المصلحة المرسلة محاولة لبسطها ونظرة فيها
علي جريشة
تقديم وتعريف
تقديم وتعريف تقديم وتعريف ... المصلحة المرسلة1 محاولة لبسطها ونظرة فيها لفضيلة الدكتور علي محمد جريشة كلية الشريعة أولا: تقديم وتعريف: 1- إن الله بالناس لرؤف رحيم، لم يخلقهم عبثا بل جعل لهم غاية، ولم يتركهم سدا بل هداهم السبيل وحدد معالمه.. كل ذلك بما شرع لهم من أحكام في دينه، وكانت أحكامه محققة لمصالحهم في دينهم ودنياهم وآخرتهم.. وقد ثبت لدى العلماء من تتبع أحكام الشرع واستقرائها أنها تحقق مصالح خمسا وتحافظ عليها هي الدين والنفس والعقل والنسل والمال وهي في تحقيقها لهذه المصالح تتدرج بين مراتب ثلاثة: هي الضرورات: وهو لابد منها لإقامة هذه الخمسة وحفظها، والحاجيات وهي وإن لم تلزم لقيام الخمسة فإنها تلزم لرفع الضيق والحرج عند الأخذ بها، والتحسينات وهي ليست بلازمة لقيام هذه المصالح ولا لدفع الضيق والحرج عند الأخذ بها ولكنها استكمال لحسن الأمر وتحقيق لصالح الخلق2. وتقف كل مصلحة من المصالح الخمسة مكملة للتي تسبقها وخادمة لها، كذلك تقف كل مرتبة من المراتب الثلاثة مكملة للتي تسبقها وخادمة لها. ففي المصلحة الأولى وهي الدين تقف في المرتبة الأولى الضرورات، وفي
مقدمتها شهادة أن لا إله إلا الله محمد رسول الله، فلابد من إقامتها لإقامة الدين، ولو أدى ذلك إلى التضحية بالمصلحة التي تليها وهي النفس، وذلك عن طريق الجهاد إعلاء لكلمة الله، وتمكينا لدينه.. ومن الحاجيات المكملة لإقامة الدين ما شرعه الله من تيسير في بعض أحكامه، رفعا للعنت والحرج1 ومنعا من الضيق والملل، كأداء الصلاة قعودا لمن كان ذا عذر، وقصرها للمسافر وما شرع الله من عقود وأحكام للمعاملات. ومن التحسينات المكملة لإقامة الدين ما ينبغي أن يتحلى به المسلم من خلق العفو والصفح الجميل ودرء السيئة بالحسنة. ووقوف المصلحة وراء كل حكم أنزله الله أمر يراه كل ذي بصيرة فإن خفيت فإيمان المسلم ويقينه بأن الله لا يريد به إلا اليسر، ولا يشرع له إلا الحق والخير.. كل ذلك كاف لأن ندرك ما قرره علماء الشريعة من أن وراء كل حكم شرعي مصلحة. والقول بأن وراء كل مصلحة حكم شرعي2 ينبغي أن يتقيد بالشروط والقيود التي سنشير إليها، وإلا فليست كل مصلحة يتصورها إنسان يمكن أن يبنى عليها حكم شرعي. 2- والمصلحة التي يورد الشارع حكما يحققها تسمى مصلحة معتبرة3 وتلك التي يأتي النص بعدم اعتبارها تسمى مصلحة ملغاة4. والتي لم يعتبرها الشارع ولم يلغها هي المصلحة المرسلة5- وهي موضوع هذا البحث.
