القول المبين في سيرة سيد المرسلين
محمد الطيب النجار
مقدمات
مقدمات مقدمة الناشر ... مقدمة الناشر الحمد لله منزل الكتاب ومثله معه، والصلاة والسلام على الرسول الهادي ذي الأحاديث الجامعة وعلى الآل، والصحب ومن بلّغ عنه حديثًا سمعه، أو نهج نهجه وتبعه. أما بعد: فإنه لما انعقد عزمنا في دار الندوة الجديدة على إخراج كتاب "القول المبين في سيرة سيد المرسلين" للدكتور الطيب النجار. فقد عهدنا لشيخنا الأستاذ عبد السلام بن محمد بن عمر علوش، بالنظر في الكتاب والتعليق عليه، بما يكشف النقاب عما أودعه صاحبه من فضول في السيرة وتفاصيلها؛ حتى يجتمع للكتاب النص والتوثيق، اللذان لا يعتبران كتاب في السيرة إلا باجتماعهما. فقام بحمد لله بذلك حق قيام، فميز الصحيح من الضعيف، وما كان فيه من رأي فإما دعمه عند التوافق، أو انتقده عند الاعتراض. وقد ظهر من هذا أن الغالب على روايات الكتاب الصحة، اللهم إلا في مواضع يسيرة نبه عليها. وكذلك ما أودعه فيه من بعض الترجيحات فالغالب أنه كان موفقًا فيها، وإلا انتقده وبين وجه الصواب الذي يوافقه الدليل. لم يدخر وسعًا في ذلك مما يحتاجه الكتاب، وتسمح به الحواشي. والله أسأل أن يجعل له قبولًا ونفعًا، إنه سميع مجيب. الناشر
مقدمة
مقدمة شريعة الله إلى الناس واحدة، ورسالته إلى الأنبياء خالدة، تمتد جذورها إلى الإنسان الأول وهو آدم أبو البشر. وتنتهي فروعها بانتهاء هذا الجنس البشري، وقيام الناس لرب العالمين. وإذا كان محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- هو خاتم الرسل والأنبياء؛ فإن رسالته لا تزال متصلة إلى يوم الناس هذا، يحملها خلفاؤه والعلماء من أمته على توالي الأجيال والقرون ... ولقد شرع الله للإنسانية دينًا واحدًا في جوهره وأصوله، لم يتغير بتغير الأنبياء. ولم يتبدل باختلاف الأزمنة والعصور؛ بل كان أساسه توحيد الله والإخلاص في عبادته، وكانت دعائمه توزيع العدالة بين الناس، وتنظيم العلاقة بين الفرد والجماعة، وتربية الضمير1 الديني ليكون بين يدي الناس ومن وارئهم قانونًا يحكم ويلزم، ويراقب ويحاسب. وهكذا كان الأنبياء جميعًا منذ أبيهم آدم -عليه السلام- إلى خاتمهم محمد -صلى الله عليه وسلم-
هم الظل الظليل الذي هيأه الله ليفيء1 الناس إليه، وينعموا به جيلًا بعد جيل. بل هم المنارات الساطعة التي تظهر معالم الحق، وتكشف المكنون من الأسرار، وتضع أبصار الناس وبصائرهم على طريق الهدى والنور.. وإلى هذا المعنى الذي تحدثنا عنه وهو اتحاد الديانات السماوية في جوهرها وأصولها، يشير القرآن الكريم في مثل قوله تعالى في سورة الشورى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} 2، وفي مثل قوله في سورة النساء: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا، وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا، رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} 3. ويسوغ لنا على هذا الأساس أن نعتبر الكتب السماوية جميعًا ومن حيث ما تتضمنه من المبادئ الدينية الأساسية والمثل الأخلاقية كتابًا واحدًا تتعدد أبوابه ولكن تتوحد أهدافه ومراميه، وتختلف الأساليب في فصوله ولكن تتفق دلالاته ومعانيه، ولعل هذا هو ما يفهم من القرآن الكريم حينما يتحدث عن الدين بوجه عام فيقول: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} 4، ويقول: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ
دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ} 1، ويذكر وصية إبراهيم لبنيه حينما قال لهم: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 2. فالإسلام هو الدين الخاص الذي يدعو إلى عبادة الله، والانقياد لأمره وتقواه، مهما تعدد الأنبياء وكثرت الدعاة. ولأن مشيئة الله سبحانه قد سبقت بأن يجعل دين محمد صلى الله عليه وسلم دين العالمين؛ فقد أخذ الله العهد والميثاق على الأنبياء بأن يؤمنوا بمحمد -صلى الله عليه وسلم- إن جاءهم، مصدقًا لما أنزل عليهم. وكان معنى ذلك تنبيه الأمم والشعوب التي ستدرك زمن محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى الإيمان به والتصديق بدعوته؛ لأنها دعوة الحق الذي لا يأتيه الباطل، ولأنهما الدعوة العالمية التي كتب الله لها الخلود ما دامت السموات والأرض وما بقي هذا الوجود.. وفي ذلك يقول الله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ} 3. ولا ريب أن سيرة هذا النبي العظيم -صلى الله عليه وسلم- إنما هي الأساس الكامل لدعوته الكريمة التي أضاءت المشارق والمغارب، وملأت العالم بالهدى والنور. ومن أجل ذلك كانت أهمية هذه السيرة الوضاءة العطرة للمسلمين بل للإنسانية جمعاء حيث تناقلتها الأمم والشعوب جيلًا بعد جيل. ثم سجلت بعد ذلك على مختلف
العصور في كتب يضيق بها الحصر والتعداد، وسوف تظل الكتابة فيها متصلة الحلقات إلى أن تنفطر السماء وتنكدر النجوم وتبدل الأرض غير الأرض والسماوات. وواجب المؤرخ الذي يتصدى للسيرة النبوية أن يستضيء أول ما يستضيء بكتاب الله عز وجل، ثم يلي ذلك في الأهمية كتب السنة الصحيحة.. ولكن القرآن الكريم والسنة النبوية لا يتعرضان إلا لبعض النواحي الخاصة من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم. ويتعرضان لها في إجمال يحتاج إلى كثير من التوضيح والتفصيل. ومن هنا كان لا بد من المراجع الأساسية في التاريخ1. وأهما: سيرة ابن هشام 2 وتاريخ الأمم والملوك للطبري3. وقد نقل هذان كتابيهما عن كتاب ابن إسحاق في السيرة4، والطبقات الكبرى لمحمد بن سعد 5 في جزءيه
الأول والثاني، وتاريخ اليعقوبي1، و "مروج الذهب" للمسعودي2 و "الكامل" لابن الأثير3، و "البداية والنهاية" لابن كثير4، وكتاب "العبر وديوان المبتدأ والخبر" لابن خلدون5.. إلى غير ذلك من المراجع الأصلية6. ولا بد لمن يؤرخ السيرة -مع ذلك- من الرجوع إلى ما كتبه المؤرخون المحدثون، حتى يستنير بآرائهم الصائبة أو يضيف إليها -بقدر المستطاع7 -ما يمكن أن يهتدي إليه من آراء جديدة.. أو يفند ما جاء في بعضها من الآراء التي لا تستند إلى أساس سليم8.
ومن أبرز هؤلاء المؤرخين المرحوم الشيخ محمد الخضري في كتابه نور اليقين في سيرة سيد المرسلين والمرحوم الدكتور محمد حسن هيكل في كتابه حياة محمد، والأستاذ محمد عزة دروزة في دراسته عن عصر الرسول وحياته، وهي دراسة متينة اتخذ صاحبها القرآن الكريم مصدرًا أساسيًا لدراسة السيرة النبوية، فوصل في دراسته إلى نتائج موفقة، والدكتور صالح أحمد العلي المؤرخ العراقي الذي اعتمد -كذلك- في دراسته لحياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- على القرآن الكريم وأجاد في ذلك أيما إجادة، واللواء الركن الحاج محمود شيت خطاب في كتابه "الرسول القائد"1. ويعتبر هذا الكتاب2 - فيما أرى- خير ما كتب عن غزوات الرسول -صلى الله عليه وسلم- لما فيه من تحليل دقيق لمواقف الرسول -صلى الله عليه وسلم- في سائر الغزوات وتفصيل واضح لقيادته، وكيف كانت هي القيادة الرشيدة التي يمكن أن يستنير بها القادة والزعماء على توالي الأزمنة والعصور. وكتاب "فقه السير" للشيخ محمد الغزالي وهو كتاب يمتاز بعمق الفكرة ورصانة الأسلوب والرأي الحر الذي يعتمد على أساس متين من الإيمان3. ومن المعروف أن المستشرقين الغربيين قد تناولوا حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيما تناولوا من الأبحاث عن التاريخ الإسلامي؛ ولكن روح التعصب والتحامل كانت
تطغى على معظم كتاباتهم. ومن أبرز هؤلاء الذين كتبوا عن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وليم موير وكايتاني. وهناك طائفة تميزت بالاعتدال والإنصاف وعدم التعصب ومنهم تور أندريه في كتابه محمد الرجل وإيمانه، ومونتجمري وات في كتاب محمد في مكة. ولكن مهما كان الأمر؛ فإننا يجب أن ننظر في كتاباتهم بحيطة وحذر. ومن المعروف أيضًا أن كتب السيرة -كغيرها من سائر الكتب الإسلامية - قد دست إليها في عصور التدوين الأولى بعض المفتريات، وكان أساسها هؤلاء الذين أسلموا ظاهرًا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم، أو دخلوا في الإسلام ولم تكتمل معرفتهم بكل مبادئه وآدابه. ومن الحق علينا أن نصفيها مما علق بها من الشوائب والرواسب، أو نطرحها جانبًا إن كانت خبيثة الجوهر فاسدة العنصر، مهما كانت خادعة المظهر، ومهما لبست من ثياب براقة زاهية. على أن ذلك كله في نطاق محدود1 ويجب أن يكون بعيدًا عن المعجزات الثابتة للرسول -صلى الله عليه وسلم- فإن هذه المعجزات كشق الصدر وانشقاق القمر، إلى غير ذلك من سائر المعجزات التي صحت نسبتها ورجحت روايتها لا ينبغي أن تناقش في ضوء المنطق وعلى أساس من الأسباب والمسببات وإلا لما كانت معجزات. أما المعجزات التي لم تصح نسبتها ولم ترجح روايتها فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غنى عنها، ولا ينبغي أن نتمسك بها. وسبيلنا في هذا الكتاب أن نتبع حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ثم نقف عند الأحداث
البارزة فيها وقفات طويلة. ونستعرض ما يتسنى لنا من آراء، ثم نرجح ما نختاره في ضوء المنطق السليم والبرهان القويم. وقد قسمنا هذا الكتاب إلى عدة فصول، وراعينا في تقسيمه التسلسل الطبيعي الذي تقتضيه حياة الرسول صلى الله عليه وسلم منذ فجر حياته إلى أن انتهى يومه الذي قدره الله له في هذه الدنيا ولحق بالرفيق الأعلى. وكان لا بد لنا أن نقدم بين يدي السيرة النبوية مقدمات تمهد للقارئ الطريق، حتى يمكن أن يتمثل الجو الذي ولد فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- والأساس الذي يرجع إليه، والبيئة التي نشأ فيها. وقد تكلمنا في هذه المقدمات عن العرب المستعربة في مكة، وعن الديانة في شبه الجزيرة العربية، ودخول الوثنية وانتشارها بها، وعن المجتمع العربي قبل الإسلام، وعن اليهودية والنصرانية في بلاد العرب وما لحق بهما من تغيير وتبديل، وما أصابهما من فساد أخرجهما عن فطرة الله، ونأى بهما عن الحق الذي أنزله الله، وكيف دخلت هاتان الديانتان في بلاد العرب لينشب الصراع بين هذه الديانات جميعا، وذلك حتى يتبين للقارئ مدى الفوضى التي كان يعيش فيها العرب قبيل الإسلام، وكيف كانت الظروف تتطلب المنقذ الذي يرفع لواء الحق ويؤلف قلوب الناس إليه. وبعد..فهذه صحف لم تكتب إلا لطلاب العلم والباحثين في التاريخ ومن يهتمون بالحق لوجه الحق وحده، لأني إنما أردتها وقصدت بها إلى هؤلاء النفر من الناس، ولأنها ليست صورًا يتخيلها كاتب ثم يسجلها يبتغي بذلك إمتاع القارئ وتسليته، ويخدعه بزخرف القول وبريق الأسلوب فيمشي في وميضه، دون أن ينظر إلى جوهر الحق وجلاله الوضَّاء، ولكنها دراسات وتأملات فيما حوته كتب التاريخ والسير من أنباء وروايات.
ونريد هنا أن نلقي عليها الأضواء الكافية، حتى يتميز الخبيث من الطيب، وحتى تتكشف الحقائق سليمة من الزيف والمرض، بعيدة عن الهوى والغرض ... ونحن لا ندعي الحِيدَة الكاملة؛ لأنها أمنية بعيدة المنال، ولا يمكن لإنسان أن يجرد نفسه بصورة مطلقة من العواطف التي كثيرًا ما توجه الأفكار والمشاعر. ولكننا سوف نحاول أن نلتزم الحِيدة بقدر ما نستطيع، ونتخذ لذلك كل الأسباب الموصلة. ومن الله العون وبه التوفيق. د. محمد الطيب النجار مصر الجديدة في: شوال سنة 1398 هـ. سبتمبر سنة 1978م.
الفصل الأول: بين يدي السيرة النبوية
الفصل الأول: بين يدي السيرة النبوية مدخل ... الفصل الأول: بين يدي السيرة النبوية بين يدي السيرة النبوية مقدمات وتمهيدات يتحتم علينا أن نطالعها عن كثب، حتى يتسنى لنا أن نسير على الدرب ونعيش في الجو الذي عاش فيه الرسول -صلوات الله وسلامه عليه- منذ نعومة أظفاره إلى أن اختاره الله إلى جواره..، وإذا كنا سنقتصر الآن على بعض هذه المقدمات؛ فلأن ذلك منطق الظروف وحكم الضرورة، وقديمًا قيل: ما لا يدرك كله لا يترك كله1. وفي مقدمة هذه المقدمات البيت العتيق؛ لأنه هو البيت الذي رفع قواعده إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- وتوارث العرب تعظيمه على توالي الأجيال. ثم نتحدث بعد ذلك عن العرب المستعربة في مكة حتى ننتهي إلى قصي وهو الجد الرابع للرسول -صلى الله عليه وسلم- لنرى أثره في قريش، وكيف جمع كلمتهم وقوَّى وحدتهم، وأسس دار الندوة، وجمع في يديه كل الوظائف الدينية والسياسية، ثم ورَّثها بعد ذلك لأبنائه وأحفاده. ونتحدث كذلك عن قصة الذبيحين، وهما: إسماعيل -عليه السلام- وعبد الله بن
عبد المطلب والد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعن الوثنية وانتشارها في الجزيرة العربية، وعن المجتمع العربي قبيل الإسلام، حتى نتبين الأثر العظيم الذي أحدثه الإسلام في البيئة العربية من القوة والنمو والازدهار.. وأخيرًا نتحدث عن اليهودية والمسيحية في بلاد العرب. وهما الديانتان السماويتان السابقتان على الإسلام، لنرى مدى ما أصابهما من تحريف وما وقع بينهما من صراع. وكيف كانت الوثنية تناصبهما العداء بين الحين والحين، حتى أدى هذا الخلاف إلى مزيد من الفوضى والاضطراب، وكان هذا الجو الذي شاعت فيه الفتن والقلاقل، وفسدت العقائد، جوًّا مناسبًا لظهور دين جديد، تعلو فيه كلمة الحق والتوحيد، ويخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور..
البيت العتيق
البيت العتيق مدخل ... 1- البيت العتيق: هو ذلك البيت العظيم الذي أسس على التقوى من أول يوم1، والذي جعله الله مثابة للناس وأمنًا، وطهره للطائفين والعاكفين والركع السجود. والذي كان ولا يزال مهوى القلوب، وملتقى الشعور، ومنار الهدى والرشاد. وهو ذلك المسجد التالد الخالد2 الذي أفنى جداره الأيام والقرون، وطوى
ركنه الليالي والعصور، والذي حماه الله من أصحاب الفيل بالطير الأبابيل1، وسيظل يحميه ويرعاه، ويهيئ له من يدافعون عن حرمه وحماه جيلًا بعد جيل، وقبيلًا في إثر قبيل، إلى أن تبدل الأرض غير الأرض والسماوات ويقوم الناس لرب العالمين.
بدء بنائه ومحاولات تجديده
بدء بنائه ومحاولات تجديده: وتختلف الروايات حول بدء هذا البيت العتيق حتى إن بعض الرواة يرجعون به إلى الزمن الغابر البعيد، قبل أن يخلق آدم أبو البشر فيقولون: إن الملائكة -عليهم السلام- هم الذين تولوا بناءه1، ويذهب آخرون إلى أن آدم -عليه السلام- هو أول من بناه، ويروون في ذلك حديثًا بسند يتصل إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "بعث الله جبريل إلى آدم وحواء فقال لهما: ابنيا لي بيتًا. فخط لهما جبريل، فجعل آدم يحفر وحواء تنقل التراب، فلما بناه أوحى الله إليه أن يطوف به، وقيل له: أنت أول الناس وهذا أول بيت، ثم تناسخت القرون حتى حجَّه نوح، ثم تناسخت القرون حتى رفع إبراهيم القواعد منه" 2. على أن هاتين الروايتين -أعني بناء الملائكة وبناء آدم البيت- موضع خلاف بين العلماء والمؤرخين.
والقول الراجح أنهما غير ثابتتين1، وأنهما على فرض صحتهما ليستا بناء كاملًا للبيت وإنما هو مجرد تأسيس 2، ولكن الذي لا شك فيه أن إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- هما اللذان رفعا قواعد البيت الحرام، وفي ذلك يقول الله -عز وجل- في محكم كتابه: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} 3. ثم انتقل أمر المسجد الحرام إلى الجراهمة الذين صاهرهم إسماعيل، وظل في أيديهم قرابة ألف عام، ثم آل أمر البيت بعد ذلك إلى قبيلة خزاعة التي أصبحت صاحبة السيادة والسلطان في مكة. واستمر المسجد الحرام في أيديهم أكثر من قرنين من الزمان، وكثيرًا ما كانت
السيول تطغى على مكة وتدمر في هذا المسجد، حتى أعاد بناءه قصي بن كلاب الذي طرد الخزاعيين من مكة وجعل للمسجد سقفًا لأول مرة في تاريخه، وبنى حول المسجد بيوتًا تطل عليه، ثم أشرفت قريش على الكعبة بعد قصي، فأصابها حريق1، فأعادوا بناءها وأقاموا بداخل البناء ستة أعمدة ليعتمد السقف عليها.
عام الفيل والطير الأبابيل
عام الفيل والطير الأبابيل: ولا بد لنا ونحن نطالع تاريخ المسجد الحرام أن نقف عند هذا العام الخالد في تاريخ العرب -وهو عام الفيل- وقفة طويلة لما تجلى فيه من نصر الله للعرب على الأحباش الظالمين. ولما ظهر فيه من الآية الكبرى التي حمى الله بها بيته المحرم من عدوان الطغاة وطغيان المعتدين، حيث جعل {كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ، تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} 1. ويذكر الرواة في ذلك أن الأحباش -وكانوا يدينون بالمسيحية- أرادوا أن ينشروا هذا الدين في جزيرة العرب بعد أن استولوا على اليمن، وخصوصًا لما رأوه من تقديس العرب لمكة وللمسجد الحرام وتقديمهم القرابين والنذور والهدايا والهبات إلى سدنة المسجد والقائمين بأمره..
وقد بدأ القائد الحبشي في بلاد اليمن -ويسمى أبرهة الأشرم- ببناء كنيسة سماها القُلَّيْس وبذل لها ما استطاعه من العناية. حتى إنه نقل إليها من قصر بلقيس أعمدة من الرخام المجزع، والحجارة المنقوشة بالذهب، ونصب فيها صلبانًا من الذهب والفضة، ومنابر من العاج والأبنوس، ودعا الناس إلى الحج إليها1. فغضب العرب وثار رجل من بني مالك بن كنانة وأقسم ليعبثن بهذه الكنيسة، وقدم إلى اليمن ودخل الكنيسة كأنه متعبد حتى إذا جاء الليل وخلا المكان قام يعبث بأثاث الكنيسة ويلطخ جدرانها بالقاذورات2، ولما علم أبرهة في الصباح بما أصاب كنيسته وعرف أن أعرابيًّا كان يبيت بها وأنه المتهم بالعبث ببنائه المقدس، أقسم ليهدمن الكعبة، وجهز لذلك العدة والعديد3 والبأس الشديد.. وأقبل جيش الحبشة من اليمن فأشرف على مكة بعد أن تخطى إليها التلال والنجاد، والهضاب والوهاد، والصحراء القاسية المترامية، وبعد أن كاد يضل في شعاب الجزيرة الشائكة ومسالكها المشتبكة، ثم استقر بمكان قريب من مكة
يقال له: "المغمس"1 وأرسل قائد الجيش رسولًا من قبله إلى مكة يدعى "حناطة الحميري"2 فقال له: سل عن سيد أهل هذه البلاد وشريفها، ثم قل له: إن الملك لم يأت لحربكم، وإنما جاء لهدم هذا البيت. فإن لم تعرضوا لنا دونه بحرب، فلا حاجة له في دمائكم، فإنه هو لم يرد الحرب فأت إليّ به. فلما دخل حناطة مكة سأل عن سيد قريش وشريفها، فقيل له: عبد المطلب بن هاشم، فجاءه فأخبره بما أمره به أبرهة، فقال له عبد المطلب: "والله ما نريد حربه، وما لنا بذلك منه طاقة، هذا بيت الله الحرام، وبيت خليله إبراهيم -عليه السلام- فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه، وإن يخل بينه وبينه فوالله ما عندنا دفع عنه". فقال حناطة: فانطلق معي إليه، فإنه قد أمرني بذلك. فانطلق معه عبد المطلب ومعه بعض بنيه حتى أتى المعسكر ووقف بباب أبرهة، فقيل لأبرهة: إن عبد المطلب ببابك، فقال: من هو عبد المطلب؟ قيل: إنه سيد قريش وصاحب عيش3 مكة، وهو الذي يطعم الناس في السهل والوحوش في رءوس الجبال. فأذن له أبرهة. وكان عبد المطلب وسيمًا جميلًا شديد الهيبة والوقار. فلما رآه أبرهة، أجلَّه
وأعظمه وأكرمه عن أن يجلسه تحته، وكره أن تراه الحبشة يجلس معه على سرير ملكه. فنزل أبرهة عن سريره فجلس على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جنبه، ثم قال لترجمانه: سله عن حاجته: فسأل الترجمان؟ فقال: حاجتي أن يرد علي الملك مائتي بعير أصابها لي. فلما قال له ذلك، قال أبرهة لترجمانه: قد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني، أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك وتترك بيتًا، هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه، لا تكلمني فيه؟ فقال له عبد المطلب: "إني أنا رب الإبل، وإن للبيت ربا سيمنعه ويحميه". فرد أبرهة قائلًا: ما كان ليمتنع مني. فأجابه: أنت وذلك.. فرد أبرهة على عبد المطلب المائتي بعير التي أصابها.. وانطلق عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر1، ثم تعلق بحلقة الكعبة وأستارها في ضراعة الخائف الوجل وإنابة العائذ المستغيث، وأخذ يقول: لا همّ إن العبد يمـ ... نع رحله فامنع رحالك2
وانصر على آل الصليب ... وعابديه اليوم آلك1 لا يغلبن صليبهم ... ومحالهم أبدًا2 محالك3 هم جردوا لك جمعهم ... والفيل كي يسبوا4 عيالك عَمَدُوا حِماك بكيدهم ... جهلاً وما رقبوا جلالك إن كنت تاركهم وقبـ ... ـلتنا فأمر ما بدا لك .. ثم طاف بالبيت منشدًا والناس معه يرددون: يا رب لا أرجو لهم سواكا ... رب فامنع منهم حماكا امنعهموا أن يخربوا قراكا ... إن عدوّ البيت من عاداكا5 وهكذا لجأ عبد المطلب ولجأت معه قريش إلى الله يطلبون عونه وحمايته، ثم خرجوا من مكة لكي يتحرزوا في شعف الجبال والشعاب، وينتظرون عدل الله مع هؤلاء الطغاة الظالمين.. وتحرك بعد ذلك جيش الأحباش مدلًا بعظمته وكبريائه، يتقدمه الفيلة بشكلها المهيب المخيف الذي لم تألفه العرب في حروبها، وكان عددهم ثلاثة عشر فيلًا
توجهت جميعها في طريقها إلى الكعبة ما عدا الفيل الأكبر منها فإنه ظل جامدًا في مكانه، فإذا وجهوه إلى اليمن أسرع وهرول، وإذا وجهوه إلى الكعبة وقف ولم يتحول، وكأن الله قد ألهم ذلك الحيوان الأعجم بما تخبئه الحدثان، وما ينتظر ذلك الجيش المعتدي من خسف ونكال وهوان ... وما كان مثل هذا الجيش القوي ليغلب أو يتراجع لولا قدرة القوي القاهر التي تجلت في هذه الآية الكبرى الباقية على الدهر، إذ أرسل الله إليهم طيرًا من البحر أمثال الخطاطيف، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها: حجر في منقاره وحجران في رجليه -أمثال الحمص والعدس- لا تصيب منهم أحدًا إلا هلك وليس كلهم أصابت1. وذعر الأحباش واستولى عليهم الرعب والذهول فخرجوا هاربين يبتدرون الطريق الذي منه جاءوا ويسألوا عن الطريق إلى اليمن، فقال أعرابي2 رآهم في هذه الحيرة، بعدما أنزل الله عليهم من نقمته: أين المفر والإله الطالب ... والأشرم المغلوب ليس الغالب
وجعلوا يتساقطون بكل طريق، ويهلكون بكل مهلك، وأصيب أبرهة في جسده، وخرجوا به معهم يسقط أنملة أنملة، وكلما سقطت أنملة خرج وراءها الدم والقيح الكثير، حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطير، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه فيما يقولون1.
وإلى هذا الحادث العجيب يشير الله تعالى بقوله في سورة الفيل: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ، أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ، تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} . وبذلك يتبين لنا مدى الخطأ الذي وقع فيه بعض العلماء الذين أنكروا الطير والحجارة، وقالوا إن الله -عز وجل- يريد بالطير الرياح المتجمعة، وبالحجارة ذرات التراب التي حملت ميكروب الجدري، فإنه لم يعهد في لغة العرب أن يقال عن الرياح: إنها طير أبابيل أي جماعات من الطير، ولا ينبغي أن يقال ذلك إلا بطريق مجازي بعيد، ولا يصح أن يلجأ إلى مثل هذا المجاز ما دامت الحقيقة غير مستحيلة على قدرة الله1، وكذلك الذرات من التراب، لا يقبل في لغة العرب أن يقال عنها حجارة من سجيل، أي من طين مطبوخ بالنار وهو الآجر.
وإذا كانت الريح قد حملت ميكروب الجدري فلماذا هلك الأحباش وحدهم، ولم يهلك معهم العرب؟. وإذا كان حادث الفيل قد وقع عام ميلاد الرسول -صلى الله عليه وسلم- فمن المعقول1 أن "سورة الفيل" قد نزلت على الرسول -صلى الله عليه وسلم- في وقت كان يعيش فيه من أهل مكة أناس رأوا حادث الفيل بأعينهم، وبعضهم من أعداء الرسول -صلى الله عليه وسلم- فلو لم تكن الطيور طيورًا حقيقية والحجارة حجارة حقيقية لظهر من العرب من يسارع إلى تكذيب هذه السورة، ويعلن ذلك على رءوس الأشهاد وينتهزها فرصة في الكيد لمحمد -صلى الله عليه وسلم- والطعن عليه. ولكن الواقع أن "سورة الفيل" قد نزلت، فتلقاها العرب بالقبول؛ لأنها تقرر حقيقة معروفة عندهم لا شك فيها ولا يجرؤ أحد على إنكارها. وعلى هذا، فالطير الأبابيل، هي الطيور الحقيقية المعروفة لدى العرب، ولعلها غارات جوية وقعت في هذا العالم قبل الأوان، ولم يصنعها إنسان ليبطش بأخيه الإنسان، ولكن صنعها القهار ليكبح بها جماح الظلم والعدوان. ولقد سجل العرب في شعرهم هذا الحادث العجيب، وتغنوا به أمام العصور والأجيال، ومن ذلك قول نفيل بن حبيب2 يصور ما وقع للأحباش في ذلك اليوم:
ألا حييت عنا يا رُدَينَا1 ... نعمناكم مع الإصباح عينا حمدت الله إذا أبصرت طيرًا ... وخِفْتُ حجارة تلقى علينا2 وقول أمية بن أبي الصلت: إن آيات ربنا ثاقبات ... لا يماري فيهن إلا الكفورُ حبس الفيل بالمغمس حتى ... ظل يحبو كأنه معقورُ3 وقول عبد الله بن قيس من قصيدة طويلة يذكر فيها قصة الفيل والطير والحجارة: كاده الأشرم الذي جاء بالفيل ... فولى وجشيه مهزوم واستهلت عليهم الطير بالجندل ... حتى كأنه مرجوم 4
وهكذا حمى الله بيته المحرم من عدوان الظالمين؛ لأنه البيت العتيق الذي كان مصدر الهدى والنور منذ رفع قواعده إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- فلما تغيرت الأحوال وعبد العرب الأصنام، وتركوا النور، وتخبطوا في الظلام، شاء الله ألا يطول عليهم الأمد في الظلام، وأراد بهم الخير فحمى هذا البيت من عدوان الأحباش ليعود إليه مجده التليد، ويتلألأ النور فيه من جديد، على يدي محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- نبي الإسلام الذي ولد في هذا العام1، ثم بعثه الله بعد ذلك هداية ورحمة للعالمين.
بقية الأخبار عن عمارة البيت العتيق
بقية الأخبار عن عمارة البيت العتيق: وقبيل البعثة النبوية، وحينما كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الخامسة والثلاثين من عمره
أصاب الكعبة سيل جارف صدع جدرانها، فهدمتها قريش بعد تردد، ثم أعادت بناءها، حتى إذا وصلوا إلى مكان الحجر الأسود اختلفوا وكادت تنشب بينهم حرب طاحنة لولا أنهم احتكموا إلى أول داخل من باب الصفا، فكان هذا الداخل محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- وهو المعروف لديهم بالأمين. فاستبشروا به وحكموه فيما شجر بينهم. فرأى بحكمته أن يضع الحجر في ثوب، ثم طلب إلى رؤساء القبائل المتنازعة أن يرفعوه، ثم وضعه بيده في مكانه1.
وبذلك انتهى النزاع والخصام وحل الصفاء والوئام. وكانت الوثنية قد تسربت إلى مكة في عهد الخزاعيين، وكانت الأصنام تحيط ببيت الله المحرم على عدد قبائل العرب، فلما فتح النبي -صلى الله عليه وسلم- مكة في العام الثامن الهجري، طهر الكعبة من الأصنام، وأعلن فيها كلمة التوحيد ومبادئ الإسلام. ثم توالت الأحداث بعد ذلك على المسلمين، فأصيب المسجد الحرام في عهد يزيد بن معاوية على يدي الحصين بن نمير الذي رمى الكعبة بالمنجنيق حتى تناثرت حجارتها واشتعلت فيها النيران. ولما مات يزيد وانفك الحصار عن مكة، بدأ عبد الله بن الزبير في بناء الكعبة من جديد1.
يقول العلامة تقي الدين الفاسي في كتابه "شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام": وأما بناء ابن الزبير للكعبة فهو ثابت مشهور، وسبب ذلك توهن الكعبة من حجارة المنجنيق، التي أصابتها حين حوصر ابن الزبير في مكة في أوائل سنة أربع وستين من الهجرة، لمعاندته يزيد بن معاوية وما أصابها مع ذلك من الحريق بسبب النار التي أوقدها بعض أصحاب ابن الزبير في خيمة له، فطارت الرياح بلهب تلك النار فأحرقت كسوة الكعبة والسياج الذي بني في الكعبة حين عمرتها قريش، فضعفت جدران الكعبة حتى إنها لينقض من أعلاها إلى أسفلها، ويقع الحمام عليها فتتناثر حجارتها1.. ولما زال الحصار عن ابن الزبير لإدبار الحصين بن نمير من مكة بعد أن بلغه موت يزيد بن معاوية رأى ابن الزبير أن يهدم الكعبة ويبنيها، فوافقه على ذلك نفر قليل، وكره ذلك نفر كثير منهم ابن عباس2 رضي الله عنهما. ولما أجمع على هدمها خرج كثير من أهل مكة إلى منى مخافة أن يصيبهم عذاب، وأمر ابن الزبير جماعة من الحبشة فهدمتها، رجاء أن يكون فيهم الحبشي الذي أخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- عنه أنه يهدمها فهدمت الكعبة أجمع حتى بلغت الأرض.. وقد اختلفت الأخبار فيمن وضع الحجر الأسود في موضعه من الكعبة حين
بناها ابن الزبير فقيل: وضعه عبد الله بن الزبير بنفسه، وقيل: وضعه عباد بن عبد الله بن الزبير1. ولما قتل عبد الله بن الزبير بيد الحجاج بن يوسف الثقفي أرسل الحجاج إلى الخليفة عبد الملك بن مروان يخبره بأن ابن الزبير حين بنى الكعبة زاد فيها ما ليس منها -أي وسعها بعض الشيء- وأحدث فيها بابًا آخر لم يكن فيها أيام الجاهلية2، ويستأذنه في ردِّ ذلك إلى ما كان عليه فأذن له عبد الملك في ذلك3..
وفي أوائل القرن الحادي عشر الهجري والسابع عشر الميلادي أصيبت الكعبة بسيول جارفة وأمطار شديدة صدعت جدرانها حتى أخذت حجارتها تتساقط وحتى فزع الناس واضطربوا، فأرسل والي مصر -حينئذٍ- واسمه محمد باشا الألباني جماعة من المهندسين والبنائين المصريين فهدموا بقية الجدران وبنوا الكعبة من جديد. وربطوا الحجر الأسود بسوار متين من الفضة حتى لا يتآكل على مر السنين وهذا البناء هو القائم الآن في مكة المكرمة، وهو الذي أسهمت فيه مصر بالحظ الأوفر وهو يبلغ من الارتفاع خمسة عشر مترًا، وطول جداره الشمالي 9.92 مترًا والجنوبي 10.25 مترًا والشرقي 11.88 مترًا والغربي 12.25 مترًا. ويوجد الباب بالجدار الشرقي ويرتفع عن الأرض بمقدار مترين، وعتبة الباب ومصراعاه مصفحة بصفائح من الفضة المطلية بالذهب، ويلاصق جدران الكعبة من الخارج بناء من الرخام -يسمى الشاذروان- وقد أقيم لتقوية الجدران، وفي الركن الجنوبي الشرقي يوجد الحجر الأسود، وهو الذي يبدأ منه الطواف ويرتفع عن الأرض مترًا ونصف متر.
الحجر الأسود
الحجر الأسود: ويقتضينا الحديث عن المسجد الحرام أن نخصص كلمة عن الحجر الأسود وأن نلقي الأضواء على ما ورد فيه من آثار، سائلين الله أن يكشف لنا طريق الحق، وأن يجنبنا شر الزلل.
ولقد وردت آثار كثيرة في فضل هذا الحجر، وفيها ما يدل على أنه من الجنة، ولا بد لنا أن نقف أمام هذه الروايات وقفة الفاحص المتأمل، حتى يمكن أن يظهر الحق أمامنا وحتى يكون حكمنا متمشيًّا مع روح العدل والإنصاف، فلقد روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الحجر والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما، ولولا أن الله طمس نورهما، لأضاءا ما بين المشرق والمغرب" 1. وفي رواية أخرى2: "لأضاءا ما بين المشرق والمغرب ولأبرآ من استلمهما من الخرس والجذام والبرص". وروي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضًا من اللبن فسوَّدته خطايا بني آدم" 3. ويذكر العلامة تقي الدين الفاسي رواية أخرى عن ابن عباس تتعارض مع
الرواية السابقة المذكورة عن ابن عباس نفسه إذ يقول: "وإنما غيره الله بالسواد؛ لئلا ينظر أهل الدنيا إلى زينة الجنة وإنه لياقوتة بيضاء" 1. وهذه الروايات وأمثالها تحمل في طياتها ما يهدمها2. إذا يعارض بعضها بعضًا، ثم هي في ذاتها لا تقوم على أساس ولا تستهدف غرضًا سليمًا3، فأما تعارضها فلأن الروايتين المذكورتين عن ابن عباس تفيد إحداهما أن الحجر كان أشد بياضًا من اللبن ثم اسود بذنوب بني آدم وخطاياهم. وأما الثانية فإنها تفيد أنه اسود قبل أن يطوف به أحد4، أي أن الذنوب والخطايا لم تغير بياضه إلى سواد، وإنما أراد الله ذلك حتى لا ينظر أهل الدنيا إلى زينة الجنة حينما يرون الحجر وهو ياقوتة بيضاء. وأما أنها لا تقوم على أساس، ولا تستهدف غرضًا سليمًا، فلأن قيمة هذا لا تزداد إذا كان من أحجار الجنة ولا تنقص إذا كان من أحجار الأرض، ذلك بأن قيمة الشيء إنما تكون في الجوهر لا في العَرَض، وفي اللباب دون القشور5.
فالذهب وسط التبر هو الذهب وسط التراب، والحصى بين اللآلئ الغالية هو الحصى بين الرمال السافية. والكعبة المشرفة قد بنيت من أحجار الأرض ومع ذلك فهي بيت الله الذي يشع بالهدى والنور، ويسمو على ما في الجنة من بيوت وقصور1، ثم ما هي الحكمة في أن ينزل الله من الجنة ياقوتتين مضيئتين ثم يطمس نورهما؟ إنهما إذن يفقدان خاصيتهما الكريمة وينزلان إلى مستوى الحصى والتراب، أو ما كان الأجدر أن يظلا ياقوتتين مضيئتين ليكونا آية الله الخالدة على الزمن، والمنارة الهادية التي تجلو غواشي الشك وتبدد ظلمات الحيرة2؟ ثم ما هي العلاقة بين
الياقوت المضيء والإبراء من الخرس والجذام والبرص1؟ وإذا قيل: إن الحجر كان أشد بياضًا من اللبن ثم سودته خطايا الناس وذنوبهم، فلماذا لم يره أحد من الناس في زمن بياضه2؟ ولماذا لا يزداد سواده على توالي الأزمنة والعصور3؟ كل هذه الخواطر التي تجول في النفس تجعلنا ننظر إلى مثل هذه الروايات في حيطة وحذر، ونشك في نسبتها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا سيما أنه لم يذكر شيء منها في الصحيحين 4، وحينما ذكر الترمذي الحديث المروي عن عبد الله بن عمرو، قال عنه: إنه حديث غريب5.
ولا بد لنا إذن أن نتلمس السبيل إلى رواية أخرى لا يتطرق إليها مثل هذا الضعف والوهن1. ولقد ذكر ابن الأثير في تاريخه2: أن إبراهيم -عليه السلام- حينما أمره الله ببناء البيت الحرام قال لولده إسماعيل: لقد أمرك الله أن تعينني على بنائه، قال: إذن أفعل. فقام معه، فجعل إبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة ثم قال إبراهيم لإسماعيل: ائتني بحجر حسن أضعه على الركن ليكون للناس علمًا، فأخذ حجرًا من جبل أبي قبيس3.
وقيل: إن جبريل أخبره بحجر هو "الحجر الأسود". فأخذه ووضعه في موضعه، فلما ارتفع البنيان كان إبراهيم يقف على حجر وإسماعيل يناوله، وهذا الحجر هو مقام إبراهيم، وهكذا تعاون إبراهيم وإسماعيل حتى رفعا قواعد البيت وأتما بناءه. ومن هذه الرواية الهادئة وما يؤيدها من روايات ذكرتها أمهات الكتب التاريخية يتبين لنا أن الحجر الأسود لم ينزل من الجنة، وإنما هو من أحجار جبل أبي قبيس1، وقد أراد الله أن يوضع في ركن من أركان بيته المحرم ليكون علمًا، أي علامة يبدأ منها الطواف وينتهي إليها. فلما أذن إبراهيم في الناس بالحج كان الحجر الأسود موضع بدء الطواف ونهايته، وكان الطائفون يبدأون باستلامه وكأنهم يسجلون أنفسهم في هذا السجل الخالد2، ويقترن ذلك في نفوسهم بأجل الذكريات عن النبي الكريم، فيزداد
حبهم لهذا الحجر المبارك، وينتقل ذلك من قبيل إلى قبيل ومن جيل إلى جيل. وقد فرض الله الحج على كل مسلم مستطيع وجعله الركن الخامس من أركان الإسلام، وجعل من أركان الحج الطواف ببيت الله الحرام، وجعل من شروط الطواف أن يكون الحجر نقطة البدء ونقطة النهاية في المطاف، ومن السنن المأثورة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- استلامه وتقبيله ... 1. بيد أن بعض المسلمين على طول الزمن وبعد العهد بالرسول -عليه الصلاة والسلام- قد تغير تفكيرهم فأصبحوا يغالون في تعظيم هذا الحجر حتى لقد خيل إليهم أن الحج لا ينفع إلا بتقبيله ووضع الجباه عليه، وقد رأيت بنفسي فريقًا منهم يطوفون بالبيت حتى إذا جاءوا أمام الحجر الأسود لم يكتفوا بالإشارة إليه كما هو المطلوب عند الزحام، بل سلكوا من أجل الوصول إليه سبيلًا يوقظ الفتنة ويزري بالكرامة، فترى الرجل منهم يدفع نفسه نحو الحجر مزاحمًا بل مهاجمًا، وكأنه في حرب مع إخوانه الطائفين، وقد تكون معه أخته أو ذات رحمه، فيدفعها بعنف وقسوة حتى يرتطم وجهها ورأسها بالحجر، ثم يقول لها: "حجي، حجي" وكأنه يرى أن الحج لا ينفع ولا يتم إلا بهذه الطريقة2. وبمثل هذه التصرفات ينفتح المجال أمام الخرافات والأباطيل التي لا تعتمد
على أساس ولا ينهض بها دليل1. أجل -لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم الحجر ويقبله أحيانًا ولكن ليس ذلك شرطًا في صحة الطواف ولا في صحة الحج والعمرة2، وإنما هو لحكمة يعلمها الله وإن خفيت علينا، وهي الحكمة التي خفيت من قبل على عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حينما قبل هذا الحجر، ثم قال: "والله إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أن رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك"3. ويعجبني قول بعض الشعراء حينما منعه الزحام عن تقبيل الحجر واستلامه فاكتفى بالإشارة إليه ثم أنشد: أقول وقد زوحمت عن لثم أسود ... من البيت إن تحجب فما السر يحجب فإنك مني في المحل الذي به ... مكان سواد العين أو أنت أقرب ... ولقد تعرض الحجر الأسود لأحداث كثيرة، ولولا أن الله قدر له الحفظ والبقاء لعصفت به الكوارث، وتبدد بين ركام الحوادث. فعندما وقعت الفتنة بين عبد الله بن الزبير وبين الأمويين أعاد عبد الله بناء الكعبة بعد تصدعها على يدي
الحصين بن نمير، وصب طوقًا من الفضة حول الحجر ليثبته في موضعه، ولكن الفضة تزلزلت بعض الوقت وتعلقت حول الحجر حتى خشي الناس عليه أن يسقط من مكانه. فلما ذهب الرشيد إلى الحج، أمره بالحجارة التي بينها الحجر الأسود فثقبت بالماس من فوقها ومن تحتها. ويذكر التاريخ: أن عدو الله أبا طاهر القرمطي وفد إلى مكة سنة 317هـ وفعل فيها هو أصحابه أمورًا منكرة، ومنها: أن بعضهم ضرب الحجر الأسود بدبوس فكسره ثم قلعه من موضعه وذهب به إلى البحرين، وبقي موضعه خاليًا كالعين المفقوءة، يذكر الناس بما أقدم عليه هؤلاء الآثمون من الذنب والخطيئة، ويضع الناس فيه أيديهم كما كانوا يلمسونه في حال وجوده، وبذل كثير من الولاة والحكام المسلمين محاولات عنيفة لاسترداده، ولكن لم يتم ذلك إلا -في سنة 339هـ. وقال القرامطة عند رده: "أخذناه بقدرة الله، ورددناه بمشيئة الله"1. والقرامطة -كما عرف من تاريخهم- جماعة من أصحاب المذاهب الهدامة والعقائد الفاسدة2 وقد أرادوا بخلع الحجر إحداث فتنة بين المسلمين تؤدي إلى ما يريدونه لأنفسهم من النفوذ والسلطان، فلما وجدوا أنهم سيكونون وقودًا لتلك الفتنة أرغموا على رده إلى موضعه، وستروا أغراضهم السيئة بقولهم: "أخذناه بقدرة الله، ورددناه بمشيئة الله". أما من ناحية التشهير بالمسلمين عن طريق هذا الحجر، فإنه لم يخل عصر من العصور من محاولات يقوم بها الملاحدة للنيل من مبادئ الإسلام وتعاليمه،
ويرون في الحجر الأسود نقطة ضعف يمكن أن ينفذوا منها إلى أغراضهم الخبيثة ... أجل، إنهم يقولون: إن الحجر الأسود بقية من بقايا الوثنية، وإن وجوده بالبيت الحرام وتقبيل الناس له وتضرعهم إلى جواره إحياء لعبادة الأصنام.. ونحن نقول لهم: ليأت لنا هؤلاء بمسلم واحد يعرف مبادئ الإسلام يؤمن بأن هذا الحجر ينفع أو يضر، أو يشفع لمذنب أو يستجيب لداع، فإن لم يفعلوا -ولن يفعلوا- فليقفوا عند حدهم، وليعلموا أن تعاليم الإسلام ومبادئه قد استمدت قوتها من الحجة والبرهان، وليس فيها ما ينأى عن الحكمة ويستعصي على الفهم، وأن هذا الحجر الماثل في ركن الكعبة إنما هو نقطة يبدأ منها الطواف وينتهي إليها، وأن تقبيله واستلامه ليس تقديسًا ولا عبادة، وإنما هو تسجيل عملي لبدء الطواف وانتهائه ... والحجر الأسود -بعد ذلك- أثر تليد يحمل إلى الإجيال -عبر القرون- ذكرى إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- وهي ذكرى خالدة تعتز بها النفوس، ويقوى في ظلها الإيمان ...
العرب في مكة
العرب في مكة العرب المستعربة في مكة ... 2- العرب المستعربة في مكة يرجع العرب في أصلهم إلى الجنس السامي وهو الجنس الذي تفرع عنه الكلدانيون والآشوريون والكنعانيون وسائر الأمم السامية، التي سكنت بين النهرين وفلسطين وما يحيط من بادية وحاضرة. وسموا عربًا نسبة إلى: يعرب بن قحطان جد العرب العاربة، فإنه أول من نطق باللغة العربية الفصحى، وأخذها عنه أهل اليمن. ويقسم المؤرخون العرب إلى: بائدة، وعاربة، ومستعربة. فالعرب البائدة هم الذين بادوا ومحيت آثارهم كعاد وثمود.. والعرب العاربة هم الشعب القحطاني الذي يسمى -كذلك- عرب الجنوب، إذ كانوا يسكون في بلاد اليمن، وسموا عربًا عاربة لتأصلهم في العروبة حيث لم يختلطوا بمصاهرة الأعاجم، وليس من شأننا أن نفصل الكلام حول هذين القسمين من العرب. وأما العرب المستعربة فهم الذين سنتحدث الآن عنهم ونلقي بعض الأضواء على أحوالهم السياسية والدينية والاجتماعية. ويقال للعرب المستعربة الإسماعيلية، لأنهم يرجعون في نسبهم إلى إسماعيل -عليه السلام- فهم عرب من جهة الأمهات لا من جهة الآباء، لأن أباهم إسماعيل
غير عربي ولكنه تزوج من جرهم العربية. وقد ثبت لدى العلماء أن عدنان وهو الجد العشرون للرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- يمتد نسبه إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام. ويكاد يجمع المؤرخون على أن إبراهيم -عليه السلام- قد نشأ في بلاد العراق بين قوم يتخذون الأصنام آلهة من دون الله، ولما أذن الله له أن يدعو الناس للحق، بدأ بأبيه آزر، فدعاه إلى التوحيد وبين له ما في الوثنية من فساد وضلال، وقد سجل القرآن الكريم قصة إبراهيم وجهاده في سبيل القضاء على الوثنية في سور كثيرة ومنها ما جاء في سورة الأنعام: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 1، وما جاء في سورة مريم: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً، إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً، يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنْ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً، يَا أَبَتِ لا تَعْبُدْ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً، يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنْ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً، قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ واهْجُرْنِي مَلِيّاً} إلى غير ذلك من الآيات الكريمة. وقد عاش إبراهيم مدة طويلة دون أن يرزقه الله بولد من زوجته سارة. وكانت سارة حزينة من أجل ذلك، فحملتها شفقتها على زوجها إبراهيم وحبها له أن تهب له جاريتها "هاجر". وقالت له: "إني حرمت من الولد، فعسى الله أن يرزقك منها غلامًا تقر به عينك" 3. وقد حقق الله آمال إبراهيم وزوجته سارة، فحملت هاجر وولدت إسماعيل، وكان أبوه إبراهيم في السادسة والثمانين من
عمره. فاشتدت غيرة سارة، وتلك طبيعة النساء ولم تطق رؤية هاجر وطفلها إسماعيل، فصارحت إبراهيم -عليه السلام- بما تجده في نفسها، وطلبت إليه: أن يأخذ هاجر وطفلها إلى أرض بعيدة عنها حتى لا تراهما. فتردد إبراهيم في الأمر شفقة منه على ابنه الصغير، ولكن الله أوحى إليه أن ينفذ رغبة سارة، فأخذ هاجر وطفلها بأمر من الله وانتقل إلى شبه الجزيرة العربية حتى وصل بها إلى المكان الذي نبعت فيه بئر زمزم، وكان واديًا مجدبًا لا زرع فيه ولا ثمر. ولما هم بالرحيل قالت له هاجر: إلى من تكلنا؟ قال: إلى الله، وأستودعكما إياه. فقالت: الله أمرك بهذا؟. قال: نعم. قالت: إذن لا يضيعنا. ثم انصرف إبراهيم من عندهما وهو يقول: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} 1. وبقيت هاجر مع طفلها فنصبت لنفسها عريشًا وكان معها شيء من الطعام والشارب قد تركه معها زوجها إبراهيم، ولما نفد ما لديهما من الماء عطش إسماعيل عطشًا شديدًا، فجعلت أمه تبحث له عن ماء وأخذت تتردد بين الصفا والمروة سبع مرات لم تجد شيئًا فرجعت آسفة حزينة. ولكن حزنها لم يلبث أن انقلب سرورًا واطمئنانًا حين رأت الماء ينبع من
تحت أقدام إسماعيل. فشربا وحمدا الله وأقاما بهذا المكان، وسمي ذلك المنبع العظيم الذي أكرم الله به هاجر وإسماعيل بئر زمزم1. وكان بنو جرهم بواد قريب من مكة، فلما تفجر ماء زمزم، لزمت الطير الوادي حين رأت الماء. فلما رأت جرهم الطير لزمت الوادي، قالوا: ما لزمته إلا وفيه ماء. فجاءوا إلى هاجر وقالوا: لو شئت فكنا معك فآنسناك، والماء ماؤك، فكانوا معها حتى شب إسماعيل وماتت هاجر، فتزوج إسماعيل منهم. ويذكر المؤرخون: أن إسماعيل تعلم العربية منهم هو وأولاده، وقد رزق إسماعيل باثني عشر ولدًا2، وهم وذريتهم "العرب المستعربة".
الجراهمة والخزاعيون في مكة
الجراهمة والخزاعيون في مكة: وقد عاش بنو إسماعيل في مكة فترة طويلة يتمتعون بالمجد والسلطان، وكان إلى جوارهم أخوالهم الجراهمة، ولكن الزمن الدوار قضى على بني إسماعيل بالتخلف والضعف1، فانتزع أخوالهم السلطة من أيديهم. غير أنهم لم يبلغوا
أمدًا طويلًا حتى طغوا واستحلوا حرمة البيت وظلموا من دخل مكة من الحجاج وغيرهم، وأكلوا مال الكعبة الذي يهدى إليها، وظهر فيهم الفسق والفساد حتى إنهم كانوا يأتون الفحشاء والمنكر في جوف الكعبة، وكان ذلك السبب المباشر في ضعفهم وضياعهم، فأخرجهم الخزاعيون من مكة 1، وأصبحوا كما قال شاعرهم 2: كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر بلى: نحن كنا أهلها فأبادنا 3 ... صروف الليالي، والجدود العواثر وكان الخزاعيون قد هاجروا من اليمن واستقروا في مكة إلى جوار الجراهمة، فلما رأوا ما حل بهم من فساد وضعف وانحلال، انتهزوا هذه الفرصة واستولوا على النفوذ والسلطان في أوائل القرن الثالث الميلادي، وقد ظلوا سادة مكة زهاء مائتي سنة، ثم أدركهم داء الأمم وقلب الدهر لهم ظهر المجن، واستطاع زعيم قرشي من بني إسماعيل أن يحاربهم وينتصر عليهم ويعيد نفوذ أجداده القديم وسلطانهم على هذه البلاد، وهذا الزعيم هو: قصي بن كلاب، وهو الجد الرابع للرسول صلى الله عليه وسلم.
قصي بن كلاب وأثره في قريش
قصي بن كلاب وأثره في قريش: ومنذ رجعت السلطة والنفوذ إلى قصي، بدأ عهد جديد في النمو والازدهار لبني إسماعيل بعد أن ظلوا أمدًا طويلًا في ضعف وركود يكاد يشبه الموت، وكان
أول خطوة خطاها قصي: أن جمع أفراد قريش المبعثرين في نواحٍ متعددة إلى وادي مكة. فاستحق بذلك لقب "المجمع"، وجعل لكل بطن حيًّا خاصًّا على مقربة من الكعبة. وكان الناس قبل ذلك لا يجرؤون على البناء بجوار الكعبة مبالغة في تقديسها؛ ولكن قصيًّا كانت حجته في ذلك أن يقيم على مقربة من البيت حماة له يتعهدونه بالصيانة ويدفعون عنه الخطر. ولم يترك بين الكعبة والبيوت التي بنتها بطون قريش إلا بمقدار ما يسمح بالطواف، وقد أنشأت هذه البطون أحياء حصينة حول الكعبة من نواحيها الأربع.. وابتنى قصي لنفسه قصرًا جعل بابه يؤدي مباشرة إلى الكعبة. وكان هذا القصير يسمى دار الندوة، وكان قصي يتولى رئاسة هذه الدار، وقد جعل من اختصاصها البت في كل الشئون العامة من تجارية وحربية وغيرها بعد مناقشتها، وكان لا يسمح بدخول هذه الدار إلا لمن بلغ عمرهم الأربعين سنة إلا إذا كان من سلالة قصي، وكان حكيمًا ومفوهًا. وكان القرشيون إذا أرادوا دخول الحرب يتلقون اللواء من يدي قصي، ومعنى ذلك أن هو القائد الأعلى في هذا المجال ... وكانت عملية الزواج تتم في دار الندوة، فكان لا يتزوج رجل أو امرأة إلا من تلك الدار. وقد استطاع قصي بأعماله أن ينمي في نفوس الناس صفة الكرم وحسن الضيافة فحمل الناس وشجعهم على دفع ضريبة سنوية تسمى: الرفادة، كان يقصد منها المعاونة على إطعام الحجاج الفقراء وغيرهم ممن يهبطون مكة في أيام منى ... فجرى الأمر على ذلك في الجاهلية والإسلام، حيث لا يزال الولاة والملوك يعدون مثل هذا الطعام في كل عام.
وكان قصي يضم إلى جوار ذلك كله "السقاية"، والمقصود بالسقاية: تدبير الماء وحمله من آبار مكة المجاورة بالمزاود "القِرَب" ووضعه في أحواض لسقاية الحجاج، وكذلك كانت لقصي "الحجابة" "السدانة"، ويقصد بها حفظ مفاتيح الكعبة لا يفتحها إلا هو، ولا تقام شعائر دينية إلا بإذنه. وهكذا يتبين لنا أن قصيًّا جمع في شخصه كل الوظائف الرئيسية -دينية كانت أم سياسية- فكان بذلك يعتبر وكأنه ملك العرب ورئيسهم الديني الأعلى، وقد أضفى ذلك على قبيلة قريش مجدًا وجاهًا عظيمين. وقد توارث أبناء قصي هذا المجد والسلطان، حتى جاء من أحفاده عبد المطلب بن هاشم وهو الجد الأول لمحمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- فكانت السلطات -حينئذٍ- موزعة على عشرة من أشراف قريش، وكانت هذه المناصب تتوارث في أكبر الأبناء، وهذه المناصب هي: 1- الحجابة أو السدانة: والمقصود بها حراسة مفاتيح الكعبة، وكانت وظيفة دينية مهمة وضعت في يد بني عبد الدار بن قصي، ولما أسلمت مكة بعد الفتح ظلت السدانة في يد عثمان بن طلحة من بني عبد الدار، وقد قال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "خذوها تالدة خالدة إلى يوم القيامة لا ينزعها منكم إلا ظالم" 1. 2- السقاية: ويقصد بها الإشراف على بئر زمزم المقدسة وسقاية الحجاج،
وهذه وضعت في بيت هاشم وكانت في يد العباس بن عبد المطلب وقت فتح مكة. 3- الديات: وكان صاحبها إذا احتمل شيئًا فسأل فيه قريشًا أجابوه، وكانت في يد تيم بن مرة، وعند ظهور الإسلام كان يقوم بها عبد الله بن أبي قحافة "أبو بكر"، في أيام الرسول صلى الله عليه وسلم. 4- السفارة: وكان صاحبها ذا حق مطلق في البت في شئون الصلح بعد الحرب، أو الخلافات التي تقوم بين قريش والقبائل الأخرى، أو بينهم وبين الأجانب، وكان يقوم على هذا المنصب عمر بن الخطاب. 5- اللواء: وكان صاحبه يعتبر كبير القواد ويسير أمام الركب في أسفارهم للقتال أو التجارة، وكان اللواء في بني أمية وصاحبه منهم في أول الإسلام: أبو سفيان بن حرب. 6- الرفادة: وهي الإشراف على الضريبة التي تخصص لإطعام الفقراء، وكانت قريش تخرجها في كل موسم إلى صاحب الرفادة فيصنع منها طعامًا لفقراء الحجاج -مقيمين أو مسافرين- لأن الدولة كانت تعتبرهم ضيوف الله، وكانت الرفادة لعبد المطلب، ثم نقلت إلى أبي طالب ثم أخذها العباس وظلت في أولاده.
7- الندوة: وكان رئيس دار الندوة يعتبر رئيس الجمعية الوطنية، وكبير مستشاري الدولة، ولا تصدر قريش عن أمر إلا بموافقته، وكان الأسود بن عبد العزى بن قصي هو القائم على هذا المنصب في أيام الرسول صلى الله عليه وسلم. 8- الخيمة: ويقصد بها حراسة قاعة المجلس، وكان هذا المنصب يبيح لصاحبه الحق في دعوة الجمعية، وحشد الجنود وكان يتولى هذا المنصب خالد بن الوليد على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم. 9- الخازنة: وكانت في بني حسن بن كعب ويقوم عليها الحارث بن قيس. 10- الأزلام: وهي التي يشرف صاحبها على السهام، وكان العرب يستقسمون بها لمعرفة رأي الآلهة، وكان القائم عليها صفوان بن أمية. وكان العرف يقضي بأن أكبر أصحاب المناصب العشرة سنًّا هو الذي يتولى الرياسة ويلقب بسيد القوم، وكان على عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم-: العباس بن عبد المطلب1.
قصة الذبيحين
قصة الذبيحين: ولم يكن من قبيل المصادفة ما وقع لإسماعيل عليه السلام حين هم أبوه إبراهيم -عليه السلام- بذبحه تقربًا إلى الله وامتثالًا لأمره، ثم كتب الله له النجاة
وفداه بذبح عظيم، وما وقع بعد ذلك لعبد الله بن عبد المطلب وهو من سلالة إسماعيل وأبنائه، حينما هم أبوه عبد المطلب بذبحه وفاء لنذره وتقربًا لآلهته، ثم كتب الله له النجاة وفداه بمائة من الإبل، لم يكن ذلك من قبيل المصادفة، ولكنه تدبير وتقدير من المدبر المقدر، وحكمة قضى بها العليم الحكيم، ولعل هذه الحكمة هي التي جعلت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتحدث عن نفسه بعد البعثة، فيقول: "أنا ابن الذبيحين" 1.
فمن هما الذبيحان اللذان قصدهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث؟ أما الذبيح الأول: فهو إسماعيل -عليه السلام- وهو أبو العرب المستعربة -كما قدمنا- والجد الأكبر لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في قوله سبحانه وتعالى عن إبراهيم عليه السلام:
{رَبِّ هَبْ لِي مِنْ الصَّالِحِينَ، فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ، فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ، فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ، وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ، وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ، وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ، سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ، وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيّاً مِنْ الصَّالِحِينَ} 1. فهذه الآيات الكريمة تشير في وضوح إلى أن هناك بشارتين لإبراهيم أولاهما: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيم} . وثانيتهما: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيّاً مِنْ الصَّالِحِينَ} . ومحنة الذبح التي ابتلي بها إبراهيم جاءت بعد البشارة الأولى التي كانت بالغلام الأول هو إسماعيل. وبعد أن سرد الله قصة إبراهيم مع ابنه، وكيف فداه الله بذبح عظيم تقرب به إبراهيم إلى ربه شكرًا على نجاة ولده، عاد فأخبر عن البشارة الثانية بالولد الثاني لإبراهيم وهو إسحاق الذي رزقت به السيدة سارة بعد ولادة السيدة هاجر لإسماعيل2. وأما الذبيح الثاني: فهو عبد الله بن عبد المطلب والد الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق في "السيرة"1 ما ملخصه: كان عبد المطلب فيما يزعمون، نذر حين لقي من قريش ما لقي عند حفر زمزم، لئن ولد له عشرة نفر، ثم بلغوا معه حتى يمنعوه ليذبحن أحدهم عند الكعبة. فلما تكامل بنوه عشرة، وعرف أنهم سيمنعونه، جمعهم ثم أخبرهم بنذره ودعاهم إلى الوفاء، فأطاعوا وقالوا: كيف نصنع. فقال: ليأخذ كل رجل منكم قدحًا، ثم يكتب فيه اسمه ثم ائتوني، ففعلوا. فدخل بالأقداح على هبل الصنم في جوف الكعبة. فاستقسم بالأقداح، فخرج القدح على ابنه عبد الله -والد النبي صلى الله عليه وسلم- وكان أصغر ولده، وأحبهم إليه. ومع ذلك فقد خرج عبد المطلب بولده ليذبحه، فقامت إليه قريش فمنعته، وكذلك إخوته أبناء عبد المطلب، وقالوا: لئن فعلت هذا لا يزال الرجل يأتي بولده فيذبحه، فما بقاء الناس على هذا. -وذكر ابن يونس عن ابن اسحاق أن العباس هو الذي اجتذب عبد الله- ثم أشاروا عليه بأن يذهب لعرافة تفتيه في أمره، فخرجوا إلى سجاح -امرأة كانت تزعم أن لها تابعًا يخبرها الأخبار- فقالت: كم الدية فيكم؟ قالوا: عشر من الإبل. قالت: فارجعوا إلى بلادكم، ثم قربوا صاحبكم، وقربوا عشرًا من الإبل ثم اضربوا عليها وعليه بالقداح، فإن خرجت على صاحبكم فزيدوا من الإبل حتى يرضى ربكم، وإن خرجت على الإبل فانحروها عنه، فقد رضي ربكم ونجا صاحبكم.
فخرجوا حتى قدموا مكة، فقربوا عبد الله وعشرًا من الإبل ثم ضربوا القداح فخرج القداح على عبد الله، فزادوا عشرًا، ثم ضربوا، فخرج عليه كذلك، وما زال القدح يخرج عليه حتى بلغت الإبل مائة، فخرج عندها القدح على الإبل. فعلوا ذلك ثلاث مرات، كل مرة يخرج القدح على الإبل، فقالوا: قد رضي ربك يا عبد المطلب 1.
المجتمع العربي قبل ظهور الإسلام
المجتمع العربي قبل ظهور الإسلام مدخل ... المجتمع العربي قبل ظهور الإسلام: كان أهل مكة يحجون إلى الأصنام ويقدمون لها القرابين. وكان لا يجوز أن تقتلع أشجار من حماها، ولا يصاد صيدها، ولا يراق دم آدمي فيها، تعظيمًا لشأنها وتقديها لها، حتى إن بعض العرب كانوا يضيفون إليها أسماءهم، فكان "عبد العزى" من الأسماء الشائعة عندهم والمحبوبة لديهم. وكانت الكعبة في ذلك العصر الجاهلي مقر الوثنية، إذ كانت تحيط بها الأصنام من كل جانب، وكان أعظمها عندهم هبل وهو تمثال من العقيق الأحمر على شكر إنسان مكسور اليد اليمنى، وقد أدركته قريش وهو على هذا الوضع فصنعت له يدًّا من ذهب. أما عقيدتهم في تلك الأصنام، فكانوا فريقين: فبعضهم كان يعبدها على أنها تشفع لهم عند الله وتقربهم إليه. ويقولون إذا سئلوا عن الخالق الرازق؟ إنه هو الله. وإذا سئلوا عن الأصنام؟
يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 1. وبعضهم كان يعبدها على أنها هي الآلهة التي تضر وتنفع وتعطي وتمنع، وهؤلاء هم عامتهم وضعفاء العقول منهم، وهم الذين أخبر الله عنهم أنهم عجبوا من محمد -صلى الله عليه وسلم- لأنه جعل الآلهة إلهًا واحدًا.. وذلك في قوله حكاية عنهم: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 2. وكان هناك قوم في اليمن يعبدون الشمس، وهم الذين ذكر الله قصتهم في القرآن الكريم مع سليمان -عليه السلام- في قوله تعالى حكاية عن الهدهد: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ، إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ، وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} 3. كما كان هناك طائفة من العرب يعبدون النار وهم المجوس، وقد انتقلت إليهم هذه الديانة من الفرس الذين كانوا يجاورونهم، وكذلك كانت توجد اليهودية في يثرب وخيبر، والمسيحية في الحيرة وغسان. وهكذا كانت توجد في شبه الجزيرة العربية أديان مختلفة إلا أن الوثنية كانت
هي السائدة، إذ كانت تدين بها الغالبية العظمى والأكثرية الساحقة، حتى ليمكننا أن نقول عن العرب حينئذٍ غير مبالغين: إنهم كانوا قوما وثنيين!!. ومن الإنصاف أن نقول: إن أهل مكة لم يستسلموا لعبادة الأصنام بسهولة، ولكنها وجدت مقاومة ومعارضة لم تلبث أن انهارت بقوة الحاكم وشدته، ومهد لذلك فسق جرهم وخروجها عن سبيل الحق، ومما يشير إلى هذه المقاومة ويدل على أن العرب كانوا قبل خزاعة يدينون بالتوحيد وما ورد في الشعر الجاهلي من نعي على عمرو بن لحي الخزاعي، وأسف على ما جلبه إلى مكة من الخطايا والآثام.. فيقول قائلهم: يا عمرو إنك أحدثت آلهة ... شتى بمكة حول البيت أنصابا وكان للبيت رب واحد أبدًا ... فقد جعلت له في الناس أربابا لتعرفن بأن الله في مهل ... سيصطفي دونكم للبيت حجابا. ومن الإنصاف لهذا العصر -كذلك- أن نقول: إن هناك أفرادًا قلائل قد استطاعوا بين هذه الظلمات المتكاثفة أن يصلوا إلى طريق الحق ويهتدوا إلى فساد عبادة الأصنام بعقولهم، ويدركوا أن هناك إلهًا واحدًا لا شريك له ولا معقب لحكمه، وهؤلاء هم الحنفاء "أي الذين مالوا عن الباطل واتبعوا الدين الصحيح" ... ومنهم زيد بن عمرو بن نفيل، وهو ابن عم عمر بن الخطاب. ويذكرون عنه أنه ترك عبادة الأصنام وصار يطوف ببلاد العرب وما جاورها يبحث عن دين إبراهيم -عليه السلام- حتى هداه الله إلى الحق ... وهو الذي قال بعد أن ترك عبادة الأصنام 1:
أرب واحد أم ألف رب ... أدين إذا تقسمت الأمور؟ تركت اللات والعزى جميعًا ... كذلك يفعل الرجل البصير فلا العزى أدين ولا ابنتيها ... ولا صنمي بني عمرو أزور ولكن أعبد الرحمن ربي ... ليغفر ذنبي الرب الغفور وقد شاء الله أن يموت زيد قبل البعثة النبوية بقليل. ومنهم أمية بن أبي الصلت الذي كان يقول: هاج للقلب من هواه أذكار ... وليال خلالهن نهار وجبال شوامخ راسيات ... وعيون مياههن غزار ونجوم تلوح في كل فج ... مشرقات وفي الدجى أقمار والذي قد ذكرت دل الله ... نفوسًا لها هدى واعتبار ومهما كان الأمر فهم قلة ضئيلة ضاقت نفوسهم بالوثنية الفاسدة فانطلقوا إلى الآفاق الرحبة الفسيحة يلتمسون الهدى، ويرجون الحق لذاته، فأدركتهم رحمة الله وصاحبتهم عنايته ورعايته. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ...
المجتمع العربي قبيل ظهور الإسلام
المجتمع العربي قبيل ظهور الإسلام: والحديث عن المجتمع العربي في الفترة التي سبقت ظهور الإسلام حديث لا يكتنفه الغموض الذي كان يكتنف العصور القديمة، لأن الأضواء كلها قد تسلطت على تاريخ العرب بعد ظهور الدين الإسلامي، فتكشفت كل الحقائق عن الفترة.
السابقة التي جاء الإسلام على أثرها.. ولا بد لنا في هذه المناسبة من الإشارة إلى أن بعض الكتاب المسلمين قد انقادوا -أحيانًا إلى العاطفة، فنظروا إلى ذلك العصر الذي سبق الإسلام في شبه الجزيرة العربية نظرة غير محايدة، وذلك أنهم أغمضوا الأعين عن الصفات الحسنة والخلال الكريمة التي كانت تسود -حينئذٍ- في المجتمع العربي ولم يتعرضوا لها إلا بقدر يسير، ثم أفاضوا في ذكر المثالب والعيوب والنقائص الخلقية التي كانت موجودة لدى بعض القبائل، ونسبوها لجميع القبائل!!. ومن الإنصاف أن نذكر الأمور على حقيقتها بعيدة عن الغلو والإسراف غير متأثرة بعاطفة أو متحيزة لغرض، وحينئذٍ يجري التاريخ في سننه المرسوم، ويؤمن به الأعداء والأصدقاء، ولا يجد خصوم الحق مجالًا ينفذون منه إلى أهدافهم الخبيثة من التغيير والتحريف، أو التشويه والتزييف. ولقد كان النظام القبلي سائدًا في المجتمع العربي قبل الإسلام: فكان شيخ القبيلة هو الحاكم الأعلى لقبيلته، وصاحب السلطان المطلق فيها، وكأن أوامره المستمدة من العرف القائم بينهم تقوم مقام القانون ... وهذا النظام القبلي كان يدعو إلى التنافس بين القبائل على النفوذ المادي والأدبي، فكانت كل قبيلة تجتهد في أن تكمل نفسها وتبسط نفوذها ولو على أنقاض غيرها من القبائل، ومن هنا كانت تسود العداوة والبغضاء بين القبائل المختلفة وتثور الحروب وتنشب المعارك لأوهى الأسباب بينهم، ولكن كان أفراد القبيلة يتناصرون فيما بينهم. ويدافع كل فرد عن أخيه مهما نأى عن الحق وتشبث بالباطل، ومن أقوالهم: "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا "1.
