، والجروحَ قصاص} [المائدة:45/ 5]. أداة القصاص فيما دون النفس: لا يستوفى القصاص فيما دون النفس بالسيف، ولا بآلة يخشى منها الزيادة سواء أكان الجرح بها أم بغيرها، وإنما يستعان بجرَّاح مختص يستخدم الموسى أو المبضع الجراحي ونحوهما، ويطلب القصاص من الجاني في الجراحات بأرفق مما جنى به، فإذا كان الجرح بحجر أو عصا اقتص منه بالموسى (¬3). ¬
سراية القصاص فيما دون النفس
سراية القصاص فيما دون النفس: السراية: هي حدوث مضاعفات أو آثار تترتب على تطبيق العقوبة الشرعية، تؤدي إلى إتلاف عضو آخر أو موت النفس البشرية. فإذا سرى الجرح الحاصل بالقصاص من العضو إلى النفس، فأدى للموت، سمي الفعل سراية النفس أو الإفضاء للموت، وإذا سرى إلى عضو آخر، سمي الفعل سراية العضو. وعلى هذا إذا اقتص من طرف الجاني، فسرى القصاص إلى النفس، ومات، فهل هناك ضمان أو لا؟ فيه رأيان للفقهاء. 1 - قال أبو حنيفة (¬1): إذا اقتص شخص من آخر لقطع يده، فقطع المجني عليه يد الجاني، فمات من القطع، ضمن الدية؛ لأنه استوفى غير حقه، إذ حقه القطع. وكذلك يضمن الأرش أي دية العضو إذا قطع شخص أصبعاً من يد أو رجل، فشلت الكف، أو شلت أصبع آخر جنبها، فعليه دية اليد. والقاعدة عنده فيه وفي أمثاله هي أن «الجناية إذا حصلت في عضو، فسرت إلى عضو آخر، والعضو الثاني لا قصاص فيه، فلا قصاص في العضو الأول أيضاً، ولكن فيه الدية» أي على العاقلة. ولو كان الموت حادثاً بسبب التأديب، كالضرب الحاصل من الأب أو الوصي أو المعلم، يضمن المتسبب الدية؛ لأنه التأديب هو الفعل الذي يبقى فيه المؤدَب حياً بعده، فإذا سرى، تبين أنه قتل، وليس بتأديب، فسأل الفاعل؛ لأنه متعد في فعله، غير مأذون في القتل، أي أن الفاعل ضامن الدية في كل الحالات، سواء أكان عمله مشروعاً أم غير مشروع. ¬
سراية الجناية
وقال الصاحبان (¬1): لا شيء على المقتص في الحالة الأولى وهي قطع اليد قصاصاً؛ لأن الموت حصل بفعل مأذون فيه، وهو القطع. كما لا شيء عليه في الحالة الثالثة (التأديب)؛ لأن الفاعل مأذون في تأديب الصبي وتهذيبه، والمتولد من الفعل المأذون فيه لا يكون مضموناً، كما لو عزر الإمام إنساناً فمات، أو قطع الحاكم يد السارق، فمات. وتجب دية اليد في الحالة الثانية (شل اليد) ولا قصاص. 2 - وقال الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) (¬2): لا ضمان على المقتص بسريان القصاص إلى النفس أو العضو، أو المنفعة؛ لأن السراية حصلت من فعل مأذون فيه، مثل بقية الحدود، ويؤيده أن عمر وعلياً قالا: «من مات من حد أو قصاص: لا دية له، الحقُ قتَله» (¬3). وهذا موافق لرأي الصاحبين. سراية الجناية: لا خلاف بين الفقهاء في أن سراية الجناية مضمونة (¬4)؛ لأنها أثر الجناية، وبما أن الجناية مضمونة، فكذلك أثرها. فإن سرت الجناية إلى النفس، وجب القصاص. وإن لطمه فذهب ضوء عينيه، لم يقتص منه عند الجمهور؛ لأن المماثلة فيها غير ممكنة، وقال الشافعية: يجب القصاص فيه بالسراية؛ لأن له محلاً مضبوطاً (¬5). ¬
العقوبة الأصلية الثانية عند المالكية في إبانة الأطراف - التعزير
وإن قطع الجاني أصبعاً، فتأكَّلت أخرى وسقطت من مفصل، وجب فيه القصاص عند الصاحبين والحنابلة. وقال أبو حنيفة وأكثر الفقهاء: لا قصاص وتجب دية الأصبع الثانية، لعدم تحقق العمدية (¬1). العقوبة الأصلية الثانية عند المالكية في إبانة الأطراف - التعزير: يوجب المالكية (¬2) التعزير (أو الأدب على حد تعبيرهم) على المعتمد عندهم في الجناية على ما دون النفس، بحسب اجتهاد الحاكم، سواء في حالة العمد (لا الخطأ) الذي لا قصاص فيه، أو العمد الذي فيه القصاص، فتقطع يد الجاني مثلاً ويعزر (أو يؤدب)، سواء في الأطراف أو الشجاج أو الجراح. ولا يرى جمهور الفقهاء حاجة لهذا التعزير مع القصاص؛ لأن الله تعالى جعل العقوبة في قوله: {والجروحَ قصاص} [المائدة:45/ 5] هي القصاص دون غيره، فمن أضاف غيرها فقد زاد على النص بدون دليل، وهذا الرأي أولى بالاتباع. العقوبة البدلية في إبانة الأطراف ـ الدية أو الأرش: إذا امتنع القصاص لسبب من الأسباب وجبت الدية بدلاً عنه، كما تجب أيضاً عند الشافعية والحنابلة بصفة عقوبة أصلية إذا كانت الجناية شبه عمد. وتجب الدية كاملة بإزالة جنس المنفعة كإتلاف اليدين، ويجب الأرش بإزالة بعض المنفعة كإتلاف يد واحدة أو أصبع واحدة. والأرش نوعان: مقدر وغير ¬
ما تجب فيه الدية كاملة
مقدر. والمقدر: هو ما حدد الشرع له نوعاً ومقداراً معلوماً كأرش اليد والعين. وغير المقدر: هو مالم يقدر له الشرع مقداراً معيناً، وترك أمر تقديره للقاضي. ما تجب فيه الدية كاملة: تجب الدية كاملة بدلاً عن القصاص في الجناية العمدية أو في حالة الجناية خطأ بإزالة جنس منفعة العضو، إما بإبانته (أو قطعه)، أو بتعطيل منفعته (إذهاب معناه) مع بقاء الهيكل أو الصورة. والأعضاء التي تجب فيها الدية أنواع أربعة: نوع لا نظير له في البدن، ونوع في البدن منه اثنان، ونوع في البدن منه أربعة، ونوع في البدن منه عشرة. النوع الأول ـ ما لا نظير له في البدن، وهو ما يلي (¬1): الأنف، اللسان، الذكر أو الحَشَفة، الصُلب إذا انقطع المني، مسلك البول، مسلك الغائط، الجلد، شعر الرأس، شعر اللحية إذا لم ينبت. أما الأنف: إذا قطع كله، أو قطع المارن (وهو مالان من الأنف) ففيه الدية لقوله عليه الصلاة والسلام في كتاب عمرو بن حزم: «وإن في الأنف إذا أوعب جَدْعُه الدية» أي إذا قطع جميعه. والأنف مشتمل على الفتحتين (المنخرين) وعلى الحاجز بينهما؛ وتندرج حكومة قصبته في ديته، عند الفقهاء حتى الشافعية (¬2) وفي كل من طرفي الأنف، والحاجز: ثلث الدية. ¬
اللسان
وأما اللسان المتكلم به ـ لسان الناطق: ففيه الدية لقوله عليه السلام في حديث ابن حزم: «وفي اللسان الدية». وفي لسان الأخرس عند (المالكية والحنفية والشافعية): حكومة (أي تعويض يقدره القاضي) وعند الحنابلة: فيه ثلث الدية (¬1)، أي حكومة، والحكومة عند المالكية إذا لم يذهب الذوق، وإلا فالدية. وفي لسان الطفل الذي لم ينطق دية عند الجمهور، وحكومة عند أبي حنيفة. وفي الذكر أو الحشفة (رأس الذكر) ولو لصغير وشيخ: الدية، للحديث السابق في الديات: «وفي الذكر الدية». وفي ذكر الخصي والعنَّين (¬2) عند الحنفية والحنابلة: حكومة، وعند المالكية على الراجح والشافعية: دية كاملة (¬3). وفي الصلب إذا انقطع الماء وهو المني الذي فيه: الدية، للحديث السابق في الديات: «وفي الصلب الدية». وفي إتلاف كل من مسلك البول أو مسلك الغائط: الدية عند الفقهاء، وهو الأقرب عند المالكية؛ لأن الجاني فوَّت منفعة مقصودة بنحو كامل، فيجب عليه كمال الدية (¬4). ¬
سلخ الجلد
وفي سلخ الجلد عند الشافعية: الدية إذا لم ينبت، وبقيت حياة مستقرة في المسلوخ، ثم مات بسبب آخر غير السلخ، كأن حز غير السالخ رقبته بعد السلخ (¬1). وتجب الدية عند المالكية إذا أدت الجناية إلى تجذيم الجلد أو تبريصه، أو تسويده (¬2). وتجب عند الحنفية والحنابلة في الجلد حكومة عدل، إلا أن الحنفية قالوا: في سلخ جلد الوجه كمال الدية (¬3). وفي إزالة شعر الرأس أو اللحية أو الحاجبين: ولم ينبت بعدئذ: الدية عند الحنفية والحنابلة. وأما عند المالكية والشافعية: فيجب في الكل حكومة عدل (¬4). النوع الثاني ـ الأعضاء التي في البدن منها اثنان: وهي ما يأتي (¬5): اليدان، الرجلان، العينان، الأذنان، الشفتان، الحاجبان إذا ذهب شعرهما نهائياً ولم ينبت، والثديان، والحلمتان، والأنثيان، والشُّفران، والأليتان، واللَّحيان. فإذا ذهب واحد منها ففيه نصف الدية. أما اليدان إن قطعتا من الرسغ أو الكتف أو المنكب (¬6) ففيهما الدية، لحديث معاذ: «وفي اليدين وفي الرجلين الدية» ولحديث سعيد بن المسيب عن النبي صلّى الله عليه وسلم: ¬
الرجلان
« في العينين الدية، وفي اليدين الدية، وفي الرجلين الدية، وفي الشفتين الدية، وفي الأذنين الدية، وفي الأنثيين الدية» (¬1) وفي اليد الواحدة نصف الدية؛ لما روى مالك والنسائي في حديث عمرو بن حزم: «وفي اليد خمسون». وأما الرِّجلان: ففيهما الدية، وفي الرِّجْل الواحدة نصف الدية، لحديث معاذ وابن المسيب المتقدمين في دية اليدين، وحديث ابن حزم: «وفي الرِّجل خمسون». والعينان: فيهما الدية لحديث ابن المسيب المتقدم ولحديث عمرو بن حزم: «في العينين الدية، وفي اليدين الدية، وفي الرِّجلين الدية، وفي الشفتين الدية، وفي العين خمسون» (¬2). وأما عين الأعور ففيها عند مالك وأحمد وجماعة من الصحابة دية كاملة؛ لأنها في معنى العينين، وفيها نصف الدية عند االشافعي، إذ لم يفصّل الدليل، وهو كتاب ابن حزم بين عين المبصروعين الأعور. والأذنان: فيهما الدية بالقطع أو القلع، وفي أذن واحدة نصف الدية لخبر عمرو بن حزم: «في الأذن خمسون من الإبل» (¬3) واشترط مالك لدية الأذنين ذهاب السمع، فإن لم يذهب ففيها حكومة. والشفتان: فيهما الدية لخبر عمرو بن حزم: «وفي الشفتين الدية». وفي كل شفة نصب الدية، عليا أو سفلى، صغرت أو كبرت. والحاجبان: إذا أزيل شعرهما ولم ينبت فيهما الدية عند الحنفية والحنابلة. ¬
الثديان والحلمتان للمرأة
وفي أحد الحاجبين: نصف الدية؛ لأن الجاني أتلف جنس منفعة مقصودة، أو فوت جمالاً مقصوداً لذاته. وعند المالكية والشافعية في إزالة شعر الحاجبين الحكومة فقط (أي التعويض المقدر قضاء)؛ لأنه إتلاف جمال من غير منفعة، فلا تجب فيه الدية (¬1). والثديان والحَلْمتان للمرأة: فيهما الدية، وفي إحداهما نصف الدية؛ لأن فيهما جمالاً ومنفعة، فأشبها اليدين والرجلين. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن في ثدي المرأة نصف الدية، وفي الثديين الدية. واشترط مالك لدية الحلمتين انقطاع اللبن أو فساده، فإن لم ينقطع أو يفسد فتجب حكومة عدل. أما الثديان ففيهما عنده الدية، انقطع اللبن أو لا (¬2). والأنثيان: (الخُِصيتان) فيها الدية؛ لأنهما وكاء المني، ولحديث عمرو بن حزم: «وفي البيضتين الدية» (¬3). والشُّفران (¬4): فيهما الدية، إذا قطعا أو أشلا، وفي أحدهما نصف الدية؛ لأن فيهما جمالاً ومنفعة في المباشرة أو الجماع. فلو زالت بقطعهما البكارة وجب أرشها مع الدية (¬5). والأليان: فيهما الدية عند الحنفية والشافعية والحنابلة. وفي واحدة منهما نصف الدية؛ لأن فيهما جمالاً ظاهراً أو منفعة كاملة، وليس في البدن نظيرهما. ¬
اللحيان
وقال المالكية في أليي الرجل: حكومة اتفاقاً، وكذلك في المرأة قياساً على الرجل. وقال أشهب (¬1) في أليي (¬2) المرأة خطأ: الدية. واللَّحيان (¬3): فيهما الدية عند الشافعية والحنابلة (¬4)، وفي أحدهما نصف الدية؛ لأن فيهما نفعاً وجمالاً، وليس في البدن مثلهما. النوع الثالث - الأعضاء التي منها في البدن أربعة: وهي الآتي: أشفار العينين (وهي حروف الأجفان التي ينبت عليها الشعر وهو الهُدْب) إذا لم تنبت، والأهداب (وهي شعر الأشفار) إذا لم تنبت. وأما الأشفار وحدها أو الجفون معها: ففيها عند الجمهور دية: لأن منفعة الجنس، سواء قطع الشفر وحده أو قطع معه الجفن؛ لأن الجفن تبع للشفر. وفي كل جُفن أو شُفْر ربع الدية؛ لأن فيهما جمالاً ظاهراً، ونفعاً كاملاً. ويرى المالكية أن فيها حكومة عدل لعدم ورود نص فيها، والتقدير لابد فيه من نص، ولا يثبت بالقياس كما يرى الجمهور (¬5). وأما الأهداب (أو شعر الجفن): ففيهما عند الحنفية والحنابلة: الدية؛ لأن الأهداب تابعة للأجفان كحلمة الثدي، والأصابع مع الكف. وفيها عند المالكية إذا فسد منبتها: حكومة عدل كسائر الشعور (¬6). النوع الرابع - ما في البدن منه عشرة: وهو أصابع اليدين، وأصابع الرجلين، وفي كل اصبع عشر الدية , لحديث عمرو بن حزم: (وفي كل اصبع من اصابع اليد والرجل عشر من الابل) وفي كل أنملة ثلث الدية إلا أنملة الإبهام ففيها نصف ديتها باتفاق المذاهب الأربعة. ولا يفضل أصبع على أصبع، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «في كل أصبع عشر من الإبل، وفي كل سن خمس من الإبل، والأصابع سواء، والأسنان سواء» (¬7) وفي الأصبع الزائدة أو الشلاء حكومة عدل (¬8). وأما الأسنان الـ (32): ففيها الدية، وفي كل سن خمس من الإبل أو خمس مئة درهم ما لم تصل إلى مقدار الدية، للحديث السابق، ولحديث ابن حزم: «وفي السنِّ خمس من الإبل» سواء أكانت السن صغيرة أم كبيرة، دائمة أم لبنية (مؤقتة قابلة للتبدل) أما السن الزائدة ففيها حكومة. وأما ما يترتب على تغير السن من الشَّين كسواد أواخضرار أو حمرة، ففيه أرش السن عند الحنفية وحكومة عدل عند غيرهم (¬9). وقيد المالكية إيجاب التعويض في الخضرة أو الاصفرار بما إذا كانت مثل السواد عرفاً. وفي الصفرة عند الحنفية حكومة (¬10). ¬
المطلب الثاني ـ تعطيل منافع الأعضاء (أو إذهاب المعاني)
المطلب الثاني ـ تعطيل منافع الأعضاء (أو إذهاب المعاني): يعاقب الجاني إذا عطل منفعة عضو غيره أو أذهب معناه مع بقاء هيكله (أو صورته أو آلته)، كذهاب البصر أو السمع، أو الذوق أو الشم، أو اللمس، أو المشي أو البطش أو النطق أو العقل، أو شلل اليد أو الرجل، أو القدرة على الجماع. وقد عد بعضهم المنافع عشرين أو أكثر، منها: عقل، سمع، بصر، شم، صوت، ذوق، مضغ، إمناء، إحبال، جماع، إفضاء، بطش، مشي، ذهاب شعر، أو جلد أو مشي وغير ذلك. والقاعدة في عقوبة هذه الجنايات: هي محاولة القصاص، كلما أمكن، من الناحية العملية، فإن لم يمكن القصاص وجبت الدية أو الأرش المقدر شرعاً (¬1). ففي البصر الدية؛ لأنه أبطل منفعة العينين. جاء في كتاب عمرو بن حزم: «وفي العينين الدية». وفي السمع الدية لحديث معاذ: «في السمع الدية» (¬2)،ونقل ابن المنذر الإجماع فيه، ولأنه من أشرف الحواس، فكان كالبصر، بل هو أشرف منه عند أكثر الفقهاء؛ لأن به يدرك الفهم، فلو فقد بضربة واحدة سمعه وبصره، فعليه ديتان. وفي الشم لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث عمرو بن حزم: «في المشام الدية». وفي إبطال الذوق: الدية؛ لأنه أحد الحواس الخمس، فأشبه الشم. وفي إذهاب الكلام: دية لخبر البيهقي: «في اللسان الدية إن منع الكلام» ولأن اللسان عضو مضمون بالدية، فكذا منفعته العظمى كاليد والرجل. ¬
ذهاب العقل
وفي ذهاب العقل: الدية لخبر عمرو بن حزم: «وفي العقل الدية». وفي ذهاب جماع بجناية على الصلب: دية، لحديث عمرو بن حزم: «وفي الذكر الدية، وفي الصلب الدية» والمقصود من ذلك: الجماع. وقال المالكية: لو كسر صلبه، فأبطل إنعاظه فعليه ديتان، فهم يجعلون لتعطيل قوة الجماع دية، بأن فعل معه فعلاً كضربه، فأبطل إنعاظه، ولكسر الصلب دية أخرى، وإن كانت قوة الجماع فيه. وقال الشافعية والحنابلة (¬1): لو كسر شخص صلب المجني عليه، فذهب مع سلامة الرجل والذكر مشيه وجماعه، أو مشيه ومنيه، فعليه ديتان؛ لأن كل واحد منهما مضمون بالدية عند الانفراد، فكذا عند الاجتماع. فإن ذهب بعض منفعة العضو وجب فيه بعض الدية إن كان التبعيض معروفاً أو ممكن التقدير، كذهاب بصر عين واحدة، أو ذهاب سمع أذن واحدة دون الأخرى. فإن لم يمكن التقدير يجب عند الجمهور (الحنفية والشافعية والحنابلة): حكومة. وعند المالكية: يقابل النقص بما يناسبه من الدية، أي بحساب ما ذهب (¬2). المطلب الثالث ـ عقوبة الشجاج إما أن يجب القصاص في الشجة وإما أن يجب الأرش، والأرش إما مقدر أو غير مقدر، وفي كل من الشجاج والجراح إما أرش مقدر أو غير مقدر. ¬
أولا ـ ما يجب فيه أرش مقدر
أولاً ـ ما يجب فيه أرش مقدر: عقوبة الشجة: هي الأرش، والأرش نوعان كما تقدم: مقدر وغير مقدر. والأرش المقدر: هو ما حدد له الشرع مقداراً مالياً معلوماً. ويجب في الأعضاء وفي الشجاج والجراح، ففي الأعضاء أو الأطراف كما تبين إما أن تجب الدية كاملة بتفويت جنس المنفعة كقطع اليدين أو الرجلين، أو فقء العينين، وقطع الأذنين، وقد يجب الأرش بتفويت بعض منفعة الجنس، فيكون الأرش نصف الدية كما في قطع يد أورجل واحدة أو قلع عين أو قطع أذن واحدة. وقد يكون الأرش ربع الدية كما في الجفن الواحد، أو الشَّفْر أو هُدب العين، وقد يكون الأرش عشر الدية كما في قطع إحدى أصابع اليد أو الرجل. وقد يكون نصف عشر الدية، أي خمس من الإبل، كما في السن أو الضرس. فهذا كله هو الأرش المقدر (¬1). ثانياً ـ ما يجب فيه حكومة عدل: الأرش غير المقدر: هو حكومة العدل وهي ما لم يحدد له الشرع مقداراً معلوماً، وترك أمر تقديره للقاضي، والقاعدة فيها: أن ما لا قصاص فيه من الجنايات على ما دون النفس، وليس له أرش مقدر: فيه الحكومة (¬2) كإزالة الأشعار عند الشافعية، وعند الحنفية (¬3)، ومثل كسر الضلع، وكسر قصبة الأنف، وكسر كل عظم من البدن سوى السن. وكذا في ثدي الرجل، وفي حلمة ثدييه، وفي ¬
لسان الأخرس، وذكر الخصي والعنِّين، والعين القائمة الذاهب نورها، والسن السوداء، واليد أو الرجل الشلاء، والذكر المقطوع الحشفة، والكف المقطوع الأصابع، والأصبع الزائدة، وكسر الظفر وقلعه، ولسان الطفل ما لم يتكلم، وفي ثدي المرأة المقطوعة الحلمة، والأنف المقطوع الأرنبة، والجفن الذي لا أشفار له. ومن المتفق عليه أن ما قبل الموضحة من الشجاج ليس له أرش مقدر. وحكومة العدل: هي على الجاني، ولا تتحملها العاقلة، وتقدر الحكومة في الشجاج بأن ينظر كم مقدار هذه الشجة من الموضحة، فيجب بقدر ذلك من أرش الموضحة، وهو نصف عشر الدية (¬1). والمفتى به عند الحنفية ومذهب الشافعية: أنها هي بمقدار التفاوت بين القيمتين: في الحر من الدية وفي العبد من القيمة، فإن نقص الحر عشر قيمته أخذ عشر ديته، وهكذا بعد افتراض كون المشجوج عبداً. والشجاج: هي جراحات الرأس والوجه خاصة (¬2)، وهي عند الحنفية إحدى عشرة شَجة (¬3): 1 - الحارصة: هي التي تحرص الجلد أي تشقه ولا يظهر منها الدم. 2 - الدامعة: هي التي يظهر منها الدم ولا يسيل كالدمع في العين، وتسمى أيضاً الخارصة: وهي التي تكشط الجلد. 3 - الدامية: هي التي يسيل منها الدم، بأن تضعف الجلد بلا شق له حتى يرشح الدم. وتسمى عند الحنابلة البازلة أو الدامعة. ¬
4 - الباضعة: هي التي تبضع اللحم، أي تقطعه وتشقه. 5 - المتلاحمة: هي التي تذهب في اللحم أكثر مما تذهب الباضعة ولم تقرب للعظم، هذا ما روى أبو يوسف، وقال محمد: المتلاحمة قبل الباضعة: وهي التي يتلاحم منها الدم ويسود. 6 - السِّمحاق: هي التي تقطع اللحم وتظهر الجلدة الرقيقة التي بين اللحم والعظم. وهذه الجلدة هي السمحاق، فسميت الشجة بها لوصولها إليها، ويسميها الشافعية الملطاط: وهي التي تستوعب اللحم إلى أن تبقى غشاوة رقيقة فوق العظم. 7 - الموضحة (¬1): هي التي تخترق السمحاق، وتوضح العظم، أي تظهره وتكشفه، ولو قدر مغرز إبرة. 8 - الهاشمة: هي التي تهشم العظم، أي تكسره. 9 - المنقِّلة: هي التي تنقل العظم بعد كسره، أي تحوله عن مكانه. 10 - الآمَّة (أو المأمومة): هي التي تصل إلى أم الدماغ: وهي جلدة تحت العظم وفوق الدماغ أي المخ. 11 - الدامغة: هي التي تخرق غشاء الدماغ، وتصل إلى الدماغ. والجمهور يرون الشجاج عشرة. أما المالكية (¬2) فيحذفون الثانية وهي الدامعة، ويسمون الأولى دامية، والثانية حارصة، والثالثة سمحاقاً، والسادسة ملطاة أو ملطاط بتسمية أهل البلد، ويخصصون الآمة والدامغة بالرأس، والباقي في الرأس أو الخد. ¬
نوعا عقوبة الشجاج
وأما الشافعية والحنابلة (¬1): فيحذفون أيضاً الثانية وهي الدامعة، ويقال عند الشافعية عن الأولى: الخارصة؛ وهي التي تكشط الجد، ويسميها الحنابلة كالجمهور الحارصة، أو الملطاة، والخمسة الأولى لا مقدر فيها من الشرع. نوعا عقوبة الشجاج: عقوبة الشجاج كما تقدم: إما عقوبة أصلية وهي القصاص إذا أمكن، أو عقوبة بدلية وهي الأرش. العقوبة الأصلية في الشجاج ـ القصاص: القاعدة في القصاص في جنايات العمد: أنه كلما أمكن وجب استيفاؤه، وإذا لم يمكن وجب الأرش. وعليه تعرف أحوال القصاص في الشجاج، ففي كل شجة يمكن فيها المماثلة: القصاص. لا خلاف في أن الموضحة فيها القصاص، لعموم قوله سبحانه وتعالى: {والجروحَ قصاص} [المائدة:45/ 5] إلا ما خص بدليل، ولأنه يمكن استيفاء القصاص فيها على سبيل المماثلة؛ لأن لها حداً تنتهي إليه السكين، وهو العظم. ويعتبر قدر الموضحة بالمساحة طولاً وعرضاً في قصاصها، لابحجم الرأس كبراً وصغراً؛ لأن الرأسين قد يختلفان في ذلك. ولا خلاف في أنه لا قصاص فيما بعد أو فوق الموضحة لتعذر استيفاء القصاص فيها على وجه المماثلة أوالمساواة. وأما ما دون الموضحة ففيها خلاف: ¬
العقوبة البدلية في الشجاج ـ الأرش
1 - قال المالكية (¬1)، وهو الأصح وظاهر الرواية عند الحنفية (¬2): فيها القصاص، سواء أكانت في الرأس أم في الخد، لإمكان المساواة، بأن يسبر غورها بمسبار، ثم يتخذ حديدة بقدره، فيقطع. واستثنى في الشرنبلالية السمحاق، فلا يقاد إجماعاً. 2 - وقال الشافعية والحنابلة (¬3): لا قصاص فيما دون الموضحة، لعدم إمكان تحقيق المماثلة، ولحديث مرسل: «لا طلاق قبل ملك، ولا قصاص فيما دون الموضحة من الجراحات» (¬4). وعلى هذا فلا قصاص في الشجاج في هذين المذهبين سوى الموضحة. العقوبة البدلية في الشجاج ـ الأرش: الأرش كما عرفنا: هو التعويض المالي الواجب بالجناية على ما دون النفس. ويرى أكثر الفقهاء ومنهم أئمة المذاهب الأربعة: أنه ليس في موضحة غير الرأس والوجه أرش مقدر، لقول الخليفتين الراشدين: «الموضحة في الوجه والرأس» (¬5). كما أنه ليس فيما دون الموضحة من الشجاج أرش مقدر أيضاً، بل فيه ¬
حكومة عدل (¬1)؛ إذ ليس فيه أرش مقدر في الشرع، ولا يمكن إهدارها، فوجب فيها حكومة عدل. وأخرج عبد الرزاق في مصنفه عن الحسن وعمر بن عبد العزيز أن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يقض فيما دون الموضحة بشيء (¬2). واتفقوا على أن ما فيه أرش مقدر من الشجاج هو الموضحة فما بعدها، لورود الشرع بتقديره، كما يتبين من حديث عمرو بن حزم في الديات: «وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الجائفة ثلث الدية، وفي المنقِّلة خمس عشرة من الإبل، وفي كل أصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل، وفي السن خمس من الإبل، وفي الموضحة خمس من الإبل» (¬3). في الموضحة: خمس من الإبل، أي نصف عشر الدية، لحديث «في الموضحة خمس من الإبل». وفي الهاشمة: عشر من الإبل، أي عُشر الدية؛ لحديث ابن حزم: «وفي الهاشمة عشر». ويلاحظ أن الهاشمة عند المالكية هي في جراح البدن. وبدلها في الوجه والرأس: المنقلة. وفي المنقِّلة: خمس عشرة من الإبل، لحديث ابن حزم «وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل». وفي الآمة أو المأمومة: ثلث الدية، لحديث ابن حزم: «وفي المأمومة ثلث الدية». ¬
المطلب الرابع ـ عقوبة الجراح
وفي الدامغة: ثلث الدية، قياساً على المأمومة. المطلب الرابع ـ عقوبة الجراح: الجراح: ما كان في سائر البدن عدا الرأس والوجه، وهي نوعان: جائفة، وغير جائفة (¬1). والجائفة: هي التي تصل إلى الجوف، من الصدر أو البطن، أو الظهر، أو الجنين أو ما بين الأنثيين، أو الدبر، أو الحلق. ولا تكون الجائفة في اليدين والرجلين، ولا في الرقبة؛ لأنه لا يصل إلى الجوف. وغير الجائفة: هي التي لا تصل إلى الجوف، كالرقبة أو اليد أو الرجل. وعقوبة الجراح: إما أصلية أو بدلية. العقوبة الأصلية في جراح العمد ـ القصاص: لا قصاص في الجائفة والمأمومة والمنقّلة؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلم رفع القَوَد في المأمومة، والمنقّلة، والجائفة، ولأنه يخشى منها الموت، وإنما فيها الدية. وفيما عدا ذلك اختلف الفقهاء: 1 - فقال الحنفية (¬2): إنه لا قصاص في شيء من الجراح إذا لم يمت المجروح، سواء أكانت الجراحة جائفة أم غيرها؛ لأنه لا يمكن استيفاء القصاص فيها على وجه المماثلة. ¬
القصاص بعد البرء
فإن مات المجروح بسبب الجراحة، وجب القصاص؛ لأن الجراحة صارت بالسراية نفساً، لهذا قالوا: «لا يقاد جرح إلا بعد برئه». 2 - وقال المالكية (¬1): يجب القصاص في جراح العمد، كلما أمكن التماثل ولم يخش منه الموت، لقوله تعالى: {والجروحَ قصاص} [المائدة:45/ 5]. وذلك بأن يقيس أهل الطب والمعرفة طول الجرح وعرضه وعمقه ويشقون مقداره في الجارح. 3 - وقال الشافعية والحنابلة (¬2): يقتص في كل جرح ينتهي إلى عظم، كالموضحة في الوجه والرأس، وجرح العضد والساعد والفخذ والساق والقدم؛ لأنه يمكن استيفاؤه على سبيل المماثلة من غير حيف ولا زيادة، لانتهائه إلى عظم؛ لأن الله نص على القصاص في الجروح. ويشترط في القصاص في جراح العمد ما يشترط في قصاص النفس حال العمد من كون الجاني مكلفاً (بالغاً عاقلاً)، وعصمة المجني عليه، وتكافؤ الجاني والمجني عليه على الخلاف المذكور سابقاً في الشجاج، كما تشترط الشروط الخاصة بقصاص الأطراف (¬3). ولا قصاص في جراح العمد إلا إذا أمكن تحقيق المماثلة، ولا قصاص في الشجاج إلا في الموضحة إذا كانت عمداً، ولا قصاص في اللسان، ولا في كسر عظم إلا في السن؛ لأنه لا يمكن الاستيفاء من غير ظلم. القصاص بعد البرء: لا يجوز القصاص في الأطراف والجراح عند الجمهور (¬4) إلا بعد اندمال أو برء الجرح، لما روى جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلم «نهى أن يستقاد ¬
تأجيل القصاص لعذر
من الجارح، حتى يبرأ المجروح» (¬1) ولأن الجراحات ينظر إلى مآلها، لاحتمال أن تسري إلى النفس، فيحدث القتل، فلا يعلم أنه جرح إلا بالبرء. وقال الشافعية (¬2): إن كان القصاص في الطرف، فالمستحب ألا يستوفى إلا بعد استقرار الجناية بالاندمال (أي البرء) أو بالسراية إلى النفس، فإن استوفي قبل الاندمال جاز، لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «أن رجلاً طعن رجلاً بقرْن في ركبته، فجاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: أقدني، فقال: حتى تبرأ، ثم جاء إليه، فقال: أقدني، فأقاده، ثم جاء إليه، فقال: يا رسول الله، عرجتُ، قال: قد نهيتك، فعصيتني، فأبعدك الله، وبطل عرجك، ثم نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يقتص من جرح حتى يبرأ صاحبه» (¬3). تأجيل القصاص لعذر: اتفق الأئمة على أنه يؤخر القصاص في الطرف أو النفس عن المرأة الحامل حتى تضع حملها وترضع وليدها، ويستغني عنها ولدها بإرضاع من جهة أخرى. وقال المالكية: يؤخّر القصاص فيما دون النفس لعذر كبرد شديد أو حر يخاف منه الموت. العقوبة البدلية في جراح العمد ـ الأرش: إذا تعذر تنفيذ القصاص في الجراح، لعدم إمكان تحقيق المماثلة وجب الأرش، والأرش هنا: هو الأقل من الدية. وقد عرفنا أن جراح البدن: إما جائفة أو غير جائفة: ¬
ففي الجائفة: ثلث الدية لحديث عمرو بن حزم: «وفي الجائفة ثلث الدية». وغير الجائفة: فيها حكومة عدل. حكومة العدل (ضابطها وتقديرها) أشرت لذلك سابقاً، وأوضح الآن مايلي: أما ضابط حكومة العدل فهو: كل ما لا قصاص فيه من الجنايات على ما دون النفس، وليس له أرش مقدر، ففيه حكومة (¬1). مثل كسر العظم إلا السن، واليد الشلاء ونحوها. وأما كيفية تقديرها: فقد أشرت لطريقتين، أولاهما للطحاوي الحنفي وهي المفتى بها عند الحنفية، والمقررة في المذاهب الأخرى (¬2): وهي أن يقوَّم المشجوج أو المجروح كما لو كان عبداً بدون شج أو جرح، ثم يقوَّم وهما به، فيجب بمقدار التفاوت بين القيمتين، بنسبتهما من الدية في الأحرار، فلو كانت قيمته وهو عبد صحيح عشرة، وقيمته وهو عبد به الجناية تسعة، فيكون فيه عشر ديته. ولكن يتعذر اللجوء لهذه الطريقة في الوقت الحاضر، لعدم وجود الرق. والطريقة الثانية ـ هي للكرخي: وهي أن تقرب الجناية إلى أقرب الجنايات التي لها أرش مقدر، ففي الشجاج مثلاً ينظر كم مقدار الشجة من الموضحة، فيجب بقدر ذلك من نصف عشر الدية المقرر للموضحة (¬3). ¬
دية جراح المرأة
غير أن هذه الطريقة محصورة التطبيق في شجاج الرأس والوجه. وقيل بطريقة ثالثة ربما كانت أنسب الطرق في عصرنا، وهي أن تقدر الجناية بمقدار ما يحتاج إليه المجني عليه من النفقة وأجرة الطبيب والأدوية إلى أن يبرأ (¬1). فإن لم يبرأ الجرح وأحدث عاهة مستديمة، أو ترك أثراً دائماً فيلاحظ الأثر. ولا يكون التقويم إلا بعد برء الجرح؛ لأن أرش الجرح المقدر إنما يستقر بعد برئه، فإن لم تنقصه الجناية شيئاً، مثل: إن قطع أصبعاً أو يداً زائدة، أو قلع لحية امرأة، فلم ينقصه ذلك، بل زاده حسناً فلا شيء على الجاني؛ لأن حكومة العدل لأجل جبر النقص، ولا نقص حينئذ، فأشبه ما لو لطم وجهه فلم يؤثر (¬2). دية جراح المرأة: للفقهاء رأيان في تقدير ديات جراح المرأة: 1 - قال الحنفية والشافعية (¬3): الجناية على ما دون النفس في المرأة تقدر بحسب ديتها، وبما أن دية المرأة نصف دية الرجل، فتكون جراحها وشجاجها نصف جراح الرجل وشجاجه، إلحاقاً لجُرحها بنفسها. 2 - وقال المالكية والحنابلة (¬4): دية جراح المرأة كدية جراح الرجل فيما دون ثلث الدية الكاملة، فإن بلغت الثلث أو زادت عليها رجعت إلى نصف دية الرجل. وعلى هذا إن قطعت أصبع المرأة ففيها عشر من الإبل، وإن قطعت ثلاث أصابع ففيها ثلاثون من الإبل، فإن قطع أربعة أصابع ففيها عشرون من الإبل. ¬
المبحث الثاني ـ عقوبة الجناية على ما دون النفس خطأ
ودليلهم ما روى النسائي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديتها». وروى مالك في الموطأ، والبيهقي، وسعيد بن منصور عن ربيعة قال: قلت لسعيد بن المسيب، كم في أصبع المرأة؟ قال: عشر، قلت: ففي أصبعين؟ قال: عشرون، قلت: ففي ثلاث أصابع؟ قال: ثلاثون، قلت: ففي أربع؟ قال: عشرون. قال ربيعة: لما عظمت مصيبتها قل عقلها؟ قال سعيد: هكذا السنة ياابن أخي. ويضيف البيهقي جواباً على اعتراض ربيعة قول ابن المسيب: أعراقي أنت؟ قال ربيعة: عالم متثبت، أو جاهل متعلم، قال: يا ابن أخي، إنها السنة (¬1). المبحث الثاني ـ عقوبة الجناية على ما دون النفس خطأ: إن عقوبة الجناية على ما دون النفس خطأ، هي الدية أو الأرش (¬2). والدية المقصودة هنا هي الكاملة، والأرش المقصود هنا: هو الأقل من الدية. وليس هناك أية عقوبة بدلية أخرى. وقد أبنت أحوال وجوب الدية والأرش في إبانة الأطراف والشجاج والجراح العمد. ولكن من يتحمل الدية أو الأرش المقدر (لا حكومة العدل عند الحنفية) في حال الخطأ؟ العاقلة هي التي تتحملها فيما زاد عن نصف عشر الدية في رأي الحنفية، أو عن ثلث الدية ولو في الطرف أو الجرح في رأي المالكية والحنابلة. ¬
وتتحمل العاقلة عند الشافعية كل التعويض الواجب، حتى الحكومات قل أو كثر، كما تبين في مقدار ما تتحمله العاقلة في شبه العمد. ويلاحظ أن عمد الصبي والمجنون عند الجمهور خطأ تحمله العاقلة (¬1)، والأظهر عند الشافعية كما بان سابقاً: أن عمد الصبي عمد إذا كان مميزاً، وإلا فهو خطأ، لكن لا قصاص عليه في حالة العمد، لكن تجب الدية في ماله، ولا تتحملها عنه عاقلته (¬2). ¬
الفصل الثالث: الجناية على نفس غير مكتملة (الجناية على الجنين، أو الإجهاض)
الفَصْلُ الثّالث: الجِناية على نفس غير مكتملة (الجناية على الجنين، أو الإجهاض) إذا ضرب إنسان (أب أو أم أو غيرهما) امرأة حاملاً على بطنها أو ظهرها، أو جنبها أورأسها أو عضو من أعضائها، أو أخافها بالضرب أو القتل أو الصياح عليها فأجهضت أوألقت جنينها، فإما أن تلقيه ميتاً أو حياً، وفيه مبحثان: المبحث الأول ـ حالة إلقاء الجنين ميتا ً: إذا انفصل الجنين عن أمه ميتاً، فعقوبة الجاني هي دية الجنين، ودية الجنين ذكراً أو أنثى، عمداً أو خطأ: غرة (¬1) ـ عبد أو أمة، قيمتها خمس من الإبل، أي نصف عشر الدية، أو ما يعادلها وهو خمسون دينارا أو خمس مئة درهم عند الحنفية أو ست مئة درهم عند الجمهور (¬2)،على الخلاف في تقويم الدينار بالدراهم. والدليل عليه أحاديث صحيحة متعددة، منها: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: «اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما ¬
من تجب عليه الغرة
في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقضى أن دية جنينها غرة ـ عبد أو وليدة (¬1)، وقضى بدية المرأة (¬2) على عاقلتها» (¬3). من تجب عليه الغرة: إذا كانت الجناية عمداً، وجبت مغلظة، أي حالَّةً معجلة في مال الجاني المتعمد، ولا يتصور العمد إلا عند المالكية، وبناء عليه قالوا: دية الجنين تكون حالَّة معجلة لا منجَّمة (أي مقسّطة)، وتكون من النقدين: الذهب أو الفضة، ولا تكون من الإبل، وتكون في مال الجاني في العمد مطلقاً، وكذا في حالة الخطأ إلا أن تبلغ ثلث دية الجاني فأكثر، فتكون حينئذ على العاقلة (¬4)، كما لو ضرب مجوسي مسلمة فألقت جنيناً. وأما في حالة الخطأ أو شبه العمد، وهذا هو المتصور عند الجمهور، فتحمل العاقلة الدية، والجاني واحد من العاقلة عند الجمهور، وليس واحداً منها عند الحنابلة، كما بان في دية القتل شبه العمد. والدليل له حديث المغيرة: «أن امرأة ضربتها ضَرَّتها بعمود فِسطاط (خيمة)، فقتلتها وهي حبلى، فأتي بها النبي صلّى الله عليه وسلم، فقضى فيها على عصبة القاتلة بالدية في الجنين غرة، فقال عصبتها: أندي مالا طعِم ولا شرب ولا صاح ولا استهل (¬5)، مثل ذلك يُطَلّ (¬6)؟ فقال: سجع مثل سجع الأعراب» (¬7). ¬
من تجب له الغرة
لكن الشافعية قالوا: إن كانت الجناية خطأ وجبت دية مخففة، وإن كانت شبه عمد، وجبت دية مغلظة كما في الدية الكاملة. ونص الحنفية على أن العاقلة تضمن الغرة إذا أسقطت الأم عمداً جنينها ميتاً بدواء أو فعل، كأن ضربت هي بطنها، بلا إذن زوجها. فإن أذن أو لم يتعمد فلا غرة، لعدم التعدي (¬1). ولا خلاف بين العلماء في إلزام الأم بالغرة في هذه الحالة، وأضاف إليها الشافعية والحنابلة وجوب الكفارة (¬2). وتتعدد الغرة بتعدد الأجنة. وتجب دية الجنين عند الحنفية والحنابلة في سنة (¬3)، وهو الأصح عند الشافعية (¬4)؛ لأن التأجيل في ثلاث سنين خاص بدية نفس كاملة. فإن كانت الدية بمقدار ثلث دية المسلم كدية الذمي فتؤجل سنة فقط. ومثلها دية المأمومة. من تجب له الغرة: اتفق أئمة المذاهب الأربعة وهو الراجح عند المالكية (¬5) على أن الغرة تورث عن الجنين بحسب الفرائض الشرعية المعلومة لذوي الفرض والتعصب. والجاني الضارب إذا كان قريباً ولو أباً لا يرث من الغرة شيئاً؛ لأنه قاتل بغير حق، والقاتل لا يرث بنص الحديث النبوي. شروط وجوب دية الجنين: يشترط لوجوب دية الجنين شرطان: 1ً - أن تؤثر الجناية في الجنين كضرب أو إيجار دواء ونحوهما. ¬
هل تجب الكفارة على الضارب؟
2ً - انفصال الجنين ميتاً، فلو لم ينفصل أو انفصل حياً، لم تجب له الدية. هل تجب الكفارة على الضارب؟ لا كفارة عند الحنفية (¬1) على الضارب، إن سقط الجنين كامل الخلقة ميتاً، إلا أن يشاء ذلك، فهو أفضل، تقرباً إلى الله تعالى بما يشاء إن استطاع، ويستغفر الله سبحانه مما صنع، أي أنه لا كفارة وجوباً بل ندباً. وكذلك قال المالكية (¬2): تستحب الكفارة في قتل الجنين، ولا تجب. وقال الشافعية والحنابلة (¬3): تجب الكفارة في الإجهاض، سواء ألقت الأم الجنين حياً أم ميتاً؛ لأنه نفس مضمونة، ولقوله تعالى: {ومن قتَل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة} [النساء:92/ 4] والجنين محكوم بإيمانه تبعاً لأبويه أو لأحد أبويه. وإن كان من أهل الذمة فهو من قوم بيننا وبينهم ميثاق، وقد نص الله على الكفارة في أهل الميثاق. فمن لم يجد الرقبة حساً، أو شرعاً بأن وجدها بأكثر من ثمن المثل، صام شهرين متتابعين. متى يجب التعويض المالي (الغرة) عن الجنين؟ اختلف الفقهاء في وقت وجوب الغرة عن الجنين: فقال الحنفية: يكفي استبانة بعض خلقه كظفر وشعر (¬4). وقال المالكية: تجب الغرة إذا كان الجنين ¬
المبحث الثاني ـ حالة إلقاء الجنين حيا
مضغة أو كاملاً، أما إن كان علقة أي دماً مجتمعاً بحيث إذا صب عليه الماء الحار يذوب، فليس فيه شيء (¬1). وقال الشافعية والحنابلة: تجب غرة الجنين إذا كان مضغة وثبت ذلك بالشهادة، فعند الشافعية: بشهادة أربعة نسوة، وعند الحنابلة بشهادة ثقات من القوابل أن فيه صورة خفية. ولا شيء فيه إذا كان نطفة أو علقة (¬2). المبحث الثاني ـ حالة إلقاء الجنين حيا ً: إذا انفصل الجنين حياً ثم مات بسبب الجناية عمداً، فهل يجب القصاص من الضارب؟ قال المالكية (¬3): الراجح وجوب القصاص إذا أدى الفعل في الغالب إلى الموت كالضرب على البطن أو الظهر. وتجب الدية فقط لا الغرة إذا لم يؤد الفعل غالباً إلى نتيجة كالضرب على اليد أو الرجل؛ لأن الجنين إذا استهل صار من جملة الأحياء، فلم يكن فيه غرة (¬4). وقال الحنفية والحنابلة والأصح عند الشافعية (¬5): إن الجناية على الجنين لا تكون عمداً، وإنما هي شبه عمد أو خطأ؛ لأنه لا يتحقق وجود الجنين وحياته حتى يقصد، فتجب الدية كاملة. ولا يرث الضارب منها شيئاً. ¬
موت الجنين بعد موت الأم
وأوجب الحنفية في هذه الحالة الكفارة، كما قال الشافعية والحنابلة في إيجابها مطلقاً، سواء في حالة إلقاء الجنين ميتاً أو حياً. وتتعدد الدية بتعدد الأجنة. فإن ماتت الأم أيضاً من الضربة بعد موت الجنين، أو أنه خرج الجنين بعد موت الأم حياً ثم مات، فعلى الضارب ديتان: دية الأم، ودية الجنين لوجود سبب وجوبهما، وهو قتل شخصين. موت الجنين بعد موت الأم: إن خرج الجنين بعد موت الأم ميتاً، فعلى الضارب دية الأم ولا شيء عليه عند الحنفية والمالكية (¬1) في الجنين، وإنما عليه التعزير، إذ لم يقم دليل قاطع على أن الجناية أدت لموت الجنين أو انفصاله، وإنما يحتمل أنه مات بموت الأم، فهو يجري حينئذ مجرى أعضائها. وقال الشافعية والحنابلة (¬2): يجب على الضارب دية الأم وغرة الجنين، سواء ألقته في حياتها أم بعد موتها؛ لأنه جنين تلف بجناية الضارب، وعلم موته بخروجه، فوجب ضمانه؛ لأنه أتلفه مع الأم، كما لو خرج الجنين ميتاً ثم ماتت الأم. فإذا لم تسقط الأم جنينها فلا شيء فيه؛ لأنه لا يثبت حكم الولد إلا بخروجه. جنين غير المسلمة: تجب غرة جنين المرأة الذمية بالجناية عليها، لكن تقدير الغرة مختلف فيه بحسب كون الجنين مسلماً أو غير مسلم ولو من أب كافر. ¬
أما الحنفية: فغرته عندهم مثل غرة الجنين المسلم؛ لأن دية الكافر كدية المسلم عندهم، وكذلك غرته مثل غرة المسلم عند الحنابلة (¬1)؛ لأن الجنين مسلم تبعاً لدار الإسلام، فتقدر الذمية مسلمة. وعند المالكية (¬2): غرة الجنين من الذمية تساوي عشر دية الأم. والأصح عند الشافعية (¬3): غرة جنين اليهودي أو النصراني كثلث غرة المسلم، بناء على أن الغرة مقدرة بنصف عشر دية الأب. ¬
الفصل الرابع: حالات طارئة من الاعتداء بطريق التسبيب
الفَصْلُ الرّابع: حالات طارئة من الاعتداء بطريق التّسبيب جناية الحيوان، وجناية الحائط المائل الكلام فيه في مبحثين: الأول ـ في جناية الحيوان. والثاني ـ في جناية الحائط المائل. المبحث الأول ـ جناية الحيوان: اتفق الفقهاء على أن حارس الحيوان (المالك أو الراكب أو السائس أو غيرهم من كل حائز ذي يد بصفة الرهن أو الإعارة أو الإجارة أو الغصب) هو الضامن لما يتلفه الحيوان إذا كان متسبباً في إحداث الضرر، بأن تعمد الإتلاف أو الجناية، بواسطة الحيوان، أو قصر في حفظه مع بعض الشروط أو القيود أحياناً، التي أبينها أثناء توضيح آراء الفقهاء فيما يأتي: فإن لم يكن متسبباً في الضرر، فإن الفقهاء اختلفوا في شأن تضمين القائم على الحيوان (ملكاً أو حيازة).
- قال الحنفية: إما أن يكون الحيوان عاديا أو خطرا
1 - قال الحنفية (¬1): إما أن يكون الحيوان عادياً أو خطراً: أـ فإن كان الحيوان عادِيَاً (متعدياً أو مؤذياً)، فأتلف شيئاً بنفسه، مالآً أو إنساناً، فلا ضمان على حارسه، سواء وقع الاعتداء ليلاً أو نهاراً، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «العجماء جُرْحها جُبَآر» (¬2) أي المنفلتة هدَر لا يغرم. فإن كان صاحبه معه سائقاً أو راكباً أو قائداً، أو أرسله وأتلف شيئاً فور إرساله ونحوه، ضمن ما يتلفه. وإذا أتلف الحيوان شيئاً في المراعي المباحة أو أثناء السير في الطرقات العامة أو أثناء ربطه في الأسواق العامة أو المرابض المخصصة لربط الحيوانات، لا ضمان فيه، كما لو كان لقرية خيول أو بقر في المرعى، فعض أحدها أو ضرب برجله، فأتلف حيوان شخص آخر، لا ضمان على صاحبه. وذلك بخلاف المحل المملوك، فإن الضمان على غير المالك، كأن يكون لرجل مربط، فيجيء آخر، ويربط دابته عند دابة المالك، فتتلف دابة المالك، فالضمان على المعتدي، ولا ضمان على المالك إذا أتلف دابته دابة الآخر (¬3). ب ـ وأما إن كان الحيوان خطراً: كالثور والكلب العقور، فيضمن صاحبه أو حارسه ما يتلفه إذا لم يحفظه، إذا تقدم إليه الناس الراغبون بدفع الأذى عنهم، وأشهدوا على تقدمهم، طالبين منع أذى هذا الحيوان كما في الحائط المائل. فإن لم يفعل، كان مقصراً في حفظه، فيضمن بالتسبب لتعديه. ¬
2 - وقال المالكية في الراجح عندهم، والشافعية والحنابلة
هذا ما لم يكن الكلب كلب حراسة بستان أو حقل عنب مثلاً، فلا يضمن صاحبه شيئاً مطلقاً، سواء تقدم إليه الناس وأشهدوا على تقدمهم أم لا (¬1). وأما إن قام صاحب الحيوان أو حارسه بإرسال طير، أو دابة، أو إشلاء كلب أو إغراء حيوان، فأصاب إنساناً، فيضمن مايتلفه بكل حال أي مطلقاً، سواء أكان سائقاً له أم قائداً أم لا، بسبب التعدي. وهذا قول أبي يوسف، وبه أخذ عامة مشايخ الحنفية، وعليه الفتوى (¬2). 2 - وقال المالكية في الراجح عندهم، والشافعية والحنابلة (¬3): إن ما تفسده البهائم من الزروع والشجر ونحوه مضمون على صاحبها، أو راعيها أو ذي اليد عليها إن لم يوجد صاحبها إذا وقع الضرر ليلاً، ولا ضمان على ما تتلفه نهاراً إذا لم يكن معها صاحبها. فإن كان معها صاحبها أو ذو اليد الحائز كالغاصب والمستأجر والمستعير راكباً أو سائقاً أو قائداً، فهو ضامن لما تفسده من النفوس والأموال، لما روي أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائطاً (بستاناً) فأفسدت فيه، فقضى نبي الله صلّى الله عليه وسلم أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار، وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها (¬4). ¬
ضمان الراكب ومن في معناه وحوادث التصادم
أما البهائم والجوارح الضارية (أي معتادة الجناية) فيضمن صاحبها مطلقاً ماتتلفه من مال أو نفس لتفريطه. ضمان الراكب ومن في معناه وحوادث التصادم: أورد فقهاء الحنفية أمثلة فقهية واقعية لتحديد الضامن في حوادث السير والركوب والتصادم وإتلاف الحيوان، ويمكن معرفة أحكامها في ضوء القواعد الفقهية التالية وهي: «ما لا يمكن الاحتراز عنه لا ضمان فيه» «يضاف الفعل إلى المتسبب ما لم يتخلل واسطة»، «المتسبب لا يضمن إلا بالتعدي»، «المباشر ضامن وإن لم يتعدّ»، «إذا اجتمع المباشر والمتسبب يضاف الحكم إلى المباشر»، تضمين المتسبب والمباشر معاً عند تعدي كل منهما. أولاً ـ (مالا يمكن الاحتراز عنه لا ضمان فيه): ومعناها أن كل ما يشق البعد عنه لا يكون سبباً موجباً للضمان، لأنه من الضرورات، ولأن ما يستحق على المرء شرعاً يعتبر فيه الوسع والطاقة. وأما ما يمكن تجنبه أو الاحتياط عنه فيكون سبباً موجباً للضمان. وبناء عليه (¬1)، للناس الانتفاع بالمرافق العامة كالطرقات مشياً أو ركوباً بشرط السلامة، وعدم الإضرار بالآخرين بما يمكن التحرز عنه، دون ما لا يمكن التحرز عنه، حتى يتيسر للناس سبيل الانتفاع، ويتهيأ لهم ممارسة حقوقهم وحرياتهم على أساس العدل والأمن والاستقرار. ¬
فما تولد من سير الماشي أو الراكب من تلف، مما يمكن الاحتراز عنه، فهو مضمون. وما لا يمكن الاحتراز عنه، فليس بمضمون، إذ لو جعلناه مضموناً، لصار الشخص ممنوعاً عن السير، وهو مأذون به. ـ فما أثارت الدابة بسنابكها من الغبار، أو الحصى الصغار، لا ضمان فيه، لأنه لا يمكن الاحتراز عنه وهو أمر معتاد. وأما الحصى الكبار أو الغبار الزائد عن المعتاد فيجب الضمان فيهما؛ لأنه يمكن التحرز عن إثارتهما. وكذلك يضمن الراكب إذا ركب دابة نزقة لا يؤثر بها كبح اللجام، لخروج ذلك عن المعتاد. ولو كبح الدابة باللجام، فنفحت (¬1) برجلها أو بذنبها، ومثله البول والروث واللعاب، فهو هَدر لا ضمان فيه لعموم البلوى به، ولأن الاحتراز عنه غير ممكن، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «الرِجْل جبار» (¬2) أي نفحها. فإن أوقفها صاحبها في الطريق، ضمن النفحة؛ لأنه يمكن التحرز عن الإيقاف والوقوف. ـ ويضمن الراكب أو القائد أو السائق ما وطئت دابته بيد أو رجل أو رأس، أو كدمت (¬3)، أو صدمت بصدرها، أو خبطت بيدها؛ لأن الاحتراز عن ذلك ممكن؛ لأنه ليس من ضرورات السير في الطريق. وهذا هو مذهب الشافعية، ويلاحظ أنه لا ضمان على الراكب عند المالكية في هذه الأحوال عملاً بحديث: «العجماء جرحها جبار» وفرق الحنابلة بين ما ¬
جنت الدابة بيدها فيضمنه الراكب، وما جنت برجلها فلا ضمان عليه، عملاً بحديث: «الرِجْل جبار» (¬1) ومفهومه وجوب الضمان في جناية غير الرِجْل (¬2). ـ ويضمن صاحب الدابة ما تتلفه بالوطء والصدم ونحوهما إذا أوقفها في الطريق العام أو المحجة (جادة الطريق) التي لم يؤذن فيها بالوقوف، أو على باب المسجد لأنه متعدٍ في الوقوف. ـ ولكن لا ضمان عليه إذا أوقف الدابة في الأسواق أو الأماكن المخصصة من قبل السلطات للوقوف (أو المأذون بها من جهته كالمحطات الجانبية) أو في الفلاة؛ لأن الوقوف فيها مباح لعدم الإضرار بالناس. فإن كان راكباً عليها فوطئت إنساناً فقتلته يضمن؛ لأنه قتل بطريق المباشرة. ـ ولا ضمان عليه أيضاً إذا أوقف الدابة أو سار بها أو ساقها أو قادها في ملكه الخاص، إلا ما تحدثه بالإيطاء برجلها أو بيدها، وهو راكبها، فيضمن ماتحدثه؛ لأنه تصرف في ملكه الخاص، فلا يتقيد تصرفه بشرط السلامة، أما الوطء فهو بمنزلة فعله لحصول الهلاك بثقله، ومن تعدى على الغير في دار نفسه، يضمن. ـ والسائق والقائد والرديف كالراكب، إلا أن الفرق أن الراكب قاتل بوطء الدابة بثقله وفعله، أي أنه مباشر، وليس بمتسبب. والسائق ونحوه متسبب. فتجب الكفارة على الراكب في ملكه أو في غير ملكه دون السائق والقائد. فإذا قاد الرجل قافلة (قطاراً) من الدواب، فما أوطأته دابته يكون ضامناً. وكذا إذا صدم إنساناً؛ لأن القائد مقرب للبهيمة إلى الجناية، وهذا مما يمكن الاحتراز عنه في الجملة، بأن يذود الناس عن الطريق. ¬
ثانيا ـ ضمان المتسبب وحده
ـ ولو نفرت الدابة أو انفلتت من حارسها (المالك أو غيره): فما أصابت في فورها، فلا ضمان عليه لقوله عليه الصلاة والسلام: «العجماء جبار» أي البهيمة جُرْحها جُبَار: هدر، ولأنه لا صنع له في نَفَارها وانفلاتها، ولا يمكنه الاحتراز عن فعلها، فلا يكون الناشئ عنه مضموناً. ـ ولو أرسل دابته، فما أصابت من فورها، ضمن؛ لأن سيرها في فورها مضاف إلى إرسالها، فكانت متعدياً في الإرسال، فصار كالدافع لها، أو كالسائق. فإن عطفت (مالت أو تحولت) يميناً أو شمالاً، ثم أصابت شيئاً ففيه احتمالان: إن لم يكن لها طريق آخر إلا ذاك، وجب الضمان على المرسل؛ لأنها باقية على الإرسال. وإن كان لها طريق آخر، لا يضمن مرسلها؛ لأنه انقطع أثر الإرسال، وصارت كالمنفلتة. وفي كل هذه الأحوال: ما كان من جناية الحيوان على بني آدم، فهو على العاقلة؛ لأن حائز الحيوان متسبب متعد. وما كان على المال، فهو على المسؤول عن الحيوان، في ماله، حالاً، أي أن ضمان النفس على العاقلة، وضمان المال في مال المتعدي. وهذا ما نص عليه الحنفية والشافعية (¬1). ثانياً ـ ضمان المتسبب وحده: المتسبب: هو من يفعل فعلاً يؤدي إلى ضرر ما، ولكن بواسطة أخرى. ويضمن المتسبب أثر فعله بشرطين: ¬
1ً - إذا كان متعدياً، والتعدي: هو فعل السبب بغير حق، سواء أكان متعمداً الضرر أم لا يقصد الضرر. 2ً - وإذا كان هو العامل الأهم في إحداث الضرر، بأن يغلب السبب المباشرة، كما في الأمثلة التالية: ـ من ضرب دابة عليهاراكب، أو نخسها بعود بلا إذن الراكب، فنفحت شخصاً أو ضربته برجلها أو بذنبها، أو نفرت، فصدمت إنساناً في فور النخسة، ضمن الناخس أو الضارب، دون الراكب؛ لأن الأول متعد في فعله، فما تولد عنه، مضمون عليه، والراكب ليس بمتعد، فترجح جانب الناخس في التغريم للتعدي. ويلاحظ أن اشتراط كون النفحة فور النخس أمر ضروري ليتوافر معنى السببية في إحداث الضرر (¬1). فإذا انقطع الفور بعد النخس، فينسب الضرر إلى اختيار الدابة، لا إلى الناخس. وإذا حدث النخس أو الضرب بأمر الراكب، فنفحت الدابة برجلها إنساناً، فقتلته: فإن وقع الفعل في مكان مأذون فيه فلا ضمان. كأن كان الراكب يسير في الطريق، أو كان واقفاً في ملكه الخاص، أو في موضع قد أذن فيه بالوقوف من الأسواق العامة ونحوها؛ لأن الناخس فعل بأمر الراكب فعلاً يملكه الراكب، فصار فعله كفعل الراكب نفسه، وفعل الراكب حينئذ لا يضمن، فلا يضمن مثله. أما إن وقع النخس في مكان لم يؤذن بالوقوف فيه، كالطريق العام، فيشترك ¬
ثالثا ـ ضمان المباشر وحده
الناخس والراكب في الضمان، وتكون دية المجني عليه مثلاً عليهما مناصفة. وسأذكر أمثلة أخرى في حال اشتراك المتسبب والمباشر في الضمان. ثالثاً ـ ضمان المباشر وحده: المباشر: هو الذي حصل الضرر بفعله بلا واسطة، أي دون تدخل فعل شخص آخر مختار. ويكون هو الضامن إذا كان السبب لا ينفرد بالإتلاف إذا ترك وحده دون مباشرة، أي أنه كان هو المؤثر الأقوى في إحداث الضرر، ودور السبب ضعيف إذا قورن به. مثاله: إذا كان هناك قائد قطار (¬1) إبل، وكانت الإبل وقوفاً لاتقاد، فجاء رجل، وربط إليها بعيراً، والقائد لا يعلم، فقاد البعير معها، فوطئ البعير إنساناً، فقتله، فالدية على القائد، تتحملها عنه عاقلته ولا ترجع على عاقلة الرابط بشيء؛ لأن الرابط، وإن تعدى في الربط، وكان سبباً لوجوب الضمان، لكن القائد لما قاد البعير عن ذلك المكان الذي كانت الإبل واقفة فيه، قد أزال تعديه، فيزول الضمان عنه، ويتعلق بالقائد، كمن وضع حجراً في الطريق، فجاء إنسان، فدحْرَجَه عن مكانه، ثم عطب به إنسان، فالضمان على الثاني، لا على الأول. أما لو كانت الإبل سائرة، وجاء رجل وربط مع آخرها بعيراً، فوطئ البعير إنساناً، ضمنت عاقلة القائد الدية، ثم رجعت بها على عاقلة الرابط؛ لأن الرابط متعد في الربط، وهو المتسبب الأقوى في إلزام الضمان، فيستقر الضمان عليه (¬2). ¬
رابعا ـ ضمان المتسبب والمباشر معا
رابعاً ـ ضمان المتسبب والمباشر معاً: يضمن المتسبب والمباشر بالاشتراك معاً إذا تساوى أو تعادل أثرهما في الفعل الذي يترتب عليه إحداث الضرر. وعلى حد تعبير الحنفية والشافعية: يضمن المتسبب مع المباشر إذا كان للسبب تأثير يعمل بانفراده في الإتلاف متى انفرد عن المباشرة. أي أن اشتراك المتسبب مع المباشرة في الضمان مشروط عندهم بأن يكون السبب مما يعمل بانفراده. وعند المالكية والحنابلة (¬1) مشروط بأن تكون المباشرة مبنية على السبب وناشئة عنه، بحيث لو تخلفت السببية لزالت علة الإتلاف كاشتراك المكره والمستكره في القصاص والضمان، واشتراك الممسك مع القاتل في رواية عند الحنابلة، وفي الرواية الأخرى: يختص المباشر بالعقوبة، ويحبس الممسك حتى يموت، وكما لو دل الوديع لصاً على الوديعة فسرقها. وأمثلة الحنفية هي ما يأتي (¬2): ـ لو اجتمع على قيادة الدابة سائق وراكب، أوقائد وسائق (¬3)،فالضمان عليهما؛ لأن سَوق الدابة يؤدي إلى التلف، وإن لم يكن هناك شخص راكب عليها. وقائد قطار الإبل والسائق سواء في الضمان؛ لأن على القائد الحفظ كالسائق، فيصير متعدياً بالتقصير فيه، والتسبب بوصف التعدي سبب الضمان. لكن ضمان النفس على العاقلة، وضمان المال في مال المتعدي كما تقدم. ¬
التصادم
ـ وكذلك إذا نخس شخص الدابة أو ضربها بأمر راكبها، يكون الضمان على الاثنين؛ لأن الناخس بمنزلة السائق. ـ ولو نخس الدابة بغير أمر الراكب، فوطئت إنساناً بقدمها أثناء الدفع، فمات، فالضمان عليهما؛ لأن الموت حصل بسبب فعل الناخس، وثقل الراكب. والرديف كالراكب. إلا أن الراكب يختلف عن الناخس والسائق أو القائد في إيجاب الكفارة عليه، وحرمانه من الميراث والوصية عند الحنفية لمباشرته القتل، وأما غيره فهو متسبب، والمتسبب لا كفارة عليه ولا يحرم الميراث والوصية. وفي قيادة قطار الإبل يجب الضمان على القائد فيما أوطأه أو أصابه أو صدمه البعير الأول أو الأوسط أو الأخير؛ لأنه فعل فعلاً سبب حصول التلف وهو مما يمكن الاحتراز عنه. ولا يختلف الحكم كيفما كان السائق في الوسط أو الآخر. ـ ولو كان على القطار محامل (¬1) فيها أناس نيام أوغير نيام، مشتركون في القود أو السوق، فهم شركاء السائق والقائد في الضمان. وعلى الركبان وحدهم الكفارة. فإذا لم يكن من المحامل اشتراك في القود أو السوق، فهم كالمتاع، لا شيء عليهم. ويلاحظ أن هذه الأحكام لا تنطبق على السيارات اليوم، لعدم اشتراك الركاب مع السائق في شيء، فتكون مسؤولية الضمان على السائق وحده. التصادم: إذا تصادم راكبان أو فارسان أو ملاحان أو سائقا سيارة أو ماشيان أو راكب وماشٍ، فماتا، أو تلف شيء بسبب التصادم، وجب على كل واحد ¬
منهما عند الحنفية والحنابلة (¬1) تحمل تبعة الضمان كاملة للآخر، لكن في الموت تتحمل عاقلة كل واحد منهما دية الآخر، واليوم يتحمل كل واحد لا عاقلته تبعة فعله. وفي الإتلاف يجب على كل منهما تعويض ضرر الآخر؛ لأن الضرر قد حدث لكل واحد منهما بفعل نفسه وبفعل صاحبه أيضاً. هذا إذا كان التصادم خطأ، فإن كان عمداً وجب عند الحنفية تحمل نصف قيمة الضمان، أي نصف الدية أو التعويض المالي. ويرى المالكية (¬2): أنه إذا تصادم الفارسان، فإن كان عمداً وماتا فلا قصاص لفوات محله، وإن مات أحدهما اقتص من الآخر له. وإن كان خطأ ومات كل واحد منهما، فعلى كل واحد منهما دية الآخر، وتتحملها عنه العاقلة، كما قال الحنفية. فإن تصادمت سفينتان فتلفتا أو تلفت إحداهما فهدر، لا قود ولا ضمان؛ لأن جريهما بالريح، وليس من عمل أربابهما (¬3). وقال الشافعية، وزفر الحنفي (¬4): إذا اصطدم فارسان أو ماشيان، أو سفينتان بتفريط من ربانهما، بأن قصرا في صيانة آلاتهما، أو قدرا على ضبطهما فلم يضبطا، أو سيرا المركبين في ريح شديدة لاتسير السفن في مثلها، وجب على كل واحد منهما نصف قيمة ما تلف للآخر (وكان في الماضي الضمان على عاقلة كل منهما)؛ لأن التلف حصل بفعلهما، أي أن كل واحد هلك بفعله وفعل ¬
المبحث الثاني ـ جناية الحائط المائل ونحوه مما يحدثه الرجل في الطريق ـ سقوط البناء أو الجدار
صاحبه فيهدر النصف، وينقسم الضمان عليهما، ويهدر النصف الآخر بسبب فعل كل واحد في حق نفسه. وعند الشافعية يجب نصف الدية مغلظة على عاقلة كل منهما لورثة الآخر؛ لأن القتل شبه عمد؛ إذ الغالب أن الاصطدام لا يفضي إلى الموت، فلا يتحقق فيه العمد المحض، فلا يتعلق به القصاص. فإن حدث التصادم بين السفينتين دون تفريط، وإنما بقوة قاهرة كريح شديدة عصفت، فلا ضمان على أحد. أما إذا كان المخطئ أحد المتصادمين، كان الضمان عليه باتفاق الفقهاء، كما لو صدم الماشي واقفاً، فالضمان على الماشي؛ لأنه هو المتسبب، ولو صدمت سفينة جائية سفينة واقفة، كان الضمان على صاحب السفينة الجائية إذا لم تكن الواقفة متعدية في وقوفها. المبحث الثاني ـ جناية الحائط المائل ونحوه مما يحدثه الرجل في الطريق ـ سقوط البناء أو الجدار: يجب في الجملة في حالة سقوط البناء الضمان على المتسبب في إحداث الضرر، إما لأنه يمكن الاحتراز عنه، أو بسبب تقصيره وإهماله. وإذا حدث موت، فالدية تجب على عاقلة مالك البناء، لأنه متسبب. لكن لا تجب عليه الكفارة ولا يحرم من الميراث والوصية عند الحنفية، كما هو المقرر عندهم في حالة القتل بالتسبب، وعلى هذا إذا كانت الجناية على نفس فالواجب هو الدية، وإذا كانت على ما دون النفس فالواجب بها الأرش على العاقلة إن بلغ عند الحنفية نصف عشر دية الرجل وعشر دية الأنثى. وإن كانت الجناية على المال فيجب التعويض في مال المتسبب.
المطلب الأول ـ سقوط البناء أو الجدار بسبب خلل أصلي فيه
وسقوط البناء: إما أن يكون بسبب خلل أصلي عند الإنشاء، أو بسبب خلل طارئ (¬1). المطلب الأول ـ سقوط البناء أو الجدار بسبب خلل أصلي فيه: لا خلاف بين الفقهاء في وجوب ضمان الضرر الحادث بسبب سقوط البناء أو الجدار الذي بناه صاحبه مائلاً إلى الطريق العام أو إلى ملك غيره؛ لأنه متعد بفعله، فإنه ليس لأحد الانتفاع بالبناء في هواء ملك غيره، أو هواء مشترك، ولأنه ببنائه المشتمل على الخلل يعرضه للوقوع على غيره في غير ملكه (¬2). ومثله: ما تولد من جناح (¬3) إلى شارع، سواء أكان يضر أم لا، أذن فيه الإمام أم لا، أو ما يتلف بالميازيب المخرجة إلى الشارع أو بما سال من مائها؛ لأنه ارتفاق بالشارع، والارتفاق بالشارع مشروط بسلامة العاقبة، فكل ما يحدث يكون صاحبه ضامناً. ومثله أيضاً: لو طرح تراباً بالطريق ليطين به سطحه، أو وضع حجراً أو خشبة أو متاعاً فزلق به إنسان، ضمنه. وكذلك لو طرح قمامات (كناسة) وقشور بطيخ في طريق، أو صب ماء في الطريق، فتلف بفعله شيء، أو قعد في الطريق للاستراحة أو لمرض فعثر به عابر، فوقع فمات أو وقع على غيره فقتله، يكون مضموناً؛ لأن الانتفاع بالطريق مشروط بسلامة العاقبة؛ ولأن فيه ضرراً على المسلمين. ¬
المطلب الثاني ـ سقوط البناء أو الجدار بسبب خلل طارئ عليه
ومن حفر بئراً عدواناً كحفرها في ملك غيره بغير إذنه، أو في شارع ضيق أو واسع لمصلحة نفسه بغير إذن الإمام: ضمن ما تلف فيها من آدمي أو غيره (¬1). والمراد بالضمان: الدية ـ دية شبه عمد في القتل، والتعويض المالي في الإتلافات المالية. وكل ما ذكر ضمان بالتسبب، والقاعدة تقول: «يضاف الفعل إلى المتسبب ما لم يتخلل واسطة». ودليل الضمان في تلك الحالات وأمثالها هو قوله عليه الصلاة والسلام: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» (¬2). المطلب الثاني ـ سقوط البناء أو الجدار بسبب خلل طارئ عليه: إذا بنى الشخص بناءه أو حائطه مستوياً أو مستقيماً، ثم مال إلى الطريق أوإلى دار إنسان، أو تشقق بالعرض لا بالطول، فسقط على شيء فأتلفه، ففي ضمان الشيء المتلف رأيان للفقهاء: 1 - مذهب الشافعية والراجح عند الحنابلة (¬3): لا ضمان به في هذه الحالة؛ لأن صاحبه تصرف في ملكه، والميل لم يحصل بفعله، فأشبه ما إذا سقط بلا ميل، سواء أمكنه هدمه وإصلاحه أم لا، وسواء طولب بالنقض أم لا. 2 - مذهب الحنفية والمالكية (¬4): في الأمر تفصيل: ¬
الإشهاد على المطالبة بالنقض
أـ إن لم يطالب بنقضه، حتى سقط على إنسان، فقتله، أو على مال فأتلفه، فلا ضمان؛ لأنه بناه في ملكه، والميل حادث بغير فعله، فأشبه ما لو وقع قبل ميله، كثوب ألقته الريح في يده، فما تولد منه، لا يؤاخذ به. ب ـ وأما إن طولب بنقضه، فلم يفعل، ثم سقط بعدئذ يمكنه فيها نقضه، فهو ضامن ما تلف به من نفس أو مال؛ لأنه حينئذ يصبح متعدياً، كما لو امتنع عن تسليم (أو رد) ثوب ألقت به الريح في دار إنسان، وطولب به، فهلك، يضمن. ولأن للناس حق المرور دون ضرر، وليس لأحد منعهم منه. أما إذا لم يفرط في نقضه، وذهب حتى يستأجر عاملاً يهدمه، فسقط، فأفسد شيئاً، فلا شيء عليه؛ لأن الواجب عليه فقط إزالة الضرر بقدر الإمكان. والمطالبة بالنقض أو الإصلاح هو المعروف بشرط التقدم، والتقدم: هو التنبيه والتوصية أولاً بدفع وإزالة مضرة مظنونة (م 889 مجلة). الإشهاد على المطالبة بالنقض: لا يشترط الإشهاد لصحة التقدم أو المطالبة بالإصلاح، وإنما الإشهاد كما قال الحنفية أمر ضروري لإثبات سبب الضمان أي لإثبات حصول الطلب عند القاضي والإلزام بالضمان عند الإنكار. فلو اعترف صاحب الدار أنه طولب بنقض الجدار، وجب عليه الضمان، وإن لم يشهد عليه. معنى الإشهاد: الإشهاد هو أن يقول الرجل: «اشهدوا أني قد تقدمت إلى هذا الرجل في هدم حائطه هذا» أي أن المعتبر هو المطالبة بالهدم (¬1). وتعتبر شهادة رجلين أو رجل وامرأتين على التقدم، أي المطالبة. ¬
عناصر الإشهاد
عناصر الإشهاد: 1 - الذي يطالب بالإشهاد: إن كان ميلان الحائط إلى دار إنسان، فالإشهاد إلى صاحب الدار إن كان فيها، أو إلى الساكن إن كانت مسكونة. وإن كان الميلان إلى الطريق العام، فالإشهاد إلى كل من له حق المرور، مسلماً كان أو ذمياً. أما إن مال بعض البناء للطريق وبعضه لدار إنسان، فأي طلب من إنسان يصح، لأنه إذا صح الإشهاد في البعض، صح في الكل. 2 - المشهود عليه: يصح الإشهاد على من يملك نقض الجدار، وهو المالك، أو صاحب الولاية على الغير كالأب والوصي وقيِّم الوقف؛ لأن المطالبة بالنقض ممن لا يملكه عبث ولا فائدة منه. فلا يطالب بالنقض المستأجر والمرتهن، والمستعير والوديع، لعدم ولايتهم على النقض والتصرف، فكان الإشهاد عليهم وعدمه سواء. فترة الطلب والإشهاد: لا يصح الطلب والإشهاد إلا بعد ميل البناء وقبل السقوط؛ لأن ما قبل الميل لا يوجد تعدٍ، وما بعد السقوط لا فائدة من الطلب. كما لا تتحقق المسؤولية عن الضمان إلا بعد مضي مدة يقدر فيها صاحب الحائط على نقضه؛ لأن الضمان يجب بترك النقض الواجب، ولا وجوب من دون الإمكان أو الاستطاعة. فلو ذهب يطلب من ينقضه أو يهدمه، فسقط الحائط، فتلف به شيء، فلا ضمان عليه؛ لأنه لم يكن متعدياً بالتفريط أو الإهمال. طلب التأجيل أو الإبراء بعد الإشهاد: إن كان ميل الحائط إلى دار إنسان من مالك أو ساكن، فطلب منه الهدم وأشهد على طلبه، ثم طلب صاحب الحائط تأجيله أو إبراءه من الجناية، فأجل أو أبرأ، صح؛ لأن الحق الخاص يملك صاحبه التنازل عنه. وأما إن كان الميل إلى الطريق، فأبرأ أو أجل الذي طلب النقض أو أشهد على صاحب الحائط، وهو من له حق المرور، أو القاضي، فلا يصح ولا يبرأ؛ لأن هذا حق عام، والحق العام لا يملك أحد التنازل عنه،
التصرف في البناء بعد الإشهاد
وتصرف القاضي في الحق العام نافذ فيما ينفعهم لا فيما يضرهم (¬1). التصرف في البناء بعد الإشهاد: إذا تصرف صاحب الحائط أو الدار في البناء ببيع أو غيره كهبة، بعد الإشهاد، فسقط الحائط بعد قبض المشتري المبيع، أو بعد ما ملكه بالإيجاب والقبول قبل القبض، في زمان لا يتمكن من نقضه، فلا ضمان على صاحب الحائط الأصلي، فيما هلك بسقوطه، لزوال ولايته بالبيع ونحوه، فلا يملك النقض، فسقط حكم الإشهاد، حتى إنه لو رد المبيع على البائع بقضاء أو غيره أو بخيار شرط أو رؤية للمشتري، لم يضمن البيع، إلا إذا طولب بعد الرد. وأما إن كان الخيار للبائع ونقض البيع، ثم سقط الحائط وأتلف شيئاً، كان ضامناً؛ لأن خيار البائع لا يلغي ولاية الإصلاح، فلا يلغي الإشهاد. فإن سقط الحائط بعد تفريط صاحبه قبل البيع، التزم بالضمان. ويعتبر الجنون والردة مثل التصرف بالبناء، فلو جن صاحب الحائط جنوناً مطبقاً أو ارتد ولحق بدار الحرب، ثم أفاق من جنونه، أو عاد مسلماً وردت عليه الدار، لا يضمن إلا بإشهاد جديد في المستقبل (¬2). ¬
الفصل الخامس: طرق إثبات الجناية
الفَصْلُ الخامس: طرق إثبات الجناية فيه مبحثان: المبحث الأول ـ لمحة إجمالية عن طرق الإثبات العامة. المبحث الثاني ـ إثبات القتل بطريق خاص ـ القسامة. المبحث الأول ـ لمحة إجمالية عن طرق الإثبات العامة: لا حظنا في أثناء الكلام عن الحدود أن الفقهاء يبحثون باختصار طرق إثبات الجريمة الموجبة للحد من شهادة أو إقرار ونحوهما، لما للحد من خطورة خاصة تتطلب توقف الحكم به على ثبوت الجريمة ثبوتاً قاطعاً أو مؤكداً. وذلك بالإضافة إلى وجود مباحث مستقلة لطرق الإثبات في كل كتاب فقهي. وكذلك الشأن في الجنايات، لا بد من الإشارة لما تثبت به، تسهيلاً على القاضي في إصدار أحكامه عليها، ولفت نظره لضرورة التأكد من وقوع الجناية الموجبة لعقوبة بدنية كالقصاص أو التعزير أو لعقوبة مالية كالدية أو الأرش. لذا فإني أعطي هنا فكرة أو لمحة إجمالية عن طرق الإثبات العامة من إقرار وشهاد وقرينة ونكول عن اليمين، لبيان مدى صلاحية إحداها لإثبات الجناية، سواء عند جمهور الفقهاء أو عند بعض الفقهاء، وأحيل بالتفصيل على البحوث المستقلة الخاصة بكل منها في هذا الكتاب أو غيره.
أولا ـ الإقرار
ويلاحظ أن العلماء اتفقوا على جواز إثبات جرائم القصاص في القتل والجرح العمد بالإقرار أو شهادة رجلين. أولاً ـ الإقرار: الإقرار: هو إخبار عن ثبوت حق للغير على نفسه (¬1)، وهو حجة قاصرة على المقر لا يتعدى أثره إلى غيره، لقصور ولاية الإقرار على غيره، فيقتصر أثر الإقرار على المقر نفسه. ويؤخذ بمقتضى الإقرار؛ لأن الإنسان غير متهم على نفسه. ولا خلاف في جواز الاعتماد على الإٍقرارفي العبادات والمعاملات والأحوال الشخصية والجرائم أو الجنايات والحدود، فقد أجمعت الأمة على صحة الإقرار مطلقاً، وكونه حجة في مختلف العصور، إذا كان صحيحاً. واتفق العلماء على صحة الإقرار بحق من الحر البالغ العاقل المختار غير المتهم في إقراره (¬2). ويشترط في الإقرار بالجناية أو الجريمة الموجبة لحد أو قصاص أو تعزير أن يكون واضحاً مفصلاً، قاطعاً في الاعتراف بارتكاب الجرم، عمداً أو خطأ أو شبه عمد. فلا يصح الإقرار المجمل الغامض أو المشتمل على شبهة، حتى يتحدد نوع العقاب، إذ لا عقاب مثلاً على القتل دفاعاً عن النفس أو المال، أو استعمالاً لحق، أو تنفيذاً لقصاص. ¬
ولا يصح إقرار المتهم في إقراره لملاطفة صديق ونحوه؛ لأن التهمة تخل برجحان جانب الصدق على الكذب في إقراره. ولا يصح إقرار عديم العقل كالمجنون، وغير المميز. ويصح عند الحنفية خلافاً لبقية الأئمة إقرار الصبي المميز بالديون والأعيان؛ لأنه من ضرورات التجارة. ولا يصح إقرار المستكره أو المتهم الذي يضرب ليقر في الأموال والجنايات الموجبة لحد أو قصاص، ويلغى، ولا يترتب عليه أي أثر، إلا أن المالكية يقولون: لا يلزم إقرار المستكره، بمعنى أنه يخير بعد زوال الإكراه بين إجازة الإقرار أو إلغائه أو إبطاله (¬1). ولا يصح إقرار زائل العقل بنوم أو إغماء أو دواء. أما السكران المتعدي بسكره (وهو من تعاطى مسكراً متعمداً) (¬2): فيصح إقراره في كل تصرفاته وجناياته عند الشافعية. ويصح إقراره عند الحنفية في الأموال والأحوال الشخصية وفي القتل والجناية على ما دون النفس وعلى الجنين؛ لأنها حقوق شخصية للعباد، ولا يصح إقراره في الحدود الخالصة لله تعالى كحد الزنا والسرقة، لوجود الشبهة، وهي تدرأ بالشبهات، لكن يضمن السكران الشيء المسروق وإن كان لا يحد. ولا يصح إقرار السكران بحق أو جناية أو غيرهما عند المالكية والحنابلة؛ لأنه غير عاقل. ¬
ثانيا ـ الشهادة
واتفق الفقهاء (¬1) عى أنه يجوز للمقر الرجوع عن إقراره في حقوق الله تعالى كالردة والزنا وشرب خمر وسرقة وقطع طريق من أجل إسقاط الحد، لا إسقاط المال؛ لأنها تدرأ بالشبهات. أما حقوق الآدميين كالإقرار بالقتل أو الجُرْح أو قطع طرف، أو إسقاط جنين، فلا يجوز للمقر الرجوع عن إقراره بها، لتعلقها بحقوق الناس الشخصية، ولو أن القصاص مما يدرأ بالشبهات؛ لأن الأصل ألا يجوز إلغاء كلام المكلف بلا مقتضٍٍ. ولا يشترط تعدد الإقرار، ويكفي مرة واحدة إلا في الإقرار بالزنا عند الحنفية والحنابلة، فإنه يطلب كونه أربع مرات، طلباً للتثبت في إقامة الحد، وعملاً بواقعة إقرار ماعز بن مالك أمام الرسول صلّى الله عليه وسلم أربع مرات. ثانياً ـ الشهادة: إن أغلب وقائع الخصومات في الحقوق المالية والجرائم يثبت بالشهادة. وهي: إخبار صادق لإثبات حق بلفظ الشهادة في مجلس القضاء (¬2). ولا خلاف بين الفقهاء في جواز الاعتماد على الشهادة في الإثبات، لورود النصوص القرآنية والنبوية الدالة على مشروعيتها والقضاء بها (¬3). وعدد الشهود اثنان إلا في الزنا، فلا بد فيه من أربعة شهود لقوله تعالى: {لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء} [النور:13/ 24]. ¬
- جرائم القصاص في النفس أو ما دونها
وتقبل عند الحنفية (¬1) شهادة النساء مع الرجال في الأموال والأحوال الشخصية (الزواج والطلاق وتوابعهما). وعند المالكية والشافعية والحنابلة (¬2): لا تقبل شهادة النساء مع الرجال إلا في الأموال وتوابعها وعقودها. ولا تقبل شهادة النساء مع الرجال في المذاهب الأربعة في الحدود والجنايات والقصاص، وإنما لا بد فيها من شهادة رجلين عدلين، لخطورتها وضرورة التأكد من ثبوتها، وتضييقاً في طرق إثباتها، واحتيالاً لدرئها، ولأن في شهادة المرأة بدلاً عن الرجل شبهة البدلية، لقيامها مقام شهادة الرجال، فلا تقبل فيما يندرئ بالشبهات. ويقول الزهري: «مضت السنة من رسول الله صلّى الله عليه وسلم والخليفتين من بعده ألا تجوز شهادة النساء في الحدود» (¬3) وقال علي كرم الله وجهه: «لا تجوز شهادة النساء في الحدود والدماء» (¬4). وبما أن هناك خلافات فقهية في أنواع الشهادات في الجرائم فإني أضيف لما سبق التوضيح التالي: 1ً - جرائم القصاص في النفس أو ما دونها: لا تثبت عند أئمة المذاهب الأربعة إلا بشهادة رجلين عدلين. ولا تقبل فيها ¬
- جرائم التعزير البدني كالضرب والحبس ونحوهما
شهادة رجل وامرأتين، ولا شهادة شاهد ويمين المدعي ـ المجني عليه (¬1)، ولا تثبت بالشهادة على الشهادة (¬2)، ولا بكتاب القاضي إلى قاض آخر (¬3)؛ لأن القصاص عقوبة خطيرة، فيحتاط لدرئه باشتراط شاهدين عدلين. إلا أن المالكية (¬4) أجازوا استحساناً في جراح النفس عمداً أو خطأ إثباتها بشهادة شاهد واحد ويمين المجني عليه. كما أنهم أجازوا إثبات جراح العمد بشاهد عدل وامرأتين، أو أحدهما مع اليمين. وهذه إحدى المستحسنات الأربع، إذ هي ليست بمال، ولا آيلة له. 2ً - جرائم التعزير البدني كالضرب والحبس ونحوهما: يرى الحنفية (¬5) أن التعزير يغلب فيه حق الآدمي، فتثبت جريمة التعزير عندهم بما تثبت به سائر حقوق العباد من الإقرار والبينة والنكول عن اليمين (¬6)، وعلم القاضي، وشهادة النساء مع الرجال، والشهادة على الشهادة، وكتاب القاضي إلى القاضي. والمالكية كما قالوا في جرائم القصاص أجازوا إثبات جرائم التعزير البدني بشاهد ويمين المدعي. وأجاز بعض المالكية التعزير في بعض الجرائم بشاهد واحد ¬
- جرائم التعزير المالي كالدية أو الغرامة
دون يمين (¬1)، وقبل الإمام مالك شهادة الصبيان على بعضهم في الجراح (¬2) عملاً بالمصلحة المرسلة أو إجماع أهل المدينة. واقتصر الشافعية والحنابلة (¬3) على إثبات جريمة التعزير بما تثبت به جريمة القصاص، وهو شهادة رجلين عدلين؛ لأن العقوبة البدنية خطيرة، فيحتاط فيها بقدر الإمكان، فلا تثبت به بما تثبت به الأموال من شهادة رجل وامرأتين أو شهادة رجل ويمين المدعي. 3ً - جرائم التعزير المالي كالدية أو الغرامة: تثبت هذه الجريمة في المذاهب الأربعة (¬4) بما تثبت به الحقوق المالية كشهادة رجلين أو رجل وامرأتين؛ لأنه يقصد بها المال. وأجاز غيرا لحنفية إثباته أيضاً بشاهد ويمين المجني عليه. وأضاف المالكية إمكان إثباتها بامرأتين ويمين المدعي، ولم يجز الحنفية مطلقاً مبدأ قبول شاهد ويمين، ولا يمين وامرأتين، عملاً بما اقتصر عليه النص القرآني في قوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكونا رجلين، فرجل وامرأتان} [البقرة:282/ 2] فمن زاد على ذلك فقد زاد على النص، والزيادة على النص نسخ، والنسخ لا يكون إلا بنص مشابه. ثالثاً ـ القرائن: القرينة: هي كل أمارة ظاهرة تقارن شيئاً خفياً، فتدل عليه. ومنه يفهم أنه لا بد في القرينة من تحقق أمرين: ¬
1 - أن يوجد أمر ظاهر معروف يصلح أساساً للاعتماد عليه. 2 - أن توجد صلة تربط بين الأمر الظاهر والأمر الخفي. ولا يحكم عند جمهور الفقهاء بالقرائن في الحدود؛ لأنها تدرأ بالشبهات، ولا في القصاص إلا في القسامة للاحتياط في أمر الدماء وإزهاق النفوس، بالاعتماد على وجود القتيل في محلة المتهمين عند من لا يشترط قرينة اللوث (العداوة الظاهرة) أو بالاعتماد على مجرد اللوث عند من يشترطه. ويحكم بها في نطاق المعاملات المالية والأحوال الشخصية عند عدم وجود بينة في إثبات الحقوق الناشئة عنها، ولكنها تقبل إثبات العكس بأدلة أخرى. وأخذ بعض الفقهاء كابن فرحون المالكي وابن القيم الحنبلي (¬1) بالقرائن أحياناً مع التحفظ والحذر، ولو في نطاق الحدود، وصار ذلك مذهب المالكية والحنابلة، مثل إثبات الزنا بالحمل، وإثبات شرب الخمر بظهور رائحتها من فم المتهم، وثبوت السرقة بوجود المسروق في حيازة المتهم، ورد المسروقات أو الوديعة أو اللقطة لمن يصفها بعلامات مميزة. ونحوه كثير في إثبات الحق والملكية والأهلية والولادة. واعتبر الحنفية القرينة القطعية (¬2) بينة نهائية كافية للقضاء بها، كما لو رئي شخص مدهوشاً ملطخاً بالدم، ومعه سكين ملوثة بالدم، بجوار مضرج بدمائه في مكان، فيعتبر هو القاتل (م/1741 من المجلة). أما القرينة غير القطعية الدلالة ولكنها ظنية أغلبية، ومنها القرائن العرفية، أو المستنبطة من وقائع الدعوى ¬
رابعا ـ النكول عن اليمين
وتصرفات الخصوم، فهي دليل أولي مرجح لزعم أحد المتخاصمين مع يمينه، متى اقتنع بها القاضي، ولم يثبت خلافها (¬1). رابعاً ـ النكول عن اليمين: النكول عن اليمين: هو الامتناع عن حلف اليمين الموجهة إلى المدعى عليه بطريق القاضي. وهو لا يعدو أن يكون مجرد قرينة على صدق المدعي في اتهام المتهم. ويقضى به عند الحنفية والحنابلة (¬2)؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم جعل جنس اليمين في جانب المدعى عليه وحصرها فيه في قوله عليه الصلاة والسلام: «البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه». ويقضى بالنكول عند أبي حنيفة في القصاص في الأطراف حالة العمد، وبالدية حالةالخطأ. ولا يقضى فيه عنده بالقصاص بالنفس لا بالقصاص ولا بالدية، لكن يحبس الجاني حتى يقر أو يحلف. ولا يقضى بالنكول في القصاص بالنفس أو بالطرف عند الحنابلة والصاحبين. كما لا يقضى بالنكول باتفاق الحنفية والحنابلة في الحدود الخالصة لله تعالى كحد الزنا والسرقة والشرب، لاشتماله على الشبهة، والحدود تدرأ بالشبهات. ¬
المبحث الثاني ـ إثبات القتل بطريق خاص ـ القسامة
وأما التعازير فيقضى فيها بالنكول عند الحنفية كما بان سابقاً، أما عند الحنابلة فلا يقضى فيها بالنكول، على ما هول الظاهر في الترجيح بين الروايتين عن أحمد؛ لأنه يرى قصر الأيمان على الأموال والعروض التجارية (¬1). ولم يأخذ المالكية والشافعية (¬2) بالنكول، وإنما أخذوا باليمين المردودة في جانب المدعي، ويقضى باليمين المردودة عند المالكية في الأموال وما يؤول إليها فقط كخيار وأجل دون ما سواها من القصاص والحدود والتعازير. وأما عند الشافعية: فيقضى باليمين المردودة في جميع الحقوق والتعازير، ما عدا جنايات الدماء والحدود، فلا يقضى فيها بالقصاص ولا بالحد. المبحث الثاني ـ إثبات القتل بطريق خاص ـ القَسامة: وفيه ثمانية مطالب: معنى القسامة، ومشروعيتها، وآراء الفقهاء في شرعيتها، ومحل القسامة (الجريمة التي تجوز فيها) ومتى تكون، وشروطها، وكيفيتها، ومن تجب عليه، وحكمها أو ما يجب بها. المطلب الأول ـ معنى القسامة: القسامة لغة: مصدر بمعنى القسم أي اليمين. وشرعاً: هي الأيمان المكررة في دعوى القتل، وهي خمسون يميناً من خمسين رجلاً. يقسمها عند الحنفية (¬3): أهل ¬
هل القسامة إذن دليل نفي أو دليل إثبات؟
المحلَّة التي وجد فيها القتيل ويتخيرهم ولي الدم، لنفي تهمة القتل عن المتهم، فيقول الواحد منهم: بالله ما قتلته ولا علمت له قاتلاً. فإذا حلفوا غرموا الدية. وعند الجمهور غير الحنفية (¬1): يحلفها أولياء القتيل لإثبات تهمة القتل على الجاني، بأن يقول كل واحد منهم: بالله الذي لا إله إلا هو: لقد ضربه فلان فمات، أو لقد قتله فلان. فإن نكل بعضهم (أي ورثة القتيل) عن اليمين، حلف الباقي جميع الأيمان، وأخذ حصته من الدية. وإن نكل الكل أو لم يكن هناك لوث (قرينة على القتل أو العداوة الظاهرة) ترد اليمين على المدعى عليه ليحلف أولياؤه خمسين يميناً. فإن لم يكن له أولياء (عاقلة) حلف المتهم (الجاني) الخمسين، وبرئ. وإذا حلف أولياء القتيل وجب عند المالكية القصاص في حالة العمد، والدية في الخطأ. وتجب الدية فقط في كل الحالات عند الشافعية، على ما سأبين، وأوجب الحنابلة القصاص في دعوى القتل عمداً، والدية في القتل شبه العمد أو الخطأ. ف هل القسامة إذن دليل نفي أو دليل إثبات؟ قال الحنفية: القسامة دليل لنفي التهمة عن المدعى عليهم. وقال الجمهور: إنها دليل للمدعين لإثبات تهمة القتل على القاتل إذا لم تتوافر وسائل الإثبات الأخرى. ¬
المطلب الثاني ـ مشروعية القسامة وحكمة التشريع وسبب وجوب القسامة
المطلب الثاني ـ مشروعية القسامة وحكمة التشريع وسبب وجوب القسامة: كانت القسامة معروفة في الجاهلية، وأول من قضى بها الوليد بن المغيرة. وثبتت مشروعية القسامة بالسنة في أحاديث متعددة، منها: ما رواه رجل من الأنصار: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية» (¬1). وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر إلا في القسامة» (¬2). وروى الجماعة عن سهل بن أبي حَثْمة قال: «انطلق عبد الله بن سهل، ومُحَيِّصة بن مسعود إلى خيبر، وهو يومئذ صلح، فتفرقا، فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل، وهو يتشحّط في دمه (¬3) قتيلاً، فدفنه، ثم قدم المدينة، فانطلق عبد الرحمن بن سهل، ومُحَيِّصة وحُوَيِّصة ابنا مسعود إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فذهب عبد الرحمن يتكلم، فقال: كبِّر كبِّر (¬4)، وهو أحدث القوم، فسكت، فتكلما، قال: أتحلفون وتستحقون قاتلكم، أو صاحبكم (¬5)؟ فقالوا: وكيف نحلف، ولم ¬
نشهد ولم نر؟ قال: فتبرِّئكم يهود بخمسين يميناً (¬1)، فقالوا: كيف نأخذ أيمان قوم كفار؟ فعقله النبي صلّى الله عليه وسلم من عنده» (¬2). وفي لفظ آخر: «أتحلفون خمسين يميناً، وتستحقون دم صاحبكم» أي يقتص لكم من قاتله. والحكمة من تشريع القسامة: هي أنها شرعت لصيانة الدماء وعدم إهدارها، حتى لا يهدر (أو يطل) دم في الإسلام، وكيلا يفلت مجرم من العقاب، قال علي لعمر فيمن مات من زحام يوم الجمعة أو في الطواف: «يا أمير المؤمنين، لا يُطلُّ دم امرئ مسلم، إن علمت قاتله، وإلا فأعطه ديته من بيت المال». وأما إلزام عصبة أو عاقلة المتهم بالقتل بالقسامة والدية عند الحنفية (¬3) فبسبب وجود التقصير منهم في الحفاظ على حياة القتيل قبل قتله في الموضع الذي وجد فيه، ولعدم نصرته أو حمايته من اعتداء الجاني عليه، كما في القتل خطأ، كأنهم شُرطة، وبما أن حفظ المحلة عليهم ونفع ولاية التصرف في المحلة عائد إليهم، فهم مسؤولون، والخراج بالضمان على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام (¬4). ويلاحظ أن إيجاب الدية بعد القسامة ليس هو الهدف الأصلي من القسامة وإنما الغرض الحقيقي منها: هو إظهار جريمة القتل، وتطبيق القصاص عندما يحس الحالفون بخطورة اليمين، ويتحرجون من حلف اليمين الكاذبة، فيقرون بالقتل، فإذا حلفوا برئوا من القصاص، وثبتت الدية لئلا يهدر دم القتيل، وعلى هذا فإن القسامة لم تشرع لإيجاب الدية إذا نكلوا عن الأيمان. ¬
المطلب الثالث ـ آراء الفقهاء في شرعية القسامة
وإنما شرعت لدفع التهمة بالقتل، وأما الدية فلوجود القتيل بين أظهرهم. وإلى هذا المعنى أشار عمر حينما قيل: «أنبذل أموالنا وأيماننا؟ فقال: أما أيمانكم فلحقن دمائكم، وأما أموالكم فلوجود القتيل بين أظهركم». ومن نكل من عصبة القاتل عن اليمين حبس حتى يحلف؛ لأن اليمين فيه مستحقة لذاتها، تعظيماً لأمر الدم، فيجمع بينه وبين الدية، وذلك بعكس النكول عن اليمين في الأموال؛ لأن الحلف فيها بدل عن أصل حق صاحب المال (المدعي)، ولهذا يسقط اليمين ببذل المدعى به. وأما أيمان القسامة فلا تسقط ببذل الدية؛ لأنها واجب أصلي لإظهار القصاص، وليست بدلاً عن حق. المطلب الثالث ـ آراء الفقهاء في شرعية القسامة: أقر فقهاء المذاهب الأربعة والشيعة والظاهرية مشروعية القسامة لثبوتها بالسنة النبوية، كما تقدم. وروى القاضي عياض عن جماعة السلف (منهم أبو قلابة وسالم بن عبد الله والحكم بن عتيبة وقتادة وسليمان بن يسار وإبراهيم بن عُلَيَّة ومسلم بن خالد، وعمر بن عبد العزيز في رواية عنه) أن القسامةغير ثابتة، لمخالفتها لأصول الشريعة من وجوه (¬1): منها ـ أن اليمين لا تجوز إلا على ما علم قطعاً أوشوهد حساً. ومنها ـ أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر. ومنها ـ أن حديث سهل السابق الوارد بها ليس فيه حكم بها، وإنما كانت القسامة من أحكام الجاهلية، فتلطف بهم النبي صلّى الله عليه وسلم ليريهم كيفية بطلانها. ¬
المطلب الرابع ـ محل القسامة ومتى تكون؟
والجواب: أن القسامة ثبتت بحديث خاص، فلا يترك العمل بها من أجل الدليل العام، فتكون مخصصة له، لما فيها من حفظ الدماء، وزجر المعتدين، وتعذر قيام الشهادة على القتل حيث يرتكبه القاتل غالباً في الخفاء، وأما دعوى أن النبي قال ذلك للتلطف بهم في بيان بطلانها، فمردود، لثبوتها في أحاديث ووقائع أخرى، منها حديث أبي سلمة المتقدم الذي أقر به النبي صلّى الله عليه وسلم القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية. المطلب الرابع ـ محل القسامة ومتى تكون؟ لا تكون القسامة إلا في جريمة القتل فقط أياً كان نوع القتل عمداً أو خطأ أو شبه عمد، دون بقية الاعتداءات على النفس من قطع أو جرح أو تعطيل منفعة عضو؛ لأن النص ورد في القتل، فيقتصر في القسامة على محل ورودها، وعلى هذا تثبت الجراح بالاعتراف والشهادة، ولا قسامة في الجراح. كما لا تكون عند الحنفية (¬1) إلا إذا كان القاتل مجهولاً، فإن كان معلوماً فلا قسامة، ويجب حينئذ القصاص أو الدية. ولا تكون القسامة عند الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) (¬2) إلا إذا كان هناك لوث (أو لطخ، أو شبهة) ولم توجد بينة للمدعي في تعيين القاتل، ولا إقرار. ¬
اللوث
واللوث كما عرفه المالكية: هو الأمر الذي ينشأ عنه غلبة الظن بوقوع المدعى به، أو الأمر الذي ينشأ عنه غلبة الظن بأنه قتل. وذكروا له أمثلة خمسة يظهر منها تعيين القاتل بدليل غير كاف لإثبات القتل، وهي: 1 - أن يقول المجروح المُدمى البالغ الحر المسلم: دمي عند فلان، مع وجود الجرح وأثر الضرب، أو يقول: قتلني فلان، سواء أكان الْمُدمى عدلاً أم فاسقاً (مسخوطاً). والتدمية في العمد لوث باتفاق المالكية. وفيها قولان في الخطأ، أرجحهما أنها لوث. 2 - شهادة عدلين على معاينة الضرب أو الجرح، أو على إقرار المُدمى في المثال الأول. 3 - شهادة واحد على معاينة الجرح أوالضرب. 4 - شهادة واحد على معاينة القتل. 5 - أن يوجد القتيل، وبقربه شخص عليه أثر القتل. وعرفه الشافعية: بأنه قرينة حالية أو مقالية لصدق المدعي، أو هو أن يوجد معنى يغلب معه على الظن صدق المدعي، كأن وجد قتيل أو بعضه كرأسه في مَحَلَّة، أو قرية صغيرة، بينها وبين قبيلة المقتول عداوة دينية أو دنيوية، ولا يعرف قاتله، ولا بينة بقتله. أو وجد قتيل تفرق عنه جمع كأن ازدحموا على بئر أو على باب الكعبة، ثم تفرقوا عن قتيل، لقوة الظن أنهم قتلوه، ولا يشترط هنا كونهم أعداء، لكن يشترط أن يكونوا محصورين بحيث يتصور اجتماعهم على القتيل. وإلا لم تسمع الدعوى ولا قسامة. والتحام قتال بين صفين أو وصول سلاح في أحدهما للآخر: لوث في حق الصف الآخر، وشهادة العدل الواحد أو النساء، وقول فسقة وصبيان وكفار: لوث في الأصح.
المطلب الخامس ـ شروط القسامة
وعرف الحنابلة اللوث: بأنه العداوة الظاهرة بين المقتول والمدعى عليه، لنحو ما كان بين الأنصار ويهود خيبر، وما يكون بين القبائل والأحياء وأهل القرى الذين بينهم الدماء، وما بين البغاة وأهل العدل، وما بين الشرطة واللصوص، وكل من بينه وبين المقتول ضغن يغلب على الظن أنه قتله، فإن لم تكن عداوة ظاهرة بين المتهم والمقتول ولكن غلب على الظن صدق المدعي كتفرق جماعة عن قتيل أو في زحام أو شهد نساء وصبيان وفساق أو عدل فليس لوثاً. وإن ادعى شخص القتل من غير وجود عداوة، فلا بد من تعيين المدعى عليه. وإذا رفعت الدعوى على عدد غير معين لم تسمع الدعوى، كما قال الشافعية. وبهذا يظهر أن المالكية يرون أن وجود القتيل في المحلة ليس لوثاً، وإن كانت هنالك عداوة بين القوم الذين منهم القتيل، وبين أهل المحلة. ويعتبرون ادعاء المجني عليه على المتهم قبل وفاته لوثاً، وهذا هو التدمية في العمد: وهو قول المقتول: فلان قتلني أو دمي عند فلان. ولا يعتبره الشافعية وسائر العلماء لوثاً. والإشاعة المتواترة على ألسنة الخاص والعام أن فلاناً قتله: لوث عند الشافعية، وليست لوثاً عند المالكية. والخلاصة أن اللوث: هو أمارة غير قاطعة على القتل، ولكن حالات اللوث مختلف فيها بين الجمهور. المطلب الخامس ـ شروط القسامة: اشترط الحنفية (¬1) في القسامة سبعة شروط هي ما يأتي: ¬
1ً - أن يكون بالقتيل أثر القتل من جراحة أو أثر ضرب أو خنق، فإن لم يكن شيء من ذلك فلا قسامة فيه ولا دية، لأنه إذا لم يكن به أثر القتل، فالظاهر أنه مات حتف أنفه، فلا يجب به شيء. فإذا وجد والدم يخرج من فمه أو من أنفه أو دبره، أو ذكره، لا شيء فيه؛ لأن الدم يخرج من هذه المواضع عادة بدون الضرب، وإنما بسبب القيء أو الرعاف ونحوهما، فلا يعرف كونه قتيلاً. وإن كان الدم يخرج من عينه أو أذنه، ففيه القسامة والدية؛ لأن الدم لا يخرج من هذه المواضع عادة، فكان خروجه بسبب القتل. وعلى هذا لا يشترط الحنفية: اللوث، وإنما يكفي أن توجد الجثة في محلها وبها أثر القتل. وقال جمهور الفقهاء غير الحنفية (¬1): يشترط للقسامة وجود لوث، ولكن ليس من شرط اللوث قرينة القتل أن يكون بالقتيل أثر، بل لا بد من تحقق الموت قتلاً بسبب، لا قضاءً وقدراً محضاً؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يسأل الأنصار في قتيل خيبر، هل كان بقتيلهم أثر أو لا، ولأن القتل يحصل بما لا أثر له كالخنق وعصر الخصيتين. ومن به أثر قد يموت حتف أنفه لسقطته أوصرعته أو يقتل نفسه. 2ً - أن يكون القاتل مجهولاً، فإن علم فلا قسامة فيه، ولكن يجب القصاص بشروطه في القتل العمد، وتجب الدية في شبه العمد والخطأ ونحوهما. 3ً - أن يكون القتيل من بني آدم، فلا قسامة في بهيمة وجدت في محلة قوم، ولا غرم فيها. 4ً - رفع الدعوى إلى القضاء من أولياء القتيل؛ لأن القسامة يمين، واليمين لاتجب من دون الدعوى، كما في كل الدعاوى. ¬
واشترط المالكية والشافعية والحنابلة (¬1) اتفاق الأولياء على الدعوى، فإن اختلفوا لم تثبت القسامة. وعبر الشافعية عن ذلك بقولهم: ألا تتناقض دعوى المدعي، فلو ادعى على شخص انفراده بالقتل، ثم ادعى على آخر أنه شريكه أو أنه القاتل منفرداً، لم تسمع الدعوى الثانية، لمناقضتها الدعوى الأولى (¬2). 5ً - إنكار المدعى عليه؛ لأن اليمين وظيفة المنكر، فإن اعترف فلا قسامة. 6ً - المطالبة بالقسامة؛ لأنها أيمان، واليمين حق المدعي، وحق الإنسان يوفى عند طلبه، كما في سائر الأيمان. ولهذا يختار أولياء القتيل من يتهمونه. ولو طولب من عليه القسامة، فنكل عن اليمين حبس حتى يحلف أو يقر؛ لأن اليمين حق مقصود بنفسه، لا أنه وسيلة إلى المقصود، وهو الدية، بدليل أنه يجمع بينه وبين الدية. قال الحارث بن الأزمع لسيدنا عمر رضي الله عنه: «أنبذل أيماننا وأموالنا؟ فقال: نعم». وذلك بخلاف اليمين في سائر الحقوق فإنها ليست مقصودة بنفسها، بل هي وسيلة إلى المقصود، وهو المال المدعى، فلا يجمع بينهما، فلو حلف المنكر أو المدعى عليه برئ. ¬
7ً - أن يكون الموضع الذي وجد فيه القتيل مملوكاً لأحد الناس، أو في حيازة أحد، وإلا فلا قسامة ولا دية؛ لأن كل واحدة منهما تجب بترك الحفظ اللازم، فإذا لم يكن المحل ملك أحد أو في يد أحد، لا يلزم أحد بحفظه، فلا تجب القسامة والدية. وإنما تجب الدية في بيت المال؛ لأن حفظ المكان العام على العامة أو الجماعة، ومال بيت المال مالهم. وتطبيقات ذلك في الأمثلة التالية (¬1): ـ إذا وجد قتيل في فلاة (صحراء أو برية) من الأرض، ليست ملكاً لأحد، فإن كان موضعه في مكان يسمع فيه الصوت من قرية أوبلد، فعليهم القسامة. وإن كان في مكان لا يسمع فيه الصوت، فلا قسامة فيه ولا دية على أحد. وإنما تؤخذ ديته من بيت المال. ـ إن وجد القتيل في وسط نهر عظيم كدجلة والفرات والنيل، وكان يجري على سطح الماء، فلا قسامة ولا دية على أحد؛ لأن النهر العظيم ليس ملكاً لأحد، ولا في يد أحد. وإنما تجب الدية في بيت المال. وأما إذا لم يكن يجري على سطح الماء، وكان محتبساً بالشاطئ (جانب النهر) أو في جزيرة، فالقسامة على أقرب القرى من ذلك المكان إذا كانوا يسمعون الصوت؛ لأنهم مسؤولون عن نصرة هذا الموضع، وهو تحت تصرفهم، فكان في أيديهم. وأما إن وجد في نهر صغير، فالقسامة والدية على أهل النهر؛ لأن النهر مملوك لهم. ¬
المطلب السادس ـ كيفية القسامة (صيغتها وحالفها)
ـ ولا قسامة في قتيل يوجد في المساجد الجامعة العامة، أو الشوارع أوالجسور أو الأسواق العامة، أو في السجن؛ لأن هذه الأماكن ليست مملوكة لأحد، ولا في يد أحد. والدية في بيت المال. فإن كان في مسجد مَحلَّة، فالقسامة على أهلها. ـ وإن وجد القتيل في سفينة، فالقسامة على من فيها من الركاب والملاحين؛ لأنها في أيديهم. والسيارة أو العربة مثل السفينة. وإذا وجد القتيل على دابة، ومعها رجل قائد أو سائق أو راكب، فالقسامة عليه، والدية على عاقلته، دون أهل المحلة؛ لأنها في يده. ومثله، لو وجد القتيل في دار إنسان: القسامة عليه، والدية على عاقلته. فإن وجد على دابة تسير، وليس في يد أحد، فلا قسامة ولا دية، وإنما الدية على بيت المال. ـ وإن وجد القتيل بين قريتين، بحيث يبلغ الصوت أهل كل منهما، ليتمكنوا من النصرة، فالقسامة والدية على أقربهما إليه. والخلاصة: أن كل مكان يكون التصرف فيه لعامة المسلمين لا لواحد منهم ولا لجماعة يحصون، لا قسامة ولا دية على أحد، وإنما الدية على بيت المال؛ لأن الغرم بالغنم. المطلب السادس ـ كيفية القسامة (صيغتها وحالفها): اختلف الفقهاء فيمن يبدأ بحلف الأيمان الخمسين، هل المدعون أو المدعى عليهم؟
1ً - قال الحنفية (¬1): يبدأ بتحليف المدعى عليهم، كما هو الأصل في أن اليمين على المدعى عليه، ويتخيرهم ولي الدم؛ لأن اليمين حقه، فيختار من يتهمه بالقتل، فيحلف كل واحد منهم: «بالله ما قتلته، ولاعلمت له قاتلاً». واستدلوا بما أخرجه البخاري عن سعيد بن عبيد الطائي، عن بشير بن يسار: «أن رجلاً من الأنصار يقال له سهل بن أبي حَثْمة» روى حديثاً وفيه «فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: تأتون بالبينة على من قتله؟ قالوا: ما لنا بينة، قال: فيحلفون لكم، قالوا: ما نرضى بأيمان يهود، وكره رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يبطل دمه، فوداه بمائة بعير من إبل الصدقة» (¬2). واحتجوا أيضاً بما أخرجه البخاري وأبو داود عن أبي سلمة وسليمان بن يسار عن رجال من الأنصار: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال ليهود، وبدأ بهم: يحلف منكم خمسون رجلاً (أي خمسين يميناً) فأبوا، فقال للأنصار: احلفوا، فقالوا: نحلف على الغيب يا رسول الله؟! فجعلها رسول الله صلّى الله عليه وسلم دية على يهود؛ لأنه وجد بين أظهرهم» (¬3). واستدل الكاساني (¬4) بما روي عن زياد بن أبي مريم أنه قال: «جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إني وجدت أخي قتيلاً في بني فلان، فقال عليه الصلاة والسلام: اجمع منهم خمسين، فيحلفون بالله: ما قتلوه، ولا علموا له قاتلاً، فقال: يا رسول الله، ليس لي من أخي إلا هذا؟ فقال: بل لك مئة من ¬
الإبل» (¬1) فدل الحديث على وجوب القسامة على المدعى عليهم، وهم أهل المحلة، وعلى وجوب الدية عليهم مع القسامة. فإن حلفوا قضي عليهم (أي على أهل المحلة) بالدية في القتل العمد، وعلى عاقلتهم (عاقلة أهل المحلة) في القتل الخطأ. وإن امتنع المدعى عليهم أو بعضهم عن الحلف، حبسوا حتى يحلفوا؛ لأن اليمين فيه مستحقة لذاتها، تعظيماً لأمر الدم (¬2). 2ً - وقال المالكية والشافعية والحنابلة وداود الظاهري (¬3): يبدأ المدعون أولياء القتيل بالأيمان الخمسين، عملاً بحديث سهل بن أبي حثمة المتقدم، وفيه: «أتحلفون خمسين يميناً، وتستحقون دم صاحبكم؟» فيحلف كل ولي (بالغ عاقل) منهم أمام الحاكم والمدعى عليه، وفي المسجد الأعظم بعد الصلاة عند اجتماع الناس: «بالله الذي لا إله إلا هو: لقد ضربه فلان فمات، أو لقد قتله فلان». ويشترط أن تكون اليمين قاطعة (على البت) في ارتكاب المتهم الجريمة. ويشترط عند المالكية (¬4) أن تكون الأيمان متوالية، فلا تفرق على أيام أوأوقات؛ لأن للموالاة أثراً في الزجر والردع. ولا يشترط عند الشافعية على المذهب والحنابلة (¬5) موالاتها؛ لأن الأيمان من جنس الحجج، والحجج يجوز تفريقها، كما لو شهد الشهود متفرقين. ¬
المطلب السابع ـ من تجب عليه القسامة (أو من يدخل القسامة)
فإذا لم يحلف المدعون، حلف المدعى عليه خمسين، وبرئ، فيقول: «والله ما قتلته، ولا شاركت في قتله، ولا تسببت في موته» لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم» أي يتبرؤون منكم. فإن لم يحلف المدعون، ولم يرضوا بيمين المدعى عليه، برئ المتهم، وكانت دية القتيل في بيت المال عند الحنابلة (¬1)، خلافاً للمالكية والشافعية. وإن نكل (امتنع) المدعى عليه عن اليمين، ردت الأيمان عند الشافعية (¬2) على المدعين، فإن حلفوا عوقب المدعى عليه، وإن لم يحلفوا لا شيء لهم. وعند المالكية (¬3): من نكل من المدعى عليهم، حبس حتى يحلف أو يموت في السجن، وقيل: يجلد مئة ويحبس عاماً. ولا يحبس عليها عندالحنابلة (¬4) كسائر الأيمان. المطلب السابع ـ من تجب عليه القسامة (أو من يدخل القسامة): تجب القسامة على الورثة كلهم عند بعض الفقهاء وعلى بعض الورثة عند آخرين. 1ً - قال الحنفية (¬5): الحالف هو المدعى عليه، وتجب أيمان القسامة على بعض الورثة وهم الرجال البالغون، فلا قسامة على صبي أو مجنون أو امرأة؛ لأن ¬
سبب وجوبها هو التقصير في النصرة، وعدم حفظ موضع القتل، وهؤلاء ليسوا أهلاً لذلك. والصبي أو المجنون لا يدخل في القسامة في أي موضع وجد القتيل، سواء وجد في غير ملكه، أو في ملكه. أما اشتراكه في الدية مع العاقلة فيدخل معها إن وجد القتيل في ملكه؛ لأن وجوده في ملكه كمباشرته القتل، والصبي والمجنون مؤاخذان بضمان الأفعال المالي. والمرأة لا تدخل في القسامة والدية في قتيل يوجد في غير ملكها. أما إن وجد في دارها أو في قرية لها، ليس بها غيرها، فعليها القسامة؛ لأنها أهل لليمين، فتستحلف وتكرر عليها الأيمان في قول الطرفين (أبي حنيفة ومحمد). وقال أبو يوسف: لا قسامة عليها، وإنما على عاقلتها؛ لأنها ليست من أهل النصرة. وتدخل المرأة مع العاقلة في الدية في هذه المسألة، استثناء من نظام العاقلة. ولا يحلف ولي القتيل مع أهل المحلة، ولا يقضى له بالجناية بيمينه؛ لأن اليمين شرعت للدفع، لا للاستحقاق. والقسامة والدية تجبان على الأقرب من عاقلة من وجد القتيل فيهم، فرب الدار وقومه أخص، ثم أهل المحلة، ثم أهل المصر. وقوم الشخص أو قبيلته يرتبون أيضاً: الأقرب فالأقرب. ولا يدخل عند أبي حنيفة ومحمد السكان (كالمستأجرين والمستعيرين) مع الملاك في القسامة؛ لأن المالك هو المختص بنصرة البقعة دون السكان. وقال أبو يوسف: هي عليهم جميعاً؛ لأن ولاية التدبير تكون بالسكنى وبالملك.
والقسامة عند الطرفين على أهل الخطة (¬1) دون المشترين، ولو بقي من أهل الخطة واحد. وقال أبو يوسف: الكل مشتركون؛ لأن ضمان الشيء إنما يجب بترك الحفظ، ممن له ولاية الحفظ، والولاية تتحقق بالملك، والكل هنا ملاك. ويظهر أن هذا الرأي في الظروف الحاضرة هو الأولى بالاتباع (¬2). وإذا حلف أهل المحلة وجبت الدية في مالهم إن كانت الدعوى في قتل عمد، وعلى عواقلهم إن كانت في قتل خطأ. وإذا كان مكان وجود القتيل مملوكاً تجب القسامة على الملاك، والدية على عاقلتهم، وإذا لم يكمل أهل المحلة خمسين رجلاً، كررت الأيمان عليهم حتى يتم خمسون يميناً؛ لأنها الواجبة بالسنة، فيجب إتمامها ما أمكن. ولا يبحث عن فائدة تكرار الأيمان على هذا النحو، لثبوتها هكذا بالسنة. 2ً - والمالكية (¬3) فرقوا بين نوعي القتيل: العمد والخطأ، فقالوا: في الخطأ: يحلف أيمان القسامة ورثة القتيل، وإن كان الوارث واحداً أوامرأة أو أخاً أو أختاً لأم، وإذا تعدد الورثة توزع الأيمان على قدر الميراث، ويجبر الكسر واحداً على صاحب الكسر الأكثر، وينتظر حضور الغائب حتى يحلف، والصبي حتي يبلغ، فيحلف حصته من أيمان القسامة فقط، وأخذ نصيبه من الدية. وإن نكل ورثة المقتول خطأ حلفت عاقلة القاتل، كل واحد منهم يميناً واحدة. فإن لم ¬
المطلب الثامن ـ مايجب بالقسامة (أو الأثر المترتب عليها)
يكن عاقلة حلف الجاني الخمسين وبرئ، فإن نكل غرم حصته، وإن نكل بعض الورثة حلف البعض الآخر جميع الأيمان، وأخذ حصته فقط من الدية. ومن نكل من العاقلة يغرم حصته فقط من الدية للناكلين من ورثة القتيل. وأما في القتل العمد: فيحلف العصبة من النسب، سواء ورثوا أم لا. ولا يحلف أقل من رجلين منهم. ولا يحلف النساء في العمد لعدم قبول شهادتهن فيه. فإن لم يوجد غيرالنساء، صار المقتول كمن لا وارث له، فترد الأيمان على المدعى عليه، فيحلف خمسين يميناً أنه: ما قتل. 3ً - وقال الشافعية (¬1): يشترك جميع الورثة رجالاً ونساءً في أيمان القسامة، وتوزع الأيمان الخمسون عليهم بحسب أنصبائهم من الإرث. ويجبر الكسر للواحد. 4ً - وقال الحنابلة (¬2): تختص الأيمان بالورثة الذكور المكلفين، وهم ذوو الفروض والعصبات على قدر إرثهم إن كانوا جماعة، ويجبر الكسر واحداً، وإن كان الوارث واحداً حلفها أي الخمسين يميناً، ولا يدخل في القسامة: النساء والصبيان والمجانين، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «يقسم خمسون رجلاً منكم، وتستحقون دم صاحبكم» ولأن القسامة حجة يثبت بها قتل العمد، فلا تسمع من النساء كالشهادة، ولأن الصبي أو المجنون لا يثبت بقوله حجة، فلو أقر أحدهما على نفسه لم يقبل إقراره، فلأن لا يقبل قوله في حق غيره أولى. المطلب الثامن ـ مايجب بالقسامة (أو الأثر المترتب عليها): اتفق الفقهاء على أن الدية تجب بالقسامة على العاقلة في القتل خطأ أو شبه عمد، مخففة في الأول، ومغلظة في الثاني. ¬
أما في القتل العمد: فيرى الحنفية، والشافعية في المذهب الجديد (¬1): أنه لايجب القصاص، وإنما تجب الدية حالَّة في مال المقسم عليه (المتهم)، لخبر البخاري: «إما أن تدوا صاحبكم، أو تأذنوا بحرب» فقد أطلق النبي صلّى الله عليه وسلم إيجاب الدية، ولم يفصل بين العمد والخطأ، ولو صلحت أيمان القسامة لإيجاب القصاص لذكره النبي صلّى الله عليه وسلم، ولأن القسامة حجة ضعيفة، مشتملة على شبهة؛ لأن اليمين تفيد غلبة الظن، فلا توجب القصاص، احتياطاً لأمر الدماء التي لا تراق بالشبهة، كالإثبات بالشاهد واليمين. وقد روي إيجاب الدية عن عمر وعلي في قتيل وجد بين قريتين على أقربهما إليه. وقال المالكية والحنابلة (¬2): يجب القصاص بالقسامة في القتل العمد. لكن عند المالكية: إذا تعدد المتهمون لا يقتل بالقسامة أكثر من واحد. وعند الحنابلة: لا قصاص إذا وجد مانع يمنع منه كعدم المكافأة. غير أن هذا القيد في كل قصاص. واستدلوا على إيجاب القصاص بخبر الصحيحين: «أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم» أي دم قاتل صاحبكم (¬3)، وفي رواية «فيدفع إليكم برمته» وفي لفظ مسلم: «فيسلَّم إليكم» ولأن القسامة حجة يثبت بها العمد، أي القصد بالاتفاق، فيثبت بها القصاص كشهادة الرجلين. وقد روى الأثرم بإسناده عن عامر الأحول: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أقاد بالقسامة بالطائف». ¬
انتهى الجزء السابع ويتبعه الجزء الثامن تتمة الفقه العام الجهاد وتوابعه - القضاء
الباب الرابع: الجهاد وتوابعه
البَابُ الرَّابع: الجهاد وتوابعه ويشتمل على أربعة فصول: 1 - حكم الجهاد وقواعده. 2 - انتهاء الحرب بالإسلام أو بالمعاهدات. 3 - حكم الأنفال والغنائم. 4 - حكم الأسرى والسبي.
الفصل الأول: حكم الجهاد وقواعده
الفَصْلُ الأوَّل: حكم الجهاد وقواعده يتكلم الفقهاء عادة عن العلاقات الدولية العامة والخاصة بين المسلمين وغيرهم فيما يسمونه «كتاب السِّيَر» (¬1). والسير: جميع سيرة، وهي السنة والطريقة، ويقصد بها هنا سيرة الرسول صلّى الله عليه وسلم في غزواته، وذلك يشمل البحث في حقيقة الجهاد والمكفلين بالقتال وواجبات المسلمين قبل بدء المعركة وفي أثنائها وبعد انتهائها، وحكم المعاهدات من أمان وهدنة وعقد ذمة، وحكم الأنفال والغنائم وكيفية تقسيم خمس الغنيمة، وحكم أموال المسلمين التي استولى عليها الأعداء، وحكم الأسرى، وحكم المرتدين. وسأذكر هنا هذه الموضوعات مجملة؛ لأن تفصيلها يحتاج إلى مؤلف ضخم (¬2). معنى الجهاد: الجهاد لغة: بذل الجهد وهو الوسع والطاقة: مأخوذ من الجهد بالضم، أوا لمبالغة في العمل: مأخوذ من الجهد بالفتح. واصطلاحاً عند الحنفية: هو الدعاء إلى الدين الحق وقتال من لم يقبله بالمال والنفس، قال الله تعالى: {انفروا خفافاً وثقالاً، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله، ذلكم خير لكم ¬
فضل الجهاد ومنزلته في الإسلام
إن كنتم تعلمون} [التوبة:41/ 9] وقال سبحانه: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتِلون في سبيل الله، فيَقتلون ويُقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن، ومن أوفى بعهده من الله، فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم} [التوبة:111/ 9] (¬1). وعرفه غير الحنفية بما يقارب هذا التعريف، فقال الشافعية مثلاً: «هو قتال الكفار لنصرة الإسلام» (¬2). وأنسب تعريف للجهاد شرعاً أنه: بذل الوسع والطاقة في قتال الكفار ومدافعتهم بالنفس والمال واللسان. فالجهاد يكون بالتعليم وتعلم أحكام الإسلام ونشرها بين الناس، وببذل المال، وبالمشاركة في قتال الأعداء إذا أعلن الإمام الجهاد، أخرج أبو داود عن أنس ابن مالك رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم». فضل الجهاد ومنزلته في الإسلام: الجهاد في الإسلام ذروة سنامه، وسياج مبادئه، وطريق الحفاظ على بلاد الإسلام والمسلمين. فهو من أهم مبادئ الإسلام العظمى؛ لأنه سبيل العزة والكرامة والسيادة، لهذا كان فريضة محكمة، وأمراً ماضياً إلى يوم القيامة، وما ترك قوم الجهاد إلا ذَلّوا وغُزوا في عقر دارهم وخذلهم الله، وسلط عليهم شرار الناس وأراذلهم. ¬
قال تعالى: {وجاهدوا في الله حق جهاده} [الحج:78/ 22] {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، يقاتلون في سبيل الله، فيَقْتلون ويُقْتلون، وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن، ومن أوفى بعهده من الله، فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم} [التوبة:111/ 9]. ثم وردت أحاديث نبوية كثيرة تبين فضل الجهاد، وأنه أفضل الأعمال عند الله تعالى، سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور» (¬1). وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها» (¬2). والمجاهد الذي يجود أو يضحي بنفسه في سبيل الله، سبيل الجماعة والقيم العليا، يتمتع بالخلود والرفعة والمكانة في تاريخ البشرية وعند الله تعالى حيث يجعله في مصاف الأنبياء والمرسلين، قال الله تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً، بل أحياء عند ربهم يرزقون. فرحين بما آتاهم الله من فضله، ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خَلْفهم ألاَّ خوف عليهم ولا هم يحزنون} [آل عمران:169/ 3 - 170]. ولقد تمنى نبي الله أن يحوز درجة الشهادة في سبيل الله، فقال: «والذي نفس محمد بيده، لوددت أن أغزو في سبيل الله، فأُقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل» (¬3) وقال: «يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدَّيْن» (¬4). بل إن الشهيد نفسه يتمنى ¬
فريضة الجهاد
العودة إلى دار الدنيا، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وإن له ما على الأرض من شيء، إلا الشهيد فإنه يتمنى أن يرجع إلى الدنيا، فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة» (¬1). وعقد الرسول الكريم مقارنة دقيقة بين قتلى الحرب فقال (¬2): «القتلى ثلاثة رجال: رجل مؤمن جاهد بنفسه وماله في سبيل الله، حتى إذا لقي العدو قاتلهم حتى يقتل، ذلك الشهيد الممتحن، في خيمة الله تحت عرشه، لا يفضله النبيون إلا بدرجة النبوة. ورجل مؤمن قَرَف (¬3) على نفسه من الخطايا، جاهد بنفسه وماله في سبيل الله، حتى إذا لقي العدو قاتل حتى يقتل، فتلك مصمصة (¬4) محت ذنوبه وخطاياه، إن السيف محَّاء للخطايا، وأُدخل من أي أبواب الجنة شاء، فإن لها ثمانية أبواب، ولجهنم سبعة أبواب، وبعضها أسفل من بعض. ورجل منافق جاهد بنفسه وماله في سبيل الله، حتى إذا لقي العدو قاتل حتى يقتل، فذلك في النار، إن السيف لا يمحو النفاق» (¬5). فريضة الجهاد: إن لم يكن النفير عاما ً: فالجهاد فرض كفاية، ومعناه أنه يفترض على جميع من هو أهل للجهاد، لكن إذا قام به البعض سقط عن الباقين، لقوله عز وجل: {فضَّل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة، وكلاًّ وعد الله ¬
الحسنى} [النساء:95/ 4] الله سبحانه وعد الحسنى كلاًّ من المجاهدين والقاعدين عن الجهاد، ولو كان الجهاد فرض عين لما وعد القاعدين الحسنى؛ لأن القعود يكون حراماً. وقوله سبحانه: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة، فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين} [التوبة:122/ 9] الآية، ولأن المقصود من الجهاد ـ وهو الدعوة إلى الإسلام، وإعلاء الدين الحق، ودفع شر الكفرة وقهرهم ـ يحصل بقيام البعض به، فإذا قاموا به يسقط عن الباقين. وإن ضعفوا عن مقاومة الكفرة، فعلى من يجاورهم من المسلمين، الأقرب، فالأقرب: أن يجاهدوا معهم وأن يمدوهم بالسلاح والمال. ولا يجوز للمرأة الاشتراك في الجهاد إلا بإذن زوجها؛ لأن القيام بحقوق الزوجية فرض عين، كما لا يجوز الجهاد للولد بدون إذن أبويه أو أحدهما إذا كان الآخر ميتاً؛ لأن بر الوالدين فرض عين، فيكون مقدماً على فرض الكفاية. وأقل الجهاد عند توافر القوة مرة في السنة كإحياء الكعبة، ولقوله تعالى: {أوَ لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين} [التوبة:126/ 9] قال مجاهد: نزلت في الجهاد ولفعله صلّى الله عليه وسلم منذ أمر به. وكان الجهاد على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم فرض كفاية، لقوله تعالى: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر} ـ إلى قوله تعالى - {وكلاً وعد الله الحسنى} [النساء:4/ 95] ففاضل سبحانه وتعالى بين المهاجرين والقاعدين، ووعد كلاً الحسنى، والعاصي لا يوعد بها، ولا يفاضل بين مأجور ومأزور. وأما بعد النبي صلّى الله عليه وسلم فللكفار حالان:
إن كان النفير عاما
أحدهما ـ يكونون ببلادهم ففرض كفاية إذا فعله من فيهم كفاية، سقط الحرج عن الباقين. الثاني ـ يدخلون بلدة لنا، فيلزم أهلها الدفع بالممكن، فإن عجزوا وجب القتال على من بقربهم دون مسافة القصر من البلدة كأهلها، ثم يلزم من بعد ذلك بقدر الكفاية دفعاً عنهم وإنقاذاً لهم. والتقييد بقدر الكفاية دال على أنه لا يجب على الجميع الخروج للقتال، بل إذا صار إليه قوم فيهم كفاية، سقط الحرج عن الباقين (¬1). ف إن كان النفير عاما ً: كأن هجم العدو على بلد إسلامي: فالجهاد فرض عين على كل قادر من المسلمين، لقوله سبحانه وتعالى: {انفروا خفافاً وثقالاً} [التوبة:41/ 9] قيل: نزلت في النفير. وقوله عز وجل: {ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله، ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه} [التوبة:120/ 9] فإذا عم النفير خرجت المرأة بغير إذن زوجها، وجاز للولد أن يخرج بدون إذن والديه. ويتعين الجهاد في ثلاثة أحوال (¬2): الأول ـ إذا التقى الزحفان وتقابل الصفان، حرم على من حضر الانصراف وتعين عليه المقام، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً} [الأنفال:45/ 8]. الثاني ـ إذا نزل الكفار ببلد، تعين على أهله قتالهم ودفعهم. الثالث ـ إذا استنفر الإمام قوماً، لزمهم النفير معه، لقول الله تعالى: ¬
شروط الجهاد
{يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثّاقلتم إلى الأرض} [التوبة:38/ 9] وللحديث المتفق عليه: «إذا استنفرتم فانفروا». وهذا الحكم المذكور في فرضية الجهاد باتفاق الفقهاء (¬1). شروط الجهاد: يشترط لوجوب الجهاد سبعة شروط (¬2): الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية، والذكورة، والسلامة من الضرر، ووجود النفقة. فأما الإسلام والبلوغ والعقل فهي شروط لوجوب سائر الفروع الشرعية. وأما الحرية؛ فلأن النبي كان يبايع الحر على الإسلام والجهاد، ويبايع العبد على الإسلام دون الجهاد. وأما الذكورة فلحديث عائشة عند البخاري وغيره: «قلت: يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل الأعمال، أفلا نجاهد؟ فقال: لكن أفضل الجهاد: حج مبرور». وأما السلامة من الضرر أي العمى والعرج والمرض، فلقوله تعالى: {ليس على الأعمى حرج، ولا على الأعرج حرج، ولا على المريض حرج} [النور:61/ 24]. وأما وجود النفقة فلقوله تعالى: {ليس على الضعفاء ولاعلى المرضى، ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله} [التوبة:91/ 9] ولأن الجهاد لا يمكن إلا بآلة، فتطلب القدرة عليها. وهذا كان في الماضي، وأما في عصرنا فالدولة تمد المجاهد بالسلاح والنفقة. المكلفون بالجهاد: يفترض الجهاد على القادر عليه، فمن لا قدرة له لا جهاد عليه، فلا يطالب بالجهاد: الأعمى، والأعرج، والمريض مرضاً مزمناً أو غير ¬
ما يجب قبل القتال
مزمن، والمقعد (¬1) والشيخ الهرم، والضعيف والأقطع (¬2) والذي لا يجد ما ينفق، والصبي، والمرأة والعبد؛ لأن الأخيرين مشغولان بخدمة الزوج والسيد؛ ولأن الصبي غير مكلف، وليس أهلاً للقتال، بدليل ما ورد في الصحيحين عن ابن عمر قال: «عُرضتُ على رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم أحد، وأنا ابن أربع عشرة سنة، فلم يجزني في المقاتلة» الحديث. وأما كون الباقين لاقتال عليهم فلعجزهم، وقد نزل فيهم قوله تعالى: {ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج، ولا على المريض حرج ... } [النور:61/ 24] الآية نزلت في أصحاب الأعذار حين همّوا بالخروج مع النبي صلّى الله عليه وسلم حين نزلت آية التخلف عن الجهاد. وقال سبحانه: {ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله} [التوبة:91/ 9] (¬3). ولا تقاتل المرأة إلا بإذن زوجها إلا أن يهجم العدو على بلاد المسلمين، لصيرورة القتال حينئذ فرض عين. ولا يقاتل الولد إلا بإذن أبويه، إلا إذا صار الجهاد فرض عين، جاء في الصحيحين: «أن رجلاً استأذن النبي صلّى الله عليه وسلم في الجهاد، فقال: ألك والدان؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد». ما يجب قبل القتال: أمر الجهاد موكول إلى الإمام واجتهاده، ويلزم الرعية طاعته فيما يراه من ذلك، وينبغي أن يبتدئ بترتيب قوم في أطراف البلاد يكفون ¬
حكم إبلاغ الدعوة
من بإزائهم من المشركين، ويأمر بإعداد الحصون وحفر الخنادق، وجميع المصالح. ويؤمِّر في كل ناحية أميراً يقلده أمر الحروب وتدبير الجهاد (¬1). فإذا ساءت العلاقة بين المسلمين وغيرهم من الكفار ووجدت دواعي القتال، وقرر الحاكم المسلم خوض المعركة مع العدو، فيجب حينئذ إنذار العدو بإعلان الجهاد أوإبلاغ الدعوة الإسلامية. واختلف الفقهاء في حكم إبلاغ الدعوة على ثلاثة آراء: الأول ـ يجب قبل القتال تقديم الدعوة الإسلامية مطلقاً، أي سواء بلغت الدعوة العدو أم لا، وبه قال مالك والهادوية والزيدية، لقوله تعالى: {ستُدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون} [الفتح:16/ 48]. الثاني ـ لا يجب ذلك مطلقاً، وهو رأي قوم كالحنابلة. الثالث ـ تجب الدعوة لمن لم يبلغهم الإسلام، فإن انتشر الإسلام، وظهر كل الظهور، وعرف الناس لماذا يُدعون، وعلى ماذا يقاتلون، فالدعوة مستحبة تأكيداً للإعلام والإنذار، وليست بواجبة، وهذا رأي جمهور الفقهاء والشيعة الإمامية والإباضية. قال ابن المنذر: هو قول جمهور أهل العلم، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة على معناه، وبه يجمع بين ما ظاهره الاختلاف من الأحاديث (¬2). من الأحاديث التي توجب الإبلاغ: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «ما قاتل رسول الله صلّى الله عليه وسلم قوماً قط إلا دعاهم» (¬3) وما رواه سليمان بن ¬
بريدة عن أبيه، قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصيته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً .. ثم قال: وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال، فأيتهن ما أجابوك، فاقبل منهم، وكف عنهم: ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك، فاقبل منهم، وكف عنهم ... فإن أبوا فسلهم الجزية، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، وإن أبوا فاستعن بالله عليهم وقاتلهم ... » الحديث (¬1). ومن الأحاديث التي لا توجب الإبلاغ أو الدعوة إلى الإسلام: ما روي عن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أغار على بني المُصطَلِق وهم غارّون (أي غافلون) وأنعامهم تسقى على الماء، فقتل مقاتلتهم وسبى سبيهم (¬2). ومنها ما رواه أسامة بن زيد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان عهد إليه فقال: «أغر على أبنى (¬3) صباحاً، وحرّق» (¬4) والغارة لا تكون مع الدعوة. الحديثان الأولان وغيرهما يعتبران الدعوة إلى الإسلام شرطاً في جواز القتال، والحديثان الآخران يجيزان الإغارة على العدو بدون دعوة جديدة، نظراً لأنه سبق له بلوغ الدعوة، وإزاء هذا التعارض في الظاهر قال أرباب الرأي الأول والثاني: إن بعض الأحاديث ينسخ بعضها، أو يخصص الفعل بزمن النبوة. ¬
من يقتل ومن لا يقتل من الأعداء في المعركة
وقال الجمهور: يلجأ إلى الجمع والتوفيق بين الأحاديث؛ لأنه لا يلجأ إلى النسخ إلا إذا تعذر الجمع بين الأدلة، وأما ادعاء التخصيص فلا دليل عليه. فمن لم تبلغه الدعوة يجب دعاؤه إلى الإسلام، فإذا بلغته استحب ذلك (¬1). وعلى هذا، يجوز أن نبدأ العدو بالقتال والإغارة والبيات عليهم (¬2)؛ لأنه قد وصلتهم أنباء الدعوة الإسلامية. وبه يتبين أنه يشترط فيمن نقاتلهم شرطين: 1 - ألا يكونوا مستأمنين أو معاهدين أو من أهل الذمة: لأن دماء هؤلاء معصومة مصونة، وقد حرم الشرع قتلهم، كما يأتي في المعاهدات. 2ً - إبلاغهم الدعوة الإسلامية وتعريفهم بالإسلام وبيان حقيقته وأهدافه وأسباب جهاد أعدائه. فإن توافر هذان الشرطان جاز قتالهم من دون إنذار سابق كما تقدم. من يقتل ومن لا يقتل من الأعداء في المعركة: يجوز قتل المقاتلة الذين يشتركون في الحرب برأي أو تدبير أو قتال، ولا يجوز قتل غير المقاتلة من امرأة أو صبي أو مجنون أو شيخ هرم، أو مريض مقعد، أو أشل، أو أعمى، أو مقطوع اليد والرجل من خلاف أو مقطوع اليد اليمنى، أو معتوه، أو راهب في صومعته، أو قوم في دار أو كنيسة ترهبوا، والعَجَزة عن القتال، والفلاحين في حرثهم إلا إذا قاتلوا بقول أو فعل أو رأي أو إمداد بمال، بدليل أن ربيعة بن رفيع السُّلَمي أدرك دريد بن الصِّمة يوم حنين، فقتله وهو شيخ كبير جاوز المئة، لا ينتفع إلا برأيه، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه (¬3). ويجوز قتل المرأة إذا كانت مَلِكة ¬
الأعداء؛ لأن في قتلها تفريقاً لجمعهم، وكذلك إذا كان ملكهم صبياً صغيراً وأحضروه معهم في المعركة، لا بأس بقتله إذا كان في قتله تفريق جمعهم. وأما أدلة عدم جواز قتلهم إذا لم يقاتلوا: فمنها قوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تقتلوا امرأة ولا وليداً» (¬1) وقد ثبت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم «نهى عن قتل النساء والصبيان» (¬2). وقال لأحد صحابته: الحق خالداً فقل له: «لا تقتلوا ذرّية ولا عسيفاً» (¬3). وعن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا بعث جيوشه قال: «لا تقتلوا أصحاب الصوامع» (¬4). وعن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «انطلقوا باسم الله وبالله، وعلى ملة رسول الله، ولا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا طفلاً، ولا صغيراً، ولا امرأة، ولا تغلُّوا، وضموا غنائمكم، وأصلحوا، وأحسنوا إن الله يحب المحسنين» (¬5). هذا في حال الحرب والقتال. أما بعد انتهاء القتال وهو ما بعد الأسر والأخذ: فكل من لا يحل قتله في حال القتال لا يحل قتله بعد الفراغ من القتال، وكل من يحل قتله في حال القتال إذا قاتل يباح قتله بعد الأخذ والأسر إلا الصبي ¬
التدمير والتخريب
والمعتوه الذي لا يعقل، فإنه يباح قتلهما في حال القتال إذا قاتلا، ولا يباح قتلهما بعد الفراغ من القتال إذا أسرا، حتى وإن قتلا جماعة من المسلمين في القتال؛ لأن القتل بعد الأسر بطريق العقوبة، وهما ليسا من أهل العقوبة، فأما القتل في حال القتال فلدفع شر المقاتل، فإذا وجد الشر منهما فأبيح قتلهما لدفع الشر، كما قال الكاساني (¬1). وينبغي للمسلمين ألا يغدروا (أي يخونوا بنقض العهد) ولا يغلُّوا (أي يسرقوا من الغنيمة) ولا يمثِّلوا بالأعداء: بأن يشقوا أجوافهم ويرضخوا رؤوسهم ونحو ذلك. قال بعض الحنفية: وإنما تكره المُثْلة بعد الظفر بهم، أما قبله فلا بأس بها (¬2). هذا هو مذهب الجمهور (الحنفية والمالكية والحنابلة والشيعة الزيدية والشافعي في أحد قوليه). وقال الشيعة الإمامية والظاهرية وابن المنذر والشافعي في أظهر قوليه: يجوز قتل من عدا النساء والصبيان (¬3). التدمير والتخريب: لا بأس عند الضرورة الحربية بإحراق حصون العدو بالنار، وإغراقها بالماء وتخريبها وهدمها عليهم، وقطع أشجارهم وإفساد زروعهم، ونصب المجانيق (¬4) ونحوها من مدافع اليوم على حصونهم وهدمها، لقوله تعالى: {يُخرِبون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين} [الحشر:2/ 59]. ¬
ما يجب على المجاهدين حال القتال
ولأنه عليه الصلاة والسلام أحرق البويرة: وهي موضع بقرب المدينة، ولأن في إرسال الماء ونحوه كسر شوكتهم وتفريق جمعهم. ولا بأس برميهم بالنبال ونحوها من وسائل القتال الحديثة، البرية والبحرية والجوية، وإن كان فيهم مسلمون من الأسارى والتجار؛ لأن رميهم ضرورة، ويقصد الكفار بالضرب لا المسلمين؛ لأنه لا ضرورة في القصد إلى قتل مسلم بغير حق. وكذا يجوز ضرب الكفار إن تترسوا بأطفال المسلمين وأسراهم، للضرورة وسداً لذريعة الفساد التي قد تترتب على ترك قتلهم، لكن يقصد الكفار بالضرب كما ذكر. وإن أصيب مسلم فلا دية ولا كفارة. ولاينبغي للمسلمين أن يستعينوا بالكفار على قتال الكفار، لقوله صلّى الله عليه وسلم ـ فيما رواه مسلم عن عائشة ـ لرجل تبعه يوم بدر: «ارجع فلن أستعين بمشرك»؛ ولأنه لا يؤمن غدرهم، إذ العداوة الدينية تحملهم على الغدر إلا عند الاضطرار (¬1)، وقد أجاز الأكثرون من أتباع المذاهب الأربعة الاستعانة بالكافر على الكفار، إذا كان الكافر حسن الرأي بالمسلمين، أي وكانت القيادة للمسلمين. وقيد الشافعية ذلك أيضاً بالحاجة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم ـ فيما رواه مسلم ـ استعان بصفوان بن أمية يوم حنين، وتعاونت خزاعة مع النبي صلّى الله عليه وسلم عام فتح مكة، وخرج قُزمان الظفري وهو من المنافقين مع الصحابة يوم أحد، وهو مشرك (¬2). ما يجب على المجاهدين حال القتال: يجب على المجاهدين حال التحام القتال، وفي أثناء المعركة، الثبات أمام عدوهم إذا غلب على ظنهم أنهم يقاومونهم، قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله ¬
كثيراً، لعلكم تفلحون} [الأنفال:45/ 8] وعلى المسلم أن يثبت أمام اثنين من الكفار، قال الله تعالى: {الآن خفف الله عنكم، وعلم أن فيكم ضعفاً، فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله، والله مع الصابرين} [الأنفال:66/ 8]. فإن غلب على ظن المقاتلين المسلمين أنهم سيُغلبون ويقتلون، فلا بأس أن يفروا من عدوهم منحازين إلى فئة يستنصرون بها من المسلمين. ولا عبرة بالعدد، حتى إن الواحد، إذا لم يكن معه سلاح، فلا بأس أن يفر من اثنين مسلحين، أو من واحد مسلح، أو بسبب عجز لمرض ونحوه، قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً، فلا تولوهم الأدبار، ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال، أو متحيزاً إلى فئة، فقد باء بغضب من الله، ومأواه جهنم وبئس المصير} [الأنفال:16/ 8] (¬1). ويؤيده ما روى ابن عمر قال: «بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم سرية قِبَل نجد، وأنا فيهم، فحاص المسلمون حيصة (يعني انهزموا من العدو) فلما قدمنا المدينة، قلنا: نحن الفرّارون، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: بل أنتم العكّارون (¬2) في سبيل الله، أنا لكم فئة، لترجعوا معي إلى الجهاد في سبيل الله» (¬3)، فهذا إقرار من الرسول صلوات الله وسلامه عليه لفعل هذه السرية التي لم تستطع متابعة القتال أمام قوة الأعداء، وإن كانت حالة الحرب ما زالت قائمة معهم. ويحرم على المسلمين بيع أهل الحرب السلاح والكُرَاع (الخيول) ونحوها من وسائل القتال التي تقوي العدو كالحديد، ولا يتاجر بها إلى الأعداء (¬4). ¬
الفصل الثاني: انتهاء الحرب بالإسلام أو بالمعاهدات
الفَصْلُ الثّاني: انتهاء الحرب بالإسلام أو بالمعاهدات ينتهي القتال بطرق متعددة منها اعتناق الإسلام، أو عقد معاهدة مع المسلمين أو بالأمان. المبحث الأول ـ انتهاء القتال بالإسلام: الكلام هنا عن طرق الدخول في الإسلام، وعن أحكام إعلان الإسلام في ظروف القتال. أما طرق الدخول في الإسلام، فمنها الصريح، ومنها الضمني، ومنها التبعي. ف إعلان الإسلام صراحة: يكون بالنطق بالشهادتين أو بالشهادة مع التبري من عقيدته السابقة. والكفار في هذا الأمر أصناف أربعة: صنف ينكرون وجود الله وهم الدُهرية، وصنف ينكرون وحدانية الخالق وهم الوثنية والمجوس، وصنف يقرون بوجود الله ووحدانيته إلا أنهم ينكرون النبوة والرسالة، وصنف ينكرون فقط رسالة سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم. فإن كان الكافر من الصنف الأول والثاني، فيكفي أن يقول ليُحكم بإسلامه: لا إله إلا الله، أو يقول: أشهد أن محمداً رسول الله، بدليل قوله صلّى الله عليه وسلم: «أمرت أن
أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله» (¬1). عن أبي مالك عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله» (¬2). وعن ثوبان مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلم في قصة حبر من أحبار اليهود أنه قال للنبي: «لقد صدقت، وإنك لنبي» ثم انصرف (¬3). وإن كان الكافر من الصنف الثالث: فلا يكفي أن يقول: لا إله إلا الله، وإنما لا بد من أن ينطق بالشهادة الأخرى، فيقول: أشهد أن محمداً رسول الله. وحينئذ يحكم بإسلامه. وإن كان من الصنف الرابع، فلا يكفيه النطق بالشهادتين، وإنما ينبغي عليه أن يتبرأ من الدين الذي عليه من اليهودية أو النصرانية. ولا يقبل إسلامه أيضاً إذا قال: أنا مؤمن، أو مسلم، أوآمنت، أو أسلمت؛ لأن اليهود والنصارى يدعون أنهم مؤمنون، أو مسلمون على النحو الذي هم عليه. هذا ما قرره الإمام محمد، وكان ذلك بحسب زمنه، أما الآن فالمفتى به ما قاله ابن عابدين: يكفي أن يقول اليهودي والنصراني: أنا مسلم؛ لأن اليهود والنصارى يمتنعون من قول: (أنا مسلم) فإذا قال أحدهم: (أنا مسلم) فهو دليل إسلامه (¬4). ¬
إعلان الإسلام ضمنا
وأما الوثني مثلاً فيحكم بإسلامه إذا قال: أنا مسلم ونحوه، بدليل حديث المقداد بن الأسود أنه قال: يا رسول الله، أرأيت إن لقيت رجلاً من الكفار، وقاتلني، فضرب إحدى يدي بالسيف، فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة، فقال: أسلمتُ لله، أفأقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لا تقتله (¬1). وأما إعلان الإسلام ضمنا ً: فمثل أن يصلي الكتابي أو المشرك مع جماعة من المسلمين؛ لأن الصلاة على هذه الهيئة لم تكن في شرائع من قبلنا، فكان ذلك دليلاً على الدخول في الإسلام. هذا عند الحنفية والحنابلة. وقال الشافعي: لا يحكم بإسلامه؛ لأن الصلاة ليست دليلاً على الإيمان حال الانفراد، فكذلك حال الاجتماع. وأما الحكم بالإسلام تبعا ً: فهو أن الصبي يحكم بإسلامه تبعاً لأبويه عند وجودهما، أو وجود أحدهما، كما إذا أسلم أحد الأبوين، فالولد يتبع المسلم منهما؛ لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، كما أنه يحكم بإسلامه أيضاً إذا سبى الصبي وحده، وأدخل في دار الإسلام فهو مسلم تبعاً للدار (¬2). وأما الأحكام المترتبة على الدخول في الإسلام من قبل الكفار: فهي عصمة الدماء والأموال، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها». وبناء عليه إذا أسلم أهل بلدة من أهل دار الحرب قبل أن يتغلب عليهم المسلمون، حرم قتلهم، ولا سبيل لأحد على أموالهم التي في أيديهم أو الودائع ¬
في بلاد الإسلام للحديث السابق، ولقوله عليه الصلاة والسلام: «من أسلم على ما ل فهو له» (¬1). فإن تغلبنا عليهم بالحرب، كان عقار من أسلم وزوجته وأولاده الكبار فيئاً للمسلمين؛ لأن العقار من جملة دارالحرب، وزوجته كافرة حربية لا تتبعه في الإسلام، وكذا أولاده كفار حربيون، ولا تبعة لهم؛ لأنهم على حكم أنفسهم. كذلك يعصم الإسلام عند جمهور العلماء صغار الأولاد والحَمْل، إذا أسلم الأب أو الأم، سواء أكان في دار الحرب أم في دار الإسلام؛ لأن الطفل تابع لأبيه أو لأمه في الإسلام مطلقاً، إذ الولد يتبع خير الأبوين ديناً بالاتفاق. قال الله تعالى: {والذين آمنوا واتَّبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم} [الطور:21/ 52]. وقال الحنفية: إذا أسلم كافر في دار الإسلام لم يكن أولاده الصغار مسلمين بإسلامه، إذا كانوا في دار الحرب، لانقطاع التبعة بتباين الدارين، فكانوا من جملة الأموال يدخلون في الفيء. وأما الزوجة والأولاد الكبار: فقد اتفق أئمة المذاهب الأربعة والشيعة الإمامية والزيدية والظاهرية على أن إسلام الشخص لا يعصم زوجته ولا أولاده الكبار البالغين، إذ إن للزوجة والأولاد الراشدين حكم أنفسهم كفراً وإسلاماً، لقوله تعالى: {ولا تكسب كل نفس إلا عليها} [الأنعام:164/ 6] {كل امرئ بما كسب رهين} [الطور:21/ 52] (¬2). ¬
المبحث الثاني ـ انتهاء القتال بالأمان
المبحث الثاني ـ انتهاء القتال بالأمان الكلام عن الأمان ببيان ركنه وشروطه وحكمه وصفته وما يبطل به ومكانه ومدته والمصلحة فيه. تعريف الأمان وركنه ونوعاه: الأمن في اللغة: ضد الخوف، وفي اصطلاح الشرعيين كما عرفه الشافعية: عقد يفيد ترك القتل والقتال مع الحربيين. وركنه: اللفظ الدال على الأمان، نحو قول المجاهد: أمنتكم أو أنتم آمنون، أو أعطيتكم الأمان، ونحوها. وهو إما عام أو خاص: فالعام: ما يكون لجماعة غير محصورين كأهل ولاية، ولا يعقده إلا الإمام أو نائبه، كعقد الهدنة وعقد الذمة؛ لأن هذا العقد من المصالح العامة التي يختص الإمام بالنظر فيها. والخاص: ما يكون للواحد أو لعدد محصور كعشرة فما دون. ولا يجوز لأكثر من ذلك كأهل بلدة كبيرة، لما فيه من افتئات على الإمام، وتعطيل للجهاد. وما نص عليه الحنفية من إعطاء الفرد حق تأمين أهل حصن أو مدينة لا دليل عليه؛ لأن الأحاديث الواردة في الأمان محصورة في حالات فردية معينة كما سنرى. والعام: إما مؤقت وهو الهدنة، أو مؤبد وهو عقد الذمة (¬1). شروط الأمان: اشترط الحنفية لصحة الأمان شروطاً أربعة (¬2): 1 - أن يكون المسلمون في حال ضعف، والكفار في حال القوة. ¬
2 - العقل: فلا يجوز أمان المجنون والصبي غير المميز؛ لأن العقل شرط في أهلية التصرف. 3 - البلوغ وسلامة العقل عن الآفات المرضية. 4 - الإسلام: فلا يصح أمان الكافر ولو ذمياً، وإن كان يقاتل مع المسلمين؛ لأنه متهم بالنسبة للمسلمين، فلا تؤمن خيانته، والأمان مبني على مراعاة مصلحة المسلمين، والكافر مشكوك في تقديره المصلحة. ولا تشترط الحرية، فيصح أمان العبد عند الجمهور، ولم يجز أبو حنيفة أمان العبد المحجور عن القتال إلا أن يأذن له مولاه بالقتال؛ لأن الأمان عنده من جملة العقود، والعبد محجور عليه، فلا يصح عقده. وقال الصاحبان: يصح أمان العبد، لأنه مؤمن ذو قوة وامتناع يتحقق منه الخوف، والأمان يكون بسبب الخوف. وكذلك لا تشترط الذكورة، فيصح أمان المرأة لحديث: «إن المرأة لتأخذ للقوم، يعني تجير على المسلمين» (¬1) وحديث: «قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ» (¬2). ولا تشترط السلامة عن العمى والزمانة والمرض، فيصح أمان الأعمى والزمِن والمريض. ولا يجوز أمان التاجر في دار الحرب، والأسير فيها، والحربي الذي أسلم هناك؛ لأن هؤلاء لا يستطيعون تقدير المصلحة في الأمان، ولأنهم متهمون في نظر المجاهدين لكونهم تحت سلطة العدو. ¬
الأدلة
وكذلك الجماعة ليست بشرط، فيصح أمان الواحد. ويوافق الحنفيةَ في أغلب هذه الحالات: جمهورُ الفقهاء والشيعة الإمامية والزيدية والإباضية، فهم يرون أن الأمان يصح من كل مسلم بالغ عاقل مختار، ولو كان عبداً لمسلم أو كافر، أو فاسقاً، أو محجوراً عليه لسفه أو تفليس، أو امرأة، أوأعمى، أو مقعداً أو زَمِناً أو مريضاً أو خارجاً على الإمام؛ لأن الخوارج مسلمون، قال علي رضي الله عنه: «إخواننا بغوا علينا». والأدلة لما ذكر من القرآن والسنة والمعقول هي ما يأتي: أما القرآن فقوله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} [التوبة:6/ 9] والنص عام يشمل كل مسلم، وكل مستأمن أو معاهد يريد سماع القرآن الكريم أو المفاوضة مع المسلمين لأمور سياسية أو حربية أو أمنية أو تجارية. وأما السنة: فقول الرسول صلّى الله عليه وسلم: «ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلماً، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً» (¬1)، وفي رواية «المسلمون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم» (¬2)، وقد أنفذ الرسول صلّى الله عليه وسلم أمان أم هانئ ¬
المعقول
لرجل أو رجلين من أحمائها قائلاً لها: «قد أجرنا من أجرت ياأم هانئ» (¬1) وكذلك أجاز الرسول عليه الصلاة والسلام أمان ابنته زينب لزوجها أبي العاص بن الربيع الذي كان قادماً بتجارة إلى المدينة، فأصابتها إحدى سرايا المسلمين (¬2). وأما المعقول: فهو أن الواحد من المسلمين من أهل القتال والمنعة، فيخافه العدو، ويهتم هو بتحقيق مصلحة الجماعة الإسلامية، فيتم منه الأمان دون حاجة إلى إجازة الإمام؛ لأن فعله تصرف صدر من ذي أهلية له، ووقع في محله (¬3). حكم الأمان: يقتضي الأمان ثبوت الأمن والطمأنينة للمستأمنين، فيحرم قتل رجالهم وسبي نسائهم وأولادهم، واغتنام أموالهم، واسترقاقهم، ولا يجوز أيضاً ضرب الجزية عليهم؛ لأن فعل شيء مما ذكر غدر، والغدر حرام. ويشمل حكم الأمان نفس المستأمن، وأولاده الصغار، وماله عند الحنابلة والحنفية استحساناً؛ لأن الإذن بالدخول يقتضي ذلك. وقال الشافعية: يدخل في الأمان مال المستأمن وأهله بلا شرط إن كان الإمام هو الذي أعطى الأمان. ويرى الهادوية والمالكية: أن الأمان يتبع الشرط (¬4). ¬
رقابة الدولة على التأمينات
وبناء عليه يجب على المسلمين كف الأذى عن المستأمنين، وإذا انتهت مدة الأمان وجب على الحاكم المسلم إبلاغ المأمن، أي تبليغ المستأمن المكان الذي يأمن فيه على نفسه وماله. ولا يجوز في رأي الجمهور نقض أمان المستأمن ما لم نخش منه الخيانة، أو يصدر منه ما يستدعي إلغاء أمانه. رقابة الدولة على التأمينات: للإمام مراقبة كل أمان يصدر من الأفراد، وعلى التخصيص أمان المرأة والعبد والصبي ونحوهم، ولكن لايتوقف عند أكثر الفقهاء نفاذ الأمان على إجازة الإمام. وقال ابن الماجشون وسحنون المالكيان: أمان المرأة موقوف على إذن الإمام. ورد عليهما بحديث عائشة - فيما رواه البيهقي وأبو داود والترمذي - «إن كانت المرأة لتجير على المؤمنين، فيجوز» وفي رواية: «أمان المرأة جائز إذا هي أعطت القوم الأمان» وروى الترمذي عن أبي هريرة حديث: «إن المرأة لتأخذ للقوم، يعني تجير على المسلمين». صفة الأمان: يرى الحنفية أن الأمان عقد غير لازم، حتى لو رأى الإمام المصلحة في النقض نقضه؛ لأنه جوازه عندهم مشروط بتحقيق المصلحة، فإذا صارت المصلحة في النقض نقض، ونبذ للمستأمن، أي أُلقي إليه عهده (¬1). ويرى جمهور الفقهاء والشيعة الإمامية والزيدية أن الأمان عقد لازم من جانب المسلمين، ويبقى اللزوم مع بقاء عدم الضرر؛ لأن الأمان حق على المسلم، فليس له نبذه إلا لتهمة أو مخالفة (¬2). ما ينتقض به الأمان: إذا كان الأمان مؤقتاً إلى مدة معلومة ينتهي بمضي الوقت من غير حاجة إلى النقض. ¬
مدة الأمان
وإن كان الأمان مطلقاً غير محدد بوقت: فانتقاضه عند الحنفية إما بنقض الإمام، لكن يخبرهم بالنقض ثم يقاتلهم، وإما بطلب العدو نقضه، وحينئذ يدعوهم الإمام إلى الإسلام، فإن أبوا فإلى التعاقد بعقد الذمة، فإن أبوا ردهم إلى مأمنهم ثم قاتلهم، احترازاً عن الغدر. وأجاز جمهور الفقهاء للإمام أن ينبذ عقد الأمان إذا حصل فقط ضرر للمسلمين لقوله تعالى: {وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء، إن الله لا يحب الخائنين} [الأنفال:58/ 8] (¬1). مدة الأمان: إذا دخل الحربي إلى دار الإسلام مستأمناً، لم يمكَّن من الإقامة فيها سنة فما فوقها، لئلا يصير عيناً للأعداء وعوناً عليهم. ويقول له الإمام أو نائبه إذا أمنه وأذن له في الدخول إلى دارنا: إن أقمت في دارنا تمام السنة وضعت عليك الجزية، فإن أقام تمام السنة أخذت منه الجزية، وصار ذمياً لالتزامه ذلك، ولم يترك بعدها أن يرجع إلى دارالحرب؛ لأن عقد الذمة لا ينقض. وإن عاد المستأمن إلى دار الحرب وترك وديعة عند مسلم أو ذمي، أو ترك ديناً في ذمة مسلم أو ذمي، صار دمه مباحاً بالعود لبطلان أمانه، وما كان في دار الإسلام من ماله، فهو موقوف (أي مجمَّد بتعبير العصر). فإن أسر أو قتل، سقطت ديونه؛ لأن يد من عليه الدين أسبق إليه من يد الجماعة العامة، فيختص به، وصارت الوديعة ونحوها مما في دارنا فيئاً؛ لأنها في يده حكماً، فتصير فيئاً تبعاً لنفسه (¬2). ¬
المصلحة في الأمان
المصلحة في الأمان: اشترط الحنفية والمالكية (¬1): أن يكون الأمان لمصلحة؛ لأن الحرب مع العدو مستمرة. واكتفى الشافعية والحنابلة (¬2) باشتراط عدم وجود الضرر من الأمان ولا تشترط المصلحة. فلا يجوز الأمان لجاسوس ونحوه، إذ لاضرر ولا ضرار في الإسلام. والضرر: مثل تأمين جاسوس أو مهرب سلاح. مكان الأمان: هو دار الإسلام: وهي مكان الأمان إذا كان المؤمّن هو الإمام أو أمير الجيش، فللمستأمن التنقل في كل البلاد الإسلامية إلا إذا قيد الأمان في موطن معين أو كان القيد شرعياً، والقيد الشرعي مختلف في تحديده بين الفقهاء (¬3)، ففي رأي أبي حنيفة: يجوز للكافر دخول أي مكان في دار الإسلام، حتى الحرم المكي والمسجد الحرام، فله الدخول والإقامة في حرم مكة والمسجد مدة مقام المسافر ـ ثلاثة أيام بلياليها ـ وأجاز الحنفية لغير المسلم دخول المساجد كلها ومنها المسجد الحرام، من غير إذن؛ لأنه ليس المراد من آية {إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة:28/ 9] النهي عن دخول المسجد الحرام، وإنما المراد النهي عن أن يحج المشركون ويعتمروا كما كانوا يفعلون في الجاهلية. ومنع الشافعية والحنابلة غير المسلم، ولو لمصلحة من دخول حرم مكة، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة:28/ 9] والمراد من المسجد الحرام: الحرم المكي بإجماع المفسرين، بدليل قوله تعالى عقب ذلك: {وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله} [التوبة:28/ 9] والعيلة: هي الفقر بانقطاع التجارة حال المنع من دخول الحرم. ويمنع غير المسلم أيضاً في هذين المذهبين من دخول الحجاز أو الاستيطان فيه إلا بإذن الإمام ولمصلحة المسلمين كحمل رسالةأو إدخال تجارة يحتاج إليها المسلمون، ¬
المبحث الثالث ـ انتهاء الحرب بالهدنة
وذلك لمدة ثلاثة أيام فقط، ودليلهم حديث أحمد ومسلم والترمذي عن عمر: «لئن عشت لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب، حتى لا أترك إلا مسلماً» والمراد من جزيرة العرب هو الحجاز خاصة، كما حكى ابن حجر عن الجمهور، بدليل رواية أحمد: «أخرجوا اليهود من الحجاز». ودليلهم أيضاً فعل عمر رضي الله عنه ـ فيما روى البخاري والبيهقي ـ حيث أجلى اليهود والنصارى من الحجاز فقط دون جزيرة العرب، وأقرهم في اليمن مع أنها من جزيرة العرب. وأجاز المالكية لغير المسلم دخول حرم مكة دون البيت الحرام، بأمان، لمدة ثلاثة أيام أو بحسب الحاجة في تقدير المصلحة من قبل الإمام، ولا يجوز عند المالكية لغير المسلم استيطان جزيرة العرب (الحجاز واليمن) لعموم حديث عمر السابق: «لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب، حتى لا أدع إلا مسلماً» وحديث ابن عباس ـ فيما اتفق عليه البخاري ومسلم وأخرجه أبو داود ـ «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب» وحديث عائشة عند أحمد: «لا يترك بجزيرة العرب دينان» وحديث أبي عبيدة بن الجراح فيما يرويه أحمد والبيهقي: «أخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب» وما أخرجه مالك عن الزهري مرسلاً: «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب» وأما حديث «أخرجوا يهود أهل الحجاز» فلا يصلح لتخصيص العام، لما تقرر لدى علماء أصول الفقهاء من أن التخصيص بموافق العام لا يصح، وعبارتهم هي: «إفراد فرد من أفراد العام بحكمه لا يخصص العام». المبحث الثالث ـ انتهاء الحرب بالهدنة: الكلام عن الهدنة أو الصلح المؤقت أوالموادعة يتناول البحث في ركنها وشروطها وحكمها وصفتها وما تنتقض به ومدتها.
تعريف الموادعة وصيغتها
تعريف الموادعة وصيغتها: الموادعة: هي مصالحة أهل الحرب على ترك القتال مدة معينة بعوض أو غيره، سواء فيهم من يقر على دينه ومن لم يقر، دون أن يكونوا تحت حكم الإسلام (¬1). وعاقدها هو الإمام أو نائبه باتفاق الفقهاء، فإن عقدها أحد الأفراد، عدّ ذلك افتياتاً على الإمام أو نائبه، ولم يصح العقد عند الجمهور. ويصح عند الحنفية إذا تولاه فريق من المسلمين بغير إذن الإمام إذا توافرت المصلحة للمسلمين فيه؛ لأن المعول عليه وجود المصلحة، وقد وجدت، ولأن الموادعة أمان، وأمان الواحد كأمان الجماعة (¬2). وصيغتها: لفظ الموادعة أو المسالمة أو المصالحة أو المعاهدة أو المهادنة ونحوها. وركنها: الإيجاب والقبول بين الإمام أو نائبه، وحاكم الأعداء. وشرط مشروعيتها: أن يكون المسلمون في حال ضعف، والكفار أقوىاء؛ لأن الموادعة ترك القتال، فلا يجوز إلا في حال يقع وسيلة إلى القتال. والحقيقة أن هذا الشرط حالة من الحالات التي يطلب فيها باتفاق العلماء وجود المصلحة من عقد الهدنة، والمصلحة كما تتحقق حال ضعفنا، تتحقق بأغراض أخرى كرجاء إسلام الكفار، أو عقد الذمة، أو التعاون معهم لدفع عدوان غيرهم، أو لإقرار السلام، وتبادل المنافع الاقتصادية ونحوها (¬3)، قال تعالى: {ولا تهنوا وتدعوا إلى السَّلْم وأنتم الأعلون، والله معكم} [محمد:35/ 47] وقال سبحانه: {وإن ¬
حكم الهدنة
جنحوا للسَّلم فاجنح لها وتوكل على الله} [الأنفال:61/ 8] وقد وادع رسول الله صلّى الله عليه وسلم أهل مكة عام الحديبية على إنهاء الحرب عشر سنين (¬1). ولا يقاتل المعاهدون ما لم تظهر منهم بوادر الخيانة، لقوله تعالى: {وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء، إن الله لا يحب الخائنين} [الأنفال:58/ 8]. ولا بأس بأن يتم الصلح على عوض مالي يدفعه المسلمون إلى الكفار عند الاضطرار، أو يدفعه الأعداء للمسلمين إذا كان في الدفع مصلحة للمسلمين؛ لأن الله تعالى أباح لنا الصلح مطلقاً في قوله: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها} [الأنفال:61/ 8] فيجوز ببدل أو بغير بدل، ولأن المقصود من الصلح هو دفع الشر والخطر، فيجوز بأية وسيلة، وهذا باتفاق الفقهاء (¬2). حكم الهدنة: يترتب على الموادعة أو الهدنة إنهاء الحرب بين المتحاربين، ويأمن الأعداء ـ كما في عقد الأمان ـ على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم؛ لأن الموادعة عقد أمان أيضاً، وبناء عليه يجب كف أذانا أو أذى الذميين عنهم حتى يتأتى ناقض للعهد منهم (¬3). ويجب لهم الوفاء بشروط الهدنة الصحيحة شرعاً. ولا يوفى لهم بالشروط الباطلة كاشتراط إعادة النساء المسلمات إليهم. ¬
الفرق بين الهدنة والأمان العام
الفرق بين الهدنة والأمان العام: هناك فرق بين الهدنة والأمان العام مع جماعة من الحربيين من نواح أربع: الأولى ـ أن الهدنة معاهدة بين دولتين على إنهاء القتال وتوفير السلام في جميع أنحاء الدولة. أما الأمان العام فهو اتفاق الدولة مع جماعة غير محصورة على المسالمة ومنح الأمان في بلد أو إقليم معين. الثانية ـ أن الهدنة طريق لإنهاء الحرب بين المسلمين وغيرهم، وأما الأمان العام فهو لتأمين جماعة ولو في أثناء الحرب. الثالثة ـ أن الإجابة لطلب الأمان واجبة، لقوله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} [التوبة:6/ 9]. أما الإجابة لطلب الهدنة فمباحة جائزة غير واجبة بشرط مراعاة المصلحة الإسلامية. الرابعة ـ إذا بطل أمان رجال لم يبطل أمان نسائهم والصبيان، وإذا انتقضت الهدنة انتقض أمان جميع المهادنين. صفة عقد الهدنة: يرى الحنفية أن الهدنة عقد غير لازم محتمل للنقض، فللإمام أن ينبذ عهد الكفار إليهم، كلما رأى في النبذ مصلحة للمسلمين، لقوله تعالى: {وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء} [الأنفال:58/ 8] فإذا بلغهم الخبر جاز بدؤهم بالقتال. ولا بد من النبذ تحرزاً عن الغدر، ولا بد من تقدير مدة يبلغ خبر النبذ إلى جميعهم. ولا ينبذ إليهم إن بدؤوا بخيانة باتفاقهم؛ لأنهم صاروا ناقضين للعهد، فلا حاجة إلى نقضه. أما إن نقض جماعة منهم العهد، فإن كان نقضهم بإذن ملكهم، صاروا ناقضين للعهد؛ لأنه باتفاقهم معنى.
شروط صحة الهدنة
وإن لم يكن نقضهم بإذن ملكهم، ودخلوا بلادنا، وقطعوا الطريق وكان لهم منعة، وقاتلوا المسلمين علانية، يكون فعلهم نقضاً للعهد في حقهم دون غيرهم. فإن لم يكن لهم مَنَعة، حوربوا، ولا يكون فعلهم نقضاً للعهد في حقهم (¬1). وقرر جمهور الفقهاء أن الهدنة عقد لازم لا يجوز نقضه إلا إذا وجدت خيانة، أو غدر من العدو، بقيام أمارات تدل عليه؛ وإن لم توجد فيجب الوفاء لهم بالعهد، كما هو مقتضى آية النبذ السابق ذكرها: {وإما تخافن من قوم خيانة ... } [الأنفال:58/ 8] (¬2) فإذا لم يخف الإمام الخيانة، لا يجوز نبذ عهدهم. شروط صحة الهدنة: يشترط لصحة الهدنة الشروط الأربعة التالية (¬3): 1ً - أن يعقدها مع الأعداء الإمام أو نائبه، وإذا كانت مع إقليم عقدها والي الإقليم أيضاً لتلك البلدة. 2ً - أن تعقد لمصلحة إسلامية، ولا يكفي انتفاء المفسدة كما في عقد الجزية، لعدم توافر المصلحة في موادعة الأعداء، والله تعالى يقول: {فلا تهنوا وتدعوا إلى السَّلْم وأنتم الأعلون} [محمد:35/ 47]. والمصلحة كضعفنا بقلة عدد أو أهبة، أو لرجاء إسلامهم أو بذل الجزية أو نحو ذلك كحاجة الإمام إلى إعانتهم له على غيرهم، وقد هادن النبي صلّى الله عليه وسلم صفوان بن أمية أربعة أشهر عام فتح مكة لرجاء إسلامه، فأسلم قبل مضيها. ¬
ما ينتقض به عقد الهدنة
3ً - أن تكون مؤقتة بمدة معينة لا مؤبدة ولا دائمة ولا مطلقة من غير مدة. والمدة كما ذكر الشافعية أربعة أشهر لا سنة، لقوله تعالى: {براءة من الله ورسوله ... } [التوبة:1/ 9] ثم قال: {فسيحوا في الأرض أربعة أشهر .. } [التوبة:2/ 9]. وتجوز في حال ضعفنا لمدة عشر سنين فقط فما دونها بحسب الحاجة، لا أكثر من عشر، لأن هذا غاية مدة الهدنة، لأنه صلّى الله عليه وسلم ـ فيما رواه أبو داود ـ هادن قريشاً في الحديبية هذه المدة، وكان ذلك قبل أن يقوى الإسلام. 4ً - خلو عقد الهدنة من كل شرط فاسد، كأن شرط الأعداء منع فك أسرانا منهم، أو ترك مالنا الذي استولوا عليه لهم، أو لتعقد لهم ذمة بأقل من دينار لكل واحد، أو بدفع مال لهم ولم تدع ضرورة إليه، أو التنازل عن بعض واجباتهم نحو المسلمين أو دولتهم أو دينهم، فكل شرط من هذه الشروط يفسد عقد الهدنة ويجعلها لاغية. ما ينتقض به عقد الهدنة: قال الحنفية: إذا كانت الهدنة مؤقتة ينتهي العقد بانتهاء المدة المحددة دون حاجة إلى النبذ. وإن كانت الهدنة مطلقة غير معينة المدة، أي متروكة لرأي الإمام: فإما أن تنتقض صراحة بنبذ العهد من المسلمين أو من غيرهم، وإما أن تنتقض ضمناً أو دلالة بأن يوجد من الأعداء ما يدل على النبذ كقطع الطريق من قبل جماعة من الكفار، بإذن مليكهم. وفي الجملة: لا تنتقض الهدنة عند الحنفية إلا بخيانة العدو متفقين. والخيانة: كل ما ناقض العهد والأمان مما هو شرط فيه أو جرى به العرف والعادة، مثل مقاتلة المسلمين أو مظاهرة عدو عليهم. وقال الجمهور: تنتقض الهدنة إذا نقضها العدو بقتال أو بمناصرة عدو آخر،
مدة الهدنة
أو قتل مسلم، أو أخذ مال، أو بسبّ الله تعالى أو القرآن الكريم أو رسوله صلّى الله عليه وسلم، أو التجسس على المسلمين، أو الزنا بمسلمة ونحوها (¬1). واستدلوا على النقض بأدلة كثيرة، منها قوله تعالى: {فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم} [التوبة:7/ 9] وقوله سبحانه: {إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً، ولم يظاهروا عليكم أحداً، فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم} [التوبة:4/ 9] وقوله عز وجل: {وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم، وطعنوا في دينكم، فقاتلوا أئمة الكفر، إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون} [التوبة:12/ 9]. ومن أدلة الجمهور أيضاً: ما روى البيهقي وغيره أنه لما نقضت قريش عهد النبي صلّى الله عليه وسلم أي صلح الحديبية، خرج إليهم، فقاتلهم وفتح مكة، بسبب مظاهرة بعضهم لبعض (¬2). ومن المعروف أن بني النضير لما أرادوا قتل رسول الله صلّى الله عليه وسلم بإلقاء الجدار عليه نقض عهدهم، كما روى البيهقي وغيره (¬3). مدة الهدنة: اتفق الفقهاء على أن عقد الصلح مع العدو لا بد من أن يكون مقدراً بمدة معينة، فلا تصح المهادنة إلى الأبد من غير تقدير بمدة، وإنما هي عقد مؤقت؛ لأن الصلح الدائم يفضي إلى ترك الجهاد. ومع هذا الاتفاق فإنهم اختلفوا في المدة التي تجوز بها الهدنة. فقال الشافعية: إذا كان بالمسلمين قوة فتجوز لمدة أربعة أشهر فما فوقها إلى ما دون سنة في الأظهر، لقوله تعالى: {براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من ¬
المبحث الرابع ـ انتهاء الحرب بعقد الذمة
المشركين، فسيحوا في الأرض أربعة أشهر} [التوبة:1/ 9 - 2] ولأن الرسول صلّى الله عليه وسلم هادن صفوان بن أمية أربعة أشهر عام الفتح (¬1). ولا تبلغ المدة سنة؛ لأنها مدة تجب فيها الجزية. فإن كان بالمسلمين ضعف، فتجوز لعشر سنين فقط فما دونها بحسب الحاجة، لأن هذا غاية مدة الهدنة، لأنه صلّى الله عليه وسلم هادن قريشاً في الحديبية هذه المدة على المعتمد. فإن لم يقْو المسلمون طوال تلك المدة فلا بأس أن يجدد الإمام مدة مثلها أو دونها على رجاء أن يقووا، وإذا انقضت المدة والحاجة باقية استؤنف العقد. وهذا هو مذهب الشيعة الإمامية وظاهر كلام الإمام أحمد، وقال أبو الخطاب من الحنابلة: ظاهر كلام أحمد أنه يجوز على أكثر من عشر سنين على حسب ما يراه الإمام من المصلحة بعد اجتهاده. والذي يبدو أن ما نقله أبو الخطاب هو الأصح عند الحنابلة (¬2). وقال الحنفية والمالكية والزيدية: ليس للهدنة مدة معينة، إنما تقدير المدة راجع إلى اجتهاد الإمام قدر الحاجة؛ لأن المهادنة عقد جاز لمدة عشر سنين، فتجوز الزيادة عليها كعقد الإجارة (¬3). المبحث الرابع ـ انتهاء الحرب بعقد الذمة: الكلام عن عقد الذمة ببيان ركنه وشرائطه وحكمه وصفته ومقدار الجزية ومسقطاتها. ¬
تعريف عقد الذمة أو الصلح المؤبد وركنه
تعريف عقد الذمة أو الصلح المؤبد وركنه: الذمة في اللغة العهد، وهو الأمان والضمان والكفالة. وعند الفقهاء (¬1): هو التزام تقرير الكفار في ديارنا وحمايتهم والدفاع عنهم ببذل الجزية (¬2) والاستسلام من جهتهم. ولا يعقدها إلا الإمام أو نائبه؛ لأنها من المصالح العظمى التي تحتاج إلى نظر واجتهاد، وهذا لا يتأتى لغير الإمام أونائبه، لكن قال المالكية: إن عقدها غير الإمام فيأمنون، ويسقط عنهم القتل والأسر، وللإمام النظر بأن يمضيها أو يردهم لمأمنهم (¬3). ويحرم قتال أهل الذمة وقتلهم ما داموا ملتزمين بشروط العهد، لما أخرجه أبو داود عن أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من قتل رجلاً من أهل الذمة، لم يجد ريح الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين عاماً». وأخرج الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ألا من قتل نفساً معاهدة له ذمة الله ورسوله، فقد أخفر بذمة الله، فلا يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفاً». وحكمة عقد الذمة: تحقيق التعايش السلمي بين المسلمين وغيرهم، وتمكين غير المسلمين من الاطلاع على حقائق الإسلام ومبادئه، فيلتقي الجميع على الحق والعقيدة الصالحة. والجزية بديل عن حماية المسلمين لأهل الذمة وعن المشاركة في الجهاد، ودليل مادي على الولاء للدولة الإسلامية. وركن العقد أو صيغته: إما لفظ صريح يدل عليه، مثل لفظ العهد والعقد ¬
شروط صحة العقد
على أسس معينة، وإما فعل يدل على قبول الجزية، كأن يدخل حربي دار الإسلام بأمان، ويمكث فيها سنة، فيطلب إلىه إما أن يخرج أو يصبح ذمياً، فإن اختار البقاء عندنا صار من أهل الذمة. شروط صحة العقد: يشترط في المعقود له عقد الذمة شروط ثلاثة: الأول ـ ألا يكون المعاهد من مشركي العرب، فإنه لا يقبل منهم إلا الإسلام أو القتال، لقوله تعالى عن المشركين: {تقاتلونهم أو يسلمون} [الفتح:16/ 48]، وإنما يعقد عقد الذمة مع أهل الكتاب، لقوله سبحانه: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب، حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} [التوبة:29/ 9] ويعقد هذا العقد أيضاً مع المجوس؛ لأن لهم شبهة كتاب، لما قال عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» (¬1). وعن عمر: «أنه لم يأخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن ابن عوف أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجَر» (¬2). وهذا الشرط متفق عليه بين الحنفية والشافعية والحنابلة والظاهرية والإباضية والشيعة الإمامية والزيدية. ¬
شروط المكلفين بالجزية
وقال الأوزاعي والثوري وفقهاء الشام والمالكية على المشهور في مذهبهم: تؤخذ الجزية من كل كافر، سواء أكان من العرب أم من العجم، من أهل الكتاب، أم من عبدة الأصنام (¬1)، بدليل ما رواه سليمان بن بريدة عن أبيه، قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميراً على جيش أو سرية، أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً» ثم قال: « ... وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، أو خلال، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام ... فإن هم أبوا فسلهم الجزية ... » الحديث (¬2) فقوله صلّى الله عليه وسلم: «عدوك» عام يشمل كل كافر، قال الشوكاني: هذا الحديث حجة في أن قبول الجزية لا يختص بأهل الكتاب. الشرط الثاني: ألا يكون المعاهد مرتداً، لأن حكمه القتل إذا لم يتب؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «من بدل دينه فاقتلوه» (¬3)، وهذ الشرط متفق عليه بين الفقهاء. الشرط الثالث: أن يكون العقد مؤبداً: فإن أقت الصلح لم يصح العقد؛ لأن عقد الذمة بالنسبة لعصمة الإنسان في ماله ونفسه بديل عن الإسلام، والإسلام مؤبد، فكذا بديله وهو عقد الذمة. وهذا شرط متفق عليه أيضاً (¬4). شروط المكلفين بالجزية: يشترط لوجوب الجزية على أهل الذمة شروط: ¬
1 - الأهلية من العقل والبلوغ: فلا تجب على الصبيان والمجانين؛ لأنهم ليسوا من أهل القتال. 2 - الذكورة: فلا تجب على النساء؛ لأنهن أيضاً لسن من أهل القتال، والله سبحانه وتعالى أوجب الجزية على المقاتلين بقوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ... } [التوبة:29/ 9] الآية، فالمقاتلة تقتضي المشاركة، يعني وقوع القتال من الطرفين. 3 - الصحة والمقدرة المالية: فلا تجب على المريض مرضاً لمدة سنة أو أكثر السنة؛ لأن للأكثر حكم الكل، ولا تجب أيضاً على الفقير المتعطل عن العمل، ولا على الرهبان الذين لا يخالطون الناس. 4 - السلامة من العاهات المزمنة، كالمرض المزمن والعمى والشيخوخة. 5 - الحرية، فلا تجب الجزية على العبد، لأنه ليس مالكاً للمال. وفي الجملة: اتفق الفقهاء على اشتراط البلوغ والحرية والذكورة، فلا جزية على امرأة ولا صبي ولا مجنون ولا معتوه ولا زمِن ولا أعمى ولا مفلوج ولا شيخ كبير؛ لأنها وجبت بدلاً عن القيام بقتال الأعداء، وهم لا يقاتلون لعدم الأهلية. ولا جزية على فقير غير معتمل (أي مكتسب ولو بالسؤال) لعدم الطاقة، ولا على الرهبان الذين لايخالطون الناس، إذ لا يقتلون، والأصل في الجزية لإسقاط القتل، ولا جزية على العبد بأنواعه. وخالف الشافعية والحنابلة في الأرجح عندهم في الشرطين الثالث والرابع، فلم يجيزوا إسقاط الجزية بالأعذار (¬1). ¬
حكم عقد الجزية
حكم عقد الجزية: يترتب على عقد الذمة إنهاء الحرب بين المسلمين وغيرهم، وعصمة نفوس الكفار وأموالهم وبلادهم وأعراضهم، فلا يجوز استباحتها بعد انعقاد العقد، بدليل حديث بريدة السابق ذكره وفيه: «فادعهم إلى أداء الجزية، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم» ولقوله تعالى في آية الجزية: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} [التوبة:29/ 9] إلى قوله تعالى {حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون} [التوبة:29/ 9] فالله سبحانه طالب بالكف عن قتال أهل الكتاب عند وجود الإسلام أو بذل الجزية، وبما أن الإسلام يعصم النفس والمال وما ألحق بهما، فكذا الجزية. وقال علي رضي الله عنه: «وإنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا، ودماؤهم كدمائنا» (¬1) وروى أبو داود والبيهقي وأحمد عن الرسول صلّى الله عليه وسلم من حديث أسامة قال: «ألا من ظلم معاهداً، أو انتقصه، أو كلفه فوق طاقته، أوأخذ شيئاً بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة» (¬2). والجزية نوعان: جزية صلحية: وهي جزية توضع بالتراضي والصلح، فتقدر بحسب ما يقع عليه الاتفاق، فلا حد لها ولا لمن تؤخذ منه إلا ما يقع عليه الصلح. وجزية عنوية تفرض فرضاً: وهي التي يبتدئ الإمام وضعها إذا غلب المسلمون على الكفار، واستولوا على بلادهم، وأقرهم الإمام على أمرهم. فيضع الإمام عند الحنفية والحنابلة على الغني الظاهر الغنى (وهو من يملك ¬
صفة عقد الذمة
عشرة آلاف درهم فصاعداً) في كل سنة ثمانية وأربعين درهماً، منجمة أي مقسطة على الأشهر، يأخذ في كل شهر أربعة دراهم. ويضع على المتوسط الحال (وهو من يملك مئتي درهم فصاعداً) أربعة وعشرين درهماً منجمة أيضاً على الأشهر، في كل شهر درهمين، وعلى الفقير المعتمل (وهو من يملك ما دون المئتي درهم، أو لا يملك شيئاً) اثني عشر درهماً منجمة أيضاً على الأشهر، في كل شهر درهماً (¬1). وذلك عملاً بفعل عمر رضي الله عنه الذي قسم أهل الذمة ثلاث طبقات: وهم الموسرون والمتوسطون والفقراء العاملون. ويرى المالكية: أن الجزية أربعة دنانير في كل عام على كل واحد من أهل الذهب، وأربعون درهماً على أهل الفضة، وذكر ابن جزي المالكي (¬2) أنه لا يزاد على ذلك لقوة أحد، ولا ينقص لضعفه، والراجح لدى المالكية أنه ينقص عن الفقير بحسب طاقته ووسعه. وذهب الشافعية (¬3) إلى أن أقل الجزية دينار، لحديث معاذ بن جبل: «أنه صلّى الله عليه وسلم لما وجهه إلى اليمن، أمره أن يأخذ من كل حالم ديناراً أو عدله من المعافر» (¬4) وهي ثياب يمنية، نسبة إلى حي من همدان في اليمن، تنسب إلىه الثياب المعافرية. ويستحب لدى الشافعية مماكسة (مشاححة) الذمي حتى يأخذ من المتوسط دينارين، ومن الغني أربعة دنانير، اقتداء بعمر رضي الله عنه، كما رواه البيهقي عنه. صفة عقد الذمة: اتفق الفقهاء على أن عقد الذمة عقد لازم من ناحية ¬
المسلمين، فلا يملك المسلمون نقضه بأي حال. وأما بالنسبة لغير المسلمين فهو عقد غير لازم، لكنه لا ينتقض عند الحنفية إلا بأحد أمور ثلاثة: وهي أن يسلم الذمي، أو يلحق بدار الحرب، أو يغلب الذميون على موضع فيحاربوننا، ولا ينتقض عهدهم بغير المذكور، كالامتناع من إعطاء الجزية، أو سب النبي صلّى الله عليه وسلم، أو قتل مسلم، أو الزنى بمسلمة؛ لأن التزام الجزية باق، ويستطيع الحاكم أن يجبره على أدائها، وأما بقية المخالفات فهي معاصي ارتكبوها وهي دون الكفر، وقد أقررناهم عليه، فما دونه أولى (¬1). ويرى جمهور الفقهاء، والشيعة الإمامية والزيدية، والإباضية: أن عهد الذمي ينتقض بمنعه أداء الجزية، أو امتناعه من تطبيق أحكام الإسلام العامة، أو بالاجتماع على قتال المسلمين؛ لأن هذه الأمور من مقتضى عقد الذمة، فارتكابها يخالف مقتضى العقد، فيوجب نقض المعاهدة. وكذلك قالوا ما عدا الشافعية والإمامية: ينتقض العقد بارتكاب المعاصي السابقة؛ لأن فيها ضرراً على المسلمين، فأشبه الامتناع عن بذل الجزية. أما الشافعية في الأصح عندهم، فإنهم يرون أن عهد الذمة لا ينتقض بارتكاب المعاصي إذا لم يشترط النقض في العقد، فإن اشترط على أهل الذمة انتقاض العهد انتقض، لمخالفة الشرط ولحوق الضرر بالمسلمين (¬2). واتفق الفقهاء على أن أهل الذمة ملتزمون بتطبيق أحكام الإسلام المدنية والجنائية، وأما العبادات ونحوها مما يدينون به كشرب الخمور وتربية الخنازير ¬
آراء الفقهاء في مقدار الجزية ووقت أدائها ومسقطاتها
وأكلها فيتركون وما يدينون بدون تظاهر. ولكن لا يجوز لهم إحداث بِيعة ولا كنيسة (¬1) ولا صومعة ولا بيت نار ولا مقبرة في دار الإسلام (¬2). ولهم فقط ترميم أماكن عبادتهم هذه. آراء الفقهاء في مقدار الجزية ووقت أدائها ومسقطاتها: يرى الحنفية والحنابلة أن الجزية مقدارها بحسب حال المكلف بها، فإن كان غنياً فيجب عليه ثمانية وأربعون درهماً، وإن كان متوسط الحال فعليه أربعة وعشرون درهماً، وإن كان فقيراً عاملاً فعليه اثنا عشر درهماً كما ذكر. وهذا التقدير ثابت عن سيدنا عمر رضي الله عنه (¬3). وقال المالكية في الأصح: مقدار الجزية أربعون درهماً، أي أربعة دنانير، وينقص عن الفقير بحسب وسعه وطاقته (¬4). وذكر ابن جزي أنه لا يزاد على أربعين درهماً (علماً بأن الدينار عندهم عشرة دراهم) لقوة أحد ولا ينقص لضعفه. وقال الشافعية مثل الحنفية والحنابلة: أقل الجزية دينار لكل سنة، ويؤخذ من متوسط الحال ديناران، ومن غني أربعة دنانير، اقتداء بعمر رضي الله عنه كما رواه البيهقي عنه، ودليلهم على أقل مقدار الجزية: ما رواه الترمذي وأبو داود وغيرهما ¬
عن معاذ رضي الله عنه: «أنه صلّى الله عليه وسلم لما وجهه إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم ديناراً، أو عِدله من المعافر، وهي ثياب تكون باليمن» (¬1). ويجب أداء الجزية عند الحنفية في أول السنة؛ لأنها تجب لحماية الذمي في المستقبل. وعند سائر المذاهب: تجب الجزية في آخر السنة؛ لأنه مال يتكرر بتكرار الحول، أو يؤخذ في آخر كل حول كالزكاة (¬2). وتسقط الجزية باختيار الإسلام باتفاق الفقهاء، لقوله عليه الصلاة والسلام فيما يرويه ابن عباس: «ليس على مسلم جزية» (¬3) وفي رواية للطبراني عن ابن عمر: «من أسلم فلا جزية عليه». وتسقط بالموت عند الحنفية والمالكية والزيدية؛ لأن الجزية في رأيهم عقوبة، فتسقط بالموت كالحدود. وعند الشافعية والحنابلة: لا تسقط بالموت وتؤخذ من التركة؛ لأنها دين وجب في الحياة، فلم يسقط بالموت كديون الناس. وتسقط الجزية أيضاً عند أبي حنيفة والزيدية بمضي السنة ودخول سنة أخرى؛ لأن الجزية عقوبة، فتتداخل مع بعضها كالحدود. وعند الصاحبين وسائر الأئمة: لا تتداخل الجزية وتجب الجزيات كلها؛ لأنها عوض، فتعتبر بمنزلة سائر الحقوق المالية كالدية والزكاة وغيرهما (¬4). ¬
حقوق الذميين وواجباتهم
حقوق الذميين وواجباتهم: للذميين حقوق وواجبات (¬1). أما حقوقهم فهي ما يأتي: 1ً -التزام تقريرهم في بلادنا إلا الحرم المكي في رأي الجمهور غير أبي حنيفة، لقوله تعالى: {إنما المشركون نجس، فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة:28/ 9] والمراد به الحرم، بدليل قوله تعالى: {وإن خفتم عيلة} [التوبة:28/ 9] وأجاز أبو حنيفة لهم دخول الحرم المكي كالحجاز كله، ولكنهم لا يستوطنون به، ومنع الاستيطان لا يمنع من دخوله. ومنع المالكية استيطان الكفار في جزيرة العرب، وهي الحجاز واليمن، لكنهم أجازوا لهم دخول الحرم المكي دون البيت الحرام بأمان. وأجاز الحنابلة دخول الكفار إلى الحجاز للتجارة، ولكن لا يمكنون من الإقامة فيه أكثر من ثلاثة أيام، وعن بعضهم: أربعة أيام. وحظر الإمام الشافعي تمكين الكافر من دخول مكة وحرمها بأي حال فإن دخلها خفية، وجب إخراجه، وإن مات ودفن فيها، نبش وأخرج منها ما لم يتغير. 2ً - وجوب الكف عنهم وحمايتهم، بسبب عصمة أنفسهم وأموالهم بالعقد، وإنهاء الحرب معهم ومسالمتهم، لحديث بريدة رضي الله عنه عند مسلم: «فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكفَّ عنهم»، وروى البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله صلّى الله عليه وسلم: أن يوفى لهم بعهدهم، وأن يقاتَل من وراءهم، ولا يكلَّفوا إلا طاقتهم». ¬
واجباتهم
3ً - عدم التعرض لكنائسهم ولا لخمورهم وخنازيرهم ما لم يظهروها، فإن أظهروا الخمر أرقناها عليهم، وإن لم يظهروها وأراقها مسلم، ضمنها في رأي المالكية والحنفية، ولا يضمنها في رأي الشافعية والحنابلة. ويؤدب منهم من أظهر الخنزير. وأما واجباتهم فهي ثلاثة عشر شيئاً هي: 1ً - أداء الجزية عن كل رجل في كل عام مرة، وهي دينار عند الشافعي، وإن صولحوا على أكثر من ذلك جاز، وأربعة دنانير عند الجمهور. 2ً - ضيافة المسلمين ثلاثة أيام إذا مروا عليهم. 3ً - دفع عشر ما يتجرون به في غير بلادهم التي يسكنونها. 4ً - ألا يبنوا كنيسة، ولا يتركوها مبنية في بلدة بناها المسلمون، أو فتحت عنوة، فإن فتحت صلحاً واشترطوا بقاءها جاز. 5ً - ألا يركبوا الخيل ولا البغال النفيسة، ولهم ركوب الحمير. 6ً - أن يمنعوا من جادة الطريق ويضطروا إلى أضيقه. 7ً - أن تكون لهم علامة يعرفون بها كالزنار ويعاقبون على تركها. 8ً - ألا يغشوا المسلمين، ولا يأووا جاسوساً، وألا يتواطؤا مع أهل الحرب على إيذاء المسلمين، وغير ذلك من كل ما فيه ضرر بالمسلمين. 9ً - ألا يمنعوا المسلمين من النزول في كنائسهم ليلاً ونهاراً. 10ً - أن يوقروا المسلمين، فلا يضربوا مسلماً ولا يسبونه ولا يستخدمونه. 11ً - أن يخفوا نواقيسهم، ولا يظهروا شيئآً من شعائر دينهم.
12ً - ألا يسبوا أحداً من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولا يظهروا معتقدهم، وألا يطعنوا في شرع الله عز وجل، وألا يتعرضوا للقرآن أو الرسول صلّى الله عليه وسلم بسوء. 13ً - إجراء أحكام الإسلام عليهم في المعاملات والعقوبات الجنائية، كتحريم الزنا، بدليل أن النبي صلّى الله عليه وسلم رجم يهودياً ويهودية زنيا (¬1)، والامتناع من التعامل بالربا وارتكاب الفواحش والمعاصي وأحوال الفسوق، لكنهم يقرون على تناول الخمر لاعتقادهم إباحته، إلا إذا ترافعوا إلينا، فيحكم بينهم بشريعتنا. ¬
الفصل الثالث: حكم الأنفال والغنائم
الفَصْلُ الثَّالث: حكم الأنفال والغنائم يترتب على قيام الحرب آثار في أموال العدو تعرف لدى الفقهاء بأموال الفيء والغنائم: وهي ما وصلت من الحربيين أو كانوا سبب وصولها (¬1). ومن هذه الأموال ما يعرف باسم خاص يخص به الإمام أحد المجاهدين ويعرف بالأنفال. فما معنى كل لفظ على حدة وما حكمه؟ 1 - النَّفَل: النفل في اللغة: عبارة عن الزيادة، وفي الاصطلاح: عبارة عما خصه الإمام لبعض المجاهدين تحريضاً لهم على القتال، سمي نفلاً، لكونه زيادة عن حصته من الغنيمة. والتنفيل: تخصيص بعض المجاهدين بالزيادة، كأن يقول ولي الأمر: من أصاب شيئاً فله ربعه أو ثلثه، أو فهو له، أو من قتل قتيلاً فله سَلبَه (¬2) أو يقول لسرية: «ما أصبتم فهو لكم». وهذا جائز لما فيه من تحريض على القتال، والله تعالى يقول: {يا أيها النبي حرِّض المؤمنين على القتال} [الأنفال:65/ 8] ويجوز التنفيل في سائر الأموال من الذهب والفضة والسَلبَ وغيرها. ¬
السلب
ولا بأس أن يُنفِّل الإمام في حال القتال، ويحرض بالنَّفَل على القتال، فيقول: من قتل قتيلاً فله سلبه، أو يقول لسرية (هي القطعة من الجيش): قد جعلت لكم الربع أو النصف بعد أخذ الخمس، لما فيه من تقوية القلوب، وإغراء المقاتلة على المخاطرة وإظهار الجلادة رغبة في القتال. وقال الله تعالى: {حرض المؤمنين على القتال} [الأنفال:65/ 8] وهذا نوع من التحريض. والسَّلب: هو ثياب المقتول وسلاحه الذي معه، ودابته التي ركبها بما عليها، وما كان معه من مال. وأما ما يكون مع خادم للمقتول على فرس آخر أو ما معه من أموال على دابة أخرى، فكله من الغنيمة التي هي من حق جماعة الغانمين كلهم. هذا مذهب الحنفية (¬1) والمالكية (¬2) الذي يقتضي أن القاتل لا يستحق سلب المقتول إلا بإذن الإمام، أي بأن ينفله له الإمام بعد انتهاء الحرب بطريق الاجتهاد. فإذا لم يجعل السلب للقاتل فهو من جملة الغنيمة، ويكون القاتل وغيره في السلب سواء؛ لأنه مأخوذ بقوة الجيش، فيكون غنيمة لهم. وقال الشافعية والحنابلة: يستحق القاتل سلب المقتول في كل حال بدون إذن الإمام (¬3) بدليل عموم قوله صلّى الله عليه وسلم: «من قتل قتيلاً فله سلبه» (¬4). ¬
وقد روي أن «أبا طلحة رضي الله عنه قتل يوم خيبر عشرين قتيلاً، وأخد أسلابهم» (¬1). ومنشأ الخلاف بين الفريقين: هل قوله صلّى الله عليه وسلم: «من قتل قتيلاً فله سلبه» صادر منه بطريق الإمامة أم بطريق الفتيا؟ قال الحنفية والمالكية: إن السلب لم يكن للقاتل إلا يوم حنين، فتخصيص بعض المجاهدين به موكول إلى اجتهاد الإمام، فهو تصرف مقول بطريق الإمامة والسياسة. وما وقع منه صلّى الله عليه وسلم بالإمامة لا بد فيه من إذن الإمام في كل عصر من العصور. وقال الشافعية والحنابلة: إن تنفيل السلب تصرف حادث من الرسول صلّى الله عليه وسلم بطريق الفتيا، لا بطريق الإمامة، وكل ما وقع منه بطريق الفتيا والتبليغ يستحق بدون قضاء قاض أوإذن إمام (¬2). وهذا الخلاف يجري في فهم حديث: «من أحيا أرضاً ميتة فهي له» (¬3) فهل يحتاج إصلاح الأرض لتملكها إلى إذن الإمام أو لا؟ رأيان كما لا حظنا. والتنفيل بناء على رأي الفريق الأول إنما يكون في مباح القتل، فلا يستحق بقتل غير المقاتلة كالصبي والمرأة والمجنون ونحوهم. ولا يشترط في استحقاق النفل سماع القاتل مقالة الإمام؛ لأن إسماع كل المجاهدين متعذر. ¬
حكم التنفيل
ويشترط لجواز التنفيل أن يكون قبل حصول الغنيمة في أيدي الغانمين، فإن حصلت في أيديهم، فلا نفل إلا من الخمس ونحوه. وحكم التنفيل: اختصاص القاتل بالنفل، فلا يشاركه فيه أحد من الغانمين، ولكن لا يتم تملكه إلا بالإحراز في دار الإسلام عند أبي حنيفة، وأبي يوسف. وأما عند محمد فيتم تملكه قبل الإحراز بدارنا (¬1). 2 - الفيء: الفيء في اللغة: الرجوع، واصطلاحاً: هو المال الذي يؤخذ من الحربيين من غير قتال، أي بطريق الصلح كالجزية والخراج (¬2). وقد كان الفيء لرسول الله صلّى الله عليه وسلم خاصة يتصرف فيه كيف شاء، لقوله تعالى: {وما أفاء الله على رسوله منهم، فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب، ولكن الله يسلط رسله على من يشاء، والله على كل شيء قدير} [الحشر:6/ 59] وروي عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه قال: «كانت أموال بني النضير مما أفاء الله عز وجل على رسوله صلّى الله عليه وسلم، وكانت خالصة له، وكان ينفق منها على أهله نفقة سنة، وما بقي جعله في الكُراع (¬3) والسلاح» (¬4). وأما بعد الرسول صلّى الله عليه وسلم فيكون الفيء لجماعة المسلمين، يصرف في مصالح المسلمين عامة. والفرق بين الرسول وغيره من الأئمة: أن الأئمة ينصرون بالقوة المعنوية لقومهم، أما الرسول عليه الصلاة والسلام فإنه منصور بما آتاه الله من هيبة ¬
خاصة به، كما قال عليه الصلاة والسلام: «نصرت بالرعب مسيرة شهر» (¬1). وبناء عليه: إذا دخل حربي في دار الإسلام بغير أمان، فأخذه أحد المسلمين، يكون فيئاً لجماعة المسلمين، ولا يختص به الآخذ عند أبي حنيفة؛ لأن سبب ثبوت الملك فيه متحقق بالنسبة لجميع أهل دار الإسلام. وعند الصاحبين: يكون للآخذ خاصة؛ لأن سبب الملك وهو الأخذ والاستيلاء وجد حقيقة من الآخد خاصة. ويخمَّس المنقول من الفيء كالغنيمة عند الشافعية، فيكون الخمس لمن ذكرته آية الغنائم: {واعلموا أنما غنمتم من شيء} [الأنفال:41/ 8] ويقسم الخمس خمسة أسهم: سهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم ويجعل بعد وفاته في مصالح المسلمين، وسهم ذوي القربى وهم بنو هاشم وبنو المطلب، وسهم اليتامى، وسهم المساكين، وسهم أبناء السبيل. وأما عقارات الفيء فتوقف لمصالح بيت مال المسلمين، لآية الفيء السابقة: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فللَّه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} [الحشر:7/ 59] ومن مصارف الفيء: النفقة على أسر المجاهدين والشهداء، وهم المرتزقة، وعلى العلماء ونحوهم ممن تحتاج إليهم الأمة. ¬
3 - الغنيمة
3 - الغنيمة: الغنيمة في اللغة: الفوز بالشيء بلا مشقة، واصطلاحاً: هي ما أخذ من أموال أهل الحرب عنوة بطريق القهر والغلبة (¬1)، وللغنائم أحكام: الحكم الأول ـ ثبوت الحق والملك فيها: إن حق الغانمين في تملك الغنائم عند الحنفية يتدرج في مراتب ثلاث، يثبت في أولها أصل الحق العام، ويتأكد في ثانيها هذا الحق، ويتخصص في ثالثها حق كل مجاهد به. ففي المرتبة الأولى ـ يتعلق أصل الحق العام في تملك الغنيمة للغانمين بمجرد الأخذ والاستيلاء، ولكن لا تثبت الملكية قبل الإحراز بدار الإسلام عند الحنفية (¬2). وعند بقية الأئمة والشيعة الزيدية والإمامية: تنتقل ملكية أموال العدو إلى الغانمين بمجرد الاستيلاء، فيثبت لهم الملك في الغنيمة قبل الإحراز بدار الإسلام (¬3). إلا أن الراجح عند الشافعية أن تملك أموال الأعداء لا يثبت إلا بالاستيلاء مع القسمة أو اختيار التملك (¬4). وقد فرع الحنفية على الأصل المقرر عندهم هذه الفروع الفقهية: أـ إذا مات واحد من الغانمين في دار الحرب لا يورث نصيبه. ¬
ب ـ إذا باع الإمام شيئاً من الغنائم، لا لحاجة المجاهدين، لا يجوز. جـ ـ إذا أتلف أحد الغانمين شيئاً، لا يضمنه. د ـ إذا لحق المدد الجيش في دار الحرب، فأحرزوا جميعهم الغنائم إلى دار الإسلام، يشاركونهم في القسمة. هـ ـ إذا قسم الإمام الغنيمة في دار الحرب قسمة مجازفة بدون اجتهاد ولا لحاجة المجاهدين، فإن القسمة لا تصح. وأما عند الأئمة الآخرين فإن حكم هذه الفروع على العكس تماماً مما هو مقرر لدى الحنفية. وأما فائدة ثبوت أصل الحق العام في الغنيمة عند الحنفية فهو يظهر فيما يلي: إذا أسلم الأسير في دار الحرب، فإنه لا يكون حراً، ويدخل في قسمة الغنيمة، وإذا أسلم قبل الأسر يكون حراً، ولا يدخل في القسمة؛ لأنه بالأسر يتعلق به حق الغانمين، فإذا وجد الإسلام قبل الأسر لم يتعلق به حق أحد. ولو أسلم أرباب الأموال قبل الإحراز بدار الإسلام، فإن أموالهم لا تكون خاصة بهم، وإنما يساهمون مع غيرهم من المجاهدين في القسمة والاستحقاق، بسبب اشتراكهم مع المجاهدين في الإحراز بدار الإسلام، فيكونون كالمدد اللاحق بالجيش. وكذلك ليس لأحد المجاهدين أن يأخذ شيئاً من الغنائم من غير حاجة، لثبوت أصل الحق العام للغانمين فيما غنموه، ولو لم يثبت أصل الحق، لكان المال الذي غنم بمنزلة المباح (¬1). ¬
أوجه الانتفاع بالغنيمة في دار الحرب
استدل الحنفية على مذهبهم بأن الاستيلاء إنما يفيد الملك إذا ورد على مال مباح غير مملوك لأحد، وهذا المعنى لم يتوافر في الغنيمة؛ لأنها مملوكة للأعداء في الأصل، ولم تزل ملكيتهم عنها إلا بالإحراز بدار الإسلام. واستدل غير الحنفية بأن سبب الملك هو الاستيلاء التام، وقد وجد فيفيد الملك، كالاستيلاء على سائر المباحات كالحطب والحشيش ونحوهما، ثم إن الأدلة الدالة على استحقاق الغنيمة عامة، مثل قوله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء} [الأنفال:41/ 8] الآية (¬1). وفي المرتبة الثانية ـ أي بعد الإحراز بدار الإسلام قبل القسمة: يتأكد الحق العام في الغنيمة ويستقر على ملك الغانمين، ولكن لا يثبت الملك أيضاً عند الحنفية. ولهذا قالوا: لو مات أحد المجاهدين، يورث نصيبه، ولو باع الإمام شيئاً من الغنيمة أو قسمها، جاز، ولو لحقهم مدد لا يشاركون الغانمين، وإذا أتلف أحد شيئاً من الغنيمة يضمنه. وفي المرتبة الثالثة ـ أي بعد الإحراز والقسمة يثبت الملك الخاص لكل واحد من المجاهدين فيما هو نصيبه؛ لأن القسمة إفراز الأنصباء وتعيينها (¬2). أوجه الانتفاع بالغنيمة في دار الحرب: إذا تم الاستيلاء على الغنائم، فلا بأس بالانتفاع بها عند الحنفية قبل الإحراز بدار الإسلام، وذلك بالأكل والشرب والعلف والحطب منها، لعموم حاجة الغانمين، سواء أكان المنتفع غنياً أم فقيراً؛ ¬
لأن في إلزام الغني حمل الطعام والعلف من دار الإسلام إلى دار الحرب، مدة الذهاب والإياب والإقامة، حرجاً عظيماً، فكانت الحاجة عامة. ولا يباح لهم بيع شيء مما يباح الانتفاع به، إذ لا ضرورة إلى البيع، ولو باع أحدهم شيئاً ردّ ثمنه إلى الغنيمة، إن تم البيع قبل قسمة الغنيمة. أما بعد القسمة: فإن كان البائع غنياً تصدق بقيمة المبيع على الفقراء، لتعذر توزيعه على الغانمين، وإن كان البائع فقيراً أخذ القيمة؛ لأن المبيع، لو كان موجوداً، لكان له حق أكله. وكذلك إذا فضل شيء من الطعام والعلف من الغانمين بعد الإحراز بدا ر الإسلام، فإنه قبل القسمة يرد إلى الغنيمة إن كان حامله غنياً، وإن كان فقيراً يأكل منه. أما بعد القسمة: فإن كان حامل الطعام أو العلف غنياً، تصدق به على الفقراء إن كان موجوداً، وبقيمته إن كان هالكاً، وإن كان فقيراً ينتفع به. فإن لم يفضل شيء في يد من أخذ الطعام والعلف قبل الإحراز بدار الإسلام، فإنه لا يجوز الانتفاع بشيء من الغنيمة بعد الإحراز بدار الإسلام، لزوال المبيح، وهي الضرورة (¬1). وأما ما عدا الطعام والعلف من الأموال: فلا يباح للمجاهدين أن يأخذوا شيئاً منها، لتعلق حق الجماعة بها، إلا أنه إذا احتاج أحدهم إلى استعمال شيء من السلاح أو الدواب أو الثياب، لصيانة سلاحه ودابته وثيابه، فلا بأس باستعماله، فإن استغنى عنه رده إلى المغنم؛ لأن المحظور يستباح للضرورة، والضرورة تقدر بقدرها (¬2). ¬
الحكم الثاني ـ كيفية ومكان قسمة الغنائم
وإذا أراد المسلمون العودة إلى دار الإسلام ومعهم مواشٍ أو أسلحة، ولم يقدروا على نقلها إلى دار الإسلام، ذبحوا المواشي وأحرقوها بعد الذبح، وأتلفوا الأسلحة حتى لا يستفيد منها العدو. الحكم الثاني ـ كيفية ومكان قسمة الغنائم: إن كيفية توزيع الغنائم موضحة في قوله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء، فأن لله خمسه، وللرسول، ولذي القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله، وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان، والله على كل شيء قدير} [الأنفال:41/ 8] فتقسم الغنيمة خمسة أسهم: الخمس لمن ذكرتهم الآية والأربعة الأخماس للغانمين، وهذا ما بينه ابن عباس: قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا بعث سرية، فغنموا، خمَّس الغنيمة، فضرب ذلك الخمس في خمسة، ثم قرأ: {واعلموا أنما غنمتم من شيء ... } [الأنفال:41/ 8] الآية، فجعل سهم الله وسهم الرسول واحداً، ولذي القربى، فجعل هذين السهمين قوة في الخيل والسلاح، وجعل سهم اليتامى والمساكين وابن السبيل لا يعطيه غيرهم، وجعل الأسهم الأربعة الباقية: للفرس سهمين، ولراكبه سهماً، وللراجل سهماً (¬1). ويقول بعض العلماء: تقسم الغنيمة على ستة أسهم، منها سهم الكعبة. وقال الإمام مالك: إن أمرالقسمة موكول إلى نظر الإمام، ومصروف في مصالح المسلمين. وما ذكر في الآية تنبيه على أهم من يدفع إليهم الخمس (¬2). ¬
المراد بذي القربى
وسهم الرسول صلّى الله عليه وسلم عند جمهور الفقهاء: كان يأخذ منه الرسول كفايته لنفسه وعياله ويدخر منه مؤنة سنة، ثم يصرف الباقي في مصالح المسلمين العامة كشراء الأسلحة ونحوها، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إنا معشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة» (¬1). والصحيح عند الحنفية أن سهم ذوي القربى كان يصرف للفقراء منهم دون الأغنياء. وقال جمهور الفقهاء: يشترك الغني والفقير والنساء في سهم القرابة، لإطلاق الآية: {ولذي القربى} [الأنفال:41/ 8] ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم أعطى العباس منه، وكان من أغنياء قريش، وكان الزبير يأخذ سهم أمه صفية عمة النبي صلّى الله عليه وسلم. ثم اختلف الناس في سهم الرسول صلّى الله عليه وسلم وسهم ذي القربى بعد وفاته. فقالت طائفة، منهم الشافعية: سهم الرسول عليه السلام للخليفة من بعده. وقالت طائفة: سهم ذي القربى لقرابة الخليفة. وأجمعوا أن جعلوا هذين السهمين في المصالح العامة كالخيول والأسلحة للجهاد في سبيل الله. وقالت الحنفية: سقط سهم الرسول بموته؛ لأنه كان يأخذه بوصف الرسالة، لا بوصف الإمامة. وهذا مخالف لجمهور الأئمة. والمراد بذي القربى هنا: هم بنو هاشم وبنو طالب دون بني عبد شمس وبني نوفل؛ لأن الأوائل لم يفارقوا الرسول صلّى الله عليه وسلم في جاهلية ولا إسلام، كما قال الرسول صلّى الله عليه وسلم، وشبك بين أصابعه (¬2). ويصرف اليوم في المصالح العامة. ¬
الأربعة الأخماس
والخلاصة: أن مذاهب الفقهاء في قسمة خمس الغنيمة بعد عهد النبوة مايأتي: قال الحنفية: تقسم على ثلاثة أسهم: سهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لأبناء السبيل. وأما ذكر الله تعالى في الخمس فإما هو لافتتاح الكلام، تبركاً باسمه تعالى. وسهم النبي صلّى الله عليه وسلم سقط بموته، كما سقط الصَّفي: وهو شيء كان يصطفيه النبي صلّى الله عليه وسلم لنفسه، أي يختاره من الغنيمة، مثل درع وسيف. وسهم ذوي القربى كانوا يستحقونه في زمن النبي صلّى الله عليه وسلم بالنصرة له، وبعد وفاته بالفقر لانقطاع النصرة. وقال الشافعي وأحمد والظاهرية وجمهور المحدثين: توزع الغنيمة على خمسة أسهم: أولها ـ سهم المصالح (سهم الله ورسوله) وثانيها ـ سهم ذوي القربى وهم بنو هاشم من أولاد فاطمة وغيرها، وثلاثة أسهم أخرى إلى ما نص الله عليهم. وقال الإمام مالك: إن القسمة مفوض أمرها إلى الإمام، يفعل ما يراه مصلحة (¬1). وأما الأربعة الأخماس: فهي للغانمين، ويساهم فيها الرجل المسلم المقاتل بأن يكون من أهل القتال، ودخل المعركة على قصد القتال، سواء قاتل أم لم يقاتل؛ لأن الجهاد إرهاب للعدو. ¬
المرأة والصبي المميز والذمي
أما المرأة والصبي المميز والذمي: فليس لهم سهم كامل؛ لأنهم ليسوا من أهل القتال، ولكن يرضخ (¬1) لهم بحسب ما يرى الإمام من عنايتهم. ومقدار الاستحقاق يختلف بحسب ما إذا كان القاتل فارساً أوراجلاً، فقال أبو حنيفة والشيعة الإمامية: يعطى للفارس سهمان، وللراجل سهم واحد. وقال الصاحبان وجمهور العلماء والشيعة الزيدية: يعطى للفارس ثلاثة أسهم، وللراجل سهم واحد. وسبب تفضيل الفارس على الراجل: هو أن المحارب كان في الماضي يملك الفرس التي يخرج بها للجهاد، ويلتزم بمؤونتها. ومذهب الجمهور أصوب لصحة ثبوته عن الرسول صلّى الله عليه وسلم، فإنه كما روى ابن ماجه والبيهقي أن الرسول صلّى الله عليه وسلم أسهم يوم حنين للفارس ثلاثة أسهم: للفرس سهمان وللرجل سهم (¬2). وأما حديث الدارقطني الذي نصه: «للفارس سهمان وللراجل سهم» ففي إسناده ضعيف وفي متنه وهم (¬3). ¬
وصف المقاتل المستحق للغنيمة
ولا يسهم لأكثر من فرس واحد عند أبي حنيفة ومحمد وزفر؛ لأن الإسهام للخيل في الأصل، ثبت على خلاف القياس، إلا أن الشرع ورد به لفرس واحد، فالزيادة عليها ترد إلى أصل القياس. وقال أبو يوسف: يسهم لفرسين إذا كانتا مع الفارس؛ لأن المجاهد قد يحتاج إلى فرسين يركب أحدهما، فإذا عيي ركب الآخر (¬1). وصف المقاتل المستحق للغنيمة: المعتبر في تحديد وصف المقاتل بكونه فارساً أو راجلاً في ظاهر الرواية عند الحنفية: هو وقت دخوله دار الحرب بقصد الجهاد، حتى إنه إذا دخل تاجراً، فإنه لا يستحق شيئاً من الغنيمة، ولو دخل فارساً ثم مات فرسه يستحق سهم الفرسان، ودليلهم أن إرهاب العدو يحصل بمجرد اجتياز حدود دار الحرب، وأن معرفة حقيقة القتال وشهود الوقعة أمر متعذر أو متعسر، فيعتبر بالنسبة لكل المستحقين السبب المفضي إلى القتال ظاهراً، وهو اجتياز الحدود. ويترتب على هذا المذهب أيضاً أنه لو دخل المجاهد إلى دار الحرب راجلاً، ثم اشترى فرساً، أو وهب له، أو ورثه، أو استعاره، أو استأجره، فقاتل فارساً: فله سهم الراجل، لاعتبار حالة دخوله إلى دار الحرب. وقيل: له سهم فارس. وأما الصورة العكسية لهذا، وهي أنه لو دخل فارساً، ثم باع فرسه، أو آجره أو وهبه، أو أعاره، فقاتل، وهو راجل: فإنه في ظاهر المذهب يستحق سهم راجل، كما في السير الكبير لمحمد؛ لأنه لما باع فرسه مثلاً تبين أنه لم يقصد الجهاد فارساً، بل قصد به التجارة، والعبرة في الاستحقاق: اجتياز الحدود بقصد ¬
مكان قسمة الغنائم
الجهاد. وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله أنه يستحق سهم الفرسان، بحسب حالته وقت مجاوزة الحدود (¬1). وقال جمهور الفقهاء: المعتبر في تحديد وصف المستحق للغنيمة هو من حضر المعركة بنية القتال وإن لم يقاتل مع الجيش (¬2)، لقول أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما: «إنما الغنيمة لمن شهد الوقعة» (¬3) قال الماوردي: ولا مخالف لهما من الصحابة. ويترتب على هذا: أنه لو لحق المدد بالمسلمين بعد انقضاء القتال، فإنهم لا يستحقون شيئاً من الغنيمة، خلافاً للحنفية، كما سبق لدينا: وهو أن المدد يشارك المقاتلة في الغنائم قبل القسمة، أو قبل إحرازها بدار الإسلام. مكان قسمة الغنائم: يرى جمهور الفقهاء والظاهرية والشيعة الإمامية والزيدية: أنه يجوز قسمة الغنائم في دار الحرب بعد انهزام العدو، بل إنه يستحب؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم اعتمر من الجِعْرانَة (موضع بين مكة والطائف) حيث قسم غنائم حنين (واد بينه وبين مكة ثلاثة أميال) (¬4) وقسم الرسول عليه الصلاة والسلام الغنائم بذي الحُليفة (ميقات ¬
استيلاء الكفار على أموال المسلمين
أهل المدينة) (¬1)، وافتتح بلاد بني المصطلق، فقسم الرسول أموالهم في دارهم (¬2). ويقول الحنفية: لا يجوز قسمة الغنائم في دار الحرب، حتى يخرج الجيش إلى دار الإسلام. هذا إذا كان المكان غير متصل بدار الإسلام، فإن كان متصلاً بها، ففتح وأجري عليه حكم الإسلام، كما هو شأن غنائم حنين، فلا بأس بالقسمة. والسبب في عدم جواز القسمة عندهم هو أن ملكية الغنائم لا تتم إلا بالاستيلاء، ولا يتم الاستيلاء إلا بالإحراز في دار الإسلام. ومع هذا إذا قسم الإمام الغنائم بدار الحرب عن اجتهاد، أو لحاجة المجاهدين، فتصح القسمة، أو للإيداع فتحل إذا لم يكن عند الإمام وسائط نقل أو حمولة (¬3). استيلاء الكفار على أموال المسلمين: قال جمهور الفقهاء ومنهم الحنفية: يملك الكفار أموال المسلمين، أو الذميين في دار الإسلام بالقهر والغلبة، إلا أن الحنفية قالوا: لا يثبت تملكهم لأموالنا إلا بالإحراز في دار الحرب، فلو تمكن المسلمون من غلبتهم وأخذوا ما في أيديهم لا يصير ملكاً لهم، وعليهم ردها إلى أربابها بغير شيء، وكذا لو قسموها في دار الإسلام، ثم غلبهم المسلمون، فأخذوها من أيديهم، فإنها ترد إلى أصحابها؛ لأن قسمتهم لا تعتبر جائزة لعدم وجود الملكية. ¬
الأدلة
وقال الشافعية والظاهرية: لا يملك الكافر مال المسلم أو الذمي بطريق الغنيمة. الأدلة: أدلة الجمهور: 1 - استدل الحنفية بأن الكفار استولوا على مال مباح غير مملوك، ومن استولى على مال مباح غير مملوك يملكه، كمن استولى على الحطب والحشيش والصيد، والدليل عل أنه غير مملوك أنه زال ملك المسلم عنه باستيلاء العدو وإحرازه في بلاده؛ لأنه حينئذ لا يتمكن من الانتفاع بماله إلا بدخوله دار الحرب، وهو غير مستطاع. واستدل غير الحنفية: بأن الاستيلاء سبب للملك، فيثبت قبل الحيازة إلى دار الحرب، كاستيلاء المسلمين على مال غيرهم. 2 - قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لمن وجد بعيره في الغنيمة: «إن وجدته لم يقسم فخذه، وإن وجدته قد قسم فأنت أحق به بالثمن إن أردته» (¬1) فهذا يدل على تملك الأعداء للبعير، وأولوية مالكه الأول بعينه. وللجمهور أدلة أخرى. واستدل الشافعية بأدلة، منها أن ابن عمر ذهب له فرس، فأخذها العدو، فظهر عليهم المسلمون، فرد عليه في زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأبَق (هرب) له عبد، فلحق بالروم، فظهر عليهم المسلمون، فرده عليه خالد بن الوليد بعد النبي صلّى الله عليه وسلم في ¬
رد المال على صاحبه
زمن أبي بكر الصديق، والصحابة متوافرون من غير نكير منهم (¬1). قال القسطلاني: وفيه دليل للشافعية وجماعة على أن أهل الحرب لا يملكون بالغلبة شيئاً من مال المسلمين، ولصاحبه أخذه قبل القسمة وبعدها (¬2). رد المال على صاحبه: إذا افترضنا أن العدو ظفر بأموال المسلم أو الذمي، ثم تغلب المسلمون على أعدائهم، فإذا عرف صاحب المال قبل قسمة الغنيمة، فإنه يجب رد هذه الأموال على أصحابها عند جماهير العلماء، ومنهم أئمة المذاهب الأربعة. أما إذا كانت الغنيمة قد قسمت، ثم عرف صاحب المال، فله أخذه بعد دفع قيمته عند المالكية والحنفية، والحنابلة في الأظهر عن أحمد، والزيدية. وقال الشافعية والظاهرية والشيعة الإمامية: إن صاحب المال يستحقه من غير شيء، ويعطى من كان عنده ثمنه من خمس المصالح؛ لأنه يشق نقض القسمة (¬3). أموال الحربي الذي أسلم قبل تمام الفتح: إذا أسلم الحربي قبل أن يتم الفتح الإسلامي لبلده، فما أثر هذا الإسلام على ماله الكائن في دار الحرب؟ يرى المالكية في الراجح عندهم: أن مال هذا الشخص يعتبر فيئاً وغنيمة إذا ظفر المسلمون ببلاده، سواء بقي في دار الحرب أم فرَّ إلى دار الإسلام. ¬
وهو رأي الحنفية والإمامية والزيدية في العقار والأرض، أما المنقول: فإن الإسلام يعصمه، ولكنهم اشترطوا أن يكون المنقول تحت يد صاحبه. وقال الشافعية والحنابلة والظاهرية: إن الإسلام يعصم المال، سواء أكان عقاراً أم منقولاً. وسبب الخلاف بين الفقهاء: هو أن العاصم للمال والدم، هل هو الإسلام أو الدار؟ فالفريق الأول يقول: إن العاصم هو الدار، فما لم يحز المسلم ماله وولده بدار الإسلام، وأصيب في دار الكفر، فهوفيء. وقال الفريق الثاني: العاصم هو الإسلام (¬1). ¬
الفصل الرابع: حكم الأسرى
الفَصْلُ الرّابع: حكم الأسرى والسّبي الأسرى: هم الرجال المقاتلون من الكفار إذا ظفر المسلمون بأسرهم أحياء. والسبي: هم النساء والأطفال. والكلام عنهم يطول جداً، ولذا سأقصر الكلام على بحث حكم الأسرى والسبي بعد أسرهم وسبيهم، ومن المعلوم أن الأسر مشروع لقوله تعالى: {وخذوهم واحصروهم} [التوبة:5/ 9] وقوله سبحانه: {فشدوا الوَثاق} [محمد:4/ 47] وهو كناية عن الأسر، والأسر في حرب المسلمين قليل؛ لأن المسلم لا يأسر عدوه عادة إلا في نهاية المعركة، أما في أثنائها فنادر، والأسير عالة على الآسر. والثابت من فعل الرسول صلّى الله عليه وسلم أنه كان يمن على بعض الأسارى ويقتل بعضهم، ويفادي بعضهم بالمال، أو بالأسرى (¬1)، وذلك على حسب ما تقتضيه المصلحة العامة ويراه ملائماً لحال المسلمين. وأبدأ أولاً بحكم السبي: ¬
حكم السبي
حكم السبي: يعرف حكم السبي ببحث الأحوال التي قد يتعرضون لها، وهي: القتل والاسترقاق، والمن والفداء (¬1). أما القتل بعد الأسر فلا يجوز للنساء والذراري، أي الأولاد باتفاق العلماء، سواء أكانوا من أهل الكتاب، أم من قوم ليس لهم كتاب كالدهرية (¬2) وعبدة الأوثان والثنوية (¬3). فإن اشترك النساء والأولاد في القتال مع قومهم بالفعل أو بالرأي، جاز قتلهم في أثناء القتال، وبعد الأسر عند جمهور الأئمة، لوجود العلة في قتل الأعداء: وهي المقاتلة. وخالف الحنفية في حالة القتل بعد الأسر، فلم يجيزوا قتل المرأة والصبي والمعتوه الذي لا يعقل؛ لأن القتل بعد الأسر بطريق العقوبة، وهم ليسوا من أهل العقوبة. فأما القتل حال نشوب المعركة، فلدفع شر القتال، وقد وجد الشر منهم، فأبيح قتلهم فيه، لدفع الشر، وقد انعدم الشر بالأسر. وأما الرق: فإنه إذا لم يجز قتل السبي بعد الأسر كما تقدم، فإن المالكية يرون أن الإمام يخير حينئذ بين الاسترقاق والمن والفداء. وقال الحنفية: يسترقهم الإمام، سواء أكانوا من العرب أم من العجم؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم استرق نساء هوازن وذراريهم (¬4)، وكذا الصحابة استرقوا نساء المرتدين من العرب وذراريهم. ¬
المن
وقال الشافعية والحنابلة والزيدية والإمامية: يصيرون أرقاء بنفس السبي ويقسمون مع الغنائم؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقسم السبي كما يقسم المال (¬1). ويلاحظ أن إرقاق السبي كان معاملة بالمثل؛ لأن مشروعية الرق في الإسلام، كانت على أساس تقرير الواقع الذي كان موجوداً قبل الإسلام؛ ولتهيئة الأذهان للتخلص منه بالعتق مع مرور الزمن. وأما المن: فقد أجاز المالكية أن يمن الإمام على السبي بإطلاق سراحهم إلى بلادهم بدون مقابل. وكذلك أجاز الشافعية والحنابلة لولي الأمر المن على السبي، ولكن بشرط استطابة أنفس الغانمين، إما بالعفو عن حقوقهم، أو بمال يعوضهم من سهم المصالح. ولم يجز الحنفية المن مطلقاً، حتى لا يعود السبي حرباً على المسلمين؛ لأن النساء يقع بهن نسل، والصبيان يبلغون، فيصيرون حرباً كذلك. وأما الفداء: فقد أجازه المالكية، فللإمام أن يفادي بالنفوس من نساء أو صبيان. وأجازه الإباضية أيضاً بالنفوس والمال. وأجازه الشافعية على مال أو أسرى من المسلمين في أيدي الأعداء بعد تعويض الغانمين عنهم من سهم المصالح، بدليل أن الرسول صلّى الله عليه وسلم سبى نساء بني قريظة وذراريهم، فباعهم من المشركين (¬2). ولم يجز الحنفية والحنابلة الفداء بالسبي، لا على مال، ولا على أسرى من المسلمين في أيدي قومهم. ¬
حكم الأسرى
حكم الأسرى: اتفق الفقهاء على أن لولي الأمر أن يفعل بالنسبة للأسرى ما يراه الأوفق لمصلحة المسلمين، ويختار أحد أمور حددها كل واحد من أصحاب المذاهب بما هداه إليه اجتهاده (¬1). مذهب الحنفية: أن ولي الأمر مخير في الأسرى بين أمور ثلاثة: إما القتل، وإما الاسترقاق، وإما تركهم أحراراً ذمة للمسلمين، إلا مشركي العرب والمرتدين، فإنهم لا يسترقون، ولا تعقد لهم الذمة، ولكن يقتلون إن لم يسلموا، لقوله تعالى: {ستُدعون إلى قوم أولي بأس شديد، تقاتلونهم أو يسلمون} [الفتح:16/ 48] ولقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب» (¬2). ولا يجوز في رواية عن أبي حنيفة الفداء بالمال أو بالأسرى بعد تمام الحرب. وعند الصاحبين: يجوز الفداء بالأسارى، وجاء في السير الكبير لمحمد بن الحسن: أنه يجوز الفداء بالمال عند الحاجة أو بأسرى المسلمين؛ لأنه ثبت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم في صحيح مسلم وغيره: أنه فدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين (¬3)، وفدى بامرأة ناساً من المسلمين، كانوا أسرى بمكة (¬4). ¬
وقال محمد: الجواز أظهر الروايتين عن أبي حنيفة، وفدى الرسول عليه الصلاة والسلام الأسارى يوم بدر بالمال (¬1). ويحرم المن على الأسرى عند جمهور الحنفية؛ لأن في المن تمكين الأسير من أن يعود حرباً على المسلمين، فيقوي عدوهم عليهم، وهو لا يحل. ويرى الإمام محمد: أنه يجوز المن على بعض الأسارى إن رأى الإمام فيه النظر للمسلمين؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلم منَّ على ثمامة بن أُثال الحنفي حين أسره المسلمون، وربطوه بسارية من سواري المسجد (¬2). لكن يجوز باتفاق الحنفية المن على الأسرى تبعاً للأراضي، كيلا يشغل الفاتحون بالزراعة عن الجهاد. ومذهب الشافعية والحنابلة والإمامية والزيدية والظاهرية: أن الإمام أو من استنابه من أحد أركان حربه يفعل ماهو الأصلح والأحظ للإسلام والمسلمين من أحد أمور أربعة: وهي القتل والاسترقاق والمن والفداء بمال أو بأسرى، يفعل ذلك بالاجتهاد لا بالتشهي، فإن خفيت عليه المصلحة حبسهم حتى يظهر له وجهها. وتقدير المصلحة يتم بحسب ما يرى في الأسير من قوة بأس وشدة نكاية، أو أنه مأمون الخيانة، أو مرجو الإسلام، أو مطاع في قومه، أو أن المسلمين في حاجة إلى المال. ¬
الأدلة
ومذهب المالكية: أن الإمام يتخير بما هو مصلحة للمسلمين في الأسرى قبل قسم الغنيمة بين أحد أمور خمسة: القتل، والاسترقاق، والمن، والفداء، وضرب الجزية عليهم. الأدلة (¬1): استدل الفقهاء على جواز قتل الأسرى بعموم آيات القتال، مثل قوله تعالى: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} [التوبة:5/ 9] وبما ثبت في السنة عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قتل بعض الأسرى يوم بدر، فأمر بقتل عقبة بن أبي مُعيط والنضر بن الحارث، لشدة إيذائهما للرسول عليه الصلاة والسلام ولصحبه (¬2). وأمر النبي صلّى الله عليه وسلم يوم أحد بقتل أبي عزة الشاعر الذي أطلق الرسول سراحه يوم بدر، فنظم بعدئذ شعراً يحرض به على قتال المسلمين، وفتح الرسول مكة وأمر بقتل هلال بن خطَل، ومِقْيس بن صبابة، وعبد الله بن أبي سرح، وقال: «اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة» (¬3). ثم إنه قد يكون في قتل بعض الأسرى مصلحة كبرى للمسلمين حسماً لمادة الفساد، واستئصالاً لجذور الشر، وقطع شرايين الفتنة، وهذا كله بحسب الضرورة. واستدلوا على جواز استرقاق الأسرى الذي كان معاملة بالمثل مع الأمم ¬
الحكمة من الإبقاء على مشروعية الرق في النصوص الشرعية
الأخرى بسبب الحرب بقوله تعالى: {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم، فشدوا الوثاق، فإما منَّاً بعد، وإما فداءً} [محمد:4/ 47] قالوا: إن الاسترقاق قد فهم من الأمر بشد الوثاق، كما استدلوا بما ثبت في السير والمغازي من أن الرسول صلّى الله عليه وسلم استرق بعض العرب كهوازن وبني المصطلق وقبائل من العرب (¬1)، واسترق النبي أسرى في غزوة خيبر وقريظة وفي غزوة حنين، وسبى أبو بكر وعمر رضي الله عنهما بني ناجية من قريش، وفتحت الصحابة بلاد فارس والروم، فسبوا من استولوا عليه. والحكمة من الإبقاء على مشروعية الرق في النصوص الشرعية: هو مراعاة الأوضاع القائمة في المجتمعات القديمة، لأن الرق كان عماد الحياة الاجتماعية والاقتصادية، ولا يعقل أن يحرمه الإسلام ويبقى مباحاً عند الأمم الأخرى التي تسترق أسرى المسلمين، ولا يعاملهم المسلمون بالمثل، والمعاملة بالمثل كان منهج الشريعة والخلفاء في العلاقات الخارجية، عملاً بأحكام السياسة الشرعية المؤقتة، وتحقيقاً للمصلحة الإسلامية العامة، ولكن الإسلام أيقظ الضمير العالمي بتنبيه الناس إلى علاج مشكلة الأرقاء وضرورة الإحسان إليهم في المعاملة والتخلص التدريجي من هذه الظاهرة بالعتق وفتح منافذ دينية له، حتى إن العتق من أفضل القربات إلى الله تعالى. وأما المن فثابت جوازه في قوله تعالى: {فإما مناً بعد وإما فداء} [محمد:4/ 47] وادعاء نسخ هذه الآية بآية براءة السابق ذكرها وهي {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} [التوبة:5/ 9] لا دليل عليه، ولا حاجة إليه، لإمكان الجمع بين الآيتين، بحمل آية براءة على الأمر بالقتال عند وجود العدوان، وفي أثناء قيام ¬
الفداء أو المفاداة
الحرب مع الأعداء، وقصر آية المن على حالة ما بعد الانتهاء من الحرب والوقوع في قيد الأسر. وقد منَّ الرسول صلّى الله عليه وسلم على ثُمامة بن أُثال الحنفي سيد أهل اليمامة (¬1) كما منَّ على أبي عزة الجمحي الشاعر، وأبي العاص بن الربيع، والمطَّلب بن حَنْطب يوم بدر، ومنَّ أيضاً على أهل مكة بقوله عليه السلام: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» وكذا منَّ على أهل خيبر (¬2). وقال في أسارى بدر: «لو كان المطعم بن عدي حياً ثم كلمني في هؤلاء النتنى، لتركتهم له» (¬3) أي لأطلقتهم له بغير فداء أي بالمن. وأما الفداء أو المفاداة: وهو تبادل الأسرى أو إطلاق سراحهم على عوض، فهو جائز بآية سورة محمد السابقة: {فإما مناً بعد وإما فداء} [محمد:4/ 47]، وأول حادثة فداء كانت إثر سرية عبد الله بن جحش، حيث قبل الرسول عليه الصلاة والسلام الفداء في الأسيرين اللذين أسرا في هذه السرية قبل غزوة بدر بشهرين (¬4). وفيما بعد موقعة بدر كان فداء الأسارى أربعة آلاف درهم إلى ما دون ذلك (¬5)، فمن لم يكن له شيء أمر أن يعلم صبيان الأنصار الكتابة والقراءة. وليس في المفاداة إعانة لأهل الحرب، كما قال المانعون للفداء، وهم الحنفية، إذ إن تخليص المسلم من قيد الأسر واجب لتمكينه من العبادة الحرة لله تعالى. وأخرج مسلم عن إياس بن سَلَمة عن أبيه: أن سرية من المسلمين أتوا بأسرى، فيهم امرأة من بني فَزارة، فبعث بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى أهل مكة، ففدى بها ناساً من المسلمين، كانوا أسروا بمكة. ¬
الباب الخامس: القضاء وطرق إثبات الحق
البَابُ الخامِس: القَضاء وطرق إثبات الحقّ سأبحث هنا أمر القضاء أو الحكم بين الناس، ووسيلة الوصول إلى الحق بطريق القضاء وهي الدعوى، وطرق إثبات الحق لدى القاضي بالشهادة وباليمين والنكول والإقرار، والقرائن، وذلك في فصول ثلاثة: الفصل الأول ـ القضاء وآدابه الفصل الثاني ـ الدعوى والبينات الفصل الثالث ـ طرق الإثبات وأمهد لهذه الفصول ببيان منهج الإسلام في القضاء.
المنهج
المنهج الإسلامي في الميدان القضائي المنهج: معناه المسلك وطريقة العمل، والقضاء: فصل الخصومات وإنهاء المنازعات بإلزام الخصم بالحكم الشرعي، وهو أحد أركان الدولة الإسلاميةأو الخلافة أو الإمامة العظمى، ومحور نظام الحكم، والمظهر العملي الحازم لإلزام الناس باحترام أحكام الشريعة وإعلان هيبتها ونفوذها وتطبيقها في العلاقات الاجتماعية لإحقاق الحق، وإبطال الباطل، وإبراز العدل والإنصاف بين الناس، المؤمنين منهم وغير المؤمنين. لذا كان أحد وظائف الأنبياء، وكان الخلفاء والولاة والقضاة يتولونه بالنيابة عن الأمة التي يمثلها الخليفة أو الإمام الأعظم. ولاشك بأن العدل في التصور الإسلامي هو أساس الملك، والظلم مؤذن بخراب المدنيات وتدمير كيان الأمم والشعوب، والقضاء على مصالح الأفراد والجماعة، لأنه يؤدي إلى التذمر ويعجل بالفوضى ويدفع إلى الانتقام والتخريب. فالقضاء في غاية الأهمية والحساسية، ومادام هو بخير فالأمة بخير، وإذا فسد القضاء فسدت الأمة والبلاد. ونظراً لهذه الحساسية المفرطة للقضاء، كان منهج الإسلام فيه يقوم على الأسس التالية: 1 - النظر في الدعوى بموضوعية وتجرد وحياد دون محاباة خصم أو ميل لأحد الخصمين دون الآخر. وهذا واجب ديني خطير من أوليات نظام القضاء إرساء لمعالم الحق والعدل، وإيفاء الحقوق، ونشر الأمن والاستقرار في صفوف
2 - الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية
الناس، ونزع الضغينة والحقد، وتوفير الصفاء والوئام، وملء النفوس بالثقة والاطمئنان والرضا والمحبة. وحينئذ ترتقي الأمة، وتعلو كلمتها، وترتفع سمعتها في كل مكان مما يدعو إلى سرعة الدخول في الإسلام، والتفرغ لكل متطلبات التنمية والرخاء وزيادة العطاء والإنتاج. قال الله تعالى: {لقد أرسلنا رسلَنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط} [الحديد:25/ 57] وقال سبحانه: {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل، إن الله نِعمَّا يعظكم به} [النساء:58/ 4]. 2 - الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية، شريعة الله القائمة على الحق وتعظيمه، وحفظ الحقوق، وأداء الواجبات، فلا يجوز شرعاً تطبيق غير أحكام الله تعالى وشرعه، لذا هدد الله تعالى أهل الكتاب الذين يحكمون بغير ما أنزل الله، فقال سبحانه: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} [المائدة:44/ 5] {الظالمون} [المائدة:45/ 5]، {الفاسقون} [المائدة:47/ 5]، وندّد الله تعالى بالمشركين والمنافقين الذين يتجاوزون حدود الله والحكم بشرائع الجاهلية، فقال تعالى: {أفحكمَ الجاهلية يبغون، ومن أحسنُ من الله حُكْماً لقوم يوقنون} [المائدة:50/ 5] وعلى القاضي حفظ هيبة مجلس القضاء، وليس المراد بذلك شخص القاضي، وإنما حفظ هيبة أحكام الشرع التي يطبقها على المتخاصمين، فلا يعفو مثلاً عمن أهانه من الخصوم أو أهان أحد الحضور. 3 - مراقبة الله تعالى، وهذا واجب على القاضي والخصوم معاً؛ لأن قاضي الأرض لايستطيع أن يفعل شيئاً أمام قاضي السماء، فعليه أن يبحث بأناة وجدية وتعمق عن الحق وصاحبه، وعلى الخصم أن يعتقد أن القاضي في الدنيا لايحل الحرام ولا يحرم الحلال، فعليه الاكتفاء بما يعتقد أنه حق، دون تجاوز ولا اعتداء، حتى وإن قضى القاضي في الظاهر بحكم معين ومقدار معين.
4 - غاية القضاء في الإسلام إرضاء الله تعالى بإحقاق الحق وإنصاف المظلوم، دون تأثر بدين أو ملة أو قومية أو قرابة، وحتى على النفس
4 - غاية القضاء في الإسلام إرضاء الله تعالى بإحقاق الحق وإنصاف المظلوم، دون تأثر بدين أو ملة أو قومية أو قرابة، وحتى على النفس، قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط، شهداءَ لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين، إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما فلا تتّبعوا الهوى أن تعدلوا، وإن تَلْوُوا أو تُعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً} [النساء:135/ 4] وقال سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله، شهداء بالقِسْط، ولايجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله، إن الله خبير بما تعملون} [المائدة:8/ 5]. 5 - ركائز القضاء أو أركانه: يعتمد القضاء على أركان خمسة هي في مجملها مايأتي: الأول - الحاكم: وهو القاضي الذي عينته السلطة أو الحكومة للفصل في الدعاوى والخصومات، وبهذا يختلف الحاكم عن المحكَّم: وهوالذي يتفق عليه الخصمان للتحكيم في النزاع الدائر بينهما. الثاني - الحُكْم: وهو مايصدر عن القاضي من قرار لحسم النزاع وإنهاء الخصومة وله صفة الإلزام، فيختلف الحكم عن الفتوى، فإنها غير ملزمة. والحكم يكون إما بإلزام المحكوم عليه بأمر ما كتنفيذ شيء أو إعطاء شيء، وهذا يسمى قضاء إلزام، وإما يمنع الحاكم المنازعة بقوله للمدعي: ليس لك حق عند خصمك بسبب عجزك عن الإثبات، وهذا يسمى قضاء الترك. الثالث - المحكوم به: وهو في قضاء الإلزام ما ألزم به القاضي المحكوم عليه من إيفاء المدعي حقه، وهو في قضاء الترك ترك المدعي المنازعة. وعلى كل فالمحكوم به هو الحق، إما لله أو للعبد أو مشترك بينهما.
الرابع - المحكوم عليه
الرابع - المحكوم عليه: هو من يصدر الحكم ضده، أو من يستوفى منه الحق، سواء أكان مدعى عليه أم لا. الخامس - المحكوم له: وهو المدعي بحق له، سواء أكان خالصاً له كالحق في الدين أو الالتزام المالي، أم خالصاً لله كالحدود الشرعية، أم مشتركاً بين الحقين وكان حق الله هو الغالب وهو حد القذف في رأي الحنفية، أو حق العبد هو الغالب وهو الحق في القصاص. فإن كان الحق خالصاً لله أو حق الله فيه غالب، فإن المحكوم له هو الشرع، وهنا لاتشترط الدعوى من شخص معين، ويحق لكل شخص حتى القاضي التقدم بالأمر وهي دعوى الحسبة، وهو الذي تمثله في عصرنا النيابة العامة. 6 - التقيد بوسائل الإثبات: ليس للقاضي إصدا ر الحكم في قضية ما بناء على قناعته الشخصية، وإنما لابد من التقيد في إثبات الحق بوسائل إثبات معينة كالشهادة والإقرار واليمين والقرينة. 7 - الاعتماد على النصوص الشرعية الأصلية في الكتاب والسنة من خلال التفسيرات والاجتهادات الراجحة التي أوضحت فيها هذه النصوص، كالمذاهب الفقهية أو مدارس التفسير القرآني المختلفة أو شرح الأحاديث النبوية الصحيحة. 8 - الدمج بين مبدأ التوازن العام ومبدأ العدالة: إن التوازن بين الحقوق والواجبات عند تطبيق العدل أمر ضروري لتحقيق المساواة بين الخصوم وتحقيق القدرة على الوفاء، وتوازن القضاء، وهذا هو الذي يقال له: الإحسان في العدل، وهو الذي أمر الله تعالى به في قوله سبحانه: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} [النحل:90/ 16].
والعدل: هو فصل الخصومات بين المتنازعين بواسطة الشريعة الإسلامية والإحسان في العدل: هو موازنة الحقوق والواجبات عند تطبيق العدل. والشريعة تفرض التكاليف مشروطة بالقدرة على الوفاء، لقوله تعالى: {لايكلف الله نفساً إلا وُسْعها} [البقرة:286/ 2]، وهذا يستوجب مبدأ إنظار المعسر لقوله تعالى: {وإن كان ذو عُسْرة فنَظِرَةٌ إلى ميسرة} [البقرة:280/ 2] فلا تكليف عند العجز، ولايخاطب الصبي ولا المجنون ولا الناسي، لقوله صلّى الله عليه وسلم فيما يرويه الطبراني عن ثوبان: «رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه». واشتراط القدرة يتطلب التخفيف عند المشقة، عملاً بالقاعدة الشرعية، (المشقة تجلب التيسير). والقدرة تستوجب الاعتراف بنظرية الدفاع الشرعي والأخذ بنظرية الظروف الطارئة والقوة القاهرة، كالأخذ بمبدأ فسخ الإجارة للأعذار في مذهب الحنفية، وفسخ البيع حال تعرض الثمار للجوائح المهلكة أو المتلفة بقدر الثلث فأكثر في مذهب المالكية والحنابلة، فإذا كان الوفاء بالعقد واجباً لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة:1/ 5] فإن هذا مقيد بمبدأ عدم إرهاق المدين بعقد لم تكن الظروف المستقبلية متوقعة فيه أو منتظرة له وقت التعاقد (¬1). وتوازن القضاء يستدعي ضرورة التسوية بين الخصوم في كل شيء، ويندب في الإسلام اللجوء إلى الصلح قبل السير في إجراءات الدعوى؛ لأن الصلح يُبْقي جانب الود والسماحة والتفاهم، ويحقق توازناً أكثر مما يحققه الحكم القضائي. ¬
9 - اعتماد القضاء على الوازع الديني
والتوازن يقتضي كفالة حقوق الدفاع لكل منهم، ويتطلب أيضاً الجمع بين الإثبات وحريته، لذا حدد الإسلام قيمة الإقرار والشهادة واليمين وبعض القرائن الشرعية، وترك في الوقت نفسه للقاضي حق تقدير وسائل أخرى كالقرائن القضائية، حتى لايضيع حق يثبت المنطق أن مدعيه محق، وحتى لايلزم أي شخص بحق لم يثبته مدعيه بالحجج الكافية. وهذا التوازن جعل الإسلام يشدد في الإثبات في الميدان الجنائي، فجعل إثبات الزنا بأربعة شهود يعاينون الجريمة، وجعل الشبهة دارئة للحد لصالح المتهم، وأباح الرجوع عن الشهادة والإقرار، فيكون ذلك دليل البراءة من الجريمة. 9 - اعتماد القضاء على الوازع الديني: إن إقامة العدل بين الناس غاية سامية، لذا فقد أحيطت بسياج ديني أخلاقي إلى جانب الضمانات القانونية والمبادئ القضائية والأخلاقية مترابطة مع بعضها، ومن هنا قررت الشريعة لفت نظر كل من الخصوم والشهود والقضاة إلى عقاب من ادعى باطلاً أو شهد زوراً أو حكم ظلماً، وإلى ثواب الذين يؤدون الشهادة على وجهها، والذين يتحرون في أحكامهم الحق ليس غير. وإذا أمر القاضي أو ثبت عليه أنه جار في حكمه عمداً بقتل نفس أو قطع يد أو قصاص، أقيد منه، ولا شيء عليه إذا أخطأ في حكم (¬1). 10 - القضاء في الإسلام منصب خطير، وذو مكانة كبيرة في الشريعة الإلهية، لذا وردت نصوص كثيرة في القرآن الكريم والسنة الشريفة تشيد بالقضاء وتكلف به الأنبياء والمرسلين، وتوجب القضاء بالحق والعدل كما تقدم لدينا. وكما كرمت الشريعة القاضي العادل حذرت من القاضي الجائر الذي يتبع هواه (¬2)، فقال ¬
رسالة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في القضاء
سبحانه: {وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا} [الجن:15/ 72]. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم فيما يرويه الحاكم والبيهقي عن عبد الله بن أبي أوفى: «إن الله تعالى مع القاضي مالم يجر، فإذا جار، تبرأ الله منه وألزمه الشيطان». وقال عليه الصلاة والسلام فيما يرويه أصحاب السنة الأربعة والحاكم عن بُريدة: «القضاة ثلاثة، اثنان في النار وواحد في الجنة: رجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل عرف الحق فجار في الحكم، فهو في النار». ولا وجود للإجراءات المعقدة في نظام المحاكمات الإسلامي، كما لا تأخير في إصدار الأحكام، وإنما يتميز نظام القضاء في الإسلام بالتعجيل. هذه هي أصول المنهج الإسلامي في القضاء، لما طبقت كان القضاء في الدولة الإسلامية تاج عز، ومفخرة من مفاخر التاريخ، لأنه نظام يعتمد على العقيدة والدين والأخلاق وهو النظام الكفيل بتحقيق الأمن والاستقرار لأي مجتمع إنساني يريد السعادة والبقاء، ويفرض الهيبة والاحترام له في أنظار العالم. ولقد طبق هذا النظام خلال عشرات القرون من سنة (622 حتى سنة 1924) م، أي قرابة ثلاثة عشر قرناً من الزمان، وكان أبرز معالمه التسوية بين الإمام الحاكم وبين آحاد الرعية في مجلس القضاء، والتزام العدالة حتى مع الأعداء في السلم والحرب والمواطنة والتعايش الديني بين المسلمين وغيرهم في ظل الدولة الإسلامية الرشيدة. رسالة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في القضاء: ينبغي على كل قاض أن يحفظ الرسالة العمرية في القضاء؛ لأنها تضع له منهاج التقاضي، وتحدد نظرة الإسلام إلى القضاء، وأوضاع المتقاضين أمام القاضي وآداب
القاضي، وقواعد سير الدعوى، وضوابط الشهادة في سبيل الوصول إلى إصدار الحكم وتنفيذه، وهذا نص الرسالة (¬1): - بسم الله الرحمن الرحيم - من عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس (¬2). - سلام عليك، فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو أما بعد: 1 - فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متّبعة. 2 - فافهم إذا أُدلي إليك. 3 - فإنه لاينفع تكلم بحق لا نفاد له. 4 - آسِ بين الناس في مجلسك وفي وجهك وقضائك، حتى لايطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك. 5 - البينة على المدعي، واليمين على من أنكر. 6 - والصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحا أحل حراماً، أو حرَّم حلالاً. 7 - ومن ادعى حقاً غائباً أو بيِّنةً، فاضرب له أمداً ينتهي إليه، فإن بيَّنه أعطيته بحق، وإن أعجزه ذلك استحللت عليه القضية فإن ذلك هو أبلغ للعذر، وأجلى للعماء. ¬
8 - ولا يمنعنك قضاء قضيت فيه اليوم، فراجعت فيه رأيك، فهديت فيه لرشدك، أن تراجع فيه الحق، فإن الحق قديم، لايبطله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل. 9 - والمسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مجرَّباً عليه شهادة زور، أو مجلوداً في حد، أو ظنيناً في ولاء أو قرابة. 10 - فإن الله تعالى تولى من العباد السرائر، وستر عليهم الحدود، إلا بالبيِّنات والأيمان. 11 - ثم الفهمَ الفهمَ، فيما أدلي إليك، مما ورد عليك، مما ليس في قرآن ولا سنة، ثم قايس الأمور عند ذلك، واعرف الأمثال، ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله، وأشبهها بالحق. 12 - وإياك والغضب، والقلق، والضجر، والتأذي بالناس، والتنكرعند الخصومة أو الخصوم. 13 - فإن القضاء في مواطن الحق مما يوجب الله به الأجر، ويحسن به الذِّكْر. 14 - فمن خلصت نيته في الحق، ولو على نفسه، كفاه الله مابينه وبين الناس، ومن تزيّن بما ليس في نفسه شانه الله، فإن الله لايقبل من العباد إلا ما كان خالصاً. والسلام عليكم ورحمة الله.
صلاحيات القاضي
صلاحيات القاضي: يحدد قانون القضاء في العصر الحديث صلاحيات القاضي واختصاصه، ويوزع تلك الصلاحيات بين القضاة بحسب الموضوع عادة، إما في المسائل المدنية أو في المسائل الجنائية أو الأحوال الشخصية أوفي القضايا التجارية أو الإدارية أو الدستورية أو أمن الدولة أو نحو ذلك. وأما أعمال القاضي الشرعي في تصور فقهائنا، فمنها ماهو متفق عليه ومنها ماهو مختلف فيه، وقد اتفق الفقهاء على تولي القاضي للأمور الآتية (¬1): 1 - الفصل بين المتخاصمين، إما بصلح عن تراضٍ أو بإجبار على حكم نافذ. 2 - قمع الظالمين ونصرة المظلومين وإيصال الحق إلى ذويه. 3 - تنفيذ الوصايا. 4 - النظر في شؤون الأوقاف. 5 - الحجر على السفهاء. 6 - المواريث. 7 - شؤون الأيتام والمجانين وإقامة الأوصياء لحفظ أموالهم. 8 - الجراحات والدماء. 9 - الإثبات. 10 - عقد نكاح النساء اللاتي ليس لهن أولياء أو عَضَلهن (¬2) الأولياء. ¬
اختلف الفقهاء حول تولي القاضي الشؤون الآتية
11 - منع التعدي على الطرقات والأفنية العامة. وللقاضي المطالبة بهذه الأعمال إن لم تسند إليه. واختلف الفقهاء حول تولي القاضي الشؤون الآتية: 1 - إقامة الحدود. 2 - صلاة الجمعة والعيدين. 3 - أموال الصدقات. فبعضهم أسندها للقاضي؛ لأنه كالوصي المطلق إلا ما اختص به الخليفة نفسه من شؤون الجيش وقتال البغاة وجباية الخراج. وبعضهم لم يدخلها في اختصاص القاضي لأنه وكيل عن الإمام الأعظم، وليس للوكيل أن يتعدى حدود وكالته. ودليلهم أن عمر رضي الله عنه نهى الولاة عن تنفيذ حكم الإعدام على أحد إلا بعد مشاورته وموافقته، وقاسوا القضاة على الولاة. ويظهر أن هذا الرأي هو الأرجح؛ لأن القاضي وكيل عن الإمام الأعظم، فليس له أن يتعدى حدود وكالته.
الفصل الأول: القضاء وآدابه
الفَصْلُ الأوّل: القضاء وآدابه الكلام عن القضاء في المباحث التسعة الآتية: المبحث الأول ـ تعريف القضاء ومشروعيته. المبحث الثاني ـ شروط القاضي. المبحث الثالث ـ حكم قبول القضاء. المبحث الرابع ـ صلاحيات القاضي. المبحث الخامس ـ واجبات القضاة. المبحث السادس ـ آداب القضاة. المبحث السابع ـ انتهاء ولاية القاضي. المبحث الثامن ـ متى يجوز حبس المدين؟ المبحث التاسع ـ عزل القاضي وانعزاله. وأبدأ ببحثها كلاً على حدة.
المبحث الأول ـ تعريف القضاء ومشروعيته: القضاء لغة: انقضاء الشيء وإتمامه، والحكم بين الناس، والقاضي: الحاكم، وشرعاً: فصل الخصومات وقطع المنازعات (¬1). وعرفه الشافعية بأنه فصل الخصومة بين خصمين فأكثر بحكم الله تعالى، أي إظهار حكم الشرع في الواقعة. وسمي القضاء حكماً: لما فيه من الحكمة التي توجب وضع الشيء في محله، لكونه يكف الظالم عن ظلمه، أو من إحكام الشيء (¬2). والأصل في مشروعيته: الكتاب والسنة والإجماع (¬3): أما الكتاب: فقول الله تعالى: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق، ولا تتبع الهوى، فيضلك عن سبيل الله} [ص:26/ 38] وقول الله تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} [المائدة:49/ 5] وقوله تعالى: {فاحكم بينهم بالقسط} [المائدة:42/ 5] وقوله عز وجل: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله} [النساء:105/ 4] ونحوها من الآيات. وأما السنة: فما روى عمرو بن العاص عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا اجتهد الحاكم، فأصاب، فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر» (¬4)، وفي رواية صحح ¬
نوع المشروعية
الحاكم إسنادها: «فله عشرة أجور» وروى البيهقي خبر: «إذا جلس الحاكم للحكم بعث الله له ملكين يسددانه ويوفقانه، فإن عدل أقاما، وإن جار عرجا وتركاه». وقد حكم النبي صلّى الله عليه وسلم بين الناس (¬1)، وبعث علياً كرم الله وجهه وأبا موسى الأشعري إلى اليمن للقضاء في المنازعات، وبعث أيضاً إليها معاذاً (¬2)، وكان عتّآب بن أسيد أول قاض لرسول الله صلّى الله عليه وسلم على مكة، ولأن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم حكموا بين الناس، وبعث عمر رضي الله عنه أبا موسى الأشعري إلى البصرة قاضياً، وأرسل عبد الله بن مسعود إلى الكوفة قاضياً. وتولى القضاء عمر وعلي ومعاذ وأبو موسى وشريح وأبو يوسف رضي الله عنهم. وأجمع المسلمون على مشروعية تعيين القضاة، والحكم بين الناس، لما في القضاء من إحقاق الحق، ولأن الظلم متأصل في الطباع البشرية، فلا بد من حاكم ينصف المظلوم من الظالم. نوع المشروعية: القضاء فريضة محكمة من فروض الكفايات باتفاق أئمة المذاهب، فيجب على الإمام تعيين قاض، ودليل الفرضية قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوَّامين بالقسط} [النساء:135/ 4] ولأنه كما ذ ُكر طباع البشر مجبولة على التظالم ومنع الحقوق، وقل من ينصف من نفسه، وبما أن الإمام لا يقدر عادة على فصل الخصومات بنفسه لكثرة مشاغلة العامة، فالحاجة تدعو إلى تولية القضاة. ¬
المبحث الثاني ـ شروط القاضي
وأما كونه فرض كفاية: فلأنه أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، وهما واجبان كفائيان. قال بعضهم: «القضاء أمر من أمور الدين، ومصلحة من مصالح المسلمين، تجب العناية به؛ لأن بالناس إليه حاجة عظيمة» (¬1)، وهو من أنواع القربات إلى الله عز وجل، ولذا تولاه الأنبياء عليهم السلام، قال ابن مسعود: «لأن أجلس قاضياً بين اثنين أحب إليّ من عبادة سبعين سنة». المبحث الثاني ـ شروط القاضي: اتفق أئمة المذاهب على أن القاضي يشترط فيه أن يكون عاقلاً بالغاً حراً مسلماً سميعاً بصيراً ناطقاً، واختلفوا في اشتراط العدالة، والذكورة، والاجتهاد (¬2). أما العدالة: فهي شرط عند المالكية والشافعية والحنابلة، فلا يجوز تولية فاسق ولا من كان مرفوض الشهادة لعدم الوثوق بقولهما، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} [الحجرات:6/ 49] فإذا لم تقبل الشهادة من امرئ، فلأن لا يكون قاضياً أولى. والعدالة تتطلب اجتناب الكبائر، وعدم الإصرار على الصغائر، وسلامة العقيدة، والمحافظة على المروءة، والأمانة التي لا اتهام فيها بجلب منفعة لنفسه أو دفع مضرة عنها من غير وجه شرعي. وقال الحنفية: الفاسق أهل للقضاء، حتى لو عين الإمام قاضياً صح قضاؤه للحاجة، لكن ينبغي ألا يعين، كما في الشهادة، فإنه لا ينبغي أن يقبل القاضي شهادة الفاسق، لكن لو قبلها منه جاز، وفي الحالتين: (قضاء وشهادة) يأثم من يعينه للقضاء ومن يقبل شهادته. ¬
أما المحدود في القذف: فلا يعين قاضياً كما لا تقبل شهادته عند الحنفية كبقية الأئمة؛ لأن القضاء من باب الولاية، وبما أن هذا المحدود لا تقبل شهادته وهي أدنى الولايات، فعدم تعيينه قاضياً أولى. وأما الذكورة: فهي شرط أيضاً عند غير الحنفية، فلا تولى المرأة القضاء؛ لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» (¬1)، ولأن القضاء يحتاج إلى كمال الرأي وتمام العقل والفطنة والخبرة بشؤون الحياة، والمرأة ناقصة العقل، قليلة الرأي، بسبب ضعف خبرتها واطلاعها على واقع الحياة، ولأنه لا بد للقاضي من مجالسة الرجال من الفقهاء والشهود والخصوم، والمرأة ممنوعة من مجالسة الرجال بعداً عن الفتنة، وقد نبه الله تعالى على نسيان المرأة، فقال: {أن تضل إحداهما فتذكِّر إحداهما الأخرى} [البقرة:282/ 2] ولا تصلح للإمامة العظمى ولا لتولية البلدان، ولهذا لم يولِّ النبي صلّى الله عليه وسلم ولا أحد من خلفائه ولا من بعدهم امرأة قضاء ولا ولاية بلد. وقال الحنفية: يجوز أن تكون المرأة قاضياً في الأموال أي في القضاء المدني؛ لأنه تجوز شهادتها في المعاملات، ويأثم المولي لها للحديث السابق: «لن يفلح .. » أما في الحدود والقصاص أي في القضاء الجنائي، فلا تعين قاضياً؛ لأنه لا شهادة لها فيه، ومن المعلوم أن أهلية القضاء تلازم أهلية الشهادة. وقال ابن جرير الطبري: يجوز أن تكون المرأة حاكماً على الإطلاق في كل شيء، لأنه يجوز أن تكون مفتية فيجوز أن تكون قاضية. وأما الاجتهاد: فهو شرط عند المالكية والشافعية والحنابلة وبعض الحنفية ¬
كالقدوري (¬1)، فلا يولى الجاهل بالأحكام الشرعية، ولا المقلد: (وهو من حفظ مذهب إمامه، لكنه غير عارف بغوامضه، وقاصر عن تقرير أدلته) لأنه لا يصلح للفتوى، فلا يصلح للقضاء بالأولى؛ لأن الله تعالى يقول: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} [المائدة:49/ 5] ولم يقل بالتقليد للآخرين، وقال سبحانه: {لتحكم بين الناس بما أراك الله} [النساء:105/ 4] وقال عز وجل: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} [النساء:59/ 4] وروى بريدة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «القضاة، ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار، فأما الذي في الجنة، فرجل عرف الحق، فقضى به، ورجل عرف الحق وجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار» (¬2) فالعامي يقضي على جهل. ويلاحظ أن اشتراط وصف الاجتهاد عند المالكية: هو الذي عليه عامة أهل المذهب، لكن المعتمد والأصح عندهم أنه يصح تولية المقلد مع وجود المجتهد (¬3). وأهلية الاجتهاد: تتوافر بمعرفة ما يتعلق بالأحكام من القرآن والسنة، ومعرفة الإجماع والاختلاف والقياس ولسان العرب، ولا يشترط أن يكون الفقيه محيطاً بكل القرآن والسنة، ولا أن يحيط بجميع الأخبار الواردة، ولا أن يكون مجتهداً في كل المسائل، بل يكفي معرفة ما يتعلق بموضوع البحث (¬4). ¬
وقال جمهور الحنفية: لا يشترط كون القاضي مجتهداً، والصحيح أن أهلية الاجتهاد شرط الأولوية والندب والاستحباب، فيجوز تقليد غير المجتهد للقضاء، ويحكم بفتوى غيره أي بتقليد مجتهد؛ لأن الغرض من القضاء هو فصل الخصائم وإيصال الحق إلى مستحقه، وهو يتحقق بالتقليد، لكن مع هذا قالوا: لا ينبغي أن يقلد الجاهل بالأحكام، أي الجاهل بأدلة الأحكام الشرعية تفصيلاً واستنباطاً؛ لأن الجاهل يفسد أكثر مما يصلح، بل يقضي بالباطل من حيث لا يشعر به. وبصرف النظر عن هذا الخلاف فإن الواقع له مكان وأهمية، قال الإمام الغزالي: اجتماع هذه الشروط من العدالة والاجتهاد وغيرهما متعذر في عصرنا لخلو العصر من المجتهد والعدل، فالوجه تنفيذ قضاء كل من ولاه سلطان ذو شوكة، وإن كان جاهلاً فاسقاً (¬1). وقال الشافعية: إذا تعذرت هذه الشروط، فولى سلطان له شوكة فاسقاً أو مقلداً نفذ قضاؤه للضرورة. وفي الجملة: إذا وجد اثنان كل منهما أهل للقضاء يقدم الأفضل في العلم والديانة والورع والعدالة والعفة والقوة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من تولى من أمر المسلمين شيئاً فاستعمل عليهم رجلاً، وهو يعلم أن فيهم من هو أولى بذلك وأعلم منه بكتاب الله، وسنة رسوله، فقد خان الله ورسوله، وجماعة المسلمين» (¬2). ¬
المبحث الثالث ـ حكم قبول القضاء
إثبات ولاية القاضي: تثبت ولاية القاضي بشهادة شاهدين يخبران بمحل ولايته، وباستفاضته خبر تعيينه، والأولى أن يكتب له الإمام كتاباً بالتولية، اتباعاً لفعل النبي صلّى الله عليه وسلم، فإنه كتب لعمرو بن حزم كتاباً لما بعثه إلى اليمن، وهو ابن سبعة عشر عاماً، وكتب أبو بكر رضي الله عنه كتاباً لأنس لما بعثه إلى البحرين، وختمه بخاتم رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وتثبت ولاية القاضي اليوم بقرار التعيين أو التوظيف وينشر في الجريدة الرسمية، وقد ينشر في الصحف اليومية. ويسن للقاضي الاستعانة بعلماء البلد الذي عين فيه، كما يتعرف على العدول ليتابع عمله بوجه أفضل. المبحث الثالث ـ حكم قبول القضاء: اتفق الفقهاء على أنه إذا تعين للقضاء واحد يصلح له في بلد لزمه طلبه وقبوله، فإن امتنع عصى، كسائر فروض الأعيان، وللحاكم إجباره؛ لأن الناس مضطرون إلى علمه ونظره، فأشبه من عنده طعام منعه عن المضطر. فإن وجد في البلد عدد يصلح للقضاء، فيجوز القبول والترك. وهل القبول حينئذ أفضل أو الترك؟ قال جمهور العلماء في المذاهب الأربعة: الترك أفضل، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من جعل قاضياً بين الناس، فقد ذبح بغير سكين» (¬1) وقد امتنع بعض الصحابة كابن عمر وبعض كبار الفقهاء كأبي حنيفة من قبول القضاء، لما ورد فيه من التشديد ¬
والذم، ولما فيه من الخطورة (¬1)، بل إنه يكره طلبه لقوله صلّى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة: «يا عبد الرحمن بن سمرة، لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها» (¬2) أي صرفت إليها دون عون، وعن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من سأل القضاء، وكل إلى نفسه، ومن أجبر عليه نزل إليه ملك فسدده» (¬3) وعن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعم المرضعة، وبئست الفاطمة» (¬4). فيكون طلب القضاء مكروهاً إذا كان هناك مماثل أو أفضل منه. لكن يندب طلب القضاء لعالم غير مشهور يرجو به نشر علمه بين الناس لتحصل المنفعة بعلمه، كما يندب لمن كان محتاجاً إلى الرزق؛ لأن القضاء طاعة لما في إقامة العدل من جزيل الثواب. ويستحب أيضاً لمن يرجو بعمله إحقاق الحق ومنع ضياع الحقوق، وتدارك جورالقضاة أو عجزهم عن إيصال الحقوق لأهلها. ويكره قبول القضاء لمن يخاف العجز عنه، ولا يأمن على نفسه الحيف فيه، حتى لا يكون سبباً لمباشرة القبيح. وقال بعض العلماء: قبول القضاء أفضل؛ لأن الأنبياء والمرسلين صلوات الله ¬
ويوضح ذلك ما أخرجه البزار والطبراني بسند صحيح عن عوف ابن مالك بلفظ «أولها ملامة، وثانيها ندامة، وثالثها عذاب يوم القيامة، إلا من عدل». عليهم، والخلفاء الراشدين ما رسوا القضاء، ولنا فيهم قدوة، ولأن القضاء إذا أريد به وجه الله تعالى يكون عبادة خالصة، بل هو من أفضل العبادات، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «يوم من إمام عادل أفضل من عبادة ستين سنة، وحد يقام في الأرض بحقه أزكى فيها من مطر أربعين يوماً» (¬1). وقوله عليه الصلاة والسلام: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين: الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم، وما وَلُوا» (¬2) قالوا: وأما الأحاديث التي فيها ذم القضاء فهي محمولة على القاضي الجاهل أو العالم الفاسق، أو الذي لا يأمن على نفسه الرشوة (¬3). قال القدوري الحنفي: ولا بأس بالدخول في القضاء لمن يثق بنفسه (أي يعلم من نفسه) أنه يؤدي فرضه: وهو الحكم على قاعدة الشرع. ويكره الدخول فيه لمن يخاف العجز عنه أي عن القيام به على الوجه المشروع، ولا يأمن على نفسه الحيف (أي الظلم). ولا ينبغي للإنسان أن يطلب الولاية بقلبه، ولا يسألها بلسانه (¬4)، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من طلب القضاء وكل إلى نفسه ومن أجبر عليه نزل عليه ملك يسدده» (¬5). ¬
المبحث الرابع ـ صلاحيات القاضي
المبحث الرابع ـ صلاحيات القاضي: تشتمل ولاية القاضي على عشرة أمور (¬1): الأول ـ الفصل بين المتخاصمين إما بصلح عن تراضٍ، وإما بإجبار على حكم نافذ. الثاني ـ قمع الظالمين عن الغصب والتعدي وغير ذلك، ونصرة المظلومين وإيصال كل ذي حق إلى حقه. الثالث ـ إقامة الحدود والقيام بحقوق الله تعالى. الرابع ـ النظر في الدماء والجراح. الخامس ـ النظر في أموال اليتامى والمجانين وتقديم الأوصياء عليهم حفظاً لأموالهم. السادس ـ النظر في الأحباس (الأوقاف). السابع ـ تنفيذ الوصايا. الثامن ـ عقد نكاح النساء إذا لم يكن لهن ولي أو عضلهن الولي. التاسع ـ النظر في المصالح العامة من طرقات المسلمين وغير ذلك. العاشر ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقول والفعل. وهذا دليل على أن القاضي ينظر في الأمور المدنية والجنائية والأحوال الشخصية، والقضايا الإدارية وحقوق الله تعالى، أي حقوق المجتمع، فهو قاضي ¬
المبحث الخامس ـ واجبات القضاة
مدني وجنائي وشرعي وإداري ومحتسب، ولكن لا مانع شرعاً من التخصص الموضوعي في القضاء إذا ازدحمت الدعاوى وكثرت المشكلات. المبحث الخامس ـ واجبات القضاة: يجب على القاضي التقيد ببعض الواجبات فيما يتعلق بمصادر الأحكام التي يستمد منها حكمه، وطريق ثبوت الحق بالبينة أو الإقرار ونحوهما وما يتعلق بالمقضي له والمقضي عليه. المطلب الأول ـ ما يقضي به القاضي من الأحكام الشرعية وصفة قضائه: يجب على القاضي أن يقضي في كل حادثة بما يثبت عنده أنه حكم الله تعالى: إما بدليل قطعي، وهو النص المفسر الذي لا شبهة فيه من كتاب الله عز وجل، أو السنة المتواترة أو المشهورة، أو الإجماع. وإما بدليل ظاهر موجب للعمل، كظواهر النصوص المذكورة في القرآن الكريم أو السنة المشرفة، أو الثابت بالقياس الشرعي، ويعمل به في المسائل الاجتهادية التي اختلف فيها الفقهاء. فإن لم يجد القاضي حكم الحادثة في المصادر الأربعة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، يجب عليه العمل بما أدى إليه اجتهاده، إن كان مجتهداً؛ لأن ثمرة اجتهاده هو الحق بالنسبة إليه ظاهراً، فلا يعمل باجتهاد غيره. وهل للمجتهد أن يقضي برأي مجتهد آخر أفقه منه؟ قال أبو حنيفة: له القضاء به.
صفة قضاء القاضي
وقال الصاحبان: ليس له القضاء به. ومرجع الخلاف هو أن كون أحد المجتهدين أفقه من غيره هل يصلح مرجحاً؟ عند أبي حنيفة: يصلح؛ لأن اجتهاده أقرب إلى الصواب. وعند الصاحبين: لا يصلح مرجحاً؛ لأن كون العالم أفقه من غيره ليس من جنس الدليل الذي يستند إليه في استنباط الحكم. والصحيح عند المالكية أن القاضي إذا كان من أهل الاجتهاد، فله أن يقضي بما رأى، وإن كان غيره أعلم منه؛ لأن التقليد لا يصح للمجتهد فيما يرى خلافه بالإجماع (¬1). وإن لم يكن القاضي مجتهداً: يختار قول الأفقه والأورع من المجتهدين بحسب اعتقاده (¬2). صفة قضاء القاضي: قال جمهور العلماء: قضاء القاضي ينفذ ظاهراً لا باطناً؛ لأنا مأمورون باتباع الظاهر، والله يتولى السرائر، فلا يحل هذا الحكم حراماً ولا يحرم حلالاً، فلو حكم بشهادة شاهدين ظاهرهما العدالة لم يحصل بحكمه الحل باطناً، سواء في المال وغيره، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له بنحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار» متفق عليه (¬3). وقال أبو حنيفة: إذا حكم الحاكم بعقد أو فسخ أو طلاق، نفذ حكمه ظاهراً وباطناً؛ لأن مهمته القضاء بالحق، وأما الحديث فهو في قضية لا بينة فيها. وعلى ¬
المطلب الثاني ـ طرق إثبات الحق لدى القضاء
هذا إذا ادعى رجل على امرأة أنه تزوجها، فأنكرت، فأقام على زواجها شاهدي زور، فقضى القاضي بالنكاح بينهما، وهما يعلمان أنه لا نكاح بينهما، حل للرجل وطؤها، وحل لها التمكين عند أبي حنيفة، خلافاً للجمهور. ومثله لو قضى بالطلاق فرق بينهما عنده، وإن كان الرجل منكراً. ويقاس عليه البيع ونحوه. والخلاصة: إن القاضي في قول أبي حنيفة ينفذ قضاؤه ظاهراً وباطناً حيث كان المحل قابلاً لذلك كالعقود والفسوخ، والقاضي غير عالم بزور الشهود. وهذا القول وإن كان هو الأوجه في مذهب الحنفية، إلا أن المفتى به عندهم هو قول الصاحبين الموافق لبقية الأئمة، وهو أن قضاء القاضي ينفذ ظاهراً فقط لا باطناً، أي ليس الحلال عند الله هو ما قضى به القاضي، بل ما وافق الحق (¬1). المطلب الثاني ـ طرق إثبات الحق لدى القضاء: يجب على القاضي أن يقضي بما ثبت عنده بطرق الإثبات الشرعية: وهي البينة والإقرار واليمين والنكول على النحو الذي سيذكر في المبحث المخصص لطرق الإثبات. وأشير هنا إلى أن البينة تظهر الحق بالاتفاق بشرط أن يثبت عند القاضي عدالة الشهود بالسؤال عنهم، ممن له علم بأحوالهم سراً وعلانية. والإقرار حجة مطلقة؛ لأن الإنسان غير متهم بالإقرار على نفسه كاذباً. والشهادة في الأموال: شهادة رجلين أو رجل وامرأتين، أو شهادة رجل ويمين المدعي عند غير الحنفية. ¬
1 - قضاء القاضي بعلم نفسه
واليمين تسقط بها دعوى المدعي الذي لا بينة له. وكذلك عند الإمام مالك: يثبت بها حق المدعي الذي أنكره عليه خصمه. والنكول عن اليمين من المدعى عليه يثبت به الحق للمدعي في الأموال عند أبي حنيفة (¬1). ويقضى عند المالكية بالنكول مع شاهد أو يمين المدعي أو مع يمين المدعى عليه (¬2). وهل للقاضي أن يقضي بعلمه أو بكتاب قاض آخر إليه أو بالشهادة على الشهادة 1 - قضاء القاضي بعلم نفسه: قال المالكية والحنابلة: لا يقضي الحاكم بعلم نفسه في حد ولا غيره، سواء علم ذلك قبل القضاء وبعده، ويجوز له أن يقضي بما علمه في مجلس القضاء، بأن أقر بين يديه طائعاً. ودليلهم على عدم الجواز قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعلَّ بعضكم أن يكون ألحن (¬3) بحجته من بعض، فأقضي بنحوٍ مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً، فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار» (¬4) فدل على أنه يقضي بما يسمع، لا بما يعلم. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم في قضية ¬
الحضرمي والكندي: «شاهداك أو يمينه، ليس لك منه إلا ذاك» (¬1)، وهناك آثار عن بعض الصحابة تؤيد عدم جواز القضاء بعلم نفسه (¬2). وقال الحنفية: القضاء بعلم القاضي بنفسه: بالمعاينة، أو بسماع الإقرار، أو بمشاهدة الأحوال، فيه تفصيل: 1 - إن قضى القاضي بعلم حدث له، في زمن القضاء وفي مكانه، في الحقوق المدنية كالإقرار بمال لرجل، أو الشخصية كطلاق رجل امرأته، أو في بعض الجرائم: وهي قذف رجل أو قتل إنسان، جاز قضاؤه. ولا يجوز قضاؤه بعلم نفسه في جرائم الحدود الخالصة لله عز وجل، إلا أن في السرقة يقضي بالمال، لا بالقطع؛ لأن الحدود يحتاط في درئها، وليس من الاحتياط فيها الاكتفاء بعلم القاضي. 2 - إذا قضى القاضي بعلم نفسه قبل أن يقلد منصب القضاء، أو بعد أن قلد، لكن قبل أن يصل إلى البلد الذي ولي قضاءه، فإنه لا يجوز عند أبي حنيفة أصلاً. وعند الصاحبين: يجوز فيما سوى الحدود الخالصة لله عز وجل، قياساً على جواز قضائه فيما علمه في زمن القضاء. ورد أبو حنيفة بأن القياس مع الفارق، فالعلم المستفاد في زمن القضاء علم في وقت يكون القاضي فيه مكلفاً بالقضاء، فأشبه البينة القائمة فيه، أما العلم الحاصل في غير زمان القضاء: فهو علم في وقت لا يكون القاضي مكلفاً فيه ¬
2 - قضاء القاضي بكتاب قاض آخر إليه
بالقضاء، فلا يصلح؛ لأنه ليس في معنى البينة، فلم يجز القضاء به؛ لأن البينة المعتبرة أن يسمع القاضي الشهود في ولايته، أما ما يعلمه قبل ولايته فهو بمنزلة ما يسمعه من الشهود قبل ولايته، وهو لا قيمة له. والخلاصة: إن أبا حنيفة يقول: ما كان من حقوق الله كالحدود الخالصة له، لا يحكم فيه القاضي بعلمه؛ لأن حقوق الله مبنية على المساهلة والمسامحة، وأما حقوق الناس المدنية، فما علمه القاضي قبل ولايته، لم يحكم به، وما علمه في ولايته، حكم به (¬1). والمعتمد عند المتأخرين من الحنفية وهو المفتى به: عدم جواز قضاء القاضي بعلمه مطلقاً في زماننا لفساد قضاة الزمن (¬2). وقال الشافعية: الأظهر أن القاضي يقضي بعلمه قبل ولايته أو في أثناء ولايته، أو في غير محل ولايته، سواء أكان في الواقعة بينة أم لا، إلا في حدود الله تعالى. وعلى هذا فيجوز للقاضي أن يقضي بعلمه في الأموال قطعاً، وفي القصاص وحد القذف على الأظهر؛ لأنه إذا حكم بما يفيد الظن وهو الشاهدان، فقضاؤه بالعلم أولى. وأما الحدود الخالصة لله كالزنا والسرقة والمحاربة وشرب المسكرات، فلا يقضي بعلمه فيها؛ لأنها تدرأ بالشبهات، ويندب سترها، لكن إن اعترف إنسان بموجب الحد في مجلس الحكم قضى فيه بعلمه (¬3)، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «فإن اعترفت فارجمها». 2 - قضاء القاضي بكتاب قاض آخر إليه: اتفق الفقهاء على أن القاضي له أن يقضي بكتاب قاض آخر إليه فيما ثبت ¬
عنده في الحقوق المالية للحاجة إليه، فقد يكون لامرئ حق في غير بلده، ولا يمكنه إتيانه والمطالبة به إلا بكتاب القاضي بشرط أن يشهد شاهدان عدلان على أن الكتاب المرسل هو كتاب قاضٍ، وأن يشهد بثبوت الحكم عنده على نحو معين، وأجاز الإمام مالك أن يحكم القاضي بكتاب قاضٍ في الحدود والقصاص أيضاً (¬1). ولكتاب القاضي إلى قاض آخر صورتان: الأولى: كتابة الشهادة التي سمعها القاضي من الشهود إما مع تعديل الشهود وتزكيتهم أو بدون تعديل، ليبحث القاضي الآخر عن أحوال الشهود. الثانية: كتابة صورة الحكم الذي حكم به على الشخص الغائب ويرسلها إلى القاضي الثاني لتنفيذ الحكم عليه. وبما أن الحنفية لا يجيزون القضاء على الغائب كما سيأتي بيانه، فالصورة الثانية لتنفيذ الحكم. والأولى مقدمة لإصدار الحكم. وقد اشترط علماء المذاهب في قبول كتاب القاضي شروطاً أكتفي بذكر شروط الحنفية منها وهي (¬2): أولاً ـ البينة على أنه كتابه: فيشهد شاهدان رجلان أو رجل وامرأتان على أن ¬
هذا كتاب فلان القاضي ببيان اسمه ونسبه؛ لأنه لا يعرف أنه كتابه بدون المذكور. ويحدد في الكتاب اسم المدعى عليه والشهود، والمدعى به وصفاته لتمييزه عن غيره. وهذا أمر طبيعي متفق عليه. ثانياً ـ أن يكون الكتاب مختوماً، ويشهدوا على أن هذا ختمه لصيانته عن الخلل فيه. وأن تكون الكتابة ظاهرة مقروءة تفيد المعنى المراد وتؤدي المقصود من كتابة الشهادة أو كتابة الحكم، ليتمكن القاضي المكتوب له العمل بموجب الكتاب. ثالثاً ـ أن يشهد الشاهدان بما في الكتاب: بأن يقولا: إنه قرأه عليهما مع الشهادة بالختم. وهذا قول أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: يكفي أن يشهد الشاهدان بالكتاب والخاتم، ولا تشترط الشهادة بما في الكتاب؛ لأن المقصود من هذه الشهادة حصول العلم للقاضي المرسل إلىه بأن هذا كتاب فلان القاضي، ويتحقق المطلوب بما ذكر. وقال الطرفان: لا يحصل هذا المقصود إلا بالعلم بما فيه. رابعاً ـ أن تكون هناك مسافة سفر القصر بين القاضي المرسل وبين المرسل إليه؛ لأن القضاء بكتاب القاضي أمر جوِّز للحاجة أو للضرورة؛ لأنه قضاء على غائب، ولا ضرورة فيما دون مسافة القصر. خامساً ـ أن يكون موضوع الكتاب في الحقوق المدنية أو الشخصية كالديون والنكاح، وإثبات النسب، والمغصوبات، والأمانات والمضاربة، أو أن يكون في العقارات كالأراضي والدور؛ لأنها تقبل التحديد، وقيل: لا يقبل في المنقولات للحاجة إلى الإشارة إليها عند الدعوى والشهادة. وفي رواية عن محمد: أنه يقبل في جميع المنقولات من الدواب والثياب
3 - قضاء القاضي بالشهادة على الشهادة
والأمتعة ونحوها، وبه أخذ المتأخرون من الحنفية، وعليه الفتوى، وبه قال سائر الأئمة الآخرين. سادساً ـ ألا يكون الكتاب في الحدود والقصاص؛ لأن كتاب القاضي إلى القاضي بمنزلة الشهادة على الشهادة، وهي لا تقبل في العقوبات الخالصة لله عز وجل؛ لأنها تدرأ بالشبهات، وكتاب القاضي إلى القاضي فيه شبهة. وهذا أيضاً هو الأرجح عند الشافعية والحنابلة. وقال المالكية كما عرفنا: يجوز كتاب القاضي إلى القاضي في الحدود والقصاص؛ لأن الاعتماد على الشهود، وقد شهدوا. وهناك شروط أخرى من أهمها: أن الكتاب إذا وصل إلى القاضي قرأه على الخصم؛ لأنه بمنزلة أداء الشهادة، وهو لا يكون إلا بمحضر الخصم، فكذا هذا، منعاً من اتهام القاضي في شيء. ومن أهمها أيضاً: أن الكتاب يقبل إذا كان القاضي الكاتب ما زال في منصبه عند وصول الكتاب إلى المرسل إليه، فإن مات، أو عزل أو لم يبق أهلاً للقضاء قبل وصول الكتاب، لا يقبل؛ لأن الكاتب صار من جملة الرعايا العاديين، ولا يقبل أيضاً الكتاب إذا مات المكتوب له أو عزل، إلا أن يكتب إلى قاضي بلد كذا وإلى كل من يقضي فيه من قضاة المسلمين. 3 - قضاء القاضي بالشهادة على الشهادة: اتفق الفقهاء على قبول الشهادة على الشهادة في الأموال، لقوله تعالى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق:2/ 65] وللحاجة إليها؛ لأن الشهادة الأصلية قد تتعذر بسبب حبس أو مرض أو عجز.
المطلب الثالث ـ واجبات القاضي نحو المقضي له
ولا تقبل الشهادة على الشهادة في الحدود الخالصة لله عند الحنفية والحنابلة، والشافعية في الأظهر؛ لأن الحدود مبنية على الستر والدرء بالشبهات، والشهادة على الشهادة فيها شبهة، فإنه يعترضها احتمال الغلط والسهو والكذب في شهود الفرع مع احتمال ذلك في شهود الأصل. وقال الإمام مالك: تقبل الشهادة على الشهادة في الحدود وكل الحقوق المالية؛ لأن موجب الحد يثبت بشهادة الأصل، فيثبت بالشهادة على الشهادة كالأموال (¬1)، وسأفصل هذا الموضوع في بحث الشهادات إن شاء الله تعالى. المطلب الثالث ـ واجبات القاضي نحو المقضي له: يجب على القاضي نحو المقضي له أمور (¬2): 1ً - أن يكون ممن تقبل شهادته للقاضي، فإن كل من لا تقبل شهادته له: لا يجوز قضاء القاضي له؛ لأن القضاء له قضاء لنفسه من جهة، فلم يكن القضاء مجرداً، وإنما فيه تهمة، فلا يصح القضاء. وعليه فلا يجوز للقاضي أن يقضي لنفسه، ولا لأبويه وإن علوا، ولا لزوجته، ولا لأولاده وإن سفلوا، ولا لشريكه في المال المشترك بينهما، ولا لكل من لا تجوز شهادته لهم، لوجود التهمة، وهذا رأي أكثر الفقهاء (¬3). 2ً - أن يكون المقضي له حاضراً وقت القضاء، فإن كان غائباً لم يجز القضاء له إلا إذا كان عنه وكيل حاضر؛ لأن القضاء على الغائب عند الحنفية لا يجوز، فكذلك لا يجوز القضاء للغائب أيضاً. ¬
المطلب الرابع ـ واجبات القاضي نحو المقضي عليه
3ً - طلب القضاء من القاضي في حقوق الناس؛ لأن القضاء وسيلة إلى الحق، وحق الإنسان لا يستوفى إلا بطلبه. المطلب الرابع ـ واجبات القاضي نحو المقضي عليه: يجب على القاضي ألا يحكم على من لا يجوز أن يشهد عليه، فلا يقضي على عدوه، ويجوز أن يقضي له. ويجب أن يكون المقضي عليه حاضراً عند الحنفية، فلا يجوز القضاء على الغائب بالبينة إذا لم يكن عنه وكيل حاضر (¬1) كوكيله ووصيه ومتولي الوقف أو نائبه، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «فإنما أقضي له بحسب ما أسمع» وما روي عن علي أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال حين أرسله إلى اليمن: «لا تقض لأحد الخصمين حتى تسمع كلام الآخر» (¬2)، ولأنه قضاء لأحد الخصمين وحده، فلم يجز، كما لو كان الآخر في البلد، ولأنه يجوز أن يكون للغائب ما يبطل البينة ويقدح فيها، فلم يجز الحكم عليه. وعدم جواز القضاء على الغائب عند الحنفية، سواء أكان الخصم غائباً وقت الشهادة أم بعدها وبعد التزكية، وسواء أكان غائباً عن مجلس القضاء أم عن البلد التي فيها القاضي، إلا أن يكون ذلك ضرورياً، كما إذا توجه القضاء على الخصم، فاستتر. ¬
وقال المالكية والشافعية والحنابلة (¬1): يجوز القضاء على الغائب البعيد الغيبة بشرط أن يكون للمدعي بينة، وذلك في حقوق الناس المدنية، أما في الحدود الخالصة لله تعالى، فلا يقضى على الغائب بها؛ لأنها مبنية على المسامحة والدرء والإسقاط، لاستغنائه تعالى، بخلاف حق الإنسان، فإن قامت بينة على غائب بسرقة مال، حكم عليه بالمال دون القطع. واستدلوا على جواز الحكم على الغائب بحديث هند، قالت: «يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي؟ قال: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» (¬2) فقضى لها الرسول عليه السلام، ولم يكن زوجها حاضراً. والواقع أن هذا الحديث لا حجة لهم فيه؛ لأن أبا سفيان كان حاضراً بمكة، والحادثة كانت بمكة، لما حضرت هند لمبايعة الرسول صلّى الله عليه وسلم. قال ابن حزم: صح عن عثمان القضاء على الغائب، وصح عن عمر أنه حكم في امرأة المفقود أنها تتربص أربع سنين وأربعة أشهر وعشراً، ولا مخالف لهما من الصحابة. ودليلهم من المعقول أن البينة يطلب سماعها وهي مسموعة في هذه الحالة على الغائب، فيجب الحكم بها كالبينة المسموعة على الحاضر الساكت، وأيضاً فالحكم على الميت والصغير جائز، وهما أعجز عن الدفاع عن نفسيهما من الغائب، ولأن في منع الحكم عن الغائب إضاعة للحقوق التي ندب الحكام إلى حفظها. وحد الغيبة البعيدة عند الشافعية: هو أن يكون الغائب في مسافة بعيدة عن ¬
المبحث السادس ـ آداب القضاة
بلد القاضي: وهي التي لا يرجع منها مبكر إلى موضعه الذي بكَّر منه ليلاً بعد فراغ المحاكم، لما في إلزامه الحضور من المشقة. وقيل: هي مسافة القصر. وأما الحاضر في بلد القاضي ومن بقربه: فلا تسمع البينة عليه، ولا يحكم عليه في غيبته إلا لتواريه، أو تعززه، وعجز القاضي حينئذ عن إحضاره بنفسه أو بأعوان السلطان. المبحث السادس ـ آداب القضاة: ينبغي على القاضي أن يلتزم بآداب معينة تقتضيها مصلحة القضاء وإقامة العدل بين الناس، وهذه الآداب مستمدة في أغلبها من كتاب سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه في القضاء والسياسة إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. وأذكر هنا أهمها عند الحنفية وأصنفها إلى قسمين: آداب عامة، وآداب خاصة. الآداب العامة: 1 ً - المشاورة: يندب للقاضي أن يجلس معه جماعة من الفقهاء يشاورهم ويستعين برأيهم فيما يجهله من الأحكام أو يشكل عليه من القضايا، قال تعالى: {وشاورهم في الأمر} [آل عمران:159/ 3] وأخرج الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «ما رأيت أحداً بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم أكثر مشاورة لأصحابه منه». فإن اتفق رأي الفقهاء على أمر قضى به، كما كان يفعل الخلفاء الراشدون،
- التسوية بين الخصمين في المجلس والإقبال
وإن اختلفوا أخذ بأحسن أقاويلهم وقضى بما رآه صواباً، إلا أن يكون غيره أفقه منه، فيجوز له الأخذ برأيه وترك رأيه الشخصي. وإن اعتمد على قول بعضهم، ثم رأى الصواب في قول الآخر، فله أن يعدل عن الرأي الأول؛ لأن الأمور الاجتهادية يجوز للقاضي أن يأخذ بأحد الآراء فيها قبل صدور الحكم. أما بعد الحكم فليس له أن يبطل الحكم الذي صدر منه؛ لأنه صار بالقضاء كالرأي المتفق عليه، ولكن له أن يعمل في المستقبل بخلاف الرأي السابق (¬1). 2ً - التسوية بين الخصمين في المجلس والإقبال: ينبغي أن يعدل القاضي بين الخصمين في الجلوس، والإقبال، فيجلسهما بين يديه، لا عن يمينه ولا عن يساره، وأن يسوي بينهما في النظر والنطق والإشارة والخلوة فلا يسارّ أحدهما أو يخلو به، ولا يشير إليه، ولا يلقنه حجة منعاً للتهمة، ولا يضحك في وجه أحدهما؛ لأنه يجترئ عليه، ولا يمازحهما ولا واحداً منهما؛ لأنه يذهب بمهابة القضاء، ولا يضيف أحدهما (¬2)، ولا يرفع صوته على أحدهما، ولا يكلم أحدهما بلغة لا يعرفها الآخر، وإذا تكلم أحدهما أسكت الآخر حتى يسمع كلامه، ويفهم، ثم يستنطق الآخر، حتى يفهم تماماً رأيه (¬3). قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من ابتلي بالقضاء بين المسلمين، فليسوِّ بينهم في ¬
المجلس، والإشارة والنظر، ولا يرفع صوته على أحد الخصمين أكثر من الآخر» (¬1). وفي كتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري: «آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك» (¬2) وعن الحسن قال: «جاء رجل فنزل على علي رضي الله عنه، فأضافه، فلما قال: إني أريد أن أخاصم، قال له علي رضي الله عنه: تحول، فإن النبي صلّى الله عليه وسلم نهانا أن نضيف الخصم إلا ومعه خصمه» (¬3)، وعن عبد الله بن الزبير قال: «سنة رسول الله؛ صلّى الله عليه وسلم أن يجلس الخصمان بين يدي القاضي»، وفي لفظ: «قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن الخصمين يقعدان بين يدي الحاكم» (¬4). وكما أنه لا يصح تلقين الخصم حجته، يكره تلقين الشاهد، وهو أن يقول القاضي كلاماً يستفيد به الشاهد علماً على الحادثة، واستحسن أبو يوسف تلقين الشاهد الذي يستحي أو يحتار أو يهاب مجلس القضاء، فيترك شيئاً من شروط الشهادة، فيعينه القاضي بقوله: «أتشهد بكذا وكذا» بشرط عدم التهمة؛ لأن في التلقين إحياء للحق (¬5). ¬
- قبول الهدية
3ً - قبول الهدية: لا يقبل القاضي هدية أحد إلا من ذي رحم محرم، أو ممن جرت عادته قبل القضاء بمهاداته؛ لأن المقصود في الأول صلة الرحم، وفي الثاني استدامة المعتاد. والحاصل أن المهدي إذا كان له خصومة في الحال يحرم قبول هديته، لأنها بمعنى الرشوة، قال صلّى الله عليه وسلم: «هدايا العمال غلول» (¬1) وروي: «هدايا العمال سحت» وفي لفظ: «هدايا السلطان سحت». وأخرج أبو داود عن بريدة حديثاً بلفظ: «من استعملناه على عمل فرزقناه رزقاً، فما أخذه بعد ذلك فهو غلول» وقال عليه الصلاة والسلام في قصة ابن اللُّتبِيّة: «ما بال العامل نبعثه فيجيء، فيقول: هذا لكم، وهذا أهدي إلي، ألا جلس في بيت أمه، فينظر أيهدى إليه أم لا؟» (¬2) ولأن الهدية تدعو إلى الميل للمهدي، وينكسر بها قلب خصمه. وهذا كله دليل على تحريم قبول الهدية على الحاكم بعد تولي القضاء؛ لأن للإحسان تأثيراً في طبع الإنسان، والقلوب مجبولة على حب من أحسن إليها، فربما مالت نفسه إلى المهدي ميلاً يؤثر في الميل عن الحق عند وجود خصومة بين المهدي وبين غيره، والقاضي لا يشعر بذلك، ويظن أنه لم يخرج عن الصواب بسبب ما قد زرعه الإحسان في قلبه. ¬
- إجابة الدعوة
وإن كان المهدي قريباً من القاضي ولا خصومة له، جاز قبول هديته؛ لأنه لا تهمة فيه. وإن كان المهدي أجنبياً عن القاضي، لا تقبل هديته؛ لأنه قد يكون له مآرب في المستقبل، إلا إذا كان له عادة بالمهاداة قبل تقلد القضاء، فيجوز قبولها بشرط ألا تزيد الهدية على القدر المعتاد (¬1). ويندب للقاضي ألا يبيع ولا يشتري بنفسه، لئلا يحابيه أحد، ويستغل منصبه وقربه منه إذا وقعت خصومة بينه وبين غيره. 4ً - إجابة الدعوة: إذا كانت الدعوة عامة: وهي (ما تكون فوق العشرة أو التي يتخذها صاحبها سواء حضر القاضي أم لا، مثل دعوة العرس والختان) ولا خصومة لصاحب الوليمة، فللقاضي إجابة الدعوة؛ لأن الإجابة سنة، ولا تهمة فيه. وإن كانت الدعوة خاصة: وهي (ما تكون دون العشرة أو التي لا يتخذها صاحبها لولا حضور القاضي) فلا يجيبها؛ لأن إجابتها لا يخلو من التهمة، إلا إذا كان صاحب الدعوة ممن اعتاد أن يتخذ للقاضي دعوة قبل القضاء، أو كان بينه وبين القاضي قرابة، فلا بأس بأن يحضر، إذا لم يكن لصاحب الدعوة خصومة، كما تبين في حال الهدية، لعدم وجود التهمة (¬2). 5 - شهود الجنازة وعود المريض: لا بأس بأن يشهد القاضي الجنازة ويعود المريض؛ لأن ذلك من حقوق المسلمين بعضهم على بعض (¬3)، قال صلّى الله عليه وسلم: ¬
الآداب الخاصة
«حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وتشميت العاطس، وإجابة الدعوة، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإذا استنصحك فانصح له» (¬1) فهي السادسة. الآداب الخاصة: 1 - مكان القضاء: قال الشافعية: يستحب أن يكون مجلس القضاء فسيحاً بارزاً للناس، متلائماً مع الوقت والفصول، متناسباً مع الحر والبرد، لا مسجداً، فيكره اتخاذ المسجد مجلساً للحكم؛ لأن مجلس القاضي، لا يخلو عن اللغط، وارتفاع الأصوات، وقد يحتاج لإحضار المجانين والصغار وذوات الأعذار بالحيض والنفاس والجنابة، والكفار، ونحوهم، والمسجد يصان عن ذلك كله. أخرج مسلم: «أنه صلّى الله عليه وسلم حين سمع من ينشد ضالته في المسجد، قال: إن المساجد لم تبن لهذا، إنما بنيت لما بنيت له» فإن صادف وقوع قضية أو أكثر وقت الحضور في المسجد لصلاة أو غيرها، فلا بأس بفصلها، وعليه يحمل ما جاء عنه صلّى الله عليه وسلم، وعن خلفائه في القضاء في المساجد (¬2). وقال الحنفية والمالكية والحنابلة: لا بأس من القضاء في المساجد، اقتداء برسول الله صلّى الله عليه وسلم (¬3) وبصحابته (¬4) وتابعيهم رضي الله عنهم، كانوا يجلسون في المسجد للقضاء، والاقتداء بهم واجب (¬5). ¬
2 - معاونو القاضي
2 - معاونو القاضي: يندب أن يكون للقاضي جلواز وهو المسمى بصاحب المجلس أي الحارس في عرفنا، وأن يكون له أعوان يستحضرون الخصوم ويمتثلون بين يديه إجلالاً له، ليكون المجلس مهيباً ويذعن المتمرد للحق، وأن يكون للقاضي ترجمان لجواز أن يحضر المحاكمة من لا يعرف القاضي لغته من المدعي والمدعى عليه والشهود. وأن يتخذ القاضي كاتباً، لأنه يحتاج إلى حفظ الدعاوى والبينات والإقرارات، وقد يشق عليه الكتابة بنفسه، فيحتاج إلى كاتب يستعين به. وينبغي أن يكون الكاتب عفيفاً صالحاً من أهل الشهادة، وله معرفة بالفقه. وينبغي أن يقعد الكاتب حيث يرى القاضي ما يكتب وما يصنع؛ لأنه أقرب إلى الاحتياط (¬1)، وأن يخصص الكاتب سجلاً خاصاً بالدعوى، يذكر فيه موضوع الدعوى والمدعي والمدعى عليه، والشهود، ودفوع كل من الخصمين. 3 - فهم المنازعة: ينبغي على القاضي أن يفهم الخصومة فهماً دقيقاً، فيجعل فهمه وسمعه وقلبه متجهاً كله إلى كلام الخصمين، لقول سيدنا عمر في فاتحة كتابه إلى أبي موسى الأشعري: «فافهم إذا أدلي إليك، فإنه لا ينفع تكلم بحق لانفاذ له». 4 - صفاء القاضي وحالته النفسية: يلزم ألا يكون القاضي قلقاً ضجراً مضطرباً وقت القضاء، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إياك والضجر والقلق» (¬2) وألا يكون غضبان باتفاق العلماء، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يقضي القاضي وهو غضبان» (¬3)، ولقول سيدنا ¬
عمر إلى أبي موسى: «إياك والغضب والقلق والضجر والتأذي بالناس، والتنكر لهم عند الخصومة، فإذا رأيت الخصم يتعمد الظلم، فأوجع رأسه» ولأن القاضي إذا غضب تغير عقله، ولم يستكمل رأيه وفكره. وفي معنى الغضب: كل ما شغل النفس من الهم والنعاس والجوع المفرط والعطش المفرط، والتخمة، والخوف، والمرض، وشدة الحزن والسرور، ومدافعة الأخبثين، فينبغي ألا يكون القاضي مشغولاً بهذه العوارض العشرة، حتى لا تمنع الحاكم من إصابة الحق؛ لأنها تمنع استحضار القلب والعقل، واستجماع الفكر الذي يتوصل به إلى إصابة الحق في الغالب، فهي في معنى الغضب المنصوص عليه، فتجري مجراه، قال عليه السلام: «لا يقضي القاضي وهو غضبان مهموم، ولا مصاب، ولا يقضي وهو جائع» (¬1). فإن حكم القاضي في الغضب وما شاكله لا ينفذ قضاؤه عند بعض الحنابلة؛ لأنه منهي عنه، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه. وقال بعضهم وهو مذهب الشافعي والجمهور: ينفذ قضاؤه (¬2). وإذا أخطأ القاضي في قضائه، كان خطؤه على المقضي له، وإن تعمد الخطأ بجور، كان الخطأ عليه (¬3). ¬
5 - تزكية الشهود
5 - تزكية الشهود: لا يسأل القاضي عن حالة الشهود فيما سوى الحدود والقصاص، وهذا من آداب القضاء عند أبي حنيفة؛ لأن القضاء عنده بظاهر العدالة. وعند الصاحبين: من واجبات القضاء، وسأفصل الموضوع في بحث شروط أداء الشهادة. والسؤال يكون أولاً سراً، ثم يكون علانية خوفاً من الاحتيال والتزوير، بأن يسمى غير العدل باسم العدل، فإذا اتفق اثنان عدلان أو أكثر على تزكية رجل، قبل قوله وعمل به. وعدالة المزكين شرط؛ لأن من لا يكون عدلاً في نفسه، كيف يعدِّل غيره وأما العدد: فهو شرط فضيلة وكمال عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن التزكية ليست بشهادة. وعند محمد: شرط جواز؛ لأن التزكية في معنى الشهادة. ولو اختلف المعدلان، فعدله أحدهما، وجرحه الآخر، سأل القاضي غيرهما، فإن عدله آخر أخذ بالتزكية، وإن جرحه أخذ بالجرح؛ لأن خبر الاثنين أولى من خبر الواحد بالقبول؛ لأنه حجة مطلقة. وإن عدله اثنان، وجرحه اثنان، عمل بالجرح؛ لأن المجرح يعتمد حقيقة الحال، والمعدل يبني الأمر على الظاهر؛ لأن الظاهر من حال الإنسان أن يظهر الصلاح، ويكتم الفسق، فكان قبول قول الجارح أولى. وكذا لو جرحه اثنان، وعدله ثلاثة فأكثر، يعمل بقول الجارح عند الحنفية؛ لأن الترجيح لا يقع بكثرة العدد في موضوع الشهادات (¬1). 6 - مصالحة الخصمين: لا بأس للقاضي أن يرد الخصوم إلى الصلح، إن تأمل منهما المصالحة، قال تعالى: {والصلح خير} [النساء:128/ 4] فكان طلب الصلح طلباً للخير. ¬
المبحث السابع ـ انتهاء ولاية القاضي
وقال سيدنا عمر: «ردوا الخصوم حتى يصطلحوا، فإن فصل القضاء يورث بينهم الضغائن». وإن لم يتأمل القاضي الصلح من المتخاصمين، ولم يرضيا به، فلا يردهما إلى الصلح، ويتركهما على الخصومة، وينفذ القضاء على من قامت عليه الحجة (¬1). المبحث السابع ـ انتهاء ولاية القاضي: كل ما تنتهي به الوكالة، تنتهي به ولاية القاضي، كالعزل والموت، والجنون المطبق، وإنجاز المهمة الموكولة للشخص، إلا في شيء واحد، وهو أن الموكل إذا مات أو خلع ينعزل الوكيل، أما ولي الأمر إذا مات أو خلع، فلا ينعزل قضاته وولاته. والفرق بين الوكالة وولاية القاضي: أن الوكيل يعمل بولاية الموكل وفي حقه الخالص له، فإن زالت أهلية الولاية، بطلت الوكالة. أما القاضي فلا يعمل بولاية الإمام وفي حقه المجرد له، وإنما يعمل بولاية المسلمين وفي حقوقهم، وإنما الإمام بمنزلة النائب عنهم، وولاية المسلمين باقية بعد موت الإمام، فلو استخلف القاضي أحداً بإذن الإمام ثم مات القاضي، لا ينعزل خليفته؛ لأنه نائب الإمام، لا نائب القاضي (¬2). المبحث الثامن ـ متى يجوز حبس المدين؟ بينت في بحث التعزير أن الحبس جائز شرعاً لقوله عليه الصلاة والسلام: «مطل الغني ظلم» والظالم يحبس. ¬
فإذا رفعت الدعوى إلى القاضي، وثبت الحق عنده على أحد المتخاصمين، وطلب صاحب الحق حبس غريمه، لم يعجل القاضي بحبسه، وإنما يعمل بما يأتي (¬1): 1ً - إذا ثبت لدى القاضي أن المدين معسر أو معدم لا مال له: لا يحكم بحبسه في الدين، باتفاق الفقهاء لقوله تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنَظِرة إلى ميسرة} [البقرة:280/ 2] إذ لا فائدة من حبسه، فيكون ظلماً، وإنما يترك ليسعى في الأرض ويكتسب، فيتمكن من سداد دينه كله أو بعضه. 2ً - إذا كان مشكوكاً في أمر المدين، أهو معسر أم موسر، جاز حبسه عند جمهور الفقهاء حبس تلوم واختبار، إذا كان الدين من ديون المعاوضة (¬2) كثمن مبيع ودين قرض، وطلب غرماؤه حبسه، وادعوا أن له مالاً يخفيه أو ينكره. وينتهي هذا الحبس بالإفراج عن المدين إذا ثبت عسره، كالحالة السابقة، إذ لا حبس للمدين المعدم، ويكون حبسه حينئذ ظلماً، ولا يحول القاضي بينه وبين غرمائه بعد خروجه من الحبس، ولهم حق ملازمته. 3ً - إذا ثبت يسار المدين بالأدلة المعروفة، لم يأمر القاضي فوراً بحبسه، وإنما يأمره بأداء المال المستحق عليه لصاحبه؛ لأن الحبس جزاء المماطلة، فلا بد من ظهورها، إذا ثبت الحق بإقراره. أما إن ثبت الحق بالبينة، وامتنع من الوفاء بالدين المستحق، أو تأخر عن الدفع من غير ضرورة، جاز حبسه شهرين أو ثلاثة أو أكثر أو أقل بحسب تقدير القاضي لأحوال الأشخاص. ¬
كيفية الحبس الشرعي
ويظل محبوساً أبداً في رأي أبي حنيفة وزفر حتى يقوم بالوفاء. وقال الصاحبان وأئمة المذاهب الأخرى: إذا لم يفلح الحبس في دفعه إلى الوفاء بديونه، يحجر عليه ويباع ماله جبراً، ويقسم بين دائنيه قسمة غرماء. فالحبس جزاء مؤقت عند هؤلاء ينتهي إما بالإفراج عن المدين إذا ثبت عسره، أو ببيع ماله جبراً وتسديد ديونه. ويحبس الرجل في نفقة زوجته لظلمه بامتناعه عن الإنفاق، ولا يحبس والد في دين ولده؛ لأنه نوع عقوبة، فلا يستحقه الولد على والده، إلا إذا امتنع والده من الإنفاق عليه، دفعاً لهلاكه، ولئلا تسقط النفقة بمضي الزمان. وقد رأى الحنفية بالنسبة لإثبات يسار المدين أنه يحبس إلى ظهور عسره في كل دين لزمه بدلاً عن مال حصل في يده (أي في المعاوضات) كثمن مبيع وبدل مستأجر، أو التزمه بعقد كالمهر والكفالة؛ لأن التزامه بالعقد باختياره دليل يساره. ولا يحبس المدين فيما سوى ذلك كبدل الخلع، وبدل مغصوب أو شيء متلف ونحوها إلا أن يثبت غريمه (دائنه) أن له مالاً، فيحبسه حينئذ لظهور المطل. كيفية الحبس الشرعي (¬1): إن الحبس الشرعي في أصله ليس هو الحبس في مكان ضيق، وإنما هو تعويق الشخص، ومنعه من التصرف بنفسه، سواءأكان في بيت أم في مسجد، أم كان بتوكل شخص أو وكيله عليه، وملازمته له. وحق الملازمة يخول الدائن مراقبة مدينه عن كثب، حتى يتمكن من معرفة الأموال التي تؤول إلىه تمهيداً للاستيلاء عليها وفاء لدينه. ¬
عزل القاضي وانعزاله
وكان هذا هو الحبس على عهد النبي صلّى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق رضي الله عنه، ولم يكن له محبس معد لحبس الخصوم. ولكن لما كثر الناس في عهد عمر بن الخطاب ابتاع بمكة داراً وجعلها سجناً يحبس فيها، فانقسم العلماء فريقين: قال بعضهم: لا يتخذ الحاكم حبساً؛ إذ لم يكن لرسول الله صلّى الله عليه وسلم ولا لخليفته بعده حبس، ولكن يعوقه بمكان من الأمكنة، أو يقام عليه حافظ، أو يأمر غريمه بملازمته، كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلم. وقال آخرون وهم الأكثرون كما تبين في التعزير: للحاكم أن يتخذ حبساً؛ إذ أن عمر بن الخطاب قد اشترى من صفوان بن أمية داراً بأربعة آلاف درهم، جعلها حبساً. عزل القاضي وانعزاله: للقاضي أن يعزل نفسه، لأنه كالوكيل عن الإمام، وللوكيل أن يعزل نفسه عن الوكالة. ولا ينعزل القاضي بموت الإمام أو ترك منصبه وولايته بسبب من الأسباب؛ لأن الإمام يمثل الأمة في تعيين القضاة والموظفين. وللإمام عزل القاضي إذا أخل بواجبه أو كثرت الشكاوى منه، أو وجد من هو أفضل منه، أو كان هناك مثله أو دونه وكان في عزله مصلحة للمسلمين. فإ لم يكن شيء مما سبق حرم عزله؛ لأنه عبث منهي عنه. ولا ينعزل القاضي قبل بلوغه خبر عزله، لعدم علمه بذلك.
وينعزل القاضي بنفسه بأحد أسباب ثلاثة: 1 ً - زوال الأهلية: بالجنون أو الإغماء أو العمى أو الخرس أو الصمم، أو فقدان أهلية الاجتهاد وضبط الأمور بسبب غفلة أو نسيان. 2 ً - الردة: بخروجه عن الإسلام؛ لأنه يصبح كافراً، والله تعالى يقول: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} [النساء:141/ 4]. 3 ً - الفسق: بالإخلال بأحكام الشريعة أمراً ونهياً، وبالآداب العامة؛ لمنافاة ذلك لمنصب الولاية إلا قاضي الضرورة: وهو القاضي الفاسق الذي يعينه سلطان ذو شوكة.
إقليمية الشريعة والقضاء في ديار الإسلام
... إقليمية الشريعة والقضاء في ديار الإسلام .......................... كلما هبَّت رياح الضعف والوهن على بلد إسلامي أو عربي، أثيرت حوله مشكلات عديدة تتعلق بأوضاع غير المسلمين من الناحية القانونية أو الاجتماعية أو السياسية، وتبدأ مظاهر الفتنة بالتساؤل: هل تطبق عليهم أحكام الشريعة الإسلامية، أو أنهم يخضعون لقوانين خاصة بهم؟ وذلك كما كان عليه الحال في أواخر عهد السلطة العثمانية، حيث تقرر بمساعي الدول الكبرى ما يسمى بنظام الامتيازات الأجنبية الذي عانت منه البلاد الشيء الكثير، ويعاصرنا الآن الوضع المتأزم في السودان بين الشمال والجنوب بمناسبة إقرار القانون الجنائي لإعفاء الجنوبيين من أحكامه، بل حتى إقليم الخرطوم عاصمة الدولة، التي يختل فيها الأمن اختلالاً ملحوظاً، وتكثر جرائم النهب والسرقة والقتل في الفترة التي أوقف فيها تطبيق الحدود الشرعية. ومثل هذه التساؤلات لا تتردد بالنسبة لغير المواطنين في ربوع الدول القوية الغربية أو الشرقية، فلا يعترض أحد على تطبيق أحكام قانون عقوبات تلك الدولة، مهما اشتد وقسا، ومهما تعنَّت الساسة وتغطرسوا، ويظل مبدأ إقليمية القانون الذي هو جزء من سيادة الدولة هو المحترم والمطبق، ويتصدى قضاء الدولة الحالي للنظر في أي جريمة وقعت على أرضها أو إقليمها، أو حتى على وسائل النقل والمواصلات البرية والبحرية والجوية التابعة لها من طائرات وسفن، ولو في
غير إقليم الدولة البري أو البحري أو الجوي، وتبادر الدولة على الفور إلى طرد دبلوماسي مثلاً لإطلاقه عياراً نارياً في شارع أو قرب سفارته، وتعلن الدولة صراحة كما حدث في بريطانيا في الأسبوعين الأخيرين من شهر أيلول (سبتمبر 1988) قائلة لغير الإنجليز: إما أن تحترموا قوانيننا أو ترحلوا من بلادنا، حفاظاً على الأمن الداخلي والسلم والاستقرار. وبالمقارنة بين هذا المثال والوضع في السودان يظهر لنا أن القضية إذن هي قضية قوة ونفوذ لحماية المبدأ والحق، فإن كانت هناك قوة، كان احترام المبدأ القانوني هو السائد، وإن كان هناك ضعف انحسر مبدأ القانون، وظهر الاستنكار والاستهجان في وسائل الإعلام من إذاعة وصحافة، وتجرأ الناقدون لوصف القانون الجنائي المستمد من شريعة الله تعالى بأنه متسم بالقسوة والشدة، وأنه سبب التفرقة والتجزئة والانقسام، وفصل جنوب السودان عن شماله!! والواقع أن مشكلة جنوب السودان سياسية محضة تعتمد على دعم وتأييد خارجي، له بواعثه وأهدافه ومراميه المفروضة والمشبوهة المعروفة، وليس منشأ المشكلة قضية تطبيق الشريعة. ومع كل هذا أودّ بيان مبدأ إقليمية القانون الجنائي والقضاء، وأقارن بين ما عليه القانون الوضعي في العقوبات، وبين ما قرره فقهاؤنا الشرعيون منذ قرون كثيرة، لمعرفة أوجه الشبه والاختلاف في هذا الموضوع المهم جداً، ولدحض ذرائع الذين يريدون التخلص من أحكام شريعة الله تعالى، بقصد إبقاء الجريمة ترتع وتمرح، ويكون المجرمون في أمان من العقاب الرادع الذي يستأصل الإ جرام ويقطع دابره. من المعلوم أن الشريعة الغراء ذات المصدر الإلهي الوحيد الثابت الصحة
إقليمية قانون العقوبات
والأصل منذ مجيئها وإلى اليوم والغد، تبغي الخير والسلامة والعدالة والاستقرار والعيش بسلام في ديارها وفي العالم أجمع، سواء بين المسلمين أنفسهم وبينهم وبين غيرهم الذين يعيشون في ديار الإسلام وأوطانه، وإذا تحقق هذا الهدف، وهو سريع التحقق إذا طبقت أحكام الشريعة بأصولها وفروعها الصحيحة، وفي ضوء مقاصد التشريع العامة وروحه النقية الصافية، والتُزمت جميع الأحكام الشرعية، ليس في نطاق العقاب الصارم وحده، وإنما في مبنى الهيكل السياسي والاجتماعي والاقتصادي الشامل لجميع المواطنين في ديار الإسلام بحيث يشعر الناس أن مظلة الإسلام رحمة كلها، وخير كلها، وعدل كلها، ومصلحة كلها. وقد أثبتت التجارب أن العقوبات والأنظمة الوضعية لم تحقق للناس سعادتهم ولم تكفل أو تضمن لهم الأمن والسلامة والاستقرار لأموالهم وأنفسهم ومنازلهم وتحركاتهم وتنقلاتهم وأسفارهم. ولا فرق في الحاجة إلى تطبيق شريعة الإسلام المدنية والجزائية بين عالم متمدن متحضر، وعالم بدائي أو متخلف، فالبشر هم البشر، والناس هم الناس، والكل يعرف أن أكبر نسبة للجرائم في العالم هي في الولايات المتحدة الأمريكية، وأنه في كل دقيقة أو ثانية تقع جريمة في بريطانيا وأمريكا. ومبدأ إقليمية قانون العقوبات وغيره في كل دولة معناه أن القانون يسري حكمه على كل ما يقع في إقليم الدولة من جرائم مهما كانت جنسية المجرم وصفته. وأساس هذا المبدأ حق الدولة في السيادة على إقليمها، سواء الإقليم الأرضي، والمائي، والجوي. والإقليم الأرضي يشمل جميع أجزاء حدود الدولة الجغرافية من مساحة الأرض اليابسة، والإقليم المائي يمتد إلى ذلك الجزء من البحر العام الملاصق لشواطئ الدولة، ويتحدد في العرف الدولي عرضه بثلاثة أميال
بحرية من آخر نقطة ينحسر عنها البحر وقت الجزر، والإقليم الجوي يضم كل طبقات الجو فوق الإقليمين الأرضي والمائي. وهذا المبدأ الذي يحكم نطاق التطبيق المكاني للنصوص الجنائية الوضعية وهو ما يعبر عنه بمبدأ (إقليمية قانون العقوبات) هو المبدأ السائد في عالم القانون المعاصر، ولكن يرد عليه استثناءان: أحدهما داخلي والآخر خارجي. أما الاستثناء الداخلي فيقتضي إعفاء بعض الأشخاص من الخضوع لقانون العقوبات في الدولة، وهم أعضاء البرلمان عما يبدونه من أفكار وآراء في أداء أعمالهم داخل المجلس أو في لجانه، ورؤساء الدول الأجنبية ورجال السلك السياسي الأجنبي، وأفراد القوات الحربية الأجنبية الذين يقومون بمهمات أمنية لحفظ السلام بترخيص من الدولة، وذلك عملاً بالعرف الدولي باعتبار أن هؤلاء تتصل أوضاعهم بسيادة الدولة التي ينتمون إليها. وأما الاستثناء الخارجي فيعني تطبيق قانون عقوبات الدولة خارج إقليمها على جرائم تمس مصلحة أساسية لها، وهي الجرائم المخلة بأمن الدولة، وجرائم تزييف النقود الوطنية، وجرائم تزوير أختام الدولة. ولقد أجمع فقهاء الإسلام على وجوب تطبيق الشريعة في دار الإسلام على المسلمين وغيرهم، كما هو السائد في نظريات القوانين الوضعية، ومنها القوانين العربية، مع المخالفة أحياناً في بعض الحالات، فإن فقهاءنا اختلفوا فيما بينهم في مدى تطبيق الشريعة على المستأمن: وهو من دخل دارنا بأمان مؤقت، وذلك مثل الأجانب الذين يدخلون أراضي دولة أخرى بتأشيرة دخول من الدولة نفسها أو من سفاراتها أو قنصلياتها المعتمدة في خارج الدولة، كما اختلفوا أيضاً في مدى تطبيق الشريعة على جرائم مواطني الدولة الواقعة أو التي ترتكب خارج أرض الدولة.
إقليمية القضاء
وتطبق أحكام الشريعة على المسلمين وغيرهم في ديار الإسلام في المعاملات المدنية والعقوبات الجنائية، سواء أكانت حدوداً شرعية (عقوبات مقدرة) أم تعازير (عقوبات غير مقدرة متروك أو مفوض تقديرها إلى ولي الأمر الحاكم). ومبدأ إقليمية القضاء تابع لإقليمية الشريعة، ويجب على القاضي المسلم أن يحكم في النزاع في حقوق الآدميين من ديون ومعاملات في رأي الحنفية والشافعي في القول الصحيح، لقول الله تعالى مخاطباً نبيه عليه الصلاة والسلام: {وأن احكُمْ بينَهم بما أنزلَ الله، ولا تتَّبعْ أهواءَهم، واحذرْهم أن يفتنوك عن بعضِ ما أنزلَ الله ُ إليكَ، فإن تولَّوْا فاعلمْ أنما يريدُ الله أن يُصيبَهم ببعضِ ذنوبهم، وإن كثيراً من الناسِ لفاسقون. أفحُكْمَ الجاهلية يبغون، ومَنْ أحسنُ من الله حُكماً لقومٍ يُوقنون} [المائدة:49/ 5]. وهذا يشمل المسلمين وغيرهم في دار الإسلام. وذهب فقهاء آخرون (مالك والشافعي في القول الآخر وأحمد) إلى أنه يخير القاضي المسلم بين الحكم والإعراض عن الحكم بين غير المسلمين في المعاملات، لقوله تعالى: {فإنْ جاءوك فاحكمْ بينهم أو أعرضْ عنهم} [المائدة:42/ 5]. والظاهر هو الرأي الأول، لأن هذه الآية منسوخة بالآية المتقدمة: {وأن احكم بينهم} [المائدة:49/ 5] ولأننا التزمنا بمنع الظلم عن المستوطنين غير المسلمين في ديارنا، ويلزم الدولة استئصال دابر الإجرام والفساد في داخل أراضيها لحفظ الأموال والدماء، ويجب منح غير المسلمين حق التقاضي عموماً إلى محاكمنا، وهذا يتفق مع ما قررته اتفاقية جنيف عام (1949م) في المادة (42) من منح الرعايا الأجانب حق التقاضي، سواء كانوا مدعين أو مدعى عليهم، بعد أن كان هذا الحق مسلوباً منهم فترة طويلة من الزمن. ويتقوى الرأي الأول بقول الإمام علي رضي الله عنه: «وإنما بذلوا الجزية ـ
الخلاف الفقهي في المستأمن
ضريبة الأشخاص كضرائب الدخل الحالية ـ لتكون أموالهم كأموالنا، ودماؤهم كدمائنا». وروى أبو داود والبيهقي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه، أو كلّفه فوق طاقته، أو أخذ شيئاً بغير طيب نفسٍ منه، فأنا حجيجه يوم القيامة». أما الخلاف الفقهي في المستأمن فينحصر في رأيين: رأي أبي حنيفة ومحمد، ورأي الجمهور، أما أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى: فيريان أن المستأمن الذي يقيم إقامة مؤقتة في دار الإسلام لا تطبق عليه العقوبات الشرعية إذا ارتكب جريمة متعلقة بحق الله تعالى، كشرب الخمر والزنى والسرقة، ولا تقام عليه الحدود؛ لأن المستأمن التزم بما فيه حقوق العباد، ولأن العقاب الديني لا ولاية كاملة فيه للحاكم المسلم على المستأمن، لتوقيت مدة إقامته في ديارنا. أما مسؤوليته مدنياً وجنائياً فيما يمس حقوق الأشخاص، كالقصاص والقذف والغصب والتبديد، فهو كبقية المسلمين وغير المسلمين المقيمين إقامة دائمة في بلاد الإسلام (الذميين المعاهدين) لما في ذلك من صلاح الجماعة، وزجر الجاني، وعهد الذمة القديم ما يزال ساري المفعول على غير المسلمين الحاليين المقيمين في البلاد الإسلامية. وأما الجمهور ومنهم أبو يوسف والشيعة الإمامية والزيدية: فيرون أن المستأمن كالذمي تطبق عليه أحكام الشريعة، ويخضع لجميع أحكام المعاملات المدنية والجرائم المخلة بالأمن والنظام، ويعاقب على جرائمه التي تمس حق الشخص كالقصاص، والسرقة في رأيهم، والقذف وإتلاف الأموال، وكذا جرائمه التي تتعلق بحق الله تعالى كشرب الخمر والزنى، لما في ذلك من ممارسة حق السيادة للدولة، وللمحافظة على نقاوة المجتمع وسلامته وأمنه، ولأن المستأمن في دار الإسلام التزم بتطبيق أحكام الإسلام عليه بموجب العهد أو
الحصانة القضائية
الأمان، كما أن أحكام الشريعة في المعاملات المالية من بيوع وعقود وتعامل بالربا تطبق عليه باتفاق الفقهاء. وقد اتخذت نظرية أبي حنيفة ومحمد ذريعة لإعفاء الأجانب من الخضوع لأحكام الشريعة مما سبَّب منح المستأمنين في عهد سليمان القانوني السلطان العثماني ما يسمى بالامتيازات الأجنبية التي قاست منها البلاد الإسلامية كثيراً، فكانت سبباً لاستغلال المسلمين، وتضييع حقوقهم، واستعلاء الأجانب عليهم، والحد من سلطة الدولة وسيادتها، والإعفاء من الاختصاص التشريعي والقضائي، ومن الأعباء المالية والخدمة العسكرية. وينبني على رأي الجمهور أن الحصانة القضائية التي يترتب عليها في العرف الدولي الحديث عدم خضوع رجال السلك الدبلوماسي للولاية القضائية للدولة الموفد إليها، سواء في المسائل المدنية أو الجنائية أو الإدارية، هذه الحصانة غير مقررة لدى جماهير فقهائنا، فالمستأمن والسفير والقنصل ورئيس الدولة الأجنبية وغيرهم من ذوي الاستثناءات المتقدمة يسأل كل منهم مدنياً وجنائياً عما يرتكبه من أعمال مخالفة في بلاد الإسلام؛ لأن دفع الفساد واجب ملزم لكل من يقيم بين المسلمين، ولو مؤقتاً، والمجرم لا يستحق الحماية ولا يصلح لأداء وظيفته. وأما الإمام أبو حنيفة وصاحبه محمد فيريان أيضاً مسؤولية المستأمن مدنياً وجنائياً، لكنه معفى فقط كما تقدم من المسؤولية الجنائية التي تتعلق بالحق العام (حق الله تعالى) الذي تمارسه الدولة وترعاه، كشرب الخمر والزنى. ويرى أستاذنا المرحوم الشيخ محمد أبو زهرة: أن العقوبات التعزيرية التي لم يرد في عقوبتها نص من كتاب أو سنة، أي غير الحدود الشرعية، يعفى منها الممثلون السياسيون مجاراة للعرف الدولي الحاضر، ومراعاة لمبدأ المعاملة بالمثل؛ لأن تقديرهذه العقوبات من حق ولي الأمر، وله الإعفاء منها لمصلحة عامة.
تطبيق أحكام الشريعة على رعايا دار الإسلام إذا ارتكبوا جرائم في خارج تلك الدار
والعرف أو القانون الدولي، وإن كان لا يخضع الممثل السياسي لولاية القضاء الإقليمي خشية التحامل عليه وإهدار حصانته، فإنه أجاز للدولة الموفد إليها تبليغ الأمر إلى الدولة الموفدة لمحاكمته، كما أن لها أن تعتبره شخصاً غير مرغوب فيه، وتطلب استدعاءه، بل لها في الجرائم الخطيرة أن تطرده، ولها أن تقبض عليه إذا كان ذلك ضرورياً للمحافظة على سلامتها، كما لها أن تطلب رفع الحصانة الدبلوسية عنه من دولته لتحاكمه هي بسبب ارتكابه جريمة في أرضها. أما القناصل فيجوز خضوعهم للقضاء الإقليمي. وهكذا يقترب العرف الدولي الحاضر من الحكم المقرر في الشريعة لدى فقهائنا. وأما الخلاف الفقهي حول تطبيق أحكام الشريعة على رعايا دار الإسلام إذا ارتكبوا جرائم في خارج تلك الدار، فيتمثل في رأيين أيضاً: مذهب الحنفية، ومذهب الجمهور. أما الحنفية: فيرون أن أحكام الشريعة العقابية لا تطبق على الجرائم التي يقترفها المسلم أو الذمي في دار الحرب، لعدم ولاية الإمام في إقامة الحدود وغيرها على جزء من أجزاء الدار أو البلاد غير الإسلامية، ولأن وجوب إقامة الحد مشروط بالقدرة على الإقامة أو التطبيق، ولا قدرة للإمام على من يرتكب جريمة في دار الحرب أثناء ارتكابها، وإذا لم تتوافر القدرة لم تجب العقوبة. إلا أن أبا يوسف خالف أستاذه أبا حنيفة في أمرين: الأول ـ أن التعاقد على الربا حرام في جميع البلاد، في دار الإسلام وغيرها؛ لأن الربا حرام في ذاته في أي مكان من العالم. والثاني ـ أن الأسير المسلم إذا قتله مسلم أو ذمي في دار الحرب، فعليه الدية، لأنه إذا تعذر القصاص لعدم ولاية الإمام المسلم على تلك الدار، فتجب الدية؛ لأن الأسر لا يفقد عصمة المسلم، ولأنه (لا يُطَل دم في الإسلام) أي لا يهدر، فإذا امتنع القصاص، أمكن إيجاب الدية.
وأما الجمهور (مالك والشافعي وأحمد): فيرون أن الشريعة تطبق على كل جريمة في أي مكان ارتكبت، سواء في حدود البلاد الإسلامية أو خارجها، وسواء أكان الجاني مسلماً أم ذمياً أم مستأمناً؛ لأن المسلم ملزم بأحكام الشريعة في أي مكان، والذمي والمستأمن ملزمان بتلك الأحكام الشرعية بمقتضى العهد والأمان. وقد أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعقوبة سكران يوم حنين في بلاد المشركين، وروى أبو داود في المراسيل عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «وأقيموا الحدود في الحضر والسفر على القريب والبعيد، ولا تبالوا في الله لومة لائم». وهذا الحكم شامل في رأي الجمهور كل حرام كالتعامل بالربا وغيره من المحرمات كالقمار والرشوة، وما أروع كلمة الإمام الشافعي في ذلك، حيث قال في كتابه الأم (165/ 4): «ومما يوافق التنزيل والسنة، ويعقله المسلمون، ويجتمعون عليه: أن الحلال في دار الإسلام حلال في بلاد الكفر، والحرام في دار الإسلام حرام في بلاد الكفر، فمن أصاب حراماً، فقد حده الله على ما شاء منه، ولا تضع عنه بلاد الكفر شيئاً». وهذا واضح في أن الدار أو المكان لا تغير صفة التحريم للأفعال، فلا تمنع العقوبة المقررة جزاء على ارتكاب الفعل الحرام. وهذه النظرية ـ نظرية الجمهور - هي السائدة اليوم في القوانين الوضعية، إلا أن الفرق بينهما أن القانونيين يجيزون للدولة تطبيق العقاب على ما ترى فيه مصلحة بسبب ارتكاب الجرائم التي تقع في خارج أراضيها، وتطبق العقوبة الصارمة على الجرائم التي تمس مصلحة أساسية لها، وهي ما سبق بيانه من جرائم أمن الدولة، وتزييف العملة، وتزوير أختام الدولة الرسمية. أما الشرعيون فيوجبون تطبيق عقوبات الحدود دون إعفاء، ويجيزون لولي الأمر في التعزيرات إعفاء ما ترى فيه مصلحة في ذلك.
والخلاصة: إن المبدأ الأساسي في الحكم الإسلامي في ديار الإسلام على المسلمين والذميين والمستأمنين هو مبدأ إقليمية القوانين، مع بعض استثناءات كحرية ممارسة الشعائر الدينية وحرية العقيدة، وكذلك اختصاص القضاء اختصاص إقليمي، ومبدأ الإقليمية التشريعي والقضائي هو الذي تسير عليه القوانين الوضعية في العصر الحديث.
الفصل الثاني: الدعوى والبينات
الفَصْلُ الثَّاني: الدّعوى والبَيّنات (¬1) خطة الموضوع: الكلام هنا عن وسيلة الوصول إلى الحق وهي الدعوى، وعن طرق إثبات الحق: وهي الشهادة واليمين والنكول والإقرار والقرائن، وعن تعارض الدعويين مع تعارض البينتين، في المباحثات الآتية: المبحث الأول ـ تعريف الدعوى وركنها وشرائطها والأصل في مشروعيتها. المبحث الثاني ـ نوعا الدعوى أو ما يجب على المدعى عليه بعد الادعاء. المبحث الثالث ـ حكم الدعوى أو ما يجب على المدعى عليه بعد الادعاء. المبحث الرابع ـ حجج المتداعين أو طرق إثبات الحق. المبحث الخامس ـ حكم تعارض الدعويين مع تعارض البينتين. المبحث السادس ـ حكم تعارض الدعويين فقط في الملك، وحكم الملك وما يقتضيه من حقوق. ¬
المبحث الأول ـ تعريف الدعوى
المبحث الأول ـ تعريف الدعوى، وركنها، وشرائطها، والأصل في مشروعيتها: تعريف الدعوى: الدعوى لغة، قول يقصد به الإنسان إيجاب حق على غيره أو هي الطلب والتمني، قال تعالى: {ولهم ما يدَّعون} [يس:57/ 36] وتجمع على دعاوى ودعاوي. وشرعاً: إخبار بحق للإنسان على غيره عند الحاكم (¬1). وركنها: هو قول الرجل: لي على فلان، أو قبل فلان كذا، أو قضيت حق فلان، أو أبرأني عن حقه، ونحوها (¬2). وشرائطها عند الحنفية: أولاً ـ أهلية العقل أو التمييز: يشترط أن يكون المدعي والمدعى عليه عاقلين، فلا تصح دعوى المجنون والصبي غير المميز، كما لا تصح الدعوى عليهما، فلا يلزمان بالإجابة على دعوى الغير عليهما، ولا تسمع البينة عليهما. ثانياً ـ أن تكون في مجلس القضاء: لأن الدعوى لا تصح في غير هذا المجلس. ثالثاً ـ أن تكون دعوى المدعي على خصم حاضر لدى الحاكم عند سماع الدعوى والبينة والقضاء، فلا تقبل الدعوى على غائب، كما لا يقضى على غائب عند الحنفية، سواء أكان غائباً وقت الشهادة أم بعدها، وسواء أكان غائباً عن مجلس القاضي أم عن البلد التي فيها القاضي. ولا يشترط هذا الشرط في المذاهب الأخرى. ¬
وقد سبق لدينا أن المالكية والشافعية والحنابلة في الأرجح: يجوزون القضاء على الغائب إذا أقام المدعي البينة على صحة دعواه، وذلك في الحقوق المدنية لا في الحدود الخالصة لله تعالى. رابعاً ـ أن يكون المدعى به شيئاً معلوماً: وعلمه إما بالإشارة إليه عند القاضي إذا كان الشيء من المنقولات (¬1)، أو ببيان حدوده إذا كان قابلاً للتحديد كالأراضي والدور وسائر العقارات، أو بكشف يجريه القاضي أو من ينوب عنه إذا لم يكن المدعى به قابلاً للتحديد كحجر الرحى، أو ببيان جنسه ونوعه وقدره وصفته إذا كان المدعى به ديناً، كالنقود والبُر والشعير؛ لأن الدين لا يصير معلوماً إلا ببيان هذه الأمور. والسبب في اشتراط العلم بالمدعى به: هو أن المدعى عليه لا يلزم بإجابة دعوى المدعي إلا بعد معرفة المدعى به، وكذلك الشهود لا يمكنهم الشهادة على مجهول، ثم إن القاضي لا يتمكن من إصدار الحكم أو القضاء بالدعوى إلا إذا كان المدعى به شيئاً معلوماً. خامساً ـ أن يكون موضوع الدعوى أمراً يمكن إلزام المدعى عليه به، أي أن يكون الطلب مشروعاً ملزماً في مفهومنا الحاضر: فإذا لم يكن بالإمكان إلزام المدعى عليه بشيء، فلا تقبل الدعوى، كأن يدعي إنسان أنه وكيل هذا الخصم عند القاضي في أمر من أموره، أو يدعي على شخص بطلب صدقة أو بتنفيذ مقتضى عقد باطل، فإن القاضي لا يسمع دعواه هذه إذا أنكر الخصم ذلك؛ لأن الوكالة عقد غير لازم، فيمكنه عزل مدعي الوكالة في الحال. ¬
الأصل في مشروعية الدعوى
سادساً ـ أن يكون المدعى به مما يحتمل الثبوت: لأن دعوى ما يستحيل وجوده حقيقة أو عادة، تكون دعوى كاذبة، فلو قال شخص لمن هو أكبر سناً منه: هذا ابني، لا تسمع دعواه؛ لاستحالة أن يكون الأكبر سناً ابناً لمن هو أصغر سناً منه، وكذا إذا قال لمعروف النسب من الغير: هذا ابني، لا تسمع دعواه (¬1). ويشترط أيضاً عدم تناقض أقوال المدعي أو دعاويه، فلو ادعى شخص على آخر ديناً، ثم ثبت أنه أقر بعدمه، لم تقبل دعواه، ولو ادعى على شخص أنه القاتل وحده، ثم ادعى أنه شريك مع آخر، لم تسمع الدعوى الثانية، لمناقضتها الأولى، إلا إذا صدقه المتهم الثاني بالقتل، فيؤخذ بإقراره. الأصل في مشروعية الدعوى: الأصل في الدعوى قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجل أموال قوم ودماءهم، لكن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر» (¬2) ولفظ مسلم: «ولكن اليمين على المدعى عليه». وبما أن الخصومات والمنازعات أمر واقع بين البشر، فكان لا بد من الفصل فيها بطريق الدعوى؛ لأن في امتدادها فساداً كبيراً، والله تعالى لا يحب الفساد (¬3). المبحث الثاني ـ نوعا الدعوى، وتعيين من هو المدعي والمدعى عليه: الدعوى نوعان: صحيحة وفاسدة. ¬
الدعوى الصحيحة
ف الدعوى الصحيحة: هي التي استكملت شرائط الصحة المذكورة في المبحث الأول ويتعلق بها أحكامها المقصودة منها: وهي إحضار الخصم إلى ساحة المحكمة بواسطة أعوان القاضي، ومطالبته بالجواب على دعوى المدعي، واليمين إذا أنكر المدعى به. ويثبت فيها حق المدعي: إما بالبينة أو بنكول المدعى عليه عن اليمين. والدعوى الفاسدة أو الباطلة: هي التي لم يتوافر فيها شرط من شروط الصحة المذكورة آنفاً، ولا تترتب عليها الأحكام السابقة المقصودة منها، كأن تكون الدعوى على غائب، أو كان المدعى به مجهولاً؛ لأن المجهول يتعذر إثباته بالشهادة، فلا يمكن للشهود أن يشهدوا به، ولا يتمكن القاضي من القضاء بالمجهول، لا بالبينة ولا بالنكول عن اليمين (¬1). من هو المدعي والمدعى عليه؟ لما كانت مسائل الدعوى متوقفة على معرفة المدعي والمدعى عليه، وهي من أهم ما تبتنى عليه الدعاوى، لا سيما فيما يتعلق بما يلزم به أحدهما من البينة أو اليمين ونحوهما، كان من الضروري تعيين المتصف بصفة المدعي والمدعى عليه، وفي تعيينه تعريفات شتى، منها: المدعي: من لا يجبر على الخصومة إذا تركها؛ لأنه مطالب. أو هو من خالف قوله الظاهر. والمدعى عليه: من يجبر على الخصومة؛ لأنه مطلوب (¬2). أو هو من وافق قوله الظاهر، والظاهر هو البراءة. ¬
المبحث الثالث: حكم الدعوى أو ما يجب على المدعى عليه بعد الادعاء
وقيل: المدعي: من يلتمس بقوله أخذ شيء من يد غيره، أو إثبات حق في ذمته. والمدعى عليه: من ينكر ذلك. وقيل: المدعى عليه: هو المنكر، والآخر هو المدعي (¬1). المبحث الثالث: حكم الدعوى أو ما يجب على المدعى عليه بعد الادعاء: للقاضي الدور المهم في الدعوى، فإذا جاء المدعي إلى المحكمة مع خصمه سأله القاضي عن موضوع الدعوى، فإذا كانت الدعوى صحيحة، بأن كانت على خصم حاضر واستوفت شروطها، طلب القاضي من المدعى عليه جوابه عن الدعوى؛ لأن قطع دابر الخصومة واجب. حكم الدعوى إذن: وجوب الجواب على المدعى عليه بقوله: لا أو نعم، حتى إنه لو سكت، كان سكوته إنكاراً، فتقبل بينة المدعي، ويحكم بها على المدعى عليه. فإن أقر المدعى عليه بموضوع الدعوى، حكم القاضي عليه؛ لأنه غير متهم في إقراره على نفسه، ويؤمر بأداء الحق لصاحبه. وإن أنكر، طلب القاضي من المدعي إثبات حقه بالبينة، فإن أقام البينة قضى بها، لترجح جانب الصدق على الكذب بالبينة. وإن عجز المدعي عن تقديم البينة، وطلب يمين خصمه المدعى عليه، استحلفه القاضي، ودليله قول النبي صلّى الله عليه وسلم للمدعي في قصة الحضرمي والكندي: «ألك بينة؟» قال: لا، فقال النبي: «فلك يمينه» (¬2) أي يمين المدعى عليه. ¬
اليمين
فإن قال المدعي: (لي بينة حاضرة في البلد) وطلب اليمين من المدعى عليه لم يستحلف عند أبي حنيفة؛ لأن حق المدعي في طلب اليمين مرتب على عجزه عن إقامة البينة، كما في الحديث المذكور قريباً. وقال أبو يوسف: يستحلف؛ لأن طلب اليمين حق المدعي، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر» (¬1). وهل يقضى بشاهد واحد ويمين المدعي، وهل ترد اليمين على المدعي أو يقضى على المدعى عليه بنكوله عن اليمين؟ هذا ما يجاب عنه في المبحث التالي: المبحث الرابع ـ حجج المتداعين أو طرق إثبات الحق: طرق الإثبات التي يعتمد عليها في القضاء: هي الشهادة، واليمين، والنكول، والإقرار، أو الشهادة مع اليمين. أما الشهادة: فهي حجة المدعي: لقوله صلّى الله عليه وسلم: «البينة على المدعي» ولأن المدعي يدعي أمراً خفياً، فيحتاج إلى إظهاره، وللبينة قوة الإظهار .. وسأخصص مبحثاً للكلام عن الشهادات. والسبب في تكليف المدعي البينة أو الشهادة أن جانبه ضعيف، لكون دعواه خلاف الأصل، فكلف الحجة القوية وهي البينة، وأن جانب المدعى عليه قوي، لأنه متمسك بالأصل وهو البراءة، فاكتفي منه بالحجة الضعيفة وهي اليمين. والبينة إما شهادة رجلين أو رجل وامرأتين أو شاهد ويمين، أو أربعة رجال، أو أربع نسوة. ¬
رد اليمين والقضاء بالنكول
وأما اليمين: فهي حجة المدعى عليه، لقوله عليه الصلاة والسلام: «واليمين على المدعى عليه» فإن حلف المدعى عليه، قضى القاضي بفصل الدعوى، وتنتهي الخصومة بين طرفي الدعوى إلى أن يتمكن المدعي من إقامة البينة. وإن نكل عن اليمين، فهل ترد اليمين إلى المدعي أو يقضى عليه بالنكول؟ فيه رأيان للفقهاء، أذكرهما فيما يلي: رد اليمين والقضاء بالنكول: إذا أبى المدعى عليه أن يحلف، هل يحلف المدعي، أو يقضى له بنكول صاحبه عن اليمين (¬1)؟ اختلف العلماء في الموضوع. قال المالكية: ترد اليمين على المدعي بعد النكول في الأموال ما يؤول إليها فقط كخيار وأجل. وذلك إذا ثبتت الدعوى، أما مجرد دعوى الاتهام فلا ترد على المدعي. وقال الشافعية: ترد اليمين على المدعي في جميع الحقوق ما عدا جنايات الدماء والحدود، ويقضى له بمدعاه، ولا يقضى بنكول المدعى عليه. وتعتبر اليمين المردودة إقراراً تقديرياً. وهذا هو الذي صوبه الإمام أحمد، فيكون رأي مالك والشافعي وأحمد هو القول برد اليمين، لكن المختار عند الحنابلة القول بعدم رد اليمين. استدل الجمهور بما روى ابن عمر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم رد اليمين على طالب الحق» (¬2) ولأن المدعى عليه إذا نكل عن اليمين بعد أن طلبت منه، ظهر صدق ¬
المدعي، وقوي جانبه، فتشرع اليمين في حقه، كالمدعى عليه قبل نكوله، وكالمدعي إذا شهد له شاهد واحد، كما سأبين، وقال تعالى: {أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم} [المائدة:108/ 5] أي بعد الامتناع من الأيمان الواجبة، فدل على نقل الأيمان من جهة إلى جهة. ولا يقضى عند الجمهور بالنكول: لأن النكول كما يحتمل أن يكون امتناعاً وتحرزاً عن اليمين الكاذبة، يحتمل أن يكون تورعاً عن اليمين الصادقة، فلا يقضى للمدعي مع تردد المدعى عليه، إذ لا يتعين بنكوله صدق المدعي، فلا يجوز الحكم له من غير دليل، فإذا حلف المدعي كانت يمينه دليلاً عند عدم ما هو أقوى منها (¬1). وقال الحنفية، والحنابلة في المشهور عندهم: لا ترد اليمين على المدعي، وإنما يقضي القاضي على المدعى عليه بالنكول عن اليمين، وبإلزامه بما ادعى عليه المدعي. والنكول إما أن يكون حقيقة كقوله: (لا أحلف) أو حكماً كأن سكت، دون أن يكون هناك عارض كخرس وطرش. وتعرض اليمين على المدعى عليه مرة واحدة. ولكن لزيادة الاحتياط والمبالغة في إبداء العذر: ينبغي للقاضي تكرار عرض اليمين ثلاث مرات بأن يقول له: إني أعرض عليك اليمين ثلاثاً، فإن حلفت فبها، وإلا قضيت عليك بما ادعاه خصمك. استدلوا بقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» فقد جعل جنس الأيمان على المنكرين، كما جعل جنس البينة على المدعي. وفي لفظ ¬
آخر للحديث في الصحيحين: «ولكن اليمين على المدعى عليه» فحصر اليمين في جانب المدعى عليه. واستدل الحنفية أيضاً بأن النكول دليل على كون المدعى عليه باذلاً للحق إذا اعتبرنا النكول بذلاً، وهو رأي أبي حنيفة، أو كونه مقراً إقراراً تقديرياً بالحق المدعى به إذا اعتبرنا النكول إقراراً، وهو رأي الصاحبين (¬1)، ولولا كون المدعى عليه باذلاً أو مقراً، لأقدم على اليمين دفعاً لضرر الدعوى عن نفسه وقياماً بالواجب؛ لأن اليمين واجبة عليه بقوله صلّى الله عليه وسلم: «واليمين على من أنكر» وكلمة (على) للوجوب (¬2). وينبغي للقاضي أن يقول للمدعى عليه: «إني أعرض اليمين عليك ثلاث مرات، فإن حلفت، وإلا قضيت عليك بما ادعاه المدعي» فإن كرر العرض عليه ثلاث مرات قضى عليه بالنكول. ¬
مجال القضاء بالنكول
مجال القضاء بالنكول: قال الحنفية وأصحاب أحمد: يقضى بالنكول في الأموال، أما غير المال أو مالا يقصد به المال كنكاح وطلاق ولعان وقصاص ووصاية ووكالة، فلا يقضى فيه بالنكول، فلا يقضى بالنكول في القصاص بالنفس أو بالطرف عند الحنابلة والصاحبين، وإنما يقضى عندهما بالدية أو بالأرش. وقال أبو حنيفة: يقضى بالقصاص في الطرف حالة العمد، وبالدية حالة الخطأ، أما في القصاص بالنفس فلا يقضى فيه عنده لا بالقصاص ولا بالمال أي بالدية، لكن يحبس الجاني حتى يقر أو يحلف. وإذا كان لا يقضى بالنكول في القصاص عند الحنابلة، سواء أكان في النفس أم في الطرف، فماذا يصنع بالجاني؟ وجهان ـ أحدهما: يخلى سبيله؛ لأنه لم يثبت عليه حجة، والثاني: يحبس حتى يقر أو يحلف. وكذلك لا يقضى بالنكول في الحدود الخالصة لله تعالى كحد الزنا والسرقة والشرب؛ لأن النكول يعتبر بذلاً عند أبي حنيفة، وإقراراً فيه شبهة عند الصاحبين؛ لأنه في نفسه سكوت، والحدود لا تحتمل البذل، أي لا يقبل من المتهم إباحة نفسه لإقامة الحد عليه، وتندرئ بالشبهات، فلا تثبت بدليل فيه شبهة، والنكول فيه شبهة، كما أوضحت، فلا تجب به. وقال أبو حنيفة: لا يقضى أيضاً بالنكول في الأشياء السبعة: وهي النكاح، والرجعة، والفيء في الإيلاء، والنسب، والرق، والاستيلاد، والولاء، ولايستحلف المنكر فيها؛ لأن النكول عنده يعتبر بذلاً وإباحة، والبذل لا يجري في هذه الأشياء. فإذا أنكر الرجل أو المرأة عقد النكاح، فقالت المرأة مثلاً: لا نكاح بيني وبينك، ولكن بذلت لك نفسي، لم يصح بذلها؛ لأن الزوجية لا تباح بالبذل.
وكذلك في الرجعة: بأن ادعى الرجل بعد الطلاق وانقضاء المدة أنه كان قد راجعها في العدة، وأنكرت المرأة، أو بالعكس، فلا يحلف المنكر، ولا يصح بذله نفسه للآخر. وفي دعوى الفيء بالإيلاء، أي الرجوع إلى معاشرة الزوجة بعد أن حلف ألا يطأها مدة أربعة أشهر (¬1): إذا ادعى الرجل بعد انقضاء مدة الإيلاء أنه كان قد فاء إليها في المدة، وأنكرت المرأة أو بالعكس، فلا يستحلف المنكر، ولا يصح بذله نفسه للآخر. وفي دعوى النسب: بأن يدعي شخص على مجهول النسب أنه ولده أو والده وأنكر المجهول أو بالعكس، فلا يحلف المنكر ولا يصح قوله: أبحت له أن يدعي نسبي، لم يصح بذله. وفي دعوى الرق: بأن ادعى مجهول النسب أنه عبده، وأنكر المجهول أو بالعكس، فلا يحلف المنكر، ولا يقبل قوله: بذلت له نفسي ليسترقني. وفي دعوى استيلاد الأمة، بأن ادعت أمة على مولاها أنها ولدت منه ولداً، وأنكر المولى، لا يحلف ولا يقبل قوله: بذلت نفسي لجعل الأمة مستولدة مني. وفي هذه الصورة لايتأتى العكس، أي أن يكون من قبل الأمة؛ لأن المولى إذا ادعى الاستيلاد، ثبت ذلك بإقراره، ولا يلتفت إلى إنكار الأمة. وفي دعوى الولاء، بأن ادعى إنسان على مجهول أنه عتيقه ومولاه وأنكر ¬
المجهول، أو بالعكس، فلا يحلف المنكر، ولا يصح قوله: بذلت نفسي ليجعلني مولاه (¬1). كل هذا بخلاف الأموال، فإنه يجري فيها البذل، فلو قال شخص: هذا المال ليس لفلان، ولكن أبحته وبذلته له، لأتخلص من خصومته، صح بذله. هذا رأي أبي حنيفة. وقال الصاحبان: يجري الاستحلاف والنكول في هذه الأشياء السبعة؛ لأن النكول عندهما إقرار، والإقرار يجري في هذه الأشياء، لكنه فقط إقرار فيه شبهة، فلا يقبل في الحدود، كما أشرت. فنكول المدعى عليه دليل على كونه كاذباً في إنكاره؛ لأنه لو كان صادقاً لما امتنع من اليمين الصادقة، فكان النكول إقراراً دلالة أو تقديراً، إلا أنه إقرار فيه شبهة، وهذه الأشياء تثبت بدليل فيه شبهة، إذ يجوز إثباتها بالشهادة على الشهادة، وشهادة رجل وامرأتين. والفتوى على قول الصاحبين أي بتحليف المنكر، والقضاء عليه بالنكول في هذه الأشياء، لا في الحدود والقصاص، واللعان؛ لأنه في معنى الحد؛ إذ أنه (أي اللعان) بالنسبة للزوج يعد قائماً مقام حد القذف، وبالنسبة للمرأة يعد قائماً مقام حد الزنا، فلا يجري النكول فيه (¬2). والخلاصة عند الحنفية: أنه لا تحليف في الحدود اتفاقاً، ويستحلف في القصاص والأموال كلها اتفاقاً، واختلفوا في التحليف في سبع مسائل، فعند الإمام: لا يستحلف. وعند الصاحبين: يستحلف. وكل ما يجري فيه التعزير من الحقوق كالضرب والشتم والألفاظ ¬
كيفية اليمين وأثرها في الدعوى
القبيحة يجري فيه التحليف ولا يسقط بالتقادم، وتقبل فيه شهادة النساء كما في سائر الحقوق (¬1). كيفية اليمين وأثرها في الدعوى: لليمين كيفية معينة، سواء أكانت يميناً مردودة، أم مع الشاهد، أم يميناً من المدعى عليه. اتفق العلماء على أن اليمين تكون بالله عز وجل دون غيره، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت» (¬2) ولقوله عليه السلام: «من حلف بغير الله فقد كفر» (¬3)، واتفقوا أيضاً على أن اليمين المشروعة في الحقوق التي يبرأ بها المدين هي اليمين بالله. إلا أن الإمام مالك قال: أحب أن يحلف بالله الذي لا إله إلا هو، وإن استحلف حاكم بالله، أجزأ. وقال الشافعية: يندب تغليظ اليمين، وإن لم يطلب الخصم تغليظها فيما ليس بمال، ولا يقصد به مال كنكاح وطلاق ولعان وقصاص ووصاية ووكالة، وفي مال يبلغ نصاب زكاة، لا فيما دونه. والتغليظ يكون مثلاً بزيادة أسماء وصفات الله عز وجل، كأن يقول: والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الذي يعلم السر والعلانية. أو بالله الطالب الغالب المدرك المهلك الذي يعلم السر وأخفى. ¬
وقال الحنابلة: اليمين التي يبرأ بها المدين هي اليمين بالله، وإن كان الحالف كافراً، لقوله تعالى: {فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما} [المائدة:107/ 5] وقوله سبحانه: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم} [النور:53/ 24] قال بعض المفسرين: «من أقسم بالله، فقد أقسم جهد اليمين» (¬1). وقال الحنفية: للقاضي أن يحلِّف المسلم من غير تغليظ مثل: (بالله) أو (والله)، وله أن يغلظ، أي يؤكد اليمين بذكر أوصاف الله تعالى مثل قوله: قل: (والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية: ما لفلان هذا علي ولا قبلي هذا المال الذي ادعاه وهو كذا وكذا، ولا شيء منه) وله أن يزيد على هذه الصيغة وله أن ينقص منها، إلا أنه يجتنب العطف كيلا يتكرر اليمين؛ لأن المطلوب منه يمين واحدة. ولا يستحلف بالطلاق في ظاهر الرواية، لقوله عليه الصلاة والسلام: «من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت» وفي لفظ: «أو ليذر». ولا يجب تغليظ اليمين عند الحنفية والحنابلة على المسلم بزمان كيوم الجمعة بعد العصر، ولا بمكان مثل بين الركن والمقام بمكة، وعند منبر النبي صلّى الله عليه وسلم في المدينة؛ لأن المقصود تعظيم المقسم به، أي الله تعالى، وهو حاصل بدون ذلك، وفي إيجابه حرج على القاضي، حيث يكلف حضورها، والحرج مرفوع (¬2). وقال مالك والشافعي كما تقدم: تغلظ اليمين في الزمان في اللعان؛ لأن الله تعالى قال في اللعان محدداً أن يكون بعد صلاة العصر: {تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمناً} [المائدة:106/ 5] وتغلظ في ¬
الحلف على البت أو نفي العلم
المكان عند الحلف على قدر معين من الحقوق، وهذا القدر عند مالك ثلاثة دراهم فصاعداً، فمن ادعي عليه بثلاثة دراهم فأكثر، وجبت عليه اليمين في المسجد الجامع، فإن كان مسجد النبي عليه الصلاة والسلام، فلا خلاف أنه يحلف على المنبر، وإن كان في غيره من المساجد، ففيه روايتان: إحداهما وهي الراجحة حيثما كان في المسجد، والثانية عند المنبر. وقال الشافعي: يحلف في المدينة عند المنبر، وفي مكة بين الركن والمقام، وفي القدس في المسجد عند الصخرة، وكذلك يحلف في كل بلد عند المنبر، والنصاب الذي يندب فيه التغليظ كما عرفنا هو نصاب الزكاة، أي عشرون ديناراً (¬1). ثم قال الحنفية وغيرهم: إن كان الحالف كافراً فتغلظ اليمين في حقه، فإن كان يهودياً، حلف بالله الذي أنزل التوراة على موسى. وإن كان نصرانياً حلف بالله الذي خلق النار، فيغلظ على كل واحد بحسب اعتقاده. والوثني لا يحلف إلا بالله. ولا يحلف الكفار عند الحنفية في بيوت عباداتهم، لكراهة دخولها، ولما فيه من إيهام تعظيمها. وأجاز الحنابلة تحليفهم في المواضع التي يعظمونها (¬2). الحلف على البت أو نفي العلم: ويحلف الشخص باتفاق أئمة المذاهب الأربعة على البت (وهو القطع والجزم) في فعله إثباتاً كان أو نفياً؛ لأنه يعلم حال نفسه ويطلع عليها، فيقول في البيع والشراء حالة الإثبات: (والله لقد بعت بكذا أو اشتريت بكذا) وفي حالة النفي: (والله ما بعت بكذا، ولا اشتريت بكذا). ¬
صفة المحلوف عليه
وكذلك يحلف الشخص أيضاً على البت على فعل غيره إن كان الأمر إثباتاً كبيع وإتلاف وغصب؛ لأنه يسهل معرفة الواقع والشهادة به، وإن كان نفياً فيحلف على نفي العلم، أي لا يعلم أنه كذلك، لعدم علمه بما فعل غيره، فيقول: (والله ما علمت أنه فعل كذا) لأن نفي الشيء يعسر معرفته (¬1). وعليه، إذا ادعى إنسان على آخر أنه سرق منه شيئاً أو غصب منه شيئاً، فيحلف المدعى عليه على البت أنه ما سرق أو غصب. وإن ادعى على فعل الغير، كأن ادعى ديناً على ميت بحضور وارثه، أو أن أباه سرق منه شيئاً، فيحلف الوارث بالله ما يعلم أن على أبيه ديناً أو أنه سرق هذا الشيء. صفة المحلوف عليه: إذا كان المدعى به أرضاً وأنكر المدعى عليه، يحلف على الحاصل فعلاً في النهاية، فيقول: (والله ما هذه الأرض لفلان، ولا شيء منها) وإن ادعى أنه أقرضه ألفاً أو غصبه ألفاً أو أودعه ألفاً، وأنكر المدعى عليه، فيحلف (بالله ما يستحق المدعي رد شيء عليه) ولا يحلف بالله ما استقرضت أو غصبت أو استودعت؛ لأنه قد تحصل هذه الأسباب ثم يفسخ، أي يزول معنى القرض أو الغصب أو الإيداع بالهبة أو بالبيع، فلو حلف المدعى عليه على السبب الذي هو الغصب ونحوه لتضرر به، فيحلف على الحاصل في النهاية لدفع الضرر عنه. وقال أبو يوسف: إنه يحلف على القرض والغصب والإيداع. ومن ادعى أنه اشترى من هذا حيواناً، فأنكر المدعى عليه، استحلف بالله ما بينكما بيع قائم في هذا الحيوان. ولا يستحلف بالله ما بعت، خلافاً لأبي يوسف؛ لأنه قد يبيع الحيوان، ثم يفسخ البيع أو تطرأ عليه الإقالة، فلا يبقى البيع على حاله. ¬
العبرة في اليمين بنية القاضي المستحلف
وفي النكاح، يحلف المنكر: (بالله ما بينكما نكاح قائم في الحال) لأنه قد يطرأ عليه الخلع. وكذلك في دعوى الطلاق، يحلَّف المدعى عليه: (بالله ما هي بائن منك في هذه الساعة بالوجه الذي ذكرته المدعية) ولا يستحلف بالله ما طلقها، خلافاً لأبي يوسف، لاحتمال تجدد النكاح بعد البينونة، فيحلف على ما هو حاصل فعلاً في النهاية، لأنه لو حلف على السبب الذي هو الطلاق، لتضرر المدعى عليه، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد. أما على قول أبي يوسف: فيحلف المدعى عليه في جميع هذه الصور على سبب الدعوى من طلاق ونحوه إلا إذا حدث منه تعريض للقاضي بأمر طارئ كما تقدم، فيقول المدعى عليه للقاضي إذا طلب منه اليمين: (بالله ما بعت أيها القاضي، إن الإنسان قد يبيع شيئاً، ثم يقيل فيه) أي يفسخ البيع بالإقالة (¬1). العبرة في اليمين بنية القاضي المستحلف: يلاحظ أن العبرة في الحلف بنية القاضي المستحلف للخصم، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «اليمين على نية المستحلف» (¬2) وقد حمل هذا الحديث على الحاكم؛ لأنه الذي له ولاية الاستحلاف، فلو أخذ بنية الحالف، لبطلت فائدة الأيمان وضاعت الحقوق؛ إذ كل أحد يحلف على ما يقصد، فلو ورَّى الحالف في يمينه، بأن قصد خلاف ظاهر اللفظ عند تحليف القاضي، أو تأول أي اعتقد خلاف نية القاضي، أو استثنى الحالف، كقوله عقب يمينه: «إن شاء الله» ¬
أثر اليمين في الدعوى
أو وصل باللفظ شرطاً، مثل: إن دخلت الدار (¬1)، بحيث لا يسمع القاضي كلامه، لم يدفع ما ذكر إثم اليمين الفاجرة، وإلا ضاع المقصود من اليمين وهو حصول الهيبة من الإقدام عليها. أثر اليمين في الدعوى: أما أثر اليمين في الدعوى فهو يترتب عليها قطع الخصومة والمنازعة وعدم المطالبة بالحق في الحال لا مطلقاً، وإنما مؤقتاً إلى وقت إمكان إقامة البينة، فلا تفيد اليمين براءة ذمة المدعى عليه عند جمهور العلماء (¬2)، لما روى ابن عباس «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر رجلاً بعد ما حلف، بالخروج من حق صاحبه، كأنه صلّى الله عليه وسلم علم كذبه» (¬3) فدل على أن اليمين لا توجب براءة. القضاء بشاهد ويمين: إذا أقام المدعي شاهداً، وعجز عن تقديم شاهد آخر وحلف مع شاهده، هل يقضى به بشاهده ويمينه؟ 1 - قال الحنفية (¬4): لا يقضى بالشاهد الواحد مع اليمين في شيء، لقوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكونا رجلين، فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} [البقرة:282/ 2] وقوله سبحانه: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق:2/ 65] طلب القرآن الكريم إشهاد رجلين أو رجل وامرأتين، فقبول الشاهد الواحد ويمين المدعي زيادة على النص، والزيادة على النص نسخ، والنسخ في القرآن الكريم لا يجوز إلا بمتواتر أو مشهور، وليس هناك واحد منهما. ¬
واستدلوا بالسنة أيضاً بقوله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم وأحمد: «ولكن اليمين على المدعى عليه» وفي لفظ «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر» وقال صلّى الله عليه وسلم لمدعٍ: «شاهداك أو يمينه» (¬1). فالحديث الأول أوجب اليمين على المدعى عليه، فلو جاز القضاء بشاهد ويمين المدعي، لما بقيت اليمين واجبة على المدعى عليه. ثم إنه في هذا الحديث وفي الحديث الثاني جعل الرسول عليه الصلاة والسلام جنس اليمين حجة للمنكر، فإن قبلت يمين المدعي، لم يكن جميع أفراد اليمين على المنكرين. وكذلك تضمن الحديث الثاني قسمة وتوزيعاً بين المتخاصمين، والقسمة تنافي اشتراك الخصمين في أمر وقعت القسمة فيه. والحديث الثالث خير المدعي بين أمرين لا ثالث لهما: إما البينة أو يمين المدعى عليه، والتخيير بين أمرين يمنع تجاوزهما إلى غيرهما أو الجمع بينهما. 2 - وقال جمهور الفقهاء (¬2): يقضى باليمين مع الشاهد في الأموال، واستدلوا بما ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «أنه قضى بشاهد ويمين» (¬3). ¬
الإقرار
قال الشافعي: وهذا الحديث ثابت لا يرده أحد من أهل العلم لو لم يكن فيه غيره، مع أن معه غيره مما يشده. وقال النسائي: إسناده جيد. وقال البزار: في الباب أحاديث حسان، أصحها حديث ابن عباس وقال ابن عبد البر: لا مطعن لأحد في إسناده، ولا خلاف بين أهل العلم في صحته. الإقرار: الإقرار سيد الأدلة غالباً، وهو إذا كان بيِّناً لا خلاف في وجوب القضاء به. وسأخصص مبحثاً مستقلاً له. المبحث الخامس ـ حكم تعارض الدعويين مع تعارض البينتين: قد ترفع دعويان للقضاء حول موضوع واحد، ويكون لكل واحد من المتداعيين بينة تساند مدعاه، وتثبت حقه في موضوع الدعوى المتنازع عليه، فكيف يقضي القاضي بينهما؟ تنازع الدعويين قد يكون في ملك مطلق أو في ملك مقيد بسبب. والملك المطلق: أن يدعي شخص الملك من غير أن يتعرض لذكر سبب الملكية، بأن يقول: «هذا ملكي» ولا يقول: «هذا ملكي بسبب الشراء أو الإرث أو نحوهما». والملك المقيد بسبب: أن يدعي شخص ملكية شيء مع بيان سبب الملكية كنتاج ونكاح وشراء وإرث (¬1). وتعارض الدعويين في ملك مطلق يحدث عادة بين اثنين: أحدهما ـ يكون الشيء في يده وهو المسمى صاحب اليد أو الداخل أو الحائز (¬2). والثاني ـ لا يكون ¬
النوع الأول ـ تعارض الدعويين مع تعارض البينتين في ملك مطلق
الشيء في يده، ويسمى في لغة الفقهاء: الخارج أو غير الحائز، وقد يتم التنازع بين الخارجين عن ذي اليد، أو بين ذوي اليد أنفسهم. وقد تكون بينة كل من المتنازعين مؤرخة، أو إحداهما مؤرخة، والأخرى بدون تاريخ، أو أن تاريخ إحداهما أسبق من الأخرى. تبحث هذه الافتراضات في نوعين: دعوى الملك المطلق ودعوى الملك المقيد. النوع الأول ـ تعارض الدعويين مع تعارض البينتين في ملك مطلق: نجد في هذا القسم احتمالات ثلاثة: وهي التعارض في الدعويين بين الخارج عن ذي اليد وذي اليد، والتعارض في الدعويين بين الخارجين عن ذي اليد، والتعارض في الدعويين بين ذوي اليد. الأول ـ تعارض الدعويين بين الخارج وذي اليد: إذا كانت الدعوى من الخارج أي (غير الحائز) على ذي اليد أي (الحائز) دعوى الملك، وأقام كل منهما بينة، فإما أن تكون البينتان غير مؤرختين، أو مؤرختين وتاريخهما سواء، أو تاريخ أحدهما أسبق من الآخر، أو أحدهما بتاريخ، والآخر من غير تاريخ. ففي هذه الصور قال الحنفية والحنابلة في الجملة: تقدم بينة المدعي، أي الخارج إلا أن تكون بينة أحدهما أسبق تاريخاً من الأخرى، فتقدم عند أبي حنيفة وأبي يوسف، ولا تقبل بينة صاحب اليد في الملك المطلق؛ لأنها لا تفيد أكثر مما تفيد اليد؛ إذ أن ظاهر الملك ثابت له باليد فلم تثبت له شيئاً زائداً. والتفصيل فيما يأتي (¬1): ¬
1 - إذا كانت الدعوى من الخارج على ذي اليد بدون تاريخ: فبينة المدعي وتسمى بينة الخارج أولى بالقبول عند الحنفية والحنابلة؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه» (¬1) فجعل جنس البينة على المدعي، فلا يؤبه لبينة ذي اليد؛ لأنه ليس بمدع، فلا تكون البينة حجته (¬2). والدليل على أنه ليس بمدع عدم انطباق وصف المدعى عليه، لأن المدعي: هو من يخبرعما في يد غيره لنفسه. والموصوف بهذه الصفة هو الخارج، لا ذو اليد؛ لأنه يخبر عما في يد نفسه لنفسه، فلم يكن مدعياً، وإنما هو مدعى عليه، فلا تكون البينة حجة له، فتعد بينته لاغية. ولأن بينة المدعي أكثر فائدة، فوجب تقديمها كتقديم بينة الجرح على التعديل، ودليل كثرة فائدتها: أنها تثبت شيئاً لم يكن، وبينة المنكر إنما تثبت أمراً ظاهراً تدل اليد عليه، فلم تكن مفيدة، أي أن بينته لا تفيد أكثر مما تفيد اليد، أي الحيازة فقط. 2 - إذا كانت البينتان مؤرختين، وتاريخهما سواء: يقضى للمدعي الخارج؛ لأنه لم يثبت سبق ملك أحدهما؛ إذ أنه بطل اعتبار الوقتين للتعارض، فبقي الحال حال دعوى ملك مطلق، كالصورة الأولى. 3 - إذا كان تاريخ أحدهما أسبق من الآخر: يقضى للأسبق وقتاً أيهما كان عند أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد. وروي في النوادر عن محمد أنه رجع عن هذا القول عند رجوعه من الرقة، وقال: لا تقبل من صاحب اليد بينة على وقت ولا غيره إلا في النتاج؛ لأنه لا قيمة لبينته إذ أنه مدعى عليه، والبينة حجة المدعي. ¬
والصحيح القول الأول وهو ظاهر الرواية؛ لأن بينة صاحب الوقت الأسبق أظهرت الملك له في وقت لا ينازعه فيه أحد، فيثبت له الحق في موضوع النزاع إلى أن يثبت الآخر سبباً لنقل الملكية له. 4 - إذا أرخ أحدهما ولم يؤرخ الآخر: يقضى للخارج عند أبي حنيفة ومحمد؛ لأن الملك المطلق يحتمل التأخر والسبق، لجواز أن صاحب البينة المطلقة لو وقتت بينته، كان وقتها أسبق. فوقع الاحتمال في سبق الملك المؤقت، وإذا حصل الاحتمال في شيء سقط اعتباره، فيسقط اعتبار الوقت، وتبقى الدعوى دعوى ملك مطلق، فيقضى للخارج. وقال أبو يوسف: يقضى لصاحب البينة المؤرخة؛ لأن بينة صاحب الوقت أظهرت الملك له في وقت معين خاص به، لا يعارضها فيه بينة مدعي الملك المطلق بيقين، بل تحتمل بينته المعارضة وعدمها، والمعارضة لا تثبت بالشك، فبقيت بينة صاحب التاريخ سالمة عن المعارضة، فيقضى له. وقال المالكية والشافعية في هذه الصور (¬1): تقدم بينة صاحب اليد وتسمى بينة الداخل على الإطلاق؛ لأنهما استويا في إقامة البينة، فتعارضت البينتان، وترجحت بينة صاحب اليد بيده أي بحيازته، كترجيح أحد الحديثين المتعارضين بالقياس، فيقضى بالشيء لصاحب اليد، ولأن بينة المدعى عليه تفيد معنى زائداً على كون الشيء المدعى فيه موجوداً بيده. ولأن جانب المدعى عليه أقوى، استصحاباً للأصل، فالأصل معه وهو بقاء ما كان على ما كان، ويمينه تقدم على يمين المدعي، فإذا تعارضت البينتان، وجب ¬
الثاني ـ تعارض الدعويين بين الخارجين عن ذي اليد في ملك مطلق
إبقاء يد صاحب اليد على ما كانت عليه، ويقدم هو، كما لو لم تكن بينة لأحد المتنازعين. ويؤيد هذا حديث جابر بن عبد الله: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم اختصم إليه رجلان في دابة أو بعير، فأقام كل واحد منهما البينة بأنها له أنتجها، فقضى بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم للذي هي في يده» (¬1). الثاني ـ تعارض الدعويين بين الخارجين عن ذي اليد في ملك مطلق: إذا تنازع اثنان عيناً، وهي في يد شخص ثالث، وهو منكرلها، وأقام كل منهما بينة يريد بها إثبات حقه فيها. فقال الشافعية في الأرجح: تهاترت البينتان أي تساقطتا وبطلتا لتناقض موجبيهما، سواء أكانت البينتان مطلقتي التاريخ، أم متفقتين فيه، أم إحداهما مطلقة عن التاريخ والأخرى مؤرخة. فأشبه ذلك تعارض الدليلين ولا مرجح بينهما، فكأنه لا بينة، ويصار إلى الحكم في القضية، كما لو تداعيا ولا بينة لواحد منهما، فيحلف كل واحد منهما يميناً، ويقضى بالشيء بينهما نصفين. وفي قول عندهما: يقرع بينهما، ويرجح من خرجت قرعته (¬2). وكذلك قال المالكية: تسقط البينتان، ويقضى كأنه لا بينة فيحلف كل منهما يميناً، ويقسم الشيء بينهما، فإن حلف أحدهما دون الآخر قضي له (¬3). ¬
والراجح عند الحنابلة: أنه تسقط البينتان ويقترع المدعيان على اليمين كما لو لم تكن بينة، فمن خرجت له قرعته حلف، وأخذ العين (¬1). وقال الحنفية في الجملة: يقضى بالشيء بينهما نصفين إلا أن يكون تاريخ أحدهما أسبق، فيقضى له به، وتفصيله في الصور الأربعة الآتية (¬2): 1 و 2 ـ إذا كانت الدعوى من الخارجين، وقامت البينتان على ملك مطلق، بلا تاريخ أو تاريخهما سواء، والشيء في يد ثالث: فيقضى به بينهما نصفين، عملاً بالبينتين بقدر الإمكان (¬3)، صيانة لهما عن الإلغاء؛ لأن العمل بالدليل واجب بالقدر الممكن، أي أنه إذا تعذر العمل بالبينتين في كل الشيء المتنازع فيه، أمكن العمل بهما في بعض الشيء، فيقضى لكل واحد منهما بالنصف؛ لأنهما تساويا في الدعوى، فيتساويان في القسمة. ويؤيده «أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم في بعير، وأقام كل واحد منهما البينة أنه له، فقضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم به بينهما نصفين» (¬4). ¬
الثالث ـ تعارض الدعويين في ملك مطلق بين ذوي اليد
3 - إذا كان تاريخ أحدهما أسبق من الآخر: فالأسبق أولى؛ لأن كلاً من الخارجين ينطبق عليه وصف المدعي، فكانت بينتاهما مسموعتين مقبولتين قضاء، فترجح إحداهما بأسبقية التاريخ؛ لأنها أثبتت الملك في وقت لم تعارضه فيه البينة الأخرى، فيؤمر صاحب اليد بتسليم الشيء المتنازع عليه إلى المقضي له، إلى أن يثبت الآخر انتقال الملكية إليه بطريق ما. 4 - إن أرخ أحدهما ولم يؤرخ الآخر: يقضى بينهما نصفين عند أبي حنيفة، ولا عبرة للتاريخ؛ لأن الملك المؤرخ يحتمل أن يكون سابقاً عن تاريخ ملك الآخر، ويحتمل أن يكون متأخراً عنه، لوجود احتمال أن صاحب الملك الآخر لو أرخ لكان تاريخه أقدم، ونظراً لطروء الاحتمال في التاريخ، سقط اعتباره، فبقي ادعاء ملك مطلق بالنسبة لكل منهما. وعند أبي يوسف: يقضى لصاحب الوقت، أي صاحب الملك المؤرخ؛ لأن البينة المؤرخة أظهرت الملك في زمان لا تعارضها فيه بيقين البينة المطلقة عن التاريخ، بل تحتمل المعارضة وعدم المعارضة، فلا تثبت المعارضة بالشك، فتثبت بينة صاحب التاريخ بلا معارض، فيكون هو أولى بالشيء. وعند محمد: يقضى لصاحب الملك المطلق الذي لم تذكر بينته تاريخاً؛ لأن البينة القائمة على الملك المطلق أقوى؛ إذ أنه مالك من الأصل حكماً، بدليل استحقاقه زوائد الشيء من أولاد وألبان وأصواف وغلات ونحوها. الثالث ـ تعارض الدعويين في ملك مطلق بين ذوي اليد: إذا كانت هناك دار يحوزها اثنان، أي تحت يدهما، فادعاها كل منهما، وأقام كل منهما بينة على ملكيته لها، فقال الشافعية على الصحيح (¬1): تهاترت البينتان، ¬
أي تساقطتا وبطلتا لتعارضهما وتناقض موجبهما، كتعارض الدليلين دون مرجح لأحدهما، فيقضى ببقاء الدار في يدهما، كما كانت قضاء ترك، إذ ليس أحدهما أولى بها من الآخر. وفي قول: يقرع بينهما كما أشرت سابقاً. وقال الحنابلة: إذا تنازع رجلان في عين في أيديهما، وأقام كل واحد منهما بينة، وتساوت البينتان، تعارضتا، وقسمت العين بينهما نصفين، لما روى أبو موسى رضي الله عنه: «أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم في بعير فأقام كل واحد منهما شاهدين، فقضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالبعير بينهما نصفين» رواه أبو داود، ولأن كل واحد من المتنازعين يعد بالنسبة لما في يده داخلاً في نصف الشيء، وخارجاً عن النصف الآخر (¬1) وقد عرفنا أنه يقضى ببينة الخارج؛ لأنه هو المدعي. وقال الحنفية في الجملة: يقضى بالشيء بين صاحبي اليد نصفين، إلا أن تكون بينة أحدهما أسبق تاريخاً من بينة الآخر، وتفصيله فيما يأتي (¬2). 1 - إن أقام كل واحد من صاحبي اليد بينة أن الشيء له: فإنه يقضى لكل واحد منهما بالنصف الذي في يد صاحبه؛ لأنه كما ذكر عند الحنابلة يعتبر خارجاً بالنسبة لذلك النصف، والخارج: هو المدعي، وهوالذي تقبل بينته، وأما النصف الذي في يده فيترك في يده قضاء ترك، وعلى هذا فكأن الدار الواحدة بمنزلة دارين، في يد كل واحد منهما دار، وكل واحد منهما يدعيها، فكان كل واحد منهما مدعياً لما في يد صاحبه، فعليه البينة، ومنكر الدعوى: صاحبه بالنسبة لما في يده. ¬
هل ترجح بينة أحد المتداعيين بكثرة عدد الشهود أو اشتهار العدالة؟
وكذلك إن أقام أحدهما البينة ولم يقم الآخر بينة: يقضى له بالنصف الذي في يد صاحبه، وأما ما في يده فيترك في يده قضاء ترك. وأيضاً إذا لم يكن لأحدهما بينة: يترك الشيء في يديهما قضاء ترك، حتى لو قامت لأحدهما بينة بعدئذ تقبل؛ لأنه لم يصر مقضياً عليه حقيقة. 2 - إن أرخ كل منهما بينته، وتاريخهما سواء يقضي بالشيء بينهما نصفين، كما في الصورة الأولى. 3 - إذا كان تاريخ أحدهما أسبق: فالأسبق أولى عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد: لا عبرة للتاريخ بالنسبة لصاحب اليد، فيكون الشيء بينهما نصفين، والحجج سبق بيانها. 4 - إن أرخ أحدهما دون الآخر: يقضى بالشيء بينهما نصفين عند أبي حنيفة ومحمد، ولا عبرة للوقت؛ لأنه ساقط الاعتبار لوجود الاحتمال في تقدمه عن تاريخ بينة الآخر وتأخره. وقال أبو يوسف: هو لصاحب التاريخ، وأدلة كل من الفريقين عرفت فيما سبق. هل ترجح بينة أحد المتداعيين بكثرة عدد الشهود أو اشتهار العدالة؟. في الصور السابقة الذكر وغيرها من حالات تعارض البينات قرر جمهور الفقهاء أنه لا ترجح إحدى البينتين بكثرة عدد الشهود، ولا اشتهاد العدالة؛ لأن كلاً من البينتين حجة كاملة من الطرفين بتقدير الشرع، فلا تتقوى بالزيادة، كما هو الشأن في الديات: لا يختلف مقدارها باختلاف الأشخاص.
النوع الثاني - تعارض الدعويين مع تعارض البينتين في دعوى الملك بسبب
وقال الإمام مالك: يرجح بزيادة العدالة، كما يرجح بها أحد الخبرين المرويين، ولا يرجح بكثرة العدد (¬1). النوع الثاني - تعارض الدعويين مع تعارض البينتين في دعوى الملك بسبب: دعوى الملك بسبب كما عرفنا: هي أن يذكر فيها سبب الملك من إرث أو شراء أو نتاج. وأبحث كل حالة على حدة فيما يأتي. ومجمل القول في الملك المقيد عند الحنفية: هو أنه إذا ادعى اثنان تلقي الملك من واحد وأحدهما قابض، أو ادعيا الشراء من اثنين، وأرخا وتأريخ ذي اليد أسبق، ففي هاتين الصورتين تقبل بينة ذي اليد باتفاق الحنفية. الحالة الأولى ـ دعوى الملك بسبب الإرث: يكون بحث تعارض دعويي الملك بسبب الإرث في حالتين: حالة ما إذا كان أحد المتداعيين خارجاً، والآخر صاحب يد، وحالة ما إذا كان التداعي بين خارجين على ما في يد ثالث. أولاً ـ تعارض الدعويين بين الخارج وذي اليد في دعوى الملك بالإرث: إذا كان متاع في يد رجل، فأقام رجل البينة أن أباه مات وتركه ميراثاً له، وأقام صاحب اليد البينة أن أباه مات وتركه ميراثاً له، فقال الحنفية: يقضى به للخارج سواء ذكروا وقتاً أم لم يؤقتوا، أو أرخوا وكان تاريخهما سواء. فإن كان تاريخ أحدها أسبق فهو له. وتفصيله فيما يأتي (¬2): ¬
ثانيا ـ تعارض الدعويين بين الخارجين عن ثالث في دعوى الإرث
1 - إذا أقام كل واحد من الخارج وذي اليد البينة على أنه ملكه مات أبوه وتركه ميراثاً له: يقضى به للخارج؛ لأن كل واحد من المتداعيين أثبت ملكية المتاع للميت، لكن قام الوارث مقام الميت فيما يملكه، فكأن الوارثين ادعيا ملكاً مطلقاً من غير سبب، فيقضى به للخارج، كما عرفنا في دعوى الملك المطلق. 2 و 3 ـ كذلك يقضى بالمتاع المتنازع عليه للخارج إذا أرخا وتاريخهما سواء أو ذكر أحدهما تاريخاً دون الآخر؛ لأنه في الصورة الأولى سقط اعتبار الوقتين للتعارض، فبقي دعوى مطلق الملك. وفي الصورة الثانية: لا عبرة للوقت؛ لأنه يحتمل تأخر ملك الآخر وتقدم، ومع الاحتمال لا ينظر إلى الوقت. 4 - إذا كان تاريخ أحدهما أسبق من الآخر: فهو لصاحب الوقت الأسبق عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن بينته أثبتت له الملك في وقت لا ينازعه فيه الآخر. وقال محمد: يقضى به للخارج؛ لأن دعوى الإرث دعوى ملك الميت، فكل واحد من البينتين أظهرت ملك الميت، لكن قام الوارث مقام الميت في ملك الميت، فكأن المورثين ادعيا ملكاً مطلقاً أو مؤرخاً منذ سنة مثلاً من غير ذكر سبب للملك، وقد عرفنا أنه في هذه الحالة يقضى بالشيء للخارج عند محمد. ثانياً ـ تعارض الدعويين بين الخارجين عن ثالث في دعوى الإرث: إذا وجدت دار في يد شخص، ثم أقام شخصان آخران غيره، كل منهما البينة على أن الدار ملك له، مات أبوه، وترك الدار ميراثاً له. قال الحنفية (¬1): يقضى بالدار بين الشخصين نصفين، سواء أرخت البينتان ¬
الحالة الثانية ـ دعوى الملك بسبب الشراء
وقت الإرث أم لم تؤرخاه، أو كان تاريخهما سواء، لما ذكر أن الملك الموروث هو ملك الميت بعد موته، وإنما الوارث يخلفه، ويقوم مقامه في ملكه، فكأن المورثين حضرا وادعيا ملكاً مطلقاً عن الوقت لهما في يد ثالث، أو مؤقتاً وكان تاريخهما سواء، أو أحدهما مؤقتاً والآخر مطلقاً، وقد عرفنا أنه يقضى بالشيء حينئذ مناصفة بين الخارجين؛ لأنهما مدعيان متساويان في الادعاء. وإن كان تاريخ أحدهما أسبق: فهو له عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن الوارث بإقامة البينة يظهر الملك للمورث لا لنفسه، فيصير كأنه حضر المورثان، وأقام كل واحد منهما بينة مؤرخة، وتاريخ أحدهما أسبق، وحينئذ يقضى لأسبقهما وقتاً، لإثباته الملك في وقت لا تعارضه فيه بينة الآخر. وقال محمد: يقضى بالشيء بين الخارجين في هذه الحالة نصفين، ولا عبرة للتاريخ عنده في الميراث، لما ذكر أن الموروث ملك الميت، والوارث قام مقامه، فلم يكن الموت تاريخاً لملك الوارث، فسقط اعتبار التاريخ لملكه، وكأنه لم يكن، فبقي دعوى الملك المطلق عن التاريخ، فيتساوى الخارجان حينئذ. الحالة الثانية ـ دعوى الملك بسبب الشراء: إذا تنازع اثنان على ملكية دار مثلاً، وكانت الدار في يد أحدهما فادعى أحدهما الشراء من الآخر، أو ادعى كل منهما الشراء من صاحبه، أو كانت الدار في يد شخص ثالث، فادعى كل منهما الشراء من صاحب اليد أو من رجل آخر غير الذي ادعى عليه صاحبه، فكيف يحكم القاضي بينهما؟ يعرف الجواب من الصور الآتية:
1 - التنازع بين الخارج وذي اليد
1 - التنازع بين الخارج وذي اليد (¬1): نجد في هذه الحالة افتراضات ثلاثة: أولاً ـ إذا ادعى الخارج أنه اشترى هذه الدار من صاحب اليد بألف ليرة ونقده الثمن: يقضى للخارج بالبينة؛ لأنه هو المدعي. ثانياً ـ إذا ادعى صاحب اليد الشراء من خارج: يقضى له بالبينة؟ لأنه يصح تلقي الملك من الخارج؛ لأنه هو المدعي. ثالثاً ـ إذا ادعى كل واحد من الخارج وصاحب اليد أنه اشترى الدار من صاحبه بألف ليرة ونقده الثمن، وأقام كل واحد منهما البينة على ذلك ولم يؤرخا وقت الشراء، أو أرخا وتاريخهما سواء: ف إن لم يثبتا قبض المبلغ بالبينة: لا تقبل البينتان عند أبي حنيفة وأبي يوسف، ولا يجب لواحد منها على صاحبه شيء، ويترك المدعى به في يد الحائز، أي صاحب اليد؛ لأن كل مشترٍ يكون مقراً بكون المبيع ملكاً للبائع. وعلى هذا تعد دعوى الشراء من كل واحد منهما إقراراً بملك المبيع لصاحبه، وتكون البينتان قائمتين على إثبات إقرار كل واحد منهما بالملك لصاحبه، وبين موجبي الإقرارين تناف وتناقض، فتعذر العمل بالبينتين أصلاً. وقال محمد: يقضى بالبينتين، ويؤمر صاحب اليد بتسليم المدعى به للخارج؛ لأن الجمع والتوفيق بين الدليلين مطلوب بقدر الإمكان، والتوفيق هنا ممكن: بتصحيح العقدين بأن نفترض أن صاحب اليد اشترى المبيع أولاً من الخارج ¬
إن أثبتا القبض بالبينة
وقبضه، ثم اشتراه الخارج ثانية من صاحب اليد، ولم يقبضه، وإنما باعه مرة أخرى لصاحب اليد. فبذلك يمكن تصحيح العقدين: الأول والثاني بالتقدير المذكور. ولا يصح افتراض العكس: بأن نقدر أن الخارج اشترى أولاً من صاحب اليد، ولم يقبضه، وإنما باعه ثانية لصاحب اليد؛ لأنه يترتب على هذا الافتراض إفساد العقد الثاني؛ لأن هذا بيع للعقار المبيع قبل قبضه، وهذا البيع غير جائز عند محمد، كما هو معروف في عقد البيع. وإذا صح العقدان بحسب الافتراض الأول، فيبقى الشيء في يد الحائز صاحب اليد، فيؤمر بتسليمه إلى الخارج. وأما إذا أرخا، وتاريخ أحدهما أسبق، ولم تذكر البينتان قبضاً: فإنه يقضى لصاحب البيع المتأخر وقتاً، والبيع الثاني ينقض البيع الأول عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وعند محمد: يقضى للخارج؛ لأن بيعه إذا كان أسبق، افترض كأنه اشترى الدار أولاً، ولم يقبضها، ثم باعها لصاحب اليد، وبيع العقار قبل القبض لا يجوز عنده، وإذا لم يجز بقي المبيع على ملك الخارج. أما عند أبي حنيفة وأبي يوسف، فيجوز، فصح البيعان ويقضى بالشيء لصاحب اليد. وإذا كان بيع صاحب اليد أسبق: فيقضى بالدار للخارج اتفاقاً؛ لأنه إذا كان وقته أسبق يجعل سابقاً في الشراء، كأنه اشترى من الخارج وقبض، ثم اشترى منه الخارج ولم يقبض، فيؤمر بتسليم الدار إليه. وأما إن أثبتا القبض بالبينة: فقد تهاترت البينتان، أي تساقطتا عند أبي حنيفة وأبي يوسف، ويقضى بالدار قضاء ترك لمن كانت الدار في يده.
2 - التنازع بين الخارجين على ما في يد شخص ثالث
وقال محمد: يقضى بالدار لمن كانت في يده قضاء حقيقة، وتحصل مقاصة بين ثمن البيع الأول وثمن البيع الثاني، فمن زاد له أخذ الزيادة من صاحبه، كأن الخارج اشترى الدار من الداخل صاحب اليد، فقبضها ثم اشتراها الداخل منه، وقبض، تصحيحاً لتصرف الإنسان؛ لأنه مهما أمكن أن يجعل القبض قبض بيع، يجعل. 2 - التنازع بين الخارجين على ما في يد شخص ثالث: نجد في هذه الحالة افتراضين: أولاً ـ أن يدعي الخارجان الشراء من شخص واحد على صاحب اليد: إذا ادعى اثنان داراً عند إنسان آخر، كان قد اشتراه كل منهما من واحد معين، وأقاما البينة على الشراء منه بثمن معلوم، ونقد الثمن: قال الحنفية (¬1): فإن لم يذكرا تاريخاً للشراء ولا قبضاً للمبيع: يقضى بالدار بينهما نصفين ويثبت لهما الخيار كما سيُبين؛ لاستوائهما في سبب الاستحقاق، وقبول محل النزاع للاشتراك فيه. وقال الشافعية في هذه الحالة: تعارضت البينتان، فتساقطتا، لتناف بين موجبيهما ومقتضاهما، فكأنه لا بينة، فيحلف كل منهما يميناً على نفي كونه للآخر بأن يقول: إن هذا الشيء ليس لك، ثم يجعل الشيء بينهما، أي يقسم بينهما نصفين لقضائه صلّى الله عليه وسلم بذلك، كما صححه الحاكم على شرط الشيخين. وفي قول: يقرع بينهما (¬2). ¬
ثم قال الحنفية: أما إذا أرخا، وتاريخ أحدهما أسبق: فيقضى للأسبق؛ لأن بينته تظهر الملك له في وقت لا تعارضه فيه بينة الآخر، أي أن الأسبق أثبت الشراء في زمان لا ينازعه فيه أحد، فاندفع الآخر به. ولو أرخت بينة أحدهما دون الآخر: فيقضى لصاحب الوقت، لثبوت ملكه في ذلك الوقت، فاحتمل الآخر أن يكون قبله أو بعده، فلا يقضى له بالشك. ولو لم تؤرخ البينتان، أوأرخت إحداهما دون الأخرى، أو كان تاريخهما سواء، ولكن مع أحدهما قبض: أي أن القبض ثابت في يده معاينة: فهو أولى بالشيء المتنازع عليه، لأن تمكنه من قبضه يدل على سبق شرائه، ولأن المتداعيين استويا في إثبات الشراء بالبينة، والقبض أمر مرجح، فلا تزول اليد الثابتة بالشك. هذا .. إلا أن تشهد بينة التاريخ أن شراءه قبل شراء الآخر فيقضى له، ويرجع الآخر بالثمن على البائع. والخلاصة: أن بينة ذي اليد أولى من بينة غير القابض في دعوى الملك بسبب، خلافاً لحالة دعوى الملك المطلق، فإن بينة الخارج أولى. وإذا ادعى اثنان على ثالث ذي يد، أحدهما يدعي شراء منه، والآخر هبة وقبضاً، وأقاما البينة على ذلك، ولا تاريخ معهما، فالشراء أولى؛ لأنه أقوى، لكونه معاوضة من الجانبين؛ ولأنه يثبت بنفسه بخلاف الهبة، فإنه يتوقف على القبض. وإن ادعى أحدهما الشراء وادعت امرأة أنه تزوجها على هذا الشيء، فهما سواء لاستوائهما في القوة؛ لأن كلاً منهما معاوضة من الجانبين، ويثبت الملك لنفسه. وإن ادعى أحدهما رهناً وقبضاً، والآخر هبة وقبضاً، فالرهن أولى؛ لأن المرهون مضمون، والموهوب غير مضمون وعقد الضمان أولى.
ثانيا ـ أن يدعي كل واحد من الخارجين الشراء من رجل غير الذي ادعى عليه صاحبه
ثانياً ـ أن يدعي كل واحد من الخارجين الشراء من رجل غير الذي ادعى عليه صاحبه: إذا ادعى شخصان داراً في يد شخص آخر، وأقام كل واحد منهما البينة على أنه اشتراها من شخص غير الذي ذكره صاحبه سوى صاحب اليد: يقضى به بينهما نصفين؛ لأن المشتريين قاما مقام البائعين، كأنهما حضرا، وأقاما البينة على ملك مطلق، ولو كان الأمر كذلك يقضى به بينهما نصفين، فكذا هذا، ويثبت لهما الخيار كما سأبين. ولو أرخا وكان تاريخهما سواء أو أرخت بينة أحدهما ولم تؤرخ الأخرى: يقضى به بينهما نصفين أيضاً. وإن كان تاريخ أحدهما أسبق من الآخر، فالأسبق تاريخاً أولى عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وكذا عند محمد في رواية الأصول بخلاف الميراث: إنه يكون بينهما نصفين عنده. والفرق بالنسبة لمحمد بين الميراث والشراء: هو أن المشتري يثبت الملك لنفسه، والوارث يثبت الملك للميت. وفي رواية عن محمد في الإملاء: أنه سوى بين الميراث والشراء، وقال: لا عبرة بالتاريخ في الشراء أيضاً، إلا أن يؤرخ المدعيان ملك البائعين (¬1). ثبوت الخيار لمن يقضى لهما: في حالة القضاء بالدار بين المتداعيين الخارجين مناصفة، سواء في ادعاء الشراء من واحد أو من اثنين: يثبت الخيار لكل واحد من مدعيي الشراء: إن شاء أخذ كل واحد منهما نصف الدار بنصف الثمن، وإن شاء ترك لتفريق الصفقة عليه؛ لأن غرض كل واحد من المتداعيين الوصول إلى شراء ¬
الحالة الثالثة ـ دعوى الملك بسبب النتاج
جميع المبيع، ولم يحصل له شراؤه، مما ترتب عليه حدوث خلل في رضا كل منهما، فلا يرضى بالنصف مشتركاً مع الآخر، فأثبت لهما الخيار. فإن اختار كل واحد منهما أخذ نصف الدار، رجع على البائع بنصف الثمن؛ لأنه لم يحصل له في ملكه إلا نصف المبيع. وإن اختار كل منهما رد المبيع ونقض البيع، رجع كل واحد منهما بجميع الثمن على البائع؛ لأنه انفسخ البيع. وإن اختار أحدهما الرد، والآخر الأخذ: فإن حدث هذا قبل تخيير الحاكم لهما، والحكم لهما نصفين، فللآخر أن يأخذ جميع المبيع بجميع الثمن؛ لأن المستحق له بالعقد كل المبيع، وامتناع استحقاقه للكل بسبب مزاحمة الآخر له، فإذا زالت الخصومة فقد زال المانع من الاستحقاق، فيأخذه كله. وأما إن حدث ذلك بعد قضاء القاضي وتخييره إياهما: فليس له أن يأخذ إلا النصف بنصف الثمن؛ لأنه بحكم القاضي ينفسخ العقد بالنسبة لكل واحد منهما في النصف، فلا يعود إلا بالتجديد (¬1). الحالة الثالثة ـ دعوى الملك بسبب النتاج: النتاج: هو ولادة الحيوان، مشتق من فعل (نُتجت) المبني للمجهول: يعني ولدت ووضعت. والمراد هنا: ولادة الحيوان في ملك الإنسان نفسه أو في ملك بائعه، أو في ملك مورثه. إذا تنازع رجلان في دابة مثلاً، فادعى كل واحد منهما أنها ملكه دون ¬
أولا ـ أن يدعي الخارج وصاحب اليد نتاج أي (منتوج) دابة،
صاحبه، وأقام كل واحد منهما بينة أنها له نُتجت عنده أو عند بائعه أو عند مورثه، فكيف يقضي القاضي بينهما؟ نجد هنا ثلاثة افتراضات أذكر حكمها عند الحنفية: أولاً ـ أن يدعي الخارج وصاحب اليد نتاج أي (منتوج) دابة، ويقيم كل واحد منهما بينة على النتاج من غير تاريخ، أو أرخا تاريخاً واحداً: فصاحب اليد أولى؛ لأن صاحب اليد لا يستحق الملك هنا بظاهر يده فقط، وإنما تثبت بينته شيئاً آخر عدا الحيازة باليد، وهوأولية الملك بالنتاج؛ لأن النتاج لا يتكرر حدوثه، كما تُثبت بينة الخارج، فاستوت البينتان في إظهار أولية الملك، وترجحت بينة ذي اليد باليد، فيقضى له. وذلك بخلاف الملك المطلق فهناك لا تُثبت بينته إلا ما هو ثابت له بظاهر يده، باعتبار أن الملك ينتقل ويتكرر حدوثه. وفي هذا ورد حديث جابر: «أن رجلين اختصما في ناقة، فقال كل واحد منهما: نتجت هذه الناقة عندي، وأقاما بينة، فقضى بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم للذي هي في يده» (¬1) ويقضى في ظاهر مذهب الحنفية لصاحب اليد قضاء حقيقة، لا أن يترك في يده قضاء ترك. وهو موافق لمذهب الشافعية. وقال عيسى بن أبان: تتهاتر البينتان ويترك المدعى به في يد صاحب اليد قضاء ترك (¬2). ثانياً ـ أن يقيم أحد المتنازعين على النتاج، والآخر على الملك المطلق عن النتاج: إذا أقام أحد المتخاصمين البينة على النتاج، والآخر على الملك المطلق عن ¬
ثالثا ـ ادعاء النتاج من الخارجين على ثالث يدعي ملكا مطلقا
النتاج، بأن قال: هو ملكي، فبينة النتاج أولى، سواء أكان خارجاً أم ذا اليد، لما ذكر أنها تثبت أولية الملك لصاحبه، فلا تثبت لغيره إلا بالتلقي منه (¬1). ثالثاً ـ ادعاء النتاج من الخارجين على ثالث يدعي ملكاً مطلقاً: إذا ادعى الخارجان النتاج وهو في يد شخص ثالث يدعي ملكاً مطلقاً: فهو بين الخارجين نصفين، لا ستوائهما في سبب الاستحقاق. فإن أرخت البينتان، واتفق تاريخهما، فيقضى بالمدعى به أيضاً نصفين، لسقوط اعتبار الوقتين بالتعارض. وإن اختلف التاريخان يحكَّم سن الدابة: فيقضى لصاحب الوقت الذي يوافقه سن الدابة إن علم سنها؛ لأنه ظهر أن البينة الأخرى كاذبة بيقين. فإن أشكل السن، كانت الدابة بينهما نصفين؛ لأنه سقط اعتبار التاريخ، وجعل كأنهما لم يذكرا تاريخاً؛ لأنه يحتمل أن يكون سنها موافقاً لتاريخ أحدهما أو مخالفاً لهما. وإن خالف سنها الوقتين جميعاً، سقط اعتبار التاريخ في ظاهر الرواية؛ لأنه ظهر بطلان اعتبار التوقيت، فكأنهما لم يؤقتا، فبقيت البينتان قائمتين على ملك مطلق. وذكر الحاكم الشهيد في مختصره (الكافي) أنه تتهاتر البينتان، ويبقى النتاج في يد صاحب اليد قضاء ترك، قال: وهو الصحيح. والواقع أن الأصح في هاتين الحالتين: حالة إشكال السن ومخالفته للوقتين ¬
ما يتكرر سببه وما لا يتكرر
هو ما قاله محمد، وهو أن تكون الدابة بينهما نصفين، سواء أكانت الدابة في يديهما، أم في يد أحدهما، أم في يد شخص ثالث (¬1). ما يتكرر سببه وما لا يتكرر: كل ما ذكرمن الأحكام في تعارض الدعويين في الملك المطلق أو بسبب الإرث أو الشراء، ينطبق على كل ما يتكرر فيه سببه، ويصنع مرتين فأكثر كبناء وغرس ونسج خز (¬2) وزرع بر ونحوه، يقضى بالمدعى به للخارج، فلو ادعى رجل ثوباً أنه ملكه من خزه، أو ادعى داراً أنهاملكه بناها بماله، أو ادعى غرساً أنه ملكه غرسه بنفسه، أو ادعى حنطة أنها ملكه زرعها أو حباً آخر من الحبوب، وأقام على مدعاه بينة وادعى ذو اليد مثل ذلك، وأقام عليه بينة، قضي به للخارج؛ لأن هذه الأشياء ليست في معنى النتاج لتكررها. وكل ما ذكر من الأحكام في النتاج ينطبق على ما لا يتكرر فيه سبب الملك ولايعاد، ولا يصنع مرتين كنسج الثياب التي لا تنسج إلا مرة واحدة، وغزل قطن، وحلب لبن، وجز صوف، ونحوها؛ لأنه في معنى النتاج، يقضى به لصاحب اليد. فلو ادعت امرأة غزل قطن أنه ملكها، غزلته بيدها، أو ادعى رجل ثوباً أنه ملكه، نسجه بيده، وهو مما لا يتكرر نسجه، أو ادعى لبناً أنه ملكه حلبه من شاته، أو ادعى جبناً أنه ملكه، صنعه بيده، أو ادعى صوفاً مجزوزاً بأنه ملكه، جزَّه من شاته، وأقام على مدعاه بينة، فادعى ذو اليد مثل ذلك، وأقام عليه بينة، فإنه يقضى به لذي اليد؛ لأنه في معنى النتاج، فيلحق به (¬3). ¬
المبحث السادس ـ حكم تعارض الدعويين في أصل الملك فقط، وحكم الملك وما يقتضيه من حقوق
المبحث السادس ـ حكم تعارض الدعويين في أصل الملك فقط، وحكم الملك وما يقتضيه من حقوق: يتناول هذا المطلب قضيتين مختلفتين، وإنما جمعتُ بينهما؛ لأن كلاً منهما لا يستحق على الانفراد مطلباً مستقلاً لقلة الكلام فيه، ولأن بينهما ارتباطاً جزئياً من جهة ولاية التصرف في الشيء. حكم تعارض الدعويين في أصل الملك فقط أو التنازع بالأيدي: انتهى بيان تعارض الدعويين مع تعارض البينتين، والكلام في هذا المطلب عن تعارض الدعويين لا غير، تمسكاً بظاهر اليد، فيحكم بين المتداعيين بأرجحية يد أحدهما على الآخر، ويظهر الحكم في المسائل الآتية (¬1): 1 - إذا تنازع اثنان في دابة: أحدهما راكبها، والآخر متعلق بلجامها، فالراكب أولى؛ لأن تصرفه أقوى، فإن الركوب يختص بالملك غالباً. وكذلك إذا كان أحدهما راكباً على السرج، والآخر رديفه، فالراكب أولى، لقوة يده، وهذا رأي أبي يوسف، وهو الذي مشى عليه القدوري في مختصره «الكتاب».أما في ظاهر الرواية: فالدابة بينهما نصفان؛ لأنهما استويا في أصل الاستعمال. وكذلك تكون الدابة بينهما اتفاقاً إذا كانا راكبين على السرج، لاستوائهما في التصرف. وإن تنازعا في بعير عليه لأحدهما حمل، وللآخر عليه مخلاة معلقة فصاحب الحمل أولى، لأنه هو المتصرف، فهو ذو اليد في الواقع. ¬
2 - إذا تنازع اثنان في قميص
2 - إذا تنازع اثنان في قميص: أحدهما لا بسه، والآخر متعلق به، فاللابس أولى؛ لأنه أقواهما تصرفاً، فهو مستعمل للقميص. ولو تنازعا في بساط أحدهما جالس عليه، والآخر متعلق به: فهو بينهما نصفان، قضاء ترك، لا قضاء حقيقة؛ لأن القعود عليه ليس بيد عليه، حتى إنه لا يعتبر غاصباً بالقعود عليه، وإنما تكون اليد، أي الحيازة على البساط إما بالنقل والتحويل، أو بكونه في بيته، والجلوس عليه ليس بشيء من الأمرين، فلا يكون يداً عليه. وبما أنهما يدعيانه على السواء، فيترك في يديهما لعدم وجود منازع ينازعهما. وإذا كان ثوب في يد رجل، وطرف منه في يد آخر، فهو بينهما نصفان؛ لأن الزيادة من جنس الحجة، فإن كل واحد منهما متمسك باليد، إلا أن أحدهما أكثر استمساكاً، ومثله لا يوجب الرجحان، كزيادة عدد الشهود، لا تُرجح بينة أحد الخصمين. 3 - إذا كان حائط بين دارين: فادعاه كل من المالكين المتجاورين، وليس لأحدهما عليه جذوع (¬1) ولا هو متصل ببناء كل منهما، فإنه يكون بينهما، لاستوائهما في الاستظلال به. وإن كان لأحدهما عليه جذوع، فهو له؛ لأنه مستعمل للحائط. ولو كان لكل واحد منهما جذوع، على السواء، أو لأحدهما أكثر من الآخر، بأن كان ثلاثة فصاعداً، فهو بينهما نصفان؛ لأنهما استويا في استعمال الحائط، فاستويا في ثبوت اليد عليه، والزيادة على الثلاثة من جنس الحجة. ¬
أما إن كان لأحدهما ما دون الثلاثة، وللآخرأكثر، فهو لصاحب الكثير؛ لأن أصل الاستعمال لا يحل بما دون الثلاثة؛ لأن الجدار لا يبنى له عادة، وإنما يبنى لأكثر من الثلاثة، إلا أن الأكثر لا نهاية له، والثلاثة أقل الجمع الصحيح، فقيِّد به. ولكن يبقى لصاحب القليل حق الاستناد على الحائط، وليس لصاحب الحائط الحق في أن يطلب رفع الجذوع، إلا إذا أثبت بالبينة أن الحائط له، فحينئذ يرفع الجذع. وإن لم يكن لهما جذوع، ولأحدهما اتصال بالبناء اتصال التزاق وارتباط، فهو لصاحب الاتصال، لأنه كالمتعلق به. ولو كان لأحدهما اتصال التزاق، وللآخر جذوع، فصاحب الجذوع أولى؛ لأنه مستعمل للحائط، ولا استعمال من صاحب الاتصال. ولو كان لأحدهما اتصال التزاق وارتباط، وللآخر اتصال تربيع (¬1)، فصاحب التربيع أولى؛ لأن اتصال التربيع أقوى من اتصال الالتزاق. ولو كان لأحدهما اتصال تربيع وللآخر جذوع: فالحائط لصاحب التربيع، ولصاحب الجذوع حق وضع الجذوع، أي استنادها عليه؛ لأن الظاهر ليس بحجة في الاستحقاق. والسبب في ترجيح صاحب الاتصال: أن الحائطين بالاتصال يصيران كبناء واحد. وقال السرخسي: صاحب الجذوع أولى؛ لأن لصاحب الاتصال اليد، ولصاحب الجذوع التصرف والتصرف أقوى. والرأي الأول أرجح؛ لأن اتصال التربيع يكون حالة البناء، وهو سابق على وضع الجذوع، فكانت يده أسبق من وضع الآخر جذوعه، فصار مثل سبق التاريخ. ¬
- إذا كان خص بين دارين،
ثم إن الاتصال الذي وقع الاختلاف السابق في ترجيح صاحبه على صاحب الجذوع أو على العكس: هو الاتصال الذي وقع في أحد طرفي أو جانبي الحائط المتنازغ فيه. وأما إذا وقع اتصال التربيع في طرفيه أو جانبيه، فصاحب الاتصال أولى بلا خلاف (¬1). ولو كان وجه البناء على الحائط في أحد الجانبين، فلا يرجح به باتفاق الحنفية؛ لأن هذا لا يختص بالملك. 4 - إذا كان خُص (¬2) بين دارين، أو بين حقلين، والقُمط (¬3) إلى أحدهما، وادعى كل واحد الخص، فهو بينهما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى عليه، ولا ينظر إلى القمط؛ لأن هذا دليل الحيازة واليد في الماضي، لا وقت الدعوى، فلا يفيد في الإثبات. وقال الصاحبان: صاحب القمط أولى بالعرف والعادة، فإن الناس في العادة يجعلون وجه البناء والطاقات (ما عطف من الأبنية) وأنصاف اللبن والقمط إلى صاحب الدار، فيدل على أنه بناؤه. تنبيه: كل موضع قضي فيه بالملك لأحد المتنازعين لكون المدعى به في يده، تجب عليه اليمين لصاحبه إذا طلب، فإن حلف برئ، وإن نكل يقضى عليه بالنكول (¬4). ¬
حكم الملك وما يقتضيه من حقوق
حكم الملك وما يقتضيه من حقوق: حكم الملك أو مقتضاه عند الحنفية: هو أن يثبت لصاحبه ولاية التصرف في الشيء المملوك بمطلق اختياره، دون أن يكون لأحد عليه حق الإجبار على التصرف إلا لضرورة، أو حق المنع من التصرف، وإن تضرر به إلا إذا تعلق به حق الغير، فيمنع عن التصرف مراعاة لحق الغير، ولا يكون لغير المالك شيء من حقوق التصرف في ملك غيره بدون إذنه أو رضاه إلا لضرورة. وبناء عليه للمالك أن يتصرف في ملكه أي تصرف شاء، سواء أكان تصرفاً يتعدى ضرره إلى غيره، أم لا يتعدى، فله أن يبني في ملكه مرحاضاً أو حماماً أورحى أو تنوراً، وله أن يؤجر بناءه لحداد أو قصار، وله أن يحفر في ملكه بئراً أو بالوعة، وإن كان يتأذى به جاره، وليس لجاره أن يمنعه؛ لأن حق الملكية حق مطلق، ويتقيد هذا الحق عند وجود عارض من تعلق حق الآخرين به، لكن يجب أن يمتنع الإنسان عن كل ما يؤذي جاره ديانة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «المؤمن من أمن جاره بوائقه» (¬1). فلو تصرف المالك في ملكه تصرفاً أدى إلى أن يوهن بناء جاره أو سقوط حائط جاره، لا يضمن؛ لأنه لم يتعد على ملك الغير. العلو والسفل: وعلى هذا لو كان لأحد الجوار سفل، وللآخر علو عليه كطوابق المنازل الحديثة، فأراد صاحب السفل أن يفتح باباً أو نافذة، أو يحفر طاقاً، أو يدق وتداً على الحائط، أو يتصرف فيه تصرفاً لم يكن في القديم، من غير رضا صاحب العلو سواء أضر بالعلو، بأن ترتب عليه وَهْن الحائط أم لم يضرَّ به، فليس له ذلك عند أبي حنيفة؛ لأن حرمة التصرف في ملك الغير وحقوقه لا تتوقف على وقوع الضرر، بل هو حرام، سواء تضرر به أم لا. ¬
وقال الصاحبان: لصاحب السفل أن يفعل في ملكه ما يشاء إن لم يضر بصاحب العلو؛ لأن صاحب السفل يتصرف في ملك نفسه، فلا يمنع إلا لحق الغير، وحق الغير لا يمنع المالك من التصرف لذاته، وإنما لما يترتب عليه من إيقاع الضرر به، بدليل أن الإنسان لا يمنع من الاستظلال بجدار غيره، ومن الاصطلاء بنار غيره، لعدم تضرر المالك. والرسول صلّى الله عليه وسلم يقول: «لا ضرر ولا ضرار» (¬1). وإذا انهدم السفل والعلو: لم يجبر صاحب السفل على البناء؛ لأن الإنسان لا يجبر على عمارة ملك نفسه، ولكن يقال لصاحب العلو: إن شئت فابن السفل من مال نفسك، وضع عليه علوك، وارجع عليه بقيمته مبنياً، ثم امنع صاحب السفل عن الانتفاع بالسفل حتى يرد عليك قيمة البناء؛ لأن البناء، وإن كان تصرفاً في ملك الغير، لكن فيه ضرورة؛ لأنه لا يمكنه الانتفاع بملك نفسه إلا بالتصرف في ملك غيره. وأما رجوعه بقيمة البناء، فلأنه ملكه بإذن الشرع، فله ألا يمكن صاحب السفل من الانتفاع بملكه إلا بعد دفع قيمته. أما إذا هدم صاحب السفل منزله، فانهدم الطابق العلوي، فيجبر على إعادته؛ لأنه أتلف حق صاحب العلو بنفسه. ويجري هذا الخلاف في الحائط بين الدارين إذا انهدم، ولهما عليه جذوع، فإنه لا يجبر واحد منها على بنائه، ولكن إذا أبى أحدهما البناء، يقال للآخر: إن شئت فابن من مال نفسك، وضع خشبك عليه، وامنع صاحبك من الوضع والاستناد، حتى يرد عليك نصف قيمة البناء، أو نصف ما أنفقته. فإن هدمه أحدهما، يجبر على عمارته (¬2). ¬
الفصل الثالث: طرق الإثبات
الفَصْلُ الثَّالث: طرق الإثبات يشتمل هذا الفصل على المباحث الأربعة التالية: 1 - الشهادة. 2 - اليمين. 3 - الإقرار. 4 - القرائن. المبحث الأول ـ الشهادة والرجوع عنها: أشرت في الفصل السابق إلى أن البينات ومنها الشهادات من أهم طرق إثبات الحق عند القاضي، ووعدت بتخصيص مبحث مستقل للشهادة أتكلم فيه عن حكم أداء الشهادة وشروط تحملها؛ وشروط أدائها، وحكم الرجوع عن الشهادة، في المطالب الستة الآتية: المطلب الأول ـ تعريف الشهادة وركنها وحكمها. المطلب الثاني ـ شروط تحمل الشهادة. المطلب الثالث ـ شروط أداء الشهادة. المطلب الرابع ـ حكم الرجوع عن الشهادة.
المطلب الخامس ـ عقوبة شاهد الزور. المطلب السادس ـ شهادة غير المسلمين. المطلب الأول ـ تعريف الشهادة وركنها وحكمها: الشهادة: مصدر شهد من الشهود بمعنى الحضور، وهي لغة: خبر قاطع. وشرعاً: إخبار صادق لإثبات حق بلفظ الشهادة في مجلس القضاء (¬1). وركنها: لفظ (أشهد) لا غير؛ لأن النصوص اشترطت هذا اللفظ، إذ الأمر القرآني ورد فيها بهذه اللفظة، ولأن فيها زيادة تأكيد، فإن قوله: (أشهد) من ألفاظ اليمين. وهي تتضمن معنى المشاهدة أي الإطلاع على الشيء. فلو قال: (شهدت) لا يجوز؛ لأن الماضي موضوع للإخبار عما وقع، والشهادة يقصد بها الإخبار في الحال (¬2). والأصل في الشهادة قبل الإجماع: الكتاب والسنة. أما الكتاب فقوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكونا رجلين، فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} [البقرة:282/ 2] وقال تعالى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق:2/ 65]، {وأشهدوا إذا تبايعتم} [البقرة:282/ 2] أمر إرشاد لا وجوب. وأما السنة فمثل قوله صلّى الله عليه وسلم لمدع: «شاهداك أو يمينه» (¬3) وخبر في السنة: «أنه ¬
حكم الشهادة
صلّى الله عليه وسلم سئل عن الشهادة، فقال للسائل: ترى الشمس؟ قال: نعم، فقال: على مثلها فاشهد، أو دع» (¬1). وحكم الشهادة: وجوب القضاء على القاضي بموجبها بعد توافر شروطها. وأما حكم تحمل الشهادة وأدائها، فهو فرض كفائي إذا دعي الشهود إليه، إذ لو تركه الجميع، لضاع الحق، ويصبح أداء الشهادة بعد التحمل فرض عين، فيلزم الشهود بأداء الشهادة، ولا يجوز لهم كتمانها إذا طالبهم المدعي بها، لقوله تعالى: {ولا يأب الشهداء إذا ما دُعوا} [البقرة:282/ 2] وقوله سبحانه: {ولا تكتموا الشهادة، ومن يكتمها فإنه آثم قلبه} [البقرة:283/ 2] وقوله عز وجل: {وأقيموا الشهادة لله} [الطلاق:2/ 65] (¬2). ويجب أداء الشهادة بلا طلب في حقوق الله تعالى، كطلاق امرأة بائناً، ورضاع، ووقف، وهلال رمضان، وخلع، وإيلاء، وظهار. قال الحنفية (¬3): الذي تقبل فيه الشهادة حسبة (¬4) بدون الدعوى أربعة عشر: وهي الوقف، وطلاق الزوجة، وتعليق طلاقها، وحرية الأمة، وتدبيرها، والخلع، وهلال رمضان، والنسب، وحد الزنا، وحد الشرب، والإيلاء، والظهار، وحرمة المصاهرة، ودعوى المولى نسب العبد. وزاد ابن عابدين: الشهادة بالرضاع. لكن الشهادة في الحدود: يخير فيها الشاهد بين الستر والإعلام؛ لأنه يكون متردداً بين شهادتي حسبة: في إقامة الحد، والتوقي عن هتك حرمة مسلم، والستر ¬
المطلب الثاني ـ شروط تحمل الشهادة
أولى وأفضل؛ لقوله صلّى الله عليه وسلم للذي شهد عنده: «لو سترته بثوبك لكان خيراً لك» (¬1) وقوله عليه الصلاة والسلام: «من ستر مسلماً، ستره الله في الدنيا والآخرة» (¬2) وقد عرفنا في الحدود أن الرسول عليه الصلاة والسلام لقن ماعزاً الرجوع عن الإقرار بقوله: «لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت» ففي هذا دلالة ظاهرة على أفضلية الستر. لكن الأولى أن يقول الشاهد في السرقة: أخذ المال إحياء لحق المسروق منه، ولا يقول: سرق صوناً ليد السارق عن القطع، فيكون بهذا قد جمع بين الستر والإعلام أو الإظهار (¬3). المطلب الثاني ـ شروط تحمل الشهادة: تحمل الشهادة: عبارة عن فهم الحادثة وضبطها بالمعاينة أو بالسماع. ويشترط لتحمل الشهادة شروط ثلاثة عند الحنفية (¬4). أولها ـ أن يكون الشاهد عاقلا ً: فلا يصح تحمل الشهادة من المجنون والصبي الذي لايعقل؛ لأن التحمل يتطلب الفهم والإدراك، وهو يحصل بالعقل. ¬
ثانيها ـ أن يكون بصيرا وقت التحمل،
ثانيها ـ أن يكون بصيراً وقت التحمل، فلا يصح التحمل من الأعمى؛ لأن شرط التحمل هو السماع من الخصم، ولا يعرف الخصم إلا بالرؤية؛ لأن نغمات الأصوات يشبه بعضها بعضاً. وقال الحنابلة (¬1): تحمل الشهادة يكون بالرؤية والسماع، فيجوز للأعمى أن يشهد فيما يتعلق بالسماع كالبيع والإجارة وغيرهما إذا عرف المتعاقدين، وتيقن أنه كلامهما. وقال الشافعية (¬2): لا تجوز شهادة الأعمى فيما يتعلق بالبصر لجواز اشتباه الأصوات، وقد يحاكي الإنسان صوت غيره، كما قال الحنفية، فلا يجوز أن يكون شاهداً على الأفعال كالقتل والإتلاف والغضب والزنا وشرب الخمر، وهذا ما قال به الحنابلة أيضاً، كما لا يجوز أن يكون شاهداً على الأقوال كالبيع والإقرار والنكاح والطلاق، إلا فيما سماه الشافعية بصورة الضبط: وهي أن يقر شخص في أذن الأعمى بنحو طلاق أو مال لشخص معروف، فيتعلق الأعمى به ويضبطه إلى أن يحضر عند الحاكم، فيشهد عليه بما سمعه منه، فتقبل شهادته في هذه الحالة على الصحيح. ثالثها ـ معاينة المشهود به بنفسه لا بغيره إلا فيما تصح فيه الشهادة بالتسامع من الناس والاستفاضة؛ لقوله صلّى الله عليه وسلم للشاهد: «إذا علمت مثل الشمس فاشهد، وإلا فدع» (¬3) ولا يتم العلم مثل الشمس إلا بالمعاينة. ولا يشترط لتحمل الشهادة البلوغ والحرية والإسلام والعدالة، وإنما هي شروط للأداء. ¬
وأما ما تصح فيه الشهادة بالتسامع: فهي النكاح، والنسب، والموت، ودخول الرجل على امرأته، وولاية القاضي، فللشاهد أن يشهد بهذه الأشياء إذا أخبره بها من يثق به استحساناً؛ لأن هذه الأمور يختص بمعاينة أسبابها خواص الناس، ويترتب عليها أحكام دائمة على ممر السنين والأعوام، فلو لم يقبل فيها الشهادة بالتسامع، لأدى ذلك إلى الحرج وتعطيل الأحكام. والتسامع عند أبي حنيفة: هو بأن يشتهر الخبر ويستفيض بين الناس، وتتواتر به الأخبار ليحصل له نوع من اليقين. وعند الصاحبين: بأن يخبر الشاهد رجلان عدلان أو رجل وامرأتان، واختار قولهما بعض الفقهاء بدليل أن القاضي يحكم بشهادة شاهدين، ولو لم يرد المشهود به أو يسمعه بنفسه. وعند أداء الشهادة بالتسامع لا يذكر الشاهد أمام القاضي أن شهادته بالتسامع، وإنما يقول: أشهد بكذا. أما فيما عدا المذكور فلا يجوز للشاهد أن يشهد بشيء لم يعاينه؛ لأن الشهادة مشتقة من المشاهدة: وهي المعاينة، وتتم بالعلم، فلا تجوز الشهادة إلا بما علمه الإنسان، بدليل قوله تعالى: {إلا من شهد بالحق، وهم يعلمون} (¬1) وقوله سبحانه: {ولا تقْف ما ليس لك به علم، إن السمع والبصر والفؤاد، كل أولئك كان عنه مسؤولاً} [الإسراء:36/ 17] (¬2). وقال المالكية: تجوز شهادة التسامع في عشرين حالة: منها عزل قاض أو والٍ أو وكيل، وكفر، وسفه، ونكاح، ونسب، ورضاع، وبيع، وهبة ووصية (¬3). ¬
الشهادة على الكتابة
والتسامع: أن يكون المنقول عنه غير معين ولا محصور، وذلك بأن يشتهر النسب مثلاً المشهود به بين الناس العدول وغيرهم. ويشترط أن يقول الشهود: سمعنا أو لم نزل نسمع سماعاً فاشياً من أهل العدل وغيرهم أن فلاناً ابن فلان. وقال الشافعية في الأصح: تجوز الشهادة بالتسامع أو الاستفاضة في النسب والموت، والوقف، والنكاح، وملكية الأشياء، فإن استفاض في الناس أن فلاناً ابن فلان، جاز أن يشهد به؛ لأن سبب النسب لا يدرك بالمشاهدة، وإن استفاض في الناس أن فلاناً مات، جاز أن يشهد به؛ لأن أسباب الموت كثيرة، ويتعذر الاطلاع عليها، وإن استفاض في الناس أن هذه الدار لفلان جاز أن يشهد به؛ لأن أسباب الملك لا تضبط ... وهكذا (¬1). وقال الحنابلة: تصح الشهادة بالاستفاضة في النسب والولادة، والنكاح والموت، والملك، والوقف، والولاية والعزل (¬2). ويشرط التسامع عند الشافعية والحنابلة في الأصح مثلما قال أبو حنيفة: سماع المشهود به من جمع كثير يؤمن تواطؤهم (أي توافقهم) على الكذب بحيث يحصل العلم (أي اليقين) أو الظن القوي بخبرهم. ولا بد من أن يقول الشاهد: أشهد بكذا. الشهادة على الكتابة: بما أن الشهادة لا تجوز إلا بما علمه الشاهد، فلا يحل للشاهد عند أكثر العلماء أن يشهد بما رآه من خط نفسه، إلا أن يتذكر الشهادة؛ لأن الخط يشبه الخط، والمطلوب في الشهادة العلم بالحادثة، والشيء المشتبه فيه لا يفيد العلم، فإن تذكر القضية أو الشهادة، يشهد حينئذ على ما علم لا على أنه خطه. ¬
أنواع ما يتحمله الشاهد
وقال أبو يوسف ومحمد وفي رواية عند الحنابلة: يجوز للشاهد أن يشهد بما يجده من خط نفسه (¬1). أنواع ما يتحمله الشاهد: مايتحمله الشاهد نوعان: أحدهما: ما يثبت حكمه بنفسه. وهو ما يعرف بالسماع المباشر كالبيع والإقرار، أو رؤية الفعل بالذات كالغصب والقتل. فللشاهد إذا سمع أورأى أن يشهد به، ويقول: أشهد أنه باع، ولا يقول: أشهدني؛ لأنه كذب. ولو سمع من وراء الحجاب لا يجوز له أن يشهد؛ لأن النغمة تشبه النغمة. والثاني: ما لا يثبت حكمه بنفسه: وهو ما لا يوجب الشهادة بنفسه، وإنما بالنقل إلى مجلس القضاء والإنابة في الأداء. فإذا سمع شاهداً يشهد بشيء لم يجز أن يشهد بنفسه على شهادته إلا أن يشهده على شهادته، ويأمره بأدائها ليكون نائباً عنه. وكذلك لو سمعه يشهد الشاهد على شهادته ويأمره بأدائها لم يسع السامع له أن يشهد؛ لأنه لم يحمله الشهادة، وإنما حمل غيره (¬2). فالنوع الثاني إذن يكون بتكليف الشاهد لغيره نقل شهادته أمام القضاء. المطلب الثالث ـ شروط أداء الشهادة: يشترط في مذهب الحنفية لجواز أداء الشهادة عند القاضي شروط في الشاهد وفي الشهادة نفسها، وفي مكان الشهادة. وفي إيضاح هذه الشروط نتبين من تقبل ¬
شروط الشاهد
شهادته، ومن لا تقبل، وحالة اختلاف الشهود في الشهادة، وصفة العدالة في الشهود. شروط الشاهد: يشترط في الشاهد شرائط عامة في كل الشهادات، وشرائط خاصة ببعض أنواع الشهادات. أما الشرائط العامة فهي ما يأتي (¬1): 1 - أهلية العقل والبلوغ: يشترط أن يكون الشاهد عاقلاً بالغاً باتفاق الفقهاء، فلا تقبل شهادة من ليس بعاقل إجماعاً، مثل المجنون والسكران والطفل؛ لأنه لا تحصل الثقة بقوله، ولا تقبل شهادة صبي غير بالغ؛ لأنه لا يتمكن من أداء الشهادة على الوجه المطلوب، لقوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} [البقرة:282/ 2] وقوله: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق:2/ 65] وقوله: {ممن ترضون من الشهداء} [البقرة:282/ 2] والصبي ممن لا يرضي؛ ولأن الصبي لا يأثم بكتمان الشهادة، فدل على أنه ليس بشاهد. وأما شهادة الصبيان بعضهم على بعض، فتجوز عند الإمام مالك في الجراح وفي القتل، خلافاً لجمهور الفقهاء، بشرط أن يتفقوا في الشهادة، وأن يشهدوا قبل تفرقهم، وألا يدخل بينهم كبير (¬2). 2 - الحرية: اتفق الحنفية والمالكية والشافعية على أن الشاهد يشترط فيه أن ¬
3 - الإسلام
يكون حراً، فلا تقبل شهادة رقيق، لقوله تعالى: {ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء} [النحل:75/ 16] ولأن الشهادة فيها معنى الولاية، وهو لا ولاية له. وقال الحنابلة والظاهرية: تقبل شهادة العبد، لعموم آيات الشهادة، ولأن العبودية ليس لها تأثير في الرد، وقيدها الحنابلة فيما عدا الحدود والقصاص (¬1). 3 - الإسلام: اتفق الفقهاء على اشتراط كون الشاهد مسلماً، فلا تقبل شهادة الكافر على المسلم؛ لأنه متهم في حقه، وأجاز الحنفية والحنبلية شهادة الكافر في الوصية في السفر، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموتُ حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم، أو آخران من غيركم} [المائدة:106/ 5] وأجاز الحنفية خلافاً للجمهور شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض إذا كانوا عدولاً في دينهم، وإن اختلفت مللهم كاليهود والنصارى (¬2)، لما روى ابن ماجه عن جابر بن عبد الله: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أجاز شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض» (¬3) وفي بعض رجاله مقال. ولا تقبل شهادة الحربي المستأمن على الذمي؛ لأنه لا ولاية له عليه؛ لأن الذمي من أهل ديارنا، وهو أعلى حالاً منه. وتقبل شهادة الذمي على الحربي المستأمن، كما تقبل شهادة المسلم عليه وعلى الذمي. وتقبل شهادة المستأمنين بعضهم على بعض إذا كانوا أهل دار واحدة. ¬
4 - البصر
4 - البصر: يشترط عند أبي حنيفة ومحمد والشافعية: أن يكون الشاهد مبصراً، فلا تقبل شهادة الأعمى؛ لأنه لا بد من معرفة المشهود له والإشارة إليه عند الشهادة، ولا يميز الأعمى بين الناس إلا بنغمة الصوت، وفيه شبهة؛ لأن الأصوات تتشابه. وتشدد الحنفية فمنعوا قبول شهادة الأعمى وإن كان بصيراً عند تحمل الشهادة. وأجاز المالكية والحنابلةوأبو يوسف شهادة الأعمى إذا تيقن الصوت؛ لعموم الآيات الواردة في الشهادة، ولأنه رجل عدل مقبول الرواية، فقبلت شهادته كالبصير، ولأن السمع أحد الحواس التي يحصل بها اليقين، ولهذا أجاز الشافعية شهادة الأعمى فيما يثبت بالاستفاضة. كما أجازوا أن يكون شاهداً في الترجمة؛ لأنه يفسر ما سمعه بحضرة الحاكم، وسماعه كسماع البصير (¬1). 5 - النطق: اشترط الحنفية والشافعية والحنابلة أن يكون الشاهد ناطقاً، فلا تقبل شهادة الأخرس، وإن فهمت إشارته؛ لأن الإشارة لا تعتبر في الشهادات؛ لأنها تتطلب اليقين، وإنما المطلوب التلفظ بالشهادة. وأجاز المالكية قبول شهادة الأخرس إذا فهمت إشارته؛ لأنها تقوم مقام نطقه في طلاقه ونكاحه وظهاره، فكذلك في شهادته (¬2). 6 - العدالة: اتفق العلماء على اشتراط العدالة في الشهود، لقوله تعالى: {ممن ترضون من الشهداء} [البقرة:282/ 2] وقوله سبحانه: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق:2/ 65] فلا تقبل شهادة الفاسق كالزاني والشارب ¬
والسارق ونحوهم، وكذا مجهول الحال، وروي عن أبي يوسف: أن الفاسق إذا كان وجيهاً في الناس، ذا مروءة، تقبل شهادته؛ لأنه لا يستأجر لشهادة الزور لوجاهته، ويمتنع عن الكذب لمروءته. وقال جمهور الحنفية: لا تقبل شهادة الفاسق مطلقاً، إلا أن القاضي لو قضى بشهادة الفاسق نفذ قضاؤه، ويكون القاضي عاصياً. والعدالة: لغة التوسط، وشرعاً: اجتناب الكبائر وعدم الإصرار على الصغائر. والحقيقة أن اجتناب الكبائر كلها هو شرط لصحة الشهادة، وبعد توقيها يلاحظ الشأن الغالب، فمن كثرت معاصيه أثَّر ذلك في شهادته، ومن ندرت منه المعصية قبلت شهادته. وهذا هو حد العدالة المعتبرة، حتى لا يترتب على التشدد سد باب الشهادة وإماتة الحقوق. وضابط عدالة الشاهد في مذهب الشافعية: أن يكون مجتنباً الكبائر، وغير مصر على الصغائر، وسليم السريرة أي العقيدة، ومأموناً عند الغضب، ومحافظاً على مروءة مثله. واكتفى أبو حنيفة بظاهر العدالة في المسلم، ولا يسأل عن الشهود، حتى يطعن الخصم بها إلا في الحدود والقصاص، فإنه يسأل عن الشهود، وإن لم يطعن فيهم الخصوم، ودليله على الاكتفاء بظاهر العدالة قوله صلّى الله عليه وسلم: «المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدوداً في قذف» (¬1) ومثله مروي عن عمر رضي الله عنه (¬2). وأما دليله على استثناء الحدود والقصاص، فهو أن القاضي يتحايل ¬
لإسقاطها عن المتهم، فيشترط فيها استقصاء معرفة حال الشهود؛ ولأنها تدرأ بالشبهات. وقال الصاحبان والفتوى على قولهما: لا بد من أن يسأل القاضي عن الشهود في السر والعلانية في سائر الحقوق؛ لأن القضاء قائم على الحجة، وهي شهادة العدول، فلا بد من التعرف على العدالة، وفي ذلك صيانة للحكم القضائي عن النقض والإبطال بسبب الطعن في عدالة الشهود (¬1). قال المتأخرون من الحنفية: هذا الاختلاف اختلاف عصر وزمان، لا اختلاف حجة وبرهان؛ لأن زمن أبي حنيفة كان زمن خير وصلاح؛ لأنه زمن التابعين، وشهد لهم النبي صلّى الله عليه وسلم بالخيرية، بخلاف زمان الصاحبين، قال عليه الصلاة والسلام: «خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم إن من بعدهم قوماً يشهدون ولا يُستشهدون، ويخونون ولايؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن» (¬2). وقال فقهاء الحنفية: لا تقبل شهادة مُخنَّث، لفسقه، وهو الذي يفعل الرديء ويؤتى كالنساء. أما الذي في كلامه لين وفي أعضائه تكسر فهو مقبول الشهادة. ولا تقبل شهادة نائحة في مصيبة غيرها بأجر، ولا مغنية، ولو لنفسها لحرمة رفع صوتها، خصوصاً مع الغناء، ولا شهادة مدمن الشرب لهواً، سواء أكان الشراب خمراً أم غيره لحرمة ما ذكر في الإسلام، ولا شهادة من يلعب بالطيور؛ ¬
لأنه يورث غفلة، ولأنه قد يطلع على عورات النساء بصعود سطحه ليطير طيره، ولا شهادة من يغني للناس؛ لأنه يجمع الناس على ارتكاب كبيرة، ولا من يأتي كبيرة موجبة للحد كالزنا والسرقة ونحوها؛ لأنه يفسق، ولا من يدخل الحمام بغير إزار؛ لأن كشف العورة حرام إذا رأى الشخص غيره، ولا من يأكل الربا إذا كان مشهوراً به، ولا المقامر بالنرد (أي الزهر) والشطرنج؛ لأن كل ذلك من الكبائر، لكن الشطرنج عند الشافعي مكروه فقط، وليس كبيرة، إذا لم يكن قماراً. ولا تقبل شهادة من يفعل الأفعال المستقبحة، كالبول على الطريق والأكل على الطريق؛ لأنه في عرف السابقين تارك للمروءة؛ ومثله لا يمتنع عن الكذب فيتهم. ولا تقبل شهادة من يظهر سب السلف كالصحابة والتابعين لظهور فسقه، بخلاف من يخفيه؛ لأنه فاسق مستور (¬1). واتفق الفقهاء على أن الفاسق إذا تاب من فسقه، تقبل شهادته. واستثنى الحنفية المحدود في القذف، فإنه لا تقبل شهادته عندهم وإن تاب، خلافاً لبقية الفقهاء. ومنشأ الخلاف هو عود الاستثناء في قوله تعالى: {ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً، وأولئك هم الفاسقون، إلا الذين تابوا من بعد ذلك} [النور:4/ 24 - 5]. فقال الحنفية: لا تقبل شهادة المحدود في قذف وإن تاب، لقوله تعالى: {ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً} [النور:4/ 24] وأما الاستثناء فهو راجع عندهم إلى الجملة الأخيرة وحدها، أي إلى أقرب مذكور إليه. وقال جمهور الفقهاء: تقبل شهادة المحدود في قذف بعد التوبة؛ لأن الاستثناء بعد الجمل المتعاطفة بالواو يعودإليها جميعاً إلا إذا خصص الحكم ¬
7 - عدم التهمة
بالإجماع، وهنا خصص الإجماع أحد الأحكام السابقة عند التوبة وهو أن الحد لا يسقط بالتوبة (¬1). وتقبل شهادة أهل الأهواء، أي أصحاب البدع التي لا تكفر صاحبها مثل الجبرية والقدَرية والرافضة والخوارج والمشبهة والمعطلة. وكذلك تقبل شهادة الأقلف (غير المختون) إلا إذا تركه استخفافاً بالدين، فلا يكون حينئذ عدلاً، وتقبل شهادة الخصي وولد الزنا إذا كان عدلاً، وشهادة الخنثى ويعتبر كأنثى (¬2). 7 - عدم التهمة: أجمع الفقهاء على أن التهمة ترد بها الشهادة. والتهمة: أن يجلب الشاهد إلى المشهود له نفعاً أو يدفع عنه ضرراً، فلا تجوز شهادة الوالد لولده وولد ولده ولا شهادة الولد لأبويه وأجداده، ولا شهادة الخصم لخصمه. والخصم: كل من خاصم في حق، فلا تقبل شهادة الوكيل لموكله، ولا الموصى له للميت أو الموصى عليه: وهو اليتيم في حجره ورعايته، ولا الشريك لشريكه في أمور الشركة؛ لأنها شهادة لنفسه من وجه لاشتراكهما في الشركة. فلو شهد الشريك بما ليس من شركتهما تقبل شهادته لانتفاء التهمة، وأجاز المالكية شهادة الشريك، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين» (¬3) وقوله عليه الصلاة ¬
والسلام: «لا تقبل شهادة بدوي على حضري» (¬1). ولا تقبل شهادة العدو على عدوه بالاتفاق حتى عند الحنفية؛ لأن العداوة تورث التهمة، ولا يؤمن التقول فيها، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تجوز شهادة الخائن، ولا خائنة، ولا ذي غِمْر على أخيه، ولا تجوز شهادة القانع لأهل البيت، والقانع: الذي ينفق على أهل البيت» (¬2) والمراد بالعدو الذي ترد شهادته: هو صاحب العداوة الدنيوية، وهو من يبغض المشهود عليه بحيث يتمنى زوال نعمته، ويحزن بسروره، ويفرح بمصيبته. واتفقوا على جواز شهادة الأخ والعم والخال ونحوهم بعضهم لبعض، لانعدام التهمة؛ لأن مال كل واحد منهم مستقل عن الآخر عرفاً وعادة، فكانوا كالأجانب. واختلفوا في شهادة أحد الزوجين للآخر، فردها جمهور الفقهاء؛ لأن كل واحد منهما يرث الآخر، وينتفع بماله عادة، فينتفع بشهادته لصاحبه. وأجاز الشافعية قبولها؛ لأن الحاصل بين الزوجين عقد يطرأ ويزول فلا يمنع قبول الشهادة، كما لو شهد الأجير للمستأجر وعكسه. ¬
الشرائط الخاصة ببعض الشهادات دون بعض
وتقبل شهادة الصديق لصديقه باتفاق الفقهاء، والصديق: من صدق في ودادك، بأن يسرَّه ما يسرك، ويضره ما يضرك، ويهمه مايهمك. وقبول شهادته، لضعف التهمة بالنسبة إليه، بعكس شهادة الأصل للفرع، وبالعكس ونحوهما (¬1). وأما الشرائط الخاصة ببعض الشهادات دون بعض، فأهمها مايأتي: 1 - العدد في الشهادة بما يطلع عليه الرجال، لقوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكونا رجلين، فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} [البقرة:282/ 2] وذلك في الحقوق المدنية، مالاً كان الحق، أو غير مال، مثل النكاح والطلاق والعدة والحوالة، والوقف، والصلح، والوكالة، والوصية، والهبة، والإقرار، والإبراء، والولادة، والنسب، فهذه الحقوق تثبت عند الحنفية بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين. وقبول شهادة المرأة هنا لتوافر أهلية الشهادة عندها: وهي الشهادة والضبط والأداء. والسبب في جعل المرأتين في مقام رجل في الشهادة: هو نقصان الضبط بسبب زيادة النسيان، كما في قوله تعالى: {أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى} [البقرة:282/ 2] (¬2). وقال الشافعية والمالكية والحنابلة: لا تقبل شهادة النساء مع الرجال إلا في الأموال وتوابعها كالبيع والإجارة والهبة والوصية والرهن والكفالة؛ لأن الأصل عدم قبول شهادة النساء لغلبة العاطفة عليهن، واختلال ضبط الأمور، وقصور ¬
الولاية على الأشياء. أما ما ليس بمال ولا يقصد منه المال ويطلع عليه الرجال كالنكاح والرجعة والطلاق والوكالة وقتل العمد والحدود سوى حد الزنا، فلا يثبت إلا بشاهدين ذكرين، لقوله تعالى في الرجعة: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق:2/ 65] ولما روى ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل» (¬1) وعن الزهري أنه قال: «جرت السنة على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم والخليفتين من بعده ألا تقبل شهادة النساء في الحدود والدماء» (¬2) قال الشافعية: فدل النص على الرجعة والنكاح والحدود، وقسنا عليها كل ما لا يقصد به المال ويطلع عليه الرجال (¬3). وفي حد الزنا: أجمع العلماء على أنه لا يثبت بأقل من أربعة شهود رجال عدول أحرار مسلمين، لقوله تعالى: {لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء، فإذ لم يأتوا بالشهداء، فأولئك عند الله هم الكاذبون} [النور:13/ 24] وقوله سبحانه: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم} [النساء:15/ 4] وقوله عز وجل: {ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} [النور:4/ 24].وقد ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «أربعة شهود، وإلا حد في ظهرك» (¬4). ¬
وفي سائر الحدود الأخرى والقصاص اتفق الجمهور على أنها تثبت بشهادة رجلين لقوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} [البقرة:282/ 2] ولا تقبل فيها شهادة النساء لا مع رجل، ولا مفردات. وقال الظاهرية: تقبل شهادة النساء مع رجل في الحدود إذا كان النساء أكثر من واحدة، عملاً بظاهر الآية: {فإن لم يكونا رجلين، فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} [البقرة:282/ 2]. وأما مالايطلع عليه إلا النساء، فتقبل فيه شهادة النساء، لما روي: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أجاز شهادة القابلة» (¬1) ولما رواه عبد الرزاق في مصنفه عن الزهري، قال: «مضت السنة أن تجوز شهادة النساء فيما لا يطلع عليه غيرهن، من ولادات النساء وعيوبهن» (¬2). واختلف في تحديد تلك الحالات، فقال الحنفية: تقبل شهادة النساء في الولادة والبكارة وعيوب النساء في موضع لا يطلع عليه الرجال، ولا تقبل شهادتهن منفردات على الرضاع؛ لأنه يجوز أن يطلع عليه محارم المرأة من الرجال، ولا تقبل شهادتهن عند أبي حنيفة على استهلال الصبي بالنسبة للإرث؛ لأن الاستهلال صوت الصبي عند الولادة، وهو مما يطلع عليه الرجال، فلا تكون شهادتهن فيه حجة، لكن تقبل شهادتهن في صلاة الجنازة على المولود؛ لأن الصلاة من أمور الدين، وشهادتهن فيها حجة كشهادتهن على هلال رمضان. ¬
2 - الاتفاق في الشهادتين عند التعدد
وقال الصاحبان: تقبل شهادتهن على الاستهلال بالنسبة للإرث أيضاً؛ لأن الاستهلال صوت عند الولادة، ولا يحضرها الرجال عادة، فصار كشهادتهن على نفس الولادة. وهو الرأي الأرجح عند الكمال بن الهمام صاحب فتح القدير. وقال المالكية والشافعية والحنابلة: تقبل شهادة النساء منفردات فيما لا يراه رجال غالباً كبكارة وثيوبة وولادة وحيض ورضاع واستهلال ولد، وعيوب نساء تحت الثياب، كجراحة ورتَق وقرَن وبرص وانقضاء عدة، ودليلهم خبر الزهري السابق ذكره، ويقاس ما لم يذكر في الخبر على ما ذكر فيه مما شاركه في الضابط المذكور من ولادة وعيوب النساء. واختلفوا في العدد المشترط في شهادة النساء منفردات: فقال الحنفية والحنبلية: تقبل شهادة امرأة واحدة عدل (¬1). وقال المالكية: يكفي امرأتان. وقال الشافعية: ليس يكفي أقل من أربع نسوة؛ لأن الله عز وجل قد جعل عديل الشاهد الواحد امرأتين، واشتراط الاثنينية (¬2). 2 - الاتفاق في الشهادتين عند التعدد: يشترط اتفاق الشهادتين (¬3) فيما ¬
الاختلاف في الجنس
يطلب فيه العدد، فإن اختلفت الشهادة لم تقبل؛ لأن اختلاف الشهادتين مثلاً يوجب اختلاف الدعوى. والاختلاف يكون في جنس المشهود به، وفي قدره، وفي الزمان والمكان ونحوها. أما الاختلاف في الجنس فقد يكون في العقد كأن يشهد أحدهما بالبيع والآخر بالميراث أو بالهبة، وقد يكون في المال كأن يشهد أحدهما بمكيل والآخر بموزون فلا تقبل الشهادة، لاختلاف العقدين، أولاختلاف الجنسين. وأما الاختلاف في القدر: فهوأن يدعي رجل على آخر ألفي درهم، ويثبت ادعاءه بالبينة، فيشهد له شاهد بألفين، والآخر بألف، فلا تقبل الشهادة عند أبي حنيفة؛ لأنه يشترط اتفاق الشاهدين باللفظ والمعنى، وهنا اختلف الشاهدان لفظاً؛ لأن أحدهما مفرد، والآخر مثنى، واختلاف الألفاظ إفراداً وتثنية يدل على اختلاف المعاني الدالة عليها، فكان كلام كل منهما مبايناً لكلام الآخر، فصار كما إذا اختلف جنس المال، وهذا هو الصحيح. وتقبل هذه الشهادة عند الصاحبين على ألف درهم؛ لأن الشاهدين اتفقا على الألف، وتفرد أحدهما بالزيادة، فيثبت الحق فيما اتفقا عليه دون ما تفرد به أحدهما. وهذا الاختلاف يجري فيما إذا شهد أحد الشاهدين على طلقة، والآخر على طلقتين أو ثلاث، لا تقبل الشهادة عند أبي حنيفة، وتقبل على الأقل عند الصاحبين. واتفق أبو حنيفة مع صاحبيه على أنه إذا كان المدعي يدعي ألفاً وخمس مئة، فشهد أحد الشاهدين على الألف، والآخر على ألف وخمس مئة، تقبل الشهادة على الألف، لاتفاق الشاهدين عليها لفظاً ومعنى؛ لأن الألف والخمس مئة
الاختلاف في الزمان والمكان
جملتان عطفت إحداهما على الأخرى، والعطف يقرر المعطوف عليه ويؤكده، بخلاف الألف والألفين، فليس بينهما حرف العطف. وأما الاختلاف في الزمان والمكان: فإن كان الاختلاف في الإقرار فتقبل الشهادة؛ لأن الإقرار يحتمل التكرار، فيمكن التوفيق بين الشهادتين بسماع الإقرار في زمانين أو مكانين. وإن كان الاختلاف في الفعل كالقتل والغصب وإنشاء البيع والطلاق والنكاح ونحوها، فإنه يمنع قبول الشهادة، لاختلافها؛ لأن الأفعال لا تحتمل التكرار، فاختلاف الزمان والمكان فيها يوجب اختلاف الشهادتين، فما لم يوجد على كل حالة شاهدان لا يقبل. فلو شهد شاهدان أن زيداً قتل يوم النحر بمكة، وشهد آخران أنه قتل يوم النحر بالكوفة، لم تقبل الشهادتان للتيقن بكذب إحداهما. ولو ادعى رجل على آخر قرض ألف درهم، فشهد شاهدان: أحدهما على القرض، والآخر على القرض والقضاء، أي أنه أدى الدين، يقضى بشهادتهما على القرض، ولا يقضى بالأداء في ظاهر الرواية؛ لأن الشهادتين اتفقتا على القرض، فيقضى به، واختلفا في الأداء، فلا يقضى به (¬1). شروط في الشهادة نفسها: يشترط في الشهادة شروط منها: 1 - لفظ الشهادة: ينبغي أن يذكر الشاهد لفظة الشهادة، فإن قال الشاهد: أعلم أو أتيقن، لم تقبل شهادته في تلك الحادثة. ¬
2 - أن تكون الشهادة موافقه للدعوى
2 - أن تكون الشهادة موافقه للدعوى: فإن خالفتها لا تقبل، إلا إذا وفق المدعي بين الدعوى وبين الشهادة عند إمكان التوفيق (¬1). وتجوز الشهادة على الشهادة في كل الحقوق التي لا تسقط بالشبهة، لشدة الحاجة إليها؛ إذ قد يعجز الأصل عن أداء الشهادة لعذر من الأعذار، فلو لم تجز الشهادة على شهادته، أدى إلى ضياع الحقوق. ولا تقبل الشهادة على الشهادة في الحدود والقصاص، وإنما تشترط فيها الأصالة؛ لأنها تسقط بالشبهة كما عرفنا. وتجوز في الشهادة على الشهادة شهادة شاهدين على شهادة شاهدين؛ لأن نقل الشهادة من جملة الحقوق، وقد شهدا بحق، ثم بحق آخر، فتقبل؛ لأن شهادة الشهادتين على حقين جائزة. ولا تقبل شهادة واحد على شهادة واحد؛ لأن شهادة الفرد لا تثبت الحق. وصفة الإشهاد في الشهادة على الشهادة: أن يقول شاهد الأصل لشاهد الفرع: اشهد على شهادتي أني أشهد أن فلان ابن فلان أقر عندي بكذا، وأشهدني على نفسه؛ لأنه لا بد أن يشهد شاهد الأصل عند الفرع كما يشهد القاضي لينقله إلى مجلس القضاء. وإن لم يقل العبارة الأخيرة السابقة وهي «أشهدني على نفسه» جاز ذلك؛ لأن من سمع إقرار غيره، حل له الشهادة، وإن لم يقل له: اشهد. ويقول شاهد الفرع عند الأداء لما تحمله: أشهد أن فلاناً أشهدني على شهادته أنه يشهد أن فلاناً أقر عنده بكذا، وقال لي: اشهد على شهادتي بذلك؛ لأنه لا بد من شهادة الفرع، وذكر شهادة الأصل، وذكر تحميله الشهادة. ¬
شرط مكان الشهادة
وقال في الدر المختار: الأقصر أن يقول الأصل: اشهد على شهادتي بكذا، ويقول الفرع: أشهد على شهادته بكذا. وهذا ما أفتى به السرخسي وغيره، وابن الكمال، وهو الأصح. ولا تقبل شهادة الفرع إلا أن يتعذر حضور شهود الأصل، كأن يموت شهود الأصل عند الأداء، أو يغيبوا مسيرة سفر ثلاثة أيام فصاعداً، أو يمرضوا مرضاً قوياً بحيث لا يستطيعون معه حضور مجلس الحاكم؛ لأن جواز هذه الشهادة للحاجة، وإما تمس الحاجة عند عجز الأصل، وبهذه الأشياء يتحقق العجز. وتقبل تزكية شهود الأصل بشهود الفرع؛ لأن الفروع من أهل التزكية، فصح تعديلهم، فإن لم يزكوهم نظر القاضي في رأي أبي يوسف في حال شهود الأصل، كما لو حضروا بأنفسهم وشهدوا. وهذا هو الرأي الأصح وظاهر الرواية. وقال محمد: لا تقبل تزكية الأصول بالفروع؛ لأنهم ينقلون الشهادة، ولا شهادة بدون العدالة. وإن أنكر شهود الأصل الشهادة بأن قالوا: ما لنا شهادة على هذه الحادثة، وماتوا أو غابوا، ثم جاء الفروع يشهدون على شهادتهم، أو أنكر شهود الأصل تحميل الشهادة لغيرهم بأن قالوا: لم نشهدهم على شهادتنا، وماتوا أوغابوا، لم تقبل شهادة شهود الفرع؛ لأن التحميل شرط، ولم يتوافر ذلك بسبب تعارض الخبرين (¬1). شرط مكان الشهادة: يشترط أن تكون الشهادة في مجلس القضاء (¬2). ¬
المطلب الرابع ـ حكم الرجوع عن الشهادة
المطلب الرابع ـ حكم الرجوع عن الشهادة: الرجوع عن الشهادة: أن يقول الشاهد: رجعت عما شهدت به، ونحوه، فلو أنكر شهادته بعد القضاء لا يكون رجوعاً، ولا يصح الرجوع إلا في مجلس القضاء؛ لأنه فسخ للشهادة، فيكون في المكان الذي تعتبر فيه الشهادة، وهو المحكمة، ولأن الرجوع توبة، والتوبة تكون بحسب الجناية: السر بالسر، والعلانية بالعلانية (¬1)، أي إذا كان الذنب سراً فالتوبة سرية، وإن كان علانية فالتوبة علانية. وإذا لم يصح الرجوع عن الشهادة في غير المحكمة: فلو ادعى المشهود عليه رجوع الشاهدين أو أراد يمينهما أنهما لم يرجعا، لا يحلفان، وكذا لو أقام المشهود عليه بينة على هذا الرجوع، لا تقبل؛ لأنه ادعى رجوعاً باطلاً؛ إذ أنه في غير المحكمة، وإقامة البينة وإلزام اليمين لا تقبل إلا على دعوى صحيحة، بدليل أنه لو أقام البينة أن الشاهد رجع عند قاضي بلدة كذا، وحكم عليه بضمان المال، تقبل بينته. وكذلك لا يصح الرجوع عن الشهادة بعد صدور الحكم من القاضي، وإذا رجع الشهود حينئذ، لم ينتقص الحكم الذي حكم بشهادتهما فيه، ولا يفسخه القاضي باتفاق العلماء، وإذا رجع الشهود قبل صدور الحكم، لم يحكم القاضي بشهادتهما، ويصح رجوعهما حينئذ؛ لأن الشهادة إخبار يحتمل الغلط. ويترتب على الرجوع عن الشهادة بعد الحكم: أن الشهود يلتزمون بضمان الغرم أو التلف الذي تسببوا في إلحاقه بالمشهود عليه من مال أو دية باتفاق المذاهب ¬
الأربعة على الراجح عند بعضهم، لإقرارهم على أنفسهم بسبب الضمان، فهم قد أخرجوا المال من يد المشهود عليه بغير حق، ويوزع الضمان بينهم، ولا ضمان عليهم إذا كان المشهود عليه قد استوفى عوضاً عما أتلف عليه. وإذا كانت الشهادة على حد زنا مثلاً، ثم رجع الشهود كلهم أو بعضهم، فيقام عليهم حد القذف (¬1). وتطبيقات هذه القاعدة تعرف عند الحنفية في المسائل الآتية (¬2): ـ إذا شهد شاهدان على رجل بمال، وقضى القاضي به، وسلم المدعى عليه المال إلى المدعي، ثم رجع الشاهدان: ضمنا المال بينهما نصفين. ولو رجع أحدهما، غرم نصف المال، وبقي النصف الآخر ببقاء شاهد. ودليل الضمان أن الشاهدين تسببا بإتلاف مال المشهود عليه تعدياً، والتسبب سبب الضمان. ـ لو كان الشهود أربعة، فرجع اثنان أو واحد منهم: فلا ضمان عليه، لبقاء المال للمشهود له ببقاء الشاهدين. ولو رجع منهم ثلاثة يلزمهم نصف المال المشهود عليه، لبقاء النصف، أي أنه ببقاء أحدهما يبقى نصف الحق عند الحنفية والشافعية. وأما عند الحنابلة: فيغرم الشاهد الذي رجع بقدر نسبته إلى عدد الشهود، فإن كانوا ثلاثة فرجع واحد، فعليه الثلث، وإن كانوا عشرة فعليه العشر. ـ وإن شهد رجل وامرأتان على مال، فرجعت امرأة: غرمت ربع المال، ولو رجعتا غرمتا نصف المال، لبقاء نصف الحق ببقاء رجل، ومن المعلوم أن المرأتين بمنزلة رجل واحد في الشهادات. وكذا يغرم الرجل نصف المال، إن رجع وبقيت المرأتان. ¬
ـ ولو شهد رجل واحد، وعشر نسوة، على مال، ثم رجعوا جميعاً بعد صدور الحكم، فالضمان بينهم عند أبي حنيفة أسداساً، على الرجل سدس المال بحسب نسبته إلى عدد النسوة، وعلى النساء خمسة أسداس؛ لأن كل امرأتين بمنزلة رجل واحد في الشهادة. وقال الصاحبان: الضمان بينهما مناصفة، على الرجل النصف، وعلى النساء النصف؛ لأن النساء، وإن كثرن، لهن شطر الشهادة فقط. ـ لو شهد اثنان على بائع ببيع شيء بمثل القيمة أو أكثر، وقضى القاضي به، ثم رجعا، لم يضمنا للمشهود عليه شيئاً، لأن شهادتهما أدت إلى إتلاف بعوض قبضه بديلاً عن المبيع، والإتلاف بعوض لا يعد إتلافاً، وإن شهد الاثنان بأقل من قيمة المثل، ضمنا الجزء الناقص، لإتلافهما هذا الجزء بلا عوض. ـ وكذا لو شهد اثنان على رجل أنه تزوج امرأة بمقدار مهر مثلهما، ثم رجعا: فلا ضمان عليهما، ولا يفسخ النكاح برجوعهما؛ لأن منافع البضع (أي محل الاستمتاع بالمرأة) غير متقومة عند الإتلاف، بعكس الأعيان المالية، وبما أن المنافع لاتتقوم فلا تضمن؛ لأن التضمين يتطلب المماثلة بين العوض والمعوض عنه، ولا مماثلة بين الأعيان التي تحرز وتتمول، وبين الأعراض التي تزول ولا تبقى، وإنما تتقوم منافع البضع على الزوج عند الدخول بالمرأة إظهاراً لخطورة محل الاستمتاع فقط، وحينئذ تعتبر شهادة الشاهدين مؤدية إلى إتلاف بعوض، وهو أن الشاهدين أثبتا للزوج البضع بمقابلة المال، والإتلاف بعوض لا يعد إتلافاً، كما ذكر، وإن شهدا بأكثر من مهر المثل ثم رجعا، ضمنا الزيادة؛ لأنهما أتلفا الزيادة من غير عوض. ـ وكذلك لو شهد اثنان على رجل: أنه طلق امرأته ثلاثاً، وقد دخل بها وأقر
الزوج بالدخول، وقضى القاضي بالفرقة، ثم رجع الشاهدان: لم يضمنا، إلا ما زاد على مهر المثل؛ لأنه بقدر مهر المثل إتلاف بعوض، وهو استيفاء منافع البضع، وإذا لم ننظر إلى معنى المعاوضة في الزواج، فلا ضمان أيضاً؛ لأن المهر يجب بنفس العقد عند الحنفية، ويتأكد بالدخول، لا بشهادة الشهود، فلم يترتب على الشهادة إتلاف، فلم يجب الضمان. وإن كان الطلاق قبل الدخول، فقضى القاضي بنصف المهر إذا كان المهر مسمى في العقد، أو بالمتعة إذا لم يكن المهر مسمى، ثم رجع الشاهدان، فإنهما يضمنان للزوج نصف المهر في الحالة الأولى، والمتعة في الحالة الثانية؛ لأن شهادتهما أدت إلى إتلاف شيء على الزوج دون أن يحصل في مقابله على عوض. ولا يقال: إن الحكم الصادر من القاضي أمر لا بد منه؛ لأن هذا هو حكم المهر أو المتعة قبل الدخول. لا يقال ذلك؛ لأنه بشهادة الشاهدين على الطلاق، تأكد الواجب في ذمة الزوج، فلم يعد محتملاً للسقوط بأن تحدث الفرقة من قبل المرأة. ـ وكذلك لو شهد اثنان على رجل بإجارة داره سنة، والمستأجر ينكر، وقضى القاضي بالإيجار، ثم رجعا بعد استيفاء منفعة السكنى، فإنهما يغرمان للمستأجر ما زاد على أجر المثل؛ لأنه بقدر أجر المثل حصل العوض، والباقي بغير عوض، فتكون شهادتهما مؤدية إلى إتلاف على المستأجر بقدر الباقي وهو الزيادة. ـ ولو شهد اثنان على رجل أنه قال لامرأته: «إن دخلت الدار فأنت طالق» وشهد اثنان آخران بالدخول، ثم رجعوا بعد أن قضى القاضي بالفرقة، ضمن الشاهدان الأولان؛ لأن هذه شهادة على الطلاق، وهو إتلاف بغير عوض، فيضمنان؛ لأن الطلاق علة الحكم، ولا يجب على شهود الدخول شيء؛ لأن الدخول شرط.