حجية المصلحة المرسلة
حجية المصلحة المرسلة حجية المصلحة المرسلة ... ثانيا: حجية المصلحة المرسلة: 3- الوحي –قرآنا وسنة- ليس فقط هو المصدر الأول للأحكام، بل هو المصدر الوحيد للأحكام.. فكيف يتفق ذلك مع ما يعدده الأصوليون من مصادر تقارب العشرة أو تجازوها؟ ووظيفة الإجماع أنه يقوي من هذا الدليل.. والقياس تعرية للحكم الشرعي –الوارد في الكتاب أو السنة- إلى واقعة أخرى لم يرد فيها نص، لاتحاد العلة في الواقعتين. أما المصلحة.. فهي –كما سيبين بإذن الله- لون من القياس على النصوص في مقاصدها ومعناها، وليس في عبارتها ومبناها، أو هي بعبارة أخرى. حكم بروح النصوص ومقاصدها وليس حكم بعبارتها وألفاظها. 4- بيد أن الأمر ليس بهذه السهولة التي أشرنا إليها.. فإن دليلا من الأدلة لم يثر جدلا عنيفا ولا غموضا شديدا، ولا تطرفا ذات اليمين وذات اليسار.. كما أثارت المصلحة المرسلة.. فالبعض أفرط فقدمها على النصوص. والبعض فرط فرفضها رفضا مطلقا. وبين هذا الفرث والدم.. كان رأي الجمهور وسطا سائغا للفاقهين.. 5- وقبل أن نشير إلى هذه الثلاثة نقول إن المصلحة لا عمل لها في دائرة العقيدة لأنها مبنية على اليقين، والمصلحة لا تفيد إلا الظن، كذلك لا عمل لها في ميدان العبادات. (الشعائر والنسك) لأن نصوص القرآن والسنة جاءت مفصلة لها ومبنية، فضلا عن أن أغلب أحكامها ليس له ظاهرة أو مصلحة واضحة لأنها أساسا جاءت اختبارا لمدى طاعة العبد، ويأخذ حكم العبادات ما جرى مجراها من حدود ومقدرات وسائر ما استأثر الله بعلم تفصيلات المصلحة فيه1.
المصلحة بين الافراط والتفريط
أ- المصلحة بين الإفراط والتفريط: 6- تنازع التطرف المصلحة فالبعض قال بتقديمها على النصوص، والبعض قال برفضها.. ولكل وجهة هو موليها وتشير إلى الطرفين وحججها.
7- أما الإفراط فيحمل لواءه نجم الدين الطوفي –الذي قيل إنه حنبلي لكن التحقيق أنه يميل إلى التشيع1- وقد عرض لرأيه في معرض شرحه لما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا ضرر ولا ضرار"2، وقال إنه يرى الأدلة الشرعية تسعة عشر دليلا جعل في مقدمتها النص والإجماع واعتبرها أقواها، ولكنه عاد فقال إن المصلحة تتقدم النص والإجماع إذا تعارضت معه3. ولم يشأ نجم الدين الطوفي خلال عرضه الطويل أن يقدم مثلا واحدا لتعارض النص مع مصلحة حقيقية! وبغض النظر عما ثار حول عقيدته، فإن رأيه يناقض بعضه بعضا، ويتهاتر أوله مع آخره حتى يسقط عن مستوى الاستدلال.. فإنه بعد أن صرح بتقدم النص والإجماع عاد فصرح بتقدم المصلحة على النص والإجماع، وهو وإن أجعل التعارض شرطا.. فإنه لم يستطع أن يقدم مثلا واحدا للتعارض! فضلا عن أنه إذا تعارضت المصلحة مع النص.. فإنه يسقط الاستدلال بها إذ تغدو مصلحة ملغاة.. لا مرسلة ولا معتبرة! 8- وقد نسب إلى الإمام مالك أنه قال إن المصلحة تخصص عام القرآن وتقيد مطلقه4، وليس في أصول الإمام مالك ولا فقهه ما يؤيد ذلك. كذلك نقل عن الإمام مالك أنه قال بتعذيب المتهم لإجباره على الإقرار –استنادا للمصلحة المرسلة- وقد ثبت بالتحقيق أنه ليس رأيا للإمام مالك، وأن هناك رأيا لسحنون في هذا الموضوع لكنه حرف ونقل على هذا النحو، ثم حرف ونسب إلى الإمام مالك5. هذا بعض عن جانب الإفراط. 9- أما جانب التفريط: فقد ذهب