وكما يقول عنهم أحد شعرائهم مفتخرًا بقومه وعصبيتهم القبلية: قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم ... طاروا إليه زرافات ووحدانا لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا وقد أدى ذلك إلى تفكك المجتمع العربي وعدم الترابط بين أجزائه وهو تفكك كان ينذر بالانحلال وسوء المآل.. على أن التفكك وعدم الترابط بين القبائل كان يزول في بعض الفترات إذا ما تعرض العرب للغزو والعدوان الأجنبي.. حينئذٍ يقوم شيوخ القبائل، وينسون ما بينهم من نزاع وأطماع، وتنمحي على الفور عصبيتهم القبلية وتنتقل إلى دائرة أوسع فتصبح عصبية عربية، تحقيقًا للمثل العربي القائل: أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب.. ويظلون هكذا متماسكين متعاونين حتى تنجاب الغمة ويزول الخطر الأجنبي. فيعودون إلى سيرتهم الأولى من التفرق والضعف والانحلال. ومن ذلك ما وقع في يوم "ذي قار" 1 في أواخر القرن السادس الميلادي حينما حاول كسرى ملك الفرس أن يستدرج النعمان بن المنذر إلى لقائه -بعد أن
نشبت الخصومة- ثم قبض عليه وحبسه حتى مات، فلقد أدى ذلك إلى ثورة عاصفة بين القبائل العربية في كل شبر من الوطن العربي ... وكان الوطن العربي حينئذٍ يشمل شبه الجزيرة العربية إلى مشارف العراق والشام - وكان معنى هذه الثورة العربية على ملك الفرس التضامن التام والوحدة الشاملة بين العرب، فتناسوا ما شجر بينهم من خلاف واجتمعوا تحت راية العروبة، والتقوا بكسرى في حرب عنيفة انتهت بتغلبهم عليه وهزيمة الفرس أمامهم، وكان هذا النصر ولا يزال أساسًا لفخرهم على توالي الأزمنة والعصور. ولما كانت المرأة شطر المجتمع والرجل شطره الآخر، فإن العلاقة بين الرجل والمرأة توضح لنا إلى حد كبير قيمة المجتمع ودرجة رقيه أو انحطاطه، ذلك بأن المرأة هي الأم وهي الأخت وهي البنت، وهي بذلك جزء لا ينفصل عن المجتمع، بل يتحرك أبدًا بحركته ويسكن بسكونه كما يزدهر بازدهاره ويذبل بذبوله. ولقد زعم بعض المؤرخين أن العرب كانوا يكرهون المرأة ويحتقرونها! واستدلوا على ذلك بعادة وأد البنات التي كان موجودة لديهم، والتي أشار الله -عز وجل- إليها في قوله: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} 1. وفي قوله: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} 2. والواقع أن هذه العادة لم تكن منتشرة بين العرب، ولكنها كانت موجودة في
بني تميم وبني أسد، وهما قبيلتان اثنتان من ثلاثمائة وستين قبيلة، ومعنى ذلك أن الأكثرية الساحقة من العرب لم تكن فيها هذه العادة القبيحة. والقرآن الكريم حينما يذكر هذه العادة فإنما يقصد هذا العدد القليل من القبائل وهو في نفس الوقت يحذر سائر القبائل الأخرى، حتى لا تتأثر بها وتجاريها في هذا الشر والفساد. على أننا نؤمن بأن وأد هذه القبائل للبنات لم ينشأ عن بغض أو احتقار وإنما نشأ عن غيرتهم الشديدة على المرأة وخوفهم أن تنزلق إلى الشر بعد البلوغ فيلحقهم العار والصغار، ومن أجل ذلك كانت تسود وجوههم حينما يبشرون بالأنثى وتحيط بهم الهموم والأحزان. وحينما نتصفح الأدب العربي الجاهلي نراه حافلًا بتقدير الرجل للمرأة وحبه لها، ذلك بأنه كان يتحدث عنها باهتمام في أشعاره وخطبه، ويخطابها دائمًا بما يدل على التعظيم والإجلال فيسميها: ربة البيت، وهي تسمية تنبئ عن تقدير وتكريم، ويقول في ذلك قائلهم: يا ربة البيت قومي غير صاغرة ... ضمي إليك رحال القوم والقربا وكان يخاطبها بالكنية فيقول لها: يا أم فلان، ولا يذكرها باسمها المجرد بل كان الولد يستشير ابنته إذا أراد أن يزوجها، فلا يرغمها على ما تكره وإنما ينفذ لها ما تحب وترغب. ومن ذلك ما وقع من أوس بن حارثة الطائي، فلقد جاءه الحارث بن عوف المري خاطبًا إحدى بناته. فاستشار الكبرى والوسطى، فرفضتا. فاستشار الصغرى فرضيت فزوجها.
وكان الرجل يرتبط مع المرأة بعقد زواج بعد رضائها ورضاء أوليائها، وبعد أن يتفقوا على مهر معين، وكانوا يعددون الزوجات ولم يكن هناك حد معروف لعددهن، وكانوا يطلقون، فإذا أراد الرجل أن يطلق زوجته يقول لها: الحقي بأهلك، أوما يماثل هذه الكلمة، وفي بعض الأحيان يكون للمرأة الحق في أن تطلق نفسها، وكان يعرف طلاق المرأة لنفسها، بأن تحول باب بيتها المصنوع من الشعر أو الوبر أو الجلد إلى جهة مقابلة لجهته الأصلية، ولكن الغالبية من العرب كانت تجعل حق الطلاق للرجل. على أنه كانت توجد بين العرب في تلك الحقبة من الزمان عادات سيئة وأنكحة فاسدة. ومنها نكاح البغايا، وهو نكاح يبيح للمرأة أن تتزوج بأكثر من واحد. وقد يصل عدد أزوجاها إلى عشرة ويكونون معروفين لديها ولدى بعضهم البعض، فإذا ولدت طفلًا من هذا النكاح وأرادوا معرفة أبيه كي ينسب إليه، جاء القائف وجمع الأزواج كلهم ونظر في أقدامهم، ثم قارنها بأقدام الطفل الوليد، فيعرف الوالد وينسب إليه ولده. ونكاح الاستبضاع، وهو أن يقول الرجل لامرأته -أحيانًا- اذهبي إلى فلان فاستبضعي منه، ويمتنع عن القرب منها حتى تحمل من هذا الأجنبي فيعود إلى الاتصال بها. وكانوا يفعلون ذلك رغبة في تحسين نسلهم. فيختار الرجل لزوجته شخصًا قويًا نابه الذكر حتى يكون الولد مشابهًا له 1.
ومن ذلك يتبين لنا أن رباط الزواج المقدس كان موجودًا لدى العرب في العصر الجاهلي. وأما ما كان يخالف ذلك من أنحكة فاسدة وعادات شاذة فلا يعتد به، كما يتبين لنا أن عادة وأد البنات لم تكن موجودة إلا في قبيلتين اثنتين من ثلاثمائة وستين قبيلة، وهي قلة نادرة ضئيلة، وكان أصحاب هذه العادات السيئة الشاذة لا يحترمون، بل يوصمون دائمًا بالعار والصغار. وحينما جاء الإسلام نظر إلى هذا الأساس الموجود لدى العرب، فأزال اللبنات الضعيفة منه وأبقى اللبنات القوية، ثم دعمها وأقام عليها بناءه الشامخ العظيم ...
اليهودية والمسيحية في بلاد العرب قبل الاسلام
اليهودية والمسيحية في بلاد العرب قبل الاسلام مدخل ... 3- اليهودية والمسيحية في بلاد العرب قبل الإسلام كانت الوثنية هي الديانة السائدة في بلاد العرب قبيل الإسلام -كما قدمنا- وكانت تعيش إلى جوارها بعض الديانات الأخرى كاليهودية والنصرانية والمجوسية ... إلى غير ذلك، ولكننا آثرنا أن نتحدث في هذا الفصل عن اليهودية والمسيحية دون غيرهما لأنهما الديانتان السماويتان السابقتان على الإسلام. ولولا ما نشب بينهما من خلاف، وما شابهما من فساد واضطراب، وما وقع فيهما من تزييف وتحريف طغى على الجوهر الأصيل ومسخ الحقيقة فصير للإله ولدًا، وجعل النبي إلهًا، والإله الواحد ثلاثة -لولا ذلك كله لاتحدت الديانتان في دين واحد لتلتقيا بعد ذلك بالإسلام الحنيف وتنضويا تحت لوائه. وأثرنا أن نتحدث عنهما لأنهما بحكم وجودهما قبل الإسلام في جزية العرب كان لا بد أن يقع بينهما وبين الوثنية عداوة وخصام وصراع وصدام. وقد وضح ذلك في موقف اليهود من قبيلتي الأوس والخزرج بدافع من العصبية الدينية، حيث كانوا يوقدون نيران الفتنة بين القبيلتين من حين إلى آخر، وفي موقف المسيحيين في اليمن من الوثنيين في مكة ومحاولة الأحباش "المسيحيين" هدم الكعبة وكانت حينئذٍ مقرًا لعبادة الأصنام والأوثان. وسوف يتبين لنا -الآن- كيف دخلت هاتان الديانتان إلى بلاد العرب. كما
سيتبين لنا مدى ما طرأ على هاتين الديانتين من تغيير وتبديل أفسدهما وقضى على جوهرهما الأصيل.
اليهودية في بلاد العرب
اليهودية في بلاد العرب: يرجع اليهود في نسبهم إلى إسرائيل وهو يعقوب -عليه السلام- ولذا يسمون بالإسرائيليين أو بني إسرائيل. ويسمون -كذلك- باليهود نسبة إلى يهوذا أحد أولاد يعقوب، أو لأنهم بعد أن أضلهم السامري عن الحق هادوا إلى الله أي رجعوا إليه وتابوا وطلبوا من الله أن يغفر لهم1. ويذكر المؤرخون عن أبناء يعقوب أنهم كانوا يترددون على مصر طلبًا للتجارة أحيانًا، وطلبًا للقوت أحيانًا أخرى، وحينما أجدبت بلادهم في فلسطين ولّوا وجوههم شطر مصر يلتمسون الغوث والعون، وكان أخوهم يوسف -عليه السلام- قد استقر به المقام في مصر بعد أن أنجاه الله من مكرهم وكيدهم، ومكن الله له فيها حتى أصبح أمينًا على خزائنها، وأخيرًا تعرفوا عليه وطلب إليهم أن يأتوه بأهلهم أجمعين. وحينئذٍ هاجر يعقوب مع أولاده إلى مصر وكان عددهم مع ذريتهم ستة وستين، وقد هيأ لهم يوسف المكان الطيب، وأجريت عليهم الأرزاق الوفيرة، وعاشوا بها عيشًا رغدًا إلى أمد معلوم، ثم كتب الله عليهم الجلاء عن مصر بعد أن اضطهدهم فرعون فخرجوا منها سنة 1220 ق. م. تحت قيادة سيدنا موسى -عليه السلام- وقطعوا شبه جزيرة سيناء إلى أرض كنعان. وقد أسسوا بها مملكة عظيمة. وكان من ملوكهم داود وسليمان، عليهما السلام2.
وقد انقسم اليهود على أنفسهم بعد وفاة سليمان -عليه السلام- وكانت لهم مملكتان في فلسطين إحداهما مملكة يهوذا بالجنوب وعاصمتها أورشليم. والأخرى مملكة إسرائيل بالشمال وكانت عاصمتها السامرة وهي التي قامت على أنقاضها نابلس، وفي حوالي سنة 70م -وكان الرومان هم أصحاب النفوذ والسلطان- اضطهد الرومان اليهود واشتد بهم التعذيب فاضطروا إلى الهجرة وهاموا على وجوههم في صحراء بلاد العرب حتى استقروا في أماكن متفرقة من بلاد الحجاز. وقد ذهب إلى هذا الرأي ورجحه مؤرخ عراقي معاصر. وذلك حيث يقول1: إن ما ورد في روايات أهل الأخبار من هجرة بعض اليهود إلى أطراف يثرب وأعالي الحجاز على أثر ظهور الروم على بلاد الشام وفتكهم بالعبرانيين وتنكيلهم بهم. يستند إلى أساس تاريخي صحيح، فالذي نعرفه أن فتح الرومان لفلسطين أدى إلى هجرة عدد كبير من اليهود إلى الخارج، فمن المعقول أن يكون يهود الحجاز من نسل أولئك المهاجرين ومنهم بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة. وأما عن مساكن اليهود فبعضها كان بداخل المدينة، وبعضها كان قريبًا منها، وبعضها كان بعيدًا عنها. فبنو قينقاع كانوا يسكنون داخل المدينة في محلة خاصة بهم، وبنو النضير كانت مساكنهم بالعالية بوادي بطحان على بعد ثلاثة أميال من المدينة، وكان مكانًا عامرًا بالزروع والنخيل. وبنو قريظة كانوا يسكنون بمنطقة مهزور وهي تقع على بعد قليل من جنوب المدينة.
ومن بين اليهود الذين كانوا يسكنون المدينة وضواحيها بطون صغيرة كبني عكرمة وبني ثعلبة وبني محمر وبني زعورا وبني عوف وبني بهدل وبني القصيص وغيرهم. وكانت هذه البطون الصغيرة تابعة في سياستها لبني قينقاع وبني النضير وبني قريظة1. وأما يهود خيبر فكانوا يسكنون في واحة كبيرة في الشمال الشرقي للمدينة وبينها وبين المدينة ستة وتسعون ميلًا. وكانت ذات حصون قوية، وبها مزارع وبساتين ونخيل كثيرة. وكان اليهود يشتغلون بالتجارة وقد برعوا فيها حتى كانت تجارة الشعير والقمح والتمر والخمر تكاد تكون وقفًا عليهم، وكذا صناعة الصياغة وصناعة الدروع وآلات الحرب والقتال، وكانت معظم معاملاتهم مع غيرهم تقوم على المراهنات وتعاطي الربا، مما جعلهم يتحكمون في الأسواق ويحتكرونها لمصلحتهم ومنفعتهم2. وكان يقيم على مقربة منهم قبيلتان من العرب الذي هاجروا من بلاد اليمن على أثر انهدام سد مأرب وهما قبيلتا الأوس والخزرج. وكان النزاع دائمًا بين العرب واليهود لأن اليهود يحاولون الاستيلاء على الأرض المجاورة للمدينة والاستئثار بزراعتها، ولكن الأوس والخزرج يحولون بينهم وبين هذا الغرض مما أثار حقد اليهود ومؤامراتهم على هاتين القبيلتين ولكن كانت الغلبة دائمًا للعرب على الرغم مما عرض لهم من تفرق الكلمة وتشقق الوحدة.
ولم تكن المحاولات اليهودية مقصورة على الحجاز بل كان بالجنوب دعاية يهودية قوية نشأ عنها اعتناق كثير من القبائل لليهودية منهم بنو كنانة وكندة وبنو الحارث بن كعب. وقد شاعت اليهودية في حمير وكان من أكبر المتحمسين لنشرها ذو نواس الحميري الذي اضطهد المسيحيين في نجران، مما أدى إلى الصدام بين اليهودية والمسيحية ومما ساعد في النهاية على تدخل الأحباش -المسيحيين- واستيلائهم على بلاد اليمن. واليهودية في حقيقتها الأولى دين سماوي مستمد من التوراة التي نزلت على نبي الله موسى بن عمران وفيها موعظة وتفصيل لكل شيء. وبها من الآداب الاجتماعية والمثل الأخلاقية ما يطهر النفوس ويحيي القلوب، وتسعد في ظلاله الأمم والشعوب. وفي ذلك يقول الله لنبيه موسى -عليه السلام- بعد رسالته: {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} 1. واليهودية -كما نزلت على موسى- ديانة توحيد. تتصف فيها الذات الإلهية بصفات الوحدانية الكمال والتجرد من النقص ومخالفة الحوادث في كل شيء. أو بعبارة أخرى هي والإسلام سواء، ولكن في عصر تدوينهم للتوراة بعد فقدها طرأت على فكرة الألوهية انتكاسة كبيرة، فتصوروا الله تعالى في صورة مجسمة ووصفوه بكثير من صفات النقص والضعف والغفلة والجهل. فيقولون: إن الرب حزن لأنه خلق الإنسان في الأرض وتأسف في قلبه، وإنه نزل لينظر المدينة
والبرج، وإنه نزل ذات ليلة وتصارع مع يعقوب فلم يقدر عليه1. ثم اعتقد بنو إسرائيل بعد ذلك بتعدد الآلهة فكانوا يرون أن إلههم خاص بشعب بني إسرائيل ويختلف عن آلهة الشعوب الأخرى، وأنهم هم أولاده وأحباؤه2. بل اعتقدت بعض فرقهم بوجود ابن لله كما اتخذت بعض الفرق الأخرى أحبارها أربابًا من دون الله، وتنكر بعض فرق اليهود للبعث ويعتقدون أن عقاب العصاة وثواب المتقين يقع في حياتهم، وتذهب بعض فرقهم -كذلك- إلى أن الصالحين من الأموات هم الذين سيبعثون إلى الدنيا مرة ثانية ليشتركوا مع المسيح الذي سيبعث في آخر الزمان لينقذ الناس من الضلال ويدخلون جميعًا في ديانة موسى3. ولم يكتف اليهود بما ورد في تلكم التوراة التي وضعوها بأيديهم كما يشاءون، بل أخذوا يفسرونها -وهي الزائفة المحرفة- حسب أهوائهم وشهواتهم وتوسعوا في شرحها وحولوها إلى تعاليم محددة. وقد أخذوا هذه التفسيرات من مصدرين أساسيين هما: تلمود أورشليم وكان موجودًا في فلسطين سنة 230م. والثاني: تلمود بابل وكان موجودًا في بابل سنة 50 م. وقد زيد عليهما بعد ذلك، وتتوالى الزيادة بتوالي الأزمنة والعصور، وهم يقدسون التلمود ويعتبرونه أهم من التوراة، ويقولون فيه: إن من احتقر أقوال الحاخامات استحق الموت وإنه لا خلاص لمن ترك تعاليم التلمود وتمسك
بالتوراة وحدها لأن أقوال علماء التلمود كما يزعمون أفضل مما جاءت به شريعة موسى. ومما يدعو إلى العجب والغرابة ويدل على السفه والغواية والحمق والاضطراب أنهم ينسبون إلى الأنبياء والمرسلين أعمالًا قبيحة تتنافى مع وضعهم الديني، فينسبون إلى موسى -عليه السلام- أنه أوصى قومه ليلة خروجهم من مصر أن يسرقوا من المصريين حليهم وأمتعتهم ففعلوا1. وينسبون إلى هارون أخي موسى أنه صنع عجلًا وعبده مع بني إسرائيل2. وينسبون إلى إبراهيم -عليه السلام- أنه قدم امرأته سارة إلى فرعون حتى ينال الخير بسببها3. وواضح أن تلك الأكاذيب يراد بها أن تتوجه الأنظار إلى أحبار اليهود وأن يكون الإيمان بهم أقوى من الإيمان بالرسل والأنبياء. وهي نزعة مادية خبيثة تكمن وراءها أغراض خسيسة. وهذه الأغراض يكشف عنها التلمود وما جاء فيه من القبائح والرذائل، وما يهدف إليه من سيادة اليهود على العالم كله؛ لأن أرواحهم تتميز عن باقي الأرواح بأنها جزء من الله4، ولأنهم أساس الخير والبركة على وجه الأرض وأن الفرق بينهم وبين غيرهم من الأمم هو كالفرق بين الإنسان والحيوان، إلى غير ذلك من المبادئ الهدامة التي تدل على ما يحمله هؤلاء الناس من عداوة وحقد ضار على البشرية جمعاء وعلى سائر الأمم في هذا الوجود.
المسيحية في بلاد العرب
المسيحية في بلاد العرب ولد السيد المسيح -عليه السلام- في بيت لحم على مقربة من بيت المقدس. وقد فزع قومه لولادته من مريم وهي البتول الطاهرة النقية ولم تزف إلى زوج حتى ينسب ولدها إليه. وقالوا: {يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً، يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} 1، ولكن الله أنطقه وهو في المهد ليبرئ أمه من هذا الاتهام الكاذب فقال: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً، قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً، وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً، وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً، وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} 2. ولما خشيت الأم على نفسها وعلى ولدها من أشرار قومها، أخذته وذهبت به إلى مصر مع ابن عمها يوسف النجار فأقاموا بها اثنتي عشرة سنة ثم عادوا إلى الشام3. وقد تلقى الوحي على جبل الزيتون هناك وكان عمره -حينئذ- ثلاثين سنة، وظل يدعو الناس إلى توحيد وحسن المعاملة، والرفق بالضعفاء وتجنب زخارف الدنيا، وإلى العمل للآخرة رجاء ثواب الله. إلى أن بلغ ثلاثًا وثلاثين سنة وثلاثة شهور فرفعه الله إليه4، ولا ريب أن رفعه رفع مكانة ومنزلة، وفريق آخر يقولون إنه رفع بروحه وجسده5.
والجميع 1 متفقون على أنه لم يقتل ولم يصلب كما يزعم اليهود، وكما يزعم النصارى بعد أن حرفوا الإنجيل وزيفوه. والقرآن الكريم صريح في ذلك حيث يقول سبحانه عن اليهود: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً، بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} 2. ومن أجل تحريفهم للإنجيل تعددت الأناجيل لديهم والمشهور منها خمسة: إنجيل برنابا وهو إنجيل لا تعترف به الكنيسة حاليًا لأنه أقرب إلى الحق وتكاد تعاليمه تتفق مع تعاليم الإسلام. والأربعة الأخرى هي: إنجيل متى، وإنجيل مرقص، وإنجيل لوقا، وإنجيل يوحنا. وهي الأناجيل المعتمدة لدى الكنيسة 3. ويمتاز إنجيل برنابا بالدقة والحكمة وسمو العبارة. وقد خالف هذا الإنجيل سائر الأناجيل الأخرى التي يدين بها المسيحيون في أربعة أمور: أولها: أنه لم يعتبر المسيح ابن الله ولم يعتبره إلهًا وإنما اعتبره نبيًّا. وثانيها: أنه يعتبر الذبيح هو إسماعيل وليس إسحاق، وهو يخالف بذلك التوراة وسائر الأناجيل ويوافق القرآن الكريم.
وثالثها: أنه ذكر محمدًا باللفظ الصريح المتكرر وقال إنه رسول الله. ورابعها: أنه بين أن المسيح -عليه السلام- لم يصلب ولكن شبه لهم. فألقى الله شبهه على يهوذا الإسخريوطي. وفي ذلك يقول برنابا: إن صوت يهوذا ووجهه وشخصه بلغت من الشبه بيسوع أن اعتقد تلاميذه والمؤمنون به كافة أنه يسوع المسيح. وهكذا يخالف إنجيل برنابا بقية الأناجيل في هذه الأمور الجوهرية وفي خصائص المسيحية التي عرفت بها. ذلك بأن المسيحية قد عرفت بالتثليث بنبوة المسيح وألوهيته. وكان هذا شعارها الذي به تعرف وعلامتها التي بها تتميز. ومن أجل ذلك أحدث ظهور هذا الإنجيل رجة فكرية عنيفة، ورفضته الكنيسة رفضًا نهائيًا. ولم يعد من الأناجيل المعتمدة لدى الكنيسة المسيحية1. وقد اختلف المؤرخون في مبدأ دخول المسيحية في بلاد العرب، ولكن المرجح أنها دخلت ببطء شديد وأنها دخلت عن طريق الاتصالات التجارية بين بلاد العرب والبلاد المجاورة لهم، وأن ذلك بدأ منذ أوائل القرن الرابع الميلادي وأنها انتشرت في بلاد العرب بعد انتهاء هذا القرن. وكانت الحيرة أهم مراكز المسيحية في بلاد العرب. وكان أهم سكانها هم الطائفة المعروفة بالعبادة. ثم دخلت النصرانية إلى بلاد اليمن على أيدي الأحباش الذين استعمروها وحاولوا أن ينشروا المسيحية فيها فبنوا بها كنيسة كبرى في صنعاء، وأرادوا أن يجعلوها مركزًا للديانة المسيحية، وحاولوا هدم الكعبة في عام الفيل، ولكن محاولتهم باءت بالفشل الذريع، كما أشرنا إلى ذلك لدى كلامنا عن البيت العتيق.
ولقد كان يوجد في الجزيرة العربية إلى جوار الوثنية واليهودية والمسيحية جماعات قليلة من المجوس وهم عبدة النار، والصابئون وهم عبدة الكواكب. ولقد ظلت هذه الديانات موجودة إلى أن جاء الإسلام وفيه الحجج الواضحة على تلك الديانات الباطنة والعقائد الفاسدة التي يصطدم بعضها ببعض، والتي تصطدم جميعًا بهذا الدين الحنيف، فأحق الله به الحق وأبطل الباطل: {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} ...
الفصل الثاني: من ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بدء الدعوة الاسلامية
الفصل الثاني: من ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بدء الدعوة الاسلامية مبحث من ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم مدخل ... الفصل الثاني: من ميلاد الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى بدء الدعوة الإسلامية يختلف المؤرخون حول اليوم الذي ولد فيه محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-، بل وحول العام الذي ولد فيه كذلك، ولعل السر في هذا الخلاف أنه حينما ولد لم يكن أحد يتوقع له مثل هذا الخطر، ومن أجل ذلك لم تتسلط عليه الأضواء منذ فجر حياته. فلما أذن الله أن يبلغ الرسول -صلى الله عليه وسلم- دعوته بعد أربعين سنة من ميلاده، أخذ الناس يسترجعون الذكريات التي علقت بأذهانهم حول هذا النبي، ويتساءلون عن كل شاردة وواردة من تاريخه، وساعدهم على ذلك ما كان يرويه الرسول -صلى الله عليه وسلم- نفسه عن الأحداث التي مرت به أو مر هو بها منذ نشأته الأولى وكذلك ما كان يرويه أصحابه والمتصلون به عن هذه الأحداث. وبدأ المسلمون -حينئذٍ- يستوعبون كل ما يسمعون من تاريخ نبيهم -صلى الله عليه وسلم- لينقلوه إلى الناس على توالي العصور، ولكن مهما اختلفت الروايات في وقت ميلاده، فيكاد يجمع المؤرخون على أن الميلاد كان في النصف الأول من شهر
ربيع الأول وفي عام الفيل، ويرجع أن ذلك كان في صبيحة الاثنين1 الموافق 9 من ربيع الأول قبل الهجرة النبوية بثلاثة وخمسين عامًا، وهو يوافق اليوم المكمل للعشرين من شهر أغسطس سنة 570 بعد ميلاد المسيح عليه السلام. ويذكرون عن نسب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه: محمد بن عبد الله2 بن عبد المطلب3 بن هاشم4 بن عبد مناف5 بن قصي6، ...
ابن كلاب1 بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر2 بن مالك بن النضر3 بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن نزار بن مضر بن معد بن عدنان.. ويمتد نسبه بعد ذلك إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام 4. وأما نسبه من جهة أمه، فأمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة.. ومعنى ذلك أن نسبه من جهة أبيه ومن جهة أمه يلتقيان في كلاب بن مرة، وهو الجد الخامس من جهة أبيه والرابع من جهة أمه. وقد تناسل محمد بن عبد الله -صلوات الله وسلامه عليه- من نكاح مشروع ولم يكن في أجداده من تلوث بسفاح الجاهلية5. بل طهر الله أصوله تطهيرًا، ثم
.........................................................................
اصطفاه بعد ذلك من هذه الأصول الطاهرة ليكون هدى ونورا ورحمة للعالمين، وفي ذلك يروي الإمام مسلم1 عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشًا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم". وكان عبد الله بن عبد المطلب قد تزوج من آمنة بنت وهب، وهي يومئذٍ من أفضل نساء قريش نسبًا، وأكرمهن ذكرًا، ولكن لم يمكث عبد الله مع زوجته إلا وقتًا قصيرًا ثم خرج في رحلة تجارية إلى الشام. وقد شاء الله أن ترجع القافلة التجارية من الشام ويتخلف عبد الله بالمدينة عند أخواله من بني عدي بن النجار لشدة مرضه حيث أدركته الوفاة، وزوجته آمنة في شهور الحمل الأولى وكان عمره ثمانية عشر عامًا2
ولما تم حمل آمنة ووضعت ولدها جاء البشير إلى جده عبد المطلب فأخبره بهذا النبأ العظيم ففرح عبد المطلب بهذه البشرى وأقبل مسرورًا وحمل الوليد الصغير بين يديه، وذهب به إلى الكعبة ليباركه. وتذكر الروايات أنه حينئذٍ أخذ يقول: الحمد لله الذي أعطاني ... هذا الغلام الطيب الأردان قد ساد في المهد على الغلمان ... أعيذه بالبيت ذي الأركان أعيذه من شر ذي الغلمان ... من حاسد مضطرب العيان1 ثم سماه محمدًا، ولم يكن هذا الاسم شائعًا عند العرب قبل ذلك2 ولكن
الله ألهم جده بهذه التسمية، وقال: سميته محمدًا ليكون محمودًا عند الله وعند الناس. ويروون في ذلك: أن عبد المطلب قد رأى في نومه كأن سلسلة من فضة خرجت من ظهره لها طرف في السماء وطرف في الأرض، وطرف في الشرق وطرف في الغرب، ثم عادت كأنها شجرة على كل ورقة منها نور وإذا أهل المشرق والمغرب كأنهم يتعلقون بها، فقصها، فعبِّرت له بمولود يكون من صلبه يتبعه أهل المشرق والمغرب، ويحمده أهل السماء والأرض، فلذلك سماه محمدًا1. وقد ذكرت بعض كتب السيرة أن إرهاصات بالبعثة وقعت عند الميلاد فسقطت أربع عشرة شرفة من إيوان كسرى، وخمدت النار التي يعبدها المجوس، وغاضت بحيرة ساوه، وانهدمت الكنائس التي حولها2، وعبر عن
ذلك البوصيري في قصيدته المشهورة، فقال: أبان مولده عن طيب عنصره ... يا طيب مبتدإ منه ومختتم يوم تفرس فيه الفرس أنهم ... قد أنذروا بحلول البؤس والنقم وبات إيوان كسرى وهو منصدع ... كشمل أصحاب كسرى غير ملتئم والنار خامدة الأنفاس من أسف ... عليه والنهر ساهي العين من سدم وساء "ساوه" أن غاضت بحيرتها ... ورد واردها بالغيظ حين ظمي ويقول الشيخ محمد الغزالي في كتابه فقه السيرة: إن هذا الكلام تعبير غلط عن فكرة صحيحة، فإن ميلاد محمد -صلى الله عليه وسلم- كان حقًّا إيذانًا بزوال الظلم واندثار عهده واندكاك معالمه. وقد كانت رسالة محمد بن عبد الله أخطر ثورة عرفها العالم للتحرر العقلي والمادي1، وكان جند القرآن أعدل رجال وعاهم التاريخ وأحصى فعالهم في تدويخ المستبدين وكسر شوكتهم طاغية إثر طاغية، فلما أحب الناس -بعد انطلاقهم من قيود العسف- تصوير هذه الحقيقة، تخيلوا هذه الإرهاصات وأحدثوا لها الروايات الواهية2، ومحمد -صلى الله عليه وسلم- غني عن هذا كله، فإن نصيبه
الضخم من الواقع المشرف يزهدنا في هذه الروايات وأشباهها. ونحن نزيد على ما قاله الشيخ الغزالي فنقول: إن معظم الكتب الأصلية في التاريخ والسيرة وكتب السنة الصحيحة لم تذكر هذه الإرهاصات فيما ذكرت من سائر الإرهاصات والمعجزات1 التي رويت عن الرسول -صلى الله عليه وسلم. ومثل هذه الحوادث الخطيرة لا يمكن إغفالها إذا وقعت. ولو أن أعداء الإسلام رأوها لما أنكروها. بل كانوا يسجلونها في كتبهم التي أرخوا فيها لتلك الفترة ويقولون عنها: إنها ترجع إلى أسباب كونية وعوامل طبيعية، ويحاولون أن يلتمسوا لها أي تعليل يخرج بها عن إثبات الفضل لمحمد -صلى الله عليه وسلم- ولدينه، ولكن شيئًا من ذلك لم يكن2، وبهذا يصبح واضحًا أن مثل هذه الروايات لا تحمل من أسباب القوة3 ما يجعلنا نطمئن إليها ونرجح وقوعها.
رضاعه
رضاعه: وكان من عادة العرب أن يرضعوا أبناءهم خارج مكة، ويلتمسوا المراضع لهم في البادية حيث الجو الصافي المنطلق، حتى ينشأ الطفل صافي الذهن صحيح الجسم، فجاءت المرضعات يلتمسن الرضعاء في مكة فكان محمد بن عبد الله من نصيب حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية، واسم زوجها أبو كبشة، وقد كان لرضاع محمد أثر محمود في حياتهم فاتسعت أرزاقهم بفضل الله ورحمته، وكان وجوده لديهم خيرًا وبركة1.
قصة حليمة السعدية
قصة حليمة السعدية: قالت حليمة: خرجت في نسوة من بني سعد بن بكر، نلتمس الرضعاء بمكة على أتان لي
قمراء1، وفي سنة شهباء2، لم تبق شيئًا، ومعه زوجي، ومعنا شارف لنا3، والله ما ينبض4 علينا بقطرة من لبن. ومعي صبي لي لا ننام ليلتنا من بكائه، ما في ثديي ما يغنيه. فلما قدمنا مكة، لم تبق منا امرأة إلا عرض عليها رسول -صلى الله عليه وسلم- فتأباه، وإنما كنا نرجوا كرامة الرضاعة من والد الولد -وكان يتيمًا- ونقول: يتيم ما عسى أن تصنع أمه به، حتى لم يبق من صواحبي امرأة إلا أخذت صبيًّا، غيري، فكرهت أن أرجع ولم أجد شيئًا وقد أخذ صواحبي. فقلت لزوجي: والله لأرجعن إلى ذلك التيم، فلآخذنه، فأخذته ورجعت إلى رحلي. فوالله ما هو إلا أن جعلته في حجري حتى أقبل عليه ثديي بما شاء من اللبن فشرب حتى روي، وشرب أخوه -يعني ابنها- حتى روي، وقام زوجي إلى شارفنا من الليل، فإذا بها حافل، فحلبها من اللبن ما شئنا، وشرب حتى روي وشربت حتى رويت، وبتنا ليلتنا شباعًا رواء وقد نام صبياننا، فقال زوجي: والله يا حليمة ما أراك إلا أصبت نسمة مباركة. قالت: ثم خرجنا، فوالله لخرجت أتاني5 أمام الركب، حتى إنهم ليقولون: ويحك كفّي عنا أليست هذه بأتانك التي خرجت عليها.
وكان صلى الله عليه وسلم، يشب في اليوم شباب الصبي في شهر، ويشب في الشهر شباب الصبي في سنة. فبلغ سنة1، وهو غلام جفر2. فقدمنا على أمه فقلت لها وقال لها أبوه: ردي علينا ابني فلنرجع به، فإنا نخشى عليه وباء مكة. ونحن أضن شيء به مما رأينا من بركته. قالت: فلم نزل بها حتى قالت: ارجعا به، فرجعنا به. فمكث عندنا شهرين، فبينا يلعب هو وأخوه يومًا خلف البيوت يرعيان بهمًا لنا، إذا جاءنا أخوه يشتد، فقال لي ولأبيه: أدركا أخي القرشي، قد جاء رجلان، فأضجعاه، وشقا بطنه. فخرجنا نشتد، فانتهينا إليه، وهو قائم منتقع لونه، فاعتنقه أبوه واعتنقته ثم قلنا: ما لك أي بني. قال: أتاني رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاني ثم شقا بطني، فوالله ما أدري ما صنعا. قالت: فاحتملناه ورجعناه به. قال أبوه: يا حليمة ما أرى هذا الغلام إلا قد أصيب، فانطلقي فلنرده إلى أهله قبل أن يظهر ما به ما نتخوف. قالت: فرجعنا به. فقالت أمه: ما يردكما به، فقد كنتما حريصين عليه.
فأخبراها القصة. فطمأنتهما آمنة قائلة: إن لابني هذا لشأنًا، فلم أكن أحس أثناء حلمه بشيء مما تجد الحوامل، وقد رأيت وأنا أحمله كأن نورًا خرج مني فأضاء لي قصور الشام1. ثم طلبت إليها أن تعود به إلى البادية مرة ثانية. فعادت به حليمة، وظل معها حتى قارب الخامسة من عمره2. وتروي كتب السنة والسيرة وقوع هذه الحادثة للرسول -صلى الله عليه وسلم- ليلة الإسراء والمعراج. فلقد روى الإمام أحمد والإمام مسلم3 عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "فرج
سقف بيتي وأنا بمكة فنزل جبريل ففرج صدري، ثم غسله من ماء زمزم ثم جاء بطست من ذهب مملوء حكمة وإيمانًا، فأفرغه في صدري ثم أطبقه". ويختلف رأي العلماء في معنى شق الصدر، فيذهب البعض منهم إلى أنه شق حقيقي وأنه معجزة وقعت مرتين: مرة قبل البعثة، ومرة بعدها، فأما قبل البعثة فلكي تكون إرهاصًا للنبوة، وبشيرًا بما ينتظر لمحمد -صلى الله عليه وسلم- من مركز كبير ومقام كريم، وأما بعد البعثة فلكي تكون معجزة تضاف إلى المعجزات الأخرى التي كرم الله بها نبيه -صلى الله عليه وسلم- والتي تؤيد صدقه في دعواه1. ويذهب البعض الآخر إلى أن حادث شق الصدر لم يقع حقيقة وإنما يقصد منه ما يفهم من قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} 2 فهي بذلك تكون إشارة إلى
تطهير الرسول -صلى الله عليه وسلم- من الشوائب التي توجد في نفوس الناس، والسمو به إلى درجة عالية من الطهارات النفسية والخلقية. وممن يرون هذا الرأي -من علماء هذا العصر- الشيخ محمد الغزالي1 في كتابه فقه السيرة فلقد جاء فيه: إن بشرًا ممتازًا كمحمد -صلى الله عليه وسلم- لا تدعه العناية غرضًا للوساوس الصغيرة التي تناوش غيره من سائر الناس. فإذا كانت للشر موجات تملأ الآفاق. وكانت هناك قلوب تسرع إلى التقاطها والتأثر بها، فقلوب النبيين -بتولي الله لها- لا تستقبل هذه التيارات الخبيثة ولا تهتز لها، وبذلك يكون جهد المرسلين في متابعة الترقي لا في مقاومة التدلي، وفي تطهير العامة من المنكر لا في التطهر منه، فقد عافاهم الله من لوثاته ... عن عبد الله بن مسعود قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة، قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: وإياي، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير" 2. ثم يقول: ولعل أحاديث شق الصدر تشير إلى هذه الحصانات التي أضفاها الله على محمد -صلى الله عليه وسلم- فجعلته من طفولته بنجوة قصية عن مزالق الطبع الإنساني ومفاتن الحياة الأرضية، وقد أورد الخازن في تفسيره القصة الأولى -أيام الرضاعة- عند تفسيره لقول الله عز وجل:
{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ، وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ، الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ} 1. وشرح الصدر الذي عنته الآيات ليس نتيجة جراحة يجريها ملك أو طبيب! ويحسن أن نعرف شئيًا عن أساليب الحقيقة والمجاز التي تقع في السُّنة. عن عائشة: "أن بعض أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- قلن: يا رسول الله أينا أسرع بك لحوقًا؟ قال: "أطولكن يدًّا، فأخذن قصبة يذرعنها فكانت سودة أطولهن يدًّا"، فعلمنا بعد أنما كان طول يدها: الصدقة، وكانت تحب الصدقة، وكانت أسرعنا لحوقًا به"2.
ونحن نقول: إن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- لم تدعه العناية غرضًا للوساوس الصغيرة التي تناوش غيره من سائر الناس، وإنه لو لم يقم الملكان بشق صدره لما كان أبدًا غرضًا للوساوس، بل لكان مثله كمثل جميع الرسل الذين اصطفاهم الله من عباده وطهر قلوبهم من الوساوس دون أن تشق صدورهم. وإنما أراد الله بهذه الحادثة الفريدة في نوعها أن تتوجه الأنظار والقلوب إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- في طفولته وبعد بعثته. ويعرف الناس عنه أن عناية خاصة تحيط به وتميزه عن غيره، وأن العناية التي أحيت الموتى وأبرأت الأكمه والأبرص على يدي المسيح -عليه السلام- هي العناية التي شقت صدر محمد -صلى الله عليه وسلم- ثم أرجعته في لحظات إلى حالته الطبيعية. وهذا شأن المعجزات التي لا تخضع ولا ترتبط بالأسباب العادية. ولا ينبغي بأي حال أن تحمل القصة على أنها من الأساليب المجازية، لأن سياق القصة والتعبير بلفظ: "جاءني رجلان عليهما ثياب بيض"، وكلمة "فأضجعاني وشقا بطني"، وفرار أخيه من الرضاعة فزعًا مما رأى، ومجيء السيدة حليمة هي وزوجها بعد أن أخبرهما ولدهما بما أصاب أخاه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- ومقابلتهما لمحمد -صلى الله عليه وسلم- وهو منتقع لونه، وحكايته للقصة مرة ثانية بنفس هذه
الألفاظ- كل ذلك يجعل الحقيقة في هذه القصة واضحة لذي عينين، ويبعد بها عن الأسلوب المجازي بعد المشرقين. وإذا كان بعض المستشرقين ينكر هذه الحادثة لأنها تعتمد على رواية طفلين لا يصح الأخذ بقولهما، فإننا نرى أن رواية الأطفال كثيرًا ما تكون بعيدة عن الكذب والاختلاق أكثر من رواية الرجال. ومع ذلك فقد تحدث الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن هذه الحادثة بعد البعثة حينما كان يسترجع ذكريات الطفولة ويقصها على أصحابه، وأخبر عن المرة الثانية التي وقعت له في ليلة الإسراء والمعراج1. وإذن فالرأي الذي نرتضيه هو أن حادث شق الصدر قد وقع بطريقة حسية، وأنه من الإرهاصات التي تبشر بنبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- وتسلط الأضواء عليه قبل النبوة، إذ ليس هناك ما يمنع من ذلك ما دمنا نؤمن بالعناية الإلهية التي تصاحب الأنبياء منذ فجر حياتهم. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
عهد الطفولة والشباب
عهد الطفولة والشباب: وهو العهد الذي يبدأ منذ رجع محمد -صلى الله عليه وسلم- من بادية بني سعد، وهو في الخامسة من عمره إلى أن بلغ أشده، وبلغ أربعين سنة ونزل عليه الوحي ليكون رسولًا نبيًّا، وقد مرت بمحمد -صلى الله عليه وسلم- في هذه الحقيقة أحداث كثيرة تركت في نفسه أعظم الآثار، فكان يذكرها بعد النبوة ويتحدث عنها حديث الحب والشوق أو حديث الألم والحزن أو حديث الإعجاب والتقدير، فمن ذلك سفره مع أمه إلى
يثرب، وهو في السادسة من عمره لزيارة أخوال جده من بني عدي بن النجار1. وفي هذه الرحلة رأى محمد -صلى الله عليه وسلم- قبر والده عبد الله في يثرب، فانطبعت في نفسه معانٍ عميقة ظل يشعرها طول حياته، ثم رأى والدته وهو عائد من يثرب إلى مكة يتخطفها الموت وتغيب عن عينيه في أعماق الثرى، ولا يرى معه في هذا الظرف العصيب إلا جاريته أم أيمن تضرب في البيداء المترامية، وبين الظلمات المتكاثفة من الخوف والحزن الذي ألم به بعد فراق أمّه الرءوم حتى تعود به إلى جده عبد المطلب فيتسلمه. ومنذ أن عاد محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى جده العظيم عبد المطلب بدأت تزول مخاوفه وأحزانه، لأنه رأى من عطفه وحنانه ما أنساه ألم اليتم وعوضه عن فقد والديه. ويذكر الرواة من مظاهر هذا العطف والحنان أن عبد المطلب كان له فراش في ظل الكعبة، وكان بنوه يجلسون حول فراشه ولا يجرؤ أحد أن يجلس عليه إجلالًا له واحترامًا، وكان محمد -صلى الله عليه وسلم- يأتي وهو غلام حتى يجلس عليه فيأخذه أعمامه ليؤخروه عن فراش جده، فيقول عبد المطلب حين يرى ذلك منهم: دعوا ابني، فوالله إن له لشأنًا. ويجلسه معه على الفراش، ويمسح ظهره بيده، ويسره ما كان يصنع2.
ولكن القدر لم يمهل عبد المطلب بعد وفاة آمنة سوى عامين ثم أدركته المنية ومحمد -صلى الله عليه وسلم- لا يزال في الثامنة من عمره 1، وقد فزع محمد لفراق جده، وامتلأت نفسه بالحزن العميق حتى لقد لفت هذا الحزن أنظار الناس وهم يشيعون عبد المطلب إلى مقره الأخير حيث كانوا يرون محمدًا -وهو الطفل الصغير- يمشي في جنازة جده مطرق الرأس موزع الفكر دائم البكاء 2. ومن ذلك سفره إلى الشام مع عمه أبي طالب الذي كفله بعد وفاة جده، وكان خير المثال للعمومة الكريمة والأبوة الرحيمة. وفي هذا الطريق التقى محمد -صلى الله عليه وسلم- براهب نصراني يقال له: بحيرا، وكان محمد -صلى الله عليه وسلم- حينئذٍ في الثانية عشرة من عمره، وكان ذلك بالقرب من بصرى وهي قرية في الحدود بين الشام وبلاد العرب. ويقال إن هذا الراهب أخذ يسأل محمد -صلى الله عليه وسلم- عن كثير من أحواله، وإن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- أخبره عن كل ما سأل عنه. فوجد هذا الراهب أن هذه الأوصاف هي أوصاف النبي الذي بشرت به التوراة والإنجيل. وحينئذٍ قال لعمه أبي طالب: ما هذا الغلام منك؟ قال: إنه ابني. فقال له بحيرا: ما هو بابنك، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيًّا. قال: فإنه ابن أخي. قال: فما فعل أبوه؟ قال: مات وأمه حبلى به. قال: صدقت.
وقد نصح هذا الراهب أبا طالب بألا يوغل بمحمد -صلى الله عليه وسلم- في بلاد الشام خوفًا عليه من أذى اليهود وشرهم إذا رأوا فيه تلك الأمارات التي تدل على أنه النبي المنتظر1.
ولا شك أن هذه الرحلة كان لها أثر كبير في حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فلقد وسعت أفقه وزادت من تجاربه، وفتحت بين يديه أبوابًا من الأمل الواسع في مستقبل عظيم ومجد كبير. ومن ذلك شهوده حرب الفجار وحلف الفضول. أما حرب الفجار فقد شهدها محمد -صلى الله عليه وسلم- مع أعمامه وكان عمره خمسة عشر عامًا1، فكان يناول أعمامه السهام أحيانًا ويقاتل معهم أحيانًا أخرى.. وكانت هذه الحرب بين كنانة وقيس. وقد انضمت قريش إلى كنانة دفاعًا عن قداسة الأشهر الحرم ومكانة أرض الحرم، واستمرت هذه الحرب أربعة أعوام، ثم انتهت بالصلح بين الفريقين2. وأما حلف الفضول، فهو ميثاق كريم يدعو إلى الدفاع عن الحقوق وحماية المستضعفين. وقد عقدته قريش بعد رجوعها من حرب الفجار في دار عبد الله ابن جدعان بمكة، وتعاهدت فيه أن تحمي الضعفاء والمظلومين حتى يأمن كل إنسان على ماله وعياله، وقد رفع هذا الحلف مكانة قريش بين قبائل العرب،
وكان محمد -صلى الله عليه وسلم- وقت حضوره هذا الحلف في العشرين من عمره1. وقد ترك هذا الحلف العظيم في نفس محمد -صلى الله عليه وسلم- أعمق الآثار، لأنه حلف إنساني يدعو إلى الخير ومكارم الأخلاق، ثم تحدث -صلى الله عليه وسلم- عنه بعد البعثة فأثنى عليه وقال: "لقد شهدت مع عمومتي حلفًا في دار عبد الله بن جدعان ما أود لو أن لي به حمر النعم 2، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت" 3.
زواجه من السيدة خديجة
زواجه من السيدة خديجة 1: ثم نقف بعد ذلك عند العام الخامس والعشرين2 من عمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- حيث يتغير به مجرى الحياة وتهيئ له الأقدار الزوجة المباركة التي تشاركه في السراء والضراء وفي الشدة والرخاء، وهي السيدة خديجة -رضي الله عنها- فما هي الظروف التي هيأت لذلك الحادث العظيم؟ يقول ابن هشام في سيرته: فلما بلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خمسًا وعشرين سنة تزوج خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب. ثم يقول: وكانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجل في مالها وتضاربهم3 إياه بشيء تجعله لهم، فلما بلغها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما بلغها عن صدق حديثه وعظم أمانته وكرم أخلاقه، بعثت إليه فعرضت عليه أن يخرج في مالها إلى الشام تاجرًا وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار، مع غلام لها يقال له ميسرة4، وقد قبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخرج مع غلامها ميسرة حتى نزل
الشام وربحت التجارة ربحًا عظيمًا.. وظهرت له بركات قصها ميسرة على سيدته بعد عودتهما، فأحبت السيدة خديجة محمدًا -صلى الله عليه وسلم- حبًّا جمًّا من أجل ما رأت منه وما سمعت عنه. ذلك بأنه كان وهو في طور الشباب ناضج العقل راشد الرجولة، وكان مع ذلك صادق الحديث أمينًا إلى أعلى ما تدل عليه هذه الكلمة من سمو وجلال. أجل كان أمينًا على نفسه فلم يستسلم إلى شر أو رذلة. وكان أمينًا على الناس، فلم ينتهك عرضًا ولم يظلم أحدًا ولم يفش سرًّا، ولم يخن في أمانة. ودارت مراسلات بدأت من جانب السيدة خديجة في جو من الأدب والحياء والطهر انتهت بالموافقة من الطرفين1 وتم عقد الزواج بإيجاب وقبول وصداق، فكان زواجها شرعيًّا متمشيًا مع ما بقي حينئذٍ من دين إبراهيم -عليه السلام- وخطب أبو طالب في هذا الزواج فقال: الحمد لله الذي جعلنا من ذرية
إبراهيم وزرع إسماعيل، وجعل لنا بيتًا محجوجًا وحرمًا آمنًا، وجعلنا الحكام على الناس. ثم إن محمدًا ابن أخي لا يوزن به فتى من قريش إلا رجح عليه شرفًا ونبلًا، وفضلًا وعقلًا، وإن كان في المال قل فإن المال ظل زائل وعارية مسترجعة. وله في خديجة بنت خويلد رغبة ولها فيه مثل ذلك1. وكانت خديجة حينئذٍ في سن الأربعين2. وقد ظلت مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى أن بلغت سن الخامسة والستين ثم ماتت في العام العاشر من البعثة النبوية3.
بعض البشائر بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم من التوراة والإنجيل
بعض البشائر بنبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- من التوراة والإنجيل: وحسبنا أن نذكر في ذلك ما روي عن ثعلبة بن هلال، وكان من أحبار اليهود، حينما سأله عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وقال له: أخبرني بصفات النبي -صلى الله عليه وسلم- في التوراة. فقال: إن صفته في توراة بني هارون التي لم تغير ولم تبدل هي: أحمد من ولد إسماعيل بن إبراهيم، وهو آخر الأنبياء. وهو النبي العربي الذي يأتي بدين إبراهيم الحنيف، معه صلاة لو كانت في قوم نوح ما أهلكوا بالطوفان، ولو كانت في عاد ما أهلكوا بالريح، ولو كانت في ثمود ما أهلكوا بالصيحة.
يولد بمكة، وهو أمي لا يكتب ولا يقرأ المكتوب. وهو الحماد يحمد الله في الشدة والرخاء. صاحبه من الملائكة: جبريل، يلقى من قومه أذًى شديدًا، ثم تكون له الدولة عليهم، فيحصدهم حصيدًا، تكون الواقعات بيثرب منها عليه ومنه عليها، ثم له العاقبة، معه قوم هم أسرع إلى الموت من الماء من رأس الجبل إلى أسفله، صدورهم أناجيلهم، وقربانهم دماؤهم. ليوث النهار، رهبان الليل. وهو يعرب العدو مسيرة شهر، يباشر القتال بنفسه، ثم يخرج ويحكم، لا حرس ولا حجاب، الله يحرسه، وجاء في إنجيل برنابا في الفصل التاسع والثلاثين: "إن آدم لما انتصب على قدميه رأى في الهواء كتابة تتألق كالشمس نصها لا إله إلا الله محمد رسول الله". فلما سأل عن محمد -صلى الله عليه وسلم- قال الله له: إنه ابنك الذي سيأتي إلى العالم بعد آلاف السنين، والذي متى جاء سيعطي للعالم الهدى والنور1.
حياة التأمل
حياة التأمل: ومنذ استقرار حياة محمد -صلى الله عليه وسلم- بعد زواجه من خديجة بدأ يفكر ويطيل التفكر فيمن حوله، فيراهم سادرين في غيهم، عاكفين على عبادة أصنامهم، فلا يعجبه
هذا الصنيع، ولا يروقه هذا المظهر الوضيع، فيتساءل في نفسه كيف يمكن أن يعيد الإنسان العاقل صنمًا لا يعقل ولا يفكر ولا يسمع ولا يبصر؟ وكيف يمكن أن يوجد هذا العالم بما يحويه من عجائب، وما يحيط به من أسرار، دون حاجة إلى موجد عظيم سميع بصير قوي قادر عليم حكيم. وأشرقت نفسه بهذه الرياضة الروحية العالية، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح1، أي وقعت كما رآها في المنام ليس فيها أوهام ولا أضغاث أحلام. ثم حببت إليه الخلوة والانقطاع عن الناس؛ فكأن يخلو بغار حراء ويتعبد فيه الليالي ذوات العدد، ويحمل معه الطعام والماء. فإذا فرغ رجع إلى السيدة خديجة فحمل ما يحتاجه من الزاد، ثم ينطلق إلى الغار ليتعبد. وكانت هذه العبادة على دين إبراهيم، وقيل كان بالتأمل والتفكير في هذا الكون العجيب، وما يحيط به من أسرار دقيقة تدل على وجود إله قدير: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} 2. {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} 3. وقد لجأ محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- إلى العبادة عن طريق التأمل والتفكير، حينما وضح له أن مكة قد أحاطت بها ظلمات الشرك والضلال، وغرقت إلى الأذقان في عبادة الأصنام والأوثان، وأن البيت العتيق الذي هو موضع الطهر والقداسة
لدى العرب أجمعين، لا ينبغي أن تهفو إليه قلوب العقلاء ما دام محاطًا بهذه الأحجار التي لا تضر ولا تنفع، ولا تسمع ولا تبصر، وما دام السفهاء من الناس يلتمسون الخير والبركة في ظل تلك الأحجار، ويعتقدون أنها تشع لهم عند الله، فتيسر على الفقير وتهب الصحة للمريض ويرونها الملاذ الآمن فيلجئون إليها في الشدائد والكروب، ويستنصرون بها إذا نزلت بهم الخطوب. أجل كان محمد صلوات الله وسلامه عليه -وهو الذي صنعه الله على عينه، ووهبه رجحان العقل وسداد الرأي ونفاذ البصيرة- ينظر إلى الملأ من قريش، فيعجب كل العجب حينما يراهم -وفيهم أفذاذ الرجال الذين صقلتهم التجارب والحوادث- ولكنهم على الرغم من ذلك كله يعكفون على أصنام لهم، ولئن سألتهم: لم تعبدون ما لا يسمع ولا يبصر؟ فإنهم يتشبثون بمنطق زائف كليل، وحجة داحضة عمياء ويقولون: {وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: من الآية: 53] . وكان من الطبيعي أن يضيق محمد -صلى الله عليه وسلم- بهذا الجو الخانق، وينفر من هذه البيئة الفاسدة، ويلتمس له من هذا الضيق فرجًا ومخرجًا. وإذن فإلى أين المصير؟ وكيف يكون المخرج من هذا الفساد المستحكم والشر المستطير؟
في غار حراء
في غار حراء: على بعد ساعة واحدة من مكة المكرمة بالسير على الأقدام، وعلى يسار الذاهب إلى منى تمتد سلسلة من الجبال والآكام المتلاصقة، ويلوح في وسطها جبل أحد يطل على تلك الفيافي الشاسعة والجبال الفارعة، وكأنه المنارة الساطعة. ذلكم هو الجبل الأشم الخالد على الزمن: جبل حراء. وقد طلع محمد -صلى الله عليه وسلم- قبيل البعثة إلى هذه البقعة العالية، حينما رأى قريشًا قد
هوت إلى الحضيض، وانحدرت في عبادتها إلى الدرك الأسفل، فسما هو إلى هذا المكان وكان يخلو به كل عام في شهر رمضان1، أجل كان يخلو بغار في أعلى هذا الجبل الأشم، وهو كهف غريب جعله الله على وضع عجيب، يأخذه فيه الإنسان راحته الكاملة، وتنطلق فيه الروح من أسر المادة وعقال الشهوة، إلى حيث تسمو إلى العلياء، وتسبح في ملكوت السموات والأرض. فبابه يتسع لدخول الشخص الواحد وهو قائم، وقد غُطي سقفه بصخور مائلة، لذا كان وسطه أعلى من جانبيه. ويستطيع اثنان متجاوران أن يصليا فيه براحة كاملة، ومساحته من الداخل تسمح بنوم ثلاثة من الرجال متجاورين. وقد أسعدني الحظ بالرقي إلى هذا الغار في رفقة من الأصدقاء الأخيار، ومع نفر من أبنائنا الطلاب في كلية الشريعة بمكة. وكانوا جميعًا من الشباب الممتلئ بالقوة والفتوة، ولولا دافع قوي من الإيمان وشوق أقوى لرؤية أول مكان نزل فيه القرآن، لتحطمت قوتنا بين يدي تلكم الأحجار العاتية، ولما استطاع أحد منا أن يواصل السير والصعود على هذا المرتقى الوعر الشديد..
ولكن عند الصباح يحمد القوم السرى، وحينما تتحقق الآمال تضيع المتاعب وتنسى الآلام، ولقد نسينا ما لقينا من نصب ومشقة حينما انتهينا بحمد الله وتوفيقه إلى الغار، وأشرقت علينا من خلاله الأنور، وغمرتنا موجات متلاحقة من البِشر والسرور، وطاف بنا إشراق من صفاء النفس وسمو الروح، حتى لقد ذهلنا عن أنفسنا وخيل إلينا أن أجسامنا قد استبدلت بأطياف وأرواح، وأن أجسادنا لم يعد لها ثقل مادي، وأن في استطاعتنا أن نحلق في يسر وسهولة إلى الملإ الأعلى. ولقد تراءى بين أيدينا إذا ذاك سجل الزمن وكتاب الأيام، فقلبنا صفحاته إلى الوراء أربعة عشر قرنًا من الزمان، حيث وقفنا عند صفحة خالدة تشع بالأنور في تاريخ هذا الغار. ولعل الشاعر الحجازي الأستاذ السيد أحمد العربي قد عبر عما تجيش به نفوسنا جميعًا في قصيدته الرائعة عن غار حراء، وهي القصيدة التي يقول فيها: هذا حراء سائلوه يجبكم ... فلعله سفر من الأسفار واستلهموه مواقف الوحي التي ... شع الهدى منها على الأقطار وسلوه ماذا قد أقل من البطو ... لة والحجى؟ أعظم به من غار أخلق بغار حراء أن يزهى على ال ... أهرام والإيوان والآثار كم بين صاحبه وبين بناتها ... من فارق أربى على الأقدار شتان بين محرر الأقوام وال ... مستعبدين سلائل الأحرار فإلى هذا المكان الذي يشق العنان، كان يصعد محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم
قبيل بلوغه الأربعين1، وكان يحمل معه من الماء والطعام2 ما يكفيه لقضاء جزء كبير من شهر رمضان في كل عام، وبين تلك الصخور والرجام، وفي هذا الصمت العميق، ومن خلال تلك الكوة3 الضيقة كان يطل محمد -صلى الله عليه وسلم- على الدنيا بأسرها، فيطالع عظمة الكون ونظامه ودقته وإحكامه، ثم ينظر مع ذلك إلى أهل مكة وما حولها، فيراهم في الغي سادرين فيستولي على نفسه الضيق والألم، ويتمنى أن لو جاء الحق الذي تسكن له النفوس، وتطمئن به القلوب، وتنجاب أمامه الغياهب والظلمات. وحينما أراد الله أن يعلي كلمته ويتم على العالمين نعمته، أذن للحق بالظهور لكي يخرج الناس من الظلمات إلى النور، فجاء جبريل الأمين إلى محمد الأمين، وقد بلغ أشده وبلغ الأربعين. ودخل عليه الغار ومعه صحيفة، فضمه ضمة شديدة حتى بلغ منه الجهد، ثم أرسله وقال له: اقرأ. فأجابه الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ما أنا بقارئ. وكرر جبريل هذا العمل والقول ثلاث مرات، والرسول -صلى الله عليه وسلم- يجيبه بنفس الجواب، فقال له جبريل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} 4.
وهكذا ابتدأت دعوة الحق نورًا أضاء في غار تقاس مساحته بالأشبار، ولكن لم يلبث هذا النور إلا قليلًا حتى ملأ الأقطار والأمصار، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون. وقد رجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عقب نزول الوحي عليه يرجف فؤاده، ودخل على زوجته خديجة، وقال: "زملوني زملوني"، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، ثم أخبر زوجته السيدة خديجة بما وقع له في غار حراء، وقال لها: "لقد خشيت على نفسي". فطمأنته السيدة خديجة، وبينت له أن وراء هذا الحادث خيرًا كثيرًا حيث قالت له: "والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق"1. ثم انطلقت به خديجة إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، وكان عنده علم بالكتب السماوية، فلما سمع من الرسول -صلى الله عليه وسلم- خبر ما رأى أدرك أن هذا هو الوحي الذي كان ينزل على الأنبياء من قبل، فبشر محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بأنه سيكون نبي هذه الأمة ... وتمنى ورقة لو يطول به العمر حتى تظهر رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- فيكون من أنصاره وأعوانه2. ولكن شاء الله أن يموت ورقة قبل أن تتحقق أمنيته. وفتر الوحي بعد ذلك مدة من الزمان.
وقد اختلف العلماء في هذه الفترة. وأرجح الأقوال أنها أربعون يومًا فحسب1، ولكن هذه المدة على قصرها مرت على الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكأنها أربعون سنة. ولا عجب في ذلك، فقد اشتد به الشوق لنزول الوحي عليه، وخاف أن يكون الله قد حرمه من هذه النعمة الكبرى. ولكن الله تعالى رحم محمدًا -صلى الله عليه وسلم- من هذه الحيرة الأليمة، فعاد إليه الوحي. ونزل عليه قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ، وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ، وَلِرَبِّكَ فَاصْبرْ} 2.
الفصل الثالث
الفصل الثالث من بدء الدعوة إلى الهجرة النبوية مدخل ... الفصل الثالث من بدء الدعوة إلى الهجرة النبوية كان لا بد أن يبلغ الرسول -صلى الله عليه وسلم- تلك الرسالة الغالية التي حملها إلى الناس نذيرًا لمن خالف بالعقاب، وبشيرًا لمن أطاع بالثواب، ومبينًا للناس طريق الحق الذي يوصلهم إلى الخير وينأى بهم عن الشر والضلال، فاستجاب له جماعة من أقربائه وأصدقائه الذين أراد الله لهم الخير والهداية، وهؤلاء هم السابقون الأولون ومنهم خديجة بنت خويلد -رضي الله عنها- وعلي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- وزيد بن حارثة مولى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأم أيمن حاضنته، وهؤلاء من عشيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأقربائه، ومنهم أبو بكر الصديق وعثمان بن عفان والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود، وغير هؤلاء ممن رضي الله عنهم ورضوا عنه1.
وكانت الدعوة في مبدأ أمرها سرية تتم في الكتمان والخفاء، حتى لا يقاومها الأعداء وهي لم تزل في مهدها الصغير، ثم تطورت بعد ثلاثة أعوام من بدء الوحي، حينما نزلت الآية: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} 1. واتخذت مظهر الجهرية الصريحة والإعلان العام، فأصبح محمد -صلى الله عليه وسلم- يجمع القوم ويكاشفهم بأمر الدين الحنيف، وقد بدأ بعشيرته الأقربين؛ فكلف ابن عمه علي بن أبي طالب أن يصنع لهم طعامًا، ويدعو أهله إليه وفيهم عمومته بنو عبد المطلب وأولادهم نحو الأربعين رجلًا. فلما اجتمعوا كلمهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- في شأن الدعوة الإسلامية، وما ينادي به من نبذ معتقداتهم الفاسدة والإيمان بالله وحده، فغضبوا وقاطعوا كلامه وانصرفوا مسرعين2.
ولكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يفقد الأمل، ولم تضعف عزيمته فأعاد الوليمة ثانية في الغداة، فلما اجتمعوا قال لهم: "ما أعلم أن إنسانًا في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، لقد جئتكم بخيري الدنيا والآخرة، وقد أمرني ربي أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر؟ ". فأعرضوا عنه، وهموا بتركه. وكان عجيبًا أن ينهض علي وهو لا يزال صبيًًّا، فيقول يا رسول الله، أنا حرب على من حاربت. وحينئذٍ ابتسم بنو هاشم وقهقه بعضهم، وأخذ نظرهم يتنقل بين أبي طالب وابنه، ويقولون لأبي طالب في سخرية: لقد أمرك أن تسمع لابنك وتطيعه. ثم انصرفوا مستهزئين1. على أن استخفافهم هذا لم يقعده عن عزمه، ولم يسلمه إلى يأس؛ بل انتقل بدعوته من عشيرته الأقربين إلى أهل مكة جميعًا. واتجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نحو الصفا2 يومًا، وصعد إلى أعلاه ونادى: "يا معشر قريش"، فقالت قريش: محمد على الصفا ينادي، وأقبلوا عليه يسألونه عن حاجته. فقال: "أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلًا بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم. أكنتم مصدقي؟ " قالوا: نعم، ما جربنا عليك كذبًا قط. قال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، يا بني عبد المطلب، يا بني عبد مناف، يا بني زهرة -وأخذ ينادي على باقي القبائل- إني لا أملك لكم من الدنيا منفعة ولا من الآخرة
نصيبًا إلا أن تقولوا: لا إله إلا الله". وهنا صاح أبو لهب، وكان رجلًا بذيئًا سريع الغضب: تبًّا لك سائر هذا اليوم ألهذا جمعتنا؟. فسكت محمد -صلى الله عليه وسلم- ونظر إليه نظرة يملؤها الأسى والأسف، ثم لم يلبث أن نزل الوحي عليه بقوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ، مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ، سَيَصْلَى نَاراًً ذَاتَ لَهَ} 1. وهكذا دمغه الوحي بهذه الآيات البينات التي كانت بمثابة التشجيع للنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- كما كانت سابقة فأل ومقدمة بشارة بأن الله سينصر الحق على الباطل، ويتم نوره ولو كره المشركون. ولم يكن ذلك الموقف العدائي من مشركي مكة ليهدئ من حماس الرسول -صلى الله عليه وسلم- للدعوة والتفاني في سبيلها؛ بل كان حافزًا قويًّا على النشاط في إذاعتها والمضي في سبيل انتشارها، مؤمنًا كل الإيمان، واثقًا كل الثقة بأن يدي أبي لهب هالكتان، وأنه لن يتمكن من العبث بالدعوة والوقوف في سبيل انتشارها بين أهل مكة، ولقد أسلم من زهد في الدنيا، ومن لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن النظر في هذه الدعوة الجديدة، التي كانت قائمة على التسامح والمحبة والعطف والمودة، والتي كان شعارها الحرية الحبيبة إلى نفس كل عربي يسكن شبه الجزيرة العربية، فلا سلطان لغير الله وحده، أما هبل واللات والعزى وغيرها من الأصنام فهي لا تنفع ولا تضر، بل ولا تغني عن نفسها شيئًا.
قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} 1. {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا} 2. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} 3.
موقف قريش من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه
موقف قريش من النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه: وكان من الطبيعي أن تقف قريش من الدعوة الإسلامية موقف العداء السافر، لأنها رأت فيها الخطر الداهم الذي يهدد كيانها المادي والأدبي، فلقد كانت الكعبة مركز عبادة الأصنام، وكانت محج العرب ومورد ثروتهم، وكان زعماء قريش يستمدون مجدهم وفخارهم وعزهم وعظمتهم على سائر الناس من صلتها بالبيت الحرام، وقيامهم على حراسة الأصنام وسقاية الحجاج، كما كانوا يعتبرونها مورد رزق وينبوع ثروة بالتجارة التي يحترفونها، فانتصار محمد -صلى الله عليه وسلم- معناه ضياع سلطانهم الأدبي والمادي وهو أعز ما يعتمدون عليه في حياتهم، لذلك عظم الأمر واشتد، فصممت قريش على أن تقف من محمد -صلى الله عليه وسلم- موقف
الحزم والصرامة، وأن تعمل على قتل الدعوة الإسلامية باضطهاد صاحبها ومن اتبعه. فأما موقفهم من الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقد أفاضت كتب السيرة في سرد المساءات التي لقيها الرسول -صلى الله عليه وسلم- منهم1. ونضرب لذلك بعض الأمثلة عسى أن يكون فيها عبرة وتبصرة، وعسى أن تكون درسًا عمليًّا يعلم الناس كيف يكون الصبر على البأساء والضراء، وكيف تكون التضحية المخلصة من أجل المبدأ والعقيدة. فمن ذلك ما روي عن طارق المحاربي أنه قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في السوق يقول: "أيها الناس: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا"، ورجل خلفه يرميه بالحجارة وقد أدمى عقبه، ويقول: لا تطيعوا محمدًا فإنه كذاب، فقلت: من هذا؟ قالوا: محمد وعمه أبو لهب2. وكذلك ما فعلته زوج أبي لهب وهي أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان، فكثيرًا ما كانت ترمي الشوك في طريقه، وتلقي بالقاذورات النجسة أمام بيته، ولم تترك عملًا فيه إيذاء للرسول -صلى الله عليه وسلم- إلا وفعلته، حتى لم تكتف بهذا الإيذاء العملي، بل كانت تسب الرسول -عليه الصلاة والسلام- وتذمه، وتوقع العداوة بينه وبين
الناس1. فأنزل الله في شأنها من كتابه الكريم ما يدل على ما ينتظرها يوم القيامة من سوء المصير، حيث يقول: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ، فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} 2. أما أبو جهل -لعنه الله- فكثيرًا ما أساء إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقد ألقى عليه مرة أثناء صلاته ورحم شاة مذبوحة، فتحمل الأذى، وذهب إلى بنته فاطمة -رضي الله عنها- فأزالت عنه النجاسة والأقذار3، ونهى الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن الصلاة في البيت الحرام. فلما لم ينته، تعرض له بالمنع. فقابل الرسول -صلى الله عليه وسلم- عمله بالشدة وهدده. فقال: أتهددني وأنا أكثر أهل الوادي ناديًا ومنزلًا؟ فرد الله تعالى عليه تهديدًا ووعيدًا: {كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ، نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ، فَلْيَدْعُ نَادِيَه، سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ، كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} 4. وكان عقبة بن أبي معيط يجاور رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في منزله، ومما صنعه ذلك
الشقي: ما رواه البخاري1 في صحيحه قال: بينما يصلي النبي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه في عنق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فخنقه خنقًا شديدًا، فأقبل أبو بكر، حتى أخذ بمنكبه، ودفعه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُم} 2. وكان الأسود بن عبد المطلب ابن عم السيدة خديجة كان هو وحزبه إذا مر عليهم المسلمون يتغامزون بهم سخرية واستهزاء. وفيهم نزل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ، وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} 3. وكان الوليد بن المغيرة عم أبي جهل من أكابر قريش في المركز الاجتماعي والمادي، وكان كذلك من أكابر المجرمين الذين كادوا للرسول صلوات الله وسلامه عليه4. سمع القرآن مرة من النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال لقومه: والله لقد سمعت من محمد كلامًا، ما هو من كلام الإنس ولا الجن، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق وإنه يعلو وما يعلى عليه.