ـ ولو شهد اثنان على رجل بسرقة نصاب (وهو عشرة دراهم عند الحنفية) فقضى القاضي بعد ادعاء المالك المسروق منه بقطع اليد، وقطعت يده، ثم رجع الشاهدان، يغرمان دية اليد. ـ وكذلك لو شهد اثنان على رجل أنه قتل فلاناً خطأ، أو جرحه خطأ، وقضى القاضي بالعقوبة، ثم رجعا، ضمنا الدية؛ لأنهما أتلفاها عليه، وتكون في مالهما؛ لأن الشهادة منهما بمنزلة الإقرار منهما بالإتلاف، والعاقلة (أي عصبة القاتل) لاتعقل بالإقرار بالقتل. ـ ولوشهد رجلان على آخر أنه قتل فلاناً عمداً، فقضى القاضي بالقصاص، واقتص منه أي قتل، ثم رجعا، لا يقتص منهما عند الحنفية، وهو ظاهر المدونة لمالك وقول ابن القاسم، وإنما يضمنان الدية في مالهما في ثلاث سنين؛ لأنهما معترفان، والعاقلة لا تعقل الاعتراف. والدليل على أنه لا يقتص منهما هو أنهما لم يباشرا القتل، بل ولم يوجد منهما ـ في تقدير الحنفية ـ تسبب بالقتل؛ لأن التسبب: ما يفضي إلى ما تسبب فيه غالباً، والشهادة لا تفضي إلى القتل غالباً، وإن أفضت إلى القضاء به، وإنما كثيراً ما يقضى بالقتل، ثم يتوسط الناس في الصلح على الدية (¬1). وقال الشافعية والحنابلة وأكثر أصحاب مالك (¬2): إذا رجع الشهود، وقد نفذ القصاص أو قتل الردة، أو رجم الزنا، أو الجلد أو القطع ومات المجلود أو المقطوع، وقال الشهود: تعمدنا الشهادة، فيقتص منهم، أو يلزمون بدية مغلظة في مالهم موزعة على عدد رؤوسهم، لتسببهم في إهلاك المشهود عليه، وقتلهم نفساً ب ¬
غير شبهة، ولما روى الشعبي: أن رجلين شهدا عند علي رضي الله عنه على رجل أنه سرق، فقطعه، ثم أتياه برجل آخر، فقالا: إنا أخطأنا بالأول، وهذا السارق، فأبطل شهادتهما على الآخر، وضمنها دية الأول، وقال: «لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعتكما». وإن قال الشاهدان اللذان رجعا: أخطأنا، فعليهما الدية مخففة في أموالهما عند الحنابلة، لأن العاقلة لا تحمل الاعتراف، وعند الشافعية: عليهما نصف الدية، وعلى القاضي النصف الآخر، توزيعاً للدية على من باشر القتل ومن تسبب فيه. ـ ولو شهد أربعة على رجل بالزنا، وشهد آخران عليه بأنه محصن، ثم رجعوا بعد إقامة الرجم: فضمان الدية على شهود الزنا، ولا يجب شيء على شهود الإحصان؛ لأن الزنا علة الحكم، والإحصان شرط، والحكم يضاف إلى العلة أو السبب لا إلى الشرط. وأما بالنسبة لحد القذف: فإن رجع جميع الشهود يحدون حد القذف، سواء رجعوا بعد القضاء بالرجم أو قبل القضاء. وإن رجع أحد الشهود بالزنا بعد الرجم: فإنه يحد حد القذف،؛ لأن شهادته صارت قذفاً بإقراره، ويغرم ربع الدية، ويتحمل ثلاثة أرباع الدية الباقية الشهود الثلاثة الآخرون. وإن رجع واحد من الشهود بعد قضاء الحاكم بالرجم وقبل إقامة الحد، فإنهم يحدون جميعاً عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن رجوعه قبل إقامة الحد بمنزلة رجوعه قبل القضاء بالحد. وعند محمد: يحد الراجع وحده استحساناً؛ لأن كلام الشهود اعتبر شهادة بدليل القضاء بموجبه، فلا ينقلب قذفاً إلا بالرجوع، ولم
المطلب الخامس ـ عقوبة شاهد الزور
يرجع واحد منهم، فينقلب كلامه خاصة قذفاً، فلم يؤثر بالنسبة للباقين، فيظل كلامهم شهادة. واتفق أئمة الحنفية ما عدا زفر على أنه إذا رجع أحد الشهود قبل القضاء بالرجم، فإن الشهود جميعاً يحدون حد القذف؛ لأن كلامهم لا يعتبر شهادة بالزنا إلا بقرينة القضاء به (¬1). أما أثر الرجوع عن الشهادة في حكم القاضي: فإن رجع الشهود قبل الحكم، امتنع على القاضي الحكم بشهادتهم، وإن رجعوا عن شهادة في زنى، حدّوا حد القذف. وإن رجعوا بعد إصدار الحكم، فإن كان قبل استيفاء الحق المالي لم يستوف من المقضي عليه، وإن كان عقوبة لم تستوف من المتهم. وإن رجعوا بعد استيفاء الحق لم ينقض الحكم، لتأكد الأمر وتوفير الثقة بأحكام القضاة، واتصاف الشهود بالفسق، والفاسق لا ينقض الحكم بقوله، فإن كان المقضي به مالاً، غَرِم الشهود المال المستوفى من المحكوم عليه؛ لتسببهم في تغريمه، وإن كان المقضي به قصاصاً، اقتص منهم عند جماعة، ووجب عليهم الدية المغلظة عند جماعة أخرى كما تقدم. وإن كان المقضي به حداً عزِّروا، وإن شهدوا بطلاق وفرّق القاضي بين الزوجين، وجب عليهم عند الشافعي مهر المثل للزوج، لأنه بدل ما فوتوه عليه، وعليهم عند الحنفية الزائد عن مهر المثل كما تقدم، ولا ضمان عليه عند الحنابلة (¬2). المطلب الخامس ـ عقوبة شاهد الزور: إذا أقر الشاهد أنه شهد زوراً، فقال أبو حنيفة: يشهَّر به في الأسواق إن كان سوقياً، أو بين قومه إن كان غير سوقي، وذلك بعد صلاة العصر في مكان تجمع الناس. ولا يعزر بالضرب، أو بالحبس؛ لأن المقصود هو التوصل إلى الانزجار، ¬
المطلب السادس ـ القضاء بشهادة غير المسلمين
وهو يحصل بالتشهير، بل ربما يكون أعظم عند الناس من الضرب، فيكتفى به. وقال الصاحبان: نوجعه ضرباً، ونحبسه، حتى يتوب (¬1). ويوافق الشافعية رأي الصاحبين (¬2)، قالوا: ومن شهد بالزور فسق وردت شهادته؛ لأنها من الكبائر، بدليل ما روى خُرَيم بن فاتك قال: صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم صلا ة الصبح، فلما انصرف، قام قائماً، ثم قال: عُدِّلت شهادة الزور بالإشراك بالله، ثلاث مرات (¬3)، ثم تلا قوله عز وجل: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور} [الحج:30/ 22]. وإذا ثبت أنه شاهد زور، ورأى الإمام تعزيره بالضرب أو بالحبس أو الزجر، فعل، وإن رأى أن يشهر أمره في سوق ومصلاه وقبيلته، وينادى عليه أنه شاهد زور فاعرفوه، فعل، لقوله عليه الصلاة والسلام: «اذكروا الفاسق بما فيه ليحذره الناس» (¬4) وشدد المالكية والحنابلة على شاهد الزور فقالوا: يعزر بالسجن والضرب ويطاف به في المجالس (¬5). المطلب السادس ـ القضاء بشهادة غير المسلمين: شهادة غير المسلمين إما على بعضهم بعضاً، وإما على المسلمين (¬6). ¬
أولا ـ شهادة غير المسلمين على بعضهم
أولاً ـ شهادة غير المسلمين على بعضهم: للفقهاء رأيان في قبول شهادة الكفار على بعضهم: 1ً - قال الحنفية: تقبل شهادة الكفار بعضهم على بعض، بدليل الكتاب والسنة والمعقول. أما الكتاب فقوله تعالى: {ومن أهل الكتاب مَنْ إن تأمنه بقنطار يؤده إليك} [آل عمران:75/ 3] فأخبر أن منهم الأمين على مثل هذا القدر من المال، ولا ريب أن الشهادة تعتمد على صفة الأمانة. وقوله تعالى: {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض} [الأنفال:73/ 8] فأثبت لهم الولاية على بعضهم بعضاً، والولاية أعلى رتبة من الشهادة، وغاية الشهادة أن تشبه بها. وأما السنة: فما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنه: «أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم برجل منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ائتوني بأربعة منكم يشهدون، قالوا: وكيف؟ الحديث» والذي في الصحيح: «مُرَّ على رسول الله صلّى الله عليه وسلم بيهودي قد حُمِّم (¬1)، فقال: ما شأن هذا؟ فقالوا: زنى، فقال: ما تجدون في كتابكم؟ .. الحديث» فأقام الحد بقولهم، ولم يسأل اليهودي واليهودية، ولا طلب اعترافهما وإقرارهما. وقد جاء في القصة أنه صلّى الله عليه وسلم قال لليهود: «ائتوني بأربعة منكم يشهدون عليه» فقد قبل النبي شهادتهم على الفعل وحكم بناء عليها. وأما المعقول: فهو أن الكفار يتعاملون فيما بينهم بأنواع المعاملات من المداينات وعقود المعاوضات وغيرها، وتقع بينهم الجنايات، ولا يحضرهم غالباً ¬
- وقال الجمهور غير الحنفية
مسلم، فلو لم تقبل شهادتهم عند ترافعهم وتحاكمهم إلينا، لأدى ذلك إلى تظالمهم وضياع حقوقهم. وللواحد منهم أن يزوج ابنته وأخته، ويلي مال ولده، وقد أجاز الله شهادة الكفار على المسلمين في السفر في الوصية للحاجة، وحاجتهم إلى قبول شهادة بعضهم على بعض أعظم بكثير من حاجة المسلمين إلى قبول شهادتهم عليهم. والكافر قد يكون عدلاً في دينه بين قومه، صادق اللهجة عندهم، فلا يمنعه كفره من قبول شهادته عليهم إذا ارتضوه. وقد أباح الله معاملتهم، وأكل طعامهم، وحِلَّ نسائهم، وذلك يستلزم الرجوع إلى أخبارهم قطعاً، فإذا جاز لنا الاعتماد على خبرهم في أمر الحلال والحرام، فلأن نرجع إلى أخبارهم في معاملاتهم أولى وأحرى. وأما رفض قبول شهادة الحربي على الذمي أو على الحربي من دار أخرى، فلانقطاع الولاية بينهما. 2ً - وقال الجمهور غير الحنفية: لا تقبل شهادة غير المسلمين مطلقاً، سواء اختلفت مللهم أم اتفقت. ونقل ابن القيم عن مالك: أنه تجوز شهادة الطبيب الكافر حتى على المسلم للحاجة. واستدلوا بأوجه هي: الأول ـ اشترط الله تعالى العدالة لقبول الشهادة في قوله: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق:2/ 65] وغير المسلم ليس بعدل، واشترط أن يكون الشهود من المسلمين، في قوله: {منكم} [الطلاق:2/ 65] وفي قوله: {ممن ترضون من الشهداء} [البقرة:282/ 2] وقوله: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} [البقرة:282/ 2] وآيات كثيرة أخرى. وغير المسلم ليس منا ولا من رجالنا ولا من المرضيين عندنا.
ثانيا ـ شهادة غير المسلمين على المسلمين
الثاني ـ إن الله تعالى وصف الكفار بالكذب على الله وبالفسق، ولا شهادة لكاذب ولا فاسق، ومن كذب على الله، فهوأولى أن يكذب على مثله من إخوانه وأقرب، كما قال الشافعي. الثالث ـ إن قبول شهادتهم يؤدي إلى إلزام القاضي بشهادتهم، ولا يجوز أن يلزم المسلم بشهادة الكافر. الرابع ـ إن في قبول شهادتهم إكراماً لهم، ورفعاً لمنزلتهم وقدرهم، ورذيلة الكفر تحول دون إكرامهم. والراجح لدي رأي الحنفية لقوة أدلتهم، ولأن الله لم يمنع قبول قول الكفار على المسلمين للحاجة، بنص القرآن، ولم يمنع ولاية بعضهم على بعض، والقاضي ملزم بالقضاء الحق عند ظهور الحجة الصادقة، وأما وصفهم بالكذب والفسق فهو بسبب ذات العقيدة لا لمجرد المعاملة، ولا يعد قبول شهادتهم إكراماً لكفرهم، فهذا من جملة المصالح التي لا غنى عنها. ثانياً ـ شهادة غير المسلمين على المسلمين: للفقهاء أيضاً رأيان في قبول شهادة غير المسلمين على المسلمين. 1 ً - فقال الجمهور غير الحنابلة: لا تقبل شهادتهم على المسلمين؛ لأن الشهادة ولاية، ولا ولاية للكافر على المسلم، لقوله تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} [النساء:141/ 4]. 2 ً - وأجازها الحنابلة في الوصية في السفر للضرورة إذا لم يوجد غيرهم، وكذا في كل ضرورة حضراً وسفراً، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا شهادة
بينكم إذا حضر أحدَكم الموتُ حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم، أو آخران من غيركم، إن أنتم ضربتم في الأرض، فأصابتكم مصيبة الموت} [المائدة:106/ 5]. وصح عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية: «هذا لمن مات، وعنده المسلمون فأمر الله أن يشهد في وصيته عدلين من المسلمين» ثم قال تعالى: {أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض} [المائدة:106/ 5] فهذا لمن مات، وليس عنده أحد من المسلمين، فأمر الله عز وجل أن يشهد رجلين من غير المسلمين. فإن ارتيب بشهادتهما، استحلفا بعد الصلاة بالله: لا نشتري بشهادتنا ثمناً، وقضى به ابن مسعود في زمن عثمان، وكذلك علي، وقضى به أبو موسى الأشعري في الكوفة وكثير من التابعين. وعن سعيد بن المسيب: {أو آخران من غيركم} [المائدة:106/ 5] قال: «من أهل الكتاب» وفي رواية صحيحة عنه: «من غير أهل ملتكم». وصح عن شريح قال: «لا تجوز شهادة المشركين على المسلمين إلا في الوصية. ولا تجوز في الوصية إلا أن يكون مسافراً». وصح عن الشعبي: {أو آخران من غيركم} [المائدة:106/ 5] قال: «من اليهود والنصارى». وأما ادعاء نسخ هذه الآية ـ فيما روي عن زيد بن أسلم وغيره ـ فيرده ما صح عن عائشة ـ فيما يرويه جبير بن نفير ـ أنها قالت: هل تقرأ سورة المائدة؟ قلت: نعم، قالت: فإنها آخر سورة أنزلت، فما وجدتم فيها من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيهامن حرام فحرموه. فالحق أن الآية محكمة، وأن حكمها شرع دائم، وأن شهادة غير المسلمين جائزة مقبولة في الوصية إذا كان المسلم على سفر، ولم يجد أحداً من المسلمين.
المبحث الثاني ـ اليمين
وقال ابن القيم: قال شيخنا ابن تيمية رحمه الله: وقول الإمام أحمد في قبول شهادتهم في هذا الموضع: (هو ضرورة): يقتضي هذا التعليل ُقبولها في كل ضرورة حضراً وسفراً. المبحث الثاني ـ اليمين: يتضمن مطالب سبعة هي: الأول ـ تعريف اليمين ومشروعيتها والمحلوف به. الثاني ـ صيغة اليمين القضائية وصفتها والنية فيها واليمين بالطلاق. الثالث ـ تغليظ اليمين باللفظ وبالزمان والمكان. الرابع ـ شروط اليمين. الخامس ـ أنواع اليمين. السادس ـ حكم اليمين. السابع ـ أنواع الحقوق التي تجوز فيها اليمين. المطلب الأول ـ تعريف اليمين ومشروعيتها والمحلوف به: اليمين مؤنث، وهي لغة: الحَلف والقسم. واصطلاحاً بمعناها العام هي توكيد الشيء أو الحق أو الكلام إثباتاً أو نفياً بذكر اسم الله أو صفة من صفاته (¬1). ¬
أما تعريف اليمين القضائية لإثبات الدعوى: فهي تأكيد ثبوت الحق أو نفيه أمام القاضي بذكر اسم الله أو بصفة من صفاته. واليمين مشروعة بآيات كثيرة في القرآن، منها قوله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما عقَّدتم الأيمان} [المائدة:89/ 5] وقد أمر الله تعالى نبيه أن يقسم على الحق في ثلاثة مواضع من القرآن، والله تعالى لا يشرع محرماً. ومشروعة بأحاديث كثيرة أيضاً، منها قوله صلّى الله عليه وسلم: «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه» وفي رواية البيهقي: «ولكن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر» (¬1). ومنها حديث يحذر من الحلف الكاذب ليقتطع به مال أخيه، ويدل على ما فيه من إثم كبير، وهو من الكبائر، أخرج أصحاب الكتب الستة عن الأشعث بن قيس، قال: كان بيني وبين رجل ابن عم لي خصومة في بئر، فاختصمنا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: «بيِّنتك أو يمينه» قلت: إذن يحلف ولا يبالي، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين هو فيها فاجر، ليقتطع بها مال امرئ مسلم، لقي الله، وهو عليه غضبان» فأنزل الله تصديق ذلك: {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً، أولئك لا خلاق لهم في الآخرة، ولا يكلمهم الله، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم} [آل عمران:77/ 3]. وحلف عمر لأبي بن كعب على نخيل، ثم وهبه له، وقال: خفت إن لم أحلف أن يمتنع الناس من الحلف على حقوقهم، فتصير سنَّة. ¬
المحلوف به
وأما المحلوف به: فقد اتفق الفقهاء على أن اليمين المنعقدة هي القسم بالله تعالى، أو بصفة من صفاته مثل: والله، ورب العالمين، والحي الذي لا يموت، ومَن نفسي بيده، أو وعزة الله وعظمته، ولا يجوز الحلف بغير الله تعالى، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً، فليحلف بالله أو ليصمُت» قال عمر: «فوالله ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عنها ذاكراً ولا آثراً» (¬1) أي حاكياً. ولقوله عليه السلام أيضاً: «من حلف بغير الله فقد أشرك» وفي لفظ: «فقد كفر» (¬2) وقوله فيما رواه النسائي: «لا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون». واكتفى الجمهور غير المالكية بلفظ الجلالة فقط، لقوله تعالى: {يحلفون بالله لكم ِليُرضوكم} [التوبة:62/ 9] {يحلفون بالله: ما قالوا} [التوبة:74/ 9] ولا قتصاره صلّى الله عليه وسلم على ذلك في يمينه بغزو قريش قائلاً: «والله لأغزون قريشاً» (¬3). وقال المالكية (¬4): يضم إليه عبارة «لا إله إلا هو» لقوله صلّى الله عليه وسلم لرجل حلَّفه: «احلف بالله الذي لا إله إلا هو» (¬5). واليمين تنعقد بمجرد النطق بها ولو هزلاً؛ لأنها من الأحوال التي يستوي فيها الجد والهزل، لا يقبل قول الحالف في القسم: لم أرد اليمين، لا في الظاهر، ولا فيما بينه وبين الله تعالى (¬6). ¬
المطلب الثاني ـ صيغة اليمين
ولا تنعقد اليمين اتفاقاً إذا قال: إن شاء الله تعالى، بشرط كونه متصلاً باليمين من غير سكوت عادي؛ لأن الاستثناء يزيل حكم اليمين (¬1)، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من حلف، فقال: إن شاء الله، لم يحنث» (¬2). ولا تدخل النيابة في اليمين، ولا يحلف أحد عن غيره، فلو كان المدعى عليه صغيراً أو مجنوناً، لم يحلف عنه، ووقف الأمر حتى يبلغ الصبي، ويعقل المجنون، ولم يحلف عنه وليه (¬3). المطلب الثاني ـ صيغة اليمين القضائية وصفتها والنية فيها واليمين بالطلاق: صيغة اليمين: هي عند الجمهور أن يقول الحالف: والله، أو بالله، أو ورب العالمين، أو والحي الذي لا يموت، أو ومَن نفسي بيده، ونحو ذلك من كل اسم لله مختص به سبحانه وتعالى كالإله، والرحمن، وخالق الخلق، أو يحلف بصفة من صفات الله الذاتية مثل: وعظمة الله أو عزته أو كبريائه أو كلامه أو مشيئته أو علمه أو قدرته أو حقه، إلا أن يريد بالحق العبادات، وبالعلم والقدرة المقدور والمعلوم، وبالبقية ظهور آثارها، فلا تكون يميناً لاحتمال اللفظ. والحلف بكتاب الله أو بالقرآن أو بالمصحف يمين باتفاق المذاهب الأربعة (¬4)، والحلف بالتوراة أو الإنجيل ونحوهما من كتب الله المنزلة كالزبور يمين في رأي الحنابلة؛ لأن إطلاق اليمين ينصرف إلى المنزَل من عند الله، دون المبدَّل. ¬
صفة اليمين أو الحلف على البت ونفي العلم
وقال المالكية: صيغة اليمين لكل حالف في جميع الحقوق على المشهور: هي «بالله الذي لا إله إلا هو». وأما يمين الكافر: فاتفق أكثر الفقهاء (¬1) على أن الكافر يحلف بالله كالمسلم؛ لأن اليمين لا تنعقد بغير اسم الله، للحديث المتقدم: «من حلف بغير الله فقد أشرك» ولما رواه البخاري: «من حلف بغير ملة الإسلام فهو كما قال». وسيأتي الكلام في تغليظ اليمين عليه، فتغلظ عليه في رأي الحنابلة والشافعية. وأما صفة اليمين أو الحلف على البت ونفي العلم (¬2): فقد اتفق الفقهاء (¬3) على أن الحالف يحلف على البت والقطع على فعل نفسه، سواء في حال الإثبات أم النفي، فيقول مثلاً: والله ما بعت أو ما اشتريت، أو لقد بعت أو اشتريت؛ لأن الإنسان أعلم بأحواله وأفعاله، فتكون يمينه حجة قاطعة. فالأيمان كلها على البت والقطع، إلا على نفي فعل الغير، فإنها على نفي العلم؛ لحديث ابن عباس المتقدم: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم استحلف رجلاً، فقال له: قل: والله الذي لا إله إلا هو، ماله عليك حق» وروى الأشعث بن قيس: «أن رجلاً من كِنْدة ورجلاً من حضرموت اختصما إلى النبي صلّى الله عليه وسلم في أرض من اليمن، فقال الحضرمي: يا رسول الله، إن أرضي اغتصبنيها أبو هذا، وهي في يده، قال: هل لك بيِّنة؟ قال: لا، ولكن أحلفه، والله العظيم ما يعلم أنها أرضي اغتصبنيها أبوه، فتهيأ الكندي لليمين» (¬4). ¬
النية في اليمين
ففي حال الإثبات: يحلف على فعل نفسه أنه فعل كذا، وفي حال النفي: يحلف أنه ما فعل كذا. وأما ما يتعلق بفعل غيره، فإن كان إثباتاً، مثل أن يدعي أنه أقرض أو باع، ويقيم شاهداً بذلك، فإنه عند الجمهور غير الحنفية يحلف مع شاهده على البت والقطع، فيقول والله إنه باع؛ لأن حال الإثبات يستطيع الإنسان الاطلاع عليها. وإن كان على نفي العلم مثل أن يدعى عليه دين أو غصب أو جناية، فإنه يحلف على نفي العلم لا غير، فيقول: والله لا أعلم أنه مدين، أو لا أعلم أن له وارثاً غير فلان، بدليل قصة الحضرمي السابقة. وقال الحنفية والإمامية (¬1): يحلف الشخص في فعل غيره على نفي علمه مطلقاً، سواء أكان إثباتاً أم نفياً، لما ثبت في الصحيح أن النبي صلّى الله عليه وسلم حلف اليهود في القسامة: «بالله ما قتلتم ولا علمتم له قاتلاً» ولأن الإنسان لا علم له بفعل غيره ولا يدرك حقيقةتصرفاته، فيحلف على نفي العلم. النية في اليمين: اليمين غير القضائية التي يحلفها الحالف باختياره، أو يطلبها شخص منه دون أن يكون له عليه حق اليمين، تكون على نية الحالف في كل الأحوال، ويجوز للحالف التورية في يمينه، بأن يقصد فيها غير المعنى المتبادر من اللفظ أو ينوي فيها خلاف الظاهر، للحديث المشهور الذي رواه الجماعة إلا ابن ماجه عن عمر: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» وقد حكى القاضي عياض الإجماع على أن الحالف من غير استحلاف ومن غير تعلق حق بيمينه، له نيته ويقبل قوله. أما اليمين القضائية الموجهة من القاضي أو نائبه لفصل الخصومة والنزاع، ¬
اليمين بالطلاق أمام القاضي
فتكون باتفاق الفقهاء (¬1) على نية المستحلف وهو القاضي، فلا يصح فيها التورية، ولا ينفع الاستثناء، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «يمينك على ما يصدّقك به صاحبك» وفي لفظ: «اليمين على نية المستحلف» (¬2). قال ابن تيمية في منتقى الأخبار: وهو محمول على المستحلف المظلوم. وقال النووي: أما إذا حلف بغير استحلاف، وورّى، فتنفعه التورية، ولا يحنث، سواء حلف ابتداء من غير تحليف، أو حلفه غير القاضي أو غير نائبه في ذلك، ولا اعتبار بنية المستحلف غير القاضي. واشترط الشافعية والحنابلة (¬3) شرطين في كون اليمين على نية المستحلف: 1ً - ألا يحلفه القاضي بالطلاق أو العتاق. 2ً - ألا يكون القاضي ظالماً أو جائراً في طلب اليمين. فإن حلفه بالطلاق أو علم منه نفسه أنه على الحق، جازت التورية؛ لأن اليمين تكون غير فاجرة. اليمين بالطلاق أمام القاضي: قال جمهور الفقهاء على المفتى به عند الحنفية: إن اليمين بالطلاق لإثبات الحقوق وإنهاء الخصومات أمام القاضي حرام؛ لأن اليمين لا تكون إلا بالله، ولأن القسم لتعظيم المقسم به، ولا يجوز تعظيم غير الله. فإن طلبه الخصم، لم يجبه القاضي؛ لأنه حرام. وأجاز متأخرو الحنفية الحلف بالطلاق إذا طلبها الخصم وألح فيها، أو كان الحالف لا ينزجر إلا بها، لفساد الزمان، وقلة المبالاة بالحلف بالله تعالى. ¬
المطلب الثالث ـ تغليظ اليمين باللفظ وبالزمان والمكان
وأجاز بعض المالكية الحلف بالطلاق للتغليظ، عملاً بقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله: «تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور» ولأن الحاجة ماسة إليه. وأفتى الإمام مالك بعدم وقوع طلاق المكره حينما أراد أوائل الخلفاء العباسيين بأن يوثقوا بيعة الناس لهم بالأيمان والطلاق والعتاق، ويكرهون الناس على ذلك، وكان مالك يحدث بحديث: «ليس على مستكره طلاق» مما أغضب المنصور. المطلب الثالث ـ تغليظ اليمين باللفظ وبالزمان والمكان: أجاز الفقهاء من السنة والشيعة ما عدا الحنابلة والظاهرية (¬1) تغليظ اليمين باللفظ، والتغليظ عند المالكية يكون بقول الحالف: «بالله الذي لا إله إلا هو» وعند الجمهور: «بالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم، الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية» ونحوه، لحديث ابن عباس المتقدم وقول النبي صلّى الله عليه وسلم لرجل: «احلف بالله الذي لا إله إلا هو، ماله عندك شيء» وهذا هو الراجح لدي؛ لأن القصد باليمين الزجر عن الكذب، وهذه الألفاظ أبلغ في الزجر، وأمنع من الإقدام على الكذب. أما الظاهرية والحنابلة فلم يجيزوا تغليظ اليمين، ويكتفى بلفظ الجلالة فقط؛ لأنه يتضمن كل معاني الترغيب والترهيب، واقتصاراً على ما ورد في القرآن، مثل: {فيقسمان بالله} [المائدة:106/ 5] وما ورد في السنة: «من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت» (¬2). ¬
واستحب الشافعية تغليظ اليمين إذا كانت يمين المدعي وهي اليمين المردودة أو مع الشاهد واليمين، أو يمين المدعى عليه وإن لم يطلب الخصم تغليظها، وذلك فيما ليس بمال، ولا يقصد به المال، كنكاح وطلاق ولعان وقصاص، ووصاية ووكالة، وفي المال البالغ نصاب الزكاة، لا فيما دونه، لخطورته بدليل وجوب المواساة فيه، وعدم الاهتمام بما دونه. أما التغليظ بالزمان والمكان: فقد اختلف فيه الفقهاء على رأيين (¬1): 1 - فقال الحنابلة: إذا كان الحالف مسلماً، فيحلفه القاضي بالله تعالى من غير تغليظ، اكتفاء بما ورد في القرآن الكريم: {فآخران يقومان مقامهما، من الذين استحق عليهم الأوليان، فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما} [المائدة:107/ 5] ولم يذكر مكاناً ولا زمناً، ولا زيادة في اللفظ. وقال الحنفية: إن شاء القاضي حلف الشخص من غير تغليظ، لما روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم حلف ركانة بن عبد يزيد بالله عز وجل: ما أردت البتة، ثلاثاً؟ وإن شاء غلظ؛ لأن الشرع ورد بتغليظ اليمين في الجملة؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم حلف ابن صوريا الأعور، وغلظ. أما الكافر غير المسلم فتغلظ يمينه عند الحنابلة، وإن شاء القاضي عند الحنفية والشافعية وفي قول مرجوح عند المالكية، فإن كان الحالف يهودياً، أحلفه «بالله الذي أنزل التوراة على موسى» زاد الشافعية: «ونجاه من الغرق» وإن كان نصرانياً، أحلفه «بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى» وإن كان مجوسياً أو وثنياً أحلفه «بالله الذي خلقه وصوره». وإن كان لهم مواضع يعظمونها ويتوقَّوْن أن يحلفوا فيها كاذبين، حلِّفوا فيها. ¬
2 - وقال المالكية والشافعية: يجوز تغليظ اليمين بالزمان والمكان مطلقاً للمسلم وغير المسلم، ثم اختلفوا في التغليظ بالمكان، فقال الما لكية: تغلظ اليمين بالمكان في القسامة واللعان، ويحلف الحالف إن كان في المدينة على منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وإن كان في غير المدينة يحلف في مساجد الجماعات، ولا يشترط الحلف على المنبر في سائر المساجد، ويحلف قائماً. وتغليظ اليمين بالزمان يكون باللعان والقسامة فقط دون غيرهما، فيكون بعد صلاة العصر. وقال الشافعية: يحلف المسلم في مكة بين الركن والمقام، وفي المدينة عند منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وفي سائر البلدان في الجوامع عند المنبر ـ خلافاً للمالكية ـ وفي بيت المقدس عند الصخرة. وتغلظ في الزمان بالاستحلاف بعد العصر. وهذا هو الراجح لدي لقوة أدلتهم. ويندب عندهم تغليظ يمين المدعي (اليمين المردودة أو مع الشاهد واليمين) ويمين المدعى عليه وإن لم يطلب الخصم تغليظها فيما ليس بمال ولا يقصد به المال كنكاح وطلاق ولعان وقود وعتق وإيلاد ووصاية ووكالة، وتغلظ في مال يبلغ نصاب الزكاة. واستدلوا على جواز التغليظ بالكتاب والسنة والآثار والقياس. أما الكتاب: فقوله تعالى: {تحبسونهما من بعد الصلاة، فيقسمان بالله} [المائدة:106/ 5] والمراد من بعد صلاة العصر، كما قال ابن عباس وجماعة من التابعين. وأما السنة: فقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يحلف أحد على يمين آثمة عند منبري هذا، ولو على سواك أخضر، إلا تبوأ مقعدَه من النار، أو وجبت له النار» (¬1). ¬
المطلب الرابع ـ شروط اليمين
وما روى عبد الرحمن بن عوف: «أنه رأى قوماً يحلفون بين المقام والبيت، فقال: أعلى دم؟ فقالوا: لا، فقال: أفعلى عظيم من المال؟ قالوا: لا، قال: خشيت أن يتهاون الناس بهذا المقام» (¬1). وأما الآثار فكثيرة منها: أن عمر رضي الله عنه استحلف رجلاً بين الركن والمقام، عندما قال لامرأته: حبلك على غار بك. ومنها أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أحلف نفيس بن ملوِّح في قتل على المنبر خمسين يميناً. وأما القياس: فقد قاسوا التغليظ بالزمان والمكان على التغليظ باللفظ، والتغليظ في أيمان القسامة واللعان، بجامع الزجر في كلٍ، بل إن التغليظ بالزمان والمكان أشد زجراً، فجاز بالأولى. المطلب الرابع ـ شروط اليمين: اشترط الفقهاء بالاتفاق (¬2) ستة شروط في اليمين القضائية، واختلفوا في شرطين. أما المتفق عليها فهي ما يأتي: 1ً - أن يكون الحالف مكلفاً (بالغاً عاقلاً) مختاراً: فلا يحلف الصبي والمجنون، ولا تعتبر يمين النائم والمستكره. 2ً - أن يكون المدعى عليه منكراً حق المدعي: فإن كان مقراً فلا حاجة للحلف. ¬
المختلف فيه
3ً - أن يطلب الخصم اليمين من القاضي وأن يوجهها القاضي إلى الحالف: لأن النبي صلّى الله عليه وسلم استحلف رُكانة بن عبد يزيد في الطلاق، فقال: «آلله ما أردت إلا واحدة» فقال ركانة: «الله ما أردت إلا واحدة» (¬1). 4ً - أن تكون اليمين شخصية: فلا تقبل اليمين النيابة، لصلتها بذمة الحالف ودينه، فلا يحلف الوكيل أو ولي القاصر، ويوقف الأمر حتى يبلغ. 5ً - ألا تكون في الحقوق الخالصة لله تعالى كالحدود والقصاص. 6ً - أن تكون في الحقوق التي يجوز الإقرار بها: للحديث المتقدم: «واليمين على من أنكر» فلا تجوز اليمين في الحقوق التي لا يجوز الإقرار بها، فلا يحلف الوكيل والوصي والقيم؛ لأنه لا يصح إقرارهم على الغير. واشترط أبو حنيفة أيضاً أن يكون المدعى به مما يحتمل البذل، فلا تصح اليمين في النسب والنكاح والرجعة والفيء في الإيلاء ونحوها. وأما المختلف فيه من الشروط فهو اثنان: 1ً - العجز عن البينة أو فقدها عند الجمهور غير الشافعية: فإذا كانت البينة حاضرة في مجلس القضاء، فلا يصح تحليف المدعى عليه، وكذلك لا يصح التحليف عند أبي حنيفة إذا كانت البينة في بلد القاضي. وأجاز الصاحبان والحنابلة التحليف حينئذ. ودليلهم على هذا الشرط الحديث السابق: «بيِّنتك وإلا فيمينه» فإن حق المدعي في اليمين مرتب على عجزه عن إقامة البينة. ولم يشترط الشافعية هذا الشرط، عملاً بحديث: «البينة على المدعي واليمين ¬
المطلب الخامس ـ أنواع اليمين
على من أنكر» فاليمين حق المدعي وواجبة على المدعى عليه، ولأنه يحتمل أن يقر المدعى عليه، فيستغني المدعي عن إقامة البينة. 2ً - الخلطة بين المتخاصمين بالتعامل في رأي المالكية: حتى لا يتطاول السفلة على أصحاب المكانة والفضل، باستدعائهم إلى المحاكم، وطلب اليمين منهم أوالحكم عليهم بالنكول، وتثبت الخلطة بشهادة اثنين على التعامل مرتين أو ثلاثاً. واشترطوا في غير المال وجود شاهد واحد حتى يصح توجيه اليمين، كالطلاق والرجعة والخلع والوكالة والوصية والنسب والإسلام والردة. واستثنوا من اشتراط الخلطة أو وجود الشاهد لتوجه اليمين ثماني مسائل هي: صاحب الصنعة مع عماله، والمتهم بين الناس، والضيف في ادعائه أو الادعاء عليه، والمسافر مع رفقته في الوديعة وغيرها، وادعاء الإيداع عند شخص، وادعاء شيء معين كثوب بعينه، وادعاء مريض في مرض موته على غيره بدين، وادعاء بائع على شخص حاضر المزايدة أنه اشترى سلعته بكذا والحاضر ينكر الشراء، فتتوجه اليمين في هذه الحالات، ولو لم تثبت خلطة. ولم يشترط هذا الشرط باقي المذاهب، وهو الراجح لدي، لحديث: «واليمين على من أنكر». المطلب الخامس ـ أنواع اليمين: الأصل العام في توزيع طرق إثبات الحق بين الخصمين المتنازعين أمام القضاء: أن يطالب المدعي بالبينة أو الشهادة، ويطالب المدعى عليه باليمين عند العجز عن البينة في رأي الجمهور غير الشافعية كما تقدم، فالبينة حجة المدعي، واليمين حجة المدعى عليه، واليمين تُشرع في حق كل مدعى عليه، سواء أكان
اليمين بحسب الحالف
مسلماً أم كافراً، عدلاً أم فاسقاً، امرأة أم رجلاً (¬1)، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه». واختلف الحنفية (¬2) في تحديد المدعي والمدعى عليه، فقال بعضهم: المدعي: من إذا ترك الخصومة لا يجبر عليها، والمدعى عليه: من إذا ترك الجواب يجبر عليه. وقال بعضهم: المدعي: من يلتمس قبل غيره لنفسه عيناً أو ديناً أو حقاً. والمدعى عليه: من يدفع ذلك عن نفسه. وقال بعضهم: ينظر إلى المتخاصمين، أيهما كان منكراً فالآخر يكون مدعياً. وقال بعضهم: المدعي: من يخبر عما في يد غيره لنفسه. والمدعى عليه: من يخبر عما في يد نفسه لنفسه. والأظهر عند الشافعية (¬3): أن المدعي من يخالف قوله الظاهر: وهو براءة الذمة، والمدعى عليه: من يوافق قوله الظاهر. واليمين بحسب الحالف أنواع ثلاثة: يمين الشاهد، ويمين المدعى عليه، ويمين المدعي. 1ً - يمين الشاهد: هي اليمين التي يحلفها الشاهد قبل أداء الشهادة للاطمئنان إلى صدقه، وهي التي يلجأ إلىها في عصرنا بدلاً من تزكية الشاهد. وقد ¬
- يمين المدعى عليه
أجازها المالكية والزيدية والظاهرية وابن أبي ليلى وابن القيم، لفساد الزمان وضعف الوازع الديني، ومنعها الجمهور (¬1). 2ً - يمين المدعى عليه: وتسمى اليمين الأصلية أو الواجبة أو الدافعة أو الرافعة. وهي التي يحلفها المدعى عليه بطلب القاضي بناء على طلب المدعي لتأكيد جوابه عن الدعوى. وهي حجة المدعى عليه للحديث المتقدم: «ولكن اليمين على المدعى عليه» (¬2). 3ً - يمين المدعي: وهي عند الجمهور غير الحنفية اليمين التي يحلفها المدعي لدفع التهمة عنه، أو لإثبات حقه، أو لرد اليمين عليه. وهي ثلاثة أنواع (¬3): الأول ـ اليمين الجالبة: وهي التي يحلفها المدعي لإثبات حقه، إما مع شهادة شاهد واحد، وهي اليمين مع الشاهد، وإما بسبب نكول المدعى عليه عن اليمين الأصلية وردها إلى المدعي ليحلف، وهي اليمين المردودة، وإما لإثبات تهمة الجناية على القاتل، وهي أيمان القسامة، وإما لنفي حد القذف عنه وهي أيمان اللعان، وإما لتأكيد الأمانة، فالقول قول الأمين بيمينه كالوديع والوكيل، إذا ادعى الرد على من ائتمنه، إلا المرتهن والمستأجر والمستعير، فلا يصدقون إلا بالبينة؛ لأن وجود الشيء في يدهم أو حيازتهم كان لمصلحة أنفسهم. الثاني ـ يمين التهمة: وهي التي توجه على المدعي بقصد رد دعوى غير محققة على المدعى عليه، قال بها المالكية والزيدية. ¬
الثالث ـ يمين الاستيثاق أو الاستظهار
الثالث ـ يمين الاستيثاق أو الاستظهار: وهي التي يحلفها المدعي بطلب القاضي لدفع التهمة عنه بعد تقديم الأدلة المطلوبة في الدعوى. فهي تكمل الأدلة كالشهادة، ويتثبت بها القاضي. ويلجأ إليها القاضي عادة إذا كانت الدعوى بحق على غائب أو ميت، ويحتمل أن يكون المدعي قد استوفى دينه من الميت أو الغائب أو أبرأه عنه، أو أخذ رهناً مقابله، وليس للشاهدين علم بذلك. فيحلِّف القاضي المدعي؛ لأن البينة لا تفيد إلا غلبة الظن، فيستحق ما ادعاه بالبينة واليمين معاً، فهي يمين القضاء بعد ثبوت الحق على الغائب والمحجور، وقد أجيزت استحساناً بسبب احتمال الشبهة والشك عند غياب المدين. وقد أيدها ابن القيم قائلاً: وهذ القول ليس ببعيد من قواعد الشرع، ولا سيما مع احتمال التهمة. وكان علي يستحلف المدعي مع شهادة الشاهدين. وكان شريح يستحلف الرجل مع بينته، وقال الأوزاعي والحسن بن حَيّ: يستحلف مع بينته وهو قول النخعي والشعبي وابن أبي ليلى أيضاً (¬1). أحوال يمين الاستظهار: أجاز الفقهاء هذه اليمين في أحوال استثنائية للضرورة أو الحاجة، فقال المالكية (¬2): توجه هذه اليمين في نفقة الزوجة، وفي الدعوى على الغائب واليتيم والوقف والمساكين وفي كل وجوه البر، وعلى بيت المال، وعلى كل من استحق شيئاً من الحيوان وغيره. ويحلف المدعي أيضاً إذا شهد له اثنان على خط غريمه، وفي شهادة التسامع والاستفاضة، والبينة على الغريم المجهول الحال بكونه معدماً. ¬
القضاء بالنكول والقضاء بشاهد ويمين المدعي واليمين المردودة
وقال الحنفية (¬1): تجب يمين الاستظهار في الادعاء على الميت، ولو بدون طلب المدعى عليه، وفي خمس حالات أخرى عند أبي حنيفة ومحمد بطلب المدعى عليه، وبدون طلب عند أبي يوسف: وهي حالة الاستحقاق للمعقود عليه: فإذا أثبت المدعي استحقاق مال، حلف على عدم بيعه أو هبته أو تمليكه. وفي الشفعة: أنه طلبها بمجرد علمه بها ولم يبطلها بوجه ما، وفي نفقة الزوجة على زوجها الغائب أنه لم يطلقها ولم يترك لها نفقة. وفي رد المبيع بالعيب أنه لم يرض به، وفي خيار البلوغ للبكر أنها اختارت الفرقة مباشرة. وقال الشافعية (¬2): توجه يمين الاستظهار بدون طلب الخصم في الدعوى على الميت والغائب والصغير والمحجور والسفيه والمجنون والمغلوب على عقله، ومع الشاهد واليمين. وأجاز الحنابلة في رواية عن أحمد هذه اليمين إذا قامت البينة على الغائب، أو المستتر في البلد، أو الميت، أو الصبي أو المجنون (¬3). القضاء بالنكول والقضاء بشاهد ويمين المدعي واليمين المردودة: اتفق الفقهاء على أن المدعي إذا قدم شاهدين على دعواه وقبلت شهادتهما، حكم له بما ادعى. وعلى أنه إذا عجز عن البينة وطلب تحليف المدعى عليه، وحلف، رفضت دعواه. ¬
الرأي الأول ـ للحنفية والحنابلة في المشهور عندهم
واختلفوا بعدئذ على رأيين فيما إذا نكل المدعى عليه عن اليمين، هل يقضى للمدعي بنكول صاحبه عن اليمين، أم ترد اليمين إلى المدعي، فيقضى له بيمينه وشاهد واحد يقدمه للشهادة؟ قال الحنفية والحنابلة: يقضى بالنكول في الأموال، وقال الجمهور: لا يقضى بالنكول، وترد اليمين على المدعي. الرأي الأول ـ للحنفية والحنابلة في المشهور عندهم: قال الحنفية والحنابلة (¬1): إذا نكل المدعى عليه عن اليمين، فإنه يقضى عليه بالمال، لكن ينبغي للقاضي أن يقول له: (إني أعرض عليك اليمين ثلاث مرات، فإن حلفت وإلا قضيت عليك) لاحتمال خشية القضاة ومهابة المجلس في المرة الأولى. ولا يقضى عند الحنفية بالشاهد واليمين ويقضى بها عند الحنابلة. ودليلهم على القضاء بالنكول: أن القاضي شريح قضى على رجل بالنكول، فقال المدعى عليه: أنا أحلف، فقال شريح: مضى قضائي. وكانت لا تخفى قضاياه على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولم ينقل أنه أنكر عليه منكر، فيكون إجماعاً منهم على جواز القضاء بالنكول. وقضى عثمان على ابن عمر بالنكول. ورد عليه عبداً معيباً اشتراه منهم حينما نكل، ولأنه ظهر صدق المدعي في دعواه عند نكول المدعى عليه، فيقضى له، كما لو أقام البينة. واستدلوا على عدم مشروعية رد اليمين إلى المدعي بالحديث السابق: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» جعل جنس اليمين على المنكر، فتشمل كل مدعى عليه. ¬
واستدل الحنفية على عدم مشروعية القضاء بشاهد ويمين بما يأتي من الكتاب والسنة والمعقول. 1 ً - الكتاب: وهو قوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكونا رجلين، فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} [البقرة:282/ 2] وقوله سبحانه: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق:2/ 65] الله سبحانه طلب إشهاد اثنين ولم يذكر الشاهد واليمين، فقبولهما زيادة على النص، والزيادة على النص نسخ، ونسخ القرآن لا يجوز إلا بمتواتر أو مشهور، ولا يجوز بخبر الواحد، وليس خبر رد اليمين متواتراً أو مشهوراً، وإنما هو خبر آحاد. 2 ً - السنة: حديث مسلم وأحمد «ولكن اليمين على المدعى عليه» وحديث البيهقي «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» وقوله صلّى الله عليه وسلم لمدعٍ في حديث الجماعة: «شاهداك أو يمينه». الحديث الأول أوجب اليمين على المدعى عليه فقط، وجعل كل جنس اليمين على المنكر، فإذا قبلت يمين من المدعي، لم تكن جميع حالات اليمين على المنكرين. وكذلك الحديث الثاني جعل جميع أفراد البينة على المدعي، وجميع أفراد اليمين على المنكر، والقسمة والتوزيع تنافي اشتراك الخصمين فيما تمت فيه القسمة. والحديث الثالث خيَّر المدعي بين أمرين لا ثالث لهما إما البينة أو يمين المدعى عليه. 3 ً - المعقول: إن اليمين تقوم مقام الشاهد الثاني، ولو جاز ذلك، لجاز تقديم اليمين كأحد الشاهدين على الآخر، ولكن لا يجوز تقديمه، فلا يصح أن يكون قائماً مقامه.
الرأي الثاني ـ للجمهور
الرأي الثاني ـ للجمهور: قال الجمهور من أهل السنة والشيعة (¬1) وصوبه الإمام أحمد: لا يقضى بالنكول، ولكن ترد اليمين إلى المدعي فيحلف، فيأخذ حقه، ويقضى بالشاهد واليمين. والنكول: أن يقول: أنا ناكل، أو يقول: لا أحلف. استدلوا على عدم جواز القضاء بالنكول بالحديث المتقدم: «البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه» فإنه جعل البينة حجة المدعي، واليمين حجة المدعى عليه، ولم يذكر عليه الصلاة والسلام النكول، فلو كان حجة المدعي لذكره، ولأن النكول يحتمل لكونه كاذباً في الإنكار، ويحتمل لكونه صادقاً في الإنكار، تورعاً عن اليمين الصادقة، فلا يكون حجة القضاء مع الشك والاحتمال. واستدلوا على مشروعية القضاء برد اليمين: بما روى الدارقطني والبيهقي والحاكم من حديث نافع عن ابن عمر: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم رد اليمين على طالب الحق» وبقوله تعالى: {أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم} [المائدة:108/ 5] وثبت عن عمر وعثمان وعلي وغيرهم القول برد اليمين. واستدلوا مع الحنابلة على جواز القضاء بشاهد ويمين المدعي: بما روى ابن ¬
مجال القضاء بشاهد ويمين والقضاء بالنكول
عباس رضي الله عنهما: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد» (¬1) قال الشافعي: «وهذا الحديث ثابت لا يرده أحد من أهل العلم، لو لم يكن فيه غيره، مع أن معه غيره مما يشده» وقال الترمذي عنه: حسن غريب، وقال النسائي: إسناده جيد. وأجمع الصحابة على القضاء بالشاهد واليمين، منهم أبو بكر وعمر وعلي وأبي بن كعب. وهذا هو الرأي الراجح عندي لصحة الحديث وثبوته، وعده السيوطي متواتراً، ولأن الخلفاء الراشدين حكموا به، وهو لا يخالف الكتاب العزيز. مجال القضاء بشاهد ويمين والقضاء بالنكول: قال المالكية والشافعية وابن القيم (¬2): المواضع التي يحكم فيها بالشاهد واليمين: المال، وما يقصد به المال، كالبيع والشراء وتوابعهما من اشتراط صفة في المبيع، أو نقد غير نقد البلد، والإجارة والجعالة، والمساقاة والمزارعة، والمضاربة والشركة والهبة، والوصية لمعين، أو الوقف عليه. ومما يثبت بالشاهد واليمين أيضاً: الغصوب، والعواري، والوديعة، والصلح، والإقرار بالمال أو ما يوجب المال، والحوالة، والإبراء، والمطالبة بالشفعة وإسقاطها، والقرض، والصداق، وعوض الخلع، وتسمية المهر، والوكالة في المال والإيصاء به. ¬
مجال القضاء بالنكول
وكذا يقضى بهما في الجنايات الموجبة للمال، كالخطأ، وما لا قصاص فيه كالهاشمة والمأمومة والجائفة، وقتل المسلم الكافرَ، والحرِّ العبد، والصبيِّ والمجنون. وأما مجال القضاء بالنكول: فهو عند الحنفية (¬1) والحنابلة في الأموال، وأما غير المال وما لا يقصد به المال كنكاح وطلاق ولعان وحد وقصاص، ووصاية، ووكالة، فلا يقضى فيه بالنكول، كما تبين سابقاً (¬2)، لكن المفتى به عند الحنفية هو قول الصاحبين بأنه يقضى بالنكول إلا في الحدود والقصاص واللعان؛ لأنه في معنى الحد. ويقضى على السارق لأجل المال بالنكول، فيضمن المال المسروق، ولا تقطع يده. المطلب السادس ـ حكم اليمين: حكم اليمين: هو الأثر المترتب على حلفها أمام القاضي، سواء أكانت من المدعي أم من المدعى عليه. 1 - حكم يمين المدعي: يترتب على أداء اليمين من المدعي مع الشاهد عند الجمهور غير الحنفية ثبوت الحق المحلوف عليه، بناء على الشاهد واليمين معاً في الأصح عند الشافعية، وفي المعتمد عند المالكية؛ لأن الأحاديث علقت القضاء عليهما معاً، وبناء على الشاهد ¬
2 - حكم يمين المدعى عليه
فقط، وإنما اليمين للتأكيد والاستظهار والاحتياط في رأي الحنابلة؛ لأن الشاهد حجة الدعوى، واليمين من المدعي ليست بحجة على خصمه (¬1). 2 - حكم يمين المدعى عليه: يترتب على حلف اليمين من المدعى عليه باتفاق الفقهاء (¬2): إنهاء النزاع بين المتداعيين وسقوط الدعوى، وكذا انقطاع الخصومة والمطالبة في الحال، لا مطلقاً، بل مؤقتاً إلى غاية إحضار البينة في رأي الجمهور غير المالكية، فلا تبرأ ذمة المدعى عليه من الحق، وتظل مشغولة به إلى أن يتمكن المدعي من إثبات دعواه بوسيلة أخرى من وسائل الإثبات. وقال المالكية: يترتب على يمين المدعى عليه سقوط الدعوى مطلقاً، فليس للمدعي أن يقيم البينة بعد الحكم باليمين، إلا لعذر كنسيان وعدم علم بالشهادة، ثم علمه بها، فتقبل منه، ويحلف يميناً على عذره. 3 - حكم يمين الاستيثاق أو الاستظهار: ليست هذه اليمين دليلاً في الإثبات، وإنما هي لزيادة التأكيد والاطمئنان وإقناع القاضي بصحة الأدلة المقدمة إليه؛ لأن القاضي يوجهها للاحتياط في الحكم. ¬
المطلب السابع ـ أنواع الحقوق التي يجوز فيها اليمين
المطلب السابع ـ أنواع الحقوق التي يجوز فيها اليمين: هناك حقوق يجوز فيها اليمين بالاتفاق، وحقوق لا يجوز فيها اليمين اتفاقاً، وحقوق مختلف فيها على التفصيل التالي (¬1): 1ً - اتفق الفقهاء على عدم جواز التحليف في حقوق الله تعالى المحضة، سواء أكانت حدوداً كالزنا والسرقة وشرب المسكرات، أم عبادات كالصلاة والصوم والحج والنذر والكفارة، إلا إذا تعلق بها حق مالي لآدمي فيجوز؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات، ولا يقضى فيها بالنكول عند الحنفية والحنابلة؛ لأنه بذل عند أبي حنيفة، وإقرار فيه شبهة العدم عند أحمد والصاحبين، والحدود لا تحتمل البذل، ولا تثبت بدليل فيه شبهة؛ لأن النكول قائم مقام الإقرار، ولا يجوز إقامة الحد بما يقوم مقام غيره. ولأنه لو أقر، ثم رجع، قبل منه وخلي من غير يمين، فلأن لا يستحلف مع عدم الإقرار أولى، ولأنه يستحب ستره. وأما أن العبادات لا يستحلف فيها، فلأنها علاقة بين العبد وربه، فلا يتدخل فيها أحد، قال الإمام أحمد: «لا يحلف الناس على صدقاتهم» فإذا ادعى الساعي الزكاة على رب المال وأن الحول قد تم وكمل النصاب، فالقول عند أحمد قول رب المال من غير يمين. ونقل ابن قدامة عن الشافعي وأبي يوسف ومحمد أنه يستحلف؛ لأنها دعوى مسموعة، فتشبه حق الآدمي. أما إذا تعلق بالحدود وغيرها حق مالي للعباد كالمال في السرقة، فيجوز فيها الاستحلاف. ¬
2ً - واتفق الفقهاء أيضاً على جواز اليمين في الأموال، وما يؤول إلى المال، فيحلَّف المدعى عليه إثباتاً ونفياً، لقوله تعالى: {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً، أولئك لا خلاق لهم في الآخرة، ولا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذابٌ أليم} [آل عمران:77/ 3] وللحديث السابق عند الجماعة: «لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى أناس دماء قوم وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه». 3ً - واتفق الفقهاء على جواز التحليف في الجنايات من قصاص وجروح وفي بعض مسائل الأحوال الشخصية. واختلفوا في بعض مسائل هذا النوع على أقوال ثلاثة: أـ فقال المالكية: إن التحليف غير جائز في النكاح فقط؛ لأنه يجب فيه الشهادة والإعلان، إذا لم يوجد الشهود لم يصح النكاح، فلا يقبل فيه اليمين لتحقق التهمة والكذب، ولأنه لو أقر بالنكاح لا يثبت ولا يلزم. ب ـ وقال أبو حنيفة: يستثنى سبع مسائل لا يجوز فيها التحليف وهي النكاح والطلاق والنسب، والفيء في الإيلاء، والعتق، والولاء، والاستيلاد، وزاد الحنابلة القود؛ لأن القصد من توجيه اليمين هو النكول عن الحلف، والقضاء بناء عليه، والنكول بذل وإباحة وترك للمنازعة في رأي أبي حنيفة، صياغة عن الكذب الحرام، وهذه المسائل لا يجوز فيها البذل والإباحة، كما تقدم سابقاً، ولأن النكول في رأي أحمد والصاحبين وإن جرى مجرى الإقرار، فليس بإقرار صحيح صريح، لا يراق به الدم بمجرده، ولا مع يمين المدعي إلا في القسامة للَّوْث. والمفتى به عند الحنفية هو رأي الصاحبين كما تقدم، وهو أنه يجوز التحليف في هذه الأمور إلا في الحدود والقصاص واللعان.
فإن كان المقصود من الدعوى في هذه المسائل المال، فيستحلف المدعى عليه، ويثبت المال دون النكاح والنسب والرجعة، كأن تدعي امرأة على رجل أنه لم يدفع لها نصف المهر قبل الدخول، أو نفقة العدة بعد الدخول، فيحلف. وعند الحنابلة روايتان أرجحهما أنه لا يستحلف المدعى عليه، ولا تعرض عليه اليمين فيما ليس بمال، ولا المقصود منه المال: وهوكل ما لا يثبت إلا بشاهدين كالقصاص وحد القذف والنكاح والطلاق والرجعة والعتق والنسب والاستيلاد والولاء والرق؛ لأن هذه الحالات لا تثبت إلا بشاهدين ذكرين، فلا تعرض فيها اليمين كالحدود. جـ ـ وقال الشافعية والصاحبان وبرأيهما يفتى عند الحنفية، والشيعة الإمامية والزيدية والإباضية: يجوز التحليف في هذه المسائل، ويحلف المنكر في إثباتها أو نفيها، للحديث السابق عند الترمذي: «البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه» يتناول بعمومه كل مدعى عليه، فإذا لم تتوافر البينة، حلف المدعى عليه على إنكاره حق المدعي. وقد حلف النبي صلّى الله عليه وسلم رُكانة بن عبد يزيد على طلاق امرأته البتة فيما رواه البيهقي قائلاً له: والله ما أردتَ إلا واحدة؟ فقال ركانة: والله ما أردتُ إلا واحدة فردها عليه. وهذا الرأي هو الراجح لدي لعموم النصوص وقوة الأدلة التي اعتمدوا عليها. تحليف الشهود اليمين: لجأ القضاة في عصرنا الحاضر بسبب كثرة الناس بدلاً عن العمل بمبدأ تزكية الشهود اللجوء إلى تحليف الشاهد اليمين، ولا مانع من هذا في رأيي، بدليل تحليف النبي صلّى الله عليه وسلم رُكانة على ما يريد من تطليق امرأته طلقة واحدة أم أكثر.
المبحث الثالث ـ الإقرار
وقد أخذ بهذا الرأي ابن أبي ليلى ومحمد بن بشير قاضي قرطبة، ورجحه ابن نجيم المصري وهو رأي ابن القيم. وأخذت مجلة الأحكام العدلية بذلك، فنصت المادة (1727) على أنه: «إذا ألح المشهود عليه على الحاكم بتحليف الشهود بأنهم لم يكونوا في شهادتهم كاذبين، وكان هناك لزوم لتقوية الشهادة باليمين، فللحاكم أن يحلِّف الشهود، وله أن يقول لهم: إن حلفتم قبلت شهادتكم، وإلا فلا». المبحث الثالث ـ الإقرار يتضمن هذا المبحث المطالب الآتية: المطلب الأول ـ تعريف الإقرار وحجيته وحكمه. المطلب الثاني ـ ألفاظ الإقرار. المطلب الثالث ـ شروط صحة الإقرار. المطلب الرابع ـ أنواع المقر به بشكل عام. المطلب الخامس ـ الإقرار بالأموال. المطلب السادس ـ الإقرار في حال الصحة وفي حال المرض. المطلب السابع ـ الإقرار بالنسب. المطلب الأول ـ تعريف الإقرار وحجيته وحكمه: الإقرار لغة: الإثبات، مأخوذ من قولهم: قرَّ الشيء يقر قراراً: إذا ثبت، وشرعاً: هوإخبار عن ثبوت حق للغير على نفسه.
أدلة حجيته
وبما أن الإقرار إخبار متردد بين الصدق والكذب، فكان محتملاً لهذين الأمرين، إلا أنه جعل حجة بدليل معقول: وهو أنه ظهر رجحان الصدق على الكذب فيه؛ لأن الإنسان غير متهم فيما يقر به على نفسه، فإن المال محبوب المرء طبعاً، فلا يقر به لغيره كاذباً، فلم يكن في الإقرار تهمة وريبة. وأدلة حجيته من الكتاب والسنة والإجماع هي ما يلي: أما الكتاب: فقوله تعالى {أأقررتم، وأخذتم على ذلكم إصري؟ قالوا: أقررنا} [آل عمران:81/ 3] فالله سبحانه طلب منهم الإقرار، ولو لم يكن الإقرار حجة، لما طلبه. وقوله سبحانه: {كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم} [النساء:135/ 4] قال المفسرون: شهادة المرء على نفسه إقرار. وقوله عز وجل: {بل الإنسان على نفسه بصيرة} [القيامة:14/ 75] قال ابن عباس: أي شاهد بالحق. وأما السنة: فخبر الصحيحين في قصة العسيف: «واغدُ يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» فأثبت الرسول صلّى الله عليه وسلم الحد بالاعتراف. وأما الإجماع: فإن الأمة الإسلامية أجمعت على صحة الإقرار، وكونه حجة من لدن رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا من غير نكير. وبالقياس ثبتت الحجية أيضاً: وهو أننا إذا قبلنا الشهادة على الإقرار، فلأن نقبل الإقرار أولى. وحكمة تشريع الإقرار: التوصل لإثبات الحقوق وإيصالها إلى أصحابها من أقرب الطرق وأيسرها، لأن الشرع يحرص على حفظ الأموال وصيانتها من الضياع، كما يحرص على أداء حقوق الله تعالى.
حكم الإقرار
وحكم الإقرار: ظهور ما أقر به المقر، لا ثبوت الحق وإنشاؤه من أول الأمر، ولذا لا يصح الإقرار بالطلاق مع الإكراه، مع أن الإنشاء يصح مع الإكراه عند الحنفية، فمن أقر لغيره بمال، والمقر له يعلم أنه كاذب في إقراره لا يحل له أخذه عن كره منه فيما بينه وبين الله تعالى. والإقرار حجة قاصرة على المقر، لا يتعدى أثره إلى غيره، لقصور ولاية المقر على غيره، فيقتصر أثر الإقرار على المقر نفسه. والإقرار أيضاً سيد الأدلة؛ لانتفاء التهمة فيه (¬1)، والإقرار يثبت الملك في المخبر به. وأما الشهادة فهي حجة مطلقة ثابتة في حق جميع الناس غير مقتصرة على المقضي عليه، لذا تسمى بالبينة لأنها مبينة يظهر بها الملك، وقال الحنفية: البينة أقوى من الإقرار. المطلب الثاني ـ ألفاظ الإقرار: الإقرار إما أن يكون بلفظ صريح أو بلفظ ضمني أو دلالة (¬2). 1 - الإقرار بلفظ صريح: أن يقول إنسان: «لفلان علي ألف درهم»؛ لأن كلمة (علي) كلمة تفيد الإيجاب والإلزام لغة وشرعاً، قال تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً} [آل عمران:97/ 3]. أو يقول لرجل: (لي عليك ألف درهم) فقال الرجل: نعم، لأن كلمتي ¬
«نعم، وأجل» ونحوهما للتصديق، قال تعالى: {فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ قالوا: نعم} [الأعراف:44/ 7]. أو يقول: (لفلان في ذمتي ألف درهم)؛ لأن ما في الذمة هو الدين، فيكون إقراراً بالدين. أو يقول: (لفلان قبلي ألف درهم) فهو إقرار بالدين على الأرجح؛ لأن القبالة هي الكفالة، قال الله سبحانه: {والملائكة قبيلاً} [الإسراء:92/ 17] أي كفيلاً. والكفالة هي الضمان. قال الله عز وجل: {وكفلَها زكريا} [آل عمران:37/ 3] على قراءة التخفيف: أي ضمن القيام بأمرها، أو يقول: (أليس لي عندك ألف درهم؟) قال: بلى، كان قراراً صحيحاً؛ لأن (بلى) جواب للسؤال بحرف النفي، قال تعالى: {ألست بربكم؟ قالوا: بلى} [الأعراف:172/ 7]. ولو قال رجل لآخر: (له في مالي ألف درهم) فهو إقرار له به في ماله. وهل يكون مضموناً أو أمانةً؟ اختلف مشايخ الحنفية فيه: فقال الجصاص: إنه يكون إقراراً بالشركة بينه وبينه، فيكون القدر المقر به عنده أمانة؛ لأنه جعل ماله ظرفاً للمقر به، وهو الألف فيقتضي ذلك الخلط بين ماليهما، وهو معنى الشركة. وقال بعض مشايخ العراق: إن كان مال المقر محصوراً، أي محدداً في تجارة معينة، أو عمل معين، يكون إقراراً بالشركة، وإن لم يكن محصوراً يكون إقراراً بالدين. والراجح كما في مختصر القدوري أنه يدل على الإقرار بالدين كيفما كان الأمر؛ لأن كلمة الظرف في مثل هذا تستعمل في الوجوب والالتزام، قال عليه الصلاة والسلام: «وفي الركاز الخمس» (¬1). ¬
2 - الإقرار الضمني أو الإقرار دلالة
ولو قال رجل لآخر: (له من مالي ألف درهم) لا يكون إقراراً، بل يكون هبة، وإذا كان هبة لا يملكها المخاطب إلا بالقبول والقبض؛ لأنه ليس في هذا القول ما يدل عى الالتزام في الذمة؛ لأن اللام في (له) للتمليك، والتمليك بغير عوض هبة. ولو قال: (له عندي درهم) فهو وديعة، لأن (عندي) لا تدل على التزام شيء في الذمة، بل هي كلمة تفيد الوجود، وليس لهذا المعنى دلالة على الالتزام. وكذلك لو قال: (لفلان معي، أوفي منزلي، أو في بيتي، أو في صندوقي، أو في كيسي ألف درهم) فهو وديعة؛ لأن هذه الألفاظ لا تدل إلا على قيام اليد أو الحيازة، وهذا المعنى لا يفيد الالتزام في الذمة، فلم يكن إقراراً بالدين، فكانت وديعة، لتعارف الناس ذلك. ولو قال: (لفلان عندي ألف درهم عارية) فهو قرض؛ لأن (عندي) تستعمل في الأمانات، وقد فسرت بالعارية، والمعروف أن عارية الدراهم والدنانير تكون قرضاً؛ إذ لا يمكن الانتفاع بها إلا باستهلاكها، وإعارة ما لا يمكن الانتفاع به إلا باستهلاكه، يكون قرضاً في العرف. وكذلك كل ما يكال أو يوزن: يكون الإقرار بإعارته إقراراً بالقرض؛ إذ يتعذر الانتفاع به إلا باستهلاكه. 2 - الإقرار الضمني أو الإقرار دلالة: قد يكون الإقرار بلفظ يدل على التزام الشيء ضمناً أو دلالة، مثل أن يقول شخص لغيره: (لي عليك ألف درهم) فيقول: قد قضيتها؛ لأن القضاء يدل على تسليم مثل الواجب الملتزم به في الذمة، فيقضي سبق الالتزام بهذا المبلغ، ولا يثبت الوفاء إلا بالبينة.
وكذا لو قال رجل لآخر: (لي عليك ألف درهم) فقال المخاطب: (أجلني بها)؛ لأن التأجيل إنما يكون في حق واجب، ولو لم يذكر الضمير في هذا وفيما قبله، لا يكون إقراراً، لعدم انصرافه إلى الكلام المذكور. وفي دعوى الإبراء بأن قال: (أبرأتني منها) مثل قوله: (قد قضيتها)؛ لأن الإبراء إسقاط، وهذا إنما يكون في مال واجب عليه. وكذلك دعوى الصدقة والهبة بأن قال: (تصدقت بها علي أو وهبتها لي) كان ذلك أيضاً إقراراً منه، مثل دعوى القضاء؛ لأن التمليك بالصدقة أو بالهبة يقتضي أسبقية الوجوب والالتزام. وكذلك لو قال: (أجلتك بها على فلان) يكون إقراراً أيضاً؛ لأنه يعني تحويل الدين من ذمة إلى ذمة، وهذا لا يكون بدون التزام. ولو قال رجل لآخر: (لي عليك ألف درهم) فقال: حقاً أو صدقاً، يكون إقراراً؛ لأن معناه تصديقه فيما يدعي عليه. الإقرار بالدين المقترن بلفظ آخر: كل ما ذكر إذا كان لفظ الإقرار مطلقاً عن التقييد بشيء آخر، فإن اقترن بلفظ الإقرار لفظ آخر مخالف لمعنى اللفظ الأول، بأن قال: (لفلان علي ألف درهم وديعة) يكون إقراراً بالوديعة بشرط اتصاله بالإقرار كالاستثناء؛ لأن قوله (وديعة) تغيير لحكم الإقرار من كون المال ديناً إلى كونه محفوظاً أمانة، وهذا بيان معتبر، فيصح بشرط كونه موصولاً بالكلام السابق لا منفصلاً، كما هو الشرط في الاستثناء. فإن كان البيان منفصلاً عن الكلام السابق، بأن سكت، ثم قال: عنيت به الوديعة، لا يصح بيانه، ولا يصدق، ويكون إقراراً بالدين؛ لأن بيانه المتأخر خلاف ظاهر الكلام السابق، فلا يصدق به على الغير.
ولو قال: (علي ألف درهم وديعة قرضاً، أو وديعة ديناً، أو مضاربة قرضاً أو ديناً) فهو إقرار بالدين؛ لأن الجمع بين اللفظين في معناهما ممكن، بأن يكون الشيء في مبدأ الأمر أمانة، ثم يتغير حاله، فيصير مضموناً، إذ الضمان قد يطرأ على الأمانة كالوديعة إذا استهلكت ونحوها، والإنسان غير متهم على نفسه في الإقرار بالضمان. ولو قال: (لفلان عندي أو معي ألف درهم قرضاً) فهو إقرار؛ لأنه بيان معتبر دال على أن وجود الألف عنده ليس أمانة، وإنما ديناً مضموناً. ولو قال: (عندي كذا) وأعني به الإقرار: صُدِّق، وإن كان كلامه منفصلاً؛ لأن هذا إقرار على نفسه، فلا يتهم الإنسان فيه. ولو قال: (له من مالي ألف درهم لا حق لي فيها) فهو إقرار بالدين؛ لأن الألف التي لا حق فيها تكون ديناً إذ لو كانت هبة لكان له فيها حق. الإقرار المكتوب: لو ادعى رجل على آخر مالاً، وأخرج بذلك خطاً بخط يده على إقرار له بالمال، وأنكر المدعى عليه أنه خطه، فاستكتب، فكتب، فكان بين الخطين مشابهة ظاهرة دالة على أنهما خطا كاتب واحد، قال أئمة بخارى: إنه حجة يقضى بها، وقد نص محمد في المبسوط على أنه لا يكون حجة؛ لأنه لو قال: (هذا خطي وأنا كتبته غير أنه ليس علي هذا المال): لا يلزمه شيء، فهذا أولى. ولو كتب بخطه صكاً فقيل له: تشهد به؟ فقال: نعم، فيكون إقراراً، ولو لم يقل شيئاً: لا يكون إقراراً.
المطلب الثالث ـ شروط صحة الإقرار
ويعمل بدفتر السمسار والصراف والبياع؛ لأن كل واحد من هؤلاء لا يكتب في دفتره إلا ماله وعليه (¬1). والخلاصة: يشترط في صيغة الإقرار لفظ صريح أو كناية يدل على الالتزام بالمقر به، وفي معنى اللفظ الصريح الكتابة مع النية، وإشارة الأخرس المفهمة. المطلب الثالث ـ شروط صحة الإقرار: اتفق الفقهاء على صحة الإقرار بحق من الحر البالغ العاقل المختار غير المتهم في إقراره (¬2). ويصح إقرار العبد بجريمة تقتضي حداً أو قصاصاً، كما يصح إقرار العبد المأذون في التجارة والمعاملة بثمن الأشياء، والأجرة، والغصوب، والودائع، ويصح إقرار المكاتب في الأموال، ويصح عند الحنفية إقرار العبد المحجور بالمال، لكن لا ينفذ على السيد في الحال، وإنما يطالب به العبد بعد العتق والحرية. ولا ينفذ عند الحنابلة إقرار العبد بالقصاص في النفس، وإنما يطالب به بعد العتق، ولكن يصح الإقرار منه بالقصاص فيما دون النفس عندهم. وبالاتفاق لا يصح إقرار الصبي والمجنون والمكرَه والمتهم في إقراره. وعلى هذا تكون شروط الإقرار ما يلي: 1 - العقل والبلوغ: فلا يصح إقرار المجنون. ويعبر البلوغ شرطاً عند الجمهور لصحة الإقرار، فلا يصح إقرار الصبي غير البالغ أيضاً، لقوله عليه الصلاة والسلام: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى ¬
يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» (¬1) ورفع القلم معناه رفع التكليف والمسؤولية. ولأن غير البالغ ممنوع من التصرفات. وليس البلوغ شرطاً لصحة الإقرار عند الحنفية، فيصح إقرار الصبي العاقل بالديون والأعيان؛ لأنه من ضرورات التجارة. 2 - الطواعية أو الاختيار: فلا يصح إقرار المستكره، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» وقد سبق تفصيل حكم إقرارات المستكره في بحث الإكراه. 3 - عدم التهمة: يشترط ألا يكون المقر متهماً في إقراره، فإن اتهم بإقراره لملاطفة صديق ونحوه بطل الإقرار؛ لأن التهمة تخل برجحان الصدق على الكذب في إقراره، والإقرار يعتبر شهادة على النفس، والشهادة ترد بالتهمة، ودليل اعتباره شهادة قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوَّامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم} [النساء:135/ 4]. 4 - أن يكون المقر معلوماً: فلو قال رجلان: (لفلان على واحد منا ألف درهم) لا يصح الإقرار؛ لأن المقر إذا لم يكن معلوماً لا يتمكن المقر له من المطالبة بالدين، فلا يكون في هذا الإقرار فائدة، فلا يصح. فإذا أقر الحر البالغ العاقل لزمه إقراره عند الحنفية، سواء أكان المقر به مجهولاً أم معلوماً، ويقال له: بيِّن المجهول، فإذا لم يبين أجبره القاضي على البيان. والقول في البيان قول المقر مع يمينه، إن ادعى المقر له أكثر من الذي بينه، لإنكاره ¬
المطلب الرابع ـ أنواع المقر به
الزائد، واليمين على من أنكر. فإن قال: (له علي مال) فالمرجع في بيانه إليه، ويقبل قوله في القليل والكثير (¬1). ويلاحظ أن الشافعية (¬2): فرقوا بين أثر الحجر على السفيه وأثر الحجر على المفلس، فقالوا: لا يصح إقرار السفيه بدين في معاملة قبل الحجر أو بعده، وكذا بإتلاف مال في الأظهر، لأنه ممنوع من التصرف بماله. ويصح إقراره بالحد والقصاص؛ لعدم تعلقهما بالمال، ولبُعد التهمة، ويصح طلاقه وخلعه وظهاره ونفيه النسب بلعان، وحكمه في العبادة كالرشيد، لكن لا يفرّق الزكاة بنفسه، وإذا أحرم بحج فرض وكّل الولي ثقة ينفق عليه في طريقه، وإ ن أحرم بتطوع، المذهب أنه كمحصر فيتحلل بالصوم. أما المفلس فيصح ويقبل إقراره بعين أو دين وجب قبل الحجر في الأصح في حق الغرماء، كما لو ثبت بالبينة، ولا يصح إقراره بدين أو حق وجب بعد الحجر بمعاملة أو مطلقاً بأن لم يقيده بمعاملة ولا غيرها، ولا يقبل في حق الغرماء. ويصح نكاحه وطلاقه وخلعه واقتصاصه وإسقاطه كالسفيه كما تقدم. المطلب الرابع ـ أنواع المقر به: المقر به عموماً نوعان: حقوق الله تعالى، وحقوق العباد (¬3). أما حقوق الله تعالى: فنوعان عند الحنفية: ¬
أحدهما ـ أن يكون الحق خالصاً لله، أي للمجتمع، وهو حد الزنا والسرقة وشرب الخمر ونحوه من المسكرات، والإقرار به صحيح. ولو رجع المقر عن إقراره بموجب الحد قبل إقامة الحد، بطل الحد، لاحتمال صدقه في الرجوع، فأورث رجوعه شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات. ويكفي في الإقرار أن يكون مرة إلا في الزنا عند الحنفية، فإنه يشترط أن يكون أربع مرات، كما حدث في إقرار ماعز بين يدي الرسول صلّى الله عليه وسلم، وذلك خلافاً للقياس، فيقتصر على مورد النص. وقال أبو يوسف وزفر: يشترط تعدد الإقرار بأن يكون مرتين بعدد الشهود. ولكن روي أن أبا يوسف رجع عن هذا الرأي، ويلاحظ أن التعدد في الإقرار بالقذف ليس بشرط باتفاق الحنفية. ويحكم بموجب الإقرار في الحدود، سواء تقادم العهد على حدوث مقتضى الحد، أم لا، إلا في شرب الخمر، فإنه لا يعتبر الإقرار عند أبي حنيفة وأبي يوسف بعد ذهاب الرائحة وتقادم العهد؛ لأن ابن مسعود جلد رجلاً وجد منه رائحة الخمر، ولم يجلده حتى تحقق من الرائحة. وسبق ذكر الحديث وتفصيل هذا الموضوع في مبحث حد الشرب الذي عرفنا فيه أن محمداً رحمه الله قال: يحد شارب الخمر بالإقرار أو بالشهادة، ولو بعد ذهاب الرائحة. الثاني ـ أن يكون للعبد فيه حق: وهو حد القذف. وقد ذكرت في مبحث هذا الحد شروط صحة الإقرار بجريمة القذف والزنا وسائر الحدود.
حقوق العباد أي حقوق الأفراد
وأما حقوق العباد أي حقوق الأفراد، فأنواع: منها: حق طلب واستيفاء القصاص أو الدية. ومنها: الحق في الأموال النقدية، أو العينية. ومنها: الحق في الطلاق وحق الشفعة والنسب ونحوها. ولا يشترط لصحة الإقرار بهذه الحقوق الفردية مايشترط للإقرار بحقوق الله تعالى من التعدد، وكونه في مجلس القضاء، والنطق بعبارة صريحة، وإنما يصح الإقرار فيها من الأخرس؛ كما لا يشترط لصحة الإقرار بها الصحو، فيصح إقرار السكران بها. وهذه الحقوق تثبت مع الشبهات، بخلاف حقوق الله تعالى. والشروط المختصة بالإقرار بحقوق العباد عند الحنفية هي ما يأتي (¬1): أولاً ـ أن يكون المقر له معلوماً، سواء أكان موجوداً أم حملاً في البطن: فلو كان المقر له مجهولاً، بأن قال إنسان: (لواحد من الناس علي ألف درهم) لا يصح الإقرار؛ لأنه لا يملك أحد مطالبته بمقتضى إقراره. ولو قال: (لحمل هند علي ألف درهم): فإن عزا إقراره لسبب مقبول، يصلح لثبوت الملك له، من طريق إرث أو وصية (¬2)، كأن يقول: مات أبو الحمل، فورث الحمل هذا الألف، أو يقول: أوصى بالألف فلان لهذا الحمل، صح الإقرار، وكان المبلغ المقر به للحمل، أي الجنين بالاتفاق. ¬
وحينئذ إن جاءت هند هذه بالولد في مدة يعلم أنه كان قائماً وقت الإقرار، لزم المقر ما أقر به. وإن جاءت به ميتاً، فالمال للموصي والمورث؛ لأنه إقرار في الحقيقة لهما، وإنما ينتقل إلى الجنين بعد الولادة، ولم ينتقل في الواقع، فيقسم بين ورثة المورث. ولو جاءت بولدين حيين، فالمال بينهما. وإن بين المقر سبباً مستحيلاً في العادة لا يمكن حدوثه من الجنين، كأن قال: أقرضني أو باعني شيئاً، فالإقرار باطل لاغ اتفاقاً. وإن أبهم الإقرار، أي أطلقه، فلم يبين سبباً صالحاً يتصور لثبوت الملك للحمل كالإرث والوصية: لم يصح الإقرار عند أبي يوسف، قيل: وأبو حنيفة معه؛ لأنه لا يثبت للجنين شيء من الحقوق المالية، سواء أكان من جهة التجارة والمعاملة، أم من جهة الجناية، ومطلق الإقرار ينصرف إلى الإقرار بحق ثابت بسبب التجارة، فيعتبر كأن المقر صرح به، وهو غير مقبول منه. وقال محمد والشافعي في الأظهر ومالك وأحمد: يصح الإقرار للحمل إذا أطلقه المقر، أي لم يسنده إلى سبب كإرث أو وصية، ويحمل إقراره على سبب الملكية المتصور للحمل، بأن يحمل على أن هذا المبلغ أوصى به رجل، أو مات مورث الحمل وتركه ميراثاً له؛ لأن الإقرار حجة شرعية، فإذا صدر من أهله في محله، فيجب إعماله، وقد أمكن العمل به على النحو المذكور (¬1). هذا هو حكم الإقرار للحمل. وأما الإقرار بالحمل فجائز اتفاقاً، كما إذا أقر بحمل شاة لرجل، صح إقراره والتزم المقر بما أقر به، سواء بيَّن سبباً صالحاً لثبوت الملك أو أبهم؛ لأن لإقراره وجهاً صحيحاً: وهو الوصية بالحمل من جهة غير ¬
المطلب الخامس ـ الإقرار بالأموال
المقر، بأن أوصى بالحمل مالك الشاة لرجل، ومات فأقر وارثه، وهو عالم بوصية مورثه بأن هذا الحمل لفلان (¬1). ثانياً ـ ألا يتعلق بالمقر به حق الغير؛ لأن حق الغير معصوم محترم، فلا يجوز إبطاله من غير رضاه، كإقرار المريض مرض الموت بدين لوارثه، لا يصح إقراره إلا بإجازة بقية الورثة؛ لأنه متهم في هذا الإقرار، إذ يجوز أنه آثر بعض الورثة على بعض. وسأفصل بحثه في مبحث لاحق. واشترط الشافعية شرطين في المقَرّ به: 1 - ألا يكون الحق المقر به ملكاً للمقر حين يقرّ به، لأن الإقرار إخبار عن كون الشيء مملوكاً للمقرّ له. 2 - أن يكون الحق المقرّ به في يد المقرّ، ليسلمه بالإقرار إلى المقرّ له، وإلا لم يتحقق مقتضى الإقرار. المطلب الخامس ـ الإقرار بالأموال: يصح الإقرار بالأموال، سواء أكان المال عيناً من الأعيان، أم ديناً ثابتاً في الذمة، وسواء أكان المقر به معلوماً أم مجهولاً باتفاق العلماء؛ لأن جهالة المقر به لا تمنع صحة الإقرار؛ لأن الحق قد يلزم الإنسان مجهولاً بأن أتلف مالاً لا يدري قيمته، أو يطالب بتعويض جناية على أعضاء الإنسان لا يعلم مقداره، فلا تمنع الجهالة صحة الإقرار، والإقرار: إخبار عن ثبوت الحق، فيصح به. وحينئذ يصح أن يقول المقر: علي شيء أو حق، فيلزمه مجهولاً، ثم يطالب ببيان المجهول، ¬
في الغصب
ليتمكن الغير من استيفائه، فإن لم يبين أجبره القاضي على البيان بالحبس ونحوه؛ لأن المقر لزمه تفريغ ذمته التي شغلها بصحيح إقراره، ويتم ببيان مقدار المقر به. وهذا بخلاف جهالة المقر له، فإن جهالته تفسد الإقرار؛ لأن المجهول لا يصلح مستحقاً، وبخلاف جهالة المقر، فإنها تفسد الإقرار أيضاً لجهالة المقضي عليه بوجوب دفع الحق إلى صاحبه، فلا يتمكن المقر له من المطالبة، فيصبح الإقرار عديم الفائدة (¬1). وعلى هذا، إن جهالة المقر به لا تمنع صحة الإقرار، وجهالة المشهود به تمنع صحة الشهادة والقضاء؛ لأنه لا يمكن القضاء بمجهول، وأما في الإقرار فيطالب المقر ببيان الشيء أو الحق الذي أقر به، والقول قوله مع يمينه. ويظهر الحكم في المسائل الآتية التي تعتبر نموذج القبول عند القاضي لبيان ما يبينه المقر: في الغصب: 1 ً - إذا أقر إنسان أنه «غصب من فلان مالاً» أو قال «لفلان علي شيء، أو حق» فالإقرار صحيح ويلزمه أن يبين شيئاً له قيمة، ولا يقبل منه أن يبين شيئاً لا قيمة له، لأنه في المثال الأول لا يرد الغصب إلا على ما هو مال، وفي المثال الثاني أخبر المقر عن التزامه شيئاً في ذمته، وما لا قيمة له لا يلزم في الذمة. 2ً - وإذا قال: «غصبت منه شيئاً» ثم بين ما لا قيمة له شرعاً، بأن قال: (غصبت صبياً حراً صغيراً) أو (خمراً لمسلم) أو (جلد ميتة) يصدق؛ لأن هذا مما يغصب عادة. ¬
3ً - ولو قال: (غصبت شاة أو ثوباً): فيصدق في بيان كون ذلك سليماً أو معيباً، أو قال: (غصبت داراً) يصدق سواء أكانت الدار في بلدة قريبة أم بعيدة؛ لأن الغصب يقع على حسب ما يصادف الشخص عادة، سواء أكان سليماً أم معيباً، ويصدق في بيان مكان الدار؛ لأنه أبهم المكان، فكان القول قوله في بيان المكان، ويلزمه تسليم الدار إلى المغصوب منه إن قدر على التسليم (¬1). وإن عجز عن التسليم، بأن خربت الدار، فالقول قول المقر عند أبي حنيفة وأبي يوسف، ولا يضمن العقار عندهما؛ لأنه غير مضمون القيمة بالغصب في رأيهما، وإنما هو مضمون الرد فقط؛ لأن معنى الغصب وهو إزالة يد المالك عن ماله بفعل في المال لم يوجد في العقار. وعند محمد: يضمن قية الدار؛ لأن العقار عنده مضمون الرد إن كان موجوداً، ومضمون القيمة أيضاً إن كان هالكاً؛ لأن الغصب إزالة يد المالك عن ماله، والفعل في المال ليس بشرط، وقد تحقق هذا المعنى بإبعاد يد المالك عن العقار (¬2). ¬
المكيال والميزان
المكيال والميزان: 4 ً- لو قال المقر: (علي مد حنطة أو رطل شعير) فيعتبر بيانه بحسب مد البلد أو رطل البلد الذي أقر فيه. الوزن أو العدد: 5 ً - لو قال: (علي ألف درهم) فهو على ما يتعارفه أهل البلد من اعتبار الوزن أو العدد. فإن لم يكن شيئاً متعارفاً، فيحمل على الوزن؛ لأن الدراهم في الأصل موزونة. ويلاحظ أن المعتبر في عرفنا اليوم هو العدد، فإذا أقر بألف ليرة ذهبية أو فضية، فينصرف إقراره إلى العدد، فيلزم بهذا المبلغ عدداً، لا وزناً؛ لأن الأوزان متحدة عند سك النقود. المقصود بدريهم ونحوه: 6 ً - لو قال: (لفلان علي دريهم أو دنينير) فيلزم بدرهم تام ودينار كامل؛ لأن التصغير قد يذكر لصغر الحجم، وقد يذكر لاستحقار الدرهم، ونحوهما. المقصود بدراهم ودنانير: 7 ً - لو قال: (لفلان علي دراهم أو دنانير) فيصدق على ثلاثة فأكثر؛ لأن أقل الجمع الصحيح ثلاثة. ولو قال: (علي دراهم كثيرة) يصدق في عشرة دراهم عند أبي حنيفة؛ لأنه جعل الكثرة صفة للدراهم، وأكثر ما يستعمل فيه اسم الدراهم هو العشرة، بدليل أنه إذا زاد على العشرة يقال: أحد عشر درهماً، واثنا عشر درهماً، ولا يقال: دراهم، فكانت العشرة أكثر ما يستعمل فيه اسم الدراهم، فلا تلزمه الزيادة عليها.
مفهوم المال العظيم أو الكبير
وعند الصاحبين: لا يصدق في أقل من مئتي درهم؛ لأن المقر به دراهم كثيرة، وما دون المئتين في حد القلة، ولهذا لم يعتبر ما دونه نصاباً للزكاة. مفهوم المال العظيم أو الكبير: 8 ً ـ لو قال المقر: (لفلان علي مال عظيم) أو (كثير) أو (كبير): فعليه مئتا درهم باتفاق الحنفية على المشهور عندهم؛ لأنه أقر بمال موصوف بوصف العظم، ونصاب الزكاة، أي المال الذي تجب فيه الزكاة: وهو المئتا درهم عظيم شرعاً وعرفاً، بدليل أنه اعتبر مالكه غنياً به، فأوجب عليه الشرع مواساة الفقراء، والغني عظيم عند الناس، حتى إنه يعد من الأغنياء عادة بملكه النصاب الشرعي. هذا إذا كان المقر به من الدراهم، فإن كان من غيرها فيقدر بأقل النصاب الشرعي الواجب فيه الزكاة فيها، فإذا قال: (علي دنانير كثيرة) فيلزمه عشرون، وفي الإبل خمس وعشرون، وفي الحنطة خمسة أوسق أي (653) كغ تقريباً. وإن قال: (علي أموال عظام) فعليه ست مئة درهم؛ لأن عظام جمع عظيم، وأقل الجمع الصحيح ثلاثة، وهذا على المشهور عند الحنفية (¬1). وقال الشافعية: لو أقر بمال أو بمال عظيم أو كبير أو كثير: قبل في تفسيره قليل المال وكثيره، لأن ما من مال إلا وهو عظيم وكثير بالنسبة إلى ما هو دونه. وقال المالكية والشافعية والحنابلة: إن قال: (له علي دراهم) لزمه ثلاثة؛ لأنه جمع، وأقل الجمع ثلاثة، وكذلك يلزمه ثلاثة عند الشافعية والحنابلة إن قال: ¬
المقصود بنوع الدراهم
(له علي دراهم كثيرة)؛ لأن الكثرة والعظمة لا حد لهاشرعاً ولا لغة ولا عرفاً، وتختلف بحسب النسب والإضافة وأحوال الناس، فالثلاثة أكثر مما دونها، وأقل مما فوقها. وقال المالكية: يلزمه أربعة؛ لأن الرابع أول مبادئ كثرة الجمع (¬1). المقصود بنوع الدراهم: إذا قال المقر: (لفلان علي ألف درهم) ولم يبين سبب الالتزام من بيع أو قرض ونحوهما: ثم قال: (هي زيوف) فيصدق إذا كان البيان متصلاً بالكلام السابق، فإن كان منفصلاً لا يصدق، لأن اسم الدراهم اسم جنس يقع على الجياد والزيوف، فكان قوله (زيوف) بياناً للنوع، فيصح بشرط كونه متصلاً بما سبق، لا منفصلاً عنه. ولو قال: (لفلان عندي ألف درهم) ثم قال: (هي زيوف): يصدق سواء أكان البيان متصلاً بما قبله أم منفصلاً؛ لأن هذا إقرار بالوديعة، والوديعة مال محفوظ عند الوديع، قد يكون جيداً، وقد يكون رديئاً. والغصب في هذا مثل الوديعة. فإن قال: (لفلان علي ألف درهم ثمن مبيع) أي بين سبب الالتزام، ثم قال: (هي زيوف) فلا يصدق، ويلزمه الجيد عند أبي حنيفة، سواء أكان البيان متصلاً أم منفصلاً؛ لأن البيع عقد معاوضة، فيتطلب سلامة العوضين عن العيوب؛ لأن كل عاقد لا يرضى إلا بالعوض السليم عن العيب، فكان إقراره بكون الدراهم ثمناً إقراراً بصفة السلامة عن العيوب، فيعتبر بيانه بعدئذ بالزيافة رجوعاً عن الإقرار، والرجوع عن الإقرار لا يصح، كما إذا قال: (بعتك هذا الثوب على أنه معيب) لا يصدق وإن كان بيانه متصلاً بما قبله، فكذا الحالة التي هنا. ¬
الاختلاف بين المقر والمقر له في اقتضاء الدين أو صفة وجود الشيء عند المقر
وقال الصاحبان: يصدق إن وصل كلامه بأصل الإقرار، وإن فصل لا يصدق؛ لأن اسم (الدراهم) كما يطلق على الجياد، يطلق على الزيوف؛ لأن «الدراهم» اسم جنس، والجيد والرديء نوعان منها، فإذا أطلق لفظ (الدراهم) انصرف إلى الجياد، فيصح بيان المقر إذا كان متصلاً بما قبله، لتعيينه بعض ما يحتمله اللفظ، ولا يصح منفصلاً، حتى لا يكون رجوعاً عن الإقرار. ولو قال: (لفلان علي ألف درهم قرضاً) ثم قال: (هي زيوف) ففيه روايتان: رواية بالتفصيل مثل قول الصاحبين في البيع: إن وصل يصدق وإن فصل لا يصدق، ورواية تقرر أنه لا يصدق مثل قول أبي حنيفة في البيع؛ لأن القرض في الحقيقة مثل البيع: مبادلة مال بمال. الاختلاف بين المقر والمقر له في اقتضاء الدين أو صفة وجود الشيء عند المقر: لو قال: (اقتضيت من فلان ألف درهم كانت لي عليه) أو قال: (استوفيت) أو (قبضت) أو (أخذت) وأنكر المقر له، فقال: (لم يكن لك علي شيء) وقال: (هو مالي قبضته مني) فالقول قول المقر له مع يمينه، ويؤمر المقر برد الألف إلى المقر له، لأن الإقرار بالاقتضاء إقرار بالقبض، والقبض موجب للضمان، فهو بادعائه القبض على أساس اقتضاء الألف ديناً له، يدعي براءته عن الضمان، والآخر ينكر فيكون القول قوله مع يمينه. وكذلك إذا أقر الشخص أنه قبض من آخر ألف درهم كانت وديعة عنده، وأنكر المقر له، قائلاً: (بل أخذتها غصباً) فالقول قول المقر له، لما بينت. أما لو قال: (أودعني فلان ألف درهم) فقال فلان هذا: (لا، بل أخذتها
الاستثناء في الإقرار
غصباً): فالقول قول المقر مع يمينه؛ لأن المقر ما أقر بسبب الضمان وهو الأخذ أو القبض، بخلاف ما سبق (¬1). الاستثناء في الإقرار: إن استثناء بعض ما دخل في المستثنى منه جائز بغير خلاف، فهو ثابت في لغة العرب، وورد في الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً} [العنكبوت:29/ 14] وقال: {فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس} [الحِجر:15/ 30] وقال النبي صلّى الله عليه وسلم في الشهيد: «يكفِّر عنه خطاياه كلها إلا الدين» (¬2). فإذا أقر رجل بشيء واستثنى منه، كان مقراً بالباقي بعد الاستثناء، فإذا قال: (له علي مئة إلا عشرة) كان مقراً بتسعين، ولذا قال في تعريف الاستثناء: إنه تكلم بالباقي بعد الثُنْيا (¬3). ولا يصح الاستثناء إلا أن يكون متصلاً بالكلام السابق، بأن يتصل المستثنى بالمستثنى منه بحيث يعد معه كلاماً واحداً عرفاً، فلا يصح الفصل بسكوت طويل وكلام أجنبي؛ لأن الاستثناء مغاير لما قبله، ولايضر الفصل اليسير لعارض كسكتة تنفس أو عي أو تذكر أو انقطاع صوت أو سعال أو عطاس، ويصح استثناء القليل من الكثير اتفاقاً، كما يصح عند الحنفية فقط استثناء الكثير من القليل في ظاهر الرواية. ولايصح استثناء الكل من الكل بغير خلاف؛ لأن الاستثناء رفع بعض ¬
1 - استثناء القليل من الكثير
ما تناوله اللفظ، واستثناء الكل رفع الكل، فلو صح الاستثناء صار الكلام لغواً غير مفيد. ويجوز الاستثناء من الاستثناء، بالعطف أو بدونه مثل: «علي عشرة إلا ثلاثة وإلا درهمين» فيكون مستثنياً لخمسة مبقياً لخمسة، ومثل قوله تعالى: {قالوا: إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين، إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين، إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين} [الحِجر:58/ 15 - 60]. ويصح عند المالكية والشافعية الاستثناء في الإقرار من غير الجنس، ولا يصح ذلك عند الحنفية والحنابلة (¬1). وتفصيله يعرف من التطبيقات الآتية: واشترط الفقهاء أيضاً شرطاً آخر: وهو ألا يستغرق المستثنى المستثنى منه، فيصح الإقرار إذا قال المقر: له علي خمسة إلا أربعة، ولا يصح إذا قال: له علي خمسة إلا خمسة، فاستثناؤه باطل، وتلزمه الخمسة كلها؛ لأنه أقرَّ بها. 1 - استثناء القليل من الكثير: إذا قال المقر: (علي عشرة دراهم إلا ثلاثة دراهم) يلزمه سبعة دراهم، لأن الاستثناء تكلم بالباقي بعد الثنيا، كأنه قال: لفلان علي سبعة دراهم. وكذا إذا قال: (علي ثلاثة دراهم غير درهم) يلزمه درهمان؛ لأن كلمة (غير) بالنصب تفيد الاستثناء. ¬
2 - استثناء الكثير من القليل
ولو قال: (لفلان علي ألف درهم سوى ثلاثة دراهم) يلزمه ما عدا المستثنى؛ لأن (سوى) من ألفاظ الاستثناء. وكذا إذا قال: (علي ثلاثة دراهم إلا درهماً) فعليه درهمان. ولو قال: (علي عشرة إلا ثلاثة) يلزمه سبعة. ولو قال: (إلا سبعة) يلزمه ثلاثة؛ لأن الاستثناء تكلم بالباقي بعد الاستثناء. ولو قال: (لفلان علي ألف إلا قليلاً) فعليه أكثر من نصف الألف، والقول قول المقر في الزيادة على النصف مع يمينه؛ لأن القليل من أسماء النسبة أو الإضافة، فيقتضي أن يكون ما يقابله أكثر منه، ليكون هو بالإضافة إليه قليلاً. وكذا إذا قال: (علي قريب من الألف) أو (زهاء ألف) أو (عُظْم الألف)، لأن هذا أكثر من النصف بيقين، وفي الزيادة: القول قوله. 2 - استثناء الكثير من القليل: إذا قال المقر: (لفلان علي تسعة دراهم إلا عشرة) فيجوز الاستثناء في ظاهر الرواية عند الحنفية، ويلزمه العشرة؛ لأن الاستثناء تكلم بالباقي بعد الثنيا، وهذا المعنى متحقق في استثناء الكثير من القليل، إلا أنه مستقبح في كلام العرب؛ لأن الاستثناء لاستدراك الغلط، ومثل هذا الغلط مما يندر وقوعه غاية الندرة. وقال أبو يوسف وبقية علماء المذاهب: لا يجوز هذا الاستثناء؛ لأنه لم يرد في كلام العرب. 3 - استثناء الكل من الكل: هو مثل أن يقول شخص: (لفلان علي عشرة دراهم إلا عشرة) يكون
4 - الاستثناء من الاستثناء
الاستثناء لاغياً بالاتفاق، ويلزمه جميع ما أقر به قبل الاستثناء وهو عشرة دراهم؛ لأن هذا ليس باستثناء، وإنما هو رجوع عما تكلم به، والرجوع عن الإقرار في حقوق الناس لا يصح، فبطل الرجوع، وبقي الإقرار. 4 - الاستثناء من الاستثناء: الاستثناء من الاستثناء يكون استثناء المستثنى، أي من الكلام الذي يليه، لكونه أقرب المذكور إليه، ثم ينظر إلى الباقي من المستثنى، فيستثنى من المستثنى منه، أي ما قبل (إلا) أو غيرها من أدوات الاستثناء، مثل أن يقول: (علي عشرة دراهم إلا ثلاثة إلا درهماً) يكون إقرار بثمانية؛ لأننا صرفنا الاستثناء الأخير إلى ما يليه، فبقي درهمان يستثنيان من العشرة، فيبقى ثمانية. ولو قال: (لفلان علي عشرة دراهم إلا خمسة إلا ثلاثة إلا درهماً) يكون إقرراً بسبعة؛ لأنا جعلنا الدرهم مستثنى مما يليه، وهي ثلاثة، فبقي درهمان استثناها المقر من خسمة، فبقي ثلاثة استثناها من أصل المستثنى منه فبقي سبعة. وهكذا. 5 - الاستثناء من غير الجنس (أو الاستثناء المنقطع): قال أبو حنيفة وأبو يوسف: إذا كان الاستثناء من غير جنس المستثنى منه ينظر: إن كان المستثنى مما لا يثبت ديناً في الذمة مثل: (لفلان علي عشرة دراهم إلا ثوباً) لا يصح الاستثناء؛ لأن المستثنى منه وهو العشرة دراهم ثبت بالإقرار ديناً في الذمة، وأما المستنثى وهو الثوب: فهوعين من الأعيان لا يحتمل الثبوت والالتزام به في الذمة، فلا يكون من جنس المستثنى منه، إذ لا مجانسة بين الثياب والدراهم، لا في الاسم ولا في احتمال الالتزام به في الذمة، فلا يتحقق معنى
الاستثناء أصلاً. ثم إنه لا يعرف قدر الثوب من الدراهم، فيكون المستثنى مجهولاً، وجهالة المستثنى توجب جهالة المستثنى منه، فلا يصح الاستثناء. وأما إن كان المستثنى مما يثبت ديناً في الذمة وهو المكيل والموزون والعددي المتقارب كالجوز والبيض، بأن قال: (لفلان علي مئة درهم إلا ديناراً أو إلا قفيز حنطة) صح الاستثناء عند الشيخين من الحنفية، ويلزمه مئة درهم إلا قدر قيمة ما استثناه من الدينار أو القفيز؛ لأن المجانسة بين المستثنى والمستثنى منه شرط عندهما، والمجانسة بين الدينار والدرهم متحققة إذ أن كلاً منهما من جنس الأثمان التي تقدر بها قيم الأشياء، والمجانسة بين الدراهم والمكيل والموزون ونحوها متحققة أيضاً؛ لأن كلاً منها يمكن أن يثبت ديناً في الذمة حالاً مؤجلاً، وذلك إذا وصف المكيل أو الموزون، ويكفي تحقق المجانسة بهذا المعنى. وقال محمد وزفر والحنابلة، لا يصح الاستثناء في الإقرار من غير الجنس مطلقاً، سواء أكان المستثنى ثوباً أم مكيلاً أم موزوناً؛ لأن معنى الاستثناء ـ وهو (إخراج بعض ما تناوله المستثنى منه على معنى أنه لولا الاستثناء لكان داخلاً تحت اللفظ) ـ لا يتصور في خلاف الجنس، فغير الجنس المذكور ليس بداخل في الكلام، فلا يكون استثناء. وقال مالك والشافعي: يصح الاستثناء من غير جنس المستثنى منه، مثل (لفلان علي ألف من الدراهم إلا ثوباً) يعني إلا قدر قيمة ثوب؛ لأنه ورد في القرآن الكريم ولغة العرب، قال الله تعالى: {وإذ قلنا للملائكة: اسجدوا لآدم، فسجدوا إلا إبليس كان من الجن} [الكهف:18/ 50] وقال الله تعالى: {فإنهم عدو لي إلا رب العالمين} [الشعراء:77/ 26] وقال سبحانه: {ما لهم به من علم إلا اتباع الظن} [النساء:157/ 4] وقال الله عز وجل: {لا يسمعون فيها لغواً إلا سلاماً} [مريم:62/ 19]
6 - الاستثناء أو التعليق بمشيئة الله
وقال الشاعر: وبلدةٍ ليس بها أنيس ..... ..... إلا اليعافير، وإلا العيس (¬1) 6 - الاستثناء أو التعليق بمشيئة الله: اتفق الحنفية، والشافعية على المذهب على أن المقر إذا قال: (لفلان علي ألف إن شاء الله) أو (إلا أن يشاء الله) لم يلزمه شيء، سواء قدَّم الألف على المشيئة أم لا؛ لأنه لم يجزم الالتزام، بل علقه بالمشيئة، ومشيئة الله مغيبة عنا. وكذلك لا يلزمه شيء إذا قال: (لفلان علي ألف درهم إن شاء فلان) فالإقرار باطل؛ لأن مشيئة غير الله لا توجب شيئاً (¬2). العطف في الإقرار: لو قال المقر: (علي درهم ودرهم) أو (درهم فدرهم) أو (درهم ثم درهم): لزمه درهمان عند الحنفية والحنابلة والمالكية؛ لأن حرف العطف يقتضي الجمع والتشريك بين المعطوف والمعطوف عليه. وقال الشافعية: إن أقر بدرهم في وقت، ثم أقر بدرهم في وقت آخر: لزمه درهم واحد، لأنه إخبار، فيجوز أن يكون قوله خبراً عما أخبر به أولاً، وهذا مذهب الحنابلة أيضاً خلافاً للحنفية. وإن قال: (علي درهم ودرهم) أو (درهم ثم درهم): لزمه درهمان؛ لأن الواو تقتضي أن يكون المعطوف غير المعطوف عليه. وإن قال: (درهم فدرهم) لزمه درهم واحد إذا لم يرد العطف؛ لأنه يحتمل الصفة ¬
الاستدراك في الإقرار
أي فدرهم لازم لي أو أجود منه (¬1). وقال الحنفية (¬2): لو قال المقر: (علي ألف ونيِّف) فعليه الألف، والقول قوله في بيان النيف؛ لأنه عبارة عن الزيادة. ولو قال: (لفلان علي بضع وخمسون درهماً) لا يصدق في بيان البضع في أقل من ثلاثة دراهم؛ لأن البضع في اللغة من الثلاثة إلى التسعة، فيحمل على أقل المتعارف؛ لأنه متيقن به. ولو قال: (علي لفلان مئة درهم) فالمائة: دراهم. ولو قال: (مئة ودينار) فالمائة: دنانير، ويكون المعطوف عليه من جنس المعطوف، وهذا هو الحكم أيضاً في كل مكيل وموزون وعددي متقارب؛ لأنها تثبت ديناً في الذمة. أما في عروض السلع كالثياب والعددي المتفاوت كالبطيخ والرمان ونحوهما، بأن قال: (علي مئة وثوب) أو (عشرة ودابة) أو (ألف ورمانة) فيلزمه المعطوف المسمى وهو الثوب أو الدابة ونحوهما. والمرجع في بيان المعطوف عليه وهو المئة وغيرهما إليه، لعطفه مفسراً على مبهم، والعطف لم يوضع للبيان، فبقيت المئة مبهمة، فيرجع في البيان إليه؛ لأنه هو الذي أبهم الكلام. الاستدراك في الإقرار: الاستدراك إما أن يكون في الصفة أو في القدر، والاستدراك في القدر إما أن ¬
يكون في نفس الجنس، أو في غير الجنس، فهذه ثلاثة أنواع للاستدراك (¬1). 1 - الاستدراك في الصفة: بأن يقول: (علي قفيز حنطة جيدة، لا بل وسط) فيلزمه الأجود عند الحنفية؛ لأنه غير متَّهم في زيادة الصفة، متَّهم في نقصان الصفة، فكان مستدركاً في الجيد، راجعاً في الوسط، فيصح استدراكه، ولا يصح الرجوع عن الإقرار. 2 - الاستدراك في القدر في نفس الجنس: بأن يقول: (علي ألف درهم، لا بل ألفان) أو قال: (علي دينار، لا بل ديناران) فيلزمه الأكثر في المذاهب الأربعة؛ لأن الإقرار إخبار، والمخبر عنه مما يجري الغلط في قدره أو صفته عادة، فيحتاج إلى استدراك الغلط فيه، فيقبل الاستدراك إذا لم يكن متهماً فيه؛ لأنه نفى الاقتصار على درهم واحد أو دينار واحد، وأثبت الزيادة عليه. 3 - الاستدراك في القدر بخلاف الجنس: بأن يقول: (علي ألف درهم، لا بل مئة دينار) أو (علي قفيز حنطة، بل قفيز شعير): وحكمه أنه يلزمه جميع ما أقر به عند جمهور الفقهاء؛ لأن الغلط في خلاف الجنس لا يقع عادة، فلا يحتاج لاستدراكه، ولأن ما قبل الاستدراك لا يمكن أن يكون نفس ما بعده ولا بعضه، فكان مقراً بهما، ولا يقبل رجوعه عن شيء منهما. وقال المالكية: لو قال المقر: (علي درهم، لا بل ديناران) فإن الدرهم يسقط، ويلزمه الديناران؛ لأن (بل) نقلت حكم الأول للثاني، و (لا) للتأكيد على مذهب جمهور النحاة (¬2). ¬
المطلب السادس ـ الإقرار في حال الصحة
المطلب السادس ـ الإقرار في حال الصحة وفي حال المرض: المراد بالصحيح: من ليس في مرض الموت، سواء أكان غير مريض أصلاً أم مريضاً بغير مرض الموت. والمراد بالمريض: من هو في مرض الموت (¬1). فالمقصود من المرض والصحة هو المعنى الشرعي الذي تتبدل به الأحكام بحسب حالة كل منهما، وذلك في الطلاق والوصايا والإقرار وغيرهما، وليس المقصود بهما المعنى اللغوي. ومرض الموت: هو المرض الذي يعجز صاحبه عن ممارسة أعماله المعتادة على أن يكون مما يخاف منه الهلاك غالباً، ويتصل به الموت فعلاً. فهذه ثلاث صفات لابد من تحقيقها كلها، بحيث لو لم تتحقق واحدة منهن لم يعتبر المرض مرض موت. فلو كان المرض يسيراً لا يمنع صاحبه من القيام بشؤون نفسه كما يعتاده الصحيح، أو كان مما تغلب النجاة منه عادة، ولو مات منه فعلاً، أو كان مما يخاف منه الهلاك غالباً، ولكنه لم يمت فعلاً، فإنه لا يعد مرض موت، وحينئذ يعتبر تصرف المريض فيه كتصرف الصحيح في الصحة والنفاذ (¬2). والإقرار في حال الصحة: يصح للوارث والأجنبي، وينفذ من جميع مال المقر، لعدم تعلق حق الورثة بماله في حال الصحة، بل يثبت الدين في الذمة، وإنما يتعلق الدين بالتركة حالة المرض، أي يتعين فيها وينتقل من الذمة إليها. وعلى هذا فلا يقدم الدين السابق على اللاحق، ويتساوى الغرماء أي (الدائنون) في أخذ حقوقهم إذا صار المدين مريضاً، فليس لأحد أفضلية على الآخرين، ولا يحق للمدين أن يؤثر في حال مرضه بعض الغرماء على بعض، بعكس حال الصحة، فإن له أن يؤثر البعض. ¬
الإقرار في المرض
والإقرار في المرض نوعان: إقرار باستيفاء الدين من غيره، وإقرار بالدين لغيره. أما إقرار المريض باستيفاء الدين من غيره: فيصح إذا كان الدين على أجنبي في حال الصحة، ولا يصح إذا كان الدين ناشئاً حال المرض لتعلق حق الغرماء بمال المريض. كذلك لا يصح إذا أقر باستيفاء دين وجب له على وارث؛ لأن إقراره بالاستيفاء إقرار بالدين، وإقرار المريض لوارثه باطل. وأما إقرار المريض بالدين لغيره: فإن كان إقراراً لأجنبي جاز عند أكثر العلماء؛ لأنه غير متهم به في حقه، قال عمر وابنه عبد الله: (إذا أقر المريض بدين لأجنبي، جاز ذلك من جميع تركته). وإن كان إقراراً بالدين لوارث: لم يصح إقراره عند الحنفية والحنابلة إلا ببينة أو بموافقة بقية الورثة أو بمشاهدة القاضي؛ لأنه متهم في هذا الإقرار، لجواز أنه آثر بعض الورثة على بعض، ولأنه تعلق حق الورثة بماله في مرضه، ولهذا يمنع من التبرع على الوارث أصلاً. وقال عمر وابنه في الأثر السابق: (إذا أقر المريض لوارثه لم يجز) وروى الدراقطني في سننه عن جعفر بن محمد عن أبيه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: (لاوصية لوارث، ولا إقرار له بالدين) (¬1) إلا أن هذه الزيادة في الحديث غير مشهورة، وإنما المشهور هو قول ابن عمر السابق. فإن صدق المقر بقية الورثة فيما أقر به لواحد منهم صح الإقرار؛ لأن المانع تعلُّق حقهم في التركة، فإذا صدقوه زال المانع (¬2). ¬
وهنا ذكر فقهاء الحنفية (¬1) مسائل، فقالوا: من أقر بدين لأجنبي عنه في مرض موته ثم قال: هو ابني، ثبت نسبه منه وبطل إقراره له؛ لأن دعوى النسب تستند إلى وقت العلوق (بدء الحمل) فتبين أنه أقر لابنه فلا يصح إقراره. ولو أقر لأجنبية، ثم تزوجها، لم يبطل إقراره لها؛ لأن الزوجية طارئة يقتصر وجودها على زمان التزوج. ومن طلق زوجته في مرض موته طلاقاً ثلاثاً أو أقل بطلب منها ثم أقر لها بدين ومات وهي في العدة، فلها الأقل من الدين الذي أقر به، ومن ميراثها منه؛ لأن الزوجين متهمان في ذلك، لجواز أن يكونا توصلا بالطلاق إلى تصحيح الإقرار، فيثبت أقل الأمرين. فإن تم الطلاق بغير طلب المرأة، كان الزوج فارَّاً بطلاقه لحرمانها من الميراث، فلها الميراث بالغاً ما بلغ ويبطل الإقرار. وإذا انقضت عدتها قبل موته، ثبت إقراره ولا ميراث لها. وقال الشافعية على المذهب: يصح إقرار المريض مرض الموت لوارث، كما يصح لأجنبي؛ لأن من صح إقراره له في الصحة، صح إقراره في المرض كالأجنبي؛ ولأن الظاهر أن المقر محق في إقراره؛ لأنه انتهى إلى حالة يصدق فيها الكاذب، ويتوب فيها الفاجر (¬2). ومنشأ الخلاف بين الحنفية والشافعية في الإقرار هو أن الشافعية قالوا: إن الفعل إذا وجد مطابقاً لظاهر الشرع حكم بصحته، ولا تعتبر التهمة في الأحكام؛ لأن الأحكام تتبع الأسباب الجلية دون المعاني الخفية. وقال أبو حنيفة رضي الله ¬
هل يفضل دين الصحة؟
عنه: كل فعل تمكنت التهمة فيه، حكم بفساده، لتعارض دليل الصحة والفساد (¬1). وقال المالكية: يصح إقرار المريض مرض الموت إذا لم يتهم المقر في إقراره، ويبطل إن اتهم، كمن له بنت وابن عم، فأقر لابنته، لم يقبل، وإن أقر لابن عمه قبل، لأنه لا يتهم في أنه يمنع ابنته ويصل ابن عمه (¬2). هل يفضل دين الصحة؟ لو أقر شخص في صحته بدين لإنسان، وأقر في مرضه لآخر: فقال الحنفية: دين الصحة وما لزمه في مرضه بسبب معروف، أي (ما ليس بتبرع) يقدم على ما أقر به في مرض موته، فإذا أقر رجل في مرض موته بديون، وكان عليه ديون لزمته حال صحته، سواء علم سببها أو ثبتت بإقراره، وعليه أيضاً ديون لزمته في مرضه، لكن علم سببها كبدل شيء تملكه أو أهلكه، أو مهر مثل امرأة تزوجها: فدين الصحة والدين الذي عرف سببه حال مرضه مقدم على ما أقر به في مرضه؛ لأن الإقرار لا يعتبر حجة إذا كان فيه إبطال حق الغير، وإقرار المريض يترتب عليه إبطال حق الغير؛ لأن حق غرماء الصحة تعلق بمال المريض بدلاً من ذمته كما أشرت، ولهذا منع المريض مرض الموت من التبرع ومحاباة أحد الغرماء مطلقاً إذا أحاطت الديون بماله، فإن لم يكن عليه دين يمنع من التبرع بما يزيد عن ثلث التركة. وإنما تقدم ديون المرض المعروفة السبب ببينة أو بمعاينة القاضي؛ لأنه لا تهمة في ثبوتها؛ لأن الشيء المعاين لا مرد له. ولا يجوز للمريض أن يحابي أحد الغرماء، فيقضي دين البعض دون البعض؛ لأن في إيثار البعض إبطال حق ¬
الباقين، إلا إذا قضى الدين الذي استقرضه في مرضه، أو نقد ثمن ما اشتراه أثناء مرضه. فإذا قضيت ديون الصحة والديون المعروفة الأسباب، وفضل شيء عنها، كان ذلك الفاضل مصروفاً فيما أقر به حال المرض؛ لأن الإقرار في ذاته صحيح، لكنه لم ينفذ في حق غرماء الصحة، فإذا لم يبق لهم حق ظهرت صحته. وإن لم يكن على المريض ديون في صحته: جاز إقراره؛ لأنه لم يتضمن إبطال حق الغير، وكان المقر له أولى من الورثة؛ لأن قضاء الدين مقدم على حقوق الورثة. هذا هو مذهب الحنفية (¬1). وقال جمهور الفقهاء: دين الصحة ودين المرض يتساويان، فلا يقدم دين الصحة على دين المرض؛ لأنهما حقان يجب قضاؤهما من رأس المال ولم يختص أحدهما برهن، فاستويا كما لو ثبتا ببينة، أي أنهما يستويان لاستواء سببهما وهو الإقرار الصادر عن كامل الأهلية، بل إن الباعث على صدق المقر حال المرض أقوى منه حال الصحة؛ لأن المرض سبب التورع عن المعاصي والتوبة عما جرى في الماضي (¬2). ومنشأ الخلاف بين الحنفية وغيرهم في دين الصحة والمرض هو القاعدة السابقة التي ذكرها الزنجاني، فعند الشافعي ومن وافقهم يتساوى إقرار الصحة وإقرار المرض في استحقاق الغرماء من التركة؛ إذ الإقرار مشروع في حالتي الصحة والمرض، ولا تعتبر التهمة في الأحكام. وقال الحنفية: إن الإقرار حال ¬
المطلب السابع ـ الإقرار بالنسب
الصحة أقوى من حيث إنه صادف حالة إطلاق الحرية في التصرف. وإقرار المرض صادف حال الحجر والمنع من التبرعات، فهو متهم فيه من حيث إن الشرع قدرة التبرع، فلا يؤمن عدوله من التبرع إلى الإقرار (¬1). المطلب السابع ـ الإقرار بالنسب: يمكن الإقرار ببنوة طفل تصحيحاً لوضع سابق كزواج مكتوم، لا من زنى. وهذا الإقرار بالنسب ـ أي القرابة ـ نوعان: الأول: أن يلحق المقر النسب بنفسه. الثاني: أن يلحقه بغيره. وإلحاق النسب بالغير قد يثبت النسب، وقد يقتصر فقط على المشاركة بالإرث دون ثبوت النسب. وقد اشترط الفقهاء شروطاً أربعة لصحة إقرار الإنسان بنسب على نفسه، أي باستلحاق النسب من نفسه. وهي (¬2): 1ً - أن يكون المقر به مجهول النسب: فإن كان معروف النسب من غيره، لم يصح استلحاقه بالإقرار؛ لأن النسب الثابت من شخص لا ينتقل إلى غيره ولا يحتمل ثبوته له، ولأن المقر يقطع نسب المقر به الثابت من غيره. وقد لعن النبي صلّى الله عليه وسلم من انتسب إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه (¬3). ¬
2ً - أن يكون المقر به محتمل الثبوت من نسب المقر، فلا يكذبه الحس ظاهراً أو لا ينازعه فيه منازع، بأن يكون في سن يمكن أن يكون منه بحيث يولد مثله لمثله، فلو كان المقر به في سن لا يتصور كونه منه، أو كان المقر مقطوع الذكر والانثيين من زمن يتقدم على زمن بدء الحمل بالمقر به، لم يصح الإقرار بثبوت نسبه؛ لأن الحس يكذبه. وكذلك إذا نازع المقر منازع آخر غيره لم يثبت نسبه؛ لأنه إذا نازعه فيه غيره تعارض الإقراران، فلم يكن إلحاقه بأحدهما أولى من الآخر. 3ً - أن يصدق المقر له في إقراره إن كان أهلاً للتصديق بأن يكون مكلفاً، أي بالغاً عاقلاً عند الجمهور، أو يستطيع أن يعبر عن نفسه، أي يكون مميزاً عند الحنفية؛ لأن الولد له حق في نسبه، وهو أعرف به من غيره. فإن كان الولد صغيراً لا يعبر عن نفسه ـ بحسب رأي الحنفية ـ لم يعتبر تصديقه، لأنه بمنزلة المتاع. وقال المالكية: ليس تصديق المقر به شرطاً لثبوت النسب من المقر؛ لأن النسب حق للولد على الأب، فيثبت بإقراره بدون توقف على تصديق من الولد إذا لم يقم دليلاً على تكذيب المقر. 4ً - ألا يكون فيه حمل النسب على الغير، سواء كذبه المقر له أم صدَّقه؛ لأن إقرار الإنسان حجة قاصرة على نفسه، لا على غيره؛ لأنه على غيره شهادة أودعوى، وشهادة الفرد فيما يطلع عليه الرجال غير مقبولة، والدعوى المفردة ليست بحجة. وهذه الشروط تشترط أيضاً في الإقرار بنسب على الغير ما عدا الشرط الأخير بالطبع، فإنه لا يشترط عند الحنفية. وقال الشافعية والحنابلة: يثبت النسب بالإقرار على الغير بالشروط السابقة،
يقول الحنفية في الإقرار بالنسب وفي حمل النسب على الغير
وبشرط كون المقر جميع الورثة، وبشرط كون الملحق به النسب ميتاً، فلا يلحق بالحي ولو مجنوناً لاستحالة ثبوت نسب الشخص ـ مع وجوده حياً ـ بقول غيره. وعلى هذا يقول الحنفية في الإقرار بالنسب وفي حمل النسب على الغير ما يأتي: 1 - الإقرار بالنسب: يجوز إقرار الرجل بالوالدين، والولد، والزوجة، سواء في حالة الصحة أو المرض، كهذا ابني أو أنا أبوه؛ لأنه إقرار على نفسه، وليس فيه حمل النسب على الغير، وذلك بالشروط المتقدمة، وبشرط أن تكون الزوجة خالية عن زوج وعن عدته، وأن يخلو المقر عن أخت الزوجة أوعمتها أو خالتها، وألا يكون في عصمته أربع سواها. ويقبل إقرار المرأة بالوالدين والزوج لما تقدم، ولا يقبل إقرارها بالولد؛ لأن فيه حمل النسب على الغير، وهو نسب الولد على الزوج، قال الله تعالى: {ادعوهم لآبائهم} [الأحزاب:5/ 33] فلا يقبل إقرارها إلاإذا صدقها الزوج، أو تشهد امرأة قابلة أو غيرها على الولادة، بخلاف الرجل؛ فإنه يصح إقراره بالولد؛ لأن فيه حمل نسب الولد على نفسه. ويلاحظ أن إقرار المرأة بالولد إنما لا يصح إذا كانت ذات زوج، أو معتدة منه، فإن لم تكن متزوجة ولا معتدة، فيصح إقرارها بالولد مطلقاً؛ لأن فيه إلزاماً على نفسها دون غيرها. وكذلك يقبل إقرارها بالولد إذا كانت متزوجة أو معتدة وادعت أن الولد من غير هذا الزوج. وإذا صح الإقرار بالنسب لإنسان، شارك الورثة في الميراث؛ لأنه لما ثبت نسبه من المقر صار كالوارث المعروف، فيشارك ورثة المقر.
2 - الإقرار بحمل النسب على الغير
ولا يجوز الإقرار بالنسب بغير هؤلاء المذكورين من الوالدين والولد والزوج والزوجة، مثل الأخ والعم والجد وابن الابن، وإ ن صدَّقه المقر له؛ لأنه فيه حمل النسب على الغير، إلا إذا ثبت النسب ببرهان، كما سيأتي. 2 - الإقرار بحمل النسب على الغير: الإقرار من الرجل بالنسب على الغير، كهذا أخي أو عمي: قد يثبت به النسب بإثباته بالبينة عند أبي حنيفة ومحمد، بواسطة إقرار رجلين أو رجل وامرأتين؛ لأن في الإقرار حمل النسب على غيره، فاعتبر بمثابة الشهادة، فلزم فيه العدد المذكور. وقال مالك: لا يثبت النسب إلا بإقرار اثنين؛ لأنه يحمل النسب على غيره، فاعتبر فيه العدد كالشهادة. وقال الشافعي وأحمد وأبو يوسف: إن أقر جميع الورثة بنسب من يشاركهم في الإرث، ثبت نسبه، وإن كان الوارث واحداً ذكراً أو أنثى؛ لأن النسب حق يثبت بالإقرار، فلم يطلب فيه العدد كالدين، ولأن الإقرار قول لا تشترط فيه عدالة، فلم يصح قياسه على الشهادة (¬1). وقد يقتصر الإقرار بالنسب على الغير ممن لا يصح إقراره، كالأخ والعم والجد وابن الابن على إثبات حق المشاركة في الإرث (¬2)، إذا لم يكن للمقر وارث معروف. ¬
وعلى هذا: إن كان للمقر وارث معروف نسبه: قريب كأصحاب الفروض والعصبات، أو بعيد كذوي الأرحام، فالوارث المعروف أولى بالميراث من المقر له؛ لأنه لما لم يثبت نسبه منه، لم يزاحم الوارث المعروف النسب، فلو أقر شخص بأخ وله عمة أو خالة، فالإرث للعمة أو الخالة، ولا شيء للمقر له؛ لأنهما وارثان بيقين، فكان حقهما ثابتاً بيقين، فلا يجوز إبطاله بصرف الإرث إلى غيرهما. وإن لم يكن للمقر وارث معروف: استحق المقر له ميراثه؛ لأن له ولاية التصرف في مال مال نفسه عند عدم الوارث، فيستحق جميع المال، وإن لم يثبت نسبه منه، لما فيه من حمل النسب على الغير، ولا تعتبر هذه وصية في الحقيقة، حتى إنه يترتب ما يأتي: من أقر بأخ، ثم أوصى لآخر بجميع ماله: كان للموصى له ثلث جميع ماله خاصة. فالوصية تنفذ من الثلث؛ لأن المقر له بالأخوة وارث في ظنه وزعمه، ولو كان موصى له لاشترك الاثنان في قسمة التركة نصفين، لكن يعتبر الإقرار المذكور يمنزلة الوصية، بدليل أنه يجوز للمقر أن يرجع عن الإقرار؛ لأن نسبه لم يثبت، فلا يلزمه الإقرار؛ لأنه وصية من وجه، فلو أقر شخص في مرضه بأخ، وصدقه المقر له، ثم أنكر المقر وراثته، ثم أوصى بماله كله لإنسان ومات ولا وارث له، كان ماله جميعاً للموصى له. فإن لم يوص لأحد كان ماله لبيت المال؛ لأن رجوعه عن الإقرار صحيح؛ لأن النسب لم يثبت، فبطل إقراره. وإذا مات إنسان وخلف ابناً واحداً، فأقر بأخ آخر: لم يثبت نسب أخيه؛ لأن فيه حمل النسب على الغير، والإقرار مقبول في حق نفسه غير مقبول في حق غيره، ويشارك المقر له بالأخوة المقر في الإرث من أبيه؛ لأن إقراره تضمن شيئين: حمل النسب على الغير، ولا ولاية له عليه، فلا يثبت النسب، والاشتراك في المال، وله فيه ولاية، فيثبت.
المبحث الرابع ـ القضاء بالقرائن
ومن مات وترك ابنين، فأقر أحدهما بأخ ثالث: فإن صدقه أخوه المعروف في أخوته، اشترك المقر له مع الابنين في الميراث. وإن كذبه فيه، فإنه يقسم المال بين الأخوين المعروفي النسب نصفين، ثم يقسم النصف بين الأخ المقر له، والأخ المقر مناصفة أيضاً (¬1). المبحث الرابع ـ القضاء بالقرائن: أهمية القرائن: القضاء بالقرائن أصل من أصول الشرع، وذلك سواء في حال وجود البينة أو الإقرار، أم في حال فقد أي دليل من دلائل الإثبات. فقد تمنع القرينة سماع الدعوى كادعاء فقير معسر إقراض غني موسر، وقد ترد البينة أو الإقرار حال وجود التهمة، مثل قرابة الشاهد للمشهود له، أو كون الإقرار في مرض الموت، وقد تستخدم القرينة دليلاً مرجحاً أثناء تعارض البينات مثل وضع اليد ونحوه كما عرفنا، وقد تعتبر القرينة دليلاً وحيداً مستقلاً إذا لم يوجد دليل سواها، مثل رد دعوى الزوجة القاطنة مع زوجها بعدم الإنفاق عليها، في رأي المالكية والحنابلة. قال ابن القيم: ومن أهدر الأمارات والعلامات في الشرع بالكلية، فقد عطل كثيراً من الأحكام، ووضع كثيراً من الحقوق (¬2). تعريف القرينة: القرينة لغة: هي العلامة الدالة على شيء مطلوب (¬3). واصطلاحاً: هي كل أمارة ظاهرة تقارن شيئاً خفياً فتدل عليه. يفهم من هذا التعريف أنه لا بد في القرينة من أمرين: ¬
من القرائن القضائية
1 - أن يوجد أمر ظاهر معروف يصلح أساساً للاعتماد عليه. 2 - أن توجد صلة مؤشرة بين الأمر الظاهر والأمر الخفي. وبمقدار قوة هذه الصلة تنقسم القرائن قسمين: قرائن قوية، وقرائن ضعيفة. وللفقهاء والقضاة دور ملحوظ في استنباط نتائج معينة من القرائن. ومن القرائن الفقهية: اعتبار ما يصلح للرجال من متاع البيت عند اختلاف الزوجين في ملكيته هو للرجل، كالعمامة والسيف، وما يصلح للنساء فقط كالحلي للمرأة بشهادة الظاهر، وملاحظة العرف والعادة (¬1). ومن القرائن القضائية: الحكم بالشيء لمن كان في يده، باعتبار أن وضع اليد قرينة على الملك بحسب الظاهر. وإذا كانت القرينة قطعية تبلغ درجة اليقين، مثل الحكم على الشخص بأنه قاتل إذا رئي مدهوشاً ملطخاً بالدم، ومعه سكين بجوار مضرج بدمائه في مكان، فإنها تعد وحدها بينة نهائية كافية للقضاء. أما إذا كانت القرينة غير قطعية، ولكنها ظنية أغلبية، كالقرائن العرفية، أو المستنبطة من وقائع الدعوى وتصرفات الأطراف المتخاصمين، فإنها تعد دليلاً مرجحاً لجانب أحد الخصوم، متى اقتنع بها القاضي، ولم يوجد دليل سواها، أو لم يثبت خلافها بطريق أقوى. ولا يحكم عند جمهور الفقهاء بهذه القرائن في الحدود؛ لأنها تدرأ بالشبهات ولا في القصاص إلا في القسامة، للاحتياط في موضوع الدماء وإزهاق النفوس. ويحكم بها في نطاق المعاملات المالية والأحوال الشخصية عند عدم وجود بينة في إثبات الحقوق الناشئة عنها. ¬
إلا أن المالكية (¬1): أثبتوا شرب الخمر بالرائحة، والزنا بالحمل، ووافقهم ابن القيم في إثبات الزنا بالحمل، وفصل الحنابلة (¬2) فقالوا: تحد الحامل بالزنا، وزوجها بعيد عنها إذا لم تدّع شبهة، ولا يثبت الزنا بحمل المرأة وهي خلية لا زوج لها. قال ابن القيم (¬3): نظر جمهور الفقهاء كمالك وأحمد وأبي حنيفة إلى القرائن الظاهرة والظن الغالب الملتحق بالقطع في اختصاص كل واحد منها بما يصلح له، ورأوا أن الدعوى تترجح بما هو دون ذلك بكثير، كاليد والبراءة والنكول، واليمين المردودة، والشاهد واليمين، والرجل والمرأتين، فيثير ذلك ظناً تترجح به الدعوى. ومعلوم أن الظن الحاصل ههنا أقوى بمراتب كثيرة من الظن الحاصل بتلك الأشياء، وهذا مما لا يمكن جحده ودفعه. وقد نصب الله سبحانه على الحق الموجود والمشروع علامات وأمارات تدل عليه وتبينه. ونصب على الإيمان والنفاق علامات وأدلة. واعتبر النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده العلامات في الأحكام، وجعلوها مبينة لها، كما اعتبر العلامات في اللقطة، وجعل صفة الواصف لها آية وعلامة على صدقه، وأنها له. وجعل الصحابة الحبل علامة وآية على الزنا، فحدوا به المرأة، وإن لم تقر، ولم يشهد عليها أربعة، بل جعلوا الحبل أصدق من الشهادة، وجعلوا رائحة الخمر وقيئه لها آية وعلامة على شربها، بمنزلة الإقرار والشاهدين. وجعل النبي صلّى الله عليه وسلم نحر كفار قريش يوم بدر عشر جزائر أوتسعاً، آية وعلامة ¬
على كونهم ما بين الألف والتسع مئة، واعتبر العلامة في السيف وظهور أثر الدم به في الحكم بالسلَب لأحد المتداعيين. ونزَّل الأثر منزلة بينة. واعتبر إنبات الشعر حول القبُل في البلوغ، وجعله آية وعلامة له. فكان يقتل من الأسرى يوم قريظة من وجدت فيه تلك العلامة، ويستبقي من لم تكن فيه، وجعل الحيض علامة على براءة الرحم من الحمل. واعتبر العلامة في الدم الذي تراه المرأة ويشتبه عليها: هل هو حيض أو استحاضة؟ واعتبر العلامة فيه بوقته ولونه، وحكم بكونه حيضاً بناء على ذلك. وفرق الحنابلة بين الركاز واللقطة بالعلامات: فقالوا: الركاز: ما دفنته الجاهلية، ويعرف برؤية علاماتهم عليه، كأسماء ملوكهم وصورهم وصلُبهم. وأما ما عليه علامات المسلمين كأسمائهم، أو كقرآن ونحوه فهو لقطة؛ لأنه ملك مسلم لم يعلم زواله عنه. وإن كان على بعضه علامة الإسلام، وعلى بعضه علامة الكفار هو لقطة؛ لأن الظاهر أنه صار لمسلم دفنه في الأرض. وما ليس عليه علامة فهو لقطة، تغليباً لحكم الإسلام.
الباب السادس: نظام الحكم في الإسلام
البَابُ السَّادس: نِظَام الحُكْمِ في الإسلام وفيه الكلام عن فصول أربعة: الفصل الأول: السيادة ـ سلطة التشريع العليا في الحكم الإسلامي. الفصل الثاني: سلطة التنفيذ العليا ـ الإمامة. الفصل الثالث: السلطة القضائية في الإسلام. الفصل الرابع: الدولة الإسلامية.
المبحث الأول ـ السيادة أو الحاكمية
الفَصْلُ الأوّل: السِّيادة ـ سلطة التَّشريع العُليا في الحكم الإسلاميّ يشمل الفصل الأول أربعة مباحث وهي ما يأتي: المبحث الأول ـ السيادة أو الحاكمية: لاخلاف بين المسلمين في أن مصدر جميع الأحكام التشريعية من أوامر ونواهٍ هو الله تعالى، لا يشاركه فيه أحد من الناس فيما وضع من مبادئ وأصول وتشريعات مفصلة محددة. وطريق التعرف عليها ما أنزل الله في قرآنه أو أوحى به إلى نبيه محمد صلّى الله عليه وسلم. وفي ذلك ضمان وثيق لحرية الإنسان والحفاظ على كرامته ومصالحه، وعدم استبداد أحد به. أما إعطاء سلطة التشريع والأمر لأحد من الناس فهو إشراك في ربوبية الله، وطريق يؤدي إلى الاستبداد والطغيان والظلم والعسف وإهدار حرية الإنسان والإضرار بمصالحه الخاصة التي لا تصطدم مع المصالح العامة. وقد تضافرت النصوص القرآنية الدالة على استقلال الله بهذه السلطة فيما شرع من أحكام، مثل قوله تعالى: {إنِ الحكم إلاّ لله} [يوسف:40/ 12] {إنَّ
المبحث الثاني ـ استخلاف الأمة في تنفيذ الشريعة
الأمر كله لله} [آل عمران:154/ 3] {فالحكم لله العلي الكبير} [غافر:12/ 40] {وهو خير الحاكمين} [الأعراف:87/ 7] {وأنزلنا إليك الكتاب، بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه، فاحكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق} [المائدة:48/ 5] {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون} [المائدة:45/ 5] أو {الكافرون} [المائدة:44/ 5] أو {الفاسقون} [المائدة:47/ 5]. المبحث الثاني ـ استخلاف الأمة في تنفيذ الشريعة الناس وكلاء عن الله في تبليغ وتقرير وتنفيذ أحكامه، ورعاية تطبيقها، وفهم مدلولاتها، عن طريق سلطة الاجتهاد فيما تدل عليه، أو تهدف إليه من غايات، أوتحد من حدود يلزم السير في نطاقها، وتنظم الحياة في محورها، والتوكيل مفهوم من قوله تعالى: {وإذ قال ربك للملائكة: إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة:30/ 2]. وإذا ورد النص القرآني دالاً على استخلاف بعض الرسل والأنبياء كأحسن مثال، فإن البشر أيضاً من بعدهم هم خلفاء الأرض: {إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح} [الأعراف:69/ 7] {ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون} [يونس:14/ 10] {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ... } [الأنعام:165/ 6]. وما على الخليفة (¬1) أو الوكيل إلا أن ينفذ أوامر المستخلف له: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} ¬
[النساء:58/ 4] {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [النساء:59/ 4]. وقد حددت هذه الآية الأخيرة مصادر التشريع في الإسلام التي تستقى في النهاية من مصدر واحد: وهو الوحي الإلهي، وهذه المصادر هي: أولاً ـ القرآن الكريم. وتطبيق ما جاء فيه محقق لطاعة الله تعالى. ثانياً ـ السنة النبوية الصحيحة المبينة لما جاء من عند الله، والعمل بها محقق طاعة الرسول صلّى الله عليه وسلم. ثالثاً ـ الاجتهاد الجماعي أو إجماع ذي الفكر المختصين في النظر في شؤون الناس ومصالحهم العامة، وإدراك قضاياهم الدينية أو الدنيوية، من الحكام والأمراء والعلماء ورؤساء الجند وخبراء السياسة والاجتماع والاقتصاد (التجارة والصناعة والزراعة والحرف الفنية والمهنية) والإجماع الذي لا بد له من مستند شرعي نصي أو مصلحي، يمثل إرادة الأمة العامة، لا سيما إذا أخذنا بقول الغزالي الذي لا يقصر الإجماع على العلماء، وإنما يدخل العوام معهم لينعقد الإجماع. رابعاً ـ الاجتهاد الفردي من قبل العلماء المجتهدين: وهم المؤمنون بالله ورسوله، العارفون بمدارك الأحكام الشرعية وأقسامها وطرق إثباتها، ووجوه دلالتها على مدلولاتها. وتشمل طرق استنباط القواعد والأحكام والأنظمة لديهم عدة أصول، كالقياس والاستحسان والاستصلاح، والعرف والعادة، وسد الذرائع، وقول الصحابي، وشرع من قبلنا، والاستصحاب. فإن برز اختلاف بين الناس أو بين المجتهدين أو العلماء المتخصصين، عرض الأمر على القواعد العامة والمبادئ التشريعية والأهداف الأساسية المعلومة من
القرآن والسنة على ألا يتعارض الرأي المقول به مع النصوص المحكمة أو الأدلة القطعية، وأن يتفق الحكم المقرر مع روح الإسلام ومقاصد الشريعة الإسلامية، وهذا تطبيق لقوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن تأويلاً} [النساء:59/ 4]. ويتحدد الذين يفصلون في النزاع في صورة هيئة تحكيم أو محكمة دستورية عليا (¬1)، يختارهم أولو الأمر بالنيابة عن الأمة من العلماء المختصين في موضوع النزاع، ممن اشتهروا بالعلم والمعرفة ورجاحة العقل والعدالة والتقوى والمروءة، كما حصل في تحكيم بعض أهل الشورى الذين اختارهم بعض الخلفاء الراشدين وهو عمر رضي الله عنه للترشيح لمنصب الخلافة، وإتمام البيعة للمرشح من سائر الناس. ويؤخذ في التصويت برأي الأكثرية أو الأغلبية، عملاً برأي جماعة من الفقهاء القائلين بأن اتفاق أكثر المجتهدين حجة، وإن لم يكن إجماعاً؛ لأن الخلافة لا يشترط فيها الإجماع، ولقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «يد الله مع الجماعة» «عليكم بالجماعة والعامة» «اتبعوا السواد الأعظم» (¬2) هذا ما لم يتبين للإمام الأعظم رجحان رأي الأقلين بدليل أوضح، أو لمصلحة أنسب، وإلا اتبع رأي أهل الشورى وهو معنى (العزم) في آية: {وشاورهم في الأمر} [آل عمران:159/ 3] أي (مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم) كما قال النبي صلّى الله عليه وسلم، وقال لأبي بكر وعمر مستشاريه: «لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما» (¬3)، وكما أبان عمر للرهط الستة في كيفية ¬
المبحث الثالث ـ سيادة التشريع وتعاون السلطات
اختيار الخليفة من بعده، من الفريق الذي في صفِّه عبد الله بن عمر في حالة تساوي الأصوات، وهي قصة الشورى أو بيعة عثمان (¬1). المبحث الثالث ـ سيادة التشريع وتعاون السلطات إن السلطات الثلاث: التشريعية (¬2) ممثلة بأولي الحل والعقد للاجتهاد في استنباط الأحكام من نصوص الشريعة، والتنفيذية ممثلة بالحاكم الأعلى ووزرائه، والقضائية ممثلة بالقضاة، ليس بينها مبدأ الفصل التام، ولا مبدأ الاندماج الوظيفي، فبالرغم من أن كل سلطة مستقلة في عملها عن الأخرى إلا أنها تساند وتعاون السلطات الأخرى، وهذه هي أحدث النظريات الديمقراطية التي سبق الإسلام إليها، باعتبار أن هذه السلطات تخضع كلها في دولة واحد لأصول شريعة سماوية تحترم مبدأ العدل والحرية والكرامة الإنسانية، وتحارب الظلم واستبداد الحكام وتدخلهم الذي يؤثر في سير مجرى العدالة وأعمال القضاء والتنفيذ، وإذا كان الإمام رئيساً للسلطتين التشريعية والتنفيذية فإنه مقيد بتعاليم الإسلام. وهو لا يملك التشريع وإنما له كغيره حق الاجتهاد إذا توافرت فيه شروط الاجتهاد. إن احترام أحكام الشريعة هو أساس عمل كل سلطة من هذه السلطات؛ لأن التشريع لله تعالى، وبذلك تتحقق سيادة التشريع الإسلامي فوق كل وضع شخصي أو مصلحي. وصلاحية التشريع مختصة بالكتاب والسنة أو إجماع الأمة، أو الاجتهاد، وهذه المصادر مستقلة عن الإمام، وهو ملزم بها ومنفذ ¬
لأحكامها، كما أن القضاء المستقل أو الكائن بيد الإمام ينفذ أحكام الشريعة، أي أوامر الله (¬1)، ومن أهم مبادئ الإسلام في هذه المصادر هو الشورى التي لا تهادن الاستبداد في مختلف صوره وأشكاله، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي» (¬2) وهذا أوضح نص يبين سيادة التشريع الإسلامي، ومطالبة كل مسلم بالعمل بما جاء فيهما، وإن خالف إرادة الحاكم، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وإنما الطاعة في معروف .. ويمكن توضيح ما سبق في تحديد العلاقة بين السلطات بما يأتي (¬3): إن فصل السلطات الثلاث في الإسلام (التشريع بمعنى الاجتهاد والتنفيذ والقضاء) يقوم على أساس فصل الوظيفة التشريعية، أي الاجتهاد عن سائر الوظائف الأخرى، لا على أساس الفصل العضوي، أي الشخص القائم بكل سلطة. فالإمام أو القاضي حينما يجتهد إنما يفعل ذلك لا بوصفه خليفة أو قاضياً، وإنما بسبب كونه مجتهداً يستنبط الأحكام الشرعية من نصوص وأصول ومبادئ الشريعة. وكذلك فإن إدماج السلطتين القضائية والتنفيذية في شخص الإمام، أي من الناحية العضوية لم يكن يؤثر في استقلال القضاة في مباشرة وظائفهم، لالتزام الكل بالتشريع الإسلامي. وحينئذ فلا خطر من عدم وجود الفصل العضوي أو الشخصي بين السلطات، كما عليه الدول الحديثة؛ لأن الوازع الديني هو أساس عمل المسلم، ¬
حاكماً كان أو قاضياً أو فرداً عادياً. أما أساس الفصل الذي يرجع في الدول الحديثة لأهداف ثلاثة: وهي ضمان الحرية الفردية، وضمان شرعية الدولة، وتقسيم العمل، فلا مانع من الأخذ به وبمبدأ فصل السلطات فعلاً بين أشخاص القائمين بها بناء عليه، في المفهوم الإسلامي، لا سيما في وقتنا الحاضر حيث قل الوازع الديني وضعفت خشية الله تعالى، فوقع الظلم والتعسف والانحراف، كما وقع من بعض أمراء وحكام المسلمين في عهد بني أمية وبني العباس، مما استدعى وجود قضاء المظالم الذي يشبه مجلس الدولة الآن. يتبين لنا أن فصل السلطة التشريعية أي الاجتهاد، لا بمعنى الاستقلال في إنشاء وتشريع الأحكام عن سائر الوظائف الأخرى، كان هو المعروف في صدر الإسلام. وأما القضاء وإن لم يستقل عن التنفيذ في شخص الخليفة أو الوالي أحياناً، فهو بسبب كون القاضي مجتهداً. كذلك القاضي غير الخليفة أو الإمام مستقل في عمله عن السلطة التنفيذية، نظراً لأنه يستقي الأحكام المطبقة من المصدر الإلهي لا من السلطة التنفيذية. لكن بين هذه السلطات تعاون وتضامن في التنفيذ دون تدخل شخصي، فعلى السلطة التنفيذية أن تنفذ قرارات مجلس الشورى في الأمور الأساسية والقضايا المبدئية أو المهمة، ولكن لها الحرية في اختيار الوسائل الإدارية لتنفيذ القوانين. قال الماوردي مبيناً هذه المعاني بالنسبة لأحد موظفي التنفيذ وهو الوالي أو الأمير صاحب الإمارة الخاصة: «وأما نظره في المظالم، فإن كان مما نفذت فيه الأحكام وأمضاه القضاة والحكام، جاز له النظر في استيفائه معونة للمحق على المبطل، وانتزاعاً للمحق من المعترف المماطل؛ لأنه موكول إلى المنع من التظالم
المبحث الرابع ـ صاحب الحق في التشريع
والتغالب، ومندوب إلى الأخذ بالتعاطف والتناصف. فإن كانت المظالم مما تستأنف فيها الأحكام، ويبتدأ فيها القضاء، منع منه هذا الأمير؛ لأنه من الأحكام التي لم يتضمنها عقد إمارته، وردَّهم إلى حاكم بلده ... » (¬1). المبحث الرابع ـ صاحب الحق في التشريع بناء على ما سبق يتبين أن لاحق لأحد سوى الله في التشريع بالمعنى الحقيقي، سواء أكان حاكماً أم طائفة معينة، أم الأمة نفسها؛ لأن إعطاء أحدهم صلاحية التشريع يجعله متأثراً بالمصالح والأهواء الخاصة، وترك مصلحة الأمة العليا. ويبدو لنا ذلك واضحاً بعد انفصال السياسة عن الدين، وجعل التشريع بيد المجالس النيابية، حتى لم نعد نشاهد نصراً حاسماً محرزاً، أو تقدماً إيجابياً صالحاً، أو نهضة حقيقية، بسبب إغفال أوامر الله تعالى، وعدم اجتناب نواهيه. ويؤكد القرآن الكريم على ترك الاختصاص التشريعي لله ولرسوله، قال الله تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخِيَرة من أمرهم} [الأحزاب:36/ 33] {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت، ويسلِّموا تسليماً} [النساء:4/ 65] {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} [النور:63/ 24]. والتزم الصحابة المهديون هذا الهدي بعد وفاة الرسول الأعظم صلّى الله عليه وسلم، فكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه إذا ورد عليه الخصوم أو عرض له قضاء عام أو خاص، نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به، وإن لم يكن في ¬
الكتاب وعلم من سنة رسول الله في ذلك الأمر سنة قضى بها، فإن أعياه أن يجد في سنة رسول الله، جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإن أجمع رأيهم على أمر قضى به. وكذلك كان يفعل عمر رضي الله عنه، وبقية الصحابة، وأقرهم على هذه الخطة المسلمون (¬1). وقد بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه قاضياً بالإسلام إلى اليمن، فقال له الرسول: كيف تقضي يا معاذ إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله؟ قال: أجتهد برأيي ولا آلو (أي لا أقصر في الاجتهاد) فضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم على صدره، وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي الله ورسوله (¬2). وروى مالك عن علي قال: قلت: يا رسول الله، الأمر ينزل بنا لم ينزل فيه القرآن ولم تمض فيه منك سنة؟ فقال: اجمعوا العالمِين من المؤمنين، فاجعلوه شورى بينكم، ولا تقضوا فيه برأي واحد (¬3). لكن الأمة بما لديها من خبرة واحتكاك بالمجتهدين فيها هي التي تختار أولي الحل والعقد حسبما تقتضي تطورات الظروف الاجتماعية والاقتصادية (¬4)، فتكون إرادتها ممثلة بواسطة هؤلاء العلماء المتخصصين الذين اختارتهم، وقيدتهم بمبادئ الإسلام وأحكامه، وبالمصالح العامة فيما لا نص ولا إجماع فيه من الأمور الدنيوية والقضايا الاجتماعية المتجددة أو المتطورة. ¬
وهذا يعني أن السيادة الأصلية لله تعالى، فيجب الرجوع إلى تشريعه أمراً ونهياً، وأما السيادة العملية فهي للأمة باعتبارها التي تعين أهل الحل والعقد. وحينئذ يجتمع هؤلاء في مكان مخصص لهم، بدلاً من الاجتماع في المسجد، كما يجتمع أعضاء مجلس الشعب أو مجلس الأمة في عصرنا لمناقشة شؤون المسلمين، بشرط مراعاة أحكام وأسس التشريع الإسلامي فيما يصدرون من قوانين. وإذا أصبح المجتهد الذي هو أحد هيئة أهل الحل والعقد خليفة أو وزيراً أو قاضياً، فله الأخذ باجتهاده فيما لم يصادم إجماع المجتهدين، ويكون رأيه حينئذ ملزماً بصفته صاحب سلطة. ويمكن لكل إنسان بلوغ درجة الاجتهاد باستجماع شروطه المقررة أصولياً وأهمها معرفة اللغة العربية ـ لغة القرآن والسنة، وكيفية استنباط الحكم من مصادره التشريعة وفهم مقاصد الشريعة. ويتوصل إلى ذلك بالبحث والنظر والتحصيل والممارسة الفعلية للاجتهاد حتى تعرفه الأمة وترشحه لتمثيلها. ومجال الاجتهاد محصور فيما ليس فيه نص قطعي الثبوت والدلالة أو الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة كوجوب الصلوات الخمس، والصيام والزكاة والحج، وتحريم جرائم الزنى والسرقة والمحاربة وشرب المسكرات والقتل وتوقيع العقوبات المقررة لها من جلد وقصاص، وزواج المحارم ونحوها. وأما ما يصح الاجتهاد فيه: فهو الأحكام التي ورد فيها نص ظني الثبوت والدلالة أو ظني أحدهما، والأحكام التي لم يرد فيها نص ولا إجماع (¬1). وعلى ¬
هذا فإن التشريعات الصادرة حديثاً التي لا تخالف الإسلام من قبل اللجان المشرِّعة، لا تخالف قواعد الاجتهاد في الفقه الإسلامي (¬1). والخلاصة: أن الاجتهاد في الشريعة مقصور على استمداد الأحكام الشرعية من مصدرها الإلهي، والحاكم هو الذي يجعل اجتهاد الفرد ملزماً، لا الأغلبية، أما السلطة التشريعية في الدول الحاضرة فإن لها إصدار ما تشاء من التشريعات من دون أي قيد، وتأخذ في ذلك بمبدأ الأغلبية. ¬
الفصل الثاني: سلطة التنفيذ العليا ـ الإمامة
الفَصْلُ الثّاني: سُلطة التَّنفيذ العُليَا ـ الإمامَة ويتضمن مباحث عشرة هي: المبحث الأول ـ تعريف الإمامة: الإمامة العظمى أو الخلافة أو إمارة المؤمنين كلها تؤدي معنى واحداً، وتدل على وظيفة واحدة هي السلطة الحكومية العليا. وقد عرفها علماء الإسلام بتعاريف متقاربة في ألفاظها، متحدة في معانيها تقريباً، علماً بأنه لا تشترط صفة الخلافة، وإنما المهم وجود الدولة ممثلة بمن يتولى أمورها، ويدير شؤونها، ويدفع غائلة الأعداء عنها. قال الدهلوي: الخلافة: هي الرياسة العامة في التصدي لإقامة الدين بإحياء العلوم الدينية، وإقامة أركان الإسلام، والقيام بالجهاد، وما يتعلق به من ترتيب الجيوش والفروض للمقاتلة، وإعطائهم من الفيء، والقيام بالقضاء، وإقامة الحدود، ورفع المظالم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نيابة عن النبي صلّى الله عليه وسلم (¬1). ¬
وقال التفتازاني: الخلافة: رئاسة عامة في أمر الدين والدنيا، خلافة عن النبي صلّى الله عليه وسلم (¬1). وقال الماوردي: الإمامة: موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا (¬2). وحدد ابن خلدون بطريقة أخرى وظيفة الإمامة فقال: هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إلىها؛ إذ أن أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة. فهي (أي الخلافة) في الحقيقة: خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به (¬3). ويتبين من هذه التعاريف أن سلطة الخليفة تتناول أمور الدين، وسياسة الدنيا على أساس شرائع الإسلام وتعاليمه؛ لأن هذه التعاليم يراد بها تحقيق مصالح الناس في عالمي الدنيا والآخرة، أي أن العنصر العقدي والإنساني أو الأخلاقي يسير جنباً إلى جنب مع العنصر المادي، ويتآزر العنصران لإقامة المجتمع الفاضل المستقر المرفه المتمكن في الأرض الذي يقيم العزة والسيادة الفعلية بين جناحيه. وتتعاضد فيه الهداية الإلهية مع الإرادة البشرية والقوى العقلية عن طريق الإجماع والقياس. وبهذا تغاير الخلافة أساساً السلطات السياسية الحالية التي تسير على هدي القوانين الوضعية التي تقتصر على تنظيم العلاقات الاجتماعية، وتقر واقع المجتمع ولو عارض الدين أو الفضيلة أحياناً. ¬
المبحث الثاني ـ حكم إقامة الدولة في الإسلام
المبحث الثاني ـ حكم إقامة الدولة في الإسلام: بالرغم من أن إيجاد الدولة أمر يوجبه العقل، ويحتمه الواقع، وتفرضه طبائع الأحداث، فقد رأينا اختلافاً بسيطاً غير حاد ولا خطير في شأن حكم الإمامة وجوباً وجوازاً. قال ابن تيمية (¬1): يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس، حتى قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم» (¬2). ويمكن تصنيف مذاهب الفرق الإسلامية في ثلاثة: مذهب الإيجاب، ومذهب الجواز، ومذهب الوجوب على الله. أولاً ـ مذهب إيجاب الإمامة: ترى الأكثرية الساحقة من علماء الإسلام (وهم أهل السنة والمرجئة والشيعة والمعتزلة إلا نفراً منهم، والخوارج ما عدا النجدات): أن الإمامة أمر واجب أو فرض محتم (¬3). قال ابن حزم: اتفق جميع أهل السنة وجميع المرجئة وجميع الشيعة وجميع الخوارج على وجوب الإمامة، وأن الأمة واجب عليها الانقياد لإمام عادل يقيم فيهم أحكام الله، ويسوسهم بأحكام الشريعة التي جاء بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، حاشا النجدات، فإنهم قالوا: لا يلزم الناس فرض الإمامة، وإنما عليهم ¬
أدلة هذا المذهب
أن يتعاطوا الحق بينهم (¬1). ونوع الفرضية هو الفرض الكفائي، قال الماوردي: فإذا ثبت وجوب الإمامة ففرضها على الكفاية كالجهاد وطلب العلم، فإذا قام بها من هو من أهلها سقط فرضها عن الكافة (¬2). ثم انقسم هؤلاء فرقاً ثلاثاً، فقال أكثر الأشعرية والمعتزلة والعترة: إنها تجب شرعاً؛ لأن الإمام يقوم بأمور شرعية. وقال الشيعة الإمامية: تجب الإمامة عقلاً فقط للحاجة إلى زعيم يمنع التظالم، ويفصل بين الناس في التنازع والتخاصم، ولولا الولاة لكان الأمر فوضى. وقال الجاحظ والبلخي (الكعبي) وأبو الحسين الخياط والحسن البصري: تجب الإمامة عقلاً وشرعاً. أدلة هذا المذهب: أورد أصحاب هذه النظرية عدة براهين شرعية وعقلية وضرورات وظيفية. 1ً - البرهان الشرعي: وهو الإجماع: أجمع الصحابة والتابعون على وجوب الإمامة، إذ بادر الصحابة فور وفاة النبي صلّى الله عليه وسلم وقبل تجهيزه وتشييعه إلى عقد اجتماع السقيفة ـ سقيفة بني ساعدة، وبعد تشاور كبار المهاجرين والأنصار بايعوا أبا بكر الصديق رضي الله عنه قياساً على تقديم الرسول صلّى الله عليه وسلم له لإمامة الناس في الصلاة أثناء مرضه الشريف، ¬
وأقر المسلمون هذه البيعة في المسجد في اليوم التالي، مما ينبئ أنهم مجمعون على ضرورة وجود إمام أو خليفة. قال الإيجي في المواقف وشارحه الجرجاني: «إنه تواتر إجماع المسلمين في الصدر الأول، بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلم على امتناع خلو الوقت من إمام، حتى قال أبو بكر رضي الله عنه في خطبته المشهورة، حين وفاته عليه السلام: ألا إن محمداً قد مات، ولا بد لهذا الدين ممن يقوم به، فبادر الكل إلى قبوله، وتركوا له أهم الأشياء، وهو دفن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولم يزل الناس على ذلك، في كل عصر إلى زماننا هذا، من نصب إمام متبع في كل عصر» (¬1) وواضح من قول العلماء أن الإجماع منصب على ضرورة وجود الحاكم، وليس المهم شكل الحكم، من خلافة أو غيرها، مادام الشرع هو المطبق (¬2). والإجماع حجة قطعية يقينية على وجوب الإمامة بعد الرسول صلّى الله عليه وسلم وفي كل عصر، إذ لا يصلح الناس فوضى لا قادة ولا رؤساء لهم في كل زمان. ويؤكد هذا الإجماع أو يعد مستنداً له إشارات في القرآن والحديث، قال الماوردي (¬3): جاء الشرع بتفويض الأمور إلى ولي في الدين، قال الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} (¬4) ¬
- البرهان العقلي ـ الشرعي
ففرض علينا طاعة أولي الأمر فينا، وهم الأئمة المتأمرون علينا. وروى هشام بن عروة عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «سيليكم بعدي ولاة، فيليكم البر ببره، والفاجر بفجوره، فاسمعوا لهم، وأطيعوا في كل ماوافق الحق، فإن أحسنوا فلكم ولهم، وإن أساءوا فلكم وعليهم». وهناك آيات أخرى مثل قوله تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم} [المائدة:49/ 5] {وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله} [آل عمران:159/ 3]. ومارس النبي عليه السلام سلطات سياسية لا تصدر من غير قائد دولة، كإقامة الحدود وعقد المعاهدات وتعبئة الجيوش وتعيين الولاة وفصل الخصومات بين الناس في الشؤون المالية والجنائية ونحوها (¬1). 2ً - البرهان العقلي ـ الشرعي: وهو توفير النظام ودرء الفوضى، أي أن الاجتماع والتمدن طبيعي في البشر، وكل اجتماع يؤدي إلى التنازع والتزاحم والاختلاف بسبب حب الذات والحرص على المصالح الذاتية، وتحقيق أكبر قدر من المصالح الشخصية، والتنازع يفضي غالباً إلى الخصام والصراع والهرج والفوضى المؤذنة بهلاك البشر وانقراض النوع الإنساني إذا لم تنظم الحقوق وتحدد الواجبات ويفرض النظام، ويقوم الوازع الرادع، ويتم ذلك بالسلطان. قال الماوردي (¬2): تجب الإمامة عند طائفة عقلاً لما في طباع العقلاء من التسليم لزعيم يمنعهم من التظالم، ويفصل بينهم في التنازع والتخاصم، ولولا الولاة لكانوا فوضى مهملين، وهمجاً مضاعين، وقد قال الأفواه الأودي ـ وهو شاعر جاهلي: ¬
- برهان الوظيفة
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ..... ..... ولاسراة إذا جهالهم سادوا وهذا يعني أن ضرورات الحياة والحفاظ على حقوق الإنسان تقتضي وجوب الإمامة أو السلطة. 3ً - برهان الوظيفة: إن قيام الإنسان بوظيفته بكونه خليفة الدنيا في الأرض وحامل الأمانة: (الفروض والتكاليف الدينية) يتوقف على وجود السلطة السياسية التي تمكنه من أداء وظيفته على نحو أكمل. وهذه الواجبات لا تتحقق إلا في ظل وجود دولة، سواء أكانت عبادات محضة كالصلوات والحج والعمرة أم شعائر عامة كالأذان والجمعة والأعياد، أم معاملات اجتماعية كالعقود بأنواعها، أم تكاليف جماعية كالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة المجتمع الفاضل والتعاون في سبيل الخير، وقمع الشر، ومحاربة الأهواء. وجدير بالذكر أن كل رسالة إصلاحية وعلى رأسها الإسلام لا يمكن أن يقر قرارها أو تظهر فائدتها إلا في سياج منيع من القوة المانعة والسطوة الرادعة التي تلازم وجود الدولة. وغريب أن نجد فكرة سديدة تخالف هذا المنطق أو تتجافى مع هذا التصور. قال النسفي: «والمسلمون لا بد لهم من إمام يقوم بتنفيذ أحكامهم، وإقامة حدودهم، وسد ثغورهم، وتجهيز جيوشهم وأخذ صدقاتهم، وقهر المتغلبة والمتلصصة وقطاع الطريق، وإقامة الجمع والأعياد، وقطع المنازعات الواقعة بين العباد، وقبول الشهادات القائمة على الحقوق، وتزويج الصغار والصغيرات الذين
لا أولياء لهم، وقسمة الغنائم (¬1)، أي ونحو ذلك من الأمور المتطلبة لوجود الحاكم». وقال الإيجي في المواقف (¬2): «إن في نصب الإمام دفع ضرر مظنون، وإن دفع هذا الضرر واجب شرعاً. وبيان ذلك أننا نعلم علماً يقارب الضرورة أن مقصود الشارع، فيما شرع من المعاملات، والمناكحات، والجهاد، والحدود والمقاصات، وإظهار شعائر الشرع في الأعياد والجماعات، إنما هو مصالح عائدة إلى الخلق معاشاً ومعاداً، وذلك المقصود لا يتم إلا بإمام يكون من قبل الشارع يرجعون إليه فيما تعين لهم». وهناك برهان آخر يستتبع القيام بالوظيفة المقدسة للبشر: وهو أن مرفق القضاء الذي تقوم به الدولة أمر ضروري لفض المنازعات الدائمة بين البشر، لا سيما بعد زوال النظام القبلي الذي يحكم فيه رئيس القبيلة بالعرف والهوى الشخصي، وعدم جدوى اللجوء إلى التحكيم إذا تعذر اتفاق المتخاصمين، فلم يبق إلا القضاء الذي يلجأ إلىه كل إنسان بمفرده. ومهمة القضاء في الإسلام لا تقتصر على إقامة العدل بالمفهوم الإلهي، وفصل الخصومات، وتطبيق أحكام الشريعة، وإنما يشمل كل ما من شأنه رعاية الحرمات الدينية، واحترام الفضيلة، وإقرار المعروف، ومكافحة المنكرات والفواحش بمختلف ألوانها. فلولا القضاء لاستأصل البشر بعضهم، وهلكوا جميعاً، فكان وجوده رحمة، وتنظيمه فريضة، وقيام الدولة به ووجودها من أجله أمراً محتماً. ¬
ثانيا ـ القائلون بمبدأ جواز الإمامة
وإذا لا حظنا أن مهمة الدولة في الإسلام حراسة شؤون الدين والدنيا، وتحقيق السعادة للبشر في الحياة الدنيا والآخرة، علمنا مدى الأهمية المنوطة بالدولة المستلزمة للسعي الفوري في إيجادها، ولولا ذلك لعمت الفوضى، وشاع الفساد، وانتشر الظلم بين العباد. والخلاصة: إن تلازم وجود الدولة مع دعوة الإسلام ودين الإسلام أمر لا يمكن فصله في مفهوم إنسان، منذ أن قامت دولة المدينة باعتبارها أول نواة لوجود الدولة بالمعنى الحديث القائم على أركان ثلاثة: هي الشعب، والإقليم (الوطن) والسلطة السياسية أو السيادة (¬1). ثانياً ـ القائلون بمبدأ جواز الإمامة: قالت فئة قليلة بجواز الإمامة لا بوجوبها، وهم المحكِّمة الأولى والنجدات من الخوارج، وضرار، وأبو بكر الأصم المعتزلي، وهشام الفُوَطي، وعباد بن سليمان تلميذه من المعتزلة. قال الأصم ممثلاً هذا الرأي: لو تكافّ الناس عن التظالم لاستغنوا عن الإمام (¬2). ويظهر من أقوال هؤلاء كما أبان ابن خلدون (¬3) أنهم ينشدون إلى تحقيق المثل ¬
أدلتهم
العليا، ويعارضون نظام الملك أو الخلافة المقرون بالظلم والقهر والتمتع باللذات، والاعتداء على الحقوق والاستبداد الغاشم. فهم لم يتهاونوا في شأن الإمامة إذا كان يفهم منها تنفيذ أحكام الشريعة، بل قد أعلنوا وجوبها، فنقلوا الوجوب من الإمامة كهيئة متميزة منفصلة إلى تنفيذ القانون نفسه، أي أن على الجميع الاشتراك في تنفيذ أحكام التشريع بأنفسهم، دون حاجة إلى وجود قوة قاهرة مسيطرة. وهذه هي الديمقراطية المباشرة أو الجمهورية في أكمل صورها كما يحلم بها فلاسفة السياسة. ولكن تحقيق هذا أمر متعذر، فإن اقترن وجود الدولة ببعض المساوئ فلا يمكن الاستغناء عنها (¬1). أدلتهم: استدل هؤلاء المجوزون بأدلة جانبيةفحواها تعداد أضرار الحكومات فقالوا: إن وجود الحكومة يتنافى مع مبدأ الحرية الطبيعية وحق الاجتهاد بالرأي، ومبدأ المساواة، بسبب ضرورة توفير الطاعة للحاكم. وإذا لم يطع الناس وقعت الفتنة والاختلاف. مع أن الحاكم ليس معصوماً من الخطأ، والشروط المطلوبة فيه قلما توجد في كل زمان. لكن الحق يقال: إن المصالح التي تتوافر بوجود الحاكم أكثر بكثير من المضار التي تلحق الأفراد، ويتحمل أخف الضررين لدفع أشدهما، ولأن الحرية الحقيقية هي التي تكون في ظل النظام لتأمين حريات وحقوق الآخرين. ثم إن المفاسد التي تحدث من تنازع وتقاتل وهلاك وفوضى وتعرض للأخطار الخارجية من العدو تفوق بكثير ما يفقد الشخص من بعض الحقوق الخاصة، أو يقدمه من ولاء وطاعة أو يتحمله من تبعات ومغارم. ¬
ثالثا - رأي الشيعة الإمامية والزيدية والإسماعيلية
ثالثاً - رأي الشيعة الإمامية والزيدية والإسماعيلية: اتفق الشيعة الإمامية والزيدية وأهل السنة والمعتزلة على وجوب الإمامة، لكن الإمامة والإسماعيلية قالوا بوجوبها عقلاً على الله، لا على الأمة. وبما أن الشيعة يرون رأي المعتزلة في العقائد، فهذا الرأي مفرع على نظرية المعتزلة القائلة بوجوب فعل الصلاح والأصلح على الله تعالى، أو على (فعل اللطف) الإلهي عملاً بقوله تعالى: {كتب ربكم على نفسه الرحمة} [الأنعام:54/ 6]. واللطف كما قال الشريف المرتضى (¬1): هو الأمر الذي علم الله تعالى من حال المكلف أنه متى وجد ذلك الأمر، كان حاله إلى قبول الطاعات والاحتراز عن المعاصي أقرب مما إذا لم يوجد ذلك الأمر، وبشرط ألا ينتهي إلى حد الإلجاء. وبعبارة أخرى: اللطف هو خلق القدرة للعبد وإكمال العقل ونصب الأدلة وتهيئة وسائل فعل الطاعة، وترك المعصية. أدلة الشيعة: استدل الشيعة على مذهبهم بعد أن قدموا له بمقدمات معينة، فقالوا: إن في إقامة الإمام منافع كثيرة ودفع مضار متعددة، وبه يتم صلاح المعاش والمعاد، كما أوضحت في الأدلة العقلية السابقة. وإذا كان الله تعالى قد خلق في الإنسان القوى الشهوانية والغضبية والوهمية، ولم يجعل له قوة تعصمه من الزلل وتحمله على الخير، فقد وجب عليه أن ينصب إماماً يقرب الإنسان من الطاعات، ويبعده من القبائح. ¬
فنصب الإمام إذن لطف، وكل لطف واجب على الله تعالى، فنصب الإمام واجب على الله تعالى. أما أن الإمامة لطف من الله في حق عباده، فلأن وجوب إمام عادل يمنعهم من المحظورات، ويحثهم على الطاعات يجعلهم أقرب إلى الطاعة، وأبعد عن المعصية. ثم إن الإمامة من الله لطف لأنها خالية من المفاسد والقبائح (¬1). فهم يقيسون (الإمامة) على (النبوة). وبما أن الإمام هو حجة الله على خلقه، أو حجة الله في الأرض، وبما أن إرسال الرسل هو حجة الله على عباده لقوله تعالى: {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} [النساء:165/ 4] فكذلك الأئمة حجة له، وتكون الحكمة من وجود الأئمة مشابهة لحكمة وجود الرسل. ومعنى كون الإمام حجة أنه البرهان القائم على أن الله أراد أن يبلغ شرعه لعباده، وأنه يخاطبهم ويكلفهم باتباع أوامره واجتناب نواهيه، ولولا ذلك لكان للناس عذر في العصيان (¬2). ويخلصون من هذا إلى أن الإمامة ركن الدين وقاعدة الإسلام، ولا يجوز لنبي إغفاله ولا تفويضه إلى الأمة، بل يجب عليه تعيين الإمام لهم، ويكون معصوماً من الكبائر والصغائر (¬3). والأئمة الذين يعترفون بهم هم علي ومن بعده. ويستدلون بآيات وأحاديث على أن الشرع قد جاء بتعيين هؤلاء الأئمة، لكن الإمامية قالوا: جاء التعيين بالنص على علي. وقال الزيدية: كان التعيين بالوصف. ¬
نقد ومناقشة
نقد ومناقشة: نوقش مذهب الشيعة في الإمامة فيما يتعلق بمبدأ اللطف في وجوب الإمام، وأدلتهم النقلية والعقلية. أما بالنسبة للّطف فكيف يتم قرب العبد من الطاعة وبعده عن المعصية بإمام غير ظاهر، فضلاً عن كونه غير متمكن ولا قادر. قال الرازي (¬1): «الإمام الذي تقولون بوجوبه غير ظاهر قاهر سائس، فلا أثر له ولا خبر» إذ أنهم يقولون (بالتقية) وهي جواز اختفاء الإمام. وقال ابن تيمية (¬2): الإمام الذي تصفونه مفقود غالباً ومعدوم لا حقيقة له عند سواكم، ومثله لا يحصل به شيء من مقاصد الإمامة، بل الإمام الذي يقوم وفيه جهل وظلم أنفع لمصالح الأمة ممن لا ينفعهم بوجه. وقال الإيجي (¬3): إنما يحصل اللطف بإمام ظاهر قاهر وأنتم لا توجبونه، فالذي لا توجبونه ليس بلطف، والذي هو لطف لا توجبونه. وأما أدلتهم النقلية السمعية على تعيين الإمام فهي محل نظر، قال ابن حزم (¬4): «وعمدة هذه الطوائف كلها في الاحتجاج أحاديث موضوعة مكذوبة». ومن المستحيل على الصحابة العدول المبشر بعضهم بالجنة أن يكتموا خبراً عن الرسول صلّى الله عليه وسلم، لا سيما في شأن الإمامة ذات الأثر الخطير والشهير. وهل يعقل أن يتم التعيين من النبي ولا يعلم المعين نفسه، وإذا عين، فلماذا لم يتمسك به ويخاصم عليه، ويقطع دابر الخلاف الذي حدث لاختيار الخليفة (¬5)؟! وكذلك أدلتهم العقلية القائمة على مبدأ العصمة تحتاج إلى تأمل ودعم ¬
المبحث الثالث ـ كيفية اختيار الإمام (أو الحاكم الأعلى)
أقوى، إذ العصمة لم تثبت إلا لنبي، ولو كان علي كرم الله وجهه معصوماً لاستغنى بعصمته عن النبي في التعليم وغيره، كما قال الرازي (¬1)، مع أنهم يسلمون بأنه كان محتاجاً للنبي ومؤتماً به، وإلا كان ذلك خروجاً عن الدين. وقال ابن حزم (¬2): إن عمدة ما احتجت به الإمامية أن قالوا: لا بد من أن يكون إمام معصوم، عنده جميع علم الشريعة، فالجواب: أن ذلك هو النبي صلّى الله عليه وسلم نفسه في حياته وبعد مماته إلى يوم القيامة، فبلاغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قائم بعد موته إلى يوم القيامة. المبحث الثالث ـ كيفية اختيار الإمام (أو الحاكم الأعلى): طرق التعيين: ذكر فقهاء الإسلام طرقاً أربعة في كيفية تعيين الحاكم الأعلى للدولة وهي: النص، والبيعة، وولاية العهد، والقهر والغلبة. وسنتبين أن طريقة الإسلام الصحيحة عملاً بمبدأ الشورى ومبدأ الفروض الكفائية هي طريقة واحدة وهي بيعة أهل الحل والعقد، وانضمام رضا الأمة باختياره. وأما ما عدا ذلك فمستنده ضعيف بسبب التعسف في تأويل النصوص، أو الاعتماد على نصوص واهية وأهواء خاصة، أو إقرار لواقع قائم لم يجد المسلمون حكمة أو مصلحة في الثورة عليه، أو القضاء على وجوده حسماً للدماء ومنعاً للفوضى، ومراعاة لظروف خارجية، أو رهبة من ضراوة الممسك بالسلطة التي آلت إليه بطرق غير مشروعة كالوراثة ونحوها. ¬
تعيين الإمام بالنص
تعيين الإمام بالنص: قال الشيعة الإمامية (¬1): إن نصب الإمام لا يكون إلا بالنص أو الاختيار من الأمة، ولكنهم حرصاً منهم على حصر الإمامة في علي بن أبي طالب رضي الله عنه نقدوا مبدأ الاختيار، وقالوا: يجب على الله لطفاً منه نصب إمام بنص صريح في آياته، وما على النبي إلا أن يبلغ ما أنزل إليه، وقد فعل، فنص على أن علياً هو الخليفة من بعده. وأطالوا في تأييد رأيهم بأدلة نقلية وعقلية وتاريخية (¬2). أذكر بعضاً منها بإجمال وردّ أهل السنة عليها. الأدلة الواردة في القرآن والسنة: استدلوا ب الآيات القرآنية الدالة على وجوب التزام أوامر الله والرسول، مثل: {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} [الحجرات:1/ 49] {وربك يخلق ما يشاء ويختار، ما كان لهم الخِيَرة} [القصص:68/ 28] {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخِيَرة من أمرهم} [الأحزاب:36/ 33] فليس للناس اختيار أمام أمر الله، فمن يختاره للنبوة والإمامة، وجبت طاعته، وبما أن الإمامة من الوظائف الدينية الموكول أمرها إلى الله، فتكون مما قضى الله ورسوله فيها بالنص. لكن يلاحظ أن هذه الآيات ليست واردة في شأن الإمامة، وإنما تفيد النهي ¬
السنة
عن الاجتهاد بالرأي الشخصي حالة وجود نص على الحكم الشرعي في القرآن والسنة. كذلك استدلوا بآيات من القرآن تفيد في زعمهم النص على إمامة علي، مثل قوله تعالى: {قل: لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى} [الشورى:23/ 42] وقرابته: أهل بيته وهم علي وفاطمة وابناهما (¬1)، لكن ثقات العلماء يبينون أن هذه الآية نزلت قبل زواج علي بفاطمة. وبرهنوا على مذهبهم من السنة بأحاديث أهمها: 1 - حديث غدير خم: وهو الذي أخرجه الطبراني والنسائي وأحمد والحاكم عن زيد بن أرقم في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة، وفيه: «يا أيها الناس، إن الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله». والواقع أن هذا الحديث غير صحيح، قال الإيجي: لا صحة للحديث، إذ لم ينقله أكثر أصحاب الحديث، بل إن علياً رضي الله عنه لم يكن يوم الغدير مع النبي صلّى الله عليه وسلم، بل كان في اليمن، وإن سلِّم فرواته لم يرووا مقدمة الحديث (¬2). وقال ابن تيمية: مع افتراض أن النبي قاله يوم الغدير فإنه لم يرد به الخلافة قطعاً، ولكن الشيعة يزكون الحديث، ويعتبرونه صحيحاً لأنه يوافق مبدأهم (¬3). وقال الباقلاني: إن لكلمة (مولى) معاني كثيرة، فمنها المولى بمعنى الناصر، ومنها ¬
2 - حديث المنزلة
المولى بمعنى ابن العم، ومنها المولى بمعنى الموالي المحب، ومنها المولى بمعنى المكان والقرار، ومنها المولى بمعنى المعتِق المالك للولاء، ومنها المولى بمعنى المعتَق الذي مُلك ولاؤه، ومنها المولى بمعنى الجار، ومنها المولى بمعنى الصهر، ومنها المولى بمعنى الحلف. فهذا جميع ما يحتمله قوله مولى، وليس من معنى هذه اللفظة أن المولى إمام واجب الطاعة. والذي قصده النبي بهذه الكلمة ـ على فرض صحتها ـ يحتمل أمرين. أحدهما ـ من كنت ناصره على دينه وحامياً عنه بظاهري وباطني وسري وعلانيتي، فعلي ناصره على هذه السبيل. والثاني ـ من كنت محبوباً عنده، وولياً له على ظاهري وباطني، فعلي مولاه، أي أن ولاءه ومحبته من ظاهره وباطنه واجب، كما أن ولائي ومحبتي على هذه السبيل واجب (¬1). 2 - حديث المنزلة: حينما خلف النبي صلّى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه على المدينة بعد خروجه لغزوة تبوك، قال المنافقون: إنما خلفه لأنه يبغضه، فبلغ ذلك علياً، فبكى واشتكى إلى النبي صلّى الله عليه وسلم قائلاً: «أتخلفني في النساء والصبيان؟!» فرد النبي: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي» وهذا حديث صحيح متواتر. فسَّره الشيعة بما يثبت خلافة علي؛ لأن تشبيه علي بهارون يثبت له كل منازل هارون فيما عدا النبوة. ومن منازله: الأخوة والوزارة، والخلافة، وولاية الأمر بعده لو عاش بعد موسى، وكونه شريكاً في أمره. ¬
3 - حديث الراية يوم خيبر
وقال أهل السنة: ليس الحديث حجة في الدلالة على إمامة علي، لكونه مخصوصاً بواقعة حال معينة: وهي الاستخلاف على المدينة، كما يستخلف كل قائد أحداً بعده في إدارة ولايته حال غيبته. ثم إن النبي صلّى الله عليه وسلم قد خلف علياً في أهله، وليست الخلافة في الأهل كالخلافة على البشر. والاستخلاف المقيد بالغيبة لا يكون باقياً بعد انقضائها، كما لم يبق في حق هارون (¬1). وقد أجاب الباقلاني عنه بأنه لا يجب أن نفهم من هذا الحديث بأنه نص على خلافته بعده؛ لأن معناه أني أستخلفك على أهلي وعلى المدينة إذا توجهت إلى هذه الغزوة. وهذا واضح من سياق الحديث الذي رواه سعد بن أبي وقاص قال: إن علياً لحق بالنبي صلّى الله عليه وسلم بعد أن استخلفه، وقال له: أتتركني مع الأخلاف؟! فأجابه الرسول صلّى الله عليه وسلم بقوله: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي». 3 - حديث الراية يوم خيبر: قال النبي صلّى الله عليه وسلم محدداً أوصاف علي لقيادته معركة خيبر: «لأعطين الراية غداً إلى رجل يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، كرَّار غير فرار، لا يرجع حتى يفتح الله على يده» وهو حديث صحيح رواه البخاري والترمذي والحاكم. هذه الصفات أصبحت خاصة بعلي رضي الله عنه، مما يدل على أفضليته وبالتالي أحقيته للإمامة؛ لأن الإمامة للأفضل. ورد أهل السنة على الاستدلال به بأنه لا ملازمة بين كونه محباً لله ولرسوله ومحبوباً منهما، وبين كونه إماماً، كما لا يلزم من إثباتهما له نفيهما عن غيره (¬2)، فقد قال الله تعالى في حق أبي بكر: {يا أيها ¬
الأدلة العقلية
الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي بقوم يحبهم ويحبونه} [المائدة:54/ 5] وقال في حق أهل بدر: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص} [الصف:4/ 61]. الأدلة العقلية: استدل الشيعة بأدلة عقلية كثيرة على وجوب النص على الإمام من قبل الله، وهي في جملتها تتفق مع مبدئهم في عصمة الإمام، وتوجه النقد إلى طريقة تعيينه بالاختيار. من هذه الأدلة قولهم (¬1): لا يجوز إسناد أمر الإمامة إلى الناس؛ لأنها أهم أركان الدين، فالذي شرع الأحكام وجب عليه النص على من لا تتم الأحكام الشرعية إلا بنصبه لطفاً من الله ورحمة منه بعباده. ولا يترك الاختيار للأمة؛ لأن الإمام خليفة الله أو لرسوله، وليس خليفة للأمة. ثم إن ترك الإمامة لاختيار الناس يفضي إلى اختلاف الناس وانتشار الفتن وقيام التنازع والحروب والهرج والمرج، وكل ذلك فساد في الأرض، والله لا يحب الفساد. وليس الاختيار مضمون النتائج، فقد يخطئ الناس في تعيين المستحق لهذا المنصب الخطير الذي هو نظير منصب النبوة لقيامه بحراسة شؤون الدين والدنيا؛ وذلك أن كل شخص سيختارحسب مصلحته الشخصية لا بمقتضى المصلحة الكلية والحكمة الإلهية، بل إنه لم يحدث أن قامت إمامة على الاختيار الحر والمشيئة المطلقة لجمهور المسلمين. ¬
الأدلة التاريخية
يظهر من هذه الأدلة ونحوها أنها هي الانتقادات الموجهة للنظام الديمقراطي بوجه عام لقيامه على مبدأ سلطة الأمة وأحقيتها في اختيار الإمام. ولا شك أن ذلك صحيح، ولكن الفلاسقة السياسيين ما زالوا يحاولون إصلاح الخلل الواقع في النظام الديمقراطي، كما أن الفقهاء المسلمين وضعوا ضوابط وشروطاً دقيقة في المرشح للخلافة سأذكرها، وفيما الضمانة الغالبة من الوقوع في خطأ الاختيار. الأدلة التاريخية: إن اعتقاد الشيعة بضرورة النص على الإمام كان رد فعل لوقائع التاريخ التي صدمت أمانيهم (¬1)، وأدت إلى نكبة آل البيت التي تستثير عاطفة كل مسلم صادق بعيد عن التأثرات السياسية. إنهم يفترضون أنه لا بد من أن يعين الرسول صلّى الله عليه وسلم خليفة من بعده، حتى لا تقع أمته في بحر من الفتن والاضطرابات والاختلافات التي أخبر عنها بقوله: «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة .. » (¬2) ولو جاء التاريخ والأحاديث المدونة بغير ذلك، وجب أن نتشكك في وقائع التاريخ وصحة الأحاديث، ونتهمها بالكتمان وتشويه الحقيقة. وأما أهل الحل والعقد الذين يختارون الإمام فكانوا مرتع النزاع والخصام والخلاف، بسبب اعتقاد كل واحد أنه أحق بزعامة الأمة. والواقع ـ كما يرون ـ أنه لم تتم بيعة لإمام بالاختيار أو الشورى أو رضا الأمة، إذ عين عمر بالنص من أبي بكر، وعثمان بالشورى بين ستة حددهم عمر ثم صارت القضية بولاية العهد. ¬
تعيين الإمام بولاية العهد أو الاستخلاف
ولكن يلاحظ أن التاريخ لا تتقرر أحكامه بالافتراض، والاحتمال المنطقي، وإنما يعتمد الخبر والرواية والنظر في مدى صحتها وصدقها وتمحيص الوثائق المنقولة. وما اعتمد عليه الشيعة من أخبار ناتج عن الفكرة المسيطرة على أذهانهم سابقاً بوجوب النص، واستخلاف علي رضي الله عنه بالذات. والخلاصة: أنه لم يثبت يقيناً نص صريح قطعي يدل على إمامة علي أو غيره، ولم يصح في ذلك شيء عند أحد من أئمة النقل (¬1). وحبذا لو طوينا هذا الخلاف السياسي القديم بين أهل السنة والشيعة، وأنهينا كل ما خلفه من عصبيات موروثة وخلافات جانبية، وأدركنا جميعاً ضرورة الحفاظ على الوحدة الإسلامية، وحدة الصف أمام العدو الخارجي فقط، وأن الكل مسلمون، يعملون للإسلام دون تفرقة بين الطوائف؛ لأن الخلاف بينها ليس في الأصول قطعاً، وإنما في جوانب هي أقل من الفروع والجزئيات، ولا يصح أن نتحمل آثار ومخلفات الماضي السياسية، ولا أن تبقى سبباً للخلاف؛ لأن الدين واحد، والعقيدة واحدة، والدستور واحد واضح في القرآن والسنة، وخلاف الرجال لا يصح أن يشتت وحدة الأمة. تعيين الإمام بولاية العهد أو الاستخلاف: ولاية العهد: هي أن يعهد الإمام إلى شخص بعينه أو بواسطة تحديد صفات معينة فيه، ليخلفه بعد وفاته، سواء أكان قريباً أم غير قريب. رأى الفقهاء جواز انعقاد الإمامة بولاية العهد أو بالإيصاء إذا توافرت في ولي العهد شروط الخلافة، وتمت له البيعة من الأمة. فهي إذن بمثابة ترشيح ¬
واقتراح من الخليفة السابق. قال الماوردي (¬1): وأما انعقاد الإمامة بعهد من قبله، فهو مما انعقد الإجماع على جوازه، ووقع الاتفاق على صحته لأمرين عمل المسلمون بهما ولم يتناكروهما: أحدهما ـ أن أبا بكر رضي الله عنه عهد بها إلى عمر رضي الله عنه، فأثبت المسلمون إمامته بعهده. والثاني ـ أن عمر رضي الله عنه عهد بها إلى أهل الشورى فقبلت الجماعة دخولهم فيها، وهم أعيان العصر، اعتقاداً لصحة العهد بها. وأما ضرورة توافر شروط الإمام الشرعي في ولي العهد فهو أمر بدهي مفروغ منه، ككونه أميناً ورعاً ثقة مخلصاً لله، ناصحاً للمسلمين. قال الماوردي (¬2): وإذا عهد الإمام بالخلافة إلى من يصح العهد إليه على الشروط المعتبرة، كان العهد موقوفاً على قبول المولى. وتعتبر شروط الإمامة في المولى من وقت العهد إليه، فإن كان صغيراً أو فاسقاً وقت العهد لم تصح خلافته حتى يستأنف أهل الاختيار بيعته. ويتضح ذلك من حادثتي تولية أبي بكر لعمر، وتولية عمر لأهل الشورى، فقد كان معيار الاختيار هو الحرص على رعاية مصالح الأمة، وانتقاء المستوفي لشروط الإمامة. وأما رضا الأمة بالمولَّى فهو أمر أساسي أيضاً كما سنعرف، وهو الرأي الذي قرره بعض علماء البصرة إذ قالوا: إن رضا أهل الاختيار لبيعته شرط في لزومها للأمة؛ لأنها حق يتعلق بهم، فلم تلزمهم إلا برضا أهل الاختيار منهم. ¬
انعقاد الإمامة بالقهر والغلبة
ولسنا مع الماوردي الذي صحح أن بيعته منعقدة وأن الرضا بها غير معتبر؛ لأن بيعة عمر رضي الله عنه لم تتوقف على رضا الصحابة (¬1)، وذلك لأن الإمام أو أهل الشورى كانوا يمثلون في اختيارهم الأمة، وقد تمت فعلاً بيعة عمر وعثمان رضي الله عنهما برضا الأمة وموافقتها. يتضح من هذا أن الإمامة لا تورث، فإن جميع الفقهاء أجمعوا على أن الإمامة لا يصح أن تورث. قال ابن خلدون: «وأما أن يكون القصد بالعهد حفظ التراث على الأبناء، فليس من المقاصد الدينية، إذ هو أمر من الله يخص به من يشاء من عباده ينبغي أن تحسن فيه النية ما أمكن، خوفاً من العبث بالمناصب الدينية» (¬2) وقال ابن حزم: «ولا خلاف بين أحد من أهل الإسلام في أنه لا يجوز التوارث فيها» (¬3). انعقاد الإمامة بالقهر والغلبة: رأى فقهاء المذاهب الأربعة وغيرهم أن الإمامة تنعقد بالتغلب والقهر، إذ يصير المتغلب إماماً دون مبايعة أو استخلاف من الإمام السابق وإنما بالاستيلاء، وقد يكون مع التغلب المبايعة أيضاً فيما بعد (¬4). قال ابن المنذر (¬5): والذي عليه أهل العلم أن للرجل أن يدفع عن دينه ودمه ¬
وماله وعرضه ومظلمته، إذا أريد ظلماً، بغير تفصيل، إلا أن كل من يحفظ عنه من علماء الحديث كالمجمعين على استثناء السلطان، للآثار الواردة بالأمر بالصبر على جوره، وترك القيام عليه. وعبارة الحنفية في هذا الشأن هي كما قال الدهلوي: تنعقد الخلافة باستيلاء رجل جامع للشروط على الناس، وتسلطه عليهم كسائر الخلفاء بعد النبوة. ثم إن استولى من لم يجمع الشروط (أي المطلوبة لتولي الإمامة) لا ينبغي أن يبادر إلى المخالفة؛ لأن خلعه لا يتصور غالباً إلا بحروب ومضايقات، وفيها من المفسدة أشد مما يرجى من المصلحة. «وسئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عنهم، فقيل: أفلا ننابذهم؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، وقال: إلا أن تروا كفراً بَوَاحاً، عندكم من الله فيه برهان (¬1)». يظهر من هذا الكلام أن القهر حالة استثنائية غير متفقة مع الأصل الموجب لكون السلطة قائمة بالاختيار، وإقرارها فيه مراعاة لحال واقعة للضرورة ومنعاً من سفك الدماء. وعبارة المالكية كما قال الدسوقي: اعلم أن الإمامة العظمى تثبت بأحد أمور ثلاثة: إما بإيصاء الخليفة الأول المتأهل لها؛ وإما بالتغلب على الناس؛ لأن من اشتدت وطأته بالتغلب، وجبت طاعته، ولا يراعى في هذا شروط الإمامة؛ إذ المدار على درء المفاسد، وارتكاب أخف الضررين؛ وإما ببيعة أهل الحل والعقد: وهم من اجتمع فيهم ثلاثة أمور: العلم بشروط الإمام، والعدالة، والرأي. ¬
بيعة الخليفة
وشروط الإمام: الحرية والعدالة والفطانة وكونه قرشياً، وكونه ذا نجدة وكفاية في المعضلات. وبيعة أهل الحل تكون بالحضور والمباشرة بصفقة اليد، وإشهاد الغائب منهم. ويكفي العامي اعتقاد أنه تحت أمره، فإن أضمر خلاف ذلك فسق، ودخل تحت قوله عليه الصلاة والسلام: «من مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية» (¬1). وقال ابن حجر (¬2): أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه، وأن طاعته خير من الخروج عليه، لما في ذلك من حقن الدماء، وتسكين الدهماء، ولم يستثنوا من ذلك إلا إذا وقع من السلطان الكفر الصريح، فلا تجوز طاعته في ذلك، بل تجب مجاهدته لمن قدر عليه، لحديث البخاري عن عبادة: «إلا أن تروا كفراً بَواحاً عندكم من الله فيه برهان». بيعة الخليفة: أولاً ـ طريقة بيعة الخليفة: لقد أجمع المسلمون ما عدا الشيعة الإمامية على أن تعيين الخليفة يتم بالبيعة، أي الاختيار والاتفاق بين الأمة وشخص الخليفة، فهي عقد حقيقي من العقود التي تتم بإرادتين على أساس الرضا. وهذه النظرية سبقت نظرية الفقيه الفرنسي جان جاك روسو الذي افترض أن أساس السلطة السياسية أو السيادة هو عقد اجتماعي بين الشعب والحاكم. ¬
ثانيا ـ من هم أهل الحل والعقد؟
وسميت عملية التعاقد هذه (بيعة) تشبيهاً بفعل البائع والمشتري لأنهم كانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده جعلوا أيديهم في يده تأكيداً للعهد (¬1). قال الماوردي: فإذا اجتمع أهل العقد والحل للاختيار، تصفحوا أحوال أهل الإمامة الموجودة فيهم شروطها، فقدموا للبيعة منهم أكثرهم فضلاً، وأكملهم شروطاً، ومن يسرع الناس إلى طاعته، ولا يتوقفون عن بيعته (¬2). وأهل الحل والعقد يمثلون الأمة في اختيارهم الخليفة (¬3)، باعتبار أن نصب الإمام من الفروض الكفائية على الأمة بمجموعها، وأن لها الحق في عزله حال فسقه. قال الرازي والإيجي وغيرهما: إن الأمة هي صاحبة الرئاسة العامة (¬4). وقال البغدادي: قال الجمهور الأعظم من أصحابنا (أي أهل السنة) ومن المعتزلة والخوارج والنجارية: إن طريق ثبوتها (أي الإمامة) الاختيار من الأمة (¬5). وهذه يدلنا على أن الأمة هي مصدر السلطة التنفيذية؛ لأن حق التعيين والعزل ثابت لها. ثانياً ـ من هم أهل الحل والعقد؟ أـ أهل الحل والعقد: هم العلماء المختصون (أي المجتهدون) والرؤساء ووجوه الناس الذين يقومون باختيار الإمام نيابة عن الأمة. قال الماوردي: وإن لم يقم بها (أي الإمامة) ¬
ب ـ شروطهم
أحد، خرج من الناس فريقان: أحدهما ـ أهل الاختيار، حتى يختاروا إماماً للأمة. والثاني ـ أهل الإمامة حتى ينتصب أحدهم للإمامة، وليس على من عدا هذين الفريقين من الأمة في تأخير الإمامة حرج ولا مأثم (¬1). ب ـ شروطهم: يتحدد أولو الحل والعقد بالصفات أو الشروط المطلوبة فيهم، وهي كما ذكر الماوردي ثلاثة هي (¬2): أولاً ـ العدالة الجامعة لشروطها. والعدالة: هي ملكة تحمل صاحبها على ملازمة التقوى والمروءة، والمراد بالتقوى: امتثال المأمورات الشرعية، واجتناب المنهيات الشرعية. ثانياً ـ العلم الذي يتوصل به إلى معرفة من يستحق الإمامة على الشروط المعتبرة فيها. ثالثاً ـ الرأي والحكمة المؤديان إلى اختيار من هو للإمامة أصلح، وبتدبير المصالح أقوى وأعرف. وهذه الشروط يقرها المنطق وتمليها المصلحة، وتوجبها المدنية الحقة، ويفهم منها أن هذه الهيئة بمثابة مجلس الشيوخ في عرفنا الحاضر، على أن يكون أعضاؤه من ذوي الكفاءات العلمية، لا المالية المادية، أو الطبقية، أو كونهم من أهل المدينة لا الريف. لذا قال الماوردي: وليس لمن كان في بلد الإمام على غيره من أهل البلاد فضل مزية تقدم بها على غيره (¬3). ويلاحظ أن أهل الحل والعقد في السياسة ¬
جـ ـ عددهم
لا يقتصر على (المجتهدين) الذي يتولون مهمة استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها، وإنما يشمل فئات أخرى لها ميزاتها في المجتمع. جـ ـ عددهم: لا نرى مجالاً صحيحاً للكلام في تحديد عدد أهل الحل والعقد؛ لأن المعول عليه هو ثقة الأمة بهم، وكونهم يمثلون الأمة فيما ترغب وتريد وتتوافرفيهم شروط معينة، فلا يمكن تحديدهم. لكن لمجرد العلم والاطلاع أذكر ما قاله الفقهاء في هذا الشأن، وقد استعرض الماوردي آراءهم، فقال (¬1): اختلف العلماء في عدد من تنعقد به الإمامة منهم، على مذاهب شتى: 1 - قالت طائفة: لا تنعقد إلا بجمهور أهل العقد والحل من كل بلد ليكون الرضاء به عاماً، والتسليم لإمامته إجماعاً، وهذا مذهب مدفوع ببيعة أبي بكر رضي الله عنه على الخلافة باختيار من حضرها، ولم ينتظر ببيعته قدوم غائب عنها. 2 - وقالت طائفة أخرى: أقل من تنعقد به منهم الإمامة خمسة يجتمعون على عقدها، أو يعقدها أحدهم برضا الأربعة استدلالاً بأمرين: أحدهما ـ أن بيعة أبي بكر رضي الله عنه انعقدت بخمسة اجتمعوا عليها، ثم تابعهم الناس فيها، وهم عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح، وأسيد بن حضير، وبشر بن سعد، وسالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنهم. والثاني ـ أن عمر رضي الله عنه جعل الشورى في ستة ليعقد لأحدهم برضا الخمسة. ¬
د ـ موافقة الأمة
وهذا قول أكثر الفقهاء والمتكلمين من أهل البصرة. 3 - وقال آخرون من علماء الكوفة: تنعقد بثلاثة يتولاها أحدهم برضا الاثنين ليكونوا حاكماً وشاهدين، كما يصح عقد النكاح بولي وشاهدين. 4 - وقالت طائفة أخرى: تنعقد بواحد؛ لأن العباس قال لعلي رضوان الله عليهما: امدد يدك أبايعك، فيقول الناس: عم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بايع ابن عمه، فلا يختلف عليك اثنان؛ ولأنه (أي إىجاب العقد) حكم، وحكم واحد نافذ. د ـ موافقة الأمة: الحقيقة أنه لا دليل من نص أو إجماع على ما قال هؤلاء جميعاً في تحديد العدد، والقضية مجرد اجتهاد، فيعتبر مذهب أهل السنة هو أولى الآراء بالاتباع، وهوأن تحديد العدد فيه تعسف. وينبغي مراعاة مبدأ الاختيار والشورى من الأمة، ومثل هذه الأمور العامة لا تقاس على أحكام القضاة الخاصة في قضية معينة. فإذا عقد البيعة شخص واحد لا تنعقد حتى تتم موافقة الأمة ورضاها. قال الغزالي في بيعة أبي بكر رضي الله عنه: ولو لم يبايعه غيرعمر، وبقي كافة الخلق مخالفين أو انقسموا انقساماً متكافئاً لا يتميز فيه غالب عن مغلوب، لما انعقدت الإمامة (¬1). وقال الإمام أحمد في تفسير: «من مات وليس له إمام مات ميتة جاهلية»: أتدري ما الإمام؟ الإمام الذي يجمع عليه المسلمون، كلهم يقول: هذا إمام، فهذا معناه (¬2). وقال ابن تيمية في مبايعة أبي بكر: «لو قدر أن عمر وطائفة معه بايعوه، وامتنع سائر الصحابة عن البيعة، لم يصر إماماً بذلك، وإنما صار إماماً بمبايعة جمهور الصحابة الذين هم أهل القدرة والشوكة» (¬3). ¬
هـ ـ وظيفة أهل الحل والعقد
هـ ـ وظيفة أهل الحل والعقد: يتبين مما ذكر أن مهمة هؤلاء مقصورة على الترشيح والترجيح على وفق المصلحة والعدل. وقد حدد الماوردي ضوابط الاختيار، فقال (¬1): فإذا اجتمع أهل العقد والحل للاختيار، تصفحوا أحوال أهل الإمامة الموجودة فيهم شروطها، فقدموا للبيعة منهم أكثرهم فضلاً، وأكملهم شروطاً، ومن يسرع الناس إلى طاعته، ولا يتوقفون عن بيعته، فإذا تعين لهم من بين الجماعة من أداهم الاجتهاد إلى اختياره، عرضوها عليه، فإن أجاب إليها بايعوه عليها وانعقدت ببيعتهم له الإمامة، فلزم كافة الأمة الدخول في بيعته والانقياد لطاعته. وإن امتنع من الإمامة ولم يجب إليها لم يجبر عليها؛ لأنها عقد مراضاة واختيار، لا يدخله إكراه ولا إجبار، وعدل عنه إلى سواه من مستحقيها. ثم بين الماوردي صعوبة مهمة أهل الاختيار عند تكافؤ المرشحين، فوضع لهم الضوابط التي يتمكنون بها من إنجاح مهمتهم، فقال: فلو تكافأ في شروط الإمامة اثنان قدم لها اختياراً أسنهما، وإن لم تكن زيادة السن مع كمال البلوغ شرطاً، فإن بويع أصغرهما سناً جاز. ولو كان أحدهما أعلم والآخر أشجع روعي في الاختيار ما يوجبه حكم الوقت. فإن كانت الحاجة إلى فضل الشجاعة أدعى لانتشار الثغور وظهور البغاة، كان الأشجع أحق. وإن كانت الحاجة إلى فضل العلم أدعى لسكون الدهماء، وظهور أهل البدع، كان الأعلم أحق. ثالثاً ـ طريقة اختيار الخلفاء الراشدين: أذكر بإيجاز طريقة اختيار الخلفاء الأربعة الراشدين لتوكيد أن البيعة من الأمة ¬
1 - أبو بكر الصديق
هي أساس التعيين، لا النص، ولا العهد، ولا الغلبة، ولا الوراثة ونحوها. علماً بأن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يبين للناس كيفية اختيار الخليفة ولم ينص على خليفة معين، وفي ذلك حكمة بالغة، هي ترك المجال مفتوحاً لإرادة الأمة تفعل ما يحقق المصلحة دون تحديد لشكل الحكم وأساليب التعيين، وإنما تتصرف بكامل حريتها وفقاً لما يتناسب مع كل زمان ومكان؛ لأن المهم هو قيام الحاكم بواجباته أو وظائفه الدينية والدنيوية معاً في ظل من رقابة الأمة، حتى لا يعتقد أحد من الحكام باستمداد سلطانه من الله، أوأنه في مرتبة النبي الذي لا يعارض قوله أو فعله أو حكمه. 1 - أبو بكر الصديق: لقد تم انتخاب أبي بكر الخليفة الأول بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم في أحدث صورة لمؤتمر سياسي جرى فيه نقاش حاد بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة عقب وفاة الرسول صلّى الله عليه وسلم وقبل دفنه، وكان قصدهم من النقاش هو تحقيق مصلحة الإسلام وخير المسلمين. وكان عمر هو أول من رشح أبا بكر رضي الله عنه، ووافقه أهل العقد والحل، وبايعه المسلمون جميعاً، من وافق منهم أو خالف في أثناء النقاش (¬1). حتى إن علياً كرم الله وجهه الذي انتابه مرض بسبب وفاة النبي صلّى الله عليه وسلم بايع أبا بكر بعد برئه. 2 - عمر بن الخطاب: كان اختيار عمر رضي الله عنه بترشيح من أبي بكر في صورة عهد إلى المسلمين، بعد استشارة أهل الحل والعقد، ثم بايعه المسلمون ورضوا به. فعندما ¬
3 - عثمان بن عفان
أحس أبو بكر بدنو أجله، طلب من الناس أن يؤمّروا عليهم واحداً في حال حياته، حتى لا يختلفوا بعده، خشية على المسلمين من التفرق بعد أن بدؤوا الحرب مع فارس والروم، فردوا الأمر إليه في أن يختار لهم من يرى فيه الخير ولهم وللدين. فاستمهل ثم بدأ مشاوراته مع كبار الصحابة وأهل الرأي، سائلاً الواحد تلو الآخر في ترشيح عمر، وكان من أشهر من استدعاهم عثمان وعبد الرحمن بن عوف وسعيد بن زيد وأسيد بن الخضير وغيرهم من المهاجرين والأنصار، فأثنوا عليه خيراً، وتخوف بعضهم وهو ابن عوف من شدته (غلظته)، فأجابه أبو بكر بقوله: ذلك لأنه يراني رقيقاً، ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيراً مما هو عليه. وبعد أن أتم أبو بكر مشاوراته، أملى على عثمان عهده إلى المسلمين، ثم أشرف على الناس وزوجته أسماء بنت عميس تمسكه، فقال: أترضون بمن استخلفت عليكم، فإني والله ما ألوت من جهد الرأي، ولا وليت ذا قرابة؟! وإني قد استخلفت عمر بن الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا، فقالوا: سمعنا وأطعنا. ثم أمر أبو بكر عثمان بتبليغ الناس وأخذ البيعة، فذهب ومعه عمر وأسيد بن سعيد القرظي، فقال عثمان للناس: أتبايعون لمن في هذا الكتاب (أي لعمر)؟ فقالوا: نعم. وبعد تمام البيعة بايعه أبو بكر معلناً أنه لم يرد إلا صلاح المسلمين وإبعادهم عن الفتنة، وأوصاه بما هو خير (¬1). 3 - عثمان بن عفان: يبدو لنا في صورة اختيار عثمان مظهر الشورى بشكل أوضح، إذ أن عمر رضي الله عنه وهو صحيح حدد لجنة الشورى في ستة: وهم (¬2) علي والزبير بن ¬
العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعد ابن أبي وقاص. وعين لهم مدة ثلاثة أيام للاختيار، ورسم لهم خطة المشاورة، بالأخذ برأي الأكثرية، فإن تساووا يرجح الجانب الذي فيه عبد الله بن عمر، أي في حالة تساوي الأصوات، فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر، فليكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف. وأمر بضرب عنق من خالف بعدئذ. وخلف على أصحاب الشورى أبا طلحة في خمسين من قومه من الأنصار، في ألا يتركهم يمضي اليوم الثالث حتى يؤمروا أحدهم، وقال له عمر قبل موته بساعة: اللهم أنت خليفتي عليهم. وقام أهل الشورى هؤلاء بإجراء مشاورات طوال الأيام الثلاثة ليلاً نهاراً، وكان عبد الرحمن ـ الذي خلع نفسه من الخلافة ـ يلقى أصحاب رسول الله، ومن وافى المدينة من أمراء الأجناد وأشراف الناس، يشاورهم، فوجد الناس يجمعون على أحد اثنين: عثمان أو علي. إلا أن أكثرية أهل الشورى والمسلمين رغبوا بعثمان لما عرفوا فيه من لين ورحمة وأفضال على الناس بتجهيز جيش العسرة من ماله وشراء بئر رومة وجعله سبيلاً للمسلمين يسقون منه. ثم جمع عبد الرحمن المسلمين في المسجد، واستوثق من عثمان وعلي بالعمل بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين الراشدين من قبله بالعدل والإنصاف، ثم بايع (أي عبد الرحمن) عثمان رضي الله عنه وتابعه المسلمون بالمبايعة، وفيهم علي بن أبي طالب بعد أن تأخر عن المبايعة بسبب مرضه. ولم تكن مبايعة عبد الرحمن محاباة ولا ظلماً كما قد ظن بعض الناس، وإنما كانت تعبيراً أميناً صادقاً عن آراء الأمة ومشاوراته الليالي والأيام مع أكابرها
4 - علي بن أبي طالب
ومتقدميها. مع ما عرف من فضله ونبله وسابقته في الإسلام وعلمه وزهده في الخلافة وشدة خوفه وحذره وعظيم مناصحته للأمة، كما أبان الباقلاني (¬1). 4 - علي بن أبي طالب: لقد ترتب على الفتنة الكبرى بمقتل عثمان رضي الله عنه ووقوع الفوضى بالمدينة أحداث خطيرة في تاريخ الإسلام أثَّرت في خلافة علي رضي الله عنه تأثيراً بالغاً منذ بداية عهده بها. فلم يتوافر له الاتفاق أو الإجماع الشامل الذي حظي به الخلفاء السابقون. فبايعه كبار المهاجرين والأنصار في المدينة وأهل الأمصار والمصريون، ولم يبايعه أهل الشام وبنو أمية بزعامة معاوية بن أبي سفيان، ونقل عن طلحة والزبير أنهما بايعاه مكرهين، ثم خرجا من المدينة إلى مكة ثم إلى البصرة مع عائشة مطالبين بدم عثمان رحمه الله، فقاتلهما علي كرم الله وجهه يوم الجمل، وقتلا في هذه المعركة. ولكن بالرغم من أن سيدنا علي كرم الله وجهه قد استنكر قتل عثمان، ولزم بيته، أصرالمهاجرون والأنصار على بيعته حسماً للفتنة وصيانة لدار الهجرة، فطلب حينئذ منهم عقدها في المسجد علانية وعن رضا المسلمين، ورضي في ذلك بعد شدة، وبعد أن رآه مصلحة (¬2). والخلاصة: إن اختيار الخليفة يتم أساساً ببيعة أكثر المسلمين العامة، بعد ترشيح أولي النظر والرأي أو أهل الحل والعقد، عملاً بمبدأ الشورى قاعدة الحكم في الإسلام: {وأمرهم شورى بينهم} [الشورى:42/ 38]. وأما العهد السابق من الخليفة فلا يعدو أن يكون مجرد ترشيح لا أثر له إذا لم تنضم إليه البيعة ¬
المبحث الرابع ـ شروط الإمام
العامة (¬1). وهذا ماكان يفعله الناس في عهد الراشدين ومن بعدهم من خلفاء الأمويين. لكن باستثناء خلافة عمر بن عبد العزيز (¬2) رحمه الله، برزت صفة وراثة الحكم التي ابتكرها معاوية، واستمرت سنَّة متبعة دون مراعاة الشروط المطلوبة شرعاً في الخليفة أحياناً، وحرصاً على الحفاظ على وحدة المسلمين، واستمرار الفتوح، وبقاء الدولة قوية في وجه أعداء الإسلام. المبحث الرابع ـ شروط الإمام: اشترط العلماء في المرشح للخلافة أو الوزراة وفي أثناء عمله شروطاً سبعة هي (¬3): أولاً ـ أن يكون ذا ولاية تامة بأن يكون مسلماً، حراً، ذكراً، بالغاً، عاقلاً. أما اشتراط الإسلام فلأنه يقوم بحراسة الدين والدنيا، وإذا كان الإسلام شرطاً في جواز الشهادة، فهو شرط في كل ولاية عامة، لقوله تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} [النساء:141/ 4]. وأما اشتراط الحرية فلأنه وصف كمال، فلا يعقل أن يكون صاحب الولاية ¬
ثانيا ـ العدالة
أدنى رتبة من المولى عليهم. قال الماوردي: تشترط الحرية؛ لأن نقص العبد عن ولاية نفسه يمنع من انعقاد ولايته على غيره، ولأن الرق لما منع من قبول الشهادة، كان أولى أن يمنع من نفوذ الحكم وانعقاد الولاية (¬1). وأما الذكورة فلأن عبء المنصب يتطلب قدرة كبيرة لا تتحملها المرأة عادة، ولا تتحمل المسؤولية المترتبة على هذه الوظيفة في السلم والحرب والظروف الخطيرة، قال صلّى الله عليه وسلم: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» (¬2) لذا أجمع الفقهاء على كون الإمام ذكراً. وأما البلوغ فأمر بدهي؛ لأن الصبي ليس كفئاً لمثل هذه المهام الكبرى، فهو غير مسؤول عن أفعاله، ولا يتعلق بفعله حكم معين (¬3). وأما العقل فمطلوب لصحة كل تصرف خاص أوعام. ولا يكفي فيه الحد الأدنى للمطالبة بالتكاليف الشرعية من صلاة وصيام ونحوهما، بل لا بد فيه من رجحان الرأي، بأن يكون صاحبه صحيح التمييز، جيد الفطنة بعيداً عن السهو والغفلة، يتوصل بذكائه إلى إيضاح ما أشكل وفصل ما أعضل، كما قال الماوردي (¬4). ثانياً ـ العدالة: أي الديانة والأخلاق الفاضلة، وهي معتبرة في كل ولاية، وهي أن يكون صادق اللهجة، ظاهر الأمانة، عفيفاً عن المحارم، متوقياً المآثم، بعيداً من الريب، مأموناً في الرضا والغضب، مستعملاً لمروءة مثله في دينه ودنياه، ¬
ثالثا ـ الكفاية العلمية
كما قال الماوردي (¬1). وفي الجملة: هي التزام الواجبات الشرعية، والامتناع عن المنكرات والمعاصي المحرمة في الدين. ثالثاً ـ الكفاية العلمية بأن يكون لديه من العلم ما يؤدي به إلى الاجتهاد فيما يطرأ من نوازل وأحداث، أو يستنبط من أحكام شرعية وغيرها من أحوال السياسة الشرعية. وهذا الشرط متفق عليه بين العلماء (¬2). ولا يكون العالم مجتهداً إلا إذا علم الأحكام الشرعية وكيفية استنباطها من مصادرها الشرعية الأربعة: وهي القرآن والسنة والإجماع والقياس. وأن يعرف أحوال العصر وما طرأ عليه من تغيرات وتطورات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية. رابعاً ـ حصافة الرأي في القضايا السياسية والحربية والإدارية، قال الماوردي: الرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح (¬3)، وتابعه في هذا العلماء معبرين عن هذا الشرط بما يفيد الخبرة الكافية بشؤون الناس وأمور البلاد وحاجات الحكم والسياسة (¬4). خامساً ـ صلابة الصفات الشخصية: بأن يتميز بالجرأة والشجاعة والنجدة المؤدية إلى حماية البيضة (الوطن) وجهاد العدو، وإقامة الحدود، وإنصاف المظلوم من الظالم، وتنفيذ الأحكام الإسلامية (¬5). ¬
سادسا ـ الكفاية الجسدية
سادساً ـ الكفاية الجسدية: وهي سلامة الحواس من السمع والبصر واللسان ليصح معها مباشرة ما يدرك بها. وسلامة الأعضاء من نقص يمنع عن استيفاء الحركة وسرعة النهوض (¬1). فإن طرأ نقص على بدن الإمام مما يخل بهذا الشرط، فقد بحث الماوردي ـ مؤسس القانون الدستوري والإداري في الإسلام أثر ذلك على استدامة الإمامة مما لا نجد له مثيلاً عند غيره، فقال: ينقسم النقص ثلاثة أقسام (¬2): أحدها ـ نقص الحواس. والثاني ـ نقص الأعضاء. والثالث ـ نقص التصرف. أـ فأما نقص الحواس فينقسم ثلاثة أقسام: قسم يمنع من الإمامة، وقسم لا يمنع، وقسم مختلف فيه: فأما القسم المانع منها فشيئان: أحدهما ـ زوال العقل، والثاني ـ ذهاب البصر. وأما القسم الثاني من الحواس التي لا يؤثر فقدها في الإمامة فشيئان أحدهما ـ الخشم في الأنف الذي لا يدرك به شم الروائح. والثاني ـ فقد الذوق الذي يفرق به بين الطعوم، فلا يؤثر هذ في عقد الإمامة؛ لأنهما يؤثران في اللذة، ولا يؤثران في الرأي والعمل. وأما القسم الثالث من الحواس المختلف فيه فشيئان: الصمم والخرس: فيمنعان من ابتداء عقد الإمامة؛ لأن كمال الأوصاف بوجودهما مفقود. واختلف في الخروج بهما من الإمامة، فقالت طائفة: يخرج بهما منها، كما يخرج بذهاب البصر لتأثيرهما في التدبير والعمل، وهو أصح المذاهب. وقالت طائفة: لا يخرج بهما من الإمامة لقيام الإشارة مقامهما. ¬
وقال آخرون: إن كان يحسن الكتابة لم يخرج بهما من الإمامة، وإن كان لا يحسنها خرج من الإمامة بهما؛ لأن الكتابة مفهومة، والإشارة موهومة. ب ـ وأما فقد الأعضاء فينقسم أربعة أقسام: أحدها ـ ما لا يؤثر على الترشيح للإمامة ولا على استدامتها: وهو ما لا يؤثر فقده في رأي ولا عمل ولا نهوض ولا يشين في المنظر، مثل قطع الذكر والأنثيين وقطع الأذنين. الثاني ـ ما يمنع من عقد الإمامة ومن استدامتها: وهو ما يمنع من العمل كذهاب اليدين، أو من النهوض كذهاب الرجلين. الثالث ـ ما يمنع من عقد الإمامة، واختلف في أثره على استدامتها: وهو ما ذهب به بعض العمل أو فقد به بعض النهوض كذهاب إحدى اليدين أو إحدى الرِّجلين، فذلك يمنع الترشيح للإمامة. وأما استدامتها ففي إنهاء ولايته مذهبان: أحدهما: تنتهي إمامته، والثاني لا تنتهي. الرابع ـ ما لا يمنع من استدامة الإمامة، واختلف في أثره على صلاحية الترشيح، وهو ما يؤدي إلى تشويه الجسد، ولكن لا يؤثر في عمل ولا في نهضة كجدع الأنف وسمل إحدى العينين. فذلك لا يؤثر على بقائه في الإمامة. واختلف في منعه من الترشيح لها على مذهبين: أحدهما يمنع، والآخر لا يمنع. جـ ـ وأما نقص التصرف فنوعان: حجر وقهر. فأما الحجر: فهو أن يستولي عليه من أعوانه من يستبد بتنفيذ الأمور من غير تظاهر بمعصية ولا مجاهرة بمشاقة، فلا يمنع صحة ولايته، ولكن ينظر في أفعال المتسلط على أموره، فإن وافقت أحكام الشرع والعدل أقر عليها، وإن خالفت أحكام الدين ومقتضى العدل، لم يقر عليها ووجب تنحية المتسلط.
سابعا ـ النسب وهو أن يكون المرشح للخلافة من قريش،
وأما القهر: فهو أن يصير مأسوراً في يد عدو قاهر لا يقدر على الخلاص منه، فيمنع ذلك من ترشيحه للخلافة. فإن أسر بعد انعقاد الإمامة له، وجب على كافة الأمة استنقاذه من الأسر، ولا يخلع من الإمامة إلا إذ يئس المسلمون من استخلاصه من الأسر. سابعاً ـ النسب وهو أن يكون المرشح للخلافة من قريش، وهذا الشرط مختلف فيه (¬1)، أما الشروط السابقة فمتفق عليها في الجملة. فقال أهل السنة: يجب كونه من قريش لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «الأئمة من قريش» «قدموا قريشاً ولاتقدموها» «لا يزال هذا الأمر في هذا الحي من قريش ما استقاموا» أو «ما أقاموا الدين» (¬2). وقال الخوارج، والمعتزلة بعدهم: إن الإمامة حق لكل مسلم متى استكمل الشروط الأخرى. ولكن يلاحظ أن الفقهاء الشرعيين الذين نظروا إلى شرط النسب في الإمامة، وفي بعض الأحكام الخاصة كالكفاءة بين الزوجين في الزواج، لا يتنافى رأيهم مع مبدأ المساواة المقرر في الإسلام بين الناس؛ لأن المساواة مطلوبة فيما ثبت للأفراد من الحقوق أو كلفوا به من الواجبات. وقضية الإمامة والكفاءة روعي فيها ¬
عرف الناس وعاداتهم وتوفير المصلحة التي لا يعقبها نزاع، وكون الحق فيها مقصوراً على من حددهم الشرع لحكمة معينة (¬1). وبما أن قريشاً كانت لها الصدارة بين العرب، وتألف شؤون المدنية والاجتماع ويتبعها أكثر الناس، وكلمتها نافذة بين القبائل منذ الجاهلية، فمن المصلحة إناطة الأمر العام والسياسة بها، فإذا تغير الأمر وأصبحت الغلبة لمن ترضى عنه أكثرية الناس بالانتخاب ونحوه، فلا مانع في تقديري من عقد الإمامة له، كالخلافة العثمانية ونحوها. ومن هنا رأى ابن خلدون أن الحكمة في اختصاص قريش بهذه الميزة هي كونها صاحبة العصبية التي تكون بها الحماية والمطالبة، ويرتفع الخلاف والفرقة بوجودها لصاحب المنصب، فتسكن إلىه الملة وأهلها، وينتظم حبل الألفة فيها. وعقب الدكتور ضياء الدين الريس وغيره على ذلك بأن الإسلام لما لم يقر فكرة العصبية كغاية في التشريع أو كأساس في تكوين المجتمعات، فإن المعول عليه توفير القوة والطاعة، وبما أن ذلك لم يعد يعتمد على العصبية كما كان في الماضي، بل أصبح مستمداً من نظام الدولة وما تملك من جيوش، فإن هذا الشرط لم يعد ضرورياً، ويكفي أن يختار الخليفة بالطريقة المشروعة، وأن يحوز رضا المسلمين. ويلزم من هذا أن يكون الشرط الآن هو أن القائم بأمور المسلمين يجب أن يكون متبوعاً من الكثرة الغالبة، ليكون مطاعاً مرضياً عنه، ذا قوة مستمدة من الإرادة العامة، فيترتب على وجوده حصول الوحدة، وتنتفى دواعي الخلاف (¬2). ¬
المبحث الخامس ـ وظائف الإمام (أو واجباته واختصاصاته)
ولا يجوز تعدد الإمام في وقت واحد، لأن ذلك يؤدي لتفريق المسلمين في أقطارهم وبلدانهم، والواجب حفاظهم على وحدتهم الدولية، أما تعدد الدول الإسلامية الآن، فهو واقع اقتضته ظروف المجتمع الدولي الإقليمي، ويمكن تحقيق الوحدة بينهم في السياسة والاقتصاد والجيش والتمثيل الخارجي. المبحث الخامس ـ وظائف الإمام (أو واجباته واختصاصاته) حدد الفقهاء واجبات الإمام أو ظائفه بعشرة أمور أساسية، يمكن أن يتفرع عنها عدة اختصاصات أخرى بحسب تغير الظروف والأوضاع والتطورات الحادثة (¬1)، ويمكن تصنيفها أو قسمتها إلى وظائف دينية ووظائف سياسية. الوظائف الدينية وهي أربعة: أولاً ـ حفظ الدين: أي المحافظة على أحكامه وحماية حدوده وعقاب مخالفيه. قال الماوردي: «حفظ الدين على أصوله المستقرة، وما أجمع عليه سلف الأمة. فإن نجم مبتدع، أو زاغ ذو شبهة عنه، أوضح له الحجة، وبين له الصواب، وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود، ليكون الدين محروساً من خلل، والأمة ممنوعة من زلل». ثانياً ـ جهاد الأعداء: أي قتال من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم، أو يدخل في الذمة، ليقام بحق الله تعالى في إظهاره على الدين كله. وهذا مشروط بوجود قوة للمسلمين ووجود عدوان على دعاة الإسلام أو بلاده، كما سيبين في بحث الإسلام والحرب. ¬
الوظائف السياسية
ثالثاً ـ جباية الفيء والصدقات (¬1). والمقصود بالفيء والغنائم: الأموال التي تصل إلى المسلمين من المشركين أو كانوا سبب وصولها. وأما الصدقات فهي الأموال الواجبة على المسلمين نصاً كالزكاة، واجتهاداً كالأموال المفروضة على الأغنياء إذا خلا بيت المال، واحتاجت الدولة لتجهيز الجيش ونحوه من المصالح العامة. رابعاً ـ القيام على شعائر الدين من أذان وإقامة صلاة الجمعة والجماعة والأعياد، وصيام، وحج، فبالنسبة للصلاة يعين الخليفة الإمام والمؤذن، ويصون المساجد ويرعاها، ويؤم الناس في الصلاة الجامعة إذا حضر، ويشرف على توقيت الصيام بدءاً ونهاية، ويعاقب من يعلن الإفطار دون عذر مقبول، وييسر أداء فريضة الحج بتعيين ولاة للسهر على أداء هذا الواجب، والولاية على الحج لتسيير الحجيج وإقامتهم (¬2). الوظائف السياسية: بما أن الخليفة كان يجمع أحياناً بين السلطتين التنفيذية والقضائية، فإن وظائفه السياسية كانت تشمل التنفيذ والقضاء. أورد الماوردي ستة منها تعد في الحقيقة على سبيل المثال لا على سبيل الحصر، وهي (¬3): ¬
أولاً ـ المحافظة على الأمن والنظام العام في الدولة. عبر الماوردي عن ذلك بقوله: حماية البيضة (الوطن) والذب عن الحريم (الحرمات) ليتصرف الناس في المعايش، وينتشروا في الأسفار آمنين عن تغرير بنفس أو مال، وهذا ما يقوم به الشرطة الآن. ثانياً ـ الدفاع عن الدولة في مواجهة الأعداء: وعبر عنه الماوردي بقوله: تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة، حتى لا تظهر الأعداء بغرة ينتهكون فيها محرماً، أو يسفكون فيها لمسلم أو معاهد دماً. ثالثاً ـ الإشراف على الأمور العامة بنفسه. قال الماوردي: أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال، لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملة، ولا يعول على التفويض تشاغلاً بلذة أو عبادة، فقد يخون الأمين ويغش الناصح. رابعاً ـ إقامة العدل بين الناس، وذلك على النحو التالي: أـ تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين وقطع الخصام بين المتنازعين حتى تعم التصفية، فلا يتعدى ظالم ولا يضعف مظلوم. ب ـ إقامة الحدود لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاء، وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك. خامساً ـ إدارة المال: بتقدير العطايا وما يستحق في بيت المال من غير سرف ولا تقتير، ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير. سادساً ـ تعيين الموظفين: وعبر الماوردي عن الواجب بقوله: استكفاء الأمناء، وتقليد النصحاء فيما يفوضه إلىهم من الأعمال، ويكله إليهم من الأموال، لتكون الأعمال بالأكفاء مضبوطة، والأموال بالأمناء محفوظة.
المبحث السادس ـ انتهاء ولاية الحاكم
فإن طرأ طارئ اتخذ الخليفة من التدابير مايحقق سعادة الأمة بشرطين: الأول ـ ألا يخالف نصاً صريحاً ورد في القرآن أو السنة أو الإجماع. الثاني ـ أن تتفق التدابير مع روح الشريعة ومقاصدها العامة، على وفق ما بينه علماء أصول الفقه، بالحفاظ على الأصول الكلية الخمسة وتوابعها: وهي الدين والنفس والعقل والنسل والمال (¬1). المبحث السادس ـ انتهاء ولاية الحاكم: تنتهي ولاية الحاكم أو الخليفة بأحد أمور ثلاثة وهي (¬2): أولاً ـ الموت: وهذا أمر طبيعي لزوال الولاية؛ لأن مدة استخلافه مؤقتة بمدة حياته. ولا يحق له توريث ولايته لأحد، وإنما الحق في التولية لأهل الاختيار، ويرى الدكتور السنهوري أن روح النظام الإسلامي لا تتنافى إطلاقاً مع توقيت الخلافة بمدة زمنية محدودة، إذا ما تضمن عقد الخلافة ذلك (¬3). ثانياً ـ خلع الخليفة نفسه: وهذا حق شخصي للخليفة، حتى لا يكون مكرهاً على البقاء في منصبه بالرغم من إرادته، قال الماوردي: وإذا خلع الخليفة نفسه انتقلت إلى ولي عهده، وقام خلعه مقام موته، أي أن الأمر يصبح منوطاً باختيار أهل الحل والعقد؛ لأن ولايته مستمدة من الأمة، وليست حقاً أصيلاً له. ثالثاً ـ العزل لتغير حاله: والذي يتغير به حاله، فيخرج به عن الإمامة شيئان: جرح في عدالته، ونقص في بدنه. ¬
المبحث السابع ـ حقوق الإمام الحاكم
أما جرح العدالة فهو الفسق: وهو ارتكابه المحظورات، وإقدامه على المنكرات، وانقياده للأهواء والشهوات. وأما نقص البدن فهو كما ذكر سابقاً ثلاثة أقسام: أـ نقص الحواس، كزوال العقل وذهاب البصر والصمم والخرس. ب ـ نقص الأعضاء كذهاب اليدين، أو ذهاب الرجلين. جـ ـ نقص التصرف: وهو يشتمل على نوعين: أولاً ـ الحجر بأن يستولي أحد أعوانه على السلطة ويجاهر بالمعصية أو يخالف أحكام الشرع. فإن لم يخالف حكماً شرعياً استنصرت الأمة أو الخليفة بمن يعمل على تنحيته. وثانياً ـ الأسر: بأن يقع الخليفة في أسر الأعداء وييأس المسلمون من فكاكه واستخلاصه من الأسر. وتقرير مبدأ العزل من الأمة دليل واضح على أن الخليفة يستمد سلطانه من الأمة، وليس له ادعاء أحقيته السلطة بتفويض من الإله كما كان يزعم ملوك أوربا في القرون الوسطى. كما أنه ليس معصوماً من الخطأ، ولا حق له في التشريع وإنما ينفذ أحكام الشريعة ويجتهد في نطاقها، وليس له سلطة روحية كما هو الحال بالنسبة للبابا رئيس الكنيسة الكاثوليكية في العالم، فلا يحل ولا يحرم ولا يغفر الذنوب ولا يطرد مذنباً. المبحث السابع ـ حقوق الإمام الحاكم: حدد الماوردي واجبات المسلمين نحو الحاكم بأمرين وهما: 1 - الطاعة في غير معصية. 2 - النصرة ما لم يتغير حاله.
1 ـ حق الطاعة
فقال: «إذا قام الإمام بما ذكرناه من حقوق الأمة، فقد أدى حق الله تعالى فيما لهم وعليهم، ووجب له عليهم حقان: الطاعة والنصرة ما لم يتغير حاله» (¬1). 1 ـ حق الطاعة: إذا بايع أكثرية المسلمين إماماً وجبت طاعته من الكل، لقول الرسول صلّى الله عليه وسلم: «يد الله على الجماعة» «ومن شذ شذ في النار» «من فارق الجماعة شبراً، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه» (¬2). وبذل الطاعة مشروط بقيام الحاكم بواجباته التي ذكرت سابقاً، ومضمونها التزام أوامر الشريعة. وحينئذ تصبح القوانين والتكاليف التي تصدر عن الحاكم واجبة التنفيذ، كالإلزام بالتجنيد الإجباري وفرض الضرائب على الأغنياء بالإضافة إلى الزكاة كلما دعت حاجة البلاد إلى ذلك. ومصدر الالتزام بالطاعة آيات وأحاديث، منها قوله تعالى: {يا أيها الذين أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [النساء:59/ 4] وأولو الأمر: الحكام والعلماء كما بين المفسرون والصحابة. ومنها قوله صلّى الله عليه وسلم: «عليك بالسمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك» (¬3) «على المرء المسلم ¬
السمع والطاعة فيما أحب أو كره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» (¬1). ولا يجوز الخروج عن الطاعة بسبب أخطاء غير أساسية لا تصادم نصاً قطعياً، سواء أكانت باجتهاد، أم بغير اجتهاد، حفاظاً على وحدة الأمة وعدم تمزيق كيانها أو تفريق كلمتها، قال عليه الصلاة والسلام: «ستكون هَنَات وهنات ـ أي غرائب وفتن وأمور محدثات ـ فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع، فاضربوه بالسيف كائناً من كان» وقال عليه السلام أيضاً: «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه» «أيما رجل خرج يفرق بين أمتي فاضربوا عنقه» (¬2) رواهما مسلم عن عرفجة. وبديهي أن الطاعة بقدر الاستطاعة لقوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} [البقرة:286/ 2] وقال ابن عمر رضي الله عنه: «كنا إذا بايعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم على السمع والطاعة يقول لنا: فيما استطعتم» (¬3). وإذا أخطأ الحاكم خطأ غير أساسي لا يمس أصول الشريعة وجب على الرعية تقديم النصح له باللين والحكمة والموعظة الحسنة، قال عليه الصلاة والسلام: «الدين النصيحة قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم» (¬4) وقد حض رسول الله صلّى الله عليه وسلم على إسداء النصح والمجاهرة بقول ¬
الحق، فقال: «أفضل الجهاد: كلمة حق عند سلطان جائر» (¬1) «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» (¬2). فإن لم ينتصح وجب الصبر لقوله عليه السلام: «من رأى من أميره شيئاً، فكره فليصبر، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبراً، فيموت إلا مات ميتة جاهلية» (¬3). ولكن لا تجب الطاعة عند ظهور معصية تتنافى مع تعاليم الإسلام القطعية الثابتة، لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا طاعة لأحد في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف» «لا طاعة لمن لم يطع الله» (¬4). وهل تعالج الأخطاء الجوهرية المصادمة لأصول الإسلام بالثورة المسلحة من قبل الشعب؟ أذكر في الموضوع حديثين وأتبعهما بآراء الفقهاء وما يستنبط منهما. الحديث الأول الذي أخرجه مسلم عن عوف بن مالك الأشجعي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم. وشرار أئمتكم الذي تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم. قلنا: يا رسول الله، أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، لا، ما أقاموا فيكم الصلاة». ¬
الكتاب المحدثين
والحديث الثاني الذي يرويه البخاري وغيره والذي ورد في بعض رواياته عن عبادة بن الصامت قال: «دعانا النبي صلّى الله عليه وسلم، فبايعناه على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بَوَاحاً (¬1) عندكم من الله فيه برهان». والمبدأ هو وحدة الإمامة أو الخلافة، لحديث: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما» (¬2). وبناء عليه تجوز الثورة في حالة واحدة هي إعلان الكفر الصراح. قال الدهلوي: وبالجملة فإذا كفر الخليفة بإنكار ضروري من ضروريات الدين، حل قتله، بل وجب، وإلا لا؛ وذلك لأنه حينئذ فاتت مصلحة نصبه (إقامته حاكماً)، بل يخاف مفسدته على القوم، فصار قتاله من الجهاد في سبيل الله. قال صلّى الله عليه وسلم «: السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة (¬3).». واستنبط بعض الكتاب المحدثين (¬4) من الحديثين السابقين مبادئ أربعة بين فيها حدود الطاعة وحالة جواز الثورة على الحكم. وهي: ¬
أولاً ـ إن للأمير الذي يمثل الحكومة الشرعية في الدولة حق الطاعة من المواطنين جميعاً، بغض النظر عن أن فريقاً أو فرداً منهم قد لا يحبه، أو لا يرضى أحياناً عن سياسته في إدارة شؤون الدولة. ثانياً ـ إذا ما أقدمت الحكومة على إصدار قوانين أو أوامر تتضمن معصية صريحة بالمعنى الشرعي، فإنه لا سمع ولاطاعة على المواطنين بالنسبة لهذه القوانين والأوامر. ثالثاً ـ إذا ما وقفت الحكومة موقفاً تتحدى به تحدياً صريحاً متعمداً نصوص القرآن، فإن هذا الموقف يعتبر (كفراً بواحا ً) الأمر الذي يستوجب نزع السلطة من يدها وإسقاطها. رابعاً ـ إن نزع السلطة هذا من يد الحكومة في غير حالة إعلان الكفر صراحة يجب ألا يتم عن طريق ثورة مسلحة من جانب أقلية من المجتمع؛ لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد حذرنا من اللجوء لهذه الوسيلة، فقال: «من حمل علينا السلاح فليس منا» (¬1) وقال: «من سل علينا السيف فليس منا» (¬2) والمراد بذلك البغاة: وهم فئة من الناس خارجة عن طاعة الإمام. ومن المقرر فقهاً أن السلطة التي تملك التعيين تملك حق العزل. وهذا يعني أن أهل الشورى يقترحون العزل ببراهين واضحة، ثم تقوم أكثرية الأمة بواسطة استفتاء مثلاً بالتصويت على عزل الإمام من منصبه. ويرى بعض الكاتبين الجدد ضرورة عرض النزاع القائم بين أهل الشورى والإمام، على هيئة تحكيم عليا محايدة مختصة بشؤون الدستور، مكونة من نوابغ ¬
آراء الفقهاء القدامى في مبدأ الخروج على الحاكم
القضاة، وأقطاب القانون الإسلامي في الدولة، منعاً من تفاقم الأزمة التي لا تحل إلا بذلك. وتأمر هذه المحكمة بإجراء استفتاء عام على خلع الإمام لمخالفته قصداً نصوص الشريعة. فإن منع الإمام من اللجوء إلى الاستفتاء، كان لها الحق بإعلان عزله، وأن الأمة في حل من بيعته (¬1)، عملاً بمبدأ «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» (¬2). آراء الفقهاء القدامى في مبدأ الخروج على الحاكم: قال أهل الحديث والسنة بوجوب الصبر وعدم جواز الخروج على الحاكم مطلقاً، عملاً بالأحاديث الواردة عن النبي صلّى الله عليه وسلم الآمرة بالصبر مثل «كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل» (¬3). ورعاية لوحدة الأمة وعدم الفرقة واجتماع الكلمة واحتمال أخف الضررين، ولأن كثيراً من الصحابة والتابعين امتنعوا عن الخروج، بل اعتزلوا الفتنة ولم يساعدوا الخارجين، وبناء عليه لا يجوز الخروج على الحاكم إلا بإعلان الكفر صراحة، فإذا كفر بإنكار أمر من ضروريات أو بدهيات الدين، حل قتاله، بل وجب، منعاً من فساده وفوات مصلحة تعيينه، وإلا فلا، حفاظاً على وحدة الأمة، وعدم الفوضى. قال صلّى الله عليه وسلم: «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» وسئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن خلع الحكام، فقيل: أفلا ننابذهم؟ قال: لا، ما ¬
أقاموا فيكم الصلاة. وقال: «إلا أن تروا كفراً بواحاً ـ أي ظاهراً ـ عندكم من الله فيه برهان» (¬1).وقال المعتزلة والخوارج والزيدية وكثيرمن المرجئة: الخروج واجب إذا أمكننا أن نزيل بالسيف أهل البغي ونقيم الحق، عملاً بقوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى} [المائدة:2/ 5] وقوله: {فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} [الحجرات:49/ 9] وقوله: {لا ينال عهدي الظالمين} [البقرة:124/ 2]. وقال أبو بكر الأصم من المعتزلة: السيف واجب إذا اتفق على إمام عادل يخرجون معه لإزالة أهل البغي (¬2). وقال ابن حزم بجواز الخروج؛ لأن الأحاديث المجيزة للخروج على الفاسق الظالم ناسخة في رأيه للأحاديث الآمرة بالصبر؛ لأن هذه الأحاديث وردت في مبدأ الإسلام، ولأن الدليل المحرم يقدم على المبيح عند تعارضهما، ولقوله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى، فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} [الحجرات:9/ 94] ولأنه يجب على المسلم إزالة المنكر، ولا طاعة في معصيته، ومن قتل دون ماله أو دينه أو مظلمته فهو شهيد (¬3). ¬
2 - مناصرة الإمام ومؤازرته
ورجح الدكتور محمد يوسف موسى رأي ابن حزم؛ لأن الأمة الإسلامية موصوفة بأنها آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر، ترفض الظلم، وتقيم شعائر الله، ولكن بشرط واحد وهو أن يقدر تمام التقدير من يرى وجوب الخروج بالقوة على خليفة يستحق العزل شرعاً ضرورة صيانة وحدة الأمة التي ينبغي أن تحرص عليها الحرص كله، وضرورة تجنيبها الفتنة وإراقة الدماء بلا ضرورة (¬1). وهذا الرأي قريب من رأي المعتزلة الذين يوجبون الخروج على السلطان عند القدرة والإمكان (¬2). 2 - مناصرة الإمام ومؤازرته: على المسلمين أن يتعاونوا مع الحاكم في كل ما يحقق التقدم والخير والازدهار في جميع المجالات الخارجية بالجهاد في المال والنفس، والداخلية، بزيادة العمران وتحقيق النهضة الصناعية والزراعية والأخلاقية والاجتماعية، وإقامة المجتمع الخيِّر، وتنفيذ القوانين والأحكام الشرعية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سواء فيما يمس المصلحة العامة أم المصلحة الخاصة (¬3)، وتقديم النصيحة، وبذل الجهد بتقديم الآراء والأفكار الجديدة التي تؤدي إلى النهضة والتقدم، وتوعية الناس والدعوة لها في السلم والحرب. ومن المعلوم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصول الإسلام الأساسية المقررة بالتضامن بين الحكومة والأفراد؛ لأن في ذلك إقامة أمر الله وهدم ¬
كل ما يخالف الإسلام، قال الله تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون} [آل عمران:104/ 3] {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله} [آل عمران:110/ 3] وقال تعالى في شأن اليهود بسبب عدم النهي عن المنكر: {لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، لبئس ما كانوا يفعلون} [المائدة:78/ 5]. وجعلت سمة المؤمنين الاجتماعية هي القيام بهذا الواجب في قوله سبحانه: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر} [التوبة:71/ 9]. وورد في السنة النبوية أحاديث كثيرة بهذا المعنى، من أهمها المبدأ العام وهو قوله عليه الصلاة والسلام: «كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها ... » (¬1) الحديث. وقوله صلّى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لتأمرُنَّ بالمعروف، ولتنهُون عن المنكر، أو ليوشكن الله يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجيب لكم» (¬2) وقال صلّى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، قبل أن تدعو الله فلا يستجيب لكم، وقبل أن تستغفروه فلا يغفر لكم .. » (¬3). ¬
المبحث الثامن ـ حدود سلطات الإمام وقواعد نظام الحكم في الإسلام
المبحث الثامن ـ حدود سلطات الإمام وقواعد نظام الحكم في الإسلام: تتحدد سلطات الخليفة ضمن الإطار العام لدولة الإسلام، وهو أنها دولة ذات فكرة ومبادئ لإصلاح الحياة البشرية (¬1)، وأساس فكرتها مبادئ وغايات واضحة محددة (¬2)، تقوم على أساس الإيمان بالله تعالى، وتنظر إلى الكون والحياة والإنسان على هدي هذا الإيمان، وتنشد إصلاح الحياة البشرية قاطبة على وفق منهج العقيدة الإسلامية ومستلزماتها ونظمها التشريعية التي لا تتأثر بأهواء الواضعين، ولا بحدود إقليمية ضمن نطاق أرضي معين، إلا عند الضرورة، وسيراً على منهاج مرحلي تدريجي يوصل إلى الغاية الكبرى، وهو وحدة المسلمين. وما على الإنسان أو الخليفة إلا أن يعمل في ضوء كونه مستخلفاً في هذه الدنيا بأمانة الله على الأرض، لقوله تعالى: {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض} [الأنعام:165/ 6]. وبما أن نظر الإنسان محدود، لا يمكنه الإحاطة بطبائع الأشياء ومقتضيات التشريع العامة، كان عليه التزام التشريع الإلهي الشامل الكامل. وتشريع الإله لا يميز بين صاحب السلطة وأفراد الرعية، فكل منهم له الحق في الاستمتاع بحريته واحترام كرامته الإنسانية، وإنصافه من غيره، ومطالبته بإقامة العدل ومراعاة مبدأ المساواة. ¬
تتحدد سلطات الخليفة أو الحاكم في الإسلام بالأسس الآتية
ومن هنا تتحدد سلطات الخليفة أو الحاكم في الإسلام بالأسس الآتية (¬1): أولاً ـ يخضع الخليفة للتشريع الإسلامي، ويطالب بتنفيذ أحكامه، وإصدار القوانين التنظيمية طبقاً لمبادئه وقواعده، وليس له أية حصانة في هذا الشأن من دون بقية المسلمين. قال أبو بكر وتبعه من بعده من الراشدين في أول خطبة سياسية له بعد تولي الخلافة: «أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله فلا طاعة لي عليكم ... ». ثانياً ـ ليس للحاكم التشريع؛ لأن التشريع في الإسلام كما بان سابقاً لله ورسوله. ودور الخليفة مع أولي الحل والعقد هو مجرد الاجتهاد في نطاق القرآن والسنة. فلا يستمد المجتهدون سلطتهم من الخليفة، وإنما من مؤهلاتهم الذاتية. وفي هذا أكبر ضمان لشرعية الدولة؛ إذ المسلَّم به أن النظم الاستبدادية تقوم على أساس أن إرادة الدولة هي القانون. ثالثاً ـ يلتزم الحاكم وأعوانه بقواعد نظام الحكم الإسلامي ومبادئه العامة التي حددها القرآن والسنة، ولم يفصل في شأنها مراعاة لظروف ومقتضيات التطور، وضماناً لقدسية المبدأ بحيث لا يقبل التغير وهذه القواعد هي: 1 - الشورى: إن نظام الحكم الإسلامي نظام شوري، لقوله تعالى: {وشاورهم في الأمر} [آل عمران:159/ 3] {وأمرهم شورى بينهم} [الشورى:38/ 42] وورد في السنة النبوية القولية والعملية ما يوجب المشاورة، مثل: «استعينوا على ¬
أموركم بالمشاورة» (¬1) «ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمورهم» (¬2) «المستشار مؤتمن» (¬3) وقال أبو هريرة رضي الله عنه: «لم يكن أحد أكثر مشورة من رسول الله صلّى الله عليه وسلم» (¬4) وقد استشار النبي صلّى الله عليه وسلم أصحابه في وقائع كثيرة، تطييباً لنفوس أصحابه ولرفع أقدارهم، قائلاً: أشيروا علي أيها الناس. مثل استشارته قبيل معركة بدر لمعرفة مدى استعداد أصحابه للقتال، ونزوله على رأي الحُبَاب بن المنذر في اختيارالمكان الملائم لنزول الجيش وهو أدنى مقام من ماء بدر. وكذلك بعد المعركة استشار أصحابه في شأن قبول الفداء من أسرى بدر المشركين. وقبل موقعة أحد استشار الأصحاب في شأن الخروج من المدينة، وقبل رأي الكثرة الشباب التي أشارت بالخروج، وكانت العاقبة الهزيمة المعروفة. وقال صلّى الله عليه وسلم في قصة الإفك: «أشيروا علي معشر المسلمين في قوم ... ». واستشار أيضاً أصحابه في رد سبي هوازن، وفي استطابة أنفسهم بذلك، دون تعويض عن حقهم. وشاور النبي صلّى الله عليه وسلم أصحابه يوم الخندق في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة عامئذ، فأبى عليه السعدان: سعد بن عبادة وسعد بن معاذ، فترك ذلك (¬5). وفي يوم الأحزاب تمت المشاورة عملاً برأي سعد بن معاذ وسعد بن عبادة على عدم مصالحة رؤساء غطفان لأخذ شطر ثمار المدينة. ونحو ذلك كثير (¬6). ¬
نطاقها
وسار الخلفاء الراشدون على هذه السنة الحميدة، فكانوا يجمعون رؤساء الناس، فيستشيرونهم فيما لم يجدوا فيه نصاً من القرآن والسنة. منها مشاورة أبي بكر في حروب الردة، وفي جمع القرآن. ومشاورة عمر في قضية قسمة سواد العراق بين الغانمين، وفرض الخراج، ونحوها. وأهل الشورى: هم أهل الآراء من الناس والمتدربون فيهم، إذ لا يعقل، ولا يمكن مشاورة كل واحد من الناس (¬1)، ففي أمور الدين يجب أن يكون المستشار عالماً دينياً وقل ما يكون ذلك إلا في عاقل. وفي أمور الدنيا أن يكون عاقلاً مجرباً وادّاً في المستشير (¬2). نطاقها: إن الأمر المطلق بالمشاورة الموجه للحكام يشمل كل القضايا الدينية والدنيوية: السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التنظيمية، أي فيما لم يرد به نص تشريعي واضح الدلالة (¬3)؛ لأن الأمر القرآني بالمشاورة غير مخصوص بأمر الدين. ولا يصح أن تكون نتيجة الشورى في الأمور الاجتهادية الدينية والدنيوية مخالفة نصوص الشريعة أو مقاصدها العامة ومبادئها التشريعية، لقوله تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخِيرَة من أمرهم، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبينا ً} [الأحزاب:36/ 33]. وهي مطلوبة سواء أكانت القضايا محل المشاورة عامة كاختيار الحاكم وإدارة الحكم، وسياسة البلاد، وتنظيم الإدارات ومحاسبة الولاة، وإعلان الحرب، أم خاصة كالنظر في أحكام المعاملات والجنايات وأحوال الأسرة ونحوها. وهذه ¬
هيئة الشورى
يجب على الإمام استشارة أهل العلم في شأنها، لقوله تعالى: {وشاورهم في الأمر} [آل عمران:159/ 3] وقوله سبحانه: واصفاً المؤمنين {وأمرهم شورى بينهم} [الشورى:38/ 42] وثبت في السنة أن النبي صلّى الله عليه وسلم استشار أصحابه في مختلف شؤون المسلمين، كما حدث في غزوات بدر وأحد والخندق وفي صلح الحديبية. هيئة الشورى: كان السائد لدى الخلفاء الراشدين أن الخليفة هو الذي يعين أهل المشورة، حسبما يرى من المصلحة، ويعرف الكفاءات العلمية المطلوبة للأمر. وفي عصرنا الحاضر يمكن الاتفاق بين الحاكم ورؤساء الأمة على وضع مبادئ الاختيار، كالتعيين بحسب الوظائف ذات الصفة التشريعية، أو الانتخاب على وفق ضوابط محددة تنطبق على ذوي الاختصاص والخبرة والمعرفة اللائقة. حكم الشورى: اختلف الفقهاء في حكم الشورى: هل هي ملزمة للحاكم، أو اختيارية، وهل نتيجتها ملزمة أو اختيارية أيضاً؟. قال جماعة: إن الشورى فيما لم ينزل فيه وحي في مكايد الحروب وعند لقاء العدو اختيارية، تطييباً للنفوس ورفعاً للأقدار، وتألفاً على الدين؛ لقوله تعالى: {فإذا عزمت فتوكل على الله} [آل عمران:159/ 3] والعزم من الحاكم قد يكون على رأيه أو رأي المستشارين، ولأن أبا بكر حينما استشار الناس بمحاربة المرتدين، لم ير غالبية المسلمين ومنهم عمر قتالهم، وأخذ أبو بكر برأيه الذي لم يفرق بين الصلاة والزكاة قائلاً: والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله لحاربتهم عليه. وقال آخرون: إن الحاكم ملزم برأي أغلبية المستشارين من أهل الحل والعقد
عملاً بالأوامر القرآنية، ويصبح الأمر عديم الأثر إذا لم يلزم الحاكم بنتيجتها. وقد عمل بها الرسول صلّى الله عليه وسلم وصحابته الراشدون من بعده (¬1). ورأيي هو القول بوجوب الشورى على كل حاكم وضرورتها له وإلزامه بنتيجتها كما قرر المفسرون (¬2) لتسير الأمور على وفق الحكمة والمصلحة، ومنعاً من الاستبداد بالرأي؛ لأن حكم الإسلام يقوم على أصل الشورى، وبه تميز، وعلى نهجه سار السلف الصالح، وذلك ما لم يستطع الحاكم إقناع أهل الشورى بأفضلية رأيه، كما فعل أبو بكر الذي ما فتئ يوضح رأيه للمسلمين في شأن حرب المرتدين وجمع القرآن، حتى شرح الله صدورهم له، كما قال عمر رضي الله عنه. وكما فعل أيضاً بإقناع مخالفيه في قسمة سواد العراق، حتى شرح صدورهم لرأيه ووافقوه على فعله، فكان الرأي مجمعاً عليه، كما ذكر أبو يوسف في كتاب الخراج وغيره من الفقهاء. أما رسول الله صلّى الله عليه وسلم فهو بحق لم يكن بحاجة للشورى لاعتماده على الوحي، ومع ذكل فإنه كان يشاور أصحابه تطييباً لقلوبهم وتعليماً لمن بعده (¬3). قال الحسن رضي الله عنه: علم الله أنه ما به إليهم حاجة، ولكنه أراد أن يستن به من بعده. وهذا هو معنى قوله تعالى {فإذا عزمت فتوكل على الله} [آل عمران:159/ 3] أي فإذا قطعت الرأي على شيء بعد الشورى، فتوكل على الله في إمضاء أمرك ¬
2 - العدل
على الأرشد الأصلح، فإن ما هو أصلح لك لا يعلمه إلا الله، لا أنت ولا من تشاور، والله هو الذي يرشدك للأفضل بالوحي، روى البيهقي عن ابن عباس قال: «أما إن الله ورسوله لغنيان عنها، ولكن جعلها الله تعالى رحمة لأمتي، فمن استشار منهم لم يعدم رشداً، ومن تركها لم يعدم غياً» قال ابن عطية: والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب، هذا ما لا خلاف فيه، وقد مدح الله المؤمنين بقوله: {وأمرهم شورى بينهم} [الشورى:38/ 42]. وقال ابن أبي خُوَيزمَنْداد: واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون، وما أشكل عليهم من أمور الدين، ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح، ووجوه الكتاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها (¬1). ويلاحظ الفرق بين مجالس الشورى في الشريعة ومجالس الشورى في النظم الوضعية القانونية، فإن مجلس الشورى في الإسلام ليس بمشرِّع، وإنما هو مجرد كاشف وباحث عن حكم الله تعالى، لذا يستوي فيه القلة والكثرة الغالبة. أما مجلس الشورى في الأنظمة الوضعية فهو مشرع، فيلزم الحاكم برأي الأكثرية. 2 - العدل: العدل بصفة عامة: هو تنفيذ حكم الله، أي أن يحكم طبقاً لماجاءت به الشرائع السماوية الحقة، كما أوحى بها الله إلى أنبيائه ورسله، وهو واجب على كل حاكم حتى على الأنبياء بإجماع العلماء، وهو أساس نظام الحكم الإسلامي وغايته المقصودة، سواء بين المسلمين، أم بينهم وبين الأعداء؛ لأن العدل قوام ¬
العالمين في الدنيا والآخرة، وبه قامت السموات والأرضون، وهو أساس الملك. وأما الظلم، فهو طريق خراب المدنيات وزوال السلطان (¬1). وقد ورد في القرآن عدة آيات تحث عليه، وأكدت عليه أحاديث النبي صلّى الله عليه وسلم، وطبقه الصحابة فعلاً بين الناس. فمن الآيات قوله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} [النحل:90/ 16] {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} [النساء:58/ 4] {وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى} [الأنعام:152/ 6]. وجاء نص خاص يوجب العدل مع الأعداء وهو قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله، شهداء بالقسط، ولايجرمنكم شنآن (¬2) قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى} [المائدة:8/ 5]. ولم يقتصر القرآن على المطالبة بالعدل، وإنما حرم ما يقابله وهو الظلم تحريماً قطعياً صريحاً، قال الله تعالى: {ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون، إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار} [إبراهيم:42/ 14]. وكذلك الأحاديث النبوية الثابتة أوجبت العدل وحرمت الظلم، قال صلّى الله عليه وسلم: «لاتزال هذه الأمة بخيرما إذا قالت صدقت، وإذا حكمت عدلت، وإذا استُرحمت ¬
العدل مع الأقليات الدينية والسياسية
رحمت» (¬1) «أحب الخلق إلى الله إمام عادل، وأبغضهم إليه إمام جائر» (¬2) «يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا» (¬3) «اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة» (¬4). ومزية الإسلام في المطالبة به أنه عدل مطلق يشمل الحاكم والمحكومين والإنسانية جمعاء. فهو واجب في الحكم والإدارة وفرض الضرائب وجباية المال وصرفه في مصالح الناس، وفي توزيع الحقوق والواجبات وإقامة العدالة الاجتماعية، وفي الشهادة والقضاء والتنفيذ وإقامة الحدود والقصاص، وفي القول والكتابة، وفي القول والكتابة، وفي نطاق الأسرة مع الزوجة والأولاد، وفي التعليم والتملك، والرأي والفكر والتصرف. العدل مع الأقليات الدينية والسياسية: أخصص هذا المطلب للرد على دعاوى القائلين بعدم إمكان الحكم بتشريع الإسلام حماية للأقليات، مع أن الإسلام في ضمانه حقوق هؤلاء واضح صريح متسامح أحياناً أكثر مما يجب واقعياً، فهم مع المسلمين سواء في الحقوق، ولا يلتزمون بكل الواجبات، ويتركون وما يدينون، ولهم حرية في ممارسة شعائر دينهم، ويمتنع إكراه أحد منهم على الإسلام، ولا يجوز الاعتداء على أشخاصهم وأموالهم وأعراضهم ومعابدهم. قال صلّى الله عليه وسلم: «ألا من ظلم معاهداً، أو نقصه حقه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس، فأنا خصمه يوم القيامة» (¬5) «من آذى ذمياً فأنا خصمه، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة» (¬6). ¬
- المساواة أمام القانون
3ً - المساواة أمام القانون: العدل بمعناه الشامل يشمل هذا المبدأ الشائع الآن؛ لأن العدل كما تقدم يتطلب التسوية في المعاملة وفي القضاء وفي الحقوق وملكيات الأموال. عبر أبو بكر رضي الله عنه عن ذلك بقوله: «الضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق الحق منه إن شاء الله» وفي رسالة عمر المشهورة لأبي موسى الأشعري: «آسِ بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك». ولقد حمل الرسول صلّى الله عليه وسلم على محاولات التمييز بين الناس أمام القضاء والشريعة، فقال فيما يرويه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها: «إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفس محمد بيده، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها». 4ً - حماية الكرامة الإنسانية: الكرامة حق طبيعي لكل إنسان، رعاها الإسلام، واعتبرها مبدأ الحكم وأساس المعاملة، فلا يجوز إهدار كرامة أحد، أو إباحة دمه وشرفه، سواء أكان محسناً أم مسيئاً، مسلماً أم غير مسلم؛ لأن العقاب إصلاح وزجر، لا تنكيل وإهانة، ولا يحل شرعاً السب والاستهزاء والشتم وقذف الأعراض، كما لا يجوز التمثيل بأحد حال الحياة أو بعد الموت، ولو من الأعداء أثناء الحرب أو بعد انتهائها. ويحرم التجويع والإظماء والنهب والسلب. وما أروع إعلان القرآن لمبدأ الكرامة الإنسانية في قوله تعالى: {ولقد كرمنا
- الحرية
بني آدم} [الإسراء:70/ 17] وقال رسول الإسلام صلّى الله عليه وسلم: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم» (¬1). 5ً - الحرية: الحرية ملازمة للكرامة الإنسانية، فهي حق طبيعي لكل إنسان، وهي أغلى وأثمن شيء يقدسه ويحرص عليه، قال عمر بن الخطاب لواليه عمرو بن العاص: «متى تعبَّدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً» وعلى الحاكم توفير الحريات بمختلف مظاهرها الدينية والفكرية والسياسية والمدنية في حدود النظام والشريعة. وأعلن القرآن حرية العقيدة وحرية الفكر وحرية القول. حرية العقيدة: من أجل حرية الاعتقاد أو الحرية الدينية منع القرآن الإكراه على الدين، فقال عز وجل: {لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي} [البقرة:256/ 2] {أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} [يونس:99/ 10]؛ لأن اعتناق الإسلام ينبغي أن يكون عن اقتناع قلبي واختيار حر، لا سلطان فيه للسيف أو الإكراه من أحد. وذلك حتى تظل العقيدة قائمة في القلب على الدوام، فإن فرضت بالإرغام والسطوة، سهل زوالها وضاعت الحكمة من قبولها، قال الله تعالى: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} [الكهف:29/ 18]. وتقرير حرية العقيدة يستتبع إقرار حرية ممارسة الشعائر الدينية؛ لأننا أمرنا بترك الذميين وما يدينون، ولا يعتدى على كنائسهم ومعابدهم، ولهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، ولا يناقشون في عقائدهم إلا باللين والخطاب الحسن، قال الله تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، إلا الذين ¬
حرية الفكر والقول
ظلموا منهم، وقولوا: آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون} [العنكبوت:46/ 29]. حرية الفكر والقول: رغب الإسلام في التفكير والنظر الطليق والتأمل في أسرار الكون للتوصل بالعقل والمنطق إلى إثبات الصانع وإثبات النبوة وفهم ما جاء به الأنبياء والرسل والإفادة من كنوز الأرض، وجعل التفكير فريضة إسلامية، والآيات القرآنية المطالبة باستخدام الفكر كثيرة، منها قوله سبحانه: {قل: انظروا ماذا في السموات والأرض} [يونس:101/ 10] وتختتم آيات كثيرة بعد بيان النظم الإسلامية في العقيدة وغيرها بأنها لقوم يعلمون، يعقلون، يتفكرون، يتدبرون، لأولي الألباب، ونحوها. ومن أجل تثبيت الدعوة إلى الفكر وإقرار أحكام العقل السديد، ندد الله سبحانه بالتقليد في أصول العقائد والشرائع لتكون العقيدة عن وعي وإدراك وإذعان، فقال سبحانه: {وإذا قيل لهم: اتبعوا ما أنزل الله، قالوا: بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون} [البقرة:170/ 2] {أفلم يسيروا في الأرض، فتكون لهم قلوب يعقلون بها، أو آذان يسمعون بها، فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} [الحج:46/ 22]. وحرية الفكر تستتبع حرية الرأي والنقد والقول، وذلك واضح من مبدأ الإسلام في تكوين الشخصية الذاتية، والحض على صراحة القول، والأمر بالمعروف، وعدم إقرار المنكر، والجهر بالحق دون خشية من أحد أو مخافة لومة لائم، فلا يكون النقد حقاً فقط، وإنما هو واجب ديني أحياناً في ضوء مفاهيم الإسلام، وضرورة الحفاظ على أحكامه، بدليل قوله صلّى الله عليه وسلم: «الدين
النصيحة .. » (¬1) الحديث السابق ذكره. وقوله: «لا تكونوا إمَّعة (أي مع الناس) تقولون: إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطِّنوا أنفسكم: إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا فلا تظلموا» (¬2) «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر» (¬3). وسيرة الخلفاء الراشدين في احترام حق النقد وضرورته خير شاهد عملي على إبراز قيمته وأهميته في الإسلام، كما قال عمر رضي الله عنه: «أيها الناس، من رأى فيَّ اعوجاجاً فليقوِّمه» فيجيبه أعرابي: والله يا أمير المؤمنين لو وجدنا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا هذه، فيقول أمير المؤمنين مغتبطاً: «الحمد لله الذي جعل في هذه الأمة من يقوِّم اعوجاج عمر بسيفه إذا اعوج». وفي حادث آخر قال رجل لعمر: «اتق الله يا أمير المؤمنين، فرد عليه آخر: تقول لأمير المؤمنين: اتق الله؟! فقال عمر: دعه فليقلها، فإنه لا خير فيكم إذا لم تقولوها، ولا خير فينا إذا لم نسمعها منكم». والحرية لا تتجزأ في مفهوم الإسلام، ولا ينفصل جانب الدين فيه عن السياسة والمدنية وغيرها، فإن حدث خطأ في تطبيق أحكام الدين، أو خلل في خط السياسة الإسلامية، أو مصادره للحقوق المدنية في المعاملات الحرة والتصرفات الشخصية، كان لأي مسلم توجيه النقد فيه للحاكم ورده إلى الصواب، كما حصل من المرأة التي عارضت سيدنا عمر عندما أراد وضع حد لغلاء المهور، وجواب عمر لها بقوله: «أصابت امرأة وأخطأ عمر». وكما حدث ¬
- رقابة الأمة ومسؤولية الحاكم
مع الرسول نفسه حينما اعترض رجل بغير حق على قسمته الغنائم قائلاً: «إن هذه قسمة ما عدل فيها وما أريد بها وجه الله» فيجيب الرسول: «يرحم الله موسى، قد كان أوذي بأكثر من هذا فصبر». ونحو ذلك كثيرفي السيرة. 6ً - رقابة الأمة ومسؤولية الحاكم: يخضع الحاكم المسلم لرقابة الأمة التي ولته، فإن عدل ونفذ أحكام الشرع، وجبت طاعته، وإن جار وانحرف خلعته وولت غيره، كما تبين سابقاً. قال الإيجي (¬1): «وللأمة خلع الإمام وعزله بسبب يوجبه» كأن يوجد ما يوجب اختلال أحوال المسلمين وانتكاس أمور الدين. وقال ابن حزم بعد أن ذكر واجبات الخليفة (¬2): «فهو الإمام الواجب الطاعة ما قادنا بكتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فإن زاغ عن شيء منهما، منع من ذلك، وأقيم عليه الحد والحق، فإن لم يؤمن أذاه إلا بخلعه، خلع وولِّي غيره». يظهر من هذا أن الحاكم مسؤول عن تصرفاته أمام رعيته. كما أنه يشعر بخطورة المسؤولية العظمى أمام الله في الدار الآخرة، قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم، وأنتم تعلمون} [الأنفال:27/ 8] ويقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته ... » (¬3) «ما من والٍ يلي رعية من المسلمين، فيموت وهو غاش لهم، إلا حرم الله عليه الجنة» (¬4). ¬
علاقة الإمام الحاكم بالناس
ويشعر الخليفة بثقل هذه المسؤولية ويقدرها، كما يمثل لنا ذلك قول عمر رضي الله عنه: «لئن ضلت شاة على شاطئ الفرات، لخشيت أن يسألني الله عنها يوم القيامة». وإذا عجزت الأمة عن خلع الحاكم، كما حدث في الماضي، فلا يعني عجزها التسليم بشرعية حكمه، وإنما يكون السكوت إقراراً للأمر الواقع، عملاً بمبدأ «الضرورات تبيح المحظورات» (¬1). علاقة الإمام الحاكم بالناس: تتحدد طبيعة هذه العلاقة بما يأتي: 1 - الإمام مستخلف عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعن خلفائه من بعده، فيتقيد بالكتاب والسنة. 2 - الإمام صاحب ولاية عامة على جميع من في دار الإسلام من مسلمين وذميين، فتصرفاته مقيدة بالمصلحة العامة. 3 - للإمام حق الإشراف والرقابة على جميع من دونه من الولاة والوزراء والقضاة فيما وكلَّهم فيه من خدمات. 4 - علاقة الإمام بالأمة أو بالرعية علاقة خادم أمين بمخدومه، فعليه توفير السعادة ونشر الأمن والرخاء للجميع وعليه التحلي بخصال الرحمة والإخلاص، دون إكراه ولا إضرار. ¬
المبحث التاسع ـ مصدر السيادة في الإسلام
المبحث التاسع ـ مصدر السيادة في الإسلام: السيادة في القوانين الدستورية الحديثة يراد بها المصدر الذي يستمد منه القانون أو الحاكم حق الامتثال لأمره والعمل بما يصدر من تشريع أو يتخذه من تدبير. والسيادة أو السلطة السياسية من أركان قيام الدولة بالمعنى الحديث، وبموجبها تستطيع إصدار القوانين، وتقييد الحريات، وفرض الضرائب، وزجر الجناة، حتى يتوافر الاستقرار ويسود الأمن وتنعدم الفوضى. وقد اختلفت آراء السياسيين قديماً وحديثاً في تحديد مصدر السيادة، هل هي من الله، أو من شخص الحاكم أو من الأمة. فنادت جماعة بنظرية الحق الإلهي المطلق لتأييد سلطان الملوك، وأنه حق طبيعي مقدس مستمد من تفويض إلهي، فالحاكم أو الملك وكيل في تنفيذ أوامر الله وخليفة في الأرض، مما جعله يحكم حكماً استبدادياً مطلقاً دون أن يكون لأحد الحق في نقده، وسادت هذه النظرية قديماً إلى نهاية القرون الوسطى، وهي فترة الحكم الثيوقراطي أو الأتوقراطية، أي الاستبدادي. والإسلام لا يقر هذه النظرية التي تمنح الحاكم حق الاستبداد بالحكم؛ لأن الله تعالى يقول لرسوله: {فذكر إنما أنت مذكر، لست عليهم بمصيطر} [الغاشية:22/ 88] {وما أرسلناك عليهم حفيظاً} [الشورى:48/ 42] {وما أنت عليهم بجبار} [ق:45/ 50] ويقول الرسول صلّى الله عليه وسلم لأعرابي ارتعد منه: «لست بملك ولا جبار» (¬1) وقال عمر للناس: «والله ما أنا بملك فأستعبدكم بملك أو جبرية، وما أنا إلا أحدكم، منزلتي منكم كمنزلة والي اليتيم منه ومن ماله». ¬
ونادى آخرون مع ظهور نظرية العقد الاجتماعي لروسو بأن الأمة مصدر السلطات، أي هي التي لها حق التشريع، وهي التي تعين الحكام وتمنحهم السلطة والسيادة. ولكن هذه النظرية لم تمنع الاستبداد، وإن أخذت صفة الديمقراطية؛ لأن بعض الحكام استبدوا بالسلطة متذرعين بأنهم يمثلون إرادة الشعب المقدسة. والإسلام لا يقر جعل الأمة مصدر السلطة التشريعية؛ لأن التشريع لله وحده، والأمة وحدها صاحبة الخلافة في الأرض في تنفيذ أحكام الشريعة، والخليفة وأعوانه وقضاته وكلاء عن الأمة في أمور الدين وفي إدارة شؤونها بحسب شريعة الله ورسوله، ولها حق نصحه وتوجيهه وتقويمه إن أساء، وعزله إن انحرف، فهو يستمد سلطانه من الأمة بعقد البيعة أو الوكالة، ويكون مصدر السيادة حينئذ هو الأمة الموكل الأصلي، لا الوكيل النائب عنها. والأمة في المجتمع المسلم أو الديمقراطية الإسلامية ملتزمة بالقانون السماوي والأخلاقي ومقيدة بمبادئه، فالسيادة في الإسلام مبنية على حق إنساني ناشئ عن جعل شرعي. وبذلك تكون الأمة والشريعة معاً هما صاحبا (السيادة) في الدولة الإسلامية، بمعنى أن السيادة الأصلية لله تعالى، فيرجع إليه في الأمر والنهي، والسيادة العملية مستمدة من الشعب الذي يعين أهل الحل والعقد أصحاب الرأي والاجتهاد في ضوء مبادئ الشريعة (¬1). قال المرحوم الأستاذ عبد الوهاب خلاف (¬2): «وهذه الرياسة العليا مكانتها من الحكومة الإسلامية مكان الرياسة العليا من أية حكومة دستورية؛ لأن الخليفة يستمد سلطانه من الأمة الممثلة في أولي الحل والعقد، ¬
المبحث العاشر ـ تنظيم الخليفة للدولة (إدارة الدولة)
ويعتمد في بقاء هذا السلطان على ثقتهم به ونظره في مصالحهم، ولهذا قرر علماء المسلمين أن للأمة خلع الخليفة لسبب يوجبه، وإن أدى إلى الفتنة احتمل أدنى المضرتين». المبحث العاشر ـ تنظيم الخليفة للدولة (إدارة الدولة) المطلب الأول ـ الإدارة في عهد الخلفاء: الخليفة رئيس الدولة الأعلى، وصاحب مسؤوليات كبرى، يقود الأمة نحو أفضل الغايات، ويخطط لمسيرتها في ضوء أعدل الطرق وأصحها وأيسرها. وبما أنه فرد ذو قدرات محدودة، فهو يحتاج إلى أعوان وأنصار لتسيير الحكم في البلاد، قال الماوردي: «إن ما وكل إلى الإمام من تدبير الأمة لا يقدر على مباشرة جميعه إلا باستنابة» (¬1) ومن هؤلاء الأعوان تتكون السلطة التنفيذية في الإسلام. ولقد نقل التاريخ أن الخلفاء المسلمين أبدوا نجاحاً باهراً في إدارة البلاد، وأن الإسلام ابتكر وأبدع في الحرب والإدارة والسياسة، كما اخترع وأبدع في العلم والتشريع وأسباب المدنية (¬2). وبدأت نواة الإدارة في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلم ببث الدعوة، وجهاد العدو، وأخذ الغنائم والصدقات والجزى والعشور، وقسمتها بين المجاهدين وأهل البلاد من المهاجرين والأنصار وفقراء المسلمين وتوزيع العمل بين عماله، ومعاملته لهم وللوفود والنساء (¬3)، وإرسال القضاة والمعلمين إلى بعض البلدان كاليمن. ¬
وسار أبو بكر بسيرة الرسول في الإدارة الإسلامية، واحتفظ بالعمال الذين استعملهم صاحب الشريعة، والأمراء الذين أمرهم. وقام أبو عبيدة بشؤون المال، وعمر بأمر القضاء. وكان الصديق يشاور أهل الرأي والفقه فيما يعرض له من القضايا. وقسمت جزيرة العرب إلى ولايات أو عمالات كمكة والمدينة والطائف وصنعاء ... إلخ. وقسمت الحجاز إلى ثلاث ولايات، واليمن إلى ثمان، والبحرين وتوابعها ولاية. وكان أهم شاغل لأبي بكر في مدة خلافته الوجيزة هو قتال المرتدين وتوطيد دعائم الإسلام، وتثبيت أركان الدولة بإظهار قوة المسلمين لمن خالفهم. وكان أيضاً يهتم بمراقبة أحوال العمال (¬1)، أي الموظفين الإداريين، وسموا عمالهم لبيان أن العامل ليس مطلق السلطة. ووضحت صورة التنظيم الإداري في عهد عمر لاتساع رقعة الدولة الإسلامية، فعين العمال الأكفاء، وراقبهم مراقبة شديدة، وشاطرهم أموالهم، وأحصى القبائل وفرض لها الفروض وأعطاها العطايا، ودون الدواوين التي تشبه الوزارات اليوم، فوضع أول ديوان في الإسلام للخراج والأموال بدمشق والبصرة والكوفة على النحو الذي كان عليه قبل، وكان أول من استقضى القضاة، وأحدث التاريخ الهجري، وكان يرزق العامل بحسب حاجته وبلده، وحجر على أعلام قريش من المهاجرين الخروج من البلدان إلا بإذن وأجل، ونحو ذلك من التقسيمات والتنظيمات الإدارية السديدة (¬2). وحافظ عثمان رضي الله عنه على الأوضاع التي وضعها عمر، وعلى العمال الذين عينهم عمر مع أناس من أهله وعشيرته في بدء ولايته. ثم ضعفت الإدارة ¬
المطلب الثاني ـ أقسام الولايات في رأي الماوردي
في النصف الأخير من عهد عثمان لشيخوخته، واشتغل بعض كبار العمال بأطماعهم في الولايات (¬1). وكانت طريقة علي أيضاً في الإدارة طريقة من سبقوه إلى الإمامة. ثم تبلورت النظم الإدارية في عهد الأمويين والعباسيين بسبب اتصالهم بالحضارات الأخرى، وظهور الطابع الدنيوي عليها (¬2)، مما مكَّن فقهاء الإسلام من صياغة الأحكام الإدارية المناسبة. المطلب الثاني ـ أقسام الولايات في رأي الماوردي: قسم الماوردي ولايات خلفاء الخليفة أربعة أقسام (¬3): أولاً ـ أصحاب الولايات العامة في الأعمال العامة: وهم الوزراء؛ لأنهم يستنابون في جميع الأمور من غير تخصيص. ثانياً ـ أصحاب الولاية العامة في أعمال خاصة: وهم أمراء الأقاليم والبلدان؛ لأن اختصاصهم عام في حدود الإقليم المنوط إدارته بهم. ثالثاً ـ أهل الولاية الخاصة في الأعمال العامة: وهم قاضي القضاة ونقيب الجيوش وحامي الثغور ومستوفي الخراج وجابي الصدقات؛ لأن اختصاص كل واحد خاص في جميع أعماله. رابعاً ـ ذوو الولاية الخاصة في الأعمال الخاصة: وهم كقاضي بلد، أوإقليم أو مستوفي خراجه، أو الجابي صدقاته، أو الحامي ثغره، أو نقيب جنده؛ لأن كل واحد خاص النظر خاص العمل. ¬
المطلب الثالث ـ وظائف الولاة
المطلب الثالث ـ وظائف الولاة: كانت وظائف هؤلاء الولاة على النحو التالي: أولاً ـ الوزارة. ثانياً ـ إمارة الأقاليم. أولاً ـ الوزارة: كان الصحابة أعوان الرسول صلّى الله عليه وسلم في شؤونه، واستمر بعضهم عوناً لبعض في عهد الخلفاء الراشدين والأمويين، دون معرفة هذا الاصطلاح. ثم استعير هذا اللفظ من الفرس في عهد العباسيين. وأبان الماوردي أحكام الوزارة، وقسمها نوعين: 1 - وزارة تفويض. 2 - وزارة تنفيذ (¬1). 1 - وزارة التفويض: هي أن يستوزر الإمام من يفوض إليه تدبير الأمور برأيه، وإمضاءها على اجتهاده. فهي تشبه رئاسة الوزارة اليوم. وهذا أخطر منصب بعد الخلافة، إذ يملك الوزير المفوض كل اختصاصات الخليفة كتعيين الحكام والنظر في المظالم وقيادة الجيش وتعيين القائد وتنفيذ الأمور التي يراها، والمبدأ: كل ما صح من الإمام صح من الوزير إلا ثلاثة أمور هي: أـ ولاية العهد: فإن للإمام أن يعهد إلى من يرى، وليس ذلك للوزير. ب ـ للإمام أن يستعفي الأمة من الإمامة، وليس ذلك للوزير. ¬
جـ ـ للإمام أن يعزل من قلده الوزير، وليس للوزير أن يعزل من قلده الإمام (¬1). وما عدا هذه الثلاثة تنفذ كل تصرفاته بمقتضى التفويض. فإن حدث اختلاف بينه وبين الإمام، يفضُّ على النحو التالي (¬2): إن عارضه الإمام في رد ما أمضاه من أحكام قضائية نفذ على وجهه. وإن كان تصرفه متصلاً بتوزيع الأموال في حقوقها، لم يجز نقض تصرفه ولا استرجاع ماوزعه برأيه. وإن كان تصرفه في أمر عام كتقليد وال أو تجهيز جيش وتدبير حرب، جاز للإمام معارضته بعزل من ولاه، ورد الجيش إلى ثكناته، وتدبير الحرب بما هو أولى؛ لأن للإمام أن يستدرك ذلك من أفعال نفسه، فكان أولى أن يستدركه من أفعال وزيره. ولو قلد الإمام والياً على عمل، وقلد الوزير غيره على ذاك العمل، ينفذ قرار الأسبق في التعيين. وأما كيفية تنسيق أو تحديد العلاقة بين الإمام ووزير التفويض، فهي مايأتي (¬3): أـ يطالب وزير التفويض بمطالعة الإمام لما أمضاه من تدبير وأنفذه من ولاية وتقليد، لئلا يصبح باستبداده كالإمام. ¬
2 - وزارة التنفيذ
ب ـ يتصفح الخليفة أفعال الوزير وتدبيره الأمور، ليقر منها ماوافق الصواب، ويستدرك ما خالفه؛ لأن تدبير الأمة موكول إليه، ومحمول على اجتهاده. وبما أن منصب هذه الوزارة له أهميته وخطورته، اشترط الفقهاء فيمن يقلدها شروط الإمامة نفسها، إلا النسب القرشي وحده؛ لأنه يمضي الآراء وينفذ الاجتهاد، فينبغي أن يكون مجتهداً. والسبب في استثناء شرط النسب هو اقتصار النصوص الواردة بشأنه على الإمامة وحدها، مما دعا أبا بكر أن يقول للأنصار: فنحن الأمراء وأنتم الوزراء. وزيد شرط آخر على شروط الإمامة: وهو أن يكون وزير التفويض من أهل الكفاية فيما وكل إليه من أمري الحرب والخراج خبرة بهما ومعرفة بتفصيلهما (¬1). كذلك لا يكفي للتكليف بهذه الوزارة مجرد الإذن، بل لا بد من عقد معين صادر من الخليفة لمن يكلفه بها، والعقود لا تصح إلا بالقول الصريح (¬2). وبما أن لهذا الوزير صلاحية عامة في الأعمال كالإمام فلا يجوز للخليفة تعيين وزيري تفويض في وقت واحد، كما لا يجوز تعيين إمامين،؛ لأنهما ربما تعارضا في العقد والحل والتقليد والعزل، لكن إن أشرك الخليفة اثنين في النظر المشترك في الأمور، دون أن ينفرد أحدهما بتصرف، بل لا بد من اتفاقهما معاً، فيجوز (¬3). 2 - وزارة التنفيذ (¬4): هي أقل مرتبة من وزارة التفويض؛ لأن الوزير فيها ¬
الشروط المطلوبة في وزير التنفيذ
ينفذ رأي الإمام وتدبيره، وهو وسط بينه وبين الرعايا والولاة، يؤدي عنه أوامره، وينفذ آراءه، ويمضي أحكامه، ويبلغ من قلدهم الولاية أو تجهيز الجيوش، ويعرض عليه ما ورد منهم، وتجدد من أحداث طارئة. فليس له سلطة الاستقلال بالتوجيه والرأي والاجتهاد، وهو محدد الاختصاص بأمرين: أحدهما ـ أن يؤدي إلى الخليفة ما يبلغه من قضايا. الثاني ـ أن يؤدى إليه أوامر الخليفة لتنفيذها. ويكفي في تعيينه مجرد الإذن، ولا يشترط إجراء عقد معه لتعيينه. ولا يطلب فيه الحرية، لأنه لا ينفرد بالولاية وتقليد الوظائف لغيره، ولا العلم، أي الاجتهاد لأنه لا يجوز له أن يحكم برأيه. شروطه: الشروط المطلوبة في وزير التنفيذ سبعة فقط تتعلق بالأخلاق الفاضلة والتجربة السياسية: 1 - الأمانة: حتى لا يخون فيما قد اؤتمن عليه، ولا يغش فيما استنصح فيه. 2 - صدق اللهجة: حتى يوثق بخبره فيما يؤديه ويعمل على قوله فيما ينهيه. 3 - قلة الطمع: حتى لا يرتشي ولا ينخدع. 4 - أن يكون مسالماً لا عداوة ولا شحناء بينه وبين الناس؛ لأن العداوة تصد عن التناصف وتمنع من التعاطف. 5 - حاضر البديهة والذاكرة حتى يؤدي إلى الخليفة وعنه؛ لأنه شاهد له وعليه.
الفرق بين الوزارتين
6 - الذكاء والفطنة حتى لا تدلس عليه الأمور، فتشتبه، ولا تموه عليه فتلتبس. 7 - ألا يكون من أهل الأهواء، فيخرجه الهوى من الحق إلى الباطل. ولا يقبل لهذا المنصب ولا لوزارة التفويض والخلافة امرأة لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» (¬1) ولأن في هذه الوظائف من المهام الخطيرة التي تتطلب الرأي وثبات العزم ما تضعف عنه النساء. ويجوز أن يكون هذا الوزير من أهل الذمة، ولا يجوز لوزارة التفويض. ويجوز تعيين وزيري تنفيذ أو أكثر، على عكس وزارة التفويض. لكن يجوز للخليفة تعيين وزيرين في مهمة وزير تفويض ووزير تنفيذ، فيكون وزير التفويض مطلق التصرف، ووزير التنفيذ مقصوراً على تنفيذ أوامر الخليفة. الفرق بين الوزارتين: ذكر الماوردي فروقاً ثمانية بين الوزارتين، أربعة منها تتعلق بالشروط، والأربعة الأخرى بالصلاحيات. أما الفروق العائدة للشروط والمؤهلات فهي: 1 - الحرية: مطلوبة في وزارة التفويض، وغير مطلوبة في وزارة التنفيذ. 2 - الإسلام: مطلوب في وزارة التفويض، دون التنفيذ. 3 - العلم بالأحكام الشرعية (الاجتهاد): مطلوب في وزارة التفويض لا التنفيذ. 4 - المعرفة بشؤون الحرب والاقتصاد كالخراج: مطلوبة في وزارة التفويض لا التنفيذ. ¬
ثانيا ـ إمارة الأقاليم أو البلاد
وأما الفروق المتعلقة بالاختصاص والصلاحيات فهي: 1 - يجوز لوزير التفويض مباشرة الحكم والنظر في المظالم، وليس ذلك لوزير التنفيذ. 2 - ويجوز لوزير التفويض أن ينفرد بتقليد وتعيين الولاة، وليس ذلك لوزير التنفيذ. 3 - يجوز لوزير التفويض أن ينفرد بتسيير الجيوش وتدبير الحروب، وليس ذلك لوزير التنفيذ. 4 - يجوز لوزير التفويض أن يتصرف في أموال بيت المال بالجباية والصرف، وليس ذلك لوزير التنفيذ. ثانياً ـ إمارة الأقاليم أو البلاد: اتسعت الدولة الإسلامية في عهد عمر رضي الله عنه، فقسمت إلى أقسام إدارية كبيرة، فجعلت بلاد الشام قسمين، وبلاد فارس ثلاث ولايات، وأفريقيا ثلاث ولايات أيضاً. وكان على كل إقليم من هذه الأقسام عامل (أو وال أو أمير) يؤم الناس في الصلاة ويفصل في الخصومات، ويقود الجند في الحرب، ويجمع المال، وكان مع الوالي عامل خاص للخراج. وفي عهد بني أمية حيث بلغت أقصى اتساعها، قسمت إلى خمس ولايات كبرى هي الحجاز واليمن وتوابعها، ومصر بقسميها السفلي والعلوي، والعراقان: العربي (بلاد بابل وآشور القديمة) والعجمي (بلاد فارس)، وبلاد الجزيرة ويتبعها أرمينية وأذربيجان، وأفريقية الشمالية وبلاد الأندلس وجزر صقلِّية.
1 - الإمارة العامة
وحافظ العرب على هذا النظام الإداري في البلاد التي فتحوها، مع إحداث تغيير جزئي فيها اقتضته الروح العربية، ولكن بتقدم الدولة، واتساع حدودها، تعقَّد النظام الإداري جزئياً، وتعددت الدواوين، ولا سيما في عهد العباسيين الذين تأثروا بالفرس كثيراً في نظم الحكم والإدارة (¬1). وأملى هذا التطور على الفقهاء ضرورة البحث في طبيعة هذه الولايات وما يلائمها من أحكام تمس سياسة الدولة. فقسموا، أي الفقهاء، الولاية أو الإمارة إلى قسمين: عامة وخاصة. 1 - الإمارة العامة: وهي التي تختص بجميع الأمور المتعلقة بالإقليم سواء فيما يتعلق بالأمن وحاجات الدفاع، أم بالقضاء وشؤون المال. وهي نوعان: إمارة استكفاء وإمارة استيلاء. 1 ً) ـ إمارة الاستكفاء (¬2): وهي التي يعقدها الإمام لشخص كفء عن رضا واختيار. بأن يفوض إليه الخليفة إمارة بلد أوإقليم ولاية على جميع أهله، ونظراً في المعهود من سائر أعماله، فيصير عام النظر فيما كان محدوداً من عمل، ومعهوداً من نظر، أي أنه مفوض الصلاحية العامة في كل الأعمال المسندة إليه. وقد بقيت هذه الإمارة من عهد الراشدين بتعيين الولاة على أقاليم مصر أو اليمن أو الشام أو العراق، إلى عصر الأمويين والعهد الذهبي للدولة العباسية. ثم انتشرت إمارة الاستيلاء مند النصف الثاني من القرن الثالث الهجري، حيث وجدت الدويلات في المشرق والمغرب، كالدولة البويهية والسامانية والغزنوية والسلجوقية في الشرق، والطولونية والإخشيدية والأغلبية في الغرب (¬3). ¬
وأما الأعمال التي كان يمارسها صاحب هذه الإمارة فهي سبعة (¬1) وهي: 1 - النظر في تدبير الجيوش وترتيبهم في النواحي، وتقدير أرزاق الجند، إلا أن يكون الخليفة قدرها، فيعمل بما قرر. 2 - النظر في الأحكام وتقليد القضاة والحكام. 3 - جباية الخراج وقبض الصدقات وتقليد العمال لها، وتفريق ما استحق منها. 4 - حماية الدين والذب، أي الدفاع، عن الحريم ومراعاة الدين من تغيير أو تبديل. 5 - إقامة الحدود في حق الله وحقوق الآدميين. 6 - الإمامة في صلاة الجمع والجماعات بنفسه أو بالاستخلاف عليها. 7 - تسهيل أداء فريضة الحج كل عام. وهناك واجب ثامن على والي البلاد الساحلية أو المجاورة لحدود العدو (الثغور): وهو جهاد الأعداء وقسمة الغنائم على وفق أحكام الشرع. والشروط المطلوبة فيمن يعين لهذه الإمامة: هي ذات الشروط المقررة في وزارة التفويض؛ لأن الفرق بينهما إقليمي بحت، فسلطة وزير التفويض عامة في كل أنحاء الدولة، وأما اختصاص أمير الإقليم فمقيد في نطاق إقليمه. وحينئذ يكون لوزير التفويض الحق في مراقبة أعمال ولاة الأقاليم، بل وله عزلهم أحياناً إذا ¬
ـ إمارة الاستيلاء
كان هو الذي عينهم. فإن عينهم الخليفة أو بإذن الخليفة فلا بد من موافقة الخليفة على العزل (¬1). ويجوز لوالي الإقليم أن يستوزر لنفسه وزير تنفيذ بإذن الخليفة أو بغير إذن، ولكن لا يجوز له أن يستوزر وزير تفويض إلا بإذن الخليفة؛ لأن وزير التنفيذ معين، ووزير التفويض مستبد، أي مستقل الرأي (¬2). 2 ً) ـ إمارة الاستيلاء (¬3): وهي التي تعقد عن اضطرار بأن يستولي شخص على السلطة، كما حدث في العصر العباسي الثاني ـ عصر الدويلات، فيقره الخليفة على إمارتها، ويفوض إليه تدبير أمورها وسياستها. ولكن يحتفظ الخليفة بما يتعلق بالدين، فيكون الأمير ـ كما قال الماوردي ـ باستيلائه مستبداً بالسياسة والتدبير، والخليفة بإذنه منفذاً لأحكام الدين، ليخرج من الفساد إلى الصحة ومن الحظر إلى الإباحة. وهذا اعتراف بالأمر الواقع أو بحكم الضرورة. أما أحكام الدين فلا يجوز التهاون بها، قال الماوردي بعد عبارته السابقة: «وهذا، وإن خرج عن عرف التقليد المطلق في شروطه وأحكامه، ففيه من حفظ القوانين الشرعية، وحراسة الأحكام الدينية ما لا يجوز أن يترك مختلاً مدخولاً، ولا فاسداً معلولاً». والمعنى أن الفقهاء إزاء تجزؤ الدولة والتطور الحادث أرادوا الحفاظ على مبدأ شرعية الدولة، وشعور الناس بالتالي بأنهم يعيشون في ظل الشرعية، عن طريق الارتباط الاسمي بالخلافة المركزية، فتبقى الوحدة وروح التعاون سائدة في القضايا العامة. ¬
الفرق بين إمارتي الاستكفاء والاستيلاء
إلا أن إقرار هذا النوع الاستثنائي أو الاعتراف بالأمر الواقع مقيد بسبعة شروط تلزم أغلبها الأمير المستولي، ويلزم بعضها الخليفة نفسه وهي: 1 - حفظ منصب الإمامة في خلافة النبوة، وتدبير أمور الملة، لحفظ أحكام وحدود الشريعة وما تفرع عنها من حقوق. 2 - ظهور الطاعة الدينية التي يزول معها حكم العناد والانشقاق. 3 - اجتماع الكلمة على الألفة والتناصر، ليكون للمسلمين يد على من سواهم. 4 - أن تكون عقود الولايات الدينية جائزة، والأحكام والأقضية نافذة. 5 - أن يكون استيفاء الأموال الشرعية بحق تبرأ به ذمة مؤديها ويستبيحه آخذها. 6 - أن تكون الحدود مستوفاة بحق، وقائمة على مستحق. 7 - أن يكون الأمير في حفظ الدين ورعاً عن محارم الله، يأمر بحقه إن أطيع، ويدعو إلى طاعته إن عصي. هذه هي شروط الاعتراف بالجزء المنفصل من قبل الخليفة تحفظ بها حقوق الإمامة. الفرق بين إمارتي الاستكفاء والاستيلاء: هناك أربعة فروق وهي (¬1): ¬
2 - الإمارة الخاصة
1 - إن إمارة الاستكفاء تتم بعقد وتراضٍ واختيار بين الخليفة والمستكفي. أما إمارة الاستيلاء فتنعقد عن اضطرار. 2 - إن إمارة الاستيلاء شاملة البلاد التي غلب عليها المستولي. وأما إمارة الاستكفاء فمقصورة على البلاد التي تضمنها عهد المستكفي. 3 - إمارة الاستيلاء تشتمل على النظر في جميع الأمور: المعهودة والنادرة. وإمارة الاستكفاء خاصة بالمعهود لا النادر. 4 - يجوز لأميرالاستيلاء تعيين وزير تفويض ووزير تنفيذ، ولا يجوز لأمير الاستكفاء تعيين وزير تفويض إلا بإذن الإمام، ولكن له أن يستوزر وزير تنفيذ. 2 - الإمارة الخاصة: وهي التي تتحدد فيها سلطات الأمير بصلاحيات معينة. وخصصها الماوردي بشؤون الأمن والدفاع. فقال: وهي أن يكون الأمير مقصور الإمارة على تدبير الجيش وسياسة الرعية وحماية البيضة، أي إقليم الدولة، والذب عن الحريم. وليس له أن يتعرض للقضاء والأحكام ولجباية الخراج والصدقات. ويلاحظ أن الإمارات كانت صدر الإسلام عامة، ثم بدأت تتخصص بتوسع الدولة وتعقد الجهاز الإداري. فكان عمرو بن العاص صاحب ولاية عامة على مصر. ثم عين الخليفة عمر شخصاً آخر لجباية الخراج هو عبد الله بن أبي سرح. ثم عين قاضياً في الخصومات هو كعب بن سور، فصارت سلطة الوالي مقصورة على قيادة الجيش وإمامة الصلاة (¬1). ¬
انتهاء ولاية الإمام
انتهاء ولاية الإمام: تنتهي ولاية الإمام بأحد أسباب خمسة وهي ما يأتي (¬1): 1 ً - الموت: كما تنتهي الوكالة بالموت. 2 ً - الكفر أو الردة: إذا صدر من الإمام ما يجعله كافراً سواء بصريح القول أو بأي فعل أو قول يستلزم الكفر، بطلت إمامته. ولكن لا ينعزل بالفسق، أي بارتكاب معصية أو مخالفة شرعية، منعاً من الفتنة. 3 ً - زوال أهليته أو نقص في أعضائه أو حواسه بحيث يعجز عن القيام بواجبات الإمامة كالجنون المطبق (زوال العقل) وزوال البصر أو السمع وقطع اليدين أو الرجلين ونحو ذلك كما تقدم. واختلف الفقهاء في استمرار ولايته بقطع يد أو رجل فقط. 4 ً - نقص في إمكان التصرف: وهو يكون بأحد أمرين: الأول ـ الحجر عليه: كأن يستولي عليه بعض أعوانه ممن يستبد بتنفيذ الأمور، فإن كان المستولي يحكم بأحكام الدين ومقتضى العدل، جاز إقراره منعاً من إلحاق الفساد بالأمة وتبقى إمامة الإمام الأصلي. وإن كانت أفعاله خارجة عن حكم الدين ومقتضى العدل، لم يجز إقراره، ووجب إزالة تغلبه. الثاني ـ القهر: وهوأن يصير مأسوراً في يد عدو قاهر لا يقدر على الخلاص منه، فيجب استنقاذه إن أمكن، وإن وقع الإياس من إنقاذه، زالت إمامته. 5 ً - عزله من الأمة أو أن يعزل الإمام نفسه: بأن يستقيل وكان في الأمة من يقوم مقامه، ممن تنطبق عليه شروط الإمامة، فيعزل عن الحكم. وإن لم يوجد في الأمة من يسد مسده، لم تقبل استقالته، وللمسلمين حمله على البقاء في منصبه. ¬
الفصل الثالث: السلطة القضائية في الإسلام
الفَصْلُ الثَّالث: السُّلطة القضائيَّة في الإسلام الكلام في هذا الفصل المتعلق بتنظيم القضاء، لا بموضوعاته السابقة، يتناول: نشأة القضاء وتاريخه وحكمه، وأنواعه، القضاء العادي وتنظيمه، التحكيم، ولاية المظالم، نظام الحسبة، الدعوى، الإثبات، تنفيذ الأحكام. المبحث الأول ـ نشأة القضاء وتاريخه وحكمه وأنواعه: القضاء لغة: الحكم بين الناس. والقاضي: الحاكم، وشرعاً: فصل الخصومات وقطع المنازعات (¬1). وهو أمر مطلوب في الإسلام لقوله تعالى مخاطباً رسوله: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} [المائدة:49/ 5] {فاحكم بينهم بالقسط} [المائدة:42/ 5] {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله} [النساء:105/ 4]. ولقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإذا اجتهد فأصاب فله أجران» (¬2) «إذا جلس الحاكم للحكم بعث الله له ملكين يسددانه ويوفقانه، فإن عدل أقاما، وإن جار عرجا وتركاه» (¬3). ¬
حكمه شرعا
وحكمه شرعا ً أنه فريضة محكمة من فروض الكفايات باتفاق المذاهب، فيجب على الإمام تعيين قاض، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط} [النساء:135/ 4] قال بعضهم: «القضاء أمر من أمور الدين، ومصلحة من مصالح المسلمين، تجب العناية به؛ لأن بالناس إليه حاجة عظيمة (¬1). وهو من أنواع القربات إلى الله عز وجل، ولذا تولاه الأنبياء عليهم السلام، قال ابن مسعود: «لأن أجلس قاضياً بين اثنين أحب إلي من عبادة سبعين سنة». وحكمة تشريعه: حاجة الناس إليه لفض منازعاتهم، وتوفير مصالحهم، ورعاية حقوقهم، ومنع الظلم والتظالم، ومحاربة الأهواء. أهمية القضاء: القضاء منصب عظيم وخطير، وله مكانة في الدين، وهو وظيفة الأنبياء والخلفاء والعلماء، قال الله تعالى لنبيه داود عليه السلام: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض، فاحكم بين الناس بالحق، ولا تتبع الهوى، فيضلك عن سبيل الله، إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب} [ص:26/ 38]. وكان الرسول صلّى الله عليه وسلم في دولة المدينة يتولى بنفسه القضاء بين الناس، فلم يكن للمسلمين قاض سواه، يصدر عنه التشريع، ثم يشرف على تنفيذه، فكان يجمع بين التشريع والتنفيذ والقضاء، وكان قضاؤه اجتهاداً لا وحياً، معتمداً على ما قرره: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» ويقول: «أمرت أن أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر» «إنما أنا بشر مثلكم، وإنكم تختصمون إلي، ولعل ¬
بعضكم أن يكون ألحن (¬1) بحجته من بعض» (¬2) وباتساع الدولة عهد الرسول صلّى الله عليه وسلم إلى بعض الصحابة بالقضاء، فبعث علياً كرم الله وجهه إلى اليمن للقضاء بين الناس، وبعث إليها أيضاً معاذ بن جبل رضي الله عنه. وولى عتَّاب بن أسيد أمر مكة وقضاءها بعد فتحها. وسار الخلفاء الراشدون على هذا المنهج، فتولى عمر القضاء في عهد أبي بكر فظل سنتين لا يأتيه متخاصمان، لما اشتهر عنه من الحزم والشدة. وتم في عهد عمر بأمره فصل القضاء عن الولاية الإدارية، وعين القضاة في أجزاء الدولة الإسلامية في المدينة ومكة والبصرة والكوفة ومصر (¬3). فكان عمر هو أول من وضع أساس السلطة القضائية المتميزة، كماكان أول من وضع الدواوين كما عرفنا، وأول من وضع دستور القضاء في رسالته المشهورة إلى أبي موسى الأشعري (¬4)، وأول من استحدث نظام السجون، وكان الحبس في الماضي هو ملازمة المتهم من قبل المدعي أو غيره في منزل أو مسجد، وكان قضاء القضاة المستقلين عن الخليفة محصوراً في المنازعات المدنية المالية (¬5). أما الجنايات الموجبة للقصاص أو الحدود فبقيت في يد الخليفة، وولاة الأقاليم ذوي الولاية العامة. وأما ولاة الإمارة الخاصة، فلهم فقط حق استيفاء الحدود المتعلقة بحقوق الله تعالى المحضة كحد الزنى جلداً أو رجماً، أو المتعلقة بحقوق الأشخاص إن طلب طالب منهم ذلك (¬6). ¬
وكان عثمان رضي الله عنه أول من اتخذ داراً للقضاء، بعد أن كان القضاء في المسجد. وكان القضاء يقوم على أساسين: الأول: نظام القاضي الفرد. الثاني: عدم تدوين الأحكام في سجلات؛ لأنها تنفذ فوراً بإشراف القاضي (¬1). وكان للقضاة أجور من بيت مال المسلمين منذ عهد عمر مقابل تفرغهم للقضاء. ويتم إصدار الحكم باجتهاد القاضي وفراسته بالاعتماد على مصادر التشريع الأربعة: وهي القرآن والسنة والإجماع والقياس. ثم تطور القضاء في عهد الأمويين والعباسيين باستقرار الدولة، فتحددت سلطات القاضي واختصاصاته وتنوع القضاء، وكان القضاة مستقلين في أعمالهم غالباً، وبدأ تسجيل أحكام القضاء في بدء العهد الأموي، واستحدث في عهد العباسيين منصب قاضي القضاة الذي كان أول من تولاه أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة، وكان بمثابة وزير العدل يعين القضاة، ويعزلهم، ويراقب أعمالهم وأحكامهم، وظهر أيضاً قضاة المذاهب، فوجد في كل إقليم قاضٍ مذهبي، ففي العراق يعمل بالمذهب الحنفي، وفي الشام والمغرب على وفق المذهب المالكي، وفي مصر على وفق مذهب الشافعي. ¬
الأسس التالية للقضاء في الإسلام
واتسع سلطان القاضي تدريجياً، فأصبح ينظر بالإضافة إلى المنازعات المدنية في أمور إدارية أخرى كالأوقاف وتنصيب الأوصياء. وقد يجمع القاضي بين القضاء والشرطة والمظالم والحسبة ودار الضرب وبيت المال (¬1). وكان نظام التحكيم معمولاً به بجانب القضاء. وانفصل قضاء المظالم وولاية الحسبة عن القضاء. إلا أن القضاء العادي كان أسبق نشأة من غيره عندما تولاه الرسول صلّى الله عليه وسلم في المدينة وهو يفترض وجود اعتداء على حق شخصي وقيام خصومة بين شخصين. ثم ظهر نظام الحسبة في زمن المهدي للنظر في الاعتداءات الواقعة على المصالح العامة التي تمس أمن الجماعة وإن لم يوجد فيها مدعٍ شخصي لحماية حق خاص به. ثم وجد قضاء المظالم لحماية الحقوق والحريات من جور الولاة والحكام واستبداد الأقوياء حينما توسعت الدولة وضعف الوازع الديني وامتدت أطماع القواد إلى أموال الرعية. ومن أجل إقرار العدالة وإحقاق الحق لا بد من توافر الأسس التالية للقضاء في الإسلام: أولاً ـ اعتماده على العقيدة والأخلاق: لتربية الضمير والوجدان، وتهذيب النفس، وإعداد الوازع الديني والخلقي المهيمن على سير الدعوى. وهو مطلوب في اختيار القاضي، وعند رفع الدعوى، وفي معاملة الخصوم، وفي إصدار الأحكام وتنفيذها، وفي الإثبات الشرعي والتزام أحكام الشريعة ونحوها. ثانياً ـ ضرورته في كل دولة: القضاء أمر لازم لكل دولة، كما اتضح من ممارسة الرسول صلّى الله عليه وسلم له، ومتابعة الخلفاء سنته واهتمامهم بتنظيمه. فهو إذن يحتل ¬
ثالثا ـ استقلال السلطة القضائية والفصل بين السلطات
مركزاً مهماً في الدولة، ويعد أحد سلطاتها الضرورية لوجودها وبقائها: «العدل أساس الملك» بل ويستمد قوته من الدولة في التخاصم وإصدار الأحكام، واستيفاء الحقوق. ثالثاً ـ استقلال السلطة القضائية والفصل بين السلطات: كان القضاء في عهد الرسول وخلافة أبي بكر وجزء من خلافة عمر يقوم به الولاة الإداريون، ثم أمر عمر بفصل أعمال القضاة عن أعمال الولاة، فعين القضاة في المدينة وسائر المدن الإسلامية، وجعل سلطة القضاء تابعة له مباشرة. وبه تحقق فصل السلطة القضائية عن بقية سلطات الدولة. المبحث الثاني ـ القضاء العادي وتنظيمه: الكلام في هذا المبحث عن شروط القاضي وواجباته وأنواع القضاة وتنظيم القضاء. المطلب الأول ـ شروط القاضي: القضاء ولاية عامة مستمدة من الخليفة كغيره من ولايات الدولة كالوزارة ونحوها، فلا يصلح للتعيين فيه إلا من كان مستكملاً أوصافاً معينة مستلهمة من صنيع الخلفاء الراشدين الذين كانوا يتشددون في اختيار القضاة طبقاً لأهلية معينة (¬1). وقد حدد الفقهاء هذه الشروط، فاتفقوا على أكثرها واختلفوا في بعضها (¬2). ¬
الشروط المتفق عليها
أما الشروط المتفق عليها بين أئمة المذاهب فهي أن يكون القاضي عاقلاً بالغاً، حراً، مسلماً، سميعاً بصيراً ناطقاً، عالماً بالأحكام الشرعية. أولاً ـ أهلية البلوغ والعقل: حتى تتحقق فيه المسؤولية عن أقواله وأفعاله، وليستطيع إصدار الحكم في الخصومات على غيره، قال الماوردي: «ولايكتفى فيه بالعقل الذي يتعلق به التكليف من علمه بالمدركات الضرورية، حتى يكون صحيح التمييز، جيد الفطنة، بعيداً عن السهو والغفلة، يتوصل بذكائه إلى إيضاح ما أشكل وفصل ما أعضل». ثانياً ـ الحرية: لأنه لاتصح ولاية العبد على الحر؛ لما فيه من نقص يمنع انعقاد ولايته على غيره. ولم يعد هذا الشرط ذا موضوع الآن. ثالثاً - الإسلام: لأن القضاء ولاية، ولا ولاية لغير المسلم على المسلم، فلا تقبل شهادته عليه، لقوله تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} [النساء:141/ 4]. وأجاز أبو حنيفة تقليد غير المسلم القضاء بين أهل دينه (¬1). رابعاً ـ سلامة الحواس من السمع والبصر والنطق ليتمكن من أداء وظيفته، فيميز بين المتخاصمين، ويعرف المحق من المبطل، ويجمع وسائل إثبات الحقوق، ليعرف الحق من الباطل. خامساً ـ العلم بالأحكام الشرعية: بأن يعلم بفروع الأحكام الشرعية ليتمكن من القضاء بموجبها. وأما الشروط المختلف فيها فهي ثلاثة: العدالة، والذكورة، والاجتهاد. ¬
أما العدالة (¬1): فهي شرط عند المالكية والشافعية والحنابلة، فلا يجوز تولية الفاسق، ولا مرفوض الشهادة بسبب إقامة حد القذف عليه مثلاً، لعدم الوثوق بقولهما، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة، فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} [الحجرات:6/ 49] فإذا لم تقبل الشهادة من امرئ فلأن لا يكون قاضياً أولى. وقال الحنفية: الفاسق أهل للقضاء، فلو عين قاضياً صح قضاؤه للحاجة، لكن ينبغي ألا يعين، كما في الشهادة ينبغي ألا يقبل القاضي شهادة فاسق، لكن لو قبل ذلك منه جاز، مع وقوعه في الإثم. وأما المحدود في القذف فلا يعين قاضياً ولا تقبل شهادته عندهم. وأما الذكورة: فهي شرط أيضاً عند المالكية والشافعية والحنابلة، فلا تولى امرأة القضاء؛ لأن القضاء ولاية، والله تعالى يقول: {الرجال قوامون على النساء} [النساء:34/ 4] وهو يحتاج إلى تكوين رأي سديد ناضج، والمرأة قد يفوتها شيء من الوقائع والأدلة بسبب نسيانها، فيكون حكمها جوراً، وهي لا تصلح للولاية العامة لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» (¬2). وقال الحنفية: يجوز قضاء المرأة في الأموال، أي المنازعات المدنية؛ لأنه تجوز شهادتها فيها. وأما في الحدود والقصاص، أي في القضاء الجنائي، فلا تعين قاضياً؛ لأنه لا شهادة لها في الجنايات، وأهلية القضاء تلازم أهلية الشهادة. ¬
وأجاز ابن جرير الطبري قضاء المرأة في كل شيء لجواز إفتائها (¬1) ورد عليه الماوردي بقوله: ولا اعتبار بقول يرده الإجماع مع قول الله تعالى: {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض} [النساء:34/ 4] يعني في العقل والرأي، فلم يجز أن يقمن على الرجال (¬2). وأما الاجتهاد (¬3): فهو شرط عند المالكية والشافعية والحنابلة وبعض الحنفية، كالقدوري، فلا يولى الجاهل بالأحكام الشرعية ولا المقلِّد (¬4)؛ لأن الله تعالى يقول: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} [المائدة:49/ 5] {لتحكم بين الناس بما أراك الله} [النساء:105/ 4] {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} [النساء:59/ 4] ولأن الاجتهاد يستطيع به المجتهد التمييز بين الحق والباطل، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «القضاة ثلاثة: واحد في الجنة واثنان في النار. فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق، فقضى به. ورجل عرف الحق وجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار» (¬5) والعامي يقضي على جهل. وأّهلية الاجتهاد تتوافر بمعرفة ما يتعلق بالأحكام من القرآن والسنة وإجماع الأمة، واختلاف السلف، والقياس، ولسان العرب. ولا يشترط الإحاطة بكل القرآن والسنة أو الاجتهاد في كل القضايا، بل يكفي معرفة ما يتعلق بموضوع النزاع المطروح أمام القاضي أو المجتهد. ¬
المطلب الثاني ـ واجبات القضاة
وقال جمهور الحنفية: لا يشترط كون القاضي مجتهداً، والصحيح عندهم أن أهلية الاجتهاد شرط الأولوية والندب والاستحباب. فيجوز تقليد غير المجتهد للقضاء، ويحكم بفتوى غيره من المجتهدين؛ لأن الغرض من القضاء هو فصل الخصائم وإيصال الحق إلى مستحقه، وهو يتحقق بالتقليد والاستفتاء. لكن قالوا: لا ينبغي أن يقلد الجاهل بالأحكام، أي بأدلة الأحكام؛ لأن الجاهل يفسد أكثر مما يصلح، بل يقضي بالباطل من حيث لا يشعر به. والواقع في زماننا عدم توافر المجتهدين بالمعنى المطلق، فيجوز تولية غير المجتهد، ويولى الأصلح فالأصلح من الموجودين في العلم والديانة والورع والعدالة والعفة والقوة. وهذا ما قاله الشافعية والإمام أحمد، وقال الدسوقي من المالكية: والأصح أن يصح تولية المقلد مع وجود المجتهد. المطلب الثاني ـ واجبات القضاة: عرفنا سابقاً أنه يلتزم القضاة وجوباً بأمور، وندباً أو استحباباً بأمور أخرى. أما الواجبات المفروضة عليهم أساساً فهي (¬1): أولاً ـ بالنسبة للقانون الواجب التطبيق: هو الالتزام بالأحكام الشرعية، فيجب على القاضي أن يقضي في كل حادثة بما يثبت عنده أنه حكم الله تعالى؛ إما بدليل قطعي: وهو النص المفسر الذي لا شبهة فيه من كتاب الله عز وجل، أو السنة المتواترة، أو المشهورة، أو الإجماع. وإما بدليل ظاهر للعمل كظواهر النصوص المذكورة في القرآن الكريم أو السنة المشرفة، أو الثابت بالقياس الشرعي، في المسائل الاجتهادية التي اختلف فيها الفقهاء. ¬
فإن لم يجد القاضي حكم الحادثة في المصادر الأربعة (الكتاب والسنة والإجماع والقياس) يجب عليه العمل بما أداه إليه اجتهاده إن كان مجتهداً. وإن لم يكن مجتهداً يختار قول الأفقه والأورع من المجتهدين بحسب اعتقاده. والأفضل بسبب تعدد آراء الفقهاء وضع تقنين موحد للأحكام الشرعية، كمجلة الأحكام العدلية في المعاملات المدنية، وكمرشد الحيران والأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية لقدري باشا. ثانياً ـ في تكوين رأي القاضي واقتناعه: الالتزام بوسائل الإثبات الشرعية كالشهادة والإقرار والكتابة واليمين والقرائن القطعية والعرفية، حتى يكون حكمه ـ كما هو مقرر بداهة ـ مبنياً على دليل صحيح لا يتعرض للنقض والطعن والتهمة. ثالثاً ـ منع التهمة: وهو ألا يقضي لخصم يتهم بمحاباته بأن يكون ممن تقبل شهادته للقاضي. فإن كان ممن لا تقبل شهادته له لا يجوز قضاء القاضي له؛ لأن القضاء له قضاء لنفسه من جهة، فلم يكن القضاء مجرداً، وإنما فيه تهمة، فلا يصح القضاء. وعلى هذا يجب على القاضي الامتناع والتنحي عن القضاء لنفسه أو لأحد أبويه أو أجداده، أو لزوجته أو لأولاده وأحفاده، أو لكل من لا تجوز شهادته لهم بسبب التهمة. وهو رأي أكثر الفقهاء (¬1). وأما الواجبات المندوبة أو الكمالية للقاضي فهي كثيرة مستمدة في أغلبها من رسالة سيدنا عمر في القضاء والسياسة إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما، وهي تتوخى إقامة العدل المطلق في أكمل وأدق صوره. وبعض هذه الآداب مستمد أيضاً من كتاب علي كرم الله وجهه إلى الأشتر النخعي. ¬
الآداب
وهذه الآداب نوعان: عامة وخاصة (¬1). فالآداب العامة: كالمشاورة لجماعة من الفقهاء، والتسوية بين الخصمين في المجلس والإقبال، ورفض قبول الهدايا: «هدايا الأمراء غلول» (¬2) أي خيانة، والامتناع عن قبول الدعوات الخاصة، أو العامة إذا كان لصاحبها خصومة أو مصلحة. والآداب الخاصة: كاتساع مكان القضاء (المحكمة)، وملاءمته المناخ أو الطقس في الحر والبرد، والاستعانة بالمساعدين القضائيين كالكتاب والحارس، والمزكي، والترجمان، والمحضر (الذي يحضر الخصوم ويبلغ الدعاوى)، ونائب القاضي حالة السفر أو المرض أو أداء فريضة الحج ونحوها، ووكلاء الخصومة (المحامين). ومن هذه الآداب: ضرورة فهم كل ما يتعلق بالمنازعة أو الخصومة موضوع الدعوى، وصفاء القاضي نفسياً بألا يكون قلقاً مضطرباً وقت القضاء موضوع الدعوى، وصفاء القاضي نفسياً بألا يكون قلقاً ضجراً مضطرباً وقت القضاء بسبب الغضب ونحوه من كل ما يشغل النفس من الهم والنعاس والجوع المفرط والعطش المفرط، والتخمة، والخوف، والمرض وشدة الحزن والسرور، ومدافعة الأخبثين (البول والغائط). ومنها الاعتماد على مبدأ تزكية الشهود، والأخذ بمبدأ مصالحة الخصمين قبل الحكم لقوله تعالى: {والصلح خير} [النساء:128/ 4]. ¬
حقوق القضاة
وأما حقوق القضاة فمنها المادي ومنها المعنوي. فمن الحقوق المادية: توفير الكفاية المعيشية له ولأسرته بتخصيص مرتب كاف له، كيلا تمتد يده إلى أموال الناس، ولا يتطلع إلى الهدية أو الرشوة. وقد سار النبي وخلفاؤه على هذا النهج. ويضمن بيت المال الضرر الناشئ عن أحكام القضاة دون عمد ولا تقصير أوإهمال. ومن الحقوق المعنوية: توفير الاستقرار للقاضي وعدم عزله إلا بسبب شرعي، تحقيقاً للحصانة القضائية له. وعلى الدولة حماية القاضي من أي تعرض له بسبب حكمه، ومنع مخاصمته في الحكم، ومعاونته في تنفيذ أحكامه. المطلب الثالث ـ أنواع القضاة واختصاصاتهم: قسم أقضى القضاة الماوردي قضاة زمانه بحسب عموم ولا يتهم وخصوصها إلى أنواع أربعة وهي: أولاً ـ القاضي ذو الولاية العامة: وهو القاضي الذي لا تتحدد ولايته بزمان ومكان معين، ولا بأشخاص معينين، وإنما له سلطة مطلقة بالنظر والتصرف فيما يختص بولايته. واختصاصه يشمل عشرة أمور، وهي (¬1): 1 - فصل المنازعات وقطع المشاجرة والخصومات، إما صلحاً عن تراض فيما يحل شرعاً، أو بحكم بات ملزم. 2 - استيفاء الحقوق ممن مطل بها، وإيصالها إلى مستحقيها بعد ثبوت استحقاقها بالإقرار أو البينة ونحوهما من طرق الإثبات الشرعية. 3 - ثبوت الولاية على عديم الأهلية بجنون أو صغر، والحجر على ناقص الأهلية بسبب السفه (التبذير) والإفلاس، حفظاً للأموال، وتصحيحاً للعقود. ¬
ثانيا ـ القاضي خاص الولاية
4 - النظر في الأوقاف، بحفظ أصولها، وتنمية فروعها، وصرف ريعها لمستحقيها. 5 - تنفيذ الوصايا على شروط الموصي فيما أباحه الشرع. 6 - تزويج الأيامى بالأكفاء إذا عدِمن الأولياء ودعين إلى النكاح، وهذا مقصور عند الحنفية على تزويج الصغار. 7 - إقامة الحدود على مستحقيها: فإن كان من حقوق الله تعالى تفرد باستيفائه من غير طالب. وإن كان من حقوق الآدميين كان موقوفاً على طلب مستحقه. 8 - النظر في مصالح عمله من الكف عن التعدي في الطرقات والأفنية، وإخراج ما لا يستحق من الأجنحة والأبنية، وله أن ينفرد بالنظر فيها، وإن لم يحضره خصم. وقال أبو حنيفة: لا يجوز له النظر فيها إلا بدعوى من الخصم. 9 - تصفح شهوده وأمنائه واختيار النائبين عنه من خلفائه في إقرارهم والتعويل عليهم. 10 - التسوية في الحكم بين القوي والضعيف، والعدل في القضاء بين المشروف والشريف، ولا يتبع هواه في تقصير المحق، أو ممايلة المبطل. ويلاحظ أن هذه الأمور تتضمن بعض التوجيهات العامة بالإضافة إلى تحديد الاختصاصات القضائية. ثانياً ـ القاضي خاص الولاية: وهو الذي تقتصر ولايته على بعض الاختصاصات المتقدمة، أو تكون ولايته ذات اختصاص موضوعي أضيق،
ثالثا ـ القاضي عام النظر خاص العمل (الاختصاص المكاني)
كالحكم بالإقرار دون البينة، أو في الديون، دون الأحوال الشخصية، أو في المقدرات الشرعية، فيتقيد بما خصص فيه، ولا يتعداه إلى غيره (¬1). ثالثاً ـ القاضي عام النظر خاص العمل (الاختصاص المكاني): وهو الذي يختص بالنظر في جميع اختصاصات النوع الأول، ولكن في بلدة معينة أو محلة معينة، فتنفذ أحكامه في هذا النطاق فقط (¬2). رابعاً ـ القاضي المحدد الولاية: وهوالذي تقتصر ولايته بالحكم في قضية أشخاص معينين، أو في أيام محدودة، كيوم السبت وحده بالنسبة لجميع الدعاوى بين الخصوم، وتزول ولايته بعدئذ (¬3). المطلب الرابع ـ تنظيم القضاء: الكلام عن تنظيم القضاء يتناول أموراً كثيرة أهمها: طرق تعيين القضاة وعزلهم، وتخصص القضاة، وأسلوب القضاء الفردي والجماعي ودرجات التقاضي أو المحاكم. والتنظيم القضائي: هو مجموعة القواعد والأحكام التي تؤدي إلى حماية الحقوق وفصل الخصومات. طرق تعيين القضاة وعزلهم: القضاء ولاية من الولايات المستمدة من الخليفة باعتباره ممثلاً الأمة، فلا بد ¬
للقاضي من تعيين صادر عن الحاكم الأعلى أو نائبه، سواء أكان عادلاً أم جائراً، ولا يصح أن يولي نفسه، أو يوليه جماعة من الرعية. وقد بيَّن الماوردي (¬1) صيغة قرار التعيين الصريح أو ما يقوم مقامه من الألفاظ الدالة على التقليد أو الاستخلاف أو النيابة، واشترط لتمام الولاية أربعة شروط مجملها: معرفة المولي توافر الصفات اللازمة في المولَّى، ومعرفة المولَّى بصلاحية المولي للتعيين، وتحديد اختصاص القاضي، وتعيين البلد التي يقضي فيها. وللحاكم عزل القاضي متى شاء، والأولى ألا يعزله إلا بعذر، كما أن للقاضي عزل نفسه من القضاء إذا شاء، والأفضل ألا يعتزل منصبه إلا بعذر، لما في عمله من تحقيق مصلحة عامة للمسلمين، ولا ينعزل القاضي عند الحنفية بعزل الحاكم إلا بعلمه بذلك، وتظل أحكامه نافذة حتى يبلغه نبأ العزل. وتنتهي ولاية القاضي كما تنتهي الوكالة العادية بأسباب أخرى كالموت والجنون المطبق، وإنجاز المهمة الموكولة للشخص، إلا في أمر واحد: وهو أن الموكل العادي إذا مات أو خلع ينعزل الوكيل. أما ولي الأمر الحاكم إذا مات أو خلع فلا ينعزل قضاته وولاته؛ لأن الحاكم لا يعمل باسمه الشخصي، وإنما بالنيابة عن جماعة المسلمين، وولاية المسلمين تظل باقية بعد موت الإمام (¬2). تخصص القضاة: يتخصص القضاة زماناً ومكاناً ونوعاً وموضوعاً. 1 - التخصص الزماني: وهو أن يتخصص القاضي بالنظر في وقت معين، ¬
أسلوب القضاء الفردي والجماعي
كأيام محددة في الأسبوع. وهو حالة من حالات اختصاص القاضي المحدد الولاية كما بيَّن الماوردي. 2 - التخصص المكاني: وهو تقييد القاضي بالقضاء في بلدة معينة أو أكثر، أو ناحية من بلد معين، كما قلد النبي صلّى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب قضاء اليمن، وقلد معاذ بن جبل القضاء في ناحية منها. وهذا هو اختصاص النوع الثالث من أنواع القضاة الذين ذكرهم الماوردي. 3 - التخصص النوعي: وهو تخصيص القاضي عند تعيينه أو بعده ببعض معين من القضايا، كما هو الحادث الآن في دوائر المنازعات المدنية، والأحوال الشخصية، والتجارية، والجنائية ونحوها. أو تخصيصه بقضايا لا تزيد فيها المبالغ المستحقة عن قدر معين. وقد سبق بيانه في النوع الثاني من أنواع القضاة. 4 - التخصص الموضوعي: وهو الاقتصار على سماع دعاوى موضوعات معينة والمنع من سماع دعاوى أخرى، كدعوى الوقف أو الإرث، بسبب مضي المدة أو التقادم الطويل الأمد بلا عذر، وهو مدة (33 أو 36) سنة في الأوقاف وأموال بيت المال، أو 15 سنة في الحقوق الخاصة؛ لأن ترك الادعاء مع الإمكان يدل على عدم الحق ظاهراً. ومنها عدم سماع دعوى الزوجية بسبب صغر السن، في الفتى دون 18 سنة، وفي الفتاة دون 16 سنة مثلاً. أسلوب القضاء الفردي والجماعي: إن أساس القضاء الذي كان سائداً في الإسلام هو الأخذ بنظام وحدة القاضي أو القاضي الفرد كما عرفنا: وهو أن يفصل في الخصومات قاض واحد يعينه الإمام أو نائبه في بلد معين.
درجات التقاضي أو درجات المحاكم والطعن في الأحكام
ولا مانع عند فقهاء الحنفية (¬1) وبعض الحنابلة والشافعية من الأخذ بنظام قضاء الجماعة: وهو اشتراك أكثر من قاض في نظر الدعاوى؛ لأن القاضي نائب أو وكيل عن الإمام، وللموكل أن يوكل عنه شخصاً أو أكثر، وحينئذ فلا بد من اشتراكهم جميعاً عند النظر في الدعاوى وإصدار الحكم فيها، على أساس الشورى. وأما غير الحنفية (¬2) الذين لم يجيزوا تعدد القضاة، فتعللوا بتعذر اتفاق القضاة في الرأي بالمجتهد فيه، مما يؤدي إلى تعذر الفصل في الخصومات. وهذا السبب يمكن التغلب عليه بالأخذ برأي الأكثرية، ولأن القضاة يستندون إلى الرأي الذي صوبه الإمام، كما قال بعض الشافعية. درجات التقاضي أو درجات المحاكم والطعن في الأحكام: الأصل في القضاء أن يكون على درجة واحدة حسماً للنزاع في أسرع وقت، ولكن ضماناً لسير العدالة وإحقاق الحق، وبسبب قلة الورع، ونقص العلم، جرى العمل حديثاً على تعدد المحاكم. ولا مانع في الفقه الإسلامي من مبدأ التعدد، بدليل أن سيدنا علياً قضى بين خصمين في اليمن، وأجاز لهما إذا لم يرضيا أن يأتيا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأتياه فأقر قضاء علي. وقال عمر لأبي موسى الأشعري في رسالته المشهورة: «ولا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس، ثم راجعت فيه نفسك، وهديت لرشدك أن ترجع إلى الحق؛ لأن الحق قديم، والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل». ¬
وقد فصل فقهاء المذاهب الأربعة هذا الموضوع في بحث الاجتهاد أو نقض الحكم على النحو التالي: إذا كان الحكم معتمداً على دليل قطعي من نص أو إجماع أوقياس جلي (¬1) فلا ينقض؛ لأن نقضه إهمال للدليل القطعي، وهو غير جائز أصلاً. وأما إذا خالف الحكم دليلاً قطعياً، فينقض بالاتفاق بين العلماء، سواء من قبل القاضي نفسه، أو من قاضٍ آخر، لمخالفته الدليل. فإن كان الحكم في غير الأمور القطعية، وإنما في مجال الاجتهادات أو الأدلة الظنية، فلا ينقض (أي بحسب نظام القضاة الفردي) حتى لا تضطرب الأحكام الشرعية أو تنعدم الثقة بأحكام القضاة، وتبقى الخصومات على حالها بدون فصل زماناً طويلاً. أما في أسلوب تعدد المحاكم، فإن الخصمين يعلمان سلفاً أن الحكم لم يكتسب الدرجة القطعية، وإنما يجوز استئنافه ونقضه، فلم تعد هناك خشية من اضطراب الأحكام؛ لأن الحكم لم يكتمل بعد. ويمكن تأييد ما ذكر بما قرر الفقهاء من جواز نقض الحكم إذا صدر سهواً، أو ظهر فيه خطأ (¬2). فإن اكتسب الحكم الدرجة القطعية من محكمة النقض، فلا ينقض الحكم السابق في حادثة مشابهة عملاً بقاعدة: «الاجتهاد لا ينقض بمثله» وأصلها قول عمر: «تلك على ما قضينا وهذه على ما نقضي». ¬
صفة قضاء القاضي
والخلاصة: إن فقهاءنا عرفوا مبدأ الطعن في الأحكام، ولا يعد تنظيم المحاكم حديثاً مخالفاً لمبادئ الإسلام، وإنما يتمشى معها، عملاً بما قرره الفقهاء فيما يجوز نقضه من الأحكام أو الطعن في الحكم بسبب التهمة الموجهة للقاضي. وقد عرف القضاء في الأندلس فعلياً مبدأ القضاء بالرد. صفة قضاء القاضي: يلاحظ أخيراً أن حكم القاضي عند جمهور العلماء يعتمد الظاهر في المال وغيره من الأحوال الشخصية، فلا يحل الحرام ولا يحرم الحلال، ولا ينشئ الحقوق وإنما يظهرها ويكشف عنها في الوقائع، عملاً بالحديثين السابقين: «نحن نحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر» (¬1) «إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له بنحوٍ مما أسمع، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من نار» (¬2). وقال أبو حنيفة: ينفذ حكم القاضي في العقود والفسوخ ظاهراً وباطناً؛ لأن مهمته القضاء بالحق. فلو ادعى رجل على امرأة أنه تزوجها، فأنكرت، فأقام على ادعائه شاهدي زور، فقضى القاضي بعقد الزواج بينهما، حل للرجل الاستمتاع بها. ولو قضى القاضي بالطلاق فرق بينهما، وإن كان الرجل منكراً. ونفاذ حكم القاضي على هذا النحو مقيد بشرطين: ألا يعلم بكون الشهود زوراً، وأن يكون من الأمور التي له فيها صلاحية الإنشاء. المبحث الثالث ـ التحكيم التحكيم: أن يحكم المتخاصمان شخصاً آخر لفض النزاع القائم بينهما على ¬
المبحث الرابع ـ ولاية المظالم
هدى حكم الشرع. وقد دل على جوازه قوله تعالى: {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما} [النساء:35/ 4] وعن أبي شريح قال: «يا رسول الله، إن قومي إذا اختلفوا في شيء فأتوني فحكمت بينهم، فرضي عني الفريقان، فقال له الرسول صلّى الله عليه وسلم: ما أحسن هذا» وعمل الرسول بحكم سعد بن معاذ الذي اتفق مع يهود بني قريظة على تحكيمه فيهم. وأجمع الصحابة على جواز التحكيم. ويشترط في المحكَّم أن يكون أهلاً للشهادة رجلاً كان أو امرأة، وأن تتوافر فيه هذه الأهلية وقت الحكم، وأن يكون الموضوع في غير الحدود والقصاص لاختصاص الإمام بالنظر فيها وفي استيفائها، فيصح التحكيم في القضايا المالية وفي الأحوال الشخصية من زواج وطلاق. ويلتزم المتحاكمان بقرار المحكم عند الحنفية والحنبلية. ولكل واحد الرجوع عن التحكيم قبل إصدار الحكم عند الحنفية. والراجح عند المالكية ألا يشترط دوام رضائهما حتى صدور الحكم، فإن رجعا معاً ولم يرتضياه قبل الحكم، فلهما ذلك. وإن رجع أحدهما فله ذلك عند سحنون، وليس له حق الرجوع عند ابن الماجشون (¬1). المبحث الرابع ـ ولاية المظالم تعريفها ونشأتها، المختص بالنظر فيها، هيئة مجلسها، اختصاصاتها، الفرق بينها وبين القضاء العادي. ¬
أولا ـ تعريف ولاية المظالم ونشأتها
أولاً ـ تعريف ولاية المظالم ونشأتها: ولاية المظالم تشبه إلى حد كبير نظام القضاء الإداري ومجلس الدولة حديثاً، فهي أصلاً للنظر في أعمال الولاة والحكام ورجال الدولة مما قد يعجز عنه القضاء العادي، وقد ينظر واليها في المنازعات التي عجز القضاء عن فصلها، أو في الأحكام التي لا يقتنع الخصوم بعدالتها. ويجتمع فيها القضاء والتنفيذ معاً (¬1). وعرفها الماوردي بقوله (¬2): «نظر المظالم: هو قود المتظالمين إلى التناصف بالرهبة، وزجر المتنازعين عن التجاحد بالهيبة، فكان من شروط الناظر فيها أن يكون جليل القدر نافذ الأمر، عظيم الهيبة، ظاهر العفة، قليل الطمع، كثيرالورع؛ لأنه يحتاج في نظره إلى سطوة الحماة، وثبت القضاة، فيحتاج إلى الجمع بين صفات الفريقين، وأن يكون بجلالة القدر نافذ الأمر في الجهتين». نشأتها: كان الرسول صلّى الله عليه وسلم في صدر الإسلام أول من نظر المظالم بنفسه، فقضى في شِرْب بين الزبير بن العوام وأنصاري (¬3)، وأرسل علياً لدفع دية القتلى الذين قتلهم خالد من قبيلة بني جذيمة بعد أن خضع أهلها وقال: «اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد». ولم يُنتدب للمظالم من الخلفاء الأربعة أحد؛ لأن الناس كان يقودهم التناصف إلى الحق، ويزجرهم الوعظ عن الظلم. ولكن عمر رضي الله عنه كان شديد الوطأة على الولاة، ودائم التحذير لهم، فأمر بالاقتصاص من عمرو بن العاص؛ لأنه قال لأعرابي في المسجد: يا منافق، إلا أن يعفو الأعرابي، واقتص من ابن عمرو لإهانته مصرياً قبطياً. ¬
ثانيا ـ صفة ناظر المظالم
وحينما تأخرت إمامة علي واختلط الناس فيها وجاروا، احتاجوا إلى صرامة في السياسة، فكان علي رضي الله عنه أول من نظر في مظالم النا س، ولم يعين يوماً محدداً لها. وعندما تجاهر الناس بالظلم في عهد الدولة الأموية كان عبد الملك بن مروان أول من أفرد للظلامات يوماً يتصفح فيه قصص المتظلمين. ثم زاد جور الولاة وظلم العتاة ولم يكفهم إلا أقوى الأيدي وأنفذ الأوامر، فكان عمر بن عبد العزيز رحمه الله أول من ندب نفسه للنظر في المظالم، فردها، وراعى السنن العادلة، ورد مظالم بني أمية على أهلها، فلما عوتب في شدته عليهم فيها قال: «كل يوم أتقيه وأخافه دون يوم القيامة لا وُقِيته». ثم جلس لها من خلفاء بني العباس جماعة، أولهم المهدي ثم الهادي ثم الرشيد ثم المأمون وكان آخرهم المهتدي، حتى عادت الأملاك إلى مستحقيها (¬1). وهكذا نشأ نظام المظالم واستقل عن القضاء العادي. ثانياً ـ صفة ناظر المظالم: كان الخليفة كما تقدم أول من نظر المظالم ومثله الوزراء والأمراء. ويصح النظر في المظالم بتقليد خاص من ولي الأمر لكل من توافرت فيه شروط ولاية العهد، أو وزارة التفويض، أو إمارة الأقاليم إذا كان نظره في المظالم عاماً. فإن اقتصرت مهمة المقلد للقضاء على تنفيذ ما عجز القضاة عن تنفيذه، وإمضاء ما قصرت يدهم عن إمضائه، جاز أن يكون ناظر المظالم دون مرتبة الوزير والأمير في القدر والخطر، بشرط ألا تأخذه في الحق لومة لائم. ¬
هيئة محكمة المظالم
هيئة محكمة المظالم: لابد لتكوين مجلس نظر المظالم من خمسة أصناف لا يستغني عنهم ناظر المظالم ولا ينتظم نظره إلا بهم، وهم (¬1): 1 - الحماة والأعوان لجذب القوي، وتقويم الجريء. 2 - القضاة والحكام لاستعلام ما ثبت عندهم من الحقوق، ومعرفة ما جرى في مجالسهم بين الخصوم. 3 - الفقهاء ليرجع إليهم فيما أشكل، ويسألهم عما اشتبه وأعضل. 4 - الكتّاب ليثبتوا ما جرى بين الخصوم وما توجه لهم أو عليهم من الحقوق. 5 - الشهود: ليشهدهم على ما أوجبه من حق وأمضاه من حكم. فإذا استكمل مجلس المظالم بهؤلاء الأصناف شرع الناظر حينئذ في النظر فيها. ثالثاً ـ اختصاصات ديوان المظالم: يختص ناظر المظالم باختصاصات متعددة بعضها استشاري يتعلق بمراقبة تطبيق أحكام الشرع، وبعضها إداري يتعلق بمراقبة أعمال الموظفين ولو بدون متظلم من الناس، كما يظهر من الاختصاصات الثلاثةالأولى، وبعضها قضائي يتعلق بفصل الخصومات بين الحكام والرعية، أو بين الرعية أنفسهم. وهذه الاختصاصات تفصيلاً هي ما يأتي (¬2): أولاً ـ النظر في تعدي الولاة على الرعية وأخذهم بالعسف في السيرة. ثانياً ـ النظر في جور العمال فيما يجبونه من الأموال، فيرجع فيه إلى القوانين ¬
ثالثا ـ تصفح أعمال كتاب الدواوين؛
العادلة في دواوين الأئمة، فيحمل الناس عليها، ويأخذ العمال بها، وينظر فيما استزادوه، فإن رفعوه إلى بيت المال أمر برده، وإن أخذوه لأنفسهم استرجعه لأربابه. ثالثاً ـ تصفح أعمال كتاب الدواوين؛ لأنهم أمناء المسلمين على ثبوت أموالهم فيما يستوفونه لهم، ويوفونه منه. هذه الأقسام الثلاثة لا يحتاج والي المظالم في تصفحها إلى متظلم. رابعاً ـ النظر في تظلم المسترزقة (أي الموظفين والجنود) من نقص أرزاقهم أو تأخرهم عنهم. خامساً ـ رد الغصوب، أي الأموال المغتصبة بدون حق. وهي نوعان: أـ غصوب سلطانية: وهي التي يأخذها الحكام أو ولاة الجور من أصحابها بدون حق، إما بأخذها للدولة أو لأنفسهم ظلماً. وحكمها أن والي المظالم يأمر بردها إلى أصحابها إن علم بها عند ممارسة إشرافه على الولاة، ولو قبل التظلم إليه، فإذا لم يعلم بها توقف نظره فيها على تظلم أربابها. ويمكنه الاعتماد على ديوان السلطنة في إثبات حق صاحبها، دون حاجة لتقديم الأدلة من مستحقها. ب ـ غصوب الأقوياء: وهي التي يتغلب عليها ذوو الأيدي القوية من الأفراد المتنفذين ذوي الوجاهة في الدولة، فيتصرفون فيها تصرف الملاك بالقهر والغلبة. وهذا النوع يتوقف النظر فيه على تظلم أربابه. ولا ينتزع من يد غاصبه إلا بأحد أمور أربعة: وهي اعتراف الغاصب وإقراره أو علم والي المظالم بها، أو بينة تشهد بالغصب، أو تظاهر الأخبار، أي التسامع الذي ينفي عنها التواطؤ ولا يختلج فيها الشك.
سادسا ـ الإشراف على شؤون الأوقاف
سادساً ـ الإشراف على شؤون الأوقاف وهي نوعان: أـ أوقاف عامة على مصالح عامة كالمساجد والمدارس ونحوها. وهذه ينظر في شأنها، وإن لم يكن فيها متظلم، ليصرف ريعها في سبلها، وينفذ شروط واقفها إذا عرفها من أحد ثلاثة أوجه: إما من دواوين المندوبين لحراسةالأحكام، وإما من دواوين السلطنة، وإما من كتب فيها قديمة يترجح ظن صحتها، وإن لم يشهد الشهود بها. ب ـ أوقاف خاصة: وهي الموقوفة على أشخاص معينين. فلا ينظر في منازعاتها إلا بتظلم مستحقيها، ولا يحكم بها إلا بطرق الإثبات العادية المقررة شرعاً. سابعاً ـ تنفيذ أحكام القضاة التي عجزوا عن تنفيذها، لتعزز المحكوم عليه وقوة يده، أو لعلو قدره وعظيم خطره. ثامناً ـ النظر فيما عجز عنه ناظرو الحسبة في المصالح العامة كالمجاهرة بمنكر ضعف عن دفعه، والتعدي في طريق عجز عن منعه، والتحيف في حق لم يقدر على رده. تاسعاً ـ مراعاة العبادات الظاهرة كالجُمَع والأعياد والحج والجهاد، من تقصير فيها، وإخلال بشروطها، فإن حقوق الله أولى أن تستوفى، وفروضه أحق أن تؤدى. عاشراً ـ النظر بين المتشاجرين، والحكم بين المتنازعين، فلا يخرج في النظر بينهم عن موجب الحق ومقتضاه، ولا يسوغ أن يحكم بينهم إلا بما يحكم بها الحكام والقضاة. رابعاً ـ الفرق بين نظر المظالم ونظر القضاة: قد يثور التساؤل في تحديد جهة المحكمة المختصة بنظر النزاع، هل ديوان المظالم أو القضاء العادي، مما يدعو إلى توضيح الفروق بينهما وهي عشرة كما أبان الماوردي (¬1): 1 - لناظر المظالم من فضل الهيبة وقوة اليد ما ليس للقضاة في ردع الخصوم ومنع الظلمة من التسلط. 2 - ناظر المظالم أفسح مجالاً وأوسع مقالاً. 3 - سلطات ناظر المظالم أوسع في التحقيق والاستدلال وطرق الإثبات المعتمدة على القرائن والأمارات وشواهد الأحوال. 4 - لناظر المظالم أن يقابل من ظهر ظلمه بالتأديب، ويأخذ من بان عدوانه بالتقويم والتهذيب. 5 - له الحق في التأني والتأجيل عند الاشتباه والإبهام ما ليس للحكام إذا طلب منهم أحد الخصمين فصل الحكم وإصدار القرار. 6 - له رد الخصوم لفصل التنازع صلحاً عن تراض، وليس للقاضي الرد إلا إذا رضي الخصمان. 7 - له أن يفسح في ملازمة الخصمين إذا وضحت أمارات التجاحد، ويأذن بالكفالة فيما يسوغ فيه التكفل لينقاد الخصوم إلى التناصف ويعدلوا عن التجاحد والتكاذب. 8 - له أن يسمع من شهادات المستورين ما يخرج عن عرف القضاة في شهادة المعدلين. 9 - له إحلاف الشهود عند إرتيابه بهم، ويستكثر من عددهم ليزول عنه الشك، وينفي عنه الارتياب، وليس ذلك للحاكم العادي. 10 - له أن يبدأ باستدعاء الشهود، ويسألهم عما عندهم من تنازع الخصوم. وأما عادة القضاة فهي تكليف المدعي إحضار بينة، ولا يسمعونها إلا بعد مسألته وطلبه. وفيما عدا هذه الأمور العشرة هما متساويان. المبحث الخامس ـ نظام الحسبة أو ولاية الحسبة في الإدارة الإسلامية: تمهيد في تاريخ الحسبة: ظهر في العهود الإسلامية الأولى نظام الحسبة إلى جانب نظام القضاء العادي وولاية المظالم، وكان ذلك أحد أنظمة الإدارة الإسلامية الأصلية المنبثقة عن نظام ¬
أولا ـ حقيقة الحسبة
الخلافة التي هي في الحقيقة نيابة عن صاحب الشرع في حفظ الدين وسياسة الدنيا. ذكر ابن خلدون في مقدمته: أن الخطط الدينية الشرعية، من إمامة الصلاة، والفتيا، والقضاء، والجهاد والحسبة، كلها مندرجة تحت الإمامة الكبرى التي هي الخلافة، فكأنها الإمام الكبير، والأصل الجامع، وهذه كلها متفرعة عنها، وداخلة فيها لعموم نظر الخلافة، وتصرفها في سائر أحوال الملة الدينية والدنيوية، وتنفيذ أحكام الشرع فيها على العموم (¬1). وهنا أفصل الكلام في ولاية الحسبة على النحو التالي: 1 - حقيقة الحسبة: وهي تشمل تعريف الحسبة وأساسها وغايتها، وقاعدتها وأصلها، وواضعها والفرق بين المحتسب والمتطوع وشروطها وآدابها. 2 - اختصاصات المحتسب. 3 - مقارنة أوموازنة بين ولاية الحسبة ونظام القضاء وولاية المظالم أو نظر المظالم. أولاً ـ حقيقة الحسبة: تتبين حقيقة الحسبة في توضيح الأمور التالية: 1 - تعريفها: الحسبة: هي أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا ¬
ظهر فعله (¬1). أو هي وظيفة دينية، من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي هو فرض على القائم بأمور المسلمين، يعيِّن لذلك من يراه أهلاً له، فيتعيَّن فرضه عليه، ويتخذ الأعوان على ذلك، ويبحث عن المنكرات، ويعزِّر، ويؤدِّب على قدرها، ويحمل الناس على المصالح العامة في المدينة، مثل المنع من المضايقة في الطرقات، ومنع الحمَّآلين وأهل السفن من الإكثار في الحمل، والحكم على أهل المباني المتداعية للسقوط بهدمها، وإزالة ما يتوقع من ضررها على السابلة (المارّة) (¬2). قال ابن القيم في كتاب الطرق الحكمية: وأما الحكم بين الناس فيما لا يتوقف على الدعوى، فهو المسمى بالحسبة، والمتولي له والي الحسبة. وقد جرت العادة بإفراد هذا النوع بولاية خاصة، كما أفردت ولاية المظالم بولاية خاصة، والمتولي لها يسمى والي المظالم، وولاية المال قبضاً وصرفاً بولاية خاصة والمتولي لذلك يسمى وزيراً، وناظر البلد لإحصاء المال وضبطه تسمى ولايته: ولاية استيفاء، والمتولي لاستخراجه وتحصيله ممن هو عليه تسمى ولايته ولا ية السِّر، والمتولي لفصل الخصومات وإثبات الحقوق، والحكم في الفروج والأنكحة والطلاق والنفقات، وصحة العقود وبطلانها: هو المخصوص باسم الحاكم والقاضي. وبه يتبين أن ولاية الحسبة: خاصتها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما ليس من خصائص الولاة والقضاة (¬3). يتبين من هذا أن الحسبة لا تتوقف على رفع الدعوى من أحد الخصوم، ¬
ويصح لأي واحد من الناس تبليغ المحتسب بوجود منكر في زمان أو مكان أو لدى شخص معين يقيم مثلاً علاقة غير مشروعة مع امرأة بسبب طلاقها، أو وجود رضاع مشترك بينه وبينها من أم واحدة، أو تعايش معها دون وجود عقد زواج صحيح يربط بينهما. كما أن للمحتسب أن يتصدى بنفسه لأمر بمعروف أو منع منكر واقع دون انتظار دعوى مرفوعة من شخص ما. وتكون الحسبة على هذا النحو متعلقة بالنظام العام والآداب، وقد تتعلق بالجنايات أحياناً مما يحتاج إلى سرعة في الفصل فيه، من أجل حماية القيم الإنسانية أو الدينية وتكوين المجتمع الفاضل، فهي إذن ضرورة اجتماعية لا بد منها تمثِّل المجتمع وقيمه، وهي أسبق إلى معرفة ما يسمى في العصر الحديث بنظرية الدفاع الاجتماعي ضد الجريمة، إذ لهاجانبان: إيجابي وسلبي، تقمع الجريمة وتطارد المجرمين من المجتمع دون حاجة لادعاء شخصي، وتقوم بدور الوقاية من الجرائم قبل وقوعها، بالترغيب في فعل المعروف، والترهيب من ارتكاب الفواحش والمنكرات التي تؤدي إلى الإخلال بأمن الجماعة واستقرارها، والحفاظ على الأعراض والحرمات. قال ابن خلدون: ولا يتوقف حكم المحتسب على تنازع أو استعداء (أي ادعاء) بل له النظر والحُكم فيما يصل إلى علمه من المنكرات ويرفع إليه، وليس له إمضاء الحكم في الدعاوى مطلقاً، بل فيما يتعلق بالغش والتدليس (إخفاء العيوب بحيلة) في المعايش وغيرها في المكاييل والموازين، وله أيضاً حمل المماطلين على الإنصاف، وأمثال ذلك مما ليس فيه سماع بيِّنة ولا إنفاذ حكم، وكأنها أحكام يُنزَّه القاضي عنها لعمومها وسهولة أغراضها، فتدفع إلى صاحب هذه الوظيفة ليقوم بها، فوضعها على ذلك أن تكون خادمة لمنصب القضاء.
2 - أساسها
وقد كانت في كثير من الدول الإسلامية، مثل العبيديين بمصر، والمغرب، والأمويين بالأندلس داخلةً في عموم ولاية القاضي، يولّي فيها باختياره. ثم لما انفردت وظيفة السلطان عن الخلافة، وصار نظره عاماً في أمور السياسة، اندرجت في وظائف الملك وأفردت بالولاية (¬1). 2 - أساسها: أساس الحسبة: قول الله تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون} [آل عمران:104/ 3] وقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «من غشنا فليس منا» (¬2) فهي من قواعد الأمور الدينية، وهي ولاية دينية ناشئة من فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 3 - غايتها: غايتها أو مقصودها مثل مقصود جميع الولايات في الإسلام: أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، بتحقيق العبودية لله، والقيام بواجب عبادة الله، وعبادته تكون بطاعته وطاعة رسوله، وذلك هو الخير والبر والتقوى، والحسنات والقربات، والباقيات الصالحات، والعمل الصالح، وهذه مظاهر إيجابية المسلم، ليظل نقياً بنفسه، طاهراً مطهراً من شوائب الانحراف، وجميع الحسنات لا بد فيها من شيئين: أن يراد بها وجه الله، وأن تكون موافقة للشريعة قولاً وعملاً، كلاماً طيباً وعملاً صالحاً. والطاعة تتطلب أيضاً في شطرها الثاني: البعد عن المعاصي أو الجرائم والفواحش والمنكرات، لأن نقاوة المجتمع ونظافته لا تتوافر إلا بالإقلاع عن هذه الأمور، وذلك مظهر مدني وحضاري رفيع، كما أن للمعاصي انعكاسات سيئة على الفرد والجماعة، لأن الله تعالى أبان لنا بنحو واضح أن المعاصي سبب ¬
4 - واضعها
المصائب، فالمصيبة والجزاء من سيئات الأعمال، والطاعة سبب النعمة، وإحسان العمل سبب لإحسان الله، قال الله تعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم، ويعفو عن كثير} [الشورى:30/ 42] وقال تعالى: {ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك} [النساء:4/ 79] وأخبر سبحانه بما عاقب به في الدنيا أهل السيئات من الأمم، كقوم نوح وعاد وثمود، وقوم لوط وأصحاب مدين، وقوم فرعون، وأخبر أيضاً بما يعاقبهم به في الآخرة (¬1). ولهذا كانت الولاية لمن يتخذها ديناً يتقرب به إلى الله، ويفعل فيها الواجب بحسب الإمكان: من أفضل الأعمال الصالحة، حتى قد روى الإمام أحمد في مسنده عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إن أحب الخلق إلى الله إمام عادل، وأبغض الخلق إلى الله إمام جائر» (¬2). 4 - واضعها: واضع نظام الحسبة تنفيذاً لواجب أو مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المقرر في الإسلام وشرعه: هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإنه كان يقوم بنفسه بمراقبة أحوال السوق لمنع الغش ويتعسس في الليل لتفقد أحوال المسلمين ومقاومة الظلمة والمنحرفين وتعقب المجرمين. ولكن عرفت التسمية في عهد الخليفة العباسي (¬3): 5 - قاعدتها: قاعدة الحسبة وأصلها: هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، ووصف به هذه الأمة، وفضّلها لأجله ¬
6 - الفرق بين المحتسب والمتطوع
على سائرالأمم التي أخرجت للناس، وهذا واجب على كل مسلم قادر، وهو فرض كفاية، ويصير فرض عين على القادر الذي لم يقم به غيره من ذوي الولاية والسلطان، فعليهم من الوجوب ما ليس على غيرهم، فإن مناط الوجوب: هو القدرة، فيجب على القادر ما لا يجب على العاجز، قال الله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن:16/ 64] (¬1). 6 - الفرق بين المحتسب والمتطوع: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن كان واجباً عاماً على كل مسلم قادر، كما تقدم، غير أن هناك فرقاً بين المحتسب والمتطوع من تسعة أوجه ذكرها الماوردي (¬2)، ويمكن إيجازها فيما يأتي: أحدها ـ الحسبة فرض عين على المحتسب بحكم ولايته أو وظيفته المأجورة، فلا يجوز أن يتشاغل عنه، وفرض كفاية على غيره من المسلمين، فهي من نوافل عمله الذي يجوز أن يتشاغل عنه. الثاني ـ المحتسب مخصص للادعاء فيما يجب إنكاره، وعليه إجابة المدعي المستعدي، وأما غيره فليس مخصصاً لهذا، ولا يلزمه إجابة المستعدي. الثالث ـ على المحتسب أن يبحث عن المنكرات الظاهرة لينكرها على فاعلها، ويفحص عما ترك من المعروف الظاهر ليأمر بإقامته، وليس على المتطوع بحث ولا فحص. الرابع ـ للمحتسب أن يتخذ أعواناً على إنكاره، وله أن يعزِّر في المنكرات الظاهرة وله رزق من بيت المال، وليس للمتطوع ذلك. ¬
7 - شروطها وآدابها
الخامس ـ للمحتسب الاجتهاد فيما يتعلق بالعرف دون الشرع، كالقعود في الأسواق، وإخراج الأجنحة (القواعد البارزة) في الشوارع وليس هذا للمتطوع. 7 - شروطها وآدابها: يشترط في والي الحسبة: أن يكون حراً، عدلاً، ذا رأي وصراحة وخشونة في الدين، وعلم بالمنكرات الظاهرة، وهذه الضوابط توفر له الهيبة، وتعينه على قمع المنكر، وتجعله نافذ الكلمة، مسموع القول، لا مكان للجدال فيما يأمر به أو ينهى عنه، لأن المهم تحقيق الغاية من وجوده، وإظهار حرمة الشرع، وشيوع الفضيلة، واحترام الأخلاق والآداب العامة. واختلف الفقهاء وعلماء الأصول في اشتراط كونه من أهل الاجتهاد على قولين، فقال بعضهم وهو أبو سعيد الاصطخري: يشترط، وله بالتالي إلزام الناس برأيه واجتهاده، وقال الأكثرون: لا يشترط، فليس له إلزام الناس برأيه ومذهبه الاجتهادي فيما لا نص صريح فيه. وعلى هذا يجوز في الراجح أن يكون المحتسب من غير أهل الاجتهاد إذا كان عارفاً بالمنكرات المتفق على تحريمها. ولابد للمحتسب من الرفق في أموره كلها، كما قال النبي صلّى الله عليه وسلم ـ فيما رواه عبد ابن حميد والضياء عن أنس ـ «ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه» ولا بد أيضاً أن يكون حليماً صبوراً على الأذى، فإن لم يحلم ويصبر، كان مفسداً أكثر مما يصلح، كما قال لقمان لابنه: {وأمر بالمعروف وانه عن المنكر، واصبر على ما أصابك، إن ذلك من عزم الأمور} [لقمان:17/ 31] ويضم المحتسب إلى أمره ونهيه الإحسان إلى الغير إحساناً يحصل به مقصوده من حصول المحبوب واندفاع المكروه، فإن النفوس لا تصبر على المرّ إلا بنوع من الحلو (¬1). ¬
ثانيا ـ اختصاصات المحتسب
ثانياً ـ اختصاصات المحتسب: يتولى المحتسب وظائف لها صلة بالقضاء والمظالم والشرطة، فهو ينظر في المنازعات الظاهرة التي لاتحتاج إلى أدلة إثباتية، كدعاوى الغش والتدليس (إخفاء العيوب بحيلة) وتطفيف المكيال والميزان (بالزيادة له والنقص لغيره) فهو بهذا كالقاضي، ويؤدب مرتكبي المعاصي التي ترتكب جهراً أو تخل بآداب الإسلام، فهو بهذا كناظر المظالم. ويرعى النظام والآداب والأمن في الشوارع والأسواق مما لا تجوز مخالفته، فيكون بهذا كالشرطة أو النيابة العامة (¬1). وتنحصر اختصاصات المحتسب في أمرين: أحدهما ـ الأمر بالمعروف. والثاني ـ النهي عن المنكر (¬2). وذلك مما ليس من خصائص الولاة والقضاة وأهل الديوان ونحوهم. وكل ما يتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثلاثة أقسام: أحدها ـ حقوق الله تعالى: والمراد بحق الله تعالى: ما يتعلق به النفع العام للعالم من غير اختصاص بأحد، ويقابله الحق العام أو حق المجتمع في الاصطلاح القانوني الحديث، ويدخل فيه العبادات وحقوق الجماعة. وثانيها ـ حقوق العباد أو الآدميين: والمراد بحق العبد: ما يتعلق به مصلحة خاصة، كحق الملكية وحرمة مال الغير، ويقابله في عرفنا اليوم الحق الخاص. ¬
1 - الأمر بالمعروف
وثالثها ـ حقوق مشتركة بين الله والعباد: وهو ما اجتمع فيه حق الله وحق العبد، لكن يكون المراعى فيه إما مصالح العباد أو مصلحة المجتمع وإما مصلحة العبد، مثل حق القصاص في رأي الحنفية والمالكية، وحد القذف في رأي الحنفية، والغالب في القصاص حق العبد، والغالب في حد القذف حق الله تعالى، أي حق الجماعة. وأبيّن أقسام كل منهما لتتضح مهمة المحتسب. 1 - الأمر بالمعروف: المعروف: كل ما أمر به الشرع وارتضاه العقل السليم والأعراف الحميدة ويكون الأمر بالمعروف على النحو التالي: أـ ما يتعلق بحقوق الله الخالصة: وهو إما أن يخص الجماعة أو يخص الأفراد (أو الأشخاص). فأما ما يخص الجماعة: فيراقب المحتسب ترك الواجبات الدينية العامة، سواء أكانت من الشعائر، كإقامة الأذان للصلوات، وأداء صلاة الجمعة والجماعة في المساجد، أم من غير الشعائر، كترك فريضة الصيام والصلاة، فيأمر المقصرين بها، ويعاقب من لم يصل أولم يصم بالضرب والحبس. ويلاحظ أن اعتناء ولاة الأمور بإلزام الرعية بإقامة الصلاة: أهم من كل شيء فإنها عماد الدين، وأساسه وقاعدته، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكتب إلى عماله: «أن أهم أمركم عندي الصلاة، فمن حفظها وحافظ عليها، حفظ دينه، ومن ضيعها كان لماسواها أشد إضاعة».
2 - النهي عن المنكر
وأما ما يخص الأشخاص أو الأفراد: فهو زجر من يؤخر الصلاة عن وقتها بلا عذر شرعي. ب ـ ما يتعلق بحقوق العباد: وهو أيضاً نوعان: عام وخاص. فأما الحقوق العامة: فمثل تعطل مرافق البلد العامة من شِرْب وتهدم أسوار ومساجد، ومراعاة بني السبيل، فيأمر بتأمين هذه المرافق وإشباعها إما من بيت المال، أو من أغنياء المسلمين عند عجز بيت المال. وأما الحقوق الخاصة: فمثل المماطلة في أداء الحقوق والديون، وكفالة من تجب كفالته من الصغار، فيأمر المحتسب بأداء الحقوق عند القدرة واليسار، بشرط ادعاء المستحق لها عنده وإثبات حقه. وكذلك يأمر بالكفالة عند استيفاء شروطها. جـ ـ ما يتعلق بالحقوق المشتركة: كمطالبة الأولياء بإنكاح الأيامى (غير المتزوجات) من أكفائهن إذا طلبن، وإلزام النساء أحكام العِدَد إذا فورقن، وللمحتسب تأديب من خالف في العدة من النساء، وليس له تأديب من امتنع من الأولياء من تزويج الأيامى. وتكليف أرباب البهائم بإطعامها، وألا يستعملوها فيما لا تطيق. وإلزام من التقط لقيطاً بحقوقه أو تسليمه لمن يقوم بها ويلتزمها، وتضمينه الضالة بالتقصير في رعايتها أو تسليمها إلى غيره، وعدم ضمان اللقيط إذا هلك أو سلمه لغيره. 2 - النهي عن المنكر: أـ ما يتعلق بحقوق الله تعالى، وتقسم ثلاثة أقسام: الأول ـ العبادات: ينكر المحتسب الإخلال بشروط الصلاة وآدابها وطهارتها الشرعية، ويؤدب المعاند فيها. ويردع المفطرين في رمضان بغير عذر شرعي من
سفر أو مرض، وينكر المجاهرة بالإفطار لئلا يعرض المفطر نفسه للتهمة، ولئلا يقتدي به من ذوي الجهالة ممن لا يقدر العذر. ويجبي الزكاة جبراً من الممتنع عن أدائها من الأموال الظاهرة، ويعزره على الخيانة بغير عذر. وينكر على المقصر بأداء الزكاة عن الأموال الباطنة، ويؤدبه إن ثبت تقصيره. كذلك ينكر التسول (السؤال) من غير حاجة، ويؤدب الغني بمال أو عمل، وينكر أيضاً تصدي الجهلة لإفتاء الناس بعلم الشرع، ويمنعهم من ذلك منعاً من التغرير والفتنة والإيقاع في الضلالة. الثاني ـ المحظورات: وهي التي نهى عنها الله ورسوله. ووظيفة المحتسب: أن يمنع الناس من مواقف الريب ومظان التهمة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» (¬1) فيقدم الإنكار ولا يعجل بالتأديب، مثل اختلاط النساء بالرجال في المساجد والطرقات والأماكن العامة. والمجاهرة بإظهار الخمر والمسكرات، أو الملاهي المحرمة، فيريق المسكرات على المسلم، ويؤدب الذمي على إظهارها، ويفك أدوات الملاهي حتى تصير خشباً، ويؤدب المجاهر بها، ولا يكسرها إن صلح خشبها للانتفاع به لغير الملاهي. وأما ما لم يظهر من المحظورات فليس للمحتسب أن يتجسس عنها، ولا أن يهتك الأستار حذراً من الاستتار بها، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «من أتى من هذه القاذورات شيئاً، فليستتر بستر الله، فإن من يبد لنا صفحته، نقم حد الله تعالى عليه» (¬2). ¬
الثالث ـ المعاملات المنكرة: كالربا وعقود الميسر والبيوع الفاسدة وما منع الشرع منه، كالغش والتدليس في الصناعات والبياعات، وبخس الكيل والميزان، والخيانة. وعلى المحتسب إنكاره والمنع منه والزجر عليه والتأديب عليه بحسب الأحوال إذا كان متفقاً على حظره. وأما المختلف فيه بين الفقهاء بالحظر والإباحة، فلا دخل له في إنكاره. وتعد عقود الزواج المحرَّمة في معنى المعاملات الممنوعة. ب ـ وأما حقوق الآدميين المحضة، كتعديات الجيران فيما بينهم، بتجاوز حد الجار أو حريم داره، أو تركيب الجذوع على جداره، أو تدلي أغصان الشجرة على دار الجار، ونحو ذلك مما يسمى (التعسف في استعمال الحق) فليس للمحتسب النظر فيها إلا بادعاء شخصي من الجار. وأما أهل الصنائع: فيقر المحتسب المتقن لها، كالطبيب والمعلم أو الأمين كالصانع والحائك والقصار والصباغ، أو المجيد كالنجار والحذَّآء، وينكر على المقصر أو الخائن أو الرديء. جـ ـ ما يتعلق بالحقوق المشتركة: كالمنع من الإشراف على منازل الناس، ومنع أئمة المساجد من إطالة الصلاة حتى يعجز عنها الضعفاء، وينقطع عنها ذوو الحاجات، وتنبيه القضاة الذين يحجبون المتخاصمين من التحاكم بلا عذر مشروع، ومنع أرباب المواشي من استعمالها فيما لا تطيق الدوام عليه، ومنع أصحاب السفن من حمل ما لا تسعه ويخاف من غرقها، ومن السير عند اشتداد الريح، ومن اختلاط الرجال بالنساء فيها، ووضع حائل (حاجز) بينهم. ويراقب المحتسب الأسواق والطرقات العامة، فيمنع إقامة المباني فيها، ويأمر بهدم ما بني، ولو كان المبني مسجداً، لأن مرافق الطرق للسير لا للأبنية. ويمنع
أيضاً وضع الأمتعة وآلات البناء فيها، كما يمنع إخراج الأجنحة والأسبطة ومجاري المياه والآبار الملحية ونحوها إذا أضرت بالناس. وله منع نقل الموتى من قبورهم حتى لا تنتهك حرماتهم، ويمنع من خصاء البهائم والآدميين ويؤدب عليه، ومن التكسب بالكهانة واللهو، ويؤدب عليه الآخذ والمعطي ونحوها من المنكرات. ويمنع المحتسب سائر الحيل المحرمة على أكل الربا، وهي ثلاثة أنواع (¬1): أحدها: ما يكون من واحد، كما إذا باعه سلعة بنسيئة، ثم اشتراها منه بأقل من ثمنها نقداً، حيلة على الربا. وثانيها: ما تكون ثنائية: وهي أن تكون من اثنين، مثل أن يجمع إلى القرض بيعاً أو إجارة أو مساقاة أو مزارعة ونحو ذلك، وقد ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك» قال الترمذي: حديث صحيح. وثالثها: ما تكون ثلاثية: وهي أن يدخلا بينهما محللاً للربا، فيشتري السلعة من آكل الربا، ثم يبيعها لمعطي الربا إلى أجل، ثم يعيدها إلى صاحبها بنقص دراهم يستعيدها المحلل. ومن المنكرات: تلقي السلع قبل أن تجيء إلى السوق، فإن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، لما فيه من تغرير البائع، فإنه لا يعرف السعر، فيشتري منه المشتري، بدون القيمة، ولذلك أثبت له النبي صلّى الله عليه وسلم الخيار إذا دخل إلى السوق (¬2). وفي الحديث: «غبن المسترسل ربا» (¬3) والمسترسل: هو الذي لا يعرف قيمة السلعة. ¬
ويمنع المحتسب الاحتكار لما يحتاج إليه الناس، روى مسلم عن معمر بن عبد الله العدوي: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يحتكر إلا خاطئ» فإن المحتكر الذي يعمد إلى شراء ما يحتاج إليه الناس من الطعام، فيحبسه عنهم، ويريد إغلاءه عليهم هو ظالم لعموم الناس. ولهذا كان لولي الأمر أن يكره المحتكرين على بيع ما عندهم بقيمة المثل، عند ضرورة الناس إليه (¬1). وأما التسعير: فمنه ما هو ظلم محرم، ومنه ما هو عدل جائز (¬2). فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه، أو منعهم مما أباح الله لهم، فهو حرام. وإذا تضمن العدل بين الناس، مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ الزيادة على عوض المثل، فهو جائز، بل واجب، لما فيه من إلزامهم بالعدل، ومنعهم من الظلم. وعلى ولي الأمر توزيع نسب الإنتاج بحسب المصلحة، من زراعة وصناعة وتجارة وبناء وغيرها، لأن توفير الحاجيات أمر مطلوب شرعاً، وتعلم الصناعات فرض على الكفاية، فلولي الأمر أن يلزم الناس بما يحقق الحاجة بأجرة المثل، فإنه لا تتم مصلحة الناس إلا بذلك. والقاعدة العامة في هذا كما ذكر ابن تيمية في الحسبة: أنه إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات، أو تزاحمت، فإنه يجب ترجيح الراجح ¬
ثالثا ـ مقارنة بين الحسبة والقضاء وولاية المظالم
منها. لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها، وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر (¬1). ثالثاً ـ مقارنة بين الحسبة والقضاء وولاية المظالم: تشترك هذه الوظائف العامة الثلاث في مهمة القضاء بالمعنى العام، لكن وظيفة المظالم أعلاها، ثم رتبة القضاء العادي، ثم ولاية الحسبة. أوضح الماوردي أوجه الشبه والاختلاف بين هذه الوظائف (¬2). 1 - المقارنة بين الحسبة والقضاء العادي: هناك أوجه شبه واختلاف بينهما. فأما أوجه الشبه فمحصورة في أمرين: الأول ـ جواز الاستعداء (الادعاء الشخصي) إلى المحتسب والقاضي، وسماع كل منهما دعوى المستعدي (المدعي) في حقوق الآدميين ضمن أنواع ثلاثة من الدعاوى فيها، وهي المتعلقة بالبخس والتطفيف في الكيل والوزن، أو بالغش والتدليس في المبيع أو الثمن، أوبالمطل والتأخير في الحقوق والديون مع القدرة. والسبب في انحصار اختصاصه بهذه الدعاوى الثلاث دون ما عداها: هو تعلقها بمنكر ظاهر يختص بإزالته، لأن موضوع الحسبة إلزام الحقوق والمعونة على استيفائها، وليس للناظر فيها أن يتجاوز ذلك إلى الحكم الناجز والفصل البات. والثاني ـ للمحتسب كما للقاضي إلزام المدعى عليه بوفاء الحقوق التي يجوز ¬
2 - المقارنة بين الحسبة وولاية المظالم
له سماع الدعوى فيها، متى ثبت ذلك باعتراف وإقرار، وكان في وسعه الوفاء بها لتمكنه وإيساره، لأن في تأخير أدائها منكراً هو منصوب لإزالته. وأما أوجه الخلاف فهي أربعة: الأول ـ ليس للمحتسب سماع الدعاوى الخارجة عن ظواهر المنكرات في العقود والمعاملات وسائر الحقوق والمطالبات، فهي من اختصاص القضاء. الثاني ـ تقتصر الدعاوى التي يسمعها المحتسب على الحقوق المعترف بها، فأما ما يتداخله التجاحد والتناكر، فلا يجوز له النظر فيه، لأن الحاكم فيها يحتاج إلى سماع بيِّنة وإحلاف يمين، ولا يجوز للمحتسب أن يسمع بيِّنة على إثبات الحق، ولا أن يحلف يميناً على نفي الحق. وهذان الوجهان يدلان على أن الحسبة أدنى رتبة من القضاء. الثالث ـ للمحتسب أن ينظر فيما يختص به دون حاجة إلى مدّعٍ متظلم. أما القاضي فلا يحق له النظر في نزاع من دون ادعاء أو شكوى. الرابع ـ عمل المحتسب يتسم بالشدة والسلاطة والقسوة، لأن الحسبة موضوعة للرهبة. وأما عمل القاضي فيتسم بالحلم والأناة والوقار، لأن القضاء موضوع للمناصفة. وهذان الوجهان يدلان على أن الحسبة تزيد رتبة عن القضاء. 2 - المقارنة بين الحسبة وولاية المظالم: هناك أيضاً نواحي شبه واختلاف بين هذين النظامين. أما أوجه الشبه فهي:
الأول ـ موضوعهما يعتمد على الرهبة وقوة الصرامة المختصة بالسلطنة. الثاني ـ للقائم بهما النظر في حدود اختصاصه من دون حاجة إلى متظلم. وأما أوجه الاختلاف فهي: الأول ـ النظر في المظالم موضوع لما عجز عنه القضاة، والنظر في الحسبة موضوع لما لاحاجة لعرضه على القضاء. الثاني ـ يجوز لوالي المظالم أن يحكم، ولا يجوز لوالي الحسبة أن يحكم. وهكذا يظهر أن المظالم والقضاء والحسبة يكمل بعضها بعضاً، وتؤدي غاية موحدة هي تحقيق العدل والإنصاف وحفظ الحقوق والأموال والدماء، وتطبيق أحكام الشرع المحققة لسعادة الناس في الدنيا والآخرة، وإقامة المجتمع الإنساني الفاضل. وليس للمحتسب تطبيق العقوبات الشرعية على ترك المعروف والواجبات وفعل المنكر والمحرمات سواء أكان حداً أم تعزيراً، فإن ذلك من اختصاص ولي الأمر، وتكون إقامة الحدود والتعازير، أي العقوبات على فعل محرم، أو ترك واجب على ولاة الأمور فقط، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يتم إلا بالعقوبات الشرعية، فإن «الله يزَع بالسلطان ما يزَع بالقرآن» أي يردع، والتعزير أجناس، فمنه ما يكون بالتوبيخ والزجر بالكلام، ومنه ما يكون بالحبس، ومنه ما يكون بالنفي عن الوطن، ومنه ما يكون بالضرب. والتعزير بالعقوبات المالية مشروع أيضاً في مواضع مخصوصة في مذهب مالك في المشهور عنه، ومذهب أحمد في مواضع، وأحد قولي الشافعي (¬1). ¬
المبحث السادس ـ أصول التقاضي
والثواب والعقاب يكونان من جنس العمل في قدر الله وفي شرعه، فإن هذا من العدل الذي تقوم به السماء والأرض، كما قال الله تعالى: {إن تبدوا خيراً أو تخفوه أو تعفوا عن سوء، فإن الله كان عفواً قديراً} [النساء:4/ 149] (¬1) {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين} [النحل:126/ 16] {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم، واتقوا الله، واعلموا أن الله مع المتقين} [البقرة:194/ 2]. المبحث السادس ـ أصول التقاضي تتجلى الصورة العملية للتقاضي في مراحل ثلاث: وهي الدعوى، وطرق الإثبات، والحكم النهائي. فبها يمكن التوصل للحقوق وحسم النزاع واستقرار الأوضاع الحقوقية وإنهاء العدوان. المرحلة الأولى ـ الدعوى: تعريفها، مشروعيتها، شرائطها، نوعاها، نطاقها، حكمها. الدعوى: هي إخبار بحق لإنسان على غيره عند الحاكم (¬2). أو هي قول مقبول عند القاضي يقصد به صاحبه طلب حق له عند غيره، أو حمايته وإلزامه به. بأن يقول مثلاً: لي على فلان كذا، أو قضيت حق فلان، أو أبرأني عن حقه، ونحوها. وهي الوسيلة القضائية المشروعة لطلب الحق، إذ لا يجوز شرعاً للمحق ممارسة أي فعل يؤدي إلى الاعتداء على شخص المدعى عليه، منعاً للفوضى واستئصالاً للمنازعات، واستمرار التعديات، وإماتة الحقوق، ففي امتداد وجود ¬
اشترط فقهاء الحنفية لقبول الدعوى
الخصومة والمنازعة فساد كبير، والله تعالى لا يحب الفساد (¬1). والأصل في مشروعيتها قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم، ودماءهم، لكن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر» (¬2). واشترط فقهاء الحنفية لقبول الدعوى الشرائط الآتية (¬3): أولاً ـ أهلية العقل أو التمييز: يشترط أن يكون المدعي والمدعى عليه عاقلين، فلا تصح دعوى المجنون والصبي غير المميز، كما لا تصح الدعوى عليهما، فلا يلزمان بالإجابة على دعوى الغير عليهما، ولا تسمع البينة عليهما. ويشترط توافر صفة البلوغ لممارسة أي حق عند غير الحنفية، أما القاصر فيمارس الدعوى عنه وليه. ثانياً ـ أن تكون الدعوى في مجلس القضاء؛ لأن الدعوى لا تصح في غير هذا المجلس، أي المحكمة. ثالثاً ـ أن تكون دعوى المدعي على خصم حاضر لدى القاضي عند سماع الدعوى والبينة والقضاء، فلا تقبل الدعوى على غائب، كما لا يقضى على غائب عند الحنفية، سواء أكان غائباً وقت الشهادة أم بعدها، وسواء أكان غائباً في مجلس القضاء، أم عن البلد التي فيها القاضي، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «فإنما أقضي له بحسب ما أسمع» (¬4) وقوله لعلي حين أرسله إلى اليمن:: «لا تقض لأحد الخصمين حتى تسمع من الآخر» (¬5). ¬
وقال غير الحنفية: يجوز القضاء على الغائب إذا أقام المدعي البينة على صحة دعواه، وذلك في الحقوق المدنية، لا في الحدود الخالصة لله تعالى (¬1) لأنها مبنية على المسامحة والدرء والإسقاط، لاستغنائه تعالى، بخلاف حق الإنسان الخاص. رابعاً: أن يكون المدعى به شيئاً معلوماً: وذلك إما بالإشارة إليه عند القاضي إذا كان الشيء من المنقولات، أو ببيان حدوده إذا كان قابلاً للتحديد، كالأراضي والدور وسائر العقارات، أو بذكر رقم محضر السجل العقاري في التنظيم الحديث الذي يستغنى به عن الحدود والأوصاف في الماضي، أو بكشف يجريه القاضي أو من ينوب عنه إذا لم يكن المدعى به قابلاً للتحديد كحجر الرحى (الطاحونة)، أو ببيان جنسه ونوعه وقدره وصفته إذا كان المدعى به ديناً كالنقود والحبوب؛ لأن الدين لا يصير معلوماً إلا ببيان هذه الأمور. والسبب في اشتراط هذا الشرط، أي العلم بالمدعى به: هو أن المدعى عليه لا يلزم بإجابة دعوى المدعي إلا بعد معرفة المدعى به، وكذلك الشهود لا يمكنهم الشهادة على مجهول، ثم إن القاضي لا يتمكن من إصدار الحكم أو القضاء بالدعوى إلا إذا كان المدعى به شيئاً معلوماً. خامساً: أن يكون موضوع الدعوى أمراً يمكن إلزام المدعى عليه به، أي أن يكون الطلب مشروعاً ملزماً في مفهومنا الحاضر. فإذا لم يكن بالإمكان إلزام المدعى عليه بشيء، فلا تقبل الدعوى، كأن يدعي إنسان أنه وكيل هذا الخصم الحاضر عند القاضي في أمر من أموره، أو يدعي على شخص بطلب صدقة، أو بتنفيذ مقتضى عقد باطل، فإن القاضي لا يسمع دعواه هذه إذا أنكر الخصم ذلك؛ ¬
الدعوى نوعين
لأن الوكالة عقد غير لازم للموكل، فيمكنه عزل مدعي الوكالة في الحال. ولأن التبرع لا يلزم عليه الإنسان، وبطلان العقد لا يوجب على العاقد تنفيذ أي التزام ينشئه العقد الصحيح. سادساً: أن يكون المدعى به مما يحتمل الثبوت: لأن دعوى ما يستحيل وجوده حقيقة أو عادة، تكون دعوى كاذبة، فلو قال شخص لمن هو أكبر منه سناً: هذا ابني، لا تسمع دعواه؛ لاستحالة أن يكون الأكبر سناً ابناً لمن هو أصغر منه سناً. وكذا إذا قال لمعروف النسب من الغير: هذا ابني، لا تسمع دعواه. وبناء عليه تكون الدعوى نوعين: دعوى صحيحة مقبولة، ودعوى فاسدة مرفوضة. ف الدعوى المقبولة: هي التي استكملت شرائط الصحة المتقدمة، ويتعلق بها أحكامها المقصودة منها: وهي إلزام الخصم الحضور إلى ساحة المحكمة بواسطة أعوان القاضي، وإجابته دعوى المدعي، واليمين إذا أنكر المدعى به. ويثبت فيها حق المدعي بطرق الإثبات المشروعة، كالبينة (وهي الشهادة أي الإخبار في مجلس القضاء بحق شخصي على غيره)، ونحوها من اليمين والقرينة. والدعوى المرفوضة أو الفاسدة الباطلة: هي التي لم يتوافر فيها شرط من شروط القبول المذكورة آنفاً، ولا تترتب عليها الأحكام السابقة المقصودة من الادعاء، كأن يكون المدعى به مجهولاً؛ لأن المجهول يتعذر إثباته بالشهادة، فلا يمكن للشهود أن يشهدوا به، ولا يتمكن القاضي من القضاء بالمجهول. واستحسن بعض شراح مجلة الأحكام العدلية قسمة الدعوى ثلاثة أقسام: صحيحة وفاسدة وباطلة (¬1). الصحيحة: هي المستوفية جميع شرائطها وتتضمن ¬
تحديد من هو المدعي والمدعى عليه
طلباً مشروعاً، كطلب ثمن مبيع أو استرداد مغصوب. والفاسدة: هي المستوفية شرائطها الأساسية ولكن ينقصها بعض النواحي الفرعية كجهالة المدعى به، فلا يردها القاضي فوراً، وإنما يكلف المدعي أولاً تصحيحها بتحديد مدعاه. والدعوى الباطلة: هي غير المشروعة في أصلها كادعاء طلب صدقة من أحد، أو طلب تنفيذ عقد باطل، أو إيفاد دين؛ لأنه من جيران المدين. وهذه لا يترتب عليها حكم، بل يردها القاضي فوراً لعدم إمكان إصلاحها. وتحديد من هو المدعي والمدعى عليه أمر ضروري في الإسلام، لمعرفة المكلف بالبينة أو اليمين ونحوها. وقد عرِّف كل منهما بتعريفات شتى، منها أن المدعي: هو من لا يجبر على الخصومة إذا تركها؛ لأنه طالب. والمدعى عليه: من يجبر على الخصومة؛ لأنه مطلوب. أو المدعي: من يلتمس بقوله أخذ شيء من يد غيره، أو إثبات حق في ذمته. والمدعى عليه: من ينكر ذلك (¬1). وللدعوى أهمية كبرى بدليل اتفاق الفقهاء على أن استيفاء الحقوق وتوقيع العقوبات من قصاص وحدّ وتعزير لا يكون كقاعدة عامة إلا بواسطة الدعوى، ولا يستوفى الحق بغيرها وبغير القضاء إلا في أحوال استثنائية اضطرارية كالظفر بحق الدائن عند المدين المماطل. ويتحدد نطاق الدعوى فيما اتفق عليه الفقهاء كما يأتي: أولاً ـ الحسبة والمظالم: لا يشترط فيهما الادعاء، وإنما للمحتسب ووالي المظالم التصدي للنظر في النزاع بمجرد اطلاعه عليه. ثانياً ـ حقوق الله تعالى: وهي المتعلقة بمصلحة المجتمع كانتهاك الحرمات ¬
ثالثا ـ حقوق العباد (أي الأفراد) الشخصية
الدينية بالإفطار في نهار رمضان عمداً بغير عذر، والمجاهرة بالإلحاد، والإخلال بنظام الزواج شرعاً كزواج المسلمة بغير مسلم، والعقد على المحارم من النساء، والعشرة الزوجية بعد الطلاق البائن ثلاثاً، والعقد على المعتدة من طلاق أو وفاة. وارتكاب الجرائم الموجبة لحد يتعلق بحق الله المحض كالزنا وشرب الخمر ونحوهما. هذه الأمور يجوز للقاضي النظر في شأنها من تلقاء نفسه إذا علم بها، أو ادعى أي مسلم ولو لم يمسه الأمر شخصياً وإنما حسبة، كما تقدم في نظام الحسبة. ثالثاً ـ حقوق العباد (أي الأفراد) الشخصية: وهي التي تمس مصلحة شخصية للإنسان. وهذه لا يختص القاضي بالنظر فيها بدون ادعاء صاحب الحق؛ لأن القضاء وسيلة إلى الحق، وحق الإنسان لا يستوفى إلا بطلبه. وتشمل هذه الحقوق ما يأتي: أـ المعاملات والتصرفات المدنية من بيع وإيجار وشركة ونحوها. ب ـ أحكام الأسرة المالية كالنفقة والمهر والسكنى. وأما أحكام الأسرة غير المالية كادعاء النسب والبينونة والمحرمات والعشرة المحرمة، فلا يشترط فيها الدعوى. جـ ـ الجرائم والعقوبات التي فيها حق للعبد: كالقصاص والجروح وجرائم التعزير والقذف والسرقة والحرابة. وحكم الدعوى المقبولة: وجوب الجواب على المدعى عليه بقوله: لا، أو نعم. فلو سكت، كان ذلك منه إنكاراً، فتقبل بينة المدعي، ويحكم بها على المدعى عليه. فإذا أقر المدعى عليه بموضوع الدعوى، حكم القاضي عليه؛ لأنه غير
المرحلة الثانية ـ طرق إثبات الحق
متهم في إقراره على نفسه، ويؤمر بأداء الحق لصاحبه. وإن أنكر، طلب القاضي من المدعي إثبات حقه بالبينة، فإن أقام البينة قضى بها، لترجح جانب الصدق على الكذب بالبينة. وإن عجز المدعي عن تقدم البينة، وطلب يمين خصمه المدعى عليه، استحلفه القاضي (¬1)، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم في قصة خصمين: «ألك بينة؟ قال: لا، فقال النبي: فلك يمينه» أي يمين المدعى عليه (¬2). المرحلة الثانية ـ طرق إثبات الحق: إثبات الحق: هو إقامة الحجة أمام القضاء على الحق أو حدوث الواقعة. ولا يمكن للقاضي الفصل في أي خصومة أو قضية بمجرد الادعاء بدون إثبات بإحدى الوسائل الشرعية المتعددة وأهمها ما يأتي: 1ً - الشهادة: وهي شرعاً إخبار صادق لإثبات حق بلفظ الشهادة في مجلس القضاء. وهي حجة المدعي لقوله صلّى الله عليه وسلم: «البينة على المدعي» (¬3) وقوله أيضاً لمدعٍ: «شاهداك أو يمينه» (¬4). ونظام الشهادة محدد صراحة في القرآن الكريم: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} [البقرة:282/ 2] {وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق:2/ 65] {وأشهدوا إذا تبايعتم} [البقرة:282/ 2] {ولا يأب الشهداء ¬
شروط تحمل الشهادة
إذا ما دعوا} [البقرة:282/ 2] {ولا تكتموا الشهادة، ومن يكتمها فإنه آثم قلبه} [البقرة:283/ 2] {وأقيموا الشهادة لله} [الطلاق:2/ 65]. والبحث في الشهادة يطول، أكتفي هنا بتعداد أهم شروطها؛ لأن الفقهاء اشترطوا شروطاً لتحمل الشهادة وأدائها. أما شروط تحمل الشهادة فهي ثلاثة عند الحنفية (¬1). أولها ـ أن يكون الشاهد عاقلاً، أي مميزاً، فلا تصح شهادة المجنون والصبي غير المميز. ثانيها ـ أن يكون بصيراً وقت التحمل، فلا يصح التحمل من الأعمى بسبب اختلاط الأصوات عليه وجواز اشتباهها عليه. وأجاز الحنابلة (¬2) شهادة الأعمى فيما يسمع كالبيع والإجارة وغيرهما إذا عرف القاضي المتعاقدين وتيقن أنه كلامهما. ثالثها ـ معاينة المشهود به بنفسه، لا بغيره، إلا فيما تصح فيه الشهادة بالتسامع من الناس والاستفاضة، لقوله صلّى الله عليه وسلم للشاهد: «إذا علمت مثل الشمس فاشهد، وإلا فدع» (¬3) ولا يتم العلم مثل الشمس إلا بالمعاينة. وتصح الشهادة بالتسامع في النكاح، والنسب، والموت، ودخول الرجل على امرأته، وولاية القاضي، فللشاهد أن يشهد بهذه الأمور إذا أخبره بها من يثق به استحساناً؛ لأن هذه الأمور يختص بمعاينة أسبابها خواص الناس، ولو لم يقبل ¬
شروط أداء الشهادة
فيها الشهادة بالتسامع، لأدى الأمر إلى الحرج وتعطيل الأحكام. والتسامع: هو بأن يشتهر ذلك ويستفيض بين الناس، وتتواتر به الأخبار، بأن يخبر الشاهد رجلان عدلان أو رجل وامرأتان، ليحصل له نوع من العلم واليقين. وقال المالكية (¬1): تجوز شهادة التسامع في عشرين حالة: منها عزل قاض أو وال أووكيل، وكفر، وسفه، ونكاح، ونسب، ورضاع، وبيع، وهبة، ووصية. وأما شروط أداء الشهادة: فكثيرة، منها في نفس الشهادة (¬2): وهي أن تكون بلفظ الشهادة، وأن تكون موافقة للدعوى، ومنها في مكان الشهادة (¬3): وهي أن تكون في مجلس القضاء، ومنها فيما يخص بعض الشهادات (¬4): وهي التعدد، أي شهادة رجلين أو رجل وامرأتين في الحقوق المدنية والأموال كالبيع والإجارة ونحوهما. والاتفاق في الشهادة عند التعدد، فإن حدث اختلاف في جنس الشهادة كأن يشهد أحدهما بالبيع والآخر بالميراث أو في القدر كأن يشهد أحدهما بألفين، والآخر بألف، أو في الفعل كالقتل والغصب، رفضت الشهادة. ومنها وأهمها ما يشترط في الشاهد وهو سبعة شروط كما تقدم (¬5): أولها ـ أهلية العقل والبلوغ: فلا تقل شهادة المجنون والسكران والطفل. ثانيها ـ الحرية: فلا تصح شهادة الرقيق على الحر. ¬
ثالثها ـ الإسلام: فلا تقبل شهادة الكافر على مسلم؛ لأنه متهم في حقه، وأجاز الحنفية والحنبلية شهادة الكافر في الوصية في السفر، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية: اثنان ذوا عدل منكم، أو آخران من غيركم} [المائدة:106/ 5]. رابعها ـ البصر: فلا تقبل شهادة الأعمى عند أبي حنيفة ومحمد والشافعية، لأنه لا بد من معرفة المشهود له والإشارة إليه عند الشهادة، ولا يميز الأعمى ذلك إلا بنغمة الصوت، وفيها شبهة؛ لأن الأصوات تتشابه. وأجاز المالكية والحنابلة وأبو يوسف شهادة الأعمى إذا تيقن الصوت، لعموم الآيات الواردة في الشهادة، ولأن السمع أحد وسائط العلم. خامسها ـ النطق: فلا تقبل شهادة الأخرس عند الجمهور، وإن فهمت إشارته؛ لأن الشهادة تتطلب اليقين. وأجاز المالكية قبول شهادة الأخرس إذا فهمت إشارته؛ لأنها تقوم مقام نطقه في طلاقه ونكاحه. سادسها ـ العدالة: فلا تصح شهادة الفاسق باتفاق العلماء؛ لقوله تعالى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق:2/ 65]. سابعها ـ عدم التهمة: فترد شهادة المتهم بإجماع الفقهاء. والتهمة: أن يجلب الشاهد إلى المشهود له نفعاً أو ضرراً بسبب القرابة أو الخصومة أو العداوة، فلا تقبل شهادة الأب لابنه، أو الأم لابنها، ولا الخصم لخصمه كالوكيل والموصى عليه وهو اليتيم، ولا العدو على عدوه، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين» (¬1) «لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غِمْر ـ حقد ـ على أخيه، ولا تجوز شهادة القانع لأهل البيت» (¬2) والقانع: الذي ينفق على أهل البيت. ¬
2 - الإقرار
2 - الإقرار: وهو إخبار الشخص عن ثبوت حق للغير على نفسه. وهو إما أن يكون بلفظ صريح، مثل (لفلان علي ألف درهم) أو بلفظ ضمني، مثل: (لي عليك ألف درهم) فيقول المخاطب: (قد قضيتها) أو (أجلني بها) أو (أبرأتني منها). وقد اتفق الفقهاء (¬1) على صحة الإقرار بحق من الحر البالغ العاقل المختار غير المتهم في إقراره. وشروط الإقرار هي ما يأتي: أولها ـ أهلية العقل والبلوغ: فلا يصح إقرار المجنون والصبي غير البالغ، لقوله عليه الصلاة والسلام: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» (¬2). ثانيها ـ الطواعية أو الاختيار: فلا يصح إقرار المستكره، لقوله عليه الصلاة والسلام: «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (¬3). ثالثها ـ عدم التهمة: فإن اتهم المقر بملاطفة صديق أو نحوه بطل الإقرار. رابعها ـ أن يكون المقر معلوماً: فلو قال رجلان: «لفلان على واحد منا ألف درهم» لا يصح الإقرار، إذ لا فائدة من هذا الإقرار. والإقرار حجة قاصرة على المقر، لا يتعدى أثره إلى غيره، لقصور ولاية المقر على غيره، فيقتصر أثر الإقرار على المقر نفسه. ¬
- اليمين
3ً - اليمين: وهي الحلف بالله تعالى أمام القاضي لإثبات الحق أو الفعل، أو نفيهما. وهي حجة المدعى عليه، لقوله عليه الصلاة والسلام: «واليمين على المدعى عليه» (¬1)، فإن حلف المدعى عليه، قضى القاضي بفصل الدعوى، وتنتهي الخصومة بين طرفي الدعوى إلى أن يتمكن المدعي من إقامة البينة. واتفق الفقهاء على أن اليمين في الدعاوى تكون بحسب نية المستحلف (¬2)، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «اليمين على نية المستحلف» «يمينك على ما يصدقك به صاحبك» (¬3). كما أنهم اتفقوا على أن الشخص يحلف على البت (وهو القطع والجزم) في فعله إثباتاً كان أو نفياً؛ لأنه يعلم حال نفسه، ويطلع عليها، فيقول في البيع مثلاً حالة الإثبات: «والله لقد بعت بكذا» وفي حالة النفي: «والله ما بعت بكذا». 4ً - الكتابة: وهي إثبات الحق بواسطة دليل كتابي معد مسبقاً. وهي حجة باتفاق الفقهاء، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} [البقرة:282/ 2] والكتابة من قبيل الإقرار. وقد نص فقهاء الحنفية على أنه يعمل بدفتر السمار والصراف والبياع؛ لأن كل واحد من هؤلاء لا يكتب في دفتره إلا ماله وعليه (¬4). 5ً - القرائن: القرينة: هي كل أمارة ظاهرة تقارن شيئاً خفياً فتدل عليه. وهي تتفاوت في القوة والضعف، فقد تصل إلى درجة الدلالة القطعية، كالدخان فإنه قرينة قطعية على وجود النار. وقد تضعف حتى تصير مجرد احتمال. فإن ¬
- العلم الشخصي للقاضي نفسه
كانت القرينة قطعية كانت بينة نهائية كافية للقضاء، كما لو رئي شخص خارجاً من دار وهو مرتبك وفي يده سكين ملوث بالدم، ووجد في الدار شخص مضرج بدمائه، فيعتبر الخارج هو القاتل. وإذا كانت القرينة غير قطعية الدلالة والبيان، ولكنها ظنية أغلبية كالقرائن العرفية، فإن الفقهاء يعتمدونها دليلاً أولياً مرجحاً حجة الخصم مع يمينه، حتى يثبت خلافها بالبينة المعارضة. والقرائن تعتمد على ذكاء القاضي وفراسته واجتهاده بملاحظة الظروف المقارنة للواقعة، فلا يمكن حصرها وتحديدها. ومنها الفراسة والقيافة، ووضع اليد، ووصف اللقطة، واللوث في الدماء، ودلائل الأحوال (¬1). 6ً - العلم الشخصي للقاضي نفسه: إذا اطلع القاضي على الحادثة، فهل له القضاء بعلم نفسه؟ اختلف الفقهاء فيه. قال متقدمو الحنفية: يقضي القاضي بعلم نفسه، بالمعاينة أو بسماع الإقرار أو بمشاهدة الأحوال على النحو الآتي (¬2): له أن يقضي بعلم حدث له زمن القضاء وفي مكانه في الحقوق المدنية كالإقرار بمال لرجل، أو الحقوق الشخصية كطلاق رجل امرأته، أو في بعض الجرائم: وهي قذف رجل أو قتل إنسان. ولا يجوز قضاؤه بعلم نفسه في جرائم الحدود الخالصة لله عز وجل، إلا أن في السرقة يقضي بالمال، لا بحد القطع؛ لأن الحدود يحتاط في درئها، وليس من الاحتياط فيها الاكتفاء بعلم القاضي. ¬
الشافعية
فإن علم القاضي بالحادثة قبل أن يتسلم منصب القضاء، فلا يقضي به عند أبي حنيفة؛ لأن علمه حينئذ ليس في معنى البينة. ويقضي به في غير الحدود الخالصة لله عند الصاحبين، قياساً على جواز قضائه فيما علمه في زمن القضاء. وقال الشافعية (¬1) مثل الحنفية تقريباً: الأظهر أن القاضي يقضي بعلمه قبل ولايته أو في أثناء ولايته، أو في غير محل ولايته، سواء أكان في الواقعة بينة أم لا، إلا في حدود الله تعالى، فيقضي في الأموال، وفي القصاص وحد القذف، لأنه إذا حكم بما يفيد الظن وهو الشاهدان، فقضاؤه بعلمه أولى. وأما الحدود الخالصة لله كالزنا والسرقة والحرابة وشرب المسكر، فلا يقضي بعلمه فيها؛ لأنها تدرأ بالشبهات، ويندب سترها. وقال متأخرو الحنفية والشافعية: المفتى به عدم جواز قضاء القاضي بعلمه مطلقاً في زماننا لفساد قضاة الزمان. وقال المالكية والحنابلة (¬2): لا يقضي الحاكم بعلم نفسه في حد ولا غيره، لا فيما علمه قبل الولاية ولابعدها. ولكن يجوز له أن يقضي بما علمه في مجلس القضاء، بأن أقر الشخص بين يديه طائعاً. ودليلهم قوله صلّى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم: «إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن ـ أي أفطن ـ بحجته من بعض، فأقضي بنحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً، فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار» فدل على أنه يقضي بما يسمع، لا بما يعلم. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم في قضية الحضرمي والكندي السابقة: «شاهداك أو يمينه، ليس لك منه إلا ذاك». ¬
- الخبرة والمعاينة
7ً - الخبرة والمعاينة: الخبرة: هي الاعتماد على رأي المختصين في حقيقة النزاع بطلب القاضي. والمعاينة: هي الاعتماد على ما يشاهده القاضي بنفسه أو بنائبه من محل النزاع الذي يختصم فيه الخصمان. وهذان يجوز الإثبات بهما باتفاق الفقهاء. 8ً - كتاب القاضي إلى غيره: اتفق الفقهاء على أن القاضي له أن يقضي بكتاب قاض آخر إليه فيما ثبت عنده في الحقوق المالية للحاجة إليه. فقد يكون لامرئ حق في غير بلده، ولا يمكنه إتيانه والمطالبة به إلا بكتاب القاضي، بشرط أن يشهد شاهدان عدلان على أن الكتاب المرسل هو كتاب قاض، وأن يشهدهم بثبوت الحكم عنده على نحو معين. وذلك في الحقوق المدنية كالديون، أو الشخصية كالنكاح (¬1). وأجاز الإمام مالك أن يحكم القاضي بكتاب قاضٍ في الحدود والقصاص أيضاً (¬2). هذه هي إجمالاً أهم وسائل الإثبات الشرعية التي يعتمد عليها القاضي لفصل النزاع، ويظهر منها أن البينة تظهر الحق باتفاق الفقهاء بشرط ثبوت عدالة الشهود عند القاضي، وكذلك الإقرار حجة مطلقة؛ لأن الإنسان غير متهم بالإقرار على نفسه كاذباً. واليمين تسقط بها دعوى المدعي الذي لا بان له. ويثبت بها عند الإمام مالك حق المدعي الذي أنكره عليه خصمه. ¬
المرحلة الثالثة ـ الحكم القضائي
المرحلة الثالثة ـ الحكم القضائي: الحكم: هو فصل الخصومة وحسم النزاع بقول أو بفعل يصدر عن القاضي بطريق الإلزام. وهو يعتمد أساساً على حجية الإثبات التي تتوافر لدى القاضي. ويعتبر غاية القضاء ورمز العدالة. وينبغي ـ كما بان في آداب القاضي ـ مراعاة أمرين قبل إصداره. أولهما ـ مصالحة الخصمين: فلا بأس للقاضي أن يرد الخصوم إلى الصلح، إن تأمل منهما المصالحة لقوله تعالى: {والصلح خير} [النساء:128/ 4] فكان طلب الصلح طلباً للخير. وقال سيدنا عمر: «ردوا الخصوم حتى يصطلحوا، فإن فصل القضاء يورث بينهم الضغائن». ثانيهما ـ مشاورة الفقهاء: يندب للقاضي أن يجلس معه جماعة من الفقهاء يشاورهم ويستعين برأيهم فيما يجهله من الأحكام، أو يشكل عليه من القضايا. قال تعالى: {وشاورهم في الأمر} [آل عمران:159/ 3] وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «ما رأيت أحداً بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم أكثر مشاورة لأصحابه منه» (¬1). فإن اتفق رأي الفقهاء على أمر قضى به، كما فعل الراشدون، وإن اختلفوا أخذ بأحسن أقاويلهم وقضى بما رآه صواباً، إلا أن يكون غيره أفقه منه، فيجوز له الأخذ برأيه وترك رأيه الشخصي. وهناك أوصاف للحكم تراعى في الإسلام وهي: أولاً ـ المسارعة إلى إصدار الحكم بعد ثبوت الحق أمام القاضي، ولا يجوز تأخيره إلا في حالة الريبة، ورجاء الصلح بين الأقارب، وإمهال المدعى عليه فترة محدودة لرد الشهادة. ¬
ثانيا ـ إصدار الحكم حضور يا أمام الخصوم.
ثانياً ـ إصدار الحكم حضور ياً أمام الخصوم. إذ لا يجيز الحنفية كما تقدم القضاء على الغائب إلا لضرورة أو مصلحة. وأجاز غير الحنفية القضاء على الغائب وإصدار الحكم الغيابي على المدعى عليه. ثالثاً ـ تعليل الأحكام: يفضل كون الحكم معللاً مبيناً في أسبابه التي بني عليها. رابعاً ـ تدوين الأحكام: جرى القضاة على تسجيل الأحكام في سجلات بدءاً من العهد الأموي، حفاظاً عليها، وحرصاً على تنفيذها. تنفيذ الأحكام: اتفق الفقهاء على أمرين خطيرين في التنفيذ وهما: 1 - حق التنفيذ منوط بالحاكم، أي السلطة التنفيذية في الدولة. 2 - منع الثأر والانتقام الشخصي أوعدم وجود أي سلطة شخصية لصاحب الحق على المسؤول. ف في نطاق العقوبات الجنائية: الدولة هي المختصة بتطبيق العقاب الجزائي، سواء أكان مقدراً أم غير مقدر، حداً أو تعزيراً أو قصاصاً. وذلك حفظاً للنظام ومنع الفوضى ودرء الفساد وانتشار المنازعات بين الناس وإبطال عادة الأخذ بالثأر. فلا يجوز لأي إنسان عادي القيام بتنفيذ العقوبة الجنائية، من قصاص وجلد وقطع وحبس وتوبيخ وتشهير أوتجريس، وإذا أراد ولي الدم وهو وارث القتيل ضرب رقبة القاتل، فيتم القصاص بإشراف الدولة، دون أن يكون له الحق في إثبات الجريمة، وإصدار حكم القصاص. وتمكين مستحق القصاص من استيفائه بإشراف الحاكم منوط بكونه يحسن القتل، ففيه شفاء لألم المصاب، دون ضرر بالجاني، وربما يكون ذلك أدعى لرحمة صاحب الحق وعفوه عن القاتل عندما يراه
في نطاق القضايا المدنية
تحت سلطته، وعلى القاضي أن يتفقد آلة القتل منعاً للتعذيب (¬1)، أي أن تدخل ولي الدم يقتصر على الدور الذي يقوم به الجلاد أو السياف، دون أن يكون له الحق في تسلم القاتل يفعل به كما يرى، كما تصور بعض الجاهلين. وفي نطاق القضايا المدنية: يقتصر حق الدائن على المطالبة بحقه بالتراضي، أو بواسطة رفع الدعوى إلى القضاء لاستصدار حكم يجبر المدين على إيفاء دينه في حال يساره وقدرته على الوفاء بالتزامه. وينتظر في حال إعساره وعجزه، لقوله تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنظِرة إلى ميسرة} [البقرة:280/ 2]. وللقاضي إجبار المدين على الوفاء بدينه بأحد الوسائل الآتية: الحبس، والحجر، والبيع الجبري. أما الحبس فمشروع إذا امتنع المدين الموسر عن الوفاء بدينه، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ليُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته» (¬2) أي أن مماطلة الغني تجيز الطعن به ومعاقبته. ويؤيده حديث آخر: «مَطْل الغني ظلم» (¬3). ويظل المدين المماطل عند أبي حنيفة محبوساً حتى يوفي دينه. وقال صاحباه وبقية أئمة المذاهب: يحبس للتضييق عليه، فإذا لم يؤد الدين يحجر عليه ويباع ماله جبراً عنه، ويقسم بين الدائنين قسمة غرماء. وإذا ثبت إعساره يفرج عنه. ونظرة الميسرة والإفراج حال الإعسار دليل على أن الحبس مجرد وسيلة إكراه على الوفاء بالدين، وليس تنفيذاً على شخص المدين، كما هو الحال عند الرومان. وأما الحجر على المدين (أي منعه من التصرف بماله تصرفاً يضر بمصلحة ¬
الدائنين) فأجازه صاحبا أبي حنيفة إذا كانت ديونه مستغرقة أمواله، أو كان يماطل في الوفاء بديونه. وأفتى به متأخرو الحنفية سداً للذرائع، أي حماية لمصلحة الدائنين من تصرفات المدين التي تضر بحقوقهم، وعملاً بقوله صلّى الله عليه وسلم: «لي الواجد يحل عرضه وعقوبته». وأيد الحجر فقهاء المالكية والمتأخرون من فقهاء المذهب الحنبلي استحساناً. ووافق الإمام الشافعي على جواز الحجر على المدين إذا كانت ديونه مستغرقة. وأما في حالة مماطلته فلا يرى لزوماً له؛ لأن القاضي يستطيع الحكم عليه ببيع أمواله جبراً عنه، وإيفاء ديونه من ثمنها. ولا حجر على المدين المعسر، كما لا حبس عليه كما سبق. وأما بيع مال المدين جبراً عنه فهو جائز عند الفقهاء الذين أجازوا الحجر عليه في الحالتين السابقتين. فقد أجاز صاحبا أبي حنيفة بيع أموال المدين إذا قرر القاضي الحجر عليه، ولم يجد مسوغاً لتأجيل البيع، أو متى طلب الدائنون ابتدءً ذلك، وأبدوا أسباباً معقولة لطلبهم. ويقسم الثمن بين الدائنين قسمة غرماء. ووافق المالكية على رأي الصاحبين، وأجاز الشافعي والحنابلة بيع المال ابتداء للمدين الموسر دون حجر عليه. ويتم البيع في جميع الأحوال بمعرفة القاضي وبحضور الدائنين والمدين وفي سوق السلعة، أو في غير سوقها بثمن المثل، وبالمزاد العلني للوصول إلى أعلى سعر ممكن. هذه هي أهم قواعد نظام القضاء في الإسلام، أوجزتها في بحث نظام الحكم في الإسلام، وقد كنت فصَّلت الكلام في القضاء وطرق إثبات الحق في الباب الخامس المتقدم.
الفصل الرابع: الدولة الإسلامية
الفَصْلُ الرَّابع: الدَّولة الإسلاميَّة نشأتها، وظائفها، علاقاتها الخارجية، حصاناتها، زوالها يشتمل هذا الفصل على مبحث تمهيدي وخمسة مباحث أصلية: المبحث التمهيدي ـ مقدمات المطلب الأول: أولاً ـ المنشأ التاريخي لمفهوم دار الإسلام ولمفهوم الدولة الحديث. ثانياً ـ التمييز بين المفهومين. ثالثاً ـ اتجاه تطور كل من المفهومين. المطلب الثاني ـ نشأة مصطلح الدولة الإسلامية: 1 - عن طريق من بحثوا في تطبيق مفهوم الدولة الحديث على مبادئ الإسلام السياسية والواقع التاريخي لسيادة هذه المبادئ. 2 - وعن طريق من بحثوا أو حاولوا تقديم صورة حديثة لهذا المصطلح للتطبيق في هذا العصر.
3 - هل يوجب الإسلام إقامة دولة؟ المبحث الأول ـ أركان الدولة الإسلامية ونشأتها وشخصيتها: المطلب الأول: أركان الدولة الإسلامية: الركن الأول ـ الشعب: أولاً ـ موقع هذا الركن مادياً، وأساسيته في مفهوم الدولة الإسلامية. ثانياً ـ بيان اختلاف هذا الركن عن نظيره في المفهوم الحديث للدولة من حيث إن الإسلام يقرر «اللاعنصرية». الركن الثاني ـ الإقليم: أولاً ـ موقع هذا الركن مادياً وبيان اختلافه عن نظيره في المفهوم الحديث للدولة من حيث إن الإسلام يقرر «اللا إقليمية». ثانياً ـ مشمول إقليم الدولة: 1 - ما هو جزء أساسي من الأقليم: أـ الأرض. ب ـ الأنهار الوطنية. جـ ـ المياه الساحلية ـ المنطقة الملاصقة ـ الامتداد القاري ـ المياه الداخلية (موانئ وخلجان وبحار داخلية).
2 - ما هو امتداد أو ملحق بالإقليم اعتباراً: وسائل النقل الدولية: (السفن، القطارات، الطائرات). 3 - ما يعتبر أصلاً جزءاً من إقليم الدولة، ولكن تترتب عليه حقوق ارتفاق لدولة أو لدول أخرى: أـ الجزء الواقع في إقليم الدولة من الأنهار الدولية. ب ـ طبقات الجو عمودياً وما تستتبعه من حقوق في الملاحة الجوية والمواصلات والإذاعات (اللاسلكية). 4 - الأقاليم المشتركة بين عدة دول. 5 - ما لا يعتبر جزءاً من الإقليم ولا تتناوله سيادة دولة ما، ويمكن اعتباره امتداداً مشتركاً مشاعاً لإقليم كل دولة، وتعتبر فيه حقوق مشاعة أو مرافق مشتركة يباح فيها مالا يضر بالآخرين دون ما يضر كتلويث مياه البحار والجو بالإشعاع النووي وغيره: أـ أعالي البحار. ب ـ الفضاء الكوني. الركن الثالث ـ السيادة: تمهيد: 1 - نظرية السيادة في المفهوم الحديث للدولة والنظريات البديلة كمعيار للدولة.
2 - تمييز السيادة عما يشتبه بها كالسلطة الفعلية غير الأصلية، وكحق الملكية وحقوق الارتفاق. أولاً ـ موقع هذا الركن اعتبارياً في الدولة الإسلامية وبيان اختلافه عن نظيره في المفهوم الحديث للدولة من حيث إن الإسلام يقرر أن الحاكمية لله. ثانياً ـ نصاب هذه الحاكمية أو حدها الأدنى في التحقق، والفرق بينه وبين الحد الأدنى في تطبيق أحكام الإسلام لتحقق مفهوم دار الإسلام. ثالثاً ـ هل يشترط وحدة السلطة على كافة أجزاء دار الإسلام؟. المطلب الثاني ـ نشأة الدولة الإسلامية: مبدأ نشوء الدولة بمجرد تكامل أركانها أولاً ـ طرق نشأة الدولة الإسلامية: 1 - نشوء جديد كلية. 2 - نشوء جديد من عناصر قديمة. ثانياً ـ الاعتراف وأنواعه ونتائجها في المجال الدولي النوع الأول ـ الاعتراف الكامل: 1 - بالدولة. 2 - بالحكومة واستلزامه الاعتراف بالدولة. النوع الثاني ـ الاعتراف الناقص أو التمهيدي:
1 - بالأمة. 2 - بالثورة. 3 - بالحكومة في الخارج (حكومة المنفى). النوع الثالث ـ الاعتراف بحالة الحرب: ثالثاً ـ شخصية الدولة الإسلامية: إيضاح الشخصية الاعتبارية للدولة، وبيان موقع الدولة في الذروة من أنواع الشخص الاعتباري. المبحث الثاني: خصائص الدولة الإسلامية ومقارنتها بالدولة الحديثة: المطلب الأول ـ خصائص الدولة الإسلامية: أولاً ـ كونها دولة فكرة ومبادئ لإصلاح الحياة البشرية. ثانياً ـ كون غايتها أداء رسالة الإسلام وجوباً اعتقادياً. المطلب الثاني ـ مقارنتها بالدولة الحديثة: أولاً ـ بيان مدى ارتباط الدول الحديثة بالمبادئ والأديان. ثانياً ـ مقارنة بالدولة الشيوعية.
المبحث الثالث - وظيفة دولة الإسلام: تمهيد: دراسة مختلف التعاريف التي وضعها العلماء في هذا الصدد. الوظيفة الأولى ـ وظيفتها في الداخل: أولاً ـ وظيفة تقوم على اعتبار ضرورات المجتمع. 1 - المحافظة على الأمن والنظام. 2 - تنظيم القضاء وإقامة العدل. 3 - إدارة المرافق العامة. 4 - الإعداد لحماية الدولة والدعوة لتدريب الشعب وتصنيع الأسلحة. ثانياً ـ وظيفة تقوم على اعتبار خصائص الدولة الإسلامية وأهدافها: 1 - تقوية وحدة الأمة وتعاونها وأخوة أبنائها. 2 - تحقيق المصالح الأساسية التي تدور عليها الشريعة (وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال). 3 - عمارة الأرض. 4 - صيانة الآداب الإسلامية. 5 - إقامة العدالة الاجتماعية. 6 - تحقيق الحياة الطيبة للأفراد بالنظر الإسلامي.
7 - تحقيق المجتمع الخيّر. 8 - العمل باستمرار على تحقيق الأفضل والأصلح والأمثل في جميع نواحي الحياة الإنسانية. 9 - إعداد الدعاة لنشر الدعوة في الداخل والخارج. الوظيفة الثانية ـ وظيفتها في الخارج: أولاً ـ وظيفة تقوم على اعتبار ضرورات الحياة الدولية: 1 - الدفاع عن أراضي الإسلام وتحرير شعوبه، وحماية أقلياته. 2 - دعم التعاون بين أقاليم الدولة الإسلامية، وتحقيق أقصى روابط الوحدة والتنسيق بينها في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية، وحل خلافاتها بصورة منظّمة. 3 - دعم السلام العالمي. 4 - دعم مبادئ كرامة الإنسان والعدالة والحرية والمساواة في العالم أجمع. ثانياً ـ وظيفة تقوم على اعتبار خصائص الدولة الإسلامية وأهدافها: 1 - التعاون مع المخلصين من غير المسلمين؛ سواء أكانوا من أهل الكتاب أم من غير أهل الكتاب. 2 - الدعوة إلى الإسلام. 3 - دفع شبهات الكنيسة والمستشرقين والملاحدة عموماً، والشيوعيين خاصة.
المبحث الرابع ـ حصانات الدولة وإعفاءاتها في الخارج ـ شرح المراد بالحصانة وتاريخ هذا الاصطلاح المطلب الأول ـ ما تشمله الحصانات والإعفاءات: شخصية الدولة ـ سفنها ـ وكالاتها ومؤسساتها ـ وحداتها السياسية ـ سفاراتها. المطلب الثاني ـ أنواع الحصانات والإعفاءات: أولاً ـ الحصانة القضائية. ثانياً ـ الحصانة المالية. ثالثاً ـ الاستثناءات: أـ النشاط التجاري ـ الملكية الخاصة. ب ـ حالة رضا الدولة. المبحث الخامس ـ تغير حالة الدولة الإسلامية وزوالها وآثار ذلك المطلب الأول ـ حالة الدولة الإسلامية: النوع الأول: التغيير الكياني في التنظيم السياسي الداخلي: 1 - بالانقلاب. 2 - بحرب أهلية. 3 - بالثورة ـ الفرق بين الانقلاب والثورة.
النوع الثاني: التغيير في النطاق الإقليمي (إضافة وانتقاصاً). أولاً ـ بما لا يمس إقليم دولة أخرى: 1 - بالإضافة. 2 - بالاستيلاء على أرض غير خاضعة لدولة أخرى. ثانياً ـ بما يمس إقليم دولة أخرى: 1 - بطريق المعاهدة. 2 - بطريق التقادم. 3 - بالفتح عند قيام موجباته بالنظر الإسلامي (الجهاد). المطلب الثاني ـ زوال الدولة الإسلامية: أولاً ـ الزوال الكلي بزوال واحد أو أكثر من أركان الدولة الإسلامية. ثانياً ـ الزوال الجزئي بالتجزؤ وزوال وحدة السيادة. موقف السلطة العليا الأصلية في الحالات الآتية: أـ حالة إمكان إخضاع الجزء المنفصل. ب ـ حالة العجز عن إخضاعه وما تحتها من احتمالات: 1 - إذا كان الجزء المنفصل معترفاً بالسلطة العليا الأصلية وبارتباطه بها ولو اسماً.
2 - إذا كان الجزء المنفصل غير معترف بالسلطة العليا، بل يدعي أنه هو صاحبها. المطلب الثالث ـ أثر تغير حالة الدولة أو زوالها في خَلَفها (التعاقب) أولاً ـ أثره في المعاهدات. ثانياً ـ أثره في ديون الدولة. ثالثاً ـ أثره في أملاك الدولة. رابعاً ـ أثره في التشريع. خامساً ـ أثره في الأحكام القضائية. سادساً ـ أثره في جنسية الأفراد.
المبحث التمهيدي: مقدمات
المبحث التمهيدي: مقدمات وفيه مطلبان: المطلب الأول: أولاً ـ المنشأ التاريخي لمفهوم دار الإسلام ولمفهوم الدولة الحديث: فقرة 1 ـ كانت الهجرة النبوية إلى المدينة المنورة (يثرب) وما سبقها من بيعتي العقبة أساساً في نشأة أو تكوين الدولة الإسلامية، أو دار الإسلام في اصطلاح فقهائنا؛ إذ بذلك تميزت شخصية المسلمين عن المشركين، وتوطدت لهم في المدينة الدعائم الأولى للأمن والاستقرار، وبرزت السلطة السياسية للنبي، وهذه السلطة تعتبر الآن هي العنصر الجوهري في تكوين الدولة (¬1). وكان من مظاهر ممارسة النبي عليه السلام لتلك السلطة أنه قام بموادعة اليهود في المدينة حينما كتب كتاباً بين المهاجرين والأنصار، وادع فيه يهود، وعاهدهم على دينهم وأموالهم، وشرط لهم، واشترط عليهم (¬2). وبدأ التشريع القرآني ينظم أوضاع الجماعة الإسلامية لتدبير شؤونها وسياسة ملكها، وكان النبي صلّى الله عليه وسلم يمارس سلطانه السياسي في تنفيذ القوانين والأنظمة المشرعة، وتأديب العصاة، ومعاقبة الجناة، وعقد الاتفاقات أو المعاهدات ومحاربة الأعداء؛ إذ أنه بعد اثني عشر شهراً من مقدمه عليه السلام إلى المدينة ¬
أول غزوة في الإسلام
وقعت أول غزوة في الإسلام: وهي غزوة الأبواء التي خرج فيها الرسول صلّى الله عليه وسلم يريد قريشاً، فوادعته بنو ضمرة بودَّان (¬1). الهجرة إذن كانت نقطة تحول في تاريخ الإسلام تمخص عنها ميلاد دولة جديدة لم يعرف لهامثال سابق بين العرب أطلق عليها الفقهاء اصطلاح (دار الإسلام)، لأن اصطلاح (الدولة) لم يكن معروفاً وقتذاك، ولأنه كان هناك تلازم بين مفهومي الدولة ودار الإسلام. ويلاحظ أنه تميزت دولة دار الإسلام في بدء تكوينها بأنها دولة متحدة تجمع كل من استجاب لدعوة الإسلام، وآمن برسالة محمد صلّى الله عليه وسلم على أساس أن حكم الإسلام أو شرعه يسودها، وإن ولايته الشخصية تمتد إلى مختلف الأقاليم الإسلامية (¬2). فقرة 2 ـ وأما مفهوم الدولة الحديث فقد ظهر في أوربا خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر بعد أن تحطمت السلطة البابوية. وانهار النظام الإقطاعي، أو مبدأ الزعامات الإقطاعية الذي كان يقوم على الجمع بين ملكية الأرض وبعض الامتيازات كقيادة الجيش أو جمع الضرائب مثلاً، دون أن يكون للملك سلطة حقيقية إلا على أرضه التي اقتطعها لنفسه. وقد أدى تجمع سكان الإقطاعات إلى ما يدعى بالأمة كالأمة الإيطالية والأمة الفرنسية، ثم تولد عن ذلك ما يعرف بالدولة بوجود سلطة سياسيةفي المجتمع، لأن السلطة السياسية هي الصورة الحديثة للجماعة السياسية. وهكذا توالى ظهور الدول الحديثة ذات القومية الواحدة، وتوطدت أركانها ¬
ثانيا ـ التمييز بين مفهومي دار الإسلام والدولة الإسلامية
الاقتصادية، كما حدث في إنجلترا وفرنسا وأسبانيا، والبرتغال والسويد والدانمرك والنرويج، والمجر وبولندة وروسيا، وأصبحت القاعدة أن تتمتع الدول بالسيادة ولا تخضع لسلطة عليا أخرى. وتحددت فكرة العائلة الدولية منذ مؤتمر وستفاليا سنة (1648) م، وكانت مقصورة في أول الأمر على دول غرب أوربا، ثم انضمت إليها سائر الدول المسيحية، غير الأوربية، ثم اتسعت في سنة 1856 م فشملت تركيا الدولة الإسلامية ودولاً أخرى غير مسيحية كاليابان والصين (¬1). ثانياً ـ التمييز بين مفهومي دار الإسلام والدولة الإسلامية: 3 ـ على الرغم مما كان قائماً من وجود التلازم بين مفهومي دار الإسلام والدولة الإسلامية، فإن دار الإسلام تتميز بارتكازها على أساس العنصر المادي (أي الأرض أو الاقليم) (¬2) وأما الدولة الإسلامية فتتميز بما لها من صفة السيادة (أو الاستقلال) والشخصية المعنوية ذات الأهلية والذمة المالية المستقلة عن ذمة أشخاص رعاياها، فلها مالية مستقلة عن أموالهم تتمثل في بيت المال (¬3). وكانت الدولة الإسلامية مستقلة لا تخضع لأي سلطة أخرى، كما كانت مستقلة ¬
ثالثا ـ اتجاه تطور مفهومي دار الإسلام والدولة الحديثة
عن أشخاص الحكام فيها، وكان يعد الحاكم بمثابة أمين على السلطة ونائباً عن الأمة (¬1). وهذا هو المعنى الذي يرمز إليه فقهاء القانون الوضعي القائلون بأن الدولة توجد حينما تجد السلطة السياسية سندها لا في إنسان، ولكن في شخص معنوي مجرد له طابع الدوام والاستقرار والاستقلال عن أشخاص الحكام أنفسهم (¬2). ثالثاً ـ اتجاه تطور مفهومي دار الإسلام والدولة الحديثة: 4 - المبدأ أو الأصل الفقهي أن تكون دولة الإسلام أو دار الإسلام موحدة السياسة وشاملة لجميع الأقاليم الإسلامية، وذلك لتحقيق غاية الإسلام الأساسية: وهي قوة الإسلام والمسلمين بأن يكونوا جميعاً يداً واحدة، فيتجهون، اتجاهاً واحداً، وتسوسهم سياسة واحدة تحقق الخير والمصلحة للجميع. وقد ظلت الخلافة أو الدولة الإسلامية بناء على ذلك موحدة الصف طوال القرون الثلاثة الأولى الهجرية، ثم تجزأت دار الإسلام خلافاً للمبدأ السابق، فقامت دول إقليمية في عهد الدولة العباسية، وانقسمت الخلافة العباسية إلى دويلات: في العراق نفسها، وإيران والشام ومصر وشمالي إفريقية، ثم فيما بعد في الأندلس، فظهرت في أسبانيا الدولة الأموية الثانية (317 - 423 هـ)، وقامت الخلافة الفاطمية (297 - 567 هـ)، في المغرب، ثم انتقلت إلى مصر في عهد المعز لدين الله سنة ¬
(362 هـ). وهكذا وجدت في وقت واحد ثلاث خلافات إسلامية: خليفة عباسي في العراق، وخليفة أموي في الأندلس، وخليفة فاطمي في إفريقية وجنوبي إيطاليا وصقلِّية، ثم مصر وقسم كبير من الشام (¬1). وكان من أهم عوامل التجزئة وفصم عرى الوحدة الإسلامية هو الفتنة الأولى أو الكبرى التي انتهت بمصرع عثمان بن عفان رضي الله عنه، والفتنة الثانية التي انتهت بقتل الحسين بن علي وآل بيته رضي الله عنهم في كربلاء. وفي وسط هذا الاختلاف بين أهل السنة والشيعة وتشعب الآراء وتعدد الفرق وانقسام المسلمين إلى دويلات، انقض التتر والمغول على الخلافة العباسية في بغداد، فأزالوا معالمها ثم استولوا على دمشق. ثم جاءت الدولة العثمانية، فاستولت على البلاد الإسلامية وعاصرت انسلاخ الأندلس وطرد المسلمين منها ومن سائر أوربا بسبب ضعفهم أمام العدو، وطلبهم النصرة بل الحماية من العدو المشترك أيام (ملوك الطوائف). ثم ضعفت الدولة العثمانية: فانقض المستعمرون الغربيون على الأقاليم الإسلامية يتقاسمونها بينهم بالحماية أو الانتداب أو الوصاية مستفيدين من النُّعَرة الوطنية (¬2) وظل الحال كذلك إلى أن استقل معظم البلاد في وحدات اقليمية أو دويلات متعددة بنحو خمسين دولة إسلامية في الوقت الحاضر. والخلاصة: إن مفهوم دار الإسلام اتجه خلافاً للمبدأ الإسلامي نحو التجزؤ ¬
والانقسام في واقع الحياة الإسلامية مما أدى إلى ضعف دولة الإسلام. وبسط نفوذ المتسلطين عليها، ومعاناة مختلف أشكال الاستعمار القديم والجديد. 5 - وأما الدول الحديثة فإنها بعد أن قامت على أساس الإقليمية الضيقة، دأبت على توفير أو استكمال خصائصها أوعناصرها: وهي النظام (¬1) والسيادة (¬2) والشخصية القانونية (¬3). ¬
إلا أن نظريةالسيادة المطلقة تعرضت في العصر الحديث لانتقادات جوهرية، وهجرها الكثيرون على اعتبار أنها لا تتفق مع الظروف الحالية للمجتمع الدولي (¬1)، وبرز اتجاه معاصر نحو إمكان الانتقاص من السيادة على الصعيدين: الإقليمي والدولي، ففي مجال التعاون الإقليمي نما الإدراك لدى بعض الشعوب والأمم بوجوب التجمع في صور تغاير صورة الدولة بعناصرها التكوينية الحالية، وبوجوب التعديل في عنصر السيادة الذاتية، وظهرت الاتحادات القارِّية كالاتحاد الأمريكي الذي نشأ في أواخر القرن الماضي، ثم تجدد تنظيمه بعد الحرب العالمية الثانية، وكالاتحاد الأوربي الذي برز إلى حيز التحقيق العملي بعد الحرب العالمية الأولى، ثم بدت أهم مظاهره بعد الحرب العالمية الثانية، فنشأ المجلس الأوربي سنة (1949م)، وعقدت اتفاقية السوق الأوربية المشتركة عام (1957 م)، وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية وقعت روسيا والدول الشيوعية ميثاق وارسو سنة (1955م) (¬2). وهكذا تتجه الدول الحديثة في النطاق الإقليمي نحو الوحدة أو الاتحاد لتقوية شأنها ودعم نفوذها. وعلى الصعيد الدولي طرأ على مفهوم السيادة قيد جديد، فأصبحت الدول من الناحية النظرية القانونية لا الواقعية الفعلية غير مطلقة التصرف في ميدان العلاقات الدولية لخضوعها للقانون الدولي العام المفروض على الدول بناء على اعتبارات تعلو على إرادتها، والذي هو يورد قيوداً على تصرفات الدول، ويحكم علاقاتها مع الدول الأخرى ومع الهيئات الدولية، فمثلاً: تضمَّن ميثاق الأمم المتحدة قيداً على مبدأ السيادة المطلقة في مظهرها الخارجي، فقضى على حق ¬
المطلب الثاني ـ نشأة مصطلح الدولة الإسلامية
الدولة في إعلان الحرب متى شاءت، لأن الميثاق يقوم على فكرة نبذ الحروب ووجوب استتباب الأمن والسلم الدولي (¬1). والخلاصة: أن الاتجاه الحالي للدول نحو التجمع والاتحاد يتفق مع أصل الفكرة الشرعية الداعية إلى وحدة السلطة أو السيادة في جميع أقاليم دار الإسلام. المطلب الثاني ـ نشأة مصطلح الدولة الإسلامية: 1 - السبب في إطلاق مصطلح الدولة الإسلامية على نظم الحكم الإسلامية: 6 - لم يضع العلماء المجتهدون نظرية عامة للدولة تبين أسسها النظرية أو العملية، وإنما كانوا يضعون الحلول ويقدمون الآراء بمناسبة كل حالة طارئة، كما هو الشأن في أغلب أحكام الفقه الإسلامي، لكنهم مع ذلك يلاحظ أنهم يسيرون على هدى مبادئ ونظريات عامة ثابتة، وهكذا فإن الدولة الإسلامية قامت على دعائم جديدة مبتكرة تختلف تماماً عن الدعائم التي قامت عليها بيزنطة وفارس، ومنها أن الإسلام نبذ فكرة سيطرة الحاكم، وفكرة خضوع المحكومين في الشؤون الدينية والدنيوية معاً لغير مبادئ الإسلام، فالله وحده هو صاحب السلطان في شؤون الآخرة من ثواب أو عقاب، ويقوم نظام الحكم في الشؤون الدنيوية على القواعد الشرعية في حفظ المصالح ودرء المفاسد بحسب حال الزمان والمكان، ¬
وعلى أسس العدل والشورى والمساواة والمعاملة بالمثل والأخلاق، وعدم التمييز بين الناس في الجنس واللغة أو اللون أو الإقليم (¬1). 7 - ونلاحظ أن عناصر الدولة الحديثة نفسها التي تتكون منها الآن كانت متوافرة في تكوين الدولة الإسلامية في الماضي (¬2): وهي الجماعة من الناس، والخضوع لنظام معين، والتسليم المحدد، والسلطان أو السيادة، والشخصية المعنوية. هذه العناصر والخصائص توافرت بذاتها في الحكومة النبوية التي أقامها الرسول صلّى الله عليه وسلم في المدينة، فالمسلمون الأولون من المهاجرين والأنصار هم شعب الدولة، والشريعة الإسلامية هي نظامها، والمدينة هي إقليمها، والنبي صاحب السلطان لا يشاركه فيه سلطة أخرى، والجماعة الإسلامية تمثل الشخصية المعنوية للدولة فيكون لها حقوق، وعليها التزامات، وتظل المعاهدات التي يعقدها الحاكم الأعلى نافذة المفعول لا تنتقض أو لا تنتهي بوفاته. وكانت بيعتا العقبة الأولى والثانية قبل الهجرة (¬3) على الإيمان بالله وبرسوله، وعلى السمع والطاعة للرسول عليه الصلاة والسلام، وحمايته ونصرته هما الركيزة الأولى في الاتفاق على تكوين دولة المدينة (¬4). ¬
كانت إذن الحكومة النبوية في المدينة جديرة بإطلاق مصطلح الدولة الإسلامية عليها، ويؤكد ذلك ما قام به النبي صلّى الله عليه وسلم من إصلاحات اجتماعية وسياسية عقب الهجرة مباشرة، فجمع بين المهاجرين والأنصار وآخى بينهم، ووادع يهود المدينة، وكانت هذه المعاهدة بين المسلمين وغيرهم بمثابة الدستور الذي نظم شؤون المسلمين وعلاقاتهم بغيرهم داخل المدينة وخارجها (¬1) على نحو أشبه ما يسمى اليوم بالميثاق الوطني. وكان النبي صلّى الله عليه وسلم يمارس شؤون السلطات الثلاث (التشريعية والقضائية والتنفيذية)، فكان عن طريق الوحي والاجتهاد الخاص يضع قواعد السلوك للناس في حياتهم الاجتماعية، ويحكم بين الخصوم، ويجبي الصدقات، ويوزع الغنائم، ويولي الأمراء على القبائل والمدن ويحدد لهم الاختصاصات، ويرسل القضاة إلى الأمصار، ويقود المعارك، ويعقد عقود الصلح أو الموادعة. أنشأ النبي صلّى الله عليه وسلم بهذه التصرفات تنظيماً أو جهازاً إدارياً بالتدريج توضحت معالمه واستكملت عناصر بنيانه قبل وفاته بسنتين، حيث أرسل الأمراء والعمال إلى البلاد التي آمنت برسالته، وكان في كل وقت شديد الحرص على مشاورة أصحابه، ويقوم أحد كتاب الوحي عنده بالكتابة إلى الملوك والأمراء، ويتخصص بعض الكتاب لحوائج الناس أو لمنازعاتهم، أو لعلاقات القبائل وتوزيع الحقوق فيما بينهما ونحو ذلك مما يثبت أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن رسولاً فحسب، وإنما كان كذلك حاكماً ورئيساً لدولة (¬2). ¬
2 - صلاحية نظام الحكم الإسلامي للتطبيق في الوقت الحاضر
8 - واستمرت الخلافة الراشدية على الأسس نفسها التي قامت عليها الحكومة النبوية مع إضافة اصلاحات رائعة في عهد عمر بن الخطاب في نظام القضاء والإدارة بوضع الدواوين وتعيين القضاة وتحديد صلاحيات الولاة والعمال في الأمصار الإسلامية (¬1). إلا أنه في عهد أبي بكر فصلت السلطة القضائية عن السلطة الإدارية بدليل قول أبي عبيدة لأبي بكر: أنا أكفيك المال، وقول عمر له: وأنا أكفيك القضاء. وكانت الخلافتان الأموية والعباسية رمز قوة الدولة وصاحبة الكلمة النافذة في العالم مع وضوح التقسيمات الإدارية للدولة وتعيين اختصاصات الولاة والأمراء. وكذلك كان شأن الدولة العثمانية عدة قرون. وهكذا ظلت الدولة الإسلامية طوال عشرة قرون مثالاً صحيحاً للدولة نظمت شؤونها على نحو سليم يتضمن كل ما تتطلبه مقومات الدولة الأساسية في الوقت الحاضر، مع ملاحظة فارق التطور والتقدم العلمي الحديث. 2 - صلاحية نظام الحكم الإسلامي للتطبيق في الوقت الحاضر: 9 - الخلافة (أو الإمامة أو إمارة المؤمنين) أو أي نظام شوري يجمع بين مصالح الدنيا والآخرة كلها ذات مدلول واحد، لا يختلف عما هو متعارف الآن من أنظمة الحكم الدستورية النيابية إلا في أن الخلافة ذات صبغة دينية وسياسية أو ¬
3 - هل يوجب الإسلام إقامة دولة؟
رئاسة عامة في أمور الدين والدنيا ولجميع المسلمين في كل قطر (¬1)، فهي تقوم على أساس الشورى أو الانتخاب، ويلتزم فيها تطبيق شريعة الإسلام، وتسود فيها مبادئ المساواة التامة في الحقوق والواجبات بين أفراد المجتمع، مهما اختلفت الأجناس والألوان، وتباينت الأقدار، وتتوخى تطبيق العدالة بحق، وتوفر لأبنائها الحرية الكافية في القول والرأي والنقد في ظل من القيم الخلقية الأصيلة (¬2). والحاكم ليس هو صاحب السيادة، وإنما الأمة والشريعة معاً هما صاحبا السيادة في الدولة الإسلامية (¬3). وهذا كله من الناحيتين النظرية والعملية قابل للتطبيق في الوقت الحاضر كما طبق في عصر صدر الإسلام، بشرط أن يتوافر لدى الناس الاستعداد الكافي وحسن التفهم والإدراك العقلي والتجريبي، مع مراعاة وسائل التطبيق الزمنية، إذ أن من مبادئ الفقه الإسلامي المرونة ومراعاة المصالح، وقابلية التطور في الأحكام الفقهية الاجتهادية، ودفع الضرر، وإقامة العدل ومنع العدوان. وبالتزام هذه المبادئ يتيسر على الناس اختيار شكل الحكم الذي يحقق تلك الأهداف دون تقيد بتسمية معينة كنظام الخلافة، وذلك عملاً بمبدأ نفي الحرج في الإسلام. 3 - هل يوجب الإسلام إقامة دولة؟ 10 ـ الإسلام نظام ديني ومدني متكامل، ويتلازم وجود المسلمين مع قيام ¬
الدولة، ومن أهم أركان كل دولة كما أشرت سابقاً وجود سلطة عامة سياسية عليا يخضع لهاجميع الأفراد المكونين للجماعة (¬1). لذلك نرى الأكثرية الساحقة من علماء الإسلام (وهم أهل السنة والمرجئة والشيعة والمعتزلة إلا قليلاً منهم، والخوارج ما عدا النجدات) تقرر وجوب إقامة حكومة عليا (أو إمارة أو دولة أو إمامة). والمراد بالوجوب هنا هو المعروف في علم أصول الفقه المرادف عند جمهور العلماء لمعنى الفرضية، وقد قال العلماء فعلاً: إن الإمامة فرض كفاية (¬2). قال ابن تيمية: يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين بل لا قيام للدين إلا بها، فإن بني آدم لاتتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس حتى قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم» رواه أبو داود من حديث أبي سعيد وأبي هريرة (¬3). وقال ابن حزم: (اتفق جميع أهل السنة وجميع المرجئة وجميع الشيعة وجميع الخوارج على وجوب الإمامة، وأن الأمة واجب عليها الانقياد لإمام عادل ¬
يقيم فيهم أحكام الله، ويسوسهم بأحكام الشريعة التي جاء بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، حاشا النجدات، فإنهم قالوا: لا يلزم الناس فرض الإمامة وإنما عليهم أن يتعاطوا الحق بينهم (¬1).إلا أن هؤلاء الموجبين للإمامة فريقان: قال أكثر الأشعرية، والمعتزلة، والعترة؛ إنها تجب شرعاً، لأن الإمام يقوم بأمور شرعية. وقال الشيعة الإمامية: تجب الإمامة عقلاً فقط للحاجة إلى زعيم يمنع التظالم ويفصل بين الناس في التنازع والتخاصم، ولولا الولاة لكان الأمر فوضى. وقال الجاحظ والبلخي والكعبي وأبو الحسن الخياط والحسن البصري: تجب الإمامة عقلاً وشرعاً. وشذ جماعة (وهم المُحكِّمة الأولى والنجدات من الخوارج، وضرار، وأبو بكر عبد الرحمن بن كيسان الأصم المعتزلي وهشام الفُوطَي) فقالوا بجواز الإمامة وأنها لا تجب، قال الأصم: لو تكافَّ الناس عن التظالم لاستغنوا عن الإمام. واستدل كل فريق على رأيه بأدلة مطولة لا مجال هنا لذكرها (¬2). ¬
المبحث الأول ـ أركان الدولة الإسلامية ونشأتها وشخصيتها
المبحث الأول ـ أركان الدولة الإسلامية ونشأتها وشخصيتها المطلب الأول ـ أركان الدولة الإسلامية: تمهيد: 11 - الدولة في العرف الحديث: مجموع كبير من الناس يقطن بصفة دائمة في إقليم جغرافي معين، ويخضع لسلطة عليا أو تنظيم سياسي معين. يظهر من هذا التعريف التقليدي للدولة أن عناصرها أو أركانها ثلاثة: هي الشعب أو مجموعة من الأفراد، والإقليم، والسلطة الحاكمة. ويربو عدد الدول الآن على (170) دولة. وتتصف الدولة بوصفين أو خاصتين: وهما السيادة والشخصية المعنوية أو القانونية، فالسيادة هي المعيار التقليدي للدولة، أي الذي يميزها عن غيرها من الجماعات (¬1). وسأبحث هنا ركنين من أركان دولة الإسلام: وهما الشعب والإقليم (¬2) وأبحث أيضاً وصف (السيادة) الذي يعتبره بعض فقهاء القانون الدستوري ركناً من أركان الدولة (¬3). ¬
الركن الأول ـ الشعب
فصارت مواضيع هذا المبحث ثلاثة: الشعب والإقليم والسيادة. الركن الأول ـ الشعب: أولاً ـ موقع هذا الركن مادياً وأساسيته في مفهوم الدولة الإسلامية: 12 ـ الشعب أو الأمة في المفهوم الحديث يقوم على عنصرين: عنصر مادي وهو الاستقرار على بقعة معينة من الأرض، وعنصر معنوي: وهو الرغبة في الحياة المشتركة. ويعتبر أول عناصر الدولة هو العنصر الإنساني وهو الشعب، وتعد ضخامة عدد أفراد الدولة الحديثة من مميزاتها إذا قورنت بدولة (المدينة) السياسية القديمة. والشعب في مفهوم تكوين الدولة الإسلامية هو شعب دار الإسلام الذي يتألف من المسلمين الذين يؤمنون برسالة الإسلام ديناً وشرعاً وعقيدة ونظاماً سياسياً ومن الذميين، أي غير المسلمين الذين يقيمون إقامة دائمة في دار الإسلام، فمن هؤلاء جميعاً يتكون شعب الدولة الإسلامية أو رعاياها الذين يرتبطون في المفهوم الحديث برابطة سياسية وقانونية هي رابطة الجنسية أو الرعوية. وتنحصر غاية المسلمين في توحيد الله والدعوة إليه وإلى تطبيق الدستور الإسلامي في الحياة عامة في كل مكان، دون تمييز بين الناس إلا على أساس العقيدة والفضيلة والكفاية والكفاح التي تجمعها كلمة (التقوى). ولقد كان الهدف من تركيز هجرة المسلمين إلى المدينة وتلاقيهم مع الأنصار هو إيجاد ركيزة الشعب المكون للدولة الإسلامية الأولى، إذ لا يمكن لدولة أن تعيش في فراغ عن السكان، كما أن تنفيذ شريعة الإسلام أيضاً يتطلب وجود المكلفين المؤمنين بها.
ثانيا ـ اختلاف هذا الركن عن نظيره في المفهوم الحديث للدولة
وقد يوجد مع شعب الدولة مؤقتاً مستأمنون أوأجانب بلغة العصر. ثانياً ـ اختلاف هذا الركن عن نظيره في المفهوم الحديث للدولة: 13 - يختلف مدلول الشعب في الدولة الإسلامية عن مدلوله في المفهوم الحديث للدولة، فالشعب أو الأمة في المفهوم الحديث شعب محصور في حدود جغرافية، يعيش في إقليم واحد، تجمع بين أفراده روابط من الدم أو الجنس أو اللون أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العادات والمصالح المشتركة (¬1) أي أن الشعب يقوم في الغالب على أساس عنصري. أما الشعب في مفهوم الدولة الإسلامية فإنه يقوم على أساس مبادئ وغايات أساسها ما جاء به الإسلام من نظام صالح للحياة البشرية قائم على محاربة العنصرية أو القبلية أو العصبية الإقليمية أو القومية. والرابطة أصلاً هي الوحدة في العقيدة أي في الفكرة والوجدان، فكل من اعتنق الإسلام من أي جنس أو لون ووطن وكل من التزم أحكام الإسلام من غير المسلمين وأقام في دار الإسلام، فهو أحد مواطني دولة الإسلام، مما يدل على أن نظرة الإسلام إنسانية وأفقه عالمي، لأن أساس تجمع الأفراد المكونين للدولة الإسلامية ليس هو الأرض ولا اللون ولا اللغة ونحوها، وإنما أساس الارتباط بالدولة هو إما الإقرار بعقيدة الإسلام أو الولاء السياسي للدولة الإسلامية. 14 - ومن هنا يتحدد مفهوم الأمة والقومية في الإسلام: أما الأمة في مفهوم الإسلام فليست هي التي تربط بين أفرادها وحدة الجنس ¬
القومية
أو اللون أو اللغة أووحدة المكان. وإنما هي التي تجمع بينها رابطة العقيدة والأخلاق. وأما القومية في نظر الإسلام فهي رابطة تنظيمية تؤلف بين جماعة تعيش في رقعة ذات حدود جغرافية متعاونة في تدبير شؤونها ومصالحها المشتركة، دون انعزال عن الأقوام الأخرى التي تقيم في رقعات أرضية أخرى، فهي دعوة للتعارف والتآلف بين القوميات المتعددة المنتشرة في بقاع العالم، وليست دعوة للانعزال أو التعصب (¬1)، وبعبارة أخرى: هي أن القومية في كل صورها الحديثة تتنافى مع مبادئ الإسلام، لأن الإسلام يقرر مبدأ المساواة التامة بين الناس، ويقيم وحدة المسلمين على أساس الأخوة أو الاشتراك في عقيدة واحدة ونظرة أخلاقية واحدة تسمو فوق اعتبارات الجنس والنشأة واللغة، قال الله تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا. إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات:13/ 49]، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ليس لأحد فضل على أحد إلا بدين أو تقوى، الناس كلهم بنو آدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى» (¬2)، وقال أيضاً: «يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، أيها الناس، كلكم من آدم، وآدم من تراب لا فخر للأنساب، لا فضل للعربي على العجمي، ولا للعجمي على العربي، إن أكرمكم ¬
الركن الثاني ـ الإقليم
عند الله أتقاكم» (¬1)، وفي حديث آخر: «ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية» (¬2). وذلك يعني أن الإسلام هدم برج العصبية القاتلة، والعنصرية السقيمة البغيضة لأنها تفرق الجماعات، وتولد الأحقاد والشرور والمنازعات، وأحل محلها الإنسانية العالمية، لأنها سبيل الإخاء والمحبة والسلام (¬3). الركن الثاني ـ الإقليم: أولاً ـ موقع هذا الركن مادياً واختلافه عن نظيره في المفهوم الحديث للدولة: 15 - يشمل إقليم الدولة الإسلامية جميع البلاد الإسلامية، فهو يتحدد بحدود دار الإسلام مهما اتسعت رقعتها، ودار الإسلام: (اسم للموضع الذي يكون تحت يد المسلمين) (¬4). وهذا يعني ضمناً أن حدود إقليم الدولة الإسلامية ليست ثابتة أو دائمة (¬5)، إذ أنه يجب شرعاً تبليغ الدعوة الإسلامية إلى العالم، ¬
وعندئذ تنتقل الحدود بانتقال سلطان الإسلام إلى البلاد الأخرى، فكلما اتسع نطاق سلطان المسلمين اتسعت الأقاليم الإسلامية. ولا يراد بالوطن عند فقهاء الإسلام إلا مكان إقامة الشخص الدائمة، أي بلده التي يقيم فيها عادة، أو محل سكناه. فإذا وقف سلطان امتداد الإسلام تحدد الإقليم تحت وطأة الضرورة والظروف بالحدود التي وقف عندها، وأصبحت حدود دار الإسلام مقيدة من الناحية الواقعية بهذه الحدود (¬1). إلا أن الإسلام حين يزيل الحواجز الجغرافية أو العنصرية التي تقوم عليها فكرة الوطن القومي، فإنه لا يلغي فكرة الوطن على الإطلاق، لأن تعلق الإنسان بوطنه أمر فطري، حتى إن حبه يملأ نفسه ومشاعره، لذا فهو أي الإسلام يبقي على المعنى الطيب وحده لهذه الفكرة: معنى التجمع والتآخي والتعاون والنظام والمشاركة في الأفراح والأحزان، والالتفاف مع الإخوان في الوطن حول الهدف الأعلى المشترك (¬2)، وبالتالي فالوطن فكرة في الشعور لا رقعة من الأرض نعيش ¬
ثانيا ـ مشمول إقليم الدولة
فيها، هذه الفكرة يجتمع في ظلها الناس من كل جنس ولون وأرض (¬1). وكما أن ركن (الشعب) يختلف عن نظيره في المفهوم الحديث للدولة من حيث إن الإسلام يقرر (اللاعنصرية) فدولة الإسلام ليست دولة عنصرية محدودة بحدود أرض القوم والجنس والعنصر، وإنما هي دولة فكرية تمتد إلى المدى الذي تصل إليه عقيدتها، دون أن يكون هناك امتيازات تقوم على أساس الجنس أو اللون أو الإقليم (¬2)، كذلك فإن ركن (الإقليم) يختلف عن نظيره في المفهوم الحديث للدولة من حيث إن الإسلام يقرر مبدأ (اللا إقليمية) (¬3). ثانياً ـ مشمول إقليم الدولة: 16 - يظهر من تعاريف الفقهاء لدار الإسلام أن إقليم الدولة الإسلامية يشمل كل موضع أو جزء من البلاد خاضع لسلطان المسلمين (¬4). وبناء عليه يكون مشمول إقليم الدولة ما يأتي: 1 - ما هو جزء أساسي من الإقليم: يشمل إقليم الدولة كل ما يدخل في تكوينها الجغرافي أو الطبيعي، وهو مايأتي: ¬
أـ الأرض: أي الجزء اليابس أو الرقعة التي يعيش عليها المسلمون وتخضع لسلطانهم أو ولايتهم، سواء أكانت مدينة أو قرية أو صحراء أوغابة أو جبل أو جزيرة (¬1). وكذلك يعتبر ما في باطن الأرض من محتويات تابعاً للدولة بدليل إيجاب الخمس للمصالح العامة فيما يخرج من الأرض من المعادن والركاز (¬2) والباقي للمالك. وهذا يعني أن ملك الأرض يستتبع ملك ما تحتها وما فوقها عملاً بالقاعدة الشرعية: (من ملك شيئاً ملك ما هو من ضروراته). ب ـ الأنهار الوطنية: وهي التي تمر من منبعها إلى مصبها في أراضي دار الإسلام كأنهار مصر والشام والعراق ونحوها. جـ ـ المياه الساحلية أو البحر الإقليمي: وهي قسم محدد من البحر ملاصق لأرض الدولة التي تنتهي حدودها إلى البحر. وتابعيتها لدار الإسلام بناء على مبدأ إحراز المباح، لأن من سبق إلى مالم يسبق إليه أحد من المباحات فهو له كما قال النبي صلّى الله عليه وسلم (¬3). وفي حكم ذلك ما يعرف بالمنطقة المجاورة (أو الملاصقة أو التكميلية) (¬4) تعتبر ¬
2 - ما هو امتداد أو ملحق بالإقليم اعتبارا
جزءاً من دار الإسلام. ومثلها أيضاً الامتداد القاري (¬1). وأما المياه الداخلية القائمة في داخل أراضي دار الإسلام فهي جزء من إقليم الدولة المسلمة بلا نزاع، لأنها خاضعة لنفوذ المسلمين وتحت أيديهم. 2 - ما هو امتداد أو ملحق بالإقليم اعتبارا ً: 17 - تعتبر وسائل النقل الدولية من سفن وقطارات دولية تمر في أقاليم دولة أخرى، وطائرات، جزءاً ممتداً من إقليم دار الإسلام، فإن كانت هذه الوسائل حربية فتخضع لسيادة الدولة الإسلامية وتطبق عليها الشريعة باتفاق الحنفية وغيرهم قياساً على اعتبارهم أرض المعسكر الإسلامي جزءاً من دار الإسلام. فإن كانت هذه الوسائل تجارية أو مدنية: ففي أصل المذهب الحنفي الذي يقرر أن لا ولاية للسلطة المسلمة على جرائم دار الحرب: إن كانت في مياه أو أراض أوأجواء تابعة لدار الحرب، فلا تخضع لسيادة الدولة الإسلامية. وإن كانت في مناطق تابعة لدار الإسلام، أو حرة غير تابعة لأحد، كما لو كانت في وسط البحر مثلاً، فتخضع لسيادة الدولة الإسلامية وتطبق عليها الشريعة. وبما أنه يمكن الآن ممارسة ولاية الدولة على هذه الوسائط في أراضي دولة أخرى، فإن هذه الوسائل في جميع الحالات تخضع لسيادة الدولة المسلمة، عملاً بقاعدة: (الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً). وفي رأي غير الحنفية القائلين بمعاقبة رعايا الدولة الإسلامية على الجرائم التي ¬
3 - ما هو جزء من إقليم الدولة، ولكن عليه حقوق ارتفاق لدولة أخرى
يرتكبونها في أي مكان عند عودتهم لدار الإسلام: تخضع هذه الوسائل لسيادة الدولة الإسلامية مطلقاً سواء أكانت في مناطق تابعة لدار الحرب أو لدار الإسلام أو حرة (¬1). 3 - ما هو جزء من إقليم الدولة، ولكن عليه حقوق ارتفاق لدولة أخرى: 18 - يشمل هذا العنصر منطقتين تعتبران من إقليم الدولة الإسلامية لولايتها وسلطانها عليهما وهما: أـ الجزء الواقع في إقليم الدولة من الأنهار الدولية: إذ أن هذا الجزء خاضع لسيادة الدولة الإسلامية، وتمارس سلطانها عليه، وإن كان لا مانع عن طريق الاتفاق أو التبادل ونحوهما من انتفاع الدول الأخرى بالملاحة فيه ونحوها، كما هو الشأن في نطاق الملكية الخاصة بتقرير حقوق ارتفاق عليها بسبب الجوار ونحوه. ب ـ طبقات الجو عمودياً: يشمل إقليم الدولة أعماق الأرض والطبقات الهوائية التي تعلو إقليمها الأرضي والمائي، وذلك يكسب الدولة الحق في مباشرة اختصاصها وحقوقها على الأجواء العليا، سواء في الملاحة الجوية أو المواصلات والإذاعات (اللاسلكية). والدليل الشرعي العمل بالقاعدة الفقهية السابقة: (من ملك شيئاً ملك ما هو من ضروراته) والملكية عامة كانت أو خاصة تستتبع ملك ما فوق الأرض من طبقات الجو، وما تحتها من الأعماق، فيبني المالك مثلاً ما شاء فيها من طباق (¬2) ويمارس عليها كل ما يكون له من حقوق بشرط عدم الإضرار بالآخرين، وتأمين مصالحهم الضرورية. ¬
4 - الأقاليم المشتركة بين عدة دول
4 - الأقاليم المشتركة بين عدة دول: 19 - تمارس الدولة المسلمة سيادتها على الأجزاء المشتركة بينها وبين دول أخرى بحسب المعاهدة أو الاتفاق المعقود، كما هو الحال بالنسبة إلى نظام المضايق التركية التي تشرف تركيا بموجبه على مضايق البوسفور والدردنيل بمقتضى معاهدة مونتريه في (26) تموز (يوليو) سنة (1936م)، مع الحفاظ على مبدأ حرية الملاحة للسفن التجارية. وكما هو شأن مضيق جبل طارق وطنجة الموضوعة في حالة حياد دائم بموجب اتفاقية تدويلها سنة (1923م) وكذلك المنطقة المحايدة بين الكويت والسعودية في الشمال والجنوب الشرقي تحكمها الاتفاقيات المعقودة. وهذا كله يعني أن سيادة الدولة على الإقليم المشترك إما ناقصة أو معدومة فلا تتبع دولة ما بحكم الحياد. 5 - ما لا يعتبر جزءاً من الإقليم ويمكن اعتباره امتداداً مشتركاً مشاعاً لإقليم كل دولة: 20 - إن المناطق الحرة غير التابعة لدولة ما يمكن اعتبارها في الإسلام مشاعة لكل الدول على السواء؛ لأن الأصل في الأشياء الإباحة، ولأنها لا تخضع لحيازة أحد، فتنتفع بها كل الدول بشرط عدم الإضرار بالآخرين كتلويث مياه البحار والجو بالغبار الذري، لأن الضرر ممنوع شرعاً لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا ضرر ولا ضرار» (¬1). وتشتمل هذه المناطق ما يأتي: ¬
أـ أعالي البحار (¬1): الأصل في الشريعة أن البحار العامة ليست ملكاً لأحد (¬2) لعدم الحيازة لها، سئل بعض فقهاء الحنفية عن البحر الملح أمن دار الإسلام أو دار الحرب؟ فأجاب بأنه ليس من أحد القبيلين، لأنه لا قهر لأحد عليه (¬3). ويؤيد ذلك الاعتماد على بعض قواعد الإسلام لتقرير مبدأ حرية البحار مثل مبدأ العدالة ومبدأ المساواة وقاعدة الحيازة الفعلية أو الحيازة الحكمية وأن الأصل في الأشياء والأعيان الإباحة، فالعدالة والمساواة تقضيان بجعل البحار مشاعة لجميع الدول، إذ لا حيازة لإحدى الدول عليها فعلاً أو حكماً مما يوجب رفض القول بمبدأ ملكية البحار والسعي لتقرير مبدأ حريتها (¬4). ب ـ الفضاء الكوني (¬5): يعتبر الفضاء الكوني أيضاً حراً يجوز لكل دولة الانتفاع به قياساً على مبدأ حرية البحار العامة السابق ذكره لعدم الاستيلاء أو حيازة دولة ما له، ولكن مع مراعاة الشرط السابق وهو عدم الإضرار بالآخرين. ¬
الركن الثالث: السيادة
الركن الثالث: السيادة: تمهيد: 1 - نظرية السيادة في المفهوم الحديث للدولة والنظريات البديلة كمعيار للدولة: 21 - السيادة فكرة حديثة نسبياً، فلم تكن معروفة حتى القرن السادس عشر، وهي تعني مجموعة من الاختصاصات تنفرد بها السلطة السياسية في الدولة، وتجعل منها سلطة آمرة عليا. ولعل أهم هذه الاختصاصات هو قدرتها على فرض إرادتها على غيرها من الهيئات والأفراد بأعمال من جانبها وحدها، تكون نافذة من تلقاء نفسها، دون أي توقف على قبول المحكومين لها. ولا يصح الخلط بين السلطة السياسية والسيادة؛ إذ أن هناك فرقاً بين السلطة في ذاتها وأوصاف السلطة، فالسيادة في الواقع ليست إلا الصفة التي تتصف بها السلطة السياسية في الدولة، لأن السلطة ركن من أركان الجماعة، أما السيادة فهي وصف أو خاصية تنفرد بها السلطة السياسية في الدولة. والمعيار التقليدي للدولة هو السيادة، فالذي يميز الدولة عن غيرها من الجماعات هو تمتعها بالسيادة. وللسيادة مظهران أو وجهان ذكرتهما سابقاً (¬1)، وبينت أيضاً أن نظرية السيادة في المفهوم الحديث أصبحت نسبية؛ إذ أن سيادة الدولة صارت خاضعة داخلياً للخير العام القومي وخارجياً للخير المشترك الدولي. ووجدت نظريات أخرى تحل محل نظرية السيادة المطلقة، منها نظرية ¬
2 - تمييز السيادة عما يشتبه بها
(لاباند) وأساسها أن ما يميز الدولة هو ما تملكه من قوة للجبر والقهر تباشرها على أشخاص آخرين، وهذه القوة هي حق خاص للدولة لم تستمده من سلطة أخرى. ومنها نظرية (بلنيك) وهي تقول: أن ما يميز الدولة هو كونها تملك اختصاص إعطاء الاختصاص، فهي السلطة الوحيدة في الإقليم التي تملك حق وضع دستور ينظم الدولة، ويحدد اختصاص سائر الأشخاص والهيئات الموجودين على إقليمها. وقال بعض فقهاء القانون الدولي: يمكن وضع معيار آخر مزدوج للدولة يتلخص في أمرين: 1 - عمومية اختصاص الدولة، أي أن الدولة تتمتع باختصاص عام في حدود إقليمها. 2 - الخضوع المباشر للقانون الدولي العام، فتستمد منه حقوقها وواجباتها، وتخضع لما يقيد حريتها في التصرف (¬1). 2 - تمييز السيادة عما يشتبه بها: 22 ـ يميز فقهاء القانون الدولي بين السيادة وبين بعض الأنظمة وبعض مظاهر نشاط الدولة التي قد تختلط أو تلتبس بها (¬2). أـ التمييز بين السيادة والسلطة الفعلية: يجب التمييز بين السيادة كحق قانوني وبين مباشرة السلطة الفعلية إذ من ¬
ب ـ التمييز بين السيادة والملكية
الجائز أن تباشر دولة أو هيئة دولية سلطة فعلية في إقليم لا يخضع لسيادتها، ومثالها نظامان: 1 - الإيجار: ومقتضاه أن تؤجر الدولة جزءاً من إقليمها لدولة أخرى، وتتولى الدولة المستأجرة إدارة الإقليم محل الإيجار، واستخدامه مقابل أجر معين تدفعه للدولة المؤجرة، كاستئجار أمريكا لمدة (90) عاماً بعض مناطق في نيوفوندلند وبرمودا من إنجلترا بموجب اتفاقية سنة (1941م). 2 - الإدارة: ومقتضاه أن تتنازل دولة عن إدارة جزء من إقليمها إلى دولة أخرى، وتتولى الدولة المديرة إدارة الإقليم نيابة عن الدولة الأولى، ولمصلحة هذه الدولة، كنظام الوصاية الدولية تحت إشراف الأمم المتحدة. ب ـ التمييز بين السيادة والملكية: 23 ـ للسيادة في القانون الدولي مدلول قانوني مبناه اعتبار الدولة أعلى سلطة في داخل إقليمها، واعتبار هذا الإقليم النطاق الذي تباشر الدولة سلطتها فيه، ولا يمكن تشبيه سلطات الدولة واختصاصاتها بالملكية الخاصة لفرد من الأفراد. فالقانون الداخلي لكل دولة يختص بتنظيم ملكية الأفراد أو الملكية العامة بتأثير مبادئ ونظريات معينة، وملكية الدولة لبعض الأموال في داخل إقليمها أو في أقاليم دولة أخرى شيء مختلف عن السيادة الإقليمية. بعد هذا التمهيد أذكر أموراً ثلاثة: أولاً ـ فكرة السيادة في الدولة الإسلامية: 24 ـ تتمتع الدولة الإسلامية بصفة السيادة في النطاقين الداخلي والخارجي بدءاً من الحكومة النبوية في المدينة وما تلاها من عهود مستقلة.