إليه أولئك الذين رفضوا المصلحة نهائيا1 ولأهمية هذا الحكم، ولسقوط كثير من حكام المسلمين في هذا الإثم نذكر شيئا من التفصيل، فنقول بعون الله: إن الرجوع إلى كتب المذهب تكشف خطأ نسبة هذا الرأي إلى مالك، بل تثبت عكس ذلك تماما فهو يقول ((لا أقيم الحد إلا أن يقر بذلك آمنا لا يخاف شيئا)) (المدونة –ج 6. ص 93 طبعة السعادة) . والذي يبدوا أن الرأي حرف عن سحنون! إذ قال: ((إن إقرار المتهم في حبس سلطان عادل إقرار صحيح)) لكن تفحص العبارة يفيد عكس التحريف الذي فهمت به، فهو يقيد صحة الإقرار بعدالة السلطان إن كان المتهم محبوسا.. مما يفاد منه أنه إذا كان ثمة إقرار لسجين في سجن سلطان غير عادل فلا قيمة له.. لأن السجن في مثل هذه الحالة يمثل لونا من الإكراه يشوب الإقرار ومن ثم يغدو مرفوضا، وإذا كان السجن يشكل وحده لونا من الإكراه. أفلا يشكله التعذيب؟! ويشير الإمام الشاطبي في الاعتصام (ج 2 ص 293، 294- مطبعة المنار بمصر) إلى نفس الرأي السابق وينسبه إلى الإمام مالك ويشير إلى أن العذاب المقصود هو السجن، ونحسب أن الشاطبي بذلك نقل رأي سحنون على أنه رأي مالك فهو الذي رأى أن إقرار المتهم في حبس سلطان عادل يعتد به، وهو ما أشرنا إلى أنه يفيد عكس ما يقررون، ومع ذلك فقد أضاف الشاطبي إلى أن أصحاب مالك مضوا على الضرب لإمكان استخلاص الأموال من أيدي السراق والغصاب وأشار نقلا عن الغزالي إلى أن الإمام الشافعي لا يقول بذلك. (ص 295 نفس المرجع) . ولقد نعلم أن البعض قد يحاجج بما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر إذ أمر الزبير أن يمس عم حيي بن أخطب بعذاب ليعترف على ما خبأه ابن أخيه، وبيان ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل في غزوة خيبر فصالحوه على أن يجلوا منها ولهم ما حملت ركابهم، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء والبيضاء،
واشترط عليهم أن لا يكتموا شيئا ولا يغيبوا شيئا فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد: ومع ذلك فقد غيبوا مسكا فيه مال، وحلي لحيي بن أخطب كان قد حمله إلى خيبر حين أجليت النضير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعم حيي بن أخطب: "ما فعل مسك حيي الذي جاء به من النضير"، فقال أذهبته النفقات والحروب، فقال: "العهد قريب والمال أكثر من ذلك"، فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلىالزبير فمسه بعذاب، وقد كان قبل ذلك دخل قرية، فقال قد رأيت حييا يطوف في خربة ها هنا فطافوا فوجدوا المسك في الخربة، فقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ابني أخ الحقيق وأحدهما زوج صفية بنت حيي بن أبي أخطب، وسبى رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءهم وذراريهم وقسم أموالهم بالنكث الذي نكثوا (عن زاد المعاد لابن القيم الطبعة الأولى 1353هـ ج 2) . ونحن نلاحظ على هذه الرواية التي قد يحاجج بها البعض ليجعل للتعذيب شرعية: 1- أن الأمر كان في حالة حرب بين مسلمين وغير مسلمين. 2- أن العذاب لم يقع على أحد من المسلمين، وإنما وقع على يهودي محارب. 3- أن النصوص كثيرة متواترة على حفظ دم المسلم وعرضه وماله، بل إن بعضها يجعل حرمة المسلم أعظم عند الله من حرمة بيته المحرم. 4- أنه قد بدر من الفريق الآخر بعد الصلح نكث للعهد ولذا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالقتل والسبي. 5- أنه ليس هناك ما يفيد في هذه الرواية أن ما وقع على عم حيي بن الأخطب كان لحملة على الاعتراف، بل الأرجح أنه كان عقابا على كذبه على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سأله، وعلى نكثه العهد حين اشترط عليهم الرسول ألا يكتموا وألا يغيبوا! وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمر بالقتل والسبي جزاء على ذلك فإن الضرب جزاء دون ذلك الجزاء!