فقالت قريش: صبأ1 والله الوليد. لتصبأن قريش كلها. فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه. ثم توجه إليه وجلس أمامه حزينًا، وكلمه بما حمسه ضد محمد -صلى الله عليه وسلم- مما جعل الوليد يأتي القوم في ناديهم ويخاطبهم قائلًا: أتزعمون أن محمدًا مجنون، فهل رأيتموه يهوس، وتقولون: إنه كاهن، فهل رأيتموه يتكهن، وتزعمون أنه شاعر، فهل رأيتموه يتعاطى شعرًا قط؟ وتزعمون أنه كذاب، فهل جربتم عليه شيئًا من الكذب؟ فقالوا في ذلك: اللهم لا. ثم قالوا: فما هو؟ ففكر قليلًا ثم قال: ما هو إلا ساحر، أما رأيتموه فرق بين الرجل وأهله وولده؟ فاهتز النادي فرحًا بهذا الرأي الذي سيفرق بين محمد وعشيرته، وسيباعد بينه وبين الناس، وأنزل الله ردًّا عليه في آيات بينات مخاطبًا الرسول -صلى الله عليه وسلم: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً، وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً، وَبَنِينَ شُهُوداً، وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً، ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ، كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيداً، سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً، إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ نَظَرَ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ، فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ، إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ، سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} 2. وغير هؤلاء وهؤلاء، وممن عميت بصائرهم وطمس الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم، وقد هلكوا جميعًا بعد الهجرة؛ فمنهم من قتل ومنهم
من ابتلاه الله بالأمراض الفتاكة فقضت عليه. وأما عن موقفهم من أصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذين اتبعوه وأيدوه، فقد كانوا أشد قسوة وعنفًا. وحسبنا ما روي عن بلال بن رباح -رضي الله عنه- فقد لاقى من أميه بن خلف أنواعًا من الأذى، وألوانًا من التعذيب لا يصبر عليها إلا مؤمن قوي الإيمان، فكان إذا حميت الشمس وقت الظهيرة يلقيه سيده على وجهه وظهره، ثم يضع حجرًا على صدره، ويقول له: ستظل هكذا حتى تكفر بمحمد وتؤمن باللات.. ولكنه احتمل كل هذه الآلام، وصبر على الأذى والنكال، وكلما التمسوا منه جوابًا، لا يرد عليهم إلا بتلك الكلمة التي ملكت نفسه ومشاعره: أحد، أحد. وقد رآه أبو بكر يومًا يقاسي أشد العذاب. فقال لسيده أمية: ألا تتقي الله في هذا المسكين؟ فقال: أنت أفسدته وفتنته عن دين آلهتنا وعبادة أصنامنا.. فعرض عليه أبو بكر ثمنًا له، وما زال يساومه حتى اشتراه وأعتقه في سبيل الله بعد أن خلصه من تعذيب سيده1. وفي هذا نزل قول الله تعالى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى، لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى، الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى، وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى، الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى، وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى، إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى، وَلَسَوْفَ يَرْضَى} 2.
والمقصود بكلمة الأشقى في الآية الكريمة هو أمية بن خلف، والأتقى هو أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه1. وقد نبه الله -عز وجل- إلى أن بذل أبي بكر الصديق لماله في شراء بلال وغيره، لم يكن إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى وكفى بهذا شرفًا وفضلًا. وما روي عن عمار بن ياسر وأبيه وأمه -رضوان الله عليهم- فلقد كان أبوه ياسر حليفًا لبني مخزوم، ولما كان عمار وأبوه وأمه واقعين تحت نفوذ المشركين من بني مخزوم، فإنهم أوقعوا بهم من العذاب ما لا طاقة لأحد به، فكانوا إذا اشتدت حرارة الشمس ألبسوهم أدرع الحديد وصهروهم في الشمس.. ويا لها من قسوة بالغة إذا عرفنا حر مكة في فصل الصيف، ولقد مر بهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهم في العذاب فقال لهم: "صبرًا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة. أبشروا آل عمار وآل ياسر، فإن موعدكم الجنة" 2. وقد مات ياسر في العذاب، أما امرأته سمية فقد أغلظت القول لأبي جهل
مرة، فطعنها في قبلها بحربة في يده فماتت، وشددوا العذاب على عمار بتعريضه للشمس المحرقة بين صخور مكة ورمالها تارة، وبوضع الصخر على صدره تارة أخرى، قائلين له: لا تُترك حتى تسب محمدًا وتقول في اللات والعزى خيرًا ففعل فتركوه. فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- يبكي، فقال: "ما وراءك؟ " قال: شر يا رسول الله، كان الأمر كذا وكذا، وقص عليه الخبر، فقال: "فكيف تجد قلبك؟ " قال: أجده مطمئنًا بالإيمان، فقال: "يا عمار إن عادوا فعد"، فأنزل الله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} 1. وكذلك ما روي عن خباب بن الأرت -رضي الله عنه- فلقد كان من السابقين في الإسلام، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحبه ويألفه قبل النبوة، ولما أسلم أخذه الكفار وسحبوه على وجهه وعذبوه عذابًا شديدًا، فنزعوا ثوبه عن جسده وألقوه على الرمضاء وجاءوا بالحجارة المحماة ووضعوها على ظهره، ولووا رأسه، كل من أجل أن يعود في الكفر ولكنه لم يجبهم إلى شيء مما أرادوا، ولم يزده التعذيب إلا إيمانًا وتثبيتًا2. ولقد اشتكى إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- مما يقاسيه في سبيل الله طالبًا منه التوجه إلى الله
لكي يكشف عن المسلمين هذا الكرب والبلاء، فضرب له الرسول -صلى الله عليه وسلم- مثلًا مما كان يصيب المؤمنين السابقين وطمأنه على مستقبله ومستقبل المسلمين، وفي ذلك يقول خباب: شكونا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو متوسد بردة في ظل الكعبة فقلنا: يا رسول الله، ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ فقال: "قد كان من قبلكم يؤتى بالرجل فيحفر له حفرة فيجعل فيها ثم يؤتى بالمنشار فوق رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصرفه ذلك عن دينه. والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون" 1. بل لقد كان ممن أوذي في الله، أبو بكر الصديق -رضي الله تعالى عنه- على الرغم من مكانته في قريش، فلقد وجه إليه المشركون كثيرًا من الأذى والعنت حتى خرج مهاجرًا إلى الحبشة، فلقيه ابن الدغنة وهو من سادات العرب، فسأله: إلى أين يا أبا بكر؟ فقال: أخرجني قومي. وإني أريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي. فقال: مثلك يا أبا بكر لا يخرج، وأنت في جواري وحماي. فرجع مع ابن الدغنة، وعرفت قريش أن أبا بكر في جواره وحماه فطلبت قريش من حامي الصديق أن يأمره بعبادة ربه في داره، ولا يجهر بصلاته وقراءاته، وقالوا: إنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا. فلبث أبو بكر في داره يعبد ربه، ثم بدا له أن يبني مسجدًا بفناء داره، فبناه وكان يصلي ويقرأ القرآن، فيهرع إليه نساء المشركين وأبناؤهم ينظرون إليه
ويستمعون إلى ما يقرأ -وكان أبو بكر رجلًا بكاء، لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن- فأفزع ذلك أشراف قريش، فأرسلوا إلى ابن الدغنة وقالوا له: إن أبا بكر قد أخل بالشروط، فابتنى مسجدًا، وأسمع الناس صلاته وقراءته، وقد خشينا الفتنة على نسائنا وأبنائنا. فأتى ابن الدغنة أبا بكر وقال له: إما أن تلتزم شرط الجوار وإما أن تُرجِعَ إليَّ ذمتي. فقال أبو بكر: إني أرد عليك جوارك، وأرضى بجوار الله1، وكان ذلك سببًا في أن لحق بأبي بكر الكثير من الأذى والاضطهاد. هذا إلى جانب ما كانوا يسمعونه من فحش القول واللغو من الكلام أينما كانوا، فلم يزدهم إلا استمساكًا بدينهم وحرصًا على عقيدتهم، ولا غرو، فهم لم يدخلوا في دين الله لغرض دنيوي يرجون حصوله، بل شرح الله صدورهم للإسلام، وخالطت بشاشته قلوبهم. وهكذا كانت تلك الفترة من أروع الفترات في تاريخ الإسلام والمسلمين. وكان هؤلاء الأبطال مُثلًا عليا في التضحية والفداء وقوة العزيمة وثبات الإرادة، فضربوا للناس الأمثال، وخلدوا ذكرهم بجلائل الأعمال، ورسموا لأصحاب المبادئ السامية كيف يجاهدون في سبيل الله، وكيف يعملون لنصرة الحق وهزيمة الباطل. ومن خلال هذه الفترة الرهيبة التي مرت بالرسول -صلى الله عليه وسلم- لجأ المشركون إلى طريقة الإغراء والترغيب، وظنوا أنهم سوف يستطيعون أن يفتنوا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- عن دينه أو يحولوه عن وجهته.
ولكن لم يعبأ محمد -صلى الله عليه وسلم- بكل ما قدموه من مغريات ومرغبات، بل لقد وضعها جميعًا تحت قدميه وآثر المضي في طريقه ما فيه من متاعب وآلام. ويروون في ذلك أن عتبة بن ربيعة جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له: يابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من المكان في النسب، وقد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم. فاسمع مني أعرض عليك أمورًا لعلك تقبل بعضها، إن كنت تريد بهذا الأمر مالًا جمعنا لك من أموالنا حتى تصير أكثرنا مالًا.. وإذا كنت تريد ملكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيًا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى تبرأ. فلما فرغ من قوله تلا عليه محمد -صلى الله عليه وسلم- سورة السجدة، وأنصت عتبة إلى هذا الكلام المعجز والأسلوب الفريد، ثم تأمل في شخص محمد -صلى الله عليه وسلم- فرأى أمامه رجلًا مكتمل العقل ناضج الفكر لا مطمع له في مال ولا في تشريف ولا في ملك، وإنما يدلي بالحق ويدعو إلى الخير ويدفع بالتي هي أحسن، فانصرف عتبة إلى قريش مأخوذًا بجمال ما رأى وما سمع، مفتوحًا بعظمة هذا الرجل وسحر بيانه، فلما أفضى إليهم بما انطبع في نفسه نحو محمد من إعجاب وتقدير، غضبوا عليه وسخروا منه وقالوا له: سحرك محمد يا أبا الوليد1. وكما لجأوا إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- يستميلوه ويغرونه، فقد لجأوا إلى عمه أبي طالب يوغرون صدره على ابن أخيه حتى يتخلى عن نصرته - وذلك أن رجالًا من أشراف قريش وفي مقدمتهم أبو سفيان بن حرب مشوا إلى أبي طالب فقالوا: يا
أبا طالب، إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه؟ فردهم أبو طالب ردًّا جميلًا، ولكن محمدًا مضى في طرق إعلان دعوته، وازداد مضيه وإقدامه يومًا بعد يوم، فمشت قريش إلى أبي طالب مرة ثانية وأخذوا معهم عمارة بن الوليد بن المغيرة، وكان أنهد فتى في قريش وطلبوا إليه أن يسلم إليهم محمدًا ويتركوا له عمارة ليتخذه ولدًا، فسخر أبو طالب من رأيهم ولم يجبهم إلى طلبهم. ولما نفد صبرهم وأعيتهم الحيل وطفح الكيل ذهبوا إلى أبي طالب مرة ثالثة منذرين متوعدين. فقال له: يا أبا طالب إن لك سنًّا وشرفًا ومنزلة فينا، وقد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإننا والله لا نصبر على هذا من شَتمِ آباءنا وتسفيهِ أحلامنا وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك حتى يهلك أحد الفريقين. وقد وجم أبو طالب أمام هذا الموقف الخطير الذي صممت عليه قريش وأصابه هم عظيم. ولا غرو فقد أصبح بين أمرين أحلاهما مر، فإما أن يترك ابن أخيه لقريش تنزل عليه النقمة والعذاب، وتفعل ما تشاء حتى تقضي على دعوته، وإما أن يقف وجهًا لوجه أمام قريش في حرب دامية لا يدرك مداها، ولا تعرف نهايتها ... ومن أجل ذلك كله فإنه استدعى محمدًا -صلى الله عليه وسلم- وقص عليه الموقف الأخير الذي انتهت إليه قريش، ثم قال له: فأبق علي وعلى نفسك يابن أخي ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق. وهنا يتجلى الإيمان في أروع صوره وأسمى مظاهره، ذلك بأن محمدًا -صلى الله عليه وسلم
توقع أن عمه سيخذله أمام هذا الضغط العنيف من قريش ويسلمه إليهم، فنظر في هذا الأمر من خلال المعاني العميقة التي انطبعت في نفسه بعد نزول الوحي عليه، والحصانة القوية التي أفرغتها العناية الإلهية في قلبه، وحينئذٍ هان كل شيء في هذا الوجود أمام أداء تلك الرسالة الكبرى التي كرمه الله بها وقال كلمته المأثورة: "والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر، حتى يظهره الله أو أهلك فيه، ما تركته". وقد عجب أبو طالب لهذا الموقف الرائع من ابن أخيه، وثارت في نفسه عاطفة قوية غلابة لمؤازرته في هذه المحنة الأليمة، فقال له -وقد رآه يخرج وينصرف: أقبل. ثم قال له: اذهب يابن أخي فقل ما أحببت. فوالله لا أسلمك لشيء تكرهه أبدًا. أجل، أصر أبو طالب على الدفاع عن ابن أخيه، محمد -صلى الله عليه وسلم- وأخبر بني هاشم وبني المطلب عن قول محمد -صلى الله عليه وسلم- وموقفه ثم دعاهم إلى حمايته، وطلب منهم أن يمنعوه من قريش، فاستجابوا له جميعًا، إلا أبا لهب فإنه أمعن في غيه وضلاله وصارحهم بالعداوة للدعوة الإسلامية وصاحبها وأنصارها. وفي ذلك يقول أبو طالب من قصيدة طويلة: ولما رأيت القوم لا ودّ فيهم ... وقد قطعوا كل العرى والوسائل وقد صارحونا بالعداوة والأذى ... وقد طاوعوا أمر العدو المزايل صبرت لهم نفسي بسمراء سمحة ... وأبيض عضب من تراث المقاول
وأحضرت عند البيت رهطي وإخوتي ... وأمسكت من أثوابه بالوصائل1
هجرة المسلمين الأولى إلى الحبشة
هجرة المسلمين الأولى إلى الحبشة: 1 بدأت هذه الهجرة في السنة الخامسة من البعثة النبوية، وذلك بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد عز عليه أن يرى أتباعه يتعرضون للسخرية والازدراء حينًا، وللتعذيب والاضطهاد
حينًا آخر، فأشار عليهم بأن يتفرقوا في الأرض فرارًا بدينهم. فسألوه: أين نذهب؟ فأشار إلى الحبشة لأن فيها ملكًا لا يظلم أحد عنده. فخرج إليها بعض المسلمين، وكان خروجهم على مرتين، ففي المرة الأولى خرج أحد عشر رجلًا وأربع نسوة، ومنهم عثمان بن عفان وزوجته رقية ابنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وعبد الرحمن ابن عوف وعثمان بن مظعون والزبير بن العوام وعبد الله بن مسعود، وقد خرجوا متسللين سرًّا، ولما وصلوا إلى البحر الأحمر ركبوا سفينة أوصلتهم إلى الحبشة فأقاموا في خير جوارٍ من النجاشي، ولكنهم رجعوا بعد ثلاثة أشهر إلى مكة لأن الإقامة لم تيسر لهم، ولأنهم علموا أن المسلمين في مكة قد أصبحوا في مأمن من قريش بعد إسلام حمزة وعمر.... وكانت هذه الفترة القصيرة التي قضاها هذا العدد القليل من المسلمين في الحبشة ذات أثر بالغ في مستقبل الدعوة الإسلامية، فلقد أقنعت المشركين أن أتباع محمد -صلى الله عليه وسلم- يقابلون الصعاب بصدر رحب من أجل دينهم، وأنهم مصممون على التضحية مهما عظمت في سبيل الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم.
إسلام حمزة وعمر
إسلام حمزة وعمر: وفي هذه الفترة العصيبة حيث كان المسلمون يحيط بهم الضعف والخوف ويئنون من ظلم المشركين وطغيانهم، ولا يجدون ملجأ من البأساء إلا إلى الضراء. في هذه الفترة أسلم حمزة بن عبد المطلب عم الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأسلم من بعده بأيام معدودة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فكان إسلامهما فتحًا وأساسًا متينًا، أعز الله به الإسلام والمسلمين.
فأما عن إسلام حمزة: فقد كان في مبدأ أمره عن حمية واندفاع بسبب العصبية القبلية التي كانت تمتلئ بها نفوس العرب في ذلك الحين؛ ولكن لم يلبث أن شرح الله صدره للإسلام فمضى في طريق الحق لا يخشى فيه لومة لائم، وجاهد في سبيل الله حتى قضى نحبه ولقي ربه. وقد كان إسلام حمزة في السنة السادسة من البعثة النبوية، وذلك أن أبا جهل مر بمحمد -صلى الله عليه وسلم- يومًا عند الصفا، فسبه وشتمه وأسمعه ما يكره فأعرض عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يرد عليه بكلمة، وكان حمزة رجلًا قويًا ذا ولع بالصيد ... فلما رجع من صيده في ذلك اليوم علم بما أصاب ابن أخيه من سفاهة أبي جهل، فامتلأ غضبًا وذهب إلى الكعبة ولم يقف مسلمًا على أحد ممن كان عندها، وقصد أبا جهل فهجم عليه وقال له: كيف تسب محمدًا وأنا على دينه؟ وضربه بقوسه وتحداه. وأراد رجال من بني مخزوم أن ينصروا أبا جهل، فمنعهم حسمًا للشر، معترفًا بما وقع منه لمحمد. ثم أعلن إسلامه وعاهد النبي -صلى الله عليه وسلم- على النصرة والتضحية في سبيل الله حتى نهاية حياته1. تألمت قريش وأصابها هم عظيم بإسلام حمزة، فقد عرفت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عز وامتنع بإسلام هذا البطل. وأما عن إسلام عمر: فقد كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في مبدأ أمره
من ألد أعداء الإسلام، وأشد الناس خصومة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وللمسلمين. ولقد صمم يومًا على قتل الرسول -صلى الله عليه وسلم- ليقضي على الدعوة الإسلامية ولكن الله أراد به الخير فشرح صدره للإسلام. ثم لم يلبث أن صار من أحب الناس لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأشدهم تفانيًا في نصرة الحق وإعلاء الدين الحنيف، وإليك ما ذكره المؤرخون عن إسلامه: خرج عمر يومًا متوشحًا بسيفه يريد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلقيه نعيم بن عبد الله فقال له: أين تريد يا عمر؟ فقال: أريد محمدًا هذا الصابئ الذي فرق أمر قريش وسفه أحلامهم وعاب دينها وسبَّ آلهتها فأقتله. فقال له نعيم: والله لقد غرتك نفسك يا عمر، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدًا؟ أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم؟ فقال: وأي أهل بيتي؟ قال: ابن عمك سعيد بن زيد، وأختك فاطمة بنت الخطاب زوجته، فقد -والله- أسلما وتابعا محمدًا على دينه، فعليك بهما. فرجع عامدًا إلى أخته وزوجها وعندهما خباب ابن الأرت معه صحيفة فيها سورة طه يقرئهما إياها. فلما سمع صوت عمر اختفى خباب في البيت وأخفت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة، وقد سمع عمر حين دنا إلى البيت قراءة خباب، فلما دخل قال: ما هذه الهينمة التي سمعت؟ قالا له: ما سمعت شيئًا. قال: بلى والله، لقد أخبرت أنكما تابعتما محمدًا على دينه. وبطش بسعيد بن زيد فقامت فاطمة بنت الخطاب لتكفه عن زوجها فضربها. فلما فعل ذلك قالت أخته وزوجها: نعم، قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله فاصنع ما بدا لك. فلما رأى عمر ما بأخته من آثار الضرب، ندم على ما صنع، فارعوى وقال:
لأخته: أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرءونها، لأنظر ما هذا الذي جاء به محمد. فقالت له أخته: إنا نخشاك عليها. قال: لا تخافي. حلف لها بآلهته ليردنها إليها إذا قرأها؟ فقالت له أخته: إنك نجس ومشرك، وإنه لا يمسها إلا الطاهر. فقام فاغتسل، فأعطته الصحيفة وفيها سورة طه. فلما قرأ منها قدرًا قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه. فلما سمع ذلك خباب خرج إليه فقال له: يا عمر، والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه -صلى الله عليه وسلم- فإني سمعته وهو يقول: "اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطاب". فالله الله يا عمر. فقال له عند ذلك عمر: فدلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم؟ فقال له خباب: هو في بيت عند الصفا ومعه فيه نفر من أصحابه، فأخذ عمر سيفه فتوشحه ثم عمد إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه فضرب عليهم الباب. فلما سمعوا صوته قام رجل من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنظر من خلل الباب فرآه متوشحًا بالسيف، فرجع إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو فزع، فقال: يا رسول الله هذا عمر بن الخطاب متوشحًا السيف. فقال حمزة بن عبد المطلب: فأذن له فإن كان يريد خيرًا بذلناه له، وإن كان يريد شرًّا قتلناه بسيفه. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إئذن له". فأذن له الرجل، ونهض إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى لقيه بالحجرة، فأخذ بمجمع ردائه ثم جبذه جبذة شديدة، وقال: "ما جاء بك يابن الخطاب؟ فوالله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة". فقال عمر: يا رسول الله جئتك لأؤمن بالله ورسوله وبما جاء من عند الله.
فكبر الرسول تكبيرة عرف بها أهل البيت من أصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن عمر قد أسلم1. وهكذا تم إسلام عمر في جو مليء بالإخلاص والإيمان. ويتحدث عمر بن الخطاب عما فعله بعد ذلك فيقول: ثم جئت إلى خالي أبي جهل عمرو بن هشام -وكان شريفًا- فقرعت عليه الباب، فقال: ما هذا؟ فقلت: ابن الخطاب وقد صبأت -أي دخلت في الإسلام- فدخل وأغلق الباب دوني. فذهبت إلى رجل من عظماء قريش وأخبرته بدخولي في الإسلام فأغلق الباب دوني ولم يصبني بسوء، فقلت: ما هذا؟ إن المسلمين يضربون وأنا لا أضرب، فقال لي رجل: أتحب أن يعلم بإسلامك؟ قلت: نعم. قال: فإذا جلس الناس في الحجر، فأتِ فلانًا فقل له، فإنه لا يكتم السر. فجئت وقد اجتمع الناس في الحجر، فقلت لذلك الذي سماه لي الرجل: إني قد صبأت، قال: أو قد فعلت؟ قلت: نعم. فنادى بأعلى صوته: إن ابن الخطاب قد صبأ. فتبادروا إلي فما زلت أضربهم ويضربونني. واجتمع الناس. فأجارني خالي
أبو جهل، فرددت عليه جواره، وما زلت في نزاع وخصام مع أعداء الله حتى أعز الله الإسلام1. وتتعدد الروايات حول إسلام عمر. ولكنها تتفق جميعًا على أن عمر خرج يريد شرًّا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو على الأقل لم يكن يريد الدخول في الإسلام ولكن الله وجهه وهداه، فكان إسلامه فتحًا ونصرًا كبيرًا وحدثًا قويًّا اهتزت له قريش خوفًا وفزعًا. وفي الحق لقد قوي المسلمون واشتد ساعدهم بدخول حمزة وعمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- في الإسلام، لما كان عليه من الشجاعة والإقدام، ولما كان لهما في مكة من مكانة ممتازة، ولا سيما عمر، فقد كانت قريش تخافه وتهابه، ولذلك اهتزت قلوبهم هلعًا وضاقوا بإسلامهما ذرعًا، فسلكوا سياسة عنيفة مليئة بالأحداث الجسام للقضاء على هذه الفئة المسلمة مما أدى إلى الهجرة الثانية لبلاد الحبشة.
قصة الغرانيق
قصة الغرانيق: قصة الغرانيق قصة مشهورة، وقد كثر فيها كلام الكتاب والباحثين المعاصرين. ومن العجيب أن بعض المراجع المهمة كالطبري في تاريخه وابن سعد في طبقاته، وابن الأثير في كتابه الكامل: قد أثبتت هذه القصة دون أن تعلق عليها بما يدل على بطلانها وفساد، مع أنها تحمل في طياتها ما يوهنها، بل ما يهدمها من أساسها1.
ومجمل هذه القصة أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- لما رأى تجنب قريش إياه وإيذاءهم له ولأصحابه تمنى ألا ينزل عليه شيء من القرآن ينفرهم، فجلس يومًا في أحد أنديتهم حول الكعبة، فقرأ عليهم سورة النجم حتى بلغ قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ اللاَّتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم: 19، 20] . فقرأ بعد ذلك: "تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى"، ثم مضى إلى نهاية السورة كلها وسجد في آخرها عند قوله: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم: 62] ، وهناك سجد القوم جميعًا، ولم يتخلف منهم أحد، وأعلنت قريش رضاها عما تلا النبي -صلى الله عليه وسلم- وقالوا له: قد عرفنا أن الله يحيي ويميت ويخلق ويرزق، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده، أما إذا جعلت لها نصيبًا فنحن معك، وبذلك زال وجه الخلاف بينه وبينهم. وفشا أمر ذلك في الناس حتى بلغ أرض الحبشة، فقال المسلمون بها: عشائرنا أحب إلينا. ورجعوا إلى مكة. وتضيف الرواية أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- قد كبر عليه قول قريش: أما إذا جعلت لنا
نصيبًا فنحن معك، وأنه جلس في بيته حتى إذا أمسى أتاه جبريل فعرض النبي -صلى الله عليه وسلم- سورة النجم. فقال جبريل: أو جئتك بهاتين الكلمتين؟ مشيرًا إلى: "تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى". فقال محمد -صلى الله عليه وسلم- حينئذٍ: "لقد قلت على الله ما لم يقل ... "، ثم أوحى الله إليه: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِي عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً، وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً، إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} 1. وبذلك عاد يذكر آلهة قريش بالشر ويسبهم، وعادت قريش لمناوأته وإيذاء أصحابه. تلكم هي قصة الغرانيق في جملتها، وهي قصة واضحة الكذب، ولغة الوضع فيها ظاهرة ... ولذلك لم تنطل على كثير من العلماء والثقات أمثال محمد بن إسحق2 والقسطلاني3، فقالوا عنها: إنها من وضع الزنادقة. ولعل بعض المؤرخين الذين أثبتوها كانوا يؤمنون بفسادها، ولكنهم وضعوها في كتبهم لاستيفاء جميع الروايات التي وردت في الموضوع الذي يتعرضون له، مطمئنين إلى فطنة القارئ ويقظته. ولعلها دست إلى بعض هذه الكتب بعد موت أصحابها4 ... وحسبنا في إبطال هذه القصة، أن نقرأ الآيات القرآنية في سورة النجم، لنرى
أنها أبلغ رد على ما تدل عليه الجملتان الموضوعتان، وذلك حيث يقول سبحانه: {أَفَرَأَيْتُمْ اللاَّتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى، أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى، تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى، إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 19-23] . فكيف يعقل أن تحشر -في هذه الآيات التي وضحت دلالتها على حقارة الأصنام وسفه من يقدسونها- جملتان ترفعان من شأن هذه الأصنام وتجعلان لها شفاعة مرجوة؟ 1 وكيف يمكن أن يسجد المشركون بعد أن يسمعوا هذه الآيات، وفيها طعن صريح على آلهتهم حيث يقول الله عنها: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم: من الآية: 23] . وأما أن محمدًا -عليه الصلاة والسلام- قد كبر عليه قول المشركين: إنهم معه ما دام قد جعل لآلهتهم نصيبًا من الشفاعة ... فهذا كلام لا يتفق مع جوهر الدعوة الإسلامية ومبادئها العامة التي تحارب الشرك بكل مظاهره، والتي تقوم على التوحيد الخالص البعيد عن كل الوسطاء والشفعاء ... 2.
وأما أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد أوحى إليه بعد ذلك بتلك الآيات الكريمة وهي قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِي عَلَيْنَا غَيْرَهُ} 1. فلا شك أن هذه الآيات لا تؤيد مثل هذا الادعاء ولا تفيد وقوع مثل هذا الافتراء لأن الله يقول: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} 2. وما دام الله قد ثبته على الحق فقد حال بينه وبين الافتراء على الله والركون إلى أعداء الحق. وأما ما ساقه هؤلاء الكاذبون الذين وضعوا هذه القصة من الاستشهاد على وقوعها بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} 3. وتفسيرهم التمني بالقراءة وتعزيزهم لهذا التفسير ببيت من الشعر يحكي قصة عثمان بن عفان -رضي الله عنه- ليلة مقتله فيقول: تمنى كتاب الله أول ليلة ... وآخرها لاقى حمام المقادر فهذه الآية الكريمة لا ينبغي أن يفسر التمني فيها بالقراءة؛ لأن هذا التفسير بعيد كل البعد عن المقصود، وليس له في الأساليب العربية وجود إلا في هذا البيت وحده، وفي ذلك دليل واضح على أن هذا البيت قد وضع لهذا
الغرض خاصة1، هذا ولو أننا فسرنا التمني بمعنى القراءة فإن معنى ذلك أن يلقي الشيطان في قراءة كل نبي كلامًا ليفتن به الناس ثم ينسخه الله بعد ذلك، وهذا ما لم يقع للأنبياء من قبل كما عرفنا من تاريخهم، وذلك فضلًا عن أن كثيرًا من الأنبياء لم تنزل عليهم كتب حتى يغير الشيطان فيها، ثم ينسخ الله بعد ذلك ما يفعله الشيطان. على أن سنة الله في رسله وأنبيائه أن يؤلف حولهم القلوب في مبدأ دعواتهم بإجراء المعجزات والخوارق على أيديهم، بدل أن يمكن الشيطان من إلقاء الفتنة وإشعالها بين أتباعهم بنسخ ما ينزل عليهم فينفر الناس منهم ويضعف الثقة بهم. والآية -حينئذ- تفسر على النحو الواضح المألوف في لغة العرب2، ويكون المعنى: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى هداية قومه ألقى
الشيطان في أمنيته، أي وضع الشيطان في طريق تحقيق أمنيته العقبات والعراقيل1، فينسخ الله ما يلقي الشيطان أي فيذهب الله ما وضعه الشيطان من تلك العقبات، ثم يحكم الله آياته أي يظهر الحق ويرسي أسسه2 ودعائمه، والله عليم حكيم، وصدق الله العظيم حيث يقول عن كتابه الكريم: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ، وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} 3. وبهذا تبين لنا أن قصة الغرانيق قصة مختلقة، دست إلى بعض الكتب القديمة4. وإذن فليست هي السبب في رجوع المسلمين من الحبشة5، وإنما رجع هؤلاء المسلمون إلى مكة بسبب ما علموا من إسلام حمزة وعمر واعتقادهم أن إسلام هذين البطلين سيعتز به المسلمون وتقوى شوكتهم6.
ولكن قريشًا واجهت إسلام حمزة وعمر بتدبيرات جديدة يتجلى فيها المكر والدهاء من ناحية، والقسوة والعنف من ناحية أخرى، فزادت في أسلحة الإرهاب التي تستعملها ضد محمد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه سلاحًا قاطعًا وهو سلاح المقاطعة الاقتصادية، وكان من جراء ذلك الموقف العنيف أن رجع المسلمون إلى الحبشة مرة ثانية، وانضم إليهم عدد كبير ممن لم يهاجروا قبل ذلك.
الهجرة الثانية إلى الحبشة
الهجرة الثانية إلى الحبشة: وأما المرة الثانية فقد تمت بعد عام واحد من رجوع المسلمين الذين خرجوا في المرة الأولى، وذلك لأن المسلمين وجدوا أن موقف العنف والاضطهاد من قريش لم يتغير، بل ازداد شدة وخطورة، وتبين لهم أن إسلام حمزة وعمر قد زاد من حقد المشركين وطغيانهم. ولهذا فكر كثير ممن هاجر إلى الحبشة في المرة الأولى أن يعودوا مرة ثانية، كما رغب غيرهم من مرافقتهم، وعلى الأخص حينما علموا من إخوانهم بما فعله الأحباش معهم من إعزاز وتقدير، وما قاموا به نحوهم من تكريم. وقد رسم المسلمون لأنفسهم خطة السير إلى الحبشة، واستعدوا إلى الرحلة لإقامة كريمة ينعمون فيها بعبادة الله وحده آمنين حتى يأتي نصر الله ويعم نور
الإسلام، فخرج في هذه المرة الثانية ثلاثة وثمانون رجلًا وإحدى عشرة امرأة1، فوصلوا إليها وأقاموا فيها مدة طويلة، ثم عادوا بعدأن أذن الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم- بالهجرة إلى المدينة2. وكان هذا العدد الكبير الذي هاجر في هذه المرة مقلقًا لقريش، فأخذت الظنون والوساوس الشيطانية تلعب بعقولهم، ففكروا في سد هذا الطريق على المسلمين، وأرسلوا عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد ومعهما الهدايا النفيسة إلى النجاشي لكي يرد المسلمين إلى مكة. فلما دخلا عليه قالا: أيها الملك إن نفرًا من بني عمنا نزلوا أرضك، ورغبوا عنا وعن ملتنا، وجاءوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا أشراف قومهم لتردهم إليهم. وقد أبى النجاشي أن يرد المسلمين الذين هاجروا إليه حتى يسمع مقالتهم ويبعث في طلبهم. فلما جاءوا سألهم: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم؟ فرد عليه جعفر بن أبي طالب قائلًا: أيها الملك: كنا قومًا نعبد الأصنام، ونأكل الميتة ونأتي الفواحش، ويأكل القوي الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولًا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وحسن الجوار، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، فصدقنا وآمنا برسالته فعذبنا قومنا ليردونا إلى عبادة الأصنام، فلما ظلمونا وضيقوا علينا خرجنا إلى بلادك واخترناك على سواك.
فقال النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله شيء تقرؤه علي؟ قال جعفر: نعم، وتلا عليه سورة مريم من أولها إلى قوله تعالى: {وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً، وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} 1. فقال النجاشي: إن هذا هو ما جاء به موسى، وسيدنا يسوع المسيح، انطلقا فوالله لا أسلمهم أبدًا2. وحينئذٍ عاد عمرو وصاحبه إلى مكة دون أن ينجحا في مهمتهما. وعاش المسلمون إلى جوار النجاشي في أمن وسلام، واستقروا إلى أن كانت الهجرة الكبرى إلى المدينة.
مقاطعة قريش لبني هاشم وبني المطلب
مقاطعة قريش لبني هاشم وبني المطلب 1: وأمام هذا الخطر الزاحف الذي هدد قريشًا وأفزعها، وعلى الأخص بعد أن أسلم حمزة وعم واشتد بهما ساعد المسلمين. وبعد أن هاجر هذا العدد الكبير من المسلمين إلى الحبشة وعجزت قريش عن إرجاعه وأصبح وجوده في هذه البلاد مثارًا للقلق ومبعثًا للشكوك، ونواة
لشر منتظر عما قريب. أمام ذلك كله فكرت قريش في سلاح رهيب تقاوم به هذا الشر والخطر، وهو سلاح المقاطعة الاقتصادية، فاتفقت على أن تقاطع بني هاشم وبني المطلب مقاطعة تامة، فلا يتزوجون من نسائهم، ولا يبيعون لهم شيئًا، ولا يشترون منهم، ولا يخالطونهم ولا يقبلون منهم صلحًا، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للقتل. وسجلوا هذه القرارات في صحيفة ختمت بأختام وعلقت في جوف الكعبة تأكيدًا لاحترامها1، فيكون الخروج عليها أو عدم الوفاء بما فيها بمثابة الخروج على العقيدة الموروثة. وكانوا يعتقدون أن سياسة التجويع والمقاطعة سيكون لها من الأثر ما يحقق أغراضهم. وإزاء هذه المقاطعة الجائرة الغاشمة انتقل كل بني هاشم وبني المطلب ومعهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى شعب كان يطلق عليه شعب أبي طالب، بظاهر مكة، يعانون الحرمان ألوانًا، حتى لقد بلغ من سوء حالهم أن أكلوا أوراق الأشجار. ولم يتخلف عن الانضمام إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- من بني هاشم سوى عمه أبو لهب الذي أسرف في تعصبه للأصنام وفجر في بغضه للإسلام، ولم يرع للقرابة حرمة، ولا للرحم مودة.
واستمرت هذه المقاطعة المروعة ثلاثة أعوام متتابعة لم يجرؤ أحد من بني هاشم وبني المطلب خلالها أن يدخل مكة، ومع ذلك فقد ضربوا أروع الأمثال في الصبر والاحتمال، وكان أبو طالب يعلن قريشًا بأنه سوف يظل مؤيدًا لمحمد -صلى الله عليه وسلم- مهما بلغت التضحيات وعظمت المتاعب، ويروى عنه أنه قال في وسط هذه المحنة: فلسنا ورب البيت نسلم أحمد ... لعزاء من عض الزمان ولا كرب ولسنا نمل الحرب حتى تملنا ... ولا نشتكي ما قد ينوب من النكب ولكننا أهل الحفائظ والنهى ... إذ طار أرواح الكماة من الرعب1 ثم أذن الله لهذا الليل الطويل بالانتهاء، فقام خمسة من كرام الرجال هم: هشام بن عمرو وزهير بن أمية والمطعم بن عدي وأبو البختري بن هشام وزمعة بن الأسود، فشقوا صحيفة هذه المقاطعة وأعلنوا نقضها2.
وحينئذٍ خرج بنو هاشم وبنو المطلب من هذا السجن الضيق المميت إلى معترك الحياة، ضاربين في الإخلاص لمحمد -صلى الله عليه وسلم- أروع الأمثال، محتملين من التضحية ما ينوء بالأبطال.
عام الحزن
عام الحزن: ولم يشأ الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم- أن ينعم بعد خروجه من الشعب بفترة طويلة من الراحة والطمأنينة، إذ لم تمض عدة شهور على تمزيق صحيفة المقاطعة وخروجه مع أهله إلى الحياة، حتى فاجأت محمدًا -صلى الله عليه وسلم- في عام واحد فاجعتان اهتز لهما قلبه، وهما: موت أبي طالب، وموت السيدة خديجة -رضي الله عنها- ولقد حزن الرسول -صلى الله عليه وسلم- عليهما حزنًا شديدًا لما كان لهما من أثر بالغ في نصرة الإسلام والدفاع عنه ضد أعدائه. فأبو طالب وإن كان قد مات مشركًا، ولكنه كافح وجاهد في مؤازرة محمد -صلى الله عليه وسلم- ولم يتخل عن حمايته -كما رأينا- في أحرج الظروف وأعنف الأزمات، حتى قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- عنه: "والله ما نالت مني قريش شيئًا أكرهه حتى مات أبو طالب" 1. وأما خديجة -رضي الله عنها- فحبسها ما قاله الرسول -صلى الله عليه وسلم- عنها في مواجهة نسائه الأخريات: "لقد آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني
بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله ولدها إذ حرمني أولاد النساء" 1. فلا عجب إذا سمى هذا العام في حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- عام الحزن، لكثرة ما أصاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيه من الهموم والأحزان.
خروجه إلى الطائف
خروجه إلى الطائف: وكان موت أبي طالب وموت السيدة خديجة مشجعًا لقريش على المضي في عدائهم للرسول -صلى الله عليه وسلم- بل لقد أخذوا يسرفون في العدوان والأذى حتى بلغ الأمر بهم أن ألقى بعض السفهاء الأقذار عليه، وهو في طريقه إلى بيته1، وهذا مثل من أمثلة كثيرة فعلها هؤلاء المشركون الآثمون مع محمد -صلى الله عليه وسلم- في هذه الفترة. وكان ذلك من أهم الأسباب التي جعلته يخرج إلى الطائف لعله يجد من قبيلة ثقيف -وهي أهم قبائل العرب بعد قريش- من ينصره ويؤازره. ولكن -ويا للأسف- لم يجد منهم إلا الجحود والإعراض، والسخرية والاستهزاء، حتى لقد أغروا به عبيدهم وسفهاءهم يسبونه ويصيحون وراءه ويقذفونه بالحجارة، حتى ابتعد عن الطائف ولجأ لحديقة مملوكة لعتبة وشيبة ابني ربيعة، فاحتمى بها وجلس في ظل شجرة من أشجارها، وقد أجهده التعب، ودميت عقبه وضاق صدره، واشتد به الكرب والبلاء، ثم لجأ إلى الله بهذا الدعاء:
"اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين. أنت رب المستضعفين، وأنت ربي. إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أو إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي. ولكن عافيتك هي أوسع لي ... أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك. لك العتبى حتى ترضى. ولا حول ولا قوة إلا بك". فلما رأى عتبة وشيبة ما أصاب محمدًا -صلى الله عليه وسلم- من جهد وتعب: رقا له، وتحركت فيهما نخوة الكرم، فأرسلا إليه عبدهما المسيحي عداسًا بقطف من العنب فلما مد الرسول -صلى الله عليه وسلم- يده قال: "بسم الله" ثم أكل. فنظر عداس إلى وجهه، ثم قال: إن هذا الكلام لا يقوله أهل هذه البلاد. فقال له الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "من أي البلاد أنت؟ وما دينك؟ " قال: نصراني من نينوى. قال: "من قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟ " فقال عداس: وما يدريك ما يونس بن متى؟ قال -صلى الله عليه وسلم: "ذاك أخي. أنا نبي وهو نبي" 1.
فأكب عداس على محمد -صلى الله عليه وسلم- يقبل رأسه ويديه وقدميه. ولما رجع عداس إلى ابني ربيعة، قالا له: ويلك يا عداس، ما لك تقبل هذا الرجل؟ فأجابهما قائلًا: ما في الأرض خير من هذا الرجل. وقد رجع الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك إلى مكة، فوجد قومه يقفون بالمرصاد لكي يمنعوه من الدخول، فاستجار بالمطعم بن عدي، فأجاره المطعم وتسلح هو
وبنوه لحمايته حتى دخل مكة والطاف، البيت، ثم انصرف إلى منزله في حراسة المطعم وأولاده1 ليعود إلى الكفاح من جديد، وليستأنف تبليغ الدعوة في هذا الجو العاصف المليء بالأخطار والمخاوف.
الإسراء والمعراج
الإسراء والمعراج وبين هذه العواصف العنيفة والأخطار المخيفة التي كانت تحيط بمحمد -صلى الله عليه وسلم- تمتد يد الرحمن بالرحمة والخير والحنان، وتحتضن العناية الإلهية محمد -صلى الله عليه وسلم- لترتفع به إلى أسمى مكان ... ويقع حادث الإسراء والمعراج تكريمًا من الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم- ليكون في ذلك عوض أي عوض عما لحقه من أذى المشركين وعنتهم، وما أصابه من آلام ومتاعب في طريقه الشاقة إلى غايته الكريمة {ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً} 1. ولقد وقع الإسراء والمعراج في السنة الثانية عشرة من البعثة النبوية، وفي الليلة السابعة والعشرين من شهر رجب كما هو المشهور2. ولقد ثبت الإسراء بصريح القرآن الكريم، حيث يقول الله تعالى:
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1. وثبت الإسراء والمعراج معًا بالأحاديث النبوية الصحيحة التي لا يتطرق إليها الضعف والوهن. ومن ذلك ما جاء في الصحيحين عن أنس بن مالك2 -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أتيت بالبراق وهو دابة فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه. قال: فركبته حتى أتيت بيت المقدس فربطته بالحلقة التي تربط بها الأنبياء. ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم خرجت فأتاني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن. فقال جبريل: اخترت الفطرة. ثم عرج بنا إلى السماء الدنيا، فاستفتح جبريل فقيل: من أنت؟ قال: جبريل. قيل. ومن معك؟ قال: محمد. قيل: أوقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح لنا. فإذا أنا بآدم، فرحب بي ودعا لي بخير. ثم عرج بنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل. فقيل من أنت؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: أوقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح لنا. فإذا أنا بابني الخالة يحيى وعيسى ابن مريم فرحبا بي ودعوا لي بخير. ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة فذكر مثل الأولى ففتح لنا. وإذا أنا بيوسف،
فرحب بي ودعا لي بخير. ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة، فذكر مثله. فإذا أنا بإدريس فرحب بي ودعا لي بخير. ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة، فذكر مثله. فإذا أنا بهارون. فرحب بي ودعا لي بخير. ثم عرج بنا إلى السماء السادسة فذكر مثله. فإذا أنا بموسى فرحب بي ودعا لي بخير. ثم عرج بنا إلى السماء السابعة، فذكر مثله. فإذا أنا بإبراهيم.. ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى، فأوحى الله إلي ما أوحى ففرض علي وعلى أمتي خمسين صلاة في كل يومٍ وليلة ... فنزلت إلى موسى فقال: ما فرض ربك على أمتك؟ قلت: خمسين صلاة. قال: ارجع إلى ربك فسله التخفيف، فإن أمتك لا يطيقون ذلك، فإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم. يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم: فما زلت أراجع ربي حتى جعلها خمس صلوات في اليوم والليلة، وقال: يا محمد هن خمس في العدد ولكنهن خمسون في الأجر والثواب: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} [ق: من الآية: 29] ". هذه قصة الإسراء والمعراج كما ذكرها لنا رسولنا الصادق الأمين، وهي -كما تبين لنا- رحلة حقيقية بالجسد والروح معًا، ولم تكن رؤيا في منام كما وهم الواهمون، ولو كان الإسراء والمعراج بالروح فحسب لما كذبه المشركون من قريش وسائر العرب، ولما عجبوا له هذه العجب وقابلوه بالإنكار والجحود
والسخرية والإزدراء، بل لما ذكره الله -عز وجل- في مقام التكريم والامتنان على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث يقول: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1. وقد حاول بعض العلماء المحدثين أن يستدل على إمكان الإسراء والمعراج أو يقرب إمكان وقوعه إلى الأذهان بما وصل إليه العلم من مخترعات حديثة، تطوي المسافات الشاسعة في زمن قليل، كالطائرات النفاثة التي تسبق سرعتها سرعة الصوت. وكالصوراريح التي تحمل الإنسان إلى القمر ثمر ترجع به إلى الأرض.. إلى غير ذلك ... ولكننا لا نذهب مثل هذا المذهب، فإن هذه المخترعات الحديثة مهما بلغت من عظمة لها مقومات من الأسباب والمسببات، وكل شيء يقوم وجوده على سبب فهو أمر لا يدعو إلى العجب. والمعجزات التي اختص الله بها الرسل والأنبياء، إنما هي أمور خارقة تدعو إلى العجب ولا تخضع -فيما نعلم- لسبب. وما دمنا نحن المسلمين نؤمن بأن عيسى ابن مريم -عليه السلام- كان يحيي الموتى بإذن الله، ويبرئ الأكمة والأبرص بإذن الله، ونؤمن بأن الله سخر لسليمان الريح تحمله وتجري بأمره -غدوها شهر ورواحها شهر- ونؤمن بغير ذلك من المعجزات لجميع الرسل والأنبياء، فلماذا يصعب علينا أن نؤمن بأن الإسراء والمعراج آية خالدة كرم الله بها خاتم الرسل والأنبياء؟ أجل، لقد كان الإسراء والمعراج رحلة حقيقية بالروح ولا جسد، ولقد رأى
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما رأى من الآيات الكبرى، ثم رجع بعد تلكم الرحلة المباركة إلى مكة المكرمة، تحف به السكينة، ويغمره الرضا والطمأنينة. فلما أصبح الصابح، وأخبر الناس بحادث الإسراء، وأيقن الكثير منهم أن هذا كذب وافتراء، أو جنون هذيان، بل لقد ارتد عن الإسلام قوم لم يدخل الإيمان في قلوبهم وقالوا: هذا والله الأمر البين! والله إن العير لتطرد شهرًا من مكة إلى الشام مدبرة، وشهرًا مقبلة، فكيف يذهب محمد إلى بيت المقدس ويرجع إلى مكة في ليلة واحدة؟! ولقد طلبوا منه أن يصف لهم بيت المقدس، ولم يكن رآه قبل هذه الليلة فأخذت الحيرة والألم، فجلاه الله فصار يصفه وصفًا شاملًا لا شك فيه ... وسألوه عن آية أخرى على صدق كلامه! فقال: "مررت بعير بني فلان بوادي كذا فأنفرهم حس الدابة، فند لهم بعير، فدللتهم عليه وأنا متوجه إلى الشام، ثم أقبلت حتى إذا كنت بضجنان -جبل بتهامة- مررت بعير بني فلان، فوجدت القوم نيامًا، ولهم إناء فيه ماء وقد غطوا عليه بشيء، فكشف غطاؤه وشربت ما فيه، ثم غطيت عليه كما كان ... وآية ذلك: أن عيرهم الآن عند ثنية التنعيم يقدمها جمل أورق عليه غرارتان إحداهما سوداء والأخرى برقاء". فأسرع القوم إلى الثنية، فوجدوا الجمل كما وصفه لهم. وسألوهم عن الإناء، فأخبروهم أنهم وضعوه مملوءًا ماءً ثم غطوه، وأنهم هبوا فوجدوه مغطى كما غطوه ولم يجدوا فيه ماء. وسألوا الآخرين بعد ذلك فقالوا: صدق والله، لقد ندَّ لنا بعير بالمكان الذي
أخبركم عنه، فسمعنما صوت رجل يدعونا إليه حتى أخذناه1 ... وهكذا ذكر لهم من الأمارات والعلامات ما لا سبيل إلى الطعن فيه، ولكنهم على الرغم من ذلك كله لم يزدادوا إلا كفرًا وعنادًا، ولم يزدد الرسول -صلى الله عليه وسلم- بإزاء ذلك العناد منهم إلا صبرًا وجهادًا ... وأما أقوياء العقيدة من المؤمنين المخلصين، فقد زادهم هذا الحادث العجيب إيمانًا على إيمانهم. وحسبنا في ذلك موقف أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- فلقد ذهب إليه أناس وقالوا له: ما تقول يا أبا بكر في صاحبك؟ يزعم أنه قد جاء هذه الليلة بيت المقدس وصلى فيه ورجع إلى مكة. فقال لهم أبو بكر في ثقة المؤمن المخلص: والله لئن كان قال لكم ذلك، لقد صدق، والله إنه ليخبرني أن الخبر يأتيه من السماء إلى الأرض في ساعة من ليلٍ أو نهارٍ فأصدقه، فهذا أبعد ما تعجبون منه! ثم أقبل حتى انتهى إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبره الرسول بما وقع له من ذلك الحادث العجيب، فلم يزدد الصديق المؤمن إلا إيمانًا بالرسول -صلى الله عليه وسلم- وتصديقًا، حتى لقد سمِّي منذ ذلك اليوم صديقًا2.
وهكذا الإيمان القوي لا تضعفه الفتن مهما عصفت ريحها، وهكذا الصداقة المخلصة تعظم في المحن قيمتها، وتظهر عند الشدائد ثمرتها.
السموات السبع
السموات السبع: قد يتساءل بعض الناس عن حقيقة السموات السبع وهل هي من الكواكب الموجودة في هذا الكون الذي تتجدد -على مدى الأيام- عجائبه؟ أم أنها أجسام شفافة مبنية لها حوائط ونوافذ وأبواب، وبين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام؟ أم هي طبقات من الفضاء بعضها فوق بعض؟ أم هي شيء وراء ذلك كله؟ ومن الخير لنا أن نقف عند النصوص القاطعة وحدها، وألا نطلق العنان للخيال، أو نمعن في بحث ليس لنا فيه مجال، فالسموات حقيقة ثابتة لا ريب فيها، ولكن من أي شيء بنيت؟ وبأي كيفية رفعت؟ وعلى أية صورة رسمت؟ إلى غير ذلك من التفصيلات الدقيقة. كل ذلك لا داعي إلى الخوض فيه، فإن الإحاطة به مردها إلى العليم الحكيم الذي بناها، ورفع سمكها فسواها ... فقف أيها السائل عند حدك، ولا تخض لجة البحر العميق فتهلك ... فكم من أناس تمادوا مع هذا التيار فغرقوا، وكم من فلاسفة حاولوا أن يكشفوا هذه الأستار فاحترقوا، وتذكر أيها السائل قول القائل: تاه الأنام بسكرهم ... فلذاك صاحي القوم عربد من أنت يا رسطو1 ومن ... أفلاط قبلك قد تفرد ما أنتم إلا الفرا ... ش رأى السراج وقد توقد
فدنا فأحرق نفسه ... ولو اهتدى رشدًا لأبعد
لقاء الأنبياء
لقاء الأنبياء: كما يتساءل بعض الناس -كذلك- عن كيفية المقابلة التي تمت بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبين الأنبياء في هذا الملأ الأعلى؟ وإذا كان المعراج لم يثبت إلا لمحمد -صلى الله عليه وسلم- فيكف يمكن أن تنتقل أجساد هؤلاء الأنبياء ويعرج بها من الأرض إلى السماء؟ ولقد أجاب العلامة ابن القيم في كتابه زاد المعاد1 على هذا السؤال فقال: إن أرواح الأنبياء مستقرة في السماء، ولكن لها إشراف على البدن في الأرض وإشراق وتعلق. وبهذا التعلق رأى محمد -صلى الله عليه وسلم- أخاه موسى -عليه السلام- قائمًا يصلي في قبره، ورآه في السماء السادسة، ومعلوم أنه لم يعرج بموسى من قبره ثم رد إليه، بل ذلك مقام روحه واستقرارها، وقبره مقام بدنه واستقراره إلى يوم معاد الأرواح إلى أجسادها، فرآه يصلي في قبره، ورآه في السماء السادسة. كما أنه -صلى الله عليه وسلم- في أرفع مكان في الرفيق الأعلى مستقر هناك، وجسده في ضريحه غير مفقود، ومن كثف إدراكه وغلظت طباعه عن إدراك هذا فلينظر إلى الشمس في علو محلها، وتعلقها بالأرض وتأثيرها فيها، وحياة النبات والحيوان بها، وهذا شأن الروح فوق هذا فلها شأن وللأبدان شأن. وهذه النار تكون في محلها، وحرارتها تؤثر في الجسم البعيد عنها، ومع أن الارتباط الذي بين الروح والبدن أقوى وأكمل من ذلك وأتم، فشأن الروح أعلى
من ذلك وألطف: فقل للعيون الرمد إياك أن تري ... سنا الشمس فاستغشي ظلام اللياليا
بيعتا العقبة
بيعتا العقبة: كان بين الأوس والخزرج منذ استقروا في مدينة يثرب صراع قوي على المجد المادي والأدبي، أوجدته العصبية الجاهلية التي كانت تمشي في أرجاء الجزيرة العربية كما يمشي الوباء. وتسري بين القبائل والبطون كما تسري النار في الهشيم1. وكثيرًا ما أدت هذه العصبية بين الأوس والخزرج إلى حروب دامية لم تكن تهدأ حينًا إلا لتبدأ من جديد قوية عنيفة، وكان آخر هذه الأحداث ما وقع بين الفريقين في يوم بعاث2، وهو يوم مشهور في تاريخ الأوس والخزرج، هلك فيه قادتهم ورؤساؤهم، وتصدعت قوتهم، وتعرض مركزهم في يثرب للدمار والانهيار. وكان يجاورهم في يثرب جماعات من اليهود، وهم بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة. وطالما كان هؤلاء اليهود يثيرون العداوة والبغضاء بين الأوس والخزرج حتى يأكل بعضهم بعضًا، وحينئذٍ يقيم اليهود على أنقاض هذا الضعف قوة لهم. وقد أدرك الأوس والخزرج هذا الشعور من اليهود، فأخذوا يعضون بنان الندم، ويحسون بالخطر الداهم يحيط بهم، ويتطلعون ذات اليمين وذات الشمال إلى قائد وزعيم يوحِّد كلمتهم ويجمع شملهم. وكان يزيد من خوف الأوس والخزرج أن اليهود كانوا يتوعدونهم بين الحين
والحين بظهور نبي من العرب يُبعث، قد قَرُب زمانه يعرفونه بأوصاف ذُكِرت في كتبهم، ويتمنون لقاءه والالتفاف حوله حتى يقوي أمرهم ويطردوا الأوس والخزرج من المدينة1. وهذا الشعور الذي امتلأت به نفوس الأوس والخزرج هو الذي جعل قلوبهم مستعدة لقبول الإسلام، والخضوع لقيادة محمد عليه الصلاة والسلام. وقد شاء الله أن يلتقي جماعة من الخزرج بمحمد -صلى الله عليه وسلم- في مكة، وكان ذلك في موسم الحج سنة 620م، فسألهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن أحوالهم وعن علاقتهم باليهود، وحدثهم عن الدين الجديد، وبين لهم أصوله وتعاليمه، ودعاهم إلى الدخول فيه، وتلا عليهم بعض آيات من القرآن، فتأثروا إلى حدٍّ كبير بما سمعوا. ونظر بعضهم إلى بعض وقالوا: والله إنه النبي الذي تتحدث عنه اليهود وتهددنا به. فأسلم ستة منهم، ووعدوه بنشر الإسلام بين أهلهم2.
ثم عاد هؤلاء الستة إلى المدينة -يثرب- وذكروا لقومهم أمر ملاقاتهم لمحمد -صلى الله عليه وسلم- وعرضه عليهم الإسلام، فصدقوا به وآمنوا برسالته، فسارع بعضهم إلى الدخول في هذا الدين قبل اليهود، ولم تبق دار من دورهم إلا وفيها ذكر محمد عليه الصلاة والسلام1. وفي تلك الأثناء كان النبي -صلى الله عليه وسلم- في مكة ينتظر أخبار هؤلاء الستة الذين وعدوه المجيء في الموسم القادم، ليرى أثر دعوتهم في المدينة.
بيعة العقبة الأولى
بيعة العقبة الأولى ... البيعة الأولى: ومضت الأيام وأقبل موسم الحج عام 621م وفيه وفد اثنا عشر رجلًا من أهل يثرب، فأزالت أخبارهم السارة كل هموم النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما لاقاهم في المكان المتفق عليه مع الستة الذين أسلموا في الموسم الماضي "عند العقبة بالقرب من منى".
وحينما التقى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بوفد المدينة، حدثوه بأن أهل بلدهم ينتظرونه ليلتفوا حوله ويعتنقوا رسالته حتى يمكنهم أن ينتصروا على اليهود ويتخلصوا مما يحيط بهم من الخلاف والشقاق. وفرح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بلقاء الوفد، فلقد زاد عدد المسلمين إلى اثني عشر رجلًا، ومن ورائهم أهل يثرب، مستعدين لقبول الدعوة الإسلامية وحماية صاحبها، وفي هذه المقابلة تمت بيعة العقبة الأولى. وقد تحدث عن هذه البيعة عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- فقال: بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ألا نشرك بالله شيئًا، ولا نسرق ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف. ثم قال: "فإن وفيتم فلكم الجنة" 1. وتُسمى هذه البيعة في التاريخ: بيعة النساء، لأنها توافق الشروط التي ورد ذكرها في سورة الممتحنة خاصة بيعة النساء: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 2. وتعرف أيضًا بيعة العقبة، نسبة إلى المكان الذي عقدت عنده، وبعد أن تمت هذه البيعة واستعد القوم للرحيل والعودة إلى يثرب، بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- معهم مصعب بن عمير -رضي الله عنه- يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويجمع المسلمين ويصلي بهم، ولقد كان للتعاليم الإسلامية التي شرحها لهم مصعب أثر عظيم في
إقبال الناس على الدخول في الدين الإسلامي، لأنهم لم يروا فيه عنتًا أو مشقة، وإنما وجدوا يسرًا وفضائح يصلح بها حالهم ويستقيم أمرهم في الدنيا والآخرة، مع ما كان لهم من استعداد وترقب لرسول تحدثت به اليهود وأخبرت عنه الكتب السماوية، ولذلك زاد عدد الداخلين في الإسلام بيثرب زيادة واضحة، وأسلم على يد مصعب عدد كبير حتى لم تبق دار إلا وفيها مسلمون. وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- هادئ النفس، ولا تبدو عليه آثار التحمس للدعوة في الفترة التي كان الإسلام يتغلغل فيها في المدينة، وظنت قريش أن هدوء النبي -صلى الله عليه وسلم- ما هو إلا أمارة من أمارات الانصراف عن الدعوة، بعد أن لقي من قريش وثقيف أنواع العذاب، ولذلك رأت أن تخفف من اضطهادها له. ولكن الحقيقة هي أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- حول اهتمامه من قريش في مكة إلى أهل يثرب الذين كانوا دعاة صادقين وأنصارًا متحمسين، لأن نفوسهم كانت متلهفة إلى دين يوحد كلمتهم ويجمع صفوفهم، ويطهر نفوسهم من العداوة والبغضاء والفرقة والاختلاف، فجاءت تعاليمه على يد أولئك الذين أسلموا وكأنها الدواء الشافي لأمراضهم وعللهم. {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} 1. وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يفكر في مصعب أثناء غيبته ويفكر في أهل المدينة، ويدعو لمصعب بالتوفيق، ولأهل المدينة بالخير والهداية. وقد أخذ يتحرى أخباره، وما لاقاه من الأوس والخزرج، هل لبوا النداء؟ وهل أجابوا داعي الله؟
وهل تكون يثرب مشرق النور الإلهي وينبوع الخير الأبدي؟ 1 وظل هكذا، حتى عاد مصعب إلى مكة في موسم الحج بعد إقامة دامت هناك حوالي عام تقريبًا، وقص على النبي -صلى الله عليه وسلم- خبر المسلمين بالمدينة وأنهم في ازدياد وقوة، وأنهم بعد أيام سيجيئون في موسم الحج أكثر عددًا وأعظم إيمانًا بالله ورسوله.
بيعة العقبة الثانية
بيعة العقبة الثانية: وقد أعد الرسول -صلى الله عليه وسلم- للأمر عدته، وفكر في بيعة ثانية أعظم من البيعة الأولى، وأوسع مما كان يدعو إليه أهل مكة ومن حولها. وجاء حجيج المدينة إلى مكة في الموسم: مؤمنهم وكافرهم، وكان فيهم خمسة وسبعون مسلمًا، ثلاثة وسبعون رجلًا وامرأتان1. اثنان وستون من الخزرج، وأحد عشر من الأوس، وعلم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بمجيئهم ورغبتهم في لقائه، فاتصل سرًّا بزعمائهم حتى لا تعلم قريش بالأمر فتعمل على إلحاق الأذى بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وأتباعه، وتفسد على الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين خطة اجتماعهم، كما أخفى مسلمو يثرب أمرهم على من معهم من المشركين.
اجتماع الرسول صلى الله عليه وسلم بمسلمي يثرب
اجتماع الرسول -صلى الله عليه وسلم- بمسلمي يثرب: وقد واعد النبي -صلى الله عليه وسلم- مسلمي يثرب أن يقابلهم في آخر موسم الحج حتى لا
يكون هناك شبهة عند قريش، فهم في كل يومٍ يغدون ويروحون أمامهم، أما إذا غابوا عن الأنظار انكشف أمرهم، كما واعدهم أن تكون المقابلة ليلًا، وأن يكون مكانها عند العقبة، وانتظر مسلمو يثرب حتى انتهى أمر الحج وحان الموعد، فخرجوا من رحالهم بعد انقضاء ثلث الليل مستخفين حتى لا ينكشف أمرهم، ووصلوا العقبة وعلى رأسهم الاثنا عشر رجلًا الذين بايعوا النبي -صلى الله عليه وسلم- البيعة الأولى وقاموا ينظرون مقدم صاحب الرسالة. وأقبل محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى المكان المحدد -العقبة- ومعه عمه العباس بن عبد المطلب وهو يومئذٍ على دين قومه من الشرك، إلا أنه أحب أن يحضر مجلس ابن أخيه ليطمئن ويستوثق له، وكان ذلك قبل الهجرة بشهور وفي سنة 622م. ولما تكامل المجلس كان العباس أول متكلم فقال: يا معشر الخزرج، إن محمدًا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا، وهو في عزٍّ من قومه ومنعة في بلده، وقد أبى إلا الانحياز إليكم، واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم خاذلوه بعد خروجه إليكم فمن الآن فدعوه، فإنه في عزٍّ ومنعة من قومه وبلده. قال اليثربيون -وقد سمعوا كلام العباس-: قد سمعنا ما قلت وإن عزائمنا معقودة على ما أتينا من أجله. فتكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت. وعند ذلك تكلم -عليه الصلاة والسلام- وبدأ حديثه بآيات من القرآن الكريم كما كانت عادته قبل البدء في الحديث، ثم دعا إلى الله، ورغب في الإسلام، ثم قال: "أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نسائكم وأبناءكم". فأخذ سيدهم البراء بن معرور وكان له في تلك الليلة المقام الكريم بيد النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: والذي بعثك بالحق لنمنعك مما نمنع منه ذرارينا؛ فبايعنا يا رسول الله، فنحن
-والله- أبناء الحرب ورثناها كابرًا عن كابرٍ. وتبعه الباقون، فمدوا أيديهم إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- واحدًا بعد واحد يبايعون، وجاء بعدهم النساء يبايعن أيضًا. ولما فرغوا من البيعة قال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبًا يكونون على قومهم أمراء". فاختار القوم تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لهؤلاء النقباء: "أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم، وأنا كفيل على قومي" 1. وكذلك تمت البيعة الثانية وذهب كل إلى رحله في ظلام الليل، وهم على ثقة ويقين من أنه لا يعلم بهم أحد إلا الله. ولم يكد نور الصباح يظهر حتى كان أمر تلك البيعة حديث قريش فبدأت نفوسهم تضطرب لما سمعت، وقلوبهم تمتلئ فزعًا لهذا الحادث الخطير، وصمموا على أن يحولوا بين محمد -صلى الله عليه وسلم- وبين الوصول إلى يثرب، حتى لا يعظم أمره فيها ويصبح خطرًا عليهم. وهذا التحول في أمر الدعوة وصاحبها محمد -صلى الله عليه وسلم- حيث أجمعوا أمرهم على أن
يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم، فساروا إليهم وخاطبوهم قائلين: يا معشر الخزرج، بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا، وإنه -والله- ما من حيٍّّ من العرب يغضبنا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم أكثر منكم. فلم يجبهم أحد ممن أسلم بكلمة. أما المشركون منهم فقد حلفوا لهم أنه لم يحدث من ذلك شيء وما علموا به، وقال عبد الله بن أُبي وهو سيد من سادات مشركي يثرب: إن هذا الأمر جسيم ما كان قومي ليتفقوا على مثل هذا وما أعلم به. فاعتقد رؤساء قريش صدق قوله وانصرفوا1. وبعد ذلك بقليل بدأت قوافل الحجاج تعود إلى أوطانها، ولما مضى على رحيل أهل يثرب بضعة أيام تأكد لدى قريش أن ما علموه من أمر البيعة صحيح، وأن حديث عبد الله بن أُبيّ حديث غير العارف بها، ووقفت على تفاصيل ما دار في بيعة العقبة، فعرفت عدد الذين بايعوا ولم يخف عليهم كذلك ما تعاهدوا عليه من حمايتهم للرسول -صلى الله عليه وسلم- والدفاع عنه، لذلك قامت قيامتهم وخرجوا يتعقبون الركب المدني للإيقاع به، فلم يدركوا منهم إلا سعد بن عبادة وكان قد تأخر عن القافلة، فأخذوه وردوه إلى مكة مسحوبًا من شعره الطويل وعذبوه حتى أجاره جبير بن مطعم بن عدي، وأطلق سراحه ثم عاد إلى المدينة2.
الفصل الرابع
الفصل الرابع: الهجرة النبوية وتأسيس الدولة الإسلامية هجرة المسلمين إلى المدينة: أصبح الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون بعد بيعة العقبة الثانية يشعرون بأن قوة جديدة تقف إلى جانبهم، وأن أرضًا طيبة تتهيأ لاستقبالهم، وأخذ الأوس والخزرج -بعد رجوعهم إلى يثرب- يبشرون بالدعوة الإسلامية بين أهليهم وذويهم، فتقع من نفوسهم موقع الرضا والقبول، ويمدون أيديهم لتأكيد البيعة التي التزم بها إخوانهم الذين سبقوهم إلى لقاء محمد -صلى الله عليه وسلم. وهكذا أشرقت يثرب بنور الحق وانتشرت فيها مبادئ الإسلام وأصبحت مكانًا مناسبًا يأمن فيه المسلمون على أنفسهم من أذى المعتدين وطغيان الظالمين. أما مكة فقد اشتد فيها الأذى بالمسلمين والتضييق عليهم، حتى أصبح عيشهم فيها جحيمًا لا يطاق. ومن أجل ذلك أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أصحابه بالهجرة إلى المدينة، فصاروا يتسللون ويخرجون من مكة في ظلام الكتمان والخفاء، يحذرون قريشًا ويخشون خطرها ويرجون ألا تحول بينهم وبين الانتقال من هذا
الوسط الخبيث، وتلك البيئة الفاسدة، إلى جوٍّ المدينة الطاهر الجميل. وأول من خرج، أبو سلمة المخزومي زوج أم سلمة رضي الله عنهما1، ثم تتابع المهاجرون بعد أبي سلمة، فرارًا بدينهم ليتمكنوا من عبادة الله الذي امتزج حبه بنفوسهم. ولم يبق منهم إلا أبو بكر وعلي، وقليلون من المستضعفين الذين لم تمكنهم أحوالهم من الهجرة. وقد كان بقاء أبي بكر وعلي بأمر من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك أن أبا بكر أراد الهجرة. فقال له الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "علي رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي". فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك يا رسول الله، بأبي أنت؟ قال: "نعم". فحبس أبو بكر نفسه، انتظارًا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليكون في شرف صحبته، وجهز راحلتين عنده استعدادًا لذلك اليوم الموعود2. ولا شك أن هجرة المسلمين من مكة إلى المدينة كانت مبعث سعادة نفسية كبرى لهم، لأنهم تنفسوا الصعداء، وشعروا بالحرية التي لم يكونوا يألفونها، وأخذوا يعبدون الله وينشرون دينه في جوٍّ بعيد عن الضغط والإرهاب والظلم والعدوان. كما كانت ضربة قاضية على المشركين في مكة، إذا خاب أملهم وأفلت
المسلمون من قبضتهم، وأصبحوا يتوقعون منهم خطرًا كبيرًا لا ريب فيه.
المؤامرة الكبرى
المؤامرة الكبرى: وكانت دار قصي بن كلاب هي ندوة قريش يجتمعون فيها للنظر فيما يعنيهم من الأمور وما يصادفهم من المشكلات، ولا شك أن أمر محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- قد أصبح شغلهم الشاغل ومشكلتهم الكبرى، وعلى الأخص بعدما تم من بيعتي العقبة وظهور الإسلام في المدينة. ومن أجل ذلك فإن قريشًا قد اجتمعوا بدار الندوة، ليتشاورا فيما يصنعون بمحمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- بعد أن عظم أمره واشتد خطره. قال قائل منهم: نخرجه من أرضنا وننفيه إلى مكان بعيد كي نستريح منه فرفض هذا الرأي، لأنهم قالوا: إذا خرج إلى مكان آخر اجتمعت حوله الجموع، لما يرونه من حلاوة منطقه وعذوبة لفظه. وقال آخر: نوثقه ونحبسه حتى يدركه ما أدرك الشعراء قبله من الموت؛ فرفض هذا الرأي كذلك، لأنهم قالوا: لئن حبستموه كما تقولون ليظهرن أمره وليبلغن أصحابه، وليوشك هؤلاء أن يثبوا عليكم ليخلصوا محمدًا من أيديكم ثم يكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمركم ... وأخيرًا قال أبو جهل بن هشام: والله إن لي فيه رأيًا ما أراكم قد وقعتم عليه بعد. قالوا: وما هو يا أبا الحكم؟ قال: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابًّا جلدًا نسيبًا وسيطًا، ثم نعطي كل
واحد منهم سيفًا صارمًا، ثم يعمدوا إليه فيضربوه ضربة رجل واحد فيقتلوه، فنستريح منه، فإنهم إن فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعًا، ويرضون بالدية فنعطيها لهم. وقد وقع هذا الرأي في نفوسهم موقع الرضا والقبول، فوافقوا عليه وتهيئوا للإسراع في تنفيذه1. وهذا هو مكرهم، ولكن الله الذي يكتب ما يبيتون ويعلم ما يفعلون لم يتخل عن رسوله -صلى الله عليه وسلم- فأوحى إليه بما دبره له الأعداء في ندوتهم، وأمره بالهجرة من مكة إلى المدينة، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون. {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} 2. ومما تقدم يتبين لنا أن أسباب الهجرة تتلخص فيما يأتي: 1- شدة إيذاء المشركين من قريش للرسول -صلى الله عليه وسلم- وللمسلمين. وقد بلغ هذا الأذى نهايته في الفترة الأخيرة، أي بعد وفاة السيدة خديجة -رضي الله عنها- ووفاة أبي طالب، عم الرسول -صلى الله عليه وسلم.