ففي النطاق الداخلي: للدولة الهيمنة التامة على جميع الأشخاص والهيئات القائمة في دار الإسلام. فتلتزم الرعية بالطاعة والسمع ضمن حدود الشرع. قال النبي صلّى الله عليه وسلم: (لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف) (¬1). وقال الماوردي: بعد أن ذكر ما يلزم الإمام من الأمور العامة: (وإذا قام الإمام بما ذكرناه من حقوق الأمة، فقد أدى حق الله تعالى فيما لهم وعليهم، ووجب له عليهم حقان: (الطاعة والنصرة) ما لم يتغير حاله. والذي يتغير به حاله، فيخرج به عن الإمامة شيئان: أحدهما: جرح في عدالته. والثاني: نقص بدنه. فأما الجرح في عدالته وهو الفسق فهو على ضربين: أحدهما: ما تابع فيه الشهوة، والثاني: ما تعلق فيه بشبهة، فأما الأول منهما فمتعلق بأفعال الجوارح: وهو ارتكاب للمحظورات وإقدامه على المنكرات تحكيماً للشهوة وانقياداً للهوى، فهذا فسق يمنع من انعقاد الإمامة ومن استدامتها ... الخ) (¬2). وفي موضوع تقليد الإمارة على الجهاد، قال الماوردي أيضاً: وأما ما يلزمهم -أي الجيش في حق الأمير عليهم - فأربعة أشياء: ـ أحدها: التزام طاعته والدخول في ولايته، لأن ولايته عليهم انعقدت وطاعته بالولاية وجبت. ـ والثاني: أن يفوضوا الأمر إلى رأيه ويكلوه إلى تدبيره، حتى لاتختلف آراؤهم فتختلف كلمتهم، ويفترق جمعهم. ـ والثالث: أن يسارعوا إلى امتثال الأمر والوقوف عند نهيه وزجره، لأنهما من لوازم طاعته. ¬
ثانيا ـ نصاب الحاكمية أو حدها الأدنى في التحقق، والفرق بينه وبين الحد الأدنى في تطبيق الأحكام لتحقق مفهوم دار الإسلام
ـ والرابع: أن لا ينازعوه في الغنائم إذا قسمها ويرضوا منه ... ) (¬1). وأما مظهر السيادة في المجال الدولي أو الخارجي فإن ذلك واضح مما قرره القرآن الكريم من مبدأ توفير العزة والاستقلال الكامل لدولة الإسلام دون السماح لأية سلطة أخرى بانتقاصه أو محاولة التسلط عليه، قال تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} [النساء:141/ 4]. وقال سبحانه: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} [المنافقون:63/ 8]. والعزة تقتضي ـ كما ذكر سابقاً ـ الاستقلال ومن مستلزمات ذلك أوجب الفقهاء على الإمام (تحصين الثغور والحدود بالعدة المانعة والقوة الدافعة حتى لا تظفر الأعداء بغرق ينتهكون بها محرماً، أو يسفكون فيها لمسلم أو معاهد دماً) (¬2). ثانياً ـ نصاب الحاكمية أو حدها الأدنى في التحقق، والفرق بينه وبين الحد الأدنى في تطبيق الأحكام لتحقق مفهوم دار الإسلام: 25 ـ إن السيادة الثابتة للدولة الإسلامية بالمعنى السابق لا تتقيد إلا بقيود أو حدود الشرع أو بالتعبير الحديث (مبدأ سيادة القانون)، لأن من أولى واجبات الدولة الإسلامية (حفظ الدين على أصوله المستقرة وما أجمع عليه سلف الأمة) (¬3)، والحد الأدنى المطلوب شرعاً لتحقيق سيادة الشرع أو كون الحاكمية لله تعالى يتوافر بما يأتي: 1 - إقرار عقيدة التوحيد: إن أول مظهر للإسلام هو إعلان أصول عقيدته ¬
المعروفة: وهي الإيمان بالله تعالى وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره حلوه ومره من الله تعالى (¬1). 2 - التزام الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة أو التي ثبتت بدليل قطع الثبوت قطعي الدلالة، كوجوب الصلوات الخمس والصيام والزكاة والحج، وتحريم جرائم الحدود: وهي الزنا والقذف والسرقة وشرب الخمر والمحاربة (أوقطع الطريق) وإيجاب العقاب المقرر لها وللقتل العمد العدوان، وتحريم الربا، والميسر، وزواج المحارم، وزواج المسلمة بغير المسلم، وإيجاب الكفارات المقدرة للإيمان أو انتهاك حرمة بعض الأنظمة أوالفروض الدينية (¬2). 3 - إنفاذ الأحكام الشرعية المنصوص عليها صراحة في القرآن الكريم أو في السنة أو في الإجماع كنظام المواريث والأسرة ومبادئ التعامل من رضا واختيار ونحوهما. وطرق الإثبات والقضاء، ونظم السلم والحرب، ونحو ذلك مما يتصل بالتزام الأوامر واجتناب النواهي. 4 - احترام مبادئ الإسلام السياسية والمدنية والاقتصادية: كمبدأ الشورى والعدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والوفاء بالعهود والعقود والالتزامات، والحفاظ على الحقوق، وتحقيق الأمن، ودفع الأذى والضرر ومنع الظلم وجهاد الأعداء، وسد الذرائع إلى الفساد، وحماية الأنفس والأموال ¬
والأعراض، وإقرار المسؤولية الفردية وضمان الاعتداء أو الضرر، وتحريم الاحتكار والغش والتدليس والتطفيف في الكيل والميزان (¬1)، وعدم إهدار حرمة الملكية الخاصة مع مراعاة كونها ذات وظيفة اجتماعية، وتقييد جمع المال وإنفاقه بالقيود المشروعة. وأما ما عدا ذلك من الأمور غير المنصوص عليها صراحة في الشريعة، فللعلماء المختصين الاجتهاد فيها، عملاً بأن الأصل في الأشياء النافعة هو الإباحة، وفي الأشياء الضارة هو الحظر أو المنع، ولقول الرسول عليه الصلاة والسلام: «أنتم أعلم بأمر دنياكم» (¬2)، ولكن بشرط ألا يصادم الاجتهاد مبدأ أساسياً من مبادئ الإسلام أوأصلاً من أصول الشريعة، أي أنه لا بد لصحة الاجتهاد وسلامته من أن يكون متجاوباً مع روح الشريعة وأصولها ومقاصدها التشريعية، كما هو معروف في علم أصول الفقه. والخلاصة: إن الحد الأدنى لحاكمية الله، هو تطبيق الأحكام القطعية والمجمع عليها وإقامة الحدود، وأما بقية الأحكام الفرعية الثابتة فهي مكملة لهذه الحاكمية، إلا أن الإخلال بتطبيق الحد الأدنى لتلك الحاكمية لا يمكننا من الإسراع بالحكم بالتكفير وإزالة وصف الإسلام، لأن الحكم بالتكفير والتبري ليس بالهين ويحتاج إلى احتياط كما قرر الفقهاء، ولأن التكفير لا يكون إلا بالترك، اعتقاداً بعدم الصلاحية أو مجاهرة بإعلان الكفر صراحة. 26 - ويلاحظ أن هذا الحد الأدنى للحاكمية القانونية يختلف عن الحد الأدنى المطلوب لتحقيق مفهوم دار الإسلام، إذ يكفي لتحقيق مدلول دار الإسلام ¬
ثالثا ـ هل يشترط وحدة السلطة على كافة أجزاء بلاد الإسلام؟
لتتميز عن دارا لحرب: إقامة شعائر الدين أو غالبها فيها، أو التمكين من أدائها، مثل إقامة صلاة الجمعة والجماعة والأعياد وإعلان الأذان (¬1). أما كون الحاكمية أو السيادة القانونية لله فمعناه تطبيق شريعته وإطاعة أوامره، واجتناب نواهيه، والتزام الأحكام الواضحة الصريحة في القرآن الكريم والسنة النبوية لقوله تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخِيَرة من أمرهم} [الأحزاب:36/ 33] {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [النساء:59/ 4]، إذ بذلك يتحقق المقصود من إنزال الشرائع السماوية وتوفير النظام الصالح للبشرية. ثالثاً ـ هل يشترط وحدة السلطة على كافة أجزاء بلاد الإسلام؟ 27 - إن الأصل العام المقرر عند علماء الأشاعرة والمعتزلة والخوارج أن الإمامة والسلطة السياسية في دار الإسلام في المشرق والمغرب الإسلامي واحدة (¬2) لأن الإسلام دين الوحدة، ولأن المسلمين أمة واحدة، رائدها التعاون والتضامن، وعدوها التفرق والتنازع والتمزق، قال الله تعالى: {إن هذه أمتكم أمة واحدة} [الأنبياء:92/ 21] {إنما المؤمنون إخوة} [الحجرات:10/ 49] {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ... } [آل عمران:103/ 3] {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات، وأولئك لهم عذاب عظيم} [آل عمران:105/ 3]. ويؤكد الرسول صلّى الله عليه وسلم على مبدأ الوحدة هذا، فيقول: «المسلم أخو المسلم لا ¬
يظلمه ولا يخذُله ولا يكذِبه» (¬1) «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً» (¬2) «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» (¬3) «إن المؤمن من أّهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد يألم لأهل الإيمان كما يألم الجسد لما في الرأس» (¬4). وأجمع الصحابة يوم السقيفة لانتخاب خليفة بعد النبي صلّى الله عليه وسلم على أنه لا يجوز إمامان في وقت واحد، بدليل ما أجاب به عمر بن الخطاب الحُبَاب بن المنذر الأنصاري رضي الله عنهما حينما قال: (منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش): فقال: (سيفان في غمد إذن لا يصلحان). وقرر الفقهاء إنه لا يجوز إمامان في بلد واحد، حتى وإن كانت الجهات متباينة لقيام العمال مقام الإمام الآخر في المقصود ولفعل الصحابة (¬5) الذين امتثلوا أوامر الرسول صلّى الله عليه وسلم حيث قال: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما» (¬6) «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه» (¬7) «إنه لا نبي بعدي، وسيكون بعدي خلفاء فيكثرون، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: أوفوا ببيعة الأول، ثم أعطوهم حقهم، وسلوا الله الذي لكم، فإن الله ¬
سائلهم عما استرعاهم» (¬1). قال الماوردي وتبعه أبو يعلى: (إذا عقدت الإمامة لإمامين في بلدين لم تنعقد إمامتهما، لأنه لا يجوز أن يكون للأمة إمامان في وقت واحد، وإن شذ قوم فجوزوه) (¬2). وقال ابن حزم: (ولا يحل أن يكون في الدنيا إلا إمام واحد، والأمر للأول بيعة) (¬3) وأضاف أيضاً: (واتفقوا ـ أي الفقهاء ـ أنه لا يجوز على المسلمين في وقت واحد في جميع الدنيا إمامان، لا متفقان ولا مفترقان، ولا في مكانين، ولا في مكان واحد) (¬4). 28 - وأجاز قوم تعدد الأئمة عند تباعد الديار، وكمال الغرض المقصود بهم وهؤلاء القوم: هم (إمام الحرمين وصاحب المواقف وأبو منصور البغدادي، والكرَّامية وأبو الصباح السمرقندي وأصحابه، والإمامية والزيدية، والجاحظ، وعبَّاد الصيمري، والناصر، والإمام يحيى بن حمزة بن علي الحسيني، والمؤيد في قول له من آل البيت) (¬5). وعباراتهم هي ما يأتي: قال إمام الحرمين: والذي عندي أن عقد الإمامة لشخصين في صقع (¬6) ¬
واحد متضايق الخطط والمخالف (¬1) غير جائز، وقد حصل الإجماع عليه، وأما إذا بعد المدى وتخلل بين الإمامين شسوع (¬2) النوى، فللاحتمال في ذلك مجال، وهو خارج عن القواطع (¬3). وقال صاحب المواقف: (ولا يجوز العقد لإمامين في صقع متضايق الأقطار، أما في متسعها بحيث لا يسمع الواحد تدبيره فهو محل الاجتهاد). وقال البغدادي: (لا يجوز أن يكون في الوقت الواحد إمامان واجبا الطاعة ... إلا أن يكون بين البلدين بحر مانع من وصول نصرة أهل كل واحد منهما إلى الآخر، فيجوز حينئذ لأهل كل واحد منهما عقد الإمامة لواحد من أهل ناحيته). وذكر الشهرستاني عن الكرامية: (إنهم جوزوا عقد البيعة لإمامين في قطرين، وغرضهم إثبات إمامة معاويةفي الشام باتفاق جماعة من أصحابه، وإثبات أمر المؤمنين علي بالمدينة والعراقين باتفاق جماعة من الصحابة ... ). وأبان ابن حزم في كتابه: (الفِصَل في الملل والنحل) والبغدادي أن (محمد ابن كرام السجستاني وأبا الصبح السمرقندي وأصحابهما أجازوا كون إمامين وأكثر في وقت واحد، واحتج هؤلاء بقول الأنصار، أو من قال منهم يوم السقيفة: «منا أمير ومنكم أمير» واحتجوا أيضاً بأمرعلي والحسين مع معاوية رضي الله عنهم. ونقل المرتضى صاحب البحر الزخار رأي الباقين القائلين بجواز تعدد الأئمة ¬
المطلب الثاني ـ نشأة الدولة الإسلامية
مع تباعد الدار، ثم قال عن مذهب الزيدية: والأصح الجواز مع تباين الديار لكمال المصلحة (¬1). وقال الأشعري في مقالات الإسلاميين: (وقال قائلون: يجوز أن يكون إمامان في وقت واحد، أحدهما صامت والآخر باطن، فإذا مات الباطن خلفه الصامت وهذا قول الرافضة. وجوز بعضهم ثلاثة أئمة في وقت واحد، أحدهم صامت، وأنكر أكثرهم ذلك). وسيأتي في بحث (زوال الدولة الإسلامية) أحكام الأجزاء المنفصلة عن السلطة الأصلية ليعرف مصيرها وصفتها: هل هي دولة إسلامية أو لا؟). المطلب الثاني ـ نشأة الدولة الإسلامية: وفيه تمهيد وثلاثة فروع: تمهيد: مبدأ نشوء الدولة بمجرد تكامل أركانها: 29 - تنشأ الدولة الحديثة باستكمال عناصر مادية مكونة لها وهي (الشعب والإقليم والسلطة السياسية الحاكمة) وباعتراف المجتمع الدولي بها. والدولة هي الصورة الحديثة للجماعة السياسية، فالجماعات السياسية الأخرى لها نفس المقومات الأساسية التي للدولة الآن، فهي لا تختلف عنها في الطبيعة والكُنْه، وإنما الفروق التي بينها هي فروق كيفية لا تمس الجوهر، لذلك تقوم الدولة كغيرها من المجموعات السياسية على أساس وجود مجموعة كبيرة من ¬
التنظيم السياسي
الناس يقطنون في إقليم معين، ويخضعون لتنظيم سياسي معين (¬1). فإذا وجدت هذه العناصر أو الأركان نشأت الدولة. وقد عرف التاريخ القديم دولاً بمعنى الكلمة كالدولة المصرية القديمة والدولة الفارسية والدولة الرومانية. وقامت على هذا النحو في الجزيرة العربية دولة إسلامية بزغ فجرها بعد هجرة النبي صلّى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة سنة (622م) (¬2)، كان فيها الرسول صلّى الله عليه وسلم يباشر أعمال الحاكم في ضوء رسالة الإسلام، ثم تتابع على حكم هذه الدولة الخلفاء الراشدون، فالأمويون، ثم العباسيون ... إلخ، أي أن نشأة الدولة الإسلامية في صدر الإسلام تمتد بطريقة تدريجية على أساس البيعة والعهد، لأن سيرة النبي صلّى الله عليه وسلم وتعاليمه الدينية أوجدت نظاماً اجتماعياً معيناً، وهذا النظام الاجتماعي هو الذي أوجد نظام الحكومة (¬3). يبدو من ذلك أن الدولة الإسلامية (¬4) تنشأ كغيرها من الدول باجتماع العناصر المكونة لها عادة من إقليم وسكان وتنظيم سياسي، فالإقليم هو دار الإسلام والسكان هم المسلمون وأهل الذمة (¬5)، والتنظيم السياسي: هو السلطة الإسلامية العليا (أو الخلافة أو الإمامة) أي أن للدولة المسلمة تنظيمها الحكومي الخاص. ¬
الفرع الأول ـ طرق نشأة الدولة الإسلامية
الفرع الأول ـ طرق نشأة الدولة الإسلامية: 30 - إن نشأة الدولة الإسلامية بتوافر العناصر المادية السابقة يتم على إحدى صورتين كغيرها من الدول (¬1). آـ نشوء جديد كلية: قد تنشأ الدولة من عناصر جديدة إما بامتلاكها عنوة أو سلماً أو بهجرة مجموعة من الناس واستقرارها على إقليم غير مأهول أو مسكون بقبائل متأخرة أو بشعب ضعيف، وتوفر الرغبة لديهم في تكوين تنظيم سياسي مستقل. وهذه ظاهرة تاريخية يمكن إرجاع نشوء أغلب الدول القديمة إليها، ومنها الدولة الإسلامية الأولى في المدينة وما جاورها، ثم امتدادها بطريق الفتح إلى أنحاء الجزيرة العربية والبلدان الإسلامية المفتوحة، فقد هاجر المسلمون إلى المدينة، ثم فتحوا بلدان الجزيرة العربية وغيرها، وكونوا لأنفسهم حكومة ونظاماً سياسياً خاصاً يعتمد على أسس جديدة من حراسة الدين وسياسة الدنيا. ب ـ نشوء الدولة من عناصر قديمة: وهذا يكون إما بالانفصال أو بالاتحاد، وقد حدثت الحالة الأولى باستقلال الدول المنفصلة عن الخلافة العباسية، وتكوين دول مستقلة في الأندلس والمغرب ومصر وإيران. ويمكن حدوث الحالة الثانية باتحاد دولتين أو أكثر من دول العالم الإسلامي الحاضرة إما في شكل دولة واحدة كما كان عليه الوضع أثناء نظام الخلافة السابق، وإما في شكل اتحاد فعلي، أو دولة تعاهدية، ويتم التعاهد إما بالاتفاق الاختياري أو الصلح مع أهل بلد كبير على عقد الذمة مثلاً. ¬
الفرع الثاني ـ الاعتراف وأنواعه ونتائجها في المجال الدولي
الفرع الثاني ـ الاعتراف وأنواعه ونتائجها في المجال الدولي: ماهية مبدأ الاعتراف ومسوغاته: 31 - إن تنظيم المجتمع الدولي الحاضر تنظيم حديث لم يكن على هذا النحو وقت ظهور الإسلام وفي عصور دوله المتتابعة كما هو معروف، لذا كان مرجع تفصيل الأحكام الدولية إلى القانون الدولي العام، إلا أن المبادئ الأصلية والأخلاق الدولية السائدة مقررة بوضوح في الإسلام. فمن أنظمة القانون الدولي الحديث التي يشترطها لنشوء الدولة بعد استكمال عناصرها المادية المكونة لها هو إصدار اعتراف دولي بوجودها، والاعتراف بالدولة هو من جملة الأحكام السلمية في العلاقات الدولية. وبما أن الإسلام ينشد في الحقيقة الوصول إلى سلم مستقرة في علاقاته مع الشعوب الأخرى على أساس أحد أمرين: إما الدخول في الإسلام، أو المعاهدة والأمان، فإن الاعتراف بوجود الدولة الأخرى غير المسلمة (دارا لحرب) أمر لا مانع منه استصلاحاً في مبدأ الإسلام وفقهه المتمثل في تقسيم العالم إلى دارين: دار إسلام ودار حرب، لأن دار الحرب تشمل كل الدول غير المسلمة التي كانت في الأصل غير مسالمة للمسلمين ولا متعاهدة معهم، فإذا تمت المعاهدة السلمية بين الدولة الإسلامية وغيرها من دول دار الحرب، أو التزمت هذه الدول كلها ميثاقاً واحداً ينص على احترام السلم والأمن الدوليين، وتحريم التدخل في شؤون الدول الأخرى كان ذلك اعترافاً ضمنياً من الدولة الإسلامية بغيرها، فضلاً عن أن الاعتراف يصدر في الغالب صراحة بإرادة حرة. وهذا موافق لقوله تعالى: {وإن جنحوا للسَّلم فاجنح لها وتوكل على الله،
أنواع الاعتراف
إنه هو السميع العليم} [الأنفال:61/ 8]، وموافق أيضاً لرأي الفقهاء القائلين بأن الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم هو السلم (¬1). وبناء عليه يجوز للدولة المسلمة الاعتراف بدولة غير مسلمة اعترافاً علنياً أو ضمنياً حقوقياً أو واقعياً بحسب الحال. وكون الدعوة الإسلامية ذات نزعة عالمية من طريق الحكمة والموعظة الحسنة، وبالتالي امتداد سلطان الدولة الإسلامية مع انتشارها في المعمورة: لا يعني تجاهل ظروف الإمكان وضرورات الواقع ومصلحة السلام التي تجعل من دولة الإسلام إحدى دول هذا العالم التي تتبادل بينها أمر الاعتراف لفض منازعاتها على أساس سلمي يتمشى مع منطق الإسلام ووحي رسالته. ويؤكد هذه المسوغات للاعتراف أنه عند الفقهاء الدوليين الآن عمل حر تقر بمقتضاه دولة أو مجموعة من الدول وجود جماعة لها تنظيم سياسي في إقليم معين مستقلة عن كل دولة أخرى، وقادرة على الوفاء بالتزامات القانون الدولي العام وتظهر الدول بالاعتراف نيتها في اعتبار هذه الدولة عضواً في الجماعة الدولية (¬2). أنواع الاعتراف: 32 ـ للاعتراف أنواع ثلاثة حسبما يقرر فقهاء القانون الدولي الحديث، وهي: الاعتراف الكامل، والاعتراف الناقص، والاعتراف بحالة الحرب (¬3). ¬
أولا - الاعتراف الكامل
أولاً - الاعتراف الكامل: لا يكفي لنشوء الدولة الجديدة ـ كما تقدم ـ توافر وقائع مادية فقط (وهي الشعب والإقليم والسلطة الحاكمة) وإنما لا بد من أن يصاحب هذا النشوء إجراء قانوني هو الاعتراف بالدولة، ومقتضاه التسليم من جانب الدول القائمة بوجود هذه الدول وقبولها كعضو في المجتمع الدولي، وذلك يتم بإحدى صورتين: أـ الاعتراف بالدولة: يوجد هذا الاعتراف عادة بظهور دولة جديدة مستقلة وهو يتضمن الاعتراف بكل حكومة شرعية تقوم فيها، ويتم إما صراحة أوعلناً بالنص عليه في معاهدة أو في وثيقة دبلوماسية، وإما ضمناً بطريق التعامل مع الدولة الجديدة كتبادل التمثيل السياسي أو القنصلي، أو إبرام معاهدات معها أو دعوتها لحضور المؤتمرات باعتبارها دولة مستقلة. ب ـ الاعتراف بالحكومة: محل هذا الاعتراف هو حكومة جديدة وجدت في دولة قديمة نتيجة ثورة شعبية، أو انقلاب عسكري (¬1) يؤدي إلى تغيير نظام الحكم فيها، وإحلال حكومة جديدة محل الحكومة القديمة (¬2). ¬
ثانيا ـ الاعتراف الناقص أو التمهيدي
ثانياً ـ الاعتراف الناقص أو التمهيدي: 33 - إذا لم تستكمل الدولة عناصرها، فمن الجائز إصدار اعتراف تمهيدي بالجماعة التي تسعى عن طريق ثورة أو حركة انفصالية (¬1) إلى إنشاء دولة مستقلة، ويتضمن هذا الاعتراف إقرار الحالة القائمة فعلاً بين جماعة الثورة والدولة الأصل. ولهذا الاعتراف عند فقهاء القانون صور ثلاث (¬2): أـ الاعتراف بالأمة: هذا النوع من الاعتراف خطوة في سبيل الاعتراف بالدولة، ويتم عادة من الدول أصحاب المصالح مع بعض الشعوب الموالية لها عن طريق الاعتراف بلجنة قومية تشكلت في الخارج، وتتعامل معها بعض الدول الأجنبية، كأنها تمثل (الأمة) التي تنتسب إليها، وذلك مثل اعتراف الدول العربية وبعض الدول الصديقة بمنظمة التحرير الفلسطينية لتمثيل الشعب الفلسطيني. ب ـ الاعتراف بالثورة: وهو يحصل إذا ما نشبت ثورة في داخل دولة ما بقصد انفصال جزء من إقليمها عنها، ويقصد بالثورة: الهياج المسلح الذي لا يبلغ في الجسامة مبلغ الحرب الأهلية. جـ ـ الاعتراف بالحكومة في الخارج (حكومة المنفى): وهذا مثل الاعتراف بالأمة يتم باعتراف بعض الدول الأجنبية بحكومة تدعي أنها ذات الصفة الشرعية ¬
ثالثا ـ الاعتراف بحالة الحرب
تتكون خارج إقليم الدولة نتيجة وقوع انقلاب عسكري يتسلم فيه زعيم الانقلاب مقاليد السلطة في داخل البلاد، وذلك تمهيداً لدخول تلك الحكومة إلى البلاد لطرد جماعة الانقلاب، وممارسة الحكم فيها بالسيطرة على الإقليم والشعب ومباشرة سائر الاختصاصات المتعلقة بالحكم. ثالثاً ـ الاعتراف بحالة الحرب: 34 - وهو يحصل إذا ما اتخذت الثورة شكل الحرب الأهلية، وأصبح للثوار حكومة منظمة تباشر سلطاتها على إقليم معين، وجيش يتبع قواعد الحرب، ويترتب على اعتبار حالة الحرب قائمة بما يتبعها من آثار فيما يتعلق باتباع قواعد الحرب الدولية، والتزام الدولة المعترفة بمراعاة جانب الحياد حتى يتقرر مصير الحرب الدائرة، وينتهي النضال لصالح الإقليم الثائر أو دولة الأصل (¬1). وهذا الوضع يشبه في الفقه الإسلامي حالة البغاة أو دار البغي، فإذا تعذر على الحاكم الأصلي إخضاع البغاة، وظلوا مسيطرين على الأماكن التي أعلنوا فيها سلطانهم كان معنى ذلك إمكان صدور اعتراف بهم من الآخرين على أساس الأمر الواقع، مع تقدير أن الاعتراف يسيء إلى الدولة الأصل. الفرع الثالث ـ شخصية الدولة الإسلامية: 35 - تتمتع الدولة الإسلامية بشخصية مستقلة تعرف حديثاً بالشخصية المعنوية أو الاعتبارية (¬2) وقد أقر فقهاء الإسلام مدلول هذا الاصطلاح بدليل ما قرروه من نتائج أو خصائص بالنسبة للدولة ونحوها وهي: ¬
أـ إنهم عرفوا فكرة الدولة مستلقة عن أشخاص الحكام، فكان الحاكم أو الخليفة يعد بمثابة أمين على السلطة يمارسها بصورة مؤقتة، ونيابة عن الأمة، كما يتضح من الخطب السياسية التي كان يلقيها الخلفاء الراشدون بمجرد انعقاد البيعة لهم (¬1)، والتي يبدو منها أنهم كانوا يمارسون السلطة من أجل مصلحة الجماعة الإسلامية لا من أجل مصالحهم الشخصية، فالخليفة يعتبر نفسه وكيلاً عن الأمة في أمور الدين وفي إدارة شؤون الدولة بحسب شريعة الله ورسوله (¬2)، وهو لهذا يستمد سلطانه من الأمة، ولها حق نصحه وعزله من منصبه إن وجد ما يوجب العزل (¬3). وكان العمال أو الموظفون لا ينعزلون بموت السلطان الذي عينهم، وكذا نائب القاضي لا ينعزل بعزل القاضي ولا بموته؛ لأن القاضي الذي استناب غيره في ¬
القضاء إنما يعمل بولاية الأمة وفي حقوقها، لا بولاية شخصية من السلطان ولا في حقه الخاص؛ لأن الخليفة أو السلطان بمنزلة رسول معبر عن الأمة (¬1). 1/ 35 ـ ب ـ وتظل حقوق الدولة الإسلامية ثابتة لها، وإن تغير حكامها بدليل أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبقى الأراضي المفتوحة على ملكية أهلها، على أن يدفعوا خراجاً دائماً (¬2). وأكد معظم الفقهاء هذا المعنى، فقرروا أنها وقف لجماعة المسلمين. فقال مالك: تصير الأراضي التي استولى عليها المسلمون عنوة وقفاً على المسلمين حيث غنت. وقال أبو حنيفة: الإمام فيها بالخيار بين قسمتها بين الغانمين، فتكون أرضاً عشرية، أو يعيدها إلى أيدي المشتركين بخراج يضربه عليها، فتكون أرض خراج ويكون المشركون فيها أهل ذمة، أو يقفها على جميع المسلمين. وقال الحنابلة في الأرجح عندهم: إن الإمام يفعل ما يراه الأصلح من قسمة هذه الأراضي، ووقفها مقابل خراج دائم يقرر عليها كالأجرة. وكذلك الأراضي المملوكة عفواً لانجلاء أهلها عنها خوفاً: تصير بالاستيلاء عليها وقفاً. وأيضاً الأراضي المستولى عليها صلحاً على أن ملك الأرض لنا، تصير بهذا الصلح وقفاً من دار الإسلام، ولايجوز بيعها ولا رهنها (¬3). ¬
وقال الفقهاء أيضاً: (بيت المال وارث من لا وارث له) (¬1) أي أن هذا حق ثبت له، وبديهي أن بيت المال من أخص حقوق الدولة، بل ومن أهم مقومات وجودها. ومن الأحكام الفقهية: لبيت المال حق الأخذ بالشفعة بسبب الشركة في ملكية العقار المبيع إن وجد في ذلك المصلحة له (¬2). 2/ 35 - وأما بالنسبة لالتزامات الدولة، فقال عنها فقهاؤنا: تظل قائمة، ففي بحثهم المعاهدات مثلاً قالوا: تبقى المعاهدة نافذة يلزمنا الوفاء بها حتى تنقضي مدتها، أو ينقضها العدو، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} (¬3) [المائدة 1/ 5]، وقوله صلّى الله عليه وسلم: «المسلمون عند شروطهم ما وافق الحق من ذلك» (¬4)، فلو مات الإمام الذي عقد الهدنة أو عزل لم ينتقض العهد، وعلى من بعده الوفاء به، لأن العقد السابق كان باجتهاد، فلم يجز نقضه باجتهاد آخر، كما لم يجز للحاكم نقض أحكام من قبله باجتهاد جديد، بدليل إتمام علي كرم الله وجهه ما عقده لأهل نجران (¬5). وهذا يدل على أن الدولة شخص اعتباري يمثله الإمام ويتعاقد باسمه. ويشير إلى ذلك أيضاً أن أمان الواحد من المسلمين رجلاً أو امرأة يسري على المسلمين جميعاً، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ¬
وهم يد على من سواهم» (¬1)، هذا الحديث يدل على وجود شخصية اعتبارية لجماعة المسلمين يمثلها أحدهم ويعتبر الأمان الصادر منه ملزماً لهم. ومن الأحكام الفقهية في هذا الشأن ما قاله فقهاؤنا: (إن على بيت المال نفقة من لا عائل له من الفقراء) (¬2). وقالوا في نطاق المسؤولية المدنية والجنائية: إذا أتلف الحاكم شيئاً في غير حالة تطبيق العقوبات الشرعية أثناء قيامه بمصلحة من المصالح العامة، فضمان المتلفات على الدولة باعتبارها شخصية معنوية يمثلها الحاكم نياية عن جماعة المسلمين، قال عز الدين بن عبد السلام: «إن الإمام أو الحاكم إذا أتلف شيئاً من النفوس أوالأموال في تصرفهما للمصالح، فإنه يجب على بيت المال دون الحاكم والإمام، ودون عواقلها على قول الشافعي، لأنهما لما تصرفا للمسلمين، صار كأن المسلمين هم المتلفون، ولأن ذلك يكثر في حقهما، فيتضرران به، ويتضرر عواقلهما) (¬3). وذكر فقهاء الحنفية: إذا أخطأ القاضي في حق من حقوق الله تعالى الخالصة له (أي من حقوق المجتمع) كأن قضى بحد زنا أو سرقة أو شرب خمر، واستوفى الحد، ثم ظهر أن الشهود ساقطو العدالة، كأن كانوا محدودين في قذف، فالضمان في بيت المال، لأن القاضي عمل في ذلك لعامة المسلمين لعود منفعتها ¬
المبحث الثاني ـ خصائص الدولة الإسلامية ومقارنتها بالدولة الحديثة
إليهم: وهو الزجر، فكان خطؤه عليهم، فيؤدى (أي تدفع الدية) من بيت مالهم، ولا يضمن القاضي في ماله الخاص (¬1). يظهر من كل ذلك أن الدولة لها أهلية وجوب كاملة وذمة مستقلة عن أفرادها المكونين لها (¬2) وهذا هو المراد بالشخصية الاعتبارية للدولة. المبحث الثاني ـ خصائص الدولة الإسلامية ومقارنتها بالدولة الحديثة المطلب الأول- خصائص الدولة الإسلامية: وفيه فرعان: أولاً ـ كونها دولة فكرة ومبادئ لإصلاح الحياة البشرية: 36 - إن نظرية الدولة في الإسلام تقوم أساساً على أنها دولة فكرية (أي ذات منهج إلهي) مؤسسة على مبادئ وغايات محددة واضحة (¬3) تنشد إصلاح الحياة البشرية قاطبة على وفق منهج العقيدة الإسلامية ومستلزماتها ونظمها التشريعية التي لاتتأثر بأهواء الواضعين، ولا بحدود إقليمية ضمن نطاق أرضي معين. وإنما دستور الإسلام شامل لكل من آمن به من بني الإنسان دون اعتبار لميزات الجنس والعنصر والقوم والوطن بالمعنى الضيق، كما أن الدعوة إلى إقامة دولة في ¬
ثانيا ـ كون غاية الدولة أداء رسالة الإسلام وجوبا اعتقاديا
ظل الإسلام لا تعتمد على الروابط العنصرية والأواصر التاريخية التي تعتمد عليها الدول والقوميات في بنائها الحاضر. فدولة الإسلام إذن دولة ذات فكرة ومنهج موضوعي ورسالة دائمة مهمتها نشر العقيدة الإسلامية وتصحيح مفاهيم الناس نحو عالم الغيب وعالم الشهادة بتقديم الحلول السليمة ووضع المناهج السديدة للحياة الاجتماعية والاقتصادية والعمرانية على نمط يحقق الخير والرفاه والسعادة للفرد والجماعة. تتضح بذلك الغاية السامية للمسلمين أمام الشعوب: وهي أن الإسلام يريد لها النمو والازدهار والمحافظة على كرامتها والإبقاء على خيراتها ومقدراتها بأيدي أهلها الأصليين، على النقيض تماماً مما تفعله دول الاستعمار الحاضرة، إذ أن الرغبة في نشر فكرة الإسلام لا تنشئ شيئاً من الشر الذي تنشئه الرغبة في نشر نفوذ بقصد الاستغلال الذي يسمونه (الاستعمار) (¬1)، فالفكرة إذن هي الإسلام، وفكرة الإسلام التي تقوم مقام فكرة الوطن في معناها الطيب لا ينشأ عنها حب استغلال أرض الآخرين، أو طائفة أخرى من الناس. ثانياً ـ كون غاية الدولة أداء رسالة الإسلام وجوباً اعتقادياً: 37 - إن الغاية الجوهرية للحكم الإسلامي هي أن تقوم الدولة بمختلف أجهزتها بنشر رسالة الإسلام، وحفظ الدين والدفاع عنه، حتى إن الفقهاء صرحوا بأن المقصود بالجهاد ليس قتل الناس أو إكراههم على الدين، وإنما هو الهداية وما سواها من الشهادة بالطريق الحسنى وبالاقتناع الحر (¬2). ¬
قال الماوردي وأبو يعلى: إن أول الأمور التي تلزم الإمام هو (حفظ الدين على أصوله المستقرة، وما أجمع عليه سلف الأمة، فإن نجم مبتدع، أو زاغ ذو شبهة عنه، أوضح له الحجة، وبيَّن له الصواب، وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود ليكون الدين محروساً من خلل، والأمة ممنوعة من زلل) (¬1). وقال الدهلوي: (إن أمهات المقاصد أمور: منها: حفظ الملة بنصب الخطباء والأئمة والوعاظ والمدرسين) (¬2). وقال ابن تيمية: (إن جميع الولايات في الإسلام مقصودها أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، فإن الله سبحانه وتعالى إنما خلق الخلق لذلك، وبه أنزل الكتب، وبه أرسل الرسل، وعليه جاهد الرسول والمؤمنون، قال الله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات:56/ 51] وقال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} [الأنبياء:25/ 21]. وقال: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} (¬3) [النحل:36/ 16]. وقال ابن تيمية أيضاً: المقصود الواجب بالولايات: إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسراناً مبيناً، ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا، وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم، وهو نوعان: قسم المال بين مستحقيه، وعقوبات المعتدين، فمن لم يعتد أصلح له دينه ودنياه، ولهذا كان عمر بن الخطاب يقول: إنما بعثت عمالي إليكم ليعلموكم كتاب ربكم وسنة نبيكم، ويقيموا بينكم دينكم. ¬
المطلب الثاني- مقارنة الدولة الإسلامية بالدولة الحديثة
فلما تغيرت الرعية من وجه، والرعاة من وجه تناقضت الأمور، فإذا اجتهد الراعي في إصلاح دينهم ودنياهم بحسب الإمكان، كان من أفضل أهل زمانه، وكان من أفضل المجاهدين في سبيل الله، فقد روي: يوم من إمام عادل أفضل من عبادة ستين سنة (¬1). من ذلك يتبين أن غاية الدولة الإسلامية إصلاح الدين والدنيا وإقامة العدل وإعلاء كلمة الله تعالى، (أي تطبيق تعاليمه في القرآن والسنة) والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وبهذا تحقق الحكومة الإسلامية المثل الأعلى الذي ينشده الإسلام للبشرية. وهو تنفيذ أحكام الشريعة، وتمكين المسلم من أن يحيا طبقاً لمتطلباتها؛ لأن الدين الإسلامي هو أساس كل التنظيمات في الحياة، فكلمة (دين) تشمل جميع نواحي النشاط الإنساني، سواء في مجال التنظيم السياسي للجنس البشري، أم في مضار الأخلاق والاقتصاد والاجتماع والسياسة والثقافة والتربية التي يتضمنها كلها القرآن الكريم (¬2). وبكلمة إجمالية: إن مهمة الدولة الإسلامية هي نشر الحضارة ذات الطابع الإنساني الرفيع. المطلب الثاني- مقارنة الدولة الإسلامية بالدولة الحديثة: وفيه فرعان: الفرع الأول ـ بيان مدى ارتباط الدولة الحديثة بالمبادئ والأديان: 38 ـ لا نجد الآن تقسيماً للدول بحسب أديانها، ولا يهتم القانون الدولي ¬
المجموعة الأولى: الدول النصرانية
العام بشأن دين الدولة، وإنما يعترف بالدولة الموزعة في العالم على أساس إقليمي، لكن من المعروف أن الدول بحسب الدين أربع مجموعات رئيسية: (¬1) المجموعة الأولى: الدول النصرانية. المجموعة الثانية: الدول اللادينية (العلمانية) والدول الملحدة. المجموعة الثالثة: الدول البوذية والهندوكية والبرهمية. المجموعة الرابعة: الدول الإسلامية. أما المجموعة الأولى: فلا تكتفي بتعيين دينها، بل هي تصرح في دساتيرها بمذهبها أيضاً، فهناك دول بروتستانية، ودول كاثوليكية، ودول أرثوذكسية. وقد صرحت دساتير معظم الدول الحديثة ولا سيما دساتير أمم الغرب بأنها تعطي لدين الأكثرية وثقافتها مكاناً ممتازاً، وتعمل على حمايتهما وتطورهما (¬2). ففي إنجلترا: نصت المادة (7) من وثيقة الحقوق على أنه يسمح لرعايا الكنيسة البروتستانية بحمل السلاح لحماية أرواحهم في حدود القانون. وفي المادة (8) من الوثيقة المذكورة لكاثوليكي أن يرث أو يعتلي العرش البريطاني. وفي المادة (3) من قانون التسوية: على كل شخص يتولى الملك أن يكون من رعايا كنيسة انجلترا ولا يسمح بتاتاً لغير المسيحيين ولا لغير البروتستانيين أن يكونوا أعضاء في مجلس اللوردات ويعتبر ملك بريطانيا حامياً للكنيسة البروتستانية في العالم. وفي اليونان: تنص المادة (1) من دستورها على أن المذهب الرسمي لأمة ¬
اليونان هو مذهب الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية. وفي المادة (47) من الدستور: كل من يعتلي عرش اليونان يجب أن يكون من أتباع الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية. وفي الدانمرك تنص المادة (2) البند (5) على أنه يجب أن يكون الملك من أتباع الكنيسة الانجيلية اللوثرية. وفي المادة (1) البند (3): إن الكنيسة الإنجيلية اللوثرية هي الكنيسة المعترف بها في الدانمرك. وفي إيرلندة: ينص الدستور على أن الدولة تعطي مكاناً خاصاً للكنيسة الرسولية الكاثوليكية المقدسة. وفي النرويج: ينص البند الثاني من المادة (12) على أنه ستظل الكنيسة الانجيلية اللوثرية هي الكنيسة الرسمية في الدولة، وفي الفقرة الثانية من البند الأول: يجب أن يكون الملك من أتباع الكنيسة المذكورة. وفي السويد: في البند الثاني من المادة (4): يجب أن يكون الملك من أتباع المذهب الإنجيلي الخالص، وفي المادة (4) من الدستور: يجب أن يكون أعضاء المجلس الوطني من أتباع المذهب الإنجيلي. وفي كولومبيا: تنص المادة (53) من الدستور على ضرورة تحسين العلاقات بين الحكومة والكنيسة الكاثوليكية. وفي جمهورية كوستاريكا: تنص المادة (66) من الدستور على أن المذهب الكاثوليكي هو المذهب الرسمي للدولة. وفي جمهورية السلفادور: تقرر المادة (12) من الدستور: أن الدولة تعترف بالشخصية القانونية للكنيسة الكاثوليكية التي يتبعها غالبية السكان.
وفي إسبانيا: تنص المادة (9) على أنه يجب أن يكون رئيس الدولة من رعايا الكنيسة الكاثوليكية. وفي المادة (6): على الدولة رسمياً حماية اعتناق وممارسة شعائر المذهب الكاثوليكي باعتباره المذهب الرسمي لها. وفي البرتغال: تقول المادة (24) البند (2): لما كانت الجماعات البشرية البرتغالية التي ترعاها الكنيسة الكاثوليكية عبر البحار تعتبر أداة لنشر المدنية والنفوذ القومي ومراكز لتدريب الرجال للخدمة في تحقيق الغايات، فإن الدولة تعترف لها بالشخصية القانونية، وعليها حمايتها ومساعدتها باعتبارها مراكز ثقافية هامة. وفي جمهورية البارجوراي: تنص المادة (3) من الدستور على أن المذهب الرسمي للدولة: هومذهب الكنيسة الكاثوليكية الرسولية. ويجب أن يكون رئيس الجمهورية من أتباع الكنيسة المذكورة. وفي الأرجنتين: تنص المادة (2) على: أن على الحكومة الفدرالية أن تحمي الكنيسة الرسولية. وفي بورما: تنص المادة (1) من الدستور على أن الدولة تعترف بالمكانة الخاصة للديانة البوذية باعتبارها دين الأكثرية الساحقة. وفي بلاد التايلاند: تنص المادة 7 من الدستور على أن الملك يعتنق الديانة البوذية ويقدس شعائرها (¬1). ¬
المجموعة الثانية: الدول العلمانية
1/ 38 - وأما المجموعة الثانية: الدول العلمانية، فهي قسمان: القسم الأول: ما يكتفي دستورها بالقول بأنها (علمانية) لا دينية، أي تقول بلزوم فصل الدين عن الدولة، مثل فرنسا التي كانت أول من ابتدعت هذه البدعة أثر ثورة 1789 م، وتبعتها في ذلك تركيا على يد مصطفى كمال. ومن هذا القسم حكومة الهند. والقسم الثاني: هو الدول الملحدة: وهي الدول التي لا يكتفي دستورها بالقول بأنها (علمانية) بل يمنع التبشير بالدين، ويجعل الدعاية ضد الأديان حقاً من الحقوق العامة. وأول من أقدم على ذلك اتحاد جمهوريات روسيا السوفياتية. وقد انهار في عام 1989م. 2/ 38 - وأما المجموعة الثالثة: الدول البوذية والكونفوشية والهندوكية، فهي كاليابان وحكومة الصين القديمة. وأما الهند فهي خليط من الهندوس والمجوس وسائر الأديان ومختلف المذاهب. وبعد الاستقلال نص دستور الدولة الهندية على أن الدولة علمانية، ونص دستور الباكستان على أنها من الحكومات الإسلامية. 3/ 38 - وأما المجموعة الرابعة فهي الدول الإسلامية: والملحوظ من هذه التسمية أن مبادئ الإسلام تحكمها، دون أن يكون هناك طبقة دينية لها اختصاصات معينة في الحكم، وإنما يشترك في إدارتها كل مسلم كفء للإدارة. الفرع الثاني - مقارنة الدولة الإسلامية بالدولة الشيوعية: 39 - تلتقي الدولة الإسلامية والدولة الاشتراكية ـ الشيوعية في طبيعة واحدة هي أنهما تقومان على أساس فكرة ودعوة، لا على أساس مصالح مادية أو
المبحث الثالث ـ وظيفة دولة الإسلام
الارتباط بحدود جغرافية إقليمية، أورابطة قومية عنصرية. فكل من الدولتين تتوخى نشر فكرتها في أرجاء العالم، ولا مانع بالنسبة لمن يؤمن بتلك الفكرة أن يكون موالياً لدولة أخرى، أي أن هناك بالنسبة للشخص صاحب الفكرة ازدواجاً في الولاء. المبحث الثالث ـ وظيفة دولة الإسلام (¬1) تمهيد: في تعريف وظيفة الدولة الإسلامية: 40 - امتاز الإسلام عما كان سائداً في الجاهلية العربية بحمايته نوعين من المصالح اللذين بهما انتظام الملة والمدن، وقد بعث النبي صلّى الله عليه وسلم لأجلهما، والإمام نائبه، فهو مسؤول عنهما (¬2). لذلك تختلف وظيفة الدولة الإسلامية عن سائر الدول الدستورية البرلمانية في أن مهمتها الحفاظ على أمور الدنيا والدين، وأنه لا فصل بين الدين والدولة كما فعل أتباع الدين المسيحي (¬3)، وأن الخليفة أو الإمام كما أنه يلي سلطات التشريع والقضاء والتنفيذ وسائر الشؤون الدنيوية، فإن له أيضاً إمامة الصلاة وإمامة الحج والإذن بإقامة الشعائر في المساجد، والخطبة في الجمع والأعياد وغير هذا من الشؤون الدينية، باعتبار أن الغاية من إقامته أن يقوم بحراسة الدين وسياسة الدنيا (¬4). ¬
41 - ويعرف هذا الواجب من تعاريف العلماء للخلافة، ومنها ما يأتي (¬1): قال الدهلوي: الخلافة هي الرياسة العامة في التصدي لإقامة الدين بإحياء العلوم الدينية، وإقامة أركان الإسلام، والقيام بالجهاد وما يتعلق به من ترتيب الجيوش والفروض للمقاتلة، وإعطائهم من الفيء، والقيام بالقضاء، وإقامة الحدود، ورفع المظالم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نيابة عن النبي صلّى الله عليه وسلم (¬2). وقال في البحر الزخار: الإمامة: رياسة عامة لشخص مخصوص بحكم الشرع ليس فوقها يد (¬3). وقال الماوردي: الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا (¬4). وقال السعد التفتازاني في المقاصد: الإمامة: هي رياسة عامة في أمر الدين والدنيا خلافة عن النبي صلّى الله عليه وسلم (¬5). وهذا فيما يبدو خير التعاريف. وزاد فخر الدين الرازي قيداً آخر في التعريف، فقال: هي رياسة عامة في الدين والدنيا لشخص واحد من الأشخاص، وقال: هو احتراز عن كل الأمة إذا عزلوا الإمام لفسقه (¬6). ¬
واعترض الإيجي على هذا التعريف بأنه قد ينطبق على مقام النبوة، فهي (رياسة عامة في هذه الأمور لشخص واحد) (¬1) وقال: الأولى أن يقال: (هي خلافة الرسول صلّى الله عليه وسلم في إقامة الدين وحفظ حوزة الملة، بحيث يجب اتباعه على كافة الأمة) (¬2). وذكر ابن خلدون: أن الخلافة هي (حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها)، إذ أن أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة: خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به (¬3). وقال بعض العلماء المتأخرين: الخلافة هي الرياسة العظمى والولاية العامة الجامعة القائمة بحراسة الدين والدنيا (¬4). وخلاصة المقال: إن وظيفة الدولة الإسلامية أو وظيفة الخليفة في الماضي أمران: إقامة الدين الإسلامي، وتنفيذ أحكامه، والقيام بسياسة الدولة في الحدود التي رسمها الإسلام. أو بعبارة أخرى: الوظيفة واحدة: هي إقامة الإسلام. والإسلام كما هو معروف دين ودولة في اصطلاح العصر. ¬
واجبات الحاكم أو وظائف الدولة
تفصيل واجبات الحاكم أو وظائف الدولة: 42 ـ أوضح الماوردي وأبو يعلى وظائف الدولة أو واجبات الإمام وحدداها بعشرة أمور وهي: (¬1) 1 - حفظ الدين على الأصول التي أجمع عليها سلف الأمة، ليكون الدين محروساً من الخلل، والأمة ممنوعة من الزلل. 2 - تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين، وقطع الخصام بينهم، حتى تظهر النصفة فلا يتعدى ظالم ولا يضعف مظلوم. 3 - حماية البيضة (الكيان) والذب عن الحوزة ليتصرف الناس في المعايش، وينتشروا في الأسفار آمنين. 4 - إقامة الحدود لتصان محارم الله عن الانتهاك، وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك. 5 - تحصين الثغور بالعدة المانعة، والقوة الدافعة، حتى لا يظفر الأعداء بغرَّة ينتهكون بها محرماً، ويسفكون فيها دماً لمسلم أو معاهد. 6 - جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة. 7 - جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصاً واجتهاداً من غير عسف. ¬
الوظيفة الأولى ـ وظيفة الدولة في الداخل
8 - تقدير العطاء وما يستحق في بيت المال من غير سرف ولا تقصير فيه ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير. 9 - استكفاء الأمناء وتقليد النصحاء فيما يفوضه إليهم من الأعمال، ويكله إليهم من الأمور لتكون الأعمال مضبوطة والأموال محفوظة. 10 - أن يباشر مشارفة الأمور وتصفح الأحوال ليهتم بسياسة الأمة وحراسة الملة، ولايعول على التفويض تشاغلاً بلذة أو عبادة، فقد يخون الأمين، ويغش الناصح، وقد قال الله تعالى: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى} [ص:26/ 38] فلم يقتصر سبحانه وتعالى على التفويض دون المباشرة. وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلم «كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته» (¬1). هذه هي أهم وظائف الدولة الإسلامية، فالأولى هي الوظيفة الدينية والثالثة والخامسة والسادسة هي الوظيفة الدفاعية، والثانية والرابعة هي الوظيفة القضائية، والسابعة والثامنة هي الوظيفة المالية، والتاسعة والعاشرة هي الوظيفة الإدارية. ويمكن تصنيف هذه الوظائف على نحو آخر وتقسيمها إلى وظيفتين: داخلية وخارجية كما سيبين في البحثين التاليين: الوظيفة الأولى ـ وظيفة الدولة في الداخل هذه الوظيفة تقتضيها إما الضرورات الاجتماعية بتأمين المرافق العامة للمجتمع، وإما الغايات الأساسية التي تتوخاها الدولة صاحبة الرسالة. ¬
أولا ـ تأمين مصالح المجتمع
ويبحث ذلك في المطلبين الآتيين: أولاً ـ تأمين مصالح المجتمع: 43 - لا تختلف وظيفة الدولة الإسلامية عن وظائف الدولة الحديثة كما لاحظنا فيما يلزم الإمام من الأمور العشرة السابق ذكرها، والتي يهمنا منها هنا بكلمة إجمالية النظر في أمور الدنيا وتدبيرها، وهذه الوظائف تشبه حديثاً ما تختص به السلطتان التنفيذية والقضائية في الوقت الحاضر: ومن المعروف أن للسلطة التنفيذية حقوقاً سياسية وإدارية وحربية وقضائية (¬1). ف الحقوق الإدارية (¬2): هي المتعلقة بتنفيذ القوانين وإدارة الدولة ومختلف مرافقها العامة مع ما يتبع ذلك من حق تعيين وعزل الموظفين. وهذه الحقوق تعرّض فقهاؤنا لها فيما ذكره الماوردي من وظائف (الإمام) العشرة، ولا سيما الأخيرتان منها. قال الدهلوي: (إن أمهات المقاصد أمور، منها: تدبير المدينة وسياستها من الحراسة والقضاء وإقامة الحدود والحسبة. ومنها: منافع مشتركة ككري الأنهار وبناء القناطر ونحو ذلك) (¬3). والحقوق القضائية كحق العفو الخاص والعام، وكحق التصديق على بعض الأحكام، وهذا من حيث المبدأ قد ذكره الماوردي في الوظيفة الثانية والرابعة، إلا ¬
أهم وظائف الدولة الداخلية الإدارية والقضائية
أن الفقهاء فصلوا في الأمر، فقال الحنفية: لا يجوز شرعاً للحاكم بعد رفع الأمر إليه العفو عن العقوبات المقدرة (الحدود) ولا الشفاعة فيها (¬1). أما العقوبات التعزيرية فيجوز للحاكم العفو عنها حسبما يرى من المصلحة في حال عفو صاحب الحق عنها، أو كون الحق فيها للجماعة. وبعبارة أخرى: يجوز للإمام ترك التعزير إذا لم يتعلق به حق لآدمي (¬2)، لما روي أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا في الحدود» (¬3). وأما السلطة القضائية فهي التي تفسر القانون وتطبقه على الوقائع التي تعرض عليها في الخصومات. وهذه هي مهمة القاضي في الإسلام حيث إنه يقوم بتنفيذ أحكام الشريعة بكل دقة وأمانة، وقد بلغ تنظيم القضاء في عهد الإسلام شأواً رفيعاً لم يسبق إليه. وسأفصّل الكلام هنا في أهم وظائف الدولة الداخلية الإدارية والقضائية وهي ما يأتي: 1 - المحافظة على الأمن والنظام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 44 - كان من اختصاص رجال الشرطة الإدارية في العهد الإسلامي أمور منها (¬4): أـ حفظ النظام: وذلك بمنع الفوضى والتجمعات في الطرق والأماكن ¬
ب ـ حفظ الأمن
العامة، والسهر على المواكب، ومرافقة الأمير أو صاحب السلطان في تنقلاته لإظهار هيبته ودفع الناس عنه وتلقي أوامره. ب ـ حفظ الأمن: وذلك بمراقبتهم الأشرار والدعار واللصوص، وطلبهم في مظانهم، وأخذهم على يد كل من يرتكب عدواناً على غيره، أو يقدم على عمل من شأنه إثارة الناس وتهييج الفتنة. قال الماوردي: القاعدة الرابعة من القواعد التي تصلح بها الدنيا: أمن عام تطمئن إليه النفوس، وتنتشر فيه الهمم، ويسكن إليه البريء، ويأنس به الضعيف، فليس لخائف راحة، ولا لحاذر طمأنينة، وقد قال بعض الحكماء: الأمن أهنأ عيش، والعدل أقوى جيش (¬1). 45 - ولكن لا يقتصر دور الدولة الإسلامية على مجرد توفير وضمان الأمن والطمأنينة للأفراد وصيانة حياتهم وأموالهم ودفع العدوان الداخلي والخارجي عنهم، والإشراف على إطاعة الأنظمة والأحكام، وإنما على الدولة والأفراد أن يخطوا خطوة إيجابية بالتضامن والتكافل معاً (¬2) نحو إيجاد باعث شخصي على احترام حقوق الآخرين، والإذعان للنظام المتبع، وذلك بالقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليتحقق المقصد الأساسي للشريعة: وهو إصلاح المجتمع، أي الحياة الاجتماعية إصلاحاً جذرياً على نحو يستقر فيه الأمن العام ¬
والعدل بين الناس، وصيانة الحريات الأساسية بدافع ذاتي ومحبة خالصة لمصالح الآخرين. وكل فرد يعتبر مسؤولاً بنفسه عن الأمر بالمعروف، فإن قصر فهوآثم مخطئ، ويكفل هذا الأصل اليوم ما يسمى بحرية النقد، ويقال له في الاصطلاح الحديث حق الدفاع الشرعي العام (¬1). لكن الإسلام اعتبر ذلك واجباً، وبين أن النقد له حدود تقيده في الإسلام حتى يكون نقداً بناء غير هدام. قال النووي في المنهاج: (ومن فروض الكفاية: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وعلق الشارح بقوله: يجب على الإمام أن ينصب محتسباً (¬2) يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر (¬3). وقال الماوردي: أكد الله زواجره بإنكار المنكرين لها، فأوجب الأمر بالمعروف ـ الواجب ـ والنهي عن المنكر ـ الحرام (¬4). هذا الحكم بالوجوب باتفاق الفقهاء، إلا أن جمهورهم قالوا: هو فرض كفاية كالجهاد. وقال بعضهم: هو فرض عين على المستطيع كالحج (¬5). ¬
الأمر بالمعروف
46 - والأمر بالمعروف: هو الترغيب في كل ما ينبغي قوله، أو فعله طبقاً لقواعد الإسلام. والنهي عن المنكر: هو الترغيب في ترك ما ينبغي تركه، أو تغيير ما ينبغي تغييره طبقاً لما رسمه الإسلام (¬1). والمعروف: هو كل قول أو فعل ينبغي قوله أوفعله طبقاً لنصوص الشريعة الإسلامية، ومبادئها العامة وروحها (¬2)، كالتخلق بالأخلاق الفاضلة والعفو عند المقدرة، والإصلاح بين المتخاصمين وإيثار الآخرة على الدنيا، والإحسان إلى الفقراء والمساكين، وإقامة المعاهد والملاجئ والمستشفيات ونصرة المظلوم والتسوية بين الخصوم في الحكم، والدعوة إلى الشورى، والخضوع لرأي الجماعة وتنفيذ مشيئتها، وصرف الأموال العامة في مصارفها، إلى غير ذلك (¬3). والمنكر: هو كل معصية حرمتها الشريعة سواء أوقعت من مكلف أم غير مكلف (¬4)، فمن رأى صبياً أو مجنوناً يشرب خمراً فعليه أن يمنعه ويريق خمره، ومن رأى مجنوناً يزني بمجنونة أو يأتي بهيمة، فعليه أن يمنع ذلك (¬5)، وعرف الغزالي المنكر: بأنه كل محذور الوقوع في الشرع (¬6). ¬
47 - وقد أوجب الله على الحكومة والأفراد القيام بواجب الأمر والنهي، لأن في ذلك إقامة أمر الله وهدم كل ما يخالف الإسلام، ومن أهم واجبات الدولة ـ كما ذكر الماوردي وغيره ـ إقامة الإسلام بالقضاء على الشرك ومظاهره، والتمكين لدين الله الحنيف، قال الله تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون} [آل عمران:104/ 3] {الذين إن مكّناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، ولله عاقبة الأمور} [سورةالحج:41/ 22] {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} [آل عمران:110/ 3] {لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون} [المائدة:78/ 5 - 79]. وحرض القرآن الكريم أيضاً على ضرورة تعاون المؤمنين في القيام بهذا الواجب، فقال سبحانه: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} [التوبة:71/ 9]. وأيدت السنة النبوية ذلك المفهوم، فقال صلّى الله عليه وسلم: «كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع ومسؤول عن رعيته» (¬1)، «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» (¬2) «إن ¬
الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمّهم الله بعقاب» (¬1)، «أفضل الجهاد كله حق عند سلطان وأمير جائر» (¬2)، «والذي نفسي بيده لتأمرُن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجيب لكم» (¬3). هذه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية تدل على أن غاية الدولة الإسلامية ليست سلبية، وإنما لها غاية إيجابية أيضاً، أي ليس من مقاصدها المنع من العدوان، وحفظ حرية الناس فقط، بل إن هدفها الأسمى هو نظام العدالة الاجتماعية الذي جاء به كتاب الله، وغايتها في ذلك النهي عن جميع أنواع المنكرات التي منعها الله تعالى. قال ابن تيمية: إن صلاح المعاش والمعاد في طاعة الله ورسوله، ولا يتم ذلك إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبه صارت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس (¬4). 48 - ووسائل دفع المنكر كثيرة، منها التعريف والبيان، والوعظ والإرشاد، والدعوة والتبليغ، والتربية والتعليم، والتعنيف، والتغيير باليد، والتهديد بالضرب والقتل، والاستعانة بالغير، والقوة السياسية، والرأي العام والنفوذ ¬
2 - تنظيم القضاء وإقامة العدل
الاجتماعي بحسب الظروف والأحوال (¬1). وعلى الدولة المساهمة البناءة في هذا المضمار، فتخصص لإزالة المنكر ما يعرف في الإسلام بالمحتسب، وهو المسلم المكلف (البالغ العاقل) القادر على الأمر بالمعروف ودفع المنكر ورفع الظلم مما ليس من خصائص الولاة والقضاة وأّهل الديوان ونحوهم (¬2). قال ابن تيمية: (وجميع الولايات الإسلامية إنما مقصودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سواء في ذلك ولاية الحرب الكبرى مثل نيابة السلطنة، والصغرى مثل ولاية الشرطة وولاية الحكم، أو ولاية المال وهي ولاية الدواوين، وولاية الحسبة (¬3)). وهناك مسألة فلسفية بحثها العلماء وهي أنه هل وجوب النهي عن المنكر بالعقل أو بالشرع (¬4). 2 - تنظيم القضاء وإقامة العدل: 49 - إن غاية الدولة الإسلامية هي تحقيق مصالح الناس ورفع الضرر عنهم، وذلك بإقامة التوازن والعدل فيما بينهم، ومنع تعدي بعضهم على بعض. وبما أن تنظيم القضاء ونصب القضاة مظهر من مظاهر إقامة العدل، كان من ¬
أعظم الواجبات التي اهتم بها فقهاء الإسلام وخلفاؤه، فأبانوا شروطه، ووضعوا خطته وحددوا طرق الفصل بين الناس تحديداً دقيقاً، وكان اختيار الخليفة للقاضي مثلاً فذاً من أمثلة الحفاظ على مصالح الناس (¬1)، لأن غاية القضاء التي يمتاز بها في الإسلام هي إقامة العدل باعتبار أن العدل هوقوام العالمين، لا تصلح الدنيا والآخرة إلا به (¬2)، فكان العدل هو شعار فض الخصومات والمنازعات بين الناس. ومن أهم ضوابط العدل هو تنفيذ أحكام شريعة الله دون تفرقة بين الحاكم والمحكومين، لأن الكل خاضعون لحكم الله. فمن تنظيمات القضاء الإسلامي أنه خصص للنظر في محاكمة أصحاب النفوذ والولاة وعمال الدولة ما يعرف المظالم (¬3) التي تشبه (مجلس الدولة) في بعض اختصاصاته الآن (¬4). قال المرجاني في وفية الإسلام (¬5): النظر في المظالم وظيفة أوسع من وظيفة القاضي ممتزجة من السطوة السلطانية، ونصفة القضاء، بعلو بيِّن، وعظيم رغبة تقمع الظالم من الخصمين، وتزجر المتعدي، ويمضي ما عجز القضاة ومن دونهم عن إمضائه، ويكون نظره في البينات والتقرير واعتماد القرائن والإمارات وتأخير الحكم إلى استجلاء الحق وحمل الخصم على الصلح، واستحلاف الشهود، وكان الخلفاء يباشرونها بأنفسهم إلى أيام المهتدي بالله، وربما سلموها إلى قضاتهم. وعلق الأستاذ الكتاني على ذلك بقوله: هذه الوظيفة كان يليها المصطفى صلّى الله عليه وسلم بنفسه؛ لأنه كان ينتقد أحكام قضاته وعماله ويناقشهم (¬6). ¬
وقال الماوردي: «والذي يختص بنظر المظالم يشتمل على عشرة أقسام، فالقسم الأول: النظر في تعدي الولاة على الرعية وأخذهم بالعسف في السيرة، فهذا من لوازم النظر في المظالم الذي لا يقف على ظلامة متظلم، فيكون لسيرة الولاة متصفحاً، وعن أحوالهم مستكشفاً ليقويهم إن أنصفوا، ويكفهم أن عسفوا، ويستبدل بهم إن لم ينصفوا» (¬1). 50 - إلا أنه لم يكن للقضاة في الإسلام غير النظر في المسائل المدنية (أو نظام الأموال) والأحوال الشخصية. أما القضاء الجزائي في الجرائم وإقامة الحدود والنظر في المظالم، فكان من اختصاص الخلفاء والأمراء إلا في عهد معاوية حيث تخلى عن حق النظر في بعض المسائل الجزائية المحدودة إلى قاض خاص. ولا مانع شرعاً من وضع نظام للسلطة القضائية يحدد اختصاصاتها ويكفل تنفيذ الأحكام، ويضمن لرجالها حريتهم في إقامة العدل بين الناس (¬2). وهو أمر ضروري في كل عصر يقل فيه الورع، وتكثر الأهواء وتزداد الخصومات، وتراعى فيه تطورات الزمن. 51 - ومن المعلوم أن القرآن والسنة النبوية أكدا على ضرورة التزام العدل المطلق في كل الأحكام العامة والخاصة وفي مختلف أحوال الحكم والإدارة، لا في مجال القضاء فقط، قال الله عز وجل: {إن الله يأمر بالعدل} [النحل:90/ 16] {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} [النساء:58/ 4] {وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى} [الأنعام:152/ 6] {ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى} [المائدة:8/ 5]. ¬
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأدناهم منه مجلساً: إمام عادل، وأبغض الناس إلى الله تعالى، وأبعدهم منه مجلساً: إمام جائر» (¬1)، وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً: «لا تقدس أمة لا يقضى فيها بالحق، ولا يأخذ الضعيف حقه من القوي غير مُتَعْتَع» (¬2) «يوم من إمام عادل أفضل من عبادة ستين سنة» (¬3). وقال الماوردي: اعلم أن ما به تصلح الدنيا حتى تصير جميع أحوالها منتظمة، وجملة أمورها ملتئمة ستة أشياء هي قواعدها وأصولها وإن تفرعت، وهي دين متبع، وسلطان قاهر، وعدل شامل، وأمن عام، وخصب دائم، وأمل فسيح (¬4). والخلاصة: أن العدل هو جِمَاع واجبات الدولة والغاية العامة للحكم الإسلامي، حتى مع الأعداء، قال الفخر الرازي: (اجمعوا على أن من كان حاكماً وجب عليه أن يحكم بالعدل) (¬5)، واستشهد بالآيات المذكورة ونحوها، والعدل ـ كما أجمع العلماء ـ هو تنفيذ حكم الله. ¬
3 - إدارة المرافق العامة
3 - إدارة المرافق العامة: 52 - إن طريقة إدارة المرافق العامة في الإسلام كالمساجد والمدارس والمشافي والجسور والبريد والدفاع والعشور (الجمارك) والري وتوريد المياه ونحوها: تلتقي مع الطريقة المتبعة الآن وهي طريقة الاستغلال المباشر. ومقتضاها أن تقوم الدولة نفسها (أو المديرية والمدينة الآن، أو الإمارة أو الولاية في الماضي) بإدارة المرافق العامة مستعينة بأموالها وموظفيها، ومستخدمة في ذلك وسائل القانون العام، وهذه هي الطريقة التي تدار بها جميع المرافق العامة الإدارية في الوقت الحاضر (¬1). والإدارة الإسلامية كانت في الماضي كما تقدم على طريقة جعل الوزارة قسمين: وزارة تفويض ووزارة تنفيذ (¬2). والإمارة على البلاد نوعين: إمارة خاصة، وإمارة عامة (¬3). أما وزارة التفويض: فهي أن يستوزر الإمام من يفوض إليه تدبير الأموربرأيه وإمضاءها على اجتهاده. وكان وزير التفويض يوجه سياسة الدولة ويولي الموظفين ويعزلهم ويجبي الأموال وينفقها، ويسير الجيوش ويجهزها، ويجلس للمظالم ويفصل فيها (¬4). وأما وزارة التنفيذ أو بالمعنى الأدق (إدارة التنفيذ): فهي لتنفيذ ما يصدر عن الإمام لتدبير سياسة الدولة في الداخل والخارج، ويعتبر وزير التنفيذ وسيطاً بين السلطان وبين الرعايا والولاة يؤدي عنه ما أمر، وينفذ ما طلب، ويمضي ما حكم، ¬
ويخبر بتقليد الولاة وتجهيز الجيوش والحماة، ويعرض عليه ماورد منهم وتجدد من حدث ملمّ ليعمل فيه بما يؤمر به: وأما الإمارة الخاصة: فهي لتدبير الجيوش وسياسة الرعية والدفاع عن كيان الدولة، وحماية حدود البلاد. وأما الإمارة العامة فهي نوعان: إمارة استكفاء، وإمارة استيلاء. فإمارة الاستكفاء تعقد برضا الخليفة واختياره، وصاحبها ينظر في سبعة أمور: هي النظر في تدبير الجيش والأحكام وتقليد القضاة والحكام، وجباية الخراج، وقبض الصدقات وتقليد العمال، وحمايةالحريم والدفاع عن البلاد ومراعاة الدين من تغيير أو تبديل، وإقامة الحدود في حق الله تعالى، وحقوق الناس خاصة، والإمامة في الجمع والجماعات، وتسيير الحجيج. وتختص دواوين الدولة أو إدارة المصالح بقضاء مصالح الناس الذين يعيشون في ظل سلطان الدولة. وأول من وضع الديوان في الإسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه (¬1). 53 - ويلاحظ أن أهم ما يميز إدارة المرافق العامة في الإسلام ملازمتها للصبغة الدينية، فكان الوالي مسؤولاً عن رعاية أركان الإسلام، بل إن ولاية الأمراء كانت تسمى (إمارة الصلاة والخراج) أو (الإمارة على الصلاة) ولم يكن القصد من ذلك إمامة الناس في الصلوات فقط، وإنما كانت تعني الولاية عليهم في جميع الأمور، فعندما كان النبي صلّى الله عليه وسلم يرسل شخصاً إلى القبائل ليفقهها في أمور الدين ويعلمها القرآن، كان يعني بذلك إدارة مصالح القبيلة في كل شؤونها (¬2). ¬
4 - الإعداد لحماية الدولة والدعوة لتدريب الشعب وتصنيع الأسلحة
4 - الإعداد لحماية الدولة والدعوة لتدريب الشعب وتصنيع الأسلحة: 54 - إن من أول واجبات الدولة ـ كما ذكرت (عند الماوردي وغيره) فيما عرضته ـ هو الدفاع عن كيان الدولة وتحصين الثغور، وحماية الرعية، وإعداد العدة الملائمة والقوة الضاربة وتدريب المقاتلة، وتعلم فنون الحرب وكيفية استخدام السلاح المناسب للزمان والمكان، فقد كان النبي صلّى الله عليه وسلم بوصفه القيادي أو كونه حاكماً بالإضافة إلى كونه رسولاً مبلغاً عن الله يقوم بإعداد المسلمين لخوض معارك القتال، مما مكنه من تحقيق النصر المؤزر على الأعداء في غالبية المعارك التي اشترك فيها أو أعد لها. وعني المسلمون الأوائل من أجل الجهاد بأسلحة الحرب وآلات القتال كالسيوف والرماح والنبال والدروع والمغافر ونحوها مما كان في الماضي تدرباً وتمرساً واقتناء وتعلماً. وكان الخلفاء يحضون الناس على التدرب على مختلف فنون الحرب وآلاتها، ويحصنون الثغور من أجل الحفاظ على الأمة ورد العدوان عنها، كما هومعروف من تاريخ الفتوحات الإسلامية. والإسلام دستور المسلمين يفرض دائماً التزام الحذر من العدو، والاستعداد للقائه وإعداد الجنود والأسلحة الملائمة للإرهاب وخوض المعارك، قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثُباتٍ أو انفروا جميعاً} [النساء:71/ 4] {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم، وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم} [الأنفال:60/ 8]. فهذه الآية أمر إيجابي بالإعداد الملائم لكل القوى المادية والمعنوية التي يتحقق بها إرهاب العدو.
وقد أمر الرسول صلّى الله عليه وسلم بالتدرب على فنون القتال واستعمال السلاح، قال سلمة بن الأكوع: «مرَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم على نفر من أسلم ينتضلون (¬1) بالسوق، فقال: ارموا يا بني إسماعيل، فإن أباكم كان رامياً، ارموا وأنا مع بني فلان ... » (¬2). وعن عقبة بن عامر قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي» وقال: «من علم الرمي ثم تركه، فليس منا» (¬3). 55 - وأمر عليه الصلاة والسلام أيضاً بصناعة السلاح وحث عليه، فقال: «إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعه الذي يحتسب في صنعته الخير، والذي يجهز به في سبيل الله، والذي يرمي به في سبيل الله .. » (¬4). وشجع الرسول صلّى الله عليه وسلم كل أنواع السباق الحربي والرياضة الحربية فقال: «لاسَبْق إلا في خف أو نصل أوحافر» (¬5). واتفق الفقهاء على جواز السباق على جُعْل من غير المتسابقين كالإمام يجعله للسابق، وقال جمهور الفقهاء: يجوز الجُعل أيضاً من إحدى المتسابقين (¬6). واعتبر الفقهاء تعلم مختلف الحرف والصنائع، ولا سيما صناعة الأسلحة من ¬
ثانيا ـ الالتزام بخصائص الدولة الإسلامية وتحقيق أهدافها
فروض الكفايات على جماعة المسلمين (¬1). قال ابن تيمية: (ومع أنه يجوز تولية غير الأهل للضرورة إذا كان أصلح الموجود، فيجب مع ذلك السعي في إصلاح الأحوال حتى يكمل في الناس ما لا بد لهم من أمور الولايات والإمارات ونحوها، كما يجب على المعسر السعي في وفاء دينه، وإن كان في الحال لا يطلب منه إلا ما يقدر عليه؛ وكما يجب الاستعداد للجهاد بإعداد القوة ورباط الخيل في وقت سقوطه للعجز، فإن ما لايتم الواجب إلا به فهو واجب) (¬2). فدل ذلك كله على أنه على المسلمين تعلم كل ما يؤدي إلى التقوية والتفوق العسكري بحسب متطلبات كل زمان ومكان من تسابق في آلات الحرب وإنتاجها، وتهيئة عُدَد القتال، وتمرن على استعمالها، وحمل الأسلحة بمختلف أنواعها، وإنشاء الصناعات الحربية، ومداومة على التدرب، ونحو ذلك من كل ما فيه إعداد يرهب الأعداء، ويوفر القوة الكافية للمسلمين، قال صلّى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف» (¬3). ثانياً ـ الالتزام بخصائص الدولة الإسلامية وتحقيق أهدافها: تمهيد: 56 - عرفنا أن الدولة الإسلامية دولة فكرية ذات ارتباط وثيق بالعدل الإلهي، ويمكن إجمال خصائصها الأولية في ثلاثة (¬4). ¬
1 - الحاكم الحقيقي فيها هو الله عز وجل، والسلطة الحقيقية مختصة بالذات العلية، وليس لأحد من الناس نصيب من الحاكمية، وإنما الحاكم هم رعايا الله ينوبون عن الأمة في تنفيذ شريعة الإله التي ارتضاها للناس دستوراً دائماً وحكماً فصلاً كما قال تعالى: {إن الحكم إلا لله} [الأنعام:57/ 6] {ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين} [الأنعام:62/ 6]. 2 - ليس لأحد من دون الله وظيفة تشريعية بغير ما شرع الله للمسلمين لقوله سبحانه: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} [المائدة:44/ 5]. 3 - وظيفة الدولة تقتصر على تنفيذ شريعة الله، والحكم بما أنزل الله وتطبيق ما جاء به النبي من عند ربه، واستحقاقها الطاعة مرهون بذلك لقوله تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله} [النساء:105/ 4]. وغاية الدولة الإسلامية وهدفها الأسمى هو تحقيق نظام العدالةالاجتماعية الذي أمر به الله تعالى، أي إقامة نظام الإنسانية العادل على أساس ما أنزل، وأبانه رسول الله، قال عليه السلام: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله» (¬1). ومجمل القول: إن الدولة الإسلامية مقيدة بشريعة الله القائمة على العدل والخير والقوة والنظام والدعوة إلى الإقرار بعقيدة التوحيد، والإيمان بجميع الرسل والأنبياء. قال عليه السلام: «إن أحسن الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلّى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها ... » (¬2). والدولة من أجل ذلك تلتزم بالواجبات الآتية: ¬
1 - تقوية وحدة الأمة وتعاونها وأخوة أبنائها
1 - تقوية وحدة الأمة وتعاونها وأخوة أبنائها: 57 - علمنا مما سبق أن المسلمين إخوة وأمة واحدة مهما نأت بهم الديار، ومقتضى ذلك أنه يجب عليهم جميعاً المشاركة في الآلام، والسعي لتحقيق الآمال الكبرى، والتعاون البناء في سبيل خير الجماعة، والحفاظ على وحدة الأمة، وتنمية الروابط المشتركة فيما بينها، وعلى الدولة التي تمثل المسلمين أن تسعى دائماً لشد أزر عُرَى التضامن الأخوي، ودعم وحدة الأمة وتعاون أفرادها في شتى الميادين السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية تنفيذاً لقوله تعالى: {إن هذه أمتكم أمة واحدة} [الأنبياء:92/ 21] {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولاتفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم، فأصبحتم بنعمته إخواناً، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون} [آل عمران:103/ 3] {إنما المؤمنون إخوة} [الحجرات:10/ 49] {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم} [الفتح:29/ 48]. فبالوحدة تتوصل الدولة المسلمة إلى نهضة حيوية شاملة في جميع مرافق الحياة وتصبح عزيزة الجانب مرهوبة السلطان. ولقد حذر الإسلام من التفرق والفتن والاختلاف، وذكَّر المسلمين في كل آونة بأنهم إخوة في السراء والضراء للحفاظ على الوحدة المنشودة، فقال: «المسلم أخو المسلم لايظلمه، ولايخذله، ولايكذبه، ولايحقره .. » (¬1) «المؤمن للمؤمن ¬
2 - تحقيق المصالح الأساسية التي تدور عليها الشريعة
كالبنيان يشد بعضه بعضاً» (¬1) «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قيل: كيف أنصره ظالماً؟ قال: تحجزه عن الظلم، فإن ذلك نصره» (¬2). ومن زاوية التاريخ نرى أنه قد انتصر الإسلام في جميع عهوده التي كان المسلمون فيها متحدين متآخين، فبدأ الرسول صلّى الله عليه وسلم بالمؤاخاة الفعلية بين المسلمين (¬3)، ثم حقق لهم معنى الإخاء الأكبر الدائم فيما بينهم، وصار العرب بفضل الإسلام كتلة واحدة بعد أن كانوا في الجاهلية قبائل متفرقة تمزقهم العداوات والأحقاد والإحن القديمة: {وألَّف بين قلوبهم، لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألَّفت بين قلوبهم، ولكن الله ألَّف بينهم، إنه عزيز حكيم} [الأنفال:63/ 8]. ولم يتمكن المسلمون من القضاء على أعدائهم بعد النبي عليه السلام إلا بوحدة الصف وتوحيد الهدف، كما حصل مثلاً في وقعة اليرموك وفي حرب المغول والتتر وانتصار المسلمين في موقعة عين جالوت، وفي معركة حطين وطرد الصليبيين من بلاد المشرق وفتح بيت المقدس. ومن مزايا الإخاء والاتحاد الإسلامي أنه يحقق للمسلمين تسامياً فوق الاعتبارات الإقليمية الضيقة. أما الدول الحاضرة مثلاً فإنها تسعى لتحقيق ما يعرف بالوحدة الوطنية المقيدة داخل نطاق أرضي معين، وتحت شعار قومية واحدة، مع وجود فجوات وحزازات داخلية متعددة. 2 - تحقيق المصالح الأساسية التي تدور عليها الشريعة: 58 - إن من أول واجبات الدولة رعاية المصالح أو المقاصد التي تقوم عليها ¬
الشريعة وتستهدف تحقيقها: وهي المحافظة على الأصول الكلية الخمسة المعروفة بالضروريات، والتي لم تبح في ملة من الملل: وهي الدين والنفس والعقل والنسل والمال. وسميت بالضروريات لأنه يتوقف عليها حياة الناس الدينية والدنيوية بحيث إذا فقدت، اختل نظام الحياة في الدنيا وضاع النعيم، واستحق العقاب في الآخرة. وقد حافظت الشريعة على هذه الأصول من ناحيتين: الأولى: تحقيقها وإيجادها. الثانية: المحافظة على بقائها. فتحقيق مبدأ الدين مثلاً بالإتيان بأركان الإسلام الخمسة، والمحافظة عليه بمجاهدة من يريد إبطاله، وعقوبة المرتد عنه بالقتل إن لم يتب. والنفس تتحقق وتوجد بالتزاوج الذي يؤدي إلى بقاء النوع الإنساني، والمحافظة على بقائها تكون بفرض العقوبة على قاتلها وهو القصاص. فقد شرع القصاص للحفاظ على النفوس والدماء، لأن القصاص مقررللحياة التي هي من أجلّ المنافع. والعقل إذا وهبه الله للإنسان يحافظ عليه بإباحة كل ما يكفل سلامته، وتحريم ما يفسده أو يضعف قوته كشرب الخمر والمسكرات وتعاطي المخدرات، وإقامة الحد على الشارب وتعزير متناول الحشيشة والأفيون ونحوهما لغير حاجة طبية. والنسل شرع لإقامته استحلال البُضْع (¬1) بطريق مشروع، وللمحافظة عليه شرع حد الزنى وحد القذف لصيانة الأعراض والكرامات. ¬
والمال شرع لإيجاده السعي في طلب الرزق والمعاملات بين الناس، وللمحافظة عليه شرع حد السرقة بقطع اليد، وتحريم الغش والربا وضمان المتلفات عند أخذ المال بالباطل (¬1). قال الغزالي جامعاً المقاصد المذكورة (إن مقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهي مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة) (¬2). وعلى هذا فإن المحافظة على هذه الحقوق الأساسية للأفراد تعتبر من الدعائم الأولى للحكم الإسلامي التي تتضمن قواعد تنظيم الحياة المدنية، قال الرسول صلّى الله عليه وسلم في خطبته بحجة الوداع: «أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم، وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا» (¬3) «كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه» (¬4). 59 - وبالمناسبة أبيِّن أنه للدولة دور مهم في تحقيق التوازن بين المصالح الفردية والجماعية عند التعارض في سبيل الحصول على الحقوق المادية أو التوصل ¬
إلى المال، إذ أن الإسلام راعى مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة، وأقام توازناً فعالاً بين المصلحتين على وجه يحقق التضامن والتكافل الاجتماعي، فلم يسمح الإسلام للفرد في الحالات العادية بالطغيان على حساب المجموع أو يتعدى حدوده، ولا للجماعة أن تسحق مصلحة الفرد لحساب المجتمع. كذلك لا تضيع في نظام الإسلام شخصية الفرد، ولا تهدر مصلحة الجماعة، لأن غاية حياة الإنسان حقيقة في الإسلام هي غاية الجماعة بعينها، أي تنفيذ القانون الإلهي في الدنيا وابتغاء وجهه في الآخرة كما ذكرت. وبهذا يتحقق التوازن المطلوب إسلامياً بين الفردية والجماعية رعاية للمصلحتين معاً حتى يقوى الفرد ويدعم بالتالي الجماعة العامة. ودليل ذلك أن الإسلام حرم كل ما يؤدي إلى الاستغلال والإخلال بتوازن الثروات مثل الربا والاحتكار والميسر والغش والرشوة والتغرير والغبن والتدليس (¬1) وإنقاص المكيال والميزان واكتناز الذهب والفضة ونحو ذلك. وألزم الأغنياء بالإنفاق على الفقراء، وأجاز للدولة في مال الأغنياء فرض ما يكفي من التكاليف المالية لتأمين حاجيات الدفاع عن البلاد. ومنع تعدي المالك على الناس وإلحاق الضرر بهم، إذ لا ضرر ولا ضرار في الإسلام، وقال عليه الصلاة والسلام: «من ضارّ أضر الله به، ومن شاقَّ شاق الله عليه» (¬2). وطلب من ولي الأمر الاهتمام بأمر الرعية كما كان يفعل سيدنا عمر بالتنقل ¬
3 - عمارة الأرض
في الأمصار والطواف بالليل (¬1) ومشاطرة الولاة والعمال أموالهم التي جمعوها بدون حق (¬2). وأجيز لولي الأمر التدخل في الملكيات الخاصة لدفع الضرر أو لجلب مصلحة عامة كما فعل الرسول صلّى الله عليه وسلم بأمر مالك النخل بقلع نخلة من بستان الأنصاري لإيذائه قائلاً له: «أنت مضار» (¬3)، وكما فعل عمر بالسماح لرجل يقال له الضحاك بن خليفة بإمرار خليج من الماء في أرض محمد بن مسلمة قائلاً له: «والله ليمرن به ولو على بطنك» (¬4). 3 - عمارة الأرض: 60 - إن الله سبحانه استخلف البشر في الأرض بقصد عمارة الكون وإنمائه واستغلال كنوزه وثرواته، والناس في ذلك شركاء، والمسلمون ينفذون أمر الله ومقاصده، قال الله تعالى {هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها} [هود:61/ 11] والاستعمار: معناه التمكين والتسلط، كما هو واضح من قوله سبحانه: {ولقد مكنَّاكم في الأرض، وجعلنا لكم فيها معايش قليلاً ما تشكرون} [الأعراف:10/ 7]. وقوله عز شأنه {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} [البقرة:29/ 2] {وسخَّر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه} [الجاثية:13/ 45] {الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء} [البقرة: ¬
22/ 2]. {الذي جعل لكم الأرض مهداً، وسلك فيها سُبلاً، وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجاً من نبات شتى} [طه:53/ 20] {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها، وكلوا من رزقه، وإليه النشور} [الملك:15/ 67]. واللام في (لكم) تفيد الاختصاص على جهة الانتفاع للمخاطبين، أي أن ذلك مختص بكم، مما يدل على أن الانتفاع بجميع مخلوقات الأرض، وما فيها من خيرات مأذون فيه، بل مطلوب شرعاً. واعتبر الفقهاء تعلم أصول الحراثة والزراعة ونحوها مما تتم به المعايش التي بها قوام الدين والدنيا من فروض الكفاية (¬1)، لأن كل فرد من الأفراد عاجز عن القيام بكل ما يحتاج إليه (¬2). وخصصوا باباً معيناً للكلام عن (إحياء الموات) أو بتعبيرنا (استصلاح الأراضي المتروكة) كما فصلوا في بحث (الزكاة) أحكام المعادن الجامدة والسائلة والركاز، ووضع الإمام أبو يوسف كتابه (الخراج) لهارون الرشيد أبان فيه كيفية استثمار الأرض وطرق الري من الأنهار الكبرى وموارد بيت المال من خراج ونحوه (¬3). ¬
وحض الإسلام عموماً على الضرب في الأرض (أي السفر التجاري) والسعي الحثيث في مناكبها، والتنقيب عن موارد الرزق في البر والبحر، والإنشاء والتعمير وتوفير أسباب المعيشة والتنافس المشروع في كسبها، والتسابق في الخيرات كلها دنيوية أم أخروية؛ لأن معنى استخلاف الله للبشر وخلافتهم عن الله في الأرض يتطلب إطاعة المستخلف إطاعة كاملة، ولأن السيطرة على الأرض بتمكين الله للبشرتقتضي استغلال كل أوجه الخير فيها من استنبات الزرع، وإحياء الضرع، وتشجير الأشجار، واستخراج المعادن والزيوت، واستثمار المناجم والمحاجر والمقالع وإقامة المساكن والمصانع والقرى والمدن حتى يعرف بكل ذلك ونحوه عظمة الله وقدرته لأنه هو مانح الحياة لكل الموجودات. 61 - وذلك على النقيض تماماً من الاتجاه المادي القاتم الذي يوجه الناس نحو الشعور بألوهية الإنسان لسيطرته على الطبيعة ومواردها، ولتقدمه العلمي والتقني والفني، مما يؤدي إلى عبادة المادة ويورث الإنسانية كثيراً من القلاقل والاضطرابات، والعداوة والبغضاء والحروب المدمرة. لذا فإن عمارة الأرض واستغلالها يتقيدان في الإسلام بإطاعة الله والاهتداء بهديه والامتناع عما نهى عنه، والاعتقاد بأن الناس جميعاً شركاء في منتجات الطبيعة المباحة، فكان لا بد لهم من التراحم والتعاون في العمل والنتاج (العطاء) بدون تخصيص، أو تمييز البشر في الجنس أو اللون أو العنصر بل والدين أيضاً. ومن ثم فليس في الإسلام مجال للحقد أو الاستئثار أو الاستعمار بالمعنى الشائع اليوم، أو حجر الآخرين عن الانتفاع الحر بالأرض، لأن البشر هم خلق الله، وأحب خلق الله إلى الله أنفعهم لعياله (¬1). فلا معنى لاستغلال جنس من ¬
4 - صيانة الآداب الإسلامية
الأجناس، أو بلد من البلدان لجنس آخر أو بلد آخر، قال تعالى: {ومن آياته أن خلقكم من تراب، ثم إذا أنتم بشر تنتشرون} [الروم:20/ 30]. {ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان، إنه لكم عدو مبين} [يس:60/ 36]. قال الماوردي: (القاعدة الخامسة من القواعد التي تصلح بها الدنيا: خصب دار تتسع النفوس به في الأحوال وتشترك فيه ذوو الإكثار والإقلال، لكون الأسعار رخيصة فيقل في الناس الحسد، وينتفي عنهم تباغض العدم، وتتسع النفوس في التوسع وتكثر المواساة والتواصل، وذلك من أقوى الدواعي لصلاح الدنيا، وانتظام أحوالها، ولأن الخصب يؤول إلى الغنى، والغنى يورث الأمانة والسخاء) (¬1). 4 - صيانة الآداب الإسلامية: 62 - إن صيانة مقاصد الشريعة الأساسية السابق ذكرها تتطلب من الدولة حماية دائمة لها في المجتمع، لأن للأخلاق السائدة تأثيراً كبيراً على الأشخاص وانعكاساً مباشراً في السلوك والتصرفات، لذا كان الدين والخلق أمرين متلازمين في الإسلام، قال صلّى الله عليه وسلم «الخلق وعاء الدين» (¬2) وذلك حتى يتكاتف الدين والخلق في تكوين الشخصية المسلمة المستقيمة، وإلا فسدت الجماعة، وأصابها الوهن والانحلال، واختل الأمن واضطراب النظام. ومن أصول الأخلاق الإسلامية: إباحة كل وسائل الفضيلة والمعروف، وتحريم كل ذرائع الفساد والشر. قال ابن تيمية: (إن المعاصي سبب لنقص الرزق والخوف من العدو، كما يدل عليه الكتاب والسنة .. ، والشر والمعصية ينبغي حسم ¬
5 - إقامة العدالة الاجتماعية
مادته، وسد ذريعته (¬1) ودفع ما يفضي إليه، إذا لم يكن فيه مصلحة راجحة .. (¬2) وقال القرافي: (إن الذريعة هي الوسيلة، فكما أن وسيلة المحرم محرمة، فوسيلة الواجب واجبة كالسعي للجمعة والحج (¬3). وتلزم الدولة الإسلامية شرعاً بالحفاظ على الآداب وحماية الأخلاق، ومنع المعاصي وردع الفساق وقمع المنكرات وتأديب العصاة حتى تكون الحياة الإسلامية نظيفة من الشوائب بعيدة عن المكدرات وأسباب الفوضى والانحراف. قال الماوردي: (الذي يلزم الإمام إقامة الحدود لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك، وتحفظ حقوق عبادة من إتلاف واستهلاك) (¬4)، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (لا بد للناس من إمارة برَّة كانت أو فاجرة، فقيل: يا أمير المؤمنين: هذه البرة قد عرفناها، فما بال الفاجرة؟ فقال: يقام بها الحدود، وتأمن بها السبل، ويجاهد بها العدو ويقسم بها الفيء) (¬5). 5 - إقامة العدالة الاجتماعية: 63 - على الدولة أيضاً تحقيق التكافل الاجتماعي بين الناس، لأنها مسؤولة عن الرعية وعن ضرورة إقامة العدل ومنع الظلم وغيره، وتحقيق التعاون على البر والتقوى من استيفاء الحقوق وإعطاء المستحقين ونحوه (¬6)، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «المؤمن ¬
للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً» (¬1). «من ترك كَلاًّ أو ضَياعاً فأنا وليه» (¬2) «ليس المؤمن بالذي يشبع وجاره يجوع إلى جنبه» (¬3) «إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الذي يسع فقراءهم، ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا أو عروا إلا بما يصنع أغنياؤهم، ألا وإن الله يحاسبهم حساباً شديداً، ويعذبهم عذاباً أليماً» (¬4) «أيما أهل عَرْصة ـ بقعة ـ أصبح فيهم امرؤ جائعاً فقد برئت منهم ذمة الله تبارك وتعالى» (¬5). 64 - ووسائل الدولة لتأمين معيشة رعاياها كثيرة أهمها: تهيئة سبل الكسب المشروع، ووسائل العمل الشريف مع تكافؤ الفرص، وتحقيق الحاجات الأساسية من مسكن ومأكل وملبس أولاً. ومن عجز عن العمل فنفقته على أقاربه الموسرين، فإن لم يوجدوا فعلى بيت المال، كما هو معروف عند الفقهاء. قال الماوردي: (القاعدة الثالثة مما يصلح به حال الإنسان في الدنيا: المادة الكافية؛ لأن حاجة الإنسان لازمة لا يعرى منها بشر، قال الله تعالى في الأنبياء: ¬
{وما جعلناهم جسداً لا يأكلون الطعام وماكانوا خالدين} [الأنبياء:8/ 21]. فإذا عدم المادة التي هي قوام نفسه لم تدم له حياة، ولم تستقم له دنيا، وإذا تعذر شيء منها عليه لحقه من الوهن في نفسه والاختلال في دنياه بقدر ما تعذر من المادة عليه؛ لأن الشيء القائم بغيره يكمل بكماله، ويختل باختلاله) (¬1). وقد أطلق القرآن للإنسان حرية الاستمتاع بالطيبات المباحة، قال تعالى: {كلوا من طيبات ما رزقناكم} [طه:81/ 20] {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم} [المائدة:87/ 5]. ويعبر الفقهاء عن واجب الدولة بتأمين العاجزين عن العمل بدفع ضرر المسلمين إلى حد الكفاية، قال النووي: (من فروض الكفاية: دفع ضرر المسلمين ككسوة عار، وإطعام جائع إذا لم يندفع بزكاة وبيت مال) وتساءل شارح المنهاج (هل يكفي سد الضروة، أم يجب تمام الكفاية التي يقوم بها من تلزمه النفقة؟ قال: فيه وجهان: قيل: ما يسد الرمق، والأوجه ما يحقق الكفاية) (¬2). وقال ابن حزم: (فرض على الأغنياء من كل بلد أن يقوموا بفقرائها، ويجبرهم السلطان على ذلك إن لم تقم الزكوات بهم، ولا في سائر أموال المسلمين، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لا بد منه، ومن اللباس في الشتاء والصيف بمثل ذلك، وبمسكن يكنّهم من المطر والصيف والشمس وعيون المارة) (¬3). فعلى الحاكم إذن تحقيق العدالة الاجتماعية بين الفقراء والأغنياء رعاية للمصلحة العامة، وله أن يتوصل لهذه الغاية بما يفرضه من تكاليف وضرائب على ¬
6 - تحقيق الحياة الطيبة للأفراد بالنظر الإسلامي
الأغنياء بحسب الحاجة بالإضافة إلى فريضة الزكاة (¬1). لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن في المال حقاً سوى الزكاة» (¬2) وليس هنا مجال التفصيل (¬3). وهذا المبدأ في الإسلام شامل لكل المواطنين، سواء أكانوا مسلمين أم ذميين كما أوضح الفقهاء (¬4) بدليل أن سيدنا عمر بن الخطاب أسقط الجزية عن شيخ من أهل الذمة، وفرض له من بيت المال ما يكفيه، وقال للخازن: (انظر هذا وضرباءه، فوالله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته، ثم نخذله عند الهرم) (¬5). وجاء في كتاب خالد بن الوليد لأهل الحيرة: (وجعلت لهم أيما شيخ ضعف عن العمل، أو أصابته آفة من الآفات أو كان غنياً فافتقر، وصار أهل دينه يتصدقون عليه، طُرحت جزيته، وعيل من بيت مال المسلمين وعياله، ما أقام بدار الهجرة ودار الإسلام) (¬6). 6 - تحقيق الحياة الطيبة للأفراد بالنظر الإسلامي: 65 ـ إن من أهم أصول النظام الاجتماعي الإسلامي هو تحقيق الحياة الطيبة الكريمة للناس، الجامعة بين خيري الدنيا والآخرة، والقائمة على أساس العمل ¬
الصالح مادياً ومعنوياً؛ إذ أن صلاح العمل يرتد أثره بالخير الكامل والسعادة والنعيم على الفرد والمجتمع، بدليل قوله تعالى: {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن، فلنحيينه حياة طيبة، ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} [النحل:97/ 16]. والمقصود بالحياة الطيبة: توفر السعادة والرخاء والقناعة والغنى عن الغير والاتجاه إلى الله سبحانه، والبعد عن الضنك والتعب، قال عبد الله التستري: (الحياة الطيبة: هي أن ينزع عن العبد تدبيره، ويرد تدبيره إلى الحق) وقيل: هي الاستغناء عن الخلق والافتقار إلى الحق. قال ابن كثير في تفسير الآية السابقة: (هذا وعد من الله تعالى لمن عمل صالحاً وهو العمل المتابع لكتاب الله تعالى، وسنة نبيه صلّى الله عليه وسلم من ذكر أو أنثى من بني آدم، وقلبه مؤمن بالله ورسوله، وأن هذا العمل المأمور به مشروع من عند الله بأن يحييه الله حياة طيبة في الدنيا وأن يجزيه بأحسن ما عمله في الدار الآخرة، والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت (¬1). عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يعطى بها في الدنيا، ويثاب عليها في الآخرة. وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يعطى بها خيراً» (¬2) وقال صلّى الله عليه وسلم: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً» (¬3). 66 - وطريق تحقيق الحياة الطيبة في الدنيا يتجلى من خلال النظرة إلي المال والعمل. أما نظرة الإسلام إلى المال فهو أنه مال الله. وأما نظرته إلى العمل فهو ¬
وسيلة القادر عليه لتحصيل الرزق، وقد حث القرآن عليه في قوله تعالى: {فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور} [الملك:15/ 67] وطالبت السنة بإتقان الأعمال: «إن الله تعالى يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه» (¬1) وبضرورة الحفاظ على الكرامة الشخصية وعزة النفس، جاء في الأحاديث: «لأن يأخذ أحدكم حبله ثم يغدو إلى الجبل فيحتطب، فيبيع، فيأكل، ويتصدق خير له من أن يسأل الناس» (¬2) «اطلبوا الحوائج بعزة الأنفس، فإن الأمور تجري بالمقادير» (¬3) «اليد العليا خير من اليد السفلى» (¬4) «ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس» (¬5) «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مِرّة سوي» (¬6). وأما المقصود من الزهد المرغب فيه في الإسلام، فمعناه العمل الإيجابي لنفع الآخرين ولو بترك السعادة الشخصية أو هو الاقتصار على السبل المشروعة المتميزة بالقناعة عند اصطدام المساعي وتنازع المصالح، قال شراح حديث: «ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس» (¬7): الزهد: هو الإعراض عن الشيء لاستصغاره وارتفاع الهمة عنه لاحتقاره، لقوله تعالى: {قل متاع ¬
7 - تحقيق المجتمع الخير ( Welfare state)
الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى} [النساء:77/ 4] قيل للزهري: ما الزهد؟ قال أما إنه ليس تشعيث اللِّمة ولا قشف الهيئة، ولكنه صرف النفس عن الشهوة. وقال ابن السَّماك: الزاهد: هو الذي إذا أصاب الدنيا لم يفرح، وإذا أصابته لم يحزن، يضحك في الملا، ويبكي في الخلا، أي عند ذكر الله في الخلوة (¬1). 67 - ودور الدولة في تحقيق الحياة الطيبة يظهر في محاولتها توفير الرفاه والرخاء الاقتصادي بتشجيع وسائل الإنتاج من صناعة وتجارة وزراعة التي هي أفضل المكاسب في الإسلام، كما أنها تفتح مجالات الأمل والعمل لاستنزاف البطالة، وتوسع دائرة التعليم والتثقيف الديني ـ الأخلاقي، وتوفر للمواطنين الثقة والأمن والطمأنينة بردع العدو وتأديب العصاة، وتحد من سلطان الأطماع الطاغية وتحارب الوسائل غير المشروعة، وتزيل كل منافذ الفتنة والإغراء والانحراف، وتقمع كل طرق الشر والفساد، كما يتجلى ذلك في سيرة الخلفاء الراشدين وعهود القوة والازدهار في الدول الإسلامية المتتابعة. 7 - تحقيق المجتمع الخير ( Welfare state) : 68 - إن من أهم وظائف الدولة الخيرة الدعوة إلى الخير، والعمل الإيجابي على تحقيق مقتضيات الخير للمجتمع، وتحقيق الفلاح له في كل آفاق الحياة. وهذا ما يحاول الفقه السياسي في الغرب أن يصل إليه بما يسميه (دولة الفاهية) قال تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير} [آل عمران:104/ 3] {فاستبقوا الخيرات} [البقرة:148/ 2] {ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات} [آل عمران:114/ 3] {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ¬
8 - العمل المستمر على تحقيق الأفضل في جميع نواحي الحياة البشرية
ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين} [الأنبياء:90/ 21]. ونطاق العمل الإيجابي في سبيل خير الرعية لا حدود له، فهو يشمل مثلاً حماية الرعية من كل عدوان في الداخل والخارج، والعمل على بث العمران في أرجاء الدولة بكل ما يتطلبه من مرافق، وتنمية عناصر الثروة القومية في سبيل القضاء على الفقر الذي يبغضه الإسلام، وتأهيل الناس كافة للعمل والنتاج، تحقيقاً لتكافؤ الفرص في الكسب، ثم بعد ذلك كفالة كل عاجز عن الكسب صوناً لآدميته وكرامته الإنسانية، والعمل على بث مصادر الثروة في ثنايا المجتمع حتى لا تنحصر في أيدي فئة قليلة تتداولها فيما بينها، كما جاء في التوجيه القرآني: {كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم} [الحشر:7/ 59]، وغير ذلك من كل ما دعا إليه القرآن من وجوه الخير التي تتناسب مع الاحتياجات المتطورة للبشرية (¬1). 8 - العمل المستمر على تحقيق الأفضل في جميع نواحي الحياة البشرية: 69 - لا يقتصر دور الدولة المسلمة على إصلاح النواحي الاقتصادية أو الاهتمام بمطالب الحياة المادية فحسب كما تقول الشيوعية، وإنما مهمتها شاملة لكل جوانب الحياة الإنسانية الفكرية والنفسية والسياسية والخلقية، لأن الإسلام دين الفطرة (¬2) والفطرة البشرية تتطلب العناية بجميع هذه النواحي متضامنة مع بعضها كي تزدهر الحضارة، وتحفظ الحياة الكريمة ويزداد العمران وترتاح النفوس بتقوية العنصر الأخلاقي الذي يحمي القيم الاقتصادية وغيرها، لأن الحقائق والقيم الذاتية في تقدير الإسلام ليست أشياء منفصلة عن المظاهر المادية للحياة الإنسانية، ¬
9 - إعداد الدعاة لنشر الدعوة في الداخل والخارج
ولأن المقصد من رسالة الإسلام هوإيجاد المجتمع الصالح الذي لا يكتفي بتوفير وسائل العيش أورفع مستوى المعيشة فقط، وإنما لا بد للدولة من العمل على ترقية الوجدان والحياة الخلقية لتقويم سلوك الأفراد، وتسديد نشاطهم العملي الذي يبوئهم خيري الدنيا والآخرة مع الشعور بالارتياح والطمأنينة لا بالقهر والقسر. وعلى الدولة ـ باعتبارها حكومة القرآن ـ أن تسعى دائماً لتحقيق الأفضل والأصلح لمواطنيها في مختلف جوانب الحياة الإنسانية المادية والأدبية، فتقيم أركان الإسلام وتنشر الأمن وتدفع خطر الأعداء، وتسارع إلى إحراز التفوق في كل مجالات التقدم والمدنية والسبق العلمي وإشاعة الرخاء الاقتصادي، وتطوير الإنتاج والصناعة وأساليب الحياة الحديثة حتى يتحقق المجتمع الفاضل الذي يريد الإسلام إقامته من الناحيتين الدينية والدنيوية، قال الله عز وجل {وابتغ فيماآتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا، وأحسن كما أحسن الله إليك، ولا تبغ الفساد في الأرض، إن الله لا يحب المفسدين} [القصص:77/ 28]. وجاء في الأثر: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً» (¬1). 9 - إعداد الدعاة لنشر الدعوة في الداخل والخارج: 70 - إن الغاية السامية التي تعمل من أجلها الدولة الفاضلة: هي توحيد الله عز وجل وجمع الناس على الإيمان به، وتطهير الأرض من كل رجس وشرك، حتى تكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله. ويجب على الدولة تحقيق ذلك بكل الوسائل وإقامة النظم السياسية والتشريعية والعملية التي تكفل استقرار ¬
الناس في ظلال هذه الغاية (¬1). والوصول إلى تلك الغاية بتنظيم الدولة طرق الدعوة إلى الإسلام، وإعداد الدعاة الأكفياء المزودين بالعلم والأخلاق قياماً بمهمة الأنبياء، واقتداء برسول الله صلّى الله عليه وسلم المبلغ عن ربه رسالة السماء، قال تعالى مبيناً تلك المهمة: {إنما أنت منذر، ولكل قوم هاد} [الرعد:7/ 13] {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجاد لهم بالتي هي أحسن} [النحل:125/ 16] {يا أيها الرسول بلِّغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلَّغت رسالته، والله يعصمك من الناس} [المائدة:67/ 5]. والسبب في إيجاب القيام بالدعوة هوأن الإسلام رسالة اجتماعية إصلاحية ودعوة عالمية كبرى بعث بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم لتكون نظام الإنسانية الكامل في حياتها الروحية والمادية، في كل زمان ومكان (¬2). فالناس جميعاً مخاطبون بتعاليمها والاستجابة لنظامها (¬3)، بدليل قوله تعالى: {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً} [سبأ:28/ 34] {وما أرسلناك إلارحمة للعالمين} [الأنبياء:107/ 21] {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً} [الأعراف:158/ 7]. وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلّى الله عليه وسلم بعث كتبه يدعو بها إلى الله ملوك الآفاق وطوائف بني آدم من عربهم وعجمهم كتابيهم وأميهم، وكان بعد تفقيه أصحابه وتعليمهم يرسل الدعاة والمعلمين لشرع الله إلى مختلف القبائل التي تُسلم لإرشادها إلى قواعد الإسلام ولتفقيهها في أمور الدين. هذا .. بالإضافة إلى القضاة والفقهاء لتولي الولايات والبلدان الكبرى (¬4). ¬
وفي آخر مراحل حياته عليه الصلاة والسلام أشهد ربه في حجة الوداع وغيرها على قيامه بواجب التبليغ، وأمر أن يبلِّغ الشاهد الغائب. وبما أن الرسول صلّى الله عليه وسلم هو الأسوة الحسنة، فكان لزاماً على المسلمين حكاماً ورعية القيام بتبليغ الدعوة الإسلامية وإعداد الدعاة لها سواء في داخل إقليم الدولة أم في خارجه، وذلك بتخصيص فئة متعلمة تدرس الشريعة، وتتمثلها، وتصبح القدوة الصالحة ثم تتعلم اللغات الأجنبية، ثم ترسل إلى سائر البلاد للدعوة في سبيل الله (¬1) مع دعمها بكتب ومنشورات مبسطة عن الإسلام في عقائده وعباداته، وأحواله المدنية والشخصية، وقانونه الجزائي والدولي، وهذا من فروض الكفاية على الأمة الإسلامية، كما أرشد القرآن إليه في قوله عز شأنه: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} [آل عمران:104/ 3] والخير: هو الإسلام وشرائعه التي شرعها الله لعباده، {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين، ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} [التوبة:122/ 9]. قال النووي: (ومن فروض الكفاية: القيام بإقامة الحجج وحل المشكلات في الدين، وبعلوم الشرع كتفسير وحديث، والفروع ـ الفقهية ـ بحيث يصلح للقضاء) (¬2). فإذا لم تقم جماعة بهذا الواجب الكفائي أثم كل المسلمين كما هو معروف، لأن المخاطب بالآيات القرآنية السابقة هم كل المسلمين، فهم المكلفون أن يختاروا منهم طائفة تقوم بهذه الفريضة، فهنا فريضتان: إحداهما على جميع ¬
المقصود من الدعوة
المسلمين الذين تمثلهم دولتهم، والثانية على الجماعة التي يختارونها للدعوة. وقال الماوردي ـ فيما سبق ذكره ـ: إن أول واجبات الخليفة حفظ الدين والدعوة إليه (¬1). وقال الحنفية: (إن الجهاد الذي هو فرض كفاية هو الدعاء إلى الدين الحق والقتال مع من امتنع عن القبول) (¬2). 71 - والمقصود من الدعوة في العرف: هو حث الناس على الخير والهدى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليفوز بسعادة الدنيا والآخرة، وهي ثلاثة أنواع: النوع الأول: دعوة الأمة المحمدية جميع الأمم إلى الإسلام وأن يشاركوهم فيما هم عليه من الهدى ودين الحق. وهذا واجب هذه الأمة بمقتضى جعلها خير أمة أخرجت للناس، وبحكم وصف المؤمنين الذين أذن لهم في القتال في قوله تعالى: {الذين إن مكَّناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر} [الحج:41/ 22]. النوع الثاني: دعوة المسلمين بعضهم بعضا إلى الخير، لقوله سبحانه: {فلولا نفَر من كل فرقة منهم طائفة .. } [التوبة:122/ 9] الآية. النوع الثالث: ما يكون بين الأفراد بعضهم مع بعض بالدلالة على الخير والترغيب فيه والنهي عن الشر والتحذير منه (¬3)، لقوله عز وجل: {والعصر إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} [العصر:1/ 103 - 3] {ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله} [فصلت:33/ 41] أي إلى دين الله. ¬
أوصاف وآداب ووظائف المرشد المعلم والمحتسب الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر
72 - وكيفية إعداد الدولة الدعاة تعرف مما ذكره العلماء عن أوصاف وآداب ووظائف المرشد المعلم والمحتسب الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، وهي خمس عشرة صفة (¬1). 1 - العلم بالقرآن والسنة وسيرة الخلفاء الراشدين والسلف الصالح. وبالقدر الكافي من الأحكام الشرعية، وأسرار التشريع مع الصدق في نشرها. 2 - العمل بعلمه، فلا يكذب فعله قوله، ولا يخالف ظاهره باطنه، بل لا يأمر بالشيء ما لم يكن هو أول عامل به. 3 - الحلم وسعة الصدر، فكمال العلم بالحلم، ولين الكلام مفتاح القلوب. 4 - الشجاعة، حتى لا يهاب أحد في الجهر بالحق، ولا تأخذه في نصرة الله لومة لائم. 5 - العفة واليأس مما في أيدي الناس. 6 - القناعة في الدنيا والرضا منها باليسير (¬2). 7 - قوة البيان وفصاحة اللسان وإلا كان النفع بعيداً. 8 - الإلمام بالآتي: ¬
العلم بحال من توجه إليهم الدعوة في شؤونهم واستعدادهم وطبائع بلادهم وأخلاقهم أو ما يعبر عنه في العرف بحالتهم الاجتماعية، ومعرفة التاريخ العام، وعلم النفس، وعلم تقويم البلدان، وعلم الأخلاق، ومعرفة الملل والنحل ومذاهب الأمم، والعلم بلغات الأمم التي تراد دعوتها وعلى الاجتماع الذي يبحث فيه عن أحوال الأمم في بداوتها وحضارتها وأسباب ضعفها وقوتها على نحو ما في مقدمة ابن خلدون. 9 - قوة الثقة بالله في وعده وكمال الرجاء في حصول الفائدة، مهما طال به العلاج وعظمت المصاعب. 10 - التواضع ومجانبة العجب. 11 - أن لا يبخل بتعليم، ولا يمتنع من إفادة ما يعلم، فإن البخل به ظلم ولؤم، والمنع منه حسد وإثم. 12 - الوقار والرزانة بالإمساك عن فضول الكلام، وعن كثرة الإشارة والحركة فيما يستغنى عن الحركة فيه، والإصغاء عند الاستفهام، والتوقف عند الجواب، وعدم التسرع والمبادرة في جميع الأمور. 13 - أن يكون كبير الهمة عالي النفس يستصغر ما دون النهاية من معالي الأمور. 14 - الصبر في مقام الدعوة إلى الله تعالى، فهو وصف الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. 15 - التقوى والأمانة والتحرز بطاعة الله تعالى عن مساخطه، ويعبر عن ذلك في العرف: العدالة والقدوة الحسنة.
الوظيفة الثانية ـ وظيفة الدولة الخارجية
الوظيفة الثانية ـ وظيفة الدولة الخارجية: تمهيد: 73 - إن اختصاص الدولة الإسلامية في نطاق العلاقات الخارجية يشبه في كثير من الوجوه اختصاص الدولة الحديثة، لأنها دولة ذات فكرة إنسانية سامية تنشد تحقيقها على صعيد مفتوح وفي ظل من الأمن والسلم، وعلى أساس من الاستقلال الداخلي والخارجي ضمن إطار التعاون الواجب مع الدول الأخرى في سبيل خير البشرية (¬1). ومنهج الإسلام في علاقاته الدولية يقوم على مبدأ التوفيق بين ضرورات الواقع وبين مثالية المبدأ والمسعى الذي يحقق الغاية المنشودة من رسالته، فهو لا يستطيع تجاهل ظروف وضرورات الحياة الدولية لما لها من ثقل تفرض به نفسها على الأحداث والمتطلبات الداخلية، ولا يمكنه أصلاً التخلي عن واجب التبليغ ونشر المبادئ والتضحية في سبيل المبدأ وإثبات الخصائص الذاتية التي يتمتع بها، وإعلام الناس بمحتواها، ومحاولة تنفيذها وتحقيق الأهداف المطلوبة بالسياسة والحكمة والأناة، ومواتاة الفرصة المناسبة. والبحث هنا يتناول وظيفتين أساسيتين للدولة الإسلامية وهما الوظيفة المتجاوبة مع ضرورات الحياة الدولية، والوظيفة الأصلية التي تحقق أهداف الدولة وخصائصها الذاتية، وذلك في مطلبين: المطلب الأول ـ وظيفة تقوم على اعتبار ضرورات الحياة الدولية: 74 ـ لا تصادم بين الفكرة الإسلامية المتطلعة إلى الامتداد أو الانتشار وبين ¬
1 - الدفاع عن أراضي الإسلام وتحرير شعوبه وحماية أقلياته
المبادئ الدولية القائمة الآن على أساس الاعتراف بحرية الدولة في تصرفاتها المشروعة، ومساواتها بين الدول في المبادئ الأخلاقية أو السلمية، وعدم خضوعها للقضاء الأجنبي والدفاع عن نفسها للحفاظ على وجودها وحماية أراضيها وشعبها من أي خطر يتهددها. وتتجلى وظائف الدولة المسلمة في هذا المضمار في النواحي الآتية: 1 - الدفاع عن أراضي الإسلام وتحرير شعوبه وحماية أقلياته: 75 - هذا حق طبيعي ومنطقي لكل دولة من أجل الحفاظ على وجودها وكيانها، لما لها من حق الحياة والبقاء كالأشخاص العاديين تماماً، ولما يفرضه الواجب من حماية الأتباع والرعايا ولو في خارج إقليم الدولة. ووسيلة الإسلام في حماية وجوده وأهله هو الجهاد الذي يستخدم من أجل أغراض ضرورية تفرضها الأحداث وأهمها: (¬1). أـ دفع العدوان عن الدين والنفس والعرض والمال أو الدولة وأراضي الوطن أي دار الإسلام، قال تعالى {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم} [البقرة:190/ 2]، {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير} [الأنفال:39/ 8] {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين لله، فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين} [البقرة:193/ 2]، {أذن للذين يقاتَلون بأنهم ظُلموا، وإن الله على نصرهم لقدير} [الحج:39/ 22]. الجهاد حق وعدل وواجب مقدس، ومن تركه أو تخلف عن واجبه في الدفاع عن بلاده وأهله وإعلاء كلمة الله (أي كلمة الإسلام والمسلمين) فهو منافق ¬
2 - دعم التعاون بين أقاليم الدولة الإسلامية
في شرعة القرآن، قال تعالى {وليعلم الذين نافقوا، وقيل لهم: تعالوا قاتلوا في سبيل الله، أو ادفعوا (¬1)، قالوا: لو نعلم قتالاً لاتبعناكم، هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان، يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون} [آل عمران:167/ 3]. ومن واجبات الدولة كما أبنت سابقاً الإعداد دائماً للجهاد وعدم التقاعس عنه إذا وجدت مقتضياته، وتهيأت إمكاناته، وقد ذكرت سابقاً عبارة الماوردي وغيره في هذا الشأن حيث جعل من واجبات الإمام تحصين الثغور وحماية البلاد، وجهاد الأعداء بعد الدعوة إلى الإسلام. ب ـ نصرة المظلوم فردا أو جماعة من المؤمنين، أو إغاثة المستضعفين المسلمين، أو حماية الأقليات في بلاد أخرى من العسف وانتقاص الحقوق، وذلك عند القدرة والإمكان، قال الله عز وجل: {وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله، والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها} [النساء:75/ 4] {وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق} [الأنفال:8/ 72]. 2 - دعم التعاون بين أقاليم الدولة الإسلامية: 76 - يتطلب الواجب السابق بالدفاع عن الإسلام والمسلمين ضرورة التعاون البنَّاء بين جميع بلاد الإسلام، كما كان عليه حال الأمة الإسلامية في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلم وما تلاه من عهود موحدة، وذلك في مختلف المجالات السياسية والعسكريةوالاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إذ إن روابط الإخاء والوحدة في عقيدة الإيمان يتمخض عنها الحب والمساواة والتعاون على الخير في السراء والضراء. ¬
وبهذا وحده يتحقق للمسلمين العزة والمنعة والتفوق والسيادة، وترتد آثاره الحميدة على البلاد بالخير والسعادة وتحقيق الأماني والآمال المرجوة وتوفير سبل الحياة الحرة الكريمة لكل بلد. وبغير ذلك تسوء الأحوال وتؤول الأوضاع إلى الضياع والوهن والتخلف الذي نعاني الآن من ويلاته بسبب التقاطع والتدابر والتمزق والتفرق. ومن المعروف أن الإسلام يدعو المسلمين إلى أن يكونوا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، وأن الأواصر القائمة بينهم أعظم حافز على التضامن والتكاتف، قال تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} [المائدة:2/ 5] {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا} [آل عمران:103/ 3] {ولاتنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} [الأنفال:46/ 8]. فبالتعاون يتمكن المسلمون في العالم من تجاوز الحدود والقيود الضيقة والعصبيات المغلقة المورثة للمنازعات والخلافات الجزئية؛ لأن رابطة الأخوة القائمة بينهم أقوى وأصلب من العلاقات الجنسية (التجنس) ومضايقات العنصرية، ولأن مصيرهم وأهدافهم في الحقيقة واحد. 77 - وهذا في الدرجة الأولى من وظائف الدولة، لأن الأوامر السابقة في القرآن الموجبة للتعاون تخاطب ولاة الأمر والأفراد على حد سواء (¬1)، وما يتحقق عن طريق الدولة أهم وألزم لتحصيل المقاصد وتأمين المصالح. ¬
3 - دعم السلام العالمي
ومن صور التعاون في المجالات التي ذكرناها قيام أجزاء البلاد بتوحيد الجهد لإنشاء المشاريع الصناعية والإنتاجية والزراعية والمساهمة في تثقيف الجيل ومحو الجهل والأمية، وتنسيق الخطط الفنية والعلمية والسياسية إزاء مشكلة من المشكلات التي تمس مصالح المسلمين. وفي أوقات الشدة والمحن تتعاون البلاد في رد العدوان ودفع الأخطار، وتسوية المنازعات وترميم الأحداث والتغلب على الكوارث الطبيعية والاقتصادية ونحو ذلك، ففي ماضي المسلمين كان تجهيز الجيوش وإمداد المقاتلة، يتم بالتعاون بين أقطار الإسلام، كما كان توزيع الغنائم شاملاً للمسلمين. 3 - دعم السلام العالمي: 78 ـ استأصل الإسلام جذور الأحقاد والعداوات البشرية، فقضى على الفوارق الجنسية (التجنس) والعصبية وتناحر الطبقات، وأحل محلها روح المحبة والإنسانية والتعاون والتسامح، كما أنه انتزع من فكرة القومية تلك (الأنانية) الطاغية التي من شأنها أن تخلق منافسة بين القوميات المتباينة (¬1)، وبالتالي نشوب حروب طاحنة بسبب التنازع على الاستئثار بخيرات الأرض. ثم دعا الإسلام بعدئذ، ليس إلى إقامة سلام عالمي فحسب، بل إلى تعايش ودي يدعم السلام، ويتجاوز حدود المسالمة إلى المودة والمصاهرة، والاشتراك في القرابات واختلاط الدماء، وإيجاد زمالة عالمية في ظل المبدأ الإنساني الرفيع: وهو اعتبار الجنس البشري من أب وأم واحدة، وأنهم أبناء أسرة واحدة ينبغي التراحم بين أفرادها، وشيوع الألفة والعدالة في أوساطها للعمل من أجل خير المجموع. ¬
79 - وهذا ما قرره القرآن الكريم بأجلى بيان في قوله سبحانه: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير} [الحجرات:13/ 49]. وتتوارد الآيات القرآنية في الدعوة إلى السلم ونبذ العدوان كما في قوله عز وجل: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها، وتوكل على الله} [الأنفال:61/ 8] {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة، ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدوٌ مبين} [البقرة:208/ 2]. {ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام: لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا} [النساء:94/ 4]. {فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السَّلَم، فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً} [النساء:4/ 90] {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين} [الممتحنة:8/ 60]. ويؤكد القرآن أن هذه الحقائق في حال النزاع، فينهى عن العدوان في قوله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، ولاتعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} [البقرة:190/ 2] وفي هذا إشارة إلى تحريم العدوان والاقتصار على حدود الضرورة بالدفاع عن النفس (¬1). وفي السنة النبوية تحديد واضح لغاية القتال، ومطالبة بالحرص على السلام، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «أيها الناس، لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف» (¬2). «تألفوا الناس، وتأنوا بهم ولا تغيروا عليهم حتى تدعوهم، فما على الأرض من أهل بيت من مدر ¬
4 - دعم مبادئ كرامة الإنسان والعدالة والحرية والمساواة في العالم أجمع
ولا وبر إلا أن تأتوني بهم مسلمين أحب إلي من أن تأتوني بأبنائهم ونسائهم، وتقتلوا رجالهم» (¬1) «الخلق كلهم عيال الله، فأحب خلقه إليه أنفعهم لعياله» (¬2). 80 - وعلى الدولة المسلمة التقيد بهذه التعاليم لحماية ودعم مبدأ السلام العالمي، سواء أكان التهديد قريباً من حدودها أم بعيداً عن أراضيها، لأن انفجار الحرب ـ لا سيما في عصرنا الحاضر ـ يعرِّض العالم كله إلى هزات عنيفة، ويبعد أن تكون دولة فيه بمأمن من لظاها وآثامها، ولأن الإسلام يكره إراقة الدماء في أي مكان وبالنسبة لكل إنسان إلا للضرورة كما يبين من كلام فقهائنا في الواجب الآتي عند بحث حماية الكرامة الإنسانية. 4 - دعم مبادئ كرامة الإنسان والعدالة والحرية والمساواة في العالم أجمع: 81 - الإسلام ـ كما هو معروف ـ نظام عام للبشرية في أصل رسالته السماوية حتى تتحقق به الحياة الطيبة، وتتوافر للناس سعادة الدنيا والآخرة، لذا فإنه يقيم نظامه الاجتماعي على أسس ثابتة أهمها ما يأتي: أـ حماية الكرامة الإنسانية: أعلن الإسلام مبدأ كرامة الإنسان، فهو أكرم مخلوق على الأرض، والكرامة حق طبيعي لكل إنسان، فلا يجوز إهدار كرامته، أو إباحة دمه وشرفه سواء أكان محسناً أم مسيئاً، مسلماً أم غيرمسلم، لأن العقاب إصلاح وزجر، لا تنكيل وإهانة، ولا يحل شرعاً السب والشتم والاستهزاء ¬
وقذف الأعراض، كما لا يجوز التمثيل (¬1) بأحد ولو من الأعداء أثناء الحرب أو بعد انتهائها، ويحرم التجويع والإظماء والنهب والسلب، لقوله تعالى: {ولقد كرَّمنا بني آدم، وحملناهم في البر والبحر، ورزقناهم من الطيبات وفضَّلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً} [الإسراء:70/ 17]. وقال الرسول صلّى الله عليه وسلم: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم» (¬2) «المؤمن أعظم حرمة من الكعبة» (¬3) «ما شيء أكرم على الله يوم القيامة من ابن آدم» (¬4). ولقد قرر فقهاؤنا أن الأصل في الناس حقن الدماء، فقال الحنفية: (الآدمي معصوم ليتمكن من حمل أعباء التكاليف وإباحة القتل عارض سمح به لدفع شره) وقال مالك: (لا ينبغي لمسلم أن يهريق دمه إلا في حق، ولا يهريق دماً إلا بحق) (¬5). وقال الحنابلة: (إن الأصل في الدماء الحظر إلا بيقين الإباحة) (¬6) وقال الشافعية (¬7): (قتل الآدمي عمداً بغير حق أكبر الكبائر بعد الكفر، وأما قتل الكفار فليس بمقصود حتى لو أمكن الهداية بإقامة الدليل بغير جهاد كان أولى من الجهاد). ¬
ب ـ مبدأ العدالة
ب ـ مبدأ العدالة: 82 - إن العدالة المطلقة في الإسلام مبدأ من مبادئ نظام الحكم الإسلامي، وأساس كل علاقة إنسانية سواء بين الأصدقاء أم الأعداء؛ لأن العدل قوام العالمين في الدنيا والآخرة، وبالعدل قامت السموات والأرض، والعدل أساس الملك، وأما الظلم فهو طريق خراب المدنيات وزوال السلطان، قال تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} [النحل:90/ 16] وقال صلّى الله عليه وسلم في الحديث القدسي عن رب العزة: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا» (¬1). ومن أخص الحالات التي ينبغي فيها العدل: حالة الحكم والشهادة والقضاء بين الناس، وفي ميدان الحكم والإدارة وفرض الضرائب وجباية المال وصرفه في مصالح الناس (أي في الميدان الدستوري والإداري والمالي) وفي نطاق الأسرة والتربية والتعليم، وقال تعالى: {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} [النساء:58/ 4] {ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى} [المائدة:8/ 5] {ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين} [النساء:135/ 4]. جـ ـ الحرية: 83 - الحرية: هي أعلى ما يشعر به المرء في هذا الوجود، فهي ملازمة لكرامته الإنسانية، وقد أقر الإسلام مبدأ الحرية في أعدل مظاهرها، قال عمر بن الخطاب لواليه عمرو بن العاص: (متى تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً) (¬2) وأعلن القرآن حرية العقيدة وحرية الفكر وحرية القول. ¬
فمن أجل تقرير حرية الاعتقاد منع الإكراه على الدين: {لا إكره في الدين، قد تبين الرشد من الغي} [البقرة:256/ 2] وجعل قبول اعتناق الإسلام منوطاً بالاختيار الحر والاقتناع الذاتي بعد استخدام الفكر والعقل السليم وتجنب التقليد ومحاكاة الآخرين بدون حجة، عملاً بقوله تعالى: {أولم يتفكروا في أنفسهم} [الروم:8/ 30] {قل: انظروا ماذا في السموات والأرض} [يونس:101/ 10] {وما يذكّرُ إلا أولو الألباب} [آل عمران:3/ 7]. وتحريضاً على التفكير والنظر الطليق ندد الله سبحانه بالتقليد في العقائد وتعطيل العقول فقال: {وإذا قيل لهم: اتبعوا ما أنزل الله، قالوا: بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، أولو كان أباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون} [البقرة:170/ 2] {أفلم يسيروا في الأرض، فتكون لهم قلوب يعقلون بها، أو آذان يسمعون بها، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} [الحج:46/ 22]. والنقد البناء ليس حقاً فقط، وإنما هو واجب ديني أحياناً لا سيما عند المساس بالمصالح العامة والأخلاق، قال صلّى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة. قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» (¬1) واعتبر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصول الإسلام كما تقدم، وأن الشورى أساس الحكم والإدارة السياسية والحربية، وأن الاجتهاد في أمور الدنيا حق مطلق، وأما في القضايا الدينية فهو مقيد في حدود القرآن والسنة الصحيحة، يعني أن للفرد الحرية في الأمور الدنيوية بإبداء ما شاء من الآراء فيها، وأما الأمور ذات الصبغة الدينية (أو الشرعية) فلكل مجتهد ـ في غير موضع النص ـ أن يجتهد برأيه في حدود أصول الدين الكلية. ¬
د ـ المساواة الكاملة بين الناس
د ـ المساواة الكاملة بين الناس: 84 - إن مبدأ المساواة في الإسلام عام شامل دون قيود ولا استثناءات، وأساس في نظام الحكم الإسلامي، وكان ذلك المبدأ جديداً بالنسبة للعرب، بل وكان يتعارض مع الشعور القبلي السائد (¬1)، فقررت الشريعة المساواة التامة في الحقوق والواجبات وأمام القانون والقضاء وفي المسؤوليات العامة والحقوق السياسية بين الأفراد، والجماعات، والأجناس، وبين الحاكمين والمحكومين، لا فضل لرجل على آخر إلا بالتقوى والعمل الصالح، ودون تفرقة بسبب الجنس أو اللون أو الطبقة (أي في الغنى والفقر) أو القوة والضعف، أو الحسب والنسب. الناس جميعاً في الشريعة متساوون على اختلاف شعوبهم وقبائلهم، كما هم متساوون في وحدة الأصل البشري (¬2) وبدليل قوله تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات:13/ 49] وهذا المفهوم أكده الرسول صلّى الله عليه وسلم في قوله: «الناس سواء كأسنان المُشط» (¬3). «أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على أعجمي فضل إلا بالتقوى» (¬4) «كرم الرجل: دينه، ومروءته، وعقله وحسبه وخلقه» (¬5). ¬
وطبق الرسول عليه الصلاة والسلام المبدأ أولاً على نفسه، فأعد نفسه للقوَد (القصاص) ممن جلده أو شتمه أو أخذ منه ماله بغير حق (¬1)، وكذلك فعل أبو بكر وعمر وبقية الخلفاء الراشدين، وكان الخليفة الراشدي يعلن مبدأ المساواة بصراحة في أول خطبة سياسية يلقيها بعد توليه الخلافة. وكان هذا المبدأ أهم المبادئ التي جذبت قديماً نحو الإسلام الكثير من الشعوب الأخرى، كما لاحظ بعض المستشرقين (¬2). ولا شك أن تحقيق المساواة منوط باختصاص الحكومات لا باختصاص الأفراد، لاحتياج المبدأ إلى سلطان يقرره وقوة تحميه وتنفذ محتواه دون تحيز، ومع تجرد عن الأهواء والغايات الشخصية، قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: (ما يزع السلطان أكثر مما يزعهم القرآن) (¬3). 85 - والخلاصة: أن الإسلام يحرص على حماية حقوق الإنسان سواء في دار الإسلام أم في دارالحرب، ويحترم في الواقع مفاهيم الكرامة الإنسانية والحرية والعدالة والإخاء والتعاون والمساواة بين كل الناس، فتتعاون الدولة الإسلامية مع غيرها عند الدخول في علاقات تجارية ونحوها مع البلدان الأخرى، أو أثناء الإقامة بدار الحرب، أو وقت الاحتكاك بالشعوب أثناء الفتوح، أو عند اجتياز الحربيين لبلادنا وتمتعهم بالأمان فيها. وهذا على عكس ما عليه الوضع الدولي الحاضر عند النظر إلى الواقع الملموس، فقد فقدت المبادئ المذكورة كثيراً من معانيها، وأصبحت معاييرها ¬
المطلب الثاني: وظيفة تقوم على اعتبار خصائص الدولة الإسلامية وأهدافها
مضطربة، وصار وجودها في المواثيق والأذهان مقصوراً على الناحية النظرية والمزايدات الإعلامية أو الدعائية في هيئة الأمم وتوابعها. أما في الواقع فإن مصالح الدول الكبرى أو الطرف الأقوى دائماً هي القائمة فعلاً، بل إن بعض تلك الدول تمارس أبشع ألوان التمييز العنصري في داخل بلادها أو في مستعمراتها في إفريقية. المطلب الثاني: وظيفة تقوم على اعتبار خصائص الدولة الإسلامية وأهدافها: تمهيد: 86 - إن حفاظ الإسلام على السلم العالمي ودعمه، وحرصه على نشر دعوته السلمية، وفكرته عن وحدة البشرية تجعل منه نظاماً عالمياً صالحاً للاهتداء بتعاليمه في المجتمع، إذ إن نظرته الإنسانية للناس تتخطى حدود القوميات الضيقة، وعصبيات الجنس واللون والوطن، ولأن اعتقاده بوحدة الدين في أصل الرسالات السماوية يشيع جواً ودياً من التسامح. وأما تشريع الجهاد فيه فهو في حدود الضرورة أو الحاجة كالدفاع عن حرية العقيدة والدعوة والعبادة، أو دفع الظلم عن المستضعفين، أو إزالة الفتنة والفساد في الأرض، لذا فإن الإسلام يقاوم حروب العدوان أو حروب الاستعمار من أجل فتح مناطق النفوذ أو السيطرة على أسواق العالم. وعلى الدولة المسلمة أن تتعاون مع غيرها من الدول المخلصة في كل مجال يخدم سعادة الإنسان ويحقق الخير للبشرية. ويتجلى ذلك من كلامنا عن وظائف الدولة الآتية في النطاق الخارجي:
1 - التعاون مع المخلصين من غير المسلمين
1 - التعاون مع المخلصين من غير المسلمين: 87 - لا حرج في الإسلام من قيام الدولة المسلمة بالتعاون مع المخلصين من غير المسلمين، سواء أكانوا من أهل الكتاب أم من غيرهم أتباع الديانات الأخرى، وذلك من أجل تحقيق الخير المشترك والدفاع عن المصالح العامة، والتعاون على إقامة العدل، ونشر الأمن وصيانة الدماء أن تسفك، وحماية الحرمات أن تنتهك، ولو على شروط يبدوفيها بعض الإجحاف، عملاً بالمثل الرائع الذ ي وضعه لنا الرسول صلّى الله عليه وسلم في صلح الحديبية: «والله لا تدعوني قريش إلى خُطة يسألوني فيها صلة الرحم ويعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها» (¬1). والدليل أن القرآن حدد لنا أسلوب الدعوة ومنهاجها، فجعلها دعوة بالحجة والبرهان في قوله تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة} [النحل:125/ 16] وطالبنا بحماية المشركين عبدة الأوثان ورعايتهم حين إقامتهم بدار الإسلام، وانتقالهم إلى مأمنهم في قوله سبحانه: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه} [التوبة:6/ 9]. وكذلك حدد القرآن علاقة المسلمين بغيرهم فجعلها مبادلة سلم بسلم قي قوله تعالى: {وإن جنحوا للسَّلْم فاجنح لها وتوكل على الله} [الأنفال:61/ 8]. {فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلَم فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً} [النساء:90/ 4]. بل ندب القرآن المسلمين إلى أن يكون موقفهم من غير المسلمين موقف بر ورحمة وعدل وقسط قي قوله عز وجل: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم ¬
في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين} [الممتحنة:8/ 60]. 88 - ومما يلقي الضوء على أنه لا مانع شرعاً من التعاون مع غير المسلمين تحديد موقف الإسلام من الديانات الأخرى. وخلاصة القول: إن علاقته بالديانات السماوية إما علاقة تصديق وإقرار كلي في صورتها الأولى، أو علاقة تصديق في بعض أجزائها وتصحيح لما طرأ عليها في صورتها الحالية. وهذا هو شأنه أمام كل رأي وعقيدة، وكل شريعة وملة، حتى الديانات الوثنية تتحدد علاقة الإسلام بها بطابع الإنصاف والتبصر والمحاجة والإقناع والتحليل كما هو شأن القرآن معها (¬1). إن أهل الكتاب (اليهود والنصارى) يلتقون مع المسلمين في وحدة المصدر الديني وأصول العقيدة كما جاء في قوله تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً، والذي أوحينا إليك، وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ... } [الشورى:13/ 42] قال الدهلوي: (اعلم أن أصل الدين واحد اتفق عليه الأنبياء عليهم السلام، وإنما الاختلاف في الشرائع والمناهج ... الخ) (¬2). وقال صلّى الله عليه وسلم: «مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة. فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين» (¬3). ¬
وانطلاقاً من وحدة الأصل الديني سارع بعض أهل الكتاب إلى الإيمان كما حكى القرآن: {بلى من أسلم وجهه لله، وهو محسن، فله أجره عند ربه، ولا خوف عليهم ولاهم يحزنون} [البقرة:112/ 2]. {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم، ولا خوف عليهم ولاهم يحزنون} (¬1). وبالرغم من أن الإسلام أو القرآن جاء {مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه} [المائدة:48/ 5] فإنه لا يكرَه أحد من أهل الكتاب وغيرهم على الإسلام لقوله تعالى: {قل: يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم: ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله، فإن تولوا فقولوا، اشهدوا بأنا مسلمون} (¬2). 89 - وأما غير أهل الكتاب فتحدد علاقة الإسلام بدياناتهم باستبقاء ما فيها من عناصر الحق والخير والسنة الصالحة. وتنحية ما فيها من عناصر الباطل والشر والبدعة. ويمكن التعاون معهم سلمياً بدليل أن الرسول صلّى الله عليه وسلم قبل المعاهدة معهم وعاملهم معاملة أهل الكتاب، فقال عن المجوس: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» (¬3) واستعان الرسول صلّى الله عليه وسلم أثناء هجرته إلى المدينة بعبد الله بن أرقط (أو أريقط) وهو من المشركين، بأن استأجره ليرشده مع صاحبه أبي بكر على الطرق الخفية إلى المدينة بعد أن اطمأن إليه (¬4). وكذلك طلب الرسول عليه الصلاة والسلام من سراقة بن ¬
مالك بن جُعْشم أن يعمي الخبر عنه وعن صاحبه لقاء الأمان الذي أمنه عليه، والاستغفار الذي سأله منه (¬1). واستعار الرسول صلّى الله عليه وسلم أيضاً يوم حنين أدرعاً من من صفوان بن أمية وهو يومئذ مشرك (¬2) واستعان كذلك في هذه المعركة للاشتراك في الجهاد بجماعة من المشركين تألَّفهم من الغنائم (¬3). وبناء عليه أجاز فقهاء الحنفية والشافعية والزيدية والهادوية الاستعانة بالكفار والمشركين في القتال (¬4) مستدلين باستعانته صلّى الله عليه وسلم بيهود بني قينقاع وأنه رضخ لهم (¬5)، وباستعانته صلّى الله عليه وسلم بصفوان بن أمية يوم حنين، وبإخباره صلّى الله عليه وسلم أنه ستقع من المسلمين مصالحة الروم، ويغزون جميعاً عدواً وراء المسلمين. وأجمع الفقهاء على جواز الاستعانة بالمنافقين والفساق، لاستعانته صلّى الله عليه وسلم بعبد الله بن أبي وأصحابه (¬6). والخلاصة: إن الإسلام لا يتوانى لحظة واحدة عن سعيه لإقامة علاقات طيبة مع غير المسلمين لتحقيق التعاون البنَّآء في سبيل الخير والعدل والبر والأمن وحماية الحرمات ونحو ذلك. ¬
2 - الدعوة إلى الإسلام
2 - الدعوة إلى الإسلام: 90 - ليس الإسلام فاتراً ولا منطوياً على نفسه، كما زعم بعض الكتاب الغربيين، وإنما الدعوة إلى الحق والخير وعقيدة التوحيد ركن أصيل من أركان الإسلام، والنشاط في هذه الدعوة فريضة مستمرة في كل زمان ومكان، فيأمر الله نبيه بتبليغ رسالته، كما تبين في وظيفة إعداد الدعاة (¬1)، وبأن يبذل جهده في هذا التبليغ، فقال سبحانه: {وجاهدهم به جهاداً كبيراً} [الفرقان:52/ 25] وكان برسل الدعاة إلى الآفاق كما أوضحت، والقرآن يحرِّض المؤمنين على هذه الدعوة: {ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله} [فصلت:33/ 41] بل يجعل الفلاح في الدار الآخرة وقفاً على هؤلاء الدعاة: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون} [آل عمران:104/ 3] {والعصر إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} [العصر:1/ 103 - 3]. 91 - وواجب الدولة الإسلامية أصيل أيضاً في هذا المجال، باعتبار أن ولي الأمر يمثل جانب الخلافة عن الرسول عليه السلام في هذا الشأن، كما كان يفعل الخلفاء الراشدون ومن بعدهم. خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال في خطبته: (إني لم أبعث عمالي ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن أبعثهم إليكم ليعلموكم دينكم وسنة نبيكم، فمن فعل به ذلك فليرفعه إلي، أقصه منه، فقال عمرو بن العاص: لو أن رجلاً أدَّب بعض رعيته، أتقصه منه؟ قال: إي والذي نفسي بيده إلا أقُصُّه، وقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم أقص من نفسه) (¬2). ¬
3 - دفع شبهات أعداء الإسلام
وقال ابن قيم: الدعوة إلى الله والتبليغ عن رسوله شعار حزبه المفلحين وأتباعه من العالمين، كما قال تعالى: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني، وسبحان الله وما أنا من المشركين} [يوسف:12/ 108] (¬1). وهناك آية أخرى توضح واجب الدعوة على أتباع الرسول صلّى الله عليه وسلم من الحكام والأفراد لعموم الخطاب فيها، وهي قوله عز شأنه: {وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ} [الأنعام:19/ 6]. أي لأنذركم وأنذر كل من بلغه القرآن من العرب والعجم، فالإنذار مباشرة للسامع ولمن بلغه السامع، ويؤكده قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «نضَّر الله امرءاً سمع مقالتي، فوعاها، فأداها إلى من لم يسمعها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه» (¬2) فمهمة الفقيه الخطيرة تتمثل في الدعوة والتبليغ عن وعي وإدراك، لذا قال عليه الصلاة والسلام: «ما عُبد الله بشيء أفضل من الفقه في الدين، ولفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد، ولكل شيء عماد، وعماد الدين الفقه) (¬3). 3 - دفع شبهات أعداء الإسلام: 92 - إن من أهم واجبات ولاة الأمور هو المحافظة على الدين وعقائده، وإيضاح الشبهات وحل المشكلات ورد المفتريات وتزييف البدع، كما ذكر الماوردي في واجبات الإمام التي بينتها سابقاً. وطريق ذلك إعداد العلماء المختصين وبث الدعاة في بلاد الإسلام قياماً ¬
المبحث الرابع ـ حصانات الدولة وإعفاءاتها في الخارج
بالواجب الكفائي. قال النووي في منهاجه: (ومن فروض الكفاية: القيام بإقامة الحجج العلمية (¬1) وحل المشكلات في الدين ودفع الشبهة) (¬2) وأضاف الشارح: وأما الآن وقد ثارت البدعة ولا سبيل إلى تركها تلتطم، فلا بد من إعداد مايدعى به إلى الملك الحق، وتحل به الشبهة، فصار الاشتغال بأدلة المعقول وحل الشبهة من فروض الكفايات. المبحث الرابع ـ حصانات الدولة وإعفاءاتها في الخارج: 93 - المراد بالحصانة: احترام شخصية الدولة وتوابعها وعدم الاعتداء على أحد ممثليها أوإخضاعها لولاية المحاكم في الدول الأخرى وإعفاؤها من الضرائب الشخصية المباشرة. ومبنى الحصانة احترام سيادة الدول، وقد وجدت الحصانات من قديم قبل ظهور الدولة الحديثة، وكانت تستند إلى قواعد المجاملة، ثم أضحت اليوم تستند إلى قواعد القانون الدولي والأعراف الدولية. والكلام عن هذا الفصل في مطلبين: المطلب الأول - ما تشمله الحصانات والإعفاءات: 94 - تشمل الحصانات والإعفاءات المقررة للدولة بحسب قواعد العرف والمجاملة والمبادئ والأخلاق الإسلامية ما يأتي: ¬
أـ شخصية الدولة
أـ شخصية الدولة: لا يتعرض لشؤون دولة أخرى غير مسلمة ما لم يوجد منها عدوان على المسلمين أو بلادهم ومصالحهم، إذ القتال لمن قاتلنا ولا عدوان إلا على الظالمين (¬1)، قال تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} [البقرة:190/ 2] والأصل في علاقات المسلمين بغيرهم هو السلم لا الحرب (¬2). ولا تخضع شخصية الدولة غير المسلمة في بلادها أو أحد ممثليها لقضاء إسلامي أو نظام ضريبي؛ إذ لا سلطان للدولة الإسلامية على دار الحرب. أما إذا كان رئيس الدولة الأجنبية (¬3) أو رجال حاشيته في بلاد الإسلام، فإن الشريعة الإسلامية تطبق عليه ويخضعون للقضاء الإسلامي، خلافاً لما يقضي به العرف الدولي الحاضر؛ لأن الشريعة لا تفرق بين الحاكم والمحكومين، والمستأمن في بلادنا قد التزم بدخوله دارنا أحكام الإسلام، ولا حرج من محاكمة غير المسلم الذي ارتكب جريمة في دار الإسلام؛ لأن العدل أساس الحكم في الشريعة حتى مع الأعداء، وأما الخوف من اتخاذ الاتهام ذريعة للضغط فهو خوف في غير محله، لوجود وسائل ضغط أخرى أسرع وأجدى من الاتهام (¬4) إلا أن أبا حنيفة لا يرى معاقبة المستأمن في دار الإسلام على جريمة تمس حقوق الجماعة، أما الجريمة التي تمس حق الأفراد فيعاقب عليها (¬5)، فإن لم تقع جريمة في دار الإسلام من رئيس ¬
ب ـ السفن والطائرات
الدولة الأجنبية فهو في أمان لا يجوز التعرض لشخصه وماله وأسرته وأتباعه أو حاشيته. ب ـ السفن والطائرات: تتمتع السفن والطائرات الأجنبية بالأمان في دار الإسلام ما لم تقع حوادث مخالفة منها، فعندئذ تخضع للقضاء الإسلامي. جـ ـ الوكالات والمؤسسات: يطبق الحكم السابق على الوكالات والمؤسسات الأجنبية مثل مكاتب الطيران والمدارس والمشافي والبعثات التعليمية ومراكز البحوث العلمية وشركات الاستثمار ونحوها من المؤسسات ذات النفع العام بسبب الصفة الدينية أو العلمية أو الإنسانية أو الرياضية المقامة في بلد إسلامي. د ـ الوحدات السياسية: كالمكاتب والبعثات السياسية ووزير الخارجية والوفود التجارية وممثلي الإدارات والمصالح الأجنبية يعتبر لها من الحصانة الشخصية والمالية في حدود ما يقضي به الأمان على النحو السابق (¬1). هـ ـ السفارات: إن مقر السفارة الأجنبية له نفس حصانة الرسل والسفراء بحكم الأمان (¬2). أما السفارات الإسلامية وممثلوها فلا تعتبر في بلاد الإسلام مستأمنة بحال، وإنما يطبق عليها سائر الأحكام المطبقة على المسلمين المقيمين في دار الإسلام. المطلب الثاني - أنواع الحصانات والإعفاءات: 95 - تتمتع الدولة الأجنبية وممثلوها وتوابعها بالحصانات المقررة للرسل والسفراء وهي الحصانة الشخصية والمالية، فالأولى تقضي بحرمة التعرض للنفوس ¬
ثالثا ـ الاستثناءات
والأسرة والحواشي والأتباع عملاً بالأمان. والثانية تقضي بعدم إخضاع الأموال المملوكة للدول الأجنبية والمخصصة لأغراض عامة والموجودة في دار الإسلام للنظام الضريبي؛ لأن فرض الضريبة خاضع لتقدير ولي الأمر فله أن يقرر شمول الضريبة أو حصرها في نطاق معين. أما الحصانة القضائية فهذه مما يختلف فيها الإسلام عن العرف الدولي القائم، فلا يعفى الأجانب المستأمنون من تطبيق الشريعة أو من الخضوع للقضاء المحلي (¬1). ثالثاً ـ الاستثناءات: 96 - قد لا تطبق الحصانة المذكورة استثناء في بعض الأحوال وهي ما يأتي: أ - النشاط التجاري والملكية الخاصة: إذا قامت الدولة الأجنبية بنشاط خاص في مجال التجارة أو الصناعة، أو كان لها ملكيات خاصة في أراضي دار الإسلام، فيمكن إخضاع ذلك النشاط أو الملكية للنظام الضريبي المطبق على جميع المواطنين باعتبار أن الدولة غير ممثلة بشخصها المعنوي الذي يتطلب إعفاءات خاصة بقصد التعاون في الحقل الدولي، ولأن طرح الضريبة في الإسلام مرجعه تقدير ولي الأمر كما ذكرت، وأن الأصل هو عموم الحكم في التطبيق. ب ـ حالة رضا الدولة: كذلك ترتفع الحصانة بداهة في حالة موافقة الدولة أو قبولها إخضاع أموالها وممتلكاتها وتصرفاتها للنظام الضريبي الإقليمي، باعتبار أن مبدأ الرضا الذي هو في الأصل شرط في كل التزام أمر قائم، وحيث وجد الرضا لم يبق نزاع. ¬
المبحث الخامس ـ تغير حالة الدولة الإسلامية وزوالها وآثار ذلك
المبحث الخامس ـ تغير حالة الدولة الإسلامية وزوالها وآثار ذلك: 97 - قد تطرأ تغيرات على الدولة الإسلامية كغيرها من الدول في العادة، فتؤثر في تكوينها السياسي أو الإقليمي، مع بقاء كيانها الأصلي في سلطة المسلمين، وقد تزول الدولة من بعض أقاليمها زوالاً جزئياً أو كلياً باغتصاب العدو لقطعة من الأرض أو احتلالها عنوة. وهذا من ما يبحث في المطلبين التاليين: المطلب الأول- تغير حالة الدولة الإسلامية: تغير حالة الدولة له نوعان: 98 - النوع الأول ـ التغيير الكياني في التنظيم السياسي الداخلي: قد يحدث تغير في نظام الحكم الداخلي أو التكوين الدستوري للدولة الإسلامية مع بقاء شخصية الدولة واستمرار التزاماتها بالنسبة للدول الأخرى. ويتم ذلك بإحدى حالات ثلاث: 1 - الانقلاب: هو استيلاء جماعة مسلحة ذات قوة ومنعة على سلطة الحكم وإبعاد الحكام السابقين. وقد أشرت في بحث الاعتراف بالدولة إلى أن الإمامة قد يتوصل لها استثناء بالقهر والغلبة، ومعناه ـ كما قال الدهلوي (¬1): استيلاء رجل جامع لشروط الإمامة على الناس، وتسلطه عليهم كسائر الخلفاء بعد خلافة النبوة. ثم إن استولى من لم يجمع الشروط لا ينبغي أن يبادر إلى المخالعة؛ لأن خلعه لا يتصور غالباً إلا بحروب ومضايقات، وفيها من المفسدة أشد مما يجري ¬
2 - الحرب الأهلية
من المصلحة، «سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عنهم: فقيل: أفلا ننابذهم؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة وقال: إلا أن تروا كفراً بواحاً (¬1) عندكم من الله فيه برهان (¬2). 2 - الحرب الأهلية: قد تتقاتل فئتان من المسلمين، فتتغلب إحداهما على الحكم، فينعقد لها بالقهر والغلبة أمر السلطة العليا، كما في حالة الانقلاب السابقة. 3 - الثورة: الثورة تختلف عن الانقلاب، إذ الانقلاب وثبة من داخل القوة المسلحة أو الجيش غالباً، أما الثورة فنطاقها أوسع، إذ هي شعبية نابعة من سخط الجماعة على الحكام. وقد أجاز فقهاء الإسلام الخروج على الحكام في بعض الحالات (¬3). قال الدهلوي مضيفاً إلى عبارته السابقة: (وبالجملة فإذا كفر الخليفة بإنكار ضروري من ضروريات الدين حل قتاله بل وجب، وإلا لا، وذلك لأنه حينئذ (¬4) فاتت مصلحة نصبه (¬5)، بل يخاف مفسدته على القوم، فصار قتاله من الجهاد في سبيل الله، قال صلّى الله عليه وسلم: «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره مالم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» (¬6) أي أن مبدأ الثورة هو ¬
النوع الثاني ـ التغيير في النطاق الإقليمي
ويلاحظ أنه قدم وأخر في عبارة الحديث الذي رواه البخاري والترمذي وأبو داود والنسائي عن عبد الله بن عمر بلفظ «على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره، إلا أن يؤمر بمعصية فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» (جامع الأصول: 454/ 4، شرح مسلم: 226/ 12). قاعدة أو حديث «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» (¬1). النوع الثاني ـ التغيير في النطاق الإقليمي: 99 - إن التغييرات التي تطرأ على إقليم الدولة، فتؤدي إلى اتساعه أو نقصه تحدث إما من أراض مباحة لا صلة لها بدولة أخرى، أو مما يمس إقليم دولة أخرى بالحرب ونحوها. أولاً ـ التغيير بما لا يمس إقليم دولة أخرى: قد يحدث التغيير في إقليم الدولة إما بالإضافة أو بالاستيلاء: 1 - التغيير بالإضافة (¬2): قد تكون طبيعية بظهور جزر جديدة في وسط البحر الإقليمي، أو النهر الكبير الإقليمي، أو بسبب تراكم الطمي في مصب نهر من الأنهار الكبرى عند شواطئ الدولة أو الدلتا التي تتكون عند مصب الأنهار، وقد تكون صناعية بردم الماء في منطقة نهرية أو بحرية إقليمية، كما لو بنت الدولة حاجزاً للأمواج في بحرها الإقليمي أو أقامت فيه منشآت لموانيها. إذا حدث مثل هذا في دار الإسلام كان جزءاً منها بالالتحاق، إذ أن له حكم المباح، وقد قرر ذلك أبو يوسف في كتابه (الخراج) حينما تكلم عن الجزائر التي تتكون في دجلة والفرات ينضب عنها الماء، وقال: هذا مثل الأرض الموات، ولمن ¬
2 - التغيير الاستيلاء
جاورها أن يحصنها ويزرع فيها إذا كان ذلك لا يضر بأحد، وإن كان يضر أحداً منع من ذلك، ولم يترك يحصنها ولا يزرع فيها، ويحدث فيها حدثاً إلا بإذن الإمام (¬1). ويرشد إليه قوله صلّى الله عليه وسلم: «من سبق إلى ما لم يسبقه إليه مسلم فهو له» (¬2). وحكم ابن نجيم بإباحة النهر إذا لم يعرف حاله: هل هو مباح أو مملوك تطبيقاً لقاعدة (الأصل في الأشياء الإباحة) (¬3). 2 - التغيير الاستيلاء (¬4): للدولة الإسلامية الاستيلاء الفعلي بواسطة عمالها وولاتها على أرض مباحة غير خاضعة لدولة أخرى، لأن من استولى على مال مباح غير مملوك لأحد يملكه كمن استولى على الحطب والحشيش والصيد (¬5). ثانياً ـ التغيير بما يمس إقليم دولة أخرى: 100 - لهذا التغيير أحوال ثلاث هي: 1 - بطريق المعاهدة: إن الصلح أو الاتفاق الصريح أو الضمني مبدأ مقرر في الإسلام سواء في وقت السلم أم في وقت الحرب، وهو من خصائص الخليفة أو الإمام الأعظم، الذي ينوب عن الرسول صلّى الله عليه وسلم، ويعتبر تصرف الرسول فيه بطريق الإمامة والسياسة لا بطريق التبليغ والفتوى (¬6). ¬
2 - بطريق التقادم
وبالصلح يمكن تغيير وصف البلاد، فتنتقل من كونها بلاداً للحربيين إلى أن تصبح جزءاً من دار الإسلام إما بسبب اعتناق أهلها الإسلام أو بقبولهم عقد الذمة. ومن ذلك الأراضي التي يستولي عليها المسلمون صلحاً، وتتم المصالحة على أن ملك الأرض لنا فتصير بهذا الصلح وقفاً من دار الإسلام (¬1). ويشمل هذا القسم أيضاً حالات التنازل (¬2) ومبادلة أرض بأخرى مقايضة، أو عن طريق صفقة بيع لقاء عوض معين، والاستفتاء الشعبي الناجم من حق الشعب في تقرير مصيره بنفسه أو بإرادته الحرة، إلا أن الاستفتاء نادر الوقوع لأن الشعب المسلم قد فوض الحاكم بانتخابه أن يفعل ما يراه محققاً للعدالة وللمصلحة العامة (¬3). 2 - بطريق التقادم (¬4): لا يعتبر التقادم سبباً صحيحاً من أسباب كسب الملكية أو الحقوق عموماً، (إذ لا يجوز لأحد أن يأخذ مال أحد بلا سبب شرعي) وإنما هو فقط مانع للقاضي من سماع الدعوى بالحق، حماية لمبدأ الاستقرار في الأوضاع الحقوقية وتجنباً لإثارة المشكلات في الإثبات ونحوه، ومدة التقادم في الأموال العامة المانعة من سماع الدعوى به هي 36 سنة (¬5) ويمكن الأخذ بهذا المبدأ في العلاقات الدولية. ¬
3 - بالفتح عند قيام موجباته (الجهاد)
3 - بالفتح عند قيام موجباته (الجهاد): الفتح هو الاستيلاء عنوة على إقليم تابع لدولة أخرى، والفتح مشروع في الإسلام عند قيام المسوغ الشرعي له، وهو دفع الاعتداء، لا من أجل الغلب والسيطرة أو للمخالفة في الدين، أو لاستغلال الشعوب واستعمارها بالمعنى الحاضر، أو لفرض أي شكل من أشكاله، أو بسبب التميز العنصري الممقوت القائم في بعض الدول الحديثة. المطلب الثاني ـ زوال الدولة الإسلامية: 101 - تفنى الدولة أو تزول بزوال أحد عناصرها الثلاثة السابق ذكرها وهي: السكان والإقليم والسلطة أو السيادة، إلا أن زوال السكان بالهجرة وبالكوارث الطبيعية، وزوال الإقليم بحادث طبيعي كزلزال أو طوفان شيء نادر الوقوع، والغالب هو زوال السيادة والاستقلال بالضم إلى دولة أخرى أو الحماية أو بالانتداب أو بالوصاية عليها. ويقابل هذا المعنى إجمالاً في الفقه الإسلامي بحث تحول أو تغير وصف الدار من دار إسلام إلى دار حرب، وفيه اختلف الفقهاء: فقال أبو حنيفة والزيدية، لا يتحقق اختلاف الدارين إلا بتوافر شروط ثلاثة هي: 1 - ظهور أحكام الكفر ونفاذه فيها وحدها. 2 - أن تكون متاخمة لدار الكفر أو الحرب. 3 - ألا يبقى مسلم ولا ذمي آمناً بالأمان السابق قبل استيلاء الكفار، وإنما يصير تحقق الأمان والاستقرار منوطاً بسلطة غير إسلامية.
أولا ـ الزوال الكلي
وقال الصاحبان وجمهور الفقهاء: ينقلب وصف الدار أويتحول من دار إسلام إلى دار حرب بإجراء أحكام الشرك فقط (¬1). وهذا يدل على أن زوال الدولة الإسلامية يحدث بزوال سيادة الأحكام والسلطة الإسلامية وهو الأمر الغالب كما أشرت. وللزوال أو التوارث أو الفناء حالتان: أولاً ـ الزوال الكلي: 102 - قد تزول الدولة زوالاً تاماً أو كلياً بزوال أحد أركانها المشار إليها سابقاً، وذلك إما بالاختيار كاتفاق الدول الإسلامية المتجزئة على إقامة وحدة سياسية فيما بينها (بالاندماج أو الالتحاق أو الاتحاد) وإما بالإجبار كالانقسام أو الانفصال، كانفصال الدولة الأموية في الأندلس عن الخلافة العباسية في بغداد، أو الفتح أو الاستيلاء أو الاتحاد الجبري، ويترتب على هذا الزوال القضاء على شخصية الدولة. ويلاحظ أنه بالرغم من زوال الدولة الإسلامية في قطر ما، فإنه قد يبقى الإقليم داراً إسلامية إذا كانت أحكام الإسلام ما زالت مطبقة فيها، كما حدث في بعض أجزاء الهند، وفلسطين لنفاذ أحكام الشريعة فيها، ولأن القاضي فيها مسلم بالرغم من تعيينه من قبل سلطة غير إسلامية. ثانياً ـ الزوال الجزئي: 103 - قد يحدث زوال جزئي يطرأ على بعض أنحاء الدولة نتيجة تجزئة السلطة وانفصال بعض أجزاء إقليم الدولة الأصلية وانضمامه إلى سلطة دولة ¬
أـ حالة إمكان إخضاع الجزء المنفصل
أخرى، وذلك يصادم الأصل المقرر في الإسلام: وهو وحدة السلطة أو السيادة في جميع أقاليم دار الإسلام، كما بينت سابقاً في بحث ركن أو صفة السيادة. ولا يترتب على هذا الزوال القضاء على شخصية الدولة بعكس حالة الزوال الكلي، وإنما يقتصر الأمر على انتقال جزء من الإقليم لدولة أخرى. ويتحدد موقف السلطة الأصلية (الإمامة أو الخلافة وما في معناهما) من الجزء المنفصل في ضوء الحالتين الآتيتين: أـ حالة إمكان إخضاع الجزء المنفصل. 104 ـ إذا انفصل جزء من دار الإسلام وأراد جماعة فيه تكوين حكومة خاصة بهم، دعاهم الخليفة إلى التزام الطاعة والانضمام إلى دار العدل أو الرجوع إلى رأي الجماعة، فإن أبوا ذلك قاتلهم أهل العدل حتى يهزموهم أو يقتلوهم أو يردوهم قهراً إلى الطاعة، قال صلّى الله عليه وسلم: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما» (¬1) وقال أيضاً: «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم فاقتلوه» (¬2). فإن تم إخضاع الجزء المنفصل، كان هو المراد، وتحقق الحفاظ على مبدأ الوحدة الإسلامية. ب ـ حالة العجز عن إخضاع الجزء المنفصل. 105 - إذا تعذر على الحاكم الأصلي إخضاع الجزء المنفصل، كما حدث بين الخلافة في بغداد وبين إمارة الأمويين في الأندلس، أصبح الواقع القائم في علاقات المسلمين ببعضهم هو الذي يفرض وجوده في ضوء الاحتمالات التالية: ¬
1 - إذا كان الجزء المنفصل معترفاً بالسلطة الأصلية ولو اسماً، ولكنه انفصل إدارياً، كما حدث في العصر العباسي الثاني ـ عصر نفوذ الأتراك، حيث ظهرت بعض الدويلات الصغيرة المتنافسة، كالسامانية والبويهية والحمدانية والغزنوية والسلجوقية (¬1)، فإنه يظل معتبراً من دار الإسلام، ولا يعترف بالزوال الجزئي؛ إذ لا مانع فقهاً - كما ذكرت في بحث السيادة - من تعدد السلطات الإدارية لمصلحة أخذاً برأي بعض العلماء، وكانت الولايات الإسلامية في الغالب تشبه هذا الوضع تقريباً، ولكن مع الحفاظ على مبدأ تولية وعزل الوالي من قبل الخليفة، والإبقاء على روابط أوثق من ناحيتي الدفاع والوضع المالي. 2 - إذا كان الجزء المنفصل غير معترف بالسلطة العليا، بل يدعي أنه هو صاحبها، فإن كان الجزء المنفصل أصغر من غيره في مقابل بقية البلاد الإسلامية الباقية تحت سلطة الحاكم الأصلي، فهوزوال جزئي لبعض أجزاء الدولة، وينتظر الوقت المناسب لإعادة إخضاعه إلى الأصل. وهذا كان حال بلاد فارس وما جاورها في العصر العباسي الثالث ـ عصر إمرة الأمراء ـ حيث قامت فيها عدة دول كالطاهرية والصفارية والسامانية والديالمة، ولكن لم يترتب على الانشقاق زوال الدولة العباسية إلا بعد سقوط بغداد بيد التتر والمغول سنة (656 هـ) (¬2). وكذلك كان حال دور ملوك الطوائف (422 - 897 هـ) الذين توزعوا أجزاء الخلافة الأموية في الأندلس، فانقسمت الدولة الإسلامية إلى دويلات عديدة، حتى كان لكل مدينة تقريباً أميرها المستقل، مما أدى إلى فقدان البلاد نهائياً وسقوطها بيد الإسبان. ¬
وإن كان الجزء المنفصل أكبر من الأصل أو مساوياً له، فيمكن اعتباره (دولة إسلامية) (¬1) إذا توافرت جميع عناصر الدولة من شعب وإقليم وسلطة أو سيادة، ولكنها لا تمثل (الدولة الإسلامية) بمفهومها العام، لعدم وجود وحدة السيادة على جميع أنحاء البلاد، كما تقضي بذلك مبادئ الإسلام. وفي الماضي شهدت البلاد تجزئة سياسية من هذا النوع، لا سيما عند إحياء الخلافة الأموية في الأندلس سنة (300 هـ)، بعد أن كان أمراء بني أمية فيها يلقبون أنفسهم بلقب (الأمير) أو نحوه. وحينئذ أصبح في العالم الإسلامي في ذلك الوقت ثلاث خلافات: الخلافة العباسية في بغداد، والخلافة الفاطمية في المهدية بتونس، والخلافة الأموية في قرطبة. 106 - والفقهاء وإن كانوا متبرمين بهذا الانقسام ويعتبرون الأمويين في الأندلس والأدارسة في المغرب الأقصى بغاة يحاربون، فإنهم في الواقع لم يحكموا بزوال الصفة الإسلامية عن الأجزاء المنفصلة، وإنما هي بلاد إسلام، لأن البغاة ليسوا كفاراً، وإنما يطبقون الأحكام الشرعية مع تأويل بعضها. وحينئذ يمكن وصف كل حكومة من الحكومات القائمة فيها بأنها (دولة إسلامية) ينقصها الانضمام مع بعضها وتكوين الوحدة المنشودة التي كانت قائمة في القرون الثلاثة الهجرية الأولى التي وصفها الرسول صلّى الله عليه وسلم بأنها (خير القرون). ولكن الذي لا شك فيه أنه نجم عن هذا الانقسام السياسي ضعف الدولة الإسلامية وزوالها التدريجي لفقدانها قوة الوحدة وتعاون الجماعة. ¬
المطلب الثالث ـ أثر تغير حالة الدولة أو زوالها في خلفها (التعاقب)
المطلب الثالث ـ أثر تغير حالة الدولة أو زوالها في خلفها (التعاقب) 107 - لم يتعرض الفقهاء المسلمون عموماً لتفصيل الأحكام الناجمة عن زوال الدولة الإسلامية زوالاً كلياً أو جزئياً (¬1) أو بسب التعاقب بين سيادتين: سيادة الدولة القديمة وسيادة الدولة الجديدة التي حلت محل السيادة القديمة. وفي حال زوال الدولة غير الإسلامية لتحل محلها دولة إسلامية قرر الفقهاء أن بلاد تلك الدولة تصبح غنيمة تؤول ملكيتها للدولة المسلمة، وحينئذ إما أن توزع على المسلمين كالغنائم الحربية، أو تترك الأراضي بيد أهلها مقابل خراج يؤدونه عنها كما فعل عمر بن الخطاب في سواد العراق (¬2). وعلى كل فيمكن بحث الآثار المترتبة على تحول الدولة وزوالها في النواحي التالية بالاهتداء بالأحكام العامة في الفقه الإسلامي على الوجه الآتي: أولاً - بالنسبة للمعاهدات: 108 - أـ إذا كان زوال الدولة الإسلامية كلياً بضمها إلى دولة أخرى، فإن المعاهدات التي كانت قد أبرمتها تصبح منتهية ما لم تكن محققة لمصلحة أو لأغراض إنسانية وتحترمها الدولة الوارثة، كما أقر الرسول صلّى الله عليه وسلم حلف الفضول الإنساني الذي عقد في الجاهلية بحضوره لحماية الفضيلة ورعاية الجار وإكرام الضيف وعدم سفك الدماء ونصرة المظلوم (¬3). ¬
ثانيا ـ بالنسبة للديون
والسبب في انتهاء تلك المعاهدات هو انتهاء الشخصية المعنوية للدولة الزائلة عملاً بالحكم الفقهي المقرر في نطاق العقود المدنية الخاصة، وهوأن الوكالة مثلاً تنتهي بموت الموكل (¬1). وبما أن عاقد المعاهدة نائب أو ممثل عن الدولة، فإن المعاهدة التي كان أبرمها تنتهي بزوال شخصيتها التي عقدت المعاهدة من أجلها. ب ـ وأما في حال الزوال الجزئي، فإن المعاهدة تظل قائمة مع دولة الأصل لبقاء شخصيتها الدولية. وهذا شبيه بما قرره فقهاؤنا من بقاء عقد الصلح أو الموادعة بالرغم من موت العاقد أو عزله (¬2). ثانياً ـ بالنسبة للديون: 109 - في حالة الزوال الكلي تتحمل مبدئياً الدولة الجديدة التزامات وديون الدولة القديمة تطبيقاً للقاعدة الإسلامية المعروفة وهي (الغرم بالغنم) ويستثنى من ذلك ما إذا كانت الديون السابقة مثلاً ثقيلة العبء، وموارد الدولة القديمة لا تكفي لتسديدها، فلا يمكن مطالبة الدولة الجديدة بتحمل كل تلك الديون دفعاً للضرر عنها إذ لا ضرر ولا ضرار، ويستحسن تسوية الأمر باتفاقات مع الدائنين كما يحدث في حالة تصفية أموال المفلس مثلاً. ب ـ وأما في حالة الزوال الجزئي، فإن الدولة الأصلية هي المسؤولة عن الديون لبقاء شخصيتها الدولية، ولأن ذمتها المالية ضمان عام لجميع الديون بغض النظر عن أوضاع جزء معين من أجزاء الدولة أو مواردها المالية من أية جهة كانت. لكن تقضي العدالة ـ في تقديري ـ أن تتحمل الدولة الوارثة جزءاً من هذه ¬
ثالثا ـ بالنسبة لأملاك الدولة العامة
ثالثاً ـ بالنسبة لأملاك الدولة العامة: 110 - أـ إذا زالت الدولة كلياً، انتقلت كل حقوقها المالية وأملاكها العامة والخاصة إلى الدولة الوارثة، لأن الذمة المالية الخاصة بالدولة تلازم شخصيتها، وتتبع المسؤول عنها. ب ـ وأما إذا كان زوال الدولة جزئياً بانتقال جزء من اقليمها لدولة أخرى، فتنتقل الأملاك العامة والخاصة بذلك الجزء المنضم المملوكة له إلى الدولة الوارثة. رابعاً ـ بالنسبة للتشريع: 111 - يسري تشريع الدولة الوارثة وأنظمتها السياسية والإدارية والقضائية والمالية لزوال سلطة الدولة المورثة؛ لأن القوانين النافذة فرع عن وجود السلطة، والسلطة تتبع الإقليم، وإذا زال الإقليم لم يبق مجال للسلطة، لكن يستثنى من ذلك عادة الأحكام الخاصة بالعقائدوالأوضاع الدينية والأحوال الشخصية، فهذه تظل القوانين السابقة فيها هي المطبقة منعاً من المشكلات ورعاية لمبدأ الحرية الدينية ما لم يتصادم ذلك مع النظام العام. خامساً ـ بالنسبة للأحكام القضائية: 112 - إن إصدار وتنفيذ الأحكام القضائية مدنية أو جزائية مرهون بإرادة السلطة الضامة أو الوارثة، لعدم وجود سلطة للدولة المورثة، وقد قرر فقهاؤنا أن العقاب والجزاء والفصل في الخصومات منوط بولي الأمر الحاكم.
سادسا ـ بالنسبة لجنسية الأفراد
هذا مع احترام المبادئ المسلم بها قانوناً كحماية الحقوق المكتسبة ورعاية مبادئ الحق والعدالة، وعدم الإخلال بالأمن والنظام واحترام الأعراف الدولية في القضاء والتنفيذ. سادساً ـ بالنسبة لجنسية الأفراد: 113 - يفقد أفراد الدولة الزائلة جنسيتهم القديمة بداهة بزوال دولتهم ويكتسبون جنسية الدولةالضامة باستثناء العناصر الخطرة، لأن الجنسية علاقة قانونية تنشئها الدولة بالتشريع، إلا أن التشريع لا يهمل إرادة الفرد دائماً، لذا فإنه قد يمكن تخيير الأفراد بين الاحتفاظ بجنسيتهم القديمة أو قبول الجنسية الجديدة. أهم المراجع لهذا الفصل أـ تفسير القرآن الكريم، والحديث الشريف: 1 - تفسير الكشاف للزمخشري، طبع البابي الحلبي. 2 - أحكام القرآن لابن العربي، طبع البابي الحلبي. 3 - تفسير ابن كثير، ط الحلبي. 4 - تفسير المنار لرشيد رضا، الطبعة الرابعة. 5 - جامع الأصول لابن الأثير، مطبعة السنة المحمدية بمصر. 6 - مجمع الزوائد لأبي بكر الهيثمي، مكتبة القدسي بالقاهرة. 7 - نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية للزيلعي، ط الأولى.
ب - الفقه الإسلامي
8 - تلخيص الحبير لابن حجر، شركة الطباعة الفنية المتحدة بالقاهرة وأحياناً التلخيص الحبير، طبع الهند. 9 - نيل الأوطار للشوكاني، المطبعة العثمانية المصرية. 10 - سبل السلام للصنعاني، ط البابي الحلبي. ب - الفقه الإسلامي: 1 - الخراج لأبي يوسف، المطبعة السلفية بالقاهرة. 2 - شرح السير الكبير للسرخسي، ط الأولى. 3 - البدائع للكاساني، ط الأولى. 4 - فتح القدير مع الهداية، ط مصطفى محمد بالقاهرة. 5 - رد المحتار مع الدر المختار، ط البابي الحلبي. 6 - حجة الله البالغة للدهلوي، ط الأولى. 7 - الشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي، ط البابي الحلبي. 8 - القوانين الفقهية لابن جُزَيْ، ط فاس. 9 - مغني المحتاج للخطيب الشربيني، ط البابي الحلبي. 10 - الأحكام السلطانية للماوردي، ط صبيح بمصر. 11 - الأحكام السلطانية لأبي يعلى، ط البابي الحلبي. 12 - القواعد لابن رجب، ط الصدق الخيرية بمصر.
جـ ـ المؤلفات الحديثة
13 - المغني لابن قدامة الحنبلي، ط الثالثة بمصر. 14 - الحسبة في الإسلام لابن تيمية، المكتبة العلمية بالمدينة. 15 - السياسة الشرعية لابن تيمية، ط الثالثة بدار الكتاب العربي بمصر. 16 - المحلى لابن حزم، ط الإمام بمصر. 17 - البحر الزخار لابن المرتضى، ط الأولى. 18 - الخلاف في الفقه للطوسي، ط الثانية. جـ ـ المؤلفات الحديثة: 1 - السياسة الشرعية للشيخ عبد الوهاب خلاف، ط السلفية بمصر. 2 - النظريات السياسية الإسلامية د: ضياء الدين الريس، ط ثانية. 3 - مبادئ القانون الدولي العام د: حافظ غانم، ط ثانية. 4 - الشريعة الإسلامية والقانون الدولي العام، ونظم الحكم والإدارة في الإسلام والقوانين الوضعية للأستاذ علي منصور، طبع القاهرة. 5 - أحكام القانون الدولي في الشريعة الإسلامية د: حامد سلطان، طبع النهضة العربية. 6 - النظم السياسية د: ثروت بدوي، طبع دار النهضة العربية. 7 - الخلافة والإمامة د: عبد الكريم الخطيب، دار الفكر العربي بمصر. 8 - نظام الحكم في الإسلام د: محمد يوسف موسى، الطبعة الثانية.
9 - السلطات الثلاث، د سليمان محمد الطماوي، طبع معهد الدراسات العربية العالية بمصر. 10 - نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم، للشيخ محمد الخضر حسين، المطبعة السفلية بمصر. 11 - نظام الحكم في الإسلام، د: محمد عبد الله العربي، دار الفكر بلبنان. 12 - المدخل إلى القانون الدولي العام وقت السلم، د: محمد عزيز شكري، دار الكتاب بدمشق. 13 - منهاج الإسلام في الحكم، محمد أسد، دار العلم للملايين. 14 - الإسلام وأوضاعنا القانونية، الإسلام وأوضاعنا السياسية، عبد القادر عودة، الطبعة الثانية. 15 - نظرية الإسلام وهديه في السياسةوالقانون والدستور لأبي الأعلى المودودي دار الفكر بدمشق. 16 - نحو مجتمع إسلامي، سيد قطب، الطبعة الأولى. 17 - موجز القانون الدستوري د: عثمان خليل وسليمان الطماوي، دار الفكر العربي، ط الرابعة. 18 - عبقرية الإسلام في أصول الحكم، د: منير العجلاني، دار الكتاب الجديد. 19 - النظم الإسلامية، د: صبحي الصالح، دار العلم للملايين.
20 - الشرع الدولي في الإسلام د: نجيب الأرمنازي، مطبعة ابن زيدون بدمشق. 21 - المجتمع الإنساني في ظل الإسلام، للشيخ محمد أبو زهرة، دار الفكر بلبنان. 22 - مجموعة الوثائق السياسية د: محمد حميد الله، ط الثانية. 23 - مبادئ القانون الدولي العام في الإسلام، د: محمد عبد الله دراز، مطبعة الأزهر. 24 - التشريع الجنائي الإسلامي، عبد القادر عودة، الطبعة الثانية بدار العروبة في مصر. 25 - الإسلام وأصول الحكم ـ بحث الخلافة والحكومة في الإسلا م ـ للأستاذ علي عبد الرازق، الطبعة الأولى. 26 - مبادئ نظام الحكم في الإسلام، د: عبد الحميد متولي، طبع دار المعارف بمصر سنة 1966.
شرعة حقوق الإنسان في الإسلام
........ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ ................................ ........................... شرعة حقوق الإنسان في الإسلام (¬1) ......................... الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد، فإن الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي إيماناً منها بالله رب العالمين، الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، وكرمه فجعله في الأرض خليفة ووكل إليه عمارتها وإصلاحها، وحمّله أمانة التكاليف الإلهية لخيره وتكريماً لإنسانيته، وسخر له ما في السموات وما في الأرض جميعاً. وتصديقاً برسالة محمد صلّى الله عليه وسلم الذي أرسله الله بالهدى والرحمة ودين الحق لتحرير الإنسان من الاستبداد والاستغلال والطغيان، وتحقيق المساواة بين البشر كافة فلا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، وإلغاء الفوارق العنصرية واللونية والطبقية واستئصال كل ما يزرع الفرقة والحقد والكراهية بين الناس الذين خلقهم الله من نفس واحدة. وانطلاقاً من عقيدة التوحيد الخالص التي قام عليها بناء الإسلام والتي دعت البشر كافة ألا يعبدوا إلاّ الله ولا يشركوا به شيئاً، ولا يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً ¬
1 - الحقوق الأساسية
من دون الله، مما أدى إلى انتفاء عبودية الإنسان للإنسان وتعزيز حريّة البشر وضمان كرامتهم. وتأكيداً للدور الحضاري للأمة الإسلامية وتجديداً لتاريخها وتعزيزاً لكونها أمة وسطاً تدعو إلى عالم متوازن يصل الأرض بالسماء والدنيا بالآخرة والعلم بالإيمان. وإسهاماً بالتصدي لمشكلات الحضارة بتقديم أنجح الحلول لها مستمدة من مبادئ الشريعة الإسلامية. واستكمالاً للجهود البشرية المتعددة في رعاية حقوق الإنسان في العصور الحديثة وبخاصةما صدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة من إعلان واتفاقيات هدفت إلى حماية الإنسان وتوفير حريته وضمان حقوقه. ويقيناً منا بأنّ البشرية على ما بلغت من شأوٍ بعيد في مدارج العلم المادي لاتزال في حاجة ماسة إلى سند إيماني لحضارتها ينمّي الوازع الذاتي ويقظة الضمير. نعلن ما يلي: 1 - الحقوق الأساسية المادة الأولى أـ البشر في كل أقطارهم أسرة واحدة، مخلوقون من نفس واحدة، متساوون في الكرامة الإنسانية وفي أصل التكليف والمسؤولية، وأكرمهم عند الله أتقاهم وأنفعهم لعباده.
ب ـ لا تمييز بين الناس بسبب اختلاف العرق أو اللغة أو الديار أو الجنس أو العقيدة (¬1) أو الانتماء السياسي أو الوضع الإجتماعي. المادة الثانية يولد الإنسان حراً، ولا عبودية لغير الله تعالى، وليس لمخلوق أن يستعبده، أو يذله أو يستغله. المادة الثالثة أـ حق الحياة مكفول بالشريعة لكل إنسان، وعلى الأفراد والمجتمعات والدولة حماية هذا الحق من كل اعتداء. ب ـ يُحرّم اللجوء إلى أية وسيلة تفضي لإفناء النوع البشري كلياً أو جزئياً. جـ ـ استمرار الحياة البشرية أحد أصول الإسلام لا يجوز تعطيله بمناهضة الزواج ولا الانتقاص منه بمنع الإنجاب، ولا إباحة الإجهاض لغير ضرورة شرعية. د ـ لكل إنسان الحق في أن يعيش آمناً على نفسه وأهله وسمعته الاجتماعية وماله متحرراً من كل أنواع الخوف. المادة الرابعة أـ التدين حق لكل إنسان، ولا إكراه في الدين. فلا يجوز حرمانه منه، ولا ممارسة أي ضغط عليه للتخلي عنه. ¬
2 - الحقوق السياسية
ب ـ يتعين على المسلم ـ وقد اهتدى إلى الإسلام بالإيمان بوجود الله والاعتراف بوحدانيته ـ الثبات عليه. 2 - الحقوق السياسية المادة الخامسة أـ حرية الرأي والتعبير عنه بالوسائل المشروعة مصونة، ولكل إنسان حق ممارستها في حدود مبادئ الشريعة وقيم الأخلاق. ب ـ لكل إنسان الحق في الدعوة بالحكمة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وله أن يشترك مع غيره من الأفراد والجماعات في ممارسة هذا الحق والدفاع عنه لصالح المجتمع وخيره. المادة السادسة لكل إنسان الحق في: أـ أن يشارك في اختيار حكامه ومراقبتهم ومحاسبتهم وتقويمهم وفقاً للأنظمة المقررة بمقتضى الشريعة. ب ـ أن يشارك في إدارة الشؤون العامة لبلاده، بصورة مباشرة أو غير مباشرة. جـ ـ أن يتقلد الوظائف العامة وفق الضوابط المشروعة.
3 - حقوق الأسرة
3 - حقوق الأسرة المادة السابعة أـ الأسرة عماد المجتمع المسلم، والزواج أساس وجودها، وهو واجب (¬1) على الرجال والنساء، يرغّب الإسلام في ممارسته ولا يحول دون التمتع به أي قيد منشؤه العرق أو اللون أو الجنسية إلا لضرورة تقتضيها أحكام الشريعة. ب ـ على الدولة والمجتمع إزالة العوائق أمام الزواج، وتيسير وسائله. جـ ـ التراضي أساس في عقد الزواج، وإنهاؤه لا يكون إلا وفق أحكام الشريعة. المادة الثامنة أـ المرأة شقيقة الرجل ومساوية له في الإنسانية، ولها من الحقوق مثل الذي عليها من الواجبات. ب ـ الرجل قيِّم على الأسرة ومسؤول عنها، وللمرأة شخصيتها المدنية وذمتها المالية المستقلة وتحتفظ باسمها ونسبها. المادة التاسعة أـ لكل طفل، منذ ولادته، حق على والديه ومجتمعه ودولته في الحضانة والتربية والرعاية المادية والأدبية. ب ـ على المجتمع والدولة حماية الأمومة وتعهدها برعاية خاصة. ¬
4 - حق الانتماء والجنسية
جـ ـ من حق الأب أن يختار لطفله التربية الملائمة في ضوء القيم الأخلاقية والإسلامية. 4 - حق الانتماء والجنسية المادة العاشرة حق الإنسان في الانتماء لأبيه وقومه غير قابل للإنكار أو الإسقاط. المادة الحادية عشرة حق الإنسان في التمتع بجنسية بلده مصون، ولا يجوز حرمانه منه تعسفاً. وله حق تغيير الجنسية. 5 - حقوق التعليم والتربية المادة الثانية عشرة أـ طلب العلم فريضة على كل إنسان. ب ـ التعليم واجب على المجتمع والدولة، وعليهما تأمين سبله ووسائله وضمان تنوعه بما يحقق مصلحة الجماعة، ويتيح للإنسان معرفة دين الله تعالى، وحقائق الكون وتسخير الطبيعة لصالح البشرية وغيرها. وهو إلزامي في مراحله الأولى على الأقل. المادة الثالثة عشرة على مؤسسات التربية والتوجيه المختلفة، من أسرة ومدرسة وجامعة وأجهزة
6 - حقوق العمل والضمان الاجتماعي
إعلام وغيرها، أن تعمل على تربية الإنسان دينياً ودنيوياً تربية كاملة ومتوازنة بحيث تقوّي إيمانه بالله تعالى وتنمّي شخصيته، وتعزز احترامه للحقوق وقيامه بالواجبات. 6 - حقوق العمل والضمان الاجتماعي المادة الرابعة عشرة أـ العمل حق تكفله الدولة والمجتمع لكل قادر عليه، وللإنسان حرية اختيار العمل المشروع الذي يلائمه. ب ـ على العامل إتقان عمله والإخلاص فيه، وله حقه في الأجر العادل الكافي مقابل عمله، وله الحق في كل الضمانات المتعلقة بالسلامة والأمن. جـ ـ إذا اختلف العمال وأرباب العمل فمن حقهم على الدولة والقضاء التدخل دون تمييز، لرفع الظلم وإقرار الحق. المادة الخامسة عشرة لكل إنسان على مجتمعه ودولته حق الضمان الاجتماعي بأنواعه المختلفة، بما يمكن له من العيش الكريم في الغذاء والكساء والعلاج والتعليم. 7 - حقوق الكسب والانتفاع والملكية الأدبية المادة السادسة عشرة لكل إنسان الحق في الكسب المشروع، على ألا يحتكر ولا يغشّ ولا يضرّ بفرد أو جماعة.
8 - حقوق التقاضي
المادة السابعة عشرة أـ لكل إنسان الحق في الانتفاع من ثمرات الإنتاج الإنساني في ميادين العلم النظرية والتطبيقية. ب ـ ولكل إنسان الحق في الانتفاع بثمرات إنتاجه العلمي أو الأدبي أو الفني على ألا ينافي هذا الإنتاج مبادئ الشريعة وقيم الأخلاق. جـ ـ على الدولة حماية هذه الحقوق. 8 - حقوق التقاضي المادة الثامنة عشرة أـ حق اللجوء إلى القضاء مكفول للجميع. ب ـ الناس سواسية أمام الشرع، يستوي في ذلك الحاكم والمحكوم. المادة التاسعة عشرة الأصل في الإنسان البراءة، والمتهم بريء حتى تثبت إدانته بمحاكمة عادلة تتوافر له فيها كل ضمانات الدفاع، والشبهة تُفسّر لصالحه. المادة العشرون ـ مسؤولية الإنسان عن أفعاله في أساسها شخصية، ولا جريمة ولا عقوبة إلاّ بنص. ب ـ لا يجوز، بغير موجب شرعي، القبض على إنسان أو تقييد حريته أو
9 - حق التنقل واللجوء
نفيه أو تعريضه للتعذيب البدني أو النفسي، أو لأي معاملة منافية للكرامة الإنسانية. وكل تدبير أو نص يجيز ذلك يُعد هدراً للحق الإنساني ومنافياً للشرع الإلهي. المادة الحادية والعشرون أـ لكل إنسان الحق في الاعتراف له بشخصيته الشرعية من حيث أهليته للإلزام والتزام. ب ـ لكل إنسان حقه في الاستقلال بحياته الخاصة وأسرته وماله واتصالاته الاجتماعية، ولا يجوز التجسس عليه أو الإساءة إلى سمعته. ويجب على الدولة حمايته من كل تدخل تعسفي. 9 - حق التنقل واللجوء المادة الثانية والعشرون أـ لكل إنسان حرية التنقل واختيار محل إقامته داخل بلاده أو خارجها مع مراعاة الضوابط المشروعة لذلك. ب ـ للمضطهد حق اللجوء إلى دولة أخرى، وعلى الدولة التي لجأ إليها أن تجيره حتى يبلغ مأمنه. 10 - حقوق وواجبات أثناء الحروب المادة الثالثة والعشرون في حالة الحرب لا يجوز قتل الأطفال والنساء والشيوخ والمنقطعين للعبادة
11 - حرمة الميت
وغيرهم ممن لا مشاركة لهم في القتال، ولا يقطع الشجر ولا تُنهب الأموال ولا تُخرب المنشآت المدنية ولا يُمثّل بالقتيل. وللجريح الحق في أن يداوى وللأسير أن يُطعم ويؤوى. 11 - حرمة الميت المادة الرابعة والعشرون حرمة الموت واجبة شرعاً، وعلى الدولة والمجتمع حماية جثمان الميت ودفنه وتنفيذ وصاياه وفقاً لأحكام دينه، ومنع التشهير به. 12 - حدود هذه الوثيقة الشرعية وتفسيرها المادة الخامسة والعشرون. أـ كل الحقوق والحريات والواجبات المقررة في هذه الوثيقة مقيدة بأحكام الشريعة الإسلامية ومقاصدها. ب - الشريعة الإسلامية بمصادرها الأساسية المعتمدة هي المرجع الوحيد لتفسير أو توضيح أي مادة من مواد هذه الوثيقة. ويرجع عند الاختلاف إلى أهل العلم المتخصصين. انتهى الجزء الثامن ويليه الجزء التاسع وأوله الأحوال الشخصية
القسم السادس: الأحوال الشخصية
القسْمُ السَّادسُ: الأحوال الشّخْصيَّة خطة البحث: يشتمل هذا القسم على ستة أبواب: الباب الأول ـ الزواج وآثاره. الباب الثاني ـ انحلال الزواج وآثاره، وفيه فصول أربعة عن الطلاق، والخلع، والتفريق القضائي، والعدة. الباب الثالث ـ حقوق الأولاد: من نسب، ورضاع، وحضانة، وولاية، ونفقات الزوجة والأولاد. الباب الرابع ـ الوصايا. الباب الخامس ـ الوقف. الباب السادس ـ الميراث أو الفرائض
تمهيد
تمهيد المقصود بالأحوال الشخصية: الأحوال الشخصية اصطلاح قانوني أجنبي يقابل الأحوال المدنية أو المعاملات المدنية، وقسم الجنايات. وقد اشتهر في الجامعات، وأصبح عنوان التأليف في أحكام الأسرة. ويراد به الأحكام التي تتصل بعلاقة الإنسان بأسرته، بدءاً بالزواج، وانتهاء بتصفية التركات أو الميراث، وهي تشمل ما يأتي: 1ً - أحكام الأهلية والولاية والوصاية على الصغير، وقد بحثت في النظريات الفقهية. 2ً - أحكام الأسرة من خطبة وزواج وحقوق الزوجين من مهر ونفقة، وحقوق الأولاد من نسب ورضاع ونفقات، وانحلال الزواج بإرادة الزوج كالطلاق والخلع، أو بالتفريق القضائي كالإيلاء واللعان والظهار، والتفريق للعيب والغيبة والضرر وعدم الإنفاق. 3ً - أحكام أموال الأسرة من ميراث، ويسمى فقهاً (الفرائض)، ووصايا وأوقاف ونحوها مما يعد تصرفاً مضافاً لما بعد الموت. وقد حددت المادة (13) من قانون القضاء في مصر، رقم (147) لسنة (1949م) ما يعد من الأحوال الشخصية، وهي الفئات الثلاث السابقة، وصدرت قوانين الأحوال الشخصية في سورية وتونس والأردن والعراق والمغرب الأقصى متضمنة أحكام الزواج والأهلية والوصاية على الصغير والوصية، والإرث، إلا أن
قانون العراق المشتمل على أحكام المذهبين السني والجعفري لم يتضمن كل أحكام الأحوال الشخصية، وهو فيما عدا المذهب الجعفري اختصار لكتاب الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية لقدري باشا على مذهب الحنفية. وصدر في مصر قوانين خاصة بالميراث عام (1943م)، والوقف عام (1946م)، والوصية عام (1946م)، وأخيراً صدر قانون في الأحوال الشخصية في أواخر السبعينات في عهد السادات.
الباب الأول: الزواج وآثاره
البَاب الأوَّل: الزّواج وآثاره فيه فصول سبعة: الفصل الأول ـ مقدمات الزواج: النظر والخطبة. الفصل الثاني ـ تكوين الزواج ـ معناه وحكمه، وأركانه وشروطه، وأنواعه وحكم كل نوع، وما يستحب فيه. الفصل الثالث ـ المحرَّمات من النساء. الفصل الرابع ـ الأهلية والولاية والوكالة في الزواج. الفصل الخامس ـ الكفاءة في الزواج. الفصل السادس ـ آثار الزواج ـ المهر وأحكامه، الخلوة وأحكامها، المتعة المادية بعد الطلاق أو قبل الدخول. الفصل السابع ـ حقوق الزواج وواجباته. وأبحث هذه الفصول في المذاهب تباعاً.
الفصل الأول: مقدمات الزواج
الفَصْلُ الأوَّل: مقدّمات الزّواج الخطبة: معناها، حكمتها، أنواعها، ما يترتب على الخطبة، الخطبة على الخطبة، مقومات المرأة المخطوبة، من تباح خطبتها، خطبة المعتدة، رؤية المخطوبة، مقدار ما يباح النظر إليه، وقت الرؤية وشرطها، تحريم الخلوة بالمخطوبة، العدول عن الخطبة وأثره. أولاً ـ أنواع مقدمات الزواج: ذكر ابن رشد (¬1) أربع مقدمات للزواج هي حكم الزواج شرعاً، وحكم خُطْبة العقد، والخِطْبة على الخطبة، والنظر إلى المخطوبة قبل التزويج، وسأبحث الأمرين الأولين في بحث تكوين الزواج، وأما الأمران الآخران فمحل بحثهما هنا. والسبب في عناية الشرع بهذه المقدمات: هوا لحرص على إقامة الزواج على أمتن الأسس، وأقوى المبادئ، لتتحقق الغاية الطيبة منه، وهي الدوام والبقاء، وسعادة الأسرة، والاستقرار ومنع التصدع الداخلي، وحماية هذه الرابطة من النزاع والخلاف، لينشأ الأولاد في جو من الحب والألفة والود والسكينة واطمئنان ¬
ثانيا ـ معنى الخطبة
كل طرف إلى الآخر، قال الله تعالى: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} [الروم:21/ 30]. ثانياً ـ معنى الخِطْبة: الخطبة: هي إظهار الرغبة في الزواج بامرأة معينة، وإعلام المرأة وليها بذلك. وقد يتم هذا الإعلام مباشرة من الخاطب، أو بواسطة أهله. فإن وافقت المخطوبة أو أهلها، فقد تمت الخطبة بينهما، وترتبت عليها أحكامها وآثارها الشرعية التي سأذكرها. ثالثاً ـ حكمة الخطبة: الخطبة كغيرها من مقدمات الزواج طريق لتعرُّف كل من الخاطبين على الآخر، إذ أنها السبيل إلى دراسة أخلاق الطرفين وطبائعهما وميولهما، ولكن بالقدر المسموح به شرعاً، وهو كاف جداً، فإذا وجد التلاقي والتجاوب أمكن الإقدام على الزواج الذي هو رابطة دائمة في الحياة، واطمأن الطرفان إلى أنه يمكن التعايش بينهما بسلام وأمان، وسعادة ووئام، وطمأنينة وحب، وهي غايات يحرص عليها كل الشبان والشابات والأهل من ورائهم. رابعاً ـ أنواع الخطبة: الخطبة إما أن تكون بإبداء الرغبة فيه صراحة، كأن يقول الخاطب: أريد الزواج من فلانة، وإما أن تكون مفهومة ضمنا أو بالتعريض والقرائن، بمخاطبة المرأة مباشرة، كأن يقول لها: إنك جديرة بالزواج، أو يسعد بك صاحب الحظ، أو أبحث عن فتاة لائقة مثلك، ونحوها. خامساً ـ ما يترتب على الخطبة: الخطبة مجرد وعد بالزواج، وليست
سادسا ـ الخطبة على الخطبة
زواجاً (¬1)، فإن الزواج لا يتم إلا بانعقاد العقد المعروف، فيظل كل من الخاطبين أجنبياً عن الآخر، ولا يحل له الاطلاع إلا على المقدار المباح شرعاً وهو الوجه والكفان، كما سيأتي. نص قانون الأحوال الشخصية السوري (م2) على ما يلي: الخطبة والوعد بالزواج وقراءة الفاتحة وقبض المهر وقبول الهدية، لا تكون زواجاً. سادساً ـ الخطبة على الخطبة: يترتب على الخطبة أيضاً حرمة التقدم لخطبة المرأة ممن كان يعلم بتمام خطبتها لغيره، فقد أجمع العلماء على تحريم الخطبة الثانية على الخطبة الأولى إذا كان قد تم التصريح بالإجابة، ولم يأذن الخاطب الأول، ولم يترك الخطبة، فإن خطب الثاني وتزوج والحال هذه فقد عصى، باتفاق العلماء؛ لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يبع أحدكم على بيع أخيه (¬2)، ولا يخطب على خِطْبة أخيه، إلا أن يأذن له» (¬3)، وفي رواية البخاري: «نهى أن يبيع الرجل على بيع أخيه، وأن يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب قبله، أو يأذن له الخاطب» (¬4). هذا النهي صريح في تحريم الخطبة الثانية بعد تمام الموافقة على الخطبة الأولى لخطيب آخر، لما فيها من إيذاء الخاطب الأول، وتوريث عداوته، وزرع الضغينة في نفسه، فإن عدل أحد الطرفين أو أذن لغيره بالتقدم للخطبة، جاز ذلك. أما إن لم تتم الخطبة الأولى، وكان الأمر في حال مشاورة أو تردد، فالأصح عدم التحريم، ولكن تكره عند الحنفية الخطبة، لإطلاق الأحاديث السابقة الواردة ¬
سابعا ـ مقومات المرأة المخطوبة
في النهي عن الخطبة على خطبة الغير، والبيع على البيع أو السوم على السوم، أي بعد الاتفاق على البيع وقبل عقده. وأباح الجمهور الخطبة الثانية؛ لأن فاطمة بنت قيس خطبها ثلاثة: وهم معاوية، وأبو جهم بن حذافة، وأسامة بن زيد، بعد أن طلقها أبو عمرو بن حفص ابن المغيرة بعد انقضاء عدتها منه، فجاءت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأخبرته بذلك، فقال: «أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، أنكحي أسامة بن زيد» (¬1) فهذا يدل على جواز تقدم أكثر من خطيب إذا لم تقبل المرأة الخطبة، لكن يظهر أن ذلك إذا لم يعلم الخاطب أن غيره قد تقدم لخطبة تلك المرأة، مما يدل على رجحان الرأي الأول. وعلى كل حال فالأدب الإسلامي يقضي بالتريث إلى أن تنتهي فترة التردد والمفاوضات والمشاورات التي تحدث عادة، حفاظاً على صلة الود والمحبة بين الناس، وبعداً عن إيجاد العداوة وزرع الأحقاد في النفوس. سابعاً ـ مقومات المرأة المخطوبة: حرص الإسلام على ديمومة الزواج بالاعتماد على حسن الاختيار، وقوة الأساس الذي يحقق الصفاء والوئام، والسعادة والاطمئنان، وذلك بالدين والخلق، فالدين يقوى مع مضي العمر، والخلق يستقيم بمرور الزمن وتجارب الحياة، أما الغايات الأخرى التي يتأثر بها الناس من مال وجمال وحسب، فهي وقتية الأثر، ولا تحقق دوام الارتباط، وتكون غالباً مدعاة للتفاخر والتعالي، واجتذاب أو لفت أنظار الآخرين. ¬
لذا قال عليه الصلاة والسلام: «تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين، ترِبت يداك» (¬1) أي أن الذي يرغب في الزواج ويدعو الرجال إليه عادة أحد هذه الخصال الأربع، وآخرها عندهم ذات الدين، فأمرهم النبي صلّى الله عليه وسلم بأنه إذا وجدوا ذات الدين، فلا يعدلوا عنها، وإلا أصيب الرجل بالإفلاس والفقر. ثم نهى صلّى الله عليه وسلم صراحة عن زواج المرأة لغير دينها، وحذر من عاقبة المال والجمال، فقال: «لا تنكحوا النساء لحسنهن، فلعله يرديهن، ولا لمالهن فلعله يطغيهن، وانكحوهن للدين، ولأمة سوداء خرقاء ذات دين أفضل» (¬2). وورد في صفة خير النساء: «قيل: يا رسول الله، أي النساء خير؟ قال: التي تسره إن نظر، وتطيعه إن أمر، ولا تخالفه في نفسها ومالها بما يكره» (¬3) وللبيئة تأثير كبير، فلا يغترن الشاب بجمال في بيئة ذات تربية وضيعة، روى الدارقطني والديلمي عن أبي سعيد مرفوعاً أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إياكم وخضراء الدِّمَن، قالوا: وما خضراء الدمن يا رسول الله؟ قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء» لكن قال الدارقطني: لا يصح من وجه. وحسن اختيار المرأة ذو هدفين، إسعاد الرجل، وتنشئة الأولاد نشأة صالحة تتميز بالاستقامة وحسن الأخلاق، لذا قال عليه الصلاة والسلام: «تخيروا لنطفكم، فانكحوا الأكفاء، وانكحوا إليهم» (¬4). ¬
ويمكن تلخيص ضوابط مقومات المرأة المخطوبة على النحو الآتي كما أبان الشافعية والحنابلة وغيرهم (¬1)، فقالوا: يستحب ما يلي: 1ً - أن تكون المرأة ديِّنة، للحديث السابق: «فعليك بذات الدين». 2ً - أن تكون ولوداً، لحديث: «تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة» (¬2). ويعرف كون البكر ولوداً بكونها من نساء يعرفن بكثرة الأولاد. 3ً - أن تكون بكراً، لقوله صلّى الله عليه وسلم لجابر: «فهلا بكراً تلاعبها وتلاعبك؟» (¬3). 4ً - وأن تكون من بيت معروف بالدين والقناعة؛ لأنه مظنّة دينها وقناعتها. 5ً - وأن تكون حسيبة: وهي النسيبة، أي طيبة الأصل، ليكون ولدها نجيباً، فإنه ربما أشبه أهلها ونزع إليها، لحديث «ولحسبها». ولا ينبغي تزوج بنت زنا ولقيطة ومن لا يعرف أبوها، أي أن الزواج حينئذ مكروه. مباح غير حرام، وأما آية: {الزاني لاينكح إلا زانية .. } [النور:3/ 24] فمنسوخة، أو شأنه ذلك. 6ً - وأن تكون جميلة؛ لأنها أسكن لنفسه، وأغض لبصره، وأكمل لمودته، ولذلك جاز النظر قبل الزواج، ولحديث أبي هريرة السابق: «قيل: يا رسول الله، أي النساء خير؟ ... » لكن كره الشافعية خطبة المرأة الفائقة الجمال. 7ً - وأن تكون أجنبية غير ذات قرابة قريبة؛ لأن ولدها يكون أنجب، وقد قيل: «إن الغرائب أنجب، وبنات العم أصبر» ولأنه لا يأمن الطلاق، فيفضي مع ¬
ثامنا ـ من تباح خطبتها
القرابة إلى قطيعة الرحم المأمور بصلتها، واستدل الرافعي لذلك تبعاً للوسيط بحديث: «لا تنكحوا القرابة القريبة، فإن الولد يخلق ضاوياً» أي نحيفاً، وذلك لضعف الشهوة. 8ً - ألا يزيد على واحدة إن حصل بها الإعفاف، لما فيه من التعرض للمحرم، قال الله تعالى: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم} [النساء:129/ 4] وقال صلّى الله عليه وسلم: «من كان له امرأتان، فمال إلى إحداهما، جاء يوم القيامة، وشقه مائل» (¬1).فالأصل وحدة الزوجية لا التعدد. ويكره الزواج بالزانية أي المشهورة بالزنا، وإن لم يثبت عليها الزنا. ثامناً ـ من تباح خطبتها: الخطبة ـ كما هو واضح ـ مقدمة الزواج ووسيلته، فإذا كان الزواج بالمرأة ممنوعاً شرعاً، كانت خطبتها ممنوعة أيضاً، وإذا كان الزواج بها مباحاً شرعاً، كانت خطبتها مباحة أيضاً. وقد يوجد مانع شرعي مؤقت من الخطبة والزواج، لذا يشترط لإباحة الخطبة شرطان: الشرط الأول ـ ألا يحرم الزواج بها شرعا ً (¬2): بأن كانت من المحارم المحرمة تحريماً مؤبداً، كالأخت والعمة والخالة، أو تحريماً مؤقتاً، كأخت الزوجة، وزوجة الغير، لما في حالات المؤبد من الضرر بالأولاد والضرر الاجتماعي، ولما في المؤقت من النزاع والفساد. ¬
خطبة المعتدة
خطبة المعتدة: من حالات التحريم المؤقت: أن تكون معتدة، أي في أثناء العدة من زواج سابق (¬1): فإنه يحرم باتفاق الفقهاء الخطبة الصريحة أوالمواعدة للمعتدة مطلقاً، سواء أكانت بسبب عدة الوفاة، أم عدة الطلاق الرجعي أم البائن، لمفهوم قوله تعالى: {ولا جناح عليكم فيما عرَّضتم به من خطبة النساء، أوأكننتم في أنفسكم، علم الله أنكم ستذكرونهن، ولكن لا تواعدوهن سراً، إلا أن تقولوا قولاً معروفاً} [البقرة:235/ 2]. والتصريح: ما يقطع بالرغبة في الزواج، مثل: أريد أن أتزوجك، وإذا انقضت عدتك تزوجتك. وسبب تحريم الخطبة بطريق التصريح: أنه ربما تكذب في انقضاء العدة، ولأن في خطبتها اعتداء على حق المُطلِّق، والاعتداء على حق الغير حرام شرعاً، لقوله تعالى: {ولا تعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين} [البقرة:190/ 2]. وأما الخطبة بطريق التعريض: وهو القول المفهم للمقصود وليس بنص فيه، ومنه الهدية، أو هو ما يحتمل الرغبة في الزواج وعدمها، كقوله لها: أنت جميلة، ورب راغب فيك، ومن يجد مثلك، ولست بمرغوب عنك، أو عسى أن ييسر الله لي أمرأة صالحة، أو نحو ذلك: أـ فإن كان سبب العدة وفاة الزوج، جازت الخطبة باتفاق الفقهاء؛ لانتهاء الزوجية بالوفاة، فلا يكون في خطبتها اعتداء على حق الزوج ولا إضرار به. ب ـ وإن كان سبب العدة هو الطلاق: ¬
فإن كان الطلاق رجعياً، حرمت الخطبة باتفاق الفقهاء؛ لأن لمن طلَّقها الحق في مراجعتها أثناء العدة، فتكون خطبتها اعتداء على حقه، فهي زوجة أو في معنى الزوجة. وإن كان الطلاق بائناً بينونة صغرى أو كبرى، ففي خطبة المعتدة ممن طلّقها بالتعريض رأيان: رأي الحنفية: تحريم الخطبة؛ لأن لمُطلِّقها في حالة البينونة الصغرى أن يعقد عليها مرة أخرى قبل انقضاء العدة، كما بعدها، فلو أبيحت خطبتها، لكان في ذلك اعتداء على حقوقه، ومع له من العودة إلى زوجته مرة أخرى، كالمطلقة الرجعية. وأما في حالة البينونة الكبرى فتمنع الخطبة في العدة بطريق التعريض، كيلا تكذب المرأة في الإخبار بانتهاء عدتها، ولئلا يظن أن هذا الخاطب كان سبباً في تصدع العلاقة الزوجية السابقة. وأما آية {ولا جناح عليكم} [البقرة:235/ 2] فهي خاصة بالمعتدات للوفاة بدليل الآية التي قبلها: {والذين يتوفون} [البقرة:234/ 2]. رأي الجمهور: جواز الخطبة، لعموم الآية السابقة: {ولا جناح عليكم فيما عرَّضتم به ... } [البقرة:235/ 2] وقوله: {إلا أن تقولوا قولاً معروفاً} [البقرة:235/ 2] أي لا تواعدوهن إلا بالتعريض دون التصريح، ولانقطاع سلطنة الزوج عن البائن، فالطلاق البائن بنوعيه يقطع رابطة الزوجية، فلا يكون في خطبتها تعريضاً اعتداء على حق المُطلِّق، فتشبه المعتدة بسبب الوفاة. وأرجح مذهب الجمهور في البينونة الكبرى إذ لا ضغينة في نفس الزوج وقد أكمل الطلاق، وأرجح مذهب الحنفية في البينونة الصغرى.
الشرط الثاني ـ ألا تكون المخطوبة مخطوبة سابقا لخاطب آخر
وإذا عقد على المعتدة زواج في العدة، ودخل الزوج بها، فسخ الزواج بالاتفاق، لنهي الله عنه، وتأبد تحريمها عليه عند مالك وأحمد والشعبي، فلا يحل نكاحها أبداً، وبه قضى عمر؛ لأنه استحل ما لا يحل، فعوقب بحرمانه، كالقاتل يعاقب بحرمانه ميراث من قتله. وقال الحنفية والشافعية: يفسخ النكاح، فإذا انتهت العدة، جاز لهذا الزوج أن يخطبها مرة أخرى ويتزوجها، ولم يتأبد التحريم؛ لأن الأصل أنها لا تحرم إلا أن يقوم دليل على الحرمة من كتاب أو سنة أو إجماع، ولا دليل من هذا. الشرط الثاني ـ ألا تكون المخطوبة مخطوبة سابقاً لخاطب آخر: إذ لا تحل خطبة المخطوبة (¬1)، للحديث السابق: «لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن». وقد فصّلت القول في البند السادس السابق في الخطبة على الخطبة، وظاهر النهي في هذا الحديث وغيره يدل على التحريم، ولأنه نهي عن الإضرار بالإنسان، فكان مقتضاه التحريم كالنهي عن أكل ماله، وسفك دمه. فإن فعل، فزواجه عند الجمهور صحيح وعليه الإثم، ولا يفرق بين الزوجين عند الجمهور، كالخطبة في العدة؛ لأن النهي ليس متوجهاً إلى نفس العقد، بل هو متوجه إلى أمر خارج عن حقيقته، فلا يقتضي بطلان العقد، كالتوضؤ بماء مغصوب. وروي عن مالك وداود: أنه لا يصح؛ لأنه نكاح منهي عنه، فكان باطلاً كنكاح الشغار. والمعتمد عند المالكية: أنه إذا رفعت الحادثة لحاكم، وثبت عنده العقد على المخطوبة ببينة أوإقرار، وجب عليه فسخه قبل الدخول بطلقة بائنة. ¬
تاسعا ـ رؤية المخطوبة
تاسعاً ـ رؤية المخطوبة: حرمة النظر إلى الأجنبية: يحرم نظر كبير بالغ، ولو شيخاً وعاجزاً عن الوطء، عاقل مختار، ولو لغير شهوة أوعند عدم الفتنة إلى عورة امرأة أجنبية (غير محرم)، والعورة: هي ما عدا الوجه والكفين (¬1)؛ لأن النظر مظنة الفتنة، ومحرك للشهوة، ولقوله تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم، ويحفظوا فروجهم، ذلك أزكى لهم ... } [النور:30/ 24] وقوله صلّى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب: «يا علي لا تُتْبع النظرةَ النظرة، فإنما لك الأولى، وليست لك الآخِرة» (¬2) وقوله صلّى الله عليه وسلم «ما من مسلم ينظر إلى محاسن امرأة، ثم يغض بصره إلا أخلف الله له عبادة، يجد حلاوتها في قلبه» (¬3) وقوله أيضاً في الحديث القدسي: «النظرة سهم من سهام إبليس، من تركها من مخافتي، أبدلته إيماناً يجد حلاوته في قلبه» (¬4). والأصح عند الشافعية: أن المراهق وهو من قارب الحُلُمْ حكمه في نظره للأجنبية كالبالغ، فيلزم الاحتجاب منه، كالمجنون في ذلك لظهوره على العورات. ويحرم نظر أمرد (وهو الشاب الذي لم تنبت لحيته) بشهوة أو بغيرها في الأصح المنصوص عند الشافعية، وأجاز الحنابلة النظر إلى الغلام بغير شهوة؛ لأنه ذكر أشبه الملتحي، ما لم يخف ثوران الشهوة. ¬
من يحل له النظر
واللائق بمحاسن الشريعة سد الباب والإعراض عن مواطن الشبهات من دخول الأقارب غير المحارم كالأخ وابن العم على بعضهم، والخلوة بالمرأة الأجنبية، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يخلون بامرأة ليس معها ذو مَحْرم منها، فإن ثالثهما الشيطان» (¬1) وقوله عليه الصلاة والسلام: «إياكم والدخول على النساء، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أفرأيت الحَمْو؟ قال: الحمو: الموت» (¬2) ومعنى الحمو: يقال: هو أخو الزوج وما أشبه من أقارب الزوج كابن العم ونحوه. وصرح الشافعية أنه يحرم أيضاً النظر إلى الوجه والكفين من كل يد، من رؤوس الأصابع إلى المعصم عند خوف فتنة تدعو إلى الاختلاء بالمرأة لجما ع أو مقدماته بلا جماع، وكذا عند الأمن من الفتنة فيما يظهر له من نفسه من غير شهوة على الصحيح، لاتفاق المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات الوجوه. ولو نظر إلى الوجه والكفين بشهوة: وهي قصد التلذذ بالنظر المجرد وأمن الفتنة، حرم قطعاً. من يحل له النظر: يحل نظر الصبي غير البالغ والمجنون والمستكره، لعدم الشهوة، ولقوله تعالى في آية سورة النور [:31/ 24]: {أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء}. ويحل النظر منها بعين غير أولي الإربة، لقوله تعالى في سورة النور [:31/ 24]: {ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن} ... {أو التابعين غير أولي الإربة} والمراد بالإربة هنا: الحاجة إلى النساء، والمراد بالتابعين: الذين يتبعون الناس لينالوا من فضل طعامهم، من غير أن تكون لهم لنساء، ولا ميل لهن. ¬
واختلف السلف وأئمة المذاهب في تعيين المراد بغيرأولي الإربة من الرجال، فقال ابن عباس: هو المخنث: الذي لا يقوم عليه آلة. وقال مجاهد وقتادة: الذي لا أرب له في النساء. وذهب الشافعية إلى أن المخنث: وهو المتشبه بالنساء، والمجبوب: وهو مقطوع الذكر فقط، والخصي: وهو من بقي ذكره دون أنثييه، والخنثى المشكل، حكمهم حكم الرجل العادي. ومذهب الحنفية كالشافعية في المخنث: لا يجوز له النظر، بدليل ما روته عائشة، قالت: كان يدخل على أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم مخنث، فكانوا يعدونه من غير أولي الإربة، قالت: فدخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذات يوم، وهو ينعت امرأة، قال: إذا أقبلت أقبلت بأربع، وإذا أدبرت أدبرت بثمان، فقال: أرى هذا يعرف ما ههنا، لا يدخل عليكن، فحجبوه (¬1). هذا يدل على أن النبي حظر دخول المخنث على نسائه؛ لأنه وصف امرأة أجنبية بحضرة الرجال الأجانب، وقد نهى الرجل أن يصف امرأته لغيره (¬2)، فكيف إذا وصفها غيرهُ من الرجال؟!. ¬
المراد بغير أولي الإربة
وذهب المالكية والحنابلة إلى أن المجبوب والكبير والعنِّين من أولي الإربة، ومثلهم من ذهبت شهوته لمرض لا يرجى برؤه، ودليلهم نفس قصة المخنث السابقة التي يفهم منها أن الشريعة رخصت في ذلك للحاجة الماسة إليه، ولقصد نفي الحرج به. والراجح أن المراد بغير أولي الإربة: كل من ليس له حاجة إلى النساء وأمنت من جهته الفتنة ونقل أوصاف النساء للأجانب، ويشمل الشيخ الذي فنيت شهوته، والأبله الذي لا يدري من أمر النساء شيئاً، والمجبوب، والخصي، والممسوح، والعنَّين، وخادم القوم للعيش، والمخنث الذي لا يصف المرأة لغيره، ولايتعين ذلك بنوع من هذه الأنواع. فإذا كان أحد هؤلاء أعرف بالنساء وأقدر على وصفهن، منع من النظر. ويحل للرجل بغير شهوة النظر من محرمه الأنثى من نسب أورضاع أو مصاهرة ما عدا ما بين السرة والركبة، فيجوز النظر إلى السرة والركبة؛ لأنهما ليسا بعورة بالنسبة لنظر المَحْرَم، ويحرم نظر ما بين السرة والركبة منها إجماعاً، ويحتاط في قرابة الرضاع. ويحل نظر رجل إلى رجل، وامرأة إلى امرأة إلا ما بين سرة وركبة. النظر للمرأة لحاجة: يباح للضرورة أو للحاجة وبقدر الحاجة نظر الرجل للمرأة الأجنبية في أحوال الخطبة والمعاملة في بيع وإجارة وقرض ونحوها، والشهادة، والتعليم، والاستطباب، وخدمة مريض أو مريضة في وضوء واستنجاء وغيرهما، والتخليص من غرق وحرق ونحوهما، وكذا عند الحنابلة حلق عانة من لا يحسن حلق عانته، ونحوها؛ وذلك بقدر الحاجة؛ لأن ما جاز
التعرف على المخطوبة
للضرورة يقدر بقدرها، فينظر عند الشافعية في المعاملة إلى الوجه فقط، وعند الحنابلة: إلى الوجه والكفين، ولا يزاد على النظرة الواحدة إلا أن يحتاج إلى ثانية للتحقق، فيجوز. وليكن النظر في أحوال الحاجة هذه مع حضور محرم أو زوج؛ لأنه لا يأمن مع الخلوة مواقعة المحظور، ويستر منها ما عدا موضع الحاجة؛ لأنها على الأصل في التحريم. والشرع أباح التعرف على المخطوبة من ناحيتين فقط: الأولى ـ عن طريق إرسال امرأة يثق الخاطب بها تنظر إليها، وتخبره بصفتها، روى أنس أنه صلّى الله عليه وسلم «بعث أم سُليم إلى امرأة، فقال: انظري إلى عُرْقوبها، وشَمّي معاطفها» (¬1) وفي رواية «شمي عوارضها»: وهي الأسنان التي في عرض الفم، وهي ما بين الثنايا والأضراس، والمراد اختبار رائحة النكهة. وأما المعاطف فهي ناحيتا العنق، والعرقوب: عصب غليظ فوق العقب، والنظر إلى العرقوب لمعرفة الدمامة والجمال في الرجلين. وللمرأة أن تفعل مثل ذلك بإرسال رجل، فلها أن تنظر إلى خاطبها، فإنه يعجبها منه ما يعجبه منها. الثانية ـ النظر مباشرة من الخاطب للمخطوبة للتعرف على حالة الجمال وخصوبة البدن، فينظر إلى الوجه والكفين والقامة، إذ يدل الوجه على الجمال، والكفان على الخصوبة والنحافة، والقامة على الطول والقصر. ¬
عاشرا ـ مقدار ما يباح النظر إليه
ودل الشرع على جواز رؤية من يريد الرجل خطبتها. روى جابر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا خطب أحدكم المرأة، فإن استطاع أن ينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها، فليفعل»، قال جابر: «فخطبت جارية، فكنت أتخبأ لها، حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها، فتزوجتها» (¬1). وعن المغيرة بن شعبة أنه خطب امرأة، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «انظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما» (¬2) أرشد النبي صلّى الله عليه وسلم المغيرة إلى رؤية خطيبته قبل الخطبة، لما في النظر من فائدة هي صلاح حال الزوجين وتحقيق الألفة والمودة بينهما. وعن أبي حُمَيد أو حميدة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا خطب أحدكم امرأة فلا جناح عليه أن ينظر منها إذا كان إنما ينظر إليها لخِطْبة، وإن كانت لا تعلم» (¬3). وعن محمد بن الحنفية عند عبد الرزاق وسعيد بن منصور: «أن عمر خطب إلى علي ابنته أم كلثوم، فذكر له صغرها، فقال: أبعث بها إليك، فإن رضيت فهي امرأتك، فأرسل بها إليه، فكشف عن ساقها، فقالت: لولا أنك أمير المؤمنين لصككت عينيك». والظاهر أنها صارت امرأته بقول علي. عاشراً ـ مقدار ما يباح النظر إليه (¬4): يرى أكثر الفقهاء أن للخاطب أن ينظر إلى من يريد خطبتها إلى الوجه ¬
حادي عشر ـ وقت الرؤية وشرطها
والكفين فقط؛ لأن رؤيتهما تحقق المطلوب من الجمال وخصوبة الجسد وعدمهما، فيدل الوجه على الجمال أو ضده لأنه مجمع المحاسن، والكفان على خصوبة البدن أو عدمها. وأجاز أبو حنيفة النظر إلى قدميها. وأجاز الحنابلة النظر إلى ما يظهر عند القيام بالأعمال وهي ستة أعضاء: الوجه والرقبة واليد والقدم والرأس والساق؛ لأن الحاجة داعية إلى ذلك، ولإطلاق الأحاديث السابقة: «انظر إليها» ولفعل عمر السابق، وفعل جابر أيضاً، وهذا هو الرأي الراجح لدي ولكن لا أفتي به. وقال الأوزاعي: ينظر إلى مواضع اللحم. وقال داود الظاهري: يجوز النظر إلى جميع البدن، لظاهر حديث «انظر إليها» وهذا منكر وشذوذ، يؤدي إلى الفساد. وللزوج النظر إلى جميع بدن زوجته في حال حياتها، ولها أيضاً النظر إلى جميع بدن زوجها، حتى نظر الفرج، لكن يكره لكل منهما نظر الفرج من الآخر. حادي عشر ـ وقت الرؤية وشرطها: قال الشافعية (¬1): ينبغي أن يكون نظر الخاطب إلى المرأة قبل الخطبة، وأن تكون خفية بغير علم المرأة أو ذويها، مراعاة لكرامة المرأة وأسرتها، فإذا أعجبته تقدم لخطبتها من غير إيذاء لها وإحراج لأسرتها، وهذا هو المعقول، والراجح عملاً بظاهر الأحاديث التي تدل على أنه يجوز النظر إليها، سواء أكان ذلك بإذنها أم لا. ¬
ثاني عشر ـ تحريم الخلوة بالمخطوبة
وقال المالكية (¬1): يجوز نظر وجه الزوجة وكفيها خاصة قبل العقد، ليعلم بذلك حقيقة أمرها بعلم منها أو وليها، ويكره استغفالها. والنظر يكون بنفسه أو وكيله إن لم يكن على وجه التلذذ بها، وإلا منع كما يمنع ما زاد على الوجه والكفين لأنه عورة. ال ثاني عشر ـ تحريم الخلوة بالمخطوبة: بينا أن الخطبة ليست زواجاً، وإنما هي مجرد وعد بالزواج، فلا يترتب عليها شيء من أحكام الزواج، ولا الخلوة بالمرأة أو معاشرتها بانفراد؛ لأنها ما تزال أجنبية عن الخاطب، وقد نهى الرسول صلّى الله عليه وسلم في الأحاديث السابقة عن الخلوة بالأجنبية وعن الجلوس معها إلا مع محرم كأبيها أو أخيها أوعمها، ومن تلك الأحاديث: «لا يخلون رجل بامرأة لا تحل له، فإن ثالثهما الشيطان، إلا مَحْرمٌ» (¬2). وفي هذا القدر أمان وضمان وبُعْد عن التعرض لمخاطر الاحتمالات في المستقبل من فسخ الخطوبة وغيره، وبه يتحقق المطلوب بالجلوس والتحدث إلى المرأة عند وجود محرم لها، وهذا هو الموقف الحكيم المعتدل دون إفراط ولا تفريط. وأما المعاشرة قبل الزواج والذهاب معاً إلى الأماكن العامة وغيرها، فهو كله ممنوع شرعاً، بل إنه لا يحقق الغاية المرجوة، إذ كل منهما يظهر بغير حقيقته، كما قيل: (كل خاطب كاذب). ولأن الخاطب قد يتعجل الأمور، وقد يستجيب الإنسان لتلبية الغريزة، ويضعف عن مقاومتها في حال الانفراد بالمرأة، فيقع الضرر بها، وتتأثر سمعتها عند العدول عن الخطبة. ¬
الثالث عشر ـ العدول عن الخطبة وأثره
الثالث عشر ـ العدول عن الخطبة وأثره: بما أن الخطبة ليست زواجاً، وإنما هي وعد بالزواج، فيجوز في رأي أكثر الفقهاء للخاطب أو المخطوبة العدول عن الخطبة (¬1)؛ لأنه ما لم يوجد العقد فلا إلزام ولا التزام. ولكن يطلب أدبياً ألا ينقض أحدهما وعده إلا لضرورة أو حاجة شديدة، مراعاة لحرمة البيوت وكرامة الفتاة. وينبغي الحكم على المخطوبة بالموضوعية المجردة، لا بالهوى أو بدون مسوغ معقول، فلا يعدل الخاطب عن عزمه الذي شاءه؛ لأن عدوله هو نقض للعهد أو الوعد، ويستحسن شرعاً وعرفاً التعجيل في العدول إذا بدا سبب واضح يقتضي ذلك، قال الله تعالى: {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً} [الإسراء:34/ 17] وقال صلّى الله عليه وسلم: «اضمنوا لي ستاً من أنفسكم أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدّوا إذا ائتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم» (¬2). حكم انفساخ الخطبة أو أثره: لا يترتب على انفساخ الخطبة أي أثر ما دام لم يحصل عقد. وأما ما قدمه الخاطب من مهر: فله أن يسترده، سواء أكان قائماً أم هالكاً أم مستهلكاً، وفي حال الهلاك أو الاستهلاك يرجع بقيمته إن كان قيمياً، وبمثله إن كان مثلياً، أياً كان سبب العدول، من جانب الخاطب أو من جانب المخطوبة. وهذا متفق عليه فقهاً (¬3). ¬
هدايا الخطبة
ولكن فصّل القانون السوري (م4) بين حالة كون العدول من جهة الخاطب، وحالة كونه من جهة المخطوبة، أخذاً بعرف الناس اليوم. ففي الحالة الأولى: إذا اشترت المرأة جهازاً تخير بين إعادة مثل المهر أو تسليم الجهاز. وفي الحالة الثانية: يجب عليها إعادة المهر أو قيمته. هدايا الخطبة: أما رد الهدايا ففيه آراء فقهية: 1 - قال الحنفية (¬1): هدايا الخطبة هبة، وللواهب أن يرجع في هبته إلا إذا وجد مانع من موانع الرجوع بالهبة كهلاك الشيء أو استهلاكه أو وجود الزوجية. فإذا كان ما أهداه الخاطب موجوداً فله استرداده. وإذا كان قد هلك أو استهلك أو حدث فيه تغيير، كأن ضاع الخاتم، وأكل الطعام. وصنع القماش ثوباً، فلا يحق للخاطب استرداد بدله. 2 - وذكر المالكية (¬2): أن الهدايا قبل عقد الزواج أو فيه تتشطر بين المرأة والرجل، سواء اشترطت، أو لم تشترط؛ لأنها مشترطة حكماً. 3 - وفصل الحنابلة (¬3) بين أن يكون العدول من جهة الخاطب أو من جهة المخطوبة، فإذا عدل الخاطب، فلا يرجع بشيء ولو كان موجوداً. وإذا عدلت المخطوبة، فللخاطب أن يسترد الهدايا، سواء أكانت قائمة أم هالكة، فإن هلكت أو استهلكت وجبت قيمتها. وهذا حق وعدل، لأنه وهب بشرط بقاء العقد، فإن زال العقد، فله الرجوع، فأشبه بذلك. 4 - ورأى الشافعية (¬4): أن للخاطب الرجوع بما أهداه؛ لأنه إنما أنفق لأجل تزوجها، فيرجع إن بقي، وببدله إن تلف. ¬
التعويض عن الضرر
وأخذ القانون المغربي بمذهب المالكية، والقانون الأردني بمذهب الحنفية، فصرح أنه يجري على هدايا الخطبة حكم الهبة. وسكوت القانون السوري يتضمن العمل برأي الحنفية، إذ نص في المادة (305) على أن «كل ما لم يرد عليه نص في هذا القانون، يرجع فيه إلى القول الأرجح في المذهب الحنفي». وجاء في (م/4ف3): تجري على الهدايا أحكام الهبة. والراجح لدي أن المرأة تستحق جميع ما قدم لها قبل العقد من هدايا، بدليل ما رواه الخمسة إلا الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «أيما امرأة نكحت على صداق أو حِبَاء (عطاء) أو عِدَة قبل عصمة النكاح، فهو لها، وما كان بعد عصمة النكاح فهو لمن أعطيه» (¬1) وذهب إلى هذا عمر بن عبد العزيز والثوري وأبو عبيد ومالك، والهادوية من الزيدية. التعويض عن الضرر: أما التعويض عن الأضرار المادية أو المعنويةالتي تترتب على فسخ الخطبة، كشراء بعض الأمتعة والألبسة، أو ترك وظيفة أو تفويت خاطب آخر، أو الإساءة لسمعتها بمجرد العدول عن خطبة طال أمدها كأربع سنوات مثلاً، فلم ينص عليه فقهاؤنا القدامى. ويمكن إقراره في الفقه الحديث عملاً بقواعد الشريعة العامة، كقاعدة تحريم التغرير وإيجابه الضمان، وقاعدة (لا ضرر ولا ضرار) وما يترتب عليها من تطبيق نظرية التعسف في استعمال الحق التي أخذ بها المالكية والحنابلة، وراعاها أبو حنيفة في حقوق العلو والجوار. كما يمكن تأصيل التعويض عن ضرر العدول بمبدأ الالتزام في الفقه المالكي في مشهور الأقوال: وهو أنه في الوعد بشيء يقضى بتنفيذ الوعد إن كان مبنياً على سبب ودخل الموعود بالسبب، أي فيجب الوفاء بالوعد المعلق على سبب، وباشر ¬
الموعود السبب ونفذه. مثل: اشتر سلعة أو تزوج امرأة، وأنا أسلفك، فإذا تزوج فعلاً وجب عليه إقراضه. أما مجرد الوعد فلا يلزم الوفاء به، بل الوفاء به من مكارم الأخلاق. والذي استقر عليه القضاء المصري الآن: ما قررته محكمة النقض سنة (1939م) وهو ما يلي: 1 - الخطبة ليست بعقد ملزم. 2 - مجرد العدول عن الخطبة لا يكون سبباً موجباً للتعويض. 3 - إذا اقترن بالعدول عن الخطبة أفعال أخرى، ألحقت ضرراً بأحد الخطيبين، جاز الحكم بالتعويض على أساس المسؤولية التقصيرية، أي الخطأ الذي سبب ضرراً بالغير. وهذا يتفق مع قواعد الشريعة الإسلامية، وعلى هذا يفرق بين حالتين: الأولى ـ إذا كان للعادل دخل في الضرر الذي لحق الآخر بسبب عدوله، كأن يطلب الخاطب إعداد جهاز خاص، أو يطلب من المخطوبة ترك وظيفتها، فتتركها بناء على رغبته، أو تطلب المخطوبة إعداد الخاطب مسكناً خاصاً، فيجوز الحكم بالتعويض عن الضرر لعدوله عن الخطبة، لتسبب العادل في الضرر وتغريره الطرف الآخر. الثانية ـ ألا يكون للعادل دخل في الضرر الذي لحق الطرف الآخر بسبب العدول، فلا يحكم بالتعويض على العادل، إذ لم يوجد منه سبب الضمان من ضرر أو تغرير.
الفصل الثاني: تكوين الزواج
الفَصْلُ الثَّاني: تكوين الزّواج وفيه مباحث خمسة: المبحث الأول ـ تعريف الزواج وحكمه في الشرع: تعريف الزواج (¬1): النكاح لغة: الضم والجمع، أو عبارة عن الوطء والعقد جميعاً، وهو في الشرع: عقد التزويج، والزواج شرعاً: عقد يتضمن إباحة الاستمتاع بالمرأة، بالوطء والمباشرة والتقبيل والضم وغير ذلك، إذا كانت المرأة غير مَحْرم بنسب أو رضاع أو صهر. أوهو عقد وضعه الشارع ليفيد ملك استمتاع الرجل بالمرأة، وحل استمتاع المرأة بالرجل. أي أن أثر هذا العقد بالنسبة للرجل يفيد الملك الخاص به فلا يحل لأحد غيره، وأما أثره بالنسبة للمرأة فهو حل الاستمتاع لا الملك الخاص بها، وإنما يجوز أن تتعدد الزوجات فيصبح الملك حقاً مشتركاً بينهن، أي أن تعدد الأزواج ممنوع شرعاً، وتعدد الزوجات جائز شرعاً. ¬
هل يراد شرعا بالنكاح الوطء أو العقد؟
وعرفه الحنفية بقولهم: عقد يفيد ملك المتعة قصداً، أي حل استمتاع الرجل من امرأة، لم يمنع من نكاحها مانع شرعي، بالقصد المباشر. خرج بكلمة (المرأة): الذكر والخنثى المشكل لجواز ذكورته، وخرج بقوله «ما لم يمنع من نكاحها ما نع شرعي»: المرأة الوثنية، والمحارم، والجنِّية، وإنسان الماء، لاختلاف الجنس؛ لأن قوله تعالى: {والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً} [النحل:72/ 16] أوضح المراد من قوله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} [النساء:3/ 4] وهو الأنثى من بنات آدم، فلا يثبت حل غيرها بلا دليل، ولأن الجن يتشكّلون بصور شتى، فقد يكون ذكراً تشكَّل بشكل أنثى. وخرج بكلمة (قصداً) حل الاستمتاع ضمناً بواسطة شراء أمة للتسري. ووضع بعضهم كلمة (بطريق الأصالة) بدل كلمة (قصداً). وعرفه أيضاً بعض الحنفية بأنه عقد وضع لتمليك منافع البُضْع، أي الفرج. هل يراد شرعاً بالنكاح الوطء أو العقد؟ النكاح عند أهل الأصول واللغة حقيقة في الوطء، مجاز في العقد، فحيث جاء في الكتاب أو السنة مجرداً عن القرائن يراد به الوطء، كما في قوله تعالى: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء} [النساء:22/ 4] فتحرم مزنية الأب على الابن، أي على فروعه، وتكون حرمتها على الفروع ثاتبة بالنص القرآني. وأما حرمة التي عقد عليها عقداً صحيحاً على الفروع فبالإجماع. ولو قال لزوجته: إن نكحتك فأنت طالق، تعلق الشرط بالوطء، وكذا لو أبانها قبل الوطء، ثم تزوجها، تطلق بالوطء، لا بالعقد. أما نكاح المرأة الأجنبية فيراد به العقد؛ لأن وطأها لما حرم عليه شرعاً، كانت الحقيقة مهجورة، فتعين المجاز.
الحكم الشرعي للزواج
والنكاح عند الفقهاء ومنهم مشايخ المذاهب الأربعة: حقيقة في العقد، مجاز في الوطء؛ لأنه المشهور في القرآن والأخبار، وقد قال الزمخشري وهو من علماء الحنفية: ليس في الكتاب لفظ النكاح بمعنى الوطء إلا قوله تعالى: {حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة:230/ 2] لخبر الصحيحين: «حتى تذوقي عسيلته» فالمراد به العقد، والوطء مستفاد من هذا الخبر. الحكم الشرعي للزواج: الزواج مشروع بالكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب: فقوله الله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} [النساء:3/ 4] الآية، وقوله: {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم} [النور:32/ 24]. وأما السنة: فقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة، فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء» (¬1) والباءة: مؤن الزواج وواجباته. وآي قرآنية وأخبار سوى ذلك كثيرة. وأجمع المسلمون على أن الزواج مشروع. وحكمة مشروعيته: إعفاف المرء نفسه وزوجه عن الوقوع في الحرام، وحفظ النوع الإنساني من الزوال والانقراض، بالإنجاب والتوالد، وبقاء النسل وحفظ النسب، وإقامة الأسرة التي بها يتم تنظيم المجتمع، وإيجاد التعاون بين أفرادها، فمن المعروف أن الزواج تعاون بين الزوجين لتحمل أعباء الحياة، وعقد ¬
نوع أو صفة الزواج شرعا
مودة وتعاضد بين الجماعات، وتقوية روابط الأسر، وبه يتم الاستعانة على المصالح. وأما نوع أو صفة الزواج شرعا ً بحسب طلب الشارع فعله أو تركه، فيعرف عند الفقهاء بحسب أحوال الناس (¬1): 1 - الفرضية: يكون الزواج عند عامة الفقهاء فرضاً إذا تيقن الإنسان الوقوع في الزنا لو لم يتزوج، وكان قادراً على نفقات الزواج من مهر ونفقة الزوجة، وحقوق الزواج الشرعية، ولم يستطع الاحتراز عن الوقوع في الفاحشة بالصوم ونحوه؛ لأنه يلزمه إعفاف نفسه وصونها عن الحرام، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وطريقه الزواج. ولا فرق بين الفرضية والوجوب عند الجمهور. ورأى الحنفية: أن الزواج واجب إذا خاف المرء الوقوع في الفاحشة بعدم الزواج خوفاً دون اليقين، وكان قادراً على مؤن الزواج، من مهر ونفقة، ولايخاف ظلم المرأة ولا التقصير في حقها. 2 - التحريم: يحرم الزواج إذا تيقن الشخص ظلم المرأة والإضرار بها إذا تزوج، بأن كان عاجزاً عن تكاليف الزواج، أو لا يعدل إن تزوج بزوجة أخرى؛ لأن ما أدى إلى الحرام فهو حرام. وإذا تعارض ما يجعل الزواج فرضاً وما يجعله حراماً بأن تيقن أنه سيقع في الزنا إن لم يتزوج، وتيقن أيضاً أنه سيظلم زوجته، كان الزواج حراماً؛ لأنه إذا ¬
3 - الكراهة
اجتمع الحلال والحرام، غلب الحرام الحلال، ولقوله تعالى: {وليستعفف الذين لايجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله من فضله} [النور:33/ 24] ولحديث «يا معشر الشباب» السابق الذي يرشد إلى الصوم لعصمة النفس من الشهوات. وربما قيل: يفضل الزواج حينئذ؛ لأن الرجل بعد الزواج تلين طباعه، وترتقي معاملته، وتخف قسوته وتزول عُقَده، ولأن في عدم الزواج غلبة الظن في الوقوع بالزنا. 3 - الكراهة: يكره الزواج إذا خاف الشخص الوقوع في الجور والضرر خوفاً لا يصل إلى مرتبة اليقين إن تزوج، لعجزه عن الإنفاق، أوإساءة العشرة، أو فتور الرغبة في النساء. وتكون الكراهة عند الحنفية تحريمية أو تنزيهية بحسب قوة الخوف وضعفه. ويكره عند الشافعية لمن به علة كهرم أو مرض دائم أو تعنين دائم، أو كان ممسوحاً، ويكره أيضاً عندهم نكاح بعد خطبة على خطبة غيره إن عُرِّض فيها بالإجابة، ونكاح المحلل إذا لم يشرط في العقد مايخل بمقصوده، ونكاح الغرور كأن غرر الزوج بإسلام امرأة أو بحريتها أو بنسب معين. 4 - الاستحباب أو الندب في حال الاعتدال: يستحب عند الجمهور غير الشافعي الزواج إذا كان الشخص معتدل المزاج، بحيث لا يخشى الوقوع في الزنا إن لم يتزوج، ولا يخشى أن يظلم زوجته إن تزوج. وحالة الاعتدال هذه هي الغالبة عند أكثر الناس. ودليل كون الزواج سنة الحديث السابق: «يا معشر الشباب» وحديث الرهط الثلاثة الذين عزموا على أمور، الأول ـ أن يصلي الليل أبداً، والثاني ـ أن يصوم الدهر أبداً، والثالث ـ أن يعتزل النساء فلا يتزوج أبداً، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «أما والله، إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي، فليس مني» (¬1). ¬
إعفاف الوالد
ويؤيده أن الرسول صلّى الله عليه وسلم تزوج وداوم عليه، وكذلك أصحابه تزوجوا وداوموا عليه، وتابعهم المسلمون في الزواج، والمداومة والمتابعة دليل السنية. وهذا الرأي هو المختار. وقال الشافعي: إن الزواج في هذه الحالة مباح، يجوز فعله وتركه، وإن التفرغ للعبادة أو الاشتغال بالعلم أفضل من الزواج؛ لأن الله تعالى مدح يحيى عليه السلام بقوله: {وسيداً وحصوراً} [آل عمران:39/ 3] والحصور: الذي لا يأتي النساء مع القدرة على إتيانهن، فلو كان الزواج أفضل لما مدح بتركه. ورد هذا بأنه شرع من قبلنا، وشريعتنا على خلافه. وقال الله تعالى: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين} [آل عمران:14/ 3] وهذا في معرض الذم. وإنما لم يجب لقوله تعالى: {فانكحوا ماطاب لكم من النساء} [النساء:3/ 4] إذ الواجب لايتعلق بالاستطابة، ولقوله تعالى: {مثنى وثلاث ورباع} [النساء:3/ 4] ولا يجب العدد بالإجماع، ولقوله: {أو ما ملكت أيمانكم} [النساء:3/ 4]. ورد السبكي التعليل الأول: بأنه ليس المراد بالآية المستطاب، وإنما المراد الحلال؛ لأن في النساء محرمات بآية {حرمت عليكم أمهاتكم ... } [النساء:23/ 4] الآية. إعفاف الوالد: تحقيقاً للترغيب الشرعي في الزواج قال الشافعية على المشهور (¬1): يلزم الولد ذكراً كان أو أنثى إعفاف الأب والأجداد؛ لأنه من وجوه ¬
هل الزواج عبادة؟
حاجاتهم المهمة كالنفقة والكسوة، ولئلا يعرضهم للزنا المفضي إلى الهلاك، وذلك لا يليق بحرمة الأبوة، وليس من المصاحبة بالمعروف المأمور بها شرعاً، والإعفاف: بأن يعطيه مهر امرأة حرة تعفه، أو يقول: تزوج وأعطيك المهر، أو يزوجه بإذنه ويدفع المهر. ويجب تجديد الإعفاف إذا ماتت الزوجة، أو انفسخ النكاح برده منها، أو فسخ الزوج النكاح بعيب في الزوجة، وكذا إذ اطلق بعذر في الأصح. وإنما يجب الإعفاف بشرطين: الأول ـ لمن كان فاقد المهر في الواقع. ولا يلزم الإعفاف إذا كان الأب قادراً على المهر بالكسب. الثاني ـ للمحتاج إلى الزواج: بأن تتوق نفسه إلى الوطء، وإن لم يخف الزنا، أو كان عنده من لا تعفه كصغيرة وعجوز شوهاء. ويحرم طلب الزواج ممن لم يضر به العزوبة، ولم يشق عليه الصبر. ولو احتاج لعقد النكاح لا للتمتع، بل للخدمة لنحو مرض، وجب إعفافه إذا تعينت الحاجة إليه، لكن لا يسمى إعفافاً. هل الزواج عبادة؟ الزواج عند الشافعية من الأعمال الدنيوية كالبيع ونحوه، وهو ليس بعبادة، بدليل صحته من الكافر، ولو كان عبادة لما صح منه، والقصد منه قضاء شهوة النفس، والعمل بالعبادة عمل لله تعالى، والعمل لله تعالى أفضل من العمل للنفس. ورد ذلك بأنه إنما صح من الكافر، وإن كان عبادة، لما فيه من عمارة الدنيا، كعمارة المساجد والجوامع، فإن هذه تصح من المسلم، وهي منه عبادة، ومن الكافر
وليست منه عبادة، ويدل لكونه عبادة أمر النبي صلّى الله عليه وسلم، والعبادة تتلقى من الشرع، فالزواج من قبيل العبادة، لما يشتمل عليه من المصالح الكثيرة التي منها تحصين النفس وإيجاد النسل، وقال عنه النبي صلّى الله عليه وسلم: «وفي بُضع أحدكم صدقة» (¬1). ونظراً لضعف هذه الأدلة التي ذكرت للشافعي، قال الإمام النووي: - وهو من العلماء العزاب - إن لم يتعبد فاقد الحاجة للنكاح، واجد الأهبة (وهي مؤن الزواج من مهر وكسوة ونفقة يومه)، فالنكاح له أفضل من تركه في الأصح، كيلا تفضي به البطالة والفراغ إلى الفواحش. وقال: النكاح مستحب لمحتاج إليه يجد أهبته، فإن فقدها استحب تركه، ويكسر شهوته بالصوم، فإن لم يحتج كره إن فقد الأهبة، وإلا فلا يكره له لقدرته عليه. وقال الظاهرية: إن الزواج في حالة الاعتدال هذه فرض، متى كان الإنسان قادراً عليه، وعلى مؤنه المطلوبة، بدليل ظواهر الآيات السابقة: {فانكحوا ما طاب ... } [النساء:3/ 4] {وأنكحوا الأيامى منكم} [النور:32/ 24] والأحاديث المتقدمة: «من استطاع منكم الباءة فليتزوج» والأمر يفيد الوجوب، فيكون الزواج واجباً. ورد عليهم بأن هذا الوجوب مصروف إلى الندب والاستحباب بدليل قوله: {مثنى وثلاث ورباع} [النساء:3/ 4] وقوله: {أو ما ملكت أيمانكم} [النساء:3/ 4] ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يحتم الزواج على كل واحد. ويؤيد هذا الرأي ما رواه أحمد وابن أبي شيبة وابن عبد البر عن عَكَّاف بن وَدَاعة: «أنه أتى النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال له: ألك زوجة يا عكاف؟ قال: لا، قال: ولا جارية؟ قال: لا، قال: وأنت صحيح موسر؟ قال: نعم، والحمد لله، فقال: فأنت إذن من إخوان الشياطين: إن كنت من رهبان النصارى، فالحق بهم، وإن ¬
المبحث الثاني ـ أركان الزواج
كنت منا فاصنع كما نصنع، فإن سنتنا النكاح، شراركم عزّابكم، وإن أرذل موتاكم عزابكم» (¬1). ورد بأن إيجاب الزواج على شخص لا يستلزم إيجابه على الناس جميعاً؛ لأن سبب وجوبه وجد في حقه، دون غيره من الناس. المبحث الثاني ـ أركان الزواج: تمهيد: الركن عند الحنفية: ما يتوقف عليه وجود الشيء، ويكون جزءاً داخلاً في حقيقته. والشرط عندهم: ما يتوقف عليه وجود الشيء، ولم يكن جزءاً من حقيقته. والركن عند الجمهور: ما به قوام الشيء ووجوده، فلا يتحقق إلا به، أو ما لا بد منه، وبعبارتهم الشهيرة: هو ما لا توجد الماهية الشرعية إلا به، أو ما تتوقف عليه حقيقة الشيء، سواء أكان جزءاً منه أم خارجاً عنه. والشرط عندهم: ما يتوقف عليه وجود الشيء، وليس جزءاً منه. فالإيجاب والقبول ركن بالاتفاق، لأن بهما يترتبط أحد العاقدين بالآخر، والرضا شرط. وركن الزواج عند الحنفية: الإيجاب والقبول فقط، وأركان الزواج عند الجمهور أربعة: صيغة (وهي الإيجاب والقبول) وزوجة، وزوج، وولي وهما العاقدان. وأما المعقود عليه فهو الاستمتاع الذي يقصده الزوجان من الزواج. وأما المهر فلا يتوقف عليه العقد، وإنما هو شرط كالشهود، بدليل جواز نكاح التفويض، وأما الشهود فشرط أيضاً. وجعل الشهود والمهر ركناً مجرد اصطلاح لبعض الفقهاء. ¬
صيغة الزواج
والإيجاب عند الحنفية: ما يصدر أولاً من أحد العاقدين، سواء أكان الزوج أم الزوجة. والقبول عندهم: ما يصدر ثانياً من الطرف الآخر. والإيجاب عند الجمهور: هو اللفظ الصادر من قبل الولي أو من يقوم مقامه كوكيل؛ لأن القبول إنما يكون للإيجاب، فإذا وجد قبله لم يكن قبولاً لعدم معناه. والقبول: هو اللفظ الدال على الرضا بالزواج الصادر من الزوج. فإذا قال الرجل للمرأة: زوجيني نفسك، فقالت: قبلت، كان الأول عند الحنفية إيجاباً، والثاني قبولاً. وعند الجمهور بالعكس؛ لأن ولي المرأة هو الذي يملِّك الزوج حق الاستمتاع، فكلامه هو الإيجاب، والرجل يتملك ذلك، فكلامه هو القبول. وقد نص القانون السوري (م 5) على أنه: ينعقد الزواج بإيجاب من أحد العاقدين، وقبول من الآخر. صيغة الزواج: أولاً ـ ألفاظ الزواج: الزواج عقد مدني لا شكليات فيه، والعقد: ربط أجزاء التصرف، أي الإيجاب والقبول شرعاً. والمراد بالعقد هنا هو المعنى المصدري وهو الارتباط، والشرع يحكم بأن الإيجاب والقبول موجودان حساً، يرتبطان ارتباطاً حكمياً. وكل من الإيجاب والقبول قد يكون لفظاً، وقد يكون كتابة أو إشارة، وألفاظ الإيجاب والقبول، منها ما هو متفق على انعقاد الزواج به، ومنها ما هو متفق على عدم انعقاد الزواج به، ومنها ما هو مختلف فيه (¬1). ¬
أما الألفاظ التي اتفق الفقهاء على انعقاد الزواج بها: فهي لفظ: أنكحت وزوجت، لورودهما في نص القرآن في قوله تعالى: {زوجناكها} [الأحزاب:37/ 33] وقوله: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم} [النساء:22/ 4]. وأما الألفاظ التي اتفق الفقهاء على عدم انعقاد الزواج بها: فهي التي لا تدل على تمليك العين في الحال ولا على بقاء الملك مدة الحياة، وهي: الإباحة والإعارة والإجارة والمتعة والوصية والرهن والوديعة ونحوها. وأما الألفاظ التي اختلفوا في انعقاد الزواج بها: فهي لفظ البيع، ولفظ الهبة، ولفظ الصدقة، أو العطية ونحوها مما يدل على تمليك العين في الحال، وبقاء الملك مدة الحياة: 1 - قال الحنفية، والمالكية على الراجح: ينعقد الزواج بها بشرط نية أو قرينة تدل على الزواج، كبيان المهر وإحضار الناس، وفهم الشهود المقصود؛ لأن المطلوب التعرف على إرادة العاقدين، وليس للفظ اعتبار، وقد ورد في الشرع ما يدل على الزواج بلفظ الهبة والتمليك. الأول ـ في قوله تعالى: {وامرأةً مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي، إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين} [الأحزاب:50/ 33] والخصوصية للنبي في صحة الزواج بدون مهر، لا باستعمال لفظ الهبة. والثاني ـ قول الرسول صلّى الله عليه وسلم لرجل لم يملك مالاً يقدمه مهراً: «قد ملكتكها بما معك من القرآن» (¬1). وهذا هو الراجح لدي؛ لأن العبرة في العقود للمعاني لا للألفاظ والمباني. ¬
2 - وقال الشافعية والحنابلة: لا ينعقد الزواج بها، ولا ينعقد إلا بلفظ النكاح أو التزويج، لورودهما في القرآن كما تقدم، فيلزم الاقتصار عليهما، ولا يصح أن ينعقد بغيرهما من الألفاظ؛ لأن الزواج عقد يعتبر فيه النية مع اللفظ الخاص به، وآية: {إن وهبت نفسها للنبي} [الأحزاب:50/ 33] من خصوصيات النبي صلّى الله عليه وسلم. وحديث «ملكتكها» إما وهم من الراوي، أو أن الراوي رواه بالمعنى، ظناً منه ترادف هذا اللفظ مع لفظ الزواج، وبتقدير صحة الرواية، فهي معارضة برواية الجمهور: «زوجتكها». وخلاصة المذاهب ما يأتي: ينعقد الزواج عند الحنفية (¬1) بكل لفظ يدل على تمليك الأعيان في الحال، كلفظ الهبة والتمليك والصدقة والعطية والقرض والسلَم والاستئجار (¬2) والصلح والصرف، والجعل والبيع والشراء، بشرط نية أو قرينة، وفهم الشهود المقصود. ولا ينعقد بقوله: تزوجت نصفك على الأصح احتياطاً، بل لا بد أن يضيفه إلى كلها أو ما يعبر به عن الكل، ومنه الظهر والبطن على الأشبه. وينعقد عند المالكية (¬3) بلفظ التزويج والتمليك، وما يجري مجراهما كالبيع والهبة والصدقة والعطية، ولا يشترط ذكر المهر، لانعقاد العقد، وإن كان لا بد منه، فيكون شرطاً لصحة العقد كالشهود، إلا إذا كان بلفظ الهبة، والألفاظ أربعة: الأول ـ ما ينعقد به الزواج مطلقاً سواء سمى العاقد صداقاً أم لا وهو ¬
المعاطاة
أنكحت وزوجت، والثاني ـ ماينعقد به إن سمى صداقاً وإلا فلا، وهو وهبت فقط، والثالث ـ ما فيه التردد، وهو كل لفظ يقتضي البقاء مدة الحياة، مثل: بعت لك ابنتي بصداق قدره كذا، أو ملكتك إياها أو أحللت أو أعطيت أو منحتك إياها. قيل: ينعقد به إن سمى صداقاً، وقيل: لاينعقد به مطلقاً. والرابع ـ ما لا ينعقد به اتفاقاً: وهو كل لفظ لا يقتضي البقاء مدة الحياة كالحبس والوقف والإجارة والإعارة والعمرى أي أعمرتك، وهوالراجح. وينعقد الزواج عند الشافعية والحنابلة (¬1) بلفظ التزويج والنكاح فقط، دون ماعداهما كالهبة والتمليك والإجارة، اقتصاراً على المذكور في القرآن. المعاطاة: اتفق الفقهاء على عدم انعقاد الزواج بالتعاطي، احتراماً لأمر الفروج، وخطورتها وشدة حرمتها (¬2)، فلا يصح العقد عليها إلا بلفظ صريح أو كناية عند الحنفية والمالكية، وبلفظ صريح عند الشافعية والحنابلة كما تقدم. ولا ينعقد الزواج على المختار عند الحنفية بالإقرار، أي أن الإقرار ليس من صيغ العقد، فلو قالت امرأة: أقر بأنك زوجي، ولم تكن قد حدثت زوجية بينها وبين الرجل، فإنه لا يصح، لأن الإقرار إظهار لما هو ثابت وليس بإنشاء. الألفاظ المصحفة (¬3): لا ينعقد الزواج عند الحنفية بالألفاظ المصحفة، مثل (تجوزت) أو جوزت أوزوزت، بدل «تزوجت» لعدم القصد الصحيح، لكن لو اتفق قوم على النطق بهذه الغلطة، بحيث إنهم يطلبون بها الدلالة على حل الاستمتاع، وتصدر عن قصد واختيار منهم، فينعقد بها الزواج؛ لأنه والحالة هذه ¬
الألفاظ غير العربية
يكون وضعاً جديداً منهم (¬1)، أي أن اللفظ أصبح دالاً على الزواج عرفاً، فينعقد به الزواج، فلا يفهم العاقدان والشهود من تلك الألفاظ إلا أنها عبارة عن التزويج، ولا يقصد منها إلا ذلك المعنى بحسب العرف. وقال الشافعية: ينعقد الزواج بالألفاظ المحرفة مثل: جوزتك موكلتي. الألفاظ غير العربية: اتفق أكثر الفقهاء على أن الأجنبي غير العربي العاجز عن النطق بالعربية يصح انعقاد زواجه بلغته التي يفهمها ويتكلم بها؛ لأن العبرة في العقود للمعاني، ولأنه عاجز عن العربية، فسقط عنه النطق بالعربية كالأخرس. وعليه أن يأتي بمعنى التزويج أو الإنكاح بلسانه، بحيث يشتمل على معنى اللفظ العربي. أما إذا كان العاقد يحسن التكلم بالعربية: فيجوز عند الجمهور في الأصح عند الشافعية النطق بكل لغة يمكن التفاهم بها؛ لأن المقصود هو التعبير عن الإرادة، وذلك واقع في كل لغة، ولأنه أتى بلفظه الخاص، فانعقد به، كما ينعقد بلفظ العربية. وقال الحنابلة: لا يجوز الزواج إلا بالعربية لمن قدر عليها، فمن قدر على لفظ الزواج بالعربية، لم يصح بغيرها؛ لأنه عدل عن لفظي (الإنكاح والتزويج) مع القدرة عليهما، فلم يصح، كما لم يصح بألفاظ الهبة والبيع والإحلال (¬2). وقد أخذ القانون السوري (م 6) برأي الجمهور، فنص على أنه: يكون الإيجاب والقبول في الزواج بالألفاظ التي تفيد معناه لغة أو عرفاً. ¬
ثانيا ـ صيغة الفعل
ثانياً ـ صيغة الفعل: قد تكون صيغة الإيجاب والقبول بلفظ الماضي أو بلفظ المضارع أو بلفظ الأمر، واتفق الفقهاء على انعقاد الزواج بصيغة الماضي، واختلفوا في المضارع والأمر (¬1). أـ ينعقد الزواج بصيغة الفعل الماضي: كأن يقول ولي المرأة للرجل: زوجتك ابنتي فلانة على مهر كذا، فقال الزوج: قبلت أورضيت؛ لأن المقصود بهذه الصيغة إنشاء العقد في الحال، فينعقد بها العقد من غير توقف على نية أو قرينة. ب ـ وأما العقد بصيغة المضارع: مثل أن يقول الرجل للمرأة في مجلس العقد: أتزوجك على مهر قدره كذا، فقالت: أقبل أو أرضى، صح العقد عند الحنفية والمالكية إذا كانت هناك قرينة تدل على إرادة إنشاء العقد في الحال، لا للوعد في المستقبل، كأن يكون المجلس مهيئاً لإجراء عقد الزواج، فوجود هذه الهيئة ينفي إرادة الوعد أو المساومة، ويدل على إرادة التنجيز؛ لأن الزواج بعكس البيع يكون مسبوقاً بالخطبة. فإن لم يكن المجلس مهيئاً لإنجاز العقد، ولم توجد قرينة دالة على قصد إنشاء الزواج في الحال، فلا ينعقد العقد. ولا ينعقد الزواج عند الشافعية والحنابلة بصيغة المضارع، وإنما لا بد عندهم من لفظ بصيغة الماضي مشتق من النكاح أوالزواج، بأن يقول الزوج: تزوجت أو نكحت أو قبلت نكاحها أو تزويجها، ولا يصح بكناية: كأحللتك ابنتي، إذ لا ¬
اطلاع للشهود على النية. ولو قال ولي المرأة: زوجتك، فقال الزوج: قبلت، لم ينعقد الزواج لدى الشافعية على المذهب، وينعقد عند الجمهور غير الشافعية. جـ ـ ويصح العقد عند الحنفية والمالكية بصيغة الأمر: كأن يقول الرجل لامرأة: زوجيني نفسك، وقصد بذلك إنشاء الزواج، لا الخطوبة، فقالت المرأة: زوجتك نفسي، تم الزواج بينهما. وتوجيه ذلك عند الحنفية (¬1): أن قول الرجل يتضمن توكيل المرأة في أن تزوجه بنفسها، فقولها: زوجتك نفسي، قام مقام الإيجاب والقبول. والتوجيه عند المالكية أن صيغة الأمر تعتبر إيجاباً للعقد عرفاً، ولا تعتبر توكيلاً ضمنياً. وهذا القول أوجه. وعبارة المالكية: ينعقد النكاح بالإيجاب والاستيجاب، أي طلب الإيجاب. د ـ أما انعقاد الزواج بلفظ الاستفهام مثل قول رجل لآخر: زوجتني ابنتك؟ فقال الآخر: زوجت، أو قال: نعم، فلا يكون عند الحنفية زواجاً، ما لم يقل الموجب بعدئذ: قبلت؛ لأن قوله: زوجتني؟ استفهام أو استخبار، وليس بعقد، بخلاف صيغة الأمر: زوجني، فإنه توكيل ضمني، كما عرفنا. والخلاصة: لا ينعقد الزواج عند الشافعية إلا بصيغة الماضي، ومن مادة الزواج والنكاح، وينعقد عند المالكية والحنفية بالماضي والمضارع والأمر، إذا دلت القرينة أو دلالة الحال على أنه للإيجاب، لا للوعد. ولا يشترط عند الجمهور غيرالحنابلة تقديم الإيجاب على القبول، بل يندب، ¬
ثالثا ـ انعقاد الزواج بعاقد واحد
بأن يقول الولي: زوجتك إياها أو أنكحتك. وقال الحنابلة: إذا تقدم القبول على الإيجاب، لم يصح، سواء أكان بلفظ الماضي: تزوجت، أم بلفظ الطلب: زوجني. ثالثاً ـ انعقاد الزواج بعاقد واحد: قال الحنفية (¬1): ينعقد الزواج بعاقد واحد إذا كانت له ولاية من الجانبين، سواء أكانت ولايته أصلية كولاية القرابة، أم طارئة كولاية الوكالة: 1ً - بأن كان العاقد ولياً من الجانبين كالجد إذا زوج ابن ابنه الصغير من بنت ابنه الصغيرة، والأخ إذا زوج بنت أخيه من ابن أخيه الصغير. 2ً - أو كان أصيلاً وولياً كابن العم إذا تزوج بنت عمه من نفسه. 3ً - أو كان وكيلاً من الجانبين. 4ً - أو كان رسولاً من الجانبين. 5ً - أو كان أصيلاً من جانب، ووكيلاً من جانب آخر، كأن توكل امرأة رجلاً ليزوجها من نفسه، أو وكل رجل امرأة لتزوج نفسها منه. وأجاز الشافعي انعقاد الزواج في الحالة الأولى ـ حالة الولي من الجانبين ـ كالجد يزوج بنت ابنه من ابن ابنه (¬2). وأجاز المالكية (¬3) لابن العم ووكيل الولي والحاكم أن يزوج المرأة من نفسه. ¬
رابعا ـ انعقاد الزواج بالكتابة والإشارة
ولا ينعقد الزواج بعاقد فضولي واحد، ولو بعبارتين؛ لأن تعدد العاقد شرط في كل العقود، سواء أكان التعدد حقيقة بأن يكون هناك شخصان يصدر منهما الإيجاب والقبول، أم حكماً بأن يكون هناك شخص واحد له صفة شرعية وولاية من الجانبين. وينعقد العقد فيما لو قال فضولي: زوجت فلانةمن فلان، وهما غائبان، فقبل فضولي آخر عن الزوج. وأدلة انعقاد الزواج بعاقد واحد استثناءً من مبدأ تعدد العاقد: أولاً ـ ما رواه البخاري عن عبد الرحمن بن عوف قال لأم حكيم: أتجعلين أمرك إليَّ؟ قالت: نعم، قال: فقد تزوجتك. فهذا دليل الحالة الأخيرة وهو أن يكون العاقد أصيلاً من جانب ووكيلاً من جانب. ثانياً ـ ما رواه أبو داود عن عقبة بن عامر أن النبي قال لرجل: «أترضى أن أزوجك فلانة؟ قال: نعم، وقال للمرأة: أترضين أن أزوجك فلاناً؟ قالت: نعم فزوج أحدهما صاحبه» فهذا دليل الحالة الثالثة: وهوأن يكون وكيلاً من الجانبين. ثالثاً: يقاس على المذكور في الحديثين السابقين بقية الحالات، لاشتراكها في المعنى، وهو أن للعاقد في الجميع صفة شرعية عند إجراء العقد، إما الولاية على الغير أو الوكالة عن الغير أو الأصالة عن النفس. رابعاً ـ انعقاد الزواج بالكتابة والإشارة: ينعقد الزواج أحياناً بالكتابة أو الإشارة على التفصيل الآتي (¬1): ¬
- الناطق في حال الحضور
1ًَ - الناطق في حال الحضور: إن كان العاقدان حاضرين معاً في مجلس العقد وكانا قادرين على النطق: فلا يصح بالاتفاق الزواج بينهما بالكتابةأو الإشارة، ولو كانت الكتابة بينة واضحة، والإشارة مفهمة في الدلالة على إنشاء الزواج، للاستغناء عنها بالنطق، ولأن اللفظ هو الأصل في التعبير عن الإرادة، ولا يلجأ إليه إلا عند الضرورة، ولا ضرورة هنا، ولأنه لا يتيسر للشهود سماع كلام العاقدين في حال الكتابة. 2ً - الناطق في حال الغيبة: إذا كان أحد العاقدين غائباً عن مجلس العقد: ينعقد الزواج عند الحنفية بالكتابة أو إرسال رسول، إذا حضر شاهدان عند وصول الكتاب أو الرسول؛ لأن الكتاب من الغائب خطابه، قال الحنفية (¬1): «الكتابة من الغائب بمنزلة الخطاب من الحاضر». مثال الكتاب: أن يكتب رجل لخطيبته: تزوجتك أو زوجيني نفسك، فقالت المرأة في مجلس وصول الكتاب: قبلت الزواج، بحضور شاهدين، صح الزواج؛ لأن سماع الشاهدين شطري العقد (الإيجاب والقبول) شرط لصحة الزواج. ومثال إرسال الرسول: أن يرسل الخاطب إلى خطيبته الغائبة عن المجلس شخصاً يبلغها الإيجاب مشافهة، فإذا قبلت في مجلس بلوغ الرسالة بحضور شاهدين، تم الزواج. وقال المالكية والشافعية والحنابلة: لا ينعقد الزواج بكتابة في غيبة أو حضور؛ لأن الكتابة كناية، فلو قال الولي لغائب: زوجتك ابنتي، أو قال: زوجتها من فلان، ثم كتب، فبلغه الكتاب، أي الخبر، فقال: قبلت، لم يصح العقد. ¬
- الأخرس
3ً - الأخرس: إذا كان أحد العاقدين أخرس أو معتقل اللسان: أـ فإن كان قادراً على الكتابة، انعقد الزواج بها كما ينعقد بالإشارة، بالاتفاق حتى عند الشافعية؛ لأنها ضرورة، لكن في الرواية الظاهرة عند الحنفية: لا ينعقد بالإشارة، وإنما ينعقد بالكتابة في حال القدرة عليها؛ لأن الكتابة أقوى في الدلالة على المراد، وأبعد عن الاحتمال من الإشارة. وعلى كل حال: الكتابة بالاتفاق أولى من الإشارة؛ لأنها بمنزلة الصريح في الطلاق والإقرار. ب ـ وإن كان الأخرس أو نحوه عاجزاً عن الكتابة: انعقد الزواج بالإشارة المفهمة المعلومة بالاتفاق؛ لأنها حينئذ الوسيلة المتعينة للتعبير عن الإرادة. والخلاصة: ينعقد نكاح الأخرس بكتابته أو إشارته عند الفقهاء وتتعين الكتابة عند الحنفية إذا قدر عليها. وقد نص القانون السوري (م 7) على أنه: يجوز أن يكون الإيجاب والقبول بالكتابةإذا كان أحد الطرفين غائباً عن المجلس. ونصت المادة (10) على أنه: يصح الإيجاب أو القبول من العاجز عن النطق بالكتابة إذا كان يكتب، وإلا فبإشارته المفهمة. وجاء في المادة (128) من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية بمصر: «إقرار الأخرس يكون بإشارته المعهودة، ولا يعبر إقراره بالإشارة إذا كان يمكنه الإقرار بالكتابة». المبحث الثالث ـ شروط الزواج: أنواع الشروط: بينت سابقاً أن الشرط: هو ما يتوقف عليه وجود الشيء، ويكون خارجاً عن حقيقته. وشروط كل عقد، ومنها الزواج، أربعة أنواع:
شروط الانعقاد: وشروط الصحة، وشروط النفاذ، وشروط اللزوم. وشروط الانعقاد: هي التي يلزم توافرها في أركان العقد، أو في أسسه. وإذا تخلف شرط منها، كان العقد باطلاً بالاتفاق. وشروط الصحة: هي التي يلزم توافرها لترتب الأثر الشرعي على العقد. فإذا تخلف شرط منها، كان العقد عند الحنفية فاسداً، وعند الجمهور باطلاً. وشروط النفاذ: هي التي يتوقف عليها ترتب أثر العقد عليه بالفعل، بعد انعقاده وصحته. فإذا تخلف شرط منها، كان العقد عند الحنفية والمالكية موقوفاً. وشروط اللزوم: هي التي يتوقف عليها استمرار العقد وبقاؤه. فإذا تخلف شرط منها، كان العقد (جائزاً) أو (غير لازم): وهو الذي يجوز لأحد العاقدين أو لغيرهما فسخه. والعقد الباطل: لا يترتب عليه أي أثر من آثار العقد الصحيح، فالزواج الباطل لا يترتب عليه شيء من آثار الزواج، ولو بعد الدخول، ويعتبر في منزلة العدم. فلا يثبت به النسب من الأب، ولا تجب بعده العدة على المرأة، مثل الزواج بإحدى المحارم كالأخت والبنت، والزواج بالمرأة المتزوجة برجل آخر. والعقد الفاسد: يثبت له عند الحنفية بعض آثار العقد الصحيح، فالزواج الفاسد يثبت به آثار الدخول بالزوجة، فيثبت به النسب، وتجب بالتفريق أو المتاركة العدة على المرأة، مثل الزواج بغير شهود، والزواج المؤقت، والزواج بالأخت على أختها في عصمة الزوج، أو في أثناء العدة.
شروط انعقاد الزواج
شروط انعقاد الزواج: يشترط لانعقاد الزواج شروط في العاقدين ـ الرجل والمرأة، وشروط في الصيغة ـ الإيجاب والقبول (¬1). أولاً ـ شروط العاقدين: يشترط في عاقدي الزواج شرطان: 1ً - أهلية التصرف: أن يكون العاقد لنفسه أو لغيره أهلاً لمباشرة العقد، وذلك بالتمييز فقط، فإذا كان غير مميز كصبي لم يبلغ السابعة ومجنون، لم ينعقد الزواج؛ ويكون باطلاً؛ لعدم توافر الإرادة والقصد الصحيح المعتبر شرعاً. ولا يشترط البلوغ لانعقاد الزواج وصحته، وإنما هو شرط لنفاذ العقد عند الحنفية. وأجاز الشافعية للولي من أب أو جد تزويج صغير مميز ولو أكثر من واحدة إن رآه الولي مصلحة؛ لأن تزويجه بالمصلحة؛ وقد تقتضي ذلك (¬2). وأجاز الحنابلة (¬3) أيضاً للأب خاصة تزويج ابنه الصغير أو المجنون ولو كان كبيراً، روى الأثرم: «أن ابن عمر زوج ابنه وهوصغير، فاختصموا إلى زيد فأجازاه جميعاً» وللأب أن يزوج الصغير بأكثر من واحدة إن رأى فيه مصلحة. وأجاز المالكية (¬4) للأب والوصي والحاكم تزويج المجنون والصغير لمصلحة كالخوف من الزنا أو الضرر، أو ممن تحفظ له ماله، والصداق على الأب. ¬
ثانيا ـ شروط المرأة
2ً - سماع كلام الآخر: أن يسمع كل من العاقدين لفظ الآخر، ولو حكماً كالكتاب إلى امرأة غائبة، ويفهم أن المقصود منه إنشاء الزواج، ليتحقق رضاهما به. والأدق أن يعتبر هذا شرطاً في صيغة العقد. ولا يشترط عند الحنفية توافر حقيقة الرضا، فيصح الزواج مع الإكراه والهزل. ثانياً ـ شروط المرأة: يشترط في المرأة لأجل عقد الزواج شرطان: 1ً - أن تكون أنثى محققة الأنوثة: فلا ينعقد الزواج على الرجل أو الخنثى المشكل: وهو الذي لا يستبين أمره، أهو رجل أم أنثى، ويكون الزواج على خنثى باطلاً. 2ً - ألا تكون محرَّمة على الرجل تحريماً قاطعاً لا شبهة فيه: فلا ينعقد الزواج بالمحارم كالبنت والأخت والعمة والخالة، والمتزوجة بزوج آخر، والمعتدة، والمرأة المسلمة بغير المسلم، والزواج في كل هذه الحالات باطل. ثالثاً ـ شروط صيغة العقد - الإيجاب والقبول: الصيغة: هي الإيجاب والقبول، ويشترط فيها بالاتفاق أربعة شروط هي ما يأتي: 1 - اتحاد المجلس إذا كان العاقدان حاضرين: وهو أن يكون الإيجاب والقبول في مجلس واحد، بأن يتحد مجلس الإيجاب والقبول، لا مجلس المتعاقدين؛ لأن شرط الارتباط اتحاد الزمان، فجعل المجلس جامعاً لأطرافه تيسيراً على العاقدين.
فإن اختلف المجلس، فلا ينعقد العقد، فإذا قالت المرأة: زوجتك نفسي، أو قال الولي: زوجتك ابنتي، فقام الآخر عن المجلس قبل القبول، أو اشتغل بعمل يفيد انصرافه عن المجلس، ثم قال: قبلت بعدئذ، فإنه لا ينعقد العقد عند الحنفية. وهذا يدل على أن مجرد الوقوف بعد القعود يغير المجلس. وكذلك إذا انصرف العاقد الأول عن المجلس بعد الإيجاب، فقبل الآخر وهو في المجلس في غيبة الأول أوبعد عودته، لم ينعقد العقد. ويتغير المجلس عند الحنفية بالسير حال المشي أو الركوب على دابة بأكثر من خطوتين، كما يعد نوم العاقدين مضطجعين، لا جالسين، دليل الإعراض عن القبول. لكن لا يشترط الفور في القبول؛ فينعقد العقد وإن طال المجلس. وينعقد إن كان العاقدان على سفينة سائرة؛ لأن السفينة في حكم مكان واحد. والمعول عليه في الحقيقة في الحد الفاصل بين اتحاد المجلس واختلافه هوالعرف، فما يعتبر في العرف إعراضاً عن العقد أو فاصلاً بين الإيجاب والقبول يكون مغيراً لمجلس العقد، وما لا يعتبر فيه إعراضاً عن العقد أو فاصلاً بين الإيجاب والقبول لا يكون مغيراً للمجلس. وعند الجمهور (¬1): يشترط الفور بألا يفصل بين الإيجاب والقبول فاصل كثير (¬2)، وعبارة الشافعية: يشترط ألا يطول الفصل في لفظي العاقدين بين الإيجاب والقبول، فإن طال ضر؛ لأن طول الفصل يخرج القبول عن أن يكون جواباً عن الإيجاب. والفصل الطويل: هو ما أشعر بإعراضه عن القبول. ولا يضر الفصل اليسير لعدم إشعاره بالإعراض عن القبول. ويضر تخلل كلام أجنبي ¬
عن العقد، ولو يسيراً بين الإيجاب والقبول، وإن لم يتفرقا عن المجلس؛ لأن فيه إعراضاً عن القبول. وأما في حال غيبة أحد العاقدين عن الآخر، والتعاقد بطريق الكتابة أو الرسالة، فقال الحنفية: مجلس عقد الزواج: وهو مجلس قراءة الكتاب أمام الشهود، أو سماع رسالة الرسول بحضرة الشهود، فعندئذ يتحد المجلس؛ لأن الكتاب بمنزلة الخطاب من الكاتب، ولأن كلام الرسول كلام المرسل؛ لأنه ينقل عبارة المرسل، فكان قراءة الكتاب، وسماع قول الرسول، وكلام الكاتب معنى، وسماع قول المرسل معنى. فإن لم يقرأ الكتاب أو لم يسمع كلام الرسول لا ينعقد العقد عند أبي حنيفة ومحمد، لاشتراط الشهادة على شطري العقد. وإن قرأت المرأة الكتاب أو سمعت الرسالة أمام الشهود، ثم قامت من المجلس لقضاء مصلحة أخرى، أو اشتغلت بالحديث في شيء آخر أجنبي عن العقد، ثم قالت: زوجت نفسي من فلان، فلا ينعقد الزواج، لاختلاف المجلس. لكن لو أعادت المرأة قراءة الكتاب في مجلس آخر، فقبلت أمام الشهود، صح العقد، لبقاء الكتابة، أما لو أعاد الرسول الإيجاب في مجلس آخر، فقبلت، لم يصح؛ لأن رسالته انتهت أولاً بخلاف الكتابة لبقائها. 2 - توافق القبول مع الإيجاب ومطابقته له: يتحقق التوافق باتحاد القبول والإيجاب في محل العقد وفي مقدار المهر، فإذا تخالفا فإن كانت المخالفة في محل العقد، مثل قول أبي الفتاة: زوجتك خديجة، فيقول الرجل: قبلت زواج فاطمة، فلا ينعقد الزواج؛ لأن القبول انصرف إلى غير من وجد الإيجاب فيه، فلم يصح، كما لو ساومه بثوب، وأوجب العقد في غيره بغير علم المشتري (¬1). وإن كانت ¬
المخالفة في مقدار المهر، مثل: زوجتك ابنتي على ألف درهم، فقال الزوج: قبلت الزواج بثمانمائة، لا ينعقد العقد، إلا إذا كانت المخالفة لخير، بأن قال الزوج: قبلت بألف ومائة، فيصح العقد عند الحنفية. وسبب عدم انعقاد العقد في المخالفة بمقدار المهر، وإن لم يكن المهر ركناً من أركان العقد: هو أن المهر إذا ذكر في العقد، التحق بالإيجاب وصار جزءاً منه، فيلزم أن يأتي القبول على وفق الإيجاب، حتى ينعقد العقد. فإن لم يذكر المهر في العقد، أو صرح بأن لا مهر للمرأة، فلا يكون جزءاً من الإيجاب، ولكن يجب في هذه الحالة مهر المثل؛ لأن المهر في الزواج واجب بإيجاب الشرع، فلا يصح إخلاء الزواج منه. 3 - بقاء الموجب على إيجابه: يشترط عدم رجوع الموجب عن الإيجاب قبل قبول العاقد الآخر، فإن رجع بطل الإيجاب، ولم يجد القبول شيئاً يوافقه. ولا يلزم الموجب بالبقاء على إيجابه إلا إذا اتصل به القبول، كما في البيع، فلو وجد الإيجاب من أحد المتعاقدين، كان له أن يرجع قبل قبول الآخر؛ لأن كلاً من الإيجاب والقبول ركن واحد، فكان أحدهما بعض الركن، والمركب من شيئين لا وجود له بأحدهما. 4 - التنجيز في الحال: الزواج كالبيع يشترط فيه كونه في الحال، فلا يجوز في المذاهب الأربعة كونه مضافاً إلى المستقبل، كتزوجتك غداً، أو بعد غد، ولا معلقاً على شرط غير كائن، كتزوجتك إن قدم زيد، أو إن رضي أبي، أو إذا طلعت الشمس فقد زوجتك بنتي؛ لأن عقد الزواج من عقود التمليكات أو المعاوضات، وهي لا تقبل التعليق ولا الإضافة، ولأن الشارع وضع عقد الزواج
هل يثبت الخيار في عقد الزواج؟
ليفيد حكمه في الحال، والتعليق والإضافة يناقضان الحقيقة الشرعية (¬1). لكن يصح التعليق بشرط ماض كائن لا محالة، فينعقد العقد في الحال، كأن خطب شخص بنتاً لابنه، فقال أبوها: زوجتها قبلك من فلان، فكذبه، فقال: إن لم أكن زوجتها لفلان، فقد زوجتها لابنك، فقبل، ثم علم كذبه، انعقد العقد، لتعليقه بموجود، وكذا إذا وجد المعلق عليه في المجلس. ومثل: تزوجتك إن كان عمرك عشرين، وكانت في الواقع كذلك. ومثل: تزوجتك إن رضي أبي، وكان أبوها في المجلس فرضي، صح العقد. وذكر الشافعية: أنه لو قال الولي: زوجتك إن شاء الله، وقصد التعليق أو أطلق، لم يصح العقد، وإن قصد التبرك، أو أن كل شيء بمشيئة الله تعالى، صح. ولو قال: إن كان ما ولد لي من ولد أنثى فقد زوجتها، أو قال: إن كانت بنتي طلقت واعتدت، فقد زوجتها، فالمذهب بطلان الزواج في هذه الصور لوجود صورة التعليق. والحاصل أنه لا يجوز تعليق الزواج بشرط باتفاق المذاهب، لكن قال ابن القيم: «ونص الإمام أحمد على جواز تعليق النكاح بالشرط» (¬2) والبيع أولى بالجواز. لكن ذكر ابن قدامة أن تعليق النكاح على شرط يبطله (¬3). أما القانون فقد نص قانون الأحوال الشخصية السوري (م 13) على أنه: «لا ينعقد الزواج المضاف إلى المستقبل، ولا المعلق على شرط غير متحقق». هل يثبت الخيار في عقد الزواج؟ لا يثبت في الزواج خيار باتفاق أكثر ¬
مذاهب الفقهاء في الشروط المشترطة في الزواج
الفقهاء (¬1)، سواء في ذلك خيار المجلس وخيار الشرط؛ لأن الحاجة غير داعية إليه، فإنه لا يقع في الغالب إلا بعد ترو وتفكر، ولأن الزواج ليس بمعاوضة محضة، ولأن ثبوت الخيار يؤدي إلى فسخ الزواج، وفي فسخه بعد العقد ضرر بالمرأة، لكن أثبت المالكية خيار المجلس في الزواج إذا اشتُرِط (¬2). مذاهب الفقهاء في الشروط المشترطة في الزواج: الشروط في الزواج: هي ما يشترطه أحد الزوجين على الآخر مما له فيه غرض. ويراد بها الشروط المقترنة بالإيجاب أو القبول، أي أن الإيجاب يحصل ولكن يصاحبه شرط من الشروط. وللفقهاء تفصيلات فيها، نذكر رأي كل مذهب فيها على حدة. وهذا بخلاف حالة الإيجاب المعلق على شرط، فإن الإيجاب لا وجود له قبل وجود الشرط. 1 - مذهب الحنفية (¬3): أـ إن كان الشرط صحيحاً يلائم مقتضى العقد، ولايتنافى مع أحكام الشرع، وجب الوفاء به، كاشتراط المرأة أن يسكنها وحدها في منزل، لا مع أهله أو مع ضَرَّتها، أو ألا يسافر بها سفراً بعيداً إلا بإذن أهلها. أو تزوجا على مهر مسمى، وشرط لها شيئاً آخر، بأن تزوجها بألف على ألا يخرجها من بلدها، أو على ألا يتزوج عليها، فإن وفى بالشرط، فلها المهر المسمى؛ لأنه يصلح مهراً، وقد تم رضاها به، وإن لم يف بالشرط، بأن تزوج ¬
2 - مذهب المالكية
عليها، أو أخرجها، فلها مهر المثل؛ لأنه سمى لها شيئاً لها فيه نفع، فعند فواته يجب لها مهر المثل، لعدم رضاها به. ومثله الشرط الذي تأمر به الشريعة، كاشتراطها عليه أن يحسن معاملتها أو لا يخرجها إلى النوادي والمراقص ونحوها. قالوا: ومن الشروط الصحيحة عندهم: لو تزوجها على أن أمرها بيدها، صح. لكن لو قال: زوجني ابنتك على أن أمرك بيدك، لم يكن له الأمر؛ لأنه تفويض قبل النكاح. ب ـ وأن كان الشرط فاسداً، أي لا يلائم مقتضى العقد، أو لا تجيزه أحكام الشرع، فالعقد صحيح، ويبطل الشرط وحده، مثل اشتراط الخيار لأحد الزوجين أو لكل منهما أن يعدل عن الزواج في مدة معينة، وهذا بخلاف القاعدة العامة: وهي أن الشرط الفاسد في المعاوضات المالية كالبيع يفسدها. فإن ورد النهي عن الشرط، كاشتراط طلاق ضرتها، كره الوفاء به، لحديث «لا يحل لامرأة تسأل طلاق ضَرتها». 2 - مذهب المالكية (¬1): الشروط التي تقترن بعقد الزواج نوعان: شروط صحيحة، وشروط فاسدة. أما الشروط الصحيحة: فنوعان: مكروهة وغير مكروهة. فالشروط الصحيحة غير المكروهة: هي التي تتفق مع مقتضى العقد، كالإنفاق على المرأة أو حسن معاشرتها، أو أن تطيع الرجل أو ألا تخرج من البيت إلا بإذنه. ¬
ومنها اشتراط كون المرأة سليمة من العيوب التي لا تجيز فسخ الزواج، مثل ألا تكون عمياء أو عوراء أو صماء أو خرساء أو أن تكون بكراً أو بيضاء، ونحوها. والشروط الصحيحة المكروهة: هي التي لا تتعلق بالعقد، أو لا تنافي المقصود من العقد، وإنما فيها تضييق على الر جل، مثل شرط عدم إخراجها من بلدها، أو عدم السفر بها، أو عدم نقلها من مكان كذا، وشرط عدم التزوج عليها، ونحوها، ولا تلزم الزوج إلا أن يكون فيها يمين بعتق أو طلاق، فإن الشرط يلزمه. وأما الشروط الفاسدة: فهي التي تنافي أو تناقض مقتضى العقد أو المقصود من الزواج، مثل شرط ألا يقسم بينها وبين ضَرَّتها في المبيت، أو أن يُؤْثر عليها ضَرّتها أسبوعاً أو أقل أو أكثر تستقل بها عنها. وشرط المرأة عند زواجها بمحجور عليه أن تكون نفقتها على وليه: أبيه أو سيده، أو على نفسها أو أبيها فإنه شرط مناقض لمقصود الزواج، لأن الأصل أن نفقة الزوجة على زوجها، فشرط خلافه مضر. ومثل اشتراط الخيار في الزواج (¬1)، أو اشتراط ما يؤثر في جهالة المهر كأن يتزوجها على أن لها من النفقة كذا كل شهر؛ لأنه لا يدري إلى متى تستمر هذه النفقة. ومثل أن تشترط المرأ ة على الرجل أن يكون أمرها بيدها، تطلق نفسها متى شاءت، أو أن ينفق على ولدها من غيره، أو على أقاربها كأبيها أوأخيها، ونحوها. وحكم هذه الشروط: أنها تبطل العقد ويجب فسخه ما لم يدخل الرجل بالمرأة، فإن دخل بها مضى العقد، وألغي الشرط، وبطل المسمى، ووجب للمرأة مهر المثل. إلا أنه في مسألة جعل المرأة أمرها بيدها قالوا: ¬
3 - مذهب الشافعية
أـ إن علق أمر الطلاق بيدها على سبب: فإن كان السبب فعلاً يفعله الزوج فهو جائز لازم للزوج، مثل أن يشرط لها أنه متى ضربها أو سافر عنها، فأمرها بيدها أو بيد أبيها أو غيره، ومثله إن كان الالتزام على يمين بطلاق أو عتق كأن حلف ألا يتزوج عليها، على أن يحدد نوع الطلاق المفوض لها، أهو رجعي أو بائن، أو ثلاث، أو أي طلاق شاءت، فحينئذ يلزم الزوج بالشرط. ب ـ وإن كان سببه فعل غير الزوج لم ينفذ، ولم يلزم الزوج، والنكاح جائز. 3 - مذهب الشافعية (¬1): الشروط نوعان: صحيحة وفاسدة. أـ الشروط الصحيحة الواقعة في الزواج: هي التي وافق الشرط فيها مقتضى عقد النكاح، كشرط النفقة والقسم بين الزوجات، أو لم يوافق مقتضى النكاح ولكنه لم يتعلق به غرض، كشرط ألا تأكل إلا كذا. وحكمها: أن الشرط يلغو، أي لا تأثير له في الصورتين لانتفاء فائدته، ويصح النكاح والمهر، كما هو الحكم في البيع. ب ـ وأما الشروط الفاسدة: فهي التي تخالف مقتضى عقد النكاح ولم يخل بمقصوده الأصلي: وهو الوطء، كشرط ألا يتزوج عليها، أو ألا نفقة لها أو ألا يسافر بها، أوألا ينقلها من بلدها، وحكمها: أن الزواج يصح لعدم الإخلال بمقصوده وهو الوطء أو الاستمتاع، ويفسد الشرط لأنه يخالف مقتضى العقد، سواء أكان لها كالمثال الأول والثالث والرابع، أم عليها كالمثال الثاني، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل» (¬2)، ويفسد المهر أيضاً؛ لأن الشرط إن ¬
4 - مذهب الحنابلة
كان لها، فلم ترض بالمسمى وحده، وإن كان عليها فلم يرض الزوج ببدل المسمى إلا عند سلامة ما شرطه. فإن أخل الشرط بمقصود الزواج الأصلي: كأن شرط ألا يطأها الزوج أصلاً، أوألا يطأها إلا مرة واحدة مثلاً في السنة، أو شرطت المرأة ألا يطأها إلا ليلاً فقط أو إلا نهاراً فقط، أوشرط أن يطلقها ولو بعد الوطء، بطل الزواج؛ لأنه شرط ينافي مقصود العقد فأبطله. فإن شرط الزوج ألا يطأها ليلاً لم يبطل العقد؛ لأن الزوج يملك الوطء ليلاً ونهاراً وله أن يترك، فإن شرط ألا يطأها فقد شرط ترك ما له تركه، وأما المرأة فيستحق عليها الوطء ليلاً ونهاراً، فإذا اشترطت ألا يطأها فقد شرطت منع الزوج من حقه، وهو ينافي مقصود العقد، فبطل. وكذا لو شرط الرجل أنها لا ترثه، أو أنه لا يرثها، أو أنهما لا يتوارثان، أو أن النفقة على غير الزوج، بطل الزواج أيضاً. 4 - مذهب الحنابلة (¬1): الشروط عندهم كالشافعية: إما صحيحة أو فاسدة، وهي ثلاثة أنواع: النوع الأول ـ الشروط الصحيحة: وهي التي يقتضيها العقد أو لا يقتضيها العقد ولكن فيها منفعة لأحد العاقدين، ولم يرد في الشرع ما ينهى عنها ما دامت لا تخل بالمقصود من العقد، وحكمها: أنه يلزم الوفاء بها، لما فيها من منفعة وفائدة. مثل أن تشترط المرأة على الرجل أن ينفق عليها أو أن يحسن معاشرتها، أو ألا يتزوج عليها، أو ألا يخرجها من دارها أو بلدها، أو ألا يسافر بها. ¬
النوع الثاني ـ ما يبطل الشرط ويصح العقد
ومثل أن يشترط الرجل في المرأة أن تكون بكراً أو جميلة أو متعلمة أو خالية من العيوب التي لا يثبت فيها الخيارفي فسخ الزواج كالعمى والخرس والعرج ونحوها. ودليل لزوم الوفاء بهذه الشروط: قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج» (¬1) وحديث «المسلمون على شروطهم» (¬2)، وروى الأثرم بإسناده: «أن رجلاً تزوج امرأة، وشرط لها دارها، ثم أراد نقلها، فخاصموه إلى عمر، فقال: لها شرطها، فقال الرجل: إذن تطلقينا؟ فقال عمر: مقاطع الحقوق عند الشروط» ولأنه شرط لها فيه منفعة، ولا يمنع المقصود من الزواج، فكان لازماً، كما لو شرطت زيادة في المهر أو غير نقد البلد. وأما قوله عليه الصلاة والسلام: «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل» أي ليس في حكم الله وشرعه، وهذا مشروع. وأما الشروط غير الصحيحة: فهي التي ورد عن الشرع نهي عنها أو التي تنافي مقتضى العقد، وتشمل النوعين الثاني والثالث. النوع الثاني ـ ما يبطل الشرط ويصح العقد: مثل أن يشترط الرجل ألا مهر للمرأة، أو ألا ينفق عليها، أو إن أصدقها رجع عليها. أو تشترط المرأة على الرجل ألا يطأها أو يعزل عنها أو يقسم لها أقل من قَسمْ صاحبتها أو أكثر، أو لا يكون عندها في الجمعة إلا ليلة، أو شرط لها النهار دون الليل، أو شرط على المرأة أن تنفق عليه أو تعطيه شيئاً. ¬
النوع الثالث ـ ما يبطل الزواج من أصله
فهذه الشروط كلها باطلة في نفسها؛ لأنها تنافي مقتضى العقد، ولأنها تتضمن إسقاط حقوق تجب بالعقد قبل انعقاده، فلم يصح. ومن هذا النوع: إن شرطت عليه أن يطلق ضرتها، لم يصح الشرط، لنهي الشرع عنه، لما روى أبو هريرة قال: «نهى النبي صلّى الله عليه وسلم أن تشترط المرأة طلاق أختها» (¬1) وفي لفظ: «لا تسأل المرأة لتنكح» أو «لتكفئ ما في صحفتها أو إنائها، فإنما رزقها على الله» والنهي يقتضي فساد المنهي عنه، ولأنها شرطت عليه فسخ عقده، وإبطال حقه وحق امرأته، فلم يصح، كما لو اشترطت عليه فسخ بيعه. النوع الثالث ـ ما يبطل الزواج من أصله: مثل اشتراط تأقيت الزواج، وهو نكاح المتعة، أو أن يطلقها في وقت بعينه، أو يعلقه على الشرط، مثل أن يقول الولي: زوجتك إن رضيت أمها، أو فلان، أويشترط الخيار في الزواج لهما أو لأحدهما. هذه شروط باطلة في نفسها، ويبطل بها الزواج، ومنها أن يجعل صداقها تزويج امرأة أخرى، وهو نكاح الشغار. أما إن شرط الخيار في الصداق خاصة، فلا يفسد الزواج؛ لأن الزواج ينفرد عن ذكر الصداق. والخلاصة: أن الفقهاء اتفقوا على صحة الشروط التي تلائم مقتضى العقد، وعلى بطلان الشروط التي تنافي المقصود من الزواج أو تخالف أحكام الشريعة. واتفق الحنفية والمالكية والحنابلة على صحة الشروط التي يكون فيهاتحقيق وصف مرغوب فيه، أو خلو المرأة من عيب لا يثبت الخيار في فسخ الزواج. واختلفوا في الشروط التي لا تكون من مقتضى العقد، ولكنها لا تنافي حكماً من أحكام ¬
موقف القانون من شروط الانعقاد
الزواج، وفيها منفعة لأحد العاقدين، كاشتراط ألا يتزوج عليها أو ألا يسافر بها، أو ألا يخرجها من دارها أو بلدها ونحوها: فالحنابلة يقولون: إنها شروط صحيحة يلزم الوفاء بها. والحنفية يقولون: إنها شروط ملغاة، والعقد صحيح. والمالكية يقولون: إنها شروط مكروهة لا يلزم الوفاء بها، بل يستحب فقط. والشافعية يقولون: إنها شروط باطلة، ويصح الزواج بدونها. ورأي الحنابلة هو الراجح لدي، للأدلة السابقة التي ذكروها، لذا أخذ به القانون السوري. وأما تأثير الشرط الفاسد على العقد: فعند الحنفية: الشرط الفاسد لا يفسد العقد، وإنما يلغى الشرط وحده، ويصح العقد. والحنابلة يوافقون الحنفية فيما ذكر إلا في بعض الشروط فإنها تبطل العقد، منها توقيت العقد، واشتراط طلاق المرأة في وقت معين، واشتراط الخيار في فسخ الزواج في مدة معينة. وهذا هو النوع الثالث عندهم. وأما عند الشافعية: فإن الشرط الفاسد يفسد العقد إذا أخل بمقصود الزواج الأصلي، وإلا فسد الشرط وحده. لكن قال المالكية: يجب فسخ العقد ما دام الرجل لم يدخل بالمرأة، فإن دخل بها مضى العقد وألغي الشرط، وبطل المسمى، ووجب للمرأة مهر المثل. موقف القانون من شروط الانعقاد: نص القانون السوري (م 1/ 11) على أربعة شروط لانعقاد الزواج هي: 1 - أن يتفق الإيجاب والقبول من كل وجه. 2 - أن يتحد مجلس الإيجاب والقبول.
موقف القانون من شروط الزواج غير شروط الانعقاد
3 - أن يسمع كل من المتعاقدين كلام الآخر ويفهمه، وقد ذكر في شروط العاقدين. 4 - ألا يوجد من أحد الطرفين قبل القبول ما يبطل الإيجاب، بأن يرجع الموجب عن إيجابه قبل أن يقبل الطرف الآخر. ونصت الفقرة الثانية من هذه المادة على أنه: يبطل الإيجاب قبل القبول بزوال أهلية الموجب، وبكل ما يفيد الإعراض من أحد الطرفين. وهناك شرطان آخران للانعقاد، ذكر أحدهما في الأهلية، وذكر الآخر ضمناً في أنواع الزواج، وهما: 1 - أن يكون كل من العاقدين ممن تحققت فيه الأهلية الكاملة لعقد الزواج، وذلك بالعقل والبلوغ، فلا يصح عقد الزواج من مجنون، ولا صبي غير بالغ، وعدم صحة زواج المجنون متفق عليه بين الفقهاء، وأما غير البالغ فقد أخذ فيه القانون برأي ابن شبرمة وعثمان البتّي. 2 - أن يكون الزوج مسلماً بالنسبة إلى المسلمة: فلا ينعقد زواج المسلمة بغير المسلم، بل هو عقد باطل، ولا يترتب عليه أي أثر. موقف القانون من شروط الزواج غير شروط الانعقاد: نص قانون الأحوال الشخصية السوري (م 14) على شروط الزوج مراعياً فيها ما اتفق عليه الفقهاء، ومذهب الحنابلة بصفة خاصة، فقسم الشروط ثلاثة أقسام: 1 - شروط صحيحة يلزم الوفاء بها: وهي التي يكون فيها مصلحة مشروعة
للزوجة، ولا تمس حقوق غيرها، ولا تقيد حرية الزوج في عمله الخاص المشروع، مثل ألا يسافر بها أو ألا ينقلها من بلدها أو دارها. ويحق للزوجة فسخ الزواج إن لم ينفذ الشرط، وهذا مأخوذ من مذهب الحنابلة. 2 - شروط صحيحة لا يلزم الزوج تنفيذها قضاء، وهي ما يأتي من الحالات: أـ أن تشترط الزوجة ما يقيد حرية الزوج في عمله الخاص المشروع، كشرط ألا يسافر أو ألا يتوظف أو ألا يتزوج عليها. ب ـ أن تشترط ما يمس حقوق غيرها: كاشتراطها أن يطلق زوجته الأخرى. الشرط في هاتين الحالتين صحيح، لكن لا يلزم الزوج الوفاء به، فإن لم يف، كان للزوجة طلب فسخ الزواج. وهذا موافق لمذهب الحنابلة إلا في اشتراط تطليق الضرة، فالعقد صحيح والشرط باطل. 3 - شروط باطلة لا يحق الوفاء بها، ويكون العقد معها صحيحاً: وهي أن يقيد الزواج بقيد ينافي في نظامه الشرعي، كاشتراط عدم المهر، أو إنفاق الزوجة على الزوج، أو ينافي مقاصده الشرعية، كاشتراط عدم الاستمتاع الزوجي، أو يكون الشرط محظوراً شرعاً، كاشتراط أن تسافر المرأة وحدها. وهذا موافق للمذاهب بالاتفاق.
شروط صحة الزواج
شروط صحة الزواج: يشترط لصحة الزواج عشرة شروط، بعضها متفق عليه، وبعضها مختلف فيه (¬1). الأول ـ المحلية الفرعية، والثاني ـ التأبيد في صيغة العقد، والثالث ـ الشهادة، والرابع ـ الرضا والاختيار، والخامس ـ تعيين الزوجين، والسادس ـ عدم الإحرام بالحج أو العمرة، والسابع ـ أن يكون بصداق، والثامن ـ عدم التواطؤ على الكتمان، والتاسع ـ ألا يكون أحد الزوجين أو كلاهما في مرض مخوف، والعاشر ـ الولي. الشرط الأول ـ المحلية الفرعية: ألا تكون المرأة محرمة على الرجل تحريماً مؤقتاً، أو تحريماً فيه شبهة، أو خلاف بين الفقهاء، كتزويج المعتدة من طلاق بائن، وتزوج أخت المطلقة التي لا تزال في العدة، والجمع بين اثنتين كلتاهما محرم للأخرى، كتزوج العمة على ابنة أخيها، والخالة على ابنة أختها، فإذا لم تتحقق هذه المحلية الفرعية كان العقد فاسداً عند الحنفية. أما المحلية الأصلية: وهي ألا تكون المرأة محرمة على الرجل تحريماً مؤبداً، كالأخت والبنت والعمة والخالة، فهي شرط لانعقاد الزواج، فإذا لم تتحقق هذه المحلية، كان العقد باطلاً بالاتفاق، ولا يترتب عليه أي أثر من آثار الزواج. ¬
الشرط الثاني ـ أن تكون صيغة الإيجاب والقبول مؤبدة غير مؤقتة
وعلى هذا إذا كان التحريم قطعياً، كان سبباً من أسباب البطلان، وإذا كان التحريم ظنياً، كان سبباً من أسباب الفساد عند الحنفية. الزواج في حال انعدام المحلية الفرعية فاسد، يترتب عليه بالدخول بعض الآثار، لكن يحرم الدخول بالمرأة في حال فساد العقد، ويجب فيه التفريق بين الرجل والمرأة جبراً إن لم يتفرقا اختياراً. وإذا حصل دخول بعد هذا الزواج الفاسد بالرغم من تحريمه وكونه معصية، ووجوب التفريق، فتترتب عليه بعض الآثار، فيجب فيه للمرأة أقل الأمرين من المهر المسمى ومهر المثل، وتجب عليها العدة، ويثبت به نسب الولد إن حدث حمل، ولكن لا يثبت به حق التوارث بين الزوجين. الشرط الثاني ـ أن تكون صيغة الإيجاب والقبول مؤبدة غير مؤقتة: فإن أقِّت الزواج بمدة بطل، بأن يكون بصيغة التمتع مثل: تمتعت بك إلى شهر كذا، فتقول: قبلت، أو بالتأقيت إلى مدة معلومة أو مجهولة، مثل: تزوجتك إلى شهر أو سنة كذا، أو مدة إقامتي في هذا البلد. والنوع الأول يعرف ب نكاح المتعة، والثاني يعرف بال نكاح المؤقت. لكن قال المالكية: نكاح المتعة أوالنكاح لأجل سواء عين الأجل أم لا، يعاقب فيه الزوجان، ولا يحدان على المذهب، ويفسخ بلا طلاق، والمضرّ بيان ذلك في العقد للمرأة أو وليها، وأما لو أضمر الزوج في نفسه أن يتزوجها ما دام في هذه البلدة أو مدة سنة ثم يفارقها، فلا يضر، ولو فهمت المرأة من حاله ذلك (¬1). وقال الحنفية أيضاً: من تزوج امرأة بنية أن يطلقها إذا مضى سنة لا يكون متعة (¬2).والمعتمد عند الحنابلة خلافاً لابن قدامة: أن نية الطلاق بعد مدة تبطل العقد كالتصريح بذلك. ¬
المذاهب الأربعة
اتفقت المذاهب الأربعة وجماهير الصحابة على أن زواج المتعة ونحوه حرام باطل، وكونه باطلاً عند الحنفية بالرغم من أن هذا الشرط من شروط الصحة؛ لأنه منصوص على حكمه في السنة، إلا أن الإمام زفر اعتبر الزواج المؤقت صحيحاً وشرط التأقيت فاسداً أو باطلاً، أي لا عبرة بالتأقيت ويكون الزواج صحيحاً مؤبداً؛ لأن النكاح لا يبطل بالشروط الفاسدة. ورد عليه بأن العقد المؤقت في معنى المتعة، والعبرة في العقود للمعاني لا للألفاظ. وقال الشيعة الإمامية (¬1): يجوز زواج المتعة أو النكاح المنقطع بالمرأة المسلمة أو الكتابية، ويكره بالزانية، بشرط ذكر المهر، وتحديد الأجل أي المدة، وينعقد بأحد الألفاظ الثلاثة: وهي زوجتك، وأنكحتك، ومتعتك. ولا يشترط الشهود ولا الولي لهذا العقد. وأحكامه هي: 1 - الإخلال بذكر المهر مع ذكر الأجل يبطل العقد، وذكر المهر من دون الأجل يقلبه دائماً. 2 - لا حكم للشروط قبل العقد، ويلزم لو ذكرت فيه. 3 - يجوز اشتراط إتيانها ليلاً أو نهاراً وألا يطأها في الفرج، والعزل من دون إذنها، ويلحق الولد بالأب وإن عزل، لكن لو نفاه لم يحتج إلى اللعان. 4 - لا يقع بالمتعة طلاق بإجماع الشيعة، ولا لعان على الأظهر، ويقع الظهار على تردد. 5 - لا يثبت بالمتعة ميراث بين الزوجين، وأما الولد فإنه يرثهما ويرثانه من غير خلاف. ¬
الأدلة
6 - إذا انقضى الأجل المتفق عليه، فالعدة حيضتان على الأشهر. وعدة غير الحائض خمسة وأربعون يوماً، وعدة الوفاة لو مات عنها في أشبه الروايتين أربعة أشهر وعشرة أيام. 7 - لا يصح تجديد العقد قبل انقضاء الأجل، ولو أراده وهبها ما بقي من المدة واستأنف. الأدلة: أدلة الإمامية: استدل الإمامية على مشروعية النكاح المنقطع أو المتعة بما يلي: 1ً - بقول الله تعالى: {فما استمتعتم به منهن، فآتوهن أجورهن فريضة} [النساء:24/ 4] فإنه عبر بالاستمتاع دون الزواج، وبالأجور دون المهور، مما يدل على جواز المتعة، فالاستمتاع والتمتع بمعنى واحد، وإيتاء الأجر بعد الاستمتاع يكون في عقد الإجارة، والمتعة هو عقد الإجارة على منفعة البضع. أما المهر فإنه يجب بنفس عقد النكاح قبل الاستمتاع. 2ً - ثبت في السنة جواز المتعة في بعض الغزوات منها عام أوطاس، وفي عمرة القضاء، وفي خيبر، وعام الفتح، وفي تبوك (¬1)، قال ابن مسعود: «كنا نغزو مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليس معنا نساء، فقلنا: ألا نختصي؟ فنهانا عن ذلك، ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل، ثم قرأ عبد الله (أي ابن مسعود): {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم} [المائدة:87/ 5] (¬2)، الآية. ¬
أجيب عن هذه الأدلة
وفي صحيح مسلم عن جابر: «كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم ... وأبي بكر، حتى نهى عمر في شأن عمرو بن حريث» (¬1). وكان يقول بجواز المتعة ابن عباس وجماعة من السلف، منهم بعض الصحابة (أسماء بنت أبي بكر، وجابر وابن مسعود ومعاوية وعمرو بن حريث، وأبو سعيد وسلمة ابنا أمية بن خلف) ومنهم بعض التابعين (طاوس وعطاء، وسعيد بن جبير، وسائر فقهاء مكة ومنهم ابن جريج). وأجاز المتعة الإمام المهدي، وحكاه عن الباقر والصادق والإمامية (¬2). وأما الشيعة الزيدية فيقولون كالجمهور بتحريم نكاح المتعة، ويؤكدون أن ابن عباس رجع عن تحليله (¬3). وأجيب عن هذه الأدلة بما يأتي (¬4): 1 - إن المراد بالاستمتاع في آية {فما استمتعتم} [النساء:24/ 4]: النكاح؛ لأنه هو المذكور في أول الآية وآخرها، حيث بدئت بقول تعالى: {ولا تنكحوا مانكح آباؤكم} [النساء:22/ 4] وختمت بقوله سبحانه: {ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات} [النساء:25/ 4] فدل على أن المراد بالاستمتاع هنا ما كان عن طريق النكاح، وليس المراد به المتعة المحرمة شرعاً. وأما التعبير بالأجر: فإن المهر في النكاح يسمى في اللغة أجراً، لقوله تعالى: {فانكحوهن بإذن أهلهن، وآتوهن أجورهن بالمعروف} [النساء:25/ 4] أي ¬
مهورهن، وقوله سبحانه: {يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن} [الأحزاب:50/ 33] أي مهورهن. وأما الأمر بإيتاء الأجر بعد الاستمتاع، والمهر يؤخذ قبل الاستمتاع، فهذا على طريقة في اللغة من تقديم وتأخير، والتقدير: فآتوهن أجورهن إذا استمتعتم بهن، أي إذا أردتم الاستمتاع بهن، مثل قوله تعالى: {إذا طلقتم النساء فطلقوهن} [الطلاق:1/ 65] أي إذا أردتم الطلاق، ومثل {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} [المائدة:6/ 5] أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة. 2 - وأما الإذن بالمتعة في السنة النبوية في بعض الغزوات، فكان للضرورة القاهرة في الحرب، وبسبب العُزْبة في حال السفر، ثم حرمها الرسول صلّى الله عليه وسلم تحريماً أبدياً إلى يوم القيامة، بدليل الأحاديث الكثيرة، منها: أـ «يا أيها الناس، إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء، فليخل سبيله، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً» (¬1). ب ـ قال سلمة بن الأكوع: «رخص لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم في متعة النساء عام أوطاس ثلاثة أيام، ثم نهى عنها» (¬2). جـ ـ قال سَبْرة بن معبد: «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم في حجة الوداع نهى عن نكاح المتعة» (¬3). ¬
د ـ عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عن نكاح المتعة وعن لحوم الحُمر الأهلية زمن خيبر (¬1). وأما ابن عباس: فكان يجيز المتعة للمضطر فقط، روى عنه سعيد بن جبير أنه قال: سبحان الله، ما بهذا أفتيت، وإنما هي كالميتة لا تحل إلا للمضطر. وأما الشيعة فقد توسعوا فيها وجعلوا الحكم عاماً للمضطر وغيره، وللمقيم والمسافر. ومع ذلك فقد أنكر عليه الصحابة، مما يجعل رأيه شاذاً تفرد به، فقد أنكر عليه علي رضي الله عنه قائلاً له: إنك امرؤ تائه (¬2)؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن لحوم الحُمر الإنسية، وأنكر عليه عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، روى مسلم عنه أنه قام بمكة فقال: «إن إناساً أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم يفتون بالمتعة ـ يعرِّض برجل هو عبد الله بن العباس ـ فناداه ابن عباس، فقال له: إنك لجِلْف (¬3) جاف، فلعمري، لقد كانت المتعة تفعل في عهد أمير المتقين ـ أي رسول الله صلّى الله عليه وسلم ـ فقال له ابن الزبير: فجرب نفسك، فوالله لو فعلتها لأرجمنك بأحجارك». ثم نقل المحدثون عن ابن عباس أنه رجع عن قوله، روى الترمذي عنه أنه قال: «إنما كانت المتعة في أول الإسلام، كان الرجل يقدم البلدة ليس له فيها معرفة، فيتزوج المرأة بقدر مايرى أنه يقيم، فتحفظ له متاعه، وتصلح له شأنه، حتى نزلت هذه الآية: {إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم} [المؤمنون: ¬
6/ 23]، قال ابن عباس: فكل فرج سواهما حرام». وروى البيهقي أيضاً وأبو عوانة في صحيحه رجوع ابن عباس (¬1). والقول برجوعه هو الأصح لدى كثير من العلماء، ويؤكده إجماع الصحابة على التحريم المؤبد، ومن المستبعد أن يخالفهم، روى الحازمي في الناسخ والمنسوخ من حديث جابر بن عبد الله قال: «خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك، حتى إذا كنا عند العقبة مما يلي الشام، جاءت نسوة، فذكرنا تمتعنا، وهن تطفن في رحالنا، فجاءنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فنظر إليهن، وقال: من هؤلاء النسوة؟ فقلنا: يارسول الله، نسوة تمتعنا منهن، قال: فغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى احمرَّت وجنتاه، وتمعَّر وجهه، وقام فينا خطيباً، فحمد لله وأثنى عليه، ثم نهى عن المتعة، فتوادعنا يومئذ الرجال والنساء، ولم نعد، ولا نعود لها أبداً، فبها سميت يومئذ: ثنية الوداع» (¬2). وروى أبو عوانة عن ابن جريج أنه قال في البصرة: اشهدوا أني قد رجعت عن المتعة، بعد أن حدثهم فيها ثمانية عشرة حديثاً أنه لا بأس بها (¬3). كل هذا يدل على نسخ إباحة المتعة، ولعل ابن عباس ومن وافقه من الصحابة والتابعين لم يبلغه الدليل الناسخ. فإذا ثبت النسخ وجب المصير إليه، أو يقال: إن إباحة المتعة كانت في مرتبة العفو التي لم يتعلق بها الحكم كالخمر قبل تحريمها، ثم ورد النص القاطع بالتحريم. ¬
أدلة الجمهور
أدلة الجمهور: استدل الجمهور على تحريم نكاح المتعة بالقرآن والسنة والإجماع والمعقول: 1ً - أما القرآن: فقوله تعالى: {والذين هم لفروجهم حافظون، إلا على أزواجهم، أو ماملكت أيمانهم، فإنهم غير ملومين، فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون} [المؤمنون:5/ 23 - 6] هذه الآىة حرمت الاستمتاع بالنساء إلا من طريقين: الزواج وملك اليمين، وليست المتعة زواجاً صحيحاً، ولا ملك يمين، فتكون محرمة، ودليل أنها ليست زواجاً أنها ترتفع من غير طلاق، ولا نفقة فيها، ولا يثبت بها التوارث. 2ً - وأما السنة: فالأحاديث الكثيرة السابقة المتفق عليها التي ذكرتها عن علي وسَبْرة الجهني وسلمة بن الأكوع وغيرهم رضي الله عنهم، والمتضمنة النهي الصريح عن نكاح المتعة عام خيبر، وبعد فتح مكة بخمسة عشر يوماً، وفي حجة الوداع. 3ً - وأما الإجماع: فقد أجمعت الأمة إلا الإمامية على الامتناع عن زواج المتعة، ولو كان جائراً لأفتوا به. قال ابن المنذر: جاء عن الأوائل الرخصة فيها، أي في المتعة، ولا أعلم اليوم أحداً يجيزها، إلا بعض الرافضة، ولا معنى لقول يخالف كتاب الله وسنة رسوله. وقال القاضي عياض: ثم وقع الإجماع من جميع العلماء على تحريمها، إلا الروافض (¬1). 4ً - أما المعقول: فإن الزواج إنما شرع مؤبداً لأغراض ومقاصد اجتماعية، مثل سكن النفس وإنجاب الأولاد وتكوين الأسرة، وليس في المتعة إلا قضاء الشهوة بنحو مؤقت، فهو كالزنا تماماً، فلا معنى لتحريمه مع إباحة المتعة. ¬
الشرط الثالث ـ الشهادة
وبه يتبين رجحان أدلة الجمهور والقول بتحريم المتعة وبطلان زواجها وبطلان الزواج المؤقت، وهذا ما يتقبله المنطق وروح الشريعة، ولا يمكن لأي إنسان متجرد محايد إلا إنكار المتعة والامتنا ع عنها نهائياً. الشرط الثالث ـ الشهادة: الكلام عن هذا الشرط في أربعة مواضع: آراء الفقهاء في اشتراط الشهادة على الزواج، وقت الشهادة، حكمتها، شروط الشهود. أولاً ـ آراء الفقهاء في اشتراط الشهادة: اتفقت المذاهب الأربعة (¬1) على أن الشهادة شرط في صحة الزواج، فلا يصح بلا شهادة اثنين غير الولي، لقوله صلّى الله عليه وسلم فيما روته عائشة: «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل» (¬2) وروى الدارقطني حديثاً عن عائشة أيضاً: «لا بد في النكاح من أربعة: الولي، والزوج، والشاهدين» وروى الترمذي عن ابن عباس من قوله عليه الصلاة والسلام: «البغايا: اللاتي يَنْكحن أنفسهن بغير بينة» (¬3). ولأن في الشهادة حفاظاً على حقوق الزوجة والولد، لئلا يجحده أبوه، فيضيع نسبه، وفيها درء التهمة عن الزوجين، وبيان خطورة الزواج وأهميته. نكاح السر: تأكيداً لشرط الشهادة قال المالكية (¬4): يفسخ نكاح السر (وهو ¬
الذي يوصي فيه الزوج الشهود بكتمه عن امرأته، أو عن جماعة ولو أهل منزل) بطلقة بائنة إن دخل الزوجان، كما يتعين فسخ النكاح بدخول الزوجين بلا إشهاد، ويحدان معاً حد الزنا جلداً أو رجماً إن حدث وطء وأقرَّا به، أو ثبت الوطء بأربعة شهود كالزنا، ولا يعذران بجهل. ولكن لا يجب الحد عليهما إن فشا النكاح وظهر بنحو ضرب دُفّ أو وليمة، أو بشاهد واحد غير الولي، أو بشاهدين فاسقين ونحو ذلك للشبهة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ادرءوا الحدود بالشبهات» (¬1). وقال الحنابلة: لا يبطل العقد بتواص بكتمانه، فلو كتمه ولي وشهود وزوجان، صح وكره (¬2). وهناك قول شاذ لابن أبي ليلى وأبي ثور وأبي بكر الأصم: لا تشترط الشهادة في الزواج ولا تلزم؛ لأن الآيات الواردة في شأن الزواج لا تشترط الإشهاد، مثل {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} [النساء:3/ 4] {وأنكحوا الأيامى منكم} [النور:32/ 24] فيعمل بها على إطلاقها، والأحاديث الواردة لا تصلح مقيدة. وهذا هو مذهب الشيعة الإمامية (¬3)، فإنهم قالوا: يستحب الإعلان والإظهار في النكاح الدائم والإشهاد، وليس الإشهاد شرطاً في صحة العقد عند علمائنا أجمع. ¬
ثانيا ـ وقت الشهادة
وهذا القول باطل لا يعول عليه؛ لأن أحاديث الإشهاد على الزواج مشهورة، فيصح أن يقيد بها مطلق الكتاب. ثانياً ـ وقت الشهادة: يرى الجمهور غير المالكية: أن الشهادة تلزم حين إجراء العقد، ليسمع الشهود الإيجاب والقبول عند صدورهما من المتعاقدين. فإن تم العقد بدون الشهادة وقع فاسداً، للحديث السابق: «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل» وظاهره عند النكاح، وبه تتحقق حكمة الشهادة، ولأن الشهادة ـ كما قال الحنفية ـ شرط ركن العقد، فيشترط وجودها عند الركن. ويرى المالكية: أن الشهادة شرط لصحة الزواج، سواء أكانت عند إبرام العقد، أم بعد العقد وقبل الدخول، ويستحب فقط كونها عند العقد، فإن لم تصح الشهادة وقت العقد أو قبل الدخول، كان العقد فاسداً، والدخول بالمرأة معصية، ويتعين فسخه كما بينت، فالشهادة عندهم شرط في جواز الدخول بالمرأة، لا في صحة العقد، وهذا محل الخلاف بين المالكية وغيرهم. ثالثاً ـ حكمة الإشهاد: الحكمة من اشتراط الإشهاد على الزواج بيان خطورته وأهميته، وإظهار أمره بين الناس لدفع الظِّنة والتهمة عن الزوجين. ولأن بالشهادة على الزواج التمييز بين الحلال والحرام، فشأن الحلال الإظهار، وشأن الحرام التستر عليه عادة. ويتحقق بالشهادة التوثق لأمر الزواج والاحتياط لإثباته عند الحاجة إليه.
رابعا ـ شروط الشهود
لهذا كله ندب الشرع إلى إعلان النكاح والدعوة إلى وليمته، فقال صلّى الله عليه وسلم: «أعلنوا النكاح» «أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالغِربال» أي الدُّف، «أعلنوا هذا النكاح، واجعلوه في المساجد، واضربوا عليه بالدفوف، وليولم أحدكم ولو بشاة، فإذا خطب أحدكم امرأة وقد خَضِب بالسواد، فليُعْلمها لا يَغرُّها» (¬1). رابعاً ـ شروط الشهود: ينبغي توافر أوصاف معينة في الشهود وهي أولاً ـ أن يكونوا أهلاً لتحمل الشهادة وذلك بالبلوغ والعقل، وثانياً ـ أن يتحقق بحضورهم معنى الإعلان، وثالثاً ـ أن يكونوا أهلاً لتكريم الزواج بحضورهم. أما الأهلية: فتشترط في الشهود على الزواج بالاتفاق الأهلية الكاملة، وسماع كلام العاقدين وفهم المراد منهم، وتكون شروط الشهود هي ما يأتي: 1ً - العقل: فلا تصح شهادة المجنون على عقد الزواج، إذ لا تتحقق الغاية من الشهادة وهي الإعلان وإثبات الزواج في المستقبل عند الجحود والإنكار. 2ً - البلوغ: فلا تصح شهادة الصبي ولو كان مميزاً، لأنه لا يتحقق بحضور الصبيان الإعلان والتكريم، ولا يتناسب حضورهم مع خطورة الزواج. وهذان الشرطان متفق عليهما بين الفقهاء، ويمكن جمعهما بشرط واحد وهو كون الشاهدين مكلفين، واختلفوا في شروط أخرى بحسب المقصود من الشهادة، أهو الإعلان فقط كما قال الحنفية، أم صيانة العقد من الجحود والإنكار كما قال الشافعية. ¬
3ً - التعدد: شرط باتفاق الفقهاء، فلا ينعقد النكاح بشاهد واحد، للحديث السابق: «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل». وذكر الحنفية (¬1): أن من أمر رجلاً بأن يزوج ابنته الصغيرة فزوجها والأب حاضر بشهادة رجل واحد سواهما، جاز النكاح؛ لأن الأب يجعل مباشراً للعقد لاتحاد المجلس، ويكون الوكيل سفيراً ومعبراً، فيبقى المزوج شاهداً. وإن كان الأب غائباً لم يجز الزواج؛ لأن المجلس مختلف، فلا يمكن أن يجعل الأب مباشراً. وإذا زوج الأب ابنته البالغة بمحضر شاهد واحد: إن كانت حاضرة جاز، وإن كانت غائبة لم يجز. 4ً - الذكورة: شرط عند الجمهور غير الحنفية، بأن يكون الشاهدان رجلين، فلا يصح الزواج بشهادة النساء وحدهن ولا بشهادة رجل وامرأتين، لخطورة الزواج وأهميته، بخلاف الشهادة في الأموال والمعاملات المالية، قال الزهري: «مضت السنّة ألا تجوز شهادة النساء في الحدود، ولا في النكاح، ولا في الطلاق» (¬2) ولأنه عقد ليس بمال، ولا يقصد منه المال، ويحضره الرجال في غالب الأحوال، فلا يثبت بشهادة النساء كالحدود. وقال الحنفية: تجوز شهادة رجل وامرأتين في عقد الزواج، كالشهادة في الأموال؛ لأن المرأة أهل لتحمل الشهادة وأدائها، وإنما لم تقبل شهادتها في الحدود والقصاص فللشبهة فيها بسبب احتمال النسيان والغفلة وعدم التثبت، والحدود تدرأ بالشبهات. ¬
5ً - الحرية: شرط عند الجمهور غير الحنابلة، بأن يكون الشاهدان حرين، فلا يصح الزواج بشهادة عبدين، لخطورة عقد الزواج، ولأن العبد لا ولاية له على نفسه، ولا شهادة له لعدم الولاية، فلا تكون له ولاية على غيره، والشهادة من قبيل الولايات. وقال الحنابلة: ينعقد الزواج بشهادة عبدين؛ لأن شهادة العبيد مقبولة عندهم في سائر الحقوق، ولم يثبت نفيها في كتاب أو سنة أو إجماع، قال أنس بن مالك: ما علمت أحداً رد شهادة العبد، والله يقبلها على الأمم يوم القيامة، فكيف لا تقبل هنا؟ وتقبل روايته في الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلم إذا كان عدلاً ثقة، فكيف لا تقبل فيما دون ذلك؟ والمعول عليه في الشهادة الثقة بخبر الشاهد، فإذا كان العبد ثقة عدلاً فتقبل شهادته. 6ً - العدالة ولو ظاهرة: أي الاستقامة واتباع تعاليم الدين، ولو في الظاهر بأن يكون مستور الحال غير مجاهر بالفسق والانحراف. وهي شرط عند الجمهور في أرجح الروايتين عن أحمد، وفي الصحيح عند الشافعية، فلا يصح الزواج بشهادة الفاسق، للحديث السابق: «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل» ولأن الشهادة من باب الكرامة لتكريم الزواج وإظهار شأنه، والفاسق من أهل الإهانة فلا يكرم العقد به، وهذا هو الراجح. وقال الحنفية: العدالة ليست بشرط في الشهود، فيصح العقد بشهادة العدول وغير العدول من الفساق؛ لأن هذه الشهادة تحمّل، فصحت من الفاسق كسائر التحملات، وهو من أهل الولاية فيكون من أهل الشهادة. وهذا رأي الشيعة
الإمامية أيضاً؛ لأن الشهادة عندهم ليست شرطاً لصحة العقد، بل هي مندوب إليها (¬1). 7ً - الإسلام: شرط بالاتفاق، بأن يكون الشاهدان مسلمين يقيناً، ولا يكفي مستور الإسلام، واشتراطه إذا كان الزوجان مسلمين، واكتفى الحنفية بهذا الشرط إذا كانت الزوجة مسلمة. فإن تزوج مسلم ذمية بشهادة ذميين صح عندهم؛ لأن شهادة الكتابي على مثله جائزة، ولا يصح عند غيرهم؛ لأن الزوج مسلم، ولا بد من معرفة الزواج في أوساط المسلمين. والسبب في اشتراط إسلام الشهود في نكاح المسلمين: أن لهذا العقد خطورة واعتباراً دينياً، فلا بد من أن يشهده مسلم، لينشر خبره بين المسلمين. وأما إن كان الزوجان غير مسلمين، فتقبل شهادة الكتابيين عند الحنفية. 8ً - البصر: شرط عند الشافعية في الأصح، فلا تقبل شهادة الأعمى؛ لأن الأقوال لا تثبت إلا بالمعاينة كالسماع، وهو لا يقدر على التمييز بين المدعي والمدعى عليه. وليس البصر بشرط عند الجمهور، فتصح شهادة الأعمى إذا سمع كلام العاقدين وميز صوتهما على وجه لا يشك فيهما؛ لأنه أهل للشهادة، وهذه شهادة على قول، فتصح كما تصح في المعاملات. 9ً - سماع الشهود كلام العاقدين وفهم المراد منه: شرط عند أكثر الفقهاء، فلا ينعقد بشهادة نائمين أو أصمين؛ لأن الغرض من الشهادة لا يتحقق بأمثالهما. ¬
موقف القانون من الشهادة
كذلك لا يصح بشهادة السكران الذي لا يعي ما يسمع ولا يتذكره بعد الصحو. ولا يصح أيضاً بشهادة غير عربي في عقد بالعربية إذا كان لا يعرف اللغة العربية؛ لأن القصد من الشهادة فهم كلام العاقدين، وأداء الشهادة عند اللزوم والاختلاف. وهذا هو المذهب الراجح عند الحنفية. ولا يصح الزواج بشهادة الله ورسوله، بل قيل: إنه يكفر؛ لأنه اعتقد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم عالم الغيب. هذا ولا يشترط في الشهود أن يكونوا ممن لا ترد شهادتهم للزوجين في القضاء، فيصح الزواج بشهادة ابني الزوجين أوابني أحدهما إلا عند الحنابلة فلا يصح، وبشهادة عدويهما؛ لأن الولد والعدو من أهل الشهادة. ويصح بشهادة الحواشي والأعمام إذا كان الولي عند غير الحنفية غيرهم، فالولي عند الجمهور شرط كالشهود، والشهود غير الولي. وقد وضع الحنفية ضابطاً لمن تقبل شهادته في الزواج ومن لا تقبل، فقالوا: كل من صلح أن يكون ولياً في الزواج بولاية نفسه (¬1)، صلح أن يكون شاهداً فيه. وكما يشترط الإشهاد على صحة الزواج، يستحب أيضاً عند الجمهور غير الحنفية على رضا المرأة بالزواج، بأن قالت: رضيت أو أذنت فيه، حيث يعتبر رضاها بأن كانت غير مجبرة، وذلك احتياطاً ليؤمن إنكارها. موقف القانون من الشهادة: أخذ قانون الأحوال الشخصية السوري (م12) ¬
الشرط الرابع ـ الرضا والاختيار من العاقدين أو عدم الإكراه
بمذهب الحنفية في الشهادة، فنص على أنه: «يشترط في صحة عقد الزواج حضور شاهدين رجلين، أو رجل وامرأتين، مسلمين عاقلين بالغين، سامعين الإيجاب والقبول، فاهمين المقصود بهما»، أي أن هذا في الزواج بين مسلمين، أما بين كتابيين فيصح بشهادة شاهدين من أهل الكتاب، ولو كانا مخالفين لدين الزوجة، كشهادة نصرانيين على الزواج بيهودية. الشرط الرابع ـ الرضا والاختيار من العاقدين أو عدم الإكراه: هو شرط عند الجمهور غير الحنفية، فلا يصح الزواج بغير رضا العاقدين، فإن أكره أحدهما على الزواج بالقتل أو بالضرب الشديد أو بالحبس المديد، كان العقد فاسداً، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (¬1). وأخرج النسائي عن عائشة: «أن فتاة ـ هي الخنساء ابنة خِدَام الأنصارية ـ دخلت عليها، فقالت: إن أبي زوجني من ابن أخيه يرفع بي خسيسته (¬2)، وأنا كارهة، قالت: اجلسي حتى يأتي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأخبرته، فأرسل إلى أبيها، فدعاه، فجعل الأمر إليها، فقالت: يا رسول الله، قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن أعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء» (¬3) والمراد بنفي الأمر عن الآباء نفي التزويج. فدل الحديثان على أن الرضا شرط لصحة الزواج، والإكراه يعدم الرضا، فلا يصح معه الزواج. وهذا هو الراجح؛ لأن التراضي أصل في العقود، والعقد للزوجين، فاعتبر تراضيهما به كالبيع. وقال الحنفية: حقيقة الرضا ليس شرطاً لصحة النكاح، فيصح الزواج ومثله ¬
الشرط الخامس ـ تعيين الزوجين
الطلاق مع الإكراه والهزل؛ لأن المستكره قاصد عقد الزواج، لكنه غير راض بالحكم الذي يترتب عليه، فهو مثل الهازل، والهزل لا يمنع صحة الزواج، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «ثلاث جِدهن جد، وهَزْلهن جِد: النكاح، والطلاق، والرجعة» (¬1). لكن هذا القياس يصادم الثابت في السنة. الشرط الخامس ـ تعيين الزوجين: ذكر الشافعية والحنابلة هذا الشرط، فلا يصح العقد إلا على زوجين معينين؛ لأن المقصود في النكاح أعيانهما أو التعيين، فلم يصح بدون تعيينهما، فلو قال الولي: زوجتك ابنتي، لم يصح حتى يعينها بالاسم أو بالصفة أو بالإشارة، فإن سماها باسم يخصها، أو وصفها بما تتميز به عن غيرها، بأن تكون الصفة لا يشركها فيها غيرها من أخواتها، كبنتي الكبرى أو الصغرى أو الوسطى أو البيضاء ونحوه، أوأشار إليها بأن قال: هذه، صح العقد، ولو سماها الولي في حال الإشارة، بغير اسمها، أو لم يكن له إلا بنت واحدة صح أيضاً؛ لأن مع التعيين بالإشارة لا حكم للاسم، فلو قال: زوجتك بنتي فاطمة هذه، وأشار إلى خديجة، فيصح العقد على خديجة؛ لأن الإشارة أقوى. وفي حال انفرادها عنده لا جهالة؛ لأن عدم التعيين إنما جاء من التعدد، ولا تعدد هنا. فإن حدث خطأ في الإيجاب والقبول بأن نوى الولي البنت الكبيرة، ونوى الزوج البنت الصغيرة، لم يصح العقد، كما تقدم؛ لأن الإيجاب في امرأة، والقبول في أخرى. ¬
الشرط السادس ـ عدم الإحرام بالحج أو العمرة من أحد الزوجين أو الولي
الشرط السادس ـ عدم الإحرام بالحج أو العمرة من أحد الزوجين أو الولي: هو شرط عند الجمهور غير الحنفية، فلا يصح الزواج إذا كان أحد العاقدين محرماً بحج أو عمرة، ولايجوز نكاح المحرم ولا إنكاحه لقوله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه عثمان: «لايَنْكح المُحْرِم، ولايُنْكح» (¬1) وفي رواية لمسلم: «ولا يخطُب» أي لنفسه أو لغيره. فهذا نهي صريح للمحرم بحج أو عمرة أن يتزوج أو يزوج غيره، والنهي يدل على فساد المنهي عنه، ولأن الإحرام انقطاع للعبادة، والزواج سبيل إلى المتعة، فيتنافى مع الإحرام، فيمنع أثناءه. وأضاف المالكية أنه يفسخ وإن دخل الزوج وولدت، وفسخه بغير طلاق. وقال الحنفية: ليس هذا شرطاً لصحة الزواج، فيصح مع الإحرام، سواء أكان المحرم هو الزوج أم الزوجة أم الولي، أي يجوز نكاح المحرم وإنكاحه، بدليل أن النبي صلّى الله عليه وسلم فيما رواه ابن عباس تزوج ميمونة بنت الحارث، وهو محرم (¬2). والحق رجحان الرأي الأول، لورود رواية أخرى من طرق شتى عن ميمونة نفسها: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال» (¬3) فإذا تعارض الخبران رجحت رواية الكثرة، فيكون الوهم إلى الواحد أقرب منه إلى الجماعة، وحديث عثمان صحيح في منع المحرم، فهو المعتمد. وقد تؤول حديث ابن عباس بأن معنى (وهو محرم) أي داخل في الحرم، أو في الأشهر الحرم (¬4). ¬
الشرط السابع ـ أن يكون الزواج بصداق
الشرط السابع ـ أن يكون الزواج بصداق: هذا الشرط والشرطان الآتيان بعده مما اشترطه المالكية، وهو أن يكون الزواج بصداق (مهر)، فإن لم يذكر حال العقد، فلا بد من ذكره عند الدخول، أو يتقرر صداق المثل بالدخول. الشرط عندهم وجود الصداق، فلا يصح الزواج بدونه، لكن لا يشترط ذكره عند العقد، بل يستحب فقط، لما فيه من اطمئنان النفس، ودفع توهم الاختلاف في المستقبل. فإن لم يذكر المهر حين العقد صح الزواج، ويسمى الزواج حينئذ زواج التفويض. زواج التفويض: هو عقد بلا ذكر ـ أي تسمية ـ مهر ولا إسقاطه (¬1)، وهو جائز عند المالكية، أما لو تزوج رجل امرأة، وتراضيا على الزواج بدون مهر، أو اشترطا عدم المهر أو سميا شيئاً لا يصلح مهراً كالخمر والخنزير، فلا يصح الزواج، ويجب فسخه قبل الدخول، وإن دخل الرجل بالمرأة ثبت العقد، ووجب للزوجة مهر المثل (¬2)، أي إن حدث الدخول على إسقاط المهر، فليس من التفويض، بل هو نكاح فاسد. وقال الجمهور (¬3): لا يفسد العقد بالزواج بدون مهر، أو باشتراط عدم المهر، أو بتسمية شيء لا يصلح مهراً؛ لأن المهر ليس ركناً في العقد ولا شرطاً له، بل هو حكم من أحكامه، فالخلل فيه لا تأثير له على العقد. وهذا هو الراجح، إذ ¬
الشرط الثامن ـ عدم تواطؤ الزوج مع الشهود على كتمان الزواج
لو كان المهر شرطاً في العقد لوجب ذكره حين العقد، وهو لا يجب أن يذكر حين العقد لكن يجب مهر المثل. لهذا كان زواج التفويض (وهوإخلاء النكاح عن المهر) صحيحاً بالاتفاق (¬1). الشرط الثامن ـ عدم تواطؤ الزوج مع الشهود على كتمان الزواج: هو شرط أيضاً عند المالكية، فإذا حدث التواطؤ بين الزوج والشهود على كتمان الزواج عن الناس أو عن جماعة، بطل الزواج. وهذا ما يعرف ـ كما تقدم ـ بنكاح السر: وهو ما أوصى فيه الزوج الشهود بكتمه عن زوجته أو عن جماعة، وأهل منزل، أو زوجة قديمة، إذا لم يكن الكتم خوفاً من ظالم أو نحوه. وحكمه: أنه يجب فسخه إلا إذا دخل بالمرأة. فإن كان الإيصاء للشهود بالكتمان من الولي فقط، أو الزوجة فقط، دون الزوج، أو اتفق الزوجان والولي على الكتم دون إيصاء الشهود، أو أوصى الزوج الولي والزوجة معاً، أو أحدهما على الكتم، لم يضر، ولم يبطل العقد (¬2). وقال الجمهور: ليس هذا شرطاً لصحة العقد، فلو اتفق الزوج مع الشهود على كتمان الزواج عن كل الناس أو عن بعضهم، لم يفسد العقد؛ لأن إعلان الزواج يتحقق بمجرد حضور الشاهدين. الشرط التاسع ـ ألا يكون أحد الزوجين مريضاً مرضاً مخوفاً: هو شرط أيضاً عند المالكية، فلا يصح نكاح المريض والمريضة المخوف ¬
الشرط العاشر ـ حضور الولي
عليهما، على المشهور، والمرض المخوف: هو ما يتوقع منه الموت عادة، ويفسخ الزواج إن وقع ولو بعد الدخول، إلا إن صح المريض قبل الفسخ، فإن لم يدخل الزوج فليس للمرأة صداق، وإن دخل فلها الصداق المسمى. ولو مات أحدهما قبل الفسخ ولو بعد الدخول لا يرثه الآخر؛ لأن سبب فساده إدخال وارث في التركة لم يكن موجوداً قبل المرض. لكن إن مات الزوج قبل فسخ الزواج بعد الدخول، فللزوجة الأقل من ثلث التركة ومن المسمى ومن مهر المثل؛ لأن الزواج في المرض المخوف تبرع، وتبرع المريض مرض الموت لا ينفذ إلا من الثلث (¬1). الشرط العاشر ـ حضور الولي: هو شرط عند الجمهور غير الحنفية، فلا يصح الزواج إلا بولي، لقوله تعالى: {فلا تعضُلوهن أن ينكحن أزواجهن} [البقرة:232/ 2] قال الشافعي: هي أصرح آية في اعتبار الولي، وإلا لما كان لعضله معنى. ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا نكاح إلا بولي» (¬2) وهو لنفي الحقيقة الشرعية، بدليل حديث عائشة: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها، فنكاحها باطل، باطل، باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له» (¬3). ولا يصح حمل الحديث الأول على نفي الكمال؛ لأن كلام الشارع محمول على الحقائق الشرعية، أي لا نكاح شرعي أو موجود في الشرع إلا بولي. ¬
ولا يفهم من الحديث الثاني صحة الزواج بإذن الولي؛ لأنه خرج مخرج الغالب، فلا مفهوم له؛ لأن الغالب أن المرأة إنما تزوج نفسها بغير إذن وليها. ويؤكده حديث ثالث: «لا تزوج المرأة ُ المرأة َ، ولا تزوج المرأة نفسها» (¬1) فإنه يدل على أن المرأة ليس لها ولاية في الإنكاح لنفسها ولا لغيرها، فلا عبارة لها في النكاح إيجاباً ولا قبولاً، فلا تزوج نفسها بإذن الولي ولا غيرها، ولا تزوج غيرها بولاية ولا بوكالة، ولا تقبل النكاح بولاية ولا وكالة. والخلاصة: أن الجمهور يقولون: لا ينعقد النكاح بعبارة النساء أصلاً، فلو زوجت امرأة نفسها، أو غيرها، أو وكلت غير وليها في تزويجها ولو بإذن وليها، لم يصح نكاحها لعدم وجود شرطه وهو الولي. وقال الحنفية في ظاهر الرواية عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله: للمرأة العاقلة البالغة تزويج نفسها وابنتها الصغيرة، وتتوكل عن الغير، ولكن لو وضعت نفسها عند غير كفء، فلأوليائها الاعتراض. وعبارتهم: ينعقد نكاح الحرة العاقلة البالغة برضاها وإن لم يعقد عليها ولي، بكراً كانت أم ثيباً، عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله في ظاهر الرواية، والولاية مندوبة مستحبة فقط. وعند محمد: ينعقد موقوفاً (¬2). ودليلهم من القرآن: إسناد النكاح إلى المرأة في آيات ثلاث هي: {فإن طلقها فلا تحل له مِنْ بَعْدُ حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة:230/ 2]، {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضُلوهن أن ينكحن أزواجهن} [البقرة:232/ 2] فالخطاب للأزواج، لا للأولياء كما قال الجمهور، وآية: {فإذا بلغن أجلهن فلا ¬
شروط النفاذ
جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف} [البقرة:234/ 2] هذه الآيات صريحة في أن زواج المرأة يصدر عنها. ودليلهم من السنة: حديث «الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر، وإذنها سكوتها» (¬1) وفي رواية «لا تنكح الأيم ـ التي فارقت زوجها بطلاق أو موت ـ حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن، قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال: أن تسكت» (¬2) الحديث صريح في جعل الحق للمرأة الثيب في زواجها، والبكر مثلها، ولكن نظراً لغلبة حيائها اكتفى الشرع باستئذانها بما يدل على رضاها، وليس معناه سلب حق مباشرتها العقد، بما لها من الأهلية العامة. وهناك رأي وسط للفقيه أبي ثور من الشافعية (¬3): وهو أنه لا بد في الزواج من رضا المرأة ووليها معاً، وليس لأحدهما أن يستقل بالزواج بدون إذن الآخر ورضاه، ومتى رضيا فلكل واحد إجراء العقد؛ لأن المرأة كاملة الأهلية في التصرفات. شروط النفاذ: اشترط الحنفية لنفاذ عقد الزواج وترتب آثاره عليه بالفعل بعد انعقاده صحيحاً الشروط الخمسة التالية (¬4): 1ً - أن يكون كل من الزوجين كامل الأهلية إذا تولى عقد الزواج بنفسه، أو ¬
بوكيل عنه، وكمال الأهلية بالعقل والبلوغ والحرية، فمتى كان كل من الزوجين عاقلاً بالغاً حراً، نفذ العقد وترتبت آثاره عليه، من حل الدخول ووجوب المهر وغيرهما، وقال محمد كما تقدم: إذا زوجت المرأة البالغة العاقلة نفسها بدون ولي، كان زواجها موقوفاً على إجازة الولي. أما إن باشر عقد الزواج صبي مميز أو عبد، فيتوقف العقد عند الحنفية والمالكية على إجازة الولي من أب ونحوه، أو سيد. وإن باشره مجنون أوغير مميز فلا ينعقد أصلاً. وعند الشافعية والحنابلة: لا تنعقد تصرفات العبد والصبي المميز وغير المميز أصلاً، بل هي باطلة. 2ً - أن يكون الزوج رشيداً، إذا تولى الزواج بنفسه: هذا شرط عند المالكية، فإن كان سفيهاً غير رشيد: وهو الذي لا يحسن التصرف في ماله، وتزوج بدون إذن الولي، توقف عقد زواجه عند المالكية على إجازة وليه (¬1). وقال الشافعية والحنابلة (¬2): الرشد شرط لصحة الزواج، فلو تزوج السفيه بغير إذن وليه، كان الزواج باطلاً؛ لأنه تصرف يجب به مال، وفي الزواج ودفع المهر والنفقة إتلاف للمال أو مظنة إتلافه. وقال الحنفية (¬3): ليس الرشد شرطاً لصحة الزواج ولا لنفاذه، فإن تزوج السفيه امرأة جاز زواجه؛ لأنه من حوائجه الأصلية وتصرفاته الشخصية، والحجر ¬
إنما هو على التصرفات المالية المحضة. والقاعدة عندهم: أن كل ما لا يؤثر فيه الهزل كالعتق والنكاح، لا يؤثر فيه الحجر، لكن لا يثبت للمرأة أكثر من مهر المثل إذا كان السفيه هو الزوج، ويثبت فيه مهر المثل على الأقل إذا كانت الزوجة هي السفيهة. 3ً - ألا يكون العاقد ولياً أبعد مع وجود الولي الأقرب المقدم عليه: شرط نفاذ عند الحنفية، فإن زوج الولي الأبعد مع وجود الأقرب منه، كان العقد موقوفاً على إجازة الولي الأقرب. وهو شرط صحة عند الشافعية والحنابلة (¬1)، فلا يصح زواج الولي الأبعد مع وجود الأقرب إلا إذا كان هناك مانع كالجنون واختلال النظر بهرم أو خَبَل (فساد في العقل)، والصغر، والحجر بسفه، والعضل (أي المنع من الزواج بغير حق). وقال المالكية (¬2): إن كان الولي الأقرب غير مجبر كالابن والأخ والجد والعم، كان العقد صحيحاً مكروهاً. وإن كان الأقرب ولياً مجبراً (وهو الأب) فسخ العقد أبداً، إلا إذا أجازه الولي الأقرب، وكان الذي تولاه مفوضاً إلىه الأمر بالبينة. 4ً - ألا يخالف الوكيل موكله فيما وكله به: فإذا وكل شخص غيره ليزوجه فتاة معينة أو بمهر معين، فزوجه فتاة غيرها، أوزوجه بمهر أكثر، لم ينفذ العقد، وكان موقوفاً على إجازة الموكل. فلو لم يعلم حتى دخل بقي الخيار له بين إجازته وفسخه، ويكون للمرأة عند الحنفية الأقل من المسمى ومهر المثل؛ لأن الموقوف كالفاسد. ¬
شروط اللزوم
5ً - ألا يكون العاقد فضولياً: والفضولي: هو من لا يكون له ولاية التزويج وقت العقد. وهو شرط نفاذ عند الحنفية والمالكية. فإذا زوج شخص امرأة لرجل وقبل عنه، دون ولاية ولا وكالة عنه وقت العقد، كان الزواج موقوفاً على إجازة الزوج عندهم. وأما عند الشافعية والحنابلة فتصرف الفضولي من بيع وزواج باطل. شروط اللزوم: معنى لزوم العقد: ألا يكون لأحد العاقدين أو لغيرهما حق فسخه بعد انعقاده، بأن يخلو العقد من الخيار. ويشترط للزوم الزواج أربعة شروط هي (¬1): 1ً - أن يكون الولي المزوج لفاقد الأهلية كالمجنون والمعتوه، أو ناقصها وهو الصغير والصغيرة: هو الأب أو الجد، وهو شرط عند أبي حنيفة ومحمد. فلو كان المزوج لهما غيرهما كالأخ والعم، كان لكل منهما حق فسخ العقد عند زوال المانع أي الإفاقة من الجنون أو العته، والبلوغ بعد الصغر، حتى ولو كان الزواج بالكفء وبمهر المثل (¬2)؛ لأن قرابة غير الأصل والفرع قرابة حواشي، فلا يساوون الأصل والفرع بالشفقة، فيقدر زواجهم بالمصلحة الظاهرة، ويعطى المتزوج خيار الفسخ. ودليل أبي حنيفة ومحمد: ما روي أن قدامة بن مظعون زوَّج بنت أخيه: ¬
عثمان بن مظعون، من عبد الله بن عمر رضي الله عنه، فخيرها رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد البلوغ، فاختارت نفسها، حتى روي أن ابن عمر قال: إنها انتزعت مني بعد ما ملكتها. وقال أبو يوسف: ليس هذا بشرط، ويلزم نكاح غير الأب والجد من الأولياء، فلا يثبت الخيار للمولى عليه؛ لأن هذا النكاح صدر من ولي، فيلزم، كما إذا صدر عن الأب والجد، لأن ولاية التزويج ولاية نظر في حق المولى عليه، وقد اجتهد الولي في تحقيق المصلحة، ونظر فيما هو الأولى والأصلح. فإذا زوج الحاكم فاقد الأهلية أو ناقصها، فلا خيار للمولى عليه في رأي أبي حنيفة خلافاً لمحمد؛ لأن ولاية الحاكم أعم من ولاية الأخ والعم؛ لأنه يملك التصرف في النفس والمال، فكانت ولايته شبيهة بولاية الأب والجد، وولايتهما ملزمة، فتلزم ولاية الحاكم. 2ً - أن يكون الزوج كفئاً للزوجة إذا زوجت المرأة الحرة البالغة العاقلة نفسها من غير رضا الأولياء بمهر مثلها، وكان لها ولي عاصب (¬1) لم يرض بهذا الزواج، فلهذا الولي طلب فسخ الزواج من القاضي. وهذا شرط عند الحنفية في ظاهر الرواية. وكذلك قال أئمة بقية المذاهب: الكفاءة في الزوج شرط للزوم الزواج، لا لصحته، فيصح النكاح مع فقدها، وهي حق للمرأة والأولياء كلهم القريب والبعيد، لتساويهم في لحوق العار بفقد الكفاءة، فلو زوجت المرأة بغير كفء، فلمن لم يرض بالنكاح الفسخ، فوراً أو تراخياً، سواء من المرأة أو الأولياء ¬
جميعهم؛ لأنه خيار لنقص في المعقود عليه كخيار البيع، ويملكه الأبعد من الأولياء مع رضا الأقرب منهم به، ومع رضا الزوجة، دفعاً لما يلحقه من لحوق العار. والدليل على أن الكفاءة شرط لزوم لا شرط صحة أنه صلّى الله عليه وسلم: «أمر فاطمة بنت قيس أن تنكح أسامة بن زيد مولاه، فنكحها بأمره» (¬1) وروت عائشة «أن أبا حذيفة ابن عقبة بن ربيعة تبنى سالماً، وأنكحه ابنة أخيه: الوليد بن عقبة، وهو مولى لامرأة من الأنصار» (¬2) وعن أبي حنظلة بن أبي سفيان الجمحي عن أمه قالت: «رأيت أخت عبد الرحمن بن عوف تحت بلال» (¬3). 3ً - أن يكون المهر بالغاً مهر المثل إذا زوجت الحرة العاقلة البالغة نفسها من غير كفء، بغير رضا الأولياء، وألا يقل عن مهر المثل إذا زوجت المرأة نفسها من كفء. وهذا عند أبي حنيفة، فللأولياء حق الاعتراض وطلب فسخ الزواج، إلا إذا قبل الزوج زيادة المهر إلى مهر المثل، فلا يكون للولي حينئذ حق الفسخ، وبناء عليه إما أن يزيد الزوج إلى مهر المثل أو يفرق بينهما. وعند أبي يوسف ومحمد: ليس هذا بشرط، ويلزم النكاح بدونه. 4ً - خلو الزوج عن عيب الجب والعنة عند عدم الرضا من الزوجة بهما. هذه هي شروط الزواج الشرعية، أما الشروط القانونية الموضوعة لإجراء عقد الزواج رسمياً ولسماع دعوى الزوجية، لمنع الناس من تزويج الصغار، ومحاولة ادعاء الزوجية زوراً، فهي مجرد قيود قانونية. ¬
خلاصة شروط الزواج في كل مذهب على حدة
خلاصة شروط الزواج في كل مذهب على حدة: الحنفية: للزو اج شروط في الصيغة وفي العاقدين وفي الشهود: أما شروط الصيغة: (وهي الإيجاب والقبول) فهي: 1 - أن تكون بألفاظ مخصوصة: وهي إما صريحة وإما كناية، فالصريحة: هي ما كانت بلفظ التزويج والإنكاح وما اشتق منهما، سواء بلفظ الماضي، أم بلفظ المضارع بقرينة تدل على الحال، لا طلب الوعد، أم بلفظ الأمر: زوجني. والكناية: هي التي تحتاج إلى نية وأن تقوم قرينة على هذه النية، وهي ألفاظ الهبة أو الصدقة أو التمليك أو الجعل، والبيع والشراء، مع نية معنى الزواج. ولا ينعقد بلفظ الإجارة والوصية، ولا بلفظ الإباحة والإحلال والإعارة والرهن والتمتع والإقالة والخلع. 2 - أن يكون الإيجاب والقبول في مجلس واحد. 3 - ألا يخالف القبول الإيجاب. 4 - أن تكون الصيغة مسموعة للعاقدين. 5 - ألا يكون اللفظ مؤقتاً بوقت كشهر، وهونكاح المتعة. وأما شروط العاقدين وهما الزوج والزوجة فهي: 1 - العقل: وهو شرط في انعقاد الزواج، فلا ينعقد زواج المجنون والصبي غير المميز. 2 - البلوغ والحرية وهما شرطان للنفاذ.
المالكية
3 - أن يضاف الزواج إلى المرأة أو إلى جزء يعبر به عن الكل كالرأس والرقبة. فلا ينعقد الزواج بقوله: زوجني نصفها أو يدها أو رجلها. وأما الشهادة: فهي شرط لصحة الزواج، وتكون بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين، ولو كانا محرمين بالنسك، وشروط الشهود خمسة: 1 - 3 - العقل والبلوغ والحرية: فلا يصح بشهادة مجنون أو صبي أو عبد. 4 - الإسلام في أنكحة المسلمين: فلا يصح زواج المسلمين بشهادة الذميين، إلا إذا كانت المرأة ذمية، والرجل مسلماً، فيصح زواجها بشهادة ذميين. وإذا كان الزوجان غير مسلمين صح الزواج بشهادة غير المسلمين، سواء أكان الشاهدان موافقين للزوجين في الملة أم مخالفين. 5 - أن يسمع الشهود كلام العاقدين معاً، فلا يصح بشهادة نائمين. وتصح شهادة الأخرس وفاقد النطق إذا كان يسمع ويفهم، ولا يشترط فهم الشهود معنى اللفظ بخصوصه، وإنما يشترط أن يعلموا أن هذا اللفظ ينعقد به الزواج. فإذا تزوج عربي بحضرة أعجميين، صح الزواج إذا عرفا أن الإيجاب والقبول ينعقد بهما الزواج، وينعقد بحضرة السكارى إذا كانا يعرفان أن هذا ينعقد به الزواج. ولا تشترط العدالة، فيصح الزواج بشهادة عدول أو غير عدول أو محدودين في القذف. ولا يشترط في الزواج اختيار العاقدين، فلو أكره أحدهما على النكاح انعقد، ومثله الطلاق والعتق؛ لأن هذه الثلاثة تنعقد في حال الجد والهزل. المالكية: يشترط في الصيغة ما يلي:
الزوجين
1 - أن تكون بألفاظ مخصوصة: وهي أن يقول الولي: زوجت أو أنكحت، أو يقول الزوج: زوجني فلانة. ويكفي في القبول أن يقول: قبلت أو رضيت أو نفذت أو أتممت. 2 - الفور: ألا يفصل بين الإيجاب والقبول فاصل طويل، ولا يضر الفاصل اليسير. 3 ـ ألا يكون اللفظ مؤقتاً بوقت: وهذا هو نكاح المتعة. 4 - ألا يكون مشتملاً على الخيار، أو على شرط يناقض العقد، ويشترط في الزواج أن يكون بصداق، فإن لم يذكر حال العقد، فلا بد من ذكره عند الدخول. وأن يكون الصداق مما يملك شرعاً، فلا يصح بخمر أو خنزير أو ميتة، أو مما لا يصح بيعه كالكلب أو كان جزء ضحية. وتشترط الشهادة، ولكن لا يلزم أن يحضر الشهود عند العقد، بل يندب ذلك فقط. ويشترط في الزوجين: الخلو من الموانع كالإحرام، وألا تكون المرأة زوجة للغير أو معتدة منه، وألا يكونا محرمين بنسب أو رضاع أو مصاهرة. ويشترط في الزوج لصحة الزواج أربعة شروط وهي: الإسلام في نكاح مسلمة، والعقل، والتمييز، وتحقق الذكورة، تحرزاً من الخنثى المشكل فإنه لا يَنْكح ولا يُنكَح. ويشترط في الزوج لاستقرار الزواج خمسة شروط وهي:
الشافعية
الحرية، والبلوغ، والرشد، والصحة، والكفاءة. وإذا أكره أحد الزوجين على الزواج، لم يلزم، وليس للمكرَه أن يجيزه؛ لأنه غير منعقد (¬1). الشافعية: اشترطوا شروطاً في الصيغة وفي الزوجين وفي الشهود: أما شروط الصيغة: فهي ثلاثة عشر شرطاً تشترط في العقود وهي ما يأتي: 1 - الخطاب: بأن يخاطب كل من العاقدين صاحبه. 2 - أن يكون الخطاب واقعاً على جملة المخاطب، فلا يصح على جزئه. 3 - أن يذكر المبتدئ بأحد شرطي العقد العوض والمعوض عنه كالثمن والمثمن. 4 - أن يقصد العاقد معنى اللفظ الذي ينطق به. فإن جرى على لسانه فلا يصح. 5 - ألا يتخلل الإيجاب والقبول كلام أجنبي. 6 - ألا يتخلل الإيجاب والقبول سكوت طويل: وهو ما أشعر بإعراضه عن القبول. 7 - ألا يتغير كلام البادئ قبل قبول الآخر. 8 - أن يكون كلام كل واحد من العاقدين مسموعاً لصاحبه ولمن يقرب منه من الحاضرين. فإن لم يسمعه من كان قريباً لا يكفي، وإن سمعه العاقد. ¬
شروط الزوج
9 - أن يتوافق القبول مع الإيجاب معنى. 10 - ألا يعلق الصيغة بشيء لا يقتضيه العقد، مثل إن شاء فلان أو إن شاء الله. 11 - ألا يؤقت كلامه بوقت. 12 - أن يكون القبول ممن وجه له الخطاب لا غيره. 13 - أن تستمر أهلية المتكلمين بالصيغة إلى أن يتم القبول، فلو جُنَّ أحدهما مثلاً قبل قبول الآخر بطل العقد. يظهر من هذه الشروط: أنه يشترط في الزواج عدم التعليق مثل: زوجتك ابنتي إن بعتني الأرض الفلانية. ويشترط فيه عدم التأقيت، مثل زوجيني نفسك مدة شهر، وهو نكاح المتعة. ويضاف إلى هذه الشروط: أن صيغة الزواج مقيدة بلفظي التزويج والإنكاح دون غيرهما، في الإيجاب والقبول. ولا بد من أن تكون الصيغة بلفظ الماضي، ولا يصح بلفظ المضارع؛ لأنه يحتمل الوعد ما لم يقل: الآن. ويصح العقد بالألفاظ المحرفة مثل: جوزتك موكلتي، حتى ولو لم تكن لغته على المعتمد، ويصح بلفظ الأمر: زوجني ابنتك، فيقول له: زوجتك، كما يصح بقول الولي: تزوج بنتي، فيقول له: تزوجت. وأما شروط الزوج: فهي أن يكون غير مَحْرم للمرأة، كأخ أو خال، من نسب أو رضاع أو مصاهرة. وأن يكون مختاراً غير مكره، وأن يكون معيناً فلا يصح نكاح المجهول، وألا يكون جاهلاً حِلَّ المرأة له، فلا يجوز أن يتقدم لنكاح امرأة وهو جاهل بحلها.
شروط الشهود
وأما شروط الزوجة: فهي ألا تكون محرماً للزوج، وأن تكون معينة، وأن تخلو من الموانع الشرعية كالمتزوجة والمعتدة. وأما شروط الشهود: فهي الحرية والذكورة والعدالة والسمع والبصر، وكون الشاهد غير ولي متعين في الزواج، فلا يصح الزواج بشهادة عبد أو امرأة أو فاسق أو أصم أو أعمى أو خنثى مشكل، أو ولي يباشر العقد، فلا يكون الولي شاهداً، كالزوج ووكيله، فلا تصح شهادته مع وجود وكيله. وينعقد النكاح بابني الزوجين وأبويهما وعدويهما لثبوت النكاح بهما، وبمستوري العدالة. والشهود والولي ركنان في عقد الزواج. الحنابلة: للزواج خمسة شروط: 1ً - تعيين الزوجين؛ لأن النكاح عقد معاوضة، أشبه تعيين المبيع في البيع، ولأن المقصود في النكاح التعيين، فلم يصح بدونه. ويشترط في الصيغة أن تكون بلفظ النكاح أو التزويج، لكن يكفي في القبول، كما قال المالكية، وخلافاً للشافعية أن يقول: قبلت أو رضيت، ولا يشترط فيه أن يقول: قبلت زواجها أو نكاحها. ولا يصح أن يتقدم القبول على الإيجاب، ويشترط الفور، فإن تأخر القبول عن الإيجاب حتى تفرقا أو تشاغلا بما يقطعه عرفاً فإنه لا يصح. ولا يشترط أن يكون اللفظ عربياً، فيصح بغير العربية من العاجز عن النطق بالعربية بشرط أن يؤدي معنى الإيجاب والقبول بلفظ التزويج أو النكاح. ولا يصح النكاح بالكتابة ولا بالإشارة إلا من الأخرس، فيصح منه بإشارته المفهمة.
المبحث الرابع ـ أنواع الزواج وحكم كل نوع
2ً - الرضا والاختيار من الزوجين أو من يقوم مقامهما، فإن لم يرضيا لم يصح النكاح، فلا يصح زواج المكره. 3ً - الولي: فلا يصح نكاح إلا بولي. 4ً - الشهادة على النكاح: فلا يصح إلا بشهادة ذكرين بالغين عاقلين عدلين ولو كانت عدالتهما ظاهراً، ولو رقيقين. وأن يكونا متكلمين مسلمين سميعين، فلا تصح بشهادة الأصم والكافر، وتصح شهادة الأعمى، وشهادة عدوي الزوجين، ويشترط أن يكونا من غير أصل الزوجين وفرعيهما، فلا تصح شهادة أبي الزوجة أو الزوج أو أبنائهما؛ لأن شهادتهما لا تقبل. 5ً - خلو الزوجين أوأحدهما من مانع المحرمية بنسب أو رضاع أو مصاهرة، أو مانع اختلاف الدين بأن يكون مسلماً وهي مجوسية ونحوه، أو كون المرأة في عدة ونحو ذلك، كأن يكون أحدهما محرماً بحج أو عمرة. المبحث الرابع ـ أنواع الزواج وحكم كل نوع: يتنوع الزواج بحسب اختلاف المذاهب في شروط الزواج، فهو عند الحنفية خمسة أنواع: وهي الزواج الصحيح اللازم، والصحيح غير اللازم، والموقوف، والفاسد، والباطل. وعند المالكية أربعة أنواع: وهي الزواج اللازم، وغير اللازم، والموقوف، والفاسد أو الباطل.
أنواع الزواج وحكمها في القانون
وعند الشافعية والحنابلة ثلاثة أنواع: وهي الزواج اللازم، وغير اللازم، والفاسد أو الباطل. وأما الزواج المكروه فهو بالاتفاق من أنواع الزواج الصحيح اللازم. والمقصود بالزواج اللازم: هو الذي استوفى أركانه وشروط صحته ونفاذه ولزومه. والزواج غير اللازم: هو ما استوفى أركانه وشروط صحته ونفاذه وفقد شرطاً من شروط اللزوم. والزواج الموقوف: هو الذي استكمل أركانه وشروط صحته، وفقد شرطاً من شروط النفاذ. والزواج الباطل عند الجمهور: هو ما فقد ركناً من أركانه أو شرطاً من شروط صحته. وأما عند الحنفية: فهو ما فقد ركناًمن أركانه أوشرطاً من شروط انعقاده. والزواج الفاسد عند الحنفية: هو ما استوفى أركانه وشروط انعقاده وتخلف فيه شرط من شروط الصحة. ولا فرق عند الجمهور بين الفاسد والباطل. والمقصود بحكم الزواج هنا: الأثر المترتب على العقد، تبعاً لاستيفاء أركانه وشرائطه الشرعية وعدم استيفائه، وأبين هنا حكم كل نوع من أنواع الزواج السابقة. أنواع الزواج وحكمها في القانون: نص قانون الأحوال الشخصية السوري على أنواع الزواج وحكم كل نوع منها. ففي المادة (47) نص على الزواج الصحيح: «إذا توافرت في عقد الزواج أركانه وسائر شرائط انعقاده، كان صحيحاً».
ونصت المادة (49) على آثار الزواج الصحيح وهي: «الزواج الصحيح النافذ تترتب علىه جميع آثاره من الحقوق الزوجية كالمهر ونفقة الزوجة ووجوب المتابعة وتوارث الزوجين، ومن حقوق الأسرة كنسب الأولاد وحرمة المصاهرة» أي أنه تثبت أحكام ستة بمجرد عقد الزواج الصحيح: وهي وجوب المهر، واستحقاق النفقة الزوجية، ومتابعة الزوجة لزوجها، واستحقاق الإرث، وثبوت نسب الأولاد من الأب، وحرمة المصاهرة. وفي المادة (50) نص على أثر الزواج الباطل: «الزواج الباطل لا يترتب عليه شيء من آثار الزواج الصحيح، ولو حصل فيه دخول». «ونصت المادة 2/ 48 على أن: زواج المسلمة بغير المسلم باطل». ونصت الفقرة (1) من هذه المادة على الزواج الفاسد: «كل زواج تم ركنه بالإيجاب والقبول واختل بعض شرائطه، فهو فاسد». ونصت المادة (51) على آثار الزواج الفاسد: 1 - الزواج الفاسد قبل الدخول في حكم الباطل. 2 - ويترتب على الوطء فيه النتائج التالية: أـ المهر في الحد الأقل من مهر المثل والمسمى. ب ـ نسب الأولاد بنتائجه المبينة في المادة (133) من هذا القانون. جـ ـ حرمة المصاهرة.
أحكام الزواج عند الفقهاء
د ـ عدة الفراق في حالتي المفارقة أو موت الزوج، ونفقة العدة دون التوارث بين الزوجين. 3 - تستحق الزوجة النفقة الزوجية مادامت جاهلة فساد النكاح. ونصت المادة (52) على حكم الزواج الموقوف قبل الإجازة: الزواج الموقوف حكمه قبل الإجازة كالفاسد. ولم ينص هذا القانون على أحكام الزواج غير اللازم، إلا ما ذكر في بحث الكفاءة، حيث نصت المادة (27) على أن للولي حق الفسخ إذا زوجت الكبيرة نفسها من غير كفء. ونصت المادة (30) على أن المرأة إذا حملت يسقط حق الفسخ لعدم الكفاءة. أحكام الزواج عند الفقهاء: حكم الزواج الصحيح اللازم: للزواج اللازم أو التام الذي استوفى أركانه وشروطه كلها آثار هي (¬1): 1 - حل استمتاع كل من الزوجين بالآخر على النحو المأذون فيه شرعا ً، ما لم يمنع منه مانع. والمأذون فيه شرعاً، ما لم يمنع منه مانع. والمأذون فيه ما يأتي: أـ حل الوطء في القبل لا الدبر: ولا يحل الوطء في حالة الحيض والنفاس، والإحرام، وفي الظهار قبل التكفير (إخراج الكفارة) لقوله سبحانه: {والذين هم ¬
لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم، فإنهم غير ملومين} [المؤمنون:23/ 5 - 6] ولقوله تعالى: {ويسألونك عن المحيض قل: هو أذىً فاعتزلوا النساء في المحيض، ولا تقربوهن حتى يطهرن} [البقرة:222/ 2] والنفاس أخو الحيض. وقوله عز وجل: {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} [البقرة:223/ 2] أي في أي وقت وكيفية شئتم في المكان المعروف وهو القبُل (¬1). وقول سبحانه: {والذين يظاهرون من نسائهم، ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا} [المجادلة:58/ 3]. وقوله صلّى الله عليه وسلم: «ملعون من أتى امرأة في دُبُرها» (¬2) «من أتى حائضاً أو امرأة في دبرها، أو كاهناً فصدَّقه، فقد كفر بما أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلم» (¬3) وقوله أيضاً: «واتقوا الله في النساء، فإنهن عندكم عوانٍ (¬4)، لا يملكن لأنفسهن شيئاً ... وإنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله عز وجل» (¬5) وكلمة الله المذكورة في كتابه العزيز: لفظة الإنكاح والتزويج. لكن لا تطلق المرأة بالوطء في دبرها، وإنما يحق لها طلب الطلاق من القاضي بسبب الأذى والضرر. ¬
ما يقتضيه وطء الحائض في القبل
ما يقتضيه وطء الحائض في القبل: يلاحظ أن الوطء في الدبر حرام في أثناء الحيض وغيره، ويسن لمن وطئ الحائض أو النفساء في قبلها إذا كان عامدا عالماً بالتحريم بالحيض أن يتصدق بدينار إن وطئها في إقبال الدم، وبنصف دينار إن وطئها في إدباره (¬1)، لخبر: «إذا واقع الرجل أهله، وهي حائض، إن كان دماً أحمر فليتصدق بدينار، وإن كان أصفر، فليتصدق بنصف دينار» (¬2). ب ـ حل النظر والمس من رأسها إلى قدميها في حال الحياة؛ لأن إحلال الوطء إحلال للمس والنظر من طريق الأولى. وأما بعد الموت فلا يحل له المس والنظر عند الحنفية، ويحل عند الجمهور. جـ ـ ملك المتعة: وهو اختصاص الزوج بمنافع بُضع الزوجة وسائر أعضائها استمتاعاً. وهو عوض عن المهر، والمهر على الرجل، فيكون هذا الحكم على الزوجة خاصاً بالزوج. 2 - ملك الحبس والقيد: أي صيرورة المرأة ممنوعة عن الخروج إلا بإذن الزوج، لقوله تعالى: {أسكنوهن} [الطلاق:65/ 6] والأمر بالإسكان نهي عن الخروج، وقوله عز وجل: {وقَرْن في بيوتكن} [الأحزاب:33/ 33] وقوله سبحانه: {لا تخرجوهن من بيوتهن، ولا يخرجن} [الطلاق:56/ 1]. 3 - وجوب المهر المسمى على الزوج للزوجة: فهو حكم أصلي للزواج لا وجود له بدونه شرعاً؛ لأن المهر عوض عن ملك المتعة. 4 - وجوب النفقة بأنواعها الثلاثة: وهي الطعام والكسوة والسكنى، مالم ¬
5 - ثبوت حرمة المصاهرة
تمتنع الزوجة عن طاعة زوجها بغير حق، فإن امتنعت سقطت نفقتها. ودليل الإلزام بالنفقة قوله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} [البقرة:2/ 233] وقوله تعالى: {لينفق ذو سعة من سعته، ومن قُدر عليه رزقه، فلينفق مما آتاه الله} [الطلاق:7/ 65] وقوله عز وجل: {أسكنوهن من حيث سكنتم من وُجْدكم} [الطلاق:65/ 6] والأمر بالإسكان أمر بالإنفاق؛ لأنها لا تمكَّن من الخروج للكسب، لكونها عاجزة بأصل الخلقة لضعف بنيتها. 5 - ثبوت حرمة المصاهرة: وهي حرمة الزوجة على أصول الزوج وفروعه، وحرمة أصول الزوجة وفروعها على الزوج، لكن تثبت الحرمة في بعض الحالات بنفس عقد الزواج، وفي بعضها يشترط الدخول. 6 - ثبوت نسب الأولاد من الزوج: بمجرد وجود الزواج في الظاهر، لقوله صلّى الله عليه وسلم «الولد للفراش وللعاهر الحجر» (¬1) وفي لفظ للبخاري: «لصاحب الفراش». 7 - ثبوت حق الإرث بين الزوجين: إذا مات أحد الزوجين أثناء الزوجية أو في العدة من طلاق رجعي، بالاتفاق، أو من طلاق بائن في مرض الموت عند الجمهور غير الشافعية، حتى ولو بعد العدة عند المالكية والحنابلة. والدليل قوله تعالى: {ولكم نصف ما ترك أزواجكم .. } [النساء:4/ 12] إلى قوله عز وجل: {ولهن الثمُن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين} [النساء:4/ 12]. ¬
8 - وجوب العدل بين النساء في حقوقهن عند التعدد
8 - وجوب العدل بين النساء في حقوقهن عند التعدد (¬1): إذا كان للرجل أكثر من امرأة، فعليه عند الجمهور غير الشافعية العدل بينهن في حقوقهن من البيتوتة والنفقة (المشروب والملبوس) والكسوة والسكنى، أي التسوية بينهن فيما ذكر. فقد ندب سبحانه وتعالى إلى نكاح الواحدة عند خوف ترك العدل في الزيادة، فدل على أن العدل بينهن في القَسْم (وهو توزيع الزمان ليلاً ونهاراً إلا لحاجة على زوجاته إن كن اثنتين فأكثر) والنفقة واجبة، قال تعالى: {فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة} [النساء:3/ 4] أي إن خفتم ألا تعدلوا في القسم والنفقة في نكاح المثنى والثلاث والرباع، فواحدة، وقال تعالى: {ذلك أدنى ألا تعولوا} [النساء:3/ 4] أي تجوروا، والجور حرام، فكان العدل واجباً ضرورة. وقالت عائشة: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقسم فيعدل ويقول: اللهم هذا قَسْمي فيما أملك، فلا تلُمني فيما تملك ولا أملك» (¬2) قال الترمذي: يعني به الحب والمودة، وأخرج البيهقي عن ابن عباس في قوله {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم} [النساء:4/ 129] قال: في الحب والجماع. وعن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من كانت له امرأتان، يميل لإحداهما على الأخرى، جاء يوم القيامة، يجرُّ أحد شقيه ساقطاً أو مائلاً» (¬3). والبداءة في القسم وفي مقدار الدور إلى الزوج، ويطوف إلى نسائه في ¬
حال المرض
منازلهم اقتداء برسول الله صلّى الله عليه وسلم، ويمنع جمع المرأتين مع الرجل في فراش واحد، وإن بدون وطء، فلو كان عمل الزوج ليلاً كالحارس، ذكر الشافعية أنه يقسم نهاراً، قال الحنفية: وهو حسن. حال المرض: والمريض في وجوب القسم عليه كالصحيح البالغ العاقل ولو مجبوباً؛ لأن «رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يسأل في مرضه الذي مات فيه: أين أنا غداً؟ أين أنا غداً؟ يريد يوم عائشة، فأذن له أزواجه يكون حيث شاء، فكان في بيت عائشة حتى مات عندها» (¬1). لكن قال المالكية: إن لم يقدر مريض على القسم لشدة مرضه، فعند من شاء منهن، بلا تعيين. نوع القسم: ولا يجب القسم في الوطء، وإنما في المبيت إلا إذا أراد إضرار امرأة، فيجب عليه ترك الضرر، فعماد القسم الليل، لقوله عز وجل: {وجعلنا الليل لباساً} [النبأ:78/ 10] قيل في التفسير: الإيواء إلى المساكن، ولأن النهار للمعيشة، والليل للسكون. لكن يستحب القسم في الاستمتاع؛ لأنه أكمل في العدل. القسم في السفر: قال الحنفية: لا قسم على الزوج إذا سافر، ولا يجب عليه أن يبيت عند الأخرى مقابل أيام السفر؛ لأن مدة السفر ضائعة، لكن الأفضل أن يقرع بينهن، فيخرج بمن خرجت قرعتها تطييباً لقلوبهن دفعاً لتهمة الميل عن نفسه، قالت عائشة: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج سفراً أقرع بين أزواجه، فأيتهن خرج سهمها، خرج بها معه» (¬2). ¬
أثر سفر المرأة على القسم
ورأى المالكية كالحنفية أن الزوج إذا أراد سفراً اختار منهن للسفر معه من شاء، إلا إذا أراد السفر في قُرْبة أي عبادة كحج، فيُقرع بينهما أو بينهن. والحاصل أن الحنفية والمالكية لا يوجبون القرعة؛ لأنها من باب الخطر والقمار. لكن الحنابلة والشافعية قالوا: إنه لا يجوز للزوج اصطحاب إحداهن معه بغير قرعة، فإذا أراد السفر أقرع بينهن، فمن خرجت عليها القرعة، سافر بها؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم: «كان إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه، فمن خرج سهمها خرج بها معه» (¬1). أثر سفر المرأة على القسم: إن سافرت المرأة بغير إذن الزوج، سقط حقها من القسم والنفقة؛ لأن القسم للأنس، والنفقة للتمكين من الاستمتاع، وقد منعت ذلك بالسفر. فإن سافرت بإذن الزوج، قال الشافعية في الجديد: إن كان لغرضه يقضي لها، وإن كان لغرضها لا يقضي. وكذلك قال الحنابلة: يسقط حق المرأة في القسم والنفقة إن سافرت بغير إذنه لحاجتها أوغيرها، أو امتنعت من المبيت عنده، أو سافرت بإذنه لحاجتها. ولا يسقط حقها من نفقة ولا قسم إن بعثها الزوج لحاجته، أو انتقلت من بلد إلى بلد بإذنه. وقالوا أيضاً: لو سافر الزوج عن المرأة لعذر وحاجة، سقط حقها من القسم والوطء، وإن طال سفره للعذر. هبة المرأة حقها: اتفق الفقهاء على أن للمرأة أن تهب حقها من القسم في جميع الزمان، وفي بعضه، لبعض ضرائرها، وعلى أنه إن رضيت بترك قسمها، جاز؛ لأنه حق ثبت لها، فلها أن تستوفي، ولها أن تترك، فقد ثبت أن سودة بنت زَمْعة وهبت يومها لعائشة، وكان النبي صلّى الله عليه وسلم يقسم لعائشة يومها ويوم سودة (¬2). ¬
حق البكر والثيب والجديدة والقديمة
ولكن لا تجوز الهبة بغير رضا الزوج، فإذا رضيت الواهبة ورضي الزوج، جاز بلا خلاف؛ لأن الحق لا يخرج عنهما. ولا يلزم الزوج الرضا بالهبة؛ لأنها لا تملك إسقاط حقه من الاستمتاع، فله أن يبيت عندها في ليلتها. وإذا أخذت الواهبة مالاً على ترك نوبتها، لم يجز أخذه، ويلزمها رده إلى من أخذته منه، وعلى الزوج أن يقضي لها زمن هبتها؛ لأنها تركته بشرط العوض، ولم يسلم العوض لها، فترجع بالمعوض؛ لأن هذا معاوضة القسم بالمال، فيكون في معنى البيع، ولا يجوز هذا البيع. حق البكر والثيب والجديدة والقديمة: قال الحنفية: البكر والثيب، والجديدة والقديمة، والمسلمة والكتابية سواء في القسم، لإطلاق الآيات، وهي قوله تعالى: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم، فلا تميلوا كل الميل} [النساء:129/ 4] أي لن تستطيعوا أن تعدلوا في المحبة، فلا تميلوا في القسم، كما قال ابن عباس. وقوله تعالى: {وعاشروهن بالمعروف} [النساء:19/ 4] وغايته القسم، وقوله تعالى: {فإن خفتم ألا تعدلوا} [النساء:3/ 4] ولإطلاق أحاديث النهي عن الميل وعدم القسم، ولأن القسم من حقوق الزواج، ولا تفاوت بين النساء في الحقوق. وأما ما روي من نحو: «للبكر سبع وللثيب ثلاث» فيحتمل أن المراد التفضيل في البداءة دون الزيادة، فوجب تقديم الدليل القطعي، وهو الآيات. وقال الجمهور: تختص وجوباً البكر الجديدة عند الزفاف بسبع ليال متوالية، بلا قضاء للباقيات. وتختص وجوباً الزوجة الثيب بثلاث ليال متوالية، بلا قضاء، ثم يقسم بعدئذ، لخبر ابن حبان في صحيحه: «سبع للبكر، وثلاث للثيب» (¬1)، ¬
9 - وجوب طاعة الزوجة لزوجها إذا دعاها إلى الفراش
وعن أبي قلابة عن أنس قال: «من السنة إذا تزوج البكر على الثيب، أقام عندها سبعاً، ثم قَسَم، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثاً، ثم قسم» قال أبو قلابة: «ولو شئتُ لقلت: إن أنساً رفعه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم» (¬1). 9 - وجوب طاعة الزوجة لزوجها إذا دعاها إلى الفراش، لقوله تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} [البقرة:228/ 2] قيل: لها المهر والنفقة وعليها أن تطيعه في نفسها، وتحفظ غيبته. وقد أمر الشرع في قوله تعالى: {فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن} [النساء:34/ 4] بتأديبهن بالهجر والضرب غير المبرح (غير المؤذي) عند عدم طاعتهن، ثم قال تعالى: {فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً} [النساء:34/ 4] فدل على لزوم إطاعتهن الأزواج. 10 - ولاية التأديب للزوج إذا لم تطعه فيما يلزم طاعته: بأن نشزت، أو خرجت بلا إذن، أو تركت حقوق الله كالطهارة والصلاة، أوأغلقت الباب دونه، أو خانته في نفسها أو ماله. ويبدأ بالترتيب بما يلي: الوعظ والنصح بالرفق واللين: وهوذكر ما يقتضي رجوعها عما ارتكبته من الأمر والنهي برفق، ثم الهجر والاعتزال وترك الجماع والمضاجعة، ثم الضرب غير المبرح ولا الشائن: وهو الضرب بالسواك ونحوه فقط. والدليل قوله تعالى: {واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع، واضربوهن} [النساء:34/ 4] فظاهر الآية، وإن كان بحرف الواو الموضوعة للجمع المطلق، لكن المراد منه الجمع على سبيل الترتيب، والواو تحتمل الترتيب. ¬
11 - المعاشرة بالمعروف من كف الأذى وإيفاء الحقوق وحسن المعاملة
فإن نفع الضرب، وإلا رفع الأمر، لبعث حكمين أحدهما من أهله، والآخر من أهلها، كما قال تعالى: {وإن خفتم شقاق بينهما، فابعثوا حكماً من أهله، وحكماً من أهلها، إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما} [النساء:35/ 4]. 11 - المعاشرة بالمعروف من كف الأذى وإيفاء الحقوق وحسن المعاملة: وهو أمر مندوب إليه، لقوله تعالى: {وعاشروهن بالمعروف} [النساء:19/ 4] ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي» (¬1) وقوله: «استوصوا بالنساء خيراً» (¬2) والمرأة أيضاً مندوبة إلى المعاشرة الجميلة مع زوجها بالإحسان، واللطف في الكلام، والقول المعروف الذي يطيب به نفس الزوج. ومن العشرة بالمعروف: بذل الحق من غير مطل، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «مَطْل الغني ظلم» (¬3). ومن العشرة الطيبة: ألا يجمع بين امرأتين في مسكن إلا برضاهما؛ لأنه ليس من العشرة بالمعروف، ولأنه يؤدي إلى الخصومة. ومنها ألا يطأ إحداهما بحضرة الأخرى؛ لأنه دناءة وسوء عشرة. ومنها ألا يستمتع بها إلا بالمعروف، فإن كانت نِضْو الخلق (هزيلة) ولم تحتمل الوطء، لم يجز وطؤها لما فيه من الإضرار. ¬
حكم الاستمتاع أو هل الوطء واجب؟
حكم الاستمتاع أو هل الوطء واجب؟ قال الحنفية (¬1): للزوجة أن تطالب زوجها بالوطء؛ لأن حله لها حقها، كما أن حلها له حقه، وإذا طالبته يجب على الزوج. وقال المالكية (¬2): الجماع واجب على الرجل للمرأة إذا انتفى العذر. وقال الشافعية (¬3): ولا يجب عليه الاستمتاع إلا مرة؛ لأنه حق له، فجاز له تركه كسكنى الدار المستأجرة، ولأن الداعي إلى الاستمتاع الشهوة والمحبة، فلا يمكن إيجابه، والمستحب ألا يعطلها، لقول رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص: «أتصوم النهار؟ قلت: نعم، قال: وتقوم الليل؟ قلت: نعم، قال: لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأمسّ النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» (¬4) ولأنه إذا عطلها لم يأمن الفساد ووقع الشقاق. وقال الحنابلة (¬5): يجب على الزوج أن يطأ الزوجة في كل أربعة أشهر مرة إن لم يكن عذر؛ لأنه لو لم يكن واجباً لم يصر باليمين (أي يمين الإيلاء) على تركه واجباً كسائر ما لا يجب، ولأن النكاح شرع لمصلحة الزوجين، ودفع الضرر عنهما، وهو مفض إلى دفع ضرر الشهوة من المرأة، كإفضائه إلى دفعه عن الرجل، فيكون الوطء حقاً لهما جميعاً، ولأنه لو لم يكن لها فيه حق لما وجب استئذانها في العزل. فإن أبى الرجل الوطء بعد انقضاء الأربعة الأشهر، أو أبى ¬
العزل
البيتوتة في ليلة من أربع ليال للحرة، حتى مضت الأربعة الأشهر بلا عذر لأحدهما، فرِّق بينهما بطلبهما، كمن حلف يمين الإيلاء، وكما لو منع النفقة وتعذرت عليها من قبله، ولو كان ذلك قبل الدخول بالمرأة. والخلاصة: أن الجمهور يوجبون الوطء على الرجل وإعفاف المرأة، والشافعية لا يوجبونه إلا مرة واحدة، والرأي الأول أرجح. العزل: وهو الإنزال خارج الفرج بعد النزع منه، لا مطلقاً. ومن المعاشرة الطيبة: ألا يعزل عن امرأته الحرة بغير إذنها، فيكره العزل بالاتفاق بغير رضاها؛ لأن الوطء عن إنزال سبب لحصول الولد، ولها في الولد حق، وبالعزل يفوت الولد (¬1). ودليل جواز العزل قول جابر: «كنا نعزل على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم والقرآن ينزل» (¬2) ولمسلم: «كنا نعزل على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فبلغه ذلك، فلم ينهنا». ودليل كراهية العزل: حديث جُذَامة بنت وهب الأسدية بلفظ: «حضرت رسول الله صلّى الله عليه وسلم في أناس، وهو يقول: لقد هممت أن أنهى عن الغيلة، فنظرت في الروم وفارس، فإذا هم يغيلون أولادهم، فلا يضر أولادهم شيئاً، ثم سألوه عن العزل، فقال: ذلك الوأد الخفي، وهي: وإذا الموءودة سئلت» (¬3). ¬
الإسقاط
وقال متأخرو الحنفية (¬1): يجوز العزل بغير إذن المرأة لعذر، كأن يكون في سفر بعيد، أو في دار الحرب، فخاف على الولد، أو كانت الزوجة سيئة الخلق ويريد فراقها، فخاف أن تحبل. الإسقاط: وقالوا أيضاً: يباح إسقاط الولد قبل أربعة أشهر، ولو بلا إذن الزوج. وقال المالكية (¬2): إذا قبض الرحم المني لم يجز التعرض له، وأشد من ذلك إذا تخلق، وأشد من ذلك إذا نفخ فيه الروح، فإنه قتل نفس إجماعاً. هذا ... وقد نصت المادة (49) من القانون السوري على أحكام الزواج الصحيح: «الزواج الصحيح النافذ تترتب عليه جميع آثاره من الحقوق الزوجية كالمهر ونفقة الزوجة ووجوب المتابعة وتوارث الزوجين، ومن حقوق الأسرة كنسب الأولاد وحرمة المصاهرة». حكم الزواج غير اللازم: حكم الزواج غير اللازم مثل حكم الزواج اللازم إلا أنه يثبت فيه الحق للزوج أو الزوجة بالفسخ، ويكون الزواج قابلاً للفسخ. حكم الزواج الموقوف: الزواج الموقوف مع كونه صحيحاً لا يترتب عليه أي أثر من آثار الزواج قبل إجازته ممن له حق الإجازة، فلا يحل فيه الدخول بالزوجة، ولا تجب فيه نفقة ¬
حكم الزواج الفاسد وأنواعه عند الحنفية
ولا طاعة، ولا يثبت به حق التوارث بموت أحد الزوجين. فإن أجيز صار نافذاً وترتبت عليه أحكام الزواج اللازم، عملاً بالقاعدة الفقهية: (الإجازة اللاحقة كالوكالة السابقة). ومثاله نكاح الفضولي: الذي يعقد لغيره من غير ولاية تامة عليه ولا وكالة عنه. ومثل تزوج الصغير والصغيرة المميزين بدون إذن الولي. وقال محمد: تزوج العاقلة بنفسها أو بوكيلها من غير إذن وليها يكون موقوفاً. وإن حصل دخول قبل الإجازة، كان معصية، ولكن تترتب عليه عند الحنفية آثار الزواج الفاسد الآتية، فيسقط الحد ويثبت النسب، ويجب الأقل من المسمى ومهر المثل، لكن لا عدة في زواج موقوف قبل الإجازة، ولا في باطل. وقد نص القانون السوري (م 52) على أحكام هذا النوع: «الزواج الموقوف حكمه قبل الإجازة كالفاسد». حكم الزواج الفاسد وأنواعه عند الحنفية (¬1): الزواج الفاسد عند الحنفية: هو مافقد شرطاً من شروط الصحة، وأنواعه: هي الزواج بغير شهود، والزواج المؤقت، وجمع خمس في عقد، والجمع بين المرأة وأختها أو عمتها أو خالتها، وزواج امرأة الغير بلا علم بأنها متزوجة، ونكاح المحارم مع العلم بعدم الحل: فاسد عند أبي حنيفة، وباطل عند الصاحبين، وهو الراجح. وليس للزواج الفاسد حكم قبل الدخول، فلا يترتب عليه شيء من آثار الزوجية، فلا يحل فيه الدخول بالمرأة، ولا يجب فيه للمرأة مهر ولا نفقة، ولا تجب فيه العدة، ولا تثبت به حرمة المصاهرة، ولا يثبت به النسب، ولا التوارث. ¬
ويجب على الزوجين أن يتفرقا بأنفسهما، وإلا رفع الأمر إلى القاضي ليحكم بالتفريق بينهما، ويجوز فيه دعوى الحسبة لإزالة المنكر من غير أن يكون للمدعي مصلحة شخصية، ويثبت لكل واحد منهما فسخه، ولو بغير حضور صاحبه، دخل بها أو لا في الأصح، خروجاً عن المعصية، وهذا لا ينافي وجوب التفريق بينهما من قبل القاضي. وإذا حصل دخول بالمرأة، كان الدخول معصية، ووجب التفريق بينهما، ولكن لا يقام عليهما حد الزنا، وإنما يعزرهما القاضي بمايراه زاجراً لهما، لوجود شبهة العقد، والحدود تدرأ بالشبهات. لكن يجب الحد في الدخول بالمحارم عند الصاحبين، ورأيهما هو الراجح؛ لأن التزوج في كل وطء حرام على التأبيد لايوجب شبهة، وما ليس بحرام على التأبيد كالمحرم بالصهرية كالأخت والعمة والنكاح بغير شهود، يكون العقد فيه شبهة. ولكن لو وطئها بعد التفريق يلزمه الحد، ولو دخلته شبهة. وكذلك يجب الحد بالدخول في نكاح منكوحة الغير ومعتدته، مع العلم بالحرمة، لكونه زنا. وبالرغم من كون الدخول في الزواج الفاسد معصية، فإنه عند الحنفية تترتب عليه ـ أي بالوطء في القبل لا بغيره كالخلوة (¬1) ـ الأحكام التالية: 1 - وجوب المهر: يجب فيه ولو تكرر الوطء عند جمهور الحنفية ما عدا زفرالأقل من مهر المثل ومن المسمى، فإن لم يكن المهر مسمى في العقد، وجب مهر المثل مهما بلغ، لفساد التسمية. ووجوب المهر في الزواج الفاسد وإن كان في ¬
الأصل لا يجب لأنه ليس بنكاح حقيقة، إلا أنه قد وجب بسبب الدخول، والقاعدة الفقهية: (كل وطء (وقاع) في دار الإسلام، لا يخلو عن عَقْر أي حد، أوعُقْر أي مهر) وبما أن الحد قد انتفى لشبهة العقد، فيكون الواجب هو المهر. وكون المهر لا يزيد عن المسمى فلأن المرأة رضيت بذلك القدر، والعاقدان لم يقوِّما المنافع بأكثر من المسمى، فلا تتقوم بأكثر من المسمى. وكون الواجب هو الأقل من المهرين فلأن الأصل وجوب مهر المثل بسبب فساد العقد، ويجب فيه عند زفر مهر المثل بالغاً ما بلغ. 2 - ثبوت نسب الولد من الرجل إن وجد، احتياطاً لإحياء الولد وعدم ضياعه. 3 - وجوب العدة على المرأة من حين التفريق بينهما عند جمهور الحنفية وهو الصواب في المذهب؛ لأن النكاح الفاسد بعد الوطء منعقد في حق الفراش، والفراش لا يزول قبل التفريق. وعليه تجب العدة بعد الوطء لا الخلوة، للطلاق لا للموت من وقت التفريق أو متاركة الزوج وإن لم تعلم الزوجة بالمتاركة في الأصح. وقال زفر: يبدأ وقت وجوب العدة من آخر وطء وطئها؛ لأن العدة تجب بالوطء، وتطلب لمعرفة استبراء الرحم، والحمل يكون بالوطء. ولا عدة في نكاح المحارم ومنكوحة الغير ومعتدته، إن علم أنها للغير؛ لأنه لم يقل أحد بجوازه، فلم ينعقد أصلاً، كما أن نكاح المحارم باطل على الأظهر. 4 - ثبوت حرمة المصاهرة: فيحرم على الرجل الزواج بأصول المرأة وفروعها، وتحرم المرأة على أصول الرجل وفروعه.
القانون السوري
ولا تترتب على الزواج الفاسد أحكام أخرى، فلا تجب به نفقة ولا طاعة، ولا يثبت به حق التوارث بين الرجل والمرأة. وقد نص القانون السوري (م 51) على أحكام الزواج الفاسد: 1 - الزواج الفاسد قبل الدخول في حكم الباطل. 2 - ويترتب على الوطء فيه النتائج التالية: أـ المهر في الحد الأقل من مهر المثل والمسمى. ب ـ نسب الأولاد بنتائجه المبينة في المادة (133) من هذا القانون. جـ ـ حرمة المصاهرة. د ـ عدة الفراق في حالتي المفارقة أو موت الزوج، ونفقة العدة دون التوارث بين الزوجين. 3 - تستحق الزوجة النفقة الزوجية ما دامت جاهلة فساد النكاح. حكم الزواج الباطل وأنواعه: 1 - حكم الزواج الباطل عند الحنفية: الزواج الباطل عند الحنفية: هو ـ كما تقدم ـ الذي حصل خلل في ركنه أو في شرط من شروط انعقاده، كزواج الصبي غير المميز والزواج بصيغة تدل على المستقبل، والزواج بالمحارم كالأخت والعمة على الرأي الراجح، والمرأة المتزوجة برجل آخر مع العلم بأنها متزوجة، وزواج المسلمة بغير المسلم، وزواج المسلم بغير الكتابية كالمجوسية والوثنية، ونحوها. وحكم الزواج الباطل: أنه لا يترتب عليه شيء من آثار الزواج الصحيح، فلا يحل فيه الدخول بالمرأة، ولا يجب به مهر ولا نفقة ولا طاعة، ولا يثبت به توارث ولا مصاهرة، ويجب عدم التمكين من الدخول بينهما، فإن دخلا فرَّق القاضي بينهما جبراً، ولا عدة فيه بعد التفريق كالموقوف قبل إجازته.
2 - حكم الزواج الباطل وأنواعه عند المالكية
وقد نص القانون السوري (م 2/ 48) علي ما يلي: زواج المسلمة بغير المسلم باطل، ونصت المادة (50) على أحكام الزواج الباطل: الزواج الباطل لا يترتب علىه شيء من آثار الزواج الصحيح، ولو حصل فيه دخول. 2 - حكم الزواج الباطل وأنواعه عند المالكية: الباطل والفاسد بمعنى واحد عند الجمهور غير الحنفية، فالزواج الباطل أو الفاسد عند المالكية: هو ما حصل خلل في ركن من أركانه أو شرط من شروط صحته، وهو ينقسم إلى نوعين: أـ زواج اتفق الفقهاء على فساده: كالزواج بإحدى المحارم من نسب أو رضاع أو مصاهرة. ب ـ وزواج اختلف الفقهاء في فساده: وهوما يكون فاسداً عند المالكية وصحيحاً عند بعض الفقهاء بشرط أن يكون الخلاف قوياً، كزواج المريض فإنه لا يجوز، على المشهور عند مالك. فإن كان الخلاف ضعيفاً كزواج المتعة، وزواج المرأة الخامسة، كان من المجمع على فساده. وللزواج الفاسد أو الباطل أحكام هي ما يأتي (¬1): 1 - التحريم ووجوب فسخه في الحال: رفعاً للمعصية، فإن تم الفسخ فليس للمرأة شيء، سواء أكان العقد متفقاً على فساده أم مختلفاً في فساده؛ لأن القاعدة الكلية تقول: «كل نكاح فسخ قبل الدخول، فلا شيء فيه، كان متفقاً على فساده ¬
أو مختلفاً فيه، كان الفساد لعقده أو لصداقة أو لهما» فليس الفسخ قبل الدخول مثل الطلاق قبل الدخول في الزواج الصحيح. فلا شيء من الصداق بالفسخ قبل الدخول، إلا في نكاح الدرهمين، أو ما قل عن الصداق الشرعي إذا امتنع الزوج من إتمامه، ففسخ قبل الدخول، ففيه نصفهما على قول، وإلا في حال ادعاء الزوج الرضاع مع المرأة، ولم يدخل بها، ففسخ لإقراره بالرضاع، فيلزمه نصف المسمى، لاتهامه أنه قصد فراقها بلا شيء. فإن دخل الرجل بالمرأة فهل يفسخ العقد أو لا؟ العقد الفاسد بالنسبة لاستحقاق الفسخ بعد الدخول ثلاثة أنواع: أـ نوع يجب فسخه أبداً وإن طال الزمان بعد الدخول: وهو ما يكون الفساد فيه لخلل في الصيغة أو في العاقدين أو في محل العقد، كالزواج بإحدى المحارم من نسب أو رضاع أو مصاهرة، وزواج المتعة، والزواج بأكثر من أربع زوجات، والزواج بغير ولي أو بغير شهود، وزواج مريض الموت، فنكاح المريض لا يجوز في المشهور عن مالك، ويفسخ وإن صح. ب ـ ونوع لا يجب فسخه بل يبقى: وهو ما كان الفساد فيه بسبب فساد الصداق، كالزواج بدون صداق، أو بصداق مجهول، أو كان الفساد بسبب اقتران العقد بشرط يناقض المقصود من الزواج، مثل الزواج بشرط ألا يعاشرها ليلاً أو نهاراً، أو ألا ينفق عليها، أو ألا يقسم لها مع زوجته الثانية. جـ ـ ونوع يجب فسخه إن لم يطل الزمان بعد الدخول، ولا يفسخ إن طال الزمن، وهو محصور في ثلاثة عقود هي: زواج الصغيرة اليتيمة إذا زوّجت مع فقد شرط من شروطها، وزواج الشريفة
بالولاية العامة مع وجود الولي الخاص، وزواج السر (¬1)، لكن الطول في اليتيمة والشريفة يكون بمرور ثلاث سنوات فأكثر أو ولادة ولدين في بطنين، والطول في زواج السر يكون بحسب العرف: وهو ما يحصل فيه الاشتهار والظهور بين الخاص والعام عادة. والفسخ قبل الدخول أو بعده طلاق، فإن أعاد العقد بعده صحيحاً بقي له طلقتان فقط، وإن أعاده صحيحاً قبله، استمر على ما هو عليه. 2 - وجوب المهر بالدخول، لا بمجرد الخلوة: سواء أكان متفقاً على فساده، أم مختلفاً في فساده. والمهر المستحق: هو المسمى إن كان مسمى، أو مهر المثل إن لم يسم تسمية صحيحة، أو كان الفساد بسبب شرط يناقض المقصود من الزواج. 3 - ثبوت النسب للولد بأبيه إن كان العقد مختلفاً في فساده، وكذا إن كان متفقاً على فساده، ولم يعتبر الوطء زنا، إذا لم يكن الرجل عالماً بالحرمة. فإن كان عالماً بالحرمة اعتبر زنا ووجب الحد، ولا يثبت النسب. وعليه يندرئ الحد عن الواطئ في نكاح المعتدة، وذات الرحم المحرم والرضاع إن كان غير عالم بالحرمة، فإن علم بأنها ذات محرم أو ذات رضاع أو أنها معتدة أو أنها خامسة، حَدَّ، إلا المعتدة أي العالم بأنها معتدة، ففي حده قولان. ولا حد في الوطء بناء على عقد اختلف فيه العلماء، كنكاح المحرم بحج أو عمرة، والشغار، وتزويج المرأة نفسها بدون ولي. ¬
4 - ثبوت الإرث بين الرجل والمرأة في حال الفساد المختلف فيه: فلو مات أحدهما قبل فسخ العقد ورثه الآخر، دخل الرجل بالمرأة أو لم يدخل، وذلك إلا زواج المريض مرض الموت، فإنه لا يجوز عند المالكية خلافاً للجمهور فإنه صحيح؛ لأن سبب فساده هو إدخال وارث في التركة لم يكن موجوداً عند المرض، فلو ثبت به الإرث، لفات الغرض الذي من أجله حكم بفساد العقد. ولا يثبت حق التوارث في حالة الفساد المتفق عليه؛ لأنه زواج غير منعقد أصلاً. 5 - ثبوت حرمة المصاهرة (¬1) بالدخول (الوطء) (¬2) أو مقدماته، إذا كان العقد مختلفاً في فساده. وكذلك تثبت بهما إذا كان العقد متفقاً على فساده، بشرط ألا يعتبر الوطء زنا موجباً للحد، فإن اعتبر زنا موجباً للحد لا تثبت به حرمة المصاهرة به على المعتمد. وكذلك مجرد العقد الفاسد المختلف فيه يحرِّم المرأة على أصول الرجل وفروعه، ويحِّرم على الرجل أصولها؛ لأن العقد على البنات يحرم الأمهات، ولا يحرم عليه فروعها؛ لأن العقد على الأمهات لا يحرم البنات، فإذا دخل بالأم حرمت البنت أيضاً. 6 - وجوب العدة إذا دخل الرجل بالمرأة أو اختلى بها خلوة يتمكن فيها من الاتصال الجنسي، ثم فسخ العقد، سواء أكان العقد متفقاً على فساده أم مختلفاً فيه، وتبدأ العدة من وقت الفرقة بينهما بعد الفسخ. ¬
أنواع الأنكحة الفاسدة المختلف فيها
أنواع الأنكحة الفاسدة المختلف فيها: هناك أنكحة فاسدة أربعة، ورد النهي فيها صراحة، وهي نكاح الشغار، ونكاح المتعة، والخطبة على خطبة أخيه، ونكاح المحلِّل (¬1). أما نكاح الشغار: فهو أن يُنكح موليته: بنته أوأخته، على أن ينكحه الآخر موليته،،ولا صداق بينهما إلا بُضْع هذه ببضع الأخرى. اتفق العلمآء على معناه هذا، وعلى أنه نكاح غير جائز لثبوت النهي عنه، لخلوه عن المهر. واختلفوا إذا وقع، هل يصحح بمهر المثل أو لا؟ فقال مالك والشافعي وأحمد: لا يصحح ويفسخ أبداً قبل الدخول وبعده، لما روى ابن عمر: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عن الشغار» (¬2)، والشغار: أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه ابنته، وليس بينهما صداق. وقال أبو حنيفة: يصح نكاح الشغار بفرض صداق المثل. أما النهي عنه في السنة فمحمول على الكراهة، والكراهة لا توجب فساد العقد، فيكون الشرع أوجب فيه أمرين: الكراهة ومهر المثل. ومنشأ الخلاف: هل النهي عن الشغار معلل بعدم العوض أو غير معلل؟ فإن قلنا: غير معلل، لزم الفسخ على الإطلاق. وإن قلنا: العلة عدم الصداق، صح بفرض صداق المثل، مثل العقد على خمر أو خنزير. والخلاصة: أن نكاح الشغار باطل عند الجمهور، صحيح مكروه تحريماً عند ¬
نكاح المتعة
الحنفية، فإن وقع فسخ النكاح عند الجمهور قبل الدخول وبعده، على المشهور عند المالكية، ويدفع الرجل لمن دخل بها مهر المثل، وتقع به حرمة المصاهرة، والوراثة، وإن وقع جاز عند الحنفية بمهر المثل. وأما نكاح المتعة (وهو أن يقول لامرأة: أتمتع بك لمدة كذا) والنكاح المؤقت (وهو أن يتزوج امرأة عشرة أيام مثلاً) فهو باطل، أما الأول فبالإجماع ما عدا الشيعة عملاً عندهم برأي ابن عباس وجماعة من الصحابة والتابعين، وأما الثاني فبطلانه عند الجمهور؛ لأنه أتى بمعنى المتعة، والعبرة في العقود للمعاني، وأجازه زفر والشيعة، وقول زفر: هو أنه صحيح لازم؛ لأن النكاح لا يبطل بالشروط الفاسدة. وقد سبق تفصيل الكلام فيه. وأما الخطبة على خطبة الغير: فعند الجمهور يعد الزواج حينئذ صحيحاً، ولا يفرق بين الزوجين؛ لأن النهي ليس متوجهاً إلى نفس العقد، بل إلى أمر خارج عن حقيقته، فلا يقتضي بطلان العقد، كالتوضؤ بماء مغصوب، وعند مالك على المعتمد، يجب الفسخ قبل الدخول بطلقة بائنة. وأما نكاح المحلِّل: (وهو الذي يقصد بنكاحه تحليل المطلقة ثلاثاً لزوجها الذي طلقها) فهو حرام باطل مفسوخ، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لعن الله المحلِّل والمحلَّل له» (¬1). وهو نكاح صحيح وإن كان موجباً للإثم عند أبي حنيفة والشافعية؛ لأن العقد في الظاهر قد استكمل أركانه وشروطه الشرعية. وسبب اختلافهم: اختلافهم في مفهوم الحديث السابق «لعن الله المحلل» فمن فهم من اللعن: التأثيم فقط، قال: النكاح صحيح. ومن فهم من التأثيم فساد العقد، تشبيهاً بالنهي الذي يدل على فساد المنهي عنه، قال: النكاح فاسد. ¬
3 - أنواع الأنكحة الباطلة عند الشافعية
3 - أنواع الأنكحة الباطلة عند الشافعية: الباطل: ما اختل ركنه، والفاسد: ما اختل شرطه، وطرأ له الفساد بعد انعقاده، وحكمهما عند الشافعية واحد غالباً، وهو أنه لا يترتب على واحد منهما أي أثر من آثار الزواج الصحيح، فلا مهر ولا نفقة ولا حرمة مصاهرة ولا نسب ولا عدة. والأنكحة الباطلة للنهي عنها كثيرة، أهمها تسعة (¬1): 1ً - نكاح الشغار: كأن يقول: زوجتك بنتي على أن تزوجني بنتك، وبُضْع (¬2) كلٍ منهما صداق الأخرى، وإن سميا مع ذلك مهراً في الأصح لوجود التشريك المذكور، فإن لم يجعلا البضع مهراً بأن سكتا عنه، صح في الأصح لعدم التشريك المذكور، ولكل واحدة مهر المثل. وبطلانه للنهي عنه في حديث ابن عمر السابق وغيره، مثل «لا شغار في الإسلام» (¬3) والنهي يقتضي فساد المنهي عنه. 2ً - نكاح المتعة: وهو النكاح إلى أجل. وإن تزوج بشرط الخيار بطل العقد؛ لأنه عقد يبطله التوقيت، فبطل بالخيار كالبيع. 3 ً - نكاح المُحْرم: فلا يصح النكاح في إحرام أحد العاقدين أو الزوجة، بحج أو عمرة، أو بهما، أو مطلقاً صحيحاً أو فاسداً، وإن عقده الإمام، أو كان بين التحللين، للخبر السابق: «لا يَنكح المحرم ولا يُنكح». لكن يجوز في الإحرام الرجعة والشهادة على الزواج؛ لأن الرجعة استدامة ¬
- تعدد الأزواج
لا ابتداء عقد، ولأن ارتباط النكاح بالشهادة ارتباط توثق، وارتباطه بغيرها من الولاية، وكونه عاقداً أو معقوداً عليه ارتباط مباشرة. 4ً - تعدد الأزواج: وهو إنكاح وليين امرأة زوجين، ولم يعرف سبق أحدهما معيناً. فإن دخل بها أحدهما لزمه مهر مثلها، وإن دخلا بها فلها على كل منهما مهر مثلها. فإن عرف عين السابق فهو الصحيح. 5ً - نكاح المعتدة والمستبرأة من غيره ولو من وطء شبهة، فإن دخل بها حُدّ حَد الزنا، إلا إن ادعى الجهل بحرمة النكاح في العدة والاستبراء من غيره، فلا حد عليه. ويعذر الجاهل إن كان قريب عهد بالإسلام أو نشأ بعيداً عن العلماء. 6ً - نكاح المرتابة بالحمل قبل انقضاء عدتها: يحرم نكاحها حتى تزول الريبة، وإن انقضت الأقراء (الأطهار)، للتردد في انقضاء عدتها. فلو نكحها رجل أو من ظنها معتدة أو مستبرأة، أو مُحْرمة بحج أو عمرة، أو مَحْرماً، ثم بان خلافه، فالنكاح باطل، للتردد في الحل. 7 - نكاح المسلم كافرة غير كتابية أصلا ً كوثنية ومجوسية وعابدة شمس أو قمر، ومرتدة، أوغير كتابية خالصة كمتولدة بين كتابي ومجوسية وعكسه، لقوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} [البقرة:221/ 2] وتغليباً للتحريم في المتولدة بين كتابي ومجوسية. أما الكتابية: فإن كانت إسرائيلية، حل زواجها إن لم تدخل أصولها في اليهودية بعد نسخها، أو شك في ذلك. وإن كانت غير إسرائيلية وهي النصرانية، حل زواجها إن علم دخول أصولها في دين النصرانية قبل نسخه، ولو بعد تبديله إن تجنبوا المبدَّل.
8 - المنتقلة من دين إلى آخر
ودليل إباحة الزواج باليهودية والنصرانية بالشرط المذكور قوله تعالى: {والمحصَنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} [المائدة:5/ 5] أي حِلّ لكم، والمراد من الكتاب: التوراة والإنجيل دون سائر الكتب قبلهما كصحف شيث وإدريس وإبراهيم عليهم الصلاة والسلام. 8 - المنتقلة من دين إلى آخر: لا يحل نكاحها، ولا يقبل منها إلا الإسلام. 9 - زواج المسلمة بكافر، وزواج المرتدة: فلا تحل مسلمة لكافر بالإجماع، لقوله تعالى: {ولا تُنكحوا المشركين} [البقرة:221/ 2] ولا تحل مرتدة لأحد، لا لمسلم؛ لأنها كافرة لا تقر على ردتها، ولا لكافر لبقاء تعلق الإسلام بها. وإن ارتد أحد الزوجين أو كلاهما قبل الدخول، بطل النكاح، وإن كان بعد الدخول ينتظر: فإن جمعهما الإسلام في العدة دام النكاح، وإن لم يجمعهما الإسلام في العدة، فلا يدوم النكاح. هذا وهناك أنكحة مكروهة مثل النكاح بعد الخطبة على الخطبة، ونكاح المحلل بنية التحليل دون الاشتراط في العقد، فإن تزوجها بشرط أنه إذا وطئها طلقها، بطل النكاح، ومثل نكاح المغرر بحرية المرأة أو نسبها. 4 - أنواع النكاح الفاسد عند الحنابلة: الزواج الفاسد نوعان (¬1): النوع الأول ـ يبطل النكاح من أصله، وهو أربعة عقود: 1 - نكاح الشغار: وهو أن يزوجه وليَّته، على أن يزوجه الآخر وليته، ولا ¬
2 - نكاح المحلل
مهر بينهما، أو يجعل بُضْع كل واحدة مع دراهم معلومة مهراً للأخرى. فإن سموا مهراً مستقلاً ولو قل صح، وإن سمي لأحدهما صح نكاحها فقط. 2 - نكاح المحلل: وهو أن يتزوجها على أنه إذا أحلها طلقها، أو فلا نكاح بينهما، أو ينويه الزوج، أو يتفقا عليه قبله، فيحرم النكاح، ولا يصح ولا تحل لزوجها الأول. 3 - نكاح المتعة: وهو أن يتزوجها إلى مدة، أو يشترط طلاقها فيه بوقت، أو ينويه بقلبه، أو يتزوج الغريب بنية طلاقها إذا خرج، أو يقول: أمتعيني نفسك، فتقول: أمتعتك بلا ولي ولا شهود. فمن تعاطى ماذكر، عزر ولحقه النسب. 4 - النكاح المعلَّق: كزوجتك إذا جاء رأس الشهر، أو إن رضيت أمها، أو إن وضعت زوجتي بنتاً فقد زوجتكها، ويصح بقوله: زوجتكها إن كانت بنتي، أو كنت وليها، أو إن انقضت عدتها، وهما يعلمان ذلك، أو شئت، فقال: شئت، وقبلت مثل زوجت، وقبلت إن شاء الله تعالى. ومن الأنكحة الباطلة: نكاح المرأة المتزوجة أو المعتدة، أو شبهه، فإذا علم الزوجان التحريم، فهما زانيان، وعليهما الحد، ولا يلحق النسب به. وأما الزواج الفاسد المختلف في إباحته كالنكاح بغير شهود أو بغير ولي، فلا يجب به الحد، سواء اعتقد حله أم حرمته؛ لأنه مختلف في إباحته، ولأن الحد يدرأ بالشبهات، والاختلاف فيه أقوى الشبهات. النوع الثاني ـ يصح النكاح دون الشرط: كما إذا شرط ألا مهر أو لا نفقة، أو أن يقسم لها أكثر من ضرتها أو أقل، أو إن شرط كلاهما أو أحدهما عدم وطء أو دواعيه، أو أن تعطيه شيئاً أو أن تنفق
المبحث الخامس ـ مندوبات عقد الزواج أو ما يستحب له
عليه، أوإن فارق رجع بما أنفق، أو شرط كلاهما أو أحدهما خياراً في عقد أو مهر، أو إن جاء بالمهر في وقت كذا، وإلافلا نكاح بينهما، أوأن يسافر بها، أو أن تستدعيه لوطء عند إرادتها، أو ألا تسلم نفسها إلى مدة كذا، أو لا يكون عندها في الجمعة إلا ليلة، أو يعزل عنها، أو يسكن بها حيث شاءت أو شاء أبوها ونحوه. وإن شرطها مسلمة، فبانت كتابية، أو شرط بكراً أو جميلة أو نسيبة، أو شرط نفي عيب لا يفسخ به النكاح، فبانت بخلافه، فله الخيار، ويرجع بعد الدخول على من غرّه (الغار). وإن شرط صفة، فبانت أعلى ككتابية، فبانت مسلمة، فلا خيار. المبحث الخامس ـ مندوبات عقد الزواج أو ما يستحب له: يستحب للزواج ما يأتي (¬1): 1 - أن يخطب الزوج قبل العقد عند التماس التزويج خُطبة (¬2) مبدوءة بالحمد لله والشهادتين، والصلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، مشتملة على آية فيها أمر بالتقوى وذكر المقصود، عملاً بخطبة ابن مسعود، قال: «علَّمنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم التشهد في الصلاة، وخطبة الحاجة: الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله» ويقرأ ثلاث آيات، فسرها سفيان الثوري: ¬
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} [آل عمران:102/ 3]. {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام، إن الله كان عليكم رقيباً} [النساء:1/ 4]. {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله، وقولوا قولاً سديداً، يصلح لكم أعمالكم ... } الآية (¬1) [الأحزاب:70/ 33 - 71]. ثم يقول: وبعد: فإن الله أمر بالنكاح، ونهى عن السفاح، فقال مخبراً وآمراً: {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم .. } [النور:32/ 24] لآية. ويجزئ عن ذلك أن يحمد الله، ويتشهد ويصلي على النبي صلّى الله عليه وسلم، لما روي عن ابن عمر أنه كان إذا دعي ليزوج قال: الحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد، إن فلاناً يخطب إليكم فلانة، فإن أنكحتموه فالحمد لله، وإن رددتموه فسبحان الله. والمستحب خطبة واحدة، لما تقدم، لا خطبتان اثنتان: إحداهما من العاقد، والأخرى من الزوج قبل قبوله؛ لأن المنقول عنه صلّى الله عليه وسلم وعن السلف خطبة واحدة، وهوأولى ما اتبع. ويبين الزوج قصده بنحو: قد قصدنا الانضمام إليكم ومصاهرتكم والدخول في خدمتكم ونحوه، ويقول الولي: قد قبلناك ورضينا أن تكون منا وفينا، وما في معناه. ¬
2 - أن يدعى للزوجين بعد العقد
فإن عقد الزواج من غير خطبة جاز، فالخطبة مستحبة غير واجبة، لما روى سهل بن سعد الساعدي أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال للذي خطب الواهبة نفسها للنبي صلّى الله عليه وسلم: «زوجتكها بما معك من القرآن» (¬1) ولم يذكر خطبة، وروى أبو داود بإسناده عن رجل من بني سليم قال: «خطبت إلى النبي صلّى الله عليه وسلم أمامة بنت عبد المطلب، فأنكحني من غير أن يتشهد» ولأن الزواج عقد معاوضة، فلم تجب فيه خطبة كالبيع. 2 - أن يدعى للزوجين بعد العقد، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا رفأ الإنسان إذا تزوج قال: بارك الله لك، وبارك عليك، وجمع بينكما في خير (¬2). وأن يهنَّأ الزوجان بنحو: مبارك إن شاء الله، ويوم مبارك ونحو ذلك. 3 - أن يعقد النكاح يوم الجمعة مساء، لحديث أبي هريرة مرفوعاً: «أمسوا بالمِلاَك، فإنه أعظم بركة» (¬3)، ولأن الجمعة يوم شريف ويوم عيد، والبركة في النكاح مطلوبة، فاستحب له أشرف الأيام طلباً للبركة، والإمساء به؛ لأن في آخر النهار من يوم الجمعة ساعة الإجابة. 4 - إعلان الزواج والضرب فيه بالدف، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «أعلنوا النكاح» (¬4) وفي رواية الترمذي عن عائشة: «أعلنوا النكاح، واضربوا عليه بالغِرْبال» أي بالدف، وعند النسائي: «فصل ما بين الحلال والحرام: الصوت والدف في النكاح». ¬
5 - ذكر الصداق أي تسميته عند العقد
ولا بأس بالغناء المباح أو الغزل البريء غير المخصص بشخص ما، في العرس، لما روى ابن ماجه عن عائشة: أنها زوجت يتيمة رجلاً من الأنصار، وكانت عائشة فيمن أهداها إلى زوجها، قالت، فلما رجعنا، قال لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما قلتم يا عائشة؟ قالت: سلّمنا ودعونا بالبركة، ثم انصرفنا، فقال: إن الأنصار قوم فيهم غَزَل، ألا قلتم يا عائشة: أتيناكم أتيناكم، فحيَّانا وحيَّاكم؟». والمالكية الذين لم يشترطوا الإشهاد عند العقد، قالوا: يندب الإشهاد عند العقد، للخروج من الخلاف، إذ كثير من الأئمة لا يرى صحته إلا بالشهادة حال العقد، وهم يرون وقوعه صحيحاً في نفسه، وإن لم تحصل الشهادة حال العقد كالبيع، ولكن لا تتقرر صحته، ولا تترتب ثمرته من حل التمتع إلا بحصولها قبل البناء، فجاز أن يعقد فيهما سراً، ثم يخبرا به عدلين، كأن يقولا لهما: قد حل منا العقد، فلان على فلانة. أو أن الولي يخبر عدلين، والزوج يخبر عدلين غيرهما، ولا يكفي أن يخبر أحدهما عدلاً، والثاني عدلاً غيره؛ لأنهما حينئذ بمنزلة الواحد. 5 - ذكر الصداق أي تسميته عند العقد، لما فيه من اطمئنان النفس، ودفع توهم الاختلاف في المستقبل، وندب أيضاً كون المهر حالاً، بلا تأجيل لبعضه. 6 - الوليمة (وهي طعام العرس أو كل طعام صنع لدعوة وغيرها): وهي سنة مستحبة مؤكدة عند جماهير العلماء وهو مشهور مذهبي المالكية والحنابلة، ورأي بعض الشافعية؛ لأنه طعام لحادث سرور، فلم تجب كسائر الولائم. وفي قول مالك، والمنصوص في الأم للشافعي ورأي الظاهرية: أن الوليمة واجبة، لقوله صلّى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف: «أولم ولو بشاة» (¬1) وظاهر الأمر الوجوب. ¬
النثار
وقد اختلف السلف في وقت الوليمة، هل هو عند العقد، أوعقبه، أوعند الدخول أو عقبه أو من ابتداء العقد إلى انتهاء الدخول؟ قال النووي: اختلفوا، فحكى القاضي عياض أن الأصح عند المالكية استحبابها بعد الدخول، وعن جماعة منهم: عند العقد، وعند ابن جندب: عند العقد وبعد الدخول. قال السبكي: والمنقول من فعل النبي صلّى الله عليه وسلم أنها بعد الدخول. وفي حديث أنس عند البخاري وغيره التصريح بأنها بعد الدخول لقوله: أصبح عروساً بزينب، فدعا القوم (¬1). وهذا هو المعتمد عند المالكية. وقال الحنابلة: تسن بعقد، وجرت العادة بفعلها قبل الدخول بيسير. وأما النُثار (ما ينثر من السكر واللوز والجوز في النكاح أو غيره) فيكره عند الشافعي والمالكية؛ لأن التقاطه دناءة وسخف، ولأنه يأخذه قوم دون قوم، وتركه أحب. وأما الإجابة: فتسن عند الحنفية إجابة الدعوة. وقال الجمهور: الإجابة إلى الوليمة واجبة وجوباً عينياً عند المالكية والشافعية على المذهب، والحنابلة، حيث لا عذر من نحو برد وحر وشغل، لحديث «من دعي إلى وليمة ولم يجب، فقد عصى أبا القاسم» (¬2) وحديث «إذا دعي أحدكم إلى وليمة عرس فليأتها» (¬3). والإجابة واجبة حتى على الصائم، لكن لا يلزمه الأكل، لما رواه أحمد ¬
الأعذار
ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة: «إذا دعي أحدكم فليجب، فإن كان صائماً فليصل، وإن كان مفطراً فليطعم». أما الأعذار: فقال الشافعية: إن دعي الشخص إلى موضع فيه منكر من زمر أو طبل أو خمر: فإن قدر على إزالته لزمه أن يحضر لوجوب الإجابة، ولإزالته المنكر، وإن لم يقدر على إزالته، لم يحضر، لما روي «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى أن يجلس على مائدة تدار فيها الخمر» (¬1). وقال الحنابلة: تكره إجابة من في ماله حرام كأكله منه، ومعاملته وقبوله هديته وهبته وصدقته، وتقوى الكراهة وتضعف بحسب كثرة الحرام وقلّته. ويستحب بالاتفاق أكله ولو صائماً صوماً غير واجب؛ لأنه يدخل السرور على من دعاه. ومن دعاه أكثر من واحد، أجاب الكل إن أمكنه، وإلا أجاب الأسبق قولاً، فالأدين فالأقرب رحماً، فجواراً، ثم أقرع، أي لجأ إلى القرعة. وقال المالكية: تجب الإجابة على من عيّن للوليمة بالشخص، إن لم يكن في المجلس من يُتأذى منه لأمر ديني، كمن شأنه الخوض في أعراض الناس، أو من يؤذيه، أو كان في المجلس منكر كفرش حرير يجلس عليه، وآنية ذهب أو فضة لأكل أو شرب أو تبخير أو نحوها، أو كان هناك سماع غانية ورقص نساء وآلة لهو غير دف وزمارة وبوق، وصور حيوان كاملة لها ظل، لا منقوشة بحائط أو فرش؛ لأن تصاوير الحيوانات تحرم إجماعاً إن كانت كاملة لها ظل مما يطول استمراره، بخلاف ناقص عضو لا يعيش به لو كان حيواناً، وبخلاف ما لا ظل له، كنقش في ورق أو جدار. والنظر إلى الحرام حرام، وتصوير غير الحيوان كالسفن والأشجار لا حرمة فيه. ¬
حكم آلات اللهو عند المالكية
ومن الأعذار المسقطة لوجوب الإجابة: كثرة زحام، أو إغلاق باب دونه إذا قدم، وإن لمشاورة. ومنها: العذر الذي يبيح التخلف عن الجمعة: من كثرة مطر، أو وحل أو خوف على مال أو مرض أو تمريض قريب ونحوها. حكم آلات اللهو عند المالكية: قالوا: تكره الزُّمارة والبوق إذا لم يكثر جداً حتى يلهي كل اللهو، وإلا حرم كآلات الملاهي وذوات الأوتار، والغناء المشتمل على فحش القول، أو الهذيان. ولايكره الغربال أو الدُّف إذا لم يكن فيه صراصير، وإلا حرم، ولا يكره الكُبَر أي الطبل الكبير المدور، المغش من الجهتين. قال العز بن عبد السلام: أما العود والآلات المعروفة ذوات الأوتار كالربابة والقانون، فالمشهور من المذاهب الأربعة أن الضرب به وسماعه حرام، والأصح أنه من الصغائر. وذهبت طائفة من الصحابة والتابعين ومن الأئمة المجتهدين إلى جوازه. قال الغزالي (¬1): وقد دل النص والقياس جميعاً على إباحة سماع الغناء والآلات كالقضيب والطبل والدف وغيره، ولا يستثنى من هذه إلا الملاهي والأوتار والمزامير التي ورد الشرع بالمنع منها (¬2) لا للذتها، إذ لو كان للذة لقيس عليها كل ما يلتذ به الإنسان. وأما الرقص: فاختلف فيه الفقهاء: فذهبت طائفة إلى الكراهة، وطائفة إلى الإباحة، وطائفة إلى التفريق بين أرباب الأحوال وغيرهم، فيجوز لأرباب ¬
7 - أن يقول الزوج إذ ازفت إليه عروسه ما ثبت في السنة وهو ما يأتي
الأحوال ويكره لغيرهم، قال العز بن عبد السلام: وهذا القول هو المرتضى، وعليه أكثر الفقهاء المسوغين لسماع الغناء. وقد أبنت سابقاً أنه حرام مع التثني والتكسر. 7 - أن يقول الزوج إذ ازفت إليه عروسه ما ثبت في السنة وهو ما يأتي: أـ روى صالح بن أحمد عن أبي سعيد مولى أبي أسيد، قال: «تزوج، فحضر عبد الله بن مسعود وأبو ذر وحذيفة وغيرهم من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فحضرت الصلاة، فقدموه، وهو مملوك، فصلى بهم، ثم قالوا له: إذا دخلت على أهلك، فصل ركعتين، ثم خذ برأس أهلك فقل: اللهم بارك لي في أهلي، وبارك لأهلي في، وارزقهم مني، وارزقني منهم، ثم شأنك وشأن أهلك». ب ـ وروى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا تزوج أحدكم امرأة، أواشترى خادماً، فليقل: اللهم إني أسألك خيرها، وخير ما جبلت عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه، وإذا اشترى بعيراً فليأخذ بذروة سنامه، وليقل مثل ذلك»، وهذا يقال عند شراء السيارة والدار ونحوهما.
الفصل الثالث: المحرمات من النساء أو الأنكحة المحرمة
الفَصْلُ الثَّالث: المحرَّمات من النِّساء أو الأنكحة المحرَّمة عرفنا في شروط الزواج: أنه يشترط ألا تكون المرأة محرمة على الرجل الذي يريد الزواج بها، بأن تكون محلاً لورود العقد عليها، والمحلية نوعان عند الحنفية: أصلية وفرعية، والنوع الأول: شرط في انعقاد الزواج فإذا لم يتوافر بطل العقد؛ لأن التحريم قطعي، والنوع الثاني: شرط في صحة الزواج، فإذا فات فسد العقد؛ لأن التحريم ظني. ومحل عقد الزواج: كل امرأة تحل في الشرع، بوجهين: إما بنكاح أو بملك يمين. والمحرمات من النساء نوعان: نوع يحرم حرمة مؤبدة، ونوع يحرم حرمة مؤقتة. والتحريم المؤبد إما من جهة النسب، أو من جهة المصاهرة، أو من جهة الرضاع (¬1). ¬
النوع الأول ـ المحرمات المؤبدة
والنساء المحرمات عند المالكية (48) امرأة، خمس وعشرون مؤبدات: سبع من النسب: الأم والبنت والخالة والأخت والعمة وبنت الأخ وبنت الأخت، ومثلهن من الرضاع. وأربع بالصهر: أم الزوجة وبنتها، وزوجة الأب والابن، ومثلهن من الرضاع. ونساء النبي صلّى الله عليه وسلم، والملاعنة، والمنكوحة في العدة. وغير المؤبدات: ثلاث وعشرون: المرتدة، وغير الكتابية، والخامسة، والمتزوجة، والمعتدة، والمستبرأة، والحامل، والمبتوتة، والأمة المشتركة (¬1)، والأمة الكافرة، والأمة المسلمة لواجد الطَّوْل (المهر)، وأمة الابن وأمة نفسه، وسيدته، وأم سيده، والمحرمة بالحج، والمريضة، وأخت زوجته، وخالتها، وعمتها، فلا يجوز الجمع بينهما. والمنكوحة يوم الجمعة عند الزوال، والمخطوبة بعد الركون للغير، واليتيمة غير البالغ. النوع الأول ـ المحرمات المؤبدة: هي التي تحرم على الرجل أبداً، لسبب دائم فيها، كالبنوة والأمومة والأخوة، وتنحصر في ثلاثة أسباب: القرابة، المصاهرة، الرضاع. 1 - حرمة القرابة أو المحرمات بسبب النسب: المحرمات بسبب النسب على التأبيد: هن اللاتي تحرم على الشخص بالقرابة النسبية، وهن أربعة أنواع: أـ أصول الإنسان وإن علون: وهي الأم، والجدة: أم الأم، وأم الأب، لقوله تعالى: {حرِّمت عليكم أمهاتكم} [النساء:23/ 4]. والأم لغة: الأصل، فتشمل الأم والجدة. ¬
ب ـ فروع الإنسان وإن نزلن
ب ـ فروع الإنسان وإن نزلن: وهي البنت وبنت البنت، وبنت الابن وإن نزل، لقوله تعالى: {حرمِّت عليكم أمهاتكم وبناتكم} [النساء:23/ 4]. جـ ـ فروع الأبوين أو أحدهما وإن بعدت درجتهن: وهي الأخوات الشقيقات أو لأب أو لأم، وبناتهن، وبنات أولاد الإخوة والأخوات وإن نزلن، لقوله تعالى: {وبنات الأخ وبنات الأخت} [النساء:23/ 4]. د ـ الطبقة الأولى أو المباشرة من فروع الأجداد والجدات: وهن العمات والخالات، سواء كن عمات للشخص نفسه وخالات له، أم كن عمات وخالات لأبيه أو أمه، أوأحد أجداده وجداته، لقوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم} [النساء:23/ 4]. أما الطبقة الثانية أو غير المباشرة من هذه الفروع فلا تحرم، كبنات العمات والأعمام، وبنات الخال أو الخالة، لدخولهن في مضمون قوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} [النساء:24/ 4] ولقوله سبحانه: {يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك، وبنات عمك، وبنات عماتك، وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك} [الأحزاب:50/ 33]. ونصت المادة (33) من القانون السوري على هذه المحرمات: «يحرم على الشخص أصوله وفروعه، وفروع أبويه، والطبقة الأولى من فروع أجداده». وتكون المحرمات بالقرابة سبع فرق: الأمهات، والبنات، والأخوات، والعمات، والخالات، وبنات الأخ، وبنات الأخت. وحكمة تحريم الزواج بهؤلاء: إقامة نظام الأسرة على أساس من الود والحب الخالص الذي لا تشوبه مصلحة، فبالتحريم تنقطع الأطماع، ويتم الاجتماع
2 - حرمة المصاهرة
والاختلاط البريء. وفي الزواج بإحدى هؤلاء إفضاء إلى قطع الرحم بسبب ما يحدث عادة بين الزوجين من نزاع وتخاصم، وقطع الرحم حرام، والمفضي إلى الحرام حرام، كما قال الكاساني (¬1). هذا فضلاً عما يؤدي إليه الزواج بالقريبات من ضعف النسل والمرض، بعكس الزواج بالأباعد يأتي بنسل قوي، كما ثبت طباً وشرعاً. وفي الأثر: «اغتربوا لا تَضْووا» أي تزوجوا البعيدة لئلا يأتي النسل ضاوياً، أي هزيلاً ضعيفاً. 2 - حرمة المصاهرة: المحرمات بسبب المصاهرة على التأبيد أربعة أنواع أيضاً: أـ زوجة الأصول وإن علوا، عصبة كانوا أم ذوي أرحام، سواء دخل بها الأصل أم عقد عليها ولم يدخل، كزوجة الأب، والجد أبي الأب أو أبي الأم، لقوله تعالى: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء، إلا ما قد سلف، إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً} [النساء:22/ 4] والمراد بالنكاح في (نكح): العقد، فهو سبب للتحريم سواء دخل بها أم لم يدخل. والأب يطلق لغة على الجد وإن علا. والمحرم بهذه الآية هو زوجة الأب فقط، أما بنتها أو أمها فلا تحرم على الابن، فيجوز أن يتزوج الرجل امرأة، ويتزوج ابنه بنتها أو أمها. وسبب التحريم: تكريم واحترام الأصول وتحقق صلاح الأسر ومنع الفساد، من تطلع الابن لزوجة أصله، في حالة الاختلاط التي تحدث عادة بين الأب وابنه وسكناهما غالباً في مسكن واحد. ¬
ب ـ زوجة فروعه
ب ـ زوجة فروعه وإن نزلوا، سواء كن عصبات أم ذوي رحم، وسواء دخل بها الفرع أم لم يدخل ولو بعد أن فارقها بالطلاق أو الوفاة، كزوجة الابن أوابن الابن أو البنت وإن نزلوا، لقوله تعالى: {وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم} [النساء:23/ 4] ويكون العقد عليها باطلاً لا يترتب عليه أي أثر، فإنهم قالوا: تثبت الحرمة بنفس العقد في منكوحة الأب وحليلة الابن. والحليلة: هي الزوجة، ويتحقق هذا الوصف بمجرد العقد الصحيح. وألحق الحنفية بتحريم زوجة الأصل والفروع: موطوءة الأصل أو الفرع بالزنا أو الزواج الفاسد؛ لأن مجرد الوطء كاف عندهم في التحريم على الرجل. ولا فرق بين أن يكون الابن من النسب أو الرضاع، فزوجة الابن أو ابن البنت من الرضاع تحرم على أبيه وجدِّه تحريماً مؤبداً، كما تحرم زوجة الابن من النسب؛ لأنه «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» (¬1) ولقوله تعالى: {وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم} [النساء:23/ 4]. جـ ـ أصول الزوجة وإن علون، سواء دخل بزوجته أم لم يدخل، كأم الزوجة وجدتها، وسواء أكانت الجدة من جهة الأب أم من جهة الأم، فمجرد العقد على الزوجة يحرِّم أصولها على الرجل، ويكون العقد عليها ولو بعد الطلاق أو الموت باطلاً، لقوله تعالى: {وأمهات نسائكم} [النساء:23/ 4] وهو في آية المحرمات في سورة النساء (23) شروع في بيان المحرمات من جهة المصاهرة إثر بيان المحرمات من جهة الرضاعة التي لها لحمة كلحمة النسب. د ـ فروع الزوجة وإن نزلن أي الربائب، إذا دخل الرجل بالزوجة، فإن لم ¬
ما يلحق بحرمة المصاهرة
يدخل بها، ثم فارقها بالطلاق أو الوفاة، فلا تحرم البنت ولا واحدة من فروعها على الزوج. لقوله تعالى: {وربائبكم (¬1) اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن، فإن لم تكونوا دخلتم بهن، فلا جناح عليكم} [النساء:4/ 23] سواء أكانت بنت الزوجة ساكنة في بيت زوج أمها أم لا، وأما القيد المذكور في الآية {في حجوركم} [النساء:4/ 23] فهو مستمد من الشأن الغالب في الربيبة، وهو أن تكون مع أمها، وسبب التحريم كون نكاحها مفضياً إلى قطيعة الرحم، سواء أكانت في حجره أم لم تكن. ويلحق بتحريم أصول الزوجة وفروعها عند الحنفية: أصول الموطوءة وفروعها في وطء حرام أو فيه شبهة. ويلاحظ مما سبق في حرمة المصاهرة أن العقد وحده على المرأة يحرم ما عدا فروع الزوجة، وقد قرر الفقهاء فيه قاعدة مشهورة هي: (العقد على البنات يحرِّم الأمهات، والدخول بالأمهات يحرّم البنات) وسبب التفرقة أن الإنسان يحب ابنه أو بنته كنفسه بعكس حب الأصل، فلا تتألم الأم لو عقد على بنتها بعد العقد عليها. وحكمة التحريم بالمصاهرة كما أبان الدهلوي (¬2): منع التنازع والتصارع الذي قد يحدث بين الأقارب من هذا النوع إما بفك ارتباط زوجة بزوجها أو بالتنازع على زوج. ما يلحق بحرمة المصاهرة: ألحق الحنفية كما تقدم بالعقد الصحيح أو بالدخول: ¬
- حالة الدخول بالمرأة بعقد فاسد
1 ً - حالة الدخول بالمرأة بعقد فاسد كالزواج بغير شهود. 2 ً - وحالة الدخول بالمرأة بناء على شبهة، كمن زفت إليه امرأة أخرى غير التي عقد عليها، وقيل له: إنها زوجته، فدخل بها، بناء عليه، ثم تبين أنها ليست زوجته التي عقد عليها ولم يكن قد رآها، وهي التي تسمى بالمرأة المزفوفة. 3 ً - وكذلك ألحقوا مع الحنابلة (¬1) الزنا، ومثله عند الحنفية مقدمات الزنا من تقبيل ومس بشهوة، فقالوا: تثبت حرمة المصاهرة بالزنا والمس والنظر بدون النكاح والملك وشبهته؛ لأن المس والنظر سبب داع إلى الوطء فيقام مقامه احتياطاً، وألحق الحنابلة اللواط بالزنا، فقالوا: الحرام المحض وهو الزنا يثبت به التحريم، ولا فرق بين الزنا في القبل والدبر؛ لأنه يتعلق به التحريم فيما إذا وجد في الزوجة والأمة. وإن تلوط بغلام يتعلق به التحريم أيضاً، فيحرم على اللائط أمُّ الغلام وابنته، وعلى الغلام أم اللائط وابنته؛ لأنه وطء في الفرج، فنشر الحرمة كوطء المرأة، ولأنها بنت من وطئه وأمه، فحرمتا عليه، كما لو كانت الموطوءة أنثى. ويترتب على هذا الرأي: أنه يحرم على الرجل نكاح بنته من الزنا وأخته، وبنت ابنه وبنت بنته وبنت أخيه وأخته من الزنا، وتحرم أمها وجدتها، فمن زنى بامرأة حرمت عليه بنتها وأمها. ولو زنى الزوج بأم زوجته أو ببنتها، حرمت عليه زوجته على التأييد. واستدلوا بدليلين: الأول ـ ما روي أن رجلاً قال: يا رسول الله، إني قد زنيت بامرأة في الجاهلية، أفأنكح ابنتها؟ قال: «لا أرى ذلك، ولا يصلح أن تنكح امرأة تطّلع من ¬
ابنتها على ما تطلع عليه منها». ولكن هذا الحديث مرسل ومنقطع كما قال ابن الهمام في فتح القدير. الثاني ـ إن الزنا سبب للولد، فيثبت به التحريم قياساً على غير الزنا، وكون الزنا حراماً لا يؤثر، بدليل أن الدخول بالمرأة بناء على عقد فاسد تثبت به حرمة المصاهرة بالاتفاق، وإن كان الدخول حراماً. ورد عليه بأنه قياس مع الفارق؛ لأن الزنا يجب به الحد ولا يثبت به النسب، بخلاف الوطء في الزواج، لذا قال الشافعي لمحمد بن الحسن: «إن الزواج أمر حمدت عليه، والزنا فعل رجمت عليه، فكيف يشتبهان؟!». وقال المالكية على المشهور والشافعية (¬1): إن الزنا والنظر والمس لا تثبت به حرمةالمصاهرة، فمن زنى بامرأة لم يحرم عليه نكاحها، ولا الزواج بأمها أو ببنتها، ولا تحرم المزني بها على أصول الزاني وفروعه، ولو زنى الرجل بأم زوجته أو ببنتها لا تحرم عليه زوجته. وإن لاط بغلام لم تحرم عليه أمه وابنته، ولكن يكره ذلك كله. واستدلوا بأدلة أربعة هي: الأول ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلم سئل عن رجل زنى بامرأة، فأراد أن يتزوجها أو يتزوج ابنتها، فقال: «لا يحرم الحرام الحلال، إنما يحرم ما كان بنكاح» (¬2) فهذا كما قال الدميري: يدل لمذهب الشافعي أن الزنا لا يثبت حرمة المصاهرة، حتى يجوز للزاني أن ينكح أم المزني بها. ¬
ويؤيده أحاديث أخرى منها: «الزاني المجلود لا ينكح إلا مثله» (¬1) وقرأ النبي صلّى الله عليه وسلم على رجل يريد أن يتزوج بزانية: {الزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك} (¬2) [النور:3/ 24]. الثاني ـ المصاهرة نعمة؛ لأنها تلحق الأجانب بالأقارب، وفي الحديث: «المصاهرة لحمة كلحمة النسب» (¬3)، وأما الزنا فمحظور شرعاً، فلا يكون سبباً للنعمة. الثالث ـ القصد من إثبات حرمة المصاهرة قطع الأطماع بين الرجل والمرأة، لتحقيق الألفة والمودة، والاجتماع البريء من غير ريبة، أما المزني بها فهي أجنبية عن الرجل ولا تنسب إليه شرعاً، ولا يجري بينهما التوارث، ولا تلزمه نفقتها، ولا سبيل للقاء معها، فهي كسائر الأجانب، فلا وجه لإثبات الحرمة بالزنا. الرابع ـ قوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} [النساء:24/ 4] يفيد صراحة حل ما عدا المذكورات قبلها، وليس المزني بها منهن، فتدخل في عموم الحل. وبالنظر في أدلة الفريقين، وبمعرفة ضعف أدلة الفريق الأول، يتبين لنا ترجيح رأي الفريق الثاني، تمييزاً بين الحلال المشروع والحرام المحظور. ونصت المادة (34) من القانون السوري على المحرمات بسبب المصاهرة ونصها: يحرم على الرجل: ¬
3 - حرمة الرضاع
1 - زوجة أصله أو فرعه أو موطوءة أحدهما. 2 - أصل موطوءته أو فرعها، وأصل زوجته. وقد اقتصر النص على أصل الزوجة دون فرعها؛ لأنه إن دخل الزوج بالزوجة، فيشمل فرع الزوجة قوله: «أصل موطوءته وفرعها» وإن لم يدخل بها، فلا يحرم عليه فرعها وهي الربيبة. 3 - حرمة الرضاع: المحرمات بسبب الرضاع هن المحرمات بسبب النسب، وهو أربعة أنواع من جهة النسب، وأربعةأنواع من جهة المصاهرة، فصار المجموع ثمانية. ودليل التحريم: قوله تعالى: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم، وأخواتكم من الرضاعة} [النساء:23/ 4] وقوله صلّى الله عليه وسلم: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» (¬1) وكما تحرم القريبات من الرضاع، تحرم الأصهار من الرضاع أيضاً، قياساً على النسب، وأخذاً من مفهوم الآية والحديث المتقدمين، فأصبحت القاعدة: يحرم بسبب الرضاع ما يحرم بسبب النسب وسبب المصاهرة إلا في حالتين سأذكرهما يختلف فيهما حكم النسب والرضاع. وأنواع المحرمات بالرضاع الثمانية هي ما يأتي: الأول ـ أصول الإنسان من الرضاع مهما علون: وهي الأم من الرضاعة والجدة أو الجدات، أي أم المرضعة وأم زوج المرضعة. ¬
الثاني ـ الفروع من الرضاع مهما نزلن
الثاني ـ الفروع من الرضاع مهما نزلن: وهي البنت رضاعاً وبنتها، وبنت الابن رضاعاً وبنتها وإن نزلت؛ لأنهن بنات إخوته وأخواته. الثالث ـ فروع الأبوين من الرضاع: وهي الأخوات من الرضاعة، وبنات الإخوة والأخوات مهما نزلن؛ لأنهن بنات الأخ والأخت. الرابع ـ الفروع المباشرة للجد والجدة من الرضاع: وهي العمات والخالات رضاعاً. والعمة من الرضاعة: هي أخت زوج المرضعة، والخالة من الرضاعة: هي أخت المرضعة. ولا تحرم بنات العمات والأعمام وبنات الخالات والأخوال من الرضاعة، كما لا تحرم من النسب. الخامس ـ أم الزوجة وجداتها من الرضاعة مهما علون، سواء أكان هناك دخول بالزوجة أم لم يكن. السادس ـ زوجة الأب والجد من الرضاع، وإن علا، سواء دخل الأب والجد بها أم لم يدخل، كما يحرم عليه زوجة أبيه من النسب. السابع ـ زوجة الابن وابن ابن البنت من الرضاع، وإن نزلوا، سواء دخل الابن ونحوه بالزوجة أم لم يدخل، كما يحرم عليه زوجة أولاده من النسب. الثامن ـ بنت الزوجة من الرضاعة. وبنات أولادها مهما نزلن، إذا كانت الزوجة مدخولاً بها، فإن لم يكن دخول بها، فلا تحرم فروعها من الرضاع على الزوج، كما في النسب. ما يختلف فيه حكم الرضاع عن حكم النسب: استثنى الحنفية (¬1) حالتين من التحريم بالنسب، لا تحريم فيهما من جهة الرضاع، وهما: ¬
- أم الأخ أو الأخت من الرضاع
1 ً - أم الأخ أو الأخت من الرضاع: فإنه يجوز الزواج بها، ولا يجوز الزواج بأم الأخ أو الأخت من النسب لأبيه، كأن ترضع امرأة طفلاً، وكان لها ابن من النسب، فيجوز لهذا الابن أن يتزوج بأم هذا الطفل، وهي أم أخيه من الرضاع. وذلك لأن أم الأخ أو الأخت من النسب إما أن تكون أمه إن كانا شقيقين أو أخوين لأم، أو زوجة أبيه إن كانا أخوين لأب، وهذا لم يوجد في الرضاع. 2 ً - أخت الابن أو البنت من الرضاع: فإنه يحل للأب أن يتزوج بها، ولا يحل له أن يتزوج بأخت ابنه أو بنته من النسب، كأن ترضع امرأة طفلاً، فلزوج هذه المرأة أن يتزوج بأخت هذا الطفل، ولأبي هذا الطفل أن يتزوج بنت هذه المرضعة. وحرمة أخت الابن أو البنت من النسب؛ لأنها إما أن تكون بنته أو بنت زوجته المدخول بها، وكلتاهما يحرم الزواج بها، وهذا لم يوجد في الرضاع. أخت الأخ وأم الرضيع والمرضعة: ذكر الحنفية أيضاً أنه يجوز للرجل الزواج بأخت الأخ من الرضاع، وأخت الأخ من النسب، وأم الرضيع من النسب، وبالمرضعة. أما أخت الأخ من الرضاع فكأن يرضع طفل من امرأة، فيجوز لأخي هذا الطفل الذي لم يرضع أن يتزوج بنت هذه المرأة، وهي أخت أخيه من الرضاع، وهذا معنى قول العوام: افلت رضيعاً وخذ أخاه. ومثلها أخت أخته من الرضاع. وأما صورة أخت أخيه من النسب: فكأن يوجد أخوان لأب، ولأحدهما أخت من أمه، فيحل لأخيه الآخر أن يتزوج بها، وهي أخت أخيه من النسب، إذ لا صلة بين هذه الأخت وبين الرجل، لا بنسب ولا رضاع، وإنما هي بنت زوجة
موقف القانون من الرضاع
أبيه. وكذلك لو كان هناك أخوان لأم، ولأحدهما أخت نسبية من الأب، فإنها تحل لأخيه من الأم. ويجوز لزوج المرضعة أن يتزوج أم الرضيع من النسب؛ لأن الرضيع ابنه، كما يجوز أن يتزوج أم ابنه من النسب. ولأب الرضيع من النسب أن يتزوج المرضعة؛ لأنها أم ابنه من الرضاع، فهي كأم ابنه من النسب. موقف القانون من الرضاع: نصت المادة (1/ 35) من القانون السوري على أصناف المحرمات بالرضاع وهي: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب إلا ما قرر فقهاء الحنفية استثناءه». ونصت الفقرة (2) من هذه المادة على شروط الرضاع المحرم: «يشترط في الرضاع للتحريم أن يكون في العامين الأولين، وأن يبلغ خمس رضعات متفرقات، يكتفي الرضيع في كل منها، قل مقدارها أو كثر». وهذا يعني أن شروط الرضاع المحرِّم هي ما يأتي: 1 - أن يقع الرضاع خلال العامين الأولين من حياة الرضيع، فلو رضع بعدهما لا تثبت به الحرمة. وهذا رأي الجمهور لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا رضاع إلا ما كان في الحولين» (¬1)، وضم الإمام مالك لمدة العامين مدة أقصاها شهران؛ لأن الطفل قد يحتاج لهذه المدة للتدرج في تحويل غذائه من اللبن إلى الطعام، وذلك إذا لم يفطم عن الرضاع قبل هذه المدة، فإن فطم وأكل الطعام ثم رضع فلا يكون الرضاع محرِّماً. ¬
2 - أن يرضع الطفل خمس رضعات متفرقات
وقدر الإمام أبو حنيفة مدة الرضاع بسنتين ونصف، ليتدرج الطفل في نصف العام على تحويل غذائه من اللبن إلى غيره. 2 - أن يرضع الطفل خمس رضعات متفرقات بحسب العادة، بحيث يترك الثدي باختياره من غير عارض كتنفس أو استراحة يسيرة أو شيء يلهيه عن الرضاع فجأة ولا يشترط كونها مشبعات. وهذا مذهب الشافعية والحنابلة في الراجح عندهم. آراء العلماء في رضاع الكبير والصغير: ورد عن السيدة عائشة قالت: جاءت سهلة بنت سهيل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن سالماً مولى أبي حذيفة معنا في بيتنا وقد بلغ ما يبلغ الرجال «فقال: أرضعيه تحرمي عليه». رواه مسلم (¬1). وفي سنن أبي داود «فأرضعيه خمس رضعات» فكان بمنزلة ولدها من الرضاعة وهو معارض لذلك. وهو يدل على أن رضاع الكبير يحرم مع أنه ليس داخلاً تحت الرضاعة من المجاعة، وبيان القصة أن أبا حذيفة كان قد تبنى سالماً وزوجه، وكان سالم مولى لامرأة من الأنصار فلما أنزل الله {ادعوهم لآبائهم} [الأحزاب:5/ 33] الآية. كان من له أب معروف نسب إلى أبيه، ومن لا أب له معروفاً، كان مولى وأخاً في الدين، فعند ذلك جاءت سهلة تذكر ما نصه الحديث. ¬
وقد اختلف السلف في هذا الحكم: 1 - ذهبت السيدة عائشة رضي الله عنها، وروي هذا عن علي وعروة وداود الظاهري: إلى ثبوت حكم التحريم وإن كان الراضع بالغاً عاقلاً بل لقد ورد أن السيدة عائشة كانت تأمر أختها أم كلثوم وبنات أخيها يرضعن من أحبت أن يدخل عليها من الرجال ـ رواه مالك. وأما حجتهم فهي: أـ حديث سهلة هذا وهو حديث صحيح لا شك فيه. ب ـ قوله تعالى: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة} [النساء:23/ 4] فإنه مطلق غير مقيد بوقت. 2 - وقال الجمهور من الصحابة والتابعين والفقهاء: لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في الصغر مع اختلافهم في تحديد الصغر. 1ً - الجمهور قالوا: مهما كان في الحولين فإن رضاعه يحرم، ولا يحرم ما كان بعدهما، مستدلين بقوله تعالى: {حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة} [البقرة:233/ 2]. 2ً - وحديث «إنما الرضاعة من المجاعة» ولا يصدق ذلك إلا على من يشبعه اللبن، ويكون غذاءه لا غير، فلا يدخل الكبير لاسيما وقد ورد بصيغة الحصر. 3 - قال جماعة: الرضاع المحرم ما كان قبل الفطام ولم يقدروه بزمان. 4 - وقال الأوزاعي: إن فطم وله عام واحد واستمر فطامه ثم رضع في الحولين، لم يحرم هذا الرضاع شيئاً وإن تمادى رضاعه ولم يفطم فما يرضع وهو في الحولين حرّم، وما كان بعدهما لا يحرم وإن تمادى إرضاعه.
5 - وهناك أقوال أخرى عارية عن الاستدلال. وأجاب الجمهور عن حديث سالم بأنه خاص بقصة سهلة كما يدل له قول أم سلمة للسيدة عائشة: «لا نرى هذا إلا خاصاً بسالم». ولا ندري لعله رخصه لسالم أو أنه منسوخ. ـ وأجاب القائلون بتحريم رضاع الكبير بأن الآية وحديث «إنما الرضاعة من المجاعة» واردان لبيان الرضاعة الموجبة لنفقة المرضعة، والتي يجبر عليها الأبوان كما يرشد إلى ذلك آخر الآية: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} [البقرة:233/ 2]. وعائشة هي الراوية لحديث «إنما الرضاعة من المجاعة» وهي التي قالت برضاع الكبير وأنه يحرم، فدل على أنها فهمت ما ذكرناه في معنى الآية والحديث. قالوا: ولو كان حديث سالم خاصاً به لذكر ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم كما بين اختصاص أبي بردة بالتضحية بالجذعة من المعز. وأما القول بأنه منسوخ فيدفعه أن قصة سهلة متأخرة عن نزول آية الحولين فإن سهلة قالت لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: كيف أرضعه وهو رجل كبير؟ فإن هذا السؤال منها استنكار لرضاع الكبير دال على أن التحليل بعد اعتقاد التحريم. وقد دفع ابن تيمية التعارض فقال: «إنه يعتبر الصغر في الرضاعة إلا إذا دعت إليه الحاجة كرضاع الكبير الذي لا يُستغنى عن دخوله على المرأة وشق احتجابها عنه كحال سالم مع امرأة أبي حذيفة، فمثل هذا الكبير الذي أرضعته للحاجة أثَّر رضاعه، وأما من عداه فلا بد من الصغر».