وقد يكون هذا التفريط رد فعل لذلك الإفراط، لكنهم يبررون ذلك بما يلي: 1- أن الله سبحانه إذا قرر {أَيَحْسَبُ الإنسان أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} قد كفل له من الأحكام ما يكفل له تنظيم حياته دون حاجة إلى جديد {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً} . 2- أن المصالح الحقيقية هي التي وردت بها الأحكام، وما لم يرد به حكم فليس بمصلحة {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} . 3- أنها مظنة الحكم بالهوى ما دامت ليست معتبرة من الشارع، بل هي مترددة بين الاعتبار والإلغاء وفي هذا يقولون إنها ما دامت مترددة بين الاعتبار والإلغاء فإن انحيازها إلى جانب الاعتبار ليس أولى من انحيازها إلى جانب الإلغاء1.
المصلحة المرسلة عند الجمهورر
المصلحة المرسلة عند الجمهورر ... ب. المصلحة المرسلة عند الجمهور: 10- شاع لدى البعض أن الإمام مالك وحده هو الآخذ بالمصالح المرسلة كدليل من أدلة الأحكام الشرعية2 وأضاف البعض إليه الإمام أحمد. لكن النظر الدقيق يثبت أن الأئمة الأربعة أخذوا بها وإن كان ذلك تحت مسميات أخرى فالعبرة بالمعنى قبل المبنى. فالإمام الشافعي عالجها تحت باب القياس وهذا في رأيي نظر ثاقب من الإمام الشافعي لأن المصلحة قياس معنى وإن لم تكن قياس لفظ كما سيبين إن شاء الله والإمام أبو حنيفة عالجها تحت باب الاستحسان والعرف3.. والمصلحة قريبة من الاستحسان.. وعلى ذلك يمكن أن نقول أن المصلحة كدليل شرعي مسلم بها من جمهور الفقهاء. 11- ودليلهم في ذلك: (1) أن الشارع دلً عليها على سبيل الإشارة، حين بين لنا الأحكام وكشف
في بعضها عن المصالح التي تتحقق من ورائها.. فكأنه سبحانه. بذلك يدل على أن وراء كل حكمة مصلحة، وكأنه بذلك سبحانه يدلنا على أن نقيس على المصالح، فبعد أحكام الصيام نجد قول الله {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} . وبعد أحكام الوضوء نجد قول الله {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُم} وعن الصلاة يقول سبحانه {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} . وفي تحويل القبلة يقول سبحانه {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} . وفي القصاص قول الله سبحانه {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَاب} . فماذا على الناس بعد ذلك أن يرعوا المصالح التي أرشد إليها رب الناس؟ (2) إن المصالح تدور في فلك مقاصد الشارع التي استقرئت من أحكامه وهي: الدين والنفس والعقل والنسل والمال. وبالنظرة الفاحصة فإن الأخذ بالمصلحة على هذا النحو يمثل لونا من القياس على النصوص ليس في عبارتها ومبناها ولكن في مقاصدها ومعناها1.. فهي ليست كما ظن البعض انفلاتا من النصوص أو خروجا عليها أو حكما بالرغبة والهوى والتشهي وإنما هي حكم بالنصوص بروحها ومقاصدها إلى جوار ألفاظها وعبارتها. وهي بذلك تحقق شمولا واتساعا ومرونة هي سر من أسرار خلود هذه الشريعة. (3) سلك الصحابة سبيل الاجتهاد بناء على المصلحة، فجمع أبو بكر المصحف ودوًن عمر الدواوين وسك العملة، وعلى ضمن الصناع وقال ((لا يصلح الناس إلا ذاك)) . والصحابة في ذلك لا يصدرون عن رأي مجرد أو هوى متبع، وإنما يصدرون عن القرآن الذي تلقوه، والنبي صلى الله عليه وسلم الذي تعلموا على يديه، ومسلكهم في هذا السبيل نقتدي به ونقتفي أثره عملا بأمر الرسول عليه الصلاة والسلام "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي". ولقد وقع البعض في خطأ كبير إذ ظنوا أن الصحابة كانوا يعملون المصلحة ولو صادمت النصوص.
