المعين على تفهم الأربعين ت دغش
ابن الملقن
المُعيْنُ عَلى تَفَهُّمِ الأرْبَعِيْنَ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة الطبعة الأولى 1433 هـ - 2012 م مكتبة أهل الْأَثر للنشر والتوزيع الكويت - حَولي - شَارِع الْمثنى تلفاكس: 22656440 / الْخط الساخن: 66554369 E - mail: aahel - [email protected] الموزعون المعتمدون السعودية * دَار التدمرية - الرياض ت: 4924706 - فاكس: 4937130 الإمارات * دَار البشير - الشارقة ت: 6562980 - فاكس: 6562986 عمان * مكتبة الْهِدَايَة - صلالة ت: 23298887 - فاكس: 23298886 قطر * دَار الإِمَام البُخَارِيّ - الدوحة ت: 4684848 - فاكس: 4685588 مصر * دَار الْآثَار - الْقَاهِرَة ت: 26422323 - فاكس: 26363786 * المكتبة العصرية - الْإسْكَنْدَريَّة ت: 34970370 - فاكس: 33907305 الجزائر * دَار الإِمَام مَالك - بَاب الْوَادي ت: 70361057 فاكس: 25391318 الْمغرب * دَار الجيل - الدَّار الْبَيْضَاء ت: 22451082 - فاكس: 22450935 الْيمن * دَار الْآثَار - صنعاء ت: 633717 - فاكس: 603256 الْكتب والدراسات الَّتِي تصدرها المكتبة تعبر عَن آراء واجتهادات أَصْحَابهَا
مقدمة المحقق
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله الذي شَرَحَ صُدُورَ أَهْلِ الإسلام للسُّنَّةِ فانْقَادَتْ لاتِّبَاعِهَا وارْتَاحَتْ لِسَمَاعِها، وأَمَاتَ نُفُوسَ أَهْلِ الطُّغيان بِالبِدْعَةِ بَعْدَ أنْ تَمَادَتْ في نِزَاعِهَا فَغَالَتْ في ابتداعِها، وأشهد أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، العالم بانقياد الأفئِدَةِ وامْتِنَاعِهَا، المُطَّلِعُ على ضمائر القلوب في حالَتَيْ افتِرَاقِها واجتماعِها. وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله، الذي انخفضت بحقِّهِ كلمة الباطل بعد ارتفاعها، واتَّصلت بإرساله أنوار الهدى وظهرت حجتها بعد انقطاعها، صلى الله عليه وسلم ما دامت السَّماءُ والأرض هذه في سُمُوِّها وهذه في اتساعها، وعلى آله وصحبه الذين كسروا جيوش المردة وفتحوا حصون قلاعها، وهجروا في محبة داعيهم إلى الله الأوطار والأوطان ولم يعاودوها بعد ودَاعِها، وحفظوا على أتباعهم أقواله وأفعاله وأحواله حتى أَمِنت به السنن الشريفة مِن ضَياعها (¬1)، أما بعد: "فإن أَوْلى مَا صُرِفَتْ فيه نَفَائِسُ الأيام، وأغلى ما خُصَّ بمزيد الاهتمام، الاشتغالُ بالعلوم الشَّرْعية المتلقاة من خير البريَّة، ولا يرتابُ عاقِلٌ في أَنَّ مَدَارَها على كتابِ الله المُقْتَفَى، وسنة نبيه المصطفى، وأن باقي العلوم إِمَّا آلاتٌ لِفَهْمِهَا وهي الضَّالَّةُ المطلوبة، أو أجنبية عنها وهي الضارة المغلوبة. ¬
والرسولُ - صلى الله عليه وسلم - أشرفُ الخَلقِ كلِّهم أجمعينَ، وقد أُوتِيَ جوامع الكلم، وسواطِعَ الحِكَم، من عند رب العالمين، فكلامه أشرفُ الكَلِم وأفضلُها، وأجمعُ الحِكَم وأكملُها، كما قيل: "كلامُ المُلُوك مُلُوكُ الكَلامِ" وهو تِلوَ كلام الله العلَّام، وثاني أدلةِ الأَحكام؛ فإن علوم القرآن وعقائد الإسلام بأسرها، وأحكام الشريعة المطهرة بتمامها، وقواعد الطريقة الحقَّة بحذافيرها، تتوقف على بيانه - صلى الله عليه وسلم -، فإنها ما لم تُوزَن بهذا القِسْطَاس المستقيم، ولم تُضْرَب على ذلك المعيار القويم، لا يُعْتَمَدُ عليها، ولا يُصَار إليها فهذا العِلم المَنصوص، والبِنَاء المرصوص، بمنزِلَةِ الصَّرَّاف لجواهِرِ العلوم عَقْلِيها ونَقْلِيِّها، وكالنقاد لنقود كل الفنون: أصليها وفرعيها من وجوه التفاسير والفقهيات ونصوص الأحكام ومآخذ عقائد الإسلام، وطرق السلوك إلى الله سبحانه وتعالى ذي الجلال والإكرام، فما كان منها كامل العيار نقد هذا الصراف فهو الحري بالترويج والاشتهار. وما كان زيفًا غَيْرَ جَيِّدٍ عند ذاك النّقاد فهو القمين (¬1) بالرَّدِّ والطَّرْدِ والإنكار، فَكُلُّ قول يصِّدقه خبر الرسول فهو الأصلح للقبول، وكل ما لا يساعده الحديث والقرآن، فذلك في الحقيقة سفسطة بلا برهان. فهي مصابيح الدُّجَى، ومَعَالِمُ الهُدَى، وبمنْزِلَةِ البَدْرِ المنير، مَنِ انقَادَ لها فقد رَشَدَ واهتَدَى وأُوتي الخيرَ الكثير، ومَنْ أَعْرَضَ عنها وتَوَلَّى فقد غوى وهوى وما زاد نفسه إلَّا التخسير، والعلم في الحقيقةِ هو عِلْمُ السُّنَّةِ والكتاب، والعمل بهما في كل إياب وذهاب" (¬2). ¬
وقد اعتنى علماء الملة المحمدية بجمع أحاديث خير البرية، فصنَّفوا المُصنَّفات في الأحكام والعقائد والسلوك وغيرها مشتملة على الأحاديث النبوية، ثم اختصروها إلى أربعينيات فكتبوا في: الأربعين في صفات رب العالمين، والأربعين في الزهد، والأربعين في الأحكام. . . إلخ، ومن تلكم المؤلفات ما جَمَعهُ الفقيهُ الشَّافعي شرف الدِّين النَّووي (ت: 667 هـ) في رسالته "الأربعون" والتي عُرِفَت فيما بعد بـ"الأربعين النووية"، والتي كانت في الأصل أحاديث جمعها الفقيه الشافعي أبو عمرو عثمان بن موسى الشَّهْرَزوري المعروف بـ"ابن الصَّلاح" (ت: 643 هـ) وكانت (26) حديثًا، فزاد عليها النووي إلى أن بلَّغها (42) حديثًا. ولمَّا كتبَ الله لهذه الأربعين القبول والانتشار بين طلاب العلم وأهله، قام العلماء بشرحها ليعم نفعها الجميع، إذ هي مشتملة على أربعين حديثًا في العقائد والأحكام والأصول والزهد وغيرها، ومَن حَفِظَها وعَلِمَ معانيها فقد حصَّل خيرًا كثيرًا كما سيأتي في هذه الرسالة. ومِن تلكُم المؤلفات التي اعتنت بهذه الأربعين هذا الكتاب الذي بين أيدينا "المعين على تفهم الأربعين" للعلامة الفقيه عمر بن علي الأنصاري الأندلسي الأصل المصري الشهير بـ"ابن الملقن" الشافعي (ت: 804 هـ) والذي عُرِف بكثرة التصانيف وجودتها، وكتابه الذي بين أيدينا تحفةٌ مِن تُحَفِهِ التي سارت بها الركبان، فهو كتاب فذ لا يكاد يوجد له نظير بين شروح الأربعين، فهو مليء بالفوائد، سهل العبارة، مرتَّب الأفكار، مشتمل على أقوال أهل العلم، يحتوي على أحاديث كثيرة وآثار وأشعار وغير ذلك، وهو مكثر من النقل عمن سبقه مع تحرير وزيادة ونقص حسب
ما يرى من الحاجة، والحقيقةُ التي أَدرَكتُها خلال معايشتي لهذا الكتاب لسنوات عديدة، ومن خلال قراءتي لعامَّة الكتب التي شرحت "الأربعين" هي: أنَّ مَن أتى بعده من شُرَّاح الأربعين لا يقاربون شرحه، وكثير منهم عالة عليه، بل لا أُبالغ إن قلتُ إن شرحه يعدُّ أفضل الشُّروح المطبوعة مع شرح الإمام ابن رجب الحنبلي (ت: 795 هـ) "جامع العلوم والحكم". وقد كنتُ بدأتُ بتحقيق هذا الكتاب على نسخة فريدة فيها سقم وتحريف وسقط في عام (1426 هـ) تقريبًا، ثم صرفني عنها صوارف علمية أُخرى ليس لي تأخيرها لعظم الحاجة إليها، فأجَّلتُ العمل عليه وانقطعتُ عنه فترات طويلة ثم عاودت العمل وأنا عاقِدُ العزم على طبعه ونشره بين أهل العلم وطلابه؛ لأنه كتاب فردٌ في معناه، ولأني قد بَذَلْتُ جُهدي وطاقتي في تحقيق النصِّ، وتصحيح النُّسخةِ الخطيَّةِ، وتوثيق الرسالة وخِدْمَتِها بما يليق، وقد عانيتُ كثيرًا في قراءة وفهم وتقويم النص، وهذا فيما أَرى هو عَمَلُ المُحقِّق حقًّا، وهو مع كونهِ من الأعمال المُتعِبة والتي تأكُلُ الجُهدَ والوقتَ إلَّا أنه مُمتِعٌ لكلِّ طالبِ عِلم، ولذلك لم آلُ جهدًا في تصويبِ كلمةٍ، أو تصحيح تَصْحيفٍ، أو تقويم عبارةٍ، أو فقرةٍ مُشكلة أتبيَّنُ مغزَاها، وأتأمل في مَبْناها، فيتبيَّنُ لي أن ثمَّةَ سقطًا أو تحريفًا، أو انتقال نظر ناسخ، وأحيانًا أقف ساعة أو ساعتين أو يومًا أو يومين في مثل هذه الأمور، حتى إن العبارة تراودني في حلي وتَرحالي، وأراجع لأجلها الأمهات الكبار، والرسائل الصغار، كلُّ ذلك حتى يخرج هذا الكتاب بهيئةٍ عِلميَّةٍ -فيما أحسب وأظن- تُؤدِّي الغرض، ورأيتُ أنه مهما عرض لي من عارض فإني عاقد العزم على إخراج هذا الكتاب بحلة تليق به، طال الزمان أو قصر، بما أني اجتهدت فيه
فلا يمكن أن تذهب تلك الأيام والليالي هباءً منثورًا، وذلك رجاء الأجر والمثوبة ببقاء هذا العلم بين الأجيال الكثيرة، وهو من الأجر الذي لا ينقطع. هذا وقد قدَّمتُ بين يدي الرسالة بمقدمة والتمهيد، والتمهيد تكلمتُ فيه على عدة مطالب: المطلب الأول: التعريف بالمؤلف. المطلب الثاني: اسم الكتاب وتوثيق نسبته لابن الملقن. المطلب الثالث: تاريخ تأليف هذا الكتاب وأهميته. المطلب الرابع: النسخ الخطية المعتمدة في تحقيق الكتاب. المطلب الخامس: المآخذ على الكتاب. المطلب السادس: منهجي في تحقيق الكتاب. هذا والله أسأل أن ينفع به قارئه، اللهم اجعل عملي صوابًا، واجعله لك خالصًا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. وكتب دَغَش بن شبيب بن فنيس العَجْمي دولة الكويت
التمهيد وتحته ستة مطالب: المطلب الأول: التعريف بالمؤلف. المطلب الثاني: اسم الكتاب وتوثيق نسبته لابن الملقن. المطلب الثالث: تاريخ تأليف هذا الكتاب وأهميته. المطلب الرابع: النسخ الخطية المعتمدة في تحقيق الكتاب. المطلب الخامس: المآخذ على الكتاب. المطلب السادس: منهجي في تحقيق الكتاب.
المطلب الأول: التعريف بالمؤلف.
المطلب الأول: التعريف بالمؤلف. هو: عمر بن علي بن أحمد بن محمد بن عبد الله السراج أبو حفص ابن أبي الحسن الأنصاري الوادي آشي الأندلسي التكروري الأصل المصري الشافعي، يُعرف بابن الملقن، وابن النحوي. ولد في ربيع الأول سنة (723 هـ) بالقاهرة، وكان أصل أبيه أندلسيًّا فتحول منها إلى التكرور وأقرأ أهلها القرآن وتميز في العربية وحصل مالًا ثم قدم القاهرة فأخذ عنه الإسنوي وغيره ثم مات، ولصاحب الترجمة سنة، فأوصى به إلى الشيخ عيسى المغربي، وهو رجل صالح كان يُلَقِّن القرآن بجامع ابن طولون، فتزوج بأُمِّهِ، ولذا عُرِفَ الشيخ به حيث قيل له: "ابن المُلَقِّن". قال السَّخاوي: "وكان فيما بلغني يغضبُ منها بحيث لم يكتبها بخطِّهِ، إنما كان يكتب غالبًا: ابن النحوي، وبها اشتهر في بلاد اليمن. نشأ في كفالة زوج أمه ووصيه فحفظ القرآن والعمدة وشغله مالكيًّا، ثم أشار عليه ابن جماعة -أحد أصحاب أبيه- أن يقرئه "المنهاج" فحفِظهُ، وذكر أنه حصل له منه خير كبير وأنشأ له ريعًا فكان يكتفي بأجرته وتوفر له بقية ماله للكتب وغيرها، بحيث قال شيخنا [ابن حجر] أنه بلغه أنه حضر في الطاعون العام بيع كتب بعض المحدثين فكان الوصي لا يبيع إلَّا بالنقد الحاضر، قال [ابن الملقن]: فتوجَّهتُ إلى منزلي فأخذت كيسًا من الدراهم ودخلت الحلقة فصببته، فصرت لا أزيد في كتاب شيئًا إلَّا قال: بع له، فكان فيما اشتريتُهُ "مسند الإمام أحمد" بثلاثين درهمًا! " (¬1). ¬
شيوخه
شيوخه: شيوخ ابن الملقن كثير، ولعل من أبرزهم: برهان الدين إبراهيم بن لاجين الرشيدي -أخذ عنه القراءات - (ت: 749 هـ). أبو حيان محمد بن يوسف -أخذ عنه العربية- (ت: 745 هـ). وتقي الدين السبكي علي بن عبد الكافي -أخذ عنه الفقه- (ت: 756 هـ). والكمال النشائي أحمد بن عمر (ت: 757 هـ). والجمال بن هشام عبد الله بن يوسف (ت: 761 هـ). وخليل بن كيكلدي العلائي الشافعي أخذ عنه الفقه (ت: 761 هـ). وعبد العزيز بن محمد بن إبراهيم عز الدين أبو عمر الكناني الشافعي المعروف بابن جماعة (ت: 767 هـ). والجمال الإسنائي أو الإسنوي عبد الرحيم بن الحسن (ت: 772 هـ). مؤلفاته (¬1): كان ابن الملقن من المكثرين من التَّصنيف، ويطول المقال بنا إذا ذكرناها جميعها، ولكن لعل من أبرزها وأكثرها شهرة في زماننا: "المقنع في علوم الحديث"، طبع في مجلدين. و"البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير" طبع عن دار الهجرة بالسعودية في (10) مجلدات. ¬
ثناء العلماء عليه
و"التوضيح لشرح الجامع الصحيح" طبع على نفقة وزارة الأوقاف القطرية -وفقهم الله لكل خير- في (36) مجلدًا. و"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" طبع بتحقيق د. عبد العزيز المشيقح في (11) مجلدًا عن دار العاصمة بالرياض. ثناءُ العلماءِ عليه: قال ابن حجر: "كان مديد القامة، حسن الصورة، يُحِبُّ المزاح والمداعبة مع ملازمة الاشتغال والكتابة، وكان حسن المحاضرة، جميل الأخلاق، كثير الإنصاف، شديد القيام مع أصحابه. واشتهر بكثرة التصانيف حتى كان يقال أنها بلغت ثلاثمائة مجلد ما بين صغير وكبير. وعنده من الكتب ما لا يَدخُل تحتَ الحَصْر، منها ما هو ملكه ومنها ما هو من أوقاف المدارس لا سيما الفاضلية، ثم إنها احترقت مع أكثر مسوداته في أواخر عمره وفُقِدَ أكثرها وتغير حاله بعدها فحجبه ولده إلى أن مات" (¬1). وأنشده الحافظ ابن حجر بعد هذه الحادثة مخاطبًا له (¬2): لا يُزعِجَنَّكَ يا سراج الدِّين أنْ ... لعبَت بكُتبِكَ أَلسنُ النِّيرانِ للهِ قد قَرَّبتَها فَتُقُبِّلتْ ... والنارُ مسرعةٌ إلى القُربانِ قال المقريزي: "قد وصفهُ الأئمة بالحفظ قديمًا، فشُوهِدَ بخطِّ حافظ العصر زين الدين العراقي في طبقة [سماع] في آخر "فوائد تمام": وسَمِعَ ¬
وفاته
الشيخ الإمام الحافظ سراج الدين. . فذكره. وبخط الحافظ العلامة صلاح الدين العلائي على "جامع التحصيل في رواة المراسيل" بالنعت: قرأ عليَّ هذا الكتاب الشيخ الفقيه الإمام العالم المحدِّث الحافظ الكبير سراج الدين شرف الفقهاء والمحدِّثين. . . فذكره". وقال المقريزي -أيضًا-: "كان من أعذب الناس ألفاظًا، وأحسنهم خُلُقًا، وأفكههم محاضرةً، صَحِبتُهُ عِدَّةَ سنين، وأخذتُ عنه كثيرًا من مَرْوياته ومُصَنَّفاته" (¬1). وقال ابن حجر: "وهؤلاء الثلاثة العراقي والبلقيني وابن الملقن كانوا أعجوبة هذا العصر على رأس القرن: الأول في معرفة الحديث وفنونه، والثاني في التوسع في معرفة مذهب الشافعي، والثالث في كثرة التصانيف، وقُدِّرَ أنَّ كُلَّ واحدٍ من الثلاثة وُلدَ قبلَ الآخر بسنة ومات قبله بسنة، فأولهم ابن الملقن ثم البلقيني ثم العراقي" (¬2). وفاته: توفاه الله في ليلة الجمعة سادس عشر ربيع الأول سنة أربع وثمانمائة (804) وتأسَّف الناس على فقده (¬3). ¬
المطلب الثاني: اسم الكتاب وتوثيق نسبته لابن الملقن
المطلب الثاني: اسم الكتاب وتوثيق نسبته لابن الملقن: اسم الكتاب كما جاء على النسخة الخطية ومقدمة المؤلف هو: "المعين على تَفَهم الأربعين". أما ثبوت هذا الكتاب لابن الملقن، فإنا إذا نظرنا في الكتاب وجدنا أنه يدل بنفسه على أن مؤلفه هو الإمام ابن الملقن، هذا عدا من ذكره من العلماء ونسبه له، وإليكم الأدلة: 1 - ذَكَرَ ابن الملقن جُملةً من كُتُبهِ وأحال إليها في أثناءِ كتابه هذا فمنها: أ - كتابه شرح عمدة الأحكام المسمى بـ"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" انظر ص (75، 80، 87، 88، 90) من هذه الطبعة من "المعين". ب - وذكر: تخريج أحاديث الرافعي الكبير، المسمى بـ "البدر المنير" ص (69). ج - وأحال إلى كتابه: "شرح صحيح البخاري" المسمى بـ "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" ص (103، 146، 152، 172، 178، 223). د - وإلى كتابه: "المقنع في علوم الحديث" ص (238). وقارن بـ"المقنع" (1/ 89 - 97). هـ - و"رجالُ العُمْدَة" يعني: عمدة الأحكام ص (249). و- وكتابه: "الأشباه والنظائر" ص (181). ز - وكتابه: "غاية السول في خصائص الرسول - صلى الله عليه وسلم -" ص (152).
ح - وكتابه "لغات المنهاج" ص (221)، وهذه كلها كُتُبه، أحال إليها في (17) موضِعًا، مِمَّا يَدلُّ على أن هذا الكتاب له قطعًا. 2 - أنه ذكر كتابه "المعين" في بعض كتبه، فقد ذكره في "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" انظر: (3/ 195)، (29/ 404)، (30/ 127) وغيرها. 3 - ثم المطابقة التامة بين كثير من كلام المؤلف هنا وما في بعض كتبه. مثاله: شرح حديث عمر - رضي الله عنه -: "إنما الأعمال بالنيات"، وقد ذكرتُ في التحقيق المطابقة التامة بين الشرحين هنا، وفي "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام". وحديث النعمان - رضي الله عنه -: "إنَّ الحلال بيِّن، وإنَّ الحرامَ بيِّن" وهو الحديث (6) من "الأربعين"، قارنه بما في "التوضيح" (3/ 195 - 201). وحديث تميم الداري - رضي الله عنه -: "الدين النصيحة" انظر: "التوضيح" (3/ 241 - 244). وحديث ابن عمر - رضي الله عنه -: "أمرتُ أن أقاتل الناس" انظر: "التوضيح" (2/ 607 - 615). 4 - إن اسم المؤلف ظاهر على الورقة الأولى من النسخة الخطية وفي خاتمتها. 5 - إن الكتاب ذكره جماعة من العلماء، فمنهم: أ - السخاوي في "الضوء اللامع" (1/ 102)، (6/ 102)، وفي "المنهل العذب الروي في ترجمة النووي" (92).
ب- وابن فهد في "لحظ الألحاظ بذيل طبقات الحفاظ" (199). ج- والمباركفوري في كتابه "تحفة الأحوذي" (1/ 109). د- وحاجي خليفة في "كشف الظنون" (1/ 60). هـ- وإسماعيل باشا البغدادي في "هدية العارفين" (1/ 791) وغيرهم. فهذه خمسة أدلة تدل على أن الكتاب الذي بين أيدينا هو لابن الملقن. وبالله التوفيق.
المطلب الثالث: تاريخ تأليفه
المطلب الثالث: تاريخ تأليفه: ذكر ابن الملقن في آخر كتابه "المعين" تاريخ التأليف فقال الناسخ: "قال شيخنا مُؤلِّفه -فسح الله في مُدَّتهِ، ونفع الله الإسلام بعلومه وبركته-: وقد كنتُ فرغتُ مِن تسويدها يوم الجمعة سابع عشر رمضان المعَظَّم، من سنةِ تسع وخمسين وسبعمائة، واتَّفق تبييضه يوم الثلاثاء ثاني عشر جمادى الآخرة من سنة ثمان وثمانين وسبعمائة، وأجزتُ رِوَايَتَهُ لِمَنْ أدركَ حَيَاتي من المسلمين". فكانت البداية عام (759 هـ) وفرغ منه في عام (788 هـ)، أي أنه اشتغل في تأليفه خلال (29) سنة من البحث والتنقيب والتحقيق والتدقيق! هذا عدا الفترة التي استغرقها في تسويد الكتاب والتي تُعتبر المرحلة الأولى من التأليف والتي سبقت عام (759 هـ) فتكون المدة في أقل تقدير ثلاثين سنة! وللفائدة فإنه انتهى منه بعد الفراغ من جملة من كتبه، أو في عبارة أدق انتهى من تسويد أكثرها، حيث ذكرها في "المعين" فمنها: "الإعلام"، و"البدر المنير" و"المقنع"، و"التوضيح"، و"الأشباه والنظائر" وغيرها، وقد تقدم ذكرها قريبًا ص (14 - 15).
المطلب الرابع: وصف النسخة الخطية
المطلب الرابع: وصف النسخة الخطية: لم يتيسر لي -بعد البحث والسؤال- الوقوف إلَّا على نسخة خطية يتيمة لهذا الكتاب، وإليك وصفها: المخطوطة تقع في (109) ورقة ذات وجهين، يعني (218) صفحة، كل صفحة فيها من (23) إلى (25) سطرًا. كل سطر فيه (9) إلى (12) كلمة. تاريخ النسخ كان في عام (913 هـ)، والناسخ هو عبد الرحمن بن محمد بن عبد الجبار بن أبي بكر بن حسين الشعبي. والناسخ يُصحِّح ويقابل نسخته، ولا ينقط أكثر الكلمات، ولذلك تبقى بعضها محتملة لوجهين فأجتهد في استخراج الصواب، والله الموفق. النسخة منسوخة من أصل سقيم كثيرة التحريف والسقط، وقد سقطت منه ورقة ذات وجه واحد من أواخر حديث (35) إلى أوائل حديث (36) كما سيأتي في موضعه، ولما كانت النسخة على ما وصفنا احتاج ذلك إلى جُهدٍ مضاعفٍ، فهي نسخة واحدة وكثيرة التحريف دفعني ذلك كله وغيره إلى مراجعة الكتب الكثيرة من شروح الأربعين التي سبقت ابن الملقن، كشرح الطوفي "التعيين في شرح الأربعين" وقد أكثر من النقل عنه، والفاكهاني في شرحه "المنهج المبين في شرح الأربعين" وقد طبع مؤخرًا، أو حتى التي أتت بعده، كالهيتمي وشرحه "الفتح المبين بشرح الأربعين".
وكذلك شروح الصحاح والسنن والمسانيد والموطأ كشروح "صحيح مسلم": للقاضي عياض، والنووي، والمازري، والقرطبي -وابن الملقن يُكثر من النقل عن الأخير؛ لأنه من أنفع وأقوى هذه الشروح-. وينقل عن ابن عبد البر في "التمهيد"، وابن هبيرة في كتابه "الإفصاح" وغيرهم؛ لأن المؤلف كان كثير النقل بعزو وبغير عزو كما هي عادته! هذا الأمر جعلني أستظهر كثيرًا من الكلمات، ويسر لي تكميل النقص والسقط والتحريف، وراجعت كذلك كتبه كـ"شرح البخاري"، و"الإعلام" وغيرها. وصدق يحيى بن أبي كثير القائل: "لا يُستَطَاعُ العِلمُ برَاحةِ الجِسْمِ" (¬1). أما مصدرها: فهي من المكتبة المحمودية بمكتبة الملك عبد العزيز العامة بالمدينة النبوية برقم (608/ 232). ولها صورة بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، وبجامعة أم القرى بمكة المكرمة، ووزارة الأوقاف الكويتية. وقد صورتها من مركز المخطوطات بوزارة الأوقاف في الكويت شكر الله للإخوة القائمين عليه ووفقهم لكل خير، وما فيه خدمة طلاب العلم. ¬
المطلب الخامس: المآخذ على الكتاب
المطلب الخامس: المآخذ على الكتاب: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "عامة الكتب تحتاج إلى نقد وتمييز" (¬1). "ولولا الخطأ ما أشرق نور الصواب" (¬2). والمؤلف وقعت له أخطاء وأوهام وزلَّات، وقد علَّقتُ على ما رأيتُ أنه لا يسعني في ديني السكوت عنه، ونبَّهتُ على ما أخطأ فيه، والحق أكبر وأحب إلينا من كل أحد. وتتلخص أخطاء المؤلف فيما يلي: مخالفة عقيدة أهل السنة في بعض الصفات التي تأولها على طريقة الأشاعرة، والتي علقتُ عليها في مواضعها كما سيأتي. خالف الصواب في مسألة الاسم والمسمى. نقل كلام العلماء من غير عزو! بل والإكثار من ذلك. أحالَ ونصح بالرجوع إلى كتب لا ينبغي لصاحب السُّنة أن يقرأها إلَّا على سبيل الحذر والتحذير منها ككتاب "إحياء علوم الدين" للغزالي. ولم أذكر مواضعها وصفحاتها هنا لحاجة في نفسي لا تخفى على أهل السنة والبصيرة. ¬
المطلب السادس: منهجي في تحقيق الكتاب.
المطلب السادس: منهجي في تحقيق الكتاب. كان عملي في الكتاب، والمنهج الذي سرت عليه في التحقيق كالتالي: 1 - نسختُ المخطوطة، مع تحري اجتناب خطأ الناسخ، وتصويب ما وقع فيه من خطأ، ولَمَّا كانت النسخة الخطية لهذه الرسالة يتيمة وسقيمة اقتضى ذلك مني جرد مجموعة ضخمة من كتب المؤلف أوَّلًا، ثم شروحات الحديث، وكتب الرجال، والكتب التي اقتبس منها المؤلف لتصحيح ما قد يقع من الناسخ كما تقدم بيانه ص (18 - 19). 2 - راعيتُ في نسخ المخطوطة قواعد الإملاء الحديثة. 3 - عزوت الآيات إلى سورها، وجعلتها في المتن حتى لا أثقل الكتاب بالحواشي، وذلك لكثرة الآيات التي استشهد بها المصنِّف في هذه الرسالة. 4 - خرَّجتُ الأحاديث التي وردت في الكتاب مراعيًا في التخريج ما يلي: إن كان الحديث من الأربعين -متن النووي- فأُخرِّج الحديث من الكتب السِّتة ومُسند الإمام أحمد هذا إن كان في الصحيحين أو في أحدهما. أمَّا إن لم يكن فيهما أو في أحدهما فإني أجتهد في تخريجه قدر الطاقة والحاجة. وإن كان من غير "الأربعين" مما يذكره المؤلف، فإن كان في الصحيحين أو في أحدهما فإني أخرجه منهما، وإن لم يكن في الصحيحين أو في أحدهما فإني أجتهد في إخراجه من كتب السُّنة سواء من السنن الأربعة، ومسند أحمد، أو كتب السنن أو المسانيد أو المعاجم أو غيرها.
وحاولت في هذا الإعراض محق الإطالة في التخريح، وفي ذكر الشواهد -إلَّا عند الحاجة-؛ لأن ذلك سيضَخِّمُ مِن حجم هذا الكتاب. وبعد كل حديث -إن لم يكن في الصحيحين أو في أحدهما- أُبَيِّن حكم العلماء عليه من حيث الصحة أو عدمها. 5 - وكذلك خرَّجتُ ما وقفتُ عليه من الآثار الواردة في الرسالة. 6 - الأحاديث والآثار والأقوال جعلتها بين مزدوجين " ". 7 - ما كان من زيادات وتصويبات من بعض المصادر جعلته بين معقوفتين على هذا النحو []. 8 - وثَّقتُ النصوص التي ذكرها المؤلف بإحالتها إلى مواضعها في كتب أصحابها وهي كثيرة جدًّا. 9 - من ترجم لهم المؤلف -وهم الصحابة- أحلت إلى مواضع ترجمتهم من كتب التراجم. 10 - ترجمتُ ترجمة موجزة لغير المشهورين من العلماء، ولم أشأ أن أترجم لكل من ورد اسمه في هذه الرسالة خشية الإطالة ولقلة الفائدة. 11 - شرحتُ بعض المفردات الغريبة الواردة في النص شرحًا موجزًا. 12 - نَبَّهْتُ إلى بعض ما وَقَعَ فيه المُصَنِّفُ مِن أخطاء في مسائل عدة من كلام أهل العلم؛ لا سيما المسائل العقدية فإني أستدرك عليه ما أراه دِينًا لا يجوزُ السُّكوتُ عنه، فكل أحد يؤخذ من قوله ويرد إلَّا المعصوم محمدًا - صلى الله عليه وسلم -،
ولا يسعني في ديني أن أرى كلامًا يخالف معتقد أهل السنة وطريقة السلف فأسكت عنه، بل لا بد لي أن أنبه عليه وأبين وجه الخطأ فيه. 13 - علَّقتُ على ما رأيتُ أنَّ ثَمَّة فائدة في التعليق عليه. 14 - استخدمت بعض ألفاظ الاختصار: فحيث يُذكر البخاري فالمراد: في صحيحه إلَّا إذا عَيَّنْتُ، وكذا مسلم وأصحاب السنن. 15 - عملتُ فهارس عملية لتُيسِّر على الباحث استخراج ما يريد، وهي كالآتي: أ- فهرس الآيات. ب- فهرس الأحاديث. ج- فهرس الآثار. د- فهرس الأعلام. هـ- فهرس الكتب. و- فهرس الشعر. ز- فهرس المراجع والمصادر. ح - فهرس الموضوعات.
الورقة الأولى من الأصل المعتمد
الورقة الأولى من الأصل المعتمد
المعين على تفهم الأربعين تأليف العلامة الفقيه المحدث أبي حفص عمر بن علي بن أحمد الأنصاري الشافعي المعروف بابن الملقن (723 هـ - 804 هـ) دراسة وتحقيق الدكتور دغش بن شبيب العجمي
مقدمة المؤلف
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اللهم صلِّ على محمد وآله وصحبه أحمد الله على تتابع آلائه ودَفْعِ لأْوَائِهِ، وأَشكُرُهُ على مَا أَسْبَغَ مِنْ إفْضَالِهِ وغَمَرَ مِن نَوَالِهِ، وأُصَلِّي على أشرف الخلق: محمد وآله، وأُسَلِّم عليه إلى يوم لقائهِ. وبعد. فهذه نكتٌ مُهمَّةٌ على "الأربعين" التي جَمَعَها العَلَّامة الحافظ: أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف بن مري النووي -قدَّس الله روحه ونوَّرَ ضريحه- أَذْكُرُ فيها التَّعرِيفَ بِمَنْ ذُكِر مِن رُوَاتِهِ، وبيانَ حالِهِ، ونَسَبِهِ، ومَوْلِدِهِ، ووفاتِهِ، ومُبْهمَاتِهِ، وضبطِ لفظِه، وبيان إِعْرَابِ مَا يُشكل وغريبه، والإشارة إلى بعض ما يُسْتَنْبَطُ مِنهُ مِن الأصُولِ والفُرُوعِ، والآداب وغيرها. وخَصَصْتُ هذه الأربعين بذلك؛ لأنها أَجَلُّ الأربعينات وأرفعُها، وأكثرُها فائدةً وأعظمُها، إذْ كُلُّ حديثٍ منها وُصِفَ بأنَّ مدارَ الإسلام عليه أو ثلثَهُ، ونحو ذلك -كما ذَكَرَهُ في الخطبة-. وقد سَبَقَهُ العلامة أبو عمرو بن الصَّلاح إلى جَمْعِ الأَحاديث التي قيل أنها أصولُ الإسلام، أو عليها مدارهُ، فَبَلَّغَها ستةً وعشرين حديثًا -بعدَ أن حكى أقوال العلماء في تَعْيِين الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، واختلافهم في
تعيينها- وَوَصَّلَها المُصَنِّف في أَذْكَارِهِ إلى ثلاثينَ حديثًا (¬1)، وزادَ عليها هنا اثني عشر حديثًا فبلغت أربعين حديثًا -بِزِيادةِ حديثين- وكَأَنَّهُ رَأَى الختم بهما على الأربعين؛ لِكَوْنِ أحدهما من باب الوعظ لِمُخَالَفةِ الهَوَى، ومُتَابَعَةِ الشَّرع. وثانيهما: من باب الرجاء والدعاء والاستغفار والإطماع في الرحمة. وذَكَرَ في السابع والعشرين حديثين، لاجتماعهما على معنى واحد. ومِنَ الأحاديث المهمة حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَلحِقُوا الفرائضَ بأَهلِها فَمَا بَقِيَ فَلِأوَلى رَجُلٍ ذَكَرٍ" (¬2). واتَّفَقُوا عليه، فَإِنَّهُ مِن الجوامع في عِلمِ الفَرَائِض، وهو نِصْفُ العِلم على ما عُرِفَ ورُوِي (¬3). وكذا حديث عروة بن مُضَرِّس في الوقوف بعرفة. فإن الحاكم قال في "مستدركه" إنه: "قاعدةٌ من قواعد الإسلام" (¬4). ¬
وسَمَّيتُهُ: "المُعين عَلَى تَفَهمِ الأَرْبَعِين" والله أَرْغَب في النَّفْعِ بها وبأَمثَالِها، فإنه المُحْسِنُ المُتَفَضِّلُ، لا ربَّ سِوَاهُ، ولا نَرْجُو إلَّا إياه، حسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلَّا بالله العليِّ العظيم. ¬
فصل
فصلٌ في شرح غَريب "الخُطْبَةِ" على سبيل الاختصار، واشتقاقها من "الخَطْب"؛ لأنَّ العرب كانوا إذا ألَمَّ بهم الخَطْبُ -وهو الأَمْرُ المُهِمُّ- خَطَبُوا له، فيجتمِعُ بعضُهم إلى بعض، واحتالوا في دَفْعِهِ، فاشتُقَّ اسمُها مِن ذلك. وكان ينبغي لنا أنْ نَذْكُرَ جُمْلَةً مِن أحوال المُصَنِّفِ قبلَ الخوْضِ في شرح كلامه، فإِنَّهُ: قُطْبُ الزمان، وعينُ الوَقْت، لَكِنَّا ذكرناها في أول شرحنا لمنهاجه (¬1) وأحلنا في طَبَقَاتِنَا -"طبقات الشافعية"- عليه، فَأَغْنَى ذلك عن إعادته هنا. ومولدهُ بِنَوَى -قريةٌ مِن قُرى دمَشق- سنة إحدى وثلاثين وستمائة، ومات بها سنة سِتٍّ وسَبْعِين وسِتمائة -سقى الله ثراه- (¬2). * * * قوله: "الحمدُ للهِ رَبِّ العالمينَ" إِنَّمَا بَدَأَ هذا التأليف المبارك بالحمد للاقتداءِ بالقرآن، فإنه مُبتدأٌ به. ¬
معنى الحمد
ولقوله تعالى لنبيه: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ} [النمل: 59]. وللحديث المشهور: "كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لا يُبْدَأُ فيهِ بالحَمْدِ فَهوَ أَجْذَم" (¬1). وهو: الثناءُ على المحمُودِ بجَمِيلِ الصِّفَاتِ. بخلاف الشُّكْرِ فَإِنَّهُ بالإِنْعَام (¬2). قال الشاعر: أَفَادَتكُمُ النَّعْمَاءُ مِنِّي ثَلَاثَةً ... يَدِي وَلسَاني والضَّمِير المُحَجَّبَا (¬3) وكأَنَّ الثناء على الله تعالى كهدية المُسْتَشْفِعِ قَبْلَ مَسْأَلتِهِ رَجَاءَ أَنْ يشفع بذلك في قضاء حاجته. والأَلِفُ واللَّامُ في "الحمد" للعُمُومِ. وقُرِنَ "الحمد" بالله دُونَ سائِر أسمائِهِ؛ لأَنَّهُ اسم للذَّات، فَيَسْتَحِقُّ جميعَ صفاتِهِ الحُسْنَى (¬4). ¬
الإله
قال البَنْدَنِيجي (¬1): "وأكثرُ أهلِ العِلْمِ على أنَّ الاسم الأَعْظَم هو: الله" (¬2). وقال الخَطَّابي: "وأحبُّ الأقوال إليَّ: قول من ذهب إلى أَنَّهُ اسمٌ عَلَم وليسَ بِمُشْتَقٍّ" (¬3). قلتُ: وجمهورُ العُلَماء النُّحاة على أَنَّهُ مُشْتَقٌّ، واختُلِفَ في اشتِقَاقِهِ على أَقْوَال: أحدها: من ألِهَ يألهُ؛ إذا تحيَّر، إذ القُلُوبُ تَحَارُ في عَظَمَتِهِ. ثانيها: أن أصلهُ: "إله" وهو من يُفْزَعُ إليه في النَّوَائِبِ. ثالثها: أنه مِن باب "التَّأَلُه" وهو التَّعَبُّد. رابعها: أنه مِن "الوَلَه" وهو أَشَدُّ ما يكونُ مِن الشَّوْقِ؛ لأَنَّ القُلوبَ تشتاق إلى مَعْرِفَتِهِ، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165]. خامسها: أنه من "الإلهية" وهي القدرة على الاختراع! ومحلُّ الخوض في ذلك كتب العربية، فلا نطول به (¬4). ¬
الرب
وكذا هل أصله: "إلاه" أو: "لاه". قال أبو القاسم القشيري -عن بعض المشايخ-: "كلُّ اسم من أسمائه يصلح للتخلق به إلَّا هذا الاسم، فإنه للتَّعَلُّق دُونَ التَّخَلُّق. قالوا: والإشارة بهذا الاسم إلى قديم واحدٍ بلَا تَشْبيهٍ ولا تعطيل، وهو الذي صَنَع العالم وأوجدهُ بعدَ العَدَم، وهو المستحق للصفات التي لا بد للصانع أن يكون عليها". و"الرَّبُّ": المالِكُ، وهو السَّيِّدُ -أيضًا-، والمُرَبِّي والمُصْلِح، وكلها صِفَةٌ لهُ مع خَلْقِهِ، ولا يُطْلَقُ إلَّا على الله تعالى وحده، فإذا أُطْلِقَ على غيره فبالإِضافَةِ: كربِّ الدار والناقة. قال الله تعالى: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} [يوسف: 50]، وقال تعالى: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف: 23]. "العالمينَ": جمعُ عَالَم، وهو كلُّ موجُودٍ سِوَى الله، مُشْتَقٌّ مِن العَلَامة، لكونِهِ عَلامَة على خالِقِهِ كما قاله أبو عبيد، أو مِنَ العِلْمِ كَمَا قَالَهُ غيره (¬1). قوله: "قَيُّومِ السَّمواتِ والأَرَضِينَ": أي خالقهما وموجدهما بعد العدم، والقائم بتدبيرهما وحفظهما. قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} [فاطر: 41]. وقال: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إلا بِإِذْنِهِ} [الحج: 65]. وأصله: "قَيْوُوم" على فيعول، قَلَبوا الواو ياء وأدغموا الياء في الياء. وقيام أيضًا: أصلهُ "قيوام" على فيعال كذلك. ¬
قال الزَّمَخشَري: "القيوم: الدائم القائم بتدبير الخلق وحفظه. وقرئ (¬1): القَيَّام والقيِّم" (¬2). وقد قُرِئَ بهما في الشَّاذِّ. و"السموات": جمعُ سماء (¬3). و"الأَرضين" -بفتح الراء- وإسْكانها شاذ، وجَمَعها ولم تأت في القرآن إلَّا مفردة. وقد أُخْتُلِفَ في قوله تعالى: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] هل المِثْلِيَّةُ في العددِ أو في الهيئةِ والشَّكلِ؟ على تأوِيلَيْنِ. والسُّنَّةُ دالَّةٌ على الأول، لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "مَنْ ظَلَمَ قيدَ شِبرٍ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ" (¬4). وكقوله: "اللهمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَمَا أَظْلَلْنَ، وَرَبَّ الأَرَضِينَ السَّبْعِ وَمَا أَقْلَلْنَ، وَرَبَّ الشَّيَاطِينِ وَمَا أَضْلَلْنَ. ." رواه كذلك البيهقي في دلائله (¬5). ¬
قال القاضي عياض: "وجاء في غِلَظ الأرض وطِبَاقها وما بينهن حديث ليسَ بثابت" (¬1). وقوله: "مُدَبِّرِ الخلاِئقِ أَجمَعِينَ" المدبر: مُصرِّف الأمور بحسب ما تقتضيه حكمته تعالى. قال الخطابي "المُدَبِّر": "العالِمُ بِأَدْبَارِ الأُمُورِ وعَوَاقِبِهَا، ومُقَدِّرُ المَقَادِيرِ ومُجْرِيهَا" (¬2). و"الخلائق" جمعُ خليقة، فعيلةٌ بمعنى مفعولة، ويجوز أن يُراد بها الخُلُق والطبيعة، ومنه قول الشاعر: وَإِنْ تَكُ قد سَاءَتْكِ مِنِّي خليقةٌ (¬3) وقوله: "بَاعِثِ الرُّسُلِ -صَلَوَاتُ اللهِ وسَلَامُهُ عليهم- إلى المُكَلَّفِينَ، لهِدَايَتِهِمْ وَبَيَانِ شَرَائِعِ الدِّينِ، بِالدَّلائِلِ القَطْعِيَّةِ وَوَاضِحَاتِ البَرَاهِينِ". "الباعث": المرسِل، قال الله تعالى: {وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [الشعراء]. و"الرسل": جمع رسول وهو: المأمور بتبليغ الوحي إلى العباد، وهو أخصُّ من النبي؛ فإنه: الذي أوحيَ إليه العمل والتبليغ، بخلاف النبي فإنه: ¬
أوحي إليه العمل فقط (¬1). و"الصلاة": الرحمة المترادفة، كذا قالوه، وفيه نَظَرٌ مِن وجهين: أحدهما: أن الرحمة عطف عليها في قوله: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157] والعَطْفُ يَقْتَضِي المغَايَرة. ثانيهما: أنَّ الرحمة رقة القلب، وهي مستحيلة في حقه تعالى! (¬2). والصواب: أنها المغفرة في حَقِّه تعالى، وأصلها لغةً: الدُّعاء، فَحُمِلت على المغفرة؛ لأنه محال في حقه تعالى (¬3). و"السَّلام ": التحية، أو: تسليمه إياهم من كُلِّ مكروه. ¬
و"المُكَلَّف": العاقل البالغ من الجنِّ والإنس، مشتقٌّ مِنَ الكُلْفَة، لِتَحَمُّل الأوامر والنواهي. واختُلِف في تكليفِ الملائِكَةِ، والحقُّ تكليفُهُم بالطاعات العَمَلِيَّة بدليل قوله تعالى: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم]. أما الإيمان ونحوه من العقائد فليسوا مُكَلَّفين؛ لأنّهُ ظَاهِرٌ لهم، فتكليفهم به تحصيلُ الحاصل. وقوله "لهدايتهم"؛ أي: لأجل هدايتهم، و"الهداية" و"الهدى": الرشاد، وهو ضدُّ الضلال (¬1). و"شرائع الدين": مَوارِدُهُ التي يَرِدُ عليها منهُ، وهي جمعُ شريعة. وأصلها في اللغة مَشْرَعَةُ الماء: وهي مَوْرِدُ الشَّارب. و"الشريعة": "مَا شَرَعَ اللهُ تعالى لِعبَادهِ مِن الدِّين. وقد شَرَعَ لهم يَشْرَعُ شَرْعًا، أي: سَنَّ (¬2) ". قاله الجوهري (¬3). و"الدِّين ": مَا شَرَعَهُ اللهُ لنا مِنَ الأحكام، وهو يُطْلَقُ بِإِزَاءِ مَعَانٍ: "المِلَّة" قال الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]. و"العادة" قال امرؤ القيس: "كدينك من أمِّ الحويرث قبلها" (¬4). ¬
و"الطاعة" يقالُ: دانَ له؛ إذا أطاعهُ. و"الحال" من كلامهم: لو لقيتني على دين غير هذا لاخترتك، وغير ذلك. قال الإمام فخر الدين: "وله أسماء أُخَر، منها: "الإيمان" قال الله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35)} [الذاريات: 35]. ومنها: "الصِّرَاطُ" قال تعالى: {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 53]. ومنها: "كلمة الله": أي دينه. ومنها: "النور" قال تعالى: {لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ} [الصف: 8] أي: الإسلام. ومنها: "الهدَى". ومنها: "العُرْوَةُ الوُثقَى". قال مجاهد في قوله تعالى: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة: 256] أنها "الإيمان" (¬1). ومنها: "الحبل"، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} [آل عمران: 103]. ومنه: {صِبْغَةَ اللَّهِ} [البقرة: 138] و {فِطْرَتَ اللَّهِ} [الروم: 30] " (¬2). و"الدَّلائِل": جمعُ دليل وهو في اللغة: المُرشِدُ (¬3). وفي الاصطلاح: مَا أمكَنَ التَّوصلُ بصحيح النَّظر فيه إلى عِلمٍ أو ظَنٍّ. ¬
وهو ضربان: قطعي، وظني. ومحلُّ الخوض فيه كتب "الأصول". و"الواضحات": التي لا إِشكَالَ فيها. و"البراهين": جمعُ بُرهان، وهو في الاصطِلاحَ: مَا تَرَكَّبَ مِن تَصدِيقَيْن. على ما هو مُقَرَّرٌ في فَنِّهِ. وقوله: "أحمَدُهُ على جَمِيعِ نِعَمِهِ، وأَسْأَلُهُ المَزِيدَ مِنْ فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ". النِّعَم: جمعُ نِعمة، وهي في اللغة: اليدُ والصنيعَةُ والمِنَّةُ، وما أنعمَ به عليك. وكذلك "النُّعْمَى" فإن ضَمَمْتَ النونُ قَصَرْتَ، أو فَتَحتها مَدَدتَ (¬1). والمُنْعِمُ في الحقيقةِ هو الله تعالى، وأصلها كلها: نِعمةُ الإسلام، قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34]، أي: لِكَثرَتِها وعِظَمِها. ودوامها بالشُّكر، قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7]، وضِدُّه: الكُفر. وكأَنَّ مُرادَ المصنِّف هنا الشكر؛ لأنّ حقيقته ما كان عن معروف أُسدِيَ إليك، ولا معروف في الحقيقة إلَّا لله تعالى. و"الفضلُ": خِلافُ النَّقص، والإفضال: الإحسان. و"الكرم": نَقِيضُ اللُّؤم، ويقال أيضًا: "رجلٌ كَرَمٌ، وامرَأَةٌ كَرَمٌ" قاله الجوهري (¬2). وقوله: "وأشْهدُ أنْ لا إِلَهَ إلَّا اللهُ الواحِدُ القهارُ، الكَرِيمُ الغَفَّارُ". معنى "أشهدُ": أعلم وأُبين. ¬
و"الإله" في اللغة هو: المعبود. و"الواحد": المُتَوَحِّد، العالي عن الانقسام. وقيل: الذي لا مِثْلَ له. و"القهار": فعال مِنَ القهر وهو الغَلَبة، يقال: قهرهُ قهرًا غَلَبَهُ، وأقهرته: وجدته مقهورًا، ويقال: أخذتُ فُلانًا قهرًا، أي: اضطرارًا، ومعناهُ هنا: الغالِبُ الذي لا يُغْلَب، والقَويُّ الذي لا يَضعُف. و"الكريم": فعيل من الكَرَم، وهو نقيض اللؤم كما سَلَفَ، و"الكريم" أيضًا: الصَّفوح. و"الغفَّار": فعال من الغَفْر وهو: الستر والتغطية، ومِنهُ: المِغْفَر، لِسَتره الرأس. وقوله: "وأَشْهدُ أنَّ مُحمدًا صلى الله عليه وآلهِ وسَلَّمَ عَبْدُهُ ورَسُولُهُ وحَبِيبُهُ وخَلِيلُهُ، أفْضَلُ المَخْلُوقِينَ". أردَفَ المُصَنِّف بعدَ الحمدِ والثناء على الله تعالى بالشَّهادتين للحديث المشهور: "كلُّ خُطبةٍ ليسَ فيها تشهدٌ فهي كاليدِ الجَذْمَاءِ" (¬1). ولنبينا - صلى الله عليه وسلم - أسماءٌ أُفرِدَت بالتَّصْنيف، ولابن دِحية فيها جزءٌ ضَخْمٌ (¬2)، وقد لخَّصتُهُ في اختصاري لـ"دلائل النبوة" للبيهقي -أعانَ الله على إكمالهِ-. ¬
معنى الشهادة
وأشرفها عبد الله؛ لأنهُ دُعِيَ به في ذاك المقام، قال الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1]، وقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23]، وقال: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ} [الجن: 19]. واختار -أيضًا- أن يكونَ عبدًا رسولًا، لِعِلْمِهِ بِشَرف العبودية. وفي هذا المعنى: يا قوم قلبي عند زهراء ... يعرفها السَّامِعُ والرَّائِي لا تَدْعُنِي إلَّا بِيَا عَبدَها ... فَإِنَهُ أشرَفُ أَسْمَائِي والعبوديةُ هي المرتبةُ الحَقِيقِيَّةُ، فلهذا شرُفَتْ. قال أبو علي الدَّقاق: "ليسَ شيء أفضل من العبودية، ولا اسمٌ أتمَّ للمؤمن من الوَصفِ به" (¬1). و"الحبيب": فعيل مِن الحُبِّ، وهو نقيضُ البُغض، يقال: أَحَبَّهُ فهو مُحَبٌّ. وحَبَّه يَحِبُّه -بالكسر- فهو محبُوبٌ. قال الجوهري: "وهذا شاذٌّ؛ [لأنَّهُ] (¬2) لا يَأتي في المضاعف يَفْعِل -بالكسر- إلَّا ويَشْرَكُهُ يَفْعُلُ -بالضمِّ- إذا كان مُتَعَدِّيًا، ما خَلَا هذا الحرف" (¬3). و"حبيب الله تعالى": مَنْ أحبَّهُ، بدليل قوله: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، ومحبة الله على حسب المعرفة به، وأعرفُ الناس به: نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو ¬
أحبهم له، وأحقهم باسم الحبيب. و"الخليل": فعيل بمعنى مفعول، وهو: المحبوب الذي تخللت محبته القلب فصارت خلاله، أي: في باطنه. وقد اختُلِفَ في الخليل، فقيل: إنه الصاحب. وقيل: إنه الخالِصُ في الصُّحبةِ، وهو أخصُّ من الصَّاحِبِ. واختلفوا -أيضًا-: هل الخُلَّةُ أرفعُ درجةً مِن المحبَّةِ أو عَكْسُهُ، أو هُما سواء؟ على أقوال. واختلفوا -أيضًا- في اشتقاقه: أهو من الخَلَّة -بفتح الخاء- وهي الحاجة، أو بضمها وهي تخلل مودة في القلب، فلا تَدَعُ فيه خلاء إلَّا ملأته؟ فيه خلافٌ، وقد ذكرتهُ واضحًا في "شرحي للعمدة" قُبَيْل "باب الاستطابة" (¬1). ونبينا هو الحبيبُ الخاص، وفي الصحيح: ". . . ولَكِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللهِ" (¬2). ولمَّا كانت الخلة أخصَّ منها -أي المحبة- خُصَّت بنبينا وبإبراهيم -صلوات الله وسلامه عليهما-. وقوله: "أفضلُ المَخلُوقين" أي: مِن أهل السموات والأرضين، ولا شكَّ في ذلك، ودليله قوله -عليه الصلاة والسلام-: "أَنَا سيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ" (¬3). ¬
مع أنَّ ولد آدم أفضَلُ أنواع المخلوقات حتى الملائكة على مذهب أهل السنة، ونبينا أفضلها فهو إذن أفضل المخلوقات. وحديث: "لَا تُفَضِّلُوا بينَ الأَنبيَاء" (¬1) ونحوه أُوِّلَ بأوجهٍ، منها: أنه قاله على وجه التواضع (¬2). وقوله: "المُكَرَّم بالقُرآنِ العَزيزِ، المُعْجِزَةِ المسْتَمِرَّةِ على تَعَاقُبِ السِّنين، وبالسُّنَنِ المسْتَنِيرَةِ للمُسْتَرشِدِينَ". سُمِّيَ القُرْآنُ قُرْانًا لجَمْعِهِ السُّوَر، يقالُ: قرأتُ الشيءَ إذا جمعتهُ. وقيل: لتأليفه. ومعجِزتهُ باعتبار لفظهِ، وأنَّهُ آيةٌ معجِزَةٌ، ومِنْ فَضْلِهِ على المُعْجِزَات دوامُهُ وانقِطَاعُهَا، وقِدَمُهُ وحُدُوثها (¬3). ¬
قال -عليه الصلاة والسلام-: "مَا مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الأَنبياءِ إلَّا وَقَدْ أُوتيَ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عليه البَشَرُ، وإِنَّمَا كان الذي أُوتيتُهُ وَحْيًا" (¬1). ووصف القرآن بالعزيز كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} [فصلت: 41]؛ لأنَّهُ بِصِحَّةِ معانيه ممتَنِعٌ عن الطَّعن فيه، والازدراء عليه؛ لأنه محفوظٌ مِنَ الله تعالى. قال ابن عباس: "معناه: كريم على الله تعالى" (¬2). وقال مقاتل: "مَنِيعٌ مِن الشيطان" (¬3). وقال السُّدِّي: "غير مَخلُوق" (¬4). وقوله: "المُعْجِزَةُ المُسْتَمِرَّةُ على تَعَاقُبِ السِّنين" يريدُ أنَّ كِتابَ الله تعالى معجِزَته مستمرة دائمة لا انقطاع لها، بخلاف معجزة سائر الأنبياء فإنها قد انقرضت بانقراضهم. ولإِعْجَازِهِ وُجُوهٌ لا يحتمِلُ ذِكْرُها هنا. و"السُّنَّةُ": ما أوحي إليه، ومَا أُلْهِمَ. و"المستَنِيرة": ذات النور، كناية عن الهدى الذي تضمنته. ¬
معنى جوامع الكلم
و"المسترشد": طالِبُ الرَّشاد. وقوله: "المَخْصُوصُ بجَوَامِعِ الكَلِمِ" هو إشارةٌ إلى قوله -عليه الصلاة والسلام-: "أُوتِيتُ جَوَامِعَ الكَلِمِ" وهو حديث صحيح أخرجهُ مسلِم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فُضِّلتُ على الأنبياء بستٍّ: أُوتِيتُ جَوَامِعَ الكَلِم، ونُصِرتُ بالرُّعب. . ." الحديث (¬1). ومعناه: أوتيت المعاني الكبيرة في الألفاظ اليسيرة، مثل: حديث: "المُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِم أَدْانَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ" (¬2). وحديث: "النَّاسُ كَأَسْنَانِ المشْطِ" (¬3). وحديث: "المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ" (¬4). ¬
سماحة الدين
وحديث: "إنَّ ذَا الوَجْهيْن لَا يَكُونُ عِنْدَ اللهِ وَجِيهًا" (¬1). وغير ذلك مِمَّا لا يُحْصَى كَثْرَةً. وقال الهروي: "يعني بـ"جوامع الكلم": القرآن، جَمَعَ اللهُ فيه الألفاظ اليسيرة مِن المعاني الكثيرة" (¬2). وقال ابن شهاب: "بَلَغَني أنَّ اللهَ تعالى يجمَعُ له الأمور الكثيرة التي كانت تُكتب في الكتب القديمة في الأَمْرِ الواحد والأمرين ونحو ذلك" (¬3). ذَكَرَهُ البيهقي في "دلائل النبوة" في إثر حديث أبي هريرة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "بعثت بجوامع الكلم. ." الحديث وعَزَاهُ إلى البخاري ومسلم (¬4). وقوله: "وسَمَاحَةِ الدِّينِ" هو إشارةٌ إلى قوله عليه الصلاة والسلام: "بُعِثْتُ بالحَنِيفيَّةِ السَّمْحَة" وهو حديث مرويٌّ مِنْ طُرُقٍ: أحدها: من حديث أبي أمامة رواه الطبراني في "أكبر معاجمه" من حديث علي بن يزيد عن القاسم عنه رَفَعَهُ: "إني إنما بُعِثْتُ بالحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ" (¬5). ¬
ومن الوليد بن مسلم عن عفير بن معدان، عن سليم (¬1) بن عامر، عن أبي أُمامة -مرفوعًا- بِزِيادة: "ولم أبْعَث بالرَّهْبَانيَّة والبدعَةِ" (¬2). ورواه أحمدُ في "مسندِه" عن مُعَان بن رفاعة (¬3) عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة رفعهُ: "إني لم أُبْعَث باليهوديَّة ولا بالنَّصرانية، ولكني بُعِثتُ بالحَنِيفِية السَّمحَةِ" (¬4). ثانيها: من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - قيل: يا رسول الله! أيُّ الأديان أَحَبُّ إلى الله؟ قال: "الحَنِيفِيَّةُ السَّمحَةُ". رواه أحمد في "مسنده"، والطبراني في "أكبر معاجمه". وفي إسناده ابن إسحاق وهو حسن الحديث (¬5). ¬
ثالثها: مِن حديث عروة الفُقَمي رفعه: "يا أَيُّها النَّاسُ، إِنَّ دِينَ اللهِ يُسْرٌ" قالها ثلاثًا. رواه أحمد في "مُسْندهِ" (¬1). ورابعها: من حديث مِحجن بن الأدرع السلَمي رَفَعَهُ: "إن خيرَ دِينِكُم أيْسَرُهُ" ثلاثًا. رواه أحمدُ أيضًا (¬2). خامِسُها: مِن حديث عائشة أنها لَمَّا نَظَرَت إلى زَفْنِ (¬3) الحبشة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لِتَعلَمَ يهودُ أنَّ في دِيننا فُسْحَةً، إني أُرسِلتُ بحَنِيفِيَّةٍ سَمحَةٍ" رواه أحمد -أيضًا- (¬4). سادِسُها: من حديث ابن أبي رَوَّاد قال: أخبرني محمد بن واسع أنَّ رجُلًا قال: يا رسول الله! جرٌّ مُخَمَر جديدٌ أحبُّ إليكَ أن تَتَوضَّأ منهُ أو مما يَتَوَضّأُ ¬
الناس منه؟ قال: " [بلْ مِمَّا يتوضأُ الناسُ مِنْهُ أحَبُّ إلَي] (¬1)، أحب الأَديَانِ إلى اللهِ الحَنِيفِية السمحة". قيل: وما الحنيفية السمحة؟ قال: "الإسلامُ الواسِعُ" روَاه عبد الرزاق في "مُصَنَّفه" عن ابن أبي رَوَّادٍ به (¬2). سابعها: من حديث سعيد بن العاصي أنَّ عثمان بن مظعون قال: يا رسول الله! ائذن لي في الإختصاء! فقال: "يا عثمان! إنَّ الله قد عرَّفَنا (¬3) بالرَّهْبَانِيةِ، الحَنِيفيةِ السَّمحَةِ، والتَّكْبِير على كُلِّ شرَفٍ، فإن كنتَ مِنا فاصنعَ كمَا نَصنع" رواه الطبراني في "مُعجَمِهِ" مِن حديث أَبي أُمَيَّةَ الطَّائِفِي حدَّثَنِي جَدِّي، عن جَدِّه (¬4) سعيد به (¬5). ثامِنُها: من حديث أُبيّ بن كعب قال: أقرأني النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الحنيفية السمحة (¬6)، لا اليهودية ولا النَّصرانية" رواه أبو عمرو بن مُعلى في فوائده بإسنادٍ جيِّد (¬7). وهذا مما نُسِخَ لفظهُ وبقي معناهُ. ¬