لبن الفحل
وهو جمع بين الأحاديث حسن وإعمال لها من غير مخالفة لظاهرها بالاختصاص ولا نسخ ولا إلغاء لما اعتبرته اللغة ودلت له الأحاديث (¬1). لبن الفحل: الفحل: الرجل المتزوج بالمرأة المرضعة إذا كان لبنها منه. والحكم المقرر لدى جمهور الصحابة والتابعين وأئمة الاجتهاد: أن اللبن للفحل فهو الذي يتعلق به التحريم، أي أنه حق الرجل، وقد حدث بسببه، ولا تنقطع نسبة اللبن عن زوج مات أو طلق، فبه يصبح زوج المرضع أباً للرضيع، وتصبح المرضع به أيضاً أماً للرضيع، ويحرم الطفل على الرجل وأقاربه، كما يحرم ولده من النسب، ويصير أولاد الزوج كلهم إخوة الرضيع، سواء أكانوا من تلك الزوجة المرضع، أم من زوجة أخرى غيرها (¬2)، أخرج الأئمة الستة عن عائشة، قالت: «دخل عليّ أفلح بن أبي القعيس، فاستترت منه، فقال: تستترين مني وأنا عمك؟ قالت: من أين؟ قال: أرضعتك امرأة أخي، قالت: إنما أرضعتني المرأة، ولم يرضعني الرجل، فدخل علي رسول الله صلّى الله عليه وسلم فحدثته، فقال: إنه عمك، فليلج عليك». حكمة التحريم بالرضاع: يحدث التحريم بالرضاع بسبب تكوّن أجزاء البنية الإنسانية من اللبن، فلبن المرأة ينبت لحم الرضيع، وينشز عظمه أي يكبر حجمه، كما جاء في الحديث: «لا رضاع إلا ما أنشز العظم، وأنبت اللحم» (¬3) فإن إنشاز العظم، وإنبات اللحم، إنما يكون لمن كان غذاؤه اللبن، وبه تصبح المرضع أما ً للرضيع؛ لأنه جزء منها حقيقة. ¬
النوع الثاني ـ المحرمات المؤقتة
وسأذكر إن شاء الله في بحث الرضاع شروط الرضاع المحرم عند الفقهاء وطرق إثبات الرضاع. النوع الثاني ـ المحرمات المؤقتة: وهن اللاتي يحرم الزواج بهن حرمة مؤقتة لسبب معين، فإذا زال السبب زالت الحرمة، وتلك خمسة أنواع هي: المطلقة ثلاثاً، المشغولة بحق زوج آخر بزواج أوعدة، التي لا تدين بدين سماوي، أخت الزوجة ومن في حكمها، الخامسة لمتزوج بأربع. واقتصر القانون السوري على أربعة أصناف، ولم يذكر المرأة التي لا تدين بدين سماوي، فنص في المواد (36 - 39) على ذلك: م (36 - 1) - لا يجوز أن يتزوج رجل امرأة طلقها ثلاث مرات إلا بعد انقضاء عدتها من زوج آخر، دخل بها فعلاً. 2 - زواج المطلقة من آخر يهدم طلقات الزوج السابق، ولو كانت دون الثلاث، فإذا عادت إليه يملك عليها ثلاثاً جديدة. (م 37) - لا يجوز أن يتزوج الرجل خامسة حتى يطلّق إحدى زوجاته الأربع، وتنقضي عدتها. (م 38) - لا يجوز التزوج بزوجة آخر ولا بمعتدته. (م 39) - لا يجوز الجمع بين امرأتين، لو فرضت كل منهما ذكراً حرمت عليه الأخرى، فإن ثبت الحل على أحد الفرضين، جاز الجمع بينهما. وأضاف الحنفية المرأة الملاعنة: وهي التي قذفها زوجها بالفجور، أو نفي
- المطلقة ثلاثا (المبتوتة أو البائن بينونة كبرى)
نسب ولدها إليه، فترافعا إلى القاضي، وتلاعنا أمامه، ففرق بينهما. فتصبح المرأة حراماً على الرجل، فإن أكذب نفسه وبرأها مما نسبه إليها، جاز زواجه بها عند أبي حنيفة ومحمد. وقال الجمهور: التحريم مؤبد، لما صح في السنة أن المتلاعنين لا يجتمعان أبداً (¬1). وأبيّن هنا تباعاً هذه الأنواع ما عدا الملاعنة فمحل بحثها في اللعان. 1 ً - المطلقة ثلاثاً (المبتوتة أو البائن بينونة كبرى) بالنسبة لمن طلقها: فمن طلق زوجته ثلاث طلقات، فلا يحل له أن يعقد عليها مرة أخرى، إلا إذا تزوجت بزوج آخر ودخل بها، وانقضت عدتها منه، بأن طلقها باختياره أو مات عنها، فتعود إلى الزوج الأول بزوجية جديدة، ويملك عليها ثلاث طلقات جديدة (¬2)، بعد أن اختبرت المرأة زوجاً آخر، وقامت بتجربة أخرى، وأحس الزوج بصعوبة الفراق، فيعودان إلى الحياة المشتركة بروح وصفحة جديدة، وتسارع المرأة في إرضاء زوجها، وتجنب أسباب تصدع الزوجية السابقة. قال تعالى مبيناً طريق حل المبتوتة: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان} [البقرة:229/ 2] .. إلى أن قال سبحانه: {فإن طلقها، فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره، فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله} [البقرة:230/ 2]. والدليل على اشتراط دخول الزوج الثاني بالمرأة المطلقة ثلاثاً: حديث العسيلة، قالت عائشة: جاءت امرأة رفاعة القُرَظي إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقالت: كنت ¬
شروط حل المطلقة ثلاثا لزوجها الأول
عند رفاعة، فطلقني، فبتَّ طلاقي، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وإنما معه مثل هَدْبة الثوب (¬1)، فقال: أتريدين أن ترجعي إلفاعة، لا، حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك (¬2) فيه دليل على أن وطء الزوج الثاني لا يكون محللاً ارتجاع الزوج الأول للمرأة، إلا أن كان حال وطئه منتشراً، فلو لم يكن كذلك، أوكان عنيناً أو طفلاً، لم يكف في الأصح من قولي أهل العلم. شروط حل المطلقة ثلاثاً لزوجها الأول: يشترط لحل المطلقة ثلاثاً للزوج الأول ثلاثة شروط (¬3): أحدها: أن تنكح زوجاً غيره، لقوله تعالى: {حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة:230/ 2]. الثاني ـ أن يكون النكاح صحيحاً: فإن كان فاسداً لم يحلها الوطء فيه، باتفاق المذاهب الأربعة، لقوله تعالى: {حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة:230/ 2] وإطلاق النكاح يقتضي الصحيح. الثالث ـ أن يطأها في الفرج: فلو وطئها دونه أو في الدبر، لم يحلها؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم علق الحل ـ في الحديث المتقدم ـ على ذوق العسيلة منهما، ولا يحصل ذلك إلا بالوطء في الفرج. وأدناه تغييب الحشفة في الفرج؛ لأن أحكام الوطء تتعلق به. ولو أولج الحشفة من غير انتشار، لم تحل له؛ لأن الحكم يتعلق بذوق ¬
هل نكاح التحليل المؤقت يحل المطلقة ثلاثا
العسيلة، ولا تحصل من غير انتشار. ويجزئ قدر الحشفة من مقطوع الذكر، وتحل بوطء الخصي؛ لأنه يطأ كالفحل، ولم يفقد إلا الإنزال، وهوغير معتبر في الإحلال. وذكر الحنفية أنها لو تزوجت بمجبوب (مقطوع الذكر كله) فإنها لا تحل حتى تحبل لوجود الدخول حكماً، حتى إنه يثبتُ النسب من الثاني. واشترط الحنابلة والمالكية شرطاً رابعاً: وهو أن يكون الوطء حلالاً، فإن وطئها في حيض أو نفاس أو إحرام من أحدهما أو منهما، أو وأحدهما صائم فرضاً، لم تحل؛ لأنه وطء حرام لحق الله تعالى، لم يحصل به الإحلال، كوطء المرتدة، لا يحلها سواء وطئها في حال ردتهما، أو ردتها. ولم يشترط الحنفية والشافعية هذا الشرط، قال ابن قدامة الحنبلي: وهذا أصح إن شاء الله تعالى، لظاهر قوله تعالى: {حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة:230/ 2] وهذه قد نكحت زوجاً غيره، وأيضاً قوله عليه الصلاة والسلام: «حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك» وهذا قد وجد، ولأنه وطء في نكاح صحيح في محل الوطء على سبيل التمام، فأحلها كالوطء الحلال، وكما لو وطئها وقد ضاق وقت الصلاة، أو وطئها مريضة يضرها الوطء. وهل نكاح التحليل المؤقت (¬1) يحل المطلقة ثلاثاً: قال الحنفية والشافعية (¬2): تحل المطلقة ثلاثاً لزوجها الأول بنكاح التحليل، لكن يكره عند الحنفية تحريماً التزوج الثاني إن كان بشرط التحليل، مثل: تزوجتك ¬
على أن أحلك. لحديث: «لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم المحلِّل والمحلَّل له» (¬1)، ويصح الزواج، ويبطل الشرط، فلا يجبر الثاني على الطلاق. فإن أضمر الزوج الأول والثاني التحليل، أو كان الثاني مأجوراً لقصد الإصلاح، لا مجرد قضاء الشهوة ونحوها، لا يكره. وذكر الشافعية أن نكاح المحلل باطل إن نكحها على أنها إذا وطئها فلا نكاح بينهما، أو أن يتزوجها على أن يحلل للزوج الأول، لما روى هزيل عن عبد الله قال: «لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم الواصلة والموصولة، والواشمة والموشومة، والمحلِّل والمحلَّل له، وآكل الربا ومطعمه» (¬2) ولأنه نكاح شرط انقطاعه، دون غايته، فأشبه نكاح المتعة. وأما إن تزوجها واعتقد أنه يطلقها إذا وطئها، فيكره ذلك، لما روى الحاكم والطبراني في الأوسط عن عمر: أنه جاء إليه رجل، فسأله عن رجل طلق امرأته ثلاثاً، فتزوجها أخ له عن غير مؤامرة ليحلها لأخيه، هل تحل للأول؟ قال: لا، إلا بنكاح رغبة وروى أبو مرزوق التجيبي مثله عن عثمان، أي إن تزوج على نية التحليل بدون شرط صح النكاح؛ لأن العقد إنما يبطل بما شرط، لا بما قصد. والخلاصة: إن زواج المحلل بلا شرط، أي بدون شرط صريح في العقد على التطليق، وإنما بالنية والقصد الباطن صحيح مكروه عند الشافعية؛ لأن العقد استوفى أركانه وشروطه في الظاهر، ولا يتأثر العقد بالباعث الداخلي أي أنهم لا يقولون بمبدأ سد الذرائع بالقصد الداخلي. وقال المالكية والحنابلة (¬3): إن نكاح المحلل أونكاح التيس المستعار ولو بلا ¬
- المشغولة بحق زوج آخر
شرط: وهو الذي يتزوجها ليحلها لزوجها حرام باطل مفسوخ، لا يصح ولا تحل لزوجها الأول، والمعتبر نية المحلل لا نية المرأة، ولا نية المحلل له. ودليلهم الحديث السابق عن ابن مسعود: «لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم المحلِّل والمحلل له» وحديث عقبة بن عامر: «ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا: بلى، يارسول الله، قال: هو المحلِّل، لعن الله المحلل والمحلل له» (¬1). فهذا يدل على تحريم التحليل؛ لأن اللعن إنما يكون على ذنب كبير. وهذا يتفق مع مبدئهم بسد الذرائع، وهو الراجح لدي. وخص الفريق الأول التحريم والإبطال بما إذا شرط الزوج أنه إذا نكحها الثاني بانت منه، أو شرط أنه يطلقها أو نحوذ لك. 2ً - المشغولة بحق زوج آخر: وهي التي تعلق بها حق الغير بزواج أو عدة، وهذا يشمل ما يأتي: 1 ً) ـ المرأة المتزوجة: فلا يحل لأحد أن يعقد عليها ما دامت متزوجة لتعلق حق الغير بها، سواء أكان الزوج مسلماً أم غير مسلم؛ لقوله تعالى: {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} [النساء:24/ 4] أي المتزوجات، واستثنى النص المملوكات بملك اليمين: وهن المسبيات في حرب مشروعة، فإذا سبيت المرأة، وقعت الفرقة بينها وبين زوجها بسبب اختلاف الدار، فيحل الزواج بها. وهذا هو مانع الزوجية من أربعة عشر مانعاً عند المالكية سأذكرها. وحكمة تحريم المتزوجة واضحة وهي منع الاعتداء على حق الغير، وحفظ الأنساب من الاختلاط. ¬
ـ المرأة المعتدة
2 ً) ـ المرأة المعتدة: وهي التي تكون في أثناء العدة من زواج سابق، سواء عدة طلاق أو وفاة. فلا يحل لأحد غير زوجها الأول التزوج بها حتى تنقضي عدتها، ويشمل ذلك عدة الزواج الفاسد أوبشبهة، لثبوت نسب الولد. لقوله تعالى: {ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله} [البقرة:235/ 2] أي لا تعقدوا الزواج على المعتدة من وفاة حتى تنتهي عدتها. ولقوله سبحانه: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة:228/ 2] أي أطهار أو حيضات على رأيين في التفسير والفقه، أي يجب على المرأة المطلقة الانتظار ثلاثة أطهار أو حيضات، فلا يحل الزواج بها، وقال علي وابن عباس وعَبيدة السلماني: «ما أجمعت الصحابة على شيء كإجماعهم على أربع قبل الظهر، وألا تنكح امرأة في عدة أختها» وحكمة تحريم المعتدة بقاء آثار الزواج السابق، ورعاية حقوق الزوج القديم، ومنع اختلاط الأنساب. وهل يترتب على الدخول بالمعتدة تحريمها على الرجل تحريماً مؤبداً؟ اختلف الفقهاء على رأيين (¬1)، فقال الجمهور: إن الدخول بالمعتدة لا يحرمها عليه، بل إذا انقضت عدتها حل له الزواج بها؛ لأن الرجل لو زنى بامرأة لا يحرم عليه الزواج بها بالاتفاق، فكذلك لو دخل بها وهي في العدة أو بعدها، لا يحرم عليه الزواج بها بعد انتهاء العدة، ولأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: يفرق بينهما، ثم يخطبها بعد العدة إن شاء. وروي مثله عن ابن مسعود رضي الله عنه. وقال المالكية: الدخول بالمعتدة يحرمها على الرجل تحريماً مؤبداً، فيفرق ¬
- المرأة الحامل من الزنا عند الحنفية، ومانع الزنا عند المالكية
بينهما ولاتحل له أبداً، بدليل ما روى مالك عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فرق بين طليحة الأسدية وبين زوجها راشد الثقفي لما تزوَّجها في العدة من زوج ثان، وقال: أيما امرأة نكحت في عدتها، فإن كان زوجها الذي تزوجها لم يدخل بها، فرق بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من الأول، ثم كان الآخر خاطباً من الخطاب، وإن كان دخل بها فرق بينهما، ثم اعتدت بقية عدتها من الأول، ثم اعتدت من الآخر، ثم لا يجتمعان أبداً. قال ابن المسيب: ولها مهرها بما استحل منها. وهذا هو مانع العدة عند المالكية من أربعة عشر مانعاً. 3 ً) - المرأة الحامل من الزنا عند الحنفية، ومانع الزنا عند المالكية (¬1): يحل بالاتفاق للزاني أن يتزوج بالزانية التي زنى بها، فإن جاءت بولد بعد مضي ستة أشهر من وقت العقد عليها، ثبت نسبه منه، وإن جاءت به لأقل من ستة أشهر من وقت العقد لا يثبت نسبه منه، إلا إذا قال: إن الولد منه، ولم يصرح بأنه من الزنا. إن هذا الإقرار بالولد يثبت به نسبه منه لاحتمال عقد سابق أو دخول بشبهة، حملاً لحال المسلم على الصلاح وستراً على الأعراض. أما زواج غير الزاني بالمزني بها، فقال قوم كالحسن البصري: إن الزنا يفسخ النكاح. وقال الجمهور: يجوز الزواج بالمزني بها. ومنشأ الخلاف آية: {والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك، وحرِّم ذلك على المؤمنين} [النور:3/ 24] الفريق الأول يأخذ بظاهر الآية، والكلام خرج مخرج التحريم. والفريق الثاني (الجمهور) حملوا الآية على الذم، لا على التحريم، لما روى أبوداود والنسائي عن ابن عباس قال: «جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: إن امرأتي لا تمنع يد لامس ـ ¬
كناية عن عدم العفة عن الزنا ـ قال: غرِّبها ـ أي أبعدها ـ قال: أخاف أن تتبعها نفسي، قال: فاستمتع بها» (¬1) ولما أخرجه ابن ماجه عن ابن عمر والبيهقي عن عائشة: «لا يحرم الحرام الحلال». ثم اختلف الجمهور في التفصيل، فقال الحنفية: إذا كانت المزني بها غير حامل، صح العقد عليها من غير الزاني، وكذلك إن كانت حاملاً يجوز الزواج بها عند أبي حنيفة ومحمد، ولكن لا يطؤها، أي لا يدخل بها حتى تضع الحمل، للأدلة الآتية: أولاً ـ لم تذكر المزني بها في المحرمات، فتكون مباحة، لقوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} [النساء:24/ 4]. ثانياً ـ لا حرمة لماء الزنا، بدليل أنه لا يثبت به النسب، للحديث السابق: «الولد للفراش، وللعاهر الحجر» (¬2)، وإذا لم يكن للزنا حرمة، فلا يكون مانعاً من جواز النكاح. وإنما امتنع الدخول بالحامل من الزنا حتى تضع الحمل، فلقوله صلّى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يسقين ماءه زرع غيره» (¬3) يعني وطء الحوامل من غيره، وقال أبو يوسف وزفر: لا يجوز العقد على الحامل من الزنا؛ لأن هذا الحمل يمنع الوطء، فيمنع العقد أيضاً، كما يمنع الحمل الثابت النسب، أي كما لا يصح العقد على الحامل من غير الزنا، لا يصح العقد على الحامل من الزنا. ¬
زنا أحد الزوجين
وقال المالكية: لا يجوز العقد على الزانية قبل استبرائها من الزنا بحيضات ثلاث أو بمضي ثلاثة أشهر، فإن عقد عليها قبل الاستبراء، كان العقد فاسداً، ووجب فسخه، سواء ظهر بها حمل أم لا، أما الأول (ظهور الحمل) فللحديث السابق: «فلا يسقين ماءه زرع غيره» وأما الثاني فللخوف من اختلاط الأنساب. وقال الشافعية: إن زنى بامرأة، لم يحرم عليه نكاحها، لقوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} [النساء:24/ 4] ولحديث عائشة السابق: «لا يحرم الحرام الحلال». وقال الحنابلة: إذا زنت المرأة، لم يحل لمن يعلم ذلك نكاحها إلا بشرطين: أحدهما ـ انقضاء عدتها، فإن حملت من الزنا، فقضاء عدتها بوضعه، ولا يحل نكاحها قبل وضعه، للحديث السابق: «فلا يسقي ماءه زرع غيره» والحديث الصحيح: «لا توطأ حامل حتى تضع» وهذا رأي مالك. والثاني ـ أن تتوب من الزنا، للآية السابقة: {وحرِّم ذلك على المؤمنين} [النور:3/ 24] وهي قبل التوبة في حكم الزنا، فإذا تابت زال التحريم لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» (¬1). ولم يشترط باقي الأئمة هذا الشرط. زنا أحد الزوجين: اتفق عامة أهل العلم على أنه إن زنت امرأة رجل، أوزنى زوجها، لم ينفسخ النكاح، سواء أكان قبل الدخول أم بعده؛ لأن دعواه الزنا عليها لا يُبينها، ولو كان الزواج ينفسخ به، لانفسخ بمجرد دعواه كالرضا، ولأنها معصية لا تخرج عن الإسلام فأشبهت السرقة. أما اللعان فإنه يقتضي الفسخ بدون الزنا ¬
- المرأة التي لا تدين بدين سماوي
بدليل أنها إذا لاعنته فقد قابلته، فلم يثبت زناها، وقد أوجب النبي صلّى الله عليه وسلم الحد على من قذفها، والفسخ واقع باللعان. ولكن استحب الإمام أحمد للرجل مفارقة امرأته إذا زنت، وقال: «لا أرى أن يمسك مثل هذه، وذلك أنه لا يؤمن أن تفسد فراشه، وتلحق به ولداً ليس منه» وقال أحمد أيضاً: ولا يطؤها الزوج حتى يستبرئها بثلاث حيضات، للحديث السابق: «فلا يسقى ماءه زرع غيره» يعني إتيان الحبالى، ولأنها ربما تأتي بولد من الزنا، فينسب إليه. قال ابن قدامة: والأولى أنه يكفي استبراؤها بالحيضة الواحدة؛ لأنها تكفي في استبراء الإماء (¬1). 3ً - المرأة التي لا تدين بدين سماوي (¬2): لا يحل للمسلم الزواج بالمرأة المشركة أو الوثنية: وهي التي تعبد مع الله إلهاً غيره، كالأصنام أو الكواكب أو النار أوا لحيوان، ومثلها المرأة الملحدة أو المادية: وهي التي تؤمن بالمادة إلهاً، وتنكر وجود الله، ولا تعترف بالأديان السماوية، مثل الشيوعية والوجودية، والبهائية والقاديانية والبوذية. وذلك لقوله تعالى: {ولا تَنْكحوا المشركات، حتى يؤمنَّ، ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم} [البقرة:221/ 2]. وألحق الحنفية والشافعية وغيرهم المرأة المرتدة بالمشركة، فلا يجوز لأحد أصلاً مسلم أو كافر أن يتزوجها؛ لأنها تركت ملة الإسلام، ولا تقر على الردة، فإما أن تموت أوتسلم، فكانت الردة في معنى الموت، لكونها سبباً مفضياً إليه، والميت لا يكون محلاً للزواج. ¬
السبب في تحريم الزواج بالمشركة
والخلاصة: لا يحل بالاتفاق نكاح من لا كتاب لها كوثنية (وهي عابدة الوثن أو الصنم) ومجوسية (وهي عابدة النار) إذ لا كتاب بأيدي أهلها الآن، ولم نتيقنه من قبل فنحتاط. والسبب في تحريم الزواج بالمشركة ونحوها: عدم تحقق الانسجام والاطمئنان والتعاون بين الزوجين؛ لأن تباين العقيدة يسبِّب القلق والاضطراب والتنافر بين الزوجين، فلا تستقيم الحياة الزوجية القائمة على دعائم المودة والرحمة والمحبة، وغايتها الهدوء والاستقرار. ثم إن عدم الإيمان بدين يسهل على المرأة الخيانة الزوجية والفساد والشر، ويرفع عنها الأمانة والاستقامة والخير؛ لأنها تؤمن بالخرافات والأوهام، وتتأثر بالأهواء والطبائع الذاتية غير المهذبة، فلا دين يردعها، ولا رادع لها من إيمان بالله وباليوم الآخر وبالحساب والبعث. زواج المسلمة بالكافر: يحرم بالإجماع زواج المسلمة بالكافر، لقوله تعالى: {ولا تُنْكحوا المشركين حتى يؤمنوا} [البقرة:221/ 2] وقوله تعالى: {فإن علمتموهن مؤمنات، فلا ترجعوهن إلى الكفار، لا هن حل لهم، ولا هم يحلون لهن} [الممتحنة:10/ 60] ولأن في هذا الزواج خوف وقوع المؤمنة في الكفر؛ لأن الزوج يدعوها عادة إلى دينه، والنساء في العادة يتبعن الرجال فيما يؤثرون من الأفعال، ويقلدونهم في الدين، بدليل الإشارة إليه في آخر الآية: {أولئك يَدْعون إلى النار} [البقرة:221/ 2] أي يدعون المؤمنات إلى الكفر، والدعاء إلى الكفر دعاء إلى النار؛ لأن الكفر يوجب النار، فكان زواج الكافر المسلمة سبباً داعياً إلى الحرام، فكان حراماً باطلاً. والنص وإن ورد في المشركين، لكن العلة وهي الدعاء إلى النار يعم الكفرة أجمع، فيتعمم الحكم بعموم العلة. وعليه لا يجوز زواج الكتابي بالمسلمة، كما لا يجوز زواج الوثني والمجوسي
الزواج بالكتابيات
بالمسلمة أيضاً؛ لأن الشرع قطع ولاية الكافرين عن المؤمنين بقوله تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} [النساء:141/ 4] فلو جاز تزويج الكافر المؤمنة لثبت له عليها سبيل، وهذا لا يجوز. الزواج بالكتابيات: الكتابية: هي التي تؤمن بدين سماوي، كاليهودية والنصرانية. وأهل الكتاب: هم أهل التوراة والإنجيل، لقوله تعالى: {أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا} [الأنعام:156/ 6]. وقد أجمع العلماء على إباحة الزواج بالكتابيات، لقوله تعالى: {اليوم أحل لكم الطيبات، وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم، وطعامكم حل لهم، والمحصنات من المؤمنات، والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} [المائدة:5/ 5] والمراد بالمحصنات في الآية: العفائف، ويقصد بها حمل الناس على التزوج بالعفائف، لما فيه من تحقيق الود والألفة بين الزوجين، وإشاعة السكون والاطمئنان. ولأن الصحابة رضي الله عنهم تزوجوا من أهل الذمة، فتزوج عثمان رضي الله عنه نائلة بنت الفرافصة الكلبية وهي نصرانية، وأسلمت عنده، وتزوج حذيفة رضي الله عنه بيهودية من أهل المدائن. وسئل جابر رضي الله عنه عن نكاح المسلم اليهودية والنصرانية، فقال: تزوجنا بهن زمان الفتح بالكوفة مع سعد بن أبي وقاص. والسبب في إباحة الزواج بالكتابية بعكس المشركة: هو أنها تلتقي مع المسلم في الإيمان ببعض المبادئ الأساسية، من الاعتراف بإله، والإيمان بالرسل وباليوم الآخر، وما فيه من حساب وعقاب. فوجود نواحي الالتقاء وجسور الاتصال على هذه الأسس يضمن توفير حياة زوجية مستقيمة غالباً، ويرجى إسلامها؛ لأنها تؤمن بكتب الأنبياء والرسل في الجملة.
كراهة الزواج بالكتابيات
والحكمة في أن المسلم يتزوج باليهودية والنصرانية، دون العكس: هي أن المسلم يؤمن بكل الرسل، وبالأديان في أصولها الصحيحة الأولى، فلا خطر منه على الزوجة في عقيدتها أو مشاعرها، أما غير المسلم فلا يؤمن بالإسلام فيكون هناك خطر محقق بحمل زوجته على التأثر بدينه، والمرأة عادة سريعة التأثر والانقياد، وفي زواجها إيذاء لشعورها وعقيدتها. كراهة الزواج بالكتابيات: يكره ـ عند الحنفية والشافعية، وعند المالكية في رأي ـ للمسلم الزواج بالكتابية الذمية، وقال الحنابلة: زواجه بها خلاف الأولى؛ لأن عمر قال للذين تزوجوا من نساء أهل الكتاب: «طِّلقوهن» فطلقوهن إلا حذيفة، فقال له عمر: «طلقها» قال: تشهد أنها حرام؟ قال: هي خمرة، طلقها، قال: تشهد أنها حرام؟ قال: هي خمرة، قال: قد علمت أنها خمرة، ولكنها لي حلال. فلما كان بعد، طلقها، فقيل له: ألا طلقتها حين أمرك عمر؟ قال: كرهت أن يرى الناس أني ركبت أمراً لا ينبغي لي. ولأنه ربما مال إليها قلبه ففتنته، وربما كان بينهما ولد، فيميل إليها. أما الحربية: فيحرم تزوجها عند الحنفية إذا كانت في دار الحرب؛ لأن تزوجها فتح لباب الفتنة، وتكره عند الشافعية، وعند المالكية، والزواج بها خلاف الأولى عند الحنابلة. والواقع، في الزواج بالكتابيات وبالأولى الحربيات: مضار اجتماعية ووطنية ودينية، فقد ينقلن لبلادهن أخبار المسلمين، وقد يرغبن الأولاد في عقائد وعادات غير المسلمين، وقد يؤدي الزواج بهن إلى إلحاق ضرر بالمسلمات بالإعراض عنهن، وقد تكون الكتابية منحرفة السلوك، بدليل ما يأتي: روى الجصاص في تفسيره: أن حذيفة بن اليمان تزوج بيهودية، فكتب إليه
رأي الشافعية في زواج الكتابية
عمر: أن خل سبيلها، فكتب إليه حذيفة: أحرام هي؟ فكتب إليه عمر: لا، ولكني أخاف أن تواقعوا المومسات منهن، يعني العواهر. وروى الإمام محمد هذا الأثر في كتابه «الآثار» على النحو الآتي: إن حذيفة تزوج بيهودية بالمدائن، فكتب إليه عمر: أن خلِّ سبيلها، فكتب إليه: أحرام يا أمير المؤمنين؟ فكتب إليه عمر: أعزم عليك ألا تضع كتابي هذا، حتى تخلي سبيلها، فإني أخاف أن يقتدي بك المسلمون، فيختارون نساء أهل الذمة لجمالهن، وكنَّ بذلك فتنة لنساء المسلمين. يتبين من ذلك أن عمر رضي الله عنه منع حذيفة من الزواج بالكتابية، لما فيه من الضرر، وهو إما الوقوع في زواج المومسات منهن، أو تتابع المسلمين في زواج الكتابيات، وترك المسلمات بلا زواج. رأي الشافعية في زواج الكتابية: هذا هو حكم الزواج بالكتابيات، يجوز عند الجمهور بلا شرط، لكن قيد الشافعية الزواج بالكتابية بقيد، فقالوا (¬1): تحل كتابية، لكن تكره حربية، وكذا ذمية على الصحيح، لما في الميل إليها من خوف الفتنة، والكتابية: يهودية أو نصرانية، لا متمسكة بالزبور وغيره كصحف شيث وإدريس وإبراهيم عليه السلام. فإن كانت الكتابية إسرائيلية: فيحل الزواج بها إذا لم يعلم دخول أول من تدين من آبائها في دين اليهودية بعد نسخه وتحريفه، أو شك فيها، لتمسكهم بذلك الدين حين كان حقاً، وإلا فلا تحل لسقوط فضيلة ذلك الدين. ¬
الزواج بالمجوسيات
وإن كانت النصرانية: فالأظهر حلها للمسلم إن علم دخول قومها، أي آبائها أي أول من تدين منهم في ذلك الدين ـ أي دين عيسى عليه السلام، قبل نسخه وتحريفه، لتمسكهم بذلك الدين حين كان حقاً. فإن دخلوافيه بعد التحريف فالأصح المنع، وإن تمسكوا بغير المحرف فتحل في الأظهر. والراجح لدي هو قول الجمهور، لإطلاق الأدلة القاضية بجواز الزواج بالكتابيات، دون تقييد بشيء. الزواج بالمجوسيات: قال أكثر الفقهاء (¬1): ليس المجوس أهل كتاب، للآية المتقدمة {أن تقولوا: إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا} [الأنعام:156/ 6] فأخبر تعالى: أن أهل الكتاب طائفتان، فلو كان المجوس أهل كتاب لكانوا ثلاث طوائف. وأيضاً إن المجوس لا ينتحلون شيئاً في كتب الله المنزلة على أنبيائه وإنما يقرؤون كتاب زرادشت، وكان متنبياً كذاباً، فليسوا إذن أهل كتاب. ويدل له: أن عمر ذكر المجوس بالنسبة لأخذ الجزية منهم، فقال: ما أدري كيف أصنع في أمرهم؟ فقال له عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» رواه الشافعي، وهو دليل على أنهم ليسوا من أهل الكتاب (¬2). السامرة والصابئة: السامرة: طائفة من اليهود، والصابئة: طائفة من النصارى. ¬
المتولد من وثني وكتابية
قال أبو حنيفة والحنابلة: إنهم أهل كتاب، فيجوز للمسلم الزواج بالصابئات؛ لأن الصابئة قوم يؤمنون بكتاب، فإنهم يقرؤون الزبور، ولا يعبدون الكواكب، ولكن يعظمونها كتعظيم المسلمين الكعبة في الاستقبال إليها، ولكنهم يخالفون غيرهم من أهل الكتاب في بعض دياناتهم، وهذا لا يمنع الزواج كاليهود مع النصارى. وقال الصاحبان: لا يجوز الزواج بهن؛ لأن الصابئة قوم يعبدون الكواكب، وعابد الكواكب كعابد الوثن، فلا يجوز للمسلمين مناكحتهم. وقيل: ليس هذا باختلاف في الحقيقة، وإنما الاختلاف لاشتباه مذهبهم. لذا من اعتبر الصابئة من عبدة الأوثان: وهم الذين يعبدون الكواكب، حرم مناكحتهم. ومن فهم أن منا كحتهم حلال، فهم أن لهم كتاباً يؤمنون به. وهذا هو الحق ويتفق مع رأي الشافعية القائلين: إن خالفت السامرة اليهود، والصابئون النصارى في أصل دينهم، حَرُمن، وإلا فلا، أي إن وافقت السامرة اليهود، والصابئة النصارى في أصل دينهم حلت. وهذا هو ما قرره القدوري في الكتاب، وهو حجة لدى الحنفية، فقال: يجوز تزوج الصابئيات إذا كانوا يؤمنون بنبي ويقرون بكتاب، وإن كانوا يعبدون الكواكب، ولا كتاب لهم، لم تجز مناكحتهم (¬1). المتولد من وثني وكتابية: إذا كان أحد أبوي الكافرة كتابياً والآخر وثنياً، لم يحل نكاحها؛ لأنها ليست كتابية خالصة، ولأنها مولودة بين من يحل وبين من لا يحل، فلم تحل، تغليباً للتحريم؛ لأنه إذا اجتمع الحلال والحرام، غلب الحرام الحلال (¬2). ¬
تغيير الكتابي دينه إلى دين آخر
تغيير الكتابي دينه إلى دين آخر: إذا انتقل الكتابي أو المجوسي إلى دين آخر غير دين أهل الكتاب كالوثنية، أي توثن، لم يقر عليه، ويقتل في أحد الرأيين إن لم يرجع، لعموم الحديث: «من بدل دينه فاقتلوه» (¬1) وفي رأي آخر: لا يقتل، بل يكره على العودة إلى دينه السابق بالضرب والحبس. وإذا انتقلت امرأة المسلم الذمية إلى دين غير دين أهل الكتاب، فهي كالمرتدة، ينفسخ نكاحها مع المسلم إن لم تعد إلى دينها في أثناء العدة عند الشافعية والحنابلة. وأما إذا انتقل الكتابي إلى دين كتابي آخر، كأن تهود النصراني أو تنصر اليهودي، لم يقر بالجزية ولا يقبل منه إلا الإسلام في الأظهر عند الشافعية، وفي رواية عن أحمد، لقوله تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً، فلن يقبل منه} [آل عمران:85/ 3] وقد أحدث ديناً باطلاً بعد اعترافه ببطلانه، فلا يقر عليه، كما لو ارتد المسلم. ويقر عليه في قول أبي حنيفة ومالك، وفي الراجح من الروايتين عند الحنابلة؛ لأنه لم يخرج عن دين أهل الكتاب، فلا نتعرض له. وأما حديث «من بدل دينه فاقتلوه» فهو محمول على دين الإسلام، إذ هو الدين المعتبر شرعاً. ولو تهود وثني أو تنصر، لم يقر عند الشافعية، ويتعين الإسلام في حقه، كمسلم ارتد، فإنه يتعين في حقه الإسلام. ويقر عند أبي حنيفة ومالك والحنابلة في الراجح (¬2)، لأن الكفر كله ملة واحدة. إذ هو تكذيب الرب تعالى فيما أنزل على رسله عليهم السلام. ¬
ارتداد الزوجين أوأحدهما
ارتداد الزوجين أوأحدهما: قال الشافعية، والحنابلة والمالكية: لو ارتد الزوجان أو أحدهما قبل الدخول تنجزت الفُرْقة، أي انفسخ النكاح في الحال. وإن كانت الردة بعد الدخول، توقفت الفرقة أو الفسخ على انقضاء العدة، فإن جمعهما الإسلام في العدة، دام النكاح، وإن لم يجمعهما في العدة انفسخ النكاح من وقت الردة، لكن لو وطئ الزوج لا حد عليه للشبهة، وهي بقاء أحكام النكاح، وتجب العدة منه. وإذا أسلمت المرأة قبل الرجل فأسلم في عدتها، أو أسلما معاً، فتتقرر الزوجية بينهما، وإن أسلم أحدهما ولم يتبعه الآخر في العدة، انفسخ زواجهما. وكذلك قال الحنفية: تقع الفرقة بين الزوجين إذا حكم بصحة الارتداد (¬1)، وقد صح أن رجلاً من بني تغلب وكانوا من النصارى، أسلمت زوجته، وأبى هو، ففرق عمر بينهما، وقال ابن عباس: «إذا أسلمت النصرانية قبل زوجها، فهي أملك لنفسها». أنكحة الكفار غير المرتدين: هل عقود زواج غير المسلمين بعضهم مع بعض صحيحة أو فاسدة؟ للفقهاء رأيان: فقال المالكية (¬2): أنكحة غير المسلمين فاسدة؛ لأن للزواج في الإسلام شرائط لا يراعونها، فلا يحكم بصحة أنكحتهم. وقال الجمهور (¬3): أنكحة الكفار غير المرتدين صحيحة يقرون عليها، إذا أسلموا، أو تحاكموا إلينا إذا كانت المرأة عند الشافعية والحنابلة ممن يجوز ابتداء الزواج بها، بأن لم تكن من المحارم، فنقرهم على ما نقرهم عليه لو أسلموا، ¬
ونبطل ما لا نقر، والأصح عند الحنفية أن كل نكاح حرم لحرمة المحل كمحارم، يقع جائزاً. واتفق هؤلاء الجمهور على أنه لا يعتبر فيه صفة عقدهم وكيفيته، ولا يعتبر له شروط أنكحة المسلمين من الولي والشهود وصيغة الإيجاب والقبول، وأشباه ذلك، فيجوز في حقهم ما اعتقدوه، ويقرون عليه بعد الإسلام. وينبني على رأي الجمهور أن تثبت أحكام الزواج المقررة كالمسلمين من وجوب النفقة ووقوع الطلاق ونحوهما من عدة ونسب وتوارث بزواج صحيح، وحرمة مطلقة ثلاثاً. ويجوز نكاح أهل الذمة بعضهم لبعض وإن اختلفت شرائعهم؛ لأن الكفر كله ملة واحدة. ودليلهم قوله عز وجل: {وقالت امرأة فرعون} [القصص:9/ 28] وقوله سبحانه: {وامرأته حمَّالة الحطب} [المسد:4/ 111] ولو كانت أنكحتهم فاسدة، لم تكن امرأته حقيقة، ولأن النكاح سنة آدم عليه السلام، فهم على شريعته، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: «ولدت من نكاح، لا من سفاح» (¬1) أي لا من زنا، والمراد به نفي ما كانت عليه الجاهلية من أن المرأة تسافح رجلاً مدة ثم يتزوجها، فإنه صلّى الله عليه وسلم سمى ما وجد قبل الإسلام من أنكحة الجاهلية نكاحاً، ولو قلنا بفساد أنكحتهم لأدى إلى أمر قبيح هو الطعن في نسب كثر من الأنبياء. ولحديث غيلان الثقفي وغيره ممن أسلم وتحته عشر نسوة في الجاهلية، فأسلمن معه، فأمره صلّى الله عليه وسلم باختيار أربع منهن، ومفارقة الباقي (¬2)، ولم يسأل عن شرائط النكاح، فلا يجب البحث عن شرائط أنكحتهم، فإنه صلّى الله عليه وسلم أقرهم عليها، وهو لا يقر أحداً على باطل. ¬
- أخت الزوجة ومحارمها
4ً - أخت الزوجة ومحارمها (الجمع بين الأخت وعمتها أو خالتها أوغيرها من المحارم) (¬1): يحرم على الرجل أن يجمع بين الأختين، أو بين المرأة وعمتها أو خالتها أو كل من كان مَحْرماً لها: وهي كل امرأة لو فرضت ذكراً حرمت عليها الأخرى. وذلك سواء أكانت المحرم شقيقة، أم لأب، أم لأم. لقوله تعالى في بيان محرَّمات النساء: {وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف} [النساء:23/ 4] ولأن الجمع بين ذوات الأرحام يفضي إلى قطيعة الرحم، بسبب ما يكون عادة بين الضرتين من غَيْرة موجبة للتحاسد والتباغض والعداوة، وقطيعة الرحم حرام، فما أدى إليه فهو حرام. والجمع بين المرأة وابنتها حرام أيضاً، كالجمع بين الأختين، بل هوأولى؛ لأن قرابة الولادة أقوى من قرابة الأخوة، فالنص الوارد في الجمع بين الأختين وارد هنا من طريق أولى. وكذلك الجمع بين المرأة وعمتها أوخالتها حرام أيضاً كالجمع بين الأختين؛ لأن العمة بمنزلة الأم لبنت أخيها، والخالة بمنزلة الأم لبنت أختها. وصرحت السنة بتحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، عن أبي هريرة قال: «نهى النبي صلّى الله عليه وسلم أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها» (¬2) وفي رواية الترمذي وغيره: «لا تنكح المرأة على عمتها، ولا العمة على بنت أخيها، ولا المرأة على خالتها، ولا الخالة على بنت أختها، لا الكبرى على الصغرى، ولا الصغرى على الكبرى» ولا يخفى أن هذا الحديث خصص عموم قوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} [النساء: ¬
قاعدة الجمع بين المحارم
24/ 4] (¬1)، ولأن الجمع بين ذواتي محرم في النكاح سبب لقطيعة الرحم؛ لأن الضرتين يتنازعان ولا يختلفان ولا يأتلفان عرفاً وعادة، وهو يفضي إلى قطع الرحم، وإنه حرام، والنكاح سبب لذاك فيحرم، حتى لا يؤدي إليه. وقد أشار النبي صلّى الله عليه وسلم إلى علة النهي في رواية ابن حبان وغيره: «إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم». قاعدة الجمع بين المحارم: استنبط الفقهاء من النصين: القرآني والنبوي قاعدة لتحريم الجمع بين المحارم هي: «يحرم الجمع بين امرأتين لو كانت إحداهما رجلاً، لا يجوز له نكاح الأخرى من الجانبين جميعاً» أو «يحرم الجمع بين كل امرأتين أيتهما قدِّرت ذكراً، حرمت عليه الأخرى» (¬2) لا يحل الجمع بين الأختين؛ لأننا لو فرضنا كل واحدة منهما رجلاً، لم يجز له التزوج بالأخرى؛ لأنها أخته. ولا يحل الجمع بين المرأة وعمتها؛ لأن كل واحدة لو فرضت رجلاً، كان عماً للأخرى، ولا يجوز للرجل أن يتزوج بعمته. وكذلك يحرم الجمع بين المرأة وخالتها، إذ لو فرضنا كل واحدة منهما رجلاً كان خالاً للأخرى، ولا يصح للرجل أن يتزوج بنت أخته. فإن فرض كون كل منهما رجلاً، وجاز له أن يتزوج بالأخرى كالمرأة وابنة عمها، جاز الجمع بينهما، لأنها تكون ابنة عمه، وللرجل أن يتزوج بابنة عمه. ¬
حكم العقد الواحد أو العقدين على الأختين ونحوهما
وإن كان تحريم الزوج على فرض واحد من أحد الجانبين دون الآخر، فلا يحرم الجمع بينهما، كالمرأة وابنة زوج كان لها من قبل من غيرها، وكالمرأة وزوجة كانت لأبيها؛ لأنه لا رحم بينهما، فلم يوجد الجمع بين ذواتي رحم، إذ لو فرضنا في المثال الأول البنت رجلاً، لم يجز له أن يتزوج بهذه المرأة؛ لأنها زوجة أبيه، أما عند فرض المرأة: زوجة الأب رجلاً، فتزول عنه صفة زوجة الأب، فيجوز له الزواج بالبنت، إذ هي أجنبية عنه. وقد جمع عبد الله بن جعفر بن أبي طالب بين زوجة عمه علي، وهي ليلى بنت مسعود النهشلية، وبين ابنته من غيرها وهي أم كلثوم بنت السيدة فاطمة رضي الله عنها، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة. ويجوز الجمع بين ابنتي العم وابنتي الخال أو الخالة من عمين أو خالين أو خالتين بالاتفاق، لعدم النص فيهما بالتحريم، ودخولهما في عموم قوله تعالى: {وأحل لكم ماوراء ذلكم} [النساء:24/ 4] ولأن إحداهما تحل لها الأخرى لو كانت ذكراً. وفي كراهة زواجهما رأيان: رأي بالكراهة خوف قطيعة الرحم، وهو مروي عن ابن مسعود والحسن البصري، وأحمد في رواية عنه، ورأي بعدم الكراهة؛ إذ ليست بينهما قرابة تحرم الجمع، وهو منقول عن الشافعي والأوزاعي. حكم العقد الواحد أو العقدين على الأختين ونحوهما: إذا تزوج رجل امرأتين بينهما محرمية كالأختين وكالبنت وخالتها، والبنت وعمتها، ففي حكم الزواج تفصيل (¬1): أـ إن تزوجهما معاً في عقد واحد، فسد زواجهما معاً ولم يبطل؛ لأن إحداهما ليست أولى بفساد الزواج من الأخرى، فيفرق بينه وبينهما، ثم إنه إن ¬
كان التفريق قبل الدخول فلا شيء لهما، أي لا مهر لهما، لا عدة فيهما؛ لأن الزواج الفاسد لا حكم له قبل الدخول، وكذلك بعد الخلوة. وإن كان قد دخل بهما، فلكل واحدة منهما عند الحنفية مهر المثل على ألا يزيد عن المسمى، لرضاها به، كما هو حكم الزواج الفاسد، وعليهما العدة؛ لأن هذا هو حكم الدخول في الزواج الفاسد. ب ـ وإن تزوج كلاً منهما بعقد مستقل، الواحدة بعد الأخرى، صح زواج الأولى وفسد زواج الثانية؛ لأن الجمع حصل بزواج الثانية، فاقتصر الفساد عليه، ويفرق بينه وبين الثانية. فإن تم التفريق قبل الدخول فلا شيء لها ولا عدة عليها، وإن تم التفرق بعد الدخول، وجب لها مهر المثل على ألا يزيد عن المسمى لرضاها به؛ لأن «الوطء في دار الإسلام لا يخلو عن عَقْر ـ أي حد زاجر ـ أو عُقْر ـ أي مهر جابر» وقد سقط الحد بشبهة العقد، فيجب مهر المثل دون زيادة على المسمى. وعليها العدة. ويحرم على الزوج أن يطأ الأولى، أي قربان زوجته الأولى حتى تنقضي عدة الثانية، لئلا يكون جامعاً بينهما، والجمع بين المحارم حرام. جـ ـ وإن تزوج كلاً منهما بعقدين لا يدري أيهما الأول، يفرق بينه وبينهما؛ لأن زواج إحداهما فاسد بيقين، وهي مجهولة، ولا يتصور حصول مقاصد الزواج من المجهولة، فلا بد من التفريق. فإن ادعت كل واحدة منهما أنها هي الأولى ولا بينة لها، يقضى لها بنصف المهر؛ لأن الزواج الصحيح أحدهما، وقد حصلت الفرقة قبل الدخول، لا بسبب المرأة، فكان الواجب نصف المهر، ويكون بينهما لعدم الترجيح، إذ ليست إحداهما بأولى من الأخرى.
الجمع بين الأختين ونحوهما في العدة
وقال الجمهور: إن جمع بين الأختين ونحوهما من رضاع أو نسب بعقد واحد بطل نكاحهما، وإن كان مرتباً بطل الثاني، ولمن دخل بها مهر المثل عند الشافعية والحنابلة. وصداقها المسمى عند المالكية (¬1). الجمع بين الأختين ونحوهما في العدة (¬2): اتفق الفقهاء على أنه يجوز الجمع بين المرأة ومحارمها بعد الفرقة بسب وفاة إحداهما، فلو ماتت زوجة رجل، جاز له أن يتزوج بأختها أو عمتها مثلاً من غير انتظار مدة بعد الوفاة. واتفقوا أيضاً على عدم جواز الجمع بين المرأة ومحارمها في أثناء العدة من طلاق رجعي، فلو طلق زوجته طلاقاً رجعياً، لم يجز له الزواج بواحدة من قريباتها المحارم إلا بعد انقضاء العدة؛ لأنها باقية في حكم الزواج السابق. واختلفوا في الجمع بين المحارم إذا كانت إحداهن معتدة من طلاق بائن. فقال الحنفية والحنابلة: يحرم الجمع بين الأختين ومن في حكمهما إذا كانت واحدة منهما في أثناء العدة من طلاق بائن بينونة صغرى أو كبرى؛ لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يجمع ماءه في رحم أختين» (¬3)، ولأن البائن ممنوعة من الزواج في العدة لحق الزوج، فأشبهت الرجعية، ولأن الزواج بالأخت ونحوها من المحارم في العدة يؤدي إلى قطيعة الرحم، التي أمر الله بوصلها. وهذا الرأي هو الراجح. ¬
وقال المالكية والشافعية: يصح الزواج بأخت المطلقة ومن في حكمها من المحارم في أثناء العدة من طلاق بائن بينونة صغرى أو كبرى، لانقطاع أثر الزواج السابق، فلا تحل لمن طلقها إلا بعقد جديد، وحينئذ لا تجتمع المرأتان في حكم فراش واحد. وذكر الحنابلة (¬1): أنه لو أسلم زوج المجوسية أو الوثنية، أو انفسخ النكاح بين الزوجين بخلع أو رضاع، أو فسخ بعيب أو إعسار أو غيره، لم يكن له أن يتزوج أحداً ممن يحرم الجمع بينه وبين زوجته، حتى تنقضي عدتها. وإن أسلمت زوجته، فتزوج أختها في عدتها، ثم أسلما في عدة الأولى، اختار منهما واحدة، كما لو تزوجهما معاً. وإن أسلم الرجل بعد انقضاء عدة الأولى، بانت منه، وثبت نكاح الثانية. وإن زنى الرجل بامرأة، فليس له أن يتزوج بأختها، حتى تنقضي عدتها. وحكم العدة من الزنا، والعدة من وطء الشبهة، كحكم العدة من النكاح. فإن زنى بأخت امرأته، فقال أحمد: يمسك عن وطء امرأته حتى تحيض المزني بها ثلاث حيضات. وقد ذكر عن أحمد في المزني بها: أنها تستبرأ بحيضة واحدة؛ لأنه وطء من غير نكاح، ولا أحكامه أحكام النكاح. وإذا ادعى الزوج أن امرأته أخبرته بانقضاء عدتها في مدة يجوز انقضاؤها فيها، وكذبته، أبيح له نكاح أختها، وأربع سواها في الظاهر. أما في الباطن فيبني على صدقه في ذلك؛ لأنه حق فيما بينه وبين الله تعالى، فيقبل قوله فيه. ¬
- المرأة الخامسة لمتزوج بأربع سواها (الجمع بين الأجنبيات)
5 ً - المرأة الخامسة لمتزوج بأربع سواها (الجمع بين الأجنبيات): لا يجوز للرجل في مذهب أهل السنة أن يتزوج أكثر من أربع زوجات في عصمته في وقت واحد ولو في عدة مطلقة، فإن أراد أن يتزوج بخامسة، فعليه أن يطلق إحدى زوجاته الأربع، وينتظر حتى تنقضي عدتها، ثم يتزوج بمن أراد؛ لأن النص القرآني لا يبيح للرجل أن يجمع بين أكثر من أربع في وقت واحد، وهو قوله تعالى: {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى، فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدةً، أو ما ملكت أيمانكم، ذلك أدنى ألا تعولوا} [لنساء:3/ 4] والمعنى: إن علمتم الوقوع في ظلم اليتامى، فلم تعدلوا في مهورهن أو في نكاحهن، أو تحرجتم من الولاية عليهم، فخافوا أيضاً من ظلم النساء عامة، وقللوا عدد الزوجات، واقتصروا على أربع منهن، وإن خفتم الجور في الزيادة على الواحدة، فاقتصروا على زوجة واح، ويلاحظ أن لفظ «مثنى» معدول به عن اثنين اثنين، تقول: جاءني القوم مثنى أي اثنين اثنين. وهكذا ثلاث ورباع، بياناً لأنواع الزيجات وفئات الناس وما يباح لهم أثناء تعدد الزوجات، فالعطف بالواو للتخيير لا للجمع. ويوضح مدلول الآية حديث ابن عمر، قال: «أسلم غيلان الثقفي وتحته عشر نسوة في الجاهلية، فأسلمن معه، فأمره النبي صلّى الله عليه وسلم أن يختار منهن أربعاً» (¬1). وروى أبو داود وابن ماجه عن قيس بن الحارث قال: أسلمت وعندي ثمانُ نسوة، فأتيت النبي صلّى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فقال: اختر منهن أربعاً. ¬
السبب في الاقتصار على أربع
وروى الشافعي عن نوفل بن معاوية أنه أسلم وتحته خمس نسوة، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم: أمسك أربعاً، وفارق الأخرى (¬1). ولم ينقل عن أحد من السلف في عهد الصحابة والتابعين أنه جمع في عصمته أكثر من أربع، فدل العمل على وفق السنة على أنه لا يجوز الزواج بأكثر من أربع نسوة، ولأحاديث في مجموعها لا تقتصر عن رتبة الحسن لغيره، فتنتهض بمجموعها للاحتجاج، وإن كان كل واحد منها لا يخلو عن مقال، كما ذكر الشوكاني. وذهب بعض المتأولين الشذاذ إلى أنه يجوز للرجل أن يتزوج تسعاً، أخذاً بظاهر الآية: {مثنى وثلاث ورباع} [النساء:3/ 4] لأن الواو للجمع لا للتخيير، أي يكون المجموع تسعاً. وأجيب عن ذلك بأن الآية محمولة على عادة العرب في خطاب الناس على طريق المجموعات، وأريد بها التخيير بين الزواج باثنتين وثلاث وأربع، كما في قوله تعالى: {جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع} [فاطر:1/ 35] أي أنهم فئات، فمنهم ذو الجناحين، ومنهم ذو الثلاثة أجنحة، ومنه ذو الأربعة أجنحة؛ لأن المثنى ليس عبارة عن الاثنين، بل أدنى ما يراد بالمثنى مرتان من هذا العدد، وأدنى ما يراد بالثلاث ثلاث مرات من العدد، وكذا الرباع. السبب في الاقتصار على أربع: إن إباحة الزواج بأربع فقط قد يتفق في رأينا مع مبدأ تحقيق أقصى قدرات وغايات بعض الرجال، وتلبية رغباتهم وتطلعاتهم مع مرور كل شهر، بسبب طروء دورة العادة الشهرية بمقدار أسبوع لكل واحدة ¬
قيود إباحة التعدد
منهن، ففي المشروع غنى وكفاية، وسد للباب أمام الانحرافات، أوما قد يتخذه بعض الرجال من عشيقات أو خدينات أو وصيفات، ثم إن في الزيادة على الأربع خوف الجور عليهن بالعجز عن القيام بحقوقهن؛ لأن الظاهر أن الرجل لايقدر على الوفاء بحقوقهن، وإلى هذا أشار القرآن الكريم بقوله عز وجل: {فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة} [النساء:3/ 4] أي لا تعدلوا في القَسْم والجماع والنفقة في زواج المثنى، والثلاث، والرباع، فواحدة، فهوأقرب إلى عدم الوقوع في الظلم (¬1). وهكذا فإن الاقتصار على أربع عدل وتوسط، وحماية للنساء من ظلم يقع بهن من جراء الزيادة، وهو بخلاف ما كان عليه العرب في الجاهلية والشعوب القديمة حيث لا حد لعدد الزوجات وإهمال بعضهن. وهذه الإباحة أضحت أمراً استثنائياً نادراً، فلا تعني أن كل مسلم يتزوج أكثر من واحدة، بل أصبح مبدأ وحدة الزوجة هو الغالب الأعظم. قيود إباحة التعدد: اشترطت الشريعة لإباحة التعدد شرطين جوهريين هما: 1 - توفير العدل بين الزوجات: أي العدل الذي يستطيعه الإنسان، ويقدر عليه، وهو التسوية بين الزوجات في النواحي المادية من نفقة وحسن معاشرة ومبيت، لقوله تعالى: {فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة، أو ما ملكت أيمانكم، ذلك أدنى ألا تعولوا} [النساء:3/ 4] فإنه تعالى أمر بالاقتصار على واحدة إذا خاف الإنسان الجور ومجافاة العدل بين الزوجات. ¬
2 - القدرة على الإنفاق
وليس المراد بالعدل ـ كما بان في أحكام الزواج الصحيح ـ هو التسوية في العاطفة والمحبة والميل القلبي، فهوغير مراد؛ لأنه غير مستطاع ولا مقدور لأحد، والشرع إنما يكلف بما هو مقدور للإنسان، فلا تكليف بالأمور الجبلِّية الفطرية التي لا تخضع للإرادة مثل الحب والبغض. ولكن خشية سيطرة الحب على القلب أمر متوقع، لذا حذر منه الشرع في الآية الكريمة: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء، ولو حرصتم، فلا تميلوا كل الميل، فتذروها كالمعلقة} [النساء:129/ 4] وهو كله لتأكيد شرط العدل، وعدم الوقوع في جور النساء، بترك الواحدة كالمعلقة، فلا هي زوجة تتمتع بحقوق الزوجية، ولا هي مطلقة. والعاقل: من قدَّر الأمور قبل وقوعها، وحسب للاحتمالات والظروف حسابها، والآية تنبيه على خطر البواعث والعواطف الداخلية، وليست كما زعم بعضهم لتقرير أن العدل غير مستطاع، فلا يجوز التعدد، لاستحالة تحقق شرط إباحته. 2 - القدرة على الإنفاق: لا يحل شرعاً الإقدام على الزواج، سواء من واحدة أو من أكثر إلا بتوافر القدرة على مؤن الزواج وتكاليفه، والاستمرار في أداء النفقة الواجبة للزوجة على الزوج، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج ... » والباءة: مؤنة النكاح. حكمة تعدد الزوجات: إن نظام وحدة الزوجة هو الأفضل وهو الغالب وهو الأصل شرعاً، وأما تعدد الزوجات فهو أمر نادر استثنائي وخلاف الأصل، لا يلجأ إليه إلا عند الحاجة الملحة، ولم توجبه الشريعة على أحد، بل ولم ترغب فيه، وإنما أباحته الشريعة لأسباب عامة وخاصة.
الأسباب العامة
أما الأسباب العامة: فمنها معالجة حالة قلة الرجال وكثرة النساء، سواء في الأحوال العادية بزيادة نسبة النساء، كشمال أوربا، أم في أعقاب الحروب، كما حد ث في ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى، إذ أصبحت نسبة النساء للرجال واحداً إلى أربعة أو إلى ستة، فقامت النساء الألمانيات بمظاهرات يطالبن بالأخذ بنظام تعدد الزوجات، بعد أن قتلت الحرب معظم رجال ألمانيا، وبعد أن كثر اللقطاء في الشوارع والحدائق العامة. وحينئذ يصبح نظام التعدد ضرورة اجتماعية وأخلاقية، تقتضيها المصلحة والرحمة، وصيانة النساء عن التبذل والانحراف، والإصابة بالأمراض الخطيرة مثل مرض فقد المناعة (الإيدز)، والإيواء في ظل بيت الزوجية الذي تجد فيه المرأة الراحة والطمأنينة، بدلاً من البحث عن الأصحاب الوقتيين، أو حمل لافتات في مواطن إشارات المرور يعلن فيها عن الرغبة في الاتصال الجنسي، أو العرض الرخيص في واجهات بعض المحلات في الشوارع العامة كما في ألمانيا وغيرها. ومن هذه الأسباب: احتياج الأمة أحياناً إلى زيادة النسل، لخوض الحروب والمعارك ضد الأعداء، أو للمعونة في أعمال الزراعة والصناعة وغيرها. وقد أباحت اليهودية تعدد الزوجات، ولم يرد في المسيحية نص يمنع التعدد، وأذنت به الكنيسة في عصرنا للأفارقة المسيحيين. ومن هذه الأسباب: الحاجة الاجتماعية إلى إيجاد قرابات ومصاهرات لنشر الدعوة الإسلامية كما حدث للنبي صلّى الله عليه وسلم، فإنه عدد زوجاته التسع في سن الرابعة والخمسين من أجل نشر دعوته وكسب الأنصار لدين الله الجديد. وبقي إلى هذه السن على زوجة واحدة هي السيدة خديجة رضي الله عنها.
الأسباب الخاصة
وأما الأسباب الخاصة فكثيرة منها: 1 - عقم المرأة أو مرضها، أو عدم توافق طباعها مع طباع الزوج: قد تكون المرأة عقيماً لا تلد، أو أن بها مرضاً منفراً يحول بينها وبين تحقيق رغبات الزوج، أو أن طبعها لم ينسجم مع طبع الزوج، فيكون من الأفضل والأرحم ومن المروءة أن تظل هذه الزوجة في رباط الزوجية؛ لأنه أكرم لها وأحب إلى نفسها، وتعطى الفرصة للرجل بالزواج من ثانية تحقق له السعادة بإنجاب الأولاد، وإرواء غريزة حب الأولاد. وقد يزول مرض المرأة، وتتحسن طبائعها وأخلاقها مع مرور الزمن ونضوج العقل، فتجد في زوجها الأمل، وتنأى به عن الحرمان واليأس والعُقَد النفسية، وذلك في حدود أربع نسوة تتناسب مع طاقة الرجل وقدرته في عيشه على تحمل أعباء الحياة الزوجية. وقد بينت أن سبب الاقتصار على أربع هو كونه أقرب إلى تحقيق العدل والرحمة بالمرأة التي ينقطع عنها زوجها ثلاث ليال ثم يعود إليها. أما ما قد يؤدي إليه التعدد من فساد الأسرة بسبب التحاسد والتنافر بين الضرائر، أوتشرد الأولاد، فهو ناشئ غالباً من ضعف شخصية الرجل، وعدم التزامه بقواعد الشرع وما يوجبه عليه من عدل وقَسْم في المبيت، وعناية بالأولاد، وإحساس كبير بمطالب الحياة الزوجية، فإذا عدل الرجل بين زوجاته، وسوّى بين أولاده في التربية والتعليم والنفقة، ووضع حداً لكل زوجة لا تتجاوزه، فإنه يساهم إلى حد كبير في استئصال كل بذور الفتنة والسوء، والضغينة والبغضاء بين أفراد أسرته، وهو خير كبير له، فيريح فكره من الهموم وحل المشكلات، ويتفرغ لواجباته المعيشية وأعماله خارج المنزل. فإن بقي بعدئذ شيء في نفس المرأة والأولاد من الغيرة الطبيعية الذاتية، فهو
2 - اشتداد كراهية الرجل للمرأة في بعض الأوقات
شيء عادي لا تخلو عنه كل المجتمعات الصغيرة، ويمكن التغلب على آثاره بالحكمة والعدل وعدم الإصغاء لتدخلات الجيران والمعارف. أما منع تعدد الأزواج: ففيه توفير مصلحة المرأة نفسها، إذ تكون عادة مبعث نزاع حاد بين الرجال، وتنافس وتزاحم بين الشركاء يلحق بها ضرراً ومتاعب، وفي هذا التعدد ضرر اجتماعي، وفساد كبير، بسبب ضياع الأنساب، واختلاط أصول الأولاد، وضياعهم في نهاية الأمر، إذ قد يتخلى كل هؤلاء الرجال عن إعالتهم، بحجة أنهم أبناء الآخرين. 2 - اشتداد كراهية الرجل للمرأة في بعض الأوقات: قد ينشأ نزاع عائلي بين الزوج وأقارب زوجته، أو بينه وبين زوجته، وتستعصي الحلول، وتتأزم المواقف، ويتصلب الطرفان، فإما فراق نهائي يأكل كبد المرأة للأبد، وإما صبر وقتي من الرجل، تتطلبه الأخلاق والوفاء، والحكمة والعقل، ولا شك أن اتخاذ الموقف الثاني بإبقاء الزوجة في عصمة زوجها مع زوجة أخرى أهون بكثير من الطلاق: «أبغض الحلال إلى الله». 3 - ازدياد القدرة الجنسية لبعض الرجال: قد يكون بعض الناس ذا طاقة جنسية كبيرة، تجعله غير مكتفٍ بزوجة واحدة، إما لكبر سنها، أو لكراهيتها الاتصال الجنسي، أو لطول عادتها الشهرية ومدة نفاسها، فيكون الحل لمثل هذه الظروف ومقتضى الدين الذي يتطلب التمسك بالعفة والشرف هو تعدد الزوجات، بدلاً من البحث عن اتصالات غير مشروعة، بما فيها من سخط الله عز وجل، وضرر شخصي واجتماعي عام مؤكد الحصول بشيوع الفاحشة أو الزنا. والخلاصة: أن إباحة تعدد الزوجات مقيد بحالة الضرورة أو الحاجة أو العذر، أو المصلحة المقبولة شرعاً.
الدعوة إلى جعل تعدد الزوجات بإذن القاضي
الدعوة إلى جعل تعدد الزوجات بإذن القاضي: ظهرت دعوات جديدة في عصرنا تمنع تعدد الزوجات إلا بإذن القاضي، ليتأكد من تحقق ما شرطه الشرع لإباحة التعدد، وهو العدل بين الزوجات والقدرة على الإنفاق؛ لأن الناس وخصوصاً الجهلة أساؤوا استعمال رخصة التعدد المأذون بها شرعاً لغايات إنسانية كريمة. لكن تولى المخلصون دحض مثل هذه الدعوات لأسباب معقولة هي ما يأتي (¬1): 1 - إن الله سبحانه وتعالى أناط بالراغب في الزواج وحده تحقيق شرطي التعدد، فهو الذي يقدر الخوف من عدم العدل، لقوله تعالى: {فإن خفتم ألا تعدلوا، فواحدة} [النساء:3/ 4] فإن الخطاب فيه لنفس الراغب في الزواج، لا لأحد سواه، من قاض أوغيره، فيكون تقدير مثل هذا الخوف من قبل غير الزوج مخالفاً لهذا النص. وكذلك البحث في توافر القدرة على الإنفاق، فإنه منوط بالراغب في الزواج، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج .. » فهو خطاب للأزواج، لا لغيرهم. 2 - إن إشراف القاضي على الأمور الشخصية أمر عبث، إذ قد لا يطلع على السبب الحقيقي، ويخفي الناس عادة عنه ذلك السبب، فإن اطلع على الحقائق، كان اطلاعه فضحاً لأسرار الحياة الزوجية، وتدخلاً في حريات الناس، وإهداراً لإرادة الإنسان، وخوضاً في قضايا ينبغي توفير وقت القضاة لغيرها، ومنعاً وأمراً في غير محله، فالزواج أمر شخصي بحت، يتفق فيه الزوجان مع أولياء المرأة، لا يستطيع أحد تغيير وجهته، وتبديل قيمه. وإن أسرار البيت المغلقة لا يعلم بها أحد غير الزوجين. ¬
خلاصة موانع الزواج الشرعية كما ذكرها المالكية
3 - إن تعدد الزوجات ليس بهذه الكثرة المخيفة، وإنما هو على العكس محدود ونادر لا يتجاوز نسبة 4% في مصر وليبيا في الخمسينات، وفي سورية بنسبة 1%، ومثل هذه النسب لا تستوجب إصدارقوانين خاصة بها، بل إنه إذا صدرت القوانين فلن يتغير من الأمر شيء؛ لأن هذه القضايا تحتاج لضوابط وكوابح داخلية هي الدين والوجدان والأخلاق. 4 - ليس تعدد الزوجات هو السبب في تشرد الأطفال، كما يزعمون، وإنما السبب يكمن في إهمال الأب تربية النشء، وإدمان الخمر، وتعاطي المخدرات، والانصراف في إرواء اللذات طيشاً وعبثاً، وفعل الميسر وارتياد المقاهي، وإهمال شأن الأسرة، وغيرها من الأسباب. وكانت نسبة المتشردين بسبب تعدد الزوجات لا تزيد في مصر في الخمسينات عن (3%)، ويرجع التشرد في الحقيقة إلى الفقر في الدرجة الأولى. وعلاج مساوئ التعدد يكون بأمرين: أولاً ـ تربية الجيل تربية دينية وخلقية حصينة، بحيث يدرك الزوجان خطورة رابطة الزوجية المقدسة، وارتكازها على أساس الود والرحمة، كما قال تعالى: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة} [الروم:21/ 30]. ثانياً ـ معاقبة من يظلم زوجته، أو يقصر في حقوقها، أو يهمل تربية أحد أولاده، فمن فرط في واجبه يؤاخذ في الدنيا والآخرة. خلاصة موانع الزواج الشرعية كما ذكرها المالكية: يحسن تلخيص الموانع الشرعية للزواج في فقه المالكية، لتصنيفها البديع لديهم، فإنهم قسموا كغيرهم هذه الموانع إلى موانع مؤبدة وموانع غير مؤبدة.
الموانع المؤبدة
والموانع المؤبدة تنقسم إلى متفق عليها، ومختلف فيها، فالمتفق عليها ثلاثة: نسب وصهر ورضاع. والمختلف فيها: الزنا واللعان. وغير مؤبدة تنقسم إلى تسعة: أحدها: مانع العدد، والثاني: مانع الجمع، والثالث: مانع الرق، والرابع: مانع الكفر، والخامس: مانع الإحرام، والسادس: مانع المرض، والسابع: مانع العدة، على اختلاف في عدم تأبيده، والثامن: مانع التطليق ثلاثاً للمطلق. والتاسع: مانع الزوجية. وتكون الموانع الشرعية أربعة عشر مانعاً (¬1). 1 - أما مانع النسب: فاتفق الفقهاء على أن النساء المحرمات من قبل النسل: السبع المذكورات في القرآن، وهن الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ، وبنات الأخت. والأم: كل أنثى لها عليك ولادة، من جهة الأم أو من جهة الأب. والبنت: كل أنثى لك عليها ولادة من قبل الابن أو من قبل البنت أو مباشرة. والأخت: كل أنثى شاركتك في أحد أصليك، أو في مجموعهما أي الأب أو الأم، أو في كليهما. والعمة: كل أنثى هي أخت لأبيك أو لكل ذكر له عليك ولادة. والخالة: أخت أمك، أوأخت كل أنثى لها عليك ولادة. وبنات الأخ: كل أنثى لأخيك عليها ولادة من قبل أمها أو من قبل أبيها أو مباشرة. وبنات الأخت: كل أنثى لأختك عليها ولادة مباشرة، أو من قبل أمها أو من قبل أبيها. 2 - وأما مانع المصاهرة: فيحرم أربع بالمصاهرة: زوجات الآباء، وزوجات الأبناء، وأمهات النساء، وبنات الزوجات (الربائب)، واتفقوا على أن اثنين منهن يحرمن بنفس العقد: وهو تحريم زوجات الآباء والأبناء، وواحدة تحرم بالدخول ¬
3 - وأما مانع الرضاع
وهي ابنة الزوجة، وأما أم الزوجة فتحرم عند الجمهور بالعقد على البنت، دخل بها أو لم يدخل. وفي رأي ضعيف أم الأم إلا بالدخول على البنت، كالحال في البنت، وهو مروي عن علي وابن عباس رضي الله عنهما من طرق ضعيفة. 3 - وأما مانع الرضاع: فاتفقوا على أنه يحرم بالرضاع ما يحرم بالنسب، أي أن المرضعة تنزَّل منزل الأم، فتحرم على المرضع هي وكل من يحرم على الابن من قبل أم النسب. واتفق أئمة المذاهب الأربعة على أن لبن الفحل يحرِّم، أي يصير الرجل الذي له اللبن، وهو زوج المرأة أباً للمرضع، فيحرم بينهما ومن جهتها ما يحرم من الآباء والأبناء الذين من النسب. 4 - وأما مانع الزنا أي زواج الزانية: فأجازه الجمهور، ومنعه قوم، ومنشأ اختلافهم: اختلافهم في مفهوم قوله تعالى: {والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك، وحرم ذلك على المؤمنين} [النور:3/ 24] هل خرج مخرج الذم أو مخرج التحريم؟ 5 - وأما مانع العدد: فاتفق المسلمون على جواز نكاح أربعة من النساء، ورأى الجمهور أنه لا تجوز الخامسة، لقوله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} [النساء:3/ 4] ولقوله عليه الصلاة والسلام لغيلان لما أسلم وتحته عشر نسوة: «أمسك أربعاً، وفارق سائرهن» وقال الشيعة والظاهرية: يجوز تسع، ومذهبهم مذهب الجمع، أي جمع الأعداد في قوله تعالى: {مثنى وثلاث ورباع} [النساء:3/ 4]. 6 - وأما مانع الجمع: فاتفقوا على أنه لا يجمع بين الأختين بعقد زواج، لقوله تعالى: {وأن تجمعوا بين الأختين} [النساء:23/ 4] واتفقوا أيضاً على أنه
7 - وأما مانع الرق
يحرم الجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها، لحديث أبي هريرة المتواتر كما قال ابن رشد، أو المشهور كما قال الحنفية: «لا يجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها». والعمة: هي كل أنثى هي أخت لذكر له عليك ولادة، إما بنفسك، وأما بواسطة ذكر آخر. والخالة: هي كل أنثى هي أخت لكل أنثى لها عليك ولادة، إما بنفسها، وإما بتوسط أنثى غيرها، وهن المحرمات من قبل الأم. 7 - وأما مانع الرق: فاتفقوا على أنه يجوز للعبد أن ينكح الأمة، وللحرة أن تنكح العبد إذا رضيت به هي وأولياؤها. ولا يجوز نكاح الحر الأمة إلا بشرطين عند الجمهور غير ابن القاسم المالكي: وهما الخوف على نفسه العَنت أي الزنا، والعجز عن طَوْل الحرة أو الكتابية، أي المهر الذي يتزوجها به من عين أو عرض، لقوله تعالى: {ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات} ... {ذلك لمن خشي العَنت منكم} [النساء:4/ 25]. وهذا هو الراجح كما في شروح خليل، ولكن قال ابن رشد: رأي ابن القاسم هو المشهور من مذهب مالك وهو أنه يجوز زواج الحر من الأمة بإطلاق. 8 - وأما مانع الكفر: فاتفقوا على أنه لا يجوز للمسلم أن ينكح الوثنية، لقوله تعالى: {ولا تمسكوا بعصم الكوافر} [الممتحنة:10/ 60]، واتفقوا على أنه يجوز أن ينكح الكتابيةالحرة إلا ما روي في ذلك عن ابن عمر. وقال الشيعة الإمامية (¬1) في الأظهر من القولين: لا يجوز نكاح الكتابية غبطة، ويجوز متعة. 9 - وأما مانع الإحرام: فلا يجوز عند الجمهور نكاح المحرم، فلا يَنْكح ¬
10 ـ وأما مانع المرض
المحرم ولا يُنكح، فإن فعل فالنكاح باطل. وقال أبو حنيفة: لا بأس بذلك، لتعارض حديثين: حديث ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نكح ميمونة وهو محرم، وحديث ميمونة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال. وإذا قلنا: تعارض الفعل فسقط الاستدلال به، فيرجح القول، وهو حديث «لا ينكح المحرم ولا ينكح». 10 ـ وأما مانع المرض: فقال مالك في المشهور عنه: لا يجوز نكاح المريض مرض الموت، وقال الجمهور: إنه يجوز، وسبب اختلافهم تردد النكاح بين البيع وبين الهبة؛ لأنه لا تجوز هبة المريض إلا من الثلث، ويجوز بيعه. ولاختلافهم أيضاً سبب آخر: وهل هو يتهم في إضرار الورثة بإدخال وارث زائد، أو لا يتهم؟ 11 - وأما مانع العدة: فاتفقوا على أن النكاح لا يجوز في العدة، سواء أكانت عدة حيض أم عدة حمل، أم عدة أشهر، وسواء من نكاح أم شبهة نكاح. واختلفوا فيمن تزوج امرأة في عدتها ودخل بها، فقال مالك والأوزاعي والليث: يفرق بينهما، ولا تحل له أبداً، وقال أبو حنيفة والشافعي والثوري وأحمد: يفرق بينهما، وإذا انقضت العدة، فلا بأس في تزوجه إياها مرة ثانية. وسبب اختلافهم اختلاف أقوال الصحابة، فالفريق الأول أخذ بقول عمر رضي الله عنه حينما فرق بين طليحة الأسدية وبين زوجها راشد الثقفي، لما تزوجها في العدة من زوج ثان، وقال: «أيما امرأة نكحت في عدتها، فإن كان زوجها الذي تزوجها لم يدخل بها فرِّق بينهما، ثم اعتدت بقية عدتها من الأول، ثم كان الآخر خاطباً من الخطاب، وإن كان دخل بها، فرِّق بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من الأول، ثم اعتدت من الآخر، ثم لا يجتمعان أبداً». واحتج الفريق الثاني بقول علي وابن مسعود رضي الله عنهما، خلافاً لرأي عمر رضي الله عنه، فلم يقضيا بتحريمها عليه.
12 - وأما مانع الزوجية
12 - وأما مانع الزوجية: فإنهم اتفقوا على أن الزوجية بين المسلمين مانعة، وكذا بين الذميين، لقوله تعالى: {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} [النساء:24/ 4]. 13 - وأما مانع اللعان: فتقع به عند الجمهور غير الحنفية الفرقة المؤبدة، فلا تحل له أبداً، وإن أكذب نفسه. والفرقة عند أبي حنيفة تنتهي إذا أكذب نفسه. 14 - وأما مانع التطليق ثلاثاً للمطلق: فاتفقوا على أنه لا يجوز للمطلق أن يعقد عليها مرة أخرى حتى تتزوج زواجاً طبيعياً بزوج آخر، ثم يطلقها بنحو طبيعي، ثم تنقضي عدتها من الثاني، لقوله تعالى: {فإن طلقها، فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة:230/ 2]. المحارم من النساء في القانون السوري: أـ الحرمات المؤبدة: المادة (33) - يحرم على الشخص أصوله وفروعه وفروع أبويه والطبقة الأولى من فروع أجداده. المادة (34) - يحرم على الرجل: 1 - زوجة أصله أو فرعه وموطوءة أحدهما. 2 - أصل موطوءته وفرعها وأصل زوجته. المادة (35) - «1 يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب إلا ما قرر فقهاء الحنفية استثناءه.
2 - يشترط في الرضاع للتحريم أن يكون في العامين الأولين، وأن يبلغ خمس رضعات متفرقات، يكتفي الرضيع في كل منها، قل مقدارها أو كثر». ب ـ الحرمات المؤقتة: المادة (36) - «1 - لا يجوز أن يتزوج الرجل امرأة طلقها ثلاث مرات إلا بعد انقضاء عدتها من زوج آخر دخل بها فعلاً. 2 - زواج المطلقة من آخر يهدم طلقات الزوج السابق، ولو كانت دون الثلاث، فإذا عادت إليه يملك عليها ثلاثاً جديدة». المادة (37) - لا يجوز أن يتزوج الرجل خامسة حتى يطلق إحدى زوجاته الأربع، وتنقضي عدتها. المادة (38) - لا يجوز التزوج بزوجة آخر ولا بمعتدته. المادة (39) - لا يجوز الجمع بين امرأتين لو فرضت كل منهما ذكراً، حرمت عليه الأخرى، فإن ثبت الحل على أحد الفرضين جاز الجمع بينهما.
الفصل الرابع: الأهلية والولاية والوكالة في الزواج
الفَصْلُ الرّابع: الأهليَّة والولاية والوكالة في الزّواج فيه مباحث ثلاثة: المبحث الأول ـ أهلية الزوجين: يرى ابن شبرمة وأبو بكر الأصم وعثمان البتي رحمهم الله أنه لا يزوج الصغير والصغيرة حتى يبلغا، لقوله تعالى: {حتى إذا بلغوا النكاح} [النساء:6/ 4] فلو جاز التزويج قبل البلوغ، لم يكن لهذا فائدة، ولأنه لا حاجة بهما إلى النكاح. ورأى ابن حزم أنه يجوز تزويج الصغيرة عملاً بالآثار المروية في ذلك. أما تزويج الصغير فباطل حتى يبلغ، وإذا وقع فهو مفسوخ (¬1). ولم يشترط جمهور الفقهاء لانعقاد الزواج: البلوغ والعقل، وقالوا بصحة زواج الصغير والمجنون. الصغر: أما الصغر فقال الجمهور منهم أئمة المذاهب الأربعة، بل ادعى ابن المنذر الإجماع على جواز تزويج الصغيرة من كفء، واستدلوا عليه بما يأتي (¬2): ¬
1 - بيان عدة الصغيرة ـ وهي ثلاثة أشهر ـ في قوله تعالى: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم، فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن} [الطلاق:4/ 65] فإنه تعالى حدد عدة الصغيرة التي لم تحض بثلاثة أشهر كاليائسة، ولا تكون العدة إلا بعد زواج وفراق، فدل النص على أنها تزوج وتطلق ولا إذن لها. 2 - الأمر بنكاح الإناث في قوله تعالى: {وأنكحوا الأيامى منكم} [النور:32/ 24] والأيم: الأنثى التي لا زوج لها، صغيرة كانت أو كبيرة. 3 - زواج النبي بعائشة وهي صغيرة، فإنها قالت: «تزوجني النبي وأنا ابنة ستٍ، وبنى بي وأنا ابنة تسع» (¬1) وقد زوجها أبوها أبو بكر رضي الله عنهما. وزوج النبي صلّى الله عليه وسلم أيضاً ابنة عمه حمزة من ابن أبي سلمة، وهما صغيران. 4 - آثار عن الصحابة: زوَّج (أي عقد) علي ابنته أم كلثوم، وهي صغيرة من عروة بن الزبير، وزوج عروة بن الزبير بنت أخيه من ابن أخيه وهما صغيران. ووهب رجل بنته الصغيرة لعبد الله بن الحسن بن علي، فأجاز ذلك علي رضي الله عنهما، وزوجت امرأة بنتاً لها صغيرة لابن المسيب بن نخبة، فأجاز ذلك زوجها عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه. 5 - قد تكون هناك مصلحة بتزويج الصغار، ويجد الأبُ الكفءَ، فلا يفوت إلى وقت البلوغ. ¬
من الذي يزوج الصغار؟
وهناك رواية: معقولة: وهي بنت ثلاث عشرة. من الذي يزوج الصغار؟ اختلف الجمهور القائلون بجواز تزويج الصغار فيمن يزوجهم. فقال المالكية والحنابلة (¬1): ليس لغير الأب أو وصيه أو الحاكم تزويج الصغار، لتوافر شقفة الأب وصدق رغبته في تحقيق مصلحة ولده، والحاكم ووصي الأب كالأب، لأنه لا نظر لغير هؤلاء في مال الصغار ومصالحهم المتعلقة بهم، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «تستأمر اليتيمة في نفسها، وإن سكتت فهو إذنها، وإن أبت فلا جواز عليها» (¬2) وفي رواية أحمد: « .. لم تكره» وروي عن ابن عمر أن قدامة ابن مظعون زوج ابن عمر ابنة أخيه عثمان، فرفع ذلك إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: «إنها يتيمة ولا تُنكح إلا بإذنها» (¬3) واليتيمة: هي الصغيرة التي مات أبوها، لحديث: «لا يُتْم بعد احتلام» (¬4) دل الحديث على أن الأب وحده هو الذي يملك تزويج الصغار. وقال الحنفية (¬5): يجوز للأب والجد ولغيرهما من العصبات تزويج الصغير والصغيرة، لقوله تعالى: {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى} [النساء:4/ 3] أي في نكاح اليتامى، بإلحاق الظلم بهم، فالآية تأمر الأولياء بتزويج اليتامى، وأجاز أبو حنيفة في رواية عنه خلافاً للصاحبين لغير العصبات من قرابة الرحم كالأم والأخت والخالة تزويج الصغار إن لم يكن ثمة عصبة، ودليله عموم قوله ¬
الشافعية
تعالى: {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين} [النور:32/ 24] من غير تفرقة بين العصبات وغيرهم. وقال الشافعية (¬1): ليس لغير الأب والجد تزويج الصغير والصغيرة، لخبر الدارقطني: «الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر يزوجها أبوها» ورواية مسلم: «والبكر يستأمرها أبوها» والجد كالأب عند عدمه؛ لأن له ولاية وعصوبة كالأب. والخلاصة: المالكية قالوا: القياس ألا يجوز تزويج الصغار إلا أنا تركنا ذلك في حق الأب للآثار المروية فيه، فبقي ما سواه على أصل القياس. والحنابلة رأوا أن الأحاديث مقصورة على الأب. والشافعية استدلوا بالأحاديث، لكنهم قاسوا الجد على الأب، والحنفية أخذوا بعموم الآيات القرآنية التي تأمر الأولياء بتزوج اليتامى أو بتزويجهن من غيرهم. واشترط أبو يوسف ومحمد في تزويج الصغار الكفاءة ومهر المثل؛ لأن الولاية للمصلحة، ولا مصلحة في التزويج من غير كفء ولا مهر مثل. وكذلك اشترط الشافعية في تزويج الصغير وجود المصلحة، وفي تزويج الأب الصغيرة أو الكبيرة بغير إذنها شروطاً سبعة هي: الأول ـ ألا يكون بينه وبينها عداوة ظاهرة. الثاني - أن يزوجها من كفء. الثالث ـ أن يزوجها بمهر مثلها. ¬
الرابع ـ أن يكون من نقد البلد. الخامس ـ ألا يكون الزوج معسراً بالمهر. السادس ـ ألا يزوجها بمن تتضرر بمعاشرته كأعمى وشيخ هرم. السابع ـ ألا يكون قد وجب عليها الحج، فإن الزوج قد يمنعها لكون الحج على التراخي، ولها غرض في تعجيل براءتها، ويجوز أن يزوج الصغير أكثر من واحدة. وأجاز المالكية للأب تزويج البكر الصغيرة، ولو بدون صداق المثل، ولو لأقل حال منها، أو لقبيح منظر، وتزوج البالغ (أو البالغة) بإذنها، إلا اليتيمة الصغيرة التي بلغت عشر سنين، فتزوج بعد استشارة القاضي على أن يكون الزواج بكفء وبمهر المثل. ورأى الحنابلة: أن يزوج الأب ابنه الصغير والمجنون بمهر المثل وغيره، ولو كرهاً؛ لأن للأب تزويج ابنته البكر بدون صداق مثلها، وهذا مثله، فإنه قد يرى المصلحة في تزويجه، فجاز له بذل المال فيه كمداواته فهذا أولى. وإذا زوج الأب ابنه الصغير، فيزوجه بامرأة واحدة لحصول الغرض بها، وله تزويجه بأكثر من واحدة إن رأى فيه مصلحة، وضعَّف بعض الحنابلة هذا، إذ ليس فيه مصلحة، بل مفسدة، وصوِّب أنه لا يزوجه أكثر من واحدة. أما الوصي فلا يزوجه أكثر بلا خلاف؛ لأنه تزويج لحاجة، والكفاية تحصل به، إلا أن تكون غائبة أو صغيرة أو طفلة، وبه حاجة، فيجوز أن يزوجه ثانية. ولسائر الأولياء تزويج بنت تسع سنين فأكثر بإذنها، لما روى أحمد عن عائشة: «إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة» أي في حكم المرأة.
العقل
العقل: وأما العقل فليس شرطاً بالاتفاق، فيجوز للولي أباً أو غيره عند الحنفية (¬1) أن يزوج المجنون أوالمجنونة أو المعتوه أو المعتوهة (¬2) صغيراً أم كبيراً، بكراً أم ثيباً. وللأب عند المالكية (¬3) تزويج المجنون أو المجنونة ونحوهما، في حال الصغر أو الكبر، ولو ثيباً، لعدم التمييز، ولا كلام لولدهما معه إن كان لهما ولد رشيد، إلا من يفيق أو تفيق من جنونها أحياناً، فتنتظر إفاقتها لتستأذن ولا تجبر، وذلك إذا لم يلزم على تزويج المجنونة ضرر عادة، كتزويجها من خصي أو ذي عاهة، كجنون وبرص وجذام، مما يردّ الزوج به شرعاً. ورأى الشافعية (¬4): أنه لا يزوَّج مجنون صغير أو كبير، إلا لحاجة للزواج، ويزوجه امرأة واحدة فقط الأب، ثم الجد، ثم السلطان، دون سائر العصبات كولاية المال. ويزوج الأب أو الجد لوفور شفقتهما المجنونة الصغيرة أو الكبيرة إن ظهرت مصلحة في تزويجها، ولا تشترط الحاجة قطعاً، فإن لم يكن أب أو جد لم تزوج في صغرها، فإن بلغت زوجها السلطان في الأصح للحاجة للزواج، لا لمصلحة في الأصح، كتوفر المؤن. وقال الحنابلة (¬5): لسائر الأولياء تزويج المجنونة إذا ظهر منها الميل إلى الرجال؛ لأن لها حاجة إلى الزواج لدفع ضرر الشهوة عنها، وصيانتها عن ¬
موقف القانون السوري من زواج الصغير والمجنون
الفجور. ويعرف ميلها إلى الرجال من كلامها وتتبعها الرجال وميلها إليهم ونحوه من قرائن الأحوال، وكذا إن قال الأطباء (ثقة أو اثنان): إن علتها تزول بتزويجها. فإن لم يكن لها ولي إلا الحاكم زوَّجها. وإن احتاج المجنون البالغ أو الصغير العاقل إلى الزواج أو لغيره كالخدمة، زوجهما الحاكم عند عدم الأب والوصي، وليس لغير الأب ووصيه والحاكم التزويج، ولا يجوز التزويج إن لم يحتج المجنون والصغير إليه؛ لأنه إضرار بهما بلا منفعة. موقف القانون السوري من زواج الصغير والمجنون: أخذ القانون السوري بما يخالف رأي الجمهور في زواج الصغار والمجانين بالاعتماد على مبدأ الاستصلاح، فأخذ برأي ابن شبرمة ومن وافقه في عدم صحة زواج الصغار، مراعاة لأوضاع المجتمع، وتقديراً لمخاطر مسؤوليات الزواج. ولم يصحح القانون زواج المجنون أو المعتوه مطلقاً، إلا إذا ثبت طبياً أن زواجه يفيد في شفائه، فللقاضي الإذن بالزواج. وهذا ما نصت عليه المادة (15): 1 - يشترط في أهلية الزواج العقل والبلوغ. 2 - للقاضي الإذن بزواج المجنون والمعتوه إذا ثبت بتقرير هيئة من أطباء الأمراض العقلية أن زواجه يفيد في شفائه. سن البلوغ: كذلك أخذ القانون السوري بما يخالف رأي جمهور الفقهاء في تحديد سن البلوغ، ففي الأحوال المدنية أو الشؤون المالية نص القانون المدني
(م 2/ 46) على أهلية الشخص الطبيعي، وهي بلوغ سن الثامنة عشرة، للذكر والأنثى على السواء عملاً بمبدأ الاستصلاح. ونص المادة هو :1 - كل شخص بلغ سن الرشد متمتعاً بقواه العقلية، ولم يحجر عليه، يكون كامل الأهلية لمباشرة حقوقه المدنية. 2 - وسن الرشد: هي ثماني عشرة سنة ميلادية كاملة. أما في الأحوال الشخصية أو الزواج: فقد نص قانون الأحوال الشخصية على أن أهلية الفتى ثمانية عشر عاماً، والفتاة سبعة عشر عاماً. وذلك في المادة (16) وهي: تكمل أهلية الزوج في الفتى بتمام الثامنة عشرة، وفي الفتاة بتمام السابعة عشرة من العمر. لكن أجاز هذا القانون أيضاً للقاضي: أن يأذن بزواج الفتى بعد إكماله سن الخامسة عشرة، والفتاة بعد إكمالها سن الثالثة عشرة، إذا طلبا الزواج، وادعيا البلوغ، وتبين له صدقهما في ادعاء البلوغ. وهذا مراعاة لمصلحة الشباب في التبكير بالزواج، صوناً لهم عن الانحراف. ونص القانون (م 18) ما يأتي: 1 - إذا ادعى المراهق البلوغ بعد إكماله الخامسة عشرة، أو المراهقة بعد إكمالها الثالثة عشرة، وطلبا الزواج، يأذن به القاضي إذا تبين له صدق دعواهما واحتمال جسميهما. 2 - إذا كان الولي هو الأب أو الجد، اشترطت موافقته. أما رأي فقهائنا في سن الزواج: فإنهم اتفقوا على عدم انعقاد زواج الصغير غير المميز، أما الصبي المميز فينعقد زواجه موقوفاً عند الحنفية على إجازة وليه،
المبحث الثاني ـ الولاية في الزواج
ويبطل زواجه كسائر عقوده عند الجمهور، وإنما يزوجه وليه، فإذا بلغ خمسة عشر عاماً تزوج بنفسه، وعند أبي حنيفة إذا بلغ سن الثامنة عشرة. المبحث الثاني ـ الولاية في الزواج: اتفق الفقهاء على أنه يشترط لصحة الزواج أن يكون لمن يتولاه ولاية إنشائه، إما بالنفس وإما بالغير، فإذا وجدت هذه الولاية، صح العقد ونفذ، وإن فقدت بطل العقد عند الجمهور، وكان موقوفاً عند الحنفية. فإن تم العقد من الرجل بالأصالة عن النفس صح العقد بالاتفاق، وإن تم بإنابة من الشارع، صح أيضاً بصفة الولاية، وإن وجد الزواج بالنيابة عن الشخص، صح بصفة الوكالة. ونبحث في الولاية: معناها، أنواعها، اشتراطها في زواج المرأة، شروط الولي، من له الولاية، المولى عليه، ترتيب الأولياء، كيفية إذن المرأة بالزواج، عضل الولي، غيبة الولي وأسره أو فقده. أولاً ـ معنى الولاية وسببها: الولاية لغة إما بمعنى المحبة والنصرة، كما في قوله تعالى: {ومن يتول الله ورسوله، والذين آمنوا، فإن حزب الله هم الغالبون} [المائدة:5/ 56] وقول سبحانه: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} [التوبة:71/ 9]. وإما بمعنى السلطة والقدرة، يقال: (الولي) أي صاحب السلطة. وفي اصطلاح الفقهاء: القدرة على مباشرة التصرف من غير توقف على
ثانيا ـ أقسام الولاية
إجازة أحد. ويسمى متولي العقد (الولي) ومنه قوله تعالى: {فليملل وليه بالعدل} [البقرة:282/ 2]. وسبب مشروعية ولاية تزويج القصر والمجانين (ولاية الإجبار): هو رعاية مصالح هؤلاء، وحفظ حقوقهم بسبب عجزهم وضعفهم حتى لا تضيع وتهدر. ثانياً ـ أقسام الولاية: قسم الحنفية الولاية ثلاثة أقسام: ولاية على النفس، وولاية على المال، وولاية على النفس والمال معاً. والولاية على النفس: هي الإشراف على شؤون القاصر الشخصية، كالتزويج والتعليم والتطبيب والتشغيل، وهي تثبت للأب والجد وسائر الأولياء. والولاية على المال: هي تدبيرشؤون القاصر المالية من استثمار وتصرف وحفظ وإنفاق. وتثبت للأب والجد ووصيهما، ووصي القاضي. والولاية على النفس والمال: تشمل الشؤون الشخصية والمالية، ولا تكون إلا للأب والجد فقط. ومحل البحث في الزواج هو الولاية على النفس. نوعا ولاية النفس: تنقسم ولاية النفس إلى نوعين: ولاية إجبار، وولاية اختيار، أو ولاية حتم وإيجاب، وولاية ندب واستحباب (¬1). 1 - ولاية الإجبار: هي تنفيذ القول على الغير. وهي بهذا المعنى العام تثبت بأربعة أسباب: القرابة والملك، والولاء، والإمامة. ¬
ولاية القرابة: تثبت لصاحبها بسبب قرابته من المولى عليه، إما بقرابة قريبة كالأب والجد والابن، أو بقرابة بعيدة كابن الخال وابن العم. وولاية المِلْك: هي الولاية التي تثبت للسيد على مملوكه، فله تزويج عبده أو أمته جبراً عنهما، ويتوقف نفاذ زواجهما على إذنه. وشرط ثبوت هذه الولاية للسيد: أن يكون عاقلاً بالغاً، فلا ولاية للمجنون والمعتوه ولا للصبي قبل البلوغ على تزويج العبد أو الأمة. وولاية الولاء نوعان: ولاء عتاقة، وولاء موالاة. وولاء العتاقة: هو الحق الشرعي الذي يثبت للمعتق على عتيقه، حتى إنه يرثه به، وله أن يزوجه إذا كان العتيق صغيراً أو كبيراً مجنوناً أو معتوهاً. وشرط ثبوت هذه الولاية أن يكون المعتق عاقلاً بالغاً. وولاء الموالاة: هو الذي يثبت بناء على عقد بين اثنين على أن يناصره، ويغرم عنه إذا جنى، ويرثه إذا مات. وتثبت بهذا العقد ولاية تزويجه. ويشترط لثبوت هذه الولاية أن يكون الولي عاقلاً بالغاً حراً، وألا يكون للمولى عليه أحد يرثه من النسب أو العصبة السببية. وولاية الإمامة: هي ولاية الإمام العادل ونائبه، كالسلطان والقاضي، فلكل منهما تزويج عديم الأهلية أو ناقصها بشرط ألا يكون له ولي قريب، للحديث السابق: «السلطان ولي من لا ولي له» (¬1). وولاية الإجبار بالمعنى الخاص: هي حق الولي في أن يزوج غيره بمن شاء. ¬
المالكية
وتثبت ولاية الإجبار بهذا المعنى عند الحنفية: على الصغيرة ولو كانت ثيباً، وعلى المعتوه والمجنونة والأمة المرقوقة. ويقال لصاحبها: ولي مُجْبر. 2 - وأما ولاية الاختيار: فهي حق الولي في تزويج المولى عليه بناء على اختياره ورضاه، ويقال لصاحبها: ولي مُخَيِّر. وهي مستحبة عند أبي حنيفة وزفر في تزويج المرأة الحرة البالغة العاقلة، سواء أكانت بكراً أم ثيباً، رعاية لمحاسن العادات والآداب التي يراعيها الإسلام، إذ للمرأة عندهم أن تتولى تزويج نفسها باختيارها وإرادتها، لكن يستحب لها أن تولي أمر العقد لوليها. وشرط ثبوت هذه الولاية هو رضا المولى عليه لا غير. والخلاصة: أنه لا ولي عند الحنفية إلا الولي المجبر، فليس عندهم ولي غير مجبر يتوقف عليه العقد، وكل ولي: مجبر. أنواع الولاية عند المالكية: الولاية عند المالكية قسمان: خاصة وعامة (¬1): 1 - الولاية الخاصة: هي التي تثبت لأناس معينين، وهم ستة أصناف: الأب، ووصيه، والقريب العصبة، والمولى، والكافل، والسلطان. وأسباب هذه الولاية ستة هي: الأبوة، والإيصاء، والعصوبة، والملك، والكفالة، والسلطنة. أما الولاية بالكفالة: فهي أن يكفل رجل امرأة فقدت والدها. وغاب عنها أهلها، فقام بتربيتها مدة خاصة، فيكون له عليها حق الولاية في تزويجها، ويشترط لثبوت هذه الولاية شرطان. ¬
أحدهما: أن تمكث عنده زمناً يوجب حنانه وشفقته عليها عادة وبالفعل، فلا حاجة لتقدير زمن معين كأربع سنوات أو عشر على الأظهر. والثاني: ألا تكون شريفة، والشريفة: هي ذات الجمال أو المال، فإن كانت ذات جمال فقط أو ذات مال فقط، زوجها الحاكم. ورجح بعض المالكية أن ولاية الكفيل عامة تشمل الشريفة والدنيئة. 2 - والولاية العامة: تثبت بسبب واحد هو الإسلام، فهي تكون لكل مسلم، على أن يقوم بها واحد منهم، بأن توكل امرأة أحد المسلمين ليباشر عقد زواجها، بشرط ألا يكون لها أب أو وصيه، وبشرط أن تكون دنيئة لا شريفة. والدنيئة: هي الخالية من الجمال والمال والحسب والنسب. والخالية من النسب: بنت الزنا أو الشبهة أو المعتوقة من الجواري. والحسب: هو الأخلاق الكريمة كالعلم والتدبير والكرم ونحوها من محاسن الأخلاق. يصح الزواج بالولاية العامة في امرأة دنيئة، مع وجود ولي خاص غير مجبر، كأب وابن عم، كما يصح زواج شريفة بالولاية العامة مع وجود ولي خاص غير مجبر إن دخل الزوج بها، وطال الدخول مدة هي أن يمضي زمن تلد فيه الأولاد كثلاث سنين، كطول مدة زواج الصغيرة التي لا أب لها إذا زوجت مع فقد الشروط أو بعضها. وتجوز الولاية العامةإذا تعذرت الولاية الخاصة. وتثبت ولاية الإجبار عند المالكية بأحد سببين: البكارة، والصغر فيقع، الإجبار للبكر وإن كانت بالغاً، وللصغيرة وإن كانت ثيباً، ويستحب استئمارها. والولي المجبر عندهم أحد ثلاثة: مالك الأمة أو العبد، فالأب، فوصي الأب عند عدم الأب.
الشافعية
والولي غير المجبر: يشمل العصبة، ثم المولى (من أعتق المرأة ثم عصبته) ثم الكافل، ثم الحاكم. وقرابة العصبة كالابن والأخ والجد وابن العم، لا يزوجون إلا البالغة بإذنها، وتأذن الثيب بالكلام، والبكر بالصمت. والولي غير المجبر يزوج البالغ لا الصغيرة بإذنها ورضاها، سواء أكانت البالغ بكراً أم ثيباً. أنواع الولاية عند الشافعية: الولي عن المرأة مطلقاً شرط عند الشافعية (¬1) لصحة أي عقد من عقود الزواج، فلا تزوِّج امرأة نفسها بإذن وليها، ولا غيرها بوكالة، ولا تقبل زواجاً لأحد. والولاية نوعان: ولاية إجبارية وولاية اختيارية: أما ولاية الإجبار: فتثبت للأب، وللجد عند عدمه، فللأب تزويج البكر صغيرة أو كبيرة بغير إذنها، ويستحب استئذانها، ويكفي في البكر البالغة العاقلة إذا استؤذنت في تزويجها سكوتها في الأصح. ودليلهم خبر الدارقطني: «الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر يزوجها أبوها» ورواية مسلم: «والبكر يستأمرها أبوها، وإذنها سكوتها» وقد حملت رواية مسلم على الندب، ولأن البكر شديدة الحياء إذ لم تمارس الرجال بالوطء. وأما ولاية الاختيار: فتثبت لكل الأولىاء العصبات في تزويج المرأة الثيب، ¬
الحنابلة
فليس للولي تزويج الثيب إلا بإذنها، فإن كانت الثيب صغيرة لم تزوَّج حتى تبلغ؛ لأن إذن الصغيرة غير معتبر، فامتنع تزويجها إلى البلوغ، وتزوج الثيب البالغة بصريح الإذن، ولا يكفي سكوتها. بدليل خبر الدارقطني السابق، وخبر «لا تنكحوا الأيامى حتى تستأمروهن» (¬1) ولأنها عرفت مقصود الزواج، فلا تجبر بخلاف البكر. ودليل صراحة الإذن: حديث: «ليس للولي مع الثيب أمر» (¬2) ولو أذنت بلفظ التوكيل جاز؛ لأن المعنى فيهما واحد. والحاصل: أن الفرق بين البكر والثيب هوفي حكم الإذن ونوعه، فالبكر يستحب استئذانها، وإذنها صماتها، والثيب يجب استئذانها، بصريح الإذن. وأما المجنونة فيزوجها الأب، والجد عند عدمه قبل بلوغها للمصلحة. أنواع الولاية عند الحنابلة: لا يصح نكاح المرأة إلا بولي عند الحنابلة (¬3) كالشافعية والمالكية، فلو زوَّجت امرأة نفسها، أو زوَّجت غيرَها كبنتها وأختها، أو وكلت امرأة غير وليها في تزويجها ولو بإذن وليها في الصور الثلاث، لم يصح النكاح لعدم وجود شرطه، ولأنها غير مأمونة على البُضْع لنقص عقلها، وسرعة انخداعها، فلم يجز تفويضه إليها، كالمبذر في المال، فلا يصح أن توكل فيه، ولا أن تتوكل فيه، فإن حكم بصحته حاكم أو كان المتولي العقد حاكماً يراه، لم ينقض كسائر الأنكحة الفاسدة، إذا حكم بها من يراها، لم ينقض؛ لأنه يسوغ فيها الاجتهاد، فلم يجز نقض الحكم بها. ¬
وولاية الإجبار: تثبت لأب، ووصيه، ثم الحاكم، كما قال المالكية، ولا تثبت للجد وسائر الأولىاء، وذلك عند تزويج الصغيرة فقط. وولاية الاختيار: تثبت لسائر الأولياء عند تزويج امرأة حرة مكلفة (كبيرة بالغة) ثيباً كانت أو بكراً بإذنها، وإذن البكر: الصمت، وإذن الثيب: الكلام، بدليل حديث أبي هريرة مرفوعاً: «لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن، قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال: أن تسكت» (¬1) وحديث «الثيب تعرب عن نفسها، والبكر رضاها صمتها» (¬2). ولسائر الأولياء تزويج بنت تسع سنين فأكثر بإذنها، ولهاإذن صحيح معتبر، لحديث عائشة: «إذا بلغت الجارية تسع سنين، فهي امرأة» (¬3) وروي مرفوعاً عن ابن عمر. ومعناه: في حكم المرأة، ولأنها تصلح بذلك للنكاح وتحتاج إليه، فأشبهت البالغة. والخلاصة: يزوج الرجل البالغ العاقل نفسه بالاتفاق بالأصالة عن نفسه، ويزوج الولي الصغار والمجانين والمعتوهين بالاتفاق بالولاية عن الشارع. واختلف الفقهاء في زواج المرأة البالغة العاقلة، فقال الحنفية: لها أن تتزوج بنفسها، وقال الجمهور: يزوجها وليها، لكن عند الحنابلة بإذنها سواء أكانت بكراً أم ثيباً، وعند المالكية والشافعية: بإذنها إذا كانت ثيباً، وبغير إذنها إذا كانت بكراً صغيرة أم كبيرة. وكل ولي مجبر عند الحنفية، والمجبر عند المالكية والحنابلة: الأب ووصيه والحاكم، والمجبر عند الشافعية: الأب، والجد فقط عند عدم الأب. ¬
ثالثا ـ اشتراط الولاية في زواج المرأة
ويستحب استئذان البنت البكر عند المالكية والشافعية، ولا إذن للصغيرة بحال عند الحنابلة، وليس عندهم للحاكم ولسائر الأولياء تزويج بنت دون تسع سنين. ثالثاً ـ اشتراط الولاية في زواج المرأة: للفقهاء كما عرفنا رأيان في انعقاد الزواج بعبارة النساء، رأي الحنفية: أنه يصحح العقد بعبارتها، بدون ولي، ورأي الجمهور: أنه يبطل العقد بدون ولي (¬1). أما الرأي الأول ـ فقال أبو حنيفة وأبو يوسف في ظاهر الرواية: ينفذ نكاح حرة مكلفة (بالغة عاقلة) بلا رضا ولي، فللمرأة البالغة العاقلة أن تتولى عقد زواجها، وزواج غيرها، لكن إذا تولت عقد زواجها، وكان لها ولي عاصب، اشترط لصحة زواجها ولزومه أن يكون الزوج كفئاً، وألا يقل المهر عن مهر المثل. فإذا تزوجت بغير كفء، فلوليها حق الاعتراض على الزواج ويفسخه القاضي، إلا أنه إذا سكت حتى ولدت أو حملت حملاً ظاهراً، سقط حق الولي في الاعتراض على الزواج ويفسخه القاضي، إلا أنه إذا سكت حتى ولدت أو حملت حملاً ظاهراً، سقط حق الولي في الاعتراض وطلب التفريق، حفاظاً على تربية الولد، ولئلا يضيع بالتفريق بين أبويه، فإن بقاءهما مجتمعين على تربيته أحفظ له بلا شبهة. والمفتى به أن المرأة إذا تزوجت بغير كفء، وقع العقد فاسداً، فلو رضي الولي بعد العقد لا ينقلب صحيحاً. ¬
الرأي الثاني ـ رأي الجمهور
ودليله كما سبق: أولاً ـ حديث «الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر في نفسها، وإذنها صماتها» والأيم: التي لا زوج لها، بكراً كانت أو ثيباً، فدل على أن للمرأة الحق في تولي العقد. ثانياً ـ للمرأة أهلية كاملة في ممارسة جميع التصرفات المالية من بيع وإيجار ورهن وغيرها، فتكون أهلاً لمباشرة زواجها بنفسها؛ لأن التصرف حق خالص لها. وأما الرأي الثاني ـ رأي الجمهور: فهو أن النكاح لا يصح إلا بولي، ولا تملك المرأة تزويج نفسها ولا غيرها، ولا توكيل غير وليها في تزويجها، فإن فعلت ولو كانت بالغة عاقلة رشيدة، لم يصح النكاح، وهو رأي كثير من الصحابة كابن عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وأبي هريرة وعائشة رضي الله عنهم. وإليه ذهب سعيد بن المسيب والحسن وعمر بن عبد العزيز وجابر بن زيد والثوري وابن أبي ليلى وابن شبرمة وابن المبارك، وعبيد الله العنبري وإسحاق وأبو عبيدة رحمهم الله تعالى. وأدلتهم: أولاً ـ حديث عائشة وأبي موسى وابن عباس: «لا نكاح إلا بولي» (¬1) وحديث عائشة: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها، فنكاحها باطل باطل باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له» (¬2). وحديث أبي هريرة: «لا تزوج المرأة نفسها، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها» (¬3). ¬
رابعا ـ شروط الولي
ثانياً ـ إن الزواج عقد خطير دائم ذو مقاصد متعددة من تكوين أسرة، وتحقيق طمأنينة واستقرار وغيرها، والرجل بما لديه من خبرة واسعة في شؤون الحياة أقدر على مراعاة هذه المقاصد، أما المرأة فخبرتها محدودة، وتتأثر بظروف وقتية، فمن المصلحة لها تفويض العقد لوليها دونها. رابعاً ـ شروط الولي: يشترط في الولي شروط متفق عليها بين الفقهاء وهي (¬1): 1ً - كمال الأهلية: بالبلوغ والعقل والحرية، فلا ولاية للصبي والمجنون والمعتوه (ضعيف العقل) والسكران، وكذا مختل النظر بهرَم، (وهو كبر السن) أو خبَل (وهو فساد في العقل)، والرقيق؛ لأنه لا ولاية لأحد من هؤلاء على نفسه، لقصور إدراكه وعجزه في غير الرقيق فلا تكون له ولاية على غيره؛ لأن الولاية تتطلب كمال الحال. وأما الرقيق فلأنه مشغول بخدمة مولاه، فلا يتفرغ للنظر في شؤون غيره. 2ً - اتفاق دين الولي والمولى عليه: فلا ولاية لغيرا لمسلم على المسلم، ولا للمسلم على غير المسلم، أي لا يزوج عند الحنابلة والحنفية كافر مسلمة ولا عكسه، وقال الشافعية وغيرهم: يزوج الكافر الكافرة، سواء أكان زوج الكافرة كافراً أم مسلماً، وقال المالكية: يزوج الكافرة الكتابية مسلم. ولا ولاية للمرتد على أحد مسلم أو كافر، لقوله تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} [التوبة:71/ 9] وقوله سبحانه: {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض} [الأنفال:73/ 8] وقوله تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} ¬
شروط أخرى في الولي مختلف في اشتراطها
[النساء:141/ 4] ولحديث «الإسلام يعلو ولا يعلى» (¬1)، والسبب في اشتراط اتحاد الدين: هو اتحاد وجهة النظر في تحقيق المصلحة، ولأن إثبات الولاية للكافر على المسلم تشعر بإذلال المسلم من جهة الكافر. ويستثنى من ذلك الإمام أو نائبه؛ لأن له الولاية العامة على جميع المسلمين. وقد اقتصر القانون السوري (م 22) على شرط كمال الأهلية: «يشترط أن يكون الولي عاقلاً بالغاً» ولم يشترط اتحاد الدين بين الولي والمولى عليه. وهناك شروط أخرى في الولي مختلف في اشتراطها وهي: 3 - الذكورة: شرط عند الجمهور غير الحنفية، فلا تثبت ولاية الزواج للأنثى؛ لأن المرأة لا يثبت لها ولاية على نفسها، فعلى غيرها أولى. وقال الحنفية: ليست الذكورة شرطاً في ثبوت الولاية، فللمرأة البالغة العاقلة ولاية التزويج عنده بالنيابة عن الغير، بطريق الولاية أو الوكالة. وهذا الخلاف مفرع على اختلافهم في مسألة انعقاد الزواج بعبارة النساء. 4 - العدالة: وهي استقامة الدين، بأداء الواجبات الدينية، والامتناع عن الكبائر كالزنا والخمر وعقوق الوالدين ونحوها، وعدم الإصرار على الصغائر. وهي شرط عند الشافعية على المذهب وعند الحنابلة، فلا ولاية لغير العدل وهو الفاسق، لما روي عن ابن عباس: «لا نكاح إلا بشاهدي عدل، وولي مرشد» (¬2) لأنها ولاية تحتاج إلى النظر وتقدير المصلحة، فلا يستبد بها الفاسق كولاية المال. ¬
الحنفية
ويكفي العدالة الظاهرة، فيكفي مستور الحال؛ لأن اشتراط العدالة ظاهراً وباطناً حرج ومشقة، ويفضي إلى بطلان غالب الأنكحة. ويستثنى من هذا الشرط: السلطان، يزوج من لا ولي لها، فلا تشترط عدالته للحاجة، والسيد يزوج أمته، فلا تشترط عدالته؛ لأنه تصرف في أمته، كإيجارها ونحوه. وذهب الحنفية والمالكية إلى أن العدالة ليست شرطاً في ثبوت الولاية، فللولي عدلاً كان أو فاسقاً تزويج ابنته أو ابنة أخيه مثلاً؛ لأن فسقه لا يمنع وجود الشفقة لديه ورعاية المصلحة لقريبه، ولأن حق الولاية عام، ولم ينقل أن ولياً في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلم ومن بعده منع من التزويج بسبب فسقه. وهذا الرأي هو الراجح؛ لأن حديث ابن عباس ضعيف، ولأن (المرشد) ليس معناه العدل، بل الذي يرشد غيره إلى وجوه المصلحة، والفاسق أهل لذاك. 5 - الرشد: ومعناه هنا عند الحنابلة: معرفة الكفء ومصالح النكاح، لا حفظ المال؛ لأن رشد كل مقام بحسبه. ومعناه عند الشافعية: هو عدم تبذير المال. والرشد شرط عند الشافعية على المذهب والحنابلة في ثبوت الولاية؛ لأن المحجور عليه بسفه لا يلي أمر نفسه في الزواج، فلا يلي أمر غيره، فإن لم يكن السفيه محجوراً عليه جاز له تزويج غيره على المعتمد عند الشافعية. وقال الحنفية والمالكية: ليس الرشد بمعنى حسن التصرف في المال شرطاً في ثبوت الولاية، فيصح للسفيه ولو محجوراً عليه أن يتولى تزويج غيره. لكن يستحب عند المالكية أن يكون التزويج من السفيه ذي الرأي بإذن موليته، وبإذن وليه، فإن زوج ابنته مثلاً بغير إذن وليه، ندب أن ينظر الولي لما فيه المصلحة، فإن كان صواباً أبقاه وإلا رده، فإن لم ينظر فهو ماض.
خامسا ـ من له الولاية وترتيب الأولياء
وأضاف المالكية شرطين آخرين هما: خلو الولي من الإحرام بحج أو عمرة، فالمحرم بأحدهما لا يصح منه تولي عقد النكاح. وعدم الإكراه: فلا يصح الزواج من مكره، لكن هذا الشرط لا يختص بولي عقد النكاح، بل هو عام في جميع العقود الشرعية. وبه تصبح شروط الولي عندهم سبعة: هي الذكورة والحرية والبلوغ والعقل، والإسلام في المرأة المسلمة والخلو من الإحرام وعدم الإكراه. وليست العدالة والرشد شرطين. وهي أيضاً عند الحنابلة والشافعية سبعة: الحرية والذكورة واتحاد الدين بين الولي والمولى عليها، والبلوغ، والعقل، والعدالة، والرشد: وهو عند الحنابلة معرفة الكفء ومصالح النكاح، وليس حفظ المال؛ لأن رشد كل مقام بحسبه. وعند الشافعية: عدم تبذير المال. وعند الحنفية أربعة هي: العقل والبلوغ والحرية واتحاد الدين، وليست العدالة والرشد شرطين. خامساً ـ من له الولاية وترتيب الأولياء: قال الحنفية (¬1): الولاية هي ولاية الإجبار فقط، وتثبت للأقارب العصبات (¬2)، الأقرب فالأقرب؛ لأن «النكاح إلى العصبات» كما روي عن علي رضي الله عنه، وذلك على الترتيب الآتي: البنوة، ثم الأبوة، ثم الأخوة، ثم العمومة، ثم المعتق، ثم الإمام والحاكم، أي بالترتيب التالي: 1 - الابن وابنه وإن نزل. ¬
2 - الأب والجد العصبي (الصحيح) وإن علا. 3 - الأخ الشقيق والأخ لأب وأبناؤهما وإن نزلوا. 4 - العم الشقيق والعم لأب وأبناؤهما وإن نزلوا. ثم يأتي بعد هؤلاء المعتق ثم عصبته النسبية. ثم السلطان أو نائبه وهو القاضي؛ لأنه نائب عن جماعة المسلمين، للحديث المتقدم: «السلطان ولي من لا ولي له» وبهذا نطقت المادة (24) من القانون السوري: «القاضي ولي من لا ولي له». وليس للوصي تزويج الصغير أو الصغيرة، ولو كان الأب قد أوصى إليه بذلك، على المعتمد. وليس للقاضي تزويج الصغيرة من نفسه، ولا ممن لا تقبل شهادته له، وهذا ما نصت عليه المادة (25) من القانون السوري. وإذا زوج الولي من مرتبة مع وجود من هو أقرب منه، كان العقد موقوفاً على إجازة الأقرب، إلا أن يكون هذا الأقرب صغيراً أو مجنوناً، فينفذ عقد الولي الأبعد. وقد نص القانون السوري (م 1/ 22) على أنه: «إذا استوى وليان في القرب، فأيهما تولى الزواج بشرائطه، جاز». وترتيب الأولياء على هذا النحو هو رأي الصاحبين، وقال أبو حنيفة: لغير العصبات من الأقارب ولاية التزويج عند عدم العصبات، أي تثبت الولاية لذوي الأرحام، الأقرب فالأقرب، فإن لم يكن عصبة فالولاية للأم، ثم أم الأب، ثم أم الأم، فإن لم يوجد أحد من الأصول انتقلت الولاية للفروع، على أن تقدم البنت على بنت الابن لقربها، وتقدم بنت الابن على بنت البنت لقوة قرابتها.
ثم الجد الرحمي (غير الصحيح): وهو أبو الأم، وأبو أم الأب. ثم الأخوال ثم الخالات وأولادهم. فإن لم يوجد أحد من ذوي الأرحام، انتقلت الولاية إلى الحاكم: وهو القاضي الآن. وإذا اجتمع في المجنونة أبوها وابنها، فالولي في نكاحها ابنها في قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن الابن هو المقدم في العصوبة ولا عبرة بزيادة الشفقة. وقال محمد: الولي أبوها؛ لأنه أوفر شفقة من الابن. وبه يظهر أن الحنفية يخالفون غيرهم في ثبوت الولاية للأقارب غير الأب والجد، لإثبات الولاية لابن العم في القرآن في قوله تعالى: {ويستفتونك في النساء، قل: الله يفتيكم فيهن، وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن، وترغبون أن تنكحوهن} [النساء:127/ 4] فإن هذه الآية نزلت ـ كما قالت السيدة عائشة ـ في اليتيمة تكون في حجر وليها، فيرغب في زواجها، ولا يقسط في صداقها. وهذا الولي المتصور هو ابن العم، فتثبت لمن هو أقرب منه كالأخ والعم بالأولى. ولعموم قول علي رضي الله عنه: «النكاح إلى العصبات» والعصبات لفظ عام يشمل الأب وغيره. ويخالف الحنفية غيرهم أيضاً في عدم ثبوت ولاية التزويج للوصي، لقول علي السابق: «النكاح إلى العصبات» والوصي ليس من الأقارب العصبة، فلا تثبت له الولاية. وأخذ القانون السوري (م21) برأي الجمهور في قصر الولاية على العصبات، ونص المادة: «الولي في الزواج: هو العصبة بنفسه على ترتيب
مذهب المالكية في ترتيب الأولياء
الإرث، بشرط أن يكون محرماً» ويلاحظ أنه قصر الولاية على العصبات المحارم ليمنع ابن العم من التحكم في زواج بنت عمه. مذهب المالكية في ترتيب الأولياء: قال المالكية (¬1): هنا ك ولي مجبر، وولي غير مجبر. فولاية الإجبار تثبت لأحد ثلاثة بالترتيب الآتي: 1ً - السيد المالك ولو أنثى: فله أن يجبر أمته أو عبده على الزواج بشرط عدم الإضرار بهما، كالتزويج من ذي عاهة كالجذام أو البرص، فلا جبر للمالك، ويفسخ وإن طال، والسيد مقدم على الأب. 2ً - الأب: رشيداً كان أو سفيهاً ذا رأي، فله تزويج البكر ولو عانساً: بلغت من العمر ستين سنة فأكثر، فله تزويج البنت البكر جبراً عنها، ولو بدون مهر المثل، أو من غير كفء، كأن يكون أقل حالاً منها، أو قبيح منظر. وليس للأب جبر ابنته إذا رشَّدها، أي جعلها رشيدة، أو أطلق الحجر عنها، لصيرورتها حسنة التصرف، أو أقامت سنة فأكثر في بيت زوج بعد أن دخل بها، ثم تأيمت وهي بكر، فلا جبر للأب عليها؛ تنزيلاً لإقامتها ببيت الزوج سنة منزلة الثيوبة. وكذلك ليس للأب الجبر إن زالت بكارة البنت بنكاح فاسد يدرأ (يمنع) الحد عنها لشبهة، فإن لم يدرأ الحد عنها فله جبرها. ¬
وللأب جبر البنت الثيب الصغيرة، بأن تأيمت بعد أن أزال الزوج بكارتها، إذ لا عبرة لثيوبتها في هذه الحالة مع صغرها. وله جبرها إن زالت بكارتها بزنا ولو تكرر، أو ولدت من الزنا، أوزالت بكارتها بعارض كوثبة أو ضربة أو بعود ونحوها. وللأب جبر المجنونة جنوناً مطبقاً ولو كانت ثيباً أو ولدت أولاداً، أما التي تفيق فتنتظر إفاقتها إن كانت ثيباً، فتزوج برضاها، وأما البكر فيجبرها ولا تنتظر إفاقتها. 3ً - وصي الأب عند عدم الأب بشروط ثلاثة هي: أـ أن يعين الأب للوصي الزوج، بأن يقول له: زوجها من فلان، أو يأمره بجبرها صراحة، مثل: اجبرها على الزواج، أو ضمناً، مثل: زوجها قبل البلوغ وبعده، أو على أي حالة شئت. أو أن يأمره بالزواج دون أن يعين له الزوج ولا الإجبار، كأن يقول له: زوجها أو أنكحها، أوزوجها ممن أحببت، أو لمن ترضاه. أو أن يقول له: أنت وصيي على بنتي، أو بناتي، أو على بعضها أو بعضهن، فله الجبر على الأرجح. أما لو قال: أنت وصيي على مالي فلا جبر بالاتفاق. ب ـ ألا يقل المهر عن مهرا لمثل. جـ ـ ألا يكون الزوج فاسقاً. والخلاصة: إن الذي يجبر في عصرنا: هو الأب ووصيه، ولا جبر لغير السيد والأب ووصيه من الأولياء في تزويج البكر والصغيرة والمجنونة، أو أي أنثى صغيرة أو كبيرة، إلا في مسألة واحدة هي البكر الصغيرة اليتيمة، للولي غيرا لمجبر
تزويجها بمشورة القاضي إذا خيف عليها الفساد في دينها، بأن يتردد عليها أهل الشر والفسق، أو لعدم وجود من ينفق عليها، أو لخوف ضياع ما لها، بشرط بلوغها عشر سنوات؛ لأنها صارت في سن من توطأ، وبشرط خلوها من الموانع الشرعية، ككونها زوجة أو في عدة من زوج آخر، وبشرط رضاها بالزوج، وكونه كفئاً لها في الدين والحرية والمال، وأن المهر مهر مثلها. فإذا فقد شرط من هذه الشروط المذكورة، بأن لم يخف عليها فساداً ولا ضياعاً أو لم تبلغ عشر سنوات، فسخ زواجها إلا إذا دخل الزوج بها، وطال الزمن بعد الدخول والبلوغ. وطول الزمن: بمضي ثلاث سنين بعد الدخول والبلوغ، أو بولادة أولاد كاثنين في بطنين. ودليل المالكية على إثبات ولاية الإجبار للأب دون غيره من الأولياء: هو الإجماع على أن للأب أن يزوج ابنته البكر الصغيرة، بدليل تزويج أبي بكر ابنته عائشة، وهي بنت ست أو سبع، للنبي صلّى الله عليه وسلم، وقوله صلّى الله عليه وسلم «والبكر يستأمرها أبوها» فقصر الاستئمار على الأب. ودليلهم على أن وصي الأب كالأب: هو أنه نائب عن الأب، فكما يجوز للأب توكيل غيره في حال الحياة، يجوز له أن يوصي عنه لنائبه عنه بعد الوفاة. وأما الولي غير المجبر أو ولاية الاختيار: فتثبت للبنوة ثم الأبوة المباشرة، ثم الأخوة ثم الجدودة ثم العمومة على النحو التالي: ـ الابن فابنه وإن نزل. ـ ثم الأب.
ـ ثم الأخ الشقيق ثم الأخ لأب، ثم ابن الأخ الشقيق، ثم ابن الأخ لأب. ـ ثم الجد (أبو الأب). ويلاحظ أنه جعل في المرتبة الرابعة، أما عند الحنفية فهو في المرتبة الثانية بعد الأب. ـ ثم العم ثم ابن العم، على أن يقدم الشقيق على غيره. ـ ثم أب الجد، ثم العم لأب فابنه، ثم عم الجد فابنه. ـ ويقدم الأفضل عند التساوي في الرتبة، فإن تساوى اثنان في الرتبة والفضل كإخوة كلهم علماء، قدم الحاكم إن وجد من يراه، فإن لم يكن حاكم أقرع بينهم. ـ ثم المولى الأعلى: وهو من أعتق المرأة، ثم عصبته. ـ ثم الكافل للمرأة غير العاصب: وهو من قام بتربية الفتاة وهي صغيرة حتى بلغت عنده، أو بلغت عشراً، بشرطين: أولهما ـ أن يكفلها مدة توجب الحنان والشفقة عليها عادة، دون تحديد زمن معين على الأظهر. ثانيهما ـ أن تكون الفتاة وضيعة (دنيئة) لا شريفة: وهي التي لا مال لها ولا جمال ولا نسب ولا حسب (الأخلاق الكريمة كالعلم والحلم والتدبير والكرم ونحوها)،كما تقدم. فإن كانت شريفة زوجها القاضي. ـ ثم الحاكم أو القاضي الشرعي اليوم. ـ ثم كل مسلم بالولاية العامة إن لم يوجد أحد من الأولياء السابقين، ومنهم الخال، والجد من جهة الأم، والأخ لأم، فلكل مسلم تزويج المرأة الشريفة أو الوضيعة بإذنها ورضاها. لقوله تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} [التوبة:71/ 9].
ترتيب الأولياء عند الشافعية
وإذا زوج الأبعد مع وجود الأقرب (¬1) نفذ الزواج. ويجوز لابن العم، والمولى، ووكيل الولي، والحاكم أن يزوج المرأة من نفسه، ويتولى طرفي العقد. وليشهد كل واحد منهم على رضاها خوفاً من منازعتها وإنكارها. والحاصل: أن المالكية يخالفون غيرهم في جعل الجد في المرتبة الرابعة بعد الإخوة، وليس بعد الأب، وأن الولي المجبر هو الأب فقط لا الجد، ويخالفونهم أيضاً في ثبوت الولاية بالإيصاء والكفالة، وبالولاية العامة بسبب الإسلام. ويتفق الفقهاء في إثبات الولاية بسبب الملك، والأبوة والعصوبة غير الأبناء، والسلطنة. ترتيب الأولياء عند الشافعية: الولي عند الشافعية: إما مجبرأو غير مجبر (¬2): فالولي المجبر أحد ثلاثة: الأب، والجد وإن علا، والسيد. فللأب تزويج البكر صغيرة أو كبيرة بغير إذنها، ويستحب استئذانها، وليس له تزويج ثيب إلا بإذنها، فإن كانت الثيب صغيرة لم تزوَّج حتى تبلغ. والجد كالأب عند عدمه. وللسيد تزويج أمته، سواء أكانت بكراً أم ثيباً، صغيرة أم كبيرة، عاقلة كانت أم مجنونة؛ لأن الزواج عقد يملكه عليها بحكم الملك، فكان إلى المولى، كالإجارة. ¬
والولي غير المجبر: هو الأب والجد وباقي العصبات. وترتيب الأولياء على النحو التالي: الأبوة، الأخوة، العمومة، ثم المعتق ثم السلطان، أي الأب، ثم الجد أبو الأب، ثم أبوه وإن علا، ثم الأخ الشقيق ثم الأخ لأب، ثم ابن الأخ الشقيق ثم ابن الأخ لأب وإن سفل، ثم العم، ثم سائر العصبة من القرابة كالإرث. ثم المعتق، ثم عصبته بترتيب الإرث. ويزوج عتيقة المرأة من يزوج المعتقة مادامت حية، ولا يعتبر إذن المعتقة في الأصح، فإن ماتت فلمن له الولاء. ثم السلطان، لخبر: «السلطان ولي من لا ولي له» (¬1). ولا تثبت الولاية للأبناء، فلا يزوج ابن أمه وإن علت ببنوة محضة، خلافاً للأئمة الثلاثة والمزني تلميذ الشافعي؛ لأنه لا مشاركة بينه وبينها في النسب، إذ انتسابها إلى أبيها، وانتساب الابن إلى أبيه. واستدل الجمهور بقوله صلّى الله عليه وسلم: «لما أراد أن يتزوج أم سلمة، قال لابنها عمر: قم فزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلم» (¬2) ورد الشافعية بأجوبة: أحدها أن نكاحه صلّى الله عليه وسلم لا يحتاج إلى ولي، وإنما قال له ذلك استطابة لخاطره. ثانيها ـ أن عمر بن أبي سلمة ولد في أرض الحبشة في السنة الثانية من الهجرة، وزواجه صلّى الله عليه وسلم بأم سلمة كان في السنة الرابعة. ¬
ترتيب الأولياء عند الحنابلة
ثالثها ـ بتقدير صحة أنه زوج وهو بالغ، فيكون ببنوة العم. فإن كان الابن ابن عم أو معتقاً أوقاضياً، زوَّج بالبنوة، لأنها غير مقتضية لا مانعة، فإذا وجد معها سبب آخر يقتضي الولاية لم تمنعه. والحاصل: أن الابن ليس ولياً عند الشافعية، خلافاً للجمهور. ترتيب الأولياء عند الحنابلة: الولي عند الحنابلة إما مجبر أوغير مجبر (¬1). والولي المجبر: هو الأب، ثم وصي الأب بعد موته، ثم الحاكم عند الحاجة. والولي غير المجبر: بقية الأقارب العصبات، الأقرب فالأقرب كالإرث. وترتيب الأولياء: الأبوة، ثم البنوة، ثم الأخوة، ثم العمومة، ثم المعتق، ثم عصبته، ثم السلطان، على النحو التالي: 1 - الأب: فهو أحق الناس بتزويج المرأة الحرة؛ لأنه أكمل نظراً وأشد شفقة. 2 - ثم الجد أبو الأب وإن علا، فهو أحق بالولاية من الابن وسائر الأولياء؛ لأن الجد له إيلاد وتعصيب، فيقدم على الابن كالأب. 3 - ثم الابن وابنه وإن سفل: فهو أولى بتزويج أمه، لحديث أم سلمة السابق. 4 - ثم الأخ الشقيق: لكونه أقرب العصبات بعد الأب والابن. ¬
سادسا ـ المولى عليه أو من تثبت عليه الولاية
5 - ثم الأخ لأب مثل الشقيق. 6 - ثم أولاد الإخوة وإن سفلوا. 7 - ثم العمومة ثم أولادهم وإن سفلوا، ثم عمومة الأب. 8 - ثم المعتق، ثم أقرب عصبته منه. 9 - ثم السلطان، فلا خلاف بين أهل العلم في أن للسلطان ولاية تزويج المرأة عند عدم أوليائها، أو عضلهم، لحديث عائشة المتقدم: «السلطان ولي من لا ولي له» والسلطان هنا: هو الإمام أو الحاكم أو من فوض إليه الولاية. والخلاصة: إن البنوة تقدم على الأبوة عند الحنفية والمالكية، وتقدم الأبوة على البنوة عند الحنابلة، وليس للأبناء ولاية عند الشافعية. سادساً ـ المولى عليه أو من تثبت عليه الولاية: الولاية عند الجمهور غيرالحنفية تنقسم إلى ولاية إجبار وولاية اختيار كما تقدم، ولكل منهما أصناف تثبت عليها. من تثبت عليه ولاية الإجبار: تثبت ولاية الإجبار على من يأتي (¬1): 1ً - عديم الأهلية أو ناقصها بسبب الصغر أو الجنون أو العته: تثبت ولاية الإجبار عند الجمهور غير الحنفية على الصغار والمجانين والمعتوهين من غير فرق بين ذكر وأنثى، وبين بكر وثيب، إلا أن المالكية استثنوا صاحبة الجنون المتقطع، فتنتظر إفاقتها لتستأذن، فإن أفاقت زوَّجها الولي برضاها، فعلِّة ولاية الإجبار عند المالكية: إما البكارة أو الصغر. ¬
واستثنى الشافعية الثيب الصغيرة، فلا إجبار عليها؛ لأن علة ثبوت ولاية الإجبار عندهم هي البكارة فقط، وهذه العلة لا تتحقق في الثيب الصغيرة، وحكمها: أنها لا تزوج حتى تبلغ، وتأذن لوليها في زواجها، للحديث السابق: «الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها سكوتها» ورد عليهم بأن المراد من الثيب هنا البالغة فقط. وقال الحنابلة مثل المالكية: علة ولاية الإجبار إما البكارة أو الصغر، فللأب تزويج بناته الأبكار ولو بعد البلوغ، بغير إذنهم؛ لحديث ابن عباس مرفوعاً عند أبي داود: «الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر، وإذنها صماتها» فلما قسم النساء قسمين، وأثبت الحق لأحدهما، دل على نفيه عن الآخر وهي البكر، فيكون وليها أحق منها بالولاية. وللأب أيضاً تزويج ثيب دون تسع سنين؛ لأنه لا إذن لها. وليس ذلك للجد ولا لسائر الأولياء، كما أنه ليس لسائر الأولياء غير الأب تزويج حرة كبيرة بالغة ثيباً كانت أوبكراً إلا بإذنها، لحديث أبي هريرة مرفوعاً: «لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن ... » إلا المجنونة فلسائر الأولياء تزويجها إذا ظهر منها الميل إلى الرجال، بسبب الحاجة ودفع ضرر الشهوة عنها وصيانتها عن الفجور. ويتفق الحنفية مع المالكية والحنابلة في ثبوت الولاية على الصغير والصغيرة، والمجنون الكبير والمجنونة الكبيرة، سواء أكانت الصغيرة بكراً أم ثيباً، فلا تثبت هذه الولاية على البالغ العاقل، ولا على العاقلة البالغة؛ لأن علة ولاية الإجبار عندهم هي الصغر وما في معناه، وهذه العلة متحققة في الصغار والمجانين دون غيرهم.
2ً - البكر البالغة العاقلة: تثبت عليها عند الجمهور غير الحنفية ولاية الإجبار: لأن العلة هي البكارة، للمفهوم من حديث: «الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر في نفسها» فقد جعلت الثيب أحق بنفسها من وليها، ولم يجعل البكر أحق بنفسها من وليها كالثيب، وهذا هو الإجبار بعينه. ولا تثبت عليها هذه الولاية عند الحنفية، لحديث: «والبكر تستأمر في نفسها» وفي رواية: «والبكر يستأمرها أبوها» والاستئمار: معناه طلب الأمر منها وهو الإذن، فيكون استئذانها أمراً ضرورياً، ولا يصح أن تزوج إلا برضاها. وقد أخرج النسائي وغيره عن عائشة: «أن فتاة دخلت عليها فقالت: إن أبي زوجني من ابن أخيه، يرفع بي خسيسته، وأنا كارهة، قال: اجلسي حتى يأتي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأخبرته، فأرسل إلى أبيها، فدعاه، فجعل الأمر إليها، فقالت: يا رسول الله، قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن أعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء» (¬1) والظاهر أنها بكر (¬2). وهو يدل على أن البكر البالغة العاقلة لا تزوج إلا برضاها. 3ً - الثيب البالغة العاقلة التي زالت بكارتها بأمر عارض كالضرب والوثب والعود ونحوها، أو زالت بكارتها بالزنا أوالغصب على المشهور عند المالكية: يزوجها الولي المجبر (الأب ووصيه) ولو عانساً بلغت ستين سنة أو أكثر؛ لأن ثبوت الولاية إنما هو للجهل بأمور الزواج ومصالحه، ومن زالت بكارتها بغير الزواج الصحيح، أو الفاسد الذي يدرأ الحد لشبهة لاتزال جاهلة بهذه الأمور، فتبقى الولاية عليها كالبكر البالغة. ¬
من تثبت عليه ولاية الاختيار
والجمهور لا يقولون بثبوت ولاية الإجبار على الثيب البالغة، مهما كان سبب الثيوبة غير السقطة ونحوها. قال الحنفية: من زالت بكارتها بوثبة أي نطة أو درور حيض أو حصول جراحة أوتعنيس أي كبر: بكر حقيقة، وتعد بكراً بالتفريق بجب أو عُنة أو طلاق أو موت بعد خلوة قبل وطء. وتعد الموطوءة بشبهة أو نكاح فاسد ثيباً. ومن زنت مرة فقط ولم تحد بالزنا بكر حكماً فيكتفى بسكوتها. وقال الحنابلة: الثيب: من وطئت في القبل لا في الدبر، بآلة الرجال، لا بآلة غيرها، ولو كانت وطئت بزنا. وقال الشافعية: الثيب: من زالت بكارتها، سواء زالت البكارة بوطء حلال كالنكاح، أو حرام كالزنا، أو بشبهة في نوم أو يقظة، ولا أثر لزوالها بلا وطء في القبل كسقطة وحدة طمث، وطول تعنيس وهو الكبر، أو بأصبع ونحوه في الأصح، فحكمها حينئذ حكم الأبكار. من تثبت عليه ولاية الاختيار: تثبت ولاية الاختيار عند المالكية على أصناف أربعة، هي ما يأتي بمقارنتها مع المذاهب الأخرى (¬1): 1ً - الثيب البالغة التي زالت بكارتها بزواج صحيح، أو فاسد ولو مجمع على فساده إن درأ الحد لشبهة: فهذه لا تزوج بالاتفاق إلا برضاها وإذنها، لصريح الحديث المتقدم: «الثيب أحق بنفسها من وليها» وفي رواية «والثيب تشاور» فإنه يدل على أن الثيب البالغة لا تزوج إلا برضاها. 2ً - البكر البالغة التي رشَّدها أبوها أو وصيه: بأن جعلها رشيدة، أو رفع الحجر عنها، لما قام بها من حسن التصرف. ويتفق الحنفية مع المالكية في الولاية ¬
سابعا ـ كيفية إذن المرأة بالزواج
عليها؛ لأن البالغة العاقلة عند أبي حنيفة وزفر لا تزوج إلا برضاها، بكراً كانت أو ثيباً، لكن الولاية عليها في رأي الحنفية هي ولاية ندب واستحباب. ويخالف الشافعية والحنابلة في صفة الولاية فيجعلون الولاية عليها ولاية جبر. 3ً - البكر البالغة التي أقامت مع الزوج سنة، ثم تأيمت وهي بكر: لأن إقامة المرأة في بيت الزوج سنة تنزل منزلة الثيوبة في تكميل المهر، فتنزل كذلك في الرضا بالزواج. والحنفية مع المالكية في هذا كالحالة السابقة، ويخالفهم الشافعية والحنابلة، فيجعلون الولاية عليها ولاية جبر. 4ً - اليتيمة (¬1) الصغيرة التي خيف عليها، إما لفساد يلحقها في دينها، بأن كان يتردد عليها أهل الفسوق، أو كانت تتردد هي عليهم، أو لفساد في دنياها كضياع مالها، أو فقرها وقلة الإنفاق عليها، فللولي غير الأب ووصيه أن يزوجها إذا بلغت عشر سنين، بعد مشاورة القاضي، ليثبت عنده سنها، ويتأكد أنها خلية من زوج وعدة وغيرهما من الموانع الشرعية، ورضاها بالزوج، وأنه كفئها في الدين والحرية والحال، وأن المهر مهر مثلها، فيأذن لوليها في العقد، ولا يتولى العقد بنفسه مع وجود غيره من الأولياء. سابعاً ـ كيفية إذن المرأة بالزواج: اتفق الفقهاء على كيفية صدور الإذن والرضا من المرأة بالزواج بحسب حالها بكراً أو ثيباً (¬2)، عملاً بالأحاديث الكثيرة، منها: «الثيب تعرب عن نفسها، والبكر ¬
رضاها صمتها» (¬1)، ومنها «الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صماتها» (¬2) وفي رواية لهذا الحديث لأبي داود والنسائي: «ليس للولي مع الثيب أمر، واليتيمة تستأمر، وصمتها إقرارها» سواء أكان الإذن واجباً بالنسبة للولي غير المجبر أم مستحباً بالنسبة للولي المجبر. وبناء عليه، إذا كانت المرأة بكراً: فرضاها يكون بالسكوت (¬3)؛ لأن البكر تستحي عادة من إظهار الرضا بالزواج صراحة، فيكتفى منها بالسكوت، محافظة على حيائها. ويندب عند المالكية إعلامها بأن سكوتها رضا وإذن منها، فلا تزوج إن منعت، بأن قالت: لا أرضى أو لا أتزوج، أو ما في معناه. ومثل السكوت: كل مايدل على الرضا كالضحك بغير استهزاء، والتبسم، والبكاء بلا صوت أو صياح أو ضرب خد، فإن كان التبسم أو الضحك للاستهزاء، وكان البكاء بصياح أو ضرب خد، لم يكف ولم يعد إذناً ولا رداً؛ لأنه يشعر بعدم الرضا، فلو رضيت صراحة بعده، انعقد العقد. أما إن كانت المرأة ثيباً: فرضاها لا يكون إلا بالقول الصريح، للحديث السابق: «الثيب تعرب عن نفسها» أي تفصح عن رأيها وعما في ضميرها من رضا أو منع، ولا يكتفى منها بالصمت؛ لأن الأصل ألا ينسب إلى ساكت قول، وألا يكون السكوت رضا، لكونه محتملاً في نفسه، وإنما اكتفي به في البكر للضرورة؛ لأنها تستحي عادة من التصريح عن رغبتها في الزواج، والثابت بالضرورة يتقدر ¬
بقدرها، ولاضرورة في حق الثيب؛ لاعتيادها معاشرة الرجال، فلا تستحي عادة من إعلان رضاها أو رفضها، فلا يكتفى بسكوتها عند الاستئذان. وقال المالكية: يشارك الثيب أبكار ستة، لا يكتفى منهن بالصمت، بل لا بد من الإذن بالقول الصريح كالثيب وهن: 1ً - البكر التي رشدها أبوها أو وصيه: بأن أطلق الحجر عنها في التصرف المالي، وهي بالغ، فلا بد من إذنها بالقول، وقد تقدم أنه لا جبر لأبيها عليها. 2ً - البكر التي عُضِلت: أي منعها وليها من الزواج بدون مسوغ، ورفعت أمرها إلى القاضي، فتولى تزويجها، فلا بد من إذنها بالقول. 3ً - البكر المُهْمَلة التي لا أب لها ولا وصي: إذا زوجت بشيء من العروض (الأمتعة)، وهي من قوم لا يزوجون بالعروض، سواء أكان كل الصداق أم بعضه، أو يتزوج قومها بعَرَض معين، فزوجها وليها بغيره، فلا بد من نطقها بأن تقول: رضيت بذلك المهر العرض. 4ً - البكر ولو كانت مُجْبَرة إذا زوجت برقيق، فلا بد من إذنها بالقول؛ لأن العبد ليس بكفء للحرة. 5ً - البكر، ولو كانت مجبَرة إذا زوجت برجل فيه عيب يوجب لها الخيار كجذام وبرص وجنون وخصاء، فلا بد من نطقها بأن تقول: رضيت به. 6ً - البكر غيرالمجبرة التي افتات (¬1) (تعدى) عليها وليها غير المجبر، فعقد ¬
ثامنا ـ عضل الولي وحكمه
الثاني ـ أن يكون الرضا بالقول، أي بالنطق: فلا يكفي الصمت. = عليها بغير إذنها، ثم بلغها خبر زواجها، فرضيت، ويصح الزواج، ولا بد من رضاها بالقول صراحة، حتى ولو كانت قد رضيت به بالخطبة، فلا بد على كل حال من استئذانها في العقد؛ لأن الخطبة غير لازمة، فلا تغني عن استئذانها في العقد وتعيين الصداق. ويتفق الحنابلة مع المالكية في هذا فإنهم قالوا: إذا زوجت التي يعتبر إذنها بغير إذنها، وقلنا: يقف على إجازتها، فإجازتها بالنطق أو ما يدل على الرضا من التمكين من الوطء أو المطالبة بالمهر والنفقة (¬1). ثامناً ـ عضل الولي وحكمه: العضل: هو منع الولي المرأة العاقلة البالغة من الزواج بكفئها إذا طلبت ذلك، ورغب كل واحد منهما في صاحبه. وهو ممنوع شرعاً ويحتاج لبيان حكمه عند الفقهاء (¬2). أما المنع الشرعي عنه: فقد نهى الله تعالى جميع الأولياء عن العضل بقوله: {وإذا طلقتم النساء، فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن} [البقرة:232/ 2] قال معقل بن يسار: «زوجت أختاً لي من رجل فطلّقها، حتى إذا ¬
انقضت عدتها، جاء يخطبها، فقلت له: زوجتك وأفرشتك وأكرمتك، فطلقتها، ثم جئت تخطبها، لا والله لا تعود إليك أبداً، وكان رجلاً لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية: {ولا تعضلوهن} [البقرة:232/ 2] فقلت: الآن أفعل يا رسول الله، قال: فزوجها إياه» (¬1). ولكن النهي في رأي الفقهاء ليس مطلقاً. وليس للولي العضل عند الشافعية والحنابلةوأبي يوسف ومحمد، لنقصان المهر، أو لكونه من غير نقد البلد إذا رضيت به، فسواء طلبت التزويج بمهر مثلها أم دونه، لم يجز العضل؛ لأن المهر محض حقها، وعوض يختص بها، فلم يكن للأولياء الاعتراض عليها فيه؛ ولأنها لو أسقطته بعد وجوبه سقط كله، فبعضه أولى. وقال أبو حنيفة: للأولياء منع المرأة من التزويج بدون مهر مثلها؛ لأن عليهم فيه عاراً، وفيه ضرراً على نسائها لنقص مهر مثلهن. ويرى المالكية أن العضل يتحقق في مسألتين: الأولى: إذاطلبها كفء ورضيت به، طلبت التزويج به أو لا، والثانية: إذا دعت لكفء، ودعا وليها لكفء آخر. وحصر الشافعية في الأصح والحنابلة العضل في المسألة الأولى، فقالوا: لو عينت المرأة كفئاً، وأراد الأب غيره، فله ذلك. وأضاف الحنابلة صورة أخرى للعضل وهي: إذا امتنع الخُطاب لشدة الولي، لكن الظاهرأنه لا حرمة على الولي هنا؛ لأنه ليس له فعل ذلك المنع. ¬
ممن يكون العضل؟
ممن يكون العضل؟ أـ إن كان الولي أباً مجبراً وامتنع من تزويج ابنته المجبرة، فلا يعد عاضلاً إلا إذا تحقق منه الإضرار بها، وظهر الضرر بالفعل، كأن يمنعها من الزواج لتقوم بخدمته، أو ليستثمرها بأن يستولي على مرتبها الوظيفي، ويخشى أن تقطعه عنه لو تزوجت. أما مجرد رد خاطب كفء رضيت به ابنته المجبرة، فلا يعد عضلاً، بل لا يعد عاضلاً لمجبرته برده لكفئها رداً متكرراً، سواء أكان الخاطب واحداً أم أكثر؛ لأن ما جبل عليه الأب من الحنان والشفقة على بنته، مع جهل البنت بمصالح نفسها، يجعله لا يرد الخاطب إلا إذا علم من حالها أو من حاله ما لا يوافق، أو ما يدعو إلى الرد، وقد روي أن الإمام مالك منع بناته من الزواج، وقد رغب فيهن خيار الرجال، وفعل مثله العلماء قبله كابن المسيب وبعده، ولم يكن قصدهم الضرر ببناتهم، فلم يعد واحداً منهم عاضلاً. ويعد كالأب عند المالكية: وصي الأب المجبر، لا يكون عاضلاً بمجرد رد الخاطب الكفء الذي رضيت به المرأة، إلا إذا تحقق منه الإضرار بالمرأة. وقيل: إن الوصي المجبر يعد عاضلاً برد أول كفء. ب ـ أما إن كان الولي غير مجبر، سواء أكان أباً أم غيره، فإنه يعد عاضلاً في المسألتين السابقتين اللتين ذكرهما المالكية، وفي المسألة الأولى عند الشافعية والحنابلة. حكم العضل: يفسق الولي بالعضل إن تكرر منه؛ لأنه معصية صغيرة.
تاسعا ـ غيبة الولي وأسره أو فقده
وإذا عضل الولي تنتقل الولاية عند الإمام أحمد إلى الأبعد؛ لأنه تعذر التزويج من جهة الأقرب، فملكه الأبعد، كما لو جن، ولأنه يفسق بالعضل ـ كما سبق ـ فتنتقل الولاية عنه، كما لو شرب الخمر. فإن عضل الأولياء كلهم، زوج الحاكم. وقال الحنفية والمالكية والشافعية، وفي رواية عن أحمد: إذا عضل الولي ولو كان مجبراً، تنتقل الولاية للسلطان، أي القاضي الآن، ولا تنتقل للأبعد، للحديث السابق: «فإذا اشتجروا، فالسلطان ولي من لا ولي له»، ولأنه بالعضل خرج من أن يكون ولياً، ويصبح ظالماً، ورفع الظلم موكول للقاضي. تاسعاً ـ غيبة الولي وأسره أو فقده: للفقهاء آراء ثلاثة في غيبة الولي: رأي الحنفية والحنابلة، ورأي المالكية، ورأي الشافعية (¬1): أما رأي الحنفية والحنابلة: فهو إن غاب الولي غيبة منقطعة، ولم يوكل من يزوج، تنتقل الولاية لمن هو أبعد منه من العصبات، فلوغاب الأب فللجد تزويج المرأة، دون الحاكم، للحديث المتقدم: «السلطان ولي من لا ولي له» وهذه المرأة لها ولي، ولأن هذه ولاية تحتاج إلى نظر وتقدير مصلحة، وليس من النظر التفويض إلى من لا ينتفع برأيه، ففوض النظر إلى الأبعد، وهو مقدم على السلطان، كما إذا مات الأقرب. وأخذ القانون السوري (م 23) بهذا الرأي، فنص على أنه: إذا غاب الولي الأقرب، ورأى القاضي أن في انتظار رأيه فوات مصلحة في الزواج، انتقلت الولاية إلى من يليه. ¬
والغيبة المنقطعة في رأي الحنفية: أن يكون في بلد لا تصل إليها القوافل في السنة، إلا مرة واحدة، وهو اختيار القدوري، وقيل: أدنى مدة السفر، أي مسافة القصر (89 كم)؛ لأنه لا نهاية لأقصاه، وهو اختيار بعض المتأخرين. ويتفق الحنابلة مع الرأي الثاني، فتكون الغيبة المنقطعة فوق مسافة القصر؛ لأن من دونها في حكم الحاضر. وأما رأي الشافعية: فهو إن غاب الولي الأقرب نسباً، إلى مرحلتين، أي مسافة القصر، ولا وكيل له حاضر في البلد، زوج السلطان أونائبه أي سلطان بلدها لا سلطان غير بلدها، ولا الأبعد على الأصح؛ لأن الغائب ولي، والتزويج حق له، فإذا تعذر استيفاؤه منه ناب عنه الحاكم. فإن غاب دون مسافة القصر لا يزوج إلا بإذنه في الأصح، لقصر المسافة، فيراجع فيحضر، أو يوكل كما لو كان مقيماً. وأما رأي المالكية ففيه تفصيل: بحسب غيبة الولي المجبر، وغيبة الولي غير المجبر. أـ فإن كان الغائب هو الولي المجبر وهو الأب ووصيه: فإما أن تكون الغيبة قريبة أو بعيدة. فإن كانت الغيبة قريبة كعشرة أيام ذهاباً، فلا تزوج المرأة التي في ولايته حتى يعود، إذا كانت النفقة جارية عليها أي تجد النفقة الكافية، ولم يخش عليها الفساد، وكانت الطريق مأمونة، وإلا زوجها القاضي. وإن كانت الغيبة بعيدة كثلاثة أشهر فأكثر، كالسفر في الماضي إلى أفريقية: فإن كان يرجى قدومه، كمن خرج لتجارة أو حاجة، فلا تزوج المرأة حتى يعود. وإن كان لا يرجى قدومه، فللقاضي دون غيره من الأولياء أن يتولى تزويجها إذا كانت بالغاً، ولو دامت نفقتها على الراجح، وإذنها صمتها على الصواب. فإن لم
الغيبة بسبب الأسر أو الفقد
تكن بالغاً، لا يزوجها ما لم يخف عليها الفساد، فإن خيف فسادها، زوجها ولو جبراً على المعتمد، سواء أكانت بالغة أم غير بالغة، ولو كانت غيبة الولي قريبة. ب ـ وإن كان الغائب هو الولي غير المجبر كالأخ والجد: فإن كانت الغيبة قريبة كثلاثة أيام من بلد المرأة ونحوها، ودعت إلى الزواج بكفء، وأثبتت ما تدعيه من الغيبة والمسافة والكفاءة، زوجها الحاكم دون الولي الأبعد؛ لأن الحاكم وكيل الغائب. وإن كانت الغيبة دون الثلاث، أرسل إليه الحاكم، فإن حضر أو وكل أحداً عنه، تم المطلوب، وإلا زوجها الولي الأبعد دون القاضي. وإن كانت الغيبة بعيدة كأكثر من ثلاثة أيام، فللقاضي أن يزوجها؛ لأنه وكيل الغائب، ولو زوجها الولي الأبعد صح مع الكراهة. وهذا إذا لم يكن للغائب وكيل مفوض، فإن كان له وكيل مفوض تولى الزواج؛ لأنه مقدم على غيره إذ هو بمثابة الأصيل. الغيبة بسبب الأسر أو الفقد: المشهور من مذهب المالكية: أنه إذا كانت الغيبة بسبب أسر الولي الأقرب أو فقده، ولم يعلم مكانه، ولم يعرف خبره، زوج الولي الأبعد، ولا تنتقل إلى القاضي، من غير فرق بين الولي المجبر وغير المجبر؛ لأن الأسر أو الفقد بمنزلة الموت. وكذلك قال الحنابلة: إن كان الولي القريب محبوساً أو أسيراً في مسافة قريبة لا تمكن مراجعته، فهو كالبعيد، فتنتقل الولاية للأبعد.
المبحث الثالث ـ الوكالة في الزواج
المبحث الثالث ـ الوكالة في الزواج: يستمد الوكيل سلطته من الموكل، فينفذ تصرفه عليه، فتكون الوكالة نوعاً من الولاية، لنفاذ تصرف الوكيل على الموكل كنفاذ تصرف الولي على المولى عليه. وأبحث هنا الأمور التالية: حكم التوكيل بالزواج، مدى صلاحية الوكيل، حقوق العقد في الوكالة بالزواج، انعقاد الزواج بعاقد واحد (¬1). أولاً ـ حكم التوكيل بالزواج: يرى الحنفية: أنه يصح التوكيل بعقد الزواج من الرجل والمرأة إذا كان كل منهما كامل الأهلية أي بالغاً عاقلاً حراً؛ لأن للمرأة عندهم أن تزوج نفسها، فلها أن توكل غيرها في العقد؛ عملاً بالقاعدة الفقهية القائلة: كل ما جاز للإنسان أن يباشره من التصرفات بنفسه، جاز له أن يوكل غيره فيه، إذا كان التصرف يقبل النيابة. ويصح التوكيل بالعبارة أو الكتابة، ولا يشترط بالاتفاق الإشهاد عند صدور التوكيل، وإن كان يستحسن للوكيل أن يشهد على التوكيل، للاحتياط خوفاً من الإنكار عند النزاع. ويرى الجمهور غيرالحنفية: أنه لا يصح للمرأة توكيل غير وليها في الزواج؛ لأنها لا تملك إبرام العقد بنفسها، فلا تملك توكيل غيرها فيه. لكن يجوز لولي المرأة المجبر التوكيل في التزويج بغير إذنها، كما يزوجها بغير إذنها. ولا يشترط ¬
تعيين الزوج، فيجوز التوكيل مطلقاً ومقيداً، فالمقيد: التوكيل في تزويج رجل بعينه. والمطلق: التوكيل في تزويج من يرضاه أو من يشاء. ويوكل الولي مثله في الذكورة والبلوغ والحرية والإسلام وعدم الإحرام بحج أو عمرة، وعدم العَتَه (ضعف العقل). وأباح المالكية للزوج أن يوكل من قام به مانع من موانع الولاية غير مانع الإحرام بحج أو عمرة، والعَتَه (ضعف العقل) فيجوز له أن يوكل نصرانياً أو عبداً أو امرأة أوصبياً مميزاً على عقد نكاحه. وأما الولي غير المجبر: فلا يجوز له التوكيل عند الشافعية إلا بإذن المرأة، فإن قالت له: وكِّلُ وكَّلَ، وإن نهته فلا يوكل. وإن قالت له: زوجني، فله التوكيل في الأصح؛ لأنه بالإذن متصرف بالولاية، فأشبه الوصي والقيم، وهما يتمكنان من التوكيل بغير إذن. ولو وكل الولي غير المجبر قبل استئذان المرأة في النكاح، لم يصح في الصحيح، لأنه لا يملك التزويج بنفسه حينئذ، فكيف يوكل غيره؟ وقال الحنابلة: لا يعتبر في صحة الوكالة إذن المرأة في التوكيل، ولا حضور شاهدين، سواء أكان الموكل أباً أم غيره؛ لأنه إذن من الولي في التزويج، فلم يفتقر إلى إذن المرأة، ولا إلى إشهاد، كإذن الحاكم، لكن يثبت للوكيل ما يثبت للموكل، فإن كان الولي مجبراً لم يحتج لاستئذان المرأة، وإن كان غير مجبر احتاج إلى إذنها ومراجعتها؛ لأنه نائب. وعبارة وكيل الولي في عقد الزواج كما أوضح الشافعية: هي أن يقول: زوجتُك بنت فلان. ويقول الولي لوكيل الزوج: زوجت بنتي فلاناً، فيقول وكيله: قبلت نكاحها له.
ثانيا ـ مدى صلاحية الوكيل
ثانياً ـ مدى صلاحية الوكيل: الوكيل في الزواج كالوكيل في سائر العقود، فلا يجوز له عند الحنفية أن يوكل غيره؛ لأن الموكل رضي برأيه لا برأي غيره، إلا إن أذن له الموكل، بأن يوكل عنه من شاء، أو فوض إليه أمر زواجه، فله حينئذ أن يوكل عنه. وتتحدد صلاحيات الوكيل عند الحنفية بحسب نوع الوكالة مطلقة أو مقيدة؛ لأن الوكيل يستمد سلطته من الموكل، فلا يملك إلا ما وكله، وينفذ عليه تصرفه فيما وكله فيه، ويكون فضولياً فيما عداه، فيتوقف نفاذ التصرف على إجازة الموكل، والإجازة اللاحقة كالوكالة السابقة. 1 - الوكالة المقيدة: بأن يقيد الموكل الوكيل في التزويج بأوصاف معينة. فيتقيد فيها الوكيل بما قيده به الموكل، وليس له أن يخالفه فيما قيده به، إلا إذا كانت المخالفة لخير الموكل، فحينئذ ينفذ العقد على الموكل. وإن تقيد بالقيد نفذ العقد أيضاً، وإن خالف القيد توقف عند الحنفية والمالكية نفاذ العقد على إجازة الموكل، حتى ولو حصل دخول بالمرأة دون أن يعلم الموكل بالمخالفة. وعلى هذا إن قيده بامرأة معينة بالاسم، أو من الأسرة الفلانية، فإن زوجه بها نفذ العقد عليه، وإن خالف فزوجه غيرها كان مخالفاً، وتوقف نفاذ العقد على إجازة الموكل، فإن أجازه نفذ، وإن لم يجزه بطل؛ لأن الوكيل يصبح بالمخالفة فضولياً، وعقد الفضولي عند الحنفية والمالكية موقوف على إجازة صاحب الشأن فيه. وإن قيده بمهر معين، فزوجه به، كان العقد نافذا على الموكل، وإن خالف كان العقد موقوفاً على إجازة الموكل، إلا إذا كانت المخالفة إلى خير الموكل، فيصح العقد وينفذ، كأن قال: زوجني بألف فزوجه بأقل من ألف، نفذ العقد من غير إجازة الموكل.
2 - الوكالة المطلقة
ومن أمر رجلاً أن يزوجه امرأة، فزوجه اثنتين في عقد واحد، لم تلزمه واحدة منهما؛ لأنه لا وجه إلى تنفيذهما للمخالفة، ولا إلى التنفيذ في إحداهما لا على التعيين، للجهالة، ولا إلى تعيين واحدة منهما، لعدم الأولوية، فتعين التفريق. 2 - الوكالة المطلقة: بأن لم يعين الموكل امرأة معينة ولا وصفاً معيناً ولا مهراً. اختلف أئمة الحنفية فيها: رأى أبو حنيفة: أن للوكيل أن يزوجه بأية امرأة ولو غير كفء له، وبأي مهر، إلا إذا كان التصرف موضع تهمة؛ لأن القاعدة فيه عنده أن المطلق يجري على إطلاقه، فيرجع إلى إطلاق اللفظ وعدم التهمة، فله أن يزوجه بمقدار مهر المثل أو أكثر، أو يزوجه عمياء أو شلاء أو شوهاء، وإذا كان الموكل هو المرأة فينفذ العقد عليها متى كان الزوج كفئاً (¬1) سواء أكان الزواج بمهر المثل أم أقل، وسواء أكان الزوج صحيحاً أم مشوهاً، عملاً بالإطلاق، فأبو حنيفة يراعي عبارة الموكل ولفظه. ورأى الصاحبان وباقي المذاهب: أنه يتقيد الوكيل بالمتعارف استحساناً؛ لأن الإطلاق مقيد عرفاً وعادة بالكفء وبالمهر المألوف، والمعروف عرفاً كالمشروط شرطاً، فإذا زوجه امرأة كفئاً ملائمة له، وهي السليمة من العيوب وبمهر لا غبن فيه، كان الزواج نافذاً على الموكل، وإن زوجه بعمياء أو مقطوعة اليدين أو مفلوجة أو مجنونة أو رتقاء، أو بمهر مصحوب بغبن فاحش، توقف العقد عند الصاحبين والمالكية على إجازة الموكل، لمخالفته المعروف بين الناس في الوكالات. ولم يصح العقد عند الشافعية والحنابلة. ¬
وهذا هو الرأي الراجح، وينبغي أن تكون عليه الفتوى عند الحنفية، وهو المعمول به في محاكم مصر. وبه يتبين أن الصاحبين يحكمان العرف والعادة. ولكن هناك مسائل اتفق عليها أبو حنيفة مع صاحبيه وهي: أـ إذا كانت المرأة هي الموكلة فعلى الوكيل أن يزوجها بكفء؛ لأن المرأة لا ترغب عادة إلا في الكفء، لمصلحة نفسها، ولئلا يعترض عليها أولياؤها. ب ـ إذا وكل رجل غيره أن يزوجه امرأة عمياء، فزوجه مبصرة، فإن العقد ينفذ عليه؛ لأنها مخالفة إلى خير مما عين الموكل. جـ ـ إذا وكل الرجل آخر أن يزوجه، فزوجه صغيرة لا يجامع مثلها، جاز اتفاقاً. فإن كانت الصغيرة بنتاً له أو بنت أخيه التي في ولايته، لم ينفذ العقد على الموكل لتحقق التهمة المانعة من نفاذ العقد، وهي العمل لمصلحته. وإن كانت بنتاً له كبيرة برضاها لم ينفذ العقد عند أبي حنيفة لتحقق التهمة، وينفذ عند الصاحبين؛ لأنه ليس له عليها ولاية إجبار. أما إن زوجه الوكيل أختاً له كبيرة برضاها، نفذ العقد بالاتفاق، لانتفاء التهمة. د ـ إذا وكله أن يزوجه فلانة أو فلانة، فزوجه إحداهما، نفذ العقد؛ لوجود التخيير في التوكيل. هـ ـ إذا وكلت امرأة رجلاً في تزويجها، فزوجها من نفسه، لم ينفذ العقد عليها إلا بالإجازة. وكذا إذا وكل الرجل امرأة أن تزوجه فزوجته من نفسها، لم ينفذ العقد عليه إلا بإجازته، لتحقق التهمة في الحالتين. وكذا لا ينفذ العقد عند أبي حنيفة إن زوج الوكيل موكلته من أبيه أو ابنه لتحقق التهمة بسبب البنوة. وينفذ العقد عند الصاحبين؛ لأن البنوة ليست من التهمة عندهما.
ثالثا ـ حقوق العقد في الوكالة بالزواج
وتلافى المالكية بعض هذه الخلافات فقالوا: إذا وكلت وليها غير المجبر أن يزوجها ممن أحب، وجب عليه أن يعين لها الزوج قبل العقد، لاختلاف أغراض النساء في أعيان الرجال. فإن لم يعين الزوج لها، كان العقد موقوفاً على إجازتها، سواء زوجها من نفسه كابن العم والكافل والحاكم، أو زوجها من غيره، لاختلاف أغراض النساء من الرجال. ثالثاً ـ حقوق العقد في الوكالة بالزواج: حقوق العقد: هي الأعمال التي لا بد منها لتنفيذ مقتضى العقد، كالتسليم والتسلم والإيفاء والاستيفاء. ومن المتفق عليه أن حقوق عقد الزواج ترجع إلى الأصيل، وأما الوكيل فهو مجرد سفير ومعبر عن الموكل، فلا ترجع إليه حقوق العقد، فلا يطالب بإزفاف المرأة إلى زوجها، ولا بأداء المهر ولا غيره من الواجبات كالنفقة إلا أن يكون كفيلاً بما ذكر، وهذا بخلاف البيع أو الشراء، فإن حقوق العقد ترجع عند الجمهور غير الحنابلة إلى الوكيل لا إلى الموكل. وحكم الرسول في الزواج كالوكيل. وبناء عليه، تطالب الزوجة بزفافها إلى زوجها، ويطالب الزوج نفسه بأداء المهر إلى زوجته، وتقبض المرأة مهرها، وليس لوكيلها قبضه إلا بإذن منها صراحة أو دلالة، وإذا قبضه الأب أو الجد ولم تطالب به المرأة، كان سكوتها عند الحنفية إذناً دلالة للأب أوالجد بالقبض، فيصح قبضه وتبرأ ذمة الزوج من المهر، عملاً بما هو المعتاد بين الناس أن يقبض الآباء مهور بناتهم. وإذا كانت الزوجة ثيباً، فلا بد من الإذن الصريح بالقبض إذا كان الوكيل غيرا لأب أو الجد، ولا يعد سكوتها رضا بالقبض.
رابعا ـ انعقاد الزواج أحيانا بعاقد واحد
وفصل المالكية بين المرأة المجبرة وغير المجبرة، فإذا كانت مجبرة، فلوليها المجبر قبض مهرها بدون توكيل منها، وإذا كانت رشيدة غير مجبرة، فليس لوليها قبض المهر إلا بتوكيل صريح منها بالقبض. رابعاً ـ انعقاد الزواج أحياناً بعاقد واحد: الأصل في العقود تعدد العاقدين، لكن أجاز جمهور الحنفية غير زفر انعقاد الزواج أحياناً بعاقد واحد، وهو كما بان سابقاً في أحوال خمسة هي (¬1): الأولى ـ أن يكون متولي العقد أصيلاً عن نفسه وولياً من الجانب الآخر: فيجوز لابن العم أن يزوج بنت عمه من نفسه؛ لأن الوكيل في النكاح سفير ومعبر عن الأصيل، ولا يرجع إلىه شيء من حقوق العقد. الثانية ـ أن يكون العاقد أصيلاً عن نفسه ووكيلاً عن الطرف الآخر: كما لو وكلته امرأة أن يزوجها من نفسه، فقال أمام الشهود: قد وكلتني فلانة بنت فلان أن أزوجها من نفسي، فاشهدوا أني تزوجتها. وهذا بخلاف ما لو وكلته بتزويجها من رجل، فزوجها من نفسه، أو من أبيه أو ابنه عند أبي حنيفة، لم يصح زواجها؛ لأنها نصبته مزوجاً لا متزوجاً. وكذا لو وكلته في أن يتصرف في أمرها أو قالت له: زوج نفسي ممن شئت، لم يصح تزويجها من نفسه. الثالثة ـ أن يكون ولياً للجانبين: كأن يزوج الجد بنت ابنه ابن ابنه الآخر، وكأن يزوج بنته الصغيرة لابن أخيه الصغير الذي هو في ولايته. ¬
الفضولي
الرابعة ـ أن يكون وكيلاً للجانبين: كأن يوكله رجل وامرأة في زواجهما، فيقول: زوجت فلانة من فلان. الخامسة ـ أن يكون ولياً من جانب ووكيلاً من الجانب الآخر: كأن يوكله رجل أن يزوجه بنته الصغيرة، فيزوجه إياها. أما الفضولي فلا يصح عند أبي حنيفة ومحمد أن يتولى العقد من الجانبين ولو تكلم بكلامين، أي بإيجاب وقبول، في أحوال أربعة: هي أن يكون فضولياً من الجانبين، أو فضولياً من جانب وأصيلاً من جانب آخر، أو فضولياً من جانب وولياً من جانب آخر، أو فضولياً من جانب ووكيلاً من جانب آخر، فمن قال مثلاً: اشهدوا أني تزوجت فلانة، فبلغها الخبر فأجازت، فهو باطل. وإن قال آخر: اشهدوا أني قد زوجتها منه فبلغها الخبر جاز. إذ أنه ليس في مسائل الفضولي الأربع قرينة تدل على أنه قام مقام الأصيل، وأنه يملك التعبير عنه، فعبارته لا تقوم مقام عبارتين، ولم يحدث بعبارته إلا الإيجاب وحده، وهو شطر العقد، وشطر العقد لا يتوقف على ما وراء المجلس، فيحدث القبول من الغائب دون أن يجد إيجاباً يلتقي معه؛ لأنه أصبح هدراً. أما في المسائل الأولى في حال الولاية أو الوكالة، فقد دلت مقارنة على أن العاقد قام مقام الأصيل، وأنه معبر عنه، فتقوم عبارته مقام عبارة الأصيل، وتصبح عبارته مفيدة معنى الإيجاب والقبول. وأجاز أبو يوسف انعقاد الزواج بعاقد واحد في هذه المسائل كلها، فإذا زوجت المرأة نفسها غائباً فبلغه الخبر، فأجاز، جاز عنده؛ لأنه لا مانع أن تقوم عبارة العاقد الواحد مقام عبارتين، كالمقرر بحكم الوكالة أو الولاية الثابتتين حال العقد، ويكون العقد فيما وراء المجلس موقوفاً على إجازة صاحب الشأن، ولا محذور؛ لأن حقوق عقد الزواج ترجع إلى الأصيل.
وإذا جرى العقد بين فضوليين أو بين فضولي وأصيل، جاز باتفاق الحنفية، ويكون موقوفاً على إجازة الغائب؛ لأن عبارة كل واحد منهما تقوم مقام عبارة الأصيل، لتعدد العاقد حقيقة، فيكون ما جرى بين الفضوليين عقداً تاماً لوجود الإىجاب والقبول، والعقد الكامل يتوقف على ما وراء مجلس العقد. هذا والفضولي قبل الإجازة لا يملك نقض النكاح، بخلاف البيع؛ لأنه في البيع ترجع إليه حقوق العقد، أما في النكاح فترجع الحقوق إلى المعقود له. وقرر زفر والشافعي والجمهور: أنه لا يجوز الزواج بعاقد واحد؛ لأن الشخص الواحد لا يتصور أن يكون مُملِّكاً ومتملكاً، لكن استثنى الشافعي مسألة الولي كالجد يزوج بنت ابنه من ابن ابنه الآخر، فيجوز للضرورة، ولا ضرورة في حق الوكيل وغيره من الأحوال الأخرى. وأجاز المالكية لابن العم والمولى ووكيل الولي والحاكم أن يزوج المرأة من نفسه، ويتولى طرفي العقد، وليشهد كل واحد منهم على رضاها خوفاً من منازعتها، بشرط أن يعين لها أنه الزوج، فرضيت بالقول إن كانت ثيباً ومن في حكمها من الأبكار الستة المتقدمة، أو بالصمت إن كانت بكراً ليست من الستة المتقدمة، ويتم الزواج بقوله: تزوجتك بكذا من المهر، وترضى به، ولا بد من الإشهاد على رضاها بالعقد ولو بعد عقده لنفسه بعد أن كانت مقرة بالعقد، ولا يحتاج لقوله: قبلت نكاحك بنفسي بعدئذ؛ لأن قوله «تزوجتك» فيه قبول.
الفصل الخامس: الكفاءة في الزواج
الفَصْلُ الخامس: الكفاءة في الزَّواج معناها وآراء الفقهاء في اشتراطها، نوع شرط الكفاءة، صاحب الحق في الكفاءة، من تطلب في جانبه الكفاءة، ما تكون فيه الكفاءة أو أوصاف الكفاءة، وتبحث في مباحث خمسة: المبحث الأول ـ معنى الكفاءة وآراء الفقهاء في اشتراطها: الكفاءة لغة: المماثلة والمساواة، يقال: فلان كفء لفلان أي مساو له. ومنه قوله صلّى الله عليه وسلم: «المسلمون تتكافأ دماؤهم» (¬1) أي تتساوى، فيكون دم الوضيع منهم كدم الرفيع. ومنه قوله تعالى: {ولم يكن له كُفُواً أحد} [الإخلاص:4/ 112] أي لا مثيل له. وفي اصطلاح الفقهاء: المماثلة بين الزوجين دفعاً للعار في أمور مخصوصة، وهي عند المالكية: الدين، والحال (أي السلامة من العيوب التي توجب لها الخيار). وعند الجمهور: الدين، والنسب، والحرية، والحرفة (أو الصناع)، وزاد الحنفية والحنابلة: اليسار (أو المال) (¬2). ¬
آراء الفقهاء في اشتراط الكفاءة
ويراد منها تحقيق المساواة في أمور اجتماعية من أجل توفير استقرار الحياة الزوجية، وتحقيق السعادة بين الزوجين، بحيث لا تعير المرأة أو أولياؤها بالزوج بحسب العرف. وأما آراء الفقهاء في اشتراط الكفاءة، فلهم رأيان (¬1): الرأي الأولي ـ رأى بعضهم كالثوري، والحسن البصري، والكرخي من الحنفية: أن الكفاءة ليست شرطاً أصلاً، لا شرط صحة للزواج ولا شرط لزوم، فيصح الزواج ويلزم سواء أكان الزوج كفئاً للزوجة أم غير كفء، واستدلوا بما يأتي: 1ً - قوله صلّى الله عليه وسلم: «الناس سواسية كأسنان المشط، لا فضل لعربي على عجمي، إنما الفضل بالتقوى» (¬2) فهو يدل على المساواة المطلقة، وعلى عدم اشتراط الكفاءة، ويدل له قوله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات:13/ 49] وقوله تعالى: {وهو الذي خلق من الماء بشراً} [الفرقان:54/ 25] وحديث: «ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى» (¬3). ورد عليه بأن معناه أن الناس متساوون في الحقوق والواجبات، وأنهم لا يتفاضلون إلا بالتقوى، أما فيما عداها من الاعتبارات الشخصية التي تقوم على أعراف الناس وعاداتهم، فلا شك في أن الناس يتفاوتون فيها، فهناك تفاضل في الرزق والثروة: {والله فضل بعضكم على بعض في الرزق} [النحل:71/ 16] وهناك تفاضل في ¬
العلم يقتضي التكريم: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} [المجادلة:11/ 58] وما يزال الناس يتفاوتون في منازلهم الاجتماعية ومراكزهم الأدبية، وهو مقتضى الفطرة الإنسانية، والشريعة لا تصادم الفطرة والأعراف والعادات التي لا تخالف أصول الدين ومبادئه. 2ً - الحديث المتقدم: وهو أن بلالاً رضي الله عنه خطب إلى قوم من الأنصار، فأبوا أن يزوجوه، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «قل لهم: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأمركم أن تزوجوني» أمرهم النبي صلّى الله عليه وسلم بالتزويج عند عدم الكفاءة، ولو كانت معتبرة لما أمر؛ لأن التزويج من غير كفء غير مأمور به. ويؤكده أن سالم مولى امرأة من الأنصار زوجه أبو حذيفة من ابنة أخيه: هند بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة (¬1). وكذلك أمر النبي صلّى الله عليه وسلم امرأة قرشية هي فاطمة أخت الضحاك بن قيس، وهي من المهاجرات الأول أن تتزوج أسامة قائلاً لها: «انكحي أسامة» (¬2)، وروى الدارقطني أن أخت عبد الرحمن بن عوف كانت تحت بلال. ويدل له: «أن أبا هند حجم النبي صلّى الله عليه وسلم في اليافوخ، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: يا بني بياضة، أنكحوا أبا هند، وانكحوا إليه» (¬3). ورد على الأحاديث بمعارضتها بأحاديث أخرى تتطلب الكفاءة فتكون محمولة على الندب والأفضل، وبأن التسوية بين العرب وغيرهم إنما هو في أحكام الآخرة، أما في الدنيا فقد ظهر فضل العربي على العجمي في كثير من أحكام الدنيا. ¬
الرأي الثاني - رأى جمهور الفقهاء (منهم المذاهب الأربعة)
3ً - الدماء متساوية في الجنايات، فيقتل الشريف بالوضيع، والعالم بالجاهل، فيقاس عليها عدم الكفاءة في الزواج، فإن كانت الكفاءة غير معتبرة في الجنايات، فلا تكون معتبرة في الزواج بالأولى. ورد عليه بأنه قياس مع الفارق؛ لأن التساوي في القصاص في مسائل الجنايات، إنما طلب لمصلحة الناس وحفظ حق الحياة، حتى لا يتجرأ ذو الجاه أو النسب على قتل من دونه ممن لا يكافئه. أما الكفاءة في الزواج فلتحقيق مصالح الزوجين من دوام العشرة مع المودة والألفة بينهما، ولا تتحقق تلك المصالح إلا باشتراط الكفاءة. الرأي الثاني - رأى جمهور الفقهاء (منهم المذاهب الأربعة): أن الكفاءة شرط في لزوم الزواج، لا شرط صحة فيه، عملاً بالأدلة التالية من السنة والمعقول: 1ً - السنة: حديث علي أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال له: «ثلاث لا تؤخر: الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت لها كفئاً» (¬1). وحديث جابر: «لا تنُكحوا النساء إلا الأكفاء، ولا يزوجوهن إلا الأولىاء، ولا مهردون عشرة دراهم» (¬2). وحديث عائشة: «تخيروا لنطفكم، وأنكحوا الأكفاء» (¬3) ¬
وحديث ابن عمر: «العرب بعضهم أكفاء لبعض، قبيلة بقبيلة، ورجل برجل، والموالي بعضهم أكفاء لبعض، قبيلة بقبيلة، ورجل برجل إلا حائك أو حجام» (¬1).وحديث عائشة وعمر: «لأمنعن تزوّج ذوات الأحساب إلا من الأكفاء» (¬2). وحديث أبي حاتم المزني: «إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه، فأنكحوه، إلا تفعلوه، تكن فتنة في الأرض وفساد كبير» (¬3) وفيه دليل على اعتبار الكفاءة. وحديث بريدة المتقدم الذي جعل فيه النبي صلّى الله عليه وسلم الخيار لفتاة زوجها أبوها ابن أخيه ليرفع بها خسيسته (¬4). وحديث «العلماء ورثة الأنبياء» (¬5) وحديث «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام، إذا فقُهوا» (¬6). قال الشافعي: أصل الكفاءة في النكاح حديث بريرة، فقد خيرها النبي صلّى الله عليه وسلم، لما لم يكن زوجها كفئاً لها بعد أن تحررت، وكان زوجها عبداً. وقال الكمال بن الهمام (¬7): هذه الأحاديث الضعيفة من طرق عديدة يقوي ¬
بعضها بعضاً، فتصبح حجة بالتضافر والشواهد، وترتفع إلى مرتبة الحسن، لحصول الظن بصحة المعنى، وثبوته عنه صلّى الله عليه وسلم، وفي هذا كفاية. 2 - المعقول: وهو أن انتظام المصالح بين الزوجين لا يكون عادة إلا إذا كان هناك تكافؤ بينهما؛ لأن الشريفة تأبى العيش مع الخسيس، فلا بد من اعتبار الكفاءة من جانب الرجل، لا من جانب المرأة؛ لأن الزوج لا يتأثر بعدم الكفاءة عادة، وللعادة والعرف سلطان أقوى وتأثير أكبر على الزوجة، فإذا لم يكن زوجها كفئاً لها، لم تستمر الرابطة الزوجية، وتتفكك عُرى المودة بينهما، ولم يكن للزوج صاحب القوامة تقدير واحترام. وكذلك أولىاء المرأة يأنفون من مصاهرة من لا يناسبهم في دينهم وجاههم ونسبهم، ويعيرون به، فتختل روابط المصاهرة أو تضعف، ولم تتحقق أهداف الزواج الاجتماعية، ولا الثمرات المقصودة من الزوجية. وهذا الرأي هو المعمول به في أغلب البلاد الإسلامية كمصر وسورية وليبيا. والذي يظهر لي رجحان مذهب الإمام مالك في هذا الشأن، وهو اعتبار الكفاءة فقط في الدين والحال، أي السلامة من العيوب التي توجب للمرأة الخيار في الزواج، وليس الحال بمعنى الحسب والنسب وإنما يندب ذلك فقط، والسبب هو ضعف أحاديث الجمهور، ولأن الدليل الأقوى للجمهور وهو المعقول يعتمد على العرف، فإذا كان العرف بين الناس كمافي عصرنا الحاضر هو عدم النظر إلى الكفاءة، وأصبح مبدأ المساواة هو الأساس في التعامل، وزالت المعاني القبلية والتمييز الطبقي بين الناس، فلم يعد هناك مسوغ للكفاءة.
المبحث الثاني ـ نوع شرط الكفاءة
المبحث الثاني ـ نوع شرط الكفاءة: هل الكفاءة شرط صحة أو شرط لزوم؟ اتفق فقهاء المذاهب الأربعة في الراجح عند الحنابلة والمعتمد عند المالكية والأظهر عند الشافعية (¬1) على أن الكفاءة شرط لزوم في الزواج، وليست شرطاً في صحة النكاح، فإذا تزوجت المرأة غير كفء، كان العقد صحيحاً، وكان لأوليائها حق الاعتراض عليه وطلب فسخه، دفعاً لضرر العار عن أنفسهم، إلا أن يسقطوا حقهم في الاعتراض فيلزم، ولو كانت الكفاءة شرط صحة لما صح، حتى ولو أسقط الأولياء حقهم في الاعتراض؛ لأن شرط الصحة لا يسقط بالإسقاط. وأخذ القانون السوري (م 26) باعتبار كون الكفاءة شرط لزوم، ونص هذه المادة: «يشترط في لزوم الزواج أن يكون الرجل كفئاً للمرأة» ونصت المادة (27) على أنه: «إذا زوجت الكبيرة نفسها من غير موافقة الولي، فإن كان الزوج كفئاً، لزم العقد، وإلا فللولي طلب فسخ النكاح» وهذا هو المختار لدى واضعي قانون الأحوال الشخصية في مصر. تفصيل رأي الحنفية في شرط الكفاءة: الكفاءة عند الحنفية في الجملة تعد شرط لزوم (¬2)، لكن المفتى به عند المتأخرين أن الكفاءة شرط لصحة الزواج في بعض الحالات، وشرط لنفاذه في بعض الحالات، وشرط للزومه في حالات أخرى. ¬
شرطا لصحة الزواج،
أما الحالات التي تكون الكفاءة فيها شرطاً لصحة الزواج، فهي ما يأتي (¬1): 1ً - إذا زوجت المرأة البالغة العاقلة نفسها من غير كفء أوبغبن فاحش، وكان لهاولي عاصب لم يرض بهذا الزواج قبل العقد، لم يصح الزواج أصلاً، لا لازماً ولا موقوفاً على الرضا بعد البلوغ. 2ً - إذا زوج غير الأصل (الأب والجد) أو الفرع (الابن) عديم الأهلية أو ناقصها، أي المجنون والمجنونة أو الصغير والصغيرة من غير كفء، فإن الزواج فاسد؛ لأن ولاية هؤلاء منوطة بالمصلحة، ولا مصلحة في التزويج بغير الكفء. 3ً - إذا زوج الأب أو الابن المعروف بسوء الاختيار (¬2) عديم الأهلية أو ناقصها، من غير كفء أو بغبن فاحش، لم يصح النكاح اتفاقاً. وكذا لو كان سكران، فزوج المرأة من فاسق أو شرير أو فقير أو ذي حرفة دنيئة، لظهور سوء اختياره، وانعدام المصلحة في هذا الزواج. ويلزم النكاح ولو بغبن فاحش بنقص مهرها وزيادة مهره، أو زوجها بغير كفء إن كان الولي المزوج أباً أو جداً أو ابن المجنونة إذا لم يعرف منهما سوء الاختيار. وتكون الكفاءة شرطاً لنفاذ الزواج: إذا وكلت المرأة البالغة العاقلة شخصاً في زواجها، سواء أكان ولياً أم أجنبياً عنها، فزوَّجها بغير كفء، كان العقد موقوفاً على إجازتها؛ لأن الكفاءة حق للمرأة ولأوليائها، فإذا لم يكن الزوج كفئاً لها، لا ينفذ العقد إلا برضاها (¬3). ¬
شرطا للزوم الزواج
وتكون الكفاءة شرطاً للزوم الزواج في ظاهر الرواية: إذا زوجت البالغة العاقلة نفسها من كفء، كان الزواج لازماً، وليس لوليها حق الاعتراض وطلب الفسخ، فإن زوجت نفسها من غير كفء، كان لوليها العاصب حق الاعتراض (¬1). يتبين من هذا أن الكفاءة تشبه عند الحنفية ولاية الزواج، ففي حالات قد تكون الولاية شرطاً في صحة الزواج، وقد تكون شرطاً في نفاذه، وقد تكون شرطاً في لزومه. ومن المعلوم أن شروط لزوم الزواج عند الحنفية أربعة هي باختصار: 1ً - أن يكون الولي في تزويج الصغير والصغيرة هو الأب أو الجد. أما غيرهما كالأخ والعم إذا زوج الصغار، فلا يلزم الزواج في رأي أبي حنيفة ومحمد، ويكون لهم الخيار بعد البلوغ. وقال أبو يوسف: يلزم نكاح غير الأب والجد من الأولياء، فلا يثبت للصغار الخيار بعد البلوغ (¬2). 2ً - أن يكون الزوج خالياً من العيوب الجنسية، كما يتبين في بحث الطلاق. 3ً - أن تزوج المرأة نفسها بمهر المثل، فإذا زوجت نفسها بغبن فاحش، لم يلزم العقد، وكان للأولىاء عند أبي حنيفة حق الاعتراض، حتى يتم لها مهر مثلها أو يفارقها؛ لأن الأولياء يفتخرون بغلاء المهور ويتعيرون بنقصانه، فأشبه الكفاءة. وقال الصاحبان: ليس لهم ذلك؛ لأن ما زاد على العشرة دراهم حقها، ومن أسقط حقه لا يعترض عليه (¬3). ¬
المبحث الثالث ـ صاحب الحق في الكفاءة
4ً - أن يكون الزوج كفئاً للمرأة، فإن زوجت المرأة نفسها من غير كفء لها، كان للأولياء حق الاعتراض، ويفسخ القاضي العقد إن ثبت له عدم كفاءة الزوج دفعاً للعار. وهذا متفق عليه بين المذاهب كما تقدم. المبحث الثالث ـ صاحب الحق في الكفاءة: اتفق الفقهاء (¬1) على أن الكفاءة حق لكل من المرأة وأوليائها، فإذا تزوجت المرأة بغير كفء، كان لأوليائها حق طلب الفسخ، وإذا زوجها الولي بغير كفء، كان لها أيضاً الفسخ؛ لأنه خيار لنقص في المعقود عليه، فأشبه خيار البيع، ولما روي: أن فتاة جاءت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقالت: إن أبي زوجني ابنَ أخيه ليرفع بي خسيسته، قال: فجعل الأمر إليها، فقالت: قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن أعلم النساء أن ليس إلى الآباء من الأمر شيء (¬2). والحاصل: أن المرأة إن تركت الكفاءة فحق الولي باق، وبالعكس. ترتيب الحق بين الأولياء ووقت سقوط حق الاعتراض: يثبت هذا الحق عند الحنفية للأقرب من الأولياء العصبة فالأقرب، فإذا لم يرضوا فلهم أن يفرقوا بين المرأة وزوجها، ما لم تلد، أو تحمل حملاً ظاهراً في ظاهر الرواية، وإذا زوجها الولي بغير كفء برضاها، لزم النكاح، وإذا رضي الأولياء فقد أسقطوا حق أنفسهم بالاعتراض والفسخ. ¬
رضا بعض الأولياء المستوين في الدرجة دون البعض
وقال المالكية: للأولياء الفسخ ما لم يدخل الزوج بالمرأة، فإن دخل فلا فسخ. والاعتراض حق مشترك لكل الأولياء، فلو زوجها أحد الأولياء من غير كفء برضاها من غير رضا الباقين، لم يلزم النكاح، وهذا خلافاً للحنفية والشافعية. وقال الشافعية: لو زوجها الولي الأقرب برضاها، فليس للأبعد اعتراض؛ إذ لا حق له الآن في التزويج. وإذا تساوى الأولياء في الدرجة، فزوجها أحدهم برضاها دون رضاهم، لم يصح الزواج؛ لأن لهم حقاً في الكفاءة، فاعتبر رضاهم كرضا المرأة. ولو زوجها الولي غير كفء برضاها، أو زوجها بعض الأولياء المستوين في الدرجة برضاها ورضا الباقين، صح الزواج. وقال الحنابلة: يملك الاعتراض والفسخ الأبعد من الأولياء مع رضا الأقرب منهم بالزوج، ومع رضا الزوجة أيضاً دفعاً لما يلحقه من العار؛ لأن الكفاءة عندهم كما جاء في كشاف القناع حق للمرأة والأولياء جميعهم، فلو زوج الأب بنته بغير كفء برضاها، فللإخوة الفسخ؛ لأن العار في تزويج من ليس بكفء عليهم أجمعين. ولو زالت الكفاءة بعد العقد، فللزوجة عندهم الفسخ فقط دون أوليائها؛ لأن حق الأولياء في ابتداء العقد لا في استدامته، وهذا بخلاف رأي المذاهب الأخرى، فإن الكفاءة تعتبر عند الجمهور عند ابتداء العقد، فلا يضر زوالها بعده، فلو كان وقت العقد كفئاً، ثم صار غير كفء، لم يفسخ العقد. رضا بعض الأولياء المستوين في الدرجة دون البعض: إن تعدد الأولياء الأقارب كالإخوة الأشقاء، ورضي بعضهم بالزواج، ولم يرض الآخرون، كان رضا البعض عند أبي حنيفة ومحمد مسقطاً لحق الآخرين؛
المبحث الرابع: من تطلب الكفاءة في جانبه
لأن هذا حق واحد لا يتجزأ؛ لأن سببه وهو القرابة لا يقبل التجزئة، والقاعدة المقررة أن إسقاط بعض مالا يتجزأ إسقاط لكله، فإذا أسقط أحد الأولياء حقه، سقط حق الباقين، قياساً على حق القصاص الثابت لجماعة، فإنه حق لا يقبل التجزئة، فإذا عفا بعضهم سقط حق الباقين. وأجيب عنه بأن القصاص لا يثبت لكل واحد كاملاً، فإذا سقط بعضه تعذر استيفاؤه. وقال الجمهور (وهم المالكية والشافعية والحنابلة وأبو يوسف وزفر): إن رضي بعض الأولياء المتساوين، لم يسقط حق الآخرين في الاعتراض؛ لأن الكفاءة حق مشترك ثبت للكل، وإذا أسقط أحد الشريكين حق نفسه، لا يسقط حق صاحبه، كالدين المشترك. وأجيب عنه: بأن قياس الكفاءة على الدين المشترك قياس مع الفارق؛ لأن الدين حق يقبل التجزئة، وحق الكفاءة لا يقبل التجزئة. ولا فرق عند الحنابلة بين أن يكون الأولياء متساوين في الدرجة أم متفاوتين؛ لأن الكفاءة عندهم حق الكل. المبحث الرابع: من تطلب الكفاءة في جانبه: يرى جمهور الفقهاء أن الكفاءة تطلب للنساء لا للرجال، بمعنى أن الكفاءة تعد في جانب الرجال للنساء، فهو حق في صالح المرأة لا في صالح الرجل، فيشترط أن يكون الرجل مماثلاً أو مقارباً لها في أمور الكفاءة. ولا يشترط في المرأة أن تكون مساوية للرجل أو مقاربة له، بل يصح أن تكون أقل منه في أمور الكفاءة؛ لأن الرجل لا يعير بزوجة أدنى حالاً منه، أما المرأة وأقاربها فيعيرون بزوج أقل منها
المبحث الخامس ـ ما تكون فيه الكفاءة، أو أوصاف الكفاءة
منزلة (¬1). لكن يستثنى من هذا الأصل مسألتان تشترط فيهما الكفاءة من جانب المرأة، ذكرتا سابقاً وهما: الأولى ـ أن يزوج غير الأب أو الجد عديم الأهلية أو ناقصها، أويزوجه الأب أو الجد الذي عرف قبل العقد بسوء الاختيار، فإنه يشترط لصحة هذا الزواج أن تكون الزوجة مكافئة له، احتياطاً لمصلحة الزواج، وإلا لم يصح الزواج. الثانية ـ أن يوكل الرجل غيره في تزويجه وكالة مطلقة، فإنه يشترط لنفاذ العقد على الموكل في رأي المالكية وأبي يوسف ومحمد أن تكون الزوجة كفئاً له. المبحث الخامس ـ ما تكون فيه الكفاءة، أو أوصاف الكفاءة: اختلف الفقهاء في خصال الكفاءة، فهي عند المالكية اثنان: وهما الدين والحال، أي السلامة من العيوب المثبتة للخيار، لا الحال بمعنى الحسب والنسب. وعند الحنفية ستة: هي الدين والإسلام والحرية والنسب والمال والحرفة (¬2). ولا تكون الكفاءة عندهم في السلامة من العيوب التي يفسخ بها البيع كالجذام والجنون والبرص، والبخَر والدفَر إلا عند محمد في الثلاثة الأولى. وعند الشافعية خمسة: هي الدين أو العفة، والحرية، والنسب، والسلامة من العيوب المثبتة للخيار، والحرفة. ¬
1 - الديانة، أو العفة أو التقوى
وعند الحنابلة خمسة أيضاً: هي الدين، والحرية، والنسب، واليسار (المال)، والصناعة أي الحرفة (¬1). فهم متفقون على الكفاءة في الدين، واتفق غير المالكية على الكفاءة في الحرية والنسب والحرفة، واتفق المالكية والشافعية على خصلة السلامة من العيوب المثبتة للخيار، واتفق الحنفية في ظاهر الرواية والحنابلة على خصلة المال، وانفرد الحنفية بخصلة إسلام الأصول. 1 - الديانة، أو العفة أو التقوى: المراد بها الصلاح والاستقامة على أحكام الدين، فليس الفاجر والفاسق كفئاً لعفيفة أو صالحة بنت صالح، أو مستقيمة، لها ولأهلها تدين وخلق حميد، سواء أكان معلناً فسقه، أم غير معلن أي لا يجهر بالفسق لكن يشهد عليه أنه فعل كذا من المفسقات؛ لأن الفاسق مردود الشهادة والرواية، وهو نقص في إنسانيته، ولأن المرأة تعير بفسق الزوج أكثر ما تعير بضعة نسبه، فلا يكون كفئاً لامرأة عدل، بالاتفاق ما عدا محمد بن الحسن، لقوله تعالى: {أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً، لا يستوون} [السجدة:18/ 32] وقوله سبحانه: {الزاني لا ينكح إلا زانية} [النور:3/ 24] ونوقش الاستدلال بالآيتين، أما الأولى فهي في حق المؤمن والكافر، وأما الثانية فهي منسوخة، والأصح الاستدلال بحديث أبي حاتم المزني المتقدم: «إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض». وقال محمد: إن الفسق لا يمنع الكفاءة، إلا إذا كان صاحبه متهتكاً يصفع ويسخر منه، أو يخرج إلى الأسواق سكران؛ لأن الفسق من أحكام الآخرة، فلا تبتنى عليه أحكام الدنيا. ¬
2 - الإسلام
وهل يكون الفاسق كفئاً لفاسقة بنت صالح، قال بعض الحنفية: لا يكون الفاسق كفئاً لها، وقال ابن عابدين: إن المفهوم من كلامهم اعتبار صلاح الكل أي الفتاة والأب، وإن من اقتصر على صالحة أو صلاح آبائها نظر إلى الغالب من أن صلاح الولد والوالد متلازمان، فعلى هذا لا يكون الفاسق كفئاً لصالحة بنت صالح، بل يكون كفئاً لفاسقة بنت فاسق، وكذا لفاسقة بنت صالح، لأن ما يلحقه من العار ببنته أكثر من العار بصهره. وإذا كانت صالحة بنت فاسق، فزوجت نفسها من فاسق، فليس لأبيها حق الاعتراض؛ لأنه مثله، وهي قد رضيت به. 2 - الإسلام: شرط انفرد به الحنفية بالنسبة لغير العرب، خلافاً للجمهور، والمراد به إسلام الأصول أي الآباء، فمن له أبوان مسلمان كفء لمن كان له آباء في الإسلام، ومن له أب واحد في الإسلام لا يكون كفئاً لمن له أبوان في الإسلام؛ لأن تمام النسب بالأب والجد. وألحق أبو يوسف الواحد بالمثنى. ومن أسلم بنفسه لا يكون كفئاً لمن له أب واحد في الإسلام؛ لأن التفاخر فيما بين الموالي (غير العرب) بالإسلام. ودليل الحنفية على هذه الخصلة: أن تعريف الشخص يكون كاملاً بالأب والجد، فإذا كان الأب والجد مسلماً، كان نسبه إلى الإسلام كاملاً. ولا تعتبر هذه الخصلة إلا في غير العرب؛ لأنهم بعد إسلامهم صار فخرهم بالإسلام، وهو شرفهم الذي قام مقام النسب. أما العرب فلا يعتبر فيهم التكافؤ في إسلام الآباء؛ لأن العرب يتفاخرون بأنسابهم، ولا يتفاخرون بإسلام أصولهم، فالعربي المسلم الذي ليس له أب مسلم كفء للعربية المسلمة التى لها أب وأجداد مسلمون.
3 - الحرية
3 - الحرية: شرط في الكفاءة عند الجمهور (الحنفية والشافعية والحنابلة) فلا يكون العبد ولو مبعضاً كفئاً لحرة ولو كانت عتيقة؛ لأنه منقوص بالرق، ممنوع من التصرف في كسبه، غير مالك له، ولأن الأحرار بمصاهرة الأرقاء كما يعيرون بمصاهرة من دونهم في النسب والحسب. واشترط الحنفية والشافعية أيضاً حرية الأصل، فمن كان أحد آبائه رقيقاً ليس كفئاً لحر الأصل، أو لمن كان أبوها رقيقاً ثم أعتق، ومن كان له أبوان في الحرية ليس كفئاً لمن كان له أب واحد في الحرية. وأضاف الحنفية والشافعية أن العتيق ليس كفئاً لحرة أصلية؛ لأن الأحرار يعيرون بمصاهرة العتقاء، كما يعيرون بمصاهرة الأرقاء. وقال الحنابلة: العتيق كله كفء للحرة. وأما المالكية فلم يشترطوا الحرية في الكفاءة، وقالوا: في كفاءة العبد للحرة، وعدم كفاءته لها على الأرجح تأويلان: المذهب أنه ليس بكفء، والراجح أنه كفء، وهو الأحسن؛ لأنه قول ابن القاسم. وقال الدسوقي: والظاهر التفصيل: فما كان من جنس الأبيض فهو كفء؛ لأن الرغبة فيه أكثر من الأحرار، وبه الشرف في عرف مصرنا، وما كان من جنس الأسود فليس بكفء؛ لأن النفوس ـ على حد تعبيره ـ تنفر منه، ويقع به الذم للزوجة. وهذا حكاية لعرف الناس في عصره، وليس أمراً مقرراً في الشرع. لذا أرى أن هذا الرأي خاص بالدسوقي، فإن مبادئ الشريعة تناقض هذا القول إذ لا تفرقة في أحكامها بين الناس بسبب اللون، وما اعتمده من عرف مصر هو عرف فاسد، لمصادمته مبادئ الشريعة، أو أنه مجرد أهواء نفسية وميول خاصة لا يقرها الشرع؛ لأن الناس سواء في دين الله تعالى.
4 - النسب
4 - النسب: وسماه الحنابلة: المنصب. المراد بالنسب: صلة الإنسان بأصوله من الآباء والأجداد. أما الحسب: فهو الصفات الحميدة التي يتصف بها الأصول أو مفاخر الآباء، كالعلم والشجاعة والجود والتقوى. ووجود النسب لا يستلزم الحسب، ولكن وجود الحسب يستلزم النسب. والمقصود من النسب أن يكون الولد معلوم الأب، لا لقيطاً أو مولى إذ لا نسب له معلوم. ولم يعتبر المالكية الكفاءة في النسب، أما الجمهور (الحنفية والشافعية والحنابلة وبعض الزيدية) فقد اعتبروا النسب في الكفاءة، لكن خصص الحنفية النسب في الزواج من العرب؛ لأنهم الذين عنوا بحفظ أنسابهم، وتفاخروا بها، وحدث التعيير بينهم فيها. أما العجم فلم يعنوا بأنسابهم ولم يفتخروا بها، ولذا اعتبر فيهم الحرية والإسلام. والأصح عند الحنفية أن العجمي لا يكون كفئاً للعربية ولو كان عالماً أو سلطاناً. وبناء على هذا الرأي: لا يكون العجمي كفئاً للعربية، لقول عمر: «لأمنعن أن تزوج ذات الأحساب إلا من الأكفاء» (¬1)، ولأن الله اصطفى العرب على غيرهم، ولأن العرب فضلت الأمم برسول الله صلّى الله عليه وسلم. وقريش عند الحنفية وفي رواية عن أحمد بعضهم أكفاء بعض، وبقية العرب بعضهم أكفاء بعض، واستثنى بعضهم بني باهلة لخستهم. ودليلهم قول ابن عباس: قريش بعضهم أكفاء بعض. ويرى الشافعية وفي رواية أخرى عن أحمد: أن غير الهاشمي والمطلبي ليس ¬
كفئاً لباقي قريش كبني عبد شمس ونوفل، وإن كانا أخوين لهاشم، لخبر: «إن الله اصطفى من العرب كنانة، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» (¬1). ويتفق الجمهور على أن قريشاً وهم أولاد النضر بن كنانة أفضل نسباً من سائر العرب، فالقرشية لا يكافئها إلا قرشي مثلها، والقرشي كفء لكل عربية. وأن المرأة العربية غير القرشية يكافئها أي عربي من أي قبيلة كانت، ولكن لا يكافئها غير العربي أي العجمي. ودليل الجمهور حديث: «العرب بعضهم أكفاء لبعض، قبيلة بقبيلة، ورجل برجل، والموالي بعضهم أكفاء لبعض، قبيلة بقبيلة، ورجل برجل، إلا حائك أو حجام» (¬2). والحق أن اعتبار النسب في الكفاءة ليس صحيحاً، والصحيح قول المالكية؛ لأن مزية الإسلام الجوهرية هي الدعوة إلى المساواة، ومحاربة التمييز العرقي أو العنصري، ودعوات الجاهلية القبلية والنسبية، ولأن انتشار الإسلام بين الناس غير العرب إنما كان أساساً لهذه المزية، وإعلان حجة الوداع واضح وهو أن الناس جميعاً أبناء آدم، وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى. أما الحديث الذي اعتمد عليه الجمهور فهو ضعيف، لذا فإن تفضيل قريش على سائر العرب، ثم تفضيل العرب على العجم، لم يدل عليه شيء من السنة، بل ورد في السنة خلافه؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم زوج ابنتيه عثمان، وزوج أبا العاص بن ¬
5 - المال أو اليسار
ربيع زينب، وهما من بني عبد شمس، وزوج علي عمر ابنته أم كلثوم، وزوج النبي بنت عمته زينب وهي قرشية زيد بن حارثة، وهو من الموالي، وتزوج أسامة ابن زيد فاطمة بنت قيس وهي من قريش، بعد أن طلقها زوجها: أبو عمر بن حفص بن المغيرة، فأخبرته أن معاوية وأبا جهم خطباها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، انكحي أسامة بن زيد» (¬1). وتزوج عبد الله بن عمرو بن عثمان فاطمة بنت الحسين بن علي، وتزوج المصعب بن الزبير أختها سكينة، وتزوجها أيضاً عبد الله بن عثمان بن حكيم بن حزام، وتزوج المقداد بن الأسود ضباعة بنة الزبير بن عبد المطلب ابنة عم رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وزوج أبو بكر أخته أم فروة الأشعث بن قيس، وهما كنديان (¬2). ولأن العجم والموالي بعضهم لبعض أكفاء، وإن تفاضلوا، وشرف بعضهم على بعض، وكذلك العرب. وإذا حرص العرب على أنسابهم وتفاخروا بها، فإن غير العرب قد حرصوا على أنسابهم، وتتعير المرأة منهم إذا تزوجت من لا يساويها في الحسب والنسب. 5 - المال أو اليسار: المراد به القدرة على المهر والنفقة على الزوجة، لا الغنى والثراء، فلا يكون المعسر كفئاً لموسرة. وحدد بعض الحنفية هذه القدرة على نفقة شهر، وصحح بعضهم الاكتفاء بالقدرة عليها بالكسب. واشترط اليسار في الكفاءة الحنفية والحنابلة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال في الحديث السابق لفاطمة بنت قيس: «أما معاوية فصعلوك لا مال له»، ولأن الناس ¬
6 - المهنة أو الحرفة أو الصناعة
يتفاخرون بالمال أكثر من التفاخر بالنسب، ولأن الموسرة تتضرر في إعسار زوجها لإخلاله بنفقتها ومؤنة أولاده، ولهذا ملكت الفسخ بإعساره بالنفقة، ولأن عدم اليسار نقص في عرف الناس يتفاضلون فيه كتفاضلهم في النسب. وقال الشافعية في الأصح والمالكية: لا يعد اليسار في خصال الكفاءة؛ لأن المال ظل زائل، وحال حائل، ومال مائل، ولا يفتخر به أهل المروءات والبصائر. والراجح لدي هو هذا الرأي؛ لأن الغنى لا دوام له، والمال غاد ورائح، والرزق مقسوم منوط بالكسب، والفقر شرف في الدين، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً» (¬1). 6 - المهنة أو الحرفة أو الصناعة: والمراد بها العمل الذي يمارسه الإنسان لكسب رزقه وعيشه، ومنه الوظيفة في الحكومة. وذكر الجمهور غير المالكية الحرفة في خصال الكفاءة، بأن تكون حرفة الزوج أو أهله مساوية أو مقاربة لحرفة الزوجة أو أهلها. فلا يكون صاحب حرفة دنيئة كالحجام والحائك والكسَّاح والزبال والحارس والراعي والفقَّاط كفئآً لبنت صاحب صناعة جليلة أو رفيعة كالتاجر والبزاز، أي الذي يتجر في البَزّ وهو القماش، والخياط، ولا تكون بنت التاجر والبزاز كفئاً لبنت العالم والقاضي نظراً للعرف فيه. وأما أتباع الظلمة فأخسّ من الكل. وأهل الكفر بعضهم أكفاء لبعض؛ لأن اعتبار الكفاءة لدفع النقيصة، ولا نقيصة أعظم من الكفر. ¬
7 - السلامة من العيوب المثبتة للخيار في النكاح
والمعول عليه في تصنيف الحرف هو العرف، وهذا يختلف باختلاف الأزمان والأمكنة، فقد تكون الحرفة دنيئة في زمن، ثم تصبح شريفة في زمن آخر. وقد تكون الحرفة وضيعة في بلد، وتكون رفيعة في بلد آخر. ولم يذكر المالكية الحرفة من خصال الكفاءة؛ لأنها ليست بنقص في الدين، ولا هي وصف لازم، كالمال، فأشبه كل منهما الضعف والمرض والعافية والصحة. وهذا هو الراجح لدي. 7 - السلامة من العيوب المثبتة للخيار في النكاح: كالجنون والجذام والبرص. اعتبرها المالكية والشافعية من خصال الكفاءة، فمن كان به عيب منها رجلاً أو امرأة ليس كفئاً للسليم من العيوب؛ لأن النفس تعاف صحبة من به بعضها، ويختل بها مقصود النكاح. ولم يعتبر الحنفية والحنابلة السلامة من العيوب من شروط الكفاءة، ولكنها تثبت الخيار للمرأة دون أوليائها؛ لأن الضرر مختص بها، ولوليها منعها من نكاح المجذوم والأبرص والمجنون. وهذا الرأي هو الأولى؛ لأن خصال الكفاءة حق لكل من المرأة والأولياء. هذه هي خصال الكفاءة، أما ما عداها كالجمال والسن والثقافة والبلد والعيوب الأخرى غير المثبتة للخيار في الزواج كالعمى والقطع وتشوه الصورة، فليست معتبرة، فالقبيح كفء للجميل، والكبير كفء للصغير، والجاهل كفء للمثقف أو المتعلم، والقروي كفء للمدني، والمريض كفء للسليم. لكن الأولى مراعاة التقارب بين هذه الأوصاف، وبخاصة السن والثقافة؛ لأن وجودهما أدعى لتحقيق الوفاق والوئام بين الزوجين، وعدمهما يحدث بلبلة واختلافاً مستعصياً، لاختلاف وجهات النظر، وتقديرات الأمور، وتحقيق هدف الزواج، وإسعاد الطرفين.
الكفاءة في القانون
الكفاءة في القانون: إن خصال الكفاءة المطلوبة عند الفقهاء روعي فيها عرف المجتمعات الماضية، فكل ما أدى إلى الإضرار بسمعة المرأة وأوليائها، كانت الكفاءة فيه شرطاً لازوم العقد. واليوم ينبغي أن يعتبر العرف الحاضر أيضاً، فإنه زال اعتبار كفاءة النسب والمال ونحوهما. لذا نص القانون السوري على ما يلي: (م 26): يشترط في لزوم الزواج أن يكون الرجل كفئاً للمرأة. (م 27): إذا تزوجت الكبيرة نفسها من غير موافقة الولي، فإن كان الزوج كفئاً لزم العقد، وإلا فللولي طلب فسخ النكاح. (م 28): العبرة في الكفاءة لعرف البلد. (م 29): الكفاءة حق خاص للمرأة وللولي. (م 30): يسقط حق الكفاءة لعدم الكفاءة إذا حملت المرأة. (م 31): تراعى الكفاءة عند العقد، فلا يؤثر زوالها بعده. (م 32): إذا اشترطت الكفاءة حين العقد، أوأخبر الزوج أنه كفء، ثم تبين أنه غير كفء كان لكل من الولي والزوجة طلب فسخ العقد. ويلاحظ أن هذه الأحكام يتفق أغلبها مع مذهب الحنفية، فالمادة الأولى في أن الكفاءة من جانب الرجل لا من جانب المرأة، أو من الجانبين، والثانية لتقرير أن الكفاءة شرط لزوم، لا شرط صحة، والثالثة مراعاة مبنى الكفاءة في الأصل وهو العرف، والرابعة كون الكفاءة حقاً لكل من المرأة والولي، والخامسة تحديد وقت سقوط حق الكفاءة عملاً بمشهور مذهب الحنفية، والسادسة وقت مراعاة الكفاءة وهو عند العقد، لا بعده، والسابعة التغرير بالكفاءة عند الاشتراط أو الإخبار بها.
الفصل السادس: آثار الزواج
الفَصْلُ السّادس: آثار الزّواج وفيه مباحث ثلاثة: في المهر، والخلوة، والمتعة. المبحث الأول ـ المهر وأحكامه: تمهيد: الزواج ككل عقد ينشأ عنه حقوق وواجبات متبادلة يلزم بها كل من الزوج والزوجة، وقد نص القرآن الكريم على هذا المبدأ، فقال تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} [البقرة:228/ 2] أي أن للنساء من الحقوق على الرجال مثل ما للرجال عليهن من واجبات، وأن أساس تقرير هذه الحقوق والواجبات هو العرف المستند إلى فطرة كل من الرجل والمرأة. ونص قانون الأحوال الشخصية السوري على جميع الحقوق المالية التي تستحقها الزوجة على زوجها: وهي المهر والنفقة والسكن. أما الحقوق غير المالية أو الأدبية كالعدل والإحسان في المعاملة، والمعاشرة بالمعروف، وطاعة الزوجة لزوجها بالمعروف، وحماية الزوجة من ألوان الأذى والمهانة، فلم يتعرض لها هذا القانون؛ لأنها مبادئ أخلاقية، وإنما نص القرآن الكريم على بعضها، ونصت السنة النبوية على بعضها الآخر. وأتكلم هنا عن المهر: تعريفه وحكمه وحكمته وسبب إلزام الرجل به،
أولا ـ تعريف المهر وحكمه وحكمته وسبب إلزام الرجل به
ومقداره، وشروطه أو ما يصلح أن يكون مهراً وما لا يصلح، أنواعه وحالات وجوب كل نوع، صاحب الحق في المهر، وقبضه وما يترتب على القبض، تعجيله وتأجيله، الزيادة والحط من المهر، متى يجب المهر ومتى يتأكد وجوبه، ومتى يتنصف، ومتى يسقط، تبعة ضمان المهر وحكم هلاكه واستهلاكه وتعييبه وزيادته، الاختلاف في المهر، الملزم بالجهاز والاختلاف فيه، ميراث الصداق وهبته. أولاً ـ تعريف المهر وحكمه وحكمته وسبب إلزام الرجل به: المهر: هو المال الذي تستحقه الزوجة على زوجها بالعقد عليها أو بالدخول بها حقيقة. وعرفه صاحب العناية على هامش الفتح: هو المال الذي يجب في عقد النكاح على الزوج في مقابلة البُضْع إما بالتسمية أو بالعقد. وعرفه بعض الحنفية: بأنه ما تستحقه المرأة بعقد النكاح أو الوطء. وعرفه المالكية: بأنه ما يجعل للزوجة في نظير الاستمتاع بها. وعرفه الشافعية: بأنه ما وجب بنكاح أو وطء أو تفويت بُضْع قهراً، كرضاع ورجوع شهود. وعرفه الحنابلة: بأنه العوض في النكاح، سواء سمي في العقد أو فرض بعده بتراضي الطرفين أو الحاكم، أو العوض في نحو النكاح كوطء الشبهة ووطء المكرهة (¬1). وله أسماء عشرة: مهر، وصداق أو صدقة، ونِحْلة، وأجر، وفريضة، وحِبَاء، وعُقْر، وعلائق، وطَوْل، ونكاح، لقوله تعالى: {ومن لم يستطع منكم ¬
حكمه
طَوْلاً} [النساء:225/ 4] وقوله سبحانه: {وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً} [النور:33/ 24] نظم بعضهم ثمانية منها في بيت: صداق، ومهر، نحلة، وفريضة وحكمه: أنه واجب على الرجل دون المرأة، ويجب كما دلت التعاريف بأحد أمرين؛ إذ الوطء في دار الإسلام لا يخلو عن عَقْر (حد) أو عُقْر (مهر)، احتراماً لإنسانية المرأة: الأول ـ مجرد العقد الصحيح: وقد يسقط كله أو نصفه ما لم يتأكد بالدخول أو بالموت، أو بالخلوة عند الحنفية والحنابلة. الثاني ـ الدخول الحقيقي: كما في حالة الوطء بشبهة، أو في الزواج الفاسد. ولا يسقط حينئذ إلا بالأداء أو بالإبراء. ونص القانون السوري (م 53) على أنه: يجب للزوجة المهر بمجرد العقد الصحيح، سواء أسمي عند العقد أم لم يسم أم نفي أصلاً. وأدلة وجوب المهر: ما يأتي (¬1): 1 ً - القرآن: قال تعالى: {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة} [النساء:4/ 4] أي عطية من الله مبتدأة أو هدية. والمخاطب به الأزواج عند الأكثرين، وقيل: الأولىاء؛ لأنهم كانوا في الجاهلية يأخذونه، ويسمونه نحلة، وهو دليل على أن المهر رمز لإكرام المرأة، والرغبة في الاقتران. وقال سبحانه: {فما استمتعتم به منهن، فآتوهن أجورهن فريضة} [النساء: ¬
كون المهر واجبا على الرجل دون المرأة
24/ 4] وقال تعالى: {وآتوهن أجورهن} [النساء:25/ 4] {وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين} [النساء:24/ 4]. 2 ً - السنة: قال صلّى الله عليه وسلم لمريد التزوج: «التمس ولو خاتماً من حديد» (¬1)، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه لم يخل زواجاً من مهر. وتسن تسمية المهر في العقد؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم لم يخل نكاحاً عنه، ولأنه أدفع للخصومة، ولئلا يشبه نكاح الواهبة نفسها للنبي صلّى الله عليه وسلم. 3 ً - وأجمع المسلمون على مشروعية الصداق في النكاح: والحكمة من وجوب المهر: هو إظهار خطر هذا العقد ومكانته، وإعزاز المرأة وإكرامها، وتقديم الدليل على بناء حياة زوجية كريمة معها، وتوفير حسن النية على قصد معاشرتها بالمعروف، ودوام الزواج. وفيه تمكين المرأة من التهيؤ للزواج بما يلزم لها من لباس ونفقة. وكون المهر واجباً على الرجل دون المرأة: ينسجم مع المبدأ التشريعي في أن المرأة لا تكلف بشيء من واجبات النفقة، سواء أكانت أماً أم بنتاً أم زوجة، وإنما يكلف الرجل بالإنفاق، سواء المهر أم نفقة المعيشة وغيرها؛ لأن الرجل أقدر على الكسب والسعي للرزق، وأما المرأة فوظيفتها إعداد المنزل وتربية الأولاد وإنجاب الذرية، وهو عبء ليس بالهيِّن ولا باليسير، فإذا كلفت بتقديم المهر، وألزمت السعي في تحصيله اضطرت إلى تحمل أعباء جديدة، وقد تمتهن كرامتها في هذا السبيل. ووضع القرآن مبدأ توزيع المسؤوليات المالية بين الرجل والمرأة، فقال ¬
المهر ليس ركنا ولا شرطا في الزواج
سبحانه: {الرجال قوَّامون على النساء، بما فضل الله بعضهم على بعض، وبما أنفقوا من أموالهم} [النساء:34/ 4]. المهر ليس ركناً ولا شرطاً في الزواج: أوضحت في شروط الزواج أن المهر ـ وإن كان واجباً في العقد ـ إلا أنه ليس ركناً ولا شرطاً من شروط الزواج (¬1)، وإنما هو أثر من آثاره المترتبة عليه، لذا اغتفر فيه الجهل اليسير والغرر الذي يرجى زواله؛ لأن القصد من النكاح الوصلة والاستمتاع، فإذا تم العقد بدون مهر صح، ووجب للزوجة المهر اتفاقاً. والدليل قوله تعالى: {لاجناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة} [البقرة:236/ 2] فإنه أباح الطلاق قبل الدخول وقبل فرض المهر، مما يدل على أن المهر ليس ركناً ولا شرطاً. وثبت في السنة عن علقمة قال: «أتي عبد الله ـ أي ابن مسعود ـ في امرأة تزوجها رجل، ثم مات عنها، ولم يفرض لها صداقاً ولم يكن دخل بها، قال: فاختلفوا إليه، فقال: أرى لها مثل مهر نسائها، ولها الميراث، وعليها العِدّة، فشهد مَعْقِل بن سنان الأشجعي أن النبي صلّى الله عليه وسلم قضى في بَرْدَع بنة واشق بمثل ما قضى» (¬2). ويؤكده حديث عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لرجل: «إني أزوجك فلانة؟ قال: نعم، قال للمرأة: أترضين أن أزوجك فلاناً؟ قالت: نعم، ¬
نكاح التفويض
فزوج أحدهما من صاحبه، فدخل عليها ولم يُفرض لها به صداق؛ فلما حضرته الوفاة قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم زوجني فلانة، ولم أفرض لها صداقاً، ولم أعطها شيئاً، وإني قد أعطيتها عن صداقي سهمي بخيبر، فأخذت سهمه، فباعته بمائة ألف» (¬1). وبناء عليه: لو اتفق الزوجان بدون مهر، أو سميا ما لا يملك شرعاً كالخمر والخنزير والنجس كروث دواب، صح العقد عند الجمهور غير المالكية، ووجب للمرأة مهر المثل، بالدخول أو الموت. وقال المالكية: إن اتفق الزوجان على إسقاط المهر فهو نكاح فاسد. نكاح التفويض: قال ابن رشد وغيره (¬2): أجمع الفقهاء على أن نكاح التفويض جائز: وهو أن يعقد النكاح دون صداق، لقوله تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن، أو تفرضوا لهن فريضة} [البقرة:236/ 2]. لكن نكاح التفويض يشمل عند الجمهور حالة الاتفاق على عدم المهر، وعدم تسمية المهر، وأما عند المالكية فيقتصر على الحالة الثانية، وأما الاتفاق على إسقاط المهر فيفسد الزواج. ثانياً ـ مقدار المهر ـ التغالي في المهور: ليس للمهر حد أقصى بالاتفاق (¬3)؛ لأنه لم يرد في الشرع ما يدل على ¬
تحديده بحد أعلى، لقوله تعالى: { ... وآتيتم إحداهن قنطاراً، فلا تأخذوا منه شيئاً} [النساء:20/ 4]. تنبهت امرأة إلى هذه الآية، حينما أراد عمر بن الخطاب رضي الله عنه تحديد المهور، فنهى أن يزاد في الصداق على أربع مئة درهم، وخطب الناس فيه، فقال (¬1): لا تُغْلوا في صداق النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى في الآخرة، كان أولاكم بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ما أصدق قط امرأة من نسائه ولا بناته فوق اثنتي عشر أوقية ـ أي من الفضة (¬2) ـ فمن زاد على أربعمائة شيئاً، جعلت الزيادة في بيت المال، فقالت له امرأة من قريش بعد نزوله من على المنبر: ليس ذلك إليك يا عمر، فقال: ولم؟ قالت: لأن الله تعالى يقول: {وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً، أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً} [النساء:20/ 4] فقال عمر: امرأة أصابت، ورجل أخطأ. ورواه أبو يعلى في الكبير: فقال: اللهم غفراً، كل الناس أفقه من عمر، ثم رجع فركب المنبر فقال: أيها الناس، إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب (¬3). ولكن يسن تخفيف الصداق وعدم المغالاة في المهور، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن أعظم النكاح بركة أيسره مؤونة» (¬4) وفي رواية «إن أعظم النساء بركة أيسرهن صداقاً» وروى أبو داود وصححه الحاكم عن عقبة بن عامر حديث: «خير الصداق أيسره». ¬
أقل المهر
والحكمة من منع المغالاة في المهور واضحة وهي تيسير الزواج للشباب، حتى لا ينصرفوا عنه، فتقع مفاسد خلقية واجتماعية متعددة، وقد ورد في خطاب عمر السابق: «وإن الرجل ليغلي بصدقة امرأته حتى يكون لها عداوة في قلبه». أقل المهر: أما الحد الأدنى للمهر فمختلف فيه على آراء ثلاثة: قال الحنفية (¬1): أقل المهر عشرة دراهم، لحديث: «لا مهر أقل من عشرة دراهم» (¬2) وقياساً على نصاب السرقة: وهو ما تقطع به يد السارق فإنه عندهم دينار أو عشرة دراهم، إظهاراً لمكانة المرأة، فيقدر المهر بما له أهمية. وأما حديث «التمس ولو خاتماً من حديد» فحملوه على المهر المعجل؛ لأن العادة عندهم تعجيل بعض المهر قبل الدخول، وقد منع صلّى الله عليه وسلم علياً أن يدخل بفاطمة رضي الله عنها حتى يعطيها شيئاً، فقال: يا رسول الله، ليس لي شيء، فقال: أعطها درعك، فأعطاها درعه (¬3). وقال المالكية (¬4): أقل المهر ربع دينار، أو ثلاثة دراهم فضة خالصة من الغش، أو ما يساويها مما يقوم بها من عروض أو من كل طاهر لا نجس، متمول شرعاً من عرض أو حيوان أو عقار، منتفع به شرعاً، أي يحل الانتفاع به لا كآلة لهو، مقدور على تسليمه للزوجة، معلوم قدراً وصنفاً وأجلاً، ودليلهم أن المهر وجب في الزواج إظهاراً لكرامة المرأة ومكانتها، فلا يقل عن هذا المقدار الذي هو نصاب السرقة عندهم، مما يدل على خطره، فلو تزوج رجل امرأة بأقل من هذا المقدار، وجب لها إن دخل بها، وإن لم يدخل بها قيل له: إما أن تتم المهر أو تفسخ العقد. ¬
وقال الشافعية والحنابلة (¬1): لا حد لأقل المهر، ولا تتقدر صحة الصداق بشيء، فصح كون المهر مالاً قليلاً أو كثيراً، وضابطه: كل ما صح كونه مبيعاً أي له قيمة صح كونه صداقاً، وما لا فلا، ما لم ينته إلى حد لا يتمول، فإن عقد بما لا يتمول ولا يقابل بما يتمول كالنواة والحصاة، فسدت التسمية ووجب مهر المثل. ودليلهم: أـ قوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم} [النساء:24/ 4] فلم يقدره الشرع بشيء، فيعمل به على إطلاقه. ب ـ الحديث المتقدم: «التمس ولو خاتماً من حديد» فيدل على أن المهر يصح بكل ما يطلق عليه اسم المال. جـ ـ روى عامر بن ربيعة أن امرأة من فزارة تزوجت على نعلين، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «رضيتِ من مالك ونفسك بنعلين؟ قالت: نعم، فأجازه» (¬2) وأخرج أبو داود عن جابر موقوفاً: «لو أن رجلاً أعطى امرأة صداقاً ملء يده طعاماً، كانت له حلالاً». د ـ إن المهر حق المرأة، شرعه الله إظهاراً لمكانتها، فيكون تقديره برضا الطرفين، ولأن المهر بدل الاستمتاع بالمرأة، فكان تقدير العوض إليها كأجرة منافعها. وهذا هو الرأي الراجح لقوة دليله من القرآن والسنة، وقال أصحاب هذا الرأي: يسن أن يكون المهر من أربع مئة درهم إلى خمس مئة درهم، وألا يزيد على ¬
مهر السر ومهر العلانية
ذلك، لما روت أم حبيبة «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم تزوجها وهي بأرض الحبشة ... ولم يبعث لها رسول الله صلّى الله عليه وسلم بشيء، وكان مهر نسائه أربعمائة درهم» (¬1)، وروت عائشة: «أن صداق النبي صلّى الله عليه وسلم على أزواجه خمسمائة درهم» (¬2) والمستحب الاقتداء به عليه السلام، والتبرك بمتابعته. وإن زاد الصداق على خمسمائة درهم فلا بأس، لما روت أم حبيبة في الحديث المتقدم: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم تزوجها، وهي بأرض الحبشة، زوَّجها النجاشي، وأمهرها أربعة آلاف وجهزها من عنده، وبعث بها مع شرحبيل بن حَسَنة، فلم يبعث لها رسول الله صلّى الله عليه وسلم بشيء» ولو كره ذلك لأنكره. ويكره ترك تسمية المهر في العقد؛ لأنه قد يؤدي إلى التنازع في فرضه. ويستحب ألا ينقص عن عشرة دراهم، خروجاً من خلاف من قدر أقله بذلك. مهر السر ومهر العلانية: إن تزوجها على صداقين: صداق في السر، وصداق في العلانية، فالواجب عند الشافعية والمالكية والحنفية، ما عقد به العقد؛ لأن الصداق يجب بالعقد، فوجب ما عقد به؛ ولأن إظهار العلانية ليس بعقد، ولا يتعلق به وجوب شيء. ويؤخذ بالعلانية عند الحنابلة، وإن كان صداق السر قد انعقد به النكاح؛ لأنه إذا عقد في الظاهر عقد بعد عقد السر، فقد وجد منه بذل الزائد، على مهر السر، فيجب الزائد عليه، كما لو زادها على صداقها. ¬
اختلاف القبول عن الإيجاب
اختلاف القبول عن الإيجاب: إن قال الولي: زوجتك ابنتي بألف، وقال الزوج: قبلت نكاحها بخمسمائة، وجب مهر المثل عند الشافعية؛ لأن الزوج لم يقبل بألف، والولي لم يوجب بخمسمائة، فسقط الجميع، ووجب مهر المثل. وأخذ القانون السوري (م 54) برأي الشافعية والحنابلة. ونص المادة: 1 - لا حد لأقل المهر ولا لأكثره. 2 - كل ما صلح التزامه شرعاً صلح أن يكون مهراً. ثالثاً ـ شروط المهر أو ما يصلح أن يكون مهراً وما لا يصلح: يشترط في الصداق شروط ثلاثة (¬1): الأول ـ أن يكون مما يجوز تملكه وبيعه من العين (الذهب) والعروض ونحوها، فلا يجوز بخمر وخنزير وغيرهما مما لا يتملك. الثاني ـ أن يكون معلوماً: لأن الصداق عوض في حق معاوضة، فأشبه الثمن، فلايجوز بمجهول إلا في نكاح التفويض: وهو أن يسكت العاقدان عن تعيين الصداق حين العقد، ويفوض التعيين إلى أحدهما أو إلى غيرهما. ولا يجب عند المالكية والحنفية خلافاً للشافعي وأحمد وصف العروض. وإن وقع على غير وصف فلها الوسط. الثالث ـ أن يسلم من الغرر: فلا يجوز فيه عبد آبق ولا بعير شارد وشبههما. وزاد الحنفية شرطاً رابعاً: وهو أن يكون النكاح صحيحاً، فلا تصح التسمية ¬
ضوابط لما يصلح أن يكون مهرا وما لا يصلح
في النكاح الفاسد، فلا يلزم المسمى؛ لأن الفاسد ليس بنكاح، ويجب مهر المثل بالوطء. وبناء عليه وضع الفقهاء ضوابط لما يصلح أن يكون مهراً وما لا يصلح: فقال الحنفية (¬1): المهر: هو كل مال متقوم معلوم مقدور على تسليمه. فيصح كون المهر ذهباً أو فضاً، مضروبة أو سبيكة، أي نقداً أو حلياً ونحوه، ديناً أوعيناً، ويصح كونه فلوساً أو أوراقاً نقدية، مكيلاً أو موزوناً، حيواناً أوعقاراً، أو عروضاً تجارية كالثياب وغيرها. ـ ويصح أيضاً كونه منفعة شخص أو عين يستحق في مقابلها المال، كسكنى الدار، وزراعة الأرض، وركوب السيارة ونحوها. ـ أما الزواج على أن يعلمها القرآن أو بعضه أو بعض أحكام الدين من حلال وحرام، فلا يصح عند متقدمي الحنفية، لقوله تعالى: {أن تبتغوا بأموالكم} [النساء:24/ 4] ولأن المسمى ليس بمال؛ لأن تعليم القرآن ونحوه من الطاعات قربة إلى الله تعالى، لا يصح الاستئجار عليها عند أئمة الحنفية الثلاثة، ولايصح أن يقابل التعليم بالمال، وحينئذ لا تصح التسمية، ويجب مهر المثل؛ لأنها منفعة لا تقابل بمال. وأفتى متأخرو الحنفية بجواز أخذ الأجرة على تعليم القران وأحكام الدين، للحاجة إليه بسبب تغير الأحوال واشتغال الناس بشؤون المعيشة، فلا يتفرغ المعلم من غير أجر. وعليه يجوز جعل المهر تعليم القرآن أو أحكام الدين، ويدل له حديث سهل بن سعد، الذي جاء فيه أن النبي صلّى الله عليه وسلم زوج رجلاً بما معه من القرآن، ¬
فقال: «قد زوجتُكها بما معك من القرآن» (¬1) وفي رواية متفق عليها: «قد ملكتكها بما معك من القرآن». ـ ولا يصح كون المهر ما ليس مالاً متقوماً كأن يتزوج مسلم مسلمة على التراب أو الدم أو الخمر أو الخنزير؛ لأن الميتة والدم ليسا بمال في حق أحد، والخمر والخنزير ليسا بمال متقوم في حق المسلم، ولا يصح زواج امرأة على طلاق امرأة أخرى أو على العفو عن القصاص؛ لأن الطلاق ليس بمال، وكذا القصاص. ـ ولا يصح نكاح الشغار: وهو أن يزوج الرجل أخته لآخر، على أن يزوجه الآخر أخته، أو يزوجه ابنته، هذه التسمية فاسدة؛ لأن كل واحد منهما جعل بُضْع كل واحدة منهما مهر الأخرى، والبضع ليس بمال، ففسدت التسمية، ووجب لكل واحدة منهما مهر المثل، والنكاح صحيح عندهم. وعند الجمهور: فاسد أو باطل؛ لما روي أنه صلّى الله عليه وسلم نهى عن نكاح الشغار. والنهي يوجب فساد المنهي عنه. ووجهة الحنفية: أن هذا الزواج مؤبد، أدخل فيه شرط فاسد، حيث شرط فيه أن يكون بُضْع كل واحدة منهما مهر الأخرى، والبضع لا يصلح مهراً، والنكاح لا تبطله الشروط الفاسدة، كما إذا تزوج امرأة على أن يطلقها، وعلى أن ينقلها من منزلها ونحوه. أما النهي عن نكاح الشغار فهو الخالي عن العوض، وعندهم هو نكاح بعوض وهو مهر المثل، فلا يكون شغاراً. ـ ولو تزوج حر امرأة على أن يخدمها سنة، كرعي غنمها سنة، فالتسمية فاسدة، ولها مهر مثلها في قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن المنافع ليست بأموال متقومة عندهما، فلم تكن عندهما مضمونة بالغصب والإتلاف، وإنما يثبت لها التقوم إذا ورد العقد عليها، للضرورة، دفعاً للحاجة بها. ¬
وعند الشافعي وباقي الأئمة: التسمية صحيحة، وللمرأة خدمة سنة؛ لأن المبدأ عندهم: كل ما يجوز أخذ العوض عنه، يصح تسميته مهراً، ومنافع الحر يجوز أخذ العوض عنها؛ لأن إجارة الحر جائزة بلا خلاف فصح تسميتها، والمنافع عندهم أموال متقومة. ـ ويصح أن يتزوج الرجل امرأة على منافع الأعيان مدة معلومة، كما تقدم، مثل سكنى داره، وركوب دابته والحمل عليها، وزراعة أرضه ونحوها؛ لأن هذه المنافع أموال، أو التحقت بالأموال شرعاً في سائر العقود للحاجة. ـ ويصح الزواج على متقوم مجهول جهالة يسيرة؛ لأن المال غير مقصود في الزواج، فيتسامح فيه بما لا يتسامح في المعاوضات المالية، ولا يصح الزواج على ما هو مجهول جهالة فاحشة؛ لأنه يفضي إلى النزاع، وكل ما يفضي إلى المنازعة يفسد العقد. والفرق بين نوعي الجهالتين: أن الجهالة الفاحشة: ما كان الجنس أو النوع أو المقدار فيها مجهولاً، كأن يتزوج امرأة على حيوان أو دابة أو ثوب؛ لأن كل واحد منها جنس يدخل تحته أنواع مختلفة. أو يتزوج على قطن دون بيان نوعه، أو على دار دون بيان حجمها؛ لأن للقطن أنواعاً مختلفة، وتختلف الدارفي الصغر والكبر، والبلد والموقع، والهيئة والطريق. وأما الجهالة اليسيرة: ما كان المسمى معلوم الجنس والنوع، مجهول الصفة كطن حنطة أو قنطار قطن، دون بيان الوصف، فجهالة الوصف عند الحنفية والمالكية لا تضر؛ لأنها يسيرة، ويجب الوسط من النوع المعين أو قيمته من غير إجحاف بالزوجة أو الزوج؛ لأنه هو العدل لما فيه من مراعاة الجانبين. وقال الشافعية والحنابلة: جهالة الوصف تضر؛ لأنها تفضي إلى المنازعة كجهالة الجنس.
ضابط ما يصلح مهرا عند المالكية
ضابط ما يصلح مهراً عند المالكية: قال المالكية (¬1): المهر: هو كل متموَّل شرعاً من عَرَض أو حيوان أو عقار، طاهر لا نجس إذ لا يقع به تقويم شرعاً، منتفع به شرعاً، إذ غير المنتفع به كآلة اللهو لا يقع به تقويم، مقدور على تسليمه للزوجة، معلوم قدراً وصنفاً وأجلاً. فلا يصح كون المهر غير متمول: كقصاص وجب للزوج على زوجته، فتزوجها على تركه، فيفسخ قبل الدخول، فإن دخل وجب صداق المثل، ويرجع للدية. ومثل سمسرة كأن يتزوجها سمساراً في بيع سلعة لها. ولا يصح على ما لا يملك شرعاً كخمر وخنزير ونجس كروث دابة. ولا على غير مقدور على تسليمه كآبق، وما فيه غرر كجنين وثمرة لم يبد صلاحها على أن تبقى حتى تطيب. فإن شرط أخذها من هذا الوقت بالجداد (صِرَام النخل) جاز. ولا على مجهول كشيء أو ثوب لم يعين نوعه، أو دنانير لم يبين قدرها، أو شيء لم يبين أجل تسليمه، أو فرس من أفراسه يختاره هو لا هي؛ لاحتمال اختياره الأدنى أوالأعلى. أما إذا كان الاختيار لها، على أنها لا تختار إلا الأحسن فيجوز، إذ لا غرر. وجاز المهر الذي فيه جهالة يسيرة أو غرر يسير، لبناء الزواج على المكارمة والتسامح، كأن يتزوجها على مهر مثلها، أو على جهاز البيت المعلوم بينهم وهو ما يسمى: شَوْرة: أي متاع البيت، ويقع على الوسط، أي وسط ما يتناكح به الناس. ¬
ضابط ما يصلح مهرا عند الشافعية والحنابلة
وجاز المهر على عدد معلوم كعشرة من إبل وغنم، ويقع على الوسط، ويعتبر الوسط في السن وفي الجودة والرداءة. ولا يجوز المهر على منفعة لا يستحق في مقابلها المال، فلا تصح مهراً، كأن يتزوجها ويجعل مهرها طلاق ضَرتها، أوألا يتزوج عليها، أو ألا يخرجها من بلدها، فإن كل منفعة من هذه المنافع لا تصلح أن تكون مهراً؛ لأنها لا تقابل بمال، ولا يجوز في المشهور عندهم كالحنفية النكاح على الإجارة كالخدمة وتعليم القرآن، وقيل: يجوز وفاقاً للشافعي وابن حنبل. ضابط ما يصلح مهراً عند الشافعية والحنابلة (¬1): قالوا: كل ما صح مبيعاً صح صداقاً، أو كل ما صح ثمناً أو أجرة، صح مهراً وإن قل، وهو كل متمول سواء أكان عيناً أم ديناً، معجلاً ومؤجلاً، عملاً ومنفعة معلومة، كرعاية غنمها مدة معلومة، وخياطة ثوبها، ورد آبقها من موضع معين، وخدمة مدة معينة، وتعليم القرآن أو شيء من الشعر المباح أو الأدب، أو تعليم كتابة أو صنعة وغيرها من المنافع المباحة، لقوله تعالى حكاية عن شعيب مع موسى عليهما السلام: {إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين، على أن تأجرني ثماني حِجَج} [القصص:27/ 28] ولأن الزواج عقد على المنفعة فجاز بما ذكر كالإجارة، ولأن منفعة الحر يجوز أخذ العوض عنها في الإجارة، فجازت صداقاً، وللحديث المتقدم: «قد زوجتكها بما معك من القرآن». فإن طلقها قبل الدخول وقبل استيفاء المنفعة، فعليه نصف أجرة النفع الذي جعله صداقاً لها. ¬
والحاصل: أن المهر على أن يخدم الرجل المرأة بنفسه في البيت أو غيره لا يجوز عند الحنفية، ويجوز عند الشافعية، ويجوز عند الحنابلة لمدة معينة. ويصح أن يتزوج الرجل امرأة على عمل معلوم، كخياطة ثوب معين منه ومن غيره، فإن تلف الثوب قبل خياطته، فعليه أجرة المثل. ولا يجوز أن يكون المهر شيئاً محرَّماً والزوجان مسلمان أو المرأة كتابية، مثل الخمر والخنزير والمغصوب، وتعليم التوراة أو الإنجيل أو شيء منهما، فإن تزوج الرجل بمحرَّم، صح النكاح ووجب مهر المثل لفساد التسمية، بانتفاء كون الخمر والخنزير مالاً، وانتفاء كون المغصوب ملكاً للزوج، ولأن المذكور من التوراة أو الإنجيل منسوخ مبدل محرم، فهو كما لو أصدقها محرماً. ولا يصح كون المهر فيه غرر كالمعدوم والمجهول، ولا ما لا يتم تملكه له كالمبيع قبل القبض، ولا ما لا يقدر على تسليمه كالعبد الآبق والبعير الشارد والطير الطائر؛ لأنه عوض في عقد، فلا يجوز به كالعوض في البيع والإجارة. فإن تزوج على شيء منه لم يبطل النكاح؛ لأن فساده ليس بأكثر من عدمه أي عدم المهر، فإذا صح النكاح مع عدمه صح مع فساده، ويجب مهر المثل؛ لأنها لم ترض من غير بدل، ولم يسلم لها البدل، وتعذر رد المعوض، فوجب رد بدله، كما لو باع سلعة بمحرم وتلفت في يد المشتري. وتضر الجهالة الفاحشة بأن كانت هناك جهالة في الجنس أو النوع أو المقدار أو الصفة، فإن أصدقها داراً غير معينة، أو دابة مبهمة، أو شيئاً لم يعينه ولم يصفه، أو أصدقها مجهولاً كمتاع بيته، وما يحكم به أحد الزوجين أو ما يحكم به زيد، أو ما يثمر شجره ونحوه، لم يصح. وإن أصدقها ما لا منفعة فيه كالحشرات، أو أصدقها ما لا يقدر على تسليمه كالطير في الهواء والسمك في الماء، أو ما لا يتمول
وجوب مهر المثل عند فساد المهر
عادة كقشرة جوزة وحبة حنطة، لم يصح الإصداق للجهالة أو الغرر أو عدم التمول. وجوب مهر المثل عند فساد المهر: يتبين مما سبق أن المهر إذا فسدت تسميته يجب مهر المثل باتفاق الفقهاء، ويفسد العقد أيضاً عند المالكية ويجب فسخ الزواج إلا إذا دخل الرجل بالمرأة، فإن دخل بها وجب مهر المثل. وقال الجمهور: إذا فسد المهر لا يفسد العقد، بل يكون صحيحاً، فإن حصلت الفرقة قبل الدخول، كان لها المتعة، وإن حصلت الفرقة بعد الدخول كان لها مهر المثل؛ لأن فساد المهر ـ كما تقدم ـ لا يزيد على عدم تسميته عند العقد، فإذا صح العقد مع عدم المهر، صح بفساد المهر؛ لأن ذكره كالعدم. رابعاً ـ أنواع المهر وحالات وجوب كل نوع: المهر عند الفقهاء نوعان: مهر مسمى ومهر المثل (¬1): أما المهر المسمى: فهو ما سمي في العقد أو بعده بالتراضي، بأن اتفق عليه صراحة في العقد، أو فرض للزوجة بعده بالتراضي، أو فرضه الحاكم، لعموم قوله تعالى: {وقد فرضتم لهن فريضة، فنصف ما فرضتم} [البقرة:237/ 2]. ويعد من المهر المسمى في العقد: ما يقدمه الزوج عرفاً لزوجته قبل الزفاف أو بعده، كثياب الزفاف أو هدية الدخول أو بعده؛ لأن المعروف بين الناس كالمشروط في العقد لفظاً، ويجب إلحاقه بالعقد، ويلزم الزوج به إلا إذا شرط نفيه وقت العقد. ¬
مهر المثل
ونص المالكية (¬1) على أن ما يهدى للمرأة قبل العقد أو حال العقد، يعد من المهر، ولو لم يشترط، وكذا ما أهدي إلى وليها قبل العقد، فلو طلقت قبل الدخول، كان للزوج أن يرجع بنصف ما أهداه، أما ما أهدي إلى الولي بعد العقد فيختص به، وليس للزوجة ولا للزوج أخذه منه. وأما مهر المثل: فقد حدده الحنفية: بأنه مهر امرأة تماثل الزوجة وقت العقد من جهة أبيها، لا أمها إن لم تكن من قوم أبيها، كأختها وعمتها وبنت عمها، في بلدها وعصرها. وتكون المماثلة في الصفات المرغوبة عادة: وهي المال والجمال والسن والعقل والدين؛ لأن الصداق يختلف باختلاف البلدان، وباختلاف المال والجمال والسن والعقل والدين، فيزداد مهر المرأة لزيادة مالها وجمالها وعقلها ودينها وحداثة سنها، فلا بد من المماثلة بين المرأتين في هذه الصفات، ليكون الواجب لها مهر مثل نسائها. فإن لم يوجد من تماثلها من جهة أبيها، اعتبر مهر المثل لامرأة تماثل أسرة أبيها في المنزلة الاجتماعية. فإن لم يوجد فالقول للزوج بيمينه؛ لأنه منكر للزيادة التي تدعيها المرأة. ويشترط لثبوت مهر المثل: إخبار رجلين، وامرأتين، ولفظ الشهادة، فإن لم يوجد شهود عدول، فالقول للزوج بيمينه، لما ذكر. وحدد الحنابلة مهر المثل: بأنه معتبر بمن يساويها من جميع أقاربها، من جهة أبيها وأمها، كأختها وعمتها، وبنت عمتها، وأمها، وخالتها وغيرهن القربى ¬
حدد المالكية والشافعية مهر المثل
فالقربى، لحديث ابن مسعود السابق في المرأة المفوضة (¬1): «لها مهر نسائها» ولأن مطلق القرابة له أثر في الجملة، فإن لم يكن أقارب اعتبر شبهها بنساء بلدها، فإن عدمن اعتبر أقرب النساء شبهاً بهاً من أقرب البلاد إليها. وحدد المالكية والشافعية مهر المثل: بأنه ما يرغب به مثله ـ أي الزوج ـ في مثلها ـ أي الزوجة ـ عادة. ويعتبر مهر المثل عند الشافعية بمهر نساء العصبات، لحديث علقمة: قال: «أتي عبد الله ـ أي ابن مسعود ـ في امرأة تزوجها رجل، ثم مات عنها، ولم يفرض لها صداقاً، ولم يكن دخل بها، قال: فاختلفوا إليه، فقال: أرى لها مثل مهر نسائها، ولها الميراث، وعليها العدة، فشهد مَعْقِل بن سنان الأشجعي أن النبي صلّى الله عليه وسلم قضى في بردع بنة واشق بمثلما قضى» (¬2)، وتعتبر بالأقرب فالأقرب منهن، وأقربهن الأخوات وبنات الإخوة والعمات وبنات الأعمام، فإن لم يكن لها نساء عصبات، اعتبر بأقرب النساء إليها من الأمهات والخالات؛ لأنهن أقرب إليها، فإن لم يكن لها أقارب، اعتبر بنساء بلدها، ثم بأقرب النساء شبهاً بها. ويعتبر مهر المثل عند المالكية (¬3) بأقارب الزوجة وحالها في حسبها ومالها وجمالها، مثل مهر الأخت الشقيقة أو لأب، لا الأم ولا العمة لأم أي أخت أبيها من أمه، فلا يعتبر صداق المثل بالنسبة إليهما؛ لأنهما قد يكونان من قوم آخرين. ¬
حالات وجوب مهر المثل
وتعتبر المساواة باتفاق المذاهب كما ذكر عند الحنفية: في التدين والمال والجمال والعقل والأدب والسن والبكارة والثيوبة والبلد والنسب والحسب: وهو ما يعد من مفاخر الآباء من كرم وعلم وحلم ونجدة وصلاح وإمارة ونحوها من كل ما يختلف لأجله الصداق. وتلاحظ هذه الأوصاف في النكاح الصحيح يوم العقد، وفي النكاح الفاسد يوم الوطء؛ لأنه الوقت الذي يتقرر به صداق المثل، كوطء الشبهة، فإنه يجب صداق المثل فيه بحسب الأوصاف يوم الوطء. قال الحنابلة: وإن كانت عادة أقاربها تخفيف المهر، لوحظ التخفيف، وإن كانت عادتهم تسمية مهر كثير لا يستوفونه قط، فوجوده كعدمه. وإن كانت عادتهم التأجيل فرض مؤجلاً؛ لأنه مهر نسائها، وإن لم يكن عادتهم التأجيل فرض حالاً؛ لأنه بدل متلف، فوجب أن يكون حالاً كقيم المتلفات. فإن اختلفت عادتهن في الحلول والتأجيل، أو اختلفت مهورهن قلة وكثرة، أخذ بالوسط منها؛ لأنه العدل، وأخذ بنقد البلد الحالي، فإن تعدد فمن غالبه؛ لأنه بدل متلف، فأشبه قيمة المتلفات. حالات وجوب مهر المثل: يجب مهر المثل للزوجة في الأحوال التالية: 1 - نكاح التفويض: أن يكون العقد صحيحاً، ولكن بدون تسمية المهر، وتسمى المرأة مفوَّضة بكسر الواو أو فتحها، ففي حالة الكسر: ينسب التفويض إلى المرأة، أي فهي التي فوضت تقدير المهر إلى الزوج، وفي حالة الفتح: ينسب الفعل إلى الولي، فتكون المرأة قد فوض أمرها إلى الزوج، ويسمى العقد عقد تفويض.
الحنفية
والتفويض عند الحنفية (¬1): أن يتزوج رجل امرأة دون أن يسمي لها مهراً، فالمفوضة: هي من فوضت أمرها لوليها وزوجها بلا مهر، أو هي من فوضها وليها إلى الزوج بلا مهر، كأن يقول الرجل لولي المرأة: زوجني فلانة، فيقول: قبلت، ولا يذكران مهراً، فإن دخل بها أو مات قبل تسمية المهر وجب لها مهر المثل، وإن طلقت قبل الدخول فلا شيء لها من المهر، وإنما يجب لها المتعة اتفاقاً. والتفويض عند المالكية (¬2): عقد بلا تسمية مهر، ولا دخول على إسقاطه، ولا تفويض الصداق لحكم أحد، فإن دخل الزوجان مع الاتفاق على إسقاطه، فليس من التفويض، بل نكاح فاسد. أو هو بعبارة أخرى: أن يسكت الطرفان عن تعيين الصداق حين العقد، ويفوض التعيين إلى أحدهما، أو إلى غيرهما، ثم لا يدخل بها حتى يتعين. فإن فرضه أحدهما بعد تفويض الآخر، لزمه، ويلزم المرأة إن فرض لها صداق المثل أو أكثر، أما إن فرض لها الأقل فلا تلزم به إلا برضاها. وإن لم يرض الزوج، كان مخيراً بين أمور ثلاثة: إما أن يبذل صداق المثل، أو يرضى بفرضها، أو يطلق. فإن مات قبل الدخول وقبل الفرض، فلا صداق لها، ولها الميراث اتفاقاً. وإن طلقها قبل الدخول فلا نصف لها إلا إن كان قد فرض لها، فإن فرض لها صداق المثل أو ما رضيت به قبل الدخول تشطر المهر أي تنصف. وإن فوض الصداق لحكم أحد جاز أيضاً ويسمى نكاح تحكيم، وهو كنكاح التفويض: عقد زواج بلا تسمية مهر ولا دخول على إسقاطه. والتفويض عند الشافعية (¬3): هو كما عند الحنفية تفويض البُضْع، وهو الذي ينصرف الإطلاق إليه، وهو أن يزوج الأب ابنته المجبرة بغير صداق، أو تأذن ¬
المرأة لوليها أن يزوجها بغير صداق، سواء سكت عن المهر أوشرط نفيه، ولايصح تفويض غير رشيدة، وحكمه على الصحيح عنده أنه لا يجب لها المهر بالعقد؛ لأنه لو وجب لها المهر بالعقد، لتنصف بالطلاق، ويفرض لها ما يتفقان عليه، ومتى فرض لها المهر، صار المفروض كالمسمى في الاستقرار بالدخول والموت، والتنصف بالطلاق؛ لأنه مهر مفروض، فصار كالمفروض في العقد. وللمرأة قبل الدخول مطالبة الزوج بأن يفرض لها مهر، ويشترط رضاها بما يفرضه الزوج، ويجوز فرض مؤجل في الأصح، وفوق مهر المثل، ولو امتنع من الفرض أوتنازعا فيه فرض القاضي مهر المثل. فإن لم يفرض لها مهر حتى طلقها، لم يجب لها شيء من المهر، كما قال المالكية، لقوله عز وجل: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن، وقد فرضتم لهن فريضة، فنصف ما فرضتم} [البقرة:237/ 2] فدل على أنه إذا لم يفرض المهر لم يجب النصف. وإن لم يفرض لها حتى وطئها استقر لها مهر المثل. وإن مات الزوجان أو أحدهما قبل الفرض، وجب مهر المثل في الأظهر كما رجح النووي؛ لأن الموت كالوطء في تقرير المسمى، ولأن بَرْوَع بنت واشق نكحت بلا مهر، فمات زوجها قبل أن يفرض لها، فقضى لها رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمهر نسائها وبالميراث (¬1). والحاصل: أنه بالتفويض لا يجب شيء بنفس العقد، وإنما يجب مهر المثل بالوطء، ويتقرر مهر المثل بحال العقد في الأصح، ويشترط رضاها بما يفرضه الزوج، ولا يصح فرض أجنبي من ماله في الأصح؛ لأنه خلاف ما يقتضيه العقد، وإن طلق قبل فرض ووطء فلا شطر، أي لا تأخذ نصف المهر، لمفهوم الآية، والأظهر وجوب مهر المثل بالموت قبل فرض مهر. ¬
الحنابلة
والتفويض عند الحنابلة نوعان (¬1) كما يقول المالكية: 1 - تفويض البضع (¬2): وهو الذي ينصرف الإطلاق إليه، وهو أن يزوج الأب ابنته المجبرة بغير صداق، أو تأذن المرأة لوليها أن يزوجها بغير صداق، سواء سكت عند الصداق أم شرط نفيه، فيصح العقد، ويجب لها مهر المثل، لقوله تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة} [البقرة:237/ 2] ولقضائه صلّى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق، كما تقدم. 2 - تفويض المهر: وهو أن يتزوجها على ما شاءت، أو على ماشاء الزوج أو الولي، أو على ما شاء أجنبي غير الزوجين، أو يقول الولي: زوجتكها على ما شئنا أو على حكمنا ونحوه، فالنكاح صحيح في جميع هذه الصور، ويجب مهر المثل؛ لأنها لم تأذن في تزويجها إلا على صداق، لكنه مجهول فقط. ووجب مهر المثل في النوعين بالعقد؛ لأنها تملك المطالبة به، فكان واجباً كالمسمى، ولأنه لو لم يجب بالعقد لما استقر بالموت أو يجب بعد دخوله بها، فإن دخل الزوج بالمفوضة قبل الفرض استقر به مهر المثل. فإن تراضى الزوجان المكلفان الرشيدان على فرض المهر، لزم ما اتفق عليه، وصار حكمه حكم المسمى في العقد، قليلاً كان أو كثيراً. وإن لم يتراضيا على شيء، فرض الحاكم بقدر مهر المثل، كما قال الشافعية. وصار المفروض بالاتفاق أو بالقضاء كالمسمى في العقد، يتنصف بالطلاق قبل الدخول، ولا تجب المتعة معه، لعموم آية {وقد فرضتم لهن فريضة، فنصف ما فرضتم} [البقرة:237/ 2]. ¬
2 - الاتفاق على عدم المهر
وإن مات أحد الزوجين قبل الدخول وقبل الفرض، ورثه صاحبه، وكان للمفوضة مهر المثل. وإن فارق الزوج المفوضة قبل الدخول بطلاق أو غيره لم يكن لها إلا المتعة، لعموم قوله تعالى: {ومتعوهن على الموسع قَدَره، وعلى المقتر قَدره} [البقرة:236/ 2] والأمر يقتضي الوجوب. والخلاصة: إن نكاح التفويض يوجب مهر المثل بالاتفاق، والمتعة فقط، قبل الدخول ما لم يفرض مهر، ويستقر مهر المثل بالدخول، ويجب مهر المثل بالموت قبل الدخول وقبل فرض المهر في رأي الجمهور، وخالف المالكية فيه، فقالوا: لا يجب لها مهر بالموت. 2 - الاتفاق على عدم المهر: كأن يتزوج رجل امرأة على ألا مهر لها، فتقبل، فيجب لها مهر المثل بالدخول أو بالموت عند الجمهور غير المالكية كما تقدم؛ لأن هذا الاتفاق باطل، واشتراط نفي المهر فاسد، والشرط الفاسد لا يفسد الزواج عند الحنفية، ونفي المهر لا يفسده أيضاً عند الشافعية والحنابلة. وقال المالكية: إذا اتفق الزوجان على إسقاط المهر، فسد العقد، لكن يجب لها بالدخول مهر المثل. ولا يجب لها شيء بالطلاق أو موت أحدهما قبل الدخول. 3 - التسمية غير الصحيحة للمهر: بأن يكون المسمى غير مال أصلاً كالميتة وحبة القمح وقطرة الماء ونحوها مما لا ينتفع به أصلاً، أو ينتفع به على نحو لا يعتد به. أو يكون المسمى مالاً غير متقوم أو مشتملاً على غرر كالخمر والخنزير بالنسبة للمسلم ولو كانت الزوجة كتابية، أو على شيء معجوز التسليم، كالطير في الهواء والمعادن في باطن الأرض. أو يكون المسمى مجهولاً جهالة فاحشة: وهي التي تفضي إلى النزاع، وهي عند الحنفية كما تقدم: جهالة الجنس أو النوع.
حالة وجوب المهر المسمى، وماذا يجب في الزواج الفاسد
يجب في هذه الحالات عند الجمهور مهر بالدخول أو بالموت قبل الدخول. وقال المالكية (¬1): إذا سمي ما لا يصح مهراً، فسد العقد، ولا تستحق المرأة مهر المثل إلا بالدخول، أما إن فارقها قبل الدخول بالموت أو الطلاق، فلا يجب لها شيء كما ذكرت. حالة وجوب المهر المسمى، وماذا يجب في الزواج الفاسد: يجب المهر المسمى إذا كانت التسمية صحيحة، وكان العقد صحيحاً أيضاً، سواء أتمت التسمية في العقد أم بعده بالتراضي. فإن كان الزواج فاسداً بسبب آخر غير فساد تسمية المهر كالزواج بلا شهود وكزواج المحلل والزواج المؤقت، وجب المهر بالدخول الحقيقي، لقوله صلّى الله عليه وسلم عن عائشة: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن دخل بها، فلها المهر بما استحل من فرجها .. » (¬2). لكن ما هذا المهر الواجب؟ اختلفت الآراء الفقهية في تحديده (¬3): قال أبو حنيفة: للمرأة مهر المثل بالغاً ما بلغ؛ لأنه لا تلاحظ التسمية في حقها، فالتحقت التسمية بالعدم. وقال الصاحبان (أبو يوسف ومحمد): لها مهر مثلها لا يجاوز حصتها من المسمى، لرضاها بالمسمى. ¬
واتفق الحنفية على أن الواجب للمرأة في الوطء بشبهة أو في نكاح المتعة هو مهر المثل على ألا يزاد على المسمى، وكذا في نكاح الشغار: الواجب هو مهر المثل؛ لأن الزواج صحيح، فحكمه حكم أي زواج فسدت تسمية المهر فيه كما تقدم. والخلوة عندهم في الزواج الفاسد لا توجب الصداق. وقال المالكية: الواجب في نكاح الشغار لمن دخل بها الأكثر من المسمى وصداق المثل، ويجب صداق المثل في كل زواج فسدت تسمية المهر فيه. أما إذا فسد العقد بسب آخر غير تسمية الصداق كزواج المحلل مثلاً، فيجب للمرأة المهر المسمى بالدخول، أما الوطء بشبهة فيوجب مهر المثل. ويجب الصداق المسمى لكل واحدة من الأختين إذا دخل بهما حال الجمع بينهما. وقال الشافعية: المهر الواجب بالوطء هو مهر المثل، مهما بلغ؛ لأن الشرع جعل المهر للمرأة في الزواج الباطل بسبب الوطء، لا بسبب العقد، والوطء يوجب مهر المثل، ولأنه إذا فسدت التسمية لا يلتفت إليها، ويرجع إلى مهر المثل. وقال الحنابلة: المهر الواجب في النكاح الفاسد بالدخول أو بالخلوة: هو المهر المسمى، لما وقع في بعض ألفاظ حديث عائشة المتقدم: «ولها الذي أعطاها بما أصاب منها» (¬1)، ولأن النكاح مع فساده ينعقد ويترتب عليه أكثر أحكام الصحيح، من وقوع الطلاق ولزوم عدة الوفاة بعد الموت ونحوهما، فلزم المسمى فيه كالصحيح. أما الوطء بشبهة فيوجب مهر المثل. والخلاصة: يجب المهر للمنكوحة نكاحاً صحيحاً والموطوءة في نكاح فاسد، والموطوءة بشبهة، بغير خلاف، ويجب للمكرهة على الزنا، إلا أن الواجب في فساد الزواج عند المالكية والحنابلة: هو المسمى، وعند أبي حنيفة والشافعية هو مهر ¬
خامسا ـ صاحب الحق في المهر
المثل، وعند الصاحبين: الأقل من المسمى ومهر المثل، واتفق الفقهاء على أن الوطء بشبهة يوجب مهر المثل؛ لأن الوطء في دار الإسلام لا يخلو عن حد أو مهر. وقال الحنفية (¬1): الوطء في دار الإسلام لا يخلو عن حد أو مهر إلا في مسألتين: الأولى ـ الصبي المراهق إذا تزوج امرأة بلا إذن وليه، ودخل بها، فرد أبوه نكاحها، فلا يجب على الصبي حد ولا عُقْر (مهر)، أما الحد فلأنه في حال الصبا، وأما المهر (العُقْر) فلأنها إنما زوجت نفسها منه مع علمها أن نكاحه لا ينفذ، فقد رضيت ببطلان حقها. الثانية: من باع أمته، ووطئها قبل التسليم إلى المشتري، فلا حد عليه ولا مهر؛ لأنه من شبهة المحل، لكونها في ضمانه ويده، إذ لو هلكت عادت إلى ملكه، والخراج بالضمان (الغنم بالغرم) فلو وجب عليه المهر استحقه. خامساً ـ صاحب الحق في المهر: هناك حقوق ثلاثة في حالة الابتداء تتعلق بالمهر، وحق واحد يتعلق بالمهر حالة البقاء. والمقصود بالابتداء: ابتداء عقد الزواج، وبالبقاء: بقاء أو استمرار الزواج. أما الحقوق المتعلقة بالمهر حالة الابتداء: فهي حق الله وحق الزوجة وحق الأولياء. ¬
حق الله تعالى
أما حق الله تعالى: فهو وجوب المهر أثراً للعقد، بحيث لا يخلو عنه، ولا يقل عن عشرة دراهم عند الحنفية، وربع دينار أو ثلاثة دراهم عند المالكية، ولا حد لأقله عند الشافعية والحنابلة، فلو انعقد الزواج بدون مهر وجب مهر المثل بحكم الشرع بالدخول. وإن لم يدخل بها، كان مخيراً عند المالكية بين إتمام المهر وبين الفسخ، فإن فسخ وجب للمرأة نصف المسمى. وأما حق الزوجة: فهو ثبوت ملكها للمهر بالقبض، وألا يقل عن مهر مثلها، فلو زوجها بأقل من مهر مثلها وكانت رشيدة عند الحنفية، وغير مجبرة عند المالكية، فلها حق الاعتراض على هذا الزواج ويبطل تزويج الأب البنت البكر بدون مهر المثل. أما المجبرة أو عديمة الأهلية أو ناقصتها كالصغيرة والمجنونة: فإن كان المزوج لها الأب فليس لها الاعتراض عند المالكية والحنابلة؛ لأن للأب تزويج ابنته البكر بدون صداق مثلها وإن كان المزوج لها غير الأب من الأولياء، فلا يزوجها إلا بمهر المثل. وأثبت الشافعية للمرأة مطلقاً حق الاعتراض إن زوجها وليها بأقل من مهر المثل (¬1). وأما حق الأولياء: فهو عند أبي حنيفة ألا يقل المهر عن مهر المثل، فلو زوجت البكر البالغة العاقلة نفسها بأقل من مهر مثلها، كان لوليها العاصب عنده أن يعترض على هذا العقد ويطلب فسخه؛ لأن الأولياء يعيرون بأقل من مهر المثل، ورضا المرأة بإسقاط حقها لا يسقط حق وليها، فإن أتم الزوج مهر مثلها، لزم العقد وسقط حق الفسخ. وأما ما يتعلق بالمهر حالة البقاء: فهو حق المرأة، فيكون ملكاً خالصاً لها لا ¬
اشتراط الولي شيئا من المهر لنفسه
يشاركها فيه أحد، فلها أن تتصرف فيه، كما تتصرف في سائر أموالها متى كانت أهلاً للتصرف، فلها حق إبراء الزوج منه أو هبته له. اشتراط الولي شيئاً من المهر لنفسه: بناء عليه، قال الشافعية (¬1): لو نكح رجل امرأة بألف، على أن لأبيها ألفاً أو أن يعطيه الزوج ألفاً، فالمذهب فساد الصداق في الصورتين؛ لأنه جعل بعض ما التزمه في مقابل البضع لغير الزوجة، ووجوب مهر المثل فيهما لفساد المسمى. ولكن الحنابلة (¬2) قالوا: يجوز لأبي المرأة الذي يصح تملكه دون سواه أن يشترط شيئاً من صداق ابنته لنفسه؛ لأن شعيباً زوَّج موسى على نبينا وعليهما الصلاة والسلام ابنته على رعاية غنمه، واشتراط ذلك لنفسه، ولأن للوالد الأخذ من مال ولده، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «أنت ومالك لأبيك» ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن أطيب ماأكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم» (¬3). ويكون الأخذ أخذاً من مالها، فإذا تزوجها على ألف لها وألف لأبيها صح الاتفاق، وكان الكل مهرها، ولا يملكه الأب إلا بالقبض مع النية لتملكه، كسائر مالها، وشرطه ألا يجحف بمال البنت. فإن طلقها قبل الدخول رجع عليها بنصف الألفين، ولم يكن على الأب شيء مما أخذه من مال إن قبضه بنية التملك؛ لأنه أخذه من مال ابنته، فلا رجوع عليه بشيء منه كسائر مالها. وإن طلقها الزوج قبل قبض الصداق المسمى، سقط عن الزوج نصف المسمى، ويبقى النصف للزوجة، يأخذ الأب من النصف الباقي لها ما شاء بشرط ألا يجحف بمال البنت. ¬
سادسا ـ تعجيل المهر وتأجيله
وإن فعل ذلك أي اشتراط الصداق أو بعضه غير الأب كالجد والأخ والأب الذي لا يصح تملكه، صحت التسمية ولغا الشرط، والكل لها؛ لأن جميع ما اشترطه عوض في تزويجها، فيكون صداقاً لها، كما لو جعله لها. سادساً ـ تعجيل المهر وتأجيله: أجاز الفقهاء تأجيل المهر، فقال الحنفية (¬1): يصح كون المهر معجلاً أو مؤجلاً كله أو بعضه إلى أجل قريب أو بعيد أو أقرب الأجلين: الطلاق أو الوفاة، عملاً بالعرف والعادة في كل البلدان الإسلامية، ولكن بشرط ألا يشتمل التأجيل على جهالة فاحشة، بأن قال: تزوجتك على ألف إلى وقت الميسرة، أو هبوب الرياح، أوإلى أن تمطر السماء، فلا يصح التأجيل، لتفاحش الجهالة. وإذا اتفق صراحة على تقسيط المهر، عمل به؛ لأن الاتفاق من قبيل الصريح، والعرف من قبيل الدلالة، والصريح أقوى من الدلالة. وإذا لم يتفق على تعجيل المهر أو تأجيله، عمل بعرف البلد؛ لأن المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً. وإذا لم يكن هناك عرف بالتعجيل أو التأجيل، استحق المهر حالاً؛ لأن حكم المسكوت حكم المعجل؛ لأن الأصل أن المهر يجب بتمام العقد، لأنه أثر من آثاره، فإذا لم يؤجل صراحة أو عرفاً عمل بالأصل؛ لأن هذا عقد معاوضة، فيقتضي المساواة من الجانبين. وأجاز الشافعية والحنابلة (¬2) تأجيل المهر كله أو بعضه لأجل معلوم؛ لأنه ¬
يشترط لجوزا التأجيل
عوض في معاوضة. فإن أطلق ذكره اقتضى الحلول، وإن أجل لأجل مجهول كقدوم زيد ومجيء المطر ونحوه لم يصح؛ لأنه مجهول، وإن أجل ولم يذكر الأجل، فالمهر عند الحنابلة صحيح ومحله الفرقة أو الموت، وعند الشافعية: المهر فاسد ولها مهر المثل. وفصّل المالكية (¬1) في حكم التأجيل فقالوا: إن كان المهر معينا حاضراً في البلد كالدار والثوب والحيوان، وجب تسليمه للمرأة أو وليها يوم العقد، ولا يجوز تأخيره في العقد، ولو رضيت بالتأخير، فإن اشترط التأجيل في العقد، فسد العقد، إلا إذا كان الأجل قريباً كاليومين والخمسة. ويجوز للمرأة التأجيل من غير شرط، ويكون تعجيله من حقها. وإن كان المهر العين غائباً عن بلد العقد، صح النكاح إن أجل قبضه بأجل قريب بحيث لا يتغير فيه غالباً، وإلا فسد النكاح. وإن كان المهر غير معين كالنقود والمكيل والموزون غير المعين، فيجوز تأجيله كله أو بعضه، ويجوز التأجيل إلى الدخول إن علم وقته كالحصاد أو الصيف أو قطاف الثمر، والتأجيل إلى الميسرة إذا كان الزوج غنياً، بأن كان له سلعة ينتظر قبض ثمنها، أو له أجر في وظيفة، فإن كان فقيراً لم يصح العقد، ويجوز التأجيل إلى أن تطلبه المرأة منه، فهو كتأجيله للميسرة. وعليه يشترط لجوزا التأجيل شرطان: الأول - أن يكون الأجل معلوما ً: فإن كان مجهولاً كالتأجيل للموت أو الفراق فسد العقد، ووجب فسخه، إلا إذا دخل الرجل بالمرأة، فيجب حينئذٍ مهر المثل. الثاني - ألا يكون الأجل بعيداً جداً كخمسين سنة فأكثر، لأنه مظنة إسقاط الصداق، والدخول على إسقاط الصداق مفسد للزواج. وأخذ القانون السوري بمذهب الحنفية، فنص على ما يلي: (م 55): يجوز تعجيل المهر أو تأجيله كلاً أو بعضاً، وعند عدم النص يتبع العرف. (م 56): التأجيل في المهر ينصرف إلى حين البينونة أو الوفاة، ما لم ينص في العقد على أجل آخر. حكم إعسار الزوج بالمهر: إذا عجز الزوج عن دفع معجل المهر، لم يكن للزوجة عند الحنفية وفي الأصح عند الحنابلة (¬2) الحق في طلب فسخ الزواج بأي حال، سواء أكان ذلك قبل الدخول أم بعده، وإنما لها الحق في منع نفسها من الزوج، وعدم التقيد بإذنه في الخروج لزيارة أهلها، والسفر معه، ونحوهما. وقال المالكية والشافعية (¬3): للزوجة الحق في طلب الفسخ حينئذ، والصحيح عند الشافعية أن لها فسخ الزواج قبل الدخول وبعده، وعند المالكية قبل الدخول لا بعده. وذكر الحنفية (¬4) أنه إن اشترط تأجيل المهر كله مدة معينة كسنة، فإن اشترط الزوج الدخول قبل حلول الأجل، فليس للزوجة الحق في الامتناع، وإن لم ¬
ضمان الولي المهر
يشترط الدخول، فليس لها الامتناع أيضاً عند أبي حنيفة؛ لأنها لما رضيت بتأجيل المهر كله، كان ذلك رضا منها بإسقاط حقها في تعجيل المهر. وقال أيو بوسف: للزوجة أن تمنع نفسها حتى يحل أجل تسليم المهر؛ لأن الزوج رضي بإسقاط حقه بالاستمتاع. والفتوى استحساناً على هذا القول. ضمان الولي المهر: يرى الحنفية (¬1) أنه إذا ضمن ولي الزوجة أو وكيلها المهر لها، صح ضمانه؛ لأنه من أهل الالتزام، والولي والوكيل في النكاح سفير ومعبر، ولذا ترجع حقوق العقد إلى الأصيل، وللمرأة الخيار في مطالبة زوجها أو وليها، كسائر الكفالات. ويرج الولي إذا أدى على الزوج إن كان الضمان بأمره، كما هو المقرر في الكفالة. سابعاً ـ قبض المهر وما يترتب عليه: قبض المهر حق خالص للزوجة كما بينا، فلها أن تمنع نفسها حتى تقبض مهرها المعجل كله، على الخلاف والتفصل الآتي: قال الحنفية (¬2): للمرأة قبل دخول الزوج بها أن تمنع الزوج عن الدخول أو عن الانتقال إلى بيته حتى يعطيها جميع المهر المعجل بأن تزوجها على صداق عاجل، أو كان مسكوتاً عن التعجيل والتأجيل؛ لأن حكم المسكوت حكم المعجل، ثم تسلم نفسها إلى زوجها، وإن كانت قد انتقلت إلى بيت زوجها؛ لأن المهر عوض عن بُضْعها، كالثمن عوض عن المبيع، وللبائع حق حبس المبيع لاستيفاء الثمن، فكان للمرأة حق حبس نفسها لاستيفاء المهر. وإن استوفت معجل المهر بتمامه سقط حقها في منع نفسها منه. أما إذا دخل الزوج بها أو خلا بها، برضاها، وهي مكلفة (بالغة عاقلة) فلها أيضاً في رأي أبي حنيفة أن تمنع نفسها من الاستمتاع بها حتى تأخذ المهر، ولها أن تمنعه أن يخرجها من بلدها؛ لأن المهر مقابل بجميع ما يستوفى من منافع البُضْع في جميع أنواع الاستمتاع التي توجد في هذا الملك. ويكون رضاها بالدخول أو بالخلوة قبل قبض معجل مهرها إسقاطاً لحقها في منع نفسها في الماضي، وليس لحقها في المستقبل. وهذا هو الراجح عند الحنفية، فللمرأة منع نفسها من الوطء ودواعيه، ومن السفر بها، ولو بعد وطء وخلوة رضيتهما؛ لأن كل وطأة معقود عليها، فتسليم البعض لا يوجب تسليم الباقي. وفي رأي الصاحبين: ليس لها أن تمنع نفسها، لأنها بالوطء مرة واحدة أو بالخلوة الصحيحة، سلمت جميع المعقود عليه برضاها، وهي من أهل التسليم، فبطل حقها في المنع، كالبائع إذا سلم المبيع، فرضاها بالوطء إسقاط لحقها في طلب المهر قبل الدخول، فيسقط حقها في الامتناع، فإذا امتنعت كانت ناشزة، فيسقط حقها في النفقة. ووافق المالكية (¬3) الصاحبين، فقالوا: للمرأة ولو كانت معيبة بعيب رضي به منع نفسها من الدخول ومن الاختلاء بها ومن السفر مع زوجها قبل الدخول حتى يسلم لها زوجها المهر المعين أو الصداق المعجل، أو المؤجل الذي حل أجل تسليمه. أما إن سلمت نفسها له قبل القبض بعد الوطء أو التمكين منه، فليس لها منع نفسها بعدئذ من وطء ولا سفر معه، سواء أكان موسراً أم معسراً، وإنما لها المطالبة به فقط ورفعه للحاكم كالمدين. ¬
ووافق الحنابلة والشافعية (¬1) أيضاً رأي الصاحبين، أما الحنابلة فوافقوا في الدخول والخلوة، وأما الشافعية فوافقوا في الدخول. قال الشافعية: للمرأة ولو كانت مفوضة حبس نفسها لتقبض المهر المعين والحالّ، لا المؤجل (¬2)، فلو حل الأجل قبل تسليم نفسها للزوج، فلا حبس في الأصح، لوجوب تسليمها نفسها قبل الحلول، فلا يرتفع الوجوب لحلول الحق. ولو بادرت الزوجة فمكنت الزوج من نفسها، طالبته بالمهر؛ لأنها بذلت ما في وسعها، فإن لم يطأ، أي ولو خلا بها، جاز لها الامتناع من تمكينه حتى يسلم المهر؛ لأن القبض في النكاح بالوطء دون التسليم. وإن وطئها بتمكينها منه مختارة مكلفة، ولو في الدبر، فلا يحق لها الامتناع، كما لو تبرع البائع بتسليم المبيع، ليس له استرداده ليحبسه. أما إذا وطئت مكرهة أو غير مكلفة لصغر أو جنون فلها الامتناع، لعدم الاعتداد بتسليمها. وإن بادر الزوج، فسلَّم المهر، وجب على الزوجة تسليم نفسها، فإن امتنعت الزوجة من تمكين زوجها بلا عذر منها، لم يسترد المهر منها على الراجح؛ لأنه تبرع بالمبادرة، فكان كتعجيل الدين المؤجل، لا يسترد. وعبارة الحنابلة: للمرأة منع نفسها قبل الدخول حتى تقبض مهرها الحالّ كله أو الحالّ منه، ولها المطالبة بحالّ مهرها ولو لم تصلح للاستمتاع لصغر أو نحوه. فإن وطئها الزوج مكرهة قبل دفع الحالّ من صداقها، لم يسقط به حقها من الامتناع، كما قال الشافعية؛ لأن وطأها مكرهة كعدمه. ¬
قابض المهر
وإذا جاز لها منع نفسها فلها السفر بغير إذنه، ولها النفقة زمن المنع إن صلحت للاستمتاع، ولو كان معسراً بالصداق؛ لأن الحبس من قبله. وإن كان الصداق مؤجلاً، لم تملك منع نفسها حتى تقبضه؛ لأنها لا تملك الطلب به. ولو حلّ المهر قبل الدخول، فليس لها منع نفسها، كما قال الشافعية؛ لأن التسليم قد وجب عليها، فاستقر قبل قبضه، فلم يكن لها أن تمتنع منه. وإن تبرعت الزوجة بتسليم نفسها، ثم أرادت الامتناع بعد دخول أو خلوة، لم تملكه؛ لأن التسليم استقر به العوض برضا المسلِّم. فإن امتنعت بعد أن سلمت نفسها، فلا نفقة لها؛ لأنها ناشز. وبحث الشافعية والحنابلة مسألة مهمة: هي أنه لو أبى كل من الزوجين التسليم الواجب عليه، فقال كل منهما: لا أسلم حتى تسلِّم، فالأظهر عند الشافعية أنهما يجبران، فيؤمر الزوج بوضع المهر عند عدل ـ شخص ثالث محايد ـ وتؤمر الزوجة بالتمكين، فإذا سلمت أعطاها العدل المهر، لمافيه من فصل الخصومة. وقال الحنابلة: يجبر الزوج على تسليم الصداق، ثم تجبر الزوجة على تسليم نفسها؛ لأن في إجبارها على تسليم نفسها أولاً خطر إتلاف البضع (محل المتعة). والخلاصة: اتفق الفقهاء على أحقية المرأة بمنع نفسها قبل الدخول حتى تقبض مهرها المعجل، وليس لها الحق بالنسبة للمؤجل. واختلفوا على رأيين في منع نفسها بعد الدخول، فقال أبو حنيفة: لها الحق بالمنع، وقال الجمهور: ليس لها الحق. والخلوة أو التمكين من الوطء كالوطء عند غير الشافعية. قابض المهر: المرأة الرشيدة هي التي تقبض المهر وتتصرف فيه، لكن أقرت
التصرف في المهر
الشريعة عملاً بالعرف والعادة للولي إذا كان أباً أو جداً قبل المهر، ويكون قبضه نافذاً عليها، إلا إذا منعته من القبض. ونص القانون السوري (م 60) عليه: ينفذ على البكر ولو كانت كاملة الأهلية قبض وليها لمهرها إن كان أباً أو جداً عصبياً، ما لم تنه الزوج عن الدفع إليه. ثم عدلت هذه المادة سنة (1975) على النحو التالي: المهر حق للزوجة ولا تبرأ ذمة الزوج منه إلا بدفعه إليها بالذات، إن كانت كاملة الأهلية، ما لم توكل في وثيقة العقد وكيلاً خاصاً بقبضه. فإن كانت المرأة غير رشيدة كالصغيرة والمحجور عليها لسفه أو جنون أو غفلة، فولي مالها يتولى قبض المهر، وولي المال عند الحنفية أحد الستة: الأب ثم وصيه، ثم الجد ثم وصيه، ثم القاضي ثم وصيه. وقال المالكية (¬1): ولي الزوجة المجبر (وهو الأب ووصيه): هو الذي يتولى قبض المهر، فإن لم يكن لها ولي مجبر وكانت رشيدة، فهي التي تتولى قبض مهرها، أو يقبضه لها بتوكيل منها. وإن كانت سفيهة تولى ولي مالها قبض مهرها، فإن لم يكن لها ولي فالقاضي أو نائبه يقبض مهرها. والظاهر عند الشافعية والحنابلة: أن المرأة الرشيدة هي التي تقبض مهرها؛ فإن كانت غير رشيدة قبض وليها المهر بالنيابة عنها. التصرف في المهر: اتفق الفقهاء على أن للمرأة الرشيدة أن تتصرف في مهرها بما تشاء بيعاً أو هبة ونحوهما، وتصرفها نافذ؛ لأن المهر ملكها فتتصرف فيه كما تتصرف في سائر أملاكها. ¬
ثامنا ـ الزيادة أو الحط من المهر
ثامناً ـ الزيادة أو الحط من المهر: قد تحدث زيادة في المهر أو حط منه بعد العقد، والمقصود ب الزيادة في المهر: أن يضاف إليه شيء بعد تمام العقد. وأما النقص أوالحط من المهر: فهو إنقاص جزء من المهر أو إسقاط كله بعد تمام العقد. أما الزيادة في المهر: فقال الحنفية (¬1): إذا زاد الزوج الرشيد أو ولي الصغير (الأب أو الجد) على المهر المسمى شيئاً بعد تمام العقد وتراضي الطرفين على المهر، لزمت الزيادة بالوطء أو بالموت عن الزوجة، وتصبح جزءاً من أصل المهر، وتتأكد بالدخول أو الموت، وتتنصف عند الجمهور غير الحنفية بالطلاق قبل الدخول كأصل المهر، وتبطل بموت الزوج أو تفليسه قبل قبضها عند المالكية؛ لأنها كالهبة، والهبة تبطل بالموت والإفلاس قبل القبض. ولا تلزم هذه الزيادة إلا بالشروط الآتية التي أبانها الحنفية وهي أربعة: 1ً - أن يكون الزوج رشيداً: لأن الزيادة على المسمى تبرع، فلا تصح إلا من أهل التبرع. 2ً - أن تكون الزيادة معلومة: فلو كانت مجهولة بأن قال: زدت، في مهرك، ولم يعين شيئاً، لم تصح الزيادة للجهالة. 3ً - أن تأتي الزيادة في حال بقاء الزوجية حقيقة أي أثناء الزواج، أوحكماً أي أثناء العدة من الطلاق الرجعي. وتصح الزيادة أيضاً في رواية عن أبي حنيفة ¬
الحط من المهر والإبراء عنه
بعد موت الزوجة، أو بعد الطلاق البائن وانقضاء العدة في الطلاق الرجعي، والظاهر عدم صحة هذه الزيادة. 4ً - قبول الزوجة أو قبول ولي الصغيرة أو المجنونة في المجلس الذي حدثت فيه؛ لأن هذه الزيادة هبة، فلا بد لها من القبول في مجلس الإيجاب. ويتفق رأي الحنابلة مع رأي الحنفية في أن الزيادة في الصداق بعد العقد تلحق به. وقال الشافعي: لا تلحق الزيادة بالعقد، فإن زادها فهي هبة تفتقر إلى شروط الهبة، وإن طلقها بعد هبتها لم يرجع بشيء من الزيادة؛ لأن الزوج ملك البضع بالمسمى في العقد، فلم يحصل بالزيادة شيء من المعقود عليه، فلا تكون عوضاً في النكاح، كما لو وهبها شيئاً (¬1). واستدل الحنابلة بقوله تعالى: {ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة} [النساء:24/ 4] ولأن ما بعد العقد زمن لفرض المهر، فكان حالة الزيادة كحالة العقد، وبهذا فارق الزواج البيع والإجارة. وأما الحط من المهر والإبراء عنه: فرأي الحنفية (¬2): أنه يصح للزوجة الرشيدة غير المريضة مرض الموت دون أبيها الحط من المهر كله أوبعضه عن الزوج بعد تمام العقد، سواء قبل أم لا، لكنه يرتد بالرد. أما أبوها فلا يصح الحط منه إذا كانت صغيرة، ويتوقف الحط على إجازتها إن كانت كبيرة، ولا بد من رضاها. لكن فرق الحنفية بين الإبراء والهبة في الحط من المهر، فقالوا: الإبراء لا ¬
يكون إلا في دين ثابت في الذمة كالنقود، والمكيلات والموزونات غير المتعينة؛ لأن الديون تتعلق بالذمة، والتنازل عنها يكون بالإبراء. ولا يشترط لصحته قبول الزواج، وإنما يكفي عدم الرد كهبة الدين ممن عليه الدين، فقد يردُّ الإبراء دفعاً للمنة؛ لأن الحط من المهر ليس تمليكاً على وجه الهبة الصريحة، وإنما هو إسقاط وإبراء للزوج. أما إذا ورد الإبراء على عين، فلا يسقط شيء من المهر، بل يصير أمانة في يد الزوج، ويسقط عنه الضمان إذا هلك؛ لأن الإبراء ليس من الألفاظ الصريحة في تمليك الأعيان، فيحمل على نفي الضمان. لكن إذا قصدت الزوجة بالإبراء إعفاء الزوج مما عليه كله أو بعضه، ففي الوقت الحاضر الذي لا يميز فيه الناس بين المصطلحات الفقهية يمكن جعل الإبراء تمليكاً، ويكون حكمه حكم الهبة. وأما الهبة: فتصح سواء أكان المهر ديناً، أم عيناً كالدار المعينة والحيوان أو الثوب المعين، وسواء قبل القبض أم بعده. ولا بد حينئذ من قبول الزوج في المجلس، ولا يكتفى بسكوته عن القبول أو الرد. ورأى المالكية (¬1): أنه إذا وهبت المرأة لزوجها جميع صداقها قبل الدخول لم يرجع عليها بشيء. وذهب الشافعية (¬2) إلى أنه ليس للولي عفو عن صداق موليته، على الجديد، كسائر ديونها، إذ لم يبق للولي بعد العقد عُقدة، أي كلام. وإذا أبرأت المرأة زوجها من المهر، ثم طلقها قبل الدخول، لم يرجع عليها بشيء على المذهب، كما قال الشافعية في الهبة؛ لأنها لم تأخذ منه مالاً، ولم تتحصل منه على شيء، وهو ¬
تاسعا ـ أحوال وجوب المهر
بخلاف هبة العين، فإنها لو وهبت زوجها المهر المعين كدار معينة أو حيوان معين، رجع عليها بنصف الصداق إذا طلقها قبل الدخول. وقرر الحنابلة (¬1): أنه لا عفو لأب وغيره عن مهر محجورة؛ لأن الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج. وإذا عفت المرأة لصاحبها عن مهرها، وهي جائزة التصرف، برئ منه، سواء بلفظ عفو أو بلفظ إسقاط، وصدقة، وترك، وإبراء لمن العين في يده. ولو أبرأت مفوضة زوجها، ثم طلقت قبل الدخول، رجع بنصف مهر المثل. وأخذ القانون السوري بمذهب الحنفية في جواز الزيادة والنقصان من المهر، إذا حدثت الزيادة من الزوج والحط من الزوجة إذا كان كل منهما كامل الأهلية، ويعد ذلك برضا الطرفين ملحقاً بأصل العقد. نصت المادة (57) على ما ذكر بقولها: «للزوج الزيادة في المهر بعد العقد، وللمرأة الحط منه إذا كانا كاملي أهلية التصرف، ويلحق ذلك بأصل العقد إذا قبل الآخر». ثم عدلت هذه المادة سنة (1975) على النحو التالي: «لا يعتد بأي زيادة أو إنقاص من المهر، أو إبراء منه إذا وقعت أثناء قيام الزوجية، أوفي عدة الطلاق، وتعتبر باطلة ما لم تجر أمام القاضي، ويلتحق أي من هذه التصرفات الجارية أمام القاضي بأصل العقد إذا قبل به الزوج الآخر». تاسعاً ـ أحوال وجوب المهر وتأكده وتنصيفه وسقوطه: وجوب المهر: اتفق الفقهاء (¬2) على أن المهر يجب بنفس العقد إن كان الزواج ¬
تأكد المهر
صحيحاً، والواجب هو المسمى إن كانت التسمية صحيحة، ومهر المثل إن لم تكن هناك تسمية، أو كانت التسمية فاسدة، أو كان هناك اتفاق على نفي المهر. وعبر الجمهور غير الحنفية عنه بقولهم: تملك المرأة المسمى بالعقد إن كان صحيحاً، إلا أن المالكية رأوا أنه على المذهب تملك النصف بالعقد. وإذا كان عقد الزواج فاسداً، أو الوطء بشبهة كالمزفوفة إليه امرأة غير زوجته، وقال له النساء: إنها زوجتك، وجب المهر أي مهر المثل بالدخول الحقيقي أي الوطء، وجوباً مؤكداً لا يسقط إلا بالأداء أو الإبراء. تأكد المهر: اتفق الفقهاء على أنه يتأكد وجوب المهر في العقد الصحيح بالدخول أو الموت، سواء أكان المهر مسمى أم مهر المثل، حتى لا يسقط شيء بعدئذ إلا بالإبراء من صاحب الحق. واختلفوا في تأكده بأمرين: الخلوة الصحيحة، وإقامة الزوجة سنة بعد الزفاف بلا وطء. قال الحنفية والحنابلة: يتأكد المهر أيضاً بالخلوة الصحيحة، وخالفهم المالكية والشافعية فيه. وقال المالكية خلافاً لغيرهم وهم الجمهور: يتقرر أي يثبت ويتحقق المهر بإقامة الزوجة سنة بعد الزفاف بلا وطء. وأضاف الحنابلة أن المهر يتأكد أيضاً بطلاق الفرار قبل الدخول في مرض الموت (¬1). ¬
- الدخول الحقيقي
وتوضيح الكلام في كل واحد من هذه الأسباب فيما يأتي: 1ً - الدخول الحقيقي: هو الوطء أو الاتصال الجنسي ولو كان حراماً في القبل أو في الدبر بتغييب حشفة أو قدرها من مقطوعها، أو في حالة الحيض أو النفاس أو الإحرام أو الصوم أو الاعتكاف. يتأكد به وجوب المهر أو يستقر على الزوج، لاستيفاء مقابله، فإن الزوج استوفى حقه بالدخول، فيتقرر حق الزوجة في المهر جميعه، سواء أكان مسمى في العقد، أم فرض بعده بالتراضي أو بقضاء القاضي، ولقوله عز وجل: {وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض} [النساء:21/ 4] وفسر الإفضاء بالجماع. ويترتب على استقرار المهر بالدخول: أنه لا يسقط شيء منه بعدئذ إلا بالأداء لصاحبه، أو بالإبراء من صاحب الحق. 2ً - موت أحد الزوجين قبل الدخول في نكاح صحيح بالاتفاق، وقبل الخلوة الصحيحة عند الحنفية والحنابلة. فإذا مات أحد الزوجين قبل الوطء في نكاح صحيح، استحقت المرأة المهر كله باتفاق الفقهاء إذا كان النكاح نكاح تسمية، أي كان المهر مسمى في العقد؛ لأن العقد لا ينفسخ بالموت، وإنما ينتهي به، لانتهاء أمده وهو العمر، فتتقرر جميع أحكامه بانتهائه، ومنها المهر. ولإجماع الصحابة على استقرار المهر بالموت. أما في نكاح التفويض، أي النكاح الذي لم يسم فيه المهر، ومات بعده أحد الزوجين فلا شيء فيه عند المالكية، قياساً للموت على الطلاق، والطلاق قبل الدخول والخلوة وقبل تسمية المهر، لا شيء فيه، فمثله الموت. وقال الجمهور في الأظهر عند الشافعية: يجب فيه مهر المثل، للحديث السابق وهو أن ابن مسعود قضى في امرأة لم يفرض لها زوجها صداقاً، ولم
هل القتل مثل الموت؟
يدخل بها حتى مات، فقال: لها صداق مثلها، ولا وَكْس ولا شطط، وعليها العدة ولها الميراث، فقال مَعْقِل بن سنان: «قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم في بَرْوع بنت واشق مثل ماقضيت» (¬1)، ولأنه عقد مدته العمر، فبموت أحدهما ينتهي، فيستقر به العوض، كانتهاء الإجارة، ومتى استقر لم يسقط منه شيء بانفساخ النكاح ولا غيره. ولأن الموت يكمل به المهر المسمى، فيكمل به مهر المثل للمفوضة كالدخول. وهذا الرأي هو الراجح، لقوة أدلته، وعلق الشافعي في الأم القول به على صحة الحديث. وفرق بين الموت والطلاق؛ لأن الموت ينتهي به عقد الزواج، أما الطلاق فيقطع الزواج قبل إتمامه، لذا وجبت العدة بالموت قبل الدخول، ولم تجب بالطلاق، وكمل المسمى بالموت، ولم يكمل بالطلاق. وهل القتل مثل الموت؟ إذا حدث القتل من أجنبي لأحد الزوجين، أو قتل أحد الزوجين الآخر، أو قتل أحدهما نفسه، فهو كالموت، يستقر به المهر؛ لأن النكاح قد بلغ غايته، فقام الموت مقام استيفاء المنفعة. وخالف الشافعي وزفر من الحنفية فيما إذا قتلت الزوجة نفسها عمداً، فقالا: لا تستحق شيئاً من المهر؛ لأن قتلها نفسها يشبه ارتدادها عن الإسلام، وبالردة يسقط حقها من المهر. وأجيب عنه من قبل الجمهور بأن قياس الانتحار على الردة غير صحيح؛ لأن المهر في حال الردة لا يتعلق به حق لغير الزوجة، فيجوز أن يسقط بفعلها، أما في حالة القتل، فإن المهر يتعلق به حق الورثة، فلا يجوز أن يسقط بفعل من جانبها. ¬
هل تستحق الزوجة المهر بقتل زوجها عمدا قبل الدخول والخلوة أو يسقط؟
وهل تستحق الزوجة المهر بقتل زوجها عمداً قبل الدخول والخلوة أو يسقط؟ للفقهاء رأيان: قال الحنابلة والحنفية ما عدا زفر: لا يسقط حقها في المهر، بل يتأكد بالقتل كل المهر؛ لأن جزاء القتل العمد شرعاً هو القصاص، ولم يرد دليل بسقوط المهر بهذا القتل. وقال المالكية والشافعية وزفر: يسقط مهرها بالقتل؛ لأن قتل زوجها جناية، والجنايات لا تؤكد الحقوق، ولأنها بهذه الجناية أنهت الزواج بمعصية، وإنهاء الزواج بمعصية من الزوجة قبل الدخول يسقط المهر كله، كإسقاطه بالردة، ولم يتعلق بالمهر حق لأحد، وهذا هو الراجح لقوة دليله. 3ً - الخلوة الصحيحة: احتراز عن الخلوة الفاسدة، والصحيحة هي: أن يجتمع الزوجان بعد العقد الصحيح في مكان يتمكنان فيه من التمتع الكامل، بحيث يأمنان دخول أحد عليهما، وليس بأحدهما مانع طبيعي أو حسي أو شرعي يمنع من الاستمتاع (¬1) عملاً بما روي عن الخلفاء الراشدين وزيد وابن عمر، روى أحمد والأثرم بإسنادهما عن زرارة بن أوفى قال: «قضى الخلفاء الراشدون المهديون أن من أغلق باباً أو أرخى ستراً، فقد أوجب المهر، ووجبت العدة». والمانع الطبيعي: وجود شخص ثالث عاقل صغير أو كبير، والمانع الحسي: وجود مرض بأحدهما يمنع الوطء، ومنه الرتق (التلاحم)، والقَرَن (العظم) والعَفَل (غدة). والمانع الشرعي: كأن يكون أحدهما صائماً في رمضان، أو محرماً بحج أو عمرة فرض أو نفل. ¬
- إقامة الزوجة سنة في بيت الزوج بعد الزفاف بلا وطء
ويتأكد المهر كله للزوجة عند الحنفية والحنابلة: بالخلوة الصحيحة بشروطها المذكورة، فلو طلق الرجل زوجته، وجب لها بالخلوة ولو لم يحصل وطء المسمى كاملاً إن كانت التسمية صحيحة، ومهر المثل كاملاً إن لم تكن هناك تسمية أو كانت التسمية فاسدة. وقال المالكية، والشافعية في الجديد: لا يتأكد وجوب المهر بالخلوة وحدها، بدون وطء، فلو خلا الزوج بزوجته خلوة صحيحة، ثم طلقها قبل الدخول بها، وجب نصف المسمى، والمتعة إن لم يكن المهر مسمى. وسأذكر في المطلب التالي أدلة الرأيين بمشيئة الله تعالى. 4ً - إقامة الزوجة سنة في بيت الزوج بعد الزفاف بلا وطء: يتقرر المهر أيضاً عند المالكية إذا تزوج رجل امرأة، وزفت إليه، وأقامت عنده سنة، بلا وطء، بشرط إطاقتها، وبلوغه، واتفاقهما على عدم الوطء؛ لأن الإقامة المذكورة تقوم مقام الوقاع أو الوطء. ولا يتأكد المهر بها عند الشافعية. ويتقرر المهر بمجرد الخلوة الصحيحة كما تقدم عند الحنفية والحنابلة. 5ً - طلاق الفرار في مرض الموت قبل الدخول: يتقرر المهر كاملاً أيضاً عند الحنابلة بطلاق المرأة في مرض موت الزوج المخوف قبل دخوله بها إذا طلقها فراراً من ميراثها، ثم مات، فيتقرر عليه الصداق كاملاً بالموت، لوجوب عدة الوفاة عليها في هذه الحالة، ما لم تتزوج أو ترتد. والخلاصة: يتأكد المهر عند الحنفية بأحد أسباب ثلاثة: الدخول والخلوة الصحيحة، وموت أحد الزوجين. وعند المالكية بأحد أسباب ثلاثة: هي
تنصيف المهر
الدخول، أي الوطء لمطيقة من بالغ وإن حرم، وموت أحد الزوجين، وإقامة سنة بعد الدخول بلا وطء بشرط بلوغه وإطاقتها. وعند الشافعية: يستقر المهر بأحد أمرين: الوطء وإن حرم، وموت أحد الزوجين،، لا بخلوة في الجديد. وعند الحنابلة: يتقرر المهر بأحد أمور أربعة: الدخول، والخلوة والموت أو القتل، والطلاق في مرض موت الزوج قبل الدخول بالزوجة. تنصيف المهر: اتفق الفقهاء (¬1) على وجوب نصف المهر للزوجة بالفرقة قبل الدخول، سواء عند الشافعية والحنابلة أكانت الفرقة طلاقاً أم فسخاً، إذا كان المهر مسمى حين العقد، وكانت التسمية صحيحة والفرقة جاءت من قبل الزوج. من أمثلة الفسخ: الفرقة بسبب الإيلاء أو اللعان، أو بسبب ردة الزوج، أو إباء الزوج اعتناق الإسلام بعد إسلام زوجته. ودليلهم قوله تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن، وقد فرضتم لهن فريضة، فنصف ما فرضتم} [البقرة:237/ 2] وهذا في الطلاق، وباقي أنواع الفرق مقيس عليه؛ لأنه في معناه. فإن لم يسم المهر في العقد أصلاً كالمفوضة، أو اتفق الزوجان على الزواج بدون مهر، أو كانت التسمية غير صحيحة، وحصلت الفرقة بتراضي الزوجين أو بحكم القاضي وكانت الفرقة قبل الدخول، وقبل الخلوة عند الحنفية والحنابلة، لم يجب للزوجة شيء من المهر، وإنما تجب لها المتعة؛ لأن النص القرآني السابق إنما ¬
اختلف الفقهاء في مسألتين حول التنصيف قبل الدخول
ورد بتنصيف أو تشطير المسمى، ووجوب المتعة لقوله تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء، ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة، ومتعوهن} [البقرة:236/ 2] وباقي الفرق مقيس على الطلاق؛ لأنه في معناه. وقال المالكية: إن فسخ النكاح أو رده الزوج بعيب في الزوجة قبل الدخول، لم يجب لها شيء. واختلف هل يجب إذا ردته هي بعيب في الزوج. وقال الحنفية: الفرقة بغير طلاق قبل الدخول والخلوة تسقط المهر كما سأبين. واختلف الفقهاء في مسألتين حول التنصيف قبل الدخول: مسألة تنصيف المفروض بعد العقد، ومسألة الزيادة في المهر بعد العقد. أما المسألة الأولى ـ وهي إذا لم يذكر المهر حين العقد، وإنما فرض بعده بالتراضي أو بقضاء القاضي. فقال الحنفية: لا يتنصف المفروض من المهر بعد العقد، لاختصاص التنصيف بالمفروض في العقد بالنص القرآني المتقدم، بل تجب المتعة فقط للمرأة، فلو حدثت الفرقة قبل الدخول والخلوة، وجب لها المتعة فقط. وقال الجمهور: يتنصف المفروض بعد العقد كالمسمى في العقد، فلو حصلت الفرقة قبل الدخول. وقبل الخلوة عند الحنابلة، كان للمرأة نصف المفروض لا المتعة. وأما المسألة الثانية ـ وهي الزيادة الحادثة من الزوج بعد العقد على المهر المسمى. فقال الحنفية: تسقط هذه الزيادة عن الزوج، ولا تتنصف قبل الدخول والخلوة.
سقوط المهر كله
وقال الجمهور: لا تسقط هذه الزيادة عن الزوج وتتنصف كالمسمى في العقد. والحاصل: أن الذي يتنصف عند الحنفية هوالمسمى في العقد، لا المفروض بعده ولا مازيد على المفروض بعد العقد، والجمهور على خلافهم في المسألتين. ومنشأ الاختلاف: تفسير المراد من قوله تعالى: {فنصف ما فرضتم} [البقرة:237/ 2]: فرأى الحنفية: أن المقصود منه المفروض وقت العقد، لا غير، عملاً بالمتعارف بين الناس: وهو إطلاق المفروض على المسمى وقت العقد. ورأى الجمهور: أن المقصود منه المفروض مطلقاً، عملاً بمقتضى اللغة؛ لأن الفرض هو التقدير، وهو يشمل كل ما قدر، سواء أكان وقت العقد أم بعده. وهذا هو الراجح؛ لأن كلاً من المفروض وقت العقد أو بعده يسمى مفروضاً في العرف، كما هو مقتضى اللغة. سقوط المهر كله: ذكر الحنفية أنه يسقط المهر كله عن الزوج بأحد أربعة أسباب (¬1): 1ً - الفرقة بغير طلاق قبل الدخول بالمرأة وقبل الخلوة بها: كل فرقة حصلت بغير طلاق قبل الدخول وقبل الخلوة: تسقط جميع المهر، سواء أكان من قبل المرأة أم من قبل الزوج، كأن ارتدت المرأة عن الإسلام، أو أبت الإسلام وأسلم زوجها، أو اختارت فسخ الزواج لعيب في الزوج. ومثله إذا فسخ ولي المرأة الزواج لعدم كفاءة الزوج، ففي هذه الأحوال التي يتم بها فسخ الزواج قبل الدخول يسقط جميع المهر؛ لأن الفرقة بغير طلاق تكون فسخاً للعقد، وفسخ ¬
العقد قبل الدخول يوجب سقوط كل المهر؛ لأن فسخ العقد رفعه من الأصل، وجعله كأنه يكن. وقال المالكية (¬1): إن فسخ الزوج النكاح أو رده بعيب في الزوجة قبل الدخول، لم يجب لها شيء، فهم يوافقون الحنفية به، ولا شيء لها أيضاً في نكاح التفويض عنده إذا مات الزوج أو طلق قبل الدخول. وفصَّل الشافعية والحنابلة (¬2) بين ما إذا كانت الفرقة بسبب من الزوجة، وبين ما إذا كانت بسبب من غيرها، فقالوا: الفرقة الحاصلة من جهة الزوجة قبل الدخول بها تسقط المهر المسمى والمفروض ومهر المثل، كإسلامها بنفسها، أو بالتبعية كإسلام أحد أبويها، أو فسخ الزوج بعيب في الزوجة، أوردتها أوإرضاعها زوجة للزوج صغيرة. وأما الفرقة الحاصلة قبل الدخول لا بسبب الزوجة كطلاق وخلع ولو باختيارها كأن فوض الطلاق إليها فطلقت نفسها، أو علق الطلاق بفعلها ففعلت، أو أسلم الزوج أو ارتد أو لاعن أو أرضعت أمه زوجته أو أرضعت أمها له وهو صغير، فلا تسقط المهر، وإنما تشطره، فيثبت لها نصف المهر. أما في حالة الطلاق فلآية: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} [البقرة:237/ 2] وأما الباقي فبالقياس عليه. 2ً - الخلع على المهر قبل الدخول أو بعده: إذا خالع الرجل امرأته على مهرها، سقط المهر كله، فإن كان المهر غير مقبوض، سقط عن الزوج، وإن كان مقبوضاً ردته على الزوج. وإن خالعها على مال سوى المهر يلزمها المال، ويبرأ ¬
الزوج عن كل حق وجب لها عليه بالعقد كالمهر والنفقة الماضية في قول أبي حنيفة؛ لأن في الخلع ـ وإن كان طلاقاً بعوض ـ معنى البراءة. 3ً - الإبراء عن كل المهر قبل الدخول أو بعده: يسقط به المهر إذا كانت المرأة من أهل التبرع، وكان المهر ديناً في الذمة: وهو النقود وجميع المكيلات والموزونات إذا لم تكن متعينة مقصودة لذاتها؛ لأن الإبراء إسقاط، والإسقاط ممن هو أهل له في محل قابل له يوجب السقوط. 4ً - هبة الزوجة كل المهر للزوج: متى كانت أهلاً للتبرع، وقبل الزوج الهبة في المجلس، سواء أكانت الهبة قبل القبض أم بعده. وتختلف الهبة عن الإبراء: في أنها ترد على الدين والعين، أي الثابت في الذمة كالنقود، أو الذي يتعين بالتعيين كثوب أو حيوان معين. أما الإبراء فلا يرد إلا على الدين. وكذلك يسقط المهر بالهبة عند المالكية، لكنهم قالوا: إذا وهبت المرأة لزوجها جميع صداقها، ثم طلقها قبل الدخول، لم يرجع عليها بشيء. فإن أراد الدخول بها، وجب لها أقل المهر وهو ربع دينار أو قيمته، أما إن وهبته بعد الدخول فلا يلزمه شيء؛ لأن حقها في المهر قد تقرر بالدخول ثم أسقطته بالهبة (¬1). وقال الشافعية على الصحيح: إن كان المهر عيناً كفرس معينة، ثم وهبته من الزوج، ثم طلقها قبل الدخول، فيرجع عليها بالنصف؛ لأنه عاد إليه بغير الطلاق، فلم يسقط حقه من النصف بالطلاق، كما لو وهبته لأجنبي، ثم وهبه الأجنبي منه (¬2). ¬
سقوط نصف المهر
وقال الحنابلة (¬1): إذا أبرأت المرأة الزوج من صداقها، أو وهبته له، ثم طلقها قبل الدخول، رجع الزوج عليها بنصفه؛ لأن عود نصف الصداق إلى الزوج بالطلاق، وهو غير الجهة المستحق بها الصداق أولاً، فهو كما لو أبرأ إنساناً من دين عليه، ثم استحق عليه مثل ما أبرأه منه بوجه آخر، فلا يتساقطان بذلك. وإن أبرأته من نصف الصداق، أو وهبته نصف الصداق، ثم طلقها الزوج قبل الدخول، رجع في النصف الباقي؛ لأنه وجد نصف ما أصدقها بعينه، فأشبه ما لو لم تهبه له. وإن قبضت المرأة صداقها، ثم طلقها الزوج قبل الدخول، رجع بنصف عينه إن كان باقياً بحاله، لقوله تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن، وقد فرضتم لهن فريضة، فنصف ما فرضتم} [البقرة:237/ 2]. ولو جعل الزوج الخيار لامرأته منه، فاختارت نفسها قبل الدخول، فلا مهر لها؛ لأن الفرقة تمت بفعلها، وإن جعل لها بغير سؤالها وطلبها، لم يسقط الصداق باختيارها نفسها قبل الدخول، بل يتنصف؛ لأنها نائبة عنه، ففعلها كفعله. سقوط نصف المهر: قال الحنفية (¬2): ما يسقط به نصف المهر نوعان: النوع الأول ـ الطلاق قبل الدخول في نكاح فيه تسمية المهر، والمهر دين لم يقبض بعد، للآية المتقدمة: {فنصف ما فرضتم} [البقرة:237/ 2] أوجب سبحانه وتعالى نصف المفروض. ¬
عاشرا ـ تبعة ضمان المهر وحكم هلاكه واستهلاكه واستحقاقه وتعييبه وزيادته
النوع الثاني ـ ما يسقط به نصف المهر معنى، والكل صورة: وهو كل طلاق تجب فيه المتعة: وهو كل فرقة جاءت من جهة الزوج قبل الدخول في نكاح لا تسمية فيه. كما سأبين في بحث المتعة. عاشراً ـ تبعة ضمان المهر وحكم هلاكه واستهلاكه واستحقاقه وتعييبه وزيادته: اتفق الفقهاء على أن تبعة ضمان المهر إذا هلك تكون على من بيده المهر، فإذا هلك قبل القبض ضمنه الزوج، وإذا هلك بعد القبض أو استهلكته المرأة، ضمنته هي: فإن هلك المهر في يد الزوج، بآفة سماوية، ضمن الزوج عند الحنفية والمالكية مثله أو قيمته. وإن هلك بفعل الزوجة وهو في يد زوجها، أو بآفة سماوية بعد القبض، أصبحت مستوفية له بهذا الهلاك. وإذا هلك بفعل أجنبي، فالمرأة بالخيار بين تضمين الأجنبي وبين تضمين الزوج، ثم يرجع الزوج على الأجنبي بما ضمن. وإن استحق المهر بأن تبين أنه ليس ملكاً للزوج، فالزوج ضامن له؛ لأنه بالاستحقاق تبين أنه ملك غيره، فترجع بمثله إن كان مثلياً، وبقيمته إن كان قيمياً يوم عقد النكاح. وإن اطلعت الزوجة على عيب قديم فيه، كان لها الخيار بين إمساكه أو رده والرجوع بمثله في المثلي، وبقيمته في القيمي يوم الزواج.
ذكر الحنفية
وذكر الحنفية (¬1): أن المرأة إذا قبضت المهر، فإن كان دراهم أو دنانير معينة أو غير معينة، أو كان مكيلاً أو موزوناً في الذمة، ثم طلقها قبل الدخول بها، فعليها رد نصف المقبوض، وليس عليها رد عين ما قبضت؛ لأن عين المقبوض لم يكن واجباً بالعقد، فلا يكون واجباً بالفسخ. وإن حدث تعيب أو نقصان فاحش في المهر: أـ فإن كان بفعل أجنبي قبل القبض، فالمرأة بالخيار إن شاءت أخذت الشيء الناقص، واتبعت الجاني بالأرش (التعويض عنه) وإن شاءت تركت وأخذت من الزوج قيمة الشيء يوم العقد، ثم يرجع الزوج على الأجنبي بضمان النقصان وهو الأرش. ب ـ وإن كان النقصان بآفة سماوية: فالمرأة بالخيار إن شاءت أخذته ناقصاً ولا شيء لها غيره، وإن شاءت تركته وأخذت قيمته يوم العقد؛ لأن المهر مضمون على الزوج بالعقد، والأوصاف لا تضمن بالعقد لعدم ورود العقد عليها موصوفاً، فلا تضمن في حقها، وإنما يضمن الأصل لورود العقد عليه. وإنما ثبت لها الخيار لتغير المعقود عليه وهو المهر عما كان عليه. جـ ـ وإن كان النقصان بفعل الزوج: ففي ظاهر الرواية إن شاءت أخذته ناقصاً، وأخذت معه أرش النقصان، وإن شاءت أخذت قيمته يوم العقد. د ـ وإن كان النقصان بفعل المرأة: فقد صارت قابضة بالجناية على الشيء، فجعل كأن النقصان حصل في يدها، كالمشتري إذا جنى على المبيع في يد البائع، إنه يصير قابضاً له. ¬
ذكر المالكية
هذا في النقصان الفاحش، وأما في النقصان اليسير فلا خيار لها. وذكر المالكية (¬1): أنه إن تلف الصداق، وكان مما يُغَاب عليه (أي يمكن إخفاؤه ويتطلب الحراسة) ولم تقم على هلاكه بينة، فيضمنه الذي بيده، فيغرم نصفه لصاحبه إن حدث طلاق قبل الدخول. وإن لم تقم بينة على هلاكه، فتلف وكان مما لا يُغاب عليه (لا يمكن إخفاؤه) كالبساتين والزرع والحيوان، وطلق الرجل قبل الدخول، فلا رجوع لكل منهما على الآخر، ويحلف من هو بيده أنه ما فرط إن اتهم. وكذا إن هلك الصداق بعد العقد، كأن مات أو حرق أو سرق أو تلف من غير تفريط أحد من الزوجين، وثبت هلاكه ببينة أو بإقرارهما عليه، سواء أكان مما يغاب عليه أم لا، وسواء أكان بيد الزوج أم الزوجة أم غيرهما، لا رجوع لأحدهما على الآخر. والحاصل: أن الصداق إن تلف في يد أحد الزوجين: فإن كان مما لا يغاب عليه فخسارته على الزوجين، وأما ما يغاب عليه فخسارته على من هو في يده إن لم تقم بينة على هلاكه. فإن قامت بينة على هلاكه، فخسارته عليهما. وإن استحق المهر من يد الزوجة: فترجع بمثل المثلي، وقيمة القيمي، يوم عقد النكاح. وإن اطلعت على عيب قديم في المهر، فلها الخيار بين إمساكه أو رده والرجوع بمثله أو قيمته. ¬
فصل الشافعية
وإن استحق بعض المهر أو تعيب بعضه: فإن كان فيه ضرر بأن كان أزيد من الثلث، كان لها أن ترد الباقي وتأخذ من الزوج قيمته، أو تحسب ما بقي، وترجع بقيمة ما استحق. وأما إن كان المستحق منه الثلث أو الشيء التافه الذي لا ضرر فهي، فترجع بقيمة ما استحق فقط. وفصّل الشافعية القول (¬1): إن كان الصداق عيناً كدار معينة أو ثوب أو حيوان معين فتلف في يد الزوج قبل القبض، ضمنه ضمان عقد لا ضمان يد؛ لأنه مملوك بعقد معاوضة، فأشبه المبيع في يد البائع، والفرق بين ضماني العقد واليد في الصداق: أنه على الأول يضمن بمهر المثل، وعلى الثاني يضمن بالبدل الشرعي: وهو المثل إن كان مثلياً، والقيمة إن كان قيمياً. وعلى الأول: ليس للمرأة بيعه قبل قبضه كالمبيع، وعلى الثاني يجوز بيعه. وتصح الإقالة على الأول دون الثاني. لهذا .. لو تلف الشيء المعين في يد الزوج بآفة سماوية، وجب مهر المثل على الأول لانفساخ عقد الصداق، ولا ينفسخ على الثاني. وإن أتلفت الزوجة المهر، فتعد قابضة إذا كانت أهلاً؛ لأنه أتلفت حقها، وإن كانت غير رشيدة فلا تعد قابضة؛ لأن قبضها غير معتدّ به. وإن أتلفه أجنبي، تخيرت الزوجة على المذهب بين فسخ الصداق وإبقائه، فإن فسخت الصداق أخذت من الزوج مهر المثل، وإن لم تفسخه غَرَّمت المتلف المثل أوا لقيمة. وإن أتلفه الزوج فهو كتلفه بآفة سماوية، يوجب مهر المثل. ¬
قرر الحنابلة
وإن تعيَّب الصداق المعين قبل قبضه بآفة سماوية كالعمى أو قطع يد، تخيرت الزوجة على المذهب بين فسخ الصداق وإبقائه، كما تقدم. وإن قبضت المرأة الصداق، فوجدت به عيباً، فردته، أو خرج مستحقاً، رجعت على الزوج في المذهب الجديد بمهر المثل. وإن كان الصداق تعليم الزوج لها سورة من القرآن، فتعلمت من غيره، أو لم تتعلم لسوء حفظها، فهو كالصداق المعين إذا تلف، فترجع إلى مهر المثل على الجديد. والمنافع الفائتة في يد الزوج لا يضمنها، وكذا المنافع التي استوفاها بركوب الدابة التي أصدقها، ولبس الثوب الذي أصدقه، لا يضمنها على المذهب. وإن طلبت الزوجة من الزوج تسليم المهر، فامتنع منه، ضمن ضمان العقد. وإن طلق الرجل والمهر تالف بعد قبضه، فعليها نصف بدله له من مثل أو قيمة. وإن تعيب في يدها، فإن قنِع بالنصف معيباً، فلا أرش له، كما لو تعيب المبيع في يد البائع، وإن لم يقنع به: فإن كان قيمياً فعليها نصف قيمته، وإن كان مثلياً فعليها مثل نصفه؛ لأنه لا يلزمه الرضا بالمعيب، فله العدول إلى بدله. وإن تعيب بآفة سماوية قبل قبضها له، وقنعت به، فله نصفه ناقصاً بلا أرش ولا خيار. وإن تعيب بفعل أجنبي ضمنت جنايته وأخذت أرشها، والأصح أن له نصف الأرش مع نصف عين المهر. وقرر الحنابلة (¬1): أنه إن أخذت المرأة الصداق، فوجدته معيباً، فلها منع نفسها من الزفاف حتى يبدله، أو يعطيها أرشه؛ لأن صداقها صحيح. ¬
زيادة المهر
وإن سلمت نفسه ثم بان الصداق معيباً، كان لها أيضاً منع نفسها عن الاستمتاع حتى تقبض بدله أو أرشه؛ لأنها إنما سلمت نفسها ظناً منها أنها قبضت صداقها، فتبين عدمه. وإن كان الصداق مكيلاً أو موزوناً، فنقص في يد الزوج قبل تسليمه إليها، أو كان غير المكيل والموزون، فمنعها أن تتسلمه فالنقص عليه؛ لأنه من ضمانه. وأما زيادة المهر: ففيها تفصيل عند الفقهاء، أما رأي الحنفية (¬1) فهو ما يأتي: 1ً - إن كانت الزيادة متولدة من الأصل كالولد والصوف والثمر والزرع، أو في حكم المتولد كالأرش (عوض الجراحة) فهي مهر، سواء أكانت متصلة بالأصل كالسمن والكبر والجمال، أم منفصلة عنه كالولد ونحوه. فلو طلقها قبل الدخول بها يتنصف الأصل والزيادة جميعاً بالاتفاق؛ لأن الزيادة تابعة للأصل، لكونها نماء الأصل، والأرش بدل جزء هو مهر، فيقوم مقامه. 2ً - وأما إن كانت الزيادة غير متولدة من الأصل: فإن كانت متصلة بالأصل كالثوب إذا صبغ، والأرض إذا بني فيها بناء، فإنها تمنع التنصيف، وعليها نصف قيمة الأصل؛ لأن هذه الزيادة ليست بمهر؛ لأنها لم تتولد من المهر، فلا تكون مهراً، فلا تتنصف، ولا يمكن تنصيف الأصل بدون تنصيف الزيادة. وإن كانت منفصلة عن الأصل كالهبة والكسب، فالزيادة ليست بمهر وهي ¬
كلها للمرأة في قول أبي حنيفة ولا تتنصف، ويتنصف الأصل؛ لأن هذه الزيادة ليست بمهر، وإنما هي مال المرأة، فأشبهت سائر أموالها. وعند الصاحبين: هي مهر، فتتنصف مع الأصل؛ لأن هذه الزيادة تملك بملك الأصل، فكانت تابعة للأصل، فتتنصف مع الأصل، كالزيادة المتولدة من الأصل كالسمن والولد. هذا إذا كان المهر في يد الزوج، فحدثت فيه الزيادة. أما إذا كان المهر في يد المرأة قبل الفرقة: فإن كانت الزيادة متصلة متولدة من الأصل، فإنها تمنع التنصيف في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وللزوج عليها نصف القيمة يوم سلمه إليها؛ لأن هذه الزيادة لم تكن موجودة عند العقد، ولا عند القبض؛ فلا يكون لها حكم المهر، فلا يمكن فسخ العقد عليها بالطلاق قبل الدخول؛ لأن الفسخ إنما يرد على ما ورد عليه العقد. وقال محمد: لا تمنع التنصيف، ويتنصف الأصل مع الزيادة، لظاهر آية {فنصف ما فرضتم} [البقرة:237/ 2] وليس نصف قيمة المفروض. وإن كانت الزيادة منفصلة متولدة من الأصل، فإنها تمنع التنصيف باتفاق أئمة الحنفية الثلاثة، وعليها نصف قيمة الأصل إلى الزوج. وإن كانت الزيادة منفصلة غير متولدة من الأصل، فهي للمرأة خاصة، والأصل بينهما نصفان اتفاقاً. وإن حدثت الزيادة بعد الطلاق قبل القبض: فالأصل والزيادة بينهما نصفان.
قال المالكية
وإن حدثت بعد القبض وبعد القضاء بالنصف للزوج: فكالحالة السابقة هما بينهما نصفان. وإن كانت الزيادة قبل القضاء بالنصف للزوج: فالمهر في يدها كالمقبوض بعقد فاسد، تكون الزيادة لها؛ لأن الملك كان لها، وقد فسخ ملكها في النصف بالطلاق. وقال المالكية (¬1): ما حدث في الصداق من زيادة ونقصان قبل الدخول: فالزيادة للزوجين، والنقصان عليهما، وهما شريكان في ذلك. ومعنى هذا أن الزيادة بعد الدخول للمرأة. ورأى الشافعية (¬2): أن للمرأة زيادة منفصلة حدثت بعد الإصداق، كثمرة وولد وأجرة؛ لأنها حدثت في ملكها. ولها الخيار في زيادة متصلة، كسِمَن وتعلم حرفة، فإن لم تسمح بها، فعليها نصف قيمة المهر، بأن يقوَّم بغير زيادة، ويعطى الزوج نصفه، وإن سمحت بها لزمه قبول الزيادة، وليس له طلب بدل النصف؛ لأن حقه مع زيادة لا تتميز، ولا تفرد بالتصرف، بل هي تابعة، فلا تعظم فيها المنة. وإن زاد المهر ونقص: كطول نخلة بحيث يؤدّي إلى هرمها وقلة ثمرها: فإن اتفق الزوجان على الرجوع بنصف العين، فذاك؛ لأن الحق لا يعدوهما، وإلا فنصف قيمة العين خالية عن الزيادة والنقص؛ لأنه العدل، ولا تجبر هي على دفع نصف العين، للزيادة، ولا هو على قبوله للنقص. وذهب الحنابلة (¬3): إلى أنه يدخل المهر في ملك المرأة بمجرد العقد، فإن زاد فالزيادة لها، وإن نقص فعليها. وإذا كان المهر غنماً فولدت، فالأولاد زيادة ¬
منفصلة، تكون لها؛ لأنه نماء ملكها، ويرجع قبل الدخول في نصف الأمهات، إن لم تكن نقصت ولا زادت زيادة متصلة؛ لأنه نصف ما فرض لها، وقد قال تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن، وقد فرضتم لهن فريضة، فنصف ما فرضتم} [البقرة:237/ 2]. وإن نقصت الأغنام بالولادة أوبغيرها، فله الخيار بين أخذ نصفها ناقصاً؛ لأنه راض بدون حقه، وبين أخذ نصف قيمتها وقت ما أصدقها؛ لأن ضمان النقص عليها. وهذا موافق للشافعي. وقال أبو حنيفة كما تقدم: لا يرجع في نصف الأصل، وإنما يرجع في نصف القيمة؛ لأنه لا يجوز فسخ العقد في الأصل دون النماء؛ لأنه موجب العقد، فلم يجز رجوعه في الأصل بدونه. واستدل الحنابلة: بأن هذا نماء منفصل عن الصداق، فلم يمنع رجوع الزوج، كما لو انفصل قبل القبض. وردوا على دليل أبي حنيفة بأن الطلاق ليس برفع للعقد، ولا النماء من موجبات العقد، إنما هو من موجبات الملك، فلا فرق بين كون الولادة قبل تسليم المهر إلى الزوجة أو بعده، إلا أن يكون قد منعها قبضه، فيكون النقص من ضمانه، والزيادة لها، فتنفرد بالأولاد. وإن نقصت الأمهات خيِّرت المرأة بين أخذ نصفها ناقصة، وبين أخذ نصف قيمتها أكثر ما كانت من يوم أصدقها إلى يوم طلقها. وإن أراد الزوج أخذ نصف قيمة الأمهات من المرأة، لم يكن له الأخذ. وإن كان الصداق بهيمة غير حامل (حائلاً)، فحملت، فالحمل فيها زيادة متصلة، إن بذلتها له بزيادتها لزمه قبولها، وليس الحمل معدوداً نقصاً، فلا يرد به المبيع. وإن اتفقا على تنصيفها جاز.
حادي عشر ـ الاختلاف في المهر
وإن أصدقها حاملاً، فولدت فقد أصدقها شيئين: الأم وولدها، وزاد الولد في ملكها، فإن طلقها فرضيت ببذل النصف من الأم والولد جميعاً، أجبر على قبولهما؛ لأنها زيادة غير متميزة، وإن لم تبذله، لم يجز له الرجوع في نصف الولد لزيادته، ولا في نصف الأم لما فيه من التفرقة بين الأم وبين ولدها، ويرجع بنصف قيمة الأم. وفي نصف الولد وجهان: أحدهما ـ لا يستحق نصف قيمته، والثاني ـ له نصف قيمته. وإذا أصدقها أرضاً، فبنتها داراً، أو ثوباً فصبغته، ثم طلقها قبل الدخول، رجع بنصف قيمته وقت ما أصدقها إلا أن يشاء أن يعطيها نصف قيمة البناء أو الصبغ، فيكون له النصف، أو تشاء هي أن تعطيه زائداً فلا يكون له غيره. وإذا أصدقها نخلاً غير مثمر، فأثمرت في يده، فالثمرة لها؛ لأنها نماء ملكها. حادي عشر ـ الاختلاف في المهر: الاختلاف في المهر له أحوال ثلاثة: اختلاف في تسمية المهر، واختلاف في مقدار المهر أو جنسه أو نوعه أو صفته، واختلاف في قبض المهر (¬1). الحالة الأولى ـ الاختلاف في تسمية المهر وعدم تسميته: اختلفت آراء الفقهاء في كيفية فصل النزاع في هذا الموضوع، بأن ادعى أحد ¬
الزوجين أو الورثة تسمية المهر، وأنكر الآخر، فقال الأول: سُمي المهر، وقال الآخر: لم نسم مهراً. قال الحنفية: إذا كان الاختلاف في حال حياة الزوجين، حلف منكر التسمية، عملاً بالقاعدة المقررة: (البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر). فإن نكل عن اليمين ثبتت التسمية، وإن حلف يجب مهر المثل باتفاق أئمة الحنفية، فإن كان الاختلاف بعد الطلاق قبل الدخول تجب المتعة باتفاقهم أيضاً. وكذلك إن وقع الاختلاف بعد موت أحد الزوجين، فهو كالاختلاف في حال حياة الزوجين، فمن كان القول له لو كان حياً يكون القول لورثته، فيحكم بالمسمى إن ثبت، وبمهر المثل إن لم يثبت. وقال المالكية: إن أقام المدعي البينة على ما يدعيه قضي له بما ادعى، وإن لم يقم البينة، كان القول قول من يشهد له العرف في التسمية وعدمها مع يمينه، فإن ادعى الزوج أنه تزوج المرأة تفويضاً بدون تسمية عند معتادي التفويض، وادعت هي التسمية، فالقول له بيمينه، ولو بعد الدخول أو الموت أو الطلاق، فيلزمه أن يفرض لها صداق المثل بعد الدخول، ولا شيء عليه في الطلاق أو الموت قبل الدخول. فإن كان المعتاد هو التسمية فالقول قول المرأة بيمينها، وثبت النكاح. وقال الحنابلة: إن اختلف الزوجان أو ورثتهما أو أحدهما وولي الآخر أو وارثه في تسمية المهر فقال: لم نسم مهراً، وقالت: سمي لي مهر المثل، فالقول قول الزوج بيمينه في أصوب الروايتين؛ لأنه يدعي ما يوافق الأصل، ولها مهر المثل بالدخول أوالموت، فإن طلق ولم يدخل بها، فلها المتعة؛ لأن القول قوله في عدم التسمية، فهي مفوضة. أما الشافعية فقالوا: لو ادعت المرأة تسميته، فأنكر زوجها قائلاً: لم تقع
الحالة الثانية ـ الاختلاف في مقدار المهر المسمى
تسمية، ولم يدّع تفويضاً، تحالفا في الأصح؛ لأن حاصله الاختلاف في قدر المهر؛ لأن الزوج يقول: الواجب مهر المثل، وهي تدعي زيادة عليه. وبالتحالف: ينتفي بيمين كل واحد منهما دعوى صاحبه، فيبقى العقد بلا تسمية، فيجب حينئذ مهر المثل. الحالة الثانية ـ الاختلاف في مقدار المهر المسمى: إذا اختلف الزوجان في مقدار المهر المسمى، فقال الزوج: ألف، وقالت الزوجة: ألفان، والخلاف في حال قيام النكاح: ف قال أبو حنيفة ومحمد: القول لمن شهد له مهر المثل بيمينه، وأيهما أقام البينة تقبل، فإن أقام الاثنان البينة، قدمت بينتها إن كان مهر المثل شاهداً للزوج؛ لأنها تثبت الزيادة، وتقدم بينته إن كان مهر المثل شاهداً للمرأة؛ لأنها تثبت الحط، والأصل في هذا أن البينة تثبت خلاف الظاهر أي ما ليس بثابت ظاهر. وإن كان مهر المثل بينهما تحالفا، فإن حلفا أو برهنا قضي به، وإن برهن أحدهما قبل برهانه، لأنه أوضح دعواه بإقامة برهانه. والحاصل: أن أبا حنيفة ومحمداً يحكّمان مهر المثل. لكن إذا كان الاختلاف في جنس المهر أو نوعه أو صفته من الجودة والرداءة، فيقضى بقدر قيمته. وقال أبو يوسف ـ والعمل جار على رأيه في مصر ـ: تعتبر الزوجة مدعية؛ لأنها تدعي الزيادة على الزوج، والزوج منكر، فتطبق القاعدة: «البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر» فتطالب الزوجة بإقامة البينة على ما تدعيه، فإن أقامت البينة على ما ادعت قضي لها به، وإن عجزت عن إقامة البينة وطلبت تحليف الزوج اليمين، وجهت إليه اليمين. فإن امتنع عن الحلف قضي لها بما ادعت، وإن حلف قضي بقدر ما ذكره، إلا أن يأتي بشيء قليل أي ما لا يتعارف
قال المالكية
مهراً لها، فيقضى حينئذ بمهر المثل. والحاصل: أن أبا يوسف لا يحكِّم مهر المثل، بل يجعل القول قول الزوج مع يمينه إلا أن يأتي بشيء مستنكر، أي غير متعارف. وقال المالكية: إذا تنازع الزوجان في مقدار الصداق: فإن كان قبل الدخول تحالفا وتفاسخا، وبدئت هي باليمين، ويقضى لمن كان قوله أشبه بالمتعارف المعتاد بين أهل بلديهما، ومن نكل منهما عن اليمين قضي عليه مع يمين صاحبه أي حلف الآخر، وقضي له بما ادعاه، ولا يفرق بينهما. وإن لم يكن قول أحدهما يشبه المتعارف تحالفا، فيحلف كل منهما على ما ادعى، ونفي ما ادعاه الآخر؛ لأن كلاً منهما يعتبر مدعى ومدعى عليه، فإن حلفا أو امتنعا عن اليمين، فرّق القاضي بينهما بطلقة. وإن كان الخلاف بعد الدخول، فالقول قول الزوج مع يمينه. وقرر الشافعية: أنه إن اختلف الزوجان في قدرالمهر أو صفته أو أجله، تحالفا، ويتحالف وارثاهما، أو وارث أحدهما والآخر، ثم يفسخ المهر، ويجب مهر المثل، ولم ينفسخ النكاح. ورأى الحنابلة: أنه إن اختلف الزوجان في قدر المهر بعد العقد، ولا بيِّنة لأحدهما على مقداره، فالقول قول من يدعي مهر المثل منهما، فإن ادعت المرأة مهر مثلها أو أقل، فالقول قولها، وإن ادعى الزوج مهر المثل أو أكثر، فالقول قوله. وهذا موافق لرأي أبي حنيفة ومحمد. الحالة الثالثة ـ الاختلاف في قبض المهر المعجل: إذا اختلف الزوجان في قبض المعجل من المهر، بأن ادعى الزوج أنه وافاها كل المعجل، وقالت الزوجة: لم تقبض شيئاً منه، أو قبضت بعضه.
فقال الحنفية: إن كان الخلاف بينهما قبل الدخول، كان القول للزوجة بيمينها، وعلى الزوج أن يثبت ما يدعيه بالبينة. وإن كان الخلاف بينهما بعد الدخول؛ فإن لم يكن هناك عرف بتقديم شيء، فالقول قول الزوجة بيمينها، وإن كان هناك عرف فيحكم العرف في النزاع على أصل القبض، بأن قالت الزوجة: لم تقبض شيئاً، فإن جرى العرف بتقديم النصف أو الثلثين، قضي عليها به، ويكون العرف مكذباً للزوجة في ادعائها عدم قبض شيء من المهر قبل الزفاف. وقد أفتى متأخرو الحنفية (¬1) بعدم تصديق المرأة بعد الدخول بها بأنها لم تقبض المشروط تعجيله من المهر، مع أنها منكرة للقبض؛ لأن العرف جرى بأن المرأة تقبض المعجل قبل الزفاف. وإن كان النزاع في قبض بعض المعجل، بأن قالت الزوجة: إنها قبضت بعض مهرها، وادعى الزوج أنه سلمها كامل المهر، فالقول قول الزوجة بيمينها؛ لأن الناس يتساهلون عادة في المطالبة بتسليم كل المهر بعد قبض بعضه، ويتم الزفاف قبل قبضه. ووافق المالكية الحنفية في حالة الخلاف في قبض المعجل قبل الدخول أي القول قولها، وأما بعد الدخول: فالقول قوله بعد الدخول بيمينه، إلا إذا كان هناك عرف فيرجع إليه. ووافق الشافعية والحنابلة الحنفية بدون تفرقة بين ما قبل الدخول وبعده، فقالوا: إن اختلف الزوجان في قبض المهر، فادعاه الزوج، وأنكرت المرأة، فالقول قولها؛ لأن الأصل عدم القبض، وبقاء المهر. ¬
ثاني عشر ـ الملزم ب الجهاز
وإن كان الصداق تعليم سورة، فادعاه الزوج، وأنكرت المرأة، فإن كانت لا تحفظ السورة، فالقول قولها؛ لأن الأصل عدم التعليم. وإن كانت تحفظها ففيه وجهان: أحدهما ـ أن القول قولها؛ لأن الأصل أنه لم يعلمها. والثاني ـ أن القول قوله؛ لأن الظاهر أنه لم يعلمها غيره. والخلاصة: إن اختلف الزوجان في القبض، فقالت الزوجة: لم أقبض، وقال الزوج: قد قبضت، فقال الجمهور (الشافعي وأحمد والثوري وأبو ثور) القول قول المرأة. وقال مالك: القول قولها قبل الدخول، والقول قوله بعد الدخول. وقال بعض أصحابه: إنما قال ذلك مالك؛ لأن العرف بالمدينة كان عندهم ألا يدخل الزوج حتى يدفع الصداق. فإن كان بلد ليس فيه هذا العرف، كان القول قولها أبداً، والقول بأن القول قولها أبداً أحسن؛ لأنها مدعى عليها. ولكن مالك راعى قوة الشبهة التي له إذا دخل بها الزوج. وإن اختلف الزوجان فيما يرسله الرجل إلى زوجته، فادعى أنه المهر، وادعت المرأة أنه هدية، فالقول قوله بيمينه، والبينة لها عند الحنفية والشافعية. ثاني عشر ـ الملزم ب الجهاز والاختلاف فيه: الجهاز: هو أثاث المنزل وفراشه وأدوات بيت الزوجية، وهناك رأيان للفقهاء في الملزم بالجهاز: قال المالكية (¬1): الجهاز واجب على الزوجة بمقدار ما تقبضه من المهر، فإن لم تقبض شيئاً فلا تلزم بشيء إلا إذا اشترط الزوج التجهيز عليها، أو كان العرف يلزمها به. ودليلهم أن العرف جرى على أن الزوجة هي التي تعد بيت الزوجية ¬
الحنفية
وتجهزه بما يحتاج إليه، وإن الزوج إنما يدفع المهر لهذا الغرض. ويلزمها أن تتجهز بالمهر على العادة من حضر أو بدو، ولا يلزمها أن تتجهز بأزيد منه إلا لشرط أو عرف. وخالفهم الحنفية (¬1): فرأوا أن الجهاز واجب على الزوج، كما يجب عليه النفقة وكسوة المرأة، والمهر المدفوع ليس في مقابلة الجهاز، وإنما هو عطاء ونحلة كما سماه الله في كتابه، أو هو في مقابلة حل التمتع بها، فهو حق على الزوج لزوجته. لكن إن دفع الزوج مقداراً من المال في مقابلة الجهاز: فإن كان المال زائداً على المهر مستقلاً عنه، فتلزم الزوجة بإعداد الجهاز لأنه كالهبة بشرط العوض. وأما إن كان المال غير مستقل عن المهر، بأن سمى مهراً زائداً على مهر المثل، فالصحيح كما قال ابن عابدين أن الزوجة لا يلزمها شيء من الجهاز؛ لأن الزيادة متى جعلت من ضمن المهر، التحقت به، وصار كله حقاً خالصاً للزوجة، فلا تطالب بإنفاق شيء منه في الجهاز جبراً عنها. وأما الاختلاف في الجهاز أو متاع البيت: وهو المفروشات والأواني وغيرها، فالمقرر فيه لدى المالكية (¬2): إذا اختلف الزوجان في متاع البيت، فادعى كل واحد منهما أنه له، ولا بينة لهما ولا لأحدهما، فما كان من متاع النساء كالحلي والغزل وثياب النساء ¬
وخمرهن، حكم به للمرأة مع يمينها. وما كان من متاع الرجال كالسلاح والكتب وثياب الرجال، حكم به للرجل مع يمينه، وما كان يصلح لهما جميعاً كالدنانير والدراهم، فهو للرجل مع يمينه. وقال سحنون: مايعرف لأحدهما فهوله بغير يمين. ووافق أبو حنيفة ومحمد (¬1) المالكية فقالا: ما كان يصلح للرجال كالعمامة والقلنسوة والسلاح وغيرها، فالقول فيه قول الزوج مع يمينه؛ لأن الظاهر شاهد له؛ وما يصلح للنساء مثل الخمار والملحفة والمغزل ونحوها، فالقول فيه قول الزوجة مع يمينها؛ لأن الظاهر شاهد لها. وما يصلح لهما جميعاً كالدراهم والدنانير والعروض والبسط والحبوب ونحوها، فالقول فيه قول الزوج مع يمينه؛ لأن يد الزوج على ما في البيت أقوى من يد المرأة؛ لأن يده يد تصرف في المتاع، وأما يد المرأة فهي للحفظ فقط، ويد التصرف أقوى من يد الحفظ. وقال أبو يوسف: يكون القول قول الزوجة مع يمينها في مقدار ما يجهز به مثلها عادة، والقول قول الزوج في الباقي؛ لأن الغالب ألا تزف الزوجة إلى زوجها إلا بجهاز يليق بمثلها، فيكون الظاهر شاهداً للمرأة في مقدار جهاز مثلها، فيكون القول قولها في هذا المقدار، وما زاد عنه، يكون القول فيه للزوج مع يمينه؛ لأن الظاهر يشهد له فيه. وهذا الرأي يتفق مع عرف البلاد التي تجهز فيه الزوجة بيت الزوجية. ونقل الكاساني عن مالك والشافعي: أن كل المتاع بين الزوجين نصفان. وإذا مات الزوجان، فاختلف ورثتهما، فالحكم حينئذ كالحكم عند اختلاف الزوجين، ففي قول أبي حنيفة ومحمد: القول قول ورثة الزوج. وفي قول ¬
ثالث عشر ـ ميراث الصداق وهبته
أبي يوسف: القول قول ورثة المرأة في مقدار جهاز مثلها، وقول ورثة الزوج في الباقي؛ لأن الوارث يقوم مقام المورث، فصار كأن المورثين اختلفا بأنفسهما وهم حيان. وإن مات أحد الزوجين، واختلف الآخر الحي وورثة الميت، فالحكم لا يختلف في رأي أبي يوسف ومحمد ومالك، ففي رأي أبي يوسف: القول للزوجة إن كانت موجودة، ولورثتها إن كانت ميتة، بقدر جهاز مثلها، والزائد عنه يكون القول فيه للزوج أو لورثته. وفي رأي مالك ومحمد: يكون القول للزوج بيمينه إن كان موجوداً، ولورثته بعد موته. وأما رأي أبي حنيفة: فهو أن القول يكون للحي من الزوجين مع يمينه، فإن كان الزوج كان القول قوله مع يمينه؛ لأن يده على ما في البيت أقوى من يد المرأة. وإن كانت الزوجة فالقول لها مع يمينها؛ لأن يدها كانت ضعيفة حال حياة الزوج، وصارت قوية بعد موت الزوج، فكان الظاهر شاهداً لها. ثالث عشر ـ ميراث الصداق وهبته: قال المالكية (¬1): المهر حق خالص للمرأة، فلها أن تهبه لزوجها أو لأجنبي، ويرثه عنها ورثتها. وتفصيله ما يأتي: إن طلقت المرأة قبل الدخول بها حسب ما أنفقته على نفسها من المهر مما يخصها من النصف. ولو ادعى الأب أو غيره أن بعض الجهاز له، وخالفته البنت أو الزوج، قُبلت ¬
دعوى الأب أو وصيه فقط في إعارته لها إن كانت دعواه في السنة التي حدث فيها الدخول من يوم الدخول، وكانت البنت بكراً، أو ثيباً هي في ولايته، أما الثيب التي ليست في ولايته، فلا تقبل دعواه في إعارته بعض الجهاز لها. وأما إن ادعى الأب ذلك بعد مضي سنة من الدخول، فلا تقبل دعواه إلا أن يشهد على أن الشيء عارية عند ابنته عند الدخول أو في وقت قريب منه. ولو جهز رجل ابنته بشيء زائد عن صداقها، ومات قبل الدخول أو بعده، اختصت به البنت عن بقية الورثة إن نقل الجهاز لبيتها أو أشهد لها الأب بذلك قبل موته، أو اشتراه الأب لها ووضعه عند غيره كأمها أو عندها هي. وإن وهبت امرأة رشيدة صداقها للزوج قبل قبضه منه، جبر الزوج على دفع أقل المهر لها وهو ربع دينار أو ثلاثة دراهم أو بقدر قيمتها، لئلا يخلو النكاح من صداق. ويجوز للمرأة الرشيدة أن تهب للزوج جميع الصداق الذي تقرر به النكاح؛ لأنها ملكته، وتقرر بالوطء، سواء قبضته منه أم لم تقبضه، لقوله تعالى: {فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً، فكلوه هنيئاً مريئاً} [النساء:4/ 4]. وإن وهبت المرأة الرشيدة الصداق لزوجها، أو أعطته مالاً من عندها بقصد دوام العِشْرة واستمرارها معه، ففسخ النكاح لفساده، أو طلقها قبل تمام سنتين، رجعت عليه بما وهبته من الصداق، وبما أعطته من مالها، لعدم تمام غرضها. وإن أعطت سفيهة غير رشيدة مالاً لرجل ليتزوجها به، صح الزواج ولم يفسخ، وعليه أن يعطيها من ماله مثل ما أعطته، إن كان مثل مهرها فأكثر، فإن كان أقل من مهر مثلها، أعطاها من ماله قدر مهر مثلها.
المبحث الثاني ـ المتعة
المبحث الثاني ـ المتعة: معناها، حكمها، مقدارها (¬1). معنى المتعة: المتعة مشتقة من المتاع: وهو ما يستمتع به، وتطلق على أربعة معان: أحدهما ـ متعة الحج، وقد ذكرت في الحج. الثاني ـ النكاح إلى أجل. الثالث ـ متعة المطلقات، وهي محل البحث هنا. الرابع ـ إمتاع المرأة زوجها في مالها على ما جرت به العادة في بعض البلاد، قال المالكية: فإن كان شرطاً في العقد لم يجز، وإن كان تطوعاً بعد تمام العقد جاز. والمتعة المرادة هنا: هي الكسوة أو المال الذي يعطيه الزوج للمطلقة زيادة على الصداق أو بدلاً عنه كما في المفوضة، لتطيب نفسها، ويعوضها عن ألم الفراق. وعرفها الشافعية: بأنها مال يجب على الزوج دفعه لامرأته المفارقة في الحياة بطلاق وما في معناه، بشروط تأتي. وعرفها المالكية: بأنها الإحسان إلى المطلقات حين الطلاق بما يقدر عليه المطلق بحسب ماله في القلة والكثرة. ¬
حكم المتعة
حكم المتعة: للفقهاء آراء في حكم المتعة. أما الحنفية فقالوا: قد تكون المتعة واجبة، وقد تكون مستحبة. فتجب المتعة في نوعين من الطلاق. 1ً - طلاق المفوضة قبل الدخول، أو المسمى لها مهراً تسمية فاسدة: أي الطلاق الذي يكون قبل الدخول والخلوة في نكاح لا تسمية فيه، ولا فرض بعده، أو كانت التسمية فيه فاسدة، وهذا متفق عليه عند الجمهور غيرا لمالكية، لقوله تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن، أو تفرضوا لهن فريضة، ومتعوهن} [البقرة:236/ 2] أمر بالمتعة، والأمر يقتضي الوجوب، وتأكد في آخر الآية بقوله: {حقاً على المحسنين} [البقرة:236/ 2] ولأن المتعة في هذه الحالة بدلاً عن نصف المهر، ونصف المهر واجب، وبدل الواجب واجب؛ لأنه يقوم مقامه، كالتيمم بدلاً عن الوضوء. 2ً - الطلاق الذي يكون قبل الدخول في نكاح لم يسم فيه المهر، وإنما فرض بعده، في رأي أبي حنيفة ومحمد، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات، ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن، فما لكم عليهن من عدة تعتدونها، فمتعوهن} [الأحزاب:49/ 33] والآية السابقة {ومتعوهن} [البقرة:236/ 2] فالآية الأولى أوجبت المتعة في كل المطلقات قبل الدخول، ثم خص منها من سمي لها مهر، فبقيت المطلقة التي لم يسم لها مهر، والآية الثانية أوجبت المتعة لمن لم يفرض لها فريضة، وهو منصرف إلى الفرض في العقد. ورأى أبو يوسف والشافعي وأحمد: أنه يجب للمطلقة قبل الدخول التي
الشافعية
فرض لهامهر نصف مهر، سواء أكان الفرض في العقد أم بعده؛ لأن الفرض بعد العقد كالفرض في العقد، وبما أن المفروض في العقد يتنصف فكذا المفروض بعده. وتستحب المتعة عند الحنفية في حالة الطلاق بعد الدخول، والطلاق قبل الدخول في نكاح فيه تسمية؛ لأن المتعة إنما وجبت بدلاً عن نصف المهر، فإذا استحقت المسمى أو مهر المثل بعد الدخول، فلا داعي للمتعة. وأوجب الشافعية المتعة في الطلاق بعد الدخول، لقوله تعالى: {وللمطلقات متاع بالمعروف حقاً على المتقين} [البقرة:2/ 241]. والخلاصة: تستحب المتعة عند الحنفية لكل مطلقة إلا لمفوضة فتجب: وهي من زوجت بلا مهر، وطلقت قبل الدخول، أو من سمي لها مهر تسمية فاسدة أو سمي بعد العقد. ومذهب المالكية: أن المتعة مستحبة لكل مطلقة، لقوله تعالى: {حقاً على المتقين} [البقرة:2/ 241] وقوله: {حقاً على المحسنين} [البقرة:2/ 236] فإنه سبحانه قيد الأمر بها بالتقوى والإحسان، والواجبات لا تتقيد بهما. وقالوا: المطلقات ثلاثة أقسام: مطلقة قبل الدخول وقبل التسمية (المفوضة) فلها المتعة وليس لها شيء من الصداق. ومطلقة قبل الدخول وبعد التسمية، فلا متعة لها. ومطلَّقة بعد الدخول، سواء أكانت قبل التسمية أم بعدها، فلها المتعة. ولا متعة في كل فراق تختاره المرأة، كامرأة المجنون والمجذوم والعنين. ولا في الفراق بالفسخ، ولا المختلعة، ولا الملاعنة. ومذهب الشافعية عكس المالكية تماماً: المتعة واجبة لكل مطلقة، سواء أكان الطلاق قبل الدخول أم بعده، إلا لمطلقة قبل الدخول سمي لها مهر فإنه يكتفى لها
الحنابلة
بنصف المهر، فتجب لمطلقة قبل دخول إن لم يجب شطر مهر، وتجب أيضاً في الأظهر لمدخول بها، ولكل فُرْقة لا بسبب الزوجة كطلاق، بأن كانت الفرقة بسبب الزوج كردته ولعانه وإسلامه. أما من وجب لها شطر مهر فلها ذلك، وأما المفوضة ولم يفرض لها شيء فلها المتعة. وعبارتهم بإيجاز (¬1): لكل مفارقة متعة إلا التي فرض لها مهر، وفورقت قبل الدخول، أو كانت الفرقة بسببها، أو بملكه لها، أو بموت، وفرقة اللعان بسببه، والعنة بسببها. ودليلهم قوله تعالى: {ومتعوهن} [البقرة:236/ 2] وقوله {وللمطلقات متاع بالمعروف} [البقرة:241/ 2] فإنه أوجب المتعة لكل مطلقة، سواء أكانت مدخولاً بها أم لا، سمي لها مهر أم لا. ويؤكده تمتيع زوجات النبي صلّى الله عليه وسلم وكن مدخولاً بهن، في قوله تعالى: {قل لأزواجك: إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها، فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً} [الأحزاب:28/ 33]. أما إذا فرض للمرأة في التفويض شيء فلا متعة لها؛ لأن الزوج لم يستوف منفعة بُضعها، فيكفي شطر مهرها لما لحقها بالطلاق من الاستيحاش والابتذال. ومذهب الحنابلة موافق لمذهب الحنفية في الجملة: المتعة تجب على كل زوج حر وعبد، مسلم وذمي، لكل زوجة مفوضة، طلقت قبل الدخول، وقبل أن يفرض لها مهر، للآية المتقدمة {ومتعوهن} [البقرة:236/ 2] ولا يعارضه قوله {حقاً على المحسنين} [البقرة:236/ 2] لأن أداء الواجب من الإحسان، فليس للمفوضة إلا المتعة. وتستحب المتعة عندهم لكل مطلقة غير المفوضة التي لم يفرض لها مهر، لقوله تعالى: {وللمطلقات متاع بالمعروف} [البقرة:241/ 2] ولم تجب؛ لأنه ¬
تسقط المتعة
تعالى قسم المطلقات قسمين، وأوجب المتعة لغير المفروض لهن، ونصف المسمى للمفروض لهن، وهو يدل على اختصاص كل قسم بحكمه. ولا متعة للمتوفى عنها؛ لأن النص لم يتناولها، وإنما تناول المطلقات. وتسقط المتعة في كل موضع يسقط فيه كل المهر، كردتها وإرضاعها من ينفسخ به نكاحها ونحوه؛ لأنها أقيمت مقام نصف المسمى، فسقطت في كل موضع يسقط فيه. وتجب المتعة للمفوضة في كل موضع يتنصف فيه المسمى، كردته قياساً على الطلاق، ولا تجب المتعة فيما يسقط به المسمى من الفرق كاختلاف الدين والفسخ بالرضاع ونحوه إذا جاء من قبل المرأة؛ لأن المتعة أقيمت مقام نصف المسمى، فسقطت في موضع يسقط. ومن وجب لها نصف المهر، لم تجب لها متعة، سواء أكانت ممن سمي لها صداق، أم لم يسم لها، لكن فرض بعد العقد. وهذا موافق للجمهور غير أبي حنيفة ومحمد، كما تقدم. ولا متعة للمسمى لها مهراً بعد الدخول أو المفوضة أو المفوض لها بعد الدخول، لكن يستحب لها المتعة، وتستحب أيضاً لمن سمي لها صداق فاسد كالخمر والمجهول وطلقت قبل الدخول. والخلاصة: أوجب الشافعية المتعة إلا للمطلقة قبل الدخول، التي سُمي لها المهر، والجمهور استحبوا المتعة، لكن المالكية استحبوها لكل مطلقة، والحنفية والحنابلة استحبوها لكل مطلقة إلا المفوضة التي زوجت بلا مهر فتجب لها المتعة. والظاهر رجحان مذهب الشافعية لقوة أدلتهم، ولتطييب خاطر المرأة، وتخفيف ألم الفراق، ولإيجاد باعث على العودة إلى الزوجية إن لم تكن البينونة كبرى.
مقدار المتعة ونوعها
مقدار المتعة ونوعها: لم يرد نص في تقدير المتعة ونوعها، فاجتهد الفقهاء في مقدارها. قرر الحنفية: أنها ثلاثة أثواب: دِرْع (ما تلسبه المرأة فوق القميص) وخمار (ما تغطي به المرأة رأسها) ومِلْحفة (ما تلتحف به المرأة من رأسها إلى قدمها) لقوله تعالى: {متاعاًبالمعروف حقاً على المحسنين} [البقرة:236/ 2] والمتاع: اسم للعروض في العرف، ولأن لإيجاب الأثواب نظيراً في أصول الشرع وهو الكسوة التي تجب لها حال قيام الزوجية وأثناء العدة، وأدنى ما تكتسي به المرأة وتستتر به عند الخروج: ثلاثة أثواب. ولا تزيد هذه الأثواب عن نصف مهر المثل لو كان الزوج غنياً، لأنها بدل عنه، ولا تنقص عن خمسة دراهم لو كان الزوج فقيراً. والمفتى به أن المتعة تعتبر بحال الزوجين كالنفقة، فإن كانا غنيين فلها الأعلى من الثياب، وإن كانا فقيرين فالأدنى، وإن كانا مختلفين فالوسط. وقال الشافعية: يستحب ألا تنقص المتعة عن ثلاثين درهماً أو ما قيمته ذلك، وهذا أدنى المستحب، وأعلاه خادم، وأوسطه ثوب. ويسن ألا تبلغ نصف مهر المثل، فإن بلغته أو جاوزته جاز لإطلاق الآية: {ومتعوهن} [البقرة:236/ 2]. فإن تنازع الزوجان في قدرها، قدَّرها القاضي باجتهاده بحسب ما يليق بالحال، معتبراً حال الزوجين كما قال الحنفية، من يسار وإعسار ونسب وصفات، لقوله تعالى: {ومتعوهن، على الموسع قدره، وعلى المقتر قدره} [البقرة:236/ 2] {وللمطلقات متاع بالمعروف} [البقرة:241/ 2]. وذهب المالكية والحنابلة: إلى أن المتعة معتبرة بحال الزوج يساراً أوإعساراً،
المبحث الثالث ـ الخلوة الصحيحة وأحكامها
على الموسع قدره، وعلى المقتر قدره، للآية السابقة المصرحة بكون المتعة على حسب حال الزوج، فأعلاها خادم أي قيمة خادم في زمنهم إذا كان موسراً، وأدناها إذا كان فقيراً: كسوة كاملة تجزيها في صلاتها أي أقل الكسوة، وهي درع وخمار، أو نحو ذلك، أقلها ثلاثة أثواب عند الحنفية: درع (قميص) وخمار يستر رأسها، وملاءة. لقول ابن عباس: «أعلى المتعة خادم، ثم دون ذلك النفقة، ثم دون ذلك الكسوة». والظاهر رجحان هذا القول. ونص القانون السوري على بعض أحكام المتعة في المادة (2/ 61): «إذا وقع الطلاق قبل الدخول والخلوة الصحيحة، فعندئذ تجب المتعة» وفي المادة (62): «المتعة: هي كسوة مثل كسوة المرأة عند الخروج من بيتها، ويعتبر فيها حال الزوج على ألا تزيد على نصف مهر المثل». المبحث الثالث ـ الخلوة الصحيحة وأحكامها: معناها، آراء الفقهاء فيها، أحكامها (¬1): معنى الخلوة: الخلوة الصحيحة: هي أن يجتمع الزوجان بعد عقد الزواج الصحيح في مكان يأمنان فيه من اطلاع الناس عليهما كدار أو بيت مغلق الباب. فإن كان الاجتماع في شارع أو طريق أو مسجد أو حمام عام أو سطح لا ساتر له أو في بيت مفتوح الباب والنوافذ أو في بستان لا باب له، فلا تتحقق الخلوة الصحيحة. ويشترط فيها ألا يكون بأحد الزوجين مانع طبعي أو حسي أو شرعي يمنع من الوطء أو الاتصال الجنسي. ¬
المانع الحسي
والمانع الحسي: مثل مرض بأحد الزوجين يمنع الوطء من رتَق (تلاحم)، وقرَن (عظم)، وعفَل (غدة)، أما خلوة الخصي (مسلوب الخصية) والعنين (العاجز عن الجماع) فهي صحيحة، وأما خلوة المجبوب فهي صحيحة عند أبي حنيفة خلافاً للصاحبين. والمانع الطبيعي: ما يمنع النفس بطبيعتها عن الجماع، مثل وجود شخص ثالث عاقل، ولو كان أعمى أو نائماً أو صبياً مميزاً أو زوجة أخرى. فإن كان هناك غير مميز أو مجنون أو مغمى عليه، فالخلوة صحيحة. والمانع الشرعي: أن يكون هناك ما يحرم الوطء شرعاً كالصوم في رمضان، والإحرام بحج أو عمرة، والاعتكاف، والحيض والنفاس، والدخول في صلاة الفريضة، والخلوة في المسجد؛ لأن الجماع في المسجد حرام. وأما عدم معرفة الرجل للمرأة فقال فيه ابن عابدين: إن هذا المانع بيده إزالته، بأن يخبرها أنه زوجها، فلما جاء التقصير من جهته، يحكم بصحة الخلوة، فيلزم المهر. فإن لم تتوافر هذه الشروط فالخلوة فاسدة، بأن يكون الزواج فاسداً، أو الخلوة في مكان يمكن لأحد الناس الدخول عليهما (عدم صلاحية المكان) أو وجود مانع من الجماع. وبه يكون معنى الخلوة الفاسدة: هي كل خلوة وجد فيها مانع من الموانع الثلاثة السابقة، أو وجود شخص ثالث عاقل مع الزوجين، أو عدم صلاحية المكان، أو فساد الزواج. آراء الفقهاء في أحكام الخلوة: للفقهاء رأيان في الخلوة، ف مذهب المالكية والشافعية في الجديد: الخلوة
مذهب الحنفية والحنابلة
وحدها بدون جماع وإرخاء الستور لا تؤكد المهر للزوجة، فلو خلا الزوج بزوجته خلوة صحيحة، ثم طلقها قبل الدخول بها، وجب فقط نصف المهر المسمى، أوالمتعة إن لم يكن المهر مسمى، علماً بأن المتعة عند المالكية مستحبة لا واجبة. ودليلهم قوله تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن، وقد فرضتم لهن فريضة، فنصف ما فرضتم} [البقرة:237/ 2] والمس: كناية عن الاتصال الجنسي، وفسروا آية {وقد أفضى بعضكم إلى بعض} [النساء:21/ 4] بأن الإفضاء معناه الجماع. ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم جعل المهر للمرأة بما استحل من فرجها أي أصابها. لكن قال المالكية: للخلوة الصحيحة حكمان: الأول ـ وجوب العدة على المرأة، حتى ولو اتفق الزوجان على عدم وقوع الوطء فيها؛ لأن العدة حق الله تعالى، فلا تسقط باتفاق الزوجين على نفي الوطء، مع اعترافهما بالخلوة. الثاني ـ صيرورتها قرينة على الوطء عند اختلاف الزوجين في حدوثه: فإذا اختلى الرجل بزوجته خلوة اهتداء، وهي المعروفة عندهم بإرخاء الستور: وهي أن يسكن كل واحد من الزوجين للآخر، ويطمئن إليه. ثم يطلقها، ويختلفان في حصول الوطء، صدقت الزوجة بيمينها فيما تدعيه. فإن امتنعت عن اليمين حلف الزوج، ولزمه نصف الصداق. وإن نكل عن اليمين، لزمه جميع الصداق؛ لأن الخلوة بمنزلة شاهد، والنكول عن اليمين بمنزلة شاهد آخر. ومذهب الحنفية والحنابلة: الخلوة كالوطء في تكميل مهر، ولزوم عدة، وثبوت نسب، وتحريم أخت، وأربع سواها حتى تنقضي عدتها. ويعد اللمس
والتقبيل بشهوة عند الحنابلة كالدخول أيضاً. وعليه يكون الطلاق بعد الخلوة الصحيحة طلاقاً بائناً، تترتب عليه الأحكام التالية: 1 - ثبوت كامل المهر: فلو طلقها بعد الخلوة الصحيحة، استحقت كل المهر المسمى، ومهر المثل إن لم تكن التسمية صحيحة. 2 - ثبوت النسب: فلو طلقها بعد الخلوة الصحيحة، وجاءت بولد ثبت نسبه منه إن جاءت به لأكثر من ستة أشهر بعد الخلوة. 3 - وجوب العدة: فإن طلقها بعد الخلوة ولو كانت فاسدة عند الحنفية، وجب عليهاالعدة المقررة بعد الدخول والفرقة. 4 - لزوم نفقة العدة على الزوج المطلق: وهي الطعام والسكنى والكسوة. 5 - حرمة التزوج بامرأة محرم لها أو بأربع سواها ما دامت في العدة، أو التزوج بخامسة في عدتها إذا كانت رابعة، كما يحرم الزواج خلال العدة من طلاق بعد الدخول. 6 - تطليقها في الطهر: إذا أراد الزوج طلاق الزوجة بعد الخلوة الصحيحة، لزمه مراعاة وقت الطلاق، وهو كونه في طهر، كالمقرر في الطلاق السني بعد الدخول. والخلاصة: أن ثبوت المهر والعدة من أحكام الخلوة المحضة، وأما ثبوت النسب فهو عند الحنفية من أحكام العقد مطلقاً، وأما بقية الأحكام فهي من آثار العدة. ولا تكون الخلوة كالوطء أو الدخول فيما يأتي:
1 - الإحصان: فالخلوة الصحيحة لا تجعل الزوجين محصنين لإقامة حد الرجم، وإنما لا بد من الدخول. 2 - الغسل: لا يجب الغسل على أحد الزوجين بمجرد الخلوة، بخلاف الوطء. 3 - حرمة البنت: الخلوة لا تحرم البنت على الزوج، وله أن يتزوجها بعد طلاق أمها، وإنما لا بد من الدخول الحقيقي بالأم لتحريم ابنتها على الزوج. 4 - التحليل: الخلوة الصحيحة مع الزوج الثاني لا تحل المرأة لزوجها الأول، وإنما لا بد من الدخول الحقيقي (ذوق العسيلة) ثم طلاقها. 5 - حصول الرجعة: الخلوة بالمطلقة لا تكون رجعة، فمن طلق امرأته طلاقاً رجعياً ثم اختلى بها من غير أن يرجع بالقول، أو بالفعل كوطء وتقبيل، لا يكون بالخلوة مراجعاً لها، أما الدخول فإنه يحقق المراجعة. 6 - العودة للزوجية بدون عقد جديد: الطلاق بعد الخلوة يكون بائناً، فلا تعاد إلى المطلق إلا بعقد ومهر جديدين. أما الطلاق بعد الدخول فيقع رجعياً إذا لم يكمل الثلاث، فيمكن للرجل مراجعة امرأته من غير عقد جديد. 7 - الميراث: يقع الطلاق بائناً بعد الخلوة، فإذا مات أحد الزوجين في أثناء العدة من هذا الطلاق فلا يرثه الآخر، إذ لا ميراث في الموت في عدة الطلاق البائن. إذا طلق الرجل امرأته طلاقاً غير مكمل للثلاث، ومات أحدهما في عدة هذا الطلاق، فإن الآخر يرثه؛ لأن الطلاق حينئذ رجعي، والموت في عدة الطلاق الرجعي كالموت حال قيام الزوجية.
8 - تزوجها كالأبكار على المختار عند الحنفية: فمن طلق امرأته بعد الخلوة، فحكمها في الزواج كحكم الأبكار؛ لأنها بكر في الحقيقة. أما المدخول بها حقيقة فيكون تزوجها بغير الزوج الأول بعد الفراق كتزوج الثيبات. ويلاحظ ما يأتي: أـ إن أحكام الخلوة المذكورة لا تثبت إلا إذا كان عقد الزواج صحيحاً، فإن كان فاسداً فلا يثبت للخلوة بعده شيء من تلك الأحكام. ب ـ والعدة في المعتمد في المذهب الحنفي قد تجب في بعض حالات الخلوة الفاسدة: وهي التي يكون فسادها لمانع طبيعي أو شرعي؛ لأن الوطء ممكن في ذاته، بخلاف حالة المانع الحسي. جـ ـ تجب العدة في الخلوة في القضاء فقط، لا في الديانة، أما العدة بعد الدخول الحقيقي فتجب قضاء وديانة. أدلة الحنفية والحنابلة: استدل هؤلاء على جعل الخلوة بمثابة الدخول بما يأتي: 1ً - قوله تعالى: {وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج، وآتيتم إحداهن قنطاراً، فلا تأخذوا منه شيئاً، أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً * وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض، وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً} [النساء:20/ 4 - 21] نهى الشرع عن أخذ شيء من المهر بعد الإفضاء، والإفضاء ـ كما قال الفراء ـ هو الخلوة، سواء دخل بها أم لم يدخل.
2ً - الحديث النبوي: «من كشف خمار امرأته، ونظر إليها فقد وجب الصداق، دخل بها أو لم يدخل» (¬1) وهو ظاهر الدلالة على المطلوب. 3ً - الآثار: قال زرارة بن أبي أوفى: قضى الخلفاء الراشدون المهديون أنه إذا أرخى الستور، وأغلق الباب، فلها الصداق كاملاً، وعليها العدة، دخل بها أو لم يدخل بها (¬2). 4ً - المعقول: أن الزوجة بتمكينها من الخلوة مع عدم المانع من الجماع، قد سلمت المبدل وهو مقابل المهر، فيجب على زوجها تسليمها البدل وهو المهر، كما في البيع والإجارة، وتقصير الزوج في استيفاء حقه لا تؤاخذ هي به، كما أن تقصير المستأجر والمشتري في الاستلام بعد التخلية ورفع الموانع، لا يمنع من حصول التسليم. ¬
الفصل السابع: حقوق الزواج وواجباته
الفَصْلُ السّابع: حقوق الزّواج وواجباته عرفنا أن الزواج كغيره من العقود ينشئ بين العاقدين الزوجين حقوقاً وواجبات متبادلة، عملاً بمبدأ التوازن والتكافؤ وتساوي أطراف التعاقد الذي يقوم عليه كل عقد. وقد أشار القرآن الكريم لهذا المبدأ وثبوت هذه الحقوق والواجبات، فقال تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} [البقرة:228/ 2] أي أن للنساء من الحقوق على الرجال مثل ما للرجال على النساء من واجبات، وأساس توزيع تلك الحقوق والواجبات هو العرف والفطرة، ومبدأ: كل حق يقابله واجب. وفي هذا الفصل مباحث ثلاثة: الأول ـ حقوق الزوجة. الثاني ـ حقوق الزوج. الثالث ـ الحقوق المشتركة بين الزوجين. المبحث الأول ـ حقوق الزوجة: للزوجة حقوق مالية وهي المهر والنفقة، وحقوق غير مالية: وهي إحسان العشرة والمعاملة الطيبة، والعدل.
أما المهر: فقد تكلمت عنه تفصيلاً، وعُلم أنه حق خاص للمرأة بالقرآن والسنة، لقوله تعالى: {وآتوا النساء صدُقاتهن نحلة} [النساء:4/ 4]، وثبت في السنة أنه صلّى الله عليه وسلم لم يخل زواجاً من مهر. وأما النفقة: فيخصص لها مبحث خاص بها، وهي أمر مقرر في القرآن والسنة أيضاً، لقوله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} [البقرة:233/ 2] وعن معاوية القشيري: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم سأله رجل: ما حق المرأة على الزوج؟ قال: تُطعمها إذا طعِمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبِّح، ولا تهجر إلا في البيت» (¬1) أي لا تقل لامرأتك: قبحها الله، والهجر يكون في المضجع، لا أن يتحول الرجل عن المرأة إلى دار أخرى، أو يحولها إليها. والمراد من العشرة: ما يكون بين الزوجين من الألفة والاجتماع، ويلزم كل واحد من الزوجين معاشرة الآخر بالمعروف من الصحبة الجميلة، وكف الأذى، وألا يمطله حقه مع قدرته، ولا يظهر الكراهة فيما يبذله له، بل يعامله ببشر وطلاقة، ولا يتبع عمله مِنَّة ولا أذى (¬2)؛ لأن هذا من المعروف، لقوله تعالى: {وعاشروهن بالمعروف} [النساء:19/ 4] وقوله سبحانه: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} [البقرة:228/ 2] قال أبو زيد: «تتقون الله فيهن كما عليهن أن يتقين الله فيكم» وقال ابن عباس: «إني لأحب أن أتزين للمرأة، كما أحب أن تتزين لي»؛ لأن الله تعالى يقول: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} [البقرة:228/ 2]. ¬
- إعفاف الزوجة أو الاستمتاع
وثبت في السنة الأمر بمعاملة النساء خيراً، وورد فيها بيان حقوق وواجبات كل من الزوجين، قال صلّى الله عليه وسلم: «استوصوا بالنساء خيراً، فإنما هن عندكم عوانٍ (¬1) ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك، إلا أن يأتين بفاحشة مُبَيِّنة، فإن فَعلْنَ فاهجروهن في المضاجع، واضربوهن ضرباً غير مبرِّح (¬2)، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً». «إن لكم على نسائكم حقاً، ولنسائكم عليكم حقاً. فأما حقكم على نسائكم، فلا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذنَّ في بيوتكم لمن تكرهون. ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن» (¬3). وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي» (¬4). «أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم» (¬5). ومن أهم حقوق الزوجة بإيجاز لما سبق بيانه في هذا الشأن (¬6): 1 ً - إعفاف الزوجة أو الاستمتاع: قال المالكية: الجماع واجب على الرجل للمرأة إذا انتفى العذر. وقال الشافعي: لايجب إلا مرة؛ لأنه حق له، فجاز له تركه كسكنى الدار المستأجرة، ولأن الداعي إلى الاستمتاع الشهوة والمحبة، فلا يمكن إيجابه، والمستحب ألا يعطلها، ليأمن الفساد. ¬
وقال الحنابلة: يجب على الزوج أن يطأ الزوجة في كل أربعة أشهر مرة، إن لم يكن عذر؛ لأنه لو لم يكن واجباً لم يصر باليمين (الإيلاء) على تركه واجباً، كسائر ما لا يجب، ولأن النكاح شرع لمصلحة الزوجين، ودفع الضرر عنهما، وهو مفض إلى دفع ضرر الشهوة من المرأة كإفضائه إلى دفعه عن الرجل، فيكون الوطء حقاً لهما جميعاً، فإن أبى الوطء بعد انقضاء الأربعة الأشهر، أو أبى البيتوتة في ليلة من أربع ليال للمرأة الحرة، بلا عذر لأحد الزوجين، فرِّق بينهما كما يفرق بسبب الإيلاء، وكما لو منع النفقة، ولو قبل الدخول، أي يفرق بينهما إن لم يطأ بعد الزفاف لمدة أربعة أشهر، وكما لو ظاهر من زوجته، ولم يكفر عن الظهار، بل إن الفسخ لتعذر الوطء أولى من الفسخ لتعذر النفقة. لكن إن سافر الزوج عن المرأة لعذر وحاجة، سقط حقها من القسم والوطء وإن طال سفره للعذر. وإن لم يكن للمسافر عذر مانع من الرجوع وغاب أكثر من ستة أشهر، فطلبت قدومه، لزمه القدوم، لما روى أبو حفص بإسناده عن يزيد بن أسلم قال: بينا عمر بن الخطاب يحرس المدينة، فمرَّ بامرأة وهي تقول: تطاول هذا الليل واسودَّ جانبه ..... ..... وطال علي أن لا خليل ألاعبه فو الله لولا خشية الله والحيا ..... ..... لحرك من هذا السرير جوانبُه فسأل عنها، فقيل له: زوجها غائب في سبيل الله، فأرسل إليها امرأة تكون معها، وبعث إلى زوجها، فأقفله، ثم دخل على حفصة فقال: بُنَيَّة، كم تصبر المرأة عن زوجها؟ فقالت: سبحان الله، مثلك يسأل مثلي عن هذا؟ فقال: لولا أني أريد النظر للمسلمين، ما سألتك، فقالت: خمسة أشهر، ستة أشهر، فوقَّت للناس في مغازيهم ستة أشهر، يسيرون شهراً، ويقيمون أربعة أشهر، ويرجعون في شهر.
2 - يحرم الوطء في الدبر
ولزوم قدوم الزوج: إن لم يكن له عذر في سفره كطلب علم أو كان في جهاد أو حج واجبين أو في طلب رزق يحتاج إليه، فإن وجد عذر لم يلزمه القدوم؛ لأن صاحب العذر يعذر من أجل عذره. ويكتب الحاكم للزوج الغائب ليقدم، فإن أبى أن يقدم من غير عذر، بعد مراسلة الحاكم إليه، فسخ الحاكم نكاحه؛ لأنه ترك حقاً عليه يتضرر به. 2 - يحرم الوطء في الدبر، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله لا يستحي من الحق، لا تأتوا النساء في أدبارهن» «لا ينظر الله إلى رجل جامع امرأته في دبرها» (¬1) وعن أبي هريرة مرفوعاً: «من أتى حائضاً أو امرأة في دبرها، أو أتى عرافاً فصدقه، فقد كفر بما أنزل على محمد» (¬2) وفي حديث آخر: «ملعون من أتى امرأة في دبرها» (¬3). ويحرم وطء الحائض، ويسن لمن وطئ الحائض أن يتصدق بدينار إن وطئها في مقتبل الدم، وبنصف دينار في إدباره، لما روى أبو داود والحاكم وصححه: «إذا واقع الرجل أهله وهي حائض، إن كان دماً أحمر فليتصدق بدينار، وإن كان أصفر، فليتصدق بنصف دينار». ويجوز الاستمتاع بها فيما بين الأليتين، لقوله تعالى: {والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم، فإنهم غير ملومين} [المؤمنون:5/ 23 - 6]. ¬
3 - العزل
ويجوز وطؤها في الفرج مدبرة، لما روى جابر قال: «كان اليهود يقولون: إذا جامع الرجل امرأته في فرجها من ورائها، جاء الولد أحول» فأنزل الله تعالى: {نساؤكم حرث لكم، فأتوا حرثكم أنى شئتم} [البقرة:223/ 2] من بين يديها ومن خلفها، غير ألا يأتيها إلا في المأتى وفي لفظ: «يأتيها من حيث شاء مقبلة أو مدبرة إذا كان ذلك في الفرج» (¬1). فإن أتاها في الدبر عزر إن علم تحريمه، لارتكابه معصية لا حد فيها ولا كفارة. قال الحنابلة: وإن تطاوع الزوجان على الوطء في الدبر، فُرِّق بينهما. وكذا إن أكره الرجل زوجته على الوطء في الدبر، ونهي عنه فلم ينته، فرَّق بينهما، كما يفرق بين الرجل الفاجر وبين من يفجر به من رقيقه. 3 - العزل (إلقاء مني الرجل خارج الفرج) قال الشافعية: يكره العزل، لما روت جُذَامة بنت وهب، قالت: «حضرت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فسألوه عن العزل، فقال: ذلك الوأد الخفي، وهو: {وإذا الموءودة سئلت} [التكوير:8/ 81] (¬2). وقال الغزالي: يجوز العزل، وهو المصحح عند المتأخرين لقول جابر: «كنا نعزل على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، والقرآن ينزل» (¬3) والقول بجواز العزل متفق عليه بين المذاهب الأربعة، لحديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً عند أحمد: «إنا نأتي النساء ونحب إتيانهن، فما ترى في العزل؟ فقال صلّى الله عليه وسلم: «اصنعوا ما بدا لكم، فما قضى الله تعالى فهو كائن، وليس من كل الماء يكون الولد». ¬
4 - المعاشرة بالمعروف
ويكره العزل عن المرأة الحرة إلا بإذنها، لما روي عن عمر قال: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها» (¬1). 4 - المعاشرة بالمعروف: يجب على الزوج معاشرة الزوجة بالمعروف، لقوله تعالى: {وعاشروهن بالمعروف} [النساء:19/ 4]. ويجب عليه بذل ما يجب من حقها من غير مطل، للآية السابقة، ومن العشرة بالمعروف: بذل الحق من غير مطل، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «مَطل الغني ظلم» (¬2). 5 - العدل بين النسوة في المبيت والنفقة كما تقدم: فمن كان له امرأتان أو أكثر، فيجب عليه عند الجمهور غير الشافعية العدل بينهن، والقسم لهن، فيجعل لكل واحدة يوماً وليلة، سواء أكان الرجل صحيحاً أم مريضاً أم مجبوباً، وسواء أكانت المرأة صحيحة أم مريضة أم حائضاً أم نفساء أم محرمة بإحرام أم كتابية لقصد الأنس، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم قسم لنسائه، وكان يقسم في مرضه، مع أن القسم لم يكن واجباً عليه. قالت عائشة: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقسم لكل امرأة يومها وليلتها (¬3)، وقالت عائشة أيضاً: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقسم بيننا فيعدل، ويقول: اللهم إن هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما لا أملك» (¬4). فإن شق على المريض القسم، استأذن أزواجه أن يكون عند إحداهن، لما روت عائشة: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعث إلى ¬
نسائه فاجتمعن، فقال: إني لا أستطيع أن أدور بينكن، فإن رأيتن أن تأذنَّ لي، فأكون عند عائشة، فعلت، فأذنَّ له» (¬1) فإن لم يأذنَّ له أن يقيم عند إحداهن أقام عند إحداهن بقرعة أو اعتزلهن جميعاً إن أحب ذلك تعديلاً بينهن. وقال الشافعية: لا يجب ابتداء القسم على الرجل؛ لأن القسم لحقه، فجاز له تركه، فإذا بات عند واحدة، لزمه المبيت للأخريات، ولو عنيناً أو مريضاً، اقتداءً بفعل النبي. والبدء بالقسم يكون بالقرعة، فلا يجوز للرجل أن يبدأ بواحدة من نسائه من غير رضا البواقي إلا بقرعة، لحديث أبي هريرة المتقدم عند أبي داود: «من كانت له امرأتان يميل إلى إحداهما على الأخرى، جاء يوم القيامة، وأحد شقيه ساقط» ولأن البداءة بإحداهما من غير قرعة تدعو إلى النفور. وإذا قسم لواحدة، لزمه القضاء للبواقي؛ لأنه إذا لم يقض، مال، فدخل في الوعيد. والقسم مطلوب عند الشافعية والحنابلة حتى في السفر، فلا يسافر مع واحدة إلا بقرعة، كما ذكر سابقاً، ولم يوجب الحنفية والمالكية القسم في السفر، واستثنى المالكية سفر القربة، فيقرع الرجل بين نسائه. وإن سافرت المرأة بغير إذن الزوج، سقط حقها من القسْم والنفقة؛ لأن القسْم للأنس، والنفقة للتمكين من الاستمتاع، وقد منعت المرأة ذلك بالسفر. وعماد القسم الليل؛ لأنه يأوي فيه الإنسان إلى منزله، ويسكن إلى أهله، وينام على فراشه مع زوجته عادة، والنهار للمعاش، قال الله تعالى: {وجعلنا الليل لباساً، وجعلنا النهار معاشاً} [النبأ:10/ 78 - 11]. ¬
واجب الزوجة
ولإحدى الزوجات أن تهب حقها لبعض ضرائرها مؤقتاً أو دائماً، لقول عائشة السابق: «غير أن سودة وهبت ليلتها لعائشة تبتغي بذلك رضا رسول الله صلّى الله عليه وسلم». وقد ذكرت أن الزوجة الجديدة لها عند الجمهور غير الحنفية سبع ليال إذا كانت بكراً، وثلاث ليال إذا كانت ثيباً. وسوى الحنفية بين الجديدة والقديمة، فلا تختص واحدة منهما بشيء. أما واجب الزوجة: فلا يجب عليها خدمة زوجها في الخبز والطحن والطبخ والغسل وغيرها من الخدمات، وعليه أن يأتيها بطعام مهيأ إن كانت ممن لا تخدم نفسها؛ لأن المعقود عليه من جهتها هو الاستمتاع فلا يلزمها ما سواه، لكن لا يجوز لمن تخدم نفسها وتقدر على الخدمة أخذ الأجرة على عمل البيت، لوجوبه عليها ديانة، حتى ولو كانت شريفة؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قسم الأعمال بين علي وفاطمة رضي الله عنهما، فجعل أعمال الخارج على علي، والداخل على فاطمة مع أنها سيدة نساء العالمين. المبحث الثاني ـ حقوق الزوج: إن أهم حقوق الزوج ما يأتي (¬1): 1ً - طاعة الزوجة لزوجها في الاستمتاع والخروج من المنزل: فإذا تزوج رجل امرأة، وكانت أهلاً للجماع وجب تسليمها نفسها بالعقد إذا طلب، ويجب عليه تسلمها إذا عرضت عليه؛ لأنه بالعقد يستحق الزوج تسليم العوض، وهو أن ¬
يسلمها مهرها المعجل. وقد نص الإمام أحمد على أن التي يمكن الاستمتاع بها هي بنت تسع سنين فأكثر؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «بنى بعائشة وهي بنت تسع سنين». وتمهل الزوجة مدة بحسب العادة لإصلاح أمرها كاليومين والثلاثة؛ لأنه من حاجتها، فإذا منع الرجل منه كان تعسيراً، فوجب إمهالها طلباً لليسر والسهولة، والمرجع فيه إلى العرف بين الناس؛ لأنه لا تقدير فيه، فوجب الرجوع فيه إلى العرف. ولا تمهل لعمل جهاز ونحوه. وعلى الزوجة طاعة زوجها إذا دعاها إلى الفراش، ولو كانت على التنور أو على ظهر قتَب، كما رواه أحمد وغيره، ما لم يشغلها عن الفرائض، أو يضرها؛ لأن الضرر ونحوه ليس من المعاشرة بالمعروف. ووجوب طاعتها له لقوله تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} [البقرة:228/ 2]، وقوله صلّى الله عليه وسلم: «لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» (¬1) وقوله «أيما امرأة ماتت، وزوجها راض عنها، دخلت الجنة» (¬2) وقوله: «إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه، فأبت أن تجيء، فبات غضبان عليها، لعنتها الملائكة، حتى تصبح» (¬3). ومن الطاعة: القرار في البيت متى قبضت معجل مهرها وهو تفرغها لشؤون الزوجية والبيت ورعاية الأولاد في الصغر والكبر، فليس للزوجة الخروج من المنزل ولو إلى الحج إلا بإذن زوجها، فله منعها من الخروج إلى المساجد وغيرها، لما روى ابن عمر رضي الله عنه قال: رأيت امرأة أتت إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، وقالت: «يارسول الله، ما حق الزوج على زوجته؟ قال: حقه عليها ألا تخرج من بيتها إلا ¬
بإذنه، فإن فعلت، لعنها الله وملائكة الرحمة، وملائكة الغضب حتى تتوب أو ترجع، قالت: يا رسول الله، وإن كان لها ظالماً؟ قال: وإن كان لها ظالماً» (¬1) ولأن حق الزوج واجب، فلا يجوز تركه بما ليس بواجب. لكن يكره ـ كما ذكر الشافعية ـ منعها من عيادة أبيها إذا أثقل في مرضه، وحضور مواراته إذا مات؛ لأن منعها مما ذكر يؤدي إلى النفور ويغريها بالعقوق، وأجاز الحنفية للمرأة الخروج بغير إذن زوجها إذا مرض أحد أبويها. ويجب على المرأة في حال الخروج التزام الستر الشرعي، لا تظهر شيئاً من جسدها غير الوجه والكفين؛ لأن في كشف شيء مما أوجب الله ستره تعريضاً للفتنة والتطلع إليها، قال تعالى: {ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى} [الأحزاب:33/ 33]. ومن التبرج: المشي بتكسر وحركات مثيرة، ومن التبرج أيضاً أن تلبس المرأة ثوباً رقيقاً يصف ما تحته، قال صلّى الله عليه وسلم: «صنفان من أهل النار لم أرهما بعد: نساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات (¬2)، على رؤوسهن أمثال أسنمة البخت المائلة (¬3)، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا. ورجال معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس» (¬4) وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً: «أيما امرأة استعطرت، فخرجت فمرت على قوم ليجدوا ريحها، فهي زانية» (¬5). ¬
والتزام المرأة البيت لا بمعنى حبسها فيه أو التضييق عليها هو خير شيء للمرأة، قال عليه الصلاة والسلام: «إن المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون من رحمة ربها، وهي في قعر بيتها» (¬1) وهو يدل على وجوب الستر وعدم إظهار المرأة شيئاً من بدنها، وأن في الخروج العمل على إغواء الشياطين لها وإغراء الرجال بها حتى تقع الفتنة. وليس للزوجة صوم نفل أو تطوع إلا بإذن الزوج، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يحل لامرأة أن تصوم، وزوجها شاهد إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه» (¬2) وروى البزار عن ابن عباس: «أن امرأة من خثعم أتت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، أخبرني ما حق الزوج على الزوجة، فإني امرأة أيّم، فإن استطعت وإلا جلست أيَّماًَ؟ قال: فإن حق الزوج على زوجته إن سألها نفسها، وهي على ظهر قتب ألا تمنعه، وألا تصوم تطوعاً إلا بإذنه، فإن فعلت جاعت وعطشت ولا تقبل منها، ولا تخرج من بيتها إلا بإذنه، فإن فعلت لعنتها ملائكة السماء وملائكة الرحمة وملائكة العذاب، قالت: لا جرم، لا أتزوج أبداً» (¬3). ومنشأ حق الطاعة بالمعروف: إثبات الله درجة القوامة للرجال على النساء في قوله تعالى: {الرجال قوامون على النساء بما فضّل الله بعضهم على بعض، وبما أنفقوا من أموالهم} [النساء:34/ 4] أي إنما استحقوا هذه المزية لتميزهم برجاحة العقل وقوة الجسد، وبما يلزمون به من الإنفاق على النساء من أموالهم بتقديم المهر والنفقة الزوجية الدائمة. ¬
- الأمانة
2ً - الأمانة: على الزوجة أن تحفظ غيبة زوجها في نفسها وبيته وماله وولده، لحديث ابن الأحوص السابق: «أما حقكم على نسائكم، فلا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذنَّ في بيوتكم لمن تكرهون» وقوله صلّى الله عليه وسلم: «نساء قريش خير نساء ركبن الإبل، أحناه على طفل في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده» وفي لفظ: «خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش» (¬1) ويؤكده الحديث المعروف: «كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، والأمير راع، والرجل راع على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» (¬2) فعليها أن تحسن تربية أولادها على الدين والفضيلة والقيام بالواجب. 3ً - المعاشرة بالمعروف: يجب على المرأة معاشرة الزوج بالمعروف من كف الأذى وغيره، كما عليه معاشرتها بالمعروف، لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين: لا تؤذيه، قاتلكِ الله، فإنما هو عندكِ دخيل، يوشك أن يفارقك إلينا» (¬3) وقال صلّى الله عليه وسلم: «ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء» (¬4). 4ً - حق التأديب (¬5): للزوج الحق في تأديب زوجته عند نشوزها أو عصيانها أمره بالمعروف لا في المعصية؛ لأن الله عز وجل أمر بتأديب النساء بالهجر والضرب عند عدم طاعتهن، فإن تحققت الطاعة وجب الكف عن التأديب لقوله ¬
أولا ـ الوعظ والإرشاد
عز وجل: {فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً} [النساء:34/ 4] ولا تحتاج المرأة الصالحة لتأديب لقوله تعالى: {فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله} [النساء:34/ 4] وأما غير الصالحة وهي التي تخل بحقوق الزوجية وتعصي الزوج فهي التي تكون بحاجة إلى التأديب. إن ولاية التأديب للزوج تكون إذا لم تطعه زوجته فيما يلزم طاعته، بأن كانت ناشزة، والنشوز: معصيتها إياه فيما يجب عليها، وكراهة كل من الزوجين صاحبه، والخروج من المنزل بغير إذن الزوج، لا إلى القاضي لطلب الحق منه. وأمارات النشوز: إما بالفعل كالإعراض والعبوس والتثاقل إذا دعاها بعد لطف وطلاقة وجه، وإما بالقول، كأن تجيبه بكلام خشن بعد أن كان بلين. ويبدأ الزوج بالتأديب عند ظهور أمارات النشوز بالترتيب التالي: أولاً ـ الوعظ والإرشاد: بأن يتكلم معها بكلام رقيق لين، بأن يقول لها: كوني من الصالحات القانتات الحافظات للغيب، ولا تكوني من كذا وكذا، أو: اتقي الله في الحق الواجب لي عليك، واحذري العقوبة، لقوله تعالى: {واللاتي تخافون نشوزهن، فعظوهن} [النساء:34/ 4] وذلك بلا هجر ولا ضرب، ويبين لها أن النشوز يسقط النفقة والقسم مع ضرائرها، فلعلها تبدي عذراً، أو تتوب عما وقع منها بغير عذر. والخوف هنا بمعنى العلم، والأولى بقاؤه على ظاهره، فمن ظهر له أمارة نشوز أو تحققه، وعظها. ثانياً ـ الهجر في المضجع والإعراض: إن تحقق النشوز بأن عصيته وامتنعت من إطاعته، أو خرجت من بيته بغير إذنه ونحوه، هجرها في المضجع ما شاء، لقوله تعالى: {واهجروهن في المضاجع} [النساء:34/ 4] قال ابن عباس: «لا تضاجعها في فراشك» و «قد هجر النبي صلّى الله عليه وسلم نساءه، فلم يدخل عليهن شهراً» (¬1). ¬
ثالثا ـ الضرب غير المخوف
وهجرها في الكلام ثلاثة أيام، لا فوقها، لحديث أبي هريرة: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام» (¬1) والهجر: ضد الوصل، والتهاجر: التقاطع. ولا يضربها عند الجمهور، وقال النووي: الأظهر يضرب، لقوله تعالى: {فاهجروهن في المضاجع واضربوهن} [النساء:34/ 4] والمراد: واهجروهن إن نشزن، واضربوهن إن أصررن على النشوز، أي إن لم يتكرر نشوز الزوجة وعظها الزوج وهجرها في المضجع وضربها في رأي الشافعية. ثالثاً ـ الضرب غير المخوف: إن أصرت على النشوز ضربها عندئذ ضرباً غير مبرح ـ أي غير شديد ـ ولا شائن، للآية السابقة {واضربوهن} [النساء:34/ 4] فظاهر الآية وإن كان بحرف الواو الموضوعة للجمع المطلق، لكن المراد منه الجمع على سبيل الترتيب، والواو يحتمل ذلك. ويجتنب في أثناء الضرب: الوجه تكرمة له، ويجتنب البطن والمواضع المخوفة خوف القتل، ويجتنب المواضع المستحسنة لئلا يشوهها، ويكون الضرب ـ كما أبان الحنفية ـ عشرة أسواط فأقل، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يجلد أحدكم فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله» (¬2) وقوله: «لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد، ثم يضاجعها في آخر اليوم» (¬3). فإن تلفت من الجلد فلا ضمان عليه عند الحنابلة والمالكية؛ لأن الضرب مأذون فيه شرعاً. وقال أبو حنيفة والشافعي: إنه يضمن؛ لأن استيفاء الحق مقيد بشرط السلامة للآخرين. ويكون الضرب أيضاً بيد على الكتف مثلاً، أو بعصا خفيفة أو بسواك ونحوه ¬
رابعا ـ طلب إرسال الحكمين
إن رأى الزوج هذا. والأولى الاكتفاء بالتهديد وعدم الضرب، لما قالت عائشة: «ما ضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم امرأة له ولا خادماً، ولا ضرب بيده شيئاً قط إلا في سبيل الله، أو تنتهك محارم الله، فينتقم لله» (¬1). رابعاً ـ طلب إرسال الحكمين: إن نفع الضرب لبعض النساء الشاذات، فبها ونعمت، وإن لم ينفع وادعى كل من الزوجين ظلم صاحبه ولا بينة لهما، رفع الأمر إلى القاضي لتوجيه حكمين إليهما، حكماً من أهله وحكماً من أهلها، للإصلاح أو التفريق، لقوله تعالى: {وإن خفتم شقاق بينهما، فابعثوا حَكَماً من أهله، وحَكَماً من أهلها، إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما} [النساء:35/ 4]. والحكمان: حران مسلمان ذكران عدلان مكلفان فقيهان عالمان بالجمع والتفريق؛ لأن التحكيم يفتقر إلى الرأي والنظر، ويجوز أن يكونا من غير أهلهما؛ والأولى أن يكونا من غير أهلهما؛ لأن القرابة ليست شرطاً في الحكم ولا الوكالة. وينبغي لهما أن ينويا الإصلاح لقوله تعالى: {إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما} [النساء:35/ 4]، وأن يلطفا القول، وأن ينصفا، ويرغبا ويخوفا، ولا يخصا بذلك أحد الزوجين دون الآخر، ليكون أقرب للتوفيق بينهما. وينفذ عند المالكية تصرف الحكمين في أمر الزوجين بما رأياه من تطليق أو خلع، من غيرإذن الزوج ولا موافقة الحاكم، بعد أن يعجز عن الإصلاح بينهما، وإذا حكما بالفراق فهي طلقة بائنة. وقال الشافعية والحنابلة: الحكمان وكيلان عن الزوجين، فلا يملكان تفريقاً إلا بإذن الزوجين، فيأذن الرجل لوكيله فيما يراه من طلاق أوإصلاح، وتأذن المرأة لوكيلها في الخلع والصلح على ما يراه. ¬
- الاغتسال من الحيض والنفاس والجنابة
وقال الحنفية: يرفع الحكمان ما يريدانه إلى القاضي، والقاضي هو الذي يوقع الطلاق، وهو طلاق بائن، بناء على تقريرهما، فليس للحكمين التفريق إلا أن يفوضا فيه. 5ً - الاغتسال من الحيض والنفاس والجنابة: قال الشافعية والحنابلة: للزوج إجبار الزوجة، ولو كانت ذمية على الغسل من الحيض والنفاس؛ لأنه يمنع الاستمتاع الذي هو حق له، فيملك إجبارها على إزالة ما يمنع حقه. وله إجبار الزوجة المسلمة البالغة على غسل جنابة؛ لأن الصلاة واجبة عليها، ولا تتمكن منها إلا بالغسل؛ ولأن النفس تعاف من وطء الجنب، ولا يجبر الزوجة الذمية على غسل الجنابة كالمسلمة التي دون البلوغ؛ لأن الاستمتاع لا يتوقف عليه، لإباحته بدونه. وأضاف الحنابلة: أن للزوج إجبار الزوجة على غسل نجاسة؛ لأنه واجب عليها، وله أيضاً إجبارها على اجتناب محرَّم لوجوبه عليها، وله إجبارها عى أخذ شعر وظفر تعافه النفس، وإزالة وسخ؛ لأن المذكور يمنع كمال الاستمتاع. وذكر الشافعية في التنظيف والاستحداد (حلق العانة) وغسل الجنابة وجهين: وجه يملك إجبارها عليه؛ لأن كمال الاستمتاع يقف عليه. والثاني: لا يملك إجبارها عليه؛ لأن الوطء لا يقف عليه. 6ً - السفر بالزوجة: عرفنا أن للزوج بعد أداء كل المهر المعجل أن يسافر بزوجته إذا كان مأموناً عليها (¬1). ¬
المبحث الثالث ـ الحقوق المشتركة بين الزوجين
المبحث الثالث ـ الحقوق المشتركة بين الزوجين: أغلب الحقوق السابقة خصوصاً حق الاستمتاع وما يتبعه هي حقوق مشتركة بين الزوجين، لكن حق الزوج على زوجته أعظم من حقها عليه، لقوله تعالى: {وللرجال عليهن درجة} [البقرة:228/ 2] وللحديث السابق عند أبي داود: «لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد، لأمرت النساء أن يسجدن لأزواجهن، لما جعل الله لهم عليهن من الحق». ويسن لكل من الزوجين تحسين الخُلُق لصاحبه والرفق به واحتمال أذاه وسوء طباعه، لقوله تعالى: {والصاحب بالجنب} [النساء:36/ 4] أي الإحسان له، وللحديث المتقدم: «استوصوا بالنساء خيراً» وحديث «خياركم خياركم لنسائه» (¬1). وليكن الزوج غيوراً من غير إفراط، لئلا ترمى بالشر من أجله. وينبغي إمساك المرأة مع الكراهة لها، لقوله تعالى: {فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً، ويجعل الله فيه خيراً كثيراًَ} [النساء:19/ 4] قال ابن عباس: «ربما رزق منها ولداً، فجعل الله فيه خيراً كثيرا». وأخرج مسلم عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يَفْرَك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً، رضي منها خلقاً آخر» أي لايبغضها. ولا ينبغي للرجل أن يعلم امرأته قدر ماله، ولا يفشي إليها سراً يخاف إذاعته؛ لأنها تفشيه. ولا يكثر من الهبة لها، فإنه متى عودها شيئاً لم تصبر عنه (¬2). ¬
الباب الثاني: انحلال الزواج وآثاره
البَابُ الثَّاني: انحلال الزَّواج وآثاره فيه أربعة فصول: الأول ـ في الطلاق. الثاني ـ في الخلع. الثالث ـ في التفريق القضائي. الرابع ـ في العِدَّة والاستبراء.
الفصل الأول: الطلاق
الفَصْلُ الأوَّل: الطَّلاق ويشتمل على تمهيد وستة مباحث وملحق: الأول ـ معنى الطلاق ومشروعيته وحكمه وركنه وحكمته وسبب جعله بيد الرجل. الثاني ـ شروط الطلاق، أو مالك الطلاق وقدره ومحله (من يقع عليه) وما يقع به (صيغته). الثالث ـ قيود إيقاع الطلاق شرعاً. الرابع ـ التوكيل في الطلاق وتفويضه. الخامس ـ أنواع الطلاق وحكم كل نوع. السادس ـ الشك في الطلاق وإثباته. ملحق ـ عن زواج التحليل والرجعة. تمهيد ـ في معنى انحلال الزواج وأنواع الفُرَق الزوجية: انحلال الزواج: هو إنهاؤه باختيار الزوج، أو بحكم القاضي، والفُرْقة لغة بمعنى الافتراق، وجمعها فرق، واصطلاحاً: هي انحلال رابطة الزواج، وانقطاع العلاقة بين الزوجين بسبب من الأسباب.
الفرق بين الفسخ والطلاق
والفرقة نوعان: فرقة فسخ وفرقة طلاق. والفسخ إما أن يكون بتراضي الزوجين وهو المخالعة، أو بواسطة القاضي. وذكر المالكية (¬1) أن الفراق بين الزوجين يقع على خمسة عشر وجهاً: وهي الطلاق على اختلاف أنواعه، والإيلاء إن لم يفئ الزوج عن يمينه، واللعان، والردة، وملك أحد الزوجين الآخر، والإضرار بالزوجة، وتفريق الحَكَمين بين الزوجين، واختلاف الزوجين في الصداق قبل الدخول، وحدوث الجنون أو الجذام أو البرص في الزوج، ووجود العيوب في أحد الزوجين، والإعسار بالنفقة، أو الصداق، والتغرير، والفقد، وعتق الأمة زوجة العبد، وتزوج أمة على الحرة. الفرق بين الفسخ والطلاق: يفترق الفسخ عن الطلاق من ثلاثة أوجه: الأول ـ حقيقة كل منهما: الفسخ: نقض للعقد من أساسه وإزالة للحل الذي يترتب عليه، أما الطلاق: فهو إنهاء للعقد ولا يزول الحل إلا بعد البينونة الكبرى (الطلاق الثلاث). الثاني ـ أسباب كل منهما: الفسخ يكون إما بسبب حالات طارئة على العقد تنافي الزواج، أو حالات مقارنة للعقد تقتضي عدم لزومه من الأصل. فمن أمثلة الحالات الطارئة: ردة الزوجة أو إباؤها الإسلام، أو الاتصال الجنسي بين الزوج وأم زوجته أو بنتها، أو بين الزوجة وأبي زوجها أو ابنه مما يحرم المصاهرة، وذلك ينافي الزواج، ومن أمثلة الحالات المقارنة: أحوال خيار البلوغ لأحد الزوجين، ¬
متى تكون الفرقة فسخا ومتى تكون طلاقا؟
وخيار أولياء المرأة التي تزوجت من غير كفء أو بأقل من مهر المثل عند الحنفية، ففيها كان العقد غير لازم. أما الطلاق: فلا يكون إلا بناء على عقد صحيح لازم، وهو من حقوق الزوج، فليس فيه ما يتنافى مع عقد الزواج أو يكون بسبب عدم لزومه. الثالث ـ أثر كل منهما: الفسخ لا ينقص عدد الطلقات التي يملكها الرجل، أما الطلاق فينقص به عدد الطلقات. وكذلك فرقة الفسخ لا يقع في عدتها طلاق، إلا إذا كانت بسبب الردة أو الإباء عن الإسلام، فيقع فيهما عند الحنفية طلاق زجراً وعقوبة. أما عدة الطلاق فيقع فيها طلاق آخر، ويستمر فيها كثير من أحكام الزواج. ثم إن الفسخ قبل الدخول لا يوجب للمرأة شيئاً من المهر، أما الطلاق قبل الدخول فيوجب نصف المهر المسمى، فإن لم يكن المهر مسمى استحقت المتعة. متى تكون الفرقة فسخاً ومتى تكون طلاقاً؟ للفقهاء آراء في بيان أحوال الفسخ وأحوال الطلاق. يرى الحنفية (¬1): أن الفرقة تكون فسخاً فيما يأتي: 1ً - تفريق القاضي بين الزوجين بسبب إباء الزوجة الإسلام بعدما أسلم زوجها المشرك أو المجوسي؛ لأن المشركة لا تصلح لنكاح المسلم، والفرقة جاءت من قبلها، والفرقة من قبل المرأة لا تصلح طلاقاً؛ لأنها لا تتولى الطلاق، فيجعل فسخاً. ¬
أما إن كان الإباء من الزوج، فتكون الفرقة طلاقاً في قول أبي حنيفة ومحمد، وفسخاً في قول أبي يوسف. 2ً - ردة أحد الزوجين. 3ً - تباين الدارين حقيقة وحكماً: بأن خرج أحد الزوجين إلى دار الإسلام مسلماً أو ذمياً، وترك الآخر كافراً في دار الحرب قياساً على الردة لعدم التمكين من الانتفاع عادة. أما إن خرج أحدهما مستأمناً وبقي الآخر كافراً في دار الحرب فلا تقع الفرقة. وقال غير الحنفية: لا تقع الفرقة باختلاف الدارين. 4ً - خيار بلوغ الصغير أو الصغيرة. هذه الفرقة لا تقع إلا بتفريق القاضي. فإن كانت الفرقة بسبب اختيار المرأة نفسها لعيب الجب والعنة والخصاء والخنوثة، فهي فرقة بطلاق من طريق القاضي. 5ً - خيار العتق: بأن تعتق الأمة ويبقى زوجها عبداً، فلها الخيار بالبقاء أو إنهاء الزواج، وتثبت الفرقة بنفس الاختيار؛ لأن الفرقة وقعت بسبب وجد منها وهو اختيارها نفسها، واختيارها نفسها لا يجوز أن يكون طلاقاً؛ لأنها لا تملك الطلاق، إلا إذا مُلِّكت كالمخيَّرة. 6ً - التفريق لعدم الكفاءة أو لنقصان المهر: تكون الفرقة فسخاً؛ لأنها فرقة حصلت لا من جهة الزوج، فلا يمكن أن يجعل ذلك طلاقاً؛ لأنه ليس لغير الزوج ولاية الطلاق، فيجعل فسخاً، ولا تكون هذه الفرقة إلا عند القاضي كالفسخ بخيار البلوغ. وما عداها من أنواع الفرق التي تكون من قبل الزوج أو بسبب منه يكون طلاقاً، ومنه المخالعة.
قال المالكية
وعليه فإن ضابط ما يتميز به الفسخ عن الطلاق عند أبي حنيفة ومحمد: هو أن كل فرقة بسبب من جانب المرأة تكون فسخاً، وكل فرقة من جانب الرجل أو بسبب منه مختص بالزواج فهي طلاق، إلا أن أبا حنيفة خلافاً لمحمد يعتبر الفرقة بسبب ردة الزوج فسخاً؛ لأنه يرى أن الردة كالموت من حيث إن صاحبها مهدر الدم، فتشبه الفرقة بالموت، والفرقة بالموت لا يمكن جعلها طلاقاً. وبه يظهر أن الغالب كون الفرقة طلاقاً. وقال المالكية (¬1): إما أن تكون الفرقة من زواج صحيح أو زواج فاسد. أولاً ـ إن كات الفرقة من زواج صحيح: فإنها تكون طلاقاً إلا إذا كانت بسبب أمر طارئ يوجب التحريم المؤبد، سواء من أحد الزوجين أو من القاضي. ثانياً ـ وإن كانت الفرقة من زواج فاسد: فإن كان مجمعاً على فساده: فإن الفرقة فيه تكون فسخاً، لا طلاقاً، كالفرقة من زواج المتعة، والزواج بإحدى المحارم، والزواج بالمعتدة، ونحوها. وإن كان مختلفاً في فساده: وهو ما يكون فاسداً عند المالكية صحيحاً عند غيرهم، كزواج المرأة بدون ولي فهو فاسد عندهم صحيح عند الحنفية، فإن الفرقة فيه تكون طلاقاً لا فسخاً. ومنه زواج السر (وهو الذي يوصي الزوج الشهود بكتمان العقد عن الناس أو عن بعضهم) فهو فاسد عندهم صحيح عند باقي الأئمة. وعلى هذا تكون الفرقة فسخاً فيما يأتي: ¬
1 - إذا وقع العقد غير صحيح، كالزواج بالأخت أو إحدى المحارم، والزواج بزوجة الغير أو معتدته. 2 - إذا طرأ على الزواج ما يوجب الحرمة المؤبدة كالاتصال الجنسي بشبهة من أحد الزوجين بأصول الآخر أو فروعه، مما يوجب حرمة المصاهرة. 3 - الفرقة بسبب اللعان: لأنه تترتب عليه الحرمة المؤبدة، لحديث «المتلاعنان لا يجتمعان أبداً» (¬1). 4 - الفرقة بسبب إباء الزوج الإسلام بعد أن أسلمت زوجته، أو إباء الزوجة غير الكتابية الإسلام بعد إسلام زوجها؛ لأن ذلك في معنى طروء مفسد على الزواج. وتكون الفرقة طلاقاً فيما يأتي: 1ً - إذا استعمل لفظ الطلاق في الزواج الصحيح، أوالمختلف في فساده. 2ً - إذا حدثت الفرقة بالخلع في الزواج أوالمختلف في فساده. 3ً - الفرقة بسبب الإيلاء: وهو أن يحلف الزوج ألا يقرب زوجته أكثر من أربعة أشهر. فإن لم يعد عن يمينه بعد أمر القاضي له عقب ادعاء الزوجة فرّق بينهما، وكانت الفرقة طلاقاً. 4ً - الفرقة لعدم كفاءة الزوج، سواء أكانت من الزوجة أم من وليها. 5ً - الفرقة لعدم الإنفاق أو للغيبة، أو للضرر وسوء العشرة. 6ً - الفرقة بسبب ردة أحد الزوجين عن الإسلام: فإنها طلاق في مشهور ¬
مذهب الشافعية
المذهب؛ لأنها فرقة بسبب أمر طارئ يوجب التحريم غير المؤبد الذي ينتهي بالرجوع عن الإسلام. وبه يظهر أن أغلب الفُرق تكون طلاقاً. ومذهب الشافعية (¬1): هو أن فرقة النكاح طلاق وفسخ: والطلاق أنواع: الطلاق المعهود صراحة أو كناية، والخلع، وفرقة الإيلاء، والحَكَمين. والفسخ أنواع سبعة عشر: فرقة إعسار مهر، وإعسار نفقة أو كسوة أو مسكن بعد إمهال الزوج ثلاثة أيام، وفرقة لعان، وفرقة خيار عَتيقة (¬2)، وفرقة عيوب (¬3) بعد رفع الأمر إلى الحاكم، وثبوت العيب، والفسخ به فوري إلا العُنَّة فتؤجل سنة من يوم ثبوتها، وفرقة غرور (¬4)، ووطء شبهة كوطء أم زوجته أو ابنتها، وسبْي للزوجين أو أحدهما قبل الدخول أو بعده؛ لأن الرق إذا حدث أزال الملك عن النفس، فيكون عن العصمة أولى، وفرقة إسلام أحد الزوجين، أو ردته، وإسلام الزوج على أختين أو أكثر من أربع، أو أمتين، وملك أحد الزوجين الآخر، وعدم الكفاءة بأن أطلقت المرأة الإذن فبان الرجل غير كفء، وانتقال من دين إلى آخر كالانتقال من اليهودية إلى النصرانية، وفرقة رضاع بشرط كونه خمس رضعات متفرقات قبل مضي حولين. ¬
قال الحنابلة
وقال الحنابلة (¬1): يكون الفسخ في حالات، منها ما يأتي: 1 - الخلع إذا كان بغير لفظ الطلاق، أو بغير نيةا لطلاق. 2 - ردة أحد الزوجين. 3 - الفرقة لعيب مشترك وهو الجنون والصرع، أو مختص بالمرأة كالرتق والقرن والبخر والقروح السيالة، وانخراق ما بين السبيلين، أو مختص بالرجل كالجب والعنة. ولا يفسخ الزواج إلا حاكم. 4 - إسلام أحد الزوجين. 5 - الفرقة بسبب الإيلاء بواسطة القاضي، إن انقضت المدة وهي أربعة أشهر، ولم يطأ الزوج زوجته، ولم يطلق بعد أن يأمره الحاكم بالطلاق. 6 - الفرقة بسبب اللعان: لأن اللعان يوجب التحريم بين الزوجين على التأبيد، ولو لم يحكم به القاضي. وأما الفرقة بسبب الطلاق: فهي ما كانت بألفاظ الطلاق صريحاً أو كناية. الفُرَق التي تتوقف على القضاء والتي لا تتوقف على القضاء: قد تحتاج الفرقة سواء أكانت طلاقاً أم فسخاً إلى قضاء القاضي، وقد لا تحتاج، ويظهر أثر التوقف على القضاء وعدمه في بعض الأحكام، كالإرث، فإن وجد سبب الفرقة، ثم مات أحد الزوجين قبل صدور حكم قضائي، فإن احتاجت الفرقة إلى القضاء، فإن الآخر يرثه، وإن لم تحتج إلى قضاء فلا يرثه الآخر، لانتهاء الزوجية بمجرد وجود سبب الفرقة. ¬
فرق الطلاق المتوقفة على القضاء
أما الفُرَق التي تتوقف على القضاء فهي نوعان: فرق الطلاق وفرق الفسخ. وفرق الطلاق المتوقفة على القضاء هي عند الحنفية ما يأتي: 1ً - الفرقة بسبب اللعان. وقال المالكية في المشهور: لا تتوقف هذه الفرقة على القضاء. 2ً - الفرقة بسبب عيوب الزوج وهي الجب والعنة والخصاء، ويفسخ العقد عند الجمهور بسبب هذه العيوب أو عيب الرتق والقرن ونحوهما في الزوجة، بعد رفع الأمر للحاكم. 3ً - الفرقة بسبب إباء الزوج الإسلام في رأي أبي حنيفة ومحمد. وزيد في مصر وسورية التفريق لغيبة الزوج أو حبسه، ولعدم الإنفاق على زوجته، وللشقاق بين الزوجين أو الإضرار بالزوجة. وفُرَق الطلاق غير المتوقفة على القضاء هي: 1 - الفرقة بلفظ الطلاق، ومنه تفويض أمر الطلاق إلى الزوجة بالاتفاق. 2 - الفرقة بسبب الإيلاء عند الحنفية والمالكية. 3 - الفرقة بالخلع عند الجمهور غير الحنابلة. وأما فرق الفسخ المتوقفة على القضاء فهي: 1 - الفرقة بسبب عدم الكفاءة. 2 - الفرقة بسبب نقصان المهر عن مهر المثل. 3 - الفرقة بسبب إباء أحد الزوجين الإسلام إذا أسلم الآخر، لكن الفرقة بسبب إباء الزوجة متفق عليه، وبسبب إباء الزوج متفق عليه في غير رأي أبي حنيفة ومحمد. وأما في رأي أبي يوسف فهي فسخ.
فرق الفسخ غير المتوقفة على القضاء
4 - الفرقة بسبب خيار البلوغ لأحد الزوجين عند الحنفية إذا زوَّجهما في الصغر غير الأب والجد. 5 - الفرقة بسبب خيار الإفاقة من الجنون عند الحنفية إذا زوَّج أحد الزوجين في الصغر غير الأب والجد والابن. وأما فُرَق الفسخ غير المتوقفة على القضاء فهي: 1 - الفسخ بسبب فساد العقد في أصله كالزواج بغير شهود، والزواج بالأخت. 2 - الفسخ بسبب اتصال أحد الزوجين بأصول الآخر أوفروعه اتصالاً يوجب حرمة المصاهرة. 3 - الفسخ بسبب ردة الزوج في رأي أبي حنيفة وأبي يوسف، فإن ارتد الزوجان فلا يفرق بينهما بمجرد الردة في الراجح عند الحنفية. 4 - الفسخ بسبب خيار العتق للزوجة. 5 - الفسخ بسبب ملك أحد الزوجين للآخر. هذا ويلاحظ أمران: الأول ـ أن الفرقة بسبب الاتصال الذي يوجب حرمة المصاهرة توجب حرمة مؤبدة، والفرقة بسبب خيار البلوغ أو الردة أو الإباء عن الإسلام أو ملك أحد الزوجين الآخر توجب حرمة مؤقتة. وأما فرقة اللعان فتوجب حرمة مؤبدة عند الحنابلة وأبي يوسف والشافعية والمالكية، وتوجب حرمة مؤقتة عند أبي حنيفة ومحمد إذا خرج أحد الزوجين عن أهلية اللعان، أو كذب الرجل نفسه فيما قذف به المرأة.
المبحث الأول ـ معنى الطلاق
الثاني ـ كل فرقة من جهة الزوجة تسقط المهر عند الحنفية إلا إذا تأكد العقد بالدخول أو الخلوة، فإن كانت الفرقة من الزوج أو بسببه، فلا تسقط شيئاً للزوجة حالة الدخول وعدمه. المبحث الأول ـ معنى الطلاق ومشروعيته، وحكمه، وركنه، وحكمته، وسبب جعله بيد الرجل: معنى الطلاق: الطلاق لغة، حل القيد والإطلاق، ومنه ناقة طالق، أي مرسلة بلا قيد، وأسير مطلق، أي حل قيده وخلي عنه، لكن العرف خص الطلاق بحل القيد المعنوي، وهو في المرأة، والإطلاق في حل القيد الحسي في غير المرأة. وشرعاً: حل قيد النكاح، أو حل عقْد النكاح بلفظ الطلاق ونحوه. أو رفع قيد النكاح في الحال أو المآل بلفظ مخصوص (¬1). فحل رابطة الزواج في الحال يكون بالطلاق البائن، وفي المآل أي بعد العدة يكون بالطلاق الرجعي. واللفظ المخصوص: هو الصريح كلفظ الطلاق، والكناية كلفظ البائن والحرام والإطلاق ونحوها. ويقوم مقام اللفظ: الكتابة والإشارة المفهمة، ويلحق بلفظ الطلاق لفظ «الخلع» وقول القاضي: «فرقت» في التفريق للغيبة أو الحبس، أو لعدم الإنفاق أو لسوء العشرة. وقد أخرج باللفظ المخصوص: الفسخ، فإنه يحل رابطة الزواج في الحال، لكن بغير لفظ الطلاق ونحوه، والفسخ كخيار البلوغ، وعدم الكفاءة، ونقصان المهر، والردة. ولا يصح الرجوع في الطلاق أو العدول عنه كسائر الأيمان، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا قيلولة في الطلاق» (¬2). ¬
مشروعيته
مشروعيته: الطلاق مشروع بالكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب: فقول الله تعالى: {الطلاق مرتان، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} [البقرة:229/ 2] وقوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلَّقتم النساء، فطلقوهن لعدتهن} [الطَّلاق:1/ 65]. وأما السنة: فقوله صلّى الله عليه وسلم: «إنما الطلاق لمن أخذ بالساق» (¬1) وقوله عليه الصلاة والسلام: «أبغض الحلال إلى الله: الطلاق» (¬2). وقال عمر: «طلق النبي صلّى الله عليه وسلم حفصة، ثم راجعها» (¬3). وأجمع الناس على جواز الطلاق، والمعقول يؤيده، فإنه ربما فسدت الحال بين الزوجين، فيصير بقاء الزواج مفسدة محضة، وضرراً مجرداً، بإلزام الزوج والنفقة والسكنى، وحبس المرأة مع سوء العشرة، والخصومة الدائمة من غير فائدة، فاقتضى ذلك شرع ما يزيل الزواج، لتزول المفسدة الحاصلة منه. حكمة تشريع الطلاق: تظهر حكمة تشريع الطلاق من المعقول السابق، وهو الحاجة إلى الخلاص من تباين الأخلاق، وطروء البغضاء الموجبة عدم إقامة حدود الله تعالى، فكان تشريعه رحمة منه سبحانه وتعالى (¬4). أي أن الطلاق علاج حاسم، وحل نهائي أخيراً لما استعصى حله على الزوجين وأهل الخير والحكمين، بسبب تباين الأخلاق، وتنافر الطباع، وتعقد مسيرة الحياة المشتركة بين ¬
الزوجين، أو بسبب الإصابة بمرض لا يحتمل، أو عُقْم لا علاج له، مما يؤدي إلى ذهاب المحبة والمودة، وتوليد الكراهية والبغضاء، فيكون الطلاق منفذاً متعيناً للخلاص من المفاسد والشرور الحادثة. الطلاق إذن ضرورة لحل مشكلات الأسرة، ومشروع للحاجة ويكره عند عدم الحاجة، للحديث السابق: «ليس شيء من الحلال أبغض إلى الله من الطلاق» وحديث: «أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس، فحرام عليها رائحة الجنة» (¬1). ومن أسبابه المبيحة له طاعة الوالدين فيه، قال ابن عمر: «كانت تحتي امرأة أحبها، وكان أبي يكرهها، فأمرني أن أطلِّقها فأبيتُ، فذُكر ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: يا عبد الله بن عمر: طلِّق امرأتك» (¬2) وصرح الحنابلة (¬3): أنه لا يجب على الرجل طاعة أبويه ولو عدلين في طلاق أو منع من تزويج. وما قد يترتب على الطلاق من أضرار، وبخاصة الأولاد، يحتمل في سبيل دفع ضرر أشد وأكبر، عملاً بالقاعدة: «يختار أهون الشرين». لكن رغب الشرع الأزواج في الصبر وتحمل خلق الزوجة، فقال تعالى: {وعاشروهن بالمعروف، فإن كرهتموهن، فعسى أن تكرهوا شيئاً، ويجعل الله فيه خيراً كثيرا} [النساء:19/ 4] وقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يفرَكْ مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلُقاً، رضي منها آخر» (¬4). وشرع الشرع طرقاً ودية لحل ما يثور من نزاع بين الزوجين، من وعظ ¬
الطلاق تشريع استثنائي للضرورة
وإرشاد، وهجر في المضجع وإعراض، وضرب، وإرسال حكمين من قبل القاضي إذا عجز الزوجان عن الإصلاح وإزالة الشقاق الذي بينها، وقد بينت ذلك في بحث حقوق الزوجين، وهي كلها مأخوذة من آيات ثلاث هي: {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً، فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً، والصلح خير، وأحضرت الأنفس الشح، وإن تحسنوا وتتقوا، فإن الله كان بما تعملون خبيراً} [النساء:128/ 4] {وإن خفتم شقاق بينهما، فابعثوا حكماً من أهله، وحكماً من أهلها، إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما، إن الله كان عليماً خبيراً} [النساء:35/ 4] {واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن، واهجروهن في المضاجع، واضربوهن، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً، إن الله كان علياً كبيراً} [النساء:34/ 4].ولا يلجأ إلى الطلاق لأول وهلة ولأهون الأسباب، كما يفعل بعض الجهلة الذين يقدمون عليه لطيش بيِّن، أو حماقة، أو غضب موقوت، أو شهوة جارفة أو هوى مستبد، فهو كله خروج عن تعاليم الإسلام وآدابه، وموجب للإثم والمعصية والتأديب والتعزير، وإنما الطلاق تشريع استثنائي للضرورة بعد أن يسلك الزوج المراحل الآتية: وهي المعاشرة بالمعروف والصبر وتحمل الأذى، ثم الوعظ والهجر والضرب اليسير، ثم إرسال الحكمين. فإن وقع الطلاق فيمكن العودة إلى الزواج بالرجعة بغير شهود ما دامت المرأة في العدة، أو بعقد جديد بعد انتهاء العدة، وذلك لمرتين بعد الطلقة الأولى، وبعد الطلقة الثانية، فتلك فترتان متكررتان لمراجعة الحساب، وتقدير الظروف، ومحاكمة الأمور، وتعقل النتائج والآثار، وهذا يحدث غالباً، فكل من الزوجين
السبب في جعل الطلاق بيد الرجل
يندم ويتنازل عن أمور، ويقلع عن أخلاق، ويرضى بالعيش في ظل حياة زوجية لا توفر له كل ما يرغب بالمقارنة مع حياة العزلة والانفراد، والاتكال على الأهل الذين يضايقهم عادة تحمل أعباء جديدة من النفقة والخدمة وغيرها، هذا فضلاً عما في الفراق من تعريض سمعة المرأة للطعن والنقد، إذ لو كانت حسنة الأخلاق، لما طلقت، وبه يكون إحصاء عدد الرجعات بعد الطلاق مما ينقص كثيراً من إحصائيات الطلاق. السبب في جعل الطلاق بيد الرجل: جعل الطلاق بيد الزوج لا بيد الزوجة بالرغم من أنها شريكة في العقد حفاظاً على الزواج، وتقديراً لمخاطر إنهائه بنحو سريع غير متئد؛ لأن الرجل الذي دفع المهر وأنفق على الزوجة والبيت يكون عادة أكثر تقديراً لعواقب الأمور، وأبعد عن الطيش في تصرف يلحق به ضرراً كبيراً، فهو أولى من المرأة بإعطائه حق التطليق لأمرين: الأول ـ إن المرأة غالباً أشد تأثراً بالعاطفة من الرجل، فإذا ملكت التطليق، فربما أوقعت الطلاق لأسباب بسيطة لا تستحق هدم الحياة الزوجية. الثاني ـ يستتبع الطلاق أموراً مالية من دفع مؤجل المهر، ونفقة العدة، والمتعة، وهذه التكاليف المالية من شأنها حمل الرجل على التروي في إيقاع الطلاق، فيكون من الخير والمصلحة جعله في يد من هو أحرص على الزوجية. وأما المرأة فلا تتضرر مالياً بالطلاق، فلا تتروى في إيقاعه بسبب سرعة تأثرها وانفعالها. ثم إن المرأة قبلت الزواج على أن الطلاق بيد الرجل، وتستطيع أن تشرطه لنفسها إن رضي الرجل منذ بداية العقد، ولها أيضاً إن تضررت بالزوج أن تنهي
ركن الطلاق
الزواج بواسطة بذل شيء من مالها عن طريق الخلع، أو عن طريق فسخ القاضي الزواج بسبب مرض منفر، أو لسوء العشرة والإضرار، أو لغيبة الزوج أو حبسه، أو لعد م الإنفاق. وليست الدعوة المعاصرة إلى جعل الطلاق بيد القاضي ذات فائدة؛ لمصادمة المقرر شرعاً، ولأن الرجل يعتقد ديانة أن الحق له، فإذا أوقع الطلاق، حدثت الحرمة دون انتظار حكم القاضي. وليس ذلك في مصلحة المرأة نفسها؛ لأن الطلاق قد يكون لأسباب سرية ليس من الخير إعلانها، فإذا أصبح الطلاق بيد القاضي انكشفت أسرار الحياة الزوجية بنشر الحكم، وتسجيل أسبابه في سجلات القضاء، وقد يعسر إثبات الأسباب لنفور طبيعي وتباين أخلاقي. ركن الطلاق: قال الحنفية (¬1): ركن الطلاق: هو اللفظ الذي جعل دلالة على معنى الطلاق لغة: وهو التخلية والإرسال، ورفع القيد في الصريح، وقطع الوصلة ونحوه في الكناية، أو شرعاً: وهو إزالة الحل؛ أو ما يقوم مقام اللفظ من الإشارة. وقال غير الحنفية (¬2): للطلاق أركان، علماً بأن كلمة «ركن الطلاق» مفرد مضاف، فيعم، فيصح الإخبار عنه بالمتعدد، فيقال: أركانه أربعة مثلاً. والمراد بالركن عند الجمهور: ما تتحقق به الماهية، ولو لم يكن داخلاً فيها. أما المالكية فقالوا: أركان الطلاق أربعة: أهل له: أي موقعه من زوج أو نائبه أو وليه إن كان صغيراً، وقصد: أي قصد النطق باللفظ الصريح والكناية الظاهرة، ¬
حكم الطلاق
ولو لم يقصد حل العصمة بدليل صحة طلاق الهازل. ومحل: أي عصمة مملوكة، ولفظ صريح أو كناية. وعدها ابن جزي ثلاثة: هي المطلِّق، والمطلَّقة، والصيغة: وهي اللفظ وما في معناه. وأما الشافعية والحنابلة فقالوا: أركان الطلاق خمسة: مطلِّق، وصيغة، ومحل، وولاية، وقصد، فلا طلاق لفقيه يكرره، وحاكٍ ولو عن نفسه. ويلاحظ أن الولاية أدخلها المالكية في الركن الأول وهو الأهلية. وزاد الشافعية والحنابلة على المالكية ركن المحل. حكم الطلاق: ذهب الحنفية على المذهب (¬1): إلى أن إيقاع الطلاق مباح لإطلاق الآيات، مثل قوله تعالى: {فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق:1/ 65] {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء} [البقرة:236/ 2] ولأنه صلّى الله عليه وسلم طلق حفصة، لا لريبة (أي ظن الفاحشة) ولا كبر، وكذا فعله الصحابة، والحسن بن علي رضي الله عنهما استكثر النكاح والطلاق. وأما حديث «أبغض الحلال إلى الله الطلاق» فالمراد بالحلال: ما ليس فعله بلازم، ويشمل المباح والمندوب والواجب والمكروه، وقال ابن عابدين: إن كونه مبغوضاً لا ينافي كونه حلالاً، فإن الحلال بهذا المعنى يشمل المكروه، وهو مبغوض. وقال الكمال بن الهمام: الأصح حظر الطلاق أي منعه، إلا لحاجة كريبة وكبر. ورجح ابن عابدين هذا الرأي، وليست الحاجة مختصة بالكبر والريبة، بل هي أعم. وذكر الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) (¬2): أن الطلاق من حيث هو ¬
جائز، والأولى عدم ارتكابه، لما فيه من قطع الأ لُفة إلا لعارض، وتعتريه الأحكام الأربعة من حرمة، وكراهة، ووجوب، وندب، والأصل أنه خلاف الأولى. فيكون حراماً: كما لو علم أنه إن طلق زوجته وقع في الزنا لتعلقه بها، أو لعدم قدرته على زواج غيرها، ويحرم الطلاق البدعي وهو الواقع في الحيض ونحوه كالنفاس وطهر وطئ فيه. ويكون مكروهاً: كما لو كان له رغبة في الزواج، أو يرجو به نسلاً ولم يقطعه بقاء الزوجة عن عبادة واجبة، ولم يخش زناً إذا فارقها. ويكره الطلاق من غير حاجة إليه، للحديث السابق عن ابن عمر: «أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق». ويكون واجباً: كما لو علم أن بقاء الزوجة يوقعه في محرم من نفقة أو غيرها. ويجب طلاق المولي (حالف يمين الإيلاء) بعد انتظار أربعة أشهر من حلفه إذا لم يفئ، أي يطأ. ويكون مندوباً أو مستحباً: إذا كانت المرأة بذيِّة اللسان يخاف منها الوقوع في الحرام لو استمرت عنده. ويستحب الطلاق في الجملة لتفريط الزوجة في حقوق الله الواجبة، مثل الصلاة ونحوها، ولا يمكنه إجبارها على تلك الحقوق، ويستحب الطلاق أيضاً في حال مخالفة المرأة من شقاق وغيره ليزيل الضرر، أوإذا كانت غير عفيفة، فلا ينبغي له إمساكها؛ لأن فيه نقصاً لدينه، ولا يأمن إفسادها فراشه، وإلحاقها به ولداً من غيره. ويستحب الطلاق أيضاً لتضرر الزوجة ببقاء النكاح لبغض أو غيره، ويستحب كون الطلاق طلقة واحدة؛ لأنه يمكنه تلافيها، وإن أراد الطلاق الثلاث، فَّرق الطلقات في كل طهر طلقة ليخرج من الخلاف، فإن عند أبي حنيفة لا يجوز جمعها، ولأنه يسلم من الندم.
لزوم الطلاق
والخلاصة: أن الطلاق البدعي إما حرام أو مكروه، والطلاق السني إما واجب أو مندوب أو خلاف الأولى. وسيأتي بيان البدعي والسني. لزوم الطلاق: الطلاق كاليمين متى توافر ركنه وشروطه، لزم المطلِّق في زوجته، ولا رجوع عنه بوقوعه، ويحسب عليه إن طلقها ثم تزوجها ثانية، وكذلك في المرة الثالثة حتى تكون ثلاث تطليقات (¬1). المبحث الثاني ـ شروط الطلاق وقدره ومحله وصيغته: يشترط في كل ركن من أركان الطلاق ـ في اصطلاح غيرا لحنفية ـ شروط: شروط الركن الأول وهو المطلِّق: يشترط أن يكون زوجاً مكلفاً (بالغاً عاقلاً) مختاراً بالاتفاق، وأن يكون عند المالكية مسلماً، وأن يعقل الطلاق عند الحنابلة (¬2). فلا يصح الطلاق من غير زوج، ولا من صبي مميز أو غير مميز، وأجاز الحنابلة طلاق مميز يعقل الطلاق ولو كان دون عشر سنين، بأن يعلم أن زوجته تبين منه وتحرم عليه إذا طلقها، ويصح توكيل المميز في الطلاق وتوكله فيه؛ لأن من صح منه مباشرة شيء، صح أن يوكل وأن يتوكل فيه. ولا يصح عند الفقهاء أن يطلِّق الولي على الصبي أو المجنون بلا عوض، لأن الطلاق ضرر. ¬
طلاق المجنون والمدهوش
طلاق المجنون والمدهوش: ولا يصح طلاق المجنون، ومثله المغمى عليه، والمدهوش: وهو الذي اعترته حال انفعال لا يدري فيها ما يقول أو يفعل، أو يصل به الانفعال إلى درجة يغلب معها الخلل في أقواله وأفعاله، بسبب فرط الخوف أو الحزن أو الغضب، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا طلاق في إغلاق» (¬1) والإغلاق: كل ما يسد باب الإدراك والقصد والوعي، لجنون أو شدة غضب أو شدة حزن ونحوها. ودليل اشتراط البلوغ والعقل: حديث «كل طلاق جائز إلا طلاق الصبي والمجنون» (¬2) وحديث «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يُفيق» (¬3)، ولأن الطلاق تصرف يحتاج إلى إدراك كامل وعقل وافر، وهذا لا يتوافر في الصبي والمجنون، ولأن الطلاق تصرف ضار، فلا يملكه الصبي ولو كان مميزاً أو أجازه الولي. لكن الحنابلة أنفذوا طلاق المميز ولو دون عشر، لعموم الحديث المتقدم: «إن الطلاق لمن أخذ بالساق» وحديث «كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه، والمغلوب على عقله» وعن علي: «اكتموا الصبيان النكاح» فيفهم منه أن فائدته ألا يطلقوا، ولأنه طلاق من عاقل صادف محل الطلاق، فوقع كطلاق البالغ. طلاق الغضبان: يفهم مما ذكر أن طلاق الغضبان لا يقع إذا اشتد الغضب، بأن وصل إلى درجة لا يدري فيها ما يقول ويفعل ولا يقصده. أو وصل به الغضب ¬
طلاق غير الزوج
إلى درجة يغلب عليه فيها الخلل والاضطراب في أقواله وأفعاله، وهذه حالة نادرة. فإن ظل الشخص في حالة وعي وإدراك لما يقول فيقع طلاقه، وهذا هو الغالب في كل طلاق يصدر عن الرجل؛ لأن الغضبان مكلف في حال غضبه بما يصدر منه من كفر وقتل نفس وأخذ مال بغير حق وطلاق وغيرها. طلاق غير الزوج: لا يصح طلاق غير الزوج، لحديث «لا طلاق قبل النكاح، ولا عتق قبل ملك» (¬1). طلاق السكران: السكران الذي وصل إلى درجة الهذيان وخلط الكلام، ولا يعي بعد إفاقته ما صدر منه حال سكره، لا يقع طلاقه باتفاق المذاهب إن سكر سكراً غير حرام ـ وهو نادر ـ كشرب مسكر للضرورة، أو للإكراه، أو لأكل بنج ونحوه ولو لغير حاجة عند الحنابلة؛ لأنه لا لذة فيه، فيعذر لعدم الإدراك والوعي لديه، فهو كالنائم. أما السكران بطريق محرَّم ـ وهو الغالب ـ بأن شرب الخمر عالماً به، مختاراً لشربه، أو تناول المخدر من غير حاجة أو ضرورة عند الجمهور غيرا لحنابلة، فيقع طلاقه في الراجح في المذاهب الأربعة، عقوبة وزجراً عن ارتكاب المعصية، ولأنه تناوله باختياره من غير ضرورة. وقال زفر والطحاوي من الحنفية، وأحمد في رواية عنه، والمزني من الشافعية وعثمان وعمر بن عبد العزيز (¬2): لا يقع طلاق السكران، لعدم توافر ¬
طلاق غير المسلم
القصد والوعي والإرادة الصحيحة لديه، فهوزائل العقل كالمجنون، والنائم فاقد الإرادة كالمكره، فتصبح عبارته ملغاة لا قيمة لها، وللسكر عقوبة أخرى هي الحد، فلا مسوغ لضم عقوبة أخرى عليه، قال عثمان رضي الله عنه: ليس لمجنون ولا لسكران طلاق، وقال ابن عباس: طلاق السكران والمستكره ليس بجائز، وقال علي: كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه (¬1). وأخذ القانون في سورية ومصر بهذا الرأي، نص قانون رقم (25) لسنة (1929) في مصر على أنه «لا يقع طلاق السكران» ونص القانون السوري م (89) على ما يلي: «1 - لا يقع طلاق السكران ولا المدهوش ولا المكره. 2 - المدهوش: هو الذي فقد تمييزه من غضب أو غيره، فلا يدري ما يقول». طلاق غير المسلم: يقع طلاق غير المسلم كالمسلم عند الجمهور؛ لأنه عند غير الحنفية مكلف بفروع الشريعة. وقال المالكية: لا يصح الطلاق من كافر، ويشترط الإسلام لنفاذ طلاق المطلِّق. طلاق المرتد: طلاق المرتد بعد الدخول موقوف، فإن أسلم في العدة تبينا وقوعه، وإن لم يسلم حتى انقضت العدة أو ارتد قبل الدخول فطلاقه باطل؛ لانفساخ النكاح قبله، باختلاف الدين. طلاق السفيه: ينفذ طلاق السفيه المحجور إذا كان بالغاً باتفاق المذاهب ولو بغير إذن وليه؛ لأن موضع الحجر هو التصرفات المالية، والطلاق وأثره ليس من التصرفات المالية، والرشد ليس شرطاً لوقوع الطلاق. ¬
طلاق المكره
والسفيه: هو خفيف العقل الذي يتصرف في ماله على خلاف مقتضى العقل السليم. وقال الشيعة الإمامية وعطاء: يتوقف طلاق السفيه على إذن الولي؛ لأنه تصرف ضار ضرراً محضاً. طلاق المكره: لا يقع عند الجمهور طلاق المكره؛ لأنه غير قاصد للطلاق، وإنما قصد دفع الأذى عن نفسه، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (¬1) وقوله عليه الصلاة والسلام: «لا طلاق في إغلاق» (¬2) معناه في إكراه. وهذا هو الراجح لقوة دليله. ورأى الحنفية: أن طلاق المكره واقع؛ لأنه قصد إيقاع الطلاق وإن لم يرض بالأثر المترتب عليه، كالهازل، فإن طلاقه يقع لحديث: «ثلاث جِدّهن جِدّ، وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة» (¬3). مالك الطلاق: يتبين مما سبق أن الذي يملك الطلاق إنما هو الزوج متى كان بالغاً عاقلاً، ولا تملكه الزوجة إلا بتوكيل من الزوج أو تفويض منه. ولا يملكه القاضي إلا في أحوال خاصة للضرورة. ويلاحظ أن القانون المصري جعل الأهلية في سنة الحادية والعشرين، والقانون السوري في سن الثامنة عشرة، وبناء عليه تكون أهلية الطلاق قانوناً في تلك السن المقررة، إلا إذا سمح القاضي لمن هودون هذه السن إذا كان بالغاً بإيقاع الطلاق. ونص القانون السوري (م 85) على الأهلية: ¬
ما يشترط في الركن الثاني للطلاق وهو القصد
«1 ـ يكون الرجل متمتعاً بالأهلية الكاملة للطلاق في تمام الثامنة عشرة من عمره. 2 - يجوز للقاضي أن يأذن بالتطليق، أو يجيز الطلاق الواقع من البالغ المتزوج قبل الثامنة عشرة إذا وجدت المصلحة في ذلك». ما يشترط في الركن الثاني للطلاق وهو القصد: يشترط بالاتفاق القصد في الطلاق (¬1): وهو إرادة التلفظ به، ولو لم ينوه، أي إرادة لفظ الطلاق لمعناه، بألا يقصد بلفظ الطلاق غير المعنى الذي وضع له، ولايشترط في هذا الركن إلا تحقيق المراد به، فلا يقع طلاق فقيه يكرره، ولا طلاق حاكٍ عن نفسه أو غيره؛ لأنه لم يقصد معناه، بل قصد التعليم والحكاية، ولا طلاق أعجمي لُقِّن لفظ الطلاق بلا فهم منه لمعناه. ولا يقع طلاق مرَّ بلسان نائم أو من زال عقله بسبب لم يعص به، ويلغو، وإن قال بعد إفاقته أو استيقاظه: أجزته أو أوقعته للحديث المتقدم: «رفع القلم عن ثلاث، ومنها: النائم حتى يستيقظ» ولانتفاء القصد. ولا تشترط عند الحنابلة النية للطلاق في حال الخصومة أو في حال الغضب. طلاق الهازل: الهازل هو من قصد اللفظ دون معناه، واللاعب: هو من لم يقصد شيئاً (¬2)، كأن تقول الزوجة في معرض دلال أو ملاعبة أواستهزاء: طلقني، ¬
طلاق المخطئ أو من سبق لسانه
فيقول لها لاعباً أو مستهزئاً: طلقتك، ومثله من خاطبها بطلاق وهو يظنها أجنبية عنه وليست زوجته، بسبب ظلمة أو من وراء حجاب. والحكم أن يقع طلاق هؤلاء جميعاً؛ لأن كلاً من الهازل واللاعب أتى باللفظ عن قصد واختيار، وإن لم يرض بوقوعه، فعدم رضاه بوقوعه، لظنه أنه لا يقع: لا أثر له لخطأ ظنه. والدليل كما ذكر الحنابلة وغيرهم هو الحديث المتقدم: «ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: النكاح، والطلاق، والرجعة» وفي رواية «والعتاق» وفي رواية: «واليمين»، وقال علي كرم الله وجهه: «ثلاثة لا لعب فيهن: الطلاق والعتاق والنكاح» ولأن الهازل أتى بالسبب، وهو لفظ الطلاق، وترتيب الأحكام على أسبابها إنما هو للشارع لا للعاقد. طلاق المخطئ أو من سبق لسانه: وهو الذي يريد أن يتكلم بغير الطلاق، فزلَّ لسانه، ونطق بالطلاق من غير قصد أصلاً، بأن أراد أن يقول: طاهر أو أنت طالبة، فقال خطأ: أنت طالق. وحكمه: لا يقع طلاقه عند الشافعية، لعدم القصد. وقال الحنفية والمالكية والحنابلة: لا يقع طلاقه في الفتوى والديانة، أي فيما بينه وبين الله تعالى، ويقع في القضاء. لكن قيد المالكية وقوعه قضاء بأن لم يثبت سبق لسانه بالبينة، وإلا فلا يلزمه في فتوى ولا في قضاء. وسبب التفرقة بين الهازل والمخطئ: أن الهازل قصد اللفظ، فاستحق العقوبة والزجر عن اللعب بأحكام الدين، وأما المخطئ فلا قصد له أصلاً، فلم يستحق العقوبة والزجر، حتى يحكم بوقوع طلاقه.
ما يشترطه في الركن الثالث ـ محل الطلاق أو من يقع عليه الطلاق
ما يشترطه في الركن الثالث ـ محل الطلاق أو من يقع عليه الطلاق: المرأة هي التي يقع عليها الطلاق، إذا كانت في حال زواج صحيح قائم فعلاً، ولو قبل الدخول، أو في أثناء العدة من طلاق رجعي؛ لأن الطلاق الرجعي لا تزول به رابطة الزوجية إلا بعد انتهاء العدة. فإن كانت المرأة معتدة من طلاق بائن بينونة كبرى، فلا يلحقها طلاق آخر في أثناء العدة، لاستنفاد حق الزوج في الطلاق. لأنه لا يملك أكثر من ثلاث طلقات، فلا تكون هناك فائدة من الطلاق. وإن كانت معتدة من طلاق بائن بينونة صغرى. فلا يلحقها أيضاً طلاق آخر عند الجمهور غير الحنفية، لانتهاء رابطة الزوجية بالطلاق البائن، فلا تكون محلاً للطلاق. ويلحقها طلاق آخر في رأي الحنفية في أثناء العدة، لبقاء بعض أحكام الزواج من وجوب النفقة، والسكنى في بيت الزوجية، وعدم حل زواجها برجل آخر في العدة، فتكون محلاً للطلاق إذ هي زوجة حكماً. وعبارة الحنفية فيه: «الصريح يلحق الصريح، ويلحق البائن بشرط العدة، والبائن يلحق الصريح». فإن كان الزواج فاسداً، أو انتهت عدة المرأة مطلقاً، فلا يقع عليها طلاق آخر، حتى ولو كان معلقاً بانتهاء العدة، كأن يقول لها: إذا انتهيت من عدتك، فأنت طالق، فلا يقع به طلاق. ونص القانون السوري (م 86) على محل الطلاق فيما يأتي: «محل الطلاق: المرأة التي في نكاح صحيح، أو المعتدة من طلاق رجعي، ولا يصح على غيرهما الطلاق، ولو كان معلقاً». وإذا طلقت المرأة قبل الدخول والخلوة، فلا عدة عليها، لقوله تعالى: {إذا
إضافة الطلاق إلى بعض أجزاء المرأة أو جزء الطلقة
نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن، فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} [الأحزاب:49/ 33] ويكون الطلاق بائناً. ويرى الحنفية (¬1): أنه لا يلحقها طلاق آخر، فلو قال الرجل لزوجته التي لم يدخل ولم يختل بها: «أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق» لا تقع إلا طلقة واحدة؛ لأنها بالطلاق الأول، صارت بائنة من زوجها، وأصبحت أجنبية، فلا يلحقها آخر. وهذا رأي الشافعية أيضاً، فإنهم قالوا: إذا قال ذلك لغير المدخول بها فتقع طلقة واحدة بكل حال؛ لأنها تبين بالأولى فلا يقع ما بعدها (¬2). وقال المالكية والحنابلة (¬3): يقع بهذه الألفاظ المتتابعة ثلاث طلقات؛ لأنه نسق أي غير مفترق؛ لأن الواو تقتضي الجمع ولا ترتيب فيها، فيكون الرجل موقعاً للثلاث جميعاً، فيقعن عليها، كقوله: أنت طالق ثلاثاً، أو طلقة معها طلقتان، إلا أنه إذا قصد بالثانية والثالثة تأكيد ما قبلها، فيصدق عند المالكية قضاءً بيمين، وديانةً بغير يمين. إضافة الطلاق إلى بعض أجزاء المرأة أو جزء الطلقة: إذا أضاف الرجل الطلاق للزوجة بأن قال: أنت طالق، أو طلقتك، وقع الطلاق اتفاقاً. ويقع الطلاق أيضاً في الجملة إذا أضاف الطلاق إلى بعض أجزاء المرأة على التفصيل التالي: ¬
قال الحنفية (¬1): يقع الطلاق أيضاً إذا أضافه الرجل إلى ما يعبر به عن كل المرأة أو ذاتها، كالرقبة والعنق والروح والبدن والجسد، والأطراف جميعاً (وهي اليدان والرجلان) والفرج (القُبُل) والوجه والرأس والأست (العجز)، أو أضافه إلى جزء شائع من المرأة كنصفها وثلثها إلى عشرها؛ لأن الطلاق لا يتجزأ. ولا يقع الطلاق إذا أضافه إلى البُضْع (الفرج) والدبر، إذ لا يعبر بهما عن الكل، بخلاف الأست والفرج، فإنه يعبر بهما عن الكل. ولا يقع لو أضافه إلى اليد إلا بنية المجاز، أي إطلاق البعض على الكل إذا لم يكن مشتهراً، فلو اشتهر لا حاجة إلى نية المجاز، وكاليد: الرجل والشعر والأنف والساق والفخذ والظهر والبطن واللسان والأذن والفم والصدر والذقن والسن والريق والعرق والثدي والدم؛ لأنه لا يعبر به عن الجملة. فلا يقع الطلاق لو قال: يدك طالق أو رجلك طالق، ونحوهما. ويقع الطلاق بإضافته إلى جزء الطلقة كالسدس والربع والنصف، ولو من ألف جزء، بأن يقول: أنت طالق جزءاً من ألف طلقة؛ لأن الطلاق لا يتجزأ. ومذهب المالكية (¬2): لو أضاف الطلاق إلى نصف المرأة أو سدسها، أو ثلثها، أو عضو من أعضائها، نفذ، ولو قال: نصف طلقة أو ربع طلقة كملت عليه، فهم كالحنفية. واختلف المالكية على رأيين في إضافته إلى شعر المرأة وكلامها وروحها وحياتها، والراجح أنه يلزم الطلاق إذا أضيف لما يعد من محاسن المرأة، مثل شعرك أو كلامك أو ريقك طالق، ولا يلزم بما لا يعد من المحاسن، نحو بُصاق ودمع وسعال. ¬
ورأى الشافعية (¬1) أنه يقع الطلاق إن طلق جزءاً من المرأة، كقوله: يدك أو رجلك طالق أو نحو ذلك من أعضائها المتصلة بها، ولو من غير نية المجاز خلافاً للحنفية، وكقوله: ربعُك أو بعضُك أو جزؤك أو شعرك أو ظفرك طالق، وكذا دمُك على المذهب؛ لأن الطلاق لا يتبعض، ولا يقع إن أضافه إلى فضلة كريق وعَرَق وبول، وكذا لا يقع إن أضافه إلى مني ولبن في الأصح؛ لأنها غير متصلة بها اتصال خلقة. ولو قال لمقطوعة يمين: يمينك طالق، لم يقع على المذهب، لفقدان الذي يسري منه الطلاق إلى الباقي. ولو قال: أنت طالق بعض طلقة، وقعت طلقة؛ لأن الطلاق لا يتبعض. وأضاف الشافعية أن الرجل في خطاب المرأة لو حذف المفعول كأن قال: «طلقت» أو حذف المبتدأ: «أنتِ» أو حذف حرف النداء «يا» فلم يقل: «يا طالق» لم يقع الطلاق، كما هو ظاهر كلامهم. والحنابلة قالوا (¬2): تطلق إن أضاف الطلاق إلى جزء من المرأة مثل قوله: يدك أو دمك أو أصبعك أو رأسك طالق؛ لأنه أضافه إلى جزء ثابت استباحه بعقد النكاح، فأشبه الإضافة إلى الجزء الشائع مثل نصفك وثلثك. أما لو قال: لعديمة الإصبع أو اليد: أصبعك طالق، أو يدك طالق، لم تطلق. ولا تطلق لو قال لها: شعرك أو ظفرك أو سنك أو لبنك أو منيك طالق؛ لأن تلك الأجزاء تنفصل عنها مع السلامة، فلا تطلق بإضافة الطلاق إليها كالحمل، فهم خالفوا الشافعية في غير اللبن والمني. ¬
إضافة الطلاق إلى نفس الزوج
ولا تطلق أيضاً إن قال: سوادك أو بياضك طالق؛ لأنه أمر عارض. ولا إن قال: ريقك أو دمعك أو عرقك طالق؛ لأن المذكور ليس جزءاً منها، ولا إن قال: روحك طالق؛ لأن الروح ليست عضواً ولا شيئاً يستمتع به، فأشبهت السواد والبياض. ولا إن قال: حملك طالق؛ لأنه عرض كالبياض والسواد. وأما لو قال: حياتك طالق، فتطلق؛ لأنه لا بقاء لها بدونها، فأشبه ما لو قال: رأسك طالق. وجزء الطلقة كالطلقة، فإذا قال: أنت طالق نصف طلقة أو ثلثها ونحوه، طلقت طلقة؛ لأن الطلاق لا يتبعض. والخلاصة: اتفق الفقهاء على أن جزء الطلقة طلقة، واختلفوا في إضافة الطلاق إلى بعض أجزاء المرأة. ولا يقع الطلاق عند جمهور الحنفية فيما لا يعبر به عن جملة المرأة كاليد والرجل والإصبع والدبر، ويقع بها عند زفر ومالك والشافعي وأحمد. إضافة الطلاق إلى نفس الزوج: قال الحنفية والحنابلة (¬1): من قال لامرأته: «أنا منك طالق» فليس بشيء، وإن نوى طلاقاً. ولو قال: أنا منك بائن، أو أنا عليك حرام، ناوياً الطلاق فهي طالق عند الحنفية وفي أحد الوجهين عند الحنابلة؛ لأن الطلاق لإزالة القيد، والقيد في المرأة دون الزوج، فلا تطلق في الحالة الأولى، لأنه أضاف الطلاق إلى غير محله، فيلغو. أما الإبانة فهي لإزالة الوصلة، والتحريم لإزالة الحل، وهما مشتركان بين الزوجين، فصح إضافتهما إلى الزوجين، ولايصح إضافة الطلاق إلا إليها. ¬
ما يشترط في الركن الرابع عند الشافعية والحنابلة ـ الولاية على محل الطلاق
وقال المالكية والشافعية (¬1): لو قال الرجل: أنا منك طالق، تطلق إن نوى تطليقها؛ لأن المرأة مقيدة والزوج كالقيد عليها، والحَلّ يضاف إلى القيد، كما يضاف إلى المقيد، فيقال: حلّ فلان المقيّد، وحل القيد عنه. وإن لم ينو طلاقاً فلا تطلق؛ لأن اللفظ خرج عن الصراحة بإضافته إلى غير محله، فشرط فيه ما شرط في الكناية من قصد الإيقاع. وكذا لو قال: أنا منك بائن، اشترط نية الطلاق، كسائر الكنايات. وعليه، فإن الطلاق المنسوب إلى الزوج يقع ـ على هذا الرأي ـ بالنية، سواء بلفظ الطلاق أم بالإبانة. ما يشترط في الركن الرابع عند الشافعية والحنابلة ـ الولاية على محل الطلاق: محل الطلاق كما عرفنا هو الزوجة، وكأن هذا الركن الذي ذكره الشافعية فرع عن الركن السابق وهو محل الطلاق، والمقصود منه بيان حكم طلاق الأجنبية. فإن طلاقها قبل زواجها مختلف في وقوعه بعد تزوجها، كما يتبين من عبارات الفقهاء وهو موضوع تعليق الطلاق على الملك. تعليق الطلاق على الملك أو على النكاح. فيه ثلاثة آراء للفقهاء: قال الحنفية (¬2): إذا أضاف رجل الطلاق إلى النكاح، وقع عقيب النكاح، مثل أن يقول لامرأة: «إن تزوجتك فأنت طالق» أو «كل امرأة أتزوجها فهي طالق»؛ لأن هذا الطلاق معلق على شرط، فلا يشترط لصحته وجود الملك في حال الطلاق، وإنما يكفي وجوده عند تحقق الشرط، والملك متيقن حينئذ أي عند ¬
قال المالكية
وجود الشرط، وإذا كان الملك متيقناً عنده، وقع الطلاق؛ لأن المعلق بالشرط كالملفوظ لدى الشرط، فهو كما لو أضاف الطلاق في حال الزواج إلى شرط، فإنه يقع عقيب الشرط، مثل أن يقول لامرأته: إن دخلت الدار فأنت طالق؛ لأن الملك قائم في الحال، والظاهر بقاؤه إلى وقت الشرط؛ لأن الأصل بقاء الشيء على ما كان، وهو استصحاب الحال. وأما حديث: «لا طلاق قبل النكاح» (¬1) الذي رواه الشافعي، فمحمول على نفي التنجيز في الحال، لا نفي الطلاق المعلق. وعلى هذا، فلا تصح إضافة الطلاق إلى امرأة إلا أن يكون الحالف مالكاً، أويضيفه إلى ملك، فإن قال لامرأة أجنبية: إن دخلت الدار فأنت طالق، ثم تزوجها، فدخلت الدار، لم تطلق؛ لأن الحالف ليس مالكاً، ولم يضف الطلاق إلى الملك أو سبب الملك وهو التزوج، ولا بد من واحد منها. والحاصل: أن الطلاق عند الحنفية يتعلق بشرط التزويج، سواء عمم المطلِّق جميع النساء أو خصص. وقال المالكية (¬2): إن عمَّ المطلق جميع النساء لم يلزمه، وإن خصص لزمه، فمن قال: (كل امرأة أتزوجها من بني فلان، أو من بلد كذا، فهي طالق) أو قال (في وقت كذا)، فإن هؤلاء يطلقن عند مالك إذا تزوجهن الرجل المطلق. أما لو قال: (كل امرأة أتزوجها، فهي طالق) فلا تطلق امرأة تزوَّجها. وسبب الفرق بين التعميم والتخصيص: استحسان مبني على المصلحة؛ لأنه إذا عمم فأوجبنا عليه ¬
قال الشافعية والحنابلة والظاهرية
التعميم، لم يجد سبيلاً إلى النكاح الحلال، فكان ذلك عنتاً به وحرجاً، وكأنه من باب نذر المعصية. وأما إذا خصص فليس الأمر كذلك إذا ألزمناه الطلاق، وليس من شرط الطلاق إلا وجود الملك فقط، ولا يشترط وجود الملك المتقدم بالزمان على الطلاق. وقال الشافعية والحنابلة والظاهرية (¬1): خطاب الأجنبية بطلاق مثل «أنت طالق» ومثل «كل امرأة أتزوجها فهي طالق» وتعليق الطلاق بنكاح، مثل (إن تزوجتك فأنت طالق)، أو بغير نكاح، مثل (إن دخلت الدار فأنت طالق) لغو، ويحكم بإبطال اليمين، فلا تطلق على من يتزوجها، أما الطلاق المنجز على الأجنبية فلا يقع بالاتفاق، وأما المعلق على الزواج فلانتفاء الولاية من القائل على محل الطلاق، وقد قال صلّى الله عليه وسلم: «لا طلاق إلا بعد نكاح». وعليه، فإن الطلاق لا يتعلق بأجنبية أصلاً، سواء عم المطلِّق أو خص. وهو قول علي ومعاذ وجابر بن عبد الله وابن عباس وعائشة، وهو الراجح لدي عملاً بهذا الحديث الصحيح، ولا عبرة بما طعن به بعضهم بعد تحسين الترمذي. وبناء عليه إن قال رجل لزوجته ولأجنبية: إحداكما طالق، أو كانت له زوجة اسمها زينب، وجارة اسمها زينب، فقال: زينب طالق، وقال: أردت الأجنبية، لم يقبل قوله، وتطلق زوجته في الحالتين؛ لأنه لا يمكن طلاق غيرها. الأدلة إجمالا ً (¬2): استدل الحنفية بما يأتي: ¬
1 - الإجماع على صحة تعليق الظهار بالملك، والطلاق مثله، إذ لا قائل بالفرق. 2 - آثار عن التابعين: أخرج ابن أبي شيبة عن سالم والقاسم بن محمد والنخعي والزهري ومكحول الشامي وغيرهم أنهم قالوا في رجل قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق: هو كما قال. 3 - تعليق الطلاق لازم كتعليق العتق والوكالة والإبراء، فلا يشترط لصحته قيام الملك في الحال. واستدل المالكية على التفصيل بالاستحسان وبناء الحكم على المصلحة، فقالوا: إذاعمم فأوجبنا عليه التعميم، لم يجد سبيلاً إلى النكاح الحلال، فكان ذلك عنتاً وحرجاً، فكأنه نذر المعصية، وقد عرف من الشرع: «إذا ضاق الأمر اتسع». أما إذا خص فهو بسبيل من زواج غير من خصها بالتعليق، فلا موجب لإلغاء كلامه. واستدل الشافعية والحنابلة بما يأتي: 1ً - حديث «لا طلاق قبل نكاح» المروي من طرق مختلفة، وقال عنه الترمذي: حديث حسن. وبلغ ابن عباس أن ابن مسعود يقول: إن طلق ما لم ينكح فهو جائز، فقال ابن عباس: أخطأ في هذا، فإن الله يقول: نكحتم المؤمنات، ثم طلقتموهن، ولم يقل: إذا طلقتم المؤمنات ثم نكحتموهن. 2ً - المعقول: وهو أن التعليق طلاق، والطلاق حل القيد وإبطال الملك، ولا قيد ولا ملك في الأجنبية حتى يصح حله وإبطاله، فكان لغواً. أما أن التعليق طلاق، فلأن الطلاق عند وجود الشرط يقع به إذا لم يوجد كلام آخر سواه، فلو لم
شرط الركن الخامس ـ الصيغة أو ما يقع به الطلاق
يكن التعليق تطليقاً، لم يقع الطلاق عند الشرط. ثم إن هذا التعليق إنشاء تصرف في محل في حال لا ولاية له عليه فيلغو، كتعليق الصبي، وتعليق البالغ طلاق الأجنبية حاصل بغير الملك. وقد رجحت هذا الرأي عملاً بالحديث الثابت. شرط الركن الخامس ـ الصيغة أو ما يقع به الطلاق: اتفق الفقهاء على أن الزواج ينتهي بالطلاق بالعربية أو بغيرها، سواء باللفظ أم بالكتابة أم بالإشارة (¬1). واللفظ إما صريح أو كناية: الطلاق الصريح: هو اللفظ الذي ظهر المراد منه وغلب استعماله عرفاً في الطلاق، كالألفاظ المشتقة من كلمة (الطلاق) مثل: أنت طالق، ومطلقة، وطلقتك وعلي الطلاق. ومنه قول الرجل: «أنت علي حرام أو حرمتك أو محرمة»؛ لأنه وإن كان في الأصل كناية، فقد غلب استعماله بين الناس في الطلاق، فصار من الألفاظ الصريحة فيه. هذا مذهب الحنفية. وصريح الطلاق عند الحنابلة: لفظ الطلاق وماتصرف منه، لاغير، أما لفظ الفراق والسراح فهو كناية. وقال المالكية: الكناية الظاهرة لها حكم الصريح، وهي التي جرت العادة أن يطلق بها في الشرع أو في اللغة كلفظ التسريح والفراق، وكقوله: أنت بائن أو بتة أو بتلة وما أشبه ذلك. وقال الشافعية والظاهرية: إن صريح الطلاق ثلاثة ألفاظ: الطلاق والفراق والسرح، لورودها في القرآن، قال تعالى: {الطلاق مرتان، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} [البقرة:229/ 2] وقال: {فأمسكوهن بمعروف} ¬
يشترط لإيقاع الطلاق
[البقرة:231/ 2] وقال: {وإن يتفرقا يغن الله كلاً من سعته} [النساء:130/ 4] وقال سبحانه: {فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً} [الأحزاب:28/ 33] ولو اشتهر لفظ للطلاق مثل الحلال أو حلال الله علي حرام، فالأصح كما قال النووي أنه كناية، ثم أصبح قول الرجل (علي حرام) من باب الطلاق الصريح كما أفتى به ابن حجر وغيره. وقال الحنابلة: لو قال: عليَّ الحرام، أو يلزمني الحرام، أو الحرام يلزمني، فهو لغو، لا شيء فيه: لأنه يقتضي تحريم شيء مباح بعينه، فإن اقترن معه نية تحريم الزوجة أو دلت قرينة على إرادة ذلك، فهو ظهار؛ لأنه يحتمله. أما لفظة الإطلاق مثل أطلقتك وأنت مُطْلَقة، فليست صريحة في الطلاق باتفاق المذاهب الأربعة وإنما هي كناية تحتاج إلى نية؛ لأنها لم يثبت لها عرف الشرع ولا الاستعمال، فأشبهت سائر كناياته. يفهم مما ذكر أنه يشترط لإيقاع الطلاق ما يأتي: 1 - استعمال لفظ يفيد معنى الطلاق لغة أو عرفاً، أو بالكتابة أو الإشارة المفهمة. 2 - أن يكون المطِّلق فاهماً معناه، ولو بلغة أعجمية، فإذا استعمل الأعجمي صريح الطلاق، وقع الطلاق منه بغير نية، وإن كانت كناية احتاج إلى نية. ولو لُقِّن رجل صيغة الطلاق بلغة لا يعرفها، فتلفظ بها، وهو لا يدري معناها، فلا يقع عليه شيء. 3 - إضافة الطلاق إلى الزوجة، أي إسناده إليها لغة، بأن يعينها بأحد طرق التعيين، كالوصف، أو الاسم المسماة به، أو الإشارة والضمير، فيقول: امرأتي طالق، أو فلانة طالق، أو يشير إليها بقوله: هذه طالق، أو أنت طالق، أو يقول:
حكم الطلاق الصريح
هي طالق، في أثناء حديث عنها؛ أو إسناده إليها عرفاً مثل: علي الطلاق أو الحرام إن أفعل كذا، أو الطلاق يلزمني إن لم أفعل كذا، فالطلاق هنا مضاف إلى المرأة في المعنى، وإن لم يضف إليها في اللفظ، وذلك خلافاً للحنابلة. 4 - ألا يكون مشكوكاً في عدد الطلاق أو في لفظه. ويقع الطلاق الصريح ولو بالألفاظ المصحفة، نحو طلاغ، وتلاغ، وطلاك، وتلاك، أو بأحرف الهجاء: ط، ا، ل، ق. حكم الطلاق الصريح: يقع الطلاق باللفظ الصريح بدون حاجة إلى نية أو دالة حال، فلو قال الرجل لزوجته: أنت طالق، وقع الطلاق، ولا يلتفت لادعائه أنه لا يريد الطلاق. طلاق الكناية: هو كل لفظ يحتمل الطلاق وغيره، ولم يتعارفه الناس في إرادة الطلاق. مثل قول الرجل لزوجته: الحقي بأهلك، اذهبي، اخرجي، أنت بائن، أنت بتّة، أنت خلية، برية، اعتدي، استبرئي رحمك، أمرك بيدك، حبلك على غاربك (¬1) أي خليت سبيلك كما يخلى البعير في الصحراء، وزمامه على غاربه، ونحوها من الألفاظ التي لم توضع للطلاق، وإنما يفهم الطلاق منها بالقرينة أو دلالة الحال: وهي حالة مذاكرة الطلاق، أو الغضب. ومن الكناية في أصل المذهب عند الشافعية والحنابلة: أنت علي حرام أو حرَّمتك، فإن نوى طلاقاً أو ظهاراً حصل، وإن نواهما تخير وثبت ما اختاره. لكن ¬
علي الحرام
-كما أفتى ابن حجر - أصبح لفظ (علي الحرام) من الطلاق الصريح في العرف والعادة الجارية. وقد حصر المالكية الكناية بالكناية المحتملة مثل: الحقي بأهلك واذهبي وابعدي عني وما أشبه ذلك، أما الكناية الظاهرة فلها حكم الصريح، كما بينا مثل لفظ التسريح والفراق، وأنت بائن أو بتة أو بتلة وما أشبهها. حكم الطلاق بالكناية: قال الحنفية والحنابلة: لا يقع قضاء الطلاق بالكناية إلا بالنية، أو دلالة الحال على إرادة الطلاق، كأن يكون الطلاق في حالة الغضب، أو في حالة المذاكرة بالطلاق. وفصَّل الحنفية في وقوع الطلاق قضاء بألفاظ الكنايات، فقالوا: في حالة الرضا المجرد عن مذاكرة الطلاق وطلبه لا يحكم بوقوع الطلاق بأي لفظ كنائي إلا بالنية، وفي حالة الرضا ومذاكرة الطلاق وطلبه: يقع الطلاق من غير توقف على نية في لفظ (اعتدي) وألفاظ (بائن، بتة، خلية، برية) وأما ألفاظ (اذهبي، اخرجي، قومي، اغربي، تقنعي) فتحتاج إلى نية. وأما في حالة الغضب فيقع الطلاق بلفظ (اعتدي) من غير نية، وأما الألفاظ الأخرى فتحتاج إلى نية. ورأى المالكية والشافعية: أن الكناية لا يقع بها الطلاق إلا بالنية، ولا عبرة بدلالة الحال، فلا يلزمه الطلاق إلا إن نواه، فإن قال: إنه لم ينو الطلاق، قبل قوله في ذلك بيمينه، فإن حلف أنه ما أراد باللفظ الطلاق، لم يقع، وإن امتنع عن اليمين حكم عليه بالطلاق. واشترط الشافعية في نية الكناية اقترانها بكل اللفظ، فلو قارنت أوله، وغابت عنه قبل آخره، لم يقع طلاق.