2- بيعتا العقبة، وفي هاتين البيعتين وضح للرسول -صلى الله عليه وسلم- أن الأوس والخزرج مخلصون له وللإسلام، وأنهم سيدافعون عنه وينصرونه، وأن المدينة قد أصبحت بعد إسلام الكثيرين من الأوس والخزرج مكانًا طيبًا يمكن أن تنمو فيه الدعوة الإسلامية وتترعرع. 3- المؤامرة الكبرى، وهي تلك المؤامرة التي اتفق المشركون فيها على قتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والتخلص منه ليخلو الجو لهم، ويرجع المجد والسلطان لآلهتهم المزعومة، وعقائدهم الفاسدة.
بدء الهجرة النبوية
بدء الهجرة النبوية: وتتحدث السيدة عائشة -رضي الله عنها- عن يوم الهجرة النبوية فتقول1: كان لا يخطئ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يأتي أبي بكر أحد طرفي النهار، إما بكرة، وإما عشية، حتى إذا كان اليوم الذي أذن الله فيه لرسوله -صلى الله عليه وسلم- في الهجرة والخروج من مكة. ومن بين ظهري قومه أتانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالهاجرة في ساعة كان لا يأتي فيها. قالت: فلما رآه أبو بكر قال: ما جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذه
الساعة المتأخرة إلا لأمر حدث. قالت: فلما دخل تأخر له أبو بكر عن سريره، فجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وليس عند أبي بكر إلا أنا وأختي أسماء بنت أبي بكر، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أخرج عني من عندك"، قال: يا رسول الله إنما هما ابنتاي، وما ذاك فداك أبي وأمي؟ قال: "إن الله أذن لي في الخروج والهجرة". قالت: فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله؟ قال: "الصحبة". قالت: فوالله ما شعرت قط -قبل ذلك اليوم- أن أحدًا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يومئذٍ يبكي. وقد بكى أبو بكر -رضي الله عنه- من فرط السرور؛ لأنه أدرك مدى النعمة التي مَنّ الله بها عليه، إذ شرفه بصحبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في هذا الوقت العصيب. وفي تلك الرحلة الخالدة التي ستكون حدًّا فاصلًا بين الحق والباطل وسيتقرر بها مصير الإسلام والمسلمين. وكان أبو بكر قد جهز راحلتين له وللرسول -صلى الله عليه وسلم- ثم استأجر دليلًا خبيرًا بطرق الصحراء واسمه: عبد الله بن أريقط، وعلى الرغم من أن هذا الرجل كان كافرًا إلا أنهما وثقا من أمانته وإخلاصه، فواعده غار ثور بعد ثلاث ليال. وكانت الليلة التي خرج فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مكة في العشر الأواخر من شهر صفر. وفي السنة الثالثة عشرة من البعثة النبوية، وكان المشركون قد ترصدوا للرسول -صلى الله عليه وسلم- في تلك الليلة، وأحاطوا بداره لكي ينفذوا مؤامرتهم الغادرة. وقد أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أن يبيت في مكانه وسجّاه ببردته، فكان المشركون إذا نظروا من ثقب الباب وجدوا شبحًا نائمًا وعليه بردة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيعتقدون أنه محمد فيطمئنون، ثم خرج محمد
-صلوات الله وسلامه عليه- على المشركين وهو يقرأ: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} 1. فألقى الله النوم عليهم فلم يره أحد منهم2 ثم تقابل الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع أبي بكر وسارا حتى بلغا غار ثور فاختبآ فيه ثلاث ليال حتى ينقطع الطلب عنهما، وتيأس قريش من مطاردتهما.
في غار ثور
في غار ثور: وصل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى غار ثور ومعه صاحبه الوفي الأمين أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- وقد سبق أبو بكر رسول الله إلى دخول الغار ليستبرئه. فلما اطمأن إلى سلامته من الهوام والحشرات، نادى الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالدخول ومكثا في ذلك الغار الموحش ثلاث ليال. وكان عبد الله بن أبي بكر قد عرف من أبيه حين الهجرة من مكة أنه سيلجأ مع النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى غار ثور ... فكان إذا جن الليل ينطلق إلى الغار فيقص على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلى أبيه ما رأى من مشركي قريش وما سمع من تدبيرهم، ثم يأتي عامر بن فهيرة مولى أبي بكر بأغنامه فينال الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر من ألبانها ولحومها ما يشاءان، ثم يعود عبد الله بن أبي بكر، ويعود عامر بالقطيع وراءه ليعفي على أثره، ويعود اللاجئان إلى عزلتهما بالغار يؤنسهما الإيمان وتحيط بهما عناية الرحمن. وقد فزع مشركو قريش لهجرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخروجه من مكة أشد الفزع، فطاردوه في كل مكان وقعدوا له كل مرصد، وتتبعوا آثاره وآثار صاحبه حتى
انتهى بهم المطاف إلى مقربة من غار ثور. وقد ساورهم الشك في أن يكون محمد -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه قد لجآ إلى ذلك الغار، فأخذوا يتشاورون فيما بينهم ويتساءلون، وكان على مقربة من الغار راعٍ ... فلما رآه المشركون سألوه: هل رأيت محمدًا وأبا بكر؟ وهل تعرف أين ذهبا؟ وأجاب الراعي: قد يكونان بالغار ... وإن لم أر أحدًا أمّه. وسمع الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر هذا الحديث، وسمعا وقع أقدام المشركين وهم يتقدمون نحو الغار، فاستولى الخوف الشديد على أبي بكر الصديق حتى تصبب عرقًا وقال: يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى موضع قدمه لرآنا. ولكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يطمئنه ويقول له: "يا أبا بكر ما ظنك في رجلين الله ثالثهما، يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا". ثم تقدم واحد منهم نحو الغار، ودار حوله وأمعن النظر فيه، فلم يلبث أن عاد أدراجه. وسأله أصحابه: ماذا رأيت بالغار؟ فقال: إن العنكبوت عليه من قبل ميلاد محمد، وقد رأيت حمامتين وحشيتين على فم الغار فعرفت أن ليس فيه أحد، فاعتقد المشركون أن الغار مهجور ورجعوا خائبين1. وهكذا تتجلى عناية الله ورعايته للرسول -صلى الله عليه وسلم- في كل خطوة من خطواته، وفي ذلك يقول الله -عز وجل:
{إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 1. وإذا كان القرآن الكريم لم يشر إلى نسيج العنكبوت، ولا إلى وجود حمامتين وحشيتين عند الغار، فإن كتب الحديث النبوي قد أشارت إلى شيء من ذلك، فقد ذكر أحمد في مسنده عن ابن عباس -رضي الله عنهما: أن أهل مكة لما اقتفوا أثر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد خروجه من مكة وصلوا إلى جبل ثور، فصعدوا فيه فمروا بالغار فرأوا على بابه نسيج العنكبوت فقالوا: لو دخل هنا أحد لم يكن نسيج العنكبوت على بابه2. على أننا يمكن أن نستشف من قوله سبحانه: {فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} أي أيده بعنايته، ومن قوله: {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} أن نسيج العنكبوت ووجود الحمامتين الوحشيتين وإخفاء هذه الأشياء لمحمد -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه عن عيون الأعداء إنما هو أثر من عناية الله ورمز لجنود الله، إن جنود الله هي القوى التي يمتلئ بها الكون ويسخرها الله -إذا شاء- للقضاء على الظالمين، أو إعانة الضعفاء أو إغاثة الملهوفين، وقد يتمثل ذلك في إنسان أو حيوان أو طائر، أو أي كائن صغير أو كبير.
ومن عجب أن المفسرين حينما يفسرون قوله سبحانه: {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} يقولون عنها: إنها الملائكة التي نزلت في يوم بدر وفي يوم حنين1، ولا شك أن الآية تتحدث عن الغار وما وقع فيه من رعاية إلهية لمحمد -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه وكل الأفعال الواردة في الآية الكريمة من إنزال السكينة وتأييد الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالجنود وجعل كلمة الذين كفروا هي السفلى وكلمة الله هي العليا.. كل ذلك إنما تتعلق به الظروف التي اختصها الله بالذكر في هذه الآية وأعني بها {إِذْ أَخْرَجَهُ} ، و {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} ، و {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ} 2.
ومن هنا يسوغ لنا أن نقول -والله أعلم- إن تأييد الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم- بالجنود يُقصد به في هذه الآية ما سخره الله من القوى لنصرة محمد -صلى الله عليه وسلم- وتيسير طريقه إلى يثرب وإخفاء المعالم التي تدل عليه حتى يصل إلى غايته في أمن وسلام1، ولله قول شوقي حينما يسجل تلك العناية في قصيدته نهج البردة: سل عصبة الشرك حول الغار حائمة ... لولا مطاردة المختار لم تحم هل أبصروا الأثر الوطاء أم سمعوا ... همس التسابيح والقرآن من أَمَمِ؟ وهل تمثل نسج العنكبوت لهم ... كالغاب والحائمات الزغب كالرخم؟ فأدبروا ووجوه الأرض تلعنهم ... كباطل من جلال الحق منهزم لولا يد الله بالجارين ما سلما ... وعينه حول ركن الدين لم يقم تواريا بجناح الله واستترا ... ومن يَضُمُّ جناح الله لا يُضَمِ وكما أسعدني الحظ بالرقي إلى غار حراء، حيث بدأ نزول الوحي على النبي الأمين، فقد أسعدني الحظ -كذلك- بالرقي إلى غار ثور حيث لجأ الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه يحتميان من طغيان المشركين، ولقد كانت رحلة مباركة من طلاب كلية
الشريعة بمكة المكرمة. وعلى الرغم من متاعب الطريق الذي كانت تزحمه الرمال السافية والذي غاصت فيه السيارة مرة بعد مرة، ولم تتحرك إلا بعد أن نزل الجميع وعاونوها على المسير، فقد كنا نتجه في طريق الرسول -صلى الله عليه وسلم- ونسير على الدرب الذي سلكه الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولذا عادت بنا الذاكرة من خلال القرون الماضية إلى يوم الهجرة النبوية، وتمثلنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خارجًا في ظلام الليل يطارده الظلم بجحافله الجرارة، ويضيء في قلبه الإيمان فيبدد هذا الظلم والظلام، وكنا نتطلع إلى الرمال عسى أن نرى أثرًا من آثاره، ونتسمع إلى الرياح عسى أن تروي لنا خبرًا من أخباره ... وهكذا حتى وصلنا -بحمد الله وتوفيقه- إلى جبل ثور. ولقد كان هذا الجبل يختلف عن جبل حراء، لأنه جبل تسلمك قمته إلى سفح جبل آخر. فكأن الصاعد إلى غار ثور سوف يتسلق جبلين، ويبذل من الجهد مثل ما بذل في جبل حراء مرتين. ولقد عاوننا بعض الطلاب المرافقين لنا على الصعود، وكأنما كانت تشدنا إلى غايتنا قوة سحرية حتى وصلنا إلى هذا المكان الخالد1، ووقفنا أمامه خاشعين متأملين. والناظر إلى هذا الغار لأول وهلة يروعه جلال عجيب، ويسيطر على نفسه شعور غريب، فهو قبة كبيرة من الصخر مجوفة من الداخل ويتسع لأكثر من ثلاثين رجلًا، وبابه ضيق لا يستطيع أحد أن يدخله إلا حبوًا، على يديه ورجليه، وسقفه منخفض لا يزيد ارتفاعه عن متر ونصف متر، وأمام الباب فتحة واسعة تبلغ ضعف فتحة الباب. وقد وسعها بعض الأمراء المسلمين ليدخل منها الضوء وتسهل دخول الناس، وكان هذا عملًا بعيدًا عن الصواب.
وأمام الغار وعلى بعد ما يقرب من عشرة أمتار توجد صخرة مرتفعة، وهي التي وقف عليها المشركون حينما كانوا يبحثون عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم. وقد قضينا في هذا المكان نصف يوم، كان في تقديرنا نصف العمر أو العمر كله. ورجعنا بعد ذلك من نفس الطريق الذي جئنا منه؛ حيث ضربت لنا خيمة بسفح الجبل فاسترحنا في ظلها، وتناولنا أقداح الشاي وأقداح اللبن. قلت لصاحبي -وأنا أجول في أعماق الماضي البعيد: ليت هذه الخيمة كانت خيمة أم معبد؟ وليت هذا اللبن الذي شربناه كان من شاة أم معبد.1 فأجابني قائلا: يا ليت ثم يا ليت، ولكن هيهات هيهات أن يرجع ما فات. وبعد ثلاثة أيام قضاها الصاحبان في غار ثور، وبعد أن هدأ الطلب وسكن الناس عنهما، أتاهما الدليل: عبد الله بن أريقط، ببعيرين لهما وبعير له، وأتتهما أسماء بنت أبي بكر بطعامهما. فلما ارتحلا لم تجد ما تعلق به الطعام والماء في رحالهما، فشقت نطاقها وعلقت الطعام بنصفه وانتطقت بالنصف الآخر، فسميت ذات النطاقين. وتتحدث السيدة أسماء عما أخذه أبوها من ماله في يوم الهجرة، فتقول: لما خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخرج أبو بكر معه احتمل أبو بكر معه خمسة آلاف درهم، وكانت هي كل ماله. فدخل علينا جدِّي أبو قحافة -وقد ذهب بصره- فقال:
والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه. فقلت له: كلا يا أبت إنه قد ترك لنا خيرًا كثيرًا. قالت: ثم أخذت أحجارًا فوضعتها في كوة في البيت الذي كان أبي يضع ماله فيه، ثم وضعت عليها ثوبًا، ثم أخذت بيده فقلت: يا أبت ضع يدل على هذا المال. قالت: فوضع يده عليه فقال: لا بأس إذا كان قد ترك لكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم، ثم تقول السيدة أسماء: ولا والله ما كان قد ترك لنا شيئًا، ولكن أردت أن أسكن الشيخ بذلك1.
قصة أم معبد
قصة أم معبد وتعيد إلينا قصة أم معبد الخزاعية قصة حليمة السعدية مرضعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فلقد كان قدوم محمد -صلى الله عليه وسلم- خيرًا وبركة، وظهر ذلك فيما منحها الله من رزق وفير، وكان ذلك في أيام رضاعه وطفولته. وكذلك كان قدوم محمد -صلى الله عليه وسلم- على أم معبد الخزاعية في طريق هجرته إلى المدينة وفي أيام كهولته خيرًا وبركة، وظهر ذلك بما أفاء الله عليها من خير بيمن قدومه، ومن حيث لم تكن هناك أسباب يتوقع منها هذا الخير، وإليكم ما رواه ابن سعد في كتابه الطبقات الكبرى1 عن ذلك: "عن أبي معبد الخزاعي أن
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما هاجر من مكة إلى المدينة هو وأبو بكر وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر ودليلهم عبد الله بن أريقط الليثي، مروا بخيمة أم معبد الخزاعية، وكانت المرأة1 جلدة برزة2 تحتبي وتقعد بفناء الخيمة ثم تسقي وتطعم، فسألوها تمرًا أو لحمًا يشترونه. فلم يصيبوا عندها شيئًا من ذلك، وإذا القوم مرملون3، مسنتون4. فقلت والله لو كان عندنا شيء ما أعوزكم القرى. فنظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى شاة في كسر الخيمة فقال: "ما هذه الشاة يا أم معبد"؟ قالت: هذه شاة خلفها الجهد عن الغنم. فقال "هل بها من لبن"؟ قالت: هي أجهد من ذلك، قال: "تأذنين لي أن أحلبها"؟ قالت: نعم، بأبي أنت وأمي إن رأيت بها حلبًا. فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالشاة فمسح ضرعها وذكر اسم الله، وقال: "اللهم بارك لها في شاتها"، قال:
فتفاجت1 ودرت واجترت فدعا بإناء لها يُربض الرهط2 فحلب فيه ثجًّا حتى غلبه الثمال3 فسقى لها فشربت حتى رويت وسقى أصحابه حتى ارتووا، وشرب -صلى الله عليه وسلم- آخرهم، فشربوا جميعًا عللا بعد نهل4ثم حلب فيه ثانيًا عَودا على بدء، فغادره عندها ثم ارتحلوا عنها، فقلما لبثت أن جاء زوجها أبو معبد. فلما رأى اللبن عجب وقال: من أين لكم هذا والشاة عازبة ولا حلوبة في البيت؟ قالت: والله، إنه مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت، قال: ذاك والله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره ما ذكر ولو كنت وافقته يا أم معبد لالتمست أن أصحبه، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلا.5 وتروي كتب السيرة 6 أن هاتفًا من الجن أخبر أهل مكة بما وقع في خيمة أم معبد، فكان مما قال: جزى الله رب الناس خير جزائه ... رفيقين حلا خيمتي أم معبد هما نزلا بالبر ثم ترحلَا ... فأفلح من أمسى رفيق محمد7 لِيَهْنِ بني كعب مقامُ فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد8
سلو أختكم عن شاتها وإنائها ... فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد1 وقد أجابه حسان بن ثابت بعد ذلك: لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم ... وقدس من يسري إليه ويغتدي ترحل عن قوم فزالت عقولهم ... وحل على قوم بنور مجدد2 نبي يرى ما لا يرى الناس حوله ... ويتلوا كتاب الله في كل مشهد لِتَهْنِ أبا بكر سعادة جده ... بصحبته من يسعد الله يسعد3
حديث سراقة
حديث سراقة: وكانت قريش قد رصدت مائة ناقة مكافأة ناجزة لمن يأتيهم بمحمد -صلى الله عليه وسلم- حيا أو ميتا، وهي مكافأة يسيل لها لعاب الباحثين عن الثروة وطلاب المال، وقد تطلع إليها الكثيرون من الشبان الأقوياء والفرسان الشجعان، فبحثوا عن محمد -صلى الله عليه وسلم- في
كل مكان، وتتبعوا آثاره وأخباره حتى كادوا ينبشون الجبال، ويسألون الحصى والرمال. وكان من أكثرهم حرصًا وتلهفًا على الظفر بهذه الجائزة الكبرى رجل من بني مدلج يقال له: سراقة بن مالك، وكان قد سمع من بعض المسافرين القادمين من مكة أمارات واضحة تدل على الطريق الذي يسير فيه محمد وأصحابه، وكان عددهم أربعة، فأخذ يضلل السامعين ويعمي عليهم حتى يظفر وحده بالإبل المائة، ويظفر إلى جوار ذلك بالفخر أمام أهل مكة الذين أعياهم البحث عن محمد -صلى الله عليه وسلم- واستسلموا في النهاية إلى اليأس والفشل. وقد جهز الرجل عدته وسلاحه وامتطى فرسه وانطلق يعدو ميممًا الطريق والمكان الذي توقع فيه ضالته المنشودة، حتى أصبح على مرمى البصر من محمد -صلى الله عليه وسلم- ومرافقيه. ويقول سراقة إن فرسه عثرت به ثلاث مرات، وفي المرة الثالثة ساخت قوائمها في الرمال، فانتزعها من الأرض فتصاعد منها دخان كالإعصار وحينئذ فزع سراقة، وأدرك أن سرًا عجيبًا وعناية خاصة تحيط بهؤلاء الناس، وأنه إن استمر في طلبهم فسوف يسعى إلى حتفه بظلفه، فناداهم قائلا: أنا سراقة بن جعشم، انظروني أكلمكم، فوالله لا أرينكم ولا يأتيكم مني شيء تكرهونه. فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر: قل له: "وماذا تبتغي منا"؟ فقال ذلك أبو بكر، فأجابه سراقة: أريد أن تكتب لي كتابًا يكون آية بيني وبينك. قال: اكتب له يا أبا بكر. فكتب له كتابا بما طلب ثم ألقاه إليه1.
ورجع سراقة إلى مكة مأخوذًا بما وقع له ومصمما على تنفيذ ما تعهد به من إبعاد الأذى عن محمد -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه، وتضليل كل من يريد بهم الشر والسوء. ويذكر الرواة1: أن أبا جهل وجه اللوم إلى سراقة حينما رجع دون أن يتحقق له شيء. فقال له سراقة -وكان شاعرا: أبا حكم والله لو كنت شاهدًا ... لأمر جوادي إذ تسوخ قوائمه علمت2 -ولم تشكك- بأن محمدا ... رسول ببرهان فمن ذا يقاومه؟ عليك بكف القوم عنه فإنني ... أرى أمره يومًا ستبدو معالمه بأمر يود الناس فيه بأسرهم3 ... لو أن جميع الناس طرًا يسالمه وسواء أكان هذا الشعر لسراقة نفسه أم أنه من كلام غيره، فإنه -بلا شك- تعبير صادق عما يجيش في صدره، بعد ما رأى تلك العناية التي تحيط بمحمد -صلى الله عليه وسلم- وتحول بين أعدائه وبين ما يشتهون. وقد واصل الرسول -صلى الله عليه وسلم- سيره في هذا الركب موليا وجهه شطر يثرب، ولكن الدليل سلك بهم طريقًا غير مألوف حتى يمعن في تضليل الأعداء والاستخفاء عن أعينهم، فاتجه إلى تهامة على مقربة من شاطئ البحر الأحمر، وهو على أمكنة يصعب فيها السير. ولكنه اختارها لبعدها عن الطريق المعروف، فمر بعسفان -وسميت بذلك لتعسف السير فيها- ومر بالجداجد، وهو مكان كثير الصخور. ومر بالعرج، وهو مكان ينعرج فيه الطريق. وهكذا حتى وصلوا إلى
قباء بعد رحلة في صحراء الجزيرة العربية استمرت اثني عشر يومًا1، لقي الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه خلالها من وعثاء السفر ووحشة الطريق وكيد الأعداء ما ينوء به الأبطال. وقد أقام الرسول -صلى الله عليه وسلم- أربعة أيام في قباء2 وفيها أسس مسجدها المبارك الذي وصفه الله -عز وجل- بقوله: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} 3.
ثم غادر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قباء، واتجه إلى المدينة، حيث كان الأوس والخزرج -وهم الأنصار- يحيطون به عن يمين ويسار وقد تقلدوا سيوفهم وامتلأت نفوسهم بالبشر والسرور، فكانت لحظات خالدة في تاريخ المدينة، وكان يومًا عظيمًا في تاريخ الإسلام، وخرج النساء والصبيان في جو من النشوة والفرح تتردد فيه الأناشيد الجميلة. ثم سار في المدينة في موكب من النور، وكلما مر الرسول -صلى الله عليه وسلم- على دار من دور الأنصار، دعاه أهلها للنزول عندهم، وأخذوا بزمام ناقته فيقول لهم الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "دعوها فإنها مأمورة". ولم تزل سائرة حتى بركت في محلة من محلات أخواله بني النجار أمام دار أبي أيوب الأنصاري، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ههنا المنزل إن شاء الل هـ، {رَبِّ أَنزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} [المؤمنون: من الآية: 29] ". فاحتمل له أبو أيوب رحله فوضعه في منزله وخرجت ولائد من بني النجار يقلن: نحن جوار من بني النجار ... يا حبذا محمد من جار فقال عليه السلام: "أتحببنني"؟ فقلن: نعم. فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "إن قلبي يحبكن". واختار عليه الصلاة والسلام النزول في الدور الأسفل من بيت أبي أيوب ليكون أريح لزائريه. ولكن أبا أيوب -رضي الله عنه- كره ذلك وأبى إلا أن ينزل الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الطابق الأعلى إكراما وإعزازًا لشأنه1.
وكان الأنصار يتسابقون في إكرام الرسول -صلى الله عليه وسلم- فما من ليلة إلا وعلى بابه الثلاثُ أو الأربعُ من جفان الثريد يأكل منها -عليه الصلاة والسلام- هو وأضيافه من الأنصار والمهاجرين.
بناء الدولة الإسلامية
بناء الدولة الإسلامية: ومنذ أول يوم استقر فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- في يثرب بدأ يؤسس الدولة الإسلامية الكبرى التي أذن الله لها -فيما بعد- أن تمتد في كل اتجاه وتضم بين ذراعيها أقوى دولتين كانتا تتحكمان في هذا العالم، وهما: دولة الفرس ودولة الروم. وإذا كان كثير من المؤرخين قد درجوا على أن يجعلوا الأسس التي أقيمت عليها الدولة الإسلامية حينئذ ثلاثة فحسب، وهي: بناء المسجد، والمؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين، والمعاهدة بين الرسول وبين اليهود، فإننا لدى التأمل نستطيع أن نضيف إليها أسسا أخرى لها أهميتها الكبرى وهي: إلغاء العصبية القبلية بين الأوس والخزرج، حيث حول الإسلام قوتها المدمرة إلى قوة نافعة معمرة، وتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، إذ ترتب على هذا التحول ترغيب كثير من القبائل العربية في الإسلام الذي يقدس بيت الله الحرام، وتوجيه المسلمين إلى القتال في سبيل الله حتى يتطهر الجو الذي كان يحيط بهم من عوامل الشر والفساد، ويفتح المجال أمام الراغبين في الإسلام دون خوف من اضطهاد أو فتنة1. وأخيرا وضع النظام الاقتصادي الذي سوف تقوم عليه الدولة الجديدة.
بناء المسجد
بناء المسجد شرع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منذ وصل إلى المدينة في بناء مسجده في المكان الذي بركت فيه ناقته، وكان هذا المكان مربدًا1 للتمر مملوكًا لغلامين يتيمين في المدينة2، فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالغلامين، وطلب إليهما المريد ليتخذه مسجدًا وتحدث معهما في شرائه ... فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله. فأبى عليه السلام أن يقبله منها هبة، ولكنه ابتاعه منهما3. وكان فيه قبور للمشركين وبعض حفر ونخل، فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالقبور فنبشت، وبالحفر فسويت، وبالنخل فقطع. ثم أمر بالبناء، وكان بناؤه باللبن4، ولكن عضادتي الباب كانتا من الحجارة، وكان سقفه من الجريد، وأعمدته من جذوع النخل، ولا يزيد ارتفاعه عن القامة إلا القليل. وقد اشترك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه في حمل اللبنات والأحجار على كواهلهم، وكانوا يروحون عن أنفسهم عناء الحمل والنقل والبناء فيرددون هذا الغناء:
اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة ... فارحم الأنصار والمهاجرة1 وقد ضاعف من حماس الصحابة في العمل أنهم رأوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعمل بنفسه كواحد منهم ويكره أن يتميز عليهم فارتجز بعضهم هذا البيت: لئن قعدنا والرسول يعمل ... لذاك منا العمل المضلل2 وهكذا تم بناء المسجد في جو يملؤه الإيمان وتشيع فيه الأخوة والمساواة. ولم يكن المسجد على عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- مكانا للصلوات فحسب، وإنما كان مدرسة للتعليم والتهذيب أستاذها ومعلمها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وطلابها هم أصحابه الأبرار -رضوان الله عليهم- وكان محكمة للقضاء بما أنزل الله، يفصل فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو من ينيبه بين المتخاصمين، وكان دارا للشورى يتداول فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون في أخص شئونهم وأمورهم، وكان مركزا لقيادة الجيش تعقد فيه الألوية للرؤساء والقواد ويزودون بالنصائح والتعليمات. وكان نزلا لاستقبال الوفود والرسل الذين توجههم الدول للقاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهكذا كانت رسالة المسجد في ذلك الوقت رسالة خير وإصلاح وتهذيب. وقد وردت في فضل المسجد النبوي أحاديث كثيرة، فقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تشد الرحال إلى إلا ثلاثة
مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى" 1. وجاء في الصحيحين أيضا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة" 2. وقد بني بجانب المسجد حجرتان: إحداهما لسودة بنت زمعة، والأخرى لعائشة بنت أبي بكر. ولم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- متزوجا غيرهما إذ ذاك، وكانت الحجرتان متجاورتين وملاصقتين للمسجد على شكل بنائه، ثم صارت تُبنى الحجرات كلما تزوج الرسول -صلى الله عليه وسلم- على عدد زوجاته3.
المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار
المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار: وكان موقف الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه المهاجرين -بعد أن تركوا وطنهم وخرجوا من ديارهم وأموالهم- موقفا دقيقا يتطلب الإخلاص والتضامن، ويقتضي أن يسود التعاون بينهم وبين إخوانهم الأنصار. وكان الأنصار -وهم الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم- يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان
بهم خصاصة1. ولا غرو فقد شعروا بحاجة إخوانهم المهاجرين، وقدروا ظروفهم العصيبة، فأوَوْهُم ونصروهم، وضربوا في الإخلاص لهم والتفاني في خدمتهم أروع الأمثال، حتى لقد وصفهم الله -عز وجل- بذلك الوصف الرائع حيث يقول: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} 2، أي يفضلون إخوانهم المهاجرين على أنفسهم، مهما كان فقرهم، ومهما اشتدت حاجتهم. وكانت سياسة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في هذه الظروف القاسية سياسة القائد المحنك الرشيد، فقد عمل على تنظيم صفوف المسلمين وتوكيد وحدتهم، فربط بينهم برباط قوي متين، وذلك أنه عقد تلك الأخوة النادرة المثال بين الأنصار والمهاجرين، وجعل لها من الحقوق والواجبات ما لأخوة النسب3، فكان أبو بكر الصديق أخا لخارجة بن زهير الأنصاري، وكان أبو عبيدة بن الجراح أخا لسعد بن معاذ الأنصاري، وكان عبد الرحمن بن عوف أخا لسعد بن الربيع الأنصاري، وكان عثمان أخا لأوس بن ثابت الأنصاري4.. وهكذا أصبح المهاجرون والأنصار بنعمة الله إخوانا. وقد أظهر الأنصار من الكرم والتسامح ما خفف عنهم آلام الغربة، وعوَّضهم عن فراق الأهل والعشيرة، حتى ليروى أن سعد بن الربيع الأنصاري عرض عليه أخيه عبد الرحمن بن عوف -وكان لا يملك بيثرب شيئا- أن يشاطره ماله5، فأبى عبد الرحمن
وطلب إليه أن يدله على السوق، وبدأ ببيع الزبد والجبن في سوق المدينة، فنما ماله واتسعت ثروته وأصبحت له قوافل تجارية عظيمة، وصنع غير عبد الرحمن من بعض المهاجرين الذين لهم خبرة بالتجارة كما صنع عبد الرحمن، فيسر الله عليهم وبارك لهم. أما المهاجرون الذين لم تكن لهم دراية في التجارة فقد عملوا في أراضي الأنصار، واشتغلوا بالزراعة بطريق المزارعة مع ملاك الأرض، وكانوا يلقون كثيرا من الشدة والتعب في حياتهم، ولكنهم يأبون أن يكونوا كلا وعالة على إخوانهم الأنصار، مهما كلفهم ذلك من جهد وآلام.
المعاهدة بين الرسول صلى الله عليه وسلم واليهود
المعاهدة بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- واليهود كانت المؤاخاة التي عقدها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين المهاجرين والأنصار في المدينة أساسا لتقوية المسلمين، وتوكيدا لوحدتهم وألفتهم وضمانا لحياة كريمة صافية، وعيشة راضية. وكان اليهود يقيمون بجوار المسلمين في المدينة وهم يهود بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، وكان هؤلاء اليهود أعداء للأوس والخزرج -الأنصار قبل أن يدخلوا الإسلام- فلما دخلوا الإسلام وقوي أمرهم بمجيء إخوانهم المهاجرين ازدادت عدواتهم وحقدهم عليهم. {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} 1، فكان من سياسة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وحسن تدبيره أن يبدأ هؤلاء اليهود بالمودة، ويبسط لهم يد الأخوة، ويتفق معهم على التضامن والتعاون حتى تكون المدينة كلها صفًّا واحدًا وقوة واحدة، وحتى لا يطمع في المدينة طامع وينال منها عدو. وقد كتب الرسول -صلى الله عليه وسلم- معاهدة بين فيها حقوق المسلمين وواجباتهم وحقوق اليهود وواجباتهم، وكان أساس هذه المعاهدة الأخوة في السلم، والدفاع عن المدينة وقت الحرب، والتعاون التام بين الفريقين إذا نزلت شدة بأحدهما أو كليهما. وقد جاء في هذه المعاهدة 2: وأن اليهود أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم
وللمسلمين دينهم، ومن ظلم أو أثِمَ منهم؛ فإنه لا يوتغ -لا يهلك- إلا نفسه وأهل بيته، وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة1، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وأن ما كان من أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله وإلى محمد -صلى الله عليه وسلم- وأن بينهم النصر على من دهم يثرب، وأن من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم وأثم، وأن الله جار لمن بر واتقى". وقد كتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد هذه المعاهدة معاهدات خاصة مع اليهود تتجه إلى هذه الأهداف، وتدور حول تلك الأغراض. وقد دلت هذه المعاهدات الجلية على سمو تفكير الرسول -صلى الله عليه وسلم- وحسن سياسته، فهي تقرر حرية العقيدة، وحرية الرأي، وحرمة المدينة، وتحرم الجرائم، وتحارب الظلم والإثم، وقد وضعها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منذ قرابة أربعة عشر قرنا من الزمان، ولكن لا تزال إلى هذا العصر الذي نعيش فيه نبراسا يهتدي به الساسة والقادة إذا اضطربت الأمور وأظلم السبيل. ولا شك أن هذه المعاهدات الخالدة2 كانت ذات أثر كبير في تقوية عزائم المسلمين، وحفظ المدينة من مطامع المشركين المعتدين، ولولا أن اليهود غدروا وخانوا العهد والمواثيق، وبدأوا بالعدوان على المسلمين، لما وقف
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون منهم موقف العداء، ولظلت المدينة يغمرها الوئام والصفاء. ولكن اليهود غدروا وخانوا وبدأوا بالعدوان، فرد الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون على إساءتهم وظلمهم بما جعلهم عبرة أمام القرون والأجيال، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم ظالمين.
إعلاء العصبية بين الأوس والخزرج
إعلاء العصبية 1 بين الأوس والخزرج: يتجه الإسلام في علاج الأمراض الأخلاقية والمشكلات الاجتماعية إلى أقوم طريق، ويوجه الغرائز البشرية والطبائع الإنسانية إلى المنهج السوي الصالح، فهو لا يقاوم الرغبات، بل يقومها، ولا يناهض الطبائع والعادات بل ينهض بها، ولا يقتل الحيوية الموجودة في النفوس إذا ما جمحت، أو ينزل به إلى الدرك الأسفل، وإنما هو يحييها ويسموا بها ويعليها. ولقد عالج الإسلام العصبية القبلية في نفوس العرب على هذا الأساس السليم، فوجهها إلى الناحية الصالحة المستقيمة، وحول ذلك التيار القوي الذي كان يغذيها إلى اتجاه يوصل إلى غاية مجيدة ... فبعد أن كانت غاية المرء في الجاهلية هي نصرة قبيلته، والدفاع عن أهله وعشيرته مهما نأوا عن الحق وتشبثوا بالباطل، أصبحت الغاية في الإسلام هي نصرة الحق على الباطل -ولو حارب المرء في هذا السبيل أهله وبنيه، وتبرأ من أمه وأبيه وفصيلته التي تؤويه، وبذلك صارت الحمية في الجاهلية عزة إسلامية وأخوة دينية، وأصبح التنافس القبلي البغيض تنافسا رشيدا يسعى إلى التعمير لا التدمير، ويهدف إلى الإنشاء.
والهناء، لا إلى الهدم والإفناء، وغدا التسابق على المادة أو الجاه والسلطان تسابقًا في سبيل الله لإعلاء كلمة الحق ورفع لواء الإسلام. ولقد كانت العصبية القبلية بين الأوس والخزرج قبل الإسلام معول هدم وتدمير يهدد القبيلتين بأسوأ مصير، وكان اليهود ينتهزون الفرصة فيشعلون النار كلما خمدت، ويحركون الفتنة كلما همدت، لينالوا من العرب، ويقيموا على أنقاض هذا الضعف قوة لهم. وفي وسط هذا الشر المطبق والفتن المتكاثفة، ومن خلال هذا الضباب المتراكم لاح بريق الأمل، وأقبل الحق المطارد في مكة يسعى إلى يثرب، يسوقه الباطل بجحافله كما تسوق الرياح العاتية الصيب الهتون، وجاء محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة بالهدى والرشاد، فقضى على الفرقة وجمع الشتات، وأحيا الله به القلوب الموات: { ... وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 1. وكان من الطبيعي أن يحول الإسلام ذلك التيار القوي الذي يغذي العصبية القبلية في نفوس الأوس والخزج إلى وجهة كريمة هي الغيرة المحمودة والتنافس الشريف الذي يسعى لأجَلِّ قصد وأنبل غاية، وهي إعلاء كلمة الإسلام والقضاء على أعدائه الألداء في كل مكان، فصار الأوس والخزرج يتجهون إلى هدف واحد هو إرضاء الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- ولكن يتسابقون في هذا السبيل ويتنافسون، ويأبى كل فريق منهما أن يسبقه الآخر بميزة، أو يتقدم عليه بفضل أو يزيد عنه في تضحية وجهاد، وفي ذلك يقول ابن هشام: وكان مما صنع الله
لرسوله -صلى الله عليه وسلم- أن هذين الحيين من الأنصار: الأوس والخزرج كانا يتصاولان مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تصاول الفحلين، ولا تصنع الأوس شيئًا فيه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غناء إلا قالت الخزرج: والله لا يذهبون بهذه فضلًا علينا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الإسلام، فلا ينتهون حتى يوقعوا مثلها، وإذا فعلت الخزرج شيئًا قالت الأوس مثل ذلك 1. وكانت مظاهر هذه المنافسة كثيرة، وسوف نكتفي بتسجيل مظهر واحد منها يتجلى فيه كيف كان التنافس بين الأوس والخزرج في القضاء على زعيمين من زعماء اليهود، كانا من ألد أعداء الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأكبر خصوم الإسلام. وذلك أن الأوس كان لهم الفضل والشرف الأكبر في قتل عدو الله كعب بن الأشرف 2، وإنما قتله الأوس جزاء غدره وخيانته وظلمه وعدوانه. ومن ذلك أنه حينما علم بانتصار المسلمين في غزوة بدر جزع وحزن، وتألم وتبرم، وقال لمن معه من أصحابه: أترون محمداً قتل هؤلاء؟ يعني المشركين الذين قتلوا يوم بدر إنهم أشراف العرب وملوك الناس، والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها. ثم انطلق عدو الله حتى قدم مكة، وجعل يحرض على قتال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وينشد الأشعار ويبكي أصحاب القليب من قريش الذين أصيبوا ببدر. ولم يكتف ابن الأشرف بتحريض المشركين في مكة، بل إنه رجع إلى المدينة وأخذ يشبب بنساء المسلمين حتى أوذي المسلمون وضجروا، وحتى قال رسول
الله -صلى الله عليه وسلم: "من لي بكعب بن الأشرف؟ " فأجابه من الأوس محمد بن مسلمة قائلا: أنا لك يا رسول الله، أنا أقتله. قال: "فافعل إن قدرت على ذلك". ففكر ابن مسلمة في هذا الأمر وأعد له عدته مع طائفة من إخوانه، فاجتمع في قتله خمسة رجال من الأوس، هم: محمد بن مسلمة، وسلمان بن سلامة أبو نائلة، وكان أخا كعب من الرضاعة، وعبدة بن بشر، والحارث بن أوس، وأبو عيسى بن جبر1. وقد ذهبوا إلى منزله واستدرجوه إلى الخارج حتى اطمأن إليهم -والحرب خدعة- ثم صاح أبو نائلة قائلا: اقتلوا عدو الله. فاختلف عليه أسيافهم حتى وقع صريع غدره وبغيه، وفي ذلك يقول القائل: وغودر منهم كعب صريعًا ... فذلت بعد مصرعه النضير وحينئذ عز على الخزرج أن يسبقهم الأوس إلى هذه التضحية، ويصلوا إلى مثل هذه الغاية دونهم، فقالوا: والله لا يذهبون بهذه فضلا علينا أبدًا، فبحثوا عن رجل من يهود بني النضير -كذلك- يوازي كعب بن الأشرف في عداوته للرسول -صلى الله عليه وسلم- وللمسلمين، فوجدوا سلام بن أبي الحقيق2 فاستأذنوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قتله، فأذن لهم. وكان سلام قد رحل إلى خيبر بعد أن طرد الرسول -صلى الله عليه وسلم- يهود بني النضير من ديارهم في السنة الرابعة من الهجرة، ومنذ ذلك الوقت أخذ سلام يثير النفوس ضد المسلمين حتى إنه ذهب على رأس وفد إلى مكة يحرض قريشا على قتال محمد -صلى الله عليه وسلم- ويحزب الأحزاب عليه3.
ولقد قالوا لقريش: إنا سنكون معكم على محمد حتى نستأصله. فقالت قريش لهم: يا معشر يهود: إنكم أهل الكتاب الأول، والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد؛ أفديننا خير أم دينه؟ قالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق. وقد فرحت قريش بهذا القول من اليهود واستجابوا لدعوتهم، وجمعوا جموعهم وتجهزوا لحرب الرسول -صلى الله عليه وسلم. ثم جاء اليهود إلى قبيلة غطفان وحرضوا رجالها وأخبروهم بمبايعة قريش لهم على الحرب، فوافقوهم على حرب المسلمين وتجهزوا لذلك وكانت غزوة الأحزاب 1، وفيها ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالًا شديدًا، ولولا لطف الله لاقتحم المشركون عليهم المدينة، ولقضوا عليهم القضاء الأخير. فليس بغريب بعد هذا كله أن يرى الخزرج في ابن أبي الحقيق العدو المبين الذي لا يقل عن صاحبه كعب بن الأشرف في الكيد للإسلام والمسلمين. وهنا تحركت الغيرة الكريمة في نفوسهم وأرادوا أن يلحقوا بإخوانهم الأوس فيما قدموا من تضحية وما سبقوهم به من فضل وشرف، فاستأذنوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قتله، فأذن لهم. وقد خرج إليه من الخزرج خمسة نفر أيضًا، هم: عبد الله بن عتيك 2 ومسعود بن سنان، وعبد الله بن أنيس، والحارث بن ربعي، وخزاعي بن أسود،
وقد أوصاهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- ألا يقتلوا وليدًا أو امرأة، فخرجوا حتى قدموا خيبر وأتو دار ابن أبي الحقيق ليلًا. يقول قائلهم: فلما دخلنا عليه ابتدرناه وهو على فراشه بأسيافنا فوالله ما يدلنا عليه في سواد الليل إلا بياضه، كأنه قبطية ملقاة -قال: ولما صاحت بنا امرأته جعل الرجل منا يرفع عليها سيفه، ثم يذكر نهي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيكف يده، ولولا ذلك لفرغنا منها بليل. وهكذا كانت نهاية ابن أبي الحقيق، كما كانت نهاية صاحبه ابن الأشرف من قبله، وهكذا تكون نهاية الغدر والخيانة والظلم والعدوان. وفي هذا يقول حسان بن ثابت وهو يذكر قتل كعب بن الأشرف وسلام بن أبي الحقيق: لله در عصابة لاقيتهم ... ابن الحقيق وأنت يابن الأشرف ييسرون بالبيض الخفاف إليكم ... مرحًا كأسد في عرين مغرف حتى أتوكم في محل بلادكم ... فسقوكم حتفًا ببيض ذفف مستنصرين لنصر دين نبيهم ... مستصغرين لكل أمر مجحف1. وبعد فهذه صورة واحدة من صور كثيرة تبين لنا حالة الأوس والخزرج، بعد أن صقل الإسلام نفوسهم وطهرها من شوائب العصبية القبلية البغيضة، وكيف أصبحوا إخوة متضامنين، ينافس بعضهم بعضًا في العمل الذي يعلي كلمة الحق، ويدعم بناء الدولة الإسلامية الكبرى.
تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة
تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة اقتضت حكمة الله تعالى أن تكون الكعبة قبلة للمسلمين بعد أن حازوا شرف التوجه إلى بيت المقدس؛ ليكونوا من أهل القبلتين، وليتميزوا عن المشركين قبل الهجرة وعن اليهود بعدها، فتطلع الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو بالمدينة بعد الهجرة واشتد شوقًا إلى نزول الوحي عليه بالتوجه إلى بيت الله الحرام. وقد كان يتوقع ذلك من ربه لأن الكعبة أقدم القبلتين، ولأنها قبلة إبراهيم عليه السلام، ومفخرة العرب حيث كانت مثابة للناس وأمنًا ومزارًا ومطافًا، وذلك أدعى إلى دخول العرب في الإسلام، فنزل قول الله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} 1. ومعنى ذلك أن الله يقول لرسوله -صلى الله عليه وسلم: قد شاهدنا وعلمنا تردد وجهك وتسريح نظرك إلى جهة السماء، تطلعًا منك إلى نزول الوحي عليك، وتوقعًا لما ألقى في روعك من تحويل القبلة إلى الكعبة، سعيًا منك وراء استمالة العرب إلى دخولهم في الإسلام، ومخالفة لليهود الذين كانوا يقولون: إنه يخالفنا في ديننا ثم إنه يتبع قبلتنا، حتى روي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لجبريل: "وددت أن الله صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها". فقال له جبريل: أنا عبد مثلك، وأنت كريم على ربك، فادع ربك وسله".
ثم ارتفع جبريل وجعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- يديم النظر إلى السماء، رجاء أن يأتيه جبريل بالذي سأل ربه1، وقد أقسم الله ليكونن عند ما سأل محمد -صلى الله عليه وسلم- وليجيبنه إلى ما طلب، فوعده بقوله: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} . أي لنعطينك ما تطلعت إليه نفسك، وأشرب حبه قلبك من استقبالك المسجد الحرام.. وما قصد الرسول -صلى الله عليه وسلم- ذلك وأحبه عن سخط في التولي إلى بيت المقدس ومجرد هوى في النفس وشهوة في التولي إلى الكعبة، وإنما كان ذلك منه -صلوات الله عليه- لمقاصد دينية وأغراض سامية وافقت مشيئة الله تعالى ... ولذا فإن وعد الله للرسول -صلى الله عليه وسلم- رتب عليه الإنجاز السريع والتنفيذ العاجل. حيث قال سبحانه لرسوله -صلى الله عليه وسلم: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} 2. وبذلك صدر الأمر الإلهي للرسول -صلى الله عليه وسلم- وللمسلمين بالتحول من بيت المقدس إلى الكعبة، ثم يبين الله بعد ذلك أن الفريقين من اليهود والنصارى يعلمون أن أمر التحويل إلى الكعبة هو الحق، لأنه مسطور في كتبهم: أنه -عليه الصلاة والسلام- يصلي إلى القبلتين، وليس ذلك ابتداعًا من تلقاء نفس محمد -صلى الله عليه وسلم. فيقول سبحانه: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} 3.
وقد أكد الله -عز وجل- الأمر بالتولية إلى الكعبة في آية ثانية، فقال: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} 1. وقد أفادت هذه الآية فائدة جديدة، وهي أن الله يؤكد لرسوله -صلى الله عليه وسلم- أن الأمر بالتوجه إلى المسجد الحرام هو الحق الذي أراده الله لحكمة وفائدة جرت بها مشيئته. ثم كرر الأمر بالتوجه إلى المسجد الحرام في آية ثالثة وضحت فيها الحكمة التي أرادها الله من هذا الأمر، الذي تبلبلت فيه أفكار ضعفاء الإيمان والسفهاء من الناس، فقال سبحانه: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} 2. فقد أفادت هذه الآية في وضوح وصراحة أن الحكمة التي أرادها الله من أمره المسلمين بالتوجه إلى الكعبة هي أن يقطع الحجة على هؤلاء الناس -وهم الذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى- فلقد كان اليهود يقولون عن أوصاف الرسول المذكورة في التوراة: إنه يتحول إلى الكعبة ... كانوا يقولون ذلك في الفترة التي كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيها متجهًا إلى بيت المقدس ... ولذا كان اتجاه الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى الكعبة بعد ذلك مؤيدا لما كان مسطورا في كتابهم، وكان النصارى يقولون عن محمد -صلى الله عليه وسلم- أيام توجهه إلى بيت المقدس: ما باله يدَّعي ملَّة إبراهيم ويخالف قبلته؟
ولذا كان اتجاهه إلى الكعبة موجبًا لقطع حجتهم وملزمًا لهم بتصديقه والاعتراف بنبوته، ولكنهم جميعًا جحدوا الحق وتمادوا في غيهم وضلالهم. وفي ختام الآية يبين الله -عز وجل- أن الحكمة في التوجه إلى الكعبة -فوق ذلك كله- أن يتم الله النعمة على المسلمين، فيجعل لهم شخصيتهم الدينية المستقلة عن اليهود، واتصالهم بدين أبيهم إبراهيم -عليه السلام. وبهذا يتضح لنا ... أن تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة كان عاملًا مهمًّا وأساسًا متينًا في بناء الدولة الإسلامية الكبرى بعد ذلك، فلقد ساعد على تأليف قلوب أهل مكة وسائر القبائل العربية في أرجاء الجزيرة -وهم الذين يعظمون البيت الحرام ويتوارثون تقديسه على توالي الأجيال- ساعد على تأليف قلوبهم نحو الإسلام رويدًا رويدًا حتى أشرقت به جزيرة العرب، ثم نفذ ضياؤه بعد ذلك إلى سائر الأرجاء، ليصبح دين العالمين 1.
الرسول صلى الله عليه وسلم يضع أساس النظام الاقتصادي
الرسول -صلى الله عليه وسلم- يضع أساس النظام الاقتصادي: وقد وضع الرسول -صلى الله عليه وسلم- أساس النظام الاقتصادي للمجتمع العربي1 الجديد مستضيئًا بما أنزل الله عليه من إرشاد وهداية. وهو نظام كان -وما زال- كفيلًا بتحقيق العدالة الاجتماعية بين أفراد المجتمع، فجعل للفقراء حقًّا معلومًا في أموال الأغنياء، وجعل الزكاة ركنًا من
أركان الإسلام1 لا يقوم الدين بغيره، وأوجب أداءها على كل مسلم مستطيع، وهو من يملك النصاب المعروف في الزروع والثمار، وفي الإبل والبقر والغنم، وفي عروض التجارة، وتوعد من يمتنع عن أدائها بالعذاب الأليم، وفي ذلك يقول سبحانه: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} 2. وبين الله -عز وجل- أن الإنفاق في سبيل الله -عز وجل- هو التجارة الرابحة التي لا ينمو فيها رأس المال إلى عشرة أمثال فحسب، بل إلى سبعمائة، بل يضاعفه الله أضعافا كثيرة، وذلك حيث يقول: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ واللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} 3. ولما كان الفقر من المشاكل العالمية المعقدة، وهو داء عضال يقوّض صرح النظام الاقتصادي بين المجتمعات والشعوب، فقد جاءت الدعوة الإسلامية بالعلاج الناجع لهذا الداء. والمتأمل في نصوص القرآن الكريم وفي مبادئ الدين الإسلامي وآدابه الحكيمة. يراها قد أعلنت الحرب على الفقر، وسلكت في سبيل القضاء عليه جميع الأسباب، وأوصدت دون أضراره كل الأبواب. وحسبنا أن نعلم أن الإسلام جعل الإحسان إلى الفقراء والمساكين كفارة للخطايا والذنوب، فكفارة اليمين إذا ما حنث فيه الإنسان هي إطعام الفقراء والمساكين.
وفي ذلك يقول الله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ} .. إلخ الآية1. وكذلك كفارة الظهار تكون بالإحسان إلى الفقراء والمساكين، وكفارة الإفطار في نهار رمضان تكون بالإحسان إلى الفقراء والمساكين. وهكذا يكون البر والإحسان سبيلًا إلى غسل الخطايا والذنوب ومحو الآثام والعيوب. وقد جاء في الحديث النبوي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار ... " 2. والإسلام حينما شرع هذه الأصول الحكيمة لمعالجة أمراض المجتمع قد اتخذ الحيطة الكافية التي تضمن نقاء الإنسان وصفاءه حتى لا يتخلص من شر ليقع في شر أكبر، أو يبرأ من داء لتحيط به أدواء.. أجل، فإن الإسلام يدعو القوي أن يساعد الضعيف، ويهيب بالغني أن يعاون الفقير، ولكنه في الوقت نفسه دين العزة، دعا إلى احترام النفس وحفظ للإنسان كيانه، وأشفق عليه من الذلة والمهانة، وضن بماء وجهه أن يراق على الرغام، ويتبدد بين أيدي الطغاة اللئام، فلقد دعا كل إنسان إلى أن يأكل من كسب يمينه وعرق جبينه ما استطاع إلى ذلك سبيلا، من ذلك ما جاء في صحيح البخاري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
"ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود -عليه السلام- كان يأكل من عمل يده" 1. وثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "كان زكريا -عليه السلام- نجارًا" 2. وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يشتغل بالتجارة ويشتغل كذلك برعي الغنم، وقد ذكر ذلك عن نفسه وعن بعض الأنبياء، فقال: "بعث موسى وهو راعي غنم، وبعث داود وهو راعي غنم، وبعثت وأنا أرعى غنم أهلي بأجياد" 3. فالإسلام لا يحارب الفقر بدعوة الأغنياء الموسرين إلى البر والإحسان فحسب، ولكنه يحاربه -كذلك- بدعوة الفقراء إلى العمل، ونبذ البطالة والكسل، حتى لا يكونوا عالة على المجتمع وسوسًا ينخر في عظامه، وبهذا العلاج القوي الفعال يمكن أن يستأصل ذلك الداء إذ تجتمع ضده قوتان، ويهاجم من ناحيتين، ويقع فريسة بين عدوين: الأموال التي ينفقها الأغناء في
سبيل الله، وكفاح الفقراء وعملهم في سبيل الحياة، فلا يلبث الفقر أن يزمع الرحيل إلى غير مآب تاركًا وراءه مجتمعًا نظيفًا قويًّا ينعم بزينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق. ومن ذلك نرى أن الأساس الذي وضعه الرسول -صلى الله عليه وسلم- لإصلاح المجتمع من الناحية الاقتصادية هو القضاء على الفقر وتذويب الفوارق بين الطبقات 1 والتجاوب الكامل بين الأغنياء والفقراء في سبيل التعاون والتضامن، حتى يبرأ المجتمع من المتاعب والآلام، ويسود في أرجائه الصفاء والوئام.
الفصل الخامس: القتال في الاسلام
الفصل الخامس: القتال في الاسلام القتال في الاسلام وغزوات الرسول صلى الله عليه وسلم قبل الفتح الأعظم مدخل ... الفصل الخامس: القتال في الإسلام وغزوات الرسول -صلى الله عليه وسلم- قبل الفتح الأعظم ولابد لنا الآن من كلمة عن القتال في الإسلام، لأنه أهم الأسباب في نمو المجتمع العربي1 وتطوره، ومن أقوى دعائم الدولة الإسلامية الكبرى، فلولا القتال الذي وقع بين المسلمين وبين المشركين من العرب، لما دانت الجزيرة العربية بالولاء والطاعة للرسول -صلى الله عليه وسلم- ولظل المجتمع العربي على وضعه الذي تحدثنا عنه قبل الإسلام منحل العرى متفكك الأجزاء تسود بين قبائله المختلفة العداوة والبغضاء، ولظل المجتمع العربي2 الجديد الذي أسسه الرسول -صلى الله عليه وسلم- في المدينة حبيسًا في هذه الدائرة الضيقة لا يتعداها إلى غيرها من المدن والقرى وسائر الجهات. ومن يتتبع الآيات القرآنية التي تعرضت للقتال يتجلى له أنها تهدف إلى غرضين: أولهما الدفاع عن النفس ورد الظلم والعدوان، وثانيهما الدفاع عن الدعوة إذا وقف أحد في سبيلها بفتنة من آمن، أو بصد من أراد الدخول في الإسلام، أو بمنع الداعي عن تبليغ دعوته. وفي ذلك يقول الله -عز وجل- في سورة الحج:
{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} 1. وفي هذه الآيات يظهر السبب الذي من أجله فرض القتال على المسلمين، وهو أنهم ظلموا، وأخرجوا من ديارهم بغير حق ... ثم تنبه الآيات المؤمنين الذين أذن لهم في القتال إلى ما يجب أن يفعلوه إذا هم انتصروا على عدوهم. وهو أن يقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ويأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر ... ليكونوا خير دعاية لهذا الدين الحنيف. ثم ينتقل الله بالمسلمين إلى مرحلة أخرى، فيأمرهم بعد أن ردوا الظلم والعدوان الذي أصابهم من قريش، بأن يقاتلوا كل من يتعرض بسوء أو يبدؤهم بشر، فيقول في سورة البقرة: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} 2. ثم يأمرهم بالقتال لتقرير حرية العقيدة والبعد بها عن الأغراض والأهواء كي يكتمل له الجو الملائم فينضوي تحت لوائها من يشاء دون خوف من اضطهاد
وفتنة، وذلك بقوله في السورة نفسها: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} 1. وقوله في سورة الأنفال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 2. ثم يأمرهم الله بالجنوح للسلم متى جنح لها أعداؤهم3 حتى ولو كانوا يريدون به الخداع ويخفون وراءه الأطماع، لأن الغرض هو تأمين الدعوة وألا تكون فتنة، والسلام كفيل ذلك ... وفي ذلك يقول الله -عز وجل- في سورة الأنفال أيضًا: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} 4. ويبين الكتاب الكريم أن المسلمين لا سبيل لهم على من يعتزل الفتنة من المشركين، ويترك القتال، ويلقي للمسلمين بالسلام. أما إذا لم يكن ميلهم للسلام حقيقيًّا، بل كانوا مذبذبين مخادعين، فعلى المسلمين أن يقاتلوهم حتى يستأصلوا الشر ويقطعوا دابر الفتنة، وفي ذلك يقول سبحانه:
{سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُبِيناً} 1. وكان الأمر مقصورًا على قتال قريش ومن يجاريهم ويحالفهم من يهود المدينة، فلما اتحدت قبائل العرب المختلفة على المسلمين أمر الله المسلمين بقتال المشركين من كافة القبائل، فقال سبحانه: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} 2. وبهذه الآيات التي سقناها من الكتاب الكريم يتبين لنا أن الإسلام لم يشرع القتال للمسلمين إلا للدفاع عن أنفسهم ولتأمين الدعوة من أن تقف الفتنة في طريقها.. وحسبنا برهانًا على تلك الروح الطيبة المسالمة أن الإسلام لا ينهى عن البر والإحسان لمن يخالفوننا في الدين ما داموا هادئين مسالمين: وفي ذلك يقول الله -عز وجل- في سورة الممتحنة: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 3. وأما من الناحية العملية في حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فهي تطبيق دقيق لما أمره الله به
من الهدوء والمسالمة للمسلمين والعدوان على الظالمين المعتدين.. ونحن إذا استقصينا كل مواقف الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع أعدائه فإنا لا نجد فيها بدءًا بهجوم1 أو عدوانًا، وإنما نراها جميعًا ردًّا للظلم والعدوان ... فغزوة بدر مثلًا -وهي الغزوة الكبرى الأولى في الإسلام- لم تكن عدوانًا من جانب المسلمين، وإنما كانت لرد الظلم والعدوان السابقين، وهي -في واقع الأمر- دفاع عن النفس والمال والوطن. ولا غرو فقد أخرج المسلمون من ديارهم بغير حق، إلا أنهم قالوا: ربنا الله، وكان عليهم بعد أن اكتملت لهم أسباب القوة في المدينة أن يثبتوا وجودهم يردوا الظلم الذي أصابهم، ولذا أمرهم الله بالقتال، ووصفهم بأنهم يقاتلون -أي: يقاتلهم غيرهم- ووصفهم كذلك بأنهم ظلموا، لأن العدوان قد أصابهم من قبل. فقال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} 2. ثم تتابعت غزوات الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكان المشركون هم الذين يبدءون دائمًا بالشر
والعدوان كما وقع في غزوة أحد، وفي غزوة الأحزاب، حتى إذا كان العام السادس الهجري تم صلح الحديبية بين قريش والمسلمين، وأعلنت بهذا الصلح الهدنة بين الفريقين إلى عشر سنوات ما دام كلا الفريقين يحترم العهود والمواثيق، ولكن قريشًا هي التي غدرت وخانت فحاربت قبيلة خزاعة التي كانت حليفة للمسلمين، فكانت هذه الخيانة عدوانًا صريحًا من جانب مشركي قريش لا يصح السكوت عليه ... ومن أجل ذلك تجهز الرسول -صلى الله عليه وسلم- في عشرة آلاف من المسلمين ليغزو قريشًا في مكة، فسلمت إليه مكة وأذعنت، وكان ذلك في العام الثامن الهجري. ومثل هذا الموقف العدائي الذي بدأ بالشر والعدوان كان موقف اليهود من الرسول -صلى الله عليه وسلم كما تبين لنا فيما تقدم- ذلك بأنهم لم يحترموا العهود والمواثيق التي أبرمها الرسول -صلى الله عليه وسلم- معهم، فحاق بهم سوء صنيعهم، حيث كتب الله على فريق منهم الجلاء، وقضى على الفريق الآخر بالهلاك والفناء: {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} 1.
غزوة بدر الكبرى
غزوة بدر الكبرى كانت غزوة بدر الكبرى تطبيقًا عمليًّا وضحت به مشروعية القتال في الإسلام وهي الدفاع عن النفس ورد الظلم والعدوان، كما كانت الغزوات التي جاءت بعدها في حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- دفاعًا عن النفس وردًّا للظلم وتأمينًا لطريق الدعوة حتى تقف في سبيلها الحواجز، وحتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.
السرايا قبل بدر
السرايا قبل بدر: 1 ولقد سبقت هذه الغزوة بعض السرايا التي مهدت الطريق للمسلمين، وأظهرت إخلاصهم لقائدهم، وعودتهم لقاء الأعداء والوقوف أمامهم وجهًا لوجه في معارك صغيرة خاطفة، قويت بها الروح المعنوية للمسلمين، بقدر ما ألقي في قلوب أعدائهم من رعب وفزع. ومن هذه السرايا سرية حمزة بن عبد المطلب: وكانت هذه السرية مكونة من ثلاثين راكبًا من المهاجرين بقيادة حمزة بن عبد المطلب. وقد اتهجت إلى ساحل البحر الأحمر على الطريق التجاري بين مكة والشام، واعترضت قافلة لقريش كان
يحميها ثلاثمائة راكب، فألقت الرعب في قلوبهم، ومع أنها لم تشتبك معهم في قتال إلا أنها نبهت قريشًا إلى أن المسلمين بدأوا يتحركون لإثبات وجودهم 1.
وسرية عبيدة بن الحارث
وسرية عبيدة بن الحارث 1: وكانت مكونة من ستين راكبًا من المهاجرين بقيادة عبيدة بن الحارث، وكان الهدف منها تهديد تجارة قريش بين مكة والشام، وقد وصلت هذه السرية وادي رابغ، فلجأ إليهم رجلان من قريش كانا يكتمان إسلامهما وانضما إلى صفوف المسلمين، ورجع الفريقان دون قتال، ولكن وضح للمشركين بأن الوضع قد تغير وأن الزمن أصبح إلى جانب المسلمين يزيد في بأسهم وقوتهم. ووقعت بعد ذلك أربع محاولات بقيادة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يخرج في هذه المرات جميعًا على رأس مائتين من أصحابه بقصد التهديد للقرشيين في طريقهم التجاري المعروف بين مكة والشام وإلقاء الرعب في قلوبهم، وقد سميت هذه المحاولات غزوات، وهي تسمية لا تنطبق على الواقع، لأن الغرض منها لم يكن غزوًا، ولأنها كانت أشبه بدوريات استعراضية واستطلاعية، والأساس فيها هو إظهار قوة المسلمين وإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم، وهذه
الغزوات هي غزوة بواط، وغزوة ودّان، وغزوة العشيرة، وغزوة بدر الأولى أو غزوة بدر الصغرى1. ولم يحدث في هذه الغزوات قتال ولكنها تركت آثارًا قوية في نفوس القرشيين الذين أزعجهم أن يروا المسلمين قد اجترأوا على الخروج من يثرب، والوقوف في طريق تجارتهم، وبدأوا يتوقعون من محمد وأصحابه أعظم الأخطار2. ووقعت بعد ذلك سرية يقال لها: سرية عبد الله بن جحش3، ولقد كانت أقل عددًا من جميع السرايا التي سبقتها، ولكنها لها أهمية بالغة من مناحية نتيجتها إذ قتل المسلمون فيها رجلًا من المشركين يسمى عمرو بن الحضرمي، وأسروا رجلين، وكان ذلك في آخر يوم من شهر رجب، فانتهزت قريش الفرصة وأثارت الدعاية السيئة ضد المسلمين وقالت: قاتلوا في الشهر الحرام، وقد رد الله هذه الدعاية السيئة على ذويها بقوله في سورة البقرة:
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا} 1. فسرّي عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعن المسلمين بهذه الآية الكريمة إذ التمست العذر للمسلمين وبينت أن هذا العمل ليس فيه مخالفة لأوامر الدين لأنه كان بسبب الضرورة القاهرة، ولأن الآثام الكثيرة التي ارتكبها المشركون في حق المسلمين تجعل المخالفة التي قام بها المسلمون هينة يسيرة وداخلة في نطاق عفو الله ورحمته. وبهذه الدوريات الاستطلاعية استطاع المسلمون التعرف على الطرق المحيطة بالمدينة والمؤدية إلى مكة، وخاصة الطرق التجارية التي تعودت قريش أن تسلكها في رحلة الصيف، واستطاع المسلمون كذلك أن يشعروا أعداءهم من المشركين ومن اليهود ومن سائر القبائل العربية بقوتهم، وكان ذلك عاملًا شجع الراغبين في الإسلام على الدخول فيه.
غزة بدر الكبرى-
غزة بدر الكبرى- ... غزوة بدر الكبرى 1: وجاءت بعد ذلك غزوة بدر الكبرى، وهي أول معركة في الإسلام قامت
بين الحق والباطل، وكان سببها أن قافلة تجارية لقريش بقيادة أبي سفيان كانت قادمة من الشام وفي طريقها إلى مكة، فأراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يعترض طريق هذه القافلة ليفجع قريشًا في أموالها كما فجعت قريش المسلمين من قبل في أموالهم وأنفسهم، وخرج الرسول -صلى الله عليه وسلم- في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلًا1 من أصحابه في اليوم الثامن من رمضان2 ومعهم سبعون بعيرًا وفرسان. وحينما علم أبو سفيان بخروج الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه فزع كل الفزع، وأرسل إلى قريش يطلب الغوث والنجدة، فثار القرشيون ثورة عصبية، ونفروا سراعًا، وعلى رأسهم سادتهم وكبراؤهم، وكانت عدتهم تسعمائة وخمسين رجلًا3، ومعهم مائة فرس وسبعمائة بعير، ومضى مشركو قريش في طريقهم لنجدة أبي سفيان وتخليص أموالهم من قبضة المسلمين، وبينما هم في الطريق وصلهم رسول من أبي سفيان يخبرهم بنجاته هو وقافلته، ويطلب إليهم الرجوع، ولكن أبا جهل تحمس للحرب والقتال، وأبى إلا أن يتقدم حتى يصل إلى بدر4، وصاح قائل: والله لا نرجع حتى نصل إلى بدر ونقيم عليها ثلاثًا، ننحر الجزر ونطعم الطعام ونسقي الخمر، وتعزف علينا القيان5، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدًا بعدها. وتردد القوم بين اتباع أبي جهل مخافة أن يتهموا بالجبن والخور، وبين
الرجوع إلى مكة ما دامت العير قد نجحت وأموالهم قد سلمت، فلم يرجع إلا بنو زهرة الذين اتبعوا مشورة الأخنس بن شريق، وكان سيدًا مطاعًا فيهم، واتبعت سائر قريش رأي أبي جهل ومضوا في طريقهم حتى وصلوا وادي بدر، ونزلوا بالعدوة القصوى عن المدينة. وحينما علم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأن قريشًا خرجوا بجموعهم ليمنعوا عيرهم جمع أصحابه واستشارهم فتكلم أبو بكر ثم عمر بما يؤيد الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويعضده، ثم تكلم المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله، امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون. ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون. ثم تكلم سعد بن معاذ من الأنصار فقال: لقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك وما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقي بنا عدونا غدًا، إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء. ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله. وهنا يجدر بنا أن نقف وقفة إعجاب وتقدير، فإن عظمة الجنود إنما تتركز على أساس من عظمة القائد، ولقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقود أصحابه إلى ميدان الجهاد مستضيئًا بهدى القرآن وتعاليم الإسلام التي تعد المجاهدين في سبيل الله إحدى الحسنيين، وتبشر الشهداء بالحياة السعيدة الخالدة حيث، يقول الله -عز وجل: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ
فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} 1. ومن أجل ذلك نجحت تلك القيادة الرشيدة وسادت حتى علا لواء الإسلام في كل مكان، وانسابت كلمة الحق بين الأمم تحيي موات الأنفس والأرواح والقلوب، وإن في ذلك لعبرة. ثم مضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه في طريقهم وقد أشرق وجه الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالمسرة لما رأى من قوة إيمان المسلمين وقال لهم: "سيروا وأبشروا فإن الله وعدني إحدى الطائفتين2، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم". وهكذا ظلوا سائرين حتى نزلوا بعدوة الوادي الدنيا، أي القريبة إلى المدينة، وقد صدق الله وعده، فالتقى المسلمون بإحدى الطائفتين وهي الطائفة القوية ذات الشوكة، مع أنهم كانوا يريدون غير ذات الشوكة، وهي العير، ولكن الله أراد لهم أن يلتقوا بالنفير، وهو الجيش الكبير الذي نفر لإنقاذ العير، وكان ذلك لحكمة جليلة أرادها الله وسجلها في محكم كتابه، حيث قال: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ، لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} 3. وكان الحباب بن المنذر بن الجموح خبيرًا بهذه الأمكنة التي نزل فيها المسلمون، فلما رأى الموقع الذي استقر فيه المسلمون لم يرق في نظره ولم يطمئن إليه، فقال للرسول -صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلًا أنزلكه
الله فليس لنا أن نتقدمه أو نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال محمد -صلى الله عليه وسلم-: "بل هو الرأي والحرب والمكيدة". فقال الحباب: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل. فانهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم فننزل، ثم نعور1 ما وراءه من الآبار، ثم نبني عليه حوضًا فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون وحينئذٍ فكر الرسول -صلى الله عليه وسلم- فاقتنع بهذا الرأي السديد، وأعلن أمام المسلمين أنه قد نزل على رأي الحباب، وأن في ذلك الحكمة والصواب. وهنا -أيضًا- ينبغي أن نقف وقفة إعجاب وإكبار، فلم يكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- برأيه ولا راكبًا متن الغرور، بل كان يتشاور مع أصحابه كي يتلمس وجه الخير والرشاد عملًا بقوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} 2. وكان يحترم الرأي الصائب وينفذه ولو تعارض مع رأيه3، فهل يكون في ذلك للناس عبرة وتبصرة؟ إن القادة والرؤساء كثيرًا ما يعميهم التعصب الممقوت والاستبداد بالرأي فينزلقون إلى الشر، ويجرون وراءهم الأمم والشعوب إلى مهاوي الفناء، ولو استطاع هؤلاء القادة والرؤساء السادرون في عماية الكبرياء والأنانية أن ينتفعوا بهذا الدرس العملي من المربي الأول محمد4 -صلى الله عليه وسلم- وبمثله من الدروس التي ألقاها الزعماء والصالحون على الإنسانية، لتغير مجرى التاريخ في كثير من الأزمنة والعصور. ولما نفذوا رأي الحباب وبنو الحوض، قال سعد بن معاذ: يا نبي الله نبني لك عريشًا تكون فيه، ونعد عند ركائبك، ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله
وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا، فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد لك حبًّا منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حربًا ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم يناصحونك ويجاهدون معك. وقد أثنى الرسول -صلى الله عليه وسلم- على سعد ودعا له بخير، ولأنه قدر الظروف وعرف أن مكان القائد هو الإشراف والتوجيه فلا ينبغي أن يتعرض للأخطار1، لأن في حياته حياة الأمة وكيانها وكرامتها، ثم بني العريش للنبي -صلى الله عليه وسلم- حتى يكون في مأمن من العدو إذا لم يكن النصر في جانب المسلمين، وهكذا الإخلاص والإيثار: إخلاص الجندي الأمين لقائده الأمين، وإيثار المؤمن لنبيه على نفسه. وبمثل هذا الإخلاص والإيثار مَنَّ الله على المسلمين، ومكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وبدلهم من بعد خوفهم أمنًا، وإن في ذلك لعبرة ...