ويؤيد هذه الطُّرق حديث أبي هريرة الثابت في "صحيح البخاري" أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الدِّينَ يُسرٌ، ولن يُشادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وقَارِبُوا ... " الحديث (¬1). وحديث أنس الثابت في "صحيح مسلم" أنه - صلى الله عليه وسلم - " قال: "يَسِّرُوا ولا تُعَسِّرُوا، وبَشِّرُوا ولا تُنَفِّرُوا" (¬2). ويؤيد ذلك كُلَّه ظَوَاهِرُ القُرآن العزيز، قال الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة: 185]، وقال: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الأنفال: 66]، وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28]، وقال: هو {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6]، وقال: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 178]، وقال: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وأجاب الله تعالى الصحابة حين دَعَوْا بقوله: {اوَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} بقوله: "نعم، وَقَد فَعَلْتُ" كَمَا ثَبَتَ في "صحيح مسلم" (¬3). وقال في صِفَةِ نَبِيِّنا -عليه أفضل الصلاة والسلام-: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157]. قيل: كانت بنو إسرائيل يقرِضونَ مَحَلَّ البول بالمقاريض مِن جُلودهم إذا أصابهم، ولا يُجزئهم غَسلُه. وإذا أتى أحدهم ذنبًا أصبحَ مكتوبًا على باب داره فيقام عليه حدّه. ¬
وكانت توبتهم بقتل أنفُسِهم. وكان موجب القتال عندهم القتل عينًا، ولا تُقبَلُ الدِّيَةُ. وفي "الصحيح": "فُضِّلتُ على الأَنبِياءِ بِسِتٍّ .. " الحديث كما سلف. وكُلّ هذا ونحوه مِن سماحة الدين وتشديد غيره؛ فديننا -إذن- أسمَحُ الأَديَان. وقوله: "وَصَلَوَاتُهُ وَسَلامُهُ عليهِ وعلى سَائِرِ النَّبِيِّين والمرسَلِينَ، وآلِ كلٍّ و [سائِر] (¬1) الصَّالِحِين". قد سَلف معنى الصلاة والسلام. و"سائِر" أي: باقي وجميع، ولم ينفرد الجوهري بالثاني فقد وافقه الجواليقي، وابن بزي (¬2). و"النَّبِيّونَ" جمع نبي، وهو الذي ينبئ، أي: يُخبر عن الله تعالى، فعيل بمعنى مفعِل -بكسر العين- أي: مُبلّغ الأحكام. وقيل بفتحها، أي: لأن الله أعلمه ذلك. وقد أوضحتُ الكلام على هذه المادة في "شرحِي لعُمدَةِ الأحكَام" (¬3)، وذَكَرتُ عدد الأنبياء والمرسلين (¬4) فَرَاجِعهُ منه فإنَّهُ من المُهمَات، وقد سَلَفَ الكلام عليه. ¬
وذَكَر بعضهم أنَّ النبي لم يُنزل عليه كتاب، ولم يؤمر بحُكْمٍ جَدِيدٍ، بل أُمِر بالدعاء إلى دين مَنْ قَبْلَهُ، بخلاف الرَّسول. وذَكَر بعضهم أنَّ الرسول: مَنْ نَزَلَ عليه جبريل وأمرهُ بالتبليغ. والنبي: من لم ينزل عليه جبريل، بل سمِع صوتًا، أو رأى في المنام أنكَ نبيٌّ فَبَلِّغ الناس. وقوله: "وآلِ كُلٍّ " أي مِنَ النبيين، حَذَف المضاف إليه لدلالة الكلام عليه، والتنوين في "كلٍّ " عوضٌ مِنَ الإضافة. و"آل" أصله: أهل، بدليل تصغيره [على أُهيْل] (¬1)، ثمَّ أبدل من الهاء همزة، ثم أبدل منها ألف. وقيل: أصله "أوَل"، تحركت الواو وانفتح ما قبلها، فقُلِبَت ألفًا. وقيل في تصغيره: أويل، فأبدلت الألف واوًا، ولم يرد إلى الأصل كما لم يردُّوا "عيدًا" إلى أَصلِهِ، إذْ قالوا: عُييد (¬2). و"آله" عند الشافعي: بنو هاشم، وبنو المطلب (¬3). وقيل: عترته وأهل بيته. وقيل: كُلُّ الأمة، واختاره الأزهري وغيره من المحققين (¬4). وآل إبراهيم: إسماعيل وإسحاق وأولادهما، قاله صاحب "الكشاف" (¬5). ¬
وأَمَّا "آل" غيرهما فابحث عنهُ (¬1). و"الصَّالِحُونَ" جمعُ صالِحٍ، وهو القائم بحقوق الله تعالى وحقوق العباد -جعلنا الله منهم-. وقوله: "أَمَّا بعدُ" أي: أمَّا بعد ما سَبَق -وهو الحمدُ والصلاة-. وبدأ بها للأحاديث الصحيحة أنه -عليه الصلاة والسلام- كان يقولها في خُطَبه وشبهها، رواه عنه اثنان وثلاثون صحابيًّا (¬2)؛ وفي المبتدئ بها خمسة أقوال: داود، وهي "فضلُ الخِطاب" الذي أوتيهُ؛ لأنَّ المتكلم يفصلُ بها بين خُطبه ومواعظه. وقيل: إن فصل الخطاب: البَيِّنَةُ على [المُدَّعي] (¬3) واليمين على من أنكر. ثانيها: قِسُّ بن سَاعِدة. ثالثها: كعب بن لُؤي. رابعها: يَعرُب بن قحطان. خامسها: سَحبَان (¬4). وفي ضَبْطها أربَعَةُ أوجهٍ: ضَمُّ الدال، وفتحُها، ورفعُها منونةً، وكذا نصبُها. قوله: "فقد رُوِّينا" الأجودُ في قراءةِ هذه اللفظة: ضَمُّ الراء وتشديدُ الواو وكَسْرها. أي: روى لنا مشايخنا كذا فسمعناه عليهم. ¬
طرق حديث "من حفظ على أمتي أربعين حديثا"
ويجوز فتح الراء -أيضًا-، يُقال: روى يروي، إذا نَقَلَ عن غيره. وقوله: "فقد رُوِّينا عن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، ومعاذ بن جبل، وأبي الدرداء، وابن عمر، وابن عباس، وأنس بن مالك، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم مِنْ طُرُقٍ كثِيراتٍ بِرِواياتٍ مُتَنَوِّعاتٍ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ حَفِظَ على أمَّتي أربَعينَ حَدِيثًا مِنْ أمرِ دينِها بَعَثَهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ في زمرَةِ الفُقَهاءِ والعُلَمَاءِ" (¬1). وفي روايةٍ: "بَعَثَهُ اللهُ فَقِيهًا عَالِمًا" (¬2). وفي روايَةِ أبي الدَّردَاءِ: "وكُنْتُ لهُ يومَ القِيَامَةِ شافِعًا وشَهيدًا" (¬3). وفي رِوايةِ ابن مسعود: "قيلَ لهُ ادخُلِ مِنْ أيِّ أبوابِ الجنةِ شِئْت" (¬4). ¬
وفي روايَةِ ابنِ عُمَرَ: "كُتِبَ في زمرَةِ العُلَمَاءِ، وحُشِرَ في زُمرَةِ الشُّهداء" (¬1). قلتُ: ورُوِي -أيضًا- عن عبد الله بن عمرو بن العاصي، وأبي أمامة، وجابر بن سمرة، ونويرة، ذَكَرها ابن الجوزي في "عِلَله" (¬2). وذكر المنذري الحافظ في جزء مفردٍ من هذه الطرق كلها وزيادة: سلمان الفارسي، فهذه -مع ما ذكره المُصَنِّف- أربَعَةَ عشر طريقًا، وسيأتي ترجمة من وقَعَ مِنهُم في الكتاب. ومعنى "الحفظ" هنا: نقلها إلى المسلمين، وإنْ لم يحفظها ولا عَرَفَ معناها، هذا حقيقة معناه، وبه يحصلُ انتفاع المسلمين لا بحفظ مَا لَمْ يُنقل إليهم، قاله المُصنِّف في آخر "الأربَعِين" في آخِر الباب الذي أَفرَدَهُ لبيانِ المُشكِلات (¬3). وقد يُقال: المرادُ هنا حِفظُ مَعَانِيها، إذْ بهِ يُسمَّى فقيهًا، ويدخُلُ في الحديث مَن اجتهدَ في طرق تصحيحه وتدوينه، كالبخاري ومُسلم وغيرهما، ومَنْ نَقَلها مِن كُتُبِهم فقد قرَّبَها للمُتَعَلِّمِين؛ فلهُ أجْرُ ذلك، وأمَّا أجرُ الحفظِ فأبلغ، ويدخل فيه الأحاديث الضعيفة إذا كانت في الترغيب والترهيب فقط، لأنه يُعمَل بها (¬4). فائدة: إن قيلَ: ما وجهُ التخصيص بهذا العدد دونَ سائر مقادير العدد؟ وأجيب عنه بأنه روي عن بِشر الحافي أنه قال: "يا أهل الحديث! اعمَلُوا مِن ¬
كُلِّ أربعين حديثًا بحديث كما قال -عليه الصلاة والسلام-: "أَدُّوا رُبعَ عُشر أَموَالِكُم مِنْ كُلِّ أَربَعِينَ دِرهمًا دِرهمٌ" (¬1).". وإنما قال ذلك؛ لأنّه أقل عدد له ربعُ عشر صحيح، وإلَّا فزكاة الفضة إنما تجِبُ في مائتين فصاعِدًا. فائدة: أفتى الكيا الهراسي -من كبار أصحاب الشافعية- بأنَّ مَنْ حَفِظَ أربعين مسألة فهو فقيه، وفيه نظرٌ كما قال الرافعي (¬2)؛ لأنَّ حِفْظَ الشيء غير حفظه على الغير، وأيضًا فقد تجتمع أحاديث كثيرة في المسألة الواحدة. وقوله: "واتَّفَقَ الحُفَّاظُ على أَنَّهُ حديثٌ ضعيفٌ وإِنْ كَثُرَتْ طُرقُه" هو كما قال، وقد أوضَحَ ضعفها ابن الجوزي في "عِلله"، وبرهن لهُ (¬3). وقال الحافظ زكي الدين المنذري في جُزئه الذي أفرده في ذلك في أوراقٍ لطيفة: "ليسَ في جميع طرقه ما يقوى وتَقُومُ به الحُجَّة، ولا تَخْلُو طريق من طرقه أن يكون فيها مجهول، أو معروف مشهور بالضعف". ولَمَّا أَخْرَجَهُ ابن عبد البر مِن حديث الإمام مالك قال: "هذا حديثٌ غير محفوظ ولا معروف من حديث مالك، ومَن رواه عن مالك فقد أخطأ عليه، وأضاف ما ليسَ في روايته له" (¬4). ¬
وقال في كتاب "العلم": "إسنادهُ كلّه ضعيف ... ، وأخرجه ابن السكن مِن رواية خالد بن إسماعيل، وقال: خالد هذا هو أبو الوليد المخزومي، وهو مُنكَرُ الحَدِيث. قال: وليسَ يُروَى هذا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجهٍ يَثْبُت" (¬1)، قال الدارقطني في "عِلله": "كُلّ طُرُقِ هذا الحديث ضِعاف، ولا يثبت منها شيء" (¬2). وأخرجهُ البيهقي مِنْ حَديث الإمام مالك وغيِره وقال: "أسانيد هذا الحديث كلها ضعيفة" (¬3). وأخرجه -أيضًا- ابن عساكر الحافظ من طُرُق، وقال: "قد رُوي هذا الحديث أيضًا عن: علي، وابن عمر، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وأبي أمامة، وأنس مرفوعًا بأسانيد فيها كلها مقال، ليسَ فيها للتصحيح مجال" (¬4). وأَمَّا قوله الحافظ أبي طاهر السِّلَفي في "أربعينه" أن هذا الحديث: "روي من طُرق وثقوا بها، وركنوا إليها، وعرفوا صحتها، وعولوا عليها" (¬5). فليسَ بِجَيدٍ مِنْهُ. قال الحافظ عبد العظيم المنذري: "فيما قالَهُ نَظَر". قال: "ويمكن أَنْ يكون سلَكَ في ذلكَ مَسْلَكَ مَن رأى أنَّ الأحاديث الضعيفة إذا انضمَّ بعضها إلى بعضٍ أحْدَثَ قوَّةً". ¬
من صنف في الأربعين من العلماء
قلتُ: وَوَرَدَ في حديث آخر: "مَن حَفِظَ عَلَى أُمَّتِي حَدِيثًا واحِدًا كانَ لَهُ كَأَجْرِ أَحد وسَبْعِينَ نَبِيًّا صَدِّيقًا". أنبأنا به الحافظ شمسُ الدين الذَّهبي، أنبا أبو المعالي محمد بن محمد (¬1) بن عبد العزيز الجذامي الإسكندري، أنبا جدي، أنبا أبو طاهر الحافظ قال: كَتَبَ إِليَّ أبو الفتيان عمر بن أبي الحسن الحافظ، أنبا أحمد بن محمد البجلي الحافظ، أنبا محمد بن أحمد بن يعقوب الزرقي -زرق من قُرى مرو-، ثنا أبو حامد أحمد بن عيسى بن مهدي -إملاءً-، ثنا محمد بن رزام المروزي، ثنا محمد بن أيوب الهنائي، ثنا حميد بن أبي حميد، عن عبد الرحمن بن دلهم، عن ابن عباس مرفوعًا فَذَكَرَهُ (¬2). قال أبو الفتيان: "كَتبهُ عَنِّي الحافظ أبو بكر الخطيب بصور" (¬3). قلتُ: هذا حديثٌ موضوعٌ، وإسنادهُ مُظْلِم، والظاهر أنَّ الآفةَ فيه مِن ابن رزام الكذَّاب (¬4). وقوله: "وقد صَنَّفَ فيه عبدُ الله بن المبارك (¬5). ¬
ثمَّ محمد بن أَسْلَم الطُّوسِي العالمُ الرَّباني (¬1)، ثم الحسن بن سفيان النَّسَوي (¬2)، وأبو بكر الآجُرِّي (¬3)، وأبو بكر محمد بن إبر اهيم الأصبَهاني (¬4)، والدَّارَقُطْني (¬5)، والحاكم (¬6)، وأبو نُعَيم (¬7)، وأبو عبد الرحمن السُّلَمِيُّ (¬8)، وأبو سعدٍ المَالِيني (¬9)، وأبو عثمان الصَّابُونيُّ (¬10)، ومحمدُ بن عبد اللهِ الأَنصَاريُّ (¬11)، وأبو بكرٍ البَيْهقيُّ (¬12)، وخلائقُ لا يُحصَونَ مِنَ المُتَقَدِّمِين والمُتَأَخِّرينَ". ¬
هو كما قال، ويبعُدُ إحصاؤهم حتى إلى زماننا هذا وهلُمَّ جَرًّا. ومنهم: الطائي (¬1)، والسِّلَفي (¬2)، والمنذري (¬3)، وإمام الحرمين (¬4). والطُّوسي: بِضَمِّ الطاء. و"الرَّبَّاني": مَنْ أُفِيضَت عليهِ معارِفُ رَبّهِ، ورَبَّى الناس بِعِلمِهِ. و"النَّسَوي": -بفتح النون ثم سينٌ مُهْمَلة ثم واو-: نسبة إلى نَسَا. و"الآجريّ": -بهمزة مفتوحةٍ ممدودةٍ- (¬5)، ولم يذكرها السمعاني في "أنسابه" ولا مَنْ تَبِعَهُ! (¬6). ¬
و"الأصبهاني": -بكسر الهمزة وفتحها-، وبالفاء بدل الباء. و"الدَّارَقُطْنِي": -بفتحِ الراء- نسبة إلى دار القطن محلَّة كبيرة ببغداد. و"السُّلَمي": -بضمِّ السين وفتح اللام-، نسبة إلى سليم بن منصور قبيلةٌ مشهورة، واسمه محمد بن الحسين، وهو ابن بنت أبي عمرو بن بجيد السلمي. و"المَالِيني": -بفتح الميم، وكسر اللام، ثم مثناة تحت ساكنة، ثمَّ نون- نسبة إلى مالين، وهي: قُرَى مجتمعة مِن أعمال هراة، يقال لجميعها: مالين، وأهل هراة يقولون: مالان. كذا ذَكره السمعاني، وكَنَّاه أبا أسْعَد (¬1)، وسماه أحمد بن محمد (¬2)، وهو رَاوِيَةُ ابن عَدِيٍّ الحافظ. و"الصَّابُوني": نسبة إلى عمله، ولعَلَّ أَجدَادَ أبي عُثمان هذا -واسمه إسماعيل بن عبد الرحمن شيخ الإسلام- كان يَعمله (¬3). وهذه الألفاظُ ضَبطتُها ليعرفها المبتدئ في هذا الفنِّ. وقوله: "وقد اسْتَخَرتُ الله تعالى في جَمعِ أَربَعينَ حَديثًا اقتِداءً بهؤلاءِ الأَئِمَّةِ الأَعلامِ وحُفَّاظِ الإسلامِ. وقدِ اتَّفَقَ العُلَمَاءُ على جَوازِ العَمَلِ بالحَدِيثِ الضَّعيف في فَضَائِلِ الأعمَالِ، ومَعَ هذا فليسَ اعتِمَادي على هذا الحديثِ، بلْ على قولهِ - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث الصَّحيحَةِ: "لِيُبَلِّغ الشَّاهِدُ مِنْكُم الغائبَ". ¬
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "نضَّرَ اللهُ امرأً سَمِعَ مقالَتِي فوعَاها فأَدَّاها كمَا سَمِعَها". ثمَّ مِنَ العُلَماءِ مَنْ جَمَعَ الأربَعينَ في أُصُولِ الدِّين، وبَعضُهم في الفُرُوعِ، وبعضهم في الجِهادِ، وبعضهم في الزهدِ، وبعضهم في الآدابِ، وبعضهم في الخُطَبِ، وكلُّها مَقَاصِدُ صالِحَةٌ، رضي الله عن قاصِديها. وَقَد رَأَيْتُ جَمعَ أربَعينَ أَهمَّ مِنْ هذا كلِّهِ، وهي (¬1) أربعونَ حديثًا مُشْتَمِلَةٌ على جميع ذلك، وكُلُّ حديثٍ منها قاعِدَةٌ عظيمَةٌ مِن قواعِدِ الدِّين، قد وَصَفَهُ العُلَماءُ بأنَّ مَدَارَ الإسلام عليه، [أو هُوَ نِصفُ الإسلام] (¬2)، أو ثُلُثُهُ، أو نحوُ ذلِكَ. وألتَزمُ في هذه الأربعين أنْ تَكُونَ صَحِيحَةً، ومُعظَمُها في صحيحَيْ البُخَاريِّ ومُسلمٍ، وأذكُرُها محذُوفةَ الأَسانيدِ لِيَسْهلَ حِفْظُها ويَعُمَّ الانتِفاعُ بها إنْ شاءَ اللهُ تعالى". ولَمَّا كانت الاستخارةُ مطلوبةً في جميع الأمور، قدَّمَها المُصَنِّف على تأليف "الأربعين" المذكورة، وحديث الاستخارة معروف ثابت في "الصحيح" (¬3). ويُروى: "مِنْ سَعَادَةِ ابن آدم: الرضا بالقَضَاءِ، واسْتِخَارَةُ الله تعالى في أُمُوره، ومن شَقاوَتهِ تَركُ ذلك" (¬4). ¬
ثمَّ ذَكَرَ المُصَنِّف مستندًا في جمعِها، وأنه ليسَ مُسْتَنَدُ ذلك الحديثُ السابق، وإن كانوا أجمعوا على العمل بالضعيف في فضائل الأعمال، وليسَ هو اختراع عبادَةٍ كما استُشْكِلَ، وإنما هوَ رجاءُ فَضْلِهِ بأَمَارةٍ ضَعيفةِ (¬1)، وقد وَرَدَ في بعضَ الأحاديث: "مَنْ بَلَغَهُ عني ثواب فعمِلَهُ كان له أجرهُ وإن لم أكن قُلتُهُ" أو كَمَا قال (¬2). وحديث: "لِيُبَلّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُم الغائب" أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" في خطبة حجة الوداع (¬3)، ولهُ طُرقٌ كثيرة ذَكَرَها ابن منده في "مستخرجه" مِنْ حَدِيث: ابن عباس، وابن عمرو، وأبي بكرة، وعبادة، وعمار، ووابصة بن معبد، والحارث بن البَرصَاء، وأبي شريح العدوي، ومعاوية بن حيدة، والعدي بن خالد، والحارث بن عمرو، وجابر، وأبي سعيد، وأبي أُمامة، وعائشة، وأسماء بنت يزيد، وسَرَّاءَ بنتِ نَبهان (¬4). ¬
طرق ومعنى حديث "نضر الله امرأ .. "
وحديث: "نَضَّرَ الله امرأً .. " أخرجَهُ الترمذي من حديث ابن مسعود وقال: "حسنٌ صحيح" (¬1). وابن حِبَّان في "صحيحه" (¬2)، والحاكم في "مستدركه" من حديث جبير بن مُطْعِم وقال: "صحيحٌ على شَرطِ الشَّيخَين" (¬3). ورواه أبو داود وابن ماجه والترمذي من حديث زيد بن ثابت وقال: "حسن" (¬4). ورواه الجورقاني في أوائل "موضوعاته" من حديث أَنَس رَفَعَهُ: "نضَّرَ اللهُ مَنْ سَمِعَ قولي ثمَّ لَمْ يَزد فيهِ، [ثلاث] (¬5) لا يَغِلُّ عليهنَّ قلبُ امرئٍ مُسْلِمٍ: إِخْلاصُ العَمَلِ للهِ، ومُنَاصَحةُ ولاةِ الأمرِ، ولُزُومُ جماعَةِ المُسْلِمِينَ (¬6)، فَإِنَّ دَعوَتَهم تُحِيطُ مِنْ وَرَائهِم". ¬
ثمَّ قال: "هذا حديث مشهور" (¬1). ثُمَّ رواه من حديث ابن مسعود مرفوعًا: "نضَّرَ الله امرأً سَمِعَ مِنَّا حديثًا فأَدَّاهُ عَنَّا كمَا سَمِعَهُ، فَرُبَّ مُبَلَّغ أوعى مِنْ سامِع". ثمَّ قال: "هذا حديث صحيح مشهور، ورواته ثقات" (¬2). وفي روايةٍ: "نَضَّرَ اللهُ رَجُلًا سَمِعَ مِنَّا كلِمَةً فبَلَّغَها كمَا سَمِعَها، قربَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِن سامِعٍ". ثمَّ قال: "هذا حديثٌ صحيح" (¬3). فائدةٌ: نَضَّرَ -بتخفيف الضاد وتشديدها- من النَّضَارة، وهي في الأصل: حُسْنُ الوجه والبريق. ورجَّحَ بعضهم التخفيف، لكن التشديد أكثر -كما قاله النووي-، ومعناه: "حسَّنَهُ وجَمَّلهُ" (¬4). ¬
وقال بعضهم: "إني لأرى في وجوه أهل الحديث نضرًا لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "نضَّر الله امرأً .. " الحديث" (¬1). يعني: أنها دعوةٌ أجيبت. وقال الرُّوياني في "بحره": "الأجود التخفيف". قال: "وفي الخبر بيان أنَّ الفقة هو: الاستنباط والاستدراكُ لمعاني الكَلام، وفي ضمنه وجوب التفقه والحث على استنباط معاني الحديث" (¬2). وقال ابن الأثير: "نَضَرَ وَنَضَّره وأَنْضَره، أي: نَعَّمَهُ" (¬3). وفي "الغيريبين" للهروي: "رواه الأصمَعِيُّ بالتَّشديد، وأبو عُبيدة (¬4) بالتَّخفيف، أرادَ: نعَّم الله عبدًا، ويقال: نضر الله يُنضر ونضر ينضر لغتان. وقال الحسن بن محمد بن موسى الأزدي المؤدب: "ليسَ هذا مِن الحُسن في الوجه، إنما معناه: حَسَّنَ اللهُ وجةهُ في خُلُقِهِ، أي: جَاهِهِ وقَدرِهِ". قال: "وهذا مثل قوله -عليه الصلاة والسلام-: "اطلُبوا الحَوَائِجَ إِلى حِسَانِ الوُجُوه" (¬5). ¬
يعني: ذوي الوجوه من الناس، وذوي الأقدار" (¬1). وانفردَ ابن العربي فقال: "هو بالصَّاد المهملة حكئ عن ابن بشكَوال عنه سماعًا" (¬2). وقوله: "فأدَّاها كما سمِعَها" يُستَدَلُّ به على مَنع رِوَايَةِ الحديث بالمَغنى. وجوابُ الجمهور: أنَّ المُرَاد حُكْمها لا لَفْظها؛ بدليل آخِرِ الحَدِيث: "فَرُبَّ حامل فقه غير فقيه، وربَّ حامل فقه إلى مَن هو أفقه منه". قلتُ: ومِنْ شواهِدهِ أيضًا حديث: "يَحمِلُ هذا العِلمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ" الحديث (¬3). وقد ذكرتهُ في خطبة "تخريجي لأحاديث الرافعي الكبير" (¬4). وقوله: "وَقَد رَأَيْتُ جمعَ أربَعينَ أَهمَّ مِنْ هذا كُلِّهِ". هو كَمَا قال، فإنَّ الشريعة ورَدَت للمَصَالح الدينية والدنْيَويَّة، والأولى بالتوحيد. ¬
ما اشتملت عليه هذه الأربعين من أمور الدين
والطاعات: إِمَّا قلبيَّة كالإخلاص والإيمان، وإِمَّا بالجوارح كالعبادات العمليَّة. وهذه الأربعون التي جَمَعَها مُشْتَمِلةٌ على أصولِ ذلك كلِّه، وحاصلها أنها راجعةٌ إلى تصحيح النيات، والتقوى في السّرِّ والعَلَن، والزهد في الدنيا، وقِصَرِ الأمل، وتركِ ما لا يعني مِن الفُضولِ، والاشتغالِ بالذِّكر، والاستعداد للقاء الله، والتواضع للخَلْق، وحُسْنِ التَّخَلُق معهم بالآداب الشرعية، والانقباض عنهم فيما لا يعني، وإرادة الخير لهم باطنًا، ومساعدتهم ظاهرًا حسب الإمكان. وقوله: "وكُلُّ حَديثٍ منها قاعدة" أي: أساس كما سَتعلَمهُ في مَوْضِعِهِ. وذَكَرَها محذوفة الأسانيد "لِيَسهُل حِفْظُها" كما ذَكَرَ؛ ولأَنَّ المقصودَ مِن ذِكْرِ الإسناد صحَّةُ الحديث، وهي معلومة بدونه. وهذا آخر ما يسَّرَهُ الله تعالى مِنَ الكلام على مواضع من الخطبة يحتاج إليها. ثُمَّ نَشْرَع الآن في المقصود أعاننا الله تعالى على إكماله بمُحَمَّدٍ وآلهِ (¬1). ¬
الحديث الأول
الحَدِيثُ الأَوّلُ عن أمير المؤمنين أبي حَفْص عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ - رضي الله عنه - قال: سَمِعتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقُولُ: "إِنَّمَا الأَعمَال بالنِّيَّاتِ، وإِنَّما لِكُلِّ امرئٍ مَا نَوى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى اللهِ ورَسُولهِ، فَهِجْرَتُهُ إلى اللهِ ورَسُولهِ، ومَنْ كانت هِجْرَتُهُ لِدُنيا يُصيبُها أو امرَأَةٍ يَنْكِحُها، فَهِجْرَتُهُ إلى مَا هاجَرَ إليهِ" (¬1). رواهُ إِمَامَا المُحَدِّثين أبو عبدِ اللهِ محمدُ بن إسماعيل البُخاري، وأبو الحُسَيْن مُسْلِم بن الحجاج القُشَيْري في "صحيحيْهِما" اللَّذَيْنِ هُمَا أَصَحُّ الكُتُبِ المُصَنَّفةِ. الكلام عليهِ مِن وُجوه -نقْتَصَر منها على ثمانيةٍ وعشرينَ؛ طَلَبًا للاختصار، وحَذَرًا من الإكثار-! (¬2): ¬
أحدها: في التَّعريفِ بِرَاوِيهِ، وبالأسماء الواقِعَةِ فيهِ: أَمَّا راوِيهِ فهو: أميرُ المؤمنين، أبو حفص، وأَوَّلُ مَن كَنَّاه بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. و"الحفصُ" في اللُّغة: الأسدُ. عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رِيَاح -بكسر الرَّاء ثم مثناة تحت- ابن عبد الله بن قرط بن رَزَّاح -بفتح الراء ثم زاي- بن عدي بن كعب بن لؤي -بالهمز وتَركهِ- بن غالب بن فهر العدوي القرشي. يجتمع مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كعب بن لؤي. [واتفقوا على تسميته بالفاروق؛ لفُرقَانِهِ بينَ الحَقِّ والباطل بإِسلامِهِ، وظهور ذلك. وهو أول مَن سُمِّيَ أمير المؤمنين عُمومًا، وسُمِّيَ قبله به خصوصًا عبد الله بن جحش على] (¬1) سَرِيَّةٍ في اثنى عَشَرَ رجُلًا، وقيل: ثمانية. وأُمُّ عُمَر اسمها حَنْتَمة -بالحاء المهملة ثم نون ثم مثناة فوق- بنت هاشم، وأخطأ من قال: بنت هشام. وُلِدَ بعدَ الفَيل بثلاثَ عَشرة سَنَةً، وأسلمَ بعد ستٍّ مِن النُّبُوَّة. وقيل: خمس، بَعدَ أربعين رَجُلًا وإحدى عشرة امرأة، وكانَ إسلامه عِزًّا. بُويع له بالخلافة يوم موت الصِّديق وهو يوم الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة من الهجرة بوِصايةِ الصدِّيق إليه. فَتَحَ الفُتوح، ودَوَّنَ الدَّوَاوين في العَطَاءِ، وأرَّخَ التَّاريخ، وأخَّر المَقَام ¬
إلى موضعه الآن -وكان مُلْتَصِقًا بالبيت-، وكَم لَهُ مِنْ سابقةٍ ولاحِقةٍ، ونَزَل القرآن بموافقته في عِدَّةِ مواضع. رُوِيَ لهُ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خمسمائة حديث ونيِّف، اتفق الشيخان منها على ستةٍ وعِشرين حديثًا، وانفرد البخاري بأربعةٍ وثلائين، ومسلم بأحد وعشرين. ولِيَ الخِلافة عشر سنين ونصف، واستُشْهِدَ يومَ الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين من الهجرة، وهو ابن ثلاث وستين سنة -على الصحيح-، وغَسَّلهُ ابنهُ الزاهد: عبد الله، وكَفَّنَهُ في ثوبين سحولِيَّين، وصلّى عليه: صُهيب، ودُفِنَ في الحجرة النبوية على ساكنها محمد رسول الله أفضلُ الصلاة والسلام. قَتَلَهُ أبو لؤلؤة فيروز النصراني -قاتلهُ الله تعالى- (¬1). وترجمتهُ مبسوطةٌ في "شَرْحِي للعُمدَة"، وَذَكرتُ فيها أن في الرواة عمر بن الخطاب ستةٌ سواه (¬2)، نعم؛ هوَ فَرْدٌ في الصحابة -رضوان الله تعالى عنهم أجمعين- (¬3). * * * وأَمَّا البخاري -مُخَرِّجُ الحديث- فهو: أميرُ المؤمنين أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بَزدِزْبه -بفتح الباء وإسكان ¬
الراء وكسر الدال ثم زاي ثم باء موحدة ثم هاء، وهو بالبُخارِيَّة، ومعناه بالعربية: الزرَّاع- الجعفي مولاهم. كَتَبَ بخراسان، والجبال، والعراق، والحجاز، والشام، ومصر، عن أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين وخلق يزيدون على ألفٍ. وروى عنه الترمذي، والنَّسائي -فيما قيل-، ومُسلم -خارج الصحيح-، وأبو زرعة، وابن خزيمة، وآخر مَن حذَث عن البخاري ببغداد: الحسين بن إسماعيل المحاملي. وصحيحه متواتر عنهُ. واشتهر عنه مِن رواية الفِرَبْري. وُلِدَ بعدَ صلاة الجمعة لثلاث عشرة خَلَت من شوال سنة أربع وتسعين ومائة، وتوفي ليلة السبت عند صلاة العشاء ليلةَ عيد الفِطْر، ودُفِنَ يومَ الفِطر بعد الظهر، سنة ست وخمسين ومائتين، ودفن بخَزتَنْك -قرية على فرسخين من سمرقند- وفضائله جمةٌ أفردت بالتأليف -سقى الله ثراه- (¬1). وأمَّا مسلمٌ -مخرِّجه أيضًا- فهو: الإمام أبو الحُسين مُسْلِم بن الحجَّاج ابن مسلم القُشَيْري النِّيسابوري صاحب "المسند الصحيح" وغيره. وُلِدَ سنة أربع ومائتين، ومات في رجب سنةَ إحدى وستين. رَحَلَ إلى الحجاز، والشام، والعراق، ومِصر، وأخَذَ الحديث عن أحمد بن حنبل، وحَرمَلة وخلائق. ¬
روى عنه الترمذي حديثًا واحدًا. فائدة: البُخَاري -بضَمِّ الباء المُوَحّدة، ثُمَّ خاءٌ مُعجَمَة- نسبةً إلى بخارى: بلدٌ معروفٌ بما وراء النهر، خَرَجَ مِنها جماعَةٌ مِن العلماء في كُلِّ فن، ولها تاريخ، ومِن أَجَلِّهم صاحِبُ "الصَّحِيح" هذا. والقُشَيري: -بفتح الشين وسكون الياء المثناة تحت، ثمَّ راء، ثُمَّ ياء النِّسبة- نِسْبَة إلى قُشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، قبيلة كبيرةٌ، يُنسب إليها جماعةٌ مِن العلماء منهم هذا الإمام. قلتُ: والقُشيري -أيضًا- نسبةً إلى قُشير بطنٌ مِن أسلَم، منهم: سلمَةُ بن الأكوَع (¬1). فائدة أخرى: قِراءَةُ الحديث يُسْتَشْفَى بها عِنْدَ نُزول الكَرب، وكيفَ لا وهي أحدُ الوَحيَيْن. حكى أبو الحسين الفَرَّاء في "طبقاته" أنَّ البخاري ذهبَت عَيْنَاهُ في صِباه فرأَى في منامِهِ إبراهيم الخليل -صلوات اللهِ وسلامُهُ عليه- فتفل فيها، أو دَعَا له فَعَادَت (¬2). فَكَأَنَّ قراءةَ الناسِ لكِتَابهِ عندَ حُلولِ الكَزبِ مأخوذٌ مِنْ ذلك؛ لأنَّ مُصَنِّفَهُ ¬
فُرِّجَت كُربته (¬1). فائدة أخرى: قولُهُ: "إِمَامَا المُحَدِّثين" هو باعتِبار ما كانا عليه مِن الزُّهدِ والورعِ والجِدِّ والاجتهاد في تخريج "الصحيح" حتى ائتمَّ بهما من جاء بعدهما، كابن خُزيمة، وابنُ حِبَّان، وأبي عَوانة وغيرهم. وقوله: "اللَّذَيْنِ هُمَا أَصَحُّ الكُتُبِ المُصَنَّفةِ" لا شَكَّ في ذلكَ ولا مِريَةَ. وقولُ الشَّافعي - رضي الله عنه - مِثْل ذلك في "المُوَطَّأ" كان قَبْلَ وُجُودِهما (¬2). ثمَّ "كتاب البخاري" أصحُّ من "كتاب مُسْلِمٍ" كما ذَكَرَهُ الإسماعيلي. وخالفَ أبو علي النيسابوري فقال: "مَا تحتَ أديمِ السَّماء أصح مِن كتاب مسلم" (¬3). ¬
وَوَافَقَهُ على ذلك بعضُ شُيُوخ المَغْرِب، والصَّحِيحُ الأَوَّل (¬1). الوجهُ الثاني: هذا الحديثُ أَحَدُ أركانِ الإسلام، وقواعِدِ الإيمان، وهو صحيح جليلٌ مُتَّفقٌ على صِحَّته، مُجْمَعٌ على عِظَمِ مَوْقِعِهِ، وثبوته من حديث الإمام أبي سعيد يحيى بن سعيد الأنصاري، رواه عنه الحفَّاظ والأعلام الجَمّ الغفير فوق الثلاثمائة نفسٍ كما عددَهم ابن منده في "مستخرجه" (¬2). الوجهُ الثالث: هذا الحديث خَرَّجَهُ البخاري في "صحيحه" في سبعةِ مواضع منه، وخَرَّجهُ مُسْلِمٌ في "الجهاد"، وخرَّجه أصحاب "السنن الأربعة" -أيضًا-، وخرَّجه قبلهم الإمام أحمد في "مُسْنَده"، ولم يخرجه مالك في "الموطأ" مِنْ جِهته (¬3). الوجه الرابع: هذا الحديث رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير عمر بن الخطاب نحو عشرين صحابيًّا. لكن قال الحُفَّاظُ: "لا يَصِحُّ إلَّا مِنْ جهةِ عُمَر فقط" (¬4). وهو فردٌ غريبٌ باعتِبَارٍ، مَشْهُورٌ باعتبارٍ آخر. وليسَ بمتواتر كما يُظَنُّ (¬5)، فإنه لا يصح إلَّا عن عمر، ولا عنه إلَّا مِنْ جِهة علقمة، ولا عنهُ مِن جهة ¬
محمد بن إبراهيم التيمي، ولا عنه إلَّا مِن جهة يحيى بن سعيد الأنصاري (¬1)، وعنه اشتهر، فرواه عنه خَلائِق -كما سلَفَ- فتكرَّرَت الغَرَابةُ فيه أربع مرَّات، وقَن ذَكَرتُ هنا، وفي "شرح العُمْدَة" أمورًا حديثثة تتعلق بإسناده فراجعها منهُ (¬2). الوجه الخامس: هذا الحديث أحدُ الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، وقد اختُلِف في عَدِّها على عشرةِ أقوالٍ ذَكَرتُها في "الشرح" المشار إليه، ونَقْتَصِر منها على ثلاثة (¬3): أحدها: أنها ثلاثة، أحدها: هذا الحديث، وثانيها: حديث "مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ المَرءِ تَركُهُ مَا لا يَعْنِيه"، وثالِثُها: حديث "الحَلالُ بيِّن والحَرَامُ بَيِّنٌ". ثانيها: أنها أربعة، بزيادة حديث: "ازهد في الدُّنيَا يُحِبّكَ اللهُ". ثالثها: أنها خمسة، "الأعمال بالنيات"، و"الحَلالُ بَيِّن والحَرَامُ بَيِّنٌ"، "ومَا نَهيتكُم عنهُ فانتَهوا، ومَا أَمرتكُم بهِ فَأتُوا مِنهُ مَا استَطَعتُم"، و"لا ضَرَرَ وَلَا ضِرَار" (¬4). الوجه السادس: هذا الحديث عظيمُ المَوْقِع، كثيرُ الفائدة، أصلٌ مِن أُصُول الدين. وقَد خطَبَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا أيّها الناس! إنما الأعمال بالنيَّة" كما ¬
أخْرَجَهُ البخاري في أَحَدِ المواضع السَّبعةِ السَّالِفةِ (¬1). وخَطَبَ به عمر بن الخطاب أيضًا على مِنْبَر رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كما أَخْرَجَهُ أيضًا (¬2). قال أبو داود: "وهو نِصْف الفقهِ" (¬3). وقال الشافعي -رحمه الله-، وأحمد: "يدخُلُ فيه ثُلُت العِلمِ" (¬4). وسَبَبُهُ -كما قال البيهقي-: "أنَّ كَسْبَ العَبْدِ بِقَلْبهِ، ولسانِهِ، وجَوَارِحِهِ. فالنِّيَّة أَحَدُ أقسامها الثلاثة، وأرجحها؛ لأنها تكونُ عِبادةً بانفرادها بخلاف الآخرَين، ولهذا كانت نيَّةُ المؤمن خيرًا مِنْ عَمَله (¬5)؛ ولأنَّ القول والعمل يدخلهما الفساد بالرياء ونحوه بخلاف النيَّة" (¬6). ¬
وقال عبد الرحمن بن مهدي: "يدخلُ هذا الحديث في ثلاثين بابًا مِنَ الإرَادَات والنيَّات" (¬1). وقال أبو عُبَيْد: "ليسَ شيءٌ مِن أخبارِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حديث أجمع وأغنى وأكثر فائدة وأبلغ من هذا الحديث" (¬2). الوجه السابع: هذا الحديثُ مِنْ أَجَلِّ أعمال القُلوب والطَّاعات المتعلِّقَةِ بها، وعليه مَدَارُها وهو قاعِدَتُها، فهو قاعِدَةُ الدِّين؛ لِتَضَمُّنه حكم النِّيات التي محلها القلب، بخلاف الذِّكر الذي مَحَلّه اللِّسان. ولهذا لو نَوَى الصلاة بلسانه دونَ قلبِهِ لم تصح، ولو قرأ الفاتحةَ بِقَلبه دونَ لسانه لم تصح (¬3)، فهو أصلٌ في وجُوب النيَّة في سائر العبادات، لأنها كالأرواح للأشباح (¬4). الوجه الثامن: هذا الحديثُ أصلٌ في الإخلاص أيضًا، وشواهِدهُ كثير مِنَ الكتاب والسنّة، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]. وقال رسوله -عليه أفضَل الصلاة والسلام-: " ... ولَكِنْ جِهادٌ ونِيةٌ" (¬5). الوجه التاسع: افتتحَ المُصَنِّفُ -رحمهُ اللهُ تعالى- "أربَعينَهُ" بهذا الحديث؛ اقتداءً بالسَّلَف -رحمهم الله- فإنَّهم كانوا يَسْتَحِبُّونَ افتتاحَ ¬
مُصَنَّفاتِهم به (¬1)، وفَعَلُوهُ تنبيهًا للطَّالِب على حُسنِ النيَّةِ، واهتمامه بذلك، واعتنائه به. ومِمَّن افتَتَحَ كتابه به: البخاري، مع أَنَّهُ لا يُناسبُ ما ترجَمَهُ به مِن باب "بدء نزول الوحي"؛ وإنما أرادَ ما ذَكَرناه (¬2). الوجه العاشر: "سَمِعْتُ" قيل: تتعدَّى (¬3) إلى مَفْعُولين، وهو مذهب أبي علي الفارسي في "إيضاحه" (¬4). والأصح: أنها لا تَتَعَدَّى إلَّا إلى مفعول واحِدٍ، والفعل الواقع بعدَ المفعول في موضِع الحال، أي: سَمِعتُ حال قوله كذا (¬5). الوجه الحادي عشر: لفظُ "إِنَّمَا" لفظةٌ جَليلَةٌ، وهي موضُوعةٌ للحَصْرِ تُثبِتُ المذكور وتنفي ما عَدَاهُ، هذا مذهب الجمهور مِنْ أهلِ اللغة والأصول، وعلى هذا؛ هل هو بالمنطوق أو بالمفهوم؟ فيه مذهبان للأصوليين. واختار الآمدي أنها لا تفيد الحصر بل تفيد تأكيد الإثبات، وهو الصحيح عند النُّحاة، ونَقَلوه عن أهل البصرة (¬6). ¬
* احتج الأولون بوجوهٍ: أحدها: أنَّ العربَ الفُصَحاء قد استعملوها في مواطن الحصر، فوجب أن تكون حقيقة فيه؛ لأنَّ الأصل في الإطلاق الحقيقة. وعُورِضَ بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2]. وأُجيب: بأنَّ المراد: هم الكامِلُونَ في الإيمان؛ جمعًا بينَ الأدِلَّةِ. ثانيها: أنها في غالب مَوارِدِها للحصر، فَوَجَبَ أن تكونَ موضُوعةً له؛ حَملًا لها على الغالب. وعُورِضَ بالمنع وبالتَّسليم؛ لكن لا نُسلِّم أن ذلك يوجِبُ أنها موضوعة للحَضرِ؛ لِجَواز غَلَبَةِ الاستعمال في غير ما وُضِعَت له. ثالثها: أنَّ "إِنَّمَا" مُرَكَّبَة مِن نفي وإثباتٍ، فاقتضت لفظة "ما" نَفْيَ الحكم عَمَّا بعدَها، وإثباتُهُ لِمَا قبْلها، وهو باطِل إجمَاعًا، أو إثباتُ الحُكمِ لِمَا بعدَها ونَفْيه عن غيره، وهو المطلوب. وعُورِضَ بأنَّها ليست نافية، بل زائدة كافَّة مُوَطِّئة لدخول الفعل كما سَلَف عن النحاة. وأيضًا لا نُسلِّم تركيبها من "إنَّ" و"ما" بل هي كلِمةٌ موضوعة مِن أَصلِها كذلك من غير تركيب. تنَزَّلنا وسلَّمنَا، لكن لا نُسلِّم أَنَّ "ما" فيها للنَّفْيِ.
وإن سلَّمناهُ، لكن لا نُسلِّم أنَّ معنى مُفْرَدَيْهِمَا (¬1) -أعني: "إنَّ" و"ما"- بعد التركيب معناهُمَا قَبْلَهُ؛ لأَنَّ التركيب يُغَيِّرُ معاني المفردات نحو: "لولا" فإنها مُرَكَّبةٌ مِنْ "لو" و"لا" وليسَ معناها معنى واحد منهما. * واحتج الآخَرون بوجوه: أحدها: أنها وَرَدَت لغير الحَصر كثيرًا، فلتكن حقيقة فيه كما سَلَفَ. وعُورِضَ بما سَلف. ثانيها: أنا إذا قُلنا: إنما قامَ زيدٌ، حَسُنَ أَنْ يُقال: فهل قامَ عمرو؟ ولو كانت للحَصْرِ لَمَا حَسُنَ هذا الاستفسارُ؛ لأنَّهُ تحصيلُ حاصِلٍ. وللأوَّل أن يُجيب: أنه إنما حَسُن لاحتمال أنها استُعمِلَت في غيره مجازًا، لَا لأنها تَقْتَضِي الحَضرَ. ثالثها: أنها لو كانت للحصر لاستوى قولنا: "إنما قام"، و"ما قام إلَّا زيد" لكنَّهما لا يستويان، إذ الثاني أقوى مِنَ الأوَّل. وجوابهُ بمنع القوة، تَنَزَّلنا وسَلَّمنا، لكن لا يلزم أنها ليست للحصر؛ لجواز اشتراكهما فيه، واختصاص أحدهما بمزيد قوة تأكيد فيه، كما اشترك "السين" و"سوف" في معنى "التنفيس"، وكانت "سوف" أكثر تنفيسًا؛ لكثرة حُرُوفِها، فكذلك: "ما قامَ إلا زيد" أكثر حُرُوفًا مِنْ "إنما قامَ زيد"، ولأنَّ الحصر في "إِنما قامَ زَيد" معنوي، وفي "مَا قَامَ إلا زيد" لَفْظِيّ، فاقتضى التـ]ـصرِيحَ (¬2)؛ لأجل "مَا" و"إلَّا" جمعًا بينَ النَّفي والإثبات بالمُطَابقة. ¬
رابعها: أنَّ أُسامة بن زيد روى: "إِنَّمَا الرِّبا في النسِيئَةِ" (¬1) ولم ينْحَصِر الرِّبا فيها، بل هُوَ ثابتٌ في التَّفَاضُلِ. وأُجيب: بأنَّ ابن عباسٍ من أهلِ اللسان وقد فَهِمَ من حديث "إنما" الحَصر، وقال به. وإنما رِبَا الفَضْل ثابتٌ بدليل آخر [ناسِخ] (¬2) لهذا المفهوم. وحديث: "مَا مِن نَبيٍّ من الأنبياء إلا وقد أُوتِيَ مِنَ الآيات مَا آمنَ عليهِ البَشَرُ، وإِئمَا كانَ الذي أوتيتُهُ وحيًا ... " (¬3) هي هنا لإثبات الوحي لا لِنَفي ما عَدَاه، فإِنَّهُ قد ثَبَتَ لهُ غيرهُ مِنَ الآيات. وحَكَى بعضُ شارحي هذه "الأربعين" أن "إنما" تَقْتَضِي الحصرَ عُرفًا لا وضعًا؛ لأنَّ الوضع غُيِّبَ عنا بخلاف العُرف فإنه كثير (¬4). وقد ذَكَرتُ هنا في "شرح العُمدَة" فوائد متعلقة بهذه اللفظة فراجِعها منه (¬5). الثاني عشر: "الأعمال" حرَكَاتُ البَدَن، ويُتَجَوَّزُ بها عن حركات النفس، وإنما عَبَّرَ بـ "الأعمال" دون "الأفعال"؛ لِئَلَّا يتناول أفعال القلوب، كالخوف والرجاء وغيرهما، فَإِنَّها متميزةٌ (¬6) لله تعالى بصورتها. الثالث عشر: النيَّات جمعُ نيَّة -بالتَّشديد، وقيل: بالتخفيف-، وجُمِعَت لاختلاف أنواعها، وأصلها: القصد، وهو عَزمُ القلب (¬7). ¬
وفي الشرع: القَصدُ المُقْتَرِنُ بالفِعل. ومحلُّها القلبُ عند الجمهور، ويُستَحَب مساعدة اللسان له خلافًا للمالكية (¬1). الرابع عشر: الباء في قوله "بالنيَّات" يحتَمل أنْ تكُونَ "باء" السَّبب، ويحتمل أن تكون "باء" المُصَاحبة، ويَنْبَنِي على ذلك: أنَّ النية جزءٌ مِنَ العِبادة أم شَرطٌ؟ والأصح الأول (¬2). الخامس عشر: قوله -عليه الصلاة والسلام- أيضًا: "بالنيات" هو متعلق بالخبَر المحذوف، وهل التَّقديرُ صحّتها أو كمالها؟ فيه مدهبان للأصوليين، وأظهرهما أوَّلهما؛ لأنه أقرَبُ إلى حُضُوره بالذِّهن عندَ الإطلاق، فالحَملُ عليه أولى، وقد قال به: الشافعي، ومالك، وأحمد، وداود، وجمهور أهل ¬
الحجاز، فلا تصِحُّ طهارة إلَّا بنية وضوءًا كان أو غُسلًا أو تيَمُّمًا. وذَهب أبو حنيفة -رحمه الله- ومَن وافَقَهُ إلى الثاني، فيصِحَّان بغَيْر نِيَّةٍ، ووافق في التَّيمم. وأبعدَ الأوزاعي فقال: يصح بغيرِ نِيَّةٍ -أيضًا-. والمسألة مبسوطةٌ بأَدِلَّةِ الفريقين في "شرحي للعمدة" فراجِعهُ منه، وذَكَرتُ فيه مع ذلك فُرُوعًا مُهِمَّةً تَتَعَلَّقُ بالنيَّة فسارع إليه (¬1). السادس عشر: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "وإِنَّمَا لِكُلِّ امرئٍ ما نَوَى" أي جزاءُ ما نوى خيرًا وشرًّا، فهوَ مِن باب حَذْفِ المُضَاف نحو: {وسئل القرية} [يوسف: 82] أي: أهلها. السابع عشر: فائدة ذِكرِ قوله "وإنما لكل امرئٍ ما نَوَى" بعدَ قوله: "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّات" تَعيِينُ المَنْوِي؛ ومَنع الاستِنَابَةِ فيها، وقد استُثْنِي مِن الثَّاني نيَّةُ الولي عن الصبي في الحج، والمسلم عن زوجته الذميَّة عند طُهرها مِنَ الحَيْض على القول بذلك، وحج الإنسان عن غيرهِ. وكَذا إذا وكَّلَهُ في تَفْرِقَةِ الزكاة وفَوَّضَ إليهِ النيَّة ونوى الوكيل فإنَّهُ يجزِئُهُ كما قاله الإمام، والغزالي، و"الحاوي الصغير" (¬2). ¬
الثامن عشر: إن قُلتَ: أداءُ الدَّيْنُ، وردُّ الودائِعِ، والأَذَانُ، والتِّلاوةُ، والأَذكارُ، وهِدَايَةُ الطَّريقِ، وإِمَاطَةُ الأَذَى عِبَادَاتٌ، وتَصِحُّ بلا نِيَّةٍ؛ فالحَدِيثُ إذن عامٌّ مَخْصُوص! قلتُ: لا نُسَلِّم أوَّلًا صحّتها بلا نِيَّةٍ. تَنَزَّلنا وسلَّمناهُ؛ فالنيةُ مُلازِمَةٌ لها، فَإِنَّ مُؤَدِّي الدَّيْن قَصَدَ براءَةَ الذِّمَّة وهو عِبادة، وكَذا الوديعة والأذكار والتلاوة والأذان، لا ينفكُّ تعاطيهن عن القَصْد وهو نية، والهِدَاية والإماطَة مُتَرَدِّدٌ بينَ القُربة وغيرها وتتميَّز بالقَصد، والأفعال العادِيَّة كالأكل والشّرب والنَّوم ونحوها يترتب آثاره عليها من غير نيَّة؛ نعم، وُجُود النية يُصَيرها طاعات. التاسع عشر: "الهجرة" في اللغة: التَّركُ، والمُرَادُ بها هنا: تركُ الوَطَن والانتقال إلى غيره. وهي: في الشَّرع: مُفَارَقَةُ دارِ الكُفْرِ إلى دَار الإسلام خوفَ الفِتنَة، وطَلَبَ إقامَةِ الدِّينِ. وفي الحقيقة: مُفَارقة ما يَكْرَه الله تعالى إلى ما يُحِب. وَوَقَعَت في أوَّل الإسلام على خمسة أوجُهٍ: إلى الحَبَشَة مَرتين. ومِن مكَّةَ إلى المدينة. وهِجرةُ القبائل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإلى أهاليهم (¬1). ¬
وهِجرَةُ مَنْ أسلم مِن أهل مَكَّةَ إلى المدينة، ثُمَّ إلى أهلِهِ (¬1). وهِجْرَةُ ما نَهى اللهُ تعالى عنهُ وهي العُظْمَى، وقَد أوضَحْتُها في "شَرحي للعُمدَة" (¬2). وفي الحديث: "المُجَاهدُ مَنْ جَاهدَ نَفْسَهُ، والمُهاجِر مَنْ هجَرَ مَا نَهى اللهُ عنهُ" (¬3). وأفْضَلُ المُسْلِمِين أصحابُ الهِجرَتَيْن إلأ ما خَصهُ الدليل. والهِجْرَةُ باقيةٌ إلى يومِ القِيامة. وحديث "لا هجْرَةَ بَعْدَ الفَتْح" (¬4) مُؤَؤَلٌ: إمَّا على الكَمَال؛ وإمَّا على الهِجْرة من مَكَّةَ إذا صارت دار إسلام (¬5). العشرون: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فمن كانت هجرتهُ إلى الله ورسوله" أي: نِيَّةً وعقدًا، "فهِجرَتُهُ إلى الله ورسوله" حُكْمًا وشَرعًا، أو مقبولةً. وإنما قدَّرنا ذلك؛ لأنَّ الشَرط والجزاء والمبتدأ والخبر لا بُدَّ مِن تغايرهما. ¬
الحادي بعد العِشرين: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فمَن كانت هجرته إلى الله ورسوله" هوَ تفصيلٌ لِمَا سَبَقَ في قوله: "إنما الأعمال بالنيَّات" وإنَّمَا فَرَضَ الكَلامَ في الهِجْرة؛ لأنَّها السَّبَبُ الباعِثُ على هذا الحديث كما سيأتي. وقوله: "فمن كانت هجرته ... " إلى آخره، هو على عُمُومه؛ لاختصاصها بالهجرة التي هي مِنْ العِبَادَات وهي مُتَوَقِّفة على النيَّة. الثاني بعد العشرين: "الدُّنيا" بِضَمِّ الدال على المشهور، وحُكِيَ كَسْرُها (¬1). وقوله: "دنيا" هو مقصورٌ غير مُنَوَّن -على المشهور- وحُكِيَ تنوينها، وهي مِن: دنوتُ، لِدنوها وسَبْقها الدار الآخرة. وفي حقيقة الدنيا قولان للمتكلمين: أحدهما: ما على الأرض من الهواء والجو. وأظهرهما: كل المخلوقات من الجواهر والأعراض الموجودة قبل الدار الآخرة (¬2). الثالث بعد العشرين: المرادُ بالإصَابةِ: الحُصُول، شبَّه تحصيلَ الدنيا بإِصَابَةِ الغَرَضِ بالسَّهم بجَامِع حُصُولِ المقصود. ¬
الرابع بعد العشرين: معنى "ينكِحها": يتزوجها، كما جاء في رِوَايَةٍ أُخرى، وقد تُستعمَل بمعنى الاقتران بالشيء، ومِنهُ قوله تعالى: {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} [الدخان: 54] أي: قَرَنَّاهُم، وقيل: أنكحناهم. الخامس بعد العشرين: إنّما ذُكِرت المرأةُ مع الدُّنيا مع أنها داخِلَةٌ فيها؛ لأنَّهُ ورَدَ على سببٍ: فإنَّ شَخْصًا هاجَرَ إلى المَدِينَةِ بِنِيَّةِ أن يتزَوَّجَ بامرأةٍ يقالُ لها أمُّ قيس -وأفادَ ابن دِحية أنَّ اسمها: قَيْلة- فسُمِّي مهاجِر أمّ قيس (¬1)، فَذُكِرَت المرأةُ لأجل تبيين السَّبب، وقيل غير ذلك (¬2). وبعضهم أفرَدَ هذا بالتَّصنيف -أعني: أصحاب الحديث- كما أُفرِدَ سبب نزول القرآن العظيم (¬3). السادس بعد العشرين: إِنَّمَا ذمَّ على إصابة الدنيا -وإن كان مُبَاحًا-؛ لأنَّهُ خَرَجَ في الظاهر لطلب فضيلة الهِجرة، وأبطنَ خلافَ ذلكَ؛ فلذلك توَجَّة الذَّمُّ عليه. ¬
السابع بعد العشرين: إنما لَمْ يُعِد ذِكْرَ الدُّنيا في الثانية كما أعاد ذِكر الله ورسوله في الأول للإعراض عن تكرير لفظِها، وعَدَم الاحتِفَالِ بأمرِها، كأنَّهُ قال: "فهجرته إلى ما هاجر إليه" وهو حقيرٌ هيِّن، وأيضًا ذِكْرُ الدُّنيا والنِّكاح مما يُستَحى (¬1) منهُ عادة فلهذا طُوِيَ بخِلاف الأَوَّل حيثُ أُعيد للتَّبَرُّك والتعظيم، ولا شكَّ أَنَّ مَنْ سَعى إلى باب الملك لأجلِ تعظيمه فقط أبلغُ ممن سعى إليه لشيءٍ مما عندهُ. الثامن بعد العشرين: اللَّام في "الدُّنيا" هي للتَّعلِيل (¬2)، ويُحتمل أن تكون بمعنى "إلى"؛ لأنَّهُ قابله إلى حيث قال: "فهجرَتُهُ إلى مَا هاجَرَ إليهِ" (¬3). ¬
الحديث الثاني
الحديث الثاني عن عمر -أيضًا- رضي الله عنه - قال: بَيْنَمَا نَحْنُ [جُلُوسٌ] (¬1) عِنْدَ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَديدُ بياضِ الثِّيابِ، شَديدُ سَوادِ الشَّعرِ، لا يُرَى علَيْهِ أثرُ السَّفَرِ، وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَسْنَدَ رُكْبتَيْهِ إلى رُكْبتَيْهِ، وَوَضَعَ كفَّيْهِ على فَخِذَيْهِ، وقال: يا مُحَمَّدُ! أَخْبِرني عنِ الإِسْلامِ؟ فقال رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "الإِسْلَامُ: أَنْ تَشْهدَ أنْ لا إِله إلا اللهُ، وأَنَ مُحَمَّدًا رسُولُ اللهِ، وَتُقيمَ الصلاةَ، وتُؤْتي الزكَاةَ، وتَصُومَ رَمَضانَ، وتَحجّ البَيْتَ إنِ اسْتَطَعتَ إليهِ سَبيلًا". قال: صَدَقْتَ! فَعَجِبْنَا لهُ؛ يَسْألهُ وَيُصَدِّقُهُ! قالَ: فأَخْبِرني عن الإيمَانِ؟ قال: "أَنْ تُؤْمنَ باللهِ ومَلائِكَتِهِ وكتبِهِ وَرُسُلِهِ واليَوْمِ الآخِرِ، وتُؤْمنَ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ". قال: صَدَقْتَ! قال: فَأَخْبِرني عن الإِحسَانِ؟ قال: "أَنْ تَعبُدَ الله كَأَنَّكَ تَراهُ، فإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنهُ يَراكَ". ¬
قال: فَأَخْبِرني عن الساعةِ؟ قال: "مَا المَسْؤُولُ عنها بِأَعلَمَ مِنَ السَّائِل". قال: فأخْبِرني عن أَمَارَاتِها؟ قال: "أنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتها، وأَنْ تَرَى الحُفَاةَ العُرَاةَ العَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ في البُنْيَانِ". ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثْتُ مَلِيًّا، ثُمَّ قال لي: "يا عُمَرُ! أَتَدري مِن السَّائِل؟ ". قلتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أعلَم. قال: "فإِنَّهُ جِبْريلُ أَتَاكُم يُعَلِّمُكُم دِينكُم" رواه مسلمٌ (¬1). ¬
هذا حديث عظيم مُتَّفَق على عِظَمِ مَوْقِعِهِ وَجَلالَتِهِ، يَكَادُ يكونُ مَدَارُ الإسلام عليه؛ لأنّهُ قاعِدَةٌ مِنْ قواعِدِه، مُشْتَمِلٌ على أساسِهِ، مفصِّلٌ طاعاته القَلْبِية والبَدَنِية أُصُولًا وفُرُوعًا، وعلى أمرِ الغَيْبِ، حتى قال بعضُهُم: "لو لَمْ يَكُن في هذه "الأربعين" -بل في السُّنَّةِ جميعها- غيرهُ لكان وافيًا بأحكَام الشَّريعة، لاشتماله على جُملَتِها مُطَابقةً، وعلى تفصيلها تَضَمُّنًا" (¬1). فهو جامِعٌ لها عِلْمًا ومَعْرِفَةً وأدَبًا ولُطْفًا، ومَرجِعُهُ مِنَ القرآن كُلُّ آيةٍ تَضَمَّنت ذِكْرَ الإيمان والإسلام نحو: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2] الآية. {آمَنَ الرَّسُولُ} [البقرة: 285] الآية. {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ} [النساء: 136] الآية. {لَّيْسَ الِبرَّ} [البقرة: 177] ونحو ذلك، والحديث "الثالث" و"الثامن" شاهِدٌ لهُ. قال القاضي عياض: "هوَ مُشْتَمِلٌ على جَميعِ وظَائِفِ العِبادات، الظاهِرَةِ والبَاطِنَةِ، مِنْ عُقُود الإيمان، وأَعمَال الجَوارح، وإخلاص السَّرائر، والتَّحَفُّظ مِن آفات الأعمال، حتى إنَّ علومَ الشَّريعة كُلَّها راجِعَة إليهِ وَمُتَشَعِّبة منه. وعلى هذا الحديث وأقْسَامِهِ الثلاثةِ ألَّفْنَا كتابنا الذي سَمَّيْنَاهُ بـ "المقاصد الحِسان فيما يَلْزَمُ الإنسان" إذْ لا يَشذُّ شيءٌ من الواجِبات والسُّنن، والرَّغائب، والمَحْظُورات، والمَكْرُوهات عن أقسامهِ الثلاثةِ" (¬2). ¬
قال القرطبي -رحمه الله-: "فيصلح أن يُقال فيه إنَّهُ: أُمُّ السّنَّةِ؛ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ جُمَلِ عِلْمِها كَمَا سُمِّيَت "الفاتِحَة": "أمَّ القُرآن" لِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ جُمَلِ عِلْمِها" (¬1). قلتُ: ولنُلخّص الكلام عليه من ثلاثين وجهًا: الأول: هذا الحديث هو مِن أفراد "مُسلم" كما أفهمَ إيرادُ المصنِّف حيثُ عَزَاهُ إليه وحدَهُ، ولم يخرج "البخاري" عن عمر في هذا شيئًا؛ بل أخرجه من حديث أبي هريرة بنحوه و"مُسلِم" أيضًا (¬2). الثاني: في التَّعريف براويهِ، وقد سَلَفَ في الحديث الأول. الثالث: في ألفاظِهِ معانيه (¬3): الأول: قوله "بينما" معناه: بينَ أوقات كذا؛ لأنَّ "بين" تَقْتَضِي شيئين فصاعِدًا، وتجوز -أيضًا- "بينا" بلا ميم، لأنَّ "بين" هذه هي الظَّرفية، فَزيدَت عليها الألف لتكفّها عن عملها الذي هو الخَفْضُ، كما قد زيدت عليها -أيضًا- "ما" كذلك، وما بعدها مَرفوعٌ على الابتداء في اللغة المشهورة، ومنهم من ¬