ما عدا الصريح والكناية
وقسم المالكية والحنابلة (¬1) الكناية إلى نوعين: كناية ظاهرة: وهي ما شأنها أن تستعمل في الطلاق وحل العصمة، مثل قوله: أنت بتة، وحبلك على غاربك، ويقع بهما ثلاث طلقات، دخل بها أم لا، ولها حكم الصريح. وكناية خفية: وهي ما شأنها أن تستعمل في غير الطلاق وحل العصمة، مثل اعتدي، ويقع بها طلقة واحدة إلا إذا نوى أكثر من ذلك في المدخول بها، بل لايقع بها طلاق إلا إذا نواه. ومن الكناية الظاهرة التي يقع بها ثلاث طلقات في المدخول بها إن لم ينو أقل: ألفاظ: بائنة، وميتة، وخلية، وبرية، ووهبتك لأهلك، وأنت حرام، وخليت سبيلك، ووجهي من وجهك حرام أو على وجهك حرام. ولو قال الزوج: «أنت طلاق» أو «أنت الطلاق» أو «أنت طالق طلاقاً» فيقع بها عند الحنفية والمالكية والحنابلة (¬2) طلقة واحدة رجعية إن لم ينو شيئاً، فإن نوى ثلاثاً فهي ثلاث، وهذه عندهم من الألفاظ الصريحة، لأنه صرح بالمصدر، والمصدر يقع على القليل والكثير، وإنه نوى بلفظه ما يحتمله. وعند الشافعية (¬3) في الأصح: ليس قوله: أنت طلاق أو الطلاق، من الألفاظ الصريحة، بل هما كنايتان؛ لأن المصادر إنما تستعمل في الأعيان توسعاً. ما عدا الصريح والكناية: ذكر المالكية (¬4) أن ما عدا التصريح والكناية من ¬
الطلاق بالكتابة إلى الغائب
الألفاظ التي لا تدل على الطلاق، كقوله: اسقني ماء أو ما أشبه ذلك: فإن أراد به الطلاق، لزمه على المشهور، وإن لم يرده لم يلزمه. الطلاق بالكتابة إلى الغائب: اتفق الفقهاء على وقوع الطلاق بالكتابة على التفصيل التالي: عبارة الحنفية (¬1): الكتابة إما مستبينة أو غير مستبينة، والكتابة المستبينة: هي الكتابة الظاهرة التي يبقى لها أثر كالكتابة على الورق والحائط والأرض. والكتابة غير المستبينة: هي التي لا يبقى لها أثر، كالكتابة على الهواء أو على الماء، وكل شيء لا يمكن فهمه وقراءته، وحكمها: أنه لا يقع بها طلاق وإن نوى. أما الكتابة المستبينة فهي نوعان: كتابة مرسومة: وهي التي تكتب مصدَّرة ومعنونة باسم الزوجة وتوجه إليها كالرسائل المعهودة، كأن يكتب الرجل إلى زوجته قائلاً: إلى زوجتي فلانة، أما بعد فأنت طالق، وحكمها: حكم الصريح إذا كان اللفظ صريحاً، فيقع الطلاق ولو من غير نية. وأما الكتابة غير المرسومة: فهي التي لا تكتب إلى عنوان الزوجة أو باسمها ولا توجه إليها كالرسائل المعروفة، كأن يكتب الرجل في ورقة: «زوجتي فلانة طالق». وحكمها حكم الكناية ولو كان اللفظ صريحاً، لا يقع بها الطلاق إلا بالنية. والطلاق بالرسالة، أي بإرسال رسول: هي أن يبعث الزوج طلاق امرأته الغائبة على يد إنسان، فيذهب الرسول إليها ويبلغها الرسالة على النحو المكلف ¬
به، وحكمها: حكم الطلاق الصريح باللفظ، يقع عليها الطلاق؛ لأن الرسول ينقل كلام المرسل، فكان كلامه ككلامه (¬1). وعبارة المالكية (¬2): من كتب الطلاق عازماً عليه، لزمه إذا لم يكن متردداً فيه، فإن كتب الطلاق عازماً عليه أو لم يكن له نية، لزمه بمجرد كتابة (طالق) وإن لم يكن عازماً الطلاق حال الكتابة، بل كان متردداً أو مستشيراً، فلا يقع ما لم يخرج الكتاب من يده، ويعطيه لمن يوصله، فيصل إليها أو لوليها، فإن أخرجه من يده عازماً الطلاق، فيقع بمجرد إنفاذه، ولو لم يصل. وإن أخرجه غير عازم ولم يصل، فالأرجح عدم اللزوم. ويلزم الطلاق بمجرد إرساله مع رسول ولو لم يصل، فمتى قال للرسول: أخبرها بأني طلقتها، لزمه الطلاق. والخلاصة: أن العبرة عندهم في كتاب الطلاق النية. وقال الشافعية (¬3) مثل المالكية: إذا كتب رجل طلاق امرأته بلفظ صريح ولم ينوه، فهو لغو لم يقع به الطلاق؛ لأنه الكتابة تحتمل إيقاع الطلاق وتحتمل امتحان الخط، فلم يقع الطلاق بمجردها. وإن نوى الطلاق فالأظهر وقوعه، ولا يقع الطلاق بالكتابة إلا في حق الغائب. وإن كتب شخص في كتاب طلاق زوجته صريحاً أو كناية، ونوى الطلاق، ولكنه علق الطلاق ببلوغ الكتاب، كقوله: (إذا بلغك كتابي، فأنت طالق). فإنما تطلق ببلوغه لها، مكتوباً كله، مراعاة للشرط. فإن انمحى كله قبل وصوله، لم تطلق، كما لوضاع. ¬
وإن كتب الرجل: إذا قرأت كتابي فأنت طالق، وكانت تقرأ، فقرأته طلقت، لوجود المعلَّق عليه. وإن قرئ عليها فلا تطلق في الأصح، لعدم قراءتها مع إمكان القراءة. وإن لم تكن قارئة، فقرئ عليها، طلقت؛ لأن القراءة في حق الأمي محمولة على الاطلاع على ما في الكتاب، وقد وجد، بخلاف القارئة. وكذلك قال الحنابلة (¬1) مثل الشافعية والمالكية: إذا كتب الرجل الطلاق، فإن نواه طلقت زوجته؛ لأن الكتابة حروف يفهم منها الطلاق، فإذا أتى فيها بالطلاق، وفهم منها المراد، ونواه، وقع كالطلاق باللفظ، ولأن الكتابة تقوم مقام الكاتب، بدليل أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان مأموراً بتبليغ رسالته، فحصل المقصود في حق البعض بالقول، وفي حق آخرين بالكتابة إلى ملوك الأطراف، ولأن كتاب القاضي يقوم مقام لفظه في إثبات الديون والحقوق. وإن كتب الطلاق من غير نية، قيل: يقع، وقيل: لا يقع إلا بنية، وهو الظاهر. وإن كتب بشيء لا يبين مثل: أن يكتب الطلاق بأصبعه على وسادة أو في الهواء، فظاهر كلام أحمد أنه لا يقع. ورأيهم كالشافعية تماماً في اشتراط وصول الكتاب دون أن ينمحي ذكر الطلاق، إذا علق الطلاق ببلوغه، وفي تعليقه بالقراءة. والخلاصة: يقع الطلاق عند الجمهور بالكتابة مع النية، ويقع عند الحنفية في الكتابة المرسومة كالصريح، وفي غير المرسومة كالكناية تحتاج إلى نية. ولا يقع الطلاق بالكتابة على الماء أو الهواء ونحوه بالاتفاق. ¬
الطلاق بالإشارة
ومن طلق في قلبه لم يقع، وإن تلفظ به أو حرك لسانه، وقع ولو لم يسمعه. الطلاق بالإشارة: اتفق الفقهاء (¬1) على وقوع الطلاق بالإشارة المفهمة بيد أو رأس، المعهودة عند العجز عن النطق، كالأخرس ونحوه، دفعاً للحاجة، فإذا طلق الأخرس بالإشارة طلقت زوجته. لكن قال الحنفية: إذا كان الأخرس يحسن الكتابة، لا تجوز إشارته. أما الناطق القادر على الكلام، فلا يصح عند الجمهور طلاقه بالإشارة، كما لا يصح نكاحه بها، فلا يقع الطلاق بالإشارة إلا في حق الأخرس، وقال المالكية: إشارة القادر على الكلام كالكناية تحتاج إلى نية، ويصح بها حينئذ الطلاق. صيغة الطلاق في القانون السوري: نصت المادة (1/ 87) من هذا القانون على ما يلي: يقع الطلاق باللفظ وبالكتابة ويقع من العاجز عنها بإشارته المعلومة. ومعناها: أن الطلاق يقع بنفس الأسلوب الذي ينعقد به الزواج: 1 - يقع بالألفاظ الصريحة بوضع اللغة أو الموضوعة عرفاً للدلالة على الطلاق. 2 - ويقع بالكتابة، كأن يكتب لزوجته كتاباً يخبرها فيه بطلاقه لها. ¬
قدر الطلاق
3 - ويقع من الأخرس أو معتقل اللسان بالإشارة الواضحة التي تدل على إيقاع الطلاق في إشارات الخرس، إذا كان عاجزاً عن الكتابة. وأخذ القانون السوري برأي الحنفية في أن الطلاق يقع بلفظ صريح يدل عليه لغة، كقوله: أنت طالق، أو عرفاً كقوله: أنت علي حرام، وبألفاظ الكناية مع النية، ونصت المادة (93) على ذلك: «يقع الطلاق بالألفاظ الصريحة فيه عرفاً دون حاجة إلى نية، ويقع بالألفاظ الكنائية التي تحتمل معنى الطلاق وغيره بالنية». قدر الطلاق: عدد الطلاق (¬1): هو طلقة واحدة واثنتان وثلاث، فإن صدر الطلاق مطلقاً، أي بالصيغة فقط، كأن قال الرجل: طلقتك أو أنت طالق، وقعت طلقة واحدة، عملاً بمقتضى الصيغة عند الحنفية، ويقع ما نواه عند الجمهور. وإن نوى بكلامه عدداً معيناً كواحدة أو اثنتين، أو صرح بعدد قرن بالطلاق، وقع ما نواه أو ما صرح به من العدد، فلو ماتت المرأة قبل تمام العدد، لغا الطلاق عند الحنفية؛ لأن الوقوع بالعدد، ولو مات الزوج أو أخذ أحد فمه قبل ذكر العدد، وقع الطلاق واحدة عملاً بالصيغة؛ لأن الوقوع بلفظه لا بقصده. وقال الشافعية أيضاً: لو ماتت المرأة قبل تمام كلمة (طالق) لم يقع شيء. وتنفذ الطلقات الثلاث بالاتفاق، سواء طلق الرجل المرأة واحدة بعد واحدة، أم جمع الثلاث في كلمة واحدة بأن قال: أنت طالق ثلاثاً، عند الجمهور خلافاً للظاهرية. ¬
والمعول عليه عند الحنفية اعتبار عدد الطلاق بالنساء، فطلاق الحرة ثلاث، وطلاق الأمة ثنتان، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «طلاق الأمة ثنتان، وعدتها حيضتان» (¬1). وعند الجمهور: المعتبر هو الرجال، فللعبد طلقتان، وللحر ثلاث طلقات، لما روى الدارقطني مرفوعاً: «طلاق العبد اثنتان» وروي عن عثمان وزيد بن ثابت، ولا مخالف لهما من الصحابة، كما روى الشافعي. والإسلام في أمر الزواج والطلاق التزم الحق والاعتدال، وصحح أخطاء الجاهلية، فقد كان النكاح في الجاهلية أربعة أنحاء (¬2): النكاح المعروف بعقد بعد خطبة، ونكاح الاستبضاع أي طلب الزوجة المباضعة وهو الجماع من رجل آخر بطلب زوجها، ونكاح الرهط دون العشرة، ثم تلحق المرأة الولد بمن أحبت منهم، ونكاح البغايا، ثم إلحاق الولد بواحد من الزناة بالقافة (¬3). وأما الطلاق، فلم يكن مقيداً بعدد في الجاهلية، قالت عائشة رضي الله عنها: كان الرجل يطلق امرأته ما شاء أن يطلق، وهي امرأته، إذا راجعها، وهي في العدة، وإن طلقها مئة أو أكثر، حتى قال رجل لامرأته: والله لا أطلقك، فتبينين مني، ولا آويك أبداً، قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلق حتى إذا دنا أجلك، راجعتك، فأتت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فأنزل الله عز وجل: {الطلاق مرتان، فإمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان} (¬4) [البقرة:229/ 2]. دلّت الآية على أن عدد الطلقات ثلاث، وجعلت للزوج حق مراجعة زوجته بعد الطلقة ¬
ماالذي تعود به المرأة بعد التحليل؟
الأولى والثانية، وبه حمى الإسلام المرأة من الضرر الذي كان يلحق بها، وراعى مصلحة الرجل حيث جعل للزوج حق الطلاق ثلاث مرات، وحرص الشرع على إبقاء العشرة بين الزوجين من طريق المراجعة مرتين فقط، لتحقق الكفاية فيهما لتدارك ما فرط، فقد يطلق الرجل لغضب سريع ثم يندم، وقد يطلق لسبب ثم يزول السبب، وقد يطلق لسوء عشرة المرأة، فتتألم من الفراق، وقد يكون لها أولاد، فتحرم من رؤيتهم، أو تتضايق من تربيتهم. واشتراط التحليل، أي الزواج برجل آخر، لحل رجوع المرأة إلى المطلِّق بعد الطلقة الثالثة، يحمل الزوج على الإمساك عن إيقاع الطلقة الثالثة، ويدفعه إلى الحرص على إبقاء الزوجية؛ لأن الرجل بحكم الغَيرة والحمية يأنف من مثل هذا الفعل، فكأنه في حكم الباب المسدود، وكأنه إحالة على شيء عسير الحصول بعيد التحقق. ماالذي تعود به المرأة بعد التحليل؟ من طلق طلقة واحدة أو اثنتين، فنكحها زوج غيره، ودخل بها، ثم نكحها الأول، بنى الأول عند المالكية والشافعية والحنابلة (¬1) على ما كان من عدد الطلقات، أي فتعود إليه بما بقي له من الطلاق، فلو طلقها ثلاثاً ثم نكحها بعد زوج غيره، استأنف عدد الطلقات كنكاح جديد، أي فتعود له بطلقات ثلاث: لأن الزواج الثاني لا يهدم ما دون الثلاث، ويهدم الثلاث؛ لأن وطء الثاني لا يحتاج إليه في الإحلال للزوج الأول فيما دون الثلاث، فلا يغير حكم الطلاق، ولأنه تزويج قبل استيفاء الثلاث، فأشبه ما لو رجعت إليه قبل وطء الثاني. وهذا رأي محمد أيضاً؛ لأنه لا إنهاء للحرمة قبل الثبوت. ¬
عدد الطلاق في بعض الألفاظ
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف (¬1): الزواج الثاني يهدم مطلقاً، فتعود بطلقات ثلاث للزوج الأول، سواء أكان زواجها بزوج ثان بعد الطلقتين أم بعد الثلاث؛ لأن وطء الزوج الثاني مثبت للحل، فيثبت حلاً يتسع لثلاث تطليقات كما يتسع لما دون الثلاث؛ لأن الوطء الثاني يهدم الطلقات الثلاث، فأولى أن يهدم ما دونها، وقد سمى النبي صلّى الله عليه وسلم الزوج الثاني محلِّلاً، وهو المثبت للحل، في حديث: «لعن الله المحلل والمحلل له» (¬2). عدد الطلاق في بعض الألفاظ: اتفق الفقهاء على أن الطلاق لا يقع بالنية من غير لفظ، واللفظ الصادر عن المطلِّق متنوع، يتحدد عدد الطلاق فيه إما بالنية أو بالصيغة أو بالعدد المقترن به صراحة. وهذه نماذج يعرف بها عدد الطلاق بالإضافة لما سبق بيانه. 1 ً - اللفظ المُطْلَق: إذا خاطب الرجل امرأته بقوله: أنت طالق أو بائن أو بتة: ففي رأي المالكية والشافعية والحنابلة (¬3): يقع ما نواه، فإن نوى طلقتين أو ثلاثاً، وقع، لما روي أنه رُكانَة بن عبد يزيد طلق امرأته سُهَيْمة البتة، فأخبر النبيَّ صلّى الله عليه وسلم بذلك، فقال: والله ما أردتُ إلا واحدةً، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: والله ما أردتَ إلا واحدة؟ قال ركانة: والله ما أردتُ إلا واحدة، فردها إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وطلقها الثانية في زمان عمر بن الخطاب، والثالثة في زمن عثمان (¬4). ¬
2 - تحديد المقصود بالإشارة
وفي رأي الحنفية (¬1): يقع الطلاق عند عدم العدد بالصيغة، وقول الرجل: أنت طالق البتة، من كنايات الطلاق التي يقع بها الطلاق عندهم بائناًً؛ لأنه اقترن بوصف الشدة أو القوة أو بما يفيد البينونة. 2 - تحديد المقصود بالإشارة: إن قال الرجل لامرأته: أنت طالق هكذا، وأشار بثلاث أصابع، وقع الثلاث عند الشافعية والمالكية والحنابلة (¬2)؛ لأن الإشارة بالأصابع مع قوله (هكذا) بمنزلة النية في بيان العدد. وإن قال: أردت بعدد الأصبعين المقبوضتين، قبل قوله؛ لأنه يحتمل ما يدعيه. ولوقال: أنت طالق وأشار بالأصابع، ولم يقل (هكذا) وقال: أردت واحدة ولم أرد العدد فهي واحدة، أي يقبل قوله؛ لأنه يحتمل ما يدعيه. وكذلك يقع ثلاثاً بالإشارة عند الحنفية (¬3)؛ لأن الطلاق الثلاث يقع عندهم إذا كان مقروناً بعدد الثلاثة نصاً أو إشارة، أو موصوفاً بصفة تنبئ عن البينونة أو ما يدل عليها. 3 - واحدة في اثنتين: قرر الشافعية عملاً بمبدئهم في تحكيم النية (¬4): إن قال الرجل: أنت طالق واحدة في اثنتين، فإن نوى طلقة واحدة مع اثنتين، وقعت ثلاث؛ لأن (في) تستعمل بمعنى (مع) لقوله عز وجل: {فادخلي في عبادي وادخلي جنتي} [الفجر:29/ 89 - 30] أي مع عبادي. فإن لم يكن له نية: فإن لم يعرف الحساب ولا نوى مقتضاه في الحساب، طلقت طلقة واحدة بقوله: (أنت طالق) ولا يقع بقوله: (في اثنتين) شيء؛ لأنه لا يعرف مقتضاه، فلم يلزمه حكمه ¬
4 - طالق طلقة بل طلقتان
كالأعجمي إذا طلق بالعربية وهو لا يعرف معناه. وإن نوى مقتضاه في الحساب وهو غير عالم به، فالمذهب أنه لا يقع إلا طلقة واحدة؛ لأنه إذا لم يعلم مقتضاه، لم يلزمه حكمه كالأعجمي إذا طلق بالعربية، وهولا يعلم وقال: أردت مقتضاه في العربية. فإن كان عالماً بالحساب: فإن نوى موجبه في الحساب، طلقت طلقتين لأنه موجبه في الحساب طلقتان. وإن لم يكن له نية، فالمنصوص أنها تطلق طلقة؛ لأن هذا اللفظ غير متعارف عند الناس، ويحتمل طلقة في طلقتين واقعتين، ويحتمل طلقة في طلقتين باقيتين، فلا يجوز أن يوقع بالشك. ومذهب الحنفية (¬1): يقع بقوله: (واحدة في ثنتين) طلقة واحدة إن لم ينو أو نوى الضرب؛ لأنه يكثر الأجزاء لا الأفراد، وإن نوى واحدة وثنتين فيقع ثلاثاً في المدخول بها، وواحدة في غير المدخول بها. 4 - طالق طلقة بل طلقتان: رأى الشافعية (¬2): أنه إن قال: أنت طالق طلقة، بل طلقتان، ففيه وجهان: أحدهما ـ يقع طلقتان، كما إذا قال: له علي درهم، بل درهمان، لزمه درهمان. والوجه الثاني ـ يقع الثلاث؛ لأن الطلاق إيقاع، فلا يجوز أن يوقع الطلاق الواحد مرتين، فحمل على طلاق مستأنف. 5 - اقتران الطلاق بلفظ الثلاث، وتكراره: اتفق فقهاء المذاهب الأربعة والظاهرية (¬3) على أنه إذا قال الرجل لغير المدخول ¬
6 - تطليق الجماعة
بها: «أنت طالق ثلاثا» وقع الثلاث؛ لأن الجميع صادف الزوجية، فوقع الجميع، كما لو قال ذلك للمدخول بها. واتفقوا أيضاً على أنه إن قال الزوج لامرأته: «أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق» وتخلل فصل (¬1) بينها، وقعت الثلاث، سواء أقصد التأكيد أم لا؛ لأنه خلاف الظاهر. وإن قال: قصدت التأكيد صدق ديانة، لا قضاء. وإن لم يتخلل فصل: فإن قصد تأكيد الطلقة الأولى بالأخيرتين، فتقع واحدة؛ لأن التأكيد في الكلام معهود لغة وشرعاً. وإن قصد استئنافاً أو أطلق (بأن لم يقصد تأكداً ولا استئنافاً) تقع الثلاث، عملاً بظاهر اللفظ. وكذا تطلق ثلاثاً إن قالت: أنت طالق، ثم طالق، ثم طالق، أو عطف بالواو أو بالفاء. 6 - تطليق الجماعة: لو قال الرجل لنسائه الأربع: أوقعت عليكن أو بينكن طلقة، فمذهب الحنفية والشافعية (¬2): طلقت كل واحدة منهن طلقة؛ لأنه يخص كل واحدة منهن ربع طلقة، وتكمل بالسراية. وكذا إن قال: بينكن تطليقتان أو ثلاث أو أربع، وقع على كل واحدة طلقة، إلا أن ينوي قسمة كل واحدة منهن، بأن قال: أردت أن يقع على كل واحدة من الطلقتين، وقع على كل واحدة طلقتان، وإن قال: أردت أن يقع على كل واحدة من الثلاث الطلقات، فتطلق كل واحدة ثلاثاً؛ لأنه مقر على نفسه بما فيه تغليظ، واللفظ محتمل له. وإن قال: بينكن خمس طلقات، وقع على كل واحدة طلقتان، وهكذا إلى ¬
7 - الطلاق ملء الدنيا أوأشد الطلاق
ثمان تطليقات. فإن زاد عليها، بأن قال: أوقعت عليكن تسعاً، طلقت كل واحدة ثلاثاً. وإن قال: أوقعت بينكن نصف طلقة، وثلث طلقة، وسدس طلقة، طلقت كل واحدة ثلاثاً؛ لأنه لما عطف وجب أن يقسم كل جزء من ذلك بينهن، ثم يكمل. أما إن قال الرجل لنسائه: إحداكن طالق أو قال لإحدى امرأتيه: إحداكما طالق، طلقت واحدة، ويرجع إلي تعيينه اتفاقاً (¬1). 7 - الطلاق ملء الدنيا أوأشد الطلاق: مذهب الشافعية والحنابلة (¬2): إن قال الرجل لامرأته: أنت طالق ملء الدنيا، أو أنت طالق أطول الطلاق أو أعرضه، وقعت طلقة؛ لأن شيئاً مما ذكر لا يقتضي العدد، وقد تنصف الطلقة الواحدة بالمذكور كله. وإن قال: أنت طالق أشد الطلاق وأغلظه، وقعت طلقة؛ لأنه قد تكون الطلقة أشد وأغلظ عليه، لتعجلها أو لحبه لها أو لحبها له، فلم يقع ما زاد بالشك. ومذهب الحنفية: تقع طلقة واحدة بائنة. وإن قال: أنت طالق كل الطلاق أو أكثره، وقع الثلاث؛ لأنه كل الطلاق وأكثره، وهذا متفق عليه. وإن قال: أنت طالق على مذهب السنة والشيعة واليهود والنصارى، أو على سائر المذاهب، أو أنت طالق لا يردك عالم ولا قاض، وقعت واحدة رجعية. وهذا باتفاق المذاهب (¬3). ¬
8 - طلقة قبل طلقة أو بعدها طلقة
8 - طلقة قبل طلقة أو بعدها طلقة: يرى الشافعية (¬1): أنه لو قال: (طلقة قبل طلقة) أو (بعدها طلقة) أو (طلقة بعد طلقة) أو (قبلها طلقة) فتقع طلقتان في المدخول بها، وطلقة في غير المدخول بها، إذ مقتضاه في المدخول بها إيقاع طلقتين: إحداهما في الحال، وتعقبها الأخرى، أما في غير المدخول بها فتبين في الطلقة الأولى، فلم تصادف الثانية محلاً وهوالنكاح. ولو قال: (طلقة في طلقة) وأراد (مع) فيقع طلقتان كما في قوله تعالى: {ادخلوا في أمم} [الأعراف:38/ 7]، وإن أراد الظرف أو الحساب، أو أطلق، فتقع طلقة واحدة في الجميع، إذ مقتضى الظرف والحساب واحدة. ولو قال: (أنت طالق نصف طلقة) فتقع طلقة بكل حال من إرادة المعية أو الظروف أو الحساب أو عدم إرادة شيء؛ لأن الطلاق لا يتجزأ. ولو قال: (أنت طالق طلقة في طلقتين) وقصد بـ (في) معية، فتقع ثلاث، وإن قصد ظرفاً فواحدة، أو حساباً وعرفه، فثنتان. وإن جهله وقصد معناه فطلقة. ويتفق الحنابلة (¬2) مع الشافعية في قول الرجل: (أنت طالق طلقة قبلها طلقة) ونحوه، يقع طلقتان في المدخول بها، وطلقة في غير المدخول بها. وإن قالت: (أنت طالق طلقة بعدها طلقة) وقال: أردت أني أوقع بعضها طلقة، يصدق ديانة، وهل يصدق قضاءً؟ خلاف، الصحيح أنه إن وجد له طلاق في نكاح آخر، أو من زوج قبله، صدق، وإن لم يوجد لا يقبل قوله؛ لأنه لا يحتمل ما قاله. ¬
ووافق الحنفية (¬1) الشافعية أيضاً في قول الرجل: (أنت طالق واحدة قبلهاواحدة) أو قال: (واحدة بعد واحدة) أو (مع واحدة أو معها واحدة) تقع طلقتان؛ لأن في المثال الأول الملفوظ به أولاً موقع آخراً؛ لأنه أوقع واحدة، وأخبر أن قبلها واحدة سابقة، فوقعتا معاً؛ لأن الإيقاع في الماضي إيقاع في الحال. وفي المثال الثاني أوقع في الحالة الأولى طلقة واحدة وأخبر أنها بعد واحدة سابقة، وأما في الحالتين الأخيرتين؛ فلأن (مع) للمقارنة، فكأنه قرن بينهما، فوقعتا. أما لو قال: (أنت طالق واحدة قبل واحدة) فتقع واحدة؛ لأن الملفوظ به أولاً موقع أولاً، فتقع الأولى لا غير؛ لأنه أوقع واحدة، وأخبر أنها قبل أخرى ستقع، وقد بانت بهذه، فلغت الثانية. وكذا إن قال: (واحدة بعدها واحدة) وقعت واحدة أيضاً؛ لأن الملفوظ به أولاً موقع أولاً، فتقع الأولى لا غير، لأنه أوقع واحدة، وأخبر أن بعدها أخرى ستقع. وإن قال لها: (إن دخلت الدار فأنت طالق واحدة وواحدة) أو (فواحدة) فدخلت الدار، وقعت عليها واحدة عند أبي حنيفة؛ لأن المعلق بالدخول كالمنجز، في حالة تقديم الشرط. فإن أخر الشرط يقع ثنتان؛ لأن الشرط إذا تأخر بغير صدر الكلام، فيتوقف عليه، فيقعن جملة، أما إن تقدم الشرط فتقع طلقة واحدة، لتعلقها بالشرط دفعة واحدة. وإذا قال لها: أنت طالق بمكة، فهي طالق في الحال في كل البلاد، وكذلك إن قال: أنت طالق في الدار، تطلق في الحال؛ لأن الطلاق لا يتخصص بمكان دون مكان، كما أبان الحنفية. وإن عنى به (إذا أتيت مكة) يصدق ديانة لا قضاء؛ لأنه نوى الإضمار، وهو خلاف الظاهر. ¬
9 - الطلاق غير المعين
وإن قال لها: أنت طالق إذا دخلت مكة، لم تطلق حتى تدخل مكة؛ لأنه علقه بالدخول. وإن قال لها: أنت طالق غداً، وقع الطلاق عليها بطلوع الفجر؛ لأنه وصفها بالطلاق في جميع الغد، فيقع في أول جزء منه. ولو نوى آخر النهار، صدق ديانة لا قضاء؛ لأنه نوى التخصيص في العموم، وهويحتمله مخالفاً لظاهر الكلام. 9 - الطلاق غير المعين: قال الحنفية (¬1): لو قال: امرأتي طالق، وله امرأتان أو ثلاث، تطلق واحدة منهن، وله خيار التعيين. ولو قال: (نساء الدنيا طوالق) لم تطلق امرأته. أما لو قال: نساء المحلة والدار والبيت، فتطلق امرأته، ولو قال: نسائي طوالق، ولا نية له، طلقن كلهن بغير خلاف؛ لأن لفظه عام. ولو قالت امرأة لزوجها: طلقني، فقال: فعلت أي طلقت بقرينة الطلب، طلقت واحدة. فإن قالت: زدني، فقال: فعلت، طلقت أخرى. ولو قالت: طلقني، طلقني، طلقني، فتقع واحدة إن لم ينو الثلاث. ولو عطفت بالواو، فثلاث؛ لأنه قرينة التكرار، فيطابقه الجواب. ولو قالت: طلقت نفسي، فأجاز، طلقت؛ لأنه يملك إنشاء الطلاق عليها، فيملك الإجازة التي هي أضعف، بالأولى. وكذا لو قالت: أبنت نفسي، فأجاز، طلقت إن نوى ولو ثلاثاً. أما لو قالت المرأة: اخترت نفسي منك، فقال الزوج: أجزت، ونوى الطلاق، لا يقع شيء؛ لأن قولها (اخترت) لم يوضع للطلاق، لا صريحاً ولا كناية. ¬
10 - عدد الطلاق في ألفاظ الكناية عند المالكية
10 - عدد الطلاق في ألفاظ الكناية عند المالكية: الكناية عند المالكية ظاهرة ومحتملة (¬1): أما الكناية المحتملة أو الخفية: فهي كقول الرجل لامرأته: الحقي بأهلك، واذهبي، وابعدي عني وما أشبه ذلك. فهذا لا يلزمه الطلاق إلا إن نواه. فإن قال: إنه لم ينو الطلاق، قبل قوله فيه. وأما الكناية الظاهرة: فهي التي جرت العادة أن يطلق بها في الشرع أو في اللغة، كلفظ التسريح والفراق، وكقوله: أنت بائن، أو بتة، أو بتلة، وما أشبه ذلك. وحكمها حكم الصريح. وهي سبعة أنواع: الأول: ما يلزم فيه طلقة واحدة، إلا إن نوى أكثر في المرأة المدخول بها، وهو: (اعتدّي) وأما غير المدخول بها فلا عدة عليها، فإن قال لها: اعتدي، فهو من الكناية الخفية أو المحتملة، لا يقع إلا بنية. الثاني: ما يلزم فيه الثلاث مطلقاً وهو: بتة، و: حبلك على غاربك. الثالث: ما يلزم فيه الثلاث في المدخول بها، وواحدة في غيرها إن لم ينو أكثر، فإن نوى ثلاثاً لزمه، أو أقل لزمه ما نواه، وهوأنت طالق واحدة بائنة. الرابع: مايلزم فيه الثلاث في المدخول بها، وغيرها إن لم ينو أقل، وهي وهبتك لأهلك، أو رددتُك أولا عصمة لي عليك، وأنت حرام، أو خلية لأهلك أي من الزوج، أو ميتة أو كالدم أو كلحم الخنزير، أو بريّة، أو خالصة، أي مني لا عصمة لي عليك، أوبائنة، أو أنا بائن منك، أو خلي أوبري أو خالص، فإن نوى الأقل لزمه ما نواه، وحلف إن أراد نكاحها أنه ما أراد إلا الأقل، لا إن لم يرده. ¬
11 - الطلاق المقيد بالاستثناء
الخامس: ما يلزم فيه الثلاث مطلقاً، ما لم ينو أقل، وهو: خليت سبيلك. السادس: ما يلزم فيه الثلاث في المدخول بها، وينوي في غيرها، وهو (وجهي من وجهك حرام) أو (وجهي على وجهك حرام) فلا فرق بين (من) و (على) ومثله: لا نكاح بيني وبينك، أولا ملك لي عليك، أولا سبيل لي عليك، فيلزمه الثلاث في المدخول بها فقط، إلا إن كان الكلام لعتاب، فلا شيء عليه. السابع: ما يلزم فيه واحدة مطلقاً سواء دخل أم لا إلا لنية أكثر، وهو: فارقتك، يقع بها طلقة رجعية في المدخول بها. وكل ذلك ما لم تدل القرائن على عدم إرادة الطلاق، فيصدق الرجل في نفي الطلاق إن دلت القرينة على النفي في جميع الكنايات الظاهرة. والحاصل: أن لفظي (اعتدي وفارقتك) يقع بهما طلقة واحدة، وبقية ألفاظ الكناية الظاهرة المذكورة يقع بها الثلاث. 11 - الطلاق المقيد بالاستثناء: ذهب علماء المذاهب الأربعة (¬1): إلى أنه إذا استثنى المطلِّق بلسانه صح، ولم يقع ما استثناه. فإذا قال الرجل لامرأته: (أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة) تطلق طلقتين. وإذا قال: (أنت طالق ثلاثاً إلا اثنتين) طُلِّقت واحدة. وإذا قال: (أنت طالق البتة إلا ثنتين إلا واحدة) يلزمه اثنتان؛ لأن (البتة) ثلاث، والاستثناء من الإثبات نفي، ومن النفي إثبات، فأخرج من (البتة) اثنتين، ثم أخرج منهما واحدة، تضم للواحدة الأولى، واشترط الفقهاء لصحة الاستثناء الاتصال في الكلام، أي اتصال لفظ المستثنى بالمستثنى منه عرفاً بحيث يعد كلاماً واحداً، ولا يضر فصل يسير كتنفس ونحوه كسعال وعطاس. ¬
أـ استثناء القليل من الكثير
واشترطوا أيضاً عدم استغراق المستثنى منه، فلو قال: «أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً» لم يصح الاستثناء، وطلقت ثلاثاً بلا خلاف؛ لأن الاستثناء تكلم بالباقي بعد الثُنيا، ومعناه أنه تكلم بالمستثنى منه. واشترط الشافعية في الأصح والحنابلة، أن ينوي الاستثناء قبل فراغ اليمين أي قبل تمام المستثنى منه؛ لأن اليمين إنما تعتبر بتمامها. واشترطوا أيضاً في التلفظ بالاستثناء إسماع نفسه عند اعتدال سمعه، فلا يكفي أن ينويه بقلبه من غير أن يسمع نفسه. وبناء عليه يكون للاستثناء أحوال ثلاثة: أـ استثناء القليل من الكثير: يصح بالاتفاق، مثل أن يقول: أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة، وتقع ثنتان، ومن قال: أنت طالق أربعاً إلا اثنتين، لزمه اثنتان. ب ـ استثناء العدد بعينه: مثل أن يقول: أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً، أو أنت طالق اثنتين إلا اثنتين، طلقت ثلاثاً في الأول، واثنتين في الثاني، وكذا لو قال: أنت طالق ثلاثاً إلا طلقة وطلقة وطلقة، يقع ثلاثاً؛ لأنه استثناء الكل من الكل. ولو قال: أنت طالق ثلاثاً إلا ثنتين وواحدة، وقعت واحدة، ويلغو ما حصل به الاستغراق. ولو قال أنت طالق ثلاثاً إلا نصف طلقة، وقعت الثلاث. جـ ـ استثناء الأكثر من الأقل: مثل أنت طالق ثلاثاً إلا اثنتين، صح الاستثناء عند الجمهور وتقع طلقة واحدة. وقال أحمد في الأصح: الاستثناء لا يصح؛ لأن الاثنتين أكثر الثلاث. ويصح الاستثناء من الاستثناء مثل: أنت طالق ثلاثاً إلا اثنتين إلا واحدة، ويقع به طلقتان؛ لأن الاستثناء في الأصح ينصرف إلى الملفوظ به؛ لأنه لفظ فيتبع به موجب اللفظ.
المبحث الثالث ـ قيود إيقاع الطلاق شرعا
المبحث الثالث ـ قيود إيقاع الطلاق شرعا ً: قيد الشرع الطلاق بقيود شرعية منعاً للشطط والتسرع، وحفظاً على الرابطة الزوجية؛ لأن هذا الرباط مقدس، يختلف عن كل العقود الأخرى، ولأن الطلاق يؤثر تأثيراً بالغاً في حياة المرأة، فإن جوهر ما تملكه أصبح هدراً، وربما عاشت أيِّما لا تتزوج أبداً، وفي التأيم غالباً مفاسد كثيرة أو تعريض للفساد والشر والمعصية. فإن توافرت هذه القيود كان الطلاق موافقاً للشرع لا إثم فيه، وإن فقد واحد منها، كان إيقاعه موجباً للإثم والسخط الإلهي. والقيود ثلاثة (¬1): 1ً - أن يكون الطلاق لحاجة مقبولة. 2ً - أن يكون في طهر لم يجامعها فيه. 3ً - أن يكون مفرّقاً ليس بأكثر من واحدة. وأبحث هذه القيود وأثر مخالفتها عند فقهائنا: أولاً ـ أن يكون الطلاق لحاجة مقبولة شرعاً وعرفاً: يرى الحنفية في أصل المذهب (¬2) كما تبين سابقاً: أن الأصل في الطلاق هو الإباحة، لإطلاق الآيات القرآنية الواردة فيه، مثل قوله تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة} [البقرة:236/ 2] وقوله: ¬
{فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق:1/ 65] ولأن الرسول صلّى الله عليه وسلم طلق حفصة، وفعله الصحابة، ولو كان الطلاق محظوراً لما أقدموا عليه. ونوقشت هذه الأدلة، أما الآية الأولى فهي لبيان إباحة الطلاق قبل الدخول وقبل تسمية المهر، وأما الآية الثانية فبيان وقت الطلاق المفضل شرعاً وهو وقت ابتداء أو استقبال العدة. وأما طلاق حفصة وطلاق بعض الصحابة، فلم يثبت أنه كان لغير حاجة أو سبب يدعو إليه. والظاهر هو أنه لحاجة؛ لأن الطلاق لغير حاجة كفر بنعمة الزواج، وإيذاء محض بالزوجة وأهلها وأولادها. ويرى الجمهور غير الحنفية منهم الكمال بن الهمام وابن عابدين (¬1): أن الأصل في الطلاق هو الحظر والمنع وخلاف الأولى، والأولى أن يكون لحاجة كسوء سلوك الزوجة أوإيذائها أحداً، لما فيه من قطع الألفة، وهدم سنة الاجتماع، والتعريض للفساد، ولقوله تعالى: {فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً} [النساء:34/ 4] وللحديث السابق: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق» وحديث: «أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس، فحرام عليها رائحة الجنة» (¬2) ففيه دليل على أن سؤال المرأة الطلاق من زوجها محرم عليها تحريماً شديداً؛ لأن من لم يرح رائحة الجنة غير داخل إليها أبداً، وكفى بذنب يبلغ بصاحبه إلى ذلك المبلغ مشيراً إلى خطورته وشدته، كما قال الشوكاني (¬3). وهذا هو الراجح لاتفاقه مع مقاصد الشريعة، ولمخاطر الطلاق المتعددة، قال ابن عابدين: الأصل في الطلاق الحظر، بمعنى أنه محظور إلا لعارض يبيحه، ¬
أثر مخالفة هذا القيد
والإباحة للحاجة إلى الخلاص، فإذا كان بلا سبب أصلاً لم يكن فيه حاجة إلى الخلاص، بل يكون حمقاً، وسفاهة رأي، ومجرد كفران النعمة، وإخلاص الإىذاء بها وبأهلها وأولاده. وإذا وجدت الحاجة المبيحة وهي أعم من الكبَر والريبة، أبيح الطلاق، وعليها يحمل ما وقع منه صلّى الله عليه وسلم ومن أصحابه وغيرهم من الأئمة، صوناً لهم من العبث والإيذاء بلا سبب. أثر مخالفة هذا القيد: إذا حدث الطلاق من غير حاجة أو سبب يدعو إليه، فإنه يقع بالاتفاق، ولكن المطلِّق يأثم؛ لأن الحاجة قد تكون تقديرية، أو نفسية خفية لا تخضع للإثبات الظاهر في القضاء، وقد تكون مما يجب ستره، حفظاً لسمعة المرأة ومنعاً من التشهير بها. لهذا كان الأصح ألا يحكم على الرجل بتعويض مادي للمطلقة، بسبب كون الطلاق تعسفاً، ويكتفى بما يقرره الشرع بدفع مؤخر الصداق، ونفقة العدة، والمتعة التي هي تعويض عن الضرر الناجم عن الطلاق. ثانياً ـ أن يكون الطلاق في طهر لم يجامعها فيه: هذا القيد متفق عليه بين الفقهاء (¬1)، فإذا أوقع الزوج الطلاق في حال الحيض أو النفاس، أو في طهر جامعها فيه، كان الطلاق عند الجمهور حراماَ شرعاً وعند الحنفية مكروهاً تحريمياً، وهو المسمى طلاقاً بدعياً، واقتصر المالكية على القول بتحريم الطلاق في الحيض أو النفاس، ويكره في غيرهما. ودليل هذا القيد: أن ابن عمر طلق امرأته، وهي حائض، فذكر ذلك عمر للنبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: «مُرْه، ¬
أثر مخالفة هذا القيد
فليراجعها أو ليطلّقْها طاهراً أو حاملاً» (¬1). وفي رواية عنه: «أنه طلق امرأة له وهي حائض، فذكر ذلك عمر للنبي صلّى الله عليه وسلم، فتغيَّظ فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثم قال: ليراجعْها، ثم يمسكْها حتى تطهُر، ثم تحيض فتطهر، فإن بدا له أن يطلّقها، فليطلقها قبل أن يمسها، فتلك العدة كما أمر الله تعالى». وفي لفظ: «فتلك العدة التي أمر الله أن يُطلَّق لها النساء» فهو يدل على أن الطلاق جائز حال الطهر الذي لم يجامع فيه. وهذا متفق مع الآية القرآنية: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء، فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق:1/ 65] أي مستقبلات عدتهن. والسبب هو عدم إطالة العدة على المرأة، ففي الطلاق في أثناء الحيض أو في طهر جامعها فيه ضرر بالمرأة بتطويل العدة عليها؛ لأن الحيضة التي وقع فيها الطلاق لا تحتسب من العدة، وزمان الحيض زمان النفرة، وبالجماع مرة في الطهر تفتر الرغبة. وبه يتبين أن الطلاق البدعي يكون للمرأة التي دخل بها زوجها، وكانت ممن تحيض، أما التي لم يدخل بها الزوج أو كانت حاملاً أو لا تحيض، فلا يكون طلاقها بدعياً قبيحاً شرعاً، قال ابن عباس: الطلاق على أربعة أوجه: وجهان حلال، ووجهان حرام، فأما اللذان هما حلال: فأن يطلق الرجل امرأته طاهراً من غير جماع، أو يطلقها حاملاً مستبيناً حملها، وأما اللذان هما حرام: فأن يطلقها حائضاً أو يطلقها عند الجماع، لا يدري، اشتمل الرحم على ولد أم لا (¬2). أثر مخالفة هذا القيد: يقع الطلاق باتفاق المذاهب الأربعة في حال الحيض أو في حال الطهر الذي جامع الرجل امرأته فيه؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر ابن عمر بمراجعة ¬
امرأته التي طلقها، وهي حائض، والمراجعة لا تكون إلا بعد وقوع الطلاق، ويؤيده رواية: «وكان عبد الله طلَّق تطليقة، فحسبت من طلاقها». وقال الشيعة الإمامية والظاهرية وابن تيمية وابن القيم (¬1): يحرم الطلاق في أثناء الحيض أو النفاس أو في طهر وطئ الرجل زوجته فيه، ولا ينفذ هذا الطلاق البدعي، بدليل ما يأتي: 1ً - ما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي عن ابن عمر بلفظ: «طلق عبد الله ابن عمر امرأته وهي حائض، قال عبد الله: فردها علي رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولم يرها شيئاً». وهذا الحديث صحيح كما صرح به ابن القيم وغيره. ونوقش بأنه قد أعل هذا الحديث بمخالفة أبي الزبير لسائر الحفاظ، وقال ابن عبد البر: قوله «ولم يرها شيئاً»: منكر لم يقله غير أبي الزبير، وليس بحجة فيما خالفه فيه مثله، فكيف إذا خالفه من هو أوثق منه، ولو صح فمعناه عندي ـ والله أعلم ـ ولم يرها شيئاً مستقيماً، لكونها لم تكن على السنة. وقال الخطابي: وقد يحتمل أن يكون معناه: ولم يرها شيئاً تحرم معه المراجعة، أو لم يرها شيئاً جائزاً في السنة. 2ً - حديث: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (¬2) والطلاق في حال الحيض مخالف لأمر الشارع، فيكون مردوداً لا أثر له. ونوقش بأن المردود هو بسبب مخالفة ركن أو شرط من أركان أو شروط العمل. وأما المخالفة بسبب تطويل العدة أو عدم وجود الحاجة إلى الطلاق، فليس أحدهما ركناً أو شرطاً للطلاق، فلا تستوجب الرد وعدم وقوع الطلاق. ¬
3ً - هذا الطلاق منهي عنه شرعاً غير مأذون فيه، فلا يكون مملوكاً للزوج كالوكيل بالطلاق إذا خالف أمر الموكل، فإن طلاقه لا يقع، والمنهي عنه لذاته أو لجزئه أو لوصفه اللازم يقتضي الفساد، والفاسد لا يثبت حكمه. وأجيب بأن النهي عن الطلاق في الحيض ونحوه ليس راجعاً إلى نفس الطلاق، ولا إلى صفة من صفاته، وإنما هو راجع إلى أمر خارج عن المنهي عنه، وهو عدم الحاجة إلى الطلاق، أو ما يترتب عليه من إيذاء الزوجة بإطالة العدة، والنهي لأمر خارج عن المنهي عنه لا يدل على فساده إذا وقع، كالبيع وقت النداء لصلاة الجمعة. والقياس على الوكيل قياس مع الفارق؛ لأن الوكيل في الطلاق مجرد سفير ومعبر عن الموكل، فلا يملك غير ما فوض إليه، أما الزوج فلا يوقع الطلاق نيابة عن غيره ولا عن الله عز وجل، وإنما يوقعه عن نفسه. 4ً - هناك مرجحات لهذا الرأي بعدم الوقوع من القرآن، منها قوله تعالى: {فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق:1/ 65] والمطلق في حال الحيض أو الطهر الذي وطئ فيه، لم يطلق لتلك العدة التي أمر الله بتطليق النساء لها، وقد تقرر في الأصول أن الأمر بالشيء نهي عن ضده. ومنها قوله تعالى: {الطلاق مرتان} [البقرة:229/ 2] ولم يرد إلا المأذون، فدل على أن ما عداه ليس بطلاق، لما في هذا التركيب من الصيغة الصالحة للحصر أي تعريف المسند إليه باللام الجنسية. ومنها قوله تعالى: {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} [البقرة:231/ 2] ولا أقبح من التسريح الذي حرمه الله. وأقول: إن هذه إرشادات لما هو الأفضل، وليس فيها دلالة على عدم وقوع الطلاق، بل المقرر في السنة وقوع الطلاق، مع مخالفة هذه الإرشادات.
ثالثا ـ أن يكون الطلاق مفرقا ليس بأكثر من واحدة
وفي تقديري أن رأي الجمهور أرجح، لضعف أدلة الفريق الثاني، وقد اتفق الجمهور على أن الزوج يؤمر بمراجعة الزوجة إن طلق في الحيض أو في طهر جامعها فيه، وهذه المراجعة واجبة عند المالكية، وفي الأصح عند الحنفية، وإذا امتنع الزوج عن المراجعة أجبره الحاكم في رأي المالكية عليها بالحبس أو بالضرب حتى يراجع، فإن لم يراجعها ارتجعها الحاكم عليه. ولا يقول الحنفية بصحة الرجعة من الحاكم، وإنما للحاكم معاقبة الزوج إن لم يرتجع بما يراه زاجراً؛ لأن كل معصية لا حد ولا كفارة فيها، فالواجب فيها التعزير. وتستحب المراجعة عند الشافعية والحنابلة، ولا تجب؛ لأن الزوج بالرجعة يزيل المعنى الذي حرم الطلاق، ولأنه طلاق لا يرتفع بالرجعة، فلم تجب عليه الرجعة فيه. ثالثاً ـ أن يكون الطلاق مفرقاً ليس بأكثر من واحدة: اتفق الفقهاء (¬1) على أن الطلاق السني المشروع هو الواقع بالترتيب مفرقاً، الواحد بعد الآخر، لا بإيقاع الثلاث دفعة واحدة، لظاهر قوله تعالى: {الطلاق مرتان} [البقرة:229/ 2] أي أن الطلاق المباح ما كان مرة بعد مرة، فإذا جمع الرجل الطلقات الثلاث بكلمة واحدة، أو بألفاظ متفرقة في طهر واحد، يكون بدعياً محظوراً في قول الحنفية والمالكية وابن تيمية وابن القيم. ولا يحرم ولا يكره عند الشافعية والحنابلة في الراجح من الروايات، وكذا عند أبي ثور وداود الظاهري، وإنما يكون تاركاً للاختيار والفضيلة. ¬
أثر مخالفة هذا القيد
ويؤيد الرأي الأول ما رواه النسائي عن محمود بن لبيد قال: أخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن رجل طلَّق امرأته ثلاث تطليقات جميعاً، فقام غضبان، ثم قال: «أيلعب بكتاب الله، وأنا بين أظهركم، حتى قام رجل، فقال: يا رسول الله، ألا أقتله» (¬1) ويؤكده ما سبق معرفته عند جمهور الفقهاء أن الأصل في الطلاق الحظر، ولكنه أبيح للحاجة الاستثنائية لتنافر الطباع وتباين الأخلاق أو لغيرها من الأسباب، وتتحقق الحاجة بالطلقة الواحدة، ويتمكن بعدها من مراجعة زوجته عند الندم، وهو الغالب. أثر مخالفة هذا القيد: إذا طلق الرجل امرأته ثلاثاً بكلمة واحدة أو بكلمات في طهر واحد، يكون آثماً مستحقاً لعقوبة يراها القاضي، لكن الطلاق يقع ثلاثاً في المذاهب الأربعة. أقوال الفقهاء في الطلاق الثلاث بلفظ واحد: للفقهاء آراء ثلاثة في جمع الطلاق الثلاث بكلمة واحدة وهي (¬2): الأول ـ قول الجمهور منهم أئمة المذاهب الأربعة والظاهرية: يقع به ثلاث طلقات، وهو منقول عن أكثر الصحابة ومنهم الخلفاء الراشدون غير أبي بكر، والعبادلة الأربعة (ابن عمر، وابن عمرو، وابن عباس، وابن مسعود) وأبو هريرة وغيرهم، ومنقول عن أكثر التابعين، لكن لا يسن أن يطلق الرجل أكثر من واحدة ¬
الثاني ـ قول الشيعة الإمامية
عند الحنفية والمالكية كما تقدم؛ لأن طلاق السنة: هو أن يطلقها واحدة ثم يتركها حتى تنقضي عدتها. الثاني ـ قول الشيعة الإمامية: لا يقع به شيء. الثالث ـ قول الزيدية وبعض الظاهرية وابن إسحاق وابن تيمية وابن القيم: يقع به واحدة، ولا تأثير للفظ فيه. وأخذ القانون في مصر وسورية بهذ الرأي، نص القانون السوري على ما يلي: (م 91) - يملك الزوج على زوجته ثلاث طلقات. (م 92) - الطلاق المقترن بعدد لفظاً أو إشارة لا يقع إلا واحداً. وقد عدلت لجنة الإفتاء بالرياض عن هذا القول واختارت بالأكثرية القول بوقوع الطلاق الثلاث بلفظ واحد ثلاثاً (¬1). أدلة هذه الأقوال: أما أدلة الإمامية القائلين بأنه لا يقع شيء: فهي الأدلة نفسها التي استدلوا بها على عدم وقوع الطلاق في الحيض، لأن كلاً منهما غير مشروع. وكذلك قوله تعالى: {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} [البقرة:231/ 2] يدل على أن شرط وقوع الطلقة الثالثة أن تكون في حال يصح من الزوج فيها الإمساك. وإذا لم يصح الإمساك إلا بعد المراجعة، لم تصح الثالثة إلا بعدها لما ذكر، وإذا لزم في الثالثة لزم في الثانية. ¬
أدلة الزيدية وابن تيمية وابن القيم
وأما أدلة الزيدية وابن تيمية وابن القيم القائلين بوقوع طلاق واحد، فهي ما يأتي: 1ً - آية {الطلاق مرتان} [البقرة:229/ 2] إلى قوله تعالى في الطلقة الثالثة: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة:230/ 2] أي أن المشروع تفريق الطلاق مرة بعد مرة، لأنه تعالى قال: {مرتان} [البقرة:229/ 2] ولم يقل «طلقتان». وليس مشروعاً كون الطلاق كله دفعة واحدة، فإذا جمع الطلاق الثلاث في لفظ واحد، لا يقع إلا واحدة، والمطلّق بلفظ الثلاث مطلق بواحدة، لا مطلق ثلاث. ويرد عليه بأن الآية ترشد إلى الطلاق المشرو ع أو المباح، وليس فيها دلالة على وقوع الطلاق وعدم وقوعه إذا لم يكن مفرقاً، فيكون المرجع إلى السنة، والسنة بينت أن الطلاق الثلاث يقع ثلاثاً. ومما جاء في السنة في قصة ابن عمر الذي طلق امرأته في أثناء الحيض: أنه قال: «يا رسول الله، أرأيت لو طلقتُها ثلاثاً، أكان يحل لي أن أراجعها؟ قال: لا، كانت تبين منك، وتكون معصية» (¬1). 2ً - حديث ابن عباس قال: «كان الطلاق على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر، طلاقُ الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليه، فأمضاه عليهم» (¬2) فهو واضح الدلالة على جعل الطلاق الثلاث بلفظ واحد طلقة واحدة، وعلى أنه لم ¬
ينسخ لاستمرار العمل به في عهد أبي بكر وسنتين من خلافة عمر، ولأن عمر أمضاه من باب المصلحة والسياسة الشرعية. وأجيب عنه بأنه محمول على صورة تكرير لفظ الطلاق ثلاث مرات، بأن يقول: (أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق) فإنه يلزمه واحدة إذا قصد التوكيد، وثلاث إذا قصد تكرير الإيقاع، فكان الناس على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبي بكر على صدقهم وسلامتهم وقصدهم في الغالب الفضيلة والاختيار، لم يظهر فيهم خب ولا خداع، وكانوا يصدقون في إرادة التوكيد، فلما رأى عمر في زمانه أموراً ظهرت، وأحوالاً تغيرت، وفشا إيقاع الثلاث جملة بلفظ لا يحتمل التأويل، ألزمهم الثلاث في صورة التكرير، إذ صار الغالب عليهم قصدها، وقد أشار إليه بقوله: «إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة». ثم إن هذا الحكم إنما هو في القضاء، أما في الديانة فإن كل واحد يعامل فيها بنيته. ومخالفة عمر لما مضى لا شيء فيها؛ لأنها ترجع إلى تغير الحكم بسبب تغير العرف وحال الناس. والحق أن في هذا الحديث نظراً. 3ً - حديث ابن عباس عن رُكانة: «أنه طلق امرأته ثلاثاً في مجلس واحد، فحزن عليها حزناً شديداً، فسأله النبي صلّى الله عليه وسلم، كيف طلقتها؟ فقال: ثلاثاً في مجلس واحد، فقال له صلّى الله عليه وسلم: إنما تلك واحدة فارتجعها» (¬1). وأجيب عنه بأجوبة: منها ـ أن في إسناده محمد بن إسحاق، ورد بأنهم قد احتجوا في غير واحد من الأحكام مثل هذا الإسناد. ¬
أدلة الجمهور
ومنها ـ معارضته لفتوى ابن عباس، فإنه كان يفتي من سأله عن حكم الطلاق بلفظ الثلاث بأنه يقع ثلاثاً. ورد بأن المعتبر روايته لا رأيه. ومنها ـ أن أبا داود رجح أن ركانة إنما طلق امرأته البتة، كما تقدم لدينا. ويمكن أن يكون من روى «ثلاثاً» حمل «البتة» على معنى الثلاث، وفيه مخالفة للظاهر، والحديث نص في محل النزاع. أدلة الجمهور القائلين بوقوع ثلاث طلقات: استدل فقهاء المذاهب الأربعة وموافقوهم على وقوع ثلاث طلقات بما يأتي من الكتاب والسنة والإجماع والآثار والقياس: 1ً - الكتاب: منه قوله تعالى: {الطلاق مرتان، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} [البقرة:229/ 2] فهو يدل على وقوع الثلاث معاً مع كونه منهياً عنه؛ لأن قوله تعالى: {الطلاق مرتان} [البقرة:229/ 2] تنبيه إلى الحكمة من التفريق، ليتمكن من المراجعة، فإذا خالف الرجل الحكمة، وطلق اثنتين معاً، صح وقوعهما إذ لا تفريق بينهما، ثم إن قوله تعالى: {فلا تحل له من بعْدُ حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة:230/ 2] يدل على تحريمها عليه بالثالثة بعد الاثنتين، ولم يفرق بين إيقاعهما في طهر واحد أو في أطهار. ومنه {فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق:1/ 65] إلى قوله تعالى: {وتلك حدود الله، ومن يتعدّ حدود الله فقد ظلم نفسه} [الطلاق:1/ 65] والطلاق المشروع ما يعقبه عدة، وهو منتف في إيقاع الثلاث في العدة، وفيها دلالة على وقوع الطلاق لغير العدة، إذ لو لم يقع لم يكن ظالماً لنفسه بإيقاعه لغير العدة، ومن لم يطلق للعدة بأن طلق ثلاثاً مثلاً، فقد ظلم نفسه.
ومنه آية {وللمطلقات متاع بالمعروف} [البقرة:241/ 2] وغيرها من آيات الطلاق. تدل ظواهر هذه الآيات على ألا فرق بين إيقاع الطلقة الواحدة والثنتين والثلاث. وأجيب: بأن هذه عمومات مخصصة، وإطلاقات مقيدة بما ثبت من الأدلة الدالة على المنع من وقوع ما فوق الطلقة الواحدة. 2ً - السنة: منها حديث سهل بن سعد في الصحيحين في قصة لعان عويمر العجلاني، وفيه: «فلما فرغا قال عويمر: كذبتُ عليها يا رسول الله، إن أمسكتها، فطلَّقها ثلاثاً قبل أن يأمره رسول الله صلّى الله عليه وسلم» ولم ينقل إنكار النبي صلّى الله عليه وسلم. وأجيب: إنما لم ينكره عليه؛ لأنه لم يصادف محلاً مملوكاً له ولا نفوذاً. ومنها ـ حديث محمود بن لبيد عند النسائي السابق، وفيه أن النبي صلّى الله عليه وسلم غضب من إيقاع الثلاث دفعة في غير اللعان، وقال: «أيلعب بكتاب الله، وأنا بين أظهركم؟» هذا يدل على أن الطلاق الثلاث بلفظ واحد يكون ثلاثاً، ويلزم المطلّق بها، وإن كان عاصياً في إيقاع الطلاق بدليل غضب النبي عليه الصلاة والسلام. وأجيب بأنه حديث مرسل؛ لأن محمود بن لبيد لم يثبت له سماع من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وإن كانت ولادته في عهده عليه السلام. وهذا مردود؛ لأن مرسل الصحابي مقبول. ومنها ـ حديث ركانة بن عبد يزيد المتقدم أنه طلق امرأته سهيمة البتة، فأخبر النبي صلّى الله عليه وسلم، وقال: والله ما أردتُ إلا واحدة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «والله ما أردتَ إلا واحدة؟» قال ركانة: والله ما أردتُ إلا واحدة، فردها إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم (¬1). ¬
وهو من أصرح الأدلة وأوضحها على وقوع الطلاق الثلاث بلفظ واحد، لقول ركانة واستحلاف النبي له على أنه لم يرد بلفظ (البتة) إلا واحدة، فهو يدل على أنه لو أراد الثلاث لوقعت. ونوقش الحديث بأنه حديث ضعَّف الإمام أحمد جميع طرقه، كما ذكر المنذري، وكذلك ضعفه البخاري، وأن قصة ركانة أنه طلقها البتة لا ثلاثاً. ومنها ـ ما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه من حديث عبادة بن الصامت قال: «طلَّق جدي امرأة له ألف تطليقة، فانطلق إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فذكر له ذلك، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: ما اتقى الله جدك، أما ثلاث فله، وأما تسعمائة وسبع وتسعون، فعدوان وظلم، إن شاء الله عذبه، وإن شاء غفر له» وأجيب بأن راويه ضعيف، وبأن والد عبادة بن الصامت لم يدرك الإسلام، فكيف بجدِّه؟ 3ً - الإجماع: أجمع السلف على وقوع الطلاق الثلاث بلفظ واحد ثلاثاً. وممن حكى الإجماع على لزوم الثلاث في الطلاق بكلمة واحدة: أبو بكر الرازي والباجي وابن العربي وابن رجب. وأجيب بأنه لم يثبت الإجماع، فقد روى أبو داود عن ابن عباس أنه يجعل الثلاث واحدة، وبأن طاوساً وعطاء قالا: «إذا طلق الرجل امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها، فهي واحدة». 4ً -الآثار: نقل عن كثير من الصحابة رضي الله عنهم أنهم أوقعوا الطلاق الثلاث ثلاثاً، منها ما روى أبو داود عن مجاهد، قال: «كنت عند ابن عباس، فجاءه رجل، فقال: إنه طلق امرأته ثلاثاً، فسكت حتى ظننت أنه ردها إليه، ثم قال: ينطلق أحدكم فيركب الحموقة، ثم يقول: يا ابن عباس، وإن الله قال: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً} [الطلاق:2/ 65]، وإنك لم تتق الله، فلم أجد لك مخرجاً، عصيت ربك، وبانت منك امرأتك».
ومنها ـ ما روى مالك في الموطأ أن رجلاً جاء إلى ابن مسعود، فقال: إني طلقت امرأتي ثماني تطليقات، فقال: ما قيل لك؟ فقال: قيل لي: بانت منك، قال: هو مثل ما يقولون. ومنها ـ ما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه: «أن رجلاً جاء إلى عثمان بن عفان، فقال: إني طلقت امرأتي مئة، فقال: ثلاث تحرمها عليك، وسبع وتسعون عدوان». وروى أيضاً: «أن رجلاً جاء إلى علي بن أبي طالب فقال: إني طلقت امرأتي ألفاً، فقال: بانت منك بثلاث». وثبت مثله عن صحابة آخرين، وعن التابعين ومن بعدهم. 5ً - القياس: قال ابن قدامة (¬1): إن النكاح ملك يصح إزالته متفرقاً، فصح مجتمعاً كسائر الأملاك. وناقشه ابن القيم بأن المُطلّق إذا جمع ما أمر بتفريقه، فقد تعدى حدود الله وخالف ما شرعه. وقال القرطبي (¬2): وحجة الجمهور من جهة اللزوم ظاهرة جداً: وهو أن المطلقة ثلاثاً لا تحل للمطلق حتى تنكح زوجاً غيره، ولا فرق بين مجموعها ومفرقها لغة وشرعاً. ونوقش بأن من قال: (أحلف بالله ثلاثاً) لا يعد حلفه إلا يميناً واحدة، فليكن المطلق مثله. ورد عليه باختلاف الصيغتين، فإن عدد الطلاق ثلاث، وأما الحلف فلا أمد لعدد أيمانه، فافترقا. والذي يظهر لي رجحان رأي الجمهور: وهو وقوع الطلاق ثلاثاً إذا طلق ¬
المبحث الرابع ـ التوكيل في الطلاق وتفويضه
الرجل امرأته دفعة واحدة، لكن إذا رجح الحاكم رأياً ضعيفاً صار هو الحكم الأقوى، فإن صدر قانون، كما هو الشأن في بعض البلاد العربية بجعل هذا الطلاق واحدة، فلا مانع من اعتماده والإفتاء به، تيسيراً على الناس، وصوناً للرابطة الزوجية، وحماية لمصلحة الأولاد، خصوصاً ونحن في وقت قل فيه الورع والاحتياط، وتهاون الناس في التلفظ بهذه الصيغة من الطلاق، وهم يقصدون غالباً التهديد والزجر، ويعلمون أن في الفقه منفذاً للحل، ومراجعة الزوجة. المبحث الرابع ـ التوكيل في الطلاق وتفويضه: يرتبط هذا البحث بنوعي الطلاق: الصريح والكناية؛ لأن تفويض الطلاق للزوجة أو غيرها إما أن يكون صريحاً وهو قول الرجل: طلقي نفسك، أو كناية وهو قوله: اختاري نفسك أو أمرك بيدك (¬1). والرجل كما يملك الطلاق بنفسه يملك إنابة غيره فيه، ويجوز تفويض الطلاق للزوجة بالإجماع؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم خيَّر نساءه بين المقام معه وبين مفارقته، لما نزل قوله تعالى: {يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها، فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً} [الأحزاب:28/ 33] فلو لم يكن لاختيارهن الفرقة أثر، لم يكن لتخييرهن معنى. النيابة في الطلاق في المذاهب: لفقهاء المذاهب اصطلاحات في إنابة الزوج غيره في الطلاق وهي ما يأتي: ¬
مذهب الحنفية
مذهب الحنفية (¬1): إيقاع الطلاق من غير الزوج بإذنه: إما تفويض أو توكيل أو رسالة. والتوكيل: إنابة الزوج عنه غير الزوجة بتطليق امرأته، كأن يقول له: وكلتك في طلاق زوجتي، فإذا قبل الوكيل الوكالة ثم قال لزوجة موكله: أنت طالق، وقع الطلاق. والتفويض: جعل الأمر باليد أو تمليك الطلاق لزوجته بطلاق نفسها منه، أو تعليق الطلاق على مشيئة شخص أجنبي، كأن يقول له: طلق زوجتي إن شئت. والرسالة: نقل كلام المرسل، كأن يقول الزوج لرجل: اذهب إلى فلانة، وقل لها: إن زوجك يقول لك: اختاري (¬2). أو أن يبعث الزوج طلاق امرأته الغائبة على يد إنسان، فيذهب الرسول إليها، ويبلغها الرسالة على وجهها، فيقع عليها الطلاق. فالرسول معبر وسفير وناقل كلام المرسل لا غير. وألفاظ التفويض ثلاثة: أمر بيد، وتخيير، ومشيئة، وكل منها يفيد تمليك الطلاق من المرأة وتخييرها بين أن تختار نفسها أو زوجها. والأمر باليد: أن يقول لها: أمرك بيدك، فيصير الأمر بيدها في الطلاق؛ لأنه جعل الأمر بيدها في الطلاق، وهو أهل لذاك، والمحل قابل للجعل. ويصير الأمر بيدها بشرطين: أحدهما ـ نية الزوج الطلاق؛ لأنه من كنايات الطلاق، فلا يصح من غير نية الطلاق. ¬
التخيير
والثاني ـ علم المرأة بجعل الأمر بيدها، فلا يصير الأمر بيدها ما لم تسمع أو يبلغها الخبر؛ لأن معنى هذا التفويض ثبوت الخيار لها بين الطلاق أو الزوج. والتخيير: أن يقول الزوج لامرأته: اختاري، وهو لا يختلف عن الأمر باليد إلا في شيئين: أحدهما ـ أن الزوج إذا نوى الطلاق الثلاث في قوله (أمرك بيدك) يصح، وأما في قوله (اختاري) فلا يصح نية الثلاثة. والثاني ـ أن في قوله (اختاري) لا بد من ذكر النفس إما في كلام الزوج أو في جواب المرأة، بأن يقول لها: اختاري نفسك، فتقول: اخترت، أو يقول لها: اختاري، فتقول: اخترت نفسي. أو ذكر الطلاق في كلام الزوج أو في كلام المرأة، بأن يقول لها: اختاري، فتقول: اخترت الطلاق. أو ذكر ما يدل على الطلاق: وهو تكرار التخيير من الزوج، بأن يقول لها: اختاري اختاري. أو ذكر (الاختيارة) في كلام الزوج أو في كلام المرأة، بأن يقول لها الزوج: اختاري اختيارة، فتقول المرأة: اخترت اختيارة. والمشيئة: أن يقول الرجل: أنت طالق إن شئت، وهو مثل قول: اختاري؛ لأن كل واحد منهما تمليك الطلاق، إلا أن الطلاق ههنا رجعي، وهناك بائن؛ لأن المفوَّض ههنا صريح، وهناك كناية. وأما قوله (طلقي نفسك) فهو تمليك عندهم، سواء قيده بالمشيئة أم لا، ويقتصر أثره على المجلس، كقوله: أنت طالق إن شئت.
ذهب المالكية
وذهب المالكية (¬1) إلى أن التفويض (وهو إنابة الزوج غيره في الطلاق) يتنوع إلى ثلاثة أنواع: توكيل وتخيير وتمليك. والتوكيل: هو جعل الزوج حق إنشاء الطلاق لغيره: زوجة أو غيرها، مع بقاء الحق له في منع الوكيل من إيقاع الطلاق. فإذا وكل الرجل المرأة على طلاقها، فلها أن تفعل ما وكلها عليه من طلقة واحدة، أو أكثر، وله أن يعزلها ما لم تفعل الموكل فيه إلا لتعلق حقها بالوكالة كما سأبين قريباً. وهو بخلاف التمليك والتخيير، ليس له عزلها؛ لأن فيهما قد جعل لها ما كان يملكه ملكاً لها، أما التوكيل فإنه جعلها نائبة عنه في إيقاع الطلاق. والتمليك: هو أن يملِّك الرجل المرأة أمر نفسها، كأن يقول لها: جعلت أمرك أو طلاقك بيدك، وليس له أن يعزلها عنه. ولها أن تفعل ما جعل بيدها من طلقة واحدة أو أكثر. ويظهر قبولها للتمليك بالقول أو بالفعل. أما القول: فهو أن توقع الطلاق بلفظها. وأما الفعل: فهو أن تفعل ما يدل على الفراق، مثل نقل أثاثها أو غيره. وكل من التمليك والتخيير لا يتقيد في المجلس الذي صدر فيه، وفي كل منها لا يملك الرجل الرجوع عما منح المرأة. والتخيير: هو أن يخيرها بين البقاء معه أو الفراق، بأن يقول لها: اختاريني أو اختاري نفسك. فلها أن تفعل من الأمرين ما أحبت. فإن اختارت الفراق، كان طلاقها بالثلاث. وإن أرادت طلقة أو اثنتين لم يكن لها، إلا أن يخيرها في طلقة واحدة أو طلقتين معاً، فتوقعها، وليس له عزلها. ويصح التفويض بأنواعه الثلاثة لغير الزوجة بشرط كونه حاضراً في البلد أو قريب الغيبة كاليومين وإلا انتقل ¬
رأى الشافعية
التفويض للزوجة على الراجح، وإن فوض الزوج لأكثر من واحد، لم تطلق إلا باجتماعهما أي الاثنين أو باجتماعهم إن زادوا على اثنين. والفرق بين التمليك والتخيير: أن المرأة في التمليك يكون لها القضاء بما قضت إلا أن ينكر عليها الزوج، فيقول: لم أرد إلا طلقة واحدة، فيحلف على ذلك. وأما في التخيير فلا يكون الطلاق إلا ثلاثاً في المدخول بها؛ لأنه خيَّرها بين البقاء معه في العصمة أو الخروج عنها، فإن اختارت أقل من ذلك لم يقع شيء. أما غير المدخول بها فهي كالمملَّكة، لها أن تطلق نفسها بما دون الثلاث؛ لأنها تبين منه بذلك. ورأى الشافعية (¬1): أن تفويض الطلاق تمليك له في المذهب الجديد، فيشترط لوقوعه تطليقها نفسهاعلى الفور، وإذا ملكت المرأة نفسها، فلا رجعة عليها. والتفويض: إما صريح مثل طلقي نفسك، أو كناية مثل: أبيني نفسك، اختاري نفسك، ونوى، فقالت: طلقت، وقع الطلاق؛ لأنها فوضت الطلاق، وقد فعلته في الحالين. ولو قال لها: طلقي نفسك ونوى ثلاثاً، فقالت: طلقت ونوتهن، وقد علمت نيته أو وقع العلم بنيته صدفة، فتقع الثلاث؛ لأن اللفظ يحتمل العدد، فإن لم ينوياه فتقع واحدة في الأصح؛ لأن صريح الطلاق كناية في العدد. ولو قال: طلقي نفسك ثلاثاً، فوحدت أي طلقت نفسها واحدة، أو عكسه، كقوله: طلقي نفسك واحدة، فثلثت أي طلقت نفسها ثلاثاً، تقع واحدة. ¬
قال الحنابلة
وقال الحنابلة (¬1): من صح طلاقه صح توكيله، فإن وكل الزوج المرأة في الطلاق، صح توكيلها، وطلاقها لنفسها؛ لأنه يصح توكيلها في طلاق غيرها، فكذا في طلاق نفسها. وللوكيل أن يطلق متى شاء، إلا أن يحد له الموكل حداً كاليوم أو نحوه، فلا يملك الطلاق في غيره. ولا يطلق الوكيل أكثر من واحدة؛ إلا أن يجعل الموكل إليه أن يطلق أكثر من واحدة بلفظة أو نية، فلو وكله في ثلاث، فطلق واحدة، وقعت. ولو وكله في طلقة واحدة، فطلق ثلاثاً، طلقت واحدة، عملاً بالمأذون فيه. وإن خير الموكل الوكيل بأن قال له: طلق ما شئت من ثلاث، ملك اثنتين فأقل؛ لأن لفظه يقتضي ذلك؛ لأن (من) للتبعيض، وكذا لو خيَّر زوجته، فقال لها: اختاري من ثلاث ما شئت، لم يكن لها أن تختار أكثر من اثنتين. وإن قال لامرأته: طلقي نفسك، فلها الطلاق كالوكيل. وإن قال لها: (أنت طالق إن شئت) ونحوها من أدوات الشرط، لم تطلق حتى تشاء، وتنطق بالمشيئة بلسانها، فتقول: قد شئت؛ لأن ما في القلب لا يعلم حتى يعبر عنه اللسان، فتعلق الحكم بما يتعلق به دون ما في القلب، فلو شاءت بقلبها دون نطقها، لم يقع طلاق. وكذلك إن علق الطلاق بمشيئة غيرها، فمتى وجدت المشيئة باللسان، وقع الطلاق، سواء أكان على الفور أم على التراخي. وذلك خلافاً للشافعية الذين اشترطوا إعلان المشيئة في الحال؛ لأن هذا تمليك للطلاق، فكان على الفور كقوله (اختاري)، كما تقدم. ورد الحنابلة بأن هذا تعليق للطلاق على شرط، فكان على التراخي كسائر التعليق، ولأنه إزالة ملك معلق على المشيئة، فكان على التراخي ¬
حكم الوكيل بالطلاق
كالعتق. وهو بخلاف كلمة (اختاري) فإنه ليس بشرط، إنما هو تخيير، فتقيد بالمجلس كخيار المجلس. حكم الوكيل بالطلاق: قرر الحنفية أن الوكيل بالطلاق مقيد بالعمل برأي الموكل، فإذا تجاوزه لم ينفذ تصرفه إلا بإجازة الموكل. وللوكيل أن يطلق متى شاء ما لم يقيده الموكل بزمن معين، وللموكل أن يعزل الوكيل متى شاء. لكن الوكيل بالطلاق مجرد سفير ومعبر عن الموكل كالوكيل في الزواج، فلا يطالب بشيء من حقوق الطلاق، كدفع مؤخر المهر أو المتعة أو نفقة العدة، وإنما يطالب بها الزوج نفسه. ويرى المالكية (¬1): أن الموكل لا يملك عزل الوكيل بالطلاق إذا تعلق حق الزوجة بتلك الوكالة، كماإذا قال الرجل لزوجته: إن تزوجت عليك فأمرك بيدك، فليس له عزلها عن الوكالة لتعلق حقها بالتوكيل؛ لأن رفع الضرر عنها قد تعلق بالتوكيل، فليس له عزلها عنه. صفة حكم التفويض بالطلاق للزوجة أو غيرها: يرى الحنفية (¬2): أن التفويض لازم من جانب الزوج، فلا يملك الرجوع عنه ولا منع المرأة مما جعل إليها، ولا فسخه؛ لأنه ملَّكها الطلاق، ومن ملَّك غيره شيئاً، فقد زالت ولايته من الملك، فلا يملك إبطاله بالرجوع والمنع والفسخ، ولأن التفويض تعليق للطلاق من جانب الزوج على مشيئة الزوجة أو غيرها، والتعليق يمين، والأيمان بعد صدورها لا يمكن الرجوع فيها كما ذكرت سابقاً. ¬
التفويض من جانب المرأة
وأما التفويض من جانب المرأة: فهو غير لازم في حق المرأة، فتملك رده صراحة أو دلالة؛ لأن جعل الأمر بيدها تخيير لها بين أن تختار نفسها وبين أن تختار زوجها، والتخيير ينافي اللزوم. لكن ليس لها أن تختار إلا مرة واحدة؛ لأن قول الرجل لها: (أمرك بيدك) لا يقتضي التكرار إلا إذا قرن به ما يقتضي التكرار، بأن قال: أمرك بيدك كلما شئت، فيصير الأمر بيدها فيما ذكر وغيره، ولها أن تطلق نفسها في كل مجلس تطليقة واحدة، حتى تبين بثلاث؛ لأن كلمة (كلما) تقتضي تكرار الأفعال، فيقتضي تكرار التمليك عند تكرار المشيئة، إلا أنها لا تملك أن تطلق نفسها في كل مجلس إلا تطليقة واحدة؛ لأن تفويضه الطلاق لها يقتضي حصره في كل مجلس مرة. زمن التفويض بالنسبة للمرأة: أضاف الحنفية (¬1): إما أن يكون التفويض مطلقاً عن التقييد بزمن معين، مثل: اختاري نفسك أو طلقي نفسك، أو يكون مقيداً بزمن معين، مثل: اختاري نفسك أو أمرك بيدك مدة شهر أو يكون مفيداً التكرار في جميع الأزمان، مثل طلقي نفسك متى شئت. خيار المخيَّرة: أـ إن كان التفويض مطلقاً: فحق الطلاق مقيد في مجلس علم المرأة بالتفويض، فما دامت في مجلسها، فالأمر بيدها؛ لأن جعل الأمر بيدها تمليك الطلاق منها، وجواب التمليك مقيد بالمجلس، فإن تغير المجلس أو ظهر ما يدل على الإعراض عن مقتضى التفويض، سقط حقها. وقد اتفق الشافعية والحنابلة كما تقدم مع الحنفية في هذا؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم جعلوا ¬
ذهب المالكية
للمخيَّرة الخيار ما دامت في المجلس. ولا يتغير المجلس بالقيام أو القعود، والقعود في البيت والركوب في السفينة لا يغير حكم المجلس أثناء المشي، لكن السير على الدابة يغير حكم المجلس؛ لأن السفينة لا يستطيع الراكب إيقافها، أما الدابة فيستطيع إيقافها، فإن سارت بطل خيارها. وذهب المالكية (¬1): إلى أنه يثبت الخيار للزوجة أبداً إلى أن يعلم أنها أسقطته، بتمكين الزوج من نفسها، فإن لم تجب بشيء رفع الزوج الأمر إلى القاضي ليأمرها بإيقاع الطلاق أو إسقاط التمليك، فإن أبت أسقطه القاضي، ولا يمهلها وإن رضي الزوج بالإمهال لحق الله تعالى، لما فيه من البقاء على عصمة مشكوكة. ب ـ وإن كان التفويض مقيداً بزمن معين كيوم أو شهر أو سنة: ثبت حق الطلاق للمفوض إليه في الوقت المخصص إلى نهايته؛ لأنه فوض الأمر إلى زوجته مثلاً في جميع الوقت المذكور، فيبقى ما بقي الوقت. ولو اختارت نفسها في الوقت المحدد مرة، ليس لها أن تختار مرة أخرى؛ لأن اللفظ يقتضي التحديد بالوقت، ولا يقتضي التكرار. وإن أضيف التفويض إلى وقت في المستقبل بأن قال: أمرك بيدك غداً، أو رأس شهر كذا، فلا يصير الأمر بيدها إلا بمجيء الوقت المخصص. وإن علَّق التفويض بشرط، بأن قال: إذا قدم فلان، فأمرك بيدك، فلا يصير الأمر بيدها إلا بقدومه، فإن قدم فالأمر بيدها إذا علمت في مجلسها الذي يقدم فيه فلان؛ لأن المعلق بشرط كالمنجز عند الشرط، فيصير قائلاً عند القدوم: أمرك بيدك، وتملك ¬
عدد الطلاق الواقع بألفاظ التفويض ونوعه
الطلاق في مجلس علمها بالقدوم. فلو لم تعلم بقدومه حتى مضى الوقت المخصص، ثم علمت، فلا خيار لها بهذا التفويض أبداً؛ لأنها مقيدة بمدة، وقد انتهت، فلا خيار لها بعد فوات زمنه. جـ ـ وإن كان التفويض بما يقتضي التكرار، بأن قال لها: أمرك بيدك كلما شئت، أو طلقي نفسك متى شئت، فلها أن تطلق نفسها في أي وقت تشاء، سواء في مجلس التخيير أو بعده، لكنها في قوله: (إذا، ومتى) لا تملك أن تختار إلا مرة واحدة، فإذا طلقت نفسهامرة انتهى التفويض؛ لأن (إذا ومتى) لا تفيد التكرار. أما إن قال (كلما) فلها أن تطلق نفسها أكثر من مرة إلى ثلاث؛ لأن (كلما) تقتضي تكرار الأفعال، فيتكرر التفويض عند تكرار المشيئة. عدد الطلاق الواقع بألفاظ التفويض ونوعه: ذهب الحنفية (¬1): إلى أنه لا تملك المرأة إيقاع الطلاق الثلاث دفعة واحدة بقوله لها: طلقي نفسك، أو كلما شئت؛ لأنه فوض إليها الصريح حيث نص عليه، وكلمة (كلما) تقتضي تكرار الأفعال، وهي هنا المشيئة، وإيقاع الثلاث دفعة واحدة لا تكرار فيه، فلا يقع بها شيء في قوله (كلما) عند أبي حنيفة، وتقع طلقة واحدة عند الصاحبين. ولو قال الزوج للمرأة: أمرك بيدك، ونوى الثلاث، فطلقت نفسها ثلاثاً، كان ثلاثاً؛ لأنه جعل أمرها بيدها مطلقاً، فيحتمل الواحد ويحتمل الثلاث، فإن نوى الثلاث، فقد نوى ما يحتمله مطلق الأمر، فصحت نيته. وإن نوى اثنتين، فهي واحدة عند أئمة الحنفية ما عدا زفر. ¬
نوع الطلاق الواقع
وأما نوع الطلاق الواقع: فإن كان التفويض بصريح الطلاق، كان الطلاق رجعياً، فلو قال لها: طلقي نفسك، فقال: طلقت نفسي، وقع الطلاق رجعياً. وكذا لو قال: أمرك بيدك في تطليقة أو اختاري تطليقة، فاختارت نفسها، طلقت واحدة رجعية؛ لتفويضه إليها بالصريح، والمفيد للبينونة إذا قرن بالتصريح، صار رجعياً. وإن كان التفويض بلفظة الاختيار أو الأمر باليد، كان الطلاق بائناً، فلو قال لها: اختاري أو أمرك بيدك، ناوياً الطلاق، ولم ينو الثلاث، فقالت: اخترت نفسي أو طلقت نفسي؛ وقع الطلاق بائناً، وكان طلاقاً واحداً؛ لأن المرأة لا يتم لها الاختيار أو الأمر باليد إلا بالطلاق البائن، فلا تصير مالكة نفسها إلا بالبائن، أما بالطلاق الرجعي فيتمكن الزوج من رجعتها بدون رضاها. ويرى المالكية (¬1) كما تقدم أن الطلاق الواقع بالتفويض عند اختيار الزوجة أو تطليقها نفسها هو الطلاق الثلاث إذا كان التفويض بالتخيير. أما إذا كان التفويض بالتمليك فإن الواقع هو الطلاق الثلاث، ولكنه يحتمل الواحدة والاثنتين. والفرق أن حالة التخيير تقتضي ألا يكون للزوج سبيل على المرأة إذا اختارت نفسها، وهذا لا يتحقق إلا بوقوع الطلاق الثلاث. وأما في حالة التمليك فقد ملكها ما يملكه، فإذا أوقعت طلقة واحدة أو اثنتين أو الثلاث، كانت عاملة بمقتضى اللفظ. ونظراً لهذا الفرق، قال المالكية: إذا كان التفويض تخييراً، فليس للزوج أن ينازع زوجته (أو يناكرها) إذا أوقعت الثلاث، وأما إذا كان التفويض تمليكاً، فللزوج أن ينازع زوجته، ويدعي أنه أراد واحدة، عندما تطلق نفسها ثلاثاً. ويكون القول قوله مع يمينه. ¬
بدء التفويض
بدء التفويض: يصح التفويض عند الحنفية مقارناً لإنشاء عقد الزواج أو بعده أثناء الزوجية، واشترطوا لصحة التفويض المقارن للعقد: أن يكون الإيجاب صادراً من الزوجة أو وكيلها، كأن تقول للرجل: تزوجتك على أن الطلاق بيدي، أو متى شئت أو كلما شئت، ويقبل الرجل التفويض. فإن بدأ الرجل بالإيجاب، فقال للمرأة: تزوجتك على أن أمرك بيدك أو تطلقين نفسك متى شئت، وقبلت المرأة الإيجاب، يصح الزواج، ولا يصح التفويض؛ لأن الزوج في هذه الحالة قد ملّكها تطليق نفسها قبل أن يتم عقد الزواج، ولا يملك الزوج الطلاق قبل تمام الزواج، وليس للشخص أن يملك غيره شيئاً لايملكه هو. وإذا صح التفويض بإيجاب المرأة وقبول الرجل، حين العقد، وكان مطلقاً عن التقييد بزمن معين، كأن تقول له: «تزوجتكَ على أن طلاقي بيدي» فيقول: قبلت، تقيد ملكها الطلاق بمجلس إنشاء العقد، فإذا انتهى مجلس العقد، لم يكن لها الحق في طلاق نفسها بعدئذ. حق الزوج في الطلاق مع التفويض: التفويض بالرغم من أنه تمليك عند الحنفية، فهو يشبه التوكيل، فيبقى للزوج حق إيقاع الطلاق، بعد أن يفوض الطلاق إلى زوجته، كما يحق للموكل التصرف في الأمر الموكل فيه بعد التوكيل.
الفرق بين التوكيل والتفويض
الفرق بين التوكيل والتفويض: التوكيل والتفويض وإن كان كل منهما عند الحنفية لا يسلب الزوج حقه في إيقاع الطلاق، إلا أنهم يفرقون بينهما من وجوه (¬1): 1 - إن التفويض بعد صدوره لا يملك الزوج الرجوع عنه، أما التوكيل فيملك الموكل الرجوع عنه، ما دام الوكيل لم ينفذ ما وكل به. 2 - يعمل المفوض إليه في التفويض العمل باختياره وبمشيئة نفسه؛ لأن الزوج ملكه هذا الحق، أما في التوكيل فيعمل الوكيل بمشيئة غيره وعلى وفق هذه المشيئة؛ لأن الوكيل يعد ممثلاً الموكل ونائباً عنه، لا مالكاً الحق الموكل فيه. 3 - يتقيد التفويض المطلق بالمجلس، أما التوكيل فللوكيل بالطلاق أن يطلق في مجلس التوكيل وما بعده إذا كانت الوكالة مطلقة. 4 - لا يبطل التفويض بجنون الزوج؛ لأنه في معنى التعليق. أما التوكيل فيبطل بجنون الزوج؛ لأن الجنون يخرجه عن الأهلية، وخروج الموكل أو الوكيل عن الأهلية يبطل الوكالة. المبحث الخامس ـ أنواع الطلاق وحكم كل نوع: ينقسم الطلاق عدة تقسيمات باعتبارات متنوعة: فهو من حيث الصيغة ينقسم إلى صريح وكناية، وقد بينت ذلك. ومن حيث الرجعة وعدمها ينقسم كل من الصريح والكناية إلى رجعي وبائن. ¬
تقسيم الطلاق من حيث السنة والبدعة
ومن حيث الموافقة للسنة ومخالفتها ينقسم إلى سني وبدعي. ومن حيث الزمن المرتبط به ينقسم إلى منجز أو معجل، ومعلق، ومضاف إلى المستقبل. ويلحق بهذا المطلب حكم طلاق المريض مرض الموت. تقسيم الطلاق من حيث السنة والبدعة: ينقسم الطلاق من حيث موافقته السنة ومعارضتها، أي البدعة: إلى سني وبدعي، والسنة: ما أذن الشارع فيه، والبدعة: ما نهى الشرع عنه. وأصل البدعة: الحدث في الشيء بعد الإكمال. والأصل في التقسيم قوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء، فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق:1/ 65] قال ابن مسعود وابن عباس: طاهرات من غير جماع. وحديث ابن عمر المتقدم لما طلق امرأته وهي حائض، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم لعمر: «مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض فتطهر، ثم إن شاء طلقها طاهراً قبل أن يمسّ». وللفقهاء ـ مع اتفاقهم على التقسيم ـ آراء في تحديد الطلاق السني والبدعي، ونوع الحكم في البدعي. فذهب الحنفية (¬1) إلى أن التقسيم ثلاثي، أي أن الطلاق ثلاثة أنواع: أحسن الطلاق، والطلاق الحسن، والطلاق البدعي. ¬
الطلاق الحسن
أحسن الطلاق: أن يطلق الرجل امرأته تطليقة واحدة، في طهر لم يجامعها فيه، ويتركها حتى تنقضي عدتها؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يستحبون ألا يزيد الطلاق على واحدة حتى تنقضي العدة، فإن هذا أفضل عندهم من أن يطلقها الرجل ثلاثاً عند كل طهر واحدة، ولأنه أبعد من الندامة، لتمكنه من التدارك، وأقل ضرراً بالمرأة. والطلاق الحسن: هو طلاق السنة: وهوأن يطلق المدخول بها ثلاثاً في ثلاثة أطهار، في كل طهر تطليقة، يستقبل الطهر استقبالاً، عملاً بأمره صلّى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر المتقدم. وطلاق البدعة: أن يطلقها ثلاثاً أواثنتين بكلمة واحدة، أو يطلقها ثلاثاً في طهر واحد؛ لأن الأصل في الطلاق الحظر، لما فيه من قطع الزواج الذي تعلقت به المصالح الدينية والدنيوية، والإباحة إنما هي للحاجة إلى الخلاص، ولا حاجة إلى الجمع في الثلاث، أو في طهر واحد؛ لأن الحاجة تندفع بالواحدة، وتمام الخلاص في المفرق على الأطهار، والزيادة إسراف، فكان بدعة. فإذا فعل ذلك وقع الطلاق، وبانت المرأة منه، وكان آثماً عاصياً، والطلاق مكروه تحريماً؛ لأن الحظر أو النهي لمعنى في غير الطلاق وهو فوات مصالح الدين والدنيا، مثل البيع وقت النداء لصلاة الجمعة صحيح مكروه لمعنى في غيره، والصلاة في الأرض المغصوبة صحيحة مكروهة لمعنى في غيرها، وكذا إيقاع أكثر من طلقة، إذ لا حاجة إليه. لذا تجب رجعة المطلقة في الحيض أو النفاس، على الأصح رفعاً للمعصية وللأمر السابق: «مره فليراجعها» فإذا طهرت طلقها إن شاء، أوأمسكها. وطلاق السنة: إما من ناحية الوقت أو من ناحية العدد. فالسنة في العدد يستوي فيها المدخول بها وغير المدخول بها. والسنة في الوقت: تثبت في المدخول
ألفاظ طلاق السنة والبدعة
بهاخاصة، وهو: أن يطلقها في طهر لم يجامعها فيه. وأما غير المدخول بها، فيطلقها في حال الطهر أو الحيض، على حد سواء. وإذا كانت المرأة لا تحيض من صغر أو كبر، فأراد أن يطلقها طلاق السنة، طلقهاواحدة، فإذا مضى شهر طلقها أخرى، فإذا مضى شهر طلقها طلقة أخرى، فتصير ثلاث طلقات في ثلاثة أشهر؛ لأن الشهر في حقها قائم مقام الحيض. ويحسب الشهر بالأهلة إن كان الطلاق في أول الشهر، وبالأيام إن كان في وسط الشهر، كما هو المقرر في العدة. ويجوز طلاق الحامل عقيب الجماع؛ لأنه لا يؤدي إلى اشتباه وجه العدة؛ لأن عدتها تنتهي حتماً بوضع الحمل. وطلاق السنة الثلاث للحامل كالتي لا تحيض، يكون في ثلاثة أشهر، يفصل بين كل تطليقتين بشهر عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن الإباحة لعلة الحاجة، والشهر دليل الحاجة كالمقرر في حق الآيسة والصغيرة. ألفاظ طلاق السنة والبدعة: إن من ألفاظ طلاق السنة التي هي نص فيه القول: أنت طالق للسنة، فلو قال رجل لامرأته المدخول بها التي تحيض: أنت طالق ثلاثاً أو ثنتين للسنة، وقع عند كل طهر طلقة، وتقع أولاها في طهر لا جماع فيه. أما لو كانت المرأة غير مدخول بها أو لا تحيض، فتقع طلقة واحدة في الحال، ثم إن غير المدخول بها تبين منه بلا عدة؛ لأنه طلاق قبل الدخول، ولا تقع طلقةغيرها ما لم يتزوجها، وأما التي لا تحيض فتقع طلقة أخرى عند مضي شهر. وإن نوى أن تقع الثلاث في الحال، أو عند رأس كل شهر واحدة، صحت نيته؛ لأن ذلك يحتمله كلامه. ومن ألفاظ طلاق البدعة: أن يقول الرجل: أنت طالق للبدعة أو طلاق
ذهب المالكية
الجور أو طلاق المعصية أو طلاق الشيطان، فإن نوى ثلاثاً فهو ثلاث؛ لأن إيقاع الثلاث في طهر واحد لا جماع فيه بدعة، وإيقاع الطلقة الواحدة في طهر جامعها فيه بدعة، والطلاق في حال الحيض بدعة، فإذا نوى به الثلاث، فقد نوى ما يحتمله كلامه، فصحت نيته. وذهب المالكية (¬1): إلى أن الطلاق السني ما توافرت فيه أربعة شروط: وهي أن تكون المرأة طاهراً من الحيض والنفاس حين الطلاق، وأن يكون زوجها لم يمسها في ذلك الطهر، وأن تكون الطلقة واحدة، وألا يُتبعها الزوج طلاقاً آخر حتى تنقضي عدتها، فإن أتبعها كان بدعة؛ لأن الأصل في الطلاق هو الحظر. والشرطان الأولان متفق عليهما، والثالث يخالف فيه الشافعية فيباح عندهم جمع الطلقات الثلاث، والرابع يخالف فيه الحنفية فيما يترتب عليه، فإنهم قالوا: يجوز تطليق المدخول بها ثلاثاً في ثلاثة أطهار، كما تقدم. والطلاق البدعي: ما نقص منه أحد هذه الشروط أو كلها. والطلاق البدعي إما حرام وإما مكروه، فيحرم الطلاق في الحيض أو النفاس، ويكره وقوعه بغير حيض ونفاس، لو أوقع ثلاثاً أو في طهرجامعها فيه. ويقع الطلاق في الحيض ونحوه، ويمنع وإن طلبته المرأة من زوجها في حيضها أو نفاسها. ومن طلق زوجته وهي حائض أجبر على أن يراجعها إن كان الطلاق رجعياً، حتى تطهر ثم تحيض حيضة أخرى، ثم تطهر منها، فإذا دخلت في الطهر الثاني، فإن شاء أمسكها، وإن شاء طلقها. فإن أبى الرجعة هدد بالسجن، فإن أبى سجن فعلاً، فإن أبى هدد بالضرب، فإن أبى ضرب بالفعل، يفعل ذلك كله في مجلس واحد. فإن أبى الارتجاع، ارتجع الحاكم، بأن يقول: ارتجعتها لك. ¬
رأى الشافعية
ولا يجبراتفاقاً على الرجعة فيما إذا طلق في طهر مسها فيه أو بعد الحيض قبل الاغتسال منه. والمرأة مصدقة في دعوى الحيض للتمكين من الرجعة. وجاز طلاق الحامل في الحيض أي إن حاضت؛ لأن عدتها وضع حملها، فلا تطويل فيها. وجاز طلاق غيرالمدخول بها في الحيض، لعدم العدة من أصلها. ورأى الشافعية (¬1): أن الطلاق سني وبدعي، ولا سني ولا بدعي. أما القسم الثالث: فهو طلاق الصغيرة، والآيسة، والمختلعة، والتي استبان حملها من الزوج، وغير المدخول بها. فهذا لا سنة فيه ولا بدعة؛ لأنه لا يوجد تطويل العدة. وأما الطلاق السني: فهوالمستحب شرعاً، وهو أن يطلق الرجل امرأته طلقة واحدة، وإن أراد الثلاث فرقها في كل طهر طلقة، ليخرج من الخلاف، وإن جمع الطلقات الثلاث في طهر واحد جاز ولا يحرم، لأن عويمراً العجلاني، لما لاعن امرأته عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم، طلقها ثلاثاً قبل أن يخبره صلّى الله عليه وسلم أنها تبين باللعان (¬2)، فلو كان إيقاع الثلاث حراماً، لنهاه عن ذلك ليعلمه هو ومن حضره؛ ولأن فاطمة بنت قيس شكت للنبي صلّى الله عليه وسلم أن زوجها طلقها البتة، قال الشافعي رضي الله عنه: يعني والله أعلم: ثلاثاً، ولم نعلم أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن ذلك؛ وقد فعله جمع من الصحابة، وأفتى به آخرون. لكن يسن الاقتصار على طلقة في القُرْء لذات الأقراء، وفي ظهر لذات الأشهر ليتمكن من الرجعة أو التجديد إن ندم، فإن لم يقتصر على طلقة، فليفرق الطلقات على الأيام، ويفرق الطلاق على الحامل بطلقة في الحال ويراجع، وأخرى بعد النفاس، والثالثة بعد الطهر من الحيض. ¬
ولو قال الرجل لزوجته: أنت طالق ثلاثاً أو قال: أنت طالق ثلاثاً للسنة، وفسر الثلاث في الصورتين بتفريقها على أقراء، لم يقبل قوله ظاهراً على الصحيح المنصوص، والأصح أنه يقبل قوله ديانة بينه وبين الله تعالى. والحاصل: أن طلاق الثلاث طلاق سني عند الشافعية والحنابلة، بدعي حرام عند المالكية والحنفية. وأما الطلاق البدعي: فهو اثنان: أحدهما ـ طلاق المدخول بها في حال الحيض من غير حمل، لقوله تعالى: {فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق:1/ 65] أي في الوقت الذي يشرعن فيه في العدة، وزمن الحيض لا يحسب من العدة، وسبب الحرمة: تضررها بطول العدة، فإن بقية الحيض لا تحسب منها. والنفاس كالحيض. ويؤيده حديث أمر ابن عمر بمراجعة امرأته التي طلقها في الحيض. والثاني ـ طلاق من يجوز أن تحبل في الطهر الذي جامعها فيه قبل أن يستبين الحمل؛ لأنه إذا طلقها في الطهر الذي جامعها فيه قبل أن يستبين الحمل، لم يأمن أن تكون حاملاً، فيندم على مفارقتها مع الولد، ولأنه لا يعلم هل علقت بالوطء، فتكون عدتها بالحمل، أو لم تعلق، فتكون عدتها بالأقراء (الأطهار). ويسن خلافاً للمالكية والحنفية مراجعة المرأة المطلقة بدعياً، ثم إن شاء طلق بعد طهر. ولو قال لحائض: أنت طالق للبدعة، وقع الطلاق في الحال. وإن قال لها: أنت طالق للسنة، فيقع الطلاق حين تطهر من الحيض أو النفاس، بأن تشرع في الطهر، ولا يتوقف على الاغتسال، لوجود الصفة قبله. ولو قال لمن في طهر لم تجامع فيه وهي مدخول بها: أنت طالق للسنة، وقع
في الحال لوجود الصفة. وإن جومعت فيه ولم يظهر حملها، فيقع الطلاق حين تطهر بعد حيض، لشروعها حينئذ في العدة. ولو قال لمن في طهر: أنت طالق للبدعة، فيقع الطلاق في الحال إن جومعت فيه أو في حيض قبله ولم يظهر حملها، لوجود صفة البدعة، فإن لم تجامع على النحو المذكور فيقع الطلاق حين تحيض. ولو قال: أنت طالق طلقة حسنة أو أحسن الطلاق أو أجمله أو نحوها، فهو كقوله: أنت طالق للسنة، فإن كانت في حيض لم يقع حتى تطهر، أو في طهر لم تجامع فيه، وقع في الحال، أو جومعت فيه، وقع حين تطهر بعد حيض. وإن وصف الطلاق بصفة ذم، كأنت طالق طلقة قبيحة أو أقبح الطلاق أو أفظعه أو أشرّه أو أفحشه أو نحوها، فهو كقوله: أنت طالق للبدعة، فإن كانت في حيض أو في طهر جامعها فيه، وقع في الحال، وإلا فحين تحيض. ولو نوى بالطلاق طلاق السنة لحسن خلقها، وكانت في زمن البدعة، دُيِّن، ولم يقبل قوله ظاهراً، أي يقبل قوله ديانة لا قضاء. وإن قال: أنت طالق ثلاثاً، في كل قرء طلقة، فإن كانت طاهراً طلقت طلقة؛ لأن ما بقي من الطهر قرء، وإن كانت حائضاً لم تطلق حتى تطهر، ثم يقع في كل طهر طلقة. وإن كانت من القسم الثالث ممن لا سنة لها ولا بدعة: فإن كانت حاملاً طلقت في الحال طلقة؛ لأن الحمل قرء يعتد به، وإن كانت تحيض على الحمل، لم تطلق في أطهارها؛ لأنها ليست بأقراء، فإن راجعها قبل الوضع، وطهرت في النفاس، وقعت طلقة أخرى، فإن حاضت وطهرت، وقعت الطلقة الثالثة.
الحنابلة
وإن كانت غير مدخول بها وقعت عليها طلقة وبانت، فإن كانت صغيرة مدخولاً بها طلقت في الحال طلقة، فإن لم يراجعها حتى مضت ثلاثة أشهر بانت، وإن راجعها لم تطلق في الطهر بعد الرجعة؛ لأنه هو الطهر الذي وقع فيه الطلاق. ووافق الحنابلة (¬1) الشافعية في رأيهم بتحديد الطلاق السني والبدعي وألفاظهما وحكمهما، واستحباب مراجعة المطلقة في حيض، ووجوب إمساكها حتى تطهر، ثم استحباب إمساكها حتى تحيض حيضة أخرى ثم تطهر، على ما أمر به النبي صلّى الله عليه وسلم في حديث عمر المتقدم. تقسيم الطلاق إلى رجعي وبائن: ينقسم كل من الطلاق الصريح والكناية من حيث إمكان الارتجاع وعدمه إلى رجعي وبائن. أما الطلاق الرجعي: فهو الذي يملك الزوج بعده إعادة المطلقة إلى الزوجية من غير حاجة إلى عقد جديد ما دامت في العدة، ولو لم ترض. وذلك بعد الطلاق الأول والثاني غير البائن إذا تمت المراجعة قبل انقضاء العدة، فإذا انتهت العدة انقلب الطلاق الرجعي بائناً، فلا يملك الزوج إرجاع زوجته المطلقة إلا بعقد جديد. وأما الطلاق البائن: فهونوعان: بائن بينونة صغرى، وبائن بينونة كبرى. والبائن بينونة صغرى: هو الذي لا يستطيع الرجل بعده أن يعيد المطلقة إلى الزوجية إلا بعقد جديد ومهر. وهو الطلاق قبل الدخول أوعلى مال أو بالكناية عند الحنفية أو الذي يوقعه القاضي لا لعدم الإنفاق أو بسبب الإيلاء. ¬
البائن بينونة كبرى
والبائن بينونة كبرى: هو الذي لا يستطيع الرجل بعده أن يعيد المطلقة إلى الزوجية إلا بعد أن تتزوج بزوج آخر زواجاً صحيحاً، ويدخل بها دخولاً حقيقياً، ثم يفارقها أو يموت عنها، وتنقضي عدتها منه. وذلك بعد الطلاق الثلاث حيث لا يملك الزوج أن يعيد زوجته إليه إلا إذا تزوجت بزوج آخر. ضابط الطلاق الرجعي والبائن: للفقهاء آراء في تحديد حالات الطلاق الرجعي والبائن: رأي الحنفية (¬1): كل طلاق رجعي إلا الطلاق قبل الدخول، والطلاق على مال، والطلاق بالكناية المقترن بلفظ ينبئ عن الشدة أو القوة أو البينونة أو الحرمة، والطلاق المكمل للثلاث. وعليه، يكون الطلاق رجعياً فيما يأتي: 1 - الطلاق الصريح بعد الدخول الحقيقي: بلفظ من مادة الطلاق أو التطليق غير مقترن بعوض، ولا بعدد الثلاث، ولا موصوف بوصف الشدة أو القوة أو البينونة أو نحوها. فمن قال: أنت طالق، أو مطلقة، أو طلقتك، يقع به الطلاق الرجعي، ولا يقع به إلا واحدة، وإن نوى أكثر من ذلك، ولا يفتقر إلى النية. أما لو قال: أنت طالق، أوأنت طالق الطلاق، أو أنت طالق طلاقاً، فإن لم تكن له نية، فهي طلقة واحدة رجعية، وإن نوى به ثلاثاً كان ثلاثاً. ولو قال: أنت طالق على المذاهب الأربعة، أو أنت طالق لا يرد ك عالم ولا قاض، يقع به طلقة رجعية. ¬
أولاـ البائن بينونة صغرى
ومن ألفاظ الطلاق التي هي في حكم الصريح عرفاً قول الرجل: علي الطلاق، وعلي الحرام، والطلاق يلزمني، والحرام يلزمني، فإنه يقع بلا نية للعرف، وبه أصبح لفظ: حرام وخالص، من قسم الصريح. 2 - الطلاق الكنائي بعد الدخول الذي لايفيد معنى الشدة والبينونة مثل قوله: اعتدي، أو استبرئي رحمك، أو أنت واحدة، يقع بهذه الألفاظ طلقة واحدة رجعية، إذا نوى الزوج بها الطلاق. 3 - الطلاق الذي يوقعه القاضي لعدم الإنفاق، أو بسبب الإيلاء، فإن الأول يكون رجعياً؛ لأن قدرة الزوج على الإنفاق متوقعة في أي وقت، والثاني يكون رجعياً أيضاً؛ لتمكين الزوج من العودة إلى معاشرة الزوجة. والدليل على أن الأصل العام في كون الطلاق رجعياً آيتان: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} [البقرة:229/ 2] {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} ... {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحاً} [البقرة:2/ 228] فكلتا الآيتين تدلان على إمكان الرجعة ما دامت المرأة في العدة، إلا ما دل الدليل على استثنائه: وهو الطلاق الثلاث، والطلاق قبل الدخول، والطلاق على مال، والطلاق لرفع الضرر عن الزوجة، والطلاق بلفظ ينبئ عن الشدة والانفصال التام. ويكون الطلاق بائناً فيما يأتي: أولاًـ البائن بينونة صغرى: 1 - الطلاق قبل الدخول الحقيقي أو بعد الخلوة الصحيحة المجردة، فالأول يكون بائناً، لأنه لا تجب به العدة ولا يقبل الرجعة، بدليل: {يا أيها الذين آمنوا إذا
نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن، فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} [الأحزاب:49/ 33] وإذا لم تجب العدة فلا تمكن المراجعة؛ لأن الرجعة لا تكون إلا في العدة، فيكون الطلاق بائناً غير رجعي. وأما بعد الخلوة الصحيحة التي لم يحدث فيها اتصال جنسي، فيقع الطلاق بائناً، وإن وجبت العدة؛ لأن وجوب العدة إنما هو للاحتياط لثبوت النسب، والحكم بصحة الرجعة ليس فيه احتياط، بل الاحتياط يقتضي الحكم بعدم صحة الرجعة. 2ً - الطلاق الكنائي المقترن بما ينبئ عن الشدة أو القوة أو البينونة: أي أن كل طلاق بالكناية إذا نوى به الطلاق، ما عدا الألفاظ الثلاثة المتقدمة (اعتدي، استبرئي رحمك، أنت واحدة) يكون طلقة واحدة بائنة، وإن نوى به اثنتين، إذ لا دلالة للفظ على عدد الثنتين، فيثبت الأدنى وهو الواحدة، فإن نوى به الثلاث كان ثلاثاً؛ لأن البينونة نوعان: مغلظة وهي الثلاث، ومخففة وهي الواحدة، فأيهما نوى وقعت لاحتمال اللفظ. وهذه الألفاظ مثل قوله: أنت طالق طلقة شديدة أو قوية أو طويلة أو عريضة؛ لأن المراد بالطول والعرض والشدة والقوة. ومثل: أنت بائن، وبتة، وبتلة، وخلية، برية، حرة، وحبلك على غاربك، والحقي بأهلك، وسرحتك وفارقتك، وتقنعي، وتخمري واستتري، واعزُبي واغرُبي (¬1)، وابتغي الأزواج، ونحو ذلك. وقد أصبح: أنت خالصة، وأنت حرام، أو علي الحرام من الطلاق الصريح عرفاً، ويقع به طلقة رجعية. ¬
ثانيا ـ البائن بينونة كبرى
والحقي بأهلك، وسرحتك وفارقتك، وتقنعيى، وتخمري واستتري، واعزُبي واغرُبي، وابتغي الأزواج، ونحو ذلك. وقد أصبح: أنت خالصة، وأنت حرام، أو علي الحرام من الطلاق الصريح عرفاً، ويقع به طلقة رجعية. 3ً - الطلاق على مال: وذلك إذا خالع الرجل امرأته أو طلقها على مال؛ لأن الخلع بعوض طلاق على مال عندهم، وكان طلاقاً بائناً؛ لأن المقصود أن تملك المرأة أمرها، وتمنع الزوج من مراجعتها، ولا يتحقق هدفها إلا بالطلاق البائن. 4ً - الطلاق الذي يوقعه القاضي لا لعدم الإنفاق أو بسبب الإيلاء، وإنما بسبب عيب في الزوج أو للشقاق بين الزوجين، أو لتضرر الزوجة من غيبة الزوج أو حبسه؛ لأن التجاء الزوجة إلى القضاء لا يكون إلا لدفع الضرر عنها وحسم الزواج، ولا يتحقق المقصود إلا بالطلاق البائن. ثانياً ـ البائن بينونة كبرى: أن يكون طلاقاً ثالثاً، سواء أكان مكملاً للثلاث تفريقاً، بأن يطلق الرجل زوجته كل مرة طلقة، أم مقترناً بالثلاث لفظاً أو إشارة، مثل أنت طالق ثلاثاً، أو أنت طالق ويشير بأصابعه الثلاث، أم مكرراً ثلاث مرات في مجلس واحد أو في مجالس متعددة، بأن يقول لها: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، فيقع ثلاثاً إلا إذا قصد تأكيد الطلقة الأولى السابقة، فلا يقع إلا طلقة واحدة. والإشارة لها حكم العبارة، فإن أشار بأصبع واحدة فهي واحدة رجعية، وإن أشار باثنتين فهي اثنتان، وإن أشار بثلاث فهي ثلاث؛ لأن الإشارة متى تعلقت بها
رأي المالكية
العبارة نزِّلت منزلة الكلام، لحصول ما وضع له الكلام بها وهو الإعلام، بدليل العرف والشرع، أما العرف فواضح، وأما الشرع، فقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «الشهر هكذا وهكذا، وأشار صلّى الله عليه وسلم بأصابع يده كلها، فكان بياناً أن الشهر يكون ثلاثين يوماً، ثم قال صلّى الله عليه وسلم: الشهر هكذا وهكذا، وحبس إبهامه في المرة الثالثة، فكان بياناً أن الشهر يكون تسعة وعشرين يوماً (¬1). رأي المالكية (¬2): البائن يكون في أربعة مواضع: وهي طلاق غير المدخول بها، وطلاق الخلع، والطلاق بالثلاث، والمبارأة: وهي التي يملِّك الناس بها أمر نفسها، ويجعلونها واحدة بائنة من غير خلع. والثلاثة الأولى متفق عليها. والرجعي: هو ما عدا هذه المواضع. رأي الشافعية والحنابلة (¬3): يتفق مع رأي المالكية فيما عدا المبارأة. فيقولون: كل طلاق يقع رجعياً إلا إذا كان قبل الدخول، أو كان على مال كما في الخلع، أو كان مكملاً للثلاث أو مقترناً بعدد الثلاث. وعلى هذا لا يقع عند الجمهور غير الحنفية بطلاق الكنايات إلا الطلاق الرجعي، ولو نوى بها البائن؛ لأن الصريح لا يقع به إلا الطلاق الرجعي، فالكناية التي هي أضعف من التصريح لاحتمالها الطلاق وغيره، يكون الطلاق الواقع بها رجعياً بالأولى، ولأن الطلاق وضع شرعي لا يتأثر بالنية، فقصد البينونة بالكناية يكون تغييراً للوضع الشرعي. موقف القانون: أخذ القانون في مصر وسورية برأي الجمهور في بيان الطلاق الرجعي والبائن، فنصت المادة (94) من القانون السوري على ما يلي «كل طلاق يقع رجعياً إلا المكمل للثلاث، والطلاق قبل الدخول، والطلاق على بدل، وما نص على كونه بائناً في هذا القانون» والذي نص هذا القانون على كونه بائناً هو التفريق القضائي للعيب أو العلة، والتفريق للشقاق بين الزوجين. فالقول بأن كل ¬
طلاق يقع رجعياً مخالف لمذهب الحنفية؛ لأن كنايات الطلاق عندهم كما تقدم يقع بها الطلاق بائناً ما عدا ألفاظاً ثلاثة. ونصت المادة (93) من القانون السوري كما ذ ُكر على أن النية هي مدار طلاق الكناية: «يقع الطلاق بالألفاظ الصريحة فيه عرفاً دون الحاجة إلى نية، ويقع بالألفاظ الكنائية التي تحتمل معنى الطلاق وغيره بالنية» وهذا عمل برأي المالكية والشافعية الذين يوقعون طلاق الكناية بالنية لا بدلالةالحال، خلافاً للحنفية والحنابلة الذين يوقعون بالنية أو القرائن ودلالات الحال. وهذا هو المعمول به نفسه في القانون المصري، فقد نصت المادة الرابعة من قانون رقم (25) لسنة (1929) على ما يلي: «كنايات الطلاق: وهي ما تحتمل الطلاق وغيره، لا يقع بها الطلاق إلا بالنية». ونصت المادة الخامسة على ما يأتي: «كل طلاق يقع رجعياً إلا المكمل للثلاث، والطلاق قبل الدخول، والطلاق على مال، وما نص على كونه بائناً في هذا القانون والقانون رقم (25) لسنة 1920». وما نص على كونه بائناً في قانون (1929): هو التفريق الذي يكون من القاضي بسبب ضرر الزوجة، والشقاق بينها وبين زوجها، وبسبب غيبة الزوج أو حبسه مدة طويلة. وما نص على كونه بائناً في قانون (1920): هو تفريق القاضي أيضاً بسبب عيوب الرجل من مثل الجنون والجذام والبرص وغيرها من العيوب في الراجح عند الحنفية، وهي عيوب الجب والعنة والخصاء. والقانون متفق مع الفقه، ولكن كل من القانون المصري والسوري قد خالف
حكم الطلاق الرجعي
المذاهب الأربعة في الطلاق الثلاث المقترن بعدد الثلاث، يقع ثلاثاً في المذاهب، وواحدة في القانون، فنصت المادة الثالثة من قانون عام (1929) في مصر، والمادة (92) من القانون السوري على أن «الطلاق المقترن بعدد لفظاً أو إشارة لا يقع إلا واحداً». حكم الطلاق الرجعي والبائن: يشترك الطلاق الرجعي والبائن في أحكام، منها: وجوب نفقة العدة للمطلقة، وثبوت نسب ولدها الذي تلده للمطلق، ويهدم الزوج الثاني إذا تزوجت المطلقة بزوج آخر ما كان من الطلاق في الزواج الأول، سواء عند أبي حنيفة وأبي يوسف أكان الطلاق ثلاثاً أم أقل، وقال باقي الفقهاء: إنه يهدم الثلاث لا غير، فتعود إلى الأول بزوجية جديدة يملك فيها ثلاث طلقات. وينفرد الطلاق الرجعي عن البائن بأحكام. حكم الطلاق الرجعي: اتفق الفقهاء على أن الطلاق الرجعي له آثار هي (¬1): 1ً ـ نقص عدد الطلقات: يترتب على الطلاق أنه ينقص عدد الطلقات التي يملكها الزوج، فإذا طلق الرجل زوجته طلاقاً رجعياً بقي له طلقتان، وإذا طلق طلاقاً آخر بقي له طلقة واحدة. 2ً - انتهاء رابطة الزوجية بانتهاء العدة: إذا طلق الرجل طلاقاً رجعياً وانقضت العدة من غير مراجعة بانت منه بانقضاء العدة، وحينئذ يحل مؤخر الصداق. ¬
3ً - إمكان المراجعة في العدة: يملك المطلّق مراجعة مطلقته بالقول اتفاقاً، وكذا بالفعل عند الحنفية والحنابلة والمالكية، ما دامت في العدة، فإذا انقضت العدة بانت منه، فلم يملك رجعتها إلا بإذنها. 4ً - المرأة الرجعية زوجة يلحقها طلاق الرجل وظهاره وإيلاؤه ولعانه، ويرث أحدهما صاحبه بالاتفاق. وإن خالعها صح خلعه عند الحنابلة والحنفية؛ لأنها زوجة صح طلاقها، فصح خلعها كما قبل الطلاق، وليس مقصود الخلع التحريم، بل الخلاص من مضرة الزوج ونكاحه الذي هو سببها، والنكاح باق، ولا نأمن رجعته. وقال الشافعي في الأظهر: يصح خلع المرأة الرجعية في أثناء العدة؛ لأنها في حكم الزوجات في كثير من الأحكام (¬1). 5 - حرمة الاستمتاع عند الشافعية: قال الشافعية، والمالكية في المشهور: يحرم الاستمتاع بالمرأة المطلقة طلاقاً رجعياً بوطء وغيره حتى بالنظر ولو بلا شهوة؛ لأنها مفارقة كالبائن، ولأن النكاح يبيح الاستمتاع فيحرمه الطلاق؛ لأنه ضده، فإن وطئ الزوج المطلقة فلا حد، ولا يعزر إلا معتقد تحريمه. وهذا هو الحق عندي. وقال الحنفية والحنابلة: الطلاق الرجعي لا يحرم الوطء، فيجوز الاستمتاع بالرجعية ولو وطئها لاحد عليه؛ لأنه مباح، لكن تكره الخلوة بها تنزيهاً. ومن عبارات الحنفية فيه: الطلاق الرجعي لا يزيل الملك ولا الحل ما دامت في العدة. والمقصود بالملك: حل الاستمتاع وسائر حقوق الزواج، والمقصود بالحل: بقاء المطلقة حلالاً لمن طلقها ولا تحرم عليه بسبب من أسباب التحريم. ¬
حكم الطلاق البائن
حكم الطلاق البائن: أولاً ـ البائن بينونة صغرى: يظهر أثر الطلاق البائن بينونة صغرى فيما يأتي بالاتفاق. اً - زوال الملك لا الحل بمجرد الطلاق: يحرم الاستمتاع مطلقاً والخلوة بعده ساعة الطلاق، ولا يحق مراجعة المرأة إلا بعقد جديد، ولكن يبقى الحل، سواء في العدة أم بعدها بعقد جديد. 2ً - نقص عدد الطلقات التي يملكها الزوج كالطلاق الرجعي. 3ً - يحل بمجرد الطلاق الصداق المؤجل إلى أحد الأجلين: الموت أو الطلاق. 4ً - منع التوارث بين الزوجين: إذا مات أحدهما أثناء العدة لا يرثه الآخر؛ لأن الطلاق البائن ينهي الزوجية بمجرد صدوره، إلا إذا كان الطلاق في مرض الموت وقامت قرينة على أن الزوج يقصد حرمان الزوجة من الميراث، فإنها عند الجمهور غير الشافعية ترثه إن مات في العدة، وكذا بعد العدة عند المالكية، معاملة له بنقيض مقصوده، وهذا هو طلاق الفرار. 5ً - يلحق الطلاق الصريح عند الحنفية الطلاق البائن في أثناء العدة، ويلحق البائن الصريح أيضاً بشرط العدة إلا إذا كان الطلاق الثاني بائناً بلفظ الكناية يحتمل الإخبار عن البينونة الأولى. ثانياً ـ البائن بينونة كبرى: هذا يزيل الملك والحل معاً، ولا يبقى للزوجية أثر سوى العدة وما يتبعها، فيحل به الصداق المؤجل إلى الطلاق أو الوفاة، ويمنع التوارث بين الزوجين إلا إذا
حكم الطلاق الرجعي والبائن في القانون السوري
كان طلاق فرار عند غير الشافعية كالبائن بينونة صغرى، فيعامل بنقيض مقصوده وتحرم به المطلقة على الزوج تحريماً مؤقتاً، ولا تحل له حتى تتزوج بزوج آخر، ويدخل بها دخولاً حقيقياً، ثم يطلقها أو يموت عنها، وتنقضي عدتها منه. البينونة الكبرى كالصغرى إلا في أمرين: الأول ـ أن البينونة الكبرى لا محل بعدها بالاتفاق لوقوع طلاق آخر. الثانية ـ أن المرأة في البينونة الكبرى لا يمكن أن ترجع إلى زوجها الأول حتى تتزوج بزوج آخر غيره. حكم الطلاق الرجعي والبائن في القانون السوري: نصت المادة (118) من هذا القانون على حكم الطلاق الرجعي، وانقلابه بائناً بانتهاء العدة وهي: 1 - الطلاق الرجعي لا يزيل الزوجية، وللزوج أن يراجع مطلقته أثناء العدة بالقول أو الفعل، ولا يسقط هذا الحق بالإسقاط. 2 - تبين المرأة وتنقطع الرجعة بانقضاء عدة الطلاق الرجعي. ونص هذا القانون أيضاً على آثار الطلاق البائن، فنصت المادة (119) على ما يلي: الطلاق البائن دون الثلاث يزيل الزوجية حالاً، ولا يمنع من تجديد عقد الزواج. ونصت المادة (120) على الطلاق البائن بينونة كبرى: الطلاق المكمل للثلاث يزيل الزوجية حالاً، ويمنع من تجديد العقد ما لم تتوافر الشرائط المبينة في المادة (36) من هذا القانون.
تقسيم الطلاق إلى منجز ومعلق ومضاف للمستقبل
ونص المادة (36) هو ما يلي: 1 - لا يجوز أن يتزوج الرجل امرأة طلقها ثلاث مرات إلا بعد انقضاء عدتها من زوج آخر دخل بها فعلاً. 2 - زواج المطلقة من آخر يهدم طلقات الزوج السابق، ولو كانت دون الثلاث، فإذا عادت إليه يملك عليها ثلاثاً جديدة. تقسيم الطلاق إلى منجز ومعلق ومضاف للمستقبل: ينقسم الطلاق بالنظر إلى الصيغة من حيث اشتمالها على التعليق على أمر مستقبل أو الإضافة إلى زمن في المستقبل وعدم اشتمالها على التعليق إلى ثلاثة أنواع: منجز، ومعلق، ومضاف (¬1). أولاً ـ الطلاق المنجز أو المعجل: هو ما قصد به الحال، كأن يقول رجل لامرأته: أنت طالق، أو مطلقة، أو طلقتك. وحكمه: وقوعه في الحال وترتب آثاره عليه بمجرد صدوره، متى كان الزوج أهلاً لإيقاع الطلاق، والزوجة محلاً لوقوعه. ثانياً ـ الطلاق المضاف: هو ما أضيف حصوله إلى وقت في المستقبل، كأن يقول الرجل لزوجته: أنت طالق غداً، أو أول الشهر الفلاني أو أول سنة كذا. وحكمه: وقوع الطلاق عند مجيء أول جزء من أجزاء الزمن الذي أضيف ¬
إليه، إذا كانت المرأة محلاً لوقوع الطلاق عليها عند ذلك الوقت، وكان الرجل أهلاً لإيقاعه؛ لأنه قصد إيقاعه بعد زمن، لا في الحال. فقوله: أنت طالق غداً، يقع بأول جزء منه وهو عند طلوع الفجر، وقوله: أنت طالق ليلاً إذا مضى يوم، فيقع عند غروب شمس غده، إذ به يتحقق مضي اليوم. وإن قال: نهاراً، ففي مثل وقته من غده تطلق لأن اليوم حقيقة في جميعه، وإن قال لزوجته: أنت طالق في شهر كذا كرمضان، وقع الطلاق في أول جزء من الليلة الأولى منه، وهو حين تغرب الشمس من آخر يوم من الشهر الذي قبله وهو شهر شعبان. وإن قال: أنت طالق أمس أو أنت طالق قبل أن أتزوجك، وقصد أن يقع في الحال مستنداً إلى الأمس، وقع في الحال عند الحنفية، والشافعية على الصحيح والحنابلة، ولغا قصد الاستناد إلى أمس لاستحالته؛ لأن الإنشاء في الماضي في الحال. وظاهر كلام أحمد: أن الطلاق لا يقع إذا لم يكن له نية. وإن أراد الإخبار بأنه كان قد طلقها هو، أو زوجٌ قبله في الزمان المذكور، وكان قد وجد الطلاق، قبل منه. وإن لم يوجد وقع طلاقه. وإن قال: أنت طالق قبل أن أخلق أو قبل أن تخلقي، أو طلقتك وأنا صبي أو نائم، أو مجنون، كان لغواً؛ لأن حاصله إنكار الطلاق. كذلك رأى الحنفية والشافعية والحنابلة: إن قال: أنت طالق قبل موتي بشهرين أو أكثر، فمات قبل مضي شهرين، لم تطلق لانتفاء الشرط، ولأن الطلاق لا يقع في الماضي.
ثالثا ـ الطلاق المعلق
وإن مضى شهران ثم مات بعدهما ولو بساعة طلقت مستنداً لأول المدة لا عند الموت، وفائدة الطلاق: أنه لا ميراث لها؛ لأن العدة قد تنتهي بشهرين، بثلاث حيضات عند الحنفية ومن وافقهم. وإن قال: أنت طالق قبل موتي، ولم يزد شيئاً، طلقت في الحال؛ لأن ما قبل موته من عقد صفة الطلاق، محل للطلاق، فوقع في أوله. وإن قال لزوجته: أنت طالق قبل قدوم زيد بشهر، فقدم بعد شهر وجزء يقع الطلاق فيه، وقع مستنداً (أي بأثر رجعي) قبل الشهر عند الشافعية والحنابلة؛ لأن قوله يراد به إيقاع الطلاق بعد عقده، لأنه أوقع الطلاق في زمن على صفة، فإذا حصلت الصفة وقع فيه، كما لو قال: أنت طالق قبل رمضان بشهر أو قبل موتك بشهر. وقال الحنفية ما عدا زفر: يقع الطلاق مقتصراً (أي من غير أثر رجعي) عند قدوم زيد؛ لأنه جعل الشهر شرطاً لوقوع الطلاق، فلا يسبق الطلاق شرطه. ثالثاً ـ الطلاق المعلق: هو ما رتب وقوعه على حصول أمر في المستقبل، بأداة من أدوات الشرط أي التعليق، مثل إن، وإذا، ومتى، ولو ونحوها، كأن يقول الرجل لزوجته: إن دخلت دار فلان فأنت طالق، أو إذا سافرت إلى بلدك فأنت طالق، أو إن خرجت من المنزل بغير إذني فأنتي طالق، أو متى كلمت فلاناً فأنت طالق. ويسمى يميناً مجازاً؛ لأن التعليق في الحقيقة إنما هو شرط وجزاء، فإطلاق اليمين عليه مجاز، لما فيه من معنى السببية، ولمشاركته الحلف في المعنى المشهور وهو الحث أو المنع أو تأكيد الخبر.
شروط التعليق
والتعليق إما لفظي: وهو الذي تذكر فيه أداة الشرط صراحة، مثل إن وإذا. وإما معنوي: وهو الذي لا تذكر فيه أداة الشرط صراحة، بل تكون موجودة من حيث المعنى، كقول الزوج: علي الطلاق لأفعلن كذا، أو لا أفعل كذا، أو الطلاق يلزمني لا أفعل كذا. فالمقصود منها بحسب العرف: لزوم الطلاق إن حصل المحلوف عليه، أم لم يحصل. أنواع الشرط المعلق عليه: الشرط الذي يعلق الطلاق عليه إما أن يكون أمراً اختيارياً يمكن فعله والامتناع عنه، أو أمراً غير اختياري. فإن كان الشرط أمراً اختيارياً يمكن أن يكون ويمكن ألا يكون: فإما أن يكون فعلاً من أفعال الزوج، مثل إن دخلت دار فلان أو كلمت فلاناً فامرأتي طالق، أو إن لم أدفع حق فلان غداً فزوجتي طالق، ففي المثال الأول يكون التعليق لحمل نفسه على الامتناع من الدخول، وفي المثال الثاني يكون التعليق لحمل نفسه على دفع الدين أو الحق في الغد. أو يكون فعلاً من أفعال الزوجة، مثل إن سافرت أو دخلت دار فلان فأنت طالق. ومثل: أنت طالق إن شئت، لم تطلق حتى تسافر أو تدخل الدار أو تشاء. أو يكون فعلاً لغير الزوجين، مثل: إن سافر أخوك فأنت طالق. وإن كان الشرط أمراً غير اختياري للإنسان فهو كالتعليق بمشيئة الله تعالى، وطلوع الشمس وموت فلان، ودخول الشهر، وولادة فلانة ونحوها. شروط التعليق: يشترط لصحة التعليق ما يأتي:
1ً - أن يكون الشرط المعلق عليه الطلاق معدوماً على خطر الوجود، أي يحتمل أن يكون وألا يكون. فلو كان موجوداً كان طلاقها منجزاً، مثل إن خرجت أمس فأنت طالق، وقد خرجت فعلاً فتطلق في الحال. وإن كان المعلق عليه أمراً مستحيلاً عادة كالطيران وصعود السماء، مثل إن صعدت السماء فأنت طالق، ومنه التعليق بمشيئة الله تعالى، كأن يقول: أنت طالق إن شاء الله تعالى، فلا يقع عند الحنفية؛ لأن التعليق لا يصح، واليمين لغو، ووافقهم بقية المذاهب في التعليق بمستحيل عادة. ووافقهم أيضاً المالكية والشافعية والظاهرية في التعليق بمشيئة الله، لا يقع الطلاق عندهم إن قصد التعليق، وقال الحنابلة: يقع الطلاق، لأن ما لا يمكن الاطلاع عليه يكون منجزاً ويقع في الحال، وسقط حكم تعليقه، قال ابن عباس: «إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق إن شاء الله، فهي طالق» وقال ابن عمرو وأبو سعيد: «كنا معشر النبي صلّى الله عليه وسلم نرى الاستثناء جائزاً في كل شيء إلا في الطلاق والعتاق» وذكر الشافعية: أنه لو قال: يا طالق إن شاء الله، وقع في الأصح نظراً لصورة النداء المشعر بحصول الطلاق حالته، والحاصل لا يعلق، بخلاف أنت طالق إن شاء الله وقصد التعليق فإنه لم يقع. ورأي غير الحنابلة أصح لدي لحديث ابن عمر: «من حلف على يمين، فقال: إن شاء الله، فلا حنث عليه» (¬1) وحديث ابن عباس: «من قال لامرأته: أنت طالق إن شاء الله، أو لغلامه: أنت حر، أو قال: عليَّ المشي إلى بيت الله إن شاء الله، فلا شيء عليه» (¬2). ¬
حكم الطلاق المعلق أو اليمين بالطلاق
2ً - أن يحصل المعلق عليه والمرأة محل لوقوع الطلاق عليها: بأن تكون في حال الزوجية فعلاً، أو حكماً في أثناء العدة باتفاق الفقهاء، أو في أثناء العدة من الطلاق البائن بينونة صغرى عند الحنفية، خلافاً لباقي المذاهب، فلو قال الرجل لامرأة أجنبية: إن كلمت فلاناً فأنت طالق، فكلمته، لم يقع الطلاق وكذا لو تزوجها ثم كلمت فلاناً، لا تطلق؛ لأنها وقت التعليق لم تكن محلاً لإيقاع الطلاق. ولو قال لامرأته المطلقة طلاقاً رجعياً في أثناء العدة: إن كلمت فلاناً، فأنت طالق، فكلمته في العدة، وقع الطلاق عليها باتفاق الفقهاء، وكذا تطلق لو كانت عند الحنفية في عدة طلاق بائن بينونة صغرى، ولا تطلق حينئذ في المذاهب الأخرى. ولا يشترط عند حصول المعلق عليه أن يكون الزوج أهلاً لإيقاع الطلاق، فلو طلق طلاقاً معلقاً ثم جن أو عته، ووجد المعلق عليه، وقع الطلاق؛ لأن الصيغة صدرت من أهلها مستوفية شروطها، فيترتب عليها أثرها. حكم الطلاق المعلق أو اليمين بالطلاق: اختلف الفقهاء في اليمين بالطلاق أو الطلاق المعلق على ثلاثة أقوال (¬1)، كأن يعلق طلاق زوجته على أمر المستقبل، ويوجد المعلق عليه، مثل: إن دخلت الدارفأنت طالق، أو كلمت زيداً، أو إن قدم فلان من سفره، فأنت طالق. أو ¬
1 - فقال أئمة المذاهب الأربعة
يقول لها في العرف الشائع اليوم: علي الطلاق إن ذهبت لبيت أهلك، أو سافرت، أو ولدت أنثى، أو علي الطلاق إن لم أتزوج زوجة أخرى ونحوه. 1 - فقال أئمة المذاهب الأربعة: يقع الطلاق المعلق متى وجد المعلق عليه، سواء أكان فعلاً لأحد الزوجين، أم كان أمراً سماوياً، وسواء أكان التعليق قسمياً: وهو الحث على فعل شيء أو تركه أو تأكيد الخبر، أم شرطياً يقصد به حصول الجزاء عند حصول الشرط. 2 - وقال الظاهرية والشيعة الإمامية: اليمين بالطلاق أو الطلاق المعلق إذا وجد المعلق عليه لا يقع أصلاً، سواء أكان على وجه اليمين: وهو ما قصد به الحث على فعل شيء أو تركه أو تأكيد الخبر، أم لم يكن على وجه اليمين: وهو ما قصد به وقوع الطلاق عند حصول المعلق عليه. 3 - وقال ابن تيمية وابن القيم بالتفصيل: إن كان التعليق قسمياً أو على وجه اليمين ووجد المعلق عليه، لا يقع، ويجزيه عند ابن تيمية كفارة يمين إن حنث في يمينه، ولا كفارة عليه عند ابن القيم، وأما إن كان التعليق شرطياً أو على غير وجه اليمين، فيقع الطلاق عند حصول الشرط. أدلة الأقوال: أدلة القول الأول: استدل أئمة المذاهب الأربعة بالكتاب والسنة والمعقول: 1 - الكتاب: استدلوا بإطلاق الآيات الدالة على مشروعية الطلاق وتفويض الأمر فيه إلى الزوج، مثل قوله تعالى: {الطلاق مرتان} [البقرة:229/ 2]، فهي لم تفرق بين منجز ومعلق، ولم تقيد وقوعه بشيء، والمطلق يعمل به على إطلاقه، فيكون للزوج إيقاع الطلاق حسبما يشاء منجزاً أو مضافاً أو معلقاً على وجه اليمين أو غيره.
2 - السنة: استدلوا بقوله صلّى الله عليه وسلم: «المسلمون عند شروطهم» وبوقائع كثيرة حدثت في عصر النبي والصحابة، منها: ما أخرجه البخاري عن ابن عمر قال: «طلق رجل امرأته البتة إن خرجت» فقال ابن عمر: إن خرجت فقد بانت منه، وإن لم تخرج فليس بشيء. ومنها: ما رواه البيهقي عن ابن مسعود في رجل قال لامرأته: إن فعلتْ كذا وكذا، فهي طالق، ففعلته: فقال: هي واحدة، وهو أحق بها. ومنها: ما صح عن أبي ذر الغفاري أن امرأته لما ألحت عليه في السؤال عن الساعة التي يستجيب الله فيها الدعاء يوم الجمعة قال لها: «إن عدت سألتِني فأنت طالق». ومنها: ما أسنده ابن عبد البر عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كل يمين وإن عظمت، ففيها الكفارة إلا العتق والطلاق». ومنها: ما رواه البيهقي عن ابن عباس في رجل قال لامرأته: هي طالق إلى سنة، قال: يستمتع بها إلى سنة. وهذا الأثر في التعليق الشرطي، وكل ما سبق قبله في التعليق القسمي. وعن الحسن البصري فيمن قال لامرأته: أنت طالق إن لم أضرب غلامي فأبق الغلام (هرب)، قال: هي امرأه يستمتع بها، ويتوارثان، حتى يفعل ما قال. فإن مات الغلام قبل أن يفعل ما قاله، فقد ذهبت منه امرأته. وروى البيهقي عن أبي الزناد عن فقهاء أهل المدينة أنهم كانوا يقولون: أيما رجل قال لامرأته: أنت طالق إن خرجت حتى الليل، فخرجت امرأته قبل الليل بغير علمه، طلقت امرأته.
الظاهرية والإمامية
فكل هذه الآثار تدل على وقوع الطلاق المعلق عند حدوث الشرط المعلق عليه. 3 - المعقول: قد تدعو الحاجة إلى تعليق الطلاق كما تدعو إلى تنجيزه، زجراً للمرأة، فإن خالفت كانت هي الجانية على نفسها. ويقاس الطلاق القسمي على المداينة إلى أجل والعتق إلى أجل. أدلة القول الثاني: استدل الظاهرية والإمامية على قولهم بأن تعليق الطلاق يمين، واليمين بغير الله تعالى لا تجوز، بقوله صلّى الله عليه وسلم: «من كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله» (¬1) ثم قالوا: ولا طلاق إلا ما أمر الله عز وجل، ولا يمين إلا كما أمر الله عز وجل على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلم، واليمين بالطلاق ليس مما سماه الله تعالى يميناً، والله تعالى يقول: {ومن يتعدَّ حدود الله فقد ظلم نفسه} [الطلاق:1/ 65] ولم يأت قرآن ولا سنة بوقوع الطلاق المعلق. ورد هذا: بأن تسمية الطلاق المعلق يميناً إنما هو على سبيل المجاز، من حيث إنه يفيد ما يفيده اليمين بالله تعالى: وهو الحث على الفعل، أو المنع منه، أو تأكيد الخبر، فلا يكون الحديث المذكور متناولاً الطلاق المعلق. ثم إن السنة وردت بوقوع الطلاق المعلق. واستدلوا أيضاً بما رواه ابن حزم وابن القيم عن علي وشريح أنهم كانوا يقولون: «الحلف بالطلاق ليس بشيء» ورد عليه بأن المروي عن علي في حال الاضطهاد، والمروي عن شريح في حالة عدم وقوع الأمر المعلق عليه، والمروي عن طاوس مؤوّل بأنه ليس شيئاً مستقيماً في السنة بمعنى لا ينبغي أن يحصل. ¬
ابن تيمية وابن القيم
واستدلوا كذلك بأن كل طلاق لا يقع حين إيقاعه دون تقييد بشرط أو صفة لا يقع بعدئذ. ورد هذا بأن المعلِّق ليس موقعاً للطلاق حين التلفظ، وإنما عند تحقق الشرط. وقاسوا الطلاق على النكاح، فكما لا يصح تعليق النكاح لا يصح تعليق الطلاق. ورد عليه بأنه قياس مع الفارق؛ لأن تعليق النكاح مناف للمقصود منه، أما الطلاق فإنه لا ينافيه. أدلة القول الثالث: استدل ابن تيمية وابن القيم على رأيهم التفصيلي: 1ً - بأن الطلاق المعلق القسمي إذا كان المقصود منه الحث على الفعل أو المنع منه أو تأكيد الخبر، كان في معنى اليمين، فيكون داخلاً في أحكام اليمين في قوله تعالى: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} [التحريم:2/ 66] وقوله سبحانه: {ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم} [المائدة:89/ 5]. وإن لم تكن يميناً شرعية كانت لغواً. ورد عليهما بأن الطلاق المعلق لا يسمى يميناً لا شرعاً ولا لغة، وإنما هو يمين على سبيل المجاز، لمشابهة اليمين الشرعية في إفادة الحث على الفعل أو المنع منه أو تأكيد الخبر، فلا يكون له حكم اليمين الحقيقي: وهو الحلف بالله تعالى أو صفة من صفاته، بل له حكم آخر: وهو وقوع الطلاق عند حصول المعلق عليه. 2 - وبأن عائشة وحفصة وأم سلمة وابن عباس أفتوا ليلى بنت العجماء بأن تكفِّر عن يمينها حينما حلفت بالعتق فقالت: كل مملوك لها محرر، وكل مال لها هدي، وهي يهودية وهي نصرانية إن لم يطلق مولاها أبو رافع امرأته، أو يفرق بينه وبينها، فيكون الحلف بالطلاق مثله وهو أولى.
ملحق ـ حكم طلاق المريض مرض الموت
ورد عليهما بأن الآثار المروية عن الصحابة في الاعتداد بالتعليق أقوى من هذا؛ لأن رواتها من رجال الصحيح. 3 - وبما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه: «الطلاق عن وَطَر والعتق: ما ابتغي به وجه الله» أي أن الطلاق إنما يقع ممن غرضه إيقاعه، لا ممن يكره وقوعه كالحالف المكره. وأجيب بأن معنى الوطر ليس هو كما ذكرتم، بل معناه: لا ينبغي للرجل أن يطلق امرأته إلا عند الحاجة كالنشوز. وفي تقديري أن القول الأول هو الأصح دليلاً، لكن يلاحظ أن الشبان غالباً يستخدمون اليمين بالطلاق للتهديد لا بقصد الإيقاع، وهذا يجعلني أميل إلى القول الثالث، لا سيما وقد أخذ به القانون في مصر رقم (25 لسنة 1929)، وفي سورية، نصت المادة الثانية من القانون المصري والمادة (90) من القانون السوري على الأخذ برأي ابن تيمية وابن القيم: «لا يقع الطلاق غير المنجز إذا لم يقصد به إلا الحث على فعل شيء، أو المنع منه، أو استعمل استعمال القسم لتأكيد الإخبار لا غير». ملحق ـ حكم طلاق المريض مرض الموت: أبحث هنا حكم طلاق المريض مرض الموت ونحوه، وشروط ثبوت ميراث زوجته منه، وبعض الأحكام الفرعية في مرض الموت (¬1). ¬
المقصود بمريض الموت
المقصود بمريض الموت: كل من غالب حاله الهلاك بمرض أو غيهر له حكم مرض الموت، ويسمى طلاقه طلاق الفارّ أو الفرار، لفراره من إرث زوجته، فيرد عليه قصده إلى تمام عدتها عند الحنفية، ولو بعد انقضاء العدة عند المالكية، وما لم تتزوج في المشهور عند الحنابلة. ومريض الموت كما قال الحنفية: هو من أضناه مرض عجز به عن إقامة مصالحه المعتادة خارج البيت، كعجز العالم الفقيه عن الإتيان إلى المسجد وعجز التاجر عن الإتيان إلى دكانه. وأما المرأة المريضة: فهي التي عجزت عن مصالحها المعتادة داخل البيت كطبخ ونحوه. واستمر المرض في حدود السنة دون تزايد، وأعقبه الموت، فالمراد من مرض الموت: هو الذي يتحقق فيه أمران: الأول ـ أن يكون الغالب فيه الهلاك عادة، الثاني ـ أن يتصل به الموت. ويلحق به من يترقب الموت كالمحكوم عليه بالإعدام، والمشرف على الغرق في سفينة. حكمه: له أحكام، منها: أنه لا يصح تبرعه إلا من ثلث التركة، ومنها نفاذ طلاقه وإرث امرأته منه إذا مات وهي في العدة عند الحنفية، وتفصيل حكم طلاقه ما يأتي: اتفق الفقهاء على أن الرجل المريض إذا طلق امرأته، فطلاقه نافذ كالصحيح، فإن مات من ذلك المرض ورثته المطلقة ما دامت في العدة من طلاق رجعي، كما ترثه فيها في طلاقها في حال الصحة؛ لأن الرجعية زوجة يلحقها طلاق الزوج وظهاره وإيلاؤه، ويملك إمساكها بالرجعة ولو بغير رضاها، ولا ولي ولا شهود ولاصداق جديد. أما إن طلقها في حال الصحة طلاقاً بائناً أو رجعياً، فبانت منه بانقضاء عدتها، فلم يتوارثا إجماعاً.
واتفق الفقهاء أيضاً على أن الرجل إذا طلق امرأته في مرض الموت ثم ماتت، لم يرثها وإن ماتت في العدة. واختلفوا في إرث الزوجة المطلقة طلاقاً بائناً إذا مات الزوج في أثناء العدة من هذا الطلاق. وهذا محل البحث هنا، وهو حكم طلاق الفرار. فقال الجمهور (الحنفية والمالكية والحنابلة والإمامية): إنها ترثه، وقال الشافعي في الجديد: لا ترثه. وقال الظاهرية: طلاق المريض كطلاق الصحيح ولا فرق، فإذا مات أو ماتت فلا توارث بينهما بعد الطلاق الثلاث، ولا بعد تمام العدة في الطلاق الرجعي. الأدلة: استدل الشافعي على أن المرأة المطلقة في عدة طلاق بائن لا ترث من زوجها الذي طلقها: بانقطاع آثار الزوجية بالطلاق البائن، والميراث لا يثبت بعد زوال سببه، بخلاف المطلقة في عدة طلاق رجعي، فإنها ترث بالاتفاق لبقاء آثار الزوجية، كلحوق الطلاق لها والإيلاء منها ونحوهما. واستدل الجمهور بالأثر والمعقول: أما الأثر: فإن عثمان رضي الله عنه ورَّث تماضر بنت الأصبغ الكلبية من عبد الرحمن بن عوف، الذي كان قد طلقها في مرضه، فبتَّها، وكان ذلك بمحضر من الصحابة، فلم ينكر عليه أحد، فكان إجماعاً منهم. وأما المعقول: فهو أن تطليقها ضرار محض، وهو يدل على قصده حرمانها من الإرث، فيعاقب بنقيض قصده، كما يرد قصد القاتل إذا قتل مورثه بحرمانه من الإرث، فترث المرأة حينئذ بسبب الزوجية دفعاً للضرر عنها.
وقت الإرث
وقت الإرث: لكن اختلف الجمهور في وقت الإرث، فقال الحنفية: إنها ترث إذا مات وهي في العدة من هذا الطلاق البائن، لبقاء بعض أحكام الزواج فيبقى حق إرثها منه، فإن مات بعد انقضاء العدة، فلا ميراث لها؛ لأنه لم يبق بينهما علاقة، وصارت كالأجنبية، ففي أثناء العدة: ترث بسبب الإمكان وهو بقاء بعض أحكام الزوجية، وبعد انقضاء العدة: لا ترث لعدم الإمكان وانقطاع آثار الزوجية السابقة. وقال المالكية: إنها ترث وإن انقضت عدتها وتزوجت، لما روى أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف «أن أباه طلق أمه، وهو مريض، فمات، فورثته بعد انقضاء العدة» ولأن سبب توريثها فراره من ميراثها، وهذا المعنى لا يزول بعد انقضاء العدة. وعند الإمامية، والمشهور عند أحمد: أنها ترثه في العدة وبعدها ما لم تتزوج، لما روي عن الحسن البصري، ولأن هذه المطلقة وارثة من زوج، فلا ترث زوجاً سواه كسائر الزوجات، فلو ورثت بعد الزواج بغيره لأدى ذلك إلى توريثها من زوجين في بعض الأحوال، والمرأة لا تكون زوجة لاثنين شرعاً، والتوارث من حكم النكاح فلا يجوز اجتماعه مع نكاح آخر، ولأنها فعلت باختيارها ما ينافي نكاح الزوج الأول لها، فأشبه ما لو كان فسخ النكاح من قبلها. شروط ثبوت الميراث: يشترط لثبوت ميراث المرأة في طلاق الفرار مايأتي: 1ً - ألا يصح الزوج من ذلك المرض، وإن مات منه بعد مدة. 2ً - أن يكون المرض مخوفاً يحجر عليه فيه.
الفرقة من جهة الزوجة المريضة مرض الموت
3ً - أن يكون الطلاق البائن بعد الدخول الحقيقي: فلو كان الطلاق قبل الدخول ولو بعد الخلوة الصحيحةلا يعتبر المطلِّق فارّاً ولا تستحق الزوجة الميراث؛ لأن العدة لا تجب بهذا الطلاق. ووجوب العدة بعد الخلوة عندا لحنفية ومن وافقهم للاحتياط محافظة على الأنساب، والميراث حق مالي لا يثبت للاحتياط. 4ً - أن يكون الطلاق بدون رضا الزوجة: أي منه لا منها ولا بسببها، فلو كان برضاها لا يثبت لها الميراث، ولا يوصف المطلِّق بالفرار. وعليه لو كان الطلاق بالتمليك والتخيير بأن قال لها: اختاري، والخلع بأن اختلعت منه على مال دفعته له في سبيل تطليقها، والتفريق القضائي لعيب في الزوج، ثم مات وهي في العدة، لم ترثه، لتحقق رضاها بإبطال حقها في الميراث. 5ً - أن تكون الزوجة أهلاً للميراث من زوجها وقت الطلاق، وأن تستمر هذه الأهلية إلى وقت الموت. فإذا لم تكن أهلاً للميراث وقت الطلاق، بأن كانت كتابية وهو مسلم، فلا يثبت لها الميراث، لعدم تحقق صفة الفرار. ولو كانت مسلمة وقت الطلاق، ثم خرجت عن هذه الأهلية قبل الموت فارتدت، فإنها لا ترث؛ لأنها بالردة سقط حقها في الميراث، ولا يعود لها عند الجمهور غير المالكية هذا الحق بالإسلام؛ لأن الساقط لا يعود. وقال مالك: لو عادت إلى الإسلام بعد أن ارتدت ثم مات الزوج في عدتها، فإنها ترثه؛ لأنها مطلَّقة في المرض، فأشبه ما لو لم ترتد. الفرقة من جهة الزوجة المريضة مرض الموت: إذا حدثت الفرقة من جهة الزوجة وهي مريضة مرض الموت ونحوه مما يغلب فيه الهلاك، فإنها تعد فارَّة من ميراث زوجها، فتعامل بنقيض مقصودها، ويرثها الزوج إذا ماتت وهي في العدة، ولا ترث هي منه إذا مات ولو كانت في العدة.
زواج المريض المطلق بأخرى
وإذا قصدت الزوجة بالفرقة إبطال حق الزوج، رد عليها قصدها وثبت له الميراث، كأن يكون لهاخيار الفسخ، أو ترتكب مع أحد أصول الزوج أو فروعه في مرض موتها ما يوجب حرمة المصاهرة، أو ترتد عن الإسلام وهي في مرض موتها، فإنها تعتبر فارَّة من الميراث، فيرثها زوجها إذا ماتت قبل انقضاء عدتها؛ لأن الفرقة جاءت بسبب من جهتها. ومما يوجب حرمة المصاهرة عند الحنفية والحنابلة: أن يستكره الابن امرأة أبيه على ما ينفسخ به نكاحها من وطء أو غيره في مرض أبيه، فمات أبوه من مرضه المذكور، ورثته ولم يرثها إن ماتت. فإن طاوعته على الحرام، لم ترث؛ لأنها مشاركة فيما ينفسخ به نكاحها، فأشبه ما لو خالعته. وكذلك الحكم فيما إذا وطئ المريض من ينفسخ نكاحه بوطئها، كأم امرأته أو ابنتها، فإن امرأته تبين منه وترثه إذا مات في مرضه، ولا يرثها، سواء طاوعته الموطوءة أو أكرهها، فإن مطاوعتها ليس للمرأة فيه فعل، فيسقط به ميراثها. ولا يرى الشافعي فسخ النكاح بالوطء الحرام. وإن فعلت المريضة ما ينفسخ نكاحها، كرضاع امرأة صغيرة لزوجها، أو رضاع زوجها الصغير، أو ارتدت أو نحوها، فماتت في مرضها، ورثها الزوج ولم ترثه عند الحنفية والحنابلة والمالكية، وقال الشافعي: لا يرثها. زواج المريض المطلِّق بأخرى: إذا طلق المريض امرأته، ثم نكح أخرى ومات من مرضه في عدة المطلقة، ورثتاه عند الحنفية والحنابلة، وقال مالك: الميراث كله للمطلقة؛ لأن نكاح المريض عنده غير صحيح.
المبحث السادس ـ الشك في الطلاق
المبحث السادس ـ الشك في الطلاق وإثبات الطلاق: الشك في الطلاق: الشك لغة ضد اليقين، واصطلاحاً: تردد على السواء، والمراد هنا مطلق التردد، سواء أكان على السواء بين الاحتمالين أم ترجح أحد الاحتمالين. وحكمه باتفاق الفقهاء (¬1): أن اليقين لا يزول بالشك، وعدم الشك من الزوج في الطلاق هو شرط الحكم بوقوع الطلاق، فلو شك فيه لا يحكم بوقوعه، ولا يعتزل امرأته. ـ فمن شك في طلاقه، هل طلق أو لا، لم تطلق امرأته؛ لأن النكاح كان ثابتاً بيقين، ووقع الشك في زواله بالطلاق، فلا يحكم بزواله بالشك، كحياة المفقود، إنها لما كانت ثابتة، ووقع الشك في زوالها، لا يحكم بزوالها بالشك، والحاصل: أن النكاح ثابت بيقين فلا يزول بشك. ـ ومن شك في صفة الطلاق: أنه طلقها رجعية أو بائنة، يحكم بالرجعية؛ لأنها أضعف الطلاقين، فكانت متيقناً بها. ـ ومن شك في عدد الطلاق بنى على اليقين، وهو الأقل، فمن شك في طلاق ثلاث، فيحكم عند الجمهور غير المالكية بوقوع طلقة واحدة حتى يستيقن؛ لأن ما زاد على القدر الذي تيقنه طلاق مشكوك فيه، فلم يلزمه، كما لو شك في أصل الطلاق، وتبقى أحكام المطلق دون الثلاث من إباحة الرجعة، وإذا راجع، وجبت النفقة وحقوق الزوجية. وقال المالكية: إن تيقن الطلاق، وشك في العدد، لم تحل له حتى تنكح زوجاً غيره؛ لأنها تحتمل طلاقاً ثلاثاً. ¬
ـ وإن حلف بالطلاق ثم شك: هل حنث أو لا، أمر عند المالكية بالفراق. ـ وإن شك في وجود الشرط الذي علق عليه الطلاق، مثل: أنت طالق إن فعلت كذا، أو أنت طالق إن لم أفعل كذا اليوم، فمضى اليوم وشك في فعله، لم تطلق؛ لأن النكاح ثابت بيقين، فلا يزول بالشك. ـ ومن طلق إحدى امرأتيه بذاتها، ثم نسيها أو خفيت عليه ذاتها، بأن طلقها في ظلمة أو من وراء حجاب، رجع إليه عند الشافعية في تعيينها، ولا تحل له واحدة منهما قبل أن يعين، والوطء ليس بياناً ولا تعييناً، ولو ماتت المرأتان أو إحداهما يطالب بالتعيين لبيان الإرث، ولو مات فالأظهر قبول بيان وارثه لا تعيينه، وقال الحنابلة: تعين إحداهما بقرعة. وإن طلق إحدى امرأتيه، ولم ينو معينة، لزمه التعيين عند الشافعية. وأخرجت المطلقة بالقرعة عند الحنابلة، خلافاً لما ذهب إليه أكثر العلماء، عملاً بما روي عن علي وابن عباس، ولأنه إزالة ملك بني على التغليب والسراية، فتدخله القرعة كالعتق، ولأن الحق لواحد غير معين، فوجب تعيينه بقرعة كإعتاق عبيده في مرضه، وكالسفر بإحدى نسائه، وكالمنسية، ولا يملك إخراج امرأة بتعيينه بغير القرعة، ويجوز له وطء الباقي من نسائه بعد القرعة لبقاء نكاحهن، ولا يجوز وطء إحداهن قبل القرعة إن كان الطلاق بائناً، لاحتمال أن تكون هي التي تقع عليها القرعة، وإن كان الطلاق رجعياً جاز وطء الكل، وبه تحصل الرجعة. ـ ولو قال: إن كان الطائر غراباً فأنت طالق، وشك هل كان غراباً أو لا، فلا نحكم بوقوعه. ولو قال شخص آخر: إن لم يكن هذا الطائر غراباً فامرأتي طالق، وجهل حال الطائر، لم يحكم بطلاق المرأة، لجواز أنه غير غراب، والأصل بقاء النكاح، فتعليق الطلاق لا يغير حكمه. وقال الحنابلة: من قال عن طائر: إن كان
الورع التزام الطلاق
هذا الطائر غراباً ففلانة طالق، وإن لم يكن غراباً ففلانة طالق، وجهل أي المرأتين طلق، فالمطلقة منهما كالمنسية، يقرع بينهما؛ لأنه لا سبيل إلى معرفة المطلقة منهما عيناً أو بالذات، فهما سواء، والقرعة طريق شرعي لإخراج المجهول. الورع التزام الطلاق: لكن يلاحظ أن الشافعية والحنابلة نبهوا على أن الورع في حال الشك هو التزام الطلاق والأخذ بالأسوأ لقوله صلّى الله عليه وسلم: «فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه» (¬1) وقوله: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» (¬2). فمن شك في الطلاق، يراجع إن كان له الرجعة، وإلا فيجدد نكاحها إن كان له فيها رغبة، وإلا فلينجز طلاقها لتحل لغيره يقيناً. ومن شك في عدد الطلاق في أنه طلق ثلاثاً أم ثنتين، لم ينكحها حتى تنكح زوجاً غيره. ولو شك: هل طلق ثلاثاً أو لم يطلق شيئاً، طلقها ثلاثاً لتحل لغيره يقيناً. أدلة العمل بالمتيقن: والأصل في طرح الشك والعمل بالمتيقن حديث عبد الله ابن زيد عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «أنه سئل عن الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاًَ» (¬3) فأمره بالبناء على اليقين واطراح الشك، ولأنه شك طرأ على يقين، فوجب اطراحه، كما لو شك المتطهر في الحدث، أو شك المحدث في الطهارة. وبناء عليه قرر الفقهاء ما سبق وخلاصته: إن وقع الشك في أصل الطلاق: لا يحكم بوقوعه؛ لأن النكاح كان ثابتاً بيقين، إن وقع في قدر الطلاق أو عدده، يحكم بالأقل عند الجمهور غير المالكية؛ لأنه متيقن به، وفي الزيادة شك. وإن ¬
إثبات الطلاق
وقع الشك في وصف الطلاق أنه طلقها رجعية أو بائنة، يحكم بالرجعية؛ لأنها أضعف الطلاقين، فكانت متيقناً بها. إثبات الطلاق: إذا ادعت المرأة أن زوجها طلقها، وأنكر هو، فمذهب المالكية (¬1): أنه إن أتت بشاهدين عدلين نفذ الطلاق، وإن أتت بشاهد واحد، حلّف الزوج وبرئ، وإن لم يحلف سجن حتى يقر ويحلف. وإن لم تأت بشاهد فلا شيء على الزوج، وعليها منع نفسها منه بقدر جهدها. وإن حلف بالطلاق وادعت أنه حنث، فالقول قول الزوج بيمينه. وذكر الحنابلة (¬2): إذا ادعت المرأة أن زوجها طلقها، فالقول قول الزوج بيمينه؛ لأن الأصل بقاء النكاح وعدم الطلاق، إلا أن يكون لها بما ادعته بينة، ولا يقبل فيه إلا عدلان؛ لأن الطلاق ليس بمال، ولا المقصود منه المال، ويطلع عليه الرجال في غالب الأحوال كالحدود والقصاص. فإن لم تكن بينة يستحلف الرجل على الصحيح لحديث: «اليمين على من أنكر». ¬
ملحق ببحث الطلاق ـ الرجعة
ملحق ببحث الطلاق ـ الرجعة وزواج التحليل: الرجعة: أولاً ـ تعريف الرجعة ومشروعيتها وحكمها وركنها ونوعاها وأحكام الرجعية (¬1): تعريفها: الرجعة لغة: المرة من الرجوع، واصطلاحاً عند الحنفية: هي استدامة الملك القائم بلا عوض ما دامت في العدة، أي استدامة الزواج في أثناء عدة الطلاق الرجعي. والطلاق الرجعي كما تقدم: تطليق المدخول بها ما دون الثلاث بلا مال، بصريح الطلاق غير المقترن بعدد الثلاث، أو بعض الكنايات المخصوصة (وهي اعتدي واستبرئي رحمك وأنت واحدة). وهذا يعني أن الرجعة تدل على بقاء الزواج بعد الطلاق الرجعي وأنها استدامة له، وليست إنشاء لعقد جديد، ولا إعادة للزواج السابق بعد زواله، وهذا يتفق مع مبدأ بقاء أحكام الزواج بعد الطلاق الرجعي، بدليل قوله تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن} [البقرة:228/ 2] سماه بعلاً، وهذا يقتضي بقاء الزوجية بينهما. وعرفها الجمهور غير الحنفية بأنها: إعادة المطلَّقة طلاقاً غير بائن إلى الزواج في العدة بغير عقد. وهذا يعني أن الزواج ينتهي بالطلاق الرجعي، وأن الرجعة تعيده بعد زواله. وهو الراجح لدي، لاتفاقه مع مقتضى الطلاق الذي يحرم المرأة لغة وعرفاً. ¬
حكمتها
مشروعيتها: الرجعة مشروعة لقوله تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك} [البقرة:228/ 2] أي في العدة، {إن أرادوا إصلاحاً} [البقرة:228/ 2] أي رجعة، كما قال الشافعي والعلماء. ولقوله تعالى: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} [البقرة:229/ 2] {فأمسكوهن بمعروف} [البقرة:231/ 2] والرد والإمساك مفسران بالرجعة. ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «أتاني جبريل فقال: راجع حفصة، فإنها صوامة قوَّامة، وإنها زوجتك في الجنة» (¬1) وقوله صلّى الله عليه وسلم لعمر: «مره فليراجعها» كما سبق. وأجمع العلماء على أن الرجل إذا طلق دون الثلاث له الرجعة في العدة. وبناء عليه: إذا طلق الرجل امرأته المدخول بها تطليقة رجعية أو تطليقتين، فله أن يراجعها في عدتها، سواء رضيت بذلك أم لم ترض؛ لأنها عند الحنفية باقية على الزوجية، بدليل جواز الظهار عليها، والإيلاء واللعان والتوارث، وإيقاع الطلاق الآخر ما دامت في العدة بالإجماع. حكمتها: حكمة العدة تمكين النادم على الطلاق من إعادة الزوجة، وإصلاح سبب الخلاف، في فترة قريبة وهي العدة، فتكون العدة لإعطاء فرصة للزوج للنظر في أمر الزوجة، والتفكير في مصيرها، فهل من الخير والمصلحة عودة الحياة الزوجية، فيراجعها قبل انقضاء عدتها، أم أن الخير في الطلاق، فيتركها حتى تنتهي عدتها وتبين منه. وركن الرجعة عند الحنفية: الصيغة أو الفعل فقط، وعند الجمهور: أركانها ثلاثة: مرتجع، وزوجة، وصيغة فقط عند الشافعية وكذا وطء عند الحنابلة، أو فعل أو نية عند المالكية. ¬
نوعاها
نوعاها: الرجعة نوعان: رجعة من طلاق رجعي، ورجعة من طلاق بائن. أما الرجعة من الطلاق الرجعي فتكون بالقول اتفاقاً، وتكون بالفعل: وهوأن يستمتع بها بالوطء فما دونه. ولا يجب في الارتجاع من الطلاق الرجعي صداق ولا ولي ولا يتوقف على إذن المرأة ولا غيرها. فإذا انقضت عدتها، صارت رجعتها كالرجعة من الطلاق البائن، ويحتاج في ذلك مايحتاج في إنشاء الزواج من إذن المرأة وبذل صداق لها وعقد وليها عند الجمهور المشترطين وجود الولي خلافاً للحنفية. ويجوز بالاتفاق عقد زواج جديد على المطلقة طلاقاً بائناً سواء في العدة أم بعدها. أحكام المرأة الرجعية: تعود المرأة الرجعية بالرجعة إلى الزواج بكل ماله وما عليه، ويكون لها حكم الزوجات، وتخالفها في أشياء، ومما تخالف الزوجة مايأتي: تحريم الاستمتاع بها عند الشافعية والمالكية: فيحرم الاستمتاع بالرجعية قبل المراجعة بوطء أم غيره حتى بالنظر ولو بلا شهوة؛ لأنها مفارقة كالبائن، ولأن النكاح يبيح الاستمتاع، فيحرمه الطلاق، لأنه ضده. وهذا هو الحق، وإلا لم يكن للطلاق أثر في التحريم. فإن وطئ الزوج الرجعية فلا حد عليه، وإن كان عالماً بالتحريم، لاختلاف العلماء في إباحته. ولا يعزر إلا معتقد تحريمه إذا كان عالماً بالتحريم، لإقدامه على معصية عنده، بخلاف معتقد حله، والجاهل بتحريمه لعذر. ومثله المرأة. ويعد كالوطء في استحقاق التعزير سائر التمتعات. ويجب عند الشافعية بوطء الرجعية مهر المثل إن لم يراجع، وكذا إن راجع على المذهب.
ثانيا ـ من له حق الرجعة وعدم قبول إسقاطه
ورأى المالكية: أنه ـ بالرغم من تحريم وطء الرجعية على المشهور ـ لا صداق ولا حد في الوطء الخالي عن نية الرجعة؛ لأنها زوجة ما دامت في العدة. وذهب الحنفية، والحنابلة في ظاهر المذهب إلى أنه لا يحرم الاستمتاع بالرجعية، فيباح لزوجها وطؤها، ويباح له عند الحنابلة الخلوة بها والسفر بها، ولها أن تتزين له، وتسرف في الزينة؛ لأنها في حكم الزوجات، كما قبل الطلاق، لكن لا قسم لها عندهم، والسبب في إباحة الاستمتاع بها تسمية الزوج بعلاً في آية: {وبعولتهن أحق بردهن} [البقرة:228/ 2] وأن له أن يطلِّق. وأثبت الحنفية للرجعية القسم إن كان من قصده المراجعة، وإن لم يقصدها فلا قسم لها، لكن يندب عدم دخول الزوج عليها بلا إعلامها لتتأهب وإن قصد مراجعتها، وتكره الخلوة بها كراهة تنزيهية إن لم يكن من قصده الرجعة، وإلا فلا تكره. والمرأة الرجعية مثل الزوجة اتفاقاً في لزوم النفقة والكسوة والسكنى، وفي صحة الإيلاء منها والظهار والطلاق واللعان والتوارث، فيرث كل منهما الآخر. ومرض الموت والإحرام بحج أو عمرة لا يمنعان من الرجعة للمطلقة الرجعية، ويمنعان من رجعة البائن، كما يمنعان من إنشاء النكاح في رأي الجمهور غير الحنفية، الذين لايجيزون الزواج في أثناء الإحرام. ثانياً ـ من له حق الرجعة وعدم قبول إسقاطه: الرجعة حق الزوج ما دامت المطلقة في العدة، سواء رضيت بذلك أم لم ترض، لقوله تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحاً} [البقرة:228/ 2] وهذا الحق للمرتجع أثبته الشرع له، فلا يقبل الإسقاط ولا التنازل عنه،
ثالثا ـ شروط صحة الرجعة
فلو قال الزوج: طلقتك ولا رجعة لي عليك، أو أسقطت حقي في الرجعة، فإن حقه في الرجعة لا يسقط؛ لأن إسقاطه يعد تغييراً لما شرعه الله، ولا يملك أحد أن يغير ما شرعه الله، والله سبحانه رتب حق الرجعة على الطلاق الرجعي في آية: {الطلاق مرتان، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} [البقرة:229/ 2]. ثالثاً ـ شروط صحة الرجعة: يشترط في الرجعة ما يأتي (¬1): شرط المرتجع: يشترط في المرتجع أهلية الزواج بنفسه، بأن يكون عند الشافعية والمالكية والحنابلة بالغاً عاقلاً مختاراً غير مرتد؛ لأن الرجعة كإنشاء النكاح، فلا تصح الرجعة في الردة والصبا والجنون والسكر، ولا من مكرَه، كما لا يصح الزواج فيها، ولأن طلاق الصبي غير لازم أو غير واقع. وأجاز الحنفية الرجعة للصبي لأن نكاحه صحيح يتوقف على إجازة وليه. وأجاز الحنابلة والشافعية الرجعة لولي المجنون؛ لأنها حق للمجنون يخشى فواته بانقضاء العدة، وأجاز الحنفية للمجنون والمعتوه والمكره الرجعة. ولا يشترط في المرتجع بالاتفاق عدم الإحرام بحج أو عمرة، وعدم المرض؛ لأن كلاً من المحرم والمريض فيه أهلية النكاح، غير أنه طرأ عليهما ما يمنع من صحته، فيجوز لخمسة الرجعة ولا يجوز نكاحهم: وهم المحرم والمريض والسفيه والمفلس والعبد. ¬
شرط ما تحصل به الرجعة
شرط ما تحصل به الرجعة: تحصل الرجعة من ناطق عند الشافعية بالقول فقط سواء أكان صريحاً أم كناية، أما الصريح فمثل: راجعتك ورجعتك وارتجعتك ورددتك وأمسكتك، وبمعنى هذه الألفاظ ونحوها من سائر اللغات، سواء أعرف العربية أم لا، وسواء أضاف الرجعة إليه أو إلى نكاحه، كقوله: إليّ أو إلى نكاحي أم لا، لكن يستحب ذلك. ولا بد من إضافة الرجعة إلى ظاهر كراجعت فلانة، أو مضمر كراجعتك، أو مشار إليه كراجعت هذه. وأما الكناية في الأصح: فمثل قول المرتجع: تزوجتك أو نكحتك، ولا بد من أن يقول المرتجع في الكناية: رددتها إليّ أو إلى نكاحي، حتى يكون صريحاً، وهذا القول شرط. وأما الفعل كوطء وغيره فلا تحصل به الرجعة عندهم؛ لأنه حرام، والحرام لاتصح الرجعة به، فلو وطئ الزوج رجعيته واستأنفت الأقراء من وقت الوطء، راجع فيما كان بقي من عدة الطلاق. وتحصل الرجعة عند الجمهور بالقول أو بالفعل ومنه الخلوة، أما القول عند الحنفية: فهو إما صريح ولو من غير نية: وهو اللفظ الذي لا يحتمل معنى آخر غير الرجعة وإبقاء الزوجية، مثل راجعت زوجتي، أو رجعتك أو رددتك أو أمسكتك. وإما كناية بالنية أو دلالة الحال: وهو ما يحتمل الرجعة وغيرها، كقوله: أنت امرأتي أو أنت عندي الآن كما كنت. فالصريح لا حاجة فيه إلى النية، ولفظ الكناية يحتاج إلى النية أو دلالة الحال. ويشترط في (رددتك) الإضافة إليه أو إلى نكاحه فيقول: إلي أوإلى نكاحي، أو إلى عصمتي. وأما الفعل، ولكن مع الكراهة التنزيهية: فهو كل ما يوجب حرمة المصاهرة كمس بشهوة ووطء ولو في الدبر على المعتمد، مع أنه حرام، وتقبيل بشهوة على
أي موضع، ولو اختلاساً أو نائماً أو مكرهاً أو مجنوناً أو معتوهاً، سواء نوى المطلق الرجعة أم لا؛ لأن حصول هذا الفعل يدل بوضوح على رغبته في إمساك زوجته، ولأن الزوجية عند الحنفية باقية؛ لأن الله سمى المطلِّق بعلاً، والبعل هو الزوج. وتحصل الرجعة بصدور أحد هذه الأفعال من الزوجة كالتقبيل بشهوة إن صدقها الزوج، أو ورثته بعد موته في وجود الشهوة، فإن أنكر لا تثبت الرجعة. وتحصل الرجعة عند المالكية بالقول أو الفعل أو النية، وأما القول فهو إما صريح، كرجعت وارتجعت زوجتي، وراجعت، ورددتها لعصمتي أو نكاحي، أو غير صريح مثل مسَّكتها أو أمسكتها، إذ يحتمل: أمسكتها تعذيباً. وأما الفعل فهو كوطء ومقدماته. وأما النية: فهي حديث النفس بأن يقول في نفسه: راجعتها، لكن إذا حدث مجرد قصد أن يراجعها، فلا يكون رجعة اتفاقاً. ولا بد من أن ينوي الارتجاع مع القول، أو مع الفعل، خلافاً للحنفية كما تقدم؛ لأن تصرف الزوج يحتاج إلى دلالة قوية على رغبته في إعادة المطلقة، وهو يكون بالنية. وتحصل الرجعة بالقول الصريح ولو هزلاً؛ لأن الرجعة هزلها جد، لكن الرجعة في الهزل رجعة في الظاهر لعدم النية، فيلزمه الحاكم بالنفقة وسائر الحقوق، فلا يحل الاستمتاع بها، حتى ينوي الرجعة. ولا صداق ولا حد في الوطء الخالي عن نية الرجعة، وإن كان الوطء حراماً؛ لأنها في حكم الزوجة ما دامت في العدة. وتحصل الرجعة عند الحنابلة والأوزاعي بالقول الصريح، وبالوطء، سواء
شرط الزوجة المرتجعة (محل الرجعة) والطلاق الحاصل والعدة
نوى به الرجعة أم لم ينو به الرجعة؛ لأن الطلاق سبب زوال الملك، والوطء من المالك يمنع زواله، كوطء البائع أمته المبيعة في مدة الخيار. ولا تحصل الرجعة بتقبيل المرأة، أو لمسها بشهوة، أو كشف فرجها والنظر إليه بشهوة أو غير شهوة، ولا بالخلوة بها والحديث معها؛ لأن المذكور كله ليس باستمتاع، أي ليس في معنى الوطء؛ إذ الوطء يدل على ارتجاعها دلالة ظاهرة؛ بخلاف ما ذكر، وهذا هو الراجح عندهم، ولا تحصل الرجعة أيضاً بإنكار الطلاق إذ لا يدل على الرجعة، ولا تحصل الرجعة بالكناية مثل تزوجتك أو نكحتك؛ لأن الرجعة استباحة بُضع (فرج) مقصود، فلا تحل بالكناية. وقال بعض الحنابلة: الخلوة في إثبات الرجعة كالوطء؛ لأن حكمها حكم الدخول في جميع أمورها عندهم. والخلاصة: تحصل الرجعة بالقول الصريح اتفاقاً، أو بالكناية بشرط النية عند غير الحنابلة، واشترط المالكية النية في القول والفعل، وتحصل أيضاً عند غير الشافعية بالوطء، وكذا بكل ما يوجب حرمة المصاهرة عند الحنفية والمالكية، ولا تحصل بغير الوطء ولا بالكناية عند الحنابلة، ولا بأي فعل عند الشافعية. والراجح لدي قول المالكية لتوسطه وقوة حجته. شرط الزوجة المرتجعة (محل الرجعة) والطلاق الحاصل والعدة: يشترط في الرجعة كون المرأة مدخولاً بها، لا بمجرد الخلوة، وأن تكون مطلَّقة طلاقاً رجعياً من نكاح صحيح؛ لأن النكاح الفاسد يفسخ سواء بعد الدخول أم قبله، ولأن المفسوخ نكاحها لا رجعة فيها؛ لأن الله تعالى أناطها بالطلاق فاختصت به، ولأن الطلاق البائن يزيل الزوجية في الحال بمجرد صدوره، فتملك المطلقة أمرها، وأن يكون الطلاق بلا عوض؛ لأن المطلقة بعوض قد ملكت نفسها، وأن تكون ممن لم يستوف عدد طلاقها؛ لأنه إذا استوفى عدد الطلاق وهو
شرط زمن الرجعة
ثلاث، فلا سلطنة له عليها، وأن تكون قابلة للحل للمراجع، لا مرتدة، فلا تصح مراجعة المرتدة؛ لعدم حلها، ولا يصح مراجعة الكافرة التي أسلمت، واستمر زوجها في الكفر لعدم الحل. ويشترط أيضاً أن تكون باقية في العدة: فلا تصح الرجعة بعد انقضاء العدة؛ لأن العدة إذا انقضت أصبح الطلاق بائناً، فتمتنع الرجعة. شرط زمن الرجعة: يشترط أن تكون الرجعة منجزة، فلا يصح تعليقها بشرط مستقبل، مثل: راجعتك إن شئت، فقالت: شئت، أو راجعتك إن قدم أبوك، أو راجعتك إن عاد أبي من السفر، ولا يصح أيضاً إضافتها إلى زمن مستقبل، مثل: راجعتك غداً أو أول الشهر القادم؛ لأن الرجعة عند الحنفية شبيهة بالزواج من حيث إنها استدامة له، فيشترط فيها التنجيز كالزواج، ولأنها عند الجمهور استباحة بضع مقصود، فلم يصح تعليقه على شرط كالنكاح. ويشترط ألا تكون مؤقتة بوقت، فإذا قال لها: راجعتك شهراً، لم تحصل الرجعة. ويصح تعليق الرجعة على أمر قد مضى، مثل: إن كنت فعلت كذا فإني أراجعك، وكان الفعل قد وقع فعلاً، أو على أمر متحقق الوجود في الحال، مثل: إن رضي أبي فقد راجعتك، وكان أبوه حاضراً في المجلس، فقال: رضيت. وإنما جاز التعليق في هاتين الحالتين؛ لأنه تنجيز في صورة التعليق. والخلاصة: يشترط في الرجعة ما يلي: 1 - أهلية المرتجع عند المالكية والشافعية والحنابلة، أي بالبلوغ والعقل. 2 - أن يكون الطلاق رجعياً لا بائناً ولا بعوض. 3 - أن تقع الرجعة في العدة، لا بعد انقضائها.
ما لا يشترط في الرجعة
4 - أن تكون المرأة زوجة مطلقة معينة غير مبهمة، مدخولاً بها في نكاح صحيح قابلة للحل، فلا تصح رجعة غير مدخول بها ولا مفسوخ نكاحها ولا مرتدة ونحوها. 5 - أن تكون الرجعة منجزة غير مؤقتة بوقت، وغير معلقة بشرط ولا مضافة لزمن مستقبل. ما لا يشترط في الرجعة: لا يشترط في الرجعة أمور أهمها ما يأتي (¬1): 1ً - رضا المرأة ونحوه من الشروط: لا يشترط بالاتفاق رضا المرأة في الرجعة، لقول الله تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحاً} [البقرة:228/ 2] فجعل الحق لهم، وقال سبحانه: {فأمسكوهن بمعروف} [البقرة:231/ 2] فخاطب الأزواج بالأمر، ولم يجعل لهن اختياراً، ولأن الرجعة إمساك للمرأة بحكم الزوجية، فلم يعتبر رضاها في الرجعة، كالتي في عصمته تماماً. ولا يشترط في الرجعة ولي ولا صداق؛ لأن الرجعية في حكم الزوجة، والرجعة إمساك لها، واستبقاء لزواجها. 2ً - إعلام المرأة بالرجعة: ولا يشترط أيضاً إعلام المرأة بالرجعة، فتصح الرجعة ولو لم تعلم بها الزوجة؛ لأن الرجعة حق خالص للزوج لا يتوقف على رضا المرأة كالطلاق، لكن يندب إعلام الزوجة بها، حتى لا تتزوج غيره بعد ¬
3 - الإشهاد على الرجعة
انقضاء العدة، وحتى لا تقع المنازعة بين الزوجين، إذا أثبت الزوج الرجعة بالبينة، حتى إنه إذا تزوجت بزوج آخر وأثبت زوجها الأول مراجعتها صحت الرجعة، وفسخ الزواج الثاني. 3 - الإشهاد على الرجعة: ليس الإشهاد على الرجعة شرطاً لصحتها عند الجمهور وهم الحنفية، والمالكية في مشهور المذهب، والشافعية في الجديد، والحنابلة في أصح الروايتين عن أحمد، ولكن الإشهاد عليها مستحب احتياطاً، خوفاً من إنكار الزوجة لها بعد انقضاء العدة، وقطعاً للشك في حصولها، وابتعاداً عن الاتهام في العودة إلى معاشرة الزوجة، فيقول الزوج للشاهدين: اشهدا على أني راجعت امرأتي إلى نكاحي أو زوجيتي، أوراجعتها لما وقع عليها من طلاقي ونحوه. فإن لم يُشهد على رجعتها، صحت الرجعة. وقال الظاهرية: يجب الإشهاد على الرجعة وإلا لم تصح، لقوله تعالى: {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف، وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق:2/ 65] والأمر للوجوب، ولأن الشهادة شرط في إنشاء الزواج بالاتفاق، فتكون شرطاً في استدامته بالرجعة. وحمل الجمهور الأمر في هذه الآية على الندب والاستحباب، لأن قوله تعالى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق:2/ 65] وارد عقب قوله: {فأمسكوهن بمعروف} [الطلاق:2/ 65] وأجمع العلماء على عدم وجوب الإشهاد على الطلاق، فتكون الرجعة مثله، ولأن النصوص القرآنية مطْلَقة كقوله تعالى: {فأمسكوهن} [البقرة:231/ 2] {وبعولتهن أحق بردهن} [البقرة:228/ 2]. وروي أن ابن عمر طلَّق امرأته وهي حائض، فأمره النبي صلّى الله عليه وسلم بمراجعتها، ولم يأمره بالإشهاد على الرجعة، ولو كان شرطاً لأمره به.
رابعا ـ اختلاف الزوجين في الرجعة
وسئل عمران بن حصين عن الرجل يطلِّق امرأته، ثم يقع بها، ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها، فقال: طلَّقت لغير سنة، وراجعت لغير سنة، أشهد على طلاقها وعلى رجعتها، ولا تعُدْ (¬1). ولم يؤثر عن الصحابة اشتراط الشهادة لصحة الرجعة مع كثرة وقوعها منهم. ولأن الرجعة حق للزوج لا يتوقف على رضا المرأة، فلا يحتاج إلى الإشهاد عليه كسائر حقوق الزوج. ولأن الشهادة شرط لابتداء الزواج لخطورته، وليست شرطاً لبقائه، والرجعة إبقاء للزواج واستدامة له، فلا تكون شرطاً لصحتها. رابعاً ـ اختلاف الزوجين في الرجعة: إذا توافق الزوجان على الرجعة في أثناء العدة، ثبتت وترتب عليها أثرها، وإن اختلف الزوجان: فإما أن يكون الخلاف في حصول الرجعة أو في صحتها (¬2): 1 - إن اختلف الزوجان في حصول الرجعة: بأن ادعاها الزوج فقال: راجعتك وأنكرت المرأة، فإن كان ذلك قبل انقضاء العدة، فالقول قول الزوج اتفاقاً؛ لأنه يملك الرجعة، فقبل إقراره فيها كما يقبل قوله في طلاقها حين ملك الطلاق. ¬
2 - وإن اختلف الزوجان في صحة الرجعة
وإن كان بعد انقضاء العدة: فإن أثبت الرجل دعواه بالبينة، أو صدقته المرأة في قوله: «قد كنت راجعتك في العدة» ثبتت الرجعة. وإن عجز الرجل عن الإثبات، أو كذبته المرأة، فالقول قولها بيمينها، في رأي الأكثرين، على المفتى به عند الحنفية من قول الصاحبين، فإذا نكل المنكر حبس عندهما حتى يُقرّ أو يحلف؛ لأن النكول عن اليمين يعتبر عندهما إقراراً بالحق المدعى، والرجعة يصح الإقرار بها عندهما. وفي رأي أبي حنيفة: لا يمين عليها. ويقبل قولها لأن الأصل عدم الرجعة ووقوع البينونة. وإن اختلفا في الإصابة (الوطء) فقال الزوج: أصبتك، وأنكرت المرأة، فالقول أيضاً قولها بيمينها؛ لأن الأصل عدم الإصابة ووقوع الفرقة، فهي منكرة واليمين على من أنكر. 2 - وإن اختلف الزوجان في صحة الرجعة: بأن قال الزوج: (قد راجعتك في العدة) فالرجعة صحيحة، فقالت الزوجة: الرجعة باطلة، لوقوعها بعد انقضاء العدة، أو قالت مجيبة له: (قد انقضت عدتي) وكانت العدة بالأقراء، فالقول قولها ما ادعت من ذلك ممكناً. فإن كانت المدة بين الطلاق وبين الوقت الذي تدعي المرأة انقضاء العدة عنده كافية لانقضاء العدة، قبل قولها بيمينها حتى عند أبي حنيفة؛ لأن انقضاء العدة بالحيض لا يعرف إلا من جهتها. وإن كانت المدة التي مضت لا تكفي لانقضاء العدة، بأن كانت أقل من أقل مدة تنتهي فيها العدة شرعاً، فلا يعتبر قولها، وتصح الرجعة، لظهور قرينة تكذب دعواها.
وأقل مدة تنقضي بها العدة بالحيضات وهي الأقراء عند الحنفية: ستون يوماً عند أبي حنيفة؛ لأن كل حيضة عشرة أيام في الأكثر، والحيضات ثلاث، فهي ثلاثون يوماً، يتخللها طهران وهما ثلاثون يوماً أيضاً؛ لأن أقل الطهر بين الحيضتين خمسة عشر يوماً، فيكون مجموع ذلك ستين يوماً، وهذا هو الراجح وهو الغالب بين النساء. وأقل مدة عند الحنابلة على أن الأقراء هي الحيضات: تسعة وعشرون يوماً ولحظة، وذلك بأن يطلقها مع آخر الطهر، ثم تحيض بعده يوماً وليلة، ثم تطهر ثلاثة عشر يوماً، ثم تحيض يوماً وليلة، ثم تطهر ثلاثة عشر يوماً، ثم تحيض يوماً وليلة، ثم تطهر لحظة ليعرف بها انقطاع الحيض. وأقل مدة عند المالكية تنقضي بها العدة بالأقراء، أي الأطهار عندهم: شهر: ثلاثون يوماً، بأن يطلقها زوجها في أول ليلة من الشهر، وهي طاهرة، ثم تحيض وينقطع عنها الحيض قبل الفجر؛ لأن أقل الحيض عندهم يوم، أو بعض يوم بشرط أن يقول النساء: إنه حيض، ثم تطهر خمسة عشر يوماً، ثم تحيض في ليلة السادس عشر، وينقطع قبل الفجر أيضاً، ثم تحيض عقيب غروب آخر يوم من الشهر، فتكون قد طهرت ثلاثة أطهار: الطهر الذي طلقها فيه، ثم الطهر الثاني في النصف الأول من الشهر، ثم الثالث في النصف الثاني من الشهر، فيحدث تمام الشهر ثلاثين يوماً. وأقل مدة تنقضي بها العدة عند الشافعية: اثنان وثلاثون يوماً ولحظتان، ولا يقبل أقل من ذلك بحال؛ لأنه لا يتصور عندهم أقل من ذلك، بأن تطلق وقد بقي لحظة من الطهر، وهي قرء عندهم، ثم تحيض يوماً وليلة أقل الحيض عندهم، ثم تطهر خمسة عشر يوماً أقل الطهر، وذلك قرء ثان، ثم تحيض يوماً وليلة ثم تطهر خمسة عشر، وذلك قرء ثالث، ثم تحيض، وهذه الحيضة ليست من العدة، بل لاستيقان انقضائها، فذلك اثنان وثلاثون يوماً ولحظتان.
مدة الاغتسال
مدة الاغتسال: ينتهي وقت الرجعة عند الحنفية إذا طهرت المرأة من الحيض الأخير لعشرة أيام، وإن لم تغتسل؛ لأن الحيض لا مزيد له على العشرة. أما إن كان الحيض أقل من عشرة أيام، فلا تنقطع الرجعة حتى تغتسل؛ لأن عود الدم محتمل، أو يمضي عليها وقت صلاة فتصير ديناً في ذمتها، أو تتيمم للعذر وتصلي في الوقت ولو نفلاً استحساناً عند أبي حنيفة وأبي يوسف. ويرى أكثر الحنابلة أنه لا بد من وقت يمكن الغسل فيه بعد انقطاع الحيض، للقول بانقضاء العدة. هذا هو القسم الأول وهو أن تدعي المرأة انقضاء عدتها بالقروء. القسم الثاني ـ أن تدعي انقضاء عدتها بوضع الحمل: إذا ادعت المرأة المطلَّقة انقضاء عدتها بوضع الحمل، فلا يقبل قولها في أقل من ستة أشهر من حين إمكان الوطء بعد عقد الزوج؛ لأن أقل مدة الحمل هي ست أشهر، وأقل من ستة أشهر من وقت الطلاق. القسم الثالث ـ أن تدعي انقضاء عدتها بالشهور: إذا كانت المرأة صغيرة آيسة فعدتها بالأشهر الثلاثة، إذا ادعت انقضاء عدتها بالشهور، فلا يقبل قولها فيه، وإنما القول قول الزوج؛ لأن المعول على قوله في وقت الطلاق، فيكون القول قوله فيما ينبني عليه، إلا أن يدعي انقضاء عدتها ليسقط عن نفسه نفقتها، فيكون القول حينئذ قولها؛ لأنه يدعي ما يسقط النفقة، والأصل وجوبها، فلا يقبل قوله إلا ببينة.
زواج التحليل
الرجعة في القانون: أخذ القانون السوري بمذهب الحنفية في أن الطلاق الرجعي لا يزيل الزوجية، وبجواز الرجعة بالقول أو الفعل، وانقطاع الرجعة بانقضاء عدة الطلاق، فنصت المادة (118) على ما يلي: 1 - الطلاق الرجعي لا يزيل الزوجية، وللزوج أن يراجع مطلقته أثناء العدة بالقول أو الفعل، ولا يسقط هذا الحق بالإسقاط. 2 - تبين المرأة وتنقطع الرجعة بانقضاء عدة الطلاق الرجعي. زواج التحليل: بينا أن حكم الطلاق الثلاث هو زوال الملك والحل زوالاً مؤقتاً، فتحرم المرأة على من طلقها تحريماً مؤقتاً، ولا يجوز له زواجها قبل التزوج بزوج آخر لقوله تعالى: {فإن طلقها، فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة:230/ 2] سواء طلقها ثلاثاً متفرقات، أو جملة واحدة. التحليل بزواج دائم: تنتهي الحرمة باتفاق الفقهاء إذا كان الزواج الثاني مؤبداً طبيعياً، قصد به دوام الزوجية والعشرة، وهو المقصود في القرآن الكريم: {حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة:230/ 2] وذلك بشروط ثلاثة هي (¬1): الشرط الأول ـ أن تنكح زوجاً غيره، لقوله تعالى: {حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة:230/ 2] نفى الحل إلى غاية التزوج بزوج آخر. فلو وطئها إنسان بالزنا أو بشبهة، لم تبح؛ لأنه ليس بزوج. ¬
الشرط الثاني ـ أن يكون النكاح الثاني صحيحا
الشرط الثاني ـ أن يكون النكاح الثاني صحيحا ً: فإن كان فاسداً ودخل بها، لا تحل للأول؛ لأن النكاح الفاسد ليس بنكاح حقيقة، ولقوله تعالى: {حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة:230/ 2] وإطلاق النكاح يقتضي الصحيح. الشرط الثالث ـ أن يطأها الزوج الثاني في الفرج، فلو وطئها دونه أو في الدبر، لم يحلها لزوجها الأول؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم علَّق الحل على ذوق العسيلة منهما، فقال لامرأة رفاعة القرظي: «أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك» (¬1). ولا يحصل هذا إلا بالوطء في الفرج، وأدناه تغييب الحشفة في الفرج؛ لأن أحكام الوطء تتعلق به، وذلك بشرط الانتشار؛ لأن الحكم يتعلق بذوق العسيلة، ولا تحصل من غير انتشار، وبشرط أن يكون الزوج الثاني ممن يمكن جماعه، لا طفلاً لا يتأتى منه الجماع. فشرط الوطء: التقاء الختانين ولو من غير إنزال في رأي جماهير العلماء إلا الحسن البصري، فقال: لا تحل إلا بوطء بإنزال. وجمهور العلماء على أن الوطء الذي يوجب الحد، ويفسد الصوم، والحج، ويحل المطلقة، ويحصن الزوجة، ويوجب الصداق: هو التقاء الختانين. وقال أبو حنيفة والشافعي والثوري والأوزاعي، يُحل الوطء المرأة، وإن وقع في وقت غير مباح كحيض أو نفاس، سواء أكان الواطئ بالغاً عاقلاً أم صبياً مراهقاً (¬2) أم مجنوناً؛ لأن وطء الصبي والمجنون يتعلق به أحكام النكاح من المهر والتحريم كوطء البالغ العاقل. وكذلك الصغيرة التي يجامع مثلها إذا طلقها زوجها ثلاثاً، ودخل بها الزوج الثاني، حلت للأول، لإطلاق قوله تعالى: {فإن طلقها فلا ¬
الزواج بشرط التحليل (نكاح المحلل)
تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة:230/ 2] ولأن وطأها يتعلق به أحكام الوطء من المهر والتحريم، فصار كوطء البالغة. واشترط المالكية والحنابلة شرطاً رابعاً: هوأن يكون الوطء حلالاً (مباحاً) وأن يكون الواطئ عند المالكية بالغاً، وعند الحنابلة: أون له اثنا عشر سنة؛ لأن الوطء غير المباح حرام لحق الله تعالى، فلم يحصل به الإحلال كوطء المرتدة، ولأن من دون البلوغ أو من دون سن الثانية عشرة لا يمكنه المجامعة. فلا يحل المطلقة إلا الوطء المباح الذي يكون في العقد الصحيح في غير صوم أو حج أو حيض أو اعتكاف، ولا يحل الذمية عند مالك وابن القاسم وطء زوج ذمي لمسلم. ونص أحمد على أنه إذا كانت الزوجة ذمية، فوطئها زوجها الذمي، أحلها لمطلِّقها المسلم لأنه وطء من زوج في نكاح صحيح تام، فأشبه وطء المسلم. وهذا رأي الشافعية والمالكية أيضاً. وأجاز الحنابلة للمجنون إحلال المطلقة ثلاثاً كما قال الحنفية؛ لظاهر الآية: {حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة:230/ 2] ولأنه وطء مباح من زوج في نكاح صحيح تام، فأشبه وطء العاقل. الزواج بشرط التحليل (نكاح المحلِّل): اتفق الفقهاء (¬1) أيضاً على أن الزواج بالمطلقة ثلاثاً بشرط صريح لعقد على أن يحلها الزوج الثاني لزوجها الأول لا يجوز، وهو حرام عند الجمهور، مكروه تحريماً عند الحنفية، لقول ابن مسعود: «لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم المحلِّل والمحلَّل له» (¬2) ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: هو المحلل، لعن الله المحلل والمحلل ¬
له» (¬1) والنهي يدل على فساد المنهي عنه، ولا يطلق الزواج الشرعي على الزواج المنهي عنه. وهذا هو نكاح المحلل: وهو أن يتزوج الرجل امرأة على أنه إذا وطئها فلا نكاح بينهما، وأن يتزوجها ليحلها للزوج الأول. هذا النكاح فاسد عند الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية وأبي يوسف)؛ للحديث السابق، ولأن النكاح بشرط الإحلال في معنى النكاح المؤقت، وشرط التوقيت في النكاح يفسده، والنكاح الفاسد لا يقع به التحليل، فهو نكاح إلى مدة أو فيه شرط يمنع بقاءه فأشبه نكاح المتعة. قال في المهذب: «لأنه نكاح شرط انقطاعه دون غايته، فشابه نكاح المتعة» ويؤيده قول عمر: والله لا أوتى بمحلل ومحلل له إلا رجمتهما (¬2). وقال أبو حنيفة وزفر: هذا النكاح صحيح مكروه تحريماً، فإن وطئها الزوج الثاني حلت للأول بعد أن يطلقها وتنقضي عدتها، لأن شرط التحليل شرط فاسد، والزواج لا يفسد بالشروط الفاسدة، فيلغو الشرط، ويصح العقد؛ لإطلاق آية: {حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة:230/ 2] دون تفرقة بين ما إذا شرط الإحلال أم لا، إلا أنه مكروه تحريماً؛ لأنه شرط ينافي المقصود من النكاح وهو السكن والتوالد والتعفف، وهو يتوقف على البقاء والدوام في الزوجية. وقال محمد: النكاح الثاني صحيح، ولا تحل المطلقة للأول؛ لأن النكاح عقد مؤبد، فكان شرط الإحلال استعجال ما أخره الله تعالى لغرض الحل، فيبطل الشرط ويبقى النكاح صحيحاً، لكن لا يحصل به الغرض، كمن قتل مورثه فإنه يحرم الميراث. وهذا قول للشافعية فيمن تزوج امرأة على أنه إذا وطئها طلقها. ¬
الزواج بقصد التحليل دون شرط
وأجاز الإمامية نكاح المحلل مطلقاً بشرط الوطء، وكون الزوج بالغاً، وكون العقد صحيحاً دائماً. الزواج بقصد التحليل دون شرط: ذهب المالكية والحنابلة (¬1) إلى أن الزواج بقصد التحليل بدون شرط في العقد باطل، بأن تواطأ العاقدان على شيء مما ذكر قبل العقد، ثم عقد الزواج بذلك القصد، بأن نواه الزوج في العقد، أو نوى التحليل من غير شرط، فيبطل العقد، ولا تحل به المرأة لزوجها الأول، عملاً بمبدأ سد الذرائع إلى الحرام، وبالحديث السابق: «لعن الله المحلل والمحلل له». وذهب الحنفية والشافعية والظاهرية والإمامية (¬2): إلى أن الزواج بقصد التحليل من غير شرط في العقد صحيح، وتحل المرأة بوطء الزوج الثاني للزوج الأول؛ لأن مجرد النية في المعاملات غير معتبر، فوقع الزواج صحيحاً، لتوافر شرائط الصحة في العقد، وتحل للأول، كما لو نويا التوقيت وسائر المعاني الفاسدة. وأرجح الرأي الأول، لقوة أدلة قائليه، ولأن هذا الفعل أشبه بالسفاح، بدليل ما روى الحاكم والطبراني في الأوسط عن عمر: «أنه جاء إليه رجل، فسأله عن رجل طلق امرأته ثلاثاً، فتزوجها أخ له عن غير مؤامرة، ليحلها لأخيه، هل تحل للأول؟ قال: لا، إلا بنكاح رغبة، كنا نعد هذا سفاحاً على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم» (¬3) لكن خصص ابن حزم هذا في نكاح التحليل بشرط (¬4). ¬
هدم الزواج الثاني طلاق الزوج السابق
هدم الزواج الثاني طلاق الزوج السابق: سبق الكلام في هذا الموضوع وأعيده هنا بتفصيل آخر (¬1): أـ اتفق الفقهاء على أن المطلقة الرجعية إذا راجعها زوجها، والبائن بينونة صغرى إذا عقد عليها زوجها عقداً جديداً قبل أن تتزوج بزوج آخر، تعود إليه بما بقي له من الطلقات الثلاث، واحدة أو اثنتين. ب ـ واتفقوا أيضاً على أن الزواج الثاني بعد الطلاق الثلاث، يهدم طلاق الزوج السابق، وتعود إليه بعد العقد الجديد بطلقات ثلاث؛ لأن الوطء الثاني يهدم الطلقات الثلاث؛ لأنه مثبت لحل جديد كامل، ويزول الحل الأول بالطلاق الثلاث. جـ ـ واختلف الفقهاء في أنه: هل يهدم الزواج الثاني ما دون الثلاث على رأيين: قال المالكية والشافعية والحنابلة ومحمد وزفر من الحنفية: لا يهدم، يعني إذا تزوجت المطلقة قبل الطلقة الثالثة غير الزوج الأول، ثم أعادها الزوج الأول بنكاح جديد، فتعود ببقية الثلاث، لما روي عن كبار الصحابة: عمر وعلي ومعاذ وعمران بن حصين وأبي هريرة، ولأن الوطء الثاني لا يحتاج إليه في الإحلال للزوج الأول، فلا يغير حكم الطلاق، ولأنه تزويج قبل استيفاء الطلقات الثلاث، فأشبه ما لو رجعت إليه قبل وطء الثاني. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف، والإمامية في أشهر الروايتين: إنه يهدم، فتعود إلى الزوج الأول بطلاق ثلاث، كما يهدم ما دون الثلاث؛ لأنه إذا هدم الطلقة الثالثة، فهو أحرى أن يهدم ما دونها؛ لأن وطء الزوج الثاني مثبت للحل، فيثبت حلاً يتسع لثلاث تطليقات، فيتسع لما دونها بالأولى. ¬
الفصل الثاني: الخلع
الفَصْلُ الثَّاني: الخُلْع فيه خمسة مباحث: المبحث الأول ـ معنى الخلع ومشروعيته وألفاظه وحكمه ووقته وأركانه: الخُلْع لغة: النزع والإزالة، وعرفاً بضم الخاء: إزالة الزوجية. وفقهاً له تعاريف في اصطلاح كل مذهب، فعند الحنفية (¬1): هو إزالة ملك النكاح المتوقفةُ على قبولها، بلفظ الخلع أو ما في معناه. فخرج بكلمة (ملك النكاح): الخلع في النكاح الفاسد وبعد البينونة والردة، فإنه لغو، وخرج بكلمة (المتوقفة على قبولها) أي المرأة: ما إذا قال: خلعتك ولم يذكر المال، ناوياً به الطلاق، فإنه يقع بائناً غير مسقط للحق، لعدم توقفه على قبول المرأة، فدل القبول على أن الخلع يكون ببدل، ومتى كان على بدل مالي لزم قبولها. وخرج بقوله (بلفظ الخلع) الطلاق على مال، فإنه غير مسقط للحقوق. وأما قوله (أو ما في معناه) فيدخل فيه لفظ (المبارأة) ولفظ (البيع والشراء) فإنه مسقط للحقوق ومنها المهر. والخلاصة: أن التعريف خاص بالخلع المسقط للحقوق، والواقع عادة في مقابل مال تفتدي به المرأة نفسها، فإن خالعها وقع الطلاق تطليقة بائنة، ولزمها المال. ¬
والخلع عند المالكية (¬1): الطلاق بعوض، سواء أكان من الزوجة أم من غيرها من ولي أو غيره، أو هو بلفظ الخلع. وهو يدل على أن الخلع نوعان: الأول ـ وهو الغالب ما كان في نظير عوض. الثاني ـ ما وقع بلفظ الخلع، ولو لم يكن في نظير شيء، كأن يقول لها: خالعتك أو أنت مخالعة. وبعبارة أخرى هو: أن تبذل المرأة أو غيرها للرجل مالاً على أن يطلقها، أو تسقط عنه حقاً لها عليه، فتقع به طلقة بائنة. أي أنه عند المالكية يشمل الفرقة بعوض أو بدون عوض. والخلع عند الشافعية (¬2): هو فُرْقة بين الزوجين بعوض بلفظ طلاق أو خلع، كقول الرجل للمرأة: طلقتك أو خالعتك على كذا، فتقبل. وهذا أنسب التعاريف لاتفاقه مع المقصود بالخلع هنا وفي مفاهيم الناس ومع القانون النافذ في مصر وسورية. والحنابلة (¬3) قالوا: الخلع: فراق الزوج امرأته بعوض يأخذه منها أو من غيرها، بألفاظ مخصوصة. وفائدته: تخليصها من الزوج على وجه لا رجعة له عليها إلا برضاها. ويصح الخلع عندهم في رواية على غير عوض، ولا شيء للزوج، كما قال المالكية، والراجح عند الحنابلة أن العوض ركن في الخلع فلا يصح تركه كالثمن في البيع، فإن خالعها بغير عوض لم يقع خلع ولا طلاق إلا إذا كان بلفظ الطلاق أو نيته، فيقع طلاقاً رجعياً. ¬
مشروعيته
مشروعيته: الخلع جائز لا بأس به عند أكثر العلماء (¬1)، لحاجة الناس إليه بوقوع الشقاق والنزاع وعدم الوفاق بين الزوجين، فقد تبغض المرأة زوجها وتكره العيش معه لأسباب جسدية خَلْقية، أو خلُقية أو دينية، أو صحية لكبر أو ضعف أو نحو ذلك، وتخشى ألا تؤدي حق الله في طاعته، فشرع لها الإسلام في موازاة الطلاق الخاص بالرجل طريقاً للخلاص من الزوجية، لدفع الحرج عنها ورفع الضرر عنها، ببذل شيء من المال تفتدي به نفسها وتتخلص من الزواج، وتعوض الزوج ما أنفقه في سبيل الزواج بها. وقد حصر جمهور العلماء أخذ الفدية من مال الزوجة مقابل الطلاق في حال النشوز وفساد العشرة من قبل الزوجة. ودل الكتاب والسنة على مشروعيته، أما الكتاب فقوله تعالى: {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} [البقرة:229/ 2] وقوله سبحانه: {فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً، فكلوه هنيئاً مريئاً} [النساء:4/ 4] وقوله: {فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً} [النساء:128/ 4]. وأما السنة: فحديث ابن عباس: «أن امرأة ثابت بن قيس جاءت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إني ما أعيب عليه في خلُق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أتردّين عليه حديقته؟ قالت: نعم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: اقبل الحديقة، وطلِّقها تطليقة» (¬2) فهي لا تريد مفارقته لسوء خلقه ولا لنقصان دينه، وإنما كرهت كفران العشير، والتقصير فيما يجب له بسبب شدة البغض له، فأمرها النبي صلّى الله عليه وسلم أمر إرشاد وإصلاح لا إيجاب برد بستانه الذي أمهرها إياه، وهو أول خلع وقع في الإسلام، وفيه معنى المعاوضة. ¬
ألفاظ الخلع
وشذ أبو بكر بن عبد الله المزيني عن الجمهور، فقال: لا يحل للزوج أن يأخذ من زوجته شيئاً، زاعماً أن قوله تعالى: {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} [البقرة:228/ 2] منسوخ بقوله تعالى: {وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج، وآتيتم إحداهن قنطاراً، فلا تأخذوا منه شيئاً} [النساء:20/ 4] وهذا معناه عند الجمهور الأخذ بغير رضاها، وأما برضاها فجائز. ألفاظ الخلع: للخلع عند الحنفية (¬1) ألفاظ خمسة: الخلع، والمبارأة، والطلاق، والمفارقة، والبيع والشراء، كأن يقول الرجل: خالعتك بكذا، أو بارأتك، أو فارقتك، أو طلقي نفسك على ألف، أو بعت نفسك أو طلاقك على كذا، وتقبل المرأة. وذكر المالكية (¬2) له ألفاظاً أربعة: الخلع والمبارأة والصلح والفدية أو المفاداة، وكلها تؤول إلى معنى واحد وهو بذل المرأة العوض على طلاقها، إلا أن اسم الخلع يختص عادة ببذلها له جميع ما أعطاها، والصلح ببعضه، والفدية بأكثره، والمبارأة بإسقاطها عنه حقاً لها عليه. وذكر الشافعية والحنابلة (¬3) أن الخلع يصح بلفظ الطلاق الصريح أو الكناية مع النية، وباللغة غير العربية، ومن الكناية قوله: بعتك نفسك بكذا، فقالت: اشتريت، والصريح عند الشافعية لفظ الخلع والمفاداة، وعند الحنابلة لفظ الخلع والمفاداة والفسخ، والكناية عند الشافعية مثل لفظ الفسخ في الأصح، وكل كنايات الطلاق، والكناية عند الحنابلة: مثل بارأتك وأبرأتك وأبنتك. ¬
حكمه الشرعي
حكمه الشرعي: يسن عند الحنابلة للرجل إجابة المرأة للخلع إن طلبته (¬1)، لقصة امرأة ثابت ابن قيس المتقدمة، إلا أن يكون للزوج ميل ومحبة لها، فيستحب صبرها، وعدم افتدائها. ويكره الخلع للمرأة مع استقامة الحال , لحديث ثوبان: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس , فحرام عليها رائحة الجنة (¬2)» ولأنه عبث , فيكون مكروهاً. لكن يقع الخلع مع الكراهة للآية السابقة: {فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً} [النساء:4/ 4]. وذكر الحنفية: أنه إن كان النشوز (النفرة والجفاء) من قبل الزوج، كره له أن يأخذ منها عوضاً؛ لأنه أوحشها بالاستبدال، فلا يزيد في وحشتها بأخذ المال. وإن كان النشوز من قبل الزوجة، كره له أن يأخذ منها عوضاً أكثر مما أعطاها من المهر، فإن فعل ذلك بأن أخذ أكثر مما أعطاها، جاز في القضاء؛ لإطلاق قوله تعالى: {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} [البقرة:228/ 2]. وذكر الحنابلة (¬3) أن الخلع باطل والعوض مردود والزوجية بحالها في حالة العضل أو الإكراه على الخلع، بأن ضارَّها بالضرب والتضييق عليها، أو منعها حقوقها من الق والنفقة ونحو ذلك، كما لو نقصها شيئاً من حقوقها ظلماً، لتفتدي نفسها، لقوله تعالى: {ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن} [النساء:4/ 19]، ولأن ما أكرهت على بذله من العوض مأخوذ بغير حق، فلم يستحق أخذه منها للنهي عنه، والنهي يقتضي الفساد، وذلك باسء لفظ الطلاق أونيته، فيقع رجعياً، ولم تبِن المرأة من زوجها لفساد العوض. ¬
هل يحتاج الخلع إلى قاض؟
وكذلك قال الشافعية (¬1): يجوز الخلع لما فيه من دفع الضرر عن المرأة غالباً، ولكنه مكروه لما فيه من قطع النكاح الذي هو مطلوب الشرع، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق» وذلك إلا في حالتين: الأولى ـ أن يخافا أو يخاف أحدهما ألا يقيما حدود الله، أي ما افترض الله في النكاح. والثانية ـ أن يحلف بالطلاق الثلاث على فعل شيء لا بد له منه، أي كالأكل والشرب وقضاء الحاجة، فيخلعها، ثم يفعل الأمر المحلوف عليه، ثم يتزوجها فلا يحنث لانحلال اليمين بالفعلة الأولى، إذ لا يتناول إلا الفعلة الأولى، وقد حصلت. والخلع عند المالكية على المشهور جائز مستوي الطرفين، وقيل: يكره، وهو قول ابن القصَّار، واشترطوا أن يكون خلع المرأة اختياراً منها وحباً في فراق الزوج من غير إكراه ولا ضرر منه، فإن انخرم أحد هذين الشرطين، نفذ الطلاق، ولم ينفذ الخلع (¬2). ومنع قوم الخلع مطلقاً. وقال الحسن البصري: لا يجوز حتى يراها تزني. وقال داود الظاهري: لا يجوز إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله. هل يحتاج الخلع إلى قاضٍ؟ لا يفتقر الخلع إلى حاكم، كما أبان الحنابلة (¬3)، وهو رأي باقي الفقهاء، لقول عمر وعثمان رضي الله عنهما، ولأنه معاوضة، فلم يفتقر إلى القاضي كالبيع والنكاح، ولأنه قطع عقد بالتراضي، فأشبه الإقالة. ¬
وقت الخلع
وقت الخلع: لا بأس بالخلع في الحيض، والطهر الذي أصابها فيه (¬1)؛ لأن المنع من الطلاق في الحيض من أجل دفع الضرر الذي يلحق المرأة بطول العدة، والخلع لإزالة الضرر الذي يلحقها بسوء العشرة والمقام مع من تكرهه وتبغضه، وهو أعظم من ضرر طول العدة، فجاز دفع أعلاهما بأدناهما، وهي قد رضيت به، مما يدل على رجحان مصلحتها، ولذا لم يسأل النبي صلّى الله عليه وسلم المختلعة عن حالها. أركان الخلع: أركانه عند الجمهور غير الحنفية خمسة (¬2): القابل، والموجب، والعوض، والمعوض، والصيغة. فالقابل: الملتزم بالعوض، والموجب: الزوج أو وليه أو وكيله، والعوض: الشيء المخالع به، والمعوض: بُضْع الزوجة، أي الاستمتاع بها، والصيغة: مثل خالعتك أو خلعتك على كذا. وحقيقة الخلع أو تحقق معناه هو المتضمن لتلك الأركان، فلا بد له من هذه الأمور الخمسة (¬3): الأول ـ أن يصدر الإيجاب من الزوج أو وكيله أو وليه إن كان صغيراً أو سفيهاً غير رشيد. الثاني ـ أن يكون ملك المتعة قائماً حتى يمكن إزالته، وذلك بقيام الزوجية حقيقة، أو حكماً كما هو حال المطلقة رجعياً ولا تزال في العدة. فإن لم تكن الزوجية قائمة حقيقة أو حكماً، لم يتحقق الخلع، فلا خلع في النكاح الفاسد؛ لأن الفاسد لا يفيد ملك المتعة، ولا خلع بعد الطلاق البائن أو انتهاء عدة الطلاق الرجعي. ¬
الثالث ـ البدل من جانب الزوجة أو غيرها: وهو كل ما يصلح أن يكون مهراً من مال أو منفعة تقوم بالمال، غير أنه ليس لبدل الخلع حد أدنى بخلاف المهر، فيتحقق الخلع بأي بدل كثير أو قليل. ويستحب ألا يأخذ الرجل أكثر مما أعطى المرأة من الصداق عند أكثر العلماء (¬1). ولا يلزم التصريح بالبدل، كما لا يلزم ذكر المهر في عقد الزواج، فالبدل في ذاته كالمهر لازم في الخلع على كل حال عند الحنفية والشافعية، فإذا قال الرجل: خالعتك، أو قال للمرأة: اختلعي مني، فقال: خالعتك، ولم يذكر أحدهما بدلاً، صح الخلع ولزم العوض. وقال المالكية وفي رواية عند الحنابلة: يقع الخلع بغير عوض. والراجح عند الحنابلة: أن العوض ركن في الخلع، فإن خالعها بغير عوض لم يقع خلع ولا طلاق إلا إذا كان بلفظ طلاق، فيكون طلاقاً رجعياً. فإن استعمل الرجل أو المرأة لفظ المخالعة من غير قصد إلى الخلع بعوض، بل بقصد الطلاق المجرد، فيقع طلاق بائن، ولا يجب فيه مال على المرأة. الرابع ـ الصيغة: وهي لفظ الخلع أو ما في معناه مما ذكر كالإبراء والمبارأة والفداء والافتداء، سواء أكان صريحاً أم كناية، فلا بد من صيغة معينة ومن لفظ الزوج، ولا يحصل بمجرد بذل المال؛ لأن الخلع الشرعي له آثار تختلف عن آثار الطلاق على مال. ولأنه تصرف في البضع (الاستمتاع بالمرأة) بعوض، فلم يصح بدون اللفظ كالنكاح والطلاق. الخامس ـ قبول الزوجة: لأن الخلع من جانبها معاوضة، وكل معاوضة يلزم فيها قبول دافع العوض، ويلزم تحقق القبول في مجلس الإيجاب أو مجلس العلم به، فإذا قامت الزوجة من المجلس بعد سماع كلمةالمخالعة، أو بعد ما علمت بها من طريق الكتابة، فلا يصح قبولها بعدئذ. ¬
المبحث الثاني ـ صفة الخلع وما يترتب عليها
ويشترط توافق القبول والإيجاب، فإن قال الزوج: طلقتك بألف، فقالت: بثمانمائة، أو قال: طلقتك ثلاثاً بألف، فقبلت طلقة واحدة بثلت ألف، لم ينعقد الخلع ويعد لغواً، وكذا يعد لغواً عند الشافعية (¬1): إن قال: طلقتك بألف، فقالت: قبلت بألفين؛ لأنه يشترط عنده التطابق أو التوافق التام بين الإيجاب والقبول. وهذا وقد اعتبر الحنفية ركن الخلع هو الإيجاب والقبول؛ لأنه عقد على الطلاق بعوض، فلا تقع الفرقة ولا يستحق العوض بدون القبول (¬2). المبحث الثاني ـ صفة الخلع وما يترتب عليها: الخلع في رأي المالكية والشافعية والحنابلة (¬3) معاوضة، فلا يحتاج لصحته قبض العوض، فلو تم من قبل الزوج، فماتت المرأة أو فلَّست، أخذ العوض من تركتها وأتبعت به، ويجوز رد العوض فيه بالعيب؛ لأن إطلاق العقد يقتضي السلامة من العيب، فثبت فيه الرد بالعيب كالمبيع والمهر، ويصح الخلع منجزاً بلفظ المعاوضة، لما فيه من معنى المعاوضة، ويصح معلقاً على شرط لما فيه من معنى الطلاق، ويملك العوض بالعقد، ويضمن بالقبض، لكن فصل الحنابلة في الضمان، فقالوا: العوض في الخلع كالعوض في الصداق والبيع: إن كان مكيلاً أو موزوناً، لم يدخل في ضمان الزوج، ولم يملك التصرف فيه إلا بقبضه، وإن كان غيرهما دخل في ضمانه بمجرد الخلع وصح تصرفه فيه. ¬
يترتب على اعتبار الخلع يمينا من جانب الزوج الآثار التالية
إلا أن الشافعية قالوا: الخلع معاوضة فيها شَوْب تعليق، لتوقف وقوع الطلاق فيه على قبول دفع المال من الزوجة. وذهب أبو حنيفة (¬1) إلى أن الخلع قبل قبول المرأة يمين من جانب الزوج فلا يصح الرجوع عنه؛ لأنه علق طلاقه على قبول المال، والتعليق يمين اصطلاحاً. ويعتبر معاوضة بمال من جانب الزوجة؛ لأنها التزمت بالمال في مقابل افتداء نفسها وخلاصها من الزوج، لكنها عند أبي حنيفة ليست معاوضة محضة، بل فيها شبه بالتبرعات؛ لأن بديل العوض ليس مالاً شرعاً، وإنما هو افتداء المرأة نفسها، فلا يكون الخلع معاوضة محضة. وقال الصاحبان: الخلع يمين بالنظر إلى الزوجين جميعاً. ويترتب على اعتبار الخلع يميناً من جانب الزوج الآثار التالية: 1 ً - لا يصح رجوع الزوج عنه قبل قبول المرأة. 2ً - لا يقتصر إيجاب الزوج على مجلسه، فلو قام من المجلس قبل قبول الزوجة لا يبطل إيجابه بهذا القيام. 3ً - لا يصح للزوج أن يشترط الخيار لنفسه في مدة معلومة؛ لأنه لا يملك الرجوع عن الخلع، لأنه يمين من جانبه، فإذا اشترط الخيار كان الشرط باطلاً، ولكن لا يبطل الخلع به. 4ً - يجوز للزوج أن يعلق الخلع بشرط، وأن يضيفه إلى زمن مستقبل، مثل: إذا قدم فلان فقد خالعتك على كذا، أو خالعتك على كذا غداً أورأس الشهر القادم، والقبول للزوجة عند تحقق الشرط، أو حلول الوقت المضاف إليه. ¬
يترتب على اعتبار الخلع معاوضة لها شبه بالتبرعات من جانب الزوجة
ومذهب الحنابلة (¬1): لا يصح تعليق الخلع على شرط، ومذهب المالكية والشافعية: يجوز تعليق الخلع كأن يقول: متى ما أعطيتني فأنت طالق. ويترتب على اعتبار الخلع معاوضة لها شبه بالتبرعات من جانب الزوجة ما يأتي: 1ً - يصح للزوجة رجوعها عن الإيجاب إذا ابتدأت الخلع قبل قبول الزوج. 2ً - يقتصر قبول الزوجة في المجلس إن كانت حاضرة فيه، وفي مجلس علمها بالخلع إن كانت غائبة عن مجلس الإيجاب كالبيع. ولا يشترط حضور المرأة في المجلس، بل يتوقف الإيجاب على ما وراء المجلس بعكس عقد الزواج، فلو كانت غائبة فبلغها الخبر، فلها القبول في مجلس علمها به؛ لأنه في جانبها معاوضة. 3ً- يجوز للزوجة أن تشترط الخيار لنفسها في مدة معلومة يكون لها فيها الحق في القبول أو الرد، إذا ابتدأت الخلع، كأن تقول لزوجها: خالعتك على ألف على أن لي الخيار ثلاثة أيام، فإذا قبل الزوج صح الشرط، ولها أن تقبل أو ترفض؛ لأن الخلع من جانبها معاوضة، والمعاوضات يصح فيها اشتراط الخيار. وقال الصاحبان والحنابلة (¬2): لا يصح اشتراط الخيار للزوجة؛ لأن الفرقة عند الحنابلة وقعت بالتلفظ بالخلع، وما وقع لا سبيل إلى رفعه، ولأن الخلع يمين الصاحبين بالنظر إلى الزوجين جميعاً، وليس معاوضة من جانب الزوجة، وإذا اشترط صح الخلع وبطل الشرط؛ لأنه لا يفسد بالعوض الفاسد، فلا يفسد بالشرط الفاسد كالنكاح. ¬
المبحث الثالث ـ شروط الخلع
4ً - لا يصح للزوجة تعليق الخلع ولا إضافته إلى زمن مستقبل؛ لأن الخلع من جانبها معاوضة وتمليك، والتمليكات لا تقبل التعليق ولا الإضافة. 5ً - لا تلزم الزوجة ببدل الخلع إلاإذا كانت أهلاً للتبرع، بأن كانت بالغة عاقلة رشيدة؛ لأن الخلع وإن اعتبر معاوضة من جانب الزوجة، ففيه شبه بالتبرعات. وأخذ القانون السوري برأي المالكية والشافعية، فأجاز لكل من الزوجين الرجوع عن الإيجاب في المخالعة قبل قبول الآخر، نصت المادة (96) على أنه: «لكل من الطرفين الرجوع عن إيجابه في المخالعة قبل قبول الآخر». المبحث الثالث ـ شروط الخلع: يشترط في الخلع ما يأتي (¬1): 1ً - أهلية الزوج لإيقاع الطلاق: بأن يكون بالغاً عاقلاً في رأي الجمهور، وأجاز الحنابلة أن يكون مميزاً يعقله، فكل من لا يصح طلاقه لا يصح خلعه كالصبي والمجنون والمعتوه ومن اختل عقله لمرض أو كبر سن. خلع السفيه: يصح الطلاق من كل مكلف (بالغ عاقل)، رشيد (¬2) أو سفيه، ¬
خلع الولي
حر أو عبد؛ لأن كل واحد منهم يصح طلاقه، فيصح خلعه، ولأنه إذا ملك الطلاق بغير عوض، فبالعوض أولى. ولا يصح من غير الزوج أو وكيله. خلع الولي: يصح الخلع من الحاكم ولي غير المكلف من صبي أو مجنون إذا كان في الخلع مصلحة. ولم يجز أبو حنيفة والشافعي وأحمد للأب خلع زوجة ابنه الصغير والمجنون ولا طلاقها، وهكذا كل من لا يجوز له أن يطلِّق على الصغير والمجنون لا يجوز أن يخالع عليهما، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إنما الطلاق لمن أخذ بالساق» والخلع في معنى الطلاق. وقال مالك: يخالع الأب على ابنه الصغير وابنته الصغيرة؛ لأنه عنده يطلِّق على الابن، ويزوج الصغيرة. خلع المريض: يصح خلع المريض مرض الموت؛ لأنه لو طلق بغير عوض لصح، فلأن يصح بعوض أولى، ولأن الورثة لا يفوتهم بخلعه شيء. وعبر المالكية عن ذلك بقولهم: ونفذ خلع المريض مرضاً مخوفاً، إشارة إلى أنه لا يحرم ابتداء لما فيه من إخراج وارث. وترثه على المشهور زوجته المخالعة في مرضه إن مات منه ككل مطلَّقة بمرض موت مخوف، حتى ولو انتهت عدتها وتزوجت بغيره، ولا يرثها هو إن ماتت في مرضه قبله، ولو كانت مريضة حال الخلع أيضاً؛ لأنه هو الذي أسقط ما كان يستحقه. التوكيل في الخلع: يصح لكل من الزوجين أو من أحدهما التوكيل في الخلع، وكل من صح خلعه لنفسه جاز توكيله ووكالته، حراً كان أو عبداً، ذكراً أو أنثى، مسلما ًأو كافراً، محجوراً عليه لسفه أو رشيداً؛ لأن كل واحد منهم يجوز أن يوجب الخلع، فصح أن يكون وكيلاً وموكِّلاً فيه كالحر الرشيد، ولأن الخلع عقد معاوضة كالبيع.
خلع الفضولي
وإذا نقص الوكيل عما عينه له الموكل، كأن قال له: وكلتك على أن تخالعها بعشرة، فخالعها بخمسة، أو نقص الوكيل عن خلع المثل إن أطلق الموكل ولم يعين له شيئاً، لم يلزم الموكل بالخلع. وإذا وكلت الزوجة وكيلاً ليخالعها، وعينت له شيئاً، أو أطلقت العبارة، وزاد وكيلها على ما عينت، أو على خلع المثل أن أطلقت، فعليه الزيادة. ولا يطالب الوكيل بالخلع بالبدل إلا إذا ضمنه، ويرجع به على المرأة. خلع الفضولي: أجاز الحنفية والحنابلة الخلع من الفضولي، فإذا خاطب الفضولي الزوج بالخلع، فإن أضاف البدل إلى نفسه على وجه يفيد ضمانه له أو ملكه إياه، كاخلعها بألف علي، أو على أني ضامن، أو على ألفي هذه، ففعل، صح، والبدل عليه، فإن استحق البدل لزم الفضولي قيمته، ولا يتوقف الخلع حينئذ علي قبول المرأة. وإن لم يضمن الفضولي البدل وأرسل الكلام، فقال: على ألف، فإن قبلت المرأة، لزمها تسليمه، أو قيمته إن عجزت. وإن أضاف الفضولي البدل إلى غيره كفرس فلان، اعتبر قبول فلان هذا. 2ً - كون الزوجة محل الخلع وقابلته ممن عقد عليها عقد زواج صحيح، سواء أكانت مدخولاً بها، أم لا، ولو كانت مطلقة رجعياً ما دامت في العدة، وأن تكون ممن يصح تبرعها أو يطلق تصرفها في المال، بكونها مكلفة (بالغة عاقلة) غير محجور عليها، وأسباب الحجر خمسة: الرق والسفه والمرض والصبا والجنون، فلا يصح خلع الأمة إلا بإذن سيدها، ولا السفيهة اتفاقاً، ولا المريضة عند الشافعية والحنابلة لعدم صحة تصرفهما بالمال، ولا الصغيرة والمجنونة لانتفاء أهلية القبول.
ولو اختلعت الأمة من زوجها على عوض بغير إذن سيدها، وقع الطلاق بائناً، ولا شيء عليها عند الحنفية والحنابلة والمالكية حتى تعتق. وكذا عند الشافعية يطالبها بالعوض بعد العتق، لكن يستقر للزوج في ذمتها مهر المثل. وإذا كان الخلع بإذن السيد تعلق العوض في ذمته، كما لو أذن لعبده في الاستدانة. وليس للأب وغيره من الأولياء خلع ابنته الصغيرة أو المجنونة أو السفيهة بشيء من مالها، ولا طلاقها بشيء من مالها؛ لأنه إنما يملك التصرف بما لها فيه حظ ومصلحة، وليس في هذا مصلحة، بل فيه إسقاط حقها الواجب لها. وعلى هذا لا يصح خلع المحجور عليه لسفه أو صغر أو جنون لا بنفسها ولا بوليها ولا بإذنه، لأن الخلع تصرف في المال، وليست هي من أّهله، ولأنه ليس للولي الإذن في التبرعات، وهذا كالتبرع. فإن خالع الزوج المحجور عليها بلفظ يكون طلاقاً، فهو طلاق رجعي، ولا يستحق عوضاً. وقال الحنفية: يصح خلع المريضة، ولو اختلعت في مرضها فهو من الثلث؛ لأنها متبرعة في قبول المال، فيعتبر من الثلث، فإن ماتت في العدة، فله الأقل من بدل الخلع ومن ميراثه منها. وقال المالكية: يحرم اختلاع المريضة مرض الموت، فيحرم عليها أن تخالع، كما يحرم الخلع على الزوج لإعانته لها على الحرام. لكن ينفذ الطلاق، ولا توارث بينهما إن كان الزوج صحيحاً، ولو ماتت في عدتها. أما لو كان الزوج مريضاً وخالع زوجته، ومات في مرضه، فترثه زوجته المخالعة، حتى ولو انقضت عدتها وتزوجت بغيره. ولا يرثها هو إن ماتت في مرضه قبله، حتى ولو كانت
مريضة حال الخلع؛ لأنه هو الذي أسقط ما كان يستحقه، ككل مطلقة بمرض موت مخوف، فإنها ترثه إن مات من ذلك المرض، دون أن يرثها. وقال الشافعية: إن خالعت الزوجة في مرض موتها وماتت: فإن لم يزد العوض على مهر المثل اعتبر من رأس المال، أي من جميع التركة، وإن زاد على مهر المثل، اعتبرت الزيادة من الثلث. ويصح بالاتفاق خلع المحجور عليها لفلس، وبذلها للعوض صحيح؛ لأن لها ذمة يصح تصرفها، ويرجع عليها بالعوض إذا أيسرت وفك الحجر عنها، وليس للزوج مطالبتها في حال حجرها، كما لو استدانت منه أو باعها شيئاً في ذمتها. 3ً - أن يكون بدل الخلع مما يصلح أن يكون مهراً. وهو عند الحنفية: أن يكون مالاً متقوماً موجوداً وقت الخلع معلوماً أو مجهولاً أو منفعة تقوم بالمال، فلا يصح خلع المسلمة على خمر أو خنزير أو ميتة أو دم، ويبطل العوض، ولا شيء للزوج، وتكون الفرقة طلاقاً بائناً؛ لأنه لما بطل العوض بقي لفظ الخلع، وهو كناية، وتقع الفرقة بالكنايات بينونة، أما لو كان الطلاق على مال، وبطل العوض كان طلاقاً رجعياً، لأنه بقي لفظ الطلاق، وهو صريح، والصريح طلاق رجعي. والبدل عند الجمهور: كل ما يصح تملكه، سواء أكان مالاً عيناً، أم ديناً، أم منفعة، تحرزاً من الخمر والخنزير وما أشبه ذلك. فإن خالعها بمحرم كخمر أو خنزير أو مغصوب أو مسروق، فلا شيء له عليها وبانت منه عند المالكية والحنابلة كما قرر الحنفية، ويكون كالخلع بلا عوض، لأنه قد رضي بالإسقاط بغير عوض، فلا يستحق عليها شيئاً.
الخلع بمعدوم أو بمجهول
وذكر الشافعية: أنه لو خالع بمجهول أو حرام، بانت منه بمهر المثل؛ لأنه المراد عند فساد العوض. ولو خالع بما ليس بمال كالدم، وقع الطلاق رجعياً؛ لأنه لم يطمع في شيء. وأما خلع الكفار بعوض غير مال فهو صحيح كما في أنكحتهم. الخلع بمعدوم أو بمجهول: يصح الخلع عند الجمهور غير الشافعية إذا كان عوض الخلع مشتملاً على غرر أو معدوم ينتظر وجوده كجنين في بطن حيوان تملكه الزوجة، أو كان مجهولاً كأحد فرسين، أو غيرموصوف من عرض أو حيوان وثمرة لم يبد صلاحها، وعبد آبق، وبعير شارد، أو مضافاً لأجل مجهول، خلافاً لمهر النكاح، فليس كل ما يصلح عوضاً في الخلع، يصلح عوضاً في النكاح؛ لأن الخلع مبني على التوسع والتسامح، فيتحمل جهالة ونحوها لا يتحملها النكاح، ويصح الخلع على ما لا يصح مهراً بجهالة أو غرر. وفرَّع الحنفية على قولهم بجواز جهالة عوض الخلع ولو جهالة فاحشة ما يأتي: أـ إن قالت الزوجة لزوجها: (خالعني على ما في يدي) ولم يكن في يدها شيء، فخالعها، فلا شيء له عليها؛ لأنها لم تغرَّه بتسمية المال. ب ـ وإن قالت له: (خالعني على ما في يدي من مال) ولم يكن في يدها شيء، فخالعها، ردت عليه مهرها؛ لأنها سمت مالاً لم يكن الزوج راضياً بالزوال إلا بالعوض، ولا وجه لإيجاب ما سمته المرأة من المال في يدها لجهالته، ولا لإيجاب مهر المثل؛ لأن البضع الذي يجب مهر المثل من أجله غير متقوم حالة الخروج من الملك بالخلع ونحوه، أما في حالة الدخول بعقد النكاح فهو متقوم، فتعين إيجاب ماقام به البضع على الزوج وهو المهر دفعاً للضرر عنه.
جـ ـ وإن قالت له (خالعني على ما في يدي من دراهم) ولم يكن في يدها شيء، فخالعها، فعليها ثلاثة دراهم؛ لأنها سمت جمعاً من الدراهم، وأقل الجمع ثلاثة، ووافقهم الحنابلة (¬1) فيه. د ـ وإن قالت له: (طلقني ثلاثاً بألف) فطلقها واحدة، فعليها ثلث الألف؛ لأن حرف الباء يَصْحَب الأعواض، والعوض ينقسم على المعوض، فهي لما طلبت الثلاث بألف، فقد طلبت كل واحدة بثلث الألف. والطلاق بائن لوجوب المال. أما لو قالت: (طلقني ثلاثاً على ألف) فطلقها واحدة، فلا شيء عليها عند أبي حنيفة، وتقع طلقة رجعية؛ لأن كلمة (على) للشرط، والمشروط لا يتوزع على أجزاء الشرط، بخلاف الباء، لأنه للعوض، وهذا هو الصحيح عند الحنفية. وقال الصاحبان والشافعية (¬2): عليها ثلث الألف، وتقع طلقة بائنة؛ لأن كلمة (على) بمنزلة الباء في المعاوضات. ولو قال الزوج لزوجته: (طلقي نفسك ثلاثاً بألف، أو على ألف) فطلقت نفسها واحدة، لم يقع عليها شيء؛ لأن الزوج مارضي بالبينونة إلا لتسلم له الألف كلها. وذلك بخلاف الحالة السابقة: (طلقني ثلاثاً بألف)؛ لأنها لما رضيت بالبينونة بألف، كانت ببعضها أرضى. وأما الشافعية فقالوا: يشترط في عوض الخلع شروط الثمن من كونه متمولاً، معلوماً، مقدوراً على تسليمه، فلو خالع بمجهول أو خمر معلومة، أو نحوها، مما لا يتملك، بانت بمهر المثل؛ لأنه المراد عند فساد العقد، كما تقدم. ¬
مجمل شروط الخلع في بعض المذاهب
مجمل شروط الخلع في بعض المذاهب: ذهب المالكية (¬1) إلى أنه لا يجوز الخلع إلا بثلاثة شروط: الأول ـ أن يكون المبذول للرجل مما يصح تملكه وبيعه تحرزاً من الخمر والخنزير ونحوهما. ويصح عندهم بالمجهول والغرر، كما أوضحت. الثاني ـ ألا يجر إلى ما لا يجوز كالخلع على السلف أو التأخير بدين أو الوضع على التعجيل، وشبه ذلك من أنواع الربا المذكورة في بحث الربا، فلا يصح الخلع مقابل التأخير في وفاء دين عليه، وقد حل أجله؛ فإنه لا شيء له عليها؛ لأن تأخير الحالّ سلف (¬2)، وقد جر لها نفعاً، وهو خلاص عصمتها منه، وتأخذ الدين منه حاّلاً. ولا يصح أيضاً الخلع مقابل تعجيل دين مؤجل لها من بيع، ويبقى إلى أجله، وبانت منه؛ لأن التعجيل مقابل حل العصمة. فإن كان الدين من قرض، وجب عليها قبول التعجيل قبل الأجل، مثل الشيء المعين (العين) لأن الأجل في العين حق لمن هي عليه. الثالث ـ أن يكون خلع المرأة اختياراً منها وحباً في فراق الزوج من غير إكراه ولا ضرر منه بها. فإن انخرم أحد هذين الشرطين نفذ الطلاق ولم ينفذ الخلع. ومذهب الحنابلة (¬3) أن شروط الخلع تسع: 1 - بذل عوض. 2 - ممن يصح تبرعه، وزوج يصح طلاقه. 3 - غير هازلين. 4 - عدم عضلها إن بذلته. 5 - وقوعه بصيغته الصريحة أوالكناية، ¬
شروط الخلع في القانون السوري
والأولى: خلعت وفسخت وفاديت، والثانية: بارأتك، وأبرأتك، وأبنتك. 6 - عدم نيته طلاقاً. 7 - تنجيز. 8 - وقوعه على جميع الزوجة. 9 - عدم الحيلة، فيحرم الخلع حيلة لإسقاط يمين الطلاق أو تعليقه ولا يصح. شروط الخلع في القانون السوري: نصت المادة (95) من هذا القانون على أن يكون الزوج أهلاً لإيقاع الطلاق والزوجة محلاً للطلاق: «1ً - يشترط لصحة المخالعة أن يكون الزوج أهلاً لإيقاع الطلاق والمرأة محلاً له. 2ً - المرأة التي لم تبلغ سن الرشد إذا خولعت لا تلتزم ببدل الخلع إلا بموافقة ولي المال». وهذه الفقرة الثانية هي من مذهب المالكية. ونصت المادة (96) على صفة الخلع أخذاً بمذهبي المالكية والشافعية في كون الخلع معاوضة: «لكل من الطرفين الرجوع عن إيجابه في المخالعة قبل قبول الآخر» ونصت المادة (97) على بدل الخلع: وهو كل ما جاز أن يكون مهراً بالاتفاق: «كل ما صح التزامه شرعاً، صلح أن يكون بدلاً في الخلع». ونصت المادة (100) على حالة الخلع من غير بدل أخذاً بمذهبي المالكية والحنابلة: «إذا صرح المتخالعان بنفي البدل، كانت المخالعة في حكم الطلاق المحض، وقع بها طلقة رجعية».
المبحث الرابع ـ حكم أخذ بدل الخلع
المبحث الرابع ـ حكم أخذ بدل الخلع، والخلع في مقابل بعض المنافع والحقوق، والفرق بين الخلع والطلاق على مال: يتبع بحث اشتراط بدل الخلع الكلام في مواضع ثلاثة: حكم أخذ بدل الخلع، والخلع في مقابل منفعة أو حق، والفرق بين الخلع والطلاق على مال. حكم أخذ بدل الخلع: بحث الفقهاء مبدأ مشروعية أخذ البدل في مقابل الخلع أو الطلاق على التفصيل التالي (¬1): 1ً - إن كانت الزوجة كارهة زوجها لقبح منظر أو سوء عشرة، وخافت ألا تؤدي حقه، جاز للزوج مخالعتها وأخذ عوض في نظير طلاقها، لكن يكره عند الحنفية أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها، لقصة امرأة ثابت بن قيس المتقدمة: «قال النبي صلّى الله عليه وسلم: أتردين إليه حديقته؟ فقالت: نعم وزيادة، فقال صلّى الله عليه وسلم: أما الزيادة فلا» (¬2). وهذا قول عطاء وطاوس والزهري وعمرو بن شعيب. وأجاز الجمهور أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها ما دام النشوز من جهتها، لكن لا يستحب له ذلك، لقوله تعالى: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله، فإن خفتم ألا يقيما حدود الله، فلا جناح عليهما ¬
فيما افتدت به} [البقرة:229/ 2] فإنه تعالى نفى الإثم في أخذ الرجل من الزوجة مقابل طلاقها، قليلاً كان أو كثيراً. والنهي عن الزيادة في حديث ثابت محمول على خلاف الأولى. ويروى عن ابن عباس وابن عمر أنهما قالا: «لو اختلعت امرأة من زوجها بميراثها وعقاص (¬1) رأسها، كان ذلك جائزاً» وقالت الرُبيِّع بنت مُعَوِّذ: اختلعت من زوجي بما دون عقاص رأسي، فأجاز ذلك عثمان بن عفان رضي الله عنه (¬2). ولم يخالفه أحد من الصحابة، واشتهر هذا، فلم ينكر، فيكون إجماعاً، ولم يصح عن علي رضي الله عنه خلافه. 2ً - إن كان النفور والإعراض من جانب الزوج، يكره باتفاق العلماء، لقوله تعالى: {وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج، وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً، أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً} [النساء:20/ 4]. ومثل هذا: لو أكره الزوج الزوجة أو اضطرها إلى طلب الخلع، فضيق عليها، وعاشرها معاشرة سيئة ليحملها على الطلاق، فلا يحل له أخذ شيء منها عند الحنفية والحنابلة والشافعية لقوله تعالى: {ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا} [البقرة:231/ 2] وقوله سبحانه: {ولا تعضُلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن} [النساء:4/ 19] هذا يدل على تحريم المخالعة لغير حاجة، ولأنه إضرار بها، والضرر حرام، لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا ضرر ولا ضرار». وكذلك قال المالكية: لا يحل له أخذ شيء من الزوجة في حالة الإضرار، ولو أخذ شيئاً وجب عليه أن يرده إليها. ¬
الخلع في مقابل بعض المنافع والحقوق
3ً - وإن كان الكره من الجانبين، وخشيا التقصير أو التفريط في حقوق الزوجية، جاز الخلع وجاز أخذ البدل اتفاقاً، لقوله تعالى: {فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به} [البقرة:229/ 2]. الخلع في مقابل بعض المنافع والحقوق: يصح أن يكون بدل الخلع من النقود، أو من المنافع المقومة بمال، كسكنى الدار وزراعة الأرض زمناً معلوماً، وكإرضاع ولدها أو حضانته أو الإنفاق عليه، أو من الحقوق كإسقاط نفقة العدة. الخلع على الرضاع: يصح الخلع على أن ترضع ولدها مدة الرضاع الواجب وهو سنتان؛ لأن الرضاع مما تصح المعاوضة عنه في غير الخلع، ففي الخلع أولى. ويصح الخلع أيضاً عند الحنابلة (¬1) على إرضاع ولده مطلقاً دون تحديد مدة، وينصرف إلى ما بقي من الحولين؛ لأن الله تعالى قيَّد الرضاع بالحولين، فقال تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين} [البقرة:233/ 2] وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «لا رضاع بعد فصال» (¬2). فإن ماتت المرضعة أو جف لبنها، فعليها أجر المثل لما بقي من المدة. وكذا عند الحنابلة إن مات الولد، وينفسخ الاتفاق بتلفه، وقال الشافعي: لا ينفسخ الاتفاق، ويأتيها بصبي ترضعه مكانه؛ لأن الصبي مستوفى به، لا معقوداً عليه. ¬
الخلع على الحضانة أو كفالة الولد مدة معلومة
الخلع على الحضانة أو كفالة الولد مدة معلومة: يصح الخلع أيضاً على أن تحضن ولده مدة معلومة بلا أجر، وقال الشافعي: لا يصح الاتفاق حتى يذكر مدة الرضاع وقدر الطعام وجنسه، وقدر الإدام وجنسه ويكون المبلغ معلوماً مضبوطاً بالصفة كالمسلم فيه (¬1). ومبنى الخلاف مسألة استئجار الأجير بطعامه وكسوته، الشافعية يوجبون تعيين الأجرة، لما روي عن أبي سعيد الخدري قال: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن استئجار الأجير حتى يُبيِّن له أجره» (¬2). ولم يوجب الجمهور تعيين الأجر للعرف واستحسان المسلمين، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن موسى أجَر نفسه ثمانَ سنين أو عشر سنين على عِفَّة فرجه، وطعام بطنه» (¬3). فلو تركت المرأة الولد وهربت أو مات الولد أو ماتت هي، وجب عليها أجر المثل عن المدة الباقية. الخلع على بقاء الولد إلى البلوغ: إذا خالعت المرأة زوجها على أن يبقى ابنه عندها إلى البلوغ صح الخلع ولم يصح الشرط عند الحنفية؛ لأن الحق في الابن بعد انتهاء مدة الحضانة للأب، لا للأم. أما إن خالعت على إبقاء ابنتها منه إلى البلوغ، فيصح الخلع والشرط، والفرق بين الحالتين: أن الابن أحوج لأبيه بعد الحضانة وأقدر على تربيته من الأم، والبنت أحوج إلى تدريب أمهاوتعليمها وأقدر على ذلك من الأب. وأجاز المالكية اشتراط بقاء الابن مع الأم إلى البلوغ؛ لأن مدة حضانة الابن عندهم إلى البلوغ، والبنت إلى أن تتزوج ويدخل الزوج بها. ¬
الخلع على إسقاط الحضانة
الخلع على إسقاط الحضانة: أما الخلع على إسقاط حق الحضانة: فيصح عند الحنفية، ولا يسقط حق الأم في الحضانة؛ لأن هذا الحق للولد، فلا تملك الأم التنازل عنه. وأجاز المالكية في مشهور المذهب إسقاط الحضانة بالخلع وانتقالها إلى الأب بشرطين: الأول ـ ألا يلحق الولد ضرر من مفارقة أمه. الثاني ـ أن يكون الأب قادراً على حضانة الولد. لكن المفتى به عند المالكية: أن الحضانه لا تنتقل بإسقاط الأم إلى الأب، ولكنها تنتقل إلى من يلي الأم في حق الحضانة (¬1). الخلع على نفقة الصغير: يرى الحنفية والمالكية (¬2) أنه لو خالع الزوج امرأته على أن تنفق على ابنه الصغير مدة معلومة، صح الخلع: ولزمها الإنفاق في تلك المدة، فإن امتنعت، أو ماتت، أو مات الولد قبل انتهاء المدة، وجب عليها نفقة المثل في باقي المدة، وتؤخذ من تركتها في موتها. وإن أعسرت أنفق الزوج عليها، ويرجع بالنفقة إن أيسرت. لكن قال المالكية: إن خالعها على أن تتحمل نفقة نفسهامدة حملها، لا تسقط في الأصح نفقة الحمل. ¬
الخلع مقابل الإبراء من نفقة العدة
الخلع مقابل الإبراء من نفقة العدة: يصح الخلع في مقابل إبراء المرأة زوجها من نفقة العدة، ويبرأ الزوج منها (¬1)، وإن كان الساقط مجهولاً. ويصح الخلع في مقابل إسقاط حق السكنى مدة العدة، ولا يسقط حقها؛ لأن سكنى المعتدة في بيت الزوجية واجب شرعي، لا تملك الزوجة إسقاطه، ولا تملك الزوجة أن تعفيه منه لقوله تعالى: {لا تخرجوهن من بيوتهن، ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} [الطلاق:1/ 65]، لكن إذا التزمت المرأة أن تدفع أجرة البيت من مالها، فيصح لها أن تعفي الزوج من هذه الأجرة. موقف القانون السوري من الخلع على المنافع أو الحقوق: نصت المادة (102) على إعفاء الزوج من أجرة الرضاع كما بينت عند الفقهاء: 1 - إذا اشترط في المخالعة إعفاء الزوج من أجرة رضاع الولد، أو اشترط إمساكها له مدة معلومة، وإنفاقها عليه، فتزوجت أو تركت الولد أو ماتت أو مات الولد، يرجع الزوج بما يعادل أجرة رضاع الولد أو نفقته عن المدة الباقية. 2 - إذا كانت الأم معسرة وقت المخالعة، أوأعسرت فيما بعد، يجبر الأب على نفقة الولد، وتكون ديناً له على الأم. ونصت المادة (103) على عدم سقوط حق الحضانة بالخلع عملاً بمذهب الحنفية: ¬
الفرق بين الخلع والطلاق على المال عند الحنفية
إذا اشترط الرجل في المخالعة إمساك الولد عنده مدة الحضانة، صحت المخالعة، وبطل الشرط، وكان لحاضنته الشرعية أخذه منه، ويلزم أبوه بنفقته وأجرة حضانته إن كان فقيراً. ونصت المادة (101) على عدم إسقاط نفقة العدة إلا بالنص الصريح في الخلع: نفقة العدة لا تسقط، ولا يبرأ الز وج المخالع منها إلا إذا نص عليها صراحة في عقد الخالعة. ونصت المادة (104) على عدم التقاص بين نفقة الولد ودين الأب: لا يجري التقاص بين نفقة الولد المستحقة على أبيه ودين الأب على حاضنته. الفرق بين الخلع والطلاق على المال عند الحنفية: الخلع والطلاق على مال وإن زال بكل منهما ملك الزواج، وعلى الرغم من أن كل واحد طلاق بعوض، يختلفان من وجوه ثلاثة هي (¬1): الأول ـ لو كان الخلع على عوض باطل شرعاً، بأن وقع على ما ليس بمال متقوم، كخلع المسلمة على خمر أو خنزير أو ميتة، فلا شيء للزوج، ويقع الطلاق بائناً. أما إذا بطل العوض في الطلاق على مال، بأن سميا ما ليس بمال متقوم، فإن الطلاق يقع رجعياً. ¬
وذلك لأن الخلع كناية عند الحنفية، والكنايات توقع الفرقة بائنة. وأما الطلاق على مال فهو صريح، ويقع بائناً إذا صح العوض شرعاً، فإذا لم يصح فكأنه لم يكن، فبقي صريح الطلاق، فيكون رجعياً، وحينئذ يعمل كل من لفظي الخلع والطلاق المجردين عمله، فلفظ الخلع يكون كناية عن الطلاق، ولفظ الطلاق من أنواع الصريح الذي يقع به طلاق رجعي. الثاني ـ يسقط بالخلع في رأي أبي حنيفة كل الحقوق الواجبة بسبب الزواج لأحد الزوجين على الآخر، كالمهر والنفقة الماضية المتجمدة أثناء الزواج، لكن لا تسقط نفقة العدة؛ لأنها لم تكن واجبة قبل الخلع، فلا يتصور إسقاطها بالخلع. أما الطلاق على مال: فلا يسقط به شيء من حقوق الزوجين، ويجب به فقط المال المتفق عليه. الثالث ـ الخلع مختلف في كونه طلاقاً بائناً أم فسخاً بين الفقهاء، فهو عند الجمهور (الحنفيةوالمالكية، والشافعية في أظهر القولين، وفي رواية عن أحمد) طلاق بائن يحتسب من عدد الطلقات. وفي رواية أخرى عن أحمد: أنه فسخ، فلا ينقص من عدد الطلقات. والمعتمد عند الحنابلة: أن الخلع فسخ بائن، لا ينقص به عدد الطلاق، ولو لم ينو خلعاً (¬1). أما الطلاق على مال: فلا خلاف في كونه طلاقاً بائناً ينقص به عدد الطلقات. ¬
المبحث الخامس ـ آثار الخلع (أحكامه)
المبحث الخامس ـ آثار الخلع (أحكامه): يترتب على الخلع الآثار التالية (¬1): 1 - يقع به طلقة بائنة، ولو بدون عوض أو نية في رأي الحنفية والمالكية، والشافعية في الراجح، وأحمد في رواية عنه لقوله تعالى: {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} [البقرة:229/ 2] وإنما يكون فداء إذا خرجت المرأة من سلطان الرجل، ولو لم يكن بائناً لملك الرجل الرجعة، وكانت تحت حكمه وقبضته، ولأن القصد إزالة الضرر عن المرأة، فلو جازت الرجعة لعاد الضرر. وفي رواية أخرى عن أحمد هي الراجحة في المذهب أن الخلع فسخ، وهو رأي ابن عباس وطاوس، وعكرمة وإسحاق وأبي ثور؛ لأن الله تعالى قال: {الطلاق مرتان} [البقرة:229/ 2] ثم قال: {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} [البقرة:229/ 2] ثم قال: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة:230/ 2] فذكر الحق تعالى تطليقتين، والخلع، وتطليقة بعدها، فلو كان الخلع طلاقاً لكان الطلاق أربعاً بأن يكون الطلاق الذي لا تحل فيه المرأة المطلقة إلا بعد زوج هو الطلاق الرابع، ولأنها فرقة خلت عن صريح الطلاق ونيته، فكانت فسخاً كسائر الفسوخ. والمعتمد لدى الحنابلة هو التفصيل: وهو أن الخلع طلاق بائن، إن وقع بلفظ الخلع والمفاداة ونحوهما أو بكنايات الطلاق، ونوى به الطلاق؛ لأنه كناية نوى بها الطلاق، فكانت طلاقاً. ¬
- لا يتوقف الخلع على قضاء القاضي،
والخلع فسخ لا ينقص به عدد الطلاق حيث وقع بصيغته (¬1)، ولم ينو به طلاقاً، بأن وقع بلفظ الخلع أو الفسخ أوالمفاداة، ولا ينوي به الطلاق، فيكون فسخاً لا ينقص به عدد الطلاق. والمبارأة: مثل أن يقول الرجل لزوجته: برئت من نكاحك على ألف، فقبلت، وهي كناية يقع بها الخلع بالنية عند الحنابلة، وأما عند الحنفية فهي كالخلع يقع بها الطلاق البائن بلا نية. فإن طلق الرجل زوجته وأعطى لها مالاً من عنده، فليس بخلع، بل هو رجعي على المعتمد لدى المالكية؛ لأنه بمنزلة من طلق، وأعطى لزوجته المتعة. 2ً - لا يتوقف الخلع على قضاء القاضي، كما هو حكم كل طلاق يكون من الزوج. 3ً - لا يبطل الخلع بالشروط الفاسدة: إذا خالع الزوج على شرط إبقاء الطفل عنده قبل انتهاء مدة الحضانة، أو خالعت الزوجة زوجها على شرط ترك ابنها عندها بعد انتهاء زمن الحضانة، أو أن يكون لها حضانة الطفل ولو تزوجت بغير قريب محرم من الطفل، فالشرط باطل في كل ما ذكر، وينفذ الخلع. 4ً - يلزم الزوجة أداء بدل الخلع المتفق عليه، سواء أكان هو المهر أم بعضه أم شيئاً آخر سواه؛ لأن الزوج علق طلاقها على قبول البدل، وقد رضيت به، فيكون لازماً في ذمتها باتفاق الفقهاء. 5ً - يسقط بالخلع في رأي أبي حنيفة كل الحقوق والديون التي تكون لكل ¬
- هل يرتدف على المختلعة طلاق؟
واحد من الزوجين في ذمة الآخر والتي تتعلق بالزواج الذي وقع الخلع منه كالمهر والنفقة الماضية المتجمدة؛ لأن المقصود منه قطع الخصومة والمنازعة بين الزوجين. أما الديون أو الحقوق التي لأحد الزوجين على الآخر، والتي لا تتعلق بموضوع الزواج، كالقرض والوديعة والرهن وثمن المبيع ونحوها، فلا تسقط بالاتفاق. وكذا لا تسقط نفقةالعدة إلا بالنص على إسقاطها؛ لأنها تجب عند الخلع. وقال الجمهور (بقية المذاهب) ومحمد: لا يسقط بالخلع شيء من حقوق الزوجية إلا إذا نص على إسقاطه، سواء بلفظ الخلع أوا لمبارأة، فهو تماماً كالطلاق على مال، يقع به الطلاق بائناً، ويجب فقط البدل المتفق عليه؛ لأن الحقوق لا تسقط إلا بما يدل على سقوطها قطعاً، وليس في الخلع دلالة على إسقاط الحقوق الثابتة؛ لأنه معاوضة من جانب الزوجة، والمعاوضات لا أثر لها في غير ما تراضى عليه الطرفان. وهذا هو الراجح المتفق مع العدالة؛ لأن الحق لا يسقط إلا بالإسقاط صراحة أو دلالة. 6ً - هل يرتدف على المختلعة طلاق؟ قال أبو حنيفة: يرتدف، سواء أكان على الفور أم على التراخي. وفي رأي الجمهور: لا يرتدف، إلا أن الإمام مالك قال: لا يرتدف، إلا إذا كان الكلام متصلاً. وقال الشافعي وأحمد: لا يرتدف، وإن كان الكلام متصلاً، فالمختلعة لا يلحقها طلاق بحال. استدل أبو حنيفة بأثر: «المختلعة يلحقها الطلاق ما دامت في العدة». واستدل الجمهور بقول ابن عباس وابن الزبير: إن المختلعة لا يلحقها طلاق، ولأنها لا تحل للزوج إلا بنكاح جديد، فلم يلحقها طلاقه كالمطلقة قبل الدخول أو المنقضية عدتها. وسبب الخلاف بين الرأيين أن العدة عند أبي حنيفة من أحكام
- لا رجعة في رأي أكثر العلماء على المختلعة في العدة،
النكاح، ولذا لا يجوز عنده أن ينكح مع المبتوتة أختها، فيرتدف الطلاق عنده. وعند الجمهور: من أحكام الطلاق، فلا يرتدف. 7ً - لا رجعة في رأي أكثر العلماء على المختلعة في العدة، سواء أكان الخلع فسخاً أم طلاقاً، لقوله تعالى: {فيما افتدت به} [البقرة:229/ 2] وإنما يكون فداء إذا خرجت به عن قبضة الرجل وسلطانه، وإذا كانت له الرجعة فهي تحت حكمه، ولأن القصد إزالة الضرر عن المرأة، فلو جاز ارتجاعها لعاد الضرر. وحكي عن الزهري وسعيد بن المسيب أنهما قالا: الزوج بالخيار بين إمساك العوض ولا رجعة له، وبين رده وله الرجعة. وأجمع أكثر العلماء على أن للرجل أن يتزوج المختلعة برضاها في عدتها. وقال بعض المتأخرين: لا يتزوجها هو ولا غيره في العدة. 8ً - الاختلاف في الخلع أو عوضه: إذا ادعت الزوجة خلعاً، فأنكره الزوج ولا بيِّنة له، صدّق بيمينه، إذ الأصل بقاء النكاح وعدم الخلع، والبينة عند الشافعية: شهادة رجلين. وإن قال الزوج: طلقتك بكذا كألف، فقالت: بل طلقتني مجاناً أو لم تطلقني، بانت بقوله ولا عوض للزوج عليها إن حلفت على نفيه، أما البينونة فلإقراره، وأما عدم العوض فلأن الأصل براءة ذمتها، لكن لها النفقة والكسوة والسكنى في العدة. وإن اختلف الزوجان في جنس العوض، هل هو دراهم أو دنانير أو في صفته كصحاح أو مكسرة، أو في قدر العوض، كأن قال: بألف، فقالت: بل بخمسمائة، أو في عدد الطلاق الذي وقع به الخلع، كقولها: سألتك ثلاث طلقات بألف، فقال: بل واحدة بألف، ولا بينة لواحد منهما:
آثار الخلع في القانون
فقال مالك: القول قول الزوجة إن لم يكن هناك بيِّنة؛ لأنها مدعى عليها وهو مدع، وهو موافق لمذهب الحنفية، عملاً بالقاعدة الشرعية: «البينة على من ادعى واليمين على من أنكر». وقال الشافعي: يتحالفان كما في البيع، ويكون على الزوجة مهر المثل؛ لأنه المردّ عند الاختلاف، لأن اختلافهما يشبه اختلاف المتبايعين. آثار الخلع في القانون: أخذ القانون السوري بمذهب أبي حنيفة في أن الخلع يسقط حقوق كل من الزوج والزوجة تجاه الآخر من مهر ونفقة زوجية، حتى ولو لم يتفق الزوجان على بدل، وذلك في المادتين التاليتين: (م 98) - إذا كانت المخالعة على مال غير المهر، لزم أداؤه، وبرئت ذمة المتخالعين من كل حق بالمهر والنفقة الزوجية. (م 99) - إذا لم يسم المتخالعان شيئاً وقت المخالعة، برئ كل منهما من حقوق الآخر بالمهر والنفقة الزوجية.
الفصل الثالث: التفريق القضائي
الفَصْلُ الثَّالث: التَّفريق القضائيّ ويشتمل على عشرة مباحث: الأول ـ التفريق لعدم الإنفاق. الثاني ـ للعيب أو العلل الجنسية. الثالث ـ للضرر وسوء العشرة أو للشقاق بين الزوجين. الرابع ـ طلاق التعسف. الخامس ـ للغيبة. السادس ـ للحبس. السابع ـ التفريق بسبب الإيلاء. الثامن ـ التفريق بسبب اللعان. التاسع ـ التفريق بسبب الظهار. العاشر ـ التفريق بسب الردة أو إسلام أحد الزوجين.
ويلاحظ أن التفريق يختلف عن الطلاق بأن الطلاق يقع باختيار الزوج وإرادته، أما التفريق فيقع بحكم القاضي، لتمكين المرأة من إنهاء الرابطة الزوجية جبراً عن الزوج، إذا لم تفلح الوسائل الاختيارية من طلاق أو خلع. وأخذ القانون في مصر وسورية أحكام أربع حالات للتفريق في الأكثر من مذهبي المالكية والحنابلة. والتفريق القضائي قد يكون طلاقاً: وهو التفريق بسبب عدم الإنفاق أو الإيلاء أو للعلل أو للشقاق بين الزوجين أو للغيبة أو للحبس أو للتعسف، وقد يكون فسخاً للعقد من أصله كما هو حال التفريق في العقد الفاسد، كالتفريق بسبب الردة وإسلام أحد الزوجين. والفرق بين الطلاق والفسخ في رأي الحنفية: أن الطلاق: هو إنهاء الزواج وتقرير الحقوق السابقة من المهر ونحوه، ويحتسب من الطلقات الثلاث التي يملكها الرجل على امرأته، وهو لا يكون إلا في العقد الصحيح. وأما الفسخ: فهو نقض العقد من أصله أو منع استمراره، ولا يحتسب من عدد الطلاق، ويكون غالباً في العقد الفاسد أو غير اللازم. وللإمام مالك (¬1) قولان في الفرق بين الفسخ والطلاق: القول الأول ـ الفرقة طلاق لا فسخ في النكاح المختلف فيه بين المذاهب والخلاف مشهور، مثل الحكم بتزويج المرأة نفسها، ونكاح المحرم بحج أو عمرة. ¬
المبحث الأول ـ التفريق لعدم الإنفاق
القول الثاني ـ الاعتبار في ذلك بالسبب الموجب للتفريق، فإن كان من الشرع، لا برغبة الزوجين، كان فسخاً، مثل نكاح المحرمة بالرضاع أو النكاح في العدة. وإن كان السبب هورغبة الزوجين، مثل الرد بالعيب، كان طلاقاً. المبحث الأول ـ التفريق لعدم الإنفاق: أخذ القانون في مصر وسورية بجواز التفريق القضائي بين الزوجين، عملاً بمذهب الجمهور غير الحنفية، فنصت المادة الرابعة من القانون المصري رقم (25) لسنة (1920) على حق التفريق بين الزوجة وزوجها، لعدم إنفاقه عليها، إذا طلبت الزوجة التفريق بالضرورة، سواء أكان عدم الإنفاق عليها بسبب إعساره، أم كان تعنتاً منه وظلماً. ويطلقها القاضي عليه وهو حاضر في البلد غير غائب، متى امتنع من تطليقها بنفسه، ولم يكن له مال ظاهر يمكن أن تفرض فيه نفقتها. ونص القانون السوري على أحكام التفريق لعدم الإنفاق فيما يلي: (م 110) - «1 - يجوز للزوجة طلب التفريق إذا امتنع الزوج الحاضر عن الإنفاق على زوجته، ولم يكن له مال ظاهر، ولم يثبت عجزه عن النفقة. 2 - إن ثبت عجزه أو كان غائباً، أمهله القاضي مدة مناسبة لا تتجاوز ثلاثة أشهر، فإن لم ينفق، فرق القاضي بينهما». (م 111): تفريق القاضي لعدم الإنفاق يقع رجعياً، وللزوج أن يراجع زوجته في العدة بشرط أن يثبت يساره، ويستعد للإنفاق. التفريق لعدم الإنفاق في هذين القانونين طلاق رجعي إذا كان بعد الدخول، فللزوج أن يراجع زوجته إذا أثبت يساره وقدرته على الإنفاق. وخلاصة الأحكام الواردة في القانونين بالنسبة لعدم الإنفاق ما يلي:
أراء الفقهاء في التفريق لعدم الإنفاق
أـ إن كان للزوج مال ظاهر، نفذ الحكم عليه بالنفقة في ماله، من غير حاجة إلى التفريق. ب ـ وإن لم يكن له مال ظاهر: فإن كان حاضراً ولم يثبت عجزه عن الإنفاق وأصر على الامتناع، فرق القاضي بينهما في الحال. وإن أثبت عجزه عن الإنفاق، أمهله القاضي مدة لا تتجاوز ثلاثة أشهر في القانون السوري، وشهراً في القانون المصري، فإن مضت المدة ولم ينفق، فرق القاضي بينهما. وأما إن كان غائباً وليس له مال ظاهر، فيجب إعذاره وإمهاله إلى مدة لا تتجاوز ثلاثة أشهر، فإن مضت المدة ولم ينفق على الزوجة فرق القاضي بينهما. وهذه الأحكام مأخوذة من الفقه المالكي. أراء الفقهاء في التفريق لعدم الإنفاق: للفقهاء رأيان: رأي الحنفية، ورأي الجمهور (¬1): أولاً ـ رأي الحنفية: لا يجوز في مذهب الحنفية والإمامية التفريق لعدم الإنفاق؛ لأن الزوج إما معسر أو موسر. فإن كان معسراً فلا ظلم منه بعدم الإنفاق، والله تعالى يقول: {لينفق ذو سعة من سعته، ومَنْ قُدر عليه رزقه، فلينفق مما آتاه الله، لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها، سيجعل الله بعد عسر يسراً} [الطلاق:7/ 65] وإذا لم يكن ظالماً فلا نظلمه بإيقاع الطلاق عليه. ¬
وإن كان موسراً فهو ظالم بعدم الإنفاق، ولكن دفع ظلمه لا يتعين بالتفريق، بل بوسائل أخرى كبيع ماله جبراً عنه للإنفاق على زوجته، وحبسه لإرغامه على الإنفاق. ويجاب بأنه قد يتعين التفريق لعدم الإنفاق لدفع الضرر عن الزوجة. ويؤكده أنه لم يؤثر عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه مكن امرأة قط من الفسخ بسبب إعسار زوجها، ولا أعلمها بأن الفسخ حق لها. ويجاب بأن التفريق بسبب الإعسار مرهون بطلب المرأة، ولم تطلب الصحابيات التفريق. ثانياً ـ رأي الجمهور: أجاز الأئمة الثلاثة التفريق لعدم الإنفاق لما يأتي: 1ً - قوله تعالى: {ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا} [البقرة:231/ 2] وإمساك المرأة بدون إنفاق عليها إضرار بها. وقوله تعالى: {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} [البقرة:229/ 2] وليس من الإمساك بالمعروف أن يمتنع عن الإنفاق عليها. 2 - قال أبو الزناد: سألت سعيد بن المسيب عن الرجل لا يجد ماينفق على امرأته، أيفرق بينهما؟ قال: نعم، قلت له: سنَّة؟ قال: سنَّة. وقول سعيد: سنَّة، يعني سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلم. 3 - كتب عمر رضي الله عنه إلى أمراء الأجناد، في رجال غابوا عن نسائهم، يأمرهم أن يأخذوهم أن ينفقوا أو يطلقوا، فإن طلقوا بعثوا بنفقة ما مضى. 4 - إن عدم الإنفاق أشد ضرراً على المرأة من سبب العجز عن الاتصال الجنسي، فيكون لها الحق في طلب التفريق بسبب الإعسار أو العجز عن الإنفاق من باب أولى.
نوع الفرقة بسبب العجز عن النفقة
والراجح لدي رأي الجمهور لقوة أدلتهم، ودفعاً للضرر عن المرأة، ولا ضرر ولا ضرار في الإسلام. نوع الفرقة بسبب العجز عن النفقة: الفرقة عند المالكية: طلاق رجعي، وللزوج رجعة المرأة إن أيسر في عدتها؛ لأنه تفريق لامتناعه عن الواجب عليه لها، فأشبه تفريقه بين المولي في الإيلاء وامرأته إذا امتنع من الفيئة والطلاق. وذكر الشافعية والحنابلة أن الفرقة لأجل النفقة لا تجوز إلا بحكم الحاكم؛ لأنه فسخ مختلف فيه، فافتقر إلى الحاكم كالفسخ بالعُنَّة، ولا يجوز له التفريق إلا بطلب المرأة ذلك؛ لأنه لحقِّها، فلم يجز من غير طلبها كالفسخ للعنة، فإذا فرق الحاكم بينهما فهو فسخ لا رجعة للزوج فيه. المبحث الثاني - التفريق بالعيوب أو بالعلل: أولاً ـ أنواع العيوب: تنقسم العيوب من حيث المنع من الدخول وعدمه إلى قسمين: 1 - عيوب جنسية تمنع من الدخول كالجَبّ والعُنَّة والخصاء في الرجل، والرتَق والقَرَن في المرأة. 2 - عيوب لا تمنع من الدخول، ولكنها أمراض منفرة بحيث لا يمكن المقام معها إلا بضرر كالجذام والجنون والبرص والسل والزهري. وتنقسم العيوب بين الزوجين إلى أقسام ثلاثة:
ثانيا ـ التفريق بسبب العيوب في القانون
1 - ما يختص بالرجل من داء الفرج: وهو الجب (قطع الذكر) والعنة (العجز عن الجماع بسبب صغر الذكر ونحوه) والخصاء (استئصال أو قطع الخصيتين) والاعتراض: وهو حالة الرجل الذي لا يقدر على الوطء لعارض كمرض أو كبر. 2 - ما يختص بالمرأة من داء الفرج: وهو الرَّتَق (كون الفرج مسدوداً ملتصقاً بلحم من أصل الخلقة لا مسلك للذكر فيه)، والقَرَن (عظم أو غدة تمنع ولوج الذكر) والعفَل (رغوة تمنع لذة الوطء) وبخر الفرج (رائحة منتنة تثور في الوطء) والإفضاء أو انخراق ما بين السبيلين (أي القبل والدبر) من المرأة، وانخراق ما بين مخرج بول ومني وهو الفتق؛ لأنه يمنع لذة الوطء وفائدته، ونحوها. 3 - ما يشترك فيه الرجال والنساء: وهو الجنون والجذام والبرص، واستطلاق بول، واستطلاق غائط، وباسور (نتوء ظاهر في المقعدة كالعدس أو الحمص) وناسور (نتوء داخل المقعدة أو قروح غائرة في المقعدة يسيل منها صديد) ومن هذه العيوب كون أحد الزوجين خنثى غير مشكل، أما الخنثى المشكل فلا يصح نكاحه حتى يتضح، ونحوها. فهذه العيوب: منها ما يخشى تعدي أذاه، ومنها ما فيه تنفير ونقص، ومنها ما تتعدى نجاسته. ثانياً ـ التفريق بسبب العيوب في القانون: نص القانون المصري رقم (25 لسنة 1920) في المواد (9، 10، 11) على جواز التفريق بسبب عيوب الزوج: وهي الجب والعنة والخصاء، وهي العيوب الثلاثة المتفق على التفريق بها، والجنون والجذام والبرص، ونحوها من كل (عيب
ثالثا ـ آراء الفقهاء في التفريق للعيب
مستحكم لا يمكن البرء منه، أو يمكن بعد زمن طويل) سواء أكان ذلك العيب بالزوج قبل العقد ولم تعلم به، أم حدث بعد العقد ولم ترض به. والفرقة بالعيب طلاق بائن، ويستعان بأهل الخبرة في العيوب التي يطلب الفسخ من أجلها. ونص القانون السوري على التفريق للعلل الجنسية فقط دون العلل المنفرة أو الضارة أخذاً برأي أبي حنيفة وأبي يوسف، مع إضافة عيب الجنون، خلافاً لجمهور العلماء، وذلك فيما يأتي: (م 105) ـ للزوجة طلب التفريق بينهما وبين زوجها في الحالتين التاليتين: 1ً - إذا كان فيه إحدى العلل المانعة من الدخول، بشرط سلامتها هي منها. 2ً - إذا جن الزوج بعد العقد. (م 106) -1 - يسقط حق المرأة في طلب التفريق بسبب العلل المبينة في المادة السابقة إذا علمت بها قبل العقد أو رضيت بها بعده. 2 - على أن حق التفريق بسبب العنة لا يسقط بحال. (م 107) - إذا كانت العلل المذكورة في المادة 105 غير قابلة للزوال يفرق القاضي بين الزوجين في الحال، وإن كان زوالها ممكناً يؤجل الدعوى مدة مناسبة لا تتجاوز السنة، فإذا لم تزل العلة فرق بينهما. (م 108) - التفريق للعلة طلاق بائن. ثالثاً ـ آراء الفقهاء في التفريق للعيب: للفقهاء رأيان في جواز التفريق للعيب: رأي الظاهرية، ورأي أكثر العلماء:
الأول ـ ثبوت حق التفريق بالعيب للزوجين أو للزوجة فقط
أما الظاهرية (¬1): فقالوا: لا يجوز التفريق بأي عيب كان، سواء أكان في الزوج أم في الزوجة، ولا مانع من تطليق الزوج للزوجة إن شاء، إذ لم يصح في الفسخ للعيب دليل في القرآن أو السنة أو الأثر عن الصحابة أو القياس والمعقول. وأما أكثر الفقهاء (¬2) فأجازوا التفريق بسبب العيب، لكنهم اختلفوا في موضعين: هل يثبت الحق لكل من الزوجين أو للزوجة فقط، وما هي العيوب التي يثبت بها حق طلب التفريق. الأول ـ ثبوت حق التفريق بالعيب للزوجين أو للزوجة فقط: يثبت حق التفريق بالعيب عند الحنفية للزوجة فقط، لا للزوج؛ لأن الزوج يمكنه دفع الضرر عن نفسه بالطلاق، أما الزوجة فلا يمكنها دفع الضرر عن نفسها إلا بإعطائها الحق في طلب التفريق؛ لأنها لا تملك الطلاق. وأجاز الأئمة الثلاثة طلب التفريق بالعيب لكل من الزوجين؛ لأن كلاً منهما يتضرر بهذه العيوب، أما اللجوء إلى الطلاق فيؤدي إلى الإلزام بكل المهر بعد الدخول وبنصفه قبل الدخول. وفي التفريق بسبب العيب يعفى الرجل من نصف المهر قبل الدخول، وبعد الدخول لها المسمى بالاتفاق، لكن يرجع الزوج عند المالكية والحنابلة والشافعية بالمهر بعد الدخول على ولي الزوجة كالأب والأخ لتدليسه بكتمان العيب، ولا سكنى لها ولا نفقة. ¬
الثاني ـ العيوب التي تجيز التفريق
الثاني ـ العيوب التي تجيز التفريق: اتفق أئمة المذاهب الأربعة والإمامية على التفريق بعيبين: وهما الجب والعنة، واختلفوا في عيوب أخرى على آراء أربعة: الأول ـ رأي أبي حنيفة وأبي يوسف: لا فسخ إلا بالعيوب الثلاثة التناسيلة وهي (الجب والعنة والخصاء) إن كانت في الرجل؛ لأنها عيوب غير قابلة للزوال، فالضرر فيها دائم، ولا يتحقق معها المقصود الأصلي من الزواج وهو التوالد والتناسل والإعفاف عن المعاصي، فكان لابد من التفريق. أما العيوب الأخرى من جنون أو جذام أو برص أو رتق أو قرن، فلا فسخ للزواج بسببها إن كان بالزوجة، ولا إن كانت بالزوج، ولا خيار للآخر بها. وهذا هو الصحيح عند الحنفية. وقال محمد: للزوجة الخيار أو الفسخ إن كانت هذه العيوب بالزوج، ولاخيار للزوج إن كانت بالزوجة، وبه يتفق الحنفية على أنه لا خيار للزوج في فسخ الزواج بسبب عيوب الزوجة مطلقاً، واختلفوا في الخيار بعيوب الزوج. الثاني ـ رأي مالك والشافعي: يفسخ النكاح من أي واحد من الزوجين إذا وجد في الآخر عيباً من العيوب التناسلية (الجنسية) أو العيوب المنفرة من جنون أو جذام أو برص. والعيوب عند الشافعية سبعة وهي: الجب والعنة، والجنون والجذام والبرص، والرتَق والقَرَن، ويمكن أن يكون في كل من الزوجين خمسة، الأولان في الرجل والأخيران في المرأة، والثلاثة الوسطى مشتركة بينهما. ولا فسخ
الثالث ـ رأي أحمد
بالبخر، والصنان، والاستحاضة (¬1)، والقروح السيالة، والعمى، والزمانة، والبله، والخصاء، والإفضاء، ولا بكونه يتغوط عند الجماع؛ لأن هذه الأمور لا تفوِّت مقصود النكاح. والعيوب عند المالكية ثلاثة عشر عيباً: أربعة مشتركة بين الرجل والمرأة: الجنون والجذام والبرص والعَذيْطَة (خروج الغائط أو البول عند الجماع) ويقال للمرأة عِذيوطة، وللرجل عِذْيوط. وأربعة تختص بالرجل: وهي الخصاء، والجَبّ، والعُنَّة، والاعتراض (عدم القدرة على الاتصال الجنسي لمرض أو نحوه). وخمسة تختص بالمرأة: وهي الرتق، والقرن، والبخر (نتن الفرج) والعَفَل (غدة تمنع ولوج الذكر أو رغوة تمنع لذة الوطء) والإفضاء (اختلاط القُبُل أي مسلك الذكر بمجرى البول أو الغائط). وليس من العيوب: القرع ولا السواد، ولا إن وجدها مفتضة من الزنا على المشهور، وليس منها العمى، والعور، والعرج، والزمانة، ولا نحوها من العاهات، إلا إن اشترط السلامة منها. والعيوب عند الإمامية أحد عشر: أربعة في الرجل: وهي الجنون والخصاء والعنة والجب، وسبعة في المرأة: وهي الجنون والجذام والبرص والقرن والإفضاء والعمى والإقعاد. الثالث ـ رأي أحمد: يفسخ النكاح بالعيوب التناسلية (أو الجنسية) أو العيوب المنفرة، أو العيوب المستعصية كالسل والسيلان أو الزهري ونحوها مما يعرف عن طريق أهل الخبرة. ¬
الرابع ـ رأي الزهري وشريح وأبي ثور، واختاره ابن القيم
والعيوب عندهم ثمانية: ثلاثة يشترك فيها الزوجان: وهي الجنون والجذام والبرص. واثنان يختص بهما الرجل: وهما الجب والعنة. وثلاثة تختص بالمرأة: وهي الفتق (اختلاط مجرى البول والمني) والقرن والعفل. والقاضي أبو يعلى جعل القرن والعفل شيئاً واحداً فتكون العيوب سبعة. قال أبو الخطاب: ويتخرج على ذلك من به الباسور والناسور والقروح السيالة في الفرج؛ لأنها تثير نفرة، وتتعدى نجاستها. ورجح الحنابلة أنه يثبت الخيار للرجل بقروح سيالة في فرج المرأة وبباسور وناسور ونحوهما. وليس من العيوب المجوزة للفسخ: القرع والعمى والعرج وقطع اليدين والرجلين؛ لأنه لا يمنع الاستمتاع، ولا يخشى تعديه. الرابع ـ رأي الزهري وشريح وأبي ثور، واختاره ابن القيم (¬1): يجوز طلب التفريق من كل عيب منفر بأحد الزوجين، سواء أكان مستحكماً، أم لم يكن كالعقم والخرس والعرج والطرش وقطع اليدين أو الرجلين أوإحداهما؛ لأن العقد قد تم على أساس السلامة من العيوب، فإذا انتفت السلامة فقد ثبت الخيار. ولما روى أبو عبيد عن سليمان بن يسار: «أن ابن سندر تزوج امرأة وهو خصي، فقال له عمر: أعلمتها؟ قال: لا، قال: أعلمها، ثم خيرها». والراجح لدي رأي الحنابلة؛ لعدم تحديد العيوب، ولأنهم قصروا جواز ¬
قيود الفرقة بالعيب
الفسخ على العيب الذي لا تتم معه مقاصد الزواج على وجه الكمال، وهذا هو المتفق مع مقتضى عقد الزواج. قيود الفرقة بالعيب: اتفق الفقهاء على أن الفرقة بالعيب تحتاج إلى حكم القاضي وادعاء صاحب المصلحة؛ لأن التفريق بالعيب أمر مجتهد فيه ومختلف فيه بين الفقهاء، فيحتاج إلى قضاء القاضي لرفع الخلاف، ولأن الزوجين يختلفان في ادعاء وجود العيب وعدم وجوده، وفي أنه يجوز التفريق به أو لا يجوز، وقضاء الحاكم يقطع دابر الخلاف. والقول قول منكر العلم بالعيب مع يمينه في عدم علمه بالعيب؛ لأنه الأصل. وإذا تبين أن الزوج مجبوب، فرَّق القاضي بين الزوجين في الحال ولم يؤجله؛ لعدم الفائدة في التأجيل. أما العنِّين والخصي فيؤجله الحاكم سنة من تاريخ الخصومة، أي الدعوى والترافع عند الحنفية والحنابلة، لاحتمال أن تثبت قدرته على الجماع في أثناء السنة على مرور الفصول، والتأجيل سنة مروي عن عمر وعلي وابن مسعود. وتبدأ السنة عند الشافعية والمالكية من وقت القضاء بالتأجيل، عملاً بقضاء عمر الذي رواه الشافعي والبيهقي. فإذا ادعى الزوج أثناء السنة حدوث الجماع: ففي رأي الحنفية والحنابلة: إن كانت المرأة ثيباً، فالقول قول الزوج بيمينه؛ لأن الظاهر يشهد له؛ لأن الأصل السلامة من العيوب، والقول لمن يشهد له الظاهر بيمينه. فإن حلف رفضت دعوى الزوجة، وإن امتنع عن الحلف، خيرها القاضي بين البقاء معه على هذه الحال وبين الفرقة، فإن اختارت الفرقة فرق بينهما.
شروط التفريق بالعيب
وإن كانت بكراً عذراء نظر إليها النساء، ويقبل قول امرأة واحدة والأولى عندالحنفية إراءتها لامرأتين، فإذا قالتا: هي بكر، بقي التأجيل لنهاية السنة لظهور كذبه، وإن قالتا: هي ثيب، حلّف الزوج فإن حلف لاحق لها، وإن نكل بقي التأجيل سنة، فإن شهدت النساء، وإلا فالقول قولها. وقال المالكية: إن ادعى الوطء في مدة السنة، صدق الزوج بيمينه، وإن نكل عن اليمين حَلَفت الزوجة: إنه لم يطأ، وفرق بينهما قبل تمام السنة إن شاءت. أما إن كان العيب غير الجب أو العنة أو الخصاء، ففي رأي المالكية: إن كان العي لا يرجى زواله بالعلاج، فرق القاضي بين الزوجين في الحال. وإن كان يرجى زواله بالعلاج، أجل القاضي التفريق لمدة سنة إن كان العيب من العيوب المشتركة بين الرجل والمرأة كالجنون والجذام والبرص. وإن كان من العيوب الخاصة بالمرأة فيؤجل التفريق بالاجتهاد حسبما تقتضي حالة العلاج من العيب. وإن ادعت المرأة أنها برئت من عيبها صدقت بيمينها. وتثبت العُنَّة عند الشافعية بإقرار الزوج عند الحاكم، أو ببينة تقام عند الحاكم على إقراره، أو بيمين المرأة المردودة عليها بعد إنكار الزوج العنة ونكوله عن اليمين في الأصح. وإذا ثبتت العنة ضرب القاضي له سنة كما فعل عمر رضي الله عنه، بطلب الزوجة؛ لأن الحق لها، فإذا مضت السنة رفعته إلى القاضي، فإن قال: وطِئت حُلِّف، فإن نكل عن اليمين حُلِّفت، فإن حَلَفت أو أقر هو بذلك، استقلت بالفسخ، كما يستقل بالفسخ من وجد بالمبيع عيباً. شروط التفريق بالعيب: اشترط الفقهاء شرطين لثبوت الحق في طلب التفريق بالعيب وهما:
العيب الحادث بعد الزواج
1ً - ألا يكون طالب التفريق عالماً بالعيب وقت العقد أو قبله: فإن علم به في العقد، وعقد الزواج، لم يحق له طلب التفريق؛ لأن قبوله التعاقد مع علمه بالعيب رضا منه بالعيب. 2ً - ألا يرضى بالعيب بعد العقد حال اطلاعه عليه: فإن كان طالب التفريق جاهلاً بالعيب، ثم علم به بعد إبرام العقد ورضي به، سقط حقه في طلب التفريق. وإن لم يرض بالعيب، فخيار العيب ثابت عند الشافعية على الفور، وعند الحنابلة على التراخي، فلا يسقط ما لم يوجد منه ما يدل على الرضا به إما صراحة، كأن يقول: رضيت، أو دلالة كالاستمتاع من الزوج والتمكين من المرأة؛ لأنه خيار لطالب التفريق لدفع ضرر متحقق، فكان على التراخي كخيار القصاص، وخيار العيب في المبيع. ومتى زال العيب قبل التفريق فلا فرقة، لزوال سببها، كالمبيع يزول عيبه. واشترط القانون السوري كما لاحظنا في المواد السابقة شروطاً ثلاثة أخرى من مذهب الحنفية: 1 - أن تطلب الزوجة التفريق فيما يحق لها، وإلا لم يفرق بينهما. 2 - أن تكون الزوجة خالية من العلل الجنسية كالرتق والقرن. 3 - أن يكون الزوج صحيحاً: فإن كان مريضاً ينتظر شفاؤه، ثم يمهل سنة في العنين والخصي. العيب الحادث بعد الزواج: إذا كان العيب قديماً موجوداً قبل الزواج، فلا خلاف بين أئمة المذاهب الأربعة في جواز التفريق به، بالشروط السابقة.
نوع الفرقة بسبب العيب
أما إذا حدث العيب بأحد الزوجين، فاختلف الفقهاء في جواز التفريق: قال الحنفية: إذا جُنَّ الرجل أو أصبح عنيناً بعد الزواج، وكان قد دخل بالمرأة، ولو مرة واحدة، لا يحق لها طلب الفسخ، لسقوط حقها بالمرة الواحدة قضاء، وما زاد عليه فهو مستحق ديانة لا قضاء. وفرق المالكية بين عيب الزوج وبين عيب الزوجة، فقالوا: إن كان العيب بالزوجة فليس للزوج الخيار أو طلب التفريق بهذا العيب، لأنه مصيبة نزلت به، وعيب حدث بالمعقود عليه بعد لزوم العقد، فأشبه العيب الحادثة بالمبيع. وإن كان العيب الحادث بالزوج، فللزوجة الحق في طلب التفريق إن كان العيب جنوناً أو جذاماً أو برصاً، لشدة التأذي بها، وعدم الصبر عليها، وليس لها الحق في طلب التفريق بالعيوب التناسلية الأخرى من جب أو عنة أو خصاء. وأطلق الشافعية والحنابلة القول بجواز التفريق بالعيب الحادث بعد الزواج كالعيب القائم قبله، لحصول الضرر به كالعيب المقارن للعقد، ولأنه لا خلاص للمرأة إلا بطلب التفريق بخلاف الرجل. لكن استثنى الشافعية طروء العنة بعد الدخول، فإنها لا تجيز طلب الفسخ، لحصول مقصود النكاح، واستيفائها حقها منه بمرة واحدة. نوع الفرقة بسبب العيب: للفقهاء رأيان: قال الحنفية والمالكية: هذه الفرقة طلاق بائن ينقص عدد الطلاق؛ لأن فعل القاضي يضاف إلى الزوج، فكأنه طلقها بنفسه، ولأنها فرقة بعد زواج صحيح، والفرقة بعد الزواج الصحيح عند المالكية تكون طلاقاً لا فسخاً.
أثر التفريق بالعيب على المهر
وإنما جعل الطلاق بائناً فلرفع الضرر عن المرأة، إذ لو جاز للزوج مراجعتها قبل انقضاء العدة، عاد الضرر ثانياً. وقال الشافعية والحنابلة: الفرقة بالعيب فسخ لا طلاق، والفسخ لا ينقص عدد الطلاق، وللزوج إعادة الزوجة بنكاح جديد بولي وشاهدي عدل ومهر؛ لأنها فرقة من جهة الزوجة إما بطلبها التفريق أو بسبب عيب فيها، والفرقة إذا كانت من جهة الزوجة تكون فسخاً لا طلاقاً. أثر التفريق بالعيب على المهر: عرفنا أن الحنفية لا يجيزون التفريق إلا بالعيوب التناسلية في الرجل، فإن كان التفريق قبل الدخول والخلوة، فللزوجة نصف المهر؛ لأن الفرقة بسبب الزوج، وإن كان التفريق بعد الدخول أو بعد الخلوة، فتجب العدة على المرأة إذا أقر الزوج أنه لم يصل إليها، ويجب لها المهر كله إن دخل بها أو خلا بها خلوة صحيحة؛ لأن خلوة العنين صحيحة تجب بها العدة (¬1). وإن تزوجها بعدئذ أو تزوجته وهي تعلم أنه عنين فلا خيار لها. وإن كان عنيناً، وهي رتقاء لم يكن لها خيار كما تقدم في شروط التفريق. وقال المالكية: إن كانت التفريق قبل الدخول ولو وقع بلفظ طلاق، فلا شيء للمرأة من المهر؛ لأن العيب إن كان بالرجل، فقد اختارت فراقه قبل قضاء مأربها، وكانت راضية بسقوط حقها في المهر، وإن كان العيب بالمرأة فتكون غارّة للرجل مدلسة عليه. وإن كان التفريق بعد الدخول، استحقت المهر المسمى كله، إن كان العيب في ¬
الزوج؛ لأنه يكون غارّاً للزوجة ومدلساً عليها، ثم إنه قد دخل بها، والدخول بالمرأة يوجب المهر كله. وإن كان العيب في الزوجة استحقت المهر كله بسبب الدخول، لكن يرجع الزوج بالمهر على وليها كأب وأخ وابن لتدليسه بالكتمان إن كان قريباً لا يخفى عليه حالها، وكان العيب ظاهراً كالجذام والبرص. أما إن كان الولي بعيداً كالعم والقاضي، أو كان العيب خفياً، فيرجع الزوج على الزوجة لا على الولي؛ لأن التغرير والتدليس منها وحدها. وقال الشافعية: الفسخ بالعيب قبل الدخول يسقط المهر، وإن كان بعد الدخول، وكان العيب مقارناً للعقد أو حادثاً بين العقد والوطء، وجهله الواطئ، فلها في الأصح مهر المثل. وإن حدث العيب بعد العقد والوطء، فلها في الأصح المهر المسمى كله. ولا يرجع الزوج بالمهر الذي غرمه على من غره من ولي أو زوجة بالعيب المقارن في المذهب الجديد (¬1)، لاستيفائه منفعة البضع المتقوم عليه بالعقد. أما العيب الحادث بعد العقد إذا فسخ به، فلا يرجع بالمهر جزماً لانتفاء التدليس. وقال الحنابلة: إن حدث الفسخ قبل الدخول فلا مهر للمرأة على الرجل، سواء أكان من جهة الزوج أم من جهة الزوجة، كما قال الشافعية وغيرهم. وإن حدث الفسخ بعد الدخول وجهل العيب، فلها المهر المسمى، لوجوبه بالعقد واستقراره بالدخول، ثم يرجع بالمهر على من غرَّه من امرأة عاقلة وولي ووكيل. لقول عمر رضي الله عنه: «أيما رجل تزوج بامرأة بها جنون أو جذام أو برص، فلها صداقها، وذلك لزوجها غرم على وليها» ولأنه غرَّه في النكاح بما يثبت به الخيار فكان المهر عليه، كما لو غره بحرية أمة. ¬
ملحق بهذا البحث ـ خيار الغرور أو خيار فوات الوصف المرغوب
ملحق بهذا البحث ـ خيار الغرور أو خيار فوات الوصف المرغوب: إذا غرر الزوج بصفة في زوجته، مثل كونها بكراً أو مسلمة أو حرة أو ذات نسب ونحو ذلك، فبان خلافه، فهل له فسخ الزواج؟! وهذا ما يعرف بخيار الغرور أو خيار فوات الوصف المرغوب. اختلف الفقهاء فيه على آراء (¬1)، الغالب فيها ثبوت الخيار وهو رأي الجمهور غير الحنفية: ذهب الحنفية والجعفرية والزيدية إلى أنه إذا اشترط أحد الزوجين في صاحبه صفة مرغوباً فيها، فبان على خلافه، لم يكن له الخيار في الفرقة، فإذا كان قد سمى لها مهراً أكثر من مهر مثلها بسبب هذا الشرط، كأن يشترط بكارتها أو تحصيلها شهادة معينة، فلم يتحقق ذلك، لم يلزم الزوج بأكثر من مهر مثلها. قال ابن الهمام في فتح القدير: «وفي النكاح لو شرط وصفاً مرغوباً فيه كالعُذْرة والجمال والرشاقة وصغر السن، فظهرت ثيباً عجوزاً شمطاء ذات شق مائل، ولعاب سائل، وأنف هائل، وعقل زائل، لا خيار له في فسخ النكاح به». وخالفهم المالكية فقرروا أن العاقد إذا قال للرجل: زوجتك هذه مسلمة فإذا هي كتابية، أو هذه حرة فإذا هي أمة، أو هذه بكر فإذا هي ثيب، أو اشترط أحد الزوجين وصفاً مرغوباً في الآخر كصغر السن والجمال، فبان خلافه، انعقد الزواج، وله الخيار بين الرضا والرد. وفصل الشافعية فقالوا: لو تزوج رجل امرأة وشُرط في العقد إسلام ¬
الزوجة، أو شرط في أحد الزوجين نسب أو حرية أوغيرهما مما لا يمنع عدم توافره صحة الزواج من صفات الكمال، كبكارة وشباب، أو من صفات النقص كضد ذلك، أو ما يتوسط بين صفتي الكمال كطول وبياض وسمرة، فبان خلافه، فالأظهر صحة النكاح؛ لأن الخُلْف في الشرط لا يوجب فساد البيع مع تأثره بالشروط الفاسدة، فالنكاح أولى بعدم الفساد. ثم إن بان الموصوف بالشرط خيراً مما شُرط فيه فلا خيار، وإن بان دونه، فلمن شرط له: الخيار، للخُلْف. أما لو ظن الرجل، بلا شرط، أن المرأة مسلمة، فبانت كتابية، أو حرة فبانت أمة، وهي تحل له، فلا خيار له فيهما في الأظهر؛ لأن الظن لا يثبت الخيار لتقصيره بترك البحث أو الاشتراط. وكذا لو أذنت المرأة لوليها في تزويجها بمن ظنته كفئاً لها، فبان فسقه أو دناءة نسبه أو حرفته، فلا خيار لها ولا لوليها؛ لأن التقصير منها ومنه، حيث لم يبحثا ولم يشرطا، لكن لو بان الزوج معيباً أو عبداً وهي حرة فلها الخيار. وفصل الحنابلة تفصيلاً آخر فقالوا: إن غرَّ الرجل المرأة بما يخل بأمر الكفاءة كالحرية أو النسب الأدنى، فلها الخيار بين الفسخ والإمضاء، فإن اختارت الإمضاء فلأوليائها الاعتراض لعدم الكفاءة. وإن لم يعتبر الوصف في الكفاءة كالفقه والجمال ونحوهما، فلا خيار لها؛ لأن ذلك مما لا يعتبر في الكفاءة، فلا يؤثر اشتراطه. أما إن شرط الرجل كون المرأة مسلمة فبانت كافرة، فله الخيار، لأنه نقص وضرر يتعدى إلى الولد. وإن شرط الرجل كونها بكراً فبانت ثيباً فعن أحمد كلام يحتمل أمرين: أحدهما ـ لا خيار له، والثاني ـ له الخيار، لأنه شرط صفة مقصودة.
المبحث الثالث ـ التفريق للشقاق أو للضرر وسوء العشرة
وإذا تزوج امرأة يظنها حرة أو مسلمة، فبان خلافه، ثبت له الخيار. المبحث الثالث ـ التفريق للشقاق أو للضرر وسوء العشرة: المقصود بالشقاق والضرر: الشقاق هو النزاع الشديد بسبب الطعن في الكرامة. والضرر: هو إيذاء الزوج لزوجته بالقول أو بالفعل، كالشتم المقذع والتقبيح المخل بالكرامة، والضرب المبرِّح، والحمل على فعل ما حرم الله، والإعراض والهجر من غير سبب يبيحه، ونحوه. رأي الفقهاء في التفريق للشقاق: لم يجز الحنفية والشافعية والحنابلة (¬1) التفريق للشقاق أو للضرر مهما كان شديداً؛ لأن دفع الضرر عن الزوجة يمكن بغير الطلاق، عن طريق رفع الأمر إلى القاضي، والحكم على الرجل بالتأديب حتى يرجع عن الإضرار بها. وأجاز المالكية (¬2) التفريق للشقاق أو للضرر، منعاً للنزاع، وحتى لا تصبح الحياة الزوجية جحيماً وبلاء، ولقوله عليه الصلاة والسلام: «لا ضرر ولا ضرار». وبناء عليه ترفع المرأة أمرها للقاضي، فإن أثبتت الضرر أو صحة دعواها، طلقها منه، وإن عجزت عن إثبات الضرر رفضت دعواها، فإن كررت الادعاء بعث القاضي حكمين: حكماً من أهلها وحكماً من أهل الزوج، لفعل الأصلح من جمع وصلح أو تفريق بعوض أو دونه، لقوله تعالى: {وإن خفتم شقاق بينهما، فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها} [النساء:35/ 4]. ¬
شروط الحكمين
واتفق الفقهاء على أن الحكمين إذا اختلفا لم ينفذ قولهما، واتفقوا على أن قولهما في الجمع بين الزوجين نافذ بغير توكيل من الزوجين. واختلف الفقهاء في تفريق الحكمين بين الزوجين إذا اتفقا عليه، هل يحتاج إلى إذن من الزوج أو لا يحتاج إليه؟ فقال الجمهور؛ يعمل الحكم بتوكيل من الزوج، فليس للحكمين أن يفرقا بين الزوجين إلا أن يجعل الزوج إليهما التفريق؛ لأن الأصل أن الطلاق ليس بيد أحد سوى الزوج أو من يوكله الزوج. لأن الطلاق إلى الزوج شرعاً، وبذل المال إلى الزوجة، فلا يجوز إلا بإذنهما. وقال المالكية: ينفذ قول الحكمين في الفرقة والاجتماع بغير توكيل الزوجين ولا إذن منهما فيهما، بدليل ما رواه مالك عن علي بن أبي طالب أنه قا ل في الحكمين: «إليهما التفرقة بين الزوجين والجمع» فالإمام مالك يشبّه الحكمين بالسلطان، والسلطان يُطلِّق في رأيه بالضرر إذا تبين، وقد سماهما الله حكمين في قوله تعالى: {فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها} [النساء:35/ 4] ولم يعتبر رضا الزوجين. شروط الحكمين: يشترط في الحكمين: أن يكونا رجلين عدلين خبيرين بما يطلب منهما في هذه المهمة، ويستحب أن يكونا من أهل الزوجين، حكماً من أهله وحكماً من أهلها بنص الآية السابقة، فإن لم يكونا من أهلهما بعث القاضي رجلين أجنبيين، ويستحسن أن يكونا من جيران الزوجين ممن لهما خبرة بحال الزوجين، وقدرة على الإصلاح بينهما.
نوع الفرقة للشقاق
نوع الفرقة للشقاق: الطلاق الذي يوقعه القاضي للشقاق طلاق بائن؛ لأن الضرر لا يزول إلا به؛ لأنه إذا كان الطلاق رجعياً تمكن الزوج من مراجعة المرأة في العدة، والعودة إلى الضرر. موقف القانون: أخذ القانونان في مصر وسورية بمذهب المالكية فأجاز كلاهما التفريق للشقاق والضرر. ونص القانون المصري رقم (25) لسنة (1929) في المواد (6 - 11) والقانون السوري في المواد (112 - 115) على أحكام التفريق للشقاق، وهي أحكام متفق عليها في القانونين، إلا أن القانون المصري لم يذهب إلى التفريق بسبب إساءة الزوجة، وأخذ القانون السوري بمذهب المالكية في أن التفريق يكون بسبب الضرر من أحد الزوجين. وعدَّل القانون السوري سنة (1975) المادة (3/ 112)، فلم يحكم بالتفريق في الحال، وإنما يؤجل القاضي المحاكمة مدة لا تقل عن شهر إذا لم يثبُت الضرر أملاً بالمصالحة. وأذكر بإيجاز مضمون مواد القانون السوري: إذا ادعى أحد الزوجين إضرار الآخر به، جاز له طلب التفريق من القاضي (1/ 112)، وإذا ثبت الإضرار، وعجز القاضي عن الإصلاح فرق بينهما، وذلك بطلقة بائنة (م 2/ 112) وإذا لم يثبت الضرر يؤجل القاضي المحاكمة مدة لا تقل عن شهر. فإن أصر المدعي على الشكوى بعث القاضي حكمين من أهل الزوجين، وإلا ممن يرى القاضي فيه قدرة على الإصلاح بينهما، وحلفهما يميناً على أن يقوما بمهمتهما بعدل وأمانة (م 3/ 112).
وعلى الحكمين أن يتعرفا أسباب الشقاق بين الزوجين، ثم يجمعانهما في مجلس تحت إشراف القاضي (م 1/ 113)، ولا يؤثر في التحكيم تخلف أحد الزوجين عن الحضور بعد تبليغه (م 2/ 113).وعمل الحكمين أولاً هو محاولة الإصلاح بين الزوجين، فإذا عجزا عنه وكانت الإساءة أو أكثرها من الزوج قررا التفريق بطلقة بائنة (م 1/ 114). وإذا كانت الإساءة من الزوجة أو مشتركة بين الزوجين قررا التفريق على تمام المهر أو على جزء منه بحسب مدى الإساءة (م 2/ 114). وللحكمين تقرير التفريق مع عدم الإساءة من أحد الزوجين على براءة ذمة الزوج من بعض حقوق الزوجة إذا رضيت بذلك، واستحكم الشقاق بينهما (م 3/ 114). وإذا اختلف الحكمان حكَّم القاضي غيرهما، أو ضم إليهما ثالثاً مرجحاً، وحلفه اليمين، كمايحلف الحكمان على أداء مهمتهما بعدل وأمانة (م 4/ 114). ولا يملك الحكمان التفريق، وإنما يرفعان تقريرهما إلى القاضي ولو كان غير معلل، ويفوض الأمر إلى القاضي بالحكم بمقتضاه أو رفض التقرير، وتعيين حكمين آخرين للمرة الأخيرة (م 115). ويلاحظ أن مهمة الحكمين هي الإصلاح أولاً، ثم رفع تقرير إلى القاضي بالتفريق، احتياطاً في أمر الطلاق. لكن المقرر في المذهب المالكي كما تقدم أن الحكمين يوقعان الطلاق بناء على التفويض الكامل من القاضي. فإذا قيد القاضي صلاحية الحكمين برفع تقرير كما ذهب القانون، لم يكن في الأمر مخالفة للمالكية.
المبحث الرابع ـ طلاق التعسف
المبحث الرابع ـ طلاق التعسف: التعسف: هو إساءة استعمال الحق بحيث يؤدي إلى ضرر بالغير، وذكر القانون السوري (م 116، 117) حالتين للتعسف في استعمال الطلاق وهما: الطلاق في مرض الموت أي طلاق الفارّ، والطلاق بغير سبب معقول (¬1). أولاً ـ الطلاق في مرض الموت أو طلاق الفرار: تبين سابقاً أنه إذا طلق الزوج زوجته طلاقاً بائناً في مرض موته، أو ما في حكمه كإشراف سفينة على الغرق، فينفذ الطلاق باتفاق الفقهاء، ولا ترث المرأة عند الشافعية، ولو أراد الفرار من توريثها ومات الزوج في أثناء العدة؛ لأن الطلاق البائن يقطع الزوجية. وأخذ القانون السوري والمصري برأي الجمهور (غير الشافعية) في توريث المرأة في طلاق الفارّ إذا مات الزوج وهي في العدة. وترث أيضاً عند الحنابلة ولو مات بعد انقضاء العدة ما لم تتزوج، وترث عند المالكية ولو تزوجت بآخر. ونص القانون السوري على ما سبق في المادة (116) الآتية: من باشر سبباً من أسباب البينونة في مرض موته أو في حالة يغلب في مثلها الهلاك طائعاً، بلا رضا زوجته، ومات في ذلك المرض أو في تلك الحالة، والمرأة في العدة، فإنها ترث منه بشرط أن تستمر أهليتها للإرث من وقت الإبانة إلى الموت. ¬
ثانيا ـ الطلاق بغير سبب معقول
والسبب في تقرير الإرث على الرغم من الطلاق: هو معاملة الزوج بنقيض مقصوده، فإنه أراد إبطال حق الزوجة في الميراث، فيرد عليه قصده، ما دامت العدة باقية، لبقاء آثار الزوجية. فإن دلت القرائن على أنه لم يرد حرمانها من الإرث، كأن يكون الطلاق بطلبها أو عن طريق المخالعة، فلا ترث في عدة الطلاق البائن، وترث في عدة الطلاق الرجعي. ويشترط لإرث المرأة في طلاق الفارّ: أن تكون مستحقة للإرث منذ الطلاق حتى وفاة الزوج، فإن كانت غير مستحقة للإرث وقت الطلاق كأن كانت كتابية، أو غير مستحقة للإرث وقت وفاة الزوج، كأن كانت مسلمة عند الطلاق، ثم ارتدت عند الوفاة، فلا ترث. ثانياً ـ الطلاق بغير سبب معقول: نص القانون السوري (م 117 معدلة) على ما يلي: إذا طلق الرجل زوجته، وتبين للقاضي أن الزوج متعسف في طلاقها دون ما سبب معقول، وأن الزوجة سيصيبها بذلك بؤس وفاقة، جاز للقاضي أن يحكم لها على مطلقها بحسب حاله ودرجة تعسفه بتعويض لا يتجاوز مبلغ نفقة ثلاث سنوات لأمثالها فوق نفقة العدة، وللقاضي أن يجعل دفع هذا التعويض جملة أو شهرياً بحسب مقتضى الحال. وقد تضمن هذا التعديل عام (1975) أمرين: الأول ـ عدم تقييد الزوجة بكونها فقيرة. والثاني ـ جعل التعويض مقدراً بنفقة ثلاث سنوات، بدلاً من سنة في الماضي.
المبحث الخامس ـ التفريق للغيبة
ومستند هذا الحكم الجديد: هو العمل بمبدأ السياسة الشرعية العادلة التي تمنع ظلم المرأة وتعريضها للفاقة والحرمان بسبب تعنت الزوج. وربما يستند هذا الحكم إلى المتعة المعطاة للمطلقة والتي أوجبها بعض الفقهاء، واستحبها بعضهم، ورغب فيها القرآن وجعلها بالمعروف، فيترك تقديرها للقاضي بحسب العرف. المبحث الخامس ـ التفريق للغيبة: أولاً ـ آراء الفقهاء: للفقهاء رأيان في التفريق بين الزوجين إذا غاب الزوج عن زوجته، وتضررت من غيبته، وخشيت على نفسها الفتنة: قال الحنفية والشافعية (¬1): ليس للزوجة الحق في طلب التفريق بسبب غيبة الزوج عنها، وإن طالت غيبته، لعدم قيام الدليل الشرعي على حق التفريق، ولأن سبب التفريق لم يتحقق. فإن كان موضعه معلوماً بعث الحاكم لحاكم بلده، فيلزم بدفع النفقة. ورأى المالكية والحنابلة (¬2) جواز التفريق للغيبة إذا طالت، وتضررت الزوجة بها، ولو ترك لها الزوج مالاً تنفق منه أثناء الغياب؛ لأن الزوجة تتضرر من الغيبة ضرراً بالغاً، والضرر يدفع بقدر الإمكان، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار» ولأن عمر رضي الله عنه كتب في رجال غابوا عن نسائهم، فأمرهم أن ينفقوا أو يطلقوا. ¬
ثانيا ـ موقف القانون من التفريق للغيبة
لكن اختلف هؤلاء في نوع الغيبة ومدتها وفي التفريق حالاً، وفي نوع الفرقة: ففي رأي المالكية: لا فرق في نوع الغيبة بين أن تكون بعذر كطلب العلم والتجارة أم بغير عذر. وجعلوا حد الغيبة الطويلة سنة فأكثر على المعتمد، وفي قول: ثلاث سنوات. ويفرق القاضي في الحال بمجرد طلب الزوجة إن كان مكان الزوج مجهولاً، وينذره إما بالحضور أو الطلاق أو إرسال النفقة، ويحدد له مدة بحسب ما يرى إن كان مكان الزوج معلوماً. ويكون الطلاق بائناً؛ لأن كل فرقة يوقعها القاضي تكون طلاقاً بائناً إلا الفرقة بسبب الإيلاء وعدم الإنفاق. وفي رأي الحنابلة: تجوز الفرقة للغيبة إلاإذا كانت لعذر، وحد الغيبة ستة أشهر فأكثر، عملاً بتوقيت عمر رضي الله عنه للناس في مغازيهم، ويفرق القاضي في الحال متى أثبتت الزوجة ما تدعيه. والفرقة تكون فسخاً لا طلاقاً، فلا تنقص عدد الطلقات؛ لأنها فرقة من جهة الزوجة، والفرقة من جهة الزوجة تكون عندهم فسخاً. ولا تكون هذه الفرقة إلا بحكم القاضي، ولا يجوز له التفريق إلا بطلب المرأة؛ لأنه لحقها، فلم يجز من غير طلبها كالفسخ للعنة. ثانياً ـ موقف القانون من التفريق للغيبة: نص القانون المصري لعام 1929 (م 12، 13) على جواز التفريق للغيبة لمدة سنة فأكثر بلا عذر مقبول، بعد إنذار الزوجة بتطليقها عليه إن لم يحضر أو ينقلها إليه، أو يطلقها، وتكون الفرقة طلاقاً بائناً، أخذاً برأي المالكية. ونص القانون السوري على التفريق للغيبة في المادة (109) التالية:
المبحث السادس ـ التفريق للحبس
1 - إذا غاب الزوج بلا عذر مقبول، أو حكم بعقوبة السجن أكثر من ثلاث سنوات جاز لزوجته بعد سنة من الغياب أو السجن أن تطلب إلى القاضي التفريق ولو كان له مال تستطيع الإنفاق منه. 2 - هذا التفريق طلاق رجعي، فإذا رجع الغائب، أو أطلق السجين، والمرأة في العدة، حق له مراجعتها. دل النص على أنه يشترط للتفريق ما يلي: 1ً - أن تمضي سنة فأكثر على الغياب. 2ً - أن يكون الغياب لغير عذر مقبول. فإن كان لعذر مقبول لم يحق لها طلب التفريق، كالغياب في الجهاد أو الجندية الإجبارية أو لطلب العلم. والتفريق للغيبة بطلب الزوجة يكون في الحال إن كان مكان الزوج غير معلوم. أما إن كان مكانه معلوماً، فيطلب القاضي منه أن يحضر لأخذ زوجته إليه، ويحدد له أجلاً معيناً، فإن لم يفعل فرق القاضي بينهما. والتفريق طلاق رجعي، وهذا مخالف لمذهب المالكية في أنه طلاق بائن، ولمذهب الحنابلة في أنه فسخ. المبحث السادس ـ التفريق للحبس: لم يجز جمهور الفقهاء غيرالمالكية التفريق لحبس الزوج أو أسره أو اعتقاله، لعدم وجود دليل شرعي بذلك. ولاتعد غيبة المسجون ونحوه عند الحنابلة غيبة بعذر.
المبحث السابع ـ التفريق بالإيلاء
أما المالكية (¬1) فأجازوا طلب التفريق للغيبة سنة فأكثر، سواء أكانت بعذر أم بدون عذر، كما تقدم. فإذا كانت مدةا لحبس سنة فأكثر جاز لزوجته طلب التفريق، ويفرق القاضي بينهما، بدون كتابة إلى الزوج أو إنظار. وتكون الفرقة طلاقاً بائناً. ونص القانون المصري لسنة 1929 (م 14) على حق المرأة في طلب التفريق بعد مضي سنة من حبس زوجها الذي صدر في حقه عقوبة حبس مدة ثلاث سنين فأكثر، والطلاق بائن، كما هو رأي المالكية. أما القانون السوري فذكر في المادة (109) السابقة هذا الحق كالتفريق للغيبة على السواء. المبحث السابع ـ التفريق بالإيلاء: لم يتعرض قانون الأحوال الشخصية السوري لحالتين من حالات انحلال الزواج وهما الإيلاء والظهار، كما لم يتعرض للعان. أولاً ـ تاريخ الإيلاء ومعناه وألفاظه: الإيلاء لغة: الحلف، وهو يمين، وكان هو والظهار طلاقاً في الجاهلية، وكان يستخدمه العرب بقصد الإضرار بالزوجة، عن طريق الحلف بترك قربانها السنة فأكثر، ثم يكرر الحلف بانتهاءالمدة، ثم جاء الشرع فغيَّر حكمه، وجعله يميناً ينتهي بمدة أقصاها أربعة أشهر، فإن عاد حنث في يمينه، ولزمته كفارة اليمين إن حلف بالله تعالى أو بصفة من صفاته التي يحلف بها. قال ابن عباس (¬2) «كان إيلاء أهل ¬
الجاهلية السنة والسنتين وأكثر من ذلك، فوقَّته الله أربعة أشهر» فمن كان إيلاؤه أقل من أربعة أشهر، فليس بإيلاء، أي أن الشرع أقره طلاقاً وزاد فيه الأجل. والأصل في تنظيم يمين الإيلاء وحكمه قوله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر، فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم، وإن عزموا الطلاق، فإن الله سميع عليم} [البقرة:226/ 2 - 227]. وعدِّي الإيلاء في الآية بمن، والأصل أن يعدى بعلى، لأن كلمة (يؤلون) ضُمِّنت معنى: يعتزلون أو معنى البعد، كأنه قال: يؤلون مبعدين أنفسهم من نسائهم. والفيء: الرجوع لغة، والمراد به فقهاً: الجماع، بالاتفاق. والإيلاء: حرام عند الجمهور للإيذاء، ولأنه يمين على ترك واجب، مكروه تحريماً عند الحنفية. والإيلاء شرعاً: الحلف ـ بالله تعالى أو بصفة من صفاته أو بنذر أو تعليق طلاق ـ على ترك قربان زوجته مدة مخصوصة. وهذا تعريف الحنفية (¬1) فلا يصح إيلاء الصبي والمجنون، ويصح عندهم إيلاء الكافر؛ لأنه من أهل الطلاق. وعرفه المالكية (¬2) بأنه حلف زوج مسلم مكلف ممكن الوطء بما يدل على ترك وطء زوجته غير المرضع أكثر من أربعة أشهر، سواء أكان الحلف بالله أم بصفة من صفاته، أم بالطلاق، أم بمشي إلى مكة، أم بالتزام قربة. يتبين من التعريف أن الإيلاء يختص عند المالكية بالزوج المسلم لا الكافر، وبالمكلف (البالغ العاقل) لا الصبي والمجنون، وبالممكن وطؤه ولو سكراناً، لا ¬
ألفاظ الإيلاء
المجبوب والخصي، والشيخ الفاني، فلا ينعقد لهم إيلاء، كما لا إيلاء من المرضع، لما في ترك وطئها من إصلاح الولد، ولا إيلاء فيما دون الأربعة أشهر. وعرفه الشافعية (¬1): بأنه حلف زوج يصح طلاقه على الامتناع من وطء زوجته مطلقاً، أو فوق أربعة أشهر، سواء في المذهب الجديد أكان حلفاً بالله أم بصفة من صفاته، أم باليمين بالطلاق مثل: إن وطئتك فأنت أو ضَرتك طالق؛ لأنه يمين يلزمه بالحنث فيها حق، فصح به الإيلاء، كاليمين بالله عز وجل، أم بنذر مثل: إن وطئتك فلله علي صلاة أو صوم أو حج. وذلك وفاقاً للمالكية. فلا يصح إيلاء من الصبي والمجنون والمكره لعدم صحة طلاقهم، ولا يصح أيضاً إيلاء عنِّين ومجبوب؛ لأنه وإن صح طلاقهما لا يصح إيلاؤهما؛ لأنه لا يتحقق منها قصد الإيذاء بالامتناع عن الجماع. وعرفه الحنابلة (¬2): بأنه حلف زوج يمكنه الجماع، بالله تعالى أو بصفة من صفاته، على ترك وطء امرأته الممكن جماعها، ولو كان الحلف قبل الدخول، مطلقاً أو أكثر من أربعة أشهر أو ينويها. فلا يصح إيلاء عنين ومجبوب لعدم إمكان الجماع، ولا الحلف بالطلاق ونحوه ولا بنذر، ولا إيلاء من رتقاء ونحوها. وعلى هذا يصح الإيلاء من الكافر في مذهبي الشافعية والحنابلة كالحنفية. ألفاظ الإيلاء: الإيلاء إما بلفظ صريح وإما بلفظ كناية يدل على الامتناع من الجماع (¬3). ¬
الألفاظ الصريحة
من الألفاظ الصريحة عند الحنفية والمالكية: قول الزوج لزوجته: والله لا أقربك أو لا أجامعك أو لا أطؤك أو لا أغتسل منك من جنابة، ونحوه من كل ما ينعقد به اليمين، أو قوله: (والله لا أقربك أربعة أشهر) حتى ولو كان الكلام موجهاً لحائض، لتعيين المدة. أو قوله عند الجمهور غير الحنابلة: إن قربتك فعلي حج أو نحوه مما يشق فعله، أما ما لا يشق فعله مثل: (فعلي صلاة ركعتين) فليس بمولٍ عند الحنفية لعدم مشقتهما، بخلاف قوله: فعلي مئة ركعة، فإنه يكون مولياً. أو قوله عند غير الحنابلة: إن قربتك فأنت طالق. وعلى هذا فالصريح عند الحنفية لفظان: الجماع وما في معناه من التعبير بالنون والكاف (¬1)، وما يجري مجرى الصريح ألفاظ ثلاثة: القربان والمباضعة والوطء. وصريح الإيلاء عند الشافعية: الحلف على ترك الوطء أو الجماع أو افتضاض البكر ونحو ذلك، والصريح عند الحنابلة: ثلاثة ألفاظ وهي قوله: والله لا آتيك، ولا أدخل ولا أغيب أو أولج ذكري في فرجك، ولا افتضضتك للبكر خاصة. وعندهم ألفاظ عشرة صريحة في الحكم أو القضاء، ويدين فيها ما نواه عندهم فيما بينه وبين الله تعالى: وهي لا وطئتك، ولا جامعتك، ولا أصبتك، ولا باشرتك، ولا مسستك، ولا قربتك، ولا أتيتك، ولا باضعتك، ولا باعلتك، ولا اغتسلت منك، فهذه صريحة قضاء لأنها تستعمل عرفاً في الوطء. والجديد عند الشافعية: أن الحلف بألفاظ الملامسة والمباضعة والمباشرة والإتيان والغشيان والقِرْبان والإفضاء والمس والدخول ونحوها كنايات تفتقر لنية الوطء؛ لأن لها حقائق غيرالوطء، ولم تشتهر اشتهار ألفاظ الوطء والجماع والإيلاج وافتضاض البكر. ¬
أصل حكم الإيلاء
وأصل حكم الإيلاء: قوله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم. وإن عزموا الطلاق، فإن الله سميع عليم} [البقرة:226/ 2 - 227]. ومن ألفاظ الكناية التي تحتاج إلى نية عند الحنفية: أن يحلف بقوله: لا أمسك، لا آتيك، لا أغشاك؛ لا أقرب فراشك، لا أدخل عليك. ولو قال: «أنت علي حرام» فهو إيلاء إن نوى التحريم، أو لم ينو شيئاً، وظهار إن نواه، فإن نوى الكذب فهو إيلاء قضاء؛ لأن تحريم الحلال يمين، وهدر باطل ديانة. وألفاظ الكناية التي لا تكون إيلاء إلا بالنية عند الحنابلة هي ما عدا الألفاظ السابقة الصريحة في حكم الصريح، كقول الزوج: والله لا يجمع رأسي ورأسك شيء، لا قربت فراشك، لا آويت معك، لا نمت عندك، لأسوأنك، لأغيظنك، لتطولن غيبتي عنك، لا مسّ جلدي جلدك ونحوها، فإن أراد بها الجماع واعترف بذلك، كان مولياً، وإلا فلا؛ لأن هذه الألفاظ ليست ظاهرة في الجماع كظهور التي قبلها، ولم يرد النص باستعمالها فيه، إلا أن هذه الألفاظ نوعان: نوع منها يفتقر إلى نية الجماع والمدة معاً: وهي لأسوأنك، ولأغيظنك، ولتطولن غيبتي عنك، فلا يكون مولياً حتى ينوي ترك الجماع في مدة تزيد على أربعة أشهر. وباقي الألفاظ يكون مولياً بنية ترك الجماع فقط. لغة الإيلاء: يصح الإيلاء بكل لغة عربية وعجمية (¬1)، سواء أكان المولي ممن يحسن العربية أم ممن لا يحسنها، فيصح من عجمي بالعربية، ومن عربي بالعجمية إن عرف المعنى كما في الطلاق وغيره؛ لأن اليمين تنعقد بغير العربية، وتجب بها الكفارة، والمولي: هو الحالف بالله على ترك وطء زوجته، الممتنع من ذلك بيمينه. ¬
ثانيا ـ أركان الإيلاء وشروطه
ثانياً ـ أركان الإيلاء وشروطه: ركن الإيلاء عند الحنفية: هو الحلف على ترك قربان امرأته مدة، ولو ذمياً، أو هو الصيغة التي ينعقد بها، من الألفاظ الصريحة أو الكناية المتقدمة، وما عداها فهو من شروط الإيلاء، وينعقد الإيلاء ككل الأيمان سواء في حالة الرضا أو الغضب. وأما عند الجمهور فللإيلاء أركان أربعة: هي الحالف، والمحلوف به، والمحلوف عليه، والمدة (¬1). 1 - الحالف: هو المولي وهو عند المالكية: كل زوج مسلم عاقل بالغ يتصور منه الوقاع، حراً كان أو عبداً، صحيحاً كان أو مريضاً، فلا يصح إيلاء الذمي. وهو عند الحنفية: كل زوج له أهلية الطلاق، وهو كل عاقل بالغ، مالك النكاح، وأضافه إلى الملك، أو هو الذي لا يمكنه قربان امرأته إلا بشيء شاق يلزمه. فلا يصح إيلاء الصبي والمجنون؛ لأنهما ليسا من أهل الطلاق، ويصح إيلاء الذمي الكافر؛ لأن الكافر من أهل الطلاق، ويصح إيلاء العبد بما لا يتعلق بالمال، مثل إن قربتك فعلي صوم أو حج أو عمرة، أو امرأتي طالق، أو والله لا أقربك، فإن حنث لزمه الكفارة بالصوم. أما ما يتعلق بالمال مثل إن قربتك فعلي عتق رقبة، أو أن أتصدق بكذا، فلا يصح؛ لأنه ليس من أهل ملك المال. ولا يصح الإيلاء لو قال لامرأة أجنبية، أو لمن أبانها بثلاث أو بطلاق بائن: «والله لا أقربك» لأنه غير مالك النكاح، لكن إن أضاف ذلك إلى الملك بأن قال للأجنبية أو المبانة منه: إن تزوجتك فوالله لا أقربك، كان مولياً. ¬
2 - المحلوف به
والمولي عند الشافعية: كل زوج يصح طلاقه أو هو كل زوج بالغ عاقل قادر على الوطء. فلا يصح إيلاء الصبي والمجنون والمكره، والمجبوب والأشل، ولا يصح الإيلاء على المذهب من رتقاء أو قرناء؛ لأنه لا يتحقق منه قصد الإيذاء والإضرار، لامتناع الأمر في نفسه. ويصح إيلاء المريض والمحبوس والحر والعبد، والمسلم والكافر والخصي والسكران المتعدي بسكره؛ لأنه يصح طلاقه في الجملة. والحالف المولي عند الحنابلة: هو كل زوج يمكنه الجماع، يحلف بالله تعالى أو بصفة من صفاته على ترك وطء امرأته الممكن جماعها أكثر من أربعة أشهر. فلا يصح إيلاء عاجز عن وطء مثل عنِّين ومجبوب وأشل، ولا بنذر أو طلاق ونحوه، ولا من امرأة رتقاء ونحوها، ولا يصح من صبي مميز أو مجنون أو مغمى عليه، ويصح الإيلاء من كافر وعبد وغضبان وسكران ومريض مرجو برؤه، ومن لم يدخل بزوجته. وبه يتبين أن الجمهور يجيزون إيلاء الكافر، والمالكية لا يجيزونه. 2 - المحلوف به: هو الله تعالى وصفاته بالاتفاق، وكذا عند الجمهور غير الحنابلة: كل يمين يلزم عنها حكم كالطلاق والعتق والنذر لصيام أو صلاة أو حج وغير ذلك. وخص الحنابلة المحلوف به بالله تعالى أو صفة من صفاته، لا بطلاق أو نذر ونحوهما. ورأى المالكية والحنابلة: أن من ترك الوطء بغير يمين، لزمه حكم الإيلاء إذا قصد الإضرار، فيحدد له مدة أربعة أشهر، ثم يحكم له بحكم الإيلاء؛ لأنه تارك لوطئها ضرراً بها، فأشبه المولي.
3 - المحلوف عليه
وكذلك من ظاهر من زوجته، ولم يكفِّر كفارة الظهار، تضرب له مدة الإيلاء ضرراً بها، فأشبه المولي، ويثبت له حكمه، لقصده الإضرار بها أيضاً. 3 - المحلوف عليه: هو الجماع، بكل لفظ يقتضي ذلك، مثل: لا جامعتك ولا اغتسلت منك، ولا دنوت منك، وشبه ذلك من الألفاظ الصريحة والكناية المتقدمة. 4 - المدة: وهي في رأي الجمهور غير الحنفية أن يحلف الزوج ألا يطأ زوجته أكثر من أربعة أشهر. وفي رأي الحنفية: أقل المدة أربعة أشهر فأكثر. فلو حلف على ثلاثة أشهر أوأربعة لم يكن مولياً عند الجمهور، ويكون مولياً عند الحنفية في أربعة أشهر، وليس مولياً في أقل من أربعة أشهر. وسبب اختلافهم يرجع إلى اختلافهم في الفيء: وهو الرجوع إلى قربان الزوجة، هل يكون قبل مضي الأربعة أشهر أو يكون بعد مضيها؟ فالحنفية قالوا: يكون الفيء قبل مضيها، فتكون مدة الإيلاء أربعة أشهر، والجمهور قالوا: الفيء بعد مضيها، فتكون مدة الإيلاء أزيد من أربعة أشهر. شروط الإيلاء: شروط الإيلاء عند الحنفية (¬1) ستة وهي ما يأتي: 1ً - محلية المرأة بكونها زوجة، ولو حكماً كالمعتدة من طلاق رجعي، وقت تنجيز الإيلاء، فإن كانت المرأة بائنة من زوجها بثلاث أو بلفظ بائن لم يصح الإيلاء منها. ¬
الحنابلة وبقية المذاهب
2ً - وأهلية الزوج للطلاق: فصح إيلاء الذمي بغير ما هو قربة محضة من نحو حج وصوم. وفائدة تصحيح إيلاء الذمي، وإن لم تلزمه الكفارة بالحنث: هي وقوع الطلاق بترك قربان المرأة في مدة الإيلاء. 3ً - ألا يقيد بمكان: لأنه يمكن قربان المرأة في غيره. 4ً - ألا يجمع بين الزوجة وغيرها كأجنبية؛ لأنه يمكنه قربان امرأته وحدها بلا لزوم شيء. 5ً - أن يكون المنع من القربان فقط. 6ً - ترك الفيء أي الجماع في المدة المقررة وهي أربعة أشهر؛ لأن الله تعالى جعل عزم الطلاق شرطاً لوقوعه بقوله: {فإن عزموا الطلاق، فإن الله سميع عليم} [البقرة:227/ 2] وكلمة (إن) للشرط، وعزم الطلاق: ترك الفيء في المدة. ودليلهم على أن المدة هي أربعة أشهر: أن الفيئة تكون في مدة الأربعة أشهر، لا بعدها. وذكر الحنابلة وبقية المذاهب أربعة شروط للإيلاء هي ما يأتي (¬1): 1ً - أن يحلف الزوج بالله عز وجل أو بصفة من صفاته كالرحمن ورب العالمين ألا يطأ زوجته أكثر من أربعة أشهر أو يحلف عند المالكية والشافعية والحنفية على ترك الوطء بطلاق أو عتاق أو نذر صدقة المال أو الحج أو الظهار، لما قال ابن عباس: «كل يمين منعت جماعها فهي إيلاء» ولأنها يمين منعت جماعها فكانت ¬
إيلاء كالحلف بالله، ولأن تعليق الطلاق والعتاق على وطئها حلف، فيكون مولياً لتحقق المنع باليمين، وهو ذكر الشرط والجزاء. ولا يكون الحلف بالطلاق والعتاق إيلاء على الرواية المشهورة عند الحنابلة؛ لأن الإيلاء المطلق إنما هو القسم، بدليل قراءة أبيّ وابن عباس: «للذين يقسمون» مكان (يؤلون) وفسر ابن عباس: (يؤلون) بقوله: (يحلفون بالله) والتعليق بشرط ليس بقسم، فلا يكون إيلاء، وإنما يسمى حلفاً تجوزاً لمشاركته القسم في المعنى المشهور في القسم: وهو الحث على الفعل أو المنع منه أو توكيد الخبر، ويحمل الكلام عند إطلاقه على الحقيقة لا على المجاز. وإن قال: (إن وطئتك فلله علي صوم أو حج أو عمرة) يكون إيلاء عند الجمهور، وقيده الحنفية بفعل فيه مشقة، لا بصلاة نحو ركعتين، فليس بمولٍ لعدم مشقتهما. والتزام صلاة مئة ركعة يجعله مولياً. ولا إيلاء أيضاً عند الحنابلة إن حلف على ترك الوطء بنذر أو صدقة مال أو حج أو ظهار أو تحريم مباح ونحوه، فلا يكون الزوج مولياً؛ لأنه لم يحلف بالله تعالى، فأشبه ما لو حلف بالكعبة. 2ً - أن يحلف على ترك الوطء أكثر من أربعة أشهر؛ لأن الله تعالى جعل للحالف تربص أو انتظار أربعة أشهر، فإذا حلف على أربعة أشهر أو ما دونها فلا معنى للتربص؛ لأن مدة الإيلاء تنقضي قبل ذلك أو مع انقضائه، فدل على أنه لايصير بما دون تلك المدة مولياً، ولأن الضرر لا يتحقق بترك الوطء فيما دون أربعة أشهر، بدليل ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه سأل: «كم تصبر المرأة عن الزوج؟ فقيل: شهرين وفي الثالث: يقل الصبر، وفي الرابع: ينفذ الصبر» فإذا نفذ صبرها طالبت، فلا بد من الزيادة على ذلك، ويكفي زيادة لحظة.
3ً - أن يحلف الزوج على ترك الوطء في القُبُل (أو الفرج): فإن ترك الوطء بغير يمين ولا قصد إضرار، لم يكن مولياً لظاهر الآية: {للذين يؤلون ... } [البقرة:226/ 2] وإن قال: لا وطئتك في الدبر، لم يكن مولياً؛ لأنه لم يترك الوطء الواجب عليه، ولا تتضرر المرأة بتركه، وإنما هو وطء محرم، وقد أكد منع نفسه منه بيمينه. وكذا إن قال: (والله، لا وطئتك دون الفرج) لم يكن مولياً؛ لأنه لم يحلف على الوطء الذي يطالب في الفيئة، ولا ضرر على المرأة في تركه. 4ً - أن يكون المحلوف عليها امرأته، لقوله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر} [البقرة:226/ 2] ولأن غير الزوجة لا حق لها في وطئه، فلا يكون مولياً منها، كالأجنبية. وإن حلف على ترك وطء أجنبية ثم نكحها، لم يكن مولياً؛ لأنه إذا كانت اليمين قبل النكاح لم يكن قاصداً الإضرار، فأشبه الممتنع بغير يمين. ويصح الإيلاء بالاتفاق من المطلقة الرجعية في العدة؛ لأنها في حكم الزوجة يلحقها الطلاق، فيلحقها الإيلاء. ولا يصح من المطلقة البائنة، لانقطاع الزوجية. ويصح الإيلاء من كل زوجة، مسلمة كانت أو ذمية، حرة كانت أو أمة، لعموم قوله سبحانه: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر} [البقرة:226/ 2] ولأن كل واحدة منهن زوجة، فصح الإيلاء منها كالحرة المسلمة.
ويصح الإيلاء قبل الدخول وبعده، لعموم الآية، ولتوافر المعنى؛ لأنه ممتنع من جماع زوجته بيمينه، فأشبه ما بعد الدخول. ويصح الإيلاء من المجنونة والصغيرة، إلا أنه لا يطالب بالفيئة في الصغر والجنون؛ لأنهما ليسا من أهل المطالبة. ولا يصح الإيلاء من الرتقاء والقرناء؛ لأن الوطء متعذر دائماً، فلم تنعقد اليمين على تركه، كما لو حلف عى ألا يصعد السماء. أما الحالف فقد عرفنا شرطه: فهو أن يكون زوجاً عاقلاً بالغاً قادراً على الوطء، ومسلماً عند المالكية. فلا يصح إيلاء غير الزوج، ولا إيلاء الصبي والمجنون؛ لأن القلم مرفوع عنهما وليسا مكلفين، ولا إيلاء المجبوب والأشل، للعجز عن الوطء وتعذره منه قبل اليمين، ولا تتضرر المرأة بيمينه، ويصح عند الحنفية والشافعية والحنابلة إيلاء المسلم والكافر والحر والعبد، والسليم والخصي، والمريض الذي يرجى برؤه، والمحبوس والسكران، لقدرتهم على الوطء، فصح من كل منهم الامتناع عنه ولعموم آية الإيلاء، ولا يصح الإيلاء عند المالكية من الكافر؛ لأنه ليس أهلاً للكفارة عن اليمين، ولأنه ليس أهلاً للمغفرة والرحمة بالفيئة المصرح عنها في الآية: {فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم} [البقرة:226/ 2] فإن الكافر لا تحصل له مغفرة ولا رحمة بالفيئة. ويصح الإيلاء في حال الرضا والغضب، فلا يشترط في الإيلاء كونه في حال الغضب، ولا قصد الإضرار، لعموم آية الإيلاء، ولأن الإيلاء كالطلاق والظهار وسائر الأيمان، سواء في الغضب والرضا، ولأن حكم اليمين في الكفارة وغيرها سواء في الغضب والرضا، فكذلك في الإيلاء.
ثالثا ـ حكم الإيلاء
ثالثاً ـ حكم الإيلاء: ليمين الإيلاء عند الحنفية حكم أخروي، وحكم دنيوي (¬1): أما الحكم الأخروي: فهو الإثم إن لم يفئ إليها، لقوله تعالى: {فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم} [البقرة:226/ 2] لأن الإيلاء مكروه تحريماً عندهم. وأما الحكم الدنيوي: فيتعلق بالإيلاء حكمان: حكم الحنث، وحكم البر. أما حكم الحنث: فهو لزوم الكفارة أو الجزاء المعلق إن حنث في يمينه، فإن وطئها في مدة الأربعة الأشهر، حنث في يمينه، لفعله المحلوف عليه، ويختلف حكم الحنث باختلاف المحلوف به: فإن كان الحلف بالله تعالى أو بصفة من صفاته مثل: (والله لا أقربك)، فتجب عليه كفارة اليمين كسائر الأيمان، وهي إطعام عشرة مساكين يوماً واحداً، أو كسوتهم أو تحرير رقبة، بالنسبة للموسر، فإن لم يجد شيئاً من ذلك، بأن كان معسراً، وجب عليه صيام ثلاثة أيام متتابعات. وإذا لزمته الكفارة سقط الإيلاء. وإن كان الحلف بالشرط والجزاء مثل: (إن قربتك فعلي حج، أو أنت طالق) فيلزمه الجزاء المعلَّق إن حنث، أي يلزمه المحلوف به كسائر الأيمان المعلقة بالشرط والجزاء. وأما حكم البر: بأن لم يطأ الزوجة المحلوف عليها أو لم يقربها، فهو وقوع طلقة بائنة، بدون حاجة لرفع الأمر إلى القاضي، بمجرد مضي المدة من غير فيء، أي لم يرجع إلى ما حلف عليه، جزاء على ظلمه، ورحمة على المرأة ونظراً لمصلحتها بتخليصها منه، لتتوصل إلى إيفاء حقها من زوج آخر. ¬
ودليلهم على كونه طلاقاً بائناً: هو العمل برأي جماعة من الصحابة وهم عثمان وعلي والعبادلة الثلاثة (ابن مسعود وابن عباس وابن عمر) وزيد بن ثابت فإنهم قالوا: إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة، ولأن دفع الظلم عن المرأة لا يكون إلا بالبائن، لتتخلص منه، فتتمكن من الزواج بآخر. وقدر هذا الطلاق عند الحنفية ما عدا زفر (¬1): أن الطلاق يتبع المدة، لا اليمين فيكون واحداً باتحاد المدة، ويتعدد بتعددها. وعلى هذا: إذا قال الرجل لامرأته: «والله لا أقربك، أو لا أقربك أربعة أشهر» فإن كان حلف على مدة الإيلاء فقط أربعة أشهر، فقد سقطت اليمين؛ لأنها كانت مؤقتة بوقت، فترتفع بمضيه. وإن كان حلف على الأبد، فاليمين باقية بعد البينونة لعدم الحنث، فإن عاد إليها فتزوجها ثانياً، عاد الإيلاء؛ لأن زوال الملك بعد اليمين لا يبطلها، فإن وطئها حنث في يمينه ولزمته الكفارة، وسقط الإيلاء؛ لأنه يرتفع بالحنث، وإن لم يطأها وقعت بمضي أربعة أشهر أخرى تطليقة أخرى؛ لأن بالتزوج ثبت حقها، فيتحقق الظلم، فيعتبر ابتداء هذا الإيلاء من وقت التزوج. فإن عاد إليها وتزوجها ثالثاً عاد الإيلاء ووقع بمضي أربعة أشهر أخرى تطليقة أخرى لبقاء طلاق ذلك الملك ببقاء المحلية. فإن عاد إليها وتزوجها رابعاً بعد حلها بتزوج زوج آخر، لم يقع بالإيلاء طلاق، لزوال طلاق ذلك الملك بزوال المحلية، ولكن اليمين باقية لعدم الحنث، فإن وطئها كفَّر عن يمينه لوجود الحنث. ودليل جمهور الحنفية: أن سبب اعتبار الإيلاء يميناً هو منع حق المرأة في ¬
الفيء
الجماع في المدة، والمنع يتحد باتحاد المدة فيتحد الظلم فيتحد الطلاق، ويتعدد بتعدد المدة فيتعدد الظلم، فيتعدد الطلاق، وأما الكفارة فتجب لهتك حرمة اسم الله عز وجل، والهتك يتحد ويتعدد بحسب اتحاد الاسم وتعدده. والفيء عند الحنفية (¬1): نوعان: فعل وقول: أما الفعل: فهو الجماع في الفرج، فلو جامعها فيما دون الفرج، أو قبَّلها بشهوة، أو لمسها بشهوة، أو نظر إلى فرجها بشهوة، لم يكن ذلك فيئاً؛ لأن حقها في الجماع في الفرج، فصار ظالماً بمنعه، فلا يندفع الظلم إلا به. وأما القول: فصورته أن يقول لها: فئت إليك، أو راجعتك، أو ما أشبه ذلك. ويشترط لصحته شروط ثلاثة: أحدها ـ العجز عن الجماع: فلا يصح الفيء بالقول مع القدرة على الجماع؛ لأن القول بدل عن الجماع، كالتيمم مع الوضوء. والعجز نوعان: حقيقي وحكمي، أما الحقيقي: فنحو أن يكون أحد الزوجين مريضاً مرضاً يتعذر معه الجماع، أو كانت المرأة صغيرة لا يجامع مثلها، أو رتقاء، أو يكون الزوج مجبوباً، أو يكون بينهما مسافة لا يقدر على قطعها مدة الإيلاء، أو تكون ناشزة محتجبة في مكان لا يعرفه، أو يكون محبوساً لا يقدر أن يدخل بها. وأما الحكمي أو الشرعي: فمثل أن يكون محرماً وقت الإيلاء، وبينه وبين الحج أربعة أشهر. ¬
شرط الفيء بنوعيه
والثاني ـ دوام العجز عن الجماع إلى أن تمضي مدة الإيلاء: فلو قدر على الجماع في أثناء المدة، بطل الفيء بالقول، وانتقل إلى الفيء بالجماع. وكذا إن صح من مرضه في المدة بطل الفيء باللسان وصار فيئه بالجماع؛ لأنه قدر على الأصل قبل حصول المقصود، فيبطل الخلف، كالمتيمم إذا قدر على الماء في الصلاة. الثالث ـ قيام ملك النكاح وقت الفيء بالقول: وهو أن تكون المرأة في حال الفي إليها زوجته غير بائنة منه، فإن كانت بائنة منه، ففاء بلسانه، لم يكن ذلك فيئاً، ويبقى الإيلاء. وهذا بخلاف الفيء بالجماع، فإنه يصح بعد زوال الملك وثبوت البينونة، فلا يبقى الإيلاء ويبطل؛ لأنه حنث بالوطء، فانحلت اليمين وبطلت. شرط الفيء بنوعيه: يشترط أن يكون الفيء قبل مضي الأربعة الأشهر، فإن فاء في المدة حنث بيمينه، ولزمته الكفارة، وسقط الإيلاء، وإن لم يفيء حتى مضت أربعة أشهر، بانت منه بتطليقة (¬1). الاختلاف في الفيء: إذا اختلف الزوج والمرأة في الفيء مع بقاء المدة، بأن ادعى الزوج الفيء، وأنكرت المرأة، فالقول قول الزوج؛ لأن المدة إذا كانت باقية، فالزوج يملك الفيء فيها، وقد ادعى الفيء في وقت يملك إنشاءه فيه، فكان الظاهر شاهداً له، فكان القول قوله. وإن اختلفا بعد مضي المدة، فالقول قول المرأة؛ لأن الزوج يدعي الفيء في وقت لا يملك إنشاء الفيء فيه، فكان الظاهر شاهداً عليه للمرأة، فكان القول قولها (¬2). ¬
عند الجمهور غير الحنفية
حكم الفيء عند الجمهور غير الحنفية (¬1): الكلام فيه يشمل أمرين: الأول ـ مدة الإمهال بلا قاض: إذا آلى الزوج من زوجته، لم يطالب بشيء من وطء وغيره قبل أربعة أشهر، لقوله عز وجل: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر} [البقرة:226/ 2]. وابتداء المدة من حين اليمين؛ لأنها ثبتت بالنص والإجماع، فلم تفتقر إلى تحديد كمدة العنة التي يحددها القاضي. فإن وطئها فقد أوفاها حقها قبل انتهاء المدة، وخرج من الإيلاء، وإن وطئها بعد المدة قبل مطالبة المرأة أو بعدها، خرج من الإيلاء أيضاً؛ لأنه فعل ما حلف عليه. وإن لم يطأ، رفعت الزوجة الأمر إلى القاضي إن شاءت، وحينئذ يأمره القاضي بالفيئة إلى الوطء، فإن أبى، طلق القاضي عليه، ويقع الطلاق رجعياً. أي أن الطلاق الواجب على المولي عند الجمهور رجعي، سواء أوقعه بنفسه أو طلق الحاكم عليه؛ لأنه طلاق لامرأة مدخول بها من غير عوض، ولا استيفاء عدد، فكان رجعياً كالطلاق في غير الإيلاء، بخلاف فرقة العنة فإنها فسخ لعيب، ولأن الأصل أن كل طلاق وقع بالشرع فيحمل على أنه رجعي إلى أن يدل الدليل على أنه بائن. ¬
وأما عند الحنفية فقد تقدم أنه طلاق بائن؛ لأنها فرقة لرفع الضرر، فكان بائناً كفرقة العنة. والفيئة: الجماع المعروف أو الوطء باتفاق العلماء، وأدنى الوطء تغييب الحشفة في الفرج إن كانت ثيباً، وافتضاض البكارة إن كانت بكراً. فلو وطئ دون الفرج لم يكن فيئة؛ لأنه ليس بمحلوف على تركه، ولا يزول الضرر على المرأة بفعله. ولا بد من أن يكون الواطئ عالماً عامداً عاقلاً مختاراً، فإن وطئ ناسياً أو مكرهاً أو مجنوناً لم يحنث وبقي الإيلاء، وإن وطئها وطئاً حراماً مثل إن وطئها حائضاً أو نفساء أو محرمة أو صائمة صوم فرض أو كان محرماً أو صائماً أو مظاهراً، حنث وخرج من الإيلاء عند الشافعية والحنابلة، بل حتى لو كان الوطء في الدبر عند الشافعية لحصول المقصود. وقال المالكية والحنفية: إن شرط الوطء الكافي أن يكون حلالاً، فلا يكفي الحرام كما في الحيض والإحرام، ويطالب بالفيئة بعد زوال المانع، وإن حنث بالحرام فيلزمه الكفارة ولا تنحل يمين الإيلاء. وإذا فاء لزمته الكفارة ـ كفارة اليمين ـ لقوله تعالى: {ولكن يؤاخذكم بما عقَّدتم الأيمان، فكفارته إطعام عشَرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ... } [المائدة:89/ 5] وإن كان الإيلاء بتعليق طلاق، وقع بنفس الوطء؛ لأنه معلق بصفة وقد وجدت. وإن كان على نذر صدقة أو صوم أو صلاة أو حج أو غير ذلك من الطاعات أو المباحات، فيلزمه الوفاء به بالوطء، ويخير عند الشافعية والحنابلة بين الوفاء به وبين كفارة يمين؛ لأنه نذر لجاج وغضب.
الثاني ـ الفيئة حالة العجز عن الجماع
الثاني ـ الفيئة حالة العجز عن الجماع: أـ إن كان المانع من جهة المرأة يمنع الوطء منعاً شرعياً كحيض ونفاس، أو حسياً كمرض لا يمكن معه الوطء، فلا يطالب الزوج بالفيئة؛ لأن الوطء متعذر من جهتها، فكيف تطلبه أو تطلب ما يقوم مقامه وهو الطلاق، ولأن المطالبة تكون بالمستحق، وهي لاتستحق الوطء حينئذ. ب ـ وإن كان المانع من الوطء من جهة الزوج مانعاً طبيعياً وهو حبس أو مرض يمنع الوطء، أو يخاف منه زيادة العلة أو بطء البرء، أو مانعاً شرعياً كإحرام بحج أو عمرة، أو كان مغلوباً على عقله بجنون أو إغماء، لم يطالب بالوطء، لأن المجنون والمغمى عليه لا يصلح للخطاب ولا يصح منه الجواب، وتتأخر المطالبة إلى حال القدرة وزوال العذر، ثم يطالب حينئذ. وكذا لا يطالب المحبوس والمريض والمحرم بالوطء بالفعل لتعذره، إنما يطالب بالفيء بالقول، أي بالوعد بالوطء إذا زال مانع المرض أو السجن أو الإحرام أو نحوها، أو بالطلاق إن لم يفئ، بأن يقول: إذا قدرت فئت، أو طلقت؛ لأن بهذا القول يندفع الأذى الموجه للمرأة الذي حصل باللسان. لكن المذهب عند الشافعية أنه إذا كان في الزوج مانع شرعي كإحرام وظهار قبل التفكير، وصوم واجب، فيطالب بالطلاق؛ لأنه هو الذي يمكنه، ولا يطالب بالفيئة لحرمة الوطء، ويحرم عليها تمكينه. وإذا انقضت مدة الأربعة أشهر، فادعى أنه عاجز عن الوطء: فإن كان قد وطئها مرة، لم تسمع دعواه العنة، كما لا تسمع دعواها عليه، ويطالب بالفيئة أو بالطلاق كغيره. وإن لم يكن وطئها ولم تكن حاله معروفة، تسمع دعواه ويقبل قوله؛ لأن التعيين من العيوب التي لا يقف عليها غيره، فيقبل قوله مع اليمين.
اختلاف الزوجين في الإيلاء أو في انقضاء مدته أو في حدوث الفيئة
وللمرأة أن تطالب الحاكم بأن يضرب له مدة العنة وهي سنة، بشرط أن يفيء فيئة أهل الأعذار وهو الوعد بالوطءعند القدرة على الجماع، فيقول: متى قدرت جامعتها. يتبين من هذا أن الجمهور يتفقون مع الحنفية في أن الفيء يكون بالجماع أو بالقول عند العجز عن الجماع. اختلاف الزوجين في الإيلاء أو في انقضاء مدته أو في حدوث الفيئة: إذا اختلف الزوجان في الإيلاء أو في انقضاء مدته: بأنه ادعته عليه، فأنكر فالقول قول الزوج؛ لأن الأصل عدمه، والأصل عدم انقضاء المدة. وإن اختلفا في الفيئة، فقال الزوج: قد أصبتها، وأنكرت الزوجة: فإن كانت ثيباً، كان القول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل بقاء النكاح، والمرأة تدعي رفعه بما يلزم به الزوج، وهو يدعي ما يوافق الأصل ويبقيه، فكان القول قوله، كما لو ادعى الوطء في العنة كما سبق. فإن نكل عن اليمين، حلفت الزوجة أنه لم يفء، وبقيت على حقها من الطلب بأن يفيء أو يطلق، فإن لم تحلف بقيت زوجة كما لو حلف. وأما إن كانت بكراً، واختلفا في الإصابة، أريت النساء الثقات، فإن شهدن بثيوبتها، فالقول قول الزوج بيمينه، وإن شهدن ببكارتها فالقول قولها بيمينها؛ لأنه لو وطئها زالت بكارتها. وهذا متفق عليه بين الجمهور والحنفية. الطلاق في مدة الإيلاء: إن طلق المولي، فقد سقط حكم الإيلاء، وبقيت اليمين. فإن عاد فتزوجها عاد عند الجمهور غير الحنفية حكم الإيلاء من حين
العدة بعد الإيلاء
تزوجها، واستؤنفت المدة حينئذ، أي تحسب مدة الإيلاء من وقت الرجعة، فإن كان الباقي من مدة يمينه أربعة أشهر فما دون، عمل بها، وإن كان أكثر من أربعة أشهر، تربص أربعة أشهر، ثم قيل له عند انقضائها: إما أن يفيء أو يطلِّق، فإن لم يطلق طلّق الحاكم عليه تطليقة، وتكون رجعية. وقد بينت أن الإيلاء يعود عند الحنفية إن كان الطلاق أقل من ثلاث، وإن استوفى عدد الطلاق لم يعد الإيلاء. ولا يطلق الحاكم عليه سوى تطليقة عند المالكية والشافعية؛ لأن إيفاء الحق يحصل بها، فلم يملك زيادة عليها، كما لم يملك الزيادة على وفاء الدين في حق الممتنع عن إيفائه. وأجاز الحنابلة للقاضي أن يطلق على الزوج ثلاثاً؛ لأن المولي إذا امتنع من الفيئة والطلاق معاً، قام القاضي مقامه، فإنه يملك من الطلاق ما يملكه المولي، ويكون الأمروالخبرة إليه، إن شاء طلق واحدة، وإن شاء اثنتين، وإن شاء ثلاثاً، وإن شاء فسخ؛ لأن القاضي قام مقام المولي، فملك من الطلاق ما يملكه المولي، كما لو وكله في الطلاق، وليس ذلك زيادة على حقها، فإن حقها الفرقة، غير أنها تتنوع. والراجح هو الرأي الأول؛ لأن الحاجة كالضرورة تقدر بقدرها، وتتحقق حاجة المرأة بالطلقة الواحدة. العدة بعد الإيلاء: اتفقت المذاهب الأربعة على أن الزوجة المولى منها تلزمها العدة بعد الفرقة؛ لأنها مطلقة، فوجب أن تعتد كسائر المطلَّقات. وقال جابر بن زيد وهو مروي عن ابن عباس: لا تلزمها عدة إذا كانت قد حاضت في مدة الأربعة الأشهر ثلاث حيضات؛ لأن العدة إنما وضعت لبراءة الرحم، وهذه قد حصلت لها البراءة.
خلاصة الخلاف بين الحنفية والجمهور في حكم الإيلاء
وسبب الخلاف: أن العدة اشتملت على مصلحة وجانب تعبدي، فمن لحظ المصلحة لم ير عليها عدة،، ومن لحظ جانب التعبد، أوجب عليها العدة. خلاصة الخلاف بين الحنفية والجمهور في حكم الإيلاء: اختلف الجمهور مع الحنفية في أمرين: الأول ـ أن الفيء عند الجمهور يكون قبل مضي المدة، ويكون بعدها. وعند الحنفية: الفيء يكون قبل مضي المدة. وعليه إن حصل الفيء قبل مضي المدة، زال الإيلاء ولزم الحانث كفارة اليمين بالاتفاق. وإن لم يحصل الفيء بعد مضي المدة، رفعت الزوجة الأمر للقاضي، والقاضي يخير الزوج بين أمرين: الفيء أو الطلاق، فإن فعل، وإلا طلق عليه القاضي، ويكون الطلاق رجعياً لا بائناً، وعند الحنفية: الطلاق بائن. ويجري العمل في مصر وسورية على رأي الجمهور. الثاني ـ أن الطلاق عند الجمهور لا يقع بمجرد مضي المدة، وإنما يقع بتطليق الزوج، أو القاضي إذا رفعت الزوجة الأمر إليه. ويرى الحنفية: أنه بمجردمضي مدة الأربعة الأشهر، تطلق الزوجة طلقة بائنة. وسبب الخلاف: تفسير المقصود من قوله تعالى: {فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم، وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم} [البقرة:226/ 2 - 227] المعنى عند الحنفية: فإن فاؤوا في هذه الأشهر، فإن الله غفور رحيم لما أقدموا عليه من الحلف على الإضرار بالزوجة، وإن لم يفيئوا في هذه الأشهر، واستمروا في
المبحث الثامن ـ التفريق باللعان
أيمانهم، كان ذلك عزماً منهم على الطلاق، ويقع الطلاق بحكم الشرع. فتكون النتيجة: إذا مضت الأربعة أشهر بدون فيئة، وقع الطلاق. والمعنى عند الجمهور: للذين يحلفون يمين الإيلاء انتظار أربعة أشهر، فإن فاؤوا بعد مضي المدة، فإن الله غفور رحيم لما حدث منهم من اليمين وعزم الظلم للمرأة، وإن عزموا الطلاق بعد انقضاء المدة، فإن الله سميع لطلاقهم، عليم بما يصدر عنهم من خير أو شر، فيجازيهم عليه. والنتيجة: أن مضي الأجل لا يقع به طلاق، وإنما يعرض الأمر على الحاكم، فإما فاء وإما طلق. الحنفية نظروا لقوله تعالى: {وإن عزموا الطلاق} [البقرة:227/ 2] بترك الفيئة، والجمهور نظروا لقوله تعالى: {فإن فاؤوا} [البقرة:226/ 2] بعد انقضاء المدة، والراجح لدي رأي الجمهور إذ لو وقع الطلاق بانقضاء المدة، لما كان هناك حاجة إلى العزم عليه بعد وقوعه، ولأن في إعطاء المهلة للرجل لمراجعة نفسه، وإدراك خطئه، خيراً من إيقاع الطلاق وإنهاء الزواج. المبحث الثامن ـ التفريق باللعان: فيه ثمانية مطالب هي ما يأتي: تعريف اللعان وسببه، ومشروعيته، أركانه وشروطه، وشروط المتلاعنين، كيفيته ودور القاضي في اللعان، ما يجب عند نكول أحد الزوجين أو رجوعه، هل اللعان شهادات أو أيمان؟، آثار اللعان، ما يسقط اللعان بعد وجوبه وما يبطل به، حكم اللعان قبل التفريق.
المطلب الأول ـ تعريف اللعان وسببه
المطلب الأول ـ تعريف اللعان وسببه: تعريف اللعان: اللعان لغة: مصدر لاعن كقاتل، من اللعن: وهو الطرد والإبعاد من رحمة الله تعالى، وسمي به ما يحصل بين الزوجين؛ لأن كل واحد من الزوجين يلعن نفسه في الخامسة إن كان كاذباً، أو لأن الرجل هو الذي يلعن نفسه، وأطلق في جانب المرأة من مجاز التغليب، فسمي لعاناً لأنه قول الرجل وهو الذي بدئ به في الآية. وعرفه الحنفية والحنابلة (¬1) بأنه: شهادات مؤكدات بالأيمان مقرونة باللعن من جهة الزوج وبالغضب من جهة الزوجة، قائمة مقام حد القذف في حق الزوج، ومقام حد الزنا في حق الزوجة. لكن يصح اللعان في النكاح الفاسد في رأي الحنابلة، ولا يصح في رأي الحنفية، كما سيأتي. وعرفه المالكية (¬2) بأنه: حلف زوج مسلم مكلف على رؤية زنا زوجته، أو على نفي حملها منه، وحلف زوجة على تكذيبه أربعة أيمان، بصيغة: «أشهد بالله لرأيتها تزني ونحوه» وبحضور حاكم، سواء صح النكاح أو فسد. فلا يصح حلف غير زوج كأجنبي، ولا كافر، ولا صبي أو مجنون، ويكون الحلف بإشراف حاكم يشهد التلاعن، ويحكم بالتفريق، أو يحد من نكل، سواء صح الزواج بين الزوجين، أوفسد لثبوت النسب بالزواج الفاسد. وعرفه الشافعية (¬3) بأنه: كلمات معلومة، جعلت حجة للمضطر إلى قذف من لطخ فراشه وألحق العار به، أو إلى نفي ولد. ¬
سبب اللعان
وسبب اللعان أمران (¬1): أحدهما ـ قذف الرجل زوجته قذفاً يوجب حد الزنا لو قذف أجنبية. وهو عند المالكية: ادعاء رؤية الزنى بشرط ألا يطأها بعد الرؤية، فإن ادعى الزنى دون الرؤية، حد للقذف، ولم يجز اللعان على المشهور عندهم خلافاً لغيرهم. والثاني ـ نفي الحمل أو الولد، ولو من وطء شبهة أو نكاح فاسد. واشترط المالكية لنفي الحمل: أن يدعي الزوج أنه لم يطأ زوجته لأمد يلحق به الولد، وأن يدعي الاستبراء (¬2) بحيضة واحدة، وأن ينفيه قبل وضعه، فإن سكت حتى وضعته حد، ولم يلاعن. أما القذف: فعلى النحو الذي بان في حد القذف يكون إما باللفظ الصريح بالزنا، كقول الشخص: يا زاني أو يا زانية، أو بما يجري مجرى الصريح وهو نفي النسب عن إنسان من أبيه المعروف، كأن يقول: (لست بابن فلان). أو بلفظ كناية عند الشافعية، كأن يقول: (زنأت في الجبل أو السلَّم أو نحوه)؛ لأن الزنأ في الجبل ونحوه هو الصعود فيه، فإن نوى به القذف كان قذفاً. وهذا من الألفاظ الصريحة عند الحنفية. أو بالتعريض، مثل: يا حلال ابن الحلال، وأما أنا فلست بزانٍ، وهو قذف إن نوى به القذف عند الشافعية، وإن أفهم تعريضه القذف بالزنا عند المالكية، وليس بقذف عند الحنفية وفي الظاهر عند الحنابلة. ¬
ويثبت القذف كما هو مبين في حد القذف إما بالبينة، أو الإقرار. وأما نفي الولد: فهو أن يحضر الرجل عند الحاكم، ويذكر أن هذا الولد أو الحمل الموجود ليس مني. واختلف الفقهاء في وقت النفي وفي نفي الحمل: قال أبو حنيفة (¬1): إذا نفى الرجل ولد امرأته عقيب الولادة، أو في المدة التي تقبل فيها التهنئة وهي سبعة أيام عادة، أو التي تشترى فيها آلة الولادة، صح نفيه، ولاعن به؛ لأنه بالنفي صار قاذفاً. أما إن نفاه بعدئذ فلا ينتفي ويثبت نسب الولد، لوجود الاعتراف منه دلالة: وهو السكوت وقبول التهنئة، والسكوت يعتبر هنا رضا. وهذا هو الصحيح عند الحنفية. وقال الصاحبان: يصح نفي الولد في مدةالنفاس؛ لأنه أثر الولادة. واشترط المالكية (¬2) شرطين لصحة اللعان ولنفي الولد، وهما كما تقدم: 1ً - أن يدعي الزوج أنه لم يطأ زوجته لأمد يلتحق به الولد، أو أنه وطئها واستبرأها بحيضة واحدة بعد الوطء. 2ً - أن ينفي الولد قبل وضعه؛ فإن سكت ولو يوماً بلا عذر حتى وضعته، حد ولم يلاعن، أي أنه يشترط لصحة اللعان التعجيل بعد العلم بالحمل أو الولد، فلو أخر بلا عذر لم يصح. وأجاز الشافعية (¬3) نفي حمل، وانتظار وضعه، أما نفي الحمل: فلما ثبت في الصحيحين: «أن هلال بن أمية لاعن عن الحمل»، وأما انتظار الوضع فلكي يلاعن ¬
المطلب الثاني ـ مشروعية اللعان
عن يقين. والنفي لنسب ولد يكون على الفور في الأظهر الجديد؛ لأنه شرع لدفع ضرر محقق، فكان على الفور مثل الرد بالعيب وخيار الشفعة، لكن إن سكت عن النفي لعذر كأن بلغه الخبر ليلاً فأخر حتى يصبح أو كان جائعاًً فأكل، أو عارياً فلبس، صح تأخيره النفي للعذر. ولم يجز الحنابلة (¬1) كالحنفية نفي الحمل قبل الوضع، ولا ينتفي حتى يلاعنها بعد الوضع وينتفي الولد فيه؛ لأن الحمل غير متيقن، يجوز أن يكون انتفاخاً أو ريحاً. واشترطوا كالشافعية أن يكون النفي عقب الولادة، فإذا ولدت المرأة ولداً فسكت عن نفيه مع إمكانه، لزمه نسبه، ولم يكن له نفيه بعدئذ. والحاصل أن للفقهاء رأيين في نفي الحمل: رأي الحنفية والحنابلة بعدم الجواز لاحتمال كونه غير حمل، ورأي المالكية والشافعية بالجواز، محتجين بحديث هلال بن أمية وأنه نفى حملها، فنفاه عنه النبي صلّى الله عليه وسلم، وألحقه بالأول، ولا خفاء بأنه كان حملاً، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: «انظروها، فإن جاءت به كذا وكذا» ولأن الحمل مظنون بأمارات تدل عليه، ولأنه يصح استلحاق الحمل، فكان نفيه كنفي الولد بعد وضعه. قال ابن قدامة: وهذا القول هو الصحيح لموافقته ظواهر الأحاديث، وما خالف الحديث لا يعبأ به كائناً ما كان. وشرط اللعان: التعجيل عند الجمهور بعد علم الزوج بالحمل أو الولد، وأجاز أبو حنيفة اللعان عقب الولادة أو بعدها بسبعة أيام. المطلب الثاني ـ مشروعية اللعان: شرع اللعان بين الزوجين بقوله تعالى: {والذين يرمون أزواجهم، ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسُهم، فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله، إنه لمن الصادقين، ¬
والخامسةُ أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين. ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله، إنه لمن الكاذبين، والخامسةَ أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين} [النور:6/ 24 - 8]. وسبب نزولها: ما أخرجه الجماعة إلا مسلماً والنسائي عن ابن عباس: «أن هلال بن أمية (¬1) قذف زوجته عند النبي صلّى الله عليه وسلم بشَرِيك بن سَحْماء، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم: البينة أو حد في ظهرك! فقال: يا نبي الله، إذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً ينطلق، يلتمس البينة، فجعل النبي صلّى الله عليه وسلم يكرّر ذلك، فقال هلال: والذي بعثك بالحق نبياً، إني لصادق، ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد، فنزلت الآيات» (¬2). فكان أول لعان في الإسلام: ما حدث بين هلال بين أمية وزوجته، وهذا رأي الجمهور، وقد حكى الماوردي عن أكثر العلماء أن قصة هلال أسبق من قصة عويمر. وروى الجماعة إلا الترمذي عن سهل بن سعد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لعويمر العجلاني: «قد نزل فيك وفي صاحبتك، فاذهب فأت بها، فتلاعنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم» (¬3). وهذا رأي النووي في شرح مسلم أن السبب في نزول آية اللعان: قصة عويمر العجلاني. يختلف بهذا حكم الزوجين عن الأجانب في حال القذف، فإن قذف إنسان غيره، أو اتهم رجل امرأة ليست زوجة له بالزنا، وكانت عفيفة، ولم يأت بأربعة يشهدون بصحة اتهامه، فإنه يحد حد القذف وهو ثمانون جلدة، زجراً له ولأمثاله عن ارتكاب هذه المعصية، ودفعاً للعار عن المقذوف. ¬
المطلب الثالث ـ أركان اللعان وشروطه وشروط المتلاعنين
أما إن اتهم الزوج زوجته بالزنا أو نفى نسب ولدها منه، ولم يأت بأربعة يشهدون على ادعائه، فلا يحد حد القذف، وإنما يشرع في حقه اللعان. هذا .. وقد اتفقت الروايات في بيان أسباب نزول آيات اللعان على أمور ثلاثة (¬1): أولها ـ أن آيات اللعان نزلت بعد آية قذف المحصنات بتراخ عنها وأنها منفصلة عنها. والثاني ـ أنهم كانوا قبل نزول آيات اللعان يفهمون من قوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات .. } [النور:4/ 24] وهي آية القذف: أن حكم من رمى المرأة الأجنبية وحكم من رمى زوجته سواء. والثالث ـ أن آيات اللعان نزلت تخفيفاً على الزوج وبياناً للمخرج مما وقع فيه مضطراً. ومقتضى مشروعية اللعان: جواز الدعاء باللعن على كاذب معين، كجواز الدعاء باللعن على الظالم لقوله تعالى: {ألا لعنة الله على الظالمين} [هود:18/ 11]. المطلب الثالث ـ أركان اللعان وشروطه وشروط المتلاعنين: ركن اللعان عند الحنفية (¬2) واحد وهو اللفظ، وهو: شهادات مؤكدات باليمين واللعن من كلا الزوجين. ¬
شروط اللعان
وقال الجمهور (¬1): أركان اللعان أربعة: وهي الملاعن، والملاعنة، وسببه، ولفظه. شروط اللعان: وأما شروطه فنوعان: شروط وجوب اللعان، وشروط صحة إجراء اللعان. أولاً ـ شروط وجوب اللعان: هي عند الحنفية ثلاثة (¬2): 1ً - قيام الزوجية مع امرأة ولو غير مدخول بها، وكذا ولوفي أثناء العدة من طلاق رجعي، لقوله تعالى: {والذين يرمون أزواجهم} [النور:6/ 24] فلا لعان بين غير الزوجين أو بقذف امرأة أجنبية، فإن قذفها ثم تزوجها فعليه حد القذف ولا يلاعن؛ لأنه وجب في حال كونها أجنبية، ولا لعان بقذف زوجة صارت ميتة؛ لأن الميتة لم تبق زوجة، ولأنه لا يتأتى اللعان منها، ولا لعان بقذف المرأة المبانة، ويحد زوجها الأصلي كالأجنبي. وهذا شرط متفق عليه فإنه عند الجمهور يصح اللعان منها، وبه يصح اللعان عند الجمهور من غير زوج في حالتين: البائن لنفي الولد، والموطوءة بنكاح فاسد أو شبهة. ولو ارتد زوج بعد وطء فقذف وأسلم في العدة، لاعن. ولو لاعن ثم أسلم في العدة صح لعانه، لتبين وقوعه في صلب النكاح. 2ً - كون النكاح صحيحاً لافاسداً: فلا لعان بقذف المنكوحة بنكاح فاسد؛ لأنها أجنبية. وخالفهم بقية الأئمة (¬3)، أجازوا اللعان من امرأة نكحها نكاحاً ¬
فاسداً لثبوت النسب به، كالزواج بلا ولي أو بدون شهود، ثم قذفها، لكن جواز اللعان في هذه الحالة مقيد بما إذا وجد بينهما ولد يريد الزوج نفيه، فإن لم يكن بينهما ولد، حد الزوج ولا لعان بينهما. 3ً - كون الزوج أهلاً للشهادة على المسلم، بأن يكون طرفا اللعان زوجين حرين عاقلين بالغين مسلمين ناطقين غير محدودين في قذف، فلا لعان بين كافرين ولا من أحدهما عبد أو صبي أو مجنون أو محدود في قذف أو كافر، أو أخرس للشبهة. ويصح بين الأعميين والفاسقين؛ لأنهما أهل لأداء الشهادة، لكن لا تقبل شهادتهما للفسق ولعدم قدرة الأعمى على التمييز، والحاصل أن الحنفية اشترطوا أهلية الشهادة في الزوج؛ لأن كلمات اللعان شهادات، واشترطوا أيضاً أن تكون الزوجة ممن يحد قاذفها؛ لأن اللعان بدل عن حد القذف في الأجنبية. ولم يشترط الجمهور هذين الشرطين. لكن اشترط المالكية (¬1) الإسلام في الزوج فقط لا في الزوجة، فإن الذمية تلاعن لرفع العار عنها، وقالوا: يشترط في المتلاعنين كونهما بالغين عاقلين، سواء أكانا حرين أم مملوكين، عدلين أم فاسقين. ويقع اللعان في حال العصمة اتفاقاً، وفي العدة من الطلاق الرجعي والبائن خلافاً للحنفية، وبعد العدة في نفي الحمل إلى أقصى مدة الحمل. ويقع اللعان من الزوجين في النكاح الصحيح والفاسد. ولم يشترط الشافعية والحنابلة (¬2) الإسلام في المتلاعنين، وقالوا: يصح اللعان من كل زوج يصح طلاقه، بأن يكون الزوجان مكلفين أي بالغين عاقلين، سواء أكانا مسلمين أم كافرين أم عدلين أم فاسقين أم محدودين في قذف أم كان ¬
أحدهما كذلك. ويصح اللعان أيضاً من الحر والعبد والرشيد والسفيه والسكران ومن الناطق والأخرس والخرساء المعلومي الإشارة عند الشافعية، ومن المطلّق رجعياً، ويصح من الزوج للمطلقة بائناً لنفي الولد، وكذا عند الحنابلة إذا لم يكن هناك ولد. ويصح عندهم لعان الموطوءة بنكاح فاسد أو شبهة كأن ظنها زوجته ثم قذفها، ولاعن لنفي النسب، كما تقدم. ولا يصح اللعان بالاتفاق من صبي ومجنون، فإن كان أحد الزوجين غير مكلف فلا لعان بينهما؛ لأن اللعان قول تحصل به الفرقة، ولا يصح من غير مكلف كالطلاق أو اليمين. ولا لعان بين غير الزوجين، فإذا قذف الشخص أجنبية محصنة (عفيفة) حُدّ حد القذف ولم يلاعن. ولا فرق بين كون الزوجة مدخولاً بها أو غير مدخول بها في أنه يلاعنها بالاتفاق، لقوله تعالى: {والذين يرمون أزواجهم} [النور:6/ 24] فإن كانت غير مدخول بها، فلها نصف الصداق؛ لأنها فرقة من جهة الزوج. ويلاعن الأخرس أو معتقل اللسان عند الحنابلة، ولا تلاعن الخرساء عند الحنابلة؛ لأنه لا تعلم مطالبتها، واتفقوا على أنه لا يصح اللعان من الأخرس والخرساء غير معلومي الإشارة والكتابة. والخلاصة: أن الحنفية اشترطوا في المتلاعنين الإسلام والنطق والحرية والعدالة، وكون اللعان في حال قيام الزوجية حقيقة أو حكماً كالرجعية لا البائنة، وخالفهم الجمهور فيما شرطوه، إلا أن المالكية شرطوا إسلام الزوج فقط، واتفقوا على اشتراط التكليف: البلوغ والعقل. ويصح اللعان من الأخرس عند الجمهور غير الحنفية.
لغة اللعان
وذكر الحنابلة والشافعية شروطاً ثلاثة للعان هي (¬1): 1ً - كونه بين زوجين، ولو قبل دخول، كما تقدم. 2ً - سبق قذف الزوجة بزنا، ولو في دبر: مثل قوله: زنيت أو يا زانية أو رأيتك تزنين. وهذا متفق عليه كما تقدم في سبب اللعان. وللرجل قذف زوجته إن علم زناها، أو ظنه ظناً مؤكداً كشيوع زناها بفلان مع قرينة بأن رآهما في خلوة. 3ً - أن تكذبه ويستمر التكذيب إلى انقضاء اللعان، فإن صدقته ولو مرة، أو عفت الزوجة عن الحد أو التعزير، أو سكتت، أو ثبت زناها بأربعة سواه، فلا لعان ويلحقه النسب. وكذا لا لعان عند الحنابلة من الخرساء لغة اللعان: يصح اللعان عند الجمهور غير الحنابلة بالعربية وبالعجمية (هي ما عدا العربية من اللغات)؛ لأن اللعان يمين أو شهادة، وهما في اللغات سواء، ويراعي الأعجمي الملاعن ترجمة الشهادة واللعن والغضب (¬2). وقال الحنابلة (¬3) إذا كان الزوجان يعرفان العربية، لم يجز أن يلتعنا بغيرها؛ لأن اللعان ورد في القرآن بلفظ العربية. ثانياً ـ شروط صحة إجراء اللعان في ذاته: ذكر الحنابلة شروطاً ستة في إجراء اللعان، بعضها متفق عليه وبعضها مختلف فيه، وهي ما يأتي (¬4): ¬
1ً - أن يكون بحضور القاضي أو نائبه، وهذا متفق عليه؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «أمر هلال بن أمية أن يستدعي زوجته إليه ولاعن بينهما» ولأنه يمين في دعوى، فلم يصح إلا بأمر الحاكم كاليمين في سائر الدعاوى. وهذا يتطلب رفع الأمر إلى الحاكم من أحد الزوجين، فإن تراضى الزوجان بغير الحاكم بإجراء اللعان بينهما لم يصح ذلك؛ لأن اللعان مبني على التغليظ والتأكيد، فلم يجز بغير الحاكم كالحد. 2ً - أن يكون بعد طلب القاضي: بأن يأتي كل واحد منهما باللعان بعد إلقائه عليه، فإن بادر به قبل أن يلقيه القاضي عليه، لم يصح، كما لو حلف قبل أن يحلفه القاضي. وهذا متفق عليه أيضاً. 3ً - استكمال لفظات اللعان الخمسة: فإن نقص منها لفظة، لم يصح. وهذا متفق عليه. 4ً - أن يأتي كل من الزوجين بصورة اللعان، كما حددها القرآن. واختلف الفقهاء في إبدال لفظة بمعناها، كأن يبدل بقوله: إني لمن الصادقين قوله: (لقد زنت)، أو يقول بدل {إنه لمن الكاذبين} [النور:8/ 24]: (لقد كذب)، والظاهر عند الحنابلة أنه يجوز هذا الإبدال؛ لأن معناهما واحد. أما إن أبدل بلفظة (أشهد) لفظا من ألفاظ اليمين، فقال: أحلف أو أقسم أو أولي، فلا يعتد به عند الشافعية والحنابلة على الصحيح؛ لأن ما اعتبر فيه لفظ الشهادة، لم يقم غيره مقامه، كالشهادات في الحقوق، ولأن اللعان يقصد فيه التغليظ، واعتبار لفظ الشهادات أبلغ في التغليظ، فلم يجز تركه، ولهذا لم يجز أن يقسم بالله من غير كلمة تقوم مقام: أشهد. والظاهر أن هذا رأي المالكية والحنفية أيضاً.
5ً - الترتيب بين ألفاظ اللعان، وأن يبدأ الرجل بالحلف على المرأة، ثم تحلف المرأة، فإن قدم لفظة اللعنة على شيء من الألفاظ الأربعة، أو قدمت المرأة لعانها على لعان الرجل، لم يعتد به. وهذا متفق عليه؛ لأن اللعان على رأي الحنفية شهادة، والمرأة بشهادتها تقدح في شهادة الزوج، فلا يصح قبل وجود شهادته. 6ً - الإشارة من كل واحد منهما إلى صاحبه إن كان حاضراً، وتسميته ونسبته إن كان غائباً. وهذا متفق عليه بين الفقهاء، ولا يشترط عند الشافعية والحنابلة: حضور الزوجين معاً، بل لو كان أحدهما غائباً عن صاحبه جاز، كأن يلاعن الرجل في المسجد، والمرأة على باب المسجد، لعدم إمكان دخولها. هذا وقد اشترط المالكية حضور جماعة للعان، أقلها أربعة عدول. وقال الشافعية والحنابلة: يستحب أن يكون اللعان بمحضر جماعة من المسلمين؛ لأن ابن عباس وابن عمر وسهل بن سعد حضروه على حداثة منهم، فدل على أنه حضره جمع كثير من الناس؛ لأن الصبيان إنما يحضرون المجالس تبعاً للرجال، ولأن اللعان بني على التغليظ، مبالغة في الردع به والزجر، وفعله في الجماعة أبلغ في الردع. ويستحب ألا ينقصوا عن أربعة؛ لأن بينة الزنا الذي شرع اللعان من أجل الرمي به أربعة. واشترط المالكية أيضاً لصحة اللعان: عدم وطء الزوجة مطلقاً بعد رؤيتها تزني، أو بعد علمه بحمل من غيره، أو وضع، فإن وطئ المرأة الملاعنة بعد علمه بحمل من غيره أو وضع، أو رؤية لها تزني، امتنع اللعان لها ولا يمكَّن منه. واشترطوا أيضاً تعجيل اللعان بعد علمه بالحمل أو الولد: فإن أخر لعانها ولو يوماً بلا عذر بعد علمه بالحمل أو الوضع أو رؤية الزنا، امتنع لعانه لها ولا يمكَّن منه أيضاً.
شروط نفي الولد
واشترطوا أيضاً لفظ (أشهد) في الأربع مرات منه أو منها، واللعن منه في الخامسة، والغضب منها في الخامسة، كما ورد في النص القرآني في أيمان اللعان. ويلاعن الزوج إن رأى زوجته يقيناً تزني، والرؤية من البصير كرؤية المِرْوَد في المُكحلة، وأما الأعمى فيعتمد على حِس أو جَسّ أو إخبار يفيده المطلوب ولو من امرأة. شروط نفي الولد: اشترط الحنفية (¬1) ستة شروط لنفي الولد وعدم لحوق النسب وهي ما يأتي: 1ً - حكم القاضي بالتفريق بين الزوجين: لأن الزواج قبل التفريق قائم، فلا يجب النفي. 2ً - أن يكون نفي الولد في رأي أبي حنيفة بعد الولادة مباشرة أو بعدها بيوم أو يومين أو نحوهما إلى سبعة أيام مدة التهنئة بالمولود عادة، فإن نفاه بعدئذ لا ينتفي. وقال الصاحبان: يتقدر نفي الولد بأكثر مدة النفاس وهي أربعون يوماً. وشرط الجمهور الفور في النفي، فإن أخر بلا عذر، لم يصح النفي، كما تقدم. 3ً - ألا يتقدم منه إقرار بالولد ولو دلالة أو ضمناً، كقبوله التهنئة بالمولود مع عدم الرد. ¬
المالكية
4ً - توافر حياة الولد وقت التفريق القضائي، أي أن يكون الولد حياً وقت التفريق. 5ً - ألا تلد بعد التفريق ولداً آخر من بطن واحد: فلو ولدت المرأة ولداً، فنفاه عنه، ولاعن الحاكم بينهما، وفرق، وألزم الولد أمه، أو لزمها بنفس التفريق، ثم ولدت ولداً آخر من الغد، لزمه الولدان جميعاً، لثبوت نسب الولد الثاني الذي لم يشمله اللعان؛ لأن حكم اللعان قد بطل بالفرقة، فيثبت نسب الولد الثاني، ثم يثبت نسب الولد الأول. 6ً - ألا يكون محكوماً بثبوت نسب الولد شرعاً: كأن ولدت المرأة ولداً، فانقلب على رضيع، فمات الرضيع، وقضي بديته على عاقلة (عصبة) الأب، ثم نفى الأب نسبه، فيلاعن القاضي بينهما، ولا يقطع نسب الولد؛ لأن القضاء بالدية على عاقلة قضاء بكون الولد منه، ولا ينقطع النسب بعده. وقد سبق إيراد شرطين لنفي الحمل عند المالكية (¬1) وهما تفصيلاً مايأتي: 1ً - أن يدعي أنه لم يطأ الزوجة أصلاً بعد العقد، أو لأمد يلحق به، أو أنه وطئها ولكنه استبرأها بحيضة واحدة؛ فإن لم يطأها أصلاً بعد العقد، أو وطئها وأتت بالولد بعد الوطء في مدة لا يلتحق الولد فيها بالزوج، إما لقصر المدة كأن تلد ولداً كاملاً بعد شهر أو شهرين أو خمسة بعد الدخول أو الوطء؛ لأن أقل الحمل شرعاً ستة أشهر، وإما لطول المدة كخمس سنين؛ لأن أقصى مدة الحمل أربع سنين بعد الوطء، ففي هاتين الحالتين يعتمد على ذلك، ويعلم أن الولد ليس من الزوج قطعاً ويلاعن لنفيه. ¬
الشافعية
وكذلك يلاعن لنفي الولد لو وطئها واستبرأها بحيضة واحدة بعد الوطء، ثم أتت بولد بعد ستة أشهر من يوم الاستبراء بالحيضة، إذ هو ليس منه قطعاً. 2ً - أن ينفي الولد قبل وضعه: فإن سكت ولو يوماً بلا عذر حتى وضعته، حدّ الزوج ولم يلاعن. أما الشافعية (¬1) فأجازوا نفي الولد أثناء الحمل أو بعد الولادة مباشرة، فإن أخر بلا عذر أو قبل التهنئة بالمولود، سقط حقه في النفي؛ لأن التأخر يتضمن الإقرار به. فإن ادعى أنه لم يعلم بالولادة، فإن كان في موضع قريب منها كدار أو محلة لم يقبل قوله؛ لأنه يدعي خلاف الظاهر، وإن كان في موضع يجوز أن يخفي عليه كالبلد الكبير، فالقول قوله مع يمينه؛ لأن ما يدعيه ظاهر. وقالوا: لا يصح نفي أحد توأمين، فإن أتت المرأة بولدين توأمين، فنفى أحدهما وأقر بالآخر، أو ترك نفيه من غير عذر، لحقه الولدان؛ لأنهما حمل واحد؛ لأن الله تعالى لم يجر العادة بأن يجتمع في الرحم ولدان من ماء رجلين، فإذا اشتمل الرحم على المني، انسد فمه، فلا يتأتى منه قبول مني آخر، فلا يجوز أن يلحق أحد الولدين دون الآخر. ويلزم الزوج نفي ولد أتت به زوجته وعلم أنه ليس منه، بأن وطئها وولدته لدون ستة أشهر من الدخول، أو فوق أربع سنين، فلو ولدته فيما بين ستة أشهر من الدخول وأربع سنين منه، ولم يستبرئها بعد الدخول بحيضة، حرم نفي الولد باللعان رعاية للزوجية (¬2)، وإن ولدته بعد ستة أشهر من الاستبراء بحيضة، ولستة ¬
الحنابلة
أشهر فأكثر من الزنا، حل نفي الولد باللعان في الأصح، ولكن الأولى ألا ينفيه؛ لأن الحامل قد ترى الدم. وقال الحنابلة (¬1): يشترط لنفي الولد باللعان ما يأتي: 1ً - ألا يتقدمه إقرار به، أو بتوأمه، أو ما يدل عليه، كما لو نفى أحد التوأمين وسكت عن الآخر. وهذا موافق للشافعية. 2ً - أن يعجل نفي الولد بعد الولادة: فإن هنئ به فسكت أو أمَّن على الدعاء، أو أخر نفيه مع إمكانه، رجاء موته، بلا عذر، نحو جوع وعطش ونوم، سقط حقه في النفي. فإن قال: لم أعلم بالولد، أو أخر النفي لعذر كحبس ومرض وغيبة وحفظ مال، لم يسقط نفيه. وهذا موافق للشافعية أيضاً. 3ً - أن يذكر نفي الولد في لعان كل من الزوجين؛ لأنهما متحالفان على شيء فاشترط ذكره في تحالفهما كالمختلفين في اليمين، فإن لم يذكر الولد في اللعان لم ينتف عن الزوج. ويكفي عند الشافعية ذكر الولد في لعان الرجل، ولا تحتاج المرأة إلى ذكره؛ لأنها لا تنفيه. وذكْر الولد في ظاهر كلام الخرقي وهو الراجح لدى الحنابلة: أن يقول الزوج في لعانه: (وما هذا الولد ولدي) وتقول المرأة: (وهذا الولد ولده). وقال القاضي أبو يعلى والشافعية: يشترط أن يقول الزوج: (هذا الولد من زنا، وليس هو مني)؛ لأنه قد يريد بقوله: (ليس هو مني) يعني خُلقاً وخَلْقاً، فكان لا بد من ذكره للتأكيد. ¬
المطلب الرابع ـ كيفية اللعان ودور القاضي فيه
4ً - أن يوجد اللعان من كلا الزوجين. وهذا قول أكثر العلماء. وقال الشافعي: ينتفي الولد بلعان الزوج وحده؛ لأن نفي الولد إنما كان بيمينه والتعانه، لا بيمين المرأة على تكذيبه، ولا معنى ليمين المرأة في نفي النسب وهي تثبته وتكذب قول من ينفيه، وإنما لعانها لدرء الحد عنها. ورد الجمهور بأن النبي صلّى الله عليه وسلم إنما نفى الولد عنه بعد تلاعنهما. 5ً - أن تكمل ألفاظ اللعان منهما جميعاً. 6ً - أن يبدأ بلعان الزوج قبل لعان المرأة، وقال المالكية والحنفية: إن فعل العكس أخطأ السنة، والفرقة جائزة، وينتفي الولد عنه. المطلب الرابع ـ كيفية اللعان ودور القاضي فيه: كيفية اللعان أو صفته أو ألفاظه: اتفق الفقهاء (¬1) على كيفية اللعان أو صفته (أي ماهيته) على النحو التالي: إذا قذف الزوج زوجته بالزنا أو نفى نسب ولدها منه، ولم تكن له بينة، ولم تصدقه الزوجة، وطلبت إقامة حد القذف عليه، أمره القاضي باللعان، بأن يبتدئ القاضي بالزوج، فيقول أمامه أربع مرات: (أشهد بالله، إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا أو نفي الولد) بأن يحدد المقصود بالإشارة إليها إن كانت حاضرة، أو بالتسمية بأن يقول: (فيما رميت به فلانة زوجتي من الزنا)، ثم يقول في الخامسة: (لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رماها به من الزنا أو نفي الولد) ويشير الزوج إليها في جميع ما ذكر. ¬
ثم تقول المرأة أربع مرات أيضاً: (أشهد بالله، إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا أو نفي الولد) وتقول في الخامسة: (أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماني به من الزنا أو نفي الولد) وإنما خص الغضب وهو أشد من اللعن (¬1) في جانب المرأة؛ لأن النساء يتجاسرن باللعن، فإنهن يستعملن اللعن في كلامهن كثيراً، كما ورد في الحديث، فاختير الغضب لتتقي ولا تقدم عليه، ولأن جريمتها وهي الزنا أعظم من جريمة الرجل وهي القذف. وإنما وجب البدء بالرجل في اللعان؛ لأنه المدعي، وفي الدعاوى يبدأ بالمدعي. ودليل هذه الكيفية قوله تعالى: {والذين يرمون أزواجهم، ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم، فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله، إنه لمن الصادقين، والخامسة ُ أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين. ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، والخامسةَ أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين} [النور:6/ 24 - 9]. وثبت في السنة النبوية الصحيحة تأكيد هذه الكيفية بأحاديث، منها حديث ابن عمر: قال: يا رسول الله، أرأيت لو وجد أحدنا امرأته على فاحشة، كيف يصنع؟ إن تكلم، تكلم بأمر عظيم، وإن سكت سكت على مثل ذلك، قال: فسكت النبي صلّى الله عليه وسلم فلم يُجبْه، فلما كان بعد ذلك، أتاه، فقال: إن الذي سألتك عنه ابتليتُ به، فأنزل الله عز وجل هؤلاء الآيات في سورة النور: {والذين يرمون أزواجهم} [النور:6/ 24] فتلاهن عليه، ووعظه وذكره، وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فقال: لا والذي بعثك بالحق، ما كذبتُ عليها، ثم دعاها فوعظها وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فقالت: لا والذي بعثك بالحق إنه لكاذب. ¬
مندوبات اللعان ودور القاضي فيه
وأما اللعن فهو الطرد من الرحمة، ولا يلزم منه التعذيب. بدأ الرجل، فشهد أربع شهادات بالله، إنه لمن الصادقين، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم ثنى بالمرأة، فشهدت أربع شهادات بالله، إنه لمن الكاذبين، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، ثم فرق بينهما (¬1). وبداءة الزوج باللعان هو رأي الجمهور، وقال أبو حنيفة: يجزئ أن تبدأ المرأة باللعان، وقال الكاساني في البدائع: ينبغي أن تعيد، لأن اللعان شهادة المرأة، وشهادتها تقدح في شهادة الزوج، فلا تصح إلا بعد وجود شهادته. مندوبات اللعان ودور القاضي فيه: يسن للقاضي ما يأتي (¬2): 1ً - أن يعظ المتلاعنين قبل اللعان، ويخوفهما بعذاب الله في الآخرة، كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلم مع ابن عمر وزوجته في الحديث السابق، وقال عليه الصلاة والسلام لهلال: «اتق الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة» ويقرأ عليهما: {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً} الآية [آل عمران:3/ 77] ويقول لهما: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم للمتلاعنين: «حسابكما على الله، يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما من تاب». 2ً - لا يحكم القاضي في اللعان حتى يثبت عنده نكاح الزوجين. 3ً - أن يتلاعن الزوجان قائمين، ليراهما الناس، ويشتهر أمرهما، فيقوم الرجل عند لعانه، والمرأة جالسة، ثم تقوم عند لعانها، ويقعد الرجل، ويتكلم المتلاعنان بألفاظ اللعان، وهي أربع شهادات. ¬
4ً - أن يحضر جماعة من المسلمين اللعان، وأقلها أربعة عدول، وأوجبه المالكية. 5ً - أن يغلظ اللعان في الزمان والمكان في رأي المالكية والشافعية، والحنابلة على الراجح، بأن يكون بعد صلاة، لما فيه من الردع والرهبة، أو بعد صلاة العصر؛ لأنها الصلاة الوسطى على الراجح، أو بعد صلاة عصر الجمعة؛ لأن ساعة الإجابة فيه، كما رواه أبو داود والنسائي وصححه (¬1)، ولأن اليمين الفاجرة بعد العصر أغلظ عقوبة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكّيهم، ولهم عذاب أليم، وعدَّ منهم رجلاً حلف يميناً كاذبة بعد العصر، يقتطع بها مال امرئ مسلم» (¬2). ويكون لعان المسلم في المسجد؛ لأنه أشرف الأماكن، وأوجبه المالكية فيه؛ لأن فيه تأثيراً في الزجر عن اليمين الفاجرة. وأشرف الأماكن هو في مكة: بين الركن الذي فيه الحجر الأسود وبين مقام إبراهيم صلّى الله عليه وسلم، ويسمى ما بينهما بالحطيم، وفي المدينة: عند المنبر مما يلي القبر الشريف، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من حلف على منبري هذا يميناً آثمة، تبوأ مقعده من النار» (¬3) وقوله: «لا يحلف عند هذا المنبر عبد ولا أمة يميناً آثمة ولو على سواك رطب إلا وجبت له النار» (¬4). واللعان في بيت المقدس في المسجد عند الصخرة المشرفة؛ لأنها أشرف ¬
المطلب الخامس ـ ما يجب عند نكول أحد الزوجين
بِقاعه؛ لأنها قبلة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وعند ابن حبان: «أنها من الجنة». واللعان في غير المساجد الثلاثة يكون عند منبر الجامع؛ لأنه المعظم منه. وتلاعن امرأة حائض أو نفساء أو متحيرة مسلمة عند باب المسجد الجامع. ويلاعن ذمي أو كتابي في بِيعة (وهي معبد النصارى) وفي كنيسة (وهي معبد اليهود) (¬1)؛ لأن معابدهم كالمساجد عندنا، ويلاعن مجوسي في بيت نار، لأنهم يعظمونه، والمقصود الزجر عن الكذب، فيحضره القاضي رعاية لاعتقادهم لشبهة الكتاب التي يدعونها. ولا يلاعن في بيت أصنام وثني؛ لأنه لا حرمة له، واعتقادهم فيه غير شرعي. ولا يغلظ اللعان في رأي القاضي أبي يعلى من الحنابلة، والحنفية بمكان ولا زمان؛ لأن الله تعالى أطلق الأمر به، ولم يقيده بزمن ولا مكان، فلا يجوز تقييده إلا بدليل، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر الرجل بإحضار امرأته، ولم يخصه بزمن، ولو خصه به لنقل ولم يهمل. المطلب الخامس ـ ما يجب عند نكول أحد الزوجين عن اللعان أو رجوعه عنه: قد يمتنع أحد الزوجين عن اللعان بعد طلبه من القاضي، وقد يرجع عنه ويُكذب نفسه، فماذا يفعل القاضي؟ ¬
أما في حال نكول أحد الزوجين عن اللعان بعد طلبه منه، فقد اختلف الفقهاء في حكمه على رأيين (¬1): أـ ذهب الحنفية: إلى أنه إن امتنع الزوج عن اللعان حبس حتى يلاعن أو يكذب نفسه، فيحد حد القذف. وإن امتنعت الزوجة عن اللعان حبست حتى تلاعن أو تصدق الزوج فيما ادعاه عليها، فإن صدقته خلي سبيلها من غير حد؛ لأن قوله: {ويدرأ عنها العذاب} [النور:8/ 24] أي الحبس عندهم وعند الحنابلة. ب ـ وذهب الجمهور غير الحنفية: إلى أنه إن امتنع الزوج عن اللعان أو امتنعت الزوجة حُدّ حد القذف؛ لأن اللعان بدل عن حد الزنا، لقوله تعالى: {ويدرأ عنها العذاب} [النور:8/ 24] أي العذاب الدنيوي وهو الحد عندهم، فلا يندرئ الحد عن الزوجة مثلاً إلا بلعانها. إلا أن الحنابلة وافقوا الحنفية فيما إذا امتنعت الزوجة عن اللعان أخذاً بمدلول الآية السابقة: {ويدرأ عنها العذاب} [النور:8/ 24] فإن لم تلاعن وجب ألا يدرأ عنها العذاب، فتحبس حتى تقر بالزنا أربع مرات أو تلاعن. ومنشأ الخلاف بين الحنفية والجمهور في حال امتناع الزوج عن اللعان: هو اختلافهم في الموجَب الأصلي لقذف الزوجة، أهو اللعان أم الحد؟ قرر الحنفية بأن الموجب الأصلي هو اللعان، واللعان واجب، لقوله تعالى: {والذين يرمون أزواجهم، ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم، فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله} ¬
[النور:6/ 24] أي فليشهد أحدهم أربع شهادات بالله، فإنه تعالى جعل موجب قذف الزوجات هو اللعان، فمن أوجب الحد فقد خالف النص، فصارت آية حد القذف بالنسبة للزوجات منسوخة في حق الأزواج، وأصبح الواجب بقذف الزوجة هو اللعان، فإذا امتنع عنه حبس حتى يلاعن، كالمدين إذا امتنع عن إيفاء دينه، فإنه يحبس حتى يوفي ما عليه. وقرر الجمهور: أن الموجب الأصلي هو حد القذف، واللعان مسقط له، لعموم قوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء، فاجلدوهم ثمانين جلدة} [النور:4/ 24] فإنه عام في الأجنبي والزوج، ويجب الحد على كل قاذف، سواء أكان زوجاً أم غيره، ثم جعل الالتعان للزوج مقام الشهود الأربعة الذين يثبت بشهادتهم الزنا، فوجب عليه إذا امتنع عن اللعان الموجب الأصلي وهو حد القذف. ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لهلال بن أمية لما قذف زوجته بالزنا: «البينة أو حد في ظهرك». ورأي الجمهور أرجح لقوة أدلتهم من القرآن والسنة. وبناء عليه إذا قذف الزوج زوجته المحصنة (العفيفة) وجب عليه حد القذف، وحكم بفسقه، ورد شهادته، إلا أن يأتي ببينة أو يلاعن، فإن لم يأت بأربعة شهداء، أو امتنع عن اللعان، لزمه ذلك كله. وقد يجب على الزوج في حال امتناعه عن اللعان التعزير فقط، كما في حال قذف غير المحصنة كالمرأة الكتابية، والأمَة، والمجنونة، والطفلة، فإنه يجب عليه التعزير به، لإلحاقه العار بها بالقذف، ولا يحد لهن حداً كاملاً لنقصانهن بما ذكر، ولا يتعلق به فسق، ولا رد شهادة؛ لأن القذف لهؤلاء لا يوجب الحد. وله أن يلاعن لدرء التعزير عنه؛ لأنه تعزير قذف.
رجوع الزوج عن اللعان
وبه تكون القاعدة: كل موضع لا لعان فيه، فالنسب لاحق بالزوج، ويجب بالقذف موجبه من الحد أو التعزير، إلا أن يكون القاذف صغيراً أو مجنوناً، فلا تعزير أو ضرب فيه، ولا لعان بالاتفاق. رجوع الزوج عن اللعان: إذا أكذب الزوج نفسه بعد اللعان، فاتفق أئمة المذاهب الأربعة (¬1) على أنه يحد حد القذف، ويكون للزوجة الحق في مطالبة القاضي بالحد، سواء كذَّب نفسه قبل لعانها أو بعده؛ لأن اللعان أقيم مقام البينة في حق الزوج، فإذا أكذب نفسه، بأن قال: كذبتُ عليها، فقد زاد في هتك حرمتها، وكرر قذفها، فلا أقل من أن يجب عليه الحد الذي كان واجباً بالقذف المجرد. فإن عاد عن إكذاب نفسه، وقال: لي بينة أقيمها بزناها أو أراد إسقاط الحد عنه باللعان، لم يسمع منه؛ لأن البينة واللعان لتحقيق ما قاله، وقد أقر بكذب نفسه، فلا يسمع منه خلافه. وهذا كله فيما إذا كانت المقذوفة محصنة (عفيفة) فإن كانت غير محصنة، فعليه التعزير. وإن أكذب الملاعن نفسه قبل لعان المرأة، حد حد القذف، وبقيت الزوجية، فتبقى له زوجة، لكن لا تبقى زوجة بعد لعانها. ومتى أكذب نافي الولد نفسه بعد نفيه الولد، وبعد اللعان، لحقه نسب الولد، حياً كان الولد، أو ميتاً، غنياً كان الولد أو فقيراً؛ لأن اللعان يمين أو شهادة (بيّنة) فإذا أقر بما يخالفها أخذ بإقراره، وسقط حكم اللعان، ثم إن النسب يحتاط لثبوته قدر الإمكان، ويتم التوارث بين الأب والولد؛ لأن الإرث تابع للنسب، وقد ثبت فتبعه الإرث. ¬
المطلب السادس ـ هل ألفاظ اللعان شهادات أو أيمان؟
المطلب السادس ـ هل ألفاظ اللعان شهادات أو أيمان؟ تبين في بحث شروط المتلاعنين أن الحنفية قالوا: إنما يجوز اللعان لمن كان من أهل الشهادة، فلا لعان إلا بين مسلمين حرين عدلين، وتشترط في المتلاعنين: الحرية والعقل والبلوغ والإسلام والنطق وعدم الحد في القذف. وقال الجمهور: يصح اللعان من كل زوجين مكلفين، سواء أكانا مسلمين أم كافرين أم عدلين أم فاسقين أم محدودين في قذف أم كان أحدهما بتلك الصفة، أم كان من الأخرس. ومنشأ الخلاف في محدود القذف والأخرس والكافر هو: هل ألفاظ اللعان شهادات أو أيمان؟ رأى الحنفية (¬1): أن اللعان شهادات مؤكدة بالأيمان مقرونة باللعن وبالغضب، وإنه في جانب الزوج قائم مقام حد القذف، وفي جانب الزوجة قائم مقام حد الزنا. ودليلهم آية اللعان: {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم، فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله} [النور:6/ 24] سمى الأزواج شهداء، وسمى اللعان شهادة في النص: {فشهادة أحدهم} [النور:6/ 24] وجعل عددها كعدد شهادات الزنا. وإذا كان اللعان شهادة، فيشترط فيها ما يشترط في الشهادة على المسلم. وقال الجمهور (¬2): سميت ألفاظ اللعان شهادات، وهي في الحقيقة أيمان، واللعان يمين، وإن كان يسمى شهادة، لقوله صلّى الله عليه وسلم في قصة لعان هلال بن أمية: ¬
« لولا الأيمان لكان لي ولها شأن» (¬1) ولأنه لا بد في اللعان من ذكر اسم الله تعالى وذكر جواب القسم، ولو كان شهادة لما احتاج إليه، ولأنه يستوي فيه الرجل والمرأة، ولو كان شهادة لكانت المرأة على النصف من الرجل فيه، ولأنه يجب تكراره أربعاً، والمعهود في الشهادة عدم التكرار، أما اليمين فتتكرر كما في أيمان القسامة، ولأن اللعان يكون من الطرفين، والشهادة لا تكون إلا من طرف واحد وهو المدعي. أما تسمية اللعان شهادة، فلقول الملاعن في يمينه: (أشهد بالله) فسمي اللعان شهادة وإن كان يميناً، فقد يعبر عن الشهادة باليمين كما في قوله تعالى: {إذا جاءك المنافقون قالوا: نشهد} [المنافقون:1/ 63] ثم قال: {اتخذوا أيمانهم جُنَّة} [المنافقون:2/ 63] وأجمعوا على جواز لعان الأعمى، ولو كان شهادة لما جاز لعانه. وإذا كان اللعان يميناً، فلا يشترط فيه ما يشترط في الشهادة، وتفرع عن الخلاف اختلافهم في الأخرس، فقال الجمهور: يلاعن الأخرس إذا فهم عنه. وقال الحنفية: لا يلاعن؛ لأنه ليس من أهل الشهادة. والراجح لدي رأي الجمهور لقوة أدلتهم من السنة والمعقول، ولأن اللعان شرع للحاجة، والحاجة تتسع لأناس ولو لم يكونوا أهلاً للشهادة. وهذا هو أيضاً رأي العترة (آل البيت). ¬
المطلب السابع ـ أحكام أوآثار اللعان
المطلب السابع ـ أحكام أوآثار اللعان: يترتب على اللعان بين الزوجين أمام القاضي الآثار التالية (¬1): 1ً - سقوط حد القذف أو التعزير عن الزوج، وسقوط حد الزنا عن الزوجة. فإن لم يلاعن الرجل وجب عليه عند غيرالحنفية حد القذف إن كانت الزوجة الملاعنة محصنة، والتعزير إن كانت غير محصنة، وإن لم تلاعن المرأة وجب عليها عند الشافعية والمالكية حد الزنا من جلد البكر ورجم المحصنة (المتزوجة). 2ً - تحريم الوطء والاستمتاع بعد التلاعن من كلا الزوجين، ولو قبل تفريق القاضي، لحديث: «المتلاعنان لا يجتمعان أبداً» (¬2). 3ً - وجوب التفريق بينهما: لا تتم الفرقة عند الحنفية إلا بتفريق القاضي، لقول ابن عباس في قصة هلال بن أمية: «ففرَّق النبي صلّى الله عليه وسلم بينهما» (¬3) وهذا يقتضي أن الفرقة لم تحصل قبله، فلو مات أحدهما قبل التفريق ورثه الآخر، ولو طلقها الزوج وقع طلاقه. وقال المالكية، والحنابلة في الراجح من الروايتين عن أحمد: تقع الفرقة باللعان دون حكم حاكم؛ لأن سبب الفرقة وهو اللعان قد وجد، فتقع الفرقة به من غير حاجة إلى تفريق القاضي، ولقول عمر رضي الله عنه: «المتلاعنان يفرق بينهما، ولا يجتمعان أبداً». ¬
وقال الشافعي رحمه الله: تحصل الفرقة بلعان الزوج وحده، وإن لم تلاعن المرأة؛ لأنها فرقة حاصلة بالقول، فتحصل بقول الزوج وحده كالطلاق. قال ابن قدامة في المغني: ولا نعلم أحداً وافق الشافعي على هذا القول. 4ً - هذه الفرقة طلاق بائن عند أبي حنيفة ومحمد؛ لأنها بتفريق القاضي كما في التفريق بسبب العنة، وكل فرقة من القاضي تكون طلاقاً بائناً، لكن لا تعود المرأة إلى الزوجية إلا في حالتين: أـ أن يكذِّب الرجل نفسه، ولو دلالة كأن مات الولد المنفي، فادعى الزوج نسبه؛ لأن هذا يعتبر رجوعاً عن الشهادة، والشهادة لا حكم لها بعد الرجوع عنها، ويحد حينئذ حد القذف، ويثبت نسب الولد منه إن كان. وكذلك تعود المرأة إلى الزوجية إن صدقته، أي المرأة. ب ـ أن يخرج أحد الزوجين عن أهلية الشهادة؛ إذ به ينتفي سبب التفريق، فلو زنت المرأة أو قذفت غيرها، فحدت، جاز لزوجها أن يتزوجها، لانتفاء أهلية اللعان من جانبها. وإذا كان الطلاق بائناً وجب للمرأة النفقة والسكنى في عدتها، ويثبت نسب ولدها إلى سنتين إن كانت معتدة، وإن لم تكن معتدة فإلى ستة أشهر. وقال الجمهور وأبو يوسف: فرقة اللعان فسخ كفرقة الرضاع، وتوجب تحريماً مؤبداً، فلا يعود المتلاعنان إلى الزوجية بعدها أبداً؛ لقوله صلّى الله عليه وسلم: «المتلاعنان لا يجتمعان أبداً»، ولأن اللعان ليس طلاقاً، فكان فسخاً كسائر ما ينفسخ به الزواج، ولأن اللعان قد وجب وهو سبب التفريق، وأما تكذيب الرجل نفسه أو خروج أحد المتلاعنين عن أهلية الشهادة، فلا ينفي وجود سبب التفريق، بل هو باق، فيبقى حكمه.
المطلب الثامن ـ ما يسقط اللعان بعد وجوبه وما يبطل به حكم اللعان قبل التفريق
ورأى الشافعي: أن الفرقة تحصل بلعان الزوج، وإن لم تلاعن الزوجة. فإن كان كاذباً، أو أكذب نفسه، فلا يفيده ذلك عود النكاح، ولا رفع تأبيد الحرمة؛ لأنهما حق له وقد بطلا باللعان، فلا يتمكن من عودهما، بخلاف الحد ولحوق النسب، فإنهما يعودان لأنهما حق عليه. 5ً - انتفاء نسب الولد عن الرجل، وإلحاقه بأمه إذا كان اللعان لنفي النسب. ويترتب على نفي النسب عدم التوارث، وعدم إلزام النفقة، سواء نفقة الآباء على الأبناء أو نفقة الأبناء على الآباء. وتظل بعض الأحكام بالنسبة للولد: وهي عدم جواز شهادة الولد لأصله الملاعن أو الأصل لفرعه، وعدم القصاص من الرجل بقتل الولد المنفي، وعدم صحة إلحاق نسب الولد المنفي بالغير، لاحتمال أن يكذب الرجل نفسه فيعود نسبه منه، وبقاء المحرمية، فلا يجوز أن يزوج الرجل بنته لمن نفى نسبه منه؛ لأنه يحتمل كونه ابناً له. المطلب الثامن ـ ما يسقط اللعان بعد وجوبه وما يبطل به حكم اللعان قبل التفريق: أولاً ـ ما يسقط اللعان بعد وجوبه: قرر الحنفية (¬1): أن اللعان يسقط بما يأتي: 1ً - طروء عدم أهلية اللعان أو ما يمنع وجوب اللعان من أصله: كل ما يمنع وجوب اللعان إذا طرأ بعد وجوبه يسقط، مثل الجنون أو الردة، أو الخرس، ¬
أوقذف إنسان آخر فحد حد القذف، أو وطء المرأة وطئاً حراماً كالزنا والوطء بشبهة. ففي هذه الحالات لا يجب الحد، وإذا وجب سقط بهذه العوارض لانتفاء أهلية اللعان؛ لأن اللعان شهادة، ولا بد من بقاء صفة الشهادة إلى إصدار الحكم. 2ً - البينونة بالطلاق أو الفسخ أو الموت: إذا طلق الزوج امرأته بعد القذف، أو فسخ الزواج بسبب فاسخ، أو مات أحد الزوجين، سقط اللعان والحد، أما سقوط اللعان فلزوال الزوجية، وقيام الزوجية شرط إ جراء اللعان كما تقدم، وأما عدم وجوب الحد، فلأن القذف أوجب اللعان، فلم يوجب الحد. أما لو طلَّق الرجل امرأته طلاقاً رجعياً، فلا يسقط اللعان؛ لأن الطلاق الرجعي لا يبطل الزوجية. 3ً - موت شاهد القذف أو غيبته: يسقط اللعان بموت شاهد القذف وغيبته، إذ لو مات أو غاب لا يقضى بشهادته. 4ً - تكذيب الزوج نفسه أو تصديقها الزوج في القذف: لو أكذب الزوج نفسه سقط اللعان، لتعذر الإتيان به، إذ من المحال أن يؤمر أن يشهد بالله إنه لمن الصادقين، وهو يقول: إنه كاذب، ويجب عليه حد القذف، لأن القذف صحيح. ولو صدقت المرأة الزوج في القذف يسقط اللعان أيضاً لتعذر الإتيان به؛ لأنها أكذبت نفسها في الإنكار، لكن لا حد عليها؛ لأن اللعان لو وجب لا يثبت الزنا عليها، فلا تزول عفتها باللعان، فلا تحد حد الزنا هنا بالأولى لسقوط اللعان. وذكر الحنابلة (¬1) ثلاث حالات لسقوط اللعان: 1ً - طروء عارض من عوارض الأهلية: كالجنون، والزنا، وخرس المرأة. ¬
ثانيا ـ ما يبطل به حكم اللعان بعد وجوده قبل التفريق
2ً - تصديق المرأة زوجها في القذف أو عفوها، أو سكوتها. وسبب هاتين الحالتين اشتراطهم: أن تكذبه ويستمر التكذيب إلى انقضاء اللعان. 3ً - موت الزوج قبل اللعان أو قبل إتمام اللعان، فإذا قذف الزوج امرأته ثم مات قبل لعانهما أو قبل إتمام لعانه، سقط اللعان، ولحقه الولد، وورثته المرأة بالاتفاق؛ لأن اللعان لم يوجد فلم يثبت حكمه. وكذلك يسقط اللعان عندهم إن مات الزوج بعد أن أكمل لعانه وقبل لعانها. وقال الشافعي: تبين المرأة بلعان الزوج، وإن لم تلاعن الزوجة أو كان كاذباً، ويسقط التوارث، وينتفي الولد، ويلزم المرأة الحد إلا أن تلاعن. ثانياً ـ ما يبطل به حكم اللعان بعد وجوده قبل التفريق: رأى الحنفية (¬1): أن كل ما يسقط اللعان بعد وجوبه، يبطل به حكم اللعان (أي أثره) بعد وجوده، قبل التفريق مثل جنون أحد الزوجين أو كليهما بعد اللعان قبل التفريق، أو خرسه أو خرسهما، أو ردته أو ردتهما، أو صيرورة أحدهما محدوداً في قذف، أو صيرورة المرأة موطوءة وطئاً حراماً، وإكذاب أحدهما نفسه حتى لا يفرق الحاكم بينهما ويبقيان على زواجهما. وذلك لأن الأصل عندهم أن بقاء الزوجين على حال اللعان من الأهلية، شرط بقاء حكم اللعان؛ لأن اللعان عندهم شهادة، ولا بد من بقاء الشاهد على صفة الشهادة إلى وقت إصدار الحكم القضائي، فإذا زالت صفة الشهادة بهذه العوارض، فلا يجوز للقاضي التفريق. ¬
المبحث التاسع ـ التفريق بسبب الظهار
المبحث التاسع ـ التفريق بسبب الظهار: فيه خمسة مطالب: الأول ـ تعريف الظهار وحكمه الشرعي وأحواله تنجيزاً وإضافة وتعليقاً وتأقيتاً. الثاني ـ ركن الظهار وشروطه. الثالث ـ أثر الظهار أو ما يحرم على المظاهر. الرابع ـ كفارة الظهار. الخامس ـ انتهاء حكم الظهار. المطلب الأول ـ تعريف الظهار وحكمه الشرعي وأحواله تنجيزاً وإضافة وتعليقاً وتأقيتاً: الظهار شبيه بالإيلاء في أن كلاً منها يمين تمنع الوطء، ويرفع منعه الكفارة، وهو شبيه أيضاً باللعان على رأي الجمهور في أنه يمين لا شهادة. وكان الأولى ذكر الظهار عقب الإيلاء كما فعل فقهاؤنا، لكني أخرته إلى ما بعد اللعان لتوقف اللعان على التفريق القضائي الذي هو عنوان الفصل، وأما الظهار فيأتي التفريق فيه فقط إذا امتنع الزوج عن التكفير. والظهار لغة: مصدر مأخوذ من الظهر، مشتق من قول الرجل إذا ظاهر امرأته: (أنت علي كظهر أمي)، وكان طلاقاً في الجاهلية، ويقال: كانوا في الجاهلية إذا كره أحدهم امرأته، ولم يرد أن تتزوج بغيره، آلى منها أو ظاهر، فتبقى لا ذات زوج ولا خلية عن الأزواج تستطيع أن تنكح غير زوجها الأول، فغيَّر الشارع حكمه إلى تحريم الزوجة بعد العود (العزم على الوطء) ولزوم الكفارة.
والظهار شرعاً: هو أن يشبه الرجل زوجته بامرأة محرمة عليه على التأبيد، أو بجزء منها يحرم عليه النظر إلىه كالظهر والبطن والفخذ، كأن يقول لها: أنت علي كظهر أمي أو أختي، أو بحذف كلمة (علي). وتعريفات فقهاء المذاهب متقاربة، وهي ما يأتي، عرفه الحنفية بقولهم (¬1): تشبيه المسلم زوجته، أو ما يعبر به عنها من أعضائها، أو جزءاً شائعاً منها، بمحرَّمة عليه تأبيداً. فلا ظهار لذمي عندهم، ويشمل الظهار الزوجة الكتابية والصغيرة والمجنونة، ويمكن تشبيه الزوجة، أو ما يعبر به عنها كالرأس والرقبة، أو تشبيهه جزءاً شائعاً من الزوجة كقوله: نصفك ونحوه، والمشبه به إما جملة القريبة المحرم مثل: أنت علي كأمي، أو عضو يحرم النظر إليه من أعضاء محرمة عليه نسباً أو مصاهرة أو رضاعاً كالظهر وغيره. وإنما خص هذا اليمين باسم الظهار تغليباً للظهر؛ لأنه كان الأصل في استعمالهم. فلو شبه زوجته بمن تحرم عليه مؤقتاً، لم يكن ظهاراً، مثل: أنت علي كظهر أختك أو عمتك، فإن الأخت والعمة تحرمان حرمة مؤقتة، أو قال: كمطلقتي ثلاثاً، فإنها تحرم حتى تنكح زوجاً غيره، أو كالمجوسية لجواز إسلامها، وكذا لو شبهها بجزء لا يحرم النظر إليه كالوجه والرأس، لا يكون ظهاراً. ولو شبهها بشيء يحرم عليه من غير النساء كالخمر والخنزير، لم يكن ظهاراً، ويرجع فيه إلى نيته، فإن قصد به طلاقاً، كان طلاقاً بائناً، وإن قصد التحريم أو لم يقصد شيئاً كان إيلاء. ولو شبهها بفرج أبيه أو قريبه كان مظاهراً. لكن لو قالت: أنت علي كظهر أبي أو ابني، لا يصح؛ لأن المظاهر به ليس من جنس النساء. ¬
وعرفه المالكية (¬1) بقولهم: الظهار: تشبيه المسلم المكلف من تحل من زوجة أو أمة أو جزأها بمحرَّمة عليه أو بظهر أجنبية، وإن تعليقاً أو مقيداً بوقت. فلا ظهار لكافر، ولا لصبي ومجنون ومكره، ويتحقق الظهار بتشبيه الزوجة، مثل أنت أمي، أو جزء منها كيدها ورجلها، ولا ظهار في قوله: أنت علي كظهر زوجتي النفساء أوالمُحْرِمة بحج؛ لأن التحريم لها عليه ليس أصالة، فالظهار: تشبيه الزوجة بالمحرمة عليه أصالة، أو المحرمة عليه وقت اليمين مثل ظهر أجنبية. وبه يتفق الحنفية والمالكية في عدم صحة ظهار الكافر، ويختلفون في تشبيه الزوجة بظهر امرأة أجنبية. فلا ينعقد عند الحنفية؛ لأن التحريم مؤقت، وينعقد بنية الظهار عند المالكية، لأن التحريم الحالي أصيل. والظهار المعلق بشرط عندهم مثل: إن دخلت الدار فأنت علي كظهر أمي، وإن تزوجتك فأنت علي كظهر أمي. أما إن علقه بأمر محقق نحو: إن جاء رمضان فأنت علي كظهر أمي أو فلانة الأجنبية، أو إن طلعت الشمس في غد فأنت علي كظهر أمي، تنجز من الآن، ومنع منها حتى يكفِّر. وإن قيد الظهار بوقت، مثل: أنت علي كظهر أمي في هذا اليوم أوالشهر، انعقد مؤبداً، ولا ينحل إلا بالكفارة. وعرفه الشافعية (¬2) بأنه: تشبيه الزوجة غير البائن بأنثى لم تكن حلالاً على التأبيد. فلا يصح من صبي ومجنون ومغمى عليه ولا من مكره، ويصح من ذمي لعموم آية الظهار، ولا يصح تشبيه الزوجة بغير محرَّمة على التأبيد، ولو شبهها بأجنبية ومطلقة، وأخت زوجة، وأب للمظاهر، وملاعنة له ومجوسية ومرتدة، ¬
حكمه الشرعي
فكلامه لغو؛ لأن الثلاثة الأولى لا يشبهن الأم في التحريم المؤبد، ولأن الأب أو غيره من الرجال كالابن والغلام ليس محلاً للاستمتاع، وأما الملاعنة أو المجوسية أو المرتدة وإن كان تحريمها مؤبداً، فليس التحريم بسبب القرابة المحرمية، فهم كالحنفية في التشبيه بالمحرمة تأبيداً. والأظهر أن قوله: كيدها أو بطنها أو صدرها ظهار، وكذا كعينها إن قصد ظهاراً، وإن قصد كرامة فلا يعد ظهاراً، وكذلك قوله: رأسك أو ظهرك أو يد ك علي كظهر أمي: ظهار في الأظهر. ومثله الرجل أو الجلد أو البدن أو الشعر ونحو ذلك. وعرفه الحنابلة (¬1) بقولهم: أن يشبه الزوج امرأته أو عضواً منها بظهر من تحرم عليه على التأبيد، كأمه وأخته من نسب أو رضاع، أو حماته، أو يشبهها بظهر من تحرم عليه تحريماً مؤقتاً كأخت امرأ ته وعمتها وخالتها، أو يشبهها برجل كأبيه أو زيد، أو بعضو منه كظهره أو رأسه، ولو بغير عربية، أو اعتقد الحل، أي حل المشبه بها من أم وأخت كمجوسي قال لزوجته: أنت علي كظهر أختي، وهو يعتقد حل أخته، فلا أثر لاعتقاده ذلك، ويكون مظاهر. فهم كالشافعية يجيزون ظهار الكافر، ولكن يخالفونهم في جواز تشبيه الزوجة بالمحرمة تحريماً مؤقتاً، أو بمن لا يحل الاستمتاع به، وأجازوا كالمالكية الظهار من الأجنبية. حكمه الشرعي: الظهار محرَّم (¬2)، لقول الله تعالى: {وإنهم ليقولون منكراً من القول وزوراً} [المجادلة:2/ 58] ومعناه أن الزوجة ليست كالأم في التحريم، قال تعالى: {ما هن أمهاتهم} [المجادلة:2/ 58] وقال تعالى: {وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم} [الأحزاب:4/ 33]. ¬
أحوال الظهار في العادة
أحوال الظهار في العادة: يصح الظهار بالاتفاق منجزاً، كقوله: أنت علي كظهر أمي، ويكون الظهار عند أكثر الفقهاء من الزوج لا من الزوجة (¬1)، فلو ظاهرت المرأة من زوجها كان ظهارها عند الحنفية لغواً، فلا حرمة عليها ولا كفارة. وكذلك قال بقية المذاهب: ليس ذلك بظهار، لقوله تعالى: {والذين يظاهرون منكم من نسائهم} [المجادلة:2/ 58] فخص الأزواج بالظهار، ولأنه قول يوجب تحريماً على الزوجة يملك الزوج رفعه، فاختص به الرجل كالطلاق، ولأن حل الاستمتاع بالمرأة حق للرجل، فلم تملك المرأة إزالته كسائر حقوقه. لكن أوجب عليها الإمام أحمد في رواية راجحة عنه كفارة الظهار؛ لأنها قد أتت بالمنكر من القول والزور، وفي رواية عنه: عليها كفارة اليمين، قال ابن قدامة: وهذا أقيس على مذهب أحمد وأشبه بأصوله؛ لأنه ليس بظهار، ومجرد القول من المنكر والزور لا يوجب كفارة الظهار بدليل سائر الكذب. وفي رواية ثالثة: ليس عليها كفارة، وهو قول بقية الأئمة، لأنه قول منكر وزور، وليس بظهار، فلم يوجب كفارة كالسب والقذف. الظهار المعلق: أجاز الحنفية (¬2) إضافة الظهار إلى ملك أو سبب الملك، مثال الأول: أن يقول لأجنبية: إن صرت زوجة لي فأنت علي كظهر أمي. ومثال الثاني: إن تزوجتك فأنت علي كظهر أمي، وأجازوا إضافته إلى وقت مثل: أنت علي كظهر أمي في رأس شهر كذا، لقيام الملك، وتعليقه أثناء الزواج مثل: إن دخلت الدار أو إن كلمت فلاناً، فأنت علي كظهر أمي لوجود الملك وقت اليمين. لكن تعليق الظهار بمشيئة الله تبطله. ¬
وكذلك أجاز الحنابلة (¬1) تعليق الظهار على الزواج أو الظهار من الأجنبية، سواء قال ذلك لامرأة بعينها أو قال: كل النساء علي كظهر أمي، وسواء أوقعه مطلقاً أم علقه على التزويج، فقال: كل امرأة أتزوجها، فهي علي كظهر أمي، ومتى تزوج التي ظاهر منها، لم يطأها حتى يكفِّر. وأجازوا أيضاً تعليق الظهار بشرط، مثل إن دخلت الدار، فأنت علي كظهر أمي، أو إن شاء زيدّ فأنت علي كظهر أمي، فمتى دخلت الدار أو متى شاء زيد، صار مظاهراً، وإلا فلا. ودليلهم ما روى الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب: أنه قال في رجل قال: إن تزوجت فلانة، فهي علي كظهر أمي، فتزوجها، قال: «عليه كفارة الظهار» ولأنها يمين مكفرة، فصح انعقادها قبل النكاح، كاليمين بالله تعالى. وقد بان سابقاً أن المالكية (¬2) أجازوا تعليق الظهار، نحو: إن دخلت الدار فأنت علي كظهر أمي، وإن تزوجتك فأنت علي كظهر أمي، أو قال: كل امرأة أتزوجها فهي مني كظهر أمي. وأجاز الشافعية (¬3) أيضاً تعليق الظهار بشرط وبمشيئة زيد مثلاً؛ لأنه يتعلق به التحريم كالطلاق والكفارة، وكل منهما يجوز تعليقه. وتعليق الظهار مثل: إذا جاء زيد، أو إذا طلعت الشمس فأنت علي كظهر أمي. فإذا وجد الشرط صار مظاهراً لوجود المعلق عليه. ومن أمثلته أن يقول: «إن ظاهرت من زوجتي الأخرى، فأنت علي كظهر أمي» وهما في عصمته، فظاهر من الأخرى، صار مظاهراً منهما، عملاً بموجب التنجيز والتعليق. ¬
الظهار المؤقت
والخلاصة: اتفق فقهاء المذاهب الأربعة على جواز تعليق الظهار على شرط، وقرر الجمهور غير الشافعية أنه يجوز تعليق الظهار على التزوج بامرأة معينة، وكذا عند الحنفية والمالكية والحنابلة: لو قال: «كل النساء علي كظهر أمي» لأنه عقد على شرط الملك، فأشبه ذا ملك، والمؤمنون عند شروطهم. ولا يجوز عند الشافعية تعليق الظهار على ملك الزواج، لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فيما يرويه أبو داود والترمذي: «لا طلاق إلا فيما يملك، ولا عتق إلا فيما يملك، ولا بيع إلا فيما يملك، ولا وفاء بنذر إلا فيما يملك» والظهار شبيه بالطلاق. الظهار المؤقت: ذكر فقهاء المذاهب الأربعة (¬1): أنه يصح الظهار مؤقتاً، مثل أن يقول: أنت علي كظهر أمي شهراً أو يوماً، أو حتى ينسلخ شهر رمضان، لكن يصح مؤبداً عند المالكية وفي قول عند الشافعية، فلا ينحل إلا بالكفارة، أي فيسقط التأقيت ويكون ظهاراً؛ لأن هذا لفظ يوجب تحريم الزوجة، فإذا وقَّته لم يتوقت كالطلاق. وقال الحنفية والشافعية والحنابلة: إذا مضى الوقت، زال الظهار، وحلت المرأة بلا كفارة، فإن وطئها في المدة لزمته الكفارة، لحديث سَلَمة ابن صَخْر، وقوله: «تظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ شهر ر مضان، وأخبر النبي صلّى الله عليه وسلم أنه أصابها في الشهر، فأمره بالكفارة» (¬2) ولأنه منع نفسه منها بيمين لها كفارة، فصح مؤقتاً بالإيلاء. ويختلف الظهار عن الطلاق في أن الظهار يزيل الملك، ويوقع تحريماً يرفعه التكفير، فجاز تأقيته. وعبارة الحنفية: لو قيد الظهار بوقت سقط بمضيه، لكن لو أراد قربانها داخل الوقت لايجوز بلا كفارة. ¬
المطلب الثاني ـ ركن الظهر وشروطه
المطلب الثاني ـ ركن الظهر وشروطه: ركن الظهار عند الحنفية (¬1): هو اللفظ الدال على الظهار، والأصل فيه قول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي، ويلحق به قوله: أنت علي كبطن أمي، أو فخذ أمي، أو فرج أمي. وقال الجمهور غير الحنفية (¬2): للظهار أركان أربعة: وهي المظاهر، والمظاهر منها، واللفظ أو الصيغة، والمشبه به. والمظاهر: هو الزوج. والمظاهر منه: هو الزوجة، مسلمة كانت أو كتابية. واللفظ أو الصيغة: ما يصدر عن الزوج من ألفاظ صريحة أو كناية. والصريح: ما تضمن ذكر الظهر، كقوله: أنت علي كظهر أمي، والكناية: ما لم تتضمن ذكر الظهر، كقوله: أنت علي كأمي أو كفخذها أو بعض أعضائها، ويصدق في الكناية ديانة أنه أراد به الطلاق، دون الصريح. وينوي في الكناية ما يريد. والمشبه به: هو من حرم وطؤه وهو الأم ويلحق بها كل محرمة على التأبيد بنسب أو رضاع أو مصاهرة. شروط المظاهر: المظاهر عند الحنفية والمالكية: هو كل زوج مسلم عاقل بالغ، فلا يلزم ظهار الذمي. ¬
وعند الشافعية والحنابلة: هو كل زوج صح طلاقه، وهو البالغ العاقل سواء أكان مسلماً أم كافراً، حراً أم عبداً. وظهار السكران صحيح كطلاقه بالاتفاق. ولا يصح ظهار المكره عند الجمهور غير الحنفية. وبه تكون شروط المظاهر (¬1): 1ً - أن يكون عاقلاً: فلا يصح ظهار المجنون والصبي غير المميز، والمعتوه والمدهوش والمغمى عليه والنائم، كما لا يصح طلاقهم؛ لأنه يترتب عليه التحريم، وهؤلاء ليسوا أهلاً لخطاب التحريم. 2ً - أن يكون بالغاً: فلا يصح ظهار الصبي وإن كان عاقلاً مميزاً؛ لأن الظهار من التصرفات الضارة المحضة، فلا يملكه الصبي، كما لا يملك الطلاق وغيره مما يضر بمصلحته. 3ً - أن يكون مسلماً في رأي الحنفية والمالكية: فلا يصح ظهار الذمي عندهم؛ لأن حكم الظهار تحريم مؤقت يزول بالكفارة، والكافر ليس أهلاً للكفارة التي هي قربة إلى الله تعالى، فلا يكون من أهل الظهار. ولا يشترط كونه مسلماً في رأي الشافعية والحنابلة، لعموم آية الظهار: {والذين يظاهرون من نسائهم} [المجادلة:3/ 58] من غير تفريق بين مسلم وكافر، ولأن الكافر مخاطب بفروع الشريعة، وأّهل للكفارة بغير الصوم من إطعام وإعتاق رقبة، ولأنه أهل للطلاق، فيكون أهلاً للظهار، فإن كان المظاهر كافراً، كفر بالعتق أو الطعام؛ لأنه يصح منه ما ذكر في غير الكفارة، فصح منه في الكفارة، ولا يكفر بالصوم، لعدم صحته منه. ¬
شروط المظاهر منها
والخلاصة: يشترط عند الفريق الأول شرطان في المظاهر وهما الإسلام والتكليف، وشرط واحد عند الفريق الثاني وهو التكليف. وأما الاختيار أو الطواعية فهو شرط عند الجمهور غير الحنفية، ويدخل عندهم شرط التكليف، فلا يصح ظهار المكره، وليس شرطاً عند الحنفية، فيصح ظهار المكره والمخطئ، كما يصح طلاقهما. شروط المظاهر منها: المظاهر منها: هي امرأة المظاهر، مسلمة أو كتابية، كبيرة أو صغيرة، وشروطها ما يلي (¬1): 1ً - أن تكون زوجته: وهي أن تكون مملوكة له بملك النكاح، فلا يصح الظهار من الأجنبية، لعدم الملك، لقوله تعالى: {من نسائهم} [المجادلة:3/ 58]. لكن يصح الظهار عند الجمهور غير الشافعية معلقاً بالملك، كأن يقول لامرأة: إن تزوجتك فأنت علي كظهر أمي، أو يقول: كل امرأة أتزوجها، فهي علي كظهر أمي. ظهار المرأة: لم يجز أكثر العلماء ظهار المرأة من الرجل تشبيهاً للظهار بالطلاق، ويكون لغواً لا كفارة فيه، ولكن أوجب عليها الإمام أحمد في رواية راجحة عنه كفارة الظهار؛ لأنها أتت بالمنكر من القول والزور، وفي رواية: كفارة اليمين، وهذا أقيس على مذهبه، كما تقدم. ¬
الظهار من الجماعة
الظهار من الجماعة: لو قال الزوج بلفظ واحد لأربع من نسائه: (أنتن علي كظهر أمي) كان مظاهراً من جماعتهن، وعليه عند الحنفية والشافعية في الجديد لكل امرأة كفارة؛ لأنه وجد الظهار والعود (العزم على الوطء) في حق كل امرأة منهن، فوجب عليه عن كل واحدة كفارة، كما لو أفردها به. وقال المالكية والحنابلة: ليس عليه إلا كفارة واحدة، عملاً بقول عمر وعلي رضي الله عنهما، ولأن الظهاركلمة تجب بمخالفتها الكفارة، فإذا وجدت في جماعة أوجبت كفارة واحدة كاليمين بالله تعالى. 2ً - قيام ملك النكاح من كل وجه: فيصح الظهار من الزوجة ولو كانت في أثناء العدة من طلاق رجعي، ولا يصح الظهار من المطلقة ثلاثاً، ولا المبانة ولا المختلعة وإن كانت في العدة، بخلاف الطلاق؛ لأن المختلعة والمبانة يلحقها عند الحنفية صريح الطلاق؛ لأن الظهار تحريم، وقد ثبتت الحرمة بالإبانة والخلع، وتحريم المحرَّم محال، ولأنه لا يفيد إلا ما أفاده سابقه، فيكون عبثاً. 3ً - أن يكون الظهار عند الحنفية مضافاً إلى بدن الزوجة، أو عضو منها يعبر به عن جميع البدن، أو جزء شائع منها، فلو أضافه إليها مثل: أنت علي كظهر أمي، أو إلى عضو يعبر به عن الجميع مثل: رأسك أو وجهك أو رقبتك أو فرجك علي كظهر أمي، أو إلى جزء شائع مثل: ثلثك أو ربعك أو نصفك ونحو ذلك كظهر أمي، كان مظاهراً. أما لو قال: يدك أو رجلك أو أصبعك، لا يصير مظاهراً عندهم. ويصير مظاهراً عند بقية المذاهب؛ لأنه عضو يحرم التلذذ به، فكان كالظهر. شروط المشبه به: المشبه به: هي الأم، ويلحق به كل محرمة على التأبيد بنسب أو رضاع أو مصاهرة. وقد اختلفت الآراء الفقهية سعة وضيقاً في تحديد المشبه به.
فقال الحنفية (¬1): يشترط في المظاهر به أو المشبه به ما يأتي: 1ً - أن يكون امرأة يحرم نكاحها عليه على التأبيد، سواء أكان التحريم بالنسب كالأم والبنت والأخت والعمة والخالة، أم بالرضاع، أم بالمصاهرة كامرأة أبيه، أو زوجة ابنه، وأم امرأته (حماته). 2ً - أن يكون عضواً لا يحل له النظر إليه، كالظهر والبطن والفخذ والفرج، فلو شبهها برأس أمه أو بوجهها أو يدها أو رِجْلها، لا يصير مظاهراً؛ لأن هذه الأعضاء من أمه يحل له النظر إليها. 3ً - أن يكون من جنس النساء: فلو قال الزوج لامرأته: أنت علي كظهر أبي أو ابني، لا يصح؛ لأن الشرع إنما ورد فيما إذا كان المظاهر به امرأة. وعليه، لا يصح الظهار إذا شبه الرجل امرأته بامرأة محرمة عليه في الحال، وتحل له في حال أخرى، كأخت امرأته أو امرأة لها زوج، أو مجوسية، أو مرتدة؛ لأنها غير محرمة عليه أو على التأبيد. وذهب المالكية (¬2) إلى أن المشبه به: هو من حرم وطؤه أصالة من آدمي (ذكر أو أنثى) أو غيره أي كالبهيمة. فيصح الظهار بتشبيه الزوجة أو جزئها ولو حكماً كالشعر والريق بالأم، وما يلحق بها من كل محرم على التأبيد بنسب أو رضاع أو مصاهرة. وخرج بقوله (أصالة) من يحرم وطؤها لعارض كالحيض أو النفاس، فلا ينعقد الظهار بقوله لإحدى زوجتيه: (أنت علي كظهر زوجتي النفساء أو الحائض أو المُحْرِمة بحج أوالمطلقة طلاقاً رجعياً). ¬
ويصح الظهار أيضاً بتشبيه الزوجة أيضاً بتشبيه الزوجة بجزء المحرَّمة على التأبيد، مثل: أنت علي كيد أمي أو يد خالتي. وكذا يصح الظهار عندهم إذا شبه زوجته بأجنبية لا تحرم عليه على التأبيد. ورأى الشافعية (¬1) أن المشبه به فقط: كل من حرم وطؤه على التأبيد بنسب أو رضاع أو مصاهرة إلا مرضعة المظاهر وزوجة الابن؛ لأنهما كانتا حلالاً له في وقت، فيحتمل إرادته. وأوسع المذاهب في صحة الظهار بالمشبه به هم الحنابلة (¬2)، فإنه يشمل ما يأتي من الأصناف، سواء أكان التشبيه بكل المشبه به أم بعضو منه كاليد والوجه والأذن. 1ً - كل محرَّم من النساء على التأبيد بنسب أو رضاع أو مصاهرة، كالأمهات والجدات والعمات والخالات والأخوات، وهذا متفق عليه، والأمهات المرضعات والأخوات من الرضاعة، وحلائل الأبناء والآباء وأمهات النساء، والربائب اللاتي دخل بأمهن. 2ً - كل محرَّم من النساء تحريماً مؤقتاً كأخت امرأته وعمتها، أو الأجنبية، لأنه شبه زوجته بمحرمة، فأشبه ما لو شبهها بالأم. 3ً - كل محرَّم من الرجال، أو البهائم، أو الأموات ونحوهم، فيصح الظهار لو شبه زوجته بظهر أبيه، أو بظهر غيره من الرجال، أو قال: أنت علي كظهر البهيمة، أو أنت علي كالميتة والدم، عملاً بما روي عن جابر بن زيد. ¬
شروط الصيغة
وخالفهم فيما ذكر أكثر العلماء، فلا يكون التشبيه بمن ذكر ظهاراً؛ لأنه تشبيه بما ليس بمحل للاستمتاع، كما لو قال: أنتِ علي مثل مال زيد. هذا ويكره أن يدعو الزوج زوجته بذي رحم، مثل يا أخت أو يا أم ونحوهما، لنهي النبي صلّى الله عليه وسلم عنه فيما رواه أبو داود. شروط الصيغة: الصيغة التي ينعقد الظهار بها إما لفظ صريح لا يحتاج إلى نية، أو كناية يحتاج إلى نية. واختلف الفقهاء في بيان الألفاظ الصريحة والكناية. قال الحنفية (¬1): الصريح: هو ما كان بلفظ لا يحتمل معنى آخر غير الظهار، بأن يقول الرجل لزوجته، (أنت علي كظهر أمي) أو (بطنك أو فخذك أو فرجك ... إلخ) أو (نصفك ونحوه من الجزء الشائع كظهر أمي) يكون مظاهراً ولو بلا نية، لأنه صريح. ومثله: (أنت علي حرام كظهر أمي) ثبت الظهار لا غير لأنه صريح. والكناية: ما كان بلفظ يحتمل الظهار وغيره، ويكون ظهاراً بالنية، مثل (أنت علي مثل أمي) يرجع إلى نيته، فإن قال: أردت الكرامة، فهو كما قال، وإن قال: أردت الظهار، فهو ظهار، وإن قال: أردت الطلاق، فهو طلاق بائن، وإن لم يكن له نية فليس بشيء عند أبي حنيفة وأبي يوسف، لاحتمال إرادة الكرامة. ومثل: (أنت علي حرام كأمي) يعتبر ما نواه من ظهر أو طلاق. ولا يقبل منه إرادة الكرامة، لوجود لفظ التحريم، وإن لم ينو شيئاً ثبت الأدنى وهو الظهار في الأصح، لعدم إزالته ملك النكاح وإن طال. ¬
المالكية
وصريح الظهار عند المالكية (¬1): هو ما تضمن ذكر الظهر في مؤبد التحريم، أو هو اللفظ الدال على الظهار بالوضع الشرعي بلا احتمال غيره بلفظ (ظهر) امرأة مؤبدة التحريم بنسب أو رضاع أو مصاهرة، فلا بد في الصريح من الأمرين: ذِكْر الظهر، وذِكْر مؤبدة التحريم، مثل: (أنت علي كظهر أمي أو أختي من الرضاع، أو كظهر أمك). ولا ينصرف صريح الظهار للطلاق إن نواه به؛ لأن صريح كل نوع لا ينصرف لغيره، ولا يعتبر منه الطلاق إن نوى بالظهار طلاقاً، لا في الفتوى ولا القضاء على المشهور من المذهب. والكناية عندهم: هي ما سقط منه أحد اللفظين: لفظ الظهر: ولفظ مؤبد التحريم، مثال الأول: (أنت كأمي) أو (أنت أمي) بحذف أداة التشبيه، ومثال الثاني: (أنت كظهر رجل: خالد أو بكر أو كظهر أبي أو ابني، أو أجنبية (¬2) يحل وطؤها في المستقبل بزواج) مثل: أنت علي كظهر فلانة، وليست محرماً ولا زوجة له. ومن الكناية: أن يعبر بجزء من الزوجة أو من المشبه به، مثل: يدك أو رأسك أو شعرك كأمي، أو كيد أمي أو رأسها أو شعرها. وينوي الظهار في النوعين. فإن نوى الظهار في نوعي الكناية الظاهرة، وهما إسقاط لفظ الظهر، أو إسقاط مؤبدة التحريم، انعقد ظهاراً. وإن نوى الطلاق وقع به البينونة الكبرى: وهي الطلاق الثلاث، سواء في الزوجة المدخول بها وغيرها، لكن إن نوى الأقل ¬
الشافعية
من الثلاث في غير المدخول بها، لزمه فيها ما نواه، بخلاف المدخول بها، فإنه يلزمه فيها البينونة الكبرى، ولا يقبل منه نية الأقل. ومذهب الشافعية (¬1): أن الصريح: ما تضمن ذكر الظهر أو عضو لا يذكر في معرض التكريم، كأن يقول الرجل لزوجته: (أنت علي أو مني أو معي أو عندي كظهر أمي) وكذا إن قال: (أنت كظهر أمي) بحذف الصلة أي (علي) ونحوه، يكون صريحاً على الصحيح، ومن الصريح قوله: (جسمك أو بدنك أو نفسك كبدن أمي أو جسمها أو جملتها) لتضمنه الظهر. ومنه: (أنت علي كيد أمي أو بطنها أو صدرها، ونحوها) من الأعضاء التي لا تذكر في معرض الكرامة والإعزاز مما سوى الظهر؛ لأنه عضو يحرم التلذذ به، فكان كالظهر. ومن الصريح: ذكر جزء شائع مثل نصفك أو ربعك، ومنه ذكر أحد الأعضاء مثل: رأسك أو ظهرك أو يدك أو رجلك، أو بدنك أو جلدك أو شعرك أو نحو ذلك. والكناية: أن يذكر عضواً يحتمل الكرامة، مثل أنت علي كعين أو رأس أمي ونحوه. أو أنت كأمي أو روحها أو وجهها، فإن قصد ظهاراً، أي نوى أنها كظهر أمه في التحريم فهو ظهار، وإن قصد كرامة ولم يقصد شيئاً، فلا يكون ظهاراً؛ لأن هذه الألفاظ تستعمل في الكرامة والإعزاز. ولا يكون الظهار بلفظ الطلاق، ولا الطلاق بلفظ الظهار، فإن قال الرجل لامرأته: (أنت طالق) ونوى به الظهار، لم يكن ظهاراً. وإن قال: أنت علي كظهر أمي» ونوى به الطلاق، لم يكن طلاقاً؛ لأن كل واحد منهما صريح في موجبه في الزوجية، فلا ينصرف عن موجبه بالنية، كما تقدم عند المالكية. ¬
الحنابلة
ولو قال: (أنت طالق كظهر أمي) ولم ينو شيئاً، وقع الطلاق، بقوله: (أنت طالق) ويلغى قوله: (كظهر أمي). وإن قال: (أنت علي حرام كظهر أمي) ولم ينو شيئاً، فهو ظهار؛ لأنه أتى بصريحه، وأكده بلفظ التحريم. فإن نوى به الطلاق كان طلاقاً في الصحيح. والصريح عند الحنابلة (¬1): ما تضمن ذكر الظهر أو الحرمة، فإذا قال الزوج لزوجته: أنت علي كظهر أمي أو كظهر امرأة أجنبية، أو أنت علي حرام، أو حرم عضواً من أعضائها، كان مظاهراً. فإن شبَّه زوجته بمن تحرم عليه على التأبيد، فقال: أنت علي كظهر أمي أو أختي أوغيرهما، فهذا ظهار إجماعاً. وكذا إن شبهها بمن تحرم عليه من ذوي رحمه كجدته وعمته وخالته وأخته، كان ظهاراً في المذاهب الأربعة وأكثر العلماء. أو شبهها بالأقارب المحرمات من جهة الرضاع أو من جهة المصاهرة كالأمهات المرضعات وحلائل الآباء والأبناء، كان ظهاراً في رأي الأكثرين. وأما الكناية عند الحنابلة فهو استعمال ألفاظ الكرامة والتوقير، كما قال الشافعية، فإن قال: أنت علي كأمي أو مثل أمي، فإن نوى به الظهار فهو ظهار، وهو رأي الأكثرين، وإن نوى به الكرامة والتوقير أو أنها مثله في الكبر أو الصفة، فليس بظهار، والقول قوله في تحديد نيته. وإن لم ينو شيئاً وأطلق فالأظهر عندهم أنه ليس بظهار حتى ينويه، وهو موافق لقول أبي حنيفة والشافعي؛ لأن هذا اللفظ يستعمل في الكرامة أكثر مما يستعمل في التحريم، فلم ينصرف إليه بغير نية ككنايات الطلاق. ¬
وإن قال: (أنت علي حرام) فإن نوى به الظهار، فهو ظهار، وهذا موافق لقول أبي حنيفة والشافعي. ولو قال: (أنت حرام إن شاء الله) فلا ظهار. وإن قال: (أنت علي كظهر أمي حرام) فهو صريح في الظهار لا ينصرف إلى غيره، سواء نوى الطلاق أو لم ينوه، وهذا متفق عليه؛ لأنه صرّح بالظهار، وبينه بقوله: (حرام). ولو قال: (أنت طالق كظهر أمي) طلقت كما قال الشافعية، وسقط قوله: (كظهر أمي) لأنه أتى بصريح الطلاق أولاً، وجعل قوله «كظهر أمي» صفة له. فإن نوى بقوله (كظهر أمي) تأكيد الطلاق لم يكن ظهاراً، كما لو أطلق. وإن نوى به الظهار، وكان الطلاق بائناً، فهو كالظهار من الأجنبية؛ لأنه أتى به بعد بينونتها بالطلاق، وإن كان رجعياً كان ظهاراً صحيحاً، كما قال الشافعية. وإن قال: (أنت علي حرام) ونوى الطلاق والظهار معاً، كان ظهاراً ولم يكن طلاقاً؛ لأن اللفظ الواحد لا يكون ظهاراً وطلاقاً، والظهار أولى بهذا اللفظ، فينصرف إليه. وإن قال: (الحل علي حرام) أو (ما أحل الله علي حرام) أو (ما انقلب إليه حرام) وله امرأة، فهو مظاهر في الصور الثلاث، لأن لفظه يقتضي العموم، فيتناول المرأة بعمومه. وإن صرح بتحريم المرأة أو نواها، فهو آكد. ولا يكون مظاهراً إن قال: كشعر أمي أو سنها أوظفرها؛ لأنها ليست من أعضاء الأم الثابتة. أو قال: (أنا مظاهر، أو علي الظهار، أو علي الحرام، أو الحرام لازم لي) ولا نية له؛ لأنه ليس بصريح في الظهار ولا نوى به الظهار. وإن نوى به الظهار، أو اقترنت به قرينة تدل على إرادته الظهار، مثل أن يعلقه على شرط، فيقول: (علي الحرام إن كلمتك) احتمل أن يكون ظهاراً، كما يصح
المطلب الثالث ـ أثر الظهار أو أحكامه، أو ما يحرم على المظاهر
طلاق الكناية بالنية، ويحتمل ألا يثبت به الظهار؛ لأن الشرع إنما ورد به بصريح لفظه وهو المظاهرة، وهذا ليس بصريح فيه، ولأنه يمين موجبة للكفارة، فلم يثبت حكمه بغير الصريح كاليمين بالله تعالى. المطلب الثالث ـ أثر الظهار أو أحكامه، أو ما يحرم على المظاهر: يترتب على الظهار الأحكام التالية (¬1): 1ً - تحريم الوطء بالاتفاق قبل التكفير، وكذا عند الجمهور غير الشافعية: تحريم جميع أنواع الاستمتاع غير الجماع كاللمس والتقبيل والنظر بلذة ما عدا وجهها وكفيها ويديها لسائر بدنها ومحاسنها، والمباشرة فيما دون الفرج، لقوله تعالى: {والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا، فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا} [المجادلة:3/ 58] أي فليحرروا رقبة، كما في آية {والوالدات يرضعن أولادهن} [البقرة:233/ 2] أي ليرضعن، وآية {والمطلقات يتربصن بأنفسهن} [البقرة:228/ 2] أي ليتربصن، ولأن القول الذي حرم الوطء، حرم مقدماته ودواعيه كيلا يقع فيه كالطلاق والإحرام. ويستمر التحريم إلى أن يكفر كفارة الظهار؛ لأن ظهاره جناية؛ لأنه منكر من القول وزور، فيناسب مجازاة الجناية بالحرمة، وارتفاعها بالكفارة. فإن وطئ الرجل المظاهر امرأ ته قبل أن يكفر، استغفر الله تعالى من ارتكاب هذا المأثم، ولا شيء عليه غيرالكفارة الأولى، ولا يعود إلى الاستمتاع بالمظاهر ¬
هل يعود الظهار بعد الطلاق بالعودة إلى الزوجية؟
منها حتى يكفر، لقوله صلّى الله عليه وسلم للذي واقع في ظهاره قبل الكفارة: «فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله» وفي رواية «فاعتزلها حتى تكفر» (¬1) وعن سَلَمة بن صخر عن النبي صلّى الله عليه وسلم في المظاهريُواقع قبل أن يكفِّر، قال: «كفارة واحدة» (¬2). والعَوْد الذي تجب به الكفارة في قوله تعالى: {ثم يعودون لما قالوا} [المجادلة:3/ 58]: أن يعزم المظاهر على وطئها، أي المظاهر منها، أي أن الكفارة تجب عليه إذا قصد وطأها بعد الظهار. فإن رضي أن تكون محرَّمة عليه، ولم يعزم على وطئها لا تجب الكفارة عليه، ويجبر على التكفير دفعاً للضرر عنها. ومذهب الشافعية: يحرم بالظهار الوطء فقط دون مقدماته ودواعيه حتى يكفِّر المظاهر؛ لأنه وطء يتعلق بتحريم مال، فلم يتجاوزه التحريم كوطء الحائض. 2ً - للمرأة أن تطالب المظاهر بالوطء، لتعلق حقها به، وعليها أن تمنعه من الاستمتاع حتى يكفّر عن الظهار، وعلى القاضي إلزامه بالتكفير، دفعاً للضرر عنها، والإلزام يكون بحبس أو ضرب إلى أن يكفر أو يطلّق. فإن ادعى أنه كفَّر عن ظهاره، صدِّق في دعواه ما لم يكون معروفاً بالكذب. هل يعود الظهار بعد الطلاق بالعودة إلى الزوجية؟ إذا طلَّق الرجل امرأته بعد الظهار قبل أن يكفِّر عن ظهاره، ثم راجعها هل يعود عليها الظهار، فلا يحل له المسيس (الوطء وتوابعه) حتى يكفِّر؟ ذكر ابن رشد (¬3) خلافاً في المسألة، فعند مالك: إن طلقها دون الثلاث ثم راجعها في العدة أو بعدها، فعليه الكفارة. ¬
هل يدخل الإيلاء على الظهار؟
وقال أبو حنيفة وصاحباه والشافعي وأحمد: الظهار راجع عليها، سواء نكحها بعد الثلاث أو بعد طلقة واحدة. وهذه المسألة شبيهة بمن يحلف بالطلاق، ثم يطلق، ثم يراجع، هل تبقى تلك اليمين عليه أم لا؟ وسبب الخلاف: هل الطلاق يرفع جميع أحكام الزوجية ويهدمها أو لا يهدمها؟ فمنهم من رأى أن الطلاق البائن الذي هو الثلاث يهدم، وأن ما دون الثلاث لا يهدم. ومنهم من رأى أن الطلاق كله غير هادم. هل يدخل الإيلاء على الظهار؟ ذكر ابن رشد (¬1) أيضاً خلافاً في هذه المسألة على ثلاثة آراء: فقال الجمهور غير مالك: لا يتداخل حكم الإيلاء مع حكم الظهار، سواء أكان الزوج مضاراً أم لم يكن، أي لا يدخل عليه. وقال مالك: يدخل الإيلاء على الظهار بشرط أن يكون مضاراً. وقال سفيان الثوري: يدخل الإيلاء على الظهار مطلقاً، وتبين منه بانقضاء الأربعة الأشهر، ولو من غير مضارة. وسبب الخلاف: مراعاة المعنى أو اعتبار الظاهر، فمن اعتبر الظاهر قال: لا يتداخلان. ومن اعتبر المعنى قال: يتداخلان إذا كان القصد الضرر. المطلب الرابع ـ كفارة الظهار: يتناول الكلام عن كفارة الظهار المسائل الآتية: ¬
أولا ـ مشروعية الكفارة
أولاً ـ مشروعية الكفارة: شرعت كفارة الظهار بالكتاب والسنة (¬1): أما الكتاب: فقول تعالى: {والذين يظاهرون من نسائهم، ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا، ذلكم توعظون به، والله بما تعملون خبير. فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا، فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً ... } [المجادلة:3/ 58 - 4]. وأما السنة: فروى أبو داود بإسناده عن خولة بنت مالك بن ثعلبة قالت: ظاهر مني أوس بن الصامت، فجئت رسول الله صلّى الله عليه وسلم أشكو إليه، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم يجادلني فيه، ويقول: اتقي الله، فإنه ابنُ عمك، فما برح حتى نزل القرآن: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها} [المجادلة:1/ 58] إلى الفرض (¬2)، فقال: يعتق رقبة، قالت: لا يجد، قال: فيصوم شهرين متتابعين، قالت يا رسول الله، إنه شيخ كبير، ما به من صيام، قال: فليطعم ستين مسكيناً، قالت: ما عنده من شيء يتصدَّق به، قال: فأُتي بعَرَق من تمر، قالت: يا رسول الله، فإني سأعينه بعَرَق آخر، قال: قد أحسَنت، اذهبي فأطعمي بهما عنه ستين مسكيناً، وارجعي إلى ابن عمك. والعَرَق: ستون صاعاً (¬3). ثانياً ـ متى تجب كفارة الظهار؟ يرى أكثر الفقهاء أن كفارة الظهار لا تجب قبل العود، فلو مات أحد المظاهرين أو فارق المظاهر زوجته قبل العود، فلا كفارة عليه، لقوله تعالى: {والذين يظاهرون من نسائهم، ثم يعودون لما قالوا، فتحرير رقبة من قبل أن ¬
يتماسا} [المجادلة:3/ 58] وهو نص في وجوب تعلق الكفارة بالعود. ومن طريق القياس: إن الظهار يشبه كفارة اليمين، فكما أن الكفارة إنما تلزم بالمخالفة أو بإرادة المخالفة، كذلك الأمر في الظهار، والكفارة في الظهار كفارة يمين، فلا يحنث بغير الحنث كسائر الأيمان، والحنث فيها هو العود. واختلفوا في تفسير العود على آراء ثلاثة (¬1): قال الحنفية: والمالكية على المشهور: العود: العزم على الوطء أو إرادة الوطء. ورأى الحنابلة أن العود: هو الوطء في الفرج، لقوله تعالى: {ثم يعودون لما قالوا، فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا} [المجادلة:3/ 58] أوجب الكفارة عقب العود، وهو يقتضي تعلقها به، ولا تجب قبله، إلا أن الكفارة شرط لحل الوطء، فيؤمر بها من أراده ليستحله بها، كما يؤمر بعقد النكاح من أراد حلها، ولأن العود في القول هو فعل ضد ما قال، كما أن العود في الهبة: هو استرجاع ما وهب. والعود هنا هو فعل ما حلف على تركه وهو الجماع. وذهب الشافعية إلى أن العود في الظهار: هو إمساكها بعد ظهاره زمناً يمكنه طلاقها فيه؛ لأن ظهاره منها يقتضي إبانتها، فإمساكها عود فيما قال، ولأن تشبيهها بالأم يقتضي ألا يمسكها زوجة، فإذا أمسكها زوجة فقد عاد فيما قال؛ لأن العود للقول مخالفته، يقال: قال فلان قولاً ثم عاد له، وعاد فيه: أي خالفه ونقضه، وهو قريب من قولهم: عاد في هبته. ¬
ثالثا ـ تعدد الكفارة بتعدد المظاهر منهن أو بتعدد الظهار
وهذا في الظهار المؤبد أو المطلق، وفي غير الرجعية؛ لأنه في الظهار المؤقت إنما يصير عائداً بالوطء في المدة، لا بالإمساك. والعود في الرجعية: إنما هو بالرجعة. ومحل العود بالإمساك بعد ظهاره زمن إمكان فرقة: هو إذا لم يتصل بالظهار فرقة بسبب من الأسباب، فلو اتصل بالظهار فُرْقة بموت منهما أو من أحدهما، أو فسخ للنكاح، أو فُرْقة بسب طلاق بائن، أو رجعي ولم يراجع، أو جُن الزوج عقب ظهاره، فلا عود ولا كفارة في جميع ذلك، لتعذر الفراق في حالتي الطلاق والجنون، وفوات الإمساك في الموت، وانتفائه في الفسخ. ثالثاً ـ تعدد الكفارة بتعدد المظاهر منهن أو بتعدد الظهار: إذا ظاهر الرجل من أربع نسوة له، فعليه عند الحنفية والشافعية في الجديد (¬1) كما تقدم أربع كفارات، سواء ظاهر منهن بأقوال مختلفة، أو بقول واحد؛ لأن الظهار وإن كان بكلمة واحدة، فإنه يتناول كل واحدة من النساء وحدها، فصار مظاهراً من كل واحدة منهن، وبما أن الظهار تحريم لا يرتفع إلا بالكفارة، فإذا تعدد التحريم تتعدد الكفارة. وليس عليه أكثر من كفارة واحدة، أو يجزئ واحدة إذا كان مظاهراً بكلمة واحدة عند المالكية والحنابلة (¬2)؛ لأن الظهار كالإيلاء في التحريم، وفي الإيلاء لا يجب إلا كفارة واحدة، ولأنه كاليمين بالله تعالى، والحنث باليمين على أمر متعدد لا يوجب إلا كفارة واحدة، ولأن الكفارة تمحو إثم الحنث، والكفارة الواحدة تحقق المراد. أما إن ظاهر من نسائه بكلمات فقال لكل واحدة: أنت علي كظهر ¬
رابعا ـ أنواع الكفارة وترتيبها
أمي، فإن كل كلمة تقضي كفارة ترفعها وتكفر إثمها، فتتعدد الكفارة بتعدد الظهار من كل امرأة؛ لأنها أيمان متكررة على أعيان متفرقة، فكان لكل واحدة كفارة، كما لو كفر ثم ظاهر. والراجح لدي هو الرأي الأول؛ لأن محل الظهار تعدد، فتتعدد الكفارة. وأما تعدد الكفارة بتعدد الظهار، كأن ظاهر من زوجته مراراً، فاختلف فيه الفقهاء أيضاً (¬1): فرأى الحنفية: إن كرر الظهار في مجلس واحد، فكفارته واحدة، وإن كان في مجالس فكفارات، كبقية الأيمان، ولأنه قول يوجب تحريم الزوجة، فإذا نوى الاستئناف، تعلق بكل مرة حكم حالها كالطلاق. ورأى المالكية والحنابلة في ظاهر المذهب والأوزاعي: إذا ظاهرالرجل من زوجته مراراً فلم يكفر، فكفارة واحدة؛ لأن المرأة قد حرمت بالقول الأول، فلم يزد القول الثاني في تحريمها، ولأن الظهار لفظ يتعلق به كفارة، فإذا كرره كفاه كفارة واحدة كاليمين بالله تعالى. وذهب الشافعي في الجديد: إلى أن من حلف أيماناً كثيرة، فإن أراد تأكيد اليمين، فكفارة واحدة، وإن نوى الاستئناف فكفارتان في الأظهر. رابعاً ـ أنواع الكفارة وترتيبها: الكفارة كما دل القرآن والسنة النبوية فيما سبق أنواع ثلاثة: 1ً - عتق رقبة سالمة من العيوب، صغيرة أم كبيرة، ذكر أم أنثى. ¬
إعتاق الرقبة
2ً - صيام شهرين متتابعين. 3ً - إطعام ستين مسكيناً، يوماً واحداً، غداء وعشاء عند الحنفية. وهي واجبة على الترتيب، فالإعتاق أولاً، فإن لم يكن بأن عجز عنه فالصيام، فإن لم يكن بسبب العجز عنه فالإطعام، والمعتبر في العجز عند الجمهور: وقت الأداء. وعند الحنابلة وقت الحنث. أما إعتاق الرقبة (¬1): فهي الواجب الأول على المظاهر القادر على الإعتاق لا يجزئه غيره بالاتفاق، لقوله تعالى: {والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا: فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا} [المجادلة:3/ 58] ولقول النبي صلّى الله عليه وسلم لأوس بن الصامت حين ظاهر من امرأته في الحديث المتقدم: «يعتق رقبة، قلت: لا يجد، قال: فيصوم» وقوله لسلمة بن صخر مثل ذلك. فمن وجد رقبة يستغني عنها، أو وجد ثمنها فاضلاً عن حاجته، ووجدها به، لم يجزئه إلا الإعتاق. واتفق الفقهاء أيضاً على أنه لا يجزئه رقبة سالمة من العيوب الضارة بالعمل ضرراً بيِّناً؛ لأن المقصود تمليك العبد منافع نفسه، وتمكينه من التصرف لنفسه، ولا يحصل هذا مع ما يضر بالعمل ضرراً واضحاً، فلا يجزئ الأعمى، ولا المقعد، ولا المقطوع اليدين أو الرجلين، لفوات جنس المنفعة، فيكون المعتق هالكاً حكماً، إذ لا يتهيأ له كثير من العمل مع تلف هذه الأعضاء. ولا يجزئ المجنون جنوناً مطبقاً؛ لأنه وجد فيه المعنيان: ذهاب منفعة الجنس، وحصول الضرر بالعمل. ¬
ويجزئ عند الحنفية: المقطوع إحدى اليدين والرجلين، والمقطوع الأذنين والأنف، والأصم إن سمع الصياح، والأعور والأعمش والخصي والمجبوب، لأنه ليس بفائت جنس المنفعة، وإنما يخل بكمالها وهو لا يمنع الانتفاع به. ولا يجوز مقطوع إبهام اليدين؛ لأن قوة البطش بهما، ولايجزئ عندهم الأخرس، والأصم الذي لا يسمع الصياح؛ لزوال جنس المنفعة، فأشبه زائل العقل. ولا يجزئ عند الجمهور غير الحنفية المقطوع إحدى اليدين أو الرجلين، إلا أن الشافعية أجازوا فاقد إحدى اليدين، لا فاقد رِجْل. ولا يجزئ عند المالكية مقطوع أصبع فأكثر، أو أذن، ولا الأعمى، ويجزئ الأعور، ولا يجزئ الأبكم (الأخرس) ولا الأصم، ولا المجنون، ولا المريض المشرف على الهلاك بسبب جذام وبرص وعرج وهرم شديدين. ولا يجزئ عند الشافعية المريض الزمِن، وفاقد رجل، أو خِنصر وبِنصر من يد، أو أنملتين من غيرهما؛ لأن فقدهما مضر، وأنملة إبهام، لأن فقدهما يضر، لتعطل منفعتها فأشبه قطعها، ولا يجزئ هَرِم عاجز، ومن أكثر وقته مجنون ومريض لا يرجى برء علته. ويجزئ عندهم صغير، وأقرع، وأعرج يمكنه متابعة المشي، وأعور، وأصم، وأخرس، وأخشم (فاقد الشم) وفاقد أنفه وأذنيه وأصابع رجليه، ولا يجزئ عتق عبد مغصوب؛ لأنه ممنوع من التصرف في نفسه، فهو كالمريض الزمِن. ولا يجزئ عند الحنابلة مقطوع اليد أو الرجل، ولا أشلها، ولا مقطوع إبهام اليد أو سبابتها أو الوسطى؛ لأن نفع اليد يذهب بذهاب هؤلاء. ولا يجزئ مقطوع الخنصر والبنصر من يد واحدة؛ لأن نفع اليدين يزول أكثره بقطعهما. وإن قطعت كل واحدة من يد، جاز؛ لأن نفع الكفين باق. وقطع أنملة الإبهام كقطع جميعها، فهم كالشافعية فيما عدا مقطوع اليد.