في ميدان المعركة
في ميدان المعركة: وقد بدأت المعركة في اليوم السابع عشر من رمضان، وفي السنة الثانية من الهجرة النبوية، حيث وقف الحق أمام الباطل وجهًا لوجه، والتقى الجمعان فئة قليلة مؤمنة تقاتل في سبيل الله، وفئة كثيرة كافرة تقاتل في سبيل الشيطان ...
فانتصر الحق بفضل الله وعلا لواؤه، ولاذ الباطل بالفرار وقد أفل نجمه وطاش سهمه. وأخذ الرسول -صلى الله عليه وسلم- ينظم صفوف المقاتلين من المسلمين، ثم أعلن بدء المعركة بهذه الكلمة القوية المؤمنة: "والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرًا محتسبًا مقبلًا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة". ولا ريب أن الكلمة المؤمنة إذا صادفت القلوب المؤمنة كانت كالغيث الهتون يصيب الأرض النقية الطيبة فينبت فيها الخير الكثير ... فلم يكد المسلمون المؤمنون يسمعون هذه الكلمة من نبيهم -صلى الله عليه وسلم- حتى نسوا الدنيا بما فيها من سعادة ونعيم، حتى إن أحدهم -وهو عمير بن الحمام- كان يأكل بعض تمرات فألقاها، لأنه آثر عليها تمر الجنة، وكأنما يراه بعينيه ويلمسه بيديه، وينطلق مسرعًا للقتال لكي يحظى بنعمة الاستشهاد في سبيل الله وهو ينشد بقلبه ولسانه: ركضًا إلى الله بغير زاد ... إلا التقى وعمل المعاد والصبر في الله على الجهاد ... وكل زاد عرضة النفاد غير التقى والبر والرشاد1 وظل يقاتلهم ويقتل منهم ما شاء الله أن يقتل حتى قُتل في سبيل الله، فشفى الله صدره بالجهاد وحقق له نعمة الاستشهاد، وهكذا: تردَّى ثياب الموت حمرًا فما أتى ... لها الليل إلا وهي من سندس خضر ولقد تجلى في هذا اليوم وفي هذه المعركة عدل الله وقصاصه من الظالمين،
إذ لمسوا نتيجة ظلمهم وجنوا عاقبة غدرهم وإثمهم: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} 1. فهذا أُمية بن خلف الجمحي القرشي رأس الكفر والضلال، وداعية الظلم والظلام، وباعث الشر والفتنة في مكة، والعدو الألد للإسلام منذ ظهوره تسلط بظلمه على بلال بن رباح -وكان مملوكًا له- فكان يخرج به وقت الظهيرة في الرمضاء2 ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ثم يقول له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى. فيقابل بلال ذلك الأذى بالصبر الجميل والإيمان العميق، ويتنفس الصعداء من خلال الألم الممض والأسى المرمض، قائلًا: أحد أحد3. أجل، هذا هو أُمية بن خلف في مكة وقبل يوم بدر ... ثم ها هو ذا الآن في يوم بدر يتنكر له الزمن وتدور عليه الأيام فماذا عسى أن يكون؟ لقد لمس هو والطغاة عاقبة ظلمهم وبغيهم، ونظروا إلى قوتهم فوجدوها متضائلة متخاذلة. وقد كانت إلى الأمس القريب صائلة وجائلة، واستصرخوا آلهتهم المتعددة فلم تسمع ولم تجب، بينما كان المسلمون ينادون إلههم الواحد فيرونه قريبًا ويجدونه سميعًا مجيبًا. ونظر أُمية بن خلف في صفوف المسلمين فرأى عبده القديم بلال بن رباح يمرح في ربيع الحرية، ويصول ويجول تحت ظلال العزة الإسلامية. ونظر بلال بن رباح في صفوف المشركين، فرأى أُمية بن خلف وقد ساقه الله
مع جند الباطل حتى أصبح أمامه وجهًا لوجه، فأدرك تمام الإدراك أن هذا اليوم يوم القصاص، وتذكر تاريخ أُمية الملطخ بالخزي والعار، فثارت نفسه وصاح قائلًا: أُمية بن خلف رأس الكفر والضلال لا نجوت إن نجا ... وحاول أُمية بن خلف أن يتوارى عن الأنظار ويلوذ بالفرار، ولكن القضاء العادل نفذ وحكم الله بأمره، فكان القصاص الرهيب في الدنيا قبل الآخرة، وذهب أُمية بن خلف صريع بغيه وعدوانه، على يدي بلال، ورأى بلال في أُمية ما أطفأ ألمه القديم، وداوى قلبه الكليم، وكان خير عوض عن حقه المهضوم، وإن في ذلك لعبرة. وعقبة بن أبي معيط عدو الله ورسوله، والنضر بن الحارث عدو الله ورسوله. وأبو جهل عدو الله ورسوله هؤلاء وغيرهم من أئمة الكفر والذين لا أيمان لهم، وقفوا في يوم بدر للقصاص، ورأوا بأعينهم نكال أمرهم وعاقبة بغيهم وظلمهم1، وكانت نهايتهم الأليمة عبرة وعظة سجل التاريخ فيها أن الظلم لا يدوم، وأن موقع البغي وخيم، وأن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله.
مشهد رهيب
مشهد رهيب: وهذا مشهد رهيب في ميدان المعركة الكبرى، يتجلى فيه الصراع المرير بين العقيدة والعاطفة. إنه وَلَدٌ مسلمٌ مؤمنٌ يقفُ في صفوف المقاتلين المسلمين وأمامه والده المشرك يقف في صفوف المقاتلين المشركين، أما الوالد فهو عتبة بن ربيعة، وأما الولد فهو أبو حذيفة بن عتبة.. وها هو ذا أبو حذيفة ينظر إلى والده عتبة بعينين تفيضان بالأسى، وتقطران من الحزن واللوعة، إنه يعرف لأبيه فضله، ويقدر له رأيه وعقله، وكان يتمنى أن يفيق أبوه من سكرته، فيترك عبادة الأصنام، ولقد أخذ الولد يتوسل لأبيه ويناديه أن يفيء إلى الحق، ولكن الوالد الجاحد المعاند يظل سادرًا في الغي والضلالة، حتى يسلمه غيه وضلاله إلى
أسوأ مصير فيسقط صريعًا في صفوف المشركين. وحينما انجلت المعركة وتم النصر للمسلمين، أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يلقى المشركون في القليب، فلما أُخذ عتبة بن ربيعة وسحب إلى القليب، نظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى وجه أبي حذيفة بن عتبة فوجده قد تغير فقال له: "يا أبا حذيفة لعلك قد دخلك من شأن أبيك شيء؟ ". فقال: لا، والله يا رسول الله، ما شككت في أبي ولا في مصرعه، ولكنني كنت أعرف من أبي حلمًا ورأيًا وفضلًا، فكنت أرجو أن يهديه الله للإسلام، فلما رأيت ما أصابه وذكرت ما مات عليه من الكفر، بعد الذي كنت أرجو له أحزنني ذلك، فدعا له الرسول -صلى الله عليه وسلم- بخير وقال له خيرًا. ولا شك أن هذا الموقف العجيب من الولد نحو أبيه في تلكم المعركة التي قامت بين الحق والباطل، ليأخذ بأيدينا إلى عبرة بالغة ويسلمنا إلى حقيقة رائعة، وهي أن العقيدة إذا امتزجت بالنفوس واطمأنت بها القلوب فلن يخدعها هوًى أو رغبة، ولن تقف في سبيلها أية عاطفة في هذا الوجود.
اللجوء إلى الله
اللجوء إلى الله: وحينما اشتدت المعركة وثار الغبار وحمي وطيس القتال، ورأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كثرة عدد المشركين وقلة عدد المسلمين، لجأ -كعادته- إلى الله ليجعل له من هذا الكرب والضيق فرجًا ومخرجًا، وتوجه إلى ربه بهذا الدعاء: "اللهم هذه قريش قد أتت بخيلائها تحاول أن تكذّب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد ... ".
وما زال ماضيًا في دعائه، ورافعًا يديه إلى السماء طالبًا من الله ألا يردهما خاليتين من رحمته، وأبو بكر -رضي الله عنه- من ورائه يهتف به قائلًا: يا نبي الله، بعض مناشدتك ربك، فإن الله منجز لك ما وعدك. وهكذا يظل الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع ربه منيبًا خاشعًا حتى أخذته سِنة من النعاس، فرأى خلالها نصر الله يضيء ويملأ الآفاق، فاستيقظ وهو فرح مستبشر يتلو قول الله تعالى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} 1. وقد ابتدأت معركة بدر صباح يوم الجمعة 17 رمضان، من السنة الثانية للهجرة، وانتهت في مسائه بنصرٍ مبين للمسلمين، وهزيمة ساحقة للمشركين فولوا مدبرين بعد أن قتل منهم سبعون، وأُسر منهم مثل هذا العدد، واستشهد من المسلمين أربعة عشر2، وبقي المسلمون في بدر ثلاثة أيام بعد المعركة، ثم رجعوا بعد ذلك إلى المدينة فرحين بنصر الله، ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم ...
دور الملائكة في يوم بدر
دور الملائكة في يوم بدر: وكان يوم بدر يوم السماء نزلت فيه الملائكة إلى الأرض، تُثبت الذين آمنوا وتلقي في قلوب الذين كفروا الرعب، وفي ذلك يقول الله -عز وجل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ، وَمَا
جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 1. ويقول: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} 2. وقصة إمداد الله للمسلمين بالملائكة قصة عجيبة، قوامها قدرة الله -عز وجل- الذي جعل الأرض جميعًا قبضته والسموات مطويات بيمينه. وقد اختلف العلماء في الغرض الذي من أجله أمد الله المسلمين بالملائكة فذهب بعضهم إلى أن الملائكة إنما نزلت للقتال، فهي جيش من السماء، أنزله الله لإضعاف شوكة الشرك والطغيان في الأرض. ويستدلون على ذلك بما يروى من أن رجلًا من المسلمين كان يطارد رجلًا من المشركين في يوم بدر، فسمع صوت ضربة بالسوط فوقه فنظر إلى المشرك قد خر مستلقيًا وشق وجهه، فلما أخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بذلك قال: "ذاك من مدد السماء" 3. وما يروى عن أبي داود المازني حيث قال: تبعت رجلًا من المشركين لأضربه يوم بدر فوقع رأسه بين يدي قبل أن يصل إليه سيفي4. وهم يقولون: إن الأمر في قوله تعالى:
{فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} 1. هذا الأمر أمر للملائكة بالضرب والقتل. ومعنى ذلك أن الله إنما قضى بإنزالهم للضرب والقتال ... ويذهب البعض الآخر إلى أن الملائكة إنما نزلت لتثبيت قلوب المؤمنين وتقوية الروح المعنوية لديهم، وأنهم لم يشتركوا في القتال، وحجتهم في ذلك أن الملك الواحد يكفي لإهلاك أهل الأرض جميعًا2 ... هذا الرأي هو الذي تميل إليه النفس، وتؤكده القرائن والدلائل التي لا يتطرق إليها الضعف والوهن3، وذلك لأمور كثيرة: أولها: أن الملك الواحد يستطيع إهلاك الكفار جميعًا في لحظة واحدة فلماذا ينزل الله ألفًا من الملائكة4؟ وثانيها: أن الله لو قدر للملائكة أن تشترك بالفعل في القتال، لما كان هناك
مزية للمسلمين الذين اشتركوا في هذه الغزوة1، ولما كان هناك داع للأخذ بالأسباب العادية في هذا الوجود، حيث يأمر الله المسلمين بإعداد العدة للقضاء على الكفار، فيقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} 2. وثالثها: أن المعركة حينئذٍ ستكون بين فئتين: فئة قليلة وهم الكفار وفئة كثيرة وهم المسلمون بعد انضمام الملائكة إليهم، إذ يصبحون ألفًا وثلاثمائة. بل إذا نظرنا إلى ما ذكر في سورة آل عمران من أن الملائكة قد زادوا فأصبحوا ثلاثة آلاف، ثم زادوا حتى وصلوا إلى خمسة آلاف حيث يقول سبحانه: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ، بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} 3. إذا نظرنا إلى ذلك وجدنا أن المسلمين مع الملائكة سيزيدون على خمسة آلاف. وحينئذٍ لا ينبغي أن يقال: إن الفئة القليلة هي التي غلبت الفئة الكثيرة4.
ورابعها: أن الملائكة لو اشتركت في القتال بهذا العدد الضخم ثم انجلت المعركة عن قتل سبعين من المشركين فحسب، لكان هذا موقفًا مخزيًا لملائكة الله، ولا اعتبر ذلك نصرًا للمشركين، وهزيمة للملائكة والمسلمين1. وبذلك يتبين لنا أن الملائكة لم تنزل لقتال2، وإنما نزلت لتثبيت القلوب وتقوية الإيمان، ومما يزيد هذا المعنى تأكيدًا وقوة، قول الله تعالى بعد ذلك: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ} 3. أي وما جعل الله إمدادكم بالملائكة لشيء من الأشياء إلا للبشرى لكم بأنكم ستنتصرون، ولتسكن وتطمئن بهذا الإمداد قلوبكم، حيث تدركون أن الله معكم، وأنكم أهل لرضاه، فيزاد إيمانكم وجهادكم. ويكون الأمر في قوله تعالى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} . أمرًا موجهًا إلى المؤمنين لا إلى الملائكة4، ويكون المعنى: إذ يوحي ربك
إلى الملائكة أني معكم بمعونتي، فثبتوا أيها الملائكة الذين آمنوا وشجعوهم وأخبروهم بأن الله معهم ... وأنه سيلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ... وإذا كان الأمر كذلك فاضربوا أيها المؤمنون فوق الأعناق، واضربوا منهم كل بنان ... وبهذا يتبين لا بما لا يقبل الشك والجدال 1 أن الملائكة إنما نزلت لتثبيت قلوب المؤمنين، ولم تشترك في القتال.
موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من الأسرى
موقف الرسول -صلى الله عليه وسلم- من الأسرى: وقد استشار الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد أن أتم الله عليهم النعمة بالنصر، في أمر الأسرى من مشركي قريش، وكان عددهم سبعين أسيرًا ... فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله قد كذبوك وقاتلوك وأخرجوك فاضرب أعناقهم فهم رءوس الكفر وأئمة الضلالة ... ووافقه على ذلك جماعة من الصحابة ... وقال أبو بكر: يا رسول الله: هؤلاء أهلك وقومك وقد أعطاك الله الظفر والنصر عليهم، وإني أرى أن تستبقيهم وتأخذ الفداء منهم، فيكون ما أخذنا منهم قوة لنا على الكفار، وعسى الله أن يهديهم للإسلام فيكونوا لنا عضدًا. ووافق على الرأي كذلك جماعة من الصحابة. وقد تلطف الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع صاحبيه الكريمين أبي بكر وعمر يضرب لهما أمثلة من الملائكة والأنبياء. فأما أبو بكر فمثله في الملائكة كمثل ميكال ينزل برضى الله وعفوه عن عباده، ومثله في الأنبياء كمثل إبراهيم كان ألين على قومه من العسل، قدمه قومه إلى النار وطرحوه فيها فما زاد على أن قال:
{فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1. وكمثل عيسى إذ يقول: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 2. وأما عمر فمثله في الملائكة كمثل جبريل ينزل بالسخط من الله والنقمة على أعداء الله. ومثله في الأنبياء كمثل نوح إذ يقول: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً، إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} 3. وكمثل موسى إذ يقول: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} 4.
ثم أخذ الرسول -صلى الله عليه وسلم- برأي أبي بكر وترك رأي عمر، وقبل الفداء من الأسرى، وقال لأصحابه: "لا يفلتن أحد من أسراكم إلا بفداء". فنزل قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 1. وكان ذلك عتابًا من الله لرسوله وتبيانًا للمنهج القويم الذي كان يجب أن يسير عليه. وبعد فقد كانت غزوة بدر درسًا عمليًّا تجلت فيه ثمرة الإيمان فنصر الله المسلمين وهم قلة، لأنهم آمنوا بالله وأخلصوا الإيمان، وخذل المشركين وهم كثرة، لأنهم حادوا عن الحق وابتعدوا عن الإيمان. {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} 2.
غزوة أحد
غزوة أحد 1 مضى عام كامل على قريش بعد هزيمتهم في عزوة بدر وهم يتوجعون على قتلاهم، ويهيئون أنفسهم ليوم آخر يستردون فيه كرامتهم، ويأخذون بثأرهم ويسترجعون هيبتهم بين قبائل العرب، ويؤمنون طريق تجارتهم إلى الشام حتى لا يتعرض لها المسلمون إذا لاحت لهم فرصة ثانية للانتقام. وفي خلال هذه الفترة كانت الجزيرة العربية كلها تغلي بالحقد على المسلمين، وتتسمع إلى أنبائهم بمزيد من العجب والدهشة، وتحاول بين الحين والحين أن تنال منهم، حتى تضعف من شوكتهم وتقلل من خطرهم.. ولكن يقظة المسلمين وقوة عزيمتهم أفسدت كل هذه المحاولات.
غزوة السويق
غزوة السويق: ومن أمثلة ذلك ما فعله أبو سفيان حينما تجهز بمائتي فارس من مكة، وقرر أن يباغت محمدًا -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه في خلال نشوة النصر التي يعيشون فيها، فقد استطاع أن يصل إلى أطراف المدينة في ظلام الليل وأن يحرق بيتين ويقتل رجلين
أحدهما من الأنصار والثاني حليف له -وكانا في حرث لهما- ثم ولوا هاربين. وحينما أحس المسلمون بهم ندب محمد -صلى الله عليه وسلم- أصحابه فخرجوا في أثرهم، فألقى أبو سفيان وأصحابه ما معهم من الأمتعة، ليتخففوا من أثقالهم ويستطيعوا النجاة بأنفسهم، وكان أكثرها من السويق، فأخذها المسلمون غنيمة باردة، وسميت هذه الغزوة: غزوة السويق1. ومن ذلك ما فعلته قبائل بني ثعلبة ومحارب وقبائل بني سليم، إذ كانوا يتجهزون لقتال محمد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، ولكن المسلمين خرجوا للقائهم قبل أن يهاجموهم في المدينة ففروا إلى رءوس الجبال، وكفى الله المؤمنين القتال.
استعداد قريش وخروجها للمعركة
استعداد قريش وخروجها للمعركة: وكانت العير التي جاء بها أبو سفيان من الشام، والتي كانت سببًا في غزوة بدر قد ربحت نحوًا من خمسين ألف دينار فجمعت كلها، وقال أصحابها لأبي سفيان: إن محمدًا قد قتل خيارنا، وإنا رضينا أن نترك ربح أموالنا فيها استعدادًا لحرب محمد وأصحابه. وقد رضي بذلك كل من له فيها نصيب، ثم عبأت قريش قوتها وأرسلت إلى قبائل البدو المحالفة لها لتشترك معها وتعينها، فاجتمع
من ذلك كله ثلاثة آلاف رجل1 ومعهم ما يلزمهم من العدة والسلاح. وكان العباس بن عبد المطلب عم النبي -صلى الله عليه وسلم- واقفًا على ما تدبره قريش للنبي -صلى الله عليه وسلم- ومطلعًا على كل صغير وكبيرة من أمرهم، وكان لا يزال مشركًا، ولكن عاطفة القرابة جعلته يرسل كتابًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يفاجئه أعداؤه، فكان هذا الموقف الكريم عملًا جليلًا للعباس يضاف إلى أعماله الجليلة السابقة التي قام بها قبل إسلامه حبًّا في ابن أخيه محمد -عليه الصلاة والسلام. وخرجت قريش من مكة في شوال من السنة الثالثة للهجرة مع حلفائهم من بني كنانة وأهل تهامة، حتى إذا بلغوا الأبواء ومروا بقبر آمنة بنت وهب، دفعت الحمية بعض الطائشين منهم إلى التفكير في نشبه، لولا أن العقلاء منهم تداركوا هذا الأمر، حتى لا ينبش المسلمون موتاهم إذا تهيأت لهم فرصة الانتقام، ثم تابعت قريش مسيرها حتى نزلت عند بعض السفوح من جبل أحد على بُعد خمسة أميال من المدينة.
موقف الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين
موقف الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين: وعلم الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون بذلك المكان الذي نزل فيه المشركون، فجمع الرسول -صلى الله عليه وسلم- أصحابه واستشارهم وقال: "إن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا. فإن أقاموا، أقاموا بشر مقام، وإن هم دخلوا علينا قتلناهم فيها". فرضي الكبار والشيوخ منهم بهذا الرأي: وقال قائلهم: تقيم بالمدينة يا رسول الله وتتركهم. فإن أقاموا أقاموا بشر محبس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم
ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا خائبين كما جاءوا. ولكن الشبان وخصوصًا من لم يشهد بدرًا من المسلمين لم يرضوا بهذا الرأي وقالوا: يا رسول الله اخرج بنا إلى أعدائنا حتى لا يرو أنا جبنا عنهم وضعفنا، وما زال هؤلاء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى اتبع رأيهم، لأنهم الأكثرون عددًا والأقوون جلدًا. فصلى الجمعة في اليوم العاشر من شوال وحثهم في خطبتها على الثبات والصبر، وقال: "لكم النصر ما صبرتم". ثم عقد الألوية، فأعطى لواء المهاجرين لمصعب بن عمير1، ولواء الخزرج للحباب بن المنذر2 ولواء الأوس لأسيد بن الحضير. ثم سار الجيش وكان عدده يقرب من الألف رجل حتى إذا كان بالشوط -وهو بستان بين جبل أحد والمدينة- رجع عبد الله بن أُبي3 بثلاثمائة من أصحابه، وبقي مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- سبعمائة رجل من المؤمنين المخلصين، فمضوا في طريقهم حتى وصلوا إلى الشعب من جبل أحد على مقربة من المشركين، ثم جعلوا ظهورهم للجبل ووجوههم للمدينة.
بدء المعركة
بدء المعركة: 1 كان جيش المشركين يبلغ ثلاثة آلاف -كما ذكرنا من قبل- وكان جيش المسلمين لا يزيد على سبعمائة، وقد رتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الجيش ونظمه تنظيمًا دقيقًا، ووضع خمسين رجلًا من الرماة2 على شعب في الجبل وراء جيش المسلمين، وقال لهم: "احموا لنا ظهورنا، فإننا نخاف أن يجيئنا من ورائنا، والزموا مكانكم ولا تبرحوه، وإن رأيتمونا نهزمهم حتى ندخل عسكرهم فلا تفارقوا مكانكم، وإن رأيتمونا نقبل فلا تعينونا ولا تدفعوا عنا، وإنما عليكم أن ترشقوا خيلهم بالنبل، فإن الخيل لا تقدم على النبل". ثم التقى الجمعان، وبدأ القتال أولًا بالمبارزة، فكان النصر في جانب المسلمين، ثم حملت خيالة المشركين على المسلمين ثلاث مرات، وفي كل مرة ينضحهم المسلمون بالنبل فيتقهقرون.
ثم حمي القتال وكان نساء قريش يمشين خلال الصفوف يضربن بالطبول والدفوف، وعلى رأسهن هند بنت عتبة زوج أبي سفيان وهن يقلن: ويْها بني عبد الدار ... ويها حماة الأدبار ضربًا بكل بتار ويقلن: إن تقبلوا نعانق ونفرش النمارق أو تدبروا نفارق فراق غير وامق فيشتد حماس الرجال إذا سمعوا نشيد النساء. ويتذكرون إخوانهم الذين قتلوا في يوم بدر، فتزداد حميتهم وإقبالهم على القتال، وكان -عليه السلام- كلما سمع نشيد النساء يقول: "اللهم بك أجول، وبك أصول، وفيك أقاتل، حسبي الله ونعم الوكيل". ولم يكن المسلمون بحاجة إلى من ينشد لهم الأشعار ليدفعهم إلى القتال، وإنما كانوا يندفعون بإيمانهم العميق، ويقبلون على الموت في سبيل الله، لأن الله وعدهم إحدى الحسنيين: إما النصر، وإما الشهادة، وفي كل منهما خير وسعادة.
صور من البطولة والإيمان
صور من البطولة والإيمان صور من البطولة والإيمان ... صور من البطولة والإيمان: وهناك أمثلة كثيرة من البطولة والإيمان في هذه الغزوة، وحسبنا أن نسجل الآن بعضها عسى أن يكون في ذلك ذكرى وتبصرة ...
فهذا أبو دجانة يلبس عصابته الحمراء -وكان يسميها عصابة الموت ويمشي بين صفوف المجاهدين مشية الخيلاء، ويراه الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيقول: إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن. وقد نزل إلى الميدان بعد أن أخذ السيف من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأخذ ينشد: أنا الذي عاهدني خليلي ... ونحن بالسفح لدى النخيل ألا أقوم الدهر في الكيول ... أضرب بسيف الله والرسول وهو يقصد بالكيول مؤخرة الصفوف، فكأنه يقول: لن أكون أبدًا إلا في المقدمة ما دمت أضرب بسيف الله والرسول، وقد أعمل سيفه في المشركين فألقى في قلوبهم الرعب، وحينما انكشف ظهر المسلمين في آخر المعركة، وأصبح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هدفًا لنبال المشركين تترس عليه أبو دجانة، فظل النبل يقع على ظهره -وهو منحنٍ على جسم الرسول -صلى الله عليه وسلم- حتى انجلت المعركة، وهكذا آثر رسول الله على نفسه وأحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكثر من حبه لنفسه. وهذا أبو خيثمة، قُتل ابنه في معركة بدر فجاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: لقد أخطأتني وقعة بدر وكنت -والله- عليها حريصًا، حتى ساهمت ابني في الخروج في القرعة فخرج سهمه فرزق الشهادة، وقد رأيت البارحة ابني في النوم في أحسن صورة يسرح في ثمار الجنة وأنهارها ويقول لي: الحق بنا ترافقنا في الجنة، فقد وجدت ما وعدني ربي حقًّا، ثم قال: وقد أصبحت يا رسول الله مشتاقًا إلى مرافقته وقد كبرت سني ورق عظمي، وأحببت لقاء ربي، فادع الله يا رسول الله أن يرزقني الشهادة ومرافقة ابني في الجنة. فدعا الرسول له، فنال نعمة الاستشهاد في هذه المعركة.
وكان عمرو بن الجموح أعرج شديد العرج، وكان له أربعة أبناء شباب يغزون مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما توجه الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى أحد، أراد أن يخرج معه فقال له بنوه: إن الله قد جعل لك رخصة فلو قعدت ونحن نكفيك، وقد وضع الله عنك الجهاد، فأتى عمرو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: إن بني هؤلاء يمنعوني أن أجاهد معك، ووالله إني لأرجو أن أستشهد فأطأ بعرجتي هذه في الجنة. فقال له رسول الله: "أما أنت فقد وضع الله عنك الجهاد". وقال لبنيه: "وما عليكم أن تدعوه لعل الله -عز وجل- أن يرزقه الشهادة". فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقتل يوم أحد شهيدًا، وحقق الله له ما طلبه وتمناه. وكان نعيم بن مالك يقول في ذلك اليوم: "فوالذي نفسي بيده لأدخلن الجنة. فيقول له الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "بم؟ " أي بأي شيء تستحق دخول الجنة؟ فيقول بأني أحب الله ورسوله، ولا أفر يوم الزحف. فيقول له الرسول -صلى الله عليه وسلم: "صدقت ... " وكتب الله له الشهادة في هذا اليوم ودخل الجنة، وهكذا أقسم على الله فأبره. وقد حمل المسلمون على لواء المشركين فكان إذا سقط اللواء من يد واحد أخذه من خلفه، فيحمل عليه المسلمون فيقتلونه، فيأخذ اللواء رجل آخر حتى قتل حملة اللواء من المشركين، ولما لم يقدر أحد على الدنو منه ولوا الأدبار، ونساؤهم يبكين ويولولن، وتبعهم المسلمون يجمعون الأسلاب والغنائم.
الرماة يتسببون في تغيير الوضع
الرماة يتسببون في تغيير الوضع: ولما رأى الرماة الذين أوقفهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- فوق الجبل ليحموا ظهور المسلمين لما رأوا المسلمين قد بدأوا يجمعون الأسلاب والغنائم، نسوا1 أمر الرسول
-صلى الله عليه وسلم- لهم، فتركوا موقفهم الحصين ونزلوا إلى مكان القتال ليجمعوا ما يستطيعون من تلك الأموال التي خلفها المشركون!. وقد نصحهم رئيسهم عبد الله بن جبير بألا يتركوا مكانهم حرصًا على أوامر الرسول -صلى الله عليه وسلم- فلم يستمع إليه سوى نفر دون العشرة. وانتهز خالد بن الوليد1 هذه الفرصة، وكان على فرسان مكة2، فشد برجاله على مكان الرماة فقتل من ثبت منهم، وفاجأ المسلمين من ورائهم وهم مشغولون بدنياهم، فاستولى عليهم الرعب والفزع وسادت الفوضى في صفوفهم، حتى صار يضرب بعضهم بعضًا وانعكست الآية3، فبعد أن كان المسلمون يقاتلون صفًّا كأنهم بنيان مرصوص، إذا بهم الآن يقاتلون مبعثرين متناكرين دون رئيس يوجههم أو قائد يرعاهم ... وشاع بين الناس أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- قد قتل، فعظمت البلية بين المسلمين، وفرح المشركون. ولكن المسلمين عرفوا بعد ذلك أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يزال حيًّا فأحاطوا به يدرءون عنه الأذى والعدوان، ويفتدونه بأنفسهم حتى ضربوا بذلك أروع الأمثال في الإيمان، ولكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- على الرغم من ذلك أصيبت رباعيته، وشج في جبهته، وجرحت شفته، ودخلت حلقتان من المغفر الذي يستر به وجهه في وجنته، واستمات المسلمون بعد ذلك في القتال ولكن دون جدوى، فاضطروا
إلى الانسحاب والصمود في الجبل بعد أن قتل منهم سبعون شهيدًا، وقد قتل في هذه الغزوة حمزة بن عبد المطلب، ومثلت به هند زوج أبي سفيان بعد قتله -رضي الله عنه- فبقرت بطنه وأخرجت كبده فمضغتها بأسنانها ثم لفظتها. وقد حزن الرسول -صلى الله عليه وسلم- على عمه أشد الحزن وسجاه ببردته -صلى الله عليه وسلم- وصلى عليه ثم دُفن ودُفن معه سائر الشهداء حيث لقوا مصارعهم. وقد روى ابن إسحاق1 أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من رجل ينظر إلى ما فعل سعد بن الربيع؟ أفي الأحياء هو أم في الأموات؟ " فقال رجل من الأنصار: أنا. فنظر فوجده جريحًا في القتلى وبه رمق. فقال له: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمرني أن أنظر أفي الأحياء أنت أم في الأموات؟ فقال: أنا في الأموات، فأبلغ رسول الله
سلامي وقل له: إن سعد بن الربيع يقول لك: جزاك الله عنا خير ما جزى نبيًّا عن أمته، وأبلغ قومك عني السلام وقل لهم: إن سعد بن الربيع يقول لكم: إنه لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف. ثم دفن الشهداء في أماكنهم التي قتلوا فيها، ورجع المسلمون بعد ذلك إلى المدينة يحز في نفوسهم الألم لما أصابهم، ويتطلعون ليوم قريب يشفي الله فيه صدورهم، ويذهب غيظ قلوبهم.
النتيجة في غزوة أحد
النتيجة في غزوة أحد: أجمع المؤرخون على أن غزوة أحد كانت في نهايتها نصرًا للمشركين وهزيمة للمسلمين، ولكن مؤرخًا واحدًا1 خرج على هذا الإجماع واعتبر هذه الغزوة بالنسبة للمسلمين نصرًا لا هزيمة2، ذلكم هو اللواء الركن الحاج
محمود شيت خطاب في كتاب الرسول القائد.
وإليكم ما قاله هذا المؤرخ الكبير1: لا أتفق مع المؤرخين في اعتبار نتيجة غزوة أحد نصرًا للمشركين واندحارًا للمسلمين، لأن مناقشة المعركة عسكريًّا تظهر انتصار المسلمين، على الرغم من خسائرهم الفادحة بالأرواح في هذه المعركة ... وتبدأ المناقشات من الوجهة العسكرية البحتة لإظهار حقيقة نتائج غزوة أحد. لقد انتصر المسلمون في ابتداء المعركة حتى استطاعوا طرد المشركين من معسكرهم والإحاطة بنسائهم وأموالهم، وتعفير لوائهم في التراب، ولكن التفاف خالد بن الوليد وراء المسلمين وقطع خط رجعتهم، وهجوم المشركين من الأمام جعل قوات المشركين تطبق من كافة الجوانب على قوات المسلمين، وهذا الموقف في المعركة جعل خسائر المسلمين تتكاثر، ولكن بقي النصر بجانبهم إلى الأخير، لأن نتيجة كل معركة عسكريًّا لا تقاس بعدد الخسائر بالأرواح فقط، بل تقاس بالحصول على هدف القتال الحيوي، وهو القضاء المبرم على العدو ماديًّا ومعنويًّا. فهل استطاع المشركون القضاء على المسلمين ماديًّا ومعنويًّا؟ إن حركة خالد كانت مباغتة للمسلمين بلا شك، وقيام المشركين بالهجوم المقابل وإطباقهم على قوات المسلمين من كافة الجوانب وهم متفوقون بالعدد إلى خمسة أمثال المسلمين، لا يمكن أن يعد التفاف قوة متفوقة تفوقًا ساحقًا على قوة صغيرة أخرى من جميع جوانبها، ثم نجاة تلك القوة الصغيرة بعد إعطاء خسائر عشرة في المائة نصرًا، ولا يمكن اعتبار فشل القوة الكبيرة في القضاء على القوة الصغيرة ماديًّا ومعنويًّا، في مثل هذا الموقف الحرج للغاية إلا فشلًا
لها. ولم تستطع قريش أن تؤثر على معنويات المسلمين أيضًا، وإلا لما استطاعوا الخروج لمطاردتها بعد يوم واحد من غزوة أحد1، دون أن تتجرأ قريش على لقائها بعيدًا عن المدينة، وخاصة وأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد خرج للقاء قريش بقوته التي اشتركت فعلًا بمعركة أحد، دون أن يستعين بغيرهم من الناس. إن نجاة المسلمين من موقفهم الحرج الذي كانوا فيه بأحد نصر عظيم لهم، لأن أول نتائج إطباق المشركين عليهم من كافة الجهات كانت الفناء التام2. ونحن نؤيد رأي هذا العالم الجليل ونؤمن به كل الإيمان، ولنا من موقف الرسول -صلى الله عليه وسلم- من المسلمين حينما رجعوا من غزوة مؤتة ما يؤكد ذلك. فلقد استطاع خالد بن الوليد أن ينقذ ما بقي من جيش المسلمين من الفناء التام، بما صنع من خطة حربية مكنته من تضليل الأعداء والانسحاب بانتظام، وحينما رجع الجيش إلى المدينة قابلهم المسلمون الذين نظروا نظرة سطحية إلى الموقف وحثوا في وجوههم التراب، وقالوا لهم: يا فرار فررتم من الجهاد في سبيل الله، ولكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقد نظر إلى الموقف من جميع نواحيه- اعتبرهم منتصرين، وحياهم أحسن تحية، فقال: "لا، بل هم الكرار وأنا فئتهم" 3. وبعد فإن خير ما نختم به غزوة أحد، هو ذلك الدعاء الذي قاله الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد رجوعه من هذه الغزوة، فلقد روى الإمام أحمد4: لما كان يوم أحد
وانكفأ1 المشركون قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "استووا حتى أثني على ربي -عز وجل" فصاروا خلفه صفوفًا فقال: "اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لما أضللت، ولا مضل لما هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مبعد لما قربت، اللهم ابسط علينا بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك، اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعتنا، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين".
غزوة الأحزاب الخندق (مقدمات وأسباب)
غزوة الأحزاب الخندق 1: مقدمات وأسباب لم يهدأ للمسلمين بال بعد هزيمتهم في غزوة أحد في أواخر العام الثالث الهجري، فلقد عزّ عليهم وروعهم أن ينتصر الباطل على الحق في هذه المعركة، وأن يكون انتصار الباطل الذي يمثله المشركون من قريش، وهزيمة الحق الذي يمثله المسلمون في المدينة2، أن يكون ذلك بسبب مخالفة بعض المسلمين في هذه الغزوة لأوامر الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو القائد الأعلى، وخروجهم على التنظيم الدقيق الذي وضعه لهم وأوصاهم باتباعه.
ولقد كان هذا الانتصار المفاجئ الذي ظفر به المشركون مشجعًا لهم على المضي في طريق البغي، والإمعان في عداء الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومن اتبعه ويتبعه من المسلمين ... ولا شك أنه قد جال في نفوسهم أن أصنامهم التي يعبدونها من دون الله قد باركت هذه الغزوة، وأنها ستبارك غيرها من الغزوات، حتى يظهر أمرهم وتعلوا كلمتهم، ولقد جرى ذلك على لسان قائدهم أبي سفيان حينما لمع له سراب البطل فاغتر به، ونادى في ظلمات الجهالة موجهًا خطابه للمسلمين قائلًا: اعل هبل، ناسيًا أن الله أعلى وأجل1. أما القبائل العربية الأخرى في سائر الجزيرة العربية فكانوا -في جملتهم- يعبدون الأصنام، وقد بلغ بهم الحقد -كذلك- على المسلمين نهايته ومداه، فاتخذ بعضهم من الخيانة والخداع سبيلًا لإطفاء ما تنطوي عليه نفوسهم من الغل والضغينة، ومن ذلك ما وقع من قوم ينتسبون إلى بني الهون وكانوا يسكنون بالحجاز بين مكة والطائف. فلقد جاءوا إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- في أوائل السنة الرابعة من الهجرة وقالوا: يا رسول الله: إنا فينا إسلامًا، فابعث معنا نفرًا من أصحابك يفقهوننا في الدين، ويقرئوننا القرآن، ويعلموننا شرائع الإسلام. وقد استجاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- لهم، لأنه لم يكن يعلم الغيب، ولم يطلعه الله على ما تنطوي عليه قلوبهم من غدر وخيانة وكفر وضلال، ولأنه كان شديد الحرص على نشر الإسلام وإعلاء كلمته، وظن أن هذا الوفد قد جاء يلتمس النور ويبتغي الخير، فلم يضن عليهم بذلك -وما هو على الخير بضنين- وبعث معهم ستة نفر
من أصحابه، فكان لهم في تاريخ الإسلام بلاء أي بلاء، وفي ميدان التضحية الاستشهاد صفحة ناصعة بيضاء ... ذلك بأن هؤلاء القوم من بني الهون قد تحرك الغدر الكامن في نفوسهم، بعد أن خرجوا من المدينة وعاونهم في ذلك جماعة من هذيل، في عدد كبير يبلغ المائتين فقاتل الستة المسلمون قتال الأبطال، حتى قتل ثلاثة منهم واستسلم الثلاثة الباقون، وما كان استسلامهم من خور في العزيمة أو ضعف في العقيدة أو خوف من الموت، ولكنه استسلام الليث الهصور وقع في قبضة الغالب، وأطبقت عليه القوة الطاغية من كل جانب. وقد قتل هؤلاء الثلاثة بأيدي المشركين بعد ذلك، وكان منهم زيد بن الدثنة وهو الذي قال له المشركون حينما قدموه ليقتلوه: ننشدك الله يا زيد أتحب أن محمدًا عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه وأنك في أهلك؟ فقال: والله ما أحب أن محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأني جالس في أهلي1. فأية عظمة تنطوي عليها تلك النفس المؤمنة التي تستقبل الموت في سبيل الله بابتسامة الرضا والطمأنينة. والتي لو خيرت لاختارت القتل على ألا يصاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- بشوكة تؤذيه! إنها التربية الإسلامية التي أسست على قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا
حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِه} 1. وقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ماله وأهله والناس أجمعين" 2. وكان منهم: خبيب بن عدي، وقد حاولوا أن يردوه عن إسلامه إلى الكفر، فأبى عليهم ذلك، وقدم روحه فداء لدينه. وقد روي عنه أنه قال حينما علم أن القوم قد أجمعوا أمرهم لصلبه: إلى الله أشكو غربتي ثم كربتي ... وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي وقد خيروني الكفر، والموت دونه ... وقد هملت عيناي من غير مجزع ولست أبالي حين أقتل مسلمًا ... علي أي جنب كان في الله مصرعي3 وكان أشد من ذلك عنفًا وقسوة ما أصيب به المسلمون في يوم بئر معونة فقد استشهد منهم في هذا اليوم سبعون، قتلوا غدرًا وغيلة بأيدي قبائل: رعل، وذكوان، والقارة، وقد حزن الرسول -صلى الله عليه وسلم- على هؤلاء الشهداء الأبرار، ومكث شهرًا كاملًا يدعو على هؤلاء المعتدين الآثمين، الذين ارتكبوا هذه الجرائم المنكرة4.
دور إيجابي لدرء الخطر
دور إيجابي لدرء الخطر: ولم يقف الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمام أعدائه الذين يتربصون به الدوائر موقفًا سلبيًّا، ولم يكتف بمجرد الدعاء عليهم، ولكنه بدأ دوره الإيجابي في استئصال جذور الشر والقضاء على الفتن كلما اشتعلت نارها. وقد خرج من أجل ذلك في عدة غزوات صغيرة، وهي غزوة ذات الرقاع، وغزوة بدر الأخيرة، وغزوة دومة الجندل. فأما غزوة ذات الرقاع فقد كان الغرض منها إحباط المحاولة التي قام بها بنو محارب حيث أرادوا غزو المدينة، وكان الغرض منها كذلك تأديب بعض القبائل التي كانت تعتدي على المسلمين بين الحين والحين.. وقد خرج الرسول -صلى الله عليه وسلم- حينما علم بتجمع بني ثعلبة وبني محارب واتفاقهم على غزو المدينة، وكان معه أربعمائة1 ما بين راكب وراجل، وولى على المدينة عثمان بن عفان، ولم يزالوا سائرين حتى وصلوا ديار القوم في نجد على مرحلتين من المدينة، وقد أزعجتهم مباغتة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لهم فخافوا وتفرقوا في رءوس الجبال تاركين نساءهم وأموالهم، وعلى الرغم من ذلك كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- حذرًا وخائفًا من غدرهم وخيانتهم، فصلى بالمسلمين صلاة الخوف. وقد ألقى المسلمون الرعب في قلوب أعدائهم ثم رجعوا إلى المدينة سالمين غانمين2.
وأما غزوة بدر الآخرة: فقد كانت بعد غزوة أحد بعام كامل، وكانت ردًّا على أبي سفيان حيث توعد المسلمين بعد غزوة أحد، وقال: يوم بيوم بدر، والموعد العام المقبل في بدر. وقد خرج المسلمون في ألف مقاتل ما بين راكب وراجل بقيادة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكان خروجهم بنفس الوقت والموعد الذي وقعت فيه غزوة أحد، وإلى نفس المكان الذي توعدهم باللقاء فيه أبو سفيان له دلالته الواضحة على قوة المسلمين وثقتهم. وأما أبو سفيان وقبيله فقد عاكسهم الحظ ولم يتمكنوا من تجهيز الجيش الذي يثقون به، فأرادوا أن يثبطوا همة المسلمين فأرسلوا رجلًا1 إلى المدينة يقول لهم: إن قريشًا قد جمعت جيشًا لا قبل لكم بمواجهته ... ولكن زادهم هذا القول إيمانًا على إيمانهم ... وخرجوا في شجاعة وإقدام حتى وصلوا إلى بدر، وأقاموا فيها ثمانية أيام يتحدون المشركين وينتظرونهم، ولكن المشركين وعلى رأسهم أبو سفيان- آثروا السلامة والعافية، فرجعوا إلى مكة يجللهم العار، وكانوا قد خرجوا وقطعوا من الطريق مرحلتين2. وهكذا كانت غزوة بدر الآخرة إعلانًا كريمًا للمسلمين، ووصمة عار في جبين المشركين، وقد محت هذه الغزوة كل أثر سيئ لمعركة أحد داخل المدينة وخارجها على حد سواء.
وإلى هذه الثروة يشير القرآن الكريم في قوله سبحانه: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} 1. وأما غزوة دومة الجندل، فقد خرج الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيها بألف من المسلمين، وكان الغرض منها تأديب القبائل البدوية التي تقطن في منطقة دومة الجندل، وهي على الحدود بين الحجاز والشام.. وقد نجحت هذه الغزوة بإلقاء الرعب والفزع في قلوب هذه القبائل، ففروا من وجه المسلمين ولم يشتبكوا معهم في قتال2.
أصابع اليهود
أصابع اليهود وفي هذه الظلمات المتكاثفة -من الشر والفتنة- أخذ اليهود يجوسون خلال الديار، وظنوا أنهم وسط هذا الظلام سيحكمون مؤامرتهم على المسلمين ويقضون القضاء الأخير عليهم.
وكان يهود بني النضير قد أخرجوا من ديارهم أمام قوة الحق وغلبته: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ} 1. وعلى الرغم من أنهم هم الذين بدءوا بالشر، وأن إخراجهم كان جزاءً وفاقًا لما سلف منهم من غدر وخيانة وظلم واستهتار إلا أن هذه النهاية الأليمة قد أفزعتهم، فأخذ سادتهم وكبراؤهم ينتقلون في أرجاء الجزيرة العربية لكي يؤلبوا قبائل العرب على محمد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، ولم يتركوا للكيد إلا وسلكوه، فخرجوا إلى القبائل العربية التي لا تزال تحقد على محمد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه وتتربص بهم الدوائر، ومنهم قبيلة غطفان، وقد حرض اليهود رجالها وأخبروهم بمبايعة قريش لهم على الحرب ومنهم: بنو مرة، وبنو أشجع، وبنو سليم، وبنو أسد. وقد حرض اليهود رجالهم -كذلك- على حرب محمد -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين، ووجدوا منهم قبولًا وارتياحًا، واستعدادًا للانضواء تحت لواء قريش في سبيل ذلك الهدف الذي عقدوا عليه الآمال، وظنوه يسيرًا قريب المنال.
غزوة الأحزاب (الخندق)
غزوة الأحزاب "الخندق": 1 وكان من نتيجة تلك الجهود التي بذلها هؤلاء اليهود، أن تجهزت قريش
وعلى رأسهم أبو سفيان وعددهم أربعة آلاف1، ومعهم ثلاثمائة فرس وألف بعير، وتجهزت غطفان، ويرأسهم عيينة بن حصن، وكان معهم ألف فارس، وتجهزت بنو مرة يرأسهم الحارث بن عوف المري، وتجهزت بنو أشجع يرأسهم أبو مسعود بن رخيلة، وتجهزت بنو سليم يرأسهم سفيان بن عبد شمس، وتجهزت بنو أسد يرأسهم طليحة بن خويلد الأسدي، وعدة الجميع عشرة آلاف جندي، وقائدهم العام أبو سفيان صخر بن حرب، وكان -حينئذٍ- ألد الأعداء للرسول -صلى الله عليه وسلم- وللمسلمين.. ثم خرجت هذه الأحزاب -على ما بينها من تنافر وتباعد وعصبية قبلية- ويؤلف بينهم هدف مشترك هو الانتقام من المسلمين، والرغبة في استئصالهم والقضاء على دينهم، وكان ذلك في السنة الخامسة من الهجرة النبوية2.
موقف المسلمين في المدينة من الأحزاب
موقف المسلمين في المدينة من الأحزاب: وكان المسلمون في المدينة -حينئذٍ- هم المهاجرين الذين خرجوا من ديارهم وأموالهم ابتغاء مرضاة الله وجهادًا في سبيله، والأنصار الذين تبوءوا الدار والإيمان، والذين آووا رسول الله ونصروه واتبعوا النور الذي أُنزل معه، كان موقفهم موقفا عصيبًا يحيط به الحرج والضيق ويسود فيه الخوف والرهبة، ولا غرو فهؤلاء هم أحزاب الشر، وأعداء الحق، وأنصار الشيطان يزحفون مسرعين
إلى المدينة! وهذه هي الجزيرة العربية تتسمع في لهفة إلى أبنائهم، وتترقب باهتمام بالغ نتيجة زحفهم. إنها تجربة لها ما وراءها من نتائج وآثار، فلو قدر لهؤلاء الأحزاب أن ينتصروا فتلكم الضربة القاصمة التي لا تقوم بعدها للمسلمين قائمة، أما لو قدر لهم أن يرجعوا مجللين بالخزي والعار، وإن يفجعوا فيما علقوه على هذه المحاولة من آمال كبار، فتلك -حينئذٍ- مصيبة الدهر وفضيحة العمر. وهيهات ثم هيهات أن تتجمع لهم مثل هذه الأحزاب، وأن تتوافر لها الظروف والأسباب. أجل، لقد أدرك المسلمون جميعًا في المدينة عظم الخطب، وفداحة المسئولية، وعرفوا أن الأمر مع المشركين في هذه المرة، إما إلى النصر، وإما إلى القبر، أو كما يقول القائل: فإما إلى صدَّاحة تطرب الورى ... وإما إلى نواحة في المآتم1 وقد جمع أعداء الإسلام لأول مرة في تاريخهم مع المسلمين جموعهم وجاءوا في عدة وعديد لم يسبق لها مثيل في حروب العرب جميعًا. لقد كان عددهم في العام الثاني من الهجرة حينما التقوا مع المسلمين في يوم بدر ألفًا أو أقل من الألف، ثم أصبح عددهم في غزوة أحد في العالم الثالث من الهجرة ثلاثة آلاف، فما بالهم الآن بعد عام واحد من غزوة أحد يصبحون عشرة آلاف؟! وماذا عسى أن يصنع المسلمون لمقابلة هذه الألوف المؤلفة من الرجال والخيل والإبل والأسلحة والذخيرة؟! إن الأمر يحتاج إلى مزيد من اليقظة والحذر والشجاعة والإيمان، وإن الواجب يحتم على كل جندي من جنود المسلمين أن يتعاون في إخلاص مع قائده الأعلى
ليسيروا جميعًا في منهج سليم، وسبيل قويم، حتى يفرج الله كربهم، ويكشف عنهم هذا الضر والبلاء.
حفر الخندق
حفر الخندق: وكانت هذه الأنباء المثيرة التي ترامت إلى مسامع المهاجرين والأنصار في المدينة حول هذا الجيش الجرار الزاحف عليهم هي كل شيء يشغل تفكير الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين، ماذا يصنعون أمام هذه القوة الطاغية التي تسرع نحوهم؟ أيمكثون بالمدينة ويتحصنون في دورها؟ أم يخرجون للقاء العدو مهما احتملوا من المتاعب والآلام، ومهما بذلوا من التضحيات الجسام؟ وجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستشير أصحابه ويستطلع أراءهم في هذه المحنة. وكان من عادته -صلوات الله وسلامه عليه- أن يستشير أصحابه فيما يعرض له من مشاكل، فإذا اقتنع بعد هذه المشورة برأي أمضاه متوكلًا على الله، وقدر علمه الله بقوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} 1. وهنا، وفي وسط هذا الظلام الذي يخيم على النفوس يطلع سلمان الفارسي -رضي الله عنه- على الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين برأي سديد وفكرة صائبة تشرق لها نفوسهم وتطمئن بها قلوبهم، ذلك أنه أشار عليهم بحفر الخندق في الجهة التي يخشى منها خطر الزحف على المدينة. وكانت فكرة حفر الخندق فكرة عجيبة لم يعرفها العرب قبل ذلك، وإنما عرفها الفرس في حروبهم، وأخذها عنهم سلمان الفارسي -رضي الله عنه- وحينما رأى الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- قوة هذا الرأي واقتنع بصوابه، أمر بوضعه موضع التنفيذ
وقام يباشر بنفسه هذا العمل الكبير. ويقع المكان الذي اختاره الرسول -صلى الله عليه وسلم- ليحفر فيه هذا الخندق في شمال المدينة من الحرة الشرقية إلى الحرة الغربية1، وهذه هي الجهة التي كانت عورة يمكن أن تؤتى المدينة من قبلها، أما بقية حدودها فمشتبكة بالبيوت والنخيل ولا يتمكن العدو من الحرب في جهتها، وبهذا يتبين لنا أن فكرة الخندق عمل حربي ناجح، وسهم رائش2 صوبه المسلمون إلى قلب أعدائهم فنفذ إلى الصميم. وبدأ المسلمون يعملون في حفر الخندق، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعمل معهم بيديه، وكان يتمثل بقول القائل3: اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزل سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا والمشركون قد بغوا علينا ... وإن أرادوا فتنة أبينا وكان دائم التشجيع للمسلمين، فإذا رأى ما حل بهم من التعب والجوع يذكرهم بالآخرة، وما أعد للمؤمنين فيها من السعادة والنعيم، قائلًا: "اللهم إن العيش عيش الآخرة، فارحم الأنصار والمهاجرة". فيرد عليه المسلمون -وقد امتلأت نفوسهم بالإيمان، ونسوا ما هم فيه من الآلام والمتاعب- قائلين:
نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا وهكذا يتجاوب القائد الأعلى مع جنوده المخلصين، ويتجاوب الجنود المخلصون مع قائدهم الأمين، وهكذا القيادة الرشيدة إنما تثبت أصولها في جوٍّ من الإخلاص والتسامح، ويقوم بنيانها على دعائم من الإخاء والمساواة، ولقد عود الرسول -صلى الله عليه وسلم- أصحابه هذا اللون الكريم من المعاملة الكريمة. ولا يزال المسلمون يذكرون موقف نبيهم في بناء مسجد المدينة وكيف كان يمل بنفسه، ويحمل الأحجار بيديه، وكيف كان هذا العمل الكريم يحفز المسلمين ويقوي من عزائمهم، حتى ليقول بعضهم لبعض: لئن قعدنا والرسول يعمل ... لذاك منا العمل المضلل1 وسيظل المسلمون على توالي الأجيال والقرون يذكرون موقف الرسول -صلى الله عليه وسلم- من أصحابه، حينما أرادوا أن يصلحوا شاة لطعامهم وهم -حينئذٍ- في سفر، فقال واحد منهم: عليَّ ذبحها، وقال الثاني: وعليَّ سلخها، وقال الثالث: وعليَّ طبخها، فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "وعلي جمع الحطب"، قالوا: يا رسول الله، إنا نكفيك العمل، قال: "علمت أنكم تكفونني إياه، ولكني أكره أن أتميز عليكم" 2. ألا إن هذه المثل العالية من طاعة الجند لقائدهم، ومن إخلاص القائد لجنوده وحسن معاملته لهم وتعاونه معهم تعاونًا كاملًا بعيدًا عن الكبرياء والغرور. ألا إن ذلك لهو النور الذي يضيء لنا السبيل إذا غشيتنا ظلمات المحن والخطوب.
وإنه لمن الحق علينا أن نفتح قلوبنا لهذا التاريخ الخالد، وأن نأخذ من عبره وعظاته ما يجنبنا الزلل، ويقينا شر العثرات والسقطات.
من المعجزات النبوية
من المعجزات النبوية: تعالوا فانظروا معي تلك الفيوضات الإلهية، والمنح الربانية التي أفاضها الله ومنحها لرسوله -صلى الله عليه وسلم- في تلكم الفترة، التي عمل المسلمون فيها في حفر هذا الخندق. وقد جرت سنة الله -عز وجل- بأن يظهر على أيدي أنبيائه من المعجزات ما يثبت به القلوب القلقة، والنفوس الحائرة، ويزيد المؤمنين إيمانًا وتثبيتًا. ومن ذلك ما رواه الإمام البخاري1، عن جابر -رضي الله عنه- قال: إنّا في يوم الخندق نحفر، فعرضت لنا كدية2 شديدة، فجاءوا النبي -صلى الله عليه وسلم- وقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق، فقال: "أنا نازل"، ثم قام وبطنه معصوب بحجر -وكنا قد لبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقًا- فأخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- المعول فضرب فعاد كثيبًا أهيل، فقلت: يا رسول الله ائذن لي إلى البيت. فذهبت فقلت لزوجتي: رأيت بالنبي -صلى الله عليه وسلم- شيئًا ما كان في ذلك صبر، فعندك شيء؟ قالت: عندي شعير وعناق، فذبحت العناق وطحنت الشعير حتى جعلنا اللحم في البرمة، ثم جئت النبي -صلى الله عليه وسلم- والعجين قد انكسر، والبرمة بين الأثافي كادت أن تنضج، فقلت: قم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان، قال: كم هو؟ فذكرت له، فقال: كثير طيب، قل لها لا تنزع البرمة ولا الخبز من التنور حتى آتي، فقال: قوموا، فقام المهاجرون
والأنصار، فلما دخل على امرأته قال: ويحك. جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمهاجرين والأنصار ومن معهم، قالت: هل سألك؟ قلت: نعم. فقال: ادخلوا ولا تضاغطوا فجعل يكسر الخبز ويجعل عليه اللحم ويقرب إلى أصحابه، ولم يزل هكذا حتى شبعوا جميعًا وبقيت بقية، فقال لزوجة جابر: "كلي هذا وأهدي، فإن الناس أصابتهم مجاعة". وهناك رواية أخرى يذكرها الإمام البخاري عن جابر -رضي الله عنه- فيقول: "لما علم النبي -صلى الله عليه وسلم- بمقدار الطعام قال للمسلمين جميعًا: "قوموا إلى جابر". فقاموا فلقيت من الحياء ما لا يعلمه إلا الله وقلت: جاءنا بخلق كثير على شاة وصاع من شعير، ودخلت على امرأتي أقول: افتضحت، جاءك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأهل الخندق أجمعين. فقالت: هل كان سألك كم طعامك؟ قلت: نعم فقالت: الله ورسوله أعلم. قال: فكشف عني غمًّا شديدًا. قال: فدخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "خدمي ودعيني من اللحم". وجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يثرد ويغرف اللحم ويخمر هذا ويخمر هذا، فما زال يقرب إلى الناس حتى شبعوا أجمعين، ويعود التنور والقدر أملأ مما كانا، ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: " كلي وأهدي". فلم نزل نأكل ونهدي بقية اليوم.
ألا إن في هذا الحادث العجيب لعبرة
ألا إن في هذا الحادث العجيب لعبرة! فهذه الصخرة الكبيرة التي تعترض الجنود المسلمين، وهم يعملون في حفر الخندق فيعجزهم جميعًا أمرها، ما بالها الآن تصير رمادًا يتطاير من ضربة واحدة بمعول الرسول -صلى الله عليه وسلم، إنها إذن عناية الله التي يفيضها أبدًا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والتي لا تقف أمامها الحواجز والعقبات، بل يلين لها الحديد وتذوب أمامها الصخور الجلاميد.
وهكذا الصاع من الشعير تخبزه زوجة جابر، والشاة الصغيرة يذبحونها ليأكل منها النبي -صلى الله عليه وسلم- مع نفر قليل من أصحابه فما بالهم الآن يفاجئون برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعه أهل الخندق أجمعون؟ إنهم خمسمائة رجل خماص البطون، وأقل ما يكفيهم في مثل هذه الظروف عشرون صاعًا وعشرون شاة، فكيف يكفيهم صاع واحد من الشعير، وشاة واحدة؟! إنها إذن عناية الله، ومعجزة خالدة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم. وقد أطمأنت بها قلوب المؤمنين، ففرحوا واستبشروا، وصبروا وصابروا وكافحوا وثابروا، وسيظل لنا من ذكراها ما يشد أزرنا، ويقوي عزائمنا، على توالي الأجيال والقرون.
الأحزاب أمام الخندق
الأحزاب أمام الخندق استمر العمل في حفر الخندق ستة أيام متتابعة1، وكان المسلمون يعملون طوال النهار، فإذا جنّ عليهم الليل آووا إلى بيوتهم، وفي هذه الأثناء حصنت جدران المنازل التي تواجه مأتى العدو، وأخليت المساكن التي كانت وراء الخندق، وجيء بالنساء والأطفال إلى هذه المنازل التي حصنت، ووضعت الأحجار إلى جانب الخندق من ناحية المدينة، لتكون سلاحًا يرمى به العدو إذا سولت له نفسه اقتحام الخندق. وكانت قريش وأحزابها تظن أنها -وقد خرجت في هذه الجموع الغفيرة-
ستنتهي من الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين في ساعات معدودة، وأن الأمر لا يعدو أن يكون سفرًا عاديًّا، أو رحلة تجارية يرجعون بعدها وقد قضوا على قوة المسلمين، وغنموا منهم عدتهم وعتادهم وكل شيء لديهم، ولكنهم كانوا يبنون الآمال على شفيرٍ هارٍ، ويقدرون فتضحك الأقدار. ولقد وقفوا أمام الخندق وقفة المشدوه، وتملكهم العجب واشتدت بهم الحيرة، ولا غرو فهذا العمل كان مفاجأة غير منتظرة، وهذا السلاح جديد في نوعه لم يتعوده العرب من قبل في حروبهم. وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون -وعددهم حينئذٍ ثلاثة آلاف- يجعلون الخندق بينهم وبين أعدائهم حدًّا فاصلًا، وينظرون إلى تحركاتهم وتجمعاتهم من الجهة المقابلة، وقد أعدوا لكل احتمال عدته، واتخذ كل جندي أهبته، وكانوا يشددون الحراسة على الأماكن الضعيفة ويتبادلونها، حتى لقد كانت للرسول -صلى الله عليه وسلم- نوبته، فكان يخرج إليها أحيانًا في الليل المظلم والبرد القارس. ولقد عرفت قريش والأحزاب أن الأمد سيطول بهم، وأنهم سيقيمون أمام هذا الخندق ما وسعتهم الإقامة، ولكنهم لن يستطيعوا اقتحامه، وهذه الخيام التي نصبوها قريبًا من الخندق سوف لا تجيدهم فتيلًا إذا فاجأهم ريح عاصف أو سيل جارف. عرفت قريش والأحزاب ذلك كله فتملك نفوسهم همّ بالغ وحزن عظيم، وبدأوا يفكرون ويفكرون ويسيحون في أودية الأوهام والظنون.
موقف رائع لعلي بن أبي طالب
موقف رائع لعلي بن أبي طالب وكان عمرو بن عبد ودّ قد استطاع أن يقتحم فرسه الخندق من ناحية ضيقة فيه، فنادى وهو مقنع بالحديد: من يبارز؟ فقام علي بن أبي طالب فقال: أنا لها يا نبي الله.
فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم: "إنه عمرو، اجلس". ثم نادى عمرو: ألا رجل منكم يبرز؟ أين جنتكم التي تزعمون أنه من قتل منكم دخلها؟ أفلا تبرزون إلي رجلًا. فقام علي فقال: أنا يا رسول الله، فقال له الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "اجلس" ولكن عمرًا تمادى في غيه، وأخذ يصيح وينشد قائلًا: ولقد بححت من الندا ... ء لجمعهم: هل من مبارز؟ وقفت إذا جبن المشجع ... موقف القرن المناجز إن الشجاعة في الفتى ... والجود من خير الغرائز فقام علي فقال: يا رسول الله: أنا لها. فقال له -صلى الله عليه وسلم-: "إنه عمرو". قال: وإن كان عمرًا! فأذن له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فمشى إليه حتى أتاه وهو يقول: لا تعجلن فقد أتا ... ك مجيب صوتك غير عاجز في نية وبصيرة ... والصدق ينجي كل فائز ني لأرجو أن أقيم ... عليك نائحة الجنائز من ضرب نجلاء يبقى ... ذكرها عند الهزاهز1.
فقال له عمرو: من أنت؟ قال: أنا علي. قال: ابن عبد مناف؟ قال: أنا علي بن أبي طالب. فقال: يابن أخي مِن أبناء أعمامك من هو أسن منك، فإني أكره أن أريق دمك. فقال له علي: لكني والله لا أكره أن أريق دمك. فغضب ونزل وسل سيفه كأنه شعلة نار، ثم أقبل نحو علي مغضبًا، واستقبله علي بدرقته، فضربه عمرو في درقته فقدّها وأثبت فيها السيف، وأصاب رأسه فشجه. فاندفع علي نحوه في شجاعة وإيمان، وضربه على حبل عاتقه فسقط يتخبط في دمائه، وذهب صريع بغيه وعدوانه. وسمع الرسول -صلى الله عليه وسلم- التكبير، فعرف أن عليًّا قد قتله، ثم أقبل علي نحو رسول الله ووجهه يتهلل. فقال له عمر بن الخطاب: هلا استلبته درعه، فإنه ليس للعرب درع خير منها؟ فقال: استحييت أن أسلبه درعه وسوءته مكشوفة. وفي هذا الموقف الرائع يتغنى علي بن أبي طالب بنصر الله له، على هذا العدو الماكر. ويتحدث بنعمة الله عليه، فيقول: عبد الحجارة من سفاهة رأيه ... وعبدت رب محمد بصواب1
فصدرت حين تركته متجندلًا ... كالجذع بن دكادك وروابي وعففت عن أثوابه ولو أنني ... كنت المجندل بزَّني أثوابي لا تحسبن الله خاذل دينه ... ونبيه يا معشر الأحزاب وكان في جيش المسلمين جماعة من المنافقين لا يعلمهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقد وقف هؤلاء المنافقون -كعادتهم من المسلمين- موقف اللؤم والخيانة، ولا ريب أن عمر النفاق قصير، وأساليبه وحيله لا تخفى على العقلاء أمدًا طويلًا، ومهما بالغ المنافقون في ستر حقيقتهم فإنهم لدى الاختبار يخفقون في الميدان، ولا يثبتون أمام الشدائد. وها هم أولاء في تلكم الغزوة يفزعون حينما يرون الأحزاب، وقد جمعوا جموعهم وتهيئوا للحرب والقتال، وتظلم نفوسهم، فيسخرون من وعود الرسول -صلى الله عليه وسلم- لهم بالنصر على أعدائهم، ويقولون: كان محمد يعدنا كنز كسرى وقيصر، فما بالنا لا يأمن أحدنا على نفسه أن يذهب إلى الغائط، وقد سجل الله ذلك القول منهم في تلكم الآية الكريمة: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً} 1. ثم يتمادى المنافقون في غدرهم وخيانتهم فينسحبون من صفوف المؤمنين ويثبطون الهمم والعزائم ويقولون: {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} 2. ويعتذرون عن رجوعهم بالأعذار الكاذبة التي أظهر الله حقيقتها بقوله:
{وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً} 1. ولكن هل تحقق لهؤلاء المنافقين ما كانوا يريدون؟ إنهم أرادوا أن يخفوا حقيقتهم عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- فكشف الله سترهم، وفضح أمرهم، وأرادوا أن يضعفوا شوكة المسلمين بانسحابهم، فأمد الله المسلمين بقوته، وكانوا يطمعون في الغنائم فأفاءها الله على المؤمنين، وباء المنافقون بالخسران والحرمان.
مؤامرة بني قريظة على الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين
مؤامرة بني قريظة على الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين ... مؤامرة بني قريظة على الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمسملين: وفي هذه المحنة الشديدة التي أصابت المسملين بتجمع الأحزاب عليهم وانسحاب المنافقين من صفوفهم، انتهز يهود بني قريظة وكانوا يساكنون المسلمين بالمدينة- هذه الفرصة واستجابوا لتحريض بني النضير لهم، فنقضوا العهود التي بينهم وبين المسلمين وانقلبوا عليهم. وكأنما رأى يهود بني النضير -وعلى رأسهم حيي بن أخطب- أن حصار الأحزاب للمسلمين ووقوفهم أمام الخندق سيطول أمده، وربما انتهى الأمر بفشلهم، وذلك خزي الدهر وعار الأبد. وعرف هؤلاء اليهود من بني النضير أنه ما دام إخوانهم من يهود بني قريظة لا يزالون على ولائهم لمحمد -صلى الله عليه وسلم- فإن الأمر -في أغلب الأحوال- لن ينتهي بالخير الذي يتوقعونه، إذ تصبح هزيمة محمد -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين بعيدة المنال، ومن يدري إذا انتصر محمد -صلى الله عليه وسلم: ماذا يفعل بهم جميعًا؟
ومن أجل ذلك دبروا أمرهم وأحكموا مكرهم، وتفننوا في أساليب الإغراء والترغيب حتى خدعوا يهود بني قريظة، وأخرجوهم عن الولاء لمحمد -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين، فبدت البغضاء من أفواههم، وما تخفي صدورهم أكبر. ويروي المؤرخون في ذلك: أن حيي بن أخطب زعيم بني النضير أتى كعب بن أسد القرظي زعيم بني قريظة.. فلما سمع به كعب أغلق باب حصنه دونه. فاستأذن حيي عليه فأبى أن يفتح لها فناداه: ويحك يا كعب، افتح لي يا كعب، افتح لي. قال: ويحك يا حيي إنك امرؤ مشئوم، وإني قد عاهدت محمدًا فلست بناقض ما بيني وبينه، ولم أر منه إلا وفاءً وصدقًا. قال: ويحك افتح لي أكلمك. قال: ما أنا بفاعل. قال: والله ما أغلقت بابك إلا خوفًا على جشيشتك أن آكل معك منها فغضب كعب حينما سمع هذه الكلمة وفتح له، فقال: ويحك يا كعب، جئت بعز الدهر وبحر طام، قال: وما ذاك؟ قال: جئتك بقريش على قادتها وسادتها وبغطفان على قادتها وسادتها، وقد عاهدوني وعاقدوني على ألا يبرحوا حتى نستأصل محمدًا ومن معه. فقال كعب: جئتني -والله- بذل الدهر. وبجهام1 قد أريق ماؤه، يرعد ويبرق، وليس فيه شيء ويحك يا حيي. فدعني وما أنا عليه، فإني لم أر من محمد إلا وفاءً وصدقًا. وقد ظل حيي يستميل كعبًا إليه بشتى الحيل والأساليب ويحرك فيه عاطفته الدينية حتى غلبته يهوديته، بل غلبته شقوته فنقض العهد، وبرئ مما كان بينه وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من إخاء وولاء، وتبعه في ذلك يهود بني قريظة جميعًا.