خفضَ "ما" بعد الألف على الأصل، وشذَّ بعضُ النُّحاة فقال: الألف للتأنيث، و"بينا " عِنده: فَعلَى كـ "شروى". الثاني: "نحنُ" من الأسماء المُضمرة، تُستَعمَل للجمع، والمثنى، وللواحد المعظم نفسه، نحو قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلنا} [الحجر: 9]، {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى} [يس: 12] ومَا أَشْبَه ذلك. الثالث: "عِنْدَ" ظرف مَكان غير مُتَمَكِّن، ولا يدخل عليها مِن حُروف الجَرِّ سِوى "مِن" خاصَّة، وهي تكون لما تملك حاضِرًا كان أو غائبًا، ومثلها "لدى" إلَّا أنها تختص بالحاضِر. الرابع: "ذاتَ" هنا تأنيث "ذو" بمعنى صاحب؛ أي: بينا نحن في ساعةٍ ذاتَ مرَّةٍ في يومٍ، فحُذِفَت هذه المُضافات لوضُوح الأمر، كما حُذِفت هذه المُضافات لوضوح الأمر، كما حُذِفَت مِنْ قولِهِ: إذا قامَتَا تضَوَّعَ المِسْكُ مِنْهُمَا ... نَسِيمَ الصبَا ....... (¬1) أي: تَضَوَّع تضوعًا مثل تضوع نسيم الصَّبا (¬2). الخامس: "إذْ" و"إذَا"ـ ظَرْفَا زَمان غير مُتَمَكّنين، يُضافان إلى الجُمل، إلَّا أنَّ "إذ" للمضي (¬3)، وتُضاف للجملتين: الاسميَّة والفعلية، قال الله تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ} [الأنفال: 26] الآية. وقال: {وَإِذْ قلتمْ يا مُوسَى} [البقرة: 55] الآية. ¬
و"إِذا" لِمَا يُستقبل، ولا تُضَافُ (¬1) إلَّا إلى الفِعلية، وفيها معنى الشَّرط غالبًا، وليسَ ذلِكَ في: "إِذْ" إلَّا إذا دَخَلَت عليها "ما" كقولِه: إذْ مَا أتيتَ على الرسولِ فقل لهُ وقولنا: "غالبًا" يخرجُ به ما إذا كانت متمحضة للتأقيت بأن كانت معرفةً، نحو: آتيكَ إذا طلع الفجر. أو معاقبة لـ "إذْ"، نحو قوله تعالى: {وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ} [آل عمران: 156] التقدير: إذْ ضَربوا. أو كان ما بَعدَها مُقدَّرًا بالحال، نحو قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} أي: غاشيًا ومُتَجَلِّيًا. ولا يجزم بـ "إذا" -كان كان فيها معنى الشَّرط- كما وقعت "إذ" هُنا، و"إذا" المفاجأة، نحو قوله تعالى: {فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الروم: 48] "فإذَا" الأولى ظرفِية، والثانية مفاجأة. ومَا جَزَمتُ به مِنْ كَوْن "إذَا" التي للمفاجأة ظرفُ زمان هو رأي الزَّجاج، واختاره الزَّمَخشري، وزَعَمَ أنَّ عامِلها فعل مُقَدَّر مشتق من لفظ المفاجأة، ورأى المبرِّد أنها ظرفُ مكان، واختاره ابن عصفور، وهي حرف عند الأخفش، واختاره ابن مالك (¬2). وقولي "إذْ" ظرفُ زمان تعم الماضي، نحو قوله تعالى: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التوبة: 40]. والمستقبل نحو: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4)} [الزلزلة: 4]. ¬
وقَد تأتي "إذ" بَدَلًا مِنَ الفِعل، نحو: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ} [مريم: 16] فـ "إذْ" بدل اشتمال مِن مريم. وقد تأتي مفعولًا به، نحو: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف: 86]. وقد تأتي مُضَافًا إليها اسمُ زمان، نحو: "يومَئذٍ"، و"حينئذ". وقد تأتي للتعليل، نحو قوله تعالى: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)} [الزخرف: 39] أي: ولن ينفعكم اليوم اشتراككم في العذاب لأجل ظلمكم في الدُّنيا. وقد تأتي للمفاجأة -كما سَلَفَ- وكقوله: استَقْدِرِ الله خيرًا وارضَيَن بِهِ ... فَبَيْنَمَا العُسْرُ إذْ دَارَتْ مَيَاسيرُ فائدة: يُؤخذ مِن هذا الحديث أن "بينا" يجوز أن تتلقى بـ "إذ" كما جاء في بعض طرقه، ومثله الحديث الصحيح: "بَيْنَا أَنَا نَائِم إذْ جِيء بِمفاتيح الأرض فَوُضِعَتْ في يَدَيَّ" (¬1) وغيرهما من الأحاديث. ووقع في "الدرة" للحريري (¬2) أنها لا تتلقى بـ "إذ" ولا بـ "إذا"، أي: بخلاف: "بينما"، قال: "والمسموع عند العرب: بينا زيدٌ قائمٌ جاء عمرو، بدون "إذ"؛ لأنَّ المعنى: بين أثناء الزمان جاء عمرو". ومَا ذكرناه يرُدُّهُ فتنبّه له. السادس: قوله "لا يُرى عَلَيْهِ أثَرُ السَّفَرِ، ولا يَعرِفُهُ مِنَّا أَحَد" هو بالياء المثناة تحت المضمومة -على ما لم يُسمَّ فاعِلُهُ-، ورُويَ بالنون المفتوحة فيهما مَبْنيًّا للفاعل، وكلاهُما واضحُ المعنى -والأول أبلغ- وعليه اقتصَر عليه ¬
النووي في "نُكَتِهِ" عليه (¬1). ووقعَ في "صحيح ابن حبان": "إِذْ جَاءَ رَجُل [لَيْسَ] (¬2) عليه سَحْنَاءُ سَفَرٍ، وليسَ مِنْ أهلِ البَلَدِ يَتَخَطَّى ... " إلي آخره (¬3). والسَّحناءُ: الهيئة، فيحتاج إلي الجمع بينها وبين ما في "الصحيح". السابع: قوله "فَأَسْنَدَ رُكبَتَيْهِ إلى رُكْبَتَيْه" ظاهِره أَنَّهُ جلسَ بينَ يَدَيْهِ، وإلا لم يتصوَّر ذلك؛ لأنه لو جَلَسَ إلى جَانِبِهِ لَمَا أَمْكَنَهُ إلَّا إسنَاد رُكبة واحِدَة، وهذا جُلُوس المُتَعَلِّم بين يديْ شيخه للتَّعلُّم؛ وإِنَّمَا فَعَلَ ذلِكَ جبريل للتنبيه على ما ينبغي للسائل مِن قُوةِ النَّفْسِ عِندَ السُّؤال، وعَدَمِ المبالاة بِمَا يَقطَعُ عليهِ خَاطِرهُ -وإنْ كانَ المَسْؤُولُ مِمَّن يَحْتَرِمُهُ ويَهَابُهُ-، وعلي ما ينبغي للمسؤول مِنَ التَّواضع والصَّفحِ عن السائل، وإنْ تَعَدَّى ما يَنْبَغي مِنَ الاحترام والأدب. الثامن: قوله "وَوَضَعَ كفَّيْهِ على فَخِذَيْهِ" الضَّمِيرُ في "كفَّيه" للرَّجُل، وفي "فَخِذَيْهِ" يحتمل أن يكون له أيضًا، وأن يكون للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الأشبهُ، وفعلَ ذلك للاستئناس باعتبار ما بينهما من الأنس في الأصل حين يأتيه بالوحي (¬4). وقد جاء مُصَرَّحًا بهذا في "النسائي" (¬5) مِن حديث أبي هريرة وأبي ذر: "حتى وَضَعَ يَدَهُ علي رُكبَتَيْ النبي - صلى الله عليه وسلم - " وفي أوله: "كان -عليه الصلاة والسلام- ¬
يَجْلِسُ بينَ ظَهرَانَيْ أَصحَابِهِ فَيَجِيءُ الغَريبُ، فَلَا يَدْرِي أَهُوَ (¬1) حتى يَسأَل، فَطَلَبنا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أن نجعَلَ لهُ مَجْلِسًا يَعْرِفُهُ الغَريبُ إِذَا أَتَاهُ، فَبَنَيْنا لَهُ دكانًا (¬2) مِنْ طِينٍ يَجْلِسُ عليه، وإنَّا (¬3) لَجُلُوسٌ عليه عِندَه إذْ أقبَلَ رَجُلٌ أحْسَنُ النَّاسِ وَجْهًا، وأَطْيَبُ النَّاسِ ريحًا، كأَنَّ ثِيابَهُ لَا يَمَسُّها دَنَسٌ، حتى سَلَّمَ مِنْ طَرَفِ السِّمَاط (¬4)، فقال: السلامُ عليكم يا مُحمَّد! فرَدَّ -عليهِ السّلامُ- عليهِ السلامَ. قال: أَدْنُو يا مُحَمد؟ قال: "ادْنُهْ". فَمَا زالَ يقول: أَدْنُو؟ -مِرارًا-، ويقول: "ادْن" حتي وضَعَ يدهُ علي ركْبَتَيْ النبي - صلى الله عليه وسلم -" وذَكَرَ نحوَ حديث مُسْلِم. وفيه خمسُ فوائِدَ: ابتِداءُ الدَّاخل بالسَّلام؛ وإقبَالُهُ على رأسِ القَوْم، حيثُ قال: "السَّلامُ عليكم"، فَعَمَّ، ثم قال: "يا محمد"! فَخَصَّ (¬5). والاستئذانُ في القُرب مِن الإِمَام مِرارًا، وإن كانَ الإمامُ في مَوْضِعٍ مَأْذُونٍ في دُخوله. وتَرْكُ الاكتفاء بالاستئذان مَرَّةً أو مرَّتين علي جِهَةِ التعظيم والاحتِرام. ¬
وجَوازُ اختصاص العالِم بِمَوْضِعٍ مُرْتَفِع مِنَ المَسْجِد إذا دَعَت إلي ذلِكَ ضروره تعليم (¬1) أو غيره (¬2). التاسع: قوله: "الإِسلام: أن تشهدَ أن لا إلهَ إلَّا الله وأنَّ محمدًا رسول الله" إلي آخره، و"الإيمان أن تؤمن بالله" إلي آخره. فيه المُغَايرَةُ بينَ الإسلام والإيمان، وقد اختلفَ العُلَمَاءُ فيهِما، وعُمومِهما، وخُصوصهما، وأنَّ الإيمان يزيد وينقص أم لا؟ وأنَّ الأعمال مِن الإيمان أم لا؟ اختلافًا مُنْتَشِرًا، والحقُّ أن الإيمان والإسلام يجتمعان في مادةٍ، ويفترقان في أخُرى، وأنَّ كُلَّ مُؤمنٍ مسلم، وليس كُلُّ مسلم مؤمنًا، وأنَّ الإيمان يزيدُ وينقصُ، وأنَّ الإيمان يُطلق علي الأعمال. وقد بَسَطْنَاهُ بَسْطًا شافيًا في "شَرح صحيح البخاري" فَلْيُراجع منهُ (¬3). العاشر: قوله "أنْ تَشهدَ" هو منصوبٌ بـ "أنْ"، وكذا ما عُطِفَ عليه مِن: "وتُقِيمَ"، "وتُؤْتيَ"، "وتَصُومَ"، "وتحجَّ"، وكذا قوله: "أنْ تُؤْمنَ". الحادي عشر: لا بُدَّ مِن مجموع الشَّهَادَتين في الإسلام، فإن اقتَصَرَ علي إِحدَاهُما لم يكفِ، ولا يُشتَرَط معهما البراءَة مِن كُلِّ دينٍ يُخالِفُ الإسلام علي الأصح (¬4)، إلَّا أنْ يَكُونَ مِنْ قومٍ يَعْتَقِدُونَ اختِصَاصَ رسالة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى ¬
العَرَبِ خاصَّة، وأبعَدَ بعضُ أصحابنا فقال: إذا اقتصرَ على قول: لا إلهَ إلَّا الله، فقد صحَّ إسلامه، ويُطالَبُ بالكلمة الأُخرى، فإِن أَبَى جُعِلَ مُرتَدًّا. الثاني عشر: الإسلام -لغة-: الاستسلام والطاعة والانقياد، ومنهُ: {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14]، أي: انقَدْنا، فهو مصدَر: أسْلَمَ إسلامًا. وهو شرعًا: مَا فُسِّرَ به الحديث، وهو: الانقياد إلي الأعمال الظاهرة كالشَّهادَتَيْن وَمَا ذُكِرَ معها من العِبادَات، وروى ابن أبي شيبةَ في "مُسنَده" عن أنس مَرْفُوعًا: "الإسلامُ عَلَانِيَة، والإِيمَانُ في القَلْبِ" (¬1). الثالث عشر: قوله "أنْ تُؤْمنَ ... " إلي آخِرهِ، "أن" وصِلتها في مَوضع رفع خبر مبتدأ محذوف، أي أن الإيمان: أن تؤمن، أو هو أن تؤمن. و"الإيمان" مصدَر: آمن إيمانًا، كَأَكرَم إكرامًا، أفعَل لا فَاعَلَ، وإلَّا كان ¬
مصدره الفعال، نحو قاتل قِتالًا، وضَارَبَ ضِرابًا، وهو قياس في مصدر: فاعل، والمُفاعلة كالمُقاتلة والمُضارة. وهو لغةً: التَّصديق. وشرْعًا: تَصْديق بالقواعد الشرعية من وجوب وجُوده -سبحانه وتعالى- ووَحدَانيَّته وصفاته الثابتة له، وتنزِيهها عن سِمات الحَدَث والنَّقص (¬1). والحديث دالٌّ على أنَّ السؤالَ إنما هو عن حقيقةِ الإيمانِ والإسلام، ولهذا تطابق الجوابُ بقوله: "أنْ تُؤمِنَ" إلي آخرهِ. و"الإيمان بالملالكة": أنهم كائنون في العبادة، لا يَعْصونه طَرْفَةَ عينٍ، مُلازِمون علي امتثال الأوامر، صادِقون فيما أخبروا به عن ربهم -تبارك وتعالى-. و"اليوم الآخر": هو يوم القيامة، وما اشْتَمَلَ عليه مِنَ البعث والجزاء والحِساب، والميزان والصِّراط، والجنَّة والنار. الرابع عشر: اختَلَفَ عُلماءُ الأصول في الأسماء اللغوية هل هي مبقاة علي وضعها اللغوي، والشَّارع إنَّمَا تَصَرَّفَ في شُروطها وأحكامها أم لا؟ ومَحَلُّ الخوضِ في ذلك كُتُبُ "الأصول" فالإسلام والإيمان يَعُمَّان كلَّ انقِيَادٍ وكُل تَصْدِيقٍ، وقَصرَهما الشارع على انقياد وتصديق مخصوص كما في الأسماء العُرفيَّة، كالدابة، فإِنَّهَا في الأصل لكل ما يدُبُّ، ثم خُصِّصت بالعرف للبعض (¬2). ¬
الخامس عشر: ظاهر الحديث تغاير الإسلام والإيمان، لأنَّ جبريل سأل عنهما سؤالين، وأُجيب بِجَوابَيْن، وفَسر له الإسلام بأعمال الجوارح كالصلاة ونحوها، والإيمان بعمل القلب، وقد يُتَوَسَّعُ فيُطْلق الإيمان علي الإسلام كما في حديث وفدِ عبد القيس، فَإِنَّهُ أَمَرهم بالإيمان ثم قال: "أتَدْرُونَ مَا الإيمَانُ"؟ قالوا: اللهُ ورَسُوله أعلم. قال: "شَهادَةُ أَنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأن محمدًا رسولُ الله" (¬1). ووجهُ ذلك: أنه عنه يكون غالبًا، وهو مُظْهِره، وقد قال -عليه أفضل الصلاة والسلام-: "الإيمَانُ بِضْعٌ وسَبْعُونَ شُعْبَةً: أَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عن الطَّريق، وأَعْلاها شَهادة أنْ لا إلهَ إلَّا الله" (¬2). وهذا أَوْلى مِنْ دَعْوَى اضطراب مَتْنِهِ (¬3). حيث قال: "آمرهم بأربع" ولم يأمرهم إلَّا بالإيمان وحدَهُ، وفسَّره بخمس، وفي رواية: "شهادة أن لا إله إلَّا الله" وعَقَدَ واحدة، وليسَ فيه ذِكرُ الحجِّ، بخلاف "حديث جبريل" .. وقد أطلَق الإسلام يُريد أنه سَمَّى الإسلام والإيمان، قال تعالي: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] وقد وصفَ الله تعالى آل لوطٍ مرَّةً بالإسلام، ومرَّةً بالإيمان، فقال {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36)} [الذريات]، ووجههُ: أَنَّهُ أكمل. نعم؛ أثبتَ في حقِّ الأعراب الإسلام فقط حيث قال: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] (¬4). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
السادس عشر: جاءَ في "مُسلِمٍ" تَقْدِيمُ السؤالِ عن الإسلام علي السؤالِ عن الإيمانِ، وجاءَ في "التِّرمِذي" بالعكس (¬1) ولعلها أَوْلي، حتى قيل: إنَّ الأُولى وقعَ مِن بعض الرُّواة: قدَّمَ مُؤَخَّرًا مِن باب الرواية بالمعنى (¬2). السابع عشر: المُراد -والله أعلم- بإقامةِ الصلاة: الإتيانُ بها بأركانها وشُروطها. وقولى: "وتؤتي" أي: تُؤَدِّي، و"الصلاة" في اللغة: الدعاء. وفي الشرع: أفعالٌ مَخْصُوصةٌ (¬3). و"الزَّكاة" في اللغة: النَّماء، ومنه: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً} [الكهف: 74]، (¬4) {وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]، و {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9]. وفي الشَّرع: أَخْذُ شيءٍ مخصوصٍ، عَلَى وَجْهٍ مَخصوص. ¬
و"الصَّوم" لغةً الإمساك، وشرعًا: إمساك مخصوص. و"رَمَضان": قيل إِنَّهُ اسمٌ مِن أسمائه تعالى، والصحيح أَنَّهُ اسم للشهر المشهور، سُمِّيَ بذلك، لاشتداد حَر الرَّمْضَاء فيه حين وُضِعَ له هذا الاسم (¬1). و"الحَجُّ": في اللغة: القَصد. وفي الشَّرع: قَصْدُ الكَعبَةَ -شَرَّفَها الله تعالى- بأفعالٍ مخصوصَةٍ. و"الاسِتطَاعة": القوة على الشيء والتَّمَكّن منه. ومِنهُ: {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [الكهف: 97]. وقيد (¬2) الحج بالاستطاعة دُونَ الصَّلاة والصوم، مُوافَقَةً لِلفظِ القُرآن، وإن كانت العبادات كلها مَشْرُوطَةً بالاستطاعة، قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وقال رسوله -عليه أفضل الصلاة والسَّلام-: "وإذا أَمَرتكم بِأمْرٍ فأتوا مِنهُ ما استَطَعْتُم" كما سيأتي (¬3). فائدة: التقييد في الحج: وجُودُ المَشقَّة فيه ما ليسَ في غيره. و"السَّبيل": تُذكَّر وتُؤنَّث. وزادَ ابن حِبان -في هذا الحديث-: "وتعتَمِرُ وتَغتَسِلُ عن الجَنَابَةِ، وأَنْ تُتِمَّ (¬4) الوُضُوءَ" ثم قال -في آخره-: "تَفَرَّدَ سليمان التيمي بقوله: "تعتَمِرُ وتغتَسِلُ وتُتِمُّ الوُضُوءَ"، وكذا بقوله: "خُذُوا عَنْهُ" يعني بعدَ قوله: "هذا جبريل ¬
أتاكم يعلمكم دينكم، خذُوا عنه" (¬1). الثامن عشر: الإيمان بالقَدَر واجِبٌ، خيره وشَرّه، حُلْوه ومُرّه، ومعناهُ: أنَّ اللهَ تعالى قَدَّرَ الخَيْرَ والشَّرَّ قبلَ خَلْقِ الخَلْق، وأَنَ جميعَ الكائنات بقضَاءِ الله وقَدَرِهِ، وهو مُريدٌ لها. ويكفي اعتقادٌ جَازِمٌ بذَلِكَ مِن غير نَصْبِ بُرهَان، هذا هو المُخْتَار. التاسع عشر: "الملائكةُ": جمعُ مَلَك، فقيل: لا اشْتِقَاقَ له، وقيل: بلى، فقيل: فعل من الملك، وقيل: مفعل من لأَكَ إذا أرسل، وقيل: مِنَ الألوكة -وهي الرِّسالة-، ومحلّ الخوض في ذلك التفسير (¬2). و"اليوم الآخر": هو يوم القيامة، وجاء "وتؤمن بالبعث الآخر" فيحتمل أن يكون تأكيدًا، أو أنَّهُ إحياء بعدَ إماتة، فيكون إشارة إلى النُّطفة (¬3). العشرون: وجهُ عَجَبهم من سؤاله وتصديقه، سؤالهُ يقتضي عدم العلم بما يسأل عنه، وتصديقه بما جاء به يقتضي علمه به، وكأَنَّ ظاهر حاله أنه عالمٌ بذلك (¬4)، ثم زال التَّعَجب بأنه "جبريل جاءَ يُعَلِّمُكُمْ دينَكُم" فبيَّنَ أنه كان عالِمًا في صورة مُتَعَلِّم لقصدِ التَّعليم، وكذا قال النووي في "شرحه": "سببُ تعجُّبِهم ¬
أن هذا بخلافِ عادَةِ السَّائل الجاهِل، إِنَّما هذا كلام خبيرٍ بالمسؤولِ عنا، ولم يكن في ذلك الوقت مَن يعلمُ هذا غيرَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - " (¬1). الحاي بعد العشرين: "الإِحْسَانُ" مصدر أحسَنَ إحسَانًا، ويتعدى بنفسه كـ: أحسنتُ كذا، وفي كذا، إذا حسَّنته، وهو منقول بالهمزة من حسَّن الشيءَ، ومتعدٍّ بحرف الجرِّ، وهو هنا بالمعنى الأول دون الثاني، إذْ حَاصِلهُ راجعٌ إلى: إتقَانِ العِبَادات، ومُراعاةِ حقوق الله تعالى فيها، ومُراقبته، واستحضار عظمته وجَلالته حالَة الشُروع، وحالة الاستمرار فيها. وأرباب القلوب في هذه المُراقبة على حَاليْن: أحدهما: غالب عليه مشاهدة الحوق، فكأَنَّهُ يراه. ولعل الشارع أشار إلى هذا بقوله: "وجُعِلَت قُرَّةُ عيْنِي في الصَّلاة" (¬2). الثاني: مَن لا ينتهي إلى هذه الحالة، لكن يغلب عليه أنَّ الحقّ سبحانه مُطَّلِع عليه، ومُشاهِد له، وإليهِ الإشارة بقوله تعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)} [الشعراء: 218، 219]، وبقوله: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ} [يونس: 61] الآية. وهاتان الحالتان ثَمرةُ معرفَةِ (¬3) الله تعالى وخَشْيَته، ولذلك فَسَّرَ الإحسان ¬
في حديث أبي هريرة بقوله "أنْ تَخشى الله كَأَنَّكَ تَرَاهُ" (¬1) فَعَبَّرَ عن المُسَبِّبِ باسم السَّبَب تَوَسُعًا، ثم الألف واللام في "الإحسان" المسؤول عنه المعهود المذكور في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، و {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إلا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60]، {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] فلَمَّا تكَرَّرَ الإِحْسَانُ في القُرآن في غيرِ آيٍ، ورَتَّبَ عليهِ هذا الثواب الجَسيم، سأل عنهُ الرُّوح الأمين، فأجابَهُ لِتَعْمَلَ بهِ أُمَّته، فيفوزوا بالأَجْرِ الجَسِيم، فقال: "الإحسَان: أن تَعْبُدَ اللهَ" إلى آخره (¬2). وهوَ مِن جَوامِعِ كلِمِه الذي أُوتيَها؛ لأنَّهُ لو قَدَّرْنا أن أحدًا قامَ في عبادةٍ وهو يُعاين ربَّهُ -تعالى- لم يترك شيئًا مما يَقْدِرُ عليه مِن الخُضوع والخشوع وحُسن الصَّمت، واجتماعه بظاهره وباطنه على الاعتناء بتتميمها على أحسن الوجوه إلَّا أَتَى بهِ، فقال: اعبد الله في جميع أحوالك كعبادته في حال العيان، فإنَّ التَّتميم المذكور في حال العيان إنما كان لِعِلم العَبْدِ باطّلاع ربّه عليه -تبارك وتعالى-، فلا يُقدِم على تَقصِير في هذا الحال إلَّا اطلع عليه، وهذا المعنى موجودٌ في عدَم رؤية العبد، فينبغي أن يعمل بمقتضاه. فمقصود الكلام: الحثُّ على الإخلاص في العبادة، ومُراقبة العبدِ ربَّهُ -تبارك وتعالى- في إتمام الخشوع والخضوع وغير ذلك. وقد نَدَبَ أهلُ الحقائق إلى مُجالسة الصَّالِحين ليكون ذلك مانِعًا مِن تَلَبُّسِهِ بشيءٍ مِن النَّقائِصِ احتِرَامًا لهم واستحياءً منهم، فكيف بمن لا يزال الله -تبارك وتعالى- مُطَّلِعًا عليه في سِرِّه وعلانيته (¬3). ¬
* تنبيهان: الأوَّل: قوله "فإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ" فإنه ينبغي أن يكونَ مُستأنَفًا، وأنَّ الجواب تمَّ عندَ قوله: "كَأَنَّكَ تَرَاه"؛ لأنَّهُ مِنْ جِنسِ مَقُدورِ العَبد، بخلاف رؤيته تعالى. ثانيهما: يؤخَذُ مِنْهُ جوازُ رؤية الباري تعالى لإتيانه بِـ "لَمْ" دونَ "لا"؛ لأنَّ الممكن يُنْفَى بِـ "لَم" والمستحيل بـ "لا" فَيقالُ: زيدٌ لَمْ يَقُم، والحَجَرُ لا [يقوم] (¬1) ومنه "الشُّفعَةُ فيما لم يُقْسَم" (¬2). وقد نطقَ الله بها في الآخرة، وأبعد الله مَن نَفَاها، وفي الدنيا جَائِزةٌ (¬3) عَقلًا. الثاني بعد العشرين: "الساعة" المرادُ بها هنا: يوم القيامة، وإن كانَ أصلها وضعًا: مقدارًا ما مِنَ الزَّمان غير مُعيَّن ولا مُحَدَّد، قال تعالى: {مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم: 55]. والموقتون اصطَلَحوا على أنها: جزءٌ مِن أربعةٍ وعِشرين جُزءًا مِنَ الليل والنهار. فمعنى "أخبرني عن الساعة" أي: عن زمن وجود القيامة، سُمِّيت ساعة -وإن طال زمنها- اعتبارًا بأول أزمنتها، فإنها: {لَا تَأْتِيكُمْ إلا بَغْتَةً} [الأعراف: 187]، {قَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد: 18] (¬4). وقوله: "مَا المَسؤول عنها بأعلَمَ مِنَ السَّائل" أي: كِلانا سَواءٌ في عَدَمِ العِلمِ به مِن وقوعها: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34]، {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه: 15]، {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} [الأعراف: 187]. ¬
وفي " الصحيح": "مَفَاتِيحُ الغَيْبِ خَمْسٌ لا يعْلَمُهن إلَّا الله، وتَلَا: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} (¬1). ومَعْناه: أنه ينبغي للعالِم والمُفْتِي وغيرهما إذا سُئِلَ عما لا يعلم فليقل: لا أعلم. وأنَّ ذلك لا ينقصه، بل يُسْتَدَلُّ به على ورعِه وتقواه ووُفور عِلْمِه. الثالث بعد العشرين: "الأَمَارة" -بفتح الهَمزة-: العَلامة، وكَذا: "الأَمار" بحذف الهاء (¬2)، وكذا "أشراطها" أي: عَلاماتُها. ومنه: {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا}، ومنهُ: سُمِّيَ الشُّرَط: لأنهم يُعَلِّمونَ أنفسهم بعلامات يُعْرَفونَ بها. وربما روي "أَمَارَاتها" بالجمع (¬3). وأمَّا الإمارة -بالكسر-: فالوِلاية. الرابع بعد العشرين: "الأَمَةُ" هنا الجارية المستولدة، و"رَبَّها": سيدها. و"ربَّتُها"-تأنيث رب-: سيدتُها ومالِكَتُها، وفي رواية "ربَّها" على التَّذكير، وفي أُخرى "بَعْلَها" (¬4) وقال: يعني السَّراري. واخْتُلِفَ في معناه على أقوال (¬5): ¬
أصحُّها: أنهُ إخبارٌ عن كثرةِ السراري وأولادهن؛ فإنَّ ولَدَها مِن سيدها بمنزِلةِ سيدها؛ لأنَّ مالَ الإنسان صائرٌ إلى ولدِه، وقد يتصرَّفُ فيه في الحال تصرّف المَالِكين: إمَّا بالإذن، أو بقرينة الحال أو عُرف الاستعمال. وعبَّرَ بعضهم عنه: "بأن يستوليَ المُسلِمون على بِلاد الكُفر، فتكثر فيه السَّراري فيكون ولد الأَمَة من سيدها بِمَنْزِلة سيدها لشَرَفه مِن أبيه، وعلى هذا فالذي يكون مِن أشراط السَّاعة: استيلاء المسلمين على المشركين، وكثيرة الفتوح، والتَّسري" (¬1). ثانيها: أنَّ معناه أن الإماء تلدن الملوك فتكون أُمُّه مِن جُملةِ رعِيَّتِهِ وهو سيدها وسيِّد غيرها من رَعِيَّته: قاله الحربي. ثالِثُها: أن معناه بأنه تفسدُ أحوالُ الناس فيكثر بيعُ أمهات الأولاد في آخر الزمان، فيكثر تردادها في أيدي المشركين حين يشتريها ابنُها من غير علم. وعلى هذا يكون مِنَ الأشراط غَلَبَةُ الجهل بتحريم بيعِ أمَّهَات الأولاد، [والاستهانة بالأحكام الشَّرْعِيَّة، وهذا على قول مَن يرى تحريم بيع أُمَّهات الأولاد] (¬2) وَهُم الجُمهُور (¬3)، ويَصِحُّ أن يُحْمَلَ ذلِكَ على بَيْعِهِنَّ في حالِ حَمْلِهِنَّ، وهو مُحَرَّمٌ إجماعًا. ¬
ويحتمل على هذا القول ألا يختص هذا بأُمَّهات الأولاد، فإنه يُتَصَوَّرُ في غيرهِنَّ، فإنَّ الأَمَةَ تَلِدُ ولدًا آخر مِن غير سيدها بشُبْهَةٍ، أو رقيقًا بنكاح، أو زنًا ثم تُبَاعُ الأَمَةُ في الصورتين بيعًا صحيحًا، وتَدُور في الأيدي حين يشتريها ولدها، وهذا أكثر وأعَمّ من تقديره في أمهات الأولاد، وقيل فيه غير ذلك. ومنهُ: أنْ يَكثُرَ العقُوقُ في الأولاد، فيُعَامِلُ الولدُ أُمه معامَلَةَ السَّيد أَمَتَهُ مِنَ الإهانةِ والسبِّ. ويَشْهَدُ لذلك حديث أبي هريرة "المرأة" مكان "الأَمَة" (¬1)، وحديث: "لا تَقُومُ الساعةُ حتى يَكُون الوَلَدُ غيْظًا" (¬2). الخامس بعد العشرين: استَدَلَّ بهذا الحديث إمامان على بيع أُمَّهَات الأولاد ومنْعِهِ، وليسَ فيه دِلالةٌ لِواحِدٍ منهما، فإنَّهُ ليسَ كلُّ ما يخبِرُ به الشَّارع بكونه مِن علامات الساعة يكون مُحَرَّمًا أو مذمومًا: فإنَّ تطاول الرعاء في البنيان، وتيسير المال (¬3)، وكون خمسين امرأة لهن قيِّم واحِدٌ (¬4) ليسَ بحرام، وإنما هذه علاماتٌ، والعلامة تكون بالخَير وغيره (¬5). ¬
السادس بعد العشرين: "الحُفاة" -بالحاء المُهمَلة- جمعُ حافٍ، وهو: مَن لا نَعل في رِجْله. و"العُراة": جمعُ عارٍ، وهو: مَن لا شيءَ على جَسَدِه، وفي رواية محمد بن الحذاء التميمي: "الحفاة": "يعني الخدمة". و"العَالَة": -بِفَتح اللام المُخَفَّفة- جمعُ عائل، وهو: الفقير، والعَيْلة: الفقر، وعال الرجلُ يعيل عيلةً: افتقر، وأعالَ يعيل: إذا كثر عياله، قال تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى: 8]، وقال: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء: 3] والمُرادُ: أنَّ أرَاذِلَ الناس يَصيرونَ أهلَ ثروةٍ ظاهِرةٍ. و"الرِّعَاء": -بِكَسر الراء وبالمَدِّ- جمعُ راعٍ، ويُقال فيه: رُعاة -بضمِّ الراء وزيادة الهاء بلا مدٍّ-، وأَصْلُ الرعي: الحِفْظ. و"الشَّاء": الغَنَم، أي: رعاة الغَنَم، ومنه قوله تعالى: {حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} [القصص: 23]. وهو جمعُ شاةٍ، وخَصَّهم بالذكر؛ لأنهم أضعفُ أهلِ البادية. وجاء "رعاء البَهم": -بفتح الباء- جمعُ بهيمة؛ وأصلها: صِغار الضأن والمعز، وقد يختص بالمعز، وأصله من استَبْهَمَ عن الكلام، ومِنهُ البَهيمة. وكذا في البخاري: "رعاءُ الإبل البُهم" -بضمِّ الباء- جمعُ بهِيم، وهو الأَسْوَدُ الذي لا يُخالِطُهُ لون آخَر، وهو بِكَسر الميم: صفةٌ للإبل، وبِرَفعِها صِفَةٌ للرُّعَاةِ (¬1). ¬
وقيل: معناه لا شيء لهم، ومنهُ الحديث: "حُفَاةً عُرَاةً بُهمَا" (¬1). ويَبْعُدُ أنهُ نَسَبَ للبهم إِبِلًا، والظاهر المُلْك. وقال الخطابي: "هو جمعُ بهيم، وهو المجهول الذي لا يُعرف" (¬2). والأولى أن يُحمَل: على أنهم سودُ الألوان؛ لأنَّ الأَدمةَ غالِبُ ألوانهم. ورواية "مسلم": "رعاء البهم" مِن غير ذِكر الإبل، وهي مُناسبةٌ؛ لأنَّ المقصود أنهم مع ضعفهم سَيَنْقَلِبُ بهم الحال إلى أن يَصيرُوا مُلوكًا، بخلاف أصحاب الإبل؛ فإنَّهم أصحاب فَخْرٍ وخُيلاء (¬3). ¬
والمعنى: إذا رأيتَ أهلَ البَادِية -وهذه الصفة غالبة عليهم وأشباههم من أهل الحاجة والفاقة- تُبسَطُ لهم الدّنيا حتى يتباهَوْا في البُنيان فذلك مِن علاماتِها. وقَد وُصِفوا في حديث أبي هُريرة بأنهم "صُمٌ بكم" أي: جَهَلة رَعاع، لم يَسْتَعمِلوا أسماعهم ولا كلامهم في عِلم، ولا في أمر دينهم، وهو نحو قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 18] أطلَقَ ذلِكَ عليهم. قال قتادة: " {صُمٌّ} عن استماع الحَقِّ {بُكْمٌ} عن التَّكَلُّم به {عُمْيٌ} عن الإبصار له" (¬1). معَ أَنَّ لهم الأسماع والأبصار؛ لكن لَمَّا لَمْ تحصل لهم ثمرات ذلك صاروا كأنهم عُدِمُوا أَصلَها، وقد أوضَح هذا المعنى قوله تعالى: {هُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179]. والقَصْدُ مِن الحديث: الإخبارُ عن تبدُّلِ الحالِ، بأن يستولي أهلُ البادِيَة الذينَ هذهِ صِفاتُهُم على أهلِ الحاضِرة، ويَتَمَلَّكُوا بالقَهْر والغَلَبَة، فَتكثر أموالُهُم، وتتَّسِع في الحُطَام آمالهم، فَتَنْصَرف همَّتُهم إلى تشييد المباني، وهَدْمِ الدِّين [وشريف المعاني] (¬2)، وقد جاءَ في الحديث: "لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتى يَكونَ أسعَدَ الناس بالدُّنْيَا لُكَعُ بنُ لُكَع" (¬3). ¬
وقَدْ شُوهِدَ ذلِكَ وبَانَ صِدقُ الشَّارع فيما هنالك، فإذا صار أسافِلُ الناس رؤوسًا فقد طاب المَوْتُ، وإذا وُسِّدَ الأمر إلى غيرِ أهلِهِ فانتظِر السَّاعة، فقد فاتَ الفَوْت. والألف واللام في "الحفاة"، "العراة"، "العالة" يجوز أن تكونَ للعُموم، فتختص بقاطع العادة، فإنَّ العادة تقتضي أنَّ كلهم ليسَ على ذلك، ويجوز أن تكون للمعهودين المُخاطَبين، أو لتعريف الماهية، أو لبعض الجنس فلا عموم ولا خصوص، واللام في "أن تلِدَ الأمَةُ" ليست للعموم أيضًا. السابع بعد العشرين: فيه دِلالَةٌ على كَرَاهِيَةِ مَا لَا تَدْعُو الحاجةُ إليهِ مِنْ تَطْويلِ البناء وتَشْيِيده، وفي الحديث: "يُؤْجَرُ ابنُ آدَمَ على كُلِّ شيءٍ إلَّا مَا يَضَعُهُ في هَذَا التُّرَاب" (¬1). ومَاتَ الشَّارعُ -صَلواتُ الله وسلامه عليه- ولَمْ يَضَع حَجَرًا على حَجَرٍ، ولا لَبِنَةً على لَبِنَةٍ، أي: لَمْ يُشَيِّد بُنْيانًا، ولا طَوَّلَهُ ولا تَأنّقَ فيهِ (¬2). الثامن بعد العشرين: قوله "فَلَبِثَ مَلِيًّا" -هو بتشديد الياء- أي: زَمانًا، "مَلِيًّا" أي: كثيرًا، فَحَذَف الموصوف لِظُهوره، ورُوي "فلبثتُ" بتاء مضمومة، فيكون عمر هو المُخْبِر عن ذلك بِنفْسِه، وكان ذلك: ثلاثًا، كما جاء مبينًا في رواية أبي داود، والترمذي وغيرهما. وفي "شرح السنة" للبغوي: "بعدَ ثالثةٍ" (¬3). وظاهره أنه بعد ثلاث ليال. وفي ظاهره مُخالَفةٌ لحديث أبي هريرة: "فأَدْبَر الرَّجُل، فقال -عليه الصلاة والسَّلام-: "رُدُّوه" فأخذُوا يَرُدُّوه فَلَم يَرَوْا شيئًا، فقال -عليه الصلاة والسلام-: ¬
"هذا جبريل". فيُحتَمَل أنَّ عمر لم يحضُر قولَه هذا، بل كان قامَ، فأُخبِرَ به بعدَ ثَلاثٍ (¬1). فائدة: "ملِيًّا" غير مهموزة، ومنهُ: {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم: 46] "لأنَّهُ مِنَ المَلَوَان: الليل والنَّهار (¬2). {وَأُمْلِي لَهُمْ} [الأعراف: 183]، و"إن اللهَ لَيُمْلِي للظَّالِمِ" (¬3). أمَّا: المليء، ضد المُعْدَم، فهو مهموز؛ لأنَّهُ مِن مَلأَ كِيسَهُ ونحوه مالًا، ومِن الملاءة: وهو اليَسَار، والملأ مِن الناس (¬4). التاسع بعد العشرين: قوله "إنه جبريل" جبريل اسم عجمي سرياني، قيلَ معناه: عبد الله، وفيه لُغات وقِراءات مَحَل الخَوْض فيها كتب التفسير (¬5). والحديث: دالٌّ على أن الربَّ -جل جلاله- يُمَكِّن الملائكةَ أن يتَمَثَّلُوا فيما شاءوا مِن صُوَر بني آدم، كَمَا نصَّ الله على ذلك في قوله تعالى: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم: 17]. وقد كانَ جبريل يتمثَّل لنبينا - عليه أفضَل الصلاة ¬
والسلام- في صُورةِ دِحْية بن خليفة، وقد رآهُ على هيئته مرتين، وعِرْفَانه له هنا إنما هو في آخر الأمر فقط، كما جاء في "صحيح البخاري". وعرفانه له إمَّا: وحيٌ، أو نَظَر، وفي رواية: "مَا جاءَني في صُورة لَمْ أعْرِفها إلا في هذه المَرَّة" (¬1). ولا يُخاضُ هنا فيما خاضت فيه أهلُ الحُلول -عَصَمَنَا الله مِنهُ-. الثلاثون: "دينُكُم" أي: قواعده أو كُلياته، و"الدِّين" المِلة، والشريعة، ويُستَعْمَلُ -أيضًا- في الجَزَاء، فَمِنْهُ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] أي: يوم الجزاء. وبمعنى العادة: كَدِينكَ مِنْ أُمِّ الحُوَيْرِثِ قَبْلَهَا ... (¬2). وروي: كدأبك، وهو أشهَر. وظَاهر قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، وقوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] أنَّ الإسلام جميع الدِّين لا بعضهُ، وإنْ كانَ ظاهِرُ حديث جابر إطلاق الدين على الثلاثة: الإسلام، والإيمان، والإحسان. * تتمات (¬3): ¬
الأولى: قوله "شديد بياضِ الثِّياب" إلى آخِرِه، إشَارَة إلى غَرَابةِ هذه القِصَّة، لأنَّ الرَّجُل هيئته هيئة حاضِرٍ لا يَخْفَى عليه أَمْرُ الدِّين مع اشْتِهارِه غالِبًا خُصوصًا في المَدِيحْة، وسُؤاله سُؤال أَعْرَابي وَارد غير عالم بالدِّين، وهذا بِخِلاف حديث طَلْحَة: "جَاءَ أَعْرابيّ مِن أهلِ نَجْدٍ، ثائرُ الرَّأس" الحديث (¬1)، إذ وصَفَهُ بِصفةِ الأَعْرَاب الوَارِدِين، فلَمْ يَكُن في سُؤاله غرابة ولا عَجَب. الثانية: فيه اسْتِحبابُ التَّجَمُّل وتَحسين الهَيئَة للعَالِم والمُتَعَلِّم، وجبريل مُعَلِّم مِن جِهةٍ، لقوله: "يُعَلِّمُكم"، ومُتَعَلِّم من أُخرى، مِن كَوْيه جاءَ في صُورَةِ سائلٍ. الثالثة: مُنَاداته باسمهِ كَمَا يُنادِيه الأعراب، مِن باب التَّعْمِية على حاله، ففيه جَوَازُ تسمية المُتَعَلِّم (¬2) شَيْخَهُ، والمرؤوس رئيسَهُ باسمِهِ، لكن غَلَبَ في العُرْف تَلْقيبُهُم، فينبغي اتِّباعه، إلَّا أن يُعلَم أنه لا ينقبض من [تسميته باسمِهِ الأَصْلِي] (¬3)، ولا يتأذى به، فيكون هو الأولى اتباعًا لهذه السُّنَّة وغيرها؛ ولأنَّهُ أقرَبُ إلى التَّواضعِ، وأولى بالصِّدق. الرابعة: فيه إجابَةُ المُستفتي على ما فَهم من القرينة، فإنَّهَا كالنَّص، فإنَّهُ سأَلهُ عن الإسلام وهو مُحتمل لسؤاله عن حقيقته، أو شرطه، أو مكانه وغير ذلك، فأَجَابَهُ بِمَاهِيَّته وحقيقته. الخامسة: فيه أنه ينبغي لمن حَضَرَ مَجَالِسَ العُلَماء إذَا عَلِمَ بأهلِ المَجْلِس حاجةً إلى مَسْأَلةٍ السُّؤَالُ عنها، لِتَحصل الإفادة لهم. ¬
السادسة: فيه -أيضًا- الرِّفقُ بالسائل، وإدناؤه مِنْهُ؛ ليَتَمَكَّنَ مِن لسُؤالِهِ، وتنبيه العالم تلامِذته على اقتِبَاس الفوائد، وغرائِب الوَقائع. السابعة: قد يُستَدلّ بالحديث على أن الاسم غير المُسَمَّى، من حيث إنَ جبريل سأل عن الإسلام والإيمان والإحسان، فأتى بأسمائها وأجابَهُ الشَّارع عن معانيها، ولو كان هو هو لَمَا احتاج إلى السؤال عنه لِعِلمِهِ به، ولَمَا أُجيب؛ بل كان جوابه: إنكَ عالِمٌ بِمُسَمَّى مَا سألتَ عنهُ لِعِلمِكَ باسمه. وفي هذه المسألة أقوالٌ -وقَد أفرَدَها البطليوسي- (¬1). أحَدُهُما: ما ذَكَرنا. وثانيها: أَنَّهُ هُوَ، لقوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]. وأُجيب: بأَنَّهُ ضَمَّنَ سبح معنى اذكر، فكأنَّهُ قال: اذكر اسم ربِّكَ. كقوله: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الإنسان: 25]، وعكسه: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ} [آل عمران: 41]، ضمَّن "اذكر" معنى: سبِّح ونَزِّهْ، أي: نَزِّههُ عَمَّا لا يَلِيقُ به (¬2). ومِنَ الحُجَّةِ لهم -أيضًّا-: قوله تعالى: {بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} [مريم: 7] ثُمَّ قال: {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12] فنادى، ويحيى اسمُهُ، فَدَلَّ على أنه هُوَ. وأُجيب بأنَّ المعنى: يا أيها الغلام الذي اسمُه يحيى، فنادى المسمى لا الاسم. ¬
وثالثها: أنَّ الاسم للمسمى (¬1) لا هُوَ هو ولا هو غيره، كالواحد مِنَ العشرة لا هو هي ولا هو غيرها. وأُجيب: بأنَّ هذا لا يتحقق؛ لأنا إذا قُلنا: هذا الشيء لهذا، إنما نعني أنه ملكه أو اختصاصه، وأمَّا ما كان كذلك فهو يقتضي المغايرة، لأنَّ ملك الشيء نفسه واستحقاقه لها واختصاصه بها مُحال. * تنبيهان (¬2): الأول: المغايرة، إما بالذات: كزيد غير عمرو، أو بالحال والصِّفة: كوَجْهِ زيد اليوم غير وجهه أمس. والمغايرة بين الاسم والمسمى إنما هو بالأول. ثانيهما: الاسم: هو الموضوع للذات تعريفًا أو تخصيصًا كـ"زيد". والمُسَمَّى: هو الموضوع له. وبِكَسر الميم: الواضِعُ، والتَّسمِيَةُ وهي: الوضع لتلك الذات، وبهذا ظَهَر أنَّ الاسم غير المسمى. ثالثهما: مِن شُبَه الخَصْم: أنَّ الرَّبَّ -جل جلاله- قال: {اعْبُدُوا اللَّهَ} [المائدة: 72] لكن المُراد: اعبدوا الذات التي اسمها الله، والجلالة المعظمة دالة، والمعبود مدْلُولها وهو [الذات] (¬3) القديمة الواجبة الوجود (¬4). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الثامنة (¬1): فَسَّرَ -عليه الصلاة والسَّلام- الإحسان بالمُرَاقَبَة كَمَا سَلَفَ، فالعَبْدُ يُشَاهِدُ رَبَّهُ بِعيْنِ إيمانه، وأَنَّهُ مُطَّلِعٌ عليه في جميع أحواله؛ فلا ينحرف، ويتأدَّبُ. التاسعة: العِبادة إمَّا: قلبيَّة -كالإيمان-، أو بدَنِيَّة -كالإسلام-، ولَمَّا كان الإحسان: هو المُراقبة بالإخلاص فيهما؛ فلا يُظْهِر الإيمانَ رياءً أو خوفًا فيكون منافقًا، ولا يُظهِر أعمال الإسلام لغير الله، فيكون مُرائيًا مُشرِكًا، بل يرى أنَّ اللهَ مُطَّلِعٌ عليه يَرَى جميعَ حاله، فالإحسان شرطٌ فيهما، أو كالشَّرط إذْ بدون الإخلاص والمُراقَبة فيهما لا يُقبَلان، قال تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ} [البقرة: 112]، {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [لقمان: 22]، {ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا} [المائدة: 93] (¬2). العاشرة: حُكِيَ عن بعض شُيُوخ الطَّريق أنه ذَكَرَ هذا الكلام يومًا، فقال: "اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه". ثمَّ وقف! وهو إشارةٌ صُوفيَّةٌ؛ أي: أنَّكَ إذا أفنيتَ نفسَكَ فَلَم ترها شيئًا شاهَدْتَ ربَّكَ!! لأنها حِجَابٌ دونَهُ، فإذا ألقَى الحِجاب شاهَدَ الجَناب. ويُشبهُ هذا ما حُكِيَ دُونَهُ عن بعضهم أنه قال: رأيتُ رَبَّ العِزَّة في المَنَام ¬
فقلتُ: يا ربِّ! كيفَ الطَّريقُ إليكَ؟ فقال: "خَلِّ نفسَكَ وتعال" (¬1). الحادية عشْرة: للساعة شُروطٌ كبيرةٌ أُخرى، منها: طُلُوع الشمس مِن مغْربها، وخُروج الدَّابة، والدَّجال، ويأجوج مأجوج، وكَثْرَةُ الهَرْج، وفَيْضُ المال حتى لا يقبله أحدٌ، وحَسْرُ الفُرات عن جبلٍ مِن ذَهَب، وفيها كُتُب مؤلفةٌ. ولعله إنما اقتَصرَ في الحديث على أَمَارَتَيْن مِنْهَا تحذيرًا للحاضِرين وغيرهم منها -أعني كثرة اتخاذ السَّراري وبيعهن، والتَّطَاول في البنيان- لاقتضاء الحال ذلك، إذ لعلَّهم كانوا يتعاطَوْنَ شيئًا مِنْ ذَلِك فَزَجَرَهُم. الثانية عشرة: حاصِلُ ما ذَكَر -عليه الصلاة والسلام- أنَّ أجزَاءَ الدِّين ثلاثة: "الإسلام": وهو الشَّهادتان، والعِبَادَات الخمس، وتفصيلها التام محله كتب الفقه. و"الإحسان": وهو المُراقبة والإخلاص، ومَحَلّه التام كتب التصوّف: كـ "القوت"، و"الإحياء" ونحوهما (¬2). ¬
و"الإيمان" ومُتعلَّقُهُ سِتَّةُ أشياء: الرَّب -جل جلاله-، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقَدَر، ومحلّه كْتب "الفَلْسَفَة"! (¬1)، ولا حاجةَ بنا إليها (¬2) إلَّا لمناظرةٍ أو رَدٍّ. ¬
ولابد من لفظٍ في الإيمان عند التمكن، وأَمَّا الكفار: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر: 85]، ولا بُدَّ مع توحيد الرب -جل جلاله- من سَلْبِ ما لا يَليقُ به عنه. ومن اعتقاد الملائكة: عباد مُكرَمون، {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]. والكتب المنَزَّلة نؤمن بها ونَعْمَل بها مَا لَمْ يثبت نسخها، والأنبياء والرسل يجب اعتقادهم، وكذا القَدَر ومَن نفاه فأمرُه إلى الله. ونؤمِنُ بما بعد الموت، ثُم المَحْشَر، ثم الجزاء والحساب، وقد صنَّفَ البيهقي "البعث والنُّشور"، وعبد الحق (¬1)، وفي كلٍّ مقنع (¬2). * * * ¬
الحديث الثالث
الحديث الثالث عن أبي عبد الرحمن عبد الله بنِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقُولُ: "بُنيَ الإِسْلامُ على خَمْسٍ: شَهادَةِ أنْ لا إِلَهَ إلَّا اللهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ رَسُولُهُ (¬1)، وإِقَامِ الصَّلاةِ، وإيتاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ البَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ". رواه البُخاري ومُسْلِم (¬2). * * * الشرح: الكلام عليه من وجوه: أحدهما: هُوَ داخِلٌ في ضِمْنِ مَا قَبْلَهُ -كَما أسلَفناهُ- حيثُ سألهُ جبريل عن الإسلام؛ فأجابه بهذه الخمس، ومَرْجِعُهُ مِن القُرآن: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إلا اللَّهُ} [محمد: 19]، {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ} [الفتح: 29]، {وَأَقِيمُوا ¬
الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43]، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183]، {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185]، {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]. ومَرجِعُهُ مِن السُّنّة عِدَّةُ أَحَاديث شَهِيرة. وهو حديثٌ عظيمٌ، أحدُ قواعِدِ الإسلام، وجوامِع الأحكام؛ لأنَّ فيه معرفة الدِّين، وما يُعْتَمَدُ عليه، ويَجْمَعُ أَرْكَانَهُ. ثانيها: البخاري أخرَجَهُ في "الإيمان" و"التفسير"، ومسلم في "الإيمان" و"الحج" (¬1)، ووقع له خماسيًّا، والبخاري وقع له رباعيًّا فَعَلا. ثالثها: راوِيهِ الإمامُ الصَّالِحُ الزَّاهِدُ العابدُ: أبو عبد الرحمن -كما حكاه المصنِّف- قُرَشيّ عَدَوي مَكِّيٌّ، أُمُّه زينب -وقيل: ريطة بنت مظعون-، أسلَمَ قديمًا مع أبيه وهو صغير، وهاجر معه، ولا يَصِحُّ قول مَن قال: قَبْلَ أبيه، واسْتُصغِرَ عن أُحُد، وشَهِدَ الخَنْدَق وما بعدها، وهو أحد السِّتَّةِ المُكْثِرين، وأَحَدُ العَبَادِلة الأربعة (¬2). ماتَ بفَخٍّ بقُرب مكَّةَ بعدَ السَّبعين بعدَ مَقْتَلِ ابن الزُّبير - رضي الله عنه - بأشهُرٍ، جاوَزَ الثَّمَانين (¬3). ¬
رابعها: معنى "بُنِيَ" أُسِّسَ، وأصلُ البِناء أن يكون في المحسوسات دونَ المعاني، فاستعماله في المعاني مِن باب المجاز الاستعدادي، وقد جاءَ هُنا في غاية الحُسن والبَلاغة إذ جَعَلَ الإسلام قواعد وأركانًا محسوسةً، وجَعَل الإسلام مبنيًّا عليها. وقوله: "على خمسٍ" أي: خمس دعائم، أو قواعد هي خِصَالهُ المذكورة، فلذلك لم يلحق التاء في خمسٍ، ولو أراد الأركان لقال: "على خمسة" معَ أنه جاءَ في رواية لِمُسلم: "على خمسةٍ" (¬1) وهو صحيح أيضًا، أي: خمسة أشياء، أو أركان، أو أصول. ويُحتملُ أنَّ المرادَ في الأولِ: خمسة أشياء، فَحُذِفَت الهاء؛ لكون الأشياء لم تُذكَر، كقوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]، والمعني: عشرة أيام (¬2)، كقوله عليه الصلاة والسلام "مَنْ صَامَ رَمَضَان وأتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّال" (¬3) ونحو ذلك. خامسها: قوله: "شهادةِ أَنْ لا إِلَهَ إلَّا الله" ومَا بعدَها هو مخفوضٌ على البَدَل من "خمس" وهو الأحسن، ويجوز الرَّفعُ، إما على تقدير مبتدأ محذوف، أي: أحدها شهادة أن لا إله إلا الله، أو على حذف الخبَر، أي: منها شهادة أن لا إله إلَّا الله، وحذفُ الخبر أولى. قوله: "إقام الصلاة" أصله: وإقامةُ الصلاة، حُذِفت التاء تَبَعًا للازدِواج ¬
مع "وإيتاء الزكاة" فالحذف ونحوه طلبًا للازدواج في كلام العرب نحو: الغَدَايَا، والعشايا، و"وارجِعْنَ مَأْزُورَاتٍ غَيرَ مَأْجُورَات" (¬1)، و"الرِّجْس النِّجْس" (¬2)، وهو كثير في كَلامِهِم. سادِسُها: قوله "وإيتاء الزكاة" أي: أهلها، فحَذَف المفعول بدليل: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى} [البقرة: 177]، و"الإيتاء": الإعطاء، وقد سَلَفَ معنى الزكاة، والصلاة، والحج في الحديث قبله. سابعها: قد أسلَفْنَا أنَّ مَعْنَى قوله -عليه الصلاة والسلام-: "بُني الإسلام على خمس" أنَّ هذه الخمس أساس دينِ الإسلام وقواعده، عليها يُبْنَى وبها يقوم، ولم يَذكر معها الجهاد -وإن كان الدِّينُ ظَهَرَ به وانقمع به عُبَابُ (¬3) الكفرة-؛ لأنه لم يَكُن فُرِضَ إذْ ذاك، أو لأنَّهُ من فروض الكفايات وتلكَ مِنْ فُروض الأعيان. وصَار جماعة كثيرة إلى: أنَّ فرضَ الجهاد [قد ¬
سقطَ بعدَ فتح مكَّةَ] (¬1). ولَمَّا أَوْرَدَهُ البخاري في "التفسير" ذكَرَ فيه أنَّ رَجُلًا قال لابن عمرَ: "مَا يَحْمِلُكَ على أنْ تَحُجَّ عَامًا وتعتَمِرَ عامًا وتترُكَ الجِهاد"؛ وفي روَايَةٍ: "أنَّ رجُلًا قال لابن عمر: ألا تغْزُو؟ فقال: إني سمعت رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّ الإسلامَ بُنِيَ على خمسٍ" الحديث (¬2). وهو دالٌّ على أن ابن عمر كان لا يَرى فرضه: إمَّا مُطْلَقًا كما نُقل عنه، أو في ذلكَ الوقت. ثامنها: جاء هنا: "بُنِيَ الإسلام على خَمْسٍ شهادة أن لا إله إلَّا الله" وجاءَ في بعض طُرقه: "على أنْ يُوَحَّدَ الله" (¬3). وفي أُخرى: "على أَنْ تَعبُدَ اللهَ، وتَكْفُر بِمَا دُونَهُ" (¬4) بدل: الشَّهَادة. والظَّاهر أنَّ ما عَدَا الأُولي مِن بَابِ الرِّوَايَةِ بالمعنى. تاسِعها: جاء هُنا تقديم الحج على رَمَضان، وفي طريقين لـ"مُسلِم"، وفي بعض الطُّرق عكسُهُ، وفي بعضها: "فقال رجلٌ: الحج وصيام رمضان؟ فقال ابن عمر: "لا؛ صيام رمضان والحج، هكذا سَمِعْتُهُ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -". ¬
وهذا الرجل اسمه يزيدُ بن بِشْر السَّكْسَكِيُّ، نبَّهَ عليه الخطيب في "مبهماته" (¬1)، على أنَّ في روايةٍ لأبي عوانة في "مستخرجه على مسلم" أنَّ ابن عمر قال للرجل: "اجعل صيام رمضان آخرهن كَمَا سَمِعتُه مِنْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬2). وأبعَدَ بعضهم فوهَّم رِوَايَةَ تَقْدِيم الحَجِّ، والصوابُ التأويل: إمَّا بنسيان ابن عمر الرِّواية الأُخرى عند الإنكار. أو كان لا يَرَى رِوَايَةَ الحديث بالمعنى؛ وهي مسألةٌ خِلافية مذكورَة في الأُصول وعلوم هذا الفن. أو أنَّ الواو للترتيب. أو أنَّهُ رَوَاهُ على الأَمرَيْن، لكِنَّهُ لمَّا ردَّ عليه الرجل قال: "لا ترد مَا لا عِلْمَ لَكَ بهِ" كما رواه في إحداهما. أو أنَّ ابن عمر أرشَدَهُ إلى التاريخ؛ لأنَّ فرضَ رمضان قبلَ الحجِّ. أو لأنها هكذا نزلت، لكن لم يتحرر لي وقت فرضِ الزَّكاة (¬3). * * * ¬
* تَتِمَّات: الأولى: العبادات؛ إمَّا بدنِية كالصلاة، أو ماليَّة كالزكاة، أو مُركبة منهما كالحجِّ، وأَمَّا الصوم فيجوز أن يكون مِن ذلك؛ لدخول التَّكفير بالمَالِ فيه. الثانية: شَبَّهَ -عليه الصلاة والسلام- الإسلام بِبَيْتٍ بُنِيَ على دَعائِم خمسٍ كما جاءَ في الحَديث الآتي "ألا أُنبئك بِمِلاكِ الأمر .. ، وعَمُوده .. ، وذِرْوَة سَنَامِهِ: الجهاد" (¬1). ومعلومٌ أن البيت لا يَثْبُتُ بِدُونِ أركانه ودعائِمِهِ الَّتي يُبْنَى عليها. الثالثة: من تَرَكَ ما عَدَا الشَّهَادَتين لا يخرجُ به عن الإسلام بل عن كماله، اللهم إلَّا إذا تَرَكَهَا جَاحِدًا لِوُجُوبها، وتارِكُ الصَّلاةِ كَسَلًا لا يَكْفُر على الأصح عندنا (¬2). ويُقتَلُ بالإصرار حدًّا، وقال أحمد: كُفرًا (¬3). ¬
الرابعة: هذا الحديث وإنْ كان مُطْلقًا فحديث: "خمسُ صَلَواتٍ كتبَهنَّ على عباده في اليوم والليلة" (¬1) مُبيِّنٌ لهُ. * * * ¬
الحديث الرابع
الحديث الرابع عن أبي عَبْدِ الرَّحمنِ عَبْدِ اللهِ بنِ مَسْعُود قالَ: حَدَّثنا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهوَ الصَّادِقُ المَصْدُوقُ-: "إِن أَحَدَكمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ في بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْما نُطْفَةً (¬1)، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرسَلُ المَلَكُ فَيَنْفُخُ فيهِ الرّوحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبعِ كلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ، وشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ، فَوَالَّذي لا إِلَهَ غيْرُهُ إنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنةِ حتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وبَيْنها إلَّا ذرَاعٌ فَيَسْبِقُ عليهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النارِ فَيَدْخُلُها، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وبينَها إلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عليهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهلِ الجَنَّةِ فَيَدْخُلُها". رواهُ البُخاريُّ ومُسْلِم (¬2). * * * ¬