اشتراط الإيمان في الرقبة
ويجزئ عندهم الأعور اتفاقاً مع غيرهم، ويجزئ مقطوع الأنف والأصم إذا فهم الإشارة، ويجزئ الأخرس إذا فهمت إشارته وفهم بالإشارة. ويجزئ المريض بمرض يرجى برؤه، ولا يجزئ غير مرجو البرء، ولا يجزئ عتق المغصوب؛ لأنه لا يقدر على تمكينه من منافعه، ولا يجزئ غائب غيبة منقطعة لا يعلم خبره؛ لأنه لا يعلم حياته، فلا يعلم صحة عتقه. واختلف الفقهاء في اشتراط الإيمان في الرقبة على قولين: يرى الحنفية: أنه لا يشترط إيمان الرقبة في كفارة الظهار وكذا في كفارة اليمين، فيصح إعتاق الكافر أو مباح الدم، عملاً بإطلاق النص القرآني: {فتحرير رقبة} [المجادلة:3/ 58]. ويرى الجمهور: أنه يشترط إيمان الرقبة في هذه الكفارة وفي كفارة اليمين، فيجب أن تكون مسلمة، ولا يجزئ الكافر؛ لأنه تكفير بعتق، فلم يجز إلا مؤمنة مثل كفارة القتل، والمطلق يحمل على المقيد قياساً إذا وجد المعنى فيه، ولأنه إذا كان لا يجوز إلا رقبة سليمة من العيوب المضرة بالعمل ضرراً بيناً، وقيدنا النص القرآني بهذا القيد،، فالتقييد بالسلامة من الكفر أولى. وسبب الخلاف: قضية حمل المطلق على المقيد، فإن القرآن قيد الرقبة بالإيمان في كفارة القتل، وأطلقها في كفارة الظهار، فيجب عند الجمهور صرف المطلق إلى المقيد. ولا يجب عند الحنفية، ويعمل بكل نص على حدة، حتى لا يزاد على النص ما ليس منه.
صيام شهرين متتابعين
وأما صيام شهرين متتابعين: فقد أجمع أهل العلم (¬1) على أن المظاهر إذا لم يجد رقبة بأن عجز عن ثمنها، أو وجدها بأكثر من ثمن المثل، وقدر على الصوم: أن فرضه صيام شهرين متتابعين، ولو ثمانية وخمسين يوماً بالهلال، وإلا فستين يوماً، لقول الله تعالى: {فمن لم يجد، فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا} [المجادلة:4/ 58]. ولحديث أوس بن الصامت وسلمة بن صخر، قال فيه النبي صلّى الله عليه وسلم لمن واقع امرأته بعد الظهار وعجز عن الإعتاق: «فصم شهرين متتابعين». ورأى الحنفية والمالكية: أنه متى وجد رقبة، لزمه إعتاقها، ولم يجز له الانتقال إلى الصيام، وإن كان محتاجاً إليها لخدمة، أو محتاجاً إلى ثمنها لقضاء دين؛ لأنه واجد حقيقة. وخالفهم الشافعية والحنابلة: فأجازوا له الانتقال إلى الصيام إن كان محتاجاً للرقبة لخدمة أو قضاء دين أو نفقة أو أثاث لا بد منه، أو لم يجد رقبة يشتريها؛ لأن ما استغرقته حاجة الإنسان فهو كالمعدوم في جواز الانتقال إلى البدل، كمن وجد ماء يحتاج إليه للعطش يجوز له الانتقال إلى التيمم. ويعتبر اليسار الذي يلزم به الإعتاق في أظهر الأقوال عند الشافعيةوالمالكية: هو وقت الأداء والإخراج، لأنها عبادة لها بدل من غير جنسها، فاعتبر حال أدائها كالصوم والتيمم والقيام والقعود في الصلاة. والمعتبر عند الحنابلة: وقت وجوب الكفارة. التتابع في الصوم: أجمع أهل العلم أيضاً على وجوب التتابع في صيام ¬
كفارة الظهار، للنص القرآني، وأجمعوا على أن من صام بعض الشهر، ثم قطعه لغير عذر وأفطر: أن عليه استئناف الشهرين، لورود لفظ الكتاب والسنة به. ومعنى التتابع: الموالاة بين صيام أيام الشهرين، فلا يفطر فيها، ولا يصوم عن غير الكفارة، ولا يحتاج التتابع عند الجمهور إلى نية، ويكفي فعله؛ لأنه شرط، وشرائط العبادات لا تحتاج إلى نية، وإنما تجب النية لأفعال العبادة. وقال المالكية: لابد من نية التتابع ونية الكفارة. فإن بدأ الصيام في أثناء شهر، حسب الشهر الذي بعده عند الشافعية والمالكية والحنابلة بالأهلّة. وأما عند الحنفية: إن لم يكن صومه في أول الشهر برؤية الهلال بأن غم أو صام في أثناء شهر، فإنه يصوم ستين يوماً. ولتحقيق التتابع قال الحنفية: ويختار صوم شهرين متتابعين ليس فيهما شهر رمضان، ولا يوم الفطر، ولا يوم النحر، ولا أيام التشريق. فإن جامع الرجل المرأة التي ظاهر منها في خلال الشهرين ليلاً عامداً، أو نهاراً ناسياً، استأنف الصوم عند أبي حنيفة ومحمد؛ لأن الشرط في الصوم أن يكون قبل التماسّ، وهذا الشرط يزول بالجماع، في خلال الصوم، فيستأنف. ولا يستأنف في الإطعام إن وطئها في خلاله، لإطلاق النص في الإطعام، وتقييده بكونه {من قبل أن يتماسا} [المجادلة:3/ 58] في تحرير الرقبة والصيام. واتفق الحنفية على أن المظاهر إن أفطر يوماً من الشهرين بعذر إلا الحيض، كسفر ومرض ونفاس، بخلاف الحيض لتعذر الخلو عنه، أو بغير عذر، استأنف فبدأ الصوم من جديد أيضاً، لفوات التتابع وهو قادر عليه. ومذهب المالكية قريب من رأي الحنفية: إن قطع التتابع ولو في اليوم الأخير
من الشهر، وجب الاستئناف. وينقطع تتابع الصوم بوطء المظاهر امرأته المظاهر منها ليلاً أو نهاراً، ناسياً أو عامداً، كما يبطل الإطعام بوطء المظاهر منها في أثنائه، ولو لم يبق عليه إلا مدّ واحد، فإنه يبطل ويبتدئه، وهذا بخلاف رأي الحنفية. وينقطع التتابع بالفطرفي السفر من غير ضرورة، وبمجيء العيد في أثناء الشهرين إن علم أنه يأتي في أثناء صومه، أما إن جهل إتيان العيد في أثناء صومه، فلا يبطل التتابع، وصام بعد العيد بيومين، بناء على المعتمد عندهم: أن المسلم لا يصوم يوم العيد وما بعده فقط، وكذا لا ينقطع التتابع إذا جهل وقت مجيء رمضان. ولا ينقطع التتابع بالمرض، وبالفطر سهواً، وبالإكراه على الفطر، وبظن غروب شمس أو ببقاء ليل فأكل أو شرب، وبحيض أو نفاس. وينقطع التتابع لدى الشافعيةمثل المالكية بإفطار يوم بلا عذر، أوبعذر كمرض مسوغ للفطر في المذهب الجديد، ولا ينقطع التتابع في الصوم بحيض، أو نفاس على الصحيح، أو جنون على المذهب. ويلاحظ أن طروّ الحيض والنفاس إنما يتصور في كفارة قتل لا ظهار، إذ لا يجب على النساء. وإن جامع المظاهر بالليل قبل أن يكفر أثم؛ لأنه جامع قبل التكفير، ولا يبطل التتابع بالجماع؛ لأن جماعه لم يؤثر في صوم رمضان، فلم يقطع التتابع كالأكل بالليل. وأيسر المذاهب وأولاها مذهب الحنابلة القائلين: إن أفطر في الشهرين بعذر بنى على ما مضى، وإن أفطر من غير عذر ابتدأ من جديد. فينقطع التتابع بفطر بلا عذر، أو لجهل، أو لأنه نسي وجوب التتابع، أو ظن أنه أتم الشهر، فبان بخلافه، أو صام أثناء الشهرين تطوعاً، أو قضاء عن رمضان، أو صام عن نذر أو كفارة أخرى؛ لأنه قطعه بشيء يمكنه التحرز منه، فأشبه ما لو
إطعام ستين مسكينا
أفطر من غير عذر. وينقطع التتابع أيضاً إذا وطئ المظاهر منها ليلاً أو نهاراً عامداً أو ناسياً، فيفسد ما مضى من صيامه، وابتدأ صوم الشهرين، لكن لو وطئ في أثناء الإطعام لم تلزمه إعادة ما مضى منه، كما قال الحنفية والشافعية. ولا ينقطع التتابع بصوم رمضان، أو فطر واجب كعيد وحيض ونفاس وجنون، ومرض مخوف، وحامل ومرضع أفطرتا خوفاً على أنفسهما، أو فطر لعذر يبيحه كمرض وسفر غير مخوف، وحامل ومرضع لضرر ولدها، ومكره ومخطئ، كمن ظن أن الفجر لم يطلع أو الشمس لم تغرب، فبان بخلافه. والخلاصة: أنه ينقطع التتابع بوطء المظاهر امرأته قبل إتمام الصيام ناسياً في النهار أو متعمداً في الليل في رأي الحنفية والمالكية؛ لأن الشرط في الصوم أن يكون قبل المسيس، وأن يكون خالياً عنه بالضرورة بالنص القرآني؛ ولا ينقطع التتابع بالوطء نهاراً ناسياً، أو عمداً في الليل في رأي الشافعية والحنابلة، فلا يوجب الاستئناف، بسبب العذر. وإما إطعام ستين مسكينا ً: فقد أجمع أهل العلم (¬1) على أن المظاهر إذا لم يجد الرقبة، ولم يستطع الصيام: أن فرضه إطعام ستين مسكيناً، على ما أمر الله تعالى في كتابه، وجاء في سنة نبيه صلّى الله عليه وسلم، سواء عجز عن الصيام لهرم أو مرض يخاف بالصوم تباطؤه أو الزيادة فيه أو لحوق مشقة شديدة، أو لشبق فلا يصبر فيه عن الجماع، فإن أوس بن الصامت لما أمره رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالصيام قالت امرأته: «يا رسول الله، إنه شيخ كبير، ¬
ما يتعلق بالإطعام: قدر الطعام
ما به من صيام، قال: فليطعم ستين مسكيناً» ولما أمَر سلمة بن صخر بالصيام قال: «وهل أصبت الذي أصبت إلا من الصيام؟ قال: فأطعم» فنقله إلى الإطعام لما أخبر أن به من الشبق والشهوة ما يمنعه من الصيام، وقيس على هذين ما يشبههما في معناهما. ولا يجوز أن ينتقل عن الصوم لأجل السفر؛ لأن السفر لا يعجزه عن الصيام، وله نهاية ينتهي إليها، وهو من أفعاله الاختيارية. والمرض الذي يبيح الانتقال عن الصيام إلى الإطعام: هو عند الجمهور الذي لا يرجى برؤه. وعند الحنابلة: هو الذي لا يرجى برؤه أو مرجو الزوال، لدخوله في قوله تعالى: {فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً} [المجادة:4/ 58] ولأنه لا يعلم أن له نهاية، فأشبه الشبق. ما يتعلق بالإطعام: قدر الطعام، وكيفيته، وجنس الطعام، ومستحقه: قدر الطعام: للفقهاء آراء ثلاثة في مقدار الطعام في الكفارات كلها وهي ما يأتي: 1 ً - رأي الحنفية: يعطى لكل مسكين مدان، أي نصف صاع من القمح، وصاع من تمر أو شعير، كالفطرة قدراً ومصرفاً، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم في حديث سَلَمَة ابن صخر: «فأطعم وَسْقاً من تمر» (¬1) وفي رواية «فأطعم عَرَقاً من تمر ستين مسكيناً} والعَرَق والوسق: ستون صاعاً، كما في رواية أبي داود: «والعَرَق: ستون صاعاً» والصاع (2751 غم). 2 ً - رأي المالكية: يملِّك المكفِّر ستين مسكيناً، لكل واحد مد وثلثان بمده صلّى الله عليه وسلم، من القمح إن اقتاتوه، فلا يجزئ غيره من شعير أو ذرة أو غيرهما، فإن ¬
كيفية الإطعام
اقتاتوا غير القمح فما يعدله شبعاً لا كيلاً، ولا يجزئ الغداء والعشاء إلا أن يتحقق بلوغهما مداً وثلثين. 3 ً - رأي الشافعية والحنابلة: إن قدر الطعام في الكفارات كلها وفي فدية الصوم والفطرة مُدّ من قمح لكل مسكين، أو نصف صاع من تمر أو شعير، لما روى أبو داود بإسناده عن أوس بن الصامت: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أعطاه ـ يعني المظاهر ـ خمسة عشر صاعاً من شعير: إطعامَ ستين مسكيناً» لكنه حديث مرسل عن عطاء عن أوس. أما المد: فهو (675) غم. كيفية الإطعام: للفقهاء رأيان: 1 ً - مذهب الحنفية: الضابط عندهم أن ما شرع بلفظ (إطعام وطعام) جاز فيه الإباحة، وما شرع بلفظ (إيتاء وأداء) شرع فيه التمليك. وبناء عليه يكون الإطعام في الكفارات إما بالتمليك، أو بالإباحة غداء وعشاء، أو غداء وقيمة عشاء أو بالعكس بشرط إدام مع خبز شعير وذرة، لا مع خبز قمح، فيجوز الجمع بين الإباحة والتمليك؛ لأنه جمع بين شيئين جائزين على الانفراد، سواء أكلوا قليلاً أو كثيراً. فإن أعطى مسكيناً واحداً ستين يوماً أجزاه، وإن أعطاه في يوم واحد، لم يُجْزه إلا عن يومه. ويجوز عندهم (¬1) دفع القيمة في الزكاة، والعُشْر، والخَراج، والفِطْرة، والنَّذْر، والكفارة غير الإعتاق. وتعتبر القيمة يوم الوجوب عند الإمام أبي حنيفة، وقال الصاحبان: يوم الأداء. وفي السوائم: يوم الأداء باتفاقهم، ويقوَّم في البلد الذي فيه المال، أما في المفازة فيقومَّ في أقرب الأمصار إليه. ¬
وسبب جواز دفع القيمة: أن المقصود سد الخلَّة ودفع الحاجة، ويوجد ذلك في القيمة. 2 ً - مذهب الجمهور: الواجب تمليك كل إنسان من المساكين القدر الواجب له من الكفارة، ولا يجزئ الغداء والعشاء بالقدر الواجب أو أقل أو أكثر، إلا أن المالكية قالوا: يجزئ الغداء والعشاء إن تحقق بلوغهما مداً وثلثين، كما تقدم. ودليلهم أن المنقول عن الصحابة إعطاء المساكين، وقال النبي صلّى الله عليه وسلم لكعب في فدية الأذى بالحج: (أطعم ثلاثة آصع من تمر ستة مساكين) ولأنه مال وجب للفقراء شرعاً، فوجب تمليكهم إياه كالزكاة. ويشترط العدد عند الفقهاء لآية الظهار، فلو أطعم ثلاثين مسكيناً طعام ستين لم يجزه. وقال الشافعية والحنابلة: لو أعطى مسكيناً مدين من كفارتين في يوم واحد أجزأه؛ لأنه دفع القدر الواجب إلى العدد الواجب، فأجزأ، كما لو دفع إليه المدّين في يومين. واشترط الحنفية أن يكون الإعطاء متكرراً، فلو أطعم ستين مسكيناً كل واحد صاعاً من قمح بدفعة واحدة عن ظهارين، صح عن ظهار واحد، فإن كان بدفعات جاز عن الظهارين؛ لأنه في المرة الثانية كمسكين آخر. ولا تجزئ القيمة عندهم (أي الجمهور) في الكفارة، عملاً بالنصوص الآمرة بالإطعام. وقد عرفنا أنه لا يجب التتابع في الإطعام عند الحنفية والشافعية والحنابلة، فلو وطئ في أثناء الإطعام، لم تلزمه إعادة ما مضى منه؛ لأنه وطئ في أثناء مالا يشترط التتابع فيه، فلم يوجب الاستئناف كوطء غير المظاهر منها، أو كالوطء في كفارة اليمين، فيختلف الإطعام عن الصيام.
جنس الطعام
وسوَّى المالكية بين الإطعام والصيام، فاشترطوا التتابع فيهما، فلو وطئ في أثناء كفارة الظهار بهما، وجب الاستئناف فيهما. جنس الطعام: المجزئ في الإطعام عند الجمهور غير المالكية: ما يجزئ في الفطرة: وهو البُرّ والشعير ودقيقهما والتمر والزبيب، سواء أكان قوت المظاهر أم لم يكن، ولا يجزئ عند الحنابلة في الراجح غير ما ذكر، ولو كان قوت بلده، إلا إذا عدمت تلك الأقوات فيجوز إخراج نحو ذرة ودخن، ولا يجزئ أن يغدي المساكين ويعيشهم أو يدفع لهم القيمة؛ لأن الخبر ورد بإخراج هذه الأصناف على ما جاء في الأحاديث السابقة، فلم يجز غيرها، كما لو لم يكن قوت بلده. ويجب عند الشافعية على المذهب الإطعام من الحبوب والثمار التي تجب فيها الزكاة؛ لأن الأبدان بها تقوم، ويجب من غالب قوت بلد المظاهر، لأن المعتبر في الزكاة بماله، ولقوله تعالى: {فكفارته إطعام عشَرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم} [المائدة:89/ 5] والأوسط: الأعدل، وأعدل ما يطعم أهله: قوت البلد. وأوجب المالكية الإطعام من القمح إن اقتاتوه، فلا يجزئ غيره من شعير أوذرة أو غيرهما. فإن اقتاتوا غير البُرّ (القمح) فما يعدله شبعاً لا كيلاً. ولا يجزئ الغداء والعشاء إلا أن يتحقق بلوغهما مداً وثلثين. والواجب عند الحنفية ما يجب في الفطرة: وهو البر أو التمر أو الشعير، ودقيق كل واحد كأصله كيلاً، أي نصف صاع في دقيق الحنطة، وصاع في دقيق الشعير، وقيل: المعتبر في الدقيق القيمة لا الكيل. ويجوز إخراج القيمة من غير هذه الأصناف، كما تقدم.
مستحق الإطعام
مستحق الإطعام: مستحق الكفارة: هو مستحق الزكاة عند الجمهور من المساكين والفقراء، لقوله تعالى: {فإطعام ستين مسكيناً} [المجادلة:4/ 58] فلا يجوز دفعها لكافر، وإنما يشترط أن يكون مسلماً، كالزكاة، ويجوز صرفها إلى الصغير والكبير ولو لم يأكل الطعام عند الحنابلة؛ لأنه مسلم محتاج أشبه الكبير، لكن يقبضها ولي الصغير؛ لأن الصغير لا يصح منه القبض. ومستحق كفارة الظهار في رأي الحنفية: هو مستحق الفطرة، فلا يجوز إطعام أصله وفرعه وأحد الزوجين، ويجوز إطعام الذمي، لا الحربي ولو مستأمناً. خامساً ـ شرط الكفارة: اتفق فقهاء المذاهب (¬1) على أن النية شرط لصحة الكفارة، بأن ينوي العتق أو الصوم أو الإطعام الواجب عليه عن الكفارة، أي بنية مقارنة للتكفير أو قبله بيسير، لأن الكفارة حق مالي يجب تطهيراً، كالزكاة، والأعمال بالنيات. سادساً ـ من وطئ قبل أن يكفر: اتفق الفقهاء على أن من وطئ قبل أن يكفر عصى ربه وأثم، لمخالفة أمره تعالى، وتستقر الكفارة في ذمته، فلا تسقط بعدئذ بموت ولا طلاق ولا غيره، إلا بعد الطلاق الثلاث عند المالكية كما سبق، ويظل تحريم زوجته عليه باقياً حتى ¬
يكفر. لكن اختلفوا في تأثير الوطء أثناء التكفير، فأطلق المالكية (¬1) القول في أنواع الكفارة، فمن وطئ قبل أن يكفر عن ظهاره، سواء بالعتق أو بالصوم أو بالإطعام، وسواء أكان الوطء ليلاً أم نهاراً، عامداً أم ناسياً، ولو في أثناء الإطعام، ولو لم يبق عليه إلا مد واحد، فإنه يحرم ويبطل ويبتدئ الكفارة من جديد. وأما وطء الزوجة غير المظاهر منها فلا يضر في صيام إن وقع ليلاً، ولا في إطعام وعتق. ورأى الشافعية (¬2) أن المظاهر إن جامع أثناء الصيام ليلاً قبل أن يكفر أثم؛ لأنه جامع قبل التكفير، ولا يبطل تتابع الصيام؛ لأن جماعه لم يؤثر في الصوم المفروض، فلم يقطع التتابع، كالأكل بالليل. وكذا إن جامع أثناء الإطعام، لا يبطل ما مضى. وفصل الحنفية والحنابلة (¬3) في الأمر، فقالوا: إن وطئ المظاهر امرأته المظاهر منها في أثناء الصوم، أفسد ما مضى من صيامه، واستأنف الصوم، أي ابتدأ صيام الشهرين من جديد. أما إن وطئ أثناء الإطعام، فلا تلزمه إعادة مامضى، وسبب التفرقة بين الصوم والإطعام: إطلاق النص القرآني في الإطعام: {فإطعام ستين مسكيناً} [المجادلة:4/ 58] دون تقييده بكونه قبل التماس، وتقييده في تحرير الرقبة والصيام بكونهما قبل التماس في قوله سبحانه في الحالتين: {من قبل أن يتماسا} [المجادلة:4/ 58]. ¬
المطلب الخامس ـ انتهاء حكم الظهار
المطلب الخامس ـ انتهاء حكم الظهار: الظهار إما مؤقت أو مطلق مؤبد، ويختلف حكم انتهاء أحدهما عن الآخر (¬1): أـ إن كان الظهار مؤقتاً، كأن يقول الرجل لزوجته: (أنت علي كظهر أمي يوماً أو شهراً أو سنة) ينتهي بانتهاء الوقت بدون كفارة عند الجمهور؛ لأن الظهار كاليمين يتوقت، وينتهي بانتهاء أجله، بعكس الطلاق لا يحله شيء فلا يتوقت. وقال المالكية: يبطل التأقيت ويتأبد الظهار، ولا ينحل إلا بالكفارة، قياساً على الطلاق، وإذا كان تحريم الطلاق لا يحتمل التأقيت، فكذا تحريم الظهار مثله. ب ـ وإن كان الظهار مؤبداً أو مطلقاً: فينتهي حكم الظهار أو يبطل بالاتفاق بموت أحد الزوجين، لزوال محل حكم الظهار، ولا يتصور بقاء الشيء في غير محله. ولا يبطل حكم الظهار عند الجمهور غير المالكية بالطلاق الرجعي أو البائن أو الثلاث، ولا بالردة عن الإسلام في قول أبي حنيفة، حتى لو تزوجت بزوج آخر، ثم عادت إلى الأول، فلا يحل له وطؤها بدون تقديم الكفارة؛ لأن الظهار قد انعقد موجباً حكمه وهو الحرمة، فيبقى على ما انعقد عليه، وهو ثبوت حرمة لا ترتفع إلا بالكفارة. أما عدم المطالبة بالكفارة فيتم بالموت أو بالفراق عند الجمهور غير الشافعية (¬2)، فلو مات أحد المظاهرين، أو فارق الزوج زوجته قبل العود، فلا ¬
المبحث العاشر ـ التفريق بسبب الردة أو إسلام أحد الزوجين
كفارة عليه، لقوله تعالى: {والذين يظاهرون من نسائهم، ثم يعودون لما قالوا، فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا} [المجادلة:3/ 58] فأوجب الكفارة بأمرين: ظهار وعود، فلا تثبت بأحدهما، ولأن الكفارة في الظهار كفارة يمين، فلا تجب الكفارة قبل الحنث كسائر الأيمان، والحنث فيها هو العود (أي العزم على الوطء). وقال الشافعي: متى أمسك الرجل المظاهر منها بعد ظهاره زمناً يمكنه طلاقها فيه، فلم يطلقها، فعليه الكفارة؛ لأن ذلك هو العود عنده. المبحث العاشر ـ التفريق بسبب الردة أو إسلام أحد الزوجين: أثر الارتداد: 1 ًـ إذا ارتد أحد الزوجين عن الإسلام، وقعت الفرقة بينهما بغير طلاق، عند أبي حنيفة وأبي يوسف، ولا حاجة لتفريق القاضي، وإنما ينفسخ الزواج بينهما فسخاً، والمشهور عند المالكية وعلى الراجح عندهم أن فرقة الردة طلاق. وقال الشافعية والحنابلة: يتوقف فسخ النكاح على انقضاء العدة، فإن أسلم المرتدقبل انقضائها فهما على النكاح، وإن لم يسلم حتى انقضت بانت المرأة منذ اختلف الدينان. ورأى الجعفرية أن الردة من أحد الزوجين قبل الدخول تفسخ الزواج في الحال. وتتوقف على انقضاء العدة بعد الدخول. فإن كان الزوج هو المرتد، وكان قد دخل بزوجته، فلها كمال المهر؛ لأنه قد استقر بالدخول. وإن كان لم يدخل بها بعدُ، فلها نصف المهر؛ لأنها فرقة حصلت من الزوج قبل الدخول، وهي فُرقة تنصِّف المهر. وإن كانت المرأة هي المرتدة، وكانت الردة قبل الدخول، فلا مهر لها؛ لأنها منعت المعقود عليه بالارتداد، فصارت كالبائع إذا أتلف المبيع قبل القبض. وإن
أثر الإسلام
كانت الردة بعد الدخول بها، فلها المهر كاملاً؛ لأن الدخول في دار الإسلام لا يخلو عن عَقْر (حد) أو عُقر (مهر). 2ً ـ وإن ارتد الزوجان معاً، أو لم يعلم سبق أحدهما، ثم عادا إلى الإسلام معاًً، فهما على نكاحهما استحساناً، لعدم اختلاف دينهما (¬1). 3ً ـ ولا يجوز أن يتزوج المرتد مسلمة ولا كافرة ولا مرتدة؛ لأنه مستحق للقتل. وكذلك المرتدة لا يجوز أن يتزوجها مسلم ولا كافر ولا مرتد لأنها عند الحنفية محبوسة للتأمل (¬2). أثر الإسلام: 1 ً ـ إذا أسلمت المرأة، وزوجها كافر، عَرَض عليه القاضي الإسلام، فإن أسلم فهي امرأته، لعدم طروء ما ينافي بقاء الزواج. وإن أبى عن الإسلام، فرَّق القاضي بينهما، لعدم جواز بقاء المسلمة عند الكافر. وكان التفريق طلاقاً بائناً عند أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: هي فُرْقة بغير طلاق (¬3). 2ً ـ وإن أسلم الزوج المتزوج مجوسية، عرض عليها الإسلام، فإن أسلمت فهي امرأته، وإن أبت عن الإسلام فرَّق القاضي بينهما، لأن نكاح المجوسية حرام مطلقاً، ولم تكن هذه الفرقة طلاقاً؛ لأن الفرقة بسبب من قبلها، والمرأة ليست بأهل للطلاق. ¬
فإن كان الزوج قد دخل بها، فلها المهر المسمى، لتأكده بالدخول، فلا يسقط بعد الفرقة، وإن لم يكن دخل بها، فلا مهر لها؛ لأن الفرقة جاءت من قبلها قبل الدخول بها (¬1). 3ً ـ وإذا أسلمت المرأة في دار الحرب، لم تقع الفُرْقة عليها حتى تنقضي عدتها بأن تحيض ثلاث حيضات إن كانت من ذوات الحيض، أو تمضي ثلاثة أشهر إن كانت من ذوات الأشهر، أو تضع حملها إن كانت حاملاً، وتلك عدتها؛ لأن إسلام زوجها مرجو، والعرض عليه متعذر، فنزِّل منزلة الطلاق الرجعي، فإذا انقضت عدتها، بانت من زوجها (¬2). أما إذا خرج أحد الزوجين إلى دار الإسلام من دار الحرب مسلماً، فتقع الفرقة بينهما عند الحنفية (¬3)، لاختلاف الدارين حقيقة وحكماً، وتباين الدارين ينافي انتظام المصالح الزوجية، كما تتنافى بسبب قيام القرابة المَحْرمية. وخالفهم الجمهور، فلم يحكموا بوقوع الفرقة لتباين الدارين؛ لأن أثر التباين في انقطاع الولاية (أي سقوط مالكيته عن نفسه وماله) لا في إحداث الفرقة كالحربي المستأمن الذي دخل دارنا بأمان، والمسلم المستأمن إذا دخل دار الحرب بأمان، لا تقع فرقة في زواجهما. 4ً ـ وإذا أسلم زوج الكتابية، فهما على نكاحهما؛ لأنه يصح الزواج بينهما ابتداء من الأصل، فيكون بقاء الزواج بينهما أولى. ¬
الفصل الرابع: العدة والاستبراء
الفَصْلٌ الرّابع: العِدَّة والاستبراء العدة: يشتمل بحث العدة على المباحث الخمسة التالية: الأول ـ تعريف العدة وحكمها الشرعي، وحكمتها، وسبب وجوبها، وركنها. الثاني ـ أنواع العدة ومقاديرها. الثالث ـ تحول العدة أو انتقالها وتغيرها. الرابع ـ وقت ابتداء العدة، وما يعرف به انقضاؤها. الخامس ـ أحكام العِدَد أو حقوق المعتدة وواجباتها. المبحث الأول ـ تعريف العدة، وحكمها الشرعي، وحكمتها، وسبب وجوبها، وركنها: معنى العدة: العِدَّة بكسر العين جمع عِدَد، وهي لغة: الإحصاء، مأخوذة من العَدَد لاشتمالها على عدد الأقراء أو الأشهر غالباً، يقال: عددت الشيء عِدَّة: أحصيته إحصاء. وتطلق أيضاً على المعدود، يقال: عدة المرأة: أيام أقرائها.
واصطلاحاً في رأي الحنفية (¬1): مدة محددة شرعاً لانقضاء ما بقي من آثار الزواج. وبعبارة أخرى: تربص (أي انتظار) يلزم المرأة عند زوال النكاح أو شبهته. وبنوا على تعريفهم القول بتداخل العدتين سواء أكانتا من جنس واحد أم من جنسين ولو من رجلين، ومثال الجنس الواحد: إذا تزوجت المطلقة في عدتها، فوطئها الزوج، ثم تفرقا حتى وجبت عليها عدة أخرى، فإن العدتين يتداخلان. ومثال الجنسين: المتوفى عنها زوجها إذا وطئت بشبهة، تداخلت العدتان، وتعتد المرأة بثلاث حيضات من عدة الوطء. وفي رأي الجمهور (¬2): العدة: مدة تتربص فيها المرأة، لمعرفة براءة رحمها، أو للتعبد، أو لتفجعها على زوجها. فهي نفس التربص، فلا تتداخل العدتان من شخصين، وتمضي المرأة في العدة الأولى حتى نهايتها، ثم تبدأ بالعدة الأخرى، وتتداخل العدتان من شخص واحد ولو من جنسين. ويمكن تعريف العدة بتعريف أوضح: هي مدة حددها الشارع بعد الفرقة، يجب على المرأة الانتظار فيها بدون زواج حتى تنقضي المدة. فلا عدة على المزني بها في رأي الحنفية والشافعية خلافاً للمالكية والحنابلة. ولا عدة على المرأة قبل الدخول اتفاقاً، لقوله تعالى: {فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} [الأحزاب:49/ 33]. وعلى المدخول بها عدة إجماعاً، سواء أكان سبب الفرقة طلاقاً أم فسخاً أم وفاة، وسواء أكان الدخول بعد عقد فاسد أم صحيح أم بشبهة، وتجب أيضاً عند الجمهور غير الشافعية إذا طلق الرجل المرأة بعد الخلوة بها. ¬
حكمها الشرعي
وتكون القاعدة: كل طلاق أو فسخ وجب فيه جميع الصداق وجبت العدة، وحيث سقط الصداق كله أو لم يجب إلا نصفه، سقطت العدة. ومن أمثلة الفسخ: الفسخ بسبب الرضاع أو العيب أو العتق أو اللعان أو اختلاف الدين. حكمها الشرعي: العدة واجبة شرعاً على المرأة بالكتاب والسنة والإجماع (¬1): أما الكتاب: فقوله تعالى عدة الطلاق: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة:228/ 2] وفي عدة الوفاة: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً} [البقرة:234/ 2] وفي عدة الصغيرة والآيسة والحامل: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم، فعدتهن ثلاثة أشهر، واللائي لم يحضن، وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} [الطلاق:4/ 65] وآي أخرى. وأما السنة: فقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر، تحدُّ على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً» (¬2)، وأمر النبي صلّى الله عليه وسلم فاطمة بنت قيس أن تعتد عند ابن أم مكتوم (¬3). وأحاديث أخرى. وأما الإجماع: فقد أجمعت الأمة على وجوب العدة، في الجملة، وإنما اختلفوا في أنواع منها. ¬
هل على الرجل عدة؟
هل على الرجل عدة؟ ليس على الرجل عدة بالمعنى الاصطلاحي، فيجوز له بعد الفرقة مباشرة أن يتزوج بزوجة أخرى، مالم يوجد مانع شرعي، كالتزوج بمن لا يحل له الجمع بين زوجته الأولى وبين قريباتها المحارم كالأخت، والعمة، والخالة، وبنت الأخ، وبنت الأخت ولو من زواج فاسد أو في شبهة عقد. وتزوج امرأة خامسة في أثناء عدة المرأة الرابعة التي فارقها حتى تنقضي عدتها، ونكاح المطلقة ثلاثاً قبل التحليل (¬1). عدة المرأة غير المسلمة: اختلف الفقهاء في وجوب العدة على غير المسلمة على رأيين: قال أبو حنيفة: لا تجب العدة على المرأة غير المسلمة ذمية كانت أو حربية إذا كان معتقد أهل دينها أنه لا عدة عليها إلا إذا كانت كتابية زوجة لمسلم، فتجب عليها العدة بالفراق، رعاية لحق الزوج؛ لأن العدة تجب حقاً لله تعالى، ولحق الزوج، والكتابية مخاطبة بحقوق العباد، فتجب عليها العدة، وتجبر عليها لأجل حق الزوج والولد، منعاً من اختلاط الأنساب. وإن جاء الزوج مسلماً، وترك امرأته في دار الحرب، فلا عدة عليها باتفاق الحنفية؛ إذ لا حق لأحد الزوجين على الآخر في حال اختلاف الدارين، ولأن أحكام الإسلام تطبق على أهل الذمة، لا على الحربيين. وقال الجمهور ومنهم الصاحبان: تجب العدة على الذمية، سواء أكانت زوجة لمسلم أم لذمي، لعموم الآيات الآمرة بالعدة. وحكمة العدة: إما التعرف على براءة الرحم، أو التعبد، أو التفجع على ¬
الزوج، أو إعطاء الفرصة الكافية للزوج بعد الطلاق ليعود لزوجته المطلقة. ففي الطلاق البائن، والتفريق لفساد الزواج أو الوطء بشبهة يقصد من العدة استبراء رحم المرأة للتأكد من عدم وجود حمل من الرجل، منعاً من اختلاط الأنساب، وصون النسب. فإذا كان الحمل موجوداً تنتهي العدة بوضع الحمل لتحقق الهدف المقصود من العدة. وإذا لم يتأكد من الحمل بعد الدخول بالمرأة، وجب الانتظار للتعرف على براءة الرحم، حتى بعد الوفاة. ومن المقاصد أيضاً: إظهار الأسف على نعمة الزواج، وصون سمعة المرأة وكرامتها حتى لا تكون محلاً للتحدث عنها بخروجها من البيت غادية رائحة بمجرد الفراق، وإن أمكن معرفة براءة الرحم بمجرد الحيضة الأولى. وفي الطلاق الرجعي: يقصد بالعدة تمكين الرجل من العود إلى مطلقته خلال العدة، بعد زوال عاصفة الغضب، وهدوء النفس، والتفكير بمتاعب ومخاطر ووحشات الفراق. وذلك حرصاً من الإسلام على إبقاء الرابطة الزوجية، وتنويهاً بتعظيم شأن الزواج، فكما أنه لا ينعقد إلا بالشهود، لا ينحل إلا بانتظار طويل الأمد. وفي فرقة الوفاة: يراد من العدة تذكر نعمة الزواج، ورعاية حق الزوج وأقاربه، وإظهار التأثر لفقده، وإبداء وفاء الزوجة لزوجها، وصون سمعتها وحفظ كرامتها، حتى لا يتحدث الناس بأمرها، ونقد تهاونها، والتحدث عن خروجها وزينتها، خصوصاً من أقارب زوجها. قال الشافعية والحنابلة (¬1): المقصود الأعظم من العدة حفظ حق الزوج دون معرفة البراءة، ولهذا اعتبرت عدة الوفاة بالأشهر، ووجبت العدة على المتوفى عنها زوجها التي لم يدخل بها تعبداً، مراعاة لحق الزوج. ¬
سبب وجوب العدة
وهذه المعاني تنطبق على المرأة، حتى ولو كانت كبيرة السن لا ترجو زواجاً آخر، بالإضافة لتحقيق معنى التعبد في العدة. سبب وجوب العدة: تجب العدة في الجملة بأحد أمرين: طلاق أو موت. والفسخ كالطلاق (¬1). وذلك بعد الدخول (الوطء) من زواج صحيح أو فاسد أو شبهة بالاتفاق، أو بعد استدخال ذكر زائد، أو أشل، أو إدخال مني الزوج؛ لأنه أقرب إلى العلوق من مجرد الإيلاج ولاحتياجها لتعرف براءة الرحم، أو بعد خلوة صحيحة عند الجمهور غير الشافعية. وتجب العدة أيضاً عند المالكية والحنابلة بعد الزنا كالموطوءة بشبهة. وبناء عليه تجب العدة بأحد الأسباب التالية: 1ً - تجب العدة بالفرقة بعد الدخول من زواج صحيح أو فاسد، أو بعد الخلوة الصحيحة في رأي الجمهور غير الشافعية، سواء أكانت الفرقة في حال الحياة بسبب طلاق أو فسخ، أم بسبب الوفاة. فإن كان الزواج فاسداً كزواج الخامسة أو المعتدة، فلا تجب العدة إلا بالدخول الحقيقي، ولا تجب عند الجمهور بالخلوة. وأوجب المالكية العدة بالخلوة بعد زواج فاسد، كما تجب بالدخول الحقيقي؛ لأن الخلوة مظنّة الوقاع. ودليل الجمهور على وجوب العدة بالخلوة: ما رواه أحمد والأثرم عن زرارة ابن أوفى قال: «قضى الخلفاء الراشدون أن من أغلق باباً أو أرخى ستراً، فقد وجب المهر، ووجبت العدة». ¬
ولا تجب العدة بالخلوة المجردة عن الوطء عند الشافعية في الجديد، لمفهوم الآية السابقة: {ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن، فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} [الأحزاب:49/ 33]. 2 - وتجب العدة أيضاً بالاتفاق بالتفريق للوطء بشبهة، كالموطوءة في زواج فاسد؛ لأن وطء الشبهة والزواج الفاسد كالوطء في الزواج الصحيح في شغل الرحم ولحوق النسب بالواطئ، فكان مثله فيما تحصل به براءة الرحم، كيلا تختلط الأنساب والمياه. ومثال الوطء بشبهة: أن تزف امرأة إلى غير زوجها، وتقول النساء للرجل: إنها زوجتك، فيدخل بها بناء على قولهن، ثم يتبين أنها ليست زوجته. ولا فرق في وجوب العدة بأحد السببين السابقين بين أن تكون الفرقة بسبب طلاق أو فسخ، فكل فرقة بين زوجين عدتها عدة الطلاق، سواء أكانت بخلع أم لعان أم رضاع أم فسخ بعيب أم إعسار أم اعتاق أم اختلاف دين أم غيره عند أكثر العلماء. ولا فرق أيضاً بين أن يكون الوطء حلالاً، أم حراماً كوطء حائض ومحرمة بحج أو عمرة، ولا بين أن يكون الوطء في قُبل، أو دبر على الأصح لدى الشافعية، والحكم واحد سواء أكان الواطئ عاقلاً أم لا، مختاراً أم لا، لفَّ على ذكره خرقة أو كيساً أم لا، بالغاً أم صبياً. ولا عدة قبل الدخول بنص القرآن كما أوضحت. 3 - وتجب العدة كذلك بالاتفاق بعد وفاة الزوج في العقد الصحيح، ولو قبل الدخول أو الوطء أو كانت الزوجة صغيرة، أو زوجة صبي ولو رضيعاً أو زوجة ممسوح، لإطلاق الآيات القرآنية مثل: {والذين يتوفون منكم، ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً} [البقرة:234/ 2].
ركن العدة
4 - وأوجب المالكية والحنابلة خلافاً لغيرهم العدة على المزني بها كالموطوءة بشبهة؛ لأنه وطء يقتضي شغل الرحم، فوجبت العدة منه كوطء الشبهة. ولم يوجبها غير هؤلاء؛ لأن العدة لحفظ النسب، ولا يلحق الزاني نسب بالزنا. ركن العدة: أوضح الحنفية (¬1) ركن العدة بأنه التزام المرأة بحرمات ثابتة بسبب العدة يحرم عليها مخالفتها، كحرمة التزوج بزوج آخر، وحرمة الخروج من بيت الزوجية الذي طلِّقت فيه، وصحة الطلاق في العدة، وحرمة التزوج بأخت المطلقة ونحوها. المبحث الثاني ـ أنواع العدة ومقاديرها: العدة ثلاثة أنواع (¬2): عدة بالأقراء، وعدة بالأشهر، وعدة بوضع الحمل. والمعتدات ستة أنواع (¬3): الحامل، والمتوفى عنها زوجها، وذات الأقراء المفارقة في الحياة، ومن لم تحض لصغر أو إياس وكانت المفارقة في الحياة، ومن ارتفع حيضها ولم تدر سببه، وامرأة المفقود. وعدة الطلاق ثلاثة أنواع (¬4): ثلاثة قروء لمن تحيض، وضع حمل الحامل، ثلاثة أشهر لليائس والصغيرة. ¬
المقصود بالقروء
المقصود بالقروء: القرء لغة مشترك بين الطهر والحيض، ويجمع على أقرء وقروء وأقرء، وللفقهاء رأيان في تفسير القروء (¬1): يرى الحنفية والحنابلة: أن المراد بالقرء: الحيض؛ لأن الحيض مُعَرِّف لبراءة الرحم، وهو المقصود من العدة، فالذي يدل على براءة الرحم إنما هو الحيض لا الطهر، ولقوله تعالى: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم، فعدتهن ثلاثة أشهر، واللائي لم يحضن} [الطلاق:4/ 65] فنقلهن عند عدم الحيض إلى الاعتداد بالأشهر، فدل على أن الأصل الحيض، كما قال تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً} [المائدة:6/ 5]. ولأن المعهود في الشرع استعمال القرء بمعنى الحيض، قال النبي صلّى الله عليه وسلم للمستحاضة: «دعي الصلاة أيام أقرائك» (¬2) وهوعليه الصلاة والسلام المعبر عن الله، وبلغة قومه نزل القرآن، وقال عليه الصلاة والسلام لفاطمة بنت أبي حبيش: «انظري، فإذا أتى قرؤك فلا تصلي، وإذا مرَّ قرؤك فتطهري، ثم صلي ما بين القرء إلى القرء» (¬3). وقال صلّى الله عليه وسلم: «طلاق الأمة تطليقتان، وعدتها حيضتان» (¬4)، فإذا اعتبرت عدة الأمة بالحيض، كانت عدة الحرة كذلك. ولأن ظاهر قوله تعالى: {يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة:228/ 2] وجوب التربص ثلاثة كاملة، ومن جعل القروء الأطهار، لم يوجب ثلاثة، لأنه ¬
يكتفي بطهرين وبعض الثالث، فيخالف ظاهر النص. ومن جعله الحيض أوجب ثلاثة كاملة، فيوافق ظاهر النص، فيكون أولى من مخالفته. ولأن العدة استبراء، فكانت بالحيض، كاستبراء الأمة، لأن الاستبراء لمعرفة براءة الرحم من الحمل، والذي يدل عليه هو الحيض، فوجب أن يكون الاستبراء به. ويرى المالكية والشافعية: أن القرء هو الطهر؛ لأنه تعالى أثبت التاء في العدد «ثلاثة»، فدل على أن المعدود مذكر، وهو الطهر، لا الحيضة. ولأن قوله تعالى: {فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق:1/ 65] أي في وقت عدتهن، لكن الطلاق في الحيض محرَّم كما تقدم في بحث الطلاق البدعي، فيصرف الإذن إلى زمن الطهر. وأجيب بأن معنى الآية مستقبلات لعدتهن. ولأن القرء مشتق من الجمع، فأصل القرء الاجتماع، وفي وقت الطهر يجتمع الدم في الرحم، وأما الحيض فيخرج من الرحم. وما وافق الاشتقاق كان اعتباره أولى من مخالفته. وفائدة الخلاف: أنه إذا طلقها في طهر، انتهت عدتها في رأي الفريق الثاني بمجيء الحيضة الثالثة؛ لأنها يحتسب لها الطهر الذي طلقت فيه، ولا تخرج من عدتها إلا بانقضاء الحيضة الثالثة في رأي الفريق الأول، وقد روي عن عمر وعلي أنهما قالا: «يحل لزوجها الرجعة إليها، حتى تغتسل من الحيضة الثالثة» مما يؤيد رأي الفريق الأول. والراجح لدي هو الرأي الأول، لاتفاقه مع الواقع والمقصود من العدة، فالنساء تنتظر عادة مجيء الحيض ثلاث مرات، فيتقرر انقضاء العدة، ولا تعرف براءة الرحم إلا بالحيض، فإذا حاضت المرأة تبين أنها غير حامل، وإذا استمر الطهر
أسباب وشروط كل نوع من أنواع العدة
تبين غالباً وجود الحمل. وقد روى النيسابوري عن الإمام أحمد: «كنت أقول: إنه الأطهار، وأنا أذهب اليوم إلى أن الأقراء الحيض» ورجوعه عن رأي سابق يكون عادة لمسوغات أو مرجحات أقوى. أسباب وشروط كل نوع من أنواع العدة (¬1): عرفنا أن العدة أنواع ثلاثة: عدة الأقراء، وعدة الأشهر، وعدة الحبل. أولاً ـ عدة الأقراء: لها أسباب أهمها ثلاثة: 1ً - الفرقة في الزواج الصحيح، سواء أكانت بطلاق أم بغير طلاق. وتجب هذه العدة لاستبراء الرحم، وتعرف براءته من الشغل بالولد. وشرط وجوبها: الدخول بالمرأة أو ما يجري مجرى الدخول وهو الخلوة الصحيحة عند غير الشافعية في الزواج الصحيح دون الفاسد عند الحنفية والحنابلة، وفي الفاسد أيضاً عند المالكية، فلا تجب هذه العدة بدون الدخول والخلوة الصحيحة. 2ً - الفرقة في الزواج الفاسد بتفريق القاضي، أو بالمتاركة. وشرطها الدخول عند الجمهور غير المالكية، وتجب العدة أيضاً عند المالكية بالخلوة بعد زواج فاسد. 3ً - الوطء بشبهة العقد: بأن زفت إلى الرجل غير امرأته، فوطئها؛ لأن الشبهة تقوم مقام الحقيقة في حال الاحتياط، وإيجاب العدة من باب الاحتياط. ثانياً ـ عدة الأشهر: نوعان: نوع يجب بدلاً عن الحيض، ونوع يجب أصلاً ¬
ثالثا ـ عدة الحبل
بنفسه. أما العدة التي تجب بدلاً عن الحيض بالأشهر: فهي عدة الصغيرة، والآيسة، والمرأة التي لم تحض أصلاً، بعد الطلاق. وسبب وجوبها: الطلاق لمعرفة أثر الدخول، وهو سبب وجوب عدة الأقراء المتقدمة. وشرط وجوبها شيئان: أحدهما ـ الصغر أو الكبر أو فقد الحيض أصلاً. والثاني ـ الدخول، أو الخلوة الصحيحة عند غير الشافعية، في النكاح الصحيح، وكذا في النكاح الفاسد عند المالكية. وأما عدة الأشهر الأصلية بنفسها: فهي عدة الوفاة. وسبب وجوبها الوفاة، إظهاراً للحزن بفوات نعمة الزواج، وشرط وجوبها: الزواج الصحيح فقط، فتجب هذه العدة على المتوفى عنها زوجها، سواء أكانت مدخولاً بها أم غير مدخول بها، وسواء أكانت ممن تحيض أم ممن لا تحيض. ثالثاً ـ عدة الحبل: هي مدة الحمل، وسبب وجوبها: الفرقة أو الوفاة، حتى لا تختلط الأنساب وتشتبه المياه، فلا يسقي رجل ماءه زرع غيره. وشرط وجوبها: أن يكون الحمل من الزواج الصحيح أو الفاسد؛ لأن الوطء في النكاح الفاسد يوجب العدة. ولا تجب هذه العدة عند الحنفية والشافعية على الحامل بالزنا؛ لأن الزنا لا يوجب العدة، إلا أنه إذا تزوج رجل امرأة، وهي حامل من الزنا، جاز النكاح عند أبي حنيفة ومحمد، لكن لا يجوز له أن يطأها ما لم تضع، لئلا يصير ساقياً ماءه زرع غيره. وأجاز الشافعية نكاح الحامل من زنا ووطأها، إذ لا حرمة له.
مقادير عدد المعتدات
مقادير عِدَد المعتدات: 1 ً - عدة الحامل: تجب بسبب الموت أو الطلاق، وتنتهي بوضع الحمل اتفاقاً (¬1)؛ لقوله تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} [الطلاق:4/ 65] أي انقضاء أجلهن أن يضعن حملهن؛ ولأن براءة الرحم لا تحصل في الحامل ـ كما هو واضح ـ إلا بوضع الحمل. فإذا كانت المرأة حاملاً، ثم طلقت أو مات عنها زوجها انتهت عدتها بوضع الحمل، ولو بعد الوفاة بزمن قليل، بدليل أن «سبيعة بنت الحارث توفي عنها زوجها وهي حبلى، فوضعت بعد نحو عشر ليال من وفاة زوجها، ثم جاءت النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: انكحي. وفي رواية: فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالتزويج إن بدا لي» (¬2). وعلى هذا تكون عدة الحامل المتوفى عنها زوجها بوضع الحمل، لقوله تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} [الطلاق:4/ 65] قال ابن مسعود: «من شاء باهلته ـ لاعنته ـ أن سورة النساء القصرى نزلت بعد الآية التي في سورة البقرة» (¬3) وفي رواية البزار: «من شاء حالفته أن: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} [الطلاق:4/ 65] نزلت بعد آية المتوفى، فإذا وضعت ¬
انتهاء العدة بوضع الحمل له شرطان
المتوفى عنها حملها، فقد حلت. وقرأ: {والذين يتوفون منكم ويذر ون أزواجاً} [البقرة:234/ 2]». وانتهاء العدة بوضع الحمل له شرطان: الأول ـ عند الجمهور غير الحنفية: وضع جميع حملها، أو انفصاله كله، فلا تنقضي بوضع أحد التوأمين ولا بانفصال بعض الولد. وتنقضي عند المالكية ولو وضعت علقة وهو دم متجمع، ولا بد عند الحنابلة والشافعية من أن يكون الحمل الذي تنقضي به العدة: هو ما يتبين فيه شيء من خلق الإنسان من الرأس واليد والرجل، أو يكون مضغة شهد ثقات من القوابل أن فيه صورة خفية لخلقة آدمي أو أصل آدمي، لعموم قوله تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} [الطلاق:4/ 65]. وقال الحنفية: الحمل: اسم لجميع ما في البطن، فلو ولدت وفي بطنها آخر تنقضي العدة بالآخر، كما قرر الجمهور، لكن خالفوهم فقالوا: يكفي خروج أكثر الولد، وإذا أسقطت المرأة سِقْطاً، واستبان بعض خلقه، انقضت به العدة؛ لأنه ولد، وإلا فلا. الثاني ـ أن يكون الحمل منسوباً إلى صاحب العدة، ولو احتمالاً كمنفي بلعان؛ لأنه لا ينافي إمكان كونه منه، بدليل أنه لو استلحقه به لحقه، فإن لم يمكن نسبته إلى صاحب العدة، كولد الزنا المنفي قطعاً، فلا تنقضي به العدة. وأقل مدة الحمل بالاتفاق: ستة أشهر، وغالبها تسعة، وأكثرها عند الحنفية سنتان، وعند الشافعية والحنابلة: أربع سنين، وعند المالكية في المشهور: خمس سنين.
أكثر مدة الحمل
ودليلهم على أقل مدة الحمل: المفهوم من مجموع آيتين وهما قوله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين} [البقرة:233/ 2] وقوله سبحانه: {وحمله وفصاله ثلاثون شهراً} [الأحقاف:15/ 46]. وأما غالب مدة الحمل، فلأن غالب النساء يحملن كذلك، وهذا أمر معروف بين الناس. وأما أكثر مدة الحمل فيعتمد فيها الاستقراء وتتبع أحوال النساء؛ لأن ما لا نص فيه يرجع فيه إلى الموجود، وقال الشافعية والحنابلة: وقد وجد أربع سنين، روى الدارقطني عن الوليد بن مسلم، قلت لمالك بن أنس عن حديث عائشة قالت: «لا تزيد المرأة في حملها على سنتين، فقال: سبحان الله، من يقول هذا؟ هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان امرأة صدقٍ، وزوجها رجل صدق، حملت ثلاثة أبطن في اثني عشر سنة» وقال الشافعي: «بقي محمد بن عجلان في بطن أمه أربع سنين» وقال أحمد: «نساء بني عجلان تحمل أربع سنين» فلو طلقها الرجل أو مات عنها، فلم تتزوج حتى أتت بولد بعد طلاقه أو موته بأربع سنين، لحقه الولد، وانقضت عدتها به. وأقل ما يتبين به خلق الولد: (81) واحد وثمانون يوماً في رأي الشافعية والحنابلة، لحديث ابن مسعود عند الشيخين: «إن أحدكم يُجمع خَلْقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علَقة مثلَ ذلك، ثم يكون مُضْغة مثلَ ذلك» فالعدة في رأي الشافعية والحنابلة: لا تنقضي بما دون المضغة، فوجب أن تكون بعد الثمانين. ونصت المادة (124) من القانون السوري على هذه العدة: «عدة الحامل تستمر إلى وضع حملها أو إسقاطه مستبيناً بعض الأعضاء».
التحول لعدة الحمل
التحول لعدة الحمل: لو ظهر في أثناء عدة الأقراء أو الأشهر حمل للزوج، اعتدت المرأة بوضعه. المرتابة بالحمل: إذا ارتابت المعتدة من طلاق أو وفاة بأن ترى أمارات الحمل من حركة أو نفخة ونحوهما، وشكَّت: هل هو حمل أو لا، أو ارتابت بعد انقضاء العدة بالأقراء أو الأشهر، تربصت (أي مكثت) إلى منتهى أمد الحمل عند المالكية، فلا يحل لها أن تتزوج قبله. وعليها أن تصبر عند الشافعية والحنابلة عن الزواج حتى تزول الريبة، للاحتياط، ولخبر: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك». ولا تحل للأزواج عند المالكية حتى يمضي أقصى أمد الحمل، وإن تزوجت بعد انقضاء العدة بزوج آخر قبل زوال الريبة. والمذهب لدى الشافعية عدم إبطال النكاح في الحال؛ لأنا حكمنا بانقضاء العدة ظاهراً، فلا نبطله بالشك، فإن علم ما يقتضي البطلان بأن ولدت لدون ستة أشهر من وقت النكاح الثاني، حكمنا ببطلانه، لتبين فساده. ولدى الحنابلة في إبطال هذا النكاح وجهان: أحدهما ـ كالشافعية، والثاني ـ يحل لها النكاح ويصح؛ لأننا حكمنا بانقضاء العدة، وحل النكاح، وسقوط النفقة والسكنى، فلا يجوز زوال ماحكم به بالشك الطارئ، ولهذا لا ينقض الحاكم ما حكم به بتغير اجتهاده ورجوع الشهود. عدة زوجة الصغير بعد وفاته: إذا مات الصغير الذي لا يتأتى منه الإحبال، عن امرأته، وبها حبل محقق بأن تضع لدون ستة أشهر من موته، فعدتها عند أبي حنيفة ومحمد أن تضع حملها، لإطلاق قوله تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} [الطلاق:4/ 65] وإن حدث الحَبَل بعد الموت، فعدتها أربعة أشهر وعشر؛ لأن هذه عدتها التي وجبت عليها عند الموت، فلا تتغير بعده. ولكن لايثبت نسب الولد في هاتين الحالتين؛ لأن الصبي لا ماء له، فلا يتصور منه العلوق.
- عدة المتوفى عنها زوجها
وقال الشافعية وأبو يوسف: عدتها بالأشهر أي أربعة أشهر وعشر، لا بوضع الحمل؛ لأن الولد منفي عنه يقيناً لعدم إنزاله. ومثله ممسوح إذ لا يلحقه على المذهب لدى الشافعية (¬1). 2ً - عدة المتوفى عنها زوجها: عرفنا أن المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملاً، تنتهي عدتها بوضع الحمل، ولو كانت الولادة بعد الوفاة بزمن قريب أو بعيد. فإن كانت حائلاً غير حامل، كانت عدتها بالاتفاق أربعة أشهر قمرية وعشرة أيام بلياليها من تاريخ الوفاة، لقوله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً، يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً} [البقرة:234/ 2] حزناً على نعمة الزواج كما بينت، سواء أكان الزوج قد دخل بها، أم لم يدخل، وسواء أكانت صغيرة أم كبيرة، أم في سن من تحيض، لإطلاق الآية، ولم تخصص بالمدخول بها؛ لأن النص القرآني استثنى غير المدخول بها إذا كانت مطلَّقة في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن، فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} [الأحزاب:49/ 33]. ونصت المادة (123) من القانون السوري على هذه العدة: «عدة المتوفى عنها زوجها أربعةأشهر وعشرة أيام». لكن شرط وجوب العدة بالأشهر الأربعة والعشر للمتوفى عنها: النكاح الصحيح فقط، وبقاء النكاح صحيحاً إلى الموت مطلقاً، سواء وطئت أم لا، وسواء أكانت صغيرة أم كتابية تحت مسلم. ¬
- عدة المطلقة
فإذا كان الزواج فاسداً، فإن عدتها عند الحنفية والحنابلة ثلاث حيضات إن كانت من ذوات الحيض، وثلاثة أطهار عند المالكية والشافعية؛ لأن القصد من إطالة مدة العدة وهو إظهار الأسف على نعمة الزواج، لايتحقق إلا إذا كان الزواج صحيحاً. فإن لم تكن من ذوات الحيض وهي مطلَّقة، فإنها تعتد بثلاثة أشهر، كما سأبين. 3 ً - عدة المطلَّقة: إن كانت المرأة حاملاً، فإن عدتها تكون بوضع الحمل، كما سبق بيانه. وإن لم تكن حاملاً فعدتها بالاتفاق إن كانت من ذوات الحيض سواء من طلاق أو فسخ: ثلاثة قروء (¬1) (حيضات عند الحنفية والحنابلة، وأطهار عند المالكية والشافعية) لقوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة:228/ 2] فإنه أوجب على المطلَّقة الانتظار مدة ثلاثة قروء. والقروء عند الحنفية والحنابلة: ثلاث حيضات كوامل، لعدم تجزؤ الحيضة، وإذا طلق الرجل امرأته لم تعتد بالحيضة التي وقع فيها الطلاق، ولا تحل لغيره إذا انقطع دم الحيضة الأخيرة حتى تغتسل في رأي الحنابلة. وأما عند المالكية والشافعية فقد لا تكون القروء ثلاثة كاملة، فإذا طلقت المرأة ¬
- عدة من لم تحض لصغر أو كبر سن بسبب بلوغ سن اليأس
في طهر، كانت بقية الطهر قرءاً كاملاً، ولو كانت لحظة، فتعتد به، ثم بقرءين بعده، فذلك ثلاثة قروء، فمن طلقت طاهراً انقضت عدتها ببدء الحيضة الثالثة، ومن طلقت حائضاً، انتهت عدتها بدخول الحيضة الرابعة بعد الحيضة التي طلقت فيها. والأظهر لدى الشافعية عدم احتساب طهر من لم تحض قرءاً إذا طلقت فيه، فمن طلقت في طهر وكانت لم تحض أصلاً، ثم حاضت في أثناء عدتها بالأشهر، فلا يحتسب ذلك الطهر الذي طلقت فيه. وإن لم تكن المرأة من ذوات الحيض لصغر أو كبر سن بأن بلغت سن اليأس، أو لكونها لا تحيض أصلاً بعد بلوغها خمس عشرة سنة، فإن عدتها تكون بثلاثة أشهر لقوله تعالى: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم، فعدتهن ثلاثة أشهر، واللائي لم يحضن} [الطلاق:4/ 65]. 4ً - عدة من لم تحض لصغر أو كبر سن بسبب بلوغ سن اليأس، ومن لم تحض أصلاً، وبعبارة أخرى: عدة الصغيرة والآيسة، والمرأة التي لم تحض: ثلاثة أشهر (¬1)، للآية السابقة: {واللائي يئسن من المحيض ... } [الطلاق:4/ 65]. سن اليأس: أما تحديد سن اليأس: وهي السن التي إذا بلغتها المرأة لا تحيض فيها، فمختلف في تقديره بين الفقهاء (¬2). يرى الحنابلة: أن حد الإياس خمسون سنة، لقول عائشة: «لن ترى في بطنها ولداً بعد خمسين سنة». ¬
سن الحيض
ورأي الحنفية في المفتى به: أن الإياس يكون بخمس وخمسين. وقال الشافعية: إن أقصى سن اليأس اثنان وستون سنة. وذهب المالكية إلى أن سن اليأس تقدر بسبعين سنة، فما تراه المرأة بعد هذه السن لا يعتبر حيضاً قطعاً. سن الحيض: وأقل سن تحيض فيه المرأة تسع سنين؛ لأن المرجع فيه إلى الموجود، وقد وجد من تحيض لتسع. سن البلوغ: وسن البلوغ في الغالب إذا لم تحض المرأة باتفاق المذاهب خمس عشرة سنة. موقف القانون من النوعين الأخيرين ومن ممتدة الطهر: نص القانون السوري م (121) على ما يأتي: عدة المرأة غير الحامل للطلاق أو الفسخ كما يلي: 1 - ثلاث حيضات كاملات لمن تحيض، ولا تسمع دعوى المرأة بانقضائها قبل مضي ثلاثة أشهر على الطلاق أو الفسخ. 2 - سنة كاملة لممتدة الطهر التي لم يجئها الحيض، أو جاءها ثم انقطع ولم تبلغ سن اليأس. 3 - ثلاثة أشهر للآيسة. ونصت المادة (122) على العدة في الزواج الفاسد: العدة في الزواج الفاسد بعد الدخول تجري عليها أحكام المادة السابقة.
- عدة المرتابة (ممتدة الطهر) والمستحاضة
5ً - عدة المرتابة (ممتدة الطهر) والمستحاضة: النساء في سن الحيض ثلاثة أصناف: معتادة، ومرتابة، ومستحاضة (¬1): فأما المعتادة: فتعتد بثلاثة قروء على حسب عادتها، كما تبين في النوع الثالث. وأما المرتابة بالحيض أو ممتدة الطهر: وهي التي ارتفع حيضها، ولم تدر سببه من حمل أو رضاع أو مرض. فحكمها عند الحنفية والشافعية: أنها تبقى أبداً حتى تحيض أو تبلغ سن من لا تحيض، ثم تعتد بثلاثة أشهر؛ لأنها لما رأت الحيض، صارت من ذوات الحيض، فلا تعتد بغيره، ولما روى البيهقي عن عثمان أنه حكم بذلك في المرضع. وعند المالكية والحنابلة: عدتها سنة بعد انقطاع الحيض، بأن تمكث تسعة أشهر، وهي مدة الحمل غالباً، ثم تعتد بثلاثة أشهر، فيكمل لها سنة، ثم تحل، وذلك إذا انقطع الحيض عند المالكية بسبب المرض أو بسبب غير معروف. لما روي عن عمر رضي الله عنه: أنه قال في رجل طلق امرأته، فحاضت حيضة أو حيضتين، فارتفع حيضها، لا تدري ما رفعه؟ تجلس تسعة أشهر، فإذا لم يستبن بها حمل، فتعتد بثلاثة أشهر فذلك سنة (¬2)؛ ولأن المقصود من العدة معرفة براءة الرحم وخلوه من الحمل، وتتحقق هذه المعرفة بمضي هذه المدة، فيكتفى بها. ¬
فإن انقطع الحيض بسبب الرضاع، فإن عدتها عند المالكية تنقضي بمضي سنة بعد انتهاء زمن الرضاع وهو سنتان. فإن رأت الحيض ولو في آخر يوم من السنة انتظرت الحيضة الثالثة. ورأي الحنابلة والمالكية هو الراجح، وأخذ به القانون السوري في المادة السابقة (121) لما فيه من الرفق بالناس، وعدم تطويل العدة على المرأة. أما القانون المصري رقم (25) لعام (1929) فلم يتعرض لانتهاء عدة ممتدة الطهر ولا لبقائها، ولا لحل تزوجها برجل آخر أو عدم حله، وإنما نص على أنه: «لا تسمع الدعوى بنفقة عدة لمدة تزيد على سنة من تاريخ الطلاق» وحدد السنة بـ (365) يوماً. وأما المستحاضة أو ممتدة الدم: وهي المتحيرة التي نسيت عادتها فالمفتى به عند الحنفية: أنها تنقضي عدتها بسبعة أشهر، بأن يقدر طهرها بشهرين، فتكون أطهارها ستة أشهر، وتقدر ثلاث حيضات بشهر احتياطاً. وقيل: تنقضي عدتها بثلاثة أشهر. وأما إذا استمر بها الدم، وكانت تعلم عادتها، فإنها ترد إلى عادتها. ورأى الحنابلة والشافعية: أن عدة المستحاضة الناسية لوقت حيض والمبتدأة كالآيسة: ثلاثة أشهر؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر حَمْنة بنت جحش أن تجلس في كل شهر ستة أيام أو سبعة، فجعل لها حيضة من كل شهر، بدليل أنها تترك فيها الصلاة ونحوها. فإن كانت لها عادة أو تمييز عملت به، كما تعمل به في الصلاة والصوم. وذهب المالكية إلى أن المستحاضة غير المميزة بين دم الحيض والاستحاضة كالمرتابة، تمكث سنة كاملة، تقيم تسعة أشهر استبراء لزوال الريبة؛ لأنها مدة الحمل غالباً، وثلاثة أشهر عدة، وتحل للأزواج، فتكون عدة المستحاضة غير المميزة، ومن تأخر عنها الحيض، لا لعلة، أو لعلة غير رضاع: سنة كاملة. أما المميزة المستحاضة ومن تأخر حيضها لرضاع فتعتد بالأقراء.
- عدة المفقود زوجها
6ً - عدة المفقود زوجها: المفقود: هو الغائب الذي لم يُدْر: أحي هو فيتوقع قدومه، أم ميت أودع القبر، كالذي يفقد من بين أهله ليلاً أو نهاراً، أو يخرج إلى الصلاة فلا يرجع، أو يفقد في مفازة أي مهلكة، أو يفقد بسبب حرب أو غرق مركبة ونحوه. وحكم عدة زوجته بحسب حكم حاله عند الفقهاء (¬1). قال الحنفية: هو حي في حق نفسه، فلا يورث ماله، ولا تبين منه امرأته، فلا تعتد زوجته حتى يتحقق موته، استصحاباً لحال الحياة السابق. أما المنعي إليها زوجها أو التي أخبرها ثقة أن زوجها الغائب مات، أو طلقها ثلاثاً أو أتاها منه كتاب على يد ثقة بالطلاق، فلا بأس أن تعتد وتتزوج. وقال الشافعية في الجديد الصحيح مثل الحنفية: ليس لامرأته أن تفسخ النكاح، لأنه إذا لم يجز الحكم بموته في قسمة ماله، لم يجز الحكم بموته في نكاح زوجته. فلا تعتد زوجته ولا تتزوج حتى يتحقق موته أو طلاقه، عملاً بمبدأ الاستصحاب، وبقول علي رضي الله عنه: «تصبر حتى يعلم موته». وقال المالكية والحنابلة: تنتظر امرأة المفقود أربع سنين، ثم تعتد عدة الوفاة: أربعة أشهر وعشرة أيام، لما روي عن عمررضي الله عنه: «أن رجلاً غاب عن امرأته، وفقد، فجاءت امرأته إلى عمر، فذكرت ذلك له، فقال: تربصي أربع سنين ففعلت، ثم أتته، فقال: تربصي أربعة أشهر وعشراً، ففعلت، ثم أتته فقال: أين ولي هذا الرجل؟ فجاؤوا به فقال: طلقها، ففعل، فقال عمر: تزوجي من شئت» (¬2). ¬
المبحث الثالث ـ تحول العدة أو انتقالها وتغيرها
المبحث الثالث ـ تحول العدة أو انتقالها وتغيرها: قد يطرأ على المعتدة بالأشهر أو بالأقراء ما يوجب تغير نوع العدة، فيجب عليها الاعتداد بمقتضى الأمر الطارئ، وهذه هي الحالات التي تقتضي تحول العدة (¬1): أولاً ـ تحول العدة من الأشهر إلى الأقراء: إذا طلقت الصغيرة أو من بلغت سن اليأس، فشرعت في العدة بالشهور، ثم حاضت قبل انتهاء العدة، لزمها الانتقال إلى الأقراء، وبطل ما مضى من عدتها، ولا تنتهي عدتها إلا بثلاث حيضات كوامل عند الحنفية والحنابلة، وبثلاثة أطهار عند المالكية والشافعية؛ لأن الشهور بدل عن الأقراء، فلا يجوز الاعتداد بها مع وجود أصلها، كالقدرة على الوضوء في حق المتيمم ونحوها. والآيسة لما رأت الدم تبين أنها أخطأت الظن. فإن انقضت عدتها بالشهور، ثم حاضت، لم يلزمها استئناف العدة بالأقراء؛ لأن هذا معنى حدث بعد انقضاء العدة، وقد حصل المقصود بالبدل، فلا يبطل حكمه بالقدرة على الأصل، كمن صلى بالتيمم، ثم قدر على الماء بعد انتهاء وقت الصلاة، فلا يجب عليه الوضوء وإعادة الصلاة. ثانياً ـ تحول العدة من الأقراء إلى الأشهر أو وضع الحمل: إذا شرعت المطلقة في العدة بالأقراء، ثم ظهر بها حمل من الزوج، بناء على رأي المالكية والشافعية بأن الحامل قد ترى الدم، سقط حكم الأقراء، وتعتد بوضع ¬
ثالثا ـ الانتقال إلى عدة وفاة
الحمل؛ لأن الأقراء دليل على براءة الرحم في الظاهر، والحمل دليل على شغل الرحم قطعاً، فيسقط الظاهر بالقطع. وإذا طلقت المرأة التي كانت تحيض، فحاضت مرة أو مرتين، ثم أيست، انتقلت عدتها من الحيض إلى الأشهر، ولا تعتد بالأشهر عند الحنفية إلا بعد بلوغها سن اليأس (وهو 55 سنة)، فإذا بلغت سن اليأس، استأنفت العدة بالأشهر الثلاثة التي هي عدة الآيسة. وقال المالكية والحنابلة: تعتد سنة، تسعة أشهر منها من وقت الطلاق تنتظر فيها لتعلم براءة رحمها؛ لأن هذه المدة هي غالب مدة الحمل، ثم تعتد بعد ذلك عدة الآيسات: ثلاثة أشهر، عملاً بقول عمر رضي الله عنه. وهذا هو المعقول، دفعاً للحرج والمشقة. وقال الشافعية في الجديد كالحنفية: تكون في عدة أبداً حتى تحيض أو تبلغ سن الإياس، فتعتد حينئذ بثلاثة أشهر؛ لأن الاعتداد بالأشهر جعل بعد الإياس، فلم يجز قبله، وهذه ليست آيسة، ولأنها ترجو عود الدم، فلم تعتد بالشهور، كما لو تباعد حيضها لعارض. ثالثاً ـ الانتقال إلى عدة وفاة: إذا مات الرجل في أثناء عدة زوجته التي طلقها طلاقاً رجعياً، انتقلت بالإجماع من عدتها بالأقراء أو الأشهر إلى عدة وفاة: وهي أربعة أشهر وعشرة أيام، سواء أكان الطلاق في حال الصحة أم في حال مرض الموت؛ لأن المطلقة رجعياً تعد زوجة ما دامت في العدة، وموت الزوج يوجب على زوجته عدة الوفاة، فتلغو أحكام الرجعة، وسقطت بقية عدة الطلاق، فتسقط نفقتها، وتثبت أحكام عدة الوفاة من إحداد وغيره.
رابعا ـ العدة بأبعد الأجلين ـ عدة طلاق الفار
ونصت المادة (1/ 127) من القانون السوري على هذا: «إذا توفي الزوج، وكانت المرأة في عدة الطلاق الرجعي، تنتقل إلى عدة الوفاة، ولا يحسب ما مضى». أما إن مات الرجل في أثناء عدة زوجته من طلاق بائن، فلا تنتقل إلى عدة الوفاة، بل تتم عدة الطلاق البائن؛ لأنها ليست بزوجة، فتكمل عدة الطلاق، ولا حداد عليها، ولها النفقة إن كانت حاملاً. رابعاً ـ العدة بأبعد الأجلين ـ عدة طلاق الفارّ: للفقهاء مذهبان: مذهب أبي حنيفة ومحمد وأحمد: إن كان الطلاق فراراً من إرث الزوجة بأن طلق في مرض الموت بقصد حرمانها من الميراث، ثم مات وهي في العدة، فإنها تنتقل من عدة الطلاق، إلى العدة بأبعد الأجلين من عدة الوفاة وعدة الطلاق احتياطاً، بأن تتربص أربعة أشهر وعشراً من وقت الموت، فإن لم تر فيها حيضاً تعتد بعدها بثلاث حيضات في رأي الحنفية والحنابلة. وإن امتد طهرها تبقى عدتها حتى تبلغ سن اليأس؛ لأن المرأة لما ورثت من زوجها، اعتبر الزواج قائماً حكماً وقت الوفاة، فتجب عليها عدة الوفاة، وبما أن الطلاق بائن فلا تعد زوجيتها قائمة، ولا تجب عليها عدة الوفاة، وإنما عدة الطلاق، فمراعاة لهذين الاعتبارين تتداخل العدتان، وتعتد بهما معاً. وأخذ القانون السوري (م 2/ 127) بهذا الرأي: «إذا توفي وهي في عدة البينونة، تعتد بأبعد الأجلين من عدة الوفاة أو البينونة» لكن كان ينبغي تقييد لفظ البينونة بكونها في حالة طلاق الفرار. أما في غير تلك الحالة فلا تنتقل العدة؛ لأن الزوجية غير قائمة بعد طلاق بائن.
المبحث الرابع ـ وقت ابتداء العدة
ومذهب مالك والشافعي وأبي يوسف: أن زوجة الفارّ لا تعتد بأطول الأجلين من عدة الوفاة أو ثلاثة قروء، وإنما تكمل عدة الطلاق؛ لأن زوجها مات وليست زوجة له؛ لأنها بائن من النكاح، فلا تكون منكوحة. واعتبار الزواج قائماً وقت الوفاة في رأي مالك إنما هو في حق الإرث فقط، لا في حق العدة؛ لأن ما ثبت على خلاف الأصل لا يتوسع فيه. وهذا عندي هو الراجح. ويتصور اعتداد المرأة بأبعد الأجلين لدى الشافعية فيما لو طلق الرجل إحدى امرأتيه طلاقاً بائناً، ومات قبل بيان أو تعيين المطلَّقة، فإن كل واحدة تعتد بالأكثر من عدة وفاة وثلاثة من أقرائها؛ لأن كل واحدة وجب عليها عدة بالطلاق، واشتبهت عليها بعدة أخرى بالوفاة، فوجب أن تأتي بأبعد الأجلين لتخرج عما عليها بيقين، كمن أشكلت عليه صلاة من صلاتين، يلزمه أن يأتي بهما. وتعتد المرأة بأقصى الأجلين عند المالكية كما بان في حالة الانتقال إلى عدة وفاة، كأن يموت زوج الرجعية في عدتها. المبحث الرابع ـ وقت ابتداء العدة وما يعرف به انقضاؤها: ابتداء العدة: فصَّل الحنفية مبدأ العدة على النحو التالي (¬1): 1 ـ إن كان الزواج صحيحاً: فمبدأ العدة بعد الطلاق أو الفسخ أو الموت، فابتداء العدة في الطلاق ونحوه عقيب الطلاق، وفي الوفاة عقيب الوفاة بالاتفاق بين الفقهاء، وتنقضي العدة وإن جهلت المرأة بالطلاق أو الوفاة؛ لأنها أجل، فلا ¬
يشترط العلم بمضي الأجل، سواء اعترف الرجل بالطلاق أو أنكر، فلو طلق الرجل امرأته ثم أنكره، وأقيمت عليه بيِّنة وقضى القاضي بالفرقة، كأن ادعته عليه في شوال، وقضى به القاضي في المحرَّم، فالعدة من وقت الطلاق، لا من وقت القضاء. وتنقضي العدة، وإن لم تعلم المرأة بالطلاق أو الوفاة، فلو طلق الرجل امرأته الحامل أو مات عنها، ولم يبلغها الخبر حتى وضعت، انقضت عدتها بالاتفاق. 2 ـ وإن كان الزواج فاسداً: فمبدأ العدة بعد أو عقيب التفريق من القاضي بين الزوجين، أو بعد المتاركة وإظهار عزم الواطئ على ترك وطئها، بأن يقول بلسانه: تركت وطأها، أو تركتها، أو خليت سبيلها، ونحوه، ومنه الطلاق وإنكار الزواج إذا كان بحضرتها، وإلا فلا يعد الإنكار متاركة. ونص القانون السوري (م 125) على ابتداء العدة في الزواج الصحيح والفاسد: «تبدأ العدة من تاريخ الطلاق أو الوفاة أو الفسخ، أو التفريق القضائي أو المفارقة في النكاح الفاسد». 3 - وإن كان الوطء بشبهة: فقال ابن عابدين (¬1):لم أر من صرح بمبدأ العدة في الوطء بشبهة بلا عقد، وينبغي أن يكون من آخر الوطآت عند زوال الشبهة، بأن علم أنها غير زوجته، وأنها لا تحل؛ إذ لا عقد هنا، فلم يبق سبب للعدة سوى الوطء المذكور. وهذا الرأي حق، فإن بدء العدة ببدء السبب الذي أدى إليها، والوقاع في حالة الوطء بشبهة هو سبب هذه العدة، فتبتدئ منه. ¬
تداخل العدتين
تداخل العدتين: إذا تجدد سبب العدة في أثناء عدة سابقة، فهل تتداخل العدتان أم تكمل العدة السابقة، وتستأنف بعدئذ عدة أخرى؟ يرى الحنفية (¬1): أنه إذا وجبت عدتان تداخلتا، سواء أكانتا من جنس واحد، أم من جنسين، ومن رجل واحد أم من رجلين، مثال الجنس الواحد ومن رجل واحد: إذا تزوجت المطلقة في عدتها، فوطئها الزوج، ثم تتاركا، حتى وجبت عليها عدة أخرى، فإن العدتين تتداخلان. ومثال الجنسين ومن رجلين: المتوفى عنها زوجها إذا وطئت بشبهة، فعليها عدة أخرى، وتتداخل العدتان. وذلك لأن العدة عندهم هي أجل حدد لانقضاء ما بقي من آثار الزواج، بخلاف الجمهور الذي يجعلون العدة هي فعل التربص. ويرى أبو حنيفة وأبو يوسف أنه إذا طلق الرجل زوجته التي دخل بها طلاقاً بائناً بينونة صغرى، ثم تزوجها قبل انقضاء عدتها، وطلقها قبل أن يدخل بها، وجب عليها أن تبدأ عدة جديدة، ولا تبني على ما سبق من العدة الأولى؛ لأنها بالعقد عادت إلى حالها الأول، وهي كانت مدخولاً بها، فإذا طلقها كان طلاقاً بعد الدخول حكماً، فيجب عليها عدة مستقلة، ولها مهر كامل. ولم يوجب مالك ومحمد عليها عدة جديدة، بل تكمل عدتها الأولى، ويجب لها نصف المهر المسمى. وقال الجمهور (¬2): إذا كانت العدتان لشخص واحد ومن جنس واحد، تداخلتا، كأن طلق رجل زوجته، ثم يطؤها في عدة أقراء أو أشهر، جاهلاً كون ¬
الطلاق بائناً، أو عالماً أنها رجعية، تداخلت العدتان، فتبتدئ عدة بأقراء أو أشهر من فراغ الوطء، ويدخل فيها بقية عدة الطلاق؛ لأن مقصود عدة الطلاق والوطء واحد، فلا معنى للتعدد، وتكون تلك البقية واقعة عن الجهتين. وكذلك تتداخل العدتان إن لم تتفقا وكانتا من جنسين، بأن كانت إحداهما حَمْلاً، والأخرى أقراء، بأن طلقها وهي حامل، ثم وطئها قبل وضع الحمل، أو طلقها وهي غير حامل ثم وطئها في أثناء الأقراء، فأحبلها، فتنقضي العدتان بوضع الحمل على الجهتين، سواء رأت الدم مع الحمل أو لا. وللزوج في عدة طلاق رجعي أن يراجع قبل وضع الحمل. أما إن كانت العدتان من شخصين: بأن كانت في عدة زوج أو في عدة وطء شبهة، ثم وطئت بشبهة أو نكاح فاسد، والواطئ غير صاحب العدة الأولى، أو كانت زوجة معتدة عن شبهة، فطلقت بعد وطء الشبهة، فلا تداخل، عملاً بأثر عن عمر وعلي رواه الشافعي رضي الله عنهم أجمعين. فإن وجد حمل اعتدت بوضعه أولاً، وإن لم يكن حمل، أتمت عدة الطلاق ولو كان الوطء بشبهة سابقاً للطلاق، لقوة عدة الطلاق بسبب استنادها إلى عقد جائز وسبب مسوغ، ثم تستأنف العدة الأخرى. ولو تزوجت المطلَّقة في عدتها من الطلاق، فدخل بها الثاني، ثم فرق بينهما لبطلان الزواج، اعتدت بقية عدتها من الأول، ثم اعتدت من الثاني. أما عند الحنفية فتعتد من الثاني بعد مفارقته، وتكون عدة الأقراء من الثاني عن بقية عدة الأول وعدة الثاني؛ لأن القصد معرفة براءة الرحم، وهذا تحصل به براءة الرحم منهما جميعاً. وإن كانت حاملاً فوضع الحمل يجزي عن العدتين اتفاقاً كما تقدم.
ما يعرف به انقضاء العدة
ما يعرف به انقضاء العدة: إذا حدث اختلاف في انقضاء العدة مع زوج المرأة الذي طلقها، فمن الذي يصدق، المرأة أم الزوج؟ يعرف انقضاء العدة إما ب القول وإما ب الفعل (¬1): أما الفعل: فنحو أن تتزوج بزوج آخر، بعد ما مضت مدة تنقضي في مثلها العدة، فلو قالت المرأة بعد الزواج: لم تنقض عدتي، لم تصدق، لا في حق الزوج الأول، ولا في حق الزوج الثاني، ويكون زواج الزوج الثاني جائزاً؛ لأن إقدامها على التزوج بعد مضي مدة يحتمل انقضاء العدة في مثلها دليل الانقضاء. وأما القول: فهو إخبار المعتدة بانقضاء العدة في مدة يحتمل الانقضاء في مثلها، فإن قالت: مضت عدتي، والمدة تحتمله، وكذبها الزوج، قبل قولها بيمينها، وإن لم تحتمله المدة، لا يقبل قولها؛ لأن الأمين إنما يصدق فيما لا يخالف الظاهر. وإذا قال الزوج: أخبرتني امرأة سابقاً أن عدتها قد انقضت، فإن كانت في مدة لا تنقضي في مثلها، لا يقبل قوله ولا قولها، إلا إذا تبين ما هو محتمل من إسقاط سِقْط مستبين الخلق، فحينئذ يقبل قولها. وإن كانت في مدة تحتمل الانقضاء فكذبته المرأة، يعمل بخبرها بقدر الإمكان، فيعمل بخبره في حقه وحق الشرع، فله أن يتزوج بأختها؛ لأنه أمر ديني قبل قوله فيه، ويعمل بخبرها في حقها، فتستحق النفقة والسكنى. وأما أقل المدة التي تصدق فيها المعتدة لانقضاء عدتها، فعلى التفصيل التالي في رأي الحنفية: ¬
أـ إن كانت من ذوات الأشهر: فإنها لا تصدق في أقل من ثلاثة أشهر في عدة الطلاق. وفي عدة الوفاة لا تصدق في أقل من أربعة أشهر وعشر. ب ـ وإن كانت من ذوات الأقراء (الحيضات): فإن كانت معتدة من وفاة، فلا تصدق في أقل من أربعة أشهر وعشر. وإن كانت معتدة من طلاق: فإن أخبرت بانقضاء عدتها في مدة تنقضي في مثلها العدة، يقبل قولها. وإن أخبرت في مدة لا تنقضي في مثلها العدة، لا يقبل قولها، إلا إذا فسرت ذلك، بأن قالت: أسقطت سقطاً مستبين الخلق أو بعضه، فيقبل قولها؛ لأنها أمينة في إخبارها عن انقضاء عدتها، فإن الله تعالى ائتمنها في ذلك بقوله عز وجل: {ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن} [البقرة:228/ 2] قيل في التفسير: إنه الحيض والحبل. والقول قول الأمين بيمينه. فإذا أخبرت بانقضاء العدة في مدة تنقضي في مثلها، يقبل قولها، ولا يقبل إذا كانت المدة مما لا تنقضي العدة في مثلها؛ لأن قول الأمين إنما يقبل فيما لا يكذبه الظاهر، والظاهر هنا يكذبها. وأما أقل ما تصدق فيه المعتدة بالأقراء: فقال أبو حنيفة: أقل ما تصدق فيه الحرة ستون يوماً، عملاً بالوسط في مدة الحيض وهو خمسة أيام، فتكون الحيضات الثلاث خمسة عشر يوماً، والأطهار خمسة وأربعين يوماً على أن يبدأ بالطهر، فيكون المجموع ستين يوماً. وقال الصاحبان: تسعة وثلاثون يوماً، عملاً بأقل الحيض وهو ثلاثة أيام، فتكون الحيضات تسعة أيام على أن يبدأ بالحيض ثلاثة أيام، ثم بالطهر خمسة عشر يوماً، ثم بالحيض ثلاثة أيام، ثم بالطهر خمسة عشر يوماً، ثم بالحيض ثلاثة أيام، فذلك تسعة وثلاثون يوماً.
المبحث الخامس ـ أحكام العدد أو حقوق المعتدة وواجباتها
وقد بينت سابقاً آراء المذاهب الأخرى في مبحث اختلاف الزوجين في الرجعة. المبحث الخامس ـ أحكام العِدَد أو حقوق المعتدة وواجباتها: يتعلق بالمعتدة الأحكام التالية (¬1): أولاً ـ تحريم الخطبة: لا يجوز للأجنبي خطبة المعتدة صراحة، سواء أكانت مطلقة أم متوفى عنها زوجها؛ لأن المطلقة طلاقاً رجعياً في حكم الزوجة، فلا يجوز خطبتها، ولبقاء بعض آثار الزواج في المطلقة ثلاثاً أو بائناً أو متوفى عنها زوجها. ولا يجوز أيضاً التعريض بالخطبة في عدة الطلاق، ويجوز في عدة الوفاة؛ لقوله تعالى: {ولا جناح عليكم فيما عرَّضتم به من خطبة النساء} [البقرة:235/ 2] إلى أن قال: {ولكن لا تواعدوهن سراً، إلا أن تقولوا قولاً معروفاً} [البقرة:235/ 2] ولأنه في عدة الطلاق لايجوز للمعتدة الخروج من منزلها أصلاً ليلاً ولا نهاراً، ويجوز للمتوفى عنها عند الحنفية الخروج نهاراً، ولأن إثارة العداوة بالتعريض لزوجها الأول يتصور في المطلقة لا المتوفى عنها. وقد ذكرت الحكم تفصيلاً في بحث الخطبة. ¬
ثانيا ـ تحريم الزواج
ثانياً ـ تحريم الزواج: لا يجوز للأجنبي إجماعاً نكاح المعتدة، لقوله تعالى: {ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله} [البقرة:2/ 235] أي لا تعقدوا عقد النكاح حتى تنقضي العدة التي كتبها الله على المعتدة، ولبقاء الزوجية في الطلاق الرجعي، وبعض آثار الزواج في الطلاق الثالث والبائن. وإذا تزوجت فالنكاح باطل، لأنها ممنوعة من الزواج لحق الزوج الأول، فكان نكاحاً باطلاً كما لو تزوجت وهي في نكاحه، ويجب أن يفرق بينه وبينها. ويجوز لصاحب العدة أن يتزوج المعتدة؛ لأن الإلزام بالعدة إنما شرع مراعاة لحق الزوج، فلا يجوز أن يمنع حقه، فالعدة لحفظ مائه وصيانة نسبه، ولا يصان ماؤه عن بعضه، ولا يحفظ نسبه عنه، فإذا انقضت العدة جاز لأي شخص أن يتزوجها. والقاعدة عند المالكية: كل نكاح فسخ بعد الدخول اضطراراً، فلا يجوز للزوج أن يتزوج المرأة في عدتها منه، وكل نكاح فسخ اختياراً من أحد الزوجين، حيث لهما الخيار، جاز أن يتزوجها في عدتها منه (¬1). ثالثاً ـ حرمة الخروج من البيت: للفقهاء آراء متقاربة في مسألة خروج المعتدة من البيت، الحنفية: فرقوا بين المطلقة والمتوفى عنها، فقالوا: يحرم على المطلقة البالغة العاقلة الحرة المسلمة المعتدة من زواج صحيح الخروج ليلاً ونهاراً، سواء أكان الطلاق بائناً أم ثلاثاً أم رجعياً، لقوله تعالى في الطلاق الرجعي: {لا تخرجوهن من بيوتهن، ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} [الطلاق:1/ 65] بأن تزني فتخرج لإقامة الحد ¬
عليها، ويرى أبو حنيفة أن الفاحشة هي نفس الخروج، وقوله تعالى: {أسكنوهن من حيث سكنتم} [الطلاق:6/ 65] والأمر بالإسكان نهي عن الإخراج والخروج. وأما في الطلاق الثلاث أو البائن، فلعموم النهي عن الخروج، ومساس الحاجة إلى الحفاظ على الأنساب وعدم اختلاط المياه. وأما المتوفى عنها: فلا تخرج ليلاً، ولا بأس أن تخرج نهاراً في حوائجها؛ لأنها تحتاج إلى الخروج بالنهار لاكتساب ما تنفقه؛ لأنه لا نفقة لها من الزوج المتوفى، بل نفقتها عليها، فتحتاج إلى الخروج لتحصيل النفقة، ولا تخرج بالليل، لعدم الحاجة إلى الخروج بالليل، بخلاف المطلَّقة، فإن نفقتها على الزوج، فلا تحتاج إلى الخروج. وليس للمعتدة من طلاق ثلاث أو بائن أو رجعي أن تخرج من منزلها الذي تعتد فيه إلى سفر ولو إلى حج فريضة إذا كانت معتدة من نكاح صحيح. ولا يجوز للزوج أن يسافر بها لقوله تعالى: {لا تخرجوهن من بيوتهن، ولا يخرجن} [الطلاق:1/ 65] والمذهب أن للزوج ضرب المرأة المفارقة على الخروج من منزله بلا إذن، إلا إن احتاجت إلى الاستفتاء في حادثة، ولم يرض الزوج أن يستفتي لها، وهو غير عالم. ويجوز للمعتدة من نكاح فاسد أن تخرج؛ لأن أحكام العدة مرتبة على أحكام النكاح الصحيح. ويجوز أيضاً للصغيرة والمجنونة أن تخرج من منزلها إذا لم يكن في الفرقة رجعة، سواء أذن الزوج لها أم لم يأذن؛ إذ أن حق الله في العدة لا يجب عل الصغير والمجنون، ولأنه لا ولد من الصغيرة، فلم يبق للزوج حق. ولكن يجوز للزوج منع المجنونة من الخروج حفاظاً على مائه وتحصينه من الاختلاط. وإن كانت الفرقة رجعية فلا يجوز للصغيرة الخروج بغير إذن الزوج؛ لأنها زوجته.
المالكية والحنابلة
هذا كله في حال الاختيار، أما في حال الضرورة فلكل معتدة الخروج، فإن اضطرت إلى الخروج من بيتها، بأن خافت سقوط منزلها، أو خافت على متاعها، أو لا تجد أجرة البيت الذي تستأجره في عدة الوفاة، فلا بأس عندئذ أن تخرج. وتنتقل المعتدة المطلقة في البادية مع أهل الكلأ في محفة أو خيمة مع زوجها إن تضررت في المكان الذي طلقها فيه، وإن لم تتضرر فلا تنتقل من مكانها. وأجاز المالكية والحنابلة للمعتدة الخروج لضرورة أو عذر، كأن خافت هدماً أو غرقاً أوعدواً أو لصوصاً أو غلاء كرائها أو نحوه، كما قرر الحنفية، وأجازوا أيضاً للمعتدة مطلقاً الخروج في حوائجها نهاراً، سواء أكانت مطلَّقة أم متوفى عنها، لما روى جابر قال: «طُلِّقت خالتي ثلاثاً، فخرجت تجذّ نخلها، فلقيها رجل، فنهاها، فذكرت ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: اخرجي فجذي نخلك، لعلك أن تتصدقي منه، أو تفعلي خيراً» (¬1)، وروى مجاهد قال: «استشهد رجال يوم أحد، فجاء نساؤهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقلن: يا رسول الله، نستوحش بالليل، أفنبيت عند إحدانا، فإذا أصبحنا بادرنا إلى بيوتنا؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: تحدثن عند إحداكن، حتى إذا أردتن النوم، فلتؤب كل واحدة إلى بيتها». وليس للمعتدة المبيت في غير بيتها، ولا الخروج ليلاً إلا لضرورة؛ ولا تبيت إلا في دارها؛ لأن الليل مظنة الفساد، بخلاف النهار، فإنه مظنة قضاء الحوائج والمعاش، وشراء ما يحتاج إليه. وإن وجب عليها حق لا يمكن استيفاؤه إلا بها كاليمين والحد، وكانت ذات خِدْر (أي ستر) بعث إليها الحاكم من يستوفي الحق منها في منزلها. وإن كانت بَرْزَة (هي الظاهرة غير المستترة) جاز إحضارها لاستيفائه، فإذا فرغت رجعت إلى منزلها. ¬
الشافعية
ولم يجز الشافعية للمعتدة مطلقاً، سواء أكانت رجعية أم مبتوتة أم متوفى عنها زوجها، الخروج من موضع العدة إلا لعذر، لقوله تعالى: {لا تخرجوهن من بيوتهن، ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} [الطلاق:1/ 65] وعن فُرَيعة بنت مالك قالت: «قلت لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: إني في دار وحشة، أفأنتقل إلى دار أهلي، فأعتد عندهم؟ فقال: امكثي في بيتك الذي أتاك فيه نعي زوجك، حتى يبلغ الكتاب أجله» قالت: «فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً» (¬1). ورأي الشافعية والحنابلة أن منزل البدوية وبيتها من شعر كمنزل حضرية في لزوم الموضع الذي مات زوجها وهي فيه، فلو ارتحل في أثنائها كل الحي انتقلت معهم للضرورة. وإن ارتحل بعض الحي، بقيت مع الباقين إن كان فيهم قوة، لكن لو ارتحل أهلها لها أن ترتحل معهم؛ لأن مفارقة الأهل عسرة موحشة. رابعاً ـ السكنى في بيت الزوجية والنفقة: هذا حق للمرأة واجب على الزوج، أما سكنى المعتدة أي معتدة في بيت الزوجية، فواجبة لقوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء، فطلقوهن لعدتهن، وأحصوا العدة، واتقوا الله ربكم، لا تخرجوهن من بيوتهن، ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} [الطلاق:1/ 65] والبيت المضاف للمرأة هو البيت الذي تسكنه عند الفرقة، سواء أكانت مطلقة أم متوفى عنها. لكن قال الحنفية: يجوز بقاء المطلقة رجعياً مع الزوج في دار واحدة، وله إن قصد مراجعتها أن يستمتع بها بعد الطلاق؛ لأن الطلاق الرجعي لا يحرم عندهم على الراجح المطلقة على من طلقها، ويكون استمتاعه بها رجعة، وله حينئذ إذا قصد مراجعتها أن يدخل عليها بلا إذنها. ¬
أما في الطلاق البائن أو الثلاث: فلا بد من ساتر حاجز بين الرجل والمطلقة، فإن كان المسكن متسعاً استقلت المرأة بحجرة فيه، ولا يجوز للمطلق أن ينظر إليها ولا أن يقيم معها في تلك الحجرة. وإن كان المسكن ضيقاً ليس فيه إلا حجرة واحدة، وجب على الرجل المطلِّق أن يخرج من المسكن، وتبقى المطلقة فيه حتى تنقضي العدة؛ لأن بقاء المرأة في منزل الزوجية الذي كانت تسكن فيه وقت الطلاق واجب شرعاً، ولئلا تقع الخلوة بالأجنبية. ولا عبرة بالعرف القائم الآن من خروج المطلقة من بيت الزوجية فهو عرف مصادم للنص القرآني السابق: {لا تخرجوهن من بيوتهن} [الطلاق:1/ 65]. ولكن يعد ضيق المنزل وفسق الزوج عذراً يجيز في رأي الحنفية للمطلقة أو المتوفى عنها الخروج من البيت، وتعيين الموضع الذي تنتقل إليه في عدة الطلاق إلى الزوج، وأما في عدة الوفاة فإن التعيين يكون إليها؛ لأنها هي صاحبة الرأي المطلق في أمر السكنى، حتى إن أجرة المنزل إن كان بأجر تكون عليها. وكذلك يعد إيذاؤها الجيران عذراً عند الحنابلة يبيح انتقالها لدار أخرى. ولا تخرج المعتدة إلى صحن الدار التي فيها منازل الأجانب عنها، لأنه كالخروج إلى الشارع. فإن لم يكن في الدار منازل للأجانب، بل بيوت أو غرف، جاز لها الخروج إلى صحن الدار، ولا تصير به خارجة عن الدار، ولها أن تبيت في أي غرفة شاءت منها. وذكر الشافعية (¬1): أن الرجل إذا عاشر المعتدة كزوج، بخلوة ولو بدخول دار هي فيها، ونوم ولو في الليل فقط وأكل ونحو ذلك، بلا وطء لها، في عدة أقراء ¬
نفقة المعتدة
أو أشهر، فالأصح أنها إن كانت بائناً انقضت عدتها بما ذكر؛ لأن مخالطتها محرَّمة ووطؤها زنا لا حرمة له، ولا أثر للحرام في الحكم الشرعي، كالمزني بها لا يترتب على الزنا حكم شرعي من أحكام الزواج، وأما إن كانت رجعية، فلا تنقضي عدتها؛ لأن الشبهة قائمة؛ لأن العدة لبراءة الرحم وهي مشغولة. لكن لا يضر دخول دار هي فيها بلا خلوة. وأما نفقة المعتدة: فواجبة على الزوج حسب التفصيل الآتي: 1ً - إن كانت المعتدة مطلقة طلاقاً رجعياً: وجبت لها النفقة بأنواعها المختلفة من طعام وكسوة وسكنى، بالاتفاق؛ لأن المعتدة تعد زوجة ما دامت في العدة. 2ً - وإن كانت معتدة من طلاق بائن: فإن كانت حاملاً، وجبت لها النفقة بأنواعها المختلفة بالاتفاق، لقوله تعالى: {وإن كن أولات حمل، فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن} [الطلاق:6/ 65]. وإن كانت غير حامل: وجبت لها النفقة بأنواعها أيضاً عند الحنفية، بسب احتباسها في العدة لحق الزوج. ولا تجب لها النفقة في رأي الحنابلة؛ لأن فاطمة بنت قيس طلَّقها زوجها البتة، فلم يجعل لها رسول الله صلّى الله عليه وسلم نفقة ولا سكنى، وإنما قال: «إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها الرجعة» (¬1). وتجب لها السكنى فقط في رأي المالكية والشافعية، لقوله تعالى: {أسكنوهن من حيث سكنتم من وُجدكم} [الطلاق:6/ 65] فإنه أوجب لها السكنى مطلقاً، سواء أكانت حاملاً أم غير حامل. ولا تجب لها نفقة الطعام ¬
خامسا ـ الإحداد أو الحداد
والكسوة لمفهوم قوله تعالى: {وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن} [الطلاق:6/ 65] فدل بمفهومه على عدم وجوب النفقة لغير الحامل. 3ً - وإن كانت معتدة من وفاة: فلا نفقة لها بالاتفاق، لانتهاء الزوجية بالموت، لكن أوجب لها المالكية السكنى مدة العدة إذا كان المسكن مملوكاً للزوج، أو مستأجَراً ودفع أجرته قبل الوفاة، وإلا فلا. 4ً - وإن كانت معتدة من زواج فاسد أو شبهة: فلا نفقة لها عند الجمهور، إذ لا نفقة لها في الزواج الفاسد، فلا نفقة لها في أثناء العدة منه. وأوجب المالكية لها إن كانت حاملاً النفقة على الواطئ؛ لأنها محتبسة بسببه، فإن كانت غير حامل أو فسخ نكاحها بلعان، فيجب لها السكنى فقط في المحل الذي كانت فيه. خامساً ـ الإحداد أو الحداد: الإحداد أو الحداد في اللغة: الامتناع من الزينة، واصطلاحاً: ترك الطيب والزينة والكحل والدهن المطيب وغير المطيب. وهو خاص بالبدن، فلا مانع من تجميل فراش وبساط وستور، وأثاث بيت وجلوس امرأة على حرير. ويباح للمرأة الحداد على قريب كأب وأم وأخ ثلاثة أيام فقط، ويحرم إحداد فوق ثلاث على ميت غير زوج، للحديث الصحيح المتقدم: «لا يحل لامرأة مسلمة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد فوق ثلاث، إلا على زوجها أربعة أشهر وعشراً» (¬1) وللزوج منع زوجته من الحداد على الأقرباء؛ لأن الزينة حقه. ¬
مدة الحداد
ومدة الحداد على الزوج أربعة أشهر وعشرة أيام. والإحداد على الزوج خاص في رأي الحنفية بالمرأة البالغة المسلمة ولو أمة، فلا إحداد على صغيرة وذمية؛ لأنهما غير مكلفين. ولا إحداد على أم الولد؛ لأنها ليست زوجة. ويشمل الحداد عند الجمهور كل زوجة بنكاح صحيح، صغيرة أو كبيرة، أو مجنونة، مسلمة أو كتابية، وكذا الأمة الزوجة في رأي الحنابلة، ولا يجب الإحداد على الإماء في رأي المالكية والشافعية؛ لأنهن لسن زوجات، وأما الصغيرة والذمية فلأن غير المكلفة تساوي المكلفة في اجتناب المحرمات كالخمر والزنا، وإنما يفترقان في الإثم، فكذلك الإحداد، ولأن حقوق الذمية في النكاح كحقوق المسلمة، فكذلك فيما عليها. ولا إحداد على غير الزوجات كأم الولد إذا مات سيدها، والأمة التي يطؤها سيدها، والموطوءة بشبهة والمزني بها والمنكوحة نكاحاً فاسداً؛ لأن نص الحديث السابق خص الحداد بالزواج، ولأن ذات النكاح الفاسد ليست زوجة على الحقيقة. والإحداد واجب شرعاً على الزوجات. واتفق الفقهاء على عدم وجوب الحداد على الرجعية؛ لأنها في حكم الزوجة، لها أن تتزين لزوجها، وتستشرف له ليرغب فيها ويعيدها إلى ما كانت عليه من الزوجية. واتفقوا أيضاً على وجوب الحداد على المتوفى عنها زوجها، للحديث السابق: «أن أم حبيبة رضي الله عنها لما بلغها موت أبيها أبي سفيان، انتظرت ثلاثة أيام، ثم دعت بطيب، وقالت: والله ما لي بالطيب من حاجة، غير أني سمعت
الحداد أيضا على المبتوتة أو المطلقة طلاقا بائنا؛
رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول على المنبر: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر، أن تحدّ على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً». وأوجب الحنفية الحداد أيضاً على المبتوتة أو المطلقة طلاقاً بائناً؛ لأنه حق الشرع، وإظهاراً للتأسف على فوات نعمة الزواج، كالمتوفى عنها. ولم يوجبه الجمهور عليها، وإنما يستحب فقط؛ لأن الزوج آذاها بالطلاق البائن، فلا تلزم بإظهار الحزن والأسف على فراقه، ولأنها معتدة من طلاق كالرجعية، وإنما يستحب لها الحداد لئلا تدعو الزينة إلى الفساد. ويكون الإحداد بترك التجميل، وهو أن تجتنب ما يلي: 1 ً - الزينة بحلي ولو خاتم من ذهب أو فضة، أو حرير مطلقاً ولو كان أسود. وأجاز بعض الشافعية كابن حجر التحلي بالذهب والفضة، وأجاز الحنابلة لبس الحرير الأبيض؛ لأنه مألوف. 2ً - الطيب في البدن والامتشاط، لا في الثياب، لما فيه من الترفه واجتذاب الأنظار، ومنعها المالكية من الاتجار في الطيب وعمله. 3ً - الدهن المطيب وغير المطيب؛ لأن فيه زينة الشعر، ولا يخلو الدهن عن نوع طيب. 4ً - الكحل، لما فيه من زينة العين. وأجاز فقهاء المذاهب كلهم الكحل لضرورة أو حاجة ليلاً لا نهاراً. 5ً - الحناء وكل أنواع الخضاب والصباغ، لما روت أم سلمة أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى المعتدة أن تختضب، كما سيأتي.
6ً - لبس الثوب المطيب والمصبوغ بالأحمر أو الأصفر. ودليل ذلك حديث أم سَلَمة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «المتوفى عنها زوجها: لا تَلْبَس المُعَصْفر من الثياب، ولا الممشَّقة (¬1)، ولا الحُلِي، ولا تختضب، ولا تكتحل» (¬2) وفي رواية أخرى: «ولا تمتشطي بالطيب ولا بالحناء، فإنه خضاب» وعن أم عطية قالت: «كنا نُنهى أن نحدَّ على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهروعشراً، ولا نكتحل، ولا نتطيب، ولا نلْبَس ثوباً مصبوغاً إلا ثوب عَصْب» (¬3). ويجوز للمرأة فعل شيء مما سبق للضرورة؛ لأن الضرورات تبيح المحظورات. ويباح لها لبس الأسود في المذاهب الأربعة. ولم يجز الظاهرية (¬4) الكحل ولو لضروة، ولا الأسود؛ لأنه كالأحمر والأصفر، ولم يجز المالكية لبس الأسود إذا كان يتزين به في قوم. ويباح لها عند الجمهور دخول الحمام المنزلي وغسل الرأس بالصابون ونحوه، ولم يجز المالكية لها دخول الحمام إلا لضرورة. ولها قص الأظافر ونتف إبط وحلق عانة (استحداد) وإتباع دم الحيض بطيب. ¬
سادسا ـ ثبوت نسب الولد المولود في العدة
فإن تركت المتوفى عنها الحداد عصت الله تعالى إن علمت حرمة الترك، ويعصي ولي الصغيرة والمجنونة في رأي غير الحنفية إن لم يمنعها، وتنقضي عدتها بمضي الزمان مع العصيان، كما لو فارقت المنزل. سادساً ـ ثبوت نسب الولد المولود في العدة: يثبت نسب ولد المطلَّقة الرجعية من الزوج في رأي الحنفية إذا جاءت بالولد لسنتين أو أكثر، ولو طالت المدة، لاحتمال امتداد طهرها، وعلوقها في العدة، ما لم تقر بانقضاء عدتها، وكانت المدة تحتمله. ويثبت نسب ولد المبتوتة بلا دعوى، ما لم تقر بانقضاء العدة إذا جاءت به لأقل من سنتين؛ لأنه يحتمل أن يكون الولد قائماً وقت الطلاق، والحمل عندهم لا يبقى أكثر من سنتين. فإن جاءت به لتمام سنتين من يوم الفرقة، لم يثبت نسبه من الزوج؛ لأنه حادث بعد الطلاق، فلا يكون منه؛ لأن وطأها حرام، إلا أن يدعيه الزوج؛ لأنه التزمه، وله وجه بأن وطئها بشبهة في العدة. ويثبت نسب الولد المتوفى عنها زوجها، ولو غير مدخول بها، إذا لم تقر بانقضاء عدتها، ما بين الوفاة وبين سنتين. وإذا اعترفت المعتدة مطلقاً (أي معتدة) بانقضاء عدتها، ثم جاءت بولد لأقل من ستة أشهر من وقت الإقرار، ثبت نسبه، لظهور كذبها بيقين، فبطل الإقرار. وإن جاءت به لستة أشهر فأكثر، لم يثبت نسبه؛ لأنه علم بالإقرار أنه حدث بعده؛ لأنها أمينة في الإخبار، وقول الأمين مقبول إلا إذا تحقق كذبه. وتنطبق هذه الأحكام في المذاهب الأخرى، بملاحظة أن أقصى مدة الحمل عند الشافعية والحنابلة أربع سنين، وعند المالكية: خمس سنين.
سابعا ـ ثبوت الإرث في العدة
سابعاً ـ ثبوت الإرث في العدة: إذا مات أحد الزوجين قبل انقضاء عدة المطلقة طلاقاً رجعياً، ورثه الآخر لا خلاف، سواء أكان الطلاق في حال المرض أم في حال الصحة؛ لبقاء الزوجية حكماً، فتكون سبباً لاستحقاق الإرث من الجانبين. فإن كان الطلاق بائناً أو ثلاثاً في حال الصحة، فمات أحد الزوجين في العدة لم يرثه الآخر. وإن كان الطلاق بائناً أو ثلاثاً في حال المرض، فإن كان برضاها لا ترث بالإجماع، وإن كان بغير رضاها فإنها ترث من زوجها عند الجمهور عملاً بما روي عن جماعة من الصحابة مثل عمر وعثمان وعلي وعائشة وأبي بن كعب، ومعاملة للمطلّق بنقيض مقصوده، وهذا هو طلاق الفرار، وقد تقدم بيانه. ولا ترث عند الشافعية، لزوال النكاح بالإبانة أو الثلاث، فلا يثبت الإرث. ثامناً ـ لحوق الطلاق في العدة: إن طلق الرجل زوجته طلقة فقط، فاعتدت منه، ثم طلقها طلقة ثانية وثالثة، فيلحقها الطلاق إلى انقضاء العدة. وقد سبق بيانه في بحث الطلاق الرجعي والبائن. الاستبراء: معناه: لغة طلب البراءة. وشرعاً: تربص الأمَة الرقيقة مدة بسبب ملك اليمين حدوثاً أو زوالاً أو بشبهة، أو تربص المزني بها، لمعرفة براءة الرحم، أو للتعبد (¬1). ¬
حكمه
حكمه: يجب الاستبراء بالاتفاق، منعاً من اختلاط المياه واشتباه الأنساب، حتى لو أنكره شخص، كفر في رأي بعضهم للإجماع على وجوبه (¬1)، ولقوله صلّى الله عليه وسلم في سبي أوطاس (¬2): «لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غيرُ حامل حتى تحيض حيضة» (¬3) وقوله عليه السلام: «لا يقعن رجل على امرأة، وحملُها لغيره» (¬4) وقوله أيضاً: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يسقي ماءَه ولدَ غيره» (¬5) وزاد أبو داود في روايته: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يقعن على امرأة من السبي حتى يستبرئها». أسبابه: ذكر الفقهاء أسباباً للاستبراء هي ما يأتي: رأي الحنفية (¬6): يجب الاستبراء بملك الاستمتاع بالأمة ملك اليمين، بأي نوع من أنواع الملك كشراء، وإرث، وسبي، ودفع بدل جناية، وفسخ بيع بعد القبض ونحوها كهبة ورجوع عنها، وصدقة، ووصية، وبدل خلع أو صلح أو كتابة أو عتق أو إجارة. ولا بأس بحيلة إسقاط الاستبراء إذا علم أن البائع لم يقربها في طهرها بأن يعقد عليها عقد زواج ويقبضها ثم يشتريها، فتحل له للحال. وذكر الشافعية (¬7) سببين للاستبراء: وهما - كما قرر الحنفية - ملك وزوال ¬
الحنابلة
ملك، ثم قالوا: قد يجب بسبب آخر، كأن يطأ رجل أمة غيره ظاناً أنها أمته، أي الوطء بشبهة. أما الملك: فهو ملك أمة بشراء، أو هبة، أو سبي بعد القسمة، أو رد بعيب، أو تحالف أو إقالة، أو قبول وصية أو غيرها كفسخ بفلس ورجوع في هبة. ويجب استبراء مكاتبة لم تستطع أداء أقساط الكتابة، لعود ملك التمتع بعد زواله، واستبراء مرتدة في الأصح، لزوال ملك الاستمتاع ثم إعادته، ويجب استبراؤها ولو منتقلة من ملك صبي أو امرأة. وأما زوال الملك: فهو زوال الاستمتاع عن الأمة الموطوءة أو المستولدة، بعتق أو موت السيد. وإن ملك شخص أمة مجوسية أو مرتدة أو معتدة أو ذات زوج، لم يصح استبراؤها في هذه الأحوال؛ لأن الاستبراء يراد للاستباحة، ولا توجد الاستباحة في هذه الأحوال. فإن زالت الزوجية أو العدة أو الردة، وجب الاستبراء في الأظهر. وأما الحنابلة (¬1) فذكروا ثلاثة أسباب للاستبراء: هي ملك وإزالة ملك وعتق، وإيضاحها فيما يأتي: 1ً - إذا ملك ولو طفلة أمة ببيع أو هبة أو إرث أو سبي أو وصية أو غنيمة أو غيرها مما ذكر في المذهبين السابقين، فلا يحل له وطؤها ولا الاستمتاع بها إلا بالاستبراء بحيضة إذا كانت تحيض، أو بوضع الحمل إذا كانت حاملاً. 2ً - إن وطئ أمته ثم أراد تزويجها أو بيعها، لم يجز له ذلك حتى يستبرئها كما سبق في الحالة الأولى. ¬
مذهب المالكية
3ً - إذا أعتق أم ولده أو أعتق أمته التي كان يصيبها قبل استبرائها أو مات عنها، لزمها استبراء نفسها؛ لأنها موطوءة له وطأ له حرمة، فلزمها استعلام براءة رحمها، كالموطوءة بشبهة. وأما مذهب المالكية (¬1) فقد حدد أربعة أسباب للاستبراء وهي: 1ً- حصول ملك الأمة بشراء أو إرث أو هبة أو غنيمة أو غيرها، ولو من صبي أو امرأة، كما سبق في المذاهب الأخرى. ويجب الاستبراء على كل من المتملك الذي صارت إليه، وعلى البائع، وإن اتفقا على استبراء واحد، جاز. ورأى بقية الأئمة أن الاستبراء على المشتري خاصة. وهذا سبب متفق عليه. ويجب الاستبراء بشروط أربعة في رأي المالكية وهي: أولاً ـ إن لم تعلم براءتها: فإن علمت براءتها من الحمل كمودعة عنده أو مرهونة أو مبيعة بالخيار تحت يده، وحاضت زمن ذلك، ولم تخرج ولم يدخل عليها سيدها، ثم اشتراها فلا استبراء عليها. ثانياً ـ ولم تكن مباحة الوطء حال حصول الملك، كزوجته التي يشتريها مثلاً، فلا استبراء عليه، وهذا متفق عليه بين المذاهب. ثالثاً ـ ولم يحرم وطؤها في المستقبل، كعمته وخالته من نسب أو رضاع، وكأم زوجته، فلا استبراء عليها لعدم حل وطئها. رابعاً ـ وأطاقت الوطء: فلا استبراء لصغيرة كبنت خمس سنين، لعدم إمكانه عادة. ¬
نوع الاستبراء ومدته
2ً - زوال الملك بعتق أو بموت السيد أو بغيرهما. وهذا متفق عليه. 3ً - الزنى: إذا زنت الحرة طائعة أو مكرهة، استبرئت عند المالكية والحنابلة بثلاث حيضات، والأمة بحيضة، والحامل منها بوضع حملها. 4ً - سوء الظن: من تطرق إليها سوء الظن من خروج في الطرقات وغيرها، وجب استبراؤها في المشهور. فإن كانت في سن الحيض فاستبراؤها بحيضة، وإن لم تحض فتسعة أشهر، وإن كانت صغيرة أو يائسة فثلاثة أشهر، وهو المشهور عن أحمد، وقال أبو حنيفة والشافعي: شهر، وإن كانت حاملاً فوضع الحمل. نوع الاستبراء ومدته: لا يجوز في الاستبراء (¬1) الوطء ولا غيره من الاستمتاع كتقبيل ونظر بشهوة. وأجاز الشافعية الاستمتاع بغير الوطء في المسبية التي وقعت في سهمه من الغنيمة، لمفهوم الخبر السابق: «ألا لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة». واتفق الفقهاء عملاً بهذا الحديث على أن استبراء من تحيض بحيضة، والحامل بوضع الحمل. واختلفوا فيمن لا تحيض وهي صغيرة وآيسة ومنقطعة حيض (¬2): مذهب الحنفية والشافعية: تستبرأ بشهر؛ لأن الشهر قائم مقام القرء في حق الحرة والأمة المطلَّقة، فكذلك في الاستبراء. ومذهب المالكية، والحنابلة في المشهور عن أحمد كما في المغني: تستبرأ الصغيرة والآيسة بثلاثة أشهر؛ لأن كل شهر قائم مقام قرء، وتستبرأ الآيسة الحرة ¬
هل هناك عدة بسبب الزنا أو بعد زواج باطل؟
بثلاثة أشهر مكان ثلاثة قروء. وجاء في كشاف القناع أن من لا تحيض تستبرأ بشهر. أما من تأخر حيضها عن عادتها ولو لرضاع أو مرض أو استحيضت ولم تميز الحيض من غيره، فتستبرأ بثلاثة أشهر أيضاً في رأي المالكية، وبعشرة أشهر في رأي الحنابلة: تسعة أشهر للحمل وشهر مكان الحيضة إن ارتفع حيضها ولم تدر ما رفعه. وإن علمت سبب رفع الحيض من مرض أو رضاع أو نفاس، ولم تزل في الاستبراء حتى يعود الحيض، فتستبرئ نفسها بحيضة، إلا أن تصير آيسة فتستبرئ نفسها استبراء الآيسات بثلاثة أشهر. وإن ارتابت الأمة المستبرأة بنفسها فهي كالحرة المستريبة، تستبرأ بسنة كاملة. وهل هناك عدة بسبب الزنا أو بعد زواج باطل؟ إذا زنت الزوجة أو تزوج رجل امرأة زواجاً متفقاً على بطلانه كأن يتزوج محرمة أو معتدة يعلم حالها أو زوجة يعلم أنها زوجة غيره ثم دخل بها. فإن حملت المرأة في هذه الحالة، فلا يحل لزوجها أن يقربها حتى تضع الحمل باتفاق المذاهب. وأما إن لم يكن هناك حمل: فلا تجب العدة عند الحنفية والشافعية في الزنا ولا في الزواج الباطل؛ لأنه في حكم الزنا، واستحسن الإمام محمد بن الحسن استبراءها بحيضة. ويجب عند المالكية والحنابلة استبراؤها بثلاث حيضات منذ وطئها الرجل، سواء فارقها أو مات عنها، ويحرم على زوجها أن يقربها في مدة الاستبراء. أما إذا تزوجها الرجل، وهو لا يعلم بأنها زوجة غيره، ودخل بها، ثم فرق بينهما، وجب عليها العدة بالاتفاق؛ لأن العقد يكون فاسداً، والعقد الفاسد تجب العدة فيه بالدخول اتفاقاً.
انتهى الجزء التاسع ويتبعه الجزء العاشر تتمة الأحوال الشخصية (الحقوق المالية - الوصايا والوقف والمواريث)
الباب الثالث: حقوق الأولاد
البَابُ الثَّالث: حقوق الأولاد يشتمل على خمسة فصول: الأول ـ النسب. الثاني ـ الرضاع. الثالث ـ الحضانة. الرابع ـ الولاية. الخامس ـ النفقات ـ نفقة الأولاد والزوجة وغيرهم. والكلام فيها لأن بناء الأسرة بناء قوياً لا يتم إلا بثبوت نسب الأولاد من آبائهم، حتى يحفظوا من الضياع، وبإرضاعهم؛ لأن الرضاع أول مقومات الحياة الأولى، وبحضانتهم لحاجتهم الشديدة إلى رعايتهم في سن الضعف والطفولة، وبالولاية عليهم في النفس والمال إن كان لهم مال، لاحتياجهم إلى من يرعى شؤونهم في التربية والتعليم، وحفظ أموالهم واستثمارها، وبالإنفاق عليهم قبل البلوغ بسبب عجزهم. وأبحث هذه الفصول تباعاً فيما يأتي:
الفصل الأول: النسب
الفَصْلُ الأوَّل: النَّسَب يشتمل على تمهيد ومبحثين: الأول ـ في أسباب ثبوت النسب، والثاني ـ في طرق إثبات النسب: تمهيد ـ عناية الشرع بالنسب وتحريم التبني والإلحاق من طريق غير مشروع: النسب أقوى الدعائم التي تقوم عليها الأسرة، ويرتبط به أفرادها برباط دائم من الصلة تقوم على أساس وحدة الدم والجزئية والبغيضة، فالولد جزء من أبيه، والأب بعض من ولده. ورابطة النسب هي نسيج الأسرة الذي لا تنفصم عراه، وهو نعمة عظمى أنعمها الله على الإنسان، إذ لولاها لتفككت أواصر الأسرة، وذابت الصلات بينها، ولما بقي أثر من حنان وعطف ورحمة بين أفرادها، لذا أمتن الله عز وجل على الإنسان بالنسب، فقال سبحانه: {وهو الذي خلق من الماء بشراً، فجعله نسباً وصهراً، وكان ربك قديراً}. [الفرقان:54/ 25]. ورعاية النسب أحد مقاصد الشريعة الخمسة. ومنع الشرع الآباء من إنكار نسب الأولاد، وحرم على النساء نسبة ولد إلى غير أبيه الحقيقي، فقال صلّى الله عليه وسلم: «أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم (¬1)، ¬
فليست من الله في شيء، ولن يدخلها الله جنته، وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه، احتجب الله تعالى منه، وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين يوم القيامة» (¬1). ومنع الشرع أيضاً الأبناء من انتسابهم إلى غير آبائهم، فقال صلّى الله عليه وسلم: «من ادعى إلي غير أبيه وهو يعلم، فالجنة عليه حرام (¬2)» وقال أيضاً: «من ادعى إلى غير أبيه، أو انتمى إلى غير مواليه، فعليه لعنة الله المتتابعة إلى يوم القيامة» (¬3). وحرمت الشريعة نظام التبني وأبطلته بعد أن كان في الجاهلية وصدر الإسلام، وقد تبنى النبي صلّى الله عليه وسلم زيد بن حارثة قبل النبوة، وكان يدعى «زيد بن محمد» إلى أن نزل قوله تعالى: {وما جعل أدعياءكم أبناءكم، ذلكم قولكم بأفواهكم، والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل. ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله، فإن لم تعلموا آباءهم، فإخوانكم في الدين ومواليكم} (¬4).ذكرالقرطبي في تفسيره: أنه أجمع أهل التفسيرعلىأن ههذه الآية ننزلت في زيد بن حارثة. وروىالأئمةأن ابن عمرقال: «ماكنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد، حتى نزلت: {ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله}» [الأحزاب:5/ 33] أي أعدل وأحق عند الله. فالعدل يقضي والحق يوجب نسبة الابن إلى أبيه الحقيقي، لا لأبيه المزور، والإسلام دين الحق والعدل، والعنصر الغريب عن الأسرة ذكراً أو أنثى لا ينسجم معها قطعاً في خلق ولا دين، وقد تقع مفاسد ومنكرات عليه أو منه، لإحساسه ¬
بأنه أجنبي، فمن تبنى لقيطاً أو مجهول النسب دون أن يدعي أنه ولده، لم يكن ولده حقيقة، فلا يثبت التوارث بينهما، ولا تجري عليه أحكام التحريم بالقرابة. ومن كان له أب معروف نسب إلى أبيه، ومن جهل أبوه دعي مولىً وأخاً في الدين، منعاً من تغيير الحقائق، وحفظاً لحقوق الآباء والأولاد من الضياع أو الانتقاص، وتوفيراً لوحدة الانسجام في الأسرة، فكثيراً ما أساء الولد المتبنى للزوجين وأقاربهما في العرض والمال. لكن لم يمنع الإسلام تربية ولد لقيط وتعليمه، ثم حجبه عن الأسرة بعد البلوغ أو قبله بقليل، وإنما فتح باب الإحسان إليه على أوسع نطاق، وعدّ ذلك اتفاقاً للنفس من الهلاك، وإحياء لنفس بشرية، ومن أحيا نفساً فكأنما أحيا الناس جميعاً. ونسب الولد من أمه ثابت في كل حالات الولادة شرعية أو غيرشرعية، أم نسب الولد من أبيه، فلا يثبت إلا من طريق الزواج الصحيح أو الفاسد، أو الوطء بشبهة، أو الإقرار بالنسب، وأبطل الإسلام ما كان في الجاهلية من إلحاق الأولاد عن طريق الزنا، فقال صلّى الله عليه وسلم: «الولد للفراش، وللعاهر الحجر» (¬1) ومعناه أن الولد يلحق الأب الذي له زوجية صحيحة، علماً بأن الفراش هو المرأة في رأي الأكثر، وقد يعبر به عن حالة الافتراش، وأما الزنا فلا يصلح سبباً لإثبات النسب، وإنما يستحق الزاني العاهر الرجم أو الطرد بالحجارة. وقد دل ظاهر الحديث على أن الولد إنما يلحق بالأب بعد ثبوت الفراش، وهو لا يثبت إلا بعد إمكان الوطء في الزواج الصحيح أو الفاسد. وهو رأي ¬
المبحث الأول ـ أسباب ثبوت النسب
الجمهور. وروي عن أبي حنيفة أنه يثبت بمجرد العقد؛ لأن مجرد المظنة كافية. ورد بمنع حصولها بمجرد العقد، بل لا بد من إمكان الوطء (¬1). المبحث الأول ـ أسباب ثبوت النسب: لا بد قبل بيان أسباب ثبوت النسب من توضيح أمور ثلاثة: الأول ـ مدة الحمل. الثاني ـ الخلاف في الولادة وتعيين المولود. الثالث ـ إثبات نسب الولد بالقيافة. مدة الحمل: لا يثبت نسب الحمل بصفة عامة إلا إذا أتى في فترة واقعة بين أقل الحمل وأكثرها، كما أبنا سابقاً في بحث العدة وغيرها. أما أقل الحمل: فقد اتفق الفقهاء (¬2) على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر من وقت الدخول وإمكان الوطء في رأي الجمهور، ومن وقت عقد الزواج في رأي أبي حنيفة، لأن المرأة هي فراش للزوج ويلحقه الولد لعموم الحديث المتقدم «الولد للفراش». ودليل الجمهور: أن المرأة ليست بفراش إلا بإمكان الوطء، وهو مع الدخول. ودليل إجماع العلماء على أقل مدة الحمل: العمل بمجموع آيتين في القرآن ¬
أكثر مدة الحمل
الكريم هما: {وحمله وفصاله ثلاثون شهراً} [الأحقاف:15/ 46] {وفصاله في عامين} [لقمان:14/ 31] فالآية الأولى حددت الحمل والفصال، أي الفطام بثلاثين شهراً، وحددت الآية الثانية الفصال بعامين، فبإسقاط مدة العامين للفصال تكون مدة الحمل ستة أشهر، والواقع والطب يؤيدان ذلك. وروي أن رجلاً تزوج، فولدت امرأته لستة أشهر من وقت الزواج، فرفع الأمر إلى عثمان رضي الله عنه، فهمَّ برجمها، فقال ابن عباس: «أما إنها لو خاصمتكم إلى كتاب الله لخصمتكم ـ أي غلبتكم ـ قال الله تعالى: {وحمله وفصاله ثلاثون شهراً} وقال: {وفصاله في عامين}، فلم يبق للحمل إلا ستة أشهر، فأخذ عثمان بقوله، ودرأ عنها الحد (¬1). وأما أكثر مدة الحمل: ففيه للعلماء أقوال (¬2) أشهرها ما يأتي: 1ً - سنتان وهو رأي الحنفية، لقول عائشة رضي الله عنها: «لا يبقى الولد في رحم أمه أكثر من سنتين، ولو بفلكة مغزل» (¬3) فإن ولد الحمل لسنتين من يوم موت الزوج أو طلاقه، ثبت نسبه من أبيه المطلّق أو الميت. 2ً - أربع سنين، وهو رأي الشافعية والحنابلة؛ لأن ما لا نص فيه يرجع فيه إلى الوجود، وقد وجد الحمل لأربع سنين؛ لأن نساء بني عجلان يحملن أربع سنين، كما قال الإمامان أحمد والشافعي، وكما ذكر سابقاً. ¬
فإذا ولدت المرأة لأربع سنين فما دون من يوم موت الزوج أو طلاقه، ولم تكن تزوجت، ولا وطئت، ولا انقضت عدتها بالقروء ولا بوضع الحمل، فإن الولد لا حق بالزوج، وعدتها منقضية بوضعه. وإن أتت بالولد لأربع سنين منذ مات أو بانت منه بطلاق أو فسخ، أو انقضاء عدتها إن كانت رجعية، لم يلحقه ولدها؛ لأننا نعلم أنها علقت به بعد زوال النكاح، والبينونة منه. 3ً - خمس سنين: وهو المشهور عن المالكية والليث بن سعد وعباد بن العوام، قال مالك: بلغني عن امرأة حملت سبع سنين. 4ً - سنة قمرية: هو رأي محمد بن عبد الحكم من المالكية. 5ً - تسعة أشهر قمرية: وهو رأي ابن حزم الظاهري، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه. ويظهر أن الأقوال الثلاثة الأولى روعي فيها إخبار بعض النساء، اللاتي ترين أن انتفاخ البطن علامة الحمل. لذا قال ابن رشد: «وهذه المسألة مرجوع فيها إلى العادة والتجربة، وقول ابن عبد الحكم والظاهرية هو أقرب إلى المعتاد، والحكم إنما يجب بالمعتاد، لا بالنادر، ولعله أن يكون مستحيلاً». وقد رئي في القوانين المعمول بها الاعتماد على رأي الأطباء، فاعتبر أقصى مدة الحمل سنة شمسية (365 يوماً) ليشمل كل الحالات النادرة. نصت المادة (128) من القانون السوري على أن: «أقل مدة الحمل مائة وثمانون يوماً، وأكثرها سنة شمسية» وكو أقل الحمل (180) يوماً هو رأي الجمهور، وخالفهم المالكية فقد روها بـ (175) يوماً؛ لأن الأشهر الهلالية قد يتوالى منها ثلاثة أشهر بمقدار (29) يوماً، ويجوز أن يليهما شهران ناقصان أيضاً، فتكون أيام الأشهر الستة (175) يوماً.
الخلاف في الولادة وتعيين المولود
ونصت المادة (15) من القانون المصري رقم (25 لسنة 1929) على أنه: «لا تسمع عند الإنكار دعوى النسب لولد زوجة ثبت عدم التلاقي بينهما وبين زوجها من حين العقد، ولا لولد زوجة به بعد سنة من غيبتة الزوج عنها، ولا لولد المطلَّقة والمتوفى عنها زوجها إذا أتت به لأكثر من سنة من وقت الطلاق أو الوفاة». وأخذ بهذا التقرير في كل من تونس والمغرب وغيرهما. الخلاف في الولادة وتعيين المولود: قد يقع اختلاف بين الزوجين في ولادة المعتدة أو في تعيين المولود أثناء المدة التي يثبت فيها النسب (¬1). أما الخلاف في ولادة المعتدة: فهو أن تدعي المعتدة ولادة ولد خلال المدة التي يثبت فيها النسب، وينكر الزوج قائلاً: إنها لم تلد، وهذا الولد لقيط، فلا يثبت نسبه منه عند أبي حنيفة إلا إذا شهد بولادتها رجلان، أو رجل وامرأتان؛ لأن عدتها انقضت بإقرارها بوضع الحمل، فاحتيج إلى إثبات النسب، بنحو مستقل في القضاء، ولا يثبت إلا بحجة كاملة. وقال الصاحبان: يثبت النسب بشهادة امرأة واحدة، لأن الفراش: وهو تعين المرأة لماء الزوج، بحيث يثبت منه نسب كل ولد تلده، قائم بقيام العدة، وقيام الفواش ملزم للنسب، فلا حاجة لإثباته، وإنما الحاجة إلى تعيين الولد، وهو يحصل بشهادة امرأة واحدة، كما في حال قيام الزواج أو ظهور الحبل أو إقرار الزوج به. وهذا هو المعمول به في محاكم مصر؛ لأن المرأة ما دامت في العدة فإن سبب ثبوت النسب قائم. ¬
الاختلاف بين الزوجين في تعيين المولود
واتفق الإمام أبو حنيفة وصاحباه على أنه إذا كان هناك حبل ظاهر، أو اعتراف من الزوج بالولد أو الحبل، أو كان الزوج قائماً، فيثبت النسب من الزوج بلا شهادة، والقول قول المرأة في الولادة بيمينها. وأما الاختلاف بين الزوجين في تعيين المولود: فهو أن يعترف الزوج بالولادة، ولكنه ينكر شخص المولود، بأن يقول: إنها ولدت بنتاً، وهذا الولد غلام. فيتعين المولود بشهادة امرأة واحدة باتفاق الحنفية وهو رأي الحنابلة أيضاً، لما رواه الدارقطني عن حذيفة «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أجازشهادة القابلة»، ولما رواه ابن أبي شيبة وعد الرزاق عن الزهري قال: «مضت السنة أن تجوز شهادة النساء فيما لا يطلع عليه غيرهن من ولادات النساء وعيوبهن» (¬1). وقال المالكية: تعيين المولود كالولادة لا يثبت إلا بشهادة امرأتين. ورأى الشافعية: أن أمور النساء لا يكفي فيها أقل من أربع نسوة، لأن الله عز وجل جعل مكان الرجل الواحد شهادة امرأتين. إثبات نسب الولد بالقيافة: إذا تزوجت المعتدة بزوج آخر في أثناء عدتها من زوج سابق، وأت بولد يمكن أن يكون منهما، فمن الذي يلحق به؟ وإذا ادعى رجلان أو ثلاثة لقيطاً، فمن الذي يحكم له به؟ هل يمكن إثبات نسب الولد في هاتين الحالتين بالقيافة أو بالقافة؟ والقيافة: تتبع الأثر، والقافة عند العرب: هم قوم كانت عندهم معرفة بفصول تشابه الناس. ¬
اختلف الفقهاء على رأيين في الاعتماد على القافة (¬1): فرأى الحنفية: أن الأصل ألا يحكم لأحد المتنازعين في الولد، إلا أن يكون هناك فراش (¬2)، لقوله عليه الصلاة والسلام: «الولد للفراش» فإن عدم الفراش أو اشتركا في الفراش، كان الولد بينهما، ولا يعمل بقول القائف، بل يحكم بالولد الذي ادعاه اثنان لهما جميعاً. ورأي الجمهور وهم (مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور والأوزاعي): أنه يحكم بالقيافة، بدليل قول عائشة: «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم دخل عليَّ مسروراً، تبرُق أسارير وجهه، فقال: ألم تري أن مُجَزِّزاً (¬3) نظر إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض» (¬4) ففيه دليل على ثبوت العمل بالقافة. وأثبت عمر بن الخطاب وابن عباس وأنس بن مالك الحكم بالقافة، فكان عمر يليط (¬5) أولاد الجاهلية بمن استلاطهم ـ أي بمن ادعاهم في الإسلام ـ فأتى رجلان كلاهما يدعي ولد امرأة، فدعا قائفاً، فنظر إليه، فقال القائف: لقد اشتركا فيها، فضربه عمر بالدِّرة، ثم دعا المرأة، فقال: أخبريني بخبرك، فقالت: كان هذا لأحد الرجلين، يأتي في إبل لأهلها، فلا يفارقها حتى يُظن، ونظن أنه قد استمر ¬
أسباب ثبوت النسب من الأب
بها حمل، ثم انصرف عنها، فأهريقت عليه دماً، ثم خلف هذا عليها، تعني الآخر، فلا أدري أيهما هو، فكبر القائف، فقال عمر للغلام: والِ أيهما شئت (¬1) قالوا: فقضاء عمر بمحضر من الصحابة بالقافة من غير إنكار من واحد منهم هو كالإجماع. أسباب ثبوت النسب من الأب: سبب ثبوت نسب الولد من أمه: هو الولادة، شرعية كانت أم غير شرعية، كما قدمنا، وأما أسباب ثبوت النسب من الأب فهي: 1 - الزواج الصحيح. 2 - الزواج الفاسد: 3 - الوطء بشبهة. ونبين كل سبب على حدة فيما يأتي: أولاً ـ الزواج الصحيح: اتفق الفقهاء على أن الولد الذي تأتي به المرأة المتزوجة زواجاً صحيحاً ينسب إلى زوجها، للحديث المتقدم: «الولد للفراش»، والمراد بالفراش: المرأة التي يستفرشها الرجل ويستمتع بها. وذلك ب الشروط الآتية (¬2): الشرط الأول ـ أن يكون الزوج ممن يتصور منه الحمل عادة، بأن يكون بالغاً ¬
الشرط الثاني ـ أن يلد الولد بعد ستة أشهر من وقت الزواج
في رأي المالكية والشافعية، ومثله في رأي الحنفية والحنابلة المراهق: وهو عند الحنفية من بلغ اثنتي عشرة سنة، وعند الحنابلة: من بلغ عشر سنوات، فلا يثبت النسب من الصغير غير البالغ، حتى ولو ولدته أمه لأكثر من ستة أشهر من تاريخ عقد الزواج. ولا يثبت النسب في رأي المالكية من المجبوب الممسوح: وهو الذي قطع عضوه التناسلي وأنثياه. أما الخصي: وهو من قطعت أنثياه أو اليسرى فقط، فيرجع في شأنه للأطباء المختصين، فإن قالوا: يولد له، ثبت النسب منه، وإن قالوا: لا يولد له لا يثبت النسب منه. ويثبت النسب في رأي الشافعية والحنابلة (¬1) من المجبوب الذي بقي أنثياه فقط، ومن الخصي الذي سُلَّت خصيتاه وبقي ذكره، ولا يثبت من الممسوح المقطوع جميع ذكره وأنثييه. الشرط الثاني ـ أن يلد الولد بعد ستة أشهر من وقت الزواج في رأي الحنفية، ومن إمكان الوطء بعد الزواج في رأي الجمهور، فإن ولد لأقل من الحد الأدنى لمدة الحمل وهي ستة أشهر، لا يثبت نسبه من الزوج اتفاقاً، وكان دليلاً على أن الحمل به حدث قبل الزواج، إلا إذا ادعاه الزوج، ويحمل ادعاؤه على أن المرأة حملت به قبل العقد عليها، إما بناء على عقد آخر، وإما بناء على عقد فاسد أو وطء بشبهة، مراعاة لمصلحة الولد، وستراً للأعراض بقدر الإمكان. الشرط الثالث ـ إمكان تلاقي الزوجين بعد العقد: وهذا شرط متفق عليه، وإنما الخلاف في المراد به أهو الإمكان والتصور العقلي، أو الإمكان الفعلي والعادي؟ ¬
موقف القانون من هذا السبب
قال الحنفية: الحق أن التصور والإمكان العقلي شرط، فمتى أمكن التقاء الزوجين عقلاً ثبت نسب الولد من الزوج إن ولدته الزوجة لستة أشهر من تاريخ العقد، حتى ولو لم يثبت التلاقي حساً. فلو تزوج مشرقي مغربية، ولم يلتقيا في الظاهر مدة سنة، فولدت ولداً لستة أشهر من تاريخ الزواج، ثبت النسب، لاحتمال تلاقيهما من باب الكرامة، وكرامات الأولياء حق، فتظهر الكرامة بقطع المسافة البعيدة في المدة القليلة، ويكون الزوج من أهل الخطوة الذين تطوى لهم المسافات البعيدة. وفي رأيي أن هذا التعليل غير مقبول عادة، والصحيح أن الحنفية يثبتون النسب من تاريخ العقد، عملاً بحديث «الولد للفراش» وإن لم يتحقق إمكان الوطء أو الدخول. وفي هذا احتياط للولد وعدم ضياعه وستر على العِرْض، ومنع من وقوع مشكلة اللقطاء، فألحق الولد بمن له زوجية صحيحة. فإن تيقين الزوج أن الولد ليس منه فله أن ينفيه باللعان. ورفض الأئمة الثلاثة هذا المنطق، وقالوا: يشترط إمكان التلاقي بالفعل أو الحس والعادة، وإمكان الوطء والدخول، لأن الإمكان العقلي نادر ولا يصح أن يكون له دور في نطاق العقود الظاهرة، والأحكام إنما تنبني على الكثير الغالب والظاهر المشاهد، لا القليل النادر، أو الخفي غير المحتمل عادة، فلو تأكد عدم اللقاء بين الزوجين فعلاً، لم يثبت نسب الولد من الزوج، كما لو كان أحد الزوجين سجيناً أو غائباً في بلد بعيد غيبة امتدت إلى أكثر من أقصى مدة الحمل، لذا أخذت القوانين بهذا الرأي، وهو الصحيح لاتفاقه مع قواعد الشريعة والعقل. وفائدة الخلاف: أن الولد لا ينتفي نسبه في رأي الحنفية إلا باللعان، وينتفي بدون لعان في رأي الجمهور، لعدم إمكان التلاقي بين الزوجين عادة. موقف القانون من هذا السبب: نص القانون السوري م (129) على مايلي:
وقت ثبوت النسب بعد الفرقة من زواج صحيح
1 - ولد كل زوجة في النكاح الصحيح ينسب إلى زوجها بالشرطين التاليين: أـ أن يمضي على عقد الزواج أقل مدة الحمل. ب ـ ألا يثبت عدم التلاقي بين الزوجين بصورة محسوسة، كما لو كان أحد الزوجين سجيناً أو غائباً في بلد بعيد أكثر من مدة الحمل. 2 - إذا انتفى أحد هذين الشرطين لا يثبت نسب الولد من الزوج إلا إذا أقر به أوادعاه. 3 - إذا توافر هذان الشرطان لا ينفى نسب المولود عن الزوج إلا باللعان. وقضى القانون المصري رقم (25) لسنة 1929 في المادة (15) بمنع القضاة من سماع دعوى نسب الولد في حالة الإنكار إذا ثبت عدم التلاقي بين الزوجين وزوجته من حين العقد إلى الولادة، كما قضى بمنعهم من سماع مثل هذه الدعوى إذا أتت الزوجة بالولد بعد سنة من غيبة الزوج عنها. وقت ثبوت النسب بعد الفرقة من زواج صحيح: الفرقة إما أن تكون قبل الدخول أو بعد الدخول: أـ إذا طلق الرجل زوجته قبل الدخول والخلوة، ثم ولدت ولداً بعد الطلاق، فإن أتت به قبل مضي ستة أشهر من تاريخ الطلاق، ثبت نسبه من الزوج، للتيقن بأنها حملت به قبل الفرقة. وإن أتت به بعد مضي ستة أشهر أو أكثر من تاريخ الطلاق، فلا يثبت نسبه من الزوج، إذ لا نتيقن بحدوث الحمل قبل حصول الفرقة.
ب ـ وإذا طلق الرجل زوجته بعد الدخول أو الخلوة، سواء كان الطلاق رجعياً أو بائناً، أو مات عنها: فإن أتت المرأة بولد بعد الطلاق أو الوفاة، ثبت نسبه من الزوج، إذا ولدته قبل مضي أقصى مدة الحمل من يوم الطلاق أو الوفاة. وأقصى مدة الحمل هي كما تقدم أربع سنين في رأي الشافعية والحنابلة، وسنتان في رأي الحنفية، وخمس سنوات في المشهور لدى المالكية. أما إن ولدته بعد مضي أقصى مدة الحمل من يوم الطلاق أو الوفاة فلا يثبت نسبه من الزوج المطلق أو المتوفى. وهذا رأي الجمهور. وفصَّل الحنفية بين الطلاق الرجعي والطلاق البائن، فقالوا: أـ إن كان الطلاق رجعياً، ولم تقر المرأة بانقضاء عدتها، ثبت نسب الولد من الزوج، سواء أتت به قبل مضي سنتين من تاريخ الطلاق أو بعد مضي سنتين أو أكثر؛ لأن الطلاق الرجعي لا يحرم المرأة على زوجها، فيجوز له الاستمتاع بها، ويكون ذلك رجعة. فإن أقرت بانقضاء العدة، وكانت المدة تحتمل انقضاءها، بأن كانت ستين يوماً في رأي أبي حنيفة، وتسعة وثلاثين يوماً في رأي الصاحبين، فلا يثبت نسب الولد من الزوج إلا إذا كانت المدة بين الإقرار والولادة أقل من ستة أشهر لتبين كذبها أو خطئها في إقرارها. فإن كانت ستة أشهر فأكثر، فلا يثبت نسبه من الزوج إلا إذا ادعاه. ب ـ وإن كان الطلاق بائناً أو كانت الفرقة بسبب وفاة الزوج، ولم تقر بانقضاء العدة، فلا يثبت نسب الولد إلا إذا أتت به قبل مضي سنتين من تاريخ الطلاق أو الوفاة؛ لأن أقصى مدة الحمل عندهم سنتان. فإن أتت به في هذه المدة،
موقف القانون
وكان هناك احتمال بأنها حملت به بعد مضي هذه المدة، لم يكن هناك احتمال بأنها حملت به قبل الطلاق أو الوفاة. أما إن أقرت بانقضاء العدة، والمدة تحتمل انتهاء العدة فيها، فلا يثبت نسب الولد من الزوج إلا إذا جاء به قبل مضي ستة أشهر من وقت الإقرار، وكانت المدة بين الطلاق والولادة أقل من سنتين. موقف القانون: أخذ القانون السوري بهذا التفصيل من حيث المبدأ في المادتين (130، 131) لبيان نسب الولد بعد الفرقة أو وفاة الزوج. فقرر أنه إذا ولدت المطلقة من طلاق رجعي أو بائن أو المتوفى عنها زوجها، فإما أن تكون أقرت بانقضاء عدتها أو لم تقر. أـ فإذا كانت قد أقرت بانقضاء عدتها، ثم جاءت بولد، يثبت نسبه من الزوج إذا ولد لأقل من ستة أشهر، أي (180) يوماً من وقت الإقرار بانقضاء العدة، وأقل من سنة شمسية من وقت الطلاق أو الموت، لتبين كذبها في الإقرار بانقضاء العدة (م131). ب ـ وإن لم تكن أقرت بانقضاء العدة، ثبت نسب ولدها من زوجها إذا ولدته خلال سنة من تاريخ الطلاق أو الوفاة. ولا يثبت إذا ولدته لأكثر من سنة إلا إذا ادعاه زوج المطلَّقة، أو ادعاه ورثة المتوفى (م130). وهذا هو نفس المقرر في القانون المصري رقم (25) لسنة 1929. ثانياً ـ الزواج الفاسد: الزواج الفاسد في إثبات النسب كالزواج الصحيح (¬1)؛ لأن النسب يحتاط ¬
يشترط لثبوت النسب بالزواج الفاسد
في إثباته إحياء للولد ومحافظة عليه. ويشترط لثبوت النسب بالزواج الفاسد ثلاثة شروط: 1 ً - أن يكون الرجل ممن يتصور منه الحمل: بأن يكون بالغاً عند المالكية والشافعية، أو بالغاً أو مراهقاً عند الحنفية والحنابلة. 2 ً - تحقق الدخول بالمرأة أو الخلوة بها في رأي المالكية: فإن لم يحصل الدخول أو الخلوة بعد زواج فاسد، لم يثبت نسب الولد، والخلوة في الزواج الفاسد كالخلوة في الزواج الصحيح، لإمكان الوطء في كل منهما. واشترط الحنفية حصول الدخول فقط، أما الخلوة فلا تكفي في ثبوت النسب بالزواج الفاسد؛ لأنه لا يحل فيها الوطء بين الرجل والمرأة. 3 ً - أن تلد المرأة بعد ستة أشهر أو أكثر من تاريخ الدخول أو الخلوة عند المالكية، ومن تاريخ الدخول عند الحنفية. فلو ولدت المرأة ولداً قبل مضي ستة أشهر من الدخول والخلوة عند الأولين لا يثبت نسبه من الرجل؛ لأنه يدل على وجوده قبل ذلك وأنه من رجل آخر. وإذا ولدته المرأة بعد ستة أشهر أو أكثر من تاريخ الدخول أو الخلوة، ثبت نسبه من الرجل. ولا ينتفي نسبه عن الرجل إلا باللعان في رأي المالكية والشافعية والحنابلة (¬1). ولا ينتفي نسبه ولو باللعان في رأي الحنفية؛ لأن اللعان لا يصح عند الحنفية إلا بعد زواج صحيح، والزواج هنا فاسد. والمقرر عند المالكية: أن كل نكاح يدرأ فيه الحد، فالولد لاحق بالواطئ، وحيث وجب الحد لا يلحق النسب (¬2). ¬
وقت ثبوت النسب بعد الفرقة من زواج فاسد
وقت ثبوت النسب بعد الفرقة من زواج فاسد: إذا حدثت الفرقة بعد زواج فاسد بالمتاركة أو تفريق القاضي بعد الدخول، أو الخلوة في رأي المالكية، ثم ولدت المرأة قبل مضي أقصى مدة الحمل من تاريخ الفرقة، ثبت نسبه من الرجل. وإن ولدته بعد مضي أقصى مدة الحمل، لا يثبت نسبه منه. وأقصى مدة الحمل كما سبق هي أربع سنين في رأي الشافعية والحنابلة، وخمس سنين في رأي المالكية، وسنتان في رأي الحنفية، وسنة شمسية لدى القانونيين والأطباء. موقف القانون: نص القانون السوري على ثبوت النسب في الزواج الفاسد في المادة (132) التالية، أخذاً بالمذهب الحنفي: 1 - المولود من زواج فاسد بعد الدخول إذا ولد لمئة وثمانين يوماً فأكثر من تاريخ الدخول، ثبت نسبه من الزوج. 2 - إذا كانت ولادته بعد متاركة أو تفريق، لا يثبت نسبه إلا إذا جاءت به خلال سنة من تاريخ المتاركة أو التفريق. ثالثاً ـ الوطء بشبهة: الوطء بشبهة: هو الاتصال الجنسي غير الزنا، وليس بناء على عقد زواج صحيح أو فاسد، مثل المرأة المزفوفة إلى بيت زوجها دون رؤية سابقة، وقيل: إنها زوجته، فيدخل بها. ومثل وطء امرأة يجدها الرجل على فراشه، فيظنها زوجته. ومثل وطء المطلقة طلاقاً ثلاثاً أثناء العدة، على اعتقاد أنها تحل له. فإن أتت المرأة بولد بعد مضي ستة أشهر أو أكثر من وقت الوطء، ثبت نسبه من الواطئ لتأكد أن الحمل منه. وإن أتت به قبل مضي ستة أشهر لا يثبت النسب
موقف القانون
منه، لتأكد أن الحمل حدث قبل ذلك، إلا أنه إذا ادعاه ثبت نسبه منه، إذ قد يكون وطئها قبل ذلك بشبهة أخرى (¬1). وإذا ترك الرجل الموطوءة عن شبهة، ثبت النسب من الواطئ، كما يثبت بعد الفرقة من زواج فاسد. أما إن حدث الوطء بغير شبهة وإنما بالزنا، فلا يثبت نسب الولد من الزاني، للحديث المتقدم، «الولد للفراش وللعاهر الحجر» ولأن الزنا محظور شرعاً، فلا يكون سبباً لنعمة النسب. موقف القانون: نص القانون السوري على ثبوت النسب بالدخول بشبهة في المادة (133) التالية: 1 ـ الموطوءة بشبهة إذا جاءت بولد ما بين أقل مدة الحمل وأكثرها، يثبت نسبه من الواطئ. 2 - متى ثبت النسب ولو بنكاح فاسد أو بشبهة، ترتب عليه جميع نتائج القرابة، فيمنع النكاح في الدرجات الممنوعة، وتستحق به نفقة القرابة والإرث. آثار النسب: أوضحت الفقرة الثانية من هذه المادة آثار ثبوت النسب، فإذا ثبت النسب، ولو من نكاح فاسد أو وطء بشبهة، ترتب عليه جميع نتائج القرابة، فيمنع الزواج في الدرجات الممنوعة، وتستحق به نفقة القرابة، ويستحق به الإرث. وكان ينبغي إفراد هذه الفقرة بمادة مستقلة، لشمولها جميع أسباب ثبوت النسب من زواج صحيح أو فاسد أو بشبهة. ¬
المبحث الثاني ـ طرق إثبات النسب
المبحث الثاني ـ طرق إثبات النسب: يثبت النسب بأحد طرق ثلاثة وهي (¬1): 1ً - الزواج الصحيح أو الفاسد. 2ً - الإقرار بالنسب. 3ً - البينة. الطريق الأول ـ الزواج الصحيح أو الفاسد: الزواج الصحيح أو الفاسد سبب لإثبات النسب، وطريق لثبوته في الواقع، متى ثبت الزواج ولو كان فاسداً، أو كان زواجاً عرفياً، أي منعقداً بطريق عقد خاص دون تسجيل في سجلات الزواج الرسمية، يثبت به نسب كل ما تأتي به المرأة من أولاد. الطريق الثاني ـ الإقرار بالنسب أوادعاء الولد: الإقرار بالنسب نوعان: إقرار على نفس المقر، وإقرار محمول على غير المقر. أما الإقرار بالنسب على نفس المقر: فهو أن الأب بالولد أو الابن بالوالد، كأن يقول: هذا ابني، أو هذا أبي، أو هذه أمي. ويصح هذا الإقرار من الرجل ولو في مرض الموت، بشروط أربعة متفق على أغلبها بين المذاهب، وهي ما يأتي، وقد ذكرتها في بحث الإقرار، وأعيدها هنا: ¬
1 ً - أن يكون المقر به مجهول النسب: بأن لا يكون معروف النسب من أب آخر، فإن كان ثابت النسب من أب معروف غير المقر، كان هذا الإقرار باطلاً؛ لأن الشرع قاض بثبوت النسب من ذلك الأب، ومتى تأكد ثبوت النسب من شخص، لا يقبل الانتقال منه إلى غيره، فقد لعن النبي صلّى الله عليه وسلم من انتسب إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه. ومجهول النسب عند بعض الحنفية: هو الذي لا يعلم له أب في البلد الذي ولد فيه. وهذا هو الظاهر الآن مع سهولة المواصلات والبحث عن بلد الميلاد. واستثنى العلماء من هذا الشرط ولد اللعان، فإنه لا يصح ادعاؤه بالنسب وإلحاقه بغير الأب الملاعن، لاحتمال أن يرجع الملاعن ويكذب نفسه فيما ادعاه من أن الولد ليس منه. 2ً - أن يصدقه الحس: بأن يكون المقر به محتمل الثبوت من نسب المقر، بأن يكون ممن يولد مثل المقر به لمثل المقر، وذلك في سن تسمح بأن يكون ابناً للمقر. فلو كان المقر ببنوته أكبر من المقر أو مساوياً له في السن أو مقارباً، بحيث لا يمكن أن يكون ابناً للمقر عادة، لم يصح إقراره؛ لأن الحس أو الواقع يكذبه في هذا الإقرار، فمن قال لغلام: هذا ابني، وكان سن الغلام عشر سنوات، وسن المقر عشرين سنة، لم يعتبر هذا الإقرار عند الحنفية؛ لأن الغلام لا يولد له في رأيهم قبل بلوغ سن الثانية عشرة. وكذلك إذا نازع المقر منازع آخر غيره، لم يثبت نسبه؛ لأنه إذا نازعه فيه غيره تعارض الإقراران، فلم يكن إلحاقه بأحدهما أولى من الآخر. 3ً - أن يصدقه المقر له في إقراره إن كان أهلاً للتصديق، بأن يكون بالغاً عاقلاً عند الجمهور، ومميزاً عند الحنفية؛ لأن الإقرار حجة قاصرة على المقر، فلا تتعداه
إلى غيره إلا ببينة، أو تصديق من الغير. فإن كان المقر به صغيراً أو مجنوناً، فلا يشترط تصديقهما؛ لأنهما ليسا بأهل للإقرار أو التصديق. وقال المالكية: ليس تصديق المقر به شرطاً لثبوت النسب من المقر؛ لأن النسب حق للولد على الأب، فيثبت بإقراره بدون توقف على تصديق منه، إذا لم يقم دليل على كذب المقر. 4ً - ألا يكون فيه حمل النسب على الغير: سواء كذبه المقر له أو صدقه؛ لأن إقرار الإنسان حجة قاصرة على نفسه، لا على غيره؛ لأنه على غيره شهادة أو دعوى، وشهادة الفرد فيما لا يطلع عليه الرجال غير مقبولة، والدعوى المفردة ليست بحجة. وبناء عليه إذا كان المقر ببنوة الغلام زوجة أو معتدة، فيشترط مع ما ذكر أن يوافق زوجها على الاعتراف ببنوته له أيضاً، أوأن تثبت ولادتها له من ذلك الزوج؛ لأن فيه تحميل النسب على الغير، فلا يقبل إلا بتصديقه أو ببينة. ويبطل الإقرار إن صرح المقر في إقراره بأن الولد ابنه من الزنا؛ لأن الزنا لا يصلح سبباً لإثبات النسب، إذ النسب نعمة فلا تنال بالمحظور. فإذا استوفى الإقرار بالبنوة أو الأبوة هذه الشروط، صح وثبت به نسب المقر له من المقر، وترتب عليه الإرث الشرعي. وإذا صح الإقرار لا يملك المقر الرجوع فيه بعدئذ؛ لأن النسب إذا ثبت لا يبطل بالرجوع. وقد اشترط الحنفية لصحة الإقرار بالنسب أيضاً حياة الولد، فلو أقر شخص بأن فلاناً ابنه، وكان المقر له بالبنوة ميتاً، لم يصح هذا الإقرار، ولا يثبت به النسب؛ إذ لا حاجة بعد الوفاة لإثبات النسب؛ لأنه لا يحتاج الميت إلى تكريم ولا
الإقرار بنسب محمول على الغير
تشريف. لكن استثنى الحنفية منه ما إذا كان للابن المتوفى أولاد، فإن الإقرار بنسبه بعد وفاته، يكون صحيحاً، رعاية لمصلحة هؤلاء الأولاد؛ لأنه يحتاجون إلى ثبوت نسب أبيهم، وفي ثبوت نسبه شرف لهم وتكريم. ولم يشترط المالكية حياة الولد المقر به؛ لأن النسب حق للولد على أبيه، فلا يتوقف إثباته على حياة الولد، كما لا يتوقف على تصديقه، إلا أن الأب لا يرث الابن الذي استلحقه إلا إذا كان له ولد، أو كان المال قليلاً، حتى لا يتهم الأب بأن إقراره لأجل أخذ المال الكثير. والشروط السابقة تشترط أيضاً في الإقرار بنسب على الغير، ما عدا الشرط الأخير. وقال الشافعية والحنابلة: يثبت النسب بالإقرار على الغير بالشروط السابقة، وبشرط كون المقر جميع الورثة، وبشرط كون الملحق به النسب ميتاً، فلا يلحق بالحي ولو كان مجنوناً، لاستحالة ثبوت نسب الشخص ـ مع وجوده حياً ـ بقول غيره. وأما الإقرار بنسب محمول على الغير: فهو الإقرار بما يتفرع عن أصل النسب، كأن يقر إنسان فيقول: هذا أخي، أوهذا عمي، أو هذا جدي، أو هذا ابن ابني. ويصح بالشروط السابقة، ويزاد عليها شرط آخر، وهو تصديق الغير، فإذا قال إنسان: هذا أخي، يشترط لثبوت نسبه عندا لحنفية أن يصدقه أبوه فيه، أو تقوم البينة على صحة الإقرار، أو يصدقه اثنان من الورثة إن كان الغير ميتاً؛ لأن الإقرار حجة قاصرة على المقر، لولايته على نفسه دون غيره.
موقف القانون
فإن لم يصدقه الغير أو لم يصدقه اثنان من الورثة، أو لم تقم بينة على صحة الإقرار، يعامل المقر بمقتضى إقراره في حق نفسه، فتجب عليه نفقة المقر له إن كان عاجزاً فقيراً، وكان المقر موسراً، ويشارك المقر له المقر في حصته التي يرثها من تركة أبيه. هذا رأي الحنفية. وقال المالكية: يأخذ المقر له بالأخوة المقدار الذي نقص من حصة المقر بسبب إقراره. فإذا أقر ولد بأخوة آخر، وأنكره الولد الآخر، أخذ المنكر نصف التركة، وشارك المقر له في النصف الآخر عند الحنفية. وأما عند المالكية فيأخذ المنكر نصيبه كاملاً، ويأخذ المقر له ما نقص من نصيب المقر على فرض أن التركة توزع على ثلاثة. فلو كانت التركة (12) ديناراً مثلاً، أخذ المقر له على رأي الحنفية (3) دنانير كنصيب المقر، وعلى رأي المالكية أخذ دينارين ويكون للمنكر (6)، وللمقر (4) لأن التركة توزع على ثلاثة، ففي حال عدم وجود المقر له يكون للمقر (6)، وفي حال وجوده يكون له (4)، فما نقص من نصيبه وهو (2) يأخذه المقر له. وإذا صح الإقرار بالنسب لإنسان، شارك الورثة في الميراث. وإن لم يصدقه الغير، ومات المقر، ورث منه المقر له، كباقي ورثته. موقف القانون: نص القانون السوري على الإقرار بالنسب. نصت المادة (1/ 134) على شرط كون المقر به مجهول النسب وشرط تصديق الحس، ونصها:
نوع البينة في إثبات النسب على الغير
الإقرار بالبنوة ولو في مرض الموت لمجهول النسب، يثبت به النسب من المقر إذا كان فرق السن بينهما يحتمل هذه البنوة. والفقرة الثانية من هذه المادة نصت على حالة إقرار الزوجة: 2 - إذا كان المقر امرأة متزوجة أو معتدة، لا يثبت نسب الولد من زوجها إلا بمصادقته أو بالبينة. ونصت المادة (135) على شرط تصديق الغير وشرط تصديق الحس أيضاً: إقرار مجهول النسب بالأبوة أو بالأمومة يثبت به النسب إذا صادقه المقر له، وكان فرق السن بينهما يحتمل ذلك. ونصت المادة (136) على حالة الإقرار بنسب محمول على الغير: الإقرار بالنسب في غير البنوة والأبوة والأمومة لا يسري على غير المقر إلا بتصديقه. نوع البينة في إثبات النسب على الغير: إثبات النسب على الغير كهذا أخي أو عمي قد يكون بالبينة، وهي عند أبي حنيفة ومحمد: إقرار رجلين أو رجل وامرأتين، كالشهادة. ويرى مالك: أنه لا يثبت النسب على الغير إلا بإقرار اثنين؛ لأنه يحمل النسب على غيره، فاعتبر فيه العدد كالشهادة. وقال الشافعي وأحمد وأبو يوسف: إن أقر جميع الورثة بنسب من يشاركهم في الإرث، ثبت نسبه، حتى ولو كان الوارث واحداً ذكراً أو أنثى؛ لأن النسب حق يثبت بالإقرار، فلم يطلب فيه العدد كالدين، ولأن الإقرار قول لا تشترط فيه عدالة، فلم يصح قياسه على الشهادة.
الفرق بين الإقرار بالنسب وبين التبني
الفرق بين الإقرار بالنسب وبين التبني: ليس الإقرار بالنسب هو التبني المعروف؛ لأن الإقرار لا ينشئ النسب وإنما هو طريق لإثباته وظهوره. أما التبني فهو تصرف منشئ لنسب. ولأن البنوة التي تثبت بالتبني تتحقق ولو كان للمتبنى أب معروف، أما البنوة التي تثبت بالإقرار فلا تتحقق إلا إذا لم يكن للولد أب معروف. الطريق الثالث ـ البينة: البينة حجة متعدية لا يقتصر أثرها على المدعى عليه، بل يثبت في حقه وحق غيره، أما الإقرار فهو كما عرفنا حجة قاصرة على المقر لاتتعداه إلى غيره. وثبوت النسب بالبينة أقوى من الإقرار؛ لأن البينة أقوى الأدلة اليوم؛ لأن النسب وإن ظهر بالإقرار لكنه غير مؤكد، فاحتمل البطلان بالبينة. ونوع البينة التي يثبت بها النسب كما سبق: هي شهادة رجلين أو رجل وامرأتين عند أبي حنيفة ومحمد. وشهادة رجلين فقط عند المالكية، وجميع الورثة عند الشافعية والحنابلة وأبي يوسف. والشهادة تكون بمعاينة المشهود به أو سماعه، فإذا رأى الشاهد أو سمعه بنفسه، جاز له أن يشهد، وإذا لم يره أو يسمعه بنفسه، لا يحل له أن يشهد، لقوله صلّى الله عليه وسلم لشاهد: «ترى الشمس؟ قال: نعم، فقال: على مثلها فاشهد أو دع» (¬1). الشهادة بالتسامع لإثبات النسب: التسامع: استفاضة الخبر واشتهاره بين الناس، وقد اتفق فقهاء المذاهب ¬
الأربعة على جواز إثبات النسب بشهادة السماع، كما هو الشأن في الزواج أو الزفاف والدخول بالزوجة، والرضاع والولادة والوفاة (¬1). ودليلهم: أن هذه الأمور لا يطلع عليها إلا خواص الناس، فإذا لم تجز فيها الشهادة بالسماع، أدى إلى الحرج، وتعطيل الأحكام المترتبة عليها كالإرث وحرمة الزواج. لكن اختلف الفقهاء في بيان المراد من التسامع، فقال أبو حنيفة: هو أن تتواتر به الأخبار ليحصل للسامع نوع من اليقين. وقال الصاحبان: هو أن يخبر الشاهد رجلان عدلان أو عدل وامرأتان واختار قولهما بعض الفقهاء، بدليل أن القاضي يحكم بشهادة شاهدين، ولو لم ير المشهود به، أو يسمعه بنفسه. ويكفي الشاهد أن يقول: أشهد بكذا، ولا يقول: سمعت. وتوسط المالكية فقالوا: أن يكون المنقول عنه غير معين ولا محصور، بأن ينتشر المسموع به بين الناس العدول وغيرهم. واشترطوا أن يقول الشهود: سمعنا كذا، ونحوه. وقال الشافعية في الأرجح، والحنابلة في الأصح مثل قول أبي حنيفة: شرط التسامع سماع المشهود به من جمع كثير يؤمن تواطؤهم (أي توافقهم) على الكذب، بحيث يحصل به العلم (أي اليقين) أو الظن القوي بخبرهم. ولا يكفي الشاهد بالاستفاضة أن يقول: سمعت الناس يقولون كذا، وإن كانت شهادته مبنية عليها، بل يقول: أشهد أنه له، أو أنه ابنه مثلاً؛ لأنه قد يعلم خلاف ما سمع من الناس. ¬
الفصل الثاني: الرضاع
الفَصْلُ الثَّاني: الرّضاع آثرت هنا بحث كل ما يتعلق بالرضاع من أحكام؛ لأن الباحث يرتاح له، فأوضحت حق الولد في الرضاع وما يستتبعه من أحكام، وهذا ما يتعلق بهذا الباب المخصص لحقوق الأولاد، ثم بحثت تأثير الرضاع في تحريم الزواج بسبب القرابة الناشئة عنه، وما يستلزمه من طرق إثبات الرضاع. فكان هذا الفصل مشتملاً على مباحث ثلاثة: الأول ـ حق الولد الصغير في الرضاع. الثاني ـ شروط الرضاع المحرِّم للزواج. الثالث ـ ما يثبت به الرضاع. علماً بأن أركان الرضاع في اصطلاح الجمهور غير الحنفية ثلاثة: وهي مرضع، ولبن، ورضيع. المبحث الأول ـ حق الولد الصغير في الرضاع: فيه مطالب أربعة عن وجوب الإرضاع على الأم، واستحقاق أجرة الرضاع، وتقديم الأم على المتبرعة بالرضاع، والمكلف بأجرة الرضاع ومقدار الأجرة.
المطلب الأول ـ هل يجب الإرضاع على الأم؟
المطلب الأول ـ هل يجب الإرضاع على الأم؟ اتفق فقهاء الإسلام على أن الرضاع واجب على الأم ديانة تسأل عنه أمام الله تعالى حفاظاً على حياة الولد، سواء أكانت متزوجة بأبي الرضيع، أم مطلَّقة منه وانتهت عدتها. واختلفوا في وجوبه عليها قضاء، أيستطيع القاضي إجبارها عليه أم لا؟ قال المالكية بالوجوب قضاء، فتجبر عليه، وقال الجمهور بأنه مندوب لا تجبر عليه، ولها أن تمتنع إلا عند الضرورة (¬1)، ورضاع الولد على الأب وحده، وليس له إجبار أمه على رضاعه، سواء كانت من مرتبة أدنى أو شريفة، وسواء أكانت في حال الزوجية أم مطلقة. وجاء في المقدمات الممهدات لابن رشد المالكي: ويستحب للأم أن ترضع ولدها. ومنشأ الخلاف: كيفية فهم المراد من قوله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين، لمن أراد أن يتم الرضاعة ... } إلىقوله: {وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلَّمتم ما آتيتم بالمعروف} [سورة البقرة: 233/ 2]. ذهب المالكية: إلى أنه يجب على الأم إذا كانت زوجة أو معتدة من طلاق رجعي إرضاع ولدها، فلو امتنعت من إرضاعه بدون عذر، أجبرها القاضي، إلا المرأة الشريفة لثراء أو حسب فلا يجب عليها الإرضاع إن قبل الولد الرضاع من غيرها، فهم فهموا من الآية أنها أمر لكل والدة زوجة أو غيرها بالرضاع، وهو ¬
حق عليها، واستثنوا الشريفة بالعرف القائم على المصلحة. ولا يجب الإرضاع أيضاً على المطلقة طلاقاً بائناً، لقوله تعالى: {فإن أرضعن لكم، فآتوهن أجورهن} [الطلاق:6/ 65] فإن هذه الآية واردة في المطلقات طلاقاً بائناً. وقالوا: إن معنى قوله تعالى: {لاتضارّ والدة بولدها، ولا مولود له بولده} [البقرة:233/ 2] أن الأم لا تأبى أن ترضعه إضراراً بأبيه، ولا يحل للأب أن يمنع الأم من إرضاعه. وذلك كله عند الطلاق؛ لأن ذكر النهي عن الضرر جاء عند ذكر الطلاق، ولأن النفقة واجبة للمطلقة الرجعية لأجل بقاء النكاح في العدة، ولا تستوجب الأم زيادة على النفقة لأجل رضاعه. أما البائن فيجب لها أجر الرضاع بنص الآية السابقة. وورد في صحيح البخاري عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «تقول لك المرأة: أنفق عليَّ وإلا طلقني، ويقول لك العبد: أطعمني واستعملني، ويقول لك ابنك: أنفق علي، إلى من تكلني؟!». وذهب الجمهور إلى أن الآية أمر ندب وإرشاد من الله تعالى للوالدات أن يرضعن أولادهن، إلا إذا لم يقبل الولد ثدي غير الأم، بدليل قوله تعالى: {وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى} [الطلاق:6/ 65] وإنما ندب للأم إرضاع ولدها، لأن لبن الأم أصلح للطفل، وشفقة الأم عليه أكثر، ولأن الرضاع حق للأم، كما هو حق للوليد، ولا يجبر أحد على استيفاء حقه، إلا إذا وجد ما يستدعي الإجبار. ويفهم منه أن الفقهاء اتفقوا على وجوب الإرضاع على الأم في ثلاث حالات وهي:
استئجار المرضع
1ً - ألا يقبل الطفل الرضاع إلا من ثدي أمه، فيجب عندئذ إرضاعه إنقاذاً له من الهلاك، لتعين الأم، كما تجبر المرضعة على استدامة الإجارة بعد مضي مدتها، إذا لم يقبل ثدي غيرها. 2ً - ألا توجد مرضعة أخرى سواها، فيلزمها الإرضاع حفاظاً على حياته. 3ً - إذا عدم الأب لاختصاصها به، أو لم يوجد لأبيه ولا للولد مال لاستئجار مرضعة، فيجب عليها إرضاعه، لئلا يموت. وأوجب الشافعية على الأم إرضاع اللَّبَأ: وهو اللبن النازل أول الولادة؛ لأن الولد لا يعيش بدونه غالباً، وغيرها لا يغني. استئجار المرضع: إذا امتنعت الأم عن الإرضاع في غير هذه الحالات، وجب على الأب أن يستأجر مرضعة وتسمى (ظئراً) لإرضاعه، محافظة على حياة الولد، وعلى الظئر المستأجرة أن ترضعه عند أمه؛ لأن الحضانة حق لها، وامتناعها عن الإرضاع لا يسقط حقها في الحضانة، لأن كلاً منهما حق مستقل عن الآخر. فإن لم يستأجر الأب مرضعة، كان للأم أن تطالبه قضاء بدفع أجرة الرضاع، لتستأجر هي من ترضعه. ولا يستأجر الأب ولو من مال الصغير أم الرضيع في حال الزوجية أو العدة من طلاق رجعي، ويجوز استئجارها إذا كانت بائناً في الأصح لدى الحنفية؛ لأن الأب في حال الزوجية والعدة قائم بنفقة الزوجة، ولا يجتمع عليه واجبان، وفي أخذها الأجرة من مال الصغير أخذ للأجرة على الواجب عليها ديانة، وهو الرضاع، أما بعد البينونة فلا تجبر الأم على إرضاع الولد قضاء، فساغ لها أخذ الأجرة على الرضاع في رواية صحيحة عند الحنفية وهي المعتمدة كما ذكر ابن عابدين، وفي رواية أخرى رجحها صاحب الهداية: لا أجرة لها؛ لأن لها النفقة في العدة.
المطلب الثاني ـ حالة استحقاق الأم أجرة الرضاع، ومدة الاستحقاق وبدء الاستحقاق
المطلب الثاني ـ حالة استحقاق الأم أجرة الرضاع، ومدة الاستحقاق وبدء الاستحقاق: أولاً ـ حالة استحقاق الأم أجرة الرضاع: إذا أرضعت الأم ولدها بنفسها أو بإجبارها على الرضاع قضاء، فهل تستحق أجرة على الرضاع؟ في الأمر تفصيل وهو ما يأتي (¬1): 1 - لا تستحق الأم أجرة الرضاع عند الحنفية والشافعية والحنابلة في حال الزوجية أو أثناء العدة من الطلاق الرجعي؛ لأن الزوج مكلف بالإنفاق عليها، فلا تستحق نفقة أخرى مقابل الرضاع، حتى لا يجتمع عليه واجبان: النفقة والأجرة في آن واحد، وهو غير جائز لكفاية النفقة الواجبة على الزوج. ووافق المالكية على هذا الرأي إذا كان الرضاع واجباً على الأم، وهو الحالة الغالبة، أما إن كان الرضاع غير واجب على الأم كالشريفة القدر، فإنها تستحق الأجرة على الرضاع. 2 - تستحق الأم الأجرة على الرضاع بالاتفاق بعد انتهاء الزوجية والعدة، أو في عدة الوفاة، لقوله تعالى: {فإن أرضعن ¬
ثانيا ـ مدة الاستحقاق
لكم فآتوهن أجورهن} [الطلاق:6/ 65] فهي واردة في المطلَّقات، ولأنه لا نفقة للأم بعد الزوجية وفي عدة الوفاة. 3 - تستحق الأم الأجرة على الرضاع في عدة الطلاق البائن في الأصح عند بعض الحنفية، لأنها كالأجنبية، وكذا عند المالكية، لقوله تعالى: {فإن أرضعن لكم، فآتوهن أجورهن} [الطلاق:6/ 65] فقد أوجب تعالى للمطلقات بائناً الأجرة على الرضاع، حتى لو كانت حاملاً ولها النفقة؛ لأن كلاً من النفقة وأجرة الرضاع وجب بدليل خاص به، فوجوب أحدهما لا يمنع وجوب الآخر. وهذا هو المقرر في القانون السوري كما سأبين. وذكر بعض الحنفية أن المفتى به عدم الفرق بين عدة الرجعي والبائن، فلا تستحق الأم أجرة الرضاع في الحالتين لوجوب النفقة لها مطلقاً، وهذا هو المعمول به في محاكم مصر. والحاصل: أن المدار في استحقاق الأم أجرة الرضاع وعدم استحقاقها على وجوب الرضاع وعدم وجوبه عليها في رأي المالكية، وعلى وجوب النفقة للأم وعدم وجوبها لها في رأي الحنفية. ثانياً ـ مدة الاستحقاق: اتفق الفقهاء على أن مدة استحقاق الأجرة على الرضاع هي سنتان فقط، فمتى أتم الطفل حولين كاملين، لم يكن للمرضع الأم الحق في المطالبة بأجرة الرضاع (¬1)، لقوله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة} [البقرة:233/ 2] د لت الآية على أن الأب يلزم بنفقة الرضاع في مدة سنتين فقط. ثالثاً ـ بدء الاستحقاق: تستحق المرضع غير الأم المسماة ظئراً وكذا الأم بعد انتهاء الزوجية الأجرة على الرضاع من تاريخ العقد؛ لأنها مستأجرة للرضاع، فلا تستحق الأجرة إلا من يوم العقد. ¬
المطلب الثالث ـ التفضيل بين الأم والمتبرعة بالرضاع
وأما الأم المرضع في حال قيام الزوجية أو أثناء العدة من طلاق رجعي، فتستحق الأجرة بالإرضاع في المدة مطلقاً بلا عقد إجارة، في رأي المالكية، وأما في رأي الحنفية على الراجح فمن تاريخ قيامها بالإرضاع. وقيل عند الحنفية: من وقت طلبها الأجر. ولا تسقط الأجرة بموت الأب، بل تكون دائنة له أسوة بغرمائه، فليست الأجرة نفقة وإنما هي دين يستحق في التركة، إذ لو كانت نفقة لسقطت بموته، كما تسقط بالموت نفقة الزوجة والقريب ولو بعدا لقضاء، ما لم تكن مستدانة بأمر القاضي (¬1). وإذا لم يكن للرضيع أب وجبت الأجرة على من يلي الأب في الإنفاق عليه. المطلب الثالث ـ التفضيل بين الأم والمتبرعة بالرضاع: اتفق الفقهاء على أن الأم تقدم في الإرضاع إذا أرضعت ولدها بدون أجر، أو لم تطلب زيادة على ما تأخذه الأجنبية ولو دون أجر المثل، أو لم توجد مرضعة إلا بأجر، رعاية لمصلحة الصغير بسبب كون الأم أكثر حناناً وشفقة عليه من غيرها، ولأن في منع الأم من إرضاع ولدها إضراراً بها، وهو لا يجوز، لقوله تعالى: {لا تضار والدة بولدها} [البقرة:233/ 2] وقوله سبحانه: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين} [البقرة:233/ 2] دل النص على أن الأم أحق برضاع ولدها في الحولين (¬2). فإن وجدت متبرعة بالإرضاع، وطلبت الأم الأجر، أو وجدت مرضعة بأجر أقل مما تأخذه الأم، كانت الأم عند المالكية والحنابلة هي الأحق من غيرها بأجر المثل، لإطلاق الآية السابقة: {لا تضارّ والدة بولدها} [البقرة:233/ 2] وآية: ¬
المطلب الرابع ـ المكلف بأجرة الرضاع ومقدار الأجرة
{والوالدات يرضعن أولادهن} [البقرة:233/ 2] ولأنها أحنى وأشفق على الولد من الأجنبية، ولبنها أمرأ من لبن غيرها. وتقدم الأجنبية في رأي الحنفية والشافعية في الأظهر (¬1) حينئذ، سواء أكان الأب موسراً أم معسراً؛ رفقاً بالأب ودفعاً للضرر عنه، لقوله تعالى: {لا تضار والدة بولدها، ولا مولود له بولده} [البقرة:233/ 2] أي بإلزامه لها أكثر من أجرة الأجنبية، وقوله تعالى: {وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم} [البقرة:233/ 2]. ويقال للأم حينئذ: إما أن ترضعيه متبرعة، أو بمثل الأجرة التي تطالب بها غيرك، وإما أن تسلميه لها. وإذا سلمته الأم لأجنبية بقي لها حق الحضانة، فإما أن ترضعه المرضعة عند الأم، وإما أن ترضعه في بيتها، ثم ترده إلى الأم. المطلب الرابع ـ المكلف بأجرة الرضاع ومقدار الأجرة: الأب: هو المكلف بأجرة الرضاع؛ لأنه هو الملزم بالنفقة على الولد، وتكون أجرة الرضاع على من تجب عليه النفقة، لقوله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة، وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} [البقرة:233/ 2] وقوله سبحانه: {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} [الطلاق:6/ 65]. وعلى الأب خمس نفقات للولد الصغير: أجرة الرضاع، وأجرة الحضانة، ¬
واجب المرضع
ونفقة المعيشة من صابون ودهن وفرش وغطاء، وأجرة مسكن الحضانة الذي تحضنه فيه الأم، وأجرة خادم له إن احتاج إليه. وتلزم الأب نفقة الصغير وإن خالفه في دينه، كما تجب نفقة الزوجة على الزوج، وإن خالفته في دينه، للآيات السابقة، وكما سأبين. لكن إلزام الأب بالنفقة بأنواعها إذا لم يكن للصغير مال، فإن كان له مال، فالأصل أن نفقة الإنسان في مال نفسه، صغيراً كان أو كبيراً (¬1). فإن كان الأب فقيراً ولم يكن للصغير مال أجبرت الأم في رأي الحنفية على إرضاعه، وتكون الأجرة ديناً على الأب يطالب بها عند يساره. وتجبر الأم على الرضاع في رأي المالكية وليس لها الرجوع بالأجرة على الأب إذا أيسر. واجب المرضع: وأما المرضع فلا تكلف بشيء سوى الإرضاع، وما يوجبه عليها العرف كإصلاح طعام الولد وحفظه وغسله وغسل ثيابه؛ لأن خدمة الصغير واجب عليها؛ لأن العرف معتبر فيما لا نص فيه. فإن أرضعته بلبن شاة فلا أجر لها؛ لأنها لم تأت بالعمل الواجب عليها، وهو الإرضاع، وهذا العقد إيجار، وليس بإرضاع، وهو غير ما وقع عليه عقد الإجارة (¬2) مقدار الأجرة: الأجرة التي تستحقها الأم هي أجرة المثل: وهي التي تقبل امرأة أخرى أن ترضع الولد في مقابلها. وتقديرها متروك للقاضي، فلو طلبت الأم أكثر من أجر المثل لا تجاب إلى طلبها. ¬
موقف القانون السوري من أجرة الرضاع
موقف القانون السوري من أجرة الرضاع: نصت المادة (1/ 152) على المكلف بأجرة الرضاع، ولكن في سن الرضاع، لا بعد الفطام: 1 - أجرة رضاع الولد، سواء أكان الرضاع طبيعياً أم اصطناعياً على المكلف بنفقته، ويعتبر ذلك في مقابل غذائه. ونصت الفقرة الثانية من هذه المادة على حالة عدم استحقاق الأم أجرة الرضاع: 2 - لا تستحق الأم أجرة الرضاع حال قيام الزوجية، أو في عدة الطلاق الرجعي. والمعنى بالمفهوم أنها تستحق أجرة الرضاع بعد انتهاء الزوجية وانقضاء العدة مطلقاً، وفي عدة الطلاق البائن، وفي عدة الوفاة. ونصت المادة (153) على الأخذ برأي الحنفية، ولكن في حالة إعسار الأب فقط بتقديم المتبرعة بالرضاع على الأم، وهو المعقول، ونص المادة هو: «المتبرعة أحق بالإرضاع إن طلبت الأم أجرة، وكان الأب معسراً، على أن يكون الإرضاع في بيت الأم». ولكن في الحضانة تقدم الأم إذا كان الأب موسراً، ولو طلبت أجراً أكثر، وسبب التفريق بين الحضانة والرضاع: أن الرضاع أمر مادي يقصد به التغذية ونمو الجسد، أما الحضانة فتتطلب حناناً وشفقة، والأم أحن وأشفق من غيرها.
المبحث الثاني ـ شروط الرضاع المحرم للزواج عند الفقهاء
المبحث الثاني ـ شروط الرضاع المحرِّم للزواج عند الفقهاء: اشترط الفقهاء للتحريم بالرضاع الشروط الستة الآتية (¬1): 1 ً - أن يكون لبن امرأة آدمية، سواء أكانت عند الجمهور بكراً أم متزوجة أم بغير زوج: فلا تحريم بتناول غير اللبن كامتصاص ماء أصفر أو دم أو قيح، ولا بلبن الرجل أو الخنثى المشكل أو البهيمة، فلو رضع صغيران من شاة مثلاً، لم يثبت بينهما أخوة، فيحل زواجهما؛ لأن الأخوة فرع الأمومة، فإذا لم يثبت الأصل لم يثبت الفرع. واشترط الحنابلة أن يكون بلبن امرأة ثار لها لبن من الحمل، فلو طلق رجل زوجته وهي ترضع من لبن ولده، فتزوجت بصبي رضيع، فأرضعته، حرمت عليه؛ لأن الرضيع يصير ابناً للرجل الذي ثار اللبن بوطئه. واشترط الشافعية في المرأة أن تكون حيَّة حياة مستقرة حال انفصال اللبن منها، بلغت تسع سنين قمرية تقريباً، وإن لم يحكم ببلوغها بذلك، فلا تحريم برضاع المرأة الميتة والصغيرة، أي أن لبن الميتة والصغيرة لا يحرم. لكن لو حلبت المرأة لبنها قبل موتها، وشربه الطفل بعد موتها، حرم في الأصح، لانفصاله منها، وهو حلال محترم. ولم يشترط الجمهور هذا الشرط، فلبن الميتة، والصغيرة التي لم تطق الوطء، إن قدر أن بها لبناً، يحرِّم؛ لأنه ينبت اللحم، ولأن اللبن لا يموت. 2 - أن يتحقق من وصول اللبن إلى معدة الرضيع، سواء بالامتصاص من الثدي، أم بشربه من الإناء أو الزجاجة. وهذا شرط عند الحنفية، فإن لم يتحقق ¬
3 - أن يحصل الإرضاع بطريق الفم أو الأنف
من الوصول إلى المعدة بأن التقم الثدي، ولم يعلم أرضع أم لا، فلا يثبت التحريم، للشك في وجود سبب التحريم وهو الرضاع، والأحكام لا تثبت بالشك. واكتفى المالكية باشتراط وصول اللبن تحقيقاً أو ظناً أو شكاً إلى الجوف من الفم برضاع الصغير، فيثبت التحريم ولو مع الشك، عملاً بالاحتياط، ولا يثبت التحريم على المشهور بمجرد الوصول إلى الحلق فقط. واشترط الشافعية والحنابلة وجود خمس رضعات متفرقات، والمرجع في معرفة الرضعة إلى العرف، ولايشترط كونها مشبعة، ولا بد من وصول اللبن إلى الجوف. 3 - أن يحصل الإرضاع بطريق الفم أو الأنف: فقد اتفق أئمة المذاهب على أن التحريم يحصل بالوجور (وهو صب اللبن في الحلق) لحصول التغذية به كالارتضاع، وبالسَّعُوط (وهو صب اللبن في الأنف ليصل الدماغ) لحصول التغذي به؛ لأن الدماغ جوف له كالمعدة، بل لا يشترط التغذي بما وصل من منفذ عال، بل مجرد وصوله للجوف كاف في التحريم. ولا يحصل التحريم عند الحنفية، والشافعية في الأظهر، والحنابلة في منصوص أحمد بالحقنة، أو بتقطير اللبن في العين أو الأذن أو الجرح في الجسم؛ لأن هذا ليس برضاع ولا في معناه، فلم يجز إثبات حكمه فيه، ولانتفاء التغذي. وقال المالكية: يحصل التحريم بحقنة تغذي أي تكون غذاء، لا مجرد وصول اللبن للجوف عن طريق الحقنة. وحينئذ يختلف ما وصل من منفذ عال، فلا يشترط فيه الغذاء، وما وصل من منفذ سفلي ونحوه فيشترط فيه التغذي. 4 ً - ألا يخلط اللبن بغيره: وهذا شرط عند الحنفية والمالكية. فإن خلط بمائع آخر، فالعبرة عند الحنفية والمالكية للغالب، فإن غلب اللبن حرَّم، وإن غلب غير اللبن عليه، حتى لم يبق له عند المالكية طعم ولا أثر مع الطعام ونحوه، فلا يحرم؛
5 - أن يكون الرضاع في حال الصغر
لأن الحكم للأغلب، ولأنه بالخلط يزول الاسم والمعنى المراد به، وهو التغذي، فلا يثبت به الحرمة. ولافرق عند المالكية بين الخلط بالمائع أو بالطعام. واعتبر الشافعية في الأظهر والحنابلة في الراجح اللبن المشوب (المختلط بغيره) كاللبن الخالص الذي لا يخالطه سواه، سواء شيب بطعام أوشراب أو غيره، لوصول اللبن إلى الجوف، وحصوله في بطنه. ورأى أبو حنيفة خلافاً للصاحبين أن اللبن المخلوط بالطعام لا يحرم عنده بحال سواء أكان غالباً أم مغلوباً؛ لأن الطعام وإن كان أقل من اللبن، فإنه يسلب قوة اللبن ويضعفه، فلا تقع الكفاية به في تغذية الصبي، فكان اللبن مغلوباً معنى، وإن كان غالباً صورة. وإذا خلط لبن امرأة بلبن امرأة أخرى: فالحكم للغالب عند أبي حنيفة وأبي يوسف، فإن تساويا ثبت التحريم من المرأتين جميعاً للاختلاط. وقال المالكية ومحمد وزفر: يثبت التحريم من المرأتين جميعاً، سواء تساوى مقدار اللبنين أوغلب أحدهما الآخر، وهذا هو الراجح لدي؛ لأن اللبنين من جنس واحد، والجنس لا يغلب الجنس. 5 - أن يكون الرضاع في حال الصغر باتفاق المذاهب الأربعة: فلا يحرم رضاع الكبير: وهو من تجاوز السنتين. وقال داود الظاهري: إن رضاع الكبير يحرم، وكانت عائشة ترى أن رضاعة الكبير تحرم، لما روي أن سهلة بنت سهيل قالت: «يا رسول الله، إنا كنا نرى سالماً ولداً، فكان يأوي معي، ومع أبي حذيفة في بيت واحد، ويراني فُضْلى (¬1)، وقد ¬
أنزل الله فيهم ما قد علمت، فكيف ترى فيه؟ فقال لها النبي صلّى الله عليه وسلم: أرضعيه حتى يدخل عليه» (¬1)، فأرضعته خمس رضعات فكان بمنزلة ولدها، وبناء عليه كانت عائشة تأمر بنات أخواتها وبنات إخوتها يرضعن من أحبت عائشة أن يراها، ويدخل عليها، وإن كان كبيراً خمس رضعات (¬2). واستدل الجمهور على اشتراط كون الرضاع في حال الصغر بما يأتي: أولاً ـ بقوله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة} [البقرة:233/ 2] فإنه تعالى جعل تمام الرضاعة في الحولين، فأفهم أن الحكم بعد الحولين بخلافه. وقال تعالى: {وفصاله في عامين} [لقمان:14/ 31] أي فطامه، فدل على أن أكثر مدة الرضاع المعتبرة شرعاً سنتان. ثانياً ـ بخبر: «لا رضاع إلا ماكان في الحولين» (¬3) وخبر: «لا يحرِّم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي، وكان قبل الفطام» (¬4) وخبر «لا رضاع بعد فصال، ولا يُتْم بعد احتلام» (¬5). وقال الشافعي رضي الله عنه عن حديث سهلة: إنه رخصة خاصة بسالم، وكذلك قال الحنابلة وغيرهم، جمعاً بين الأدلة. ثبت عن عائشة أنها قالت: «دخل علي رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعندي رجل، فقال: من هذا؟ قلت: أخي من الرضاعة، قال: يا عائشة، انظُرن من إخوانكُنّ، فإنما ¬
الرضاعة من المجاعة» (¬1) وعن ابن مسعود: «لا رضاع إلا ما أنشز العظم، وأنبت اللحم» (¬2). والتزم الشافعية والحنابلة وأبو يوسف ومحمد بظاهر هذه الأدلة، فشرطوا أن يكون الرضاع في مدة الحولين الأولين من العمر، بالأشهر القمرية، ولو بعد الفطام؛ لأن حديث «فإنما الرضاعة من المجاعة» يراد به الرضاع الذي يكون في سن المجاعة، كيفما كان الطفل، وهو سن الرضاع، فلو ارتضع الطفل بعدهما بلحظة، ولو بعد فطامه، لم يثبت التحريم؛ لأن شرطه وهو كونه في الحولين لم يوجد، وإن حصل الرضاع في أثناء الحولين، ولو بعد الفطام، ثبت به التحريم؛ لأن الرضاع في وقته عرف محرِّماً في الشرع. ويكون انتهاء الحولين من تمام انفصال الرضيع، فإن ارتضع قبل تمامه لم يؤثر. هذا الرأي هو الراجح لقوة الأدلة التي استندوا إليها. وأضاف الإمام مالك مدة شهرين على الحولين؛ لأن الطفل قد يحتاج إلى هذه المدة لتحويل غذائه إلى الطعام. لكن إن فطم الولد عن اللبن، واستغنى بالطعام استغناء بيِّناً ولو في الحولين، أو لم يوجد له مرضع في الحولين، فاستغنى بالطعام أكثر من يومين وما أشبههما، فأرضعته امرأة، فلا يحرم، لأن مفهوم الحديث: «فإنما الرضاعة من المجاعة» يدل على أن الطفل غير مفطوم، فإن فطم في بعض الحولين، لم يكن رضاعاً من المجاعة. وأضاف الإمام أبو حنيفة أيضاً مدة نصف سنة على الحولين، فتكون مدة الرضاعة عنده ثلاثين شهراً، لاحتياج الطفل إلى هذه المدة للتدرج من اللبن إلى الطعام المعتاد، لكن إن استغنى بالفطام عن اللبن استغناء تاماً، لم يكن ذلك ¬
6 - أن يكون الرضاع خمس رضعات متفرقات فصاعدا
رضاعاً؛ لأنه لا رضاع بعد الفطام، وإن فطم الطفل فأكل أكلاً ضعيفاً لا يستغنى به عن الرضاع، ثم عاد فأرضع، كما يرضع أولاً في الثلاثين شهراً، فهو رضاع محرم، كما يحرم رضاع الصغير الذي لم يفطم، ويحمل الحديث السابق: «لا رضاع بعد فصال» على الفصال المعتاد المتعارف. واستدل للإمامين مالك وأبي حنيفة بقوله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين، لمن أراد أن يتم الرضاعة} .. {فإن أرادا فصالاً عن تراض منهما وتشاور، فلا جناح عليهما} [البقرة:2/ 233] فالآية في نهايتها تدل على أن للوالدين الخيار في فطم الطفل عند تمام الحولين. والتحديد بالحولين في مقدم الآية إنما هو لبيان المدة التي يجوز فيها للأم المطلَّقة أن تأخذ فيها أجراً على الرضاع. وأجيب عنه بأن الفطام الذي يحتاج إلى المشاورة والتراضي بين الوالدين هو الذي يكون قبل تمام الحولين، فإن استمر الرضاع بعد الحولين لضعف الطفل، فلا مانع منه للحاجة، ولكن لا يترتب عليه أحكامه من التحريم وأخذ الأم المطلقة أجراً عليه. 6 - أن يكون الرضاع خمس رضعات متفرقات فصاعدا ً: وهذا شرط عند الشافعية والحنابلة، والمعتبر في الرضعة العرف، فلو انقطع الطفل عن الرضاع إعراضاً عن الثدي تعدد الرضاع، عملاً بالعرف، ولو انقطع للتنفس أو الاستراحة أو الملل أو الانتقال من ثدي إلى آخر أو من امرأة إلى أخرى أو اللهو أو النومة الخفيفة أو ازدراء ما جمعه من اللبن في فمه، وعاد في الحال، فلا تعدد، بل الكل رضعة واحدة. وإن رضع أقل من خمس رضعات فلا تحريم، وإن شك في عدد الرضعات بني على اليقين؛ لأن الأصل عدم وجود الرضاع المحرم، لكن في حالة الشك الترك أولى، لأنه من الشبهات. واستدلوا بأدلة ثلاثة:
أولها ـ ما روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان فيما أنزل الله من القرآن عشر رضعات معلومات يحرّمن، فنسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن» (¬1) أي يتلى حكمهن أو يقرؤهن من لم يبلغه النسخ لقربه. لكن قيل عنه: إنه مضطرب. ثانيها ـ إن علة التحريم بالرضاع هي شبهة الجزئية التي تحدث باللبن الذي ينبت اللحم وينشز العظم، أي ينميه ويزيده، وهذا لا يتحقق إلا برضاع يوم كامل على الأقل، وهو خمس رضعات متفرقات. ثالثها ـ حديث «لا تحرم المصة والمصتان» وفي رواية «لا تحرم المصة والمصتان، ولا الإملاجة والإملاجتان» (¬2). وقال المالكية والحنفية: الرضاع المحرم يكون بالقليل والكثير، ولو بالمصة الواحدة، للأدلة الثلاثة التالية: أولها ـ عموم قوله تعالى: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم} [النساء:23/ 4] فإنه علَّق التحريم بالإرضاع من غير تقدير بقدر معين، فيعمل به على إطلاقه. ثانيها ـ حديث «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» (¬3) فإنه ربط التحريم بمجرد الرضاع، ويؤكده آثار عن بعض الصحابة، روي عن علي وابن مسعود وابن عباس أنهم قالوا: قليل الرضاع وكثيره سواء. ¬
المبحث الثالث ـ ما يثبت به الرضاع
ثالثها ـ إن الرضاع فعل يتعلق به التحريم، فيستوي قليله وكثيره؛ لأن شأن الشارع إناطة الحكم بالحقيقة مجردة عن شرط التكرار والكثرة، وتتحقق جزئية الرضيع من المرضعة بالقليل والكثير. ويعمل بهذا الرأي في مصر وليبيا، ويعمل في سورية بالرأي الأول، وهو الراجح، لما فيه من توسعة وتيسير على الناس. المبحث الثالث ـ ما يثبت به الرضاع: يثبت الإرضاع بأحد أمرين: الإقرار والبينة (¬1). 1 - أما الإقرار: فهو عند الحنفية اعتراف الرجل والمرأة معاً أو أحدهما بوجود الرضاع المحرم بينهما. فإذا أقر الرجل والمرأة بالرضاع قبل الزواج، بأن اعترفا بأنهما أخوان من الرضاع، فلا يحل لهما الإقدام على الزواج، وإن تزوجا كان العقد فاسداً، ولم يجب للمرأة شيء من المهر. وإن كان الإقرار بعد الزواج وجب عليهما الافتراق، فإن لم يفترقا اختياراً، فرق القاضي بينهما جبراً؛ لأنه تبين فساد العقد، ويجب للمرأة الأقل من المسمى ومهر المثل. ب ـ وإذا كان الإقرار من جانب الرجل وحده، كأن يقول: هي أختي أو أمي أو بنتي في الرضاع: فإن كان الإقرار قبل الزواج، فلا يحل له التزوج بها. وإن كان بعد الزواج، وجب عليه أن يفارق المرأة، فإن لم يفارقها اختياراً، وجب على ¬
القاضي أن يفرق بينهما جبراً، ويكون للمرأة في التفريق قبل الدخول نصف المهر المسمى، وبعد الدخول يكون لها جميع المهر المسمى، ولها النفقة والسكنى في العدة؛ لأن الإقرار حجة قاصرة على المقر لايتعداه إلى غيره إلا إذا صدقه الغير، أو ثبتت بالبينة صحة الإقرار، ولكن لا يبطل حقها بالمهر والنفقة والسكنى. جـ ـ وإذا كان الإقرار من جانب المرأة وحدها: فإن كان قبل الزواج، فلا يحل لها أن تتزوجه، ولكن يحل له أن يتزوجها إذا وقع في قلبه كذبها على المفتى به؛ لأن الطلاق له لا لها، والإقرار حجة قاصرة على المقر، ويحتمل أن يكون إقرارها لغرض خفي في نفسها. وإن كان الإقرار منها بعد الزواج، فلا يؤثر الإقرار على صحة الزواج إلا إذا صدقها الزوج فيه. ويجوز للمقر الرجوع عن إقراره مالم يشهد على إقراره، سواء قبل الزوج أم بعده، بأن يقول: كنت واهماً أو ناسياً، لاحتمال أنه أقر بناء على إخبار غيره، ثم تبين له كذبه. فإن أشهد على إقراره، لم يقبل منه الرجوع بعدئذ، لوجود التناقض بين إقراره ورجوعه. ويثبت الرضاع عند المالكية بإقرار الزوجين معاً، أو باعتراف أبويهما، أوباعتراف الزوج المكلف وحده ولو بعد العقد؛ لأن المكلف يؤخذ بإقراره، أو باعتراف الزوجة فقط إذا كانت بالغاً قبل العقد عليها، لا إن أقرت بعده، ويفسخ الزواج بينهما في كل هذه الأحوال. فإن حصل الفسخ قبل الدخول بها فلا شيء لها، إلا أن يقر الزوج فقط بعد العقد، فأنكرت، فلها نصف المهر (¬1). ¬
وإن حدث الفسخ بعد الدخول بها، فلها المهر المسمى جميعه، إلا إذا علمت المرأة بالرضاع قبل الدخول، ولم يعلم هو، فلها ربع دينار بالدخول. وليس لها نفقة ولا سكن. ويقبل إقرار أحد أبوي صغير، بأن أقر أبوه أو أمه بالرضاع قبل العقد عليه فقط، فلا يصح العقد بعد الإقرار. ولا يصح الرجوع عن الإقرار، سواء أصر المقر على إقراره أم لم يصر. ويشترط لصحة الإقرار عند الشافعية رجلان، فلا يثبت بإقرار غيرهما، لاطلاع الرجال عليه غالباً. ولو قال الرجل: هند بنتي أو أختي برضاع، أو قالت المرأة: هو أخي، حرم تناكحهما، لأنه يؤاخذ كل منهما بإقراره. ولو قال زوجان: بيننا رضاع محرِّم، فرِّق بينهما، وسقط المهر المسمى، ووجب مهر المثل إن حدث الوطء. وإن ادعى الزوج رضاعاً محرِّماً، فأنكرت زوجته ذلك؛ انفسخ النكاح وفرق بينهما، ولها إن وطئ المهر المسمى إن كان صحيحاً، وإلا فمهر المثل، لاستقراره بالدخول. فإن لم يطأ فلها نصف المهر، لورود الفرقة منه، ولا يقبل قوله عليها، وله تحليفها قبل الدخول، وكذا بعد الدخول إن كان المسمى أكثر من مهر المثل. وإن نكلت عن اليمين حلف الزوج ولزمه مهر المثل فقط بعد الوطء، ولا شيء لها عليه قبله. وإن ادعت الزوجة الرضاع، فأنكر الزوج ذلك، صدق بيمينه إن زوِّجت برضاها، وإلا بأن زوجت بغيررضاها، فالأصح تصديقها بيمينها. ولها في الحالين مهر مثلها إن وطئت جاهلة بالرضاع.
2 - وأما البينة
وقال الحنابلة: إن أقر الزوج قبل الدخول بالرضاع المحرِّم، بأن قال: هي أختي من الرضاعة، انفسخ النكاح، كما قال الشافعية. فإن صدقته المرأة فلا مهر لها، وإن كذبته فلها نصف المهر. وإن أقرت المرأة بأن زوجها أخوها من الرضاع، فكذبها، لم يقبل قولها في فسخ النكاح؛ لأنه حق عليها، فإن كان قبل الدخول فلا مهر لها؛ لأنها تقر بأنها لاتستحقه. وإن كان بعد الدخول، فأقرت بعلمها بالرضاع وبتحريمها عليه، فلا مهر لها أيضاً، لإقرارها بأنها زانية مطاوعة. وإن أنكرت شيئاً من ذلك، فلها المهر؛ لأنه وطء بشبهة، وهي زوجته في ظاهر الحكم؛ لأن قولها عليه غير مقبول. 2 - وأما البينة: فهي الشهادة، وهي الإخبار في مجلس القضاء بحق الشخص على الغير. وقد اتفق فقهاء المذاهب الأربعة على ثبوت الرضاع بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين من أهل العدالة. واختلفوا في ثبوت الرضاع بشهادة رجل واحد، أو امرأة واحدة، أو أربع من النساء. فقال الحنفية: لا تقبل هذه الشهادات، لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: «لا يقبل على الرضاع أقل من شاهدين» وكان قوله بمحضر من الصحابة، ولم ينكر أحد، فكان هذا إجماعاً، ولأن الرضاع مما يطلع عليه الرجال، فلا يقبل فيه شهادة النساء على الانفراد، كالشهادة في الدخول.
وقال المالكية: لا يثبت الرضاع قبل العقد بشهادة امرأة فقط ولو فشا منها أومن غيرها الرضاع، إلا أم الصغير، فتقبل شهادتها، مع الفشو، ولا يصح العقد معه. ويثبت الرضاع بشهادة رجل وامرأة أو بشهادة امرأتين إن فشا الرضاع منهما أو من غيرهما بين الناس، قبل العقد. ولا تشترط مع الفشو عدالة على الأرجح. وإنما اشترط لقبول هذه الشهادة: الإظهار قبل الزواج، لإبعاد التهمة عن الشاهد بهذه الشهادة. وقال الشافعية: يثبت الرضاع بشهادة أربع نسوة، لاختصاص النساء بالاطلاع عليه غالباً كالولادة، ولا يثبت بدون أربع نسوة، إذ كل امرأتين بمثابة رجل. وتقبل شهادة المرضعة مع غيرها، إن لم تطلب أجرة عن رضاعها، ولا ذكرت فعلها، بل شهدت أن بينهما رضاعاً محرِّماً؛ لأنها لا تريد بهذه الشهادة نفعاً ولا تدفع ضرراً. أما إذا طلبت الأجرة فلا تقبل شهادتها؛ لأنها متهمة. وتقبل شهادة أم الزوجة وبنتها مع غيرهما حسبة بلا تقدم دعوى، ومن المتفق عليه أن الرضاع مما تقبل فيه شهادة الحسبة، فلا تتوقف على الدعوى، لأنه يتضمن الحرمة، وهي من حقوق الله تعالى، كما تقبل الشهادة على الطلاق حسبة دون تقدم دعوى.
الفصل الثالث: الحضانة أو كفالة الطفل
الفَصْلُ الثَّالث: الحَضانة أو كَفالة الطّفل يتضمن ستة مباحث هي: الأول ـ معنى الحضانة وحكمها وصاحب الحق فيها. الثاني ـ ترتيب درجات الحواضن أو مستحقي الحضانة من النساء والرجال. الثالث ـ شروط استحقاق الحضانة أو شروط المحضون والحاضنة. الرابع ـ أجرة الحضانة وتوابعها من السكنى والخدمة. الخامس ـ مكان الحضانة والانتقال بالصغير إلى بلد آخر، وحق غير الحاضنة بزيارته. السادس ـ مدة الحضانة، وما يترتب على انتهائها من ضم الولد لأبيه. وبحثها يأتي تباعاً على الترتيب المذكور. المبحث الأول ـ معنى الحضانة وحكمها وصاحب الحق فيها: معنى الحضانة: الحضانة لغة مأخوذة من الحِِضن: وهو الجنب، وهي الضم إلى الجنب. وشرعاً: هي تربية الولد لمن له حق الحضانة. أو هي تربية وحفظ من
حكمها
لا يستقل بأمور نفسه عما يؤذيه لعدم تمييزه، كطفل وكبير مجنون. وذلك برعاية شؤونه وتدبير طعامه وملبسه ونومه، وتنظيفه وغسله وغسل ثيابه في سن معينة ونحوها (¬1). والحضانة نوع ولاية وسلطنة، لكن الإناث أليق بها؛ لأنهن أشفق وأهدى إلى التربية، وأصبر على القيام بها، وأشد ملازمة للأطفال. فإذا بلغ الطفل سناً معينة، كان الحق في تربيته للرجل؛ لأنه أقدر على حمايته وصيانته وتربيته من النساء. وحكمها: أنها واجبة؛ لأن المحضون يهلك بتركها، فوجب حفظه من الهلاك، كما يجب الإنفاق عليه وإنجاؤه من المهالك (¬2). وتتطلب الحضانة الحكمة واليقظة والانتباه والصبر والخلق الجم، حتى إنه يكره للإنسان أن يدعو على ولد أثناء تربيته، كما يكره أن يدعو على نفسه وخادمه وماله (¬3)، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على خدمكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء، فيستجيب له» (¬4)، وروى أبو موسى عن ابن عباس: «أن أوس بن عبادة الأنصاري دخل على النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن لي بنات، وأنا أدعو عليهن بالموت، فقال: يا ابن ساعدة، لا تدعو عليهن، فإن البركة في البنات، هن المجملات عند النعمة، والمعينات عند المصيبة، والممرضات عند الشدة، ثقلهن على الأرض، ورزقهن على الله» (¬5). ¬
صاحب الحق في الحضانة
وأما صاحب الحق في الحضانة: فمختلف فيه بين الفقهاء (¬1)، فقيل: إن الحضانة حق للحاضن، وهو رأي الحنفية، والمالكية على المشهور وغيرهم؛ لأن له أن يسقط حقه ولو بغير عوض، ولو كانت الحضانة حقاً لغيره لما سقطت بإسقاطه. وقيل: إنها حق للمحضون، فلو أسقطها هو سقطت. والظاهر لدى العلماء المحققين أن الحضانة تتعلق بها ثلاثة حقوق معاً: حق الحاضنة، وحق المحضون، وحق الأب أو من يقوم مقامه، فإن أمكن التوفيق بين هذه الحقوق وجب المصير إليه، وإن تعارضت، قدم حق المحضون على غيره. وتفرع عن ذلك الأحكام الآتية (¬2): 1ً - تجبر الحاضنة على الحضانة إذا تعينت عليها، بأن لم يوجد غيرها. 2ً - لا تجبر الحاضنة على الحضانة إذا لم تتعين عليها؛ لأن الحضانة حقها، ولا ضرر على الصغير لوجود غيرها من المحارم. 3ً - إذا اختلعت المرأة من زوجها على أن تترك ولدها عند الزوج، فالخلع عند الحنفية صحيح والشرط باطل؛ لأن هذا حق الولد، أن يكون عند أمه ما دام محتاجاً إليها. 4ً - لا يصح للأب أن يأخذ الطفل من صاحبة الحق في الحضانة، ويعطيه لغيرها إلا لمسوغ شرعي. ¬
المبحث الثاني ـ ترتيب درجات الحواضن أو مستحقي الحضانة
5ً - إذا كانت المرضعة غير الحاضنة للولد، فعليها إرضاعه عندها كما تقدم؛ حتى لا يفوت حقها في الحضانة. المبحث الثاني ـ ترتيب درجات الحواضن أو مستحقي الحضانة: قدم الفقهاء الحواضن بعضهن على بعض بحسب مصلحة المحضون، فجعلوا الإناث أليق بالحضانة؛ لأنهن أشفق، وأهدى إلى التربية، وأصبر على القيام بها، وأشد ملازمة للأطفال، كما تقدم، ثم قدموا في الجنس الواحد من كان أشفق وأقرب، ثم الرجال العصبات المحارم، واختلفوا أحياناً في ترتيب الدرجات بحسب ملاحظة المصلحة، على النحو التالي علماً بأن مستحقي الحضانة إما إناث فقط، وإما ذكور فقط، وإما الفريقان، وذلك في سن معينة، فإذا انتهت تلك السن، كان الرجال أقدر على تربية الطفل من النساء (¬1). أولاً ـ من النساء: 1 - الأم أحق بحضانة الولد بعد الفرقة بطلاق أو وفاة بالإجماع لوفور شفقتها، إلا أن تكون مرتدة أو فاجرة فجوراً يضيع الولد به كزنا وغناء وسرقة ونياحة، أو غير مأمونة، بأن تخرج كل وقت، وتترك الولد ضائعاً. ودليل تقديم الأم من السنة: ما روي أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقالت له: يا رسول الله، إن ابني هذا كان بطني له وعاءً، وثديي له سقاءً، ¬
وحِجري له حواء (¬1)، وإن أباه طلّقني وأراد أن ينتزعه مني، فقال: «أنت أحق به ما لم تنكحي» (¬2) وقال صلّى الله عليه وسلم: «من فرَّق بين والدة وولدها، فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة» (¬3). وروي أن عمر بن الخطاب طلَّق زوجته أم عاصم، ثم أتى عليها وفي حِجرها عاصم، فأراد أن يأخذه منها، فتجاذباه بينهما حتى بكى الغلام، فانطلق إلى أبي بكر رضي الله عنهم، فقال له أبو بكر: «مسحها وحجرها وريحها خير له منك، حتى يشب الصبي فيختار لنفسه» (¬4). 2 - ثم أم الأم (الجدة الأم) لمشاركتها الأم في الإرث والولادة، ثم عند الحنفية، والشافعية في الجديد: أم الأب، لمشاركتها أم الأم في المعنى السابق، ثم أم أبي الأب، ثم أم أبي الجد للمعنى نفسه. وأخَّر المالكية أم الأب بعد الخالة وعمة الأم. وقدم الحنابلة الأب ثم أمهاته بعد الجدة لأم، ثم الجد، ثم أمهاته. 3 - ثم الأخت عند الحنفية والشافعية والحنابلة ـ أخت المحضون الشقيقة، ثم عند الحنفية والحنابلة والمالكية الأخت لأم؛ لأن الحق من قبلها، ثم الأخت لأب، وعكس الشافعية فقدموا في الأصح الأخت لأب على الأخت لأم، لاشتراكها مع المحضون في النسب، ولقوة إرثها، فإنها قد تصير عصبة، ثم بنات الأخت الشقيقة، ثم لأم. ¬
ترتيب الحواضن من النساء في المذاهب
والسبب في تقديم الأخوات عند الجمهور هؤلاء على الخالات والعمات: أنهن أقرب، وأنهن أولاد الأبوين، لذا قدمن في الميراث. وقدم المالكية الخالة، ثم الجدة لأب وإن علت، ثم أبو المحضون على الأخت ـ أخت المحضون. 4 - ثم الخالة عند الحنفية والشافعية والحنابلة ـ خالة المحضون الشقيقة، ثم عند الحنفية والحنابلة والمالكية خالة لأم، ثم خالة لأب؛ لأن الشأن أن من كان من جهة الأم أشفق ممن كان من جهة الأب فقط. والأصح عند الشافعية تقديم خالة لأب، وعمة لأب على من كان من جهة الأم، لقوة الجهة كالأخت. وقدم المالكية كما سبق الخالة ثم الجدة لأب وإن علت على الأخت. 5 - ثم بنات الأخت، ثم بنات الأخ في رأي الحنفية والشافعية، فالصحيح عندهم أن الخالة أولى من بنات الأخت أو الأخ؛ لأن بنت الأخ تدلي بقرابة الذكر، والخالة تدلي بقرابة الأم، فكانت الخالة أولى. وبنت الأخ أولى من العمة؛ لأن بنت الأخ أقرب، لأنها ولد الأب، والعمة ولد الجد، فكانت بنت الأخ أقرب، فكانت أولى، وذلك كما يقدم ابن الأخ في الميراث على العم. ورأى المالكية والحنابلة أن العمة مقدمة على ابنة الأخ. 6 - ثم العمة اتفاقاً ـ عمةالمحضون، ثم عمة أبيه وهي أخت جد المحضون. والحاصل أن ترتيب الحواضن من النساء في المذاهب كما يأتي: أـ الحنفية: الأم، ثم أم الأم ثم أم الأب، ثم الأخوات، ثم الخالات، ثم بنات الأخت ثم بنات الأخ، ثم العمات، ثم العصبات بترتيب الإرث.
موقف القانون
ب ـ المالكية: الأم، ثم الجدة لأم، ثم الخالة، ثم الجدة لأب وإن علت، ثم الأخت، ثم العمة، ثم ابنة الأخ، ثم للوصي، ثم للأفضل من العصبة كما سيأتي: جـ ـ الشافعية: الأم، ثم أم الأم، ثم أم الأب، ثم الأخوات، ثم الخالات ثم بنات الأخ وبنات الأخت، ثم العمات، ثم لكل ذي محرم وارث من العصبات على ترتيب الإرث، فهم كالحنفية. د ـ الحنابلة: الأم، ثم أم الأم، ثم أم الأب، ثم الجد ثم أمهاته، ثم أخت لأبوين، ثم لأم، ثم لأب، ثم خالة لأبوين ثم لأم ثم لأب، ثم عمة، ثم خالة أم، ثم خالة أب، ثم عمته، ثم بنت أخ، ثم بنت عم أب، ثم باقي العصبة الأقرب فالأقرب. موقف القانون: أخذ القانون السوري (م 1/ 139) برأي الحنفية: 1 - حق الحضانة للأم فلأمها وإن علت، فلأم الأب وإن علت، فللأخت الشقيقة، فللأخت لأم، فللأخت لأب، فلبنت الشقيقة، فبنت الأخت لأم، فبنت الأخت لأب، فللخالات، فللعمات بهذا الترتيب، ثم للعصبات من الذكور على ترتيب الإرث. ثانياً ـ من الرجال: إن لم يكن للمحضون أحد من النساء المذكورات، انتقلت الحضانة إلى الرجال على ترتيب العصبات الوارثين المحارم: الآباء والأجداد وإن علوا، ثم الإخوة وأبناؤهم وإن نزلوا، فالأعمام ثم بنوهم عند الحنفية وغيرهم على الصحيح عند الشافعية. ولكن لا تسلم مشتهاة لذكر وارث غير محرم للمحضون كابن
العم، فلا حق له في حضانة البنت المشتهاة اتفاقاً تحرزاً من الفتنة، وله حضانة الطفل. ثم إذا لم يكن للصغير عصبة من الرجال، انتقلت الحضانة عند الحنفية لذوي أرحام، فتكون للأخ لأم، ثم لابنه، ثم للعم لأم، ثم للخال الشقيق ثم لأم؛ لأن لهؤلاء ولاية في النكاح، فيكون لهم حق الحضانة. لكن لم يأخذ قانوننا السوري بهذا الرأي، واقتصر على العصبات دون ذوي الأرحام. ورأى الحنفية أنه إذا اجتمع اثنان في درجة واحدة من القرابة كعمين، قدم الأورع، ثم الأسن غير الفاسق والمعتوه وابن عم لفتاة مشتهاة وهو غير مأمون. وقال المالكية: إن لم يكن واحد من الإناث السابقات تنتقل الحضانة للوصي، ثم للأخ الشقيق أو لأم أو لأب، ثم للجد لأب الأقرب فالأقرب ثم ابن الأخ المحضون، ثم العم فابنه. ولا حضانة لجد لأم ولا خال، ثم المولى الأعلى: وهو من أعتق المحضون، فعصبته نسباً، فمواليه، فالأسفل: وهو من أعتقه والد المحضون. ويقدم في المتساوين درجة كأختين وخالتين وعمتين بالصيانة والشفقة، فإن تساويا فالأسن. وقال الشافعية: إن استوى اثنان في القرابة والإدلاء كالأخوين أو الأختين أو الخالتين أوا لعمتين، أقرع بينهما؛ لأنه لا يمكن اجتماعهما على الحضانة، ولا مزية لإحداهما على الأخرى، فوجب التقديم بالقرعة. والأصح أنه إن عدم أهل الحضانة من العصبات والنساء، وللمحضون أقارب من رجال ذوي الأرحام ومن يدلي بهم، كالخال وأبي أم، فلا حضانة لهم، لفقد
تعدد أصحاب الحق
الإرث والمحرمية، أو لضعف القرابة، فلا حضانة لمن لا يرث من الرجال من ذوي الأرحام وهم ابن البنت وابن الأخت وابن الأخ من الأم وأبو الأم، والخال، والعم من الأم؛ لأن الحضانة لمن له قوة قرابة بالميراث من الرجال، وهذا لا يوجد في ذوي الأرحام من الرجال. ورأى الحنابلة كالحنفية أن الحضانة عند فقد العصبات تثبت لذوي الأرحام الذكور والإناث، وأولاهم أبو أم، فأمهاته، فأخ لأم، فخال، ثم الحاكم يسلم المحضون لثقة يختاره. تعدد أصحاب الحق: تبين مما اتفقت عليه المذاهب أنه إذا تعدد مستحقو الحضانة من درجة واحدة كإخوة أو أعمام، كان أولاهم بها أصلحهم للحضانة قدرة وخلقاً، فإن تساووا قدّم أكبرهم سناً، وقد نصت المادة (140) من القانون السوري على أنه: إذا تعدد أصحاب حق الحضانة، فللقاضي حق اختيار الأصلح. مهمة الحاضنة والأب: على الأب رعاية المحضون وتأديبه وتعليمه العلم أو الحرفة، أما الأنثى فلا تؤجر في عمل أو خدمة؛ لأن المستأجر يخلو بها، وذلك سيء في الشرع (¬1). وللحاضنة أماً أو غيرها قبض نفقة المحضون وكسوته وما يحتاج إليه من أبيه في أوقات منتظمة يومياً أوأسبوعياً أو شهرياً، بحسب اجتهاد الحاكم ومراعاة حال الأب. وليس للأب أن يقول للحاضنة: ابعثيه ليأكل عندي، ثم يعود لكِ، لما فيه من الضرر بالطفل، والإخلال بصيانته، وليس لها موافقته على طلبه (¬2). ¬
المبحث الثالث ـ شروط استحقاق الحضانة، أو شروط المحضون
المبحث الثالث ـ شروط استحقاق الحضانة، أو شروط المحضون والحاضنة: شروط المحضون: المحضون: هو من لا يستقل بأمور نفسه عما يؤذيه لعدم تمييزه كطفل، وكبير مجنون أو معتوه، فلا تثبت الحضانة إلا على الطفل أو المعتوه. أما البالغ الرشيد فلا حضانة عليه، وهو الذي يختار الإقامة عند من شاء من أبويه. فإن كان البالغ رجلاً، فله الانفراد بنفسه لاستغنائه عن أبويه، ويستحب ألا ينفرد عنهما، ولا يقطع بره عنهما. وإن كان أنثى لم يكن لها الانفراد، ولأبيها منعها منه؛ لأنه لا يؤمن أن يدخل عليها من يؤذيها ويلحق العار بها وبأهلها، وإن لم يكن لها أب، فلوليها وأهلها منعها من الانفراد (¬1). شروط الحواضن: أنواع ثلاثة: شروط عامة في النساء والرجال، وشروط خاصة بالنساء، وشروط خاصة بالرجال، وبعضها متفق عليه كالحرية والعقل والبلوغ والقدرة والأمانة وعدم كون الأنثى متزوجة بأجنبي عن الصغير، وكون الحاضن ذات رحم من الصغير، وبعضها مختلف فيه كالرشد والإسلام (¬2). النوع الأول ـ الشروط العامة في النساء والرجال: يشترط في الحاضن من النساء والرجال ما يأتي: 1ً - البلوغ: فلا حضانة للصغير ولو كان مميزاً؛ لأنه عاجز عن رعاية شؤون نفسه. ¬
2ً - العقل: فلا حضانة للمجنون والمعتوه؛ لأنهما في حاجة إلى من يرعى شؤونهما، فلا يحسن الواحد منهما القيام بمصالحه، فضلاً عن غيره. واشترط المالكية الرشد، فلا حضانة لسفيه مبذر، لئلا يتلف مال المحضون أو ينفق عليه منه ما لا يليق. وشرطوا أيضاً مع الحنابلة عدم المرض المنفر كالجذام والبرص، فلا حضانة لمن به شيء من المنفرات. 3ً - القدرة على تربية المحضون: وهي الاستطاعة على صون الصغير في خلقه وصحته، فلا حضانة للعاجز لكبر سن أو مرض أو شغل. فالمرأة المحترفة أو العاملة إن كان عملها يمنعها من تربية الصغير والعناية بأمره، لا تكون أهلاً للحضانة. وإن كان عملها لا يحول دون رعاية الصغير وتدبير شؤونه، لا يسقط حقها في الحضانة. وقد جرى العمل في مصر على أن الطبيبات والمعلمات ونحوهن، لا يسقط حقهن في الحضانة؛ لأن الواحدة منهن تستطيع إدارة أمر الطفل بنفسها وبالتعاون مع قريبتها أو النائبة عنها. وقد نصت المادة (137) من القانون السوري على الشروط السابقة: يشترط لأهلية الحضانة البلوغ والعقل والقدرة على صيانة الولد صحة وخلقاً. ونص القانون السوري (م 2/ 139) على أنه: لا يسقط حق الحاضنة بحضانة أولادها بسبب عملها إذا كانت تؤمن رعايتهم والعناية بهم بطريقة مقبولة. ويعد الأعمى عاجزاً عن الحضانة لعدم تحقق المقصود به. 4ً - الأمانة على الأخلاق: فلا حضانة لغير أمين على تربية الولد وتقويم أخلاقه، كالفاسق رجلاً أو امرأة من سكير أو مشتهر بالزنا أو اللهو الحرام. لكن
مدة بقاء المحضون عند الحاضنة غير المسلمة
قيد ابن عابدين الفسق المانع من حضانة الأم بكونه فسقاً يضيع به الولد، فيكون لها حق الحضانة ولو كانت معروفة بالفجور، ما لم يصبح الولد في سن يعقل فيها فجور أمه، فينتزع منها، صوناً لأخلاقه من الفساد؛ لأنها غير أمينة. أما الرجل الفاسق العصبة فلا حضانة له. واشترط المالكية أمن المكان: فلا حضانة لمن بيته مأوى للفساق، أو بجوارهم بحيث يخاف على البنت المشتهاة منهم الفساد، أوسرقة مال المحضون أو غصبه. 5ً - الإسلام شرط عند الشافعية والحنابلة: فلا حضانة لكافر على مسلم؛ إذ لا ولاية له عليه، ولأنه ربما فتنه عن دينه. ولم يشترط الحنفية والمالكية إسلام الحاضنة، فيصح كون الحاضنة كتابية أو غير كتابية، سواء أكانت أماً أم غيرها؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم خيَّر غلاماً بين أبيه المسلم وأمه المشركة، فمال إلى الأم، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «اللهم اهده، فعدل إلى أبيه» (¬1)، ولأن مناط الحضانة الشفقة وهي لا تختلف باختلاف الدين. لكن اختلف هؤلاء في مدة بقاء المحضون عند الحاضنة غير المسلمة: فقال الحنفية: إنه يبقى عندها إلى أن يعقل الأديان، ببلوغه سن السابعة، أو يتضح أن في بقائه معها خطراً على دينه، بأن بدأت تعلمه أمور دينها أو تذهب به إلى معابدها، أو تعودِّه على شرب الخمر، وأكل لحم الخنزير. وهذا هو المعمول به في محاكم مصر. وقال المالكية: إنه يبقى مع الحاضنة إلى انتهاء مدة الحضانة شرعاً، ولكنها ¬
النوع الثاني ـ شروط أخرى في النساء
تمنع من تغذيته بالخمر ولحم الخنزير، فإن خشينا أن تفعل الحرام أعطي حق الرقابة إلى أحد المسلمين، ليحفظ الولد من الفساد. واختلفوا أيضاً في إسلام الحاضن: رأى الحنفية: أنه يشترط إسلام الحاضن واتحاد الدين، بخلاف الحاضنة؛ لأن الحضانة نوع من الولاية على النفس، ولا ولاية مع اختلاف الدين، ولأن حق الحضانة عندهم مبني على الميراث، ولا ميراث بالتعصيب للرجال مع اختلاف الدين، فلو كان الطفل مسيحياً أو يهودياً، وله أخوان، أحدهما مسلم والآخر غير مسلم، كان حق الحضانة لغير المسلم. ورأى المالكية: أنه لا يشترط إسلام الحاضن أيضاً كالحاضنة؛ لأن حق الحضانة للرجل لا يثبت عندهم إلا إذا كان عنده من النساء من يصلح للحضانة كزوجة أو أم أو خالة أو عمة، فالحضانة في الحقيقة حق للمرأة. النوع الثاني ـ شروط أخرى في النساء: يشترط في المرأة أيضاً ما يأتي: 1ً - ألا تكون متزوجة بأجنبي عن الصغير أو بقريب غير محرم منه: وهو متفق عليه للحديث السابق: «أنت أحق به ما لم تنكحي» ولأنه يعامل الصغير بقسوة وكراهية، ولأنها مشغولة عنه بحق الزوج. فإن كانت متزوجة بقريب محرم للمحضون كعمه وابن عمه وابن أخيه، فلا يسقط حقها في الحضانة، لأن من تزوجته له حق في الحضانة، وشفقته تحمله على رعايته، فيتعاونان على كفالته.
النوع الثالث - شروط خاصة بالرجال
وقد نصت المادة (138) من القانون السوري على ذلك: زواج الحاضنة بغير قريب محرم من المحضون يسقط حضانتها. 2ً - أن تكون ذات رحم محرم من الصغير كأمه وأخته وجدته: فلا حضانة لبنات العم أوالعمة، ولا لبنات الخال أو الخالة بالنسبة إلى الصبي، لعدم المحرمية، ولهن عند الحنفية الحق في حضانة الأنثى. 3ً - ألا تكون قد امتنعت من حضانته مجاناً والأب معسر لا يستطيع دفع أجرة الحضانة. فإن كان الأب معسراً وقبلت قريبة أخرى تربيته مجاناً، سقط حق الأولى في الحضانة. وهذا شرط عند الحنفية. 4ً - ألا تقيم الحاضنة بالصغير في بيت يبغضه ويكرهه، ولو كان قريباً له؛ لأن سكناها مع المبغض يعرضه للأذى والضياع. فلا حضانة للجدة إذا سكنت مع بنتها أم الطفل إذا تزوجت، إلا إذا انفردت بالسكنى عنها. وهذا شرط عند المالكية، واشترطوا أيضاً ألا يسافر ولي المحضون أو الحاضنة ستة برُد فأكثر، فإن أراد أحدهما السفر أخذ المحضون من حاضنته، كما سيأتي، إلا أن تسافر معه. وشرط الشافعية والحنابلة أنه إذا كان المحضون رضيعاً: أن ترضعه الحاضنة، فإن لم يكن لها لبن، أو امتنعت من الإرضاع، فلا حضانة لها؛ لأن في تكليف الأب استئجار مرضعة تترك منزلها، وتنتقل إلى مسكن الحاضنة عسراً عليه، فلا يكلف ذلك. النوع الثالث - شروط خاصة بالرجال: يشترط في الرجل الحاضن أيضاً مايأتي: 1ً - أن يكون مَحْرماً للمحضون إذا كان أنثى مشتهاة: وهي التي حدد
ما يتبع شروط الحضانة من أمور
الحنابلة والحنفية سنها بسبع، حذراً من الخلوة بها، لانتفاء المحرمية بينهما، وإن لم تبلغ حد الشهوة أعطيت له بالاتفاق؛ لأنه لا فتنة. فلا يكون لابن العم حضانة ابنة عمه المشتهاة. وأجاز الحنفية إذا لم يكن للبنت عصبة غير ابن عمها إبقاءها عنده بأمر القاضي إذا كان مأموناً عليها، ولا يخشى عليها الفتنة منه. وكذلك أجاز الحنابلة تسليمها لغير محرم ثقة إذا تعذر غيره. وأجاز الشافعية تسليمها لغير محرم إن رافقته بنته أو نحوها كأخته الثقة، وتسلم لها لا له، إن لم تكن في رحله، كما لو كان في الحضر، أما لو كانت بنته أو نحوها في رحله، فإنها تسلم إليه، فتؤمن الخلوة. 2ً - أن يكون عند الحاضن من أب أو غيره من يصلح للحضانة من النساء كزوجة أو أم أو خالة أو عمة؛ إذ لا قدرة ولا صبر للرجال على أحوال الأطفال كما للنساء. فإن لم يكن عند الرجل من يحضن من النساء فلا حق له في الحضانة. وهذا شرط عند المالكية. واشترط المالكية أيضاً ألا يسافر عن المحضون ولي المحضون أو تسافر الحاضنة سفر نُقْلة، ستة بُرُد (¬1) فأكثر، فإن أراد الولي أو الحاضنة السفر المذكور، كان له أخذ المحضون من حاضنته إلا أن تسافر معه، بشرط كون السفر لموضع مأمون وأمن الطريق، وهو شرط يقيد شروط الحضانة للنساء. ما يتبع شروط الحضانة من أمور: أولاً ـ سقوط الحضانة: تسقط الحضانة بأربعة أسباب عند المالكية، وافقهم في أغلبها غيرهم. ¬
1ً - سفر الحاضن سفر نقلة وانقطاع إلى مكان بعيد، وهو مقدار ستة بُرُد فأكثر، كما تقدم، فلو سافر ولي المحضون أو سافرت الحاضنة ستة برد فأكثر لا أقل منها، فللولي أخذ المحضون، وتسقط حضانة الحاضنة إلا أن تسافر معه. وقال الحنفية: يسقط الحق في الحضانة إذا سافرت الأم المطلقة إلى بلد بعيد لا يستطيع فيه الأب زيارة ولده في نهار يرجع فيه إلى بيته ويبيت فيه، وأما غير الأم فتسقط حضانتها بمجرد الانتقال. وقال الشافعية: يسقط الحق بالحضانة بالسفر لمكان مخوف أو بقصد النقلة، سواء أكان طويلاً أم قصيراً. وقال الحنابلة: يسقط الحق بالحضانة بالسفر لبلد يبعد بمقدار مسافة القصر فأكثر. 2ً - ضرر في بدن الحاضن كالجنون والجذام والبرص. وافقهم فيه الحنابلة. 3ً - الفسق أو قلة دينه من الحضانة، بأن كان غير مأمون على الولد؛ لعدم تحقق المصلحة المقصودة من الحضانة، وهذا متفق عليه. وقد نصت المادة (3/ 147) على أنه: «إذا ثبت أن الولي ـ ولو أباً ـ غير مأمون على الصغير أو الصغيرة، يسلمان إلى من يليه في الولاية، وذلك دون إخلال بحكم الفقرة الأولى من هذه المادة». وأما نص الفقرة الأولى من هذه المادة فهو: «إذا كان الولي غير الأب، فللقاضي وضع الولد ذكراً أو أنثى عند الأصلح من الأم أو الولي أو من يقوم مقامهما، حتى تتزوج البنت أو تبلغ أو يبلغ الصبي سن الرشد». 4ً - تزوج الحاضنة ودخولها، إلا أن تكون جدة الطفل زوجاً لجده أو تتزوج الأم عماً له، فلا تسقط؛ لأن الجد أو العم مَحْرم للصغير. وهذا متفق عليه، كما تقدم.
ثانيا ـ عودة الحق في الحضانة
وكذا تسقط الحضانة عند الشافعية والحنابلة بالكفر، كما تسقط بالاتفاق بالجنون أو العته (¬1). ثانياً ـ عودة الحق في الحضانة: إذا سقطت الحضانة لمانع من الموانع، ثم زال المانع، فهل تعود الحضانة؟ للفقهاء رأيان (¬2): قال المالكية في المشهور: إذا سقطت حضانة الحاضنة لعذر كمرض وخوف مكان، وسفر ولي بالمحضون سفر نقلة، وسفرها لأداء فريضة الحج، ثم زال العذر بشفائها من المرض، وتحقق الأمن، والعودة من السفر الاضطراري، عادت الحضانة إليها؛ لأن المانع من الحضانة هو العذر الاضطراري، وقد زال، وإذا زال المانع عاد الممنوع. أما إن تزوجت الحاضنة بأجنبي غير محرم ودخل بها، أو سافرت باختيارها لا لعذر، ثم تأيمت بأن فارقها الزوج بطلاق أو فسخ نكاح أو وفاة، أو عادت من السفر الاختياري، فلا تعود إليها الحضانة بعد زوال المانع؛ لأن سقوط الحضانة كان باختيارها، فلا تعذر. وقال الجمهور (الحنفية والشافعية والحنابلة): إذا سقطت الحضانة لمانع، ثم زال المانع، عادت الحضانة إلى صاحبها، سواء أكان اضطرارياً كالمرض، أم ¬
ثالثا ـ هل تجبر الأم على الحضانة؟
اختيارياً كالزواج والسفر والفسق، لزوال المانع. لكن ذلك عند الحنفية في الحال بالنسبة للبائن ولو قبل انقضاء العدة، أما الرجعية فلا بد من انقضاء العدة فيها. وذكر الشافعية أن المطلَّقة تستحق الحضانة في الحال قبل انقضاء العدة على المذهب، بشرط رضا الزوج بدخول المحضون بيته إن كان له، فإن لم يرض لم تستحق. وقرر الحنابلة استحقاق المطلقة الحضانة، ولو كان الطلاق رجعياً، ولو لم تنقض العدة. وقد نصت المادة (141) من القانون السوري على أنه: «يعود حق الحضانة إذا زال سبب سقوطه». ثالثاً ـ هل تجبر الأم على الحضانة؟ هذا بحث مفرع عن الحضانة، هل هي حق الحاضنة أو حق الولد (¬1)؟ المفتى به عند الحنفية أن الأم وغيرها لا تجبر على الحضانة إذا امتنعت، كما لا تجبر على الإرضاع، إلا إذا تعينت لهما، بأن لم يأخذ ثدي غيرها أو لم يكن للأب ولا للصغير مال، أو لم يوجد غيرها للحضانة. وهذا قول الشافعية والحنابلة، والمالكية أيضاً على المشهور عندهم، وبناء عليه: للأم إسقاط حقها في الحضانة، وإذا أرادت العود لا حق لها عند المالكية. وتجبر الأم إذا لم يكن للصغير ذو رحم محرم، كيلا يضيع الولد. ¬
رابعا ـ سكوت صاحب الحق في الحضانة عن طلبها
وقيل: إنها تجبر على الحضانة مطلقاً، ولهذا لاتملك إسقاطها بالخلع، فلو خالعت الزوج على أن تترك له حق الحضانة، أو اشترط الزوج ترك الولد عنده، فالخلع صحيح عند الحنفية والشرط باطل، ولحاضنته أخذها منه، وهذا ما نصت عليه المادة (103) من القانون السوري، كما تقدم في بحث الخلع. رابعاً ـ سكوت صاحب الحق في الحضانة عن طلبها: قال المالكية (¬1): إذا سكت صاحب الحق في الحضانة عن طلبها، يسقط حقه بالشروط الآتية: 1ً - أن يعلم بحقه في الحضانة: فإن كان لا يعلم بحقه وسكت عن طلب الحضانة لا يسقط حقه، مهما طالت مدة سكوته. 2ً - أن يعلم أن سكوته يسقط حقه في الحضانة: فإن كان يجهل ذلك فلا يبطل حقه فيها بالسكوت؛ لأن هذا أمر فرعي يعذر الناس بجهله. 3ً - أن تمضي سنة من تاريخ علمه باستحقاقه الحضانة: فلو مضى على علمه أقل من سنة وهو ساكت، ثم طلبها قبل مضي العام، قضي له باستحقاقها. فإذا تزوجت الحاضنة بأجنبي ودخل بها، ولم يعلم بالزواج من انتقلت الحضانة له حتى فارقها زوجها بطلاق أو وفاة، استمرت الحضانة لها. وكذا إن علم بزواجها وسكت عن أخذ الولد عاماً، حتى فارقها زوجها، لم ينزعه منها، وبقي معها؛ لأن سكوته حتى مضت سنة، يسقط حقه بطلب الحضانة. ¬
المبحث الرابع ـ أجرة الحضانة وتوابعها من السكنى والخدمة
المبحث الرابع ـ أجرة الحضانة وتوابعها من السكنى والخدمة: هل تجب الأجرة على الحضانة؟ للفقهاء رأيان (¬1): ليس للحاضن أجرة على الحضانة في رأي الجمهور غير الحنفية، سواء أكانت الحاضن أماً أم غيرها؛ لأن الأم تستحق النفقة إن كانت زوجة، وغير الأم نفقتها على غيرها وهو الأب. لكن إن احتاج المحضون إلى خدمة كطبخ طعامه وغسل ثيابه، فللحاضن الأجرة. وقال الحنفية: لا تستحق الحاضنة أجرة على الحضانة إذا كانت زوجة أو معتدة لأبي المحضون في أثناء العدة، سواء عدة الطلاق الرجعي أو البائن في الأوجه، كما لا تستحق أجراً على الإرضاع، لوجوبهما عليها ديانة، ولأنها تستحق النفقة في أثناء الزوجية والعدة، وتلك النفقة كافية للحضانة. أما بعد انقضاء العدة فتستحق أجرة الحضانة؛ لأنها أجرة على عمل. وتستحق الحاضنة غير الزوجة أجرة الحضانة، مقابل قيامها بعمل من الأعمال، وتلك الأجرة غير أجرة الرضاع، ونفقة الولد، فهي ثلاثة واجبات. وقد أخذ القانون السوري (م 143) برأي الحنفية، ونص هذه المادة: لا تستحق الأم أجرة للحضانة في حال قيام الزوجية أو في عدة الطلاق. التفضيل بين الأم والمتبرعة بالحضانة: يرى الحنفية (¬2): أن المتبرعة بالرضاع تقدم على الأم، إذا لم ترض بالإرضاع بلا أجر، أما المتبرعة بالحضانة: فإن كانت غير محرم للصغير، فلا تقدم على ¬
أجرة مسكن الحضانة وأجرة الخادم
صاحبة الحق في الحضانة، وإن كانت محرماً للصغير فتقدم المتبرعة إذا كانت الأجرة في مال الصغير أو كان الأب معسراً، ولا تقدم في غير هاتين الحالتين. وسبب التفرقة: أن المقصود من الرضاع التغذية، وهي تتحقق من غير المحارم كالمحارم، أما الحضانة فيقصد بها تربية الصغير وتعهده بالرعاية والعناية، وهذه أمور تحتاج إلى الشفقة والحنان، وتكون القريبة أشفق من البعيدة. وإذا لم يوجد أحد يرضى بالحضانة مجاناً وكان الأب معسراً، ولم يكن للصغير مال، فإن الأم ومن يليها في استحقاق الحضانة تجبر على الحضانة، وتكون أجرتها ديناً على الأب إلى وقت اليسار، ولا يسقط هذا الدين إلا بالأداء أو بالإبراء. أجرة مسكن الحضانة وأجرة الخادم: اتفق الحنفية على المختار، والمالكية على المشهور (¬1) على وجوب أجرة مسكن الحضانة للحاضن والمحضون إذا لم يكن لهما مسكن؛ لأن أجرة المسكن من النفقة الواجبة للصغير، فتجب على من تجب عليه نفقته، باجتهاد القاضي أو غيره بحسب حال الأب. وكذلك اتفقوا على وجوب أجرة للخادم إذا احتاج الصغير إلى خادم؛ لأنه من لوازم المعيشة. والظاهر أن المذاهب الأخرى متفقة مع هذا الرأي. المكلف بنفقة الحضانة: يرى جمهور الفقهاء أن مؤنة (نفقة) الحضانة تكون في مال المحضون، فإن لم يكن له مال، فعلى الأب أو من تلزمه نفقته؛ لأنها من ¬
موقف القانون
أسباب الكفاية والحفظ والإنجاء من المهالك. وإذا وجبت أجرة الحضانة فتكون ديناً لا يسقط بمضي المدة ولا بموت المكلف بها، أو موت المحضون، أو موت الحاضنة. والمشهور عند المالكية: أن كراء المسكن للحاضنة والمحضونين على والدهم (¬1). موقف القانون: نصت المادة (142) على المكلف بنفقة الحضانة: «أجرة الحضانة على المكلف بنفقة الصغير، وتقدر بحسب حال المكلف بها». ونصت المادة (44) على حالة إعسار المكلف بالنفقة وتبرع أحد المحارم بالحضانة: «إذا كان المكلف بأجرة الحضانة معسراً عاجزاً عنها وتبرع بحضانة الصغير أحد محارمه، خيرت الحاضنة بين إمساكه بلا أجرة، أو تسليمه لمن تبرع». بدء استحقاق نفقات الحضانة: يبدأ استحقاق نفقة الحضانة من أجرة ومسكن وخادم في رأي الحنفية كما يبدأ استحقاق أجرة الرضاع وقياساً عليها (¬2)، فإن كان هناك اتفاق على الحضانة بأجر معين، أو حكم قضائي بالأجر، استحقت الحاضنة الأجر من تاريخ الاتفاق أو الحكم. وإذا لم يوجد اتفاق على الأجر، ولا حكم به، فإن كانت الحاضنة غير الأم، فلا تستحق أجرة على الحضانة إلا من تاريخ الاتفاق أو الحكم. وإن كانت الحاضنة هي الأم، استحقت الأجرة من وقت قيامها بالحضانة بعد انقضاء العدة من غير توقف على تراض أو قضاء. وقيل: من يوم الاتفاق أو ¬
المبحث الخامس ـ مكان الحضانة
الحكم. وقد أخذ القضاء المصري بالتفرقة بين الأم وبين غيرها في الإرضاع والحضانة. المبحث الخامس ـ مكان الحضانة والانتقال بالصغير إلى بلد آخر، وحق زيارته: مكان الحضانة: هو مكان الزوجين إذا كانت الزوجية بينهما قائمة. وللفقهاء آراء متقاربة في تحديد مواطن الحضانة وما يترتب عليه (¬1). أما الحنفية ففصلوا القول كما يأتي: أـ إذا كانت الأم هي الحاضنة في حال قيام الزوجية، أو أثناء العدة من طلاق أو وفاة، فمكان الحضانة: هو المكان الذي تقيم فيه مع الزوج، ولا يجوز لها الانتقال به إلا بإذن الزوج؛ لأن الزوجة ملزمة بمتابعة زوجها والإقامة معه حيث يقيم، والمعتدة يلزمها البقاء في مسكن الزوجية، سواء مع الولد أو بدونه، لقوله تعالى: {لا تخرجوهن من بيوتهن، ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} [الطلاق:1/ 65]. ب ـ أما الأم المطلَّقة بعد انتهاء العدة: فمكان حضانتها هو أيضاً مكان إقامة الزوج، ولا يجوز لها الخروج من بلدة إلى أخرى بينهما تفاوت بحيث لا يمكن الوالد أن يبصر ولده، ثم يرجع في نهاره، إلا إذا انتقلت به إلى وطنها، وكان قد تزوجها (أي عقد عليها عقد الزواج) فيه. فإذا توافر هذان الشرطان: الوطن وكونه ¬
مكان العقد، جاز للأم الانتقال بالمحضون إليه، وإلا لم يجز، ويسقط حقها في الحضانة. جـ ـ وأما الحاضنة الأخرى غير الأم كالجدة أو الأخت أو الخالة أو العمة، فلا يجوز لها الانتقال بالمحضون إلى غير بلد أبيه إلا بإذنه ورضاه، حتى لا يتضرر الولد، فلو انتقلت إلى بلد آخر بغير إذن الأب، سقط حقها في الحضانة. وقال المالكية: مكان الحضانة للمطلقة بعد انقضاء العدة هو مكان إقامة والد المحضون. فليس لها السفر سفر نُقْلة وانقطاع من بلد إلى بلد ستة بُرُد (133 كم) فأكثر، فإن سافرت إلى مكان يبعد هذه المسافة عن بلد إقامة الأب، سقط حقها في الحضانة لاحتياج المحضون إلى رعاية الولي. ولا يسقط حقها في الحضانة بسفر التجارة والزيارة والحج ونحوه. وذهب الشافعية إلى أنه إن كان السفر من أحد الزوجين المفترقين بالطلاق سفر حاجة كتجارة وحج، كان الولد المميز وغيره مع المقيم حتى يعود. وإن كان السفر من أحد الزوجين سفر نُقْلة، كان الأب أولى من الأم بالحضانة، بشرط أمن الطريق وأمن البلد المقصود بالسفر، حفظاً للنسب، فإنه يحفظه الآباء، أو رعاية لمصلحة التأديب والتعليم وسهولة الإنفاق. فإن كان السفر مخوفاً، أو البلد الذي يسافر إليه مخوفاً، فالمقيم أحق بالحضانة للولد. وقرر الحنابلة أنه متى أراد أحد الأبوين الانتقال بالمحضون إلى بلد آمن، مسافة القصر فأكثر، ليسكنه، فتسقط حضانة الحاضنة، ويكون الأب أحق، ما لم يرد بنقلته مضارتها، فإن أراد بنقلته مضارة الأم، لم يسقط حقها في الحضانة.
انتقال الأب أو من يقوم مقامه إلى بلد آخر
انتقال الأب أو من يقوم مقامه إلى بلد آخر: رأى الحنفية (¬1): أنه ليس للأب أو الولي مطلقاً إخراج المحضون من بلد أمه بلا رضاها ما بقيت حضانتها، فلو انتقل إلى بلد آخر غير بلد الحاضنة فليس له أخذ الولد معه ما دامت حضانتها قائمة، ولا يسقط حقها في الحضانة بانتقاله، سواء أكان البلد قريباً أم بعيداً، وسواء أكان السفر بقصد الإقامة أم التجارة أم الزيارة؛ لأن الحضانة حق الحاضنة، ولا يملك الولي إسقاط هذا الحق. وسوّى المالكية (¬2) بين الحاضنة والولي في إسقاط حضانتها إذا سافر أحدهما إلى بلد آخر مسافة ستة بُرُد فأكثر بقصد الإقامة، فإذا سافر الولي، سواء أكان ولي مال كالأب والوصي أم ولي عصوبة كالعم، على المحضون ولو رضيعاً، سفراً بقصد التوطن والإقامة، لمسافة تبعد عن بلد الحاضنة ستة برد فأكثر، كان له أخذ الولد من حاضنته، بشرط أمن الطريق وأمن المكان المقصود، ويسقط حقها في الحضانة، إلا إذا سافرت مع الولي، فلا تسقط حينئذ حضانتها بانتقاله. ودليلهم: أن حق الولي في الحضانة أقوى من حق الحاضنة؛ لأن التربية الروحية مقدمة على التربية البدنية، والولي أقدر من الحاضنة على تلك التربية. وفرق الشافعية (¬3) بين سفر الحاجة وبين سفر النقلة، فإن أراد الولي أو الحاضنة سفر حاجة، كان الولد المميز وغيره مع المقيم حتى يعود المسافر منهما، لما في السفر من الخطر والضرر. وإن أراد أحدهما سفر نُقْلة، فالأب أولى، بشرط أمن طريقه وأمن البلد ¬
زيارة الولد
المقصود له، كما قرر المالكية، وإن يكن هناك أمن، فيقرّ عند أمه، وليس لوليه أن يخرجه إلى دار الحرب. والحنابلة (¬1) كالشافعية: فإنهم قالوا كما تقدم: متى أراد أحد الأبوين النقلة إلى بلد مسافة قصر فأكثر، وكان البلد والطريق آمناً، والقصد هو السكنى، فالأب أحق بالحضانة، سواء أكان المقيم هو الأب، أم المنتقل؛ لأن الأب في العادة هو الذي يقوم بتأديب الصغير وحفظ نسبه، فإذا لم يكن الولد في بلد الأب، ضاع. والخلاصة: أن سفر الولي لا يسقط حق الحضانة للحاضنة في رأي الحنفية، ويسقطها في رأي الجمهور. زيارة الولد: حق الرؤية أو الزيارة لأحد الأبوين غير الحاضن مقرر شرعاً باتفاق الفقهاء، لصلةالرحم، ولكنهم ذكروا آراء مختلفة نسبياً، بحسب تقدير المصلحة لكل من الولد والوالد الذي يكون ولده في حضانة غيره. قال الحنفية (¬2): إذا كان الولد عند الحاضنة، فلأبيه حق رؤيته، بأن تخرج الصغير إلى مكان يمكن الأب أن يراه فيه كل يوم. وإذا كان الولد عند أبيه لسقوط حق الأم في الحضانة، أو لانتهاء مدة الحضانة، فلأمه رؤيته، بأن يخرجه إلى مكان يمكنها أن تبصر ولدها، كل يوم. والحد الأقصى كل أسبوع مرة كحق المرأة في زيارة أبويها، والخالة مثل الأم، ولكن كما جرى القضاء في مصر، تكون زيارتها كل شهر مرة. ¬
وقال المالكية (¬1): للأم أن ترى أولادها الصغار كل يوم مرة، وأولادها الكبار كل أسبوع مرة. والأب مثل الأم في الرؤية قبل بلوغ سن التعليم، وأما بعد بلوغ سن التربية والتعليم، فله مطالعة ولده من آن لآخر، أي الاطلاع عليه. ويرى الشافعية (¬2): أن المميز إن اختار أباه بعد تخييره في سن التمييز، لم يمنعه زيارة أمه. ويمنع الأب الأنثى من زيارة أمها إذا اختارته لتألف الصيانة وعدم البروز للناس. والأم أولى منها بالخروج لزيارتها لسنها وخبرتها. ولا يمنع الأب أم المحضون من زيارته، ذكراً أو أنثى؛ لأن في المنع قطعاً للرحم، لكن لا تطيل المكث، ويمكنها من الدخول، فإن بخل بدخولها إلى منزله، أخرجه إليها. والزيارة مرة في أيام، أي في يومين فأكثر، لا في كل يوم، إلا إذا كان منزلها قريباً، فلا بأس بدخولها منزل الأب كل يوم. فإن مرض المحضون، فالأم أولى بتمريضه، ذكراً أو أنثى؛ لأنها أهدى إليه، وأصبر عليه من الأب ونحوه. والتمريض يكون في بيت الأب إن رضي به، وإن لم يرض يكون التمريض في بيتها. ويجب الاحتراز في الحالين من الخلوة بها. والحنابلة (¬3) كالشافعية قالوا: إن اختار المميز أباه، كان عنده ليلاً ونهاراً، ولا يمنع من زيارة أمه، ولا تمنع هي من تمريضه. وإن اختارها كان عندها ليلاً، وعند أبيه نهاراً ليؤدبه ويعلمه. ¬
المبحث السادس ـ مدة الحضانة وما يترتب على انتهائها من ضم الولد لأبيه
وأما البنت فتكون عند أبيها بعد إتمام سن السابعة إلى الزفاف، ولا يمنع أحد الأبوين من زيارتها عند الآخر؛ لأن فيه حملاً على قطيعة الرحم، ولكن من غير أن يخلو الزوج بالأم، ولا يطيل المقام؛ لأن الأم صارت بالبينونة أجنبية منه، والورع إذا زارت ابنتها: تحري أوقات خروج أبيها إلى معاشه، لئلا يسمع كلامها، والكلام وإن كان غير عورة، لكن يحرم التلذذ بسماعه. وإن مرضت البنت، فالأم أحق بتمريضها في بيت الأب، لحاجتها إليه. والأم تزور ابنتها، والغلام يزور أمه على ما جرت به العادة، كاليوم في الأسبوع. المبحث السادس ـ مدة الحضانة وما يترتب على انتهائها من ضم الولد لأبيه: اتفق الفقهاء على أن الحضانة تبدأ منذ ولادة الطفل إلى سن التمييز، واختلفوا في بقائها بعد سن التمييز. قال الحنفية (¬1): الحاضنة أماً أوغيرها أحق بالغلام حتى يستغني عن خدمة النساء، ويستقل بنفسه في الأكل والشرب واللبس والاستنجاء، وقدِّر زمن استقلاله بسبع سنين؛ لأنه الغالب، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «مروا أولادكم بالصلاة لسبع» والأمر بها لا يكون إلا بعد القدرة على الطهارة. وقيل: بتسع سنين. والأم والجدة أحق بالفتاة الصغيرة حتى تبلغ بالحيض أو الإنزال أو السن؛ لأنها بعد الاستغناء تحتاج إلى معرفة آداب النساء، والمرأة على ذلك أقدر، وأما بعد ¬
السبب في اختلاف الغلام والفتاة
البلوغ فتحتاج إلى التحصين والحفظ، والأب فيه أقوى وأهدى. وبلوغ الصغيرة إما بتسع سنين أو بإحدى عشرة سنة. والسبب في اختلاف الغلام والفتاة: هو أن القياس أو الأصل أن تتوقت الحضانة بالبلوغ فيهما جميعاً، لكن ترك القياس أو الأصل في الغلام بإجماع الصحابة؛ لما روي أن أبا بكر رضي الله عنه قضى بعاصم بن عمر لأمه ما لم يشبّ عاصم، أو تتزوج أمه. فبقي الحكم في الفتاة على أصل القياس؛ ولأن الغلام إذا استنغنى يحتاج إلى التأديب والتخلق بأخلاق الرجال واكتساب العلوم، والأب على ذلك أقدر وأقوم. والفتاة أحوج إلى تعلم آداب النساء والتخلق بأخلاقهن وخدمة البيت، والأم أقدر على ذلك بعدما تبلغ أو تحيض، فإذا بلغت احتاجت إلى الحماية والصيانة والحفظ عمن يطمع بها، والرجال على ما ذكر أقدر. وقال المالكية (¬1): تستمر الحضانة في الغلام إلى البلوغ، على المشهور، ولو مجنوناً أو مريضاً، وفي الأنثى إلى الزواج ودخول الزوج بها، ولو كانت الأم كافرة. وهذا في الأم المطلقة أو من مات زوجها. وأما من في عصمة زوجها فهي حق للزوجين جميعاً. ولا يخير الولد في رأي الحنفية والمالكية؛ لأنه لا قول له، ولا يعرف حظه، وقد يختار من يلعب عنده. وقال الشافعية (¬2): إن افترق الزوجان ولهما ولد مميز (¬3) ذكر أو أنثى، وله ¬
سبع أو ثمان سنين، وصلح الزوجان للحضانة، حتى لو فضَل أحدهما الآخر ديناً أو مالاً أو محبة، وتنازعا في الحضانة، خيِّر بينهما، وكان عند من اختار منهما؛ «لأنه صلّى الله عليه وسلم خيَّر غلاماً بين أبيه وأمه» (¬1) والغلامة كالغلام في الانتساب، ولأن القصد من الحضانة حفظ الولد، والمميز أعرف بحظه ومصلحته، فيرجع إليه. والولد يتخير، ولو أسقط أحد الزوجين حقه قبل التخيير. ولو اختار الولد أحد الأبوين، فامتنع من كفالته، كفله الآخر، فإن رجع الممتنع أعيد التخيير. وإن امتنع الأبوان وبعدهما مستحقان للحضانة كجد وجدة خيْر بينهما، وإلا أجبر بالحضانة من تلزمه نفقته؛ لأنها من جملة الكفالة. وإن صلح أحد الأبوين للحضانة دون الآخر بسبب جنون أو كفر أو رق أو فسق، أو زواج الأنثى أجنبياً، فالحق للآخر فقط، ولا تخيير لوجود المانع. فإن عاد صلاح الآخر عاد التخيير. ويخير الولد أيضاً بين أم وجد، وكذا أخ أو عم أو أب مع أخت أو خالة في الأصح، فإن اختار أحدهما، ثم اختار الآخر، حوّل إليه؛ لأنه قد يظهر له الأمر، بخلاف ما ظنه، أويتغير حال من اختاره أولاً، ولأن الولد قد يقصد مراعاة الجانبين. وقال الحنابلة (¬2): إذا بلغ الغلام غير المعتوه سبع سنين، خير بين أبويه، إذا تنازعا فيه، كما قال الشافعية، فكان مع من اختار منهما. ومتى اختار أحدهما، فسلم إليه، ثم اختار الآخر، رد إليه. ويخير الغلام بين أمه وعصبته؛ لأن علياً رضي الله عنه خيّر عمارة الجرمي بين أمه وعمه، ولأنه عصبة، فأشبه الأب. وإنما يخير الغلام بشرطين: ¬
موقف القانون
أحدهما ـ أن يكون الأبوان وغيرهما من أهل الحضانة: فإن كان أحدهما من غير أهل الحضانة، كان كالمعدوم، ويتعين الآخر. الثاني ـ ألا يكون الغلام معتوهاً: فإن كان معتوهاً كان عندالأم، ولم يخير؛ لأن المعتوه بمنزلة الطفل، وإن كان كبيراً، لذا كانت الأم أحق بكفالة ولدها المعتوه بعد بلوغه. أما الفتاة إذا بلغت سبع سنين، فالأب أحق بها، ولا تخير عندهم خلافاً للشافعية؛ لأن غرض الحضانة الحظ والمصلحة، والحظ للفتاة بعد السبع في الوجود عند أبيها؛ لأنها تحتاج إلى حفظ، والأب أولى به، فإن الأم تحتاج إلى من يحفظها ويصونها. لكن إذا كانت البنت عند الأم أو عند الأب، فإنها تكون عنده ليلاً ونهاراً؛ لأن تأديبها وتخريجها في جوف البيت، كتعليمها الغزل والطبخ وغيرهما. موقف القانون: قرر القانون المصري رقم (25) لسنة (1929) أن حق الحضانة ينتهي عند بلوغ الصغير سبع سنين، وبلوغ الصغيرة تسعاً. وكان هذا هو المقرر في القانون السوري، ثم عدل الحكم سنة (1975)، فنصت المادة (146) على أنه: تنتهي مدة الحضانة بإكمال الغلام التاسعة من عمره، والبنت الحادية عشرة. مايترتب على انتهاء مدة الحضانة من ضم الولد لأبيه أو جده: إذا انتهت مرحلةالحضانة، ضم الولد إلى الولي على النفس من أب أوجد، لا لغيرهما. ويظل للأب الحق في إمساك الصبي حتى يبلغ، فيخير بين أن ينفرد بالسكنى أو يسكن مع أي أبويه شاء، إلا إذا بلغ سفيهاً غير مأمون على نفسه،
فيضمه الأب إليه، لدفع فتنة أو عار، ولتأديبه إذا وقع منه شيء. ولا يلزم الأب بالنفقة على الولد بعد البلوغ إلا أن يتبرع. فإن بلغ معتوهاً، كان عند الأم، سواء أكان ابناً أم بنتاً. وأما الفتاة: فيضمها الأب أو الجد إذا كانت بكراً، وكذا إذا كانت ثيباً يخشى عليه الفتنة. فإن كان لا يخشى عليها، وكانت ذا خلق مستقيم وعقل سليم، وصارت مسنة بلغت سن الأربعين، فلها أن تنفرد بالسكنى حيث شاءت. ولا يلزم الأب بالإنفاق على الفتاة إذا رفضت السكنى معه أو متابعته بغير حق (¬1). والخلاصة: إذا بلغ الولد أو البنت بكراً أو ثيباً، وكانا غير مأمونين، فلا خيار لهم بالانفراد بالسكنى، بل يضمهم الأب إليه. ¬
الفصل الرابع: الولاية
الفَصْل الرّابع: الولاية الولاية: هي تدبير الكبير الراشد شؤون القاصر الشخصية والمالية. والقاصر: من لم يستكمل أهلية الأداء، سواء أكان فاقداً لها كغير المميز أم ناقصها كالمميز. وعرفها الحنفية بأنها: تنفيذ القول على الغير شاء أو أبى (¬1). وقد عرفنا في بحث الزواج أن الولي ركن من أركان العقد عند غير الحنفية، وهو شرط صحة نكاح صغير ومجنون ورقيق في مذهب الحنفية. وعرفنا في بحث النظريات الفقهية أن الولاية نوعان: ولاية على النفس وولاية على المال. والولاية على النفس: هي الإشراف على شؤون القاصر الشخصية من صيانة وحفظ وتأديب وتعليم وتطبيب وتزويج ونحو ذلك. والولاية على المال: هي الإشراف على شؤون القاصر المالية من استثمار وتصرفات كالبيع والإجارة والرهن وغيرها. وينقسم هذا الفصل إلى مبحثين بحسب نوع هاتين الولايتين أذكرهما بإجمال. ¬
المبحث الأول ـ الولاية على النفس
المبحث الأول ـ الولاية على النفس: أولاً ـ الولي على النفس وصلاحياته: الولي على النفس في مذهب الحنفية (¬1): هو الابن ثم الأب ثم الجد أبو الأب، ثم الأخ، ثم العم، أي أن الولاية على النفس تثبت عندهم على القاصر للعصبات بحسب ترتيب الإرث: البنوة، فالأبوة، فالأخوة، فالعمومة. ويقدم الشقيق على من كان لأب فقط. فإن لم يوجد أحد من العصبات انتقلت ولاية النفس إلى الأم ثم باقي ذوي الأرحام. وأما في مذهب المالكية فتثبت هذه الولاية على الترتيب التالي (¬2): البنوة، ثم الأبوة ثم الوصاية ثم الأخوة ثم الجدودة ثم العمومة. فالولي على النفس عندهم: هو الابن وابنه، ثم الأب ثم وصيه، ثم الأخ الشقيق وابنه، ثم الأخ لأب وابنه، ثم الجد أبو الأب، ثم العم وابنه. ويقدم الشقيق منهما على غير الشقيق، ثم القاضي في عصرنا. ويجبر الولي على أخذ القاصر بعد انتهاء الحضانة؛ لأن الولاية على النفس حق من حقوق المولى عليه. وصلاحيات ولي النفس: هي التأديب والتهذيب، ورعاية الصحة، والنمو الجسمي، والتعليم والتثقيف في المدارس، والإشراف على الزواج. وإذا كان القاصر أنثى وجب حمايتها وصيانتها، ولا يجوز للولي تسليمها إلى من يعلِّمها صناعة أو حرفة تختلط فيها بالرجال. ¬
ثانيا ـ شروط الولي على النفس
ثانياً ـ شروط الولي على النفس: يشترط في الولي على النفس (¬1): البلوغ والعقل (التكليف) والقدرة على تربية الولد، والأمانة على أخلاقه، والإسلام في حق المولى عليه المسلم أو المسلمة. فلا ولاية لغير بالغ، ولا لغير عاقل، ولا لسفيه مبذر؛ لأن هؤلاء في حاجة إلى من يتولى شؤونهم، ولا ولاية لفاسق ماجن لا يبالي بما يفعل لأنه يضر بأخلاق القاصر وبماله. ولا ولاية لمهمل للولد كأن يتركه مريضاً، دون أن يحاول علاجه مع قدرته عليه، أو كأن يحرمه التعليم مع صلاحية الولد؛ لأن ذلك ضار بمصلحة القاصر. وتنتقل الولاية حينئذ إلى الأصلح على وفق الترتيب المتقدم. موقف القانون: نصت المادة (170) من القانون السوري على ولاية الأب والجد ولاية نفس ومال، وعلى صلاحيات الولي، وعلى ما يسقط ولايته: 1 - للأب ثم للجد العصبي ولاية على نفس القاصر وماله، وهما ملتزمان بالقيام عليه. 2 - لغيرهما من الأقارب بحسب الترتيب المبين في المادة (21) ولاية على نفسه دون ماله. وأما نص المادة (21) فهو: الولي في الزواج هو العصبة بنفسه على ترتيب الإرث، بشرط أن يكون مَحْرماً. ¬
ثالثا ـ انتهاء الولاية على النفس
ونصت المادة (1/ 22) على أنه: يشترط أن يكون الولي عاقلاً بالغاً. 3 - يدخل في الولاية النفسية: سلطة التأديب والتطبيب والتعليم والتوجيه إلى حرفة اكتسابية، والموافقة على التزويج، وسائر أمور العناية بشخص القاصر. 4 - يعتبر امتناع الولي عن إتمام تعليم الصغير حتى نهاية المرحلة الإلزامية سبباً لإسقاط ولايته، وتعتبر معارضة الحاضنة أو تقصيرها في تنفيذ ذلك سبباً مسقطاً لحضانتها. ثالثاً ـ انتهاء الولاية على النفس: تنتهي الولاية على النفس في رأي الحنفية في حق الغلام ببلوغه خمس عشرة سنة، أو بظهور علامة من علامات البلوغ الطبيعية، وكان عاقلاً مأموناً على نفسه. وإلا بقي في ولاية الولي. وأما في حق الأنثى، فتنتهي هذه المرحلة بزواجها، فإن تزوجت صار حق إمساكها لزوجها، وإن لم تتزوج بقيت في ولاية غيرها إلى أن تصير مسنّة مأمونة على نفسها، فحينئذ يجوز لها أن تنفرد بالسكنى، أو تقيم مع أمها. ولم يحدد الحنفية هذه السن، والظاهر من كلامهم أن تصير عجوزاً لا يرغب فيها الرجال. ولكن القضاء في مصر وسورية أجاز للأنثى إذا بلغت سن الرشد (21 سنة في مصر، و18 سنة في سورية) أن تنفرد بالسكنى عن ولي النفس، إذا كانت مأمونة على نفسها، ولا يخشى عليها الفتنة. وأما في مذهب المالكية: فتنتهي الولاية على النفس بزوال سببها، وسببها الصغر وما في معناه: وهو الجنون والعته والمرض. وأما الأنثى فلا تنتهي الولاية النفسية عليها إلا بدخول الزوج بها، كما بان في بحث الحضانة.
المبحث الثاني ـ الولاية على المال
المبحث الثاني ـ الولاية على المال: أولاً ـ الولي على المال: إذا كان للقاصر مال، كان للأب الولاية على ماله حفظاً واستثماراً باتفاق المذاهب الأربعة، ثم اختلفوا فيمن تثبت له الولاية على مال القاصر بعد موت أبيه. قال الحنفية: تثبت هذه الولاية للأب ثم لوصيه، ثم للجد أبي الأب ثم لوصيه، ثم للقاضي فوصيه. وقال المالكية والحنابلة: تثبت هذه الولاية للأب ثم لوصيه، ثم للقاضي أو من يقيمه، ثم لجماعة المسلمين إن لم يوجد قاضٍ. وقال الشافعية: تثبت هذه الولاية للأب، ثم للجد، ثم لوصي الباقي منهما، ثم للقاضي أو من يقيمه. وبه يتبين أنهم خالفوا المذاهب الأخرى في تقديم الجد على وصي الأب؛ لأن الجد كالأب عند عدمه، لوفور شفقته مثل الأب، ولذا تثبت له ولاية التزويج. ولا تثبت ولاية المال لغير هؤلاء كالأخ والعم والأم إلا بوصاية من قبل الأب أو القاضي. وتستمر هذه الولاية حتى يبلغ القاصر سن الرشد. فإذا بلغ رشيداً، ثم طرأ عليه الجنون أو العته مثلاً، فهل تعود الولاية عليه؟ قال المالكية والحنابلة: لا تعود الولاية لمن كانت له، وإنما تكون للقاضي؛ لأن الولاية سقطت بالبلوغ عاقلاً، والساقط لا يعود.
حكم القانون
وقال الحنفية والشافعية في الأرجح عندهم: تعود الولاية لمن كانت له قبل البلوغ؛ لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فإذا وجدت علة الولاية وجدت الولاية. فإن كان الطارئ هو السفه: فإن الولاية على السفيه تكون في رأي الجمهور للقاضي أو من يعينه؛ لأن المقصود هو المحافظة على ماله، والنظر في مصالح الناس من صلاحيات القاضي. حكم القانون: أخذ القانون المصري (م 1) رقم (119) لسنة (1952) والقانون السوري برأي الحنفية في ترتيب درجات الأولياء على المال، فنصت المادة (1/ 172) من القانون السوري على أنه: للأب والجد العصبي عند عدمه دون غيرهما ولاية على مال القاصر حفظاً وتصرفاً واستثماراً. وهذا يوافق المادة الأولى من القانون المصري. ونصت المادة (176) من هذا القانون على تنصيب الأوصياء: 1 - يجوز للأب وللجد عند فقدان الأب أن يقيم وصياً مختاراً لولده القاصر أو الحمل، وله أن يرجع عن إيصائه. 2 - وتعرض الوصاية بعد الوفاة على المحكمة لتثبيتها. 3 - إن الوصاية في أموال القاصرين بعد وفاة الأب هي للوصي الذي اختاره الأب، وإن لم يكن قريباً لهم، على أن تعرض الوصاية على القاضي لتثبيتها فيما إذا كانت مستوفية لشروطها الشرعية. وهذا يوافق المادة (28) من القانون المصري. ونصت المادة (177) منه على وصي المحكمة: إذا لم يكن للقاصر أو الحمل وصي مختار، تعين المحكمة وصياً. وهي تطابق المادة (29) من القانون المصري.
ثانيا ـ شروط الولي على المال
ثانياً ـ شروط الولي على المال: يشترط لثبوت الولاية على المال ما يشترط لثبوت الولاية على النفس وهو ما يأتي (¬1): 1ً - أن يكون الولي كامل الأهلية، وذلك بالبلوغ والعقل والحرية؛ لأن فاقد الأهلية أو ناقصها ليس أهلاً للولاية على مال نفسه، فلا يكون أهلاً للولاية على مال غيره. 2ً - ألا يكون سفيهاً مبذراً محجوراً عليه: لأنه لا يلي أمور نفسه، فلا يلي أمور غيره. 3ً - أن يكون متحد الدين مع القاصر، فلو كان الأب غير مسلم فلا يلي أمور ابنه المسلم. ثالثاً ـ تصرفات الولي على المال: تصرف الولي في مال القاصر مقيد بالمصلحة للمولى عليه، فلا يجوز له مباشرة التصرفات الضارة ضرراً محضاً كهبة شيء من مال المولى عليه أو التصدق به أو البيع والشراء بغبن فاحش، ويكون تصرفه باطلاً. وله مباشرة التصرفات النافعة نفعاً محضاً كقبول الهبة والصدقة والوصية، وكذا التصرفات المترددة بين الضرر والنفع كالبيع والشراء والإجارة والاستئجار والشركة والقسمة. ودليل هذا المبدأ قوله تعالى: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشدّه} [الإسراء:34/ 17]. ¬
تصرفات الأب
تصرفات الأب: الأب المبذر ليس له ولاية على مال القاصر، وعليه تسليم المال إلى وصي يختاره. فإن كان غير مبذر، فله الولاية على مال القاصر، وله في رأي الحنفية والمالكية بيع مال القاصر والشراء له، سواء أكان المال منقولاً أم عقاراً، ما دام العقد بمثل الثمن أو بغبن يسير: وهو ما يتغابن فيه الناس عادة. ولا ينفذ على القاصر البيع أوالشراء بغبن فاحش: وهو ما لا يتغابن فيه الناس عادة. لكن المفتى به لدى الحنفية أن الشراء ينفذ على الولي، لإمكان نفاذه عليه، بعكس البيع فلا ينفذ؛ لأن فيه ضرراً ظاهراً على المولى عليه. وله أن يبيع مال نفسه لولده الصغير ونحوه، وأن يشتري مال ولده لنفسه بمثل الثمن أو بغبن يسير، ويتولى الأب طرفي العقد، وتكون عبارته قائمة مقام الإيجاب والقبول، استثناء من مبدأ تعدد العاقد في العقود المالية، نظراً لوفور شفقة الأب على ولده. وليس للأب أن يتبرع بشيء من مال الصغير ونحوه؛ لأن التبرع تصرف ضار ضرراً محضاً، فلا يملكه الولي ولو كان أباً. وليس له أيضاً أن يقرض مال الصغير للغير، ولا أن يقترض لنفسه؛ لما في إقراضه من تعطيل استثمار المال. ويجوز للأب في رأي أبي حنيفة ومحمد أن يرهن شيئاً من مال ولده في دين نفسه، قياساً على ما له من إيداع مال ولده. ولا يجوز هذا الرهن في رأي أبي يوسف وزفر؛ لأن في الرهن تعطيلاً لمنفعة المال، إذ يبقى محبوساً إلى سداد الدين. حكم القانون: منع القانون المصري رقم (119) لسنة (1952) في المادة الخامسة منه تبرع الولي بشيء من مال القاصر، إلا لأداء واجب إنساني أو عائلي
بإذن المحكمة. وهذا الاستثناء مخالف لرأي الفقهاء. ومنعت المادة السادسة منه التصرف في عقار القاصر ببيع أو إجارة لنفسه أو لزوجه أو لأقاربه أو لأقاربها إلى الدرجة الرابعة إلا إذا أذنت المحكمة بذلك، رعاية لمصلحة الصغير. ومنعت هذه المادة أيضاً أخذاً برأي أبي يوسف وزفر رهن مال الصغير في دين على الولي نفسه؛ لأن الرهن يفضي غالباً إلى استيفاء الدين من مال المرهون. ومنعت المادة السابعة الأب من التصرف في عقار القاصر أو محله التجاري أو أوراقه المالية إذا زادت قيمتها على ثلاثمائة جنيه إلا بإذن المحكمة، رعاية لمصالح المولى عليه. ومنعت المادة التاسعة الولي من إقراض مال القاصر واقتراضه إلا بإذن المحكمة، كما منعته المادة العاشرة من إيجار عقار القاصر لمدة تتجاوز بلوغه سن الرشد إلا بإذن المحكمة. وكذلك منعته المادة الحادية عشرة من الاستمرار في تجارة آلت للقاصر إلا بإذن المحكمة وفي حدود هذا الإذن. وهذا من قبيل الاحتياط لمصلحة القاصر. وأجازت المادة الرابعة عشرة للأب وحده أن يتعاقد مع نفسه بالنيابة عن القاصر، سواء أكان ذلك لحسابه هو أم لحساب شخص آخر إلا إذا نص القانون على غير ذلك. ونصت المادة الثالثة على أنه «لا يدخل في الولاية مايؤول للقاصر من مال بطريق التبرع إذا اشترط المتبرع ذلك». وتتفق هذه الأحكام غالباً مع المقرر في القانون السوري، فنصت المادة (2/ 172) على أنه: «لا ينزع مال القاصر من يد الأب أو الجد العصبي ما لم تثبت خيانته أو سوء تصرفاته فيه، وليس لأحدهما التبرع بمال القاصر أو بمنافعه أصلاً،
الولي الخاص
ولا يبيع عقاره أو رهنه إلا بإذن القاضي بعد تحقق المسوغ» وهذا من قبيل الاحتياط في صيانة مال القاصر؛ لأن الضرر في بيع عقاره أكثر من الضرر في بيع ماله المنقول غالباً. ونصت المادة (171) على مضمون المادة الثالثة في القانون المصري: «إذا اشترط المتبرع بمال للقاصر عدم تصرف وليه به، تعين المحكمة وصياً خاصاً على هذا المال». ونصت المادة (173) على أحوال نزع الولاية المالية من الأب والجد أو الحد منها: «إذا أصبحت أموال القاصر في خطر بسبب سوء تصرف الولي أو لأي سبب آخر، وخيف عليها منه، فللمحكمة أن تنزع ولايته أو تحد منها، ويجوز للقاضي أن يعهد إلى حاضنة القاصر ببعض أعمال الولي الشرعي المالية إذا تحقق له أن مصلحة القصار تقضي بذلك، وبعد سماع أقوال الولي». وخصصت المادة (174) لأحوال إيقاف الولاية: «تقف الولاية إذا اعتبر الولي مفقوداً، أو حجر عليه أو اعتقل، وتعرضت باعتقاله مصلحة القاصر للضياع، ويعين للقاصر وصي مؤقت إذا لم يكن له ولي آخر». الولي الخاص: ونصت المادة (175) على حالة تعيين ولي خاص: «تعين المحكمة ولياً خاصاً عند تعارض مصلحة القاصر مع مصلحة وليه، أو عند تعارض مصالح القاصرين بعضها مع بعض». رابعاً ـ شروط الوصي المختار ـ وصي الأب وتصرفاته: الوصي نوعان:
- الوصي المختار
1 ً - الوصي المختار: هو الذي يعينه الأب أو الجد للإشراف على أموال أولاده أو أحفاده. 2 ً - وصي القاضي: هو الذي يعينه القاضي للإشراف على التركة والأولاد. وشروط الوصي أربعة: 1ً - البلوغ: وهو شرط في سائر التصرفات، فلا تثبت الولاية للصبي؛ لأنه قاصر النظر لا يهتدي إلى وجوه المصلحة أو المنفعة. 2ً - العقل: وهو شرط أيضاً في سائر التصرفات، فلا تثبت الولاية للمجنون ونحوه؛ لأنه لا يهتدي إلى حسن التصرف في حق نفسه، فلا يلي شؤون غيره. أما اشتراط الفقهاء الحرية فلم يعد له معنى اليوم لإلغاء الرق. 3ً - الإسلام في حق المولى عليه المسلم: فلا ولاية لكافر على مسلم؛ لأن الإيصاء كالولاية، ولاولاية لغير المسلم على المسلم. 4ً - العدالة: فلا ولاية لفاسق؛ لأن الإشراف على مصالح الغير يتطلب استقامة ونزاهة وورعاً. والعدالة: اجتناب المعاصي الكبائر كالزنا والقذف وشرب الخمر والسرقة، وعدم الإصرار على الصغائر كإدمان التلصص على النساء. فإذا فقد شرط من هذه الشروط، صح الإيصاء عند الحنفية على المعتمد، ويعزله القاضي ويعين غيره. ويصح الإيصاء للمرأة في رأي أكثرية العلماء؛ لأن عمر رضي الله عنه أوصى إلى ابنته حفصة أم المؤمنين، ولأنه تصح شهادتها وتصرفاتها المالية كالرجل، فتجوز وصايتها.
حكم القانون
ويصح الإيصاء للأعمى في رأي الجمهور؛ لأنه خبير يحسن التصرف كالمبصر، ولأنه تصح شهادته وولايته في الزواج وعلى أولاده الصغار، فصح الإيصاء إليه. حكم القانون: نصت المادة (27) من القانون المصري رقم (119) لسنة 1952 على شروط الوصي ومن ليس أهلاً للوصاية، وهو نص المادة (178) من القانون السوري الآتية: 1 - يجب أن يكون الوصي عدلاً، قادراً على القيام بالوصاية، ذا أهلية كاملة، وأن يكون من ملةالقاصر. 2 - لا يجوز أن يكون وصياً: أـ المحكوم عليه في جريمة سرقة أو إساءة الائتمان أو تزوير أو في جريمة من الجرائم المخلة بالأخلاق والآداب العامة. ب ـ المحكوم بإفلاسه إلى أن يعاد إليه اعتباره. جـ ـ من قرر الأب أو الجد عند عدمه حرمانه من التعيين قبل وفاته إذا ثبت ذلك ببينة خطية. د ـ من كان بينه هو أو أحد أصوله أو فروعه أو زوجه وبين القاصر نزاع قضائي أو خلاف عائلي يخشى منه على مصلحة القاصر. وهذ تفصيل مترتب على ما اشترطه الفقهاء. الوصي المؤقت: نصت المادة (179) على حالة تعيين وصي مؤقت تشبه حالة تعيين ولي خاص في المادة (175) السابقة، ونصها هو ما يأتي:
تصرفات الوصي المختار
ينصب القاصي وصياً خاصاً مؤقتاً عند تعارض مصلحة القاصر مع مصلحة الوصي أو زوجه أو أحد أصوله أو فروعه، أو من يمثلهم الوصي، إن لم يبلغ هذا التعارض النزاع المنصوص عليه في المادة السابقة (أي المادة 178). ونصت المادة (188) على حالة أخرى لتعيين وصي مؤقت: 1 - إذا رأت المحكمة كفَّ يد الوصي، عينت وصياً مؤقتاً لإدارة أموال القاصر إلى حين زوال سبب الكف أو تعيين وصي جديد. 2 - تسري على الوصي المؤقت أحكام الوصاية الواردة في هذا القانون. وأما تصرفات الوصي المختار، فهي ما يأتي: يملك وصي الأب أو الجد ما يملكه الأب إلا فيما يأتي بسبب عدم توافر الشفقة الكائنة عند الأب: 1ً - بيع العقار: لا يملك الوصي المختار بيع عقار القاصر إلا إذا كان هناك مسوغ شرعي، كأن يكون بيع العقار خيراً للصغير، وذلك فيما يأتي: أـ بيع العقار بضعف قيمته فأكثر، فيستطيع الوصي شراء عقار أنفع مما باعه. ب ـ أن تزيد ضريبة العقار ومصاريفه على غلاته. جـ ـ أن يتعين بيع العقار لصرف ثمنه في نفقة القاصر. 2ً - بيع الوصي مال نفسه لليتيم أو شراء ماله لنفسه: لا يجوز للوصي المختار بيع ماله للقاصر أو شراء مال القاصر لنفسه إلا إذا كان في البيع والشراء منفعة ظاهرة. وتتحقق هذه المنفعة في رأي أبي حنيفة بأن يبيع العقار للقاصر بنصف
القيمة، ويشتري منه العقار بضعف قيمته. وفي غير العقار: أن يبيع له ما يساوي (15 بعشرة)، ويشتري ما يساوي عشرة بخمسة عشر. وقال الصاحبان والأئمة الآخرون: لا يجوز للوصي أن يبيع أو يشتري من مال الصغير مطلقاً. وأما في القانون: فقد نصت المادة (38) من القانون المصري رقم (119) لسنة 1952 على منع الوصي من التبرع بمال القاصر إلا لأداء واجب إنساني أوعائلي وبإذن المحكمة. وهذا نفس المقرر بالنسبة للأب. ونصت المادة (180) سوري على أن: تبرع الوصي من مال القاصر باطل. ومنعت المادة (39) مصري و (182) سوري من طائفة من التصرفات إلا بإذن المحكمة وهي ما يأتي على الترتيب في القانون السوري: أـ التصرف في أموال القاصر بالبيع أو الشراء أو المقايضة أو الشركة أو الإقراض أو الرهن أو أي نوع آخر من أنواع التصرفت الناقلة للملكية أو المترتبة لحق عيني. ب ـ تحويل الديون التي تكون للقاصر وقبول الحوالة عليه. جـ ـ استثمار الأموال وتصفيتها واقتراض المال للقاصر. د ـ إيجار عقار القاصر لمدة أكثر من ثلاث سنوات في الأراضي الزراعية أو أكثر من سنة في المباني. هـ ـ إيجار عقار القاصر لمدة تمتد إلى سنة بعد بلوغه سن الرشد. وـ قبول التبرعات المقيدة بشرط أو رفضها.
ز ـ الإنفاق من مال القاصر على من تجب عليه نفقتهم إلا إذا كانت النفقة محكوماً بها حكماً مبرماً. ح ـ الصلح والتحكيم. ط ـ الوفاء بالالتزامات التي تكون على التركة أو القاصر ما لم يكن قد صدر بها حكم مبرم. ي ـ رفع الدعاوى إلا ما يكون في تأخيره ضرر للقاصر أو ضياع حق له. ك ـ التنازع عن الدعاوى وإسقاط حقه في طرق المراجعة القانونية. ل ـ التعاقد مع المحامين للخصومة عن القاصر. م ـ تبديل التأمينات أو تعديلها. ن ـ استئجار أموال القاصر أو إيجارها لنفسه أو لزوجه أو لأحد أقاربه أو أصهاره حتى الدرجة الرابعة أو لمن يكون الوصي نائباً عنه. س ـ ما يصرف في تزويج القاصر. ع ـ إصلاح عقار القاصر وترميمه وتبديل معالمه أوإنشاء بناء عليه أو هدمه أو غرس أغراس ونحو ذلك، ويتضمن الإذن في هذه الحالة تحديد مدى التصرف وخطة العمل. ونصت المادة (181) على أن إجراء القسمة بالتراضي مع باقي الشركاء لا ينفذ إلا بتصديق القاضي. وهذه القيود لا مانع منها شرعاً؛ لأن المقصود منها رعاية مصلحة القاصر والمحافظة على ماله، وهو مايريده الفقهاء.
خامسا ـ القاضي ووصيه وتصرفاته
خامساًً ـ القاضي ووصيه وتصرفاته: إذا لم يوجد أب ولا جد ولا وصيهما، انتقلت الولاية للقاضي، لما له من الولاية العامة، فله أن يتصرف بنفسه في أموال القاصر بما فيه المصلحة. لكن العمل جرى على أن القاضي لا يشرف بنفسه على أموال الصغار، بل يعين وصياً من قبله يسمى (وصي القاضي) أو (الوصي المعين). ويتصرف وصي القاضي كما يتصرف الوصي المختار، يتصرف في كل ما كان نافعاً للقاصر، ويعمل على حفظ ماله وتنميته، ويختلف عن الوصي المختار في حالات (¬1): 1 - ليس لوصي القاضي أن يشتري شيئاً لنفسه من مال القاصر ولا أن يبيع شيئاً. أما الوصي المختار فله ذلك إذا كان في تصرفه منفعة ظاهرة للقاصر، كما تقدم. 2 - وصي القاضي يقبل التخصيص، أما الوصي المختار فلا يقبل التخصيص على رأي أبي حنيفة. 3 - ليس لوصي القاضي أن يبيع مال القاصر لمن لا تقبل شهادته للوصي كأبيه أو ابنه، ولا أن يشتري منه شيئاً للقاصر، أما الوصي المختار فله أن يفعل ذلك. 4 - للقاضي سؤال وصيه عن مقدار التركة، وليس للوصي المختار ذلك. 5 - إذا أوصى وصي القاضي لآخر على تركته، لم يكن وصياً على التركتين، بخلاف الوصي المختار. ¬
حكم القانون
ليس لوصي القاضي الموكل بالخصومة في عقار القاصر قبضه إلا بإذن من القاضي، أو بتوكيل سابق فيه. أما الوصي المختار فيملك القبض من غير إذن. 7 - ليس لوصي القاضي إيجار القاصر، أما الوصي المختار فله ذلك. حكم القانون: لم يفرق القانون المصري والسوري بين الوصي المختار وبين وصي القاضي في كل الحالات. وأخضع تصرفات الوصي لإشراف المحكمة، كما تقدم. سادساً ـ انتهاء الولاية والوصاية: تنتهي الولاية على المال بزوال سببها وهو الصغر وبلوغه سن الرشد المالي. ويعرف الرشد عن طريق الاختبار والتجربة، فإذا تبين بالتجربة رشده، سلِّمت إليه أمواله وزالت الولاية عنه. أما القانون المصري والسوري فقد حددا للرشد سناً معينة، وهي (21) سنة في مصر، و (18) سنة في سورية. نصت المادة (18) من قانون الولاية على المال في مصر على أنه تزول الولاية أو الوصاية على الصغير ببلوغه إحدى وعشرين سنة إلا إذا حكمت المحكمة قبل هذه السن باستمرار الولاية. ونصت المادة (47) على انتهاء الوصاية بأحد الأمور الآتية: 1 - بلوغ القاصر إحدى وعشرين سنة إلا إذا تقرر استمرار الوصاية عليه. 2 - عودة الولاية للولي، وذلك إذا سلبت المحكمة الولاية من الولي وعينت وصياً على القاصر، ثم زال سبب سلب الولاية، فأمرت المحكمة بإعادتها. 3 - عزل القاضي أو قبول استقالته.
4 - فقد الوصي أهليته، أو ثبوت غيبته أو موته أو موت القاصر، وذلك إذا صدر قرار من المحكمة بذلك إلا في حالة العته أو الجنون، فإنه تسري أحكام القانون المدني. وعلى الوصي إذا انتهت الوصاية أن يسلم خلال ثلاثين يوماً بعد انتهائها جميع أموال القاصر التي في عهدته. وحددت المادة (46) من القانون المدني السوري لسنة (1949) سن الرشد بتمام ثماني عشرة سنة شمسية كاملة. ونصت المادة (189) من قانون الأحوال الشخصية السوري على ما يلي: تنتهي مهمة الوصي في الأحوال التالية: أـ بموت القاصر. ب ـ ببلوغه ثماني عشرة سنة إلا إذا قررت المحكمة قبل بلوغه هذه السن استمرار الوصاية عليه، أو بلغها معتوهاً أو مجنوناً. جـ ـ بعودة الولاية للأب أو للجد. د ـ بانتهاء العمل الذي أقيم الوصي الخاص لمباشرته أو انقضاء المدة التي حدد بها تعيين الوصي المؤقت. هـ ـ بقبول استقالته. وـ بزوال أهليته. ز ـ بفقده. ح ـ بعزله.
ونصت المادة (191) على ما يلي كما هو المقرر في القانون المصري: 1 - على الوصي الذي انتهت وصايته أن يسلم في خلال ثلاثين يوماً من انتهائها الأموال التي في عهدته، ويقدم عنها حساباً مؤيداً بالمستندات إلى من يخلفه، أو إلى القاصر الذي بلغ سن الرشد، أو إلى ورثته إن توفي. وعليه أيضاً أن يقدم صورة عن الحساب إلى المحكمة، وإلى الناظر إن وجد. 2 - إذا توفي الوصي أو حجر عليه أوفقد، فعلى ورثته أو من يمثله تسليم أموال القاصر وتقديم الحساب. 3 - يباشر مدير الأيتام صلاحية الوصي بما يحقق مصلحة القاصر، إلى أن يعين الوصي الخلف للوصي الذي انتهت وصايته لأي سبب كان.
الفصل الخامس: النفقات
الفَصْلُ الخامِس: النَّفَقَات ................................ نفقة الزوجة والأقارب .................................. أوضحت في هذا الفصل نفقة الزوجة مع نفقة الأقارب، جمعاً لمسائل البحث، وتسهيلاً على الباحث. وقد تضمن تمهيداً يشمل مبادئ عامة عن النفقات، وأربعة مباحث: الأول ـ نفقة الزوجة. الثاني ـ نفقة الأولاد أو الفروع. الثالث ـ نفقة الأصول، أو الآباء والأجداد والأمهات. الرابع ـ نفقة الأقارب: الحواشي وذوي الأرحام. علماً بأن واجب الإنفاق يشمل أيضاً كل ما يتبع الإنسان من الرقيق، والحيوان والنبات والزرع، والدور والأراضي، منعاً من الضياع والتلف، وإضاعة المال حرام. لكن كره الجمهور ترك الزرع والشجر بدون سقي وتعهد، والدور والأراضي بدون إصلاح وتعمير، إلا إذا كان ذلك وقفاً أو لقاصر أو مشتركاً فيجب الإنفاق عليه.
نفقة الحيوان
أما نفقة الحيوان: فيجب على المالك إطعام بهائمه ولو مرضت، وسقيها وريها، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «عُذّبت امرأة في هرة حبستها حتى ماتت جوعاً، لا هي أطعمتها، ولا هي أرسلتها تأكل حشاش الأرض» (¬1). ويحرم عليه أن يحملها ما لا تطيق؛ لأن الشارع منع تكليف العبد ما لا يطيق، فوجب أن تكون البهيمة مثله، ولأن فيه تعذيباً للحيوان الذي له حرمة في نفسه، وإضراراً به (¬2). ويحرم أن يحلب من لبنها ما يضر بولدها؛ لأنه غذاء للولد، فلا يجوز منعه، ولأن كفايته واجبة على مالكه. ويسن أن يقلم أظفاره لئلا يؤذيها عند الحلب. كما يجب إبقاء شيء من العسل في الخلية بقدر حاجة النحل إذا لم يكفه غيره. وإن امتنع المالك من الإنفاق على بهيمة، أجبر عليه عند الجمهور قضاء وديانة، كما يجبر على نفقة زوجته. وإن لم يكن له مال أكري عليه إن أمكن كراؤه، فإن لم يمكن بيع عليه. وقال الحنفية: لا يجبر قضاء على نفقة البهائم، في ظاهر الرواية، ولكنه يفتى فيما بينه وبين الله تعالى أي ديانة أن ينفق عليها. ولا يجبر أيضاً على نفقة الجمادات كالدور والعقار ولا يفتى أيضاً بالوجوب، لكن يكره له تحريماً تضييع المال. ويحرم وسم في الوجه وضرب عليه؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم لعن من وسم أو ضرب الوجه، ونهى عنه، كما يحرم ضرب وجه الآدمي، بل الحرمة أشد؛ لأنه أعظم حرمة. ويحرم على المالك التحريش بين الديكة أو الثيران أو غيرها، لما فيه من تعذيبها. ويحرم عليه ـ كما تقدم ـ تكليف الدابة ما لا تطيق من ثقل الحمل أو إدامة السير أو نحوهما. ¬
مبادئ عامة في النفقات
ويحرم لعن الدابة، لما روى أحمد ومسلم عن عمران: «أنه صلّى الله عليه وسلم كان في سفر، فلعنت امرأة ناقة، فقال: خذوا ما عليها، ودعوها مكانها ملعونة، فكأني أراها الآن تمشي في الناس، ما يَعرِض لها حد»، ولهما من حديث أبي بَرْزة: «لا تصاحبنا ناقة عليها لعنة» وكذلك يحرم لعن الإنسان. ولا يجوز قتل البهيمة ولا ذبحها للإراحة؛ لأنها مال ما دامت حية، وذبحها إتلاف لها، وقد نهي عن إتلاف المال، وكذلك يحرم قتل الآدمي المتألم بالأمراض الصعبة أو المصلوب بنحو حديد؛ لأنه معصوم ما دام حياً. ويحسن قتل ما يباح قتله من الحيوانات المؤذية كالكلب العضوض. مبادئ عامة في النفقات: 1 - معنى النفقة وأسبابها: النفقة مشتقة من الإنفاق: وهو الإخراج، ولا يستعمل إلا في الخير. وجمعها نفقات. وهي لغة: ما ينفقه الإنسان على عياله. وهي في الأصل: الدراهم من الأموال. وشرعاً: هي كفاية من يمونه من الطعام والكسوة والسكنى (¬1). وعرفاً هي الطعام. والطعام: يشمل الخبز والأُدم والشرب. والكسوة: السترة والغطاء. والسكنى: تشمل البيت ومتاعه ومرافقه من ثمن الماء ودهن المصباح وآلة التنظيف والخدمة ونحوها بحسب العرف. والنفقة قسمان (¬2): ¬
2 - الحقوق الواجبة بالزوجية
1 ً - نفقة تجب للإنسان على نفسه إذا قدر عليها، وعليه أن يقدمها على نفقة غيره، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ابدأ بنفسك، ثم بمن تعول» (¬1) أي بمن تجب عليك نفقته. 2ً - ونفقة تجب على الإنسان لغيره. وأسباب وجوبه ثلاثة: الزوجية، والقرابة الخاصة، والمِلْك (¬2). 2 - الحقوق الواجبة بالزوجية: وهي سبعة (¬3): الطعام، والإدام، والكسوة، وآلة التنظيف، ومتاع البيت، والسكنى، وخادم إن كانت الزوجة ممن تخدم. وسأبين في المبحث الأول كل واجب من هذه الواجبات. 3 - القرابة الموجبة للنفقة: للمذاهب آراء أربعة تتفاوت فيما بينها ضيقاً واتساعاً في تحديد مدى القرابة الموجبة للنفقة، فأضيقها مذهب المالكية، ثم الشافعية، ثم الحنفية، ثم الحنابلة (¬4). أـ مذهب المالكية: أن النفقة الواجبة هي للأبوين والأبناء مباشرة فحسب دون غيرهم، فتجب النفقة للأب والأم، وللولد ذكراً أو أنثى، ولا تجب للجد والجدة، ولا لولد الولد، لقوله تعالى: {وبالوالدين إحساناً} [الإسراء:23/ 17] ¬
ب ـ مذهب الشافعية
وقوله سبحانه: {وصاحبهما في الدنيا معروفاً} [لقمان:15/ 31] وقوله صلّى الله عليه وسلم لمن جاء يشكو أباه الذي يريد أن يجتاح (¬1) ماله: «أنت ومالك لوالدك، إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم، فكلوه هنيئاً» (¬2). ودليل وجوب نفقة الولد مادام صغيراً لم يبلغ على أبيه: قوله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} [البقرة:233/ 2] وقوله سبحانه: {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} [الطلاق:6/ 65] وقوله صلّى الله عليه وسلم لهند زوجة أبي سفيان: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» (¬3). فالنفقة واجبة للوالد والولد فقط. ب ـ مذهب الشافعية: أن القرابة التي تستحق بها النفقة قرابة الوالدين وإن علوا، وقرابة الأولاد وإن سفلوا، للآيات والأحاديث السابقة؛ لأن اسم الوالدين يقع على الأجداد والجدات مع الآباء، لقوله تعالى: {ملة أبيكم إبراهيم} [الحج:78/ 22] فسمى الله تعالى إبراهيم أباً وهو جد، ولأن الجد كالأب، والجدة كالأم في أحكام الولادة من رد الشهادة وإيجاب النفقة وغيرهما. واسم الولد يقع على ولد الولد، لقوله عز وجل: {يا بني آدم} [الأعراف:31/ 7]. ولا تجب نفقة من عدا الوالدين والمولودين من الأقارب كالإخوة والأعمام وغيرهما؛ لأن الشرع ورد بإيجاب نفقة الوالدين والمولودين، وأما من سواهم فلا ¬
جـ ـ مذهب الحنفية
يلحق بهم في الولادة وأحكام الولادة، فلم يلحق بهم في وجوب النفقة. فالنفقة واجبة للأصول والفروع فقط. جـ ـ مذهب الحنفية: تجب النفقة للقرابة المحرمة للزواج، أي لكل ذي رحم محرم، ولا تجب لقريب غير محرم من الإنسان، لقوله تعالى: {واعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئاً، وبالوالدين إحساناً، وبذي القربى} [النساء:36/ 4] وقوله تعالى: {وآت ذا القربى حقه} [الإسراء:26/ 17] وما روي عن بَهْز بن حكيم عن أبيه عن جده، قال: قلت: يا رسول الله، من أبرُّ؟ قال: أمَّك، قال: قلت: ثم من؟ قال: أمَّك، قال: «قلت: يا رسول الله، ثم من؟ قال: أمَّك، قال: قلت: ثم من؟ قال: أباك، ثم الأقرب فالأقرب» (¬1) العبارة الأخيرة دليل على وجوب نفقة الأقارب على الأقارب، سواء أكانوا وارثين أم لا. لكن قيد الحنفية القرابة بالمحرمية في قوله تعالى: {وعلى الوارث مثل ذلك} [البقرة:233/ 2] عملاً بما جاء في قراءة ابن مسعود: (وعلى الوارث ذي الرحم المحرم مثل ذلك) ولأن صلة القرابة القريبة واجبة دون البعيدة. فالنفقة واجبة للأصول والفروع والحواشي ذوي الأرحام. د ـ مذهب الحنابلة: تجب النفقة لكل قريب وارث بالفرض أو التعصيب من الأصول والفروع والحواشي كالإخوة والأعمام وأبنائهم، وكذا من ذوي الأرحام إذا كانوا من عمود النسب كأب الأم. وابن البنت، سواء أكانوا وارثين أم محجوبين. أما من كان من غير عمود النسب كالخالة والعمة، فلا نفقة له على قريبه؛ لأن قرابتهم ضعيفة، وإنما يأخذون المال عند عدم الوارث كسائر المسلمين. ¬
4 - مبدأ كفاية النفقة للقريب والزوجة
فهم لم يشترطوا المحرمية كما اشترطها الحنفية، فيستحق ابن العم النفقة على ابن عمه؛ لأنه وارث، ولا يستحقها عند الحنفية؛ لأنه غير محرم. ودليلهم قوله تعالى: {وعلى الوارث مثل ذلك} [البقرة:233/ 2] ولأن بين المتوارثين قرابة تقتضي كون الوارث أحق بمال المورث من سائر الناس، فينبغي أن يختص بوجوب صلته بالنفقة دونهم، فإن لم يكن وارثاً لعدم القرابة، لم تجب عليه النفقة لذلك. يظهر من هذه المذاهب أن الفقهاء أجمعوا على وجوب النفقة للآباء والأمهات والأولاد والزوجات في حالة العجز والإعسار، وكان المنفق موسراً. فإن كان الأب معسراً والأم موسرة، تؤمر بالإنفاق، وتكون النفقة ديناً على الأب (¬1). وقال ابن حزم الظاهري (¬2): إن عجز الزوج عن نفقة نفسه، وامرأته غنية، كلفت النفقة عليه، ولا ترجع عليه بشيء مما أنفقته إن أيسر، لقوله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف، لا تكلف نفس إلا وسعها، لا تضارّ والدة بولدها، ولا مولود له بولده، وعلى الوارث مثل ذلك} [البقرة:233/ 2] قال علي رضي الله عنه: الزوجة وارثة، فعليها نفقته بنص القرآن. 4 - مبدأ كفاية النفقة للقريب والزوجة: اتفق الفقهاء (¬3) على أن نفقة الأقارب والزوجات تجب بقدر الكفاية من الخبز ¬
5 - شروط وجوب النفقة
والأدم والكسوة والسكن على حسب حال المنفق وبقدر العادة أو عوائد البلاد؛ لأنها وجبت للحاجة، والحاجة تندفع بالكفاية، كنفقة الزوجة، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلم لهند: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» فقدر نفقتها ونفقة ولدها بالكفاية. فإن احتاج القريب أو الزوجة إلى خادم فعلى المنفق إخدامه؛ لأنه من تمام كفايته. 5 - شروط وجوب النفقة: يشترط لوجوب الإنفاق على القريب ثلاثة شروط (¬1): أولاً ـ أن يكون القريب فقيراً لا مال له ولا قدرة له على الكسب لعدم البلوغ أو الكبر أو الجنون أو الزمانة المرضية، ويستثنى الأبوان فتجب لهما النفقة ولو مع القدرة على الكسب بالصحة والقوة. فإن كان القريب موسراً بمال أو كسب يستغني به غير الوالدين، فلا نفقة له؛ لأنها تجب على سبيل المواساة، والموسر مستغن عن المواساة. والراجح عند المالكية أن النفقة للوالدين على الولد لا تجب إذا قدر على الكسب وتركاه. ثانياً ـ أن يكون الملزم بالنفقة موسراً مالكاً نفقة فاضلة عن نفسه إما من ماله وإما من كسبه، فيلزم القادر على التكسب أن يعمل للإنفاق على قريبه الفقير. ويستثنى الأب، فنفقة أولاد هـ واجبة عليه ولو كان معسراً. وكذلك الزوج، فنفقة زوجته واجبة عليه ولو كان معسراً. وقال المالكية: لا يجب على الولد المعسر تكسب لينفق على والديه ولو قدر على التكسب. ¬
شرط اتحاد الدين
ودليل اشتراط هذا الشرط حديث: «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» وحديث جابر المتقدم: «إذا كان أحدكم فقيراً فليبدأ بنفسه، فإن فضل فعلى عياله، فإن كان فضل فعلى قرابته» وحديث أبي هريرة عند أبي داود وغيره: «أن رجلاً جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، عندي دينار؟ قال: تصدق به على نفسك، قال: عندي دينار آخر؟ قال: تصدق به على زوجتك، قال: عندي دينار آخر؟ قال: تصدق به على ولدك، قال: عندي دينار آخر؟ قال: تصدق به على خادمك، قال: عندي دينار آخر؟ قال: أنت أبصر به» (¬1). ثالثاً ـ أن يكون المنفق قريباً للمنفق عليه ذا رحم محرم منه، مستحقاً للإرث منه في مذهب الحنفية. أما في رأي الحنابلة فيشترط أن يكون المنفق وارثاً لقوله تعالى: {وعلى الوارث مثل ذلك} [البقرة:233/ 2]. وأما عند المالكية فأن يكون أباً أو ابناً، وعند الشافعية أن يكون من الأصول أو الفروع، كما أبنت في بحث المبدأ الثالث. وينفق الأب على ولده مادام يتعلم، ولو بعد البلوغ، كما سيأتي. شرط اتحاد الدين: اتفق الفقهاء على وجوب النفقة للزوجة مع اختلاف الدين ما لم تكن ناشزة أو مرتدة، واختلفوا في شرط اتحاد الدين للإنفاق على القريب (¬2): فلم يشترط المالكية والشافعية اتفاق الدين في وجوب النفقة، بل ينفق المسلم على الكافر، والكافر على المسلم، لعموم الأدلة الموجبة للنفقة، وقياساً على نفقة ¬
الزوجة، ولوجود الموجب وهو البعضية، أي كون القريب بعضاً من قريبه. وللحنابلة روايتان: إحداهما ـ تجب النفقة مع اختلاف الدين كالرأي المتقدم. والثانية وهي المعتمدة ـ لا تجب النفقة مع اختلاف الدين؛ لأنها مواساة على البر والصلة ولعدم الإرث، وتفارق نفقة الزوجات؛ لأنها عوض يجب مع الإعسار، فلم يمنعها اختلاف الدين كالصداق والأجرة. ولم يشترط الحنفية اتحاد الدين في نفقة الأصول (وهم الآباء والأجداد وإن علوا) ونفقة الفروع (وهم الأولاد وأولاد الأولاد وإن نزلوا) ونفقة الزوجة، واشترطوا اتحاد الدين في غير هذه الفئات الثلاث، لعدم أهلية الإرث بين المسلم وغير المسلم. فعلى الرجل أن ينفق على أبويه وأجداده وجداته إذا كانوا فقراء، وإن خالفوه في دينه، أما الأبوان فلقوله تعالى: {وصاحبهما في الدنيا معروفاً} [لقمان:15/ 31] وليس من المعروف أن يعيش الولد في نعم الله تعالى، ويترك والديه يموتان جوعاً. وأما الأجداد والجدات، فلأنهم من الآباء والأمهات، فيقوم الجد مقام الأب عند عدمه. ولا تجب النفقة مع اختلاف الدين إلا للزوجة والأبوين والأجداد والجدات، والولد وولد الولد؛ لأن نفقة الزوجة واجبة في مقابل الاحتباس، وأما غيرها من نفقة الأصول والفروع فلثبوت الجزئية بين المنفق والمنفق عليه، وجزء المرء في معنى نفسه. فكما لا تمتنع نفقة نفسه بكفر لا تمتنع نفقة جزئه، إلا أنهم إذا كانوا حربيين لا تجب نفقتهم على المسلم، ولو كانوا مستأمنين؛ لأنا نهينا عن برّ من يقاتلنا في الدين.
حد اليسار والإعسار
والخلاصة: أن مذهب الحنفية المعتدل أوجب النفقة للأصول والفروع دون غيرهم من الأقرباء بسبب الجزئية وهي لا تختلف باختلاف الدين. ولا تجب لغيرهم مع اختلاف الدين، لعدم وجود الإرث بين الأقارب حينئذ. حد اليسار والإعسار: تجب النفقة على الموسر لقريبه، واليسار عند الحنفية على الأرجح المفتى به (¬1): هو يسار الفطرة: وهو أن يملك ما يحرم عليه به أخذ الزكاة وهو نصاب ولو غير نام، فاضل عن حوائجه الأصلية. ونصاب الزكاة هو عشرون مثقالاً أو ديناراً من الذهب، أو مئتا درهم من الفضة. فمن وجبت عليه الزكاة بملك نصابها وجب عليه الإنفاق على قريبه بشرط أن يكون المال فاضلاً عن نفقته ونفقة عائلته وحوائجه الضرورية. وأطلق الجمهور (¬2) غير الحنفية القول بأنه يجب الإنفاق على القريب بفاضل عن قوته وقوت عياله في يومه وليلته التي تليه، سواء فَضََل ذلك بكسب أم لا. وهذا هو قول محمد بن الحسن واختاره الكمال بن الهمام وغيره من الحنفية، وهو الأولى مراعاة لدخل الموظفين والحرفيين، فمن اكتسب شيئاً في يومه، وأنفق منه ما يحتاجه في يومه، وزاد عنه شيء، وجب أن يدفعه للقريب المعسر. وأما حد الإعسار أوا لمعسر الذي يستحق النفقة، فقيه رأيان (¬3): الأول ـ هو الذي يحل له أخذ الصدقة ولاتجب عليه الزكاة. ¬
العجز عن الكسب والقدرة عليه
والثاني ـ إنه هو المحتاج. والمعسر في عبارة غير الحنفية: هو الفقير الذي لا مال له، والرأيان متقاربان. واختلف الحنفية (¬1) فيمن يملك منزلاً أو له خادم، هل يستحق النفقة على قريبه الموسر على روايتين: الأولى ـ إنه لا يستحق النفقة على قريبه الموسر؛ لأن النفقة لا تجب لغير المحتاج، ومثل هؤلاء غير محتاجين؛ لأنه يمكنه بيع بعض المنزل أو كله، ويكتري منزلاً، فيسكن بالكراء، أو يبيع الخادم إذا كان رقيقاً كما كان في الماضي. والثانية ـ إنه يستحق؛ لأن بيع المنزل لا يقع إلا نادراً، ولا يمكن لكل أحد السكنى بالكراء أو بالمنزل المشترك. قال الكاساني: وهذا هو الصواب. العجز عن الكسب والقدرة عليه: اتفق الفقهاء (¬2) على وجوب النفقة لقريب فقير عاجز عن الكسب، والعجز عن الكسب: ألا يستطيع الإنسان اكتساب معيشته بالوسائل المشروعة المعتادة اللائقة به، وله صفات هي: أن يكون أنثى مطلقاً أو مريضاً زَمِناً (¬3)، أو صغيراً، أو مجنوناً أو معتوهاً، أو مصاباً بآفة تحول دون العمل كالعمى والشلل، أو عاطلاً عن العمل فلا يجد عملاً بسب انتشار البطالة. ¬
فإن كان قادراً على الكسب، فلا نفقة له بالاتفاق؛ لأن القدرة على الكسب غنى، لكن باستثناء الأبوين، فتجب لهما النفقة في رأي الحنفية والشافعية مع القدرة على الكسب؛ لأن الفرع مأمور بمعاشرة أصله بالمعروف، وليس منها تكليفه الكسب مع كبر السن، كما يجب له الإعفاف (تزويج الأب) ويمتنع القصاص منه. والراجح لدى المالكية والحنابلة أن النفقة لا تجب على الولد لوالديه إذا قدرا على الكسب وتركاه. ويجب في رأي الجمهور على الزوج لزوجته، وعلى الإنسان لقريبه التكسب ليؤدي النفقة الواجبة عليه؛ لأن القدرة على الكسب كالقدرة على المال، إذا وجد عملاً مباحاً يليق به، ولخبر: «كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت» (¬1)، وينبني عليه أنه يحرم عليه الزكاة إذا كان قادراً على الكسب، ولأنه يلزمه إحياء نفسه بالكسب، فكذا يلزمه إحياء بعضه وهو القريب. وقال المالكية: لا يجب على الولد المعسر تكسب لينفق على والديه، ولو قدر على التكسب. ويجبر الوالدان على الكسب إذا قدرا عليه، على الأرجح. واستثنى الحنفية والشافعية أيضاً: طلبة العلم الذين لايتفرغون للكسب، فتجب نفقتهم ولو مع القدرة على الكسب؛ لأن طلب العلم فريضة كفائية، والتفرغ له شرط، فلو ألزم طلبة العلم بالاكتساب لتعطلت مصالح الأمة. واستثنى الحنفية الأخرق: وهو الذي لا يحسن الكسب، وهو في الحقيقة ملحق بالعاجز عن العمل. واستثنى الحنفية كذلك أبناء الكرام الذين يلحقهم العار بالتكسب، أو لا ¬
6 - النفقة بسبب الحاجة
يستأجرهم الناس عادة، فهم عاجزون، فتجب نفقتهم ولو مع القدرة على الكسب. والخلاصة: أن النفقة لا تجب لذي مال إلا للزوجة، ولا للقادر على الكسب الذي يكفيه ما عدا الأب. 6 - النفقة بسبب الحاجة: لا تجب النفقة على الغير إلا بسب الحاجة، فمن كان ذا مال فنفقته في ماله، سواء أكان صغيراً أم كبيراً، إلا الزوجة فإن نفقتها تجب على الزوج ولو كانت موسرة؛ لأن نفقتها لم تجب للحاجة، وإنما بسبب احتباسها لحق الزوج. 7 - استقلال الأب بنفقة أولاده: لا يشارك الأبَ أحد في الإنفاق على أولاده، كما لا يشاركه أحد في نفقة الزوجة؛ لأنهم جزء منه، وإحياؤهم واجب كإحياء نفسه، ولأن نسبهم لاحق به، فيكون عليه غرم النفقة، ولقوله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن} [البقرة:233/ 2] وقوله سبحانه: {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} [الطلاق:6/ 65] وقال النبي صلّى الله عليه وسلم لهند «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» فجعل النفقة على أبيهم دونها (¬1). 8 - استقلال الولد بنفقة أبويه: لا يشارك الولد في نفقة أبويه أحد؛ لأنه أقرب الناس إليهما (¬2). فإن تعدد الأولاد الموسرون، وزعت النفقة في رأي المالكية على الراجح بقدر اليسار حيث ¬
9 - هل الإعفاف أو التزويج من النفقة الواجبة؟
تفاوتوا فيه. وقيل: توزع على حسب الرؤوس فالذكر كالأنثى، وقيل: توزع بحسب قواعد الميراث للذكر مثل حظ الأنثيين. وقال الحنفية والشافعية والحنابلة: توزع النفقة على قدر الميراث، فلو كان الرجل مريضاً زمناً وله أولاد، فعليهم نفقة أبيهم على قدر ميراثهم، لقوله تعالى: {وعلى الوارث مثل ذلك} [البقرة:233/ 2] وترتيب الحكم على مشتق وهو اسم الفاعل هنا، يدل علِى أن المشتق منه علة الحكم، فيثبت الحكم بقدر علته (¬1). ونص الحنابلة على أن الحجب عن الميراث في عمودي النسب لا يسقط النفقة عنه. 9 - هل الإعفاف أو التزويج من النفقة الواجبة؟ يرى جمهور الفقهاء وفي رواية عند الحنفية (¬2): أن الولد يلزمه تزويج أو إعفاف أبيه المعسر ولو كان كافراً معصوماً، وكذا على المشهور عند الشافعية. وعند الحنابلة وبعض الحنفية إعفاف الأجداد من الجهتين جهة الأب وجهة الأم؛ لأنه من وجوه حاجاتهم المهمة كالنفقة والسكنى، ولئلا يعرضهم للزنا المفضي إلى الهلاك، وهو لا يليق بحرمة الأبوة، وليس من المصاحبة بالمعروف المأمور بها، فالزواج مما تدعو الحاجة إليه ويتضرر الأب بفقده، فلزم ابنه تزويجه كالنفقة. والرواية الراجحة عند الحنفية عدم وجوب إعفاف الأب؛ لأنه من الكماليات. وإذا اجتمع أب وجد أو جدان، ولم يمكن الولد إلا إعفاف أحدهما قدم الأقرب، ويقدم الجد من جهة الأب على الجد من جهة الأم؛ لأن الأول عصبة، والشرع قد اعتبر جهته في التوريث والتعصيب، فيقدم في الإنفاق والاستحقاق. ¬
نفقة زوجة الأب
ولا يلزم الأب في المذهبين الحنفي والشافعي في تزويج ابنه الفقير. وأوجب الحنابلة على الأب إعفاف ابنه إذا كانت عليه نفقته وكان محتاجاً إلى إعفافه؛ لأنه تلزمه نفقته، فيلزمه إعفافه عند حاجته إليه، كما يلزم الولد إعفاف أبيه. وكل من لزمه إعفافه، لزمته نفقة زوجته؛ لأنه لايتمكن من الإعفاف إلا بها. والإعفاف: يكون بإعطاء مهر المثل، ويكون تعيين الزوجة إلى الزوج، ولا يجوز للولد أن يزوج أباه قبيحة ولا عجوزاً؛ لأن الإعفاف لا يحصل بواحدة منهما. وذكر الحنابلة أن الابن يلزمه إعفاف أمّ بتزويجها كالأب. نفقة زوجة الأب: يلزم الابن أيضاً نفقة زوجة أبيه في رأي الحنابلة والشافعية والمالكية وفي رواية عند الحنفية، فكل من لزمه إعفافه، لزمته نفقة زوجته، كما تقدم. وأما الرواية الأخرى عند الحنفية فلا تجب نفقة زوجة الأب إلا إذا كان الأب مريضاً أو به زمانة (أي مرض مزمن)، قال في الذخيرة: المذهب عدم وجوب نفقة امرأة الأب (¬1)، وهو المعمول به في مصر. ولا يلزم الابن عند الحنفية في الرواية الأولى نفقة أكثر من زوجة واحدة للأب، وهو مذهب المالكية والحنابلة إن حصل الإعفاف بها وإلا تعدّت النفقة لمن يعف. ¬
نفقة زوجة الابن
نفقة زوجة الابن: المذهب عند الحنفية (¬1): عدم وجوب النفقة على الأب لزوجة الابن، ولو كان صغيراً أو كبيراً غائباً، إلا إذا ضمنها، ويستدين الأب على ابنه، ثم يرجع عليه إذا أيسر. وقال الحنابلة والشافعية كما تقدم: كل من لزمه إعفافه، لزمته نفقة زوجته؛ لأنه لا يتمكن من الإعفاف إلا بها. وأما المالكية فقالوا: إذا كان الزوج معسراً سقطت نفقة الزوجة عنه ما دام معسراً. 10 - هل تتوقف النفقة على القضاء؟ قال الحنفية (¬2): تجب نفقة الأصول والفروع من غير حاجة إلى قضاء القاضي، إلا أنه إذا كان للصغير مال غائب وأراد الأب أن يرجع عليه، فليس له الرجوع إلا بالقضاء أو بالإشهاد بأن يشهد أنه أنفق ليرجع عليه بعد أن نوى بقلبه، فلو أنفق بغير إذن القاضي وبغير إشهاد فليس له الرجوع قضاء، وله أن يرجع ديانة فيما بينه وبين الله تعالى. وأما نفقة غير الأصول والفروع، فلا تثبت إلا بالقضاء أو بالتراضي، وسبب التفرقة بين الحالتين: أن نفقة الأصول والفروع تجب باتفاق الفقهاء، فلا تحتاج في وجوبها إلى قضاء القاضي. أما نفقة الأقارب الآخرين، فمختلف في وجوبها بين الفقهاء، فتحتاج إلى ما يقويها وهو قضاء القاضي. ¬
11 - سقوط النفقة
11 - سقوط النفقة: النفقة إما للزوجة وإما للأقارب، فمتى تسقط كل واحدة منها؟ سقوط نفقة الزوجة: تسقط نفقة الزوجة في الحالات التالية (¬1): 1) ـ مضي الزمان من غير فرض القاضي أو التراضي: فتسقط عند الحنفية بمضي المدة بعد الوجوب قبل صيرورتها ديناً في الذمة، ولا تسقط بمضي المدة بعد القضاء به، وتصير ديناً. والحالات الأخرى تسقط فيها النفقة بعد صيرورتها ديناً في الذمة. وقال المالكية وباقي المذاهب: لا تسقط النفقة بمضي الزمان، وترجع الزوجة على زوجها بالنفقة المتجمدة، وهذا بخلاف نفقة الأقارب، فإنها تسقط بمضي المدة؛ لأنه إذا مضى زمنها استغني عنها. 2) ـ الإبراء من النفقة الماضية: تسقط النفقة الماضية بالإبراء أو الهبة ويكون الإبراء إسقاطاً لدين واجب. ولكن قال الحنفية: لا يصح الإبراء أو الهبة عن النفقة المستقبلة؛ لأن نفقة الزوجة تجب شيئاً فشيئاً على حسب حدوث الزمان، فكان الإبراء منها إسقاطاً لواجب قبل الوجوب، وقبل وجود سبب الوجوب أيضاً، وهو حق الاحتباس. 3) ـ موت أحد الزوجين: لو مات الرجل قبل إعطاء النفقة، لم يكن للمرأة أن تأخذها من ماله. ولو ماتت المرأة لم يكن لورثتها أن يأخذوا نفقتها. فإن كان ¬
الزوج أسلفها نفقتها وكسوتها، ثم مات قبل مضي الوقت الذي أسلفها عنه، لم ترجع ورثته عليها بشيء في رأي أبي حنيفة وأبي يوسف. وكذا لو ماتت هي لم يرجع الزوج في تركتها في رأيهما. 4) ـ النشوز: هو معصية المرأة لزوجها فيما له عليها مما أوجبه له عقد الزواج. والنفقة تسقط بنشوز المرأة، ولو بمنع لمس بلا عذر بها، إلحاقاً لمقدمات الوطء بالوطء؛ لأن النفقة هي في مقابلة الاستمتاع، فإذا امتنعت فلا نفقة للناشز. وقال الحنفية: النفقة التي تسقط بالنشوز أو الموت هي النفقة المفروضة، لا المستدانة في الأصح. فإن وجد عذر لوجود قروح قرب فرجها، أو التهابات حادة، فلا تسقط نفقتها. ومن الأعذار: مرض يضر معه الوطء، وعَبَالة زوج، أي كبر آلته بحيث لا تحتملها الزوجة. أما خروج المرأة من بيت الزوج بلا إذنه، أو سفرها بلا إذنه، أو إحرامها بالحج بغير إذنه، فهو نشوز، إلا للضرورة أو العذر، كأن يشرف البيت على انهدام، أو تخرج لبيت أبيها لزيارة أو عيادة، فيعد خروجها عذراً، وليس نشوزاً. وأما سفر المرأة بإذن الزوج: فقد فصل فيه الشافعية فقالوا: إن كان السفر مع الزوج أو لحاجته، فلا تسقط نفقتها به، وإن كان لحاجتها فتسقط في الأظهر. ولا يعد نشوزاً عرفاً في رأي الشافعية خروج المرأة في غيبة زوجها لزيارة أقاربها أو جيرانها أو عيادتهم أو تعزيتهم، فلا تسقط نفقتها؛ لأن خروجها لا على وجه النشوز. وكذا قال الحنابلة: لا نفقة لمن سافرت بلا إذن زوج لحاجتها، أو لنزهة،
أولزيارة ولو بإذن الزوج، أو لتغريب في حد أو تعزير، أو لحبس ولو ظلماً، أو صامت للكفارة أو قضاء رمضان ووقته متسع، أو صامت أو حجت نفلاً أو نذراً معيناً في وقته بلا إذنه. ولا تسقط عندهم وعند المالكية لو أحرمت بحج فرض. ووافق الحنفية الحنابلة في أن حبس المرأة ولو ظلماً يسقط النفقة، إلا إذا حبسها الزوج بدين له، فلها النفقة في الأصح. ووافق الحنفية الشافعية في أن الحج مع غير الزوج ولو فرضاً، يسقط النفقة، لفوات الاحتباس. وقال المالكية: إن حبست ظلماً فلا يسقط حقها في النفقة؛ لأن منعه من الاستمتاع ليس من جهتها. وإن منعت المرأة نفسها عن الزوج بالصوم، فإن كان بصوم تطوع، فالصحيح لدى الشافعية أن نفقتها تسقط؛ لأنها منعت التمكين التام بما ليس بواجب، فسقطت نفقتها كالناشزة، وإن منعت نفسها بصوم رمضان أو بقضائه وقد ضاق وقته، لم تسقط نفقتها؛ لأن ما استحق بالشرع لا حقَّ للزوج في زمانه. وإن منعت نفسها بصوم القضاء قبل أن يضيق وقته، أو بصوم كفارة أو نذر في الذمة، سقطت نفقتها؛ لأنها منعت حقه، وهو على الفور بما هو ليس فورياً. وكذا تسقط نفقتها بنذر معين بعد الزواج إن كان بغير إذن الزوج. والاعتكاف مثل الصوم: إن كان باعتكاف تطوع أو نذر في الذمة، سقطت نفقتها. وإن منعت المرأة نفسها بالصلاة: فإن كانت بالصلوات الخمس، أو السنن الراتبة، لم تسقط نفقتها؛ لأن ما ترتب بالشرع لا حق للزوج في زمانه. وإن كان بقضاء فوائت، سقطت نفقتها؛ لأنها على التراخي، وحقه على الفور. وإذا سقطت نفقة المرأة بنشوزها، ثم أطاعت وعدلت عن النشوز، والزوج
حاضر، عادت نفقتها، لزوال المسقط لها، ووجود التمكين المقتضي لها. وإن كان الزوج غائباً، لم تعد نفقتها في رأي الشافعية والحنابلة، لعدم تحقق التسليم والتسلم، إذ لا يحصلان مع الغيبة. وقال الحنفية: تعود نفقتها بعد عدولها عن النشوز ولو في غيبة الزوج. 5) ـ الردة: إذا ارتدت المرأة، سقطت نفقتها، لخروجها عن الإسلام، وامتناع الاستمتاع بسبب الردة. فإذا عادت إلى الإسلام، عادت نفقتها بمجرد عودها عند الشافعية والحنابلة. والفرق بين النشوز والردة: أن المرتدة سقطت نفقتها بالردة، وقد زالت بالإسلام، والناشزة سقطت نفقتها بالمنع من التمكين، وهو لا يزول بالعود إلى الطاعة، وإنما بالتمكين الفعلي، ولا يحصل المقصود في غيبة الزوج. 6) ـ كل فُرْقة جاءت من قبل المرأة بمعصية، مثل ردتها أو إبائها الإسلام إذا أسلم الزوج وظلت وثنية أو مجوسية، أو تمكينها ابن الزوج من نفسها، ففي هذه الحالات تسقط نفقتها؛ لأنها منعت الاستمتاع بمعصية، فصارت كالناشزة، ويظل لها حق السكنى في بيت الزوجية؛ لأن القرار فيه حق عليها، فلا يسقط بمعصيتها. فإن حدثت الفرقة بغير معصية كخيار البلوغ وعدم الكفاءة ووطء ابن الزوج لها مكرهة، فلا تسقط نفقتها؛ لأنها حسبت نفسها بحق لها أو بعذر عذرت شرعاً فيه. ولا تسقط نفقتها بفرقة جاءت من قبل الزوج مطلقاً، سواء أكانت بغير معصية، مثل الفرقة بطلاقه أو لعانه أو عنّته أو جبه، بعد الخلوة في رأي الحنفية، أو بمعصية مثل الفرقة بتقبيله بنت زوجته أوإيلائه مع عدم فيئه حتى مضت أربعة
سقوط نفقة الأقارب
أشهر، أو إبائه الإسلام إذا أسلمت هي، أو ارتد هو، فعرض عليه الإسلام، فلم يسلم؛ لأن بمعصيته لا تُحرم زوجته النفقة. والخلاصة: أن الحنفية قالوا: لا نفقة لإحدى عشرة امرأة (¬1): وهي مرتدة، ومقبِّلة ابن الزوج، ومعتدة موت، ومنكوحة بنكاح فاسد أو في أثناء العدة منه، وموطوءة بشبهة، وصغيرة لا توطأ، وخارجة من بيت الزوج بغير حق وهي الناشزة، ومحبوسة ولو ظلماً، ومريضة لم تزف إلى بيت زوجها أي لا يمكنها الانتقال معه أصلاً وإن لم تمنع نفسها، لعدم التسليم تقديراً، ومغصوبة كرهاً وهي من أخذها رجل وذهب بها، وحاجَّة ولو فرضاً وحدها ولو مع محرم لا مع الزوج لفوات الاحتباس. فإن حجت مع الزوج وخرج معها لأجلها، فعليه نفقة الحضر فقط، لا نفقة السفر وأجوره، أما لو أخرجها معه فيلزمه جميع نفقات السفر. وإذا فرضت النفقة على الزوج قضاء أو رضاء أصبحت ديناً صحيحاً ثابتاً في ذمته لا يسقط إلا بالأداء أو الإبراء، وهذا ما نصت عليه المادة (79) من القانون السوري: «النفقة المفروضة قضاء أو رضاء لا تسقط إلا بالأداء أو الإبراء». سقوط نفقة الأقارب: تسقط نفقة الأقارب للولد والوالدين وذي الأرحام في رأي الحنفية والشافعية والحنابلة (¬2)، بمضي المدة، فإذا قضى القاضي بالنفقة للأقارب، فمضت مدة شهر فأكثر، فلم يقبض القريب ولا استدان عليه حتى مضت المدة، سقطت في رأي الحنفية. فمضي المدة يسقط النفقة إلا أن يأذن القاضي بالاستدانة على المنفق عليه؛ ¬
12 - جزاء الامتناع عن النفقة
لأن نفقة الأقرباء تجب سداً للحاجة، فلا تجب للموسرين، فإذا مضت المدة ولم يقبضها المستحق، دل على أنه غير محتاج إليها، بخلاف نفقة الزوجة فإنها لا تسقط بمضي المدة بعد القضاء بها؛ لأنها تجب جزاء الاحتباس، لا للحاجة، وتجب ولو كانت الزوجة موسرة. فإن أذن القاضي بالاستدانة على المفروض عليه، لا تسقط؛ لأنها تصير ديناً في ذمته، فلا يسقط بمضي المدة. واستثنى الزيلعي نفقة الصغير كالزوجة، فإنها لا تسقط بمضي المدة، وتكون ديناً في ذمة المحكوم عليه، نظراً لعجز الصغير والرأفة به. وقال المالكية (¬1): تسقط نفقة الأبوين أو الأولاد بمرور الزمن إلا أن يفرضها القاضي، فحينئذ تثبت. ويلاحظ أن القريب المنفق عليه إذا اكتسب لم تعد النفقة واجبة على قريبة، إلا إذا لم يكتسب ما يكفيه، فحينئذ تكمل له النفقة. والخلاصة: أن نفقة القريب فيما دون شهر، ونفقة الزوجة، والصغير لا تسقط بمضي الزمان، وإنما تصير ديناً بالقضاء. وكذا لا تسقط نفقة القريب غير الزوجة إذا استدان بأمر القاضي. 12 - جزاء الامتناع عن النفقة: ذكر الحنفية (¬2): أنه إذا امتنع القريب من الإنفاق على قريبة المستحق، وأصر على الامتناع مع قدرته ويساره، فإنه يحبس ولو كان أباً، للضرورة؛ لأن في الامتناع عن النفقة إهلاكاً للقريب، وفي الحبس حمل على الإنفاق لحفظ حياة ¬
13 - تعدد مستحقي النفقة
الإنسان، وهو أمر واجب شرعاً، ويتحمل الأب وغيره من باب أولى هذا القدر من الأذى لهذه الضرورة. 13 - تعدد مستحقي النفقة: إذا تعدد مستحقو النفقة ولم يكن لهم إلا قريب واحد، فإن استطاع أن ينفق عليهم جميعاً وجب عليه الإنفاق، وإن لم يستطع بدأ بنفسه ثم بولده الصغير أو الأنثى أو العاجز، ثم بزوجته ـ وقال الحنابلة: تقدم الزوجة على الولد، ويقدَّم الأب على الأم لفضيلته، وانفراده بالولاية، واستحقاق الأخذ من ماله. وقال ابن قدامة. الأولى التسوية بينهما. وقيل عند الشافعية: يقدم الأب، وقيل: الأم والأب سواء (¬1). ودليل هذا الترتيب: الأحاديث المتقدمة، حديث جابر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لرجل: ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا» (¬2)، أي وزعه في الناس كيف شئت. وحديث أبي هريرة: «أن رجلاً جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، عندي دينار؟ قال: تصدق به على نفسك، قال: عندي دينار آخر؟ قال: تصدق به على زوجتك، قال: عندي دينار آخر؟ قال: تصدق به على ولدك، قال: عندي دينار آخر؟ قال: تصدق به على خادمك، قال: عندي دينار آخر؟ قال: أنت أبصر به» (¬3). ¬
14 - متى تجب النفقة على بيت المال أو الدولة؟
وحديث أبي هريرة أيضاً: «قال رجل: يا رسول الله، أي الناس أحق مني بحسن الصحبة؟ قال: أمك، قال ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك» (¬1)، وفي رواية لمسلم: «من أبر». 14 - متى تجب النفقة على بيت المال أو الدولة؟ إذا لم يكن للقريب المعسر أحد من الأقارب الموسرين، كانت نفقته في بيت المال «خزينة الدولة» ولا يطالب بتكفف الناس؛ لأن من وظائف بيت المال في الإسلام أن يتحمل حاجة المحتاجين وينفق عليهم بقدر حاجاتهم. قال الكاساني (¬2) في بيان ما يوضع في بيت المال من الأموال وبيان مصارفها: يوضع في بيت المال أربعة أنواع: أحدها ـ زكاة السوائم والعشور وما أخذه العشار من تجار المسلمين إذا مروا عليهم. والثاني ـ خمس الغنائم والمعادن والركاز. والثالث ـ خراج الأراضي وجزية الرؤوس .. وما أخذه العشار من تجار أهل الذمة والمستأمنين من أهل الحرب. والرابع ـ ما أخذ من تركة الميت الذي مات ولم يترك وارثاً أصلاً، أو ترك زوجاً أو زوجة. وأما النوع الرابع: فيصرف إلى دواء الفقراء والمرضى وعلاجهم، وإلى أكفان الموتى الذين لا مال لهم، وإلى نفقة اللقيط وعقل جنايته (أي دفع غرامة جنايته) وإلى نفقة من هو عاجز عن الكسب وليس له من تجب عليه نفقته، ونحوهم، وعلى الإمام صرف هذه الحقوق إلى مستحقيها. هذه مبادئ النفقة، وأذكر عقبها ما يترتب عليها من تفريعات وتفصيلات في المباحث الأربعة التالية: ¬
المبحث الأول ـ نفقة الزوجة
المبحث الأول ـ نفقة الزوجة: نفقة الزوجة حق أصيل من حقوقها الواجبة على زوجها بسبب عقد الزواج، والكلام عنها في مطالب أربعة هي: الأول ـ معنى النفقة وأنواعها ووجوبها ومن تجب عليه وسبب وجوبها. الثاني ـ شروط وجوبها. الثالث ـ كيفية تقدير النفقة بأنواعها، والحكم القضائي بها. الرابع ـ أحكام النفقة (الامتناع عن الإنفاق، وإعسار الزوج، نفقة زوجة الغائب، متى تعتبر النفقة ديناً على الزوج؟ نفقة المعتدة، تعجيل النفقة، الإبراء عنها، المقاصة بدين النفقة، الكفالة بالنفقة أو ضمانها، الصلح عن النفقة). المطلب الأول ـ معنى النفقة وأنواعها، ووجوبها، ومن تجب عليه، وسبب وجوبها: معنى النفقة: بيّنت سابقاً أن النفقة لغة: هي ما ينفقه الإنسان على عياله. وهي شرعاً: الطعام والكسوة والسكنى، وعرفاً في إطلاق الفقهاء: هي الطعام فقط، ولذا يعطفون عليه الكسوة والسكنى، والعطف يقتضي المغايرة (¬1). وجوبها: اتفق الفقهاء (¬2) على وجوب النفقة للزوجة مسلمة كانت أو كافرة بنكاح صحيح، فإذا تبين فساد الزواج وبطلانه رجع الزوج على المرأة بما أخذته من النفقة، وثبت وجوبها بالقرآن والسنة والإجماع والمعقول. ¬
أما القرآن: فقول الله تعالى: {لينفق ذو سعة من سعته، ومن قُدِرَ عليه رزقه (¬1)، فلينفق مما آتاه الله، لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها} [الطلاق:7/ 65] وقوله تعالى: {وعلى المولود له: رزقهن وكسوتهن بالمعروف} [البقرة:233/ 2] وقوله سبحانه: {أسكنوهن من حيث سكنتم من وُجْدكم} [الطلاق:6/ 65] أي على قدر ما يجده أحدكم من السعة والمقدرة. والأمر بالإسكان أمر بالإنفاق؛ لأن المرأة لا تحصل النفقة إلا بالخروج والاكتساب. وأما السنة: فقوله صلّى الله عليه وسلم في حديث حجة الوداع عن جابر: «اتقوا الله في النساء، فإنهن عوان (¬2) عندكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف» (¬3) ورواه الترمذي بإسناده عن عمرو بن الأحوص قال: «ألا إن لكم على نسائكم حقاً، ولنسائكم عليكم حقاً، فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون. ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن» (¬4). وجاءت هند إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقالت: «يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي، فقال: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» (¬5) وفيه دلالة على وجوب النفقة الزوجية، وأنها مقدرة بكفايتها كما بينا، وأن نفقة ولده عليه دونها وهي مقدرة بكفايتهم، وأن النفقة بالمعروف، وأن لها أن تأخذ نفقتها بنفسها من غير علمه إذا لم يعطها إياه. ¬
من تجب عليه
وأما الإجماع: فاتفق العلماء على وجوب نفقات الزوجات على أزواجهن إذا كانوا بالغين، إلا الناشز منهن. ولا نفقة عند الحنفية للصغيرة التي لا يستمتع بها؛ لأن امتناع الاستمتاع لمعنى فيها. وأما المعقول: فهو أن المرأة محبوسة على الزوج بمقتضى عقد الزواج، ممنوعة من التصرف والاكتساب لتفرغها لحقه، فكان عليه أن ينفق عليها، وعليه كفايتها، لأن الغرم بالغنم والخراج بالضمان، فالنفقة جزاء الاحتباس، فمن احتبس لمنفعة غيره كالموظف والجندي، وجبت نفقته في مال الغير. من تجب عليه: اتفق الفقهاء (¬1) أيضاً على أن النفقة تجب على الزوج الحر الحاضر، فإذا سلمت المرأة نفسها إلى الزوج على النحو الواجب عليها، فلها عليه جميع ما تحتاجه من مأكول ومشروب وملبوس ومسكن. سبب وجوبها: للعلماء رأيان (¬2) فيه، فقال الحنفية: سبب وجوبها استحقاق الحبس الثابت بالنكاح للزوج عليها، ورتبوا عليه ألا نفقة على مسلم في نكاح فاسد، لانعدام سبب الوجوب وهو حق الحبس الثابت للزوج عليها بسبب الزواج؛ لأن حق الحبس لا يثبت في الزواج الفاسد. وعلى الزوج النفقة في أثناء عدة المرأة بسبب الفرقة الحاصلة بطلاق أو بغير طلاق رجعي أو بائن، حامل أو غير حامل، من قبل الزوج أو من قبل المرأة إلا إذا كانت الفرقة من قبلها بسبب محظور استحساناً، لقيام حق الحبس بعد زواج صحيح. ¬
المطلب الثاني ـ شروط وجوب النفقة
وقال الجمهور غير الحنفية: سبب وجوب النفقة: هو الزوجية وهو كونها زوجة للرجل، ورتبوا عليه أنه تجب النفقة للمطلقة طلاقاً رجعياً، أو بائناً وهي حامل، لبقاء حق الزوج، أما المبتوتة إذا كانت حاملاً، فلها عند المالكية والشافعية السكنى، ولا نفقة لها لزوال النكاح بالإبانة، وكان ينبغي ألا نفقة للمبتوتة ولا سكنى لها، لكن ترك القياس بالنص القرآني: {أسكنوهن من حيث سكنتم من وُجْدكم} [الطلاق:6/ 65] والتزم الحنابلة بالقياس وبحديث فاطمة بنت قيس في أنه لا نفقة لها ولا سكنى. المطلب الثاني ـ شروط وجوب النفقة: أذكر هنا شروط وجوب النفقة عند الجمهور ثم عند المالكية. أما شروطها عند الجمهور (¬1)، فهي أربعة: 1ً - أن تمكِّن المرأة نفسها لزوجها تمكيناً تاماً: إما بتسليم نفسها أوبإظهار استعدادها لتسليم نفسها إلى الزوج بحيث لا تمتنع عند الطلب، سواء دخل الزوج بها بالفعل أم لم يدخل، دعته الزوجة أو وليها إلى الدخول بها أم لم تدعه. واشترط المالكية لوجوب النفقة قبل الدخول دعوة المرأة أو وليها المجبر الزوج إلى الدخول. فإن ظلت في بيت أهلها برضاه واختياره وجبت نفقتها عليه. وإن منعت المرأة نفسها أو منعت وليها، أو تساكتا بعد العقد، فلم تبذل ولم ¬
حكم القانون
يطلب، فلا نفقة لها، وإن أقاما زمناً، فإن النبي صلّى الله عليه وسلم تزوج عائشة ودخلت عليه بعد سنتين، ولم ينفق إلا بعد دخوله. وإن كان الامتناع من تسليم نفسها بحق، فلها النفقة، كالامتناع لتسليم المهر المعجل أو الحالّ، أو لتهيئة مسكن لائق شرعاً. وأضاف الشافعية: أن يريد الزوج سفراً طويلاً. 2ً - أن تكون الزوجة كبيرة يمكن وطؤها: فإن كانت صغيرة لا تحتمل الوطء فلا نفقة لها؛ لأن النفقة تجب بالتمكين من الاستمتاع، ولا يتصور الوجوب مع تعذر الاستمتاع، فلم تجب نفقتها. ويوافق المالكية رأي الجمهور في هذا الشرط. 3ً - أن يكون الزواج صحيحاً: فإن كان الزواج فاسداً، فلا نفقة على الزوج؛ لأن العقد الفاسد يجب فسخه، ولا يمكن اعتبار الزوجة محبوسة لحق الزوج، ولأن التمكين لا يصح مع فساد النكاح، ولا يستحق ما في مقابلته، وهذا متفق عليه. 4ً - ألا يفوت حق الزوج في احتباس الزوجة بدون مسوغ شرعي، أو بسبب ليس من جهته: فإن فات حقه بغير مسوغ شرعي كالنشوز، أو بسبب من جهته، فإن الزوجة تستحق النفقة. وهذا متفق عليه أيضاً، إلا أن المالكية يقولون بوجوب النفقة إذا كان فوات الاحتباس بأمر لا دخل لها فيه. وقد بان سابقاً أن نفقة الزوجة واجبة ولو مع اختلاف الدين. حكم القانون: أخذ القانون السوري بهذه الأحكام، فنص على ما يلي: (م 72 ـ 1) ـ تجب النفقة للزوجة على الزوج ولو مع اختلاف الدين من حين العقد الصحيح، ولو كانت مقيمة في بيت أهلها إلا إذا طالبها الزوج بالنقلة وامتنعت بغير حق.
عند المالكية
2 - يعتبر امتناعها بحق ما دام الزوج لم يدفع معجل المهر أو لم يهيء المسكن الشرعي. (م 73) - يسقط حق الزوجة في النفقة إذا عملت خارج البيت دون إذن زوجها. (م 74) - إذا نشزت المرأة، فلا نفقة لها مدة النشوز. (م 75) - الناشز: هي التي تترك دار الزوجية بلا مسوغ شرعي، أو تمنع زوجها من الدخول إلى بيتها قبل طلبها النقل إلى بيت آخر. شروط وجوب النفقة عند المالكية: اشترط المالكية (¬1) لوجوب النفقة شروطاً قبل الدخول، وشروطاً بعد الدخول. أما شروط وجوب النفقة الزوجية قبل الدخول، فهي أربعة: 1ً - التمكين من الدخول: بأن تدعو المرأة زوجها بعد العقد إلى الدخول بها، أو يدعوه وليها المجبر أو وكيلها، فإن لم تحصل هذه الدعوة، أو امتنعت من الدخول لغير عذر، فلا نفقة لها. 2ً - أن تكون الزوجة مطيقة الوطء: فإن كانت الزوجة صغيرة لا تصلح للدخول بها فلا نفقة لها، فإن دخل بها وكان بالغاً، لزمته النفقة. وإن كان بها مانع كرتق فلا نفقة لها إلا أن يتلذذ بها عالماً العيب. ¬
3ً - أن يكون الزوج بالغاً: فلو كان الزوج صغيراً ولم يدخل، فلا نفقه لها، وإن دخل فلها النفقة. وأوجب الجمهور النفقة على الصبي لامرأته الكبيرة؛ لأنها سلمت نفسها تسليماً صحيحاً، كما لو كان الزوج كبيراً. 4ً - ألا يكون أحد الزوجين مشرفاً على الموت عند الدعوة إلى الدخول: فإن كان في حالة النزع، فلا نفقة للزوجة، لعدم القدرة على الاستمتاع بها. فإن دخل ولو حال الإشراف على الهلاك فعليه النفقة. وأما شروط وجوب النفقة بعد الدخول، فهي اثنان: 1ً - أن يكون الزوج موسراً: وهو الذي يقدر على النفقة بماله أو كسبه، فلو كان معسراً لا نفقة عليه مدة إعساره، لقوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها} [الطلاق:7/ 65] فالمعسر لا يكلف إذن بالإنفاق. 2ً - ألا تفوِّت الزوجة على زوجها حق الاحتباس بدون مسوغ شرعي: فلو فوتت ذلك بالنشوز، أي الخروج عن طاعة الزوج، فلا نفقة لها. والخلاصة: أن المدخول بها تجب لها النفقة مطلقاً، وإن لم تكن الزوجة مطيقة الوطء، ولا الزوج بالغاً. وأما قبل الدخول فلا نفقة لغير ممكِّنة من نفسها، أو لم يحصل منها أو من وليها دعوة للدخول، أو حصل قبل مضي زمن يتجهز فيه كل منهما للدخول، ولا لغير مطيقة الوطء، ولا مطيقة بها ما نع كرتق إلا أن يتلذذ بها بغير الوطء حالة كونه عالماً بالمانع منه.
مايترتب على شروط وجوب النفقة من مسائل
مايترتب على شروط وجوب النفقة من مسائل المسألة الأولى ـ الزوجة الناشزة (¬1): عرفنا سابقاً أن النشوز يسقط النفقة؛ لأن احتباس الزوجة في بيت الزوجية واجب، فإذا خرجت الزوجة من بيت زوجها بغير مسوغ شرعي، سقطت نفقتها. والمسوغ الشرعي مثل عدم دفع المهر المعجل لها أوعدم تهيئة المسكن الشرعي الصالح عادة للسكنى. وتكون ناشزة أيضاً إذا منعت زوجها من الدخول إلى بيتها، ولم تكن قد طلبت نقلها إلى بيت آخر. وقد أخذ القانون السوري بهذه الأحكام كما تقدم. المسألة الثانية ـ الزوجة العاملة أو الموظفة: إذا عملت الزوجة نهاراً أو ليلاً خارج المنزل كالطبيبة والمعلمة والمحامية والممرضة والصانعة، فالمقرر في القانونين المصري والسوري أنه إذا رضي الزوج بخروجها ولم يمنعها من العمل، وجبت لها النفقة؛ لأن احتباس الزوجة حق للزوج، فله أن يتنازل عنه. وإن لم يرض بعملها، ونهاها عن العمل، فخرجت من أجله، سقط حقها في النفقة؛ لأن الاحتباس في هذه الحالة ناقص غير كامل، فلو سلمت المرأة نفسها بالليل دون النهار أو عكسه؛ فلا نفقة لنقص التسليم (¬2). ¬
نصت المادة (73) من القانون السوري على ذلك: يسقط حق الزوجة في النفقة إذا عملت خارج البيت دون إذن زوجها. فإن رضي الزوج بعمل الزوجة أولاً ثم منعها من الخروج، سقط حقها في النفقة أيضاً؛ لأن خروجها نشوز مسقط للنفقة. لكن جرى العمل في القضاء المصري على استحقاقها النفقة؛ لأن إقدام الزوج على الزواج بها وهو يعلم أن لهاعملاً خارجياً، ولم يشترط عليها ترك العمل، يعد رضا منه بسقوط حقه في الاحتباس الكامل. أما لو اشترطت الزوجة حين العقد البقاء في عملها، فهذا الشرط فاسد ملغي عند الحنفية، والعقد صحيح، وللزوج أن يمنعها من العمل، فإن استمرت فيه، سقط حقها في النفقة. وصحح المالكية هذا الشرط ولكنه مكروه لا يلزم الوفاء به، ولكن يستحب، فله أن يمنع الزوجة من العمل، فإن رفضت الاستجابة لمطلبه كانت ناشزة، يسقط حقها في النفقة. وصحح الحنابلة أيضاً هذا الشرط وأوجبوا الوفاء به، فلا يكون للزوج أن يمنع المرأة من العمل، ولو منعها لا تكون ناشزة. وقواعد الشافعية تأبى مثل هذا الشرط؛ لأن المذهب الجديد أن النفقة الزوجية تجب بالتمكين التام، لا العقد، وأن الخروج من بيت الزوج بلا إذن منه، نشوز منها، سواء أكان الخروج لعبادة كحج أم لا، ويسقط النشوز نفقتها لمخالفتها الواجب عليها، وأنها لو مكنت من الوطء ومنعت بقية الاستمتاعات، كان ذلك نشوزاً.
المسألة الثالثة ـ الزوجة المريضة
هذا .. وللزوجة أن تعمل في البيت عملاً لا يضعفها ولا ينقص جمالها، وللزوج أن يمنعها مما يضرها، ولكن لا تسقط نفقتها إذا خالفته، بل له أن يؤدبها، لعصيانها أمره. المسألة الثالثة ـ الزوجة المريضة: تجب النفقة اتفاقاً (¬1) للزوجة المريضة، سواء مرضت عنده بعد الزفاف، أم كانت مريضة حين الزفاف، لتحقق شرط النفقة وهو التسليم أو التمكين التام، ولأن الاستمتاع بها ممكن وإنما نقص بالمرض، ولأن المرض أمر طارئ لا دخل للزوجة فيه، فهو كالحيض والنفاس، وليس من حسن العشرة أن يكون هذا الأمر الطارئ مسقطاً للنفقة. ولا تسقط نفقتها حتى وإن كانت تمرَّض في بيت أهلها، إلا إذا طلب الزوج منها أن تعود إلى بيته، وكانت تستطيع العودة ولو محمولة، فامتنعت؛ لأنها بامتناعها تصبح ناشزة، أي خارجة عن طاعة الزوج بغير حق. نفقات العلاج: قرر فقهاء المذاهب الأربعة (¬2) أن الزوج لا يجب عليه أجور التداوي للمرأة المريضة من أجرة طبيب وحاجم وفاصد وثمن دواء، وإنما تكون النفقة في مالها إن كان لها مال، وإن لم يكن لها مال، وجبت النفقة على من تلزمه نفقتها؛ لأن التداوي لحفظ أصل الجسم، فلا يجب على مستحق المنفعة، كعمارة الدار المستأجرة، تجب على المالك لا على المستأجر، وكما لا تجب الفاكهة لغير أدم. ¬
المسألة الرابعة ـ الامتناع من الدخول أو الانتقال لبيت الزوج لعذر
ويظهر لدي أن المداواة لم تكن في الماضي حاجة أساسية، فلا يحتاج الإنسان غالباً إلى العلاج؛ لأنه يلتزم قواعد الصحة والوقاية، فاجتهاد الفقهاء مبني على عرف قائم في عصرهم. أما الآن فقد أصبحت الحاجة إلى العلاج كالحاجة إلى الطعام والغذاء، بل أهم؛ لأن المريض يفضل غالباً ما يتداوى به على كل شيء، وهل يمكنه تناول الطعام وهو يشكو ويتوجع من الآلام والأوجاع التي تبرح به وتجهده وتهدده بالموت؟! لذا فإني أرى وجوب نفقة الدواء على الزوج كغيرها من النفقات الضرورية، ومثل وجوب نفقة الدواء اللازم للولد على الوالد بالإجماع، وهل من حسن العشرة أن يستمتع الزوج بزوجته حال الصحة، ثم يردها إلى أهلها لمعالجتها حال المرض؟!.وأخذ القانون المصري (م100) لسنة 1985م برأي في الفقه المالكي أن النفقة الواجبة للزوجة تشمل الغذاء والكسوة والمسكن ومصاريف العلاج وغير ذلك بمايقضي به الشرع وأخذت المحاكم بهذا. المسألة الرابعة ـ الامتناع من الدخول أو الانتقال لبيت الزوج لعذر: إذا امتنعت الزوجة من الدخول بها، أو الانتقال إلى دار الزوج لعذر فلها النفقة (¬1)،كأن تمتنع حتى تقبض معجل مهرها، أو لعدم صلاحية المسكن للسكنى بسبب خلل فيه أو لنقص المرافق الضرورية له، أو للتأذي فيه من جار أو شيء مخيف، أو وجود أهل لا تحب مساكنتهم أو ضَرة تخشى شرها، أو لأن الزوج غير أمين عليها. أما إن امتنعت الزوجة من الانتقال إلى بيت الزوج بغير عذر، أو منعت ¬
المسألة الخامسة ـ حبس الزوجة
الزوج من الدخول في بيتها الذي يقيمان فيه من غير طلب سابق بالانتقال إلى منزل آخر، فلا نفقة لها؛ لأنها تعد بامتناعها ناشزة، أي خارجة عن طاعة الزوج بغير حق، والناشزة لا تستحق النفقة مدة نشوزها، فإن عادت وجبت نفقتها من حين العودة. المسألة الخامسة ـ حبس الزوجة: اتفق فقهاء المذاهب الأربعة على أنه إذا حبست الزوجة، سقطت نفقتها؛ لأن فوات حق الاحتباس للزوج كان بسبب منها. أما إن حبست ظلماً أو خطفت بواسطة رجل، فتسقط نفقتها أيضاً عند الحنفية والحنابلة، لفوات حق الاحتباس بسبب لا دخل للزوج فيه. وقال المالكية (¬1): لا تسقط نفقتها بالحبس ظلماً وبخطفها من رجل؛ لأن فوات حق الاحتباس ليس من جهتها، ولا دخل لها فيه. المسألة السادسة ـ سفر الزوجة: اتفق الفقهاء (¬2) على أنه إذا سافرت الزوجةمع غير زوجها لحج أو غيره قبل الدخول، فلا نفقة لها، لفوات الاحتباس في بيت الزوج. وكذا إن سافرت وحدها بدون محرم بعد الدخول، لا نفقة لها، لفوات الاحتباس بسبب من جهتها، ولعصيانها بهذا السفر بدون محرم. أما إن سافرت مع مَحْرم لأداء فريضة الحج، فلا يسقط حقها في النفقة ولو بغير إذنه عند المالكية والحنابلة وأبي يوسف؛ لأنه سفر لأداء فريضة دينية، فيكون ¬
المسألة السابعة ـ انتقال الزوج إلى بلد آخر
فوات الاحتباس بمسوغ شرعي، لكن النفقة الواجبة عند أبي يوسف والحنابلة هي نفقة الإقامة لا السفر، وعند المالكية: يجب لها الأقل من نفقتي الإقامة والسفر. وتسقط نفقتها ولو بإذن الزوج عند جمهور الحنفية، والشافعية في الأظهر، لمخالفتها الواجب عليها وانتفاء التمكين، وفوات الاحتباس من جهتها، سواء سافرت لحج الفريضة أم لعمل آخر، كطلب العلم أم لحاجتها. وإن سافرت لحج النفل سقطت نفقتها عند الحنفية والشافعية والحنابلة. وقال المالكية: إن سافرت بإذن الزوج، فلا يسقط حقها في النفقة؛ لأنها لا تعد ناشزة، وإن سافرت بدون إذنه، سقط حقها في النفقة؛ لأنها تعد ناشزة. المسألة السابعة ـ انتقال الزوج إلى بلد آخر: قال الحنفية (¬1): للزوج السفر بزوجته إلى بلد آخر لغرض صحيح، كالتوظف في بلد غير بلده أو استثمار ماله، إذا أوفاها مهرها كله معجله ومؤجله، وكان مأموناً عليها، ولم يقصد الإضرار بها، فإن امتنعت من السفر معه حينئذ، سقط حقها في النفقة واعتبرت ناشزة. فإن لم يؤدها مهرها، أو لم يكن مأموناً عليها أو قصد إضرارها، فلها الحق في الامتناع من السفر معه، ولا تعد ناشزة، لقوله تعالى: {ولا تضارّوهن لتضيقوا عليهن} [الطلاق:6/ 65] وقوله عليه الصلاة والسلام: «لا ضرر ولا ضرار». وقال المالكية (¬2): للزوج الانتقال بزوجته إذا أوفاها عاجل مهرها، وإن لم يكن دخل بها بالشروط التالية: ¬
المسألة الثامنة ـ حبس الزوج أو مرضه
1ً - أن يكون الزوج مأموناً. 2ً - وأن يكون الطريق إلى البلد مأموناً. 3ً - وأن يكون البلد قريباً بحيث لا ينقطع خبر أهلها عنها ولا خبرها عن أهلها. المسألة الثامنة ـ حبس الزوج أو مرضه: تستحق الزوجة النفقة بالاتفاق إذا حبس زوجها بجريمة اقترفها أو بدين لزوجته، أو ظلماً، أو مرض مرضاً مانعاً من الجماع، أو كان به عيب يحول دون الاستمتاع كالجب (قطع العضو) والعُنَّة (العجز الجنسي) والخصاء (نزع الخصيتين)؛ لأن فوات الاحتباس بسبب من جهته لا من جهة الزوجة. وكذلك تستحق النفقة عند المالكية (¬1) إذا علم الزوج في زوجته بعيب يمنع الوطء كالرتَق (التحام محل الوطء) والقرَن (غدة تمنع الجماع)، واستمتع بها بغير الوطء. المطلب الثالث ـ كيفية تقدير النفقة بأنواعها والحكم القضائي بها: تشمل النفقة الزوجية ما يأتي: 1ً - الطعام والشراب والإدام. 2ً - الكسوة. 3ً - المسكن. ¬
الواجب الأول ـ الطعام وتوابعه
4ً - الخدمة إن لزمتها أو كانت ممن تخدم. 5ً - آلة التنظيف ومتاع البيت. وقد نصت المادة (71) من القانون السوري على أنواع النفقة وتقديرها آخذة بوجوب نفقات التطبيب والعلاج: 1 - النفقة الزوجية تشمل الطعام والكسوة والسكنى والتطبيب بالقدر المعروف، وخدمة الزوجة التي يكون لأمثالها خادم. 2 - يلزم الزوج بدفع النفقة إلى زوجته إذا امتنع عن الإنفاق عليها أو ثبت تقصيره. الواجب الأول ـ الطعام وتوابعه: قرر الفقهاء (¬1) أنه يجب للزوجة الطعام والشراب والإدام، وما يتبعها من ماء وخل وزيت ودهن للأكل وحطب ووقود ونحوها، ولا تجب الفاكهة. ما تقدر به نفقة الطعام: قال الجمهور غير الشافعية: تقدر بالكفاية، أي بما يكفي الزوجة من الطعام كنفقة الأقارب، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم لهند: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» فأمرها بأخذ ما يكفيها من غير تقدير، وإنما باجتهادها في التقدير، ولأن الله تعالى قال: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} [البقرة:233/ 2] وقال النبي صلّى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع: «ولهن عليكم رزقهن ¬
وكسوتهن بالمعروف» وإيجاب أقل من الكفاية من الرزق ترك للمعروف، وكل هذه الأدلة صريحة في إيجاب قدر الكفاية. ولا يصح تقدير النفقة بالكفارة؛ لأن الكفارة لا تختلف باليسار والإعسار، وإنما اعتبر الشرع الكفارة بالنفقة في الجنس دون القدر، بدليل عدم وجوب الأدم فيها. وإذا قام الزوج بتولي الإنفاق على الزوجة، فليس لها أن تطلب منه تقديراً معيناً لتنفق هي بنفسها، فإن ثبت تقصيره، رفع الأمر إلى القاضي ليفرض عليه النفقة، ويرجع في تقدير الواجب إليه إن لم يتراض الزوجان على شيء. ولا يشترط فيها الحَب، وإنما يصح أن تكون أصنافاً من الطعام بحسب العرب كالخبز والإدام. ويجب في النفقة تسليم الطعام، وتضمن النفقة المقدرة باليوم أو الشهر أو غيرهما بالقبض من الزوجة، وأجاز الحنفية والمالكية دفع الثمن أو النقود عنه، لتنفق على نفسها، وهو ما يجري عليه القضاء الآن، لأنه أضبط وأيسر. وقال الحنابلة: لا يملك الحاكم فرض غير واجب القوت الغالب في البلد كدراهم مثلاً إلا باتفاق الزوجين. وتقدر نفقة الطعام بحسب الأعراف والعادات في كل بلد، أو بحسب اختلاف الأمكنة والأزمنة والأحوال، من رخص وغلاء، وشباب وهرم، وشتاء وصيف. وإذا قدر القاضي النفقة، ثم تغير حال الزوج يساراً أو إعساراً، زاد القاضي نفقة اليسار في المستقبل، أو نقصها. وقال الشافعية: تقدر نفقة الطعام من الحب بمقادير معينة بحسب حال الزوج
حال من تقدر به نفقة الطعام
يساراً أو إعساراً؛ لأن أقل ما يدفع في الكفارة إلى الشخص الواحد مدّ (¬1) من الحبوب، والله سبحانه اعتبر الكفارة بالنفقة على الأهل، فقال تعالى: {من أوسط ما تطعمون أهليكم} [المائدة:89/ 5] فاعتبروا النفقة بالكفارة بجامع أن كلاً منهما مال يجب بالشرع، ويستقر في الذمة. فعلى الزوج الموسر لزوجته كل يوم مدان من الطعام، وعلى المعسر مُدّ، وعلى المتوسط مدّ ونصف، واحتجوا لهذا التفاوت بقوله تعالى: {لينفق ذو سعة من سعته} [الطلاق:7/ 65] وأكثر ما وجب في الكفارة لكل مسكين مدان، وهو في كفارة الأذى من إزالة شعر أوظفر في الحج، وأقل ما وجب له مُدّ في نحو كفارة الظهار، فأوجبوا على الموسر الأكثر وهو مدّان؛ لأنه قدر الموسع، وعلى المعسر الأقل وهو مد؛ لأن المد الواحد يكتفي به الزهيد، ويتقنع به الرغيب، وعلى المتوسط ما بينهما دفعاً للضرر عنه. والراجح لدي هو رأي الجمهور، بدليل ما قال الأذرعي الشافعي: لا أعرف لإمامنا رضي الله عنه سلفاً في التقدير بالأمداد، ولولا الأدب لقلت: الصواب أنها بالمعروف تأسياً واتباعاً. وأما الأدم عند الشافعية فيجب أدم غالب كزيت وسمن وجبن وتمر وخل، وفاكهة لمن اعتادتها، ولحم بحسب يسار الزوج وإعساره كعادة البلد وتقدير القاضي. حال من تقدر به نفقة الطعام: للفقهاء رأيان في كيفية تقدير نفقة الطعام. ¬
أـ ذهب المالكية والحنابلة: إلى أنه تقدر بحسب حال الزوجين يساراً وإعساراً، ومراعاة منصب المرأة وحال البلاد، لقوله تعالى: {لينفق ذو سعة من سعته، ومن قُدِر عليه رزقه، فلينفق مما آتاه الله} [الطلاق:7/ 65] وللحديث السابق: «خذي ما يكفيك» وذلك عند الحنابلة وقت عقد الزواج، واعتبار حال الزوجين للجمع بين الأدلة، ورعاية لكل من الجانبين، وهو الأولى؛ لأن الآية راعت حال الزوج، والحديث راعى كفاية الزوجة بالمعروف. فإن كانا موسرين فالواجب نفقة اليسار، وإن كانا معسرين فالواجب نفقة الإعسار، وإن تفاوت حالهما فالواجب نفقة الوسط بين الموسرين والمعسرين. قال المالكية: والوسط من النفقة بالأندلس: رطل ونصف في اليوم من قمح أو شعير أو ذرة أو قطنية على حسب الحال. ب ـ وذهب الحنفية والشافعية: إلى أنه تقدر نفقة الطعام والكسوة بحسب حال الزوج يساراً وإعساراً، للآية السابقة: {لينفق ذو سعة من سعته، ومن قُدِرَ عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله، لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها} [الطلاق:7/ 65] ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «أطعموهن مما تأكلون، واكسوهن مما تكتسون، ولا تضربوهن ولا تقبِّحوهن» (¬1)، ولأن النفقة واجبة على الزوج، وقد رضيت الزوجة بحاله، ويقصد من كلمة «المعروف» في حديث هند تحديد الواجب على الزوج. وهذا القول هو الراجح لدي، عملاً بما نصت عليه الآية صراحة، وهو ما أخذت به القوانين في سورية ومصر، وفيه مرونة وعدالة؛ لأن القاضي له تعديل النفقة إذا تغيرت أحوال الزوج من الإعسار إلى اليسار وبالعكس. ¬
المدة التي تقدر بها نفقة الطعام
المدة التي تقدر بها نفقة الطعام: تقدر نفقة الطعام في رأي الحنفية والمالكية (¬1) بحسب ما يناسب الزوج من الأصلح والأيسرفي الدفع يومياً أو أسبوعياً أو شهرياً أو سنوياً، فالعامل المحترف تقدر نفقته باليومية أو بالأسبوع، والموظف بالشهر، والأغنياء أصحاب الثروة بالسنة، وتدفع النفقة مساء كل يوم لليوم التالي، أو في نهاية الأسبوع كالصناع الذين لا يقبضون أجرهم إلا في آخر الأسبوع، أو في بدء الشهر أو آخره بحسب قبض الرواتب الوظيفية، أو سنة بسنة للأثرياء. وقال الشافعية والحنابلة: تدفع النفقة بطلوع شمس كل يوم؛ لأنه أول وقت الحاجة، فإن اتفق الزوجان على التعجيل أو التأجيل جاز. الواجب الثاني ـ الكسوة: أجمع العلماء (¬2) على أنه تجب على الزوج لزوجته كسوتها؛ لأنها لا بد منها على الدوام، ولقوله عز وجل: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} [البقرة:233/ 2] وقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف» وقوله عليه الصلاة والسلام لهند: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» والكسوة بالمعروف: هي الكسوة التي جرت عادة أمثالها بلبسه. وهي مقدرة بالاتفاق حتى عند الشافعية بكفاية الزوجة؛ للإجماع على أنه لا يكفي ما ينطلق عليه الاسم، وليست مقدرة بالشرع، وتقدر باجتهاد الحاكم، ¬
الواجب الثالث ـ المسكن
فيفرض لها على قدر كفايتها، على قدر يسرهما وعسرهما، وما جرت عادة أمثالهما به من الكسوة، فللموسرة ثياب رفيعة من حرير وكتان جيد، وللمعسرة ثياب غليظة من قطن وكتان، وللمتوسطة ما بينهما. وأقل ما يجب من الكسوة قميص (ثوب مخيط يستر جميع البدن) وسراويل (وهو ثوب مخيط يستر أسفل البدن ويصون العورة) وخمار أو مقنعة (وهو ما يغطى به الرأس) ومداس أو مِكْعَب (وهو مداس الرجل من نعل أو غيره). ويجب لها الكسوة في كل سنة مرتين: صيفية وشتوية، لتجدد الحاجة في الحر والبرد، وتكون كسوة الشتاء والصيف بما يناسبها بالاتفاق من غِطاء ووطاء في الشتاء بما يناسب، والصيف بما يناسبه بحسب العرف والعادة. وتدفع الكسوة عند المالكية والحنابلة أول كل عام، وتملك بالقبض، فلا بدل لما سرق أو بلي. وقال الشافعية والحنفية: تدفع الكسوة في كل ستة أشهر؛ لأن العرف في الكسوة أن تبدَّل في هذه المدة. فإن بليت الكسوة قبل هذه المدة، لم يجب عليه بدلها، كما لا يجب عليه بدل الطعام إذا نفد قبل انقضاء اليوم. الواجب الثالث ـ المسكن: يجب للزوجة أيضاً مسكن لائق بها (¬1) إما بملك أو كراء أوإعارة أووقف، لقوله تعالى: {أسكنوهن من حيث سكنتم من وُجْدكم} [الطلاق:6/ 65] أي ¬
بحسب سعتكم وقدرتكم المالية، وقوله سبحانه: {وعاشروهن بالمعروف} [النساء:19/ 4] ومن المعروف أن يسكنها في مسكن، ولأنها لا تستغني عن المسكن للاستتار عن العيون وحفظ المتاع. وذكر الشافعية أن الواجب في المسكن هو الإمتاع أي الانتفاع لا التمليك، أما المستهلك كطعام فيجب فيه التمليك. ويكون المسكن كالطعام والكسوة على قدر يسار الزوجين وإعسارهما، لقوله تعالى: {من وجدكم} [الطلاق:6/ 65]، وبناء عليه يجب أن تتوافر في المسكن الأوصاف الآتية: 1ً - أن يكون ملائماً حالة الزوج المالية، للآية السابقة: {من وُجْدكم} [الطلاق:6/ 65]. 2ً - أن يكون مستقلاً بها ليس فيه أحد من أهله إلا أن تختار ذلك، وهذا عند الحنفية؛ لأن السكنى من كفايتها، فتجب لها كالنفقة، وقد أوجبه الله تعالى مقروناً بالنفقة، وإذا وجب حقاً لها ليس له أن يشرك غيرها فيه؛ لأنها تتضرر به؛ لأن السكن المشترك يمنعها معاشرة زوجها والاستمتاع بها، ولأنها لا تأمن على متاعها. والحد الأدنى للمسكن عند المالكية وغيرهم حجرة واحدة مستقلة بمرافقها، بشرط قرره المالكية وبعض الحنفية: وهو ألا يكون في حجرة أخرى في نفس الشقة (الطابق) زوجة ثانية؛ لأن سكنى المرأة مع ضرتها يؤدي إلى الإضرار بها. فإن كان للرجل أقارب فله عند الحنفية أن يسكن زوجته معهم إلا إذا ثبت أن الأقارب يؤذونها بقول أو فعل. وفرق المالكية بين الزوجة الشريفة والوضيعة، فإذا كانت الزوجة شريفة (وهي ذات القدر) فلها الامتناع من السكنى مع أقاربه، ولو الأبوين في دار
واحدة، لما فيه من الضرر عليها باطلاعهم على حالها وشؤونها الخاصة، إلا إذا شرط الزوج عليها عند العقد أن تسكن معهم، فليس لها الامتناع من السكنى معهم إلا إذا حصل منهم الضرر من سكناها معهم أو الاطلاع على شؤونها وعوراتها. وأما إن كانت الزوجة وضيعة (وهي التي لا قدر لها)، فللزوج أن يسكنها مع أقاربه في دار واحدة، إلا إذا اشترطت حين العقد ألا يسكن معها أحد من أقارب الزوج، أو حصل لها ضرر منهم. وليس للزوجة عند الحنفية أن يسكن معها أحد من غير الزوج، ولو كان صغيراً غير مميز إلا إذا رضي الزوج بالسكنى. وأجاز المالكية أن يسكن معها ولد صغير من غير الزوج إذا لم يكن له حاضنة غيرها، وكان الزوج يعلم به عند الزواج، أو لم يعلم به ولم يكن له حاضنة غيرها. وإذا كان المسكن في مكان منقطع موحش أو كانت الدار كبيرة خالية من السكان ومرتفعة الجدران، فيلزم الزوج مؤنسة تؤنس الزوجة على ما اختاره الحنفية والحنابلة. 3ً - أن يكون المسكن مؤثثاً مفروشاً في رأي الجمهور غير المالكية: بأن يشتمل على مفروشات النوم من فراش ولحاف ووسادة، وأدوات المطبخ من آلات الأكل والشرب والطبخ من قِدْر (آلة الطبخ) وقَصْعة (آلة أكل) وكوز (إبريق) وجَرَّة (آلة شرب) ونحوها بحسب العادة مما لا غنى لها عنه كمغرفة، وما تغسل فيه ثيابها وأدوات الإضاءة؛ لأن المعيشة لا تتم بدون المذكور، فكان من المعاشرة بالمعروف. وقال المالكية الذين يوجبون على الزوجة الجهاز المتعارف في حدود المهر المقبوض قبل الدخول: لا يكلف الزوج بتأثيث المنزل، بل المكلف هو الزوجة. واتفق الفقهاء على اشتراط كون المسكن مشتملاً على المرافق الضرورية
الواجب الرابع ـ نفقة الخادم إن كانت ممن تخدم
اللازمة للسكنى من دورة مياه ومطبخ ومنشر، وأن تكون تلك المرافق خاصة بالسكن إلا إذا كان الزوج فقيراً ممن يسكن في غرفة في دار كبيرة متعددة الغرف والسكان، بشرط كون الجيران صالحين. الواجب الرابع ـ نفقة الخادم إن كانت ممن تخدم: اتفق الفقهاء (¬1) على أنه يلزم للزوجة نفقة الخادم إذا كان الزوج موسراً، وكانت المرأة ممن تُخدم في بيت أبيها مثلاً، ولا تخدم نفسها لكونها من ذوي الأقدار أو مريضة؛ لأنه من المعاشرة بالمعروف، ولأن كفايتها واجبة عليه، وقال تعالى: {وعاشروهن بالمعروف} [النساء:19/ 4]. والأولى للموسر إخدام زوجته التي تخدم نفسها لأنه معاشرة بالمعروف. ولا يجب لها في رأي الجمهور (أبي حنيفة ومحمد والشافعي وأحمد) أكثر من خادم واحد؛ لأن الخادم الواحد يكفيها لنفسها، فتتحقق الكفاية بواحد، ولا ضرورة إلى اثنين، والزيادة من باب الترف الذي لا يلزم الزوج به. وقال أبو يوسف وأبو ثور: تفرض النفقة لخادمين؛ لأنها تحتاج إلى أحدهما لمصالح الداخل، والآخر لمصالح الخارج. وكذلك قال المالكية في المشهور: يلزم الزوج أكثر من خادم إذا كانت الزوجة أهلاً لذلك، وقضي لها عند التنازع مع الزوج بخادمها؛ لأنه أطيب لنفسها، إلا لريبة في خادمها تضر بالزوج في الدين أو الدنيا. ¬
الخادم
والخادم: هو من يحل له النظر إلى المرأة، بأن يكون امرأة أو ذا رحم محرم؛ لأن الخادم يلزم المخدوم في أغلب أحواله، فلا يسلم من النظر. ويجوز في الصحيح عند الحنابلة: أن يكون الخادم من أهل الكتاب؛ لأن استخدامهم مباح، ولأن الصحيح عندهم إباحة النظر لهم. ونفقة الخادم ومؤنته من الكسوة والطعام، مثل نفقة امرأة المعسر في رأي الحنابلة، إلا أنه لا يجب لها المشط والدهن لرأسها والسدر؛ لأن ما ذكر يراد للزينة والتنظيف؛ ولايراد من الخادم. ومذهب الشافعية: تلزم نفقة الخادمة كالزوجة، وجنس طعامها جنس طعام الزوجة: وهو مُدّ على معسر وكذا متوسط على الصحيح، ومد وثلث على موسر، ولها كسوة تليق بحالها، ولها أدم على الصحيح، لكن ليس لها آلة تنظيف، إلا إن كثر وسخ وتأذت بقمَّل، فيجب لها ما يزيله. أما إن كان الزوج معسراً فلا يجب عليه إحضار خادم لزوجته ولا نفقته؛ لأن الخادم ليس ضرورياً، وعلى الزوجة أن تخدم نفسها مااستطاعت. الواجب الخامس ـ آلة التنظيف ومتاع البيت: اتفق الفقهاء (¬1) على وجوب أجرة القابلة وآلات التنظيف، واختلفوا في أدوات التجميل ومتاع البيت. فقال الحنفية: يجب على الزوج آلة طحن وخبز وآنية شراب وطبخ ككوز وجرة وقِدْر ومغرفة، وكذا سائر أدوات البيت كحصر ¬
ولِبْد وطنفسة (بساط صوف) وما تنتظف به وتزيل الوسخ كمشط وأشنان وصابون وسِدْر ودهن وخِطْمي على عادة أهل البلد، ويجب عليه مداس رجلها وما تغسل به ثيابها وبدنها، وينقل لها ماء الغسل من الجنابة، ويجب لها ماء الوضوء. وأما أجرة القابلة فعلى من استأجرها من زوجة وزوج، فإن جاءت القابلة بلا استئجار، قيل: تجب عليه، لأنه مؤنة الجماع، وقيل: تجب عليها كأجرة الطبيب. وأما الطيب فيجب عليه ما يوضع بعد الحيض والرائحة الكريهة، أما الخضاب والكحل فلا يلزمه، بل هو على اختياره، ولا تجب لها الفاكهة والقهوة والدخان. وقال المالكية: تجب على الزوج آلة التنظيف على حسب الحال والمنصب وعوائد البلاد، فيفرض لها ماء الشرب والغسل وغسل الثوب والإناء واليد والوضوء، وزيت الأكل والادِّهان، والوقود من حطب أو غيره على حسب العادة، وما يصلح الطعام من ملح وبصل وغيرهما، واللحم في كل أسبوع مرة من غير الفقير، لا كل يوم، أما الفقير فعلى حسب قدرته. وتجب عليه أجرة القابلة؛ لأنها من متعلَّقات الولد، والغطاء والوطاء في الشتاء والصيف بما يناسبهما بحسب العرف والعادة، وحصير الفرش، وليس لها بيع جهازها إلا بعد مضي أربع سنين، ولا يلزم الزوج ببدل الجهاز إذا بلي إلا الغطاء والفراش، فإنه يلزم به؛ لأنه ضروري. وتجب عليه أيضاً أدوات الزينة التي تتضرر المرأة بتركها ككحل ودُهْن من زيت أوغيره كحناء إذا كانا معتادين، لا غير معتادين، ولا يجب عليه مالا تتضرر المرأة بتركه، كما لا يجب لها المُشْط والمُكْحلة وباقي أثاث البيت، لأنها ملزمة بأثاث المنزل وحاجاته بعد قبض صداقها.
الحكم القضائي بالنفقة وتعديلها
والمقرر لدى الشافعية: أنه يجب آلة تنظيف كمُشْط ودُهْن وما تكنس به الدار، وما تغسل به الرأس والبدن، وأجرة حمام بحسب العادة، وثمن ماء غسل جماع ونفاس، لا حيض واحتلام في الأصح، ولها آلات الأكل والشرب والطبخ، وعلى الزوج الطحن والعجن والخبز في الأصح، ولها مفروشات النوم من فراش ومخدة ولحاف، وما تقعد عليه من لبْد وحصير ونحوهما. ولا يجب لها الكحل والخضاب وما تزين به إلا إذا طلبه الزوج. وأما الطيب فيلزمه إن كان لقطع السهوكة (الرائحة الكريهة). وقرر الحنابلة: أنه يجب للمرأة ما تحتاج إليه من المشط ودهن الرأس والسدر وصابون ونحوهما مما تغسل به رأسها وتنظف بدنها وبيتها، وثمن ماء شرب ووضوء وغسل من حيض أو نفاس وجنابة ونجاسة وغسل ثياب. ويجب عليه الخضاب والحناء إن طلبه منها للزينة، ولا يجب عليه إن لم يطلبه؛ لأنه يراد للزينة، وعليه الطيب لقطع أثر الحيض والعرق والرائحة الكريهة، ولا يلزمه ما يراد للتلذذ والاستمتاع أو التجمل والزينة. ويجب كل ما تحتاجه للنوم من فراش ولحاف ومِخدَّة مع حشوها بالقطن بحسب عرف البلد، وما تحتاجه للجلوس من بساط صوف وهو الطنفسه، وما لا بد منه للطبخ كماعون الدار ونحوه، الموسر على حسب إيساره والمعسر على قدر إعساره على حسب العوائد. الحكم القضائي بالنفقة وتعديلها: تجب نفقة الزوجة ديانة مهما امتد الزمن، لكن منع القانون السوري الحكم بالنفقة أكثر من أربعة أشهر سابقة للادعاء تيسيراً على الزوج ومنع إرهاقه، وقد نص هذا القانون على ذلك في المادة (78):
1 - يحكم للزوجة بالنفقة من تاريخ امتناع الزوج عن الإنفاق الواجب عليه. 2 - لا يحكم بأكثر من نفقة أربعة أشهر سابقة للادعاء. والمقرر لدى الحنفية (¬1) أنه لا تستحق الزوجة النفقة عن مدة ماضية إلا بفرض القاضي أو بالتراضي؛ لأن النفقة عندهم صلة وليست بعوض، فلا يتأكد وجوبها إلا بالقضاء، كالهبة لا توجب الملك إلا بمؤكد وهو القبض، والصلح بمنزلة القضاء. ويجوز تعديل النفقة المقدرة قضاء في حالتين (¬2): الأولى ـ تبدل حال الزوج من عسر إلى يسر؛ لأن النفقة تختلف بحسب اليسار والإعسار. والثانية ـ تبدل أسعار الحاجيات تبدلاً ملحوظاً، من رخص إلى غلاء وبالعكس، في أحوال الظروف الطارئة كالحرب والقحط والكوارث العامة. فإذا لم تحدث طوارئ عامة لا تقبل دعوى التعديل زيادة أو نقصاً قبل مضي ستة أشهر على فرض النفقة، اعتماداً على الغالب في أن الأسعار لا يظهر أثر تبدلها في أقل من تلك المدة. وهذا ما نصت عليه المادة (77) من القانون السوري: 1 - تجوز زيادة النفقة ونقصها بتبدل حال الزوج وأسعار البلد. لا تقبل دعوى الزيادة أو النقص في النفقة المفروضة قبل مضي ستة أشهر على فرضها إلا في الطوارئ الاستثنائية. ¬
كيف يقدر القاضي النفقة؟
كيف يقدر القاضي النفقة؟ يقدر القاضي النفقة بالاستناد لمعرفة حاجات الزوجة وتكاليف المعيشة وأسعار السلع، مستعيناً بآراء أهل الخبرة فيها. وهذا ما نصت عليه المادة (81) من القانون السوري. يقدر القاضي النفقة، ويجب أن يكون تقديره مستنداً إلى أسباب ثابتة، وله الاستئناس برأي الخبراء. الاستدانة أثناء الدعوى: للقاضي أثناء النظر في دعوى النفقة أن يأمر الزوج بإسلاف زوجته مبلغاً من المال، لا يزيد عن نفقة شهر واحد، ويمكن تجديد الأمر، وقد نصت على هذا الأمر المادة (82) من القانون السوري: 1 - للقاضي أثناء النظر بدعوى النفقة، وبعد تقديرها: أن يأمر الزوج عند اللزوم بإسلاف زوجته مبلغاً على حساب النفقة لا يزيد عن نفقة شهر واحد، ويمكن تجديد الإسلاف بعده. 2 - ينفذ هذا الأمر فوراً كالأحكام القطعية. المطلب الرابع ـ أحكام النفقة الزوجية: هناك أحكام متنوعة لنفقة الزوجة أهمها ما يأتي: أولاً ـ حكم الامتناع عن الإنفاق: إذا امتنع الزوج عن الإنفاق على زوجته بعدما فرضه على نفسه أو بعد فرض القاضي، ففيه تفصيل عند الحنفية: أـ إن كان الزوج موسراً وله مال ظاهر، باع القاضي من ماله جبراً عليه، وأعطى الثمن لزوجته للنفقة. وإن لم يكن له مال ظاهر وكان موسراً، حبسه
ثانيا ـ إعسار الزوج بالنفقة
القاضي إذا طلبت الزوجة (¬1)، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «مَطْل الغني ظلم، يحل عرضه وعقوبته» ويظل محبوساً حتى يدفع النفقة، فإن لم يدفع وثبت للقاضي عجزه عن الإنفاق، ترك إلى الميسرة، لقوله تعالى: {وإن كان ذو عسرة، فنظِرة إلى ميسرة} [البقرة:280/ 2]. ب ـ وأما إن كان الزوج معسراً: فلا يحبس؛ إذ أنه ليس ظالماً بامتناعه عن الإنفاق، ولأنه لا فائدة من حبسه. ثانياً ـ إعسار الزوج بالنفقة: للفقهاء آراء في إعسار الزوج، وهي ما يأتي (¬2): قال الجمهور غير المالكية: لا تسقط النفقة المفروضة على الزوج بإعساره، بل تصبح ديناً عليه إلى وقت اليسار، لقوله تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنظِرة إلى ميسرة} [البقرة:280/ 2]. وحينئذ يأذن القاضي في رأي الحنفية للزوجة بالاستدانة، وإن أبى الزوج، وفائدة الإذن بالاستدانة: أن يتمكن الدائن من أخذ دينه من الزوج أو الزوجة، وأن النفقة المستدانة لا تسقط بموت أحد الزوجين. ويجب إقراض الزوجة على من تجب عليه نفقتها، فإن امتنع فللقاضي أن يحكم بحبسه بعد إنذاره. ولا يفرق عند الحنفية بين الزوجين بسبب الإعسار؛ لأن النفقة تصير ديناً بفرض القاضي، فيستوفى في المستقبل، ويتحمل أدنى الضررين لدفع الأعلى. ¬
الشافعية والحنابلة
أما عند الشافعية والحنابلة: فللزوجة أن تفسخ أذا أعسر الزوج بنفقة المعسر كلها أو بعضها، ولا تفسخ إذا أعسر بما زاد عن نفقة المعسر؛ لأن الزيادة تسقط بإعساره. ودليلهم على جواز الفسخ حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته؟ قال: «يفرق بينهما» (¬1) وحديث أبي هريرة أيضاً عند النسائي الذي ورد فيه: «وابدأ بمن تعول، فقيل: من أعول يا رسول الله؟ قال: امرأتك تقول: أطعمني، وإلا فارقني» ولأنه عجز عن الإمساك بالمعروف، فينوب القاضي منابة في التفريق كما في الجب والعنة، بل أولى؛ لأن الحاجة إلى النفقة أولى، فإنه إذا ثبت للزوجة الفسخ بالعجز عن الوطء ـ والضرر فيه أقل ـ فلأن يثبت بالعجز عن النفقة ـ والضرر فيه أكثر ـ أولى. وقال المالكية: تسقط النفقة عن الزوج بالإعسار مدة إعساره، أي لا تلزمه، ولا تكون ديناً عليه، فلا ترجع عليه الزوجة إذا أيسر، لقوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها} [الطلاق:7/ 65] والمعسر عاجز عن الإنفاق، وتكون متبرعة فيما تنفقه على نفسها في زمن الإعسار. فإن أيسر وجبت عليه النفقة. أما الحكم القانوني: ففي مصر نصت المادة (213 إجراءات شرعية) على أنه إذا امتنع المحكوم عليه عن النفقة المحكوم بها، حكمت المحكمة بحبسه، ولا يجوز أن تزيد مدة الحبس على عشرين يوماً، ويخلى سبيله إذا أدى ما عليه أو أحضر كفيلاً مقتدراً. ونصت المادة (80) من القانون السوري على ما يلي: 1 - إذا حكم للزوجة بنفقة على الزوج، وتعذر تحصيلها منه، يلزم من يكلف ¬
ثالثا ـ نفقة زوجة الغائب
بنفقتها فيما لو فرضت غير ذات زوج، أن ينفق عليها بالقدر المفروض، ويكون له حق الرجوع على الزوج. 2 - إذا أذن لها بالاستدانة ممن ليس مكلفاً بنفقتها، فله الخيار بين الرجوع على الزوج أو الرجوع عليها، وهي ترجع على زوجها. ومعنى هذه المادة التفريق بين حالتين: الأولى ـ إذا كان المأمور بالإنفاق على المرأة هو قريبها من أب أو جد أو أخ، فله إذا دفع النفقة أن يرجع على الزوج عند اليسار. والثانية ـ إذا كان المستدان منه النفقة هو غير المكلف بالإنفاق على المرأة، فله الخيار بين الرجوع على الزوج أو الزوجة. ثالثاً ـ نفقة زوجة الغائب: الغائب: هو من تعذر إحضاره إلى المحكمة لسؤاله عن دعوى النفقة، سواء أكان بعيداً أم قريباً. وقد اختلف الفقهاء في كيفية إيجاب النفقة عليه (¬1). فذهب الجمهور إلى وجوب النفقة عليه عن الماضي ولو لم يفرضها حاكم، وتكون ديناً في ذمته. وقال أبو حنيفة: لا تجب إلا بإيجاب الحاكم. ودليل الجمهور أن عمر رضي الله عنه كتب في رجال غابوا عن نسائهم، فأمرهم أن ينفقوا، أو يطلّقوا. وهذا إجبار على الطلاق عند الامتناع عن الإنفاق، ولأن الإنفاق عليها من ماله يتعذر، فكان لها الخيار كحال الإعسار، بل هذا أولى بالفسخ، فإنه إذا جاز الفسخ على المعذور، فعلى غيره أولى، ولأن في الصبر ضرراً أمكن إزالته بالفسخ، فوجب إزالته. ¬
واستدل أبو حنيفة بأن نفقة الزوجة تجب يوماً فيوماً، فتسقط بتأخيرها إذا لم يفرضها الحاكم كنفقة الأقارب، ولأن نفقة الماضي قد استغني عنها بمضي وقتها، فتسقط كنفقة الأقارب. ورأى الحنفية: أنه لا يقضى بنفقة في مال شخص غائب إلا لزوجة الغائب وأولاده الصغار ووالديه. أما غيرهم من المحارم كالإخوة والأخوات والأعمام والعمات، فلا يقضى بنفقتهم فيه. فإذا غاب الزوج، وطلبت زوجته من القاضي فرض نفقة لها: فإن كان له مال ظاهر يمكن أخذ النفقة منه، قضى لها القاضي بالنفقة من ماله، بعد أن يحلفها بالله: أن زوجها ما أعطاها النفقة، رعاية لمصلحة الغائب، ويأخذ في رأي الحنفية والشافعية كفيلاً منها بالنفقة رعاية لمصلحة الغائب؛ لأنه ربما استوفت النفقة أو طلقها الزوج وانقضت عدتها. وكذلك يحلفها في رأي المالكية بأنها تستحق النفقة على زوجها الغائب وأنه لم يترك لها مالاً تنفق منه، ولا وكل وكيلاً لها ينفق عليها. وتسمى هذه اليمين يمين الاستيثاق. وإن لم يكن للزوج مال ظاهر: فليس للقاضي في رأي الحنفية تطليق الزوجة بإعساره؛ لأن إعساره لا يسوغ التطليق سواء أكان الزوج حاضراً أم غائباً. ورأى الجمهور غير الحنفية: أن للقاضي تطليق الزوجة بإعسار الزوج مطلقاً حاضراً أم غائباً، إلا أن المالكية قالوا: إن كان الزوج قريب الغيبة فيرسل له: إما أن يأتي أو يرسل النفقة، أو يطلّق عليه، وإن كان بعيد الغيبة كعشرة أيام، فللقاضي التطليق إن لم يترك لها شيئاً ولا وكل وكيلاً بالنفقة ولا أسقطت عنه النفقة حال غيبته، وتحلف على ما ذكر.
رابعا ـ متى تعتبر النفقة دينا على الزوج؟
واتفق الفقهاء (¬1) على أنه إذا أنفقت المرأة على نفسها من مال زوجها الغائب، ثم بان أنه قد مات قبل إنفاقها، حسب ما عليها ما أنفقته من ميراثها سواء أنفقته بنفسها أو بأمر الحاكم. رابعاً ـ متى تعتبر النفقة ديناً على الزوج؟ عرفنا أن النفقة الزوجية تجب باتفاق الفقهاء من حين العقد مع تمكين الزوجة من نفسها، واشترط المالكية لوجوب النفقة قبل الدخول دعوة المرأة أو وليها المجبر الزوج إلى الدخول. ولكنهم اختلفوا في وقت اعتبار النفقة ديناً في ذمة الزوج وفي مدى قوة هذا الدين على رأيين (¬2): 1 - قال الحنفية: لا تصير النفقة ديناً في ذمة الزوج إلا بالقضاء أو التراضي، فما لم يحكم بها القاضي، أو لم يتراض الزوجان عليها، لا تكون ديناً، فلو أنفقت المرأة على نفسها من مالها بعد العقد، أو بطريق الاستدانة، لا تكون ديناً على الزوج، بل تسقط بمضي المدة، إلا لأقل من شهر فلا تسقط. وإذا تم القضاء بها أو التراضي عليها، لا يصبح المتجمد منها ديناً قوياً بحيث لا يسقط إلا بالأداء أو بالإبراء، وإنما يكون ديناً ضعيفاً يسقط بما يسقط به الدين القوي بالأداء أو الإبراء، ويسقط أيضاً بنشوز الزوجة، وبموت أحد الزوجين. ولا تصير ديناً قوياً إلا إذا أذن الزوج أو القاضي للزوجة بالاستدانة واستدانتها بالفعل. ¬
2 - وقال الجمهور
وحجتهم أن النفقة الزوجية هي صلة (أي عطاء من غير عوض) من وجه، وعوض من وجه آخر، أما كونها صلة فلأن منافع الاحتباس تعود على الزوجين جميعاً لا على الزوج وحده، وأما كونها عوضاً فلأنها جزاء احتباس الزوجة لحق زوجها، فنظراً لشبهها بالصلة تسقط بمضي المدة من غير قضاء ولا تراض من الزوجين كنفقة الأقارب، ولشبهها بالعوض تصير ديناً بالقضاء بها أو التراضي عليها. 2 - وقال الجمهور: إنها تصير ديناً قوياً بمجرد وجوبها وامتناع الزوج عن أدائها إلى الزوجة، فلا يسقط إلا بالأداء أو الإبراء كسائر الديون، ولا يسقط بمضي المدة بدون إنفاق، ولا يسقط المتجمد منها في الماضي بنشوز الزوجة ولا بالطلاق ولا بالموت. وحجتهم أن النفقة عوض، وليست صلة أي عطاء من غير عوض، وقد أوجبها الشارع بمقتضى العقد في مقابل احتباس الزوجة لشؤون الزوجية. وإذا كانت عوضاً محضاً فهي دين كسائر الديون، تجب من وقت استحقاقها ككل عوض أو أجرة. وقد أخذ القانون السوري برأي الحنفية، فنصت المادة (79) على ما يلي: النفقة المفروضة قضاء أو رضاء لا تسقط إلا بالأداء أو بالإبراء. والراجح لدي رأي الجمهور، وقد أخذت به المحاكم الشرعية في مصر من سنة (1920). خامساً ـ نفقة المعتدة: تقدم بيان الحكم في حقوق الزوجة، وخلاصته ما يأتي:
نفقة الحمل
تجب بالاتفاق نفقة الرجعية؛ لأنها في حكم الزوجة، ونفقة الحامل، لقوله تعالى: {وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن} [الطلاق:6/ 65]. ولا تجب بالاتفاق نفقة المعتدة من وفاة أو من زواج فاسد أو شبهة، إلا أن المالكية أوجبوا لمعتدة الوفاة السكنى مدةالعدة إذا كان المسكن مملوكاً للزوج، أو مستأجراً ودفع أجرته قبل الوفاة. واختلفوا في المعتدة من طلاق بائن: فأوجب الحنفية (¬1) لها النفقة بأنواعها الثلاثة لاحتباسها لحق الزوج. ولم يوجب لها الحنابلة (¬2) أي نفقة؛ لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يجعل لفاطمة بنت قيس التي طلقت البتة نفقة ولا سكنى. وتوسط المالكية والشافعية (¬3) فأوجبوا لها السكنى فقط، لقوله تعالى: {أسكنوهن من حيث سكنتم من وُجْدكم} [الطلاق:6/ 65]. نفقة الحمل: أوجب المالكية (¬4) نفقة الحمل على أبيه، بشرط حرية الحمل وحرية أبيه ولحوق الحمل بأبيه، فلا نفقة لحمل رقيق ولا لمن أبوه عبد، ولا نفقة لحمل ملاعَنة محبوسة بسببه. وهناك رأيان عند الشافعية والحنابلة في سبب نفقة الحامل (¬5): ¬
حكم القانون السوري بنفقة العدة
أحدهما: أنها تجب للحمل؛ لأنها تجب بوجوده، وتسقط عند انفصاله، فدل على أنها له. والثاني ـ تجب للحامل من أجل الحمل، لأنها تجب مع اليسار والإعسار، فكانت له، كنفقة الزوجات، ولأنها في رأي غير الحنفية لا تسقط بمضي الزمان، فأشبهت نفقة الأم في حال حياة الحمل. حكم القانون السوري بنفقة العدة: نصت المادتان (83، 84) على نفقة العدة. (م 83) - تجب على الرجل نفقة معتدته من طلاق أو تفريق أو فسخ. (م 84) - نفقة العدة كنفقة الزوجية، ويحكم بها من تاريخ وجوب العدة، ولا يقضى بها عن مدة أكثر من تسعة أشهر. فالمادة الأولى تقرر وجوب نفقة المعتدة أياً كان سبب الفراق. والمادة الثانية تقرر بداية الواجب وهو من تاريخ وجوب العدة، ولا يقضى بها عن مدة أكثر من تسعة أشهر، دفعاً لإرهاق الزوج، مع العلم بأن عدة ممتدة الطهر سنة كاملة، كما جاء في الفقرة (2) من المادة (121)، فكان ينبغي جعل أقصى المدة سنة، لا تسعة أشهر. سادساً ـ تعجيل النفقة: إذا عجل الزوج نفقة زوجته، ثم طرأ ما يوجب سقوط النفقة كنشوز الزوجة أو موت أحد الزوجين، فليس للزوج أو لورثته في رأي أبي حنيفة وأبي يوسف (¬1) ¬
سابعا ـ الإبراء من النفقة
أن يسترد شيئاً منها؛ لأن النفقة صلة أو هبة، والزوجية من موانع الرجوع في الهبة. وقال محمد وباقي الأئمة: للزوج أن يسترد نفقة المدة الباقية، فإن كانت قائمة أخذها، وإن كانت مستهلكة أخذ مثلها إن كانت مثلية، وقيمتها إن كانت قيمية؛ لأن النفقة عوض وجزاء احتباس الزوجة في المدة، فإن فات الاحتباس في بعض المدة فلا تستحق في مقابلها شيئاً من النفقة، فيلزمها أن ترد ما يقابل نفقة تلك المدة. وهذا هو الراجح لدي؛ لأن الراجح أن النفقة عوض وليست صلة أو هبة. سابعاً ـ الإبراء من النفقة: الإبراء إما أن يكون عن نفقة ماضية أو مستقبلة (¬1). أـ فإن كان عن نفقة ماضية: صح إبراء الزوجة عند الحنفية إن كانت النفقة مفروضة بقضاء القاضي أو بتراضي الزوجين؛ لأنها صارت ديناً ثابتاً في ذمة الزوج، والإبراء يكون مما هو ثابت في الذمة. ولا يصح الإبراء عن نفقة مفروضة بقضاء أو تراض؛ لأنها لم تثبت ديناً في الذمة، ولا يكون الإبراء إلا عما هو ثابت في الذمة. وقال الجمهور: يصح الإبراء عنها؛ لأنها تصير ديناً في ذمة الزوج بمجرد الامتناع عن الإنفاق، سواء أكانت مقررة بالقضاء أم بالتراضي أم غير مقررة. ب ـ وأما الإبراء عن نفقة مستقبلة: فلا يصح اتفاقاً؛ لأن النفقة لم تجب بعد، فلا تقبل الإبراء. ¬
ثامنا ـ المقاصة بدين النفقة
لكن أجاز الحنفية الإبراء عن نفقة مستقبلة في حالتين: الأولى ـ الإبراء عن مدة بدأت بالفعل: كنفقة شهر بدأ، وسنة دخلت، لا عن أكثر من سنة، ولا عن سنة لم تدخل، لتحقق وجوبها، إذ يجب تنجيزها أول المدة. الثانية ـ الإبراء من نفقةالعدة في مقابل الخلع أو الطلاق: لأن الإبراء عن النفقة في نظير عوض وهو ملك الزوجة نفسها. ولا يصح الإبراء في غير الخلع والطلاق؛ لأنه إسقاط للشيء قبل وجوبه. ثامناً ـ المقاصة بدين النفقة: إذا كان للزوج دين على زوجته لثمن مبيع أو قرض، فهل يسقط بالمقاصة مع دين النفقة؟. يرى الحنفية أنه إذا كان دين النفقة قوياً (وهو الذي فرضه القاضي أو تقرر بالتراضي) جاز لأحد الزوجين أن يطلب المقاصة، وليس للآخر الامتناع من المقاصة لتساوي الدينين في القوة. وأما إذا لم يكن دين النفقة مستداناً بأمر القاضي أو برضا الزوج، فيكون ديناً ضعيفاً، وتصح المقاصة به إذا طلبها الزوج؛ لأن دينه أقوى من دين الزوجة. وليس للزوجة الامتناع من المقاصة. ولا تمكن المقاصة بطلب الزوجة حينئذ إلا إذا رضي الزوج بها؛ لأن دينها أضعف من دينه (¬1). ويرى الجمهور: أن دين النفقة دين صحيح لا يسقط إلا بالأداء أو بالإبراء، سواء فرضه القاضي أو استدين بالتراضي أم لا، فتصح المقاصة به مطلقاً، لتساوي ¬
تاسعا ـ الكفالة بالنفقة
الدينين في القوة. ولكن قرر المالكية والحنابلة أن الزوجة إذا كانت فقيرة، وطلب الزوج المقاصة، لا يجاب إلى طلبه إلا إذا رضيت بها، منعاً للضرر بها؛ لأن إحياء النفس مقدم على وفاء الدين. تاسعاً ـ الكفالة بالنفقة: لا تصح الكفالة بالنفقة في رأي الحنفية قبل القضاء بها أو التراضي عليها؛ لأن المكفول به يشترط أن يكون ديناً صحيحاً، ولا تصبح النفقة ديناً في ذمة الزوج إلا بعد القضاء بها أو التراضي عليها، لكنهم أجازوا استحساناً الكفالة بالنفقة بعد القضاء أو التراضي قبل الاستدانة، رفقاً بالناس، وإعانة للزوجة على الوصول إلى حقها في النفقة. وتصح الكفالة بالنفقة في رأي الجمهور؛ لأنها تجب للزوجة من تاريخ العقد بشرط التمكين، وتعتبر ديناً صحيحاً في ذمة الزوج من غير توقف على القضاء أو التراضي. وهذا هو المعمول به في محاكم مصر من سنة (1920). الكفالة بالنفقة بسبب السفر: المفتى به عند الحنفية (¬1) هو رأي أبي يوسف في جواز أخذ المرأة كفيلاً بالنفقة إذا أراد الزوج السفر، وتعطى كفيلاً بنفقة شهر إذا لم تعلم المرأة مدة الغيبة؛ لأن إعطاء كفيل أقل الواجب. فإن علمت أنه سيغيب أكثر من شهر، فتعطى كفيلاً بقدرة المدة التي يتوقع غيابه فيها. وقال المالكية: تعطى الزوجة كفيلاً بالنفقة في مدة غياب زوجها ليدفع لها النفقة بحسب المعتاد يومياً أو شهرياً. ¬
كفالة النفقة الماضية والمستقبلة
كفالة النفقة الماضية والمستقبلة: أجاز الحنابلة ضمان النفقة الماضية والمستقبلة، واكتفى الشافعية بتجويز ضمان النفقة الماضية، ولم يجيزوا ضمان النفقة المستقبلة؛ لأنه ضمان ما لم يجب، بناء على أن المذهب الجديد للشافعي هو القول بأن النفقة تجب بالتمكين لا بالعقد، وهو الصحيح؛ لأنها لو وجبت بالعقد لملكت الزوجة المطالبة بها كالمهر، والعقد يوجب المهر، ولا يوجب عوضين مختلفين، ولأن النفقة مجهولة، والعقد لا يوجب مالاً مجهولاً (¬1). عاشراً ـ الصلح عن النفقة: قال الحنفية (¬2): قد يكون الصلح عن النفقة تقديراً للنفقة، كالصلح على مبلغ مالي قبل تقدير النفقة بالقضاء أو الرضا أوبعده، وحينئذ تجوز الزيادة عليه أو النقصان بسبب الغلاء أو الرخص، فلو قال الزوج: لا أطيق ذلك، فهو لا زم له، ولا التفات لقوله بكل حال، لأنه ألزمه باختياره، إلا إذا تغير سعر الطعام، وعلم القاضي أن ما دون المبلغ المصالح عليه يكفيها، فحينئذ يفرض لها كفايتها. وقد يكون الصلح معاوضة كالصلح على متاع أو عقار، إن كان بعد تقدير النفقة بالقضاء أو الرضا، وحينئذ لا تجوز الزيادة ولا النقصان ولو قبل التقدير المذكور. ¬
المبحث الثاني ـ نفقة الأولاد أو الفروع
المبحث الثاني ـ نفقة الأولاد أو الفروع: يشتمل على أربعة مطالب: الأول ـ وجوب الإنفاق على الفروع وتعيينهم. الثاني ـ شروط الوجوب. الثالث ـ من تجب عليه نفقة الفروع. الرابع ـ مقدار نفقة الفروع وصيرورتها ديناً وسقوطها وتعجيلها. المطلب الأول ـ وجوب الإنفاق على الفروع وتعيينهم: تجب نفقة الأولاد لقوله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} [البقرة:233/ 2] أي أن على الأب المولود له نفقة أولاده، بسبب الولادة، كما تجب عليه نفقة الزوجة بسبب الولد أيضاً، ولقوله صلّى الله عليه وسلم لهند: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» أي أن نفقة الولد والزوجة واجبة على الأب، وللحديث السابق في ترتيب النفقة: على النفس، ثم على الولد الصغير، ثم على الأهل، ثم على الولد غير الصغير، ثم على الخادم. والأولاد الواجب نفقتهم في رأي جمهور العلماء (¬1): هم الأولاد مباشرة، وأولاد الأولاد، أي الفروع وإن نزلوا، فعلى الجد نفقة أحفاده، من أي جهة كانوا؛ لأن الولد يشمل الولد المباشر وما تفرع منه. وهو الصحيح، فهذه النفقة تجب بالجزئية دون الإرث. ¬
المطلب الثاني ـ شروط وجوب النفقة على الأولاد
ورأى الإمام مالك (¬1): أنه تجب نفقة الأولاد المباشرين فقط، دون أولاد الأولاد، لظاهر النص القرآني السابق: {وعلى المولود له ... } [البقرة:2/ 233] فالنفقة عنده تجب بسبب الإرث لا بمطلق الجزئية. المطلب الثاني ـ شروط وجوب النفقة على الأولاد: يشترط لوجوب نفقة الأولاد ثلاثة شروط (¬2): 1 ً - أن يكون الأصل قادراً على الإنفاق بيسار أو قدرة على الكسب: فإذا كان الأصل غنياً أو قادراً على الكسب، وجبت عليه نفقة أولاده، فينفق عليهم من ماله، وإن لم يكن له مال وقدر على الكسب وجب عليه الاكتساب، في رأي الجمهور، فإن امتنع حبسه القاضي. أما إن كان معسراً بحيث تجب نفقته على غيره من الأصول أو الفروع، وكان عاجزاً عن الكسب، فلا نفقة عليه؛ لأنه لا يعقل إيجاب النفقة عليه وهو يأخذ نفقته من غيره، إذ أن فاقد الشيء لا يعطيه، وهذا هو الصحيح. وقال المالكية: لا يلزم الأب الكسب لأجل نفقة أولاده. فإذا كان معسراً، وكان قادراً على الكسب بصنعة أو غيرها، لم يجب عليه التكسب، لينفق على أولاده المعسرين. 2 ً - أن يكون الولد فقيراً معسراً لا مال له، ولا قدرة له على الاكتساب: فإذا كان له مال يكفيه، وجبت نفقته فيه لا على غيره، وإذا كان مكتسباً وجب عليه الاكتساب، فالصغير المكتسب نفقته في كسبه، لا على أبيه. وعليه فإن الولد ¬
العجز عن الكسب يكون بإحدى الصفات التالية
الموسر بمال أو كسب يستغني به، لا نفقة له؛ لأن نفقة القرابة تجب على سبيل المواساة والبر، والموسر مستغن عن المواساة والبر والصلة. ومن له مسكن يسكنه يكون فقيراً محتاجاً للنفقة؛ لأن الإيواء فيه ضرورة حياتية، فلا يباع عليه عقاره، أما إن كان له مسكن آخر زائد عن سكناه، فلا يعد محتاجاً، ولا يستحق النفقة على من سواه من الأصل أو الفرع، فيباع عليه؛ لأن فيه فضلاً عن حاجته. والعجز عن الكسب يكون بإحدى الصفات التالية: 1 ً) ـ الصغر: أي الصغير الذي لم يبلغ به صاحبه حد الكسب، فإن بلغ الغلام لا الأنثى حد الكسب، كان للأب أن يؤجره أو يدفعه إلى حرفة ليكتسب منها، وينفق عليه من كسبه. أما الأنثى فلاتؤجر للخدمة، لما فيها من مخاطر الخلوة بها وهو لا يجوز شرعاً، لكن يجوز تعليمها عند امرأة حرفة معينة مناسبة لها كخياطة أو تطريز أو غزل ونحوها، فإن استغنت بنحوه، وجبت نفقتها في كسبها، ولا تجب نفقتها على الأب إلا إذا كان دخلها لا يكفيها، فتجب كفايتها بدفع القدر المعجوز عنه. وأما الولد الكبير: فلا تجب نفقته على الأب إلا إذا كان عاجزاً عن الكسب لآفة في عقله كالجنون والعته، أو آفة في جسمه كالعمى والشلل وقطع اليدين والرجلين، أو بسبب طلبه العلم، أو بسبب انتشار البطالة وعدم تيسر الكسب له، أو بسبب المرض المانع له من الاكتساب. وأوجب الحنابلة خلافاً للجمهور النفقة للولد الكبير الفقير، ولو كان صحيحاً، كما أوجبوها للوالد الفقير ولو كان صحيحاً؛ لأنه ولد أو والد فقير محتاج، فاستحق النفقة على والده أو ولده الغني، كما لو كان مريضاً بمرض
ـ الأنوثة
مزمن، أو مكفوفاً. ويكون المبدأ عند الحنابلة هو وجوب نفقة المولودين والوالدين دون اشتراط نقص الخِلْقة أو نقص الأحكام المكلف بها، في ظاهر المذهب. 2 ً) ـ الأنوثة: تجب نفقة البنت الفقيرة على أبيها مهما بلغت حتى تتزوج، وعندئذ تصبح نفقتها على الزوج، فإذا طلقت عادت نفقتها على الأب، ولا يجوز للأب أن يجبرها على الاكتساب. فإن اكتسبت من مهنة شريفة لا تعرضها للفتنة كخياطة وتعليم وتطبيب، سقطت نفقتها عن الأب، إلا إذا كان كسبها لا يكفيها، فعلى الأب إكمال النفقة التي تحتاجها. 3 ً) ـ المرض المانع من العمل: كالعمى والشلل والجنون والعته ونحوها. 4 ً) ـ طلب العلم الذي يشغل عن التكسب: فالطالب المتعلم حتى ولو كان قادراً على العمل والتكسب، تجب نفقته على أبيه؛ لأن طلب العلم فرض كفاية، فلو ألزم طلبة العلم التكسب، تعطلت مصالح الأمة. وهذا بشرط كون الطالب مجداً ناجحاً، فإن كان مخفقاً في دراسته، فلا جدوى في تعليمه، وعليه الانصراف إلى تعلم مهنة حرة تكفيه. وأضاف بعض الحنفية: من يلحقه العار بالتكسب بسبب وجاهته وكونه من أبناء الأشراف، فإنه يستحق النفقة على أبيه. وانتقد ذلك بأن الاكتساب لتوفير مؤونته ومؤونة عياله فرض، فكيف يكون عاراً؟! وقالوا: الأولى بأن الولد إذا كان من أبناء الكرام، ولا يستأجره الناس، فهو عاجز يستحق النفقة. والحق أنه لا امتياز في الإسلام لبعض الناس على بعض، وأن كبار الصحابة منهم أبو بكر وعلي كانوا يتجرون ويعملون، وليس في العمل أي عار، فلا وجه لتمييز بعض الأولاد على عامة الناس.
3 - ألا يختلف الدين
3 - ألا يختلف الدين في رأي الحنابلة وحدهم: فلا تجب النفقة في عمودي النسب مع اختلاف الدين، في الرواية المعتمدة لديهم؛ لأنها مواساة على البر والصلة، فلم تجب مع اختلاف الدين كنفقة غير عمودي النسب، ولأنهما غير متوارثين، فلم يجب لأحدهما على الآخر نفقته بالقرابة، ومن الشروط عندهم أن يكون المنفق وارثاً، لقوله تعالى: {وعلى الوارث مثل ذلك} [البقرة:233/ 2]، فيجب أن تختص النفقة بمن تجب صلته وبمن كان وارثاً، فإن لم يكن وارثاً فلا نفقة له، لعدم القرابة. ولم يشترط الجمهور غيرا لحنابلة اتحاد الدين لنفقة الأولاد، لقوله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن} [البقرة:233/ 2] وهو يدل على أن الولادة سبب لإيجاب نفقة الأولاد على أبيهم، والولادة ثابتة، سواء مع اتحاد الدين أواختلافه، ولأن النفقة وسيلة الحياة، والحياة مطلوبة ولو مع الكفر؛ لأن المال لا أهمية له في الحقيقة، والله تعالى يرزق المؤمن والكافر على السواء. المطلب الثالث ـ من تجب عليه نفقة الأولاد: اتفق الفقهاء (¬1) على أنه إذا كان الأب موجوداً وموسراً أو قادراً على الكسب في رأي الجمهور، فعليه وحده نفقة أولاده، لا يشاركه فيها أحد، لقوله تعالى: {وعلى المولود له .. } [البقرة:233/ 2] الذي يفيد حصر النفقة فيه، ولأنهم جزء منه، فنفقتهم وإحياؤهم كنفقة نفسه. أما إذا لم يكن الأب موجوداً، أو كان فقيراً عاجزاً عن الكسب لمرض أو كبر ¬
سن أو نحو ذلك، كانت نفقتهم في رأي الحنفية على الموجود من الأصول ذكراً كان أو أنثى إذا كان موسراً، فتجب على الجد وحده إذا كان موسراً، أو على الأم وحدها إذا كانت موسرة. وللجد أو الأم إذا كان الأب موجوداً معسراً غير مريض مرضاً مزمناً الرجوع على الأب في حال يساره، ويكون ما أنفقه ديناً على والدهم. كما يجوز الرجوع عليه إذا أمر القاضي بالإنفاق. وإذا وجد الجد مع الأم فعليهما النفقة بنسبة ميراثهما، فيكون على الأم الثلث وعلى الجد الثلثان. وإذا كان الجد مع الجدتين: أم الأم وأم الأب، فعلى الجدتين السدس مناصفة بينهما، وعلى الجد الباقي، بمقدار ميراثهما. وإن كان أقارب الولد غير وارثين، بأن كانوا من ذوي الأرحام، فالنفقة على أقربهم درجة. وإن اتحدت درجتهم، كانت النفقة عليهم بالسوية. وإن كان بعض الأقارب وارثاً، والآخر غير وارث، كانت النفقة على الأقرب، وإن لم يكن وارثاً، فإن تساووا في درجة القرابة، وجبت النفقة على الوارث دون غيره. ورأى المالكية: أنه تجب النفقة على الأب وحده دون غيره؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لرجل سأله، عندي دينار؟ قال: «أنفقه على نفسك، قال: عندي آخر؟ قال: أنفقه على أهلك، قال: عندي آخر؟ قال: أنفقه على ولدك، قال: عندي آخر؟ قال: أنفقه على خادمك، قال: عندي آخر؟ قال: أنت أعلم به» ولم يأمره بإنفاقه على غير هؤلاء. وذهب الشافعية: إلى أنه إذا لم يوجد الأب أو كان عاجزاً، وجبت النفقة على الأم، لقوله تعالى: {لا تضارّ والدة بولدها} [البقرة:233/ 2] ولأنه إذا وجبت النفقة على الأب وولادته من جهة الظاهر، فلأن تجب على الأم، وولادتها
مقطوع بها، أولى. وتجب عليها نفقة ولد الولد؛ لأن الجدة كالأم، والجد كالأب في أحكام الولادة. وإذا استوت درجة القرابة واستحقاق الإرث وجبت النفقة على المتساوين؛ لأن علة إيجاب النفقة تشملهما. وإن تفاوتت درجة القرابة فالأصح أن أقربهما تجب النفقة عليه، وارثاً كان أو غيره، وإن استوى قربهما، يقدم الوارث في الأصح. فإن كان هناك أم وجد أبو أب، فالنفقة كلها على الجد في الأصح، لأنه ينفرد بالتعصيب، فأشبه الأب. وإن كان للفرع أجداد وجدات يدلي بعضهم ببعض فالنفقة على الأقرب منهم. وإن لم يُدْل بعضهم ببعض فتلزم النفقة بالقرب. وقال الحنابلة في ظاهر المذهب: إذا لم يكن للولد الصغير أب، وجبت نفقته على كل وارث على قدر ميراثه، لقوله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} [البقرة:233/ 2] ثم قال: {وعلى الوارث مثل ذلك} [البقرة:233/ 2] فأوجب على الأب نفقة الرضاع، ثم عطف الوارث عليه، فأوجب على الوارث مثل ما أوجب على الوالد. وسأل رجل النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من أبر؟ قال: أمك وأباك وأختك وأخاك» وفي لفظ: «ومولاك الذي هو أدناك حقاً واجباً، ورحماً موصولاً» (¬1) وهذا نص في المطلوب؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم ألزمه الصلة والبر، وكون النفقة من الصلة جعلها حقاً واجباً. فإن كان للولد وارثان فالنفقة عليهما على قدر إرثهما منه، وإن كانوا ثلاثة أو أكثر، فالنفقة بينهم على قدر إرثهم منه: ¬
المطلب الرابع ـ مقدار نفقة الأولاد وصيرورتها دينا وسقوطها وتعجيلها
فإن كان للولد الصغير أم وجد، فعلى الأم ثلث النفقة، وعلى الجد ثلثا النفقة؛ لأنهما يرثانه، والله تعالى قال: {وعلى الوارث مثل ذلك} [البقرة:233/ 2] والأم وارثة، فكان عليها بالنص. وإن كانت جدة وأخ، فعلى الجدة سدس النفقة، والباقي على الأخ، وعلى هذا يكون ترتيب النفقات على ترتيب الميراث، فكما أن للجدة ههنا سدس الميراث، فعليها سدس النفقة، وكما أن الباقي للأخ، فكذلك الباقي من النفقة عليه. وإن اجتمع أبوا أم، فالنفقة على أم الأم؛ لأنها الوارثة. وإن اجتمع أبوا أب، فعلى أم الأب السدس، والباقي على الجد. وإن اجتمع جد وأخ، فهما سواء. وإن اجتمعت أم وأخ وجد، فالنفقة بينهم أثلاثاً. وقال الشافعي: النفقة على الجد في هذه المسائل كلها إلا المسألة الأولى، فالنفقة عليهما بالسوية. المطلب الرابع ـ مقدار نفقة الأولاد وصيرورتها ديناً وسقوطها وتعجيلها: اتفق الفقهاء (¬1) على أن نفقة القريب من ولد وولد ولد مقدرة بقدر الكفاية من الخبز والأدم والمشرب والكسوة والسكنى والرضاع إن كان رضيعاً على قدر حال المنفق وعوائد البلاد؛ لأنها وجبت للحاجة، فتقدر بقدر الحاجة، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلم لهند: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» فقدر نفقتها ونفقة ولدها بالكفاية. ¬
وإن احتاج الولد المنفق عليه إلى خادم يخدمه، فعلى الوالد إخدامه؛ لأنه من تمام كفايته. وإن كانت له زوجة، وجبت نفقة زوجته عند الشافعية والحنابلة؛ لأنها من تمام الكفاية. ولا تجب نفقة زوجة الابن على المذهب عند الحنفية. وتسقط نفقة الزوجة عند المالكية في حال إعسار الزوج. ولا تصير هذه النفقة عند الحنفية ديناً في الذمة أصلاً، سواء فرضها القاضي أم لا، بخلاف نفقة الزوجات، فإنها تصير ديناً في الذمة بفرض القاضي أو التراضي. وقال الشافعية: لا تصير نفقة الولد ديناً على الوالد إلا بفرض قاضٍ أو إذنه في اقتراض بسبب غيبة أو امتناع عن الإنفاق. وتسقط نفقة الولد عند الفقهاء بمضي الزمن من غير قبض ولا استدانة؛ لأنها وجبت على الوالد لدفع الحاجة، وقد زالت الحاجة لما مضى، فسقطت، بخلاف نفقة الزوجة لا تسقط بمضي الزمان عند غير الحنفية، ولا تسقط عند الحنفية بعد القضاء بها أو التراضي عليها، وإنما تسقط بمضي الزمان قبل القضاء أو التراضي. واستثنى المالكية حالة قضاء الحاكم بنفقة الأقارب، فإنها تصبح متجمدة في الماضي فلا تسقط بمضي الزمن. وذكر الحنفية: أنه إذا عجل الشخص نفقة مدة في الأقارب، فمات المنفق عليه قبل تمام المدة، لا يسترد شيئاً منها، بلا خلاف.
المبحث الثالث ـ نفقة الأصول ـ أو الآباء والأمهات
المبحث الثالث ـ نفقة الأصول ـ أو الآباء والأمهات: يتضمن أربعة مطالب: الأول ـ وجوب نفقة الأصول وتعيينهم. الثاني ـ شروط وجوبها. الثالث ـ من تجب عليه. الرابع ـ مقدار هذه النفقة. المطلب الأول ـ وجوب نفقة الأصول وتعيينهم: تجب نفقة الوالدين وإن علوا عند الجمهور (¬1)، لقوله تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً} [الإسراء:23/ 17] ومن الإحسان أن ينفق عليهما عند الحاجة، وقوله عز وجل: {وصاحبهما في الدنيا معروفاً} [لقمان:15/ 31] ومن المعروف الإنفاق عليهما ولو كانا مخالفين في الدين، فإنها نزلت في الأبوين الكافرين، وليس من المعروف أن يعيش إنسان في نعم الله تعالى ويترك أبويه يموتان جوعاً. وقال صلّى الله عليه وسلم: «إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم، فكلوه هنيئاً مريئاً» (¬2) وقال أيضاً لرجل سأله: من أبر؟ قال: «أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أباك، ثم الأقرب فالأقرب» (¬3). والأصول الذين تجب نفقتهم عند الجمهور: هم الآباء والأجداد، والأمهات ¬
المطلب الثاني ـ شروط وجوب النفقة للأصول
والجدات، وإن علوا؛ لأن «الأب» يطلق على الجد وكل من كان سبباً في الولادة، كذلك «الأم» تطلق على الجدة مهما علت، فقد أطلق القرآن كلمة «الأبوين» على آدم وحواء، وقال تعالى: {ملة أبيكم إبراهيم} [الحج:78/ 22]، ولأن بين الولد وأصله قرابة توجب رد الشهادة، فأشبه الجد والجدة والوالدين القريبين، ويكون الأجداد والجدات من الآباء والأمهات، فيقوم الجد مقام الأب عند عدمه، وأجمع العلماء على أن الجدة تحرم على الإنسان، كما تحرم عليه أمه في الزواج، لقوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم} [النساء:23/ 4]. وقال الإمام مالك: الأصول الذين تجب نفقتهم: هم الآباء والأمهات المباشرون، لا الأجداد والجدات مطلقاً، سواء من جهة الأب أو الأم. فلا تجب نفقة على جد أو جدة، كما لا تجب على ولد ابن. والصحيح هو قول الجمهور. المطلب الثاني ـ شروط وجوب النفقة للأصول: يشترط لوجوب الإنفاق على الأصول ما يأتي (¬1): 1ً - أن يكون الأصل فقيراً، أوعاجزاً عن الكسب: فإن كان قادراً على الكسب فتجب أيضاً نفقته عند الحنفية، والشافعية في الأظهر؛ لأن الله تعالى أمر بالإحسان إلى الوالدين، وفي إلزام الآباء بالاكتساب مع غنى الأبناء ترك للإحسان إليهم وإيذاء لهم، وهو لايجوز، ويقبح بالإنسان أن يكلف قريبه الكسب مع اتساع ماله. وهذا بعكس الابن فإنه لا نفقة له إذا كان قادراً على الكسب، فيلزمه التكسب؛ لأن الله تعالى نهى الولد عن إلحاق أدنى الأذى بالوالدين وهو التأفيف في قوله تعالى: {ولا تقل لهما أف} [الإسراء:23/ 17] ولم يوجد النهي في الابن. ¬
وقال المالكية والحنابلة: لا يلزم الفرع بنفقة الأصل إذا كان قادراً على الكسب، فيجبر على كسب يستغني به، ولا نفقة له؛ لأنها تجب على سبيل المواساة والبر والصلة، والكاسب كالموسر مستغن عن المواساة. 2ً - أن يكون الفرع موسراً بمال، أو قادراً على التكسب في رأي الجمهور، وقال المالكية: لا يجب على الولد المعسر تكسب لينفق على والديه. وعلى رأي الجمهور: يشترط أن يكون مال الفرع أو مردود كسبه فاضلاً عن نفقة نفسه إما من ماله وإما من كسبه، فأما من لا يفضل عنه شيء، فليس عليه شيء، لحديث جابر المتقدم: «إذا كان أحدكم فقيراً فليبدأ بنفسه، فإن فضل فعلى عياله، فإن كان فضل فعلى قرابته» وفي لفظ: «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» ولحديث أبي هريرة السابق في ترتيب النفقة على النفس، ثم على الزوج، ثم على الولد، ثم على الخادم. 3ً - أن يكون المنفق وارثاً في رأي الحنابلة، فلا نفقة مع اختلاف الدين لقوله تعالى: {وعلى الوارث مثل ذلك} [البقرة:233/ 2] ولأن التوارث بسبب القرابة يجعل الوارث أحق بمال المورث، فينبغي أن يختص بوجوب صلة قريبة بالنفقة دون غير الوارث، ولأن هذه النفقة مواساة على البر والصلة، فلم تجب مع اختلاف الدين كنفقة غير عمودي النسب. وقال الحنفية: يشترط أن يكون المنفق قريباً مستحقاً للإرث من قريبه، إلا أنهم مع المالكية والشافعية يقولون: اتحاد الدين ليس شرطاً لوجوب نفقة الأصل على الفرع، فتجب النفقة عليه وإن اختلف الدين؛ لأنه تعالى قال في حق الوالدين الكافرين: {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم، فلا تطعهما، وصاحبهما في الدنيا معروفاً} [لقمان:15/ 31] وليس من المعروف ترك الإنفاق عليهما مع القدرة، وهذا هو الصحيح.
المطلب الثالث ـ من تجب عليه نفقة الأصول
المطلب الثالث ـ من تجب عليه نفقة الأصول: تجب نفقة الأصول على الولد لا يشاركه في نفقة أبويه أحد (¬1)؛ لأنه أقرب الناس إليهما، فكان أولى باستحقاق نفقتهما عليه. وهي عند الحنفية على الذكور والإناث بالسوية؛ لأن المعنى يشملهما. وتجب أيضاً في رأي الجمهور على ولد الولد، ولا تجب في رأي المالكية على ولد الابن. تعدد الفروع: إن لم يوجد غير ولد واحد تجب عليه نفقة الأصل كما تقدم، فإن تعدد الفروع: فقال الحنفية (¬2): إن اتحدت درجة قرابتهم كابنين أو بنتين أو ابن وبنت، وجبت النفقة بالتساوي بينهم، سواء أكانوا وارثين أم بعضهم وارثاً والآخر غير وارث، للتساوي في القرب والجزئية، ولا ينظر إلى أن الابن يأخذ ضعف البنت في الميراث. وإن اختلفت درجة قرابتهم كبنت وابن ابن، وجبت نفقة الأصل على الأقرب. يلاحظ أن الحنفية في حال تعدد الفروع اعتبروا درجة القرابة، وفي حال تعدد الأصول اعتبروا الإرث أحياناً، وأهملوه أحياناً أخرى. وكان ينبغي التسوية بين الفروع والأصول، لتساويهم في علة وجوب النفقة وهي الجزئية. وقال المالكية (¬3): إن تعدد الأولاد وزعت النفقة على الأولاد الموسرين بقدر اليسار إذا تفاوتوا فيه. ¬
المطلب الرابع ـ مقدار نفقة الأصول
وقرر الشافعية (¬1): أنه إن اتحدت درجة قرابة الفروع كابنين أو بنتين، أنفقا بالتساوي وإن تفاوتا في قدر اليسار، أو أيسر أحدهما بالمال، والآخر بالكسب؛ لأن علة إيجاب النفقة تشملهما. وإن اختلفت درجة قرابة الفروع كابن وابن بنت، فالأصح أن النفقة على أقربهما وهو الابن هنا، سواء أكان وارثاً أم غيره، ذكراً كان أم أنثى؛ لأن القرب أولى بالاعتبار. فإن استوى قربهما فتجب في الأصح النفقة بالإرث، لقوته. وإذا تساوى الفرعان في الإرث، فكانا وارثين كابن وبنت، فهناك وجهان: قيل: يستويان في قدر الإنفاق، أي كما قال الحنفية، وقيل: يوزع الإنفاق عليهما بحسب الإرث، والوجه الأول أوجه. ورأى الحنابلة (¬2): أنه إن اتحدت درجة قرابة الفروع كابن وبنت، فالنفقة بينهما أثلاثاً كالميراث، كالوجه الثاني لدى الشافعية، لقوله تعالى: {وعلى الوارث مثل ذلك} [البقرة:233/ 2] فإنه رتب النفقة على الإرث، فيجب أن تترتب في المقدار عليه. وإن اختلفت درجة القرابة كبنت وابن ابن، فالنفقة بينهما نصفين كالميراث. المطلب الرابع ـ مقدار نفقة الأصول: نفقة القرابة في الجملة (¬3) تجب بقدر الكفاية كما تقدم؛ لأنها تجب للحاجة، فقدرت بالكفاية. ¬
المبحث الرابع ـ نفقة الحواشي وذوي الأرحام
وعلى الولد في رأي الجمهور نفقة زوجة الأب وإعفافه بالتزويج بزوجة واحدة، وكذا عند المالكية والحنابلة بأكثر من زوجة إن لم يحصل الإعفاف بواحدة؛ لأنه معنى يحتاج إليه، ويلحقه الضرر بفقده، فوجب كالنفقة. والراجح عند الحنفية عدم وجوب نفقة زوجة الأب؛ لأن الزوجة من أعظم الملاذ، فلم تجب للأب كالحلواء لاتجب له. المبحث الرابع ـ نفقة الحواشي وذوي الأرحام: يشتمل على مطالب ثلاثة: الأول ـ وجوب نفقة الأقرباء من غير الأصول والفروع. الثاني ـ شروط وجوب نفقة الحواشي وذوي الأرحام. الثالث ـ تعدد من تجب عليهم نفقة الأقارب. المطلب الأول ـ وجوب نفقة الأقرباء من غير الأصول والفروع: تجب نفقة الأقارب من الحواشي وذوي الأرحام كالإخوة والأخوال والأعمام وأبناء الإخوة والعمات والخالات (¬1) لقوله تعالى: {وآتِ ذا القربى حقه} [الإسراء:26/ 17] وقوله سبحانه: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وبالوالدين إحساناً، وبذي القربى} [النساء:36/ 4] وقوله صلّى الله عليه وسلم: «يد المعطي العليا، وابدأ ¬
الأول ـ مذهب الحنفية
بمن تعول، أمَّك وأباك، وأختك وأخاك، ثم أدناك أدناك» (¬1) وقال رجل: يارسول الله، من أبر؟ قال: «أمَّك وأباك، وأختك، وأخاك، ومولاك الذي يلي ذاك، حق واجب، ورحم موصولة» (¬2). فهذه الآيات والأحاديث تدل على وجوب الإنفاق على القريب العاجز. وللعلماء آراء ثلاثة: الأول ـ مذهب الحنفية: أن النفقة تجب لكل ذي رحم محرم كالعم والأخ وابن الأخ والعمة والخالة والخال، ولا تجب لغير ذي رحم محرم كابن العم وبنت العم، ولا لمحرم غير ذي رحم كالأخ رضاعاً. الثاني ـ مذهب الحنابلة: أن النفقة تجب لكل قريب وارث، بفرض أو تعصيب كالأخ الشقيق أو لأب أو لأم، والعم، وابن العم، ولا تجب لذوي الأرحام كبنت العم والخال والخالة والعمة ونحوهم ممن لا يرث بفرض ولا تعصيب؛ لأن قرابتهم ضعيفة، وإنما يأخذون مال المتوفى القريب عند عدم الوارث، فهم كسائر المسلمين. ورأى ابن تيمية وابن القيم وغيرهما من بعض الحنابلة: أن النفقة تجب لكل قريب من غير الأصول والفروع (غير عمودي النسب) إذا كان وارثاً، فتجب النفقة لذوي الأرحام كالعمة والخالة والخال، لقوله تعالى: {وعلى الوارث مثل ذلك} [البقرة:233/ 2] فقد جعل النفقة على المولود له لمن يستحق الإرث من الأقرباء. ¬
الثالث ـ مذهب المالكية والشافعية
الثالث ـ مذهب المالكية والشافعية: ألا تجب نفقة من عدا الوالدين والمولودين من الأقارب كالإخوة والأعمام وغيرهم؛ لأن الشرع ورد بإيجاب نفقة الوالدين والمولودين، وأما من سواهم فلا يلحق بهم في الولادة وأحكامها، فلم يلحق بهم في وجوب النفقة. المطلب الثاني ـ شروط وجوب نفقة الحواشي وذوي الأرحام: لا يثبت وجوب نفقة هؤلاء الأقرباء عند الحنفية (¬1) إلا بالقضاء أو الرضا، حتى لو ظفر أحدهم بجنس حقه قبل القضاء أو الرضا، ليس له الأخذ، بخلاف الزوجة والولد والأبوين، فإن لهم الأخذ قبل ذلك. وتسقط هذه النفقة بمضي المدة، بعد قضاء القاضي بها، لأنها تجب كفاية للحاجة، فلا تجب مع اليسار، إلا إن أذن القاضي بالاستدانة على القريب. ويشترط لوجوب نفقة هؤلاء الأقرباء في رأي الحنفية ما يلي (¬2): 1 ً - أن يكون القريب ذا رحم محرم فقيراً، عاجزاً عن الكسب: لصغر أو أنوثة أو مرض أو عمى، أي فلا تقتصر هذه النفقة على الصغير أو الأنثى، وإنما تشمل الكبير العاجز عن الكسب بنحو مرض مزمن أو عمى؛ لأن الصلة في القرابة القريبة واجبة دون البعيدة. والفاصل بينهما أن يكون ذا رحم محرم، وقد قال تعالى: {وعلى الوارث مثل ذلك} [البقرة:233/ 2] وقرأ ابن مسعود: «وعلى الوارث ذي الرحم المحرم مثل ذلك». ولا بد من تحقق وصف الحاجة أو الصغر، أو الأنوثة، أو الزمانة، أو العمى ¬
حد اليسار الذي يتعلق به وجوب هذه النفقة
أمارة الحاجة، لتحقق العجز. فإن كان القريب قادراً على الكسب فلا نفقة له على قريبه؛ لأنه غني بكسبه، فلا تجب نفقته على أحد، بخلاف الأبوين؛ لأنه يلحقهما تعب الكسب، والولد مأمور بدفع الضرر عنهما، فتجب نفقتهما مع قدرتهما على الكسب. 2 ً - اتحاد الدين مع القريب المنفق: فلا نفقة على القريب مع اختلاف الدين، كما لا توارث مع اختلاف الدين، ووجوب النفقة على القريب مبني على استحقاق الإرث. وذلك بخلاف الزوجة والأصول والفروع علواً أو نزولاً؛ لأن نفقة الزوجة تجب بمقابلة الاحتباس، وأما غيرها فلثبوت الجزئية، وجزء المرء في معنى نفسه، فكما لا تمتنع نفقة نفسه بكفر، لا تمتنع نفقة جزئه، إلا أن هؤلاء إذا كانوا حربيين لاتجب نفقتهم على المسلم، ولو كانوا مستأمنين؛ لأنا نهينا عن بر من يقاتلنا في الدين. 3 ً - أن يكون المنفق موسراً: فلو كان القريب المحرم معسراً، لا تجب عليه النفقة لقريبه المحتاج، ولو كان قادراً على الكسب؛ لأن وجوب هذه النفقة بطريق الصلة، والصلة تجب على الغني لا على الفقير. واختلف الصاحبان في حد اليسار الذي يتعلق به وجوب هذه النفقة (¬1): فقال أبو يوسف: الموسر: هو الذي يملك نصاب الزكاة وهو عشرون مثقالاً أو ديناراً من الذهب (¬2) أو مائتا درهم فضة؛ لأن الغني في الشرع هو مالك النصاب الذي تستحق فيه الزكاة، ونفقة ذي الرحم صلة، والصلات إنما تجب على الأغنياء كالصدقة. ¬
المطلب الثالث ـ من تجب عليهم نفقة الأقارب
وقال محمد: الموسر: هو من له نفقة شهر، وعنده مال فاضل عن نفقة شهر لنفسه ولعياله؛ لأن ما زاد على كفاية شهر، فهو غني عنه في الحال، والشهر يتسع للاكتساب، فكان عليه صرف الزيادة إلى أقاربه، قال الكاساني: وما قاله محمد أوفق، وهوأنه إذا كان له كسب دائم، وهو غير محتاج إلى جميعه، فما زاد كفايته، يجب صرفه إلى أقاربه كفضل ماله إذا كان له مال. ولا يعتبر النصاب؛ لأن النصاب إنما يعتبر في وجوب حقوق الله تعالى المالية، والنفقة حق العبد الآدمي، فلا معنى لاعتبار النصاب فيها، وإنما يعتبر فيها إمكان الأداء. المطلب الثالث ـ من تجب عليهم نفقة الأقارب: عرفنا أنه إذا لم يكن لمستحق النفقة إلا قريب واحد موسر: فإن كان القريب من أصوله أوفروعه، وجبت نفقته عليه، ولو لم يكن وارثاً له، كجد لأم أوابن بنت. وذلك باتفاق الجمهور غير المالكية. وإن كان القريب من الحواشي، وجبت نفقته عليه في رأي الحنفية إن كان ذا رحم محرم كالأخ والعم والعمة، وفي رأي الحنابلة إن كان وارثاً بفرض أو تعصيب كالأخ لأم وابن العم. أما إن تعدد من تجب عليهم نفقة الأقارب، فقد اختلف الحنفية مع المذاهب الأخرى في توزيع النفقة عليهم. مذهب الحنفية: توزع النفقة على الأقارب في رأي الحنفية (¬1) بحسب أصنافهم في الحالات الأربع التالية وهي: الأولى: أن يكون لمستحق النفقة أصول وفروع. ¬
الحالة الأولى ـ أن يكون لمستحق النفقة أصول وفروع
الثانية: أن يكون له أصول وحواشي (¬1).الثالثة: أن يكون له فروع وحواشي. الرابعة: أن يكون له خليط من الأصول والفروع والحواشي. وأبين حكم كل حالة فيما يأتي: الحالة الأولى ـ أن يكون لمستحق النفقة أصول وفروع: إذا كان لمستحق النفقة أصول وفروع: فإن تفاوتا في درجة القرابة وجبت النفقة على الأقرب، سواء أكان وارثاً أم غير وارث. مثل أب وابن ابن أو بنت بنت، ومثل أم وابن ابن، تجب النفقة على الأب في المثال الأول، وعلى الأم في المثال الثاني؛ لأن الأب والأم أقرب درجة. ولكن يلاحظ أن النفقة تجب حينئذٍ على غير الوارث. وإن تساووا في درجة القرابة: وجبت النفقة بنسبة ميراثهم، إلا إذا كان فيهم ابن أو بنت، فالنفقة على الابن أو البنت، ففي أب وابن تجب النفقة على الابن لترجحه بقول صلّى الله عليه وسلم: «أنت ومالك لأبيك» وفي جد (أبي أب) وبنت بنت، تكون النفقة على الجد؛ لأنه الوارث، وأما بنت البنت فهي من ذوي الأرحام، لا ترث مع الجد. الحالة الثانية ـ أن يكون لمستحق النفقة أصول وحواشي: إذا كان لمستحق النفقة أصول وحواشي، كأم وأخ شقيق أو لأب: فإن كان ¬
الحالة الثالثة ـ أن يكون لمستحق النفقة فروع وحواشي
كل من الصنفين وارثاً، وجبت النفقة عليهم بنسبة الإرث. وإن كان أحد الصنفين وارثاً، والآخر غير وارث، فالنفقة على الأصول وحدهم، ولو كانوا غير وارثين، ترجيحاً لاعتبار الجزئية على غيرها. مثال كون الأصل وارثاً: جد لأب وأخ شقيق، تكون النفقة على الجد. ومثال كون الأصل غير وارث: جد لأم وعم، تكون النفقة على الجد أيضاً، لترجحه في المثالين بالجزئية. ومثال كون كلا الصنفين وارثاً: أم وأخ، أو ابن أخ أو عم، يكون على الأم ثلث النفقة، وعلى العصبة الثلثان. الحالة الثالثة ـ أن يكون لمستحق النفقة فروع وحواشي: إذا كان لمستحق النفقة فروع وحواشي، فالنفقة تجب على الفروع، ولا شيء على الحواشي ولو كانوا وارثين، لترجح قرابة الجزئية على غيرها. ففي بنت وأخت شقيقة، تكون النفقة على البنت فقط، ولا شيء على الأخت، وإن ورثت النصف. وفي ابن نصراني، وأخ مسلم، تكون النفقة على الابن فقط، وإن كان الوارث هو الأخ. الحالة الرابعة ـ أن يكون لمستحق النفقة خليط من الأصول والفروع والحواشي: إذا كان لمستحق النفقة أقارب من الأصول والفروع والحواشي، فالحكم كالحالة الأولى، تكون النفقة على الأصول والفروع على النحو المبين في الحالة
مذهب الحنابلة
الأولى، لقوة قرابة الجزئية بالنسبة لغيرها، ويسقط الحواشي بالفروع، فكأنه لم يوجد سوى الفروع والأصول. وإن وجد الأصول وحدهم وكان معهم أب، فالنفقة عليه فقط ولا يشارك الأب في نفقة ولده أحد، وإن وجد الحواشي فقط، وزعت النفقة بمقدار الميراث مع كون الواحد ذا رحم محرم. مذهب الحنابلة: أولاً ـ تجب النفقة في رأي الحنابلة (¬1) على الأقارب بحسب الإرث، فمن له أم وجد، فعلى الأم ثلث النفقة، وعلى الجد ثلثا النفقة. ومن له ابن وبنت، فالنفقة بينهما أثلاثاً كالميراث، ومن له جدة وأخ، فعلى الجدة سدس النفقة والباقي على الأخ. ومن له بنت وأخت، فعلى البنت النصف، وعلى الأخت النصف. ومن له أبو أم، فالنفقة على أم الأم؛ لأنها الوارثة. ومن له أبو أب، فعلى أم الأب السدس، والباقي على الجد، وإن اجتمع جد وأخ، فهما سواء. وإن اجتمعت أم وأخ وجد، فالنفقة بينهم أثلاثاً. واستثنوا من قاعدتهم ما إذا كان للمستحق أب، فعليه النفقة وحده، ولم تجب على من سواه، لقوله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن} [البقرة:233/ 2] وهذا بخلاف الحنفية حيث يجعلون النفقة على الابن وحده إن وجد. ثانياً ـ إذا اجتمع أصل وفرع وارثان، وكان أقربهما معسراً والأبعد موسراً، وجبت النفقة على الموسر الأبعد، فمن له أم فقيرة، وجدة موسرة، فالنفقة على الجدة فقط. ¬
مذهب الشافعية
ثالثاً ـ إذا اجتمع قريبان موسران، وأحدهما محجوب عن الميراث بقريب فقير، فإذا كان المحجوب من عمودي النسب (الأصول والفروع) لا تسقط عنه النفقة، وإن كان من غيرهما، فلا نفقة عليه. فمن كان له أبوان وجد، والأب معسر، فالأب كالمعدوم، وتكون النفقة أثلاثاً، على الأم الثلث، وعلى الجد الباقي. ومن له أبوان وأخوان وجد، والأب معسر، فلا شيء على الأخوين؛ لأنهما محجوبان، وليسا من عمودي النسب، وتكون النفقة على الأم الثلث، والباقي على الجد، كالمسألة السابقة. رابعاً ـ إذا لم يكن لمستحق النفقة إلا واحد موسر من ورثته، لزمته النفقة بقدر ميراثه فقط، على الصحيح من المذهب. وتقدم الزوجة على باقي الأقارب، عملاً بحديث جابر المتقدم: «إذا كان أحدكم فقيراً، فليبدأ بنفسه، فإن كان له فضل فعلى عياله، فإن كان له فضل فعلى قرابته». وقد أخذ القانون السوري بمذهب الحنابلة لعدالته، واتفاقه مع قاعدة «الغرم بالغنم» فتوزع النفقات بحسب الإرث، ولا يتقيد إيجاب النفقة للأقرباء بالمحرمية. أما المذهب الحنفي فقد يوجب النفقة أحياناً على قريب لا يرث، ولا يوجبها على القريب الوارث. وأما بقية أحكام النفقات فمأخوذة من الفقه الحنفي. مذهب الشافعية: توزع النفقة في رأي الشافعية (¬1) على الوالدين والمولودين على النحو التالي: من استوى فرعاه في القرب والإرث أو عدمهما كابنين أو بنتين، أو ابن ¬
مذهب المالكية
وبنت، فعليهما النفقة بالسوية، لا بحسب الميراث، وإن تفاوتا في قدر اليسار، أو أيسر أحدهما بالمال والآخر بالكسب. وإن كان أحدهما أقرب والآخر وارثاً، وجبت النفقة على الأقرب دون الوارث في الأصح. وإن استويا في استحقاق الإرث، كبنت وبنت ابن، كانت النفقة عليهما. وإن تساويا في القرب، فيقدم الوارث في الأصح لقوته، كابن وابن بنت، تجب النفقة على الأول دون الثاني. وإن تساويا في الإرث كابن وبنت، فهناك وجهان: قيل: يستويان، وقيل: توزع النفقة بحسب الإرث، والأول أوجه. والقاعدة في الأصول قريبة من قاعدة الفروع، فمن له أبوان، فالنفقة على الأب، ومن له أجداد وجدات فعلى الأقرب إن أدلى بعضهم ببعض، أما إن لم يُدْل بعضهم ببعض، فيقدم بالقرب. ومن له أصل وفر ع: فالنفقة في الأصح على الفرع، وإن بعُد، كأب وابن ابن؛ لأن عصوبته أقوى. وتقدم الزوجة عندهم على باقي الأقارب، كما قال الحنابلة؛ لأن نفقتها آكد؛ لأنها لا تسقط بمضي الزمان. مذهب المالكية: توزع النفقة في رأي المالكية الراجح (¬1) على الأولاد الموسرين بقدر اليسار إذا تفاوتوا فيه. وقيل: توزع بحسب الرؤوس، بغض النظر عن الذكورة والأنوثة. ¬
نفقة الأقارب في القانون السوري
وقيل: توزع بحسب الإرث، فعلى الذكر مثل حظ الأنثيين. نفقة الأقارب في القانون السوري: أخذ القانون السوري بمذهب الحنفية في نفقة الأقرباء ما عدا توزيع النفقات عند تعدد من تجب عليه النفقة، وإيجابها بها لهم بدون تقييد بالمحرمية، فإنه أخذ ذلك من المذهب الحنبلي. وها هي نصوص القانون: (م 154) ـ نفقة كل إنسان في ماله، إلا الزوجة فنفقتها على زوجها. (م 155) ـ 1 - إذا لم يكن للولد مال، فنفقته على أبيه، ما لم يكن فقيراً عاجزاً عن النفقة والكسب لآفة بدنية أو عقلية. 2 - تستمر نفقة الأولاد إلى أن تتزوج الأنثى، ويصل الغلام إلى الحد الذي يكتسب فيه أمثاله. (م 156) - 1 - إذا كان الأب عاجزاً عن النفقة، غير عاجز عن الكسب، يكلف بنفقة الولد من تجب عليه عند عدم الأب. 2 - تكون هذه النفقة ديناً للمنفق على الأب يرجع عليه بها إذا أيسر. (م 157) - 1 - لا يكلف الأب بنفقة زوجة ابنه إلا إذا تكفل بها. 2 - يكون إنفاق الأ ب في هذه الحالة ديناً على الولد، إلى أن يوسر.
(م 158) - يجب على الولد الموسر ذكراً كان أو أنثى، كبيراً كان أو صغيراً نفقة والديه الفقراء، ولوكانا قادرين على الكسب، ما لم يظهر تعنت الأب في اختيار البطالة على عمل أمثاله كسلاً أو عناداً. (م 159) ـ تجب نفقة كل فقير عاجز عن الكسب لآفة بدنية أو عقلية، على من يرثه من أقاربه الموسرين بحسب حصصهم الإرثية. (م 160) ـ لا نفقة مع اختلاف الدين إلا للأصول والفروع. (م 161) - يقضى بنفقة الأقارب من تاريخ الادعاء، ويجوز للقاضي أن يحكم بنفقة الأولاد على أبيهم عن مدة سابقة للادعاء، على ألا تتجاوز أربعة أشهر.