ولما انتهى الخبر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإلى المسلمين، بعث سعد بن معاذ وهو -يومئذٍ- سيد الأوس، وسعد بن عبادة وهو -يومئذٍ- سيد الخزرج، ومعهما رجلان، وقال: "انطلقوا حتى تأتوا هؤلاء القوم فتنتظروا: أحق ما بلغنا عنهم؟ فإن إن كان حقًّا فالحنوا لي لحنًا أعرفه ولا تفتوا في أعضاد المسلمين، وإن كانوا على الوفاء فاجهروا به للناس". قال: فدخلوا حتى أتوهم فدخلوا معهم حصنهم ودعوهم إلى الموادعة وتجديد الحلف، ولكنهم قابلوهم بالسباب والمشاتمة، ونالوا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأساءوا، وقالوا: من رسول الله؟ لا عهد بيننا وبين محمد. فلما رجعوا إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأخبروه، هاله الآمر وآلمه، ولكنه كان مطمئنًا إلى نصر الله وتأييده، وما دام هؤلاء اليهود من بني قريظة قد بدءوا بالغدر والخيانة فسوف يحيق بهم مكرهم {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ} 1. وقد عظم الكرب واشتد بلاء المسلمين حينما عرفوا ذلك الموقف من هؤلاء اليهود وحينما رأوا أنهم بدءوا فعلًا يقطعون معاونتهم للمسلمين، وحينما وجدوا أن الأحزاب قد انتهزوا فرصة نقض هؤلاء اليهود لعهدهم وبدءوا يستعدون لهجوم عنيف من فوق الوادي، ومن جنبه، ومن جهة الخندق. أجل لقد عظم الكرب واشتد البلاء بالمسلمين، ومرت بهم لحظات مريرة وأوقات عصيبة، وأخذت الوساوس والظنون تطوف بنفوسهم، وبل تملأ نفوس البعض منهم، حتى لقد خيل إليهم أن الأحزاب عمّا قليل سيدخلون المدينة
فيغيب عنها نور الإسلام وتعود إلى عهود الظلام. وإلى ذلك الموقف الرهيب يشير الله -عز وجل- بقوله: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} 1.
الخدعة في الحرب
الخدعة في الحرب: وفي وسط هذا الشر المطبق والبلاء المحدق، ينبت الله الفرج من الضيق، ويسوق الخير للمسلمين من أيسر طريق، وذلك هو ما قام به نعيم بن مسعود الأشجعي من خدعة محكمة لهؤلاء الأحزاب فرق بها جمعهم، وأفسد عليهم مكرهم. وكان نعيم بن مسعود -رضي الله عنه- من قبيلة غطفان، وكان صديقًا لقريش وصديقًا لليهود، وقد شاء الله أن يدخل هذا الرجل في الإسلام في الوقت العصيب الذي أحاط فيه الأعداء بالمسلمين، فجاء إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقال: يا رسول الله، إني قد أسلمت، وقومي لا يعلمون بإسلامي، فمرني بأمرك حتى أساعدك. فقال الرسول: "أنت رجل واحد، وماذا عسى أن تفعل؟ ولكن خذل عنا ما استطعت، فإن الحرب خدعة". فخرج من عنده وتوجه إلى بني قريظة الذين نقضوا عهدهم مع المسلمين. فلما رأوه أكرموه لصداقته معهم. فقال: يا بني قريظة تعرفون ودي لكم وخوفي عليكم، وإني محدثكم حديثًا فاكتموه عني. قالوا: نعم، فقال: قد رأيتم ما وقع لبني قينقاع وبني النضير من إجلائهم وأخذ أموالهم وديارهم، وإن قريشًا وغطفان
ليسوا مثلكم، فهم إذا رأوا فرصة انتهزوها وإلا انصرفوا لبلادهم، وأما أنتم فتساكنون الرجل -يريد محمدًا، صلى الله عليه وسلم- ولا طاقة لكم بحربه وحدكم، فأرى ألا تدخلوا في هذه الحرب حتى تستيقنوا من قريش وغطفان أنهم لن يتركوكم ويذهبوا إلى بلادهم، وذلك بأن تأخذوا رهائن عندكم سبعين شريفًا منهم.. فاستحسنوا رأيه وأجابوه إلى ذلك. ثم قام من عندهم وتوجه إلى قريش فاجتمع برؤسائهم وقال: أنتم تعرفون ودي لكم ومحبتي إياكم، وإني محدثكم حديثًا فاكتموه عني. قالوا: نفعل، فقال لهم: إن بني قريظة ندموا على ما فعلوه مع محمد وخافوا منكم أن ترجعوا وتتركوهم معه، فقالوا له: أيرضيك أن نأخذ جمعًا من أشرافهم ونعطيهم لك، وترد جناحنا التي كسرت -يعني: ترجع يهود بني النضير إلى ديارهم- فرضي بذلك منهم، وهاهم أولاء سيرسلون إليكم فاحذروهم ولا تذكروا مما قلت لكم حرفًا ... ثم أتى غطفان فأخبرهم بمثل ما أخبر به قريشًا، فاضطربت نفوسهم، وأخذ زعماؤهم يتشاورون مع زعماء قريش كي يلتمسوا طريقًا لحل هذه المشكلة، وأرادوا أن يتأكدوا من كلام نعيم، فأرسل أبو سفيان زعيم قريش وفدًا لبني قريظة يدعوهم للقتال غدًا -وكان ليلة سبت- فأجابوا: إننا لا يمكننا أن نقاتل في السبت، وإنه لم يصبنا ما أصابنا من البلاء إلا بالتعدي فيه، ومع ذلك فلا نقاتل حتى تعطونا رهائن منكم، حتى لا تتركونا وتذهبوا إلى بلادكم!! وحينئذٍ لم يبق لدى قريش وغطفان شك في صدق كلام نعيم بن مسعود، وتحققوا أن اليهود من بني قريظة يريدون لهم الشر والوبال، فتفرقت القلوب وخاف بعضهم بعضًا. وهكذا نرى أن الخدعة في الحروب هي أمضى سلاح ينال به العدو من
عدوه، فنتعلم من ذلك كيف نسدد الرمية بهذا السلاح في وقتها المناسب، ونتعلم من ذلك كيف نتقي هذا السلاح الخطير إذا صوبه إلينا أعداؤنا، وذلك إنما يكون بشدة الحيطة والحذر، وإساءة الظن بكل ما يشيعه العدو من أقوال، والتثبت في الشيء إلى أقصى درجة قبل أن يصدر الرأي فيه.
الفرج بعد الشدة
الفرج بعد الشدة: "اللهم منزل الكتاب سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم، وانصرنا عليهم". هذا هو دعاء الرسول، صلى الله عليه وسلم1 توجه به إلى الله حينما حاضر الأعداء، واشتد به وبالمسلمين الكرب والبلاء. وقد تعود المسلمون أن يسمعوا مثل هذه الضراعة إلى الله من نبيهم -صلى الله عليه وسلم- في ظلمات الشدة، ثم لا يلبثوا إلا قليلًا حتى يشرق عليهم فرج الله الذي يجيب المضطر إذا دعاه. وها هم أولاء يرون عناية الله بهم، إذ يسوق إليهم نعيم بن مسعود فيحبط بخديعته مؤامرة اليهود ويفسد عليهم تدبيرهم. ثم يرون عناية الله بهم إذ يسوق إلى أعدائهم الرياح العاصفة، والأمطار الغزيرة، والبرد القارس، حتى اقتلعت تلك الرياح والأمطار خيامهم، وكفأت قدورهم، وأدخلت الرعب إلى نفوسهم، وخيل إليهم -وكان الليل حالك الظلام- أن المسلمين قد انتهزوها فرصة ليهاجموهم ويوقعوا بهم، فقاموا يتحسسون
الطريق إلى الفرار، وقام طليحة بن خويلد وقال: إن محمدًا قد بدأكم بالشر. فالنجاة النجاة. وقال أبو سفيان: يا معشر قريش: إنكم وما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف1، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا فيهم ما نكره، ولقينا من شدة الريح ما ترون، فارتحلوا فإني مرتحل. وقد بلغ من خوفهم أن أبا سفيان كان يقول لهم: ليتعرف كل منكم أخاه وليمسك بيده حذرًا من أن يدخل بينكم عدو. وهكذا تم رحيلهم في ظلام الليل، حتى إذا تنفس الصباح نظر المسلمون فوجدوا تلك الغمة الكثيفة وقد أزاحها الله عنهم: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً} 2. وهكذا صدق الله وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده.
عاقبة الظلم ومصير بني قريظة
عاقبة الظلم ومصير بني قريظة: وحينما أتم الله نعمته على المسلمين بهزيمة الأحزاب ورجوعهم خاسرين، كان لا بد للظالم أن يذوق وبال أمره، ويجني عاقبة ظلمه وغدره. ومن أجل ذلك نادى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في نفس اليوم الذي تم فيه رحيل الأحزاب فقال: "لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة" 1 فساروا مسرعين، وكان عددهم ثلاثة آلاف2.
وقد تحصن يهود بني قريظة بحصونهم حينما رأوا أنهم قد أحيط بهم، فحاصرهم المسلمون خمسًا وعشرين ليلة1 ... ولما اشتد الضيق بهم لم يجدوا بدًّا من التسليم والخضوع. ثم صدر الحكم من سيد الأوس سعد بن معاذ -رضي الله عنه- وكان يقضي بقتل الرجال وسبي النساء والذرية. وقد اطمأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لهذا الحكم، وقال: "لقد حكمت فيهم بحكم الله يا سعد" 2. وقد أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فحفرت لهم خنادق في سوق المدينة، ثم جيء بهم مكتفين بالحبال فضربت أعناقهم ودفعوا في تلك الخنادق، وكان عددهم نحوًا من ستمائة رجل3، ثم قسمت أموالهم وأبناؤهم على المسلمين. وهذا بلا ريب عدل القضاء، وحكم السماء أراده الله لهؤلاء اليهود من بني قريظة جزاءً وفاقًا لظلمهم وبغيهم. أجل، لقد ضربوا أسوأ مثل في الخيانة، فخذلوا المسلمين في أشد أوقات الحرج والضيق، ولولا لطف الله لتمكن الأحزاب من اقتحام المدينة وإفناء المسلمين، فكان جزاؤهم أن أهلكهم الله
وأراح المسلمين من شرهم. ولا غرو فالظلم لا يدوم ومرتع البغي وخيم.
من العبر في غزوة الأحزاب
من العبر في غزوة الأحزاب ما أعظم النصر بعد الصبر، وما أجمل الفرج بعد الشدة، وما أجل العبرة التي يجدها المؤمنون حينما يرون الأحزاب وهم في مثل هذه الجموع الحاشدة والعدة الهائلة، يرجعون خاسرين أمام الفئة القليلة المؤمنة دون حرب أو قتال، لقد عرفوا الله فأمدهم بعنايته، وآمنوا به فأيدهم بقوته: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} 1. ويا لها من عبرة بالغة يجدها المؤمن حينما يرى موقف اليهود من بني النضير وبني قريظة لقد تبددت أحلامهم وآمالهم في القضاء على المسلمين، وانعكست الآية2 فارتد يهود بني النضير خائبين مع أحزابهم، وانهار الأساس الذي أقاموه بالعرق والدموع والكفاح المرير، وبذلوا في سبيله كل نفيسٍ وغالٍ. أما يهود بني قريظة الذين كانوا يريدون الموت والفناء للمسلمين فقد قضي عليهم بالموت والفناء، وارتدت سهامهم المسمومة إلى صدورهم، وحاق بهم سيئ مكرهم. {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} 3. فيا باغي الشر أقصر، فعلى الباغي تدور الدوائر. ويا ساعيًا إلى الظلم حسبك، فإنك تظلم نفسك قبل أن تظلم غيرك، وإن عدل القضاء يتعقبك في الدنيا والآخرة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه، وَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه} 1. ويا أيها المكروب الذي أظلمت أمامه السبل وأحاطت به الحيرة: إن الصبر والإيمان والثقة بالله، ذلكم هو المنارة الهادية التي تؤنس المستوحش، وترشد الحائر، وتهدي الضال في دياجير الحياة. {وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} .
اليهود بين التوراة والتلمود
اليهود بين التوراة والتلمود وموقف الرسول -صلى الله عليه وسلم- منهم نزلت التوراة على نبي الله موسى بن عمران -عليه السلام- فبلغها للناس كما أنزلها الله سليمة من التحريف، نقية من الزيف والبهتان، وفيها موعظة وتفصيل لكل شيء، وبها من الآداب الاجتماعية والمثل الأخلاقية ما يطهر النفوس ويحيي القلوب، وتسعد في ظلاله الأمم والشعوب. وفي ذلك يقول الله لنبيه موسى بعد رسالته: {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} 1. وعاش قوم موسى مع نبيهم بعد ذلك يعبدون الله ويتمسكون بما جاء في التوراة من هدى ونور، وسموا حينئذٍ باليهود لأنهم هادوا -أي: رجعوا إلى الله- وفي ذلك يقول موسى -عليه السلام: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} 2، أي: رجعنا إلى الحق وتبنا مما فرط منا من عثرات وأخطاء. وقد ظلت اليهودية على حقيقتها النقية الصافية حينًا من الزمن، ثم دبت إليها عقارب السوء فعكرت صفاءها، ولوثت طهارتها، وهدمت كل معاني الخير والفضيلة فيها. ومن العجيب أن يظل كتابهم يسمى بالتوراة بعدما وقع فيه من التغيير والتبديل، وما أصابه من التحريف والتزييف، وأعجب من ذلك كله أن يظل
كتابهم المحرف موضع فخرهم ومناط شرفهم، مع ما يتضمنه من مبادئ تبعد بهم عن كل فضيلة، وتغريهم بالدس والكذب والاختيال والفسق والفجور، والانحلال والجبن والذلة والمسكنة، والغدر والخيانة والانحرافات الدينية والخلقية والاجتماعية، والسرقة والسلب والنهب وعبادة الذهب، فهم يستبيحون ذلك كله ما داموا يحققون لذاتهم ويرضون نهمهم ومطامعهم في جمع المال من أي طريق، وبأية وسيلة1. ولم يكتف اليهود بما ورد في تلكم التوراة التي وضعوها بأيديهم كما يشاءون. بل أخذوا يفسرونها -وهي الزائفة المحرفة- حسب أهوائهم وشهواتهم وتوسعوا في شرحها وحولوها إلى تعاليم محددة وقد أخذوا هذه التفسيرات من مصدرين أساسيين هما: تلمود أورشليم وكان موجودًا في فلسطين سنة 230م، والثاني تلمود بابل وكان موجودًا في بابل سنة 500م، وقد زيد عليهما بعد ذلك، وتتوالى الزيادة بتوالي الأزمنة والعصور. وهم يقدسون التلمود ويعتبرونه أهم من التوراة، ويقولون فيه: إن من احتقر أقوال الحاخامات استحق الموت وأنه لا خلاص لمن ترك تعاليم التلمود وتمسك بالتوراة وحدها، لأن أقوال علماء التلمود -كما يزعمون- أفضل ما جاء في شريعة موسى.
من تعاليم التلمود
من تعاليم التلمود ونرى من واجبنا -الآن- أن نذكر بعض التعاليم التي تضمنها التلمود الذي كان شريعة اليهود، أو دستورهم قبل الإسلام، ولا يزال شريعتهم ودستورهم إلى هذا الوقت الذي نعيش فيه!
تتميز أرواح اليهود عن باقي الأرواح بأنها جزء من الله كما أن الابن جزء من أبيه، وأرواح اليهود عزيزة عند الله بالنسبة لباقي الأرواح. لأن الأرواح غير اليهودية هي أرواح شيطانية تشبه أرواح الحيوانات. النعيم مأوى أرواح اليهود ولا يدخل الجنة إلا اليهود، أما الجحيم فمأوى الكفار1 مهما اختلفت أسماء دياناتهم. الإسرائيلي معتبر عند الله أكثر من الملائكة، فإذا ضرب رجل غير إسرائيلي إسرائيليًّا فكأنه ضرب العزة الإلهية ويستحق الموت. لو لم يخلق اليهود لانعدمت البركة من الأرض. الفرق بين الإنسان والحيوان كالفرق بين اليهودي وباقي الشعوب. النطفة المخلوقة منها باقي الشعوب هي نطفة الحصان. الأجانب كالكلاب، والأعياد المقدسة لم تخلق للأجانب ولا للكلاب بل الكلب أفضل من الأجنبي2 لأنه مصرح لليهودي في الأعياد أن يعطم الكلب وليس له أن يطعم الأجنبي. الأمم الخارجة عن دين اليهود أشبه بالحمير، ويعتبر اليهود بيوتهم أشبه بزرائب الحيوانات. مسموح لليهودي أن يغش غير اليهودي وأن يأخذ منه الربا الفاحش. قتل غير اليهودي من الأفعال التي يكافئ عليها الله، وإذا لم يتمكن
اليهودي من قتلهم، فواجب عليه أن يتسبب في هلاكهم في أي وقت وبأية طريقة ممكنة. نحن1 شعب الله في الأرض، وقد فرقنا لمنفعتنا، ذلك لأن الله سخر لنا الحيوان الإنساني، وأهل كل الأمم والأجناس، سخرهم لنا لأننا نحتاج نوعين من الحيوانات: نوع أخرس كالدواب والأنعام والطيور، ونوع ناطق كالمسيحيين والبوذيين والمسلمين وغيرهم من أمم الشرق والغرب. وهذا جزء يسير من تعاليم التلمود ومبادئه وهي -كما ترون- تعاليم فاسدة ومبادئ هدامة، تدل كل الدلالة على ما يحمله هؤلاء الناس من عداوة للأمم جميعًا، وحقد ضار على البشرية جمعاء وعلى سائر الأمم في هذا الوجود ما عدا أمة واحدة هي أمة اليهود. وهكذا ترون تلكم الصفحة من تاريخ اليهود، وهذه النماذج من تعاليمهم ومبادئهم، وإنها لصفحة سوداء مظلمة، وتعاليم هدامة منكرة، توارثوها جيلًا بعد جيل، وقبيلًا في إثر قبيل، وحملوها معهم في تجوالهم ومسيرتهم الطويلة بين أمم العالم. ولقد هاجر الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى يثرب في الثلث الأول من القرن السابع الميلادي حيث كان جماعات منهم يعيشون مع الأوس والخزرج في نفس المدينة، أو على مقربة منها، وهم يهود بني قينقاع، ويهود بني النضير، ويهود بني قريظة. وكان المنطق السليم والتفكير القويم يحتمان على الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يبسط يده إليهم بالمودة والتعاون، فتمت بينه وبينهم تلك المعاهدة التي أشرنا إليها في الفصل الخامس من هذا الكتاب، وهي معاهدة حكيمة قوامها التضامن الكامل
بين المسلمين واليهود، والتعاون التام بين الفريقين إذا نزلت شدة بأحدهما أو كليهما. وكان من الطبيعي -وهذه أخلاقهم، وتلك مبادئهم- ألا يكون هناك مجال لتعاون أو تضامن أو إخلاص من جانبهم، وأن تكون عهودهم ومواثيقهم مرتبطة بمنفعتهم العاجلة كلما لاحت لهم، أو ومضت في سمائهم. أما الخلق في ذاته والمبادئ في ذاتها فلا وزن لها عندهم، ومن أجل ذلك تراهم يظهرون المودة للرسول -صلى الله عليه وسلم- في أول جوار لهم مع المسلمين. فلما بدأت المطامع تدب في نفوسهم من طرق أخرى سارعوا بالغدر والخيانة، ونقضوا العهود والمواثيق. فكان ذلك البغي من جانبهم شؤمًا عليهم وشرًّا ووبالًا حاق بهم. فيهود بني قينقاع نكثوا أيمانهم ونقضوا عهدهم مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبدءوا المسلمين بالعدوان. ومن ذلك أن امرأة من نساء الأنصار قدمت إلى سوق اليهود من بني قينقاع ومعها حلية لكي تعرضها على صائغ منهم، فجلست إلى صائغ في تلك السوق، فجعل اليهود يريدونها على كشف وجهها وهي تأبى، فجاء يهودي من خلفها في غفلة منها فأثبت طرف ثوبها بشوكة إلى ظهرها. فلما قامت انكشفت سوأتها، فضحك اليهود، وصاحت المرأة صيحة هي مزيج من الحزن والندم والخجل والاستغاثة، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، واجتمعت اليهود على المسلم فقتلوه. وحينئذٍ دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رؤساءهم وطلب إليهم أن يكفوا عن أذى المسلمين. وأن يحفظوا عهد المودة والسلام حتى لا يصيبهم ما أصاب قريشًا في
غزوة بدر، ولكنهم استخفوا بوعيده وأجابوه: لا يغرنك يا محمد أنك لقيت قومًا لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم فرصة إنا -والله- لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس1، ثم تظاهروا بالعداوة وتحصنوا في حصونهم فلم يكن هناك بد من مقابلة الشر بمثله، وإلا تعرض مركز المسلمين للتداعي والانهيار. ويهود بني النضير -أيضًا- نقضوا العهد والميثاق مع المسلمين وبدأ الغدر والعدوان من جانبهم، فهموا بأن يلقوا على الرسول -صلى الله عليه وسلم- صخرة، وهو مستند إلى جدار في محلتهم بالقرب من قباء مع نفر من أصحابه، ثم اجتمع الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالمسجد وعرض الأمر عليهم، فانتهى الرأي إلى اتخاذ الحزم والصرامة معهم، فأرسل الرسول إليهم محمد بن مسلمة وقال له: "اذهب إلى يهود بني النضير وقل لهم: إن رسول الله أرسلني إليكم أن اخرجوا من بلادي، لقد نقضتم العهد الذي جعلت لكم بما هممتم به من الغدر بي، وقد أجّلتكم عشرًا، فمن رئي بعد ذلك ضربت عنقه" 2. ويهود بني قريظة -كذلك- نقضوا العهد مع المسلمين في غزوة الأحزاب3، وقد كان ذلك في أحرج الظروف وأعنف الأزمات، وفي وقت
تآمرت عناصر الشر فيه ضد المسلمين، وتآلب الطغيان عليهم من كل مكان، وهو الوقت الذي وصفه الله تعالى بقوله: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً، وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً، وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً} 1. وحسبنا في تصوير مدى حقد اليهود على الإسلام والمسلمين أنهم تناسوا ما تنطوي عليه مبادئ الديانة اليهودية في أساسها من التوحيد، وفضلوا الوثنية على دين محمد -صلى الله عليه وسلم- وفي ذلك يروي المؤرخون أن قريشًا قالت لليهود: يا معشر اليهود، إنكم أهل الكتاب الأول، وأصحاب العلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه؟ قالت اليهود: بل دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق منه2.
وإلى ذلك يشير الله -عز وجل- بقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً} 1. وقد بلغ من إساءتهم إلى الحق في هذه الناحية أن رجلًا منهم أفزعه ذلك فأنحى عليهم باللائمة وسفه ما قالوه، وهذا الرجل يسمى: إسرائيل ولفنسون، وهو مؤلف كتاب: تاريخ اليهود في جزيرة العرب. يقول ذلك الرجل اليهودي: كان من واجب هؤلاء اليهود ألا يتورطوا في مثل هذا الخطأ الفاحش، لأنهم بالتجائهم إلى عبادة الأصنام إنما كانوا يحاربون أنفسهم، ويناقضون تعاليم التوارة التي توصيهم بالنفور من أصحاب الأصنام والوقوف معهم موقف الخصومة. ويتضح لنا من ذلك مدى الكراهية الشديدة والحقد العنيف الذي تنطوي عليه نفوس اليهود نحو المسلمين، ويا له من حقد بالغ ذلك الذي يدفع أصحابه إلى مخالفة العقائد الموروثة، وتغيير الحقائق المعلومة، وتتضح لنا -كذلك- نفسية اليهود وما عرف من أخلاقهم، وهو أن الغاية عندهم تبرر الوسيلة، فأما الأخلاق والمثل والمعاني الإنسانية إلى غير ذلك، فهذه كلمات لا معنى لها في نظرهم، إن لم توصلهم إلى مآربهم وغاياتهم مهما انحدرت تلك المآرب والغايات. وحينما اطمأن اليهود وعلى رأسهم حيي بن أخطب، وسلام بن أبي الحقيق،
وعرفوا أن قريشًا ستؤازرهم من أجل القضاء على محمد -صلى الله عليه وسلم- واستئصال دعوته وأخذوا منهم موعدًا قريبًا لتنفيذ ذلك، مضوا في طريق الكيد والخصومة إلى نهايته، وأحكموا أطراف المؤامرة، فخرجوا إلى القبائل العربية التي لا تزال تحقد على محمد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه تتربص بهم الدوائر، ومنهم قبيلة غطفان، وقد حرض اليهود رجالها وأخبروهم بمبايعة قريش لهم على الحرب، ومنهم بنو مرة وبنو أشجع، وبنو سليم وبنو أسد. وقد حرض اليهود رجالهم -كذلك- على حرب محمد -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين، ووجدوا منهم قبولًا وارتياحًا، واستعدادًا للانضواء تحت لواء قريش في سبيل ذلك الهدف الذي عقدوا عليه الآمال، وظنوه يسيرًا قريب المنال. وقد لقي اليهود جزاء غدرهم، وحل بهم سوء صنيعهم، وجنوا عاقبة خيانتهم خسرانًا ونكالًا أصابهم في أموالهم وأنفسهم، وهم أحرص الناس على المال والحياة. فأما بنو قينقاع فقد حاصرهم المسلمون في دورهم خمسة عشر يومًا متتابعة لا يخرج منها أحد، ولا يدخل عليهم بطعام أحد، حتى لم يبق لهم إلا النزول على حكم محمد -صلى الله عليه وسلم- فانتهى الأمر بإخراجهم من المدينة ولهم النساء والذرية، وللمسلمين الأموال، فذهبوا إلى أذرعات بالشام1. وأما بنو النضير فقد طردوا -كذلك- من ديارهم، على أن يكون لكل ثلاثة بعير يحملون عليه ما شاءوا من مال، أو طعام أو شراب، وأفاء الله ما بقي من أموالهم على المسلمين، وقد ذهب بعضهم إلى خيبر، وسار الآخرون إلى أذرعات بالشام.
وكان جزاء بني قريظة -وهم الذين خذلوا المسلمين في وقت الشدة بانضمامهم إلى المشركين في غزوة الأحزاب -ولولا لطف الله لهلك المسلمون عن آخرهم- كان جزاؤهم أن يقتل رجالهم وتسبى نساؤهم وذراريهم. وقد أسلم أربعة من بني قريظة فنجوا من القتل، وضربت أعناق الباقين1. وما ظلمهم الله ولكن كانوا لأنفسهم من الظالمين2.
بين يهود الأمس ويهود اليوم
بين يهود الأمس ويهود اليوم: وها هي ذي إسرائيل اليوم تمثل دور اليهود القديم مع المسلمين -دور الخديعة والمكر، والخيانة والغدر، والجبن والخور- فهي تعمل في العلن وفي الخفاء كما كانوا يعملون، وتستعين ببعض الدول الكبرى على العرب والمسلمين، كما استعان بنو النضير بقريش على المسلمين، وتؤلب على العروبة والإسلام الأحزاب، كما فعل اليهود مع المسلمين في غزوة الأحزاب، ومن عجب أن تجد إسرائيل أعوانًا من بعض العرب والمسلمين، وهم أولئك الذين نرى مخازيهم وفضائحهم والذين يحاربون الفدائيين من العرب والمسلمين وجهًا لوجه وهم أهلهم وعشيرتهم، والذين سفكوا الدماء العربية المسلمة -وهم عرب ومسلمون- فكانوا أشد ضررًا وأعظم خطرًا من الإسرائيليين والمستعمرين.. أقول: من عجب أن تجد إسرائيل أعوانًا من العرب والمسلمين، كما وجد اليهود على عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- أعوانًا من المنافقين وهم أولئك الذين تحدث الله
عنهم بقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ، لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} 1. ألا إن التاريخ ليعيد نفسه، وما أشبه الليلة بالبارحة، إن اليهود ليسيرون الآن في ضلالهم القديم، وإن الهوان الذي أصابهم على عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- لينتظرهم. وإنه لحق على المسلمين أن يستضيئوا في هذه المحنة بمبادئ الإسلام، وأن ينفذوا تعاليم الدين القويمة وآدابه الحكيمة فيما بينهم، كما نفذها الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، حتى تتحقق للمسلمين الأخوة الكاملة، والإخلاص الشامل. وحينئذٍ يأتي اليوم الموعود، والنصر المبين، ويخرب اليهود بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين. ولا غرو، فإن الظلم لا يدوم، ومرتع البغي وخيم. {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ} 2.
غزوة بني المصطلق
غزوة بني المصطلق 1 كانت هذه الغزوة من النتائج المباشرة لغزوة الأحزاب، لأن رجوع الأحزاب خاسرين هو الذي شجع المسلمين على أن يتجهوا لتأديب هؤلاء الأعداء، ويتوغلوا إلى هذه الأعماق البعيدة في الطريق إلى مكة، حتى يصلوا إلى بني المصطلق2 على مقربة من قريش.
وإذا كان جمهور المؤرخين يقللون من الأهمية الحربية لهذه الغزوة1 حيث لم تسفر إلا عند عدد قليل من القتلى، وحيث لم يقع فيها صدام عنيف بين المسلمين وأعدائهم، فإننا -لدى التحقيق والتأمل- نراها من أعظم الغزوات في تاريخ الرسول -صلى الله عليه وسلم- وذلك لما تضمنته من عبر وعظات. وقد كان من خبرها أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بلغه: أن الحارث بن ضرار سيد بني المصطلق يجمع الجموع لحربة، فخرج له -عليه السلام- في جيش كبير بلغ عدده ألف مقاتل بين راكب وراجل، وقد أراد الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يهاجمهم قبل أن يهاجموه حتى يلقي الرعب في قلوبهم، وجعل لواء المهاجرين لأبي بكر، ولواء الأنصار لسعد بن عبادة. ولما وصل المسلمون إلى بني المصطلق وأصبحوا أمامهم وجهًا لوجه، عرض الرسول -صلى الله عليه وسلم- الإسلام، فلم يقبلوا، فتراموا بالنبل ساعة، ثم حمل المسلمون عليهم حملة رجل واحد2، فلم يتركوا لرجل من عدوهم مجالًا للهرب، بل قتلوا منهم عشرة وأسروا باقيهم مع النساء والذرية واستاقوا الإبل والشياه، وكانت
الإبل وألفي بعير، والشياه خمسة آلاف. وكان من الأسرى بريرة بنت الحارث سيد بني المصطلق، وكان معها من نساء بني المصطلق مائتا أسيرة وزعت على المسلمين. وقد تزوج الرسول -صلى الله عليه وسلم- من بريرة وسماها جويرية، فلما علم المسلمون بزواج الرسول -صلى الله عليه وسلم- من بني المصطلق أرادوا أن يكرموا جميع نساء القبيلة من أجل هذه المصاهرة الكريمة فقالوا: هؤلاء أصهار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا ينبغي أسرهم في أيدينا، ومنوا عليهم بالعتق، فكانت جويرية أيمن امرأة على قومها، كما قالت السيدة عائشة -رضي الله عنها. وترتب على هذا التكريم العظيم وهذه المعاملة الحسنة، أن أسلم بنو المصطلق عن آخرهم وأصبحوا قوة تنشر الإسلام وتدافع عنه وتحميه، بعد أن كانوا قوة تناوئ الإسلام وتحاربه وتعاديه.
افة النفاق
آفة النفاق: وكان يمكن أن تنتهي هذه الغزوة بهذه النتيجة الطيبة المباركة، إلا أن حادثين خطيرين عكرا هذا الصفاء، وأشعلا فتنة عمياء كادت تعصف بالمسلمين وتهددهم بالدمار والانهيار، لولا لطف الله وحكمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم. فأما أولهما فهو ما وقع من عبد الله بن أُبيّ زعيم المنافقين، وكان مع المسلمين يتظاهر بالإخلاص والإيمان هو ومن على شاكلته من المنافقين، ويحلفون أغلظ الأيمان يتخذون منها ستارًا يخفون وراءه حقيقتهم، فإذا عصفت الأخطار انكشف هذا الستار وظهر مكرهم وغدرهم. وقد حدث أن أجيرًا لعمر بن الخطاب اختصم مع رجل من حلفاء الخزرج
فضربه حتى سال دمه، فاستصرخ الخزرجي بقومه، واستصرخ الأجير بالمهاجرين. يقول الخزرجي: يا معشر الأنصار. ويقول أجير عمر: يا معشر المهاجرين1. فأقبل الذعر بين الفريقين وكادوا يقتتلون لولا أن خرج عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ما بال دعوى الجاهلية؟ " ثم قال: "دعوها فإنها منتنة". ثم أنهى هذا الخصام بحكمته، فرجع المتخاصمان أخوين متحابين. فلما وصل نبأ هذا الخصام إلى عبد الله بن أبي غضب، وكان عنده رهط من الخزرج فقال: ما رأيت كاليوم مذلة، أو قد فعلوها؟ نافرونا في ديارنا، والله ما نحن والمهاجرون إلا كما قال الأول: سمِّن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل2. ثم التفت إلى من معه وقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم، ثم لم ترضوا بما فعلتم حتى جعلتم أنفسكم غرضًا للمنايا دون محمد، فأيتمتم أولادكم وقللتم وكثروا، فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من عنده. وقد سمع بعض المسلمين المخلصين3 هذا الكلام فأسرع إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأخبره. وحينما تأكد الرسول -صلى الله عليه وسلم- من صدق كلامه غضب وظهر الغضب في وجهه، فقال عمر بن الخطاب: ائذن لي يا رسول الله في قتله، أو مر أحدًا غيري بقلته.
فنهاه الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، وقال: "كيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه". وأراد الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يصرف أصحابه عن التفكير في هذا الأمر الخطير والانسياق إلى الخلاف والشقاق، فأذن في الناس بالرحيل. ولم يكن الوقت مناسبًا، إذ كان الحر شديدًا ويصعب الرحيل فيه، وقد جاء أُسيد بن حضير وسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن سبب الارتحال في هذا الوقت؟ فقال: "أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟ زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل". قال: أنت -والله يا رسول الله- تخرجه إن شئت، هو والله الذليل وأنت العزيز. ووصلت هذه الأنباء إلى ابن أُبيّ، فأسرع إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- ينفي ما نسب عنه ويحلف بالله ما قاله ولا تكلم به. ولكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمضى قراره بالرحيل، وسار في طريق عودته ومعه المسلمون حتى أجهدهم المسير، وأنساهم التعب حديث ابن أُبي، وعادوا بعد ذلك إلى المدينة ومعهم ما حملوا من غنائم بني المصطلق وأسراهم وسبيهم، ومعهم جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد القوم وزعيمهم. وفي هذه الأثناء نزلت سورة المنافقون تفضح أكاذيب ابن أُبي ومن على شاكلته وتظهر نواياهم الخبيثة للرسول -صلى الله عليه وسلم- وأنهم يتظاهرون بالإسلام، وهم في واقع الأمر أبعد الناس عنه، وهم يحلفون الأيمان الكاذبة يتخذونها ستارًا لكذبهم، فيقول سبحانه: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ، اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ
جُنَّةً 1 فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} 2. ثم يتحدث الله -عز وجل- عن مظهرهم الخادع الذي يختلف مع مخبرهم الخبيث ويحذر رسوله -صلى الله عليه وسلم- منهم، ويبين أنهم إذا قيل لهم: تعالوا إلى الحق واطلبوا المغفرة من الله أبوا وأعرضوا واستكبروا، وقد كتب عليهم أن يظلوا يتخبطون في هذا الشقاء والضلال فيقول: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ، سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} .
مثل رائع من الإيمان
مثل رائع من الإيمان: وكان للناس عجبًا أن يتفجر الهدى والإيمان من صخرة النفاق والطغيان، وأن يخرج من صلب عبد الله بن أبي زعيم المنافقين ولد يسموا بإيمانه إلى مستوى الأبرار والصديقين. ومن آيات هذا الإيمان الكامل موقفه حينما علم أن هناك تفكيرًا في قتل أبيه بما ظهر من نفاقه وسوء أخلاقه ... فلقد ذهب -وكان اسمه عبد الله بن عبد الله بن أُبي- إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: يا رسول الله، بلغني أنك تريد قتل عبد الله ابن أُبي فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلًا فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه فوالله
لقد علمت الخزرج ما كان بها من أحد أبر بوالده مني، وإني لأخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس فأقتله، فأقتل رجلًا مؤمنًا بكافر فأدخل النار1. ويا له من موقف رائع تتمثل في قوة العقيدة وسمو التفكير، وكيف يتغلبان على العاطفة والوجدان، ويا لها من محنة عصيبة وامتحان رهيب قدرهما الله على هذا الابن البار، فاجتاز المحنة ونجح في الاختبار. وكانت إجابة الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك هي المثل الأعلى في العفو والصفح الجميل، وهي النبراس الذي يضيء طرق الخير ويهدي إلى سواء السبيل، وهي خير مكافأة لكل مؤمن يرتفع بإخلاصه إلى هذا المستوى الكريم، ذلك بأنه قال له: " إنا لا نقتله، بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا". وهكذا أحسن الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى من أساء إليه، وترفق بهذا الذي ألب أهل المدينة عليه وعلى أصحابه وعفا عنه، فكان رفقه وعفوه أبعد أثرٍ من عقوبته لو أنه أنزلها به، فقد كان عبد الله بن أُبي بعد ذلك يدين بالجميل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان إذا جد الجد لا يستطيع أن يرفع رأسه آمرًا أو ناهيًا متحكمًا في أحد من المسلمين، لأنهم جميعًا كانوا يشعرون بأن حياته هبة من محمد -صلى الله عليه وسلم- وكان قومه كثيرًا ما يشعرونه بهذه المكرمة التي تفضل بها محمد -صلى الله عليه وسلم- عليه. وقد تحدث الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع عمر بن الخطاب في شأن عبد الله بن أُبي فقال له: "كيف ترى يا عمر؟ أما والله لو قتلته يوم قلت لي اقتله لأرعدت له أنوف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته". فقال عمر: لقد -والله- علمت لأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
أعظم بركة من أمري 1. وأما الحادث الثاني -الذي عكر الصفاء في هذه الغزوة- فهو ما وقع من حديث الإفك عن السيدة عائشة زوج الرسول -صلى الله عليه وسلم.
حديث الإفك
حديث الإفك: وهو حديث الزور والبهتان في كل زمان ومكان، وقصة السيدة عائشة فيه هي قصة كل مظلوم يُرمى بالشر وهو بريء، وتنطلق حوله شائعات السوء وهو غير مسيء، حتى إذا ضاقت عليه الأرض بما رحبت وضاقت عليه نفسه لجأ إلى ربه بالدعاء، فصعدت دعوته إلى الله لا يصدها حجاب، ولا تغلق دونها أبواب، وجعل الله له من الضيق فرجًا ومخرجًا. ولا نجد في هذا المجال تعبيرًا أصدق، ولا تصويرًا أبلغ من تعبير السيدة عائشة نفسها وتصويرها لهذا الحادث الرهيب، وهذه المأساة العنيفة، وإليكم ما ذكره الإمام البخاري في صحيحه عن ذلك1.. عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أراد سفرًا أقرع بين
أزواجه فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله معه". قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها1 فخرج سهمي، فخرجت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعدما أنزل الحجاب2 فكنت أُحمل في هودجي وأنزل فيه، فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله من غزوته تلك وقفل3 ودنونا من المدينة قافلين آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش4، فلما قضيت شأني5 أقبلت إلى رحلي، فلمست صدري فإذا عقد لي من جزع ظفار6 قد انقطع فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه7، وأقبل الرهط، فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب عليه وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء إذا ذاك خفافًا لم يغشهن اللحم فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه، وكنت جارية حديثة السن، فبعثوا الجمل8 فيممت منزلي9 الذي كنت فيه، وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إليّ، فبينما أنا جالسة في منزلي10 غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي من وراء الجيش11، فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم فعرفني حين رآني وكان رآني قبل الحجاب،
فاستيقظت باسترجاعه1 حين عرفني فخمرت بجلبابي. ووالله ما تكلمنا بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، وهوى حتى أناخ راحلته فوطئ على يدها، فقمت إليها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش موغرين في نحر الظهيرة2 وهم نزول، قالت: فهلك من هلك3، وكان الذي تولى كبره في الإفك عبد الله بن أُبي بن سلول. ثم تقول عائشة: فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرًا والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك ولا أشعر بشيء من ذلك، ويريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل علي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيسلم ثم يقول: "كيف تيكم؟ " 4 ثم ينصرف، فذلك يريبني ولا أشعر بالشر حتى خرجت حين نقهت5، فخرجت مع أم مسطح6 فأخبرتني بقول أهل الإفك7 فازددت مرضًا على مرضي، فلما رجعت إلى بيتي دخل علي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسلم ثم قال: "كيف تيكم؟ " فقلت له: أتأذن لي أن آتي أبوي. قالت: وأريد أن أستيقن الخبر من قبلهما. قالت: فأذن لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم. فقلت: لأمي: يا أماه، ماذا يتحدث الناس؟
قالت: يا بنية، هوني عليك، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة1عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها2 ... قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت أبكي. قالت: ودعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي3، يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله. قالت: فأما أسامة فأشار على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم لهم في نفسه. فقال: أهلك ولا نعلم إلا خيرًا. وأما علي فقال: يار رسول الله، لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير، وسل الجارية تصدقك. وقالت: فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بريرة فقال: "أي بريرة، وهل رأيت من شيء يريبك؟ " قالت له بريرة: والذي بعثك بالحق، ما رأيت عليها أمرًا قط أغمصه -أي أعيبه- قالت: فقام رسول الله من يومه فاستعذر من عبد الله بن أُبي وهو على المنبر فقال: "يا معشر المسلمين، من يعذرني من رجل بلغني عنه أذاه في أهلي، والله ما علمت على أهلي إلا خيرًا، ولقد ذكروا رجلًا4 ما علمت عليه إلا خيرًا، وما يدخل على أهلي إلا معي". ثم تقول السيدة عائشة: فبينما أبواي جالسان عندي وأنا أبكي فاستأذنت علي امرأة من الأنصار، فأذنت لها. فجعلت تبكي معي، فبينما نحن على ذلك دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علينا فسلم. ثم جلس، ولم يكن يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها، وقد لبث شهرًا لا يوحى إليه في شأني بشيء.
قالت: "فتشهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين جلس ثم قال: "أما بعد، يا عائشة، إنه بلغني عنك كذا وكذا. فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه. فإن العبد إذا اعترف ثم تاب، تاب الله عليه ... " قالت عائشة: فلما قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقالته قلص دمعي1، حتى ما أحس منه قطرة. فقلت لأبي: أجب رسول الله عني فيما قال، فقال أبي: والله ما أدري ما أقول لرسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ فقلت لأمي: أجيبي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما قال. قالت أمي: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت: والله إني لا أجد لي ولكم مثلًا إلا أبا يوسف حين قال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} 2. ثم تحولت واضطجعت على فراشي والله يعلم إني -حينئذٍ- بريئة، وأن الله مبرئي ببراءتي، ولكن -والله- ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحيًا يتلى، وإنما كنت أرجو أن يرى رسول الله في النوم رؤيا يبرئني الله بها، فوالله ما رام3 رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مجلسًا وخرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء4 حتى إنه لينحدر منه العرق مثل الجمان5 وهو في يوم شات، من ثقل القول الذي أنزل عليه ... قالت: فسري6 عن رسول الله وهو يضحك، فكانت أول كلمة أن قال: "يا عائشة: أما والله فقد برأك الله".. فقالت لي أمي: قومي إليه. فقلت: والله لا أقوم إليه، فإني لا أحمد إلا الله -عز وجل.
قالت: وأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ، لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ، لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ، وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ، إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ، وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ، يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ، وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 1. وهكذا تقص علينا السيدة عائشة -رضي الله عنها- حديث الإفك، وتصور إحساسها ومشاعرها خلال الأيام العصيبة التي مرت بها منذ سمعت بما يتقوله الأفاكون عليها، إلى أن نزلت الآيات الكريمة ببراءتها، فكانت وسام الشرف الذي وضعته العناية الإلهية في تاريخها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
عمرة الحديبية وعمرة القضاء
عمرة الحديبية وعمرة القضاء كانت عمرة الحديبية مقدمة لعمرة القضاء، كما كانت عمرة القضاء، مكملة لعمرة الحديبية، فهما في واقع الأمر عمرة واحدة بدأت في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة، فلما وقفت الحوائل في طريقها آثر الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون الرجوع دون أن يتموا عمرتهم، واكتفوا بصلح مع قريش يتيح لهم فرصة القضاء، وهذا هو الذي سوغ لنا أن نجعلهما في فصل واحد على ما بينهما من فترة زمنية امتدت إلى عام وقعت في خلاله أحداث لها أهميتها البالغة، في تاريخ الإسلام والمسلمين.
الحنين إلى مكة
الحنين إلى مكة: وكان المسلمون منذ هجرتهم من مكة إلى يثرب يحنون لرؤية وطنهم الذي أخرجوا منه ظلمًا وبغير حق، ويتشوقون لزيارة المسجد الحرام الذي تمتلئ نفوسهم بتقديسه وتعظيمه، وكان بلال بن رباح يتغنى بآثار مكة كلما لج به الشوق إليها فيقول: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بفج1 وحولي إذخر وجليل وهل أردن يومًا مياه مجنة؟ ... وهل يبدون لي شامة وطفيل2
فلما سمع الرسول -صلى الله عليه وسلم- منه هذا الكلام ورأى أثر الحنين إلى مكة في نفوس المسلمين قال: "اللهم حبب إلينا المدينة كمحبة مكة أو أشد" 1. وعلى الرغم من الانتصارات التي تمت للمسلمين في كثير من الغزوات والمعارك التي خاضوها ضد قريش وغيرها من القبائل، والتي أشعرت المسلمين بعزتهم وكرامتهم، وألقت الرعب في قلوب أعدائهم، إلا أن قريشًا كانت تحول بين المسلمين وبين دخول مكة لزيارة المسجد الحرام، لأنها لا تراهم يستحقون هذا الشرف ما داموا يجعلون الآلهة إلهًا واحدًا، وما داموا لا يؤمنون بهبل، واللات والعزى، ومناة، ولأنها تخشى أن يدخل المسلمون مكة فيطيب لهم المقام بها، ويصعب إخراجهم منها. وبينما كان المسلمون مجتمعين في المسجد النبوي ذات صباح إذ طلع عليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنبأهم بما رآه في نومه من أنه دخل هو وأصحابه المسجد الحرام آمنين محلقين رءوسهم ومقصرين، وأخبرهم أنه يريد أداء العمرة معهم، ففرحوا واستبشروا واستعدوا للخروج منتظرين ما يأمرهم به نبيهم الكريم2.
خروج الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين للعمرة وموقف قريش
خروج الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين للعمرة وموقف قريش: 1 وخرج الرسول وفي صحبته المهاجرون والأنصار ومن لحق بهم من العرب، وكانت عدتهم ألفًا وأربعمائة2،وقد ساقوا الهدي أمامهم ولم يحملوا السلاح إلا السيوف في أغمادها، وذلك لأنهم لا يريدون حربًا أو قتالًا، وإنما يريدون زيارة المسجد الحرام وأداء نسك العمرة، وكان ذلك في أول ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة3. وحينما علمت قريش بخروج الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين للعمرة، امتلأت نفوسهم بالغيظ والحقد على محمد -صلى الله عليه وسلم- وداخلهم همّ عظيم وخوف شديد، لأنهم ظنوا أنها خدعة دبرها محمد -صلى الله عليه وسلم- ليتمكن من دخول مكة بعد أن صدهم عن دخول المدينة وصمموا على منعهم والوقوف في سبيلهم، وجهزوا لذلك جيشًا قويًّا على رأسه خالد بن الوليد، وعكرمة بن أبي جهل. وقد علم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بذلك، فأراد أن يتجنب الشر والخطر، وأن يبعد
بالمسلمين عن القتال ما داموا لم يتهيئوا له، ولم يخرجوا من أجله، فقال لأصحابه: "هل من رجل أخذ بنا على غير طريقهم؟ " فقال رجل من أسلم: أنا يا رسول الله. فسار بهم في طريق وعرة، ثم خرج بهم إلى سهل مستوٍ يحاذي مكة من أسلفها.. فلما رأى خالد ما فعل المسلمون رجع إلى قريش وأخبرهم الخبر، وبين لهم أن محمدًا لا ينوي شرًّا، وأن سلوكه هو ومن معه من أصحابه يدل على حبهم للسلام، ورغبتهم في تحقيق الغاية التي خرجوا من أجلها، وهي زيارة المسجد الحرام.
حابس الفيل
حابس الفيل: وحينما وصل الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى ثنية المرار1 بركت القصواء -وهي ناقة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فزجروها فلم تقم، فقالوا: خلأت القصواء2، فقال -صلى الله عليه وسلم: "ما خلأت وما ذلك لها بخلق3، ولكن حبسها حابس الفيل4. والذي نفس محمد بيده: لا تدعوني قريش لخصلة5 فيها تعظيم لحرمات الله إلا أجبتهم إليها". ولا شك أن هذه الكلمة من الرسول -صلى الله عليه وسلم- تشير إلى معنى كريم فطن إليه المسلمون واطمأنت إليه نفوس الكثير منهم، وهو أن الله لا يريد للمسلمين أن يؤدوا نسك العمرة في هذه المرة، ومن أجل ذلك حبس الناقة عن المضي إلى الكعبة، وبذلك كف أيدي قريش عن المسلمين، كيلا تنتهك حرمات البيت الذي
أراد الله أن يكون بعد عامين حرمًا آمنا، وأن يكون مثابة للمسلمين من كل فج يوطدون دعائم أُخوّتهم في ظلاله الوارفة.
تبادل الرسل بين قريش ومحمدا صلى الله عليه وسلم
تبادل الرسل بين قريش ومحمداً صلى الله عليه وسلم ... تبادل الرسل بين قريش ومحمدٍ -صلى الله عليه وسلم: وقد بعثت قريش رسلها إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- واحدًا بعد الآخر تستطلع أخباره، وترى عن كثب حقيقة الهدف الذي يقصده، وكان أولهم بديل بن ورقاء الخزاعي. وقد أخبره الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأنه لا يريد بقريش شرًّا، وإنما جاء مع أصحابه لأداء العمرة. فلما رجع بديل إلى قريش وأخبرهم بذلك لم يثقوا به. ومن ناحية أخرى لم يوافقوا على تلبية طلب محمد -صلى الله عليه وسلم- وقالوا: أيريد أن يدخل علينا في جنوده معتمرًا وتسمع العرب بأنه قد دخل علينا عنوة، وبيننا وبينه من الحرب ما بيننا، والله لا يكون هذا أبدًا وفينا عين تطرف. ثم أرسلوا بعد ذلك حليس بن علقمة، فلما رآه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "هذا من قوم يعظمون الهدي، فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه"، ففعلوا ذلك واستقبله الناس يلبون. فلما رأى حليس ذلك رجع وقال: سبحان الله. ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا، أتحج لخم وجذام وحمير ويُمنع عن البيت ابن عبد المطلب؟ هلكت قريش ورب البيت إن القوم أتوا معتمرين ... فلما سمعت قريش منه ذلك قالوا له: اجلس، إنما أنت أعرابي لا علم لك بالمكايد ... ثم أرسلوا عروة بن مسعود الثقفي سيد أهل الطائف فتوجه إلى رسول الله وقال: يا محمد، قد جمعت أوباش الناس ثم جئت إلى أهلك وعشيرتك لتقضها بهم، إنها قريش قد خرجت
تعاهد الله ألا تدخلوا عليهم عنوة أبدًا، وايم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك أي تخلوا عن نصرتك. فنال منه أبو بكر وقال: ويحك!! أنحن ننكشف عنه؟ وكان عروة يتكلم وهو يلمس لحية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكان المغيرة بن شعبة يقرع يده إذا أراد ذلك ... ثم رجع عروة وقد رأى موقف أصحاب الرسول من نبيهم -صلى الله عليه وسلم- وكيف كانوا يتنافسون على وضوئه يمسحون به أجسامهم، وإذا تكلموا أمامه لا يرفعون أصواتهم، ولا يحدون النظر إليه، فقال لقومه: والله لقد جئت كسرى في ملكه، وقيصر في عظمته فما رأيت ملكًا في قومه مثل محمد في أصحابه، ولقد رأيت قومًا لا يسلمونه لشيء أبدًا، فانظرًا رأيكم واقبلوا ما عرض عليكم، وإني لكم ناصح، وأخشى إن قاتلتموه ألا تنصروا عليه. فقالت قريش: لا تتكلم بهذا ولكننا نرده في هذا العام ويرجع في العام الذي يليه. وقد استشار الرسول -صلى الله عليه وسلم- أصحابه، وانتهى الرأي إلى اختيار عثمان بن عفان رسولًا إلى قريش ومعه عشرة من المسلمين استأذنوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في زيارة أقاربهم، وحمل عثمان رسالة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى قريش تفصح عن مقصده والغرض الذي خرج من أجله، ورسالة أخرى إلى المستضعفين من المسلمين يبلغهم فيها أن الحق آتٍ لا ريب فيه وأن نصر الله قريب ... وحينما التقى عثمان بقريش، وبلّغهم الرسالة التي حملها إليهم، رفضوا السماح للرسول -صلى الله عليه وسلم- بدخول مكة، وسمحوا لعثمان أن يطوف بالبيت، فرفض في حزم وإباء وقال: لا أطوف ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- ممنوع.. ثم إنهم حبسوه، فشاع عند المسلمين: أن عثمان قد قتل. فقال -عليه السلام-
حينما سمع ذلك: "لا نبرح حتى نناجزهم الحرب ... ".
بيعة الرضوان
بيعة الرضوان: ثم كانت بيعة الرضوان وهي البيعة الخالدة في تاريخ الإسلام، وقد رضي الله عنها ورضي عن المسلمين بها، وأنزل ذلك في كتابه الكريم حيث قال: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} 1. وقد كشفت هذه البيعة المباركة عن مدى تضامن المسلمين وإخلاصهم وحبهم لنبيهم -صلى الله عليه وسلم- وتضحيتهم في سبيل العزة الإسلامية وإعلاء كلمة الحق والدين، ويكفي أن نعلم أن المسلمين كانوا يتسابقون إلى هذه البيعة، ويعاهدون الله وهم يضعون أيديهم في يد الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يستقبلوا الموت وهم راضون، حتى يأخذوا بثأر عثمان ويرغموا قريشًا على الخضوع لهم والاستجابة لما يريدون.. وحسبنا -كذلك- أن نعلم أن هذه الروح القوية المؤمنة قد أفزعت قريشًا، وألقت الرعب في قلوبهم في الوقت الذي لم يكن المسلمون فيه قد حملوا معهم عدة الحرب والقتال التي تكفي لمواجهة قريش، وكان من أثر ذلك أن بدأ القرشيون يفكرون من جديد في طريقة يتخلصون بها من هذه المشكلة التي تورطوا فيها بسفههم وعنادهم، فماذا عسى أن يكون؟
صلح الحديبية
صلح الحديبية: وقد بدأت قريش من جانبها تفتح طريقًا جديدًا يقرب المسافة بين الطرفين، وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- على استعداد للتفاهم مع قريش على أساس عادل سليم، لأنه يؤمن بأن السلم في هذا الجو أنفع بكثير من حرب لم تكتمل لها العدة اللازمة، والظروف الملائمة، ومن أجل ذلك فرح واستبشر حينما أرسلت قريش رسولها الأخير، سهيل بن عمرو، وتيمن باسمه وقال لأصحابه: "قد سهل الله لكم من أمركم". وقد بدأ سهيل كلامه فقال: يا محمد إن الذي حصل ليس من رأي عقلائنا، بل شيء قام به السفهاء منا.. ثم عرض سهيل الشروط التي ترضى عنها قريش وهي: 1- أن توقف الحرب بين المسلمين وبين قريش عشرة أعوام. 2- أن من جاء إلى المسلمين من قريش يردونه، ومن جاء قريش من المسلمين لا تلزم قريش برده. 3- أن يرجع النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسملون من غير عمرة هذا العام، ثم يأتي العام المقبل فيدخلها بأصحابه، بعد أن تخرج منها قريش فيقيمون بها ثلاثة أيام، ليس معهم إلا القوس والسيف في القراب1. 4- من أراد أن يدخل في عهد محمد دخل فيه، ومن أراد أن يدخل في عهد قريش دخل فيه.
وهذه الشروط التي تبدو في ظاهرها مجحفة بالمسلمين كانت موضع الرضا والقبول من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن بعض أصحابه، وقد رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أساسًا متينًا يمكن أن يُبنى عليه المستقبل العظيم الذي يرجوه للإسلام عمّا قليل من الزمان. وأما الغالبية العظمى من المسلمين فقد داخلهم منها همٌّ عظيم وقالوا سبحان الله! كيف نرد إليهم من جاءنا مسلمًا، ولا يردون إلينا من جاءهم مرتدًا؟ وقد أجاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك فقال: "إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله1 ومن جاءنا منهم فرددناه إليهم فسيجعل الله له فرجًا ومخرجًا". وأما الشرط الذي يمنع المسلمين من العمرة هذا العام ويؤجلها إلى العام الذي يليه، فقد ظن البعض من المسلمين أنه يخالف الرؤيا التي رآها الرسول -صلى الله عليه وسلم- ووعد أصحابه تحقيقها، وهي أنهم سوف يدخلون المسجد الحرام -إن شاء الله- آمنين محلقين رءوسهم ومقصرين، وغفل هؤلاء عن أمر مهم وهو أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يحدد زمنًا خاصًّا لدخول المسلمين إلى المسجد الحرام.. ومهما يكن من شيء فقد كتبت شروط الصلح بين الطرفين، وكان الكاتب علي بن أبي طالب، فأملاه -عليه السلام: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل: اكتب باسمك اللهم. فأمره الرسول -صلى الله عليه وسلم- بذلك، ثم قال: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله، فقال سهيل: لو نعلم أنك رسول الله ما خالفناك اكتب، محمد بن عبد الله. فأمر -عليه السلام- عليًّا بمحو ذلك وكتابة محمد بن عبد الله. فامتنع فمحاها النبي -صلى الله عليه وسلم- بيده، وكتبت نسختان: نسخة لقريش ونسخة للمسلمين.
وقد شاء الله أن يبدأ التطبيق العملي لشروط هذا الصلح من جانب المسلمين منذ اللحظات الأولى لإتمامه وذلك أن أبا جندل بن سهيل جاء إلى المسلمين وهو يتعثر في قيوده، وكان من المسلمين الممنوعين من الهجرة، فانتهز فرصة وجود المسلمين عند الحديبية وهرب إليهم ليحموه. فقال له الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا. إنا قد عقدنا العزم بين القوم صلحًا، وأعطيناهم وأعطونا على ذلك عهدًا فلا نغدر بهم ... ". وطبق الطرفان شرطًا آخر من شروط هذا الصلح منذ اللحظات الأولى كذلك حيث دخلت قبيلة خزاعة في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودخلت قبيلة بكر في عهد قريش. ولما انتهى الأمر، أمر -عليه السلام- أصحابه أن يحلقوا رءوسهم وينحروا الهدي ليتحللوا من عمرتهم، فكان ذلك صدمة عنيفة للمسلمين في جملتهم، إذ كانوا مدفوعين بحماس بالغ ضد قريش. وكانوا يرون أن شروط الصلح لا تحقق العدل والإنصاف لرسول الله والمسلمين، ولذلك لم يبادروا بالامتثال لأمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- فدخل -عليه السلام- على أم سلمة -رضي الله عنها- وقال لها: "هلك المسلمون، أمرتهم فلم يمتثلوا"، فقالت: يا رسول الله: اعذرهم، فقد حملت نفسك أمرًا عظيمًا في الصلح. ورجع المسلمون من غير فتح، فهم لذلك مكروبون. ولكن اخرج يا رسول الله وابدأهم بما تريد، فإذا رأوك فعلت تبعوك. فتقدم -عليه السلام- إلى هديه فنحره، ودعا بالحلاق فحلق رأسه، فلما رآه المسلمون توثبوا على الهدي فنحروه وحلقوا، ثم رجع المسلمون إلى المدينة وهم مؤمنون بأن الله قد أراد الخير بهم، حيث لم يتعرضوا للحرب والقتال في مثل هذه الظروف القاسية.
استثناء النساء من شروط الصلح
استثناء النساء من شروط الصلح: وقد أراد الله أن تُستثنى النساء من بعض هذه الشروط خوفًا عليهم من الفتنة، لأن المرأة يسهل التأثير عليها وتغيير رأيها إذا تعرضت لعوامل الرغبة أو الرهبة، وكان من ذلك: أن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وهي أخت عثمان لأمه، جاءت إلى المسلمين عقيب صلح الحديبية فارة من المشركين. فطلبها المشركون تنفيذًا للعقد المبرم بينهم وبين الرسول -صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله إني امرأة وإن رجعت إليهم فتنوني في ديني. فلم يشأ الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يخالف العهد الذي التزمه، ولكن الله وجه الرسول -صلى الله عليه وسلم- في هذه المسألة للطريق الذي يسير عليه، فأنزل هذه الآيات الكريمة: {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} 1. وتنفيذًا لهذا الأمر الإلهي كانت المرأة المهاجرة تستخلف: أنها ما خرجت رغبة بأرض عن أرض، ولا بغضًا في زوج، ولا لالتماس دنيًا، وأنها ما خرجت إلا حبًّا في الله ورسوله، ومتى حلفت لا ترد، بل يعطي لزوجها المشرك ما أنفقه عليها، ويجوز للمسلم أن يتزوجها.
مناقشة شروط الصلح: تبدو هذه الشروط أول الرأي وكأنها مجحفة بحقوق المسلمين، وهذا هو الذي دفع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى أن يستفسر من الرسول -صلى الله عليه وسلم- بطريقة تتجافى عن الأسلوب الرقيق الذي تعوده الرسول -صلى الله عليه وسلم- من أصحابه المخلصين، فلقد ذكر الرواة1: أن عمر بن الخطاب حينما تم الصلح بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقريش يوم الحديبية، تألم لقبول الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذه الشروط ودارت بينه وبين الرسول -صلى الله عليه وسلم- مناقشة يرويها عمر فيقول: "أتيت نبي الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا نبي الله، ألست بنبي الله حقًّا؟ قال: " بلى". قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: " بلى"، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذن؟ قال: "إني رسول الله، ولست أعصيه وهو ناصري"، قلت: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: " بلى، أفأخبرتك أنا نأتيه هذا العام؟ " قلت: لا. قال: "فإنك آتيه ومطوف به ... " والحق أن هذه الشروط تعتبر مغنمًا للمسلمين، ونقطة تحول في حياتهم، ومبدأ عهد جديد وضحت فيه قوتهم، إذ أصبحوا يقفون من قريش موقف الند للند، واعترفت لهم قريش بذلك ... وأصبحت القبائل في سائر الجزيرة العربية لا تتهيب الانضمام إلى المسلمين ما دامت قريش قد التزمت بتأمين من يدخلون في حماية الرسول -صلى الله عليه وسلم- وحلفه.
وأما رجوع المسلمين دون أن يؤدوا نسك العمرة في هذا العام، وتأخيرهم إلى العام الذي يليه، فهو حل متوسط ليس فيه ميل إلى أحد الجانبين. وأما الشروط التي يلزم المسلمين برد من ذهب إليهم مسلمًا من قريش، ولا يلزم قريشًا برد من ارتد عن الإسلام إلى المدينة، فهو شرط في مصلحة المسلمين، لأن من يرتد عن الإسلام يصبح وجوده في صفوف المسلمين كالمرض في الجسم السليم، فالشر في وجوده لا ريب فيه، والتخلص منه خير من بقائه.. وأما من يسلم من قريش فإن رجوعه إليهم بعد إسلامه خير للمسلمين وضرر على القرشيين، ولا غرو، فقد يهدي الله به قومًا آخرين إلى الحق، على أنه مهما طال الزمن، فإن الله سوف يجعل له مخرجًا من دار الكفر إلى دار الإسلام. وقد كشف المستقبل القريب بعد ذلك على أن هذا الشرط الذي فرحت به قريش قد سبب لها كثيرًا من المتاعب، حتى أرسلت إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- طالبة إليه أن يبطله، وألا يرد إليهم من جاءه مسلمًا. وذلك أن أبا بصير بن أسيد الثقفي -رضي الله عنه- تمكن من الفرار من قريش بعد إسلامه، فلما وصل إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة أرسلت قريش في أثره رجلين يطلبان تسليمه، فأمره -عليه السلام- بالرجوع معهما، فقال: يا رسول الله أتردني إلى الكفار يفتنوني في ديني بعد أن خلصني الله منهم؟ فقال: "إن الله جاعل لك ولإخوانك فرجًا". فلم يجد بدًّا من اتباعه. فرجع مع الرجلين، فلما قارب ذا الحليفة عدا على أحدهما فقتله، وهرب الآخر منه 1. وحينئذٍ رجع أبو بصير إلى المدينة وقال: يا رسول الله وفت ذمتك، أما أنا
فنجوت، فقال له: اذهب حيث شئت ولا تُقم بالمدينة. فذهب إلى محل بطريق الشام تمر به تجارة قريش فأقام به واجتمع معه عدد من المسلمين الذين فروا -كذلك- من قريش، واجتمع إليهم عدد من الأعراب وقطعوا طريق التجارة على قريش وأثاروا الرعب بينهم. فأرسلت قريش تستغيث بمحمد -صلى الله عليه وسلم- وتطلب منه إبطال هذا الشرط، وتعطيه الحق في إمساك من جاءه مسلمًا، فقبل الرسول -صلى الله عليه وسلم- منهم، وأراح الله المسلمين من هذا الشرط الذي كانوا متألمين منه.. وعلموا أن رأي الرسول -صلى الله عليه وسلم- أعظم وأفضل من رأيهم. وبذلك يتبين لنا أن شروط الصلح في حقيقتها نصر للمسلمين وفتح مبين، حتى قال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه: ما كان فتح في الإسلام أعظم من فتح الحديبية. ولكن الناس قصر رأيهم عمّا كان بين محمد -صلى الله عليه وسلم- وربه، والعباد يعجلون، والله لا يعجل لعجلة العباد، حتى تبلغ الأمور ما أراد ... وصدق الله العظيم، فلقد سمي صلح الحديبية: فتحًا مبينًا وأنزل في شأنه سورة الفتح، وقال في أولها: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً، وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} .
عمرة القضاء
عمرة القضاء 1: ولما استدار العام بعد الحديبية، وأهل شهر ذي القعدة، نادى الرسول -صلى الله عليه وسلم- في
المسلمين: أن استعدوا لعمرة القضاء. فلبى المسلمون النداء وساروا إلى مكة وفق صلح الحديبية، والسيوف في قربها، وساقوا الهدي أمامهم وتقدمهم محمد -صلى الله عليه وسلم- راكبًا ناقته القصواء، وقلوبهم تكاد تطير من الفرح والسرور، ولا غرو فهم سيدخلون أم القرى، ويطوفون بالبيت العتيق، ويتنسمون عرف هذا الوطن المقدس الأثير لديهم، والعزيز عليهم. ولما سمع أهل مكة بمقدم الرسول وأصحابه، ورأوا أنهم أصبحوا قاب قوسين أو أدنى من مكة، ترك الكثير منازلهم إلى التلال والجبال المشرفة عليها، وأخذوا ينظرون إلى الرسول وأصحابه، وهم يحيطون به إجلالًا وإكبارًا.. وحينما ظهر للمسلمين البيت الحرام انطلقت ألسنتهم بالدعاء: لبيك اللهم لبيك، حتى إذا بلغوا المسجد الحرام اضطبع1 الرسول -صلى الله عليه وسلم- بردائه وأخرج عضده اليمنى، ثم قال: "اللهم ارحم امرأً أراهم اليوم من نفسه قوة" 2. ثم طاف بالبيت سبعًا، والصحابة يطوفون معه، ثم انتقل إلى الصفا والمروة فسعى بينهما سبعة، ثم نحر الهدي عند المروة وحلق رأسه. وبذلك أتم فرائض العمرة -كل هذا وعيون قريش تنظر إليهم من فوق أبي قبيس في حسرة بالغة وألم عميق، وأخذ المسلمون يجوسون خلال مكة، والمهاجرون يزورون دورهم ويصحبهم أصحابهم من الأنصار وهم جميعًا فرحون مستبشرون، واثقون من نصر الله الذي وعد به المؤمنين من عباده. وانقضت الأيام الثلاثة التي سمح للمسلمين بأن يقيموها في مكة عملًا باتفاق
الحديبية.. وفي ظهر اليوم الرابع جاء سهيل بن عمرو بطل معاهدة الحديبية من قبل قريش يقول للرسول -صلى الله عليه وسلم: ننشدك العهد بأن تخرج من أرضنا عملًا بالاتفاق! فلم يتردد -صلى الله عليه وسلم- في تنفيذ عهده مع قريش، وأذن في المسلمين بالرحيل، فعادوا إلى المدينة سالمين مغتبطين. ولا شك أن دخول المسلمين مكة، وظهورهم بهذا المظهر الرائع أثر في نفوس الكثير من أبنائها، ولا أدل على ذلك من موقف خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وحارس الكعبة عثمان بن طلحة، فقد أسلموا وأسلم معهم الكثير، وعلت كلمة المسلمين في الحجاز، وكتب الله للمسلمين عزة ونصرًا، وللإسلام خلودًا وانتشارًا.
من صلح الحديبية إلى فتح مكة
من صلح الحديبية إلى فتح مكة مدخل ... من صلح الحديبية إلى فتح مكة هذه الفترة من الزمان التي تشمل على اثنين وعشرين شهرًا من حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- حيث تبدأ في شهر ذي القعدة من العام السادس، وتنتهي في شهر رمضان من العام الثامن الهجري، تعتبر من أهم الفترات وأخطرها في تاريخ الإسلام والمسلمين، وذلك لما تضمنته من الأحداث الكبرى التي تغيرت بها موازين القوى في الجزيرة العربية، وما يحيط بها من الدول الكبرى التي كانت تملك زمام النفوذ والسلطان في العالم. وتبدأ هذه الأحداث بغزوة خيبر، حيث تم القضاء فيها على آخر معقل مهم لليهود في الجزيرة العربية، ثم نرى بعد ذلك موقف الرسول -صلى الله عليه وسلم- من العالم الخارجي وكيف تطلع إلى تحقيق الهدف الأسمى للرسالة، وهو الهدف الذي تميزت به عن سائر الرسالات السابقة، وأعني به تبليغ الدعوة إلى الناس كافة، فعمد إلى إرسال الكتب للملوك والأمراء خارج الجزيرة يدعوهم إلى الإسلام، ويأمرهم بنبذ ما عداه من سائر الأديان.. والتفسير الطبيعي لهذا العمل هو أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد أن أمن جانب قريش بصلح الحديبية شعر بالقوة التي تمكنه من أن يرفع صوته حتى يجتاز آفاق الجزيرة إلى الدول الكبرى المجاورة، ثم كانت سرية مؤتة وفيها اصطدم المسلمون بالروم لأول مرة، ومهما كانت نتيجة تلك السرية فإنها تدل على أن وضع المسلمين قد تغير في هذه الفترة عمّا كان عليه من قبل، وأنه قد انتقل من الخوف والضعف إلى الأمن والقوة، وسوف نتحدث الآن عن هذه الأحداث المهمة بشيء من التفصيل.