الشَّرح: هذا حَديثٌ عظيم يَتَعلَّقُ بمبتدأ الخَلْق ويهايتهِ، وأحكام القَدَر في المبدأ والمَعَادِ جليلٌ حفيلٌ، ومرجِعُهُ من الكتاب إلى آيات القدر نحو: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} [الإنسان: 3]، {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف: 17]. ومَرْجِعُهُ مِنَ السُّنَّةِ كحديث "مُحَاجَّه آدم وموسى" (¬1). وحديث: "كُلق مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ" (¬2). ثم الكلام عليه وجوه: أحدها: في التَّعريف بِراوِيهِ وهو: السَّيدُ الجليل أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسعود الهذلي الكُوفيُّ، أسلَمَ بِمَكَّةَ قديمًا، وهاجَر إلى الحَبَشَة، ثُمَّ إلى المَدينَة، وشَهِدَ بَدْرًا والمَشَاهِدَ كُلَّها، وكانَ كثير الدُّخول عليه، ماتَ بالكوفة، وقيل: بالمدينة بعدَ الثلاثين إمَّا سنة اثنين أو ثلاث (¬3). ثانيا: في ألفاظه ومَعَانيه: معنى: "حَدَّثَنا" أنشَأَ لَنَا خَبَرًا حادِثًا، وهو أَصل فيما يَسْتَعْمِلُهُ المُحَدِّثون مِن قولهم: "ثنا" مِن لفظ الشيخ، وإِمَّا قراءةً عليه، و"أنبأنا" إجازةً (¬4). ¬
و"الصَّادِقُ": الآتي بالصدق، وهو الخَبَر المُطَابق. و"المَصْدُوق": الذي يأتيه غيره بالصدق، فهو "صادِق" في قَوْلِهِ، وفيما يأتيه مِنَ الوَحْي، "مَصْدُوقٌ" أنَّ الله صَدَّقه فيما وعَدَه به، وهذا تأكيد، وعلى هذا القياس: الكاذِبُ والمَكْذُوب. ومنه قولُ على يومَ النَّهْرَوَان: "واللهِ مَا كَذَبْتُ ولا كَذَبَ مَنْ أخْبَرَني" (¬1). والشَّارع صادقٌ فيما أَخْبَر، مَصْدُوق فيما أُخبِر؛ لأنَّ جبريل يُخبِرُهُ، وعكْسُهُ ابن صيَّاد حين قال: "يَأْتِيني صَادِق وكَاذِبٌ" (¬2)، و"أَرَى عَرشًا على المَاء" (¬3)، فهو إذن كاذب مَكْذُوب. ومعنى "يُجْمَعُ": يُضَمّ وتُحْفَظُ مَادةُ خَلْقه وهو الماء الذي علق منه. و"العَلَقَة": قِطْعَةُ دَمٍ قبلَ أنْ تيبس. و"المُضْغَة": قطعةُ لَحْم قَدْرَ مَا تُمْضَغُ، كغُرْفَةٍ: مِقدارُ ما يُغرف. و"الرُّوح": هو المعنى الذي يَحْيَا بهِ الإنسانُ، وهو مِنْ أَمْرِ اللهِ تعالى كَمَا أخبر، وللناس في تحقيقه اختلاف كبير، ولفظُهُ مشتركٌ بين معانٍ (¬4). و"الرِّزق": مَا يَتَناوله الإنسان في إقامةِ مُدّته من مأكولٍ ومشرُوبٍ ومَلْبُوس وغير ذلك. و"الأَجَل": مُدَّة الحياة. ¬
ثالثها: قوله "بِكَتْبِ": هو بالباء المُوحَّدة وهو بدلٌ مِن أربع. و"شْقيّ أو سَعيد": مرفوع، خبر مبتدأ محذوف؛ أي: وهو شقي أو سعيد. وفي صحيح ابن حِبَّان مِن حديث أبي الدرداء مرفوعًا: "فَرَغَ اللهُ إلى كُلِّ عَبْدٍ مِنْ خَمسٍ: مِن رِزْقِهِ، وأجَلِهِ، وعَمَلِهِ، وأَثَرِهِ، ومَضْجَعِهِ" (¬1). يعني قبرَهُ، فإنَّهُ مضْجَعُهُ على الدوام: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34]. وفي "تجريد الصحاح" لرزين من حديث سهل بن سعد مرفوعًا: "إِذَا وقَعَت النُّطْفَة في الرحِم" الحديث، وفيه: "أَذَكر أَمْ أنثَى، أَشَقيٌّ أمْ سَعِيد، ومَا عُمْرُهُ ومَا رِزْقهُ، ومَا أَثَرُهُ، وَمَا مَصَائِبُهُ، فيقولُ الله ويكتبُ المَلَكُ، فَإِذا ماتَ الجَسدُ دُفِنَ مِن حيثُ أخِذَ ذلِكَ التراب". والمُراد "بالذِّراع": تمثيل القرْب. رابعها: لا التِفاتَ إلى ما حُكِيَ عن عمرو بن عبيد -وكان مِن زُهَّاد القَدَريَّة- مِن إنكار الحديث، فهو أقل من هذا! (¬2). ¬
خامسها: بيَّنَ الخطيب الحافظ في كتاب "الفصل للوصل" أنَّ أوَّل الحديث إلى قوله: "وشقي أو سعيد" وما بعده مِن كلام ابن مسعود، ثمَّ بَرْهَنَ لذلك (¬1). سادسها: ظاهِرُ الحَديث أنَّ أعمال الحَسَنَات والسَّيئات أمارَات وليست بِمُوجِبات، وأنَّ العَاقِبة في ذلك للسَّابِقَة. سابِعُها: قوله "في بطنِ أُمِّه أربَعينَ يومًا" يُريد: نُطْفَةً، قال بعضُ العُلماء: ولِذلكَ جُعِلَ على المُتَوَفى عنها أربعة أشهُرٍ وعَشْرًا، لأنَّ الأربعة لاعتِبار الخِلْقَة وعشر احتياط، ولغيرها ثلاث حِيَض لأنَّ عليها رقيبًا، وأُبيح لها أن تتزيَّن وتعايظ (¬2) زوجها. وجاء تفسيره عن ابن مسعود: "أنَّ النُّطْفَةَ إِذَا وقَعَت في الرَّحِم وأرَادَ اللهُ خلق بشرٍ فيها، طارت في بَشرَة المرأةِ تحتَ كُلِّ ظُفْرٍ وشَعْر ثُمَّ تمكُثُ أربَعينَ ليلةً ثم يَنْزِلُ مَا في الرَّحِم فذلكَ جَمْعُها" (¬3). والذي في الحَديث الذي يجمع خلقه أربعين يومًا بخلاف تفسيره أنه يُجْمَع بعدَ الأربعين، وسيأتي إيضاحُهُ. ثامِنُها: جاءَ في رِوَايةٍ بحذف "وعمله" والمُراد يكتبان أربعة أشياء من حاله: "رزقه" قِلَّةً وكَثْرَةً، وحلالًا وحَرامًا، ومِن أي جهة هوَ ونحو ذلك، و"أجله" طولًا وقصرًا، و"عمله" صالحًا وطالحًا، و"شقي" في الآخرة أو "سعيد". ¬
ويجوز أن يكون المُراد ذِكرَ جُمْلَةِ مَا يُؤمران به، لا أَنَّ كُلَّ شخص يؤمر فيه بهؤلاء الأربعة، وقد أسلفنا رواية "وأثره" ويكون ذلك على كلِّ شخصٍ. تاسعها: قد أسلفنا الكلام على معنى "الجَمْع"؛ أن المَنْيَ يَقَعُ في الرَّحِم حينَ انتزاعه بالقُوَّة الشَّهْوَانيَّة الدافعة متفرقًا، فيجمعه الله في مَحَلِّ الوِلادَة مِن الرَّحِم في هذه المُدة -كَمَا أسْلَفنَا عن ابن مسعود بما فيه: "ثم يكونُ عَلَقَةً في مِثل ذلك" و"ذلك" الأول إشارة إلى المحَل الذي اجتمعتْ فيه النُّطفة وصارت عَلَقةً، و"ذلك" الثاني إِشَارَةً إلى الزَّمان الذي هو الأربعون. وكذا القول في قوله: "ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذلكَ، ثُمَّ يُرسل الملك المُوَكَّل بالرَّحِم فينفُخُ فيه الرُّوح" كما قال في حديث أنس: "إنَّ الله قَدْ وَكَّلَ بالرحِمِ مَلَكًا" (¬1) وظَاهِرُ هذا السِّياق أنَّ المَلَك عندَ مَجيئه ينفخُ الرُّوحَ في المُضغَةِ وليسَ الأمر كذلك؛ إنما ينفخُ فيها بعدَ أن تتشَكَّل تلكَ المُضْغَة بشكل ابن آدم؛ أي: تَتَصَوَّر بصورته، كما قال تعالى: {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} [المؤمنون: 14]، وكَمَا ذَكَرَ في الآيةِ الأُخرى: {مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ} [الحج: 5]، أي: مُصَوَّرة وغير مُصَوَّرة، أي: السِّقط. وهذا التخليق والتَّصوير يكون في مُدَّةِ أربعين يومًا وحينئذٍ يُنفخ فيه الرُّوح، وهو المَعْنِيُّ بقوله تعالى {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون: 14] (¬2). العاشِر: قدَّر النفخ هنا بعدَ مائة وعشرين يومًا، وصحَّ في حديث آخر بعدَ الأربعين أو اثنين وأربعين يومًا؟! فيجمَعُ بينهما: بأنَّ ذلكَ راجِعٌ إلى اختلاف الأَجِنَّة، أو بأن المَلَك ملازمة ¬
ومراعاة لحال النطفة من الأربعين إلى تمام المائة والعِشرين، وقد أوضَحتُ الكلام عليه في "شرح صحيح البخاري" فراجِعْهُ منه تجد ما يشفي العليل. وادَّعَى القاضي عياض أنه: "لم يُختلف في أنَّ نَفْخَ الرُّوح فيه إنما يكون بعد مائة وعِشرين يومًا، وذلك تَمَامُ أربعة أشهر، ودخوله في الخامس، وهذا موجود بالمُشَاهَدَةِ، وعليه يُعَوَّلُ فيما يُحتاج إليه من الأحكام والاستلحَاق عندَ التَّنَازع، ووجُوب النَّفَقات على حَمْل المُطَلَّقات، وذلك لتيقنه بحركة الجنين في الجوف. وقد قيل: إنه الحِكمَة في عِدَّة المرأةِ مِن الوَفاة بأربعة أشهر وعشر -كما مرَّ- وبعدَ الدُّخول في الخامسة تحقق براءة الرَّحِم ببلوغ هذه المُدَّة إذا لم يَظْهَر حمل" (¬1). ونَفخُ المَلَك في الصُّورة سبب يخلق الله فيها عِندَهُ الرُّوح والحياة، لأنَّ النَّفخَ المُتَعَارف إنَّمَا هوَ إخراجُ ريح مِن النَّافِخ يتَّصِلُ بالمَنْفُوخ فيه، ولا يَلْزَم منهُ عقلًا ولا عادةً في حقِّنا تأثيرٌ في المَنْفُوخ فيه، وإنْ قُدِّرَ حُدوثُ شيء عِنْدَ ذلِكَ النَّفخ، فذلكَ بإحداثِ الله لا بالنَّفخ، وغَايةُ النَّفخ: أن يكونَ مُغَذِّيًا عاديًا لا موجِبًا عَقليًّا، وكذلك القولُ في الأسباب المُعْتَادة؛ فليتأمَّل هذا الأصل، ويتمسك به ليَنْجو مِن مذاهب أهل الضَّلال (¬2). وقَد ظَهَر سِرُّ هذا الترتيب، وإن كانت القدرة صالحة لإيجاده وجميع المخلوقات في أَسرع لحظة وأسرع آنٍ، لأنَّهُ كان كذلك في سابقِ عِلْمِهِ. الحادي عشَر: ظاهِرُ قوله: "ويُؤْمَرُ بأرْبعِ كَلِمَاتٍ" الأمرُ بِكِتَابَتِها ابتداءً، ¬
والمُراد أنه يُؤْمَرُ بذلك بعدَ أن يسأل عنه فيقول: يا ربَ! ما الرِّزق؟ ما الأجل؟ ما العمل؟ وشقيٌّ أو سعيد؟ كما تَضَمَّنَتْهُ الأحاديث المذكورة مع هذا الحديث. وفي "الصحيح" مِن طريق ابن مسعود (¬1)، وابن عمر (¬2) أنَّ النُّطفةَ إذا استَقرَّت في الرَّحِم أَخَذَها المَلَك فقال: "أي ربِّ! ذَكَر أم أنثى؟ شقيٌّ أَمْ سعيد؟ ما الأجل؟ ما الأثر؟ بأي أرض تموت؟ فيقال له: انطَلِق إلى أم الكِتَاب؛ فإنَّكَ تجد قصَّةَ هذه النُّطفَة، فينطَلِق فَيَجِد قِصَّتها في أم الكتاب؛ فتلحق، فتأكل رزقها، وتطأ أثرها، فإذا جاءَ أجلها قُبِضَتْ فَدُفِنت في المَكان الذي قُدِّرَ لها". زادَ في رِوايةٍ مِن حديث ابن مسعود: "أنَّ المَلَك يقول: يا ربِّ! مخَلَّقةً أو غيرَ مُخَلَّقةٍ، فإن كانت (¬3) غيرَ مخَلَّقةٍ قَذَفَتها الأرحام دَمًا، وإن قيلَ: مُخَلَّقةً قال: أي ربِّ ذَكر أم أنثى" (¬4) إلى آخر ما سَلَف. فالمُراد بالاستقرار: صَيْرُورة النُّطفة عَلَقة ومُضغة، لأنَّ النّطفةَ قبلَ ذلِكَ غير مجْتَمعةٍ كما سَلَف، فإذا اجتمعت وصارت علقةً أو مُضغةً، أمْكَنَ حينئذٍ أنْ ¬
تُؤْخَذَ بالكَفِّ، وسَمَّاهَا نُطْفَةً في حالِ كونها عَلَقةً أو مُضغةً باسم مَبْدَئِها. الثاني عشر: يُسْتَفَادُ مِمَّا ذَكرنا أنَّ المرأةَ إذا ألقَت نطفة لم يتَعَلَّق بها حُكْم، بخلاف العَلَقة والمُضْغَة؛ فإنه تنقضي بوضعه العِدَّةُ، وتصيرُ به أمّ ولد عندَ مالكٍ وأصحابه خلافًا للشَّافعي حيث اعتبر التخطيط؛ لأنهُ حينئذ يُسَمَّى ولَدًا، وإلَّا فيلزم ثبوتها بالنُّطفة (¬1). الثالث عشر: قوله: "إنَّ أَحَدَكم لَيَعْمَلُ بِعَمَل أهل الجنَّةِ ... " إلى آخرِه. ظاهِرُهُ صحّة العمل، ومنعُ القَدَر السَّالف الذي يظهر عندَ الخاتِمة. ومعنى "فيَسْبِقُ عليه الكتاب" أي: حكمه الذي كتب في بطن أُمِّه مُسْتَنِدًا إلى سابِقِ عِلمِه القديم فيه "فيعمَلُ بعَمَلِ أهل النار فَيَدخُلُها" أي: بحُكْمِ القَدَر الجاري عليه المستند إلى خلقِ الدَّواعي والصَّوارف في قلْبهِ إلى ما يَصدر عنه مِن أفعالِ الخير والشَّر، فمن سبَقَت له السَّعادةُ صَرَفَ اللهُ قَلبَهُ إلى خير يُخْتَمُ (¬2) له به، ومَن سبقَت له الشَّقاوة عكسُهُ (¬3). وفي بعضِ روايات هذا الحديث: "وإنما الأعمَال بالخَواتيم" (¬4). وفي حديث آخر: "اعمَلُوا فكُلّ مُيَسَّر لِما خُلِقَ لَهُ، أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السعادَةِ فيُيَسَّرُ لِعَمَل أهلِ السَّعادَةِ، وأَمَّا مَن كانَ مِن أهل الشَّقاوة فَيُيَسَّرُ لِعَمَل أهلِ الشَّقَاوة" (¬5). ¬
وقلوب الخلق يُصَرِّفها كيف يشاء، فالمُوَفَّق من بَدَا عمله بالسَّعادة وخُتِمَ بها، والمَخْذُول عكسه، وكذا من بدا بالخَيْر وخُتِمَ بالشَّر لا عكسه. وأهل الطريق في كُل حالهم يخافون سوء الخاتِمَة -نجانا الله منها- (¬1). وتصرُّف الله في خلقهِ ظاهِرًا: إمّا بِخرْقِ العادات كالمُعْجِزة، وإِمَّا بِنَصبِ الأدلة والأمارة كالأحكام التَّكليفية؛ أو باطنًا: إما بتقدير الأسباب نحو: {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} [الأنفال: 42] وشِبهه. أو بِخَلق الدَّواعي والصَّوارف نحو: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} [الأنعام: 108]، {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ} [الأنعام: 110]، {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ)} [التوبة: 127]، "يا مُصَرِّفَ القُلوبِ صَرِّفْ قلوبَنَا على طَاعَتِكَ" (¬2). وفي الحديث إشارةٌ إلى تعاطي الأسباب للسَّعادة والشَّقاوة، وبها يظهر ما جُبِلَ عليه مِن الخير والشَّر: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، ثمَّ لا يَنْبَغي له مع ذلك أن يعجب بها خوف احتِبَاطها، ومن لُطْفِ الله تعالى أنَّ انقلابَ الناس مِنَ الخَيْر إلى الشَّر نَادِرٌ، والكثيرُ عكسه "إنَّ رحمَتي سَبَقَت غَضبِي" (¬3). خاتِمَة: الكافر والعاصي يختلفان في التَّخليد وغيره، فالكافر مخلدٌ في النَّار أبدًا، والعاصي المُوَحِّدُ لا يُخَلدُ، وأَمرُهُ في التَّعذيب إلى رَبِّه. ¬
ثمَّ الحديث دَالٌّ على إثبات القدر كما سلف. وأنَّ التَّوبة هادِمةٌ لِمَا سَلَف. وأنَّ مَن ماتَ على شيءٍ حُكِمَ له بهِ، فَجَميعُ الواقِعات بِقضائهِ وقَدَرهِ خيرها وشرِّها، حلوها ومُرِّها، نَفْعِهَا وَضُرِّها، إِيمانها وكُفْرِها، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] (¬1). * * * ¬
الحديث الخامس
الحديث الخامس عن أُمِّ المُؤْمِنِين أُمِّ عبدِ اللهِ عائِشةَ - رضي الله عنها - قالَتْ: قالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَحْدَثَ في أَمْرِنا هَذا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهوَ ردٌّ". رواهُ البُخَاريُّ وَمُسْلِمٌ (¬1). وفي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: "مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عليهِ أَمْرُنا فَهوَ ردٌّ" (¬2). * * * الكلامُ عليه مِن وُجُوه: أحدها: في التَّعريف بِراوِيه، وهي الصِّدِّيقة بنت الصِّدِّيق، الحَبيبَةُ بنت الحبيب، عائشة بنت أبي بكر -عبد الله بن أبي قُحافة عثمان-، كُنيت بابن أُختِها عبد الله بن الزُّبير، رُوي أنها قالت: "يا رسول الله! كُلُّ نِسَائِكَ لهُنَّ كُنى إلَّا أَنَا". فقال: "اكْتَنِي بابن أُختُكِ عبد الله" (¬3). وأَبْعَدَ مَن قال بِسِقطٍ لها. ¬
تَزَوَّجَها -عليه الصَّلاة والسلام- قبلَ الهِجرة، وبَنَى بها بعدَ وقعةِ بدرٍ في السَّنَة الثانية، وقيل: في الأولى. وماتت بعدَ الخمسين عن نيِّف وستين سنة (¬1). وقولهم في عائشة وغيرها مِنْ أَزْواجِهِ: "أُمُّ المُؤْمنِين" أي: في الاحترام والتوقير، لا في الخَلْوَة، والمُسَافَرة، وحُرمَةِ نِكاح بناتِهِنَّ، ولا النظر، وقد أشبَعتُ الكلام علي ذلكَ في "شرح صحيح البخاري"، و"الخصائص" فليراجع منهما (¬2). ثانيها: معنى "أحْدَثَ" أتَى بِأَمْرٍ حَادِثٍ. و"أَمْرُنا": دِينُنَا وشَرْعُنا، ويُطْلَق على الشأن، وجَمْعُهُ: أمورٌ، ومِنْهُ: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] أي: مَا شأنهُ، ويُطْلَق ويُرادُ بهِ مَصْدَر: أَمَرَ، وجَمعهُ: أوامِر. و"مَا لَيْسَ مِنْهُ" أي: لا يستَنِدُ إلى شيءٍ مِن أدلةِ الشَّرع. فأَمَّا تفريع الأصول التي هي مِنهُ فإنَّ ذلكَ لا يتناوله هذا الردُّ: كَكِتابةِ القُرآن في المَصاحِف، وتحرير المَذَاهب، وكتب النَّحو، والحِساب والفَرائض وغيرها مِن العلوم. "فهوَ ردٌّ" أي: مَرْدُودٌ عليه، غير مقبول منه ولا نُجِيزه، كالخَلْق بمعنى المخلوق، و"نَسجُ اليَمَن" أي: منسُوجه، ومنهُ الحديث: "الغَنَمُ والوَلِيدَةُ ردٌّ ¬
عليكَ" (¬1). أي: مردود؛ فمعناه: أنهُ باطِلٌ غير معتدٍّ به. وقوله: "ليسَ عليهِ أَمْرُنَا" أي: لا يَرْجعُ إلى دَليلِ شرعنا، كما سَلَفَ. الثالث: هذا الحديث قاعِدَةٌ عَظِيمةٌ مِن أعظَمِ قَواعِدِ الدِّين، وأعمَّها نفعًا، وينبَغِي حِفْظُهُ وإشاعَتُهُ واستعمالُه في إبطالِ المُنْكَرات، وهوَ مِن جَوامِعِ كَلِمِهِ الذي أوتيها -عليه أفضَلُ الصلاة والسَّلام-، وذلِكَ أنهُ صَريحٌ في ردِّ كُلِّ بِدْعَةٍ، وكلِّ مُخْتَرَعٍ مِمَّا لا يُوافِقُ قَواعِد الشَّريعة (¬2). ورِوايَةُ مُسْلمٍ: "عَمَلًا" حَسَنةٌ، وهي الثَّابتة، وذلِكَ أَنَّهُ قَدْ يُعانِدُ بعضُ الفَاعِلين بدعة سُبِقَ إليها؛ فإذا احتُجَّ عليه بالحَديث، يقول: أنا ما أَحْدَثتُ شيئًا! فَيُردُّ عليه بالرِّواية الأخرى "مَنْ عَمِلَ" وكُلُّهُ صريح في ردِّ المُحْدَثَات؛ سواءٌ أحْدَثَها هو أو غيره، فكلُّ مَا خَرجَ على الشَّرع باطِلٌ لا عِبْرَةَ بهِ، فكُلُّ دليلٍ نافٍ لحكم ما ليسَ مِن شرعنا وليسَ عليهِ أَمْرُنا، وعُدَّ مِنَ المَنْهِيَّات: الطَّهارة بماء حرام أو نجسٍ، والصلاةُ بغير نيَّةٍ، وبدون استقبال القِبلة وباقي الشرائط، والصوم بغير نِيَّةٍ، والحج كذلكَ، والبيوع المنهي عنها: كالغرر، والنَّجش. والأنكِحة: كالشِّغار، والمُتعةِ. والتخصيصات أمرٌ شرعي (¬3). ¬
ووِلايةُ خالدٍ في مؤتة (¬1) كانت مِن المصالح العامة، وسُرَّ الشَّارعُ بذلِكَ وَمَدَحَهُ. ثمَّ الحديث دالٌّ علي أنَّ النَّهيَ يقتضي الفَسادَ -أيضًا- (¬2). والله أعلم (¬3). * * * ¬
الحديث السادس
الحديثُ السَّادِس عن أبي عبدِ الله النُّعْمَانِ بنِ بَشيرٍ - رضي الله عنه - قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "إِنَّ الحَلالَ بَيِّنٌ، وإنَّ الحَرامَ بَيِّنٌ، وبَيْنَهمَا مُشْتَبِهاتٌ لا يَعْلَمُهنَّ كَثيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ في الشُّبُهاتِ وقَعَ في الحَرَامِ، كالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أنْ يَرْتَعَ فيهِ، أَلا وإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمَى، أَلا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ، أَلا وَإِنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وهيَ القَلْبُ". رواهُ البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ (¬1). * * * الكلامُ عليهِ مِن وُجُوهٍ: أحَدُها: النُّعمان هذا كما كَنَّاهُ مَدَنيٌّ خَزْرَجيٌّ، صحابيٌّ ابن صحابيٍّ، وأُمُّهُ عمرة بنت رواحة، أخت عبد الله بن رواحة، وهو أولُ مولودٍ وُلدَ في الأنصَار بعدَ قُدُومِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، ووُلِدَ هو وعبد الله بن الزُّبَيْر عام اثنين ¬
مِنَ الهِجرة في قولِ الأكثرين، وتُنْسَبُ إليه مَعَرَّةُ (¬1) النُّعمان، لأنه كان مُقِيمًا بها أو واليًا عليها، وَوَليَ حمص ليزيد، وقُتِلَ: في أواخر سنة أربعٍ وستين، أو سنة ستٍّ (¬2). ثانِيها: هذا الحديث رواهُ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير النُّعْمَان، رواه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وابنه الحسن، وابن مسعود، وجابر بن عبد الله، وابن عمر، وابن عباس، وعمَّار بن ياسر - رضي الله عنهم -. ثانيها: هذا الحديثُ مُجْمَعٌ علي عِظَمِ موقِعهِ، وكثرةِ فوائِدِهِ، وأَنَّهُ أحد الأحاديث التي يدورُ عليها الإسلام. قال جماعة: "هو ثلثه". وقال أبو داود: "ربعه" (¬3). ومَنْ أنْعَمَ النَّظَرَ وجَدَه حاويًا لجميعهِ؛ فإنهُ مُشْتَمِل علي الحَلالِ والحرامِ، والمُتَشَابِهِ، ومَا يُصْلحُ القُلوبَ وَمَا يُفْسِدُها، وتتعلَّقُ أعمالُ الجَوارح بها فيستلزم إذًا معرفةَ تفاصيل أحكامِ الشريعةِ كلِّها، أصولها وفُرُوعِها (¬4). وهو أصلٌ -أيضًا- في الوَرَع، وهو: تركُ المُتشابهِ إلى غيرهِ، "دع ما يَريبُكَ إلى مَا لا يَريبكَ". ¬
وقال الحسن البصري-رحمه الله-: "أدرَكْنا أقوامًا كانوا يتركون سبعين بابًا مَن الحلال؛ خشية الوقوع في بابٍ مِنَ الحرام" (¬1). وثبتَ عن الصِّديق أنه أكلَ شُبهَةً غير عالِمٍ بها، فَلَمَّا علِمَها ادخَلَ يَدَهُ في فيه فَتَقَيَّأهَا (¬2). وقال أبو ذرٍّ - رضي الله عنه -: "تمام التَّقوى أن يتَّقِيَ اللهَ العَبْدُ بتركِ بعض الحلالِ مَخَافَةَ أنْ يكونَ حرامًا، حِجَابًا بينَهُ وبينَ الحرام" (¬3). وقيل لإبراهيم بن أدهم -رحمه الله-: ألَا تَشْرَب مِن ماءِ زَمزَم؟ فقال: "لو كانَ لي دَلوٌ لَشَرِبتُ" (¬4). إشارة إلى أنَّ الدَّلوَ مِن مالِ السُّلطان، وكانَ يشبهه في الحديث: "أفتِ نفسكَ وإن أفتاكَ المُفْتُونَ" وسيأتي في الحديث السابع بعدَ العِشرين "وإن أفتاكَ الناس وأفتوكَ". وعن زيد بن ثابت انه قال: "مَا شيءٌ أسهل مِن الوَرَع، إذا رابَكَ شيءٌ فَدَعهُ" وهذا سهل علي مَن سهَّلهُ الله، صعبٌ علي كثيرٍ مِن الناسِ أثقلُ من الجبالِ، وهذا شبيه بقول بعصْ سُلَماءِ الصُّدورِ: "لا شيءَ أسهل من صيد الأسد! قيل: وكيف ذاك؟! قال: واحدٌ يفتح رأس الجوالق، وآخر يكشكش"! ¬
ثمَّ هذا الحديث يرجع من آي الكتاب إلى قوله تعالى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 57]، {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 267] أي: حلالًا، ليخرج الخبيث والمُحَرَّم. ومِنَ السُّنَّةِ الحديث الذي ذَكَرناهُ ويأتي: "دَعْ مَا يَريبُكَ إلى مَا لَا يَريبُكَ". وفي "الترمذي" مِن حديث عائذ بن عمرو مرفوعًا: "لَا يَبْلغُ أَحَد أَنْ يَكُونَ مِنَ المُتَّقين حتى يَدَعَ مَا لَا بَأْسَ بهِ حِذَارًا مِمَّا بهِ بَأسٌ" (¬1). رابعهما: في ضَبْطِ ألفاظِهِ ومَعَانيه: "الحرام": الممنوع منهُ شرعًا (¬2)، والحلالُ ضِدُّه: وهو ما عُلِمَ أصله، أو ما لم يتبين حرمته وهو أسهل مِنَ الأول. و"المُشْتَبِهات": ما تُردِّدَ بينَهُمَا، وقامت فيه شُبهَةُ الحِلِّ والحُرْمَة. والمُراد: أن نوعهما بيِّن لا يَخْفَى، ثابتٌ بنُصوص الكتاب والسُّنة، يعرِفُهُ كلُّ أحدٍ، ولا يُحتَاجُ إلى تَعدادهِ. والمُرادُ بقوله: "لَا يَعْلَمُهنَّ كثيرٌ مِنَ الناس" أنها ليسَتْ بِواضِحَةِ الحِلِّ ولا الحُرْمَة؛ فلهذا لا يَعْرِفُهَا كثيرٌ مِنهُم، وأمَّا العُلَمَاء فَيَعْرِفونَ حُكْمَها بِنَصٍّ ¬
أو قِيَاسٍ أو استِصحَابٍ ونحو ذلك، فإن لم يظهر فالمختار بناء ذلك في الأشياء قبل وُرُود الشرع، والأصح أنه لا يحكم بشيء فيه. و"اتقى" معناه: تَرَكَ. و"الشُّبهات": جمعُ شُبهة، وهو: ما يُخَيَّلُ للناظِرِ أَنَّهُ حُجَّةٌ وليسَ كذلك، وفيه إيقاعُ الظَّاهرِ موضع المُضْمَر تفخيمًا لشأن اجتنابات الشبهات، إذ المشتبهات: الشبهات بعينها. و"العِرض" -بكسرِ العين- هنا: النَّفس، فهيَ مَحَلّ الذَّمِّ والمَدح مِنهُ، ولهُ مَحَامِلُ أُخَرُ في غير هذا الموضع. و"اسْتَبرأ" -مهموزٌ، وقد يخفف- أي: طَلَبَ البَرَاءَةَ لِدينه مِنَ النَّقص وحصَّلها له، كـ "استبرأ مِنَ البول" حَصَّل البراءة منه، فصان نفسه عن النقص والخلل، ووقوع الناس فيه. وقد جاء في الأثر: "مَن وَقَفَ مَوْقِفَ تهمَةٍ فَلَا يَلُومَنَّ مَن أساءَ الظَّنَّ به" (¬1). وقد قال الشَّارع: "علي رِسْلِكُما إنَّها صَفِيَّة" (¬2) خوفًا عليهما أنْ يَهْلِكَا. وقد قال في تلكَ التَّمرة: "لَوْلَا أَنْ أَخْشَى أَنْ تَكونَ مِن تَمْرِ الصَّدَقَةِ لأكلْتُها" (¬3). ¬
وقِصَّةُ بريرةَ: "هوَ عليْها صَدَقَةٌ، ولَنَا هَدِيَّةٌ" (¬1) مِنْ بابِ التَّشْرِيع (¬2). وقوله: "ومَن وَقَعَ في الشُّبهات وقعَ في الحَرام": أي: يُصادفه وإن لم يتعمدهُ، أو بتمرينه على الشبهات يقع فيه، فإن المعاصي بريد الكفر -أي: رسوله- فيَنْدَرِجُ مِن دَرَجَةٍ إلى أُخرى بالتَّساهُلِ والتَّسمُّحِ، ومنه: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187]، نَهى عن المُقَارَبَةِ حَذَرًا مِنَ المُواقعة، وقليلُ الشُّربِ يَدْعُو لِكَثِيرهِ، والخلوة بالأجنبيَّةِ تَدْعُو إلى الفُّجورِ، والقُبلَة للصائم -إذا حرَّكت شهوته- تدعو للوطء، ومنهُ لعنُ السَّارق يَسْرِقُ البَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، أي: فيتدرَّجُ إلى ما يقطعُ يده (¬3)، ووطءُ الزَّوجةِ والأَمَةِ فيما بين الإِلْيَتَيْن بدون الإيلاج مما يجن (¬4) فيه، لكن صرَّحُوا بجَوَازِهِ، وأقلُّ أحوالهِ الكراهةُ. و"الحِمَى" المَمْنُوع يعني المحمي، فالمَصْدَر فيه واقع موقع اسم المفعول. ¬
و"حِمى الملك": ما حَجَزَهُ لخيلِهِ ونحوها من آلاتِ مَصَالحهِ، ومنه "حِمَى كُلَيْب" (¬1)، قال الشاعر (¬2): أَبَحْتَ حِمَى تِهَامَةَ بَعْدَ نَجْدٍ ... وَمَا شَيْءٌ حَمَيْتَ بِمُسْتَبَاح وهذا ضَرَبَهُ مَثَلًا محسُوسًا؛ لتكونَ النَّفسُ لها أشد تصورًا، فَتَتَأَدَّبُ معهُ، كما يُتأدبُّ مع الأكابر، فَكُلُّ مَلِكٍ له حِمى يحميه من الناس، ويمنعهم من دخوله، فمن خالف ودَخَله عاقَبَهُ، فالرَّبُّ -جَلَّ وتعالى- حماه: محارِمُهُ التي حرَّمَها، كالجرائم علي النَّفس والمال والعِرض، وتُطْلَق المَحَارِمُ علي المَنْهِيَّات قَصْدًا، وعلى تركِ المأموراتِ استِلْزَامًا، وإطلاقها علي الأول أشهر، وقد حرَّمَ إبراهيم مكَّةَ، وحرَّمَ الشارع المدينة، وحمى عمر الشرق والرَّبذة. و"يوشِكُ" -بِكَسر الشين- مضارع "أوشَكَ" -بفتحها- وهي مِن أفعال المقاربة والملابسة، ومعناها هنا: يقعُ في الحرام بسُرْعَةٍ وقُرْبٍ. و"يَرْتَعُ" -بفتح التاء- مُضارع رَتَعَ. و"المُضْغَة": القِطْعة مِنَ اللحم كما سلف. و"صَلَح" و"فَسَدَ" بفتح اللام والسين وضمِّهما، والفتح أفصَح وأشهر. ¬
و"القلب": عضوٌ باطِنٌ في الجسدِ، عليه مَدَارُ حالِ الإنسان، وهو عضو صغيرُ الجِرْمِ، ولذلِكَ سمَّاهُ مُضْغَةً ولَكِنَّه عظيم الجُرْمِ، وهو أَشْرَفُ أَعْضَائِهِ؛ لِسُرْعَةِ الخَوَاطِرِ فيه، وتَرَدُّدِهَا عليه، وتقلّبه: ومَا سُمِّي الإنسانُ إلَّا لِنَسْيِهِ ... وَلَا القلبُ إلَّا أَنَّهُ يَتَقَلَّبُ وقد عبَّر عنه بالعقل نفسه، قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37] أي: عقلٌ، وقال تعالى: {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج: 46]. وقوله: "ألا وإنَّ" هو افتتاحٌ لِفَهْمِ الكَلام، نحو: {أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ} [هود: 8]، {أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} [فصلت: 54]. وتُكْسر "إنَّ" بعدَ هذه، أعني "أَلا" الاستفتاحية لا غير، نحو: {أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬1) [المجادلة: 22]، {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} [البقرة: 12]. "أَلا إنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً ... " إلى آخِره، معناه: إنَّ صَلاحَ الجَسَدِ -وهو البَدَنُ- تابعٌ لِصَلاحِ القلب، وفسادَهُ تابعٌ لِفَسَادهِ؛ لأنَّهُ مبدأُ الحَرَكات البَدَنِيَّة والإراداتِ النَّفسانية، فإن صَدَرت عنه إرادة صالِحة تحرك الجَسَدُ حركةً صالِحَةً وكذا الفاسِدة. وبالجُمْلَة فالقلبُ كالمَلِكِ، والجَسَدُ وأعضاؤُهُ كالرَّعِيَّةِ، ولا شكَّ أنَّ الرَّعيَّة تصلُحُ بِصَلاح المَلِك، وتَفْسُدُ بِفَسَاده، وأيضًا القلبُ كالعَيْن، والجَسَد كالمَزْرَعةِ إنْ عَذُبَ ماءُ العين عذُبَ الزَّرعُ، أو مَلُحَ مَلُحَ، -وأيضًا- القلبُ كالأرض وحركات الجسد كالنباب: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ¬
وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إلا نَكِدًا} [الأعراف: 58]، وقد شُقَّ -عليه الصلاة والسلام- عن قلبه مَرَّتين واستُخْرِجَ مِنْهُ عَلَقة سوداء، وقيل: هذه حظُّ الشيطان مِنكَ، ثم طُهِّرَ فطابَ قلبُهُ وشجره فصار فردًا (¬1). وقيل: صلاحُ القلبِ في خمسةِ أشياء: قِراءةُ القرآن بالتَّدبر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتَّضرع عندَ السَّحر، ومُجَالَسةُ الصَّالِحين (¬2). قلتُ: وأكل الحلال وهو رأسُهَا (¬3). وقد قيل: إذا صُمْتَ فانظُر على طعام مَن تُفْطِر، فإنَّ الرَّجُلَ ليأكُلُ الأكلةَ فتغل قلبه كالأديم فلا يَنْتَفِعُ بهِ أبدًا! وما أحسن مَن قال: الطعام بذر الأفعال، إن دخل حلالًا خرجَ حلالًا، وإن دَخَلَ حَرَامًا خرجَ حرامًا، وإن دَخَل شُبْهَةً خرجَ شُبهةً. وقال بعضهم: "استَسْقَيتُ جُنديًّا فسقاني شربةً، فعادت قسوتها على قلبي أربعين صباحًا"! (¬4). خامِسُها: في فوائِدِهِ: الأولى: الحثُّ علي فِعْلِ الحَلالِ واجْتِنَاب الحرامِ، والإمساكُ عن الشُّبهات، والاحتياطُ للدِّين والعِرض، وعَدَمُ تعاطي الأمور المُوجِبةِ لسُوءِ ¬
الظنِّ والوقوعِ في المَحْذُورِ. وقِسْمَةُ الحديث إلى الأقسام الثلاثة -الحلال، والحرام، والمشتبه- صحيحة؛ لأنه إِنْ نَصَّ فيه علي الفعل فالجَوَاز، أو المنع فالحرام، أو سكت عنه فهو المُشْتَبه، فإنْ نَصَّ عليه فيهما، وإن عُلِمَ المُتأخر فالأول منسوخ وإلَّا فهو المشتبه. تقسيم الشيء إنما يحرم لمعنى في عينه -كما قسّم بينها-، أو لخلل في وجه اكتسابه، وجميع ما ينتفع به من المعادن والنبات والحيوان، فالأول -المعادن- حلال ما لم يضر، والثاني كذلك، والثالث ما لا يؤكل حرام وما يؤكل حلال. والثاني الحرام المحض. ثانيها: الأخذ بالورع -وهو أصلٌ فيه- كما أسلفناه. الثالثة: أنه لا ورعَ في تركِ المُباح؛ عملًا بقوله: "الحَلالُ بَيِّن والحرام بيِّنٌ" وهو الظاهر، وإن كانت مسألة خلافية كما أوضحتها في "شرح العُمْدَة" (¬1). الرابعة: سدُّ الذرائع، وقد أَكْثَرَتْ مِنْهُ المالِكِيَّةُ (¬2). الخامسة: تعظيمُ القَلبِ والسَّعي فيما يُصْلِحُهُ ويُفْسِدُهُ، وهل الحواس مع العقل كالحُجَّاب معَ المَلِك أو كالطاقات؟ على قولين. السادسة: أنَّ العَقْلَ فِيهِ -أي القلب- وهو مذهبنا خلافًا لأبي حنيفة حيثُ قال: في الدِّماغ. ¬
وقيل: إنه مشتركٌ (¬1). السابعة: أن العقوبة مِن جِنْسِ الجِنايَةِ. وضَرْبُ الأمثالِ للمعاني الشرعيَّةِ العَمَلِيَّة. وأَنَّ الأعمالَ القلبيَّةَ أفضلُ مِنَ البَدَنِيَّةِ، وأنها لا تصلحُ إلَّا بهِ (¬2)، وغير ذلكَ مِمَّا هوَ موَضَّحٌ في "شرحي للعُمْدَة" فراجِعْهُ مِنْهُ (¬3). فائدتان: الأولى: اختلفَ العلماء في معنى الشُّبهات في الحديث على أقوال: أحدها: أنها الحرام، أو ما في حيِّز الحرام، عملًا بقوله: "فمَنِ اتَّقى الشبهاتِ فقد استَبْرَأَ لِدِينهِ وعِرْضِهِ". ثانيها: أنها الحلال، عملًا بقوله: "كالرَّاعِي يَرْعَى حولَ الحِمَى يُوشِكُ أنْ يَقَعَ فيهِ" فدلَّ أن ذلك حلال، وأن تركهُ ورع وهو الصواب. والورع عندَ ابن عمر ومَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَهُ: تركُ قِطْعَةٍ مِنَ الحَلال خوف مُواقَعَةِ الحرامِ. وعبارة بعضهم: أنه حلالٌ يتورعُ عنه، وفيها نظر (¬4). ¬
ثالثها: أنها غيرهما، فيُتَوقَّفُ وهو مِن باب الورع -أيضًا-، يُوَضِّحهُ قوله: "لا يعلَمُهنَّ كثيرٌ مِنَ الناس" وهو دالٌّ على أن منهم مَن يَعْلَمُها على حالها، وقد قال -عليه الصلاة والسلام-: "كيفَ وقَدْ قِيلَ" (¬1). وقال لِسَوْدَة: "احتجبي مِنهُ" -أي: احتياطًا- وهي أخت عَبْد (¬2) بن زَمْعَةَ؛ لأجلِ الشَّبَهِ (¬3). وقال لعديٍّ: "إنَّمَا سَمَّيْتَ على كَلْبِكَ ولم تُسَمِّ على الآخَر" (¬4). الثانية (¬5): قسَّمَ ابن المُنْذِر الشُّبه أقسامًا (¬6): شَيءٌ يَعْلَمُهُ المَرْءُ حَرامًا ثم يشكُّ فيه، هل هو باقٍ أم لا؟ فلا يحل الإقدام عليه إلَّا بيقين. كَشَاتَيْن ذَبَحَ أَحَدَهُمَا مجوسي وشَكَكْنَا في عَيْنِها. وعكسه أن يكون الشيء حلالًا، فيشك في تحريمه كالزَّوجَة يشك في طلاقها، والأَمَة يشك في عِتقِها، وكالحَدَث يَشُكُّ فيه بعدَ يقينِ الطَّهارةِ فلا أَثَرَ لهُ. ¬
وشيءٌ يَشُكُّ في حُرْمَتِهِ أو حِلِّهِ على السَّوَاءِ؛ فالأَوْلى التَّنَزُّهُ كما فعلَ الشَّارعُ في التَّمْرَةِ الساقِطَة وقوله: "لَوْلَا أَنَّي أَخْشَى أنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ لأَكَلْتُها" (¬1). * * * ¬
الحديث السابع
الحديثُ السَّابعُ عن أبي رُقيَّةَ تَمِيمِ بنِ أوْسٍ الدَّارِيِّ - رضي الله عنه -، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "الدِّينُ النَّصِيحَةُ"، قُلْنَا: لِمَنْ؟ قال: "للهِ -عزَّ وجلَّ- ولِكِتَابِهِ، ولِرَسُولِهِ، ولأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ، وعَامَّتِهِمْ". رواه مسلمٌ (¬1). * * * الكلامُ عليه مِنْ وُجُوه: أحدها: رُقَيَّة -بِضَمِّ الراء وفتحِ القاف، وتشديد الياء- كُنّي بذلِكَ ببنتٍ له اسمها: رقية، لم يُولَد له غيرها، وهو تميم بن أوس بن خارجة بن سُود بن جَذِيمة بن وداع -ويقال: ذراع- بن عَدِيّ بن الدَّار بن هانئ بن حبيب بن نُمارة بن لَخْم -وهو مَالِك- بن عَدِيِّ بن الحارث بن مُرَّة بن أُدد بن يشجب بن عريب بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان الدَّاري، صاحِبُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، نسبةً إلى جَدٍّ لهُ -كما ذكرنا-. ¬
وقيل: إلى موضِعٍ يُقالُ له: دارين. ويقالُ له -أيضًا-: الدَّيري، نِسبةً إلى دَيْر كان يتعبدُ فيه (¬1). أسلَمَ سَنَةَ تِسْعٍ، وانتَقَلَ مِنَ المَدِينَةِ إلى الشَّامِ بعدَ مَقْتَلِ عثمان، ونَزَلَ ببيتِ المَقْدِسِ. روىَ عنهُ الشَّارُعُ "حديثَ الجَسَّاسَةِ" (¬2)، وهي مَنْقَبَةٌ شَريفةٌ جدًّا، ويَدْخُلُ في ذلِكَ رِوايةُ الأكابِرِ عن الأصاغِر (¬3). قيلَ: ولا يُعْرَفُ أنَّ الشَّارعَ روى عن صَحَابي غيره (¬4). قال ابن طاهر (¬5): "روى عنهُ عطاءُ بنُ يزيد الليثي في "الإيمان" حديثًا واحِدًا وهو حديث "الدِّينُ النَّصيحة" فقط". وكان صاحِبَ ليلٍ وقُرآن، كانَ يختِمُ القُرآن في رَكْعَةٍ، ورُبَّمَا ردَّدَ الآيةَ الواحِدةَ الليلَ كُلَّهُ إلى الصَّباح. ¬
واشتَرَى حُلَّةً بألفٍ يَخْرُجُ فيها إلى الصلاةِ، وهو أوَّلُ مَنْ قصَّ بإذنِ عمر - رضي الله عنه -، ماتَ سَنَةَ أربَعينَ ببيتِ جبريل، قرية مِن قُرى الخليل - عليه السلام - (¬1). ثانيها: هذا الحديثُ انفَرَدَ بإخراجِهِ "مسلم"، وليسَ لهُ عَنْهُ في "صحيحه" سواه (¬2). وأخرجَهُ البخاري في الترجمة مُعَلَّقًا، فقال: "بابُ قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الدِّينُ النَّصيحة لله، ولِرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامَّتِهم"." (¬3). وإنما لم يُخْرِجهُ لأنَّ سُهَيْلًا -الراوي عن عطاء- ليسَ مِنْ شَرْطِهِ لِنِسْيَانِهِ، وهو ابن أبي صالح. نعم؛ أخرجَ له مقرونًا (¬4)، ولم يخرج البخاري في "صحيحه" لهم شيئًا (¬5). وادَّعى الخطَّابي أن أشهَرَ طُرقهِ: سهيل بن أبي صالح، قال: "ورُوِيَ -أيضًا- مِنْ طُرُقٍ لا بأسَ بها" (¬6). وقال ابن بطَّال: "رواه ابن عجلان عن القعقاع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعًا" (¬7). ¬
ثالِثُهَا: هذا الحديث مَرْجِعُهُ مِنَ القُرآن: قوله تعالى: {إذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91]، ولهذا ذَكَرَهَا البخاري معه (¬1). وأخرجَ الشَّيخان في "صحيحيْهِما" مِن حديث جرير بن عبد الله البَجَلي: "بايَعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على (¬2): إِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، والنُّصْح لِكُلِّ مُسْلِمٍ" (¬3). رابعُها: هذا الحديثُ عظيمُ الشَّأنِ، وعليهِ مَدَارُ الإسلام، ولا يُقبَلُ مِنْ قَوْلِ بعضهِم أنهُ أَحَدُ أَرباعِ الإسلام (¬4)، بل مَدَارُها عليه، فإنهُ جِماعُها؛ لإيجازِه وكثرةِ معانِيهِ، بل هي داخلة تحت كلِّ كلمةٍ مِنْهُ؛ فالكتابُ مُشْتَمِل على الدِّينِ كُلِّهِ أَصْلًا وَفَرْعًا، عَمَلًا واعتِقادًا، فإذا آمَنَ بِهِ وعَمِلَ بما تَضَمَّنهُ على وجههِ فقد جمعَ الكُلَّ. و"النَّصِيحَةُ": كلِمَةٌ جامِعَةٌ، معناها: حيازَةُ الحَظِّ للمنصوح لهُ، ومعناه: قِوامُ الدِّين وعماده النَّصيحةُ، كـ"الحَجُّ عَرَفَة" (¬5)، و"الناس تميم"، و"المالُ الإبل". ¬
ولكَ أن تقولَ: الدِّينُ محصُورٌ فيها، فإن مِنْ جُمْلَتِها طاعةُ اللهِ ورسوله، والإيمان والعمل بما قالاهُ (¬1) مِن كِتَابٍ وسُنَّةٍ، وليسَ وراء ذلِكَ معنى الدِّين. وقد سَلَفَ في "حديث جبريل" (¬2) أنَّ الدِّينَ هو: الإسلام، والإيمان، والإحسان، وجميعُ ذلِكَ مُنْدَرجٌ تحتَ ما ذَكَرْناهُ مِنَ النَّصيحةِ (¬3). فنصيحةُ الله عزَّ وجلَّ: الإيمانُ به، وطاعته بالقلبِ والبَدَن. و"لِكِتَابهِ": تعظِيمُهُ، وتوقِيرُهُ، والإيمانُ بهِ، والعملُ بما فيه. و"لِرَسُوله": تَصْدِيقُ (¬4) ما جاءَ بهِ، وإعانتُهُ على إقامةِ أمرِ ربِّهِ قَوْلًا، وعَمَلًا، واعتِقَادًا. و"لأئِمَّةِ المسلمينَ": بالوفاءِ لهم بِعَهدِهِمْ، وتنبيهِهِمْ على مَصَالِحِ رُشْدِهم. و"عَامَّة المسلمينَ": بذلك، وأنْ يُحِبَّ لهم ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ. وقد أوضحتُ الكلام عليه في "شرح صحيح البخاري" فراجِعْهُ مِنْهُ (¬5). خاتمة: "النَّصيحةُ": مصدر نَصَحَ يَنْصَحُ نَصِيحَةً، ونُصْحًا -بِضَمِّ النون- فأمَّا "نصحت الثوب" فمصدره: نَصْحًا -بالفتح- وهو في اللغة: الإخلاص، ¬
وقيل: من النَّصح -بالفتح- وهي الخياطة، وتُسمى الإبرة: المِنْصَحة، والنِّصَاح: الخَيْط، والنَّاصِحُ: الخَيَّاطُ، فيكونُ النَّاصِحُ لأَخيهِ يَلُمُّ شَعثَهُ وَيَضُمُّهُ، كما تَضُمُّ الإبرةُ خرقَ الثَّوبِ (¬1). * * * ¬
الحديث الثامن
الحديثُ الثامِنُ عن ابنِ عُمَرَ - رضي الله عنه - أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حتَّى يَشْهدُوا أنْ لا إِلهَ إلَّا اللهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا رسُولُ اللهِ، ويُقِيمُوا الصَّلاةَ، ويُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ؛ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهمْ وأَمْوَالَهمْ إلَّا بِحَقِّ الإِسْلامِ، وحِسَابُهمْ على اللهِ تعالى". رواه البُخاري ومسلم (¬1). * * * الكلام عليهِ مِنْ وُجوُهٍ: أحَدها: التَّعريفُ بِرَاوِيهِ وقد سلف. ثانِيها: هذا الحديث لم يقل فيه مُسلِمٌ: "إلَّا بحق الإسلام"، وأخرجاهُ مِنْ حديثِ أبي هريرة -أيضًا- وفيه: "ويُؤْمِنُوا بي، وبِمَا جِئْتُ بهِ" (¬2). وأَخرجَهُ "البخاري" مِن حديث أنس (¬3)، و"مسلمٌ" مِن حديث جابر (¬4). ¬
وهو حديثٌ عظيمٌ، قاعِدةٌ مِنْ قواعِدِ الدِّين. ولَمَّا أخرجه ابن حِبَّان في "صحيحه" مِنْ حديثِ أبي هُريرة قال: "تَفَرَّدَ به الدَّرَاوَرْدِيُّ" (¬1) -ثم أخرجه من حديث ابن عمر- ثم قال: "تفردَ به شُعبة" (¬2). قال: "وفيه بيانٌ واضِحٌ بأنَّ الإيمانَ أجزاءٌ ملا وشُعَب تَتبَايَنُ أحْوَالُ المُخَاطَبِينَ [فيها] (¬3)؛ لأنه (¬4) -عليه الصلاة والسلام- ذَكَر فيه: "حتى يَشْهدُوا أن لا إلهَ إلَّا الله، وأَني رسول الله". وهذا هو الإشارة إلى الشُّعبة التي هي فرضٌ علي المُخَاطَبين في جميع الأحوال، ثم قال: "ويقيموا الصلاة" فَذَكَرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي هو فرضٌ على المُخَاطَبِينَ في بعضِ الأحوالِ، ثم قال: "ويؤتوا الزكاة" فَذَكَر الشيءَ الذي هو فَرْضٌ علي بعضِ المُخَاطَبين في بعضِ الأحوال، فدلَّ ذلك على أَنَّ كُلَّ شيء مِنَ الطَّاعات التي تُشْبِهُ الأَشيَاءَ الثَّلاثَة التي ذَكَرَهَا في هذا الخَبَر مِنَ الإيمان. تَفَرَّدَ بِهِ حَرَمِيُّ بن عُمارة (¬5) " (¬6). قلتُ: لا؛ فقد أخرجه مسلم من حديث عبد الملك بن الصَّبَّاح عن شُعبة، فلم يتفرَّد به (¬7). ثالثها: معنى "أُمِرتُ" أي: أَمَرَني رَبِّي، ولا يَتَأَتَّى هنا احتمالُ مَا إذا قال ¬
ذلك الصَّحابي؛ لاحتمالِ أن يكونَ الآمِرُ غيره، وحَذْفُ الفاعل هنا مِن باب التَّعظيم، وهو مِن قولهم: أمر كذا، أو لا يذكرون الآمِرَ تعظيمًا لهُ وتفخيمًا. وقوله: "أن أُقاتِلَ" أي: بأن أُقاتِل؛ لأنَّ الأمرَ إِنَّما يتعدَّى -غالِبًا- بالباء، و"أمرتُكَ الخيرَ" ونحوه مُؤَوَّلٌ علي جعلِهِ مِمَّا يتعدى بِنَفْسِهِ. و"الناس" قد تكونُ مِن الجِنِّ أيضًا، قالهُ الجوهري (¬1). والمُرادُ هنا: الإنس خاصة؛ لأنه لم يُقاتِل غيرهم، وإِنْ أَسْلَمَ على يَدِهِ جِنُّ "نصيبين"، ورسالتهُ عامَّةٌ. ثُمَّ مِنَ الإنس: عبدةُ الأوثان دون أهل الكتاب؛ فإنهم يقولون: لا إله إلَّا الله، والأمر بالمُقاتلة يُفْضِي إلى القَتْلِ، فيستنبطُ مِنْهُ الإقدام على قتله إذا أَخَلَّ بشيء مِنْ ذلِكَ فالجاحِدُ كافِرٌ، والمُتَكاسل المصر على الترك يُقْتَلُ حدًّا عندَنا، وكفرًا عندَ أحمد، وهو مقتضى العِصْمَة، لا يُقال أنَّ الحديث في الكافر الأصلي فإن المسلم أولى بدليل قضاء المرتد دونَ الأصلي. وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "حَتَّى يَشْهدُوا" وإن كان غاية ففيه معنى الشَّرط، وحُكم ما بَعْدَ الغَايَةِ مُخالِفٌ لِمَا قَبْلَها، فكفُّ القِتال عنهم مَشْرُوطٌ بالشَّهَادَتَيْن والصلاة والزكاة، وإذا انتفى الشرط انتَفَى المَشْرُوط، وإذا انتفى فعل الصلاة والزكاة انتفى كفُّ القِتال والقتل، وصارَ التَّقدير: إنْ صَلّوا وزكوا كُفَّ عنهم القِتال، ويشهد له قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا} [التوبة: 5]، وفي الأُخرى: {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11]. ¬
وقوله: "ويُؤْتُوا الزَّكَاةَ" لابُدَّ مِن تقدير مفعول محذوف؛ أي: ويؤتونكم الزكاة، أو: يؤتوا الإمام، ونحو ذلك. رابعها: ذكر حديث ابن عمر السالف -أيضًا- الصوم والحج، ولم تذكر هنا؟! فَلَعَلَّهُ كان قبل فرضهما، وهو مِن بابِ الزِّيادة في الأحكام لا التعارض والنَّسخ. خامِسها: معنى"عصموا" منعوا، و"العصم" المنع، و"العصام" الخيط الذي يُشَدُّ بهِ فَمُ القِربةِ، سُمِّي به؛ لمنعه الماء من السيلان. و"المال" يقع على العين وغيرها مِنْ ماشِيَةٍ وعَرَضٍ وغير ذلك، وذلِكَ إشارةٌ إلى كُلِّ ما تَقَدَّم، وكأَنَّهُ غَلَّبَ القولَ على الفعل، وموضوع "إذا" للمُحَقَّق بخِلاف "إن" فإنها للمشكوك فيه، فكأَنَّهُ جاءَ على طريق التفاؤل بتحقيق الفعل منهم. ومعنى: "إلَّا بحقِّ الإسلام" أي: القتل بالقصاص والزنا، لكن الزَّاني والقاتل لا يُباحُ مالهما بخلاف الكافر، فكأنه جاء علي طريق التَّغليب. ومعنى: "وحِسابُهم على الله" أي: أمرُ سَرائِرهم إليه، وأمَّا نحنُ فنحكم بالظاهر فنعامِلُهُم بمقتضى ظاهر أفعالهم وأقوالهم، فرُبَّ عاصٍ في الظاهر يُصادِفُ عندَ الله خيرًا في الباطن، وعكسه. وشَبيه هذا الحديث الصحيح: "إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إليَّ .. " الحديث (¬1). سادسها: هذا الحديث نصٌّ في قِتَال مانِعِي الزَّكاة، ولم يبلغ الصِّديق ¬
والفاروق حتى تشاجَرَا في قتالهم، وجَرَت بينهما مناظرةٌ في ذلِكَ، واحتاج الصِّديق إلى القياس بأن قال: "واللهِ لأقُاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بينَ الصلاةِ والزكاة". قال أبو بكرٍ: "والزكاة مِن حَقِّها" (¬1). * تَتِمَّاتُ: لا بُدَّ مع هذا مِنَ الإيمانِ بجميعِ ما جاءَ بهِ الشَّارعُ؛ عملًا بالرِّواية السالِفة. وتُقبَلُ توبةُ الزِّنديق عندنا على أصحِّ الأوجُهِ الخمسَةِ -خلافًا لمالك-، وهو عِنْدَنا: مُنْكِرُ الشَّرع جُمْلَةً (¬2). وشرحُ الحديث مُوَضَّحٌ في "شَرْحِي لصحيح البُخَارِي" فلا بُدَّ لَكَ مِنْ مراجَعته، وإنما أُشيرُ هنا إلى أطرافٍ مِنْهُ (¬3). * * * ¬
الحديث التاسع
الحديث التاسع عن أبي هُرَيْرَةَ عبدِ الرَّحمن بنِ صخْرٍ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "مَا نَهيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتكُمْ بِهِ فأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهمْ، واخْتِلافُهمْ على أَنْبِيائِهمْ". رواه البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ (¬1) * * * الكلامُ عليهِ مِنْ وُجُوهٍ: أحَدها: في التَّعْرِيف بِرَاوِيهِ، وما ذَكَرَهُ في اسمِهِ هو الأصحُّ مِنْ عِدَّةِ أقوال. وصحَّحَ غيرهُ: عبدُ شمسٍ، وعبدُ الله. وهو أوَّل من كُني بهذه الكنية؛ لهِرَّةٍ كان يَلعَبُ بها، كنَّاهُ الشَّارعُ بذلكَ، أو والِدُهُ، أو لأنَّهُ كان يُحْسِنُ إليها، وهو راوي حديث: "دَخَلَت امْرَأَةٌ النَّارَ في هِرَّةٍ ... " (¬2). فَلَعَلَّهُ أخذَ بقِيَاس العكسِ، ورَجاءَ الثواب في هذه. ¬
أسْلَمَ عامَ خيبَر، وروى فوقَ خمْسَةِ آلاف، وماتَ بالمَدِينةِ بعدَ الخمسين، ودُفِنَ بالبَقيع، وما اشْتَهرَ أنَّ قَبرَهُ بِقُرب عَسْقَلان فلا أصلَ لهُ، ذاكَ صحابيٌّ آخر اسمُهُ جندرةُ بنُ خَيْشَنة أبو قِرْصَافَةَ (¬1)، فاسْتَفِد ذلك. ثانيها: قوله: "واختِلافُهم" هو بضَمِّ الفاء لا بِكَسْرِها، كما ضَبَطَهُ النَّوَوي في "نُكَتِهِ" (¬2) عطفًا على"كثرة" لا على "مسائلهم" أي: أهلكهم كثرة مسائلهم، وأهلكهم اختلافهم، وهو أبلغ؛ لأنَّ الهلاكَ نشأ عن الاختلاف. ثالِثها: هو أَنَّ الحديث ذَكَره مسلمٌ مطوَّلًا، وزاد في أوَّله: خَطَبَنا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا أَيُّها النَّاس! قد فُرِضَ عليكُم الحَجُّ فحُجُّوا" فقال رَجُلٌ (¬3): أكلَّ عَامٍ يا رسُولَ اللهِ؟ فسَكَتَ -حتى قالها ثلاثًا-، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ، لَوَجَبَتْ، ولَمَا اسْتَطَعْتُم" ثمَّ قال: "ذَرُوني مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ، واخْتِلافِهِمْ على أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أَمَرْتكُمْ بشَيءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وإذا نَهيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ" (¬4). وهذا السائل هو الأقرع بن حابس كما جاء في رِوايةٍ أُخرى (¬5). ¬
رابعها: هذا الحديث يرجِعُ إلى قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} [الأنعام: 159] الآية. وهو دالٌّ على وُجُوبِ أَمْرَيْن: تركُ المَنْهِيَّات، والأمر بالاجتِنَاب هو للوجُوب، وفعل المستطاع من الأمور، لقوله: "فأْتُوا" أي: افْعَلُوا منه ما اسْتَطَعْتُم، والأمْر بفعله للوجوب، قاك تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. والحديث مُخَصِّصٌ للآيةِ، أو مُبيِّنٌ لها، أو أنَّ الآيةَ خُضَّت بقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وهي مُفَسِّرَةٌ لقوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] أو ناسِخَةٌ لها. و {حَقَّ تُقَاتِهِ} هو: امْتِثالُ أوامِرِهِ واجْتِنابُ مَنَاهِيهِ. ولم يأمرنا تعالى إلَّا بالمُسْتَطَاع، قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقال في الحجِّ: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]، وهو رُخْصَةٌ مِنْهُ علينا بذلك، والاستطاعة: الإطاقة. خامسها: هذا الحديث أحدُ قواعِدِ الإسلام المُهِمَّةِ، ومِمَّا أوتيه -عليه أفضلُ الصلاة والسلام- مِنْ جَوَامِعِ الكلمِ الجَمَّةِ؛ فإنَّهُ يدخُلُ فيه مَا لا يُحْصَى مِنَ الأحكام: كما إذا وَجَدَ بعض ما يكفيه لطَهَارتِهِ فإنَّهُ يَسْتَعْمِلُهُ ويتيمم للباقي، وكَمَا إذا قدر علي بعضِ الفاتِحَة، أو بعضِ السُّترة، أو بعض الفطرة في الزَّكاة، وغير ذلكَ مِمَّا لا يُحْصَى مِمَّا أوضَحْنَاهُ في "الأشباه والنظائر" (¬1) ولله الحمدُ. ¬
وكذا إذا وجبَ إزالةُ مُنْكَراتٍ قدرَ على البَعْض، وما يُباح للاضطرار ولا يدخلُ في النَّهي فإنه أذن فيه، وكذا الإكراه على الرِّدَّةِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان ونحو ذلك. والمَأْمُورُ به مُتَوَقِّفٌ على فِعْلٍ، بِخِلاف المنهي عنه فإنَّهُ كفٌّ مَحْضٌ؛ فلذا قال: "واجْتَنِبُوهُ"، وقال في الأوَّل: "فأْتُوا مِنْهُ ما اسْتَطَعْتُم". سادِسُها: كثرةُ المسائل المراد بها عن غير ضَرُورةٍ، وقَدْ نُهِيَ عن الأغلوطات في الدِّين (¬1)، وكثرةُ الاختِلاف يُؤَدِّي إلى التَّفَرُّق، ومَقصُودُ الشَّارعِ عَدَمُهُ. سابعُهَا: هذا الحديثُ مِنْ خِطابِ المشافهة، ولا يعمُّ بذاته؛ وإنما هو مِن باب: حُكْمِي على الواحد حُكمي على الجماعة. خاتمة: مَا رواه مُسْلِمٌ في ذِكْرِ الحَجِّ يَسْتَدِلُّ بهِ مَن يقول: إِنَّ الأمرَ لا يَقْتَصي التَّكرارَ، وهو الأصح، وقيل: يقتضيه، وقيل: يُتَوَقَّف، فما زاد على مَرَّة على البيان. ويَسْتَدِلُّ به -أيضًا- مَنْ يَقُولُ أنه -عليهِ الصَّلاةُ والسلام- لهُ أنْ يَجْتَهِدَ في الأحكام. ¬
وأَن الأصل عدم الوجوب. وأن لا حُكْمَ قبْلَ وُرُودِ الشَّرع.