(4) أن النصوص كألفاظ وعبارات قد تتناهى، وحاجات الناس لا تتناهى والمصلحة كقياس –معنوي- إلى جوار القياس اللفظي تحقق الاتساع والشمول الذي يكفل مواجهة الحاجات المتجددة. 12- وهذه الحجج نفسها تتضمن الرد في نفس الوقت على حجج من رفضوا المصلحة، إذ قامت أغلب حججهم على افتراض خروج المصلحة عن دائرة النصوص والأحكام الشرعية، ومن ثم ظنوها حكما بالهوى، أو اعتبروها خروجا على الدين بعد إذ اكتمل، وهو ما رأيناه داحضا بعد أن بلغنا إلى اعتبار المصلحة لونا من القياس على روح النص ومبناه، فليس ثمة خروج فيها على النصوص.. أما قول الأولين إن انحياز المصلحة المرسلة إلى جانب الاعتبار ليس بأولى من انحيازها إلى جانب الإلغاء.. فمردود بأن هذا الانحياز راجع إلى أن ما تحققه المصلحة المرسلة يضاهي ما تحققه المصلحة المعتبرة، وأن المصلحة المرسلة تدور في فلك نفس المقاصد التي تدور فيها المصلحة المعتبرة.
شروط المصلحة
ج- شروط المصلحة: 13- المصلحة عند الجمهور قائمة على أسس يصح أن تعد شرطا فهي: (1) لا تصادم نصوصا ولا إجماعا. وإلا كانت مصلحة ملغاة، لأن معنى إرسالها أن الشارع لم يلغها ولم يعتبرها. (2) أن تحقق أحد المصالح الخمس: الدين والنفس والعقل والنسل والمال، أي أن تكون المصلحة من جنس هذه المصالح. (3) أن تكون حقيقية وعامة. لأنها إن لم تكن حقيقية كانت وهما، والوهم لا ينبني عليه حكم شرعي. وإن لم تكن عامة كانت خاصة، والأحكام في الشريعة لا توضع لفرد ولا لبعض وإنما هي للناس كافة بغير تفرقة. وهذه الشروط في حقيقتها مستمدة من طبيعة المصلحة، ومن كونها دليلا شرعيا. 14- ولقد أضاف البعض إلى ذلك شروطا أخرى: فقد نقل عن الشافعي أنه يشترط فيها أن تكون ((شبيهة بالمعتبرة)) . ونقل عن الغزالي اشتراطه كونها ((ضرورية)) . أما شرط الشافعي فهو في حقيقته الشرط الثاني الذي أشرنا إليه أن تكون
من جنس المصالح التي جاء بها الشارع.. وبهذا تكون شبيهة بالمعتبرة. وأما شرط الغزالي أن تكون المصلحة ضرورية1 فإنه قد يشعر بحصر نطاق العمل بالمصلحة المرسلة على مرتبة الضروريات دون سائر المراتب الأخرى (الحاجيات والتحسينات) وذلك قد يصح إذا اقتصرنا على أحد مؤلفاته ((المستصفى)) لكن هذا الظن قد يتبدد إذا رجعنا إلى سائر مؤلفاته2. ولعل ما جاء بالمستصفى كان بيانا لما هو موضع اتفاق بين الجميع، إذ يعمل بالمصلحة الضرورية عند جميع الفقهاء بلا استثناء، وذلك في ظننا راجع إلى القاعدة الأصلية ((الضرورات تبيح المحظورات)) 3. كذلك قد يكون الغزالي في معرض بيان الترجيح بين مصلحة ضرورية وأخرى أوفى منها فهو يخص الضرورية بالعمل والتقديم.. ولقد يكون ما ضربه الغزالي مثلا دليلا على ذلك، فهو يضرب مثلا بحالة تترس الكفار ببعض المسلمين، فنحن إزاء مصلحتين: الحفاظ على حياة المسلمين الذين تترس بهم الكفار، ثم الحفاظ على الدين بهزيمة هؤلاء الكفار وفي مراتب المصالح تتقدم المصلحة الأخيرة على المصلحة الأولى لأنها ضرورية وقطعية (أي حقيقية) وكلية (أي عامة) 4.