غزوة خيبر
غزوة خيبر 1 أقام الرسول -صلى الله عليه وسلم- شهرًا واحدًا بالمدينة بعد عودته من الحديبية2 ثم تحرك بأصحابه الذين بلغ عددهم ألفًا وأربعمائة3، وهم الذين حضروا صلح الحديبية، ليحول بين قبائل غطفان وبين ما صمموا عليه من الانضمام إلى يهود خيبر ... وقد استطاع الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يلقي الرعب في قلوب غطفان حيث أوهمهم أن القتال موجه ضدهم، فلما تفرقوا عن يهود خيبر ورجعوا إلى ديارهم انتهز الرسول -صلى الله عليه وسلم- الفرصة واتجه إلى اليهود في آخر معقل من معاقلهم ليتخلص من خطرهم الذي يلاحقه بين الحين والحين. وحينما وصل جيش المسلمين إلى خيبر رفعوا أصواتهم بالتكبير والدعاء، فقال -عليه السلام: "أرفقوا بأنفسكم، فإنكم لا تدعون أصمًّا ولا غائبًا، إنكم تدعون سميعًا قريبًا وهو معكم". وقد وصلوها ليلًا وبيتوا أمام حصونها. فلما
أصبح الصباح وغدا عمال خيبر خارجين إلى مزارعهم ورأوا جيش المسلمين صاحوا يقولون: محمد والجيش معه، وولوا الأدبار، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم، فساء صباح المنذرين" ثم انتظم جيش المسلمين، ووقف أمام الحصون بكامل معداته ينتظر أمر قائده. أما اليهود فقد أشار عليهم سلام بن مشكم بجمع أموالهم وعيالهم في حصن الكتيبة وحشد المقاتلة في حصن نطاة الحصين، ودخل عليهم يحثهم ويحرضهم على القتال والصبر. وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقطع النخيل المحيط بحصن النطاة، لأن كثرته تحول دون تحركات القوات العسكرية، فخرج اليهود للقائهم واستماتوا في الدفاع عن حصونهم، لأن في هزيمتهم القضاء الأخير على بني إسرائيل في بلاد العرب، وانتهى اليوم الأول ولم ينل أحد من الطرفين نصرًا نهائيًّا، واستؤنف القتال في الغداة واستمر ثلاثة أيام واليهود يحاربون أمام حصونهم، فزعين من الحرب في الميدان، فإذا انهزموا عادوا إليها وأغلقوها دونهم، وفي اليوم السادس، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لأعطين الراية غدًا لرجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله" وأخذ كل من الصحابة يتمنى أن تكون الراية من نصيبه، وفي الغد بعث إلى علي بن أبي طالب وسلمه الراية. وتقدم علي -رضي الله عنه- فلما قرب من حصن الناعم خرج إليه أهله، ودارت رحى معركة هائلة قتل فيها قائد الحصن الحارث بن أبي زينب فتولى بعده أخوه مرحب وهو من أبطال اليهود، وخرج يرتجز ويقول: قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطلٌ مجرب
أطعين حينًا وحينًا أضرب ... إذا الليوث أقبلت تحرب1 إن حماي للحمى لا يقرب ... يحجم عن صولتي المجرب2 وقد تقدم له علي بن أبي طالب يريد مبارزته 3، وكاد مرحب أن يقتله ولكن عليًّا في النهاية سدد إليه ضربة فلقت هامته فوقع قتيلًا، ثم هجم المسلمون على الحصن وفتحوه، ثم سقطت حصونهم الواحد بعد الآخر وطلبوا الصلح، واتفقوا أخيرًا على أن يحقن المسلمون دماء المقاتلين من اليهود ويتركوا الذرية وأن تجلوا اليهود من خيبر وأراضيها بذراريهم ولا يأخذ أحدهم أكثر من ثوب واحد. وهكذا تم الصلح واستولى المسلمون على خيبر 4، وجلا عنها اليهود إلى بلاد الشام.
النتيجة في غزوة خيبر
النتيجة في غزوة خيبر: ظهر نصر الله وتأييده للمسلمين ووضحت شجاعتهم وإيمانهم، فلم يزد قتلاهم عن العشرين، بينما كان القتلى من اليهود يزيدون عن التسعين1.
وقد غنم المسلمون في هذه الغزوة ألف رمح وأربعمائة سيف ومائة درع وخمسمائة فرس، وكميات كبيرة من الحاصلات الزراعية والمتاع والماشية. وكان مما غنمه المسلمون صحفًا من التوراة. وقد سلمها الرسول -صلى الله عليه وسلم- إليهم حينما طلبوها منه فضرب بذلك أعظم الأمثال في الصفح والتسامح. ومن النتائج المباشرة لهذه الغزوة أن أهل فدك 1 وقع الرعب في قلوبهم فبعثوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وفدًا يعرض عليه طاعتهم، وأن يدفعوا له نصف حاصلاتهم من غير قتال، فوافق الرسول -صلى الله عليه وسلم- على ما عرضوه. وما وقع بعد ذلك في حصار وادي القرى 2، وقد أُجبروا على التسليم والولاء. وهكذا ساد سلطان النبي -صلى الله عليه وسلم- على جميع اليهود، وانتهى كل ما كان لهم من نفوذ في شبه الجزيرة.
كتب الرسول إلى الملوك والرؤساء
كتب الرسول إلى الملوك والرؤساء مدخل ... كتب الرسول إلى الملوك والرؤساء تمتاز دعوة محمد -صلى الله عليه وسلم- عن غيرها من دعوات الرسل السابقين، بأنها دعوة عالمية لا تقتصر على أناس بعينهم، ولا على زمن بعينه ولكنها تشمل الناس جميعًا، وتعم الأزمنة والعصور منذ أعلن الرسول -صلى الله عليه وسلم- دعوته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ولقد كان صلح الحديبية فاتحة عهد جديد، شعر فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون بمزيد من الطمأنينة على مستقبل الدعوة الإسلامية، وأخذ الرسول -صلى الله عليه وسلم- يتطلع إلى آفاق جديدة يعلن فيها دعوته تحقيقًا لعالمية هذه الدعوة كما أمره -عز وجل- فأرسل الكتب إلى الملوك والأمراء خارج الجزيرة العربية يدعوهم فيها إلى دين الله تعالى الذي ارتضاه لعباده. ولقد كانت الكتب التي أرسلها محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى الملوك والرؤساء متحدة في جوهرها، وإن اختلفت بعض الاختلاف في أسلوبها وذلك لأن الفكرة التي تهدف لها هذه الكتب، واحدة، وهي الدعوة إلى عبادة الله تعالى وتوحيده، ولأن شخص الداعي واحد، وهو محمد -صلى الله عليه وسلم. وقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- ينفذ أمر الله -عز وجل- حيث يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} 1. فالأمر بالتبليغ في هذه الآية مطلق، لا تحده حدود، ولا تحبسه قيود، وإنما يمتد عرضًا إلى جميع الناس ويمتد طولًا إلى جميع الأزمنة، وتأكيدًا فهذا المعنى يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة" 2.
كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قيصر الروم
كتاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى قيصر الروم: وجه الرسول -صلى الله عليه وسلم- دحية الكلبي بكتاب إلى قيصر الروم، وأمره أن يدفعه إلى عظيم بصرى ليوصله إليه، وقد جاء في هذا الكتاب1: "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين" 2. {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} 3.
موقف هرقل من كتاب الرسول
موقف هرقل من كتاب الرسول: ولما وصل هذا الكتاب إلى هرقل قال1: انظروا لنا من قومه أحدًا نسأله عنه وكان أبو سفيان بن حرب بالشام مع رجال من قريش في تجارة -فجاءت رسل قيصر لأبي سفيان ودعوه لمقابلة الملك، فأجاب، ولما قدموا عليه في القدس قال لترجمانه: سلهم أيهم أقرب نسبًا بهذا لرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: أنا: لأنه لم يكن في الركب من بني عبد مناف غيره: فقال الملك له:
ادن مني. ثم أمر بأصحابه فجعلوا خلفه. ثم قال لترجمانه: قل لأصحابه: إنما قدمت هذا أمامكم لأسأله عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي، وقد جعلتكم من خلفه كيلا تخجلوا من رد كذبه إذا كذب، ثم سأله: كيف نسب هذا الرجل فيكم؟.. قال: هو فينا ذو نسب. قال: هل تكلم بهذا القول أحد منكم قبله؟ قال: لا. فقال الملك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا. قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قال: لا. قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فأجاب أبو سفيان: بل ضعفاؤهم. قال الملك: فهل يزيدون أم ينقصون؟ قال: بل يزيدون. قال: هل يرتد أحد منهم سخطة1 لدينه؟ قال: لا. قال: هل يغدر إذا عاهد؟ قال: لا، ونحن الآن منه في ذمة2 لا ندري ما هو فاعل فيها. قال الملك لأبي سفيان: فهل قاتلتموه؟ قال: نعم. قال: فكيف حربكم وحربه؟ قال: الحرب بيننا وبينه سجال، مرة لنا ومرة علينا. قال: فبِمَ يأمركم؟ قال: يقول: اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وينهى عمّا كان يعبد آباؤنا، ويأمر الصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة ... وبعد أن انتهى الملك من أسئلته لأبي سفيان وجه إليه الكلام قائلًا إني سألتك عن نسبه، فزعمت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تُبعث في نسب قومها ... وسألتك: هل قال أحد منكم هذا القول قبله؟ فزعمت: أن لا، فلو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت: رجل يأتم بقولٍ قيل قبله. وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعمت: أن لا، فقلت: ما كان ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله، وسألتك: هل كان من آبائه من ملك؟ فقلت: لا. فلو
كان من آبائه ملك لقلت رجل يطلب ملك أبيه. وسألتك: أأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقلت: ضعفاؤهم. وهؤلاء هم أتباع الرسل. وسألتك: هل يزيدون أم ينقصون؟ فقلت: بل يزيدون. وكذلك الإيمان حتى يتم. وسألتك هل يرتد أحد منهم سخطة لدينه؟ فقلت: لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب. وسألتك: هل قاتلتموه؟ فقلت: نعم، وإن الحرب بينكم وبينه سجال. وكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة. وسألتك: بماذا يأمر؟ فزعمت: أنه يأمر بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة. وسألتك: هل يغدر؟ فذكرت: أن لا. وكذلك الرسل لا تغدر. فعلمت أنه نبي. وقد علمت أنه مبعوث، ولم أظن أنه فيكم، وإن كان ما كلمتني به حقًّا فسيملك موضع قدمي هاتين، ولو أعلم أني أخلص إليه لتكلفت ذلك. قال أبو سفيان: فعلت أصوات الذين عنده وكثر لغطهم، فلا أدري ما قالوا وأُمر بنا فأخرجنا ... فلما خرج أبو سفيان مع أصحابه قال: لقد بلغ أمر ابن أبي كبشة1 أن يخافه ملك بني الأصفر. ولما سار هرقل إلى حمص أذن لعظماء الروم أن يلتقوا به، ثم أمر بالأبواب، فأغلقت، ثم قال: يا معشر الروم، هل لكم في الفلاح والرشد، وأن يثبت ملككم، فتبايعوا هذا النبي؟ فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب، فوجدوها مغلقة. فلما رأى الملك نفرتهم قال: ردوهم علي، فقال لهم: إني قلت مقالتي كي أختبر بها شدتكم على دينكم.
فسكتوا له ورضوا عنه.. وهذا غلبة حب مُلكه على الإسلام، فذهب بإثمه وإثم رعيته. وأما الرسول الذي كان يحمل رسالة النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو دحية الكلبي، فقد رده هرقل ردًّا جميلًا. وقد أرسل الرسول -صلى الله عليه وسلم- كتبًا أخرى إلى أمير بصرى، وإلى أمير دمشق، وإلى كسرى ملك الفرس، وإلى أمير مصر، وإلى ملك الحبشة، ولكننا اكتفينا بذكر كتابه إلى هرقل رعاية للمقام1.
سرية مؤتة
سرية مؤتة 1: كانت هذه السرية في شهر جمادى الأولى من السنة الثامنة للهجرة، وكان أعظم ما يلفت النظر فيها أنها موجهة إلى أمير بصرى، وهي إمارة كانت تابعة لدولة الروم، ومعنى ذلك أن المسلمين سوف يلتقون وجهًا لوجه بهذه الدولة الكبرى، التي كانت -حينئذٍ- إحدى دولتين تملكان زمام العالم وتسيطران على أممه وشعوبه، وكان الغرض منها الانتقام للحارث بن عمير الأزدي، وهو الرسول الذي كان يحمل كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى هذا الأمير فأساء أنصاره إليه وقتلوه ظلمًا وبغير حق، وخالفوا بذلك أبسط القواعد المعروفة لدى جميع الأمم، وهي
أن الرسل لا تقتل، لأن في قتلهم إهانة وقتلًا لمن أرسلهم. ومن هنا يتضح لنا أن هذه السرية من وجهة النظر السياسية ليست سرية انتحارية، وليست تهورًا، ولا إلقاء بالنفس إلى التهلكة، وإنما هي سرية خرجت للتضحية والجهاد، ولتدفع ضريبة الشرف والعزة والكرامة، ولترفع صوت الإسلام، أمام هؤلاء الذين تمادوا في غيهم وضلالهم مهما بذلت من ثمن وتحملت من أعباء. وكانت هذه الحملة مكونة من ثلاثة آلاف مقاتل، وقد أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- عليها زيد بن حارثة، وقال لهم: "إن أصيب فالأمير: جعفر بن أبي طالب، فإن أصيب فعبد الله بن رواحة".
خروج الجيش
خروج الجيش: خرج الجيش ومعه خالد بن الوليد، وودعه الناس، وسار النبي -صلى الله عليه وسلم- معهم إلى خارج المدينة1 يدعو لهم بالنصر ويوصيهم ألا يقتلوا النساء ولا الأطفال ولا المكفوفين، وألا يهدموا المنازل، وألا يقطعوا الأشجار. لكن العدو قد علم بمسير الجيش، فقام شرحبيل الغساني واستنجد بمن حوله من قبائل العرب المسيحيين- كما أمده هرقل بجيش كبير حتى بلغ عددهم حوالي مائة ألف أو أكثر. وتقدمت الجيوش الإسلامية حتى إذا وصلوا إلى أرض الشام2، علموا أخبار
تجمعات الأعداء ومدى استعدادهم، فعقد زيد مجلسًا حربيًا للنظر والتشاور، فقال قائل منهم: نكتب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنخبره بكثرة الأعداء، فإما أن يرسل إلينا مددًا. وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له، فوقف عبد الله بن رواحة وأخذ يشجع الناس على المضي والتقدم قائلًا: انطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين: إما نصر وإما شهادة. فأثرت كلماته في نفوسهم ودفعتهم إلى التقدم حتى وصلوا مؤتة. والتقت قوة المسلمين القليلة بعددها، القوية بإيمانها، بقوة الأعداء، واندفع زيد بن حارثة في صدر العدو يصد الهجمات تارة، ويتقدم تارة أخرى، حتى مزقته رماح العدو، فوقع قتيلًا في ميدان الاستشهاد. ثم انتقلت رياسة الجيش لجعفر بن أبي طالب، كما أوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقاتل حتى أحاط العدو بفرسه فنزل عنها وتقدم راجلًا القوم يحصد الرءوس ويضرب الرقاب، وهو يقول: يا حبذا الجنة واقترابها ... طيبة وبارد شرابها والروم روم قد دنا عذابها ... كافرة بعيدة أنسابها علي إذ لاقيتها ضرابها وظل هكذا حتى قُطعت يده، فاحتضن الراية بعضديه حتى قتل بعد أن أصيب بأكثر من سبعين جُرحًا، ما بين ضربة بسيف وطعنة برمح. وعند ذلك انتقلت القيادة لعبد الله بن رواحة فنزل الميدان وهو يقول: أقسمت يا نفس لتنزلنه ... ما لي أراك تكرهين الجنة
وسرعان ما سقط شهيدًا في سبيل الله وهو فرح مستبشر غير مدبر. وهكذا استشهد هؤلاء الثلاثة في سبيل إعلاء كلمة الحق والدين، فكانوا مثلًا خالدًا من أمثلة البطولة والتضحية والإيمان، وأصبحوا قدوة كريمة على مدى الزمان لكل مؤمن يريد أن يكتب لأمته تاريخًا، ولوطنه خلودًا1. وبعد استشهاد الأبطال الثلاثة اتفق الناس على تولية خالد بن الوليد، فاستطاع أن يوحد الصفوف ويجمع الشمل، وصار يناوش العدو حتى أقبل الليل فأخذ في تدبير الخطة وتنظيم الجيش من جديد، فجعل الساقة مقدمة والمقدم ساقة، والميمنة ميسرة والميسرة ميمنة. فلما أصبح الصباح ظن العدو أن مددًا لحق بالمسلمين فلم يهاجموهم، وفرحوا حين سكت المسلمون عن قتالهم وتمنوا أن يعودوا دون اشتباك. أما خالد فقد آثر المحافظة على المسلمين بالانسحاب، وكانت مهارة بارعة حيث استطاع أن ينقذ الجيش الإسلامي من خطر محقق وعاد إلى المدينة. وقد بلغ الأسى من نفس رسول الله مقتل القواد الثلاثة مبلغًا كبيرًا. فعن أسماء بنت عميس -رضي الله عنها- زوج جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه- قالت: "دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أصيب جعفر وأصحابه فقال: "ائتني ببني جعفر"، فأتيته بهم، فضمهم وذرفت عيناه بالدمع. قالت أسماء في لهفة وقد أدركت ما أصابه: يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما يبكيك؟ أبلغك عن جعفر وأصحابه شيء؟ قال: " نعم، أصيبوا هذا اليوم"، وفاضت عيناه بالدمع. قالت: فقمت أصيح. واجتمع علي النساء، وجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لي: "يا أسماء لا تقولي هجرًا ولا تضربي خدًّا".
ثم خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أهله فقال: "لا تغفلوا آل جعفر من أن تصنعوا لهم طعامًا، فإنهم قد شغلوا بأمر صاحبهم " 1. وهكذا.. وبمثل هذا البر والوفاء كانت مواساته لأبناء الشهداء.
العبرة من غزوة مؤتة
العبرة من غزوة مؤتة: 1- أتيح لنا في هذه الغزوة أن نلمس عن كثب سماحة الإسلام وسمو مبادئه وحرصه على صيانة المجتمع الإنساني من الذلة والهوان، ولا غرو، فهذه الوصية التي وجهها النبي -صلى الله عليه وسلم- للجيش وهو ذاهب إلى مؤتة بعدم التعرض للعجزة والمرضى والمنازل والمزارع، وتلك التعاليم التي تميزت بها حروب المسلمين في القرن الأول الهجري -السابع الميلادي- هذه الوصية وتلك التعاليم يتيحان لنا فرصة المقارنة بين هذه الحالة، وبين ما نراه في هذه الأيام التي نعيشها، وما يقع بين سمعنا وبصرنا من غارات وحشية على السُّكان الآمنين في فيتنام، وفي الشرق الأوسط1، وكيف تزهق الأرواح البريئة، وتدمر المساجد، والكنائس، والمصانع والمساكن، فتهدم في لحظات، ما بنته المدينة والحضارة في سنوات. 2- هذا الإيمان العميق الذي جعل المسلمين يتقدمون لملاقاة جيش يفوق جيشهم، في غير تردد أو خوف من الموت في سبيل الله يحفزنا إلى الجهاد والكفاح وبذل الأرواح فداء للدين والوطن2، واقتداء بأسلافنا الأماجد الذين حملوا أرواحهم على أكفهم، وألقوا بها في وجه كل من يقف في سبيل الدعوة
{يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} 1. 3- موقف الرسول -صلى الله عليه وسلم- من أسر الشهداء، فيه توجيه للمسلمين إلى ما يجب عليهم نحو المحزونين من مواساة لهم وإعداد طعام يبعثون به إليهم، لأنهم قد شغلوا بأنفسهم. أما ما عليه المسلمون الآن من إقامة حفلات أحيطت بإسراف ممقوت، فهذا ليس من السُّنة النبوية في شيء2. 4- موقف خالد بن الوليد ومهارته الحربية غيرت الوضع في هذه المعركة، من خوف إلى أمن، ومن هزيمة إلى نصر، لأن إنقاذ الجيش من فناء محقق والنجاة في مثل هذا الظرف العصيب يوم مقامه النصر وزيادة3. وحسبنا دليلًا على ذلك ما فعله الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع الجند المسلمين لدى عودتهم من مؤتة، فلقد قابلهم المسلمون في المدينة يسخرون منهم ويحثون التراب في وجوههم، ويقولون لهم: يا فرار، فررتم من الجهاد في سبيل الله، فأنكر
الرسول -صلى الله عليه وسلم- عليهم هذه السخرية والاستهزاء، وحياهم تحية طيبة، وقال: بل هم الكرار، وأثنى على خالد في مهارته وحسن حيلته، في إنقاذ الجيش من الهلاك1.
الفصل السادس: غزوات الرسول
الفصل السادس: غزوات الرسول يوم الفتح مدخل ... الفصل السادس: يوم الفتح ويوم حنين يومان خالدان في حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وفي تاريخ المسلمين، وهما: فتح مكة، وغزوة حنين.. ولقد وقعت هاتان الغزوتان في شهرين متتابعين من العام الثامن الهجري، لم تزد المسافة بينهما عن خمسة عشر يومًا، إذ كان فتح مكة في اليوم العشرين من رمضان، وكانت غزوة حنين في اليوم الخامس من شوال. ولا شك أن غزوة حنين هي الصدى الطبيعي والامتداد الحتمي الذي كانت تفرضه الظروف على المسلمين بعد فتح مكة، وذلك بأن مكة بعد هذا الفتح الأعظم كانت مكشوفة الظهر لأولئك الأعراب الذين يطلون عليها من القبائل المجاورة، فهي -حينئذٍ- وادٍ لم تطهر مسالكه وشعابه، وبيت لا تؤمن نوافذه وأبوابه، هذا فضلا عن أن القبائل المجاورة لقريش قد أزعجها أن ينتصر محمد -صلى الله عليه وسلم- وتدين له مكة بالولاء والطاعة، ورأوا في ذلك خطرًا يهددهم فتجمعوا للزحف على المسلمين في مكة وعقدوا العزم على ذلك، فكان من مظاهر العزة الإسلامية أن يخرج المسلمون إليهم ويفاجئوهم قبل أن تكتمل قوتهم ويعظم خطرهم. وهذا يفسر لنا سر إسراع الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالخروج إلى حنين، قبل أن يقضي المسلمون في مكة الفترة الطبيعية اللازمة لراحتهم واستجمامهم، وتدعيم
استقرارهم في مكة المكرمة بعد أن تم لهم هذا الفتح العظيم ... وسوف نتحدث الآن عن هاتين الغزوتين واحدة بعد الأخرى.
غزوة الفتح
غزوة الفتح 1: وحينما أراد الله أن يتم نوره2 ويعلي كلمته جاء نصر الله والفتح، وأقبل الحق يسعى إلى البلد الأمين، كما يقبل الصيب3 الهتون، فاهتزت له بطحاء مكة وربت، واخضر به الوادي الجديب4، وتفتحت لاستقباله القلوب، وبدأت مكة عهدًا جديدًا توارى فيه شبح الوثنية البغيض إلى غير مآب5، ودخل الناس في دين الله أفواجًا {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} 6.
سبب الغزوة
سبب الغزوة: وكانت الظروف التي أحاطت بقريش، وروح الشر التي بدأت منهم، هي السبب المباشر الذي يحتم على الرسول -صلى الله عليه وسلم- غزوهم حتى لا يستفحل الشر ويتفاقم الخطر، وذلك أن قريشًا نقضت ما تعهدت به في صلح الحديبية مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنصرت قبيلة بكر الموالية لها على قبيلة خزاعة الموالية للرسول -صلى الله عليه وسلم- وكان العهد القائم بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقريش أنه من أحب أن يدخل في حلف محمد فهو آمن. فدخلت بكر في حلف قريش، ودخلت خزاعة في حلف الرسول -صلى الله عليه وسلم. ولو أن قريشًا احترمت عهودها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما فكر الرسول -صلى الله عليه وسلم- في فتح مكة، ولقدر لهذا البلد الأمين أن يقضي فترة أخرى في ظلمات الشرك والوثنية. ولكن الله أبى أن يتم نوره، فأبت قريش إلا أن تغدر وتظلم وتنتهك حقوق الضعفاء، وأبى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا أن يقاوم الظلم والغدر ويكون رمزًا للإنصاف والوفاء. وكانت خزاعة قد تعرضت لعدوان قبيلة بكر، بتأييد ومعونة من قريش فقتل منهم عدد كبير، عند ماء لهم يقال له الوتير1 دون ذنب إلا أنهم مسلمون، وداخلون في حلف مع الرسول -صلوات الله وسلامه عليه- وحينئذ خرج زعيمهم عمرو بن سالم الخزاعي2 حتى وصل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة، فوقف عليه وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس، فقال مستجيرًا بالرسول -صلى الله عليه وسلم:
يا رب إني ناشد محمدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا قد كنتم ولدًا وكنا والدا ... ثم أسلمنا فلم ننزع يدا فانصر هداك الله نصرًا أعتدا ... وادع عباد الله يأتوا مددا فيهم رسول الله قد تجردا ... في فيلق كالبحر يجري مزبدا إلى أن قال: إن قريشًا أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكدا وزعموا أن لست أدعو أحدا ... وهم أذل وأقل عددا هم بيتونا بالوتير هجدا ... وقتلونا ركعًا وسجدا فأجابه الرسول -صلى الله عليه وسلم- قائلًا: "نصرت يا عمرو بن سالم".... 1. ثم قام من فوره ليعد للأمر عدته، وليقوم بواجب الوفاء نحو خزاعة -وبين هذا الوفاء من جانب الرسول -صلى الله عليه وسلم- والغدر من جانب بكر وقريش ستكون الحكمة البالغة والآية الكبرى، حيث يريد الله أن ينتصر الحق ويؤتي ثماره الطيبة، ويتداعى الباطل وتزلزل بنيانه، وإن في ذلك لعبرة. إن الوفاء بالعهود والمواثيق يكاد يكون في حياة الأمم والشعوب حبرًا على ورق، بل إنه لأقرب إلى الوهم والخيال منه إلى الحقيقة والواقع. وهذا هو الذي جعل الإنسانية تشقي دائمًا بالثورات والفتن والمعارك الدامية،
ولو عرفت كل أمة ما لها وما عليها، واحترمت عهودها مع غيرها من الأمم، وألزمت نفسها بروح الإنصاف والوفاء ... لأمكن أن تهدر نار البغضاء والشحناء، وأن تجف الأرض من الدماء والدموع، لكي تشرق السعادة بين الناس، ويعيشوا في جوٍ مزدهر بالأمن والسلام.
موقف غريب لصحابي جليل
موقف غريب لصحابي جليل: أما ذلك الصحابي الجليل فهو حاطب بن أبي بلتعة -رضي الله عنه- وأما موقفه فقد كان غريبًا لأنه لا يتلاءم مع تاريخه المجيد وماضيه الكريم، إذ كانت له في هذا اليوم كبوة كبيرة وزلة مشينة1، وذلك أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لما عزم على فتح مكة، عمل على إخفاء مسيره، ووصى أصحابه بكتمان هذا الأمر وقال: "اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها" ... وتلك خطة حربية ناجحة، فإن الحرب خدعة، ومباغتة الأعداء سلاح قوي لا يفل حده. ولكن حاطبًا المؤمن زلت به القدم في لحظة من اللحظات، وكم للنفس البشرية من زلات يتغلب فيها الشيطان على الإنسان2 فيغطي الحقائق ويعمي المسالك، ويظهر الشر والقبح في مظهر الحسن والجمال، وهذا هو من سمات الضعف البشري والعجز الإنساني الذي عناه الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون" 3.
أجل، زلت قدم حاطب فأرسل كتابًا إلى قريش يخبرهم فيه بما اعتزمه الرسول -صلى الله عليه وسلم- من السير إليهم، ثم أعطاه امرأة من مزينة وجعل لها جعلًا على أن تبلغه لقريش، فوضعته في شعرها وفتلت عليه قرونها، وكان في هذا الخطاب: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد توجه إليكم بجيش كالليل، يسير كالسيل، وأقسم بالله لو سار إليكم وحده لنصره الله عليكم: فإنه منجز له ما وعده1. وقد جاء الخبر إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- بوحي من الله -عز وجل- فبعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام -رضي الله عنهما- وقال لهما: "أدركا امرأة قد كتب معها حاطب بن أبي بلتعة بكتاب إلى قريش يحذرهم فيه ما قد أجمعنا له في أمرهم". فخرجا حتى أدركاها في الطريق، استخرج علي بن أبي طالب منها الكتاب، ثم أتى به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حاطبًا فقال: "يا حاطب: ما حملك على هذا"؟ فقال: يا رسول الله، أما والله إني لمؤمن بالله ورسوله، ما غيرت ولا بدلت، ولكني كنت امرأ ليس لي في القوم أصل ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل فصانعتهم عليهم. فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، دعني فلأضرب عنقه فإن الرجل قد نافق. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وما يدريك يا عمر، لعل الله اطلع على أصحاب بدر
فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" 1. إلا أن في هذا الحادث لعبرة بالغة، فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يلقي على العالمين درسًا نافعًا في تقدير الأعمال ووزن الخير والشر بميزان سليم، والتماس المعذرة للمخطئ إذا وضحت له الحقيقة فرجع وتاب وأناب، وكثير من الناس يختلط الأمر عليهم فلا يغفرون السيئة الصغيرة مهما تقدمها من الحسنات الكبار، ولكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد عرف طبيعة الإنسان وتسلط الشيطان عليه 2، ثم عرف ما ذلك قول الله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} 3، وقوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه} 4 وقوله: {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} 5، قد وضع ذلك كله في الميزان، فغفر لذلك الصحابي الجليل زلته الطارئة أمام بلائه السابق في خدمة الإسلام وحضوره غزوة بدر ابتغاء مرضاة الله وجهادًا في سبيله.
الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون في الطريق إلى مكة
الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون في الطريق إلى مكة: وتهيأ المسلمون -وعلى رأسهم قائدهم الأمين- ليتخذوا طريقهم إلى مكة، وقد أراد الرسول -صلى الله عليه وسلم- ألا يترك لقريش فرصة يتجهزون فيها للحرب حتى يأخذهم على حين غفلة فيستسلموا دون أن تزهق الأرواح وتسفك الدماء، لذلك أصدر أمره بالتعبئة العامة، فتسابق المسلمون إلى تلبية النداء والانضمام تحت اللواء.
ثم تحرك جيش المسلمين في الثامن من رمضان1، من السنة الثامنة للهجرة، وقد انضم في الطريق جماعات من قبيلة أسلم ومزينة وغطفان، حتى بلغ عددهم عشرة آلاف2، وظلوا سائرين حتى وصلوا بعد سبعة أيام إلى مر الظهران وهو وادٍ على مقربة من مكة. وقد أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يوقد كل فرد نارًا لتظهر قوة الجيش الإسلامي القريب من مكة، فيلقي الرعب في قلوب قريش فتأتي صاغرة للتسليم، وكان أبو سفيان بن حرب خرج يتلمس الأخبار3، ويستطلع الخطر الذي شاعت أنباؤه في مكة. وفي جنح الظلام وعلى مقربة من نيران المسلمين لاقاه العباس بن عبد المطلب فناداه، فوقف له أبو سفيان وقال: ما وراءك؟ قال العباس: هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتاكم بما لا قبل لكم به. قال أبو سفيان: فما الحيلة فداك أبي وأمي؟ قال العباس: أنصحك بأن تركب ورائي -وكان يركب بغلة رسول الله، صلى الله عليه وسلم- فآتيه بك وأستأمن لك. وأردف العباس أبا سفيان وسار نحو خيمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم. يقول العباس: فلما مررت بنار عمر بن الخطاب عرف أبا سفيان فأسرع إلى
خيمة النبي -صلى الله عليه وسلم- وطلب أن يضرب عنقه. فقال العباس: إني قد أجرته. فقال -صلى الله عليه وسلم: "اذهب به يا عباس إلى رحلك. فإذا أصبحت فأتني به". فلما كان الصباح جاء به العباس إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له الرسول -صلى الله عليه وسلم: "ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟ " قال أبو سفيان: ما أحلمك وأوصلك، والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره، لقد أغنى عني شيئًا. فتدخل العباس، وقال له: ويحك أسلم قبل أن تضرب عنقك. فأسلم1، فقال العباس: يا رسول الله: إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئًا. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "نعم: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن".
الجيش يدخل مكة
الجيش يدخل مكة: وبعد ذلك أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- العباس أن يقف مع أبي سفيان على الطريق الضيق المؤدي إلى مكة، حتى تمر عليه جنود المسلمين، ومرت القبائل بأبي سفيان وهو يسأل عنها العباس. حتى قال: يا عباس، ما لأحدٍ بهؤلاء قبل ولا طاقة. وأسرع إلى مكة يصيح بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به. من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. وركب الرسول -صلى الله عليه وسلم- ناقته القصواء، وأصدر الأوامر إلى قادة الجيش، ألا تقاتل
إلا إذا أكرهت على القتال، وساروا حتى دخلوا مكة، ولم يحدث إلا مناوشات خفيفة وأهمها ما لاقاه خالد بن الوليد قائد الجناح الأيمن، فقد قتل حوالي عشرين رجلًا1 ممن وقفوا في طريقه، ولم يقتل من المسلمين سوى اثنين. ولما تم للمسلمين الاستيلاء على مكة نظر الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى البلد الأمين وإلى الجبال التي كان يأوى إليها حين يشتد به أذى قريش، فترقرقت في عينيه دمعة شكر لله، ثم سار حتى بلغ البيت الحرام فطاف به سبعًا ثم استلم الحجر، وتكاثر الناس حوله في المسجد فخطبهم وتلا عليهم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} 2. ثم قال: "يا معشر قريش ويا أهل مكة: ما ترون أني فاعل بكم؟ " قالوا: خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم. قال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء" وبهذه الكلمة صدر العفو العام عن أهل مكة جميعًا. وهكذا سقط أكبر معقل للوثنية في بلاد العرب، وكان ذلك في اليوم العشرين من رمضان.
تطهير الكعبة من الأصنام
تطهير الكعبة من الأصنام: ثم دخل رسول الله الكعبة، وكان بداخلها وخارجها أصنام تعبدها قريش، فأخذ يشير إليها بقضيب في يده ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} 1 وأمر بإخراجها وتحطيمها وتطهير البيت الحرام منها.
وبعد أن استتب الأمن بوجه عام أخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- يرسل السرايا إلى القبائل المجاورة لمكة يدعوها إلى الإسلام وتحطيم الأصنام، فهدمت العزى ومناة وسواع1. وبذلك ذهبت هيبة الأوثان من النفوس وزال سلطانها، واستنار العالم العربي بنور التوحيد الوضاء. وهكذا قضى الإسلام على الوثنية والشرك في أغلب جزيرة العرب، وأنشأ لها تشريعات جديدة كانت أساس الخير والبركة. ثم شرع الناس يبايعون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكان ممن أسلم في هذا اليوم: معاوية بن أبي سفيان، وأبو قحافة والد أبي بكر الصديق، وقد فرح الرسول -صلى الله عليه وسلم- كثيرًا بإسلامه. ولما تمت بيعة الرجال، بايعه النساء وكن يبايعن: على ألا يشركن بالله شيئًا، ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن، ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن، ولا يعصين الرسول في معروف. ثم أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بلالًا أن يؤذن على ظهر الكعبة، فكان يومًا مجموعًا له الناس وكان يومًا مشهودًا، وكان من الحق على المسلمين أن يتخذوا هذا اليوم عيدًا، يحمدون الله فيه على هذه النعمة الكبرى والنصر العظيم. بعد أن تم فتح مكة، واجتمع الناس حول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان منهم من ائتمروا به ليقتلوه، ومن قاتلوه في بدر، وفي أحد، وحاصروه في غزوة الخندق،
وعذبوه وأصحابه، نظر إليهم وهم جميعًا في قبضة يده: أمره نافذ في رقابهم، وحياتهم رهن كلمة ينطق بها، فلم يأخذه العجب والغرور بما وصل إليه من مجد وسلطان، ولم يطف بنفسه ما يتملك نفوس الناس ساعة النصر والظفر من ظلم وطغيان، بل وحتى لم يفكر في الانتقام لنفسه والمسلمين عمّا أصابهم على أيدي قريش من الأذى والعدوان، ولكنه نظر إلهم نظرة كلها عفو ورحمة وقال لهم: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، فكان مثلًا كريمًا في سمو النفس، والعفو عند المقدرة. كما ضرب المثل في المحافظة على الدماء، بإصدار الأوامر إلى قادة الجيوش ألا تسفك دمًا إلا إذا أكرهت إكراهًا. وقد كان من أثر هذه السياسة أن كسب الرسول -صلى الله عليه وسلم- قلوب أهل مكة، فأقبل على الإسلام فتيان قريش وشيوخها ونساؤها، ولم يحجم عنه إلا نفرًا أكل الحقد قلوبهم، ثم لم يلبثوا إلا قليلًا حتى شرح الله صدورهم للإسلام.
غزوة حنين
غزوة حنين مدخل ... غزوة حنين كانت هذه الغزوة هي الجولة الطبيعية للمسلمين بعد أن أتم الله عليهم النعمة بفتح مكة لأن القبائل المجاورة لقريش كقبيلتي هوازن وثقيف، وما يتفرع عنهما من بطون وأفخاذ وفصائل، قد أزعجهما أن تستسلم قريش -وهي أعظم قبائل العرب- لمحمد -صلى الله عليه وسلم- وكانت قريش قبل الفتح الإسلامي لمكة هي أقوى خصومه وألد أعدائه، وكان وجودها في هذا المكان المتوسط بينهم وبين محمد -صلى الله عليه وسلم- هو صمام الأمان بالنسبة لهم، ومن أجل ذلك تجمعت هذه القبائل واتفقت كلمتها على غزو محمد -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يغزوهم وعلى مفاجأتهم بهذا الغزو قبل أن يأخذ جيش المسلمين حظه من الراحة والاستقرار ... وحينما علم الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون بذلك كانت نفوسهم مستعدة لتلقي هذه الأنباء حيث كانوا يتوقعون هذا الخطر، ويفكرون في طريقة سريعة لاستئصاله قبل أن يزحف عليهم.
استعداد هوازن وثقيف للقاء المسلمين
استعداد هوازن وثقيف 1 للقاء المسلمين: أرسلت هوازن وثقيف إلى بطونها وفروعها تطلب إليها أن تجتمع بخيلها ورجلها عند وادي قرب الطائف2، وأسندت الرياسة إلى مالك بن عوف، وكان شابًا في الثلاثين من عمره قوي الإرادة ماضي العزيمة، فاجتمع إليه عدد كبير منهم بنو سعد الذين كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- مسترضعًا فيهم، ومعهم دريد بن الصمة، وكان شيخًا كبيرًا عمي بصره، وصار لا ينتفع إلا برأيه وتجاربه في الحروب، وأمر مالك رجال القبائل أن يسوقوا معهم إلى الحرب المواشي والأموال والنساء والأطفال وجعلهم في مؤخرة الجيش ليثيروا الرجال إلى الاستماتة في الدفاع عن متاعهم وحريمهم، فلما سمع دريد رغاء البعير وبكاء الصغير، وصوت النساء، سأل مالكًا لم ساق هذه مع المحاربين؟ فأجابه بأنه أراد بذلك تشجيع المحاربين، قال دريد: وهل يرد المنهزم شيء؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك، فلم يقبل مالك رأي الشيخ، وتخطى احتجاجه ورماه بضعف الرأي لكبر سنه، ثم صف جموعه وكانت تبلغ عشرين ألفًا في كمين عند مضيق الوادي، وانتظر قدوم الجيش الإسلامي.
موقف المسلمين
موقف المسلمين: أما المسلمون فغادروا مكة يوم السبت السادس من شوال سنة ثمانٍ هجرية إلى وادي حنين في اثني عشر ألفًا من المقاتلين، منهم عشرة آلاف هم الذين فتحوا
مكة وألفان ممن أسلم من قريش1، وسار المسلمون وسط صهيل الخيل وبريق السيوف معجبين بكثرتهم، فخورين بقوتهم، حتى لقد تحدث بعضهم إلى بعض قائلين: لن نغلب اليوم من قلة، ونزلوا حنينًا قرب المساء على أبواب واديها. وقبيل الفجر تحرك الجيش الإسلامي، ولم تكد الطلائع تتقدم إلى مدخل الوادي حتى خرج لهم الكمين وشدوا عليهم شدة رجل واحد وأمطروهم بوابل من النبال، وانقضوا على أولى صفوف المسلمين التي ارتجت لهذه المفاجأة العنيفة فلوت أعنة خيلها متقهقرة، واصطدمت في الظلام بما وراءها من صفوف المسلمين، ولجأ الكل إلى الفرار، وتحدث بعض من ضعاف الإيمان في شماتة قائلًا: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر. كان هذا والنبي -صلى الله عليه وسلم- ثابت في مكانه، ومعه جماعة من المهاجرين والأنصار منهم العباس بن عبد المطلب، وأبو بكر، وعمر، وأسامة بن زيد2، فأخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- ينادي في القوم بالثبات وهو راكب بغلته البيضاء يركضها نحو العدو وهو يقول: "أنا النبي لا كذب، أنا عبد المطلب".
الانتصار بعد الهزيمة
الانتصار بعد الهزيمة: وأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العباس بن عبد المطلب، وكان جهوري الصوت1،
ينادي في الناس، فنادى: يا معشر الأنصار الذين آووا ونصروا، يا معشر المهاجرين الذين بايعوا تحت الشجرة، هلموا. هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم. وأخذ يكرر النداء الذي هز أوتار قلوبهم، فرجعوا يتصايحون من كل جهة لبيك لبيك حتى انتظم عقدهم. وكانت هوازن قد انحدرت من مكانها وأصبحت وجهًا لوجهٍ أمام المسلمين، وهجم الأنصار واشتد القتال. فنظر إليهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهم يطيحون برءوس الأعداء قائلًا: "إن الله لا يخلف رسوله وعده"، فلما رأت هوازن أنهم معرضون للفناء، وأن كل أمل في النصر قد غض، ولّوا الأدبار منهزمين، فتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون، وغنموا مؤخرة جيشهم كلها، وكانت غنائم المسلمين 25000 من الإبل، و 40000 من الشياه، 4000 أوقية من الفضة، و 6000 من الأسرى، وقد نقلت كلها في حراسة قوية إلى وادي الجعرانة1.
حصار الطائف
حصار الطائف: 1 أما النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون قد تابعوا مطاردة العدو حتى ألجئوهم إلى صياصي الجبال، وإلى الطائف، وحاصر الرسول -صلى الله عليه وسلم- الطائف، ولكنها استعصت عليه لسورها الحصين، فآثر تركها2؛ لأنه ليس من مصلحة المسلمين بذل ضحايا كثيرة 3، وعاد إلى الجعرانة حيث الغنائم والأسرى. ثم لم يلبث أهل
الطائف أن شرح الله صدورهم للإسلام بعد ذلك.
تقسيم الغنائم
تقسيم الغنائم: أعطى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الجانب الكبير من الأموال لحديثي الإسلام من قريش الأعراب الذين كانوا إلى أيام قريبة أشد الناس عداوة له. فكان ما أخذه فعل معاوية، ويزيد ابني أبي سفيان، فقال له أبو سفيان: بأبي أنت وأمي لأنت كريم في السلم والحرب. وأعطى حكيم بن حزام مثل ما أعطى أبا سفيان، فاستزاده فأعطاه، ثم استزاده فأعطاه مثلها، وقال له: "يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى" 1. فاهتزت نفس حكيم لما سمع من كلام الرسول -صلى الله عليه وسلم- ونفض يده من كل ما أخذه بعد العطاء الأول، فأخذ المائة الأولى وترك ما عداها، وأقسم ألا يأخذ عطاء من أحد بعد هذا العطاء، وبر بيمينه، فكان الخلفاء يعرضون عليه العطاء الذي يستحقه من بيت المال فلا يأخذه. بل لقد بلغ العطاء لبعض الذين أراد الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يؤلف قلوبهم للإسلام مبلغًا لا يخطر بالبال، ولا يجول في الخيال ... وذلك هو صفوان بن أُمية فلقد رآه الرسول -صلى الله عليه وسلم- يرمق شعبًا مملوءًا نعمًا وشاءً فقال له: "هل يعجبك هذا؟ " قال:
نعم، قال: "هو لك". فقال صفوان: ما طابت بمثل هذا نفس أحد. وكان ذلك سبب إسلامه. ثم أمر -عليه الصلاة والسلام- زيد بن ثابت فأحصى ما بقي من الغنائم وقسمه على الغزاة، فاجتمعوا عليه وتسابقوا في الحصول على تلك الأموال حتى ألجئوه إلى شجرة فتعلق بها رداؤه فقال: "ردوا ردائي أيها الناس. فوالله إن كان لي مثل شجرة تهامة نعمًا لقسمته عليكم. ثم ما ألفيتموني بخيلًا ولا جبانًا ولا كدودًا. ثم قام إلى بعيره وأخذ وبرة من سنامه وقال: والله ما لي من غنيمتكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس. والخمس مردود عليكم، فأدوا الخيط والمخيط1. فإن الغلول2 يكون على أهله عارًا وشنارًا3 ونارًا إلى يوم القيامة". وقد أثمرت هذه النصيحة الغالية ثمرتها المرجوة، ففاء كل من لعب الشيطان برأسه إلى نفسه. ورد ما أخذه بغير حق مهما كان زهيدًا.. ثم شرع الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقسمها، فأصاب الرجل أربعة من الإبل وأربعون شاة.
موقف الأنصار بعد توزيع الغنائم
موقف الأنصار بعد توزيع الغنائم: وعلى أثر تقسيم الغنائم، والفوارق الفادحة التي بدت في تمييز البعض عن البعض، وعدم إعطاء الأنصار من هذه الغنائم شيئًا، ساد بين الأنصار لغط شديد وذهبت الظنون بنفوسهم كل مذهب، وكاد الأمر يؤدي إلى كارثة محققة، لولا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تدارك الشر قبل استفحاله، فجمع الأنصار وبين لهم وجهة نظره في هذا التقسيم الذي يعترضون عليه فقال:
"يا معشر الأنصار، ما قالة1 بلغتني عنكم، موجدة2 وجدتموها علي في أنفسكم؟ ألم آتكم ضُلالًا فهداكم الله؟ وعالة3 فأغناكم الله؟ وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟ " قالوا: بلى، لله ورسوله أمنُّ وأفضل. ثم قال: "ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟ ". قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ورسوله المن والفضل. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم: أتيتنا مكذبًا فصدقناك، ومخذولًا فنصرناك، وطريدًا فآويناك، وعائلًا فآسيناك. أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تآلفت بها قومًا ليسلموا.. ووكلتكم إلى إسلامكم؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يرجع الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلك الناس شعبًا وسلك الأنصار شعبًا لسلكت شعب الأنصار. اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار ... " فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم4 وقالوا رضينا برسول الله قسمًا وحظًّا.
إسلام هوازن
إسلام هوازن: وبعد ذلك ببضع عشرة ليلة جاءت وفود قبيلة هوازن يعلنون الطاعة والولاء يطلبون من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أموالهم ونساءهم وأولادهم، فخيرهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بين أمرين يتجاوز عن أحدهما: إما السبي وإما المال، فاختاروا السبي -أي النساء والذرية- وقالوا: اردد علينا نساءنا وأبناءنا ولا نتكلم في شاة ولا بعير.
فردها عليهم. وقد أسلموا بعد ذلك وحسن إسلامهم. وهكذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سياسته وحسن تقديره للأمور فلم يكن يزدهيه النصر ويبطره فينسى جانب العطف والرحمة في مثل هذه الظروف القاسية، وقد أثمرت هذه السياسة ثمرتها المرجوة وكانت مصدر الهدى والنور على توالي الأزمنة والعصور.
عودة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة
عودة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة: وذهب الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك إلى المدينة آمنًا مطمئنًا فائزًا غانمًا، فوصلها لستٍّ بقين من ذي القعدة سنة ثمانٍ هجرية1. ولقد أنزل الله في هذه الغزوة من سورة التوبة: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ، ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ، ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 2. وبانتصار المسلمين في حنين زالت آخر مقاومة كبيرة كانت العرب تستطيع توجيهها ضد الإسلام والمسلمين، وتم فتح الحجاز عمليًّا، كما أقبلت بعد ذلك وفود كثيرة من القبائل تعلن دخولها في الدين الإسلامي، وخضوعها للدولة الإسلامية.
ومن غزوة حنين وما وقع فيها من الأمن بعد الخوف، والنصر بعد الهزيمة، يتبين لنا أن الغرور كان ولا يزال أساس الشر والبلاء، فالمسلمون حينما اغتروا بكثرتهم يوم حنين حاقت بهم الهزيمة. فلما نزعوا ثوب الغرور واعتمدوا على الله، ولجئوا إلى قوته، جعل الله لهم مع العسر يسرًا، وبدل هزيمتهم نصرًا. كما يتجلى لنا أن كثرة العدد والعُدد في ميادين الحروب لا تغني فتيلًا إن لم تؤسس على القعيدة والإيمان.. إذ لا قيمة للسيف في يد الجبان، وإن في ذلك لعبرة!!.
غزوة تبوك وما تلاها من أحداث
غزوة تبوك وما تلاها من أحداث مدخل ... غزوة تبوك 1 وما تلاها من أحداث وضحت قوة المسلمين بعد فتح مكة، وغزوة حنين وتغلغل نفوذهم في أرجاء الجزيرة العربية، ولم تبق فيها ناحية من النواحي إلا أحست بسلطان المسلمين، ولم تحاول أية قبيلة من القبائل أن تقاوم هذا السلطان، وبينما كان -صلى الله عليه وسلم- يعمل على تثبيت دعائم الدولة الإسلامية المظفرة، إذ جاءته أخبار من بلاد الروم أنها تجمعت لغزو بلاد العرب الشمالية، لذلك عزم -صلى الله عليه وسلم- على مواجهة هذه القوى بنفسه، والقضاء عليها قضاء يبدد كل أمل في الهجوم على المسلمين، على الرغم من أن الوقت كان شديد الحرارة، والمسافة طويلة تحتاج إلى الصبر، وكثرة الزاد.
دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الجهاد، وإخلاص الصحابة
دعوة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى الجهاد، وإخلاص الصحابة: فاتح الرسول -صلى الله عليه وسلم- الناس بعزمه على الخروج لقتال الروم، ولم يخف الجهة عن المسلمين كما كانت عادته في كثير من الغزوات، بل أفضى إليهم بالغرض منها ليتأهبوا ويأخذوا العدة، وأرسل إليهم يستنفرهم ويحثهم على التبرع، كما
حض أثرياء المسلمين على المشاركة في تجهيز الجيش بما آتاهم الله من فضله. واستجابت الكثرة من المسلمين لهذه الدعوة، فأقبلوا جماعات حتى ضاق بهم فضاء الصحراء، يسوقون أمامهم خيلهم وإبلهم مدرعين بأسلحتهم، لم تمنعهم مشقة الطريق ولا شدة الحر، وتبارى كبارهم في الإنفاق وشراء السلاح، فجاء أبو بكر -رضي الله عنه- بكل ماله، فقال له الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "هل أبقيت لأهلك شيئًا؟ ". قال: أبقيت لهم الله ورسوله. كما أسرع عثمان بن عفان -رضي الله عنه- بتجهيز ثلث الجيش من ماله1. وأقبل كثير من الفقراء يطلبون من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يحملهم معه، فحمل بعضهم واعتذر إلى الباقين، فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنًا على حرمانهم من نعمة الجهاد، فبين الله أنهم لا لوم عليهم حيث قال: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} 2. وجاءت جماعة من المنافقين يلتمسون الأعذار، ويحلفون بالله قائلين: لو استطعنا لخرجنا معكم. والله يعلم أنهم لكاذبون، كما كانوا يمنعون بعضهم من هذا الغزو في الجو المحرق، ففضح الله أمرهم بقوله: {وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي
الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} 1. ومع هذا فقد بلغ عدد الجيش الإسلامي ثلاثين ألفًا تقريبًا، فيهم عشرة آلاف من الفرسان 2.
مسير الحملة
مسير الحملة: اجتمع الجيش الإسلامي وأعطى الرسول -صلى الله عليه وسلم- لواءه لأبي بكر الصديق ثم تحرك صوب الشام مخترقًا الصحراء وسط صهيل الخيل، ورغاء الإبل حتى وصل إلى تبوك فلم يجد فيها جيشًا للروم فعسكر فيه حوالي عشرين يومًا1، ولم ير الرسول -صلى الله عليه وسلم- محلًا لتتبعهم داخل بلادهم، وأقام عند الحدود ينازل من يشاء أن ينازله متحديًا أية قوة تأتيه.
موقف أمراء الحدود
موقف أمراء الحدود: وكان يوحنا بن رؤية أمير أيلة1 واليًا على القبائل المسيحية واليهودية في هذه المنطقة، فوجه إليه النبي رسالة يخبره فيها: إما بالإذعان وإما بالحرب، فآثر الأولى وأقبل على الرسول -صلى الله عليه وسلم- معلنًا الطاعة، وعقد الرسول -صلى الله عليه وسلم- معه معاهدة اتفق فيها على أن يدفع جزية قدرها ثلاثمائة دينار كل عام2. كما وفد عليه
أميرا قبيلتي أذرح وحرباء1، يطلبان تأمينهما ومحالفة المسلمين، فصالحهما الرسول -صلى الله عليه وسلم- على الجزية. ولم يكن أمام الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلا أمير دومة الجندل الذي كان يتوقع منه العداء، فبعث إليه خالد بن الوليد في قرابة خمسمائة فارس، وجاء هو بعد ذلك المدينة. وأسرع خالد عائدًا إلى دومة الجندل، فانقض عليها في حين غفلة من أميرها، فلم يلق مقاومة تذكر، وفتحت له المدينة أبوابها، بعد أن وقع أميرها في الأسر، وغنم منها ألفي بعير، وثمانمائة شاة، وأربعمائة درع، وقدرًا كبيرًا من البر، ثم عاد إلى المدينة ومعه الغنائم والأسرى. فعرض الرسول -صلى الله عليه وسلم- على أمير دومة الجندل، فأسلم وأصبح أميرًا على قومه1.
الثلاثة الذين خلفوا
الثلاثة الذين خلفوا: 1 أولئك هم: كعب بن مالك، وهلال بن أُمية، ومرارة بن الربيع، وهم: ثلاثة نفر أخلصوا لله وجاهدوا في سبيله وشهدوا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كثيرًا من المشاهد والغزوات، وكان لهم في تاريخ الإسلام بلاء مشكور، وجهاد مبرور.. ولكن الله الذي يمتحن عباده بالبلاء والمحن قد ابتلى هؤلاء الثلاثة بمحنة، لولا لطف الله لعصفت بإيمانهم وطوحت بهم في مهاوي الشقاء، وكثيرًا ما يبتلي الله عباده ليميز الخبيث من الطيب، ويظهر الزائف من الصحيح.
وقد قال الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} 1. وذلك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج إلى هذه الغزوة حيث كان الحر شديدًا والسفر بعيدًا، والعدو قاسيًا عنيدًا، وناهيكم بجيش جرار من الروم يتربص الدوائر بالمسلمين ويستعد للهجوم عليهم.. وقد استجاب لدعوة الحق رجال من المسلمين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فنفروا للجهاد سراعًا يضربون في البيداء المترامية بين الحر المرمض والسموم اللافح، لا يكترثون بوعثاء السفر ووعورة الطريق، ولا يثنيهم عن غايتهم ما يحيط بهم إذ ذاك من المتاعب والمخاوف والأراجيف التي يذيعها المنافقون، بل يجدون في طاعة الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- أمنًا وسلامًا وظلًّا ظليلًا دائمًا، يغنيهم عن ظلال الدنيا الزائلة، ومتاعها الفاني القليل. ولعل ما يصور لنا عظمة الروح وقوة العقيدة في نفوس أولئك المؤمنين، ما وقع لأبي خيثمة الأنصاري أحد أصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- فلقد تخلف عن المسير مع إخوانه المجاهدين أيامًا، ثم رجع إلى أهله في يوم حار فوجد امرأتين له في عريش لهما في حائطه، قد رشت كل واحدة منها عريشها وبردت له فيه ماء، وهيأت له فيه طعامًا. فلما دخل قام على باب العريش فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له فقال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الضحى والريح والحر، وأبو خيثمة في ظل بارد، وطعام مهيأ، وامرأة حسناء، في ماله مقيم. ما هذا بالنصف، ثم قال: والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله -صلى الله عليه وسلم-.. فهيئا لي زادًا ففعلتا.
ثم خرج في طلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أدركه حين نزل تبوك1. وقعد عن الجهاد قوم من المنافقين كانوا قد أظهروا الإسلام ولما يدخل الإيمان في قلوبهم. وكانوا بضعة وثمانين رجلًا غلبت عليهم شقوتهم، وأصاخوا2 لدعوة الشيطان فتركوا دون عذر ميدان الجهاد، لأنهم يحبون العاجلة، وهم أحرص الناس على حياة، ويظنون أن أمرهم سيخفى على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى إذا رجع المسلمون من ميدان الجهاد قاسموهم في السراء دون الضراء، وشاركوهم في المغانم دون أن يشاركوهم في المغارم. ولم يتخلف عن الجهاد من المؤمنين المخلصين سوى هؤلاء الثلاثة الذين نتحدث الآن عنهم، وهم الذين سماهم الله في كتابه العزيز: {الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} 3. ومعنى خلفوا أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- خلفهم، أي أرجأ أمرهم إلى أن يقضي الله فيهم بأمره4. ولقد أخطأ هؤلاء الثلاثة، ثم لم يلبثوا أن تابوا ورجعوا الله الله وأنابوا، فقبل الله توبتهم وغفر لهم خطيئاتهم: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} 5. فقد روى لنا كعب بن مالك قصته وقصة صاحبيه، منذ تخلفوا عن ركاب إخوانهم المؤمنين المجاهدين إلى أن انجلى ليل محنتهم، وآذن الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- بقبول توبتهم.
يقول كعب1: إنه كان ينتقل في المدينة منذ خرج إخوانه للجهاد، فيحزنه ألا يرى في طرقاتها إلا طفلًا صغيرًا، أو رجلًا ضريرًا، أو شيخًا مهيض الجناح ليس عليه في تخلفه جناح2. ولا يرى أحدًا قد تخلف من الرجال الأقوياء سوى أهل النفاق والرياء. ويقول كعب: إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- حين رجع من تبوك دعاني حتى جئت بين يديه، فسألني عن أمر تخلفي وهو يتبسم تبسم المغضب. فاعترفت بذنبي ولم أفتر الكذب وأختلق الأعذار، كما فعل غيري من المتخلفين المنافقين، ثم دعا صاحبي إليه، فاعترفا بذنبهما، وإذ ذاك أمهلنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- حتى يقضي الله فينا بأمره، ونهى الناس عن كلامنا حتى تنكرت لنا الدنيا وتغيرت، وضاقت علينا الأرض بما رحبت، ولم يعد لنا ملجأ من الله إلا إليه. ويقول كعب: إن ملك غسان النصراني حينما بلغه نبأ محنتي، كتب إلي يستميلني إليه قائلًا: أما بعد: قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك. وكأنما أراد الله أن يزيد في ابتلائي بمثل هذا الكتاب، هل أفتتن بالدنيا وزخرفها فأستجيب لدعوة ذلك الملك النصراني، حيث أقضي أيام الحياة بين العيش الناعم والفراش الوثير، وليكن بعد ذلك في الآخرة ما يكون؟ أم أصبر على ما يحيط بي من المتاعب والآلام مهما تتابعت وتلاحقت طمعًا في رحمة الله
وانتظارًا لمغفرته ورضوانه، وإيثارًا للآخرة حيث السعادة والنعيم والملك الكبير؟ ولكني اخترت الباقية دون الفانية وآثرت الآجلة على العاجلة، فقمت إلى كتاب الملك الغساني فأحرقته في التنور، وفوضت أمري إلى الله الذي إليه تصير الأمور. ويقول كعب: إن محنتنا استمرت خمسين يومًا متتابعة، ما كان أطولها وأقساها، ولكننا لم نجد ملجأ من الله إلا إليه، فصبرنا صبرًا جميلًا، وجاهدنا أنفسنا جهادًا طويلًا، حتى بدل العسر يسرًا، وجعل لنا من الضيق فرجًا ومن الهم مخرجًا، فآذن رسوله -صلى الله عليه وسلم- بغفران خطيئتنا وقبول توبتنا. وجاءنا البشير بذلك فأتينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مسرعين، فوجدنا وجهه يبرق من السرور، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا سر استنار وجهه حتى كأن وجهه قطعة قمر، وإذا به يتلو قول الله -عز وجل: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ، وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} 1. وهكذا كانت غزوة تبوك خاتمة غزوات النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن بعدها أقام النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة مغتبطًا بما أفاء الله عليه، مطمئنة نفسه بهذا النصر الذي وصل إليه. أما أولئك المنافقون البضع والثمانون فإنهم حينما رجع الرسول -صلى الله عليه وسلم- من الجهاد قابلوه يحلفون بالله إنهم معذورون، والله يشهد إنهم لكاذبون، فلم يلبثوا حتى
كشف الله أمرهم وبين للرسول -صلى الله عليه وسلم- عاقبتهم، وذلك قوله تعالى: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} 1. وبعد فهذه قصة الثلاثة الذين خلفوا، ومن ثناياها يتجلى لكم مثل رائع من الإخلاص الصادق والإيمان العميق والعقيدة الراسخة التي لا تعصف بها الحوادث، ولا يزيدها تطاول الأيام إلا رسوخًا وقوة. وهكذا الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب. ومن ثناياها ترون أن الصبر على البلاء والاطمئنان لقضاء الله وقدره، ذلكم هو السبيل القويم الذي يكفر الذنوب والآثام، ويضمن للإنسان البراءة والنجاة: {يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} 2. ومن ثناياها ترون أن منطق النفاق كليل، وسلاحه مفلول، وعمره قصير، وحجته داحضة، والمنهج القاصد للمؤمن المجاهد هو أن يسير في حياته على أساس من الإيمان الصادق الذي لا يخادع ولا ينافق، حينئذٍ يحيا حياة طيبة، ويؤتيه الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة.
بعض العبر في غزوة تبوك
بعض العبر في غزوة تبوك: - أظهرت هذه الغزوة أن النفاق لابد أن يفتضح أمره في وقت الشدة. فهؤلاء
المنافقون خافوامن الحر الشديد، فأرادوا أن يثبطوا همة المؤمنين، وقالوا لهم: {لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ} 1. فكشف الله نفاقهم ورد عليهم بقوله: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ، فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 2. إن الله -عز وجل- يفتح باب التوبة أمام المذنبين إذا اعترفوا بذنوبهم وندموا على ما فرط منهم 3، فهؤلاء الثلاثة الذين تخلفوا دون عذر عن هذه الغزوة حينما أدركوا خطأهم وندموا وتابوا، غفر الله لهم وتاب عليهم.
عام الوفود
عام الوفود مدخل ... عام الوفود كان العام التاسع الهجري في حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- مناط الفخر وذروة القوة، ففيه خرج الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى تبوك على مشارف الشام، ليلتقي بدولة الروم التي كانت تهدد حدود الجزيرة العربية، فتهيب الروم لقاءه، ولاذوا بالفرار ليتحصنوا داخل بلادهم، فكان هذا النصر الأبيض1 على دولة الروم العظيمة تطورًا كبيرًا وتحولًا عجيبًا يعتز به المسلمون في تاريخهم. وفيه تتابعت الوفود من سائر الجزيرة العربية لتعلن الولاء والطاعة للرسول -صلى الله عليه وسلم- ولتؤمن مستقبلها قبل أن يصل إليها المد الإسلامي ويكتسحها تياره القوي، وكانت هذه الوفود في كثرتها وتتابعها حَرِيّة بأن تجعل هذا العام عام الوفود، كما كانت هذه الوفود هي الثمرة الطبيعية لكفاح المسلمين الطويل، لأنها البرهان الواضح على أن صوت الإسلام قد أصبح مسموعًا في كل مكان، وأن الناس حينما سمعوه واطمأنوا إليه لبوا النداء واستجابوا للدعاء. وإذا كان من حق القارئ أن يتعرف على هذه الوفود، فإن من واجبنا أن نتحدث عنهم لأنهم كانوا -في جملتهم- سفراء أمناء حملوا رسالة الحق من الرسول -صلى الله عليه وسلم- وبلغوها كاملة إلى أهلهم وذويهم، فشرح الله صدورهم للإسلام، ودخلوا في دين الله أفواجًا..
فمن هذه الوفود1 وفد عبد القيس2، وكان من خبرهم أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان جالسًا بين أصحابه يوما فقال لهم: "سيطلع عليكم من هنا ركب من أهل المشرق، لم يكرهوا على الإسلام، قد أنضوا الركائب3 وأفنوا الزاد، اللهم اغفر لعبد القيس". فلما أتوا ورأوا النبي -صلى الله عليه وسلم- رموا بأنفسهم عن الركائب بباب المسجد، وتبادروا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسلمون عليه. فقال -صلى الله عليه وسلم: "مرحبًا بالقوم غير خزايا ولا ندامى" 4. فقالوا: يا رسول الله إنا نأتيك من شقة بعيدة، وإنه يحول بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، وإنا لا نصل إليك إلا في شهر حرام، فمرنا بأمر فصل. فقال: "آمركم بالإيمان. أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان وأن تعطوا من المغنم الخمس، وأنهاكم عن الدنيا والحنتم والنقير والمزفت". والمراد هنا النهي عن شرب الأنبذة التي توضع في هذه الأوعية كما جرت عادتهم بذلك، فقال أحدهم واسمه الأشج: يا رسول الله إن أرضنا ثقيلة وخمة، وإننا إذا لم نشرب هذه الأشربة عظمت بطوننا، فرخص لنا في مثل هذه، وأشار إلي يده، وهو يقصد أن يرخص الرسول -صلى الله عليه وسلم- في شرب القليل منها.
فأومأ -عليه الصلاة والسلام- بكفيه وقال: "يا أشج إن رخصت لك في مثل هذه شربته في مثل هذه -وفرج بين يديه وبسطها- حتى إذا ثمل أحدكم من شرابه قام إلى ابن عمه فضرب ساقه بالسيف" 1، 2. ومن هذه الوفود وفد تميم3: وكان من خبرهم أنهم جاءوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما خرج إليهم تعلقوا به وقالوا: نحن ناس من تميم جئنا بشاعرنا وخطيبنا نشاعرك ونفاخرك، فقال لهم -عليه الصلاة والسلام: "ما بالشعر بعثنا ولا بالفخار أمرنا". ثم صلى الظهر، واجتمع حوله رجال الوفد يتفاخرون بمجدهم ومجد آبائهم، وطلبوا من الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يأذن لخطيبهم وشاعرهم بذلك، فأذن الرسول -صلى الله عليه وسلم. فأما خطيبهم فكان عطارد بن حاجب، وقد قال في خطبته: الحمد لله الذي له علينا الفضل والمن وهو أهله، الذي جعلنا ملوكًا، ووهب لنا أموالًا عظامًا نفعل فيها المعروف، وجعلنا أعز أهل المشرق، وأكثره عددًا وأيسره عدة، فمن مثلنا في الناس؟ ألسنا برءوس الناس وأولي فضلهم، فمن فاخرنا فليعدد مثل ما عددنا. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لثابت بن قيس: "قم فأجب الرجل في خطبته". فقام ثابت فقال: الحمد لله الذي في السموات والأرض خلقه، قضى فيهن
بأمره، ثم كان من قدرته أن جعلنا ملوكًا، واصطفى من خير خلقه رسولًا.. فأنزل عليه كتابه وائتمنه على خلقه فكان خيرة الله من العالمين، ثم دعا الناس إلى الإيمان به فآمن برسول الله المهاجرون من قومه، ثم آمنا نحن الأنصار، أنصار الله ووزراء رسوله، نقاتل الناس حتى يؤمنوا بالله، فمن آمن بالله ورسوله منع ماله ودمه، ومن كفر جاهدناه في الله أبدًا، وكان قتله علينا يسيرًا ... أقول هذا وأستغفر الله لي وللمؤمنين والمؤمنات.. فقام الزبرقان بن بدر وأنشد بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين قصيدة قال في أولها: نحن الكرام فلا حي يعادلنا ... منا الملوك وفينا تنصب البيع فمن يفاخرنا في ذاك نعرفه ... فيرجع القوم والأخبار تستمع إنا أبينا ولم يأب لنا أحد ... إنا كذلك عند الفخر نرتفع ولما انتهى الزبرقان من قصيدته وفيها يرفع قومه إلى درجة الملوك، ويبين أنه لم يرتفع إلى مكانتهم أحد. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لحسان بن ثابت: "قم يا حسان فأجب الرجل"، فقام حسان فقال: إن الذوائب من فهر وإخوتهم ... قد بينوا سنة للناس تتبع يرضى بها كل من كانت سريرته ... تقوى الإله وكل الخير يصطنع قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم ... أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا إن كان في الناس سباقون بعدهم ... فكل سبق لأدنى سبقهم تبع أعفة ذكرت في الوحي عفتهم ... لا يطمعون ولا يرديهم طمع
أكرم بقوم رسول الله شيعتهم ... إذا تفاوتت الأهواء والشيع1 وقد أسلم هؤلاء القوم وحسن إسلامهم، وأقاموا مدة يتعلمون فيها القرآن ويتفقهون في الدين. ومن هذه الوفود رسول بني سعد بن بكر، ويقال له: ضمام بن ثعلبة، وموقف هذا الرجل يدل على أنه جاء إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- مطمئن القلب بالإيمان، وأن غرضه من هذه الوفادة هو زيادة اليقين والاطمئنان، وأنه كان مسموع الكلمة لدى قومه، ولذا لبوا رغبته واستجابوا له حينما دعاهم إلى الإسلام بعد رجوعه من مقابلة رسول الله -صلى الله عليه وسلم. قال ابن إسحاق2: بعث بنو سعد بن بكر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلًا منهم يقال له ضمام بن ثعلبة، فقدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأناخ بعيره على باب المسجد ثم عقله، ثم دخل المسجد ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس في أصحابه، وكان ضمام رجلًا جلدًا أشعر ذا غديرتين، فأقبل حتى وقف على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: أيكم ابن عبد المطب؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنا ابن عبد المطلب". قال: أمحمد؟ قال: "نعم".
قال: يابن عبد المطلب، إني سائلك ومغلظ عليك في المسألة فلا تجد بها عليّ في نفسك1. قال: "لا أجد في نفسي فسل عما بدا لك" قال: أنشدك الله إلهك وإله من قبلك وإله من هو كائن بعدك، آلله بعثك إلينا رسولًا؟ قال: "اللهم نعم" قال: أنشدك الله، آلله أمرك أن تأمرنا أن نعبده وحده، ولا نشرك به شيئًا، وأن نخلع هذه الأنداد التي كان آباؤنا يعبدون معه؟ قال: "اللهم نعم". ثم جعل يذكر فرائض الإسلام فريضة فريضة: الزكاة والصيام والحج، وشرائع الإسلام كلها، ينشده عند كل فريضة منها كما ينشده في التي قبلها، حتى إذا فرغ قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، وسأؤدي هذه الفرائض وأجتنب ما نهيتني عنه ثم لا أزيد ولا أنقص، ثم انصرف إلى بعيره راجعًا. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن صدق ذو العقيصتين2 دخل الجنة". قال: فأتى بعيره فأطلق عقاله ثم خرج حتى قدم على قومه فاجتمعوا إليه، فكان أول ما تكلم به أن قال: بئست اللات والعزى. قالوا: مه يا ضمام. اتق البرص، اتق الجذام، اتق الجنون. قال: ويلكم إنهما -والله- لا يضران ولا ينفعان، إن الله قد بعث رسولًا وأنزل عليه كتابًا استنقذكم به مما كنتم فيه، وإني أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به وما نهاكم عنه. قال: فوالله ما أمسى من ذلك اليوم وفي حاضره3 رجل أو امرأة إلا مسلمًا.
وهكذا كانت وفادة ضمام بن ثعلبة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفادة ميمونة مباركة حتى يقول ابن عباس -رضي الله عنهما1: ما سمعنا بوافد كان أفضل من ضمام بن ثعلبة2. ومنهم وفد ثقيف3، وكان من خبرهم أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لما رجع من الطائف بعد حصارها، تبع أثره عروة4 بن مسعود الثقفي حتى أدركه قبل أن يصل إلى المدينة فأسلم، ثم طلب من الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يأذن له بالرجوع إلى قومه ليدعوهم إلى الإسلام. فقال له الرسول -صلى الله عليه وسلم: "إنهم قاتلوك". فقال: أنا أحب إليهم من أبصارهم. فخرج إلى قومه يرجو منهم طاعته لما كان يعرفه فيهم من الإخلاص له، ولكنه أخطأ في تقديره، وصدقت فراسة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وذلك أنهم لما رأوه يدعوهم إلى ترك دينهم ولا يحيد عن ذلك، لم يطيقوا صبرًا وأحاطوه به ورموه
بالنبل من كل وجه حتى قتلوه1. وأحست ثقيف بعد قتل عروة أن هناك خطرًا يهددها من القبائل المجاورة التي دخلت في الإسلام، وأدركت أنها مهما قاومت قوة المسلمين فإنها سوف تصير بعد حين من الزمان إلى الانهيار والدمار، ومن أجل ذلك استقر رأيهم على إرسال وفد إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يعرض عليه صلحهم معه ومسالمتهم إليه، ووصل هذا الوفد إلى المدينة، فشرح الله صدورهم للإسلام، وعادوا بعد ذلك إلى أهلهم وذويهم في الطائف لينشروا الإسلام بينهم ...