الحديث العاشر
الحديثُ العَاشِرُ عن أَبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلَّا طَيِّبًا، وإِنَّ اللهَ أَمَرَ المُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ المُرْسَلِينَ فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51]، وقالَ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أشعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّمَاءِ: يا ربِّ! يا ربِّ! وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، ومَشْرَبُهُ حَرامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وغُذِيَ بالحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟ ". رواهُ مُسْلِمٌ (¬1). * * * أَمَّا رَاوِيهِ فقد سَلَف الكَلامُ عليْهِ. وأَمَّا المَتْنُ فَهوَ أَحَدُ الأحاديت التي عليها قواعِدُ الإسلام، ومباني الأحكام، ومَا أَعَمَّ نَفْعَهُ، ومِمَّا تَضَمَّنَهُ بيانُ شَأنِ حكم الدُّعاء، وشرطه، ومانِعه، و"الدُّعاءُ مُخُّ العِبادة" (¬2)، لأَنَّ الدَّاعِي إنما يدعو عند انقِطَاع الآمال عَمَّا سِواهُ، ¬
فهو حقيقةُ التَّوْحِيدِ والإِخلاص، ونعْمَ السِّلاح. ومعنى إضافة الطيب إلى الله تعالى: تنزيِهه عن النَّقْصِ والخُبْثِ؛ إذِ الطَّيِّب خلاف الخبيث، ويكون بِمَعْنَى (¬1) القُدُّوس. وقيل: طيب الثناء، وعلى هذا فهو مِنْ أسمائِهِ الحُسنى المأخوذةِ مِنَ السُّنة، كالجميل. وقوله: "إنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقبَلُ إلَّا طيبًا" هو توطِئَةٌ لِبَاقِي الحديث، وهو طِيبُ الطُّعْم لإجابة الدعاء. والطَّيِّب -هنا-: الحَلال كما هو المراد في الآيتين السالِفَتين. وقوله تعالى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 267] وهي جمعُ: طيِّبةٍ. وقوله: {لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [المائدة: 100]. وأصلهُ المُستلذ بالطَّعم. ومِنهُ: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3]. ويُطلَقُ -أيضًا- بمعنى: الطَّاهِر، ومنه: {صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43]، و {وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور: 26]، والله تعالى طَيِّبٌ بهذا المعنى، أي: مُنَزَّهٌ -كما سلف- فَلَا يَقْبَلُ مِنَ الأعْمَالِ إلَّا طاهِرًا مِن المُفْسِدَات: كالرِّياء والعُجب ونحوهما، ولا مِنَ الأموال إلَّا طاهِرًا مِنَ الحَرام، فالطَّيِّبُ مَا طَيَّبَهُ ¬
الشَّرعُ لا الطَّعم اللذيذ، والطعم من غير المباح، وقال: {وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا} [المزمل: 13]، وفي الحديث: "مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فيهِ غيْرِي تركْتُهُ وشِرْكَهُ" (¬1). وفي آخَر: "مَنْ صَلَّى في ثوبٍ قِيمَتُهُ عَشَرَةُ دَرَاهِم فيهِ دِرْهَمُ حَرَامٍ لمْ تُقْبَل لهُ صَلاةٌ" أخرجه أحمد (¬2). وإنَّمَا لَمْ تُقْبَل الصَّدَقةِ مِنَ المَالِ الحَرام؛ لأنَّهُ ممنُوعٌ مِنَ التَّصَرُّفِ فيه؛ ولأنَّ أكلَهُ يُفْسِدُ القَلْبَ، فَيُحْرَم الرِّقة والإخلاص. وهل القَبول مِنْ لَوَازِمِ الصِّحةِ أَمْ لا؟ فيهِ بَحْثٌ (¬3). وقوله: "إِنَّ اللهَ أمَر المُؤمِنين بِمَا أَمَرَ به المُرسلين" أي: سَوَّى بينهم في الخِطَاب بِوُجُوبِ أكلِ الحَلال، وكذا أمَّتهم معهم، وفي العبادة -أيضًا- إلَّا مَا قامَ الدَّليلُ على تخصيصِهم به؛ لأنَّ الجميع عبادُهُ ومَأْمُورُونَ بِعِبَادَتِهِ. ومعنى: {رَزَقْنَاكُمْ} هنا: مَلَّكْنَاكُمْ، وقد تكون في موضعٍ آخر بمعنى: نَفَعْنَاكُمْ. والرِّزقُ عِندَنا: مَا فَتَحهُ الله لَنَا مِنْ حَلالٍ أو حرامٍ، والمعتزلة خَصّوهُ بالحلال، واللغةُ لا تقتَضِيه (¬4). ¬
وقوله: "ثُمَّ ذَكر الرّجُل ... " إلى آخره، هذا مِنْ كلامِ أبي هُريْرَةَ! يعني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدَ مَا سَبَقَ ذَكَرَهُ اسْتَطْرادًا، وهو من وادي: ولقد أَمُرُّ على اللئيم يَسُبُّني ... فَمَضيتُ ثُمَّتَ قلتُ: لا يَعْنِينِي فوصفَهُ بالنَّكرة، وإن كان فيه الألف واللام حيث لم يُرِدْ رجُلًا بِعَيْنِهِ. ومعنى: "يُطِيلُ السفر" يعني: في الحجِّ والجهاد، ومَا أشْبَهَ ذلِكَ مِنْ أسفارِ الطَّاعات. و"الأشعث" المُغْبَر الرأس. وقوله: "يمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّماءِ" وهو دالٌّ على أن ذلِكَ مِنْ أدَبِ الدعاء. وكانَ الشَّارعُ يرفَعُ يَدَيْهِ في عِدَّةِ مَوَاضِع؛ منها (¬1): في الاستسقاء حتى يُرى بياض إبطيه (¬2). وقال في حديث آخر: "إنَّ اللهَ حييٌّ كريمٌ، يَسْتَحِي مِنْ عَبْدِه أنْ يرْفَعَ إليهِ كَفَّيْهِ ثمَّ يَرُدُّهُما صِفْرًا" (¬3). ¬
وعادةُ العربِ إذا استعظَمَت أمرًا رَفَعَت أيْدِيَها، فالدَّاعي أَجْدَرُ بذلِكَ؛ إذْ هوَ بين يديْ عظيمِ العُظماءِ كما في التَّكبير، وهو العادة في سؤال المخلوق ليأخُذَ في يدهِ، ولأنَّهُ قِبْلَة الدُّعاء (¬1). وقوله: "فأنَّى يُستجاب لذلك" أي: كيف؟ على جِهَةِ الاستبعاد لمن هذه صِفَتُهُ وهذا حالُهُ، ومعناه: أنه ليسَ أهلًا لإجابةِ دُعائه، فلا يُجيرُهُ شعثه وغباره من إثم مطعمه ومشربه، فالغوي الذي مَدَّ لها يَدًا نشأت عن مخالفة وعصيان، فكيف حال مَنْ هو منهَمِكٌ في الفساد، ساعي بظلم العباد؟ لكن يجوز أن يستجيبَ اللهُ لهُ تَفَضُّلًا ولُطفًا وكَرَمًا، نعم؛ مِن علامة الإجابة: اجتنابُ الحرام؛ لأنَّ مخالطته تُفْسِدُ القلب، وإذا فَسَدَ فَسَدَت جوارِحُهُ. ومعنى: "غُذِيَ به" أي: كان غِذَاؤُهُ -وهو بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ مَضْمُومَةٍ، ثم ذالٍ مُعْجَمَةٍ مَكسُورةٍ مُخَفَّفةٍ-. وللدُّعاءِ آداب وشروطٌ ذَكَرَهَا الغزالي (¬2) وغيره في كتاب "الدُّعاء": ¬
ألا يُدْعَى بمعصية، ولا بِمُحالٍ، وأن يكونَ حاضِرَ القلب عنده، وأن يحسِن الظَّنَّ بالإجابةِ، وألَّا يَستعجِل فيقول: دَعَوْتُ فلَمْ يُستَجَب لي، وهو سوءُ أدَبٍ فيقطَعُه عن الدُّعاء فيُفَوِّت الإجابة. وفيه الحثُّ علي الإنفاق مِنَ الحلال، والنَّهي عن الإنفاق من غيره. وفيه أن المأكول والمشروب والملبوس ونحوها ينبغي أن تكون حلالًا لا شُبْهَةَ فيهِ، وأنَّ مُريد الدّعاء أولى بالاعتناء بِذَلِكَ مِنْ غيرِهِ، والله سبحانه أعلم. * * * ¬
الحديث الحادي عشر
الحَديِثُ الحَادِي عَشَرَ عن أبي مُحَمَّدٍ الحَسَنِ بنِ عَلِيٍّ بنُ أبي طَالِبٍ - رضي الله عنه - وهوَ سِبْطُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ورَيْحَانَتُهُ -قالَ: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "دَعْ مَا يَرِيبُكَ إلى مَا لا يَرِيبُكَ". رواهُ التِّرْمِذِيُّ، والنَّسَائِيُّ. وقالَ التِّرْمِذيُّ: "حَسَنٌ صحيحٌ" (¬1). * * * الكلامُ عليهِ مِنْ وُجُوهٍ: أحَدُها: في طرفٍ مِن حالِ راوِيهِ، وهو -كما ذكرهُ اسمًا وكُنْيَةً- قرَشيٌّ هاشِمِيٌّ مَدَنيٌّ، والسِّبط هنا: ابن البنت؛ فأُمُّهُ فاطمة الزَّهراء بنت سيد المرسَلِين -صلوات الله وسلامه عليه-. ¬
و"ريحَانَتُهُ" أَشَارَ بِهِ إلى قوله -عليه الصلاة والسلام- فيه وأخيه الحُسَيْن: "هُمَا رَيْحَانَتَايَ مِنَ الدُّنيا" (¬1)، وهو أحدُ سيِّدَي "شَبَابِ أَهْلِ الجَنَّةِ" أيضًا (¬2). وقال فيه أيضًا: "إنَّ ابني هذا سيِّدٌ" (¬3). وُلِدَ في النِّصف مِن رمضان سنةَ ثلاثٍ مِنَ الهِجْرَةِ على الأصَحِّ. روى عن: جَدِّه رسول الله، وأبيه، وأخيه الحُسين، وخاله: هند بن أبي هالة، وعنه: ابنه الحسين، وأبو الجوزاء، وربيعة، وعكرمة، وخَلْقٌ. وكان أشبَهَ وجهًا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومَنَاقِبُهُ جَمَّة. ماتَ سنة خمسين -وفيه خلاف- ودُفِنَ بالبقيع. وكانَ مِنَ الحُكَمَاءِ الكُرماءِ الأسخياءِ، وكانَ مِطْلاقًا، يُقال: أنه أَحصَنَ أكثر من مائة امرأة! (¬4). و"الترمذي": اسمه محمد بن عيسى الحافظ، أبو عيسى الضرير، قيل: وُلِدَ أَكْمَهَ. ¬
سمع: قُتيبة، وأبا مصعب وخَلْقًا، وتَعَلَّم أكثر من البخاري. وروى عنه: المَحْبُوبيُّ (¬1)، والهيثم الشَّاشي، وخَلْقٌ. ماتَ في رجبٍ سنةَ تِسعٍ وسبعين ومِائتَين (¬2). و"النَّسائي" اسمه: أحمدُ بن شُعَيبٍ الخُرَاسانيُّ، وُلِدَ سنةَ خمس عشرة ومائتين، برعَ وتَفَرَّدَ وأتقنَ، واستَوْطَنَ بمِصرَ، ومات بالرَّملة سنةَ ثلاثٍ وثلاثمائةٍ (¬3). ثانيها: "يَريبُكَ" بفتحِ أوّله -على الأفصح- ويجُوزُ ضَمُّها، وأصله هل هو ثلاثي: راب يريب، أو رباعي أراب يريب مِنَ الرِّيبة، وهي: الشَّكُّ والتَّرَدّد، فراب وأراب بمعنى: شَكَّكَ، وقيل: أرابني شكَّكَني وأوهمني الريبة فيه، فإذا اشْتَقَقْتَ قُلتَ: رابَنِي (¬4). ثالثها: معنى الحديث: اترك ما فيهِ شكّ مِنَ الأفعالِ إلى مَا لا شَكَّ فيه منها، ومِنْهُ حديث عمر: "مَكْسَبَةٌ فيها بعضُ الريِّبَةِ خيرٌ مِن المسأَلَةِ" (¬5) أي: كَسْبٌ فيه بعض الشك أحلالٌ هو أو حرام؛ خيرٌ مِن سؤال الناس. ¬
ومعنى الحديث راجِعٌ إلى معنى الحديث السالف: "إِنَّ الحلال بيِّنٌ ... " إلى آخره. وهو أصلٌ عظيمٌ في الوَرَعِ، فأطلَقَ الشَّرعُ الأيدي على الحلال وقَصَرها عن الحرام، وَوَرَّعَ عن المُشْتَبَهِ في قولٍ، وَمَنعَ مِنْهُ في آخر، وفصَّل مرَّةً فقال: إن كان مِنَ الفواحشِ الكبار التحقت فيه الشُّبهَةُ بالحرام، وإن كان من غير ذلك بنى على هذا الأصل (¬1) كمسألة العِينَة؛ جوَّزها قومٌ للحاجة، ومَنَعَهَا آخرون، والورع لا يخفى، وقد سلف في الحديث: "لَا يَبْلُغُ أَحَدٌ أَنْ يَكُونَ مِنَ المتَّقينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لا بَأسَ بهِ حذارًا مِمَّا بِهِ بَأْسٌ" (¬2). وأعلى مِن ذلِكَ: تَرْكُ الحَلالِ مَخَافَةَ الوُقوعِ في الحَرَام، وقد تقعُ الريبة في العبادات والمُنَاكحات وعِدَّة من أبواب الفقه المشتبهات، ولا شَكَّ أَنَّ التَّركَ أسْلَمُ للدِّين، كَمَا بيَّنَهُ سيِّدُ المُرْسَلين. * * * ¬
الحديث الثاني عشر
الحدِيثُ الثاني عَشَر عن أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مِنْ حُسْنِ إسْلامِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ". حديثٌ حَسَنٌ، رواهُ التِّرْمِذِيُّ وغَيْرُهُ (¬1). [وقالَ ابنُ الصَّلاح: "رواه الترمذي وابن ماجه"، وتَبِعَهُ المُصَنِّف، وكذا قاله النووي في "الأذكار" (¬2).] (¬3). * * * والكلام عليه وُجُوهٍ: أحَدُها: في التَّعْريف بِرَاوِيه، وقد سَلَف، والترمذي. ¬
ورواه مالكٌ في "الموطأ" (¬1) عن الزُّهري مُرْسَلًا، وذَكَرَ ابنُ عبد البَر أن للزهري فيه إسنادين: مُرْسَلٌ -كما رواه مالكٌ-، ومُتَّصِلٌ عنه عن أبي سَلَمَةَ عن أبي هُريرةَ، ثم طرَّقَهُ وصحَّحَهُ (¬2). ثانِيها: هذا الحديثُ أصْلٌ مِنْ أُصُولِ الإسلام. قال أبو داود: "أصولُ السُّنن في كلِّ فنٍّ أربعة"- فَذَكَرَ الحديث الأول من هذه الأحاديث، والسادس، وهذا الحديث، والحادي بعد الثلاثين (¬3). قال أبو عُمَر: "وهذا مِنَ الكلامِ الجامِعِ للمعاني الكثيرَةِ الجليلَةِ، في الألفاظِ القليلةِ، وهو ما لم يَقُلْهُ أحدٌ قَبْلَهُ، إلَّا أنهُ قد رُوِيَ عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال في صُحُفِ إبراهيم - عليه السلام -: "مَن عَدَّ كلامَهُ مِن عمَلِهِ قلَّ كلامُهُ إلَّا فيما يَعْنِيهِ" (¬4) وهذا خاص بالكلام، وأَمَّا الحديث فإنه أعم منه. وروى أبو إدريس الخولاني -رحمه الله-[عن أبي ذَرٍّ قال] (¬5): قلتُ: يا رسول الله! ما كانت صحف إبراهيم - عليه السلام -؟ قال: "كانت أَمْثَالًا كلها ... " فَذَكَرَ الحدِيثَ. قال: وكان فيها: "وعلى العَاقِلِ أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا بزَمَانِهِ، مُقْبِلًا على ¬
شَأْنِهِ، حَافِظًا لِلِسَانِهِ، ومَنْ حَسَبَ كَلامَهُ مِنْ عَمَلِهِ؛ قَلَّ كَلامُهُ إلَّا فِيمَا يَعْنِيهِ" (¬1). وقال أبو بكر بن أبي داود: ثنا محمود بن خالد، ثنا: عُمَرُ (¬2) بن عبد الواحد، ثنا: سعيد بن عبد العزيز قال: "وقفَ رجُلٌ على لقمان الحكيم - عليه السلام -! وهو في حلقةٍ عظيمةٍ فقال: ألسْتَ عبدَ بَنِي الحسحاس؟ فقال: "بلى". قال: فأيُّ شيء بلغتَ مَا أَرَى؟ قال: "قَدَرُ الله، وصِدْقُ الحديثِ، وتَرْكِي مَا لَا يَعْنِيني" (¬3). وذَكَر مالكٌ في "موطئهِ" أنه قيل للقمان: ما بلغَ بكَ ما نَرَى؟ -يريدون الفضل-، قال: "صِدْقُ الحَدِيثِ، وأَدَاءُ الأَمَانَةِ، وَتَرْكِي مَا لَا يَعْنِينِي" (¬4). وروى أبو عبيد عن الحسن -رحمه الله- قال: "مَن عَلامَةِ إِعْرَاضِ اللهِ عن العبدِ أَنْ يَجْعَلَ شُغلَهُ فيما لا يَعْنِيهِ" (¬5). وقال سابِقٌ: ¬
النَّفس إِنْ طَلَبَتْ مَا لَا يَعْنِيهَا ... جَهْلَّا وَسُخْفًا (¬1) تَقَعْ فيما يُعَنِّيها وقال الحسن بن حميد: إذا عَقَلَ الفَتَى اسْتَحْيَا واتَّقَى ... وقَلَّتْ مِنْ مَقَالَتِهِ الفُضُولُ" (¬2) وفي الحديث: "ألا أُنَبِّئُكُمْ بأَمْرَيْنِ خَفِيفٌ مُؤْنَتُهمَا، عَظِيمٌ أَمْرُهُمَا، لَمْ يُلْقَ الله بِمِثْلِهِمَا: الصَّمْتُ (¬3)، وَحُسْنُ الخُلُقِ" (¬4). ثالِثُها: يُقالُ: عَنَاهُ الأمرُ يَعْنِيه؛ إذا تعلَّقت عِنَايَتُهُ به، وكان من غرضه وإرادته (¬5)، والذي يعني الإنسان من الأمور: ما يتعلق بضرورة حياته في معاشه، وسلامته في معاده، وذلك يسير بالنِّسبة إلى ما لا يعنيه، فإذا اقتصرَ الإنسانُ على مَا يَعْنِيهِ مِنَ الأُمُورِ سَلِمَ مِنْ شَرٍّ عظيم، والسَّلامةُ خَيرٌ كثيرٌ، فالسَّلامَةُ مِن الشَّرِّ مِن حُسْنِ الإسلامِ. ومِن كلامِ بعضِ السَّلَفِ: "مَنْ عَلِمَ أَنَّ كَلامَهُ مِن عَمَلِهِ [قلَّ كلامُهُ إلَّا فيما يَعْنِيه" (¬6). ¬
ومِن كلامِ بعضهم: مَن سَأَل عَمَّا لا يَعْنِيهِ] (¬1) سَمِعَ مَا يُعَنِّيهِ. * تنبيهات: عبَّر بالإسلام ولم يقل: مِن إحسان إيمان المرء؛ لأنه عملٌ ظاهِرٌ اختياري بخلافه. وأتى بِـ "مِنْ" الدَّالة على التَّبعيض، لأن تركَ مَا لَا يَعْنِي ليسَ هو كُلَّ الإسلام، فإذا فَعَلَ مَا يعنِيهِ، وتَرَكَ مَا لا يعنيه فقد كَمُلَ حُسْنُ إِسلامِهِ. وأتى بالحُسْنِ؛ لأنَّهُ وصْفُهُ ليس ذاته، ولا شكَّ أنَّ الإقبالَ على ما يَعْنِيهِ وتَرْك ما لَا يعنيه مطلوبٌ دونَ عكسها (¬2). و"يَعْنِيه": بفتحِ أوَّلِهِ، ضَبَطَهُ النَّوَوي في "نُكَتِهِ" (¬3). * * * ¬
الحديث الثالث عشر
الحَدِيثُ الثَّالِثَ عَشَر حديثُ أبي حَمْزَةَ أنسِ بنِ مالِكٍ - رضي الله عنه -، خادِمِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، أنِّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لا يُؤْمنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ". رواه البخاريُّ ومُسْلِمٌ (¬1). * * * الكلامُ عليهِ مِنْ وجُوهٍ: أحَدُها: لفظُ مُسْلِمٍ: "والَّذي نَفْسِي بيَدِهِ لا يُؤْمنُ عَبْدٌ حتى يُحِبَّ لأَخِيهِ -وقال: لِجَارِهِ- ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ" (¬2). وأخرجه النَّسائي في "الإيمان" بلفظ: "حتى يُحِبَّ لأَخِيهِ مِنَ الخَيْر" (¬3). وابن أبي شيبةَ في "مُسْنَدِهِ" وقال: "ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ مِنَ الخَيْر" (¬4). ¬
ثانيها: في التَّعريف براوِيهِ: كُنِّيَ بحمزة؛ لِبَقْلَةٍ كان يَجْتَنِيهَا (¬1)، وهو أنصاريٌّ نجَّاريٌّ مصري (¬2)، خادِمُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، خَدَمَهُ عَشْرَ سِنين. أمُّه: أم سُليم بنت ملحان، روى زيادةً على ألفَيْ حديث، دعا له الشَّارُع: بكثرةِ المالِ، والولدِ، وطول العُمُر والجنَّة (¬3). ماتَ سنة ثلاث -أو خمسٍ- وتسعين بالبصرةَ، ودُفِنَ بقصره بقُربها وقد جاوَزَ المائة (¬4). ثالِثُها: "أَحَدٌ" هنا بمعنى: واحدٌ، فهي -أي: واحد- تُسْتَعْمَلُ في الإثباتِ والنَّفْي، وأمَّا "أحد" التي هي للعموم فلا تُسْتَعمل إلَّا في النَّفي كـ "مَا في الدَّارِ مِنْ أَحَدٍ". و"النفس": تُذَكَّر وتُؤَنَّث، قال تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ في جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56]. رابعُهَا: معنى الحديث: لا يُؤمِنُ الإيمان التام؛ وإلَّا فَأَصْلُ الإيمان حاصِلٌ، وإنْ لَمْ يَكُن بهذه الصِّفةِ، والمرادُ: يُحِبُّ لأخيهِ من الخيرِ -كما سلف-، وليسَ ذلِكَ صَعْبًا، فإنَّ المرادَ حُصُولُ مثل ذلك من غير مزاحمةٍ فيها له. ¬
ففيه أنَّ المؤمنَ مع المؤمنِ كالنَّفسِ الواحدةِ، فعلَيْهِ كَفُّ الأذَى والمكروه، والمواساة، ويحصل منه الائتلاف والانتظام، وهو قاعِدَةُ الإسلام المُوصى بها في قوله سبحانه وتعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، ولا شكَّ أنَّ النَّفسَ الشَّريفَةَ تُحِب الإحسانَ وتجتنبُ الأذى؛ فإذا فعل ذلك حصلت الألفَة وانتَظَمَ حَالُ المَعَاش والمعاد، ومشت أحوال العباد. وفي الحديث: "انظُرْ أَحَبَّ مَأ تُحِبُّ أَنْ يَأتِيهِ النَّاسُ إِلَيكَ، فَأْتِهِ إليهم" (¬1). وفي كلام بعضهم: ارضَ للناس ما لنفسِكَ ترضى. ثم لا بُدَّ أنْ يكونَ المعنى فيما يُباح، وإلَّا فقد يكون غيره ممنوعًا منهُ وهو مباح له. قال أبو الزناد: "ظاهر الحديث التَّساوي، وحقيقته التَّفضِيل؛ لأَنَّ الإنسان يحِبُّ أنْ يكُونَ أفضَلَ الناس، وإذا أَحَبَّ لأَخيهِ مِثلَهُ فقد دَخَلَ في جُمْلَةِ المَفْضولِين" (¬2). * * * ¬
الحديث الرابع عشر
الحديث الرابع عشر عن ابن مَسعُودٍ - رضي الله عنه - قال: قال رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَّا يَحِل دَمُ امْرِئ مسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثلاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّاني، والنَّفْسُ بَالنفْسِ، والتَّارِكُ لِدِينِهِ المُفَارِقُ للجَمَاعَةِ". رواهُ البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ (¬1). * * * الكلام عليهِ مِن وجُوهٍ -والتَّعريفُ بِراويهِ سلفَ-: أحدهما: قوله "لا يَحِلُّ دمُ امرئٍ" هو على حذف المُضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، أي: لا يَحِلُّ إراقةُ دَمِ امرئٍ، والدَّمُ أصلُهُ: "دمي"، ولذلِكَ ظهر اللام في التثنية قال: فَلَو أَنَّا على حَجَر ذُبِحنا ... جَرَى الدَّمْيَان بالخبر اليقين ويقالُ: امرؤٌ وَمَرْءٌ، وفي الأنثى: امْرَأَة، وَمَرْأَة، وَمَرَة، ورَجُلَة، وخَصَّ الذَّكَرَ -مع أنَّ الحُكْمَ عَامٌّ-؛ لأنهُ الأَصلُ، ولأنّهُ أشرفُ في اللفظ. ¬
و"الثيِّب" هو المُحصَن، وهو اسمُ جِنْسٍ يدخلُ فيه الذَّكر والأنثى، وقامَ الإجماع على أنَّ حدَّه بالرجم. وشُرُوط الإحصان محلُّ الخوضِ فيها الفروع، وقد بسطناها فيها ولله الحمد (¬1). وقد جَمَعها ابن رشيق المالكي في أبيات حيث قال (¬2): شروطٌ للإحصان ستٌّ أتت ... فَخُذْهَا عَلَى النَّصِّ مُسْتَفْهِما بلوغٌ، وعقلٌ، وحُرِّيةٌ ... ورابعُها كونه مسلِمَا وعقدٌ صحيحٌ، وَوَطْءٌ مُبَاحٌ ... مَتَى اختَلَّ شرطٌ فلن يُرجما ولا يُجْلَدُ عندنا قبلُ -خلافًا لأحمد-، وقد رَجَمَ الشَّارع ماعِزًا والغامديَّة (¬3) ولم يجلدهما قبلُ. ثانيها: "النّفسُ بالنفس" هو مُوافِقٌ للآية: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] والمراد: النفوس المتكافئة في الإسلام، والحرية؛ بدليل حديث البخَاري: "لا يقتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ" (¬4) وهو حجةُ الجمهور من الصّحابة، والتابعين على من قال: يُقْتَلُ به، وهم أصحابُ الرَّأيِ، والشَّعْبِيُّ، والنَّخَعِيُّ. ولا يصح لهم مَا رَوَوْه مِن حديث ربيعَةَ أنه -عليه الصَّلاة والسلام- "قَتَلَ يوم خيبر مُسْلِمًا بكافر" (¬5)؛ لأَنَّهُ مُنْقَطِعٌ. ¬
ومِن حديث [ابن] (¬1) البَيْلَماني (¬2) وهو ضعيفٌ، ولا يصِح في الباب إلَّا ما سَبَق. وأمَّا الحُريةُ فَخَالَفَ فيها أصحابُ الرأي عَمَلًا بإطلاقِ الآية، وبقوله -عليه الصَّلاة والسلام-: "المُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَيَسْعَى بذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ" (¬3). والثلاثة، وإسحاق، وأبو ثور، والحسن، وعطاء، وعمرو بن دينار، وعُمَر بن عبد العزيز، والجمهور على خلافه؛ لأنهُ مَالٌ. وعندَ مالك: يُجْلَد القاتل مائة ويُحْبس عامًا. وذهب النَّخَعِي، والثوري (¬4) -في أَحَدِ قَوْلَيْهِ- إلى أَنَّهُ يُقْتَلُ بهِ وإن كان عبدهُ؛ لحديث الحسن عن سَمُرَةَ بن جُنْدُب: "مَنْ قَتَلَ عبدَه قتلناه، [وَمَنْ جَدَعَهُ جَدَعْنَاهُ، وَمَنْ خَصَاهُ خَصَيْنَاهُ" (¬5). قال البُخاريُ عن عليِّ بن المَدِينيِّ: سَمَاعُ الحَسَنْ مِن سَمُرَة صحيحٌ. وَأَخَذَ ¬
بهذا الحديث. وقال البُخاريُّ:] (¬1) وأنا أَذْهَبُ إليه" (¬2). وضعَّفه غيرهُ بانقطاعِهِ؛ فَإِنَّ الحسنَ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنَ سَمُرَةَ! الثالث: "التاركُ لِدِينِهِ" هو المرتد: الذي بدَّل دينه بأيِّ مِلَّةٍ كانت، فَقَتْلُهُ واجِبٌ إِنْ لم يَرجع إلى الإسلام، والمُرْتَدَّةُ كالمرتد عندنا؛ لعموم الحديث؛ ولأنَّ العِلةَ التَّبديل وقد وُجِدَ، وقال: "مَنْ بَدَّلَ دينَهُ فاقْتُلُوهُ" (¬3) خِلافًا لأبي حنيفة حيث قال: تُحْبَسُ؛ لِنَهْيِهِ - صلى الله عليه وسلم - عن قتل النِّساء وهو خاصّ (¬4). وقوله: "المُفَارِق للجماعة" ظاهِرُهُ أنَّهُ أتى به نعْتًا (¬5) جاريًا على التارك لدينه؛ لأنّهُ إذا ارتدَّ عن دين الإسلام، فقد خَرَجَ عن جماعتهم، غيرَ أَنَّهُ يَدخُلُ في هذا الوصف كلُّ مَن خَرَجَ عن جماعة المسلمين، وإن لم يكن مُرْتَدًا كالخوارج، وأهل البدع، وأهل البَغْي ودَمهم حَلال بالإجماع، فكلُّ مَنْ فارَقَ الجماعة فقد بدَّلَ دِينَهُ، غير أَنَّ المُرْتَدَّ بَدَّلَ كُلَّهُ، وغَيْره بَعْضهُ. واختُلِفَ في تارك الصلاةِ تَكَاسُلًا غير جحود وقد سلف ما فيه، وعندنا يقتَلُ حَدًّا، وكذا مَن امتَنَعَ مِن واجِبٍ يُقاتَلُ عليه، وإِنْ أَبَى، عليه القتل. ¬
فائدة: "اللَّام" في "التارك" وفي "المفارق للجماعة" زائدة كما زِيدَتْ في قوله: {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ} [النمل: 72]، وفي: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج: 26] ونحوهما. فإنَّ لفظ "ترَكَ"، و"فارَقَ" مُتَعَدِّيان بأنفسهما، واسم الفاعل من الفعل المتعدي متعدٍّ كفعلِهِ، كما أنَّ القاصِرَ كذلك، فَزِيدَت في اسم الفاعل كما زيدت في الفعل؛ وإلَّا فالأصل: "التارك دينه"، و"المفارق الجماعة"، كما تقول: الضارب زيدًا، ولا تَقُلْ: الضارب لزيد، وزيادتها لتأكيد المعنى (¬1). * تتمات: إحداها: "الصائل" ونحوه داخل في التارك للجماعة؛ فلا حاجة إلى استثنائه، أو يكون المراد: لا يحل تعمد قتله قصدًا إلَّا هؤلاء الثلاثة. و"اللائط" يُرجَم على الأصح ما لم يكونا عَبْدَيْن، أو كافِرَيْن عند المالكية، فيحد العبد خمسين ويؤدب الكافر عند أشهب. ثانيها: المقصود بهذا الحديث بيان عظمة الدِّماء وما يُباح فيها وما لا يُباح، والأصل فيها العِصمَة، وقد قال -عليه الصَّلاة والسلام-: "فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّها". وفي الحديث: "مَنْ أَعانَ على قَتْلِ مُسْلِمٍ بِشَطْرِ كلِمَةٍ؛ لَقِيَ اللهَ مَكْتُوبٌ بين عَيْنَيْهِ: آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ" (¬2). وفي آخر: "لِيَحْذَر أَحَدُكُمْ أَنْ يحُولَ بَيْنَهُ وبينَ ¬
الجَنَّةِ بِمِلءِ كَفٍّ مِنْ دَمٍ يُهريقه بغير حقٍّ" (¬1). ولا شك أن القاتل إذا تَجَرَّأَ وأفسَدَ هذه الصورةَ البدِيعةَ المخلُوقَةَ في أحسَنِ تَقْوِيمٍ فقد أَفِكَ وباءَ بإثمٍ عظيم. ثالثها: استَثْنَى الحديث ثلاثة فقط، ووجهُهُ: تَعَلُّقُ المصلحةِ بذلك، وواجِب على الإمام البدار إليه: "الثيب الزاني": لأنَّه هَتَكَ عصمةَ الله فأُبيحَ دَمُهُ (¬2)، وفيه مَفسَدَة عظِيمَة فاقتَضت الحكمةُ درؤها بذلك. "والنفس بالنَّفس" ولَمَّا هَتَكَ عِصمَةَ النَّفس -وهي عظيمة- أخذ في مقابلتها النَّفس المعصومة، وهو مصلحة جَسِيمَة: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179]. "والتَّارِكُ لِدِينِهِ" فإنَّهُ حَلَّ نِظامَ عَقْدِ الإسلام؛ فوجب مقاتلته بالمُرْهَفَاتِ المُزيلَةِ للهَام. وشمل قوله "المفارق للجماعة": القلب واللسان (¬3). رابعها: استثناءُ المرتَدِّ مِن الإسلام باعتبار ما كان قبلَ الرِّدةِ، والعلاقة (¬4) باقية بدليل استثنائِهِ، وأنَّهُ لا يجوزُ بيعُهُ لكافِرٍ على الأَصَحَ (¬5)، ففيه الجمْعُ بين حقيقةِ المسلم ومجازه، وهي مسألة أصولِيَّة. ¬
خامِسُها: لم يستثن مع الثلاث قاطِع الطَّريقِ؛ لأنَّه قد اختُلِفَ أَنَّ قَتْلَهُ يُغَلَّب فيه القِصاص أم لا؟ وهل "أو" (¬1) فيه للتَّنْوِيع أو للتَّخْيِير؟ ولم يقتلوا إلَّا قاتلًا. سادسها: مفهومُ الحديث حِلُّ دمِ الكافر بدُونها حَرْبِيًّا كان أو ذِمِّيًا، لكن الذِّمِّي خرجَ بدليلٍ (¬2)، فبَقِيَ الحربيّ. سابعها: عمومُ النَّفس بالنَّفس يَقتَضِي أَنَّهُ لا فرقَ في القِصَاص بينَ المُثَقَّل والمُحَدد (¬3). وقال أبو حنيفة -رحمه الله-: "لا قِصاصَ في المُثَقَّل ولو رماهُ بِأبا قُبيس"! (¬4) هكذا لفظه: بـ "أبا قبيس" (¬5)، وهو لغة في "أبا"مثل عصا!! ¬
ثامِنُها: "التارك لدينه" مستثنى من المسلم، فلا يدخلُ فيه مَا إِذَا تهوَّدَ نَصْرَانيّ أو عكسه، فإنَّ الأظهر أنه لا يُقْتَل (¬1) ويتعيَّن الإسلام. تاسِعها: تقدير الحديث: إلَّا بإحدى ثلاث خِصال: خَصْلَةُ الزَّاني، والقاتل، والمرتد، أو: خصلة الزاني، وخصلة ذي النفس -أي: قاتل النَّفس- ونحوها من التقدير؛ لأنَّ هذه الثلاثة بيانٌ لقوله: "إلَّا بإحدَى ثَلاثٍ"، أي: خِصال، وبدل منه، والثلاثة لا يصح إبدالهم من الخصال؛ لأنَّ المُذَكَّر لا يبدل من المؤنث فتعَيَّن أن يكون بَدَلًا على المعنى. خاتمة: الأحاديث الواردة بإكفار تارك الصَّلاة كثيرةٌ، منها: قوله -عليه الصَّلاة والسلام- لمِحْجَن الدِّيلي -وقال: صَلَّيْت في أَهْلِي-: "مَا مَنَعَكَ أَنَّ تُصَلِّي، أَلَسْتَ بِرَجُلٍ مسْلِمٍ"؟ (¬2). فَمَفْهُومهُ أَنَّ مَن لم يُصَلِّ لا يكونُ مُسْلِمًا، وقد رُوِيَ عن عليّ، وابن عباس، وجابر، وأبي الدَّردَاء - رضي الله عنهم -: إكفارُ تاركها، وبه قال النَّخَعِيُّ، وأَيّوب، وابن المبارك، وأحمد، وإسحاق. وقال عمر: "لا حَظَّ في الإسلام لِمَنْ تَرَكها" (¬3). ¬
وقال ابن مسعود: "مَنْ لَمْ يُصَلِّ فَلَا دِينَ لَهُ " (¬1). وبه قال أبو داود الطَّيالسيُّ، وأبو خيثمة (¬2)، وأبو بكر بن أبي شَيْبَةَ. قال ابن راهويه: "وهو رأي أهل العلم مِن لَدُن رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - إلى زمننا هذا". قال: "وأجمعوا على أنَّ مَن رأيناه يُصلي وتكرر منهُ أَنَهُ مُؤمِن". قال: "ومَن لم يُكفرهُ فقد ناقَضَ وخَالَفَ أصلَ قولهِ وقول غيره، وقد كَفَرَ إبليس بعدم السجدة" (¬3). وقال أحمد: "لا أُكَفِّرُ أحدًا بذنبٍ إلَّا تارِكَ الصَّلاة" (¬4). وفي مسْلِم من حديث جابر: "ليسَ بينَ العَبْدِ وبينَ الكفر -أو قال: الشرك- إلَّا تَرْكَ الصلاةِ" (¬5). ¬
وجاء مِن حديث بُريدةَ: "العَهدُ الذِي بَيْنَنَا [وَبَيْنَهم] (¬1) الصَّلاة؛ فَمَن تَرَكها فَقدْ كَفر" (¬2). وصحَّ: "مَنْ تَرَكَ صَلاةَ العَصْرِ فقدْ حَبِطَ عَمَلُهُ" (¬3). وكان -عليه الصَّلاة والسلام- إذا غَزَا قَوْمًا أمسَكَ إذا سَمِعَ أذانًا وإلَّا وَضَعَ السيف (¬4). وجاء مِن حديث أبي هريرةَ: "مَنْ تَرَكَ الصَّلاةَ حُشِرَ معَ قارُونَ وفِرْعَوْنَ وهامان" (¬5). وصحَّ مِن حديث أنس: "مَنْ صَلَّى صَلاتَنَا واسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا" (¬6). ¬
وذَهَب الشَّافعي -رحمه اللهُ- إلى قَتْلِهِ حَدًا. وحُكِيَ عن مالكٍ، وأبي ثَوْرٍ، ومَكْحُول، وحماد بن زيد، ووكيعٍ. وقد قال الصِّدِّيقُ: "لأقاتِلَنَّ مَنْ فرَّقَ بينَ الصلاةِ والزَّكاة" (¬1). و [قيل له] (¬2) -عليه الصَّلاة والسلام-: أَلا نُقَاتِلُهُمْ -يعني: الأُمَراء- قال: "لَا، مَا صَلَّوْا الخَمْسَ" (¬3). ووردَ: "نُهِيتُ عن قَتْلِ المُصَلِّينَ" (¬4). وقال للذينَ أرادُوا قَتْلَ مَالك بن الدُّخشم: "أليسَ يُصَلّي"؟ قالوا: بلى، ولا صلاةَ لهُ"! (¬5) فَنَهَى عن قتْلِهِ لصَلاتِهِ. وأوَّلَ الشَّافعي -رحمه اللهُ- ما سَلف بِحَمْلِه على الجُحُود، ويُقوِّيه الحديث الصحيح: "خمسُ صلواتٍ كَتبَهُن اللهُ على العِباد ... " (¬6). ¬
وقال: "ومن لم يأْتِ بِهِن فليسَ لهُ عِنْدَ اللهِ عهدٌ إن شاءَ عذَبَهُ، وإنْ شاءَ غَفَرَ لهُ" (¬1). والكفرُ في اللغة: السَّتْرُ، فليُؤَوَّل عليه. وقالت طائفةٌ مِن أهل الحِجاز والعِراق: أنه يُضْرَبُ ضَرْبًا مُبرحًا ويُسْجَن حتَّى يرْجِع، وهو قولُ ابن شِهاب (¬2). * * * ¬
الحديث الخامس عشر
الحديث الخامس عشر عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ كانَ يُؤْمنُ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أوْ لِيَصْمُتْ، ومَنْ كانَ يُؤْمنُ باللهِ واليَوْمِ الاخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ، ومَنْ كانَ يُؤْمنُ باللهِ واليَوْمِ الاخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ". رواه البُخَاريُ ومُسْلِم (¬1). * * * الكلام عليهِ مِن وُجوه: وراوِيهِ سَلَفَ التَّعْرِيفُ به. وهو حديث عظيم، وجِماعُ آدابِ الخيرِ تَتَفَرَّعُ مِنْهُ، ومِن حديث: "مِن حُسْنِ إسلامِ المرءِ تركُهُ مَا لا يَعْنيه"، وحديث: "لا تَغْضَب"، وحديث: "حتَّى يُحب لأخيه ما يُحِبُّ لنفسِهِ" كما نبَّهَ عليه ابن أبي زيد القيرواني -رحمه الله- (¬2). أحدها: سُمِّي "اليوم الآخر"؛ لأنَّه لا لَيْلَ بَعْدَهُ، ولا يُسَمَّى يومًا إلَّا مَا عَقِبه ليلٌ. ¬
و"يَصْمُت" بِضمِّ الميم، قال أهل اللغة: صَمتَ يَصْمُتُ -بضمِّ الميم- صَمْتًا وَصموتًا وَصُمَاتًا، أي: سَكَتَ. قال الجوهري: "ويُقال: أَصْمتَ بِمَعنَى: صَمَتَ، والصمْتُ: السكُوتُ. والتَّصْميتُ -أيضًا- التَسْكِيتُ" (¬1). وادَّعَى بعضُهُم أَنَّهُ سَمِعَهُ بالكسر مُضارِعًا نحو: ضربَ يَضرِبُ ضربًا (¬2). ويفعل -بضمِّ العين- فيه دخل، كما نصَّ عليه ابن جِنِّي في "خصائصه" (¬3). وحقيقةُ "الصَّمت": السُّكوتُ مع القُدْرَةِ على النُّطقِ، فإنَّ تَوَقَّف فيه فهو العِي، وإن فَسَدَتْ آلةُ النطق فهو الخَرَسُ. واللام في: "لِيَقُل"، و"لِيَصْمُت"، و"ليُكْرِم": لام الأمر. ثانيها: المُرادُ به كمال الإيمان، أو المبالغة في ذلك خَرَجَا على الاستجلاب عليها، أو من التَزَمَ شرائع الإسلام لَزِمَهُ ذلك وهو راجعٌ إلى تعريف حقوق ذلك، وقد صحَّ: "مَا زَالَ جِبريلُ يُوصِيني بالجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أنَّهُ سَيُوَرِّثُه" (¬4). وبالغَ بعضهم فجعله كالشريك في إثبات الشُّفْعَةِ لهُ. ثالثها: الحديث اشتمل على ثلاثِ خِصال عظِيمَةِ النَّفع: أُولاهَا: قول الخير والسُّكوت عن الشَّرِّ؛ لأنَّ قولَ الخير غنيمةٌ تربح، والسكوت عن الشَّرِّ غنيمةٌ وسَلامةٌ مِن وُقوع في محذُورٍ، أو مكروهٍ، أو مُباح ¬
خوفَ انجرارهِ إلى غيره، وتَرْكُهُ الغَنيمَةَ والسَّلامة ينافي حال المؤمن؛ إذْ لا أَمَانَ ولا إيمانَ لمن فاتَهُ ذلك، فللإنسان في كلامِهِ وسُكُوتِهِ رِبحان ينبغي تحصيلهما: كلام في خير، وسكوت عن شَرٍّ، وخَسَارَتان ينبغي تجنُّبهما: كلامٌ في شر، وسكوتٌ عن خيرٍ، وهذا راجعٌ إلى قوله تعالى: {وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [الأحزاب: 70]. وقوله -عليه الصَّلاة والسلام-: "أَمْسِكْ عليْكَ لِسَانَكَ" (¬1)، "وهل يَكُبُّ النَّاسَ في النَّارِ على مَنَاخِرِهِمْ أو وُجُوهِهم إلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟! ". وقوله: "كُلُّ كَلام ابنِ آدمَ عليه لَا لَهُ، إلَّا ذكْر اللهِ، أو أَمْرًا بمعروفٍ، أو نهيًا عن مُنْكَرٍ" (¬2). وقوله: "إنَّ الرَّجُلَ ليتكلَّمُ بالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ الله ما يُلْقِي لها بالًا يَهوي بها في النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا" (¬3)، قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] ظاهِرُها يَشْمَلُ المباح أيضًا، وإن كان ابن عباس وغيره خصها بغيره. ¬
وما أكثر آفات اللسان أيها الإنسان؛ [إذ آفاته] (¬1) فوقَ العشرين آفة. وما أحسنَ قولَ الشَّافعي -رحمه الله-: "إذا أرادَ أنْ يَتَكَلم نظرَ؛ فإنَّ ظَهرَ لهُ أنَّهُ لا ضَرَرَ فيه تَكَلَّمَ، أو ظَهرَ لهُ فيهِ ضَرَرٌ -أو شَكَّ- أمسَكَ" (¬2). وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري -رحمه اللهُ-: "الصَّمتُ سلامةٌ -وهو الأصلُ- والسُّكُوتُ في وقتهِ: صفةُ الرجال، كما أنَّ النُّطْقَ في وقته مِنْ أَشْرَفِ الخصال. وسَمِعتُ أبا عليّ الدَّقاق -رَحمه الله- يقول: "مَنْ سَكَتَ عنْ الحقِّ فهوَ شَيْطانٌ أخرسُ ... قال: فأَمَّا إيثارُ (¬3) أهل المُجاهدة السُّكوتَ: فَلِمَا عرفوا ما في الكلام من الآفات، ثُمَّ مَا فيهِ مِن حظِّ النَفس، وإظهار صفات المدحِ، والمَيْلِ إلى أنْ يتميَّز من بين أشكاله بِحُسْنِ النُّطق وغير هذا مِنَ الآفات، وذلك نعتُ أرباب الرياضة، وهو أحدُ أركانهم في حكم المنازلة وتهذيب الخلق (¬4) " (¬5). ¬
وقال الفضيل بن عياض: "مَن عدَّ كلامه مِن عمله قلَّ كلامه فيما لا يعنيه" (¬1). وعن ذي النون -رَحمه الله-: "أَصوَنُ النَّاس لِنَفْسِهِ أَمْلَكُهُم لِلِسَانِهِ" (¬2). وفي صحف إبراهيم -عليه الصَّلاة والسلام-: "مَنْ عدَّ كلامه من عمله قَلَّ كلامه". أو نحو هذا. وفيها: "وعلي العاقل أن يكون بصيرًا بزمانه، مُقْبِلًا على شأنهِ، حافِظًا للسانِهِ، وَمَنْ حسب كلامه من عمله قل كلامه". وغير ذلك (¬3). الثَّانية: إكرامُ الجار -وقد أسلفنا مَا صَحَّ فيه-، ومَقْصُودُهُ مَقْصُودُ الحديث السَّالِفِ: "لا يُؤْمنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ" أعني: من الألفة والاجتماع، واتّفاق الكلمة، وضِدُّه منافٍ لذلك، وكانت الجاهلية تُشَدِّدُ أَمْرَ الجَارِ ومراعاته وحِفظِ حَقَهِ، وكان في الوصيَّة بإكرامه الرغبة في الإسلام، وهو راجعٌ إلى قوله تعالى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء: 36]. قال ابن عباس وغيره: "الجَارُ القريب: النَّسيب، و {الْجُنُبِ}: الذي لا قَرَابَةَ بينَكَ وبَيْنَهُ" (¬4). وقيل: من {الْقُرْبَى}: المسلم، و {الْجُنُبِ}: الذِّمِّي. وقيل: {الْقُرْبَى}: القريب السَّكن منكَ، و {الْجُنُبِ} البَعِيدُهُ. ثم الجار المُسْلِم له حقَّان، والقريب له ثلاثة، والكافر واحد. ¬
وحَد الجار عندنا أربعونَ دارًا مِن كُلِّ جانبٍ، وهو قوله الأوزاعي. وقيل: مَنْ سَمِعَ الإقامَةَ فهو جار المسجد! وتَعَذَّرَ ذلك في الدُّور. وقيل: مَن سمع الأَذان. وقيل: مَن سَاكَنَ رجُلًا في محلّةٍ أو مدينة. فائدة: المُجَاورة مَرَاتِب بعضها ألصَقُ من بعض، أدناها الزوجة، قال الأعشى: أجارتنا بِيني فإنَّكِ طالِقَهْ ...................... (¬1) ثم الجيرة: الخُلُط (¬2) -بضمِّ الخاء واللام- جمع خليط. الثالثة (¬3): إكرامُ الضَّيفِ، وهو مِن أخلاق الأنبياء والصالحين وآداب الإسلام، وقد أوجبَ الضِّيافة ليلةً واحِدةً الليث بن سعد -رَحمه الله- عَمَلًا بقوله: "ليلةُ الضَّيْفِ حَقٌّ واجِب على كُلِّ مُسْلِمٍ" (¬4). وبقوله في حديث عُقْبَةَ: "إِنْ نَزَلْتم بِقَوْمٍ فأمَرُوا لَكُم بحَقِّ الضَيفِ فاقْبَلُوهُ، وإنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهم حَقَّ الضَّيْفِ الذي يَنبَغِي" (¬5). ¬
وحَمَلَهُ عامةُ الفقهاء على الأدب، وأَنَّها مِن مكارم الأخلاق، ومحاسن الدِّين، وقد قال -عليه الصَّلاة والسلام-: " ... جائِزَتُهُ يومٌ ولَيْلَةٌ" (¬1)، والجائِزة: العَطِيَّة والمِنْحَة والصِّلة، وذلك لا يكون إلَّا مع الاختيار، وقلَّ استعمالها في الواجب، وقوله: "فليُكرم" يدلُّ عليه، وقد قَرَنَهُ بإكرام الجار. وتأَوَّلوا الأحاديث على أنها كانت في أوَّل الإسلام، إذْ كانت المواساةُ واجبةً. أَوْ كانَ ذلِكَ للمجاهدينَ في أَوَّلِ الإسلام لقِلَّةِ الأَزْوَادِ. أو المُرادُ بهِ: مَن لَزِمَتْهُ الضيافة من أهل الذِّمةِ. واخْتُلِفَ: هل الضيافة على الحاضر والبادي، أم على البادي فقط؟ فذهب الشَّافعي ومحمد بن عبد الحكم (¬2) إلى الأُولى. وقال مالك وسحنون بالثَّاني، وقد جاء في حديثٍ: "الضِّيافَةُ على أهلِ الوَبَرِ، وَلَيْسَتْ عَلَى أَهْلِ المَدَر" (¬3) لكنَّهُ عندَ أهلِ المعرِفةِ موضوعٌ كَمَا نَقَلَهُ القَاضي، قال: "وقد تتعيَّن الضيافة لمن اجتاز مُحْتاجًا وخِيفَ عليه الهلاك، وعلى أهل الذِّمَّة إذا اشتُرِطَت عليهم" (¬4). ¬
* تتمات: إحداها: "الضَّيف": هو القادمُ على القومِ النازل بهم. ويُقال: ضيفٌ، للواحد والجمع، ويُجْمَعُ أيضًا على أضياف، وضيوف، وضِيفان، والمرأةُ ضيفٌ وضيفةٌ، وأَضَفتَ الرَّجُلَ، وضيَّفْتَهُ؛ إذا أنزَلْتَهُ بكَ، وضِفتُ (¬1) الرجُلَ ضيافة: إذا نَزَلتَ عليه، وكذلك تضيَّفته (¬2). ثانيتها: لا يَخْفَى استثناءُ المُكْرَه من هذا التَّجاوز عنه، فإذا أكْرِه على قولِ شرٍّ أو سُكُوتٍ عن خيرٍ أو شرٍّ، أو خافَ على نفسِهِ مِنْ قولِ خَيرٍ ونحوهِ مِمَّن خافَ مِن إنكار مُنْكَرٍ ونحوه فهو معذورٌ. ثالثتها: الجارُ المُؤْذِي، والفاسِقُ، والمبتَدِعُ أو نحوهم: هل يُهانونَ رَدْعًا لهم عن فُجُورهم، أو يُكْرَمُون من حيثُ إنهم جارٌ، ويُهانون من حيث إنهم فُجَّارٌ؟ والكافر يُرْعى جِواره؛ فالفاسق ونحوه أولى، كما قال بعضهم في حديث: "في كُلِّ كبِدٍ حَرَّى أَجْرٌ" (¬3): حتَّى الحيَّة والكلب العقور ونحوه يُطْعَم ويُسْقَى إذا اضطر إلى ذلك، ثم يُقتل. فيه نظرٌ واحتمال. رابعها: فيهِ أنَّ إكرامَ الضَّيفِ عِبادَةٌ، ولا ينقضها ضيافة الأغنياء، ولا يُغيِّرها تقديم اليَسِير مِمَّا عندَهُ، فإكرامُهُ أنْ يُسارعَ إلى مؤانَسَتِهِ وإظهارِ البِشرِ لَهُ، وقد ذكرتُ أنواع الضيافات في "لغات المنهاج" فسارع إليه. * * * ¬
الحديث السادس عشر
الحديث السادس عشر عن أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَجُلًا قال للنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أَوْصِني، قالَ: "لا تَغْضَبْ" فَرَدَّدَ مِرَارًا قال: "لا تَغْضَبْ". رواه البُخاريّ (¬1). * * * وراويهِ سَلَفَ التَّعريفُ به. ومعنى الحديث: الحذر من أسباب الغضب، وعدم التَّعرّض للأمور الجالبة له، فأمَّا نَفسُ الغَضَبِ فَطَبعٌ لا يُمْكِنُ إزالَتهُ مِن الجِبِلَّةِ. وقد جمعَ الشَّارُع في هذه الكلمة جوامع خير الدُّنيا والآخرة؛ لأنَّ الغضب يؤول إلى التَّقاطُعِ والتَّدابر، ومنع الرفق، ورُبَّما مالَ إلى الأذى. وفي "الموطأ": قال رجلٌ: يا رسول الله! عَلِّمني (¬2) كلماتٍ أعيشُ بِهِنَّ ولا تكْثِر عليَّ فَأَنْسى. قال "لا تَغْضَب" (¬3). وقد مَدَحَ الربُّ -جل جلاله- الذين يعفون عند الغضب، وأثنى عليهم، وأخبر ¬
أنها عندَهُ خيرٌ وأَبقَى لهم مِن مَتَاعِ الحياةِ الدُّنيا وزينتها، وأثنى على الكاظمين الغيظ والعافين عن النَّاس، وأخبر أنه يحبهم بإحسانهم في ذلك. وفي "مسند أحمد"، و "سنن أبي داود"، و "ابن ماجه"، و "جامع التِّرمذيّ" -وقال: حسنٌ غريبٌ- من حديث معاذ مرفوعًا: "مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وهوَ قادِرٌ على أنْ يُنْفذَهُ؛ دَعَاهُ اللهُ -عزَّ وجلَّ- على رُؤُوسِ الخَلائِقِ يومَ القِيامَةِ حتَّى يُخَيِّرهُ في أيِّ الحُورِ شاءَ" (¬1). وقد أوضَحتُ الكلام على ذلك في "شرح صحيح البُخاريّ" فراجعهُ منه تَجِدْ مَا يَشْفِي العَلِيلَ (¬2). ويجوزُ أن يكونَ الشارعُ فَهِمَ من هذا الرَّجل كَثْرةَ الغَضَب فَحَضَّهُ بذلك. ويُروى أنَّ يَحْيَى بن زكريا - عليه السلام - لما رأى عيسى -عليه الصَّلاة والسلام- مُفارِقه قال له: "أَوْصِني". قال: "لا تغضب". قال: "لا أستطيع" قال: "لا تَقتَن مالًا". قال: "حَسْبِي" (¬3)، وفي طرقه كما قال ابن عمر: "ما يُبْعِدُني مِن غَضَب الله"؟ قال: "لا تَغْضَبْ" (¬4). ¬
وكان الشَّعبي -رحمه الله- يولع بهذا البيت (¬1): ليست الأحلامُ في حينِ الرِّضا ... إنَّمَا الأحلامُ في حين الغَضَب ولأبي العتاهية (¬2): أُقلِّبُ طَرْفي مرَّةً بعدَ مَرَّةٍ ... لأعلمَ ما في النَّاس والأمر ينْقَلِبْ فلم أرَ كنْزًا كالقُنُوع لأهلهِ ... وأن يجمل الإنسان مَا دام في الطَّلبْ ولم أر فضلًا صَحَّ إلَّا على التُّقى ... ولم أَرَ عَقْلًا تمَّ إلَّا على الأدبْ ولَم أر في الأعدَاءِ حينَ خبَرتُهم ... عدُوًّا لِعَقْل المَرْءِ أَعْدَى مِن الغَضَبْ وقال غيرهُ: "لا يُعرفُ الحلمُ إلَّا ساعَةَ الغضب" (¬3). * تتمَّات: إحداها: لا يخفى أن هذا الغضب الدُّنيوي، أمَّا الدِّيني فَمَطْلوبٌ، فقد كان الشَّارع -صلوات الله وسلامه عليه- يغضَبُ إذا انْتُهِكت الحُرُمات، لا يقومُ لغضَبِهِ شَيءٌ حتَّى ينتصرَ للحقِّ، وإذا غَضِبَ أعرضَ وأَشَاحَ، وكان من حاجبيه عَرَقٌ يَدرُّهُ الغضب، وهذا معَ كَوْنِهِ أحلَمَ النَّاس وأكثرهم صَفْحًا واحتِمالًا، وهذا نهاية الكمال: الغضبُ في مَوْضِعِهِ، والحِلمُ في موضعهِ. إذا قيل حِلْمًا قال: للحِلمِ مَوْضِعٌ ... وحِلمُ الفَتَى في غَيْرِ مَوْضِعِهِ جَهْلُ ¬
وطِبُّ الغَضَبِ المذمومِ: صَحَّ في الصحيح أن الاستعاذةَ مِنَ الشيطان الرجيم تُذْهِب ما يجِدُهُ منه فينبغي استعماله، والوضوء أيضًا، والانتقال من مكانه، واستحضار ما جاء في فضل كظم الغيظ. قال الثوري والفضيل بن عياض وغيرهما جمن: "أفضَلُ الأعمالِ: الحِلمُ عندَ الغَضبِ، والصَّبرُ عِندَ الطَّمَعِ". ثانيها: حقيقةُ الغضبِ: فَوَرَانُ دَمِ القلبِ وغليانهُ لإرادة الانتقام، وفي الحديث: "إِنه جَمْرَةٌ تَتَوَقَّدُ في قَلْبِ ابن آدم، ألا تَرَوْنَ إلى انْتِفاخ أودَاجِهِ، واحمِرارِ عيْنَيهِ" (¬1). وأمَّا غَضَبُ الجَليل فهو: إرادةُ الانتقام مِنَ العبيد، أعاذنا الله مِنْهُ (¬2). ثالثها: هذا الحديثُ تَضَمَّنَ دَفع أكبر شُرورِ الإنسان؛ لأنَّ الشَّخصَ في حالِ حياتِهِ بَيْنَ لذَّةٍ وأَلمٍ، فاللَّذةُ سببُها ثَوَرَانُ الشَّهوةِ أَكْلًا وشُربًا وجِماعًا ونحو ذلك، والألَمُ سببه ثوران الغضب، فإذا اجتنبهُ انْدَفعَ عنه نِصْفُ الشرِّ بل أكثرهُ، ¬
ولهذا لمَّا تجَرَّدَت الملائكةُ -عليهم السلام- عن الغضب والشَّهوة تجرَّدُوا عن جميع الشرور البشرية. ويترك الشر فضل الحلم وخوف الرب (¬1) يندفع ذلك كما حُكِيَ عن بعض الملوك: أنه كتبَ ورقةً يذكرُ فيها: "ارحَمْ مَن في الأرضِ يرحمكَ الذي في السماء، ويلٌ لِسُلطان الأرض مِن سُلطان السماء، ويل لحاكِمِ الأرض مِن حاكم السَّماء، اذكُرْ في حينَ تَغْضَب أذكُركَ حينَ أَغْضَبُ" ثُمَّ دفَعَها إلى وزيره وقال: "إذا غَضِبتُ فادفَعْها إليَّ" فَجَعَلَ الوَزِيرُ كلَّما غَضِبَ المَلِكُ دَفَعَها إليهِ، فَيَنْظُر فيها فيسْكن غضبه. وقد أَمَر الشارعُ -صلواتُ الله وسلامه عليه- بالانتقال عن الحالة التي هو فيها: إنْ كانَ قائمًا بالقُعود، وإن كانَ قاعِدًا فبالاضطجاع (¬2)؛ والقصدُ به البُعْدُ عن هيئة الوثوب والتسرُّع إلى الانتقام ما أمكن؛ حَسْمًا لِمَادَّةِ المُبادرةِ. وما أحسن قول معاوية بن أبي سفيان الأموي - رضي الله عنه -: "مَا غَضِبتُ على مَن أَقْدِرُ عليه، وما غضبَ عَليَّ مَن أَقْدِرُ عليه". والمُراد: ما تعاطيتُ أسبابه، ودَفَعْتُهُ لأنَّهُ جِبِلِّي. وحُكِيَ عن سيدنا موسى -صلوات الله وسلامه عليه-: "أنَّهُ لَمَّا قيلَ لهُ: {خُذْهَا ¬
وَلَا تَخَفْ} [طه: 21] لفَّ كُمَّهُ على يد يتناولها، فقيل له: لو أذنَ اللهُ -عزَّ وجلَّ - فيما تَحْذَر هل كان ينفَعُكَ ذلك؟ قال: "لا، ولكنِّي ضَعِيفٌ، ومن ضَعْفٍ خُلِقتُ" (¬1). ثُمَّ مَن غَلَبَ طبعهُ الحيواني فهذا دفعه ضعيف دونَ من غلبت عليه الرِّياضة؛ فإنَّهُ سهلٌ عليه، وإلَّا كان قوله -عليه الصَّلاة والسلام-: "لا تَغْضَب" تَكَلُّفًا، أو أمرًا بما لا يُطاق، وإذا عَلِمَ العبدُ أن لا فاعل إلَّا الله، وأنَّ الخلق آلةٌ، سَهُلَ عليه ذلك، وإلَّا لكان غاضبًا على الربِّ وهو ينافي العبودية، أو [على] (¬2) المخلوق وهو إشراكٌ يُنافي التوحيد، فلا مُعْطي ولا مانع إلَّا الله، والعبد آلة: إمَّا بِقَصْدٍ كالإنسان، أو دونه كالدَّابةِ، أو لا قصدَ [له] (¬3) كالعصا المَضْروبِ بها (¬4). وضَرْبُ موسى الحَجَر لَمَّا فرَّ بثوبهِ (¬5)؛ إمَّا عن غلبةِ الطِّباع كما مرَّ معنا في لفِّ كُمِّه على يَدِهِ، أو تأديبًا لَهُ. ¬
وقد ثبتَ أنَّ موسى -صلوات الله وسلامه عليه- كان حَدِيدًا، حتَّى كان إذا غَضِب خرجَ شعرُ جَسَده من مُدرعته كمُسُلِ النَّخلِ (¬1)، ولهذا لَمَّا عَلِمَ ما أحْدَثَهُ قَوْمُهُ من بعد أخذَ بِرأْسِ أخيه يَجُرُّهُ إليه. وكذا يحكَى أنهُ لَمَّا خَرَقَ الخضر السفينة غَضِبَ موسى وأخَذَ بِرِجْلِ الخَضر ليُلْقِيهِ في البحر حتَّى ذكَّره يُوشَع عهدهُ مع الخضر فخَلَّاهُ. خاتِمة: قولهْ: "فَردَّدَ مِرارًا" يعني: أنَّ السائِلَ كرَّرَ السؤال مِرارًا بقوله: أوصني يا رسول الله! لأنَّهُ لم يقنع بقوله: "لا تغضب" وطلبَ وصيَّةً أبلغ منها وأنفع، فلَمْ يَزِدْهُ عليها؛ لِعِلمِهِ بعُمُومِ نَفْعِها، ونبَّهَ السائل على ذلك بتكرارها، وصارَ هذا كما قال له العبَّاس: عَلِّمني دُعاءً أدْعُو به يا رسولَ الله! فقال: "سَلِ اللهَ العافِيَةَ" فَعَاوَدَهُ العَبَّاسُ مِرارًا، فقال: "يا عبَّاسُ! يا عَمَ رسولِ الله، سلِ اللهَ العافِيَةَ في الدُّنْيا والآخِرةِ، فإنَّكَ إذا أعْطِيتَ العافيةَ أعطِيتَ كُلَّ خيرٍ" أو كما قال (¬2). وكذلكَ لَمَّا قال لأصحابه: "اجْتَمِعُوا فإنِّي أَتْلُو عليكم ثُلُثَ القرآن"، فاجتمعوا فتلا عليهم "سورةَ الإخلاص" ثُمَّ دَخَلَ مَنْزِلَهُ، فأقاموا ينتظرونه فيكمل لهم ثلثَ القرآن، فخرج عليهم فقال: "ماذا تَنْتَظِرونَ، أَمَا إنَّها تعدِلُ ثُلُثَ القرآن" (¬3) يعني: سورة الإخلاص. * * * ¬
الحديث السابع عشر
الحديث السابع عشر عن أبي يَعْلَى شَدَّادِ بنِ أَوْسٍ - رضي الله عنه -، عن رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إِنَّ اللهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ على كُلِّ شيءٍ، فإِذَا قَتَلْتُمْ فأحْسِنوا القِتْلَةَ، وإِذَا ذَبَحْتُمْ فأحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، ولْيُحِدَّ أَحَدُكمْ شَفْرَتَهُ، وليُرحْ ذَبِيحَتَهُ". رواه مسْلِم (¬1). * * * الكلام عليهِ مِن وُجوه: وهو حديث جامِع لقاعِدَةِ الدِّين العامة، فهو مُتَضَمِّن لجميعه؛ لأنَّ الإحسان في الفِعْل هو: إيقاعُهُ على مُقْتَضى الشَّرع أو العقل، ثمَّ إمَّا أن يتعلَّق الفعْلُ بمعاشه أو بمعاده: والأول: بسياسة نفسه، وبدنه، وأهله، وإخوانه، ومُلْكِهِ، والناس. والثاني: الإيمان والإسلام عمل القلب والجوارح كما مرَّ في حديث جبريل - عليه السلام -، فإذا أحسنَ في هذا كُلِّه على وجْهِهِ فقد حصَّلَ كُلَّ خير، وسَلِم مِن كل ضَيْر. ¬
الوجهُ الأول: التعريف براويه: هو أبو يعلى -ويقال: أبو عبد الرحمن- شدَّاد بن أوس بن ثابت الأنصاري النجاري المدني ابن أخي حسَّان بن ثابت، لهُ ولأبيه صحبة. وأمه: صريمة، من بني عدي بن النَّجَّار. نزل بيتَ المقدس وأعقب بها، ومات بها بظاهر باب الرحمة بعد الخمسين عن خمس وسبعين، وغلطَ مَن عدَّهُ بدْريًّا، وإنَّما البَدْريُّ والِدهُ (¬1). فائدة: اشترك في كنية شداد بأبي يعلى جماعة: منهم حمزة ويقال أبو عمارة، ومنهم: أبو يعلى الموصلي صاحب "المسند"، ومنهم: الفراء الحنبلي القاضي. ثانيها: في ألفاظه ومعانيه: معنى "كتَبَ": أمر وحرَّضَ عليه، وأصل "كتب": أثبت وجمع، ومنه: قوله تعالى: {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} [المجادلة: 22]، أي: أثبته وجمعه، كتبت البغلة: جمعت حياءها (¬2). ويستعمل "كتبَ" بمعنى: أوجَبَ، نحو: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: 178]، {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180] ونحوه كثير. ويشهد لذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90]، وقوله تعالى: {وَأَحْسِنُوا} [البقرة: 195] ونحوه. ¬