مانسب الى الصحابة خطأ حول المصلحة
مانسب الى الصحابة خطأ حول المصلحة مدخل ... ثالثا: ما نسب إلى الصحابة خطأ حول المصلحة: 15- تولى نجم الدين الطوفي كبر تقديم المصلحة على النصوص. وقد قدمنا أن لا مصلحة خارج النصوص وأن المصلحة الحقيقية لا تكون إلا داخل دائرة النصوص في فحواها ومبتناها وأنها إن خرجت.. كانت مصلحة ملغاة لا يعتد بها في مجال الأحكام الشرعية. لكن الذين اقتفوا أثر نجم الدين الطوفي وساروا في دربه استدلوا على صحة القضية بعمل الصحابة، وعلى وجه التغليب استدلوا بعمل عمر بن الخطاب
رضي الله عنه، وقالوا عنه أنه كان يقدم المصلحة على النصوص1. وجاوزوا في ذلك الحق والحقيقة.. فما كان لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين تربوا في مدرسة الوحي وقدروه حق قدره أن يخرجوا على الوحي عملا بما يسمى المصلحة!! ولسان حال هؤلاء الصحابة ما قاله أبو بكر الصديق أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا أنا قلت في كتاب الله برأيي.. فمجرد التأويل بالرأي في كتاب الله وليس خارجه يعده أبو بكر كبيرة لا يتصور معها أن تقله أرض الله أو تظله سماؤه أما عمر فهو وإن اجتهد فقد كان يجتهد داخل دائرة النصوص بحثا عن حكم الله أما أن يخرج على النصوص تفضيلا للمصلحة عليها.. فهذا لا يتصور من عمر.. لأن معنى ذلك أن يتقدم برأيه على الوحي وهو الذي يتلوا قول الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} ، وهو الذي ضرب رأس منافق راح يحتكم إليه بعد أن احتكم إلى رسول الله، فقال له عمر بعد أن خرج بسيفه وهوى عليه: هذا حكم عمر فيمن لا يرضى حكم الله ورسوله. ولو دقق أولئك الباحثون فيما احتجوا به من أمثلة لوجدوا لها تفسيرا آخر غير أن يقولوا إن الصحابة قدموا المصلحة على النصوص. ونورد فيما يلي الأمثلة لنناقشها ونتبين قصد عمر منها:
ابطال سهم الؤلفة قلوبهم
ابطال سهم الؤلفة قلوبهم ... 1- إبطال سهم المؤلفة قلوبهم: 16- قيل إن عمر رضي الله عنه أبطل سهم المؤلفة قلوبهم الوارد في مصارف الزكاة في الآية الكريمة {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} .. وذلك إعمالا للمصلحة في مواجهة النص. 17- لكن النظرة الفاحصة تكشف غير ذلك. إن لكل حكم مناطا للتطبيق، ومنط تطبيق هذا النص هو تأليف القلب،
وقد نظر عمر فإذا الإسلام قد عز، ودانت له أكبر إمبراطوريتين في العالم. ولم يعد الإسلام بحاجة إلى تأليف القلب أو إلى المؤلفة قلوبهم، وإذا كان النص يدور حول علته وجودا وعدما، فإن إعمال النص نفسه يقتضي الكف عن إعطاء هذا الفريق من الناس بعد أن عز الإسلام وعزت دولته! أفليس هذا اجتهاد داخل النص..؟! أم يفتات على عمر ويقال إنه قدم المصلحة على النص؟!