هدم اللات
هدم اللات: وقد وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- مع هذا الوفد أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة -وكان لهما بثقيف مودة واحترام- ليقوما بهدم اللات. وكان شديدًا على ثقيف أن يتم الإجراء ويهدم الإله الكبير الذي كانوا يلجئون إليه في النوائب، ويرونه الملاذ الذي كان يحميهم من كوارث الدهر وخطوبه، ولكنهم كانوا مضطرين إلى الإذعان لأمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- حتى لا يتعرضوا لهلاك محقق، فقام المغيرة بهدم هذا الإله المزعوم بينهم كان رجال ثقيف واجمين، ونساؤهم متحسرات يبكين. وبهدم اللات وبإسلام الطائف كانت الحجاز كلها قد أسلمت، وغدا سلطان الرسول -صلى الله عليه وسلم- ونفوذه يمتد ذات اليمين وذات الشمال، والوفد تتابع من كل مكان لتعلن الطاعة والولاء لرسول الله -صلى الله عليه وسلم. ومنهم وفود اليمانيين، وقد استقبلهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- في المدينة وأحسن استقبالهم، وكان منهم الأشعريون وهم قوم أبي موسى الأشعري، وقد أسلموا
وحسن إسلامهم وبايعوا الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حقهم: "أتاكم أهل اليمن كأنهم السحاب، وهم خيار من في الأرض" 1. ومنهم وفود حضرموت والبحرين وعمان. وقد قدم هؤلاء جميعًا أفواجًا أفواجًا ليدخلوا في دين الله، وليذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون 2.
حج أبي بكر
حج أبي بكر 1 وفي هذا العام -أعني عام الوفود- كانت أول حجة في الإسلام، وكان أمير الحج من قبل الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- ولهذه الحجة دلالتها القوية على مدى النفوذ الذي أصبح للمسلمين بعد الفتح الأعظم لمكة،
حتى أصبح البلد الأمين مثابة للناس وأمناً، وأصبحت أبوابه مفتوحة للمسلمين يغدون ويروحون ويحجون ويعتمرون. وقد عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى أبي بكر -رضي الله عنه- بالإمارة على الحجيج -كما قدمنا- فخرج على رأس ثلاثمائة من المسلمين1 قاصدًا البلد الحرام، وقد طهره الله من الأصنام والأوثان، ولكنه لم يطهر بعد من المشركين الذين أقبلوا من كل فجٍّ يطوفون بالبيت، ويتلمسون آلهتهم التي كانت تستظل به منذ عام واحد، ثم حطمها محمد -صلى الله عليه وسلم- فاختفت أشباحها من الوجود، ولكن بقي -على حد زعمهم- روحها القوي يصرف عنهم السوء، ويملأ حياتهم بالخير والبركة. وكان من فضل الله على رسوله -صلى الله عليه وسلم- وعلى المسلمين، أن يعيد لهذا البيت طُهره القديم منذ رفع قواعده إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- فنزلت الآيات الكريمة من سورة التوبة: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} 2. {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ، إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} 3. {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ
هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} 1. وقد أوفد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- بهذه الآيات الكريمة، كي يلحق بأبي بكر -رضي الله عنه- وليبلغها بنفسه إلى الناس. فلما رآه أبو بكر قال له: أمير أم مأمور؟ قال: بل مأمور. وأخبره أنه إنما جاء ليبلغ الناس ما أمر به الله ورسوله. فلما اجتمع الناس بمنى يؤدون مناسك الحج، وقف علي بن أبي طالب وإلى جانبه أبو هريرة فقرأ الآية الكريمة من صدر سورة التوبة وهي التي ذكرنا بعضها منها ... ولما أتم تلاوتها وقف هنيهة ثم قال: يا أيها الناس: إنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله عهد فهو إلى مدته.. ثم أجل الناس أربعة أشهر بعد ذلك اليوم ليرجع كل قوم إلى مأمنهم وبلادهم2. ومنذ ذلك اليوم اكتمل تطهير البلد الأمين من الرجس، فلم يحج إليه مشرك، ولم يقم فيه كافر، وبقيت أنوار الحق والإيمان تشع في الأرجاء إلى ما شاء الله، وصدق الله العظيم حيث يقول: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} 3.
الفصل السابع: حجة الوداع ووفاة الرسول صلى الله عليه وسلم
الفصل السابع: حجة الوداع ووفاة الرسول صلى الله عليه وسلم حجة الوداع ... الفصل السابع: حجة الوداع ووفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وحينما جاء موسم الحج من العام العاشر الهجري، كان البيت العتيق قد تخلص من شوائب الشرك وأرجاسه، فتجهز رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأداء فريضة الحج في الحجة الأولى في حياته، وقد شاء الله أن تكون الأولى والأخيرة، ومن أجل ذلك سميت: حجة الوداع1. وقد سرت الأنباء بحج الرسول -صلى الله عليه وسلم- في كل مكان، وتسمعت الصحراء لهذه الأنباء في زهوٍ وطرب، وتجمعت القبائل العربية من كل صوب وحدب، حتى لقد بلغت عدة المسلمين حينئذٍ مائة ألف أو يزيدون جاءوا يتسابقون ركضًا لينالوا شرف الحج مع النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- وليروا عن كثب تلك المناسبات المقدسة كما يؤديها الرائد الأكبر والقائد المظفر، وكما تقضي بها تعاليم الدين الحنيف. ولم يكد يأتي اليوم الخامس والعشرون من ذي القعدة، حتى بدأ الركب يولي وجهه شطر المسجد الحرام2، ويحث الخطا لبلوغ تلك الغاية الكريمة، وأخذ
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معه جميع نسائه، وكأنه كان يحس بقرب الأجل ونهاية المطاف، وكأنما ألهمه الله أن هذا الموسم من الحج هو آخر العهد به في هذه الحياة الدنيا، فلم يشأ أن يخصص واحدة من نسائه بفضل صحبته في هذه الحجة الأولى والأخيرة، حتى لا تضيع الفرصة على غيرها من أمهات المؤمنين. ولقد أنصت التاريخ في إكبار يسجل هذا المشهد الحافل، وتساءل الناس وهم يتبعون محمدًا -صلى الله عليه وسلم- وكأنهم في حلم عجيب. ما هذه الجموع الحاشدة؟ وإلى أين تسير؟ ومن ذلكم القائد الكبير؟ ثم طفقوا يسترجعون الذكريات القريبة، كلما أغذُّوا السير في الطريق من يثرب إلى مكة وأطلت عليهم جباله، وانبسطت بين أيديهم رماله. فمن هذا الطريق سار محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- منذ أربع سنوات في جمع قليل وعدد ضئيل1 يريدون أن يؤدوا نسك العمرة، فوقفت قريش في سبيلهم ولم تمكنهم من دخول المسجد الحرام في ذلك العام. ومن هذا الطريق سار محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- منذ ثلاث سنوات ليؤدي عمرة القضاء بعد صلح الحديبية في جمع من أصحابه بلغت عدتهم قرابة الألفين، فصدق الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- الرؤيا بالحق، ودخل المسلمون المسجد الحرام آمنين محلقين رءوسهم ومقصرين. ثم شهد هذا الطريق محمدًا -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه منذ عامين اثنين2 يخرجون لنصرة المظلوم وردع الظالم، ولرد قريش عن البغي والعدوان بعد أن بالغت في الاستهتار وأمعنت في العناد، ولم تكترث بوعد ولم ترعَ حرمة لعهد، وكان المسلمون في جيش كبير بلغت عدته عشرة آلاف، فجاء نصر الله، ودخل الناس في دين الله،
وخنس الشيطان، وزالت دولة الأوثان، ودوى صوت المؤذن بالتكبير في أرجاء البلد الأمين. والآن وبعد عامين من هذا الفتح العظيم يشهد هذا الطريق محمدًا -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه يتوجهون إلى مكة وقد أصبح العشرة آلاف مائة ألف أو يزيدون، وهكذا ينتصر الحق فينمو ويزيد، وهكذا يزهق الباطل، وما يبدئ الباطل وما يعيد. ولم تطل بنفوس المسلمين هذه الخواطر حتى وصلوا إلى ذي الحليفة فنزلوا بها وأقاموا ليلتهم، حتى إذا ما أصبحوا أحرم النبي -صلى الله عليه وسلم- وأحرم المسلمون معه، وبدت هذه الألوف المؤلفة في زي واحد، ومظهر واحد، ومنطق واحد، قد كشفوا عن رءوسهم الغطاء، ولبسوا الإزار والرداء، وانطلقوا يهتفون من أعماق قلوبهم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. فيا لله لعظمة الحق والإيمان، وما أروعه من نبأ اهتزت له البطحاء، وسبحت به الحصباء، وباركه رب الأرض والسماء. ولما بلغ القوم سرف1 قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: "من لم يكن منكم معه هدي3 فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل، ومن كان معه هدي فلا". ثم بلغ الحجيج مكة في اليوم الرابع من ذي الحجة3، وأقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون من بعده إلى الكعبة، فاستلم الحجر الأسود وقبله، ثم طاف بالبيت سبعًا، هرول في الثلاثة الأولى منها، ثم صلى عند مقام إبراهيم، ثم عاد فقبل
الحجر مرة ثانية، ثم خرج من المسجد إلى ربوة الصفا حيث سعى بين الصفا والمروة. ولما انتهى من سعيه نادى في الناس ألا يبقى على إحرامه من لا هدي معه.. وقال -صلوات الله وسلامه عليه-: "لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة وتحللت منها" 1. وقد تحلل كثير من المسلمين الذين لم يسوقوا الهدي معهم، وتبعت البقية الأخرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على إحرامه. وفي اليوم الثامن من ذي الحجة، ذهب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى منى، فقضى بها طول يومه وقضى الليل كله حتى مطلع الفجر، ثم أدى صلاة الفجر وركب ناقته القصواء حتى بزغت الشمس ثم قصد إلى عرفات. وهناك وعلى هذا الجبل الخالد2 وقف -صلوات الله وسلامه عليه- وأحاط به المسلمون يلبون ويكبرون وتسموا أرواحهم إلى الملأ الأعلى فينسبون الحياة، ولا يفكرون إلا في ذات الله 3. فيا له من مجتمع كريم يتلاقى فيه المسلمون من كل فج وقد وحد بينهم الهدف والغاية، وألّف بين قلوبهم دين أغناهم عن الأحساب والأنساب، وأنساهم الحمية الجاهلية، والعصبية القبلية. ويا له من مؤتمر عظيم يعقد في كل عام، ويضم المسلمين في أرجاء الدنيا على اختلاف أجناسهم ليتعارفوا ويتآلفوا ويحققوا معنى الوحدة والتضامن، ويتشاوروا فيما يكفل لهم الخير ويمكنهم من الأعداء حتى يعملوا على تلافي النقص وبلوغ الكمال.
وفي هذا اليوم الخالد وقف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وألقى على المسلمين خطبته الجامعة والتي بين فيها أصول الدين وفروعه ومبادئه وآدابه، حيث قال1: "الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهد الله فلا مضل له ومن يضللل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ... أوصيكم عباد الله بتقوى الله وأحثكم على طاعته، وأستفتح بالذي هو خير. أما بعد: أيها الناس، اسمعوا مني أبين لكم فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا. أيها الناس: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد. فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها. إن ربا الجاهلية موضوع 2، وإن أول ربًا أبدأ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب، وإن دماء الجاهلية موضوعة، وإنت مآثر الجاهلية موضوعة غير السدانة 3 والسقاية 4. والعمد قود 5، وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر وفيه مائة بعير. فمن زاد فهو من أهل الجاهلية.
أيها الناس: إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه، ولكنه قد رضي أن يطاع فيها سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم. أيها الناس: إنما النسيء 1 زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا، يحلونه عامًا ويحرمونه عامًا ليواطئوا عدة ما حرم الله. وإن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض، منها أربعة حرم: ثلاث متواليات وواحد فرد، ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب الذي بين جمادى وشعبان، ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد. أيها الناس: إن لنسائكم عليكم حقًّا، ولكم عليهن حق: ألا يوطئن فرشكم 2 غيركم، ولا يدخلن أحدًا تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم، ولا يأتين بفاحشة. فإن فعلن فإن الله أذن لكم أن تعضلوهن 3 وتهجروهن في المضاجع، وتضربوهن ضربًا غير مبرح. فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وإنما النساء عندكم عوان 4، ولا يملكن لأنفسهن شيئًا: أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، فاتقوا الله في النساء، واستوصوا بهن خيرًا، ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد. أيها الناس: إنما المؤمنون إخوة. ولا يحل لامرئ مال أخيه إلا عن طيب نفس منه، ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد. فلا ترجعن بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض، فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لم تضلوا بعده، كتاب
الله 1، ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد. أيها الناس: إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضل على عجمي إلا بالتقوى. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد. فليبلغ الشاهد منكم الغائب. أيها الناس: إن الله قد قسم لكل وارث نصيبه من الميراث، ولا تجوز لوارث وصية، ولا تجوز وصية في أكثر من الثلث، والولد للفراش 2، وللعاهر الحجر 3 من ادعى إلى غير أبيه، أو تولى غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل 4، والسلام عليكم ورحمة الله". وهكذا كانت خطبة الوداع في حجة الوداع. وهي خطبة جامعة، ووصية رائعة تشير كل فقرة منها إلى ما كان يحس به الرسول -صلى الله عليه وسلم- من قرب الأجل، ونهاية العمر، فهو يبرئ ذمته، ويصفي حسابه مع الناس، حتى لا تعظم مسئوليته أمام رب الناس، وهو يشهد الناس في كل فقرة على أنه أدى الأمانة وبلغ الرسالة، فيسألهم: ألا هل بلغت؟ ثم يتجه إلى ربه ويناديه: اللهم اشهد ... وهو يبدأ الخطبة بقوله: "لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا"، ثم يقول في ثناياها: "فلا ترجعن بعدي كفارًا ... فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لم تضلوا بعده". وكل هذه فقرات واضحة الدلالة على أن صاحبها قد فرغ من الدنيا، وأنه يتهيأ
للحياة الجديدة في الدار الآخرة، انتظارًا لما وعده الله سبحانه حيث يقول: {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى، وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} 1. وكان من الدلالات القوية على دنو أجل الرسول -صلى الله عليه وسلم- تلك الآية الكريمة التي نزلت على الرسول -صلى الله عليه وسلم- في ذلك اليوم، وهي قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} 2. وقد أدى الرسول -صلى الله عليه وسلم- مناسك الحج، في رمي الجمار والنحر والحلق والطواف، وبعد أن أقام بمكة عشرة أيام قفل راجعًا إلى المدينة، ولما رآها كبر ثلاثًا ثم قال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير" 3.
وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم
وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم مدخل ... وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وقد جعل الله الذي يقدر الليل والنهار حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- موقوتة بإتمام رسالته، فلما تمت الرسالة ونزلت الآية الكريمة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} 1. كان ذلك آية على أن اليوم الذي قدره الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم- في هذه الدنيا يوشك أن تغرب شمسه، وقد أحس الرسول -صلوات الله وسلامه عليه- بذلك، فجلس على المنبر في أخريات أيامه وقال لأصحابه2: "إن عبدًا خيره الله بين أن يؤتيه زهرة الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عنده". فبكى أبو بكر حينما سمع هذا الكلام وقال: يا رسول الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا. فأثنى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أبي بكر وقال: "إن أمنّ الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، فلو كنت متخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام". ثم بدأت أعراض المرض تظهر على الرسول -صلى الله عليه وسلم- في أواخر صفر من السنة
الحادية عشرة للهجرة1، وكان حينئذٍ في بيت ميمونة بنت الحارث، وأخذ ينتقل بين بيوت أزواجه، فلما اشتد عليه المرض استأذن منهن أن يمرض في بيت السيدة عائشة، فأذِنَّ له.. ولما دخل إلى بيت عائشة واشتد عليه الوجع قال للحاضرات من زوجاته: "هريقوا 2 علي من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن لعلي أعهد إلى الناس". فأجلس في مخضب3، وصب عليه الماء حتى شعر بشيء من الراحة، فأشار إليهن بالاكتفاء4.. ثم خرج إلى الناس متوكئًا على علي بن أبي طالب والفضل بن العباس5، وتقدم العباس أمامهم، والنبي -صلى الله عليه وسلم- معصوب الرأس يخط
برجليه حتى جلس في أسفل مرقاة المنبر، وثار الناس إليه، فحمد وأثنى عليه ثم قال1: "أيها الناس، بلغني أنكم تخافون عليّ الموت، كأنه استنكار منكم للموت، وما تنكرون من موت نبيكم؟ ألم أنع إليكم وتنع إليكم أنفسكم؟ هل خُلِد نبي قبلي فيمن بعث فأخلد فيكم؟ ألا إني لاحق بربي وإنكم لاحقون به. وإني أوصيكم بالمهاجرين الأولين خيرًا، وأوصي المهاجرين فيما بينهم، فإن الله -عز وجل- قال: {وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} 2. وإن الأمور تجري بإذن الله، فلا يحملنكم استبطاء أمر على استعجاله، فإن الله -عز وجل- لا يعجل لعجلة أحد، ومن غالب الله غلبه، ومن خادع الله خدعه: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} 3. وأوصيكم بالأنصار خيرًا، فإنهم الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلكم: أن
تحسنوا إليهم، ألم يشاطروكم الثمار؟ ألم يوسعوا عليكم في الديار؟ ألم يؤثروكم على أنفسهم وبهم الخصاصة؟ ألا فمن ولي أن يحكم بين رجلين، فليقبل من محسنهم وليتجاوز عن مسيئهم ألا ولا تستأثروا عليهم". فقال العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه- للرسول -صلى الله عليه وسلم: يا نبي الله، أوصِ بقريش. فقال: "إنما أوصي بهذا الأمر قريشًا، والناس تبع لقريش: برهم لبرهم وفاجرهم لفاجرهم، فاستوصوا آل قريش بالناس خيرًا. يا أيها الناس: إن الذنوب تغير النعم، وتبدل القسم، فإذا بر الناس برهم أئمتهم، وإذا فجر الناس عقوا لهم" 1. قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 2. وقد استمر مرض الرسول -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة عشر يومًا3، ولما كان اليوم الثالث عشر من شهر ربيع الأول من السنة الحادية عشرة للهجرة، وحينما كان المسلمون يؤدون صلاة الفجر، وإذا بهم يفاجئون برسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسعى إليهم في هدوء ويطلع عليهم من باب حجرة السيدة عائشة، وقد أشرق وجهه بالسرور، ولمعت بين ثناياه ابتسامة عريضة، فهم أبو بكر -وكان يؤم المسلمين في الصلاة- بأن
يخلي مكان الإمامة للرسول -صلى الله عليه وسلم- وظن أنه يريد أن يخرج إلى الصلاة، وهمّ المسلمون أن يفتنوا بصلاتهم فرحًا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أشار إليهم بيده أن أتموا صلاتكم، ثم دخل إلى الحجرة وأرخى الستر على الباب1. ثم بدأت اللحظات الأخيرة في حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- في هذه الساعة الفاصلة يغدو ويروح بفكره متنقلًا في أرجاء الماضي العظيم الذي انطوت أيامه، بما اشتملت عليه من جلائل الأعمال، فيراه بين يديه نورًا يضيء جنبات نفسه، ويكشف أيامه الحجب المغيبة والغيوب المحجوبة2، ويريه مقعده الخالد في جنة الخلد، فيتطلع ببصره إلى السماء ويقول: "بل الرفيق الأعلى من الجنة" 3. وتتحدث السيدة عائشة -رضي الله عنها- عن هذه اللحظة التي التقى فيها الرسول -صلى الله عليه وسلم- بربه فتقول: وجدت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يثقل في حجري فذهبت أنظر في وجهه فإذا بصره قد شخص وهو يقول: "بل الرفيق الأعلى من الجنة". فقلت خيرت فاخترت والذي بعثك بالحق. وقبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين سحري4 ونحري.
وهكذا ترجع النفس المطمئنة إلى ربها راضية مرضية لتدخل في عباده، وتدخل جنته ... وهكذا تنتهي حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولكن لتبدأ من جديد في مبادئ الإسلام الخالدة، وكتاب الله الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} 1. وبذلك يكون الرسول -صلوات الله وسلامه عليه- قد مضى في هذه الدنيا ثلاثًا وستين سنة قمرية وثلاثة أيام2، وهو يوازي بالسنين الشمسية واحدًا وستين عامًا وأربعة وثمانين يومًا.. وقد كانت الوفاة في ضحى يوم الاثنين 13 ربيع الأول 11هـ 8 يونيو سنة 633م.
موقف المسلمين من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم
موقف المسلمين من وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم: وكان من الطبيعي أن يقع هذا النبأ الأليم في نفوس المسلمين موقع الصاعقة، وأن تصطدم به قلوبهم صدمة عنيفة بلغ من عنفها أن ابتلي بها بعض المؤمنين وزلزلوا زلزالًا شديدًا، حتى كذب بعضهم هذا النبأ1، وصمت البعض عن الكلام فكان يذهب ويجيء ولسانه معقود، وخلط البعض في كلامهم فكانوا يهرفون بما لا يعرفون. وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فيمن كذب بموت الرسول -صلى الله عليه وسلم- فخرج على الناس وقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يمت، وإنه سوف يرجع ليقطع أيدي وأرجل رجال من المنافقين يتمنون لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- الموت. وإنما واعده الله -عز
وجل- كما واعد موسى وهو آتيكم. وفي رواية أخرى أنه قال: أيها الناس كفوا ألسنتكم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنه لم يمت. والله لا أسمع أحدًا يذكر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد مات إلا علوته بسيفي هذا1. لم يكن أحد من المسلمين في مثل حال العباس وأبي بكر -رضي الله عنهما- فإن الله أيدهما بالتوفيق والرضا والاطمئنان بما قضى الله. فأما أبو بكر فإنه لما بلغه الخبر دخل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكشف عن وجهه، وقبل جبينه وجعل يبكي ويقول: بأبي أنت وأمي ونفسي وأهلي. طبت حيًّا وميتًا، وانقطع لموتك ما لم ينقطع لموت أحد من الأنبياء2، فعظمت عن الصفة وجللت عن البكاء، ولولا أن موتك كان اختيارًا منك لجدنا لحزنك بالنفوس، ولولا أنك نهيتنا عن البكاء3 لأنفدنا عليك ماء العيون، فأما ما لا نستطيع نفيه عنا فكمد وادكار يتحالفان ولا يبرحان. اذكرنا يا محمد عند ربك، ولنكن من بالك، فلولا ما خلفت من السكينة لم نقم لما خلفت من الوحشة. ثم خرج4 أبو بكر بعد ذلك إلى الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ألا من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.
ثم تلا قول الله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} 1. وقوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} 2. وهنا أفاق عمر -رضي الله عنه- ورجع إليه صوابه فقال: فكأني لم أكن تلوت هذه الآية قط. وقد مكث -عليه الصلاة والسلام- في بيته بقية يوم الاثنين وليلة الثلاثاء ويومه. ثم دفن ليلة الأربعاء، بعد أن انتهى المسلمون من اختيار أبي بكر للخلافة. وكان الذي تولى غسله علي بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب وابناه الفضل وقثم، وأسامة بن زيد وشقران مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.. وكفن في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص ولا عمامة3. ولما فرغوا من تجهيزه وضع على سريره في بيته، ودخل الناس عليه أرسالًا متتابعين يصلون عليه، ولم يؤمهم أحد4. ثم حفر له لحد في حجرة عائشة حيث كانت وفاته5، وأنزله القبر: علي،
والعباس وولداه الفضل، وقثم، ورش بلال قبره بالماء ورفع القبر عن الأرض بمقدار شبر1. وهكذا كانت حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- وهكذا كانت وفاته، وإن في ذلك لعبرة بالغة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، وصدق الله العظيم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} 2. فصلوات الله وسلامه عليك يا رسول الله، ويا خاتم الأنبياء والمرسلين وسيد الخلق أجمعين.
الفصل الثامن: أزواج النبي صلى الله عليه وسلم
الفصل الثامن: أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يثير هذا الموضوع أهمية بالغة لدى العلماء والمفكرين من المسلمين وغير المسلمين، وذلك لما يبدو فيه من شذوذ1 يبعث على العجب، وغرابة تدعو إلى التساؤل: متى كان نبي الإسلام -صلى الله عليه وسلم- يتميز عن غيره من المسلمين، ويبيح لنفسه ما يحرمه على غيره؟ ولماذا يكون عدد الزوجات محدودًا بأربع لجميع المسلمين، وتقيد الزيادة عن واحدة بشروط خاصة وفي أحوال خاصة، بينما الرسول -صلى الله عليه وسلم- وحده هو الذي يتمتع بحرية مطلقة في هذا المجال. وقد انتهز المفكرون2 من الأجانب هذه الفرصة وحسبوا أنها نقطة ضعف تشين محمدًا -صلوات الله وسلامه عليه- فأخذوا يوجهون سهامهم المسمومة، ويطعنون في خلق الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويشوهون من تاريخه الحافل بالفضائل ويقولون: إنه رجل تسيطر عليه الشهوة الجنسية وتملك زمامه، وإنه حينما وجد أن تقييد عدد الزوجات بأربع لا يطفئ غلته ولا يرضي إربته أطلق لنفسه العنان كما يشاء، فجمع إلى عصمته هذا العدد الضخم من النساء. وكان من واجب المسلمين الذين يتصدون للكتابة عن تاريخ الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يجلوا غواشي الشك في مثل هذه النقطة الغامضة حتى لا تضل فيها الأفهام وتزل
بها الأقدام. وقد نشطوا لذلك -والحمد لله- على توالي العصور والأزمنة، وبينوا الدوافع القوية التي كانت تحيط بزواج الرسول صلى الله عليه وسلم من كل واحدة من زوجاته الكثيرات، والتي كانت تجعل هذا الزواج هادفًا إلى المصلحة العامة دون سواها. وأقاموا حجتهم على دعائم قوية من المنطق السليم فتتبعوا تاريخ محمد -صلى الله عليه وسلم- وما عُرف عنه من العفة والطهارة في كل فترة من فترات حياته بشهادة أعدائه قبل أصدقائه، وكيف مرت عليه فترة الشباب الحرجة دون أن يتزوج، ولم يعرف عنه خلال هذه الفترة ما عرف عن الكثير من أترابه ولداته، من النزق والطيش والانحراف العابث، بل كان في كل أحواله وظروفه مضرب المثل في الخلق الكريم والمسلك القويم، وبعد أن تزوج من السيدة خديجة وكانت قد بلغت الأربعين1، وهو سن يعفّ عنه الكثير من الشباب، كان محمد صلوات الله وسلامه عليه راضيًا بها ومطمئنًا لها، وسعيدًا بالمعيشة معها، لأنه لا يطلب من الزوجة إلا الإخلاص والوفاء، وقد وجد في زوجته خديجة الغاية المرجوة من الإخلاص والوفاء. وهكذا ظل الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع زوجته خديجة حتى بلغ من العمر خمسين عاما، ثم توفيت السيدة خديجة فتزوج الرسول -صلى الله عليه وسلم- سائر نسائه في العقد السادس من حياته، وفي مثل هذا العمر تضعف الغريزة الجنسية حتى لدى الأشخاص العاديين الذين لا يرهقهم التفكير. فما ظنكم بمن حمل الأمانة الكبرى، ووُسدت له الإمامة الكبرى، ومن استغرقت رعيته وأمته كل دقيقة من تفكيره وكل لحظة من حياته؟ وماذا يمكن أن يبقى له من الطاقة حتى يصرفها في ملذاته، أو يقسمها على سائر زوجاته؟ ولكن هذا المنطق السليم لم يقنع هؤلاء السادرين في الغي والضلالة فضلوا
على موقهم من نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم يطلقون حوله التهم الكاذبة والأراجيف الباطلة. فماذا يمكن أن يُقال لمثل هؤلاء ما دام الحقد على نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم قد أكل قلوبهم؟ إلا أننا سنقول لهم، وبحق ما نقول: قد تنكر العين ضوء الشمس من رمدٍ ... ويشتكي الفم طعم الماء من سقم إننا نقول لهم ذلك ما داموا لا يؤمنون بالقضايا المنطقية. فإذا تجاوزنا ذلك كله فليس يعيبنا أن نقول: إن هذه خصوصية للرسول -صلى الله عليه وسلم- وقد أباح الله له ذلك تأليفًا لقلوب القبائل التي يتصل بها برابطة النسب، وحتى لا ينحصر شرف الاتصال بالرسول -صلى الله عليه وسلم- في دائرة محدودة، وحتى يتسع المجال لنشر الإسلام في أكبر عدد من قبائل العرب ممن يرتبطون بمصاهرة الرسول -صلى الله عليه وسلم. وحينما نزلت الآية الكريمة التي تقول: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} 1. حينما نزلت هذه الآية كان لا بد من تطبيقها على جميع المسلمين عدا رسول الله -صلى الله عليه وسلم. وكان من يدخل في الإسلام يطلق ما يزيد على أربع من زوجاته إن كان تحت يده عدد أكبر؛ حتى إن غيلان الثقفي أسلم وتحته عشر نساء، فتخلص مما زاد على أربع منهن2.
وسواء أكانت هذه الآية قد نزلت قبل أن يزيد عدد نساء الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن أربع أو نزلت بعد أن زاد عددهن، فإن المعروف أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد ظل غير مقيد بعدد خاص، حتى نزل قوله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} 1. فلم يتزوج بعد ذلك. وحينما لحق بربه كان في عصمته تسع نساء، فماذا عسى أن يكون موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من هؤلاء الزوجات؟ إن أزواج الرسول -صلى الله عليه وسلم- من أمهات المؤمنين، وقد أنزلهن الله هذه المنزلة السامية فقال سبحانه: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} 2. وقد جعل الله من كرامة الرسول -صلى الله عليه وسلم- عنده ألا تتزوج واحدة من نسائه من بعده، فتحرم على الناس ذلك بقوله سبحانه في نفس السورة: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً} 3. وإذا كان الله قد حرَّم على نساء الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يتزوجن من بعده فكيف يطلق الرسول -صلى الله عليه وسلم- النساء الزائدات عن الأربع ويقضي عليهن بالترمل أبدًا، بينما يباح الزواج لأية امرأة إذا طلقها زوجها؟
إن من حق زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم وهي أم المؤمنين أن تظل طول حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لابسة هذا الثوب الكريم الذي جمَّلها الله به تعويضًا لها عما يمكن أن يصادفها من حرمان لا تتعرض له غيرها من سائر زوجات المسلمين بعد وفاة أزواجهن. وقد قضى الله بذلك حيث قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً} 1. فهذه الآية تقضي بألا يزيد الرسول -صلى الله عليه وسلم- في عدد زوجاته2، وألا يبدل زوجة بأخرى مهما كانت الظروف والأحوال3. ونعود فنقول لهؤلاء المرجفين الذين يتهمون النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنه رجل شهواني: رويدكم أيها المضللون وحسبكم. إن الرجل الشهواني لا يطيق أن يصبر على عدد معين من النساء، لأن يرى لذته في أن ينتقل من زوجة إلى زوجة فيقضي مع هذه أسبوعًا أو شهرًا، ثم يبحث عن أخرى ليقضي معها الوقت الذي يليه، وذلك أمر ميسور للأشخاص العاديين الذين يستجيبون لشهواتهم. فنرى الرجل منهم إذا أراد أن يتزوج بامرأة أعجبه حسنها، وكان تحت يده أربع نساء يطلق الرابعة، ثم يتزوج بمن يشاء وتظل هذه العملية تتكرر كلما صرخ سعار الشهوة في نفسه، وبهذه الطريقة
يستطيع أن يتزوج بتسعين امرأة لا بتسع نساء. ولا بد لنا الآن أن نذكر كلمة موجزة عن الأسباب التي دفعت الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى الزواج بسائر زوجاته: فأما السيدة خديجة بنت خويلد، وهي أولى زوجاته، فقد تعرضنا للحديث عن زواج الرسول -صلى الله عليه وسلم- منها في الفصل الثاني من هذا الكتاب. وأما السيدة سودة بنت زمعة فقد كانت زوجة لرجل يقال له السكران بن عمرو، وقد أسلمت مع زوجها وهاجرا معًا إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية، فلما مات زوجها وعادت إلى مكة كان أهلها لا يزالون على الشرك، وخشي الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يفتنوها عن دينها، فآثر الزواج بها؛ حمايةً لها من الفتنة وخوفًا عليها مما يمكن أن يلحقها من الأذى والعذاب1. وأما السيدة عائشة بنت أبي بكر فهي بنت الصاحب الأمين والصديق الصادق للرسول -صلى الله عليه وسلم. وقد كان زواج الرسول -صلى الله عليه وسلم- لها، أعظم أمنية يتمناها أبو بكر -رضي الله عنه- وتسعد بها نفسه، وكان من أعز أماني الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يستجيب للرغبة التي تمتلئ بها نفس صاحبه الوفي المخلص2. ولقد زاد هذا الزواج في توثيق الرابطة القوية التي كانت بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه، وكانت عائشة -رضي الله عنها- بما وهبها الله من ذكاء وفطنة وعقل راجح وجمال في الخُلق والخَلق، من أقوى الأسباب في تدعيم هذه الصحبة والأخوة النادرة المثال. وأما السيدة حفصة بنت عمر بن الخطاب: فقد كان زواج الرسول -صلى الله عليه وسلم- لها جبرًا
لخاطر صاحبه الكريم عمر، وغسلاً لما لحقه من إهانة بسبب ابنته. ذلك بأنها متزوجة من ابن حذافة وكان قد شهد بدرًا وأصيب فيها. وقد مات بعد هذه الغزوة، فلما انقضت عدتها عرضها عمر على أبي بكر فسكت. وفي عرض عمر لابنته وهو العربي الأبي على أبي بكر دليل الثقة المطلقة. وفي سكوت أبي بكر طعنة اشتد وقعها على عمر، فشكا ذلك للرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد أن عرض عمر على عثمان أن يتزوجها بعد موت زوجته رقية بنت الرسول -صلى الله عليه وسلم- فاعتذر عثمان. وكان اعتذاره بعد موقف أبي بكر طعنة ثانية اشتد وقعها على عمر. فشكا ذلك للرسول -صلى الله عليه وسلم- فقال له الرسول -صلى الله عليه وسلم: يتزوج حفصة من هو خير من عثمان. ثم تزوجها الرسول -صلى الله عليه وسلم- في السنة الثالثة من الهجرة، فأكرم بهذا الزواج صاحبه عمر، كما أكرم أبا بكر قبله بزواج عائشة1. وأما زينب بنت خزيمة بن الحارث الهلالية: فقد تزوجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على رأس واحد وثلاثين شهرًا من الهجرة، وكانت تُسمى في الجاهلية أم المساكين لبرها بهم وإطعامها لهم. ولما كان زوجها ممن استشهدوا في يوم بدر ولم يكن لها من بعده من يعولها، فقد تزوجها الرسول -صلى الله عليه وسلم- ليضرب المثل لأصحابه في التضحية، كي يقتدوا به في الزواج من أمثالها ممن فقدن أزواجهن في سبيل الله، وقد كانت كبيرة السن ولم تمكث مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- سوى ثمانية أشهر ثم لحقت بربها2.
وأما جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار المصطلقية: فقد كانت من سبايا بني المططلق وكان أبوها سيد قومه. وقد وقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس، فكاتبها على مبلغ من المال ثمنًا لحريتها، فألجأتها الضرورة إلى أن تسأل أهل المروءة واليسار لجمع هذا المال، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ممن لجأت إليهم في ذلك، فنظر إليها الرسول -صلى الله عليه وسلم- نظرة عطف وحنان، وأحس نحوها بشفقة بالغة وقال لها: "هل لك في خير من ذلك؟ قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: أقضي عنك كتابتك وأتزوجك" 1. فقبلت هذا العرض الكريم الذي يعلي قدرها ويرد كرامتها. وتزوجها الرسول -صلى الله عليه وسلم- فكان زواجها خيرًا وبركة على سائر قومها. وذلك أن أصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد أن علموا بهذا الزواج تسابقوا في إطلاق سراح السبايا والأسرى من بني المصطلق وقالوا: أصهار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أيدينا حتى لقد أعتقوا أهل مائة بيت من قومها. فأسلم بنو المصطلق جميعًا، وعرف الناس جمعيا مدى الأثر الحميد الذي ترتب على هذا الزواج2. وأما زينب بنت جحش: فهي بنت عمة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وحفيدة جده عبد المطلب، وقد تزوجت أول الأمر من زيد بن حارثة وهو الابن المتبنى للرسول -صلى الله عليه وسلم- فلما قضى زيد منها وطرًا زوجها الله لرسوله صلوات الله وسلامه عليه. وكانت زينب غير موافقة على زواجها من زيد بن حارثة، ولكن كانت رغبة.
الرسول -صلى الله عليه وسلم- قوية في ذلك. وقد أيَّد الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- في إتمام هذا الزواج حيث نزلت الآية الكريمة: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} 1. فوافقت زينب على الزواج من زيد بعد نزول هذه الآية. ولكن طبيعتها العربية كانت تتأبى عليها أن ترى في زيد كُفئا لها ولذا ساءت العشرة بينهما، وكان زيد كثيرًا ما يشتكي للرسول -صلى الله عليه وسلم- من إساءتها إليه فيقول له الرسول -صلى الله عليه وسلم: "أمسك عليك زوجك واتقِ الله" 2. ولما بلغ الأمر بزيد نهايته ولم يعد في قوس الصبر منزع كما يقولون طلقها زيد، وزوجها الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم- أي أمره بالزواج منها، وكان ذلك لحكمة تشريعية جليلة، وهي إبطال تلك العادة الفاسدة التي كانت تُحرم زواج المتبنِّي بزوجة ابنه المتبنَّى، وذلك لأن هذه البنوة ادعائية فلا يمكن أن تترتب عليها آثار البنوة الحقيقية3. أما ما ذهب إليه بعض المستشرقين من قولهم إنَّ محمدًا -صلى الله عليه وسلم- ذهب إلى بيت زيد، فرأى زوجته في ثياب بيتها فوقع حبها في قلبه، وأن زيدا حينما أحس برغبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الزواج منها أراد أن يطلقها، فتظاهر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالرفض وقال له: أمسك عليك زوجك واتق الله4، ولكنه كان يخفي في نفسه من حبها
ورغبته فيها ما أبداه الله وأظهره فعلاً. وكان بهذا يخشى الناس في عدم إظهار حبها ... إلخ. فهذا كلام يتجافى مع سياق الآية الكريمة: لأن ختام الآية يُظهر السر في إرادة الله لهذا الزواج الذي ألزم الله به نبيه -صلى الله عليه وسلم- فهو سبحانه وتعالى يقول: {زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً} 1. والواقع أن الله -عز وجل- أراد أن يجعل من زينب بنت جحش رضي الله عنها، تطبيقًا عمليًا لمبدأ من مبادئ الإسلام يهدم ما كان عليه العرب في الجاهلية، وهو أن زوجة الابن المتبنَى لا تحرم بعد طلاقها على الوالد المتبنِّي، فقضى بأن يتزوج زيد من زينب على الرغم من رفضها من مبدأ الأمر، واضطرارها للموافقة بعد نزول الآية الكريمة: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} 2، إلخ الآية. ثم قضى بأن يتزوجها الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد طلاق زيد لها. وأما قوله تعالى {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} ، فليس معناه أنه كان يخفي حبها في نفسه ولا يظهر الحقيقة لزيد. وإنما يقصد به أنه كان يخفي أمر الله له بالزواج منها، ويخشى الناس. أي يخشى قول الناس تزوج محمد من زوجة متبناه3، ويؤكد ذلك قول الله تعالى {زَوَّجْنَاكَهَا} ، أي ألزمناك بالزواج
منها، مع خوفك من عواقب هذا الزواج وعدم رغبتك فيه. وأما أم سلمة: فهي هند بنت أبي أمية المخزومية. وقد كانت قبل زواجها الرسول -صلى الله عليه وسلم- زوجًا لعبد الله بن عبد الأسد المخزومي، وهو من المسلمين السابقين، وقد هاجرت إلى المدينة وتحملت كثيرًا من المتاعب والآلام، وكانت أول مسلمة هاجرت في سبيل الله. وقد أُصيب زوجها في غزوة أُحد ثم مات شهيدًا، فعزاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائلاً: "سلي الله أن يؤجرك في مصيبتك ويخلفك خيرًا". قالت: ومن يكون خيرا من أبي سلمة1. وقد خطبها كل من أبي بكر وعمر فلم تقبل، فخطبها الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتزوجها تكريمًا لجهادها، وإعانة لها على تربية أولادها، وقد كانت من أفضل أمهات المؤمنين. وأما صفية بنت حيي بن أخطب: فقد كانت من يهود بني النضير، وقد قُتِل أبوها مع بني قريظة، وقتل زوجها في خيبر. فاصطفاها الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأعتقها وتزوجها، وقد أسلمت وأسلم بإسلامها كثيرٌ من أهلها2. وكانت تتصل في نسبها بهارون عليه السلام. ولا شك أن شرف نسبها هو الذي دفع الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى الزواج منها؛ صيانةً لها عن هوان الرِّق ومذلته. وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحافظ على شعورها وكرامتها. ومن ذلك ما روي من أن عائشة وحفصة رضي الله عنهما
قالتا: نحن أكرم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منك. فشكت ذلك للرسول -صلى الله عليه وسلم- فقال لها: ألا قلت لهما وكيف تكونان خيرًا مني وزوجي محمد وأبي هارون وعمي موسى1؟ وما روي من أن السيدة زينب أم المؤمنين لقبتها مرة باليهودية، فهجرها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شهرين كاملين عقوبة لها وتأديبًا2. وأما أم حبيبة: فهي رملة بنت أبي سفيان صخر بن حرب، وقد أسلمت هي وزوجها عبد الله بن جحش، وكانا من المهاجرين إلى الحبشة حينما اضطهد المسلمون في مكة. ولكن زوجها غلبت عليه شقوته، فضل السبيل، وارتدَّ عن الإسلام. أما هي فبقيت ثابتة على عقيدتها، وضربت بذلك مثلاً عاليًا في الشجاعة والتضحية والإخلاص لله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وكان لا بد من إنقاذها من هذه المحنة وهي دار الغربة، بعيدة عن كل عون ومساعدة. فكتب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى النجاشي ليزوجها له، فعقد له عليها بالحبشة ودفع لها الصداق نيابة عنه، وتولى عقدها خالد بن سعيد بن العاص وكان ابن عم أبيها3. ثم رجعت إلى المدينة سنة سبع من الهجرة لتأخذ مكانها بين أمهات المؤمنين. وأما ميمونة بنت الحارث الهلالية: فقد تزوجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في طريقه
لعمرة القضاء، سنة سبع من الهجرة، وذلك تأليفًا لقلوب أهلها إلى الإسلام. وقد تم ذلك بالفعل فأسلم كثير منهم؛ نتيجةً لهذا الزواج، وهي آخر امرأة تزوجها الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقد قالت عنها السيدة عائشة: أما إنها كانت من أتقانا لله وأوصلنا للرحم. وكفى بهذه الشهادة من عائشة فخرًا لها وشرفًا1. وأما مارية القبطية: فهي جارية أهداها المقوقس حاكم مصر للرسول -صلى الله عليه وسلم- وقد اتخذت مكانتها بين زوجات الرسول -صلى الله عليه وسلم- وولدت له إبراهيم2. وبعد وضوح الأسباب التي أدت إلى زواج الرسول -صلى الله عليه وسلم- بهذا العدد من النساء، والظروف التي حتمت هذا الزواج، وجعلته أساسًا لجمع الشمل وتأليف القلوب، يتبين لنا إلى أي حد يحاول أعداء الإسلام أن يلصقوا بالرسول -صلى الله عليه وسلم- من الأكاذيب والمفتريات ما هو منه براء.
الفصل التاسع: من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم وشمائله
الفصل التاسع: من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم وشمائله كانت حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في هذه الدنيا كالشجرة الطيبة التي ثبتت أصولها، وانبسطت ظلالها، وآتت ثمارها المباركة في وقت وحين، بل كالمشكاة النيِّرة التي يتألق ضوؤها ذات اليمين وذات الشمال وفي كل مجال، ويهدي الله بها من يشاء من عباده. فلما قضى الله على رسوله -صلى الله عليه وسلم- أن يلحق بالرفيق الأعلى ويوضع جسده الطاهر في باطن الأرض، رجع الناس بسيرته نورًا يسعى بين أيديهم وبأيمانهم. وسوف يظل هذا النور هداية للناس ورشادًا، ما دامت السموات والأرض وما بقي الوجود كله. وإنه لحق علينا -نحن المسلمين- أن ننتفع بهذا النور المبين، وأن نحسن استغلاله، بدل أن تعشى أبصارنا فيلتوي بنا القصد ويضيع منا الطريق. بيد أن بعض المسلمين قد عشيت أبصارهم بهذا النور، إذ فُتنوا بحبهم للنبي -صلى الله عليه وسلم- فضلوا عن الحق وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، ذلك أنهم قد بالغوا في تقديس النبي -صلى الله عليه وسلم- مبالغة أنستهم أنه بشر، وأنه خُلِق من طين كما خلق سائر البشر، فقالوا عنه: إنه خلق من نور، وقالوا عنه: أنه أول خلق الله واستدلوا على ذلك
بروايات موضوعة1 لا تمت إلى الحق بأي سبب، وغفلوا عن الآيات الواضحة الصريحة التي ذكرها الله -عز وجل- في محكم كتابه، والتي يتبين منها حقيقته البشرية التي أكدها الله وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم- أن يعلنها للناس في مثل قوله سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} 2، ثم زاد تأكيدها في آية أخرى تشير إلى أن محمدًا خُلِق من نفس الطينة التي خلق منها سائر البشر، وذلك حيث يقول: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} 3. ولقد ذكر بعض المفسرين في تفسيرهم لقول الله عز وجل: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 4. ذكر بعض المفسرين أن المقصود بالنور في الآية الكريمة هو محمد صلى الله عليه وسلم. ومن هنا ساغ لبعض ضعفاء العقول أن يقول إنَّ محمدًا خلق من نور؛ جهلاً منهم: بما يفهم من الآية، إذ لا شك أن النور الذي جاء في الآية الكريمة، هو النور المعنوي الذي يضيء للناس طريق الحق، وليس النور الحسي الذي تراه العين، والذي يضيء كما تضيء المصابيح وكما تضيء الكواكب. فالواقع الذي تطمئن إليه النفوس، وتنهض به الحجة، أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- نور؛ لأنه أضاء للناس طريق الخير بما آتاه الله من العلم والحكمة، ولكنه مخلوق من التراب الذي خلق منه سائر البشر. وليس يضيره في قليل أو كثير أن يكون
مخلوقًا من التراب، ما دام الله قد اصطفاه واختاره لرسالته الكبرى، التي أضاءت المشارق والمغارب، وملأت العالم كله بالهدى والرشاد. والواقع الذي تطمئن إليه النفوس، وتنهض به الحجة أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- أول خلق الله منزلةً وأعلاهم قدرًا. وليس أول خلق الله وجودًا وأقدمهم مولدًا، ذلك أنه بالتسلسل الزمني كان خاتم الأنبياء والمرسلين. فهو مكمل للبناء العظيم الذي أقامه الأنبياء لإسعاد البشر منذ وجود آدم أبي البشر. ولا يستقيم مع المنطق السليم أن يكون محمد صلوات الله وسلامه عليه من أبناء آدم، ثم يوجد قبل أبيه. ولا يستقيم مع المنطق السليم -كذلك- أن تكون الأفضلية بين الناس بقدم البلاد، وإلا لكان الآباء أبدًا أفضل من الأبناء. وكان الأجداد على توالي العصور أفضل من الآباء والأحفاد. وإذا كان من واجبنا -كمسلمين- أن نقدر نبينا العظيم -صلى الله عليه وسلم- حق قدره، فإنه الحق علينا -كذلك- ألا نُسيء الفهم ونتجاوز الحد، فنبعد نبينا -صلى الله عليه وسلم- عن منزلته وقدره، فما أبعد الفرق بين التقدير والتقديس، وبين الحب والعبادة. وقديمًا كفر اليهود لأنهم قدَّسوا العزيز وهو نبي، فقالوا عنه إنه ابن الله، كما كفر النصارى لأنهم قدسوا المسيح وهو نبي فقالوا عنه إنه ابن الله. {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} 1. والآن فلنفتح عيوننا على أقباس من معجزات الرسول -صلى الله عليه وسلم- وشمائله، عسى أن
يجعل الله لنا منها هدىً ونورًا وموعظة وشفاء لما في الصدور. فأما معجزات الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقد روت كتب الحديث والسيرة منها الكثير. وأولها:القرآن الكريم وهو أعظم المعجزات وأقواها، دلالةً على تفضيل النبي -صلى الله عليه وسلم- على جميع الرسل، وذلك من أجل خلوده وبقائه وإعجاز آياته، فهو في واقع الأمر معجزات متعددة متواترة. وهو الذي تحدى به الرسول -صلى الله عليه وسلم- بلاغة العرب وفصاحتهم على توالي العصور، والذي لم ينقطع إعجازه بعد أن لحق الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالرفيق الأعلى، بل يزداد وضوح هذا الإعجاز كلما استنارت عقول الناس وكشفت لهم أسراره وعجائبه. بل تحدى به الإنس والجن، وأخبر بأنهم لن يأتوا بمثله أو بسورة من مثله في قوله سبحانه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} 1. وقوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} 2. ومن المعجزات الثابتة للرسول -صلى الله عليه وسلم- حنين الجذع. وقد ثبت ذلك في الصحيحين وغيرهما3، وذلك أن الرسول كان يخطب يوم الجمعة على جذع نخلة، فلما كثُر الناس بني له منبر ...
فلما تحوَّل الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن الجذع سمع له حنين كحنين الواله؛ حزنًا على فراق الرسول وشوقًا إليه، وما زال يحن حتى نزل الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن المنبر ومشى إليه فاحتضنه فسكت. ومنها معجزة انشقاق القمر، وقد رواها ابن عباس -رضي الله عنهما- حيث قال: اجتمع المشركون على عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وفيهم: الوليد بن المغيرة وأبو جهل والعاص بن وائل، والعاص بن هاشم، والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن المطلب، وربيعة بن الأسود والنضر بن الحارث ونظراؤهم في التوغل في الكفر والعناد، وقالوا للنبي -صلى الله عليه وسلم: إن كنت صادقًا فشق لنا القمر فرقتين: نصفًا على أبي قبيس ونصفًا على قعيقعان1. فقال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم: "إن فعلت تؤمنوا" قالوا نعم. وكانت ليلة البدر، فسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ربه -عز وجل- أن يعطيه ما سألوا، فأمسى القمر نصفين كما سألوا. فقال صلى الله عليه وسلم: "اشهدوا". فقالوا: سحركم ابن أبي كبشة، فسلوا المسافرين فلو كانوا رأوا ما رأيتم فهو صدق، فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم، وإن لم يكونوا رأوا ما رأيتم فهو سحر. فسألوا المسافرين، وقد قدموا من كل وجه، فقالوا: رأيناه. فقال الكفار: هذا سحر مستمر يريدون أنه سحر شامل لم يقتصر على أهل مكة وحده بل شمل الناس جميعًا2.
وقد نزل في ذلك قوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ، وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ، وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} 1. ومنها معجزة نبع الماء من بين أصابعه، ومعجزة تكثير الطعام القليل ببركته، ومعجزة الإسراء والمعراج، ومعجزة شق الصدر. وقد أشرنا إلى الكثير من ذلك في ثنايا الكتاب2. وأما عن شمائله صلوات الله وسلامه عليه فهي الخلق العظيم الذي وصفه الله
عز وجل في قوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} 1. أجل لقد أدَّب الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- فأحسن تأديبه، ومنحه من كمال الخلق وجميل الصفات ما لم يمنحه لأحد من العالمين. وأمره بأن يكون رمزًا للخير والبر فقال له: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} 2. وقال له في آية أخرى {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} 3. وقال: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} 4. وقد تواترت الأخبار على حسن امتثال الرسول -صلى الله عليه وسلم- لما أمره الله به من هذه الصفات الكريمة ... فما من حليم إلا عُرِفت له بعض الزلات والهفوات ولكن النبي محمدا صلوات الله وسلامه عليه لم يكن يزداد على كثرة الإيذاء إلا صبرًا وحلمًا. قالت عائشة رضي الله عنها: ما خُيِّر عليه السلام في أمرين قط إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا. فإن كان إثما كان أبعد الناس منه، وما انتقم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله5. ولما فعل المشركون به ما فعلوا في يوم أحد قال: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"6. وفيما يروى عن أنس -رضي الله عنه- أنه قال: كنت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وعليه برد غليظ الحاشية، فجذبه أعرابي بردائه
جذبة شديدة حتى أثرت حاشية البرد في صفحة عنقه ثم قال: يا محمد، احمل لي على بعيري هذين من مال الله عندك فإنك لا تحمل لي من مالك ولا مال أبيك ... فسكت النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: "المال مال الله وأنا عبده".. ثم قال: "ويقاد منك يا أعرابي ما فعلت بي" قال: لا، قال: لم؟ قال لأنك لا تكافئ بالسيئة السيئة. فضحك عليه السلام ثم أمر أن يُحمل له على بعير شعير وعلى الآخر تمر1. ولما أسر المسلمون ثمامة بن أثال الحنفي، وكان من عظماء بني حنيفة وجيء به إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عامله أكرم معاملة وعرض عليه الإسلام فأبى، فأطلق سراحه وهو القادر حينئذ على أن يقتله أو ينكل به، ولما رأى ثمامة هذه المعاملة وهذه المكارم، وجد من العقل أن يفيء إلى الرشد، وألا يمعن في اتباع الهوى ويترك دينًا عماده المحامد، فرجع إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد أشرق الحق في نفسه وخالطت بشاشة الإيمان قلبه. وخاطب الرسول -صلى الله عليه وسلم- قائلاً: يا محمدُ، والله ما كان على الأرض من وجه أبغض علي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي، والله ما كان على الأرض من دين أبغض إلي من دينك، فقد أصبح أحب الدين كله إلي، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فقد أصبح أحب البلاد إلي2.
وقد سُرَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- كثيرًا بإسلامه لأنه سيد قومه وكلمته فيهم ناقدة وكان إسلامه خيرًا وبركةً على قومه وأساسًا لهدايتهم بعد ذلك إلى الإسلام. وكان صلوات الله وسلامه عليه أشد الناس حياءً، وأكثرهم عن العورات إغضاءً. قالت عائشة: كان عليه السلام إذا بلغه عن أحد ما يكرهه لم يقل ما بال فلان يقول كذا وكذا بل يقول: ما بال أقوام يصنعون أو يقولون كذا1. فكان ينهى عن الشيء ولا يسمي فاعله. وكان عليه السلام يُؤلف الناس ولا ينفرهم، ويكرم كريم كل قوم ويوليه عليهم ويتفقد أصحابه، ويعطي كل جلسائه نصيبًا حتى لا يحسب جليسه أن أحدًا أكرم عليه منه، من جالسه أو قاربه لحاجة صابره حتى يكون هو المتصرف عنه، ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول. وقد وسع الناس بسطه وخلقه، فصار لهم أبا وصاروا عنده في الحق سواء، وكان دائم البشر سهل الخلق لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخَّاب ولا فحَّاش ولا سبَّاب. قال سبحانه. {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} 2. وقال: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} 3.
وكان عليه السلام يجيب من دعاه ويقبل الهدية مهما كانت ويكافئ عليها بمثلها أو بأحسن منها، وكان يمازح أصحابه ويخالطهم ويحادثهم ويلاعب صبيانهم ويجالسهم في حجره، ويعود المرضى في أقصى المدينة، ويقبل عذر المعتذر، وكان يبدأ من لقيه بالسلام ويبدأ أصحابه بالمصافحة، ولم يُر قط ماداً رجليه بين أصحابه،حتى يضيق بها على أحد، وكان يُكرم من يدخل عليه ولا يدعوهم بأسمائهم تكرمةً لهم1. وأما الشفقة والرحمة بجميع الخلق فقد وصفه الله بها في قوله: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} 2، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} 3. وقد روي أن أعرابيًا جاءه يطلب منه شيئًا، فأعطاه ثم قال: "أأحسنت إليك؟ " قال الأعرابي: لا، ولا أجملت. فغضب المسلمون وقاموا إليه. فأشار إليهم أن كُفوا.. ثم قام ودخل منزله وأرسل إليه وزاده شيئًا ثم قال: "أأحسنت إليك؟ " فقال: نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرًا. فقال عليه السلام: "إنك قلت ما قلت وفي نفس أصحابي من ذلك شيء، فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي حتى يذهب ما في صدورهم عليك"، قال: نعم. فلما كان الغد أو العشي جاء، فقال عليه الصلاة والسلام: " إن هذا الأعرابي قال ما قال، فزدناه، فزعم أنه رضي، أكذلك؟ " قال: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرًا. فقال عليه السلام: "مثلي ومثل هذا مثل رجل له ناقة شردت عليه فاتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفورًا، فناداهم صاحبها: خَلُّوا
بيني وبين ناقتي، فإني أرفق بها منكم وأعمل فتوجه لها بين يديها، فأخذ لها من قمام الأرض فردها، حتى جاءت واستناخت، وشدَّ عليها رحلها واستوى عليها، وإني لو تركتكم حيثُ قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار"1. وأما تواضعه عليه السلام مع ما أكرمه الله به من النبوة ورفعة الدرجة والمكانة. فقد كان أشد الناس تواضعًا وأبعدهم عن الكبرياء والغرور، ولا غرو فقد خيَّره الله أن يكون نبيًا ملكًا أو نبيًّا عبدًا، فاختار أن يكون نبيًّا عبدًا. وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوما متوكئا على عصاه فقاموا، فقال: "لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضا" 2. وقال: "إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد" 3. وكان يقول: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد الله ورسوله" 4. وأما عن زهده فقد نظر إلى الدنيا على أنها وسيلة وممر، ونظر إلى الآخرة
على أنها غاية ومستقر. وقد استجاب عن رضا وإيمان لما أمره الله به في قوله: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} 1. وكانت عائشة -رضي الله عنها- تقول: ما شبع عليه السلام ثلاثة أيام تباعًا من خبز حتى مضى لسبيله2. وتقول: ما ترك عليه السلام دينارًا ولا درهمًا ولا شاةً ولا بعيرًا. وقد مات وما في بيتي شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في ردف لي3. وروي عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "عُرض علي أن تجعل لي بطحاء مكة ذهبًا فقلت: لا يارب. أجوع يومًا وأشبع يومًا، فأما اليوم الذي أجوع فيه فأتضرع إليك وأدعوك، وأما اليوم الذي أشبع فيه فأحمدك وأثني عليك" 4. وقالت عائشة: إنَّا كنا -لآل محمد- لنمكث شهرًا ما نستوقد نارًا. إن هو إلا التمر والماء5. وقالت عائشة: لم يمتلئ جوف النبي -صلى الله عليه وسلم- شبعًا، وإن كان ليظل جائعًا حتى كنت أبكي؛ رحمةً له مما أرى به، وأمسح بيدي على بطنه مما أرى به من الجوع وأقول له: نفسي لك الفداء لو تبلّغت من الدنيا ما يقوتك!!
فيقول: "يا عائشةُ، مالي وللدنيا؟ إخواني من أولي العزم من الرسل صبروا على ما هو أشد من هذا فمضوا على حالهم فقدموا على ربهم فأكرمهم مآبهم وأجزل ثوابهم. فأجدني أستحي إن ترفهت في معيشتي أن يقصر بي غدًا دونهم، وما من شيء أحب إلي من اللحوق بإخوتي وأخلائي" 1. وكانت عبادته لربه على قدر علمه بما أعد الله من ثواب للمؤمنين المخلصين من عباده، وما أعدَّ من عقاب للمذنبين الضالين، ولذا كان يقول: "والله لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى" 2. وهكذا كان خلق الرسول -صلى الله عليه وسلم- تنفيذًا علميًا لما وصاه الله به في كتابه العزيز، وهي الوصايا التي ذكرنا طرفًا منها والتي تنتظمها تلك الكلمة الجامعة المأثورة عنه حيث قال: "أوصاني ربي بتسع أوصيكم بها: أوصاني بالإخلاص في السر والعلانية، والعدل في الرضا والغضب، القصد في الغنى والفقر، وأن أعفو عمن ظلمني، وأعطي من حرمني، وأصل من قطعني، وأن يكون صمتي فكرًا، ونطقي ذكرًا، ونظري عبرًا" 3.
الخاتمة
الخاتمة وبعد، فهذا ما يسر الله به من دراسات في السيرة النبوية، ولعلها تكون بداية صالحة في طريق البحث، وأساسًا سليمًا يمكن أن يبنى عليه من بعدنا، كما بنينا على الأسس السليمة التي خلفها لنا من قبلنا، ونحن نؤمن كل الإيمان بأن السيرة النبوية -على كثرة ما كُتب فيها من بحوث ودراسات- لا تزال في بعض نواحيها كالروض الأنف1، يتطلع إلى الرائد، ويستطيع الباحث فيه والمتجول في مغانيه، أن يظفر كلما أمعن النظر وطلب المزيد.. ولست مثاليًا في التقدير، ولا راكبًا متن الغرور إذا ما قلت إن هذه الدراسة قد أتاحت لي الفرصة لتصحيح شيء من الأخطاء التي انزلق إليها بعض العلماء السابقين. فمن ذلك ما ذكره الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في تفسيره للطير الأبابيل بأنها الرياح المتجمعة، والحجارة من السجيل بأنها ذرات التراب حملت ميكروب الجدري الذي أهلك الله به الأحباش وجعلهم كعصف مأكول.. فقد ذكرنا -حينئذ- من الحجج والأدلة ما يدحض هذا الرأي ويبطله، وكان مما قلناه في هذا الصدد: إن سورة الفيل قد نزلت على الرسول -صلى الله عيه وسلم- في وقت كان يعيش فيه من أهل مكة أناس رأوا حادث الفيل بأعينهم وبعضهم من أعداء الرسول -صلى الله عليه وسلم- فلو لم تكن الطيور طيورًا حقيقية لظهر من هؤلاء الأعداء من يسارع إلى تكذيب هذه السورة ويعلن ذلك على رءوس الأشهاد، وينتهزها فرصة في الكيد لمحمد -صلى الله عليه وسلم- والطعن عليه.. ولكن الواقع أن سورة الفيل قد نزلت فتلقاها العرب جميعًا
بالقبول، لأنها تقرر حقيقة معروفة عندهم لا شك فيها ولا يجرؤ أحد على إنكارها. ومن ذلك ما قيل في الحجر الأسود من آراء يتناقلها الناس على توالي الأجيال وهي -في واقع الأم- لا تعتمد على أساس سليم من المنقول أو المعقول، وقد فندنا هذه الآراء وانتهينا بحمد الله إلى نتيجة نؤمن بها ونطمئن إليها1. ومن ذلك ما ورد من خلاف بين العلماء عن دور الملائكة في يوم بدر فقد وصلنا في ذلك إلى نتيجة لا بديل عنها -فيما نعتقد- وهي أن الملائكة قد نزلت لتثبيت القلوب، ولم تنزل لتشترك في القتال، وكان مما قلناه في ذلك: إن الاعتقاد باشتراك الملائكة في القتال يزري بكرامة الملائكة وكرامة المسملين حيث تنتهي الموقعة بقتل سبعين من المشركين أمام خمسة آلاف من الملائكة وثلاثمائة من المسلمين. وتعتبر النتيجة على هذا الوضع نصرًا للمشركين وهزيمة للملائكة مع المسلمين2. ومن ذلك ما ذكره المفسرون عند تفسيرهم للآية الكريمة: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .
فقد ذكروا أن تأييد الله للرسول -صلى الله عليه وسلم- بالجنود يقصد به ما وقع في يوم بدر ويوم حنين. وقد خالفنا ذلك الرأي وقلنا إن هذه النعم التي ذكرها الله من إنزال السكينة والتأييد بالجنود مرتبطة بالظروف المذكورة في الآية نفسها وهي قوله تعالى: {إِذْ أَخْرَجَهُ} وقوله: {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} إلى آخر ما ذكرناه في ثنايا الكتاب، وفي مختلف الموضوعات من آراء سبقنا إلى بعضها وسبقنا إلى البعض الآخر. وفيما يتعلق بالمعجزات التي تثبت للنبي الكريم، نحب أن نقول إننا نؤمن كل الإيمان بهذه المعجزات التي روتها كتب الحديث الصحيحة وكتب السيرة الأصيلة1. وأما ما يقوله بعض العلماء من أن معجزة الرسول -صلى الله عليه وسلم- القاهرة هي في القرآن الكريم وحده كالإمام الشيخ محمد عبده والإمام الشيخ محمد مصطفى المراغي وغيرهما ممن يرون هذا الرأي فهم يقصدون به أن القرآن وحده هو المعجزة
العقلية الثابتة التي لا تزال تتحدى العصور والأجيال إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهم جميعًا بطبيعة الحال وفي واقع الأمر لا ينكرون المعجزات الأخرى الثابتة في كتب الحديث الصحيحة لأنهم يؤمنون بالصحيح من الحديث ويؤمنون كذلك بالصحيح من التاريخ. وقد ذكر القرآن الكريم أمثلة من المعجزات التي وقعت لبعض الأنبياء، كالنار التي صارت بردًا وسلامًا على إبراهيم، وتسخير الرياح لسليمان تجري بأمره وتسخير الجن لتعمل بين يديه، وكعصا موسى التي أبطلت سحر السحرة، ورد الله بها كيد الطغاة الماكرين. وما ذكره الله عن عيسى -عليه السلام- حينما قال لقومه: {قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين} 1. كما ذكر القرآن بعض المعجزات الأخرى التي كرَّم الله بها نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- بمعجزة القرآن الخالدة قد كرمه -كذلك- بكثير من المعجزات التي تؤيده وتعضده، وهي معجزات صح سندها وثبتت روايتها أو على الأقل رجحت روايتها، وإنكارها2 ضعف في الدين وهدم للتاريخ من أساسه. وخير ما نختم به هذا الكتاب هو قول الرسول صلى الله عليه وسلم عن العلم والعلماء: "من سلك طريقًا يبتغي فيه علمًا، سهَّل الله له طريقًا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد
كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن العلماء لم يورثوا دينارا ولا درهما. إنما ورثوا العلم.. فمن أخذه أخذ بحظ وافر" 1. وقول الله تعالى عن نبيه الكريم: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} 2. ولله قول الإمام البوصيري: محمد تاج رسل الله قاطبةً ... محمد صادق الأقوال والكلمِ. محمد ثابت الميثاق حافظهُ ... محمد طيب الأخلاق والشيمِ محمد حاكم بالعدل ذو شرفٍ ... محمد معدن الأنعام والحكمِ محمد خير خلق الله من مضرٍ ... محمد خير رسل الله كلهمِ محمد يوم بعث الناس شافعنا ... محمد نوره الهدى من الظلمِ وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين. نسأل الله أن يهيئ لنا من أمرنا رشدًا وأن ييسر سبيل هذا الكتاب إلى القلوب. والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
فهرس الموضوعات
فهرس الموضوعات الموضوع رقم الصفحة مقدمة النشر 4 المقدمة 5 الفصل الأول 14 بين يدي السيرة 14 البيت العتيق 15 بدء بنائه ومحاولة تجديده 16 عام الفيل والطير الأبابيل 18 بقية الأخبار عن البيت العتيق 28 الحجر الأسود 33 العرب المستعربة في مكة 47 الجراهمة والخزاعيون في مكة 47 قصي بن كلاب وأثره على قريش 48 قصة الذبيحين 52 المجتمع العربي قبل ظهور الإسلام 57 المجتمع العربي قبيل ظهور الإسلام 60 اليهودية والمسيحية في بلاد العرب قبل الإسلام 67 اليهودية في بلاد العرب 68 المسيحية في بلاد العرب 74 الفصل الثاني.... 78 من ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بدء الدعوة الإسلامية 78 رضاعه 87 قصة حليمة السعدية 87 عهد الطفولة والشباب 95 زواجه من السيدة خديجة 101 بعض البشائر بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم من التوارة والإنجيل 111 الفصل الثالث 112 من بدء الدعوة إلى الهجرة النبوية 112 موقف قريش من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه 116 هجرة المسلمين الأولى إلى الحبشة 129 إسلام حمزة وعمر 130 قصة الغرانيق 136 الهجرة الثانية إلى الحبشة 143 مقاطعة قريش لبني هاشم وبني وبني المطلب 145 عام الحزن 149 خروجه إلى الطائف 149 الإسراء والمعراج 153 السموات السبع 159 لقاء الأنبياء 160 بيعتا العقبة 161 البيعة الأولى 163 بيعة العقبة الثانية 166 اجتماع الرسول صلى الله عليه وسلم بمسلمي يثرب 166 الفصل الرابع 170 الهجرة وتأسيس الدولة الإسلامية 170 هجرة المسلمين إلى المدينة 170 المؤامرة الكبرى 172 بدء الهجرة النبوية 174 في غار ثور 176 قصة أم معبد 183 حديث سراقة 186 بناء الدولة الإسلامية 191 بناء المسجد 192 المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار 194
الموضوع رقم الصفحة المعاهدة بين الرسول صلى الله عليه وسلم واليهود 197 إعلاء العصبية بين الأوس والخزرج 199 تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة 205 الرسول صلى الله عليه وسلم يضع أساس النظام الاقتصادي 208 الفصل الخامس 213 القتال في الإسلام وغزوات الرسول صلى الله عليه وسلم قبل الفتح الأعظم 213 غزوة بدر الكبرى 219 السرايا قبل بدر 219 سرية عبيدة بن الحارث 220 غزوة بدر الكبرى 222 في ميدان المعركة 227 مشهد رهيب 230 اللجوء إلى الله 231 دور الملائكة في يوم بدر 232 موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من الأسرى 237 غزوة أحد 240 غزوة السويق 240 استعداد قريش وخروجها للمعركة 241 موقف الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين 242 بدء المعركة 244 صور من البطولة والإيمان 245 الرماة يتسببون في تغيير الوضع 247 النتيجة في غزوة أحد 250 غزوة الأحزاب (مقدمات وأسباب) 255 دور إيجابي لدرء الخطر 259 أصابع اليهود 261 موقف المسلمين من الأحزاب 263 حفر الخندق 265 من المعجزات النبوية 268 الأحزاب أمام الخندق 270 مؤامرة بني قريظة 275 الخدعة في الحرب 278 الفرج بعد الشدة 280 عاقبة الظلم ومصير بني قريظة 281 من العبر في غزوة الأحزاب 283 اليهود بين التوراة والتلمود 285 غزوة بني المصطلق 296 حديث الإفك 303 عمرة الحديبية وعمرة القضاء 309 من صلح الحديبية إلى فتح مكة 325 غزوة خيبر 326 كتب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الملوك 330 الفصل السادس 341 يوم الفتح 341 غزوة حنين 353 حصار الطائف 356 غزوة تبوك وما تلاها من أحداث 362 عام الوفود 372 الفصل السابع 383 حجة الوداع 383 وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم 391 موقف المسلمين 396 الفصل الثامن 400 أزواج النبي صلى الله عليه وسلم 400 الفصل التاسع 413 من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم وشمائله 41 الخاتمة 426 فهرس الموضوعات 431