و"على" يجوزُ أنْ تَكون بمعنى "إلى" أي: كَتَبَ الإِحسانَ إلى كُلِّ شيءٍ -أو: في- أي: في كُلِّ شيء، قال تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة: 102] أي: في مُلْكِهِ، ويقال: كان على عهد فلان، أي: في عَهده، حكاه العتبي. ويحتمل أن تكون بمعنى "إلى" أي: كتب الإحسان في الولاية على كلِّ شيء، حتَّى مِمَّا ذَكَرَهُ، ولا يتركُ آلتَهُ كَالَّةً يُعَذِّبُ بها الحيوان، وإنَّما ذكَرَ القتلة والذّبحة؛ لأنهما غاية الأذى في الحيوان، ولا يبقى بعدهما للإحسان وجه، فإذا كان الإحسان فيما هو العلة في الأذى، فكيف بغير ذلك؟! و"الإحسان" هنا بمعنى الإحكام والإكمال، والتَّحْسِين في الأعمال المشروعة مطلوب، فحق على من شرع في شيء منها أن بأتي به على غاية كماله ويحافظ على آدابه المصححة والمكملة له، وإذا فعل قبل عمله وأثر ثوابه. ولَمَّا كان العلماء ورثةُ النبياء، فمِمَّا ورِثوهُ: تعليم النَّاس كيفية الإحسان إلى كلِّ شْيءٍ ألهَمَ اللهُ -سبحانه وتعالى- الاستغفار للعلماء مكافأةً لهم على ذلك (¬1)، ومن ذلك قوله -عليه الصَّلاة والسلام-: "إنَّ العالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ له مَنْ في السَّمَاوات ومَنْ في الأرض، حتَّى الحِيتانُ في المَاءِ" (¬2). وقد جاء في التَّنزيل: {وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 5]. ¬
و"القِتْلة" -بكَسرِ القاف-: الهَيْئَة والحالة، والمصدر بالفتح. و"الذبحة" بكسر الذال -أيضًا- مِن باب الهيئة كالجِلْسَة والرِّكْبَة؛ أي: هيئة القتل والذبح. وجاء في رواية: "فَأَحْسِنُوا الذَّبح" (¬1) وهو بالفتح بغير هاء مصدر، وبالهاء: الهيئة كالقتلة، وأصلُ الذَّبح: الشقُّ والقطعُ. قال الشاعر (¬2): كأَنَّ بينَ فَكِّها والفَكِّ ... فَارَةَ مِسْكٍ ذُبِحَتْ في سُكِّ وقوله: "ولْيُحِدَّ" هو بضمِّ الياء، يقال: أحدّ السكين وحددها واستحدها بمعنى. و"الشَّفرة": المِدْية، وهي السكين ونحوه ممَّا يُذْبَحُ بهِ، سُمّيت باسمِ شفرها وهي حدُّه، تسمية باسم جزئه (¬3). وقوله: "وليُرح" بضمِّ الياء، يُقال: أراحَ يُريحُ إِرَاحَةً إذا أدخلت الراحة إلى الشيء، أو تسبب إلى حصولها له بوجه. و"الذَّبيحة": المذبوحة، فعيلة بمعنى مفعولة، كأنه قال: الدَّابة الذبيحة، أو تكون من باب غلبة الاسم على غلبة (¬4) الوصف. ¬
الثالث: الإراحة بإحداد السِّكِّين، وتعجيل إمرارها وغير ذلك، ولهذا قال فيمن ولي القضاء: "فقد ذُبِحَ بغيرِ سِكِّينٍ" (¬1) أي: عرَّضَ نفسه لعذابٍ يجد فيه ألمًا كألمِ الذَّبح بغير سكين (¬2). ويُستَحَبُّ: ألا يحدها بحَضرَة الذَّبيحة. وألَّا يذبح واحِدةً بحَضْرَةِ أُخرى. ولا يجُرَّها بل يَسُوقها إلى مذبحها -وحُكيَ جوازه-. ولا يصرعها بغتَةً. ولا يجرها إلى مذبوحها -عن مالك- (¬3)! وإحسانُ القِتْلةِ عامٌّ في كُلِّ قَتْلٍ، ومنهُ: القِصَاصُ، ولا يَقصِدُ التَّعذيبَ، وقد "نَهى -عليه الصَّلاة والسلام- عن صَبرِ البهائِم" (¬4) وهوَ: حَبْسُها للقَتلِ وغيرهِ، و"لَعَنَ مَن اتَّخَذَ شيئًا فيهِ الرُّوحُ غَرَضًا" (¬5). وهو حرام، وينبغي إحضار نيَّةِ القربةِ ويُسْتَحَبُّ توجيهها إلى القبلة والتَّسمية، وتركها إلى أن تبرد، ويعترف بالمِنَّة في ذلك لتسخيره لنا والإِنْعام علينا به. ومِن الإحسان إليها: ألا تُحمَّل فوقَ طاقتها. ¬
ولا تُركب واقفةً إلَّا لحاجةٍ. ولا يُحلَبَ منها إلَّا ما لا يَضُرُّ بولدها. ولا يشوي السمَكَ والجراد حتَّى تموت. * تتمات: الأولى: قوله: "إنَّ اللهَ كَتَبَ الإحسان على كُلِّ شيء" هو قاعدة عامَّة كُلّية، ثم ذكر منها التخفيف في القتل والذبح في الحيوان، ويجوز ذكر ذلك، إِمَّا لأنَّ الجاهلية كانوا يخالفون ذلك، كالمُنْخَنِقةِ، والموقوذة، والمتردِّية، والنَّطيحة وما ذُكِر معها، وكانوا إذا ذبحوا يذبحون بالكَالِّ. الثَّانية: تفاصيل الإحسان إلى كُلِّ شيء لا تنحصِرُ، وقد أسلفنا جملةً من أفرادِهِ. ومثله: الإحسان إلى الملائكة بالأدب معهم، لا سيما كَاتِباهُ، فهي تَتَأَذَّى مِمَّا يتأذى منهُ بنو آدمَ. ومن ذلك: الإحسان في قتل الوَزَغِ أوَّلَ مرَّةٍ، ودونها في الثَّاني، ثم في الثالث (¬1). والموجود الحادِث هو المحتاج إلى الإحسان، لأنَّ القديم مستغنٍ بذاته تعالى. والحادث إن كان عرضًا فلا يتأتى الإحسان إليه، وإن كان جوهرًا، فإنَّ كان جمادًا فكذلكَ، وإن كانَ نباتًا أو حيوانًا فهو موضِعُ الإحسان. ¬
ومذهبُ أحمد أنَّ الحيَّ إذا تطوَّع بقُرْبَةٍ وأهدى ثوابها لِمُسْلِمٍ ميِّتٍ، نفعهُ ذلك، وكذا الحي على الأصح (¬1). ومن ذلك: الإحسان إلى الجن، مؤمنهم وكافرهم بدعائهم إلى الخير، وقد أكرمهم الشارع وأقراهم بأنَّ جعل العظم زادهم والروثَ لدوابهم، ولنا فيه أسوةٌ حسنة. وأمَّا المؤذي كالحشرات والفواسق الخمس، فقد خَرَجت بالنَّص. * * * ¬
الحديث الثامن عشر
الحديث الثامن عشر عن أبي ذَرٍّ جُنْدُبِ بنِ جُنَادَةَ، وأَبي عبدِ الرَّحمن مُعاذِ بنِ جَبَلٍ - رضي الله عنه -، عن رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كنْتَ، وأَتْبعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُها، وخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ". رواهُ التِّرمذيُّ وقال: "حسنٌ". وفي بعضها: "حسنٌ صحيحٌ" (¬1). * * * الكلام عليه من وجوه: ¬
أحدُها: في التعريف بِرَاوِيه: أمَّا أبو ذرٍّ -ويقال: أبو الذر- ففي اسمه أقوال، أشهرها ما ذكرهُ: جُندُب -بفتح الدال وضمها، وربما كُسِرت- بن جُنادَة -بضمِّ الجيم-. وقيل: ابن برير. وقيل: أنه لقب، وقيل: ابن عبد الله، وقيل: ابن السَّكن، وقيل: يزيد -وهو وهمٌ-. أُمُّه: رملة بنت الوقيعة بن حرام بن عمار، وكان أخا عمرو بن عبسة لأُمِّه، كان رابعًا في الإسلام أو خامسه، أسلم بمكة ثم رجع إلى بلادِ قَوْمِه، ثم قَدِمَ المدينة وهو أولُ مَن حيَّا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتحِيَّةِ الإسلام. قال الشَّارعُ -صلوات الله وسلامه عليه- في حَقِّهِ: "مَا أَظَلَّتِ الخَضْرَاءُ، ولا أَقَلَّتِ الغَبْراءُ أَصْدَقَ لهجَةً مِنْهُ" (¬1). مات بالرَّبذة سنة إحدى -أو اثنتين- وثلاثين في خلافة عثمان، وصلى عليه ابن مسعود، فأقام عشرةَ أيَّام ثم مات بعدَ عاشرة -يرحمه الله- وهو أحدُ النُّجباء. قال عليّ -كرَّمَ اللهُ وجههُ-: "وعاءٌ مُلِئَ عِلْمًا، ثم أُوكيَ عليه فَلَمْ يَخْرُج مِنهُ شَيءٌ حَتَّى قُبِضَ" (¬2). ¬
وكان أصدقَ النَّاسِ لهجةً (¬1). وأمَّا مُعَاذٌ؛ فهو أبو عبد الرحمن معاذ بن جبل الخزرجي المدني من نجباء الصَّحابة، شَهِدَ المشاهِدَ، وروى وجمع القرآن في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان يُشَبَّه بإبراهيم -صلوات الله وسلامه عليه- كانَ أُمَّةً قانتًا لله، وكان أعلمهم بالحلال والحرام. مات سنة ثمان عشرة بالأردن بالطاعون عن ثمانٍ وثلاثين سنة أو أقل، وقبره بشرقي غور بيسان (¬2). ثانيها: معنى قول التِّرمذيّ: حسن صحيح: أنه رويَ مِن وجْهَيْن: وجه كذا، ووجه كذا، كذا قيل! وهو مردود عليه؛ إذْ يقول إثرهُ: لا يعرفهُ إلَّا مِن هذا الوجه، وقد أوضحتُ ذلك في "المقنع في علوم الحديث" تأليفي (¬3). ثُمَّ أعلم أن نُسَخ التِّرمذيّ تَخْتَلِفُ بالحسن والصحيح، ففي بعضها: "حسنٌ"، وفي بعضها: "حسن صحيح"، وذلكَ بحسَبِ اختِلافِ الرُّواةِ عنهُ لكَتابه والضَّابِطِينَ لهُ. ثالثها: سبب هذا الحديث أنَّ أبا ذَرٍّ لَمَّا أسْلَمَ قديمًا أَمَرَهُ الشَّارعُ أنْ يَلْتَحِقَ بقومه، عسى أن ينفعهم اللهُ بِهِ، ولَمَّا رأى حِرصَهُ على المقام معهُ بمَكَّةَ، وعَلِمَ ¬
الشَّارعُ -صلوات الله وسلامه عليه- أنهُ لا يقدر على ذلك قال لهُ: "اتَّقِ اللهَ حَيْثُما كنتَ، وأتبعِ السَّيِّئةَ الحَسَنَةَ تَمْحُها ... ". والمراد: تركُ المؤاخَذَة، ويجوزُ أن يكون المحو حقيقةً، وهو موافقٌ لقوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] وهي نزلت في ذلكَ الذي أصاب مِن تِلكَ المرأة ما دُونَ الجِماعِ، وأَمَرَهُ الشَّارعُ -صلوات الله وسلامه عليه- بالوضوء والصَّلاة، فقال معاذ: هذا لهُ خاصَّة أم للناس عامَّة؟ فقال: "بَل للنَّاسِ عَامَّةً" (¬1). وقال: "مَا مِنْ رَجُلٍ يَتَطَهرُ فَيُحْسِنُ الطُّهورَ ثُمَّ يَعْمِدُ إلى مَسْجِدٍ مِنْ هذهِ المَسَاجِدِ، إلَّا كتَبَ اللهُ لَهُ بِكُلِّ خُطوَةٍ يَطَؤُهَا (¬2) حَسَنَةً. ويَرْفَعُ بها دَرَجَةً، وَيَحُطُّ عنهُ بها خَطِيئَةً" (¬3). فقال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البقرة: 177] الآية، وقوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 63]. فمن اتَّقى بما في الآية الأولى مِن الإيمان والإسلام فهو متَّقٍ، والمتقي ولي الله؛ فصار معنى قوله: "اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كنتَ" تكُنْ وليّ الله بتقواك إيَّاه، وحصل لك [من ذلك المِدحةُ] (¬4) والثناء: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186]. ¬
والحفظُ والحِراسَةُ مِن الأعداء: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران: 120]. والثانية: والنَّصرُ: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا} [النحل: 128]، و {اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)} [البقرة: 194]. والنَّجاةُ مِن الشَّدائدِ، والرِّزقُ الحلال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 - 3]. وإِصلاحُ العَمَلِ: {اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [الأحزاب: 70 - 71]. وغُفرانُ الذُّنوبِ: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [الأحزاب: 71]. والنُّورُ: {اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} [الحديد: 28]. والمحبةُ: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 4] وما أعظمها وأنفعها. والإِكرَامُ: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]. والبِشارةُ عندَ الموتِ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [يونس: 63 - 64]. والنَّجاة مِن النَّار: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} [مريم: 72]، {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} [الليل: 17]. والخلود في الجنة: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]. منْ عَرَفَ اللهَ فلم تُغْنِهِ ... معرفته أَلا فذاكَ الشَّقي مَا يَصنَعُ العَبْدُ بِعِزِّ الغِنى ... والعِزُّ كل العِز للمُتَّقي
وكُتِبَ على بعضِ القبور: "ليسَ زادٌ سِوى التُّقى، فخُذي مِنْهُ أوْ دَعِي" (¬1). وابعها: اشتَمَلَ هذا الحديث على أحكامٍ ثلاثة: حقُّ الله، وحقُّ المُكَلَّف، وحقُّ العِباد؛ أَمَّا حقُّ الله تعالى: فحيثُمَا كنتَ تَتَّقيهِ، فهوَ ناظر إليكَ ومعكَ ورقيب. و"التَّقْوَى" لفظَةٌ وجِيزَةٌ جامعةٌ لكلِّ خيرٍ دينيّ ودُنيَويٍّ؛ لأنها: امتِثالُ الأوامِر واجتنابُ النَّواهِي. وعبَّرَ عنهُ بعضهم: ألا يَرَاكَ حيثُ نهاك، ولا يفقدكَ حيثُ أَمَرك. ولهذا قال بعضهم: إذا أردتَ أن تعصيه فاعصه حيث لا يراك! أو أخرج من داره! أو كُلْ غيرَ رزقه! وبتقوى الله يتضَمَّن ما تضمنه الحديثُ السالِفُ: "إنَّ اللهَ كتبَ الإحسان على كلِّ شيءٍ"، وكذا ما تَضمَّنَهُ حديثُ جبريل السالف من الإيمان والإسلام والإحسان؛ لأنَّ سائر أحكام التكليف لا تخرج عن أمر ونَهْي، فإذا اتقى الله بفعل ما أمر وترك ما نهي، فقد أَتى بجميع وظائف المكلفين. وأَمَّا حقُّ المكلف فمحو الحسنةِ بالسيئة، كما سلف: {ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114] أي: عِظَةٌ لِمن اتَّعظ؛ فلا تعجز أيها المسكين إذا أتيت سيئة بقلبك، أو لسانك أو جوارحك، احتَلْ بأن تتبعها بحسنةٍ مِن صلاة، أو صدقة -وإنْ قَلت-، أو ذِكْرٍ. و"الباقياتُ الصالحات": سبحان الله، والحمدُ لله، ولا إلهَ إلَّا الله، والله أكبر. أو: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم؛ فإنَّهُ أحبُّ الكلام إليهِ، ¬
وحبيب إلى الرحمن، وخفيف على اللسان، وثقيل في الميزان -كما سيأتي-. فإنَّ عجزتَ عن إِتْبَاع الحسنة السيئة فأنتَ مخذُولٌ، والسيئةُ الصَّغيرةُ مقابلة بالحسنة الصغيرة والذكر اليسير، والكبائرُ بالتويةِ والإنابةِ. وأَمَّا حقّ العِباد فهو مُخالقتهم -أي: معاشرتهم- بخُلُقٍ حسنٍ، فعاملهم بما تحب أن يعاملوك به مِن: كفِّ الأذى وبَذْل النَّدَى وطلاقةِ الوجهِ؛ أي عامل النَّاس بما تحت أن يعاملوكَ به فتجتمع القلوب ويتفق السرُّ والعلانية، فتأمن الكيد والشر، وذلك جِماعُ الخير ومِلاكُ الأمر -إن شاء الله تعالى- وأثقل مَا وُضِعَ في الميزان: خلقٌ حسنٌ (¬1). وصحَّ أنَّ نبينا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ خِيَارَكُمْ أحاسِنُكُمْ أَخْلاقًا" (¬2)، وجاء: "إنَّ العَبْدَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِم بالنَّهار القَائِمِ باللَّيلِ ... " الحديث (¬3). ¬
وهو مِن سِيما النَّبيين والمُرْسَلين وخصوص المؤمنين، ويكفي في ذلك مَدْحُ الباري -سبحانه وتعالى- نبيَّه محمدًا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1): {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]. قال الجوهري: "الخُلُق: السَّجِيَّة. يقالُ: "خَالِصِ (¬2) المُؤْمِن، وخَالِقِ الفَاجِرَ". وفلانٌ يَتَخَلَّقُ بِغَيْرِ خُلُقِهِ، أَي: يَتَكَلَّفهُ. قال الشَّاعر: ..................... ... إنَّ التَّخَلُّقَ يأتي دُونَهُ الخُلُق" (¬3) والخُلُق وإنْ كان سجيَّةً في الأصل فيتخلَّق، وإن كان بغير خلقه حتَّى يتَّصف بالأخلاق الجميلة الرَّضيَّة الزَّكِيَّة. قال بعضُ الحُكَماء: "عليكَ بالخُلُقِ مع الخَلْقِ، وبالصِّدق مع الحَقِّ". وحسن الخلق خير كُلُّه، والعبد لا يؤمر بما طُبِعَ عليه؛ فإنَّهُ تحصيلُ حاصل، فكذا أَمَرَ الشَّارع -صلوات الله وسلامه عليه- بِتَحْصيلِهِ وبِكَسبه. خاتِمة: قد يُستَدَلُّ به على اكتساب الولاية وإلَّا لم يصح الأمر بها، والجمهور على أنها مَوْهِبةٌ كالنبوَّةِ؛ نعم التحقيق أنها مُتَرَتِّبةٌ على زَكاةِ النَّفس وصلاح العمل، كالرزق فَضلُ الله، وهو مُرَتَّب على الأسباب والأكساب التي جرت بها العادة في حصول الرزق، وكما قال تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك: 15]، وقال: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} ¬
[السجدة:24]، وقال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90] عَلَّلَ ما مَنَّ بهِ عليهم من مسارعتهم إلى الخيرات وما بعده (¬1). يُريدُ المَرْءُ أنْ يُعْطَى مُناهُ ... ويَأْبى اللهُ إلَّا ما أرادَا يقُولُ المرء فائِدَتي ومَالي ... وتقوى اللهِ أفضلُ ما اسْتَفادَا (¬2) أُخرى: صحَّ أنه -عليه الصَّلاة والسلام- قال: "إنَّ خِيَارَكُمْ أحاسِنُكُمْ أخلاقًا" كما سلف. وقال -أيضًا- صلوات الله وسلامه عليه: "اللَّهم كمَا حَسَّنتَ خَلقي ¬
فَحَسِّن خُلُقي" (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "أَكْمَلُ المُؤْمنِينَ إِيمَانًا أحْسَنُهم خُلُقًا" (¬2)، و "إنَّ العَبْدَ لَيَبْلُغُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ القائِم" (¬3). وللشافعي -رحمه الله- قَوْلان: أَنَّ الخُلُقَ حَسَنُهُ وقبيحُهُ جِبلَّةٌ في العبدِ كَلَوْنِهِ أَمْ لَا؟ فعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه جِبِلَّة، وقد "فَرَغَ رَبُّكَ من أربع: الخَلْقُ، والخُلُق، والرِّزْقُ، والأَجَلُ" (¬4). وقال الحسن -رحمه الله-: "مَن أُعْطِيَ حُسنَ صورةٍ، وخُلقًا حسنًا، وزوجةً صالِحَةً، فقد أعطِيَ خير الدُّنيا والآخرة". ¬
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - رَفَعَهُ-: "إنَّ اللهَ قَسَمَ بينكُم أَخْلاقَكُم كَمَا قَسَمَ بينكم أرزاقكم" (¬1). وإثابةُ الربِّ -جل حلاله- لِعَبْدِهِ كاستعمال ذلك فيما أمر فيه، كالشَّجَاعة. وقال آخرون: إنَّهُ كَسْبيٌّ، وهو ظاهر الحديث، إذ لو كانَ جِبِليًّا لَمَا أَمَرَهُ به. وقال عمر - رضي الله عنه - لقبيصة بن جبر - رضي الله عنه -: "أراكَ شابًّا فصيحَ اللِّسان، فَسِيحَ الصَّدر. وقد يكونُ في الرَّجُل عشرةُ أَخلاقٍ: تسعةٌ صالحةٌ وخُلُق سَيِّئٌ، فَيُفسِدُ التِّسعةَ الصالحةَ الخُلُق السَّيِّئُ، فاتَّقِ عثَرَاتِ اللِّسان" (¬2). ¬
وقال صعصعة بن صوحان لابن أخيه زيد - رضي الله عنهما -: "خَالِص (¬1) المؤمن، وخَالِقِ الفَاجِر، فإنَّ الفَاجِرَ يَرْضَى مِنْكَ بالخُلُق الحَسَن" (¬2). * * * ¬
الحديث التاسع عشر
الحديث التَّاسع عشر عن أبي العَبَّاس عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قالَ: كُنْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - يَوْمًا فقالَ: "يا غُلامُ! إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ باللهِ، واعْلَمْ أنَّ الأمّةَ لَوِ اجتَمَعَتْ عَلى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إلَّا بِشَيءٍ قَدْ كتَبَهُ اللهُ لَكَ، وإن اجْتَمَعُوا على أنْ يَضُرُّوكَ بِشَيءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إلَّا بِشَيءٍ قدْ كَتَبَهُ اللهُ عليكَ، رُفِعَتِ الأَقْلامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ". رواهُ التَّرْمِذِيُّ وقال: "حَسَنٌ صَحيحٌ". وفي رِوايَةِ غيرِ التِّرْمِذِيِّ: "احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إلى اللهِ في الرَّخاءِ يَعْرِفكَ في الشِّدَّةِ، واعْلَمْ أنَّ مَا أخطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَمَا أصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، واعْلَمْ أنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبرِ، وأَنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ، وأنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا" (¬1). ¬
الكلام عليه مِن وجوه: وهو حديثٌ عَظِيمُ المَوْقع، وهو أصلٌ في رِعايَةِ حقوقِ الله، والتفويض لأمرهِ. أحدها: في التَّعريفِ بِراوِيهِ: وهو حَبْر الأمَّةِ وبَحرها - رضي الله عنه -، دَعَا له رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بأن يُفَقَّه في الدِّين، ويُعَلَّم التَّأويل، ودَعَا له بالحِكمةِ، ومناقِبهُ سائرة. وقد ذَكَرْتُ في "رِجالِ العُمْدَةِ" فيها ورَقات؛ فراجِعها منهُ. ماتَ سنةَ ثمانٍ وستين -وقيل: سنة سبعين-، وَوُلدَ قبلَ الهِجرة بأربع سنين، ودُفنَ بالطائف، ورأى جبريل مرتين - رضي الله عنه -! (¬1). الثاني: لا زالَ ابنُ عبَّاس مُوَفَّقًا مِنْ صِغَرِهِ، وقد استأذَنَهُ -وهوَ على يَمِينهِ حينَ شَرِبَ- في إعطائهِ الأشياخ، فأجابَ بعدمِ الإيثار (¬2)، فَلَمَّا رأى أهلِيّتَهُ أوْصَاه بما ذكر. الثالث: فيه جوازُ الإردَاف على الدَّابة، وقَد أفردَهُ ابن مندَه -رَحمه الله- بالتأليف، ومِنْ جُمْلَتِهِم: معاذ والحسن والحسين (¬3). ¬
وجاء في بعض الروايات أنهُ كان خلفَهُ على دابَّةٍ: فرس أو بعير أو غيره (¬1). الرابع: في ألفاظِهِ: "يا غلامُ" -بضمِّ الميم- لأنّه نكرة مقصودة، وكان عُمْرُ ابن عباس إذ ذاكَ عشر سنين -على أحد الأقوال-. و"الغلام": الصَّبي حين يُفطم إلى سبع سنين، وتصغيره: غُليم، والجمع: غِلمَةّ. و"تُجَاهَكَ" -بضَمِّ التاء وفتح الهاء-، و"أَمَامك" -بفتح الهمزة-: ما يلي وجهك، وأصل "تجاه": وجاه -بكسر الواو وضَمِّها- قُلِبت واوها تاء. و"جَفَّت": بالجيم، أي: فُرِغَ مِن الأمر وجفَّت كِتابتهُ (¬2)؛ لأنَّ الصحيفة حال كِتابتها لا بُد وأن تكون رَطْبة المِداد أو بعضه بخلافِ مَا إِذا فُرغ مِنها. و"لَمَّا خَلَقَ الله -سبحانه وتعالى- القَلَمَ ثُمَّ النُّون -وهي: الدواة- قال: اكتُب. قال: ومَا أكتُبُ؟ قال: ما كان ومَا هو كائنٌ إلى يومِ القِيامَةِ: مِن عمَلٍ، أو رزقٍ، [أو أَثَرٍ أو أَجَلٍ] (¬3)، فَجَرىَ القَلَمُ بذلِكَ، ثمَّ خُتِمَ العَمَلُ" (¬4). ¬
و"تَعَرَّف" -بتشديد الراء- أي: تحبب إليه بالطاعة واجتناب المخالفة حتى يعرفك في الرخاء مُطيعًا؛ فإذا وَقَعْتَ في شِدَّةٍ عَرَفَكَ بالطَّاعةِ فجعلكَ ناجيًا. ويقال: إنَّ العبدَ إذا تَعرَّفَ إلى الله في الرَّخاء ثم دعا في الشِّدة، قال: "هذا صوت أعرِفُهُ". وفي غيرهِ: "لا أعرفهُ دَعُوهُ" أو كما قيل (¬1). وذكر العُزيزي -رَحمهَ الله- (¬2) أن "الأمة" تنطلق على ثمانية أوجهٍ (¬3): والمُرادُ هنا: الخَلق (¬4). الخامس: في فوائِدِه: الأولى: قوله: "إِنِّي أعلمك كلمات" هو مقدِّمة يستدعي بها سمعه، ليفهم ما يسمع ويقع منه بِمَوقع، وذَكَرَها بِصيغةِ القِلَّة ليهوِّنها، وهي وإنْ كانت قليلة ¬
فمعانيها جَمَّةٌ جليلةٌ. وفي روايةٍ لمُسلِم في كتاب "الفصل للوصل" (¬1) بعدَ "كلمات": "ينفعُكَ اللهُ بهنَّ" أي: بعلمِهِنَّ، أو بالعَمَل بمقتضاهُنَّ، أو بمجموع ذلك، فهو على حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه. الثانية: معنى "احفظ الله يحفظكَ": احفظهُ بالطَّاعة يحفظكَ بالرِّعاية؛ فإذا أطعته بامتِثالِ أوامِرِه واجتنابِ نَواهيه أحاطَكَ بمُعَقِّباتٍ لهُ: {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11]. ومعنى: "احفظ الله تجده تجاهك" و"أمامك" أي: يراعيك في أحوالك، ولا تكن مخالفًا له فإنَّك تجدهُ تُجاهك في الشَّدَائدِ وفي كُلِّ الأحوال، كما جَرَى للثلاثةِ أصحاب الصَّخرة الثابت في "الصحيح" (¬2). وهذا في معنى الذي قبلهُ وتأكيدٌ لهُ، وهو يُشْبِهُ قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40]، {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] أي: اذكروني بالطَّاعة، أذكركُم بالمَغْفِرَةِ والرِّعاية، وهو مِن أبلغ المجاز وأحسنه، إذ الجِهَةُ مُسْتَحيلةٌ في حقِّهِ!! (¬3) وهذا نحو قوله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 194]، {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)} [البقرة: 153] فالمَعِيَّةُ معنوية لا ظرفية. ¬
فإن قُلتَ: لِمَ خَصَّ الإمام دونَ باقي الجِهات السِّتة؟ جوابه: أنَّ الإنسان سائر ومُسافر إلى الآخرة، والمسافر إنما يطلب أمامه لا غير؛ فالمعنى: تجده حيثما توجّهتَ ويمّمتَ وقصدتَ دينًا ودُنْيا. السادس: قوله: "إذا سألتَ فاسأل اللهَ" هو كقوله تعالى: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32] أي: وحِّدِ الله في السؤال، فإن خزائن الوجود بيده وأَزمَّتها إليه، لا معطي ولا مانع سواه. وكذا قوله: "وإذا استعنتَ فاستَعن بالله" أي: وحِّدْهُ في الاستعانة، إذْ لا مُعينَ غيرهُ، {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5] قدَّمَ المفعول ليفيد الاختصاص، وهذا إرشادٌ إلى التَّوكُّل على المولى، وألَّا يتَّخذ ربًّا سِواهُ، وألَّا يتعلق بغيره في جميع أموره ما قَلَّ منها وما جَل؛ فَإِنَّهُ حَسْبُ مَن تَوَكَّلَ عليه، ويا خيبةَ مَن ركَنَ بقلبهِ أو أمله إلى غيرهِ لا إليه؛ فبهِ يَحْصُل الإعراض، {وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} [الفرقان: 3]، وكذا مَن خافَ مِن غيرهِ ولم يُعَوِّل عليه، فقِف على الباب والزَمهُ وأَكْثِر مِنَ السؤال، فلا يبرم من السؤال. وقد قال تعالى لموسى الكليم -صلوات الله وسلامه عليه-: "يا موسى! سلني في دُعائكَ -وجاء: في صلواتك- حتى في ملح عجينك" (¬1). ¬
والله يغضَبُ إنْ تَرَكْتَ سُؤالَهُ ... وبُني آدمَ حينَ يُسْأل يَغْضَبُ (¬1) فقد ذاق طعمَ الإيمانِ مَن رَضِيَ بمولاه وأعرضَ عمن سِواه، وما أحسن قول الخليل لجبريل - عليه السلام - في تلكَ الحالة -لمَّا قال له: ألكَ حاجةٌ؟ -: "أَمَّا إليكَ فلا" (¬2). سَلِّم الأمرَ إلى مالكه ... فلهُ العِلمُ المُحيطُ الواسِعُ واطْلب المَعْرُوفَ منهُ دائمًا ... فهوَ مُعْطِي ذاكَ وهوَ المانِعُ وإذا كان الرِّزقُ قدْ قُسِم، والعَطاءُ قد حُتِم، فحقيقٌ على العَبْدِ الضَّعيف الاعتماد والسُّكون، والإجمال في الطلب مما كان وسيكون، وقلوبُ الخَلْق بيَدِه، ومَفاتيحُ الخزائن تحتَ قُدْرَتهِ، وبِقَدْر ما يميل العبدُ إلى المخلوق بَعُدَ عن المولى، فكيفَ بتركِ عين اليقين إلى مَن لا يقدِرُ على فتيلٍ ولا قِطْمِير؟! السابع: ثُمَّ أَكَّدَ ذلك فقال: "واعلم أنَّ الأمة لو اجتمعت .. " إلى آخره، في النّفع والضر، فالكُلُّ بيَدهِ: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إلا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)} [الأنعام: 17] أي: وحِّد الله في لحوق الضر ¬
والنفع، فهو يوجِدُهُما وحدَهُ، وصارف ضر المخلوقين عنكَ؛ لأنَّ زِمام الوجود بيده منْعًا وإطلاقًا، فإذا أرادكَ أَحَدٌ بسوءٍ وأرادَ اللهُ رفْعَهُ عنكَ مَنَعَهُ بِعارِضِ مرَضٍ، أو شُغلٍ، أو نِسيانٍ، أو صرفِ قلبٍ. وإذا أردتَ أنْ تَعْرِفَ تصاريف الأقدار في الوجود فانظر إلى رقعة الشِّطْرَنْج كيفَ يقْلِبُها مجيء بعض، ويقتل بعضها بعضًا، ولا يُستَغربُ ذلك؛ فَحَقِّقْهُ بعينِ اليقين تَجِد أسباب المقادير في الوجود يمنعُ بعضها وصول الشر إلى بعض: "مَصَائِبُ قومٍ عندَ قومٍ فوائِدُ". الثامن: قوله: "كتبه الله لك" و "كتب عليكَ" قد سلَفَ فيما مضى: كَتْبَ الرِّزق والأجل والعمل والشَّقاء والسَّعادة (¬1). التاسع: قوله: "رُفِعت الأقلام وجَفَّت الصُّحف" أي: فلا يكون خلافَ ما ذَكَرت بنسخ ولا تبديل، فالكتابة تركت بها لرفع الأمر وإبرامه، كما سلف في: "وجفَّت الصحف". العاشر: قوله: "أنَّ ما أخطأكَ لم يكُن ليصيبك ... " إلى آخرهِ، هوَ رَاجعٌ إلى قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22] أي: قدْ فُرغَ مِمَّا أصابكَ أو أخطَأَكَ مِن خيرٍ أو شَرٍّ، فَما أَصَابَكَ كانت الإِصَابة متَحَتِّمة فلا يمكن الخطأ، ومَا أخطأَكَ فالسَّلامَةُ منهُ محتومة فما يمكن الإصابة، لأنَّ ذلِكَ كالسِّهام الصائبة وجهت مِن الأزل فلا بُدَّ أنْ تقع مَوَاقعها (¬2)، فتخصيص الإرادة وتعلّق العِلم الأزلي به يتحتم الوقوع، وإذا تعلَّقَ علمُ اللهِ بوقوع ممكِنٍ أو عدم وقوعه فهل يبقى خلاف ما تَعَلَّقَ بهِ ¬
العِلم مقدورًا؟ فيه قولان (¬1) حكاهما الإمام في "نهاية العقول" (¬2). الحادي عشر (¬3): قوله: "واعْلَم أن النَّصرَ مع الصَّبر، وأنَّ الفرجَ مع الكرب" فيه حثٌّ على الصَّبر عندَ نزول الكرب، والطمأنينة بالنَّصْر والفَرَج، فالفَرَجُ سببُ النَّصر: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)} [النحل: 126]. ومن جُمْلَةِ الخير: النَّصر، فمَن صَبَرَ انْتَصَرَ، ومَن انتصر حازَ الظَّفر، والكَرْبُ غيرُ دائِمٍ، وعُقْبَاهُ الفَرَجُ، فيُحْسِن العبدُ ظَنَّه بمولاه فيصلحُ عاقبتهُ ودُنْياه، فالإنسان مُعَرَّضٌ للمصائب -لا سِيَّما أهلُ الخير- قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ} (¬4) [البقرة: 155] الآية. فمَن صَبَرَ واحْتَسَب ورضي بالقضاء، وانتظَر ما وُعِدَ من جزيل العطاء بقوله: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157] الآية، فَنِعْمَةُ الفِعْلَةُ، ونعوذُ باللهِ مِنْ ضدِّها؛ فالصَّادِقُ وُعِدَ بالنَّصر والفرَج وباليُسْر معَ الرِّضا والصبر والاحتساب، فـ {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)} [الزمر: 10]. واعلَم أنَّ المَعِيَّةَ في هذه الأمور إنْ أُخِذَت بالنَّظَر إلى العلم الأزلي فلائحٌ، لأنهما مُقْتَرِنَان في تَعَلُّق الحكم الأزلي بهِما، أي: لم يكن نفسُ تعلُّقه بأحِدهما بعدَ الآخر، وإنْ تَعلَّقَ بأنَّ أحَدَهُما سيقعُ بعدَ الآخر (¬5)، وإنْ أُخِذَت بالنَّظَر إلى ¬
الوجود الخارجي كانت بمعنى "بعد" أي: أَنَّ النَّصر بعد الصَّبر، والفرج بعد الكرب، ويجوز بقاؤها على بابِها، والمعنى: حصوله آخر أوقات الصبر (¬1). الثاني عَشَر (¬2): قوله: "وأَنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا" هو نَصُّ القرآن العظيم، والكلام في المعيَّة كما سلف. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: "لن يَغْلِب عُسرٌ يُسْرَيْن" (¬3). ورُوي مرفوعًا في رسالتهِ إلى أبي عُبيدةَ - رضي الله عنه -، وهو في "الموطأ" عن عمر (¬4). يُشيرُ إلى تنكير اليُسْر وتعريف العُسْر، والمُنكَّر مُتَعَدِّد، والمُعَرَّف مُتَّحِدٌ بناءً على أنَّ اللام فيه للعَهْدِ السَّالف، نحو قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 15، 16]. وأبعَدَ مَن قال: الأول في الدنيا، والثاني في الآخرة. وقوله تعالى: {وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] المراد في الأحكام، فلا تضاد مع الآية المذكورة، إذِ المُرادُ فيها العسرُ في الأرزاق والمكاسب، قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بُعِثْتُ بالحَنيفيَّةِ السَّمحة" (¬5). ¬
وصَدْرُ الآيةِ دالٌّ على ذلك، وهو قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]. واعلم أنه لا خفاءَ إذا تعدد اللفظُ واتَّحَدَ المعنى، وكانا مَعْرِفتَيْن أنه راجعٌ إلى معهودٍ سابق، فإنْ كان الثاني نَكِرةً تعدد، وإن كانَ الأول معرفةً والثاني نكرةً أو عكسه فلا، وذلك مع التَّجرُّد عن القرائن. وما أحسن حكاية العتبي -رحمه الله- قال: "كنتُ ذاتَ يوم في بادِيَةٍ وأنا بحالة مِن الغَمِّ، فأُلقِيَ في رُوعِي بيتٌ مِنَ الشِّعر، فقلتُ: أرىَ الموتَ لمن أصبحَ مغمومًا لهُ أروح فلَمَّا جنَّ الليلُ سَمِعتُ هاتفًا يهتفُ مِنَ الهواء: ألا أيها المرءُ الذي الهمُّ به بَرح وقد أنشد بيتًا لم يزل في فكره سنح إذا اشتدت العُسْرَى ففَكِّر في أَلمْ نَشْرَح فَعُسْرٌ بينَ يُسْرَين إذا ذكرتَهُ تفرح فإنَّ العُسْرَ مَقْرُونٌ بيُسْرَيْنِ فلا تَتْرَحْ فحَفِظْتُهُما، فَفَرَّجَ الله عنِّي" (¬1). * * * ¬
الحديث العشرون
الحديث العشرون عن أبي مَسْعُودٍ عُقْبَةَ بن عَمْرٍو الأنصاريِّ البَدْرِيِّ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلامِ النُّبُوَّةِ الأُولى: إِذَا لَمْ تَسْتَح فاصْنع مَا شِئْتَ". رواه البُخاريُّ (¬1). * * * الكلام عليه من وجوهٍ: أحَدهما: في التَّعريفِ بِرَاوِيهِ: وهو أبو مسعود عُقْبَة بن عمرو بن ثعلبة الأنصاري البدري الصحابي، ولم يشْهَد بَدرًا -في قول الأكثرين- وإِنَّمَا نَزَلَها (¬2)، كالمقبري؛ لنزوله المقابر (¬3)، ويزيد الفقير؛ لِفقار ظهره (¬4)، وفلانٌ الضال؛ لأنَّهُ ضَلَّ عن الطريق (¬5). ¬
ثانيها: هذا الحديثُ عليهِ مَدَارُ الإسلام، وَوَجْهُهُ: أنَّ أفعال العبد إمَّا أن يستحي منها أَوْ لَا. فالأوَّل: يشمل الحرام والمكروه، وتركُهُمَا هو المشروع. والثاني: يَشْمَلُ ما في الأحكام الخمسة: الوجوب والندب والإباحة، وفِعْلُها مَشْرُوعٌ في الأوَّلَيْن، شائعٌ (¬1) في الثالث، وهذه أحكام الأفعال الخمسة، وهو شَبِيهٌ بالحديث الآتي: "الإثْم: مَا حاكَ في نَفْسِكَ" (¬2). ثالثها: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "فاصْنعَ مَا شِئتَ" هل هو خَبَرٌ أو نَهْيٌ؟ كقوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40]، {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} [النحل: 55]، "أشْهِدْ على هَذَا غَيْرِي" (¬3)، و"مَنْ باعَ الخَمْرَ فلْيُشَقِّص (¬4) بالخَنَازِير" (¬5)، ¬
والمعنى على هذا: إذا نُزِعَ عنكَ الحياء فافعل ما شِئتَ، فَإِنَّهُ تعالى يُجازيكَ عليهِ، ويكونُ هذا تعظيمًا لأمرِ الحياء، وتبيينًا لوضْعِهِ عندَ فَقْدِه. وعلى الأول معناه: إذا لَمْ تَسْتَحِ صَنَعْتَ مَا شِئْتَ؛ لأنَّ عَدَمَ الحياء يُوجِبُ الانهِمَاكَ في هَتْكِ السِّتْرِ، وقد ثبتَ أنَّ: "الحياء شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الإيمانِ" (¬1). وقال -عليه الصلاة والسلام-: "الحياءُ لا يَأتِي إلَّا بِخَيْرٍ"، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "الحياءُ خَيْرٌ كلُّهُ" (¬2). وقال -عليه الصلاةُ والسَّلام-: "اسْتَحْيُوا مِن الله حَقَّ الحَيَاءِ" (¬3). رابعها: معنى: "إنَّ مِمَّا أدركَ الناس": أنَّ الحياءَ لَمْ يَزَل مستَحَبًا مُسْتَحْسَنًا في شرائعِ الأنبياء الأوَّلين، وأَنَه لم يُنْسَخ مِن جُمْلَةِ مَا نُسِخ مِن شرائِعهم، ولا شَكَّ أنهُ مِن الخِصَالِ الشَّريفة، والصِّفاتِ المنيفة، وهو خيرٌ كُلُّهُ كما سلف (¬4)، ولكن لا ينبغي أن يغلبه حتى يستحي فيما يَضُرُّه مِن أمرِ دينهِ ¬
ودنياه، فإنَّهُ حياءٌ غيرُ محمود، ومنهُ الحياء في التَّفقه في الدين، وليسَ حياءً، بل خَوَرًا (¬1). وأهلُ المعرِفةِ في الحياء مُنْقَسِمون، كما أنهم في أحوالهم متقاربون، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جُمِعَ لهُ كمال نَوْعَي الحياء، فكان في الحياء الغريزي أشدَّ حياءً مِن العذراءِ في خِدْرِها، وفي حالهِ الكَسْبي في [ذروتها] (¬2). * * * ¬
الحديث الحادي والعشرون
الحديث الحادي والعشرون عن أبي عمرو -وقيل: أبي عَمْرَةَ- سفْيان بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: قُلْتُ: يا رَسولَ الله! قُلْ لي في الإسْلامِ قَوْلًا لا أَسْأل عنهُ أَحَدًا غَيْرَكَ. قال: "قُلْ آمنْتُ باللهِ، ثُمَّ اسْتَقِمْ". رواه مُسْلِمٌ (¬1). * * * الكلام عليه مِن وُجوهٍ: أحدهما: في التَّعريفِ بِرَاويهِ: وفي كُنيَتهِ قولان -كَمَا ذَكَرَ- أبو عمرو: بالواو، وأبو عَمْرَةَ: با لهاء، وهو ثَقَفي طائفي، وليَ الطَّائِفَ لِعُمَر، روى له: "م"، ["س"، "ق"] (¬2) هذا الحديث، وليسَ لهُ عِندَهم غيره، وحديثٌ آخر عند "س" في "اللقطة" (¬3)، وسفيان سِينُهُ مُثَلَّثَةٌ (¬4). ثانيها: وهو مِن جوامِعِ كَلِمِه، كما قال القاضي (¬5). ¬
أي: "استَقِمْ كَمَا أُمِرتَ" مُمْتَثِلًا أَمْرَهُ، ومُجْتَنِبًا نَهْيَهُ، وهو مُطَابق لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30] أي: لم يَحِيدُوا عن توحيدهِ، والتَزَموا طاعتهُ إلى أنْ تُوُفُّوا عليه، كما قال عُمَر: "اسْتَقَاموا لله على طاعَتهِ، ولَمْ يَرُوغوا رَوَغَانَ الثعلب" (¬1). فقوله: "آمنْتُ بالله" هو بمعنى: {قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [فصلت: 30] إذْ لا يعتقد ربوبيته إلَّا مَن آمَنَ به، وهو على اختصاره مِن أجمَعِ الأحاديث لأصول الإسلام، إذِ الإسلامُ توحيدٌ وطاعةٌ، فالتوحيد حاصِل بـ "آمنتُ بالله" (¬2). والطاعة حاصِلةٌ بالاستقامة، إذ هي: امْتِثالُ كلّ مأمُور، واجتناب كُلِّ محظور، ويدخلُ فيه أعمال القلوب والأبدان مِن الإيمان والإسلام والإحسان (¬3). وفي التنزيل: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} [فصلت: 6]. وفي الحديث: "شَيَّبَتْنِي هودٌ وأَخَوَاتها" (¬4). وشَيَّبَهُ أَنَّ فيها: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112] وهي: كلِمَةٌ جامِعَةٌ لجميع أنواع التكاليف. قال ابن عباس: "مَا نَزَلَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جميع القرآن آيةٌ كانت أشَدَّ ¬
ولا أشقَّ عليه من هذه الآية" (¬1). فلذلكَ قال مَا قال. قال القُشيري - رَحَمه الله -: "الاستقامة: درجة بها (¬2) كمال الأمور وتمامها، وبوجودِها (¬3) حصول الخيرات ونظامها، ومَن لمْ يكن مُسْتَقيمًا في حالته ضاعَ سَعْيُهُ وخابَ جدُّه (¬4). وقيل: الاستقامة لا يُطيقُها إلَّا الأكابر؛ لأنَّها خروج عن المَعْهُودات، ومفارقةُ الرُّسوم والعادات، والقِيامُ بينَ يدي الله تعالى بالصِّدق (¬5)، ولذلِكَ قال -عليه الصلاةُ والسَّلام-: "اسْتَقِيمُوا ولَنْ تُحْصُوا" (¬6). وقال الواسطي: "هي الخصلة التي بها كَمُلت المَحَاسِن" (¬7). ثالثها: معنى قوله: "قُل لي في الإسلام" أي: في دِينِهِ وشَريعَتِهِ. وقوله: "لا أَسْألُ عنهُ أحَدًا غيرَكَ" أي: جامِعًا لِمَعاني الإسلام، واضِحًا في نفسهِ بحيث لا يحتاج إلى تفسير غيركَ، كافيًا لا أحتاج إلى سؤال غيرك، وهو ¬
نحوٌ مِمَّا سبقَ في قوله: "لا تغضَب" (¬1). رابعها: هذا الجواب دالٌّ على أنه -عليه الصلاة والسلام- أوتيَ جوامِعَ الكَلِم، واختُصِرَ له الكلامُ اختصارًا، كما يُمْدَحُ به -عليه الصلاةُ والسلام-، فإنَّهُ جَمَعَ لهذا السائل في هاتَيْن الكلمتَيْن معاني الإسلام والإيمان كلها، كما أسلفناه. خامِسُها: زاد التِّرمذيُّ في هذا الحديث زيادةً مُهِمَّة: "قلتُ: يا رسولَ الله! ما أَخْوَفُ ما تَخَافُ عليَّ؟ فأَخَذَ بِلِسانِ نفْسِهِ ثم قال: هذا". "حديثٌ حسنٌ صحيح" (¬2). * * * ¬
الحديث الثاني والعشرون
الحديث الثاني والعشرون عن أبي عبد الله جابر بن عبد الله الأنصَاريِّ - رضي الله عنهما -: أنَّ رجُلًا سألَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: أَرَأيتَ إذا صَلَّيْتُ المَكْتُوباتِ، وصُمْتُ رَمَضانَ، وحَلَّلْتُ الحَلالَ، وحَرَّمْتُ الحَرامَ، ولَمْ أَزِدْ على ذَلِكَ شيئًا؛ أَأَدْخُلُ (¬1) الجَنَّةَ؟ قال: "نَعَم". رواه مُسْلِمٌ (¬2). * * * الكلام عليه من وجوهٍ: أحدهما: في التَّعريف بِرَاوِيهِ: هو أبو عبد الله -ويقال: أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو محمد- جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام -بالحاء والراء المُهْمَلَتَيْن- الخَزْرَجِي السُّلمي، صحابي ابن صحابي، شَهِدَ ما بَعْدَ أُحُدٍ (¬3)، وشَهِدَ العَقَبَةَ مع أبيه وهو صبي، وصِفِّين مع عليٍّ، واسْتَغْفَرَ له الشَّارعُ. مات بعد السَّبعين وقد جاوز التِّسعين، وكان عَمِيَ (¬4). ثانيها: هذا السائِل هو النُّعمان بن قَوْقَل -بقافين ولام- فيما قالَهُ بعضُ ¬
الشُّرَّاح (¬1). ثالثها: "أَرَأَيتَ" همزةُ استفهامٍ دَخَلت على "رأيت". ومعنى: "حَرَّمت الحرام" اجْتَنَبْته. و"حللت الحلال" فَعَلْتُهُ مُعْتَقِدًا حِلَّهُ. قال ابن الصَّلاح: "والظاهر أَنَّهُ قَصَدَ به اعتقاد حرمته، وألَّا يفعله. بخلافِ تَحْلِيل الحَلال فإنَّهُ يَكْفِي فيه مُجَرَّدُ اعتقاد كونهِ حلالًا" (¬2). قال القاضي (¬3): "وهذا السائل إنما سَأَل عن دخول فعل مَا يجبُ عليه، والانتهاء عمَّا حَرَّمَ عليه الجنة؛ فأجابه بنعم، ولم يذكر له في الحديث شيئًا مِن التَّطوعات على الجُمْلة، وهو دالٌّ على جَوَازِ تركِها! لكن مَن تَرَكَها ولم يعمل شيئًا منها؛ فقد فوَّتَ على نفسه ثوابًا جمًّا، ودوامه عليه دالٌّ على نقصِ دِينِهِ، والقَدْحِ في عدَالَتهِ، فإنْ كان تركُهُ تهاونًا بها، ورَغْبةً عنها كان فاسِقًا مَذْمُومًا". ثُمَّ نَقَلَ عن عُلَمَائِهِم: "لو أنَّ أهلَ بَلْدَةٍ تواطئُوا (¬4) على تَرْكِ سُنَّةٍ؛ قُوتِلُوا عليها، حتى يرجِعُوا. ولقد كان صَدْرُ الصَّحابة ومَن بعدَهُم مُثابِرونَ على فعلِ السُّننِ والفضائل مثابرتهم على الفرائض، ولم يكونوا يُفَرِّقونَ بينهما في اغتنام ثوابهما، وإنما احتاج الفقهاء لِذِكْرِ الفرقِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عليه من وُجوب الإعادة وتَركِها، وخوف العِقاب على التَّرك، ونَفْيِه (¬5) إن حصَلَ تركٌ مَا بِوَجْه مَا" (¬6). ¬
وإنما تركَ الشَّارعُ تنبيهه على السنن والفضائل تسهيلًا وتيسيرًا لِقُرب عهْدِهِم بالإسلام، لِئلَّا يكون الإكثار من ذلك تنفيرًا، وعَلِمَ أنه إذا تَمَكَّن في الإسلام وشرح الله صَدْرَهُ رَغِبَ فيما رَغِبَ فيه غَيْرُهُ، لئلَّا يعتقد وجوب ذلك، فتركه من ذلك. وقد أجاب الشَّارع ذلك السائل بقوله: "لا، إلَّا أن تَطَوَّع" (¬1) لَمَّا سأَلهُ عن الصلاة والصوم. وللبخاري في كتاب الصوم: "واللهِ لا أَتَطَوَّعُ شيئًا" (¬2)، وفي لفظٍ: "إنْ تَمَسَّكَ بِمَا أُمِرَ به دَخَلَ الجَنَّةَ" (¬3). نعم؛ مَن أتى بها كان أفلح ممن لم يأتِ، وإِنَّمَا شُرِعت النوافل لتَتْمِيم ما نَقَصَ مِن الفرائض، فتركُ ذلك تسهيلًا عليهم إلى أن تنشرح صُدُورهم، ومِنَ المعلوم أنَّ هؤلاء ما سُوِّغ لهم تركُ الوِتر ولا العيدين، ولا مَا فِعْلهُ في الجَمَاعَةِ. رابعها: إِنَّمَا لم يَذْكُر الحج في هذا الحديث، لعموم فرضه إذ ذاك، كما سلف في حديث ابن عمر، نعم؛ هو يندرجُ في تحريم الحرام، لأنَّ تركَ الحجِّ وغيرهِ مِن الواجبات حرام، وهو قاعِدَةٌ جامِعَةٌ لأصول الدين وفروعه، لأنَّ الأفْعَال: إِمَّا قلبيَّةٌ أو بدنية، وكل ذلك إمَّا أصليةٌ أو فرعيَّة، ثم المأذون فيها هو الحلال والممنوع الحرام، واللام في "الحلال" و"الحرام" للاستغراق؛ فإذا أحلَّ كلَّ الحلال، وحرَّمَ كلَّ الحرام فقد أتى بجميع وظائف الدِّين ودَخَلَ الجَنَّةَ آمِنًا. ¬
خامِسُها: فيه ذِكرُ رمضان مِن غير ذِكر الشهر؛ وهو الصحيح. * * *
الحديث الثالث والعشرون
الحديث الثالث والعشرون عن أبي مالكٍ الحارِثِ بن عامِرٍ الأشْعَري - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الطُّهورُ شطْرُ الإِيمَانِ، والحَمْدُ للهِ تَمْلأُ المِيزَانَ، وسُبْحَانَ الله والحَمْدُ للهِ تَمْلآنِ أو تَمْلأُ مَا بينَ السَّماءِ (¬1) والأرْضِ، والصَّلاةُ نُورٌ، والصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، والصَّبرُ ضياءٌ، والقرآنُ حُجَّةٌ لَكَ أوْ عَلَيْكَ، كلُّ النَّاسِ يَغْدُو، فبَائِعٌ نَفْسَهُ، فَمُعْتِقُها أوْ مُوبِقُها". أخرَجَةُ مُسْلِمٌ (¬2). * * * الكلام عليهِ مِن وجوهٍ: أحدها: هذا الحديث مِنْ أفرادِ مُسْلِمٍ، بل لم يخرّج عن صَحَابيِّه في كتابهِ شيئًا. وأخرجَ له "مسلم" حديثًا آخر: "أرْبَعٌ مِنْ أَمْرِ الجَاهِلِيَّةِ" (¬3). ¬
نعم؛ له في موضعٍ عن أبي مالك الأشعري -أو أبي عامر على الشَّك- في "المعازف" (¬1). وأخرجَهُ الترمذيُّ أيضًا، وفي روايةٍ له: "التَّسْبيحُ نِصْفُ الإيمان، والحمدُ للهِ تَمْلَؤُهُ، والتَّكبيرُ يملأُ مَا بينَ السموات والأرض، والصومُ نِصْفُ الصَّبر" (¬2). وفي روايةٍ أُخرى: "ولا إلهَ إلَّا الله ليسَ لها دُونَ الله حِجَابٌ حتى تَخْلُصَ له" (¬3). وللبيهقي (¬4): "وسبحان الله واللهُ أكبر تملأ ما بينَ السَّماء والأرض، والصوم جُنَّةٌ" بدل: "الصلاةُ نورٌ". وفي اسمهِ أقوالٌ كثيرةٌ نحوَ عشرةِ أقوال، وهو معدود في الشَّاميين: الحارث بن الحارث، أو عبيدة، أو عبيد الله، أو عمرو، أو كعب بن عاصم، أو كعب بن كعب، أو عامر بن الحارث بن هانئ بن كلثوم، هذا في "تهذيب" المِزِّي (¬5). وقال ابن حبان: "الحارث بن مالك" (¬6). وفي العسكري -عن بعضهم-: "كعبُ بن مالك". ¬
قال أبو أحمد في "كناه": "أمرهُ يشتَبِهُ جِدًّا" (¬1). ولَم أرَ فيها مَا ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ مِنْ أنَّ اسمهُ: الحارث بن عامر، لا جَرَمَ أنَّ في بعضِ النّسخ: ابن عاصم. وطعن هو ومعاذ، وأبو عبيدة، وشرحبيل بن حسنة في يومٍ واحِدٍ (¬2). ثانيها: هذا الحديث أصلٌ مِن أصولِ الإسلام، قد اشتَمَلَ على مُهِمَّاتٍ مِن قواعد الدِّين، ولنَحصر الكلام عليه في مواضِعَ: أوَّلُها: "الطُّهور" المُرادُ بهِ هنا الفعل؛ فهو مَضمُومُ الطاء، ويجوزُ فتحُها، وإنْ قال القرطبي في "مفهمه": "إنما رُويَ بالفتح" (¬3). أمَّا الفتح: فما يُتطهَّر به من جامِدٍ ومائعٍ، وقيل: فيه الضمُّ أيضًا. قال المُصنِّف -رَحمه الله-: "والمرادُ به هنا: الوضوء" (¬4). قلتُ: بل هو أعمُّ منه ومِن الغسل وغيرهما، ولذلك عبَّرت بقولي: الفعل، والمراد به أيضًا: الطَّهارة من المستخبثات الباطنة. ورِوايَةُ ابن حِبَّان في "صحيحه": "إِسْبَاغُ الوضوء شَطْرُ الإيمَان" (¬5). والمُراد: إِتْمَامه. ¬
ثانيها: أصل "الشَّطْر": النِّصف، قال ابن دُرَيد في "الجمهرة": "النِّصفُ مِن كُلِّ شيء" (¬1). وقال صاحب "المجمل": "شطرُ كلِّ شيءٍ: نِصْفُهُ" (¬2). قلتُ: في حديث "الإسراء" مَا يَدُلُّ على أَنَّ الشَّطر يكون الجزء، بقوله في الصلاة: "فوضَعَ شطْرَها -قال ذلكَ ثلاثًا-" (¬3)، فلوْ كان الشَّطرُ بمعنى النِّصف كان قد سقط الكل في الثاني. وفي "النَّسائي": " ... فَجَعَلَها أرْبَعِينَ، ... فَجَعَلَها ثَلاثِين، ... فجَعَلَها عِشْرِينَ، ... ثُمَّ عَشَرَة، ... ثُمَّ خَمْسَة" (¬4). واختُلِفَ في معنى كونه "شطْر الإيمان" على أَوْجُهٍ (¬5): أحدُها: أنَّ مُنْتَهَى تَضعِيف ثَوَابه إلى نِصْفِ أَجْرِ الإيمان. ثانيها: أنَّ الإيمان يَجُبُّ مَا قبلَهُ مِنَ الخطايا؛ فكذا الطهور، لكن صِحَّته مُتَوَقِّفةٌ على الإيمان، فصارَ نِصْفًا. ثالِثُها: أنَّ المُرادَ بالإيمان: الصلاة، والطهور شَرْطٌ لِصِحَّتِها؛ فكانَ كالشَّطْر، وليسَ يلزَمُ في الشَّطر أَنْ يكونَ نِصْفًا حقيقيًّا، وهذا القول أقربها، ¬
ويشهد له قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] أي: صلاتكم إلى بيتِ المقدِس (¬1). ولا شَكَّ أنَّ الإيمانَ شرطٌ باطِنٌ لِصحَّتِها، والطُّهور شرطٌ ظاهِرٌ لها؛ فاقْتَسَمَاها، والإيمان تصديقٌ بالقلب، وانقِيادٌ بالظاهر، وهُما شَطْرَا (¬2) الإيمان، والطهارة متضمِّنةٌ للصلاةِ، فهي انقيادٌ في الظاهر. ثالِثها: معنى "الحَمْدُ لله تملأ الميزان" أنَّ ثوابها يملؤهُ خيرًا، ومعناه: عِظَمُ أجْرِها؛ فيملأ ميزانه. وقد تَظَاهرت نصوص القرآن والسنة على وزن الأعمال وثِقلُ الموازين وخِفَّتها، وسبب الموازنة المناسِبة في الملءِ أنَّ "اللَّام" في "الحمد" لاسْتِغْراق جِنْس الحمد الذي يَجِبُ لله ويستحِقّه بملء الميزان؛ فكذا ثوابه. و"تملأ": بالمُثَنَّاة فوق، ويرجع إلى اللفظ أو الجملة، ويصِحُّ بِمُثَنَّاة تحت، ويَرْجع إلى الحمدِ نفسه، والظاهر أنَّ المُراد هذا اللفظ فقط. رابعها: "الميزان" مِفعال مِنَ الوزن، وأصله موزان، فانقَلَبَت الواوُ ياءً لانكِسار مَا قبلها، ومِثلهُ: ميعاد وميقات، ونحو ذلك، لأنهما مِن الواعدِ والوَقت. ¬
وهذا الحديث ظاهِرٌ في ثبوت الميزان ذي الكفَّتين واللِّسان (¬1) في المعاد، وحقيقتهُ كما قُلناه (¬2). وخالفت المعتزِلة؛ وبعضهم قال: الميزان كناية عن إقامة العدل في الحساب لَا أَنَّهُ ميزانٌ حقيقةً ذو كفّين ولسان، كما يُقال: يدُ فلانٍ ميزان، وهو قولُ جمهور المعتزلة، وبعضهم يُجَوِّزُهُ ولا يقطعُ به (¬3)، والظواهر مع أهل السُّنّة أنه حقيقة. وقد قيل: "يا رسولَ الله! أينَ نَجِدُكَ في القيامة؟ قال: عندَ الحوض، أو الصراط، أو الميزان" (¬4). ¬
قال الغزالي -رَحمه الله-: "وَصِفَتُهُ في العِظَم أنه مثل طباق السموات والأرض، توزَنُ فيه الأعمال بِقُدْرَةِ الله تعالى، والصنج (¬1) يومئذٍ مثاقيل الذر والخردل، تحقيقًا لِتَمَام العدل، وتُطْرَحُ الحَسَنات في كِفَّةِ النور، فيثقُلُ بها الميزان على قَدْرِ درجتها عندَ اللهِ بفضلهِ، وتُطْرَحُ صحائف السيئات في كِفَّةِ الظُّلمة، فتخِفُّ بها الميزان بِعَدْلِهِ" (¬2). قال ابن عباس -فيما نقلهُ الواحدي-: "يُؤتى بعملِ المؤمن في أحسنِ صورةٍ، فيُوضعُ في كِفّة الميزان، فتثقل حسناته على سيئاته، فذلكَ قوله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8)} [الأعراف: 8] , وهذا كقوله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ} [الأنبياء: 47] الآية" (¬3). وإنما قال: {موازينه} على الجمع حملًا له على معنى مِن دون لفظها، أو أنَّ المراد بالموازين: الموزونات كما ذهب إليه بعضهم. "ويُؤتى بعمل الكافر في أقبح صورةٍ، فيُوضَعُ في كفَّة الميزان، فيخفُّ وَزْنُهُ، فذلكَ قوله: {فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} [الأعراف: 9] أي: صاروا إلى العذاب". وَرَوَت عائشة - رضي الله عنها - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ثلاثُ مواطن لا يَذكُرُ أَحَدٌ فيها أحدًا إلا نَفْسَهُ: عند الميزان حتى يعلم أيخف ميزانهُ أم يثقل، وعند الصُّحف حتى يعلم أيأخذُ صَحيفتهُ بيمينهِ أم بشماله، وعند الصِّراط حتى ¬
يجاوزه" (¬1). ثُمَّ قيل: لكُلِّ أمةٍ ميزان، ولِكُلِّ إنسان ميزان، والأصح أنه واحد، وقوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ} [الأنبياء: 47] مِمَّا أطلق به الجمع وأُريد به المفرد، أو أُريدَ به الأعمال الموزونة، أو جمعه باعتبار الأجر، أو كان الوزن بالمثاقيل لظهور مقادير الجزاء، وهو مأخوذ من قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)} [الزلزلة: 7] وتوزن مظالم العباد فتؤخذ مِن ظالمها؛ فإن لم يوجد له حسنات طرح عليه من سيئاته. خامِسُها: قوله "تَمْلآن أو تملأ" هو بالمُثناة فوق، الأول ضمير مؤنثين غائبين، والثاني "تملأ" ضمير هذه الجملة مِن الكلام. وقال صاحب "التحرير": "يجوز (¬2) "تملآن" بالتذكير والتأنيث -على ما ذكرنا-، والتذكير على إرادة (¬3) النوعين مِن الكلام أو الذِّكْرَين". قال: "وأَمَّا "تملأ" فَمُذَكَّر على إرادة الذِّكر" (¬4). وهذا التردد كأنه شكٌّ مِن بعض الرواة، وكِلا الأمرين جائزٌ لغةً -كما قرَّرناه-؛ لأنَّ "سبحان الله" و"الحمدُ لله" كلمتان في اصطلاح النحاة، ويُطلق عليهما: كلمة لُغَةً، كما يُسَمُّون الخطبة: كلمة، ويقولون: قال فلانٌ في كلمته، و"تملأ" باعتبار أنها كلمة لغة. ¬
ومعنى: "سبحانَ الله": نزهته عمَّا لا يليق به، وهو علم على معنى الربوبية. ومعنى "الملء": أنَّ ثوابهما لو قُدِّر جِسْمًا لملأ ما بين السماء والأرض. ورواية ابن حِبَّان في "صحيحه" (¬1): "والتَّسْبيحُ والتَّكْبِيرُ مِلْءُ السَّمَوَاتِ والأرْضِ". وسببه ما اشْتَمَلتا عليه من التنزيه. قال المُصَنِّف: "والتفويض إلى الله تعالى" (¬2). أي: مِن عموم الحمد؛ إذ يقتضي عموم الحمد على كل حال في السَّراء والضَّراء، وذلك تفويض؛ فإذا حَمِدَ مُسْتَحْضِرًا معناه في قلبه امتلأ ميزانه حسناتٍ، فإنْ أَضافَ إليه التنزيه ازداد، وذَكَر السموات والأرض على العادة. سادسُها: قوله "والصَّلاةُ نورٌ" أي: باعتبار نهيها عن الفحشاء والمُنْكَر، فتمنع من اقترافها، وتهدِي إلى الصَّواب كما أنَّ النُّور يُستضاءُ به. أو أنَّ ثوابها يكون نورًا لصاحبها يومَ القيامة. أو أنها سببٌ في استِنَارةِ القلب؛ فبسببِها تتشرَّق أنوار المعارف وانشراح القلب، وكاشفات الحقائق لفراغ القلب فيها، وإقباله على الله ظاهِرًا وباطِنًا. قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45]. ومِنهُ: "وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْني في الصَّلاةِ" (¬3). ¬