في قتل الجماعة بالواحد
2- في قتل الجماعة بالواحد: 18- قيل إن عمر إذ قرر قتل الجماعة بالواحد قد فعل ذلك بناء على المصلحة مصادمة للنص الكريم {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} وقوله {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ..} . 19- ولم يكن عمل عمر تشريعا كما تصور البعض. إنما كان تطبيقا للنص بفهم عميق: إن التعريف في النفس يعني ((الجنس)) ولا يعني ((المفرد)) والباء في النفس التالية هي باء السببية.. وعلى ذلك فإن النص يعني أن كل نفس شاركت في القتل تقتل بالنفس التي قتلت أي بسبب هذه النفس المقتولة. وقد فهم ذلك الوضعيون أخيرا حين جعلوا جزاء القتل لكل من ساهم فيه وجعلوا مجرد الوقوف في الطريق العام لملاحظته دون اشتراك مادي في الجريمة تجعل صاحبها فاعلا أصليا يستحق نفس العقوبة.. وما دون ذلك جعلوه شريكا له نفس عقوبة الفاعل الأصلي ولئن تنكب الوضعيون السبيل فلم يجعلوا العقوبة هي القتل إلا في ظروف معينة قلما تثبت، ومن ثم فلم يعد الناس يجدون شفاء لصدورهم في تلك العقوبات الهزيلة. ولئن تنكبوا السبيل كذلك فلم يجعلوا لولي الدم العفو أو القصاص أو الدية بما يكفل شفاء الصدر لهم. فإن عقوبة الإسلام لا تحتاج إلى سبق إصرار ولا ترصد ولا اقتران بجريمة أخرى. كما أن ولي الدم له الحق بين القصاص أو الدية أو العفو. كذلك فإن اجتهاد عمر بقتل الجماعة بالواحد يجعل في تطبيق النص على هذا النحو شفاء للصدر أيما شفاء.. أمر عجزت عنه كل الأنظمة الوضعية! أفنلوم عمر بعد ذلك أن اجتهد في فهم النص وتطبيقه؟!
تعطيل حد السرقة عام المجاعة
3- تعطيل حد السرقة عام المجاعة: 20- نسب إلى عمر أنه عطل حد السرقة عام الرمادة بناء على المصلحة وأنه بذلك يقدم المصلحة على النص. 21- والحق أن الأمر ليس تقديما للمصلحة على النص ولا تعطيلا لحد من حدود الله.. ولكنه بولايته العامة وجد أن شروط النص غير منطبقة إذ يوجد شبهة قوية تحول دون تطبيق الحد أو تدرؤه، وهو الذي سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"ادرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم" وسمعه كذلك يقول: "لئن يخطئ الإمام في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة" وهو الذي ترجمه القانونيون المحدثون بقولهم ((إن العدالة تتأذى من إدانة برئ واحد لكنها لا تتأذى من تبرئة مائة متهم)) . وهو الذي جاءه صاحب بستان يشكو سرقة خادمه لثمار البستان فلما حقق القضية وجد أن صاحب البستان لا يعطي خادمه ما يكفيه.. فقال له عمر لو سرقت بعد ذلك لقطعت يدك أنت.. هذا الفقه السليم لإقامة الحدود الإسلامية هو الذي فقهه عمر فوجد أن الرمادة شبهة كبيرة تدرأ الحد.. فوجد أن شروط النص لا تنطبق.. وليس معنى ذلك تقديم المصلحة على النص.. إنما هو اجتهاد داخل النص نفسه للبحث في توافر شروط الجريمة وشروط العقوبة.. وهكذا لم يفهم البعض عمر.. ولا فقه عمر..!