الباب الرابع: الوصايا
البَابُ الرَّابع: الوَصايا (¬1) يتضمن بحث الوصايا (1) ثلاثة فصول: الأول ـ في الوصية، والثاني ـ في تصرف مريض الموت، والثالث ـ في الوصاية. أما الفصل الأول فيشتمل على سبعة مباحث: المبحث الأول ـ معنى الوصية ومشروعيتها وركنها وكيفية انعقادها. المبحث الثاني ـ شروط الوصية. المبحث الثالث ـ أحكام الوصية (صفتها من حيث اللزوم وعدمه، أثرها في التمليك، أحكام الوصي، أحكام الموصى له، أحكام الموصى به، مقدار الوصية، الوصية للوارث، الوصية بمثل نصيب وارث، الوصية بالأجزاء، تنفيذ الوصية). المبحث الرابع ـ مبطلات الوصية. المبحث الخامس ـ تزاحم الوصايا. المبحث السادس ـ الوصية الواجبة قانوناً. المبحث السابع ـ إثبات الوصية. ¬
الفصل الأول: الوصية
الفَصْلُ الأوّل: الوصيّة يشتمل على تمهيد وسبعة مباحث: تمهيد: تاريخ الوصية: الوصية نظام قديم، لكنه اقترن في بعض العهود بالظلم والإجحاف، فعند الرومان: كان لرب العائلة حق التصرف بطريق الوصية تصرفاً غير مقيد بشيء، فقد يوصي لأجنبي، ويَحْرِم أولاده من حق الميراث. ثم انتهى الأمر إلى وجوب الاحتفاظ للأولاد بربع ميراث أبيهم، بشرط ألا يكونوا قد أتوا في سلوكهم مع مورثهم ما يوغر صدره إيغاراً شديداً. وعند العرب في الجاهلية: كانوا يوصون للأجانب تفاخراً ومباهاة، ويتركون الأقارب في الفقر والحاجة (¬1). وجاء الإسلام فصحح وجهة الوصية على أساس الحق والعدل، فألزم الناس أصحاب الأموال قبل تشريع الميراث بالوصية للوالدين والأقربين، فكانت الوصية في مبدأ الإسلام واجبة بكل المال للوالدين والأقربين بقوله تعالى: {كتب عليكم إذا حضر أحدَكم الموتُ إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف، حقاً على المتقين} [البقرة:180/ 2]. ¬
قيدت الوصية المشروعة في الإسلام بقيدين
وحينما نزلت آيات سورة النساء بتشريع المواريث تفصيلاً، قيدت الوصية المشروعة في الإسلام بقيدين: الأول ـ عدم نفاذ للوارث إلا بإجازة الورثة، لقوله صلّى الله عليه وسلم في خطبة عام حجة الوداع: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث» (¬1) أما الوالدان فصار لهما نصيب مفروض من التركة، وصارت الوصية مندوبة لغير الوارثين. الثاني ـ تحديد مقدارها بالثلث: لقوله صلّى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص الذي أراد الإيصاء بثلثي ماله أو بشطره، إذ لا يرثه إلا ابنة له: «الثلث، والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس» (¬2). أما الزائد عن الثلث فهو من حق الورثة، لا ينفذ تصرف المورث فيه إلا بموافقتهم ورضاهم. المبحث الأول ـ معنى الوصية ومشروعيتها وركنها وكيفية انعقادها وأثره (¬3): أولاً ـ معنى الوصية ونوعاها: الوصية هي الإيصاء، وتطلق لغة بمعنى العهد ¬
نوعاها
إلى الغير في القيام بفعل أمر، حال حياته أو بعد وفاته، يقال: أوصيت له أو إليه: جعلته وصياً يقوم على من بعده. وهذا المعنى اشتهر فيه لفظ: الوصاية. وتطلق أيضاً على جعل المال للغير، يقال: وصيت بكذا أو أوصيت، أي جعلته له. والوصايا جمع وصية تعم الوصية بالمال، والإيصاء أو الوصاية والوصية في اصطلاح الفقهاء: تمليك مضاف إلى ما بعد الموت بطريق التبرع، سواء أكان المُملَّك عيناً أم منفعة. وبه تميزت عن التمليكات المنجزة لعين كالبيع والهبة، ولمنفعة كالإجارة، والإضافة لغير الموت كالإجارة المضافة لوقت في المستقبل كأول الشهر المقبل. وتميزت عن الهبة التي هي تبرع أو تمليك بغير عوض بكونها بعد الموت، والهبة حال الحياة. وشمل التعريف الإبراء عن الدين؛ لأن الإبراء تمليك الدين لمن عليه الدين. هذا ما أريده هنا وهو كون الوصية عقداً أو تصرفاً في المال، وقد عرفها بعض الفقهاء بما هوأعم مما ذكر، فقال: هي الأمر بالتصرف بعد الموت، وبالتبرع بمال بعد الموت. فشمل الوصية لإنسان بتزويج بناته أو غسله أو الصلاة عليه إماماً. نوعاها: تصح الوصية مطلقة ومقيدة، ف المطلقة: أن يقول: أوصيت لفلان بكذا. والمقيدة أو المعلَّقة: أن يقول: إن مت من مرضي هذا أو في هذه البلدة، أو في هذه السفرة، فلفلان كذا. فإن تحقق الشرط صحت، وإلا بأن برئ من مرضه، أو لم يمت في تلك البلدة أو السفرة، بطلت، لعدم وجود الشرط المعلَّق عليه. وعرَّف الوصيةَ قانون الأحوال الشخصية السوري وقانون الوصية المصري بأنها «تصرف في التركة مضاف إلى ما بعد الموت». جاء في المذكرة التفسيرية للقانون المصري:
ثانيا ـ مشروعية الوصية
وقد عدل عن لفظ «تمليك» الوارد في تعريف الحنفية إلى لفظ «تصرف» (¬1) ليشمل جميع مسائل الوصية. فهو يشمل ما إذا كان الموصى به مالاً أو منفعة، والموصى له من أهل التملك، كالوصية لمعين بالاسم أو بالوصف، وهو ممن يحصون، أو معيناً بالوصف ممن لا يحصون كالوصية للفقراء، وما إذا كان الموصى له جهة من جهات البر كالملاجئ والمدارس. ويشمل ما إذا كان الموصى به إسقاطاً فيه معنى التمليك كالوصية بالإبراء من الدين، وما إذا كان الموصى به إسقاطاً محضاً بإبراء الكفيل من الكفالة، وما إذا كان الموصى به حقاً من الحقوق التي ليست مالاً ولا منفعة ولا إسقاطاً، ولكنه مالي لتعلقه بالمال، كالوصية بتأجيل الدين الحالّ، والوصية بأن يباع عقاره مثلاً من فلان. والمراد بالتركة: كل ما يخلف فيه الوارث المورث، مالاً كان أو منفعة، أو حقاً من الحقوق الأخرى المتعلقة بالمال التي تنتقل بالموت من المورث إلى الوارث. ثانياً ـ مشروعية الوصية: هذا يشمل أدلة المشروعية وسببها أو حكمتها، ونوع حكمها الشرعي. أما أدلة المشروعية: فهي الكتاب والسنة والإجماع والمعقول. أما الكتاب: فقوله تعالى: {كتب عليكم إذا حضر أحدَكم الموتُ، إن ترك ¬
خيراً، الوصيةُ للوالدين والأقربين بالمعروف، حقاً على المتقين} [البقرة:180/ 2] وقوله سبحانه: {من بعد وصية يوصى بها أو دين} [النساء:11/ 4]. {من بعد وصية توصون بها أو دين} [النساء:12/ 4]. فالآية الأولى دلت على مشروعية الوصية للأقارب، والآيتان الأخريان جعلت الميراث حقاً مؤخراً عن تنفيذ الوصية وأداء الدين، لكن الدين مقدم على الوصية، لقول علي رضي الله عنه: «إنكم تقرؤون هذه الآية: {من بعد وصية يوصى بها أو دين} [النساء:11/ 4]، وأن النبي صلّى الله عليه وسلم قضى أن الدين قبل الوصية» (¬1). وأما السنة: فحديث سعد بن أبي وقاص السابق: «الثلث والثلث كثير»، وحديث «إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم، بثلث أموالكم، زيادة لكم في أعمالكم» (¬2)، وحديث «ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين، وله شيء يريد أن يوصي فيه، إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه» (¬3)، وخبر ابن ماجه: «المحروم: من حرم الوصية، من مات على وصية، مات على سبيل وسنة، وتقى وشهادة، ومات مغفوراً له». وأما الإجماع: فقد أجمع العلماء على جواز الوصية. وأما المعقول: فهو حاجة الناس إلى الوصية زيادة في القربات والحسنات، وتداركاً لما فرط به الإنسان في حياته من أعمال الخير. ¬
سبب المشروعية أو حكمتها
وسبب المشروعية أو حكمتها: هو سبب كل التبرعات، وهو تحصيل فائدة الخير في الدنيا، ونوال الثواب في الآخرة. لذا شرعها الشارع تمكيناً من العمل الصالح، ومكافأة من أسدى للمرء معروفاً، وصلة للرحم والأقارب غير الوارثين، وسد خلة المحتاجين، وتخفيف الكرب عن الضعفاء والبؤساء والمساكين. وذلك بشرط التزام المعروف أو العدل، وتجنب الإضرار في الوصية، لقوله تعالى: {من بعد وصية يوصى بها أو دين، غير مضار} [النساء:12/ 4]. ولحديث ابن عباس رضي الله عنهما: «الإضرار في الوصية من الكبائر» (¬1)، والعدل المطلوب: قصرها على مقدار ثلث التركة المحدد شرعاً. أما عدم نفاذ الوصية لوارث إلا بإجازة الورثة الآخرين، فهو لمنع التباغض والتحاسد وقطيعة الرحم. ونوع حكم الوصية الشرعي: هو الندب أو الاستحباب، فهي مندوبة ولو لصحيح غير مريض؛ لأن الموت يأتي فجأة، فلا تجب الوصية على أحد بجزء من المال، إلا على من عليه دين أو عنده وديعة أو عليه واجب يوصي بالخروج منه، فإن الله تعالى فرض أداء الأمانات، وطريقه الوصية. والدليل على عدم وجوب الوصية: أن أكثر الصحابة لم ينقل عنهم وصية، ولأنها تبرع أو عطية لا تجب في حال الحياة، فلا تجب بعد الممات، كعطية الفقراء الأجانب غير الأقارب. أما الآية السابقة: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين .. } [البقرة:180/ 2] فمنسوخة بقوله تعالى: {للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون} [النساء:7/ 4] كما قال ابن عباس. وقال ابن عمر: نسختها آية الميراث. ¬
الوصية أربعة أنواع بحسب صفة حكمها الشرعي
وبعد نسخ وجوب الوصية يبقى الاستحباب في حق من لا يرث، للأحاديث السابقة، التي منها: «إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم». والأفضل أن يجعل وصيته لأقاربه الذي لا يرثون إذا كانوا فقراء، باتفاق أهل العلم، لقوله تعالى: {وآت ذا القربى حقه} [الإسراء:26/ 17] وقوله سبحانه: {وآتى المال على حبه ذوي القربى} [البقرة:177/ 2] فبدأ بهم، ولقوله تعالى: {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله، من المؤمنين والمهاجرين، إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً} [الأحزاب:6/ 33] وفسر بالوصية. ولأن الصدقة عليهم في الحياة أفضل، فكذلك بعد الموت. فإن أوصى لغيرهم، وتركهم، صحت وصيته في قول أكثر العلماء. وقد تصبح الوصية مكروهة أو حراماً. وبه يتبين أن الوصية أربعة أنواع بحسب صفة حكمها الشرعي: 1 - واجبة: كالوصية برد الودائع والديون المجهولة التي لا مستند لها، وبالواجبات التي شغلت بها الذمة كالزكاة، والحج والكفارات، وفدية الصيام والصلاة ونحوها. وهذا متفق عليه. قال الشافعية: يسن الإيصاء بقضاء الحقوق من الدين ورد الودائع والعواري وغيرها، وتنفيذ الوصايا إن كانت، والنظر في أمر الأطفال ونحوهم كالمجانين ومن بلغ سفيهاً. وتجب الوصية بحق الآدميين كوديعة ومغصوب إذا جهل ولم يعلم. 2 - مستحبة: كالوصية للأقارب غير الوارثين، ولجهات البر والخير والمحتاجين، وتسن لمن ترك خيراً (وهو المال الكثير عرفاً) بأن يجعل خُمسه لفقير قريب، وإلا فلمسكين وعالم وديِّن.
4 - مكروهة تحريما
3 - مباحة: كالوصية للأغنياء من الأجانب والأقارب، فهذه الوصية جائزة. 4 - مكروهة تحريما ً عند الحنفية: كالوصية لأهل الفسوق والمعصية. وتكره بالاتفاق لفقير له ورثة، إلا مع غناهم فتباح. وقد تكون حراما ً غير صحيحة اتفاقاً كالوصية بمعصية، كبناء كنيسة أو ترميمها، وكتابة التوراة والإنجيل وقراءتهما، وكتابة كتب الضلال والفلسفة وسائر العلوم المحرمة، والوصية بخمر أو الإنفاق على مشروعات ضارة بالأخلاق العامة، وتحرم أيضاً بزائد على الثلث لأجنبي، ولوارث بشيء مطلقاً، والصحيح من المذهب عند الحنابلة أن الوصية بالزائد عن الثلث مكروهة، أو لوارث حرام. والأفضل تعجيل الوصايا لجهات البر في الحياة، وعدم تأخيرها لما بعد الوفاة؛ لأنه لا يأمن إذا أوصى أن يفرط به بعد موته، ولما روى أبو هريرة رضي الله عنه، قال: «سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أي الصدقة أفضل؟ قال: أن تتصدق وأنت صحيح شحيح، تأمل الغنى، وتخشى الفقر، ولا تمهل، حتى إذا بلغت الروح الحلقوم، قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان» (¬1). وعلى هذا تكون الصدقة في حال الحياة أفضل من الوصية؛ لأن المتصدق يجد ثواب عمله أمامه، ولصريح حديث أبي هريرة المتقدم. ثالثاً ـ أركان الوصية: قال صاحب الدر المختار من الحنفية: ركن الوصية: الإيجاب فقط من ¬
الموصي، بأن يقول: أوصيت لفلان بكذا، ونحوه من الألفاظ. وأما القبول من الموصى له فهو شرط، لا ركن؛ أي أنه شرط في لزوم الوصية وثبوت ملك الموصى به. وهذا قول زفر، وهو الراجح لدى الحنفية؛ لأن ملك الموصى له بمنزلة ملك الوارث؛ لأن كل واحد من الملكين ينتقل بالموت، ولا يحتاج ملك الوارث إلى قبول، فيقاس عليه ملك الموصى له. وهذا هو الذي أخذ به قانون الأحوال الشخصية السوري (م 207)، والمصري (م 1) وبه تكون الوصية تصرفاً ينشأ بإرادة منفردة. وقال الكاساني في البدائع: ركن الوصية عند أئمة الحنفية الثلاثة: الإيجاب والقبول، كسائر العقود مثل الهبة والبيع، إذ لا يثبت ملك إنسان باختياره من غير قبوله وسعيه، ولأن إثبات الملك له من غير قبوله يؤدي إلى الإضرار به، بخلاف الميراث، فإن الملك فيه ثبت جبراً من الشارع، فلا يشترط فيه القبول. والمراد بالقبول: ما يكون صريحاً مثل قبلت، أو دلالة كموت الموصى له بعد موت الموصي بلا قبول ولا رد. ولا يصح قبول الوصية إلا بعد موت الموصي، فإن قبل الموصى له بعد موت الموصي، ثبت له ملك الموصى به، سواء قبضه أو لم يقبضه. فإن مات بعد موت الموصي قبل القبول أو الرد، انتقل الموصى به إلى ملك ورثته (¬1). وإن قبلها الموصى له في حال الحياة أو ردها، بطلت. هذا ما ذكره الكاساني والقدوري، والراجح لدى الحنفية أن الوصية تنشأ بإرادة الموصي. ونص القانون المصري (م 20 - 24) على أحكام من مذهب الحنفية وغيره، مفادها: أن الوصية تلزم بقبولها من الموصى له بعد وفاة الموصي، وهو رأي ¬
الحنفية. ويقبل عن الجنين والصغير والمحجور عليه من له الولاية على مالهم، أخذاً من مذهب الشافعية في الجنين، ومن مذهب المالكية في المحجور عليه. ويقبل عن جهات البر كالمؤسسات العلمية والدينية والملاجئ والمشافي ونحوها من يمثلها شرعاً أو قانوناً. ولا يعتبر القبول من الموصى لهم كطلبة المدرسة والموجودين بالملجأ أو المستشفى، أخذاً من مذهب الشافعية والإمامية. ونصت المادة (20) على أنه إذا لم يكن لجهات البر من يمثلها كالفقراء والحج ونحوهما، فإن الوصية تلزم بلا قبول. ولا خلاف فيه بين المذاهب. وفي المادة (21) يقوم الوارث مقام الموصى له إذا مات قبل القبول أو الرد، أخذاً من مذهب الشافعية. ويصح القبول قبل الموت ويصح متراخياً، عملاً بمذهب الحنفية. أما رد الموصى له الوصية كلها أو بعضها قبل الموت فهو باطل. ونصت المادة (23) على أن مطابقة القبول للإيجاب ليست شرطاً في لزوم الوصية. وتلزم الوصية فيما قبل، وتبطل فيما رد، وهو مذهب الحنفية. وقال الجمهور: للوصية أركان أربعة: موص، وموصى له، وموصى به، وصيغة. والصيغة تنعقد بالإيجاب من الموصي كقوله: أوصيت له بكذا أو ادفعوا إليه أو أعطوه بعد موتي، والقبول من الموصى له المعين، ولا يصح قبول ولا رد في حياة الموصي، ولا يشترط الفور في القبول بعد الموت. وإن كانت الوصية لجهة عامة كمسجد أو لغير معين كالفقراء، فإنها تلزم بالموت بلا قبول. نص قانون الأحوال الشخصية السوري في المادة (225) على أن: «الوصية لغير معين لا تحتاج إلى قبول ولا ترتد برد أحد».
رابعا ـ كيفية انعقاد الوصية أو طرق إنشائها وأثر العقد
رابعاً ـ كيفية انعقاد الوصية أو طرق إنشائها وأثر العقد: تنعقد الوصية شرعاً بأحد طرق ثلاثة: العبارة، أو الكتابة، أو الإشارة المفهمة، ونصت القوانين عليها (¬1). أما العبارة: فلا خلاف بين الفقهاء في انعقاد الوصية باللفظ الصريح مثل: أوصيت لفلان بكذا، وغير الصريح الذي يفهم منه الوصية بالقرينة، مثل جعلت له بعد موتي كذا، أو اشهدوا أني أوصيت لفلان بكذا. والقبول كما عرفنا يكون عند الجمهور غير الحنفية بعد الموت، فلا عبرة به في حياة الموصي. وإذا مات الموصى له، قام وارثه مقامه بالقبول. ويصح عند الحنفية قبل الموت. ويكون القبول من الموصى له إذا كان بالغاً رشيداً، فإن لم يكن كذلك، قبل وليه عنه. وإذا كان الموصى له غير معين كالوصية للمسجد أو للفقراء والمساكين، لزمت الوصية بمجرد موت الموصي، بدون قبول، لتعذره في هذه الحالة. ولناقص الأهلية كالمميز والمحجور عليه لسفه أو غفلة قبول الوصية عند الحنفية. وأما الكتابة: فلا خلاف أيضاً في أن الوصية تنعقد بها إذا صدرت من عاجز عن النطق، كالأخرس، ومثله عند الحنفية والحنابلة معتقل اللسان إذا امتدت عقلته، أو صار ميؤوساً من قدرته على النطق. أما عند الشافعية فتصح وصية معتقل اللسان مطلقاً كالأخرس بالكتابة أو الإشارة كالبيع، وهذا هو المأخوذ به قانوناً. ¬
الإشارة المفهمة
وتنعقد الوصية بالكتابة من قادر على النطق (¬1) إذا ثبت أنه خط الموصي بإقرار وارث، أو بيِّنة تشهد أنه خطه، وإن طال الزمن. هذا هو الراجح لدى الحنابلة، وقال الحنفية والمالكية: إذا كتب الشخص وصيته بيده، ثم أشهد، فقال: اشهدوا على ما في هذا الكتاب، جاز. وقال الشافعية: الكتابة كناية، أي تنعقد الوصية بها مع النية، كالبيع، واشترطوا لإثبات الكتابة بالشهادة أن يُطْلع الموصي الشهود على ما في كتابه، فإن لم يطلعهم على ما في كتابه، لم تنعقد وصيته. والدليل على جواز الاكتفاء بالكتابة: أن الكتابة لا تقل في بيان المراد عن العبارة، بل هي أقوى منها عند الحاجة إلى الإثبات. وأما الإشارة المفهمة: فتنعقد بها الوصية من الأخرس أو معتقل اللسان، بشرط أن يصير معتقل اللسان عند الحنفية والحنابلة ميؤوساً من نطقه، بأن يموت كذلك. وإذا كان العاجز عن النطق عالماً بالكتابة، فلا تنعقد وصيته إلا بالكتابة؛ لأن دلالتها على المقصود أدق وأحكم، وهذا هو المأخوذ به قانوناً. وتنعقد الوصية بالإشارة المفهمة أيضاً ولو من قادر على النطق عند المالكية. والخلاصة: أن الناطق تنعقد وصيته بالعبارة (اللفظ) وبالكتابة، وكذا بالإشارة المفهمة عند المالكية، والأخرس ونحوه تنعقد وصيته بالعبارة، أو الكتابة، ¬
القبول المطلوب
أو الإشارة إذا كان عاجزاً عن الكتابة، فإن كان عالماً بالكتابة فلا تنعقد وصيته إلا بالكتابة في رأي الأكثرين. أما القانون فقرر أنه لا تنعقد وصية الناطق إلا بالعبارة أو الكتابة ولا تنعقد بإشارته، وهو مذهب الحنفية. وأما الأخرس ومعتقل اللسان والمريض الذي لا يستطيع النطق، فإن كان عالماً بالكتابة فلا تنعقد وصيته إلا بها، وأما إذا كان لا يعرف الكتابة، فإن وصيته تنعقد بإشارته. القبول المطلوب: للفقهاء رأيان فيه: الأول ـ للحنفية: وهو أن القبول المطلوب: هو عدم الرد، فيكفي إما القبول الصريح، مثل قبلت الوصية أو رضيت بها، أو القبول دلالة، بأن يتصرف في الموصى به تصرف الملاك، كالبيع والهبة والإجارة. ويملك الموصى له الموصى به بالقبول إلا في مسألة: وهي أن يموت الموصي، ثم يموت الموصى له قبل القبول، فيدخل الموصى به في ملك ورثته؛ لأن الوصية قد تمت من جانب الموصي بموته تماماً لا يلحقه الفسخ من جهته، وإنما توقف لحق الموصى له، فإذا مات دخل في ملكه، كما لو مات المشتري في أثناء الخيار الممنوح له قبل إجارة البيع. وقد أخذ القانون السوري (م/226) برأي الحنفية في الاكتفاء بعدم الرد. الثاني ـ للجمهور: لا بد من القبول بالقول أو ما يقوم مقامه من التصرفات الدالة على الرضا، ولا يكتفى بعدم الرد؛ لأنه غير القبول المطلوب. وقد أخذ قانون الوصية المصري بهذا الرأي في المادة (20). هل تشترط الفورية في القبول؟ اتفق الفقهاء على أنه لا يشترط كون القبول في مدة معينة، ولا تشترط
تجزؤ الرد ورد البعض دون البعض
الفورية في القبول أو الرد، بل هو على التراخي، فيجوز بعد الوفاة، ولو إلى مدة طويلة؛ لأن الفور إنما يشترط في العقود المنجزة التي يرتبط القبول فيها بالإيجاب كالبيع، وليست الوصية منها، لكن رأى الشافعية أن للوارث الحق في مطالبة الموصى له بالقبول أو الرد، فإن امتنع بعدالمطالبة، كان امتناعه رداً للوصية، وهذا معقول؛ لأن فيه دفع الضرر عن الورثة. وقال الحنابلة: إن امتنع من قبول ورد، حكم عليه بالرد وسقط حقه. ورعاية لدفع هذا الضرر اشترط القانون السوري (ف1/م227) أن يكون رد الوصية خلال ثلاثين يوماً من وفاة الموصي، أو من حين علم الموصى له بالوصية إن لم يكن عالماً حين الوفاة. وهذا من قبيل السياسة الشرعية، منعاً للإضرار بالورثة أو بالتركة. وجعل القانون المصري (م 22) الحق لمن له تنفيذ الوصية طلب القبول أو الرد بإعلان رسمي، وحدد مدة الإجابة بثلاثين يوماً، فإن لم يجب بالقبول أو الرد، اعتبر ذلك منه رداً، فتبطل الوصية، ما لم يكن له عذر مقبول. وهو مأخوذ من مذهب الشافعية والحنابلة. تجزؤ الرد ورد البعض دون البعض: قد يتجزأ الرد، فيقبل الموصى له بعض الموصى به ويرد البعض الآخر كما إذا أوصي له بدار وأرض زراعية، فقبل الدار ورد الأرض الزراعية أو بالعكس، نفذت الوصية فيما قبله، وبطلت فيما رده؛ لأنه أدرى بمصلحته، ولا ضرر على غيره في التجزئة، فيقبل ما يطيب له، ويرد ما لا يرغب فيه، أي أنه لا يلزم مطابقة القبول للإيجاب.
الرجوع عن الرد أو القبول
وإذا كانت الوصية لجماعة، فقبل بعضهم، ورد الآخرون، لزمت الوصية لمن قبل، وبطلت لمن رد؛ لأن بطلانها في نصيب من رد لا يؤثر في صحتها في نصيب من قبل. لكن إذا شرط الموصي عدم التجزئة، وجب العمل بالشرط، لأن شرط الموصي محترم ما لم يخالف الشريعة. وقد نصت القوانين على هذه الأحكام (¬1). الرجوع عن الرد أو القبول: إذا حصل الرد أو القبول، لم يجز بعدئذ الرجوع عن الرد إلى القبول، أو عن القبول إلى الرد، إلا إذا أجاز الورثة ذلك، فإن قبل الورثة جميعاً أو قبل أحدهم الرد، فسخت الوصية، وعاد الموصى به إلى التركة، وإذا أبى الورثة الرد، فلا عبرة به، وتبقى الوصية نافذة. هذا ما قرره القانون (¬2) عملاً بالمذهب الحنفي الذي يجيز الرد بعد القبول، وتفسخ الوصية بشرط أن يقبل الورثة منه الرد، كلهم أو بعضهم، ولو كان واحداً. وقال الشافعية والحنابلة (¬3): لا يصح الرد بعد القبول والقبض؛ لأن الملك قد ثبت بالقبول، واستقر بالقبض، فلا يصح الرد؛ لأن ملكه قد استقر عليه، فأشبه رده لسائر ملكه، إلا أن يرضى الورثة بالرد، فيكون منه لهم هبة مبتدأة، تفتقر إلى شروط الهبة. ¬
من يملك القبول والرد
أما إن حصل الرد بعد القبول وقبل القبض، ففيه عند الشافعية وجهان: المنصوص عليه أنه يصح الرد؛ لأنه تمليك من جهة الآدمي من غير بدل، فصح رده قبل القبض كالوقف. ويصح الرد عند الحنابلة إن كان الموصى به مكيلاً أو موزوناً؛ لأنه لا يستقر ملكه عليه قبل قبضه، فأشبه رده قبل القبول. وإن كان غير ذلك لم يصح الرد؛ لأن ملكه قد استقر عليه، فهو كالمقبوض. وفي كل موضع صح الرد فيه، فإن الوصية تبطل بالرد، وترجع إلى التركة، فتكون للورثة جميعهم؛ لأن الأصل ثبوت الحكم لهم. والراجح رأي الشافعية والحنابلة بعدم صحة الرد بعد القبول وإن لم يوجد قبض، إلا على أنه تبرع مبتدأ، فيأخذ حكم التبرعات المنشأة، لثبوت ملك الموصى له بالتلقي عن الموصي، لا عن الورثة، وإن أخذ القانون برأي الحنفية. ويحصل الرد بقوله: رددت الوصية أو لا أقبلها وما في معناه. من يملك القبول والرد: أـ اتفق الفقهاء على أن الموصى له المعين يملك بنفسه القبول والرد إذا كان كامل الأهلية رشيداً؛ لأنه صاحب الولاية على نفسه. ب ـ واتفقوا أيضاً على أن الموصى له إذا كان فاقد الأهلية وهو المجنون والمعتوه والصبي غير المميز، ليس له القبول والرد؛ لأن عبارته ملغاة، وإنما يقبل وليه عنه أويرد. جـ ـ واتفقوا أيضاً على أن الموصى له غير المعين لا يحتاج إلى قبول ولا رد، وإنما تلزم الوصية بمجرد إيجاب الموصي. وقد أخذ به القانون السوري (م 225)، أما القانون المصري (م 20)، فجعل حق القبول والرد عن المؤسسات والجهات
موت الموصى له بلا قبول ولا رد
والمنشآت لمن يمثلها قانوناً، فإن لم يكن لها من يمثلها قانوناً، لزمت الوصية من غير حاجة إلى قبول. د ـ واختلف الفقهاء في ناقص الأهلية وهو الصبي غير المميز، والمحجور عليه بسبب السفه أو الغفلة: فقال الحنفية: له القبول؛ لأن الوصية نفع محض له كالهبة والاستحقاق في الوقف، وليس له ولا لوليه الرد؛ لأنه ضرر محض، فلا يملكونه. وقال الجمهور: أمر القبول والرد عن ناقص الأهلية لوليه، يفعل ما فيه الحظ والمصلحة. موت الموصى له بلا قبول ولا رد: إذا مات الموصى له بعد موت الموصي، بلا قبول ولا رد، فتصح الوصية عند الحنفية (¬1) استحساناً؛ لأن موته يعتبر قبولاً دلالة، ولأن الشرط عدم الرد، فتتم الوصية، ويدخل الموصى به في ملك ورثة الموصى له. وينتقل حق القبول والرد إلى ورثة الموصى له عند الجمهور (¬2)، بعد موت الموصي، فمن قبل منهم أورد، فله حكمه؛ لأنه حق ثبت للمورث، فثبت للوارث بعد موته، لقوله عليه الصلاة والسلام: «من ترك حقاً أو مالاً فلورثته». وقت ثبوت ملكية الموصى به للموصى له: حكم الوصية بمعنى الأثر المترتب على الشيء: هو انتقال ملكية الموصى به ¬
إلى الموصى له ملكاً جديداً بقبول الموصى له بعد وفاة الموصي، وبه تلزم الوصية بالاتفاق. واتفق الفقهاء على أن الموصي إذا حدد موعداً للملكية كابتداء شهر كذا، تبدأ به؛ لأن شرط الموصي يراعى ما لم يخالف مقاصد الشرع. أما إذا لم يعين الموصي وقتاً لابتداء الملكية، فإن قبل الموصى له عقب الوفاة، ثبت له الملك بالوفاة مباشرة، أما إذا تراخى القبول عن الوفاة فقد اختلفوا في وقت ثبوت الملكية على رأيين: رأي الحنفية والشافعية، ومشهور مذهب المالكية: بالقبول مستنداً إلى موت الموصي، أي أن له أثراً رجعياً، ورأي بعض المالكية والحنابلة: بالقبول وحده. قال الحنفية (¬1): القبول ليس بشرط لصحة الوصية، وإنما هوشرط ثبوت الملك للموصى له، فقبول الموصى له شرط لإفادة الملك للموصى له، حتى لا يملك قبل القبول إلا في مسألة واحدة هي كما عرفنا: حال موت الموصي ثم موت الموصى له قبل القبول. ومتى قبل الموصى له ثبتت ملكيته من تاريخ وفاة الموصي إذا كان قدر الثلث، فإن لم يقبل بعد الموت، كانت الوصية موقوفة على قبوله: ليست في ملك الوارث، ولا في ملك الموصى له، حتى يقبل أو يموت بلا قبول ولا رد. وكذلك قال الشافعية (¬2): الأظهر أن ملك الموصى له موقوف، فإن قبل بان أنه ملكه بالموت، وإن لم يقبله بان أنه للوارث، أي أنهم كالحنفية تبتدئ الملكية عندهم من وقت وفاة الموصي، ولكن لا تثبت إلا بالقبول. والمشهور عند ¬
المالكية (¬1) مراعاة الأمرين وهو أن الملك يثبت من وقت القبول ووقت الموت معاً، فبالقبول تبين أنه ملك الموصى به من حين الموت. ورأى بعض المالكية والحنابلة (¬2) على الصحيح: أن الموصى له لا يملك الموصى به إلا بالقبول، إذا كانت الوصية لمعين، كما يملك الشيء المعقود عليه في سائر العقود، ولأن القبول من تمام السبب، والحكم لا يتقدم سببه. فتثبت الملكية بالقبول، ولا يستند وجودها إلى ما قبله. والراجح لدي هو الرأي الأول، فيثبت الملك مستنداً إلى وقت الوفاة؛ لأن ذلك هو الذي قصده الموصي بوصيته، وهذا ما أخذ به القانون السوري (¬3). وتظهر ثمرة الخلاف في ملك زوائد الموصى به وغلته الحادثة في المدة ما بين الموت والقبول، كنسل الحيوان وثمرة البستان وأجرة الدار وصوف الغنم ونحوها من الزوائد المنفصلة. أما الزوائد المتصلة كالسمن، فهي بالاتفاق للموصى له إذا احتملها الثلث. فعلى الرأي الأول: تكون الزوائد بعد الموت وقبل القبول ملكاً لورثة الموصي، وعليهم نفقتها. لكن اختلف الحنفية مع الشافعية أصحاب الرأي الأول في اعتبار الزوائد من الثلث، فقال الحنفية: تعتبر من أصل الموصى به، فيشترط ألا تزيد مع الأصل عن الثلث. وقال الشافعية: يعتبر ذلك نماءً زائداً عن أصل الموصى به، فلا تدخل في حساب الثلث، فتكون للموصى له. وهذا هو الأرجح؛ لأن هذا الزائد حدث على ملك الموصى له، فيسلم له، وبه أخذ القانون. ¬
تعليق الوصية على شرط
تعليق الوصية على شرط: لا تكون الوصية منجزة حال الحياة؛ لأنها بطبيعتها عقد مضاف إلى ما بعد الموت، فكل العقود تقبل التنجيز إلا الوصية والإيصاء، لكون مفهومهما الإضافة إلى المستقبل. وقد نص القانون المصري والسوري (¬1) على صحة إضافة الوصية إلى المستقبل، وتعليقها بالشرط، وتقييدها به إذا كان الشرط صحيحاً. أما إضافة الوصية إلى المستقبل: فهذا صحيح، كأن يوصي بسكنى داره لفلان اعتباراً من بدء السنة التالية لوفاته، أو من بدء الشهر الفلاني بعد الوفاة. والوصية والإيصاء لا يكونان إلا مضافين إلى المستقبل. وأما تقييد الوصية بشرط صحيح: فهو جائز أيضاً على أن يتقيد تنفيذ الوصية بهذا الشرط المقترن بها. والشرط الصحيح بحسب رأي ابن تيمية وابن القيم الذي أخذ به القانون: هو كل ما كان فيه مصلحة مشروعة للموصي، أو للموصى له، أو لغيرهما، ولم يكن منهياً عنه، ولا مخالفاً لمقاصد الشريعة (¬2). وهو متفق مع مذهب الحنفية، مع تقييد الشرط الصحيح بقيدين: أولهما ـ أن يكون الشرط مشتملاً على مصلحة. والثاني ـ ألا يكون منهياً عنه ولا منافياً لمقاصد الشريعة، وكأن القانون جعل من مجموع رأي الحنفية وهذين الإمامين رأياً ثالثاً مقبولاً في ذاته. مثال المصلحة للموصي: أن يوصي لفلان بكذا على أن يدفع ضرائب الدولة المستحقة، أو على أن يقوم بالإشراف على أولاده الصغار، أو على أن يبدأ في تنفيذ الوصايا بحقوق الله من فدية صيام وصلاة ونحوها. ¬
المبحث الثاني ـ شروط الوصية
ومثال المصلحة للموصى له: أن يوصي لفلان بأرضه أو داره على أن تكون نفقات إصلاحها أو ترميمها في تركة الموصي، أو على أن تكون رسوم التسجيل في السجل العقاري من تركة الموصي. ومثال المصلحة لأجنبي غير الموصي والموصى له: أن يوصي لفلان بداره على أن يسقي من مائها حديقة جاره، أو أن يوصي بمنفعة دار لجهة خيرية على أن يكون حق السكنى لمن لم يجد مأوى من ذريته. فإن كان الشرط غير صحيح شرعاً، لغا الشرط وصحت الوصية، كأن يوصي لفلان بمبلغ من المال على ألا يتزوج، تصح الوصية وله أن يتزوج. فهذا شرط مصادم لمقاصد الشريعة. وكذلك يلغو الشرط من باب أولى إن كان ممنوعاً شرعاً، كأن يوصي لفلان بمبلغ كذا على أن ينفق بعضه في حفلة مشروب مسكر أو لذة حرام. وأما تعليق الوصية على شرط (¬1): فيجوز تعليقها بشرط في الحياة كالطلاق ونحوه، وبشرط بعد الموت؛ لأن ما بعد الموت في الوصية كحال الحياة، فإذا جاز تعليقها على شرط في الحياة، جاز بعد الموت (¬2). وبه عرف أن الوصية من العقود التي تقبل التعليق على الشرط بالاتفاق. المبحث الثاني ـ شروط الوصية: للوصية شروط صحة يتوقف عليها صحة الوصية، وشروط نفاذ يتوقف ¬
المطلب الأول ـ شروط الموصي
عليها نفاذ الوصية وترتب آثارها، وتلك الشروط إما في الموصي أو في الموصى له، أو في الموصى به، أبحثها في مطالب ثلاثة: المطلب الأول ـ شروط الموصي: يشترط في الموصي شروط صحة وشرط نفاذ: أما شروط الصحة في الموصي فهي ما يأتي (¬1): 1ً - أن يكون أهلاً للتبرع: وهو المكلف (البالغ العاقل)، الحر، رجلاً كان أو امرأة، مسلماً أو كافراً. وقد اتفق على اشتراط العقل، فلا تصح وصية المجنون والمعتوه والمغمى عليه؛ لأن عبارتهم ملغاة لا يتعلق بها حكم. واتفقوا على اشتراط الحرية، فلا تصح وصية العبد؛ لأنها تبرع، وهو ليس من أهل التبرع، ولأنه لا يملك شيئاً حتى يملّكه لغيره. واتفق الحنفية، والشافعية في أرجح القولين عندهم على اشتراط البلوغ، فلا تصح وصية الصبي المميز وغير المميز، ولو كان مميزاً مأذوناً له في التجارة؛ لأن الوصية من التصرفات الضارة ضرراً محضاً، إذ هي تبرع، كما أنها ليست من أعمال التجارة. وأجاز المالكية والحنابلة وصية المميز وهو ابن عشر سنين فأقل مما يقاربها، دون غير المميز، إذ اعقل المميز القربة؛ لأنها تصرف تمحض نفعاً له، فصح منه ¬
كالإسلام والصلاة، كما أن الحنفية أجازوا وصية المميز (وهو من أتم السابعة) إذا كانت لتجهيزه وتكفينه ودفنه؛ لأن عمر رضي الله عنه أجاز وصية صبي من غسان له عشر سنين أوصى لأخواله، ولأنه لا ضرر على الصبي في جواز وصيته؛ لأن المال سيبقى على ملكه مدة حياته، وله الرجوع عن وصيته؛ كما سأبين. وتجوز وصية المحجور عليه لسفه بالاتفاق، فقال الحنفية: تصح وصية المحجور عليه (¬1) إذا كانت بالقُرَب وأبواب الخير، من ثلث ماله؛ إذ ليس في تلك الوصية إضرار به، بل هي مفيدة له، لما يترتب عليها من الثواب. أما الوصية في غير القُرَب كالوصية لغني غير فاسق، فإنها لا تجوز. وكذلك قال المالكية: تصح وصية المحجور عليه السفيه والصغير؛ لأن الحجر عليهما لحق أنفسهما، فلو منعا من الوصية، لكان الحجر عليهما لحق غيرهما. والمذهب لدى الشافعية جواز وصية المحجور عليه بسفه، لصحة عبارته. وأما وصية المحجور عليه لفلس فموقوفة على إجازة الغرماء، فإن أمضوها جازت، وإن ردوها بطلت. وقال الحنابلة: تصح وصية المحجور عليه لسفه بمال؛ لأنها تمحضت نفعاً له من غير ضرر، فصحت منه كعباداته، ولأنه كما قال الحنفية والمالكية إنما حجر عليه لحفظ ماله، وليس في الوصية إضاعة له؛ لأنه إن عاش، كان ماله له، وإن مات كان ثوابه له، وهو أحوج إليه من غيره. ولا تصح الوصية من المحجور عليه لسفه على أولاده؛ لأنه لا يملك أن يتصرف عليهم بنفسه، فوصيته أولى. وتصح الوصية من المحجور عليه لفلس؛ لأن الحجر عليه لحظ الغرماء، ولا ضرر عليهم؛ لأنه إنما تنفذ وصيته في ثلث ماله بعد وفاء ديونه. ¬
شرط نفاذ الوصية في الموصي
أما السكران: فلا تصح وصيته عند الجمهور، لعدم العقل فهو كالمجنون. وأجاز الشافعية وصية السكران المتعدي بسكره وهو من عصى بسكره، ولا تصح وصية غير المتعدي بسكره. وتصح بالاتفاق وصية الكافر ولو حربياً، فليس الإسلام شرطاً لصحة الوصية، إلا أن يوصي بخمر أو خنزير لمسلم. وغني عن البيان أنه يشترط في الموصي كونه مالكاً، فهذا داخل في اشتراط أهلية التبرع، فكل من ملك التصرف في ماله بالبيع والهبة، ملك الوصية بثلثه في وجوه البر، لحديث سعد بن أبي وقاص السابق (¬1). 2ً - أن يكون راضياً مختاراً: لأن الوصية إيجاب ملك، فلا بد فيه من الرضا، كإيجاب الملك بسائر الأشياء والتصرفات من بيع وهبة ونحوهما، فلا تصح وصية الهازل والمكره والمخطئ؛ لأن هذه العوارض تفوِّت الرضا، والرضا لابد منه في عقود التمليكات. شرط نفاذ الوصية في الموصي: يشترط في الموصي لنفاذ الوصية: ألا يكون مديناً بدين مستغرق لجميع تركته؛ لأن إيفاء الدين مقدم على تنفيذ الوصية بالإجماع كما بان سابقاً، وقد تعلق بالمال حق للغير وهو الدائن، فتكون الوصية في هذه الحالة موقوفة على إجازة أصحاب الحق، فإذا أجازوها نفذت، وإلا بطلت. ¬
المطلب الثاني ـ شروط الموصى له
وقد اتفق القانون (¬1) مع الفقه في شرط نفاذ الوصية، وفي شرط كون الموصي أهلاً للتبرع قانوناً، فلا تصح وصية المجنون ولا المعتوه، ولا الصبي ولو كان مميزاً، أخذاً برأي الحنفية، والشافعية في الأرجح. أما وصية المحجور عليه لسفه أو غفلة، فهي جائزة بإذن القاضي، فإذا أذن نفذت، وإلا بطلت، سواء أكانت الوصية في وجوه الخير أم لا. المطلب الثاني ـ شروط الموصى له: يشترط في الموصى له شروط صحة وشروط نفاذ (¬2). أما شروط الصحة فهي ما يأتي: في الجهة العامة أو الشخص المعنوي ألا تكون جهة معصية، وفي الشخص الطبيعي أو الإنسان: 1 - أن يكون موجوداً. 2 ـ معلوماً. 3 - أهلاً للتملك والاستحقاق. 4 - غير حربي عند المالكية، وغير حربي في دار الحرب عند الحنفية، وألا يوصى بالسلاح لأهل الحرب عند الشافعية، فصارت شروط الموصى له ستة. الوصية لجهة معصية: ألا يكون الموصى له جهة معصية إذا كان الموصي مسلماً. فإذا كان الموصى له جهة معصية بطلت الوصية باتفاق الفقهاء، كالوصية ¬
الوصية للمعدوم
لأندية القمار والمراقص، وإقامة القباب على المقابر، أو النياحة على الموتى، وعمارة كنيسة أو ترميمها، وكتابة التوراة والإنجيل وقراءتهما، وكتابة كتب السحر والضلال والفلسفة الممنوعة وسائر العلوم المحرمة؛ وبالسلاح لأهل الحرب، وبآلات اللهو والطرب؛ لأن الوصية شرعت صلة أو قربة، فلا يصح أن تكون في معصية، فإذا وقعت كذلك كانت باطلة اتفاقاً، لأنها وصية بمحرم شرعاً. فإن كانت الوصية في ذاتها مباحة شرعاً، لكن الباعث عليها محرم، كالوصية لأهل الفسق ليستعينوا بها على فسقهم، ففيها رأيان: بحسب الخلاف في مبدأ سد الذرائع: يرى الحنفية والشافعية: أن الوصية صحيحة، عملاً بظاهر العقد، فلم يشتمل لفظ الوصية على محرم، ويترك أمر النية والقصد لله تعالى. ويرى المالكية والحنابلة ومنهم ابن تيمية وابن القيم: أن مثل هذه الوصايا تكون باطلة؛ لأن العبرة في العقود بالقصد والنية، والباعث حينئذ مناف لمقاصد الشريعة، فتكون باطلة. وهذا ما أخذ به القانون (¬1). الوصية للمعدوم (¬2): أن يكون الموصى له موجوداً وقت الوصية تحقيقاً أو تقديراً: فإن لم يكن موجوداً، لا تصح الوصية؛ لأن الوصية للمعدوم لا تصح؛ لأنها تمليك، والتمليك لا يجوز للمعدوم. فلا تجوز الوصية عند الجمهور لميت، وقال مالك: إن علم أنه ميت فهي جائزة، وهي لورثته بعد قضاء ديونه وتنفيذ ¬
الوصية للحمل وبالحمل
وصاياه. ووجود الموصى له إما حقيقة كإنسان موجود حي، أو تقديراً كالحمل. ويعرف وجود الحمل إذا ولدته أمه حياً لأقل من ستة أشهر (وهي أقل مدة الحمل) حين الإيصاء. الوصية للحمل وبالحمل: تصح الوصية بالحمل وللحمل إذا أتت به لأقل من ستة أشهر منذ التكلم بالوصية. أما الوصية بالحمل: فتصح إذا كان مملوكاً، بأن يكون حمل بهيمة مملوكة للموصي؛ لأن الغرر والخطر لا يمنع صحة الوصية، فإذا انفصل ميتاً بطلت الوصية، وإن انفصل حياً وعلمنا وجوده حال الوصية أو حكما بوجوده، صحت الوصية، وإن لم يكن كذلك لم تصح لجواز حدوثه. وأما الوصية للحمل فصحيحة أيضاً بلا خلاف؛ لأن الوصية كالميراث، والحمل يرث، فتصح الوصية له، فإذا ورث الحمل، فالوصية له أولى، فإن انفصل الحمل ميتاً، بطلت الوصية؛ لأنه لا يرث. وإن وضعته حياً، صحت الوصية له. ويحسن إيراد عبارات الفقهاء في شأن الوصية للحمل وبالحمل. قال الزيلعي والشلبي وصاحب الدر والهداية من الحنفية: تصح الوصية للحمل وبالحمل إن ولدته أمه حياً لأقل مدة الحمل وهي ستة أشهر من وقت الوصية (¬1)، إذا كان زوج الحامل حياً، أي في حال الوصية للحمل، فإذا كان ميتاً، فالشرط أن تأتي به حياً لأقل من سنتين من وقت الموت. أما إن أتت به ميتاً، فلا تجوز الوصية. ¬
قال الشافعية
وإن كانت المرأة معتدة من طلاق بائن فالشرط أيضاً أن تأتي به لأقل من سنتين من تاريخ الطلاق. ومثله: لو أقر الموصي بأنها حامل، فتثبت الوصية له إن وضعته ما بين سنتين من يوم أوصى، لثبوت الحمل بإقرار الموصي. وقال الشافعية: تصح الوصية لحمل وتنفذ إن انفصل حياً، وعلم وجوده عند الوصية، بأن انفصل لدون ستة أشهر إن كانت ذات زوج؛ لأن الظاهر وجوده عند الوصية. وتصح الوصية بما تحمله البهيمة أو الشجرة وبما لا يقدر على تسليمه كالطير الطائر، واللبن في الضرع، والصوف على ظهر الغنم؛ لأن المعدوم يجوز أن يملك بالسلم والمساقاة، فجاز أن يملك بالوصية، ولأن الموصى له كالوارث، والوارث يخلف الميت في هذه الأشياء. وقال الحنابلة: تصح الوصية بالحمل إذا كان مملوكاً، وتصح الوصية للحمل إن أتت به حياً لأقل من ستة أشهر، حال الوصية، أي كما قال الشافعية. وكذلك اتفق الشافعية والحنابلة على أن المرأة إن كانت بائناً غير ذات زوج (أي ليست فراشاً لزوج فأتت به لأكثر من أربع سنين من حين الفرقة، وأكثر من ستة أشهر من حين الوصية، لم تصح الوصية له. وإن أتت به لأقل من ذلك، صحت الوصية له؛ لأن الولد يعلم وجوده إذا كان لستة أشهر، ويحكم بوجوده إذا أتت به لأقل من أربع سنين من حين الفرقة. وقال المالكية: تصح الوصية للموصى له، سواء أكان موجوداً حين الوصية، أم منتظر الوجود كالحمل، وتصح لمن سيكون من حمل موجود أو سيوجد إن استهل صارخاً ونحوه، مما يدل على تحقق حياته، لكن في قول لا يستحق شيئاً من غلة الموصى به؛ لأنه لا يملك إلا بعد وضعه حياً، فتكون الغلة لوارث الموصي. وفي القول الآخر: توقف وتدفع للموصى له إذا استهل كالموصى به. ويوزع
القانون
الشيء الموصى به لمن سيكون إن ولدت أكثر من واحد، بحسب العدد أي الذكر كالأنثى عند الإطلاق، فإن نص الموصي على تفضيل، عمل به. مثال الوصية لمن سيوجد: «أوصيت لمن سيكون من ولد فلان». فيكون لمن يولد له، سواء أكان موجوداً، بأن كان حملاً حين الوصية، أم غير موجود أصلاً، فيؤخر الموصى به للوضع على كل حال. وتصح الوصية عندهم لميت علم الموصي بموته حين الوصية، ويصرف الشيء الموصى به في وفاء دين الميت إن كان عليه دين، وإن لم يكن عليه دين فلوارثه، فإن لم يكن عليه دين، ولا وارث له، بطلت الوصية، ولا يأخذها بيت المال. وإن أوصى لميت وهو يظنه حياً، بطلت الوصية اتفاقاً. والخلاصة: أن الجمهور يشترطون وجود الموصى له حين الوصية، وتصح الوصية للحمل إن ولد حياً لأقل من ستة أشهر من تاريخ إنشاء الوصية. أما المالكية فلا يشترطون هذا الشرط، ويجيزون أيضاً الوصية للحمل الذي سيوجد، وإن لم يكن موجوداً عند الوصية، فلا يشترط عندهم إذن وجود الموصى له حين الوصية، ولا عند موت الموصي. وأرجح رأي الجمهور لأن تمليك غير الموجود لا معنى له، ولما يترتب على جواز هذه الوصية من حبس المال مدة طويلة انتظاراً لمن سيوجد في المستقبل. أما القانون: فقانون الوصية المصري (م 6) اشترط أن يكون الموصى له موجوداً إذا كان معيناً، وهذا متفق مع رأي الجمهور، فإن لم يكن معيناً كطلبة العلم، لايشترط أن يكون موجوداً عند الوصية، ولا وقت موت الموصي، وهو مأخوذ من مذهب الإمام مالك، كما قالت المذكرة التفسيرية. وكذلك أخذ هذا القانون في الفقرة الأولِى المادة (26) من مذهب مالك جواز الوصية بالأعيان
للمعدوم، ولما يشمل الموجود والمعدوم ممن يحصون. وتبطل الوصية إذا تعذر وجود الموصى له في المستقبل. ونصت المادة الثامنة على جواز الوصية لجهة معينة من جهات البر ستوجد مستقبلاً، كالوصية للملجأ الذي سيبنى في الحي الفلاني. والقانون السوري (م 212، ف/ب) اشترط أن يكون الموصى له موجوداً عند الوصية وحين موت الموصي، إن كان معيناً. وفي المادة (236) الموافقة للمادة (35) من القانون المصري نص على ما يلي: 1 - تصح الوصية للحمل المعين وفقاً لما يلي: أـ إذا أقر الموصي بوجود الحمل حين الإيصاء، يشترط أن يولد حياً لسنة (أي شمسية) فأقل من ذلك الحين. ب ـ إذا كانت الحامل معتدة من وفاة أو فرقة بائنة، يشترط أن يولد حياً لسنة أيضاً من حين وجوب العدة. جـ ـ إذا لم يكن الموصي مقراً ولا الحامل معتدة، يشترط أن يولد حياً لتسعة أشهر فأقل من حين الوصية. د ـ إذا كانت الوصية لحمل من شخص معين، يشترط مع ما تقدم أن يثبت نسب الولد من ذلك الشخص. 2 - توقف غلة الموصى به منذ وفاة الموصي إلى أن ينفصل الحمل، فتكون له. ونصت المادة (214) على أنه: تصح الوصية لجهة معينة من جهات البر ستوجد في المستقبل، فإن تعذر وجودها صرفت الوصية إلى أقرب مجانس لتلك الجهة.
الوصية للمجهول
الوصية للمجهول: أن يكون الموصى له معلوماً غير مجهول: أي ألا يكون مجهولاً جهالة لا يمكن رفعها وإزالتها؛ لأن هذه الجهالة تمنع من تسليم الموصى به إلى الموصى له، فلا تفيد الوصية، ولأن الوصية تمليك عند الموت ـ في رأي الجمهور غير الحنابلة ـ فلا بد من أن يكون الموصى له معلوماً في ذلك الوقت، حتى يقع الملك له، ويمكن تسليم الموصى به إليه. فلو أوصى إنسان لمحمد أو خالد بالثلث، أو لجماعة لا يحصون من المسلمين (¬1) كثلث ماله للمسلمين، ولم يوصفوا بما يشعر بالحاجة كفقراء المسلمين، كانت الوصية باطلة عند الحنفية، لجهالة الموصى له جهالة تمنع من تسليم الموصى به إليه. وكذلك لو أوصى لأحد رجلين، لا تصح عند أبي حنيفة والشافعية وباقي المذاهب، لعدم تعيين الموصى له (¬2). أما لو أوصى لجماعة بلفظ ينبئ عن حاجتهم، فتصح الوصية عند الحنفية؛ لأنها وصية بالصدقة، وهي إخراج المال إلى الله تعالى، وهو واحد معلوم، فيقع الموصى به لله، ثم يتملكها المحتاجون بتمليك الله لهم. جاء في رد المحتار أن معنى كون الموصى له معلوماً: أن يكون معيناً شخصاً كزيد، أو نوعاً كالمساكين والفقراء. وقد أخذ القانون المصري والسوري (¬3) بهذا الشرط، وهو كون الموصى له ¬
الوصية للدابة
معلوماً، إلا أنه أجاز الوصية لمن لا يحصى كأهل دمشق أو القاهرة خلافاً لمذهب الحنفية، وأخذاً بمذهب المالكية والحنابلة، سواء اشتملت الوصية على ما ينبئ عن الحاجة أو لا. أما الشافعية فهم كالحنفية لأنه يجب عندهم أن يكون الموصى له معيناً إن كان غير جهة. وقد نصت المادة (213) من القانون السوري على ما يلي: 1 - الوصية لله تعالى ولأعمال البر بدون تعيين جهة، تصرف في وجوه الخير. 2 - الوصية لأماكن العبادة والمؤسسات الخيرية والعلمية وسائر المصالح العامة، تصرف على عمارتها ومصالحها وفقرائها، وغير ذلك من شؤونها، ما لم يتعين المصرف بعرف أو قرينة. وهذا قريب من نص المادة السابعة من القانون المصري. والراجح لدي ما أخذ به القانون؛ لأن معنى القربة موجود في مثل هذه الوصية على كل حال، سواء صرح الموصي بقصده أم سكت. الوصية للدابة: يشترط أن يكون الموصى له أهلاً للتمليك والاستحقاق: وهذا شرط متفق عليه. فلا تصح الوصية لما ليس أهلاً للملك، كأن أوصى لدابة أو فرس غيره، وقصد تمليكها، أو أطلق، فهي باطلة عند الحنفية والشافعية والمالكية؛ لأن مطلق اللفظ للتمليك، والدابة لا تملك، أما لو قال: لعلف هذه الدابة، صح، مراعاة لظاهر لفظ الموصي، لا إلى قصده. ولا يشترط عند الحنفية القبول في هذه الحالة، لأنها حينئذ كالميراث، فلا يشترط فيها القبول لتعذره كالوقف على الفقراء والمساكين. وقال الشافعية: يشترط قبول مالك الدابة.
الوصية للقاتل
أما الحنابلة فقالوا: لو قصد الموصي الإنفاق على فرس زيد أو دابته، ولو لم يقبل الموصى له، تصح الوصية؛ لأن العبرة في العقود للمعاني والمقاصد. ويصرف الموصى به في علف الدابة، فإن مات الفرس قبل الإنفاق عليه، كان الباقي لورثة الموصي، ويتولى الوصي أو القاضي عند الحنابلة، لا صاحب الفرس الإنفاق عليه. وبناء على هذا الشرط، قال أبو حنيفة: لو قال: أوصيت بثلث مالي لله تعالى، فالوصية باطلة. وقال محمد: جائزة، وعليه الفتوى، ويصرف في وجوه البر. ولو أوصى للمسجد أو للمسجد الحرام أو للمدرسة ونحوها من جهات الوقف بشيء، لم يجز عند الحنفية، إلا أن يقول: ينفق على المسجد إنشاء وترميماً؛ لأنه قربة. وعند محمد والشافعية: يصح مطلقاً، سواء قال: ينفق أم لا، ويصرف على مصالحه، كالمثال السابق، تصحيحاً لكلامه. وقال المالكية والحنابلة: تصح الوصية لمسجد ونحوه كرباط وثغر وسور على البلد، وتصرف في مصالحه ونفقاته التي يحتاجها من إضاءة وحصر وسجاد، وما زاد على ذلك، فيصرف على خدمته من إمام ومؤذن ونحوهما. الوصية للقاتل: ألا يكون الموصى له قاتلاً الموصي في رأي الحنفية والحنابلة: فإن قتله بأن أصابه بجرح فأوصى له، ثم مات، كانت الوصية باطلة. وإن أوصى له أولاً، ثم حدث القتل، كان مانعاً من استحقاق الوصية. فالقتل يمنع صحة الوصية ابتداء واستمراراً؛ لأن القتل يمنع الميراث، فيمنع الوصية، معاملة له بنقيض مقصوده، ولخبر «ليس لقاتل وصية» (¬1). والقتل مانع من صحة الوصية ¬
لحق الشرع، سواء أجاز الورثة أم لا، وهذا رأي أبي يوسف، وبه أخذ القانون. وقال أبو حنيفة ومحمد: إذا أجاز الورثة الوصية، أو لم يكن للموصي ورثة، كانت الوصية جائزة نافذة؛ لأن المنع لحق الورثة. والرأي الأول أرجح. لكن اختلف الحنفية والحنابلة في نوع القتل المانع من الوصية والميراث: فقال الحنابلة في الأصح: القتل بغير حق، سواء أكان عمداً أم خطأ، مباشرة أم تسبباً، يمنع الميراث ويبطل الوصية، لأن الميراث آكد من الوصية، فتكون الوصية أولى. وقال الحنفية: القتل المانع من الإرث والوصية: هو الصادر من البالغ العاقل، عدواناً بغير حق أو عذر شرعي، إذا كان مباشرة لا تسبباً، سواء أكان عمداً أم خطأ، فالقتل من المجنون والصبي، والقتل بحق كالقتل قصاصاً أو حداً أو بسبب البغي، أو بعذر كالدفاع عن النفس والعرض، والقتل بالتسبب، كما لو دل الموصى له الشخص القاتل على مكان الموصي ولم يشترك معه في القتل، كل ذلك لا يمنع الإرث والوصية. فالقتل بالتسبب عندهم لا يمنع إرثاً ولا وصية. أما الشافعية فقالوا: الأظهر أن الوصية تصح للقاتل ولو تعدياً، فلو قتل الموصى له الموصي ولو تعدياً، استحق الموصى به؛ لأن الوصية تمليك بعقد، فأشبهت الهبة، وخالفت الإرث. وأما المالكية: فعندهم تفصيل وهو أن الوصية تصح لقاتل، سواء أكان القتل عمداً أم خطأ إذا علم الموصي بمن قتله، ولم يغير وصيته، أو أوصى بعد الضرب، مع علمه بأن الموصى له هو الضارب؛ لأن المانع من صحة الوصية: هو استعجال الموصى له الشيء قبل أوانه، فيعاقب بالحرمان، لا يتحقق إلا إذا كان القتل لاحقاً للوصية. وإذا كان الموصي عالماً بالضرب، ثم أوصى له، دل على أنه عفا عنه وقصد الإحسان إليه.
وبه يتبين أنه لا يشترط عند المالكية ألا يكون الموصى له قاتلاً، بشرط أن تقع الوصية بعد الضربة وأن يعرف المقتول قاتله. فإن ضرب شخص غيره ضربة قاتلة عمداً أو خطأ، ثم أوصى له بعد الضربة بشيء، صحت الوصية. أما إذا أوصى له قبل أن يضربه، ثم ضربه فأماته، فإن الوصية تبطل، سواء عرف القاتل ولم يغير الوصية، أم لم يعرفه، على الراجح؛ لأن فيها شبهة استعجال الوصية كالميراث. ففي هذه الحال الأخيرة يتفق مذهبهم مع الحنفية والحنابلة، وفي الحال الأولى أي وقوع الوصية بعد الضربة يكون مذهبهم كالشافعية، ويكون لدينا رأيان: رأي الحنفية والحنابلة: أن القتل يبطل الوصية، ورأي الشافعية والمالكية: أن القتل لا يبطل الوصية. أما القانون المصري في المادة (17) والسوري في المادة (223) فقد أخذا برأي الحنفية والحنابلة في أن القتل مانع من استحقاق الوصية، وأخذاً برأي المالكية في تحديد نوع القتل المانع من الإرث والوصية وهو القتل قصداً أو عمداً (¬1)، سواء أكان القاتل فاعلاً أصلياً أم شريكاً، أم شاهد زور أدت شهادته إلى الحكم بالإعدام على الموصي ونفذ الحكم، إذا كان القتل بلا حق ولا عذر، وكان القاتل عاقلاً بالغاً من العمر خمس عشرة سنة عند الجمهور، واثنتي عشرة سنة عند الحنفية. وهذا يشمل القتل مباشرة وتسبباً عملاً بمذهب الشافعية، ويكون القاتل مستحقاً الوصية إذا كان مجنوناً أو معتوهاً ونحوهما، أو ولداً دون الخامسة عشرة، أو قاتلاً بحق أو بعذر كالقاتل دفاعاً عن النفس أو الشرف، والقاضي الذي يصدر حكم الإعدام، والجلاد الذي ينفذ الحكم. ¬
الوصية لأهل الحرب
الوصية لأهل الحرب: يشترط في الموصى له في المعتمد عند المالكية ألا يكون حربياً، وعند الحنفية ألا يكون حربياً في دار الحرب (¬1)، سواء أكانت الوصية من مسلم أم ذمي وإن أجاز الورثة؛ لأنها تقوية وإعزاز له، وإعانة على حرب المسلمين، وتصبح في النهاية ميراثاً لا صدقة، وفيها ضرر عام بالمسلمين. وأجاز الحنفية عملاً بكتاب الأصل لمحمد الوصية للحربي المستأمن في دار الإسلام؛ لأنه في عهدنا، فأشبه الذمي الذي هو في عهدنا، قال تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين. إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين، وأخرجوكم من دياركم، وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون} [الممتحنة:8/ 60 - 9]. وروي عن أبي حنيفة: أنه لاتجوز الوصية للحربي المستأمن، كما لا يجوز صرف الكفارة والنذر وصدقة الفطر والأضحية إلى الحربي المستأمن، لما فيه من الإعانة على الحراب. ولا تجوز عند الحنفية الوصية للمرتد من المسلم. وأجاز الشافعية في الأصح والحنابلة الوصية للمرتد، والحربي المعين، لالعامة الحربيين، سواء أكان بدارنا أم لا، وذلك بما له تملكه، لا كسيف ورمح أي بغير السلاح مطلقاً، قياساً على جواز الهبة له والصدقة عليه. وقال الحارثي من الحنابلة: الصحيح من القول: أنه ـ أي الكافر مرتداً أو حربياً ـ إذا لم يتصف بالقتال أو المظاهرة علينا، صحت الوصية، وإلا لم تصح. ويؤكذ هذا الرأي أن أسماء ¬
اتحاد الدين
بنت أبي بكر أذن لها النبي صلّى الله عليه وسلم في صلة أمها (¬1)، وأذن لعمر أيضاً في كسوة أخ مشرك له بمكة (¬2). اتحاد الدين: لا يشترط اتحاد الدين بين الموصي والموصى له لصحة الوصية، فتجوز وصية المسلم لغير المسلم، وتجوز وصية غير المسلم لأهل ملته ولغير أهل ملته، كاليهودي للمسيحي وبالعكس، والمسلم لليهودي أو المسيحي وبالعكس؛ لأن غير المسلمين في دار الإسلام لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين. ونص القانون المصري (م 9) والقانون السوري (م 215) على أنه: 1ً - تصح الوصية للأشخاص مع اختلاف الدين والملة بينهم وبين الموصي. 2ً - إذا كان الموصى له أجنبياً تشترط المعاملة بالمثل. أي أن اختلاف الدين لا يمنع صحة الوصية، وكذا اختلاف الدارين إذا كانت بلاد الموصى له لا تمنع الوصية لمثل الموصي، عملاً بمبدأ المساواة والمعاملة بالمثل، فتجوز الوصية إذا كانت دولة الموصي تجيز مثلها، وتمنع إن لم تجز مثلها. وصايا غير المسلمين ـ أهل الذمة: عرفنا أنه تصح وصية الذمي للمسلم وبالعكس اتفاقاً؛ لأن غير المسلمين بعقد الذمة ساووا المسلمين في المعاملات، في الحياة وبعد الممات. فإذا أوصى ذمي غير مسلم بوصية، فلها ثلاث حالات ذكرها الحنفية (¬3): ¬
شرط نفاذ الوصية في الموصى له
1 - إذا كان الموصى به أمراً هو قربة في شريعتنا وشريعته، كالصدقة على فقراء المسلمين أو فقراء الذميين أو بعمارة المسجد الأقصى، أو ببناء مدرسة أو مشفى ونحو ذلك، جازت الوصية اتفاقاً؛ لأن هذا مما يتقرب به المسلمون وأهل الذمة على حد سواء. 2 - إذا كان الموصى به شيئاً هو قربة عندنا، وليس بقربة عنده، كأن أوصى ببناء مسجد للمسلمين أو بأن يحج عنه، فهذه وصية باطلة باتفاق الحنفية؛ لأنه لا يعتقد حقاً بكون الموصى به قربة إلى الله تعالى. 3 - إذا كان الموصى به قربة عنده، لا عندنا، كأن أوصى ببناء كنيسة أو معبد، أو بالذبح لعيد في ملته، فالوصية صحيحة عند أبي حنيفة؛ لأن المعتبر في وصيته ما هو قربة عنده في عقيدته، لذا بطلت وصيته لبناء مسجد؛ لأنها ليست قربة عنده. وهذا هو الراجح. وقال الصاحبان: هي وصية باطلة؛ لأنها وصية في شريعتنا بما هو معصية، والوصية بالمعاصي لا تصح. وقال الأئمة الآخرون (¬1) بقول الصاحبين: تبطل الوصية بمعصية (وهي ما ليس بقربة) ولو من ذمي؛ لأنها إعانة على المعصية. شرط نفاذ الوصية في الموصى له: الوصية للوارث: يشترط لنفاذ الوصية ألا يكون الموصى له وارثاً للموصي عند موت الموصي، إذا كان هناك وارث آخر لم يجز الوصية. فإن أجاز بقية الورثة ¬
يشترط لصحة الإجازة شرطان
الوصية لوارث، نفذت الوصية، فتكون الوصية للوارث موقوفة على إجازة بقية الورثة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث» (¬1) وقوله أيضاً: «لا تجوز وصية لوارث، إلا أن يشاء الورثة» «لا وصية لوارث إلا أن يجيز الورثة» (¬2)، ولأن في إيثار بعض الورثة من غير رضا الآخرين ما يؤدي إلى الشقاق والنزاع، وقطع الرحم وإثارة البغضاء والحسد بين الورثة. ومعنى الأحاديث أن الوصية للوارث لا تنفذ مطلقاً، مهما كان مقدار الموصى به، إلا بإجازة الورثة، فإن أجازوها نفذت، وإلا بطلت، وإن أجازها بعضهم دون بعض، جازت في حصة المجيز، وبطلت في حق من لم يجز، لولاية المجيز على نفسه دون غيره. وهذا شرط لنفاذ الوصية عند الجمهور، فإنهم قرروا أن الوصية صحيحة لكن لا تجوز الوصية لوارث ولا تنفذ إذا لم يجزها الورثة. وقال المالكية: الوصية باطلة لحديث «لا وصية لوارث» فإن أجاز الورثة ما أوصي به للوارث أو الزائد على الثلث، فعطية مبتدأة منهم، لا تنفيذ لوصية الموصي. ويشترط لصحة الإجازة شرطان: الأول ـ أن يكون المجيز من أهل التبرع عالماً بالموصى به: بأن يكون بالغاً عاقلاً غير محجور عليه لسفه أو عته أو مرض موت، وأن يكون عالماً بالموصى به، فلا تجوز إجازة صغير ومجنون ومريض مرض موت، ولا تصح إجازة وارث لم يعلم بما أوصى به الموصي. وقال الحنابلة: لو أجاز مريض فمن ثلثه (¬3). ¬
من الوارث الذي يجيز؟
الثاني ـ أن تكون الإجازة بعد موت الموصي: فلا عبرة بإجازة الورثة حال حياة الموصي، فلو أجازوها حال حياته، ثم ردوها بعد وفاته، صح الرد وبطلت الوصية، سواء أكانت الوصية للوارث، أم لأجنبي بما زاد عن ثلث التركة. وهذا رأي الحنفية والشافعية والحنابلة. وكذلك قال المالكية. وفي الجملة كما ذكر ابن جزي: إذا أجاز الورثة الوصية بالثلث لوارث أو بأكثر من الثلث، بعد موت الموصي، لزمهم، فإن أجازوها في صحته لم تلزمهم، وإن أجازوها في مرضه، لزمت من لم يكن في عياله، دون من كان تحت نفقته. وهناك قول آخر رجحه الحطاب أن الإجازة تلزم. من الوارث الذي يجيز؟ العبرة بتحديد كونه وارثاً باتفاق المذاهب هو وقت موت الموصي، لا وقت إنشاء الوصية، فلو كان غير وارث عند الوصية، ثم صار وارثاً بأمر حادث وقت الموت، صارت الوصية موقوفة، ولو كان وارثاً عند إنشاء الوصية، ثم أصبح عند الموت غير وارث، بسبب حجبه مثلاً، كانت الوصية نافذة؛ لأن العبرة في الإرث وعدمه هو وقت وفاة الموصي؛ ولأن هذا الوقت هو أوان ثبوت حكم الوصية الذي هو ثبوت ملك الموصى به. القائلون بمشروعية الوصية للوارث: رأى الشيعة الزيدية، والشيعة الإمامية، والإسماعيلية (¬1): أن الوصية للوارث جائزة بدون توقف على إجازة الورثة، لظاهر قوله تعالى: {كتب عليكم إذا حضر أحدَكم الموتُ ـ إن ترك خيراً ـ الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف، حقاً على المتقين} [البقرة:180/ 2] ونسخ الوجوب لا يستلزم نسخ الجواز. ورد ¬
المطلب الثالث ـ شروط الموصى به
عليهم بأن حديث ابن عباس صرح بنفي الجواز إلا إذا أجازت الورثة، وبأن الآية المذكورة منسوخة بالسنة، أو بآية الفرائض. وأخذ قانون الوصية المصري لسنة 1946 (م 37) بهذا الرأي مخالفاً رأي جمهور الفقهاء. فأجاز الوصية للوارث في حدود الثلث من غير إجازة الورثة. والتزم القانون السوري (م 2/ 238) برأي الجمهور وهو أن الوصية للوارث لا تنفذ إلا إذا أجازها الورثة. مانعو الوصية للوارث مطلقاً: قال المزني والظاهرية (¬1): لا تصح الوصية للوارث، ولو أجازها الورثة؛ لأن الله منع من ذلك، فليس للورثة أن يجيزوا ما أبطل الله على لسان رسوله، فإذا أجازوها، كان هبة مبتدأ منهم، لا وصية من الموصي؛ لأن المال حينئذ صار للورثة، فحكم الموصي فيما استحقوه بالميراث باطل، لقول رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام» (¬2) فليس لهم إجازة الباطل، لكن إن أحبوا أن ينفذوا الوصية من مالهم باختيارهم، فلهم التنفيذ، ولهم حينئذ أن يجعلوا الأجر لمن شاؤوا. المطلب الثالث ـ شروط الموصى به: للموصى به شروط صحة وشرطا نفاذ. أما شروط الصحة فهي ما يأتي (¬3): ¬
- أن يكون الموصى به مالا قابلا للتوارث
1 - أن يكون مالاً. 2 - متقوماً. 3 - قابلاً للتمليك. 4 - مملوكاً للموصي إذا كان معيناً. 5 - ألا يكون بمعصية. وتفصيلها فيما يلي: 1 ً - أن يكون الموصى به مالاً قابلاً للتوارث: لأن الوصية تمليك، ولا يملك غير المال. والمال الموصى به يشمل الأموال النقدية من دراهم ودنانير، والعينية من عقارات ودور وأشجار وعروض تجارية وحيوان ولباس وأثاث ونحوها، والديون التي فيها ذمة الغير والحقوق المستحقة في الغنيمة، والحقوق المقدرة بمال وهي حقوق الارتفاق من مرور وشِرب ومسيل، والمنافع كسكنى الدار وزراعة الأرض وغلة البستان التي ستحدث في المستقبل وركوب الدابة أو السيارة ونحوها مما يصح بيعه وهبته. والمنافع حتى عند الحنفية وإن كانت لا تورث عندهم، فإنه يصح التعاقد عليها حال الحياة، فيصح الإيصاء بها؛ لأن المقصود تمليك المنفعة بعد الموت. وأما غير الحنفية فقالوا: تصح الوصية بالمنافع؛ لأنها كالأعيان في الملك بالعقد والإرث، فكانت كالأعيان في الوصية. وإذا لم يكن الموصى به مالاً كالدم والميتة وجلدها قبل الدباغ بطلت الوصية؛ لأنه ليس محلاً للملك.
- أن يكون المال الموصى به متقوما في عرف الشرع
وأجاز الشافعية الوصية بجلد ميتة قابل للدباغ وميتة تصلح طعماً للجوارح. 2 ً - أن يكون المال الموصى به متقوماً في عرف الشرع: أي يباح الانتفاع به شرعاً. فلا تصح الوصية من مسلم ولا لمسلم بمال غير متقوم، أي لا يجوز شرعاً الانتفاع به كالخمر والخنزير والكلب والسباع التي لا تصلح للصيد، لعدم نفعها وتقومها في نظر الإسلام. وتصح الوصية بها من مسيحي لمثله لتقومها في اعتقاده. ولا تجوز الوصية بما لا يقبل النقل كالقصاص وحد القذف وحق الشفعة. ولا تصح الوصية لنائحة على ميت، ولا الوصية بلهو أو إعطاء مال على مالا يحل كقتل نفس، ولا الوصية لمن يصوم عنه أو يصلي عنه، وتصح الوصية مع الخلاف على قراءة القرآن على الميت. وتجوز الوصية عند الحنفية بالكلب المعلم والسباع التي تصلح للصيد، لتقومها عندهم، ولأنها مضمونة بالإتلاف، ويجوز بيعها وهبتها. وكذلك تصح الوصية عند الشافعية والحنابلة بما فيه نفع مباح من غير المال، ككلب صيد وكلب ماشية وكلب زرع وحرث ونحوها من السباع الصالحة للصيد؛ لأن فيها نفعاً مباحاً، وتقر اليد عليها، والوصية تبرع، فصحت في غير المال كالمال. وتصح الوصية بزيت متنجس لغير مسجد؛ لأن فيه نفعاً مباحاً، وهو الاستصباح به، ولا تصح الوصية به لمسجد؛ لأنه لا يجوز الاستصباح به فيه. وتصح الوصية عند الشافعية بنحو زبل ينتفع به كسماد، وبخمر محترمة: وهي ما عصرت بقصد الخلية لا بقصد الخمرية. وتصح أيضاً بطبل يحل الانتفاع به كطبل حرب: وهو ما يضرب به للتهويل، وطبل حجيج: وهو ما يضرب به للإعلام بنزول وارتحال.
- أن يكون قابلا للتمليك وإن كان معدوما وقت الوصية
وتصح الوصية بإناء ذهب أو فضة؛ لأنها مال يباح الانتفاع به في غير حال الاستعمال بجعله حلياً للنساء أو ببيعه ونحوهما. 3 ً - أن يكون قابلاً للتمليك وإن كان معدوماً وقت الوصية: أي أن يكون الموصى به مما يصح تملكه بعقد من العقود شرعاً أو بالإرث؛ لأن الوصية تمليك، وما لا يقبل التمليك لا يصح الإيصاء به. فتصح الوصية بعين ماله نقداً أو سلعة؛ لأنه يملك بالهبة أو بالبيع، وبمنفعة ماله كسكنى الدار وركوب الدابة؛ لأنها تملك بالإجارة. وبدينه الذي على فلان؛ لأن هذه في الحقيقة وصية بالعين، أي بالدراهم التي في ذمة المدين. وتصح الوصية بما تثمر نخيله أبداً؛ لأن شراء المنتجات الزراعية قبل وجودها جائز شرعاً من طريق عقد السلم. وتجوز الوصية بما في بطن بقرته أوغنمه؛ لأنه مما يملك بالإرث. لكن لو أوصى بما ستلد أغنامه لا يجوز عند الحنفية؛ لأنه لا يقبل التمليك بعقد من العقود في الشريعة، فالذي يجيزه الحنفية إذن هو المعدوم المحتمل وجوده، ولا يشترط وجود الموصى به في الحال. وقال الجمهور: تصح الوصية بالمعدوم مطلقاً؛ لأنه يقبل التمليك في حال حياة الموصي بعقد المساقاة، فتصح الوصية به. والذي أجازه الحنفية من الوصية بما يقبل التمليك، يشترط وجوده في المستقبل، لكن وقت وجوده يختلف عندهم بحسب نوع المال: فإن كان المال معيناً بالذات كدار معينة ومزرعة معينة، فيشترط وجوده عند الوصية.
- أن يكون الموصى به مملوكا للموصي عند إنشاء الوصية إذا كان معينا بالذات؛
وإن كان شائعاً في كل المال، كالوصية بثلث ماله أو ربعه، فالشرط وجوده عند موت الموصي؛ لأنه وقت تنفيذ الوصية. وإن كان شائعاً في بعض المال، كالوصية بثلث غنمه، فإن كان له غنم وقت الوصية، اشترط وجوده وقت الوصية، كالنوع الأول، وإن لم يكن له غنم أصلاً وقت الوصية، فهو كالشائع في كل المال، يعتبر فيه الموجود عند الموت؛ لأنه ليس شيئاً معيناً حتى تتقيد به الوصية. والشرط عند الجمهور (غير الحنفية) بصفة عامة: وجود الموصى به وقت موت الموصي. أما دليل الجمهور القائلين بأنه تصح الوصية بالمعدوم مطلقاً كثمر البستان مدة معينة أو دائماً، وبما تحمل دوابه وأغنامه، فهو أن المعدوم يجوز أن يملك بعقد السلم والمساقاة، فجاز أن يملك بالوصية. وأما الحنفية الذين لم يجيزوا استحساناً الوصية بما ستلد أغنامه؛ فلأنه لا يقبل التمليك حال حياة الموصي بعقد من العقود. واتفق الكل على أنه تجوز الوصية بالمجهول وبما لا يقدر على تسليمه كالطير الطائر؛ لأن الموصى له يخلف الميت في ثلثه، كما يخلفه الوارث في ثلثه، فلما جاز أن يخلف الوارث الميت في هذه الأشياء، جاز أن يخلفه الموصى له. واتفقوا على أنه تجوز الوصية بالمشاع والمقسوم؛ لأن الإيصاء تمليك جزء من ماله، فجاز في المشاع والمقسوم كالبيع. وهذا كله يدل على أن الوصية أوسع العقود كما قال الفقهاء. 4 ً - أن يكون الموصى به مملوكاً للموصي عند إنشاء الوصية إذا كان معيناً بالذات؛ لأن الوصية بمعين إيجاب للملك في المعين، فلا بد من أن يكون مملوكاً له وقت الوصية، فالوصية بملك الغير لا تصح.
القانون
فمن قال: وصيت بمال زيد، فلا تصح الوصية عند الجمهور، ولو ملك الموصي مال زيد بعد الوصية، لفساد الصيغة بإضافة المال إلى غيره. أما القانون بالنسبة لشروط الموصى به السابقة: فقد نصت المادة العاشرة من قانون الوصية المصري على ما يلي: 1ً - أن يكون الموصى به مما يجري فيه الإرث أو يصح أن يكون محلاً للتعاقد حال حياة الموصي. 2ً - أن يكون متقوماً إذا كان مالاً. 3ً - أن يكون موجوداً عند الوصية في ملك الموصي إن كان معيناً بالذات. ونص القانون السوري (م 216) على أنه يشترط في الموصى به: أـ أن يكون قابلاً للتمليك بعد موت الموصي، ومتقوماً في شريعته. ب ـ أن يكون موجوداً عند الوصية في ملك الموصي إن كان معيناً بالذات. ونصت المادة (217) على أنه: تصح الوصية بالحقوق التي تنتقل بالإرث، ومنها حق المنفعة بالعين المستأجرة بعد وفاة المستأجر. ونصت المادة (218) على أنه: تصح الوصية بإقراض الموصى له قدراً معلوماً من المال، ولا تنفذ فيما زاد من هذا المقدار على ثلث التركة، إلا بإجازة الورثة. 5 ً - ألا يكون الموصى به معصية أو محرماً شرعاً: لأن القصد من الوصية تدارك ما فات في حال الحياة من الإحسان، فلا يجوز أن تكون معصية، وللمعصية أمثلة من كل مذهب:
أمثلة الحنفية
فمن أمثلة الحنفية (¬1): الوصية بطعام تجتمع له النائحات بعد موته، أو بتطيين القبر، أو ضرب قبة أو تشييد بناء عليه، أو دفنه في داره، أو المغالاة في كفنه والوصية بقراءة على القبور أو في المنازل، فكل تلك الوصايا باطلة، لعدم جواز الاستئجار على قراءة القرآن. أما ما أفتى به المتأخرون، فهو ليس جواز الاستئجار على جميع الطاعات، وإنما جواز الاستئجار على ما تقضي به الضرورة وخشية الضياع، كالاستئجار لتعليم القرآن أو الفقه أو الأذان أو الإمامة خشية التعطل لقلة رغبة الناس في الخير، ولا ضرورة في استئجار شخص يقرأ على القبر أو غيره. ولو جاز الاستئجار على كل طاعة، لجاز على الصوم والصلاة والحج، مع أنه باطل بالإجماع ـ كما قال ابن عابدين. وكل ما ذكر لا يمنع من التطوع بقراءة القرآن على القبور، فلو زار إنسان قبر صديق أو قريب له، وقرأ عنده شيئاً من القرآن، فهو حسن، أما الوصية بالقراءة فلا معنى لها. لكن بطلان الوصية لتطيين القبر والقراءة مبني على القول بكراهة ذلك. والمختار عندهم عدم الكراهة. هذا حكم الوصية بنفس المعصية وهو البطلان لعدم توافر كل من الوصية للصلة أو القرابة، أما الوصية لأهل الفسوق والمعصية فهي مكروهة، لبقاء معنى الصلة في الوصية. ووصية المسلم لبِيعة أو كنيسة باطلة؛ لأنها معصية، ولو أوصى الذمي للبيعة أو للكنيسة أن ينفق عليها في إصلاحها، أو أوصى ليذبح لعيدهم جازت الوصية ¬
أمثلة المعصية عند المالكية
عند أبي حنيفة؛ لأن المعتبر في وصيتهم ما هو قربة عندهم لا ما هو قربة حقيقية؛ لأنهم ليسوا من أهل القربة الحقيقية، وقال الصاحبان: الوصية بما ذكر باطلة؛ لأن الوصية بهذه الأشياء وصية بما هو معصية، والوصية بالمعاصي لا تصح. والوصية بالمصاحف لتوقف في المسجد باطلة عند أبي حنيفة، صحيحة عند محمد. وإذا أوصى بفرش فراش تحته في قبره، فقيل: تصح كالزيادة في الكفن، وقيل: لا تصح لأنه ضياع مال من غير جدوى. وإذا أوصى بطلاء قبره بالجبس ونحوه، فقيل: إن كان لتقوية القبر وإخفاء الرائحة فيجوز، وإلا فلا. وإذا أوصى باتخاذ طعام في المآتم، فيصح بشرط أن يأكل منه المسافرون والبعيدون عن جهة المتوفى. ومن أمثلة المعصية عند المالكية (¬1): الإيصاء بمال يُشترى به خمر لمن يشربها، أو يُدفع لمن يقتل نفساً بغير حق، والإيصاء ببناء مسجد أو مدرسة في أرض موقوفة مقبرة، والإيصاء لمن يصلي عنه أو يصوم عنه، والإيصاء باتخاذ قنديل من ذهب أو فضة ليعلق في قبر نبي أو ولي ونحوه، فإنه من ضياع الأموال في غير ما أمر به الشارع، وللورثة أن يفعلوا به ما شاؤوا. والوصية بنياحة عليه بعد موته، أو بلهو محرم في عرس أو بإعطاء مال على مالا يحل كقتل نفس، والوصية بضرب قبة على قبر، مباهاة، فكل ما ذكر تبطل الوصية به، ولا ينفذ، ويرجع ميراثاً. والوصية ببناء قبة عليه، وهو ليس من أهلها، أو يوصي بإقامة مولد على الوجه الذي يقع في هذه الأزمنة من اختلاط النساء بالرجال، والنظر للمحرم ونحوه من المنكر. وكأن يوصي بكتابة جواب سؤال القبر وجعله معه في كفنه أو قبره. ¬
أمثلة المعصية أو ما لا قربة فيه عند الشافعية
لكن أجاز المالكية الوصية لمن يقرأ على قبره، فإنها نافذة، كالوصية بالحج عنه، وتصح الوصية بالكفن والحمل والدفن والغسل ونحوها مما تصح الإجارة عليه، وتجوز الوصية للمسجد وينفق على مصالحه. ومن أمثلة المعصية أو ما لا قربة فيه عند الشافعية (¬1): الوصية للكنيسة، والوصية بالسلاح لأهل الحرب، أو ببناء موضع لبعض المعاصي كالخمارة، أو لمشاغب مفسد لإفساد التركة، فكل تلك الوصايا باطلة، لمنافاتها مقتضى ما شرعت له الوصية من البر وتدارك الحسنات. ومن الوصايا الباطلة عند الشافعية والحنابلة (¬2): الوصية بطبل لهو لا يحل الانتفاع به في حال الحرب ونحوها، أو بمزمار وطنبور وعود لهو، وكذا آلات اللهو كلها، ولو لم يكن فيها أوتار؛ لأنها مهيأة لفعل المعصية. والوصية بكتب السحر والتنجيم والتعزيم وكتب البدع المضلة؛ لأنها إعانة على معصية. وتصح الوصية بعمارة المسجد ومصالحه، بشرط أن يقبل الناظر، وتصح الوصية بقراءة القرآن على القبر؛ لأن ثواب القراءة يصل إلى الميت إذا وجد واحد من ثلاثة أمور: القراءة عند قبره، أو الدعاء له عقب القراءة، أو نية حصول الثواب للميت. ومن أمثلة المعصية أو الفعل المحرم سواء أكان الموصي مسلماً أم ذمياً عند الحنابلة: الوصية بما نهي عنه مما يعمل على القبور من بناء غير مأذون فيه، وهو ما زاد على شبر، والوصية ببناء كنيسة أو بيت نار للمجوس أو عمارتها أو الإنفاق ¬
ما يشترط في الموصى به لنفاذ الوصية
عليهما. وتكون الوصية باطلة. لكن تصح الوصية للمسجد على أن تصرف في مصالحه، وتصح بكتابة العلم والقرآن؛ لأنه قربة نافعة. ما يشترط في الموصى به لنفاذ الوصية: يشترط لنفاذ الوصية في الموصى به شرطان: الحجر بسبب الدين المستغرق: 1 ً - ألا يكون مستغرقاً بالدين: لأن الديون ـ كما تقدم ـ مقدمة في وجوب الوفاء لها على الوصية، بعد تجهيز الميت وتكفينه. وتقديم الوصية في القرآن في آية: {من بعد وصية توصون بها أو دين} [النساء:12/ 4] لا يدل على تقدمها في الرتبة عليه، وإنما هو للتنبيه إلى أهمية الوصية ووجوب تنفيذها من الورثة. فإن أجاز الغرماء (الدائنون) وصية المدين، نفذت، وإلا بطلت. الوصية بالزائد عن الثلث: 2 ً - ألا يكون الموصى به زائداً على ثلث التركة إذا كان للموصي وارث: لإجماع العلماء على وجوب الاقتصار في الوصية على الثلث، بمقتضى الثابت في السنة في حديث سعد بن أبي وقاص المتقدم وغيره: «الثلث والثلث كثير». وتكون الزيادة عن الثلث موقوفة على الإجازة، فإن أجاز الورثة الزائد عن الثلث لأجنبي، نفذت الوصية، وإن ردوا الزيادة بطلت. ولا تعتبر الإجازة إلا بالشرطين السابقين في الوصية للوارث: أن تكون بعد وفاة الموصي، وأن يكون المجيز من أهل التبرع عالماً بالموصى به.
استحباب الوصية بما دون الثلث
وإن أجاز بعضهم دون بعض نفذت في حصة المجيز فقط، وبطلت في حصة غيره. أما إذا لم يكن للموصي وارث، فإن الوصية بأكثر من الثلث تكون عند الحنفية صحيحة نافذة، ولو كان الموصى به جميع المال؛ لأن المانع من نفاذ الوصية في الزائد عن الثلث إنما هو تعلق حق الورثة بتلك الزيادة، فلا تنفذ إلابرضاهم. فإذا لم يكن هناك ورثة لم يبق حق لأحد. وقال المالكية والشافعية: إذا أوصى بما زاد عن الثلث، فإن لم يكن له وارث، بطلت الوصية فيما زاد على الثلث؛ لأن ماله ميراث للمسلمين، ولا مجيز له منهم، فبطلت. وإن كان له وارث، كانت الوصية عند الشافعية والحنابلة (¬1) والحنفية موقوفة على إجازته ورده، فإن ردها رجعت الوصية إلى الثلث، وإن أجازها صحت، وتكون الوصية بالزائد عن الثلث باطلة عند المالكية. استحباب الوصية بما دون الثلث: الأولى ألا يستوعب الإنسان الثلث بالوصية، ويستحب أن يوصي بدون الثلث، سواء أكان الورثة أغنياء أم فقراء (¬2)؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «الثلث والثلث كثير» ولأن في التنقيص صلة القريب بترك ماله عليهم، بخلاف استكمال الثلث؛ لأنه استيفاء تمام حقه، فلا صلح ولا مِنَّة، وترك الوصية عند فقر الورثة وعدم استغنائهم بحصصهم أحبّ، كما بان في حكم الوصية شرعاً. ¬
المبحث الثالث ـ أحكام الوصية
المبحث الثالث ـ أحكام الوصية: للحكم إطلاقات ثلاثة: يطلق الحكم، ويراد به إما الحكم التكليفي المتعلق بالفعل وجوباً وإباحة وغيرهما، أو حكم الشرع على الشيء بعد وجوده، أي الصفة الشرعية له صحة وبطلاناً، ونفاذاً ولزوماً وغيره، أو الأثر الشرعي المترتب على الشيء من حيث نقل الملكية وغيره. وقد بحثت حكم الوصية بالمعنى الأول، وأبحث هنا أحكامها بالمعنيين الأخيرين. المطلب الأول ـ صفة الوصية شرعاً والرجوع عنها: تكون الوصية صحيحة إذا استوفت شروط صحتها، وباطلة إذا تخلف منها شرط، كالوصية من عديم الأهلية مثل المجنون والمعتوه، والوصية لجهة معصية، والوصية بخمر أو خنزير لمسلم، وتكون نافذة إذا توافر فيها شروط النفاذ، وموقوفة على إجازة صاحب الحق، كالوصية لوارث أو بزائد عن الثلث لأجنبي. واتفق الفقهاء (¬1) على أن الوصية عقد غير لازم، وأنه يجوز للموصي في حال حياته الرجوع عنها كلها أو بعضها، سواء وقع منه الإيصاء في حال صحته أو مرضه؛ لقول عمر رضي الله عنه: «يغير الرجل ما شاء في وصيته» (¬2) ولأنها عطية أو تبرع لم يتم، ينجز بالموت، فجاز الرجوع عنها قبل تنجيزها، ولأن القبول يتوقف على الموت، والإيجاب يصح إبطاله قبل القبول كما في البيع. ¬
واتفقوا أيضاً على أن الرجوع عن الوصية يكون إما بالقول الصريح، أو بالدلالة أو ما يجري مجرى الصريح قولاً أو فعلاً. ومن أمثلة الرجوع الصريح: أن يقول الموصي: نقضت الوصية أو أبطلتها أو رجعت فيه، أو فسختها أو أزلتها، ونحوها من الصرائح. ومن أمثلة مايجري مجرى الصريح أن يقول: هو حرام على الموصى له، أو هذا لوارثي. أو يقوم بتصرف في الموصى به يدل على رجوعه كالبيع والإصداق، والهبةوالرهن مع قبض أم لا، واستهلاك الشيء كذبح الشاة الموصى بها أو كلها، وخلط الموصى به بغيره خلطاً يعسر تمييزه، وطحن حنطة وعجن دقيق وغزل قطن ونسج غزل، وقطع ثوب قميصاً، وصوغ معدن من ذهب أو فضة، وبناء وغراس في ساحة .. إلا أن المالكية لا يعتبرون الفعل أو التصرف رجوعاً إلا إذا ذهب بجوهر الموصى به وحقيقته أو كان استهلاكاً له، أو دل دليل على أن الموصي قصد به الرجوع عن الوصية، فهم يوافقون الجمهور في الرجوع بصريح القول، وبالفعل الاستهلاكي من أكل وذبح وإحراق، ولكنهم لا يعتبرون رجوعاً: خلط الشيء بغيره خلطاً يعسر تمييزه، وزيادة الموصى به زيادة متصلة، وحصد الزرع الموصى به ودرسه بدون تذرية على المعتمد؛ لأنه لم يزل عنه اسم الزرع. فالخلط المذكور وزيادة الموصى به لا تعد رجوعاً عند المالكية خلافاً لغيرهم. ويعتبر عند الحنفية رجوعاً في الأصح المفتى به كما في الذخيرة والمبسوط وهو قول أبي يوسف: جحود الوصية أي إنكارها بأن قال الموصي: لم أوص؛ لأن
الرجوع عن الوصية في القانون
إنكاره الوصية دليل على عدم رضاه عنها، وهو ينبئ عن قصده الرجوع فيها. ولا يعد الجحود عند محمد (¬1) والشافعية والحنابلة رجوعاً عن الوصية؛ لأنها عقد، فلا تبطل بالجحود كسائر العقود. ويعد التوكيل في البيع والعرض على البيع أو الرهن أو الهبة، وبناء وغرس الأرض الموصى بها وانهدام الدار كلها أو بعضها رجوعاً عند الشافعية والحنابلة، ولا يعد رجوعاً عندهم زرع الأرض بما لا تبقى أصوله كلبس الثوب، كما لا يعتبر رجوعاً بالاتفاق خلط الموصى به بحيث لا يعسر تمييزه عن بعضه كخلط الحنطة بالفاصولياء، ولبس الثوب الموصى به وغسله، والسكنى في المكان الموصى به، وإجارته أو إعارته، وتحسينه كالتجصيص وإعادة بناء السقف. الرجوع عن الوصية في القانون: فرق القانون بين الوصية الاختيارية والوصية الواجبة، فاعتبر الوصية الواجبة لازمة بمجرد إنشائها، بل ولو لم ينشئها، أما الوصية الاختيارية فلا تلزم إلا بموت الموصي. ونص قانون الوصية المصري (م 18، 19) وقانون الأحوال الشخصية السوري (فقرة د/م220، و/م221، 222) على مبدأ الرجوع عن الوصية وحالاته. وافق هذا القانون اتفاق الفقهاء على جواز الرجوع عن الوصية صراحة أو دلالة، كما وافق اتفاقهم على حالات الرجوع الصريح، وعلى ما يعتبر رجوعاً عن الوصية من كل فعل أو تصرف يدل بقرينة أو عرف على الرجوع عنها، ما لم ¬
المطلب الثاني ـ الأثر المترتب على الوصية
يصرح بأنه لم يقصد الرجوع. ويعد من الرجوع دلالة: كل تصرف يزيل ملك الموصي عن الموصى به، واستهلاك الموصى به كأكل أو ذبح. وأخذ القانون بالمذهب المالكي في عدم اعتبار خلط الشيء بغيره خلطاً يعسر تمييزه، وزيادة الموصى به زيادة لا يمكن تسليمه إلا بها كزيادة غرفة أو حمام أو مطبخ إلا بدلالة قرينة أو عرف على الرجوع، وأخذ برأي الجمهور (غير الحنفية) بعدم اعتبار الجحود (أي إنكار الوصية) رجوعاً. وليس من الرجوع قانوناً الفعل الذي يزيل اسم الموصى به أو يغير معظم صفاته إلا إذا دلت قرينة أو عرف على أن الموصي يقصد به الرجوع عن الوصية. المطلب الثاني ـ الأثر المترتب على الوصية: عرفنا في بحث صيغة الوصية أنه يترتب على الوصية ثبوت الملك للموصى له في الموصى به، من الوقت الذي حدده الموصي لابتداء الملكية إن حدد ميعاداً، أما إن لم يحدد ميعاداً: فإن كانت الوصية لجهة عامة ترتب الأثر بالفعل من وقت وفاة الموصي. وإن كانت الوصية لشخص معين ترتب الأثر بالفعل عند الجمهور غير الحنابلة من وقت القبول بعد وفاة الموصي مستنداً إلى تاريخ الوفاة، ومن وقت القبول فقط عند الحنابلة كما تقدم. فإن لم يقبل الموصى له، لم يتملك الموصى به، وعاد إلى ملك الورثة. ونص القانون السوري (م/230) والمصري (م/25) على استحقاق الموصى به من حين الموت، ما لم يحدد نص الوصية ثبوت الاستحقاق في وقت معين. وتكون زوائد الموصى به حين الموت ملكاً للموصى له، وعلى الموصى له نفقة الموصى به منذ استحقاقه له.
المطلب الثالث ـ أحكام الموصي
المطلب الثالث ـ أحكام الموصي: بناء على ما ذكر في شروط الوصية، أفضل الكلام في حكم وصية المدين وغير المسلم. وصية المدين: تنشأ وصية المدين صحيحة، ولو كان الدين مستغرقاً لجميع ماله؛ لأن تعلق الدين بالتركة إنما يكون عند الوفاة، وعند الوفاة يظهر أثر الدين في الوصية (¬1). أـ فإن كانت التركة مدينة بدين مستغرق: كان تنفيذ الوصية موقوفاً على براءة ذمة الموصي من كل الدين أو من بعضه، سواء أكانت براءته بسبب إسقاط الدائنين لحقوقهم أم إجازتهم الوصية، أم بتبرع شخص آخر بأداء الدين عن المدين. وإذا برئت ذمة المدين من كل الدين، كانت الوصية نافذة في ثلث جميع التركة، وإذا برئت من بعض الدين دون البعض، كانت الوصية نافذة في ثلث ما أبرئ منه، وغير نافذة في الباقي. ب ـ وإن كانت التركة مدينة بدين غير مستغرق: فإن الوصية تكون نافذة بدون توقف على إجازة أحد في الثلث الخالي من الدين؛ لأنه لم يتعلق به حق لأحد. ووافق القانون المصري (م 38، 39) والسوري (م 3/ 238، 4) على هذه الأحكام المأخوذة من الفقه الحنفي وغيره، فلا تنفذ وصية المدين المستغرق ماله بالدين إلا بإجازة الدائن كامل الأهلية أوبسقوط الدين. وتنفذ وصية من لا دين عليه ولا وارث له، بكل ماله من غير توقف على إجازة أحد. ¬
وصية غير المسلم
وصية غير المسلم: تصح الوصية من المسلم وغيره؛ لأنها نوع من البر، وهو مرغوب فيه في كل الأديان. وتجوز كما تقدم وصية المسلم للكافر، والكافر للمسلم، فليس الإسلام شرطاً لصحة الوصية، فتصح وصية الذمي بمال للمسلم وللذمي، وبالعكس (¬1)، للمبدأ الشرعي المعروف: «فإذا قبلوا عقد الذمة، فأعلمهم أن لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين» (¬2). ونص القانون السوري (م1/ 215) والمصري (م2/ 3) على أنه تصح الوصية للأشخاص مع اختلاف الدين والملة بينهم وبين الموصي. وغير المسلم يشمل الذمي والحربي والمرتد. 1 - وصية الذمي (¬3): اتفق الفقهاء على جواز وصيته: لأنه من أهل التمليك، ويملك التصرف بماله كما يشاء بالبيع والهبة والوصية ونحوها. وتكون وصيته كالمسلم جائزة نافذة في حدود ثلث التركة، ولا تنفذ في الزائد عن الثلث، مراعاة لحق الورثة. وله أن يوصي لذمي مثله، أو مستأمن، أو مسلم، وليس له عند الحنفية أن يوصي لحربي في دار الحرب، لما في الوصية من إعانة وتقوية للأعداء. ¬
2 - وصية الحربي
وتصح وصيته عند الحنفية لكل جهة هي قربة في اعتقاده، إلا إذا كانت محرَّمة في شريعته وشريعة الإسلام، أو كانت قربة في شريعة الإسلام دون شريعته. والذي هو قربة في الشريعتين: الوصية للفقراء وعمارة بيت المقدس وبناء مسجد لمسلمين معينين. وما هو قربة في شريعته دون شريعة المسلمين: الوصية ببناء كنيسة، أوبإطعام خنزير لفقراء ملته. وما هو قربة في شريعة المسلمين دون شريعته: الوصية ببناء مسجد لمسلمين غير معينين. وما هو محرم في الشريعتين: الوصية باتخاذ أندية للقمار أو المراقص. وتصح الوصية عند أبي حنيفة في الحالتين الأوليين؛ لأن المعتبر ما هو قربة عنده لا ما هو قربة حقيقة؛ لأنهم ليسوا من أهل القربة الحقيقية، ولا تصح في الحالتين الأخريين. وأخذ القانون المصري والسوري بهذه الأحكام ما عدا الوصية بما هو قربة في شريعة المسلمين، كبناء مسجد لمسلمين غير معينين، فقد جوزها القانون أخذاً بمذهب الشافعية. 2 - وصية الحربي (¬1): تصح الوصية للحربي ومن الحربي مستأمناً كان أو في دار الحرب عند ¬
3 - وصية المرتد
الشافعية والحنابلة، ولا تصح له حال كونه في دار الحرب وتصح له إذا كان مستأمناً عند الحنفية، ولا تصح له مطلقاً عند المالكية. وأجاز القانون أخذاً برأي الشافعية والحنابلة الوصية للحربي، إذا كانت دولته تبيح الوصية للموصي، عملاً بمبدأ المعاملة بالمثل. ويصح من وصاياه ما تجيزه قوانين بلاده، ويبطل ما لا تجيزه. أما المستأمن: فحكمه عند الحنفية حكم الذمي، فتصح الوصية له، ومنه لمسلم أو ذمي. فإن كان ورثته معه في دار الإسلام، فلا تنفذ وصيته بأكثر من الثلث إلا بإجازتهم في الزائد. وإن كان ورثته في دار الحرب فتنفذ وصيته في المال كله، إذ لا حق للورثة في ماله بسبب اختلاف الدارين، واختلاف الدارين يمنع التوارث. أما القانون: فأجاز التوارث مع اختلاف الدارين بشرط المعاملة بالمثل، فيجوز إن أجازت دولته التوارث، ولا يجوز إن منعت دولته التوارث. وعليه لا تنفذ وصاياه في الزائد على الثلث إلا بإجازة الورثة. 3 - وصية المرتد (¬1): تصح وصية المرتد في غير محرَّم شرعاً عند المالكية والشافعية والحنابلة؛ لأن وصية الكافر للمسلم صحيحة، والمرتد كافر. والمحرم شرعاً كانتفاع المسلم بالخمر والخنزير. لكنهم قالوا: تكون موقوفة؛ كبقية تصرفاته من معاوضات وتبرعات؛ لأنه مال تعلق به حق الغير، فإن عاد إلى الإسلام نفذت، وإن مات أو قتل لردته بطلت، تغليظاً عليه بقطع ثوابه، بخلاف وصية المريض. ¬
المطلب الرابع ـ أحكام الموصى له
وفرق الحنفية بين المرأة والرجل، فقالوا: تصح وصايا المرأة، وتكون نافذة، كما تصح جميع تصرفاتها؛ لأنها لا تقتل عندهم بسبب الردة. أما الرجل المرتد: فوصيته موقوفة، فإن عاد إلى الإسلام ومات عليه نفذت وصاياه كجميع تصرفاته، وإن مات على الردة بطلت وصاياه وتصرفاته جميعها. وأخذ القانون بمذهب الجمهور. المطلب الرابع ـ أحكام الموصى له: الموصى له إما أن يكون متحقق الوجود عند الوصية، أو مرجح الوجود عندها كالحمل، أو أن يكون معدوماً. والموجود إما شخص طبيعي أو جهة عامة. وأبحث هنا حكم الوصية للجهات العامة، وللحمل، وللمعدوم، ولجماعة محصورين أو غير محصورين. 1 - حكم الوصية للجهات العامة: اتفق الفقهاء (¬1) على صحة الوصية لجهة عامة كالمساجد ومدارس العلم والمشافي والمكتبات والملاجئ ونحوها، سواء أكان الموصى به عيناً كمكتبة، أم منفعة كأجرة دار أو محل تجاري، بنحو دائم أو مؤقت (¬2). ويصرف الموصى به بحسب شرط الموصي إذا لم يصادم مقاصد الشريعة، فإن لم يوجد شرط من الموصي يصرف على إصلاح وعمارة الجهة الموصى لها إنشاء ¬
وترميماً وخدمة من إمام ومؤذن في المسجد، وشؤون المتعلمين في دور العلم؛ لأن العرف يحمله على ذلك، ويصرفه القيِّم في أهم مصالح الجهة باجتهاده؛ لأن قصد المسلم من هذه الوصية التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، بإخراج ماله إلى الله تعالى، لا التمليك إلى أحد، ولا تصرف في الأصح لفقراء المسجد. وكذلك تصح الوصية لأعمال البر (¬1) مطلقاً من غير تحديد جهة معينة، وتصرف في أي جهة خيرية، كعمارة الوقف وسراج المسجد، دون تزيينه لأنه إسراف. وتصح الوصية في سبيل الله، وتصرف للجهاد ومتطلباته، ويجوز صرفها لحاج منقطع. ولو قال: أوصي بثلث مالي لله تعالى، صح عند محمد وهو المفتى به عند الحنفية، وتصرف لوجوه البر؛ لأنه وإن كان كل شيء لله تعالى، لكن المراد التصدق لوجهه تعالى، تصحيحاً لكلامه بقرينة الحال. ونص القانون المصري (م 7، 8) والقانون السوري (م 213، 214) على وفق المقرر لدى الفقهاء من الأحكام المذكورة: (م 213): 1 - الوصية لله تعالى ولأعمال البر بدون تعيين جهة: تصرف في وجوه الخير. 2 - الوصية لأماكن العبادة والمؤسسات الخيرية والعلمية وسائر المصالح العامة: تصرف على عمارتها ومصالحها وفقرائها وغير ذلك من شؤونها، ما لم يتعين المصرف بعرف أو قرينة. ¬
الوصية بالحج
(م 214) - تصح الوصية لجهة معينة من جهات البر ستوجد في المستقبل، فإن تعذر وجودها، صرفت الوصية إلى أقرب مجانس لتلك الجهة. الوصية بالحج: تصح الوصية بالحج اتفاقاً؛ لأنه من أعمال البر. قال الحنفية (¬1): إذا أوصى بحجة الإسلام، أحج عنه رجلاً راكباً من بلده إن كفته النفقة، وإلا فمن حيث تكفي؛ لأن المستطيع لا يلزم أن يحج ماشياً، فوجب عليه الإحجاج على الوجه الذي لزمه وهو من بلده، ولذا يعتبر فيه من المال ما يكفيه من بلده. ولو قال رجل: أنا أحج عنه ماشياً لا يجزي المحجوج عنه. ولو كان في المال المدفوع وفاء بنفقات الركوب، فمشى النائب، واستبقى النفقة لنفسه، فهو مخالف ضامن للنفقة؛ لأنه لم يحصل ثوابها له. وإن مات حاج في طريقه، وأوصى بالحج عنه، يُحَج من بلده راكباً، وهو المعتمد، ومن حيث مات استحساناً إن كفته نفقته، وإلا فمن حيث تكفي. ومن لا وطن له يحج عنه من حيث مات إجماعاً. وتصح الوصية بحج التطوع: ومن قال: أحجوا عني بثلث مالي أو بألف، وهو يكفي حججاً، فإن صرح بحجة واحدة اتبع التصريح، ورد الفضل الزائد إلى الورثة، وإن لم يصرح، حج عنه حججاً بأشخاص في سنة واحدة، وهو الأفضل، أو في كل سنة. وآخر القولين لأبي حنيفة: أن حج النفل أفضل من الصدقة. وقال الشافعية (¬2): حجة الإسلام وإن لم يوص بها، تحسب على المشهور من ¬
قال الحنابلة
رأس المال، كسائر الديون وأولى، فإن أوصى بها من رأس المال، أو من الثلث، عمل به، ويكمل الواجب من رأس المال، كما لو قال: اقضوا ديني من الثلث، فلم يف الثلث به. وإن أطلق الوصية بحجة الإسلام، بأن لم يقيدها برأس مال ولا ثلث، فمن رأس المال. ويحج عنه من الميقات المخصص لبلده؛ لأنه لو كان حياً، لم يلزمه سواه، ولا يخرج من مال المحجوج عنه إلا ما كان مستحقاً عليه. فإن أوصى أن يحج عنه من دويرة أهله امتُثل. وإن أوصى بالحج من الثلث، وعجز عنه، فمن حيث أمكن. وللأجنبي أن يحج عن الميت بغير إذنه في الأصح، سواء حجة الإسلام وعمرته، أو حجة النذر وعمرته، من مال نفسه، وإن لم تجب على الميت حجة الإسلام وعمرته قبل موته لعدم استطاعته. وتصح الوصية في الأظهر بحج تطوع أو عمرة تطوع، لجواز النيابة فيه؛ لأنها عبادة تدخلها النيابة في فرضها، فتدخل النيابة في نفلها، كأداة الزكاة. ويُحَج عن الميت من بلده أو الميقات، إن وسعه الثلث، وإلا فمن حيث أمكن، وإن لم يقيد الموصي بل أطلق الوصية بالحج عنه، يحج عنه من الميقات في الأصح، حملاً على أقل الدرجات. وقال الحنابلة (¬1): تخرج حجة الفريضة من رأس المال، ولو لم يوص بها، كما قال الشافعية، وإن أوصى من لا حج عليه أن يحج عنه تطوعاً بألف، صرف من الثلث مؤنة حجة بعد أخرى لمن يحج عنه راكباً أو راجلاً، يدفع الوصي لكل واحد قدر ما يحج به من النفقة حتى نهاية الألف؛ لأن الميت وصى بجميعه في جهة قربة، فوجب صرفه فيها، كما لو وصى به في سبيل الله. ولا يجوز أن يدفع ¬
إلى واحد أكثر من نفقة المثل؛ لأنه أطلق التصرف في المعاوضة، فاقتضى عوض المثل، كالتعويض في البيع والشراء. فلو لم تكف الألف للحج، حج به من حيث يبلغ؛ لأن الموصي قد عين صرفه ذلك في الحج، فصرف فيه بقدر الإمكان. ولا يصح للوصي أن يحج بالألف؛ لأنه منفِّذ، كالتوكيل في التصدق، لا يصح للمأمور أن يأخذ منه شيئاً. ولا يصح أيضاً للوارث أن يحج بالألف؛ لأن ظاهر كلام الموصي جعله لغيره. فإن عين الموصي أن يحج عنه الوارث بالنفقة، جاز. ويجزئ الحج عن الموصي في هذه الحالة من الميقات عملاً بأدنى الحالات، والأصل عدم وجوب الزائد. وإن قال: حجوا عني بألف، ولم يقل: واحدة، لم يحج عنه إلا حجة واحدة، وما فضل للورثة. وإن قال: حجوا عني بألف، دفع الألف إلى من يحج عنه حجة واحدة عملاً بمقتضى وصيته، وتنفيذاً لها. فإن عين الموصي أحداً في الوصية، فقال: يحج عني فلان حجة بألف، فهو وصية له، فإن حج أعطي الألف قبل التوجه، وإن أبى الحج بطلت في حقه، ويحج عنه بأقل ما يمكن من النفقة، والبقية للورثة في فرض ونفل. ولا يعطى المال إلا أيام الحج احتياطاً للمال، ولأنه معونة في الحج، فليس مأذوناً فيه قبل وقته. وللنائب الموصى به تأخير الحج لعذر كمرض ونحوه.
2 - الوصية للحمل
ولو قال الشخص: حجوا عني حجاً، ولم يذكر قدراً من المال، دفع إلى من يحج قدر نفقة المثل فقط؛ لأن الإطلاق لا يقتضي الزيادة عليه. ولو وصى بثلاث حجج إلى ثلاثة، صح صرفها في عام واحد. فإن تلف المال في الطريق بيد النائب، فهو من مال الموصي غير مضمون على النائب؛ لأنه مؤتمن كالوديع، وليس على النائب في حال تلف المال إتمام الحج. والوصية بالصدقة بمال أفضل من الوصية بحج التطوع، بعكس الحنفية؛ لأن صدقة التطوع أفضل من الحجة. 2 - الوصية للحمل: بينت في بحث الشروط أن الوصية تصح بالحمل وللحمل إذا تحقق وجوده وقت الوصية (¬1)، فالوصية بالحمل: كما إذا أوصى ـ في الماضي ـ بما في بطن جاريته، ولم يكن منه، لكن بشرط أن يعلم أنه موجود في البطن وقت الوصية، بأن جاءت به لأقل من ستة أشهر من وقت الوصية. ومثاله اليوم: الوصية بما في بطن الفرس أو الشاة أو الناقة. والوصية للحمل: مثل أن يقول: أوصيت بثلث مالي لما في بطن فلانة، بشرط علمه بوجوده وقت الوصية على النحو السابق. اتفق الفقهاء على صحة الوصية للحمل بعين أو بمنفعة؛ لأن الوصية كالميراث ينتقل الملك فيها بالخلَفية، والحمل يرث، فيصح أن يوصي له. ¬
ويشترط في صحة الوصية للحمل عند الجمهور غير المالكية ما يأتي: 1ً - أن يثبت وجوده في بطن أمه عند إنشاء الوصية: فإن لم يثبت وجوده، كانت الوصية باطلة. ولم يشترط المالكية هذا الشرط؛ لأنه تصح الوصية عندهم لمن سيكون من حمل موجود أو سيوجد. والتحقق من وجود الحمل وقت إنشاء الوصية يكون عند الحنفية بما يأتي: أـ إذا أقر الموصي بوجود الحمل وقت الوصية، وجاءت به أمه لأقل من سنتين من وقت الوصية، سواء أكانت زوجة أم معتدة من طلاق أو وفاة. ب ـ فإذا لم يوجد إقرار بالحمل: اشترط أن يولد حياً لأقل من ستة أشهر من تاريخ الوصية إذا كانت الأم زوجة أو معتدة من طلاق رجعي، أي بأن كان زوجها حياً؛ لأن هذه المدة أقل مدة الحمل شرعاً، فإن جاءت به لستة أشهر فأكثر، فلا تصح الوصية. وإن كان زوجها ميتاً اشترط أن يولد حياً لأقل من سنتين من يوم الوفاة، أو الفرقة إذا كانت معتدة من وفاة أو فرقة بائنة، بدليل ثبوت نسبه، أي إذا جاءت به في تلك المدة ثبت نسبه من أبيه. أما الشافعية والحنابلة: فوافقوا الحنفية في الحالة الأولى، فصححوا الوصية للحمل وبالحمل إذا أتت به أمه لأقل من ستة أشهر منذ التكلم بالوصية، إذا كانت ذات زوج. وخالفوا الحنفية في الحالة الثانية فيما إذا لم تكن الأم ذات زوج، فصححوا الوصية للحمل إذا انفصل حياً لأربع سنين من تاريخ الوصية، فإذا ولد لأكثر من أربع سنين من حين الفرقة، وأكثر من ستة أشهر من حين الوصية، لم تصح الوصية له، لاحتمال حدوثه بعد الوصية.
تعدد الحمل
والحاصل أنه يحكم بوجود الحمل باتفاق المذاهب الثلاثة إذا ولد لستة أشهر من تاريخ الوصية، ويحكم بوجوده عند الحنفية لسنتين من حين الفرقة، وفي المذهبين الآخرين لأربع سنين من تاريخ الفرقة. 2ً - أن يولد حياً حياة مستقرة بظهور علامات الحياة من بكاء وصراخ وشهيق ونحوها من الخبرة الطبية باتفاق المالكية والشافعية والحنابلة، وهوما أخذ به القانون المصري (م 35) والسوري (م 236) وعند الحنفية أن يولد أكثره حياً. وتوقف غلة الموصى به منذ وفاة الموصي إلى أن ينفصل الحمل حياً، فتكون له (¬1). 3ً - أن يوجد على الصفة التي عينها الموصي: فإذا كانت الوصية لحمل من شخص معين، اشترط لصحة الوصية أن يثبت نسب الحمل شرعاً من الشخص المعين. وهو مذهب الشافعية الذي أخذ به القانون. تعدد الحَمْل: إذا ولدت المرأة أكثر من ولد في وقت واحد، أو في وقتين بينهما أقل من ستة أشهر، كانت الوصية لهم جميعاً إذا ولدوا أحياء، ويقسم الموصى به بينهم بالتساوي. وإن ولد أحدهما حياً والآخر ميتاً، كانت الوصية للحي دون الميت. وإن مات أحدهما بعد ولادته حياً، كان نصيبه لورثته إذا كان الموصى به عيناً كدار، لأنه ملكها ملكاً تاماً، وإن كان منفعة عادت إلى ورثة الموصي؛ لأن الوصية بالمنافع تنتهي بالموت، مالم يوجد شرط آخر، فيعمل به (¬2). أما القانون (المصري م 35، والسوري م 236) فإنه عدل عن المقرر فقهاً في كيفية التحقق من الحمل: ¬
3 - الوصية للمعدوم
ففي حالة إقرار الموصي بوجود الحمل: أن يولد لسنة شمسية (365 يوماً) فأقل من تاريخ الإيصاء، عملاً برأي محمد بن عبد الحكم المالكي، فإنه جعل أقصى مدة الحمل سنة قمرية، وبما قرره الأطباء من أن الحمل لا يمكث أكثر من سنة شمسية. وإذا لم يوجد إقرار بالحمل: اشترط أن يولد حياً لـ (270) يوماً في القانون المصري، ولتسعة أشهر فأقل في القانون السوري من حين الوصية، إذا كانت الحامل زوجة أو معتدة من طلاق رجعي. وهذا أخذ بالغالب في مدة الحمل شرعاً. واشترط أن يولد حياً لسنة شمسية (365 يوماً) فأقل من حين وجوب العدة، إذا كانت المرأة معتدة لوفاة أو فرقة بائنة. 3 - الوصية للمعدوم: يرى الجمهور (¬1) غير المالكية أن الوصية للمعدوم: (وهو من لم يكن موجوداً حين الوصية، وسيوجد بعد وفاة الموصي) باطلة؛ لأن من شرائط الموصى له كونه موجوداً وقت الوصية إذا كان معيناً بالاسم أو بالإشارة مثل: أوصيت لخالد، أو لهذا، فلا تصح الوصية لمن سيكون أو لميت؛ لأن الوصية تمليك، فلا تصح للمعدوم، بخلاف الموصى به؛ فإنه يملك فلم يعتبر وجوده؛ ولأن الوصية كالميراث، ولا يرث المتوفى إلا من كان موجوداً، فكذلك الوصية. فإن كان الموصى له معرَّفاً بالوصف كطلبة العلم، اشترط وجوده وقت وفاة الموصي. ¬
أحكام الوصية للمعدوم في القانون
أما المالكية (¬1): فأجازوا الوصية للمعدوم وهو أن يوصى لميت علم الموصي بموته حين الوصية، وتصرف في وفاء ديونه ووصاياه، ثم لوارثه إن لم يكن عليه دين، فإن لم يكن وارث بطلت الوصية، ولاتعطى لبيت المال. وأخذ القانون المصري والسوري (¬2) بهذا الرأي، تعميماً للانتفاع بالوصية وتحقيقاً لرغبات الموصين في إيصال الخير وبر الناس. أحكام الوصية للمعدوم في القانون: تصح الوصية قانوناً للمعدوم، كقوله: أوصيت لمن سيولد لخالد، ولما يشمل الموجود والمعدوم كقوله: أوصيت لأولاد خالد، أي الموجود منهم أو من سيوجد. وتكون الوصية للمعدوم إما بالأعيان أو بالمنافع، ولكلٍ أحكام في تنفيذ الوصية. 1 ًً) ـ الوصية بالأعيان للمعدوم ممن يحصون: إذا كانت الوصية بالأعيان كدار أو أرض لقوم يحصون: وهم مئة فأقل، كانت غلة الموصى به ملكاً لمن وجد من الموصى لهم عند وفاة الموصي، إلى أن يوجد غيرهم، فإذا وجد غيرهم شاركهم فيما سيكون من غلة تلك العين. ومتى صارت الرقبة والغلة ملكاً للموصى لهم، فإنها تقسم على الأحياء منهم والأموات، ويكون نصيب من مات منهم لورثته من بعده، يقسم بينهم قسمة الميراث (¬3). ¬
ـ الوصية بالمنفعة للمعدوم ممن يحصون
وإن لم يوجد أحد من المستحقين عند وفاة الموصي، تكون غلة الموصى به لورثة الموصي. وعند اليأس من وجود أحد من المستحقين ـ كأن يموت خالد الموصى لأولاده دون أن يترك ولداً ـ تكون العين الموصى بها ملكاً لورثة الموصي (¬1). 2 ً) ـ الوصية بالمنفعة للمعدوم ممن يحصون: أما إن كانت الوصية بالمنفعة لهؤلاء، فإن ملكية الرقبة تكون لورثة الموصي في كل حال، وليس للموصى لهم سوى المنفعة. فإذا وجد واحد من الموصى لهم عند وفاة الموصي أو بعده استحق جميع الغلة، وإن وجد آخر اشترك معه فيما سيكون من الغلة، وهكذا حكم من سيوجد. وإن لم يوجد أحد من الموصى لهم تكون الغلة ملكاً لورثة الموصي (¬2). وإذا انقرض بعض الموصى لهم وبقي البعض الآخر، تكون الغلة لمن بقي منهم، ما لم يكن في الوصية ما يفيد غير ذلك، كأن يصرح الموصي بعودة نصيب الميت إلى ورثة الموصي (¬3). 3 ً) ـ الوصية بالمنفعة للطبقات: أجاز القانون المصري (م 29) الوصية بالمنفعة للطبقتين الأوليين فقط من ذرية الموصى له، وتبطل فيما زاد عليهما. واعتمد القانون في حالة الجواز على مذهب ¬
4 - الوصية لجماعة محصورين
المالكية، وفي حالة البطلان على رأي ابن أبي ليلى الذي يمنع الوصية بالمنافع مطلقاً. وحصر القانون السوري (م 1/ 232) الوصية للذرية لطبقة واحدة، كيلا تنقلب الوصية إلى وقف ذُرِّي (أهلي) وهذا ملغى قانوناً، فإذا انقرضت الطبقة الأولى من أولاد فلان الموصى لذريته، عادت العين تركة للموصي، إلا إذا كان قد أوصى بها أو ببعضها لغيرهم (¬1). والسبب في نفرة القانون من استمرار الوصية للطبقات: هو ضعف الأنصبة عند تكاثر الذرية، وهذا يؤدي إلى الإهمال والنزاع بين المستحقين وخراب الأعيان الموصى بمنفعتها. ونص القانون المصري في المادة نفسها على أنه إذا كانت الوصية مرتبة الطبقات، كالوصية لأولاد عامر، ثم من بعدهم لأولادهم، فتصرف الغلة لأهل الطبقة الأولى بحسب نص الموصي، وإلا فعلى عدد الرؤوس. وعند انقراضها تصرف للطبقة الثانية. وإذا كانت الوصية غير مرتبة الطبقات، فإن الغلة توزع على من يوجد من الطبقتين على حسب نص الموصي، فإن لم يوجد نص، فعلى عدد الرؤوس، فإن انقرضوا جميعاً، عادت المنفعة إلى ورثة الموصي. 4 - الوصية لجماعة محصورين: اتفق الفقهاء على صحة الوصية لقوم محصورين: إما بالاسم، مثل أحمد وخالد وعلي، أو بالإشارة كالوصية لهؤلاء، أو بالوصف مثل طلاب العلم من أولاد فلان، أو المرضى من عائلته، أو بالجنس كبني فلان وهم يحصون. ¬
أولاً ـ فإن كانت الوصية لمعينين بأسمائهم، قسمت عليهم بحسب نص الموصي، فإن لم يوجد نص، قسمت على عدد الرؤوس بالتساوي (¬1). ومن مات منهم بعد الاستحقاق، كان نصيبه لورثته إن كان الموصى به عيناً، ولباقي الموصى لهم إن كان الموصى به منفعة؛ لأن المنافع عند الحنفية لا تورث. وإذا بطلت الوصية لبعض المعينين بموته مثلاً: فالمقرر لدى الحنفية أن من دخل في الوصية ثم خرج منها لفقدان شرط أو لزوال أهلية، رجع نصيبه إلى ورثة الموصي. وإن كان لم يدخل في الوصية أصلاً قسم نصيبه على من بقي من الموصى لهم. ويتحدد وقت الدخول في الوصية عند إنشاء الوصية إن كان الموصى له معيناً بالاسم أو الإشارة، ووقت وفاة الموصي إن كان معرفاً بالوصف أو بالجنس. لكن القانون المصري (م 33) أخذ بمذهب الشافعية في حال بطلان الوصية، فقضى في الوصية لمعينين: أن يعود إلى تركة الموصي ما أوصى به لمن كان غير أهل للوصية حين وفاة الموصي، سواء أكان قد صح الإيجاب له ثم مات قبل الموصي، أم لم يصح الإيجاب له من أول الأمر. ثانياً ـ وإن كانت الوصية لمحصورين معروفين بالوصف أو الجنس: فيقسم الموصي به لهم على حسب نص الموصي، وإلا فعلى عدد الرؤوس، كما في الحالة الأولى. ¬
كيفية توزيع الوصية المشتركة
وإن مات واحد منهم بعد استحقاق الوصية، كان الموصى به تركة لورثته إن كان عيناً. فإن كان منفعة كان نصيبه عند الحنفية لباقي الموصى لهم؛ لأن المنافع لا تورث عندهم، كما ذكر في الحالة الأولى. وإذا بطلت الوصية لبعض الموصى لهم كموته موت الموصي، أو رده الوصية بعد موته، وزع الموصى به على الباقين، وهذا هو المقرر في القانونين المصري (م31) والسوري (م 234). كيفية توزيع الوصية المشتركة: الوصية المشتركة: هي أن يكون الموصى له مجموعاً مشتركاً من معين وجماعة محصورة، وجماعة غير محصورة، وجهة بر، كالوصية بثلث ماله لخالد، ولأولاده الأربعة، وللفقراء، وللمستشفى. نص القانون المصري (م 32) والسوري (م 235) على كيفية توزيع الثلث الموصى به، بأن تقسم الوصية في هذا المثال سبعة أسهم، ويعتبر لكل معين ولكل فرد من أفراد الجماعة المحصورين ولكل جماعة غير محصورة ولكل جهة برّ سهم، فيعطى لخالد سهم، ولكل ولد من أولاده، سهم، وللفقراء سهم، وللمستشفى سهم. وبه اعتبر لفظ «الفقراء» كشخص واحد، أخذاً برأي الإمامين أبي حنيفة وأبي يوسف (¬1). وقال الشافعية (¬2): لو أوصى لزيد والفقراء، فالمذهب أنه كأحدهم في جواز إعطائه أقل شيء متموَّل. ¬
5 - الوصية لجماعة غير محصورين
وقال الحنابلة (¬1): لو أوصى لزيد وللفقراء، قسم بين زيد والفقراء نصفين، نصف له ونصف للفقراء. هذا إذا كان أولاد خالد حين وفاة الموصي أربعة، فإن ولد له بعدئذ خامس، أخذ قانوناً بمبدأ الوصية لما يشمل الموجود والمعدوم (م 231 سوري) وهو المستمد من مذهب المالكية، فيوزع الموصى به ثمانية أسهم، وهكذا يزداد عدد الأصل الموزع منه، حتى اليأس من وجود أولاد آخرين، فيعطى لخالد سهم، ولكل ولد من أولاده سهم، وللفقراء سهم، وللمستشفى سهم. 5 - الوصية لجماعة غير محصورين: أذكر رأي المذاهب هنا ببيان كل مذهب على حدة: يرى الحنفية (¬2): أنه يشترط أن يكون الموصى له معلوماً، فتكون الوصية لمجهول باطلة؛ لأن الوصية تمليك عند الموت، فلا بد من أن يكون الموصى له معلوماً في ذلك الوقت حتى يقع الملك له، ويمكن تسليم الموصى به إليه. وبناء عليه: لا تصح الوصية مثلاً بثلث ماله للمسلمين؛ لأن المسلمين لا يحصون، إلا إذا كان في لفظ الوصية ما ينبئ عن حاجة الموصى لهم، كأن يوصي للفقراء والمساكين واليتامى والمحاربين ومشوهي الحرب؛ لأن الوصية حينئذ تكون صدقة وقربة إلى الله تعالى، والله سبحانه واحد معلوم، فيقع المال لله عز وجل، ثم يتملك الفقراء بتمليك الله تعالى لهم، وإن كانوا لا يحصون. ومن لا يحصى أو غير المحصورين في رأي محمد من الحنفية المفتى به ¬
رأى المالكية
والمعمول به في المحاكمة الشرعية: هم الأكثر من مائة، فإن كانوا مائة فأقل، فهم يحصون. ومصرف الوصية في غير المحصورين: هم أهل الحاجة منهم، ولا يلزم الصرف إلى جميعهم، ولا تعميم المحتاجين جميعاً، ولا التسوية بينهم في العطاء، بل تقسم بحسب اجتهاد منفذ الوصية. وإذا كانت الوصية لمن لا يحصون بالأموال، فإنها توزع على المحتاجين، وتثبت لهم ملكيتها بالقبض. وإن كانت بالمنافع تصير وقفاً، وتوزع غلتها على من اتصف بصفة الوصية. ورأى المالكية (¬1): أنه تصح الوصية لقوم غير معينين كالفقراء، ويدخل معهم المساكين (¬2) وبالعكس، عملاً بالعرف، أي أن الفقير والمسكين إذا افترقا اجتمعا في الحكم، وإذا اجتمعا افترقا، فهما لفظان غير مترادفين. وهذا أيضاً مذهب الأئمة الآخرين. وذهب الشافعية والحنابلة (¬3): إلى أنه تصح الوصية لغير معين: بأن أوصى لجهة عامة كالفقراء، أو لمعين غير محصور كالهاشمية والمطلبية. ويجوز عند الشافعية الاقتصار في التوزيع على ثلاثة منهم، ولا تجب التسوية بينهم، ويجوز عند الحنابلة الاقتصار على واحد. واتفق الكل على أن الوصية لغير معين، تلزم بدون حاجة إلى القبول. ¬
المقصود ببعض ألفاظ الموصى لهم في الوصية لقوم مخصوصين
والخلاصة: أن الحنفية أجازوا الوصية لقوم غير محصورين إذا كان في لفظ الوصية ما ينبئ عن حاجة الموصى لهم. والجمهور أجازوا ذلك مطلقاً. وقد عدل القانون المصري (م 30) والسوري (م 1/ 233) عن مذهب الحنفية في الوصية لمن لا يحصى، فأجازها، وإن لم يذكر في لفظ الوصية مايفيد الاحتياج؛ لأن معنى القربة موجود في الوصية على كل حال، سواء صرح الموصي بذلك أم لا. وأخذ بما اتفقوا عليه في نهاية المادة إذ نص على أنه: يترك أمر توزيعها بينهم لاجتهاد من له تنفيذ الوصية دون التقيد بالتعميم أو المساواة. المقصود ببعض ألفاظ الموصى لهم في الوصية لقوم مخصوصين: أورد الفقهاء بعض العبارات التي ترد في الوصايا وتتعلق بالموصى لهم، فما المراد بها عندهم (¬1). الجيران: من أوصى لجيرانه: فهم الملاصقون له عند أبي حنيفة؛ لأن الجوار عبارة عن القرب، وحقيقة ذلك في الملاصق، وما بعده بعيد بالنسبة إليه. وقال الصاحبان استحساناً: هم الملاصقون وغيرهم ممن يسكن محلة الموصي، ويجمعهم مسجد المحلة. وقول الإمام هو الصحيح عند الحنفية. وقال المالكية: تشمل الوصية جيرانه الملاصقين له من الجهات الست (الأربع والعلو والسفل) والجيران المقابلين له إذا كان بينهما شارع صغير. وقال الشافعية والحنابلة: هم أربعون داراً من كل جانب من جوانب الدار الأربعة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «الجار: أربعون داراً هكذا وهكذا وهكذا» (¬2). ¬
الأصهار والأختان
وتقسم الوصية على عدد الدور لا على عدد السكان. ولا يدخل في الوصية عند الحنابلة إلا من كان موجوداً عندها، فمن يتجدد من الجيران بين الوصية والموت لا يدخل فيها، وكذلك لا يستحق من يتجدد عن تنفيذ الوصية. وجيران المسجد عند الحنابلة وفي قول عند الشافعية: من يسمع النداء، لحديث «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» (¬1)، مع قوله صلّى الله عليه وسلم للأعمى لما سأله أن يرخص له في الصلاة في بيته: «هل تسمع النداء؟ قال: نعم، قال: فأجب» (¬2) والراجح عند الشافعية أن جيران المسجد كجيران الدار فيما لو أوصى لجيرانه. الأصهار والأختان: من أوصى لأصهاره: فالوصية في عرف المتقدمين لكل ذي رحم محرم من امرأته، كآبائها وأعمامها وأخوالها وأخواتها. وأما في عرفنا فيختص بأبويها. وجزم بعضهم بالأول، والمعول في تقديري على العرف. ومن أوصى لأختانه: فالختن: زوج كل ذات رحم محرم منه، كأزواج بناته وأخواته وعماته وخالاته. وكان المشهور في ديارنا الشامية: أن يختص الصهر بأبي الزوجة، والختن: بزوج البنت، أما اليوم فيطلق على زوج البنت، وهو مرادف لكلمة الختن. الأقارب والأرحام: من أوصى لأقربائه أو لأرحامه: فالوصية عند أبي حنيفة للأقرب فالأقرب من كل ذي رحم محرم منه سواء الكافر والمسلم والصغير والكبير، ولا يدخل فيهم الوالدان والولد؛ لأنهم لا يسمون أقارب، ومن سمى والده قريباً كان منه عقوقاً؛ لأن القريب من تقرب بوسيلة غيره، وتقرب الوالد ¬
والولد بنفسه لا بغيره. وتكون الوصية للاثنين فصاعداً؛ لأنه ذكر بلفظ الجمع، وأقل الجمع في الوصية اثنان، كما في الميراث. والخلاصة: يراد بالأقرب من توافرت فيه شروط أربعة: هي أن يكون المستحق مثنى (اثنين فأكثر)، وأن يكون المستحق أقرب إلى الموصي بحيث لا يوجد من يحجبه، وأن يكون ذا رحم محرم من الموصي، وألا يكون وارثاً من الموصي. وقال المالكية: يختص في الوصية للأهل والأرحام من الموصي أقارب أبيه غير الورثة، إن كان له ذلك، لشبه الوصية بالإرث من حيث تقدم العصبة على ذوي الأرحام. وإن لم يكن للموصي أقارب لأب غير ورثة، دخل في الوصية أقارب لأمه كأبيها وعمها لأبيها أو لأمها وأخيها وابن عمتها. ويقدم الأحوج فالأحوج منهم، فإن استووا في الحاجة سوي بينهم في الإعطاء. وإن قال: أوصيت لأقارب فلان، شمل الوارث منهم لفلان وغير الوارث. وقال الشافعية: إن وصى لأقارب زيد، دخل كل قرابة له، وإن بعد، عملاً بعموم اللفظ مسلماً كان أو كافراً، غنياً أو فقيراً، إلا الأصل (أي الأب والأم فقط) والفرع (أولاد الصلب فقط) فلا يدخلان في الأصح، ـ كما قال الحنفية ـ إذ لا يسمون أقارب عرفاً، أما الأجداد والأحفاد فيدخلون لشمول الاسم لهم. ولا تدخل قرابة أم في الوصية للأقارب في وصية العرب في الأصح، إذا كان الموصي عربياً، فإنهم لا يفتخرون بها ولا يعدّونها قرابة. والمعتمد أن هذه القرابة تدخل، كما قال الحنفية. والأصح تقديم ابن على أب، وأخٍ على جد؛ لأنه أقوى إرثاً وتعصيباً. ولا يرجح بذكورة ووراثة، بل يستوي الأب والأم والابن والبنت. ويقدم ابن البنت على ابن ابن الابن.
الأهل
ولو أوصى لأقارب نفسه، لم تدخل ورثته في الأصح، كما ذكر المالكية، لأن الوارث لا يوصى له غالباً عملاً بعرف الشرع، فيختص بالباقين. ومذهب الحنابلة كالشافعية إلا أنهم قالوا: لا يدخل في الوصية للقرابة أو أهل القرابة الكفار، فهي للمسلمين خاصة، ولا شيء للكفار، لقوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم، للذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء:11/ 4] فلم يدخل فيه الكفار إذا كان الميت مسلماً، وإذا لم يدخلوا في وصية الله تعالى مع عموم اللفظ، فكذلك في وصية المسلم، ولأن ظاهر حاله أنه لا يريد الكفار، لما بينه من عداوة الدين، وعدم الوصلة المانع من الميراث ووجوب النفقة على فقيرهم. الأهل: إذا أوصى لأهله، فأبو حنيفة يخص الأهل بالزوجة؛ لأن الأهل حقيقة في الزوجة، قال تعالى: {وسار بأهله} [القصص:29/ 28] {فقال لأهله: امكثوا} [طه:10/ 20] ويؤيده العرف. وقال الصاحبان: يشمل الأهل كل من في نفقته ما عدا خدمه؛ لأن اللغة تستعمل الأهل في أقارب الرجل وعشيرته، قال تعالى: {فأنجيناه وأهله إلا امرأته} [النمل:57/ 27]. والأولى الاعتماد على العرف. آل بيته: إذا أوصى بكذا لآل بيته، شمل قبيلته؛ لأن الآل هو القبيلة التي ينسب إليها، ويدخل فيها كل آبائه الذين لايرثون إلى أقصى أب له في الإسلام إلا الأب الأول ـ الأصل، فليس من أهل بيته. ولا يدخل فيها أولاد البنات وأولاد الأخوات وقرابة الأم؛ لأن الولد ينسب لأبيه، لا لأمه. أهل جنسه: إذا أوصى لأهل جنسه، شمل أهل بيت أبيه؛ لأن المراد بالجنس في مثله النسب، والنسب إلى الآباء.
العلويون
العلويون: إذا أوصى للعلويين وهم أولاد علي: فلا تصح الوصية عند الحنفية؛ لأن العلويين لا يمكن حصرهم، وليس فيه ما يشعر بالحاجة. وقال الشافعية: تصح الوصية وتنفذ بقسمة الموصى به على ثلاثة منهم فأكثر، كالوصية على الفقراء والمساكين. وهكذا تنفذ الوصية في كل جمع معين غير منحصر، تقسم بين ثلاثة منهم. وقال الحنابلة: يستحب تعميم من أمكن منهم. في سبيل الله: المشهور في الوصية في سبيل الله اختصاصها بالغزاة المجاهدين وحجاج بيت الله الحرام. العلماء: قال الشافعية: العلماء في الوصية لهم: أصحاب علوم الشرع من تفسير وحديث وفقه وأصول فقه ونحوهم، ولا يدخل في علماء الشرع: المقرئ والأديب والمعبر للرؤيا والطبيب والمهندس والحاسب ونحوهم، وكذا علماء الكلام عند الأكثرين؛ لأن أهل العرف لا يعدونهم منهم. ويكفي عند الشافعية لتنفيذ الوصية أن تصرف لثلاثة من أهل كل علم. وقال الحنابلة: إذا أوصى لأهل العلم شملت الوصية من اتصف به، وأهل القرآن: حفظته. مراحل الإنسان: يراد بالمراهق: هو الطفل الذي قارب البلوغ، جاء في القاموس، راهق الغلام: قارب الحلم. ويراد بالطفل: من لم يميز. والصبي والغلام واليافع: من لم يبلغ. وكذا اليتيم، فمن أوصى لأيتام بني فلان بكذا، دخل في الوصية اليتيم الذي مات أبوه قبل بلوغ الحلم، سواء أكان غنياً أم فقيراً ذكراً أم أنثى، بشرط أن يحصى عددهم عند الحنفية.
المطلب الخامس ـ أحكام الموصى به
والشاب والفتى: من البلوغ إلى الثلاثين. والكهل: من الثلاثين إلى الخمسين. والشيخ: من الخمسين إلى السبعين. ثم الهرم إلى آخر العمر. المطلب الخامس ـ أحكام الموصى به: عرفنا في شروط الموصى به: أنه يشترط أن يكون مالاً أو متعلقاً بالمال؛ لأن الوصية إيجاب الملك أو إيجاب ما يتعلق بالملك من البيع والهبة والصدقة. ويخصص البحث هنا لبيان حكم الوصية بمعين أو بجزء شائع، الوصية بالمعدوم أو معجوز التسليم، الوصية بالمجهول، الوصية بالمنافع، الوصية بالتصرف في عين، الوصية بالحقوق، الوصية بتقسيم التركة، الوصية بالمرتبات، الزيادة في الموصى به. 1 - الوصية بمعين أو بجزء شائع وحكم هلاك الموصى به: تجوز الوصية بالمشاع وبالمقسوم المعين؛ لأنها تمليك جزء من ماله، فجاز في المشاع والمقسوم كالبيع (¬1). والمعين إما عين بذاتها أو نوع من المال. وورد في القانون المصري (م 47 - 49) والقانون السوري (م 243 - 245) بيان أحكام الوصية بمعين أو بمشاع، وماذا يترتب على هلاك الموصى به أو استحقاقه، أخذاً من مذهب الحنفية في الغالب (¬2). أـ فإذا كانت الوصية بعين بذاتها: كأن يوصي بداره في بلد كذا، تعلقت ¬
الوصية بهذه العين، فإذا هلكت أو استحقت أو خرجت عن ملك الموصي في حياته، بطلت الوصية، لفوات محلها. وإن مات الموصي وهي في ملكه، كانت جميعها للموصى له، إن خرجت من ثلث المال، فإن لم تخرج من الثلث كان له منها مايخرج من الثلث. وإن تعلق بها حق خاص ـ كحق المرتهن ـ واستوفى دينه منها، كان للموصى له أن يرجع بقيمتها من التركة. ب ـ إذا كانت الوصية بنوع من أمواله: كغنمه أو أفراسه أو دوره، فهلكت أو استحقت، بطلت الوصية أيضاً؛ لأن الوصية تعلقت بنوع معين من المال وقت الإيصاء، وقد زال من الوجود، فبطلت لفوات محل الوصية. جـ ـ إذا كانت الوصية بجزء شائع في شيء معين بذاته: كالوصية بنصف دار معينة، تعلقت الوصية بهذا الجزء من تلك العين، فإذا هلكت جميعها، أو استحقت، بطلت الوصية، لفوات محلها. وإن هلك بعضها أو استحق، أخذ الباقي إن كان يخرج من الثلث، وإلا أخذ منه مقدار مايخرج من الثلث. د ـ إذا كانت الوصية بجزء شائع في نوع معين من أمواله: كأن يوصي بربع أغنامه أو بنصف دوره، تعلقت الوصية بالموجود عند إنشاء الوصية، فإن هلك جميعه أو استحق، أخذ نصف الباقي حال الوصية بالنصف إذا كان يخرج من الثلث، وإلا أخذ منه بمقدار الثلث. وتكون الوصية قانوناً بعدد شائع كخمس من أفراسه، كالوصية بحصة شائعة فيه، فإذا هلك بعضها، كان له خمس الباقي، وهو أخذ برأي ابن الماجشون من المالكية. أما الحنفية فقالوا: لو لم يبق إلا الخمس أي القدر المسمى، فإنه يأخذه، إذا كان يخرج من الثلث.
2 - الوصية بالمعدوم أو بمعجوز التسليم
2 - الوصية بالمعدوم أو بمعجوز التسليم (¬1): تصح الوصية عند الجمهور غير الحنفية بالمعدوم كأن يوصي بما تحمله الجارية أو الشجرة؛ لأن المعدوم يجوز أن يملك بعقد السلم أو المساقاة، فجاز أن يملك بالوصية، ولأن الوصية احتمل فيها وجوه من الغرر، رفقاً بالناس وتوسعة، فتصح بالمعدوم كما تصح بالمجهول، وتصح بما يعجز عن تسليمه كآبق وشارد وطير بهواء ولبن بضرع. وقال الحنفية: إن كان الموصى به معدوماً، فلا بد من أن يكون قابلاً للتمليك بعقد من العقود، فلا تجوز الوصية استحساناً بما تلد أغنامه؛ لأنه لا يقبل التمليك حال حياة الموصي بعقد المساقاة. وتصح الوصية بما تثمر نخيله هذا العام أو أبداً، وإن كان الموصى به معدوماً؛ لأنه يقبل التمليك حال حياة الموصي بعقد المساقاة (المعاملة) فالوصية بالمعدوم جائزة اتفاقاً، وإن اختلفوا في بعض الأمثلة. وتجوز الوصية اتفاقاً بما لا يقدر على تسليمه كالطير الطائر والعبد الآبق؛ لأن الموصى له يخلف الميت في ثلثه، كما يخلفه الوارث في ثلثه، فلما جاز أن يخلف الوارث الميت في هذه الأشياء، جاز أن يخلفه الموصى له. لكن قال الحنفية: لا تصح الوصية بما في البطن والضرع، وبما على الظهر من الصوف، وبما سيحدث من اللبن والولد؛ لأنه يشترط وجود الموصى به عند موت الموصي، فلو مات الموصي ولم يكن الموصى به موجوداً وقت موته، بطلت الوصية. أما في الوصية بالثمرة فليس وجودها عند موت الموصي بشرط استحساناً؛ لأن اسم الثمرة يقع على الموجود، والحادث، والحادث منها يحتمل دخوله تحت عقد المعاملة ¬
3 - الوصية بالمجهول
والوقف. أما الولد والصوف ونحوهما فلا تدخل تحت عقد من العقود ولا يجري فيه الإرث، فلا يدخل تحت الوصية، لأن الوصية إنما تجوز فيما يجري فيه الإرث أو فيما يدخل تحت عقد من العقود في حال الحياة، والحادث من الولد وأمثاله لا يجري فيه الإرث، ولا يدخل تحت عقد من العقود، فلا يدخل تحت الوصية. والخلاصة: أن الحنفية لا يجيزون الوصية بما سيحدث، وأجازها الجهمور. 3 - الوصية بالمجهول: اتفق الفقهاء على اشتراط كون الموصى له معلوماً، أي معيناً، إما بالشخص كزيد، أو بالنوع كالمساكين، فلو قال: أوصيت بالثلث لفلان أو فلان، بطلت للجهالة. واتفقوا أيضاً على عدم اشتراط كون الموصى به معلوماً، فتجوز الوصية بالمجهول (¬1)، كالوصية بجزء أو سهم من ماله؛ لأن الوصية تبرع محض، فلا تضر فيها الجهالة بالمتبرع به. ومثل الشافعية والحنابلة للوصية بالمجهول: بالحمل في البطن واللبن في الضرع وخادم أو عبد من عبيده. وقد عرفنا أن الحنفية لا يجيزون الوصية بما في البطن أو باللبن في الضرع. فإن بيَّن الموصي في حال حياته مراده من هذه الألفاظ، عمل به. وإن مات قبل أن يبين، بيَّن الورثة عند أبي حنيفة والشافعية والحنابلة، وأعطوا الموصى له ما شاؤوا، في الوصية بجزء؛ لأن الورثة قائمون مقام الموصي، ¬
4 - الوصية بالمنافع
فإليهم البيان. أما في الوصية بسهم من ماله: فيعطى الموصى له أقل سهام الورثة زائداً على الفريضة بحيث لا يزيد على السدس، فله في الحد الأدنى السدس. وقال المالكية: يعطى الموصى له المجهول سهماً واحداً من سهام التركة، ثم يقسم الباقي على الورثة، فيدخل الضرر على الجميع. 4 - الوصية بالمنافع: يثير هذا البحث معرفة أمور عديدة: هي المقصود بالمنافع، وهل تعتبر المنافع أموالاً، وحكم الوصية بالمنافع، وتقدير المنفعة، وطريق الانتفاع بالمنفعة، وكيفية استيفاء المنفعة المشتركة، وانتهاء الوصية بالمنفعة، وملكية العين الموصى بمنفعتها والتصرف فيها، ونفقة العين الموصى بمنفعتها (¬1). أـ المقصود بالمنافع: تطلق المنفعة في رأي الحنفية على الخدمة وسكنى الدار وغلتها، وعلى غلة الأرض والبستان وثمرته، والغلة: هي كل ما يحصل من ريع الأرض وكرائها (¬2) وأجرة الغلام ونحوها. وفرق الحنفية بين الوصية بالغلة والوصية بالثمرة، فقالوا: يدخل في تعبير الغلة ما كان موجوداً عند وفاة الموصي وما سيحدث منها مدة حياة الموصى له. ¬
ب ـ هل تعد المنافع أموالا ذات قيمة؟
أما الثمرة: فتشمل فقط الموجود عند وفاة الموصي. ويظهر أن سبب التفرقة بينهما هو العرف. أما غير الحنفية: فلم يفرقوا بين الغلة والثمرة، وأن كلاً منهما يشمل الموجود عند وفاة الموصي وما يحدث بعدئذ. أما القانون المصري (م55) والسوري (249) فإنه اختار مذهب الجمهور، فجعل الوصية بالثمرة كالوصية بالغلة، تشمل الموجود وقت موت الموصي وما سيحدث، ما لم تدل قرينة على خلاف ذلك. ووسع القانون ـ كما جاء في مذكرته التفسيرية ـ معنى المنافع، فأراد بالمنافع ما ذكره الحنفية، وهو أنها تشمل المنافع المحضة للعين كسكنى الدار وزرع الأرض، وبدلها كأجرة الدار والأرض، وما يخرج منها كثمرة البستان والشجر. وتشمل الوصية بالمنافع كل ما ذكر، وتشمل أيضاً قانوناً الوصية بالتصرف في عين، والوصية بالإقراض، والوصية بالحقوق، والوصية بتقسيم التركة، والوصية بالمرتبات. ب ـ هل تعد المنافع أموالاً ذات قيمة؟ للفقهاء رأيان في الحكم: مذهب الحنفية: ليست المنافع أموالاً متقومة بنفسها، وإنما تصير استحساناً مالاً متقوماً بالعقد عليها كالإجارة والوصية؛ لأن المال عندهم ما يقبل الإحراز والادخار لوقت الحاجة، والمنافع أعراض متجددة، تكسب زمناً فزمناً، وبعد اكتسابها لا يبقى لها وجود، فلا يمكن إحرازها. وتتقوم بالعقود لورود النص وجريان العرف به. وإذا لم تعتبر المنفعة مالاً فهي ملك؛ لأن الملك ما يتصرف فيه بوصف الاختصاص.
حـ ـ حكم الوصية بالمنافع من حيث الجواز وعدمه
ومذهب الجمهور: المنافع أموال متقومة مضمونة كالأعيان؛ لأن الغرض الأظهر من جميع الأموال هو منفعتها. والقانون أخذ برأي الجمهور، وأفتى متأخرو الحنفية باعتبار المنافع أموالاً متقومة، وإن لم يرد عليها عقد في ثلاثة أنواع: المال المعدّ للاستغلال (¬1)، والأوقاف، وأموال الأيتام، وقد بحثت هذا الموضوع في الإجارة والغصب والضمان. حـ ـ حكم الوصية بالمنافع من حيث الجواز وعدمه: اتفق أئمة المذاهب الأربعة على جواز الوصية بالمنافع؛ لأنها كالأعيان في تمليكها بعقد المعاوضة والإرث، فصحت الوصية بها كالأعيان، حتى إن الحنفية الذين لايعتبرون المنافع أموالاً أجازوا الإيصاء بها؛ لأنه يصح تمليكها في حال الحياة ببدل، ويكون العقد إجارة، وبغير بدل ويكون العقد إعارةً، فكذا بعد الممات بالوصية، كما في الأعيان. وتخرج من ثلث المال، فإن لم تخرج من الثلث أجيز منها بقدر الثلث. د ـ تقدير المنفعة: عرفنا أن الوصية تنفذ من ثلث التركة، فإذا كانت بالأعيان قدرت الأعيان بنفسها وخرجت من الثلث. وأما إن كانت بالمنافع، فكيف تقدر المنفعة؟ للفقهاء رأيان: الأول ـ للحنفية والمالكية: هو النظر إلى الأعيان التي أوصي بمنفعتها أياً ¬
كانت مدة الانتفاع، فإن كانت رقابها (ذواتها) تخرج من الثلث، جازت ونفذت، وإن لم تخرج من الثلث، نفذ منها بقدر الثلث فقط، وتوقف الزائد على إجازة الورثة. فالمعتبر عندهم قيمة العين الموصى بمنفعتها، لا قيمة المنفعة مستقلة. فإذا أوصى شخص بمنفعة داره، وكان لا يخرج من ثلث التركة إلا نصف هذه الدار، كان للموصى له منافع نصف الدار فقط. والدليل على رأيهم: أن الوصية بالمنافع يترتب عليها منع العين الموصى بمنفعتها عن الوارث، وتفويت المقصود منها، وهو الانتفاع بها، والمقصود من الأعيان منفعتها، فإذا بقيت العين على ملك الوارث، صارت بمنزلة العين التي لا منفعة لها، فوجب أن يخرج الممنوع منفعته ـ وهو العين ـ من ثلث المال. والثاني ـ للشافعية والحنابلة (¬1): أن الوصية بالمنفعة تقدر بقيمة المنفعة الموصى بها في مدة الوصية؛ لأنها هي الموصى بها. إلا أن الحنابلة قالوا: إن كانت الوصية مقيدة بمدة معلومة، قدرت بقيمة المنفعة نفسها في تلك المدة. وإن كانت الوصية مطلقة في الزمان كله، ففيها قولان في المذهب: أحدهما ـ كما في المذهب الحنفي والمالكي: تقوَّم الرقبة (الذات) بمنفعتها، وتخرج من الثلث. والثاني ـ تقوم الرقبة على الورثة، والمنفعة على الموصى له، فإذا كانت قيمة الشيء كله مائة، وقيمة الرقبة وحدها عشرة، علمنا أن قيمة المنفعة تسعون. ¬
هـ ـ طريق الانتفاع بالمنفعة
أما القانون المصري (م62) والسوري (م253) فقد أخذ برأي تفصيلي من مجموع الرأيين وهو قريب الشبه بمذهب الحنابلة، فقضى بأن المنفعة إن كانت مؤبدة أو مطلقة، أو لمدة حياة الموصى له، أو لمدة تزيد على عشر سنين، فإنها تقدر بقيمة العين الموصى بكل منافعها أو ببعضها. وهذا موافق للرأي الأول وللقول الأول عند الحنابلة في الوصية المطلقة؛ لأن أمل الورثة في الانتفاع بالعين معدوم أو بعيد التحقق. وإن كانت الوصية بالمنافع لمدة لا تزيد على عشر سنين، فإنها تقدر بقيمةالمنفعة الموصى بها في هذه المدة. وهذا موافق لرأي الشافعية، ولرأي الحنابلة في الوصية المقيدة؛ لأن الأمل في عودة العين إلى الورثة قريب التحقق. وإن كانت الوصية بحق من الحقوق كحق الشِرْب أو حق المرور أو حق التعلي، قدر المنفعة (في المادة 63 مصري) بالفرق بين قيمة العين محملة بالحق الموصى به، وبين قيمتها بدونه، والفرق بين القيمتين هو الوصية. وهذا موافق للقول الثاني في الوصية المطلقة لدى الحنابلة، وهو مذهب الشافعية. هـ ـ طريق الانتفاع بالمنفعة: للانتفاع طريقان: أحدهما ـ الاستغلال المشروع: بأن يؤجر مالك منفعة العين الموصى له بمنفعتها لغيره في مقابل أجرة يأخذها منه لنفسه. والثاني ـ الاستعمال الشخصي: بأن يستوفي هو المنافع بنفسه. وطريق الانتفاع بالمنفعة الموصى بها يختلف بحسب نص الوصية:
فإن لم تكن الوصية مقيدة بنوع خاص من الانتفاع، كان للموصى له باتفاق الفقهاء أن ينتفع على الوجه الذي يختاره، إما بالاستعمال الشخصي بأن يسكن الدار أو يزرع الأرض بنفسه، وإما بالاستغلال: بأن يؤجر الدار والأرض لغيره، وينتفع بالأجرة. أما إذا قيد الموصي الموصى له بنوع من أنواع الانتفاع، فهناك رأيان: يرى الحنفية: أن الموصى له يتقيد بالقيد المنصوص عليه في حال الاستعمال الشخصي، فمن أوصي له بالسكنى مثلاً، لا يملك الاستغلال بلا خلاف؛ لأنه ملك المنفعة بغير عوض، فليس له أن يملِّكها غيره بعوض. أما العكس وهو من أوصي له بالاستغلال، فالراجح أن له السكنى؛ لأن من ملَّك غيره السكنى، ملكها بنفسه من باب أولى. وقيل: ليس له السكنى، إذ قد يكون في سكناه بنفسه ضرر بالميت، والحق هو القول الأول، لما في هذه الحجة من تكلف واحتمال بعيد. ويرى الشافعية والحنابلة: أن الموصى له يملك الانتفاع على أي وجه شاء، سواء بالاستعمال الشخصي أم بالاستغلال، ولو نص على العكس؛ لأن الموصى له ملك المنفعة بعقد الوصية، ومن ملك المنفعة ساغ له الانتفاع بها على أي نحو شاء، كما لو ملك حق المنفعة بالإجارة. وهذا الرأي هو الراجح، وهو الذي أخذ به القانون المصري (م54) والسوري (م248) لأن غرض الموصي إنما هو نفع الموصى له، ودفع حاجته، وهذا أدرى بمصلحته.
وـ كيفية استيفاء المنفعة المشتركة
وـ كيفية استيفاء المنفعة المشتركة: إذا كانت المنفعة مشتركة بين الموصى له وبين ورثة الموصي، كالوصية بنصف منفعة داره، أو مشتركة بين عدد من الموصى لهم كالوصية بمنفعة دار لثلاثة أشخاص، فتستوفى المنفعة من طريق القسمة بإحدى وسائل ثلاث (¬1): الأولى ـ أن تقسم غلة المنفعة بين المشتركين: فتؤجر الدار أو تزرع الأرض مثلاً، وتقسم الغلة بنسبة حصة كل واحد منهم. الثانية ـ أن تقسم العين بنفسها بينهم، فيأخذ كل واحد منهم سهمه في المنفعة، بشرط كون تلك العين قابلة للقسمة، وألا يترتب على قسمتها ضرر للورثة، ولو مع بقاء المنفعة الأصلية. الثالثة ـ أن تقسم العين الموصى بها قسمة مهايأة زمانية أو مكانية: الزمانية: أن تعطى لأحد الشركاء كل العين مدة من الزمان، ينتفع بها، ثم يأخذها الشريك الآخر بقدر تلك المدة، فينتفع بها. والمكانية: أن يأخذ كل شريك جزءاً من العين في وقت واحد ينتفع بها، ثم يتبادل الشريكان كل جزء مرة أخرى، فيحل كل واحد محل الآخر فيما كان ينتفع به. وإذا كانت الوصية بحق لا يمكن قسمته ولا المهايأة فيه، أو حدث اختلاف، اجتهد القاضي في كيفية توزيع المنفعة بحسب قواعد الشريعة العامة. ونص القانون المصري (م57) والسوري (م250) على هذه الطرق الثلاث المذكورة. ¬
ز ـ انتهاء الوصية بالمنفعة
ز ـ انتهاء الوصية بالمنفعة: نص القانون السوري (م252) على أن الوصية بالمنفعة تبطل أو تسقط في الحالات التالية: أـ بوفاة الموصى له قبل استيفاء المنفعة الموصى بها كلها أو بعضها؛ لأن المنافع في الوصية لا تورث. ب ـ بتملك الموصى له العين التي أوصي له بمنفعتها. جـ ـ بتنازله عن حقه فيها لورثة الموصي، بعوض أو بغير عوض، أما التنازل بعوض فهو من قبيل المصالحة على ترك نظير المال، وأما التنازل بغير عوض فهو من قبيل إبراء الورثة منها. د ـ باستحقاق العين؛ لأنه تبين أن العين الموصى بمنفعتها لم تكن مملوكة للموصي. ونص القانون المصري (م59) على بطلان الوصية بالمنفعة قبل تمامها بما يأتي: أـ بمضي المدة المعينة للانتفاع قبل وفاة الموصي، أو بموت الموصى له المعين قبل بدء المدة. ب ـ بإسقاط الموصى له حقه في المنفعة لورثة الموصي، بعوض أو بغير عوض. جـ ـ باستحقاق العين الموصى بمنفعتها، أو بشرائها من الموصى له.
متى يستحق الموصى له المنفعة الموصى بها؟
متى يستحق الموصى له المنفعة الموصى بها؟ نص القانون المصري (م50) والسوري (م246) على أحوال استحقاق الموصى له المنفعة بحسب المدة. فإذا كانت الوصية بالمنفعة مقيدة بمدة محددة البدء والنهاية، كسنتين من أول عام كذا إلى نهاية عام كذا، استحق الموصى له المنفعة في هذه المدة فقط، فإذا انقضت المدة المذكورة قبل وفاة الموصي بطلت الوصية. وإذا انقضى بعضها استحق الموصى له المنفعة في باقيها. وهذا موافق لمذهب الحنفية. وإذا كانت الوصية بمنفعة مقدرة بمدة معينة كسنة دون تحديد بدء الانتفاع، استحق الموصى له المنفعة منذ وفاة الموصي. وهذا موافق لمذهب الشافعية. أما الحنفية فيقولون: تبدأ المدة من وقت القسمة؛ لأنه وقت تنفيذ الوصية واستقرار الملك. منع الموصى له من الانتفاع: نص القانون المصري (م51) والسوري (م247) على أحوال ثلاث قد يحدث فيها منع الموصى له من الانتفاع بالعين الموصى له بمنفعتها، وذلك إما بسبب من جهة أحد ورثة الموصي، أو جميعهم، أو من جهة الموصي نفسه، أو لعذر قاهر للموصى له. الصورة الأولى ـ إذا كان المنع من بعض الورثة: ضمن للموصى له بدل المنفعة في تلك المدة. الصورة الثانية ـ إذا كان المنع من جميع الورثة: كان للموصى له الخيار بين الانتفاع بالعين مدة أخرى، وبين أن يضمنهم بدل المنفعة عن تلك المدة.
ح ـ ملكية العين الموصى بمنفعتها والتصرف فيها
الصورة الثالثة ـ إذا كان المنع من جهة الموصي: كأن يكون الموصي قد أجر الدار الموصى بمنفعتها لمدة معينة، ثم مات قبل أن تنتهي مدة الإجارة، أو كان المنع لعذر قاهر حال بين الموصى له وبين الانتفاع كأن يكون سجيناً أوغائباً، أو كانت الدار مغصوبة، استحق الموصى له المنفعة بالعين مدة أخرى. وهذه الأحكام مستمدة من مذهب الشافعية. أما الحنفية فقالوا: إن كان المنع من أحد الورثة، ضمن للموصى له بدل المنفعة؛ لأنه متعدٍ في هذه الحالة، فيضمن نتيجة تعديه. وإن كان المنع من جميع الورثة ضمنوا له بدل المنفعة أيضاً، لوجود التعدي منهم جميعاً. وليس للموصى له في الحالتين أن يطالب بمدة أخرى للانتفاع، بعد فوات المدة المحددة. وإذا كان المنع بسبب آخر، لا من قبل الورثة، وفاتت مدة الانتفاع المحددة، فلا شيء عليهم، لعدم وجود تعدٍ منهم؛ لأن الموصى به أمانة في يدهم، والأمانة لاتضمن إلا بالتعدي. ح ـ ملكية العين الموصى بمنفعتها والتصرف فيها: أما ملكية العين: فتكون بحسب مدة الوصية: فإن كانت الوصية مؤبدة أو مطلقة من غير ذكر مدة، وكانت لجهة لا يظن انقطاعها، أصبحت رقبة العين وقفاً، وتكون الغلة للموصى لهم على التأبيد. وأما إن كانت الوصية بالمنفعة لمدة محددة، أو لمعين أو لمحصورين أو لجهة يظن انقطاعها، فإن العين تبقى ملكاً لورثة الموصي، وأما الغلة فهي للموصى لهم
ط ـ نفقة العين الموصى بمنفعتها
إلى انقراضهم، أو إلى انتهاء المدة المحددة في الوصية، ثم تعود المنافع إلى ملك الورثة، تبعاً للعين. وأما حق التصرف بالعين الموصى بمنفعتها ففيه رأيان: رأي الحنفية: أنه ليس لمالك العين حق التصرف بها من بيع ونحوه، ويكون التصرف موقوفاً على إجازة الموصى له، لتعلق حقه بها، فإن أذن أسقط حقه. ورأي الجمهور: أنه يجوز لمالك الرقبة حق التصرف بها، بالبيع ونحوه، ولكن يبقى للموصى له حق الانتفاع بالعين، ويستوفيه على ملك المشتري؛ بدليل أن العين تورث عن مالكها، مع بقاء الوصية، ولا ضرر على الموصى له بانتقال ملكية العين؛ لأن حقه في المنفعة وهي لا تختلف باختلاف المالكين، وفي إباحة التصرف بالعين لمالكها رعاية لحقه. وأخذ القانون المصري (م60) والسوري (م2/ 251) برأي الجمهور. ط ـ نفقة العين الموصى بمنفعتها: للفقهاء رأيان في نفقة العين: رأي الحنفية، وفي الأصح عند الحنابلة: أن ما تحتاج إليه العين الموصى بمنفعتها من نفقات، ومايفرض عليها من ضرائب، تكون على صاحب المنفعة ولو لم تثمر العين أو لم تغل في سنة ما؛ لأنه صاحب الفائدة منها، كالزوج، إذ الغرم بالغنم أوالخراج بالضمان، فله نفعه، فكان عليه ضره وغرمه. وإذا أهمل صاحب المنفعة القيام بما يلزم لبقاء العين صالحة للانتفاع بها، أو لم يدفع ما عليها من ضرائب، فأداها صاحب الرقبة، كان ما دفعه حقاً له في غلة العين، يستوفيه منها قبل الموصى له.
5 - الوصية بالتصرف في عين
أما إذا كانت العين غير صالحة للانتفاع بها، كأرض بور، فإن نفقة إصلاحها وضرائبها على صاحب الرقبة. ورأي الشافعية في الأصح: أن النفقة والضريبة على مالك الرقبة، كالمأجور تكون نفقاته وضرائبه على المالك. وأخذ القانون المصري (م58) والسوري (م1/ 250) بالرأي الأول. 5 - الوصية بالتصرف في عين (¬1): قد يوصي الإنسان ببيع بعض أمواله من التركة، أو بإجارة بعض عقاراته، فإذا كان الثمن المسمى أو بدل الإيجار بقدر ثمن المثل أو أجر المثل، أو كان بأقل من المثل بمقدار يخرج من الثلث، أو يزيد عن ثلث التركة زيادة يسيرة يتغابن الناس فيها، نفذت الوصية من غير توقف على إجازة الورثة، إذ لا ضرر عليهم في الوصية، ويعتبر هذا النقص وصية في حدود الثلث، فلا يحتاج إلى إجازة الورثة. أما إذا كان النقص يزيد على ثلث التركة زيادة كبير ـ وهو ما يعبر عنه بالغبن الفاحش ـ فيتوقف تنفيذ الوصية على إجازة الورثة، ما لم يقبل الموصى له بدفع القدر الزائد على الثلث، فإن أجاز الورثة أو دفع الموصى له للورثة القدر الزائد على الثلث، نفذت الوصية، وإلا بطلت. وأخذ القانون المصري (م56) والسوري (م240) بهذه الأحكام المتفق عليها بين الفقهاء. ¬
6 - الوصية بالإقراض
6 - الوصية بالإقراض: قد يوصي الإنسان بإقراض شخص مقداراً معلوماً من المال مدة معلومة، من غير ربا. فيطبق مبدأ النفاذ من الثلث، وهو ما نصت عليه المادة (12) من قانون الوصية المصري، والمادة (218) من القانون السوري. فإن كان المال الموصى بإقراضه يخرج من ثلث التركة، نفذت الوصية من غير توقف على الإجازة. وإن كان أكثر من الثلث، نفذت في حدود الثلث، وكانت موقوفة في الزائد على إجازة الورثة. وليس للورثة مطالبة المستقرض بالدين قبل حلول الأجل الذي عينه الموصي؛ لأن الأجل في القرض، وإن كان لا يلزم به المقرض عند الحنفية (¬1)، وأن له أن يطالب المقترض بالقرض في أي وقت شاء، فإنهم قالوا بلزوم أجل القرض في أربع حالات: الأولى ـ مالو أوصى شخص بإقراض آخر مبلغاً من المال إلى سنة مثلاً، فيلزم الأجل. الثانية ـ ما لو كان القرض مجحوداً، فأجله صاحبه، فإن الأجل يكون لازماً. الثالثة ـ ما لو حكم القاضي بلزومه، بالاعتماد على مذهب مالك وابن أبي ليلى فإنه يلزم أيضاً. الرابعة ـ في الحوالة: ما لو أحال المدين الدائن على آخر فأجله المقرض، أوأحاله على مديون مؤجل دينه؛ لأن الحوالة مبرئة، أي تبرأ بها ذمة المحيل، ¬
7 - الوصية بالحقوق
ويثبت بها للمحال أي المقرض دين على المحال عليه بحكم الحوالة، فهو في الحقيقة تأجيل دين، لا قرض. 7 - الوصية بالحقوق: تصح الوصية بالاتفاق بحقوق الارتفاق التي تنتقل بالإرث، كحق الشِّرب، والمسيل والمجرى والتعلي (¬1) ونحوها، غير أن الوصية بحق الشرب والمجرى والمسيل لا تجوز قانوناً إلا تبعاً للأرض الموصى بها أو لمالك أرض ينتفع بها. وأجاز القانون المصري (م 11) الوصية بحق المنفعة التي يملكها المستأجر، أخذاً من مذهب الشافعية والجمهور غير الحنفية، كأن يستأجر شخص أرضاً لمدة عشر سنوات، ثم يوصي بما بقي من مدة الإجارة؛ لأن الإجارة عند الجمهور لا تنفسخ بموت أحد العاقدين. أما الحنفية فلا يجيزون هذه الوصية؛ لأن الإجارة عندهم تبطل بموت أحد العاقدين. وأجاز هذا القانون أيضاً أخذاً من مذهب المالكية الوصية بحق الخلو: وهو حق الأولوية في استئجار عقار موقوف، ومثاله أن يحتاج الوقف إلى عمارة، وليس له مال يعمر به، فيتقدم من يقوم بعمارته، مقابل أن يكون له الأولوية في استئجاره، فلو أوصى هذا الشخص بما ثبت له من هذا الحق، صحت الوصية. 8 - الوصية بقسمة التركة: قد يوصي الإنسان بوصية تتضمن تقسيم التركة بين الورثة، بمقدار نصيب كل واحد منهم في التركة، ليضمن بالقسمة عدم وقوع خلاف أو نزاع بينهم، وليحقق لكل واحد نصيبه بدون استغلال أو محاباة. فهل تعدّ هذه الوصية ملزمة؟ ¬
يرى جمهور الفقهاء: أن هذا التقسيم لا يلزم الورثة، فلهم أن يقبلوه أو يرفضوه؛ لأن القيمة المالية لأعيان التركة قد تكون متساوية، لكن المصلحة فيها متفاوتة متغايرة، فكما لا يجوز إبطال حق الوارث في قدر حقه، لا يجوز إبطاله في عين هذا الحق أيضاً. ويرى بعض فقهاء الشافعية والحنابلة (¬1) ـ وإن كان الأصح في المذهب هو الرأي السابق ـ أن هذا التقسيم من المورث جائز، ويلزم به الورثة، ما دامت القسمة عادلة، فخصص لكل وارث ما يساوي قيمة نصيبه، وبقدر حصته، ولا يفتقر التقسيم إلى إجازة الورثة؛ لأن حق كل وارث إنما هو في القيمة، لا في عين معينة من أعيان التركة، بدليل أن المورث لو باع في مرض موته التركة كلها بثمن المثل، صح بيعه ونفذ. وأخذ القانون المصري (م13) والسوري (م219) بالرأي الثاني، فأجاز تقسيم التركة، وألزم الورثة بالتقسيم بوفاة الموصي. لكن القانون المصري خلافاً لجمهور الفقهاء أجاز المفاضلة بين الورثة إذا كانت الزيادة تخرج من ثلث التركة، بناء على الحكم الذي أخذ به: وهو جواز الوصية للوارث في حدود الثلث من غير حاجة لإجازة الورثة. ونص القانونان في نفس المادة السابقة على أنه إذا زادت حصة بعض الورثة عن استحقاقه في التركة، كانت الزيادة وصية، وجرى على الزيادة حكم الوصية للوارث. ¬
9 - الوصية بالمرتبات
9 - الوصية بالمرتبات: أجاز فقهاء المالكية والحنفية والشافعية بالمرتب من رأس مال التركة، وهي من قبيل الوصية بالأعيان: لأنها وصية بمقدار معلوم من المال يقسط سنوياً أو شهرياً أو يومياً، ولا يختلف عن الوصية بمقدار من المال إلا في التقسيط. وكذلك تجوز الوصية بالمرتب من غلة التركة، وهي من قبيل الوصية بالمنافع؛ لأنها وصية بجزء من غلات بعض الأعيان. وتقدر الوصية أولاً لتعرف نسبتها إلى التركة، فإن خرجت من الثلث نفذت، وإن زادت على الثلث توقفت على إجازة الورثة. ويختلف تنفيذ هذه الوصية بحسب كون الوصية في مدة معينة أم مدى الحياة. أـ فإن كانت الوصية بمرتب في مدة معينة، سواء أكانت من رأس مال التركة أم من غلة التركة، فيحبس عند جمهور الحنفية والمالكية ثلث التركة، ليؤخذ منه ومن غلاته كل شهر المقدار الذي سماه الموصي، ولو كان الثلث أكثر من الوصية. وقال أبو يوسف: يحبس من الثلث ما يغل المرتب في المدة المعلومة، وما زاد على ذلك لا يحبس؛ لأن المطلوب ضمان تنفيذ الوصية. وأخذ القانون المصري (م64) برأي قريب من رأي أبي يوسف، فنص على أنه يوقف من مال الموصي ما يضمن تنفيذ الوصية على وجه لا يضر بالورثة. ب ـ أما إن كانت الوصية بمرتب مدى الحياة: فهي أيضاً كالوصية في مدة معينة من حيث التقدير والتنفيذ.
وتقدر مدة حياة الموصى له عند مالك وأبي يوسف بالسن الغالبة لأهل زمانه، فيحبس من الثلث ما يكفي لنفقة تلك المدة. وجعل القانون المصري (م 66) أمر تقدير مدة الحياة لأهل الخبرة من الأطباء. فإذا مات الموصى له قبل انتهاء المدة التي قدرها له الأطباء، انتهت الوصية. وإذا عاش بعد انتهاء المدة المحددة، كان له عند أكثر الفقهاء الرجوع بالمرتب على الورثة. وقال ابن القاسم المالكي: لا يحق له أن يرجع على الورثة بشيء في المدة الزائدة. وأخذ القانون بهذا الرأي. جـ ـ الوصية بمرتب لجهة بر دائمة: إن كانت الوصية لجهة بر دائمة مدة معينة: فإن تقدير الوصية وتنفيذها يكون على الوجه الذي سبق في الوصية لمعين لمدة معلومة. وإن كانت الوصية مطلقة أو مؤبدة: فإنه يوقف من أعيان التركة ما يغل المرتب في حدود ثلث التركة، ويتوقف الزائد على إجازة الورثة. فإذا فاضت غلات العين عن المرتب المقدر كان الفائض للجهة الموصى لها، وإذا نقصت الغلة عن المرتب فليس لها الرجوع على ورثة الموصي. وهذا كله ما نصت عليه المادة 68 من القانون المصري. د ـ الوصية بمرتب للطبقات: إذا كانت الوصية بمرتب لفلان ثم من بعده لأولاده فتصح بشرطين في القانون المصري (م70):
10 - حكم الزيادة في الموصى به
أحدهما ـ ألا تتجاوز الوصية طبقتين، فإن زادت كانت باطلة في حق الزائد. الثاني ـ وجود جميع أفراد الموصى لهم عند وفاة الموصي. فإن أوصى لفلان ثم لأولاده من بعده، ولم يكن له أولاد عند وفاة الموصي، ثم ولد له، فلا يستحق الأولاد الجدد شيئاً. وإذا كانت الوصية بمرتب للطبقات مدى الحياة، قدرت حياة الموجودين بمعرفة الأطباء. وإن كان فيهم جنين قدرت حياته بستين سنة. وتقدر مدة الوصية بأطولهم عمراً، فلو قدرت حياة أحد الأولاد وقت وفاة الموصي بعشرين سنة، وحياة آخر بخمسين، اعتبرت مدة الوصية خمسين سنة. وإذا مات الأب بعد مضي (63) سنة شمسية من وقت وفاة الموصي، لم يستحق أولاده شيئاً في الوصية. 10 - حكم الزيادة في الموصى به: إذا طرأت زيادة في الموصى به من قبل الموصي بعد الإيصاء، فلايعد ذلك رجوعاً عن الوصية في المذهب المالكي، وأخذ القانون المصري بهذا الحكم وقررأحوال الزيادة في المواد (71 - 75) وأحكامها، وتابعه القانون السوري في المواد (254 - 256) وأبين هنا هذه الأحوال والأحكام وهي أربعة: الحال الأولى ـ الزيادة غير المستقلة بنفسها: إذا زاد الموصي في العين الموصى بها شيئاً لا يستقل بنفسه كترميم الدار وتجصيصها، فيلتحق بالموصى به، وتكون العين كلها وصية، وليس للورثة أي حق فيها؛ لأن هذه الزيادة ليست لها قيمة مالية منفصلة عن العين.
الحال الثانية ـ الزيادة المستقلة بنفسها
ويلحق بها: الزيادة البسيطة التي يتسامح فيها عادة، كزيادة حمام أو غرفة صغيرة في البناء تكون العين مع الزيادة وصية. كما يلحق بها الزيادة المستقلة بنفسها إذا قصد الموصي إلحاقها بالوصية بقرينة من القرائن. الحال الثانية ـ الزيادة المستقلة بنفسها: إذا زاد الموصي في العين شيئاً يستقل بنفسه كغرس الأرض والبناء عليها، أو كانت الزيادة غير المستقلة مما لا يتسامح فيها عادة، أصبح الورثة شركاء مع الموصى له في كل العين الموصى بها مع زوائدها، وتكون حصة الورثة بمقدار قيمة الزيادة قائمة، أي قيمة الغراس والبناء قائماً بدون الأرض. الحال الثالثة ـ الزيادة بالهدم والبناء الجديد: إذا هدم الموصي العقار الموصى به، وأعاد بناءه مع تغيير معالمه، كأن يكون الموصى به داراً، فأعاد بناءها بنمط آخر أو بمواد أخرى، كانت الدار بحالتها الجديدة وصية بدل الأولى، لا حق للورثة في شيء منها. أما إن أعاد بناء الدار على نحو آخر لا يعده العرف تجديداً للأول، كأن كانت من طابق واحد، فجعلها عمارة ذات طبقات، كانت العمارة كلها شركة بين الموصى له والورثة، ويكون نصيب الموصى له فيها بقيمة أرضه، ونصيب الورثة بقيمة البناء قائماً. وكذلك إن ضم إلى الأرض القديمة أرضاً أخرى، كانت العمارة الجديدة شركة أيضاً، وتكون حصة الوصية هي قيمة الأرض الموصى بها؛ لأنه بإزالة البناء قد انحصرت الوصية في الأرض. وتكون حصة الورثة هي قيمة البناء قائماً وقيمة الأرض غير الموصى بها.
الحال الرابعة ـ إدماج البناءين
الحال الرابعة ـ إدماج البناءين: إذا جعل الموصي البناء الموصى به مع بناء آخر وحدة سكنية واحدة، لا يمكن معها تسليم العين الموصى بها منفردة، كأن كانتا دارين أوصى بإحداهما، ثم جعلهما داراً واحدة، اشترك الموصى له مع الورثة، بقدر قيمة الدار الموصى بها قبل هذا التغيير والضم. المطلب السادس ـ مقدار الوصية: علمنا في بحث شروط الوصية أن حق الإنسان في الإيصاء مقيد بحدود ثلث التركة، بنص الحديث النبوي: «الثلث والثلث كثير» فمقدار الوصية هو الثلث: أـ فإذا كان للموصي وارث: فيرى جمهور الفقهاء غير الظاهرية والمالكية: أن الوصية لا تنفذ في الزائد عن الثلث إلا بإجازة الورثة. فإن أجازوها نفذت، وإلا بطلت؛ لأن الله أعطى الموصي حق التصرف في الثلث فقط، حماية لحق الورثة، فإذا أسقطوا حقهم زال المانع من نفاذ الوصية، بدليل: «إنك أن تذر ورثتك أغنياء». وإذا أجازها البعض دون البعض نفذت في حق المجيز، وبطلت في حق غيره. وتقسم التركة حينئذ على فرض الإجازة وعلى فرض عدم الإجازة، فمن أجاز أخذ نصيبه على التقسيم الأول، ومن لم يجز أخذ نصيبه على التقسيم الثاني. ويرى المالكية والظاهرية: أن الوصية لاتنفذ في الزائد عن الثلث، وإن أجازها الورثة، عملاً بظاهر حديث سعد: «الثلث والثلث كثير». ب ـ وإذا لم يكن للموصي وارث: نفذت الوصية في رأي الحنفية بالزائد،
إجازة الورثة للزائد عن الثلث
ولو كان الموصى به جميع المال؛ لأن المنع كان لحق الورثة، وحيث لا وارث، لم يتعلق بالزائد حق لأحد، فتنفذ الوصية فيه. وقال الجمهور ـ كما بان سابقاً ـ لا تجوز الوصية بأكثر من الثلث مطلقاً؛ لأن الزائد حق المسلمين، ولا مجيز عنهم، فلا تنفذ الوصية. وأخذ القانون المصري (م2/ 37) والسوري (م4/ 238) بالرأي الأول، فتنفذ وصية من لا دين عليه ولا وارث له بكل ماله من غير توقف على إجازة أحد. إجازة الورثة للزائد عن الثلث: لا تنفذ الوصية فيما زاد عن الثلث إلا بإجازة الورثة، وأوضح هنا أموراً في الإجازة (¬1). أولاً ـ وقت الإجازة: يرى أئمة المذاهب الأربعة أن الإجازة لا تكون مقبولة وملزمة إلا بعد موت الموصي، فلو حدثت الإجازة أو الرد في حياة الموصي لم يعتبر ذلك؛ لأن ملك التركة لا يثبت للورثة إلا بعد موت المورث، فتعتبر إجازتهم وردهم بعد ثبوت الملك لهم. لكن قال المالكية: إذا أجاز الوارث حال مرض الموصي مرضاً مخوفاً قائماً بالموصي، ولم يصح صحة بيّنة بعده، أي بعد المرض الذي أجاز فيه الوارث، لزمته الإجازة إلا لعذر بجهل، وهو أنه يجهل لزوم الإجازة في المرض. ثانياً ـ من يملك الإجازة والرد: يشترط فيمن يجيز أو يرد شرطان سبق ذكرهما وهما: ¬
الأول ـ أن يكون المجيز من أهل التبرع
الأول ـ أن يكون المجيز من أهل التبرع: بأن يكون عاقلاً بالغاً رشيداً، فلا تصح إجازة الصبي والمجنون والمعتوه والمحجور عليه لسفه أوعته أوغفلة؛ لأن الإجازة إسقاط لحق، فتكون تبرعاً، فلا يملكها إلا من يملك التبرعات. وليس للولي أيضاً أن يجيز الوصية؛ لأن تصرفه منوط بالمصلحة، والتبرع بالمال ليس بمصلحة. الثاني ـ أن يكون المجيز عالماً بمايجيزه: فلا تلزم إجازة الوارث إذا لم يكن عالماً بما أوصى به الموصي، فإن علم بالوصية وأجازها نفذت. ثالثاً ـ جهة تلقي الملك بعد الإجازة: للفقهاء رأيان في بيان جهة تلقي الموصى له الملك بعد إجازة الورثة: يرى الجمهور على الراجح عند الشافعية: أن الموصى له يتملك الزائد عن الثلث من قبل الموصي، لا من قبل المجيز، وتكون إجازة الورثة تنفيذاً أي إمضاء لتصرف الموصي بالزائد، لا عطية مبتدأة، لأن الوصية تصرف من الموصي في ملكه، وإنما توقف نفاذها لتعلق حق الورثة بتلك الزيادة، وهذا التعلق لا يمنع كون الموصي قد تصرف في ملكه. وقال المالكية، وفي قول ضعيف للشافعي: يتملك الموصى له الجزء الزائد عن الثلث من قبل المجيز بطريق الهبة المبتدأة، لتعلق حقه بهذه الزيادة، فتكون إجازته عطية مبتدأة، ويكون التمليك من جهته. وكذلك الوصية للوارث هي عطية مبتدأة. وتظهر ثمرة الخلاف: في وجوب تسليم الموصى به، فعلى الرأي الأول:
وقت تقدير الثلث
يجبر الوارث على تسليم العين الموصى بها، وعلى الرأي الثاني: لا يجبر على تسليم الموصى به، لأن الإجازة هبة، والموهوب لا يملك إلا بالقبض، وقبله يكون في ملك الواهب، ولا يجبر الإنسان على تسليم ملكه. وقت تقدير الثلث: اختلف الفقهاء على رأيين في وقت تقدير ثلث التركة، أهو عند الوفاة أم عند القسمة؟ مذهب الجمهور (الحنفية والمالكية والحنابلة): يكون تقدير الثلث يوم قسمة التركة وفرز الأنصباء؛ لأنه وقت استقرار الملك وتنفيذ الوصية وإعطاء كل ذي حق حقه. ويترتب عليه أن ما يحدث قبل القسمة من نقص في قيمة التركة أو هلاك في الأعيان يكون من حصص الجميع. ومذهب الشافعية: يكون تقدير الثلث وقت الوفاة؛ لأنه وقت ثبوت الملك للموصى له. فكل زيادة في الموصى به المعين بعد الوفاة من ولد وثمرة وأجرة تكون ملكاً خالصاً للموصى له، ولا تحتسب من الثلث؛ لأنها نماء ملكه. والمفهوم من القانون المصري (م25) هو الأخذ بالرأي الثاني؛ لأن المادة نصت صراحة على فحوى مذهب الشافعيةوهو أن الملك يثبت للموصى له بالقبول من حين الموت، وأن زوائد الموصى به تكون ملكاً للموصى له، ولا تدخل في تقدير الثلث؛ لأنها نماء ملكه. المطلب السابع ـ الوصية للوارث: بحثت هذا الموضوع في شرط نفاذ الوصية المتعلق بالموصى له، وبينت رأي الأكثرين بعدم صحة ونفاذ الوصية للوارث إلا بإجازة الورثة.
المطلب الثامن ـ الوصية بمثل نصيب وارث
وأما قانون الوصية المصري في المادة (37) فأجاز الوصية لوارث من غير توقف على إجازة الورثة أخذاً برأي الشيعة الإمامية. ونص المادة هو: «تصح الوصية بالثلث للوارث وغيره، وتنفذ من غير إجازة الورثة، وتصح بما زاد على الثلث، ولا تنفذ في الزيادة إلا إذا أجازها الورثة بعد وفاة الموصي، وكانوا من أهل التبرع، عالمين بما يجيزونه. وتنفذ وصية من لا دين عليه ولا وارث له بكل ماله، أو بعضه، من غير توقف على إجازة الخزانة العامة». جاء في المذكرة التفسيرية: صحة الوصية للوارث بما لا يزيد على الثلث مذهب جمهور الفقهاء (¬1)، ونفاذها يؤخذ من الآية الكريمة: {كتب عليكم إذا حضر} [البقرة:180/ 2] وهو رأي فريق من المفسرين ومنهم أبو مسلم الأصفهاني. المطلب الثامن ـ الوصية بمثل نصيب وارث: هذا نوع من الوصية بالمجهول، والفقهاء اتفقوا (¬2) على أن الوصية تصح بمثل نصيب وارث، من غير تعيين، أو بمثل نصيب وارث معين، كالوصية بمثل نصيب ابنه أو بنته أو أخته. أو بمثل نصيب وارث معدوم، كالوصية لفلان بمثل نصيب ابن لو كان؛ لأن ذلك وصية بمثل نصيب المذكور، ومثل الشيء غيره. فإن كان الورثة يتساوون في الميراث كالبنين، فله مثل نصيب أحدهم، ويجعل كواحد منهم، زاد عليهم. ¬
مقدار ما يستحقه الموصى له في هذه الوصايا
وإن كانوا يتفاضلون فله عند الجمهور (غير المالكية) مثل نصيب أقلهم ميراثاً؛ لأنه نصيب أحدهم، فهو اليقين، وما زاد فمشكوك فيه. وقال المالكية وابن أبي ليلى وزفر وداود الظاهري: يعطى مثل نصيب أحدهم إذا كانوا يتساوون: من أصل المال، ويقسم الباقي بين الورثة؛ لأن نصيب الوارث قبل الوصية من أصل المال، فلو أوصى بمثل نصيب ابنه، وله ابن واحد، فالوصية بجميع المال إن أجاز الابن الوصية، وإلا فللموصى له ثلث التركة فقط، وإن كان له ابنان فالوصية بالنصف، وإن كانوا ثلاثة فالوصية بالثلث. واختلف الفقهاء في الوصية بنصيب وارث معين عند الوفاة: كأن يوصي بنصيب ابن أو بنت عند موته. الذي رآه أئمة الحنفية الثلاثة، والشافعية في الراجح: أن الوصية باطلة؛ لأنها وصية بمال الغير، لأن نصيب الابن ما يصيبه بعد الموت، بخلاف الوصية بمثل نصيب ابنه؛ لأن مثل الشيء غيره. ورأى زفر والمالكية والحنابلة: أن الوصية صحيحة، ويكون ذلك كالوصية بمثل نصيبه؛ لأن الغرض من ذكر نصيب الابن هو التقدير به، وليس الغرض منه الوصية بما سيكون للابن بعد الموت، حتى يكون موصياً بمال الغير، وهذا سائغ لغة وعرفاً، وأخذ به القانون المصري (م40). مقدار ما يستحقه الموصى له في هذه الوصايا: الطريق الموصل إلى معرفة المقدار الموصى به يختلف بحسب كل حالة. الحالة الأولى ـ أن تكون الوصية بمثل نصيب وارث معين موجود عند وفاة الموصي: تقسم التركة بين الورثة، ثم يزاد على أصل المسألة نصيب الموصى له. فلو
الحالة الثانية ـ أن تكون الوصية بمثل نصيب وارث غير معين
أوصى إنسان بمثل نصيب ابن ومات عن ثلاثة أبناء، فيكون أصل الفريضة من ثلاثة أسهم، لكل ابن سهم، ثم يزاد على أصل الفريضة سهم رابع هو سهم الموصى له، فتصبح المسألة من أربعة. ولا حاجة إلى إجازة الورثة؛ لأن نصيب الموصى له أقل من الثلث. ولو أوصى إنسان آخر بمثل نصيب ابنه، ومات عن ابن وبنت، كانت الفريضة من ثلاثة أسهم، للابن سهمان، وللبنت سهم واحد، ثم يزاد على أصل الفريضة للموصى له سهمان مثل نصيب الابن، فتصير خمسة أسهم، للموصى له منها سهمان. وبما أن نصيبه أكثر من الثلث، فيتوقف نفاذ الوصية في الجزء الزائد على الإجازة. الحالة الثانية ـ أن تكون الوصية بمثل نصيب وارث غير معين: إما أن يكون الورثة متساوين في السهام أو متفاوتين فيها، ففي حال التساوي: يزاد على أصل الفريضة مثل سهام أحدهم. وفي حال التفاوت: يزاد عند الجمهور (غير المالكية) كما تقدم مثل سهام أقلهم نصيباً. مثال الحال الأولى: أن يترك الموصي بنتين وأختاً شقيقة، فتكون المسألة من ثلاثة، للأخت سهم، ولكل من البنتين سهم، ثم يزاد سهم رابع، فيصبح مجموع السهام أربعة. ومثال الحال الثانية: أن يترك الموصي بنتين وأختاً شقيقة وزوجة، فيكون أصل المسألة من (24)، للبنتين الثلثان (16) سهماً، وللزوجة الثمن (3) أسهم، وللأخت الباقي (5) أسهم، ثم يزاد على أصل الفريضة مثل نصيب أقلهم سهاماً للموصى له، وهو (3) أسهم نصيب الزوجة، فتصير السهام (27).
الحالة الثالثة ـ أن تكون الوصية بمثل نصيب وارث معدوم
الحالة الثالثة ـ أن تكون الوصية بمثل نصيب وارث معدوم: مثل: أوصيت لفلان بنصيب ابن لو كان أو بمثل نصيب ابن لو كان. إذ لا فرق عند غير الحنفية والشافعية كما تقدم. فتقسم التركة على الموجودين من الورثة بالفعل، ثم يزاد عليها مثل نصيب الابن المعدوم، فيكون للموصى له إن كان في حدود الثلث، أو أجيز الزائد من قبل الورثة، كما ذكر في الحالة الأولى. الحالة الرابعة ـ أن تكون الوصية بمثل نصيب أحد الورثة ولآخر بسهم معلوم شائع: كالوصية بمثل نصيب ابنه لشخص، وبربع التركة لشخص آخر. الطريق لاستخراج الوصيتين في الصحيح عند الحنفية والحنابلة: أن تقدر الوصية بمثل نصيب الوارث بما تساويه من سهام التركة، كأنه لا وصية غيرها، ثم يقسم ثلث التركة بين الوصيتين، بالمحاصة إن لم يسعهما ولم يجز الورثة. فلو أوصى رجل بمثل نصيب ابنه لشخص، وبربع ماله لشخص آخر، ومات وترك ابنين، كانت الفريضة من اثنين، يزاد عليهما سهم للموصى له بمثل النصيب، فيكون له الثلث، ويكون هنا وصيتان: إحداهما بثلث المال، والآخر بربعه، فاحتجنا إلى حساب له ثلث وربع، وأقل ذلك اثنا عشر، ثلثه للموصى له بمثل النصيب وهو أربعة أسهم، وربعه للموصى له بالربع وهو ثلاثة، والباقي للابنين بالتساوي. ولما كان مجموع الوصيتين هنا أكثر من ثلث التركة، توقف نفاذها على إجازة
المطلب التاسع ـ الوصية بالأجزاء
الورثة، فإن لم يجيزوا، قسم الثلث بين الموصى لهما أسباعاً، أربعة سهام لصاحب الثلث وثلاثة لصاحب الربع. وأخذ القانون المصري (م40 - 42) بهذه الأحكام. المطلب التاسع ـ الوصية بالأجزاء: بينت في بحث الوصية بالمجهول: أن من أوصي له بجزء أو حظ أو نصيب أو قسط أو شيء، فلورثة الموصي عند الجمهور أن يعطوه ما شاؤوا من متمول. ويعطى عند المالكية سهماً واحداً من سهام التركة، ثم يقسم الباقي على الورثة. المطلب العاشر ـ تنفيذ الوصية: إذا كانت موجودات التركة كلها مالاً حاضراً، لا غائب منها ولا دين لها على أحد، تنفذ الوصية من جميع المال، سواء أكان الموصى به نقوداً مرسلة، أي مبلغاً غير معين كألف دينار مثلاً، أم شيئاً معيناً كدار معينة، أم سهماً شائعاً كربع التركة أو ثلثها، فتقدر التركة جميعها، ويأخذ الموصى له سهمه من كل المال. أما إذا كان بعض مال التركة حاضراً، وبعضها ديوناً، أو مالاً غائباً، فإن تنفيذ الوصية يختلف بحسب الأحوال، إذ قد يكون في التركة دين على أجنبي، أو دين على وارث (¬1). أولاً ـ أن يكون في التركة دين على أجنبي، أو مال غائب: لها أربعة أحوال: ¬
الحال الأولى ـ أن يكون الموصى به مالا مرسلا
الحال الأولى ـ أن يكون الموصى به مالاً مرسلاً كألف دينار مثلاً: فإن كان الموصى به يخرج من ثلث المال الحاضر من التركة، أخذه الموصى له، إذ لا ضرر في أخذه على الورثة، حيث يبقى لهم ثلثا المال الحاضر. وإن كان لا يخرج من الثلث، استوفى الموصى له منه بقدر ثلث الموجود، وكان الباقي للورثة، وكلما حضر شيء، استوفى الموصى له ثلثه حتى يكمل حقه. وهذا رأي الحنفية. الحال الثانية ـ أن يكون الموصى به عيناً معينة كدار معينة أو نقود معينة كهذه النقود أو النقود الوديعة عند فلان. الحكم في هذه الحال كالحكم في المسألة السابقة، وهو رأي المالكية؛ لأن بقاء العين موقوفة يؤخر القسمة، وقد يضر التأخر بالورثة، وفي تملكهم الباقي من العين نفي الضرر عنهم، ولا ضرر فيه على الموصى له لأنه يستعيض عن باقي حصته بقيمته. فإذا كانت الدار تساوي ألفاً، والموجود من التركة الحاضرة ألف وخمس مئة، وهناك ألف وخمس مئة غائبة، استحق الموصى له نصف الدار وهو ما يساوي ثلث الحاضر، ويكون النصف الباقي للورثة، وكلما حضر شيء من المال الغائب أخذ الموصى له ثلثه حتى يستوفي قيمة النصف الذي استولى عليه الورثة. أخذ القانون المصري (م43) والسوري (م241) بالمقرر في هاتين الحالتين، الأولى من مذهب الحنفية، والثانية من مذهب المالكية لأنه أيسر وأسهل. ويرى الحنفية في الحال الثانية: أن الموصى له يأخذ من العين المعينة بمقدار ثلث المال الحاضر، ويكون الباقي من تلك العين موقوفاً، فإذا حضر شيء من المال الغائب، أخذ الموصى له من باقي العين ما يساوي ثلث الذي حضر، حتى يستوفي العين كلها، فإن هلك المال الغائب كان باقي العين ملكاً للورثة؛ لأن الوصية
الحال الثالثة ـ أن تكون الوصية بسهم شائع في التركة
تعلقت بهذه العين، فتنفذ فيها الوصية ما دام التنفيذ ممكناً، تنفيذاً لإرادة الموصي، ويظل باقي العين موقوفاً إلى أن يتبين أمر المال الغائب، فإذا حضر نفذت الوصية في العين كلها، وإن لم يحضر كان الباقي للورثة. وعليه يكون النصف الباقي في المثال السابق موقوفاً، فإذا حضر شيء من المال الغائب، أخذ الموصي من باقي الدار مايساوي ثلث المال الذي حضر. الحال الثالثة ـ أن تكون الوصية بسهم شائع في التركة كالربع أو الثلث: ففي هذه الحال يكون الموصى له شريكاً للورثة في جميع المال حاضره وغائبه، دينه وعينه، فيستوفي سهمه من المال الحاضر، أي ربعه مثلاً، وكلما حضر شيء من المال الغائب، استوفى سهمه منه، وهو الربع في هذا المثال. وهذا متفق عليه فقهاً، وقد أخذ به القانون المصري (م 44) والسوري (م242). الحال الرابعة: أن تكون الوصية بسهم شائع في نوع من المال كربع منازله في الجهة الفلانية، أو ربع أمواله التجارية أو ديونه على التجار. أـ فإن كان النوع الموصى بسهم فيه حاضراً: أخذ الموصى له سهمه منه إن خرج من الثلث، فإن لم يخرج أخذ منه بمقدار الثلث، وكان الباقي للورثة. وكلما حضر شيء من الدين أو المال الغائب أخذ الموصى له من ذلك النوع ما يساوي ثلث الذي حضر، إلى أن يستوفي سهمه منه. فإن تصرف الورثة في الجزء الباقي من النوع الموصى بسهم فيه، أو أحدثوا فيه تحسيناً، وكان في رده للموصى له ضرر بهم، كان لهم الحق في إعطاء الموصى له قيمة الباقي من الوصية.
ثانيا ـ أن يكون في التركة دين على وارث
ب ـ وإن كان النوع الموصى بسهم فيه غائباً، أو بعضه حاضراً والآخر غائباً: فقال الحنابلة وزفر: يأخذ الموصى له في هذه الحال نسبة سهمه في الجزء الحاضر من ذلك النوع فقط، وكلما حضر شيء من المال الغائب، أخذ بنسبة سهمه منه، ويكون الباقي للورثة. وقال الحنفية ما عدا زفر: يأخذ الموصى له كل ما يحضر من المال الغائب أو الدين، إلى أن يستوفي حقه كله، ولا يشاركه أحد من الورثة في شيء منه ما دام يخرج من ثلث الحاضر من التركة. أخذ القانون المصري (م45) بالرأي الأول. ثانياً ـ أن يكون في التركة دين على وارث: لها أحوال ثلاث: الحال الأولى ـ أن يكون الدين مؤجلا ً: حكمه حكم الدين الذي على الأجنبي في جميع الأحوال السابقة، فلا يأخذ الموصى له إلا حصته في المال الحاضر وفي حدود الثلث، فإذا حل أجل الدين كمل له مقدار الوصية. الحال الثانية ـ أن يكون الدين قد حل أداؤه عند الوفاة أو عند القسمة، وكان أقل من نصيب الوارث المدين في التركة أو مساوياً. فتقع المقاصة بين الدين وسهام المدين إن كان الدين من جنس الحاضر من التركة، ويعتبر الدين بهذه المقاصة مالاً حاضراً. فلو أوصى بألف وترك ولدين أحدهما مدين بألف، وترك ثلاثة آلاف، تقسم التركة ثلاثة أسهم، لكل من الولدين سهم، وللموصى له سهم، ويعتبر
الحال الثالثة ـ أن يكون الدين مستحق الأداء
الدين حاضراً، فيأخذ الموصى له ألفاً، ويأخذ الولد غير المدين ألفاً، ولا يأخذ الولد المدين شيئاً، إذ تقع المقاصة بين نصيبه من التركة وبين ما عليه من الدين، وسقط سهمه من التركة. وإذا كان الدين من غير جنس الحاضر من التركة، لا تقع المقاصة، ولكن يعتبر نصيب الوارث المدين من التركة محجوزاً كالرهن لاستيفاء الدين، فإذا أدى ما عليه تسلم نصيبه، وإن لم يؤده باع القاضي نصيبه، ووفى الدين المستحق للتركة من ثمنه. الحال الثالثة ـ أن يكون الدين مستحق الأداء، أي قد حل وقت أدائه عند قسمة التركة، ونصيب الوارث لا يفي به: في هذه الحال يكون الزائد عن النصيب كالدين على أجنبي، أي يعد مالاً غائباً، والذي يقابل مقدار نصيبه يعد مالاً حاضراً، فيأخذ الموصى له من الوصية بمقدار ثلث الحاضر كله. ثم يأخذ ثلث ما يستوفى من القدر الزائد من الدين، حتى يستوفي وصيته. هذه الأحكام مأخوذة من مذهب الحنفية، وأخذ بها القانون المصري (م46) والسوري (م 2/ 242 - 3) وأضاف كل منهما أن أنواع النقد وأوراقه تعتبر جنساً واحداً في المقاصة. المبحث الرابع ـ مبطلات الوصية: تبطل الوصية بأسباب: إما من الموصي كرجوعه عن الوصية أو زوال أهليته، أو ردته، وإما من الموصى له وهو رد الوصية أو موته، أو قتل الموصي، وإما من
- زوال أهلية الموصي بالجنون المطبق ونحوه
الموصى به وهو هلاك العين الموصى بها أو استحقاقها. وهذه الأسباب مايلي (¬1): 1ً - زوال أهلية الموصي بالجنون المطبق ونحوه: تبطل الوصية عند الحنفية بالجنون المطبق ونحوه كالعته، سواء اتصل بالموت أو لم يتصل بأن أفاق قبل الموت؛ لأن الوصية عقد غير لازم كالوكالة، فيكون لبقائه حكم ابتدائه، ولما كان المجنون غير أهل لإنشاء الوصية في الابتداء؛ لأن قوله غير ملزم، كان طروء الجنون المطبق مبطلاً له. والجنون المطبق: ما دام شهراً فأكثر، وهو رأي أبي يوسف الذي أخذ به القانون. وعند محمد: هو ما امتد سنة. والعته مثل الجنون. فإن لم يطبق الجنون لا تبطل الوصية؛ لأنه في هذه الحالة يشبه الإغماء، وغير مبطل للعقد؛ لأنه غير مزيل للعقل، كما لا تبطل بالحجر على الموصي للسفه أو الغفلة. أخذ القانون المصري (م 14، 16) والسوري (م 220/أ) بتلك الأحكام، لكنه اعتبر الجنون المطبق مبطلاً إذا اتصل بالموت. أما الجمهور غير الحنفية: فلم يبطلوا الوصية بالجنون، سواء أكان مطبقاً أم لا، وسواء اتصل بالموت أو لم يتصل، متى كان كامل الأهلية (بالغاً عاقلاً) وقت إنشائها؛ لأن العقود والتصرفات تعتمد في صحتها على تحقق الأهلية وقت إنشائها فقط، ولا يؤثر زوالها بعدئذ في صحة العقد أو التصرف، بدليل أن البيع والإجارة والوقف وغيرها لا تبطل بالجنون الطارئ. وهذا هو الراجح لدي؛ لأن كمال الأهلية يطلب عند الانعقاد. أما احتمال رجوع الموصي عن الوصية لولا جنونه فهو احتمال ضعيف. ¬
- ردة الموصي
2ً - ردة الموصي: عند الحنفية والشافعية، وكذا ردة الموصى له عند المالكية إذا مات مرتداً ولم يرجع إلى الإسلام؛ لأن ملكه موقوف على الأصح، ولم يتعرض القانون للردة، لقلة وقوعها، وعملاً بمذهب الحنابلة القائلين بصحة وصية المرتد. 3ً - تعليق الوصية على شرط لم يحصل: كأن قال: إن مت من مرضي هذا، أو من سفري هذا، فلفلان كذا، فلم يمت، فتبطل الوصية؛ لأنه علقها على الموت في المرض والسفر، ولم يحصل. وقد صرح المالكية والحنفية والحنابلة به. 4ً - الرجوع عن الوصية: تبطل به بالاتفاق؛ لأنها عقد غير لازم، فيجوز للموصي الرجوع فيها متى شاء؛ لأن الذي وجد منه الإيجاب فقط، ولأنها عقد لا يثبت حكمه إلا بعد موت الموصي، فلا يترتب على الإيجاب أي حق للموصى له قبل ذلك، فيكون بالخيار بين الإمضاء والرجوع. والرجوع إما أن يكون صريحاً أو دلالة: الرجوع الصريح: ما كان بلفظ هو نص في الرجوع، مثل قول الموصي: رجعت عن وصيتي لفلان، أو تركتها، أو أبطلتها، أو نقضتها، أو ما أوصيت به لفلان هو لورثتي، ونحوه. وهذا متفق عليه فقهاً وقانوناً؛ لأنه صريح في عدول الموصي عن وصيته، وهو يملك العدول متى شاء. ولا يعد رجوعاً: (ندمت على الوصية التي أوصيت بها لفلان) أو (تعجلت) أو (أخرت الوصية) لأن التأخير لا يستلزم السقوط كتأخير الدين عن المدين، وكذلك (كل وصية أوصيت بها لفلان فهي حرام) لا يدل على الرجوع، أو تغيير الموصى له من زيد لخالد مثلاً، بل يكون الموصى به مشتركاً.
الرجوع دلالة
ولا يكون جحود الوصية رجوعاً في رأي محمد، وهو ما أخذ به القانون، ويعد رجوعاً عند أبي يوسف والمالكية، كما أبنت في بحث صفة الوصية. والرجوع دلالة: كل تصرف أو فعل في الموصى به يفيد رجوعه عن الوصية. وهو يشمل ما يأتي: أولاً ـ كل تصرف قولي يخرج العين عن ملك الوصي: كأن يبيع الشيء الموصى به، أويهبه، أويتصدق به أو يجعله مهراً أو وقفاً. وهذا متفق عليه فقهاً وقانوناً. لكن هل تعود الوصية بعودة الملك إلى الموصي؟ رأيان: مذهب الجمهور: متى بطلت الوصية لخروج الموصى به عن ملك الموصي، فلا تعود بعدئذ بعودة الملك؛ لأن الإقدام على التصرف قرينة قاطعة في ذاته على الرجوع. ومذهب المالكية: إذا عاد الموصى به إلى ملك الموصي، عادت الوصية من غير حاجة إلى إيصاء جديد. والظاهر رجحان الرأي الأول، الذي أخذ به القانون، لفوات المحل المعقود عليه، بزوال ملكيته عنه. ثانياً ـ كل فعل في العين الموصى بها يدل على الرجوع عن الوصية، وهوأنواع ثلاثة: نوع يدل على الرجوع بالاتفاق: وهو استهلاك العين الموصى بها في المعنى، كذبح الشاة الموصى بها، وغزل القطن الموصى به، ونسج الغزل، ونحوه مما يغير حقيقة الشيء، ويصبح شيئاً آخر غير الموصى به، ويلحق به ما لو تغير الشيء بنفسه تغيراً أزال اسمه كصيرورة العنب زبيباً والبيض فراخاً ونحوه. وكذلك لو تغير الشيء بفعل الموصي تغيراً أزال اسمه كنسج الغزل وصوغ
نوع لا يدل على الرجوع بالاتفاق
المعدن وطحن الحنطة وتفصيل البفتة (¬1) وتذرية الحب يعد رجوعاً حتى عند المالكية. ونوع لا يدل على الرجوع بالاتفاق؛ وهو كل فعل تابع للعين أو في صفة من صفاتها بحيث لا يحدث تغييراً في حقيقة العين ولا يزيل اسماً عنها، مثل جزّ الصوف، وحلب اللبن، وسقي الزرع أو الشجر، وتشذيب الأشجار، وتجصيص الدار وزخرفتها وترميمها؛ لأن هذه الأفعال تعلقت بأمر خارج عن عين الموصى به، فلا تدل على الرجوع. فهذه الأفعال والتصرف في الموصى به بحيث لا يخرجه عن ملك الموصي كالإجارة والإعارة لا تعد رجوعاً. ونوع مختلف فيه بين الفقهاء: وهو إحداث زيادة في الموصى به لا يمكن تسليم العين بدونها، كصبغ الثوب، وبناء الأرض وزرعها شجراً، ولتّ الطحين بالسمن. وخلط الموصى به بما لا يمكن تمييزه إلا بمشقة، كخلط الدقيق بالسكر، وخلط القمح الموصى به بقمح آخر أو بشعير. عند الجمهور: يعتبر المذكور من قبيل الرجوع دلالة. وعند المالكية: لا يعتبر ما ذكر رجوعاً إلا بقرينة أخرى تدل على إرادة الرجوع. والقانون أخذ بمذهب المالكية فيما يعتبر من الأفعال رجوعاً وما لا يعتبر، على النحو الذي أبنته في صفة الوصية. ولقد حققت مذهب المالكية في أن تغيير اسم الشيء كتذرية الحب ونسج الغزل وصوغ المعدن وتفصيل البفتة (¬2) وحشو ¬
5 - رد الوصية
القطن الموصى به إذا كان لا يخرج منه بعد الحشو يعد رجوعاً. لكن القانون لم يعتبر رجوعاً الفعل الذي يزيل اسم الموصى به أو يغير معظم صفاته إلا إذا دلت قرينة أو عرف على أن الموصي يقصد به الرجوع عن الوصية. 5 - رد الوصية: تبطل الوصية إذا ردها الموصى له بعد وفاة الموصي، كما أوضحت في بحث صيغة العقد. 6 - موت الموصى له المعين قبل موت الموصي: تبطل به الوصية باتفاق المذاهب الأربعة؛ لأن الوصية عطية، وقد صادفت المعطى ميتاً، فلا تصح كالهبة للميت، ولأن الوصية لا تلزم إلا بوفاة الموصي وقبول الموصى له. وكذلك تبطل الوصية عند الجمهور غير الحنفية إذا مات الموصى له بعد موت الموصي قبل القبول. وعند الحنفية: لا تبطل لأن القبول معناه عندهم عدم الرد. وتبطل الوصية عند الجمهور بموت الموصى له، سواء علم الموصي بموته أم لم يعلم. وللمالكية تفصيل سبق ذكره. 7 - قتل الموصى له الموصي: تبطل الوصية عند الحنفية والحنابلة للقاتل، سواء أكان القتل قبل وصية أم بعدها، حتى لو أجاز الورثة الوصية، وأجازها الموصي بعد القتل وقبل الموت. وقد فصلت الكلام فيه وبينت رأي الفقهاء الآخرين في بحث شروط الموصى له. 8 - هلاك الموصى به المعين أو استحقاقه: تبطل الوصية إذا كان الموصى به معيناً بالذات، وهلك قبل قبول الموصى له؛ لفوات محل حكم الوصية، ويستحيل ثبوت حكم التصرف أو بقاؤه بدون وجود محله أو بقائه، كما لو أوصى بهذه الشاة، فهلكت، تبطل الوصية؛ لأن الوصية تعلقت بعين قائمة وقت الإيصاء، وقد فاتت بعدئذ، ففات محل الوصية.
9 - تبطل الوصية لوارث
وكذلك تبطل الوصية إذا كانت بجزء شائع في شيء معين بذاته أو من نوع معين من أمواله، كأن يوصي بنصف هذه الدار، أو يوصي بفرس من أفراسه العشرة المعلومة، فهلكت، أو بنصف دوره، فهدمت، فلا شيء للموصى له، لفوات محل الوصية. وتبطل الوصية أيضاً باستحقاق العين الموصى بها، سواء أكان الاستحقاق قبل موت الموصي أم بعده؛ لأن بالاستحقاق تبين أن الوصية كانت في غير ملكه، فتبطل. وأخذ القانون المصري (م15) والسوري (م 244، 245) بهذه الأحكام، فقررا بطلان الوصية بهلاك الموصى به المعين أو باستحقاقه. 9 - تبطل الوصية لوارث عند المالكية ولو أجازها الورثة، لحديث «لا وصية لوارث». المبحث الخامس ـ تزاحم الوصايا: تزاحم الوصايا: أن تتعدد، ويضيق الثلث عنها ولم يجز الورثة، أو يجيزوا ولا تتسع التركة لتنفيذ كل الوصايا. ولا يخلو حال تعدد الوصايا من أحد أمور ثلاثة: 1 - إما أن تكون كلها للعباد، كخالد وبكر وعمرو. 2 - وإما أن تكون كلها لله تعالى كالإيصاء بفدية صيام وصدقة تطوع وعمارة مسجد ونحوها. 3 - وإما أن تكون مشتركة من النوعين السابقين، بأن يكون بعضها لله، والبعض الآخر للعباد. فكيف تنفذ الوصايا؟
1 - قاعدة التزاحم في الوصايا بين العباد
للفقهاء آراء (¬1): فصل الحنفية في هذا الموضوع: فأبانوا قواعد حل التزاحم بين الوصايا. 1 - قاعدة التزاحم في الوصايا بين العباد: إذا أوصى شخص بعدة وصايا لأشخاص معينين، وزادت الوصايا في مجموعها عن الثلث، ولم تجز الورثة الزائد، أو أجازوا ولم تتسع التركة لتنفيذ الوصايا، فيكون لها حالتان: الأولى ـ أن تكون كل وصية من الوصايا لا تتجاوز الثلث: كسدس المال لشخص، والربع لآخر، والثلث لثالث. يضرب كل سهم في الثلث، أي يأخذ كل واحد من الوصية بنسبة وصيته من الثلث، ويقسم ثلث التركة على تسعة، فيعطى الأول اثنين من السهام، والثاني ثلاثة، والثالث أربعة. وهذا متفق عليه بين أبي حنيفة وصاحبيه، وبه أخذ القانون. الثانية: أن تكون إحدى الوصايا زائدة على الثلث: كثلث لواحد ونصف لآخر: قال أبو حنيفة: يقسم الثلث بينهما مناصفة؛ لأن الوصية إذا زادت عن الثلث ولم تجز الورثة، تكون باطلة في القدر الزائد، فيكون هناك وصيتان كلتاهما بالثلث تتزاحمان فيه، فيكون ثلث التركة بين الموصى لهما نصفين. وهذا هو المفتى به عند الحنفية. ¬
وقال الصاحبان وبقية الأئمة وبه أخذ القانون المصري (م80) والسوري (م258): يقسم الثلث بينهما بنسبة أنصبائهم في الوصية، كالحالة الأولى، ولا يلغى الزائد على الثلث ـ كما قال أبو حنيفة ـ لأنه يلزم مراعاة رغبة الموصي بقدر الإمكان، في تفضيل بعض الموصى لهم على بعض. واستثنى أبو حنيفة ثلاث حالات: هي المحاباة، والدراهم المرسلة، والسعاية، وافق فيها الصاحبين في القسمة بحسب السهام، وليس مناصفة (¬1)، أوضح هنا الحالتين الأوليين، أما الثالثة فلا حاجة لبيانها بالعبيد، فهي غير واقعية الآن. أما المحاباة: فهي محاباة بعض الناس في ثمن البيع، كأن يوصي شخص بأن تباع سيارته التي تساوي قيمتها ثلاثة آلاف بألف والسيارة التي تعادل قيمتها ستة آلاف بألفين، علماً بأنه لا مال له سواهما، فهو يريد الوصية بفرق السعرين، فيقسم الثلث وهو الثلاثة الآلاف بينهما أثلاثاً، ثلثه للأول، وثلثاه للثاني. وأما الدراهم المرسلة (¬2): فهي أن يوصي لشخص بأربع مئة دينار، ولآخر بثمان مئة، وتركته كلها ألف ومائتا دينار، ولم تجز الورثة، فكأنه أوصى لواحد بالثلث، ولآخر بالثلثين. فيقسم الثلث بينهما أثلاثاً، للأول ثلثه، وللآخر ثلثاه. وسبب الاستثناء في رأي أبي حنيفة: أن الموصي لم يصرح في وصيته بما يبطلها وهو الزيادة على الثلث، وإنما جاء البطلان من الواقع بطريق المزاحمة وضيق التركة وعدم وفاء ثلثها بالوصيتين، ومن الممكن أن يظهر له مال فوق هذا المقدار، فلا تبطل الوصية. ¬
2 - التزاحم بين الوصايا في حقوق الله تعالى
2 - التزاحم بين الوصايا في حقوق الله تعالى: إذا أوصى بوصايا تزيد عن الثلث، وكلها من حقوق الله تعالى، فإما أن تكون متحدة الرتبة، أو متفاوتة الرتبة، أو مختلطة. فإذا كانت متحدة الرتبة بأن كانت كلها فرائض كالحج والزكاة أو كلها واجبات أو كلها مندوبات: يقدم فيها في رأي أبي حنيفة وصاحبيه ما بدأ به الميت أولاً، فإذا أوصى بحج وزكاة، قدم الحج. وإذا أوصى بكفارة يمين وكفارة ظهار، قدمت الوصية الأولى، فإن فضل شيء من الثلث فللثانية. وإذا كانت متفاوتة الرتبة: كأن كان بعض الوصايا بالفرائض، وبعضها بالواجبات كصدقة الفطر عند الحنفية. وبعضها بالمندوبات كحج التطوع، قدم الفرض ثم الواجب ثم المندوب. 3 - التزاحم بين وصايا حق الله وحق العباد: يحدث ذلك كما إذا أوصى للحج والزكاة والكفارة من الناس، فإنه يقسم الثلث بينهما أرباعاً، ويعطى لكل جهة الربع، فيكون للحج ربع الثلث، وللزكاة ربع الثلث، وللكفارة ربع الثلث، ولخالد ربع الثلث. وعند استواء القربات في القوة يقدم منها ما بدأ به الموصي، أو الأقوى عبادة أو تقسم على الجميع بالتساوي، على حسب ما ذكرته من الآراء. نص القانون المصري (م80) والسوري (م 258، 259) على الأحكام السابقة في تزاحم الوصايا عدولاً عن رأي أبي حنيفة إلى رأي الصاحبين. أما المذاهب الأخرى: فمتفقة مع رأي الصاحبين: فإذا كانت الوصايا التي
المبحث السادس ـ الوصية الواجبة قانونا
يضيق عنها الثلث مستوية تتحاص في الثلث، أي يقسَّط الثلث على الجميع بنسبة كل منها. فمن أوصى لاثنين: لأحدهما بنصف ماله، وللآخر بثلث ماله، ورد الورثة الزائد، فإنهما يقتسمان الثلث بينهما أخماساً. وإذا أجاز الورثة الوصية، كأن أوصى بنصف ماله لشخص، ولآخر بجميع ماله، قسم المال بينهما أثلاثاً: يأخذ الموصى له بالنصف ثلثه، والباقي يأخذه الموصى له بالكل. وإذا كان بعض الوصايا أهم من بعض، قدم الأهم على الأضعف. وعلم سابقاً أن الوصية بالزائد عن الثلث تبطل عند المالكية على المشهور، ولو أجازها الورثة، وعند الإجازة يعتبر الزائد على الثلث عطاء جديداً من الورثة، لاتنفيذاً لوصية الميت، فيشترط فيه أن يكون الوارث المجيز أهلاً للتبرع، ولا بد فيه من القبول، ولا بد من حيازة الموصى له قبل حصول مانع للمجيز. المبحث السادس ـ الوصية الواجبة قانونا ً: مستندها الفقهي ومسوغاتها، من تجب له، شروط وجوبها، مقدار الوصية الواجبة، طريقة استخراجها من التركة (¬1). المستند الفقهي للوصية الواجبة ومسوغاتها: بينت أن الوصية للأقارب مستحبة عند الجمهور منهم أئمة المذاهب الأربعة، ولا تجب على الشخص إلا بحق لله أو للعباد. ¬
ويرى بعض الفقهاء كابن حزم الظاهري والطبري وأبي بكر بن عبد العزيز من الحنابلة: أن الوصية واجبة ديانة وقضاء للوالدين والأقربين الذين لا يرثون، لحجبهم عن الميراث، أو لمانع يمنعهم من الإرث كاختلاف الدين، فإذا لم يوص الميت للأقارب بشيء وجب على ورثته أو على الوصي إخراج شيء غير محدد المقدار من مال الميت وإعطاؤه للوالدين غير الوارثين. أخذ القانون المصري (م76 - 79) والسوري (م 257) بالرأي الثاني، فأوجب الوصية لبعض المحرومين من الإرث وهم الأحفاد الذين يموت آباؤهم في حياة أبيهم أو أمهم، أو يموتون معهم ولو حكماً كالغرقى والحرقى. ففي نظام الإرث الإسلامي لا يستحق هؤلاء الحفدة شيئاً من ميراث الجد أو الجدة، لوجود أعمامهم أو عماتهم على قيد الحياة. لكن قد يكون هؤلاء الحفدة في فقر وحاجة، ويكون أعمامهم أو عماتهم في غنى وثروة. فاستحدث القانون نظام الوصية الواجبة لمعالجة هذه المشكلة تمشياً مع روح التشريع الإسلامي في توزيع الثروة على أساس من العدل والمنطق، إذ ما ذنب ولد المتوفى (ابن المحروم) في الحرمان من نصيب والده الذي توفي مبكراً قبل والده، ويكون قد ساهم في تكوين ثروة الجد بنصيب ملحوظ، فيجتمع عليهم الحاجة وفقد الوالد. وبما أن الأحفاد غير ورثة في حال موت أبيهم، فلولي الأمر قصر صفة غير الوارث عليهم للمصلحة، ولأنهم أولى الناس بمال الجد. فإذا لم يوص الجد أو الجدة لهؤلاء الحفدة بمثل نصيب أصلهم، تجب لهم الوصية بإيجاب الله تعالى بمثل هذا النصيب على ألا يزيد على الثلث، لقوله
من تجب له هذه الوصية
تعالى: {كتب عليكم إذا حضر أحدَكم الموتُ إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف، حقاً على المتقين} [البقرة:180/ 2]. وبما أن هذه الوصية لا تتوافر لها مقومات الوصية الاختيارية لعدم الإيجاب من الموصي والقبول من الموصى له، فهي أشبه بالميراث، فيسلك فيها مسلك الميراث، فيجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، ويحجب الأصل فرعه، ويأخذ كل فرع نصيب أصله فقط. من تجب له هذه الوصية: أوجب القانون المصري هذه الوصية لأولاد الابن مهما نزلوا، وللطبقة الأولى فقط من أولاد البنت. وأوجبها أيضاً لفروع من مات مع أبيه أو أمه في حادث واحد، ولا يدرى أيهم سبقت إليه المنية، كالغرقى والهدمى والحرقى، ونحوهم؛ لأن من جهل وقت وفاتهم لا يرث فقهاً أحدهم الآخر، فلا يرث الفرع أصله في تلك الحالة، فتجب الوصية لذرية ذلك الفرع قانوناً. وكما تجب للأحفاد الذين مات أبوهم أو أمهم حقيقة، تجب أيضاً لمن حكم بموت أبيه أوأمه، كالمفقود الذي غاب أربع سنين فأكثر في مظنة هلاك، كالحرب ونحوها. أما القانون السوري فإنه قصر هذه الوصية على أولاد الابن فقط، ذكوراً وإناثاً، دون أولاد البنت؛ لأن هؤلاء لا يحرمون من الميراث في هذه الحالة لوجود أخوالهم أو خالاتهم، وإنما هم من ذوي الأرحام الذين يرثون في رأي الحنفية عند عدم ذوي الفروض والعصبات. والأولى الأخذ بما ذهب إلىه القانون المصري تسوية بين فئتين من جنس واحد، سواء لطبقة واحدة أم لأكثر.
شروط وجوب هذه الوصية
شروط وجوب هذه الوصية: اشترط القانون المصري والسوري لوجوب هذه الوصية شرطين: الأول ـ أن يكون فرع الولد غير وارث من المتوفى: فإن ورث منه، ولو ميراثاً قليلاً، لم يستحق هذه الوصية. الثاني ـ ألا يكون المتوفى قد أعطاه ما يساوي الوصية الواجبة، بغير عوض عن طريق آخر كالهبة أو الوصية. فإن أعطاه ما يستحقه بهذه الوصية فلا تجب له. وإن أعطاه أقل منها، وجب له ما يكمل مقدار الوصية الواجبة. وإذا أعطى بعض المستحقين دون البعض الآخر، وجب للمحروم وصية بقدر نصيبه. مقدار الوصية الواجبة: يستحق الأحفاد حصة أبيهم المتوفى في القانون المصري لو أن أصله مات في حياته، على ألا يزيد النصيب عن الثلث، فإن زاد عنه كان الزائد موقوفاً على إجازة الورثة. هذا هو مقدار الوصية الواجبة في القانون. أما الفقهاء القائلون بوجوب الوصية للوالدين والأقربين غيرالوارثين فلم يحددوا مقدار هذه الوصية. وبناء على ما حدده القانون، إن مات شخص عن ابن وبنتين وأولاد ابن متوفى في حياة أبيه، فيستحق هؤلاء الأحفاد ما كان يستحقه أبوهم لو كان حياً، وهو هنا ثلث التركة. وفي السوري: يستحقون حصتهم مما يرث أبوهم. وإن توفي عن ابن وبنت وأولاد بنت توفيت في حياة أبيها، فيأخذ أولاد البنت ـ في القانون المصري، لا السوري ـ نصيب أمهم وهو هنا ربع التركة. وإن مات عن ابن وبنت وأولاد ابن مات في حياة أبيه، فإن ماكان يستحقه الابن المتوفى وهو خمسا التركة، هو أكثر من الثلث، فلا يأخذ أولاده إلا الثلث.
تقديم هذه الوصية
تقديم هذه الوصية: نص القانون على أن الوصية الواجبة مقدمة على غيرها من الوصايا الاختيارية الأخرى في الاستيفاء من ثلث التركة. والوصية الاختيارية: هي ما أنشأه الموصي باختياره قبل وفاته من وصايا، ولو كانت واجبة ديانة كالوصية بفدية الصوم والصلاة؛ لأنها آكد منها، إذ أن لها مطالباً من جهة العباد. فإن استوعب الثلث جميع الوصايا ـ الواجبة والاختيارية ـ نفذت كلها، وإن لم يستوعبها نفذت الوصية الواجبة أولاً، ثم بقية الوصايا بحسب أحكام تزاحم الوصايا. الفرق بين القانون السوري والقانون المصري في مقدار الوصية الواجبة: نصت المادة (257) ـ الفقرة (أ) من قانون الأحوال الشخصية السوري على ما يلي: أـ الوصية الواجبة لهؤلاء الأحفاد تكون بمقدار حصتهم مما يرثه أبوهم عن أصله المتوفى على فرض موت أبيهم إثر وفاة أصله المذكور، على أن لا يتجاوز ذلك ثلث التركة. وهذا النص واضح في أن حصة الحفيد: هي ما يأخذه من أبيه المتوفى فيما لو فرض وظل على قيد الحياة. أما نص المادة (76) من قانون الوصية المصري المأخوذ منه أحكام المادة (257) من قانون الأحوال الشخصية السوري، فيقتضى إعطاء الحفيد كامل حصة أبيه المتوفى، من ثلث التركة، مقدماً حق الوصية الواجبة على بقية الوصايا الاختيارية، وليس هو ما يأخذه من حصة أبيه. ويتضح الفرق بالمثالين التاليين:
المثال الأول على الطريقة السورية: يلاحظ أن ما أخذه الحفيد وهو (1632) أقل من ثلث التركة؛ لأن للبنات الثلثين من حصة والدهن، والمسألة الجامعة (6912) مكبرة إلى ستة أضعاف. صورة 7568
المثال الثاني على الطريقة المصرية: يلاحظ أنه لم يعط في هذه المسألة لبنات الابن الـ 3 (الحفدة) كامل نصيب أبيهن لتجاوزه ثلث التركة، بل اقتصر على ثلث التركة وهو (384) من أصل (1152) أي (2304) من أصل (6912)، وهذا التصحيح أيسر من الطريقة السورية، ولكن التزام النص القانوني في سورية هو الذي أوجب العمل بما ذكر في المثال الأول. أما في مصر فيعطى الأحفاد نصيب الوالد في حدود الثلث، لا النسبة الإرثية من الأب، وهذا الثلث أو كامل نصيب الوالد إذا كان أقل من الثلث يوزع بين الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين. صورة 7569
طريقة استخراج الوصية الواجبة
طريقة استخراج الوصية الواجبة: لم ينص القانون على طريقة استخراج الوصية الواجبة، ولكنه أرشد إلى ضرورة مراعاة الأمور التالية: 1 - ألا يزيد المقدار المستخرج عن ثلث التركة. 2 - أن يكون بمقدار نصيب الأب المتوفى في حياة أبيه. 3 - أن يكون التنفيذ على اعتبار أن الخارج وصية، لا ميراث، فيخرج من جميع التركة، لا من الثلث فقط. والطريقة: هي أن يفرض المتوفى في حياة والده حياً،،ويعطى نصيبه، ثم يخرج ذلك النصيب من التركة، بشرط ألا يزيد على الثلث، ويعطى للأحفاد. ثم يقسم باقي التركة بين الورثة، من غير نظر إلى الولد المتوفى الذي فرض حياً. كأن يتوفى شخص ويترك ثلاثة أبناء وبنت ابن متوفى، وأباً وأماً. يفرض أولاً وجود الابن الذي توفي في حياة أبيه، فيكون للأب السدس، ولكل واحد من الأبناء الأربعة السدس، ثم يخرج نصيب الابن المتوفى من أصل التركة، فيعطى لبنته وصية واجبة. ثم يقسم باقي التركة على الورثة الموجودين بالفعل بحسب الفريضة الشرعية، فيكون للأب سدس الباقي، وللأم مثل ذلك، ويوزع ما بقي بين الأبناء الثلاثة أثلاثاً. المبحث السابع ـ إثبات الوصية: يندب بالاتفاق كتابة الوصية، وبدؤها بالبسملة والثناء على الله بالحمد ونحوه والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم، ثم إعلان الشهادتين كتابة أو نطقاً بعد البسملة والحمدلة والصلولة، ثم الإشهاد على الوصية لأجل صحتها ونفوذها.
الشهادة على كتاب الوصية
وقد بينت في المبحث الأول أن الوصية تنعقد بالعبارة وبالكتابة، وكذا بالإشارة المفهمة عند المالكية. ونص القانون المصري (م2/أ) والسوري (208) على طرق إنشاء الوصية، وذكر أنها تنعقد بالعبارة أو الكتابة لمن قدر عليهما. فإن لم يكن قادراً عليهما انعقدت الوصية بالإشارة المفهمة الدالة على ذلك، وأخذ القانون بمذهب الشافعية، فسوى في حالة العجز عن الكتابة أو العبارة بين العجز الأصلي كالخرس، والعجز بسبب طارئ كالمرض. واعتبرت الإشارة حجة للحاجة إليها في إثبات حقوق العباد. وتثبت الوصية بطرق الإثبات الشرعية كالشهادة والكتابة. أما الكتابة: فمعتبرة عند الحنفية (¬1) إذا كانت مستبينة مرسومة أي مسطرة على ورق ونحوه، ومعنونة أي مصدَّرة بالعنوان: وهو أن يكتب في صدر الكتاب من فلان إلى فلان، فإن لم تكن مستبينة كالكتابة على الهواء والرَّقْم على الماء فلا تعتبر، وإن كانت مستبينة غير مرسومة كالكتابة على الجدران وأوراق الأشجار، فهي كناية لابد فيها من النية. ولكن لايقضى بالخط المجرد عندهم إلا في مسائل: كتاب أهل الحرب بطلب الأمان إلى الإمام، ودفتر السمسار والصراف والبياع. وأما الشهادة على كتاب الوصية: فتكون عند الحنفية والشافعية (¬2) بعد قراءته على الشهود، فيسمع الشهود من الموصي مضمونه، أو تقرأ عليه فيقر بما فيها؛ لأن الحكم لايجوز برؤية خط الشاهد بالشهادة بالإجماع. لكن تنعقد الوصية عند الشافعية بالكتابة بأن نوى بالمكتوب الوصية، وأعرب بالنية نطقاً، أو أقرَّ بها ورثته بعد موته. ولاتثبت الوصية بالخط المجرد عند الحنفية والشافعية لإمكان التزوير وتشابه الخطوط. ¬
ومذهب المالكية (¬1): تثبت الوصية إن كانت بخط الموصي، مع الإشهاد عليها، وإن لم يقرأها على الشهود، ولم يفتح كتاب الوصية، وتنفذ الوصية حيث أشهد بقوله للشهود: اشهدوا بما في هذه، ولم يوجد فيها محو، حتى ولو بقي كتاب الوصية عند الموصي ولم يخرجه حتى مات. فإن ثبت لدى القاضي أن ما اشتملت عليه الورقة بخط الموصي، أو قرأها على الشهود لكنه لم يشهد الموصي على الوصية في الصورتين، بأن لم يقل: اشهدوا على وصيتي، أو لم يقل: نفذوها، لم تنفذ بعد موته، لاحتمال رجوعه عنها. فإن قال الموصي للشهود: اشهدوا، أو قال: أنفذوها، نفذت. ومذهب الحنابلة في الأرجح (¬2): من كتب وصيةً، ولم يشهد عليها، حكم بها ما لم يعلم رجوعه عنها، فتثبت الوصية ويقبل ما فيها بالخط الثابت أنه خط الموصي، بإقرار ورثته، أو ببينة تعرف خطه تشهد أنه خطه، وإن طال الزمن أو تغير حال الموصي، أو بأن عرف خطه وكان مشهور الخط، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين، إلا ووصيته مكتوبة عنده» ولم يذكر أمراً زائداً على الكتابة، فدل على الاكتفاء بها، ولأنه صلّى الله عليه وسلم «كتب إلى عماله وغيرهم» ملزماً العمل بتلك الكتابة، وكذلك فعل الخلفاء الراشدون من بعده، ولأن الكتابة تنبئ عن المقصود فهي كاللفظ. وإن كتب وصيته، وقال: اشهدوا علي بما في هذه الورقة، أو قال: هذه وصيتي فاشهدوا علي بها: لا تثبت حتى يسمعوا منه ما فيه، أو يقرأ عليه فيقر بما فيه. وهذا موافق لقول الحنفية والشافعية. ¬
والخلاصة: أنه لا بد عند الجمهور لإثبات الوصية من سماع الشهود مضمونها، أو قراءتها على الموصي فيقر بما فيها. ويكفي عند المالكية الإشهاد عليها، وإن لم تقرأ على الشهود، أو لم يفتح كتاب الوصية. وتثبت الوصية لدى الحنابلة بالكتابة وحدها إذا كان الموصي مشهور الخط وعرف خطه. وأخذ القانون بهذا الرأي. وخالف القانون المصري (م 2/ 2) آراء الفقهاء في سماع الدعوى، فلم يعتبر الوصية بالشهادة المقررة في رأي الفقهاء عند إنكار دعوى الوصية أو الرجوع القولي عنها بعد وفاة الموصي، وإنما اشترط لسماع الدعوى بعد وفاة الموصي عند الإنكار أن تكون الوصية ثابتة بورقة رسمية، أو بورقة عرفية كتبت جميعها بخط المتوفى وعليها توقيعه، أو كانت بإمضاء مصدق عليه. وهذا احتياط من القانون نظراً لفساد الزمان، وعدم التعويل على كثير من الشهادات بسبب انتشار شهادة الزور. جاء في المذكرة التفسيرية: الحكم هنا مأخوذ مما ذكره علي بن عبد السلام التسولي المالكي من أن الإشهاد على عقود التبرعات شرط في صحتها، ومن القاعدة الشرعية: وهي أن لولي الأمر أن يأمر بالمباح، لما يراه من المصلحة العامة، ومتى أمر به وجبت طاعته، وفي رأي بعض الفقهاء: أمره ينشئ حكماً شرعياً. فعقد الوصية، وهو من عقود التبرعات، يجوز أن يكون بإشهاد كتابي، ويجوز أن يكون بإشهاد شفوي، وإذا رأى ولي الأمر أن يكون بإشهاد كتابي على الوجه المبين في المادة، يجب على الكافة أن يعملوا به.
الفصل الثاني: حكم تبرعات المريض مرض الموت
الفَصْلُ الثَّاني: حكم تبرّعات المريض مرض الموت هل تعتبر تبرعات المريض مرض الموت في حكم الوصية؟ مريض الموت: في رأي الشافعية والحنابلة (¬1) هو من تحقق فيه شرطان: أحدهما ـ أن يتصل بمرضه الموت. فلو صح في مرضه الذي تبرع فيه ثم مات بعد ذلك، فحكم عطيته حكم عطية الصحيح؛ لأنه ليس بمرض الموت. الثاني ـ أن يكون مخوفاً، والمرض المخوف: هو ما ألزم صاحبه الفراش، كالجذام والطاعون والفالج النصفي أو الكلي في انتهائه ولم تطل مدته، والحمى المؤقتة يوماً أو يومين، وإسهال يوم أو يومين. فهذا حكم صاحبه حكم الصحيح؛ لأنه لا يخاف منه في العادة. وقد أوضحت شروط مريض الموت في بحث النظريات الفقهية في المذاهب الأخرى، وتبين أن الحنفية حددوا مدة مرض الموت بسنة إذا لم يتزايد، فإن كان يتزايد فهو مرض موت ولو استمر سنين كثيرة. أما تبرعات مريض الموت: فهي إما منجزة وإما مضافة لما بعد الموت (¬2). ¬
- التبرعات المنجزة
1ً - التبرعات المنجزة: مثل المحاباة (¬1) والهبة المقبوضة والصدقة والعتق والوقف والإبراء من الدين والعفو عن الجناية الموجبة للمال. وحكمها: أنه لا خلاف بين العلماء في أنها إن صدرت في حال الصحة من غير محجور عليه، فهي من رأس المال. وإن صدرت في مرض مخوف اتصل به الموت، فهي من ثلث المال في قول الجمهور، للحديث السابق: «إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم، زيادة لكم في أعمالكم»، ولأن الظاهر من هذه الحال الموت، فكانت عطيته فيها في حق ورثته كالوصية، فلا تتجاوز الثلث. وحكي عن أهل الظاهر في الهبة المقبوضة أنها من رأس المال. 2ً - أما التبرعات أو العطايا المضافة لما بعد الموت: فلها حكم الوصية، يتوقف نفاذها على الثلث، أو على إجازة الورثة إن زادت على الثلث، بالاتفاق، لما روى أحمد عن أبي زيد الأنصاري: «أن رجلاً أعتق ستة أعبد عند موته، ليس له مال غيرهم، فأقرع بينهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأعتق اثنين، وأرقّ أربعة» (¬2). أما القانون المدني المصري (م 916) والسوري (م 877) فقد جعلا التبرعات المنجزة من المريض مرض الموت في حكم الوصية، بسبب ظهور قصد التبرعات منها، ولما يحيط بها من دلائل وقرائن أحوال تدل على ذلك، وهذا يكفي لجعل التصرف القانوني مضافاً إلى ما بعد الموت، وتسري عليه أحكام الوصية من كل وجه. ¬
الفصل الثالث: الوصاية
الفَصْلُ الثّالث: الوصاية المبحث الأول ـ أنواع الأوصياء (¬1): الوصي في الجملة أنواع ثلاثة: وصي الخليفة، ووصي القاضي، والوصي المختار. أما وصي الخليفة: فهو من يوصي له الخليفة بالبيعة إذا كان صالحاً للخلافة. ويجوز الاستخلاف شرعاً، قال في المهذب (¬2): من تثبت له الخلافة على الأمة، جاز له أن يوصي بها إلى من يصلح لها؛ لأن أبا بكر رضي الله عنه وصى إلى عمر، ووصى عمر رضي الله عنه إلى أهل الشورى رضي الله عنهم، ورضيت الصحابة رضي الله عنهم بذلك. يفهم منه أنه لا بد من بيعة الوصي من قبل الأمة. وأما وصي القاضي أو الحاكم: فهو الذي يعينه القاضي للإشراف على شؤون القصَّر المالية. وأما الوصي المختار: فهو الذي يختاره الشخص في حياته قبل موته للنظر في تدبير شؤون القاصر المالية. والاسم الوصاية. ويلاحظ أن قبول الوصاية للقوي ¬
المبحث الثاني ـ أركان الوصاية
عليها قربة؛ لأنه تعاون على البر والتقوى، ولقوله تعالى: {ويسألونك عن اليتامى، قل إصلاح لهم خير} [البقرة:220/ 2]. وقال الحنفية والحنابلة: وترك ذلك أولى لمافيه من الخطر. والكلام هنا في أحكام الوصي المختار وشروطه فيما يمس شؤون القاصرين، وهو المأمور بالتصرف بعد الموت، ويُعنون له عادة في كتب الفقه بالموصى إليه. وقد بحثت في الحجر أهم أحكامه. المبحث الثاني ـ أركان الوصاية: الوصاية لها جوانب أو أركان أربعة بتعبير غير الحنفية: هي موص، ووصي، وموصى فيه، وصيغة. وسأذكر بالترتيب أحكام هذه الأركان (¬1). 1 - الموصي: تنفذ الوصية بالاتفاق من كل حر مكلف (بالغ عاقل) مختار. ويصح في رأي الشافعية إيصاء السكران، وكذا يشترط كون الموصي رشيداً، فالأب المحجور عليه لا وصية له على ولده بسبب الصغر أو السفه. ويصح عند المالكية والحنابلةإيصاء المميز. ويشترط عند الشافعية في الموصي أيضاً في أمر الأ طفال: أن تكون له ولاية عليهم من جهة الشرع، وهو الأب والجد وإن علا، فلا يصح الإيصاء عليهم من الأخ والعم والوصي والقيم، وكذا الأم على المذهب. ولا يجوز للأب على الصحيح نصب وصي على الأطفال ونحوهم، والجد حي حاضر، بصفة الولاية عليهم؛ لأن ولايته ثابتة شرعاً، فليس له نقل الولاية عنه، كولاية التزويج. ¬
2 - الوصي
وقال الشافعية والحنابلة: ليس للوصي إيصاء لغيره إلا أن يؤذن له فيه، فإن أذن له به، جاز له في الأظهر عند الشافعية. وأجاز المالكية للأم الإيصاء على أولادها بشروط: هي أن يكون المال قليلاً قلة نسبية كستين ديناراً، وأن يورث المال عنها بأن كان المال لها وماتت، وألا يكون للموصى عليه ولي من أب أو وصي أب أو وصي قاضٍ. فإن كثر المال، فليس لها الإيصاء، ولو كان المال للولد من غير الأم كأبيه أو من هبة، فليس لها الإيصاء، بل ترفع الأمر للحاكم. وإن كان للولد ولي آخر من أب أو وصي، فلا وصية لها على أولادها. 2 - الوصي: شرط الوصي تكليف (بلوغ وعقل) وحرية، وعدالة ولو ظاهرة، وخبرة بشؤون التصرف في الموصى به (وهو الرشد المالي) وأمانة وإسلام. فلا يصح الإيصاء إلى صبي ومجنون؛ لأنه في ولاية الغير، فكيف يلي أمر غيره. ولا إلى عبد ولو بإذن سيده عند الحنفية والشافعية، لأن الرقيق لا يتصرف في مال أبيه، فكيف يصلح وصياً لغيره، وأجاز المالكية والحنابلة وصاية العبد بإذن سيده، لأنه أهل للرعاية على المال، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «والخادم راع في مال سيده، وهو مسؤول عنه» (¬1). ولا إلى فاسق أو خائن؛ لأن الوصاية، ولاية وائتمان. وإذا كان الوصي عدلاً، ثم طرأ عليه الفسق، فإنه يعزل، فإن تصرف فتصرفه مردود. ¬
ولا يصح إلى غير رشيد لا يهتدي إلى التصرف الحسن في الموصى به لسفه أو مرض أو هرم أو تغفل، إذ لا مصلحة في تولية أمثال هؤلاء. ولا يصح إلى غير أمين، فلو ثبتت خيانته وجب عزله عن الوصية، ولا إلى كافر من مسلم، إذ لا ولاية لكافر على مسلم، ولأنه متهم، قال تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} [النساء:141/ 4] وقال سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم، لا يألونكم خبالاً، ودوا ما عنتم} [آل عمران:118/ 3]. لكن تجوز وصية الذمي إلى ذمي أو إلى مسلم فيما يتعلق بأولاد الكفار، بشرط كون الذمي عدلاً في دينه، كما يجوز أن يكون ولياً لهم، وكذلك بشرط كون المسلم عدلاً. وإذا كان العدل ضعيفاً أو عاجزاً يضم إليه قوي أمين. ولم يشترط الحنابلة لصحة الإيصاء القدرة على العمل، فيصح الإيصاء إلى ضعيف. وأجاز الحنابلة وصية المنتظر: وهو من تنتظر أهليته بأن يجعله وصياً بعد بلوغه، أو بعد حضوره من غيبته ونحوه كالإفاقة من الجنون وزوال الفسق والسفه، والإسلام. ولا تشترط الذكورة ولا البصر، فيصح كون المرأة وصياً؛ لأنها من أهل الشهادة، ولأن سيدنا عمر رضي الله عنه أوصى إلى ابنته حفصة رضي الله عنها (¬1)، وأم الأطفال أولى من غيرها من النساء، عند توافر الشروط السابقة، ¬
تعدد الأوصياء
لوفور شفقتها. ويصح كون الأعمى وصياً، لأنه من أهل الشهادة، فجازت الوصية إليه كالبصير، ولأنه متمكن من التوكيل لغيره فيما لا يتمكن من مباشرته بنفسه. تعدد الأوصياء: يجوز تعدد الأوصياء، فيمكن أن يوصى لاثنين بلفظ واحد، مثل جعلتكما وصيين، أو بلفظين في زمن أوزمنين، لما روي أن فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم جعلت النظر في وقفها إلى علي كرم الله وجهه، فإن حدث به حدث رفعه إلى ابنيها، فيليانها. وليس لأحدهما الانفراد بالتصرف، سواء أكان التعيين بعقد واحد أم بعقدين في رأي الحنفية والمالكية (¬1) إلا بتصريح الموصي بجواز الانفراد، وإلا عند الحنفيةإذا أجاز أحدهما تصرف صاحبه، وعليهما التعاون في التصرفات، فلا يستقل أحدهما ببيع أو اشتراء أو نكاح أو غيرها إلا بتوكيل. فإن مات أحدهما أو اختلفا في أمر كبيع أوشراء أو تزويج نظر الحاكم عند المالكية فيما فيه الأصلح من استقلال الحي في الوصاية أو جعل غيره معه، أو رد فعل أحدهما حال الاختلاف أو إمضائه. وليس لأحد الوصيين إيصاء لغيره في حياته بلا إذن من صاحبه، فإن أذن له جاز. وليس لهما قَسْم المال الذي أوصاهما عليه. وقال الحنفية: إن أوصى الموصي في حال الموت أوالجنون أو ما يوجب العزل إلى آخر أو إلى الحي من الوصيين عمل بإيصائه، وإن لم يوص ضم القاضي إليه غيره. وكذلك قرر الشافعي والحنابلة (¬2): ليس لأحد الوصيين الانفراد بالتصرف إلا بتصريح الموصي بالانفراد؛ لأن الموصي لم يرض إلا بتصرفهما، وانفراد ¬
أحدهما يخالف ذلك. فإن أجاز الموصي لأحدهما الانفراد بالتصرف جاز، لرضا الموصي به، فإن ضعف أحدهما أو فسق أو مات، في حال رضا الموصي بالانفراد، جاز للآخر أن يتصرف، ولا يقام مقام الآخر غيره؛ لأن الموصي رضي بنظر كل واحد منهما وحده. أما في حال الإيصاء لهما فإن ضعف أحدهما ضم إليه من يعينه، وإن فسق أحدهما أو مات، أقام الحاكم من يقوم مقامه؛ لأن الموصي لم يرض بنظر أحدهما منفرداً، ولا يجوز للحاكم أن يفوض جميع التصرف إلى الثاني؛ لأن الموصي لم يرض باجتهاده وحده، فهم في ذلك كالحنفية. وهذا في الوصايا غير المعينة، أما رد الأعيان المستحقة كالمغصوبات والودائع والأعيان الموصى بها وقضاء دين يوجد جنسه في التركة، فلأحد الوصيين الاستقلال به. واستثنى الحنفية من مبدأ بطلان انفراد أحد الوصيين عشر حالات للضرورة؛ هي شراء كفن الموصي، وتجهيزه، والخصومة في حقوقه؛ لأنهما لا يجتمعان عليه عادة، ولو اجتمعا لم يتكلم إلا أحدهما غالباً. وشراء حاجة الطفل مما لا بد منه كالطعام والكسوة؛ لأن في تأخيره لحوق ضرر به. وقبول الهبة للطفل؛ لأن في تأخيره خشية الفوات. وإعتاق عبد معين، لعدم الاحتياج فيه إلى الرأي، بخلاف إعتاق ما ليس بمعين، فإنه محتاج إليه. ورد وديعة وتنفيذ وصية معينتين، إذ لا حاجة إلى التشاور.
3 - الموصى فيه
وبيع ما يخاف تلفه، وجمع أموال ضائعة. وزاد بعض الحنفية سبعة أخرى: وهي رد المغصوب، والمشترى شراء فاسداً، وقسمة كيلي أو وزني مع شريك الموصي، وطلب دين، وقضاء دين بجنس حقه، وحفظ مال اليتيم؛ إذ كل من وقع في يده وجب عليه حفظه، ورد ثمن المبيع ببيع من الموصي، وإجارة نفس اليتيم في أعمال حرة. واتفق الحنفية والشافعية على أنه إذا اختلف الوصيان في حفظ المال، فإنه يقسم بينهما نصفين إن كان قابلاً للقسمة، وإلا فيتهايآن زماناً أو يودعانه عند آخر؛ لأن لهما ولاية الإيداع. وقال الحنابلة: لا يقسم المال بينهما؛ لأنهما شريكان في الحفظ الملازم للشركة في التصرف، وإنما يجعل المال في مكان تحت أيديهما، فإن تعذر ذلك ختما عليه، ودفع إلى أمين القاضي. 3 - الموصى فيه: لا يصح الإيصاء إلا في تصرف معلوم يملك الموصي فعله، ليعلم الوصي ما أوصي به إليه، ليحفظه ويتصرف فيه؛ ولأن الإيصاء كالوكالة، والوصي يتصرف بالإذن، فلم يجز إلا في معلوم يملكه الموصي، مثل الإيصاء في قضاء الدين، وتوزيع الوصية والنظر في أمر غير رشيد من طفل ومجنون وسفيه، ورد الودائع إلى أهلها، واستردادها ممن هي عنده، ورد مغصوب، وإيصاء إمام بخلافة، وإقامة حد قذف، وهذا الأخير عند الحنابلة والشافعية (¬1)، ويستوفيه الوصي للموصي نفسه، لا إلى الموصى إليه. ¬
4 - الصيغة
ويصح عند الحنابلة الإيصاء بتزويج بنت ولو صغيرة دون تسع، ولوصي الأب إجبارها إذا كانت بكراً، أو ثيباً دون تسع، كالأب؛ لأنه نائبه كوكيله. ولا يصح عند الشافعية الإيصاء بتزويج طفل وبنت مع وجود الجد؛ لأن الصغير والصغيرة لا يزوجهما غير الأب والجد، ولحديث: «السلطان ولي من لا ولي له» (¬1) لكن إن بلغ الصبي، واستمر نظر الوصي عليه لسفه، اعتبر إذنه في نكاحه. ومتى خصّ وصايته بحفظ أو نحوه أو عمَّ اتبع قوله، وإن أطلق الإيصاء في أمر الأطفال، ولم يذكر التصرف، كان له التصرف في المال وحفظه اعتماداً على العرف. 4 - الصيغة: تنعقد الوصاية بالإيجاب والقبول بالاتفاق، كأن يقول الموصي: أوصيت إليك أو فوضت إليك ونحوهما، كأقمتك مقامي في أمر أولادي بعد موتي، أوجعلتك وصياً. وتكفي إشارة الأخرس وكتابته، ومثله عند الشافعية الناطق معتقل اللسان؛ بأن أشار بالوصية برأسه أو بقوله: نعم بعد قراءة كتاب الوصية عليه؛ لأنه عاجز كالأخرس. ويشترط في الإيصاء القبول؛ لأنه عقد تصرف، فأشبه الوكالة، ويكون القبول على التراخي في الأصح عند الشافعية (¬2)، وهو موافق لمذهب الحنفية. ¬
وذكر الحنفية (¬1): أن الوصي إذا رد الوصاية بعلم الموصي صح الرد، فإن لم يعلم لا يصح الرد بغيبته، لئلا يصير مغروراً من جهته. وإن سكت الموصى إليه، فمات الموصي فله الرد والقبول، إذ لا تغرير هنا. وإن سكت الموصى إليه ثم رد بعد موت الموصي، ثم قبل، صح الإيصاء، إلا إذا نفذ قاض رده، فلا يصح قبوله بعدئذ. ويلزم عقد الوصية ببيع شيء من التركة وإن جهل الشخص كونه وصياً، فإن علم الوصي بالوصاية ليس بشرط في صحة تصرفه. ويصح عند الحنفية والحنابلة قبول الوصي الإيصاء إليه في حياة الموصي؛ لأنه إذن في التصرف، فصح قبوله بعد العقد كالوكالة. بخلاف الوصية بالمال، فإنها تمليك في وقت، فلم يصح القبول قبله. ويصح القبول أيضاً بعد موت الموصي؛ لأنها نوع وصية، فيصح قبولها حينئذ كوصية المال، ومتى قبل صار وصياً. ويقوم فعل التصرف مقام اللفظ، كما في الوكالة، بالاتفاق، ولا يشترط القبول لفظاً. ولا يصح في الأصح عند الشافعية قبول الوصي ورده في حياة الموصي؛ لأنه لم يدخل وقت التصرف كالوصية له بالمال، فلو قبل في حياته، ثم رد بعد وفاته لفات العقد، أما لو رد في حياته ثم قبل بعد وفاته صح العقد. ويجوز في الإيصاء التوقيت والتعليق (¬2)، مثال الأول: أوصيت إليك سنة أو إلى بلوغ ابني أو إلى قدوم زيد. ومثال الثاني: إذا مت فقد أوصيت إليك؛ لأن الوصاية تحتمل الجهالات والأخطار، فكذا التوقيت والتعليق، ولأن الإيصاء كالإمارة، وقد أمَّر النبي صلّى الله عليه وسلم زيد بن حارثة على سرية في غزوة مؤتة، وقال: «إن أصيب زيد، فجعفر، وإن أصيب جعفر، فعبد الله بن رواحة» (¬3). ¬
المبحث الثالث ـ أحكام تصرفات الوصي
المبحث الثالث ـ أحكام تصرفات الوصي: 1) ـ البيع والشراء: قال الحنفية (¬1): يصح بيع الوصي وشراؤه من أجنبي بما يتغابن فيه الناس عادة، وهو الغبن اليسير؛ لأنه لا يمكن التحرز عنه، لا بما لا يتغابن فيه عادة وهو الغبن الفاحش (¬2)؛ لأن ولايته مقيدة بالمصلحة، فليس للوصي بيع شيء من مال اليتيم بغبن فاحش، ويصح له البيع بالغبن اليسير. وإن باع الوصي، أو اشترى مال اليتيم لنفسه: فإن كان وصي القاضي لا يجوز مطلقاً؛ لأنه وكيله. وإن كان وصي الأب، جاز عند أبي حنيفة بشرط توافر منفعة ظاهرة للصغير: وهي قدر النصف زيادة أو نقصاً. ولم يجز مطلقاً عند الصاحبين. ويجوز للأب بيع مال صغير من نفسه بمثل القيمة، وبما يتغابن فيه عادة، وهو الغبن اليسير، وإلا فلا يجوز. وهذا كله في المنقول. ويجوز للوصي البيع على الكبير الغائب في غير العقار، ويجوز له مطلقاً بيع العقار لوفاء دين، أو لخوف هلاك العقار. فإن كان الموصى عليه الكبير حاضراً، فليس للوصي التصرف في التركة أصلاً، إلا إذا كان على الميت دين، أو أوصى بوصية، ولم تقض الورثة الديون، ولم ينفذوا الوصية من مالهم، فإنه يبيع التركة كلها إن كان الدين محيطاً بها، وبمقدار الدين إن لم يحط بها، وله بيع ما زاد على الدين أيضاً عند أبي حنيفة خلافاً للصاحبين، ¬
وبقولهما يفتى. وينفِّذ الوصية بمقدار الثلث، ولو باع لتنفيذها شيئاً من التركة جاز بمقدارها باتفاق الحنفية. ويجوز للوصي بيع عقار صغير من أجنبي، لا من نفسه، بضعف قيمته، أو لنفقة الصغير، أو أداء دين الميت، أو لتنفيذ وصية مرسلة (¬1) لانفاذ لها إلا منه، أو لكون غلاته لا تزيد على مؤنته (تكاليفه) أو لخوف خرابه، أو نقصانه، أو كونه في يد متغلب، كأن استرده منه الوصي، ولا بينة له، وخاف أن يأخذه المتغلب منه بعدئذ، تمسكاً بما كان له من اليد، فللوصي بيعه، وإن لم يكن لليتيم حاجة إلى ثمنه. هذا إذا كان الوصي لا من قبل أم أو أخ ونحوهما من الأقارب غير الأب والجد والقاضي، فإن المعين من قبل أم أوأخ ونحوهما لا يملك بيع العقار مطلقاً، ولا شراء غير طعام وكسوة. أما الأب المحمود عند الناس أو مستور الحال، فله في الأصح بيع عقار ولده الصغير بدون المسوغات المذكورة، لتوافر الشفقة الكاملة عنده على ولده. وللأب أو الجد بيع مال الصغير من الأجنبي بمثل قيمته إذا لم يكن فاسد الرأي. فإن كان فاسد الرأي، لم يجز بيعه العقار؛ وللصغير نقض البيع بعد بلوغه، إلا إذا باعه بضعف القيمة. وكذلك لا يجوز له في الرواية المفتى بها بيع المنقول إلا بضعف القيمة. ويملك الأب والجد بيع مال أحد طفليه للآخر، ولا يجوز ذلك للوصي. وليس للوصي أن يتجر في مال اليتيم لنفسه، فإن فعل تصدق بالربح في رأي ¬
أبي حنيفة ومحمد، ويجوز له أن يتجر في مال اليتيم لليتيم، ولا يجبر على تنمية مال اليتيم. وأجاز الجمهور غير الحنفية للوصي التصرف في مال الصغير بحسب المصلحة للصغير أو للحاجة. أما الموصى عليه الكبير فقال المالكية (¬1): ليس لوصي الميت في حال الحضر أن يبيع التركة أوشيئاً منها لقضاء دين أو تنفيذ وصية إلا بحضرة الكبير (¬2) الموصى عليه، إذ لا تصرف للوصي في مال الكبير، فإن غاب الكبير أوأبى من البيع نظر الحاكم في شأن البيع، فإما أن يأمر الوصي بالبيع أو يأمر من يبيع معه للغائب، أو يقسم ما ينقسم. فإن لم يرفع الأمر للحاكم، وباع الوصي رد بيعه إن كان المبيع قائماً، فإن فات بيد المشتري بهبة أو صبغ ثوب، أو نسج غزل، أو أكل طعام، وكان قد أصاب وجه البيع، فالمستحسن إمضاء البيع. أما في حال السفر، فلو مات شخص فلوصيه بيع متاعه. وعروضه؛ لأنه يثقل حمله. وقال الحنابلة (¬3): إن دعت الحاجة لبيع بعض العقار، لحاجة صغار، وفي بيع بعضه ضرر، مثل أن ينقص الثمن على الصغار، باع الوصي العقار كله على الصغار، وعلى الكبار إن أبوا البيع، أو كانوا غائبين؛ لأن الوصي قائم مقام الأب، وللأب بيع الكل، فالوصي كذلك، ولأنه وصي يملك بيع البعض، فملك بيع الكل، كما لو كان الكل صغاراً، أو الدين مستغرقاً، ولأن الدين متعلق بكل جزء من التركة. ¬
2) ـ التوكيل والإيصاء للغير
2) ـ التوكيل والإيصاء للغير: أجاز الحنفية والمالكية (¬1) إيصاء الوصي لغيره، ووصي الوصي سواء أوصي إليه في مال الوصي أو في مال موصيه، هو وصي في التركتين. ولم يجز الشافعية والحنابلة (¬2) للوصي الإيصاء لغيره إلا بإذن الموصي؛ لأن الوصي يتصرف بالإذن، فلم يملك الوصية، كالوكيل. وكذلك لا يجوز عند هذا الفريق الثاني للوصي توكيل غيره إلا فيما لم تجر به العادة أن يتولاه بنفسه، كما هو الشأن في الوكيل، كأن كان ما عهد إليه بالوصية فيه كثير الجوانب، متعدد الجهات، بحيث يحتاج الوصي إلى من يعينه على أدائه، وكذلك لو كان العمل شاقاً لا يقدر مثله على القيام به، ويحتاج إلى شخص قوي يؤديه، أو كان العمل يفتقر إلى مهارة كالهندسة ونحوها، فيجوز له توكيل غيره ممن يقوم بمثل هذه الأمور (¬3). 3) ـ المضاربة بمال الموصى عليه، واقتضاء الدين، والإنفاق بالمعروف والختان، وإخراج زكاة الفطر، وضمان القرض: قال المالكية (¬4): للوصي دفع مال الموصى عليه للغير يعمل فيه قراضاً (مضاربة) بجزء من الربح، أو إبضاعاً: أي بدفع دراهم لمن يشتري بها سلعة، كمتاع من بلد المنشأ من غير ربح، لاشتماله على نفع للصبي، وللوصي ألا يدفع؛ إذ لا يجب عليه تنمية مال اليتيم، كما تبين عند الحنفية في الاتجار. ¬
4) ـ القسمة عن الموصى له
وللوصي اقتضاء الدين ممن هو عليه، بل يجب عليه ذلك. وللوصي تأخير الدين إذا كان حالاً لمصلحة في التأخير. وللوصي الإنفاق على الطفل الذي في وصايته بالمعروف، بحسب حال الطفل والمال من قلة أو كثرة، وله الإنفاق عليه في ختانه وعُرْسه. وله دفع نفقة لموصى عليه، إن قلَّت مما لا يخاف عليه إتلافه، كجمعة أو شهر، فإن خاف إتلافه دفع له مياومة أي يوماً فيوماً. وهذا متفق عليه. وأضاف الحنفية: وللوصي الإنفاق على اليتيم في تعلم القرآن والأدب إن تأهل لذلك، وإلا فلينفق عليه بقدر ما يتعلم القراءة الواجبة في الصلاة. وللوصي إخراج زكاة فطر الموصى عليه عنه وعمن تلزمه نفقته من مال اليتيم كأمه الفقيرة. وله إخراج زكاته من حرث وماشية ونقد وعروض تجارية. وقال الحنفية (¬1): لا يملك الوصي ومثله الأب إقراض مال اليتيم، فإن أقرض ضمن، ويملك القاضي ذلك. ولو أخذ الوصي المال قرضاَ لنفسه، لا يجوز ويكون ديناً عليه. 4) ـ القسمة عن الموصى له: قال الحنفية (¬2): تصح قسمة الوصي حال كونه نائباً عن ورثة كبار غيَّب أو صغار، مع الموصى له بالثلث، ولا رجوع للورثة على الموصى له إن ضاع قسطهم مع الوصي، لصحة قسمته حينئذ. وأما قسمته عن الموصى له الغائب، أو الحاضر بلا إذنه، مع الورثة ولو ¬
5) ـ إقرار الوصي بدين على الميت، وهل الوصي أولى بالولاية أو الجد؟
صغاراً فلا تصح، وحينئذ فيرجع الموصى له بثلث ما بقي من المال إذا ضاع قسطه؛ لأنه كالشريك مع الوصي، ولا يضمن الوصي؛ لأنه أمين. وصح قسمة القاضي، وأخذه قسط الموصى له، إن غاب الموصى له، وهذا في المكيل والموزون؛ لأن القسمة فيهما إفراز. أما في غيرهما فلا تجوز القسمة لأنها مبادلة كالبيع، وبيع مال الغير لا يجوز، فكذا القسمة. ويملك الأب لا الجد قسمة مال مشترك بينه وبين الصغير، بخلاف الوصي. وقال المالكية (¬1) كالحنفية: لا يقسم الوصي على غائب من الورثة، بلا حاكم، فإن قسم بدون حاكم نقضت القسمة، والمشترون للتركة أو بعضها التي باعها الوصي من غير حضور الكبير أو وكيله، ومن غير رفع الأمر للحاكم، العالمون بالأمر، حكمهم حكم الغاصب لا غلة لهم، ويضمنون ما يتلف حتى بسبب سماوي. وكذلك قال الحنابلة (¬2): مقاسمة الوصي للموصى له نافذة على الورثة؛ لأنه نائب عنهم، ففعله كفعلهم، ومقاسمة الوصي للورثة على الموصى له لا تنفذ؛ لأنه ليس نائباً عنه، كتصرف الفضولي. 5) ـ إقرار الوصي بدين على الميت، وهل الوصي أولى بالولاية أو الجد؟ قال الحنفية (¬3): لا يجوز للوصي الإقرار بدين على الميت، ولا بشيء من تركته أنه لفلان؛ لأنه إقرار على الغير إلا أن يكون المقر وارثاً، فيصح في حصته. ولو أقر الوصي بعين لآخر، ثم ادعى أنه للصغير لا يسمع إقراره. ¬
6) ـ دفع المال للمحجور وترشيد المحجور
ووصي الأب أحق عند الحنفية بمال الطفل من جده، فإن لم يكن للأب وصي، فالجد، ويكون ترتيب الولاية في مال الصغير على النحو التالي: للأب ثم وصيه، ثم وصي وصيه ولو بعُد، فلو مات الأب ولم يوص فالولاية لأبي الأب ثم وصيه، ثم وصي وصيه، فإن لم يكن فللقاضي ومنصوبه. وقد سبق بيان ترتيب الأولياء عند غير الحنفية. 6) ـ دفع المال للمحجور وترشيد المحجور: قال الحنفية (¬1): لو دفع الوصي المال إلى اليتيم قبل ظهور رشده (¬2) بعد البلوغ والإدراك، فضاع المال، ضمن الوصي عند الصاحبين؛ لأنه دفعه إلى من ليس له أن يدفع إليه. وظهور الرشد يكون بالبينة. أما إذا ظهر رشده ولو قبل الإدراك، فدفع إليه فلا يضمن. وقال أبو حنيفة بعدم الضمان إذا دفعه إليه بعد خمس وعشرين سنة؛ لأن له حينئذ ولاية الدفع إليه. وكذلك قال المالكية (¬3): مثل الصاحبين: لا يقبل قول الوصي في الدفع لمال المحجور بعد الرشد إلا ببينة، ولو طال الزمن بعد الرشد، قال تعالى: {فإذا دفعتم إليهم أموالهم، فأشهدوا عليهم، وكفى بالله حسيباً} [النساء:6/ 4]. وقال الحنفية: الأصل أن كل شيء كان الوصي مسلطاً عليه، فإنه يصدق فيه، ومالا فلا، فيقبل قول الوصي فيما يدعيه من الإنفاق بلا بينة إلا في مسائل أهمها ما يأتي: ¬
7) ـ شهادة الأوصياء
إذا ادعى قضاء دين الميت من ماله بعد بيع التركة، قبل قبض ثمنها. أو أن اليتيم استهلك في صغره مال شخص آخر، فدفع ضمانه، أو أذن له بتجارة، فلحقته ديون، فقضاها عنه، أو ادعى أداء خراج أرضه وكان ادعاؤه في وقت الادعاء أي يوم الخصومة لا يصلح للزراعة، أوأنفق على محرمه الذي مات. أو أنفق على اليتيم في ذمته، أو من مال نفسه حال غيبة ماله، وأراد الرجوع. أو أنه زوَّج اليتيم امرأة، ودفع مهرها من ماله، وهي الآن ميتة، ولم يقر اليتيم بالزواج. فإن أقر اليتيم بالتزويج، فللوصي الرجوع بالمهر، سواء أكانت المرأة حية أم ميتة. أو اتجر الوصي وربح، ثم ادعى أنه كان مضارباً. ففي هذه الأحوال يكون القول لليتيم، والوصي ضامن، إلا أن يبرهن بالبينة. ويرى الحنابلة (¬1): أن الوصي لا يقبل قوله إلا ببينة كمدعي الدين، إلا في حال الضرورة كنفقات التجهيز والتكفين في السفر. 7) ـ شهادة الأوصياء: قال أبو حنيفة (¬2): تبطل شهادة الوصيين لوارث صغير بمال مطلقاً (¬3)، ¬
8) ـ رجوع الوصي على مال اليتيم
ولوارث كبير بمال الميت، وتصح شهادتهما بغير مال الميت لانقطاع ولايتهما عنه، فلا تهمة حينئذ؛ لأن الميت أقام الوصي مقام نفسه في تركته لا في غيرها. أما بطلان الشهادة للوارث الصغير، فلأن للوصي ولاية التصرف في ماله، فتكون شهادة الوصيين مظهرة ولاية التصرف لأنفسهما في المشهود به، وأما بطلان الشهادة للوارث الكبير، فلأن للوصي ولاية الحفظ وولاية بيع المنقول عند غيبة الوارث، فتحققت التهمة. وهذا هو الراجح لدى الحنفية. وقال الصاحبان: إن شهد الوصيان لوارث كبير، جازت الشهادة في الوجهين، أي سواء بمال الميت أو بغير مال الميت؛ لأنه لا يثبت لهما ولاية التصرف في التركة إذا كانت الورثة كباراً، فعريت الشهادة عن التهمة. 8) ـ رجوع الوصي على مال اليتيم: قال الحنفية (¬1): يرجع الوصي في مال الطفل إذا باع ما أصابه من التركة، وهلك ثمنه معه، فاستحق المال المبيع، ثم يرجع الطفل على الورثة بحصته، لانتقاض القسمة باستحقاق ما أصابه. 9) ـ فض النزاع بين الوصي والموصى عليه: الوصي أمين في رأي جمهور الفقهاء (¬2)، فلا يضمن هلاك مال الموصى عليه، ويقبل قوله بيمينه إذا بلغ الصبي واختلف هو والوصي في النفقة أو مقدارها. ¬
10) ـ جعل الوصي وانتفاعه بمال الموصى عليه
وبناء عليه قال الشافعية: فلو قال الوصي: أنفقت عليك، وقال الصبي: لم تنفق علي، فالقول قول الوصي؛ لأنه أمين، وتتعذر عليه إقامة البينة على النفقة. وإن اختلفا في قدر النفقة، فقال الوصي: أنفقت عليك في كل سنة مائة دينار، وقال الصبي: بل أنفقت علي خمسين ديناراً، فإن كان ما يدعيه الوصي من النفقة بالمعروف، فالقول قوله؛ لأنه أمين، وإن كان أكثر من النفقة بالمعروف، فعليه الضمان؛ لأنه فرط في الزيادة. وإن اختلفا في المدة: فقال الوصي: أنفقت عشر سنين، وقال الصبي: خمس سنين، ففيه وجهان، قال أكثر الشافعية: إن القول قول الصبي؛ لأنه اختلاف في مدة، الأصل عدمها. وقال الاصطخري: إن القول قول الوصي، كما لو اختلفا في قدر النفقة. وإن اختلفا في دفع المال إلى الولد بعد البلوغ والرشد، صدق الولد بيمينه على الصحيح، لمفهوم آية: {فأشهدوا عليهم} [النساء:6/ 4]. 10) ـ جُعْل الوصي وانتفاعه بمال الموصى عليه: قال الحنفية (¬1): الصحيح أنه لا أجر لوصي الميت، لكن له استحساناً الأكل من مال اليتيم إذا كان محتاجاً لما يأتي، وإذا امتنع عن القيام بالوصية إلا بأجر لا يجبر على العمل؛ لأنه متبرع، ولا جبر على المتبرع. فإذا رأي القاضي أن يجعل له أجرة المثل فلا مانع منه. وله الأكل من مال اليتيم وركوب دوابه بقدر الحاجة، لقوله تعالى: {ومن كان فقيراً، فليأكل بالمعروف} [النساء:6/ 4]. ¬
11) ـ عزل الوصي
أما وصي القاضي فإن نصبه بأجر مثله، جاز. وذكر الحنابلة (¬1) أنه يجوز أن يجعل الموصي أو الحاكم للوصي جُعْلاً معلوماً كالوكالة. 11) ـ عزل الوصي: اتفق الفقهاء على أن الوصي ينعزل بالحالات التالية (¬2): أولاً ـ بإرادة الموصي أو الوصي أو القاضي: للموصي عزل الوصي متى شاء، وللوصي عزل نفسه في حياة الموصي وبعد موته، كالوكالة؛ لأن العقد غير لازم، وينعزل الوصي بعزل الموصي وإن لم يبلغه العزل بخلاف الوكيل عند أبي حنيفة. وينعزل أيضاً بعزل القاضي وإن جار القاضي في العزل، ولكنه يأثم. وجواز عزل الوصي نفسه مقيد بما إذا لم تتعين عليه الوصية، ولم يغلب على ظنه تلف المال باستيلاء ظالم من قاض وغيره، فحينئذ ليس له عزل نفسه. ثانياً ـ بالعجز التام أو الخيانة: لو ظهر للقاضي عجز الوصي أصلاً، استبدل به غيره ويجب عزل الوصي بالخيانة. ثالثاً ـ بالموت أو الجنون أو الفسق، لاستحالة التصرف بالموت. وعدم المصلحة في الجنون والفسق. رابعاً ـ بانتهاء الغاية من الوصاية أو انتهاء مدتها: فمن أوصي له في شيء ¬
12) ـ الإنفاق للضرورة
معين، لم يصر وصياً في غيره، وتنتهي الوصاية بانتهاء الغاية منها، وبانتهاء المدة المقررة لها؛ لأن الوصي يتصرف بالإذن، فكان تصرفه على حسب الإذن. 12) ـ الإنفاق للضرورة: قال الحنابلة (¬1): إن مات إنسان لا وصي له، ولا حاكم ببلده الذي مات فيه، أو مات في صحراء ونحوها كجزيرة لا عمران بها، جاز لمسلم حضره حيازة تركته، وتولي أمر تجهيزه، ويفعل الأصلح في التركة من بيع وحفظ وحمل للورثة؛ لأنه موضع ضرورة لحفظ مال المسلم عليه. ويكفنه من تركته إن كان له تركة، وإن لم يكن له تركة جهزه من عنده، ورجع بما جهزة بالمعروف على تركته حيث كانت، أو على من يلزمه كفنه إن لم يترك شيئاً، لأنه قام عنه بواجب. وذلك إن نوى الرجوع أو استأذن حاكماً في تجهيزه. فإن نوى التبرع فلا رجوع له، كما لا رجوع له إن لم ينو تبرعاً ولا رجوعاً. ¬
الباب الخامس: الوقف
البَابُ الخامس: الوَقْف فيه عشرة فصول: الأول ـ تعريف الوقف ومشروعيته وصفته وركنه. الثاني ـ أنواع الوقف ومحله. الثالث ـ حكم الوقف ومتى يزول ملك الواقف؟. الرابع ـ شروط الوقف. الخامس ـ إثبات الوقف شرعاً وقانوناً. السادس ـ مبطلات الوقف، السابع ـ نفقات الوقف. الثامن ـ استبدال الوقف وبيعه حالة الخراب. التاسع ـ الوقف في مرض الموت. العاشر ـ ناظر الوقف (تعيينه، وشروطه، ووظيفته، وعزله). وأبدأ ببيانها مستعيناً بالله تعالى.
الفصل الأول: تعريف الوقف ومشروعيته وصفته وركنه
الفَصْلُ الأوّل: تعريف الوقف ومشروعيَّته وصفته وركنه: أولاً ـ تعريف الوقف: الوقف والتحبيس والتسبيل بمعنى واحد، وهو لغة: الحبس عن التصرف. يقال: وقفت كذا: أي حبسته، ولا يقال: أوقفته إلا في لغة تميمية، وهي رديئة، وعليها العامة. ويقال: أحبس لا حبَس، عكس وقف، فالأولى فصيحة، والثانية رديئة. ومنه: الموقف لحبس الناس فيه للحساب. ثم اشتهر إطلاق كلمة الوقف على اسم المفعول وهوا لموقوف. ويعبر عن الوقف بالحبس، ويقال في المغرب: وزير الأحباس. والوقف شرعاً له في المذاهب تعاريف ثلاثة: التعريف الأول ـ لأبي حنيفة (¬1): وهو حبس العين على حكم ملك الواقف، والتصدُّق بالمنفعة على جهة الخير. وبناء عليه لا يلزم زوال الموقوف عن ملك الواقف ويصح له الرجوع عنه، ويجوز بيعه؛ لأن الأصح عند أبي حنيفة أن الوقف جائز غير لازم كالعارية، فلا يلزم إلا بأحد أمور ثلاثة (¬2): 1ً - أن يحكم به الحاكم المولى لا المحكَّم، بأن يختصم الواقف مع الناظر، لأنه يريد أن يرجع بعلة عدم اللزوم، فيقضي الحاكم باللزوم، فيلزم؛ لأنه أمر مجتهد فيه، وحكم الحاكم يرفع الخلاف. 2ً - أو أن يعلقه الحاكم بموته: فيقول: إذا مت فقد وقفت داري مثلاً على كذا، فيلزم كالوصية من الثلث بالموت، لا قبله. ¬
3ً - أن يجعله وقفاً لمسجد، ويفرزه عن ملكه، ويأذن بالصلاة فيه: فإذا صلى فيه واحد، زال ملكه عن الواقف عند أبي حنيفة. أما الإفراز فلأنه لا يخلص لله تعالى إلا به، وأما الصلاة فيه، فلأنه لا بد من التسليم عنده وعند محمد، وتسليم الشيء بحسب نوعه، وهو في المسجد بالصلاة فيه. وقد استدل أبو حنيفة على رأيه بدليلين: 1ً - قوله عليه الصلاة والسلام: «لا حبس عن فرائض الله» (¬1) فلو كان الوقف يخرج المال الموقوف عن ملك الواقف، لكان حبساً عن فرائض الله؛ لأنه يحول بين الورثة وبين أخذ نصيبهم المفروض. لكن لا يدل هذا الحديث مع ضعفه على مقصود الإمام، لأن المراد به إبطال عادة الجاهلية بقصر الإرث على الذكور الكبار، دون الإناث والصغار. 2ً - ما روي عن القاضي شريح أنه قال: «جاء محمد صلّى الله عليه وسلم ببيع الحبس» فإذا جاء الرسول صلّى الله عليه وسلم بذلك، فليس لنا أن نستحدث حبساً آخر، إذ الوقف تحبيس العين، فهو غير مشروع. ولكن لا دلالة أيضاً في هذا القول على مطلوب الإمام؛ لأن الحبس الممنوع هو ماكان يحبس للأصنام والأوثان، وقد جاء الرسول صلّى الله عليه وسلم ببيعه وإبطاله قضاء على الوثنية. أما الوقف فهو نظام إسلامي محض. قال الإمام الشافعي: «لم يحبس أهل الجاهلية فيما علمت، إنما حبس أهل الإسلام». ¬
التعريف الثاني ـ للجمهور وهم الصاحبان وبرأيهما يفتى عند الحنفية، والشافعية والحنابلة في الأصح
التعريف الثاني ـ للجمهور وهم الصاحبان وبرأيهما يفتى عند الحنفية، والشافعية والحنابلة في الأصح (¬1): وهو حبس مال يمكن الانتفاع به، مع بقاء عينه، بقطع التصرف في رقبته من الواقف وغيره، على مصرف مباح موجود ـ أو بصرف ريعه على جهة بر وخير ـ تقرباً إلى الله تعالى. وعليه يخرج المال عن ملك الواقف، ويصير حبيساً على حكم ملك الله تعالى (¬2)، ويمتنع على الواقف تصرفه فيه، ويلزم التبرع بريعه على جهة الوقف. واستدلوا لرأيهم بدليلين: 1ً - حديث ابن عمر: «أن عمر أصاب أرضاً من أرض خيبر، فقال: يا رسول الله، أصبتُ أرضاً بخيبر، لم أُصب مالاً قط أنفسَ عندي منه، فما تأمرني؟ فقال: إن شئت حبَّست أصلها وتصدقت بها، فتصدَّق بها عمر، على ألا تباع ولا توهب ولا تورث، في الفقراء وذوي القربى والرّقاب والضيف وابن السبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، ويُطْعِم غير متموِّل» (¬3) أي غير متخذ منها مالاً أي ملكاً. قال ابن حجر في الفتح: «وحديث عمر هذا أصل في مشروعية الوقف». وهو يدل على منع التصرف في الموقوف؛ لأن الحبس معناه المنع، أي منع العين عن أن تكون ملكاً، وعن أن تكون محلاً لتصرف تمليكي. لكن يلاحظ أن هذا الحديث لا يدل على خروج المال الموقوف عن ملك الواقف. ¬
التعريف الثالث ـ للمالكية
2ً - استمر عمل الأمة منذ صدر الإسلام إلى الآن على وقف الأموال على وجوه الخير، ومنع التصرف فيها من الواقف وغيره. التعريف الثالث ـ للمالكية (¬1): وهو جعل المالك منفعة مملوكة، ولو كان مملوكاً بأجرة، أو جعل غلته كدراهم، لمستحق، بصيغة، مدة ما يراه المحبِّس. أي إن المالك يحبس العين عن أي تصرف تمليكي، ويتبرع بريعها لجهة خيرية، تبرعاً لازماً، مع بقاء العين على ملك الواقف، مدة معينة من الزمان، فلا يشترط فيه التأبيد. ومثال المملوك بأجرة: أن يستأجر داراً مملوكة أو أرضاً مدة معلومة، ثم يقف منفعتها لمستحق آخر غيره في تلك المدة. وبه يكون المراد من «المملوك» إما ملك الذات أو ملك المنفعة. الوقف عند المالكية لايقطع حق الملكية في العين الموقوفة، وإنما يقطع حق التصرف فيها. واستدلوا على بقاء الملك في العين الموقوفة بحديث عمر المتقدم، حيث قال له الرسول عليه الصلاة والسلام: «إن شئت حبَّست أصلها، وتصدقت بها» ففيه إشارة للتصدق بالغلة، مع بقاء ملكية الموقوف على ذمة الواقف، ومنع أي تصرف تمليكي فيه للغير، بدليل فهم عمر: «على ألا تباع، ولا توهب، ولاتورث». وهذا يشبه ملك المحجور عليه لسفه أي تبذير، فإن ملكه باق في ماله، ولكنه ممنوع من بيعه وهبته. وهذا الرأي أدق دليلاً، ولكن التعريف الثاني أشهر عند الناس. واتفق العلماء في وقف المساجد أنها من باب الإسقاط والعتق، لا ملك لأحد فيها، وأن المساجد لله تعالى. ¬
ثانيا ـ مشروعية الوقف وحكمته أو سببه
ثانياً ـ مشروعية الوقف وحكمته أو سببه: الوقف عند الجمهور غير الحنفية سنة مندوب إليها، فهو من التبرعات المندوبة، لقوله تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [آل عمران:92/ 3] وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم، ومما أخرجنا لكم من الأرض} [البقرة:267/ 2] فهو بعمومه يفيد الإنفاق في وجوه الخير والبر، والوقف: إنفاق المال في جهات البر. ولقوله صلّى الله عليه وسلم في حديث عمر المتقدم: «إن شئت حبَّست أصلها، وتصدقت بها» وقوله عليه الصلاة والسلام: «إذا مات ابن آدم، انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به من بعده، أو ولد صالح يدعو له» (¬1) والولد الصالح: هو القائم بحقوق الله تعالى وحقوق العباد. وأكثر أهل العلم من السلف ومن بعدهم على القول بصحة الوقف، وكان وقف عمر مئة سهم من خيبر أول وقف في الإسلام على المشهور. وقال جابر رضي الله عنه: ما بقي أحد من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم له مقدرة إلا وقف. والوقف من خصائص الإسلام، قال النووي: وهو مما اختص به المسلمون، قال الشافعي: لم يحبس أهل الجاهلية داراً ولا أرضاً فيما علمت. ويلاحظ أن القليل من أحكام الوقف ثابت بالسنة، ومعظم أحكامه ثابت باجتهاد الفقهاء بالاعتماد على الاستحسان والاستصلاح والعرف. وحكمة الوقف أو سببه: في الدنيا بر الأحباب، وفي الآخرة تحصيل الثواب، بنية من أهله (¬2). ¬
ثالثا ـ صفة الوقف
وقال الحنفية: الوقف مباح بدليل صحته من الكافر، وقد يصبح واجباً بالنذر، فيتصدق بالعين الموقوفة أو بثمنها. ولو وقفها على من لا تجوز له الزكاة كالأصول والفروع، جاز في الحكم، أي صح الوقف في حكم الشرع لصدوره من أهله في محله، لكن لا يسقط به النذر؛ لأن الصدقة الواجبة لا بد من أن تكون لله تعالى على الخلوص، وصرفها إلى من لا تجوز شهادته له: فيه نفع له، فلم تخلص لله تعالى، كما لو صرف إليه الكفارة أو الزكاة، وقعت صدقة، وبقيت في ذمته (¬1). ثالثاً ـ صفة الوقف: الوقف عند أبي حنيفة جائز غير لازم، يجوز الرجوع عنه، فهو تبرع غير لازم، إلا فيما استثناه سابقاً، وهو بمنزلة الإعارة غير اللازمة، فله أن يرجع فيه متى شاء، ويبطل بموته، ويورث عنه، كما هو المقرر في حكم الإعارة (¬2). وهو عند محمد بن الحسن والشافعية والحنابلة (¬3): إذا صح صار لازماً لاينفسخ بإقالة ولا غيرها، وينقطع تصرف الواقف فيه، ولا يملك الرجوع عنه، ويزول ملكه عن العين الموقوفة، لحديث عمر المتقدم: «إن شئت حبَّست أصلها، وتصدقت بها، لاتباع ولا توهب ولا تورث» وهو بمنزلة الهبة والصدقة. فلا بد فيه لترتيب آثاره الشرعية من تسليمه إلى الجهة الموقوف عليها، كسائر التبرعات. ولا يجوز عند محمد وقف مشاع قابل للقسمة. ورأى أبو يوسف: أن الوقف إسقاط ملك، كالطلاق والإعتاق فإنه إسقاط ¬
رابعا ـ ركن الوقف
للملك عن الزوجة والعبد، فيتم بمجرد التلفظ، ولا يشترط فيه التسليم، ويصح وقف المشاع القابل للقسمة من غير إفراز، وهذا هو المفتى به عند الحنفية؛ لأنه أحوط وأسهل. والوقف عند المالكية (¬1): إن صح لزم، ولا يتوقف على حكم الحاكم، حتى لو لم يحز (يقبض) وحتى لو قال الواقف: ولي الخيار، فإن أراد الواقف الرجوع فيه، لا يمكَّن، وإذا لم يُحَز أجبر على إخراجه من تحت يده للموقوف عليه. وهو في حال الحياة من قبيل الإعارة اللازمة، وبعد الوفاة من قبيل الوصية بالمنفعة، وعليه ليس للواقف في حال الصحة الرجوع عن الوقف قبل حصول المانع، ويجبر على القبض (التحويز) إلاإذا شرط لنفسه الرجوع، فله ذلك، أما الواقف في حال المرض، فله الرجوع فيه؛ لأنه كالوصية. رابعاً ـ ركن الوقف: قال الحنفية (¬2): ركن الوقف هي الصيغة، وهي الألفاظ الدالة على معنى الوقف، مثل أرضي هذه موقوفة مؤبدة على المساكين ونحوه من الألفاظ، مثل: موقوفة لله تعالى، أو على وجه الخير، أو البر، أو موقوفة فقط، عملاً بقول أبي يوسف، وبه يفتى للعرف. وقد يثبت الوقف بالضرورة مثل: أن يوصي بغلة هذه الدار للمساكين أبداً، أو لفلان وبعده للمساكين أبداً، فتصير الدار وقفاً بالضرورة، إذ كلامه يشبه القول: إذا مت فقد وقفت داري على كذا. ركن الوقف عندهم: هو الإيجاب الصادر من الواقف الدال على إنشاء الوقف. وهذا على أن معنى الركن: هو جزء الشيء الذي لا يتحقق إلا به. ويكون ¬
الوقف بناء عليه كالوصية تصرفاً يتم بإرادة واحدة هي إرادة الواقف نفسه، وهي التي يعبر عنها بإيجاب الواقف. وقال الجمهور (¬1): للوقف أركان أربعة: هي الواقف، والموقوف، والموقوف عليه، والصيغة: باعتبار أن الركن: ما لا يتم الشيء إلا به، سواء أكان جزءاً منه أم لا. أما القبول من الموقوف عليه: فليس ركناً في الوقف عند الحنفية على المفتى به، والحنابلة كما ذكر القاضي أبو يعلى، ولا شرطاً لصحة الوقف ولا للاستحقاق فيه، سواء أكان الموقوف عليه معيناً أم غير معين، فلو سكت الموقوف عليه، فإنه يستحق من ريع الوقف، فيصير الشيء وقفاً بمجرد القول؛ لأنه إزالة ملك يمنع البيع والهبة والميراث، فلم يطلب فيه القبول، كالعتق، لكن إذا كان الموقوف عليه معيناً، كالوقف على خالد أو محمد، ورد الوقف، فلا يستحق شيئاً من ريع الوقف وإنما ينتقل إلى من يليه ممن عينه الواقف بعده متى وجد، فإن لم يوجد عاد الموقوف للواقف أو لورثته إن وجدوا وإلا فلخزانة الدولة، ولكن لا يبطل الوقف برده، ويكون رده وقبولهما وعدمهما واحداً كالعتق؛ لأن ركن الوقف وهو إيجاب الواقف قد تحقق. أخذ القانون المصري (م 9) رقم (48) لسنة (1946) بهذا الرأي، حيث لم يجعل القبول شرطاً للاستحقاق، والمادة (17) بينت انتهاء الوقف. ولكن قال الحنفية: لو وقف لشخص بعينه، ثم للفقراء، اشترط قبوله في حقه، فإن قبله فالغلة له، وإن رده فللفقراء. ومن قبل فليس له الرد بعده، ومن رده أول الأمر ليس له القبول بعده. ¬
الفصل الثاني: أنواع الوقف ومحله
ويعد القبول عند المالكية والشافعية وبعض الحنابلة ركناً إذا كان الوقف على معين إن كان أهلاً للقبول، وإلا فيشترط قبول وليه كالهبة والوصية. واشترطت المادة التاسعة المذكورة قبول الممثل القانوني إذا كان الوقف على جهة لها من يمثلها قانوناً كالأزهر أوالجامعة. وهذا من قبيل سد الذرائع أمام تدخل الواقفين بشؤون هذه الجهة، أو محاولة السيطرة عليها لأغراض معينة بقصد العبث والفساد. فإن لم يقبل من يمثل الجهة، انتقل الاستحقاق لمن يليها متى وجد، وإن لم يوجد أصلاً، أخذ الموقوف حكم الوقف المنتهي المبين في المادة 17. الفَصْلُ الثَّاني: أنواع الوقف ومحلّه: ينقسم الوقف بحسب الجهة الأولى التي وقف عليها في الابتداء على نوعين: خيري، وأهلي أو ذُرّي (¬1). أما الوقف الخيري: فهو الذي يوقف في أول الأمر على جهة خيرية، ولو لمدة معينة، يكون بعدها وقفاً على شخص معين أو أشخاص معينين. كأن يقف أرضه على مستشفى أو مدرسة، ثم من بعد ذلك على نفسه وأولاده. وأما الوقف الأهلي أو الذُّرِّي: فهو الذي يوقف في ابتداء الأمر على نفس الواقف أو أي شخص أو أشخاص معينين، ولو جعل آخره لجهة خيرية، كأن يقف على نفسه، ثم على أولاده، ثم من بعدهم على جهة خيرية. ونص القانون المصري م (180) لسنة 1952م، والقانون السوري لسنة (1949) على انتهاء أو إلغاء الوقف الأهلي لتصفية مشكلاته المعقدة. وبقي الوقف الخيري جائزاً. ¬
محل الوقف
وأما محل الوقف: فهو المال الموجود المتقوم (¬1) من عقار: أرض أو دار بالإجماع، أو منقول ككتب وثياب وحيوان وسلاح، لقوله: «وأما خالد، فإنكم تظلمون خالداً، فإنه احتبس أدرعه وأعتده في سبيل الله» (¬2)، واتفقت الأمة على وقف الحصر والقناديل في المساجد من غير نكير. ويصح وقف الحلي للبس والإعارة؛ لأنه عين الانتفاع بها دائماً، فصح وقفها كالعقار، ولما روى الخلال بإسناده عن نافع قال: ابتاعت حفصة حلياً بعشرين ألفاً، فحبسته على نساء آل الخطاب، فكانت لا تخرج زكاته. وشرط الحنفية في الوقف المنقول: أن يكون تابعاً للعقار، أو جرى به التعامل عرفاً، كوقف الكتب وأدوات الجنازة. ويصح وقف المشاع من عقار أو منقول؛ لأن عمر رضي الله عنه وقف مئة سهم في خيبر مشاعاً (¬3). وقد وضع الحنابلة وغيرهم ضابطاً لما يجوز وقفه، وما لا يجوز، فقالوا: الذي يجوز وقفه هو كل ما جاز بيعه، وجاز الانتفاع به، مع بقاء عينه، وكان أصلاً يبقى بقاء متصلاً كالعقار والحيوانات والسلاح والأثاث وأشباه ذلك. وما لا ينتفع به إلا بالإتلاف مثل الدنانير والدراهم (النقود) وما ليس بحلي، والمأكول والمشروب والشمع وأشباهه، لا يصح وقفه في قول جماعة من الفقهاء؛ ¬
بيان الرأي الفقهي في بعض أنواع المال الموقوف
لأن الوقف تحبيس الأصل، وتسبيل الثمرة، وما لا ينتفع به إلا بالإتلاف لا يصح فيه الوقف؛ لأنه لا يمكن الانتفاع به على الدوام. إلا أن متقدمي الحنفية أجازوا وقف الدنانير والدراهم والمكيل والموزون، لكن الظاهر أنه لا يجوز الآن لعدم التعامل به كما سيأتي. ولا يصح وقف الحمل؛ لأنه تمليك منجز، فلم يصح في الحمل وحده، كالبيع. قال ابن جزي المالكي: يجوز تحبيس العقار كالأرضين والديار والحوانيت والجنات، والمساجد، والآبار، والقناطر والمقابر، والطرق وغير ذلك. ولا يجوز تحبيس الطعام لأن منفعته في استهلاكه، ولكن نص الإمام مالك وتبعه الشيخ خليل على جواز وقف الطعام والنقد، وهو المذهب وينزل رد بدله منزلة بقاء عينه. وبيان الرأي الفقهي في بعض أنواع المال الموقوف: 1 ً - وقف العقار: يصح وقف العقار (¬1) من أرض ودور وحوانيت وبساتين ونحوها بالاتفاق (¬2)؛ لأن جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم وقفوه، مثلما تقدم من وقف عمر رضي الله عنه أرضه في خيبر، ولأن العقار متأبد يبقى على الدوام. لكن بين الحنفية أنه لا يشترط لصحة الوقف تحديد العقار؛ لأن الشرط كونه معلوماً، أو إذا كانت الدار مشهورة معروفة، صح وقفها كما قال ابن الهمام في ¬
- وقف المنقول
الفتح، وإن لم تحدد، استغناء بشهرتها عن تحديدها. وأفتى متأخرو الحنفية استثناء من قولهم بعدم تقوم المنافع بضمان غصب عقار الوقف وغصب منافعه أو إتلافها، كما إذا سكن فيه شخص بلا إذن أو أسكنه ناظر الوقف بلا أجر، وعليه أجر المثل، ولو كان غير معد للاستغلال، صيانة للوقف، كما أنه يفتى بضمان مال اليتيم والمال المعد للاستغلال، وبكل ما هو أنفع للوقف فيما اختلف العلماء فيه. 2 ً - وقف المنقول: اتفق الجمهور (¬1) غير الحنفية على جواز وقف المنقول مطلقاً، كآلات المسجد كالقنديل والحصير، وأنواع السلاح والثياب والأثاث، سواء أكان الموقوف مستقلاً بذاته، ورد به النص أو جرى به العرف، أم تبعاً لغيره من العقار، إذ لم يشترطوا التأبيد لصحة الوقف، فيصح كونه مؤبداً أو مؤقتاً، خيرياً أو أهلياً. وأخذ القانون المصري (م 8) بهذا الرأي، فأجاز وقف العقار والمنقول. ولم يجز الحنفية (¬2) وقف المنقولومنه عندهم البناء والغراس إلا إذا كان تبعاً للعقار، أو ورد به النص كالسلاح والخيل، أو جرى به العرف كوقف الكتب والمصاحف والفأس والقدوم والقدور (الأواني) وأدوات الجنازة وثيابها، والدنانير والدراهم، والمكيل والموزون، والسفينة بالمتاع، لتعامل الناس به، والتعامل ـ وهو الأكثر استعمالاً ـ يترك به القياس، لخبر ابن مسعود: «ما رآه المسلمون حسناً، فهو عند الله حسن» ولأن الثابت بالعرف ثابت بالنص، هذا مع العلم أن وقف البناء صار متعارفاً، بخلاف ما لا تعامل فيه كثياب ومتاع، وهذا قول محمد، المفتى به. ويباع المكيل والموزون ويدفع ثمنه مضاربة أو مباضعة، كما يفعل في وقف النقود، وما خرج من الربح يتصدق به في جهة الوقف. ¬
- وقف المشاع
لكن قال ابن عابدين (¬1): وقف الدراهم متعارف في بلاد الروم دون بلادنا، ووقف الفأس والقدوم كان متعارفاً في زمن المتقدمين، ولم نسمع به في زماننا، فالظاهر أنه لا يصح الآن، ولئن وجدنا قليلاً لا يعتبر، لأن التعامل هو الأكثر استعمالاً. والسبب في عدم جواز وقف المنقول عندهم: أن من شرط الوقف التأبيد، والمنقول لا يدوم. 3ً - وقف المشاع: يجوز عند الجمهور غير المالكية وقف المشاع الذي لا يحتمل القسمة، مع الشيوع، كحصة سيارة؛ لأن الوقف كالهبة، وهبة المشاع غير القابل للقسمة جائزة. ولم يجز المالكية وقف الحصة الشائعة فيما لا يقبل القسمة؛ لأنه يشترط الحوز عنده لصحة الوقف، وهذا أحد قولين مرجحين في المذهب. أما المشاع القابل للقسمة: فقال أبو يوسف ويفتى بقوله: يجوز وقفه؛ لأن القسمة من تمام القبض، والقبض عنده ليس بشرط لتمام الوقف، فكذا تتمته، وهذا موافق لرأي المالكية والشافعية والحنابلة. وقال محمد، وأكثر المشايخ أخذوا بقوله: لا يجوز وقف المشاع؛ لأن أصل القبض عنده شرط لتمام الوقف، فكذا ما يتم به، والقبض لا يصح في المشاع. قال القاضي أبو عاصم: قول أبي يوسف من حيث المعنى أقوى، إلا أن قول ¬
محمد أقرب إلى موافقة الآثار. ولما كثر المصحح من الطرفين، وكان قول أبي يوسف فيه ترغيب للناس في الوقف وهو جهة بر، أطبق المتأخرون من أهل المذهب، على أن القاضي الحنفي والمقلد يخير بين أن يحكم بصحته وبطلانه، وإذا كان الأكثر على ترجيح قول محمد، وبأيها حكم صح حكمه ونفذ، فلا يسوغ له ولا لقاض غيره أن يحكم بخلافه، كما صرح به غير واحد. وقال في البحر: وصح وقف المشاع إذا قضي بصحته؛ لأنه قضاء في مجتهد فيه (¬1). وهذا هو المعتمد الذي جرى عليه صاحب الدر المختار، وهو يتمشى مع قوله: ولا يتم الوقف حتى يقبض الموقوف؛ لأن تسليم كل شيء بما يليق به، في المسجد بالإفراز، وفي غيره بنصب المتولي وبتسليمه إياه، وحتى يفرز، فلا يجوز وقف مشاع يقسم، خلافاً لأبي يوسف. أما غير الحنفية (¬2) فقال المالكية: يصح وقف المشترك الشائع فيما يقبل القسمة، ولا يصح فيما لا يقبل القسمة. وقال الشافعية والحنابلة: يصح وقف المشاع ولو لم يقبل القسمة، ويجبر عليها الواقف إن أرادها الشريك، ويجبر الواقف على البيع إن أراد شريكه، ويجعل ثمنه في مثل وقفه، بدليل أن عمر وقف مئة سهم من خيبر بإذن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهذا صفة المشاع؛ لأن القصد حبس الأصل، وتسبيل المنفعة، والمشاع كالمقسوم في ذلك. ¬
- وقف حق الارتفاق
أما القانون فإنه أخذ في المادة (8) بالرأي الأول، ونص على أنه لا يجوز وقف الحصة الشائعة في عقار غير قابل للقسمة إلا إذا كان الباقي منه موقوفاً، واتحدت الجهة الموقوفة عليها، أو كانت الحصص مخصصة لمنفعة عين موقوفة. 4ً - وقف حق الارتفاق: قال الشافعية والحنابلة (¬1): يجوز وقف علو الدار دون سفلها، وسفلها دون علو؛ لأنهما عينان يجوز وقفهما، فجاز وقف أحدهما دون الآخر، ولأنه يصح بيع العلو أو السفل، ولأنه تصرف يزيل الملك إلى من يثبت له حق الاستقرار والتصرف، فجاز كالبيع. وقال الحنفية: لا يصح وقف الحقوق المالية، مثل حق التعلي وباقي حقوق الارتفاق؛ لأن الحق ليس بمال عندهم. 5ً - وقف الإقطاعات: الإقطاعات: هي أرض مملوكة للدولة، أعطتها لبعض المواطنين ليستغلها ويؤدي الضريبة المفروضة عليها، مع بقاء ملكيتها للدولة. فإذا وقف المقطع له هذه الأرض لا يصح وقفه، لأنه ليس مالكاً لها. وكذلك لا يجوز للحكام والولاة والأمراء وقف شيء من هذه الإقطاعات إلا إذا كانت الأرض مواتاً، أو ملكها الإمام، فأقطعها رجلاً. ويجوز لمن أحيا الأرض الموات من الأفراد وقفها؛ لأنه ملكها بالإحياء، ووقف ما يملك (¬2). ¬
- وقف أراضي الحوز
قال في الدر المختار: وأغلب أوقاف الأمراء بمصر، إنما هوإقطاعات يجعلونها مشتراة صورة من وكيل بيت المال. ولو وقف السلطان من بيت المال، لمصلحة عمت، يجوز ويؤجر. ويجوز للسلطان أن يأذن بوقف أرض على مسجد من أراضي البلاد المفتوحة عنوة التي لم تقسم بين الغانمين، إذ لو قسمت صارت ملكاً لهم حقيقة؛ لأنها تصير ملكاً للغانمين بالفتح والقسمة، فيجوز أمر السلطان فيها. أما الأراضي المفتوحة صلحاً فلا ينفذ أمر السلطان بوقفها؛ لأنها تبقى ملكاً لملاكها الأصليين (¬1). وكذا قال الشافعية (¬2): لو وقف الإمام شيئاً من أرض بيت المال، صح. 6ً - وقف أراضي الحوز: أرض الحوز: هي أرض مملوكة لبعض الأفراد، ولكنهم عجزوا عن استغلالها، فوضعت الحكومة يدها عليها لتستغلها وتستوفي منها ضرائبها. فلا يصح وقفها؛ لأنها ليست مالكة لها، وإنما ما تزال ملكاً لأصحابها. 7ً - وقف الإرصاد: الإرصاد: أن يقف أحد الحكام أرضاً مملوكة للدولة لمصلحة عامة كمدرسة أو مستشفى. وقد عرف أن هذا جائز بحكم الولاية العامة، ولكن يسمى هذا إرصاداً لا وقفاً حقيقة. ¬
- وقف المرهون
8ً - وقف المرهون: قال الحنفية (¬1): يصح للراهن وقف المرهون؛ لأنه يملكه، لكن يبقى حق المرتهن متعلقاً بالمرهون، فإن وفى الدين تطهرت وخلصت العين المرهونة من تعلق حق المرتهن بها، وإلا فله أن يطلب إبطال الوقف وبيع المرهون. وبناء عليه: يجبر القاضي الراهن على دفع ما عليه إن كان موسراً، أما إن كان معسراً فيبطل الوقف ويبيع العين المرهونة فيما عليه من الدين. وكذا لو مات، فإن كان له ما يوفي الدين، ظل الشيء موقوفاً، وإلا بيع وبطل الوقف. وقال الجمهور غير الحنفية (¬2): لا يصح وقف المرهون. 9ً - وقف العين المؤجرة: قال الحنفية والحنابلة (¬3): لا يملك المستأجر وقف منفعة العين المستأجرة، لأنه يشترط لديهم التأبيد، والإجارة مؤقتة غير مؤبدة. وكذلك قال الشافعية (¬4): مالك المنفعة دون الرقبة كالمستأجر والموصى له بالمنفعة لا يصح وقفه إياها، لكن لو وقف المستأجر بناء أو غراساً في أرض مستأجرة له، فالأصح جوازه، ويكفي دوام الوقف إلى قيام مالك الأرض بالقلع بعد مدة الإجارة. والمستعير والموصى له بالمنفعة مثل المستأجر في الحكم. ويصح عندهم للمؤجر وقف الأرض المؤجرة. وقال المالكية (¬5): للمستأجر وقف منفعة المأجور مدة الإجارة المقررة له، إذ ¬
الفصل الثالث: حكم الوقف
لايشترط لديهم تأبيد الوقف، وإنما يصح لمدة معينة. ولا يصح للمؤجر وقف المأجور. وأجاز الحنفية والحنابلة للمؤجر وقف العين المؤجرة؛ لأنه وقف ما يملك، ويبقى للمستأجر الحق في الانتفاع بالعين المستأجرة إلى انتهاء مدة الإجارة، أو تراضيه مع المؤجر على فسخ الإجارة قبل انتهاء مدتها. والخلاصة: يصح عند الجمهور للمؤجر وقف العين المؤجرة، ولا يصح وقفها عند المالكية، ويصح عند المالكية للمستأجر وقف منفعة المأجور، ولا يصح وقفها عند الجمهور. الفَصْلُ الثَّالث: حكم الوقف، ومتى يزول ملك الواقف؟ حكم الوقف: أي الأثر المترتب على حدوث الوقف من الواقف. ويختلف الأثر المترتب باختلاف الآراء الفقهية (¬1): ف عند أبي حنيفة: أثر الوقف هو التبرع بالريع غير لازم، وتظل العين الموقوفة على ملك الواقف، فيجوز له التصرف بها كما يشاء، وإذا تصرف بها اعتبر راجعاً عن الوقف، وإذا مات الواقف ورثها ورثته، ويجوز له الرجوع في وقفه متى شاء، كما يجوز له أن يغير في مصارفه وشروطه كيفما يشاء، وسأخصص بعد بيان المذاهب في حكم الوقف بحثاً عن الرجوع في وقف المسجد وغيره بناء على هذا الرأي. ¬
عند الصاحبين وبرأيهما يفتى
وعند الصاحبين وبرأيهما يفتى: إذا صح الوقف خرج عن ملك الواقف، وصار حبيساً على حكم ملك الله تعالى، ولم يدخل في ملك الموقوف عليه، بدليل انتقاله عنه بشرط الواقف (المالك الأول) كسائر أملاكه. وإذا صح الوقف لم يجز بيعه ولا تمليكه ولا قسمته، إلا أن يكون الوقف مشاعاً فللشريك بناء على جوازه عند أبي يوسف أن يطلب فيه القسمة، فتصح مقاسمته؛ لأن القسمة تمييز وإفراز، ويغلب في الوقف معنى الإفراز في غير المكيل والموزون الذي يغلب فيه معنى المبادلة، نظراً وملاحظة لمصلحة الوقف. والمفتى به وهو قول الصاحبين جواز قسمة المشاع إذا كانت القسمة بين الواقف وشريكه المالك، أو الواقف الآخر أو ناظره إن اختلفت جهة وقفهما. ويرى المالكية: أن الموقوف يظل مملوكاً للواقف، لكن تكون المنفعة ملكاً لازماً للموقوف له، فهم كأبي حنيفة، ودليل قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «حبّس الأصل، وسبِّل الثمرة». والأظهر في مذهب الشافعية: أن الملك في رقبة الموقوف ينتقل إلى الله تعالى، أي ينفك عن اختصاص الآدمي، فلا يكون للواقف ولا للموقوف عليه، ومنافعه ملك للموقوف عليه، يستوفيها بنفسه وبغيره بإعارة وإجارة، ويملك الأجرة وفوائده كثمرة وصوف ولبن، وكذا الولد في الأصح، فهم كالصاحبين. وقال الحنابلة في الصحيح من المذهب: إذا صح الوقف زال به ملك الواقف؛ لأنه سبب يزيل التصرف في الرقبة والمنفعة، فأزال الملك كالعتق. وأما خبر «حبّس الأصل وسبل الثمرة» فالمراد به أن يكون محبوساً لا يباع ولا يوهب ولا يورث.
متى يزول الملك عن الوقف؟
وينتقل الملك عندهم في الوقف إلى الله تعالى إن كان الوقف على مسجد ونحوه كمدرسة ورباط وقنطرة وفقراء وغزاة وما أشبه ذلك، وينتقل الملك في العين الموقوفة إلى الموقوف عليه إن كان آدمياً معيناً كزيد وعمرو، أو كان جمعاً محصوراً كأولاده أو أولاد زيد؛ لأن الوقف سبب يزيل التصرف في الرقبة، فملكه المنتقل إليه كالهبة. متى يزول الملك عن الوقف؟ يزول الملك عن الموقوف في رأي أبي حنيفة (¬1) بأحد أربعة أسباب: 1ً - بإفراز مسجد. 2ً - أو بقضاء القاضي؛ لأنه مجتهد فيه أي يسوغ فيه الاجتهاد والاختلاف بين الأئمة، فيكون الحكم فيه رافعاً للخلاف. 3ً - أو بالموت إذا علق به، مثل إذا مت فقد وقفت داري على كذا، فالصحيح أنه كوصية تلزم من الثلث بالموت، لا قبله. 4ً - أو بقوله: وقفتها في حياتي، وبعد وفاتي مؤبداً، وهو جائز عند أئمة الحنفية الثلاثة، لكن عند الإمام ما دام حياً هو نذر بالتصدق بالغلة، فعليه الوفاء، وله الرجوع، فإن لم يرجع حتى مات، نفذ الوقف من الثلث. وفي الأمرين الأولين: يزول الملك ويلزم الوقف في حياة الواقف بلا توقف على موته، فاللزوم حالي، كما يلزم أيضاً بالموت. أما في الأمرين الآخرين: فيزول الملك ويلزم الوقف بموت الواقف، لكن في ¬
المالكية
حال الحياة يجوز للواقف الرجوع عن الوقف ما دام حياً، غنياً أو فقيراً، بأمر قاض أو غيره. ولا يتم الوقف بناء على القول بلزومه وبناء على رأي محمد حتى يقبض ويفرز؛ لأنه كالصدقة، ولأن تسليم كل شيء بما يليق به، ففي المسجد بالإفراز، وفي غيره بنصب الناظر (المتولي) بتسليمه إياه، ولا يجوز وقف مشاع يقسم عند محمد، ويجوز عند أبي يوسف، كما تقدم؛ لأن التسليم عنده ليس بشرط، بسبب كون الوقف عنده كالإعتاق. واشترط المالكية (¬1) لصحة الوقف: القبض كالهبة، فإن مات الواقف أو مرض مرض موت أو أفلس قبل القبض (الحوز) بطل الوقف. وقال الشافعية (¬2): الوقف عقد (¬3) يقتضي نقل الملك في الحال، علماً بأن الوقف على معين يشترط فيه عندهم القبول متصلاً بالإيجاب إن كان من أهل القبول، وإلا فقبول وليه كالهبة والوصية، أما الوقف على جهة عامة كالفقراء أو على مسجد أو نحوه، فلا يشترط فيه القبول جزماً لتعذره. وكذلك قال الحنابلة (¬4) كالشافعية: يزول الملك ويلزم الوقف بمجرد التلفظ به؛ لأن الوقف يحصل به، لحديث عمر المتقدم: «إن شئت حبَّست أصلها، وتصدقت بها» ولأنه تبرع يمنع البيع والهبة والميراث، فلزم بمجرده كالعتق. ¬
موقف القانون من الرجوع في وقف المسجد
ويصح في رأي الحنابلة قسمة الوقف عن غيره، باعتبار أن القسمة إفراز على الصحيح على التفصيل الآتي: تجوز القسمة إن لم يكن فيها رد، وكذا إن كان فيها رد من جانب أصحاب الوقف؛ لأن الرد شراء شيء من غير الوقف، أما إن كان فيها رد من غير أصحاب الوقف، فلا تجوز؛ لأنه شراء بعض الوقف، وبيعه غير جائز. ويطبق التفصيل السابق إن كان المشاع وقفاً على جهتين، فأراد أهله قسمته، فلا تجوز إن كان فيها رد بأي حال. ومتى جازت القسمة في الوقف، وطلبها أحد الشريكين أو ولي الوقف، أجبر الآخر؛ لأن كل قسمة جازت من غير رد ولا ضرر، فهي واجبة. موقف القانون من الرجوع في وقف المسجد وغير المسجد (¬1): أما الرجوع في وقف المسجد: فقد نص القانون المصري رقم (48 لسنة 1946) (م 11) على أنه: «لا يجوز الرجوع ولا التغيير في وقف المسجد، ولا فيما وقف عليه». والمراد بما وقف على المسجد: ما وقف عليه ابتداء من أول الأمر، لا ما وقف عليه انتهاء، بأن وقف على جهة ما أولاً، ثم من بعدها يكون وقفاً على المسجد، تطبيقاً للقانون رقم (78 لسنة 1947). وأخذ القانون هذا الحكم بعدم جواز الرجوع مما اتفق عليه الفقهاء، حتى أبو حنيفة، فإنه وافق الصاحبين على أنه لا يجوز الرجوع في وقف المسجد، ويعد ¬
الرجوع في وقف غير المسجد
تصرف الواقف لازماً، فلا يجوز للواقف ولا لورثته الرجوع والتغيير فيه؛ لأن وقف المسجد حين يتم يصير خالصاً لله تعالى، وأن المساجد لله، وخلوصه لله تعالى يقتضي عدم جواز الرجوع فيه. أما الرجوع في وقف غير المسجد: فقد أخذ القانون بمذهب أبي حنيفة في حياة الواقف، وبمذهب الصاحبين وباقي الأئمة بعد وفاة الواقف. ففي حياة الواقف: نصت المادة (11) من القانون المصري على أنه: «للواقف أن يرجع في وقفه كله أو بعضه، كما يجوز له أن يغير في مصارفه وشروطه، ولو حرم نفسه من ذلك، على ألا ينفذ التغيير إلا في حدود هذا القانون» فهذا يدل على جواز الرجوع عن الوقف والتغيير فيه، ولم يقل بذلك إلا أبو حنيفة. وأما بعد وفاة الواقف: فسكت عنه القانون، وما سكت عنه يعمل فيه بالراجح من مذهب أبي حنيفة، والراجح فيه مذهب الصاحبين: وهو أن الوقف تبرع لازم، لا يجوز الرجوع فيه. أما الرجوع عن الأوقاف قبل العمل بهذا القانون: فقد نصت المادة (11) على أنه «لا يجوز له الرجوع ولا التغيير فيما وقفه قبل العمل بهذا القانون، وجعل استحقاقه لغيره، إذا كان قد حرم نفسه وذريته من هذا الاستحقاق، ومن الشروط العشرة بالنسبة له، أو ثبت أن هذا الاستحقاق كان بعوض مالي أو لضمان حقوق ثابتة قِبَل الواقف». ففي حالة حرمان نفسه وذريته من الاستحقاق: يعتبر عمل الواقف قرينة قاطعة على أنه تصرف هذا التصرف في مقابل يمنعه من الرجوع، ولا حاجة حينئذ إلى تحقيق أو إثبات.
الشروط العشرة
وفي حالة كون الاستحقاق بعوض مالي: مثل أن يقف المدين على الدائن وأولاده، ويحرم الواقف نفسه وأولاده من ذلك، يكون الوقف في مقابل عوض. وفي حالة كون الاستحقاق لضمان حقوق ثابتة قِبَل الواقف: مثل بيع شخص لقريبه عقاراً بيعاً صورياً، ثم وقف القريب هذا العقار على قريبه الذي باعه له، يترتب على الرجوع إضرار بالناس، وتضييع لحق أصحاب الحقوق، ويكون إثبات ذلك بجميع الأدلة القانونية، ومنها القرائن. الشروط العشرة: أباحت المادة الثانية عشرة من قانون الوقف المصري رقم (48 لسنة 1946) للواقف أن يشترط لنفسه الشروط العشرة في وقفه، وأن يشترط تكرارها، واعتبرتها صحيحة، ونصها: «للواقف أن يشترط لنفسه لا لغيره الشروط العشرة أو ما يشاء منها وتكرارها، على ألا تنفذ إلا في حدود هذا القانون» أما اشتراط الواقف الشروط العشرة لغيره فهو شرط باطل عملاً بهذه المادة. وكلمة الشروط العشرة محدثة الاستعمال في المعنى المراد هنا، ولم ترد في كلام الفقهاء، ولكنها استعملت في هذا المعنى من أمد بعيد في كتب الواقفين وفي فتاوى بعض المتأخرين وفي لغة المحاكم، حتى أصبح مدلولها محدوداً ومنضبطاً، وصارت كلمة اصطلاحية. والشروط العشرة في هذا الاصطلاح: هي الإعطاء، والحرمان، والإدخال، والإخراج، والزيادة، والنقصان، والتغيير، والإبدال، والاستبدال، والبدل أو التبادل أو التبديل (¬1). ¬
والإعطاء: معناه إدخال من يشاء في الوقف كمصرف استثنائي، ويلزم من استعماله حرمان المصرف الأصلي من الغلة أو بعضها في المدة التي يستحقها من أدخله في الوقف. والإدخال: معناه إدخال غير موقوف عليه، وجعله من أهل الوقف ليكون مستحقاً من وقت الإدخال أو بعد ذلك. وقد يصاحب هذا الشرط مصرف استثنائي وقد لا يصاحبه. والإخراج: هو جعل الموقوف عليه من غير أهل الوقف أبداً أو لمدة معينة يكون بعدها من أهله. ومفهومه مغاير لمفهوم الحرمان، وقد يجتمع المفهومان، فالإخراج إلى الأبد حرمان، والحرمان إلى الأبد إخراج. والزيادة: تفضيل بعض الموقوف عليهم على الباقين بشيء يميزه به حين توزيع الغلة، أو أن يجعل في نصيبه فضلاً على بقية الأنصباء على الدوام. والنقصان: هو إعطاء بعض الموقوف عليهم أقل مما أعطى الآخرين عند التوزيع، حيث لم تكن هناك أنصبة معينة أو تخفيض ما سبق أن عينه له. والتغيير: هذا الشرط أعم من الشروط السابقة ويتناولها جميعها، وذكره بعدها يكون بمثابة إجمال بعد تفصيل، فلو لم يذكر سواه، لملك من شرط له كل ما تفيده الشروط الستة السابقة مجتمعة. وإذا أردف التغيير بالتبديل اعتبره المتأخرون توكيداً لمعناه، إلا إذا أمكن صرفه لمعنى آخر لم يذكر، كالاستبدال فإنه يصرف إليه، فإن التأسيس خير من التأكيد. والاستبدال: أطلق الفقهاء كلمة الاستبدال، وأرادوا بها بيع الموقوف عقاراً كان أو منقولاً بالنقد، وشراء عين بمال البدل لتكون موقوفة مكان العين التي
الفصل الرابع ـ شروط الوقف
بيعت، والمقايضة على عين الوقف بعين أخرى. ولكن طرأ عرف آخر للمؤلفين من زمن بعيد، فأطلقوا الاستبدال على شراء عين بمال البدل لتكون وقفاً، والإبدال على بيع الموقوف بالنقد، والتبادل أو البدل على المقايضة. الفصل الرابع ـ شروط الوقف: يشترط لصحة الوقف شروط في الواقف، وفي الموقوف، وفي الموقوف عليه، وفي صيغة الوقف. المبحث الأول ـ شروط الواقف: يشترط في الواقف لصحة الوقف ونفاذه ما يأتي (¬1): وهو أهلية التبرع كباقي التبرعات من هبة وصدقة وغيرها؛ لأن الوقف تبرع، ويمكن تحليل هذا الشرط إلى أربعة شروط هي: 1 ً - أن يكون الواقف حراً مالكاً: فلا يصح وقف العبد؛ لأنه لا ملك له، ولا يصح وقف مال الغير ولا يصح وقف الغاصب المغصوب؛ إذ لا بد في الواقف من أن يكون مالكاً الموقوف وقت الوقف ملكاً باتاً، أو بسبب فاسد كالمشترى شراء فاسداً والموهوب بهبة فاسدة بعد القبض في رأي الحنفية، وألا يكون محجوراً عن التصرف، وينقض وقف استحق بملك أو شفعة وإن جعله مسجداً، ووقف مريض أحاط دينه بماله، ووقف محجور عليه لسفه أو دين. ولو أجاز المالك وقف فضولي، جاز. ¬
- أن يكون عاقلا
2 ً - أن يكون عاقلاً: فلا يصح وقف المجنون؛ لأنه فاقد العقل، ولا وقف المعتوه؛ لأنه ناقص العقل، ولا وقف مختل العقل بسبب مرض أو كبر؛ لأنه غير سليم العقل؛ لأن كل تصرف يتطلب توافر العقل والتمييز. 3 ً - أن يكون بالغاً: فلا يصح وقف الصبي، سواء أكان مميزاً أم غير مميز؛ لأن البلوغ مظنة كمال العقل، ولخطورة التبرع. ويعرف البلوغ كما تقدم في مبحث النظريات الفقهية: إما بظهور العلامات الطبيعية كالاحتلام والعادة الشهرية، وإما ببلوغ سن الخامسة عشرة في رأي الأكثرين، أو سبع عشرة في رأي أبي حنيفة. ويشترط القانون لصحة التبرع بلوغ سن الرشد: وهو إتمام (21) سنة في القانون المصري، وإتمام (18) سنة في القانون السوري. 4ً - أن يكون رشيدا ًغير محجور عليه بسفه أو فلس أو غفلة ولو بالولي، كسائر التصرفات المالية. فلا يصح الوقف من السفيه والمفلس أو المغفل عند الجمهور، وقال الحنفية: لا ينفذ وقف المدين المفلس إلا بإجازة الدائنين، فعدم الحجر عليه شرط نفاذ عندهم، لا شرط صحة. رأي الحنفية في وقف المدين: فصَّل الحنفية في وقف المدين على النحو الآتي: أـ إذا كان الدين غير مستغرق لماله، ووقف ما زاد على ما يفي دينه، فوقفه صحيح نافذ، لعدم مصادمة حق الدائنين. ب ـ إذا كان الدين مستغرقاً لماله: توقف نفاذ وقفه على إجازة الدائنين، سواء حجر عليه أم لم يحجر عليه، وسواء في حال مرض الموت، أم في حال الصحة،
وقف المريض مرض الموت
وهذا في الحالة الأخيرة بحسب رأي متأخري الحنفية حماية لمصالح الدائنين، فإن أجازوه نفذ الوقف، وإن لم يجيزوه بطل. لكن الإجازة في حال مرض الموت لاتكون إلا بعد الموت، إذ لا يعرف كونه في مرض الموت إلا بعد الموت. وهذا موافق لما نص عليه القانون المدني المصري (م2/ 238) والقانون المدني السوري (م2/ 239) من أن تصرف المدين إذا كان تبرعاً، لا ينفذ في حق الدائن. وقف المريض مرض الموت: تبين لدينا في بحث الحجر على المريض أن المذاهب متفقة على حجر المريض لحق الورثة في تبرعاته فقط فيما يزيد عن ثلث تركته، حيث لا دين عليه، فلا تصح تبرعاته من وقف وصدقة وهبة ووصية فيما زاد على ثلث ماله رعاية لحق الورثة في التركة، أما في حدود الثلث فما دونه، فيجوز تبرعه ومنه وقفه رعاية لمصلحته، في تحقيق الأجر والثواب له، بدليل ما رواه البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعودني عام حَجّة الوداع، من وجع اشتد بي، فقلت: إني قد بلغ بي من الوجع، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا، فقلت: بالشطر؟ فقال: لا، ثم قال: الثلث، والثلث كبير أو كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس». وسيأتي تفصيل آراء الفقهاء في الموضوع. وقف المرتد: قال الحنفية (¬1): هناك حالتان: الأولى ـ لو وقف المرتد في حال ردته، فوقفه موقوف عند الإمام أبي حنيفة، فإن عاد إلى الإسلام، صح، وإلا بأن مات أو قتل على ردته أو حكم بلحاقه بدار الحرب، بطل. ¬
وقف الكافر
الثانية ـ لو وقف ثم ارتد ـ والعياذ بالله تعالى ـ بطل وقفه، حتى وإن عاد إلى الإسلام ما لم يجدد وقفه بعد عوده، لحبوط عمله بالردة. وعلى هذا التفصيل يفهم قولهم: تبطل أوقاف امرئ بارتداد. ويصح عندهم وقف المرتدة؛ لأنها لا تقتل، إلا أن يكون على حج أو عمرة ونحو ذلك، فلا يجوز. وقف الكافر: أجاز الشافعية وقف الكافر ولو لمسجد، ويثاب على صدقاته في الدنيا، ولكن لا حظ له من الثواب في الآخرة، لما أخرجه مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة، يعطى بها في الدنيا، ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيُطعَم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يُجزى بها». وقف المكره: اشترط الشافعية والمالكية والحنابلة في الواقف أن يكون مختاراً، فلا يصح الوقف من مكره، إذ لا تصح عبارته. وقف الأعمى: لا يشترط البصر، فيصح وقف الأعمى، لصحة عبارته. وقف غير المرئي: لا يشترط كون الموقوف معلوماً للواقف، فيصح وقف ما لم يره، كما أبان الشافعية (¬1). شرط الواقف كنص الشارع: اتفق الفقهاء على هذه العبارة وهي أن شرط الواقف كنص الشارع، واختلفوا في مدلولها ومداها. ¬
الحنفية
فقال الحنفية (¬1): قولهم «شرط الواقف كنص الشارع» (¬2) أي في الفهم والدلالة ووجوب العمل به، وقد يراد بذلك في المفهوم، أي لا يعتبر مفهومه كما لا يعتبر في نصوص الشارع، عملاً بما هو مقرر عندهم من أن مفهوم المخالفة المسمى دليل الخطاب غير معتبر في النصوص، وهو يشمل أقساماً خمسة: هي مفهوم الصفة، والشرط، والغاية، والعدد، واللقب، أي الاسم الجامد كثوب مثلاً. والمراد بعدم اعتبار مفهوم المخالفة في النصوص: أن مثل قولك: أعط الرجل العالم، أو أعط زيداً إن سألك، أو أعطه إلى أن يرضى، أو أعطه عشرة، أو أعطه ثوباً، لا يدل على نفي الحكم عن المخالف للمنطوق، بمعنى أنه لا يكون منهياً عن إعطاء الرجل الجاهل، بل هو مسكوت عنه، وباق على العدم الأصلي، حتى يأتي دليل يدل على الأمر بإعطائه، أو النهي عنه. وكذا بقية المفاهيم. لكن يعتبر المفهوم في روايات الكتب المعبر عنه بقولهم: «مفهوم التصنيف حجة» لأن الفقهاء يقصدون بذكر الحكم في المنطوق نفيه عن المفهوم غالباً، كقولهم: تجب الجمعة على كل ذكر حر، بالغ، عاقل، مقيم، فإنهم يريدون بهذه الصفات نفي الوجوب عن مخالفها، ويستدل به الفقيه على نفي الوجوب عن المرأة والعبد والصبي إلخ. فعلى رأي الأصوليين من الحنفية في أصل المذهب: «لا يعتبر المفهوم في ¬
الوقف» أي أن شرط الواقف لا يدل على نفي ما يخالفه، لكن المتأخرين من الحنفية قالوا: يعتبر المفهوم في غير النصوص الشرعية، عملاً بما هو معتبر في متفاهم الناس وعرفهم، فوجب اعتبار المفهوم في كلام الواقف؛ لأنه يتكلم على عرفه. وبناء عليه: كما أن مفهوم التصنيف حجة، يعتبر المفهوم في عرف الناس والمعاملات والعقليات، ويكون التحقيق أن لفظ الواقف ولفظ الموصي والحالف والناذر وكل عاقد، يحمل على عادته في خطابه ولغته التي يتكلم بها، وافقت لغة العرب ولغة الشرع أم لا. والخلاصة: أنه عند الأصوليين من الحنفية لا يعتبر المفهوم في الوقف، ولكن في رأي المتأخرين يحمل كلام الواقف على عرف زمانه. فلو قال: وقفت على أولادي الذكور يصرف إلى الذكور منهم بحكم المنطوق، وأما الإناث فلا يعطى لهن، لعدم ما يدل على الإعطاء، إلا إذا دل في كلامه دليل على إعطائهن، فيكون مثبتاً لإعطائهن ابتداء، لا بحكم المعارضة، وبهذا يكون رأي المتأخرين؛ يعتبر المفهوم في غير النصوص الشرعية مما هو في متفاهم الناس وعرفهم وفي المعاملات والعقليات. ورتب الحنفية على هذه القاعدة: أن كل ما خالف شرط الواقف فهو مخالف للنص، والحكم به حكم بلا دليل، سواء أكان كلام الواقف نصاً أم ظاهراً؛ لأنه يجب اتباعه، عملاً بقول المشايخ: شرط الواقف كنص الشارع. ويراعى شرط الواقف في إجارة الموقوف، فإذا شرط الواقف ألا يؤجر الموقوف أكثر من سنة، والناس لا يرغبون في استئجارها، وكانت إجارتها أكثر من سنة أنفع للفقراء، فليس للقيم الناظر أن يؤجرها أكثر من سنة، بل يرفع الأمر
المسائل السبع التي يجوز فيها مخالفة شرط الواقف
للقاضي، حتى يؤجرها؛ لأن له ولاية النظر للفقراء والغائب والميت. فإن لم يشترط الواقف مدة أو فوض الرأي بما يراه القيم خيراً وأنفع للفقراء، فللقيم ذلك بلا إذن القاضي. وإن اشترط الواقف بيع الموقوف وصرف ثمنه لحاجته، أو إخراجه من الوقف إلى غيره، أوأن يهبه ويتصدق بثمنه، أو أن يهبه لمن شاء، أو أن يرهنه متى بدا له ويخرجه عن الوقف، بطل الوقف. أما إن اشترط الواقف شرطاً فاسداً فيصح الوقف ويبطل الشرط. والشرط الفاسد: ما يكون منافياً لعقد الوقف أو يكون غير جائز شرعاً، أو لا فائدة فيه، كاشتراط الرجوع في وقف المسجد متى شاء، وكالوقف على المفسدين وفي وجوه الفساد، وكاشتراط صرف الريع لمن يقرأ عند قبره أو في داره أو في مسجد معين نظير قراءته، وكاشتراط الواقف صرف الريع على ذريته في خصوص النفقة والكسوة أو صنع الخبز وتقديمه لطلبة العلم. المسائل السبع التي يجوز فيها مخالفة شرط الواقف: ذكر الحنفية سبع مسائل يجوز فيها مخالفة شرط الواقف وهي ما يأتي: الأولى ـ لو شرط الواقف عدم الاستبدال بالموقوف شيئاً آخر. الثانية ـ إذا شرط أن القاضي لا يعزل الناظر، فله عزل غير الأهل. الثالثة ـ شرط ألا يؤجر وقفه أكثر من سنة، والناس لا يرغبون في استئجار سنة، أو كان في الزيادة نفع للفقراء، فللقاضي المخالفة، دون الناظر. الرابعة ـ لو شرط أن يقرأ على قبره، فالتعيين باطل على القول بكراهة القراءة على القبر، والمختار خلافه. الخامسة ـ شرط أن يتصدق بفاضل الغلة على من يسأل في مسجد كذا،
المالكية
فللقيم التصدق على سائل في مسجد آخر، أو خارج المسجد، أو على من لا يسأل. السادسة ـ لو شرط للمستحقين خبزاً ولحماً معيناً كل يوم، فللقيم دفع القيمة نقداً، والراجح أن الخيار لهم دلالة. السابعة ـ تجوز الزيادة من القاضي على راتب الإمام المعلوم إذا كان لا يكفيه، وكان عالماً تقياً. وقال المالكية (¬1): اتبع شرط الواقف ـ أي وجوباً ـ إن جاز ولو كان مكروهاً، ولم يمنع شرعاً، فإن لم يجز لم يتبع، فإن اشترط تخصيص الغلة لأهل مذهب من المذاهب الأربعة، أو بتدريس فئة في مدرسته أو بتخصيص إمام في مسجده، أو تخصيص ناظر، اتبع شرطه، لأنه جائز. وكذلك قرر الشافعية (¬2): اتبع شرط الواقف كسائر الشروط المتضمنة للمصلحة، فلو وقف بشرط ألا يؤجر الموقوف أصلاً أو ألا يؤجر أكثر من سنة، صح الوقف. ويستثنى حال الضرورة، كما لو شرط ألا تؤجر الدار أكثر من سنة، ثم انهدمت، وليس لها جهة عمارة إلا بإجارة سنين، جاز إجارتها في عقود مستأنفة، وإن شرط الواقف ألا يستأنف؛ لأن المنع في هذه الحالة يفضي إلى تعطيله، وهو مخالف لمصلحة الوقف. وإذا شرط في وقف المسجد اختصاصه بطائفة كالشافعية اختص، كالمدرسة والرِّباط إذا شرط في وقفهما اختصاصهما بطائفة، اختصا بهم جزماً. وكذا لو خص المقبرة بطائفة اختصاصهم بهم عند الأكثرين. ¬
الحنابلة
وتصرف الغلة على شرط الواقف من الأثرة والتسوية والتفضيل والتقديم والتأخير، والجمع والترتيب، وإدخال من شاء بصفة، وإخراجه بصفة؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم وقفوا وكتبوا شروطهم، فكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه صدقة للسائل والمحروم والضيف ولذي القربى وابن السبيل وفي سبيل الله. وكتب علي كرم الله وجهه بصدقته: «ابتغاء مرضاة الله ليولجني الجنة، ويصرف النار عن وجهي، ويصرفني عن النار، في سبيل الله وذي الرحم والقريب والبعيد، لا يباع ولا يورث»، وكتبت فاطمة رضي الله عنها بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم لنساء رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وفقراء بني هاشم وبني المطلب. وذكر الحنابلة (¬1) أيضاً: أنه يرجع وجوباً إلى شرط الواقف، ولو كان الشرط مباحاً غير مكروه، ويعمل بالشرط في عدم إيجار الوقف، وفي قدر المدة، فإذا شرط ألا يؤجر أكثر من سنة، لم تجز الزيادة عليها، لكن عند الضرورة يزاد بحسبها، كما قال الشافعية. ويرجع إلى شرط الواقف في قسمة الريع على الموقوف عليه، أي في تقدير الاستحقاق، مثل على أن للأنثى سهماً، وللذكر سهمين أو بالعكس. ويرجع أيضا إلى شرطه في تقديم وتأخير وفي جمع وفي ترتيب وفي تسوية وفي تفضيل، نحو وقفت على زيد وعمرو وبكر، ويبدأ بالدفع إلى زيد، أو يؤخر زيد، أو يقف على أولاده وأولادهم جاعلاً الاستحقاق في حالة واحدة، أو يقف على أولادهم ثم أولادهم، جاعلاً استحقاق بطن مرتباً على آخر، أو يسوي بين المستحقين كقوله: الذكر والأنثى سواء، أو يفضل بينهم، كقوله للذكر مثل حظ الأنثيين ونحوه. ¬
فإن جهل شرط الواقف، عمل بأسلوب صرف من تقديم ممن يوثق به إن أمكن، فإن تعذر وكان الوقف على عمارة أوإصلاح، صرف بقدر الحاجة، وإن كان على قوم عمل بعادة جارية أي مستمرة إن كانت، ثم عمل بعرف مستقر في مقادير الصرف؛ لأن الغالب وقوع الشرط بحسب العرف. فإن لم يكن عرف، فيصرف بالتساوي. وإن شرط الواقف إخراج من شاء من أهل الوقف بصفة كالغنى أو الفسق أو إدخاله بصفة كالفقر أو الصلاح، أو الأمرين معاً إخراجاً وإدخالاً، عمل به، كأنه جعل الاستحقاق معلقاً بصفة. ولا خلاف في أنه إن شرط أن يبيع الموقوف متى شاء أو يهبه أو يرجع فيه، لم يصح الشرط ولا الوقف؛ لأنه ينافي مقتضى الوقف. وإن شرط الواقف إخراج من شاء من أهل الوقف، وإدخال من شاء من غير أهل الوقف، لم يصح الوقف، لأنه شرط ينافي مقتضى الوقف، فأفسده، كما لو شرط ألا ينتفع الموقوف عليه بالموقوف. وإن خصص مقبرة أو رباطاً أو مدرسة، أو إمامتها أو خطابتها بأهل بلد، أو مذهب كالحنابلة أو قبيلة، تخصصت كما قال الشافعية إعمالاً للشرط، إلا أن يقع بأهل بدعة، أو ألا ينتفع به، أو عدم استحقاق مرتكب الخير. أما وقف الأمراء والسلاطين فلا يتبع شرطهم إلا إن كان فيه مصلحة للمساكين، كمدرس كذا وطالب كذا. والخلاصة: اتفقت المذاهب على وجوب العمل بشرط الواقف كنص
المبحث الثاني ـ شروط الموقوف
الشارع. وقال بعض الفقهاء: نصوص الواقف كنصوص الشارع يعني في الفهم والدلالة، لا في وجوب العمل. وهذا منافٍ للمبدأ المقرر: أن الواقف والموصي والحالف والناذر وكل عاقد يحمل قوله على العادة في خطابه. المبحث الثاني ـ شروط الموقوف: اتفق الفقهاء على اشتراط كون الموقوف مالاً متقوماً، معلوماً، مملوكاً للواقف ملكاً تاماً، أي لا خيار فيه. ويحسن بيان شروط الموقوف في كل مذهب على حدة، لتنوعها. فقال الحنفية (¬1): يشترط في الموقوف أربعة شروط هي ما يأتي: 1 ً - أن يكون الموقوف مالاً متقوماً عقاراً: فلا يصح وقف ما ليس بمال كالمنافع وحدها دون الأعيان، وكالحقوق المالية مثل حقوق الارتفاق؛ لأن الحق ليس بمال عندهم. ولايصح وقف ما ليس بمال متقوم شرعاً كالمسكرات وكتب الضلال والإلحاد، إذ لا يباح الانتفاع به، فلا يتحقق المقصود من الوقف وهو نفع الموقوف عليه ومثوبة الواقف. ولا يصح وقف المنقول مقصوداً؛ لأن التأبيد شرط جواز الوقف، ووقف المنقول لا يتأبد، لكونه على شرف الهلاك. لكن يجوز وقفه تبعاً لغيره، كوقف حقوق الارتفاق من شرب ومسيل وطرق تبعاً للأرض. ويجوز استحساناً وقف ما جرت العادة بوقفه كوقف الكتب وأدوات الجنازة ووقف المرجل لتسخين الماء، ¬
ـ أن يكون الموقوف معلوما
ووقف المرّ والقدوم في الماضي لحفر القبور، لتعامل الناس به، وما رآه المسلمون حسناً، فهو عند الله حسن. ولا يجوز عند أبي حنيفة وقف الكُراع (الخيول) والسلاح في سبيل الله تعالى؛ لأنه منقول، ولم تجر العادة به، ويجوز وقفها عند الصاحبين، ويباح عندهما بيع ما هرم منها أو صار بحال لا ينتفع به، فيباع ويرد ثمنه في مثله، للحديث المتقدم: «أما خالد فقد احتبس أكراعاً وأفراساً في سبيل الله تعالى». 2 ً ـ أن يكون الموقوف معلوماً: إما بتعيين قدره كوقف دونم أرض (ألف متر مربع) أو بتعيين نسبته إلى معين كنصف أرضه في الجهة الفلانية. فلا يصح وقف المجهول؛ لأن الجهالة تفضي إلى النزاع. ولا يشترط لديهم تحديد العقار، ويشترط قانوناً في مصر بيان حدوده وأطواله ومساحته. 3 ً - أن يكون الموقوف مملوكاً للواقف حين وقفه ملكاً تاماً: أي لا خيار فيه؛ لأن الوقف إسقاط مِلْك، فيجب كون الموقوف مملوكاً. فمن اشترى شيئاً بعقد بيع فيه خيار للبائع ثلاثة أيام، ثم وقفه في مدة الخيار، لم يصح الوقف؛ لأنه وقف مالا يملك ملكاً تاماً، لأن هذا البيع غير لازم. 4 ً - أن يكون الموقوف مفرزاً، غير شائع في غيره إذا كان قابلاً للقسمة: لأن تسليم الموقوف شرط جواز الوقف عند محمد، والشيوع يمنع القبض والتسليم. ولم يشترط أبو يوسف والشافعية والحنابلة هذا الشرط، فأجازوا وقف المشاع؛ لأن التسليم ليس بشرط أصلاً، بدليل وقف عمر رضي الله عنه مئة سهم بخيبر.
القانون المصري
أما القانون المصري رقم (48 لسنة 1946): فقد أخذ برأي أبي يوسف في جواز وقف المشاع القابل للقسمة على جهة خيرية كمستشفى أو مدرسة، إذ لو حصل نزاع أمكن القضاء عليه بالقسمة والإفراز. وأخذ هذا القانون برأي الإمام أبي حنيفة وصاحبيه في عدم صحة وقف الحصة الشائعة لتكون مسجداً أو مقبرة إلا بعد إفرازها؛ لأن شيوعها يمنع خلوصها لله تعالى، ويجعلها عرضة لتغيير جهة الانتفاع بها، فتتحول إلى حانوت أو أرض مزروعة، ونحوها، وهو أمر مستنكر شرعاً. وأخذ أيضاً برأي المالكية (¬1) في المادة (8) بعدم جواز وقف الحصة الشائعة فيما لا يقبل القسمة؛ لأن شيوع الموقوف في غيره قد يحول دون استغلاله، وقد يكون مثاراً للمنازعات، ولكن استثنى القانون ثلاث حالات، أجاز فيها وقف الحصة الشائعة فيما لا يقبل القسمة وهي: الأولى ـ أن يكون باقي الحصة الشائعة موقوفاً، واتحدت الجهة الموقوف عليها الحصة الأخرى. الثانية ـ أن تكون الحصة الشائعة جزءاً من عين مخصصة لمنفعة شيء موقوف، كجرَّار موقوف لأراضي وقفية. الثالثة ـ أن تكون الحصة الشائعة حصةأو أسهماً في شركات مالية، بشرط أن تكون طرق استغلال أموال الشركة جائزة شرعاً من صناعة أو زراعة أو تجارة، فإن كانت محرمة شرعاً كالطرق الربوية فلا يصح وقف أسهمها (¬2). ¬
المالكية
واشترط المالكية (¬1) في الموقوف: أن يكون مملوكاً لا يتعلق به حق الغير، مفرزاً إذا كان غير قابل للقسمة، ويشمل المملوك ذات الشيء أو منفعته، كما يشمل الحيوان، فيصح أن يوقف على مستحق للانتفاع بخدمته أو ركوبه أو الحمل عليه، ويشمل أيضاً الطعام والدنانير والدراهم، وينزل رد بدله منزلة بقاء عينه، لكن المذهب جواز وقف الطعام والنقود كما بينت. فلا يصح وقف مرهون، ومأجور حال تعلق حق الغير به، أي بأن أراد الواقف وقف المذكور من الآن، مع كونه مرتهناً أو مستأجراً؛ لأن في وقفه إبطال حق المرتهن منه، أما لو وقف ما ذكر قاصداً وقفه بعد الخلاص من الرهن والإجارة، صح الوقف؛ إذ لا يشترط لديهم في الوقف التنجيز. واشترط الشافعية والحنابلة (¬2) أن يكون الموقوف عيناً معينة (معلومة) ـ لا ما في الذمة ـ مملوكة ملكاً يقبل النقل بالبيع ونحوه، يمكن الانتفاع بها عرفاً كإجارة ولو حصة مشاعة منها، ويدوم الانتفاع بها انتفاعاً مباحاً مقصوداً. فلا يصح وقف المنفعة وحدها دون الرقبة، كمنفعة العين المستأجرة، أوالمنفعة الموصى له بها، والوقف الملتزم في الذمة كقوله: وقفت داراً، أو ثوباً في الذمة، ولا وقف أحد داريه، ولاما لا يملك إلا إذا وقف الإمام شيئاً من أرض بيت المال، فإنه يصح، ولا ما لا يقبل النقل أو البيع كأم الولد والحمل، فلا يصح وقفه منفرداً، وإن صح عتقه. ولا يصح وقف حر نفسه، لأن رقبته غير مملوكة. ولا يصح وقف مالا فائدة فيه أو ما لا منفعة منه، كوقف كلب وخنزير وسباع ¬
البهائم وجوارح الطير التي لا تصلح للصيد، والمراد بالفائدة: اللبن والثمرة ونحوهما، لكن يستثنى ـ كما ذكر الشافعية ـ وقف الفحل للضراب، فإنه جائز ولا تجوز إجارته. ولا يصح وقف ما لا يدوم الانتفاع به كالطعام والشراب غيرالماء، والشمع والريحان؛ لأن منفعة المطعوم في استهلاكه، ولأن الشمع يتلف بالانتفاع به، فهو كالمأكول والمشروب، ولأن المشمومات والرياحين وأشباهها تتلف على قرب من الزمان، فأشبهت المطعوم. ولا يصح وقف ما كان الانتفاع به غير مباح كوقف آلات الملاهي؛ لأن المنفعة القائمة منه غير مباحة، ولاوقف الدراهم والدنانير، للتزيين، فإنه لا يصح على الأصح المنصوص، لأنه انتفاع غير مقصود. أما الماء فيصح وقفه، ويصح وقف دهن على مسجد ليوقد فيه؛ لأن تنوير المسجد مندوب إليه. واستيفاء منفعة الموقوف: إما بتحصيل المنفعة كسكنى الدار وركوب الدابة وزراعة الأرض، أو بتحصيل العين كالثمرة من الشجر، والصوف والوبر والألبان والبيض من الحيوان. ويصح كون الموقوف عقاراً كأرض، أو شجراً، أو منقولاً كالحيوان مثل وقف فرس على المجاهدين، وكالأثاث مثل بساط يفرش في مسجد ونحوه، وكالسلاح مثل سيف ورمح أو قوس على المجاهدين، وكالمصحف وكتب العلم ونحوه. أما وقف العقار فلحديث عمر المتقدم بوقف مئة سهم من أرض خيبر، وأما الحيوان، فلحديث أبي هريرة مرفوعاً: «من احتبس فرساً في سبيل الله إيماناً واحتساباً، فإن شبعه وروثه، وبوله، في ميزانه حسنات» (¬1) وأما الأثاث والسلاح، ¬
المبحث الثالث ـ شروط الموقوف عليه
فلقوله صلّى الله عليه وسلم: «أما خالد فقد حبس أدرعه وأعتده في سبيل الله» (¬1) وما عدا المذكور فمقيس عليه؛ لأن فيه نفعاً مباحاً مقصوداً، فجاز وقفه كوقف السلاح. وقد بينت في محل الوقف: أنه يصح عند الشافعية والحنابلة وقف المشاع مطلقاً وعند المالكية فيما يقبل القسمة، لحديث عمر أنه وقف مئة سهم من خيبر، فلو وقفه مسجداً ثبت فيه حكم المسجد في الحال عند التلفظ بالوقف، فيمنع منه الجنب والسكران ومن عليه نجاسة تتعدى، وتتعين القسمة في وقف المشاع مسجداً، لتعيينها طريقاً للانتفاع بالموقوف. ويصح وقف الحلي للبس والإعارة، لحديث نافع السابق بوقف حفصة حلياً على نساء آل الخطاب. ويصح وقف الدار ونحوها وإن لم يذكر حدودها إذا كانت معروفة للواقف. ولا يصح عند الشافعية في الأصح وقف كلب معلَّم للصيد أو قابل للتعليم؛ لأنه غير مملوك. ويصح عند الحنابلة وقف سباع البهائم وجوارح الطير التي تصلح للصيد؛ لإباحة الانتفاع به للضرورة. المبحث الثالث ـ شروط الموقوف عليه: الموقوف عليه: إما معين أو غيره، فالمعين: إما واحد أو اثنان أو جمع، وغير المعين أو الجهة: مثل الفقراء والعلماء والقراء والمجاهدين والمساجد والكعبة والرباط والمدارس والثغور وتكفين الموتى. ¬
شروط الوقف على معين
شروط الوقف على معين: يشترط في الوقف على معين بالاتفاق كونه أهلاً للتملك، واختلف الفقهاء في الوقف على المعدوم والمجهول وعلى نفسه. ذهب الحنفية (¬1) إلى أنه يصح الوقف على معلوم، أو معدوم، مسلم أو ذمي، أو مجوسي على الصحيح؛ لأن المجوس من أهل الذمة، ولا يصح وقف مسلم أو ذمي على كنيسة (بيعة) أو على حربي، أما عدم صحة وقف المسلم على بيعة: فلعدم كون هذا الوقف قربة في ذاته، وأما في الذمي فلعدم كونه قربة عندنا وعنده معاً، وأما الحربي فلأنا قد نهينا عن بر الحربيين. ويصح على المفتى به وهو قول أبي يوسف وغيره من أئمة الحنفية الوقف على نفس الواقف، أو على أن الولاية له. ورأى المالكية (¬2): أنه يصح الوقف على أهل التملك، سواء أكان موجوداً أم سيوجد كالجنين الذي سيولد، وسواء ظهرت قربة كالوقف على فقيرأم لم تظهر قربة، كما لو كان الموقوف عليه غنياً، أو لو كان الوقف من مسلم على ذمي وإن لم يكن كتابياً، ولا يصح الوقف على حربي، أو على بهيمة. وبناء عليه يصح الوقف لديهم على الموجود والمعدوم والمجهول والمسلم والذمي والقريب والبعيد، إلا أن الوقف على من سيولد غير لازم بمجرد عقده، بل يوقف لزومه وتوقف غلته إلى أن يوجد، فيعطاها، ما لم يحصل مانع من الوجود كموت ويأس من وجوده، فترجع الغلة للمالك أو ورثته إذا مات. وعلى هذا فللواقف بيع الوقف قبل ولادة الموقوف عليه. ¬
أوضح الشافعية
ويبطل الوقف على نفس الواقف، ولو مع شريك غير وارث، مثل: وقفته على نفسي مع فلان، فإنه يبطل ما يخصه، وكذا ما يخص الشريك، إلا أن يحوزه الشريك قبل المانع، فإن وقف على نفسه، ثم على أولاده وعقبه، رجع حبساً (وقفاً) بعد موته، على عقبه إن حازوا قبل المانع، وإلا بطل، أي يبطل الوقف على النفس، أما على غيره فيصح، سواء تقدم الوقف على النفس أو تأخر أو توسط، كأن قال: وقفت على نفسي، ثم عقبي، أو وقفت على زيد ثم على نفسي، أو وقفت على زيد ثم على نفسي ثم على عمرو. هذا إن وقف في صحته، فإن وقف في مرضه، صح، من الثلث. وأوضح الشافعية (¬1) أنه يشترط في الوقف على معين إمكان تمليكه حال الوقف عليه بكونه موجوداً في الخارج، فلا يصح الوقف على معدوم وهو الجنين لعدم صحة تملكه في الحال، سواء أكان مقصوداً أم تابعاًً، فلو كان له أولاد وله جنين عند الوقف لم يدخل، ولا يصح الوقف على ولده، وهو لا ولد له، ولا على فقير أولاده، ولا فقير فيهم، ولا يصح الوقف على مجهول كالوقف على رجل غير معين، أو على من يختاره فلان؛ لأن الوقف تمليك منجز، فلم يصح في مجهول كالبيع والهبة. ولايصح الوقف على العبد نفسه؛ لأنه ليس أهلاً للملك. لكن لو أطلق الوقف على العبد فهووقف على سيده، كما في الهبة والوصية. ولو أطلق الوقف على بهيمة أو قيده بعلفها، لغا الوقف عليها؛ لأنها ليست أهلاً للملك بحال، كما لا تصح الهبة لها ولا الوصية. ولا يصح في الأصح الوقف على نفسه أو على مرتد أو حربي، لتعذر تمليك ¬
مذهب الحنابلة
الإنسان ملكه لنفسه؛ لأن الملك حاصل له، وتحصيل الحاصل محال، ولأن المرتد والحربي عرضة للقتل فلا دوام له، والوقف صدقة جارية، فكما لا يوقف ما لا دوام له، لا يوقف على من لا دوام له أي مع كفره. ولا يصح الوقف قطعاً على الحربيين والمرتدين؛ لأنه جهة معصية، كما سأبين. ويجوز للواقف أن يشرط النظر لنفسه كما سيأتي. ويصح الوقف من مسلم أو ذمي على ذمي معين، كصدقة التطوع، وهي جائزة عليه فهو في موضع القربة، ولكن يشترط في صحة الوقف عليه ألا يظهر فيه قصد معصية، فلو قال: وقفت على خادم الكنيسة لم يصح، كما لو وقف على حُصرها، وأن يكون مما يمكن تمليكه: فيمتنع وقف المصحف وكتب العلم الشرعي عليه. والجماعة المعينون من أهل الذمة كالواحد. والمعاهد والمستأمن في الأوجه كالذمي إن حل بدارنا ما دام فيها، فإذا رجع لدار الحرب، صرف إلى من بعده، كما تصرف غلة الوقف إلى من بعد الذمي الموقوف عليه إذا لحق بدار الحرب. ومذهب الحنابلة (¬1) إجمالاً كالشافعية: يشترط أن يقف على من يملك ملكاً مستقراً، وأن يكون معلوماً موجوداً، فلا يصح الوقف على من لا يملك كالعبد مطلقاً، والميت، والحمل في البطن أصالة، والمَلَك والجن والشياطين؛ لأنهم لا يملكون، والعبد القن (الخالص العبودية) لا يملك ملكاً لازماً، والمكاتب وإن كان يملك، لكن ملكه ضعيف غير مستقر. والحمل لا يصح تمليكه بغير الإرث والوصية، لكن يصح الوقف على الحمل تبعاً لغيره، مثل وقفت على أولادي أو على أولاد فلان، وفيهم حمل، فيشمله الوقف. ¬
الوقف على مرتد وحربي
ولا يصح الوقف على مرتد وحربي؛ لأن أموالهم مباحة في الأصل، ويجوز أخذها منهم بالقهر والغلبة، فما يتجدد لهم أولى بالأخذ، والوقف لا يجوز أن يكون مباح الأخذ؛ لأنه تحبيس الأصل. ولا يصح الوقف على مجهول، كرجل ومسجد ونحوهما، ولا على أحد هذين الرجلين أو المسجدين، لتردده. ولا يصح الوقف على معدوم أصالة، مثل وقفت على من سيولد لي، أو لفلان، أو على من يحدث لي أو لفلان؛ لأنه لا يصح تمليك المعدوم. ويصح الوقف على المعدوم تبعاً، كوقفت على أولادي ومن سيولد لي، أو على أولاد زيد ومن يولد له، أو على أولادي ثم أولادهم أبداً. وهذا خلافاً للشافعية. ولا يصح الوقف على بهيمة؛ لأنها ليست أهلاً للملك. ويصح الوقف على ذمي أو على أهل الذمة؛ لأنهم يملكون ملكاً محترماً، ويجوز أن يتصدق عليهم، فجاز الوقف عليهم كالمسلمين، ودليل جواز وقف المسلم على الذمي: ما روي أن صفية بنت حيي زوج النبي صلّى الله عليه وسلم وقفت على أخ لها يهودي، ولأن من جاز أن يقف الذمي عليه، جاز أن يقف عليه المسلم كالمسلم. ولو وقف على من ينزل كنائسهم وبيعهم من المارة والمجتازين، صح أيضاً؛ لأن الوقف عليهم، لا على الموضع. والوقف على النفس باطل؛ لأن من وقف شيئاً وقفاً صحيحاً، فقد صارت منافعه جميعها للموقوف عليه، وزال عن الواقف ملكه وملك منافعه، فلم يجز أن ينتفع بشيء منها؛ لأن الوقف تمليك إما للرقبة أو المنفعة، وكلاهما لا يصح هنا، إذ لا يجوز له أن يملك نفسه من نفسه، كبيعه ماله من نفسه، فإن فعل بأن وقف على نفسه ثم على ولده، صرف الوقف في الحال إلى من بعده. لكن للواقف إن وقف على غيره كإنسان أو مسجد الانتفاع بالموقوف في حالات هي ما يأتي:
1) ـ أن يقف شيئاً للمسلمين، فيدخل في جملتهم، مثل أن يقف مسجداً، فله أن يصلي فيه، أو مقبرة فله الدفن فيها، أو بئراً للمسلمين، فله أن يستقي منها، أو سقاية أوشيئاً يعم المسلمين، فيكون كأحدهم، وهذا لا خلاف فيه، وقد روي عن عثمان رضي الله عنه: أنه سبَّل بئر رومة، وكان دلوه فيها كدلاء المسلمين. 2) ـ أن يشترط الواقف في الوقف أن ينفق منه على نفسه، لما روى أحمد عن حِجْر المدري: أن في صدقة رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يأكل منها أهله بالمعروف غير المنكر، ولأن عمر رضي الله عنه لما وقف قال: ولا بأس على من وليها أن يأكل منها أو يطعم صديقاً غير متمول فيه، وكان الوقف في يده إلى أن مات، ولأنه إذا وقف وقفاً عاماً كالمساجد والسقايات والرباطات والمقابر، كان له الانتفاع به، فكذلك ههنا ..... ولا فرق بين أن يشترط لنفسه الانتفاع به مدة حياته، أو مدة معلومة معينة، وسواء قدر ما يأكل منه أو أطلقه، فإن عمر رضي الله عنه، لم يقدر ما يأكل الوالي أو يطعم، إلا بقوله: «بالمعروف». ولم يجز مالك والشافعي ومحمد بن الحسن انتفاع الواقف بوقفه؛ لأنه إزالة الملك، فلم يجز اشتراط نفعه لنفسه، كالبيع والهبة، وكما لو أعتق عبداً بشرط أن يخدمه، ولأن ما ينفقه على نفسه مجهول، فلم يصح اشتراطه، كما لو باع شيئاً، واشترط أن ينتفع به. 3) ـ أن يشرط الواقف أن يأكل من الوقف أهله، فيصح الوقف والشرط؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم شرط ذلك في صدقته. وإن شرط أن يأكل منه وليه ويطعم صديقاً، جاز؛ لأن عمر رضي الله عنه شرط ذلك في صدقته التي استشار فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
شروط الجهة الموقوف عليها
فإن وليها الواقف، كان له أن يأكل، ويطعم صديقاً؛ لأن عمر ولي الصدقة. وإن وليها أحد من أهله، كان له الولاية؛ لأن حفصة بنت عمر كانت تلي صدقته، بعد موته، ثم وليها بعدها عبد الله بن عمر. شروط الجهة الموقوف عليها: يشترط في الموقوف عليه غير المعين ما يأتي (¬1): الشرط الأول ـ أن يكون معلوماً وأن يكون جهة خير وبر يحتسب الإنفاق عليها قربة لله تعالى: وهذا متفق عليه في المسلم فقط، بأن يكون الموقوف عليه قربة في ذاته، والجهة تتملك الموقوف حكماً. والبر: اسم جامع للخير، وأصله: الطاعة لله تعالى، والمراد اشتراط معنى القربة في الصرف إلى الموقوف عليه؛ لأن الوقف قربة وصدقة، فلا بد من وجودها فيما لأجله الوقف، إذ هو المقصود، مثل الوقف على الفقراء والعلماء والأقارب، أو على غير آدمي كالمساجد والمدارس، والمشافي (البيمارستانات) والملاجئ، والحج والجهاد وكتابة الفقه والقرآن، والسقايات (¬2) والقناطر وإصلاح الطرق، وذكر الحنفية أنه يصح وقف الأكسية على الفقراء، فتدفع إليهم شتاء، ثم يردونها بعده. وإن وقف مصحفاً على أهل مسجد للقراءة جاز، إن كانوا يحصون، ¬
الوقف على الأغنياء
ويستوي فيه الأغنياء والفقراء. وإن وقفه على المسجد، جاز ولا يكون محصوراً فيه، ويجوز نقله منه إلى مسجد آخر، كما يجوز نقل كتب الأوقاف من محلها للانتفاع بها. ويصح الوقف على طلبة العلم؛ لأن الغالب فيهم الفقر. ولا يصح عند الحنفية الوقف على الأغنياء وحدهم؛ لأنه ليس بقربة. الوقف على الأغنياء: ويصح الوقف في الأصح عند الشافعية على جهة لا تظهر فيها القربة كالأغنياء وأهل الذمة والفسقة، نظراً إلى أن الوقف تمليك، والوقف كله قربة. ويصح بالاتفاق الوقف على أهل الذمة، ولأن الصدقة تجوز على الأغنياء. وحد الفقر والغنى بحسب المقرر في الزكاة، فمن تصح له الزكاة لفقره، يصح له الوقف لفقره أيضاً، وما لا فلا. والغني: من تحرم عليه الزكاة، إما لملكه أو لقوته وكسبه أو كفايته بنفقة غيره. ويصح عند المالكية الوقف على الأغنياء، كما ذكر الشافعية. ولا يصح عند الحنابلة الوقف على مباح كتعليم شعر مباح، ولا على مكروه كتعليم منطق لانتفاء القربة، ولا على الأغنياء كما سيأتي. ولا يصح بالاتفاق وقف المسلم على جهة معصية كأندية الميسر ودور اللهو وجمعيات الإلحاد والضلال، لأنه ليس قربة في نظر الإسلام. وهناك أمثلة أخرى للمعصية من كتب المذاهب. فلا يصح وقف المسلم عند الحنفية على بيعة أو كنيسة، لعدم كونه قربة في ذاته.
ولا يصح الوقف في مذهب المالكية على كنيسة، أو صرف الغلة في ثمن خمر أو حشيشة، أو سلاح لقتال غير جائز. والوقف على شرَبة الدخان باطل، وإن قالوا بجواز شربه. ولا يصح الوقف من مسلم أو ذمي في رأي الشافعية على جهة معصية أو مالا قربة فيه كعِمارة وترميم الكنائس ونحوها من متعبدات الكفار للتعبد فيها، أو حصرها، أو قناديلها أو خدامها، أو كتب التوراة والإنجيل، أو السلاح لقطاع الطريق؛ أو لمن يرتد عن الدين؛ لأنه إعانة على معصية، والقصد بالوقف القربة إلى الله تعالى، فهما متصادمان. أما عمارة كنائس لا للتعبد فيها وإنما لنزول المارّة، فيصح الوقف عليها. ولا يصح الوقف لدى الحنابلة من مسلم أو ذمي على كنائس وبيوت نار وبيع وصوامع وأديرة، ومصالحها كقناديلها وفرشها ووقودها وسدنتها؛ لأنه ـ كما ذكر الشافعية ـ إعانة على معصية. وللإمام أن يستولي على كل وقف وُقف على هذه الجهات، ويجعلها على جهة قربات، إذا لم يعلم ورثة واقفها، وإلا فللورثة أخذها. ويصح الوقف على من ينزل الكنائس والأديرة ونحوها، أو على من يمر بها أو يجتاز من أهل الذمة فقط. ولا يصح الوقف لديهم ـ كما قال الشافعية ـ على كتابة التوراة والإنجيل، ولو كان الوقف من ذمي، لوقوع التبديل والتحريف، وقد روي من غير وجه: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم غضب لما رأى مع عمر صحيفة فيها شيء من التوراة» ولا على كتب البدعة. ولا يصح وقف الستور، وإن لم تكن حريراً، لغير الكعبة كوقفها على الأضرحة؛ لأنه ليس بقربة.
وقف غير المسلم
والوصية كالوقف في كل ما ذكر، فتصح فيما يصح الوقف عليه، وتبطل فيما لا يصح عليه. ولا يصح لديهم الوقف على طائفة الأغنياء وقطاع الطرق وجنس الفسقة والمغنين، ولا على التنوير على قبر، ولا على تبخيره، ولا على من يقيم عنده، أو يخدمه أويزوره زيارة فيها سفر؛ لأن المذكور ليس من البر. ولايصح الوقف أيضاً على بناء مسجد على القبر، ولا وقف البيت الذي فيه القبر مسجداً، لقول ابن عباس: «لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج» (¬1). ولا يصح الوقف على زخرفة المساجد ولا على عمارة القبور؛ لأنه إضاعة للمال وإتلاف له في غير منفعة. وقف غير المسلم: اتفق فقهاؤنا على بطلان وقف غير المسلم على جهة معصية ليست قربة في دينه ولا في دين الإسلام، كالمراقص وأندية القمار. واختفلوا فيما تختلف فيه أنظار الأديان (¬2): قال الحنفية: يشترط في وقف الذمي أن يكون الموقوف عليه قربة عندنا وعندهم، أي في نظر الإسلام وفي اعتقاد الواقف معاً، كالوقف على الفقراء أو على مسجد القدس؛ لأنه قربة في اعتقاد الواقف وفي نظر الإسلام. أما وقف غير المسلم على المسجد فغير صحيح؛ لأنه وإن كان قربة في نظر الإسلام ليس قربة في اعتقاد الواقف. ¬
وكذلك وقف غير المسلم الذمي على كنيسة أو بيعة غير صحيح؛ لأنه وإن كان قربة في اعتقاد الواقف، لكنه ليس قربة في نظر الإسلام. وقال ابن رشد من المالكية: إذا وقف الذمي على كنيسة، فإن كان على ترميمها أو (مرمتها ـ إصلاحها) أو على الجرحى أو المرضى التي فيها، فالوقف صحيح معمول به. فإن ترافعوا إلينا لنحكم في أوقافهم، حكم الحاكم بينهم بحكم الإسلام من صحة الوقف وعدم بيعه. وإن كان الوقف على عباد الكنائس، حكم ببطلانه، فالعبرة إذن بكون الوقف قربة في اعتقاد الواقف فقط في الأحوال الجائزة. والمعتمد لدى المالكية قول آخر لابن رشد: وهو بطلان وقف الذمي على الكنيسة مطلقاً، وبطلان وقف الكافر لنحو مسجد ورباط ومدرسة من القرب الإسلامية، فالعبرة إذن بكون الوقف على جهة خيرية عندنا وعندهم، كما قال الحنفية. وقال الشافعية والحنابلة: العبرة بكون الوقف قربة في نظر الإسلام. سواء أكان قربة في اعتقاد الواقف أم لا. فيصح وقف الكافر على المسجد؛ لأنه قربة في نظر الإسلام، ولا يصح وقفه على كنيسة أو بيت نار ونحوهما؛ لأنه ليس قربة في نظر الإسلام. وأخذ القانون المصري (م7) بمذهب الحنفية، وبقول بعض المالكية، فنص على أن: وقف غير المسلم صحيح، ما لم يكن على جهة محرمة في شريعته وفي الشريعة الإسلامية.
الشرط الثاني ـ لأبي حنيفة ومحمد: أن يجعل آخر الوقف الأهلي بجهة لا تنقطع أبدا،
الشرط الثاني ـ لأبي حنيفة ومحمد (¬1): أن يجعل آخر الوقف الأهلي بجهة لا تنقطع أبداً، فإن لم يذكر آخره لم يصح عندهما؛ لأن التأبيد شرط جواز الوقف، وتسمية جهة تنقطع توقيت له معنى، فيمنع الجواز، ولأنه يصبح حينئذ وقفاً على مجهول، فلم يصح، كما لو وقف على مجهول في ابتداء الوقف. وقال أبو يوسف: ليس هذا بشرط، بل يصح وإن سمى جهة تنقطع، ويكون بعدها للفقراء، وإن لم يسمِّهم، إذ لم يثبت هذا الشرط عن الصحابة، ولأن قصد الواقف أن يكون آخره للفقراء، وإن لم يسمهم، فكان تسمية هذا الشرط ثابتاً دلالة وضمناً، والثابت دلالة كالثابت نصاً. وأخذ الجمهور (¬2) غير الحنفية بقول أبي يوسف، أما المالكية فلم يشترطوا تأبيد الوقف، وقالوا: إن انقطع وقف مؤبد على جهة، بانقطاع الجهة التي وقف عليها، رجع وقفاً لأقرب فقراء عصبة الواقف، مع تساوي الذكر والأنثى، ولو شرط الواقف في وقفيته أن للذكر مثل حظ الأنثيين، فيقدم الابن ثم ابنه، ثم الأب، ثم الأخ فابنه، ثم الجد، فالعم فابنه، فإن لم يوجدوا فللفقراء على المشهور. وللشافعية قولان صحح صاحب المهذب أنه: إن وقف وقفاً مطلقاً ولم يذكر سبيله، يصح؛ لأنه إزالة ملك على وجه القربة، فصح مطلقاً كالأضحية. والأظهر لدى الشافعية أنه لايصح الوقف بدون بيان المصرف كما سيأتي في شروط الصيغة. ¬
لكن إن عيَّن سبيل الوقف، فلا بد من أن يكون على سبيل لا ينقطع أو لا ينقرض، كالفقراء والمجاهدين وطلبة العلم وما أشبهها. وقال الحنابلة: إن كان الوقف غير معلوم الانتهاء، مثل أن يقف على قوم يجوز انقراضهم بحكم العادة، ولم يجعل آخره للمساكين، ولا لجهة غير منقطعة، فإن الوقف يصح؛ لأنه تصرف معلوم المصرف، فصح، كما لو صرح بمصرفه المتصل، ولأن الإطلاق إذا كان له عرف، حمل عليه، كنقد البلد وعرف المصرف. واتفق الشافعية والحنابلة مع الرأي السابق للمالكية على أن الموقوف يصرف عند انقراض الموقوف عليهم إلى أقرب الناس إلى الواقف؛ لأن مقتضى الوقف الثواب على التأبيد، فحمل فيما سماه على شرطه، وفيما سكت عنه على مقتضاه، ويصير كأنه وقف مؤبد، فإذا انقرض المسمى، صرف إلى أقرب الناس إلى الواقف؛ لأنه من أعظم جهات الثواب. والأصح عند الشافعية أنه يختص المصرف وجوباً بفقراء قرابة الرحم، لا الإرث، فيقدم ابن بنت على ابن عم. والدليل عليه: قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «لا صدقة، وذو رحم محتاج» (¬1) وحديث سلمان بن عامر عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «الصدقة على المسلمين صدقة، وهي على ذي الرحم ثنتان: صدقة وصلة» (¬2). والراجح لدى الحنابلة، والشافعية في أحد القولين: أنه لا يختص صرف ¬
المبحث الرابع ـ ألفاظ الوقف وشروط صيغة الوقف
الوقف حينئذ بالفقراء من أقارب الواقف، بل يشترك فيه الفقراء والأغنياء؛ لأن الوقف لا يختص بالفقراء، وإنما الغني والفقير في الوقف سواء. فإن لم يكن للواقف أقارب، أو كان له أقارب، فانقرضوا، صرف إلى الفقراء والمساكين وقفاً عليهم؛ لأن القصد به الثواب الجاري على وجه الدوام. المبحث الرابع ـ ألفاظ الوقف وشروط صيغة الوقف: صيغة الوقف: ينعقد الوقف ـ كما تبين في ركن الوقف ـ بالإيجاب وحده ولو لمعين عند الحنفية والحنابلة، وكذا إذا كان على غير معين باتفاق العلماء، وبالإيجاب والقبول عند المالكية والشافعية وبعض الحنابلة إذا كان على معين. وألفاظ الوقف الخاصة به عند الحنفية (¬1): مثل أرضي هذه صدقة موقوفة مؤبدة على المساكين، أو موقوفة لله تعالى، أو على وجه الخير، أو البر. والمفتى به عملا ًبالعرف هو ما قال أبو يوسف من الاكتفاء بلفظ (موقوفة) بدون ذكر تأبيد أو ما يدل عليه، كلفظ: صدقة، أو لفظ المساكين، ونحوه كالمسجد، وذلك إذا لم يكن وقفاً على معين كزيد، أو أولاد فلان، فإنه لا يصح حينئذ بلفظ (موقوفة) لمنافاة التعيين للتأبيد، ولذا فرق بين لفظ (موقوفة) وبين (موقوفة على زيد) حيث أجاز الأول دون الثاني؛ لأن الأول يصرف إلى الفقراء عرفاً، فإذا ذكر الولد صار مقيداً، فلا يبقى العرف، إلا أن تعيين المسجد لا يضر؛ لأنه مؤبد، والتأبيد من حيث المعنى شرط باتفاق الحنفية على الصحيح. ثبوت الوقف بالضرورة: قد يثبت الوقف بالضرورة كما تقدم، مثل أن ¬
المذهب لدى المالكية
يوصي بغلة هذه الدار للمساكين أبداً، أو لفلان وبعده للمساكين أبداً، فإن الدار تصير وقفاً بالضرورة، كأنه قال: إذا مت فقد وقفت داري على كذا. لكن إذا علق الوقف بالموت، كإذا مت فقد وقفت داري على كذا، فالصحيح أنه كوصية تلزم من الثلث بالموت، لا قبله، حتى ولو كان وقفاً على وارثه، وإن رده الورثة الموقوف عليهم، أو وارث آخر. لكن إذا ردوه تقسم غلة الثلث الذي صار وقفاً كالثلثين بقية التركة، فتصرف مصرف الثلثين على الورثة كلهم مادام الموقوف عليه حياً، أما إذا مات فتقسم غلة الثلث الموقوف على من يصير له الوقف. وإذا مات بعض الموقوف عليهم، فإنه ينتقل سهمه إلى ورثته ما بقي أحد من الموقوف عليه حياً. وإذا قال: وقفت الدار في حياتي، وبعد وفاتي مؤبداً، جاز، لكن عند الإمام أبي حنيفة: ما دام حياً هو نذر بالتصدق بالغلة، فعليه الوفاء، وله الرجوع، ولو لم يرجع حتى مات، جاز من الثلث. وإذا أقَّت الوقف بشهر أو سنة بطل باتفاق الحنفية، لعدم توافر شرط التأبيد، ولو وقف على رجل بعينه، عاد بعد موته لورثة الواقف. والمذهب لدى المالكية (¬1): ينعقد الوقف إما بلفظ صريح، مثل: وقفت أو حبست أو سبَّلْت؛ أو بلفظ غير صريح، مثل: تصدقت إن اقترن بقيد؛ أو كان على جهة لا تنقطع؛ أو كان على مجهول محصور (¬2). مثال المقترن بقيد يدل على المراد: تصدقت به على ألا يباع ولا يوهب، أو تصدقت به على فلان طائفة بعد طائفة، أو عقبهم أو نسلهم، فإن لم يقيد بقيد فهو ملك لمن تصدق به عليه. ومثال ¬
مذهب الشافعية
الجهة غير المنقطعة: إما على غير معين كتصدقت أو وقفت على الفقراء، أو على جهة كالتصدق به على المساجد. ومثال المجهول المنحصر: التصدق به على فلان وعقبه ونسله؛ لأن قوله (وعقبه) وما في معناه يدل على التأبيد. وقد يكفي الفعل لانعقاد الوقف كالإذن للناس بالصلاة في الموضع الذي بناه مسجداً. وينوب عن الصيغة: التخلية بين الموقوف والموقوف عليه، كجعله مسجداً أو مدرسة أو رباطاً أو بئراً أو مكتبة، وإن لم يتلفظ بالوقف، وتعتبر التخلية حوزاً (قبضاً) حكمياً. ومذهب الشافعية (¬1): لا يصح الوقف إلا بلفظ، ويكون الوقف إما بلفظ صريح مثل وقفت كذا على كذا، أو أرضي موقوفة عليه، لاشتهاره لغة وعرفاً، والتسبيل والتحبيس صريحان أيضاً على الصحيح، لتكررهما شرعاً، واشتهارهما عرفاً، ولم ينقل عن الصحابة وقف إلا بهما. ولو قال: تصدقت بكذا صدقة محرمة، أو موقوفة، أو لا تباع ولا توهب، فهو صريح في الأصح المنصوص في الأم؛ لأن لفظ التصدق مع هذه القرائن لا يحتمل غير الوقف. لكن هذا اللفظ صريح بغيره، وما قبله صريح بنفسه. ولو قال: تصدقت فقط، فهو ليس بصريح في الوقف، ولا يحصل به الوقف، وإن نواه، لتردد اللفظ بين صدقة الفرض والتطوع والصدقة الموقوفة، لكن إن أضافه إلى جهة عامة كالفقراء ونوى الوقف، فيحصل الوقف. ويكون اللفظ صريحاً. ¬
رأي الحنابلة
وإما أن يكون الوقف بلفظ غير صريح: مثل حرمته للفقراء، أو أبَّدته عليهم، فهو في الأصح كناية؛ لأنهما لا يستعملان مستقلين، وإنما يؤكد بهما الألفاظ السابقة. والأصح أن قوله: جعلت البقعة مسجداً، تصير به مسجداً، وإن لم يقل (لله) لأن المسجد لا يكون إلا وقفاً، فأغنى لفظه عن لفظ الوقف ونحوه. ولو بنى مسجداً في موات، ونوى جعله مسجداً، فإنه يصير مسجداً، ولم يحتج إلى لفظ، فهذا مستثنى من اشتراط اللفظ للوقف. ورأي الحنابلة (¬1): الوقف إما بلفظ صريح أو كناية. فالصريح: مثل: وقفت وحبَّست وسبَّلت، ويكفي أحدهما، لاستعماله شرعاً وعرفاً. والكناية مثل: تصدقت، وحرّمت، وأبّدت، لأنه لفظ مشترك، فإن الصدقة تستعمل في الزكاة، وفي صدقة التطوع، والتحريم صريح في الظهار، والتأبيد يستعمل في كل ما يراد تأبيده من وقف وغيره. ولا يصح الوقف بالكناية إلا بأحد أمور أربعة هي: 1 - نية المالك. 2 - أو اقتران لفظ الكناية بأحد الألفاظ الخمسة وهي الألفاظ الصرائح الثلاث، ولفظا التحريم والتأبيد، فيقول: تصدقت بكذا صدقة موقوفة، أو محبسة، أو مسبلة، أو مؤبدة، أو محرمة. 3 - أو وصف الكناية بصفات الوقف، فيقول: تصدقت به صدقة لاتباع أو لا توهب، أو لا تورث. ¬
شروط صيغة الوقف
4 - أو يقرن الكناية بحكم الوقف، كأن يقول: تصدقت بأرضي على فلان، والنظر لي أيام حياتي، أو النظر لفلان، ثم من بعده لفلان. ويصح الوقف أيضاً بفعل دال على الوقف عرفاً، مثل أن يجعل أرضه مقبرة، ويأذن بالدفن فيها إذناً عاماً، أو يبني بنياناً على هيئة مسجد، ويأذن للناس في الصلاة فيه إذناً عاماً؛ لأن الإذن الخاص قد يقع على غير الموقوف، فلا يفيد دلالة الوقف، أو يؤذن ويقام فيما بناه مسجداً؛ لأن الأذان والإقامة فيه كالإذن العام في الصلاة فيه. ولو جعل سفل بيته مسجداً وانتفع بعلوه أو بالعكس، ولو لم يذكر استطراقاً، صح الوقف، ويستطرق إليه بحسب العادة. أو يبني بيتاً لقضاء حاجة الإنسان، أي بالبول والغائط والتطهير، ويفتح بابه إلى الطريق للناس. أو يملأ خابية أو نحوها من الماء على الطريق أو في المسجد ونحوه، لدلالة الحال على تسبيله. شروط صيغة الوقف: يشترط في الوقف ذاته أو في صيغة الوقف عند الفقهاء ما يأتي (¬1). الشرط الأول ـ التأبيد: فلا يصح الوقف عند الجمهور غير المالكية بما يدل على التأقيت بمدة؛ لأنه إخراج مال على وجه القربة، فلم يجز إلى مدة. وإنما لا بد من اشتماله على معنى التأبيد، ولا يشترط التلفظ به، كالوقف على من لم ينقرض ¬
القانون المصري
قبل قيام الساعة، كالفقراء، أو على من ينقرض، ثم على من لا ينقرض كزيد، ثم الفقراء. فإن اقترنت الصيغة بما يدل على تأقيت الوقف، مثل: وقفت هذا على كذا سنة أوشهراً مثلاً، فباطل هذا الوقف، لفساد الصيغة؛ لأن المقصود من شرعية الوقف هو التصدق الدائم، وهو يقتضي أن يكون إنشاء الوقف على سبيل التأبيد. وبناء عليه، شرط الحنفية أن يكون الموقوف عقاراً؛ لأنه هو الذي ينتفع به على وجه التأبيد، ولم يجيزوا وقف المنقول إلا تبعاً للعقار، أو ورد به النص، أو جرى العرف بوقفه. واشترطوا أيضاً أن يكون آخر مصارف الوقف الأهلي جهة بر لا تنقطع، ليدوم التصدق ويستمر. أما المالكية فلم يشترطوا التأبيد في الوقف، وأجازوا الوقف سنة أو أكثر لأجل معلوم، ثم يرجع ملكاً للواقف أو لغيره، توسعة على الناس في عمل الخير. أما القانون المصري (م5) رقم (48 لسنة 1946)، فإنه جعل الوقف من حيث تأبيده وتوقيته ثلاثة أقسام: 1 - وقف لا يصح إلا مؤبداً، وتوقيته باطل: وهو وقف المسجد والوقف على المسجد. وهذا رأي الجمهور غير المالكية. 2 - وقف يجوز كونه مؤقتاً ومؤبداً: وهو الوقف على غير المسجد كالمشافي والملاجئ والمدارس والفقراء ونحو ذلك. وهذا مأخود من مذهب المالكية للتوسعة على الناس في عمل الخير. 3 - وقف لا يكون إلا مؤقتاً وتأبيده باطل: وهو الوقف الأهلي، فإن وقَّته بسنين وجب ألا تزيد على ستين سنة من وفاة الواقف، وإن وقَّته بطبقات وجب ألا
الشرط الثاني ـ التنجيز
تزيد على طبقتين من الموقوف عليهم بعد الواقف. ولا سند لذلك التأقيت إلا المصلحة. ثم ألغي الوقف الأهلي في سورية سنة (1949)، وفي مصر سنة (1952) بالقانون رقم (180). الشرط الثاني ـ التنجيز: بأن يكون منجزاً في الحال غير معلَّق بشرط ولا مضاف إلى وقت في المستقبل؛ لأنه عقد (التزام) يقتضي نقل الملك في الحال، فلم يصح تعليقه على شرط كالبيع والهبة، في رأي الجمهور غيرالمالكية. الصيغة المنجزة: هي التي تدل على إنشاء الوقف وترتب آثاره في الحال أي في وقت صدورها. والصيغة المعلقة: هي التي لا تدل على إنشاء الوقف من حين صدورها، بل تدل على تعليق التصرف بأمر يحدث في المستقبل، مثل إذا جاء زيد فقد وقفت، أوإذا جاء غداً أو رأس الشهر أو إذا كلمت فلاناً، فأرضي هذه صدقة موقوفة، يكون الوقف باطلاً عند الجمهور غير المالكية. وصيغ التعليق ثلاث: أـ إن كان التعليق على أمر متردد بين الوجود وعدم الوجود، فلا يصح الوقف بها، مثل إن قدم ابني من السفر، فقد وقفت داري على كذا؛ لأن الوقف يقتضي نقل الملك، والتمليكات لا تقبل التعليق على أمر في المستقبل. وعلل الشافعية عدم صحة تعليق الوقف على شرط مستقبل بأنه عقد (التزام) يبطل بالجهالة، فلم يصح تعليقه على شرط مستقبل كالبيع. ب ـ إن كان التعليق على موت الواقف، صح الوقف بالاتفاق، مثل وقفت داري بعد موتي على الفقراء؛ لأنه تبرع مشروط بالموت، فصح كما لو قال: قفوا
داري بعد موتي على كذا؛ لأن عمر وصى، فكان في وصيته: «هذا ما أوصى به عبد الله عمر أمير المؤمنين إن حدث به حدث أن ثَمْغاً صدقة» (¬1). ويكون الوقف المعلق بالموت لازماً، من حين قوله: هو وقف بعد موتي، وينفذ من غير إجازة الورثة، إن خرج من ثلث التركة. جـ ـ إن كان التعليق على أمر محقق عند صدوره، صح الوقف أيضاً، مثل إن كانت هذه الأرض ملكي ـ وكانت ملكه وقت التكلم ـ فهي وقف على كذا؛ لأن التعليق صوري والصيغة فيها منجزة في الحقيقة. فهذا تعليق بكائن أو موجود للحال فلا ينافي عدم صحته معلقاً بالموت؛ لأن التعليق بالشرط الكائن تنجيز. وقال الشافعية: الظاهر صحة الوقف بقوله: جعلته مسجداً إذا جاء رمضان. والصيغة المضافة إلى زمن في المستقبل: هي التي تدل على إنشاء الوقف في الحال، ولكن تؤخر ترتيب حكمه إلى زمن مستقبل، مثل جعلت منزلي هذا وقفاً على كذا في أول العام الهجري المقبل. وحكم هذه الصيغة عند الحنفية على التفصيل التالي: إن كان الزمن المستقبل المضاف إلىه الوقف هو ما بعد الموت، فالوقف باطل عند أبي حنيفة، والصحيح أنه وصية لازمة بوقف من الثلث بالموت، لا قبله. وإن كان الزمن المستقبل غير زمن الموت، مثل أول السنة الهجرية، فالصحيح من الروايتين عند الحنفية أن الوقف يصح، كما تصح الإجارة المضافة للمستقبل، والوقف يشبه الإجارة لأنه مثلها تمليك المنفعة، فيصح الوقف لو قال: داري صدقة وموقوفة غداً. ¬
الشرط الثالث - الإلزام
والحاصل أنه لايجوز عند الجمهور تعليق الوقف على شرط في الحياة، مثل إذا جاء رأس الشهر فداري وقف. وقال المالكية عن هذا الشرط: لايشترط في الوقف التنجيز، فيجوز مع التعليق كأن يقول: هو حبس على كذا بعد شهر أو سنة، أو يقول: إن ملكت دار فلان فهي وقف. الشرط الثالث - الإلزام: لايصح عند الجمهور غير المالكية تعليق الوقف بشرط الخيار أو بخيار الشرط، معلوماً كان أو مجهولاً، بأن يقف شيئاً ويشرط لنفسه أو لغيره الرجوع فيه متى شاء، ويبطل الوقف كالهبة والعتق. لكن استثنى الحنفية وقف المسجد، فلو اتخذ مسجداً على أنه بالخيار، جاز والشرط باطل. الشرط الرابع - عدم الاقتران بشرط باطل: الشروط عند الحنفية ثلاثة: أ - شرط باطل: وهو ماينافي مقتضى الوقف، كأن يشترط إبقاء الموقوف على ملكه، وحكمه: أنه يبطل به الوقف، لمنافاته حقيقة الوقف. وكذا لو شرط لنفسه الرجوع في الوقف متى شاء، يبطل به الوقف لمنافاته حكم الوقف وهو اللزوم. ولو شرط بيع الوقف وصرف ثمنه لحاجته، بطل الوقف. ب - شرط فاسد: وهو مايخل بالانتفاع بالموقوف، أو بمصلحة الموقوف عليه، أو يخالف الشرع. مثال الأول: أن يشترط صرف الريع إلى المستحقين، ولو احتاج الموقوف إلى التعمير، فهو فاسد؛ لأنه يخل بالانتفاع بالموقوف. ومثال الثاني: أن يشترط ألا يعزل الناظر من أولاده ولو خان، فهوفاسد؛ لأنه يخل بمصلحة الموقوف عليه. ومثال الثالث: أن يخصص جزءاً من الريع لارتكاب جريمة، فهو شرط فاسد؛ لأنه يخالف الشريعة. وحكمه: أنه لايبطل الوقف، بل يصح ويبطل الشرط.
جـ - شرط صحيح
جـ - شرط صحيح: هو كل شرط لاينافي مقتضى الوقف، ولايخل بالمنفعة، ولا يصادم الشرع، مثل اشتراط البدء من الريع بأداء الضرائب المستحقة، أوالبدء بالتعمير قبل الصرف إلى المستحقين. وحكمه: أنه يجب اتباعه وتنفيذه. أما القانون المصري (م6) رقم (48 لسنة 1946) فقد نص على أنه: «إذا اقترن الوقف بشرط غير صحيح، صح الوقف، وبطل الشرط» والشرط غير الصحيح يشمل الشرط الفاسد والباطل. وهذا رأي الصاحبين في الشرط الفاسد، ورأي لأبي يوسف في الشرط الباطل. وقال المالكية: إذا اشترط الواقف على مستحق الوقف إصلاحه أو دفع ضريبة بغير حق لحاكم ظالم، صح الوقف وألغي الشرط، ويصح في الأصح الإصلاح ودفع التوظيف من غلة الموقوف. كذلك لو شرط عدم البدء بإصلاح الموقوف أو عدم البدء بنفقته التي يحتاج إليها كنفقة الحيوان، صح الوقف، وبطل الشرط، وأنفق عليه من غلة الموقوف. ومذهب الشافعية: إن شرط الواقف أن يبيع الوقف، أو شرط أن يدخل من شاء ويخرج من شاء، بطل الوقف على الصحيح كشرط الخيار السابق. ووافقهم الحنابلة فقالوا: إن شرط الواقف في الوقف شرطاً فاسداً كخيار فيه، أو بشرط تحويل الوقف عن الموقوف عليه إلى غيره، بأن قال: وقفت داري على كذا، على أن أحولها عن هذه الجهة، أو عن الوقفية بأن أرجع فيها متى شئت، أو بأن يخرج من شاء من أهل الوقف، ويدخل من شاء من غيرهم، لم يصح الوقف. وكذا إن شرط هبته أو بيعه متى شاء، أو متى شاء أبطله، لم يصح الوقف؛ لأنه شرط ينافي مقتضى الوقف. ولو شرط البيع عند خراب الوقف
الشرط الخامس عند الشافعية: بيان المصرف
وصرف الثمن في مثله، أو شرطه للمتولي بعده (وهو من ينظر في الوقف) فسد الشرط فقط، وصح الوقف مع إلغاء الشرط، كما في الشروط الفاسدة في البيع. الشرط الخامس عند الشافعية: بيان المصرف: فلو اقتصر الواقف على قوله: وقفت كذا، ولم يذكر مصرفه، فالأظهر بطلانه، لعدم ذكر مصرفه، وهذا بخلاف الوصية، فإنها تصح وتصرف للمساكين؛ لأن غالب الوصايا للمساكين، فحمل الإطلاق عليه، بخلاف الوقف. وصحح صاحب المهذب القول الثاني وهو صحة الوقف بدون ذكر جهة الصرف؛ لأنه إزالة ملك على وجه القربة، فصح مطلقاً كالأضحية. ولم يشترط الجمهور غير الشافعية ذكر جهة المصرف، قال المالكية: لايشترط في الوقف تعيين المصرف في محل صرفه، فجاز أن يقول: وقفته لله تعالى، من غير تعيين من يصرف له، وصرف فيما يصرف له في غالب عرفهم، وإلا يكن غالب في عرفهم، فالفقراء يصرف عليهم، هذا إذا لم يختص الموقوف بجماعة معينة، وإلا صرف لهم، ككتب العلم. مقتضى ألفاظ الوقف التي يعبر بها عن الموقوف عليهم: قد تصدر عن الواقف ألفاظ كالولد والعقب والنسل والذرية والقرابة والآل والأهل، فما المراد منها في المذاهب (¬1)؟. ¬
أ - الولد والأولاد
أ - الولد والأولاد: إن قال الواقف: وقفت على ولدي أو على أولادي، تناول بالاتفاق ولد الصلب ذكورهم وإناثهم. أما لو قال: ولدي وولد ولدي، أو أولادي وأولاد أولادي، أو بنيّ وبني بنيّ، تناول الذكور والإناث من الأولاد، والراجح عند المالكية أنه لايتناول من أولاد الأولاد سوى الذكور دون الإناث. قال الحنابلة: إذا وقف على أولاد رجل وأولاد أولاده، استوى فيه الذكر والأنثى؛ لأنه تشريك بينهم، وإطلاق التشريك يقتضي التسوية. والمستحب أن يقسم الواقف الوقف على أولاده على حسب قسمة الله تعالى الميراث بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين. وقال القاضي أبو يعلى: المستحب التسوية بين الذكر والأنثى؛ لأن القصد القربة على وجه الدوام، وقد استووا في القرابة. وإذا فضل بعضهم على بعض فهو على ماقال. ويوزع الوقف بطناً بعد بطن، أي للأقرب فالأقرب. ب - الذرية والنسل والعقب: لو قال الواقف: على ذريتي أو نسلي أو عقبي، يشمل بالاتفاق أولاد الذكور دون أولاد الإناث، أي أولاد البنات، إلا بتصريح أو بقرينة كما قال الحنابلة. جـ - الآل والجنس وأهل البيت: يدخل فيهم العصبة من الأولاد والبنات، والإخوة والأخوات، والأعمام والعمات. واختلف في دخول الأخوال والخالات. وقال الحنفية: آله وجنسه وأهل بيته: كل من يناسبه إلى أقصى أب له في الإسلام، وهو الذي أدرك الإسلام، أسلم أم لا. وذكر الحنفية: أنه يشمل الغني والفقير. والأصل عند الحنفية: أن الصغير يعد غنياً بغنى أبويه وجديه فقط، والرجل والمرأة بغنى فروعها، وزوجها فقط، لكن قال الخصاف: والصواب عندي إعطاؤهم وإن كان تفرض نفقتهم على غيرهم.
د - القرابة
د - القرابة: أعم ماسبق، ويدخل فيه كل ذي رحم محرم من الواقف، من قبل الرجال والنساء، سواء المحرم أو غير المحرم على الأصح عند المالكية. ورأى الحنفية: أن قرابته وأرحامه وأنسابه: كل من يناسبه إلى أقصى أب له في الإسلام من قبل أبويه، سوى أبويه وولده لصلبه، فإنهم لايسمون قرابة اتفاقاً، وكذا من علا منهم أو سفل عند أبي حنيفة ومحمد. ولا يكون الصرف لأقل من اثنين عند أبي حنيفة، وعند الصاحبين: يمكن الاكتفاء بواحد. وعبارة الشافعية: إن وقف على جماعة من أقرب الناس إليه، صرف إلى ثلاثة من أقرب الأقارب. وإن قيده بفقرائهم، اعتبر الفقر عند الحنفية وقت وجود الغلة، وهو المجوِّز لأخذ الزكاة، فلو تأخر صرف الغلة سنين لعارض، فافتقر الغني، واستغنى الفقير، شارك المفتقر وقت القسمة الفقير وقت وجود الغلة؛ لأن الصِلات إنما تملك حقيقة بالقبض، وطروء الغنى والموت لايبطل ما استحقه. وإذا قال: الأقرب فالأقرب: فالمراد أقرب الناس رحماً، لا بالإرث والعصوبة. وإذا قال: الصلحاء الأقارب، فالصالح كما قال ابن عابدين: من كان مستوراً، ولم يكن مهتوكاً ولا صاحب ريبة، وكان مستقيم الطريقة، سليم الناحية، كامن الأذى، قليل الشر، ليس بمعاقر للنبيذ، ولاينادم عليه الرجال، ولا قذافاً للمحصنات، ولامعروفاً بالكذب. فهذا هو الصلاح، ومثله أهل العفاف والخير والفضل. وإذا قال: الأحوج فالأحوج من القرابة، فيراد به من يملك الأقل من مائة درهم، فإن صار معه مائة درهم يقسم بينهم جميعاً بالسوية.
هـ - مراحل الإنسان
هـ - مراحل الإنسان: كما تقدم في الوصية. إن الطفل والصبي والصغير: من لم يبلغ، فإن بلغ فلا شيء له. والشاب والحَدَث: من البلوغ لتمام الأربعين، فإن أتم الأربعين فلا شيء له. والكَهْل: من تمام الأربعين لتمام الستين. والشيخ: من فوق الستين لآخر العمر. وليس فوق الشيخ شيء. ويشمل ذلك كله الذكر والأنثى، كالأرمل يشمل الذكر والأنثى. وسبيل الله ونحوه: ذكر الحنابلة أنه إن وقف على سبيل الله أو ابن السبيل أو الغارمين، فهم الذين يستحقون السهم من الزكوات؛ لأن المطلق من كلام الآدميين محمول على المعهود في الشرع. وسبيل الله هو الغزو والجهاد في سبيل الله. الوقف الدائم من حيث الاتصال والانقطاع: الوقف المؤبد إذا انقطع الموقوف عليه في حلقة من حلقاته أو اتصل أربعة أنواع (¬1): 1ً - إن كان معلوم الابتداء، والانتهاء غير منقطع، أي متصل الابتداء والانتهاء: مثل الوقف على المساكين أو على طائفة لايجوز بحكم العادة انقراضهم، صحيح بالاتفاق. أما إن كان منقطع الابتداء والانتهاء كالوقف على ولده، ولا ولد له، فالوقف باطل؛ لأن الولد الذي لم يخلق لايملك، فلا يفيد الوقف عليه شيئاً. ¬
2ً - إن كان متصل الابتداء غير معلوم الانتهاء: مثل أن يقف على قوم يجوز انقراضهم بحكم العادة، ولم يجعل آخره للمساكين، ولا لجهة غير منقطعة، الوقف صحيح عند الجمهور؛ لأنه تصرف معلوم المصرف عرفاً، وينصرف عند انقراض الموقوف عليهم إلى أقارب الواقف، كما تقدم؛ لأن مقتضى الوقف الثواب، فحمل فيما سماه على شرطه، وفيما سكت عنه على مقتضاه، ويصير كأنه وقف مؤبد. وقال محمد بن الحسن وبرأيه يفتى عند الحنفية: لايصح هذا الوقف، إذ لابد كما عرفنا من بيان جهة قربة لاتنقطع؛ لأن الوقف مقتضاه التأبيد، فإذا كان منقطعاً، صار وقفاً على مجهول، فلم يصح كما لو وقف على مجهول في الابتداء. 3ً - إن كان الوقف منقطع الابتداء، متصل الانتهاء: مثل أن يقف على من لايجوز الوقف عليه، كنفسه أو عبده، أو كنيسة أو مجهول غير معين، فيه رأيان عند الشافعية والحنابلة: رأي: إنه باطل؛ لأن الأول باطل، ورأي: إنه يصح، وإذا قيل: إنه صحيح، صرف في الحال إلى من يجوز الوقف عليه. 4ً - إن كان الوقف صحيح الطرفين - الابتداء والانتهاء، منقطع الوسط، مثل أن يقف على ولده، ثم على غير معين، ثم على المساكين: فيه رأيان كمنقطع الانتهاء، وقيل عند الشافعية والحنابلة: إنه يصح، وقيل: إنه يبطل. وإن كان منقطع الطرفين صحيح الوسط، كرجل وقف على نفسه، ثم على أولاده، ثم على الكنيسة، ففي صحته رأيان، ومصرفه إلى مصرف الوقف المنقطع.
الفصل الخامس: إثبات الوقف شرعا وقانونا
الفَصْلُ الخامس: إثبات الوقف شرعاً وقانوناً: المقرر شرعاً أن الشهادة إحدى طرق إثبات الوقفية، ويشترط في ادعاء الوقف: بيان الوقف ولو كان قديماً، ويقبل في إثباته الشهادة على الشهادة، وشهادة النساء مع الرجال، والشهادة بالشهرة والتسامع بأن يقول الشاهد: أشهد بالتسامع وتقبل شهادة التسامع لبيان المصرف، كقولهم على مسجد كذا، ولبيان مستحقين، ولاتقبل لإثبات شرائطه في الأصح. أما صك الكتابة فلا يصلح حجة؛ لأن الخط يشبه الخط. واشتراط تحديد العقار الموقوف لايطلب لصحة الوقف؛ لأن الشرط كونه معلوماً، وإنما هو شرط لقبول الشهادة الوقفية (¬1). وعلى هذا كان عمل المحاكم الشرعية في مصر وسورية، ثم نصت المادة الأولى من قانون الوقف المصري رقم (48 لسنة 1952) على اشتراط إشهاد رسمي من الواقف، أمام إحدى المحاكم الشرعية التي بدائرتها أعيان الوقف كلها أو أكثرها، سداً للباب أمام الدعاوى الباطلة لإثبات الوقفيات بشهادات الزور، وهذا يتفق مع الحكم القانوني الذي يشترط التسجيل في السجل العقاري لكل تصرف واقع على العقار، أياً كان العقار، وأياً كان التصرف الواقع عليه. وذكر الخصاف حكم الوقف إذا انقطع ثبوته فقال: إن الأوقاف التي تقادم أمرها، ومات شهودها، فما كان لها من رسوم في دواوين القضاة، وهي في أيديهم، أجريت على رسومها الموجودة في دواوينهم استحساناً إذا تنازع أهلها فيها. ومالم يكن لها رسوم في دواوين القضاة، فمن أثبت حقاً فيها عند التنازع حكم له به. ¬
الفصل السادس - مبطلات الوقف
الفَصْلُ السَّادس - مبطلات الوقف: يبطل الوقف إذا اختل شرط من شروطه السابقة. وذكر المالكية مبطلات الوقف وأهمها مايأتي (¬1): 1ً - حدوث مانع: مثل إن مات الواقف أو أفلس، أو مرض مرضاً متصلاً بموته قبل القبض بطل الوقف، ورجع للوارث في حال الموت، وللدائن في الإفلاس، فإن أجازه نفذ، وإلا بطل. 2ً - إن سكن الواقف الدار قبل تمام عام بعد أن حيز عنه، أو أخذ غلة الأرض لنفسه، بطل التحبيس. 3ً - الوقف على معصية ككنيسة وكصرف غلة الموقوف على خمر أو شراء سلاح لقتال حرام، باطل. 4ً - الوقف على حربي باطل، ويصح على ذمي. وهذا متفق عليه. 5ً - الوقف على نفسه ولو مع شريك غير وارث، مثل وقفته على نفسي مع فلان، فإنه يبطل مايخصه، وكذا مايخص الشريك. 6ً - الوقف على أن النظر للواقف، يبطل لما فيه من التحجير. 7ً - الجهل بسبق الوقف عن الدين إن كان الوقف على محجوره: فمن وقف على محجوره (أي الذي يشرف عليه) وقفاً وحازه له، وعلى الواقف دين، ولم يعلم هل الدين قبل الوقف أو بعده، فإن الوقف يبطل، ويباع لتسديد الدين، تقديماً للواجب على التبرع، عند الجهل بالسبق، مع ضعف الحوز (القبض). ¬
موقف القانون من انتهاء الوقف
8ً - عدم التخلية (أي عدم ترك الواقف) بين الناس وبين الموقوف عليه الذي هو مثل المسجد والرباط والمدرسة قبل حصول المانع، فإنه يبطل الوقف، ويكون ميراثاً. 9ً - وقف الكافر لنحو مسجد ورباط ومدرسة وغيرها من القرَب الإسلامية. وهذا رأي الحنفية أيضاً. ويكره على الراجح كراهة تنزيه الوقف على البنين دون البنات؛ لأنه يشبه عمل الجاهلية من حرمان البنات من إرث أبيهن، فإن حدث الوقف نفذ ولم يفسخ على الأصح. ويكره اتفاقاً هبة الرجل لبعض ولده ماله كله، أو جُلَّه. وكذا يكره أن يعطي ماله كله لأولاده، ليقسم بينهم بالسوية بين الذكور والإناث. فإن قسمه بينهم على قدر مواريثهم، فهو جائز. ويصح الوقف بالاتفاق على العكس وهو وقفه على بناته دون بنيه. موقف القانون من انتهاء الوقف: نص القانون المصري رقم (48 لسنة 1952) في المواد (16 - 18) على انتهاء الوقف بانتهاء المدة المعينة، أو بانقراض الموقوف عليهم، وكذلك ينتهي في كل حصة بانقراض أهلها قبل انتهاء المدة المعينة أو قبل انقراض الطبقة التي ينتهي الوقف بانقراضها. وذلك مالم يدل كتاب الوقف على عود هذه الحصة إلى باقي الموقوف عليهم أو بعضهم، فإن الوقف في هذه الحالة لاينتهي إلا بانقراض هذا الباقي أو بانتهاء المدة. وينتهي الوقف أيضاً للتخرب والضآلة بقرار من المحكمة بناء على طلب ذي الشأن.
الفصل السابع - نفقات الوقف
ويصير الوقف المنتهي ملكاً للواقف إن كان حياً، وإلا فلمستحقه وقت الحكم بانتهائه. الفَصْلُ السَّابع - نفقات الوقف: نفقة الوقف من ريعه بالاتفاق، مع اختلافات في شرط الواقف وغيره. مذهب الحنفية (¬1): الواجب أن يبدأ من ريع الوقف أي غلته، بعمارته بقدر مايبقى الوقف على الصفة التي وقف عليها، وإن خرب بني على صفته، سواء شرط الواقف النفقة من الغلة أو لم يشرط؛ لأن قصد الواقف صرفه الغلة مؤبداً، ولاتبقى دائمة إلا بالعمارة، فيثبت شرط العمارة اقتضاء، ولأن الخراج بالضمان. وإن وقف داراً على سكنى ولده، فالعمارة على من له السكنى من ماله؛ لأن الغرم بالغنم، فإن امتنع من له السكنى من العمارة، أو عجز بأن كان فقيراً، آجرها الحاكم لمن شاء، وعمرها بأجرتها كعمارة الواقف، ثم ردها بعد العمارة إلى من له السكنى؛ لأن عمارتها رعاية الحقين: حق الواقف وحق صاحب السكنى. ولا يجبر الممتنع على العمارة، لما فيه من إتلاف ماله. ولا تصح إجارة من له السكنى، بل المتولي أو القاضي. ولا عمارة على من له الاستغلال؛ لأنه لا سكنى له، وإنما عمارته على من له السكنى، فلو سكن لا تلزمه الأجرة الظاهرة، لعدم الفائدة، إلا إذا احتيج للعمارة، فيأخذها المتولي ليعمر بها. وما انهدم من بناء الوقف وآلته: وهي الأداة التي يعمل بها كآلة الحراثة في ضيعة الوقف، أعاده الحاكم في عمارة الوقف إن احتاج الوقف إليه، وإن استغنى ¬
مذهب المالكية
عنه أمسكه حتى يحتاج إلى عمارته فيصرفه فيها، حتى لا يتعذر عليه الصرف وقت الحاجة. وإن تعذر إعادة عينه، بيع وصرف ثمنه إلى المرمَّة (الإصلاح) صرفاً للبدل إلى مصرف المبدل. ولايجوز أن يقسم المنهدم وكذا بدله بين مستحقي الوقف؛ لأنه جزء من العين الموقوفة، ولا حق لهم فيها، إنما حقهم في المنفعة، فلا يصرف لهم غير حقهم. ومذهب المالكية (¬1) مثل الحنفية: يجب على الناظر إصلاح الوقف إن حصل به خلل من غلته، وإن شرط الواقف خلافه، فلا يتبع شرطه في الإصلاح؛ لأنه يؤدي إلى إتلافه وعدم بقائه، وهو لا يجوز. ويكري الناظر دار السكنى الموقوفة إن حصل بها خلل، ويخرج الساكن منها، إن لم يصلحها بعد أن طلب منه الإصلاح، فإذا أصلحت رجعت بعد مدة الإجارة للموقوف عليه. وإن أصلحها لم يخرج منها. فإن لم تكن للموقوف غلات، فينفق عليه من بيت المال، فإن لم يكن يترك حتى يخرب، ولا يلزم الواقف النفقة. وينفق على خيول الجهاد ودوابه من بيت المال، ولا يلزم الواقف بشيء من نفقتها، ولا تؤجر لينفق عليها من غلتها. فإن لم يكن بيت مال للمسلمين أو لم يمكن التوصل إليه، بيع الحيوان، وعوِّض به سلاح ونحوه مما لا نفقة له. ومذهب الشافعية والحنابلة (¬2): أن نفقة الموقوف ومؤن تجهيزه وعمارته من ¬
الفصل الثامن: استبدال الوقف وبيعه حالة الخراب
حيث شرطها الواقف من ماله، أو من مال الوقف؛ لأنه لما اتبع شرطه في سبيل الوقف، وجب اتباع شرطه في نفقته. فإن لم يمكن فمن غلة الموقوف أو منافعه كغلة العقار؛ لأن الحفاظ على أصل الوقف لا يمكن إلا بالإنفاق عليه من غلته، فكان الإنفاق من ضرورته. فإذا تعطلت منافعه، فالنفقة ومؤن التجهيز لا العمارة عند الشافعية من بيت المال. وأما عند الحنابلة: فإن تعطلت منافع الحيوان، فنفقته على الموقوف عليه؛ لأنه ملكه، ويحتمل وجوبها في بيت المال، ويجوز بيعه، كما سأبين. وقال المالكية والحنابلة والشافعية عن زكاة الموقوف (¬1): إذا كان الوقف على قوم بأعيانهم فحصل لبعضهم من ثمر الشجر أو حب الأرض نصاب وهو خمسة أوسق، فعليهم الزكاة؛ لأنهم يملكون الناتج. وإذا صار الوقف للمساكين فلا زكاة فيه. وأوجب الإمام مالك الزكاة على الواقف في الموقوف على غير المعين نحو الفقراء والمساكين إذا كان خمسة أوسق، بناء على أنه ملك الواقف، فيزكي على ملكه. وأما الموقوف على المعينين، فيشترط في حصة كل واحد منه خمسة أوسق. الفَصْلُ الثَّامن: استبدال الوقف وبيعه حالة الخراب: يقصد بالوقف دوام الانتفاع به، وتحصيل الثواب والأجر بنفعه، فإذا آل إلى الخراب، فماذا يكون مصيره؟ أجاز الفقهاء استبداله وبيعه للضرورة بشروط وقيود وتفصيلات لديهم. ¬
قال الحنفية
قال الحنفية (¬1): للمسجد بمجرد القول (أي الوقف) على المفتى به صفة الأبدية، فلا تنسلخ عنه صفة المسجدية ولو استغني عنه، فلو خرب المسجد وليس له ما يعمر به، وقد استغنى الناس عنه لبناء مسجد آخر، يبقى مسجداً عند أبي حنيفة وأبي يوسف أبداً إلى قيام الساعة، وبرأيهما يفتى، فلا يعود إلى ملك الباني وورثته، ولا يجوز نقله ونقل ماله إلى مسجد آخر، سواء أكانوا يصلون فيه أم لا. ولا يحل وضع جذوع على جدار المسجد، ولو دفع الأجرة. وقال محمد: إذا انهدم الوقف وليس له من الغلة ما يعمر به، فيرجع إلى الباني أو ورثته. ويجري الخلاف المذكور في بسط المسجد وحصره وقناديله إذا استغني عنها، ينقل عند أبي يوسف في رواية عنه إلى مسجد آخر، ويرجع إلى مالكه عند محمد إذا خرج عن الانتفاع المقصود للواقف بالكلية. وعلى هذا الخلاف: في الرباط (¬2) والبئر إذا لم ينتفع بهما، فيصرف على قول لأبي يوسف في رواية ثانية عنه وقف المسجد والرباط والبئر والحوض إلى أقرب مسجد أو رباط أو حوض إليه. لكن المفتى به في تأبيد المسجد قول الشيخين كما تقدم: وهو أنه لا يجوز نقله ونقل ماله إلى مسجد آخر، وإذا خرب المسجد يبقى مسجداً أبداً. لكن في آلات المسجد نحو القنديل والحصير بخلاف أنقاضه: الفتوى على قول محمد وهو ردها إلى واقفها أو إلى ورثته. وأما أنقاضه فيفتى فيها كما ذكر ¬
بيع أنقاض المسجد ونحوه
بقول أبي يوسف وأبي حنيفة وهو أن المسجد لا يعود ميراثاً ولا يجوز نقله ونقل ماله إلى مسجد آخر، أي لا تعود عندهما الأنقاض للواقف أو ورثته عند إمكان البيع. وإذا وقف الواقف وقفين على المسجد، أحدهما على العمارة، والآخر إلى إمامه أو مؤذنه، فللحاكم إذا قل المخصص للإمام ونحوه أن يصرف من فاضل وقف المصالح والعمارة إلى الإمام والمؤذن باستصواب أهل الصلاح من أهل المحلة، إن كان الوقف متحداً؛ لأن غرضه إحياء وقفه، وهو يحصل بهذا النقل؛ لأنهما حينئذ كشيء واحد. ففي حال اتحاد الواقف والجهة يجوز المناقلة. وإن اختلف أحدهما (الواقف والجهة) بأن بنى رجلان مسجدين أو رجل مسجداً ومدرسة، ووقف عليهما أوقافاًً، لا يجوز للحاكم نقل مخصص أحدهما للآخر. بيع أنقاض المسجد ونحوه: إذا انهدم وقف، ولم يكن له شيء يعمر منه، ولا أمكن إجارته ولا تعميره، ولم تبق إلا أنقاضه من حجر وطوب وخشب، صح بيعه بأمر الحاكم، ويشترى بثمنه وقف مكانه، فإذا لم يمكن الشراء، رده إلى ورثة الواقف إن وجدوا، وإن لم يوجدوا يصرف للفقراء. والبيع بإذن القاضي وصرف ثمنه إلى بعض المساجد مبني على قول لأبي يوسف في رواية ثانية عنه، والرد إلى الورثة أو إلى الفقراء على قول محمد، وهو جمع حسن، حاصله أنه يعمل بقول أبي يوسف حيث أمكن، وإلا فبقول محمد. والخلاصة: الاتجاه في الفتوى عند مشايخ الحنفية بيع الأنقاض وصرف ثمنها إلى مسجد آخر أو رباط آخر؛ لأن غرض الواقف انتفاع الناس بالموقوف، وكيلا يأخذها المتغلبون.
جعل شيء من المسجد طريقا وبالعكس
جعل شيء من المسجد طريقاً وبالعكس: إذا جعل الباني بدون اعتراض أهل المحلة شيئاً من الطريق مسجداً لضيقه، ولم يضر بالمارين، جاز؛ لأنهما للمسلمين. وكذا العكس وهو ما إذا جعل في المسجد ممراً، جاز لكل أحد أن يمر فيه، حتى الكافر، إلا الجنب والحائض والدواب. ويجوز للإمام جعل الطريق مسجداً، لا عكسه، لجواز الصلاة في الطريق، ولا يجوز أن يتخذ المسجد طريقاً. حالات الاستبدال: الاستبدال عند الحنفية ثلاثة أنواع: الأول ـ أن يشرطه الواقف لنفسه أو لغيره، أو لنفسه وغيره، بأن شرط الواقف في وقفيته الاستبدال بالموقوف أرضاً أخرى، أو شرط بيعه، جاز الاستبدال على الصحيح، ويشتري بالثمن أرضاً أخرى إذا شاء، فإذا فعل، صارت الأرض الثانية كالأولى في شرائطها. الثاني ـ ألا يشرطه الواقف، بأن شرط عدمه أو سكت، لكن صار الموقوف بحيث لا ينتفع به بالكلية، بألا يحصل منه شيء أصلاً، أو لا يفي بمؤنته، فهو أيضاً جائز على الأصح إذا كان بإذن القاضي، وكان رأيه المصلحة فيها. الثالث ـ ألا يشرطه الواقف أيضاً، ولكن فيه نفع في الجملة، وبدله خير منه ريعاً ونفقاً. وهذا لايجوز استبداله على الأصح المختار. شروط الاستبدال: إذا كان الوقف عقاراً غير مسجد، فالمعتمد أنه يجوز للقاضي الاستبدال به للضرورة بلا شرط الواقف، بشروط ستة: 1ً - أن يخرج الموقوف عن الانتفاع به بالكلية، أي يصبح عديم المنفعة.
مسائل أربع يجوز فيها استبدال العامر من الأرض
2ً - ألا يكون هناك ريع للوقف يعمر به. 3ً - ألا يكون البيع بغبن فاحش. 4ً - أن يكون المستبدل قاضي الجنة: وهو ذو العلم والعمل، لئلا يؤدي الاستبدال إلى إبطال أوقاف المسلمين، كما هو الغالب في الزمن الأخير. 5ً - أن يستبدل به عقار لا دراهم ودنانير، لئلا يأكلها النظار؛ ولأنه قل أن يشتري بها الناظر بدلاً. وأجاز بعضهم الاستبدال به نقوداً، ما دام المستبدل قاضي الجنة. 6ً - ألا يبيعه القاضي لمن لا تقبل شهادته له، ولا لمن له عليه دين، خشية التهمة والمحاباة. فإذا لم تتوافر هذه الشروط كان بيع الوقف باطلاً لا فاسداً. وإذا صح بيع الحاكم بطل وقفية ما باعه، ويبقى الباقي على ما كان. وهناك مسائل أربع يجوز فيها استبدال العامر من الأرض وهي: الأولى ـ لو شرطه الواقف. الثانية ـ إذا غصبه غاصب وأجرى عليه الماء، حتى صار بحراً، فيضمن القيمة، ويشتري المتولى بها أرضاً بدلاً. الثالثة ـ أن يجحده الغاصب ولا بينة، وأراد دفع القيمة، فللمتولي أخذها ليشتري بها بدلاً. الرابعة ـ أن يرغب إنسان فيه ببدل أكثر غلة أحسن مكاناً، فيجوز على قول أبي يوسف، وعليه الفتوى.
مذهب المالكية في بيع الموقوف
مذهب المالكية في بيع الموقوف: ذكر المالكية (¬1) أن الأوقاف بالنسبة لبيعها ثلاثة أقسام: أحدها ـ المساجد: لا يحل بيعها أصلاً بالإجماع. الثاني ـ العقار لا يباع وإن خرب، ولا يجوز الاستبدال به غيره من جنسه، كاستبداله بمثله غير خرب، ولا يجوز بيع أنقاضه من أحجار أو أخشاب، لكن إن تعذر عودها في الموقوف، جاز نقلها في مثله. ويجوز بيع العقار الموقوف في حالة واحدة: وهي أن يشترى منه بحسب الحاجة لتوسعة مسجد أو طريق. الثالث ـ العروض والحيوان إذا ذهبت منفعتها، كأن يهرم الفرس، ويخلَق الثوب، بحيث لا ينتفع بهما، يجوز بيع الموقوف وصرف ثمنه في مثله، فإن لم تصل قيمته إلى شراء شيء كامل، جعلت في نصيب من مثله. فمن وقف شيئاً من الأنعام لينتفع بألبانها وأصوافها وأوبارها، فنسلها كأصلها في الوقف، فما فضل من ذكور نسلها عن النزو، وما كبر من إناثها، فإنه يباع، ويعوض عنه إناث صغار، لتمام النفع بها. وهذا قول ابن القاسم. وقال ابن الماجشون: لا يباع أصلاً. الخلو: بناء على ما قرره المالكية من منع بيع الوقف وأنقاضه، ولو خرب، هل يجوز للناظر إذا خرب الوقف وتعذر عوده لإنتاج غلة وأجرة، بأن لم يجد ما يعمر به من ريع الوقف، ولا أمكنه إجارته بما يعمره: أن يأذن لمن يعمره من عنده ¬
مذهب الشافعية في بيع الموقوف
ببناء أو غرس على أن البناء أو الغراس يكون للباني أو الغارس ملكاً وخلواً يباع ويورث عنه؛ لأن العمارة تكون لصاحبها، ويجعل في نظير الأرض الموقوفة حُكراً (مبلغاً دائماً) يدفع للمستحقين أو لخدمة المسجد؟ أفتى بعضهم وهو الشيخ الخرشي بالجواز، وأجازه الحنفية (¬1)، وهذا هو الذي يسمى خلواً، وقال الدردير شارح متن خليل: وهي فتوى باطلة قطعاً، وحاشا المالكية أن يقولوا بذلك؛ لأن منفعة الموقوف موقوفة، لا تملك بهذا العمل. مذهب الشافعية في بيع الموقوف: قال الشافعية (¬2): 1ً - إذا انهدم مسجد أو خرب وانقطعت الصلاة فيه، وتعذرت إعادته، أو تعطل بخراب البلد مثلاً، لم يعد إلى ملك أحد، ولم يجز التصرف فيه بحال ببيع أو غيره؛ لأن ما زال الملك فيه لحق الله تعالى لا يعود إلى الملك بالاختلال، كما لو أعتق عبداً، ثم مرض مرضاً مزمناً، لايعود ملكاً لسيده. وتصرف غلة وقفه لأقرب المساجد إليه إذا لم يتوقع عوده، وإلا حفظ. وإن خيف على المسجد السقوط، نقض، وبنى الحاكم بأنقاضه مسجداً آخر، إن رأى ذلك، وإلا حفظه. والبناء بقربه أولى. ولا يبني به بئراً، كما لا يبني بأنقاض بئر خربت مسجداً، بل بئراً أخرى، مراعاة لغرض الواقف ما أمكن. ولو وقف الواقف على قنطرة، فاحترقت الوادي، واحتيج إلى قنطرة أخرى، جاز نقلها إلى محل الحاجة. ¬
وغلة وقف الثغر (وهو الطرف الملاصق من بلادنا لبلاد الكفار) إذا حصل فيه الأمن، يحفظه الناظر، لاحتمال عوده ثغراً. ويدخر من زائد غلة المسجد على ما يحتاج إليه ما يعمره، بتقدير هدمه، ويشتري له بالباقي عقاراً ويقفه؛ لأنه أحفظ له. وتقدم عمارة الموقوف على حق الموقوف عليهم، لما فيها من حفظ الوقف. ويصرف ريع الموقوف على المسجد وقفاً مطلقاً أو على عمارته: في مصالح المسجد من بناء وتجصيص وسلم ومظلات للتظليل بها، ومكانس يكنس بها، ومساحي ينقل بها التراب، وأجرة قيِّم، لا أجرة مؤذن وإمام وحصر ودهن؛ لأن القيِّم يحفظ العمارة، بخلاف الباقي. فإن كان الوقف لمصالح المسجد، صرف من ريعه لمن ذكر، لا في التزويق والنقش، بل لو وقف عليها لم يصح. 2ً - الأصح جواز بيع حُصْر المسجد الموقوفة إذا بليت، وجذوعه إذا انكسرت، ولم تصلح إلا للإحراق، لئلا تضيع ويضيق المكان به من غير فائدة، فتحصيل نزر يسير من ثمنها يعود إلى الوقف أولى من ضياعها، ولا تدخل تصفيتها تحت بيع الوقف؛ لأنها صارت في حكم المعدومة، ويصرف ثمنها في مصالح المسجد. فإن صلحت لغير الإحراق كاتخاذ ألواح أو أبواب منها، فلا تباع قطعاً. والأصح جواز بيع نخلة موقوفة جفت إذا لم يمكن الانتفاع بجذعها بإجارة وغيرها، وبهيمة زمِنت؛ لأن ما لا يرجى منفعته، فكان بيعه أولى من تركه، بخلاف المسجد، فإن المسجد يمكن الصلاة فيه مع خرابه، وقد يعمر الموضع، فيصلى فيه.
مذهب الحنابلة
وقيمة المبيع لها حكم القيمة التي توجد من متلف الوقف أو منقطع الآخر، وهو أن تصرف لأقرب الناس إلى الواقف، فإن لم يكونوا صرف إلى الفقراء والمساكين، أو مصالح المسلمين. فإن أمكن الانتفاع بجذع الشجرة الموقوفة الجافة بإجارة وغيرها، لم ينقطع الوقف على المذهب، إدامة للوقف في عينها، ولا تباع ولا توهب، للخبر السابق عن عمر في أول بحث الوقف. والحاصل أن الشافعية في الجملة والمالكية أشد الآراء في عدم جواز بيع الوقف. ومذهب الحنابلة (¬1): أـ إذا خرب الوقف وتعطلت منافعه، كدار انهدمت، أو أرض خربت وعادت مواتاً، ولم تمكن عمارتها، أو مسجد انصرف أهل القرية عنه، وصار في موضع لايصلى فيه، أو ضاق بأهله ولم يمكن توسيعه في موضع، أو تشعب جميعه، فلم تمكن عمارته ولا عمارة بعضه إلا ببيع بعضه، جاز بيع بعضه لتعمر به بقيته، وإن لم يمكن الانتفاع بشيء منه، بيع جميعه. واستدلوا بما روي أن عمر رضي الله عنه كتب إلى سعد، لما بلغه أنه قد نقب بيت المال الذي بالكوفة: انقل المسجد الذي بالتمارين، واجعل بيت المال في قبلة المسجد، فإنه لن يزال في المسجد مصل. وكان هذا بمشهد من الصحابة، ولم يظهر خلافه، فكان إجماعاً. ولأن فيما ذكر استبقاء الوقف بمعناه، عند تعذر إبقائه بصورته، فوجب البيع. ب ـ وإذا بيع الوقف، فأي شيء اشتري بثمنه، مما يرد على أهل الوقف، ¬
جاز، سواء أكان من جنسه أم من غير جنسه؛ لأن المقصود المنفعة، لا الجنس، لكن تكون المنفعة مصروفة إلى المصلحة التي كانت الأولى تصرف فيها؛ لأنه لا يجوز تغيير المصرف، مع إمكان المحافظة عليه، كما لا يجوز تغيير الوقف بالبيع، مع إمكان الانتفاع به. جـ ـ وإذا لم يف ثمن الفرس الحبيس لشراء فرس أخرى، أعين به في شراء فرس حبيس، يكوِّن بعض الثمن؛ لأن المقصود استبقاء منفعة الوقف الممكن استبقاؤها، وصيانتها عن الضياع، ولا سبيل إلى الصون إلا بهذه الطريق. د ـ وإذا لم تتعطل مصلحة الوقف بالكلية، لكن قلَّت، وكان غيره أنفع منه وأكثر فائدة على أهل الوقف، لم يجز بيعه؛ لأن الأصل تحريم البيع، وإنما أبيح للضرورة، صيانة لمقصود الوقف عن الضياع، مع إمكان تحصيله، وإمكان الانتفاع به، وإن قل النفع، اللهم إلا أن يبلغ في قلة النفع إلى حد لا يعد نفعاً، فيكون وجوده كالعدم. هـ ـ لا يجوز نقل المسجد وإبداله وبيع ساحته، وجعلها سقاية وحوانيت إلا عند تعذر الانتفاع به. ولا يجوز أن يغرس في المسجد شجرة كالنخلة وغيرها بعد أن صار مسجداً، وقال أحمد: لا أحب الأكل منها، ولو قلعها الإمام لجاز؛ لأن المسجد لم يبن لهذا، وإنما بني لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن؛ ولأن الشجرة تؤذي المسجد، وتمنع المصلين من الصلاة في موضعها، ويسقط ورقها في المسجد وثمرها، وتسقط عليها العصافير والطير، فتبول في المسجد، وربما رمى الصبيان ثمرها بالحجارة. أما إن كانت النخلة في أرض، فجعلها صاحبها مسجداً، والنخلة فيها، فلا بأس.
موقف القانون من الاستبدال
وـ وما فضل من حصر المسجد وزيته، ولم يحتج إليه، جاز أن يجعل في مسجد آخر، أويتصدق منه على فقراء جيرانه وغيرهم. وكذلك إن فضل شيء من قصبه أو شيء من أنقاضه. موقف القانون من الاستبدال: نص القانون المصري رقم 48 لسنة 1946 في المادة 14 على مصير أموال البدل: تشتري المحكمة ـ بناء على طلب ذوي الشأن ـ بأموال البدل المودعة بخزانتها عقاراً أو منقولاً محل العين الموقوفة، ولها أن تأذن بإنفاقها في إنشاء مستغل جديد. ويجوز لها ـ إلى أن يتيسر ذلك ـ أن تأذن باستثمار أموال البدل بأي وجه من وجوه الاستثمار الجائز شرعاً. كما أن لها أن تأذن بإنفاقها في عمارة الوقف، دون رجوع في غلته. وإذا كانت هذه الأموال ضئيلة، ولم يتيسر استثمارها، ولم يحتج إلى إنفاقها في العمارة، اعتبرت كالغلة، وصرفت مصرفها. وصدر في سورية القانون رقم (104) في 1960/ 3/19 المتضمن جواز استبدال بعض العقارات (ذات الإجارة الطويلة) والقانون رقم (163) في 1958/ 9/27 لاستبدال العقارات الوقفية المقرر عليها حق من حقوق القرار ذات الإجارة الطويلة، كالمرصد والحكر والكدك والمقاطعة والإجارتين والقميص ومشد المسَكَة، والكردار والقيمة (¬1). ¬
الفصل التاسع ـ الوقف في مرض الموت
الفصل التاسع ـ الوقف في مرض الموت: أوضحت في بحث الشروط أنه يشترط في الواقف أهلية التبرع بألا يكون محجوراً عن التصرف، وبأن يكون مالكاً وقت الوقف ملكاً باتاً، ولو بسبب فاسد عند الحنفية. وبناء عليه فرع الحنفية (¬1): بأنه ينقض وقف استحق بملك أو شفعة، وإن جعله مسجداً، وينقض وقف مريض أحاط دينه بماله، بخلاف شخص صحيح، أي أنه يبطل وقف مريض مديون يحيط الدين بماله، فيباع وينقض الوقف كما يبطل وقف راهن معسر. ¬
فإن لم يكن الدين محيطاً بمال الواقف، صح، واعتبر الوقف في مرض الموت كالهبة فيه، ينفذ كالوصية من الثلث، فإن خرج من الثلث أو أجازه الوارث، نفذ في الكل، وإلا بطل في الزائد على الثلث. فإن أجاز البعض، جاز بقدره. والحاصل أن السلامة من المرض ليست شرطاً لصحة الوقف، وأن الواقف إذا وقف في حال المرض، جاز عند أبي حنيفة، ويعتبر من الثلث، ويكون بمنزلة الوصية بعد وفاته، حتى لا يتهم المريض بالإضرار بورثته أو دائنيه. أما عند الصاحبين، فالوقف جائز في حال الصحة والمرض على سواء. ويتفرع على هذا الخلاف: أنه على رأي الإمام: لا يلزم الوقف ولا تزول ملكية الشيء عن ملك الواقف إلا إذا أضافه إلى ما بعد الموت أو حكم به حاكم. وعند الصاحبين: يزول بدون الإضافة. وعلى قول أبي حنيفة: لو وقف مريض الموت على بعض الورثة، ولم يجزه باقيهم، لا يبطل أصل الوقف، وإنما يبطل ما جعل من الغلة لبعض الورثة دون بعض، فيصرف على قدر مواريثهم عن الواقف، ما دام الموقوف عليه حياً، ثم يصرف بعد موته إلى من شرطه الواقف؛ لأنه وصية ترجع إلى الفقراء، وليس كوصية لوارث ليبطل أصله بالرد عليه. ورأي الجمهور (¬1) القائلين بلزوم الوقف موافق لأبي حنيفة، يكون الوقف في مرض الموت بمنزلة الوصية في اعتباره من ثلث المال؛ لأنه تبرع، فاعتبر في مرض الموت من الثلث، كالعتق والهبة. فإذا خرج من الثلث نفذ من غير رضا ¬
الورثة ولزم، وما زاد على الثلث لزم الوقف منه في قدر الثلث، ووقف الزائد على إجازة الورثة؛ لأن حق الورثة تعلق بالمال بوجود المرض، فمنع التبرع بزيادة على الثلث، كالعطايا والعتق. ولا يجوز عند الجمهور أيضاً الوقف في مرض الموت على بعض الورثة، فإن وقف، توقف الوقف على إجازة سائر الورثة؛ لأنه تخصيص لبعض الورثة بماله في مرضه، فمنع منه كالهبات، ولأن كل من لا تجوز له الوصية بالعين لا تجوز بالمنفعة، كالأجنبي فيما زاد على الثلث. وعبارة المالكية فيه: بطل الوقف على وارث بمرض موته ولو كان من الثلث؛ لأن الوقف في المرض كالوصية، ولا وصية لوارث. وإن لم يكن الوقف في المرض على وارث، بل على غيره، ينفذ كسائر التبرعات من الثلث، فإن حمله الثلث صح، وإلا فلا يصح منه إلا ما حمله الثلث. واستثنى المالكية الوقف المعقَّب (¬1)، سواء أكان له غلة أم لا: وهو ما وقفه المريض على أولاده ونسله وعقبه، فإن حمله الثلث صح، ويكون حكمه في القسم كالميراث للوارث، وليس ميراثاً حقيقة، إذ لا يباع ولا يوهب. فيكون للذكر مثل حظ الأنثيين، ولو شرط الواقف تساويهما، ويكون للزوجة الثمن من مناب الأولاد وللأم السدس. والخلاصة: أن وقف المريض لازم له لا يجوز الرجوع عنه عند الجمهور، وباطل عند المالكية؛ لأنه وصية لوارث (¬2). ¬
الفصل العاشر ـ ناظر الوقف
الفصل العاشر ـ ناظر الوقف: أولاً ـ تعيين الناظر: يصح بالاتفاق (¬1) للواقف جعل الولاية والنظر لنفسه أو للموقوف عليه، أو لغيرهما، إما بالتعيين كفلان، أو بالوصف كالأرشد أو الأعلم أو الأكبر أو من هو بصفة كذا، فمن وجد فيه الشرط، ثبت له النظر عملاً بالشرط، وفي وقف علي رضي الله عنه شرط النظر لابنه الحسن، ثم لابنه الحسين رضي الله عنهما. واتبع شرط الواقف في تعيين الناظر، فإن لم يشرط الواقف النظر لأحد، فالنظر للقاضي في رأي المالكية وعلى المذهب لدى الشافعية؛ لأن له النظر العام، فكان أولى بالنظر فيه، ولأن الملك في الوقف عند الجمهور غير المالكية لله تعالى. وقال الحنابلة: يكون النظر حينئذ للموقوف عليه إن كان آدمياً معيناً كزيد، ولكل واحد على حصته إن كان الموقوف عليه جمعاً محصوراً كأولاده أو أولاد زيد، عدلاً كان أو فاسقاً؛ لأنه ملكه وغلته، ويكون النظر للحاكم أو نائبه إن كان الموقوف عليه غير محصور كالوقف على جهة لا تنحصر كالفقراء والمساكين والعلماء والمجاهدين، أو الموقوف على مسجد أو مدرسة أو رباط أو قنطرة وسقاية ونحوها؛ لأنه ليس له مالك معين. وقال الحنفية: تكون الولاية لنفس الواقف، سواء شرطها لنفسه أو لم يشترطها لأحد في ظاهر المذهب، ثم لوصيه إن كان، وإلا فللحاكم. ويجوز تعدد النظار، وقد نصت المادة (48) من قانون الوقف المصري على أنه لا تقيم المحكمة أكثر من ناظر واحد إلا لمصلحة. ¬
ثانيا ـ شروط الناظر
قال الحنابلة: إذا تعدد النظار وكان لهما النظر معاً لم يصح تصرف أحدهما مستقلاً عن الآخر، عملاً بشرط الواقف. ثانياً ـ شروط الناظر: شرط الناظر ما يلي (¬1): 1ً - العدالة الظاهرة وإن كان الوقف على معينين رشداء؛ لأن النظر ولاية، كما في الوصي والقيم. والعدالة: التزام المأمورات واجتناب المحظورات الشرعية. وهذا شرط عند الجمهور، وقال الحنابلة: لا تشترط العدالة، ويضم إلى الفاسق عدل، كما يضم إلى ناظر ضعيف قوي أمين. 2ً - الكفاية: وهي قوة الشخص وقدرته على التصرف فيما هو ناظر عليه. ووصف الكفاية يغني عن اشتراط الاهتداء إلى التصرف. والكفاية تتطلب وجود التكليف أي البلوغ والعقل. ولا تشترط في الناظر الذكورة؛ لأن عمر أوصى إلى حفصة رضي الله عنها. فإن لم تتوافر العدالة أو الكفاية نزع الحاكم الوقف منه، حتى وإن كان الواقف هو الناظر. فإن زال المانع عاد النظر إليه عند الشافعية إن كان مشروطاً في الوقف، منصوصاً عليه. 3ً - الإسلام إن كان الموقوف عليه مسلماً، أو كانت الجهة كمسجد ونحوه، لقوله تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} [النساء:141/ 4] فإن كان الوقف على كافر معين، جاز شرط النظر فيه لكافر. هذا ما ذكره الحنابلة، ولم يشترط الحنفية الإسلام في الناظر. ¬
ثالثا ـ وظيفة الناظر
ثالثاً ـ وظيفة الناظر: وظيفة الناظر عند التفويض العام له (¬1): حفظ الوقف وعمارته وإيجاره وزرعه والمخاصمة فيه، وتحصيل الغلة من أجرة أو زرع أو ثمر، وقسمتها بين المستحقين، وحفظ الأصول والغلات على الاحتياط؛ لأنه المعهود في مثله، وعليه الاجتهاد في تنمية الموقوف وصرفه في جهاته من عمارة وإصلاح وإعطاء مستحق، ويقبل قوله فيما ذكر إن كان متبرعاً، فإن لم يكن متبرعاً لم يقبل عند الحنابلة قوله إلا ببينة. وإن كان الناظر مقيداً ببعض ما سبق تقيد به. وإذا عمل الناظر أثناء عمارة الوقف فيأخذ ـ كما أبان الحنفية (¬2) ـ قدر أجرته، وذكروا أيضاً أنه يراعى شرط الواقف في إجارته وغيرها، لأن شرط الواقف كنص الشارع، ولا يجوز للقيم الزيادة في المدة، وإنما الزيادة للقاضي؛ لأن له ولاية النظر لفقير وغائب وميت. فلو أهمل الواقف مدة الإجارة قيل عند الحنفية: تطلق الزيادة للقيم، وقيل: تقيد بسنة. الإجارة الطويلة: ويفتى عندهم بمدة السنة في الدار، وبثلاث سنين في الأرض إلا إذا كانت المصلحة بخلاف ذلك، بحسب الزمان والموضع، فهو أمر يختلف باختلاف المواضع واختلاف الزمان. والفتوى عندهم على إبطال الإجارة الطويلة في الأوقاف وأرض اليتيم وأرض بيت المال ولو بعقود مترادفة، كل عقد سنة، لتحقق محذور وهو أن طول المدة يؤدي إلى إبطال الوقف. لكن هذا عند عدم الحاجة، فإذا اضطر إليها لحاجة عمارة الوقف بتعجيل أجرة سنين مقبلة، يزول المحذور الموهوم عند وجود الضرر المتحقق. ¬
الموقوف عليه الغلة أو السكنى ولو رجلا معينا
جاء في الفتاوى البزازية: لو احتيج لذلك يعقد الناظر عقوداً مترادفة، ففي الدار كل عقد سنة بكذا، وفي الأرض كل عقد ثلاث سنين، بأن يقول: آجرك الدار الفلانية سنة (49) بكذا، وآجرتك إياها سنة خمسين بكذا، وآجرتك إياها سنة (51) بكذا، وهكذا إلى تمام المدة، ويكون العقد الأول لازماً، وما عداه مضاف إلى المستقبل، والصحيح أن الإجارة المضافة تكون لازمة، ويؤخذ حينئذ برواية: كون الأجرة تملك، للحاجة في الإجارة المضافة، إلى اشتراط التعجيل. ويؤجر الموقوف بأجر المثل، فلا يجوز بالأقل المشتمل على غبن فاحش. ولا يضر الغبن اليسير (وهو ما يتغابن الناس فيه، أي ما يقبلونه ولا يعدونه غبناً). ولو رخص الناظر الأجرة بعد العقد، لا يفسخ العقد إذا طلب المستأجر فسخه، للزوم الضرر على الوقف. ولو زاد الأجرة عن أجر المثل بعد العقد بأجر المثل، أي الذي كان وقت العقد، يجدد العقد بالأجرة الزائدة، قال ابن عابدين: والظاهر أن قبول المستأجر الزيادة يكفي عن تجديد العقد. والمستأجر الأول أولى من غيره إذا قبل الزيادة. والموقوف عليه الغلة أو السكنى ولو رجلاً معيناً: لا يملك الإجارة، ولا الدعوى إذا غصب منه الموقوف إلا بتولية أو إذن قاض بالدعوى والإيجار؛ لأن حقه في الغلة، لا في عين الوقف. وإذا آجر المتولي الموقوف بدون أجر المثل، لزم المستأجر لا المتولي تمام أجر المثل. وتضمن منافع عقار الوقف المغصوب إذا عطلها الغاصب ولم ينتفع بها أو أتلفها، كما لو سكن الشخص بلا إذن، أوأسكنه المتولي بلا أجر، ويكون على
مذهب المالكية
الساكن أجر المثل، ولو كان العقار غير معد للاستغلال، صيانة للوقف. ومثله منافع مال اليتيم. ويفتى بكل ما هو أنفع للوقف فيما اختلف العلماء فيه. ومتى قضي بالقيمة في غصب عقار الوقف وإجراء الماء عليه حتى صار بحراً لا يصلح للزراعة، شرى الناظر بها عقاراً آخر، فيكون وقفاً بدل الأول. ومذهب المالكية (¬1): جاز للناظر أن يكري الوقف السنة والسنتين إن كان أرضاً على معين كزيد أو عمرو، وإن لم يكن على معين، بأن كان على الفقراء أو العلماء أو نحوهم، فيكري لأربعة أعوام لا أكثر. وجاز الكراء لعشر سنوات لمن كان مرجع الوقف له، كأن يقف الأرض على زيد، ثم ترجع بعده لعمرو ملكاً أووقفاً، فيجوز لزيد أن يكريها لعمرو عشرة أعوام. وجاز الكراء لضرورة إصلاح وقف خرب لمدة أربعين سنة أو خمسين لا أزيد. ويكون الكراء بأجر المثل، فإن وقع بأقل من أجرة المثل، فسخ العقد المشتمل عليها، وقبلت الزيادة في العقود الأخرى. ولا يقسم الناظر أجرة الوقف على المستحقين إلا لما مضى زمنه، فلو تعجل قبض أجرة عن مدة مستقبلة، لم يجز قسمها على الحاضرين، لاحتمال موت من أخذ، فيؤدي إلى إعطاء من لا يستحق، وحرمان غيره ممن يستحق. وإذا كان الوقف على أناس معينين كفلان وفلان، فيسوى بينهم ولا تفضيل لأحد على الآخر. ¬
مذهب الشافعية
أما إن كان الوقف على غير معينين كالفقراء وأبناء السبيل وأهل العلم، أو على قوم وأعقابهم أو على إخوته أو بني عمه، فضل الناظر في الغلة والسكنى بالاجتهاد مما يقتضيه الحال أهل الحاجة وأهل العيال. ولا يُخرج ساكن بوقف بوصف استحقاقه، وإن استغنى، إلا لشرط من الواقف، كأن يقول: مادام فقيراً أو محتاجاً، أو كان هناك عرف أو قرينة. وإن بنى موقوف عليه بناء في الموقوف، أو غرس فيه شجراً، فإن مات ولم يبين أنه وقف أو ملك، فوقف، ولا شيء فيه لوارثه. وإن بين أنه ملك فهو لوارثه، فيؤمر بنقضه أو بأخذ قيمته منقوضاً، وإلا كان وقفاً، ويأخذ ما صرفه من غلته، كالناظر إذا بنى أو أصلح، فإن لم يكن له غلة، فلا شيء له. وللقاضي أن يجعل للناظر شيئاً من الوقف إذا لم يكن له شيء. وللناظر تغيير بعض الأماكن لمصلحة كتغيير الميضأة ونقلها لمحل آخر، وتحويل باب مثلاً من مكان لمكان آخر. ومذهب الشافعية (¬1): إذا أجر الناظر الموقوف على غيره بدون أجرة المثل، فإنه لا يصح قطعاً. وإذا أجر الناظر، فزادت الأجرة في المدة، أو ظهر طالب بالزيادة عليها، لم ينفسخ العقد في الأصح؛ لأن العقد قد جرى بالمصلحة في وقته، فأشبه ما إذا باع الولي مال الطفل، ثم ارتفعت القيم بالأسواق، أو ظهر طالب بالزيادة. أما إذا أجر الناظر العين الموقوفة عليه، ولو بدون أجرة المثل، فإنه يصح قطعاً. ¬
الحنابلة
وخالفهم الحنابلة (¬1): فقالوا: إن أجر الناظر العين الموقوفة بأنقص من أجرة المثل، صح عقد الإجارة، وضمن الناظر النقص عن أجرة المثل، إن كان المستحق غيره، وكان أكثر مما يتغابن به في العادة، كالوكيل إذا باع بدون ثمن، أو أجر بدون أجرة المثل. ولا تنفسخ الإجارة حيث صحت، لو طلب الناظر زيادة عن الأجرة الأولى، وإن لم يكن فيها ضرر؛ لأنها عقد لازم من الطرفين. ولو غرس الموقوف عليه أو بنى لنفسه، فيما هو وقف عليه وحده، فله الغراس والبناء، لأنه وضعه بحق. أما إن كان الغارس أو الباني شريكاً فيما غرس أو بنى فيه، بأن كان الوقف عليه وعلى غيره، أو كان له النظر فقط دون الاستحقاق، فغرسه أو بناؤه غير محترم، ولباقي الشركاء المستحقين هدمه. ويأكل ناظر الوقف بمعروف نصاً، ولو لم يكن محتاجاً. رابعاً ـ عزل الناظر: تكاد تتفق وجهات النظر الفقهية حول عزل الناظر. ذكر الحنفية (¬2): أن للواقف عزل الناظر مطلقاً، وبه يفتى. ولو لم يجعل الواقف ناظراً، فنصبه القاضي، لم يملك الواقف إخراجه. ويجب على القاضي عزل الناظر، سواء أكان هو الواقف أم غير الواقف إذا كان خائناً غير مأمون، أو عاجزاً، أو ظهر به فسق كشرب خمر ونحوه، أو كان يصرف ماله في غير المفيد كالكيمياء (أي السيمياء: تحويل المعادن إلى ذهب) حتى ¬
النزول عن الوظائف
وإن شرط الواقف عدم عزل الناظر (¬1)، أو ألا ينزعه قاض ولا سلطان، لمخالفته لحكم الشرع، كالوصي فإنه ينزع وإن شرط الموصي عدم نزعه وإن خان. ولا يجوز للقاضي عزل الناظر المشروط له النظر أو صاحب وظيفة بلا خيانة، أو عدم أهلية. ويصح عزل الناظر المعين من قبل القاضي لا من قبل الواقف، بلا خيانة، وليس للقاضي الثاني أن يعيده، وإن عزله الأول، بلا سبب، لحمل أمره على السداد، إلا أن تثبت أهليته. وللناظر عزل نفسه عند القاضي، بتعيين غيره، ولا ينعزل بعزل نفسه حتى يبلغ القاضي. النزول عن الوظائف: ومن حالات عزل الناظر نفسه: التنازل أو الفراغ لغيره عن وظيفة النظر أو غيرها، فإن كان المتنازل له غير أهل، لم يقره القاضي، وإن كان أهلاً لا يجب عليه إقراره. وإذا فرغ الإنسان عن وظيفته سقط حقه، وإن لم يقر القاضي المتنازل له. والتنازل يصح أمام القاضي أو أمام غيره، ويصح الفراغ عن الوظيفة بمال أو مجاناً، ولكن يصح للمفروغ له الرجوع بالمال الذي دفعه؛ لأنه اعتياض عن حق مجرد، وهو لا يجوز. والحاصل أن الناظر ينعزل بعزل نفسه (أي بالاستقالة) أو بعزل الواقف إن عينه هو، أو بعزل القاضي. وقد نصت المادة (52) من قانون الوقف المصري على أنه يجوز للمحكمة من أي درجة إحالة الناظر على محكمة التصرفات الابتدائية إذا رأت ما يدعو للنظر في عزله. ¬
المالكية
ووافق المالكية (¬1) الحنفية: فقالوا: للناظر عزل نفسه، ولو ولاه الواقف. وللواقف عزله، ولو لغير جنحة، أما القاضي فلا يعزل ناظراً إلا بجنحة. وإذا عزل الناظر نفسه، فللحاكم تولية من شاء على الوقف، وتكون أجرته من ريعه، إذا كان المستحق غير معين كالفقراء. أما إن كان المستحق معيناً رشيداً، فهو الذي يتولى أمر الوقف. وإن كان غير رشيد، فيتولى وليه أمره. وكذلك رأى الشافعية (¬2): للناظر عزل نفسه، وللواقف الناظر عزل من ولاه، ونصب غيره مكانه، كما يعزل الموكل وكيله، وينصب غيره، إلا أن يشرط الواقف (¬3) لشخص نظرَه، أي إشرافه حال الوقف، فليس له ولا لغيره عزله، ولو لمصلحة، لأنه لا تغيير لما شرطه، ولأنه لا نظر له حينئذ. أما الواقف غير الناظر فلا يصح منه تولية ولا عزل، بل هي للحاكم. ولو شرط الواقف للناظر شيئاً من الريع، جاز، وإن زاد على أجرة المثل. بخلاف ما لو كان النظر له، وشرط لنفسه، فإنه لا يزيد على أجرة المثل. وكذلك قرر الحنابلة (¬4): للواقف عزل الناظر؛ لأنه نائبه، فأشبه الوكيل. وللموقوف عليه المعين وللحاكم عزل الناظر لأصالة ولايتهما، وللناظر عزل نفسه، كما هو المقرر في الوكالة. وليس للناظر المشروط له النظر عزل الناظر ولا توليته. ¬
الباب السادس: الميراث
البَابُ السَّادس: المِيرَاث وفيه تسعة عشر فصلاً هي: الأول ـ تعريف علم الميراث أو علم الفرائض، ومبادئه ومصطلحاته. الثاني ـ أركان الميراث الثالث ـ أسباب الإرث الرابع ـ شروط الإرث الخامس ـ موانع الإرث السادس ـ الحقوق المتعلقة بالتركة السابع ـ أنواع الوارثين وعددهم ومراتبهم وطريقة توريثهم في المذاهب الثامن ـ أصحاب الفروض التاسع ـ العصبات العاشر ـ المسائل الشواذ
الحادي عشر ـ الحجب الثاني عشر ـ العول الثالث عشر ـ الرد على ذوي الفروض الرابع عشر ـ الحساب: مخارج الفروض وأصول المسائل وتصحيحها الخامس عشر ـ توريث ذوي الأرحام السادس عشر ـ ميراث باقي الورثة السابع عشر ـ أحكام متنوعة الثامن عشر ـ المناسخة التاسع عشر ـ التخارج أو المخارجة
الفصل الأول: تعريف علم الميراث أو علم الفرائض ومبادئه
الفَصْلُ الأوّل: تعريف علم الميراث أو علم الفرائض ومبادئه ومصطلحاته: الإرث لغة: بقاء شخص بعد موت آخر بحيث يأخذ الباقي ما يخلفه الميت. وفقهاً: ما خلفه الميت من الأموال والحقوق التي يستحقها بموته الوارث الشرعي. وعلم الميراث: هو قواعد فقهية وحسابية يعرف بها نصيب كل وارث من التركة. وعرفه صاحب الدر (¬1) بقوله: هو علم بأصول من فقه وحساب، تعرِّف حق كل واحد من الورثة من التركة والحقوق. وعرفه بعضهم بأنه علم بأصول فقه وحساب يتوصل بهما لمعرفة ما يخص كل ذي حق من التركة. وهذا أعم من الوارث؛ لأنه يشمل الوصية والدين وغيرهما. وسمي أيضاً علم الفرائض، أي مسائل قسمة المواريث؛ لأن الفرائض جمع فريضة، مأخوذة من الفرض بمعنى التقدير، وفريضة بمعنى: مفروضة أي مقدرة لما فيها من السهام المقدرة، والفرائض: السهام المقدرة. فغلبت على غيرها. وإنما خص بهذا الاسم؛ لأن الله تعالى سماه به، فقال بعد القسمة: {فريضة من الله} [التوبة:60/ 9] وكذا قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «تعلَّموا الفرائض». ويدخل فيه الضوابط والقواعد المتعلقة بأحوال الوارث من كونه صاحب فرض أو تعصيب أو ذا رحم، وما يتعرض له من حجب ورد ومنع من الإرث. فأصبح علم الفرائض يشتمل على عناصر ثلاثة: معرفة الوارث وغير الوارث، ومعرفة نصيب كل وارث، والحساب الموصل إليه. مبادئه (¬2): عشرة، أما موضوعه: فهو كيفية قسمة التركة بين المستحقين. ¬
استمداده
وأما استمداده: فهو من الكتاب والسنة والإجماع، وليس للقياس أو الاجتهاد فيه مدخل إلا إذا صار مجمعاً عليه. والواقع أن الفقهاء استعملوا القياس في بعض مسائل الميراث. أما الكتاب: فقد جاء في سورة النساء ثلاث آيات: الأولى (11 من النساء) في ميراث الأولاد والأبوين: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين، فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك، وإن كانت واحدة فلها النصف .. }. ثمبينميراثالأبوين: {ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد، فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه، فلأمه الثلث، فإن كان له إخوة فلأمه السدس، من بعد وصية يُوصي بها أو دين .. } [النساء:11/ 4]. والثانية (12 من النساء) في ميراث الزوج والزوجة: {ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد، فإن كان لهن ولد، فلكم الربع مما تركن، من بعد وصية يوصين بها أو دين. ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد، فإن كان لكم ولد، فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أود ين} [النساء:12/ 4]. ثم بيَّن ميراث الكلالة (وهو من لا والد له ولا ولد) وله إخوة لأم: {وإن كان رجل يورث كلالةً، أو امرأةٌ وله أخ أو أخت، فلكل واحد منهما السدس، فإن كانوا أكثر من ذلك، فهم شركاء في الثلث، من بعد وصية يوصى بها أو دين .. } [النساء:12/ 4]. وفي الآية الثالثة (176 من النساء) ذكر ميراث الكلالة وله أخت أوأختان: {يستفتونك، قل: الله يفتيكم في الكلالة: إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت،
السنة النبوية
فلها نصف ما ترك، وهو يرثها إن لم يكن لها ولد. فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك}. وفي الآية:75من سورة الأنفال بيان ميراث أولي الأرحام: {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله، إن الله بكل شيء عليم}. وأما السنة النبوية: فقد ورد فيها طائفة من الأحاديث أختار منها مايلي: 1ً - حديث ابن عباس: «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر» (¬1). 2ً - وحديث أسامة بن زيد: «لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم» (¬2). وحديث عبد الله بن عمرو: «لا يتوارث أهل ملتين شتى» (¬3). 3ً - حديث عبادة بن الصامت: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قضى للجدتين من الميراث بالسدس بينهما» (¬4). 4ً - حديث ابن مسعود في بنت وبنت ابن وأخت: «قضى النبي صلّى الله عليه وسلم للابنة النصف، ولابنة الابن السدس، تكملة للثلثين، وما بقي فللأخت» (¬5) فدل على أن الأخت مع البنت عصبة تأخذ الباقي بعد فرضها. 5ً - حديث المقدام بن معْدِ يَكْرِب في ذوي الأرحام: «من ترك مالاً فلورثته، ¬
الإجماع
وأنا وارث من لا وارث له، أعْقِل ُ عنه وأرِثُ، والخال وارث من لا وارث له، يَعْقِل عنه ويرثه» (¬1). 6ً - حديث عائشة في الميراث بالولاء: «الوَلاء لمن أعتق» (¬2). وأما الإجماع: فهو إجماع الصحابة والتابعين على أن فرض الجدة الواحدة السدس، وكذلك فرض الجدتين والثلاث، كما حكى البيهقي عن محمد بن نصر من أصحاب الشافعي. لكن الشافعية والمالكية لا يورثون إلا جدتين. وفضل هذا العلم عظيم، فقد قيل: إنه نصف العلم، لتعلقه بحال الإنسان بعد موته، كما تتعلق سائر المعاملات به في حياته، وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «تعلموا الفرائض وعلموها، فإنها نصف العلم، وهو يُنسى، وهو أول شيء يُنْزَع من أمتي» (¬3). وواضعه: الشارع الذي أنشأ الشرع وهو الله سبحانه وتعالى. ونسبته لسائر العلوم: كونه بعض علم الفقه، وأخص منه ومن الحساب، ومباين لغيرهما. ومن المعلوم أن موضوع علم الفقه عمل المكلفين، وقسمة التركة من أعمالهم. ¬
ثمرته أو فائدته
وثمرته أو فائدته: أن تحصل لمتعلمه ملكة يكون له بها قدرة على قسمة التركة بين المستحقين بالوجه الشرعي. ويسمى صاحب تلك الملكة العالم به: فَرَضي وفارض وفرَّاض. واصطلاحاً: فرائضي. وغايته: إيصال كل ذي حق حقه من التركة. ومسائله: قضاياه وفروعه المستخرجة من قواعده، ككون النصف للبنت. وحسابه: قسمته؛ لأنها بعض علم الفرائض المتوقف عليها، والمراد بالحساب: تأصل المسائل والتصحيح وما يتبع ذلك. مصطلحاته: وأما أهم مصطلحات الفرائض فهي ما يأتي: 1 - الفرض: هو النصيب المقدر شرعاً للوارث، أي الحظ المقدر صريحاً من التركة بنص أو إجماع، كالثمن والربع، بحيث لايزيد إلا بالرد ولا ينقص إلا بالعول. 2 - السهم: يراد به الجزء المعطى لكل وارث من أصل المسألة الذي هو مخرج فرض الورثة، أو عدد رؤوسهم مثل اثنين من ستة. وقد يطلق على النصيب مع قرينة من القرائن. 3 - التركة: ما يتركه الميت مما كان يملكه من الأموال النقدية والعينية والحقوق. فلا يدخل في التركة الأمانات ونحوها مما لم يكن يملكه. 4 - النسب: هو البنوة والأبوة والإدلاء بأحدهما، عن طريق تغليب الأبوة على الأمومة. 5 - الجمع والعدد: يراد به في الميراث كل ما زاد على الواحد، فالبنتان والبنات جمع.