أو أنها تكون نورًا ظاهِرًا على وجههِ في الآخرة أو في الدُّنيا بِخِلاف مَن لمْ يُصَلِّ (¬1): {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} [التحريم: 8]، "إِنَّ أمَّتي يُدْعَوْنَ يَوْمَ القِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلينَ مِنْ آثارِ الوضُوءِ" (¬2). ويحتمل الكل، وهو مِنْ بابِ قولهم: زيدٌ أشد؛ إِمَّا مبالغة، ويحتمل أن يكون مِنْ قولهم: رجلٌ عَدْلٌ؛ فإِمَّا أن يكون جعله نفس العدل، أو معناه: ذو عدل، على حذف مضاف، أو عادل. فعلى الأول: جعل الصلاة نفس النور للمُبَالغة. وعلى الثاني: ذات النور لصاحِبِها. وعلى الثالث: مُنِيرةٌ بوجهِهِ إذا فَعَلَهَا بِشُروطِهَا ومُكَمِّلاتها؛ فَتُنَوِّرُ القلبَ بحيث تُشْرِقُ فيه أنوارُ المعارف والمُكَاشَفَات "وَجُعِلت قُرَّةُ عَيْني في الصَّلاة"، وتُنَوِّر بين يَدَيْه ووجهه يوم القيامة؛ فيكون ذا غُرَّةٍ وتَحْجيل، والنور مشاهدٌ في الدُّنيا على وجْهِهِ، لا سيما المتقي بخِلافِ عَكْسِهِ، ورُوي: "مَنْ صَلَّى باللَّيْلِ حَسُنَ وَجْههُ بالنَّهار" (¬3). سابعها: معنى "والصَّدقة برهان" أي: أنها حُجّة لصاحِبها في أداءِ حقِّ ¬
المال، أو أنها حجة في إيمانه؛ لأنَّ المُنافِقَ لا يفعلها عادةً لعدم اعتقاده لها، فمن تصدَّق استُدِلَّ بِصدَقته على صِدْقِ إيمانه، فالمنافِقونَ [يلمِزُونَ] (¬1) المُطَّوِّعين مِن المؤمنين في الصَّدَقات، أو صِحَّة محبة المتصدِّق لله ولِمَا لَدَيْهِ مِن الثواب؛ إذْ آثرها على مَحَبَّةِ المال فأخرجه لله: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان: 8] أي: حب الطعام، أو حب الله. وعِبارةُ صاحب "التحرير": "يُفزع إليها كما يُفْزَعُ إلى البراهين، كأنَّ العبدَ إذا سُئِلَ يوم القيامة عن مَصرِف ماله كانت صدقاته براهين في جوابه؛ فيقول: تَصَدَّقتُ". قال: "ويجوز أنْ يوسَمَ المتصدِّق سيما يُعرف بها، فيكون برهانًا له على حاله، ولا يُسْألُ (¬2) عن مَصرِف مَالِهِ" (¬3). و"البُرهان" عندَ أهل اللغة: الحُجَّة، وعند أهل اللسان: هو الحُجَّة المركبة مِن مُقَدِّمات قاطِعةٍ، وهو حاصِل هنا، فإنَّهُ يُقال مَثَلًا: فُلانٌ يؤدِّي الزكاة وَمَن أدَّاها فقد أدى حقَّ المال، ففُلانٌ أدى حقَّ المال، أو يُقال: فلان أدَّاها طيبة بها نفسه، وكُلُّ مَنْ أدَّاها كذلِكَ فهو مؤمنٌ؛ ففلانٌ مؤمنٌ (¬4). ورواية ابن حبان في "صحيحه": "والزَّكاةُ بُرْهانٌ" بدل "الصدقة" وهو مُفَسِّرٌ لها. ثامِنُها: معنى "الصَّبرُ ضِياء" أي: المحبوب، وهو الصبر على الطاعة والبلاء ومكائد الدنيا وعن المعاصي، ومعناه: لا يزال صاحبه مستضيئًا مُسْتَمِرًا على الصَّواب. ¬
قال الخوَّاص: "الصبر هو الثَّبات على الكتاب والسُّنة". وقال ابن عطاء: "إنه الوقوف مع البلاء بِحُسْنِ الأَدَب". وقال الأستاذ أبو عليٍّ الدَّقاق -رحمه الله-: "هو ألا تعتَرِض على المَقْدُور، فأَمَّا إِظهَارُ البَلاءِ لا على وجهِ الشَّكوَى فلا يُنافي الصَّبر، قال تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)} [ص: 44] " (¬1). وقيلَ: معناهُ: أنَّ ثوابه ضياء ونور في الآخرة. وقيل: أنَّ أَثر الصبر على الطاعات وعن المعاصي نور القلب، وشاهِدهُ في قياس العكس: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)} [المطففين: 14] أي: المعاصي سوَّدت قلوبهم وصيرتها مظلمةً (¬2). فإن قلتَ: لِمَ فرَّقَ بين النور والضياء؛ قال في الصلاة: "نور"، وفي الصَّدقة: "ضياء"؟ وهل مِن فرقٍ بينهما؟ قلتُ: قد قال الجوهري: "فإنَّهُ فسَّر الضياء بالنور في مَوْضِعٍ، والنور بالضياء في آخر" (¬3). وقيل: إنَّ الضياء أعظم وأبلغ مِن النور، بدليل قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} [يونس: 5] والشمس أعمّ نورًا مِن القمر، ولذلك قال الله تعالى: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17] ولم يقل: بِضِيائِهم؛ لأنَّ نفعَ الأعم أبلغ. ¬
وأُورد على هذا قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35]، {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر: 69]. وأُجيب بأنَّ معنى "نور": مُنَوِّر. وأُورِدَ ببقاء السؤال، ولم يقل: مضيء. فأُجيب بأنَّ النور أعمُّ وأشمَل؛ لأنَّهُ يكونُ ليلًا ونهارًا، والضياء ليسَ إلَّا نهارًا بالشمس، على أنَّ المراد بالنور: الهِداية؛ أي: هادي أهلها، والعادة الجارية لغةً وشرعًا أن يُقال: نور الهداية، لَا ضَوْء الهداية، وبذلِكَ استعمل في الكتاب والسنة نحو: {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257]، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)} [النور: 40]. وأَمَّا الجواب عن {وَأَشْرَقَتِ} فهو أَنَّ الضوء كالوصف على النُّور، وإِنَّمَا يَحْتاجُ إلى النور المخلوق الناقص. أَمَّا نور الرب تعالى فهو قديم كامِلٌ لا يحتاج إلى معنى زائد يضيء به، كما أنَّ القديم لِذاته لا يحتاج إلى عِلَّةٍ (¬1) تُوجِده، ويحتمل أَنَّ المعنى: أشرقت ملائكة ربِّها، أو بعدل ربِّها (¬2)؛ بدليل أنَّ الأرض لو أشرق عليها نور الرب -جل جلاله- لاضطَرَبت وتصَدَّعت كالجبل لَمَّا تجلى له، ولا يلزم مِن نور الملائكة والعدل أن يكون ضوءًا. والفرق في الحديث: أنَّ الصَّبْرَ أحسن من الصلاة؛ لاشتماله على الصلاة وغيرها من الطاعات، أو تعلقه بذلك؛ إذ هو: حَبْسُ النَّفس على الطاعةِ وعن ¬
المعصية، فكان جعله ضياءً -الذي هو أخصُّ من النور- أولى، ولأنَّ الرَّبَّ -جل جلاله- قال: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45] والتقديم يُؤْذِنُ بالاهتمام. وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة: 24] ولم يقُلْ: لَمَّا صَلَّوْا. وقال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)} [الزمر: 10]. وفي الحديث: "مَا أُعْطِيَ عبدٌ خيرًا أوْسَعَ عَطَاءً مِنَ الصَّبر" (¬1) ولم يأت ذلك لغيرهم. قال القرطبي -رحمه الله- في "مفهمه": "رواه بعض المشايخ "والصَّومُ" بدل "الصبر" وقد يُعَبَّر عنه بالصبر، وقد قيل ذلك في قوله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} " (¬2). والصواب: أنه غير الصوم. فكُلُّ مَن جَدَّ في أمرٍ يُطالبه ... واستَعمَلَ الصَّبرَ إلا فازَ بالظَفر تاسعها: قوله "والقُرآنُ حُجَّةٌ لكَ أو عليكَ" معناه: إنْ عَمِلتَ به واهتَدَيت بأنواره كان حُجَّةً لكَ، وإن أعرضتَ عنه كان حُجَّةً عليكَ في المواقف التي تُسْأل فيها عنه، كمساءلة المَلَكَيْن في القبر، وعندَ الميزان، وفي عقبات الصِّراط. وفي الحديث: "القُرآنُ شافِعٌ مشَفَّعٌ، وماحِلٌ مُصَدَّقٌ، مَن قَدَّمَهُ أَمَامهُ قَادَهُ إلى الجَنَّةِ، ومَن جَعَلَه وَرَاءَهُ دَفعَهُ في قفاه إلى النار" (¬3). ذكر معناه ¬
ابن الأنباري (¬1). وإنما تقُومُ الحجَّةُ بالقرآن لمن اتَّبعَهُ عَمَلًا، وإن حفِظَهُ فذكره وتعاهد تلاوته. قال القرطبي - رَحِمه الله - في "مُفهمه": "ويحتمل أنَّ المراد: أنَّ القرآن هو الذي يُنْتَهى إليهِ عندَ التَّنازع في المباحث الشرعية والوقائِع الحُكميَّة، وبهِ تَسْتَدِلُّ على صِحَّةِ دَعْواك، وبهِ تَسْتَدِلُّ على خَصْمِكَ" (¬2). العاشر: قوله: "كُلُّ الناس يغدو .. " إلى آخره؛ أي: يسعى، فمنهم من يَبيعُ (¬3) نفسَه بالطَّاعة فيعتقها من العذاب، ومنهم من يبيعها للشيطان لطاعته فيُوبِقُها؛ أي: يُهْلِكُها بسخط الله تعالى، ومنه: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا} [الشورى: 34]. ومعنى "يغدو": يُبكِّر؛ أي: كلُّ إنسانٍ يُصبِحُ ساعيًا في أمورهِ، مُتَصَرِّفًا في أغراضه. والرَّوَاحُ بعدَ الزَّوال، والغُدو قبله، قاله الجوهري (¬4). وقال الأزهري: "معنى "راح": مَضَى؛ لأنهما مُستَعمَلان عند العرب في السَّيْرِ أي وقتٍ كان من ليلٍ أو نهار، يقال: راح في أول النهار وآخره يروح، وغَدَا بمعناه" (¬5). * * * ¬
الحديث الرابع والعشرون
الحديث الرَّابعُ والعشْرُون عن أبي ذَرٍّ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -فِيمَا يَرْوِيهِ عن الله عزَّ وجلَّ- أنّهُ قالَ: "يا عِبَادِي! إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ على نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا؛ فَلَا تَظَالَمُوا. يا عِبَادِي! كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلا مَنْ هَدَيْتُهُ؛ فَاسْتَهدُوني أَهْدِكُمْ. يا عِبَادِي! كلُّكُمْ جَائِعٌ إلا مَنْ أَطْعَمْتُهُ؛ فَاسْتَطْعِمُوني أطعِمْكُمْ. يا عِبَادِي! كُلُّكُمْ عَارٍ إلا مَنْ كسَوْتُهُ؛ فَاسْتَكْسُوني أَكْسُكُمْ. يا عِبَادِي! إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ والنَّهارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُوني أَغْفِر لَكُمْ. يا عِبَادِي! إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّوني، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُوني. يا عِبَادِي! لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُم وآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا على أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ؛ مَا زَادَ ذَلِكَ في مُلْكِي شَيْئًا. يا عِبادي! لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُم وآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا على أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ؛ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيئًا. يا عِبَادِي! لَوْ [أَنَّ] (¬1) أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُوني؛ فَأعطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلتَهُ؛ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إلا كَمَا ¬
يَنْقُصُ المِخْيَطُ إِذَا دَخَلَ البَحْرَ. يا عِبَادِي! إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيها لَكُم ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا؛ فَمَنْ عَمِلَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ". أخرجه مسلم (¬1). * * * هذا حَدِيثٌ قُدْسِيٌّ رَبَّاني، وإسناده دِمَشْقِيُّون، ورَاوِيهِ سَلَفَ. وقَد ساقَهُ المُصَنِّفُ في "أذكاره" (¬2) بإسناده وخَتَمَ به، وفيه: عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن جبريل عن الله ... ، ثُمَّ نَقَلَ عن أبي مُسْهِرٍ، عن سعيد بن عبد العزيز: "أَنَّ أَبَا إِدْرِيس -رَاوِيهِ عن أبي ذَرٍّ - رضي الله عنه - كانَ إِذَا حَدَّثَ بهذا الحدِيث جَثَا على رُكبَتَيْهِ" (¬3). وهو حَدِيثٌ مُشْتَمِلٌ على قواعِدَ عَظِيمةٍ في أُصُولِ الدِّين وفُرُوعِهِ وآدابِهِ، ولطائِفِ القلوبِ وغيرها. وَرُوِّينَا عن الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- أَنَّهُ قال: "ليسَ لأَهْلِ الشَّامِ حَدِيثٌ أَشْرَفَ مِنهُ" (¬4). ¬
وأخرجه ابن ماجه بزيادة: "يا عِبَادِي! كُلُّكُمْ مُذْنِبٌ إلا مَنْ عَافَيْتُ؛ فَسَلُوني المَغْفِرَةَ أَغْفِرْ لَكُمْ، وَمَنْ عَلِمَ مِنْكُمْ أَنِّي ذُو قُدْرَةٍ عَلى المَغْفِرَةِ؛ فَاسْتَغْفرَني بِقُدْرَتي غَفَرْتُ لَهُ ... وَكُلُّكُمْ فَقِيرٌ إلا مَنْ أَغْنَيْتُ؛ فَسَلُوني أَرْزُقْكُمْ. وَلَوْ أَنَّ حَيَّكُمْ وَمَيِّتَكُمْ، وَأَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَرَطْبَكُمْ وَيَابِسَكُمْ اجْتَمَعُوا فَسَأَلُوني (¬1) فَكَانُوا على قَلْبِ أَتْقَى عَبْدٍ مِنْ عِبَادِي؛ لَمْ يَزِدْ في مُلْكِي جَنَاحَ بَعُوضَةٍ. وَلَو اجتَمَعُوا فَكَانُوا على قَلْبِ أَشْقَى عَبْدٍ مِنْ عِبَادِي؛ لَمْ يَنْقُصْ مِنْ مُلْكِي جَنَاحَ بَعُوضَةٍ. وَلَوْ أَنَّ حَيَّكُمْ وَمَيتّكَمْ، وَأَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَرَطْبَكُمْ وَيَابِسَكُمْ اجْتَمَعُوا فَسَأل كُلُّ سَائِلٍ مِنْهمْ مَا بَلَغَتْ أمنِيَّتُهُ؛ مَا نَقَصَ مِنْ مُلْكِي إلَّا كمَا لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ مَرَّ [بِشَفَةِ] (¬2) البَحْرِ، فَغَمَسَ فِيها إِبْرَةً ثُمَّ نَزَعَها. ذَلِكَ [بأَنِّي] (¬3) جَوَادٌ مَاجِدٌ. عَطَائِي كلامٌ. إِذَا أَرَدْتُ شَيْئًا فَإِنَّمَا أَقُولُ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ" (¬4). * * * ¬
الكلام عليه مِن وُجُوهٍ -بعد أَنْ يُعلَم أَنَّا تَكَلَّمنا على لفظِ "العبد" في خُطبة "شرح المنهاج" وأوضحنا جميعه فيه-: أحدها: "لا تظالموا" هو بفتح التاء، أصله: تَتَظَالموا، حُذِفت إِحْدَى التَّاءين تخفيفًا. ومعنى: "حَرَّمتُ الظُّلْمَ على نَفْسِي": تَقَدَّسْتُ عنه وتَعَالَيْتُ، فإنه مستحيل في حَقِّه؛ لأنَّهُ مجاوَزَةٌ في الحَدِّ أو التَّصَرُّف في غير مُلْك، وهما جميعًا محالان في حَقِّهِ بالإجماع. وذلك: لأَنَّ الظُّلمَ إِنَّما يُتَصَوَّر في حَقِّ مَن حُدَّتْ لهُ حُدودٌ، وَرُسِمَت له مَرَاسيم؛ فَمَن تَعَدَّاها كان ظالِمًا، والرب جل جلاله هو الذي حَدَّ وَرَسَمَ؛ إذْ لا حاكِمَ فوقَهُ، ولا حاجِزَ عليه، ولا يَجِبُ عليه حُكْم، ولا يَتَرَتَّبُ عليه حَقٌّ، ولا يُتَصَوَّرُ الظُّلمُ في حَقِّهِ، ومَحَلُّ الخوض في ذلك "عِلمُ الكلام"! (¬1)، ومن يقولُ بالتَّحسين والتَّقبِيح العَقْلِيِّ يقولُ به أيضًا لِقُبْحِهِ (¬2). ¬
وأبعَدَ مَنْ قال: بقدرته عليه، ويُتَصَوَّر مِنهُ لَكِنَّهُ لا يفعله عَدْلًا وتَنَزهًا عنه؛ احتجاجًا بقوله تعالى: {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29)} [ق: 29] فقد تَمَدَّحَ بهِ ولا يُمْدَحُ ¬
عادَةً إلَّا بما يَقْدِرُ عليه؛ فمعنى "حَرَّمتُ الظلمَ على نفسي": مَنَعْتُهَا منهُ، ولأَنهُ تعالى عامل عِبادَهُ معامَلَةَ المستأجر مع الأجير حيث قال لأهل الكتاب: "هَلْ ظَلَمْتكُمْ مِنْ أُجُورِكُمْ شَيئًا؟ قالوا: لا. قال: فَذَلِكَ فَضْلِي أُوتيهِ مَنْ أَشَاءُ" (¬1). والمُسْتَأْجِرُ مِنَّا يَصِحُّ مِنهُ ظُلْمُ الأُجَرَاء؛ ولأَنَّ تركَ الظُّلم مع المَكَانَةِ والقُدْرَةِ عليه أَمْدَحُ مِن تركِهِ مع استحالَتِهِ والعجز عنهُ، كما أنَّ تَرْكَ الفَحْل الزِّنَا أَمدَحُ لهُ بالعَفَاف مِن الخَصيِّ والعِنِّين (¬2)، وليس هذا موضِعَ الخوض فيه (¬3). ومعنى: "وَجَعَلْتُهُ بَيْنكُمْ مُحَرَّمًا": حرَّمتُهُ عليكم ومَنَعْتكُمْ مِنهُ شَرْعًا. والظلمُ لغةً: وضعُ الشَّيءِ في غير مَوْضِعِهِ. وشرعًا: التَّصَرُّفُ في غير مُلكٍ أو في مُلكِ الغَيْر. [ويحتجُّ بها أهلُ القدر، ووجهُ الحجَّةِ أنَّهُ نَهَى عن الظلم، فلو كان خالِقًا له لكان ناهيًا عمَّا خلق، وهو باطل] (¬4). ¬
وجوابه: أن لله في خَلْقِهِ تَصْرِيفَيْن: باطنًا وظاهِرًا (¬1)؛ فالظَّاهِرُ يَنْهَى عنهُ، والباطن (¬2) يَخْلُقُهُ حَقِيقةً (¬3). و"لَا تَظَالمَوا": لا يَظْلِمُ بعضُكُم بَعضًا. والأصلُ: تَتَظَالموا، وحُذِفَت إحدَاهُما تخفيفًا كما سَلَفَ. ويجوز: "تظَّالموا" بالتَّشدِيد، وإدغام إِحْدَى التاءين فيها، ورُبَّما رُوِي كذلك. قال بعض العلماء في هذا الحديث: إِنَّهُ لا يَسُوغ لأَحَدٍ أن يَسأل الله ألَّا يحكُمَ لهُ على خَصْمِهِ إلَّا بالحَقِّ؛ لقوله: "إِني حَرَّمتُ الظُّلمَ على نَفْسِي" فهو تعالى لا يَظْلِمُ عبادَهُ؛ فكيف يظن ظَانٌّ أنه يظلِمُ عبادَهُ لغيرهِ؟! ولذلكَ قال: "فَلَا تَظَالموا". ¬
قلتُ: وقد قال تعالى: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالحَقِّ} [الأنبياء: 112] "وَأَمْرُ الرَّبِّ تعالى لِرَسُولِهِ بذِلِكَ دليلُ الجَوَازِ، والإِجَابة والعِدَة بها". كما قال ابن عطية في "تفسيره" (¬1). وكذا قوله: {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ} [المؤمنون: 118] لا فَرْقَ بين قوله: {احْكُمْ بِالْحَقِّ} أو: "لا تحكم إلَّا بالحق" إلَّا أَنْ يَكُونَ المَعنى: عامِلْهُم بِعَدْلِكَ وفَضْلِكَ (¬2)، فيكون دَعَاء عليهم. وقريبٌ مِن هذا مَا نُقِلَ عن بعض العُلَمَاء أنَّهُ قال في قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا} [البقرة: 286] الآية: إِنَّ مِنَ الاعتِدَاءِ أَنْ تؤمِّنَ عندَ قراءَةِ هذه الثلاثة لا عندَ قولِهِ: {وَاغْفِرْ لَنَا} [البقرة: 286] إلى آخر السورة، وهو خِلاف مَا جَاءَ في "صحيح مسلم" (¬3)، فإن فيه: "قال: نعم" في الجميع. ويُروَى أَنَّ جبريل قال -لمَّا قَرَأَ ذلِكَ رَسُوله- قال: "نعم، قد فَعَلَ" في الجميع إلى آخر السورة (¬4). رَجَعْنَا إلى مَا كُنَّا فيه؛ والمعنى: أَنَّهُ لابُدَّ مِن اقتِصَاصِي للمَظلُوم مِن الظالم، ومِصْدَاقُهُ قوله تعالى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إلا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148] والمعنى -والله أعلم-: أنَّهُ نَدْبٌ أو إِبَاحَةٌ للمظلوم أنْ يجهَر بِذِكر قِصَّته باسم مَن ظَلَمَهُ؛ ليقَعَ بذلِكَ بينَ النَّاس فيكون مشاع ذلك عذرًا للقدر للإيقاع بالظلم، ليجمع في ذلك بينَ أَنْ يَعْرِفَ النَّاسُ أَنه الله سبحانه لم ¬
يُوقِع بمَن ظَلَم إلَّا انتصارًا مِنهُ لِمَنْ كان ظَلَم، وليَعْلَم العِبَادُ أَنَّ مِن ورَاءِ الظَّالِمِينَ طَالبًا لا يُرَدُّ بأسُهُ، وهذا كذلك إلَّا أَنَّ ممن وراءِ هذا إِيضَاحًا آخر لَوْلاهُ لم يَكن يُمهَلُ ظالم في الأرض فُوَاقَ ناقةٍ، وتلكَ الحالة أنَّ الخلقَ كلِّهم عبيدٌ لهُ ومُلْكٌ؛ فإذا ظَلَمَ بعضهم بعضًا فالمظلوم لا يستحقُّ على الظالم إلَّا أن يُمَكِّنه سيِّدُهُ، إذْ مَن جَنَى على عبدٍ جِنَايَةً فالحاكم فيها سَيِّدُهُ، فالخلق كلهم لله يحكم أُرُوش (¬1) جِنَايَتهم حقوقه؛ فَلَهُ أَنْ يُمْهِلَ وأن يَقْتَصَّ. ثانيها: قوله: "كُلُّكُم ضَالٌّ إلَّا مَن هَديت" هذا كقولِهِ تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي} [الأعراف: 178] وإيضَاحُهُ أنَّهُ -تعالى- خَلَقَ للنَّفْسِ قوَاها وطباعها (¬2) ومَن أَرصَدَ لها مِن الأهواء والشياطين مائِلةٌ إلى الضَّلال، فمن أَرادَ ضَلاله أَرْسَلَهُ على سَجِيَّتهِ وتَخَلَّى عنه، ومَن أَرَادَ هِدَايَتَهُ عارَضَهُ بأَسبَاب الهُدَى فَصَدَّه عن (¬3) الضَّلالِ فاهتَدَى، قال الله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} [يونس: 25]. ومعنى "فاسْتَهدُوني": [سلوني] (¬4) الهداية، واعتقِدُوا أَنَّهَا لا تكونُ إلَّا مِن فَضْلِي وبِأَمْرِي "أَهدِكُم". ¬
ورواية ابن ماجه: "فَسَلُوني الهدى أَهدِكُم" (¬1). ويَتَجَدَّدُ الشُّكر كُلَّمَا ازدادَ هُدى، ولو هداهُ مِن قَبل أَنْ يسأله لهُ لَمَا قال: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78]. وهذا الحديث حُجَّةٌ لأهل الحقِّ: أن الهدى والضلال خَلْقه [وفِعْلهُ يختصُّ بما شاء منهما مَن شاءَ مِنْ خَلْقِهِ، وأنَّ ذلِكَ] (¬2) لا قُدْرَةَ لِغَيْرِهِ عليه، قال تعالى: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [المدثر: 31] وقال: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43]، وقال: {وَمَا تَشَاءُونَ إلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30]، وقال: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)} [يونس: 25] فَعَمَّ بالدَّعوَةِ، وخَصَّ بالهِدَايةِ مَن سَبَقَتْ لَهُ العِنَايَةُ. ثالِثُها: قوله: "كلُّكُمْ جَائِعٌ ... " إلى آخره، أي: النَّاسُ عَبِيدٌ، ومِنْ شأْنِ العبدِ عَدَمُ المُلْكِ، وخَزَائِنُ الرِّزقِ بِيَدِ المَوْلَى؛ فَمَنْ لَا يُطْعِمُهُ بِفَضْلِهِ بقِيَ جائعًا بعَدْلِهِ، إذْ ليسَ عليه إطعامُ عَبْدِهِ، وَأَمَّا قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] فالتِزَامٌ بِفَضْلٍ، لَا أَنَّ علْفةَ الدَّابَّةِ (¬3) حَقّ بالأَصَالَةِ، وَشِبْهُ هذا قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 17] الآية، أي: تَفَضُّلًا مِنهُ لَا إِلزَامًا، والإِطْعَامُ إمَّا: بِسَوْقِ الرِّزقِ، أَو تَسْهيل الآلةِ المُتَنَاوِلَةِ لَهُ. وفي بعض كُتُبِ الحِكمَةِ: أَنَّ عيسى -صلوات الله وسلامه عليه، وعلى ¬
سائر الأنبياء-[قال] (¬1): "ابن آدم؛ أنتَ أسوَأُ بِرَبِّكَ ظَنًّا حين كُنتَ أكملَ عَقْلًا؛ لأنَّكَ تَرَكْتَ الحرصَ جَنِينًا محمُولًا، وَرَضِيعًا مَكْفُولًا، ثمَّ ادَّرَعْتَهُ (¬2) عَاقِلًا قد أَصَبْتَ رُشْدَكَ، وبَلَغْتَ أَشُدَّكَ" (¬3). ومعنى "فاستَطْعِمُوني أُطْعِمكُم": سَلُوني الطَّعَام "أُطْعِمكم" بتقْدِير أسبَابِه وتَيْسِير طِلابه: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32]، ولا يَسْتَنْكِف جبارٌ ولا غَنِيٌّ أنْ يَسْتَطْعِمَنِي؛ فإن ذلك لجهله، لأَنَّ مَا في يَدِهِ ملكي. وفيه تَأْدِيبٌ للفُقَرَاء؛ أي: اطلُبُوا مِنِّي، فَأَنَا الذي أُطْعِمُهُم: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} [الذاريات: 58] فالرَّبُّ جل جلاله يُسَخِّرُ السَّحَابَ، ويَسْقِي البلاد، ويُحَرِّكُ القلوب للإعطَاء، ويُحْوِجُ بعضًا إلى بَعْضٍ للنَّفْعِ، وتصرُّفه في عالمه عجيبٌ يَعْجَزُ عنه الفَطِنُ اللَّبِيبُ. رابِعُها: قوله: "كلكم عارٍ إلَّا ... " إلى آخره، فيه أَنَّ الكُسَى (¬4) مِنَ الرَّبَ جل جلاله مُتَنَوِّعَةٌ؛ فقد يَكْسُو جسدًا عَريًّا ويكسو ستره الجميل؛ فمن كِسْوَتُهُ لِبَاسُ التَّقْوَى فَلَا قُدْرَةَ لأَحَدٍ على نَزْعِهِ. والحاصلُ مِن كُلِّ ذلك: التنبيهُ على فقرِ العبدِ، وعَجْزِهِ عن طَلَبِ المَنَافِعِ، وَدَفْعِ المضَارَ إلَّا بِتَيْسِيرهِ. خامِسُها: "تُخْطِئُونَ" بالهمز، وضَبَطَهُ بعضُ الفُضَلاء بفتح التاء والطاء، ¬
على وزن "تَقْرَؤُونَ" مِن الإقراء، وقال: أخطأ يُخْطِئ رباعيٌّ إذا فعل عن غير قصد، وخَطِئ يَخطأ كعلم يعلم ثلاثيًّا: إذا فعل عن قصد (¬1)، ومنه: {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16)} [العلق: 16] قال: وإِنَّمَا وَجَبَ أنْ يكون هاهنا "تخطئون" ثلاثيًّا؛ لأنهُ جَعَلَهُ ذنبًا يُغْفَرُ، لقوله: "وأنا أغْفِرُ الذُّنُوبَ جميعًا"، والخَطَأُ عن غير قَصدٍ مَعْفُوٌّ عنه لا يُعْتَدُّ به أصلًا ذنبًا ولا غيره، لِدَفْعِ الخطأ والنسيان عن هذه الأمة (¬2). وقال النووي -رحمه الله- في "شرح مسلم": "الرواية المشهورة "تُخْطئون" بِضَمِّ التاء، ورُوِيَ بفتحها وفتح الطاء، يقال: خَطِئ إذا فَعَلَ مَا يأثَمُ به فهو خاطِئ، ومنه: {إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} [يوسف: 97] ويقال في الآية -أيضًا-: أخطأناك (¬3)؛ فهما صحيحان" (¬4). قُلتُ: وفي هذا الكلام الشريف من التوبيخ والتأنيب ما يستحيي منهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ، وذلك أنه إذا لَمَحَ العبدُ الفَطِنُ أَنَّ اللهَ خَلَقَ اللَّيلَ لِيُطَاع فيه سبحانه سِرًّا، ¬
ويُعبَدَ بالإخلاص على خَلْوَةٍ منَ الناس حيث تَسْلَمُ الأعمال -غَالِبًا- عن الرِّيَاءِ والنِّفَاق ومُشاهَدَةِ الخَلْقِ، أَوَ لا يَسْتَحِيي المؤمنُ أنْ يُنْفِقَ الليل فيما خُلِقَ له مِنَ الطَّاعةِ حتى يُخْطئَ فيه ويعصي الله في مطاويه، والنهار لا يخطئ فيه جهارًا، يشهد له الخلق عند الحقِّ. وانظر إلى قوله: "جميعًا" مَا أحسَنَهُ لِئَلَّا يحصل القنوط، وهو مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53] وهو عَامٌّ خُصَّ مِنهُ الشِّرك وما شاءَ ألَّا يغفره؛ لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]. وقوله: "بالليل والنهار" وهو مِن باب مُقَابَلَةِ الجَمع بالجمع؛ أي: تصدُرُ منكم الخَطِيئَات لَيلًا ونهارًا، من بعضكم ليلًا، ومن بعضكم نهارًا، إذ الغالب أَنَّ العبدَ لا يَسْتَغْرِقُ الزَّمَنَ كُلَّهُ في الخطايا. وقوله: "فاسْتَغْفِرُوني" أي: أطلبوا مِنِّي المغفرة "أغفِرْ لَكُم" وفي الحديث "لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ وَيَسْتَغْفِرُونَ فَيُغفَرُ لَهم" (¬1) وأصلُ الغَفْرِ: السَّتْرُ، وغَفَرْتُ المتاع: سَتَرْتُهُ، والمِغْفرة والمِغْفر لسترة الرأس، وغفر الذنب: سَتْرُهُ ومَحْو أثَرِهِ. سَادِسُها: قوله "يا عبادي! إِنَّكُم لَن تَبْلُغُوا ضَرِّي ... " إلى آخره؛ أي: لا يتعلق بي ضُرٌّ ولا نَفْعٌ فتضروني أو تنفعوني؛ ولأن العبد فقير مطلق، والرب جل جلاله غني مطلق، والفقير المطلق لا يملك ضرًّا ولا نفعًا خُصُوصًا للغني المطلق، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)} [فاطر: 15] وقام الإجماع على تنزيه الباري تعالى وتَقْدِيسه، وأَنَّهُ غَنِيٌّ بذاته، لا يَلْحقهُ ضُرٌّ ¬
ولا نفعٌ، ولا يَحْتَاجُ إلى ذلك. وَظَاهِرُ الحديثِ: أنَّ لِضره ونفعه غاية، لكن لا يبلغها العباد، فلتؤول على ما دل عليه الإجماع. سابِعُها: قوله: "يا عبادي! لو أَنَّ أَوَّلَكُم وآخِرَكُم ... " إلى آخره؛ أي: تَقْوَاهُم لا يَزيدُ في مُلْكِهِ شيئًا، ولا فُجُورهم ينقصه؛ لأن مُلْكَهُ مُرْتَبطٌ بقدرته وإرادته، وهما دائمان لا انقطاع لهما، فكذا مَا ارتَبَطَ بهِمَا، وإنما غائِلَةُ الفُجُور على أهلهِ تَعُود؛ فالتَّقْوَى رحمةٌ لهم وسعادة، والفجور نِقمَةٌ وشقاوة. ثامِنُها: قوله "يا عبادي! ... " إلى آخره، فقوله: "في صَعِيدٍ وَاحِدٍ" أى: في أَرْضٍ واحِدَةٍ ومَقَامٍ وَاحِدٍ. وقوله: "مَا نَقَصَ ... " إلى آخره، سَبَبُهُ: أنَّ مُلْكَهَ بين الكاف والنون، إذا أرادَ شيئًا قال له: كن، فكان. وفي بعض الآثار: "عَطَائِي كَلامٌ، وَرِضَائِي كَلامٌ" (¬1) أو نحو ذلك، وقد سلف بعضه عن "سنن ابن ماجه" إشارة إلى "كُنْ" ولا يُسْتَنْكَرُ العَطَاءُ الكبير مع عَدَمِ النَّقْص؛ فالنار والعِلْمُ يُقْتبسُ مِنْهُما مَا شاء الله ولا يَنْقُصُ منهما شيء، بل يَزيدُ العِلمُ على الإِعْطَاء، وهذا مَثَل قُصِدَ بهِ التَّقْرِيبُ للأَفهَام بِمَا تُشَاهِدُهُ؛ فَإِنَّ مَاءَ البحر من أعظم المرئِيَّات وأكبَرها، وغَمْسُ الإبرة فيه لا يؤثر، فَضَرَبَ ذلك مَثَلًا لخزائِن رحْمَته وفَضْلِه؛ فإنها لَا تَنْحَصِر ولا تَتَنَاهَى، وأَنَّ مَا أُعْطِي مِنها مِن أَوَّلِ الخَلْق، ومَا يُعْطى منها إلى يوم القيامة لا ينقصُ منها شيئًا، وهذا نحو قوله في الحديث الآخر: "يَمِينُ اللهِ مَلأَى سَحَّاءُ اللَّيلَ والنَّهارَ، لَا يَغِيضُها ¬
شَيءٌ، أرأَيْتُم مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السموَاتِ والأرض، لَمْ يَنْقص مَا في يَمِينِهِ" (¬1) وسِرُّ ذلك: صَلاحِيةُ القدرة للإيجاد دائمًا مِن غير عَجْزٍ وقُصُورٍ، والممكن لا يتناهى، فما يُؤخَذُ منها لا يُنْقِصُ شيئًا منها (¬2). وقوله: "إلَّا كمَا ينقص المخيط من البحر" أي: لا ينقصُ شيئًا؛ لأَنَّ الإبرة لا يتعلق بها مِن الماءِ شيءٌ، وهذا بِظَاهِرِهِ مُخَالِفٌ لقول الخضر: "مَا نَقَصَ عِلْمِي وعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ الله إلَّا كمَا نَقَصَ هذا [العُصْفُورُ] (¬3) " (¬4) فإن نقر العصفور من البحر لا بد أن ينقصه شيئًا -وإن قَلَّ- بخلافِ الإبرَةِ؛ لكن ليس المراد أنَّ عِلْمَهُمَا نَقَصَ مِن عِلمِ الله قليلًا أو كثيرًا؛ إِنَما المُرادُ: تَقريبُ أَنَّهُ لم يَنْقُص مِن عِلْمِ اللهِ أَصْلًا. ويُحْكَى أنَّ رَجُلًا سأل ابن الجوزي -رحمه الله-: هل ينقص شُرب العصفور من البحر؟ فقال: "فَمَعَهُ شيءٌ يضَعُهُ فيه"؟! (¬5). وهذا جوابٌ على جِهَةِ التَّحقِيق، وقول الخضر لموسى على جهة التَّقْرِيب، وإلَّا لَوْ فَرَضْنَا الوجود مملوءًا حَبًّا وأَخَذَ العُصْفُور منهُ واحِدَةً لَنَقَصَتْ بالضرورة؛ لكن ليس نقصًا مُحْتَفَلًا به (¬6). ففيهِ تَنبِيهُ الخَلْق على الإقبالِ والمَسْأَلةِ؛ فَلَا يحتقر سائل ولا يقتصر: ¬
{مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96]. فائدة: "ينقص" تستعمل لازمًا نحو: نقص المال، ومتعديًا نحو: نقصتُ زيدًا حَقَّهُ. وينقص المِخْيطُ هنا مُتَعدٍّ؛ لأن محل البحر نُصِبَ به. و"المخيط": الإبْرَةُ ونحوها -بالكسر، ثم خَاءٌ مُعْجَمَة ساكِنة، ثم ياء مفتوحة- وهو مِن الآلات، فَلِذَا كُسِرَ أَوَّلُهُ. تاسِعُها: معنى "أحصيها لكم": بِعِلْمِي وملائِكَتِي الحَفَظَة، لأُوَفِّيكم جزاءَهَا وثوابَهَا، فَحُذِفَ المضاف فانقَلَبَ الضَّمِيرُ المخفوض مَنْصُوبًا مُنْفَصِلًا كالمفعول المحذوف. وفائِدَةُ الحَفَظَة مع العِلم: الشَّهَادة على العبد المسكين: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)} [الإسراء: 14]. مَلأتَ كتوبَ الكاتبين مَآثمًا ... فإن كُنْتَ تَنْسَاهَا فَرَبُّكَ يَعْلَمُ فَكَفَى بالكِرَام الكاتبين شهودًا، وبِرَبِّ العِباد حَسِيبًا. تَنْبِيهٌ: السِّرُّ في التصريح بالخير والتَّكنِيَةُ عن غيره بقوله: "ومَن وَجَدَ غَيْرَ ذلك" ولم يَقُل: "وَمَنْ وَجَدَ شَرًّا" مجانَبَةُ لَفْظِهِ، فإذا اجتنب لفظه فكيف الوقوع فيه؟ والخير كله مُفَاضَلَة، لأن قولك: زيد خير، أي: هو خير من خير كله. وأكد "لَيَلُومَنَّ" بالنون للتحذير أنْ يخطُرَ في قَلْبِ عاقِل أَنَّ [مستحق] (¬1) اللوم غير نفسه؛ لأن الله تعالى أوضحَ الطريق وأعذَرَ وحَذَّر وأنذر، ولَا حُجَّةَ ¬
لأَحَدٍ بعد الرسل. ومن قِلَّةِ الإِنصَاف: إسنادُ التَّوفِيق إلى النفس، وإسناد غيره إلى القَدَر، والظلم من شِيَمِ النُّفُوسِ، والطاعاتُ علي العبدِ حمدُ الله عليها، وضِدّها عليه لَوْمُ نفسهِ وإن كانت مقدَّرة، لأنها من كسبه وتفريطه، والحديث دال علي انحصار فائدة الناس في المعاد، وكل ما يتفضل به الرب - جّلَّ جَلَالُهُ - فهو غير لازمٍ عليه؛ فُكُلُّ مَا خَلَقَ فهو مُحتَاجٌ إليه. خاتِمَةٌ: تَكَرَّرَ في الحديث "يا عبادي! " وهو مُتَناول للنساء لكن بقَرِينَةِ التَّكليف، وَأَمَّا الخِطَابُ المختَصّ بالذكور أو بالإناث؛ فَحَكْمُهُ لائِحٌ والصالح لهما يعمهما، واختُلِف في نحو: "المسلمين" و"المؤمنين"؛ هل يتناول النساء أم لا؟ والأشبه المنع وضعًا، بل بقَرينَةٍ أو عُرْفٍ. أُخْرَى: حاصل قوله: "كلُّكُم ضَالٌّ إلَّا مَن هَدَيْتُهُ"، "كُلُّكُمْ جَائِعٌ"، "كُلُّكُم عَارِ" التَّنبِيهُ على فَقْرِ العَبْدِ وعجزِهِ عن جَلْبٍ ودَفْعٍ إلَّا بيدِهِ، وهو تنبيهٌ علي معنى قوله: "ولَا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلَّا بالله العَلِيِّ العَظِيم". وقد قال في آخره: "يا عبادي! إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُم ... " إلى آخره، فَنَبَّهَ على أنَّ عَدَمَ إيجادِ الأعمال لا يُنَاقِضُ خِطَابَ التَّكليف إقدامًا عليها وإحجامًا عنها. فنحنُ وإِنْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّا لا نسبِقُكَ بحسن بوجدان الفرق بين الحركة الضرورية والاختيارية، وتلك التَّفْرِقة راجِعَةٌ إلى تمكن محسوس وتَأَدُّب مُعتَاد يوجَدُ مع الاختيارية ويُفْقَدُ مع الضَّرُورية، وذلك هو المُعَبَّرُ عنه بالكَسْبِ، وهو
مَوْرِدُ التَّكلِيف فلا تناقض ولا تعنيف (¬1). * * * ¬
الحديث الخامس والعشرون
الحديثُ الخَامِسُ والعِشْرونَ عن أبي ذر - رضي الله عنه -: أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالوا للنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: يا رَسُولَ اللهِ! ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بالأُجُورِ، يُصلُّونَ كَمَا نُصَلِّى وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ. قال: "أَوَلَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُونَ؟ إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَهلِيلَةٍ صَدَقَةً، [وَأَمْرٌ] (¬1) بِالمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهيٌ عَنْ المُنْكَرِ صَدَقَة، وفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ". قالوا: يا رسول الله! أَيَأْتي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فيها أَجْرٌ؟! قال: "أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَها في حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ، فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَها في الحَلَالِ كانَ لَهُ أَجْرٌ". رواه مسلم (¬2). * * * الكلامُ عليه مِنْ وُجُوهٍ -ورَاوِيهِ سَلَفَ-: أحَدها: "الأَصْحَابُ" جمعُ صَاحِبٍ، وهو من الصِّفات التي استُعْمِلَت ¬
استعمال الأسماء، والأكثر في جمعه: صحبان وصِحاب، وقالوا: أصحابه، وهو اسم للجمع لا جمع. والصحابيُّ: كُلُّ مُسْلِمٍ رآه -عليه أفضل الصَّلاة والسلام- وَلَوْ سَاعَةً، هذا هو الأصح (¬1). و"النبي": مَأْخُوذٌ مِن النَّبَأ الَّذي هو الخَبَر، لأَنَّهُ مُخْبِرٌ عن الله، أوْ مِنَ النَّبْوَة وهو الارتفاع؛ لِرِفْعَة مِقْدَارهم، والأوَّلُ بهمزة، ومَن لم يهمزه احتمل أن تكون من النبوة أو من النبأ علي التسهيل، وهي: اختِصاصُ العبدِ بالخطاب، واطِّلاعُه على الوَحْي، فإن زاد التَّبليغ فَرَسُولٌ، وإلَّا فَنَبِيٌّ فقط (¬2). و"الدُّثُور" -بضم الدال-: جمعُ دَثر -بفتحِها، ثُمَّ ثَاءٌ مُثَلثة-: المالُ الكثيرُ. و"تَصَّدَّقُونَ": بتشديد الصاد والدال، ويجوز لغة تخفيف الصاد. و"صدقة" بالرفع على الاستئناف، وبالنصب على أنَّ بِكُلِّ تَسبِيحَةٍ صدقة. و"البُضْع" -بِضَمِّ الباء وإسكان الضَّاد المعجمة-: كِنَايَةٌ عن الجِماع إِذَا نَوَى بهِ العِبادة، وهو قَضَاءُ حَقِّ الزوجةِ، وطَلَبُ وَلَدٍ صَالِحٍ، وإِعْفَافُ النَّفسِ، وكَفُّها عن المحارم، وأصله: الآلَةُ ذَكَرًا كان أو فَرْجًا، ويصح إرادتهما هنا. و"الوِزْرُ": الإثم. وقوله: "كانَ لَهُ أَجْرٌ": هو مرفوعٌ، ويجوزُ نَصبُهُ، وقد رُوِيَ بهما. وقولهم: "أَيَأْتي أَحَدُنا ... " إلى آخره: استِفْهَامُ مَن استَبْعَدَ حُصُولَ أَجْرٍ بفِعلٍ مُسْتَلَذّ؛ فإنه إنما يَقَعُ الأَجرُ في العِبادات المشقَّة على النُّفُوس المُخَالِفَةِ لها. ¬
ثانيها: يحتمل كما قال القاضي: "تسميتها: صدقة" أنَّ لها أَجْرًا [كَمَا للصَّدَقَةِ أَجْرٌ] (¬1) وأنَّ هذهِ الطَّاعَاتِ تُمَاثِلُ الصَّدَقَاتِ في الأجور، وسمَّاها صدقة على طريق المقابلة وتجنيس الكلام" (¬2). وقيل معناه: أنها صدقة علي نفسه، والأول أَظْهَر؛ فأَجْرُ التَّسبِيح وَمَا بعده كأجر الصيام وأجر الصلاة في الجنس؛ لأن الجميع صادِر عن مَرضَى الرَّبِّ تعالى مُكافأة على طاعته، أَمَّا في القَدْرِ والصِّفة فَتَتَفَاوَت بِتَفاوت الأعمال في مَقَادِيرها؛ فليس ثواب ركعتين، أو صوم يوم كثواب أربع ركعات، وصوم يومين، وليس ثوابُ عِتق رَقَبَةٍ نَفِيسَةٍ كَدُونِها. فالمعنى: "بِكُلِّ تَسبيحَةٍ صَدَقَةً" ومَا بعده، أي: حسنةً كحسنةِ صدقة في الجنس؛ لأَنَّ الأعمال مُقَدَّرَةٌ بالحسنات بدليل: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] والحسنة صِفَةٌ (¬3) في الأصل تستعمل في العمل وجزائه يُقال: عَمِلَ فُلانٌ حَسَنَةً، فَجَزَاؤُهُ حسنة، أي: عَمِلَ خَصلَةً فَجزاؤه خصلة حسنة ثانية من الله. والمراد لسببها؛ كقوله -عليه الصلاة والسلام-: "في النَّفْسِ المُؤْمنَةِ: مِائَةٌ منَ الإِبِلِ" (¬4) أي: بسبب قَتْلِها وجوب مائة. ¬
وقيل: هي ظرف مجازًا، كَأَنَّ النفسَ لَمَّا ضُمِنت بمائة من الإبل صارت كالظرف لها (¬1). و"التَّسْبِيحَةُ" هي قول: "سبحان الله". و"التَّكْبِيرَةُ" قول: "الله أكبر". كـ"السَّبْحَلَة" ونحوها من المصادر. ثالثها: قوله: "وأمرٌ بالمعروفِ صَدَقَةٌ، ونَهيٌ عن مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ" أشار به إلى ثبوت الصدقة في كل فَرْدٍ مِنهُمَا، ولهذا نَكَّرَهُ وساغ الابتداء بها؛ لكونها عاملة، ولا شكَّ أَنَّ التَّنكِير أبلغ بخِلاف مَا إذا عَرَّفَهُ لرجوعه إلى الجنس، وعرَّف "المعروف" لأصالته وبيانه وهما فرضَا كفاية؛ فنفعُهُما متَعَدٍّ أكثر من التسبيح والتحميد والتهليل، وَفَضَّلَها الجويني -إِمامُ الحرمين - (¬2) على فرض العين من حيث سقوط الحرج عن الأمة أجمع (¬3). وحقيقةُ الصَّدَقة موجودةٌ فيه، لكونه ينفع باقي الناس بالأَدَاءِ عنهم، وأجر الفرض أكثر من أجر النفل بسبعين درجة، واستؤنس له بحديث -وصح-: "لَنْ يَتَقَرَّبَ إِلَيَّ المُتَقَرِّبُونَ بأَفْضَلَ مِمَّا افتَرَضتُ عَلَيْهِمْ ... " (¬4). ¬
رابعها: قوله: "وفي بُضْع أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ" يعني: إذا نَوَى به العبادة، وهو قضاء حق الزوجة، وولد صالح، وعَفَافُ النفس وكفها عن المحارم -كما سلف- وقد قالت أم مريم: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} [آل عمران: 35] أي: وَقْفًا على خِدْمَتِكَ. وظاهِرُ الحديث يقتَضِي أنَّهُ نفسه صدقة من غير نية، ولهذا أشار بقياس العكس بعدُ بقوله: "أرأيت لو وضعها في حرام ... " إلى آخره، وإذا ثَبَتَ ذلك فهو يُشير إلى شبيهٍ بما قاله الكعبي (¬1) مِن أنَّ المباح مأمورٌ بهِ. وقياسُ العَكْسِ: إثباتُ ضِدّ الحُكْمِ في ضدَّ الأصل، كإثبات الوِزْر الَّذي هو ضدّ الصَّدَقة في الزِّنا الَّذي هو ضِدُّ الوَطء المباح، ومثله حديث: "مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ باللهِ شَيْئًا دَخَلَ الجَنَّةَ". قال ابن مَسْعُود: "وأنا أقولُ: مَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ" (¬2). والأصح أنَّه يُعمَلُ به. والقِيَاسُ الطَّردِي -: وهو إثبات مثل حكم الأصل في الفرع - على أَضْرُبٍ: قياسُ عِلَّة، كالنبيذ مسكر فحَرُمَ كالخمر. ودِلَالة: الَّذي يَصِحُّ طَلَاقه، فيصِحُّ ظِهَارُهُ كالمسلم. وشَبَهٍ (¬3): كالعبد يباع ويوهبُ فلا يَمْلِك كالبهيمة، وكان الفاروق يتزوج ¬
لقصد الولد للمكاثرة أو ليموت؛ فيكون الولد له أجر (¬1). خامِسُهَا: فيه أنَّ المباحَ يَصِيرُ طاعة بالقصد وصحة القياس، ولا عبرة بمخالفة الظاهرية فيه وحيث ورَدَ ذَمُّه حُمِلَ على القياس الباطن؛ وفيه -أيضًا- فضيلَةُ التَّسبيح وسائر الأذكار؛ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وذِكرُ العالِم دليلًا لبعض المسائل التي قد تَخْفَى؛ وتنبيه المفتي على مختصر الأدلة؛ وجواز سؤال المُسْتَفْتِي عن بعض ما يَخْفَى مِن الدَّليل إذا عَلِمَ مِن حالِ المسؤُول أنَّهُ لا يكرَهُ ذلك ولم يكن فيه سُوءُ أَدَبٍ (¬2). خاتمة: الحديث دالٌّ على أنَّ تحسينَ النِّيَّات في أعمال الخير يَتَنَزَّلُ مَنْزِلةَ الصدقات والأجور، ولا سيما في حق من لا يقدر على الصدقة، ويُفهَمُ مِنهُ أنَّ الصدقةَ في حَقِّ القادر عليها أفضل من سائر الأعمال القاصرة على فاعِلِها، وسؤالهم سؤالُ مُنَافَسَةٍ لا حسد، فلمَّا سَمِعَ الأغنياءُ ذلك فعلُوا مثله فقال الشارع: "ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتيهِ مَنْ يَشَاءُ" والفقراء نالُوا الرُّتبَةَ بحَسْرَةِ الفوت ألا يجدوا ما ينفقون، فقامت مقام النفقة، فَنِيَّةُ المؤمِن أبلغُ مِن عمله، وأين فوت الأرواح من فوت الأشباح؟ * * * ¬
الحديث السادس والعشرون
الحديثُ السَّادِسُ والعِشْرُونَ عن أبي هُرَيرَةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "كُلُّ سُلَامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، كُلَّ يَوْمٍ تَطْلعٌ فيهِ الشَّمْسُ تَعْدِلُ بَيْنَ اثنَيْنِ صَدَقَةٌ، وتُعِينُ الرَّجُلَ في دَابَّتِهِ [فَتَحْمِلُهُ] (¬1) عَليْها أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْها مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، والكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَبِكُلِّ خُطْوَةٍ تَمْشِيها إلى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ، وَتُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ". رواه البخاري ومسلم (¬2). * * * الكلام عليه من وجوه: وهو حديث عظيم يرجع إلى قوله تعالى: {اعْبُدُوا اللهَ} [المائدة:72]، {وَتَعَاوَنُوْا عَلَى الْبِرِ وَالْتَّقْوَى} [المائدة: 2]، وإلى قوله -عليه الصلاة والسلام-: "المُؤْمنُ للمُؤْمنِ كالبُنْيَان يَشُدُّ [بَعْضُهُ] (¬3) بَعْضًا" (¬4)، و"المُؤْمنُ كَثِيرٌ ¬
بأَخِيهِ" (¬1)، و"المُؤْمنُ مِرآةُ المُؤمنِ" (¬2) أي: يَرَى مِن نفسه ما لا يراه كالمرآة، وهو ضَرْبٌ مِن الإعانَةِ. وإلى قوله: "انصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا" (¬3) أي: الظَّالم بالكَفِّ عن ظلمه، والمظلوم بنصره، و"مَثَلُ المؤْمِنِينَ في تَوَادِّهم وَتَرَاحُمِهِمْ كمَثَلِ الجَسَدِ الوَاحِدِ" (¬4) ونحو ذلك. أحدها: "السُّلَامَى" -بضَمِّ السِّين المُهْمَلَةِ وتخفيف اللَّام-: المَفْصِل، وجمعها: سُلَامَيات -بفتح الميم وتخفيف الياء- وهي ثلاثمائةٍ وسِتُّونَ مَفْصِلًا، ثبتَ ذلك في "صحيح مسلم" (¬5). وأصلُهَا: عِظَامُ الكَفِّ والأصابع والأرجل، ثم استعْمِلَ في سائِرِ عِظَام الجَسَدِ ومَفَاصِلِهِ؛ فالمرادُ: على كلِّ عُضْوٍ ومَفْصِلٍ صَدَقَةٌ. وفي المراد به احتمالان: ¬
أحدهما: أنَّ الصدقةَ كما ورَدَ أنها تدفَعُ البلاء؛ فإذا تصدَّقَ عن أعضائِهِ -كما ذكر- كان جديرًا لِدَفعِ البَلَاءِ عنها. ثانيهما: أنَّ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ- على الإنسان في كُل عضو ومفصل نعمة، والنعمة تَستَدعِي الشكر، ثم إنَّ الرب - جَلَ جَلَالَهُ - وهبَ ذلك الشُّكرَ لعباده صدَقَةً عليهم كأنه قال: اجعل شكر نِعَمِي في أعضائك؛ أي: تعين بها عبادي، وتَتَصَدَّقُ عليهم بإعانتهم (¬1). قال سهل بن عبد الله التُّسْتَرِي -رحمه الله-: "في الإنسان ثلاثمائة وستون عِرْقًا: مائة وثمانون ساكنة، ومائة وثمانون متحركة، فلو تحرك ساكن لم يتم، ولو سكن متحرك لم يتم" (¬2). ثانيها: قوله: "كُلَّ يومٍ تَطْلعٌ فيه الشَّمسُ" وَجْهُهُ: أنَّ دَوَامَ نِعمَة الأعضاء نعمة أُخرَى، ولَمَّا كان الرب تعالى قادِرًا على سَلْبِها في كُلِّ وقتٍ وأَوَانٍ -وهو في ذلكَ عادِلٌ في حُكْمِهِ لا اعتِرَاضَ عليه فيه- فَعَفْوُه عن ذلك وإدَامَةُ النِّعمة عليه صدقة توجب الشكر والرعاية دائمًا مَا دَامَت النِّعمة. ثالِثُهَا: الصَّدَقةُ ضَرْبان: عن أموالٍ: كالزكاة وصدقة التطوع. وصدقة الأفعال كالمذكورة في الحديث، ويجمعها عبادة الله كالمشي إلى الصلاة، ونفع الناس؛ فمنهُ العدل بين الاثنين تَحَاكَمَا أو تَخَاصَمَا، سواءٌ كانَ حاكِمًا أو مُصلِحًا إِذَا نَوَى دَفعَ المُنَافَرَةِ بينهما فـ {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10]، {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء: 135] ونحوه من الأمر بذلك (¬3)؛ فَفِيهِ فَضلُ الصُّلْحِ، قال الله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ ¬
نَجْوَاهُمْ إلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114]. وقد أجاز الشارع الكذب فيه؛ لجلب الأُلفَةِ ودَفْعِ التَّقَاطُعِ، وكذا في إرهاب الكفار، وعِدَةِ الرَّجُل زوجته كما ورَدَ في الحديث. ومنه: إِعانَةُ الرَّجُلِ بحَمْلِهِ أو حَمْلِ مَتاعِهِ على دابَّتهِ. ومنه: الكلمة الطيبة، نحو: سلام عليكم، حياك الله، وإنك لمحسن، وأنت رجل مبارك، ولقد أحسنتَ جِوَارَنَا ونحو ذلك؛ لأَنَّهُ مِمَّا يَسُرُّ السَامِعَ، ويجمع القلوب ويؤَلِّفُها، ويُحتَمَل أن يُرَاد بها كلمة ذكْرٍ مِن تسبيحٍ أو نحوه. ومنه: الخَطوة -وهي بفتح الخاء- إلى المسجد، وقد وردت فيه أخبار -أعني في الحديث- على ذلك. ومنهُ: "إِمَاطَةُ الأَذَى عن الطريق" أي: إزالته، كالشَوكِ المُؤْذِي، والحَجَر الَّذي يُعْثَرُ به، والحيوان المَخُوف مِنهُ، ودَعْم الجِدَار [المائل] (¬1) ونحوه؛ لأنه نَفعٌ عَامٌّ. وفي "الصحيح": "الإيمَانُ بِضْعٌ وسَبْعُونَ شُعْبَة، أعلَاها: لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأدنَاها: إِمَاطَةُ الأَذَى عن الطَّرِيقِ" (¬2)، وفي "الصحيح": " ... فَنَحَّاهُ، فَشَكَرَ اللهُ لَهُ؛ فَغَفَرَ لَهُ" (¬3). ويحتمل أن يكون أرادَ بالأذى: أذى المظالم ونحوها. و"الطَّريق": طريق الله، وهو شرعه وحدوده ورسومه، وذلك أعظم أجرًا ¬
مِن إزالةِ الأَذَى الحِسِّي بما لا يقارب. فائدة: "تميط" -بِضَمِّ أوله-، والأصل فيه أن يميط كما في "يعدل"، أي: أن تعدل، يُقَال: مَاطَ الشَّيءَ وأَمَاطَه إِذا تَنَحَّى عنهُ، وكذلك مِطْتُ غَيْري وَأَمَطْتُهُ. قال الأصمَعِيُّ - رَحَمَهُ الله -: "مِطْتُ أنا، وأمَطتُ غيري" (¬1). ومِنهُ: الحديثُ. و"الأَذَى": مَا يُؤذِي النَّاسَ في طُرُقَاتِهم مِمَّا قَدَّمْنَاهُ. أُخْرَى: استحب بعض العلماء أن يأتي بكلمة التوحيد إذْ ذَاكَ؛ لِيَجْمَعَ بينَ أَعلَى الإيمان وأدنَاه (¬2). رابعُها: الحديث لم يحصر أفعال الصدقة فيما ذكره، وإنما ذَكَرَ مِنهَا أَمْثِلَةً، وجِمَاعُهَا ما أسلَفْنَاهُ مِن عبادة الله، أو نفعِ النَّاس، حتَّى: "إِنَّ رَجُلًا رَأَى فَرْخًا وَقَدْ وَقَعَ مِن عُشِّهِ فَرَدَّهُ إِليهِ؛ فَغَفَرَ اللهُ لَهُ" (¬3)، وآخر "رَأَى كَلْبًا يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ العَطَشِ فَسَقَاهُ؛ فَغُفِرَ لَهُ" (¬4)، و"مُومِسَةٌ رَأَتْ كَلْبًا يَلْهَثُ عَطَشًا فَأَخْرَجَتْ مُوقَهَا فَأَخْرَجَتْ لَهُ ماءً؛ فَغُفِرَ لهَا" (¬5). وعَكس ذلك المرأة التي "دَخَلَتِ النَّارَ في هِرَّةٍ لَا هِيَ أَطْعَمَتْها وَلَا أَرْسَلَتْها ¬
تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ" (¬1)، وصح: "في كُلِّ كَبدٍ حَرَّى أَجْرٌ" (¬2). والرب - تعالى -: "كَتَبَ الإحسَانَ على كُلِّ شَيءٍ" كما سَلَفَ (¬3)، و"الخَلْقُ عِيالُ الله، وأَحَبُّ الخَلقِ إليه: أَشْفَقُهم على عِيالِهِ" (¬4)، وإذا تَصَدَّقَ كُلُّ أَحَدٍ عن أعضَائِهِ بِنَفْعِ خَلْقِ الله حَصلَ مِن ذلِكَ مقصوده، والحديث السالف: "لا يُؤْمنُ أَحَدُكم حتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ" (¬5). * * * تتمات: قال العلماء: المراد بالصدقة: الصدقة المندوبة لا الواجبة، والمراد بالعدل بين اثنين: الإصلاح بينهما بالعدل. وفي "الصحيح" (¬6): "وَيُجْزِئُ مِن ذَلِكَ رَكْعَتَان يَرْكعهمَا مِنَ الضُّحَى". ¬
أي: عن هذه الصدقات كلها، وإنما كان كذلك؛ لأَنَّ الصَّلاةَ عَمَلٌ بجَمِيع أعضَاءِ الجَسَدِ؛ فإذا صَلَّى فَقَدْ قامَ كُلُّ عُضو بوظيفَتِهِ التي عليه في الأصل الَّذي ذكره في الحديث قيامًا ورُكُوعًا وسُجُودًا. قال صاحب "الإفصاح" (¬1): "وفيه أَنَّ الإنسانَ قد أعطاهُ الله خلقه، قال الله تعالى: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50] وفي معنى الآية وجهان: أعطى خلقه كل شيء، أو أعطى كل شيء خلقه؛ أي: وهبَ للآدَمِي خلقه؛ فجملةُ عِظَام الآدَمِي هِبَةٌ مِن الله له. وتفضِيل ذلك أن كل سُلَامى هبة من الله للآدمي. قال أبو عبيد - رَحَمَهُ اللهُ -: "معنى الحديث: أَنَّ كُلَّ عَظْمٍ مِن عظام ابن آدم [صدقة] " (¬2). فَإِذَا (¬3) نَظَرَ الآدَمِيُّ في خلق نفسه، ورَأَى أنَّه [لو] (¬4) قد أعوَزَهُ عظم واحد لاختلَّت عليه حياته كما لو زاد، وَرَأَى أنَّ ذلك كُلّه لم يكن له فيه صُنع، ورأَى أنَّ عِظَامَ الآدمي مَا بينَ طِوال وقِصار، ودِقَاقٍ وغِلَاظٍ، فَلَو قَصُرَ الطَّويلُ مِنهَا، أو طال القصير، أو دقَّ (¬5) الغَلِيظُ، أو غلظ الدقيق لاختل بذلك نفعه. فإذا أصبحَ المؤمِنُ قد أُعطِي لِينَ الحركة لما اتفق فيه من تَركِيبِ العِظَام ¬
جعلها الله جسمًا صلبًا لا يضعف فيهِ أُنبُوبُ سَاقِهِ عن حَمْلِ بَدَنِ نَفْسِهِ، وعن حملٍ يَحْمِلُهُ بَدَنُهُ أيضًا، ولا عظم زنده عن إقلال حملِ مَا يَرْفعه بيده، ولا عظام أضلاعه عن وقاية حشاه، ولا عظم يافوخه (¬1) عن [صيانة] (¬2) دماغه، تَعَيَّن شُكرُ فاعل هذا به شُكرًا متحتمًا، فَنبَّهَ الشَّرعُ على أنْ يُقَابِل النعمة بما ذكَرَهُ، إلَّا أنَّه لَطَفَ به في تَسْمِية ذلك: صدقَةً مُخْرجًا لها مَخْرج ما يُثَاب عليه ويُؤْجَرُ فيه، ثم احتَسَبَ له بما ذكر، ثم لطفَ به حتَّى جَمَعَ ذلك كُلّه بأن يُصَلِّي ركعتين مِن الضُّحَى" (¬3). كما سَلَفَ، والله أعلم. * * * ¬
الحديث السابع والعشرون