ايقاع طلاق الثلاث بلفظ واحد طلاقا بائنا
4-إيقاع طلاق الثلاث بلفظ واحد طلاقا بائنا: 22- قالوا إن عمر خالف صريح القرآن في قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَان} أي دفعتان، وخالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم العملية إذ كان يوقع طلاق الثلاث طلقة واحدة، فقد روى ابن عباس رضي الله عنه ((كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق ثلاث واحدة فقال عمر ابن الخطاب إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم)) 1. 23- ويرد على ذلك بالآتي: أ- أن هذا الحديث ضعفه كثير
من من رجال الحديث1. ب- أنه وردت أحاديث أخرى تفيد العكس أن عمل عمر كان هو عمل الرسول عليه الصلاة والسلام. جـ- أنه على فرض التسليم بصحة الحديث فإنه يعني أن الناس كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوقعون طلقة واحدة، لكنهم في عهد عمر صاروا يوقعون الثلاث دفعة واحدة، يدل على ذلك ما جاء في آخر الحديث ((إن الناس استعجلوا أمرا كانت لهم فيه أناة)) ، أي أن الحديث يحكي الحال الذي كانوا عليه والحال الذي صاروا إليه، فهو حديث عن تغير عادة الناس وليس عن تغير الحكم في المسألة2. د- الآية الكريمة {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} لا تعني ((دفعتان)) فقد ورد كذلك قول الله {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْن} وقوله {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} ولم يقل أحد إنها تعني أن الأجر والعذاب يكون على دفعات3.
نظرة في المصلحة المرسلة
نظرة في المصلحة المرسلة نظرة في المصلحة المرسلة ... رابعا: نظرة في المصلحة المرسلة: 24- لعل وجه المصلحة بعد هذا العرض الطويل قد بان بغير غيش ولا تشويه، بعد أن قضت في كتب الأصول وقتا طويلا غير واضحة المعالم. ولعلها بانت تطبيقا لروح الشريعة ومقاصدها، وليس خروجا عليها أو انفلاتا منها، ولعل الشروط التي تقدمت من عدم مصادمتها للنصوص، ومن دورانها في فلك المقاصد الخمسة التي تدور حولها أحكام الشرع كلها، ومن كونها حقيقية وعامة، لعل هذه الشروط ضوابط تحرسها أن تكون مظنة الحكم بالهوى أو التشهي! ثم لعلها بذلك تحقق المرونة داخل إطار الإسلام فنواجه بروح النصوص كل جديد لم يرد به نص ولم يمكن قياسه على نص، وتؤكد بذلك صلاحية هذه الشريعة وخلودها على مر الأيام وتجدد الحاجات والرغبات. وهي تحقق المرونة في المجال الذي يحتاجها وهو مجال المعاملات. أما مجال العقيدة والعبادات وما يجري
مجراها فهو بعيد عن عمل المصلحة قائم على التطبيق المباشر للنصوص. وهي بعد ذلك ليست مصدرا مستقلا للأحكام لكنها وسيلة أو أداة للاجتهاد أو الاستنباط ترد الأمر أخيرا إلى الله ورسوله.. فما تكشف عنه المصلحة هو حكم الله في الموضوع.. لأنه رد إلى نصوص الكتاب والسنة في معناها دون مبناها وفي غاياتها ومقاصدها دون عباراتها وألفاظها. وإن أمثلة المصلحة الكثيرة1 يمكن ردها بيسر إلى نصوص الكتاب والسنة، بدليل أن الأمثلة التي ضربوها على أنها مصادمة للنصوص وتقديم للمصلحة عليها تبين أنها تطبيق للنصوص ذاتها وليس ثمة خروج عنها! وبعد فهل آن للمخلصين من الفاقهين أن يعيدوا كتابة فقهنا الإسلامي وأصوله بعد أم طال عليه الأمد حتى أصاب وجهه المضيء الكثير من التشويه أو الغبار..؟ وهل آن لهم بعد ذلك أن يدخلوا مجال الاجتهاد ليقدموا للأمة الإسلامية الحلول الشرعية لمشاكلها بدلا من أن تستورد الحلول وتستورد معها الانحلال من الغرب ومن الشرق؟! هل آن لهم أن يقفوا وقفة ((مضرية)) في وجه الراغبين عن شريعة الله، المنفذين أو الراضين بما لم يأذن به الله..؟! والله لو فعلوا لتغير وجه الأرض، ولتغير وجه التاريخ {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.. والحمد لله رب العالمين.