6 - الفرع
6 - الفرع: إذا أطلق الفرع في الميراث يراد به ابن الميت وبنته، وابن ابنه وبنت ابنه وإن نزل أبوها. فإذا قيل (الفرع الوارث) يراد به الابن والبنت، وابن الابن وبنت الابن وإن نزل. ويلاحظ أن ابن الابن بمثابة الابن، أما ابن الأخ فليس بمثابة الأخ. وفرع الأب: يراد به الإخوة والأخوات وبنو الأخ الشقيق أو الأب. وفرع الجد: يراد به العم الشقيق والعم لأب وبنوهما. 7 - الأصل: إذا أطلق يراد به الأبوان والأجداد الصحاح (من جهة الأب) والجدات الصحيحات (من جهة الأب) وإن علوا. فإذا قيل: الأصل الذكر يراد به الأب والجد. 8 - الولد: من ولده الإنسان قبل موته مباشرة، سواء الذكر والأنثى. 9 - الوارث: من يستحق حصته من التركة، وإن لم يأخذها بالفعل كالمحروم والمحجوب. 10 - الأخ والعم: إذا أطلق الأخ يعم الأخ الشقيق أو لأب أو لأم؛ لأنه وارث. أما العم فلا يعم العم لأم؛ لأنه من ذوي الأرحام. 11 - العَصَبة: من لم يكن له نصيب مقدرصريحاً. والعصبة بالنفس: هو كل ذكر لا تدخل في نسبته إلى الميت أنثى. 12 - الإدلاء: هو الاتصال بالميت: إما مباشرة بالنفس كأبي الميت وأمه وابنه وبنته، أوبواسطة كإدلاء ابن الابن بالابن، وبنت الابن بالابن. والإدلاء بالعصبة: هو العصبة بنفسه: وهو كل ذكر لا تدخل في نسبته إلى
13 - الميت
الميت أنثى وحدها، سواء أكان الميت ذكراً أم أنثى، مثل ابن الابن، وابن ابن الابن، وابن البنت. 13 - الميْت: بسكون الياء: من خرجت روحه من جسده من العقلاء. والميِّت ـ بتشديد الياء: من كانت حالته كحالة الأموات من الأحياء. والميتة: من زهقت روحها من سائر الحيوانات بغير ذكاة شرعية. الفَصْل الثَّاني: أركان الميراث: للميراث أركان ثلاثة: هي مورث، ووارث، وموروث. 1 - المورِّث: هو الميت الذي ترك مالاً أو حقاً. 2 - والوارث: هو الذي يستحق الإرث بسبب من أسبابه الآتية، وإن لم يأخذها بالفعل لمانع، فهو مستحق الإرث من غيره لقرابة حقيقية أو حكمية. 3 - الموروث: هو التركة، ويسمى أيضاً ميراثاً وإرثاً، وهو ما يتركه المورث من المال، أوالحقوق التي يمكن إرثها عنه، كحق القصاص، وحبس المبيع لاستيفاء الثمن، وحبس المرهون لاستيفاء الدين. فإذا فقد ركن من هذه الأركان انتفى الإرث؛ لأن الإرث عبارة عن استحقاق شخص مال شخص آخر بفرض أو عصوبة أو رحم، فإذا فقد واحد منها فقد الإرث. فلو مات شخص عن ابن وابن ابن، أخذ المال الابن، ولا شيء لابن الابن؛ لأنه محجوب بالابن، مع أن فيه قوة الأخذ. إذ لولا وجود الابن لأخذ التركة. وكذا لو عدمت التركة، كما لو مات عن أقارب، ولم يترك شيئاً، كانت الأقارب وارثة له؛ لأن فيهم قوة الأخذ، ولكنهم لم يأخذوا شيئاً لعدم التركة.
الفصل الثالث: أسباب الميراث
الفَصْلُ الثَّالث: أسباب الميراث: يتوقف الإرث على ثلاثة أمور: وجود أسبابه وشروطه وانتفاء موانعه، ولكل منها مبحث. أما أسباب الإرث المتفق عليها فهي ثلاثة: وهي القرابة، والزوجية، والوَلاء (¬1). 1 - أما القرابة أو النسب الحقيقية ويسمى عند الحنفية الرحم: فيراد بها القرابة الحقيقية، وهي كل صلة سببها الولادة، وتشمل فروع الميت وأصوله وفروع أصوله، سواء أكان الإرث بالفرض فقط كالأم، أم بالفرض مع التعصيب كالأب، أم بالتعصيب فقط كالأخ، أم بالرحم كذوي الأرحام مثل العم لأم، ويكون الميراث بسبب النسب شاملاً الآتي: 1 - الأولاد وأبناءهم ذكوراً وإناثاً. 2 ـ الآباء وآباءهم والأمهات، أي الأم وأمها وأمهات الآباء. 3 - الإخوة والإخوات. 4 - الأعمام وأبناءهم الذكور فقط. 2 - وأما الزوجية أو النكاح الصحيح: فيراد به العقد الصحيح، سواء صحبه دخول بالزوجة أم لا. وهو يشمل الزوج والزوجة. فإذا مات أحد الزوجين ولو قبل الدخول، ورثه الآخر، لعموم آية ¬
التوارث (¬1) بين الزوجين، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم قضى في بَرْوع بنت واشق أن لها الميراث، وكان زوجها قد مات عنها قبل الدخول بها، ولم يكن فرض لها صداقاً. وترث المرأة من زوجها إذا كانت في العدة مطلقة طلاقاً رجعياً؛ لأن الزوجية في الطلاق الرجعي قائمة ما دامت في العدة، وهذا متفق عليه فقهاً وقانوناً (¬2). أما المطلقة طلاقاً بائناً فلا ترث ولو كانت في العدة إذا طلقها زوجها في حال صحته، لعدم اتهامه بالفرار من إرثها. فإن طلقها في مرض موته فراراً من إرثها منه، وهو ما يسمى طلاق الفرار، فترث منه عند الحنفية إذا مات ما لم تنقض عدتها معاملة له بنقيض مقصوده. وترث منه عند المالكية ولو انقضت عدتها، وتزوجت غيره فعلاً لإطلاق الآثار فيها، وترث منه عند الحنابلة ولو انقضت عدتها، ما لم تتزوج غيره، لقول أبي سلمة رضي الله عنه: إن عبد الرحمن بن عوف طلق امرأته البتة، وهو مريض، فورَّثها عثمان بن عفان بعد انقضاء عدتها. والخلاصة: إن الجمهورـ غير الشافعية يورثون هذه المرأة لقصد الزوج السيء. ولا ميراث لهذه الزوجة المطلقة طلاقاً بائناً عند الشافعية، وإن كانت العدة باقية لمعنى آخر؛ لأن البينونة قطعت الزوجية التي هي سبب الإرث. ولا توارث في النكاح الفاسد المجمع على فساده، كالنكاح بغير شهود، ولا في النكاح الباطل، كنكاح المتعة، فليس بنكاح شرعي، ولو أعقبه دخول أو خلوة؛ لأن وجوده كعدمه. واختلفوا في التوارث في النكاح الفاسد المختلف فيه، ¬
3 - وأما الولاء
كالنكاح بغير ولي، فبعضهم يجيز التوارث بين الزوجين، لشبهة الخلاف، وبعضهم يمنع التوارث لمقتضى الفساد. 3 - وأما الولاء: فهو قرابة حكمية أنشأها الشارع من العتق. وأضاف الحنفية للأسباب الثلاثة المذكورة خلافاً لغيرهم: ولاء الموالاة. فولاء العتق: هو العصوبة السببية، أو هو صلة بين السيد وبين من أعتقه، وتجعل للسيد أو عصبته حق الإرث ممن أعتقه، إذا مات ولا وارث له من قرابته، وهذا ما يسمى بالنسب الحكمي (¬1)، وفي الحديث: «الولاء لُحْمة كلحمة النسب، لا يباع ولا يوهب» (¬2) فيرث المعتق العتيق ولا عكس، أي لا يرث العتيق المعتق. وولاء الموالاة: هو عقد بين اثنين على أن يعقل كل منهما عن الآخر، وأن يتوارثا. 4 - وأضاف الشافعية والمالكية سبباً رابعاً وهو جهة الإسلام: فإنها الوارثة كالنسب، فتصرف تركة المسلم أو باقيها لبيت المال إرثاً للمسلمين عصوبة، لا مصلحة، إذا لم يكن وارث بالأسباب الثلاثة المتقدمة، أو كان هناك سبب لم يستغرق التركة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «أنا وارث من لا وارث له، أعقل عنه وأرثه» (¬3) وهو صلّى الله عليه وسلم لا يرث لنفسه شيئاً، وإنما يصرف ذلك في مصالح المسلمين. الإرث بجهتين: إذا كان لوارث جهتا إرث ورث بهما معاً، كما لو ماتت امرأة عن زوج وأم، وكان زوجها ابن عمها أيضاً، فتأخذ الأم نصيبها وهو الثلث، ¬
أسباب الإرث في القانون
ويأخذ الزوج نصيبه وهو النصف، ثم يأخذ الباقي؛ لأنه عصبة، ولكن يستثنى الجدات في الميراث لهن السدس بالسوية، سواء أكانت الجدة ذات قرابة أم ذات قرابتين، ويستثنى أيضاً ذوو الأرحام، فإنهم يرثون بجهة واحدة، ولا يعتبر تعدد الجهات. أسباب الإرث في القانون: نص القانون المصري في المادة (7) على أن أسباب الإرث ثلاثة: الزوجية والقرابة والعصوبة السببية، أي ولاء العتق، وأما ولاء الموالاة فلم يجعله من أسباب الإرث، لعدم وجوده من زمن بعيد. ونصت المادة (11) على إرث الزوجة المطلقة طلاقاً رجعياً إذا مات الزوج وهي في العدة. أما المطلقة طلاقاً بائناً فتعتبر في حكم الزوجة إذا لم ترض بالطلاق، ومات المطلق في ذلك المرض، وهي في عدته. أما قانون الأحوال الشخصية السوري فنص في المادة (263) على أن أسباب الإرث: الزوجية والقرابة، ولم يعتبر الولاء سبباً في القانون، لإلغاء الرق من العالم. ونص في المادة (268) على أن للزوجة ولو كانت مطلقة رجعياً إذا مات الزوج وهي في العدة فرض الربع عند عدم الولد وولد الابن وإن نزل. ونصت المادة (116) على أن الطلاق البائن في مرض الموت لا يمنع الإرث، إذا مات الرجل في ذلك المرض والمرأة في العدة، وعد الطلاق طلاقاً تعسفياً. الفَصْلُ الرَّابع: شروط الإرث: يشترط لثبوت الحق في الميراث ثلاثة شروط: وهي موت المورث، وحياة الوارث، ومعرفة جهة القرابة (¬1). ¬
- موت المورث
1ً - موت المورث: لا بد من تحقق موت المورث، إما حقيقة، أو حكماً أو تقديراً، بإلحاقه بالأموات. فالحقيقي: هو انعدام الحياة، إما بالمعاينة كما إذا شوهد ميتاً، أو بالسماع، أو بالبينة. والحكمي: هو أن يكون بحكم القاضي، إما مع احتمال الحياة أو تيقنها. مثال الأول: حكم القاضي على إنسان بموته، وهو الحكم على المفقود بموته. ومثال الثاني: حكم القاضي على المرتد باعتباره في حكم الأموات إذا لحق بدار الحرب. وتقسم التركة في الحالتين من وقت صدور الحكم بالموت. والتقديري: هوإلحاق الشخص بالموتى تقديراً، وذلك في الجنين الذي انفصل بجناية على أمه، وهي التي توجب الغُرَّة (50 ديناراً)، بأن يضرب شخص امرأة حاملاً، فتلقي جنيناً ميتاً، فتجب الغرة وهي عبد أو أمة، وتقدر بنصف عشر الدية الكاملة. لكن اختلف الفقهاء في إرث هذا الجنين (¬1). قال أبو حنيفة: إن هذا الجنين يرث ويورث؛ لأنه يقدر أنه كان حياً وقت الجناية، وأنه مات بسببها. وقال الجمهور: لا يرث هذا الجنين؛ لأنه لم تتحقق حياته، فلم تتحقق أهليته للتملك بالإرث، ولا يورث عنه سوى الغرة وهي دية الجنين؛ لأنه يعتبر حياً بالنسبة لها فقط. وأخذ القانون المصري (م3) بمذهب الليث بن سعد وربيعة بن عبد الرحمن: ¬
- حياة الوارث
وهو أن هذا الجنين لا يرث ولا يورث؛ لأنه لم يتحقق موته بسبب الجناية، ولا حياته وقتها، والجزاء يكون للأم وحدها؛ لأن الجريمة عليها وحدها. 2ً - حياة الوارث: لا بد أيضاً من تحقق حياة الوارث بعد موت المورث، إما حياة حقيقية مستقرة أو إلحاقه بالأحياء تقديراً. الحقيقية: هي الحياة المستقرة الثابتة للإنسان المشاهدة له بعد موت المورث. والتقديرية: هي الحياة الثابتة تقديراً للجنين عند موت المورث، فإذا انفصل حياً حياة مستقرة لوقت يظهر وجوده عند موت المورث، ولو كان حينئذ مضغة أو علقة، ثبت له الحق في الميراث، فيقدر وجود حياته بولادته حياً. 3ً - العلم بجهة الميراث: إن انتفاء المانع وهو ألا يكون هناك مانع من موانع الإرث الآتية. ليس شرطاً في الإرث، وإنما الشرط هو الأولان فقط، كما نص القانون المصري، حيث نص في المادة الثانية على الشرطين الأولين فقط، كما نص القانون السوري في المادة 26 على هذين الشرطين أيضاً، ونص في المادة (261) على شرط وراثة الحمل. لكن لابد من العلم بالجهة المقتضية للإرث: بأن يعلم أنه وارث من جهة القرابة النسبية، أو من جهة الزوجية أو منهما، أو من جهة الولاء، لاختلاف الحكم في ذلك. الفَصْلُ الخامس: موانع الإرث: المانع لغة: الحائل، واصطلاحاً: ما ينتفي لأجله الحكم عن شخص لمعنى فيه، بعد قيام سببه، ويسمى محروماً، فخرج ما انتفى لمعنى في غيره، فإنه محجوب، أو لعدم قيام السبب كأجنبي، والمراد بالمانع هنا: المانع عن الوراثة، لا
اتفق الفقهاء على ثلاثة موانع
التوريث، وإن كان بعض الموانع كاختلاف الدين مانعاً عن الأمرين معاً: الوراثة والتوريث. واتفق الفقهاء على ثلاثة موانع للإرث: هي الرق، والقتل، واختلاف الدين. واختلفوا فيما عداها. ذكر الحنفية (¬1) أربعة موانع مشهورة: هي الرق، والقتل، واختلاف الدين، واختلاف الدارين، السببان الأولان يمنعان صاحبهما من أن يرث من غيره، والأخيران يمنعان التوارث من الجانبين. قال القدوري في الكتاب: لا يرث أربعة: المملوك، والقاتل من المقتول، والمرتد، وأهل الملتين، وكذا أهل الدارين، وسأوضح هذه الموانع كلاً على حدة. وأضافوا مانعين آخرين، فتصبح الموانع لديهم ستة، والمانعان هما: 1ً - جهالة تاريخ الموتى كالغرقى والحرقى والهدمى والقتلى في آن واحد؛ لأن من شروط الإرث السابقة: وجود الوارث حياً عند موت المورث، وهو منتف هنا لعدم العلم بوجود الشرط، ولا توارث مع الشك. 2ً - وجهالة الوارث: وهي في خمس مسائل أو أكثر، منها: 1 - امرأة أرضعت صبياً مع ولدها، وماتت، ولم يعلم أيهما ولدها، أي جهل ولدها، فلا يرثها واحد منهما. 2 - استأجر مسلم وكافرلولديهما ظئراً (مرضعاً)، فكبرا عندها، ولم يعلم ولد المسلم من ولد الكافر، فالولدان مسلمان، ولا يرثان من أبويهما، إلا أن يصطلحا، فلهما أن يأخذا الميراث بينهما. ¬
المالكية
إن جهالة الوارث مانع آخر؛ لأنها كموته حكماً كما في المفقود. وزاد بعض الحنفية مانعاً سابعاً وهوالنبوة، لحديث الصحيحين: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة» فكل إنسان يرث ولا يورث، إلا الأنبياء لا يرثون ولا يورثون. والحق أن النبوة ليست من الموانع؛ لأن النبوة معنى قائم في المورث، والمانع: هو ما يمنع الإرث لمعنى قائم في الوارث. وذكر المالكية (¬1) عشرة موانع للميراث هي: 1ً - اختلاف الدين: فلا يرث كافر مسلماً إجماعاً، ولا يرث مسلم كافراً عند الجمهور، ولا يرث كافر كافراً إذا اختلف دينهما، خلافاً لأبي حنيفة والشافعية. وإذا أسلم الكافر بعد موت مورثه المسلم، لم يرثه. والمرتد في الميراث كالكافر الأصلي، خلافاً لأبي حنيفة فإن المسلم يرث عنده من المرتد. وأما الزنديق فيرثه ورثته من المسلمين إذا كان يظهر الإسلام. 2 ً - الرق: فالعبد، وكل من فيه شعبة من رق كالمكاتب والمدبر وأم الولد. والمعتق بعضه، والمعتق إلى أجل، لا يرث ولا يورث، وميراثه لمالكه. 3ً - القتل العمد: فمن قتل مورثه عمداً، لم يرث من ماله ولا ديته، ولم يحجب وارثاً. فإن قتله خطأ ورث من المال دون الدية، وحجب غيره. 4 ً - اللعان: فلا يرث المنفي به النافي، ولا يرثه هو. 5 ً - الزنا: فلا يرث ولد الزنا والده، ولا يرثه هو؛ لأنه غير لاحق به، وإن أقر به الوالد حُدَّ، ولم يلحق به. ¬
الشافعية والحنابلة
ومن تزوج أمّاً بعد ابنة، أو بنتاً بعد أم، لم ترثه واحدة منها. ومن تزوج أختاً بعد أخت، والأولى في عصمته، ورثته دون الثانية. 6 ً - الشك في موت المورث: كالأسير والمفقود. 7 ً - الحمل: فيوقف به المال إلى الوضع. 8 ً - الشك في حياة المولود: فإن استهل صارخاً ورث ووُرث، وإلا فلا، ولا يقوم مقام الصراخ: الحركة والعطاس في المذهب إلا أن يطول أو يرضع. 9 ً - الشك في تقدم موت المورث أو الوارث: كميتين تحت هدم أو غرق، فلا يرث أحدهما الآخر، ويرث كل واحد منهما سائر ورثته. وهذا هو جهالة تاريخ الموتى عند الحنفية. 10 ً - الشك في الذكورة والأنوثة: وهو الخنثى، ويختبر بالتبول واللحية والحيض، فإن لحق بالرجال ورث ميراث الرجال، وإن لحق بالنساء ورث ميراثهن. وإن أشكل أمره، أعطي نصف نصيب أنثى، ونصف نصيب ذكر. وذكر الشافعية والحنابلة (¬1): ثلاثة موانع للإرث هي: الرق، والقتل، واختلاف الدين. وأضاف الشافعية موانع ثلاثة أخرى، فتصبح الموانع عندهم ستة، وهذه الثلاثة هي: 1 - اختلاف ذوي الكفر الأصلي بالذمة والحرابة: المشهور أنه لا توارث بين حربي وذمي لانقطاع الموالاة بينهما. والمعاهد والمستأمن كالذمي. ¬
الموانع الأربعة المشهورة
2 - الردة: لا يرث المرتد من أحد مسلم أو كافر، ولا يورث بحال، للحديث السابق: «لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم» بل يكون ماله فيئاً لبيت المال، سواء اكتسبه في أثناء الإسلام أم في الردة. ويدخل هذا المانع في اختلاف الدين، كما أبان المالكية سابقاً. 3 - الدور الحُكْمي: وهو أن يلزم من التوريث عدم التوريث، مثل: أن يقرّ أخ حائز للتركة بابن للمتوفى، فيثبت نسبه بإقرار الأخ، لكن لا يرث هذا الابن للدور؛ لأنه بإقرار هذا الأخ بالابن وثبوت نسبه من الأب، تبين عدم إرثه؛ لأنه محجوب به، فيلزم عليه بطلان إقراره؛ لأنه حينئذ لم يكن حائزاً للتركة، فيبطل نسب الولد، وإذا بطل فإنه لا يرث. ولكن إذا كان صادقاً في نفس الأمر، فإنه يجب أن يدفع له التركة ديانة فيما بينه وبين الله تعالى. إن إثبات الإرث أدى إلى نفيه، وكل ما أدى إثباته إلى نفيه ينتفي من أصله. وبالتأمل أرى أن ماذكره الفقهاء من موانع الإرث غير الأربعة المشهورة لا تعد في الحقيقة موانع، وإنما ينتفي الإرث لعدم تحقق شرط من شروط الإرث السابقة. لذا أعود لشرح الموانع الأربعة المشهورة وهي: المانع الأول ـ الرق: وهو لغة: العبودية، واصطلاحاً: عجز حكمي يقوم بالإنسان، سببه في الأصل: الكفر. فهو مانع من الإرث مطلقاً، سواء أكان تاماً أم ناقصاً في رأي الحنفية والمالكية، فلا توارث بين حر ورقيق، أي لا يرث الرقيق أحداً ولا يورث؛ لأن الرق ينافي أهلية التملك، إذ مقتضى كون الرقيق مالاً مملوكاً للسيد، ألا يكون مالكاً للمال، باعتبار أن المملوكية تنبئ عن العجز والهوان، والمالكية تنبئ عن
المبعض
القدرة والكرامة، فتتنافيان، ويكون جميع ما في يده من المال لسيده، فلو ورثناه لوقع الملك لسيده، فيكون توريثاً للأجنبي بلا سبب، وإنه باطل إجماعاً. ولم يذكر القانون السوري هذا النسب لإلغاء الرق من العالم. المبعض: استثنى الشافعية في المذهب الجديد وهو الأصح (¬1) العبد المبعض وهو من بعضه حر، فإنه يورث عنه إذا مات المال الذي ملكه ببعضه الحر؛ لأنه تام الملك عليه كالحر، فيرثه عنه قريبه الحر، أو معتق بعضه، وزوجته، ولا شيء لسيده، لاستيفاء حقه مما اكتسبه بالرِّقية. وقال الحنابلة (¬2): من بعضه حر يرث ويورث بجزئه الحر (¬3)، ويحجب ¬
المكاتب
على مقدار ما فيه من الحرية، ولا يرث ولا يورث ولا يحجب بالقدر الباقي فيه من الرق، لما روى عبد الله بن أحمد عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال في العبد يعتق بعضه: «يرث ويورث على قدر ما عتق منه» المكاتب: المكاتب عند الحنابلة إن لم يملك قدر ما عليه من أقساط الكتابة، هو عبد لا يرث ولا يورث، وإن ملك قدر ما يؤدي، ففيه روايتان: إحداهما: أنه عبد مابقي عليه درهم، لايرث ولايورث، وهو رأي الجمهور من الأئمة الآخرين، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «المكاتب عبد مابقي عليه درهم» (¬1). والثانية: أنه إذا ملك مايؤدي، فقد صار حراً، يرث ويورث، فإذا مات من يرثه، ورث، وإن مات هو فلسيده بقية كتابته، والباقي لورثته، لحديث أم سلمة، قالت: قال لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا كان لإحداكن مكاتب، وكان عنده مايؤدي، فلتحجب منه» (¬2). المانع الثاني - القتل: اتفق الفقهاء على أن القتل مانع من الميراث، فالقاتل لايرث من قتيله، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ليس لقاتل ميراث» (¬3)؛ لأنه استعجل الميراث قبل أوانه بفعل محظور، فعوقب بحرمانه مما قصد، لينزجر عما فعل، ولأن التوريث مع القتل يؤدي إلى الفساد، والله لايحب الفساد. ¬
اختلفوا في نوع القتل المانع
ولكنهم اختلفوا في نوع القتل المانع: رأى الحنفية: أنه القتل الحرام: وهو الذي يتعلق به وجوب القصاص أو الكفارة، ويشمل القتل العمد وشبهه والخطأ ومايجري مجرى الخطأ، والذي يوجب القصاص هو القتل العمد: وهو عند أبي حنيفة: الضرب قصداً بالمحدد من السلاح أو مايجري مجراه في تفريق أجزاء البدن كالمحدَّد من الخشب أو الحجر. وعند الصاحبين والأئمة الثلاثة الآخرين: هو الضرب قصداً بما يُقْتل به غالباً، وإن لم يكن محدداً كحجر عظيم. وأما الذي يوجب الكفارة فهو إما شبه العمد: كأن يتعمد ضربه بما لايقتل به غالباً. وإما الخطأ: كأن رمى إلى الصيد فأصاب إنساناً أو انقلب في النوم على آخر فقتله، أو سقط من سطح عليه، أو سقط عليه حجر من يده فمات، أو وطئ الراكب بدابته أحداً. ومالم يتعلق به وجوب القصاص أو الكفارة، فلا يمنع من الميراث. وهو القتل بحق، أو بعذر، أو بالتسبب، والصادر من غير المكلف. والقتل بحق: مثل قتل المورث لتنفيذ القصاص أو الحد بسبب الردة أو الزنى حال الإحصان، والقتل دفاعاً عن النفس، وقتل العادل مورثه الباغي باتفاق الحنفية، وبالعكس عند أبي حنيفة ومحمد وهو قتل الباغي مورثه العادل مع الإمام، فلا يحرم ذلك أصلاً. والقتل بعذر: كقتل الزوج زوجته أو الزاني بها عند التلبس بالزنا؛ لفقده الشعور والاختيار حينئذ، وكالقتل الذي يتجاوز به حدود الدفاع الشرعي؛ لأن أصل الدفاع لايمكن ضبطه، فيعفى عن التجاوز فيه. والقتل بالتسبب: هو مالا يباشره القاتل، كحفر بئر أو وضع حجر في غير ملكه.
رأى المالكية
والقتل الصادر من غير المكلف: هو القتل من الصبي أو المجنون. ففي هذه الأنواع الأربعة لايحرم القاتل من الميراث. وإذا قتل الأب ابنه عمداً، وإن لم يثبت به قصاص ولا كفارة، يحرم من الميراث؛ لأن القتل في أصله موجب للقصاص، إلا أنه سقط بقوله صلّى الله عليه وسلم: «لايقتل الوالد بالولد» (¬1). ورأى المالكية: أن القتل المانع من الإرث: هو قتل العمد العدوان سواء أكان مباشرة أم تسبباً. ويشمل الآمر به والمحرض عليه، والمسهل له، والشريك، وواضع السم في الطعام أوالشراب، والربيئة (من يراقب المكان أثناء مباشرة القتل) وشاهد الزور إذا بني الحكم على شهادته، والمكرِه إكراهاً ملجئاً على قتل معصوم الدم، وحافر البئر لمورثه، وواضع الحجر في طريقه، فيصطدم به فيموت. أما القتل خطأ: فلا يمنع من ميراث المال، ويمنع من إرث الدية. ورأى الشافعية: أن القاتل لايرث من مقتوله مطلقاً، سواء أكان مباشرة أم تسبباً، لمصلحة كضرب الأب والزوج والمعلم أم لا، مكرِهاً أم لا، بحق أم لا، من مكلف أم من غير مكلف. وهذا أوسع الآراء، ودليلهم عموم خبر الترمذي وغيره: «ليس للقاتل شيء» أي من الميراث. ورأى الحنابلة: أن القتل المانع من الإرث: هو القتل بغير حق، وهو المضمون بقصاص (قود) أو دية أو كفارة، فيشمل العمد وشبه العمد والخطأ، وماجرى مجرى الخطأ كالقتل بالتسبب، وقتل الصبي والمجنون والنائم. ¬
إرث الزوج دية القتل الخطأ
والخلاصة: أن الفقهاء اتفقوا على أن القتل مانع من الميراث، واختلفوا في نوع القتل، فاعتبر أبو حنيفة المباشرة مع العدوان عمداً أو خطأً، واعتبر مالك العمد العدوان، دون الخطأ، واعتبر الشافعي كل قتل مانعاً ولو من قاصر، واعتبر أحمد القتل المضمون بقصاص أو دية أو كفارة ولو من قاصر. فالقتل العمد وشبه العمد والخطأ وشبه الخطأ مانع من الميراث عند الجمهور مع مراعاة معنى العمد عند أبي حنيفة واستثناء القتل بالتسبب عند الحنفية، والقتل العمد وحده، سواء أكان الفاعل أصيلاً أم شريكاً مباشرة أم تسبباً هو المانع عند المالكية. وأخذ القانون المصري (م5) والقانون السوري (م223، 264) بمذهب المالكية في تحديد نوع القتل المانع من الميراث والوصية، خلافاً لمذهب الحنفية في موضعين: القتل بالتسبب، والقتل الخطأ. إرث الزوج دية القتل الخطأ: رأى الحنفية أن دية الخطأ كسائر الديون، يرث منها كل واحد من الزوجين وغيرهما، لحديث: «من ترك مالاً أو حقاً فلورثته» ولأنه صلّى الله عليه وسلم أمر بتوريث امرأة أشيم الضبابي من عقل (دية) زوجها، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. ورأى المالكية عدم توارث الزوجين من الدية، لانقطاع الزوجية بالموت، ولا وجوب للدية بعده (¬1). المانع الثالث ـ اختلاف الدين: اختلاف الدين بين المورث والوارث بالإسلام وغيره مانع من الإرث باتفاق ¬
إرث غير المسلمين
المذاهب الأربعة، فلا يرث المسلم كافراً، ولا الكافر مسلماً، سواء بسبب القرابة أو الزوجية، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم» (¬1) وقوله: «لا يتوارث أهل ملتين شتى» (¬2) وهذا هوالراجح لأن الولاية منقطعة بين المسلم والكافر، وبه أخذ القانون المصري (م6) والقانون السوري (م 264): «لا توارث بين مسلم وغير مسلم». وذهب معاذ ومعاوية والحسن وابن الحنفية ومحمد بن علي بن الحسين ومسروق رضي الله عنهم إلى أن المسلم يرث من الكافر، ولا يرث منه، لحديث «الإسلام يعلو ولا يعلى» (¬3) ورد عليهم بأن المراد العلو بحسب الحجة أو بحسب القهر والغلبة، أي النصرة في العاقبة للمسلمين. وقال أحمد: يرث المسلم عتيقه الكافر. لعموم الحديث السابق: «الولاء لمن أعتق» (¬4). إرث غير المسلمين: أما اختلاف الدينين بين الكفار أنفسهم كاليهود والنصارى، ففي جعله ما نعاً من الميراث خلاف: 1 - قال المالكية: لا يرث كافر كافراً إذا اختلف دينهما من اليهودية والنصرانية، فلا يتوارث اليهود من النصارى ولا النصارى من اليهود، لأنهما دينان مختلفان، ولا يرثان من مشرك ولا يرثهما مشرك، لعموم الحديث السابق: ¬
إرث المرتد والزنديق
«لا يتوارث أهل ملتين شتى» ولأنه لا موالاة بينهم. وأما غير اليهودية والنصرانية من سائر الملل والنحل، فإنها تعتبر شيئاً واحداً، ويتوارث بعضهم من بعض (¬1). 2 - وقال الحنفية والشافعية والحنابلة: يتوارث الكفار بعضهم من بعض؛ لأن الكفر ملة واحدة في الإرث، لقوله تعالى: {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض} [الأنفال:73/ 8] فهو بعمومه يشمل جميع الكفار، وقوله سبحانه: {فماذا بعد الحق إلا الضلال} [يونس:32/ 10] ولأن جميع ملل الكفر في نظر الإسلام سواء في البطلان كالملة الواحدة، ولأن غير المسلمين سواء في معاداة المسلمين والتمالؤ عليهم، فهم في حكم ملة واحدة. وبه أخذ القانون المصري، فنصت المادة (6) على أنه «يتوارث غير المسلمين بعضهم من بعض». 3 - وقال ابن أبي ليلى: اليهود والنصارى يتوارثون فيما بينهم، ولا توارث بينهم وبين المجوس. إرث المرتد والزنديق (¬2): المرتد: هو من ترك الإسلام إلى غيره من الأديان أو أصبح لا دين له. ولا خلاف في أن المرتد ومثله المرتدة لا يرث من غيره شيئاً، لا من مسلم ولا من كافر؛ لأنه أصبح لا موالاة بينه وبين غيره، ولا يقره الإسلام على ردته، وإنما يقتل، ولكن لا تقتل المرتدة عند الحنفية؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء، وإنما تحبس حتى ¬
الإرث من المرتد
وأما الإرث من المرتد ففيه خلاف: 1 - قال أبو حنيفة: يرث الورثة المسلمون من الرجل المرتد ما اكتسبه في حال الإسلام، وأما ما اكتسبه في حالة الردة، فيكون فيئاً لبيت مال المسلمين. وأما المرتدة: فجميع تركتها لورثتها المسلمين. ولم يفرق الصاحبان بين المرتد والمرتدة، وقالا: جميع تركتها في حالي الإسلام والردة لورثتهما المسلمين؛ لأن المرتد لا يقر على ما اعتقده، بل يجبر على عوده إلى الإسلام، فيعتبر حكم الإسلام في حقه، لا فيما ينتفع هو به، بل فيما ينتفع به وارثه. 2 - وقال الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة): لا يرث المرتد ولا يورث كالكافر الأصلي، بل يكون ماله فيئاً لبيت المال، سواء اكتسبه في الإسلام، أم في الردة؛ لأنه بردته صار حرباً على المسلمين، فيكون حكم ماله كحكم مال الحربي. هذا إن مات على ردته، وإلا فماله موقوف، فإن عاد إلى الإسلام فهو له. ردة أحد الزوجين: قال الحنابلة: إذا ارتد أحد الزوجين قبل الدخول، انفسخ النكاح في الحال، ولم يرث أحدهما الآخر، وإن كانت ردته بعد الدخول ففيه روايتان: إحداهما ـ يتعجل الفرقة. والأخرى ـ يقف على انقضاء العدة، وأيهما مات لم يرثه الآخر.
المانع الرابع ـ اختلاف الدارين
وأما الزنديق: فهو الذي يظهر الإسلام، ويستسر بالكفر، وهو المنافق، كان يسمى في عصر النبي صلّى الله عليه وسلم منافقاً، ويسمى اليوم زنديقاً، وهو يختلف عن المنافق في السعاية بالفساد والدعوة السرية لهدم الإسلام وتشكيك المسلمين بعقائدهم. وحكمه عند الجمهور غير المالكية كالمرتد على الخلاف والتفصيل السابق، فمال الزنديق عند الشافعية والحنابلة في بيت المال. وقال المالكية: يورث الزنديق خلافاً لسائر المرتدين، فيرثه ورثته المسلمون، إذا كان يظهر الإسلام. والخلاصة: إن الردة في الجملة تمنع الإرث، وقد عدها بعضهم مانعاً خاصاً غير اختلاف الدين؛ لأن للارتداد أحكاماً خاصة. فالمرتد لا يرث أحداً غيره مطلقاً، ولا يورث عند الجمهور غير الحنفية، ويورث عند الصاحبين مطلقاً، ويورث فقط ماله الذي اكتسبه حال الإسلام عند أبي حنيفة. المانع الرابع ـ اختلاف الدارين: المراد بالدار: الوطن الذي له منعة خاصة وسلطان مستقل. والمراد باختلاف الدارين: أن يكون كل من الوارث والمورث تابعاً لدولة تخالف الأخرى في المَنَعة (القوة أو الجيش) والمُلْك (السلطة) مع انقطاع العصمة بينهما، كأن يكون أحدهما من الهند والآخر من السويد. ويظهر هذا المانع بين دار الإسلام ودار الحرب أو بين أجزاء دار الحرب نفسها. أما دار الإسلام أو بلاد المسلمين، فتعتبر وطناً واحداً للمسلمين، فيرث المسلم في أي بلد آخر؛ لأن الإسلام صيَّر بلاد المسلمين وطناً واحداً، مهما تباعدت الديار، واختلفت الأنظمة وانقطعت الصلات. فلو مات مسلم في دار
الحرب ورثه ورثته في دار الإسلام. فهذا المانع خاص بغير المسلمين؛ لأن بلاد الإسلام وطن واحد. وأما دار الحرب فتختلف أحكامها باختلاف دولها. واختلاف الدار مانع للإرث عند الحنفية فقط إذا كان بين الكفار، دون المسلمين، لثبوت التوارث بين أهل البغي وأهل العدل، وإن اختلفت المنَعة والمُلْك، فيكون هذا المانع خاصاً بغير المسلمين. واختلاف الدار ثلاثة أنواع: حقيقي وحكمي معاً، وحكمي فقط، وحقيقي فقط. أـ الاختلاف الحقيقي والحكمي معاً: يتحقق باختلاف التبعية والإقامة، كأن يكون الوارث حربياً في دار الحرب، والمورث ذمياً في دار الإسلام، فإذا مات الحربي في دار الحرب، وله أب أو ذمي في دار الإسلام، أو مات الذمي في دار الإسلام، وله أب أو ابن في دار الحرب، لم يرث أحدهما من الآخر؛ لأن الذمي من أهل دار الإسلام، والحربي من أهل دار الحرب، فهما وإن اتحدا ملة، لكن لتباين الدارين حقيقة تنقطع الولاية بينهما، فتنقطع الوراثة على الولاية؛ لأن الوارث خلف المورّث في ماله ملكاً ويداً وتصرفاً. ب ـ الاختلاف الحكمي فقط: يتحقق باختلاف التبعية أو الجنسية فقط، كأن يكون الوارث ألمانياً والمورث إنجليزياً معاً في ألمانيا وإنجلترا، أو يكون أحدهما ذمياً والآخر مستأمناً يقيمان معاً في دار الإسلام؛ لأن المستأمن من أهل دار الحرب حكماً. أو يكون كلاهما مستأمنين من دولتين مختلفتين، يقيمان معاً في دار الإسلام؛ لأن كلاً منهما حربي من دار مختلفة.
فلا توارث بين هؤلاء جميعاً، لاختلاف التبعية. جـ ـ الاختلاف الحقيقي فقط: يتحقق باختلاف الإقامة مع اتحاد الرعوية أو التابعية. كألمانيين يقيم أحدهما في فرنسا، والآخر في أمريكا، مع الاحتفاظ بجنسيتهما، وكمستأمن في دارنا مع حربي في دار الحرب، كلاهما من دولة واحدة، يتوارثان، لاتحاد التبعية. النوعان الأول والثاني مانعان من الإرث، لاختلاف التبعية، ومناط المنع من الإرث دائر على التبعية، ويكون الاختلاف الحكمي هو السبب وحده في منع الميراث. أما النوع الثالث فغير مانع، للاتحاد في التبعية. وبه يظهر أن الحربيين: إن كانا في دارين من دور الحرب مع اتحاد الجنسية كان الاختلاف في الدار حقيقياً غير مانع، وإن كان في دارنا، كان الاختلاف حكمياً، مانعاً من الإرث، فلا يتوارثان في دار الإسلام إلا إذا صارا ذميين. واختلاف الدار لدى الشافعية ليس مانعاً من موانع الإرث، لكنهم قالوا: لاتوارث بين حربي ومعاهد، وهو يشمل الذمي والمستأمن، لانقطاع الموالاة بينهما، كما تقدم، فيوافقون الحنفية في النوع الأول. وليس اختلاف الدار مطلقاً لدى المالكية والحنابلة مانعاً للميراث، فيرث أهل الحرب بعضهم بعضاً، سواء اتفقت ديارهم أو اختلفت. أما القانون المصري في المادة (6) فقد نص على أن اختلاف الدار لا يمنع من الإرث بين المسلمين. ولا يمنع بين غير المسلمين إلا إذا كانت شريعة الدار الأجنبية تمنع من توريث الأجنبي عنها.
الفصل السادس: الحقوق المتعلقة بالتركة
جرى هذا القانون على أن الأصل أن اختلاف الدار لا يمنع من التوارث بين غير المسلمين، كما يقول المالكية والحنابلة، إلا أنه شرط أن تكون شريعة الدار الأجنبية لا تمنع من توريث الأجنبي عنها، فإذا كانت شريعتها تمنع من توريث الأجنبي، كان اختلاف الدار عندنا مانعاً من الإرث، معاملة بالمثل. وأما القانون السوري في المادة (264) فإنه نص على أنه «لا يمنح الأجنبي حق الإرث إلا إذا كانت قوانين بلاده تمنح مثل ذلك للسوريين» وذلك أخذاً بمبدأ المعاملة بالمثل، وهذا شامل مع الأسف المسلمين من جنسيات مختلفة، وهو لم يقل به فقيه. فمثلاً لا يورِّث السوريون الأتراك، ولا يورِّث الأتراك السوريين أخذاً بالمقابلة أو المعاملة بالمثل، وهذا غير جائز شرعاً لمخالفة النص القرآني: {إنما المؤمنون إخوة} [الجحرات:49/ 10]. لكن إذا فهم المقصود من كلمة (الأجنبي) أنه غير المسلم وغير المسيحي المقيم في بلاد إسلامية، لم يكن هناك مخالفة؛ لأن المسلم لا يعتبر في بلاد الإسلام أجنبياً، كما أن غير المسلمين المقيمين في البلاد الإسلامية يتوارث بعضهم من بعض (¬1). الفَصْلُ السَّادس: الحقوق المتعلِّقة بالتّركة: تعريف التركة: التركة لغة: ما يتركه الشخص ويبقيه، واصطلاحاً عند الجمهور غير الحنفية: هي كل ما يخلفه الميت من الأموال والحقوق الثابتة مطلقاً فتشمل الأشياء المادية من منقولات وعقارات، والحقوق العينية كحقوق الارتفاق ¬
من مسيل أوشِرب وغيرهما، والمنافع كحق الانتفاع بالمأجور والمستعار، والحقوق الشخصية كحق الشفعة وحق الخيار كخيار الشرط. وتشمل أيضاً ما تسبب فيه: من خمر صار خلاً بعد وفاته، وشبكة نصبها فوقع فيها بعد موته صيد، وكذلك الدية المأخوذة في قتله، بناء على الأصح عند الشافعية من دخولها في ملكه قبيل موته (¬1). وهي عند الحنفية: الأموال والحقوق المالية التي كان يملكها الميت. فتشمل الأموال المادية من عقارات ومنقولات وديون على الغير، والحقوق العينية التي ليست مالاً، ولكنها تقوم بمال أو تتصل به، كحق الشرب والمسيل والمرور والعلو، والرهن إذ يرث الورثة الدين موثقاً برهنه. وخيارات الأعيان، كخيار العيب وخيار التعيين وخيار فوات الوصف المرغوب فيه. ولا تشمل عندهم الخيارات الشخصية، كخيار الشرط وخيار الرؤية وحق الشفعة، فإنها حقوق متعلقة بشخص المتوفى لا بماله. ولاتشمل أيضاً المنافع كالإجارة والإعارة، لانتهاء العقد بالموت، ولأن المنافع ليست مالاً عند متقدمي الحنفية. ولا تشمل قبول الوصية، فتلزم الوصية بموت الموصى له، أي قبل أن يقبل أو يرد، ويعتبر عدم الرد قبولاً. والحنفية يحصرون التركة في المال أوالحق الذي له صلة بالمال فقط، فالذي يورث عندهم هو الأعيان المالية، أما الحقوق فمنها ما يورث كحق حبس المبيع وحبس الرهن، ومنها ما لا يورث كحق الشفعة وخيار الشرط وحد القذف وحق ¬
الحقوق المتعلقة بالتركة فهي قسمان
التزويج. وكذا لا يورث خيار القبول والإجارة والإجازة في بيع الفضولي والأجل. ولا تورث الولايات والعواري والودائع والرجوع عن الهبة. أما خيار العيب وخيار التعيين والقصاص وخيار الرؤية وخيار الوصف، فيورث. وأما الحقوق المتعلقة بالتركة فهي قسمان (¬1): الأول ـ أن يتعلق بها حق الغير حال الحياة: وهذا لا يسمى تركة، فيقدم على تجهيز الميت لتعلقه بالمال قبل صيرورته تركة، وإنما يسمى بالحقوق العينية: وهي التي تتعلق بعين الأموال التي يتركها المتوفى، كحق البائع في تسلم المبيع، وحق المرتهن في المرهون، ومثله عند الحنفية: حق المستأجر الذي عجل الأجرة، فإنه أحق بالمأجور إلى انتهاء مدة الإجارة، أو يرد إليه ما عجل من أجرة؛ لأنه إذا عجل المستأجر إعطاء الأجرة ثم مات المؤجر، صارت الدار هنا بالأجرة. والثاني ـ ألا يتعلق بها حق الغير: هذا هو المسمى تركة ويتعلق به حقوق أربعة على الترتيب التالي: تجهيز الميت وتكفينه، ثم قضاء ديونه، ثم تنفيذ وصاياه، ثم حق الورثة في قسمة الباقي. وبيان كل حق فيما يلي: 1ً - تجهيز الميت وتكفينه: يبدأ وجوباً بتكفين الميت وتجهيزه بالمعروف بحسب يساره وإعساره عند المالكية والشافعية والحنابلة، أوبلا تبذير ولا تقتير عند الحنفية؛ لأن ذلك من الأمور الضرورية التي تتعلق بحق الميت ورعاية حرمته وكرامته الإنسانية بمواراته في قبره، ¬
ولقوله تعالى: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً} [الفرقان:67/ 25] وذلك بحسب السنة باعتبار العدد (ثلاثة أثواب للرجل وخمسة للمرأة)، وباعتبار القيمة بقدر ما كان يلبسه في حياته، من أوسط ثيابه، لا الذي يتزين به في الجمع والأعياد. ويراعى أيضاً حال الورثة وخاصة الصغار. والتجهيز المطلوب: هو كل ما يحتاج إليه الميت من حين موته إلى أن يوارى في قبره من نفقات غسله وكفنه وحمله ودفنه وحفر قبره، لقوله صلّى الله عليه وسلم في الذي وقصته ناقته في الحج: «كفنوه في ثوبيه» (¬1) ولم يسأل: هل عليه دين، أو لا، لاحتياجه إلى ذلك. ويكون التجهيز من التركة، فإذا لم يكن للميت تركة، فكفنه على من وجبت عليه نفقته في حال حياته. .ويقدم أيضاً تجهيز من مات قبله ولو بلحظة واحدة، ممن تلزمه نفقته كوالده وولده وزوجته وخادمها. ويدخل عند الشافعية وأبي يوسف (ورأيه هو المفتى به عند الحنفية) في الزوجة: المرأة البائن الحامل، والرجعية؛ لأن نفقة الزوجة على زوجها، وتجهيزها من نفقتها، وقال محمد بن الحسن ومالك وأحمد: ليس على الزوج تجهيز الزوجة مطلقاً ولو كانت معسرة؛ لأن الزوجية قد انقطعت بالموت، فتجهز من مالها أو من أقاربها. وهذا في تقديري غير مقبول عشرة وأدباً وعرفاً. ولا يعد من نفقات التجهيز: ما استحدثه الناس في عصرنا من بدع ومظاهر من إقامة المآتم وحفلات التشييع وولائم أيام الخميس والجمع والأربعين والذكرى السنوية، وما يدفع لبعض المنشدين والمرتلين من أذكار وتلاوات، فهو كله من البدع التي لا يجوز الإنفاق عليها من التركة. ¬
- قضاء ديونه
فمن أنفق شيئاً على هذه الأمور فهو الضامن له، فإن كان وارثاً فهو من ماله الخاص، وإن كان أجنبياً فهو متبرع، ولا تنفذ النفقة على الدائنين إذا كانت التركة مدينة إلا برضاهم. وتقديم نفقات التجهيز على الديون هو مذهب الحنابلة، أما الحنفية والشافعية فقدموا قضاء الديون على مؤن التجهيز، وقدم المالكية الدين الموثق برهن على التجهيز. جاء في العذب الفائض 13/ 1: قدَّم الجمهور غير الإمام أحمد الحقوق المتعلقة بعين التركة على التجهيز. 2ً - قضاء ديونه: ثم بعد التجهيز تقضى ديون (¬1) الميت من جميع ماله الباقي بعد التجهيز، والسبب في تأخيره عن الكفن وتوابعه أنه لباسه بعد وفاته كلباسه في حياته؛ إذ لا يباع ماعلى المديون من ثيابه مع قدرته على الكسب، ويقدم على الوصية، وإن قدم ذكرها عليه في الآية، لقول علي رضي الله عنه: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم بدأ بالدين قبل الوصية» (¬2) وحكمة تقديمها: الاهتمام بها وعدم التفريط فيها، لكونها تشبه الميراث في أخذها بلا عوض، فيشق على الورثة إخراجها، فقدمت حثاً على أدائها مع الدين، وتنبيهاً على أنها مثله في وجوب الأداء، أما الدين فنفوس الدائنين مطمئنة إلى أدائه. والحاصل أن أسباب تقديم الوصية على الدين في النظر القرآني هي ما يأتي: أولاً ـ لأن الوصية أقل لزوماً من الدين، فقدمها اهتماماً بها، وأخر الدين ¬
الديون أربعة أنواع
لندرته، فإنه قد يكون وقد لا يكون، فبدأ بالذي لا بد منه، وعطف الذي قد يقع أحياناً. ويؤكده العطف بأو، ولو كان الدين راتباً لكان العطف بالواو. ثانياً ـ إن الوصية حظ مساكين ضعفاء فقدمها، لأنه حظ غريم يطلبه بقوة، وله فيه مقال. ثالثاً ـ إن الوصية حظ مساكين ضعفاء فقدمها، والدين ثابت مُؤدى، سواء ذكره أو لم يذكره. رابعاً ـ تقديم الدين على الوصية ظاهر؛ لأن قضاء الدين فرض على المدين يجبر على أدائه في حال حياته، والوصية تطوع، والفرض أقوى. والدين الواجب الوفاء عند الحنفية: هو الذي له مطالب من جهة العباد، وأما ديون الله كالزكاة والكفارات، فلا يجب على الورثة أداؤها إلا إذا كان المتوفى قد أوصى بأدائها. وعلى كلٍ ف الديون أربعة أنواع: 1 ً) ـ الديون المتعلقة بالأعيان كالدين المتعلق بالمرهون إذا لم يكن للميت شيء سواه، وقد بينت أنها تقدم عند الحنفية على التكفين والتجهيز، وأما في القانون فتؤخر عن التجهيز، أخذاً بمذهب الحنابلة. 2 ً) ـ ديون الله تعالى: كالزكاة والكفارة والنذور، تسقط بالموت عند الحنفية، ولا يجب على الورثة أداؤها عن الميت إلا بإنابة منه بأن يوصي بها أن تؤدى عنه من تركته، فتؤدى من ثلث المال فقط. وقال الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة: هذه الديون واجبة الأداء
ـ ديون العباد
ومتعلقة بالتركة، وتؤدى ولو لم يوص بها الميت، وهذا الرأي أصح لما فيه من إبراء الذمة. 3 ً) ـ ديون العباد أوديون الميت التي لزمته في ذمته حال الصحة: تقدم على دين المرض، وديون الصحة في منزلة واحدة مهما اختلفت أسبابها كالقرض والمهر والأجرة ونحوها من كل ما وجب في الذمة بدلاً عن شيءآخر. ودين الصحة: هو ماكان ثابتاً بالبينة، أو بالإقرار في زمان صحته، أو بالإقرار في زمان مرضه، وعلم ثبوته بطريق المعاينة بأن كان سببه معلوماً للناس كثمن دواء أو غيره، أو بدل شيء استهلكه. ودين المرض، أي مرض الموت: هو ما ثبت بإقرار المدين في مرض موته. وهو أضعف من دين الصحة لضعف إقرار المريض. وتقدم عند المالكية حقوق العباد على حقوق الله تعالى، وعند الشافعي بالعكس كما سأوضح. وأما عند الحنفية فتسقط حقوق الله ولا تؤدى. 4 ً) ـ ديون المرض التي لزمت الميت عن طريق الإقرار ولم يعلم الناس بها: تؤخر عن ديون الصحة؛ لأن الإقرار في مرض الموت مظنّة التبرع أو المحاباة، فتكون في حكم الوصايا التي تنفذ من الثلث، وهي مؤخرة عن الديون. ولم يفرق الجمهور بين ديون الصحة وديون المرض، فهي في مرتبة سواء، لأنه إن عرف سببها للناس فهي ملحقة بديون الصحة على رأي الحنفية، وإن لم يعرف سببها يكفي الإقرار في إثباتها؛ لأن الإقرار حجة ملزمة لا تلغى إلا إذا ثبت ما يبطلها أو يكذبها. وأخذ القانون المصري (م4) والسوري (م238) برأي الجمهور، فلم يفرق بين الديون، وأطلق تقديمها بدون تفصيل. ويحسن بيان آراء المذاهب الأخرى في الديون، كل رأي على حدة.
قال المالكية (¬1): يبدأ من تركة الميت بحق تعلق بذات كمرهون، ثم بمؤن التجهيز، ثم بقضاء الديون، فالوصايا، بأن يقدم قضاء الدين من رأس المال على الوصايا، أي دينه الذي عليه لآدمي، سواء حل أجله أم لا؛ لأن الدين يحل بموت المدين. ثم يقدم هدي التمتع، سواء أوصى به أم لا، ثم زكاة فطر فرط فيها، وكفارات أشهد في صحته أنها بذمته أو أوصى فقط. وتعد زكاة نقد حلَّت وأوصى بها مثلَ كفارات أشهد بها. والحاصل: أن زكاة الفطر التي فرط فيها، والكفارة التي لزمته، مثل كفارة اليمين والصوم والظهار والقتل، إذا أشهد في صحته أنهما بذمته، فإن كلاً منهما يخرج من رأس المال، سواء أوصى بإخراجهما أو لم يوص. ومثلهما الزكاة التي حل وقت أدائها. وقال الشافعية (¬2): تقضى الديون بذمة الميت من رأس المال سواء أذن الميت في قضائها، أم لا، لزمته لله تعالى أم لآدمي؛ لأنها حقوق واجبة عليه. ويقدم دين الله تعالى كالزكاة والكفارة والحج على دين الآدمي في الأصح. ويقدم على مؤنة التجهيز الدين المتعلق بعين التركة، كزكاة المال الذي وجبت فيه؛ لأنه كالمرهون بها، والمرهون لتعلق حق المرتهن به، والمبيع بثمن في الذمة، إذا مات المشتري مفلساً بثمنه، تقديماً لحق صاحب التعلق على حق غيره، كما في حال الحياة. وهذا موافق لرأي الحنفية المتقدم. وقال الحنابلة (¬3): ما بقي بعد مؤنة التجهيز بالمعروف يقضى من ديونه، سواء ¬
- تنفيذ وصاياه
وصى بها أم لا، ويبدأ منها بالمتعلق بعين المال كدين برهن، وأرش جناية برقبة الجاني ونحوه، ثم الديون المرسلة في الذمة، سواء أكانت الديون لله تعالى كزكاة المال وصدقة الفطر، والكفارات والحج الواجب والنذر، أم كانت لآدمي كالديون من قرض وثمن وأجرة وجعالة استقرت في الذمة ونحوها، والعقل (الدية) بعد الحول، وأرش الجنايات (تعويضها) والغصوب وقيم المتلفات وغيرها، لما تقدم من أنه صلّى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية. فإن ضاق المال تحاصوا. 3ً - تنفيذ وصاياه: تنفذ الوصايا من ثلث المال الباقي لامن ثلث أصل المال بعد أداء الحقوق المتقدمة، لقوله تعالى: {من بعد وصية يوصى بها أو دين} [النساء:11/ 4]؛ لأن ما تقدم قد صرف في ضروراته التي لا بد منها، فالباقي هو مال الميت الذي أجاز له الشرع أن يتصرف في ثلثه، ولا تنفذ وصاياه فيما زاد عليه إلا بإجازة الورثة، سواء أكان الموصى له أجنبياً أم وارثاً؛ فإن أجازوا نفذت، وإن أجاز بعضهم دون بعض، نفذت في مقدار حصة المجيز دون غيره. كما لاتنفذ الوصية لوارث مطلقاً إلا بإجازة الورثة، سواء أكانت أقل من الثلث أم أكثر. وتقدم الوصية على الإرث، سواء أكانت مطلقة كأن تكون بجزء شائع من التركة كالثلث أو الربع، أم معينة وهي ما تكون بشيء من التركة كدار معلومة أو نقود مقدرة. هذا في الوصايا الاختيارية، أما الوصية الواجبة التي أخذ بها القانون المصري (م76) لأولاد المتوفى في حياة والده، والقانون السوري (م 257) لأولاد الابن المتوفى في حياة أبيه دون أولاد البنت، فتقدم بعد قضاء الدين على الوصية الاختيارية.
ترتيب الوصايا عند الحنفية في حقوق الله وحقوق العباد
ترتيب الوصايا عند الحنفية في حقوق الله وحقوق العباد: يرى الحنفية: أن الوصية إن كانت بفرض من فروض الله تعالى، فيقدم عليها الدين؛ لأن الدين أقوى منها، فإن كانت الوصية في الزكاة التي تساوي الدين في الإجبار بالحبس على الأداء، فالدين أقوى؛ لأن القاضي إذا وجد من مال المدين ما يجانس الدين، يأخذه بلا رضاه ويدفعه لصاحبه، وليس له الأخذ في الزكاة، وإن ظفر بجنسها. وإن كانت الوصية بما سوى الزكاة كحَجَّة الإسلام والنذر والكفارة، فدين العباد مقدم عليها أيضاً، وإن استويا في الفريضة؛ لأنه يجبر على أداء الدين بالحبس، ولا يجبر به على أداء شيء من تلك الفروض، فالدين أقوى. وإن اجتمع حق الله تعالى وحق العباد في عين كالتركة، وضاقت عن الوفاء بهما، يقدم حق العباد، لاحتياجهم مع استغناء الله تعالى وكرمه. وإن كان الدين من حق الله تعالى: فإن أوصى به الميت، وجب تنفيذه من ثلث ماله الباقي بعد الدين المستحق للعباد، وإن لم يوص لم يجب. ومن فاتته صلوات وأوصى أن يطعم عنه، فعلى الورثة أن يطعموا عنه من الثلث، لكل صلاة نصف صاع من بر، وكذا للوتر؛ لأنه واجب عند أبي حنيفة. وإن فاته صوم رمضان لسفر أو مرض، وتمكن من قضائه ولم يقض حتى مات، وأوصى بالإطعام، فعلى الورثة أن يطعموا من الثلث، لكل يوم نصف صاع من بر. وإن أوصى بالحج يؤدى من الثلث أيضاً.
- حق الورثة
4ً - حق الورثة: يقسم الباقي بعد أداء الحقوق المتقدمة على الورثة بحسب مراتبهم. والورثة: هم الذين ثبت نسبهم أو صلتهم بالميت، واستحقوا الإرث الثابت نصيبهم بالكتاب أو السنة أو الإجماع. ترتيب الحقوق المتعلقة بالتركة في القانون: نص القانون المصري (م 4) على أنه يؤدى من التركة بحسب الترتيب الآتي: أولاً ـ ما يكفي لتجهيز الميت ومن تلزمه نفقته من الموت إلى الدفن. ثانياً ـ ديون الميت. ثالثاً ـ ما أوصى به في الحد الذي تنفذ فيه الوصية. رابعاً ـ ما بقي بعد ذلك على الورثة. فإذا لم توجد ورثة قضي من التركة بالترتيب الآتي: أولاً ـ استحقاق من أقر له الميت بنسب على غيره. ثانياً ـ ما أوصى به فيما زاد على الحد الذي تنفذ فيه الوصية. فإذا لم يوجد أحد من هؤلاء آلت التركة أو ما بقي منها، إلى الخزانة العامة. ويلاحظ أن القانون - عملاً بمذهب الحنابلة خلافاً للجمهور- قدم تجهيز الميت على كل الحقوق؛ لأن المدين حال حياته لا تؤدى ديونه إلا مما فضل عن حاجاته، فلا يباع منزله ولا ثوبه، فكذلك الأمر بعد وفاته لا تؤدى ديونه إلا مما فضل بعد التجهيز.
الفصل السابع: أنواع الوارثين وعددهم ومراتبهم وطريقة توريثهم في المذاهب
وتظهر ثمرة الخلاف بين الرأيين في العين المرهونة إذا مات عنها صاحبها ولم تكن كافية لقضاء ديونه، فالمالكية والحنفية، والشافعية يقدمون أداء الدين، ويجعلون التجهيز على أقاربه أو من حضر من المسلمين أو على بيت المال، والحنابلة يقدمون التجهيز، كما أن المالكية يقدمون التجهيز على الديون العادية غير الموثقة برهن. ونص القانون السوري (م 262) على ما يلي: يؤدى من التركة بحسب الترتيب الآتي: أـ ما يكفي لتجهيز الميت ومن تلزمه نفقته من الموت إلى الدفن بالقدر المشروع. ب ـ ديون الميت. جـ ـ الوصية الواجبة. هـ ـ المواريث بحسب ترتيبها في هذا القانون. الفَصْلُ السّابع: أنواع الوارثين وعددهم ومراتبهم وطريقة توريثهم في المذاهب: أولاً ـ أنواع الوارثين: الإرث المجمع عليه اثنان: إما أن يكون بالفرض أو بالتعصيب، وأضاف الحنفية والحنابلة: أو بقرابة الرحم (¬1). أما الإرث بالفرض: فهو استحقاق سهم معين مقدر بكتاب الله تعالى، أو سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أو بالإجماع. ¬
وأما الإرث بالتعصيب: فهو استحقاق ما أبقته الفرائض، أو استحقاق جميع التركة عند عدم أصحاب الفرائض. ويقدم الأول على الثاني، لقوله عليه الصلاة والسلام: «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقته الفرائض، فلأولى ـ أي أقرب ـ رجل ذكر». وقد يرث المرء بالفرض فقط، وهم تسعة - ستة: الأم، والجدة، والزوج، والزوجة، والأخ لأم، والأخت لأم. وقد يرث بالتعصيب فقط: وهم الابن وابن الابن، والأخ الشقيق، وللأب، والعم، وابن الأخ، وابن العم، والمولى، والمولاة. وقد يرث مرة بالفرض، ومرة بالتعصيب ولا يجمع بينهما، وهم أربعة أصناف من النساء: البنت، وابنة الابن، والأخت الشقيقة، وللأب، فإن كان مع كل واحدة منهن ذكر من صنفها ورثت معه بالتعصيب، للذكر مثل حظ الأنثيين، وإن لم يكن معها ذكر ورثت بالفرض، والأخوات الشقيقات وللأب عصبة مع البنات. وقد يرث مرة بالفرض، ومرة بالتعصيب ويجمع بينهما، وهما اثنان: الأب والجد، فإن كل واحد منهما يرث سهمه، فإن فضل بعد ذوي السهام شيء أخذه بالتعصيب. وأما الإرث بقرابة الرحم فهو عند الحنفية والحنابلة: استحقاق عند عدم العصبات وذوي الفرائض، واستثنى الحنابلة من أصحاب الفروض الزوجين، فقالوا: يرث ذو الرحم عند عدم العصبات وأصحاب الفروض غيرا لزوجين. والمشهور عند المالكية وأصل المذهب الشافعي: أنه لا يرث ذوو الأرحام ولا
ثانيا ـ عدد الوارثين
يرد على أهل الفرض، بل المال لبيت المال، وأفتى المتأخرون من الشافعية إذا لم ينتظم بيت المال، بالرد على أهل الفرض غير الزوجين، ما فضل عن فروضهم بالنسبة، فإن لم يكونوا صرف إلى ذوي الأرحام، وكذلك قال متأخرو المالكية: يرد على ذوي الفروض، فإن لم يكن فعلى ذوي الأرحام. ثانياً ـ عدد الوارثين: حصر الفقهاء عدد الوارثين من الرجال والنساء (¬1)، فقالوا: الوارثون من الرجال المجمع على توريثهم عشرة، وهم بطريق الاختصار: الابن، ثم ابن الابن وإن سفل، والأب، ثم الجد وإن علا، والأخ ثم ابن الأخ، والعم ثم ابن العم، والزوج، ومولى النعمة أي المُعْتِق. أما بطريق البَسْط فهم خمسة عشر: الابن، وابنه وإن نزل، والأب، والجد وإن علا، والأخ الشقيق، والأخ للأب، والأخ للأم، وابن الأخ الشقيق، وابن الأخ للأب، والعم الشقيق، والعم للأب، وابن العم الشقيق، وابن العم للأب، والزوج، والمعتق. ومن عدا هؤلاء من الذكور: فمن ذوي الأرحام. والوارثات من النساء المجمع على توريثهن سبعة، وهم بطريق الاختصار: البنت، وبنت الابن وإن سفلت، والأم، والجدة وإن علت، والأخت، والزوجة، ومولاة النعمة، أي المعتقة. وأما بطريق البَسْط فعشرة: البنت، وبنت الابن، والجدة لأم، والجدة لأب، والأخت الشقيقة، والأخت لأب، والأخت لأم، والزوجة، والمعتقة. ومن عدا هؤلاء من الإناث، فمن ذوي الأرحام. ¬
ثالثا ـ مراتب الورثة
ثالثاً ـ مراتب الورثة: يبدأ في قسمة الباقي من التركة بين الورثة بعد التجهيز وتسديد الديون وتنفيذ الوصايا على الترتيب التالي (¬1): 1ً - أصحاب الفروض: وهم الذين لهم سهام مقدرة في كتاب الله تعالى، أو سنة رسوله صلّى الله عليه وسلم، أو الإجماع، سواء أكانوا من ذوي القرابة النسبية أم السببية، وهم اثنا عشر: فمن النسب: ثلاثة من الرجال، وسبعة من النساء، ومن التسبب اثنان، وهما الزوجان. أما الرجال الثلاثة: فهم الأب والجد والأخ لأم. وأما النساء السبعة: فهن البنت، وبنت البنت، والأخت الشقيقة، والأخت لأب، والأخت لأم، والأم، والجدة. فذو الفرض: هو ذو النصيب المقدر شرعاً، فلا يزيد إلا بالرد، ولا ينقص إلا بالعول. 2ً - العصبات النسبية: وهم الأقارب الذكور من جهة الأب الذين يأخذون الباقي من التركة بعد أصحاب الفرض، ويأخذون التركة كلها إن لم يكن هناك صاحب فرض أصلاً كالابن والأب والأخ الشقيق أو لأب، والعم الشقيق أو لأب. والعصوبة النسبية أقوى من السببية، بدليل أن أصحاب الفروض النسبية يرد علىهم دون أصحاب الفروض السببية، أي الزوجين. ¬
- العصبة السببية
3ً - العصبة السببية: وهو المعتق (أو مولى العَتَاقَة) ذكر كان أو أنثى، فإن من أعتق عبداً أو أمة، كان الولاء له، ويرثه به إذا لم يكن للمتوفى عصبة نسبية، فيأخذ الباقي بعد أصحاب الفرض، ويأخذ التركة كلها إن لم يكن للمتوفى أحد من ذوي الفروض. ويسمى المذكور ولاء العتاقة والنعمة. 4ً - عصبة مولى العتاقة: يرث عصبة المعتق إذا مات العبد ولم يكن مولاه حياً. هذا مارتبه الحنفية ولكن القانون المصري (م 39) خالف الترتيب، فأخَّر مولى العتاقة وعصبته عن الرد على أصحاب الفروض وعن ذوي الأرحام. 5ً - الرد على أصحاب الفروض النسبية: إذا كان للمتوفى أقارب من أصحاب الفروض، ولم يكن له عصبة نسبية ولا سببيه، وقد بقي من التركة شيء، فيرد الباقي على ذوي الفروض النسبية فقط، يقتسمونه بنسبة أنصبائهم لبقاء قرابتهم بعد أخذ فرائضهم، ولا يرد أصحاب الفروض السببية، أي الزوج والزوجة؛ إذ لا قرابة لهما بعد أخذ فرضهما. والقائلون بالرد هم الحنفية والحنابلة، أما المالكية، والشافعية المتقدمون، فلا يرد عندهم، وإنما يدفع الباقي لبيت المال. وأفتى متأخرو الشافعية بالرد على غير الزوجين إذا لم ينتظم بيت المال، وكذلك متأخرو المالكية أفتوا بالرد. وخالف القانون المصري (م 30) أيضاً هذا الترتيب، فأخر الرد عن إرث ذوي الأرحام. 6ً - ذوو الأرحام: وهم أقارب الميت الذين ليسوا ذوي فروض ولاعصبة، إما من الإناث كالعمة والخالة وبنت الأخ، أو من الذكور الذين تتوسط بينهم وبين الميت أنثى كأب الأم، وأولاد الأخت، وأولاد البنت.
- مولى الموالاة
ويرث هؤلاء إذا لم يكن للميت أحد من أصحاب الفروض الذين يرد عليهم، ولا أحد من العصبة النسبية أو السببية. هذا عند الحنفية والحنابلة. ولكن يلاحظ ما تقدم: أن متأخري المالكية اعتمدوا الرد على ذوي السهام، فإن لم يكن فعلى ذوي الأرحام. وأن متأخري الشافعية أفتوا بالرد إذا لم ينتظم بيت المال، فإن لم يكن أحد من ذوي الفروض أو العصبات، صرف المال إلى ذوي الأرحام. 7ً - مولى الموالاة: وهو أن يتعاقد شخص مجهول النسب مع آخر على أن يعقل (¬1) عنه إذا جنى، ويرثه إذا مات، ويسمى القابل مولى الموالاة، فيأخذ جميع التركة إذا انعدم أصحاب الفروض النسبية والعصبات وذوو الأرحام، أو يأخذ الباقي منها بعد فرض أحد الزوجين إذا كان الحليف متزوجاً، وإذا لم يكن مولى الموالاة حياً وقت موت الحليف، ورثت عصبته هذا الحليف. وإذا كان الآخر أيضاً مجهول النسب، وقال للأول مثل قوله: (أنت مولاي ترثني إذا مت، وتعقل عني إذا جنيت) وقبله، ورث كل منهما صاحبه وعقل عنه. وانفرد الحنفية بالقول بولاء الموالاة. وأخروا مولى الموالاة عن ذوي الأرحام لقرابتهم. ورأي الحنفية: هو مذهب عمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم. وخالفهم الجمهور، فلم يأخذوا به، وهو مذهب زيد بن ثابت رضي الله عنه. وكان الشعبي يقول: لا ولاء إلا ولاء العتاقة، وأخذ القانون في مصر وسورية برأي الجمهور. ¬
- المقر له بنسب محمول على الغير
8ً - المقر له بنسب محمول على الغير (¬1): إذا مات الإنسان ولم يترك وارثاً ممن تقدم من المراتب، كانت التركة للمقر له بنسب على الغير، ثم للموصى له بالزائد عن الثلث، ثم لبيت المال. فالمقر له بنسب محمول على الغير يرث من المقر نفسه إذا مات المقر، وليس له ذو فرض، ولا عاصب، ولا ذو رحم، ولا مولى الموالاة. والمقر له بالنسب على الغير: هو أن يقر شخص لآخر مجهول النسب بأنه أخوه أو عمه أو ابن ابنه، ولم يثبت نسبه بدليل آخر غير الإقرار، فالأول فيه حمل النسب على الأب، والثاني فيه حمل النسب على الجد، والثالث فيه حمل النسب على الابن. فلا يثبت به نسب المقر له من المقر عليه؛ لأنه لا يملك إنسان أن يلحق نسب شخص بآخر بمجرد الدعوى، فلا يرث شيئاً من تركة المقر عليه، وإنما يستحق من تركة المقر نفسه إذا مات، ولم يكن له أحد من أصحاب المراتب السابقة، وذلك بقيود ثلاثة: الأول ـ أن يكون الإقرار بالنسب متضمناً لإقراره بنسبه على غيره: فإن تضمن إقراره بنسبه منه، كأن يقر له بأنه ابنه، ثبت نسبه منه. الثاني ـ أن يكون الإقرار بحيث لا يثبت به نسبه من ذلك الغير: كما إذا لم يصدقه أبوه في هذا النسب، في المثال الأول المتقدم. فإذا صدقه أبوه في الإقرار بالنسب، ثبت بإقرار المقر نسبه من أبيه أيضاً، ¬
وكان المجهول نسبه أخاً للمقر. وكذلك الحال إذا أقر بأنه عمه، وصدقه في إقراره جده، فإنه يكون عماً له. الثالث ـ أن يموت المقر على إقراره: لأنه إذا رجع المقر عن الإقرار لا يعتد به قطعاً، فلا يثبت به الإرث أصلاً. واستحقاق المقر له الإرث على النحو المذكور، ليس بطريق الإرث، وإنما هو في معنى الوصية، فيصح للمقر الرجوع في إقراره، أما النسب فلا يمكن الرجوع فيه بعد ثبوته. ويثبت الإرث بهذا الإقرار عند الحنفية دون غيرهم؛ لأن الإقرار بحمل النسب على الغير باطل، ودعوى لا تسمع. وإنما يثبت نسب المقر له بأحد طريقتين عند الحنفية: الأول ـ أن يقر شخص بنسب آخر على نفسه: بأن يقر ببنوة آخر له، وكان المقر عاقلاً بالغاً وصدقه المقر له، وكان مثله يولد لمثل المقر، فإنه يثبت به نسب المقر له من المقر ثبوتاً لا يقبل الرجوع. الثاني ـ أن يقر رجل بنسب حمله على غيره، وصدقه الغير، أو شهد بالنسب مع المقر رجل آخر، فإنه يثبت به نسب المقر له من المقر عليه ثبوتاً لا يقبل الرجوع. أما القانون المصري (م 41) والسوري (م 298) فقد أثبتا استحقاق المقر له من تركة المقر بالشرائط التالية: 1 - ألا يثبت نسب المقر له من المقر عليه. 2 - ألا يرجع المقر عن إقراره. 3 - ألا يقوم به مانع من موانع الإرث. 4 - أن يكون المقر له حياً وقت موت المقر، أو وقت الحكم باعتباره ميتاً.
- الموصى له بأكثر من الثلث
9ً - الموصى له بأكثر من الثلث: يستحق الموصى له بما زاد عن الثلث الزائد على الثلث إذا انعدم من ذكر قبله، أو وجد واحد منهم وأجاز الوصية، والاستحقاق هنا كالمرتبة السابقة ليس بطريق الإرث، وإنما بطريق الوصية، لكن هذه وصية حقيقية، وتلك في حكم الوصية أي وصية حكمية. فإذا أوصى شخص لآخر بنصف ماله أو كله، ولم يكن له وارث ممن ذكر في المراتب السابقة، استحق جميع الموصى به عند الحنفية خلافاً لغيرهم؛ لأن توقف الوصية فيما زاد على الثلث، إنما هو لمراعاة حق الورثة في الزائد عن الثلث. فلو مات شخص عن زوج وموصى له بنصف المال، أخذ الموصى له أولاً الثلث، ثم أخذ الزوج نصف الباقي، وهو الثلث، ثم يأخذ الموصى له بقية المال وهو الثلث؛ لأن الزوجين لا يرد عليهما عند أبي حنيفة، لكن القانون المصري (م 30) والسوري (288) أخذا بالرد على الزوجين إذا لم يوجد عصبة نسبية أو أحد من ذوي الأرحام. والرد مقدم على المقر له النسب، وعلى الموصى له بالزائد عن الثلث، وعلى بيت المال. 10ً - بيت المال: توضع التركة في بيت مال المسلمين إذا لم يوجد أحد من المراتب السابقة كلها، لا على أنها إرث عند الحنفية والحنابلة، وإنما على أنها من الأموال الضائعة التي لا يعرف لها مالك، أو على أنها فيء، فيصرف المال في المصالح العامة وينفق منه على المحتاجين، فإذا ظهر وارث، وأقام الدليل على إرثه، استرد التركة من بيت المال.
موقف القانون من مراتب الورثة
موقف القانون من مراتب الورثة: عدل القانون المصري والسوري عن الترتيب السابق، وجعل كل منهما بعضهم وارثين، وبعضهم مستحقين، وجاءت درجات الاستحقاق في كلا القانونين في مواضع متعددة خلافاً لما فعله الفقهاء. ويفهم من القانون المصري في المواد (4، 8، 16، 30، 31، 39، 41) والقانون السوري في المواد (262، 265، 274، 278، 289) الترتيب التالي لمراتب الورثة: 1 - أصحاب الفروض. 2 - العصبات النسبية. 3 - الرد على ذوي الفروض غير الزوجين. 4 - ذوو الأرحام. 5 - الرد على أحد الزوجين عند عدم ذوي الأرحام. 6 - العصبة السببية (مولى العتاقة وعصبته) في القانون المصري (م 39) دون السوري. 7 - المقر له بنسب محمول على الغير. 8 - الموصى له بأكثر من الثلث. 9 - الخزانة العامة (بيت المال). والمراتب الثلاث الأخيرة تأخذ التركة بصفة الاستحقاق لا بالإرث. ويلاحظ ما يلي من الفروق بين رأي الحنفية وموقف القانون.
أـ أبقى كلا القانونين المرتبة الأولى والثانية على حالهما. ب ـ حذف كلا القانونين مرتبة مولى الموالاة، فلم تجعل من المستحقين أصلاً، لعدم وجودها الآن. جـ ـ ألغى القانون السوري من بين درجات الاستحقاق: مرتبة مولى العتاقة وعصبته؛ لأن الرق لم يبق له وجود، وهذا مستمد من مذهب الإباضية، وأبقى القانون المصري (م 39) هذه المرتبة. د ـ أوجد كلا القانونين مرتبة جديدة لم تكن من قبل وهي الرد على أحد الزوجين عند عدم وجود ذوي الأرحام. هـ ـ قدم القانون المصري (م 30) الرد على الزوجين وإرث ذوي الأرحام على مولى العتاقة وعصبته (العصبة السببية)، فأصبح الرد في المرتبة الثالثة بدل الخامسة، وذوو الأرحام في المرتبة الرابعة بدل السادسة، وجعل الرد على أحد الزوجين عند عدم ذوي الأرحام في المرتبة الخامسة، فإذا كان مع أحد الزوجين أحد ذوي الأرحام، أخذ الباقي بعد نصيب أحد الزوجين. وـ أخذ القانونان بتوريث ذوي الأرحام، كما هو مذهب الحنفية والحنابلة، ومذهب متأخري المالكية والشافعية. ز ـ جعل القانون المصري العصبة السببية وعصبتهم في المرتبة السادسة من مراتب الاستحقاق بالإرث. ح ـ جعل القانونان المقر له بالنسب والموصى له بالزيادة عن الثلث، وبيت المال، من المستحقين، ولم يطلق عليهم صفة الوارثين، ولا شيء لهؤلاء في القانونين، ولا للعاصب السببي في القانون المصري مع وجود أحد الزوجين.
رابعا ـ طريقة توريث الوارثين في المذاهب
رابعاً ـ طريقة توريث الوارثين في المذاهب: هناك طريقتان للفقهاء في التوريث، مأخوذتان عن الصحابة، وهما الطريقة الحجازية، والطريقة العراقية. أما الطريقة الحجازية: فمأخوذة عن زيد بن ثابت رضي الله عنه الذي شهد له النبي صلّى الله عليه وسلم بأنه أفرض الصحابة، فقال: «أفرضكم زيد» (¬1) وسار على هذه الطريقة الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة، وهي الطريق المتبعة في الكويت والسودان وبلاد المغرب العربي وغربي إفريقية. وأما الطريقة العراقية: فمأخوذة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وسار على نهجها فقهاء الحنفية، وهي المتبعة في مصر وسورية والعراق. وبين الطريقتين اختلافات كثيرة في جزئيات المسائل. الفَصْلُ الثَّامن: أصحاب الفروض: فيه مبحثان: الأول ـ في بيان أصحاب الفرض، والثاني ـ في أحوال أصحاب الفروض. المبحث الأول ـ بيان أصحاب الفروض: الإرث نوعان: فرض وتعصيب. ¬
أولا ـ أصحاب النصف
وأصحاب الفرض: هم الورثة الذين قدرت لهم شرعاً أنصباء معينة في التركة. والوارثون ذوو الفروض اثنا عشر: أربعة من الرجال: وهم الزوج والأب والجد والأخ لأم، وثمانية من النساء: وهن الزوجة، والأم، والجدة، والبنت، وبنت الابن، والأخت الشقيقة، والأخت لأب، والأخت لأم. وأنصباؤهم المقدر ة في كتاب الله تعالى ستة: هي النصف والربع والثمن، والثلثان والثلث والسدس. وأصحاب كل نصيب ما يأتي (¬1): أولاً ـ أصحاب النصف: أصحاب النصف خمسة بالإجماع وهم: 1 - الزوج: عند عدم الفرع الوارث، أي عند عدم الابن والبنت، وابن الابن وبنت الابن. 2 - البنت: إذا انفردت عمن يساويها وخلَت عن معصب كالابن. 3 - بنت الابن: إذا انفردت وخلَت عن معصب، ولم يكن هناك بنت ولا ابن؛ لأنه يحجبها عن النصف. 4 - الأخت الشقيقة: إذا انفردت وخلت عن معصب وحاجب، ولم يكن هناك بنت ولا بنت ابن. 5 - الأخت لأب: إذا انفردت وخلت عن معصب وحاجب، ولم يكن هناك بنت ولا بنت ابن، ولا أخت شقيقة. ¬
ثانيا ـ أصحاب الربع
ودليل فرض النصف في ثلاثة مواضع من القرآن، فقال تعالى في البنت: {وإن كانت واحدة، فلها النصف} ـأيالبنتـ[النساء:11/ 4] وقال سبحانه في الزوج: {ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد} [النساء:12/ 4]. وقال تعالى في الأخت: {يستفتونك، قل: الله يفتيكم في الكلالة، إن امرؤ هلك، ليس له ولد، وله أخت فلها نصف ما ترك} [النساء:176/ 4]. أما بنت الابن فدليلها الإجماع. ثانياً ـ أصحاب الربع: الربع فرض اثنين وهما: 1 - الزوج: مع الفرع الوارث. 2 - الزوجة فأكثر: مع عدم الفرع الوارث. ودليل الربع فيهما قوله تعالى: {فإن كان لهن ولد، فلكم الربع مما تركن} [النساء:12/ 4] {ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد} [النساء:12/ 4]. ثالثاً ـ صاحب الثمن: الثمن: فرض واحد وهو الزوجة فأكثر عند وجود الفرع الوارث، لقوله تعالى: {فإن كان لكم ولد، فلهن الثمن مما تركتم} [النساء:12/ 4]. رابعاً ـ أصحاب الثلثين: الثلثان فرض أربعة وهم: 1 - البنتان فأكثر عند عدم المعصب لهن، لقوله تعالى: {فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك} [النساء:11/ 4].
خامسا - أصحاب الثلث وثلث الباقي
2 - بنتا الابن فأكثر عند عدم الولد للمتوفى وعدم المعصب لهن وعدم البنتين للإجماع. 3 - الأختان الشقيقتان فأكثر عند عدم البنتين وبنتي الابن وعدم المعصب لهن وعدم الحاجب 4 - الأختان لأب فأكثر عند عدم البنتين وبنتي الابن والأختين الشقيقتين وعدم المعصب لهن وعدم الحاجب. ودليل إرث الأخوات مطلقاً قوله تعالى: {فإن كانتا اثنتين، فلهما الثلثان مما ترك} [النساء:176/ 4]. خامساً - أصحاب الثلث وثلث الباقي: الثلث فرض اثنين: 1 - الأم عند عدم الفرع الوارث (الولد) والعدد من الإخوة. 2 - العدد من الإخوة والأخوات لأم عند عدم الفرع الوارث والأصل الذكر. ودليل الثلث قوله تعالى: {فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه، فلأمه الثلث} [النساء:11/ 4]، {فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث} [النساء:21/ 4]. وثلث الباقي للأم مع الأب وأحد الزوجين، وهي مسألة الغرَّاوين الآتية (¬1). سادساً - أصحاب السدس: السدس فرض سبعة وهم: ¬
1 - الأب مع وجود الفرع الوارث (الولد) لقوله تعالى: {ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد} [النساء:11/ 4]. 2 - الجد مع الولد وعدم الأب، للإجماع. 3 - الأم مع وجود الفرع الوارث أو العدد من الإخوة والأخوات، لقوله تعالى: {ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك، إن كان له ولد} [النساء:11/ 4] وقوله سبحانه: {فإن كان له إخوة، فلأمه السدس} [النساء:11/ 4]. 4 - الجدة الصحيحة، أي لأم أو لأب فأكثر عند عدم الأم. وتشترك الجدات في السدس إذا اجتمعن، والقُرْبى تحجب البُعْدى. والدليل: مارواه أبو سعيد الخدري والمغيرة بن شعبة وقبيصة بن ذؤيب رضي الله تعالى عنهم من أنه عليه الصلاة والسلام «أعطاها السدس». وأما التشريك بين الجدات، فلما روي أن أم الأم جاءت إلى الصدِّيق رضي الله عنه وقالت: «أعطني ميراث ولد ابنتي» فقال: «اصبري حتى أشاور أصحابي، فإني لم أجد لك في كتاب الله تعالى نصيباً، ولم أسمع فيك من رسول الله صلّى الله عليه وسلم شيئاً» ثم سألهم، فشهد المغيرة بإعطاء السدس، فقال للمغيرة: هل معك أحد؟ فشهد به أيضاً محمد بن مَسْلَمة الأنصاري، فأعطاها ذلك. ثم جاءت أم الأب إليه، وطلبت الميراث، فقال: أرى أن ذلك السدس بينكما، وهو لمن انفردت منكما، فشرَّكهما فيه (¬1). 5 - بنت الابن فأكثر مع البنت الواحدة وعدم المعصب، تكملة للثلثين لما ¬
المبحث الثاني - أحوال أصحاب الفروض
رواه الجماعة إلا مسلماً والنسائي عن هُزَيل بن شَرَحبيل، قال: سئل أبو موسى عن ابنة وابنة ابن وأخت، فقال: للابنة النصف، وللأخت النصف، وأتت ابنَ مسعود، فسئل ابن مسعود، وأخبر بقول أبي موسى الأشعري فقال: لقد ضللت إذن، وما أنا من المهتدين، أقضي فيها بما قضى النبي صلّى الله عليه وسلم: للبنت النصف، ولابنة الابن السدس، تكملة للثلثين، ومابقي فللأخت. وزاد أحمد والبخاري: فأتينا أبا موسى، فأخبرناه بقول ابن مسعود فقال: «لاتسألوني مادام هذا الحَبْر - العالم العلامة - فيكم» (¬1). 6 - الأخت لأب فأكثر مع الأخت الشقيقة وعدم المعصب وعدم الأصل الذكر والفرع، للإجماع على أنه لها تكملة للثلثين - نصيب الأختين. 7 - الأخت لأم أو الأخ لأم عند عدم الفرع الوارث والأصل الذكر، لقوله تعالى: {وإن كان رجل يورث كلالةً أو امرأة، وله أخ أو أخت، فلكل واحد منهما السدس} [النساء:12/ 4]. المبحث الثاني - أحوال أصحاب الفروض: عرف أن مجموع الوارثين اثنا عشر: أربعة من الرجال: وهم الأب، والجد أبو الأب، والأخ لأم، الزوج. وثمانية من النساء: وهن الزوجة، والبنت، وبنت الابن، والأخت الشقيقة، والأخت لأب، والأخت لأم، والأم، والجدة أم الأم أو أم الأب (الجدة الصحيحة). ¬
1 - قسم يرث بالفرض فقط
وعرف أيضاً أن الورثة أربعة أقسام: 1 - قسم يرث بالفرض فقط: وهم سبعة: الزوج، والزوجة، والأم، والجدة لأم، الجدة لأب، والأخ لأم، والأخت لأم. ويمكن اختصار القول فيهم فيقال: الأم وولداها، والجدتان، والزوجان. 2 - وقسم يرث بالتعصيب فقط: وهم اثنا عشر: العصبة بالنفس عدا الأب والجد، والمعتق، والمعتقة. 3 - وقسم يرث مرة بالفرض، ومرة بالتعصيب، وقد يجمع بينهما: وهو اثنان: الأب والجد أبو الأب (الجد الصحيح) فكل منهما يرث السدس بالفرض مع الابن أو ابن الابن، ويرث بالتعصيب إذا خلا عن الفرع الوارث، ويجمع بين الفرض والتعصيب إذا كان معه أنثى من الفروع، وفضل أكثر من السدس، فيأخذه تعصيباً. 4 - وقسم يرث مرة بالفرض، ومرة بالتعصيب ولا يجمع بينهما: وهم أربعة: البنت، وبنت الابن، والأخت الشقيقة، والأخت لأب. فإن انفردت كل واحدة عمن يعصبها ورثت بالفرض، وإن كان معها من يعصبها فترث بالتعصيب. وهؤلاء الورثة: منهم من يرث بسبب القرابة النسبية، ويسمون أصحاب الفروض النسبية، وهم جميع الورثة عدا الزوجين. ومنهم من يرث بسبب الزوجية، فيسمون بأصحاب الفروض السببية، وهما الزوجان. وبناء عليه تعرف أحوال أصحاب الفروض تفصيلا ً:
أولا ـ أحوال الرجال
أولاً ـ أحوال الرجال: 1 ً - أحوال الأب: لا يحرم الأب من الميراث أصلاً، ويحجب غيره، ويختلف ميراثه بحسب نوع الفرع الوارث ذكراً أو أنثى، فيرث مرة بالفرض فقط، ومرة بالتعصيب فقط، وتارة بالفرض والتعصيب معاً، فله أحوال ثلاث (¬1): الأولى ـ السدس فرضا ً، يأخذ الأب السدس بالفرض المطلق، عند وجود الفرع الوارث المذكر، وهو الابن وابن الابن مهما نزل. الثانية - الكل أو الباقي تعصيباً فقط: يأخذ كل التركة أو ما تبقى منها بعد أصحاب الفرض، عند عدم الفرع الوارث مطلقاً ـ ذكراً أو أنثى، فمن ترك أباً فقط أخذ كل التركة ويكون الأب عصبة بنفسه، ومن ترك أباً وزوجة، فللزوجة الربع فرضاً والباقي للأب تعصيباً. الثالثة ـ السدس فرضاً والباقي تعصيباً عند وجود الفرع الوارث المؤنث: وهو البنت وبنت الابن مهما نزل أبوها، كمن ترك أباً وبنتاً، فيأخذ الأب السدس فرضه، والبنت النصف، والباقي للأب أيضاً. والدليل قوله تعالى: {ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد، فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث، فإن كان له إخوة فلأمه السدس} [النساء:11/ 4]. دلت الآية على أن نصيب الأب السدس فقط إذا كان للمتوفى ولد، ذكراً أو ¬
أمثلة
أنثى. إن كان الولد ذكراً، فهو عاصب بنفسه يستحق الباقي، ويقدم على الأب؛ لأن البنوة مقدمة على الأبوة. وإن كان الولد أنثى أخذ الأب السدس فرضاً، والباقي تعصيباً؛ لأنه أولى رجل ذكر، فيستحق الباقي للحديث المتقدم: «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر». أما إن لم يوجد ولد للمتوفى، فيأخذ الأب كل الباقي؛ لأن شطر الآية الثاني نص على فرض الثلث للأم، وسكت عن نصيب الأب، فدل النص على أن الأب يأخذ الباقي بعد أخذ الأم نصيبها؛ لأن الأصل أن المال الموزع بين اثنين، إذا بيِّن نصب أحدهما منه، كان الباقي للآخر. ونص القانون المصري (م 9، 21) والسوري (م 266، 280) على أحوال ميراث الأب. أمثلة: 1 - إذا مات رجل عن زوجة وأب وابن: فللزوجة ثمن التركة، لوجود الفرع الوارث (¬1) وهو الابن، وللأب سدس التركة فرضاً لا غير، وهي الحالة الأولى، والباقي للابن. 2 - وإذا مات عن زوجة وأب: فللزوجة الربع، لعدم وجود فرع وارث للمتوفى، والباقي كله تعصيباً، وهي الحالة الثانية. 3 - وإذا ماتت امرأة عن زوج وأب وبنت: فللزوج الربع لوجود البنت، وللبنت النصف، وللأب السدس فرضاً والباقي تعصيباً؛ لأنه أولى ـ أقرب ـ رجل ذكر. ¬
- أحوال الجد
4 - وإذا مات رجل عن زوجة وأب وبنت: فللزوجة الثمن، لوجود الفرع الوارث وهو البنت، وللبنت النصف، وللأب السدس أولاً فرضاً، والباقي له ثانياً بطريق التعصيب، وهي الحالة الثالثة. 2ً - أحوال الجد: المراد به هنا الجد العصبي أو الأب، ويسمى الجد الصحيح أو الجد الثابت: وهو الذي لا تدخل في نسبته إلى الميت أنثى. ويقابله الجد الرحمي، ويسمى الجد الفاسد أو الجد غير الثابت كأبي الأم: وهو الذي يدلي إلى الميت بأنثى، فهو ليس صاحب فرض ولا عصبة، بل هو من ذوي الأرحام (انظر المادة 265 من القانون السوري). والجد كالأب في الأحوال الثلاث المتقدمة (¬1)، ولكن لا يرث شيئاً مع وجود الأب، للقاعدة العامة: «من أدلى إلى الميت بواسطة لا يرث مع وجود تلك الواسطة» فيسقط الجد بالأب. أـ يرث الجد بطريق الفرض وحده إذا كان المتوفى قد ترك ابناً أو ابن ابن فللجد السدس. فإذا مات رجل وترك زوجة وابناً وجداً، كان للزوجة الثمن فرضاَ لوجود الفرع الوارث، وللجد السدس فرضاَ، والباقي للابن تعصيباً. وإن مات رجل وترك ابن ابن، وجداً، فللجد السدس فرضاً، والباقي لابن الابن بالتعصيب. ب ـ ويرث بطريق التعصيب وحده إذا لم يكن للمتوفى فرع وارث: فيأخذ الجد كل المال أو الباقي منه بعد أصحاب الفروض. ¬
جـ ـ ويرث بالفرض والتعصيب معا
فإذا مات شخص عن زوجة وجد، كان للزوجة الربع، لعدم وجود الفرع الوارث، وللجد الباقي تعصيباً. وإذا لم يترك الميت سوى الجد فله جميع التركة. جـ ـ ويرث بالفرض والتعصيب معا ً: إذا كان للمتوفى بنت أوبنت ابن، فيأخذ الجد السدس فرضاً، والباقي تعصيباً. فلو مات شخص عن زوجة وبنت ابن وجد: فللزوجة الثمن لوجود الفرع الوارث، ولبنت الابن النصف، وللجد السدس فرضاً، والباقي تعصيباً. ودليل ميراث الجد: قوله تعالى: {ولأبويه لكل واحد منهما السدس} [النساء:11/ 4] فإن الجد يسمى أباً مجازاً لغة وعرفاً عند عدم الأب. ـ وما رواه عمران بن حصين: «أن رجلاً أتى النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: إن ابني مات، فما لي من ميراثه؟ قال: لك السدس» (¬1). ـ وأجمع الصحابة على أن الجد يرث عند عدم وجود الأب. ونص القانون المصري (م 9، 21) والسوري (م266، 280) على أحوال ميراث الجد كالأب. ما يخالف فيه الجد الأب: الجد كالأب إلا في أربع مسائل هي: 1 - الجدة الصحيحة أو أم الأب تحجب بالأب، ولا تحجب بالجد، فلا ترث مع الأب، وترث مع الجد. 2 - مسألة الغرَّآوين: إذا ترك الميت أبويه وأحد الزوجين فللأم ثلث الباقي بعد نصيب أحد الزوجين. أما لو كان مكان الأب جد، فللأم عند الجمهور خلافاً ¬
ميراث الجد مع الإخوة
لأبي يوسف ثلث جميع التركة، فلا تكون غراوية مع الجد، ولها عند أبي يوسف ثلث الباقي بعد نصيب أحد الزوجين. 3 - يحجب الأب الإخوة والأخوات الأشقاء أو لأب (¬1) إجماعاً، ولا يحجبهم الجد عند الجمهور (الأئمة الثلاثة والصاحبين) وعند أبي حنيفة: يحجبهم. 4 - أب المعتق مع ابنه يأخذ سدس الولاء عند أبي يوسف، وليس للجد ذلك، بل الولاء كله للابن، ولا فرق بينهما عند سائر الأئمة، إذ لا يأخذان شيئاً من الولاء. ميراث الجد مع الإخوة: عرفت أحوال الجد إذا انفرد عن الإخوة، فإن اجتمع الجد مع الإخوة والأخوات الشقيقات أو لأب، فما الحكم؟ هل يرث الجد معهم أو يسقطهم؟ فيه خلاف. أما إن اجتمع الجد مع الإخوة والأخوات لأم، فلا خلاف في أنهم يسقطون بالجد العصبي، كما يسقطون بالأب، وعبارتهم: يسقط بنو الأخياف (أولاد الأم) بالجد بالإجماع. هذا ولم يرد في الجد مع الإخوة شيء، من الأدلة النقلية في الكتاب والسنة، وإنما ثبت حكمهم باجتهاد الصحابة، وللصحابة رضي الله عنهم في هذه المسألة مذهبان (¬2): ¬
المذهب الأول ـ لأبي بكر الصديق
المذهب الأول ـ لأبي بكر الصديق، ومن تابعه من الصحابة كابن عباس وابن عمر وابن الزبير وأبي بن كعب وحذيفة بن اليمان وأبي سعيد الخدري ومعاذ ابن جبل وأبي موسى الأشعري وعائشة، ومن التابعين كالحسن وابن سيرين رضي الله عنهم أجمعين: عدم توريث بني الأعيان وبني العَلاَّت (¬1) مع الجد، كما لا يرثون مع الأب، بل الجد يستقل بالمال كالأب، أي أن الجد في الميراث كالأب يحجب الإخوة مطلقاً (أشقاء أو لأب أو لأم). وهو رأي أبي حنيفة، فلا مقاسمة بين الجد والإخوة والأخوات على رأيه. ودليلهم: من القرآن والسنة. أما من القرآن: فآيات كثيرة أطلق فيها على الجد لفظ الأب، مثل قوله تعالى: {واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحق ويعقوب} [يوسف:38/ 12] فيجب أن يأخذ الجد حكم الأب من حجْبه للإخوة مطلقاً. لذا قال عمر: كيف يكون ابني ولا أكون أباه؟! وقال ابن عباس: ألا يتقي الله زيد بن ثابت، يجعل ابن الابن ابناً، ولا يجعل أب الأب أباً. وأما من السنة: فالحديث المتقدم: «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر» والجد أولى من الإخوة. والقاعدة في العصبات تقديم جهة الأبوة على جهة الأخوة. المذهب الثاني ـ مذهب علي وابن مسعود وزيد بن ثابت وفريق من الصحابة ¬
طريق التوريث
رضي الله عنهم: توريث الإخوة مع الجد، فلا يحجب الجد الإخوة الأشقاء أو لأب، بل يقاسمهم في الميراث، وهو مبدأ مقاسمة الجد. وهو رأي الجمهور (المذاهب الثلاثة والصاحبين) وبه أخذ القانون في مصر وسورية. ودليلهم ما يأتي: أولاً ـ إن ميراث الإخوة (من بني الأعيان وبني العَلاَّت) ثبت بالقرآن، فلا يحجبون إلا بنص أو إجماع، وليس هناك واحد منهما. ثانياً ـ إن الجد والإخوة متساوون في سبب الاستحقاق؛ إذ كل منهم يدلي إلى الميت بدرجة واحدة هي الأب. طريق التوريث: اختلف القائلون بتوريث الجد مع الإخوة في طريقة التوريث على مذاهب ثلاثة: المذهب الأول ـ لسيدنا علي رضي الله عنه: للجد مع الإخوة ثلاث حالات: 1 - فرض السدس له: يقاسم الجد الإخوة ما لم ينتقص حقه من السدس، فإذا انتقص، يعطى السدس. فلو كان معه أخوان شقيقان أو ثلاثة، أو أربعة، فالمقاسمة خير له، فإذا كانوا خمسة فالمقاسمة والسدس سواء. وفي جد وأم وزوج وبنت وأخوين: للأم السدس، وللزوج الربع، وللبنت النصف، فيبقى أقل من السدس، فيفرض للجد السدس، وتعول المسألة إلى (13)، ولا شيء للأخوين. 2 - يرث بالتعصيب: فيأخذ الباقي بعد أصحاب الفروض. فلو كان معه
المذهب الثاني ـ لابن مسعود رضي الله عنه
إناث من الأخوات أو أخت واحدة، فللأخوات الثلثان في حالة التعدد، والنصف في حالة الانفراد، والباقي للجد تعصيباً. فإذا كان مع الجد أخت شقيقة وأخت لأب، فللأولى النصف، وللثانية السدس، وللجد الباقي. 3 - المقاسمة: يقاسم الجد الإخوة على أنه واحد منهم، وله ضعف الأنثى. فإذا كان مع الجد أخ شقيق وأخ لأب، كان المال نصفين بينه وبين الشقيق، والإخوة لأب أو الأخت لأب لايحسبون في القسمة مع الأشقاء. وفي جد وشقيقتين وأخ شقيق، يقاسمهم الجد، وتكون التركة بينهم أثلاثاً. 4 - لا يعصب الجد الأخوات، فتكون الأخت صاحبة فرض، فلو كان مع الجد أخت شقيقة وأخت لأب، فللأولى النصف وللثانية السدس، وللجد الباقي. والمذهب الثاني ـ لابن مسعود رضي الله عنه: 1 ً - إن الجد يقاسم الإخوة، ما لم ينتقص حقه من الثلث، وفاقاً لمذهب زيد. 2ً - لا يعتبر بنو العَلاَّت (الإخوة لأب) في مقاسمة الجد، مع بني الأعيان (الإخوة الأشقاء) كما قال علي رضي الله عنه في البند الثالث السابق، فلا تحسب الأخت لأب مع الأخت الشقيقة على الجد، وعبارة الفقهاء: إن بني العلات لا يعدون عليه في القسمة مع بني الأعيان، بخلاف طريقة زيد الآتية: يعد بنو العلات على الجد مع بني الأعيان. 3ً - إن الأخوات المنفردات صاحبات فروض مع جد، وافق به علياً، في البند الثاني. ويلاحظ أن هذه الطريقة جمع بين طريقتي علي وزيد رضي الله عنهم.
المذهب الثالث ـ لزيد بن ثابت رضي الله عنه
والمذهب الثالث ـ لزيد بن ثابت رضي الله عنه: 1 ً - إن للجد مع الإخوة أفضل الأمرين من المقاسمة ومن ثلث جميع المال، إذا لم يكن معهم صاحب فرض. فيجعل الجد في القسمة كأحد الإخوة، ويقسم المال بينهم وبين الأخوات، للذكر مثل حظ الأنثيين، ويجعل نصيبه مع الإخوة كواحد منهم ما دامت المقاسمة خيراً له، فإن نقصت عن ثلث المال، أعطيناه الثلث. وإذا كان معه أخ واحد، أخذ نصف المال. والحاصل: إذا لم يكن معهم ذو فرض فللجد الأحظ من المقاسمة أو ثلث جميع المال. 2ً - إن بني العَلاَّت (الإخوة والأخوات لأب) يشتركون في القسمة مع بني الأعيان (الأشقاء)، إضراراً للجد، أي يعدون عليه مع الأشقاء، فإذا أخذ الجد نصيبه، فبنو العَلاَّت لا شيء لهم، والباقي بعد نصيب الجد لبني الأعيان، يتقاسمونه بينهم، للذكر مثل حظ الأنثيين. وهذه هي المعادَّة؛ لأنه عَادَّ الجد بالأخ لأب، ثم أخذ منه ما حصل له. ففي جد وأخ شقيق وأخ لأب، يحسب الأخ لأب في العدّ على الجد، لينتقص الجد عن المقاسمة إلى ثلث المال، وبعد أن يأخذ الجد الثلث، يعود الشقيق على الأخ لأب، فيأخذ ما بيده، لحجبه إياه. 3ً - إذا وجدت أخت شقيقة واحدة فتأخذ فرضها، ويأخذ الجد نصيبه، فإن بقي شيء فلبني العلات (الأخوات لأب) وإلا فلا شيء لهم. كجد وأخت شقيقة وأختين لأب، تكون المقاسمة خيراً للجد، فتجعل المسألة من عدد رؤوسهم أي من خمسة: للجد منها سهمان، وللشقيقة نصف الكل سهمان، والسهم الباقي هو للأختين لأب، وتصح المسألة من عشرين. ولو كان في المثال المذكور بدل الأختين لأب أخت واحدة، لم يبق لها شيء؛ لأن الجد يأخذ بالمقاسمة نصف المال، وهو خير له من الثلث، فبقي النصف الآخر للشقيقة، ولا يبقى للأخت لأب شيء.
الأكدرية
4ً - إذا وجد معهم ذو فرض: فإما أن يكون للجد السدس فرضاً، وإما أن يكون له الأحظ من أمور ثلاثة: هي المقاسمة، أو ثلث الباقي، أو سدس جميع المال، وذلك إن بقي بعد الفروض أكثر من السدس. فإن بقي قدر السدس: كبنتين، وأم، وجد، وإخوة، أو دون السدس كزوج وبنتين وجد وإخوة، أو لم يبق شيء كبنتين وزوج وأم وجد وإخوة، فللجد السدس، وتعول المسألة إن احتيج إلى ذلك. وتسقط الإخوة إلا الأخت الأكدرية؛ لأنها كدرت مذهب زيد (¬1). أما وجوب السدس للجد: فلأن الأولاد لا ينقصون الجد عن السدس إذا كانوا معه، فأولى ألا ينقصه إخوة عنه. وأما المقاسمة: فلأنها الأصل في جعل الإخوة في درجة الجد. وأما ثلث الباقي: فلأن صاحب الفرض استحق فرضه، فيصبح الباقي كأنه جميع المال. والمبدأ لا ينقص حظ الجد عن الثلث، فلا ينقص عن ثلث الباقي هنا، قياساً على الأم في مسألة الغراوين. الأكدرية: أن تتوفى امرأة عن زوج، وأم، وجد، وأخت شقيقة أو لأب. فبناء على مذهب زيد: وهو أن الجد يعصب الإناث من الأخوات، فلا يعتبرن من ذوات الفرض عنده خلافاً لمذهبي علي وابن مسعود، لا يكون للأخت شيء بمقتضى كونها عصبة، والعاصب لا شيء له إذا استغرقت الفروض التركة. ولكن لما لم يكن هناك مسوغ لسقوط الأخت إذ لا حاجب يحجبها، ولم يمكن تعصيبها بالجد هنا؛ لأنه أصبح ذا فرض، فلو عصبها لنقص عن السدس، ¬
فاستثنى زيد هذه المسألة من أصله في ميراث الجد مع الإخوة، فورّث الأخت مع الجد بالفرض، ففرض لها النصف، والمسألة من ستة. فيكون للزوج النصف وهو (3)، وللأم الثلث وهو (2)، وللجد السدس وهو (1)، وللأخت النصف وهو (3)، وتعول إلى (9). ولكن يؤدي التقسيم إلى زيادة حصة الأخت على الجد، ولما كان للجد ضعف الأخت إذا اجتمعا، فيجب أن يجمع نصيب الأخت ونصيب الجد، ثم يقتسماه، للذكر ضعف الأنثى، فتصبح المسألة من (27)، للزوج منها (9)،وللأم منها (6)، وللجد (8) وللأخت (4). ويتم ذلك بضرب عدد رؤوس الجد مع الأخت وهو (3) في أصل المسألة وهو (9)، فتصبح من (27)، للزوج (3×3=9) ثلث المال، وللأم (2×3=6) هي ثلث الباقي، وللجد والأخت: (4×3=12)، للأخت (4) ثلث باقي الباقي، وللجد (8) هي الباقي. والخلاصة: مذهب زيد لا يجعل الأخت الشقيقة أو لأب صاحبة فرض مع الجد، بل يجعلها معه عصبة، إلا في هذه المسألة، فإنه يجعلها معه صاحبة فرض، ويقتسمان مجموع النصيبين للذكر مثل حظ الأنثيين. ولو كانَ مكان الأخت: أخ أو أختان، فلا عول، ولا أكدرية؛ لأن سدس جميع المال خير للجد، فيكون السدس الثاني له، ولا شيء للأخ، ولا أكدرية؛ لأن الأخ عصبة. وأما إن كان بدلَ الأخت أختان، فيختلف نصيب الأم، فتأخذ السدس، ويبقى بعد نصيب الزوج سهمان، أي الثلث، فالمقاسمة والسدس سواء، فلا عول ولا أكدرية.
تقسيم على مذهب زيد
تقسيم على مذهب زيد: هذا التقسيم يبين أحوال الجد مع الإخوة باعتبار أهل الفرض معهم وجوداً وعدماً: أولاً ـ إما ألا يكون معهم صاحب فرض: فللجد خير الأمرين: من ثلث جميع المال، كجد وأخوين وأخت، أو المقاسمة، وتكون خيراً له إذا كان عدد الإخوة والأخوات أقل من مثليه وهي محصورة في خمس مسائل. كجد وأخ، وجد وأخت، وجد وأختين، وجد وثلاث أخوات، وجد وأخ وأخت. ثانياً ـ وإما أن يكون معهم صاحب فرض: من الزوجين والأم والجدتين والبنت وبنت الابن، أي ما عدا الأخوات. 1ً - فإما أن يفضل عن الفرض أكثر من السدس، فللجد أفضل أمور ثلاثة: وهي المقاسمة، وثلث الباقي، وسدس جميع المال. وتكون المقاسمة خيراً له في جد وجدة وأخ، المسألة من (12)، لكل من الجد والأخ خمسة وللجدة اثنان. وكزوج وجد وأخ، المسألة من (4). وثلث الباقي يكون خيراً له في مثل: أم وجد وعشرة إخوة، المسألة من (6) وتصح من (18)، للأ م (3)، وللجدة (5)، والباقي للإخوة. وكجد وجدة وأخوين وأخت، المسألة من (6)، وتصح من (18)، ويتم
موقف القانون من مقاسمة الجد لإخوة
التقسيم إذا لم يكن للباقي ثلث صحيح، فيضرب مخرج الثلث في أصل المسألة أي (3×6=18)، للجد (5)، وللجدة (3)، وللأخوين (8)، وللأخت (2). وسدس جميع المال يكون خيراً له في مثل: زوجة، وبنتين، وجد، وأخ: للزوجة (3) من (24)، وللبنتين الثلثان (16)، ويبقى (5)، وسدس الجميع 4 خير له من المقاسمة. 2ً - أو يفضل السدس: فيدفع للجد فرضاً، ويسقط الأخ: كزوج وأم وجد وأخ، المسألة من (6)، للزوج النصف ثلاثة، وللأم الثلث اثنان، وللجد السدس واحد، ولا شيء للأخ. 3ً - أو يفضل أقل من السدس: فيعال الجد بتمام السدس، ويسقط الأخ: كزوج وبنتين وجد وأخ، المسألة من (12)، وتعول إلى (13)، للبنتين (8)، وللزوج (3)، ويبقى واحد، فيعال بواحد لتمام السدس، ويسقط الأخ. وكزوج وجد وبنت وأم وأخت لأبوين، تعول إلى (13)، ولا شيء للأخت، لأنها عصبة مع البنت أو مع الجد، ولم يبق لها شيء بعد أخذ الجد السدس فرضاً. 4ً - أن تستغرق الفروض السدس، ويسقط الأخ، ويزاد في العول: كزوج وبنتين وأم وجد وأخ، المسألة تعول إلى (13)، ويزاد في العول سدس الجد، فتصير (15). موقف القانون من مقاسمة الجد لإخوة: نص القانون المصري (م 22) والسوري (م 1/ 279 - 4) على مقاسمة الجد للإخوة.
الأولى ـ أن يكون الموجود مع الجد من الإخوة والأخوات وارثا بالتعصيب،
أما القانون المصري فقد جعل للجد مع الإخوة حالتين: الأولى ـ أن يكون الموجود مع الجد من الإخوة والأخوات وارثاً بالتعصيب، ذكوراً فقط، أو ذكوراً وإناثاً، أو إناثاً عصبة مع الغير كأخ شقيق؛ أو أخ شقيق مع أخت شقيقة، أو أخ لأب مع أخت لأب؛ أو أخت شقيقة أو لأب مع البنت أو بنت الابن. فيجعل الجد كالأخ، ويرث معهم بالتعصيب، ويقاسمهم ما لم ينقص عن السدس، فإن نقص عنه يعطى عندئذ السدس فرضاً، فلو كان مع الجد أقل من خمسة كانت المقاسمة خيراً، وإن كان معه خمسة كانت المقاسمة والسدس سواء، وإن كان معه ستة فأكثر، كان السدس خيراً له من المقاسمة، فيعطى السدس فرضاً. ولايحسب على الجد الإخوة لأب مع الإخوة الأشقاء؛ لأنهم محجوبون بالأشقاء، ففي جد وأخ وشقيق وإخوة لأب، لكل من الجد والشقيق النصف، ويسقط الإخوة. وهذا أخذ بمذهب علي وابن مسعود. الثانية ـ أن يكون الموجود من الأخوات مع الجد وارثاً بالفرض: كأخت شقيقة أو لأب أو أكثر، ولا معصب مع الجد. فيرث الجد بالتعصيب، ويأخذ ما بقي بعد الفروض، ما لم ينقص عن السدس، فإن نقص عنه، فإنه يعطى السدس. ففي جد وأخت شقيقة أو لأب، يكون للأخت النصف فرضاً، والباقي للجد تعصيباً. وفي جد وأختين شقيقتين أو لأب، للأختين الثلثان فرضاً، والباقي للجد
أمثلة
تعصيباً. وفي أخت شقيقة، وأخت لأب، وجد، للشقيقة النصف فرضاً، وللأخت لأب السدس فرضاً تكملة للثلثين، وللجد الباقي تعصيباً. وهذا مذهب علي وابن مسعود: وهوأن الجد لا يعصب الأخوات المنفردات. وأما القانون السوري: فيتفق مع المصري بإعطاء الجد السدس على كل حال، سواء أكان معه ذو فرض أم لا. ففي الفقرة (1) من المادة (279) نص على الحالة الأولى المتقدمة، وهو رأي أكثر الفقهاء ما عدا أبا حنيفة. ويتفق مع مذهب ابن مسعود وزيد في أن الجد يقاسم الأخوات إذا كن عصبة مع البنات. وفي الفقرة (2) من المادة المذكورة: نص على الحالة الثانية السابقة، وهو أخذ بمذهب علي وابن مسعود في أن الجد لا يعصب الأخوات المنفردات، بل يأخذن نصيبهن بالفرض، ويكون هو عصبة. وفي الفقرة (3) من المادة نفسها: نص على أنه لا ينقص نصيب الجد عن السدس سواء أخذ بالمقاسمة أو بالتعصيب. وهذا مأخوذ من مذهب علي الذي يجعل فرض الجد السدس. وفي الفقرة (4) من المادة: نص على عدم اعتبار الإخوة والأخوات لأب مع الأشقاء. وهذا مأخوذ من مذهب علي وابن مسعود في أن الإخوة لأب لا يعتبرون في المقاسمة إذا كانوا محجوبين بالإخوة الأشقاء. أمثلة: 1 - مات عن جد وأخ شقيق وأخت شقيقة: المسألة من خمسة، للجد سهمان، وللأخ سهمان، وللأخت سهم واحد.
- أحوال الزوج
2 - مات عن زوجة وأختين شقيقتين: للزوجة الربع، وللأختين الثلثان، وللجد السدس، وتعول المسألة إلى (13). 3 - مات عن أب وجد وابن: للأب السدس، وللابن الباقي، ولا شيء للجد. 3ً - أحوال الزوج: للزوج حالتان (¬1): الأولى ـ النصف عند عدم الولد وولد الابن وإن سفل، فمن تركت زوجاً وأخاً شقيقاً، فللزوج النصف، والباقي للأخ. الثانية ـ الربع مع الولد أو ولد الابن وإن سفل، سواء أكان من هذا الزوج أم من غيره، فلو تركت امرأة زوجاً وولداً أو ولد ابن، فللزوج الربع، والباقي للولد أو ولد الابن. والدليل قوله تعالى: {ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد، فإن كان لهن ولد، فلكم الربع مما تركن، من بعد وصية يوصين بها أو دين} [النساء:12/ 4]. ونص القانون المصري (م 11) والسوري (م 268) على حالتي الزوج المذكورتين. 4ً - أحوال الأخ لأم والأخت لأم (أولاد الأخياف): لأولاد الأم ويسمون بني الأخياف أحوال ثلاثة (¬2): ¬
الأولى ـ السدس
الأولى ـ السدس: للواحد منهم، ذكراً أو أنثى، لقوله تعالى: {وإن كان رجل يورث كلالةً أو امرأة، وله أخ أو أخت، فلكل واحد منهما السدس} [النساء:12/ 4] والمراد منه أولاد الأم إجماعاً، ويدل عليه قراءة أبيّ: «وله أخ أو أخت من أم». فمن ترك شقيقاً، وأخاً أو أختاً لأم، فللأخ أو الأخت لأم: السدس، والباقي للشقيق. الثانية ـ الثلث: للاثنين فصاعداً، ذكوراً وإناثاً، لقوله تعالى: {فإن كانوا أكثر من ذلك، فهم شركاء في الثلث} [النساء:12/ 4] ذكورهم وإناثهم في القسمة والاستحقاق سواء، أما في القسمة: فلأن الأنثى منهم تأخذ مثل الذكر، وأما في الاستحقاق: فلأن الواحد منهم مذكراً كان أو مؤنثاً، يستحق السدس. فمن ترك أما وإخوة أو أخوات لأم، وعماً، فللأم: السدس، وللإخوة أو الأخوات لأم: الثلث، والباقي للعم. الثالثة ـ حجبهم: يسقطون مع وجود الفرع الوارث ـ الولد وولد الابن وإن سفل، ومع وجود الأصل الوارث المذكر ـ الأب والجد العصبي (الصحيح) بالاتفاق؛ لأنهم من قبيل الكلالة، وقد اشترط في إرثهم عدم الولد والوالد، في قوله تعالى: {وإن كان رجل يورث كلالةً أو امرأةٌ وله أخ أو أخت .. } [النساء:12/ 4] وقوله سبحانه في حال عدم الولد: {قل: الله يفتيكم في الكلالة، إن امرؤ هلك ليس له ولد، وله أخت} [النساء:176/ 4] وفي الأثر: «الكلالة: من ليس له ولد، ولا والد». وولد الابن داخل في الولد، لقوله تعالى: {يا بني آدم} [الأعراف:31/ 7] والجد داخل في الوالد، لقوله تعالى: {كما أخرج أبويكم من الجنة} [الأعراف:27/ 7].
أمثلة
فلا إرث لأولاد الأم مع هؤلاء، أي الأولاد والآباء. ونص القانون المصري (م 10، 26) والسوري (م 262) على أحوال أولاد الأم السابقة، كما نص فيهما على المسألة المشتركة. أمثلة: 1 - مات عن أب وابن وأخ لأم: للأب السدس، وللابن الباقي، ولا شيء للأخ الأم. 2 - ماتت عن زوج وأخ لأم وأخ شقيق: للزوج النصف، وللأخ لأم السدس، والباقي للأخ الشقيق؛ لأنه عصبة. 3 - ماتت عن زوج وجد وأخوين لأم: للزوج النصف، وللجد الباقي، ولا شيء للإخوة لأم. مايخالف فيه أولاد الأم غيرهم: يخالف أولاد الأم غيرهم من أصحاب الفروض في أمور هي: 1 - يرثون مع الأم التي أدلوا بها. 2 - ذكورهم وإناثهم في القسمة والاستحقاق سواء. 3 - للواحد منهم السدس، وللأكثر الثلث. 4 - يحجبون الأم التي أدلوا بها لمورث حجب نقصان، من الثلث إلى السدس. 5 - ذكرهم أدلى بأنثى، وورث بالفرض معها.
المسألة المشركة أو الحجرية
المسألة المشرَّكة أو الحجرية: أي المشرَّك فيها بين الشقيق وولدي الأم. المقرر أن العاصب لا يرث إلا بعد استيفاء أصحاب الفروض، للحديث المتقدم: «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقته فلأولى رجل ذكر». ولكن قد يشترك الأخ الشقيق مع الأخ لأم، فإذا ماتت امرأة عن: زوج، وأم، وأخوين لأم، وأخ شقيق، وأخت شقيقة. للزوج: النصف، وللأم: السدس، وللإخوة لأم والشقيق والأخت جميعاً الثلث، يقسم بينهم بالسوية، لا فرق بين ذكورهم وإناثهم. قضى بذلك عمر في آخر الأمر، فقد قضى أولاً بحرمان الإخوة الأشقاء، ثم عرض عليه الأمر مرة أخرى، فقال له بعضهم: هب أبانا حجراً في اليم، أليست أمناً واحداً؟! فقضى عمر أن يشتركوا جميعاً في الثلث، ذكورهم وإناثهم سواء، ووافقه على رأيه زيد بن ثابت وجمع من الصحابة، وبه أخذ المالكية والشافعية والقانون في مصر وسورية. وسميت لهذا بـ (المشرَّكة) للتشريك فيها بين الجميع في الثلث، وتسمى أيضاً (المشتركة) بمعنى المشترك فيها، والحجرية: نسبة إلى قول بعضهم لعمر: «هب أبانا حجراً في اليم» والحمارية لقول بعضهم: «هب أبانا حماراً». وذهب الحنفية والحنابلة إلى إسقاط الإخوة الأشقاء، ويعطى للزوج النصف، وللأم السدس، وللإخوة لأم الثلث، مستدلين بآية الكلالة السابقة: {وإن كان رجل يورث كلالةً أو امرأةٌ، وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس، فإن كانوا أكثر من ذلك، فهم شركاء في الثلث} [النساء:12/ 4] ولا
ثانيا ـ أحوال النساء
خلاف في أن المراد بهذه الآية: ولد الأم على الخصوص، فمن شَّرك بينهم، فلم يعط كل واحد منهما السدس، فهو مخالف لظاهر القرآن (¬1). ثانياً ـ أحوال النساء: أصحاب الفروض من النساء ثمانية وهن: الزوجة، والبنت وبنت الابن وإن سفلت، والأخت من أي جهة (الشقيقة أو لأب أو لأم) والأم، والجدة أم الأم أو أم الأب (الصحيحة). 1 - أحوال الزوجة: للزوجة حالتان (¬2): الأولى ـ الربع للواحدة فأكثر: عند عدم الفرع الوارث ـ الولد وولد الابن وإن سفل، سواء أكان منها أم من غيرها. الثانية - الثمن: مع الفرع الوارث - الولد وولد الابن وإن سفل، سواء أكان منها أم من غيرها. والدليل قوله تعالى: {ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد، فإن كان لكم ولد، فلهن الثمن مما تركتم، من بعد وصية توصون بها أود ين} [النساء:12/ 4] ففرض الزوجة الواحدة هو فرض الأكثر على السواء، ولو كان أربعاً، لعموم الآية. والولد يتناول ولد الابن بالنص أو الإجماع. فمن مات عن زوجة وبنت وأب: للزوجة الثمن، وللبنت النصف، وللأب السدس فرضاً والباقي ¬
2 - أحوال البنت
بالتعصيب. ومن مات عن زوجة وأخ وابن بنت: للزوجة الربع، وللأخ الباقي لأنه عصبة، ولا شيء لابن البنت؛ لأنه ذو رحم. ونص القانون المصري (م 11) والسوري (م 268) على فرض الزوجة في الحالتين ولو مطلقة رجعياً إذا مات الزوج، وهي في العدة. فإن كانت الزوجة معتدة من طلاق بائن فلا شيء لها، لانقطاع الزوجية بالوفاة، إلا إذا كان طلاقها طلاق فرار فترث عند الجمهور خلافاً للشافعية. ويلاحظ أنه روعي في نصيبي الزوجين أن للذكر منهما حظ الأنثيين، التزاماً لمبدأ العدل في توزيع المسؤوليات بين الرجل والمرأة، فالرجل هو المكلف بالمهر وبالإنفاق على المرأة أماً كانت أو بنتاً أو زوجة، ولا تكلف المرأة بشيء من الواجبات الاجتماعية، ويظل نصيبها محفوظاً عدة للطورئ، تتصرف فيه بحرية واستقلال. وهذا المبدأ: مبدأ (للذكر مثل حظ الأنثيين) عام؛ لأن الحاجة أساس التفاضل في الميراث، فللابن ضعف نصيب البنت؛ لأن مطالب الابن في الحياة أكثر من مطالب أخته، فهو المكلف بإعالة نفسه، وبمهر زواجه، وبنفقة الزوجية، ونفقة الأولاد، وإعالة الأب والأم الفقيرين، ولا تكلف البنت في حياتها بشيء مما يكلف به أخوها. 2 - أحوال البنت: لبنات الصلب أحوال ثلاث (¬1): ¬
الأولى ـ النصف للواحدة
الأولى ـ النصف للواحدة: إذا انفردت عمن يساويها وعمن يعصبها، كما في أب وبنت، للبنت النصف فرضاً، وللأب الباقي فرضاً وتعصيباً. الثانية ـ الثلثان للاثنتين فصاعدا ً: إذا لم يكن معهن من يعصبهن، كأب وبنتين، للبنتين الثلثان فرضاً، وللأب الباقي فرضاً وتعصيباً. الثالثة ـ التعصيب بالغير: مع الابن الذكر، فيأخذ الذكر ضعف الأنثى، سواء تعددت البنات أو تعدد الأبناء، كما في ابن وبنت: لهما كل التركة على أن للابن ضعف البنت. والدليل قوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم، للذكر مثل حظ الأنثيين، فإن كن نساء فوق اثنتين، فلهن ثلثا ما ترك، وإن كانت واحدة فلها النصف} [النساء:11/ 4] نصت على حكم الواحدة والثلاث فأكثر، أما البنتان فعرف حكمهما بالسنة: روى الخمسة إلا النسائي عن جابر قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بابنتيها من سعد، فقالت: يا رسول الله، هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قتل أبوهما معك في أُحد شهيداً، وإن عمهما أخذ مالهما، فلم يدَع لهما مالاً، ولا يَنْكِحان إلا بمال، فقال: يقضي الله في ذلك، فنزلت آية الميراث، فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى عمهما، فقال: «أعط ابنتي سعد الثلثين، وأمَّهما الثمن، وما بقي فهو لك» (¬1)، قالوا: وهذه أول تركة قسمت في الإسلام. ونص القانون المصري (م 12، 19) والسوري (م 269، 277) على أحوال ¬
3 - أحوال بنات الابن
البنت المذكورة، وصرحت الفقرة 2 من المادة (277) على أن الإرث بين البنات والأبناء حال التعصيب للذكر مثل حظ الأنثيين. 3 - أحوال بنات الابن: لبنات الابن ستة أحوال، الثلاثة الأولى للبنات، وثلاثة أخرى (¬1). الأولى ـ النصف للواحدة المنفردة عند عدم البنت أو الابن أو من يساويها، كما في أب وأم وبنت ابن: لبنت الابن: النصف، وللأم السدس، والباقي للأب فرضاً وتعصيباً. الثانية ـ الثلثان للاثنتين فأكثر عند عدم البنت أو الابن أو من يساويهما، فمن مات عن أب وبنتي ابن: لبنتي الابن: الثلثان، وللأب الباقي. الثالثة ـ التعصيب: مع ابن ابن في درجتها، للذكر ضعف الأنثى، كبنت ابن وابن ابن، لهما كل التركة. الرابعة ـ السدس للواحدة فأكثر مع البنت الواحدة تكملة للثلثين: لبنت الابن السدس تكملة للثلثين، عملاً بقضاء ابن مسعود السابق: «أقضي بما قضى النبي صلّى الله عليه وسلم: للبنت النصف، ولبنت الابن السدس تكملة للثلثين، وما بقي فللأخت» لأن الشرع جعل الثلثين حقاً للبنات، فإذا وجدت بنت صلبية واحدة، لم تأخذ إلا النصف، وبقي من نصيب البنات السدس، فيعطى لبنت الابن. وذلك إذا لم يوجد المعصب لهن وهو ابن الابن المساوي لها في الدرجة، فإن وجد تصير به عصبة، فتأخذ معه الباقي، للذكر ضعف الأنثى. فمن مات عن بنت وبنت ابن وابن ابن: للبنت النصف، ولبنت الابن مع ابن الابن الباقي تعصيباً. ¬
الخامسة والسادسة ـ الحجب
وإن لم يبق من التركة شيء، فلا نصيب لها، ففي: أب، وأم، وزوج، وبنت، وبنت ابن وابن ابن: لكل من الأب والأم السدس، وللزوج الربع، وللبنت النصف، فتستغرق التركة وتعول، فلم يبق شيء لبنت الابن وابن الابن، ولولا وجود ابن الابن لأخذت بنت الابن السدس فرضاً. الخامسة والسادسة ـ الحجب: تحجب بنت الابن بالابن، ففي ابن وبنت ابن: للابن التركة كلها تعصيباً، ولا شيء لبنت الابن. وتحجب وتسقط بالبنتين الصلبيتين فأكثر إلا أن يكون معها أو أسفل منها ولد ذكر، فيعصبها، ويكون الباقي حينئذ بينهم للذكر ضعف الأنثى. في أب وأم وبنتين وبنت ابن: لكل من الأبوين: السدس، وللبنتين الثلثان، ولا شيء لبنت الابن؛ إذ استنفدت البنتان نصيبهما. فإن وجد مع بنت الابن ابن ابن، أو ابن ابن ابن فيعصبها كل منهما، لحاجتها إليه، فإن لم تحتج إلى الثاني، بأن بقي لها شيء من نصيب البنات، فإن ابن ابن الابن لا يعصبها، وتأخذ هي فرضها، ويبقى هو عصبة بنفسه، يأخذ الباقي بعد الفروض. والدليل: 1 - النصوص الدالة على أحكام إرث البنت؛ لأن المراد بأولادكم في النص {يوصيكم الله في أولادكم} [النساء:11/ 4] فروعكم المولودون لكم إما مباشرة أو بواسطة أبنائكم. 2 - قضاء ابن مسعود السابق الذي رواه الستة إلا النسائي عن هزيل بن شرحبيل، إذ قضى لابنة الابن بالسدس، تكملة للثلثين.
أمثلة
ونص القانون المصري (م 12، 19) والسوري (269، 277) على أحوال بنات الابن، ولا سيما استحقاق الواحدة فأكثر السدس مع البنت أو بنت الابن الأعلى درجة. أمثلة: أـ مات عن بنت وبنت ابن وأب: للبنت النصف، ولبنت الابن السدس، وللأب السدس فرضاً والباقي تعصيباً. ب ـ مات عن بنت ابن وابن ابن، لهما التركة، للذكر ضعف الأنثى. جـ ـ مات عن بنت وبنت ابن وابن ابن ابن: للبنت النصف، ولبنت الابن السدس، والباقي للأخير؛ لأنه عصبة. د ـ مات عن بنتين وبنت ابن وابن ابن ابن: للبنتين الثلثان، ولبنت الابن مع ابن ابن الابن الباقي؛ لأنها بحاجة إليه، ويسمى بالغلام المبارك. هـ ـ مات عن زوج وأب وأم وبنت وبنت ابن وابن ابن: للزوج الربع، وللأب السدس، وللأم السدس، وللبنت النصف، ولا شيء لبنت الابن؛ لأنها صارت عصبة مع أخيها، ولم يبق لهما شيء، ولو كانت وحدها أخذت السدس، فوجود أخيها حرمها من الميراث، وهذا يسمى بالغلام المشؤوم. لكن في القانون السوري والمصري يأخذان بالوصية الواجبة. وذلك بأن يفرض الولد الذي مات في حياة أصله حياً، ويقدر نصيبه كما لو كان موجوداً، ثم يخرج النصيب من التركة، ويعطى لصاحب الوصية بشرط ألا يزيد عن الثلث، ثم يقسم باقي التركة على أنه كل التركة، بين الورثة بحسب الفريضة الشرعية. فإذا مات شخص عن ثلاثة أبناء وأب وأم وبنت ابن متوفى في حياة أبيه، يفرض وجود المتوفى حياً، فيعطى لبنته
وصية واجبة سهم من ستة أسهم، ثم يقسم الباقي بين الورثة وهو خمسة، فيعطى للأب السدس وللأم السدس من خمسة لا من ستة، والباقي يوزع بين الأبناء الثلاثة بالسوية، لكل ابن سهم من خمسة. وتصح المسألة من (108) أسهم، يكون للأب (15) وللأم (15) ولكل واحد من الأبناء الثلاثة (20) ولبنت الابن المتوفى (18). وجاءت الزيادة للأبناء مما بقي من حصة ذوي الفروض؛ لأن الباقي بعد الوصية هو (90) سهماً من أصل (108). والتصحيح يكون بضرب (6) في (3) عدد رؤوس الأبناء، فيصير (18) ثم يضرب (6) في (18) فيكون الجواب وهو (108) أصلاً للمسألة، ثم يضرب (18) في (5) في المسألة الجديدة بعد الوصية فيكون (90) سهماً، لكل واحد من الأبوين سدس الـ (90). والخلاصة: أنه تعمل مسألة جديدة للورثة بعد استخراج الوصية الواجبة. وـ مات عن بنتين وبنت ابن وابن ابن: للبنتين الثلثان، والباقي بين الأخيرين، ولولا وجود ابن الابن لم ترث بنت الابن شيئاً، لاستكمال البنتين الثلثين، ولكن وجوده عصبها، فتأخذ معه الثلث وهو الباقي، وهذا هو الغلام المبارك. ز ـ لو ترك الميت ثلاث بنات ابن بعضهن أعلى من بعض، أو بعضهن أسفل من بعض، وترك أيضاً ثلاث بنات ابن ابن ابن، بعضهن أسفل من بعض، بالصورة الآتية (¬1): بأن يكون لرجل ثلاثة بنين، أما الفريق الأول فلأحدهم ابن وبنت، ولهذا الابن ابن وبنت، ولهذا الابن الثاني ابن وبنت. وأما الفريق الثاني فللابن ابن، ولابنه ابن وبنت، ولهذا الابن ابن وبنت، ولهذا ابن وبنت، وأما ¬
الفريق الثالث فللابن ابن ولابنه ابن، ولهذا ابن وبنت، ولهذا الابن الأخير ابن وبنت، ولهذا ابن وبنت. .......... الفريق الأوّل ................... الفريق الثّاني ................... الفريق الثّالث .... ................ ابن .............................. ابن ........................... ابن ........ ..... ابن ـ بنت (¬1) ـ العليا ................. ابن ............................. ابن ......... ..... ابن ـ بنت ـ الوسطى ........... ابن ـ بنت ـ العليا .................. ابن .......... ..... ابن ـ بنت ـ السفلى ........... ابن ـ بنت ـ الوسطى ......... ابن ـ بنت ـ العليا ...................................... ابن ـ بنت ـ السفلى ........ ابن ـ بنت ـ الوسطى .................................................................... ابن ـ بنت ـ السفلى فتقوم العليا مقام البنت، ومن دونها مقام بنت الابن في الأحوال المقررة المذكورة، فتأخذ العليا النصف، وتأخذ الوسطى السدس تكملة الثلثين، وتسقط السفلى، إلا أن يكون معها ابن ابن في درجتها أو دونها، فيعصبها. وإن كان مع الوسطى ابن ابن في درجتها أو دونها، عصبها، وحجب من دونها من ذكر أو أنثى. وإن كانت العليا اثنتين فأكثر، فلهما الثلثان، وتسقط الوسطى، ومن دونها، إلا إن كان معهن ذكر في درجتهن أو أسفل منهن. وعلى هذا تأخذ العليا من الفريق الأول النصف؛ لأنها قامت مقام بنت الصلب عند عدمها. ¬
4 - أحوال الأخوات الشقيقات (أولاد الأعيان)
وللوسطى من الفريق الأول مع من توازيها وهي العليا من الفريق الثاني السدس، تكملة للثلثين؛ لأن العليا من الفريق الأول، لما قامت مقام البنت الصلبية، قامت من دونها بدرجة واحدة مقام بنت الابن. ولا شيء للسفليات: وهي الست الباقية من البنات التسع؛ لأنه قد كمل الثلثان لتلك الثلاث، فلم يبق للباقيات فرض، وليس لهن عصوبة قطعاً، فلا يرثن من التركة أصلاً إلا أن يكون معهن غلام، فيعصب من كانت معه بحذائه ومن كانت فوقه. 4 - أحوال الأخوات الشقيقات (أولاد الأعيان): للأخت الشقيقة خمس أحوال، منها الثلاث التي للبنات، وهي ما يأتي (¬1): الأولى ـ النصف: للواحدة إذا انفردت عمن يساويها وعمن يعصبها، أي إذا لم يكن معها أخ شقيق يعصبها، كزوج وشقيقة، لكل منهما النصف فرضاً. الثانية ـ الثلثان: للاثنتين فصاعداً، عند عدم المعصب. فمن مات عن إخوة لأم وشقيقتين، للإخوة لأم الثلث، وللشقيقتين الثلثان. ومن مات عن أم وشقيقتين: للأم السدس فرضاً، وللأختين الثلثان، ثم يرد الباقي على الأم والأختين بنسبة سهام كل واحدة. الثالثة ـ التعصيب بالغير: إذا كان مع الأخت الشقيقة فأكثر أخ شقيق فأكثر، فللذكر مثل حظ الأنثيين، كما في أخ شقيق وأخت شقيقة، تكون التركة بينهما، على أن للأخ ضعف الأخت. ¬
الرابعة ـ التعصيب مع الغير
الرابعة ـ التعصيب مع الغير: إذا كان مع الأخت فأكثر بنت أو بنت ابن، أو هما معاً واحدة فأكثر، ولم يكن مع الأخت أخ شقيق يعصبها. فيكون للأخت الشقيقة أو الأكثر الباقي بعد أنصباء أصحاب الفروض، ترثه بطريق التعصيب، عملاً بالقاعدة الشرعية: (اجعلوا الأخوات مع البنات عصبة) (¬1). وقال الشيعة الإمامية: لا تصير الأخت عصبة مع البنت، ويرد الباقي على البنت إذا انفردت. ففي بنت وأخت شقيقة: للبنت النصف فرضاً، والباقي للأخت تعصيباً. وفي بنت وبنت ابن وأخت شقيقة: للبنت النصف، ولبنت الابن السدس تكملة للثلثين، وللشقيقة الباقي تعصيباً. وفي بنت وبنت ابن وزوج وأم وشقيقتين: لا شيء للشقيقتين إذا لم يبق شيء بعد الفروض، بل في المسألة عول، للزو ج الربع، وللأم السدس فرضاً، وللبنتين الثلثان فرضاً. وفي بنتين وأختين شقيقتين: للبنتين الثلثان فرضاً، وللأختين الباقي تعصيباً. وفي أختين شقيقتين وبنت ابن: لبنت الابن النصف فرضاً، وللأختين الباقي تعصيباً. وإذا كان في الورثة إخوة لأم أو أخوات لأم مع إخوة أشقاء، فهذه هي ¬
الخامسة ـ السقوط بالفرع الوارث المذكر
المسألة المشرَّكة: وهي زوج وأم وولدا أم وأخ شقيق، فيشارك الأخ ولدي الأم في الثلث كما تقدم. ولو كان بدل الشقيق أخ لأب سقط. الخامسة ـ السقوط بالفرع الوارث المذكر وهو: الابن وابن الابن وإن نزل، وبالأب اتفاقاً وبالجد الصحيح عند أبي حنيفة، خلافاً للصاحبين والمذاهب الأخرى، وبه أخذ القانون في مصر وسورية. والدليل قوله تعالى: {يستفتونك، قل الله يفتيكم في الكلالة: إن امرؤ هلك، ليس له ولد، وله أخت، فلها نصف ما ترك، وهو يرثها إن لم يكن لها ولد، فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك، وإن كانوا إخوة رجالاً ونساء، فللذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء:176/ 4] والكلالة كما عرفنا: أن يموت الرجل وليس له ولد ولا والد. وقد بينت الآية الكريمة الثلاثة الأولى، والحالة الخامسة، ففيها النص على فرضي النصف والثلثين، والتعصيب بالغير، والسقوط بالابن ويدخل تحته ابن الابن، والسقوط بالأب ومثله الجد عند أبي حنيفة، وهو يستفاد من قول تعالى: {ليس له ولد وله أخت} [النساء:176/ 4] ومن لفظ الكلالة. وأما الحالة الرابعة وهي تعصيب الأخوات مع البنات فمستفاد مما رواه الجماعة إلا النسائي عن هزيل بن شرحبيل أن النبي صلّى الله عليه وسلم قضى في بنت وبنت ابن وأخت، فجعل للبنت: النصف، ولبنت الابن: السدس، وللأخت الباقي. والقاعدة المقررة: (اجعلوا الأخوات مع البنات عصبة). ونص القانون المصري (م 13، 19، 20) والسوري (م 270، 277، 280) على أحوال الشقيقات. ويلاحظ أن الأخوات من ذوي الفروض، وأما الإخوة فهم عصبات، ويطلق على الإخوة والأخوات: الحواشي فإذا انفردوا عن الإخوة لأب، ورثوا كأولاد
أمثلة
الصلب: للذكر الواحد فأكثر كل المال، وللأنثى النصف، وللثنتين فصاعداً الثلثان، وعند اجتماع الصنفين: للذكر مثل حظ الأنثيين. أمثلة: أـ مات عن: أم وأخت شقيقة وزوجة: للأم الثلث، وللشقيقة النصف، وللزوجة الربع، من (12) وتعول إلى (13). ب ـ مات عن: ابن وأخت شقيقة وأب: للأب السدس، والباقي للابن، ولا شيء للشقيقة؛ لأنها محجوبة بالابن والأب. جـ ـ ماتت عن: زوج، وأخت شقيقة، وجد وجدة: للزوج النصف، وتحجب الشقيقة بالجد على مذهب أبي حنيفة. وأما عند الجمهور (على رأي زيد) فيأخذ الجد الأفضل من المقاسمة وثلث الباقي والسدس، والأفضل له هنا المقاسمة، والمسألة من ستة، وتصحح من (18)، للزوج (9)، وللجدة (3)، وللجد (4)، وللشقيقة (2) للذكر مثل حظ الأنثيين. د ـ مات عن: بنت وأخت شقيقة وأم: للأم السدس، وللبنت النصف، وللشقيقة الباقي تعصيباً مع البنت. هـ ـ مات عن: بنت، بنت ابن، أخت شقيقة، أخ شقيق: للبنت: النصف، ولبنت الابن: السدس تكملة للثلثين، والباقي للأخ والأخت للذكر مثل حظ الأنثيين. 5 - أحوال الأخوات لأب (أولاد العَلاَّت): للأخوات لأب ستة أحوال، منها الخمسة التي للأخوات الشقيقات:
الأولى ـ النصف
الأولى ـ النصف: للواحدة إذا انفردت عن مثلها، ولم يكن معها أخ لأب أو شقيقة، استدلالاً بنفس الآية السابقة في توريث الشقيقة، كما في: زوج، وأخت لأب: لكل منهما النصف. الثانية ـ الثلثان: للاثنتين فأكثر عند عدم الأخ لأب، أو الأخوات الشقيقات، كما هو شأن الشقيقات. مثل: إخوة لأم، وأختين لأب، فللإخوة لأم: الثلث، وللأختين لأب: الثلثان. الثالثة ـ السدس: للواحدة مع الشقيقة، تكملة للثلثين، إذا لم يكن مع الأخت لأب أخ لأب يعصبها، كما في زوجة، وشقيقة، وأخت لأب: للزوجة الربع، وللشقيقة النصف فرضاً، وللأخت لأب: السدس فرضاً، ويرد الباقي على الأختين. الرابعة ـ التعصيب بالغير: إذا كان معها أخ لأب، كأخ لأب وأخت لأب، والعصبة: يأخذ ما أبقى ذوو الفرض، فإذا استغرقت الفروض جميع التركة، فلا شيء للأخ والأخت من الأب. الخامسة ـ التعصيب مع الغير: وذلك مع البنت أو بنت الابن أو هما معاً، واحدة فأكثر. فتأخذ الباقي بعد هؤلاء، كبنت أو بنت ابن وأخت لأب. فلو ترك شخص بنتاً، وزوجة، وأماً وأختين لأب، كان للبنت النصف فرضاً، وللزوجة الثمن فرضاً، لوجود الفرع الوارث، وللأم السدس فرضاً لذلك ولوجود الأختين، وللأختين الباقي تعصيباً يقسم بينهما بالسوية. السادسة ـ الحجب عن الميراث: تحجب الأخت لأب بما تحجب به الأخت الشقيقة، من وجود الفرع الوارث (الابن أو ابن الابن مهما نزل) وبالأب. وتزيد الأخت لأب بحجبها:
أمثلة
بالأخ الشقيق: كزوج وأخ شقيق وأخت لأب. وبالشقيقتين فأكثر: كزوج وشقيقتين وأخت لأب، إلا إذا كان مع الأخت لأب من يعصبها وهو الأخ لأب، فإذا كان معها ويسمى الأخ المبارك، فتأخذ معه ما بقي من أصحاب الفروض، للذكر مثل حظ الأنثيين. وبالأخت الشقيقة إذا صارت عصبة مع غيرها: كبنت وشقيقة وأخت لأب. ولا تسقط الأخت لأب بالجد العصبي (الصحيح) خلافاً لأبي حنيفة. ودليل توريث الأخوات لأب: هو دليل توريث الأخوات الشقيقات في الحالات المشتركة بينهن؛ لأن المراد بقوله تعالى: {يستفتونك قل: الله يفتيكم في الكلالة، إن امرؤ هلك ليس له ولد، وله أخت} [النساء:176/ 4] بالاتفاق هي الأخت الشقيقة أو لأب. وأما سقوط الأخت لأب بالأخ الشقيق، فلقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات، الرجل يرث أخاه لأبيه وأمه، دون أخيه لأبيه» (¬1) وبنو الأعيان كما تقدم: هم الأشقاء، وبنو العلات: هم الإخوة والأخوات لأب. ونص القانون المصري (م 13، 19، 20) والسوري (م 270، 277، 278) على الأحوال الستة للأخوات لأب. أمثلة: أـ مات شخص عن: أم، وبنت، وأخت شقيقة، وأخت لأب: للأم السدس، وللبنت النصف، وللشقيقة الباقي، ولا شيء للأخت لأب لسقوطها بالشقيقة المتعصبة بالبنت. ¬
6 - أحوال الأخت لأم
ب ـ مات عن: أختين شقيقتين، وأختين لأب، وأخ لأب: للشقيقتين الثلثان، وللأختين لأب والأخ لأب: الباقي؛ لأنهن صرن عصبة به. جـ ـ مات عن: زوجة، وبنت، وأخت لأب: للزوجة الثمن، وللبنت النصف، والباقي للأخت لأب؛ لأنها تصبح عصبة مع البنت. د ـ ماتت امرأة عن: بنت، وأخ شقيق، وأخت لأب: للبنت النصف، والباقي للأخ الشقيق؛ لأنه عصبة، ولا شيء للأخت لأب؛ لأنها محجوبة به. 6 - أحوال الأخت لأم: تقدم بيانها في أحوال أولاد الأم؛ لأن الأنثى والذكر سواء. 7 - أحوال الأم: للأم أحوال ثلاثة (¬1): الأولى ـ السدس: عند وجود الفرع الوارث، مطلقاً ـ وهو الولد أو ولد الابن وإن سفل، أو الاثنين من الإخوة والأخوات فصاعداً من أي جهة كانا، لقوله تعالى: {ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد} [النساء:11/ 4] ولقوله سبحانه: {فإن كان له إخوة فلأمه السدس} [النساء:11/ 4]. الثانية: ثلث التركة كلها: عند عدم المذكورين في الحالة الأولى من الفرع الوارث والعدد من الإخوة ولم يكن مع الأبوين أحد الزوجين، لقوله تعالى: {فإن لم يكن له ولد، وورثه أبواه فلأمه الثلث، فإن كان له إخوة فلأمه السدس} [النساء:11/ 4]. ¬
الثالثة - ثلث الباقي إذا كان مع الأبوين أحد الزوجين
دلت الآية في الحالتين على فرض الأم مع وجود الولد وعند عدمه، وعند وجود الجمع من الإخوة، ويشمل ذلك الأخوات؛ لأن لفظ الإخوة يطلق حقيقة على الذكور، وبطريق التغليب على الذكور والإناث، وعد د الاثنين في الميراث في حكم الجمع بإجماع الصحابة، وكما في ميراث الأخوين لأم، حيث قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «الاثنان فما فوقهما جماعة» (¬1). ولم ينص في الآية على حكم الأم مع الأب وأحد الزوجين، فاختلف فيه الصحابة كما يأتي: الثالثة - ثلث الباقي إذا كان مع الأبوين أحد الزوجين، وهي المسألة العمرية أو الغراء، كما في زوج وأب وأم، أو زوجة وأب وأم، ففي الأولى للزوج النصف ثلاثة من ستة وللأب الباقي تعصيباً، وللأم ثلث الباقي بعد فرض الزوج، وهو سهم من ستة. وفي الثانية للزوجة الربع من 12 لعدم الفرع الوارث وللأب الباقي تعصيباً وهو ستة، وللأم ثلث الباقي وهو ثلاثة أسهم. ولو كان مكان الأب جد، فللأم ثلث جميع المال، وهي إحدى المسائل التي يخالف فيها الجد الأب. وتسمى هاتان المسألتان بالغراوين تثنية الغراء، تشبيهاً لهما بالكوكب الأغر لشهرتهما، وبالعمريتين لقضاء عمر رضي الله عنه فيهما بذلك. والدليل: 1ً - قوله تعالى: {فإن لم يكن له ولد، وورثه أبواه فلأمه الثلث} [النساء:11/ 4] إذ يجب أن يكون المراد بالثلث فيه ثلث مايستحقه الأبوان، لا ثلث جميع المال، لئلا يكون قوله: {وورثه أبواه} [النساء:11/ 4] خالياً عن الفائدة، وثلث مايستحقانه هنا هو ثلث الباقي بعد فرض أحد الزوجين. ¬
8 - أحوال الجدة
2ً - لو أخذت الأم هنا ثلث جميع المال، لكان لها ضعف الأب، إن كان معهما زوج، أو قريب من نصيبه لو كان معهما زوجة، وهذا لايتفق مع النص الذي يقتضي أن يكون للأنثى نصف الذكر. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إن للأم في مسألة الغراوين ثلث التركة، لظاهر قوله تعالى: {فإن لم يكن له ولد، وورثه أبواه، فلأمه الثلث} [النساء:11/ 4] إذ يجب أن يكون المراد بالثلث فيه ثلث جميع التركة؛ لأن السدس منسوب إلى الكل، ولا فرض إلا بنص. ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر» والأم ههنا ذات فرض مسمى، والأب عاصب بنفسه، فوجب أن تأخذ فرضها كاملاً، ويكون الباقي للأب قل أو كثر. وأجاب الجمهور: بأن معنى الآية: وورثه أبواه خاصة، وعن الحديث بأن العصوبة لم تتمحض في الأب. ونص القانون المصري (م14) والسوري (م271) على أحوال الأم الثلاثة، وأخذ برأي الجمهور في مسألتي الغراوين. 8 - أحوال الجدة: الجدة: هي التي لايدخل في نسبتها إلى الميت جد رحمي، وهي أم أحد الأبوين، كأم الأم، وأم الأب، وأم أبي الأب، وأم أم الأم، وأم أم الأب. وتسمى بالجدة الصحيحة أو الثابتة. ويقابلها الجدة الرحمية أو الفاسدة: وهي التي يدخل في نسبتها إلى الميت جد رحمي كأم أبي الأم وأم أبي أم الأب، وهذه ليست من ذوات الفروض، وإنما هي من ذوات الأرحام.
الأولى - السدس للواحدة فأكثر عند عدم الأم
والجدة للأب أو الجدة للأم لها حالتان (¬1): الأولى - السدس للواحدة فأكثر عند عدم الأم، سواء من أي جهة كانت، أبوية أو أمية أو من جهتهما (ذات قرابتين) إذا كن في حالة التعدد متحاذيات (متساويات) في الدرجة كأم أم، مع أم أب، فإنهما يقتسمان السدس بالسوية بينهما. فإن كن متفاوتات في الدرجة، فالقربى تحجب البعدى. الثانية - الحجب أو السقوط: تحجب الجدة مطلقاً (أبوية أو أمية أو من جهتهما ذات قرابتين) بالأم، وتحجب الجدة الأبوية بالأب. فمتى وجدت الأم فلا ترث واحدة من الجدات شيئاً، ومتى وجد الأب لاترث الأبوية، وكذلك لاترث الأبوية مع الجد إذا أدلت به كأم أبي الأب وإن لم تُدْل به فلا يحجبها وإن علت كأم أم الأب، فإنها ليست من قبله، بل هي زوجته أو أم زوجته. وأما الجدة الأمية: فلا تسقط بالأب، فلو توفي عن أب، وأم أم، ورثت معه السدس؛ لأنها لم تنتسب به. والجدة ذات القرابتين: أن تزوج امرأة ابن ابنها بنت ابنها، فيلد منهما ولد، فهذه المرأة جدة لهذا الولد من جهة أبيه؛ لأنها أم أب أبيه، وهي جدة له من جهة أمه؛ لأنها أم أم أبيه. وذات القرابة الواحدة هي المحاذية لهذه الجدة، وهي أم أم أب الولد. والسبب في حجب الجدة مطلقاً بالأم، وأنه لم تحجب بالأب إلا الأبويات: ¬
الدليل على إرث الجدة
هو أن كلاً من اتحاد السبب والإدلاء له تأثير في الحجب، فأم الأب تحجب بالأب للإدلاء فقط، وتحجب بالأم لاتحاد السبب وهو الأمومة. وأما أم الأم فترث مع الأب، لانعدام كل من الإدلاء واتحاد السبب، وتحجب بالأم لوجود كلا الأمرين، فالملاحظ دائماً في الحجب أحد أمرين: الإدلاء أو اتحاد السبب. والدليل على إرث الجدة: أن النبي صلّى الله عليه وسلم أعطى الجدة السدس (¬1)، وأنه قضى للجدتين من الميراث بالسدس (¬2)، وأنه جعل للجدة السدس إذا لم يكن دونها أم (¬3)، وأنه أعطى ثلاث جدات السدس، ثنتين من قبل الأب، وواحدة من قِبَل الأم (4)، وجعل أبو بكر السدس للجدة من قبل الأم (¬4). معرفة الجدة الوارثة: وأما طريق معرفة الجدة الوارثة عند تعدد الجدات: فهو أنه إذا اجتمع جدات، فالوارث منهن من قبل الأم واحدة أبداً؛ لأنه متى تخللهن أب يكون فاسداً، وإنما يقع التعدد في التي من قبل الأب، ويتعدد ذلك بتعدد الدرجة، ففي الدرجة الثانية للجدودة يرث من الميث اثنتان أبويتان إذ يصبح لكل أب وأم أب وأم، وفي الدرجة الثالثة، أي التي تبعد عن الميت بثلاث درجات يرث منه ثلاث أبويات، وفي الرابعة أربعة، وفي الخامسة خمس، وهكذا في كل درجة لاتزيد إلا وارثة واحدة، والجدة القربى من أي جهة كانت تحجب البُعْدى من أي جهة كانت. فأم الأب تحجب أم أم الأم، وأم أب الأب، وأم أم الأب؛ لأنها أقرب منهن درجة، فتقدم عليهن في الإرث. ¬
أمثلة
وأم الأم تحجب أم أب الأب، وأم أم الأب، وأم أم الأم وهكذا؛ لأنها أقرب منهن درجة. ويعرف عدد الجدات الوارثات: بأن تذكر بمقدار العدد الذي تريده بلفظ (أم) ثم تبدل الأم الأخيرة من طرف الميت بأب، في كل مرتبة إلى أن يبقى أم واحدة، فلو سئل إنسان عن أربع جدات وارثات مثلاً، قال: أم أم أم أم، أم أم أم أب، أم أم أب أب، أم أب أب أب، فالأولى أمية، والباقي أبويات. ونص القانون المصري (م14) والسوري (م272) على حالات الجدة. أمثلة: أ - مات شخص عن: أم، أم أم، أب: للأم الثلث، ولا شيء لأم الأم؛ لأنها محجوبة بالأم، وللأب الباقي. ب - مات عن: أب أب، أب أم، أم أب الأب: المال كله لأبي الأب، ولاشيء لأبي الأم؛ لأنه جد رحمي، ولا لأم أبي الأب؛ لأنها محجوبة بأبي الأب. جـ - مات عن أربع جدات: وهن أم أم أم، وأم أم أب، وأم أب أب، وأم أبي الأم، وعم: ترث الجدات الثلاث الأوائل السدس مشتركاً بينهن، ولا شيء للجدة الرابعة؛ لأنها جدة رحمية (فاسدة غير صحيحة) أدلت إلى الميت بجد رحمي (فاسد) والباقي للعم؛ لأنه عصبة. أمثلة عامة مع حلها وتعليلها: 1 - ماتت امرأة، وتركت: زوجاً، وأختاً شقيقة، وأخاً لأب. للزوج النصف، وللأخت النصف، ولا شيء للأخ لأب؛ لأنه عصبة لم يبق له شيء.
2 - مات رجل وترك: ابناً، وزوجة، وأباً، وأماً: للزوجة الثمن، وللأب السدس، وللأم السدس، والباقي 24/ 13 للابن؛ لأنه عصبة. 3 - ماتت امرأة عن زوج وأب وأم وابن: للزوج الربع هنا بسبب الابن، وللأب السدس، وللأم السدس، والباقي 12/ 5 للابن العاصب النسبي. 4 - ماتت امرأة عن ابنين، وزوج، وأب، وجدة أم أم: للزوج الربع، ولكل من الأب والجدة السدس، والباقي 24/ 10 للابنين لكل منهما: 5. 5 - مات رجل عن: زوجة، وبنت، وبنت ابن، وابن ابن ابن، وأم: للزوجة الثمن، وللبنت النصف، ولبنت الابن: السدس تكملة الثلثين، وللأم السدس، والباقي 24/ 1 لابن ابن الابن. 6 - مات رجل عن: زوجة، وأب، وبنتين، وابن ابن ابن: للزوجة الثمن بسبب البنتين، وللأب السدس، وللبنتين الثلثان، والباقي 24/ 1 لابن ابن الابن تعصيباً. 7 - مات رجل عن: زوجة، وأب، وأم، وبنتين: للزوجة الثمن، وللبنتين الثلثان، وللأم السدس، وللأب السدس فرضاً، ولاشيء له يأخذه تعصيباً، وتعول المسألة من (24 إلى 27). 8 - ماتت امرأة عن أب وبنتين وزوج: للزوج الربع، وللبنتين الثلثان، وللأب السدس، ولاشيء له يأخذه تعصيباً، وتعول المسألة من (24 إلى 27). 9 - مات رجل عن: زوجة، وأب، وبنت، وبنت ابن، وابن ابن: للزوجة الثمن، وللأب السدس، وللبنت النصف، والباقي 24/ 5 لبنت الابن وابن الابن؛
الفصل التاسع: العصبات
لأنهما عصبة بالغير، فتأخذ بنت الابن 72/ 5، وابن الابن 72/ 10. 10 - ماتت امرأة عن: زوج وبنت ابن: للزوج الربع فرضاً، ولبنت الابن النصف فرضاً، والباقي وهوالربع بالرد. 11 - ماتت امرأة عن: زوج، وبنت ابن، وشقيقة، وأم: للزوج الربع فرضاً، وللأم السدس فرضاً، والباقي 12/ 1 للشقيقة مع بنت الابن عصبة مع الغير. 12 - ماتت امرأة عن: زوج، وأخت شقيقة، وأخت لأب، وأخت لأم: للزوجة النصف فرضاً، وللأخت لأم السدس فرضاً، وللشقيقة النصف، وللأخت لأب السدس، تكملة الثلثين، وتعول المسألة من (6 إلى 8). 13 - مات رجل عن: زوجة، وأخت شقيقة، وأم: الجميع من أصحاب الفروض، فللزوجة الربع، وللشقيقة النصف، وللأم الثلث؛ إذ ليس معها فرع وارث للميت، ولا اثنان من الإخوة والأخوات، وتعول المسألة من (12 إلى 13). الفَصْلُ التَّاسع: العصبات: تعريف العصبة، وتقسيم العصبات، وأنواعها، وحكم إرث كل نوع (¬1). العصبات جمع عصبة، وهو الذكر من أقارب الميت الذي لم تدخل في نسبته إلى الميت أنثى، فعصبة الرجل: أبوه وبنوه وقرابته لأبيه. وسموا عصبة؛ لأنهم يحيطون بالإنسان القريب ويذودون عنه. ¬
تقسيم العصبة
وقد استعمل الفقهاء لفظ (العصبة) في الواحد؛ لأنه يقوم مقام الجماعة في إحراز جميع المال، مع أن الأصل في لفظ العصبة جمع. وقالوا في مصدرها: العصوبة. والذكر يعصِّب الأنثى، أي يجعلها عصبة، ويطلق العصبة على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، ويجمع على عصبات. والعصبة في علم الميراث: كل من يحوز التركة إذا انفرد بها، أو يحوز ما أبقاه أصحاب الفرائض، وإذا لم يبق عنهم شيء، فلا يرث شيئاً. فهم في المرتبة بعد أصحاب الفرائض. وبإيجاز: العصبة في عرف الفرضيين: من لم يكن له نصيب مقدر. وحكمه: أن يأخذ ما أبقت الفروض، ويستقل بالكل إذا انفرد. تقسيم العصبة: تنقسم العصبة إلى قسمين: عصبة نسبية، وعصبة سببية. 1ً - العصبة السببية: هي عصبة المعتق لمن أعتقه، ثم عصبته على ترتيب العصبة بالنفس الآتي. فهو أي مولى العتاقة يرث من أعتقه إن لم يكن له وارث صاحب فرض ولا عصبة نسبية، فهي قرابة حكمية، سببها العتق لإنعام السيد على العبد. ولا داعي لبحث هذا النوع لعدم وجود الرقيق، ويحتاج إليه المتخصص فقط. وترتيب عصبة المعتق هو أن ابن المعتق أولى عصباته، ثم ابن ابنه، وإن سفل،
ثم أبوه، ثم جده وإن علا، لقوله عليه الصلاة والسلام: «الولاء لُحْمة كلُحمة النَّسَب» (¬1) لأن المعتِق سبب لإحياء المعتَق، كما أن الأب سبب لإيجاد الولد، باعتبار أن الحرية حياة الإنسان، لإثبات صفة المالكية له، كما أن الأب سبب لإيجاد الولد، باعتبار أن الحرية حياة الإنسان، لإثبات صفة المالكية له، والرق تلف وهلاك، وكما أن الولد يصير منسوباً لأبيه، كذلك المعتَق يصير منسوباً إلى معتقه بالولاء، وبما أن الإرث بالنسب، فكذلك يثبت بالولاء. وذلك في حدود المعتق وعصبته، فالشرع جعل صلة المعتق بعتيقه في حكم صلة القريب بقريبه، فيرث منه جميع المال إذا انفرد، والباقي بعد أصحاب الفروض إذا وجدوا. ولا شيء للإناث من ورثة المعتِق، إلا بسبب ولاء عتيقهن، لقوله عليه الصلاة والسلام: «ليس للنساء من الوَلاء إلا ما أعتقن، أو أعتق من أعتقن ... » (¬2). وذكر سابقاً دليل الإرث بسبب العتق، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: «الولاء لمن أعتق». ومرتبة العصبة السببية بعد مرتبة العصبة النسبية، وقبل مرتبة الرد على ذوي الفروض، وإرث ذوي الأرحام. وروي عن عمر وابن مسعود وابن عباس وكثير من الصحابة والتابعين أن إرث العصبة السببية مؤخر عن إرث ذوي الأرحام. ¬
- العصبة النسبية وأنواعها وحكم كل نوع
وأخذ القانون المصري بمذهب ابن مسعود ومن معه، فأصبح العاصب السببي لا يرث، إلا إذا لم يوجد للمتوفى وارث أصلاً بالقرابة أو الزوجية. 2ً - العصبة النسبية وأنواعها وحكم كل نوع: تعريف العصبة النسبية: هم أقارب الميت الذكور، الذين لا تتوسط بينهم وبين الميت أنثى، كالابن والأب والأخ والعم، والبنت بأخيها، والأخت مع البنت. وهم يرثون ما أبقى ذوو الفروض، فإن تخللت أنثى في النسبة إلى الميت، كان الشخص من ذوي الأرحام كأبي الأم، وابن البنت، أو من ذوي الفروض كالأخ لأم. ودليل توريثهم: قوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء:11/ 4] ثم بين نصيب الأب والأم، فدل على أن الأولاد يأخذون الباقي بعد نصيب الأب والأم. ودل قوله سبحانه: {وإن كانوا إخوة رجالاً ونساء، فللذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء:176/ 4] على أن جهة الأخوة من جهات العصبة النسبية. ودلت الآيتان أيضاً على أن الأنثى صاحبة الفرض تصبح عصبة بأخيها، احتفاظاً بمبدأ كون حصة الذكر ضعف الأنثى. وصرحت السنة بإثبات التعصيب لكل قريب من الرجال يتصل بالميت عن طريق الرجال، في قوله عليه الصلاة والسلام: «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض، فلأولى رجل ذكر» والمراد أولوية القرابة. أنواعها: تنقسم العصبة النسبية إلى ثلاثة أنواع:
1 - العصبة بالنفس
1 - العصبة بالنفس: وهي كل ذكر قريب للمتوفى، لا تدخل في نسبته إلى الميت أنثى. وهم أربع جهات مقدم بعضها على بعض، ينحصرون في اثني عشر نفساً، على الترتيب التالي عند الإمام أبي حنيفة: أـ جهة البنوة: وهي جزء الميت، من الابن وابن الابن مهما نزل. ب ـ جهة الأبوة: وهي جزء أبي الميت، من الأخ الشقيق أو لأب، وابن الأخ الشقيق أو لأب. ج ـ جهة الأخوة: وهي جزء أبي الميت، من الأخ الشقيق أو لأب، وابن الأخ الشقيق أو لأب. د ـ جهة العمومة: وهي جزء جد الميت، من العم الشقيق ثم لأب، وبعدهما ابن العم الشقيق ثم لأب مهما نزل درجة بعد درجة، ثم عم أبيه الشقيق أو لأب، أو ابن عم أبيه الشقيق أو ابن عم أبيه لأب، ثم عم الجد، ثم ابنه. ويقدم القريب على البعيد. وتقدم جهة البنوة على جهة الأبوة، وجهة الأبوة على جهة الأخوة، وهذه تقدم على جهة العمومة. والترجيح يكون أولاً بالجهة، ثم بقرب الدرجة، ثم بقوة القرابة، قال العلامة الجعبري: فبالجهة التقديم، ثم بقربه ..... ..... وبعدهما التقديم بالقوة اجعلا أي أن التقديم يكون بالجهة أولاً من الجهات السابقة، ثم بالقرب إلى الميت، ثم بالقوة أي الشقيق مقدم على الذي لأب. أولاً ـ الترجيح بالجهة: يرجح أولاً بالجهة، فإذا كان بعض العصبة من جهة
ثانيا ـ الترجيح بقرب الدرجة إلى الميت
البنوة، والآخر من جهة الأبوة، فتقدم الأولى على الثانية، أي جهة الفرع مقدمة على جهة الأصل، وهذه مقدمة على جهة الأخوة، وهذه مقدمة على جهة العمومة. فابن الميت وابن ابنه وإن نزل مقدمان في الميراث بالعصوبة على أصوله، والأصول مقدمون على الإخوة وبينهم، وهؤلاء مقدمون على الأعمام وبنيهم. فلو ترك الميت ابناً وأباً، أو ترك أباً وأخاً، أو ترك أخاً وعماً، قدم الابن فأخذ الباقي بالعصوبة، وأخذ الأب فرضه وهو السدس فقط. وفي المثال الثاني: المال كله للأب بالتعصيب، ولا شيء للأخ. وفي المثال الثالث: المال كله للأخ تعصيباً، ولاشيء للعم. والسبب في تقدم البنين على الأب: هو أن فرع الإنسان أشد اتصالاً به من أصوله، ولقوله تعالى: {ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك، إن كان له ولد} [النساء:11/ 4] فإنه جعل الأب صاحب فرض، والولد عصبة. وقدم بنو البنين وإن نزلوا على الأب؛ لأنهم من جهة البنوة وهي مقدمة على الأبوة. والأصول أقرب الى الإنسان من الإخوة، إذ الأصول واسطة في صلة الأخوة، فقدموا عليهم في الإرث. ثانياً ـ الترجيح بقرب الدرجة إلى الميت: ثم يرجح بقرب الدرجة، فمن كان أقرب درجة، قدم على غيره، فيقدم الابن على ابن الابن، والأب على الجد، والأخ على ابن الأخ، والعم على ابن العم، وعم الميت على عم أبيه. ولا اعتبار حينئذ لقوة القرابة، فالأخ لأب يحجب ابن الأخ الشقيق، والعم لأب يحجب ابن العم الشقيق.
ثالثا ـ الترجيح بقوة القرابة
ثالثاً ـ الترجيح بقوة القرابة: ثم يرجح بقوة القرابة من المتوفى إذا اتحدت الدرجة، فيقدم ذو القرابتين على ذي القرابة الواحدة، كالأخ الشقيق يقدم على الأخ لأب، وابن الأخ الشقيق يقدم على ابن الأخ لأب، والعم لأبوين على العم لأب، وابن العم لأبوين على ابن العم لأب، وهكذا الحال في عم أبيه وعم جده. فإذا استوى العصبات في الجهة والدرجة وقوة القرابة، استحق الجميع على السواء، فلو ترك ابن أخ وعشرة بني أخ آخر، قسم المال بينهم باعتبار رؤوسهم لا أحوالهم. ترتيب العصبات عند الجمهور: كان الترتيب السابق مذهب أبي حنيفة، أما الجمهور (وهم الأئمة الثلاثة والصاحبان) وبه أخذ القانون في مصر وسورية، فاعتبروا الجد مع الإخوة في منزلة واحدة من العصوبة، إذ أن الإخوة الأشقاء لايحجبهم من الأصول غير الأب عندهم. ويكون ترتيب العصبات عندهم بحسب الآتي: 1 - جهة البنوة أو جزء الميت: وهم البنون وأبناؤهم وإن نزلوا. 2 - جهة الأبوة أو أصل الميت: وهي قاصرة على الأب فقط. 3 - الجد مع الإخوة الأشقاء أو لأب، دون أبنائهم. 4 - أبناء الإخوة الذكور الأشقاء أو لأب، مهما نزلوا. 5 - جهة العمومة: وتشمل كما تقدم أعمام الميت وأعمام أبيه وجده، مهما علوا، وبنوهم.
2 - العصبة بالغير
2 - العصبة بالغير: هي كل أنثى لها فرض مقدر وجد معها ذكر من درجتها، فتصير به عصبة. ولا يكون هذا النوع إلا فيمن فرضه النصف عند الانفراد والثلثان عند التعدد، وهي أربعة فقط: (1) البنت الواحدة فأكثر مع الابن من درجتها. أما مع ابن الابن فتكون ذات فرض. (2) بنت الابن الواحدة فأكثر مع ابن الابن من درجتها، سواء أكان أخاها أو ابن عمها، وكذا مع ابن ابن الابن أنزل منها، تتعصب به إذا احتاجت إليه بأن لم يكن لها شيء من الثلثين، ولو كان أدنى منها درجة، حتى لاتحرم من الميراث، وتأخذه من هي أدنى منها. فإن لم تحتج إليه كبنت وبنت ابن فلا يعصبها. وإذا كان ابن الابن أعلى درجة من بنت الابن فيحجبها، كبنت ابن ابن مع ابن ابن. (3) الأخت الشقيقة بشقيقها. فإن كان معها أخ لأب فلها النصف فرضاً، وللأكثر الثلثان. (4) الأخت لأب مع الأخ لأب، سواء أكان شقيقاً لها أم لا. أما الأنثى التي لافرض لها وأخوها عصبة كالعمة مع العم، وبنت العم مع ابن العم، وبنت الأخ مع ابن الأخ، فلا تكون عصبة بأخيها؛ لأنها ليست صاحبة فرض. 3 - العصبة مع الغير: هي كل أنثى تصير عصبة باجتماعها مع أنثى أخرى، ولها حالتان فقط: (1) الأخت الشقيقة واحدة فأكثر، مع بنت أو بنات، أو بنت ابن أو بنات ابن.
(2) الأخت لأب واحدة فأكثر، كذلك مع بنت أو بنات، أو بنت ابن أو بنات ابن، فالباقي عن البنت أو البنات أو بنت الابن أو بنات الابن، للأخت أو للأخوات بالتعصيب معهن، للقاعدة السابقة: (اجعلوا البنات مع الأخوات عصبة) ولقضاء النبي صلّى الله عليه وسلم للأخت مع البنت وبنت الابن بما بقي. وتصبح الأخت الشقيقة التي تصير عصبة مع البنت أو بنت الابن، كأخ شقيق، فتحجب الإخوة لأب مطلقاً. وتصبح الأخت لأب التي تصير عصبة مع الغير، أي مع البنت أو بنت الابن كأخ لأب، فتحجب ابن الأخ الشقيق، فمن بعده. أما إن كان مع الأخت أخوها، فتصير عصبة بالغير، لا مع الغير، كما بينت، ويكون الباقي بينها وبينه للذكر مثل حظ الأنثيين. مثال الحالة الأولى: بنت، بنت ابن، أخت شقيقة، أخ لأب: للبنت النصف، ولبنت الابن السدس تكملة للثلثين، وللأخت الباقي، ولا شيء للأخ لأب؛ لأنه محجوب بالشقيقة حيث صارت عصبة مع البنت وبنت الابن. وأما القانون المصري (م16 - 22) والسوري (م274 - 280) فنصا على أنواع العصبة بالنفس، وطريق الترجيح، وأحوال الجد مع الإخوة على النحو السابق المقرر فقهاً. أمثلة: 1 - مات عن: أب وابن وبنت وأخت شقيقة: للأب السدس فقط، ولا شيء له تعصيباً، لوجود الابن، وللابن والبنت للذكر ضعف الأنثى، ولا شيء للشقيقة لسقوطها بالابن وبالأب.
2 - مات عن: جد، وبنت، وأخ شقيق: للبنت النصف، والباقي للأخ والجد. 3 - ماتت عن: زوج، وأخ لأم، وأخ شقيق، وأخت شقيقة: للزوج النصف، وللأخ لأم السدس، والباقي بين الأخ والأخت للذكر ضعف الأنثى. 4 - مات عن: بنت، بنت ابن، ابن ابن، ابن ابن ابن: للبنت النصف، ولبنت الابن مع ابن الابن الباقي، ولا شيء للأخير. 5 - مات عن: بنت ابن، أخت لأب، عمة: لبنت الابن النصف، وللأخت لأب الباقي تعصيباً مع ابنة الابن، ولا شيء للعمة. 6 - زوج وبنت ابن وأخت شقيقه وجدة: للزوج الربع، ولبنت الابن النصف، وللجدة السدس من (12)، وللشقيقة الباقي؛ لأنها عصبة مع بنت الابن. 7 - مات عن: بنت، وأخت لأب وأخ لأب، وزوجة: للبنت النصف، وللزوجة الثمن، وللأخت لأب والأخ لأب الباقي عصبة بالغير. 8 - مات عن: بنتين، وبنتي ابن، وبنت ابن، وابن ابن، وبنت ابن ابن، وأب: للبنتين الثلثان، وللأب السدس، ولبنتي الابن مع ابن الابن الباقي تعصيباً، ولا شيء لبنت ابن الابن لحجبها بابن الابن. 9 - مات عن: بنت، وبنت ابن وأخت شقيقة: للبنت النصف، ولبنت الابن السدس، وللشقيقة الباقي عصبة مع الغير. 10 - زوج، شقيقة، وأخت لأب، وأخ لأب: للزوج النصف، وللشقيقة النصف، والأخيران عصبة، لاشيء لهما إذ لم يبق لهما شيء، ولولا الأخ لأخذت الأخت السدس.
الفصل العاشر: المسائل الشواذ
11 - بنت، وبنت ابن، وابن ابن ابن: للبنت النصف، ولبنت الابن السدس، والباقي للأخير عصبة، لاستغناء بنت الابن عنه. 12 - بنت، بنت ابن، بنت ابن ابن، ابن ابن ابن ابن: للبنت النصف، ولبنت الابن السدس، والباقي للأخيرين عصبة، لاحتياجها إليه. 13 - زوج، وأم، وأخ لأم، وشقيقة، وشقيق: للزوج النصف، وللأم السدس، وللأخ لأم السدس، والباقي للأخيرين عصبة. 14 - زوج، بنت، جدة، أخت لأب: للزوج الربع، وللبنت النصف، وللجدة السدس، والباقي للأخت لأب تعصيباً. الفَصْلُ العاشر: المسائل الشّواذ: هناك مسائل شاذة مستثناة من القواعد العامة للميراث، أهمها مايأتي: المنبرية، والغراوان، والخرقاء، والأكدرية، والمالكية وأختها، والمشرَّكة (¬1)، أوضحها هنا بنحو مستقل لتسهيل الرجوع إليها، وإن أشير إليها في مواضع أخرى، علماً بأن حديث المشتركة أخرجه البيهقي عن زيد بن ثابت، وحديث الحمارية أخرجه الحاكم والبيهقي عن زيد، وحديث الخرقاء أخرجه البيهقي أيضاً، وحديث الأكدرية أخرجه البيهقي أيضا ً، وحديث المنبرية أخرجه البيهقي كذلك عن علي (¬2). ¬
1 - المنبرية
1 - المنبرية: هي مسألة من مسائل العول، تعول فيها الـ (24 إلى 27) عند اجتماع الثمن والسدس، كما في زوجة وبنتين وأم وأب: للزوجة الـ 8/ 1، وللبنتين الـ 3/ 2، وللأم الـ 6/ 1، وللأب الـ 6/ 1، تكون المسألة من 24، وتعول إلى 27. وتسمى المنبرية؛ لأن علياً رضي الله عنه أفتى فيها وهو على المنبر. 2 - الغراوان أو العمريتان: مسألتان يكون فيهما أحد الزوجين مع الأم والأب، فالمسألة الأولى: هي زوج وأب وأم، والمسألة الثانية: هي زوجة وأب وأم، والحكم فيهما أن يأخذ أحد الزوجين فرضه، ويقسم الباقي أثلاثاً: ثلثان للأب، وثلث للأم، ويكون فرض الأم إذن ثلث الباقي بعدالزوج أو الزوجة، وهو الربع في الأولى، والسدس في الثانية، وللأب الثلثان مما بقي بعدهما. وذلك خلافاً للأصل الذي هو أخذ الأم فرضها من رأس المال، وقد سميتا بالعمرتين؛ لأن عمر رضي الله عنه قضى فيهما بهذا القضاء، واتبعه فيه عثمان وزيد بن ثابت وابن مسعود، وروي الحكم عن علي، وهو رأي الجمهور. وروي عن ابن عباس أنه قال: تأخذ الأم ثلث أصل التركة في هاتين الصورتين، الذي هو فرضها الأصلي، مستدلاً بأنه تعالى جعل لها أولاً سدس التركة مع الولد بقوله سبحانه: {ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد} [النساء:11/ 4] ثم ذكر تعالى أن لها مع عدم الولد الثلث بقوله: {فإن لم يكن له ولد، وورثه أبواه فلأمه الثلث} [النساء:11/ 4] فيفهم منه أن المراد ثلث أصل التركة أيضاً.
3 - الخرقاء
وأجيب بأن معنى قوله تعالى: {فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث} [النساء:11/ 4] هو أن لها ثلث ما ورثاه، سواء أكان جميع المال أم بعضه؛ لأنه لو أريد ثلث الأصل، لكفى في البيان: «فإن لم يكن له ولد، فلأمه الثلث» ويلزم منه أن يكون قوله: {وورثه أبواه} [النساء:11/ 4] خالياً عن الفائدة. 3 - الخرقاء: هي أم وجد وأخت، قال زيد بن ثابت ومالك والشافعي وأحمد: للأم الثلث، وما بقي يقتسمه الجد والأخت، للذكر مثل حظ الأنثيين. وقال علي: للأم الثلث، وللأخت النصف، وللجد ما بقي وهو السدس. وقال ابن عباس: لا شيء للأخت، وهو مذهب أبي حنيفة. سميت بذلك لتخرق أقوال الصحابة فيها، أو لأن الأقوال خرقتها لكثرتها. 4 - الأكدرية أو الغراء: هي زوج، وأم، وجد، وأخت شقيقة أو لأب: قال الجمهور غير أبي حنيفة عملاً بمذهب زيد بن ثابت: لا يفرض للأخت النصف مع جد، بل ترث معه البقية إلا في الفريضة الأكدرية، فيكون للزوج النصف، وللأم الثلث، وللجد السدس، وللأخت النصف، فلا تسقط، وتعول المسألة إلى (9)، وتصح من (27)، للزوج (9)، وللأم (6)، وللأخت (4)، وللجد (8)، بأن يضم الواحد الذي أعطي للجد إلى الثلاثة المعطاة للأخت، ويقتسمان جملة الأربعة بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين، أي على مبدأ المقاسمة بين
5 - المشركة أو الحجرية أو الحمارية
الجد والأخت. وسميت بالأكدرية؛ لأنها كدرت على زيد مذهبه من ثلاثة أوجه: أعال بالجد، وفرض للأخت، وجمع سهام الفرض وقسمها على التعصيب. وذهب عمر وعلي وابن مسعود إلى توريث الأخت النصف أيضاً، لكن بدون ضمّ نصيبها إلى نصيب الجد، فالخلاف بين هذا الرأي ومذهب زيد هو تعيين المقدار الراجع إلى الأخت، مع الاتفاق على عدم إسقاطها. وأخذ أبو حنيفة بقول ابن عباس وأبي بكر: وهو إسقاط الأخت فلا تأخذ شيئاً. 5 - المشرَّكة أو الحجرية أو الحمارية: وهي زوج وأم (أو جدة) وإخوة أشقاء وإخوة لأم: الأصل فيها أن لا ميراث للأشقاء؛ لأنهم عصبة يأخذون ما أبقت الفروض، وهنا استغرقت الفروض التركة، إذ للزوج النصف، وللأم السدس، وللإخوة لأم الثلث، ويفرغ المال. ولكن المالكية والشافعية أخذاً برأي عمر وعثمان وزيد ذهبوا إلى التشريك بين الأشقاء والإخوة على السواء: الأشقاء ولأم، ذكوراً وإناثاً، لقول الأشقاء لسيدنا عمر: هب أن أبانا كان حماراً أو حجراً، فنرث بأمنا، فسميت حمارية أو حجرية، كما سميت مشتركة أو مشرَّكة لاشتراك الأشقاء مع الإخوة لأم، فيكون الشقيق وهو عاصب قد ورث مع استغراق الفروض، وهو خلاف الأصل. وقال علي وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل وداود رضي الله تعالى عنهم أجمعين: لا شيء للإخوة الأشقاء؛ لأنهم عصبة، وقد تم المال بالفروض، ويوزع المال على النحو السابق: للزوج النصف، وللأم السدس، وللإخوة لأم الثلث، عملاً بظاهر الآية: {وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت، فلكل
أم الفروخ أوالشريحية
واحد منهما السدس} [النساء:176/ 4] ولا خلاف في أن المراد بهذه الآية ولد الأم على الخصوص، وعملاً بظاهر آية أخرى هي: {وإن كانوا إخوة رجالاً ونساء، فللذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء:176/ 4] يراد بهذه الآية سائر الإخوة والأخوات، والفريق الأول يسوون بين ذكرهم وأنثاهم. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر» ومن شرَّك فلم يلحق الفرائض بأهلها، وولد الأبوين (الأشقاء) عصبة لا فرض لهم، وقد تم المال بالفروض، فوجب أن يسقطوا، كما لو كان مكان ولد الأم ابنتان. أم الفروخ أوالشريحية: سميت بأم الفروخ؛ لأنها أكثر المسائل عولاً، فشبهت الزوائد الأربعة بالفروخ، وسميت بالشريحية؛ لحدوثها في زمن القاضي شريح: إذا كان مكان الإخوة لأبوين أو لأب أخوات لأبوين أو لأب فأكثر، مع وجود الزوج والأم أو الجدة والإخوة لأم، تعول المسألة إلى عشرة: للزوج النصف ثلاثة، وللأم أو الجدة: السدس واحد، وللإخوة لأم: الثلث اثنان، وللأخوات الشقيقات أو لأب: الثلثان أربعة. 6 - الفريضة المالكية: أن تترك المتوفاة زوجاً وأماً وجداً وأخاً لأب وإخوة لأم: أي أن يكون في الوارثين إخوة لأب مكان الإخوة الأشقاء في المسألة المتقدمة (الحجرية). فمذهب زيد والشافعي: أن الجد يأخذ السدس، والباقي للإخوة لأب، ولا شيء للإخوة لأم. وخالف المالكية مذهب زيد في هذه المسألة، فقالوا: يأخذ الزوج النصف، والأم السدس، ويأخذ الجد وحده كل الباقي، ولا يأخذ الإخوة سواء لأب أو لأم شيئاً؛ لأن الجد يحجب الإخوة لأم، وإذا حجبهم كان أحق بالباقي.
7 - أخت المالكية أو شبه المالكية
7 - أخت المالكية أو شبه المالكية: أن يكون في المسألة السابقة مكان الأخ لأب أخ شقيق، فمذهب زيد والشافعي: أن الجد يأخذ السدس من رأس المال، فرضاً، والباقي للعصبة وهم الإخوة الأشقاء. وخالف مالك في هذه المسألة مذهب زيد وجعلها مستثناة، وقال: يأخذ الجد الباقي كله بعد ذوي السهام، دون الأخ، فلا شيء للإخوة، لا للأشقاء ولا لأب. 8 - اليتيمتان: وهما مسألتان: الأولى ـ أن تترك المتوفاة زوجاً وأختا ً شقيقة، أو تترك زوجاً وأختاً لأب، فتكون المسألة من (2) لكل من الوارثين واحد. 9 - أم الأرامل: أن يترك المتوفى ثلاث زوجات وجدتين وأربع أخوات لأم، وثمان أخوات شقيقات، للزوجات الربع، وللجدتين السدس، وللأخوات لأم الثلث، وللأخوات الشقيقات الثلثان، المسألة من (12) وتعول إلى (17)، سميت بذلك لأن الورثة كلهن إناث. 10 - المروانية: أن تترك المتوفاة زوجاً وأختين شقيقتين وأختين لأب وأختين لأم، يكون للزوج النصف، وللشقيقتين الثلثان، وتحجب الأختان لأب، وللأختين لأم الثلث، المسألة من (6 وتعول إلى 9). سميت بذلك لوقوعها في زمن مروان بن الحكم. 11 - الحمزية: أن يترك المتوفى ثلاث جدات متحاذيات، وجداً، وأختاً شقيقة، وأختاً لأب، وأختاً لأم، للجدات السدس، والجد والشقيقة ولأب عصبات، والأخت لأم محجوبة بالجد، المسألة من (6، يضرب 3) عدد
12 - الدينارية
الجدات بعدد رؤوس الجد والأختين وهو (4) والحاصل (14) يضرب بأصل المسألة وهو (6) فيكون الحاصل (72). سميت بذلك لأن حمزة الزيات أجاب عنها بهذا الجواب. 12 - الدينارية: أن يترك المتوفى زوجة وجدة وبنتين واثني عشر أخاً لأب وأختاً لأب، للزوجة الثمن، وللجدة السدس، وللبنتين الثلثان، وبقية الورثة عصبة. المسألة من (24)، وتصح من (600) بضرب (24 في 25) عدد رؤوس الإخوة لأب 24 والأخت لأب (1=25) والحاصل (600). وسميت بالدينارية؛ لأن المورث خلف ست مئة دينار، وسبعة عشر وارثاً ذكوراً وإناثاً، أصاب أحدَهم وهو الأخت لأب دينار واحد. 13 - الامتحان: أن يترك المتوفى أربع زوجات وخمس جدات وسبع بنات وتسع أخوات لأب، للزوجات الثمن، وللجدات السدس، وللبنات الثلثان، والأخوات لأب عصبة، المسألة من (24)، نضرب الرؤوس بعضها ببعض بسبب وجود التباين بين عدد كل فريق وسهامه، والحاصل (1260)، يضرب في (24)، والحاصل (30240). وتسمى بذلك لامتحان العامل بها، فيقال: رجل خلّف عدداً من الورثة، كل صنف أقل من عشرة، ولا تصح المسألة إلا بما يزيد على ثلاثين ألفاً. الفَصْلُ الحادي عشر: الحجب: تعريفه، والفرق بينه وبين الحرمان، وأنواعه وحكم كل نوع، وأحوال الورثة في الحجب (¬1). ¬
أولا ـ تعريف الحجب
أولاً ـ تعريف الحجب: الحجب لغة: المنع، وشرعاً: المنع من الميراث كله أو بعضه، وعبارة الفقهاء: منع وارث معين من كل الإرث أو بعضه لوجود شخص آخر، لا يشاركه في سهمه. مثل حجب الجد بالأب، وحجب الزوج من النصف إلى الربع بالولد. ثانياً ـ الفرق بين الحجب والحرمان: الحجب غير الحرمان، فالحرمان: هو منع شخص من الإرث، لقيام أحد موانع الإرث، كالقتل، فالولد القاتل لا يرث، لوجود القتل مع بقاء أو قيام سبب الإرث وهو القرابة. والمحروم بالوصف لا يحجب غيره، بل يعتبر كأن لم يكن، فمن مات عن ولد قاتل وزوجة وأب، كان للزوجة الربع، كأنه ليس للميت ولد، وللأب التعصيب. وأما الحجب: فهو المنع من الميراث لا بسبب مانع منه، بل لوجود شخص أقرب منه إلى الميت. والمحجوب بالشخص يحجب غيره، ويعتبر موجوداً، فمن مات عن أب وأم وأخوين شقيقين، كان للأم السدس لوجود الشقيقين، مع أنهما محجوبان بالأب، وقد يحجب غيره نقصاناً أو حرماناً، كالإخوة مع الأم والأب، وكأم الأب تُحجب به، وتحجب أم أم الأم. وبناء عليه، المانع في الحجب، ليس لوصف قام بذات الممنوع، فلم تلزم به أهلية الإرث. والمانع في الحرمان لوصف قام بذات الممنوع، ككونه قاتلاً، فزالت به أهلية الإرث. وليس من الحجب انتقاص حصص أصحاب الفروض بسبب اجتماع من يجانسهم في حالة الانفراد، كالزوجات مثلاً، فإن فرض الزوجة إذا انفردت الربع أو الثمن، وإذا تعددت الزوجات كان لهن نفس الفرض.
ثالثا ـ نوعا الحجب
وليس من الحجب أيضاً انتقاص السهام بالعول، عندما تزيد السهام عن أصل المسألة. ثالثاً ـ نوعا الحجب: الحجب نوعان: حجب نقصان، وحجب حرمان. 1 - حجب النقصان: هو أن ينقص فرض وارد من سهم أعلى إلى أدنى لوجود شخص آخر، كالزوج ينتقل من النصف إلى الربع بالولد، وكالأم مع وجود الابن ينتقل من الثلث إلى السدس. ويحصل في خمسة من ذوي الفروض، لكل واحد فرضان: أعلى وأدنى: وهم الزوجان، وبنت الابن، والأخت لأب، والأم، بالنص والإجماع. أما الزوج: فإنه ينتقل من النصف إلى الربع بالفرع الوارث للزوجة، منه أو من غيره. والزوجة: تنتقل من الربع إلى الثمن بالفرع الوارث للزوج، منها أو من غيرها. وبنت الابن: تنتقل من النصف إلى السدس بالبنت الصلبية. والأخت لأب: تنتقل من النصف إلى السدس بالأخت الشقيقة. والأم: تنتقل من الثلث إلى السدس بالفرع الوارث مطلقاً وبالعدد من الإخوة من أي جهة. 2 - حجب الحرمان: هو أن يمنع وارث من الإرث أصلاً، كالجد يحجب بالأب، وابن الابن يحجب بالابن، والأخ لأ م يحجب بالأب.
الورثة بالنسبة لحجب الحرمان نوعان
والورثة بالنسبة لحجب الحرمان نوعان: الأول ـ من لا يحجب حجب حرمان: وهم ستة: ثلاثة من الذكور وثلاثة من الإناث: الأب، والأم، والابن، والبنت، والزوج والزوجة. فهؤلاء الستة يدلون إلى الميت دون واسطة، فإذا وجد واحد منهم، فلا بد من أن يرث، ويمكن جمعهم بقلنا: الولدان والأبوان والزوجان. الثاني ـ من يحجب حجب حرمان: وهم سبعة: الجد، والجدة، والأخوات الشقيقات، والأخوات لأب، وأولاد الأم، وبنات الابن، وابن الابن. الجد يحجب بالأب، والجدة بالأم، والشقيقات بالابن أو ابن الابن وبالأب إجماعاً، وبالجد عند أبي حنيفة. والأخوات لأب يحجبن بما تحجب به الشقيقتان، كما يحجبن بالشقيق، وبالأختين الشقيقتين إذا لم يكن معهن معصِّب. والإخوة لأم يحجبن بالأب والجد والفرع الوارث (الابن والبنت وابن الابن وبنت الابن). وبنات الابن يحجبن بما تحجب به البنتان، وبالابن، وبالبنتين فأكثر إذا لم يكن معهن معصب. وابن الابن بالابن. وحجب الحرمان مبني على قاعدتين: القاعدة الأولى ـ كل من أدلى إلى الميت بواسطة، حجبته تلك الواسطة،
خلاصة أنواع الحجب
سوء أولاد الأم، فإنهم يدلون بها ويرثون معها، مثل الجد مع الأب، والجدة (أم الأم) مع الأم. القاعدة الثانية ـ الأقرب يحجب الأبعد كالمذكور في العصبات، وكالجدات مع الأم، فالأم تحجب كل جدة، والقربى تحجب البعدى، وبنات الابن مع الابن أو البنت، وابن الابن مع ابن هو عمه لا أبوه، فإن الابن يحجب ابن أخيه، لقرب درجته. وكل واحد من الابن وابنه والأب إجماعاً، والجد عند أبي حنيفة يحجب الإخوة والأخوات مطلقاً. والفرع الوارث والأصل الذكر كل منهم يحجب ولد الأم. وحجب العصبات يكون على النحو الذي تبين سابقاً، فالترجيح بينهم يكون أولاً بالجهة، على أن الجد والإخوة في مرتبة واحدة، فإذا تساووا في الجهة، فالترجيح يكون بقرب الدرجة من الميت، فالأب مقدم على الجد، والأخ مقدم على ابن الأخ، وهكذا، فإذا تساووا في الجهة والدرجة فالترجيح بقوة القرابة، فالأخ الشقيق مقدم على الأخ لأب، وهكذا. خلاصة أنواع الحجب (¬1): أولاً ـ الحجب بالوصف: يمكن أن يتصف به جميع الورثة، إن قام وصف من أحد موانع الإرث: وهي القتل والرق واختلاف الدين، واختلاف الدارين عند الحنفية. ثانياً ـ الحجب بالشخص: وهو إما حجب نقصان أو حجب حرمان. وحجب النقصان: هو حجب من سهم إلى سهم أقل منه، وأفراده خمسة: ¬
1 - من فرض إلى فرض أقل منه
1 - من فرض إلى فرض أقل منه: كانتقال نصيب الزوج من النصف إلى الربع بالولد، وانتقال نصيب الأم من الثلث إلى السدس بالولد أو العدد من الإخوة والأخوات، وانتقال نصيب بنت الابن من النصف إلى السدس بوجود البنت الواحدة، وانتقال نصيب الزوجة من الربع إلى الثمن بالولد. وانتقال نصيب الأخت لأب من النصف إلى السدس بوجود الأخت الشقيقة الواحدة. 2 - من تعصيب إلى تعصيب أقل منه، كالأخت الشقيقة أو لأب مع البنت أو بنت الابن إذا كان معها أخوها، فينتقل نصيبها من تعصيب إلى أقل منه بسبب الأخ. 3 - من فرض إلى تعصيب: كالبنت مع الابن، ينتقل نصيبها من فرض إلى تعصيب أقل منه. 4 - من تعصيب إلى فرض: كالأب أو الجد عند عدم الأب، مع ابن أو ابن الابن. 5 - مزاحمة في الفروض: كمسائل العول، فإنه زيادة في السهام، نقص في الأنصبة. وحجب الحرمان: هو أن يحجب الشخص عن الميراث أصلاً، فيصير كالمحروم. ولا يدخل على ستة، ويدخل على سبعة. فلا يدخل على ستة: وهم الولدان والأبوان والزوجان، أي الابن والبنت، والأب والأم، والزوج والزوجة. ويدخل على سبعة وهم: 1 - الجد مع الأب.
2 - الجدات مع الأم
2 - الجدات مع الأم. 3 - ابن الابن مع الابن. 4 - بنات الابن مع البنتين والابن. 5 - الأخوات لأب بالشقيقتين والشقيق. 6 - الإخوة مطلقاً بالابن، وابن الابن، وبالأب اتفاقاً، وبالجد عند أبي حنيفة. 7 - الإخوة والأخوات لأم بالفرع الوارث والأصل الذكر. موقف القانون من الحجب: نص القانون المصري (م 23 - 29) والسوري (م 281 - 287) على تعريف الحجب وحكمه والفرق بينه وبين الحرمان، وعلى أحوال المحجوبين حجب حرمان. المحجوبون من أصحاب الفروض: أصحاب الفروض اثنا عشر، منهم اثنان لا يحجبان أصلاً وهما الأب والبنت، والآخرون يحجبون إما نقصاناً أو حرماناً: 1 - الزوج: يحجب حجب نقصان فقط من النصف إلى الربع، عند وجود الفرع الوارث. 2 - الزوجة: تحجب حجب نقصان فقط من الربع إلى الثمن، عند وجود الفرع الوارث. 3 - الأم: تحجب حجب نقصان فقط من الثلث إلى السدس، بالفرع الوارث وبالعدد من الإخوة والأخوات من أي جهة كانوا.
أمثلة
4 - الجدة: تحجب حجب حرمان بالأم، ولا تحجب حجب نقصان، والقربى تحجب البعدى. 5 - الجد: يحجب حجب حرمان بالأب. وبالجد الأقرب منه درجة إلى المتوفى. 6 - بنت الابن: تحجب حجب حرمان بالفرع الوارث المذكر، سواء أكان معها معصب أم لا، وتحجب أيضاً بالبنتين فأكثر إلا أن يكون معها معصب في درجتها أو أنزل منها. وإذا حرمت من الميراث كان لها في القانون المصري وصية واجبة. 7 - الأخت الشقيقة: تحجب حجب حرمان بالابن، وابن الابن وإن نزل، وبالأب، سواء أكان معها شقيق أم لا. 8 - الأخت لأب: تحجب حجب حرمان، سواء أكان معها معصب أم لا، بما تحجب به الأخت الشقيقة، وبالأخ الشقيق، وبالأخت الشقيقة إذا صارت عصبة مع البنات أو بنات الابن، وتحجب بالأختين الشقيقتين إلا أن يكون معها معصب. 9، 10 - الإخوة والأخوات لأم: يحجبون حجب حرمان بالفرع الوارث مطلقاً، وبالأصل الوارث المذكر (الأب والجد اتفاقاً) ولا يحجبون حجب نقصان. أمثلة: 1 - زوجة، شقيقة، أخ لأب، ابن أخ شقيق: للزوجة الربع، وللشقيقة النصف، والأخ عصبة يأخذ الباقي، وابن الأخ محجوب بالأخ، والمسألة من (4).
2 - زوج، أم، بنت، إخوة لأم، أخت لأب، عم شقيق: للزوج الربع، وللأم السدس، وللبنت النصف، والإخوة لأم محجوبون بالبنت، والأخت لأب عصبة مع البنت تأخذ الباقي، والعم محجوب بالأخت لأب، والمسألة من (12). 3 - شقيقتان، أختان لأب، أم، أم لأب، ابن أخ شقيق: للشقيقتين الثلثان، والأختان لأب محجوبتان بالشقيقتين، وللأم السدس، وأم الأب محجوبة بالأم، وابن الأخ الشقيق عصبة يأخذ الباقي، والمسألة من (6). 4 - بنت، بنت ابن، زوجتان، جدة، شقيقتان، أخ لأب: للبنت النصف، ولبنت الابن السدس، وللزوجتين الثمن، وللجدة السدس، والشقيقان عصبة يأخذان الباقي، والأخ لأب محجوب بالشقيقين، والمسألة من (24). 5 - بنت، بنت ابن، أخت شقيقة، أم أم أم، أم أب: للبنت النصف، ولبنت الابن السدس، والشقيقة عصبة تأخذ الباقي، ولأم الأب السدس، وأم أم الأم محجوبة بالأم القربى، والمسألة من (6). 6 - شقيقة، أختان لأم، أخوان لأم، عم، أخ لأب: للشقيقة النصف، ولأولاد الأم جميعاً الثلث، والأخ لأب عصبة، والعم محجوب، والمسألة من (6). 7 - بنت، بنتا ابن، ابن ابن ابن، بنت ابن ابن، أب: للبنت النصف، ولبنتي الابن السدس، وللأب السدس، والأخيران عصبة، والمسألة من (6). 8 - بنت، شقيقة، شقيق، أخت لأب، أخت لأم: للبنت النصف، والشقيق والشقيقة عصبة، والأخيران محجوبان، والمسألة من (6).
الفصل الثاني عشر: العول
9 - بنت ابن، ابن ابن ابن، أب، زوجة: لبنت الابن النصف، وابن ابن الابن عصبة، وللأب السدس، وللزوجة الثمن، وأصل المسألة من (24). 10 - بنتان، بنت ابن، أخت شقيقة، أخت لأب، أخت لأم: للبنتين الثلثان، وبنت الابن محجوبة بالبنتين، والشقيقة عصبة مع الغير، والأخيران محجوبان بالبنتين، وأصل المسألة من (3). 11 - بنت، بنت ابن، ابن ابن (أخوها) بنت ابن ابن: للبنت النصف، وبنت ابن الابن محجوبة بابن الابن، والأخيران عصبة بالغير، والمسألة من (2). 12 - بنت، بنت ابن، ابن ابن (ابن عمها)، بنت ابن ابن: للبنت النصف، وبنت ابن الابن محجوبة بابن الابن، والأخيران عصبة بالغير، والمسألة من (2). الفَصْلُ الثّاني عشر: العَول: معنى العول ومشروعيته، ما يعول وما لا يعول من أصول المسائل (¬1): أولاً ـ معنى العول: العول لغة: الجور والظلم وتجاوز الحد، يقال: عال الرجل: ظلم، وفي الاصطلاح: زيادة في مجموع السهام، من أصل المسألة، ونقص واقعي في الأنصبة. ويترتب عليه أن ما زاد يقسم في فرائض جميع الورثة على نسبة واحدة. فإذا ضاق المَخْرَج (أصل المسألة) عن الوفاة بالفروض المجتمعة فيه، مثل (6)، ترفع ¬
ثانيا ـ مشروعية العول
التركة إلى عدد أكثر من المخرج، مثل (7)، ثم تقسم حتى يدخل النقصان في فرائض جميع الورثة على نسبة واحدة. وذلك بأن يضرب رقم العول في أصل المسألة، ويعطى كل واحد حصته من نتيجة الضرب. وتسمى المسألة التي تكون فيها سهام الفريضة أكثر من أصل المسألة (عائلة) كزوج وشقيقتين، فإن أصل المسألة (6) ومجموع السهام سبعة، وسميت بذلك أخذاً من العدل بمعنى الزيادة والارتفاع، يقال: عال الميزان: إذا ارتفع؛ لأن بهذه الزيادة قد ارتفعت السهام، إلى أكثر من أصل المسألة. وأما المسألة التي تكون فيها سهام الفريضة مساوية لأصل المسألة؛ فتسمى (عادلة)؛ لأن كل صاحب فرض أخذ حقه كاملاً غير منقوص. كما في زوجة، وأم، وأخ شقيق: للزوجة الربع فرضاً، وللأم الثلث فرضاً، والباقي للأخ تعصيباً، فهي لا عول فيها ولا رد. والمسألة التي تكون فيها سهام الفريضة أقل من أصل المسألة، وليس بين الورثة عاصب يستحق الباقي، تسمى (قاصرة) وفيها يرد الباقي على أصحاب الفروض ما عدا الزوجين، مثل أخت شقيقة، وأم، للأخت النصف فرضاً، وللأم الثلث فرضاً، والمسألة من (6)، ويرد الباقي وهو (واحد) عليهما. ثانياً ـ مشروعية العول: أول من حكم بالعول عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد وقعت في عهده مسألة ضاق أصلها عن فروضها وهي زوج وأختان، أو زوج وأم وأخت، فشاور الصحابة فيها، فأشار العباس أو زيد بن ثابت إلى العول، وقال: أعيلوا الفرائض، فأقره عمر على ذلك وقضى به، وتابعه الصحابة عليه، ولم ينكره إلا ابن عباس بعد وفاة عمر، فسأله رجل عما يصنع بالفريضة إذا عالت، فقال: أدخل النقص
ثالثا ـ ما يعول وما لا يعول من أصول المسائل
على من هو أسوأ حالاً، وهن البنات والأخوات، فإنهن يُنْقلن من فرض مقدر إلى فرض غير مقدر، وقال: هلا تجتمعون حتى نبتهل، فنجعل لعنة الله على الكاذبين، إن الذي أحصى رَمْل عالج (¬1) عدداً، لم يجعل في مال نصفين وثلثاً. والحق ما فعله عمر والصحابة؛ لأن أصحاب الفروض المجتمعة في التركة، قد تساووا في سبب الاستحقاق، فيتساوون في الاستحقاق، فيأخذ كل واحد منهم جميع حقه إذا اتسع المحل لذلك، وإلا دخل النقص عليهم جميعاً بنسبة سهام كل واحد منهم، كالدائنين إذا ضاق المال عن الوفاء بجميع ديونهم، فإنهم يتقاسمونه بالحصص، وكأصحاب الوصايا إذا ضاق الثلث عن الوفاء بها كاملة، فإنهم يتحاصون فيه. لهذا أخذ القانون في مصر وسورية برأي عمر وجمهور الصحابة والمذاهب الأربعة. ثالثاً ـ ما يعول وما لا يعول من أصول المسائل: الفروض المذكورة في كتاب الله تعالى ستة، ومخارجها خمسة أعداد: الاثنان، والثلاثة، والأربعة، والستة، والثمانية، وذلك لاتحاد الثلث والثلثين في المخرج، والاختلاط بين نوعين من هذه المخارج يقتضي وجود مخرجين آخرين هما (12، 24)، فصار المجموع سبعة أعداد. ما لا يعول من الأصول: أربعة من تلك السبعة لا تعول أصلاً: وهي الاثنان والثلاثة والأربعة والثمانية (2، 3، 4، 8) لأن الفروض فيها لا تزيد عن أصل المسألة. ¬
ما يعول من الأصول
فلا عول في الاثنين كزوج وأخت لأب؛ لأن المسألة تكون من اثنين. ولا عول في الثلاثة كبنتين وأخ لأب؛ لأن المسألة من ثلاثة، والباقي فيها للأخ. ولاعول في الأربعة كزوج وابن؛ لأن المسألة من أربعة: للزوج الربع والباقي للابن. ولا عول في الثمانية كزوجة وابن؛ لأن المسألة من ثمانية، للزوجة الثمن والباقي للابن. ما يعول من الأصول: الباقي من الأعداد السابقة قد يعول، وهو الستة والاثنا عشر، والأربعة والعشرون (6، 12، 24). 1 ً - الستة: قد تعول إلى سبعة: مثل زوج، وأختين شقيقتين: للزوج النصف (3)، وللشقيقتين الثلثان (4)، المسألة من (6)، وتعول إلى (7). وقد تعول الستة إلى ثمانية، كما في مسألة المباهلة: وهي زوج وشقيقتان، وأم: للزوج النصف (3)، وللشقيقتين الثلثان (4)، وللأم السدس (¬1)، المسألة من (6، وتعول إلى 8)، وهي أول مسألة عالت في الإسلام. وقد تعول الستة إلى (9)، كما في المسألة المروانية: وهي زوج، وشقيقتان، وأختان لأم: للزوج النصف (3)، وللشقيقتين الثلثان (4)، ولأختي الأم الثلث (2)، والمسألة من (6، وتعول إلى 9). ¬
المسألة الشريحية
ومثل: زوج، وأخت شقيقة، وأم، وأخت لأب، وأخت لأم: للزوج النصف (3)، وللشقيقة النصف (3)، وللأم السدس (1)، وللأخت لأب السدس (1)، وللأخت لأم السدس (1). وقد تعول الستة إلى (10)، كما في المسألة الشريحية (1)، وتسمى أم الفروخ لكثرة ما فرخت في العول، وهي: زوج، وشقيقتان، وأختان لأم، وأم: للزوج النصف (3)، وللشقيقتين الثلثان (4)، وللأختين لأم الثلث (2)، وللأم السدس (1)، المسألة من (6، وتعول إلى 10). ومثل: زوج وأم، وأختين لأم، وشقيقة، وأخت لأب: للزوج النصف (3)، وللأم السدس (1)، وللأختين لأم الثلث (2)،وللشقيقة النصف (3)، وللأخت لأب السدس (1)، المسألة من (6، وتعول إلى 10). 2 - والاثنا عشر: قد تعول إلى عشر، كما في: زوجة، وشقيقتين، وأخت لأم: للزوجة الربع (3)، وللشقيقتين الثلثان (8)، وللأخت لأم السدس (2)، والمسألة من (12، وتعول إلى 13). ومثل: زوج، وبنتين، وأم: للزوج الربع (3)، وللبنتين الثلثان (8)، وللأم السدس (2، تعول إلى 13). وقد تعول الاثنا عشر إلى خمسة عشر، كما في:
3 - والأربعة وعشرون
زوج، وبنتين، وأب: للزوج الربع (3)، وللبنتين الثلثان (8)، وللأم السدس (2)، وللأب السدس (2)، والمسألة من (12، وتعول إلى 15). ومثل: زوجة، وشقيقتين، وأختين لأم: للزوجة الربع (3)، وللشقيقتين الثلثان (8)، وللأختين لأم الثلث (4)، المسألة من (12، وتعول إلى 15). وقد تعول الاثنا عشر إلى سبعة عشر، مثل: زوجة، وشقيقتين، وأختين لأم، وأم: للزوجة الربع (3)، وللشقيقتين الثلثان (8)، وللأختين لأم الثلث (4)، وللأم السدس (2)، المسألة من (12، وتعول إلى 17). 3 - والأربعة وعشرون: تعول عولاً واحداً أو مرة واحدة إلى سبعة وعشرين، مثل المنبرية: زوجة، وبنتين، وأب، وأم: للزوجة الثمن (3)، وللبنتين الثلثان (16)، وللأب السدس (4)، وللأم السدس (4)، والمسألة من (24)، وتعول إلى (27). وسميت بالمنبرية؛ لأن الإمام علي رضي الله عنه أجاب عنها وهو على منبر الكوفة بديهة، فور سؤال السائل، فقال: «والمرأة صار ثمنها تسعاً». موقف القانون: نص القانون المصري (م 15) والسوري (م 23) على العول، ونص المادة هو: «إذا زادت أنصباء الفروض على التركة، قسمت بينهم أنصباؤهم في الإرث».
الفصل الثالث عشر: الرد
الفَصْلُ الثّالث عشر: الرَّد: تعريفه، ومذاهب العلماء فيه، وقاعدة الرد (¬1). أولاً ـ تعريف الرد: الرد ضد العول؛ لأنه زيادة في الأنصبة، نقص في السهام، فيرد ما فضل عن فرض ذوي الفروض النسبية عليهم بقدر سهامهم، ولا يرد على الزوجين. وأصحاب الفروض النسبية: هم من عدا الزوجين، يرد عليهم بنسبة فروضهم. الرد عند الفرضيين إذن: هو دفع ما فضل من فروض أصحاب الفروض النسبية إليهم بقدر حقوقهم، عند عدم العصبة. فهو ضد العول، إذ بالعول يزداد أصل المسألة، فيدخل النقص على سهام أصحاب الفروض، وبالرد ينقص أصل المسألة، وتزداد السهام. ثانياً ـ مذاهب العلماء في الرد: العلماء في أصل الرد فريقان: 1 - فريق يرى عدم الرد، وإنما يكون الباقي من التركة بعد أخذ أصحاب الفروض فروضهم، ولا عاصب لبيت المال. وهذا مذهب زيد بن ثابت، وبه أخذ مالك والشافعي، لكن المعتمد عند متأخري المالكية، والمفتى به عند متأخري الشافعية: إذا لم ينتظم بيت المال يرد ¬
الباقي على أهل الفروض غير الزوجين، بنسبة فروضهم، فإن لم يكونوا فعلى ذوي الأرحام. ودليل زيد ومن تابعه: أن الله تعالي قد بيَّن كل وارث بالنص، فلا يجوز الزيادة عليه بغير دليل، وقال الرسول صلّى الله عليه وسلم بعد نزول آية المواريث: «إن الله أعطى كل ذي حق حقه، فلا يستحق وارث أكثر من حقه» (¬1). 2 - ويرى الجمهور من فقهاء الصحابة والتابعين ومنهم الإمام علي: أن يرد على غير الزوجين من أصحاب الفروض بنسبة فروضهم. وبه أخذ الحنفية والحنابلة ومتأخرو المالكية والشافعية كما أبنت، لفساد بيت المال، قال الغزالي في المستصفى: والفتوى اليوم على الرد على غير الزوجين عند عدم المستحق، لعدم بيت المال، إذ الظلمة لا يصرفونه إلى مصرفه. وأجاز عثمان رضي الله عنه الرد على جميع أصحاب الفروض حتى الزوجين. وقال ابن عباس: لا يرد على ثلاثة: الزوجين والجدة؛ لأن ميراث الجدة ثبت بالسنة طعمة، لحديث «أطعموا الجدات السدس» (¬2) فلا يزاد عليه، إلا إذا لم يكن وارث نسبي غيرها. ودليل الجمهور: قوله تعالى: {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله} [الأحزاب:6/ 33] فإنه يفيد أن ذوي الأرحام ـ الأقرباء إلى الميت ¬
موقف القانون
ـ أولى بالتركة ممن عداهم، فيكونون أولى من بيت المال؛ لأنه لسائر المسلمين، وذو الرحم أحق من الأجانب بالنص. ولا شك أن أقرب الناس رحماً بالميت هم أصحاب الفروض. ولما كان الزوجان ليسا من الأقرباء، لم تشملهما الآية، فلا يأخذان بالرد شيئاً، لأن ميراثهما بسبب آخر غير الرحم والقرابة، وهو الزوجية. وجاء في السنة: أن امرأة أتت النبي صلّى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إني تصدقت على أمي بجارية، فماتت وبقيت الجارية، فقال: «وجب أجرك، ورجعت إليك الجارية في الميراث» فجعل حقها في الجارية كلها، ولولا الرد لوجب لها نصفها فقط. موقف القانون: فصل القانون المصري (م 30) والسوري (م 288) في شأن الرد على الزوجين، فأجاز الرد على غير الزوجين من أصحاب الفروض بنسبة فروضهم، إذا لم يوجد عصبة. كما أنه أجاز الرد على أحد الزوجين إذا لم يوجد عصبة من النسب، أو أحد أصحاب الفروض النسبية، أوأحد ذوي الأرحام، فيكون الرد على الزوجين مؤخراً في القانون عن ميراث ذوي الأرحام. وهذا التفصيل لم يقل به الفقهاء، وإنما اعتمد على المصلحة أحياناً، ففي حالة عدم وجود العصبة النسبية أجيز الرد على غير الزوجين، وهذا رأي الجمهور، أما في حالة الرد على أحد الزوجين إذا لم يوجد ذوو الأرحام، فيتفق مع مذهب عثمان بن عفان الذي أجاز الرد على جميع ذوي الفروض. ويتفق أيضاً مع ما أفتى به متأخرو الحنفية من الرد على الزوجين: «إذا لم يكن من الأقارب سواهما، لفساد الإمام وظلم الحكام في هذه الأيام» (¬1). ¬
ثالثا ـ قاعدة الردة
وسبب الرد على أحد الزوجين بعد توريث ذوي الأرحام: أن صلة الزوجين في الحياة تقضي بأن يكون لأحدهما في هذه الحالة الحق في مال الآخر، بدلاً من المستحقين الآخرين. ويمكن القول: أخذ القانون برأي الجمهور في الرد على غير الزوجين، واستثنى حالة واحدة أخذ فيها برأي عثمان وهي على أحد الزوجين عند عدم ذوي الأرحام. ثالثاً ـ قاعدة الردة: مسائل الرد أربعة أقسام؛ لأن الموجود في المسألة إما صنف واحد ممن يرد عليه أو أكثر، وعلى كلا التقديرين: إما أن يكون في المسألة أحد ممن لا يرد عليه، أو لا يكون، فكانت الأقسام أربعة: الأول ـ أن يكون الموجود في المسألة صنفاً واحداً ممن يرد عليه، وليس معهم من لا يرد عليه من أحد الزوجين: فيجعل أصل المسألة بقدر عدد رؤوسهم؛ لأن جميع المال لهم بالفرض والرد معاً، فيقسم على عدد الرؤوس. مثل: من مات عن: بنتين أوأختين أو جدتين، فإن أصل المسألة من اثنين (2) فتعطى كل واحد منهما النصف فرضاً ورداً، لتساويهما في الاستحقاق. ومن مات عن بنت فلها كل التركة فرضاً ورداً، ومن مات عن 3 شقيقات، فلهن كل التركة فرضاً ورداً، لكل واحد ثلث. الثاني ـ أن يكون الموجود في المسألة أكثر من صنف واحد ممن يرد عليه، وليس معهم من لا يرد عليه:
فيجعل أصل المسألة هو مجموع سهام الفروض للمجتمعين المأخوذة من مخرج المسألة: ففي جدة وأخت لأم لكل منهما السدس: يجعل أصل المسألة من اثنين؛ لأنهما مجموع سهامهما؛ إذ أصل المسألة من (6): مخرج السدسين، للجدة السدس وهو سهم، وللأخت لأم السدس، وهو سهم أيضاً، فيكون مجموع سهامهما اثنين، ويهمل أصل المسألة، ويجعل مجموع السهام أصلاً لها. وفي (3 بنات) وأم: يجعل أصل المسألة خمسة، فتأخذ البنات 5/ 4، والأم 5/ 1. وفي أم وأخوين لأم: يجعل أصل المسألة من ثلاثة (3)؛ لأنها مجموع السهام؛ إذ الأصل الأساسي هو (6): للأم السدس: سهم، وللأخوين الثلث: سهمان، فيترك الأصل، ويجعل مجموع السهام أصلاً. وفي أخت شقيقة وأخت لأب: يجعل أصل المسألة مجموع السهام وهو أربعة؛ لأن الأصل الأول هو (6) للشقيقة النصف وهو ثلاثة أسهم، وللأخت لأب السدس وهو سهم، فيترك الأصل، ويجعل مجموع السهام أصلاً، وهكذا، فجميع مسائل الرد التي ليس فيها أحد الزوجين تكون من ستة، وتنتهي إلى أقل من ذلك، وقد تحتاج إلى تصحيح. فإذا استقامت القسمة على الورثة، كما في الأمثلة المتقدمة، فذاك، وإن لم تستقم على الورثة، كما إذا ترك الميت: بنتاً وثلاث بنات ابن. فالمسألة من ستة، وترد إلى أربعة: للبنت (3) ثلاثة، ولبنات الابن (1) واحد، وهو غير مقسوم عليهن، فيضرب عدد رؤوسهن وهو (3) في أصل المسألة الردي وهو (4)، تبلغ (12)، ومنها تصح.
الثالث ـ أن يكون في المسألة مع الصنف الواحد الذي يرد عليه أحد ممن لا يرد عليه، أي أحد الزوجين
الثالث ـ أن يكون في المسألة مع الصنف الواحد الذي يرد عليه أحد ممن لا يرد عليه، أي أحد الزوجين: فيجعل أصل المسألة مخرج نصيب من لا يرد عليه، ويعطى فرضه منه، ثم يقسم الباقي على من يرد عليهم بعدد رؤوسهم. فإن أمكن قسمة السهام الباقية على عدد الرؤوس برقم صحيح غير مكسور، فلا إشكال، وإن لم يمكن، فإنه تصحح السهام، بضرب أصل المسألة في أقل عدد يقبل القسمة على رؤوس من يرد عليهم. ففي زوج وثلاث بنات: يكون أصل المسألة مخرج نصيب الزوج وهو أربعة (4): للزوج سهم منها، والباقي وهو ثلاثة أسهم يكون للبنات الثلاث فرضاً ورداً. وهنا لا حاجة إلى التصحيح أو الضرب؛ لأن عدد السهام يقبل القسمة على عدد الرؤوس برقم صحيح. وفي زوجة وثلاث أخوات شقيقات: يكون أصل المسألة من مخرج نصيب الزوجة وهو أربعة، للزوجة الربع، وهو سهم، وللأخوات الباقي فرضاً ورداً، وهوثلاثة أسهم، وعدد السهام يقبل القسمة على عدد الرؤوس برقم صحيح أيضاً. وفي زوجة وأربع بنات: يكون أصل المسألة من (8) للزوجة الثمن، وهو سهم، وللبنات الباقي فرضاً ورداً، وهو سبعة أسهم. ولكن مجموع السهام لا يقبل القسمة بغير كسر على عدد رؤوس من يرد عليهم، فتصح المسألة بضرب أصل المسألة وهو (8) في أقل عدد يقبل القسمة على رؤوس البنات وهو أربعة (4) فيبلغ الحاصل (32) سهماً، تأخذ الزوجة منها الثمن أربعة أسهم، ويقسم الباقي على البنات، لكل واحدة سبعة سهام.
الرابع ـ أن يكون مع الصنفين فأكثر ممن يرد عليه أحد ممن لا يرد عليه
وفي زوج وخمس بنات: مسألة الرد من أربعة، للزوج منها الربع وهو سهم، والباقي لا ينقسم على البنات، لتباين سهامهن وعدد رؤوسهن، فيضرب عدد الرؤوس وهو خمسة في الأصل الردي وهو (4) فيصبح (20) ومنها تصح. وفي زوج وست بنات: للزوج الربع هو سهم، والباقي ثلاثة للبنات الست، وبينها وبين عدد رؤوس البنات موافقة بالثلث، فيرد عدد البنات إلى (2) ويضرب هذا العدد في أصل المسألة الردي، فيكون المجموع (8): للزوج (2) وللبنات (6) لكل واحدة سهم. الرابع ـ أن يكون مع الصنفين فأكثر ممن يرد عليه أحد ممن لا يرد عليه: فيجعل أصل المسألة مخرج فرض من لا يرد عليه، ويعطى نصيبه منه، ثم يقسم الباقي على من يرد عليهم بنسبة أنصبائهم، ويصحح منها ما يحتاج إلى تصحيح. ففي زوجة، وأم، وأخوين لأم: يكون أصل المسألة من أربعة، للزوجة الربع، وهو سهم، والباقي وهو (3) يقسم بين الأم والأخوين لأم بنسبة سدس إلى ثلث، أي واحد إلى اثنين، وهنا يمكن قسمة السهام من غير كسر، فيكون للأم سهم، وللأخوين لأم سهمان، لكل واحد منهما سهم. وفي زوجة، وبنتين، وأم: للزوجة الثلثان، وللأم السدس، وأصل المسألة من (8): للزوجة سهم واحد منها، والباقي وهو (7) يقسم على البنتين والأم، بنسبة ثلثين إلى سدس أي (4 إلى 1)، فيكون المجموع خمسة، والسبعة لا تنقسم عليها بدون كسر، فيصح أصل المسألة، وذلك بضربه في أقل عدد يقبل القسمة على الخمسة برقم صحيح، فيصبح الحاصل (8 × 5=40)، ومنه تصح، للزوجة الثمن خمسة سهام، ويقسم الباقي وهو (35) سهماً بين البنتين والأم، بنسبة
الفصل الرابع عشر: الحساب
(4 إلى 1)، أي يكون للبنتين (28) سهماً، لكل واحدة (14) سهماً، وللأم (7) سهام. وهذا التقسيم تماماً ينطبق على مثال آخر هو: (4) زوجات، (9) بنات، (6) جدات، للزوجة الثمن وهو أصل المسألة، وللبنات الثلثان، وللجدات السدس. فإذا كانت التركة (1440) ديناراً تقسم على (40) فيكون (36)، يضرب بسهم الزوجة أو الزوجات وهو (5) فتكون الحصة (180)، ويضرب بـ (28) نصيب البنات حصتهن (1008) ويضرب بـ (7) نصيب الأم أو الجدات، فتكون الحصة (252). وفي زوجة، و (3) جدات، و (5) أخوات لأم: يجعل أصل المسألة (4)، وهو مخرج فرض الزوجة، فتأخذ (1) والباقي يقسم بنسبة (2 إلى 1)، أي بنسبة الثلث فرض الأخوات، إلى السدس فرض الجدات، ويحتاج الأمر إلى تصحيح، لوجود التباين بين (1) وعدد الجدات (3)، وبين (2) وعدد الأخوات (5)، فنضرب عدد رؤوس الجدات (3) بعدد رؤوس الأخوات وهو (5)، فيكون الحاصل (15)، نضربه بأصل المسألة وهو (4)، فيكون الحاصل (60)، يعطى للزوجة الربع وهو (15)، والباقي (45) يقسم أثلاثاً: للجدات ثلثه وهو (15)، لكل واحدة 5 أسهم، وللأخوات لأم الثلثان وهو (30)، لكل أخت (6). الفَصْلُ الرّابع عَشر: الحساب: مخارج الفروض وأصول المسائل وتصحيحها: الحساب لغة: مصدر حسَب يحسُب الشيء: إذا عدَّه، وهو اصطلاحاً: علم بأصول يتوصل بها إلى استخراج المجهولات العددية. وهذا العلم شامل لحساب الفرائض وغيرها.
أولا ـ مخارج الفروض
ويقصد به هنا: الكلام على شيء من نتيجات المسائل الحسابية وهي تأصيل المسائل وتصحيحها (¬1). ويمهد له ببيان مخارج الفروض: أولاً ـ مخارج الفروض: الفروض المقدرة بكتاب الله تعالى ستة وهي نوعان (¬2): 1 - النصف والربع والثمن. 2 - الثلثان والثلث والسدس. على التنصيف والتضعيف. ومخرج كل فرض منفرد عن سائر الفروض: سميه، إلا النصف، فهو من اثنين، وليس الاثنان سمياً له، أي كلها مشتقة من مادة عددها إلا الأول، فمخرج الثلث ثلاثة، والربع أربعة، وهكذا ما عدا النصف، فإن مخرجه اثنان. ومجموع مخارج الفروض سبعة أعداد، خمسة أعداد منهاهي مخارج الفروض المذكورة في كتاب الله: وهي الاثنان، والثلاثة، والأربعة، والستة، والثمانية، وذلك لاتحاد مخرج الثلث والثلثين. ويضاف إليها اثنا عشر: ضعف الستة، وأربعة وعشرون: ضعف الاثني ¬
ثانيا ـ أصول المسائل
عشر، مثال الأول: زوجة وإخوة لأم وأم، للزوجة الربع، وللأم السدس، وللإخوة لأم الثلث. فمخرج الربع: أربعة، والثلث: ثلاثة، وبين المخرجين تباين، فنضرب أحدهما في الآخر وتكون النتيجة اثني عشر. ومثال الثاني: حالة اجتماع سدس وثمن كزوجة وأم وولد، للزوجة الثمن، وللأم السدس، وللولد الباقي، وبين المخرجين توافق بالنصف، فنضرب نصف أحدهما في كامل الآخر، فتكون النتيجة أربعة وعشرين. ثانياً ـ أصول المسائل السبعة وتصحيحها: تصحيح مسائل الفرائض: هو أن تؤخذ السهام من أقل عدد يمكن على وجه لا يقع الكسر على أحد من الورثة، بأن يأتي منه نصيب كل وارث صحيحاً، وهي قاعدة المضاعف البسيط، ويراد به المضاعف البسيط للأعداد التي يراد القسمة عليها. وأصول المسائل: معناها المخارج التي تخرج منها فروضها. وأصول المسائل كلها سبعة أعداد أوضحتها فيما سبق: أربعة منها لا تعول: وهي اثنان، وثلاثة، وأربعة وثمانية، وثلاثة منها قد تعول: وهي ستة، واثنا عشر، وأربعة وعشرون، ومجموعها: (2، 3، 4، 6، 8، 12، 24). وقد أبنت طريق تقسيم التركة في حالتي العول والرد، ف في العول: يعرف نصيب كل ذي فرض بأن تهمل الأصل الأول، وتعتبر الأصل بعد العول أصلاً، فتنسب السهام إليه، وتقسم التركة بحسبه، ليتأتى إدخال النقص على كل وارث بنسبة نصيبه. وفي الرد: يأخذ أحد الزوجين فرضه فقط منسوباً إلى أصل المسألة، ويقسم
في غير حالتي العول والرد
الباقي على أصحاب الفروض بنسبة فروضهم، ويرد عليهم بحسبها، فيكون نصيب كل ذي فرض منهم هو ما يستحقه فرضاً ورداً. وأما في غير حالتي العول والرد فيعرف أصل المسألة على النحو الآتي (¬1): 1ً - إذا كان في المسألة صاحب فرض واحد: فأصلها مخرج ذلك الفرض، كأب وأم، للأم الثلث وللأب الباقي، وأصل المسألة من (3)، تأخذ الأم (1)، ويأخذ الأب الباقي وهو (2). 2ً - إذا اجتمع في المسألة اثنان من أصحاب الفرائض، وكانا من نوع واحد من النوعين السابقين: (الأول ـ النصف والربع والثمن، والثاني ـ الثلثان والثلث والسدس) فأصل المسألة: هو المخرج الذي يشمل ضعفه وضعف ضعفه، فالثمانية في النوع الأول مخرج الثمن، وضعفه وهو الربع، وضعف ضعفه وهو النصف. والستة في النوع الثاني مخرج السدس، وضعفه وضعف ضعفه وهو الثلث والثلثان، فكل واحد من مخرجي الثلث والثلثين داخل في مخرج السدس. فإن مات عن زوجة وبنت، فالمسألة من ثمانية، لوجود الثمن والنصف، للزوجة الثمن (1)، وللبنت النصف (4)، والباقي (3) رد على البنت. وإن مات عن زوج وبنت، المسألة من أربعة، لوجود الربع والنصف. ولو مات عن أم وأختين لأم، المسألة من ستة، لوجود السدس والثلث. وإن مات عن أم وأختين شقيقتين وأختين لأم، المسألة من ستة، لوجود السدس والثلثين. ¬
- إذا اجتمع في المسألة بعض أفراد النوع الأول، مع كل أو بعض النوع الثاني، ففي الأمر تفصيل
ولو مات عن أختين شقيقتين وأختين لأم، المسألة من ثلاثة لوجود الثلث والثلثين. 3ً - إذا اجتمع في المسألة بعض أفراد النوع الأول، مع كل أو بعض النوع الثاني، ففي الأمر تفصيل: أـ إذا اجتمع النصف مع الثلثين والثلث، كزوج، وأختين شقيقتين، وأختين لأم، فتكون من ستة (6). وإذا اختلط النصف بالثلث فقط كزوج وأختين لأم، أو بالثلثين فقط كزوج وأختين شقيقتين، أو بالسدس فقط كبنت وأم، فتكون من ستة (6). وكذلك إذا اختلط النصف بالثلث والسدس معاً، كزوج وأختين لأم وأم، فالمسألة من ستة أيضاً (6). ب ـ وإذا اجتمع الربع مع جميع أفراد النوع الثاني، كزوجة، وأم، وشقيقتين، وأختين لأم، فالمسألة من اثني عشر (12). وكذلك إذا اختلط الربع من الثلثين فقط، كزوج وبنتين، أو مع الثلث فقط، كزوجة وأم، أو اختلط الثلثان والسدس، كزوجة وأم وأختين شقيقتين، أو اختلط الربع بالثلث والسدس كزوجة وأم وأختين لأم، فالمسألة في جميع هذه الصور من اثني عشر (12). جـ ـ وإذا اجتمع الثمن مع الثلثين والسدس، كزوجة وبنتين وأم، أو اجتمع مع الثلثين فقط، كزوجة وابنتين، أو مع السدس فقط، كزوجة وأم وابن، فالمسألة من أربعة وعشرين (24). ولا يتصور اجتماع الثمن مع جميع النوع الثاني.
ثالثا ـ طريقة تصحيح المسائل
ثالثاً ـ طريقة تصحيح المسائل: إذا لم تقبل سهام بعض الورثة الحاصلة من أصل المسألة القسمة على مستحقيها إلا بكسر، فيلجأ إلى جعل السهام قابلة للقسمة على كل الورثة بدون كسر، أي قسمة صحيحة، وهذا ما يسمى بالتصحيح. وتصحيح المسألة: بأن يضرب أصل المسألة أو عولها في أقل عدد يمكن معه أن ينفرد كل وارث بقدر من السهام برقم صحيح، لا كسر فيه، وحاصل الضرب: هو أصل المسألة بعد التصحيح. ويتم ذلك على وفق القواعد الآتية لتماثل العددين أو توافقهما أو تداخلهما أو تباينهما بين أعداد الرؤوس، أي رؤوس من انكسر عليهم سهامهم إذا كان الانكسار في أكثر من طائفة، أو طائفة واحدة. ووجه انحصار هذه الأنواع الأربعة: أنك إذا نسبت عدداً إلى آخر، فإما أن يكون مساوياً له، أو لا، الأول ـ التماثل، والثاني ـ إما أن ينقسم الأكثر على الأقل قسمة صحيحة أو لا ينقسم. الأول ـ التداخل، والثاني ـ إما أن يفنيهما عدد غير الواحد، أو لا. الأول ـ التوافق، والثاني ـ التباين. النوع الأول ـ حالة الانكسار في أكثر من طائفة: ينظر في هذه الحالة إلى النسبة بين عدد الرؤوس: 1ً - تماثل العددين: أي كون أحدهما مساوياً للآخر، كثلاثة وثلاثة، وإذا تماثل العددان، يضرب أحدهما في أصل المسألة، مثل: (3) زوجات، و (3) بنات، عم، للزوجات الثمن 8/ 1 = 3، وللبنات
- توافق العددين
الثلثان 3/ 2 = 16، وللعم الباقي: (5)؛ لأنه عصبة، والمسألة من (24)، وتصح من (72)؛ لأن عدد الزوجات (3) وعدد البنات (3)، فهما متماثلان، فأخذنا أحد المتماثلين وهو (3)، وضربناه في أصل المسألة وهو (24)، فبلغ (72) ومنها تصح، وكل من له شيء من السهام يأخذه مضروباً في المضروب بأصل المسألة، ويسمى هذا المضروب: جزء السهم. فتأخذ الزوجات: (9)، والبنات: (48)، والعم: (15) وهذا لمجرد التمثيل. 2ً - توافق العددين: أن يكون بين أعداد الرؤوس التي انكسرت عليهم سهامهم موافقة بجزء من الأجزاء، بحيث لا يعد أقلهما الأكثر، كالأربعة والستة، فإنهما متوافقان بالنصف، أي ينقسمان على اثنين، وكالثمانية والعشرين، فإنهما متوافقان بالنصف والربع، أي ينقسمان على اثنين وأربعة. وإذا توافق العددان، فيضرب الوَفْق الأعلى في أصل المسألة، إن كانت عادلة غير عائلة، أو في عولها إن كانت عائلة، ومنها تصح، مثل: 4 زوجات: 8/ 1، 6 بنات: 3/ 2، عم الباقي: للزوجات (3)، وللبنات (16)، وللعم (5)، والمسألة من (24)، وسهام الزوجات في هذه المسألة لا تنقسم عليهن، وسهام البنات (16) لا تنقسم عليهن، وبين عدد الزوجات وبين عدد البنات موافقة بالنصف، فنضرب وفق أحدهما في كامل الآخر (2 × 6 = 12)، فيبلغ الحاصل اثني عشر، فهذا هو جزء السهم، نضربه في أصل المسألة وهو (24) فتصح من (288) وكل من له شيء من السهام، يأخذه مضروباً في جزء السهم وهو (12)، فللزوجات (6 3)، وللبنات (192)، وللعم (60). 3ً - تداخل العددين: هو أن ينقسم على الأقل قسمة صحيحة، بحيث لا يبقى من الأكثر شيء، كثلاثة وستة: (3، 6).
- تباين العددين
فإذا قسمنا الستة على الثلاثة مرتين، فلا يبقى منها شيء، أو نزيد على الأقل مثله أو أمثاله، فيساوي الأكثر، فإن زدنا على الثلاثة في المثال المذكور ثلاثة أخرى، فيساوي ذلك العدد الأكثر. فيؤخذ الأكبر من العددين المتداخلين وهو ستة؛ لأن الثلاثة داخلة في الستة، فنكتفي بها، ونضربها في أصل المسألة، مثل: (3) زوجات: 8/ 1، (6) بنات: 3/ 2، عم: الباقي، للزوجات (3)، وللبنات (16)، وللعم (5)، والمسألة من (24)، وعدد الزوجات وعدد البنات متداخلان، فيكفي أن نأخذ أكبرهما، ونضربه في أصل المسألة (6 × 24 = 144)، فتصح من (144)، وكل من له شيء من السهام يأخذه مضروباً بالستة التي هي جزء السهم، فيكون للزوجات (18)، وللبنات (96)، وللعم (30).وهذا لمجرد التمثيل. 4ً - تباين العددين: ألا يعد العددين المختلفين معاً عدد ثالث، كالتسعة والعشرة، وإذا تباين العددان، يضرب أحدهما في الآخر، والحاصل في أصل المسألة إن لم تكن عائلة، وفي عولها إن كانت عائلة، مثل: (2) زوجة: 8/ 1، (3) بنات: 3/ 2، وعم: الباقي، والمسألة من (24) وعدد الزوجات وعدد البنات متباينان، فنضرب عدد رؤوس الزوجات وهو (2) في عدد رؤوس البنات وهو (3) يبلغ ستة، فهو جزء السهم، يضرب في أصل المسألة، فتصبح المسألة من (144)، ومنها تصح، فيعطى للزوجتين (3 × 6 = 18)، وللبنات الثلاثة: (16 × 6 = 96)، وللعم (5 × 6 = 30). ومثل (2) زوجة 8/ 1، و (3) أخوات 3/ 2، 2 عم، الأصل (12)، للزوجتين (3)، وللأخوات (8) فرضاً، وللعمين (1) تعصيباً، وبين عدد الزوجات وعدد الأخوات تباين، فيضرب أحدهما في الآخر (2 × 3 = 6)، وهو
النوع الثاني ـ حالة الانكسار في طائفة واحدة من الورثة
جزء السهم، ثم يضرب الحاصل في (12): (6 × 12 = 72)، ومنها تصح، ثم نضرب سهام الورثة بـ (6) فيكون للزوجات: (18)، وللأخوات: (48)، وللعم: (6). النوع الثاني ـ حالة الانكسار في طائفة واحدة من الورثة: ينظر في هذه الحالة إلى النسبة بين السهام المنكسرة وعدد الرؤوس: 1ً - فإن انقسمت السهام بلا كسر مثل: (3) زوجات، وأم، وأختين لأم، المسألة من (12) فلا تصحيح، ويكون للزوجات الربع (3) من (12)، وللأم السدس (2)، وللأختين لأم الثلث (4)، ويعطى لكل زوجة (1) ولكل واحدة من الأختين (2). وعلى هذا إن كان سهام كل من الورثة منقسمة عليهم بلا كسر، فلا حاجة إلى الضرب، كأبوين وبنتين، المسألة من ستة، لكل من الأبوين سدسها، وهو واحد، وللبنتين الثلثان، أي أربعة، لكل واحدة منهما اثنان. 2ً - وإن كان بينهما توافق أو تداخل، فيضرب جزء السهم (وهو في حالة التداخل حاصل قسمة عدد الرؤوس على السهام، وفي حالة التوافق وَفْق عدد رؤوسهم في أصل المسألة أو في عولها إن عالت) وتصح المسألة من الناتج، مثال التداخل: (8) بنات 3/ 2، وأم 6/ 1: أصل المسألة من (6) وترد إلى (5)، والسهام للبنات (4)، وللأم (1)، وبين سهام البنات 4 وعددهم 8 تداخل، وجزء السهم (8 ÷ 4= 2)، ثم يضرب (2 × 5) أصل المسألة: (10)، ومنه تصح المسألة، ويكون للبنات (4 × 2 = 8)، وللأم (1× 2 = 2).
بيان طريقة التصحيح إجمالا
ومثال التوافق: (6) بنات 3/ 2، وأم 6/ 1: أصل المسألة من (5)، للبنات (4)، وللأم (1)، وجزء السهم هنا (6)، يضرب في (5)، فتصح المسألة من (30)، للبنات (6×4= 24) لكل بنت (4)، وللأم (1× 6 = 6). 3ً - وإن كان بينهما تباين: فجزء السهم هو كل عدد الرؤوس: مثل: (5) بنات 3/ 2 وأب 6/ 1 والتعصيب، أصل المسألة من (6)، للبنات (4)، وللأب (2)، وجزء السهم (5 × 6 = 30)، منه تصح، فيعطى للبنات (4 × 5 = 20)، وللأب (2 × 5= 10). بيان طريقة التصحيح إجمالا ً: الخلاصة: هناك أصول أربعة بين الرؤوس والرؤوس، في حالة انكسار السهام على أكثر من طائفة، وهي التماثل، والتوافق، والتداخل، والتباين. وأصول ثلاثة في حالة انكسار السهام على طائفة واحدة فقط: وهي أن تستقيم قسمة السهام على الورثة بلا كسر، وأن يكون بين السهام والرؤوس توافق أو تداخل، وأن يكون بين السهام والرؤوس مباينة. ويقال في ذلك: يحتاج في تصحيح المسائل لمعرفة سبعة أصول: ثلاثة بين السهام والرؤوس، وأربعة بين الرؤوس والرؤوس. النوع الأول ـ الانكسار بين السهام والرؤوس: 1 ً - إما أن تستقيم السهام على الورثة فتصح من أصلها بلا تصحيح، كأبوين وابنين. وهذا هو الأصل الأول. أو لا تستقيم، وفي هذه الحالة: إما أن يكون الكسر على طائفة واحدة، أو يكون الكسر على طائفتين فأكثر.
النوع الثاني ـ أن تنكسر السهام على طائفتين فأكثر
فإن كان الكسر على طائفة واحدة: 2ً - فإما أن يكون بين السهام والرؤوس موافقة: فيضرب وَفْق عدد رؤوسهم في أصل المسألة، ومنها تصح، كأم وأب وعشر بنات، المسألة من (6)، لكل من الأب والأم السدس، وللبنات الثلثان، وبين سهام البنات ورؤوسهن موافقة بالنصف، فضربنا وفق عدد البنات وهو (5) في أصل المسألة (6)، فيبلغ (30)، ومنها تصح، وهذا هو الأصل الثاني. 3ً - وإما أن يكون بين السهام والرؤوس مباينة: فيضرب عدد رؤوسهم في أصل المسألة، ومنها تصح، كزوج وجدة و (3) إخوة لأم، المسألة من (6)، للزوج النصف (3)، وللجدة السدس (1)، وللإخوة الثلث (2)، فيضرب عدد الإخوة (3 × 6 أصل المسألة = 18) ومنها تصح، وهذا هو الأصل الثالث. النوع الثاني ـ أن تنكسر السهام على طائفتين فأكثر: لا يخلو الحال من أحد أمور: إما أن يكون بين أعداد رؤوسهم مماثلة، أو مداخلة، أو موافقة، أو مباينة. 4 - ففي الحالة الأولى ـ التماثل: يؤخد أحد المتماثلين، ويضرب في أصل المسألة: كست بنات، و (3) جدات، و (3) أعمام، وهذا هو الأصل الرابع. فالمسألة من (6)، للبنات 3/ 2 = (4)، وللجدات 6/ 1 = (1)، وللأعمام الباقي= (1). ونصيب البنات لا ينقسم عليهن، وبين سهامهن وعدد رؤوسهن توافق بالنصف، فرددنا عدد رؤوسهن إلى الوفق وهو (3)، ونظرنا بين هذا العدد وعدد الجدات والأعمام الذين انكسرت عليهم سهامهم، ولم تنقسم، فاجتمع
الحالة الثانية - التداخل
معنا ثلاث فرق متماثلة: فرقة البنات، وفرقة الجدات، وفرقة الأعمام، فاكتفينا بأحد المتماثلات وهو (3)، وضربناه في أصل المسألة، فصار (18)، ومنها تصح. ويكون للبنات (4 × 3 = جزء السهم = 12)، لكل بنت سهمان. وللجدات (1 × 3 جزء السهم = 3)، لكل عم سهم. وللأعمام (1 × 3 جزء السهم = 3)، لكل عم سهم. 5 - وفي الحالة الثانية - التداخل: وهي أن يكون بعض أعداد الرؤوس متداخلاً في الآخر، فيضرب ما هو أكثر تلك الأعداد المتداخلة في أصل المسألة، فما بلغ تصح منه المسألة، وهذا هو الأصل الخامس. كأربع زوجات: 4/ 1، و (3) جدات: 6/ 1، (12) عماً: الباقي. فالمسألة من (12)، للزوجات (3)، وللجدات (2)، وللأعمام الباقي (7). وسهام كل من الزوجات والجدات والأعمام غير منقسم عليهن. ونظرنا بين أعداد الرؤوس، فرأينا أن عدد الزوجات داخل في عدد الأعمام، وعدد الجدات داخل أيضاً في عدد الأعمام، فاكتفينا بالأكبر وهو (12)، وضربناه في أصل المسألة وهو (12)، فبلغ (144)، ومنها تصح. ويكون للزوجات: (3 × 12 = 36)، لكل زوجة (9). وللجدات (2 × 12 = 24)، لكل جدة (8). وللأعمام (7 × 12 = 84)، لكل واحد منهم (7). 6 - وفي الحالة الثالثة ـ التوافق: أن تكون بعض أعداد المنكسرة سهامهم موافقة للبعض الآخر، وهذا هو الأصل السادس.
الحالة الرابعة ـ التباين
مثل (4) زوجات: 8/ 1، و (18) بنتا: 3/ 2، و (15) جدة: 6/ 1، و (6) أعمام: الباقي. وأصل المسألة من (24)، وبين سهام الزوجات ورؤوسهن تباين، وبين سهام الأعمام ورؤوسهم تباين أيضاً، وبين سهام الجدات وعددهن تباين أيضاً، وبين عدد البنات وسهامهن توافق بالنصف، فرددنا عدد البنات إلى الوَفق وهو (9) فاجتمع معنا (4) عدد الزوجات، (9) عدد البنات، و (15) عدد الجدات، و (6) عدد الأعمام. وبين الأربعة والتسعة تباين، فضربنا أحدهما بكامل الآخر، فصار ستة وثلاثين (36). والـ 6 داخلة فيه، وبين الـ 36 والـ 15 عدد الجدات توافق بالثلث أي (12) ثلث الـ 36، و (5) ثلث الـ 15، فضربنا وَفْق أحدهما بكامل الآخر، أي (5 × 36)، فبلغ (180)، ثم ضربناه في أصل المسألة (24)، فصارت (4320) ومنها تصح، فكل من له شيء من السهام يأخذه مضروباً في جزء السهم (180)، فللزوجات (540 أي 3 × 180)، لكل زوجة (135)، وللبنات (2880)، لكل بنت (160)، وللجدات (720) لكل جدة (48)، وللأعمام (180) لكل عم (30). 7 - وفي الحالة الرابعة ـ التباين: وهو أن تكون أعداد الرؤوس المنكسرة عليهم سهامهم مباينة للفريق الآخر، فيضرب أحدهما في الثاني، وهكذا، فيضرب المجموع في أصل المسألة، وهذا هو الأصل السابع. مثل زوجتين 8/ 1، (6) جدات 6/ 1، و (10) بنات 3/ 2، و (7) أعمام: الباقي. وأصل المسألة من (24)، للزوجتين الثمن وهو ثلاثة لا يقسم
رابعا ـ قسمة التركة بين الورثة أو الغرماء (الدائنين)
عليهما، وبين رؤوسهما وسهامهما مباينة، فأخذنا عدد رؤوسهما وهو اثنان. وللجدات الست السدس وهو أربعة، فلا يستقيم عليهن، وبين عددي رؤوسهن وسهامهن موافقة بالنصف، فأخذنا نصف عدد رؤوسهن وهو ثلاثة. وللبنات العشرة: الثلثان وهو ستة عشر، فلا يستقيم عليهن، وبين رؤوسهن وسهامهن موافقة بالنصف، فأخذنا نصف عدد رؤوسهن وهو خمسة. والأعمام السبعة: الباقي وهو واحد (1) لا يستقيم عليهن، وبينه وبين عدد رؤوسهم مباينة، فأخذنا عدد رؤوسهم وهو سبعة، فصار معنا من الأعداد المأخوذة: اثنان وثلاثة وخمسة وسبعة (2، 3، 5، 7) وهذه أعداد كلها متباينة. فضربناها ببعضها، فبلغ (210)، ثم ضربنا هذا المبلغ في أصل المسألة وهو (24)، فصار المجموع (5040) ومنه تصح. فللزوجتين (630) لكل زوجة (315). وللجدات الستة (840) لكل جدة (140). وللبنات العشرة (3360) لكل بنت (336). وللأعمام السبعة (210) لكل عم (30). رابعاً ـ قسمة التركة بين الورثة أو الغرماء (الدائنين): لا يخلو أن يكون بين التركة وتصحيح المسائل أحد النسب الأربع السابقة، فإن كانت المماثلة فالأمر ظاهر. وإن لم تكن بينهما مماثلة: فإما أن يكون أحدهما مبايناً للآخر، أو موافقاً له (¬1). ¬
في حالة التباين
ف في حالة التباين: نضرب سهام كل وارث من التصحيح، أي أصل المسألة أو عولها في جميع التركة، ثم نقسم المبلغ على التصحيح، فالخارج نصيب ذلك الوارث. مثل: زوج، وأم، وأختين شقيقتين: والمسألة من (6) للزوج النصف (3)، وللأم السدس (1)، وللأختين الثلثان (4)، تعول إلى (8) وهو التصحيح. فإذا كانت التركة (25) ديناراً، نضرب نصيب الزوج وهو (3) في جميع التركة = (75)، ثم نقسم المبلغ على التصحيح وهو (8)، يخرج 8/ 3 (9) دينار، وإذا ضربنا نصيب الأم وهو (1) في جميع التركة (25 = 25)، ثم نقسم المبلغ على التصحيح وهو (8) يخرج 8/ 1 (3) دينار، وإذا ضربنا نصيب الأختين وهو (4) في جميع التركة (25 = 100)، ثم نقسم المبلغ على التصحيح وهو (8)، فيخرج 8/ 4 (12)، أي 4/ 1 (6) دينار لكل أخت من التركة. وفي حالة التوافق: نضرب سهام كل وارث من التصحيح في وَفْق التركة، ثم نقسم الحاصل على وفق التصحيح، فالخارج: نصيب ذلك الوارث. ففي المثال السابق إذا كانت التركة 50 ديناراً، إذا ضربنا سهام الزوج وهو (3) في وفق التركة وهو (25) يحصل (75)، ثم نقسم على وفق التصحيح وهو (4) يخرج نصيب الزوج وهو 8/ 6 (18)، ويكون نصيب الأم 8/ 2 (6)، ويكون نصيب الأختين (25). وإذا كان في التركة كسر: فالقاعدة أن نبسط التركة لتصير من جنس واحد، فنضرب الصحيح من التركة في مخرج الكسر، ونزيد على الحاصل ذلك الكسر، ثم نضرب العدد الذي صحت منه المسألة في مخرج كسر التركة، ثم نعمل بالحاصلين كما سبق، فيكون الخارج نصيب الوارث الواحد. فلو فرضنا أن التركة في المثال السابق (25) ديناراً وثلث، فنضرب (25) في
قضاء الديون
مخرج الثلث وهو (3) يحصل (75)، فنزيد عليه الكسر وهو (1)، فيصير المجموع (76)، ونضرب (8) التي هي التصحيح في (3) أيضاً يحصل (24)، فإذا ضربنا نصيب كل وارث من (8) في (76)، وقسمنا الخارج على (24)، كان الناتج هو حصة ذلك الوارث، كأن التركة كانت (76) عدداً صحيحاً، وكأن أصل المسألة (24). قضاء الديون: أما طريق وفاء الديون إن لم تف بها التركة، مع تعدد الغرماء، فيجعل دين كل واحد بمنزلة سهام كل وارث من تصحيح المسألة، ويجعل مجموع الديون بمنزلة مجموع التصحيح. فلو مات شخص عن (9) دنانير، وكان عليه (15) ديناراً، لدائن عشرة دنانير، ولآخر خمسة، فالخمسة عشر بمنزلة التصحيح، وبينها وبين التسعة دنانير موافقة بالثلث، فإذا ضربنا دين من له (10) دنانير في وفق التسعة وهو (3) حصل (30)، فإذا قسمناه على وفق التصحيح وهو خمسة، كان الخارج (6) نصيب من كان له عشرة، وكان من له خمسة دنانير (3). ولو فرضنا أن التركة كانت (13) ديناراً، كان بينها وبين التصحيح مباينة، فحينئذ نضرب دين صاحب العشرة في كل التركة، أي (13) فيحصل (130)، فإذا قسمنا على التصحيح وهو (15)، كان الخارج وهو 8/ 2 (8)، وهكذا الثاني. خامساً ـ طرق قسمة التركة: لقسمة التركة طرق ثلاث: 1 - الضرب، 2 - القسمة، 3 - النسبة، ويضاف طريقة رابعة (¬1). ¬
1 - طريقة الضرب
1 - طريقة الضرب: لو مات عن زوجة وأم وعم، المسألة من (12)، للزوجة 4/ 1 = (3)، وللأم 3/ 1 = (4)، وللعم الباقي وكانت التركة (24) ديناراً، فالمسألة من (12) سهماً، فنضرب سهام كل وارث في التركة، ونقسم الحاصل على أصل المسألة، فما خرج فهو نصيب ذلك الوارث، فنصيب الزوجة (3×24= 72÷12= 6)، وهكذا يعمل في نصيب الأم والعم. 2 - طريقة القسمة: أن نقسم التركة على المسألة، ونضرب الخارج في سهام كل وارث، فيحصل نصيبه. ففي المثال المذكور: إذا قسمنا التركة على المسألة، يحصل (2)، فكل من له شيء في المسألة، يأخذه مضروباً بـ (2) فما بلغ هو نصيبه، فنصيب الزوجة: (3×2=6) وهكذا الباقي. 3 - طريقة النسبة: وهي أن تَنسب سهام كل وارث من المسألة إليها، وتأخذ من التركة بتلك النسبة، فيكون المأخوذ حصته. فنسبة سهام الزوجة للمسألة الربع، أي (3 من 12)، فيؤخذ لها ربع التركة، وهو ستة من (24)، وهكذا الأم لها الثلث، أي (4 من 12)، فيؤخذ لها ثمانية من (24)، ونسبة سهام العم فيها ربع وسدس، فيعطى بتلك النسبة، ويؤخذ من التركة الربع ستة، والسدس أربعة، ويكون المجموع عشرة من (24). 4 - طريقة الرد إلى الوفق: إذا كان بين السهام والتركة موافقة، فرُدَّ كلاً منهما إلى وَفْقه، فترد السهام إلى وفقها. ففي المثال السابق: ننظر بين سهام المسألة وهو (12) والتركة وهي (24)، فنجد بينهما موافقة بنصف السدس، فترد السهام إلى وفقها وهو نصف سدس أي واحد (1)، وترد التركة إلى نصف سدسها وهو اثنان (2)، ونضرب سهام كل
أمثلة
وارث في وَفْق التركة، فما بلغ فهو نصيبه، فإذا ضربنا سهام الزوجة وهي ثلاثة (3) في وفق التركة وهو اثنان (2) يحصل ستة، هي نصيبها من التركة، وهكذا البقية: وهي تشبه طريقة القسمة. أمثلة: 1 - .................. 24 (أصل المسألة) ... 144 (التركة)،6 (نتيجة قسمة التركة على أصل المسألة) ....... 8/ 1 زوجتين ....... 3 ................. 18 ....... 2/ 1 بنت ......... 12 ................ 72 ....... 6/ 1 3بنات ابن ... 4 ................. 24 ....... م أخ لأم ....... محجوب ............... 0 ... والباقي (با) أب ........ 4+1 .............. 30 2 - ......................... 24/ 60 .......... 1440 (التركة) ..... 8/ 1 4زوجات ....... 3 ................ 180 .... 3/ 2 5بنات .......... 16 ............... 960 .... 6/ 1 3جدات ......... 4 ................. 240 ...... با أخ شقيق .......... 1 .................. 60 3 - ...................... 9/ 12 .............. 108 (التركة) ......... 4/ 1زوج ......... 3 .................. 27 ......... با ابن+3بنات ..... 5 ................. ابن30بنات15 ....... 6/ 1 أم ............. 2 ................... 18 ....... 6/ 1 أب ........... 2 ................... 18 4 - ...................... 30/ 6 ................ 180 (التركة) ........ 6/ 1 جدتين ....... 1 .................. 30 ....... 3/ 1 3أخوة لأم .... 2 ................. 60 ........ با 5أعمام ......... 3 ................ 90 5 - .............................. 6/ 3 ................ 18 (التركة) ......... با بنت ابن .......... //// .................... 1 ....... 3/ 2 بنتين .............. 4 ................... 12 ......... م جدة ............... 0 ..................... 0 ..... 6/ 1 أم .................. 1 ..................... 3 ....... با ابن ابن ............ //// ..................... 2
الفصل الخامس عشر: توريث ذوي الأرحام
الفَصْلَ الخامس عَشر: توريث ذوي الأرحام: تعريفهم، مذاهب العلماء في توريثهم، أصنافهم ومراتبهم، قواعد توريثهم (¬1). أولاً ـ تعريف ذوي الأرحام: ذو الرحم لغة: هو صاحب القرابة مطلقاً، أي سواء أكان صاحب فرض، أم عصبة أم غيرهما. وفي اصطلاح علماء الميراث (الفرضيين): هو كل قريب ليس بصاحب فرض ولا عصبة، يحرز جميع المال عند الانفراد، مثل أولاد البنات، وأولاد الأخوات وبنات الإخوة والجد الرحمي (غير الصحيح) والجدة الرحمية (غير ¬
ثانيا ـ مذاهب العلماء في توريثهم
الصحيحة) (¬1)، والخال والخالة، ونحوهم من كل قريب ليس عصبة ولا صاحب فرض. ثانياً ـ مذاهب العلماء في توريثهم: اختلف الفقهاء في توريث ذوي الأرحام على رأيين: 1ً - فذهب أبو حنيفة وأحمد: إلى توريثهم، وهو رأي عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم، لقوله تعالى: {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله} [الأحزاب:6/ 33] ومعنى الآية أن بعضهم أولى ببعض فيما كتب الله تعالى وحكم به، وهو يشمل كل الأقرباء، سواء أكانوا ذوي فروض أم عصبات، أم لا، وقد بينت آية الفرائض ميراث ذوي الفروض والعصبات، فكان الباقون من ذوي الأرحام أولى من غيرهم بالتركة أو بما بقي منها. وهذه الآية نسخت التوارث بالمؤاخاة، كما كان في بدء الهجرة إلى المدينة، وتوارث الناس بعد هذه الآية بالنسب، كما روى الدارقطني عن ابن عباس. ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «ابن أخت القوم منهم» (¬2) وقوله عليه الصلاة والسلام: «من ترك مالاً فلورثته، وأنا وارث من لا وارث له، أعقل (¬3) عنه وأرثه، والخال وارث من لا وارث له، يعقل عنه ويرثه» (¬4). ¬
ولما ثبت من الوقائع في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلم والصحابة من بعده من توريث ذوي الأرحام. منها: أن ثابت بن دَحْدَاح مات في حياة النبي صلّى الله عليه وسلم، وكان ثابت غريباً لايعرف من هو؟ فقال صلّى الله عليه وسلم لعاصم بن عدي: «هل تعرفون له فيكم نسباً؟ قال: لا، يا رسول الله، فدعا ابن أخته أبا لبابة بن عبد المنذر، فأعطاه ميراثه» (¬1). ومنها: أن أبا عبيدة بن الجراح كتب إلى عمر، يسأله عمن يرث سهل بن حنيف حين قتل، ولم يكن له من الأقارب إلا خال، فأجابه عمر بأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «الله ورسوله مولى من لا مولى له، والخال وارث من لا وارث له» (¬2). وروي عن عمر في رجل مات وترك عماً لأم، وأخاً، فأعطى العم الثلثين، وأعطى الخال الثلث. وقضى عبد الله بن مسعود فيمن ترك عمة وخالة: بأن للعمة الثلثين، وللخالة الثلث. هذا كله يدل على توريث ذوي الأرحام. وهو الذي اعتمده متأخرو المالكية بعد المئتين من الهجرة، وأفتى به متأخرو الشافعية منذ القرن الرابع الهجري إذا لم ينتظم بيت المال، بحيث لم يعد يأخذ المستحقون فيه نصيبهم منه، وتصرف أموالهم في غير مصارفها. وأخذ به القانون المصري (م 31 - 38) والسوري (م 289 - 297). ¬
- وذهب مالك والشافعي
فيكون المقرر في المذاهب الأربعة وفي القوانين النافذة هو توريث ذوي الأرحام. 2ً - وذهب مالك والشافعي: إلى أن ذوي الأرحام لا يرثون، فإذا مات شخص من غير ذي فرض ولا عصبة، وله ذو رحم، ردت التركة إلى بيت المال. وهذا رأي زيد بن ثابت وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير، وأخذ به الأوزاعي وأبو ثور وداود وابن جرير الطبري. واستدلوا بأن الله تعالى ذكر في آيات المواريث نصيب أصحاب الفروض والعصبات، ولم يذكر لذوي الأرحام شيئاً، ولو كان لهم حق لبينه، قال الله تعالى: {وما كان ربك نسياً} [مريم:64/ 19] وقال صلّى الله عليه وسلم: «إن الله أعطى لكل ذي حق حقه» (¬1). وأيضاً سئل عليه الصلاة والسلام عن ميراث العمة والخالة، فقال: «أخبرني جبريل أن لا شيء لهما» (¬2). ويلاحظ أن ما تمسك به هؤلاء النافون من الحديث هو مرسل (¬3)، لا يحتج به، ولو صح وصله، يكون التوفيق بينه وبين ما رواه المثبتون أن نفي الميراث عن العمة والخالة، كان قبل نزول آية الأنفال: {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله} [الأحزاب:6/ 33] أي أن العمة والخالة ليس لهما فرض مقدر، ¬
ثالثا ـ أصناف ذوي الأرحام ومراتبهم
أو لا يرثان مع عصبة ولا مع ذي فرض يرد عليه، فإن الرد على ذوي الفروض مقدم على توريث ذوي الأرحام، ولكنهم يرثون مع من لا يرد عليه وهما الزوجان. ثالثاً ـ أصناف ذوي الأرحام ومراتبهم: التصنيف المشهور ذو الطريقة الحسنة لذوي الأرحام يحصرهم في أربعة أصناف، وقد أخذ به القانون المصري (م 31) والسوري (م 290). الصنف الأول ـ من كان من فروع الميت الذين يدلون إليه بواسطة الأنثى، وهم نوعان: أولاد البنات وأولاد بنات الابن، وإن نزلوا ذكوراً وإناثاً، مثل بنت البنت، وبنت ابن البنت، وابن بنت الابن، وبنت بنت الابن، وهكذا نزولاً. الصنف الثاني ـ من كان من أصول الميت الذين يتصلون به بواسطة الأنثى، سواء أكانوا رجالاً وهم الأجداد الرحميون، أم نساء، وهن الجدات الرحميات، مثل أبي أم الميت، وأبي أبي الأم، وأم أبي أم الميت، وأم أم أبي أم الميت، سواء أكان كل من الجد والجدة قريباً أم بعيداً، وهكذا علواً. فهم نوعان أيضاً. الصنف الثالث ـ من كان من فروع أبوي الميت، وهم الإخوة والأخوات وهم ثلاثة أنواع: أـ أولاد الأخوات وإن نزلوا مطلقاً، أي سواء كن شقيقات، أو لأب، أو لأم، مثل ابن الأخت، وبنت الأخت، وابن بنت الأخت، وبنت ابن الأخت، وهكذا نزولاً.
الصنف الرابع ـ من كان من فروع أحد أجداد الميت أو جداته الذين ليسوا بأصحاب فروض ولا عصبة
ب ـ بنات الإخوة وإن نزلوا مطلقاً، أي سواء أكانوا أشقاء أم لأب، مثل بنت الأخ الشقيق، وبنت الأخ لأب، وابن بنت الأخ الشقيق أو لأب، وهكذا نزولاً. أما أبناء الإخوة الذكور فهم عصبة، كما تقدم. جـ ـ أولاد الإخوة لأم وإن نزلوا، مثل ابن أخ لأم، وبنت أخ لأم، وبنت ابن أخ لأم، وابن بنت الأخ لأم، وهكذا نزولاً. الصنف الرابع ـ من كان من فروع أحد أجداد الميت أو جداته الذين ليسوا بأصحاب فروض ولا عصبة، سواء أكانوا قريبين أم بعيدين، وهم ست طوائف مرتبين في الاستحقاق على النحو التالي: الأولى ـ الأعمام لأم، والعمات مطلقاً، أي سواء كن شقيقات أو لأب أو لأم، والأخوال والخالات مطلقاً، أي سواء كانوا أشقاء أو لأب أو لأم، أما الأعمام لأبوين أو لأب فهم من العصبات. الثانية ـ أولاد الطائفة السابقة وإن نزلوا، وبنات أعمام الميت الأشقاء أو لأب، وبنات أبنائهم وإن نزلوا، وأولاد من ذكرن وإن نزلوا. الثالثة ـ أعمام أبي الميت لأم، وعماته، وأخواله وخالاته جميعاً، وهؤلاء قرابتهم من جهة الأب. وأعمام أم الميت وعماتها وأخوالها وخالاتها، وهؤلاء قرابتهم من جهة الأم. الرابعة ـ أولاد من ذكروا في الطائفة السابقة وإن نزلوا، وبنات أعمام أبي الميت الأشقاء أو لأب، وبنات أبنائهم وإن نزلوا، وأولاد هؤلاء جميعاً وإن نزلوا. الخامسة ـ أعمام أبي أبي الميت لأم، وعماته وأخواله وخالاته، وأعمام أم أبي الميت وعماتها، وأخوالها وخالاتها، وقرابة هؤلاء من جهة الأب. وأعمام أبي أم الميت، وعماته وأخواله وخالاته، وأعمام أم أم الميت وعماتها، وأخوالها وخالاتها، وقرابة هؤلاء من جهة الأم.
ترتيب أصناف ذوي الأرحام
السادسة ـ أولاد من ذكروا في الطائفة السابقة وإن نزلوا، وبنات أعمام أبي أبي الميت الأشقاء أو لأب، وبنات أبنائهم وإن نزلوا، وأولاد من ذكرن وإن نزلوا وهكذا. ترتيب أصناف ذوي الأرحام: أصناف ذوي الأرحام مرتبة في الإرث بحسب ترتيب ذكرهم السابق، كترتيب العصبات المحضة أو بالنفس. تقديم الصنف الأول على الثاني، وهو على الثالث، وهو على الرابع ومن يلحق به، فعمومة نفس الميت وخؤولته مقدمة على عمومة أبيه وجده وخؤولتهما، كما تقدم. وذلك كترتيب العصبات بالنفس، فكما لا يرث أحد بعصوبة الأب فما بعدها، ما دام أحد من جهة البنوة، فكذلك هنا. وهذا يسمى عندهم التقديم بالجهة، أي أن جهة الفرع مقدمة على جهة الأصل، وهذه مقدمة على جهة الأخوة، وهذه مقدمة على جهة العمومة والخؤولة، ومتى وجد شخص واحد من أي جهة، استحق جميع المال بعد فرض أحد الزوجين. وإن وجد شخصان فأكثر، فيحتاج الأمر إلى تفصيل كل صنف على حدة. أمثلة على ترتيب الأصناف: -1 بنت بنت وأبو أم المال لبنت البنت؛ لأنها فرع الميت وهو الصنف الأول، وهو مقدم على أب الأم؛ لأنه من الصنف الثاني.
رابعا ـ قواعد توريث ذوي الأرحام
2 - أبو أم وبنت أخت المال لأبي الأم؛ لأنه من الصنف الثاني، فقدم على بنت الأخت؛ لأنها من الصنف الثالث. 3 - بنت أخت وعم لأم المال لبنت الأخت؛ لأنها من الصنف الثالث، فقدم على العم لأم؛ لأنه من الصنف الرابع، وهكذا. رابعاً ـ قواعد توريث ذوي الأرحام: هناك ثلاثة مذاهب أو طرق في توريث ذوي الأرحام: المذهب الأول ـ طريقة أهل الرحم، ويسمى مذهب التسوية: وهي أن يسوى بين ذوي الأرحام في اقتسام التركة، لا فرق بين القريب والبعيد والذكر والأنثى في العطاء، فلا يفرق بين من كان من الصنف الأول أو من كان من الصنف الرابع، ولا يفرق بين الذكر والأنثى؛ لأنهم يستحقون الإرث بوصف الرحمية، والجميع في هذا الوصف سواء. فمن مات عن: ابن بنت، وبنت أخ، وبنت عم، قسم المال بينهم أثلاثاً، ومن مات عن: بنت بنت، وابن بنت ابن عمة، كانت التركة بينهما نصفين، وإن كانت بنت البنت أقرب إلى الميت من ابن بنت ابن العمة. وقد هجرت هذه الطريقة عند الفقهاء، لبعدها عن المعقول، ومخالفتها لمبادئ الشريعة في الميراث، ولم يقل بها إلا اثنان فقط: وهما حسن بن ميسر، ونوح بن ذراح (¬1). ¬
المذهب الثاني ـ طريقة أهل التنزيل
المذهب الثاني ـ طريقة أهل التنزيل: يورثونهم بتنزيلهم منزلة أصولهم، ممن كانوا أصحاب فروض أو عصبات، فيفرز لهم نصيبهم من التركة، كما لو كانوا هم الورثة الأحياء، ثم نعطي نصيب كل واحد منهم إلى فروعه من ذوي الأرحام، للذكر مثل حظ الأنثيين. فيجعل ولد البنت كالبنت، وولد الأخ كالأخ، وولد العم كالعم، فمن مات عن بنت بنت، وبنت أخ، وبنت عم، يفرض كأن الميت مات عن بنت وأخ وعم، ويوزع المال بين البنت والأخ فقط، أما العم فلا شيء له مع وجود الأخ، فتعطى بنت البنت نصيب أمها وهو النصف فرضاً، وتعطى بنت الأخ نصيب أبيها وهو النصف تعصيباً. واستثنوا من هذه القاعدة: الأخوال والخالات، فإنهم يُنَزّلون منزلة الأم، وكذلك الأعمام لأم والعمات، ينزلون منزلة الأب، فمن مات عن خالة وعمة، كان للخالة الثلث بمنزلة الأم، وللعمة الثلثان بمنزلة الأب الذي يأخذ الباقي. والقائلون بهذه الطريقة علقمة ومسروق والشعبي من التابعين، وغير الحنفية على المعتمد. غير أن الحنابلة يسوون بين ذوي الأرحام ذكوراً وإناثاً، فيعطون نصيب المدلى به من صاحب الفرض أو العصبة إلى ورثته من ذوي الأرحام، ذكورهم وإناثهم سواء، إن كانوا من جهة واحدة كابن العمة وبنتها، القسمة بينهما بالسوية، لا يفضل ذكر على أنثى. وحجة أهل التنزيل: هي أن نسبة الاستحقاق في الإرث لا يمكن إثباتها بالرأي، وليس عندنا نص أو إجماع في بيان نصيبهم من التركة، فلا سبيل لنا إلا إقامة المدلي مقام المدلى به، فيعطى نصيبه.
المذهب الثالث ـ طريقة أهل القرابة
ويؤيد رأيهم ما روي عن ابن مسعود فيمن مات عن بنت بنت، وبنت أخت: إن المال بينهما نصفان؛ لأن البنت والأخت لو كانتا على قيد الحياة، تقاسمتا المال كذلك، فأعطيت بنت كل منهما نصيب أمها. مثال: توفي شخص عن: ابن بنت، وبنت بنت ابن، وبنت أخت شقيقة، وبنت أخت لأب: المسألة من (6)، لأنا نفرض أن ذلك الشخص مات عن: بنت، وبنت ابن، وأخت شقيقة، وأخت لأب: فللبنت النصف: ثلاثة (3)، ولبنت الابن السدس (1) وللشقيقة الباقي: سهمان، ولا شيء للأخت لأب، ويعطى نصيب كل واحدة لأولادها، يقتسمونه بينهم، كأنها ماتت عنهم. المذهب الثالث ـ طريقة أهل القرابة: وهي مذهب الحنفية، وبه أخد القانون المصري (م 32 - 38) والسوري (م 291 - 297): يورثون ذوي الأرحام كالعصبات، أي الأقرب فالأقرب إلى الميت. سموا بذلك؛ لأنهم يقدمون في الإرث الأقرب، فالذي يليه في القرابة، قياساً على العصبات، أي فالتوريث بقرب الدرجة كما في العصبات. قال العلماء: مذهب أهل التنزيل أقيس من مذهب أهل القرابة، ومذهب أهل القرابة أقوى، لذا كان عليه الفتوى عند الحنفية، واختار القانون المذكور في التوزيع رأي أبي يوسف؛ لأنه المفتى به في المذهب لوضوحه، ولأنه الأيسر، وإن كان قول محمد أصح.
بيان قاعدة أهل القرابة في التوريث
ففي المثال السابق على طريقة أهل التنزيل: يكون المال كله على طريقة أهل القرابة لابن البنت. وطريقة التقديم في العصبات تطبق في ذوي الأرحام، فيكون التقديم بالجهة أولاً، ثم بالدرجة، ثم بالقوة. غير أنه إذا اختلفت صفة الأصول بالذكورة والأنوثة، فهناك يختلف رأي أبي يوسف، ورأي محمد. وحجتهم: أن ذوي الأرحام عصبات بالنسبة إلى الميت، غير أنه إن كانوا ذكوراً فهم عصبات حقيقيون، وإن توسط بينهم وبين الميت أنثى، فهم عصبات حكماً، وفي ترتيب العصبات اعتبرنا حقيقة قوة القرابة، فقدمنا البنوَّة على الأبوة، ثم هي على الأخوة، فكذلك ينبغي ترتيب العصبات حكماً. ويؤيدهم أن علياً رضي الله عنه قضى فيمن ترك: بنت بنت، وبنت أخت، بأن المال كله لبنت البنت، فدل على أنه يرى الترجيح بين ذوي الأرحام بقوة القرابة، ولو كان يرى رأي أهل التنزيل لقضى بأن المال يقسم بينهما نصفين، كما أثر عن ابن مسعود. بيان قاعدة أهل القرابة في التوريث: يتم توريث ذوي الأرحام بحسب الأصول الآتية (¬1): 1ً - إذا ترك الميت واحداً فقط من ذوي الأرحام، حاز المال كله، من أي صنف كان، رجلاً أو امرأة، فمن مات عن زوج وبنت عم، كان للزوج النصف، ¬
ولبنت العم الباقي وهو النصف، ولا يرد على الزوج حتى في القانون لوجود ذي رحم. ومن مات عن زوجة وبنت أخ، كان للزوجة الربع، ولا يرد عليها مع وجود أحد من ذوي الأرحام، ولبنت الأخ الباقي وهو 4/ 3. 2ً - يرث ذوو الأرحام بأن يعطى للذكر مثل حظ الأنثيين، ولو كانوا أولاد أخ لأم. 3ً - إذا وجد من ذوي الأرحام أصناف متعددة، قدم الصنف الأول على الثاني، والثاني على الثالث، والثالث على الرابع، كترتيب العصبات تماماً، وهذا هو التقديم بالجهة. فمن مات عن بنت بنت وجد رحمي (أب أم): كان المال كله للأولى؛ لأنها من فروع الميت، وفروع الميت تقدم على أصوله. ومن مات عن: جد رحمي، وبنت أخ شقيق، كان المال كله للجد؛ لأنه من الصنف الثاني (أصول الميت) فيقدم على فروع أبويه. ومن مات عن: بنت أخ، وعم لأم، وعمة شقيقة، كان المال كله لبنت الأخت؛ لأنها من الصنف الثالث (فروع أبوي الميت) فتقدم على الصنف الرابع. ومن مات عن: ابن بنت ابن، وجد هو أبو أب أم، فالمال كله للأول؛ لأنه من الصنف الأول. 4ً - إن كان الوارثون من ذوي الأرحام كلهم صنف واحد، فيورثون بحسب القواعد الآتية:
قواعد توريث الصنف الأول
قواعد توريث الصنف الأول: 1 - التقديم بالدرجة: يقدم في الميراث أقربهم درجة إلى الميت: فمن مات عن ابن بنت، وابن بنت ابن، كان المال كله للأول؛ لأنه أقرب درجة من الثاني. 2 - التقديم بالإدلاء بصاحب فرض أو عصبة (التقديم بالوارث): إن استووا في الدرجة، قدم من يدلي بصاحب فرض أو عصبة، على من يدلي بذي رحم. فمن مات عن: بنت بنت ابن، وابن بنت بنت، كان المال كله للأولى؛ لأنها بنت صاحبة فرض بالسدس، فتكون أولى. 3 - للذكر ضعف الأنثى: إذا تساووا في الدرجة، وفي الإدلاء بصاحب فرض، أو أدلى كلهم بذي رحم، كان المال بينهم جميعاً للذكر ضعف الأنثى. وهذا رأي أبي يوسف، وهو المفتى به عند الحنفية، وقد أخذ به القانون، فمن مات عن ابن بنت بنت، وبنت ابن بنت، فالميراث بينهما أثلاثاً، ثلثاه للأول، وثلثه للثانية؛ لأنهما استويا في الدرجة والإدلاء بذي فرض. ومن مات عن بنت ابن بنت، وبنت بنت بنت، كان المال بينهما مناصفة؛ لأن الوارثين استويا في الدرجة والإدلاء بذي رحم. وعند محمد: يقسم المال على أول درجة وقع فيها الاختلاف بالذكورة والأنوثة، ويجعل ما أصاب كل أصل لفرعه، إذا لم يحصل بعده اختلاف كما في المثال المذكور، فيعطى للأول وهو ابن بنت البنت سهم واحد نصيب أمه، وللثانية وهي بنت ابن البنت نصيب أبيها وهو سهمان. فإن وقع اختلاف في أولادهن، فيقسم المال كما ذكر، ثم يجعل الذكور
طائفة، والإناث طائفة أخرى، ويأخذ الصفة من الأصل، والعدد من الفرع عند التعدد، مثل: ابني بنت بنت بنت، وبنت ابن بنت بنت، وبنتي بنت ابن بنت: فعند أبي يوسف: يقسم المال أسباعاً على الفروع، باعتبار الذكورة والأنوثة؛ لأن الابنين كأربع بنات، ومعهما ثلاث بنات أخرى، فالمجموع كسبع بنات، لكل بنت سهم، ولكل ابن سهمان. وعند محمد: يقسم المال على أول درجة وقع فيها الاختلاف، وهي في المثال المذكور البطن الثاني، فيقسم المال عليهما أسباعاً بحسب عدد الفروع، فالبنت الأولى في الدرجة الثانية كبنتين لتعدد فرعها، والبنت الثانية في الدرجة الثانية على حالتها لعدم تعدد فرعها، والابن في الدرجة الثانية كابنين لتعدد فرعه، فهو كأربع بنات، فله 4، وللبنتين الأولى والثانية ثلاثة. ثم يجعل الذكور طائفة، والإناث طائفة أخرى، فيعطى أربعة أسباع ابن البنت لبنتي بنته، لعدم الاختلاف، وثلاثة أسباع البنتين في الدرجة الثانية لولديهما في الدرجة الثالثة مناصفة؛ لأن البنت كبنتين لتعدد فروعهما، فساوت الابن، ثم يعطى نصيب كل واحد إلى فرعه، وتصح من (28)؛ لأن أصل المسألة من (7)، وقد أصاب الابن في البطن الثالث سبعاً ونصف سبع، وأصاب البنت في البطن الثالث التي هي كبنتين لتعدد فرعها سبعاً ونصف سبع، فضربنا مخرج الكسر وهو (2) في أصل المسألة، فبلغ (14)، ودفعنا نصيب كل واحد إلى فرعه. فأخذت بنت ابن بنت البنت ثلاثة أسباع، ودفعنا نصيب بنت بنت البنت إلى ولديها، وهو لا ينقسم، فضربنا عدد رؤوسهما في (14)، فبلغ (28)، ومنها صحت المسألة.
4 - لا يعتد في رأي أبي يوسف والقانون بالإدلاء بجهتين هنا
فلبنتي بنت ابن البنت الثلث (16)، ولبنت ابن بنت البنت (6)، ولولدي بنت بنت البنت (6)، لكل واحدة ثلاثة. 4 - لا يعتد في رأي أبي يوسف والقانون بالإدلاء بجهتين هنا؛ لأن جهة القرابة وهي البنوة واحدة، فهو يورث بجهة واحدة، ولا يعتبر تعدد الجهات في ذوي الأرحام، أما في غير ذوي الأرحام فيرث الوارث بكل من الجهتين، كما لو ماتت عن أم وزوج هو ابن عمها أيضاً، فإن الأم تأخذ الثلث، والزوج يأخذ النصف بالفرضية، ثم يأخذ السدس بالتعصيب؛ لأنه ابن عم. أما من توفي عن: ابن بنت بنت، وابن ابن بنت، هو أيضاً ابن بنت بنت، فالتركة بينهما مناصفة، ولا عبرة بتعدد جهة قرابة الابن الثاني. ومحمد يعتبر الجهات المتعددة ويورث بها، وذلك في أعلى جهة وقع فيها الاختلاف بالذكورة والأنوثة، ويجعل الأصل موصوفاً بصفة، متعدداً بتعدد فرعه، فيقسم المال على الدرجة الثانية التي وقع فيها الاختلاف، وفيها ابنان، أحدهما كابنين، واحد من قبل الأب، وواحد من قبل الأم، وبنت كبنتين، واحدة من جهة الأب، وواحدة من جهة الأم، فيقسم المال عليهم من 4، للابن الأول سهم، وللثاني اثنان؛ لأنه كابنين، وللبنت واحد؛ لأنها كبنتين، ويجعل الذكور طائفة، والإناث طائفة، فينتقل نصيب الابن وهو اثنان إلى ابنه، ونصيب البنت وهو واحد إليه أيضاً، فيتم له ثلاثة أرباع، ربعه من جهة أمه، ونصفه من جهة أبيه، ولابن ابن البنت الربع نصيب أبيه. فالقاعدة عنده جعل الذكور طائفة، والإناث طائفة، ويعطى نصيب كل طائفة إلى فروعها بحسب صفاتهم.
قواعد توريث الصنف الثاني
قواعد توريث الصنف الثاني: هي نفس قواعد توريث الصنف الأول، مع التوريث بتعدد الجهة واختلاف الجانب: 1 - التقديم بالدرجة: إذا تعدد أصحاب هذا الصنف، قدم أقربهم إلى الميت درجة. فمن مات عن أب أم، وأب أم أب، كان المال كله للأول؛ لأنه أقرب إلى الميت درجة. 2 - التقديم بالإدلاء بصاحب فرض أو عصبة (التقديم بالوارث): إذا استووا في الدرجة، قدم من يدلي إلى الميت بصاحب فرض أو عصبة، على من يدلي إليه بذي رحم. فمن مات عن أب أم أم أم، وأب أم أب أم: كان المال كله للأول؛ لأنه يدلي بصاحب فرض، وهي الجدة ـ أم أم الأم، أما الثاني فيدلي إلى الميت بذي رحم وهم أم أب الأم. 3 - للذكر ضعف الأنثى: إذا استووا في الدرجة والإدلاء بصاحب فرض، أو بالإدلاء بذي رحم ينظر: أـ إن كانوا جميعاً من جانب الأب، أو من جانب الأم، اشتركوا في الميراث، للذكر مثل حظ الأنثيين. فمن مات عن أب أم أب أب، وأب أم أم أب، كان المال بينهما نصفين، لاستوائهما في درجة القرب، وفي الإدلاء بصاحبة فرض، وهي الجدة الثابتة (الصحيحة): أم أب الأب في الأول، وأم أم الأب في الثاني، وهما من حيِّز واحد: وهو جانب الأب.
4 - تعدد الجهة
ب ـ وإن كانوا مع استوائهم في الدرجة والإدلاء مختلفين في الحيِّز (أي الجانب) فبعضهم من جهة الأب، وبعضهم من جهة الأم، كان لقرابة الأب الثلثان، ولقرابة الأم الثلث. فمن مات عن جدة هي أم أب أم أب، وجدة أخرى هي أم أب أب أم، كان المال بين الجدتين أثلاثاً، الثلثان للأولى؛ لأنها جدة الميت من جهة أبيه، والثلث للثانية؛ لأنها جدته من جهة أمه، وكلتاهما جدة غير ثابتة (رحمية) وقد استوتا في الدرجة والإدلاء بذي رحم. 4 - تعدد الجهة: يعتبر تعدد جهة القرابة في رأي أئمة الحنفية الثلاثة وفي القانون عند تعدد جانب (حيز) القرابة، خلافاً للمذكور في الصنف الأول إذا لم يكن فيه تعدد الجانب (الحيِّز). أما في هذا الصنف فإن كان تعدد القرابة ناشئاً من جانب الأب، وجانب الأم في وقت واحد، فإن ذا الرحم هنا يرث بجهة قرابة الأب، ويرث بجهة قرابة الأم معاً، كما في المثالين التاليين: أـ مات عن خال لأب، وهو في الوقت نفسه عمه لأم، وعم آخر لأم، وخال آخر لأب. فالخال الأول له جهتا قرابة من حيّزين مختلفين، فهو قريب للميت من جهة أمه على أنه خال لأب، وقريب له من جهة أبيه باعتباره عمه لأم، فهل نورثه مع العم الآخر والخال الآخر بجهتين أم بجهة واحدة؟ يقرر القانون المصري (م 37) والسوري (م 3/ 297) أنه يرث بجهتين لاختلاف جانب القرابة، فتقسم التركة على الوجه التالي، كأن في المسألة عمين لأم، وخالين لأب، للعمومة الثلثان، وللخؤولة الثلث.
فالخال الأول يشارك الخال الآخر في الثلث، فله نصفه أي السدس 6/ 1 وهو يشارك أيضاً العم الآخر في الثلثين، فله نصفهما أي السدسان 6/ 2. وبذلك يكون له نصف التركة: سدسها باعتبار الخؤولة، وثلثها باعتبار العمومة، والخال الثاني له السدس فقط، والعم الثاني له الثلث فقط. ب ـ مات عن: ابن عمة هو ابن خال شقيق، وبنت خال شقيق. نلاحظ أن لابن العمة جهتي قرابة للميت من جانبين مختلفين، أحدهما من جانب الأب، والثاني من جانب الأم، فهل يرث بجهتين أم بجهة واحدة؟ يقرر القانونان السابقان أنه يرث بالجهتين معاً، فتقسم التركة في هذه المسألة، كما لو مات الميت عن ابن عمة، وابن خال شقيق، وبنت خال شقيق. فيأخذ ابن العمة الثلثين باعتباره من قرابة الأب. ويأخذ ثلثي ثلث الخؤولة؛ لأنها من قرابة الأم، وثلث الثلث الآخر يعطى لبنت الخال الشقيق. فيكون نصيب العمة هو: 9/ 6 نصيب العمومة + 9/ 2 نصيب الخوؤلة = 9/ 8، ونصيب بنت الخال الشقيق هو: 9/ 1 باعتبار أن للأنثى حظ الذكر. والقانونان المذكوران حينما لم يعتبرا تعدد الجهات، كما في أمثلة الصنف الأول إذا لم يختلف الجانب (الحيز) أخذا بالرواية الأولى عن أبي يوسف، وحينما اعتبرا تعدد الجهات إذا اختلف الجانب، كما في أمثلة هذا الصنف، أخذا بالرواية الثانية عن أبي يوسف، وهي رأي باقي أئمة الحنفية (¬1). ¬
قواعد توريث الصنف الثالث
قواعد توريث الصنف الثالث: يشمل هذا الصنف أولاد الإخوة لأم، وأولاد الأخوات مطلقاً، وبنات الإخوة الأشقاء أو لأب. وقواعد توريثهم تشبه في الجملة قواعد الصنفين السابقين. 1 - التقديم بالدرجة: إذا اختلفوا في درجة القرابة، فأولاهم بالميراث أقربهم درجة إلى الميت، فمن توفي عن: بنت أخت، وابن بنت أخ، كان الميراث كله لبنت الأخت؛ لأنها أقرب درجة من الثاني. 2 - التقديم بالوارث: وإن استووا في الدرجة، وكان بعضهم يدلي بعصبة، وبعضهم يدلي بذي رحم، قدم ولد العاصب على ولد ذي الرحم، كما في بنت ابن أخ شقيق أو لأب، وابن بنت أخ شقيق أو لأب، فإن الميراث لبنت ابن الأخ؛ لأنها تدلي بعاصب، دون الثاني؛ لأنه يدلي بذي رحم. 3 - التقديم بقوة القرابة: وإن تساووا في الدرجة والإدلاء: بأن كانوا جميعاً أولاد عصبات، كبنت أخ شقيق وبنت أخ لأب، أو كانوا أولاد أصحاب فرض كبنت أخت لأب، وابن أخ لأم، أو كانوا أولاد ذوي أرحام، كبنت بنت أخ شقيق، وبنت بنت أخ لأب، أوكان بعضهم ولد عاصب، وبعضهم ولد ذي فرض، كبنت أخ شقيق، وبنت أخ لأم. فحينئذ يقدم أقواهم قرابة، وهو مذهب أبي يوسف، فيقدم من كان أصله لأبوين على من كان أصله لأب، وهذا يقدم على من كان أصله لأم. فمن مات عن: بنت أخ شقيق، وبنت أخ لأب، كان المال كله للأولى؛ لأنها أقوى قرابة، مع استوائهما في الدرجة والقرب والإدلاء بعاصب.
4 - للذكر ضعف الأنثى
ومن مات عن: بنت أخ لأب، وبنت أخ لأم، كان المال كله للأولى؛ لأنها أقوى قرابة. 4 - للذكر ضعف الأنثى: وإن استووا في القرابة، قسم المال بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، ولو كانوا من فروع أولاد الأم. فمن مات عن بنتين لأخ لأم، وابن أخ لأم، كان المال مشتركاً بينهم مناصفة، تأخذ البنتان النصف، ويأخذ الابن النصف، لاستوائهم في الصنف والدرجة وقوة القرابة. ويلاحظ أن أولاد الأم وإن كانوا في ميراث الفريضة متساوين بنص القرآن، لكنهم في توريث ذوي الأرحام تطبق عليهم القاعدة العامة وهي للذكر ضعف الأنثى، وهو رأي أبي يوسف، وبه أخذ القانون السوري والمصري، إذ لا نص في التسوية بينهم. ويرى محمد أن يطبق على أولاد الإخوة لأم نفس المبدأ الذي يطبق على آبائهم، وهو التسوية بين ذكورهم وإناثهم، فيقسم المال في المثال السابق بينهم أثلاثاً، لكل بنت ثلث، وللابن الثلث. قواعد توريث الصنف الرابع: وهم الذين ينتمون إلى جدي الميت أو إلى جدتيه، سواء أكانوا قريبين أم بعيدين، فيشمل أب الأب وأب الأم، وأم الأم وأم الأب، والعمات على الإطلاق، والأعمام لأم، والأخوال والخالات مطلقاً. وقواعد توريثهم ما يأتي (¬1): ¬
1 - التقديم بالدرجة أو حجب المرتبة ما فوقها
1 - التقديم بالدرجة أو حجب المرتبة ما فوقها: كل مرتبة من مراتب هذا الصنف بجميع طبقاتها تحجب ما فوقها من المراتب بجميع طبقاتها، فأعمام الميت وعماته، وأخواله وخالاته يحجبون أعمام أب الميت لأم، وعمات أبيه، وأخوال أبيه وخالات أبيه، وهكذا علواً. وأولاد عم الميت لأم، وأولاد عمته، وأولاد خاله، وأولاد خالته، يحجبون أولاد عم أبيه لأمه، وأولاد عمة أبيه، وأولاد خال أبيه، وأولاد خالة أبيه، وهكذا. فمن مات عن: عمة وعمة أب، كان المال كله للأولى؛ لأنها أقرب درجة. ومن مات عن: بنت عمه، وبنت عم أبيه، كان المال للأولى. 2 - التقديم بقوة القرابة في الجهة: إذا تساووا في المرتبة، وتعددوا، وكان كلهم من جانب الأب فقط كالعمات، أو من جانب الأم فقط كالخالات، قدم الأقوى قرابة، ذكراً كان أو أنثى. فمن مات عن عمة لأبوين، وعمة لأب، كان المال كله للأولى؛ لأنها أقوى قرابة. ومن مات عن عمة لأب، وعمة لأم، كان المال كله للأولى؛ لأنها أقوى قرابة. وهذا هو المفتى به عند الحنفية. 3 - للذكر ضعف الأنثى: إذا تساووا في قوة القرابة، كان للذكر مثل حظ الأنثيين. فمن مات عن خالين لأب وأم، كان المال بينهما نصفين لاستوائهما في قوة القرابة.
4 - لجهة الأب ضعف جهة الأم
ومن مات عن عمتين لأب وأم، أوعمتين لأب، أو عمتين لأم، كان المال بينهما نصفين، لاستوائهما في قوة القرابة. ومن مات عن: عم لأم، وعمة لأم، كان المال بينهما أثلاثاً، للعم ثلثان، وللعمة ثلث. 4 - لجهة الأب ضعف جهة الأم: إن اختلف أفراد الطبقة الواحدة، فكان بعضهم من جهة الأب، وبعضهم من جهة الأم، أعطي لجهة الأب الثلثان، ولفئة الأم الثلث، ثم يوزع نصيب كل فريق بين أفراده بحسب قوة القرابة، فإن استووا في القرابة قسم المال بينهم للذكر ضعف الأنثى. فمن مات عن عمة لأب وأم، وعمة لأم، وخال لأبوين، وخال لأب، كان للعمة لأبوين الثلثان، باعتبارها من قرابة الأب، ولا شيء للعمة لأم؛ لأن الأولى أقوى قرابة من الثانية، وللخال لأبوين الثلث؛ لأنه من قرابة الأم، ولا شيء للخال لأب؛ لأن الأول أقوى قرابة من الثاني. ومن مات عن: عم لأم، وعمة لأم، وخال لأبوين، وخالة لأبوين: كان للعم والعمة الثلثان، للذكر ضعف الأنثى؛ لأنهما من درجة واحدة وحيِّز واحد، هو جانب الأب، وللخال والخالة الثلث، للذكر ضعف الأنثى؛ لأنهما في درجة واحدة وحيز واحد، وهو جانب الأم. 5 - التقديم بقرب الدرجة في الطبقة النازلة: يقدم في جميع الطبقات النازلة لكل مرتبة من مراتب هذا الصنف الأقرب منهم درجة على الأبعد. والطبقة النازلة هم أولاد العم لأم، وأولاد العمات، وأولاد الأخوال، وأولاد الخالات، ثم أولاد أولاد هم نزولاً.
6 - التقديم بالوارث
وكذلك أولاد عم الأب لأم، وأولاد عمات الأب، وأولاد أخوال الأب، وأولاد خالات الأب، ثم أولاد أولادهم وإن نزلوا. فمن مات عن بنت عمة، وبنت عمة لأم، كان المال كله لبنت العمة؛ لأنها أقرب درجة إلى الميت. 6 - التقديم بالوارث: إذا استووا في الدرجة، وكانوا جميعاً من جانب واحد، أي من قرابة الأب، أو من قرابة الأم، قدم ولد العصبة على ولد ذي الرحم. فمن مات عن بنت العم العصبي (الشقيق أو لأب) وابن العم لأم، كان المال كله لبنت العم؛ لأنها تدلي بعاصب، ولا شيء لابن العم لأم؛ لأنه ولد ذي رحم. 7 - التقديم بقوة القرابة بين الأولاد: إذا استووا جميعاً في الدرجة وكانوا أولاد عصبات أو أولاد ذي رحم، قدم الأقوى قرابة. فمن مات عن بنت عمة لأبوين، وبنت عمة لأب، كان المال كله للأولى؛ لأنها وإن استوت مع الثانية في الصنف ودرجة القرب، والإدلاد بذي رحم؛ إلا أنها أقوى منها قرابة، فتخصص بالمال كله. وكذلك الحال مع ابن عمة لأب، وابن عمة لأم، المال كله للأول. 8 - لجهة الأب ضعف جهة الأم في الأولاد: إذا تساووا في الدرجة، واختلفوا في جانب القرابة، فبعضهم من جهة الأب، وبعضهم من جهة الأم، فثلثا التركة لجهة الأب، والثلث لجهة الأم، ثم يوزع نصيب كل فريق بين أفراده، بحيث يقدم ولد ذي العصبة، على ولد ذي الرحم، ثم يقدم الأقوى قرابة على الأضعف.
الخلاصة
فمن مات عن ابن عمة، وابن خالة، كان ثلثا المال لابن العمة؛ لأنه من قرابة الأب، وثلث المال لابن الخالة؛ لأنه من قرابة الأم. ومن مات عن: بنت عمة لأبوين، وابني عمة لأب، وبنت خال لأبوين، وابني خال لأب: يكون لأولاد العمات لأبوين الثلثان، ولا شيء لابني العمة لأب، لأنها أضعف منها قرابة، ولأولاد الأخوال لأبوين الثلث، ولا شيء لابني الخال لأب؛ لأنها أضعف منها قرابة. والخلاصة: 1 - تورث الطائفة الأولى من الصنف الرابع (وهم العمات مطلقاً والأعمام لأم، والأخوال والخالات مطلقاً) بقوة القرابة إن اتحد حيِّز قرابتهم، بأن كانوا جميعاً من جانب الأب أو من جانب الأم. فإن استووا في قوة القرابة فللذكر ضعف الأنثى. أما إن اختلف حيِّز قرابتهم فلقرابة الأب الثلثان، ولقرابة الأم الثلث، ونصيب كل فريق يوزع للذكر ضعف الأنثى. 2 - تورث الطائفة الثانية من هذا الصنف (وهم أولاد الطائفة الأولى، وبنات أعمام الميت، وبنات أبنائهم، وأولادهم وإن نزلوا) بقرب الدرجة، فأولاهم بالميراث أقربهم درجة إليه، سواء اتحد حيز القرابة أم اختلف. فإن اتحدت درجة القرب: فإن اتحدوا في حيز القرابة، قدم من يدلي بعاصب على من يدلي بغير عاصب، وإن اختلف حيز القرابة، فلفريق قرابة الأب الثلثان، ولفريق قرابة الأم الثلث. 3 - الطائفة الثالثة والخامسة (الثالثة: هم أعمام أبي الميت لأم، وعماته وأخواله وخالاته ـ وقرابتهم من جهة الأب. وأعمام أم الميت وعماتها وأخوالها
الفصل السادس عشر: ميراث باقي الورثة
وخالاتها ـ وقرابتهم من جهة الأم. والخامسة: هم أعمام أبي أبي الميت، وعماته وأخواله وخالاته، وأعمام أم أبي الميت وعماتها وأخوالها وخالاتها ـ وقرابتهم من جهة الأب. وأعمام أبي أم الميت وعماته وأخواله وخالاته، وأعمام أم أم الميت وعماتها، وأخوالها وخالاتها ـ وقرابتهم من جهة الأم).تورث هاتان الطائفتان كما تقدم في توريث الطائفة الأولى. 4 - الطائفة الرابعة (وهم أولاد من ذكروا في الطائفة الثالثة وإن نزلوا، وبنات أعمام أبي الميت، وبنات أبنائهم وإن نزلوا، وأولاد هؤلاء جميعاً وإن نزلوا). 5 - والطائفة السادسة (وهم أولاد من ذكروا في الطائفة الخامسة وإن نزلوا، وبنات أعمام أبي أبي الميت، وبنات أبنائهم وإن نزلوا، وأولاد هؤلاء وإن نزلوا). تورث هاتان الطائفتان كالمذكور في الطائفة الثانية. وقد أخذ القانون المصري والسوري بهذه الأحكام. الفَصْلُ السّادس عَشر: ميراث باقي الورثة: باقي الورثة بعد ذوي الفروض والعصبات النسبية والسببية وذوي الأرحام: هم مولى الموالاة، والمقر له بالنسب على الغير، والموصى له بأزيد من الثلث، وبيت المال. فإذا مات الميت عن غير وارث كانت التركة لواحد من هؤلاء على وفق الترتيب التالي (¬1): ¬
أولا ـ مولى الموالاة
أولاً ـ مولى الموالاة: هو أن يرث شخص الآخر بناء على تعاقد بينهما، سواء أكان كلاهما مجهولي النسب أم أحدهما مجهول النسب والآخر معلوم النسب. وصورة ذلك: أن يتعاقد اثنان مجهولا النسب على أن يعقل (يتحمل دية القتل الخطأ) كل واحد منهما عن الآخر جنايته الموجبة للمال، وأن يرث كل منهما الآخر إذا مات قبله. أو يتعاقد اثنان أحدهما مجهول النسب والآخر معلوم النسب على أن يعقل الثاني الأول إذا جنى، ويرثه إذا مات. ففي الحالة الأولى: كل منهما مولى موالاة للآخر، يثبت له الإرث منه. وفي الحالة الثانية: قابل الولاء هو المولى الأعلى لمجهول النسب، فيثبت له الإرث من الأدنى، الذي هو طالب الموالاة، دون العكس. وليس هذا التعاقد بصورتيه دائم اللزوم، بل يجوز الرجوع فيه، ما لم يحصل فيه عقل (تحمل دية) من أحدهما عن الآخر، وإلا فلا. آراء العلماء فيه: ذهب الحنفية ـ أخذاً برأي عمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم ـ إلى أن هذا التعاقد سبب للميراث لما يأتي: 1 - قوله تعالى: {والذين عَقَدَت أيمانكم فآتوهم نصيبهم} [النساء:33/ 4] أي أن حلفاءكم الذين عاقدتموهم على النصرة والإرث، آتوهم نصيبهم من الميراث بمقتضى تلك المعاقدة. 2 - سأل تميم الداري رضي الله عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلم عمن أسلم على يدي
شروط الإرث في ولاء الموالاة
رجل ووالاه؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «هوأحق به محياه ومماته» (¬1) وأحقيته في الحياة أن يعقل عنه إذا جنى، وأحقيته بالممات أنه يرثه إذا مات، ولم يكن له وارث ذو فرض أو عصبة أو رحم. وذهب الجمهور ـ أخذاً برأي زيد بن ثابت رضي الله عنه ـ إلى أنه ليس سبباً للميراث، للحديث المتقدم: «الولاء لمن أعتق» (¬2) فإنه حصر الولاء في ولاء العتق، فيبطل كل ولاء غيره. أخذ القانون في مصر وسورية بهذا الرأي، لعدم وجود هذا الصنف من زمن بعيد، وعدم توافر شروطه. شروط الإرث في ولاء الموالاة: اشترط الحنفية للإرث بولاء الموالاة الشروط التالية: 1ً - أن يكون العاقد حراً: فليس للرقيق أن يوالي غير سيده. 2ً - أن يكون العاقد غير عربي: لأنه لو كان عربياً لكان معروف النسب، فولاؤه في نسبه. 3ً - ألا يكون معتقَاً: وإلا كان ولاؤه لمن أعتقه أو لعصبته. 4ً - ألا يكون له وارث نسبي كولد أو أخ: وإلا فميراثه لذي نسبه. 5ً - ألا يكون عقل عنه آخر: فإن عقل عنه مولى آخر أو بيت المال كان هو مولاه. ¬
ثانيا ـ المقر له بالنسب على الغير
6ً - أن يكون مجهول النسب. ثانياً ـ المقر له بالنسب على الغير: الإقرار بنسب الغير: هو ما يكون بغير الولد الصلبي والوالدين المباشرين للمقر، كالإقرار بالإخوة والأعمام والأجداد وأولاد الأولاد. ولا يكون هذا الإقرار عند الجمهور سبباً للإرث أصلاً، فإن ثبت نسب المقر له بإحدى طرق الإثبات الشرعية، ورث بالقرابة النسبية. ورأى الحنفية أن المقر له بنسب محمول على الغير يرث بالشروط الآتية: 1ً - أن يكون مجهول النسب: إذ لو كان معروف النسب لبطل هذا الإقرار. 2ً - أن يكون محمولاً على الغير: فلا يصح الإقرار على ذلك الغير، ويصح على المقر. 3ً - عدم ثبوت نسب المقر له من ذلك الغير: بأن لم يصدقه المقر عليه أو ورثته. 4ً - موت المقر وهو مصر على إقراره: فلو رجع عنه أو أنكره، ثم مات لايرث المقر له منه. موقف القانون: أخذ القانون المصري (م 41) والسوري (م 298) برأي الحنفية، وأخر مرتبته عن الرد على أحد الزوجين، وجعله مستحقاً التركة، لا بطريق الإرث، إيثاراً للحقيقة والواقع؛ لأن هذا الإقرار لا يثبت به نسب، والإرث فرع ثبوت النسب. واشترط القانونان لإرثه نفس الشروط الفقهية، وهي:
ثالثا ـ الموصى له بأزيد من الثلث
1 - ألا يثبت نسب المقر له من المقر عليه. 2 - ألا يرجع المقر عن إقراره. 3 - ألا يقوم به مانع من موانع الإرث. 4 - أن يكون المقر له حياً وقت موت المقر، أو وقت الحكم باعتباره ميتاً. لكن ينبغي أن يضاف لهذه الشروط: أن يكون المقر له مجهول النسب. ثالثاً ـ الموصى له بأزيد من الثلث: ذهب الجمهور إلى أن الموصى له بما زاد عن الثلث يرد إلى بيت المال ولا يستحقه الموصى له، إلا بإجازة الورثة إن وجدوا. وذهب الحنفية: إلى أن الموصى له بالزائد عن الثلث يستحق التركة إذا لم يكن لميت وارث، ولا مقر له بالنسب على الغير؛ لأن منعه من استحقاق الزائد عن الثلث، كان لمصلحة الورثة، ولا ورثة في هذه الحالة، فاستحق ما أوصي له به. فلو كان مع الموصى له بأكثر من الثلث أحد الزوجين، أخذ الزوج النصف (أي نصف الثلثين) بعد ثلث الموصى له، وأخذت الزوجة الربع، ثم أخذ الموصى له الباقي في حال الوصية بكل المال، أو مقدار الموصى به. ولو كان وارث غير الزوجين بالقرابة أو الولاء، فلا تنفذ الوصية بأكثر من الثلث إلا بالإجازة. وأخذ القانون المصري (م 37) والسوري (م 4/ 238) برأي الحنفية، لا من باب الإرث، وإنما هو تنفيذ لإرادة الميت وتحقيق لرغبته.
رابعا ـ بيت المال
رابعاً ـ بيت المال: اتفقت المذاهب الأربعة على أن المال الذي يتركه الميت، ولم يكن له مستحق بإرث أو وصية، يوضع في بيت المال، غير أنه عند الحنفية والحنابلة (¬1) ليس بطريق الإرث، وإنما من باب رعاية المصلحة، فيصرف في مصارف المصالح العامة لجميع المسلمين، إذ لا مستحق له، كما يوضع فيه مال الذمي الذي لا وارث له، وبدليل أنه يسوى بين الذكر والأنثى في العطية من ذلك المال، مع أنه لا تسوية بينهما في المواريث. وأخذ القانون في مصر وسورية بهذا الرأى. ويرى المالكية والشافعية (¬2) أن المال لبيت المال إرثاً، وذلك عند الشافعية ومتقدمي المالكية، سواء انتظم أمره بإمام عادل، يصرفه في جهته أم لا؛ لأن الإرث للمسلمين، والإمام ناظر ومستوف لهم، والمسلمون لم يعدموا، فيأخذ بيت المال جميع المال أو ما أبقت الفروض. ويرى متأخرو المالكية: أن بيت المال يكون وارثاً بشرط كونه منتظماً. والقاعدة لدى الفريقين: «بيت المال وارث من لا وارث له». الفَصْلُ السّابع عَشر: أحكام متنوّعة: أبحث هنا طائفة من الأحكام التكميلية المتنوعة، وهي إرث غير المسلمين، وميراث الحمل، والمفقود، والأسير، والخنثى، وميراث الغرقى والهدمى والحرقى ونحوهم، وميراث من لا أب شرعياً له من ولد الزنا وولد اللعان، فتلك سبعة موضوعات يثبت فيها الإرث ما عدا الأول بالتقدير والاحتياط. ¬
المبحث الأول ـ إرث غير المسلمين
المبحث الأول ـ إرث غير المسلمين: أشرت في موانع الإرث إليه، وبينت أن اختلاف الدين إسلاماً وكفراً مانع ـ عند الجمهور خلافاً لبعض الصحابة كمعاذ ومعاوية ـ من موانع الإرث، فلا يرث الكافر المسلم، ولا المسلم الكافر، كما نصت أحاديث السنة. والمعروف أن المرتد لا يرث غيره أصلاً، ولا يورث عند الجمهور، وإنما يكون ماله فيئاً يوضع في بيت المال. وقال أبو حنيفة: يورث عنه ماله الذي اكتسبه حال إسلامه فيكون توريثاً للمسلم من المسلم، وأما الذي اكتسبه بعد الردة، فيكون فيئاً لبيت المال، إذ لو أخذه ورثته لكان توريثاً للمسلم من غير المسلم، وهو لا يجوز. وأما المرتدة فمالها مطلقاً لورثتها؛ لأنها لا تقتل بسبب ردتها، بل تستتاب وتعزر حتى تعود إلى الإسلام أو تموت، فردتها لاتعتبر موتاً، والإسلام في حقها معتبر، بخلاف المرتد، فإنه يقتل بعد أن يستتاب ثلاثة أيام ولم يتب، فردته تعتبر في حقه موتاً، ولا يمكن اعتبار الإسلام في حقه حينئذ، فلا يكون أهلاً للملك، فلا يثبت حق الورثة فيما اكتسبه في حال الردة، فيصبح ككل الأموال التي لا مالك لها حقاً لبيت المال (¬1). وأوضحت أيضاً أن غير المسلمين ملة واحدة، ولو اختلفت عقائدهم، فيرث عند الجمهور غير المالكية بعضهم من بعض، فاليهودي والنصراني يتوارث، لقوله تعالى: {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض} [الأنفال:73/ 8] من غير تفرقة. يظهر مما ذكر أن غير المسلمين يتوارثون فيما بينهم بالأسباب التي يتوارثان بها المسلمون من قرابة وزوجية، لكن قد يتوارثون في بعض حالات الزواج والقرابة، التي لا يتوارث بها المسلمون. ¬
المبحث الثاني ـ ميراث الحمل
ففي الزواج: إن كان من النوع الذي لا يقرون عليه بعد الإسلام فلا يثبت التوارث، كالزواج بالمحارم نسباً ورضاعاً مثل الأم والبنت والأخت، وكزواج الْمُطلّق امرأته المطلقة ثلاثاً قبل أن تتزوج بزوج آخر، وزواج امرأة قبل أن تنقضي عدتها. وأما إن كان زواجهم مما يقرون عليه بعد الإسلام، فيثبت به التوارث، كالزواج بغير شهود، والزواج من امرأة أثناء عدتها من رجل غير مسلم، على ما هو الراجح من مذهب الحنفية. وفي النسب: يثبت النسب عند غير المسلمين ولو من الزواج الباطل، فإذا تزوج مجوسي أخته أو بنته، ثبت بالزواج نسب النسل منه، وثبت التوارث بينه وبينه. المبحث الثاني ـ ميراث الحمل: شروط توريثه، أكثر مدة الحمل، أقل مدة الحمل، هل تقسم التركة عند وجود حمل؟ كم يقدر عدد الحمل؟ مقدار ما يوقف للحمل أو نصيب الحمل في التركة، كيفية توريث الحمل، تصحيح مسائل الحمل (¬1). شروط توريث الحمل: يرث الحمل (الولد في بطن أمه) بأن يوقف له نصيب معين عند الجمهور غير المالكية بشرطين: 1ً - أن يثبت وجوده حياً عند موت مورثه. ¬
أكثر مدة الحمل
2ً - أن يولد حياً، ولو مات بعد دقائق، كي تثبت أهليته للتملك. أما ثبوت وجود الحمل حياً: فيعرف بأن يولد في مدة يتيقن فيها أو يغلب على الظن وجوده في بطن أمه وقت وفاة مورثه، وهذه المدة هي مدة الحمل، التي سأوضح أكثرها وأقلها. وأما ولادته حياً: فتثبت حياته عند الحنفية بخروج أكثره حياً؛ لأن للأكثر حكم الكل. وتثبت حياته عند الجمهور بأن يولد حياً؛ لأن أهلية التملك لا تتحقق إلا بالوجود الكامل، وبه أخذ القانون في مصر (م 43) وسورية (م 300). وتعرف حياته بظهور أمارة من أمارات الحياة، كالصراخ والعطاس ونحوهما، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا استهل المولود وَرِث» (¬1)، فإن لم يظهر شيء من العلامات، أو حصل اختلاف في شيء منها، فللقاضي أن يستعين بأهل الخبرة من الأطباء أو ممن عاينوا الولادة. أكثر مدة الحمل: للفقهاء آراء في أكثر مدة الحمل، تعتمد على الاستقراء وسؤال الحوامل، إذ ليس فيها نص من الكتاب أو السنة، فيرث الحمل ويورث إن ولد لتمام أكثر مدة الحمل. قال المالكية على المشهور: أكثرها خمس سنين. وقال الشافعية، والحنابلة في الأصح: أكثرها أربع سنين. ¬
أقل مدة الحمل
وقال الحنفية: سنتان. وقال الظاهرية: تسعة أشهر. وقال محمد بن عبد الحكم من تلاميذ مالك: أكثرها سنة قمرية (354 يوماً). وأما القانون المصري (م43) والسوري (م128) فقد أخذا برأي الأطباء وهو سنة شمسية (365 يوماً) وهو قريب من رأي ابن عبد الحكم مع التسامح في الفرق بين السنتين. أقل مدة الحمل: رأى جمهور الفقهاء: أن أقل مدة الحمل حتى يولد حياً هي ستة أشهر، لمجموع الآيتين: {وحمله وفصاله ثلاثون شهراً} [الأحقاف:15/ 46] {وفصاله في عامين} [لقمان:14/ 31] فإذا ذهب للفصال عامان، لم يبق للحمل إلا ستة أشهر. وهذا ما فهمه علي وابن عباس رضي الله عنهما. وأخذ القانون في مصر (م 2/ 43) خلافاً للقانون السوري (م 128) برأي ابن تيمية وقول عند الحنابلة: وهو أن أقل مدة الحمل تسعة أشهر، اتباعاً للأعم الأغلب، فإن غالب النساء يضعن حملهن في تسعة أشهر. وبناء عليه، تعلم حياة الحمل في القانون بالتفصيل الآتي: أـ إن كان الحمل ولداً للمتوفى نفسه: بأن ترك زوجته حاملاً منه، أو معتدة منه، فيثبت نسب الحمل من الميت وإرثه منه إن وضعته لأكثر مدة الحمل فأقل وهي (365) يوماً. فإن ولدته لأكثر من سنة فلا يرث منه، إذ يكون علوقه حينئذ بعد الوفاة، فلا نسب ولا ميراث.
هل تقسم التركة عند وجود حمل؟
ب ـ وإن كان الحمل من غير المتوفى: بأن ترك امرأة أبيه أو جده أو نحوهما من ورثته حاملاً، فيرث منه إن ولدته أمه لأقل مدة الحمل بعد موت المورث وهي تسعة أشهر (270 يوماً). وسبب التفرقة بين الحالتين: أننا نريد في الحالة الأولى إثبات حملها منه، ثم توريثه بعدئذ، فأخذنا بأقصى مدة الحمل. أما في الحالة الثانية (الحامل من غير المتوفى) فإنا لا نريد إثبات نسب الحمل من أمه، فذلك له قواعده العامة، ولكنا نريد التأكد من وجوده عند وفاة المورث، وهو متأكد خلال تسعة أشهر من وفاة المورث، وما زاد عليه فأمر مشكوك فيه، والإرث لا يثبت بالشك. هل تقسم التركة عند وجود حمل؟ 1 - رأى المالكية: أن التركة لا تقسم حال وجود حمل، ويعد الحمل سبباً يُوقف به المال إلى الوضع، فيوقف قسمة التركة حتى الولادة، أو اليأس من الولادة؛ لأن في القسمة تسليطاً للورثة على أخذ المال والتصرف به، وفي استرداد الحمل حقه منهم خطر. 2 - ورأى الجمهور: أن التركة تقسم من غير انتظار الولادة، منعاً من إضرار الورثة، ومنع المالك من الانتفاع بملكه، ويؤخذ كفيل من الورثة، احتياطاً لحق الحمل من الضياع. كم يقدر عدد الحمل؟ قد يكون الحمل واحداً أوأكثر، فكم يقدر عدده؟ المفتى به عند الحنفية وبه أخذ القانون في مصر وسورية: أن يقدر واحداً فقط؛ لأنه الغالب المعتاد في الحمل، وما زاد عن واحد، فهو نادر. ومع هذا
نصيب الحمل في التركة
نحتاط لتعدد الحمل، فيأخذ القاضي كفيلاً من الورثة الذين يتأثر نصيبهم بتعدد الحمل، لاسترداد ما أخذوه على أن الحمل واحد. ويقدر عند الحنابلة اثنين؛ لأنه يقع أحياناً، ويعامل بقية الورثة بالأضر بتقدير الذكورة فيهما، أو في أحدهما، أو الأنوثة. وقال أبو حنيفة: يقدر أربعة؛ لأنه قد يقع، ويعامل بقية الورثة بالأضر، بتقديرهم ذكوراً أو إناثاً. والأصح عند الشافعية: أنه لا ضابط لعدد الحمل عندهم؛ إذ قد تلد المرأة أربعة أو خمسة أو ستة أو سبعة في بطن واحد. نصيب الحمل في التركة: تختلف أحوال الحمل، فقد يكون وارثاً وقد يكون غير وارث، وقد يكون ذكراً وقد يكون أنثى، وربما يولد حياً وربما يولد ميتاً، فما نصيبه الذي يوقف له؟ لا خلاف في أن الورثة إذا رضوا وقف قسمة التركة حتى يولد الحمل، فإن التركة تتجمد قسمتها حينئذ. أـ فإن أبوا إلا القسمة، فإن كان الحمل محجوباً من الإرث، فلا يوقف له شيء من التركة، مثل: من مات عن: أخ شقيق، وأب، وأم حامل من غير أبيه، فتوزع التركة فوراً على الورثة وهو الأب والأم، والباقي للشقيق، والحمل محجوب بالأب؛ لأنه أخ لأم. ب ـ وإن كان الحمل وحده هو الوارث، أو وجد معه وارث محجوب به، كما لو مات عن زوجة ابنه الحامل وأخيه لأم، فتوقف التركة كلها إلى الولادة، فإن ولد حياً أخذها، وإن ولد ميتاً أعطيت لغيره.
كيفية توريث الحمل
جـ ـ وإن كان الحمل غير محجوب من الإرث، ومعه ورثة آخرون غير محجوبين به، فاختلف الفقهاء في مقدار ما يوقف له: في رأي الشافعي الذي يقول: لا ينضبط الحمل، يدفع إلى أصحاب الفروض الذين لا تتغير أنصباؤهم بتعدد الحمل، ويوقف باقي التركة إلى الولادة. وفي رأي أبي حنيفة المشهور عنه: يوقف له نصيب أربعة بنين، أو نصيب أربع بنات، أيهما أكثر، ويعطى بقية الورثة أقل الأنصباء. وفي رأي محمد بن الحسن: يوقف نصيب ثلاثة بنين أو ثلاث بنات، أيهما أكثر. والمفتى به عند الحنفية رأي أبي يوسف، وبه أخذ القانون المصري (م42) والسوري (م299): وهو أن يوقف له نصيب ابن واحد، أو بنت واحدة، أيهما أكثر. ونص القانون السوري: «يوقف للحمل من تركة المتوفى أكبر النصيبين على تقدير أنه ذكر ذكر أو أنثى». وعلى القاضي أن يأخذ كفيلاً من الورثة الذين يرثون مع الحمل، وتتغير أنصباؤهم بتعدد الحمل، احتياطاً له، كيلا يضيع عليه بعض نصيبه حين يكون الرجوع على الوارث متعذراً. كيفية توريث الحمل: تقسم التركة على فرض أنه ذكر، ثم يقسم مرة أخرى على فرض أنه أنثى، فإن كان الحمل يرث على أحد الفرضين دون الآخر، اعتبر وارثاً مؤقتاً، واحتفظ له بنصيبه.
تصحيح مسائل الحمل
وإن كان وارثاً على كلا التقديرين، ولكن نصيبه يختلف بالذكورة والأنوثة، احتفظ له بالنصيب الأكبر. وإن لم يختلف نصيبه على كلا التقديرين، حفظ له ذلك النصيب. أما الورثة الآخرون: فمن كان وارثاً على أحد التقديرين دون الآخر، اعتبر غير وارث موقتاً ولا يعطى شيئاً. ومن كان وارثاً على التقديرين، ولكن نصيبه يختلف، يعطى النصيب الأقل. ومن كان وارثاً على التقديرين، ولكن نصيبه لا يختلف، أعطي هذا النصيب. والخلاصة: أن الحمل يعامل بأحسن حاليه، والوارث الآخر معه يعامل بأسوأ حاليه، وما بقي من الفروق يحفظ حتى الولادة. فإن كان الحمل متوهماً أو ولد ميتاً بغير جناية، رد الموقوف على الورثة. وإن ولد حياً وكان واحداً، أعطي الموقوف له الذي يستحقه، ويرد الباقي على المستحقين. وإن جاء متعدداً، يطالب الورثة والكفيل أيضاً برد الزائد على حقهم. تصحيح مسائل الحمل: الأصل في تصحيح مسائل الحمل: أن تصحح المسألة على تقديرين، أي على تقدير أن الحمل ذكر، وعلى تقدير أنه أنثى، ثم تنظر بين تصحيحي المسألتين: أـ فإن توافقتا بجزء، فاضرب وَفْق أحدهما في جميع الآخر.
ـ وإن تباينتا، فاضرب كل أحدهما في جميع الآخر. فالحاصل تصحيح المسألة، ثم اضرب في حال التباين نصيب من كان له شيء من مسألة ذكورته، في مسألة أنوثته. وفي حال التوافق اضرب وَفْق أحدهما في الآخر. واضرب أيضاً نصيب من كان له شيء من مسألة أنوثته في مسألة ذكورته حال التباين، أو في وَفْقها، كما هو المقرر في ميراث الخنثى. ثم انظر في الحاصل من الضربين لكل واحد من الورثة، أيهما أقل، يعطى لذلك الوارث؛ لأن استحقاقه للأقل متيقن، والفرق بين الحاصلين موقوف من نصيب الوارث إلى أن يزول الاشتباه. ففي بنت وأبوين وامرأة حامل: المسألة من (24) على تقدير أن الحمل ذكر، لأنه اجتمع فيها حينئذ سدسان وثمن والباقي، فللزوجة الثمن وهو (3)، ولكل واحد من الأبوين السدس وهو (4)، وللبنت مع الحمل الذكر الباقي وهو (13). والمسألة من (27) على تقدير أن الحمل أنثى؛ لأنه اجتمع فيها على هذا التقدير ثمن وسدسان وثلثان، فهي منبرية، وتعول من (24) إلى (27)، فللأبوين (8)، وللمرأة (3)، وللبنت مع الحمل الأنثى (16). وبين عددي تصحيحي المسألتين أي (24 و 27) توافق بالثلث؛ لأن مخرجه وهو ثلاثة يعدهما معاً، فإذا ضرب وفق أحدهما أي ثلثه، وهو (8) من الأول، و (9) من الثاني، في جميع الآخر، صار الحاصل (216) سهماً ومنها تصح المسألة، فللزوجة في تقدير الذكورة (3 × 9) وفق مسألة الأنوثة = (27)، ولكل من الأبوين: (4 × 9 = 36) وهكذا ... وعلى تقدير الأنوثة للزوجة 3×8 = 24، ولكل من الأبوين (4×8= 32)، ويعطى الأبوان والزوجة الأقل.
أمثلة
أمثلة: 1 ً - مات شخص عن: أخ شقيق، وأب، وأم حامل من غير أبيه: الحمل هنا غير وارث، لأن الأخ أو الأخت لأم محجوبان عن الميراث بالأب. 2ً - مات شخص عن: زوجة ابنه الحامل فقط، أو عن زوجة أبيه الحامل فقط: الحمل هنا هو الوارث الوحيد، لأنه في الحالة الأولى إما ابن ابن أو بنت ابن، الأول عاصب يحوز كل التركة، والثانية تحوز التركة فرضاً ورداً. وفي الحالة الثانية إما أخ لأب وهو عاصب يحوز كل التركة، أو أخت لأب تحوز كل التركة فرضاً ورداً. وفي الحالتين يوقف كل التركة لحين الولادة. 3ً - مات شخص عن: زوجة، أب، أم، زوجة ابن حبلى: تقسم التركة على فرض الذكورة، أي أن الحمل ابن ابن، فيكون للزوجة الثمن 24/ 3، ولكل من الأب والأم السدس وهو (4) أسهم لكل منهما، والباقي (13) سهماً لابن الابن؛ لأنه عاصب. ثم تقسم التركة على فرض الأنوثة، أي على أن الحمل بنت ابن، فيكون للزوجة الثمن 24/ 3، ولكل من الأب والأم السدس وهو (4) أسهم لكل منهما، ولبنت الابن النصف 24/ 12، ويرد السهم الباقي وهو (واحد) إلى الأب، فيكون له (5) أسهم. فالأفضل للحمل أن يفرض كونه ذكراً، ويوقف له (13) سهماً من (24). 4ً - توفي شخص عن: زوجة، وأم حامل من أبي المتوفى، تقسم التركة أولاً على فرض الذكورة، أي على أن الحمل أخ شقيق، فيكون للزوجة الربع
12/ 3، وللأم الثلث 12/ 4، وللشقيق الباقي تعصيباً وهو 12/ 5. ثم تقسم التركة على فرض الأنوثة، أي على أن الحمل أخت شقيقة، فيكون لها النصف 12/ 6، فتعول المسألة إلى 13. وبتصحيح المسألة (¬1)، نجد أن نصيب الأخ الشقيق (65) سهماً من (156)، ونصيب الأخت الشقيقة (72) سهماً من (156)، فيفرض كون الحمل أنثى؛ لأنه الأفضل له، ويوقف له 156/ 72. 5ً - توفيت امرأة عن: زوج، وأخت شقيقة، وزوجة أب حامل: إن فرض كون الحمل ذكراً، فللزوج النصف، وللشقيقة النصف، ولا شيء للأخ لأب؛ لأنه عاصب يأخذ الباقي بعد الفروض. وإن فرض كون الحمل أنثى، كان للزوج النصف، وللشقيقة النصف، وللأخت لأب السدس تكملة الثلثين، فتعول المسألة إلى (7). وحينئذ فالأفضل أن يفرض الحمل أنثى، ويوقف له سهم من سبعة. 6ً - توفي شخص عن: أب، أم، زوجة حامل، وبنت: تقسم التركة أولاً على فرض أن الحمل ذكر، أي ابن، فيكون للأب السدس 24/ 4، وللأم السدس 24/ 4، وللزوجة الثمن 24/ 3، والباقي (13) سهماً للبنت والابن تعصيباً، فيكون نصيب الابن بعد التصحيح (26) سهماً من (72). ثم تقسم التركة على فرض أنه أنثى، فيكون للأب السدس، وللزوجة ¬
المبحث الثالث ـ ميراث المفقود
الثمن، وللبنتين الثلثان، لكل بنت ثلث، وأصل المسألة من (24)، وتعول إلى 27)، فيكون نصيب الحمل (8) من (27). وبالتصحيح نجد أن نصيب الحمل على فرض أنه ذكر: (78) من (216)، ونصيبه على أنه أنثى (64 من 216)، فالأفضل للحمل أن يفرض ذكراً، ويؤخذ كفيل على البنت فقط؛ لأن نصيبها يقل بالتعدد. 7ً - ماتت امرأة عن: زوج، وأم حامل من أبي المتوفاة، وأختين شقيقتين، وأخوين لأم: تقسم التركة أولاً على فرض أنه ذكر، أي أنه أخ شقيق، فيكون للزوج النصف 6/ 3، وللأم السدس وهو سهم واحد، والثلث الباقي يشترك فيه الأخوان لأم والأختان الشقيقتان والأخ الشقيق، وتصح المسألة من (30)، فيكون للشقيق 30/ 3. ثم تقسم التركة ثانياً على أنه أنثى أي أنه أخت شقيقة، فيكون للزوج النصف 6/ 3، وللأم السدس سهم واحد، وللشقيقات الثلاث الثلثان وهو 6/ 4، وللإخوة للأم الثلث وهو 6/ 2، فتعول المسألة إلى (10)، وتصح من (30)، فيكون للشقيقة 30/ 4. فالأفضل للحمل أن يفرض أنثى، ويحفظ له 30/ 4، أما فرق الأنصبة وهو (6) أسهم، فيحفظ مع الأسهم الأربعة المحفوظة للحمل حين الولادة. المبحث الثالث ـ ميراث المفقود: تعريفه، أحكامه بعد تحديد مدة موته بالنسبة لزوجته وماله وإرثه، كيفية توريث المفقود، هل تتقدر مدة لوفاته، متى يبدأ اعتباره مفقوداً (¬1)؟ ¬
تعريف المفقود
تعريف المفقود: المفقود: هو الغائب الذي انقطع خبره، فلم تعرف حياته أوموته. ولا عبرة بمعرفة المكان أو الجهل به إذا كان مجهول الحياة أو الممات، فلو كان معلوم المكان، ولكنه لا تعرف حياته أو مماته فهو مفقود. أحكامه: للمفقود أحكام ثلاثة تتعلق بتحديد المدة التي يحكم فيها بموته بعد مضيها، بالنسبة لزوجته، وماله، وإرثه من غيره. أما بالنسبة لزوجته: فالمفتى به عند الحنفية: تفويض الأمر إلى رأي الحاكم، ينظر ويجتهد، ويفعل ما يغلب على ظنه أنه المصلحة، لإطلاق قول علي رضي الله عنه: «امرأة المفقود امرأة ابتليت فلتصبر، لا تنكح حتى يأتيها يقين موته». وفصل الحنابلة: فأخذوا بالرأي السابق في الغيبة التي يظن معها بقاؤه حياً، كأن خرج لسياحة أو تجارة أو طلب علم أو أداء حج في حالة الأمن، فيحكم القاضي بموته حين يغلب على ظنه أنه قد مات، وتقدير المدة متروك للقاضي. أما إن غاب المفقود غيبة يغلب عليه فيها الهلاك، كالغيبة في أثناء حرب أو غارة أو في ميدان قتال، أو لقضاء مصلحة قريبة، فلم يعد، فيحكم القاضي بموته بعد أربع سنين من تاريخ فقده (¬1). ¬
بالنسبة لأمواله
والراجح عند المالكية: أنه يحكم بموت المفقود بعد أربعة أعوام من يوم رفع المرأة أمرها للقضاء، فإذا انقضى الأجل اعتدت عدة الوفاة، ثم تزوجت إن شاءت. وفي قول لدى المالكية: يفرق القاضي بين الزوجين بمضي سنة فأكثر على الغياب. وقال الشافعية: من فقد أو أسر، وانقطع خبره، لا يحكم بموته حتى تقوم بينة بموته، أو تمضي مدة يعلم أو يغلب على الظن أنه لا يعيش فوقها، كما هو حال أقرانه. وأما بالنسبة لأمواله: فقد اتفق أئمة المذاهب على أن المفقود يعتبر حياً بالنسبة إلى أمواله الثابتة ملكيتها له، وفي حقوقه الأخرى، حتى تقوم البينة على وفاته، أو يحكم القاضي بوفاته، وهذا هو الجانب السلبي للمفقود، ويترتب عليه ما يأتي: لا يقسم ماله بين الورثة، وينفق القاضي من ماله على زوجته وأصوله وفروعه فقط؛ لأن هؤلاء تجب نفقتهم عليه في حضوره وغيابه. ولا تفسخ عقوده كالإجارة التي تنفسخ بموت أحد العاقدين عند الحنفية، وينصب القاضي وكيلاً عنه بقبض ديونه وحفظ ماله. وتحفظ أمواله إلى أن ينكشف حاله، فإن ظهر حياً، أخذ أمواله، وإن ثبت موته بالبينة الشرعية، اعتبر ميتاً من الوقت الذي يثبت أنه مات فيه، ويرثه ورثته من ذلك الوقت، وإن حكم القاضي بموته، اعتبر ميتاً من حين الحكم، ويرثه ورثته من تاريخ الحكم فقط.
بالنسبة لإرثه من غيره
والسبب في اعتباره حياً بالنسبة لماله هو استصحاب حال حياته التي كان عليها قبل الفقد، والأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يظهر خلافه بالدليل، فلا يورث؛ لأن شرط استحقاق الإرث تحقق موت المورث، وموته غير محقق. وأما بالنسبة لإرثه من غيره: فللفقهاء رأيان تبعاً لاختلافهم في حجية الاستصحاب: فيرى جمهور الحنفية (¬1): أن المفقود لا تثبت له حقوق إيجابية من غيره، كالإرث والوصية من الآخرين، لا يرث من غيره ولا تثبت له الوصية من غيره؛ لأن الاستصحاب عندهم حجة للدفع لا للإثبات، أي أنه يصلح لأن يدفع به من ادعى تغير الحال، لا بقاء الأمر على ما كان، فاستصحاب حياته يفيده فقط في دفع ما يترتب على وفاته من اقتسام ماله بين الورثة، ومن فراق زوجته، وهذا هو الحق السلبي، ولا يفيده في انتقال ملكية الغير له، وهذا هو الحق الإيجابي، وبإيجاز يصلح الاستصحاب لدفع ملكية غيره لأمواله، لا لإثبات ملكيته من غيره. وعلى هذا فإنه لا يرث ولا وصية له؛ لأن شرط استحقاق الإرث والوصية ثبوت حياة الوارث والموصى له عند موت المورث والموصي، وحياة المفقود غير محققة، بل هناك احتمال أن يكون ميتاً، فهو لا يرث ولا يورث. ويرى جمهور المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية والشيعة الإمامية (¬2): أن المفقود يرث من غيره، وإن لم يورث؛ لأن استصحاب الحال حجة مطلقاً للدفع ¬
كيفية توريث المفقود
والإثبات، ما دام لم يقم دليل ما نع من الاستمرار، فحياة المفقود هي الأصل الثابت، فيرث من غيره، ولا يورث عنه ماله، أي أن الاستصحاب يثبت كلا الحقين الإيجاب والسلبي، إلا أن الحنابلة أضافوا أنه يورث ولا يرث بعد مضي أربع سنين على فقده. وأخذ القانون المصري (م 45) والسوري (م 302) بهذا الرأي، ونص المادة: «يوقف للمفقود من تركة مورثه نصيبه فيها، فإن ظهر حياً، أخذه، وإن حكم بموته، رد نصيبه إلى من يستحقه من الورثة وقت موت مورثه. فإن ظهر حياً بعد الحكم بموته، أخذ ما بقي من نصيبه في أيدي الورثة». كيفية توريث المفقود: أـ إن كان المفقود هو الوارث الوحيد، وقفت له التركة كلها. ب ـ وإن كان معه ورثة وارثون، قسمت التركة على افتراضين: افتراض أنه حي، وافتراض أنه ميت، ثم يوحد أصل المسألة في الحالتين، ويوقف له أفضل النصيبين، ويعطى كل وارث أسوأ النصيبين، ويحفظ ما قد يكون من فروق الأنصباء مع ما وقف للمفقود. فإن ظهر المفقود حياً، أخذ ما وقف له. وإن ثبت موته بعد موت مورثه بالبينة، رد نصيبه الموقوف له إلى ورثته الشرعيين. وإن ثبت موته قبل موت مورثه، أو لم يثبت موته إلا بحكم القاضي، كان ما وقف له حقاً لورثة مورثه.
أمثلة
أمثلة: 1 - توفي شخص عن ابن مفقود فقط، أو عن ابن مفقود وأخوين لأم: كان المفقود هنا هو الوارث الوحيد، لأن الأخوين لأم محجوبان به، فإن ظهر حياً أخذ التركة كلها، وإلا أخذها بيت المال في الحالة الأولى، أو الأخوان لأم في الحالة الثانية. 2 - توفي رجل عن: زوجة، وأب، وأم، وبنت، وابن مفقود: أولاً ـ على فرض حياة المفقود تكون الورثة هكذا: زوجة 8/ 1، أب 6/ 1، أم 6/ 1، بنت وابن هما عصبة، وأصل المسألة 24. والسهام 3 4 4 (13) وتصحح المسألة بضرب 3 عدد رؤوس العصبة في 24 أصل المسألة = (72). فتكون السهام بعد التصحيح 9 12 12 39 للابن (26). ثانياً ـ على فرض وفاة المفقود تكون الورثة هكذا: زوجة 8/ 1، وأب 6/ 1، وأم 6/ 1، وبنت 2/ 1: الأصل 24. والسهام 3، 4+1 4 12، الواحد المضاف للأب هو الباقي تعصيباً. يحفظ للمفقود نصيبه على فرض كونه حياً وهو (26 من 72)، ويعطى لكل من الزوجة والأم نصيبهما، لعدم تغيره في الحالين، ويعطى لكل من الأب والبنت
أبخس النصيبين، ويوقف الباقي. فإن ظهر المفقود حياً أخذ الموقوف له، وإن حكم بموته، كمل نصيب الأب والبنت. 3 - توفيت امرأة عن: زوج، وشقيقتين، وشقيق مفقود: تقسم التركة أولاً على فرض أن الشقيق حي، فيكون للزوج 2/ 1 أي (1) والشقيق مع أختيه عصبة يأخذون الباقي وهو (1)، وأصل المسألة (2)، وتصح من (8) بضرب (4) عدد الرؤوس في أصل المسألة (2). ثم تقسم التركة على فرض أنه ميت، فيكون للزوج 2/ 1 وهو (3) وللشقيقتين الثلثان، وهما (4)، فتعول المسألة إلى (7). ثم يوحد الأصل في المسألتين بضرب أصلي المسألتين (7 × 8 = 56) فيعطى للشقيق (7 × 2 = 14) توقف له، وذلك بضرب من له شيء في الحالة الأولى بـ (7) ومن له شيء في الحالة الثانية (الوفاة) يضرب في (8). ويعطى للشقيقتين على فرض الحياة (7 × 2 = 14) وعلى فرض الموت (4 × 8 = 32) فيعطيان (14) أسوأ النصيبين. ويعطى للزوج على فرض الحياة (4 × 7 = 28) وعلى فرض الموت (3 × 8=24)، فيعطى (24) أسوأ النصيبين، وتوقف فروق الأنصباء، وتحفظ مع نصيب المفقود. فإن ظهر أن المفقود حي فله 14، وللزوج 4، وإن ظهر أنه ميت أخذ الأختان فرق النصيب. 4 - مات رجل عن: زوجة، وأب، وأم، وابن مفقود: تقسم التركة أولاً على فرض أنه حي، فيكون للزوجة الثمن وهو (3 من 24)، وللأب السدس وهو (4)، وللأم السدس وهو (4)، وللابن الباقي وهو (13).
هل تتقدر مدة لوفاة المفقود؟
ثم تقسم التركة على فرض أنه ميت، فيكون للزوجة الربع وهو (6) من (24)، وللأم ثلث الباقي وهو (6)، وللأب الباقي وهو (12) سهماً، ويوقف للابن (13) سهماً. ويوجد فروق بين المسألتين في حصة الزوجة والأب والأم، ويعطى للورثة أسوأ الأنصبة، فتعطى الزوجة (3) أسهم، ولكل من الأب والأم 4 أسهم. هل تتقدر مدة لوفاة المفقود؟ قيل: تتقدر مدة لوفاة المفقود، وقيل: لا تتقدر، وإنما يجتهد القاضي. أما المالكية والحنابلة: فقالوا: تقدر مدة، والراجح عند المالكية أن يمضي عليه سبعون سنة، والمعتمد عند الحنابلة: أن يمضي عليه تسعون سنة، واختار القانون السوري (م 205) التحديد ببلوغ المفقود ثمانين سنة. وأما الحنفية في ظاهر الرواية والصحيح عند الشافعية: فقالوا: لا تتقدر، ويحكم بوفاته عند الحنفية حين يموت أقرانه الذين في بلده، فلا يبقى منهم أحد. ويجتهد القاضي بحسب تقديره عند الشافعية، بأن تمضي مدة يعلم أو يغلب على الظن أنه لا يعيش فوقها. متى يبدأ اعتباره مفقوداً؟ إذا ثبتت وفاة الغائب بالبينة، فإن حكم القاضي بالوفاة يستند إلى التاريخ الذي حددت البينة وفاته. وإن اعتمد الحكم على الاجتهاد وغلبة الظن، فهناك قولان: قال أبو حنيفة
المبحث الرابع ـ ميراث الأسير
ومالك: إن الحكم بموته يرجع إلى تاريخ فقدانه، فيعتبر ميتاً من تاريخ الفقد، فلا يرث ممن مات قبل الحكم، ويرث مال المفقود من كان موجوداً عند تاريخ فقدانه. وقال الشافعي وأحمد: يعتبر ميتاً من تاريخ الحكم بوفاته، فيرث المفقود ممن مات قبل الحكم بوفاته، ويورث عنه ماله ممن كان موجوداً من ورثته عند الحكم بوفاته. المبحث الرابع ـ ميراث الأسير: الأسير إما حي أو مجهول الحياة (¬1): أـ فإن كان الأسير معلوم الحياة، فيرث من غيره، ولا يورث عنه ماله؛ لأنه حي، فيعامل معاملة الأحياء، والمسلم من أهل دار الإسلام أينما كان، والأسر لا يؤثر شيئاً، فحكم الأسير كحكم سائر المسلمين في الميراث مالم يفارق دينه، فإن علم أنه فارق دينه، فحكمه حكم المرتد؛ إذ فرق بين من يرتد في دار الإسلام أو في دار الحرب. ب ـ وإن كان مجهول الحال، فلا تعلم حياته ولا موته ولا ردته: فحكمه حكم المفقود فيما ذكر، فلا يقسم ماله، ولا تتزوج امرأته حتى ينكشف خبره. المبحث الخامس ـ ميراث الخنثى: الخنثى: من اجتمع فيه العضوان التناسليان: عضو الذكورة، وعضو الأنوثة، أو من لم يوجد فيه شيء منهما أصلاً. وهو نوعان: مشكل وغير مشكل (¬2). ¬
حكم ميراث المشكل
أما الخنثى غير المشكل أو الواضح: فهو الذي ترجحت فيه صفة الذكورة أو الأنوثة، كأن تزوج فولد له ولد، فهذا رجل، أو تزوج فحملت، فهي أنثى، ويطبق عليه حكم كل منهما. وإن بال من آلة الرجال فهو رجل، والآلة الأخرى زيادة خَرْق في البدن، وإن بال من آلة النساء فهوأنثى، والآلة الأخرى زيادة نتوء في البدن. وعليه فإنه يختبر بالتبول، وظهور اللحية، والحيض، فإن لحق بالرجال ورث ميراث الرجل، إن لحق بالنساء ورث ميراثهن. وأما المشكل: فهو من أشكل أمره، فلم تعرف ذكورته من أنوثته، كأن يبول مما يبول منه الرجال والنساء معاً، أو يظهر له لحية وثديان في آن واحد. والغالب مع تقدم الطب الحديث إنهاء إشكاله بإجراء عملية له، تؤدي إلى إيضاح أمره. حكم ميراث المشكل: لا يتصور كون المشكل زوجاً ولا زوجة؛ لأنه لا يصح زواجه ما دام مشكلاً، ولا يتصور بالتالي أن يكون أباً أوأماً أو جداً أو جدة؛ لأنه يصبح حينئذ غير مشكل. وإنما يمكن أن يكون من فرع البنوة أو الأخوة أو العمومة، فيحصل الخلاف في إرثه، هل هو ذكر أو أنثى؟ لكن إن لم يختلف نصيبه بين الذكورة والأنوثة، فتوزع التركة بدون إشكال. وإن كان يرث على فرض الذكورة أو الأنوثة، ولا يرث على فرض آخر، فلا يعطى من التركة شيئاً عند الحنفية، وعند الشافعية: يعطى الورثة الأقل، ويحفظ حقه حتى يتبين أمره، خلافاً للمالكية والحنابلة. وإن اختلف نصيبه بين الذكورة والأنوثة، ففيه أربعة أقوال:
1 - مذهب الحنفية المفتى به
1 - مذهب الحنفية المفتى به: يعطى أقل النصيبين أو أسوأ الحالين من فرض ذكورته أو أنوثته، ويعطى الورثة أحسن النصيبين، أي على عكس الحمل تماماً. وهذا ما أخذ به القانون المصري (م 46)، ولم ينص القانون السوري عليه لندرته، وإذا وجد يطبق هذا الرأي عملاً بالمادة (305) (¬1). فمن توفي عن: زوجة، وأب، وأم، وولد خنثى: المسألة من (24)، تقسم التركة أولاً على فرض الذكورة، فيكون للزوجة 8/ 1 = (3)، وللأب 6/ 1 = (4)، وللأم 6/ 1 = (4)، وللابن الخنثى الباقي وهو (13). ثم تقسم على فرض الأنوثة، فيكون للزوجة 8/ 1 = (3، وللأب 6/ 1 + الباقي = (5)، وللأم 6/ 1 = (4)، وللخنثى البنت: 2/ 1 = (12)، فيعطى الخنثى (12)؛ لأنه أدنى النصيبين، والذي يتأثر نصيبه هو الأب، فيعطى (5) أحسن الحالين. 2 - مذهب المالكية: يعطى الخنثى المشكل أمره نصف نصيب أنثى، ونصف نصيب ذكر. وإن كان يرث على فرض، ولا يرث على فرض آخر، فيعطى نصف نصيبه على فرض إرثه. 3 - مذهب الشافعية: يعطى أقل النصيبين لكل من الخنثى وبقية الورثة، ويوقف الباقي إلى أن يتبين أمره، أو يتصالح الورثة معه. ففي المثال السابق يعطى الخنثى (12)، والأب (4) فقط، ويوقف الباقي وهو (1) إلى أن تتضح حقيقته أو يتصالح الأب معه. ¬
كيفية التصحيح
ولو مات رجل عن: ابن، وولد خنثى مشكل: فبتقدير ذكورة الخنثى، يكون المال بينه وبين الابن بالسوية، لكل واحد منهما نصف المال، والمسألة من (2). وبتقدير أنوثته، يكون للخنثى 3/ 1، وللابن 3/ 2، والمسألة من (3)، فيعطى الخنثى الثلث فقط، ويأخذ الابن النصف؛ لأنه متيقن، ويوقف السدس الباقي بينهما، حتى يتضح حال المشكل، أو يصطلحا. وكيفية التصحيح: أن ينظر بين المسألتين: المسألة بتقدير ذكورته فقط، ومسألة تقدير أنوثته فقط، وذلك بالنسب الأربعة السابقة (من تماثل وتوافق وتداخل وتباين) ويحصل أقل عدد ينقسم على كل من المسألتين بالتقديرين، فما كان فهو الجامع بين المسألتين، ففي المسألة السابقة بين الثلاثة والاثنين تباين، فيضرب أحد الأصلين في الآخر، فيكون الحاصل ستة، فإن قسم الحاصل على مسألة الذكورة، كان للخنثى ثلاثة، وإن قسم على مسألة الأنوثة، كان للخنثى اثنان، وللذكر أربعة، فالأضر بالخنثى أنوثته، فيعطى سهمين، والأضر في حق الابن ذكورة الخنثى فيعطى ثلاثة، ويبقى السدس وهو واحد، فيوقف، فإن اتضحت الذكورة أخذه، وإن اتضحت الأنوثة، أخذه الابن. وإن لم يتضح يوقف إلى أن يصطلحا. 4 - مذهب الحنابلة: أـ إن كان يرجى اتضاح حال الخنثى في المستقبل، فهم كالشافعية، يعامل مع بقية الورثة بأدنى النصيبين. ب ـ وإن لم يرج اتضاح الحال، فهم كالمالكية يعطى نصف ميراث ذكر على
المبحث السادس ـ ميراث الغرقى والهدمى والحرقى ونحوهم ممن جهل تاريخ وفاتهم
فرض ذكورته، ونصف ميراث أنثى على فرض أنوثته، إن ورث في الحالين. وإن كان يرث على فرض دون فرض، فيعطى نصف نصيبه في حال الإرث. المبحث السادس ـ ميراث الغَرْقى والهَدْمى والحَرْقى ونحوهم ممن جهل تاريخ وفاتهم: إذا جهلت وفاة المورث، بأن مات جماعة بينهم قرابة، ولا يُدْرى أيهم مات أولاً، كمن غرقوا في السفينة معاً، أو وقعوا في النار دَفْعة، أو سقط عليهم جدار أو سقف بيت، أو قتلوا في المعركة، ولم يعلم التقدم والتأخر في موتهم، أو جهل تاريخ الوفاة ولو لم يكونوا في حادث واحد. فما الحكم في التوارث بينهم (¬1)؟ 1 - قال الجمهور غير الحنابلة: لا توارث بينهم، ومال كلٍ لباقي ورثته الأحياء؛ لأن شرط الإرث أن تثبت وفاة المورث قبل وفاة الوارث، وحياة الوارث عند وفاة المورث. وهنا انتفى التيقن من حياة الوارث بعد موت مورثه بحسب الواقع والعلم، ويمتنع الترجيح بلا مرجح. واستدلوا بما روى خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه أنه قال: أمرني أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ بتوريث أهل اليمامة، فورثت الأحياء من الأموات، ولم ¬
2 - وقال الحنابلة
أورث الأموات بعضهم عن بعض. وأمرني عمر ـ رضي الله عنه ـ بتوريث أهل طاعون عَمْوَاس، وكانت القبيلة تموت بأسرها، فورَّثت الأحياء من الأموات، ولم أورِّث الأموات بعضَهم من بعض. وهكذا نقل عن علي كرم الله تعالى وجهه في قتلى الجَمَل وصِفِّين. 2 - وقال الحنابلة: إذا مات المتوارثان، فجهل أولهما موتاً، ورث بعضهم من بعض، فيجعل أحدهما أولهما موتاً، ولكن لا يرث كل واحد منهما ما ورثه من مال صاحبه، وإلا لزم أن يرث كل واحد من مال نفسه. واستدلوا برواية أخرى عن عمر وعلي وابن مسعود وشريح وإبراهيم النخعي والشعبي، أنهم قالوا: يرث بعضهم من بعض، يعني من ماله، دون ما ورثه من ميت معه. وعليه، لو مات أخوان شقيقان في وقت واحد، وترك كل منهما: أماً وبنتاً وعماً، وتركة كل منهما (90) درهماً، يقسم عند الجمهور تركة كل واحد منهما، فيعطى لأم كل منهما السدس وهو (15)، وللبنت النصف وهو (45)، والباقي هو (30) للعم. وعند الحنابلة: يفرض موت أحدهما أولاً، وتقسم تركته على ورثته، وفيهم أخوه، ثم يفرض موت الثاني كذلك، وما ورثه كل من الأخوين من أخيه، يقسم على الأحىاء فقط من ورثته. وأخذ القانون المصري (م 3) والسوري (م 261) برأي الجمهور، ونص المادة: «إذا مات اثنان ولم يعلم أيهما مات أولاً، فلا استحقاق لأحدهما في تركة الآخر، سواء أكان موتهما في حادث واحد، أم لا».
المبحث السابع ـ ميراث ولد الزنا
المبحث السابع ـ ميراث ولد الزنا واللعان واللقيط ممن لا أب له شرعياً: قد لا يعرف نسب الولد من أبيه الشرعي، مثل هؤلاء، فكيف يرثون (¬1)؟ أما ولد الزنا: فهو الولد الذي أتت به أمه من طريق غير شرعي، أو هو ثمرة العلاقة المحرمة. وأما ولد اللعان: فهو الولد الذي ولد على فراش زوجية صحيحة، وحكم القاضي بنفي نسبه من الزوج بعد الملاعنة الحاصلة بينه وبين زوجته. ويكون حكم القاضي عند الحنفية بمجرد الملاعنة، ويشترط الجمهور طلب الزوج نفي الولد. وكل من ولد الزنا وولد اللعان: لا توارث بينه وبين أبيه وقرابة أبيه بالإجماع، وإنما يرث بجهة الأم فقط؛ لأن نسبه من جهة الأب منقطع، فلا يرث به، ومن جهة الأم ثابت، فنسبه لأمه قطعاً؛ لأن الشرع لم يعتبر الزنا طريقاً مشروعاً لإثبات النسب، ولأن ولد اللعان لم يثبت نسبه من أبيه. فيرث كل منهما عند الأئمة الأربعة من أمه وقرابتها، وهم الإخوة لأم بالفرض لا غير، وترث منه أمه وإخوته من أمه فرضاً لا غير؛ لأن صلته بأمه مؤكدة لا شك فيها، ولا يتصور أن يرث هو أو يورث بالعصوبة، إلا بالولاء أو الولاد، فيرثه من أعتقه أوأعتق أمه، أو ولده بالعصوبة، وكذلك يرث معتقه أو معتق معتقه، أو ولده بالعصوبة أيضاً. ورأي الشيعة الإمامية أنه لا توارث أيضاً بين ولد الزنا وبين أمه وقرابتها، كما هو الحال بالنسبة إلى أبيه الزاني وقرابته؛ لأن الميراث نعمة أنعم الله بها على ¬
الوارث، فلا يجوز أن يكون سببها الجريمة أي الزنا. أما ولد اللعان فيرث عندهم من أمه، إذ قد يكون أحد الأبوين المتلاعنين كاذباً في ادعائه، فلم تكن الجريمة هي السبب في نفي النسب. لكن الرأي الأول في ولد الزنا أولى تخفيفاً على الولد، إذ الجريمة جريمة الأم، فلا يعاقب الولد بجريمة أمه؛ أما الأب فالنسب منه غير مؤكد. لذا أخذ به القانون المصري (م 47) والسوري (م 303) ونص المادة فيهما: «يرث ولد الزنى وولد اللعان من الأم وقرابتها، وترثهما الأم وقرابتها». وجاء في السنة: «أيُّما رجل عاهر بحرة أو أمة، فالولد ولد الزنا، لا يرث ولايورث» (¬1) وعن النبي صلّى الله عليه وسلم: «أنه جعل ميراث ابن الملاعَنَة لأمه، ولورثتها من بعدها» (¬2). وفي حديث المتلاعنين الذي يرويه سهل بن سعد قال: «وكانت حاملاً، وكان ابنها ينسب إلى أمه، فجرت السنة أنه يرثها، وترث منه، ما فرض الله لها» (¬3). وعلى ذلك لو مات شخص عن: أم وابن غير شرعي، فالتركة كلها للأم فرضاً ورداً، ولا شيء للابن. ولو مات شخص عن: أم وأخ لأم، وأخ لأب غير شرعي، كان للأم الثلثان فرضاً ورداً، وللأخ لأم الثلث فرضاً ورداً، ولا شيء للأخ لأب؛ لأنه غير شرعي. ¬
اللقيط
وإذا توفي ولد الزنا أو اللعان عن أمه، وأبيها، وأخيها: كانت تركته كلها لأمه: الثلث فرضاً، والباقي رداً، ولا شيء لأبيها (جده لأمه) وأخيها (خاله)؛ لأنهما من ذوي الأرحام. ولو توفي أحد هذين الولدين عن أم، وأخ لأم، كان للأم الثلثان فرضاً ورداً، وللأخ لأم الثلث فرضاً ورداً. وأما اللقيط: فهو الطفل المفقود المطروح على الأرض عادة، خوفاً من مسؤولية إعالته، أوفراراً من تهمة الريبة. وإذا مات اللقيط عن غير وارث، فماله عند الجمهور ما عدا رواية عن أحمد لبيت المال، بناء على قاعدة (الغرم بالغنم) فإن بيت المال هو المسؤول عن الإنفاق عليه، وتربيته وتعليمه، فتكون تركته له كالأموال الضائعة التي لا يعرف أصحابها. ويروى عن أحمد وهو رأي ابن تيمية: أن إرثه لمن التقطه. الفَصْل الثّامن عَشر: المناسخة: تعريفها، تصحيح المسائل، اختصار مسائل المناسخات (¬1): أولاً ـ تعريف المناسخة: المناسخة مفاعلة من النسخ بمعنى النقل والتحويل. والمراد بها هنا: انتقال نصيب بعض الورثة بموته قبل القسمة إلى من يرث منه. فهي أن يموت من ورثة الميت الأول واحد أو أكثر قبل قسمة التركة. ¬
ثانيا ـ تصحيح المسائل
فتارة يموت من ورثة الميت الأول واحد فقط، وتارة يموت أكثر، وفي الحالتين تارة يمكن الاختصار قبل العمل، وتارة لا يمكن. فهذه أربعة أحوال. ثانياً ـ تصحيح المسائل: إذا مات إنسان، وخلف تركة وورثة، ولم تقسم التركة حتى مات بعض ورثته وخلف ورثة، فاختلف وضع الوارث أو حظوظ الورثة، فطريق العمل: أن تصحح مسألة الميت الأول بالقواعد السابقة، وتحفظ سهام الميت الثاني منها، وتعمل له مسألة أخرى، ثم تصحح مسألة الميت الثاني بتلك القواعد أيضاً. ثم تنظر بين سهام الميت الثاني من التصحيح الأول؛ وبين التصحيح الثاني، فلا يخلو الأمر من ثلاثة أحوال: هي المماثلة، والموافقة، والمباينة. أما المماثلة: فهي أن تنقسم سهام الميت الثاني على مسألته: فتصح المسألتان مما تصح منه المسألة الأولى، مثل: مات عن زوج، وأم، وعم: المسألة من (6)، للزوج النصف (3)، وللأم الثلث (2)، وللعم الباقي (1)، ثم مات الزوج عن ثلاثة بنين، فننظر فنجد سهامه وهي (3) منقسمة على ورثته، فتصح المسألتان من (6)، للأم (2)، وللعم (1)، وللأبناء الثلاثة (3). وأما المباينة: فهي ألا تنقسم سهام الميت الثاني على مسألته، كما إذا مات الزوج في المثال الأول عن (5) بنين، فسهامه الثلاثة لا تنقسم عليهم، وتباين مسألته، فاضرب جميع مسألته وهي (5) في المسألة الأولى وهي (6)، فالحاصل (30)، ومنه تصح المسألتان، للأم (5×2=10)، وللعم (5×1=5)، وللأبناء الخمسة (15)، أي فمن له شيء من المسألة الأولى أخذه مضروباً في المسألة الثانية، ومن له شيء من المسألة الثانية أخذه مضروباً في سهام مورثه.
الموافقة
وأما الموافقة: فهي أن توافق سهام الميت الثاني مسألته بجزء من الأجزاء، كالنصف أو الثلث، كما إذا مات الزوج في المثال الأول عن ستة بنين، فسهامه الثلاثة لاتنقسم على مسألته، ولكنها توافق مسألته بالنصف، فيؤخذ وَفْق مسألته وهو (2) ويضرب في مسألة الميت الأول وهي (6) فيحصل (12)، ومنها تصح المسألتان، فمن له شيء من المسألة الأولى أخذه مضروباً في وَفْق المسألة الثانية، ومن له شيء من المسألة الثانية أخذه مضروباً في وَفْق المسألة الأولى. موت شخص ثالث: فإذا مات شخص ثالث، فخذ سهامه من الجامعة لمسألتي الميت الأول والثاني، فإن انقسمت على مسألته، صحت الثالثة مما صحت منه المسألتان الأوليان. وإن باينتها، فاضربها فيما صحت منه الجامعة بين المسألتين. وإن وافقتها، فاضرب وَفْقها فيما صحت منه أيضاً. فما بلغ فمنه تصح المسائل الثلاث، ثم اعتبر ذلك كمسألة واحدة أولى. ومسألة الميت الرابع كالثانية، وهكذا. فلو فرضنا مثال المباينة على حاله، وماتت الأم عن أربعة إخوة لأب، ثم مات العم عن عشرة بنين وهكذا. ففي حال موت الأم عن أربعة إخوة: يكون بين حاصل المسألة (30) وبين الأربعة عدد الإخوة موافقة، فيقسم كل منهما على (2)، ثم يضرب (30×2=60) ومنه تصح، فيعطى للإخوة (2×10=20)، وللأبناء الخمسة (2×15=30)، وللعم (2×5=10).
ثالثا ـ اختصار مسائل المناسخات
وفي حال موت العم عن عشرة بنين: يمكن قسمة نصيبه وهو (20) على الأبناء بدون كسر، فيعطى لكل ابن (2). ثالثاً ـ اختصار مسائل المناسخات: اختصار مسائل المناسخات نوعان: اختصار المسائل، واختصار السهام. 1 - أما اختصار المسائل: فهي أن تكون السهام في المسألة الثانية، مثل ما بقي من سهام الأولى، والورثة هم أولئك، بأن يكونوا عصبة. 2 - وأما اختصار السهام: فيكون بعد تصحيح المسائل وقسمتها، بأن تعتبر سهام الورثة، فربما توافقت بجزء من الأجزاء، فتردها إليه، وترد المسألة إلى مثل ذلك. وتبدأ في الاستقراء: بأن تنظر النصف: فإن لم تجده، لم تطلب ما يتركب منه كالربع والثمن، وجزء الـ (16) وما أشبه ذلك. وإن وجدته طلبت ما يتركب منه. ثم تطلب الثلث، فإن لم تجده، لم تطلب ما يتركب منه كالسدس والتسع وجزء الـ (12) والـ (18). ثم تنظر إلى الخمس: فإن لم تجده، لم تطلب العشر، ولا جزء الـ (15) ونحوه. ثم تطلب السبع، ثم أجزاء الـ (11)، والـ (13) ونحوها. وإن وجدت للسهام مخرجين، أخذت ما يتولد منهما، مثل أن تجد النصف والثلث، فتأخذ السدس، أو النصف والخمس فتأخذ العشر، أو السبع والثلث، فتأخذ جزء الـ (21)، وقس على مثل هذا.
أمثلة اختصار المسائل
وإذا كان في سهام الورثة عدد فرد واحد، لم تطلب النصف، ولا ما يتركب منه، بل تطلب الثلث، أو السبع أو التسع، فإن كان خمسة فاطلب الخمس وما يتركب منه من مخرج فرد. وإن شئت طلبت الموافقة عند الفراغ من كل مسألة، وإن شئت تركتها إلى آخره. وفي طريق الموافقة طريق آخر: وهو أن توافق بين أقل الأنصباء، وبين ما يليه، فإن لم يتوافقا علمت أنه لا اختصار في المسألة. وإن توافقا طلبت الموافقة بين مخرج ذلك الجزء وبين سهام من بقي. أمثلة اختصار المسائل: 1 - زوجة، وأم، وعشرة إخوة، وعشر أخوات لأب، مات منهم ثمانية إخوة، وسبع أخوات: للزوجة 4/ 1، وللأم 6/ 1، والباقي بين من بقي على سبعة، وتصح من (12). 2 - زوجة، وأم، وأب، وخمسة بنين، وثلاث بنات، مات ابن منهم، ثم ماتت بنت، ثم الزوجة، ثم ابن، ثم الأب، ثم ابن، ثم الأم، ثم بنت، صار الميراث لمن بقي وهم ابنان وبنت، فيقسم المال بينهم على خمسة. وهذا إذا كانت الزوجة هي أم البنين والبنات، ولا وارث لها غيرهم. 3 - زوجة، وابنان، وثلاث بنات، مات أحد الابنين، فالأولى من (8)، إذا أسقطت منها سهمي الابن بقي (6)، والسهمان أيضاً بينهم على (6)؛ لأن الابن الذي مات ترك: أماً، وأخاً، وثلاث أخوات، فقد استوت سهام الثانية وما بقي من سهام الأولى، فاقسم المال بينهم على (6).
4 - مات عن خمسة بنين، وخمس بنات، ثم مات منهم ابنان وابنتان، فلا تصحح، بل تقسم المال بين من بقي على (9)، ولو صححتها على عمل المناسخات، لوجدت سهامهم ترجع بالموافقة إلى (9). 5 - ثلاث أخوات، وابن عم هو زوج إحداهن: تصح المسألة من (7)، لأن أصلها من (3) للأخوات الثلثان (2)، ولابن العم (1)، فيضرب عدد الرؤوس (3) أخوات في أصل المسألة (3=9)، ثم ماتت الأخت التي هي زوجة ابن العم عن سهمين، فورثها زوجها وأختاها، فتعول من (6) إلى (7)، وسهامهن الأولى (7)، فتقسم المال بينهم على ذلك، ولو عملتها بالمناسخة لصحت من (63) بضرب أصلي المسألتين: (7×9) فتأخذ الأخت الأولى (2×9=18)، ومثلها الثانية، ويأخذ الزوج (27). 6 - ماتت عن زوج، وأبوين، وخمسة بنين، وخمس بنات، وثلاثة إخوة، وثلاث أخوات. ثم مات الزوج، ثم الأم، ثم الأب، ثم ماتت بنت، ثم ابن، فبموت الزوج يرثه أولاده، وبموت الأم يرثها زوجها الأب، وأولادها الذين هم الإخوة والأخوات، فإذا مات الأب، عاد ماله إليهم، فصار لهم الثلث، وللأولاد الثلثان. وبموت الابن، ثم البنت، يعود نصيبهما إلى إخوتهما، وأخواتهما، فاقسم الثلثين بين من بقي منهم، وهم أربعة ذكور، وأربع إناث، على (12)، والثلث على (9)، وسهمان على (12) توافق بالنصف إلى (6)، والستة توافق التسعة بالثلث، فاضرب ثلث أحدهما في الآخر، يكون (18)، ثم في ثلثه، يكون (54)، ومنها تصح.
أمثلة اختصار السهام
أمثلة اختصار السهام: 1 - زوجة، وابن، وبنت، ثم ماتت البنت، تصح المسألتان من (12) للزوجة التي هي أم البنت الميتة (4)، وللابن الذي هو أخ البنت الباقي تعصيباً وهو (8)؛ لأن أصل المسألة الأولى (4)، وأصل المسألة الثانية (3)، فيضربان ببعضهما، فيكون للأم (3+1)، وللابن (6+2). 2 - زوجة، أبوان، ابنتان، ابن ابن، بنت ابن، ثم ماتت الزوجة والأبوان، تصح من (243)، وتوافق بالتسع، لأن تقسيم (243÷9=27)، فترجع إلى (27)، للبنتين (24)، ولابن الابن سهمان، ولبنت الابن سهم. 3 - زوجة، وابنان، وبنت: مات ابن، ثم بنت، تصح من (1080)، للزوجة (26)، وللابن (784)، وبينهما توافق بالثمن، فترجع إلى (135) للزوجة منها (37)، وللابن (98). 4 - زوجة، وأبوان، وابن ابن، وبنت ابن: ماتت الزوجة، ثم الأم، ثم الأب، تصح من (144)، وتختصر إلى (12)، للبنت (9)، ولابن الابن سهمان، ولبنت الابن سهم. 5 - زوجة، أم، ثلاثة بنين، وبنت: ماتت الزوجة، ثم الأم، وخلفت زوجاً وبنتاً. فللزوجة 8/ 1 وهو (3)، وللأم 6/ 1 وهو (4)، والباقي وهو (17) للبنين والبنات. يقال: المسألة من (24)، وتصح من (168) بضرب (7 × 24)، وسهام الزوجة ترجع إلى أولادها، فصار لهم (20)، ثم ماتت الأم عن أربعة أسهم، لهم منها سهم، فصار لهم (21)، وهي منقسمة عليهم، ولزوجها سهم ولبنتها سهمان، وبتصحيحها من (168)، توافق السهام بالأسباع، لأن تقسيم (168÷7=24)، فترجع إلى (24).
أمثلة تتطلب الاستيضاح عن صفة الميت والورثة
أمثلة تتطلب الاستيضاح عن صفة الميت والورثة: هناك مسائل يستفهم فيها عن صفة الميت أهو ذكر أم أنثى، وعن الورثة أهم من أم واحدة، أم من أمهات؛ لأن الحكم يختلف فيما ذكر، والأنساب تتغير، والميراث يقل ويكثر. 1 - أخوان من أب، وأختان من أم وأب، مات أحد الأخوين، فيسأل: هل هو وأخوه من أم واحدة أو من أمين، فإنهما إن كانا من أم واحدة، كان الآخر أخاه من أمه وأبيه، فميراثه كله له، وإن كانا من أمين ورثوا كلهم. 2 - أختان من أم، وأختان من أب وأم، ثم ماتت إحدى الأختين من الأم، يسأل هل هما من أب واحد أو لا، فإن كانا من أب واحد، كانت الأخت الباقية من أب وأم، والأختان الأخريان من أم، وإن كانا من أبوين فهن جميعاً أخوات لأم. 3 - خمس أخوات، وعم، يسأل: هل الميت رجل أو امرأة، وهل الأخوات من أم الميت، أو من أب، أو منهما، أوبعضهن من أم، وبعضهن من أب؛ لأن الحكم يختلف بذلك. 4 - أربع بنات وعم، ماتت إحداهن، يسأل عنهن، هل هن من أم واحدة أو من أمهات شتى. 5 - مات شخص عن أبوين وابنتين، ثم ماتت إحدى الابنتين، وتركت زوجاً، يسأل، هل الميت رجل أو امرأة، فإن كان الميت امرأة، فهل ابنتاها من زوج أو من زوجين، وهذه هي المسألة المأمونة التي امتحن بها يحيى بن أكثم.
الفصل التاسع عشر: التخارج أو المخارجة
6 - زوج وأربع بنات وعم، ماتت إحدى البنات، يسأل عن الزوج: هل هو أبو الميتة أو لا، وهل الباقيات من زوج واحد أو من أزواج. 7 - ترك أخوين وجدتين، ثم مات أحد الأخوين، يسأل عن الأخوين هل هما من أب وأم، أو لا، فإن كانا من أب ورثته أم الأب وحدها، وإن كانا من أم ورثته أم الأم وحدها، وإن كانا من أب وأم، ورثته الجدتان. 8 - عشرة أبناء عم، مات أحدهم، يسأل عن أمهم، أواحدة هي أم لا؟ 9 - أبوان وثلاثة إخوة، ماتت الأم، يسأل هل الأب زوجها، أو هي مطلقة منه. الفَصْلُ التّاسع عَشر: التّخارج أو المخارجة: تعريفه، وكيفية قسمة التركة عند التخارج (¬1). أولاً ـ تعريف التخارج: هو أن يتصالح الورثة على إخراج بعضهم من الميراث، في مقابل شيء معلوم من التركة أو من غيرها. وهو عقد معاوضة، أحد بدليه نصيب الوارث في التركة، والبدل الآخر هو المال المعلوم الذي يدفع للوارث المخرج. وهذا العقد جائز عند التراضي، فإذا تم تملك الوارث العوض المعلوم الذي أعطيه، وزال ملكه عن نصيبه في التركة إلى بقية الورثة الذي اصطلح معهم. وقد حدث في عهد الراشدين، إذ طلَّق عبد الرحمن بن عوف امرأته تُمَاضر ¬
ثانيا ـ كيفية قسمة التركة عند التخارج
بنت الأصبغ الكلبية في مرض موته، ثم مات وهي في العدة، فورّثها عثمان رضي الله عنه مع ثلاث نسوة أخر، فصالحوها عن رُبُع ثُمنها على ثلاثة وثمانين ألفاً (قيل: دنانير، وقيل: دراهم). ثانياً ـ كيفية قسمة التركة عند التخارج: تختلف قسمة التركة عند التخارج باختلاف صوره على النحو التالي: 1ً - أن يخرج أحد الورثة عن نصيبه لآخر، في مقابل شيء يأخذه من مال الوارث الخاص: فيحل الثاني محل الأول في نصيبه من التركة، وتضم سهامه إلى سهامه. كأن يكون الورثة زوجاً وأخوين شقيقين، فأخرج أحد الشقيقين الزوج من نصيبه، بمال دفعه إليه من ماله الخاص، فيضم نصيب الزوج وهو سهمان من أربعة إلى نصيبه وهو سهم واحد، فيصبح له ثلاثة أسهم ولشقيقه الآخر سهم واحد. 2ً - أن يخرج أحد الورثة عن نصيبه لبقية الورثة، في مقابل مال يدفعونه إلىه من غير التركة بنسبة أنصبائهم: فتكون كل التركة لبقية الورثة بنسبة أنصبائهم ويجعل المُخْرَج غير وارث. كأن تموت امرأة عن زوج وابن وبنت، ثم يخرج الابن والبنت والزوج في مقابل مبلغ معين من مالهما الخاص، بنسبة نصيبهما، فإن التركة تقسم بين الابن والبنت، للأول الثلثان وللأخرى الثلث. 3ً - أن يخرج أحد الورثة عن نصيبه لبقية الورثة في مقابل مال يدفعونه إليه من غيرالتركة بالتساوي: فتقسم الحصة المصالح عليها بين بقية الورثة بالتساوي. ففي المثال السابق إذا دفع الابن والبنت المبلغ مناصفة، استحقا نصيب الزوج وهو الربع مناصفة.
أمثلة
4ً - أن يخرج أحد الورثة عن نصيبه لبقية الورثة في مقابل مال يدفعونه إليه من التركة: فتقسم حصة الخارج على سائر الورثة بنسبة أنصبائهم. وطريق ذلك أن تقسم التركة أولاً على فرض عدم التخارج، ثم يطرح سهم الخارج من أصل المسألة أو عولها في نظير طرح بدل التخارج من التركة. ونص القانون المصري (م 48) والسوري (م 31/ 304) على تعريف التخارج وكيفية قسمة التركة بالأوجه السابقة. أمثلة: 1 - لو توفيت امرأة عن زوج، وبنتين، وبنت ابن، وابن ابن، ثم صالح الورثة الزوج على منزل من التركة، كان للزوج الربع وهو (3 من 12)، وللبنتين الثلثان وهو (8) والباقي لبنت الابن وابن الابن للذكر ضعف الأنثى، ثم تصحح المسألة بضرب عدد رؤوس العصبة (3×12=36)، فيكون للزوج (3×3=9 من 36)، وللبنتين (8 × 3= 24)، والباقي للعصبة. ثم تطرح سهام الزوج (9) من (36)، فيكون الباقي (27)، يقسم عليها الباقي من التركة بعد طرح مقابل المنزل منها. 2 - توفيت زوجة عن زوج، وأم، وعم شقيق، ثم صولح الزوج على ما في ذمته من المهر، المسألة من (6)، للزوج 3/ 1 وهو (3)، وللأم 2/ 1 وهو (2)، وللعم الباقي وهو (1)، ثم تطرح سهام الزوج وهي (3) من (6)، فيكون الباقي وهو (3) أصل المسألة يقسم عليه باقي التركة، وهو ما عدا المهر، فيكون للأم سهمان، وللعم سهم واحد. 3 - توفيت امرأة عن: أخت شقيقة، وأخت لأب، وأخت لأم، وزوج، ثم
أخرجت الشقيقة في مقابل قطعة أرض من التركة. المسألة من (6)، وتعول إلى (8)، للشقيقة النصف وهو (3)، وللأخت لأب السدس وهو (1)، وللأخت لأم السدس وهو (1)، وللزوج النصف وهو (3)، ثم يطرح نصيب الشقيقة وهو (3) من أصل المسألة وهو (8)، ثم يقسم الباقي من التركة ما عدا قيمة الأرض على الباقي من أصل المسألة وهو (5)، فيكون للزوج (3) من (5)، وللأخت لأم (1)، وللأخت لأب (1). 4 - توفي رجل عن: زوجة، وأختين شقيقتين، وأخت لأم، فصالحت الورثة الزوجة على منزل من التركة. المسألة من (12)، وتعول إلى (13)، للزوجة (3) أسهم، وللشقيقتين (8) أسهم، وللأخت لأم سهمان، ثم يطرح نصيب الزوجة وهو ثلاثة أسهم من أصل المسألة وهو (13)، فيبقى (10)، يقسم عليها الباقي من التركة بعد طرح قيمة المنزل، فيكون للشقيقة ثمانية أسهم، وللأخت لأم سهمان.
ملحق: فتاوى وتوصيات مؤتمر الزكاة الأول
ملحق: فتاوى وتوصيات مؤتمر الزكاة الأول التّوصيات 1 - يؤكد المؤتمر على ضرورة أن يعمل المسلمون جميعاً - حكاماً ومحكومين على ترسيخ العقيدة الإسلامية الخالصة وتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية الغراء في بلادهم. 2 - يناشد المؤتمر ولاة الأمور في الدول الإسلامية وغيرها التي لم تنشأ فيها مؤسسات الزكاة ضرورة إنشاء وتشجيع قيام مؤسسات مستقلة للزكاة، وذلك لما للزكاة من آثار طيبة على المجتمعات والأفراد. 3 - إنشاء أمانة عامة أو اتحاد لمؤسسات الزكاة لتنظيم جميع شؤون الزكاة، وعقد المؤتمرات المتخصصات واختيار أحد البلدان مقراً لها. 4 - تشكيل لجنة علمية من الفقهاء والمتخصصين لمعالجة الأمور المعاصرة المتعلقة بالزكاة، ورفع توصياتها للجهات المعنية. ويتولى بيت الزكاة الكويتي متابعة الجهات المختصة في العالم الإسلامي لتنفيذ ذلك، على أن تُعطى اللجنة أولوية لإعداد صياغة شرعية موحدة لأحكام الزكاة تعالج جمعها وصرفها وجميع المسائل المتعلقة بها. 5 - تكوين صندوق أو منظمة باسم صندوق الزكاة تشترك فيه الدول الإسلامية يكون تابعاً لمنظمة المؤتمر الإسلامي، للتنسيق بين مؤسسات الزكاة في الدول الإسلامية وحل مشاكلها عن طريق البحوث والدراسات اللازمة وتنظيم
جمع الزكاة وتوزيعها على مستوى العالم الإسلامي. على أن يتولى بيت الزكاة في الكويت متابعة تنفيذ هذه التوصية مع منظمة المؤتمر الإسلامي وإعداد الدراسات اللازمة في هذا الشأن. 6 - يوصي المؤتمر بأن يكون انعقاد مؤتمر الزكاة كل سنة مرة في أحد الأقطار الإسلامية تأكيداً لأهمية هذه اللقاءات لمعالجة قضايا تخصصية على أن يتولى بيت الزكاة في الكويت متابعة تنفيذ هذه التوصية. 7 - دعوة وزارات التربية والتعليم والجامعات في الدول الإسلامية بالاهتمام بتدريس مقررات الزكاة وجوانبها المختلفة ضمن مناهجها وتشجيع البحث العلمي في نواحيها المتعددة. 8 - يوصي المؤتمر كافة الوسائل الإعلامية بتوضيح وتبسيط أحكام فريضة الزكاة وإعداد البرامج الموضحة لمدى الحاجة إليها في المجتمعات الإسلامية، وآثارها في النهوض بهذه المجتمعات. 9 - يوصي المؤتمر بأهمية اختيار الموظفين ذوي الكفاءة والصلاح والاهتمام بالعمل الإسلامي العام لإدارة مؤسسات الزكاة والعمل على تنظيم الدورات التدريبية والحلقات التخصصية لتطوير قدراتهم. 10 - يوصي المؤتمر بدراسة التطبيقات الحالية والمتقدمة في تطبيق فريضة الزكاة للاستفادة من خبراتها وأنشطتها المختلفة مثل المملكة العربية السعودية وجمهورية باكستان الإسلامية وغيرها من الدول الإسلامية. 11 - يوصي المؤتمر صناديق وبيوتات الزكاة الاهتمام بالمجاهدين وتقديم كل عون لهم. 12 - يوصي المؤتمر مؤسسات الزكاة في العالم الإسلامي بضرورة التنسيق المستمر فيما بينهم والعمل على تبادل الخبرات والرأي في مختلف قضايا الزكاة.
الفتاوى
الفتاوى (أولاً) زكاة أموال الشركات والأسهم زكاة أموال الشركات: 1 - تربط الزكاة على الشركات المساهمة نفسها لكونها شخصاً اعتبارياً، وذلك في كل من الحالات الآتية: 1) صدور نص قانوني ملزم بتزكية أموالها. 2) أن يتضمن النظام الأساسي ذلك. 3) صدور قرار الجمعية العمومية للشركة بذلك. 4) رضا المساهمين شخصياً. ومستند هذا الاتجاه الأخذ بمبدأ (الخلطة) الوارد في السنة النبوية بشأن زكاة الأنعام، والذي رأت تعميمه في غيرها بعض المذاهب الفقهية المعتبرة. والطريق الأفضل وخروجاً من الخلاف: أن تقوم الشركة بإخراج الزكاة، فإن لم تفعل فاللجنة توصي الشركات بأن تحسب زكاة أموالها وتُلحق بميزانيتها السنوية بياناً بحصة السهم الواحد من الزكاة.
كيفية تقدير زكاة الشركات والأسهم
زكاة الأسهم: 2 - إذا قامت الشركة بتزكية أموالها فلا يجب على المساهم إخراج زكاة أخرى عن أسهمه منعاً للازدواج. - أما إذا لم تقم الشركة بإخراج الزكاة فإنه يجب على مالك السهم تزكية أسهمه وفقاً لما هو مبين في البند التالي. كيفية تقدير زكاة الشركات والأسهم: 3 - إذا كانت الشركة ستخرج زكاتها فإنها تعتبر بمثابة الشخص الطبيعي وتخرج زكاتها بمقاديرها الشرعية بحسب طبيعة أموالها ونوعيتها، أما إذا لم تخرج الشركة الزكاة فعلى مالك الأسهم أن يزكي أسهمه تبعاً لإحدى الحالتين التاليتين: 4 - (الحالة الأولى) أن يكون قد اتخذ أسهمه للمتاجرة بها بيعاً وشراء فالزكاة الواجبة فيها هي إخراج ربع العشر (2.5%) من القيمة السوقية بسعر يوم وجوب الزكاة، كسائر عروض التجارة. 5 - (الحالة الثانية) أن يكون قد اتخذ الأسهم للاستفادة من ريعها السنوي فزكاتها كما يلي: أ) إن أمكنه أن يعرف عن طريق الشركة أو غيرها - مقدار ما يخص السهم من الموجودات الزكوية للشركة فإنه يخرج زكاة أسهمه بنسبة ربع العشر (2.5%).
(ثانيا) زكاة المستغلات
ب) وإن لم يعرف فقد تعددت الآراء في ذلك: - فيرى الأكثرية أن مالك السهم يضم ريعه إلى سائر أمواله من حيث الحول والنصاب ويخرج منها ربع العشر (2.5%) وتبرأ ذمته بذلك. - ويرى آخرون إخراج العشر من الربح 10% فور قبضه، قياساً على غلة الأرض الزراعية. (ثانياً) زكاة المستغلات 6 - يقصد بالمستغلات المصانع الإنتاجية والعقارات والسيارات والآلات ونحوها من كل ما هو معد للإيجار وليس معداً للتجارة في أعيانه. وهذه المستغلات اتفقت اللجنة على أنه لا زكاة في أعيانها وإنما تزكى غلتها، وقد تعددت الآراء في كيفية زكاة هذه الغلة: فرأى الأكثرية أن الغلة تضم (في النصاب والحول) إلى ما لدى مالكي المستغلات من نقود وعروض التجارة، وتزكى بنسبة ربع العشر (2.5%) وتبرأ الذمة بذلك. ورأى البعض أن الزكاة تجب في صافي غلتها الزائدة عن الحاجات الأصلية لمالكيها بعد طرح التكاليف ومقابل نسبة الاستهلاك وتزكى فور قبضها بنسبة العشر (10%) قياساً على زكاة الزروع والثمار.
(ثالثا) زكاة الأجور والرواتب وأرباح المهن الحرة وسائر المكاسب
(ثالثاً) زكاة الأجور والرواتب وأرباح المهن الحرة وسائر المكاسب 7 - هذا النوع من الأموال يعتبر ريعاً للقوى البشرية، للإنسان أن يوظفها في عمل نافع وذلك كأجور العمال ورواتب الموظفين وحصيلة عمل الطبيب والمهندس ونحوهم، ومثلها سائر المكاسب من مكافآت وغيرها وهي مالم تنشأ من مستغل معين. وهذا النوع من المكاسب ذهب أغلب الأعضاء إلى أنه ليس فيه زكاة حين قبضه ولكن يضمه الذي كسبه إلى سائر ما عنده من الأموال الزكوية في النصاب والحول فيزكيه جميعاً عند تمام الحول منذ تمام النصاب، وما جاء من هذه المكاسب أثناء الحول يزكى في آخر الحول ولو لم يتم حول كامل على كل جزء منها. وما جاء منها ولم يكن عند كاسبه قبل ذلك نصاب يبدأ حوله من حين تمام النصاب عنده، وتلزمه الزكاة عند تمام الحول من ذلك الوقت. ونسبة الزكاة في ذلك ربع العشر (2.5%) لكل عام. وذهب بعض الأعضاء إلى أنه يزكي هذه الأموال المستفادة عند قبض كل منها بمقدار ربع العشر (2.5%) إذا بلغ المقبوض نصاباً وكان زائداً عن حاجاته الأصلية وسالماً من الدين. فإذا أخرج هذا المقدار فليس عليه أن يعيد تزكيته عند تمام الحول على سائر أمواله الأخرى، ويجوز للمزكي هنا أن يحسب ما عليه ويخرجه فيما بعد مع أمواله الحولية الأخرى.
(رابعا) السندات والودائع الربوية والأموال المحرمة ونحوها
(رابعاً) السندات والودائع الربوية والأموال المحرمة ونحوها 8 - السندات ذات الفوائد الربوية وكذلك الودائع الربوية يجب فيها تزكية الأصل زكاة النقود ربع العشر (2.5%) أما الفوائد الربوية المترتبة على الأصل فالحكم الشرعي أنها لا تزكى وإنما هي مال خبيث على المسلم أن لا ينتفع به وسبيلها الإنفاق في وجوه الخير والمصلحة العامة ماعدا بناء المساجد وطبع المصاحف. أما أموال المظالم المغصوبة والمسروقة، فلا يزكي عليها غاصبها، لأنها ليست ملكه، ولكن عليه أن يردها كلها إلى أصحابها. (خامساً) الحول القمري 9 - الأصل في اعتبار حولان الحول مراعاة السنة القمرية، وذلك في كل مال زكوي اشترط له الحول. واللجنة توصي الأفراد والشركات والمؤسسات المالية باتخاذ السنة القمرية أساساً لمحاسبة الميزانيات. أو على الأقل أن تعد ميزانية لها خاصة بالزكاة وفقاً للسنة القمرية. فإن كان هناك مشقة فإن اللجنة ترى أنه يجوز تيسيراً على الناس - إذا ظلت الميزانيات على أساس السنة الشمسية - إن يستدرك زيادة أيامها عن أيام السنة القمرية بأن تحسب النسبة (2.575%) تقريباً.
(سادسا) الدين الاستثماري والزكاة
(سادساً) الدين الاستثماري والزكاة 10 - الدين إذا استعمله المستدين في التجارة يسقط مقابله من الموجودات الزكوية أما إذا استخدم في تملك المستغل من عقار أو آليات أو غير ذلك فنظراً إلى أنه على الرأي المعمول به من أن الدين يمنع من الزكاة بقدره من الموجودات الزكوية وأن ذلك يؤدي إلى إسقاط الزكاة في أموال كثير من الأفراد والشركات والمؤسسات مع ضخامة ما تحصله من أرباح. لذلك فإن اللجنة تلفت النظر إلى وجوب دراسة هذا الموضوع وتركيز البحث حوله. وترى اللجنة مبدئياً الأخذ في هذا بخصوصه بمذهب من قال من الفقهاء: إنه إذا كان الدين مؤجلاً فلا يمنع من وجوب الزكاة، على أن الأمر بحاجة إلى مزيد من البحث والتثبت والعناية. هذا ما وصلت إليه اللجنة ولا يزال بعض هذه الموضوعات محتاجاً إلى مزيد من البحث والتمحيص الفقهي في ضوء واقع الحال. كما توصي اللجنة المؤتمرات القادمة باستكمال دراسة القضايا الأخرى المستجدة مما لم يتسع له وقت هذا المؤتمر. وأخيراً تدعو اللجنة إلى الاهتمام بالتوعية بالزكاة ودراسة أحكامها ومراعاة شأنها في كل مجال يتطلب ذلك في التطبيقات الاقتصادية والاجتماعية وغيرها.
الندوة الأولى: الفتاوى والتوصيات
الندوة الأولى: الفتاوى والتوصيات 1 - مقدار الزكاة الواجب في عروض التجارة: لا يختلف النصاب والمقدار الواجب إخراجه بين زكاة النقود وزكاة عروض التجارة، وعلى ذلك استقر إجماع الفقهاء المعتبرين. وما قد يظن من أن في هذه التسوية تخفيفاً على المكتنز وتشديداً على المستثمر بسبب أخذ نفس النسبة ممن استثمر ماله بحيث يختفي الحافز على الاستثمار هو غير صحيح، لأن الاستثمار يهدف إلى زيادة أصل المال وبذلك يمكن أداء الزكاة من الريع والحفاظ على الأصول. أما من لا يجد فرصة للاستثمار فإنه يؤدي زكاته من رأس المال دائماً، ولذا حثت السنة ولي اليتيم على الاتجار بمال اليتيم حتى لا تأكله الزكاة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى ليس كل مال يحول عليه الحول من النقد يعتبر مكتنزاً، كما أن المستثمر يُخفف عنه بعدم فرض الزكاة على المال الذي يتحول إلى أصول ثابتة، والنقود في معظم الأحوال رؤوس أموال لمشاريع استثمارية أو للحصول على توابعها. 2 - المشروعات الصناعية: بعد الاطلاع على ما جاء عن هذا الموضوع في فتاوى مؤتمر الزكاة الأول (فقرة 6) تبين أن المشروعات الصناعية يمكن قياسها على الأراضي الزراعية باعتبار
3 - نقل الزكاة خارج منطقة جمعها
كل منهما أصلاً ثابتاً يدر دخلاً بالعمل فيه والنفقة عليه، ومن ثم تجب الزكاة في المنتوج بنسبة 5% كما يمكن معاملة رأس المال العامل (الأصول المتداولة) من المشروع الصناعي معاملة عروض التجارة ومن ثَمَّ تجب الزكاة في الأصل والناتج بنسبة 2.5% مع عدم خضوع الأصول الثابتة فيه للزكاة. ويحتاج هذا الموضوع إلى مزيد من الدراسة والتداول في ندوة قادمة إن شاء الله. 3 - نقل الزكاة خارج منطقة جمعها: مع مراعاة ما ورد في القرار (5هـ) للمؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية من أن الزكاة تعتبر أساساً للتكافل الاجتماعي في البلاد الإسلامية كلها، فإن الأصل الذي ثبت بالسنة وعمل الخلفاء هو البدء في صرف الزكاة للمستحقين من أهل المنطقة التي جمعت منها، ثم ينقل ما فاض عن الكفاية إلى مدينة أخرى باستثناء حالات المجاعة والكوارث والعوز الشديد فتنقل الزكاة إلى من هم أحوج، وهذا على النطاق الفردي والجماعي. كما يجوز على النطاق الفردي نقلها إلى المستحقين من قرابة المزكي في غير منطقته. 4 - الإبراء من الدين على مستحق الزكاة منها: إسقاط الدائن العاجز عن استيفاء دينه على المدين المعسر لهذا الدين لا يحتسب من الزكاة ولو كان المدين مستحقاً للزكاة. وهذا ما ذهب إليه أكثر الفقهاء. ومن الصور المتصلة بهذا الموضوع:
5 - اعتبار ما أخرج على ظن الوجوب زكاة معجلة
أ - لو دفع المزكي الدائن الزكاة للمدين، ثم ردها إلى الدائن وفاء لدينه من غير تواطؤ ولا اشتراط، فإن يصح ويجزئ عن الزكاة. ب - لو دفع الدائن الزكاة إلى المدين بشرط أن يردها إليه عن دينه، أو تواطأ الاثنان على الرد، فلا يصح الدفع ولا تسقط الزكاة، وهذا رأي أكثر الفقهاء. جـ - لو قال المدين للدائن المزكي: ادفع الزكاة إليّ حتى أقضيك دينك، ففعل، أجزأه المدفوع عن الزكاة، وملكه القابض، ولكن لا يلزم المدين القابض دفع ذلك المال إلى الدائن عن دينه. د - لو قال رب المال للمدين: اقض يا فلان مما عليك من الدين على أن أرده عليك من زكاتي فقضاه صح القضاء ولا يلزم الدائن رد ذلك المال إلى المدين بالاتفاق. 5 - اعتبار ما أخرج على ظن الوجوب زكاة معجلة: يجوز اعتبار المدفوع على ظن الوجوب زكاة معجلة إذا تحققت شروط التعجيل مثل ملك المزكي النصاب، وبقاء المدفوع إليه بصفة الاستحقاق، ووجوب الزكاة على المزكي. وهذا ما ذهب إليه الفقهاء غير المالكية. فإذا اختل شرط من هذه الشروط، كان المدفوع صدقة تطوعية، ولا يجوز استردادها إذا قبضها المستحق من المزكي، أما إذا كان القبض من ولي الأمر أو من مؤسسة للزكاة فلا مانع من الاسترداد بعد ثبوت كون المدفوع زيادة عن الواجب إذا لم يوزع على المستحقين.
7 - مصرف (في سبيل الله)
6 - إلزامية الزكاة وتطبيقها من ولي الأمر: أ - دعوة الحكومات في البلاد الإسلامية إلى العمل الجاد لتطبيق الشريعة الإسلامية في مجالات الحياة كافة، ومن ذلك إنشاء مؤسسات خاصة لجمع الزكاة وصرفها في مصارفها الشرعية على أن تكون لهذه المؤسسات ميزانية مستقلة في مواردها ومصارفها عن الميزانية العامة للدولة. أما في البلاد غير الإسلامية فالبديل هو الجمعيات التي تُعنى بشؤون الزكاة. ب - دعوة الحكومات الإسلامية لإصدار التشريعات الكفيلة بإقامة مؤسسات الزكاة التي يشرف عليها أهل الدين والأمانة والكفاية والعلم. جـ - دعوة الحكومات إلى تضمين تشريعاتها الضريبية نصوصاً تقتضي بحسم مقدار الزكاة مهما بلغ من الضرائب المقررة قانوناً. د - دعوة الحكومات الإسلامية التي تطبق فريضة الزكاة إلى الأخذ برأي القائلين من الفقهاء المعاصرين بفرض ضريبة تكافل اجتماعي على مواطنيها من غير المسلمين بمقدار الزكاة وأن تكون هذه الضرائب الموازية للزكاة مورداً لتحقيق التكافل الاجتماعي العام الذي يشمل جميع المواطنين ممن يعيش في ظل دولة الإسلام. 7 - مصرف (في سبيل الله): إن مصرف (في سبيل الله) يراد به الجهاد بمعناه الواسع الذي قرره الفقهاء بما مفاده حفظ الدين وإعلاء كلمة الله ويشمل مع القتال الدعوة إلى الإسلام والعمل على تحكيم شريعته ودفع الشبهات التي يثيرها خصومه عليه وصد التيارات المعادية له.
8 - الزكاة ورعاية الحاجات الأساسية الخاصة
وبهذا لا يقتصر الجهاد على النشاط العسكري وحده. ويدخل تحت الجهاد بهذا المعنى الشامل ما يلي: أ - تمويل الحركات العسكرية الجهادية التي ترفع راية الإسلام وتصد العدوان على المسلمين في شتى ديارهم مثل حركات الجهاد في فلسطين وأفغانستان والفلبين. ب - دعم الجهود الفردية والجماعية الهادفة لإعادة حكم الإسلام وإقامة شريعة الله في ديار المسلمين ومقاومة خطط الإسلام لإزاحة عقيدته وتنحية شريعته عن الحكم. جـ - تمويل مراكز الدعوة إلى الإسلام التي يقوم عليها رجال صادقون في البلاد غير الإسلامية بهدف نشر الإسلام بمختلف الطرق الصحيحة التي تلائم العصر وينطبق هذا على كل مسجد يقام في بلد غير إسلامي يكون مقراً للدعوة الإسلامية. د - تمويل الجهود الجادة التي تثبِّت الإسلام بين الأقليات الإسلامية في الديار التي تسلط فيها غير المسلمين على رقاب المسلمين، والتي تتعرض لخطط تذويب البقية الباقية من المسلمين في تلك الديار. 8 - الزكاة ورعاية الحاجات الأساسية الخاصة: أ - يرتبط مفهوم الحاجات الأساسية التي تراعيها الزكاة بجميع عناصر مقاصد الشريعة الإسلامية من ضروريات وحاجيات لتحقيق الكفاية بما يتلاءم مع الأعراف السائدة زماناً ومكاناً، وتوفير التكافل الاجتماعي بين المسلمين.
9 - زكاة القروض الإسكانية والاستثمارية المؤجلة
ب - معيار الحاجات الأساسية التي توفرها الزكاة للفقير المسلم هو أن تكون كافية لما يحتاج إليه من مطعم وملبس ومسكن وسائر مالا بُد له منه على ما يليق بحاله بغير إسراف ولا تقتير، للفقير نفسه ولمن يقوم بنفقته. جـ - على من يصرف الزكاة من الأفراد والمؤسسات أن يتحروا عمن تصرف له الزكاة بالوسائل المتاحة التي لا تمس كرامته أو تجرح شعوره بحيث تحصل الطمأنينة بأنه من أهل الاستحقاق، ولا يلزم تكليفهم بأزيد من ذلك كالبينة واليمين إلا في حالات الاشتباه وكثرة ادعاء الاستحقاق الذي تدل القرائن على عدمه. 9 - زكاة القروض الإسكانية والاستثمارية المؤجلة: مع مراعاة ما ورد في مؤتمر الزكاة الأول البند (10) بشأن الدين الاستثماري والزكاة وما رأته اللجنة في ذلك المؤتمر من الأخذ مبدئياً في هذا بخصوصه بمذهب من قال من الفقهاء (أنه إذا كان الدين مؤجلاً فلا يمنع من وجوب الزكاة. على أن الأمر بحاجة إلى مزيد من البحث والتثبت والعناية) استقر الرأي في هذه الندوة على ما يأتي: الديون الإسكانية وما شابهها من الديون التي تمول أصلاً ثابتاً لا يخضع للزكاة ويسدد على أقساط طويلة الأجل يسقط من وعاء الزكاة ما يقابل القسط السنوي المطلوب دفعه فقط إذا لم تكن له أموال أخرى يسدده منها. أما القروض التي تمول رأس المال المتداول (العامل) فإنها تحسم كلها من وعاء الزكاة والحاجة قائمة لمزيد من البحث في تفاصيل جوانب هذا الموضوع.
10 - محاسبة الزكاة للشركات بأنواعها
10 - محاسبة الزكاة للشركات بأنواعها: أ - التوصية بتكوين لجنة فرعية بمعرفة الهيئة الشرعية العالمية للزكاة بالكويت وذلك لبحث موضوع محاسبة الزكاة للشركات بأنواعها ويكون أعضاؤها: - من المحاسبين الذين يمارسون المحاسبة كمهنة ومن الأكاديميين المتخصصين بعلم وفن المحاسبة. - ومن الفقهاء والباحثين المتخصصين بشؤون الزكاة والاقتصاد الإسلامي. وتكون مهمة اللجنة دراسة الأمور الفعلية الخاصة بحساب الوعاء الزكوي ودراسة المبادئ والقواعد والأعراف المحاسبية المعتمدة في إعداد البيانات المالية للشركات على اختلاف أنواعها وأعمالها وتقديم البحوث المناسبة لدراستها من قبل ندوات تعقد في المستقبل. ب - أكدت الندوة بشأن الحول أن السنة المالية للزكاة هي السنة القمرية وليست السنة الشمسية وعليه فإنه من الضروري أخذ هذه المسألة عند احتساب الزكاة على الشركات التي تعد بياناتها المالية على أساس السنة الشمسية طبقاً لما انتهى إليه مؤتمر الزكاة الأول (الفقرة 9). 11 - زكاة عروض التجارة من أعيانها: الأصل إخراج زكاة عروض التجارة نقداً بعد تقويمها وحساب المقدار الواجب فيها، لأنها أصلح للفقير حيث يسد بها حاجاته مهما تنوعت. ومع ذلك، يجوز إخراج زكاة عروض التجارة من أعيانها إذا كان ذلك يدفع الحرج عن المزكي في حالة الكساد وضعف السيولة لدى التاجر، ويحقق مصلحة الفقير
12 - ضرورة معالجة ما يتصل بزكاة المال الحرام
في أخذ الزكاة أعياناً، يمكنه الانتفاع بها. وهذا ما اختارته الندوة في ضوء الاجتهادات الفقهية وظروف الأحوال. ويتم تقويم عروض التجارة بحسب قيمتها السوقية يوم وجوب الزكاة وتقوم السلع المباعة جملة أو تجزئة بسعر الجملة. توصيات عامة: 12 - ضرورة معالجة ما يتصل بزكاة المال الحرام من خلال دراسات تراعى فيها مقاصد الزكاة ومبدأ سد الذرائع. 13 - أن يكون الصرف على العاملين على الزكاة من ميزانية الدولة لا من الزكاة كلما أمكن ذلك ولا سيما بالنسبة للدول الغنية. 14 - قيام الباحثين في الدراسات التي فيها تراث فقهي من المذاهب - بالدور الأساسي في البحث من حيث الترجيح والاختيار عن طريق الأدلة وربط الاتجاهات الفقهية المختلفة بمقاصد الشريعة وتحقيق المصالح المعتبرة شرعاً وكذلك مراعاة اختلاف الاصطلاحات بين المذاهب. 15 - عدم الالتزام بمذهب واحد في القضايا التي تهم جميع المسلمين كقضية الزكاة بصفتها فريضة إسلامية تمثل التكافل الاجتماعي لجميع البلاد الإسلامية مثل قضية التمليك.
الندوة الثانية: الفتاوى والتوصيات
الندوة الثانية: الفتاوى والتوصيات 1 - دفع الديات من مال الزكاة (مصرف الغارمين) أولاً: يعان من الزكاة المدين بدية قتل خطأ إذا ثبت عجز العاقلة عن تحملها وعدم قدرة بيت المال على تحملها، ويجوز دفع هذه المعونة من أموال الزكاة مباشرة إلى أولياء المقتول. أما دية قتل العمد فلا يجوز دفعها من مال الزكاة. ثانياً: وتوصي الندوة في هذا المجال بما يلي: - مراعاة لقاعدة (الضروريات) ينبغي عدم التساهل في دفع الديات من أموال الزكاة ولاسيما مع كثرة الحوادث ووجود الحاجة الماسة بالنسبة للمصارف الأخرى. - إنشاء صناديق تعاونية في البلاد الإسلامية بمعرفة المؤسسات الزكوية فيها، تمول من اشتراكات، وتبرعات، ورسوم (إضافية) على تراخيص السيارات والقيادة، لتكون ضماناً اجتماعياً للإسهام في تخفيف الأعباء عمن لزمتهم الديات بسبب حوادث المرور وغيرها. - تشجيع إقامة الصناديق التعاونية العائلية والمهنية للاستفادة من نظام (العواقل) المعروف في الفقه الإسلامي والقائم على التعاون والتناصر بين ذوي القرابة وبين أهل الحرف وذلك بصورة ملائمة لمعطيات العصر.
2 - زكاة المال الحرام
2 - زكاة المال الحرام بعد استعراض الندوة للبحوث المقدمة في هذا الموضوع ومناقشتها رأت أن هناك بيانات وتفصيلات يتطلب إعطاء هذا الموضوع حقه، لذا ارجأت إصدار فتوى فيه إلى حين استكماله بالبحث والدراسة. 3 - زكاة الديون الاستثمارية والإسكانية تنفيذاً للتوصية العاشرة لمؤتمر الزكاة الأول، والتوصية التاسعة للندوة الأولى لقضايا الزكاة المعاصرة المتضمنة حسم القروض الممولة لرأس المال المتداول، وعدم حسم الديون الإسكانية أو الديون الممولة لأصول ثابتة باستثناء القسط السنوي المطلوب دفعه فقط، والتي ختمت ببيان الحاجة إلى دراسة جوانب تفاصيل هذا الموضوع، فقد انتهت الندوة إلى ما يلي: أولاً: يحسم من الموجودات الزكوية جميع الديون التي تمول عملاً تجارياً إذا لم يكن عند المدين عروض قنْية «أصول ثابتة» زائدة عن حاجاته الأساسية. ثانياً: يحسم من الموجودات الزكوية الديون الاستثمارية التي تمول مشروعات صناعية «مستغلات» إذا لم توجد لدى المدين عروض قنية «أصول ثابتة» زائدة عن حاجاته الأصلية بحيث يمكن جعلها في مقابل تلك الديون، وفي حالة كون هذه الديون الاستثمارية مؤجلة يحسم من الموجودات الزكوية القسط السنوي المطالب به «الحال» فإذا وجدت تلك العروض تجعل في مقابل الدين إذا كانت تفي به، وحينئذ لا تحسم الديون من الموجودات الزكوية. فإن لم تف تلك القروض بالدين يحسم من الموجودات الزكوية ما تبقى منه.
4 - مصرف (في الرقاب)
ثالثاً: القروض الإسكانية المؤجلة والتي تسدد عادة على أقساط طويل أجلها يزكي المدين ماتبقى مما بيده من أموال بعد حسم القسط السنوي المطلوب منه إذا كان الباقي نصاباً فأكثر. 4 - مصرف (في الرقاب) نظراً إلى أن مصرف (في الرقاب) ليس موجوداً في الوقت الحاضر فإنه ينقل سهمهم إلى بقية مصارف الزكاة. 5 - نقل الزكاة إلى غير موضعها وضوابطه بعد الاطلاع على التوصية الثالثة للندوة الأولى لقضايا الزكاة المعاصرة من أن الأصل صرف الزكاة للمستحقين من أهل المنطقة التي جمعت منها ثم ينقل ما فاض عن الكفاية إلى مدينة أخرى مع جواز النقل - استثناء لمن هو أحوج، أو للقرابة، انتهت الندوة إلى تفصيل المبدأ الشرعي في نقل الزكاة على النحو التالي: أولاً: الأصل في صرف الزكاة أن توزع في موضع الأموال المزكاة - لا موضع المزكي، ويجوز نقل الزكاة من موضعها لمصلحة شرعية راجحة. ومن وجوه المصلحة للنقل: أ - نقلها إلى مواطن الجهاد في سبيل الله. ب - نقلها إلى المؤسسات الدعوية أو التعليمية أو الصحية التي تستحق الصرف عليها من أحد المصارف الثمانية للزكاة. ج - نقلها إلى مناطق المجاعات والكوارث التي تصيب بعض المسلمين في العالم.
د - نقلها إلى أقرباء المزكي المستحقين للزكاة. ثانياً: نقل الزكاة إلى غير موضعها في غير الحالات السابقة لا يمنع إجزاءها عنه ولكن مع الكراهة بشرط أن تعطى إلى من يستحق الزكاة من أحد المصارف الثمانية. ثالثاً: موطن الزكاة هو البلد وما بقربه من القرى وما يتبعه من مناطق مما هو دون مسافة القصر (82 كم تقريباً) لأنه في حكم بلد واحد. رابعاً: موضع الزكاة بالنسبة لزكاة الفطر هو موضع من يؤديها لأنها زكاة الأبدان. خامساً: مما يسوغ من التصرفات في حالات النقل: أ - تعجيل إخراج زكاة المال عن نهاية الحول بمدة يمكن فيها وصولها إلى مستحقيها عند تمام الحول إذا توافرت شروط وجوب الزكاة، ولا تقدم زكاة الفطر على أول رمضان. ب - تأخير إخراج الزكاة للمدة التي يقتضيها النقل.
الندوة الثالثة: الفتاوى والتوصيات
الندوة الثالثة: الفتاوى والتوصيات استثمار أموال الزكاة ناقش المشاركون في الندوة البحوث المقدمة في موضوع استثمار أموال الزكاة وانتهوا إلى القرارات التالية: تؤكد الندوة قرار مجمع الفقه الإسلامي رقم (3) د86/ 7/3 بشأن توظيف أموال الزكاة في مشاريع ذات ريع، وأنه جائز من حيث المبدأ بضوابط أشار القرار إلى بعضها. وبعد مناقشة البحوث المقدمة إلى الندوة في هذا الموضوع بشأن المبدأ والضوابط انتهت إلى مايلي: 1 - أن لا تتوافر وجوه صرف عاجلة تقتضي التوزيع الفوري لأموال الزكاة. 2 - أن يتم استثمار أموال الزكاة - كغيرها - بالطرق المشروعة. 3 - أن تتخذ الإجراءات الكفيلة ببقاء الأصول المستثمرة على أصل حكم الزكاة وكذلك ريع تلك الأصول. 4 - المبادرة إلى تنضيض «تسييل» الأصول المستثمرة إذا اقتضت حاجة مستحقي الزكاة صرفها عليهم. 5 - بذل الجهد للتحقق من كون الاستثمارات التي ستوضع فيها أموال الزكاة مجدية ومأمونة وقابلة للتنضيض عند الحاجة.
التمليك والمصلحة فيه ونتائجه
6 - أن يتخذ قرار استثمار أموال الزكاة ممن عهد إليهم ولي الأمر بجمع الزكاة وتوزيعها لمراعاة مبدأ النيابة الشرعية، وأن يسند الإشراف على الاستثمار إلى ذوي الكفاية والخبرة والأمانة. التمليك والمصلحة فيه ونتائجه ناقش المشاركون في الندوة البحوث المقدمة في موضوع التمليك والمصلحة فيه ونتائجه وانتهوا إلي القرارات التالية: 1 - التمليك في الأصناف الأربعة الأولى المذكورة في آية مصارف الزكاة «إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم» شرط في إجزاء الزكاة، والتمليك يعني دفع مبلغ من النقود أو شراء وسيلة النتاج، كآلات الحرفة وأدوات الصنعة، وتمليكها للمستحق القادر على العمل. 2 - يجوز إقامة مشروعات إنتاجية من مال الزكاة وتمليك أسهمها لمستحقي الزكاة بحيث يكون المشروع مملوكاً يديرونه بأنفسهم أو من ينوب عنه ويقتمسون أرباحه. 3 - يجوز إقامة مشروعات خدمية من مال الزكاة كالمدارس والمستشفيات والملاجئ والمكتبات بالشروط التالية: أ - يفيد من خدمات هذه المشروعات مستحقو الزكاة دون غيرهم إلا بأجر مقابل لتلك الخدمات يعود نفعه على المستحقين. ب - يبقى الأصل على ملك مستحقي الزكاة ويديره ولي الأمر، أو الهيئة التي تنوب عنه.
مصرف المؤلفة قلوبهم
ج - إذا بيع المشروع أو صفي كان ناتج التصفية مال زكاة. مصرف المؤلفة قلوبهم ناقش الحاضرون في الندوة البحوث المقدمة في موضوع: «المؤلفة قلوبهم» وبعد المداولة انتهوا إلى مايلي: أولاً: مصرف المؤلفة قلوبهم «الذي هو أحد مصارف الزكاة الثمانية» وهو من التشريع المحكَم الذي لم يطرأ عليه نسخ كما هو رأي الجمهور. ثانياً: من أهم المجالات التي يصرف عليها من هذا السهم ما يأتي: أ - تأليف من يرجى إسلامه وبخاصة أهل الرأي والنفوذ ممن يظن أن له دوراً كبيراً في تحقيق ما فيه صلاح المسلمين. ب - إستمالة أصحاب النفوذ من الحكام والرؤساء ونحوهم للإسهام في تحسين ظروف الجاليات والأقليات الإسلامية ومساندة قضاياهم. ج - تأليف أصحاب القدرات الفكرية والإسلامية لكسب تأييدهم ومناصرتهم لقضايا المسلمين. د - إيجاد المؤسسات العلمية والاجتماعية لرعاية من دخل في دين الله وتثبيت قلبه على الإسلام وكل ما يمكنه من إيجاد المناخ المناسب معنوياً ومادياً لحياته الجديدة. ثالثاً: يراعى في الصرف من هذا السهم الضوابط التالية: أ - أن يراعى في الصرف المقاصد ووجوه السياسة الشرعية بحيث يتوصل به إلى الغاية المنشودة شرعاً.
مناشدة
ب - أن يكون الإنفاق بقدر لا يضرّ بالمصارف الأخرى وألا يتوسع فيه إلا بمقتضى الحاجة. ج - توخي الدقة والحذر في أوجه الصرف لتفادي الآثار غير المقبولة شرعاً، أو ما قد يكون له ردود فعل سيئة في نفوس المؤلفة قلوبهم وما قد يعود بالضرر على الإسلام والمسلمين. رابعاً: تستخدم الوسائل والأسباب المتقدمة الحديثة والمشاريع ذات التأثير الأجدى واختيار الأنفع والأقرب لتحقيق المقاصد الشرعية من هذا المصرف. مناشدة تناشد الندوة حكومات الدول الإسلامية تطبيق الشريعة الإسلامية من جميع جوانبها الاجتماعية والسياسية .. والأخذ بجميع الوسائل الشرعية للوصول إلى مجتمع إسلامي متكافل. وتستحث الندوة حكومات الدول الإسلامية وشعوبها أن تقوم بواجباتها نحو إخواننا المضطهدين في البوسنة والهرسك ودعمهم مادياً ومعنوياً للحفاظ على كيانهم وهويتهم الإسلامية. وكذلك مساعدة إخواننا المسلمين المضطهدين والمحتاجين في شتى أنحاء العالم. وتناشد الندوة حكومات الدول الإسلامية بذل المزيد من الجهد من أجل تحرير الأسرى والمحتجزين الكويتيين وغيرهم من أيدي العدو الظالم.
الندوة الرابعة: الفتاوى والتوصيات
الندوة الرابعة: الفتاوى والتوصيات مصرف العاملين على الزكاة 1 - العاملون على الزكاة: هم كل من يعينهم أولياء الأمور في الدول الإسلامية أو يرخصون لهم أو تختارهم الهيئات المعترف بها من السلطة أو من المجتمعات الإسلامية للقيام بجمع الزكاة وتوزيعها وما يتعلق بذلك من توعية بأحكام الزكاة وتعريف بأرباب الأموال وبالمستحقين ونقل وتخزين وحفظ وتنمية واستثمار ضمن الضوابط والقيود التي أقرت في التوصية الأولى من الندوة الثالثة لقضايا الزكاة المعاصرة. كما تعتبر هذه المؤسسات واللجان القائمة في العصر الحديث صورة عصرية من ولاية الصدقات المقررة في النظم الإسلامية ولذا يجب أن يراعى فيها الشروط المطلوبة في العاملين على الزكاة. 2 - المهام المنوطة بالعاملين على الزكاة منها ماله صفة ولاية التفويض (لتعلقها بمهام أساسية وقيادية) ويشترط فيمن يشغل هذه المهام شروط معروفة عند الفقهاء منها: الإسلام، والذكورة، والأمانة، والعلم بأحكام الزكاة في مجال العمل. وهناك مهام أخرى مساعدة يمكن أن يعهد بها إلى من لا تتوافر فيه بعض تلك الشروط.
3 - أ) يستحق العاملون على الزكاة عن عملهم من سهم العاملين ما يفرض لهم من الجهة التي تعينهم على أن لا يزيد عن أجر المثل ولو لم يكونوا فقراء، مع الحرص على أن لا يزيد مجموع ما يدفع إلى جميع العاملين والتجهيزات والمصاريف الإدارية عن ثُمن الزكاة. ب) لا يجوز للعاملين على الزكاة أن يقبلوا شيئاً من الرشاوى أو الهدايا أو الهبات العينية أو النقدية. 4 - تزويد مقار مؤسسات الزكاة وإدارتها بما تحتاج إليه من تجهيزات وأثاث وأدوات إذا لم يكن توفيرها من مصادر أخرى كخزينة الدولة والهبات والتبرعات يجوز توفيرها من سهم العاملين عليها بقدر الحاجة شريطة أن تكون هذه التجهيزات ذات صلة مباشرة بجمع الزكاة وصرفها أو أثر في زيادة موارد الزكاة. 5 - تجب متابعة ومراقبة لجان الزكاة من الجهات التي عينتها أو رخصتها تأسياً بفعل النبي صلّى الله عليه وسلم في محاسبته للعاملين على الزكاة. والعامل على الزكاة أمين على ما في يده من أموال ويكون مسؤولاً عن ضمان تلفها في حالات التعدي والتفريط والإهمال والتقصير. 6 - ينبغي أن يتحلى العاملون على الزكاة بالآداب الإسلامية العامة كالرفق بالمزكين والمستحقين والتبصر بأحكام الزكاة وأهميتها في المجتمع الإسلامي لتحقيق التكافل الاجتماعي والإسراع بتوزيع الصدقات عند وجود المستحقين والدعاء لهم.
زكاة المال الحرام
زكاة المال الحرام 1 - المال الحرام: هو كل مال حظر الشارع اقتناءه أو الانتفاع به سواء كان لحرمته لذاته، بما فيه من ضرر أو خبث كالميتة والخمر، أم لحرمته لغيره، لوقوع خلل في طريق اكتسابه، لأخذه من مالكه بغير إذنه كالغصب، أو لأخذه منه بأسلوب لا يقره الشرع ولو بالرضا كالربا والرشوة. 2 - أ) حائز المال الحرام لخلل في طريقة اكتسابه لا يملكه مهما طال الزمن، ويجب عليه رده إلى مالكه أو وارثه إن عرفه، فإن يئس من معرفته وجب عليه صرفه في وجوه الخير للتخلص منه وبقصد الصدقة عن صاحبه. ب) إذا أخذ المال أجرة عن عمل محرم فإن الآخذ يصرفه في وجوه الخير ولا يرده إلى من أخذه منه. ج) لا يرد المال الحرام إلى من أخذ منه إن كان مصراً على التعامل غير المشروع الذي أدى إلى حرمة المال كالفوائد الربوية بل يصرف في وجوه الخير أيضاً. د) إذا تعذر رد المال الحرام بعينه وجب على حائزه رد مثله أو قيمته إلى صاحبه إن عرفه وإلا صرف المثل أو القيمة في وجوه الخير وبقصد الصدقة عن صاحبه. 3 - المال الحرام لذاته ليس محلاً للزكاة، لأنه ليس مالاً متقوماً في نظر الشرع، ويجب التخلص منه بالطريقة المقررة شرعاً بالنسبة لذلك المال. 4 - المال الحرام لغيره الذي وقع خلل شرعي في كسبه، لا تجب الزكاة فيه على حائزه، لانتفاء تمام الملك المشترط لوجوب الزكاة، فإذا عاد مالكه وجب عليه أن يزكيه لعام واحد ولو مضى عليه سنين على الرأي المختار.
الزكاة والضريبة
5 - حائز المال الحرام إذا لم يرده إلى صاحبه وأخرج قدر الزكاة منه بقي الإثم بالنسبة لما بيده منه، ويكون ذلك إخراجاً لجزء من الواجب عليه شرعاً ولا يعتبر ما أخرجه زكاة، ولا تبرأ ذمته إلا برده كله لصاحبه إن عرفه أو التصدق به عنه إن يئس من معرفته. الزكاة والضريبة 1 - تناشد الندوة حكومات الدول الإسلامية إصدار القوانين القاضية بتطبيق نظام الزكاة جباية وتوزيعاً، على أساس الالتزام، وإقامة هيئات مختصة لذلك تكون مواردها ومصاريفها في حسابات خاصة. كما تناشدها إعادة النظر في جميع النظم المالية وغيرها، لتوجيهها الوجهة الإسلامية. 2 - أ) الأصل أن يكون تمويل ميزانية الدولة من إيرادات الأملاك العامة وغيرها من الموارد المالية المشروعة، فإذا لم تكف هذه الموارد جاز لولي الأمر أن يوظف الضرائب بصورة عادلة لمقابلة نفقات الدولة التي لا يجوز الصرف عليها من الزكاة، أو لسد العجز في إيرادات الزكاة عن كفاية مستحقيها. ب) بما أن سند جواز التوظيف الضريبي هو قاعدة المصالح، فيجب مراعاة المصلحة المعتبرة عند فرض الضرائب في ضوء النظام المالي الإسلامي والاهتداء بالقواعد الشرعية العامة ومقاصد الشريعة. ج) يشترط لتوظيف الضرائب أن تكون الحاجة إلى فرضها حقيقة. د) يجب أن تراعى العدالة بمعيارها الشرعي في توزيع أعبائها، وفي استعمال
حصيلتها وأن يخضع فرضها وصرفها لجهة رقابية موثوقة متخصصة. 3 - أ) إن أداء الضريبة المفروضة من الدولة لا يجزئ عن إيتاء الزكاة، نظراً لاختلافهما من حيث مصدر التكليف والغاية منه، فضلاً عن الوعاء والقدر الواجب والمصارف، ولا تحسم مبالغ الضريبة من مقدار الزكاة الواجبة. ب) ما استحق دفعة من الضرائب المفروضة من الدولة خلال الحول ولم يؤد قبل حولانه فإنه يحسم من وعاء الزكاة، باعتباره حقاً واجب الأداء. 4 - توصي الندوة حكومات الدول الإسلامية بتعديل قوانين الضرائب بما يسمح بحسم الزكاة من مبالغ الضريبة، تيسيراً على من يؤدون الزكاة.
الندوة الخامسة: الفتاوى والتوصيات
الندوة الخامسة: الفتاوى والتوصيات أولاً: زكاة المكافأة في نهاية الخدمة والراتب التقاعدي 1 - مكافأة نهاية الخدمة: هي مبلغ مالي مقطوع يستحقه العامل على رب العمل في نهاية خدمته بمقتضى القوانين والأنظمة إذا توافرت الشروط المحددة فيها. 2 - مكافأة التقاعد: هي مبلغ مالي مقطوع تؤديه الدولة أو المؤسسات المختصة إلى الموظف أو العامل المشمول بقانون التأمينات الاجتماعية إذا لم تتوافر جميع الشروط المطلوبة لاستحقاق الراتب التقاعدي. 3 - الراتب التقاعدي مبلغ مالي، يستحقه شهرياً الموظف أو العامل على الدولة أو المؤسسة المختصة بعد انتهاء خدمته بمقتضى القوانين والأنظمة إذا توافرت الشروط المحددة فيها. 4 - لا تجب الزكاة على العامل أو الموظف في هذه الاستحقاقات طيلة مدة الخدمة لعدم تحقق الملك التام الذي يشترط لوجوب الزكاة. 5 - هذه الاستحقاقات إذا صدر القرار بتحديدها وتسليمها للموظف أو العامل دفعة واحدة أو على فترات دورية أصبح ملكه لها تاماً، ويزكي ما قبضه منها زكاة المال المستفاد وقد سبق في مؤتمر الزكاة الأول أن المال المستفاد يزكى بضمه إلى ما عند المزكي من الأموال من حيث النصاب والحول.
ثانيا: مصرف «الغارمين»
6 - أما التكييف الشرعي لأموال مكافأة نهاية الخدمة والراتب التقاعدي في ميزانيات الشركات قبل صدور قرار صرفها، هل هي ديون على الشركة أم لا؟ وأثر ذلك في زكاة أموال الشركة، فقد أرجىء البت فيها لمزيد من البحث بالتعاون مع هيئة المحاسبة والمراجعة للمصارف والمؤسسات المالية الإسلامية من خلال لجنتها الشرعية. ثانياً: مصرف «الغارمين» 1 - الغارمون قسمان: الأول: المدينون المسلمون الفقراء لمصلحة أنفسهم في المباح، وكذا بسبب الكوارث والمصائب التي أصابتهم. والثاني: المدينون المسلمون لإصلاح ذات البين لتسكين الفتن التي قد تثور بين المسلمين، أو للإنفاق في المصائب والكوارث التي تحل بالمسلمين، ولا يشترط الفقر في هذا القسم. 2 - الضامن مالاً عن رجل معسر يجوز إعطاؤه ما ضمنه إن كان الضامن معسراً. 3 - لا يجوز إعطاء الغارم لمصلحة نفسه من الزكاة إذا كان دينه في معصية، كالخمر، والميسر، والربا، إلا إذا تحقق صدق توبته. 4 - يجوز قضاء دين الميت من مال الزكاة إذا لم يكن في ميراثه ما يفي به، ولم يسدد ورثته دينه، ففي تسديد دينه من الزكاة إبراء لذمته، وحفظ لأموال الدائنين. 5 - الغارم لمصلحة نفسه القوي المكتسب لا يجوز له أن يأخذ من مال الزكاة إذا أمكنه سداد دينه من كسبه، أو أنظره صاحب المال إلى ميسرة، وكذلك من كان له مال سواء كان نقداً أو عقاراً أو غيرهما يمكنه السداد منه.
6 - إذا أخذ الغارم من الزكاة بوصف الغرم، فلا يجوز له أن ينفق هذا المال في سداد غرمه، أما إذا أخذه بوصف الفقر فيجوز له إنفاقه في حاجاته. 7 - الغارم الفقير أو الغارم المسكين أولى بالزكاة من الفقير أو المسكين الذي ليس بغارم، لأن الأولين اجتمع فيهم وصفان: الغرم والفقر أو المسكنة والآخرين ليس فيهما إلا وصف الفقر. 8 - يجوز إعطاء الغارم من الزكاة بمقدار ما عليه من ديون قلّت أو كثرت، إذا كان في مال الزكاة وفاء لتلك الديون، وإن استغنى الغارم قبل سداد ما عليه من ديون وجب عليه إرجاع تلك الأموال لولي الأمر، أو لمن أخذها منه فإن لم يستطع، فإنه يدفعها في مصارف الزكاة. 9 - يجوز إعطاء الغارم من مال الزكاة للعام الذي يحل دينه فيه ولو بقي من ذلك العام أشهر على موعد السداد، ولا يعطى لسداد دين العام التالي، إلا أن يصالح المدين صاحب الدين على السداد في الحال مع الحط من الدين. 10 - لا ينبغي لمن يجد دخلاً يكفيه أن يستدين لإنشاء مصنع أو مزرعة أو مسكن اعتماداً منه على السداد من مال الزكاة، فمال الزكاة يعطى لسد حاجة الفقراء، أو إيجاد دخل لهم يسد حاجتهم، ولا يعطى لمن لديه ما يكفيه ليزداد ثراء. 11 - يعطى ذوو قرابة الرسول صلّى الله عليه وسلم الغارمون من هذا المصرف، إذا انقطعت حقوقهم المقررة شرعاً.
ثالثا: مشمولات الأمور الظاهرة والباطنة في العصر الحديث
ثالثاً: مشمولات الأمور الظاهرة والباطنة في العصر الحديث 1 - تقسيم الأموال الزكوية إلى ظاهرة وباطنة محل اتفاق بين العلماء وتبنى عليه أحكام فقهية مختلفة. 2 - الأموال الظاهرة: يجوز لولي الأمر أن يجبي زكاتها جبراً ولا يقبل من صاحبها ادعاؤه بأنه قد أدى زكاتها بنفسه إلى المستحقين مباشرة، هذا إذا كان ولي الأمر يأخذ الزكاة من أرباب الأموال بحقها ويصرفها في مصارفها الشرعية. 3 - الأموال الباطنة: زكاتها موكولة لأمانة أصحابها، فلهم أن يؤدوها إلى مستحقيها مباشرة أو يأتوا بها طواعية إلى الجهة المختصة التي تصرفها في مصارفها الشرعية. وليس لولي الأمر سلطة التفتيش عن هذه الأموال وتتبعها لدى الأفراد. 4 - السوائم والزروع والثمار أموال ظاهرة بالاتفاق. 5 - النقود والذهب والفضة والقروض والاعتمادات المستندية والأرصدة المصرفية الخاصة بالأفراد تعد أموالاً باطنة. 6 - أموال شركات المساهمة تعتبر أموالاً ظاهرة. 7 - تداول المشاركون في الندوة أصنافاً أخرى من الأموال ورأوا تأجيل البت فيها إلى ندوات قادمة وهي: أ) عروض التجارة. ب) السندات الخاصة والحكومية. جـ) أموال الشركات الأخرى غير شركات المساهمة.
رابعا: زكاة الأصول الثابتة
د) هل لولي الأمر أن يترك نسبة من الأموال الظاهرة لأرباب الأموال ليصرفها بمعرفتهم إلى مستحقيها؟ رابعاً: زكاة الأصول الثابتة 1 - الأصول الثابتة: هي الموجودات المادية والمعنوية للمشروعات الاقتصادية مما يتخذ بقصد الانتفاع به في أنشطة تلك المشروعات أو لدرّ الغلة، ولا يقصد به البيع، ويطلق على الموجودات المادية الدارّة للغلة منها (المستغلات). 2 - تشمل الأصول الثابتة: أ) الموجودات التي تتخذ للانتفاع بها في المشاريع الإنتاجية، مثل وسائل النقل وأجهزة الحاسوب، وهذا النوع لا زكاة له. ب) الموجودات المادية التي تدر غلة للمشروع، مثل آلات الصناعة والبيوت المؤجرة، وهذا النوع لا تجب الزكاة في أصله، إنما تجب في صافي غلته بنسبة 2.5%، بعد مرور حول من بداية النتاج، وضم ذلك إلى سائر أموال المزكي. ج) الحقوق المعنوية الممتلكة للمشروع إذا أثمرت غلته تعامل معاملة النوع الثاني في وجوب الزكاة. ويتفق هذا مع قرارات المجامع الفقهية التي تناولت هذا الموضوع بالبحث، مثل مجمع البحوث الإسلامية بمصر في مؤتمره الثاني عام 1385 هـ - 1965 م. ومجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الثانية بجدة عام 1406 هـ - 1985 م. ومؤتمره الزكاة الأول بالكويت عام 1404 هـ - 1984 م. بأغلبية الأعضاء.
خامسا: الموضوعات المعدة فيها أوراق
د) لا يحسم من الموجودات الزكوية مخصص الاستهلاك للأصول الثابتة، لأن تلك الأصول لم تدخل في الموجودات الزكوية. خامساً: الموضوعات المعدة فيها أوراق بعد عرض أوراق العمل عن الموضوعات الأربعة: 1 - زكاة الحلي. 2 - الجهات التي لا يجوز للمزكي دفع الزكاة إليها. 3 - زكاة المدخرات الثمينة. 4 - صرف زكاة الفطر بالمبالغ المتوقعة قبل قبضها. تقرر التوصية بإعداد أبحاث فيها تشتمل على التصورات الفنية والاتجاهات الفقهية وذلك لمناقشتها في الندوات القادمة بإذن الله. سادساً: التوصيات العامة 1 - التأكيد على التوصية السابقة بأن تهتم الدول الإسلامية بجمع الزكاة وتوزيعها في مصارفها الشرعية. 2 - التأكيد على التوصية السابقة بإصدار تشريعات تنظيمية للزكاة، تراعي الظروف والمستجدات المعاصرة. 3 - التنسيق والتعاون بين مؤسسات الزكاة والمؤسسات الأخرى ذات الصلة. 4 - دعم الحكومات لميزانيات مؤسسات الزكاة.
5 - دعوة الدول الإسلامية إلى تعديل تشريعات العمل لتكون موافقة لأحكام الشريعة الإسلامية. 6 - دعوة المنظمات الإسلامية العالمية إلى إنشاء منظمة إسلامية للعمل والتأمينات الاجتماعية تقوم على أسس مستمدة من الشريعة الإسلامية. 7 - يهيب المشاركون في «الندوة الخامسة لقضايا الزكاة المعاصرة» بالمجتمع المسلم والدول الإسلامية أن يبذلوا بسخاء لإنقاذ إخوانهم المسلمين في البلاد الإسلامية التي أضرت بها الحروب أو تخوض غمار حرب البقاء مع المعتدين. وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الندوة السادسة: الفتاوى والتوصيات
الندوة السادسة: الفتاوى والتوصيات فتاوى وتوصيات موضوع (تطبيقات عملية على الالتزام بدفع الزكاة): 1 - تؤكد الندوة ما سبق في توصية الندوة الأولى بند 6 أمن دعوة الحكومات في البلاد الإسلامية إلى العمل الجاد لتطبيق الشريعة الإسلامية في مجالات الحياة كافة، ومن ذلك جمع الزكاة وصرفها في مصارفها الشرعية. 2 - تؤكد الندوة ما جاء في فتاوى الندوة الأولى للزكاة (6 - د) والمتعلق بفرض ضريبة تكافل اجتماعي على غير المسلمين بما يحقق المساواة مع المسلمين عند إلزامهم بدفع الزكاة. 3 - عند جمع الزكاة من الشركات على وجه الإلزام يشمل الإلزام أموال الشركة الزكوية جميعها؛ ولا يعد ما يؤخذ من غير المسلمين زكاة. 4 - عند الالتزام بجمع الزكاة يفرض على المال الحرام ما يعادل مقدار الزكاة ويصرف في مصارف الزكاة، وفي وجوه البر العام، ما عدا المساجد والمصاحف، ويوضح في حساب خاص ولا يخلط مع أموال الزكاة. 5 - في حالة الإلزام بدفع الزكاة يجوز لولي الأمر، أو من ينوب عنه أن يفوض أصحاب الأموال الظاهرة القيام بصرف بعض زكاة أموالهم في مصارف الزكاة بمعرفتهم. أما الأموال الباطنة فهي موكولة لتصرف أصحابها مع مراعاة ماورد في التوصيات الخاصة بمشمولات الأموال الظاهرة والباطنة في العصر الحديث في الندوة الخامسة.
توصيات الموضوع الثاني «زكاة عروض التجارة»
6 - يجب أن يخصص لمال الزكاة صندوق خاص يكون بمثابة بيت مال الزكاة تودع فيه أموال الزكاة لتصرف في مصارفها الشرعية ولا تضم إلى الخزانة العامة للدولة، مع مراعاة ما ورد في التوصيات الخاصة بالعاملين عليها في الندوة الرابعة. توصيات الموضوع الثاني «زكاة عروض التجارة» ترى الندوة إرجاء إصدار التوصيات والفتاوى الخاصة بموضوع (زكاة عروض التجارة) إلى أن يتم إضافة محاور جديدة إلى موضوع البحث زيادة عما تم بحثه على أن يعرض في ندوة لاحقة. فتاوى وتوصيات الموضوع الثالث «زكاة الفطر» 1 - زكاة الفطر واجبة على كل مسلم يملك قوت نفسه ومن تلزمه نفقته يوم العيد وليلته فاضلاً عن حوائجه الأصلية. ويلزمه إخراج صدقة زوجته وأولاده الصغار الذين لا مال لهم، لا يلزمه صدقة الفطر عن أولاده الذين لا تجب نفقتهم عليه أو خدمه أو من تبرع بمؤنته أو كفله، يتيماً كان أو طالب علم أو فقيراً أو غير ذلك. 2 - الواجب في صدقة الفطر: صاع من تمر أو شعير أو زبيب، أو صاعٌ من بر «قمح» والصاع مكيال يتسع لما يزن بالأوزان الحالية كيلوين وربع تقريباً من القمح. 3 - الأصل إخراج زكاة الفطر من الأجناس المنصوص عليها في الحديث، كما يجوز إخراجها من غالب قوت أهل البلد مثل الأرز واللحم والحليب.
ويعتبر في الأجناس غير المنصوص عليها قيمتها باعتبار المنصوص عليه، فيقدر في اللحم مثلاً ما قيمته صاع من بر، وهكذا في سائر الأجناس المنصوص عليها. ويجوز إخراج زكاة الفطر نقداً بقيمة الواجب. ويمكن للجهات المعنية تقدير هذه القيمة سنوياً. 4 - الأصل إخراج زكاة الفطر قبل صلاة العيد، ويحرم تأخيرها عن يوم العيد ويجب قضاؤها، كما ويجوز عند الحاجة إخراجها من أول شهر رمضان. 5 - يجوز التوكيل في إخراج صدقة الفطر. 6 - يجوز للمؤسسات الزكوية تحويل زكاة الفطر من عين إلى نقد وعكسه بما تقتضيه الحاجة أو المصلحة. 7 - يجوز نقل زكاة الفطر إلى خارج البلاد الذي وجبت فيه على المزكي إلى من هو أقرب أو أحوج. كما يجوز نقل زكاة الفطر عند عدم وجود محتاجين في البلد الذي وجبت فيه الزكاة. 8 - لابد من النية لإخراج صدقة الفطر، ويقوم مقام النية الإذن الثابت ولو عادة. 9 - إذا اقتضت المصلحة أو الحاجة يجوز للمؤسسات الزكوية تأخير صرف ما اجتمع لديها من زكاة الفطر إلى ما بعد يوم العيد. 10 - الأولى صرف زكاة الفطر للفقراء والمساكين، ويجوز صرفها في مصارف الزكاة العامة.
الموضوع الرابع (توصيات زكاة الحلي)
الموضوع الرابع (توصيات زكاة الحلي) 1 - عرضت الندوة موضوع حكم الزكاة في حلي النساء المعد للاستعمال. وبعد دراسة هذا الموضوع من جوانبه المختلفة، والاستماع إلى النقاش المستفيض حول الأبحاث المقدمة، تبين أن هناك اتجاهين في الفقه الإسلامي: أحدهما يرى وجوب الزكاة في حلي النساء، والثاني يرى عدم الوجوب فيها. ويرى المشاركون في الندوة أن لكل من الاتجاهين حجته ودليله، فيسع أهل العلم الأخذ والإفتاء بأحد الرأيين بما يترجح عندهم. 2 - عند الأخذ بعدم وجوب الزكاة في حلي النساء تراعى الضوابط التالية: أ - أن يكون الاستعمال مباحاً، فتجب الزكاة فيما يستعمل استعمالاً محرماً كالتزين بحلي على صورة تمثال. ب - أن يقصد بالحلي التزين، فإذا قصد به الادخار أو الاتجار، فتجب فيه الزكاة. جـ - أن يكون الاستعمال في حاجة آنية غير مستقبلية بعيدة الأجل كمن يدخره لتحلية زوجته في المستقبل. د - أن يبقى الحلي صالحاً للتزين به، ولذا تجب الزكاة في الحلي المتهشم الذي لا يستعمل إلا بعد صياغة وسبك، ويستأنف له حولاً من وقت تهشمه. هـ - أن تكون الكمية المستعملة من الحلي في حدود القصد والاعتدال عرفاً، أما إذا بلغت حد الإسراف والتبذير فتجب الزكاة فيما زاد عن حد الاعتدال.
3 - نصاب الذهب عشرون ديناراً (85 جراماً تقريباً) من الذهب الخالص ونصاب الفضة مئتا درهم (595 جراماً تقريباً) من الفضة الخالصة، ويراعى في تقدير نصاب الحلي الذي تجب فيه الزكاة الوزن لا القيمة الحاصلة من الوزن والصياغة. 4 - الحلي من غير الذهب والفضة كالياقوت واللآلئ ليس فيها زكاة مالم تكن معدة للتجارة. كما رأى المشاركون في الندوة تقديم التوصية التالية: يجوز للمؤسسات الزكوية عند الحاجة أن تقترض من مواردها للصرف في مصارف الزكاة مالم يمنع من ذلك مانع شرعي أو شرط المعطي.
الندوة السابعة
الندوة السابعة لقضايا الزكاة المعاصرة في دولة الكويت في 22 - 24 من ذي الحجة 1417هـ الموافق 4/ 29 - 1997/ 5/1م التوصيات والفتاوى توصيات عامة: 1 - تناشد الندوة حكومات الدول الإسلامية تطبيق الشريعة الإسلامية في شتى مناحي الحياة من ثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية ولا سيما العناية بفريضة الزكاة جمعاً وصرفاً بتوفير الوسائل اللازمة لذلك من التوعية بها والترشيد للطرق القائمة وإيجاد المؤسسات الخاصة بها ومراكز البحث التي تعمل على رصد آثارها والتوجيه إلى أنجع الطرق لتحقيق أهدافها في المجال الاجتماعي والاقتصادي. 2 - التوسع في تدريس فقه ومحاسبة الزكاة في الجامعات العربية والإسلامية حتى يمكن تخريج أجيال لديهم المعرفة الفقهية والمحاسبية عن الزكاة. 3 - على مكاتب المحاسبة في الدول العربية والإسلامية أن تهتم بمحاسبة زكاة المال وأسس تدقيقها ليواكب ذلك الاهتمام المعاصر للعديد من البلاد العربية والإسلامية والشركات والمنشآت في تطبيق الزكاة. 4 - أن تقوم الهيئة الشرعية العالمية للزكاة بتنظيم دورات وحلقات نقاشية لأصحاب الشأن حول الزكاة، لما لذلك من فوائد طيبة في تطبيق تلك الفريضة. 5 - التوسع في التعاون بين رجال الفقه ورجال الاقتصاد والمحاسبة في
الموضوع الأول: زكاة الحقوق المعنوية
الدراسات المعاصرة في مجال الزكاة وتيسير المصطلحات الفقهية مع المحافظة على المضمون. الموضوع الأول: زكاة الحقوق المعنوية 1 - الحقوق المعنوية (كالاسم التجاري، والترخيص التجاري، والتأليف والاختراع) أصبح لها في العرف قيمة مالية معتبرة شرعاً، فيجوز التصرف فيها حسب الضوابط الشرعية، وهي مصونة لا يجوز الاعتداء عليها. وهذا يتفق مع قرار مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن المؤتمر الإسلامي في دورته الخامسة بالكويت عام 1409 هـ. 2 - لا تجب الزكاة في حقوق التأليف والابتكار في ذاتها لعدم توافر شروط الزكاة فيها، ولكنها إذا استغلت يطبق على غلتها حكم المال المستفاد. 3 - تجب الزكاة في الاسم التجاري والترخيص التجاري والعلامة التجارية إذا اشتريت بنية المتاجرة بها، متصلة كانت أو منفصلة، مع توافر بقية شروط عروض التجارة. 4 - تجب الزكاة ابتداء (¬1) في البرامج الابتكارية (مثل برامج الحاسوب) وما في حكمها مما ينتجه الأفراد أو الشركات بجهود الآخرين بنية تملكها للتجارة. ¬
الموضوع الثاني: الأصول المحاسبية لتقويم عروض التجارة
الموضوع الثاني: الأصول المحاسبية لتقويم عروض التجارة أولاً: يقصد بتقويم عروض التجارة: تقديرها بقيمتها النقدية، وذلك لمعرفة بلوغ النصاب، وتحديد الوعاء الزكوي من أجل معرفة القدر الواجب إخراجه. ثانياً: محل التقويم: ما توافرت فيه الشروط الخاصة بالاتجار، دون عروض القنية (الأصول الثابتة) وهذه الشروط هي: 1 - أن تتوافر نية التجارة عند تملك العروض. 2 - أن لا تتحول نية المالك من التجارة إلى الاقتناء قبل تمام الحول دون قصد التحايل. ثالثاً: توضيحاً وتتميماً لما جاء في الفتوى رقم (11) للندوة الأولى: يكون التقويم لكل تاجر بحسبه، سواء أكان تاجر جملة أم تاجر تجزئة، بالسعر الذي يمكنه الشراء به عادة عند الحول (القيمة الاستبدالية) وهو يختلف عن كلٍ من سعر البيع (القيمة السوقية) وعن التكلفة التاريخية أو الدفترية.
رابعاً: إذا تغيرت الأسعار بين يوم وجوب الزكاة ويوم أدائها، فالعبرة بأسعار يوم الوجوب، سواء زادت القيمة أو نقصت. خامساً: زكاة البضائع المنقولة قبل قبضها على مالكها، ويحصل الملك في البضاعة المعينة بمجرد العقد، ويحصل في البضاعة المشتراة على الوصف: بالقبض، فالبضاعة الموصوفة التي على الطريق إن كانت مشتراة على أساس التسليم في مكان الإرسال (. O.) تدخل في الملك بمجرد التسليم إلى الشاحن، والمشتراة على أساس التسليم في مكان الوصول ( C. .) تدخل في الملك عند بلوغها ميناء الوصول، ويكون التقويم لعروض التجارة على أساس سعرها في مكان وجودها بعد حصول الملك. سادساً: إذا اشتملت أموال التجارة على عملات مختلفة، أو ذهب أو فضة، فتقوَّم لمعرفة المقدار الواجب إخراجه بالعملة التي يتخذها التاجر لتقويم عروض تجارته، وذلك بالسعر السائد يوم الوجوب. سابعاً: الديون التي للتاجر (الذمم المدينة، وأوراق القبض التجارية) Cتقوَّم بكامل مبلغها إذا كانت مرجوة السداد، فإن كانت غير مرجوة السداد فيحسم منها هذا القدر، فيزكى ما يرجى منه حالاً، وما يقبضه منها مآلاً.
ثامناً: أ - المعادلة الميَّسَرة لحساب الزكاة ومنها عروض التجارة حسب مقولة ميمون ابن مهران التي نصها (إذا حلّت عليك الزكاة فانظر ما عندك من نقد أو عَرْض للبيع فقومه قيمة النقد، وما كان من دين في ملاءة فاحسبه، ثم اطرح منه ما كان من دين ثم زكّ ما بقي) والمعادلة هي: الزكاة الواجبة = (عروض التجارة + النقود + الديون المرجوة على الغير - الديون التي على التاجر) × نسبة الزكاة حسب الحول القمري 2.5% أو حسب الحول الشمسي 2,577%. ب - لحساب زكاة التجارة ينظر إلى الموجودات الزكوية بَجرْدها وتقويمها يوم وجوب الزكاة. وذلك بالاستعانة بقائمة المركز المالي (الميزانية) بصرف النظر عن وجود ربح أو خسارة في حساب الأرباح والخسائر. ج - لابد من مراعاة الشروط العامة لوجوب الزكاة وأدائها، بالإضافة للشروط الخاصة بعروض التجارة. تاسعاً: أ - تقوَّم عروض التجارة لمعرفة بلوغها النصاب على أساس نصاب الذهب وهو ما يعادل 85 جراماً من الذهب الخالص. ب - المواد المعدَّة للتغليف والتعبئة لا تقوَّم على حدة، إذا لم تشترَ بقصد البيع مفردة، أما إذا كانت تستخدم في بيع عروض التجارة. فتقوَّم إن كانت تزيد في قيمة تلك العروض كالأكياس الخاصة، وإن كانت لا تزيد كورق التغليف، فلا تدخل في التقويم.
الموضوع الثالث: أحكام زكاة صور من عروض التجارة المعاصرة
الموضوع الثالث: أحكام زكاة صور من عروض التجارة المعاصرة أولاً: زكاة صكوك المقارضة تزكَّى أموال صكوك المقارضة المستوفية لضوابطها الشرعية زكاة عروض التجارة مع توافر شروط الزكاة فيها. ثانياً: زكاة الأراضي الأرض إما أن تكون زراعية فيزكى نتاجها زكاة الزروع والثمار، أو تكون معدة للتجارة فتزكى زكاة عروض التجارة، وإن كانت للإيجار فالزكاة فيما يحول عليه الحول من إيرادها، مع توافر شروط الزكاة، وإن كانت للانتفاع الشخصي كالمشتراة لبناء سكن فيها فلا زكاة فيها. ثالثاً: زكاة المواد الخام (الداخلة في الصناعة) والمواد المساعدة 1 - المواد الخام (المواد الأولية) المعدَّة للدخول في تركيب المادة المصنوعة، كالحديد في صناعة السيارات. والزيوت في صناعة الصابون، تجب الزكاة فيها بحسب قيمتها التي يمكن الشراء بها في نهاية الحول. وينطبق هذا أيضاً على الحيوانات (المعدة للتعليب) والنباتات المعدَّة للتصنيع. 2 - المواد المساعدة التي لا تدخل في تركيب المادة المصنوعة، كالوقود في الصناعات، لا زكاة فيها كالأصول الثابتة.
رابعا: زكاة السلع غير المنتهية الصنع والسلع المصنعة
رابعاً: زكاة السلع غير المنتهية الصنع والسلع المصنَّعة تجب الزكاة في السلع المصنَّعة، وفي السلع غير المنتهية الصنع، زكاة عروض التجارة، بحسب قيمتها في حالتها الراهنة في نهاية الحول. خامساً: اجتماع سبب آخر للزكاة مع عروض التجارة إذا اجتمع مع عروض التجارة سبب آخر للزكاة كالسوائم أو الزروع تزكى زكاة عروض التجارة. سادساً: زكاة المبيع في مدة الخيار زكاة المبيع في مدة الخيار على مالكه. سابعاً: زكاة السَّلَم زكاة الثمن في السَّلَم على البائع (المسلم إليه) ويعتبر الحول من تاريخ قبضه الثمن، وأما المبيع (المسلم فيه) فزكاته قبل قبضه زكاة الديون، وبعد القبض يزكى زكاة عروض تجارة إذا كان للتجارة. ثامناً: زكاة الاستصناع يجري في زكاة الاستصناع ما يجري في زكاة السلم.
الخاتمة
الخَاتمِةُ على الرغم مما كتبت وحققت ودققت النظر، أقف مبهوراً مشدوهاً أمام عظمة الفقه الإسلامي وخصوبته وشموله، وعمق فكر رجاله وسعة أفقهم وإحاطتهم، وتتبعهم المسائل وحرصهم الشديد على استقصاء الفروع والجزئيات، ولكن على منهجهم السائد وهو أن الفقه فروعي لا يعتمد في التفريع على بيان نظرية معينة أولاً، ثم يبحث كل ما يتعلق بها. وأصرح بأني لم أُحص جميع ما أبانه فقهاء المذاهب من تفريعات وجزئيات، فلم يكن همي جمع الفروع الفقهية من فقه المذاهب، وإنما وضع التصور لبناء هيكل البحث وأصول الموضوع الفقهي بما يمهد لوضع نظرية عامة، بالإضافة لإيراد نظريات كثيرة في الكتاب. ثم وجهت جهدي فيما عدا وضع الهيكل الأساسي لكل بحث، إلى التحقيق، والتنظيم، والموازنة، والتأصيل، أي تحقيق المذهب ومعرفة الرأي الراجح أو المعتمد فيه، وتنظيم البحث والعرض والبيان تنظيماً يلم بشتات كل موضوع ومعرفة جوانبه المتعددة، والموازنة بين الآراء المذهبية لمعرفة أوجه التقابل واللقاء بينها أو أوجه الافتراق والاختلاف فيها، إما مع الترجيح لرأي أو بدون ترجيح، إبقاء على الثروة الفقهية الموجودة، ليتسنى للناس جميعاً إمكان الاستفادة منها مع اختلاف الزمان والمكان. وأما التأصيل فهو رد كل حكم مذهبي إلى مراجعه المعتمدة بقدر المستطاع. وقد تأكد لدي من الحرص على بيان دليل كل مذهب أن الاختلافات الفقهية ضرورة، ويعذر فيها الفقهاء بسبب الخلاف في فهم النص، أو ثبوت الحديث
النبوي، أو وصول الخبر إلى الفقيه من طريق موثوق مقبول، أو عدم وصوله، أو مراعاة المصالح والأعراف ونحوها من المسوغات والاعتبارات. أما عن الأسلوب: فقد حرصت على أن يكون مبسطاً سهلاً واضحاً، فلا أعدل عن عبارات الفقهاء لدقتها وإيجازها إن كانت واضحة لا غموض ولا إشكال فيها، وإن وجد شيء من التعقيد فيها، ذللت المراد بعبارة أخرى لا لبس فيها ولا صعوبة في فهمها. وقد حاولت إبراز وحدة الآراء بين المذاهب كلما أمكن عن طريق إيراد الشروط المتفق عليها، ثم التنبيه على ما اختص به مذهب ما بإضافة شرط، أو الانفراد بقيد، أو المخالفة في مفهوم شرط ما. ويستطيع المسلم أن يطمئن إلى ما أوردته من آراء المذاهب، وأن يقلد ما شاء منها، بشرط ألا يؤدي فعله إلى التخلص من ربقة التكليف الشرعي، أو الوقوع في محظور أو معصية، أو التلاعب في التقليد، أو تتبع الرخص عبثاً لا لحاجة أو ضرورة أو عذر. ولم أتدخل غالباً في الترجيح بين المذاهب ليتمكن القارئ من الأخذ بما يطمئن إلى صحته دون تعصب لمذهب معين، وقد أرجح أحياناً، ويمكن جعل رأي الجمهور هو الراجح غالباً، مالم تظهر مصلحة معاصرة تقتضي الأخذ بالرأي المقابل. ولم أعتن أصلاً بالآراء الشاذة التي أهملها أئمة الاجتهاد الأعلام، وأحياها بعض الكاتبين الجدد، بزعم أنها فقه السنة النبوية، مما يوقع العوام في لبس، دون التفات إلى مستند الرأي الشائع الأرجح لدى الجماهير ونسخ مثل هذا الرأي الشاذ. ولم أعتمد في نقل حكم مذهبي عن كتاب لمذهب آخر إلا ما ندر، حيث لم
أعثر عليه بسهولة في كتاب المذهب المخصص له. وربما عثر امرؤ على ترجيح رأي مذهبي في حاشية من الحواشي أو كتاب غير ما اطلعت عليه، إذ قد لا يتيسر لي الاطلاع على كل حواشي الكتب، ولكني اعتمدت في الواقع على أكثر من مصدر من الأمهات المعتمدة ورجعت إليه. فإن وفيت بالغاية المنشودة للقارئ أو الباحث، فهو المراد، وإن قصرت أو لم أصب الحقيقة أو المطلب، فهو خطأ غير مقصود، يثاب القارئ عليه إن نبهني إلى موضع الخطأ، قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: «كل إنسان يؤخذ من كلامه ويترك إلا صاحب هذه السارية صلّى الله عليه وسلم». وقال العماد الأصفهاني الكاتب المشهور: «إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتاباً في يوم إلا قال في غده أو بعد غده: لو غير هذا لكان أحسن، ولو زيد كذا، لكان يستحسن، ولو قدم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العِبَر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر». هذا .. ويلاحظ أمران بعد صدور الكتاب وتوزيعه في العالم الإسلامي وترجمته للغات أخرى، وطبعه اثنتي عشر طبعة في تسع سنوات، لكونه الأكثر رواجاً في معارض الكتب الدولية وغيرها مثل قرينه (التفسير المنير): 1 - ظن بعض الناس من خلال تقديمي الكلام عن المذهب الحنفي على غيره من المذاهب أني حنفي، ولكني شافعي، وإنما قدمت المذهب الحنفي، وبعده المالكي، ثم الشافعي، ثم الحنبلي، مراعاة لترتيب سبقها الزمني وتقدم أئمتها، ولأن مذهب الحنفية الذي جعلته قاعدة البحث هو أخصب المذاهب وأكثرها تفريعاً، وإن كان المذهب الشافعي أكثرها انتشاراً في العالم، كما يدل عليه واقع أندونيسيا وماليزيا
وجنوب شرقي آسيا الذي يضم مئات الملايين، والأكراد، ومصر وبلاد الشام وعُمان وغيرها، مثل مقاطعة كيرالا - كاليكوت جنوب الهند. 2 - إن الترجيح أو الاختيار بالمعنى الأدق الذي فعلته أحياناً لم يكن ناشئاً عن هوى أو تعصب لمذهب، ولا فوقية على المذاهب، وإنما بسبب ضعف دليل أو حديث الرأي الآخر الذي اعتمد عليه الفقيه، أو لكون الراجح في تقديري محققاً لمصلحة معاصرة، وهو لايخرج عن كونه رأياً لمذهب، فلا وجه بعدئذ للاستغراب أو النقد، أو مجافاة الحقيقية العلمية، علماً بأني أدرِّس الفقه في الجامعات مدة تزيد عن أكثر من خمسة وثلاثين عاماً. وعلى كلٍ فإني أعتز بهذا العمل الذي يسَّر الفقه للمتعلم والمتفقه والباحث، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. ........................................................ الدّكتور وهبة الزُّحيلي .............................................. أستاذ ورئيس قسم الفقه الإسلاميّ وأصوله ..................................................... بجامعة دمشق - كلّيّة الشَّريعة
أهم المراجع
أَهَمُّ المَرَاجِع الفقه الحنفي: الخراج لأبي يوسف، المطبعة السلفية بمصر، (1352) هـ. المبسوط للسرخسي، الطبعة الأولى، مطبعة السعادة. الأموال لأبي عبيد، طبع القاهرة، (1353) هـ. مختصر الطحاوي، مطبعة دار الكتاب العربي بمصر. تحفة الفقهاء للسمرقندي، دار الفكر بدمشق. البدائع للكاساني، الطبعة الأولى. فتح القدير شرح الهداية لكمال الدين محمد بن عبد الواحد المعرف بابن الهمام، مطبعة مصطفى محمد بالقاهرة. تبيين الحقائق للزيلعي، المطبعة الأميرية. الفتاوى الهندية لجماعة من علماء الهند، المطبعة الأميرية. حاشية رد المحتار لابن عابدين على الدر المختار للحصفكي، مطبعة البابي الحلبي بمصر. اللباب شرح الكتاب للشيخ عبد الغني الميداني، والكتاب للقدوري، مطبعة صبيح بالقاهرة.
الفقه المالكي
مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح للشيخ حسن بن عمار الشرنبلالي، المطبعة العلمية بمصر، (1315) هـ. درر الحكام في شرح غرر الأحكام، لمنلا خسرو، المطبعة الشرفية، (1304) هـ. الأشباه والنظائر لابن نجيم المصري، دار الطباعة العامرة بمصر، (1290) هـ. البحر الرائق لابن نجيم، مطبعة البابي الحلبي بمصر، (1334) هـ. حجة الله البالغة للدهلوي، الطبعة الأولى بمصر، (1322) هـ. الفقه المالكي: المدونة الكبرى للإمام مالك، رواية سحنون، مطبعة السعادة، (1323) هـ. المنتقى شرح الموطأ للباجي الأندلسي، الطبعة الأولى. المقدمات الممهدات لابن رشد القرطبي، مطبعة السعادة. بداية المجتهد لابن رشد الحفيد، مطبعة الاستقامة بمصر. القوانين الفقهية لابن جُزَي، مطبعة النهضة بفاس. مواهب الجليل للحطاب، وبهامشه التاج والإكليل للمَّواق، الطبعة الأولى. الشرح الكبير للدردير بحاشية الدسوقي، مطبعة البابي الحلبي بمصر. الفروق للقرافي، مطبعة البابي الحلبي. الشرح الصغير للدردير بحاشية الصاوي، دار المعارف بمصر. فتح الجليل على مختصر العلامة خليل للخِرْشي، الطبعة الأولى، والثانية ببولاق، (1317) هـ.
الفقه الشافعي
شرح منح الجليل على مختصر خليل للشيخ محمد عليش، المطبعة الكبرى، 1294 هـ. فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك للشيخ عليش، مطبعة التقدم بمصر. الفقه الشافعي: الأم للإمام الشافعي، المطبعة الأميرية بمصر. المهذب لأبي إسحاق الشيرازي، مطبعة البابي الحلبي. المجموع للإمام النووي وتكملته للعلامة علي بن عبد الكافي السبكي، والشيخ محمد نجيب المطيعي، مطبعة الإمام بمصر. مغني المحتاج شرح المنهاج للشربيني الخطيب، مطبعة البابي الحلبي بمصر. نهاية المحتاج للرملي، المطبعة البهية المصرية. شرح الجلال المحلي للمنهاج، بحاشية القليوبي وعميرة، مطبعة صبيح بالقاهرة. حاشية البجيرمي على شرح الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع، للشربيني الخطيب مطبعة البابي الحلبي بمصر، (1370) هـ. تحفة الطلاب بحاشية الشرقاوي، مطبعة البابي الحلبي بمصر. حاشية البيجوري على شرح ابن قاسم الغزي على متن أبي شجاع، الطبعة الخامسة بالمطبعة الأميرية ببولاق مصر. الأشباه والنظائر للسيوطي، مطبعة مصطفى محمد.
الفقه الحنبلي
الأحكام السلطانية للماوردي، المطبعة المحمودية التجارية بمصر. الميزان الكبرى للشعراني، وبهامشه رحمة الأمة في اختلاف الأئمة لأبي عبد الله الدمشقي من علماء القرن الثامن، مطبعة البابي الحلبي. كفاية الأخيار لأبي بكر الحصني، طبع قطر، ط رابعة. الفقه الحنبلي: المغني لابن قدامة الحنبلي، الطبعة الثالثة بدار المنارة بالقاهرة. كشاف القناع عن متن الإقناع للبُهوتي، مطبعة السنة المحمدية (في بحث الجهاد) ومطبعة الحكومة بمكة (في البحوث الأخرى). غاية المنتهى للشيخ مرعي بن يوسف، الطبعة الأولى بدمشق، وشرحه مطالب أولي النهى، طبع المكتب الإسلامي بدمشق. الأحكام السلطانية لأبي يعلى، مطبعة البابي الحلبي. المحرر في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل لأبي البركات، مطبعة السنة المحمدية. فتاوى ابن تيمية، مطبعة كردستان العلمية. السياسة الشرعية لابن تيمية، الطبعة الثالثة. الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن قيم الجوزية، مطبعة الآداب بمصر. أعلام الموقعين عن رب العالمين، طبع القاهرة، تحقيق محي الدين عبد الحميد. القواعد لابن رجب الحنبلي، الطبعة الأولى.
الفقه الظاهري
الإفصاح عن معاني الصحاح لابن هبيرة الحنبلي، المكتبة الحلبية. الفقه الظاهري: المحلى لابن حزم، مطبعة الإمام بمصر. فقه الشيعة الإمامية: الكافي للكليني، طبع حجر. المختصر النافع في فقه الإمامية، دار الكتاب العربي بمصر. الروضة البهية شرح اللمعة الدمشقية، دار الكتاب العربي بمصر. مفتاح الكرامة للحسيني العاملي، مطبعة الشورى. فقه الشيعة الزيدية: مجموع الفقه للإمام زيد، طبع ميلانو. البحر الزخار لابن المرتضى، الطبعة الأولى. الروض النضير شرح مجموع الفقه الكبير للحسين الصنعاني، الطبعة الأولى. فقه الإباضية: شرح النيل وشفاء العليل للشيخ محمد أطَّفَيِّش، المطبعة السلفية. الحديث الشريف: جامع الأصول لابن الأثير الجزري، مطبعة السنة المحمدية بمصر.
المنتقى على الموطأ، مطبعة السعادة بمصر. تنوير الحوالك شرح موطأ مالك، مطبعة الحلبي بالقاهرة. نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية للحافظ الزيلعي غير صاحب «تبيين الحقائق»، الطبعة الأولى. التلخيص الحبير لابن حجر، طبع مصر. مجمع الزوائد للهيثمي، مكتبة القدسي بمصر. المقاصد الحسنة للسخاوي، مكتبة الخانجي بمصر. الجامع الصغير، والفتح الكبير للسيوطي. طبع البابي الحلبي بمصر. كشف الخفا ومزيل الالتباس للعجلوني، مكتبة القدسي. أسنى المطالب للحوت البيروتي. المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي، للفيف من المستشرقين، مطبعة بريل في ليدن. سبل السلام للصنعاني، الطبعة الثانية. نيل الأوطار للشوكاني، المطبعة العثمانية المصرية. الإلمام في أحاديث الأحكام لابن دقيق العيد، دار الفكر بدمشق.