الحديثُ السَّابعُ والعِشْرُونَ وهو في الحقيقةِ حَدِيثَان، لكنهما تَوَارَدَا على مَحَلٍّ واحِدٍ: عن النَّوَّاسِ بنِ سَمْعَانَ - رضي الله عنه - عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "البِرُّ: حُسْنُ الخُلُقِ، والإِثْمُ: مَا حَاكَ في نَفْسِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عليهِ النَّاسُ". رواه مسلم (¬1). وعن وَابِصَةَ بنِ مَعْبَدٍ - رضي الله عنه - قال: "آليْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: "جِئْتَ تَسْأل عنِ البِرِّ"؟ قُلتُ: نَعَمْ، قال: "اسْتَفْتِ قَلْبَكَ؛ البِرُّ: مًا اطْمَأَنَّتْ إِليهِ النَّفْسُ، واطْمَأَنَّ إِلَيْهِ القَلْبُ، والإِثمُ: مَا حَاكَ في نفْسِكَ (¬2) وَتَرَدَّدَ في الصَّدْرِ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ". حديثٌ صَحِيحٌ (¬3)، رُوِّينَاهُ في مُسْنَدَيْ الإِمَامَيْن: أحمدَ بنِ حَنْبَلٍ، والدَّارِميِّ بإِسْنَادٍ جَيِّدٍ (¬4). * * * ¬
الكلام عليهما من وجوه: أولها: "النَّوَّاس" -بفتح النون وتشديد الواو- بن سمعان -بكسر السين وفتحِها- الكلابي (¬1)، له صحبة ورواية، ولأبيه وفادة، تزوج -عليه الصلاة والسلام- أخته، وهي المُتَعَوِّذَة (¬2)، ويقال: إنه أنصاري (¬3)؛ فلعله بالحلف (¬4). قال عن نفسه: "أَقَمْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بالمدِينَةِ سَنَةً، مَا يَمْنَعُنِي مِنَ الهِجْرَةِ إلا المَسْأَلَةُ" (¬5). أي: التي كان يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها، لأن المهاجرين نُهُوا عن ذلك بخِلَافِ الغَريبِ القَادِمِ، وهو دالٌّ على أنَّ الهِجرَةَ مَا كانت واجبة على من أسلم من أهل مكة (¬6). ¬
ووابصة -بصاد مهملة قبلها ياء موحَّدة- بن معبد أبو سالم الأَسَدِي، وَفَدَ سنةَ تسعٍ [في] (¬1) عشرةٍ مع قومِهِ. روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعن خُرَيم بن فاتك الأسدي وغيرهما. وعنه: حنش بن المعتمر، وجمعٌ. وكان قارئًا بَكَّاءً، وقبره بالرَّقةِ (¬2). وأحمد بن حنبل: هو الإمام العلامة أحد الأئمة المتبوعة، أبو عبد الله، روى عن إبراهيم بن سعد، وهشيم، وأُمَمٌ، وعنه (خ، م، د) والباقون بواسطة، وابْنَاه (¬3)، وأممٌ؛ آخِرُهم: البغوي. مات في ربيع الأول، سنةَ إِحْدَى وأربعين ومائتين عن سبع وسبعين سنة. ترجَمتُهُ في مُجلَّدٍ، و"مُسْنَده" فيه أربعون ألف حديث، وقيل: ثلاثون، تكرر منها عشرة! (¬4). ¬
جَمَعَهُ مِن سبعمائة وخمسين ألف حديث، وقال: "جعَلتُهُ حُجَّةً بينِي وبَينَ الله". قال: "فَكُلُّ حَدِيثٍ لا تَجِدُونَهُ فيه فَلَيْسَ [بحُجَّةٍ] (¬1) " (¬2). قلتُ: وقد أَخَلَّ بأحاديث منها حديث أم زرع الثابت في "الصحيح" (¬3)، وخرّج ابن الجوزي - رَحِمَهُ اللهُ - في "موضوعاته" مِن "مسنده" سبعة أحاديث، ¬
وأهمل كثيرًا!! (¬1)، وأكثر منه في "عِلَله"، نعم؛ جازَفَ في "موضوعاته" احتياطًا لتهذِيب السُّنة، وقد أنكرَ ذلك عليه الحُفَّاظ، وبعضها صحيح وبعضها حسن (¬2). ثم اعلم أَنَّ الإمامَ أحمد - رَحِمَهُ اللهُ - لم يلتزم الصِّحَّةَ في "مسنده"، وإِنَّمَا أخرجَ مَا لَمْ يُجْمِع الناس على تَرْكِهِ، و"مسنده" مع "مسند" إسحاق (¬3) و"المسند" لابن أبي شيبة و"مصنفه"، مُتَقَاربة في الكثرة والشُّهرة، و"مسند البزار"، وأبي يعلى متقاربان في التَّوَسّط، و"مسند" الحميدي، والدارمي متقاربان في الاختصار. وأَمَّا الدَّارِميُّ؛ فمسنده لطيف وغالِبُهُ الصِّحة، وهو أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي التميمي السمرقندي الحافظ، عالمها، من دارم بن مالك بن ¬
حنظلة بن زيد مناة بن تميم. روى عن: يزيد بن هارون، والنَّضْر بن شُمَيْل، وخلائق. وعنه: م، د، ت، وأبو زرعة، وخلق. قال أبو حاتم: "هو إِمامُ أهل زَمَانِهِ" (¬1). وُلِدَ سنة إحدى وثمانين ومائة، ومات سنة خمس وخمسين ومائتين، صَنَّفَ "المسند"، و"التفسير"، و"الجامع" ولمَّا بلغ البخاريَّ نعيُه بكى، وأنشأ: إِنْ تبقَ تُفْجَعْ بالأَحِبَّةِ كُلِّهِمْ ... وَفَنَاءُ نَفْسِكَ لَا أبَا لَكَ أفجعُ قال إسحاق بن أحمد: "ومَا سَمِعْنَاهُ يُنْشِدُ شِعرًا إلَّا مَا يَجِيءُ في الحديث" (¬2). قال الترمذي: "سمعتُ محمد بن إسماعيل يُحَدِّثُ بحديثِ "مَنْ شَيعَّ جنازة" عن عبد الله بن عبد الرحمن" (¬3). وفي "كامل ابن عدي" عن النسائي، عن الدارمي (¬54). الثاني: "البر" ضد الفجور، و"المبرة" مثله، تقول: بررت والدي -بالكسر- أبره برًّا؛ فأنا برٌّ به وبارٌّ، وجمع البَرِّ: الأَبرارُ، وجمع البار: البررة، ومعنى "سألته عن البر والإثم": عما يبر فاعله ويلحق بالأبرار وهم المطيعون، وعما يأثم فاعله فيلحق بضدهم، فأجابه الشارع بجواب جملي؛ فأغناه عن التفصيل فقال له: "البر: حسن الخلق" أي: أَنَّهُ أعظَمُ خِصال البر كـ "الحَجُّ عَرَفَةُ". ¬
ويعني بحسن الخلق: الإنصافُ في المعاملة، والرِّفق في المجادلة (¬1)، والعدل في الأحكام، والبذل والإحسان (¬2). وإِنْ شِئتَ قُلتَ: هو بذْلُ النَّدَى، وكَفُّ الأَذَى، وأَنْ يُحِبَّ للناس ما يُحِبُّ لنفْسِهِ. أو: طَلَاقةُ الوَجهِ، وكَفُّ الأَذَى، وبذلُ المَعْرُوفِ (¬3). والبِرُّ تارةً يُقَابَلُ بالفجور والإثم، فيكون عبارة عَمَّا اقتضاه الشَّرْع وُجُوبًا ونَدْبًا، كَمَا أنَّ الإِثمَ عِبَارَةٌ عَمَّا نهى عنه حُرْمَةً وكَرَاهة، وْيُقَابَلُ تارةً بالعقوق، فيكونُ عِبارة عن الإحسان، كما أن العقوق عبارة عن الإساءة (¬4). وكأَنَّ المراد بقوله: "البِرُّ: حُسْنُ الخُلُق" مُعْظَمه -كما سلف-، كـ "الحَجُّ: عَرَفَةُ"، و"الدِّينُ: النَّصِيحة"، وهوَ مِن أَوْجَزِ لفظه وأبلغه: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]. وكَأَنَّ المراد هنا بالخُلُق: التَّخَلُّق. الثالث: "الإثم": الذَّنب، يقال: أثم إثمًا ومَأْثَمًا: إذا وَقَعَ فيه، فهوَ آثِمٌ وأَثِيمٌ ومأْثُومٌ. ¬
ومعنى: "حَاكَ": أثر وتردد، ومنه قولهم: ضربته فما حاك فيه السيف؛ أي: مَا أَثَّرَ، وحاك الشيء في قلبي: إذا رَسَخَ فيهِ وَثَبَتَ، ولا يَحِيكُ هذا في قلبي، أي: لا يَثْبُتُ فيه ولا يَسْتَقِرُّ. قال شَمِرٌ: "الكَلامُ الحائِكُ: هو الراسخ في القلب" (¬1). ومعنى الحديث: الشيء الَّذي يؤثر نُفْرَةً وحَزازة (¬2) في القلب، وإِنَّمَا أحالَهُ الشَّارعُ على هذا الإدْرَاكِ القَلْبِيِّ، لِمَا عَلِمَ مِن جَوْدَةِ فَهْمِهِ، وَحُسْنِ قَرِيحَتِهِ، وتنوير قلبه، وأَنَّهُ يُدْرِكُ ذَلِكَ مِنْ نَفْسه. وهذا كما قال في الحديث الآخر: "الإِثمُ حَزَّازُ القُلوب" وفي رواية: "حَوَّاز القُلُوب" (¬3) يعني به: القلوب المنشرحة للإسلام، المُنَوَّرة بالعلم الَّذي قال فيه مالك - رضي الله عنه -: "العِلْمُ نُور يَقذِفُهُ اللهُ في قَلْبِ مَنْ يَشَاء" (¬4). وضبط الجوهري "حزَّاز" -بتشديد الزاي فقط-، قال: "وهوَ مَا حَزَّ في القلبِ، وكلُّ شيءٍ حَكَّ في صَدْرِكَ فقد حَزَّ" (¬5). ¬
وهذا الجوابُ لا يَصلُحُ لغَلِيظِ الطَّبعِ قليل العلم، فإذا سأل عن ذلك مَن قَلَّ فهمُهُ فُصِّلت له الأوامر والنواهي الشَّرعية. وقد قالت عائشة - رضي الله عنها -: "أَمَرَنَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نُنْزِلَ النَّاسَ مَنَازِلَهمْ" (¬1). قال صاحب "الإفصاح" (¬2): "هذا أصل -يعني: قوله: "الإثم: ما حاك في نفسك"- يُتَمَسَّك به لمعرفة الإثم من البر؛ فإنه قد يطمئن القلب للعمل الصالح طمأنينة تُبَشِّره بأَمْرِ العَاقِبة، والإثم يحك في الصدر عن طمأنينة؛ لأنه لا يقر الشرع عليه، وإنما يكون على وجهٍ يَشذّ، أو تأويل مُحْتَمَل إلَّا أن مِعيَارَهُ يَظهر بأنَّه إنْ كَرِهَ صاحبه الاطِّلاع عليه، والناس ها هنا مُعَرَّف، فهو يَنْصَرِفُ إلى وُجُوهِ الناس وأَمَاثِلِهم لا إلى رَعَاعِهم؛ فذلِكَ -حينئذ- هوَ الإثم فليتركه، وهذا ما زال ظاهرًا معروفًا حتَّى قد قال زهير (¬3): أَلسِّتر دونَ الفاحِشاتِ وَلَا ... يلقاك دونَ الخير من سِتْرِ" الرابع: معنى "اطْمأَنَّت": سَكنَتْ، ومنه: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ} [النساء:103] أي: سكنتم من انزعاج الحرب وحركته، ولا شَكَّ أَنَّ النفسَ لها شُعُورٌ مِن أَصْلِ الفِطرَةِ بما تُحْمَدُ عاقبته وبما لا يحمد، ولكن الشَّهْوَةَ غَلَبَتْها بحيث يوجب لها الإقدام على ما يضرها، كاللِّص تغلِبُه الشَّهوة على السَّرقة، وهو خائِفٌ مِن الحَدِّ، والزَّاني ونحوه كذلك؛ فإذا تَقَرَّرَ ذلك فقد تضمَّنت هذه الجُمْلة علامَتَيْن: تأثره في النفس وتردده، وما ذاك إلَّا لِشُعورها بسوء العاقبة. ¬
وكراهته اطلاع الناس على [الشيء يدُلُّ على أنَّه إثمٌ؛ لأنَّ النفسَ بِطَبْعِها تُحِبِّ اطِّلاع الناس على] (¬1) خيرها وبِرِّها (¬2)، ومِن ثَمَّ هَلَكَ كثيرٌ مِن الناس بالرِّياء، فإذا كَرِهتْ اطِّلاع بعض الناس على بعض أفعالها علِمنَا أَنَّهُ ليس خيرًا وبِرًّا، فهو إذن شَرٌّ وإثم. ثُمَّ إِنَّ هاتين العلامَتَين واحدة مُرَكَّبةٌ مِن أمرَيْن ويحتمل استقلالهما، ويؤيد الأول العطفُ؛ إذ مقتضاه المغايرة، ويَتَحَصَّلُ مِن ذلك قِسْمَةٌ رُبَاعِيَّة، وهي أنَّ الفعلَ إِمَّا أن يحيكَ في النفس ويكره اطلاع الناس عليه، أَوْ لَا وَلَا (¬3)، أو يحيك فلا يكره، أو يكره ولا يحيك؛ فالأول إِثمٌ: كالزنا والسرقة، والثاني ليس بإثم كالعبادة والأكل والشرب ونحوه، والثالث والرابع إِنْ أمكَنَ وجودهما فهما مُتَرَدِّدان بين الإثم والبر من باب قوله: "وبينَهمَا مُشْتَبِهاتٌ" (¬4) أو يكرههن كراهة تنزيه (¬5). الخامس: الكراهة المعتبرة هنا الكراهة الدينية الجازمة، فخرج بالدينية: العادية، وبالجازمة غيرها؛ فالأول: كمن يكره أن يرى على الأرض حبًّا أو جبلًا أو نحو ذلك، والثاني: كمن يكره أن يركب بين المشاة تواضعًا ونحوه، ثم لو رأى ذلك لم يبال، لأن كراهة ذلك غير جازمة به. تتميم آخر: الفِعلُ إِمَّا جارحةٌ أو قلبٌ، وعلى التقديرين: فَإِمَّا ألا يكره اطلاع الناس عليه كالعبادة والأكل والشرب والإخلاص والمعرفة والتوكل ¬
ونحوه، فهو بِرٌّ، أو يكره، فإنْ كان جارحيًّا كالمحرمات فَإِثمٌ، وإِنْ كانَ قَلْبِيًّا فهو إما: مُسْتَقِلٌّ، أو غيره. فالأول: بألَّا يتوقف الجزاء عليه على عمل؛ كالكبر ونحوه فهو إثم. والثاني: الهَمُّ بِمُحَرَّمٍ؛ فإن لم يوجد تصميم فلا إثم للتجاوز عنه، ويثاب عليه؛ لأنه حاكَ (¬1) في النفس؛ وكره اطلاع الناس عليه، وقد قال - عليه الصلاة والسلام - في مثل هذا أنَّه "صَرِيحُ الإِيمَانِ" لَمَّا قيل له: "إِنَّا نَجِدُ في أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَنْطِقَ بِهِ" (¬2) أي: إعظام النطق له، وذلك صريحُ الإيمان. وكذا إذا هَمَّ بمُحَرَّمٍ ثم نَفَرَتْ نفسه منه أُثيبَ عليه إذ لم ينفر مِنه إلَّا مِن الإيمان وصار من باب: "اكتُبُوها لهُ حَسَنَةً؛ إِنَّمَا تَرَكها مِنْ جَرَّاي" (¬3) أو قريبًا مِنْهُ، وإن صَمَّمَ فهو إِثمٌ؛ لقوله: "الإثْمُ: مَا حَاكَ في نَفْسِكَ" إلى آخره، وهذه مسأَلةٌ خِلَافِيَّةٌ. وكأَنَّ الحديث يقتَضي أنَّ الخَطَرَات والهمم الضعيفة بالحرام إثمٌ، ولكن خُصَّ عمومه بالتجاوز عنه جمعًا بين الأدلة. وحينئذ نَقُول -في كُلِّ عزمٍ على مَعْصِيةٍ بَدَنِيَّةٍ-: هذا العزم يحيك في النفس ويكره أن يطلع عليه الناس، وكلما كان كذلك فهو إثم؛ فهذا العزم إثم، ومما يشهد لهذَا: الحَديث الآخر: "إِنَّهُ كانَ حَريصًا على قَتْلِ صَاحِبِهِ" (¬4) فَعَلَّلَ ¬
دخُولَه النار بحرصه على قتل صاحبه، وهو عزمٌ مُجَرَّدٌ، لا يُقَال: إِنَّ هذا حِرصٌ اقتَرَنَ به العمل، وهو لقاؤُهُ خَصْمه بالسَّيف، فاندرجَ تحتَ قوله في الحديث: "مَا لَمْ تَعْمَلْ" (¬1)؛ لأنه عَلَّلَ دخولَ النار بمُجَرَّدِ الحِرصِ. ومما يَشْهَدُ لذلك حديث: "الرِّجَالُ أربعةٌ: رَجُل أُوْتِيَ مَالًا فَنَفَّقَهُ في البِرِّ، ورَجُلٌ قال: لَوْ كَانَ لي مِثلُ مَا لِفُلانٍ لَفَعَلْتُ كمَا فَعَلَ؛ فَهما سَواءٌ في الأَجْرِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالًا فَأَنْفَقَهُ في الفُجُورِ، وَرَجُلٌ قال: لَوْ كَانَ لي مِثلُ مَا لِفُلَانٍ لَفَعَلْتُ مِثلَ مَا فَعَلَ؛ فَهما سَوَاءٌ في الإِثْمِ" (¬2). فهذا وِزْرٌ على العزم المُجَرَّدِ على المعصية، إذْ لَمْ يُقَارنه فعل معصية. نعم؛ قد يُقال: قارَنَهُ القول، وهو "لَوْ كَانَ لي" إلى آخره، فاندرج تحت قوله: "أو تَكَلَّم به" لكن معنى الحديث: ما لم يتكلم به كلامًا مُؤَثَرًا في المفسدة، مثل أن يعزم على القذف فيقذف، أمَّا كلامٌ لا أثرَ له فيها فوجوده كَعَدَمِهِ. وقوله: "لَوْ كَانَ لي" إلى آخره مِنْ ذَلِكَ، وبقي (¬3) ترتيب الوزر على مجرد العزم. وهذا مِن بابِ تَنْقِيحِ المَنَاط، فحذف ما لا يصلح لتعلق الحكم به من الأوصاف، وانتِقَاء ما يصلح لذلك منها. ¬
السادس: قوله - عليه الصلاة والسلام لوابِصَة -: "جِئتَ تَسْأَلُ عن البِرِّ"؟ هوَ مِن بابِ الكَشْفِ، كذلك جاء في بعض الروايات: "أنَّ وابِصَةَ جاءَ يَتَخَطَّى الناسَ، حتَّى جَلَسَ بينَ يَدَيْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا وابصة! تُحَدِّثُني مَا جِئتَ فيهِ أَوْ أُحَدِّثكَ"؟ فقال: بل أنتَ حَدِّثْني يا رسولَ الله؛ فهوَ أَحَبُّ إليَّ. قال: "جئتَ تَسْأَلُ عن البِرِّ والإِثمِ؟ قال: نعم" (¬1). * تتمات: قوله: "استَفْتِ قَلْبَكَ" هو راجع إلى مَا سَلَفَ مِن شعورِ النَّفسِ والقَلبِ بِمَا يحمد عاقبتها فيه أو يذم. قوله: "البر ... " إلى آخره، هو كقوله أولًا: "البر: حُسْنُ الخُلُقِ"؛ لأَنَّ حسن الخلق تطمئن له النَّفسُ والقلبُ. وقوله: "الإثمُ: مَا حَاكَ في النَّفسِ، وتَرَدَّدَ في الصَّدر" وهو شَبيهٌ بقوله: "الإثمُ: مَا كَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عليه النَّاسُ" لأَنَّ مَا تَرَدَّدَ في النفس فهوَ إِثمٌ أو محلّ شُبْهَةٍ، ولابُدَّ مِن ذلك مما يكره اطلاع الناس عليه. وقوله: "وإنْ أفتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ" أي: قد أعْطَيْتُكَ علامةَ الإثم فاعتَبِرْها في اجتنابه، ولا تُقَلَّد مَن أفتاكَ في مُقَارَبَتِهِ، وإنما وَحَّدَ الفعل الأول لإسناده إلى ظَاهِرٍ، وجمَعَ الثاني لإسناده إلى ضمير، والأصلُ فيه أَنَّ الفعلَ إِنَّمَا يكون له فاعل واحد، وإن كان ظاهرًا امتنع إيصال ضميره بالفعل نحوه: "أفتاك (¬2) ¬
الناس" لِئَلَّا يتعَدَّد الفاعل وهو غيرُ جائِزٍ، وإن لم يكن ظاهرًا وجب إضماره، نحو "أفتَوْك" لِئَلَّا يَتَجَرَّد الفعل عن الفاعل، وهو غير جائز. وأما قوله تعالى: {وَأَسَرُّوْا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنبياء:3]، و {عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ} [المائدة:71]. فهو من باب البدل في الضمير، لا مِن باب تعدد الفاعل، ولا من باب: "أكلوني البراغيث"، فإنها لغيَّة، وقد تأولها قوم على أَنَّ الضميرَ عَلامَةُ جمع الفاعل، كالتاء في "قامت هند" علامة تأنيث الفاعل. فإن قلت: قوله هنا: "والإثمُ: مَا حَاكَ في نَفْسِكَ" يقتضي أن الأمور المشتبهة إثم؛ لأنها تحك في النفس وتتردد في الصدر، وهذا يعارض قوله في الحديث السألف: "فمَن اتَّقَى الشُّبهات" إلى آخره، فإن مقتضاه أنها ليست إثمًا؛ وإنما شرع [اجتنابها] (¬1) وَرَعًا كَمَا مَرَّ. والجواب: منع كون الشبهات ليست إثمًا، لأنَّ الاستبراء للدِّين والعِرْض واجِبٌ، واتِّقَاءُ الشُّبهات طريقٌ إليه، والطريق إلى الواجب واجِبٌ، فما كان اتقاؤها واجب فملابستها (¬2) إثم. تنزَّلنا وسلَّمنَا ذلك، لكنه محمول على ما إذا ضَعُفت الشبهة فيبني على أصل الحل، وتجنب محلها ورعًا. وهذا الحديث محمولٌ على مَا إذا قَوِيَت، ويكون مِن باب تَرْكِ الأصل الظاهر، أَعنِي: أصل الحِلِّ، لا حل الشُّبهة وتمكنها (¬3). * * * ¬
الحديث الثامن والعشرون
الحديثُ الثَّامِنُ والعِشْرُونَ عن أبي نَجِيحٍ العِرْبَاضِ - رضي الله عنه -؛ قال: وَعَظَنَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مَوْعِظَةً وَجِلَتْ مِنْهَا القُلُوبُ وَذَرَفتْ مِنهَا العُيُونُ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ! كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّع؛ فَأَوْصِنَا! قال: "أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ، والسَّمْعِ والطَّاعَةِ، وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيكمْ عَبْدٌ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثيرًا؛ فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهدِيِّينَ، عَضُّوا عليها بِالنَّوَاجِذ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ". رواه أبو دَاودَ، والتِّرمِذِيُّ (¬1). ¬
وقال: "حديثٌ حَسَنٌ". * * * الكلامُ عليه مِن وُجُوهٍ: أحَدُهَا: في التعريف بِرَاوِيهِ: وهو مِن الأَفْرَاد، وهوَ: بِكَسْرِ العَيْن، ووالِدُهُ: سَارِيَة سُلَمِي، حِمْصِيٌّ بَكَّاءٌ، صُفِّيٌّ (¬1)، مات في فتنة ابن الزبير، ويقال: سنة خمس وسبعين، وفي الصحابة آخر صحابي كنيته مثل كنية العرباض هذا، وهو عمرو بن عبسة، وفي التابعين: أبو نجيح المَكِّيُّ؛ لا ثالث لهما في "الكتب الستة" (¬2). فائدة: قال غُلَامُ ثَعْلَب: "العِرْبَاضُ": الطَّويلُ مِنَ النَّاسِ وَغَيْرِهِم (¬3)، و"الجلد": المخَاصِمُ مِن الناس، وهو مَدْحٌ. و"السارية": الأسطوانة. ¬
ثانيها: "الوعظ": النصح، والتذكير بالعواقب، تقول: وعَظْته وعْظًا وعِظَةً واتَّعَظَ: قَبِلَ الموعظة. ومعنى: "وجِلَت": خافت، ومنه: {وَقُلُوُبهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60]، وكأنه كان مقام تخويف ووعيد. وفي قوله: "مَوْعِظَةً بَلِيغَةً" أي: بلغت الثناء، وأَثَّرَت في قُلُوبنا وَجَلًا، وفي أعيننا تذارفًا. و"ذَرَفَت" -بالذال المعجمة، ثم راء-: سَالَت بالدموع (¬1). وجاء في بعض طُرُقهِ: "إنَّ هذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّع؛ فَمَاذا تَعْهدُ إِلَيْنَا؟! قال: "تَرَكْتُكُمْ عَلَى البَيْضَاءِ لَيْلُها كنَهارِها، لَا يَزِيغُ عَنْها إلَّا هَالِكٌ". وقال: "فَعَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي ... " (¬2) إلى آخره. ¬
"السُّنَّة": الطَّريقةُ القَوِيمَةُ التي تَجْرِي على مَجْرَى السّنن، وهي السبيل الواضح، ومنه: سن الماء (¬1) من السيل، وهي في الشريعة كذلك لم يعدل بها عنها، وهي مستعملة في عربية الجاهلية. قال ذو الإصبع العدواني: "ومنهم من يحسن للناس بالسنة والفرض، والفرض ما تأصَّل التزامه للخلق. كأنه قطع عليهم التردد، مأخوذ من قرض؛ أي: قطع، وإليه يرجع التقدير؛ لأن فاقد زيد قطع عما كان مشتركًا معه، وجعل العلماء السُّنة فيما أرشدوا إلى فعله طالِبًا للثواب، وكلاهما سنة؛ فخصصوه بها اصطلاحًا أرادوا به التمييز بين المعاني" (¬2). قال ابن العربي: "لم أر لهذا الاصطلاح وجهًا إلَّا في حديث أُمِّ حَبيبةَ تَرْوِيه: "مَنْ صَلَّى ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكعَةً مِنَ السُّنَّةِ، بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا في الجَنَّةِ" (¬3) " (¬4). و"النَّواجِذ" -بالذال المعجمة-: الأنياب، وقيل: آخر الأضراس الَّذي يدل بيانها على الحكم؛ أي: عضوا عليها بجميع الفم، ولا يكون تناولها نهشًا، وهو الأخذ بأطراف الأسنان، وهو كناية عن شِدَّةِ التَّمَسُّكِ بها، لأنَّ النواجِذَ مُتَحَدِّدة، فإذا عَضَّت على شيء نَشِبَتْ فيه فلا يَتَخَلَّصُ، ولذلك يقال: هذا الشيء انعقدت عليه الخناصر، وتُلْوَى عليه الأنامل. قال الشاعر: حَنَانيكَ يا ابن الأكرَمين فَلَمْ تَدَعْ ... [لَنَا أَمَلًا] (¬5) تُلوَى عليهِ الأَنَامِلُ ¬
و"العَضُّ" كله بالضاد إلَّا عظ الزمان (¬1). ثالثها: أخبر الشارع أصحابَهُ في هذا الحديث بما يكونُ مِن الاختلاف بَعْدَهُ وغَلَبَةِ المُنْكَر، وقد كان عالمًا به جُمْلَةً وتَفْصِيلًا، ولم يُبيِّنهُ لِكُلِّ أحدٍ وإنما كان يُحَذِّرُ منه على العُموم، ثم يُلْقِي التفصيل إلى الآحاد كحذيفة وأبي هريرة، فلقد كان لَهُمَا منه محلٌّ كريمٌ، ومَنْزِلَة قريبة، وهي إِحدَى مُعجزاته. رابعها: المراد بـ "المهديين": الذين شملهم الهدى، وهم الأربعة -بالإجماع-: الصِّدِّيق، والفاروق، وعثمان، وعلي -رضوان الله عليهم، وعلى سائر الصحابة أجمعين-. و"الرَّاشِدُ": مَن أَتَى بالرُّشدِ واتَّصَفَ به. و"المهدي": الَّذي هداه الله لأقوَم الطُّرق. و"الهدى": الهيئة والسيرة والطريقة، وهم الذين أنفَذَ الله فيهم وعدَه، وانتهى حده في قوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [النور: 55] الآية. وصَحَّ أنهُ قال: "اقْتَدُوا باللَّذَيْن مِنْ بَعْدِي: أبي بكرَ وعُمَرَ" (¬2) فَخَصَّ من الأربعة اثنين. ¬
وقال لتلك المرأة السائلة -وقد قالت: إن لم أَجِدْكَ؟ -: "تَجِدِين أَبَا بَكْرٍ" (¬1) فَخَصَّهُ مِن اثنين، فهذا خُصوصُ خُصوصِ الخصوصِ. وَأَمْرُهُ بالثَّبَات على سُنَّتِهِم لأَمْرَيْنِ: التَّقليد لمن عَجَزَ عن النَّظَرِ، والتَّرجيح عندَ اختلافِ الصحابة، فَيُقدَّم الحديث الَّذي فيه الخلفاء الصديق والفاروق، وإلى هذه النزعة كان يذهب مالك، وقد نبه عليها في "موطئه" (¬2). واللام عند أهل السنة هي للعهد. و"الخلفاء الراشدون": هم الأربعة بعده - عليه السلام - بدليل: "اقتَدُوا باللَّذَيْن مِنْ بَعْدِي" كما قَرَّزنَا، وقالت المعتزلة الشيعة: اللام لاستغراق الوصف؛ أي: كل من اتصف بالرشد والهداية من الخلفاء بعدي؛ فعليكم بسنته، وإنما قالوا ذلك لأنَّهم يَدَّعُونَ نَفيَ ذلك عنهم، لتقدمهم على عَلِيٍّ، ووضعهم الخلافة في غير مَن وَضَعَ الله فيه النُّبُوَّة، وهم بنو هاشم [بزَعْمِهِم] (¬3)، والنُّصُوصُ والإِجمَاعُ يَرُدُّهُ. خامِسُهَا: "البدعة" لغة: ما كان خارجًا على غير مِثالٍ سَبَق. وشرعًا: مَا أُحْدِث على خِلَافِ أَمْرِ الشَّارع ودليله. والمُحْدَث قسمان: مَا ليسَ له أصلٌ إلَّا الشُّهرة، والعمل بمقتضى الإرادة فهو باطل قطعًا. ومُحْدَثٌ بِحَمْلِ النَّظِيرِ على النظير؛ فهذه سُنَّةُ الخلفاء والأئمة الفُضَلَاء، وليس المحْدَث والبدعة مذمومًا للفظ "محدث" و"بدعة" إلَّا لِمَعنًى، ¬
قال تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2] وقال عمر - رضي الله عنه -: "نِعْمَتِ البِدْعَةُ هَذِهِ" (¬1). وإِنَّمَا يُذَمُّ مِن البدعة: ما خَالَفَ السُّنَّةَ؛ ومِن المحدث: مَا دَعَا إلى ضلالة. فمُرادُ الحديثِ: كُلُّ بِدعَةٍ لا يُسَاعِدُها دَلِيلٌ شَرْعِي، لأَنَّ الحَقَّ فيما جاء به؛ فمَا لَا يَرْجِعُ إليه بوجهٍ يكونُ ضلالة، إذ ليسَ بعدَ الحَقِّ إلَّا الضَّلالُ. قاعدة: كل حُكْمٍ مَنَعَهُ الشَّارعُ، أو أَجَازَهُ فَحُكْمُهُ وَاضِحٌ، وإنْ أجازَهُ مرَّةً ومَنَعَهُ أُخْرَى فأحدهما ناسِخٌ للأول. وإن لم يَرِدْ مَنعٌ ولا إجازة، ولا يمكن رده إليه بوجه، فهي المسألة المشهورة، وقد يقال: يرجع فيه إلى المصلحة فما وافقها عمل به وما خالفها ترك. سادسها: قوله: "وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيكُمْ عَبْدٌ" قال العلماء: العبدُ لا يكونُ واليًا، ولكن الشارع - صلوات الله وسلامه عليه - ضَرَبَ بهِ المثل تَقْدِيرًا، وإن لم يكن كقوله: "مَنْ بَنَى للهِ مَسْجِدًا، وَلَوْ كمِفْحَصِ قَطَاةٍ، بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا في الجَنَّةِ" (¬2) ولا يكون مفحص القطاة مسجدًا، ولكن أمثالٌ يُؤْتَى بها مثل هذا الَّذي عندنا أنَّه -عليه الصلاة والسلام- أخبر بفساد الأمر ووضعه في غير أهله، حتَّى توضع الولاية في العبد، فإذا كانت فاسمعوا وأطيعوا تغليبًا لأَهْوَنِ الضَّرَرَيْن، وهو الصبرُ على وِلَايةِ مَن لا تَجُوزُ وِلَايَتُهُ، لِئَلَّا يغيِّر ذلك فيخرج ¬
منه إلى فتنةٍ عَمياء صمَّاء، لا دواء لها ولا خَلَاصَ منها، وقد ذَكَرَ في رواية: تعدِّي الوُلاةِ لِظُلْمِهِم، فقال: "اسمَعُوا وَأَطِيعُوا؛ مَا أَقَامُوا فيكُم كِتَابَ الله" (¬1). سابعًا: في فوائده فيه: منها: استحبابُ مَوْعِظة الرجل أصحابه؛ لينفعهم في دينهم ودنياهم. وفيه: إبلاع الإمامِ في الموعظةِ لإِسرَاعِ الإجابةِ، وفي التنزيل: {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء: 63] و"كانَ - عليه أفضل الصلاة والسلام - إِذَا خَطَبَ: احمَرَّت عَيْنَاهُ، وانتَفَخَتْ أَوْدَاجُهُ كَأنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ، يقول: صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ" (¬2). وفيه: جَوَازُ الحُكْم بالقرَائِن؛ لأنهم إِنَّما فَهِمُوا تَوْدِيعَهُ إِيَّاهُم بقرينةِ إبلاغه في الموعظة أكثر من العادة. وفيه: استحبابُ [استدعاءِ] (¬3) الوصِيَّةِ والوعظِ مِن أهلِهِمَا، واغتِنَامُ أوقاتِ أهل الخيرِ والدِّينِ قَبْلَ الفَوْت. وقوله: "أوصيكم بتقوى الله" جمعَ في ذلِكَ كل ما يحتاج إليه؛ لأَنَّهُ سَبَقَ أنَّ التَّقوَى: امتِثَالُ المأموراتِ، واجتِنَابُ المحظُورات، وتكاليف الشرع ليست إلَّا بذلك. وقوله: "والسمع والطاعة ... " إلى آخره، هو عطف خَاصٍّ على عَامٍّ؛ إِذْ قد اشتَمَلَتِ الوَصِيَّةُ بالتقوى على السمع والطاعة، والعرب تعطِفُ الخاصَّ ¬
على العام نحو: {فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68)} [الرحمن: 68]. وتعكس نحو: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} [الحج: 77]، وقوله: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ} [آل عمران: 200]. وقوله: "فَإِنَّهُ مَن يَعِشْ مِنْكُمْ ... " إلى آخره، الظَّاهِرُ أنَّ هذا بِوَحْيٍ أُوحِيَ إليه؛ فإنه -عليه الصلاة والسلام- كُشِفَ له عَمَّا يكون إلى أن يدخل أهلُ الجَنَّةِ الجنّة، وأهل النار النار، كما صح في حديث أبي سعيد وغيره (¬1). ويجوز أن يكون بنظر واستدلال، فإن اختلاف المقاصد والشهوات باختلاف الآراء والمقالات، ويجوز أن يكون بقياس أُمَّتِهِ على أُمَمِ الأنبياء السابقين بدليل حديث: "إِنَّها لَمْ تَكُنْ نُبُوَّةٌ إلا كانَ بَعْدَها اخْتِلَافٌ" (¬2) أو كما قال. وقوله: "وَإِيَّاكُم ومُحْدَثَاتِ الأُمُور" أي: احذروا الأخذَ بها، فإنها بدعة، وهو منصوب بفعل مضمر، أي: إياكم، باعدوا محدثات الأمور واتقوا. والمراد: مَا أُحدِث غير راجع إلى أصل -كما سلف- أو دليل شرعي، واتباع الخلفاء راجع إلى أصل (¬3) الشرع، فحينئذ الحديثُ عامٌّ أُريدَ به الخَاصُّ، وكذا قوله: "عليكم بِسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِين" عامٌّ أُرِيدَ بهِ الخَاصُّ، إذْ لَو فُرِضَ خَلِيفَةٌ راشِدٌ في عامَّةِ أُمُورِهِ سَنَّ سنَّةً لا يعضُدُها دليلٌ شرْعي لَمَا جازَ اتِّباعه، لا يقال: لا يتصور؛ لأن رشده ينافي أن يَسن مثل هذه السُّنة؛ لأنه قد يخطئ ¬
المصيب ويزيغ المستقيم يومًا ما، وقد صح: "لا حَلِيمَ إلَّا ذُو [عَشْرَةٍ] (¬1)، ولا حَكِيمَ إلا ذُو تَجْرِبَةٍ" (¬2). وكلام العرب يجيء بالإضافة إلى العموم والخصوص قسمة رباعية: عامّ يُريدُ به العامَّ، كقوله: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282]. خاصٌّ يريد به الخاص، كقوله: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37]. عامٌّ يُرادُ بهِ الخَاصُّ، كقوله: {وَأُوتِيَت مِنْ كُلِّ شَيء} [النمل:23]، {تُدَمِرُ كَلَّ شَيْءٍ] [الأحقاف: 25]، وقول لبيدٍ: وكُلُّ نَعِيم لَا مَحَالَةَ زائِلُ (¬3) وعكسه: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23] وجاء في بعض روايات هذا الحديث: "فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بدْعَةٌ، وكلَّ بِدعَةٍ ضَلَالَةٌ، وكل ضلالةٍ ¬
في النار". وهو قياسٌ مُتَّصِلٌ مُرَكَّبٌ مِن الشَّكل الأول، بِفَتح "أَنَّ كل محدثة في النار" يعني: صاحبها مِن فَاعِلٍ وَمُتَّبِعٍ (¬1). فائدة: قَسَّمَ الشيخ عز الدين - رَحِمَهُ اللهُ - في "قواعده" البدعةَ إلى الأحكام الخمسة "والطَّرِيقُ في ذلك أنْ تُعْرَضَ (¬2) على قواعِدِ الشَّريعَةِ؛ فإن دَخَلَتْ في قَواعِدِ الإيجَابِ فواجب ... " إلى آخر الأحكام الخمسة. قال: "وللواجبة أمثِلَةٌ: منها الاشتِغَالُ بعِلم النَّحو الَّذي يُفْهَمُ بهِ كلامُ اللهِ ورسوله لأجلِ حِفْظِ الشَّرِيعَةِ، ومَا لا يَتِمُّ الواجِبُ إلَّا بهِ فهوَ وَاجِبٌ. ومنها: حِفظُ الغَريبِ مِن الكتاب والسنة ومن اللغة، وتدوينُ أصول الفقه، والجرح والتعديل، وتمييز الصَّحيح من السقيم، والقاعِدَةُ أنَّ حِفظَ الشَّريعَةِ فَرْضُ كِفايةٍ فيما زادَ على المتعين، ولا يَتَأَتَى ذلك إلَّا بما ذكرناه .. " (¬3). ثم أوضحَ الباقي (¬4). ¬
فائدةٌ -تنعَطِفُ على مَا مَضَى-: "التَّقْوَى" أصلُها: [وقى] (¬1) مِن الوقاية، وقد تُفْتَحُ "الواو" فأبدلت تاء؛ فالمُتَّقِي جَعَلَ بَيْنَهُ وبين المعاصي وقاية تَحُولُ بينه وبينها من قُوَّةِ عَزْمِهِ على تَرْكِها، وتوطين قلبه على ذلك؛ فكذا قيل: مُتَّقٍ (¬2). * * * ¬
الحديث التاسع والعشرون
الحَديثُ التَّاسِعُ والعِشْرُونَ عَنْ مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ - رضي الله عنه - قال: قُلتُ: يَا رَسُولَ الله! أَخْبِرْني بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الجَنَّةَ وَيُبَاعِدُني مِنَ النَّارِ؟ قال: "لَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْ عَظِيمٍ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللهُ عَلَيْهِ: تَعْبُدُ اللهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلاةَ، وَتُؤْتي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ البَيْتَ". ثم قال: "إلَّا أَدُلُّكَ عَلَى أَبوابِ الخَيْرِ؟ الصَّومُ جُنَّةٌ، والصَّدَقَةُ تُطْفئُ الخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الماءُ النَّارَ، وَصلَاةُ الرَّجُلِ في جَوْفِ اللَّيلِ. ثُمَّ تَلَا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} حَتَّى بَلَغَ: {يَعْمَلُونَ} [السجدة: 16 - 17] ". ثمَّ قالَ: "أَلَا أخبِرُكَ بِرَأْسِ الأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذِروَةِ سَنَامِهِ؟ الجِهادُ" ثُمَّ قالَ: "أَلَا أُخْبِرُكَ بِملاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ ". قُلتُ: بَلَى يا رَسولَ الله! فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ ثم قال: "كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا". قلتُ: يَا نَبِيَّ الله! إِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟! فقال: "ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ في النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ -أَوْ قَالَ: على مَنَاخِرِهِمْ- إلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟ ".
رواه الترمذي وقال: "حَسَنٌ صَحِيحٌ" (¬1). * * * الكلامُ عليهِ مِنْ وُجُوهٍ -بعدَ أن سَلَفَ التَّعريفُ بِرَاوِيهِ-: أحدها: هذا الحديث سَقَطَ مِنهُ سَطْرٌ، لا يستقيمُ الكلامُ بدُونهِ، وهو ثابت في أصلِ التِّرمذي، كَأَنَّ المُصَنِّفَ انتقلَ نظرهُ مِن لفظةٍ إلى أُخْرَى، وهذا لفظه فيه: "ثُمَّ قالَ: "أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الأَمْرِ وَعَمُوده وَذروة سَنَامِهِ؟ قلتُ: بَلَى يَا رَسُولَ الله! قالَ: "رَأْسُ الأَمْرِ: الإسلامُ، وَعَمُودُهُ: الصَّلاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ: الجِهادُ ... " ثُمَّ ذَكَرَ البَاقِي، ولا يستقيم الكلام بدون هذه الزيادة فانتقل نظره من "سنامه" إلى "سنامه". وقد وقع له كذلك في كتابه "الأذكار" (¬2) وكأَنَّهُ قَلَّدَ في ذلك الشيخ تقي الدين ابن الصَّلاح، فإنه قال في كتابه "بُستانُ العَارفينَ" -ولم يُكمِلهُ-: "مما ¬
ينبغي أن يُعْتَنى به بيانُ الأحاديث التي قيل أنها أصول الإسلام، أو أصولُ الدِّين، أو عليها مَدَارُ الإسلام، أو مدارُ الفقهِ، أو العلم، وقد اختلفتِ العلماءُ في عددِها اختلافًا كبيرًا، وقد اجتهد في جمعها وتبيينها (¬1): ابن الصلاح، ولا مزيد على تحقيقه" (¬2). فَذَكَرَها إلى أن جاء إلى هذا الحديث، فذكرَهُ بالإسقاطِ المذكور سواء؛ فاستفدهُ فإنهُ يُسَاوِي رحْلَةً، والعجبُ أنَّ أحدًا مِن شُرَّاحه كابن فرح القُرْطُبِي، والفاكهي وغيرهما لم يُنَبِّهوا عليه، ولله الحمد عليه وعلى جميع نعمهِ، ثم رأيتُ بعد ذلك "سنن ابن ماجة" (¬3) فوجدتُهُ ذَكَرَهُ كما ذكَرَهُ المُصَنِّف سواءً، لكنه لم يعزهُ إليه حتَّى يُعْتَذَر عنه. ثانيها: في ألفاظه: "الخير" ضد الشر، ويُطْلَقُ على المال في قوله: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8] وفيه: التشويق إلى ما سَيُذكَر قَبلَ ذِكْرِهِ ليكونَ أوقَعَ في النَّفسِ. وقوله: "أبواب" جَمْعُهُ جَمْعُ قِلَّةٍ، وإن كان في سياق التَّرغيب والحصر؛ لأنَّهُ لا كَثرَةَ لهُ. "جُنَّة" -بالضم-: مِجَنٌّ وستر ووقاية لكَ مِن النَّارِ، فَنَفَى صُورةَ الشَّهوةِ عاجلًا والنار آجِلًا، وقد قال تعالى: "الصَّومُ لي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ" (¬4). و"الصَّومُ": هو الصبر عن المَلَاذِّ مِن المَطعَم والمَشْرَبِ وغيرهما، وقد قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]. ¬
و"أبوابُ الخيرِ": طرقه الموصلة إليه، وفي "سنن ابن ماجة": "أَلَا أَدُلُّكَ على أَبوَاب الجَنَّةِ"؟ وقوله: "أَوَ لَا أَدُلُّكَ" عَرْضٌ، نحو: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ} [الصف: 10] أي: عَرَضْتُ ذلك عليك (¬1)؛ فهل تُحِبُّهُ؟ أو نحو هذا. و"جَوْفُ اللَّيلِ": أوسَطُهُ أو آخِرُهُ، وفي الحديث: "أَيُّ اللَّيلِ أَسْمَعْ؟ قال: جَوْفُ اللَّيلِ الآخِرِ" (¬2) والمعنى: أن صلاة الرجل من الليل من أبواب الخير، وإنما خَصَّ الرجل بالذِّكرِ؛ لأَنَّ السَّائِلَ رَجُلٌ؛ ولأنَّ الخيرَ غالِبٌ في الرِّجال، وأكثرُ أهلِ النارِ النساءُ. وقوله: "من جَوْفِ اللَّيل" أي: جوفه، ويحتمل أن مبتدأ الصلاة: جوفه؛ فيكون لابتداء الغاية، ويحتمل أنها للتبعيض؛ أي: صلاة في بعض جوف الليل. وقوله: "ثُمَّ تَلَا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16] " أي: أنَّ مَن قامَ في جَوْفِ الليل، وَتَرَكَ نَوْمَهُ وَلَذَّتَهُ، وآثَرَ مَا يَرْجُوهُ مِن رَبِّهِ على ذلك؛ فجزاؤه ما في الآية من قوله تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17]. ¬
وقد جاء: "إنَّ الله تعالى يُبَاهِي بِقُوَّامِ اللَّيل في الظَّلام ملاِئكَتَهُ، يقول: انظُرُوا إلى عِبادِي قد قَامُوا في ظَلَامِ اللَّيلِ حيثُ لَا يَرَاهُمْ أَحَدٌ غَيْري؛ أُشْهِدُكُمْ أَنِّي أَبَحْتُهم دَارَ كَرَامَتِي" (¬1). و"التَّجَافي ": التَّركُ والتَّنَحِّي، جافى جنبه عن مضجعه: نحَّاهُ، وفي الحديث: "يُجَافي بِضبْعَيْهِ" (¬2) أي: يُبْعِدهُمَا عن الأرض وعن جَوْفِهِ؛ فمعنى: {تَتَجَافَى}: تَبعُد وتَزُول، وقيل: تنتحي إلى فوق، واستحسنه ابن عَطِيَّة (¬3). و: {الْمَضَاجِعِ}: مَوضِعُ الاضطجاع للنَّوم، واختُلِفَ في وقت هذا التَّجافي: هل هو بين المغرب والعشاء، أو انتظار العشاء الآخرة؛ لأنَّها كانت تُؤَخَّر إلى نَحْوِ ثُلُثِ اللَّيل؟ على قولين. وقال الضحاك: "تَجَافي الجَنْب هو أنْ يُصَلِّي الرَّجُلُ العِشاءَ والصُّبح في جماعة" (¬4). والجمهورُ على أنَّ المُرَادَ: صلاة اللَّيلِ. و"رَأْسُ الأَمرِ" أي: العبادة، أو الأمر الَّذي سألتَ عنه، وجعل رأس الأمر: الإسلام، شبَّههُ بالفَحلِ مِن الإبل؛ إذْ كانت خيار أموالهم، ويُشَبِّهُونَ بها رؤساءهم كما قالوا: "هو الفحلُ لا تُقْرَعُ أَنفُهُ" (¬5). فجعل الإسلام رأس هذا ¬
الأمر، ولا يعيشُ الحيوان بغير رَأسٍ، والإسلامُ هنا هو: الإيمانُ. "وَعَمُودِهِ": ما اعتُمِدَ عليه كعَمُودِ الخَيْمَةِ؛ فالعَمُودُ هو الَّذي ويُقِيمُهُ، ولَا ثَبَاتَ لهُ في العِبادَةِ بغير عمُودِهِ. و"ذِرْوَة" -بكسر الذال وضمها له بصورة سنام البعير طرف سنامه، والقياس جواز الفتح كـ "جذوة"، وقد قُرِئ في {جَذْوَةٍ} [القصص: 29] بالحركات الثلاث (¬1)، - أعلى كل شيء استعاره بصورة البعير وأجزائه، وذروة سنام البعير: طَرفُ سنامهِ. وذكره الجهاد؛ لأنّهُ (¬2) مَقْرُونٌ بالهداية بدليل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] والهداية محصلة لمقصود هذا السائل، ويلزم منها دخول الجنّة والمباعدة من النار؛ فلا جرم كان كذلك. و"مِلاكُ" -بكسر الميم- أي: رابِطُهُ وضَابِطُهُ ومقصودُه، لأنَّ الجهادَ وغيره مِن أعمالِ الطَّاعةِ غَنِيمةٌ، وكَفُّ اللِّسان عن المحارم سلامةٌ، والسلامةُ في نَظَرِ العُقَلاءِ مقدَّمةٌ على الغنيمةِ. وثَبَتَ في "الصَّحيح": "إنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِن رِضْوَانِ الله لَا يُلْقِي لها بالًا، يُكْتَبُ لَهُ رضوانه إلى يومِ يَلْقَاهُ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ الله لَا يَعْلَمُ أَنَّها تَقَعُ حيثُ تَقَعُ، فيُكتَبُ لهُ بها سخط الله إلى يوم القيامة، أو قال: يَهوِي بها في النَّارِ سَبْعِينَ خَريفًا" (¬3) أو كما قال. ¬
قال الجوهري - رَحِمَهُ اللهُ -: "مِلاكُ الأَمرِ ومَلَاكُهُ: ما يقومُ بهِ" (¬1). قال الفاكهي: "يُريدُ بفتح الميم وكسرها" (¬2). ويقال: القلبُ مِلَاكُ الجَسَد. و"اللسان": جَارِحَةُ الكَلام، وَيُطْلَقُ على اللُّغةِ والكلام، قال تعالى: {إلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4] أي: بِلُغَتِهِم، ويُطْلَقُ على لِسان الميزان أيضًا، و"اللِّسن" بكسر اللام: اللغة. و"الجارحة" تُذَكَّرُ وتُؤَنَّثُ. و"الثَّكلُ" - بالإسكان والتحريك-: فقدانُ المرأةِ ولدَها، وهو من باب: "عَقْرَى حَلْقَى" (¬3) كما سيأتي. و"يكُب" -بضم الكاف-: يُلقى، و"كب" من النوادر، يتعدَّى ثُلاثِيًّا لا رباعيًّا، تقول: كَبَبْتُ الشَّيءَ وأَكُبُّهُ، فلا يتعدَّى. و"الحَصَائِدُ": ما قيل في الناس باللِّسان وقُطِع به عليهم، جَمْعُ حَصِيدةٍ؛ أي: محصُودةٍ، شبَّهَ ما تكسبه الألسن من الكلام الحرام بحصائد الزرع بجامع الكسب والجمع (¬4). ¬
ثالثها: في فوائده: فللَّه در معاذ ما أفصحه، لقد أوجز وأبلغ، وحَمِدَ الشَّارعُ مسألته، وأعجبه من فصاحته وقال: "لقد سَأَلتَ عَنْ عَظِيمٍ"، واستعظامه مُنْصَرِفٌ إلى العَمَلِ المطلوبِ الإيثارُ به لا ليتجنَّبه؛ بدليل قوله: "وإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَن يَسَّرَهُ اللهُ تعالى عليهِ" بمعنى: على مَن وَفَّقَهُ وهَدَاهُ وشَرَحَ صَدْرَهُ وَأَعَانَهُ على مَا وفَّقَهُ إليهِ، ثُمَّ أَرْشَدَهُ لعبادَتِهِ مُخْلصًا له الدِّين بقوله: "تَعبُدُ اللهَ لَا تُشْرِكُ بهِ شيئًا" والظَّاهِرُ أنَّ العبادةَ هنا: التَّوحيد؛ بدليل قوله: "لا تُشْرِكُ بهِ شَيْئًا"، ومنه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21]: وَحِّدُوهُ. {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56]: لِيُوَحِّدُوني. فعلى هذا يكونُ قد ذَكَرَ لهُ التَّوحِيدَ وأعمالَ الإسلام، ويُحْتَمَلُ أنَّ العبادَةَ هنا تَتَنَاوَلُ الإيمانَ الباطن والإسلام الظاهر، ويكون قوله: "وَتُقِيمَ الصَّلاةَ ... " إلى آخره، عَطفُ خَاصٍّ على عَامٍّ؛ لتضمن قوله: "تَعْبُدُ اللهَ" لِمَا بعدَهُ، ثم قال: "وَتُقِيمَ الصَّلاةَ" وإقامة الصلاة: الإتيَانُ بها على أحوالها؛ كما قال في الحديث الآخر: "تَسْوِيَةُ الصَّفِّ مِن كَمَالِها" (¬1). ثُمَّ ذَكَرَ له شَرَائِعَ الإسلامِ مِن الزَّكاةِ والصَّومِ والحجِّ، ثم دَلَّهُ على أبوابِ الخير؛ فقال: "الصَّومُ جُنَّةٌ" ويجوزُ أن يكونَ الصَّومُ هنا غير الفرض، والمراد: الإكثارُ مِنهُ. ثم قال: "والصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الخَطِيئةَ" أي: تَمْحُوهَا: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]، وإِنَّمَا استَعَارَ لفظَ الإطفاء لمقابلة "كَمَا يُطْفِئُ الماءُ ¬
النارَ؛، فَإِنَّ الخطيئةَ يترَتَّبُ عليها العِقابُ الذي هو أثرُ الغضب، والغضب يستعمل في الإطفاء، يقال: طفئ غضب فلان وانطفأَ غضبه؛ لأنَّهُ فَوَرَانُ دَمِ القلب عن غلية الحرارة كما سلف، ولعلَّه إِنَّما خَصَّ الصدقة لتعدِّي نفعها؛ ولأنَّ الخلقَ عِيالُ الله، والصدقة إحسانٌ إليهم، والعادَةُ أنَّ الإحسانَ إلى عيالِ شخصٍ تُطْفِئُ غَضَبَهُ، وشبَّهها بإطفاءِ الماء النار؛ لأنَّ بينهما غاية التضاد، إذ النار حارة يابسة، والماء بارد رطب؛ فقد ضادها بكيفيته جميعًا، والضِّدُّ يدفع الضد ويعدمُهُ، وقد سلف أنها "برهانٌ" أي: على صدقِ الإيمانِ؛ لأَنَّ غيرها لا ينتظر ثوابه بخلافه فيها؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "ليسَ لَكَ مِن مَالِكَ إلَّا مَا أَكَلتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقتَ فَأَبْقَيْتَ، أو لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ" (¬1) فجعل الصدقة هي الباقية لَهُ، ويُريد بها غيرَ مَا أسلَفَهُ مِن الزَّكاةِ. وقد جاء في الخبر: "أنه -عليه الصلاة والسلام- ذَبَحَ شاةً، فَتَصدَّقَ بِلَحْمِها غير الذِّراع، ثُمَّ دَخَلَ البيتَ فقال: "هلْ بَقِيَ مِنها شَيْءٌ" -يُريدُ أنْ يُتَصَدَّق بهِ-؟ فقالوا: واللهِ مَا بَقِيَ إلَّا الذِّرَاعُ، فقال: "واللهِ كُلُّها بَقِيَتْ إلَّا الذِّراع"! (¬2). ثم أرشَدَهُ إلى الصلاةِ في جوف الليل وتلا الآية، والنصف الثاني من الليل أفضل من الأول، والثلث الأوسط أفضل من الأول والآخر، والسدس الرابع والخامس أفضل من الأوائل والأُخَر. ¬
وقيل: هل لابُدَّ مِن فعلهِ بعد هَجْعَةٍ، أَوْ لَا يُشتَرَطُ؟ فيه خلافٌ للعلماء، وظواهر الأحاديث تقتضي الإطلاق. ثم أخبَرَهُ برأسِ الأَمْرِ وعمودِه وذروةِ سَنَامهِ، والجهادُ لا يقاوِمُهُ شيءٌ مِن الأعمال، وإن كان نَقْلُ العِلمِ أَفْضَل، وقد قالوا: "يا رسول الله! مَا يَعْدِلُ الجهاد؟ فقال: "لَا تُطِيقُونَهُ". ثُمَّ ذَكَرُوا سؤالهم، فقال: "لَا تُطِيقُونَهُ". ثُمَّ قال: "أَيَسْتَطِيعُ أَحَدَكُمْ أَنْ يَدخُلَ بيتًا فيصومُ ولا يُفْطِر، ويُصَلِّي ولا يَفْتُرُ"؟ فقالوا: لا، فقال: "إِنَّمَا مَثَلُ المجَاهِدِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ القَائِمِ الذي لَا يَفْتُرُ مِن صَلاةٍ وَلَا صِيَامٍ" (¬1). ثم نَقَلَهُ مِن الجهاد الأصغر إلى الأكبر، وهو جهادُ النَّفس وقمعها من الكلام فيما يُرْدِيها (¬2) ويؤذيها، ثم جعل أكثر دخول الناس النار من ألسنتهم، وقد قال -عليه الصلاة والسلام-: "مَنْ يَضْمَنْ لي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَرِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الجَنَّةَ" (¬3)، وقد سلف في الحديث شرحُ الصمتِ وما فيه من الخير والسلامة (¬4). وأَمَّا أخذه -عليه الصلاة والسلام- بلسانه؟ فَلِأنَّهُ أبلغُ في الزَّجرِ، كما في قول الخليل -عليه الصلاة والسلام-: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]. فائدة: قال ابن هبيرة في "إجماع الأربعة": "اختَلَفُوا في أفضل الأعمال بعد الفرض؛ فقال الشافعي -رحمه الله-: الصلاة فرضًا ونَفْلًا. وقال أحمد -رحمه الله-: "لا أعلمُ بعدَ الفرائض أفضل من الجهاد". ¬
ومذهبُ مالك وأبي حنيفة -رحمهما الله- أنَّهُ لا شيء -بعد فرائض الأعيان من أعمال البر- أفضل من العلم ثم الجهاد" (¬1). رابعها: إنما قال: "سَأَلْتَ عن عَظِيمٍ"، لأنَّ عِظَمَ المُسَبِّبات بِعِظَم الأسباب (¬2)، ودخول الجنة والتباعد عن النار أمرٌ عظيم، سببه: امتثال المأمور واجتناب المحظور، وذلك عظيمٌ صَعبٌ، وَلَوْلا ذَلِكَ لَمَا قال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]، {وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 17]. ثم قال: "وإِنَّهُ لَيَسِيرٌ على مَن يسَّرَهُ الله عليه" بِشَرْحِ الصَّدرِ للطَّاعةِ، وتهيِئَةِ أَسبابِها، والتوفيق لها: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الأنعام: 125]، وبالجملةِ: فالتَّوفيقُ إذا ساعَدَ على شيء يُسِّرَ، ولو كان نقل الجبالِ. خامِسُها: قوله: "كُفَّ عَلَيكَ هَذَا" لفظَةُ "على" إِمَّا بمعنى "عن" أو أنه ضمن "كف" بمعنى: احبس، أي: احبس عليك لسانك، لا يؤذيك بالكلام. وفي الحكمة (¬3): "لِسَانُكَ أَسَدُكَ، إِن أَطْلَقْتَهُ فَرَسَكَ، وَإِنْ أَمْسَكْتَهُ حَرَسَكَ". وكان الصِّدِّيقُ - رضي الله عنه - يُمْسِكُ لِسانَهُ ويقول: "هذا الذي أَوْرَدَني المَوَارِد" (¬4). ¬
وقوله "كُفَّ" يحتمل عمومه، وخصَّ منه الكلام بالخير، كقوله: "فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ" (¬1) ويُحْتَمَل أَنَّهُ مِن باب المُطْلَقِ، وقد عمل به في كَفِّ اللسان عن الشر؛ فلا تَبْقَى له دِلالةٌ على غير ذلك. وأَصْلُ الاحتمالَيْن أنَّ الفِعلَ يَدُلُّ على المصدرْ، لكن [هل] (¬2) يُقَدَّر المصدر مُعَرَّفًا فيَعُمْ، نحو: "اكفف الكف"، أو مُنَكَّرًا فَلَا يَعُم: "اكفف كفًا"، أو يَنْبَنِي على أنَّ المصدرَ جِنسٌ، فيعم أَوْ لا فَلَا. وعليه اختلف -فيما أحسب- إذا قال: طلقتُكِ طلاقًا، هل يقع ثلاثًا أو واحدةً؟ وقول معاذ: "إِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بهِ؟ " هو استفهام استئناف وتعجب، لا يقال: كيف خفي ذلك عنه وقد قال الشارع في حَقِّهِ: "إِنَّهُ أَعلَمُكُمْ بالحَلالِ والحَرَامِ" (¬3) والكلام المؤَاخَذُ به حرامٌ، لأن ظاهر الحلال والحرام في المعاملات الظَّاهرة بين الناس، لا في مُعَامَلاتِ العبدِ مع ربِّهِ، أو حَصَلَت له هذه الرُّتبة بَعْدُ. ¬
وقوله: "ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ" حقيقتُهُ الدُّعاءُ بموتِهِ، لكن غَلَبَ ذلك على الألسنةِ مِن غير قَصدِ حقيقتِهِ. وقوله: "وهل يَكُبُّ" استفهامُ إنكارٍ؛ أي: ما يكب الناسَ إلَّا حصائِدُ ألسِنَتِهِمْ؟! وهو يَقْتَضِي أنَّ كُلَّ مَن يُكَبُّ في النار فَسَبَبُ ذلك لسانُهُ، وهو عامٌّ أُريدَ به الخاصُّ؛ فإنَّ فيهم مَن يكب فيها بعَمَلِهِ، واِنَّما خَرَجَ هذا مَخْرَجُ المبالغةِ في تعظيم الكلام كـ "الحَجُّ: عَرَفَةُ" أي: مُعْظَمُهُ؛ كَذلكَ (¬1) مُعْظَمُ أسبابِ [النار] (¬2) الكلام، كالكفرِ والقَذْفِ والسَّبِّ والنميمةِ وغيرِ ذلك" لأنَّ الأعمالَ يلقيها الكلام غالبًا، فلهُ حَظٌّ في سببِ الجزاءِ ثوابًا وعقابًا، وفي المَثَل: "يقول اللسان للقفا كُلَّ يوم: كيفَ أصبحتَ؟ فيقول: بخيرٍ؛ إنْ سَلِمتُ مِنكَ"! (¬3). ¬
الحديث الثلاثون
الحديث الثلاثون عن أبي ثعلبة جرثوم بن ناشر - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ فَرائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا؛ فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشيَاءَ؛ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً بِكُمْ مِن غَيْرِ نِسْيَان، فَلَا تَبْحَثُوا عَنْها". حديثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ الدَّارقُطْني وغيره (¬1). الكلام عليه من وجوه: أحدها: في التعريف براويه: وقد اختُلِفَ في اسمه واسم أَبيه اختلافًا كثيرًا نحو أربعين قولًا؛ منها ما ذَكَرَهُ المُصَنِّف، وهو: بضَمِّ الجيم ثم راءٌ مهمَلَةٌ ثم تاءٌ مثلَّثة، وقد أوضحتُها في الكنى من كتابي "رجال الكتب الستة" فراجِعهَا منهُ؛ فإنها تُسَاوي رحلةً، له ¬
صحبةٌ وروايةٌ، بايع تحتَ الشَّجرةِ، وضُرِبَ له سهمهُ في حُنَيْن، ماتَ سنةَ خمس وسبعين بالشَّام، وهو من الأفراد (¬1). و"الخُشَني" -بضم الخاء المعجمة، وفتح الشين المعجمة أيضًا ثم نون- نسبة إلى خُشَيْنَةَ- قبيلة معروفة (¬2). و"الدارقطني": نسبة إلى دار القطن، محلَّة ببغداد كما سلف في شرح الخُطبة، وقد ذكرتُ ترجمته في "طبقات المحدِّثين". ثانيها: حَكَمَ على إسناده أيضًا بالصِّحةِ: ابنُ الصَّلاحِ في الأحاديث التي جَمَعَها، فبلغتْ ستةً وعشرين -وهو كما قالَا- لكن لَمَّا ذَكَرَهُ الذَّهبي في "مختصر الفاروق" من طريق مكحول عن ثعلبة أعقَبَهُ بأنْ قال: "مكحول لم يُدْرِك أبا ثعلبة" (¬3). قلتُ: هذا مختلفٌ فيه؛ قال يحيى بن معين: "إنه سَمِعَ مِنهُ". وأنكرَ أبو مِسْهَر سماعه منه، وقال أبو حاتم: "دخل عليه ولم يسمع منه". وقال أبو زُرْعَةَ: "لم يسمع منه". قلتُ: وهو معاصِرٌ له بالسِّنِّ والبلد؛ فيحتمل أن يكون لَقِيَهُ، وأن يكون أرسل عنه بعادته وهو تدليس أيضًا. ¬
قال الذهبي: "ثم روى من حديث عائشة -رَفَعَتْهُ-: "إِنَ الله فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوها ... " الحديث، ثم قال: "وفيه: صالح المري، وهو ضعيف" قال: "ويروى مثله، عن الحكم الإيلي، عن القاسم بن عمر، عن أبيه رفعه". وقال أبو نعيم: حدثنا عاصم بن حيوة، عن أبيه، عن أبي الدرداء -رفع الحديث- قال: "مَا أَحَلَّ اللهُ في كِتابهِ فَهوَ حَلَالٌ، وَمَا حَرَّمَ فَهوَ حَرَامٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ [فهو] عَافِيةٌ؛ فاقْبَلُوا مِنْهُ عَافِيَتَهُ، فَإِنَّ اللهَ لَمْ يَكُنْ نَسِيًّا" (¬1) وهذا منقطِعٌ. وروى سليمان التيمي [عن أبي عثمان النهدي] (¬2) عن سلمان أنَّهُ سُئِلَ عن السَّمن والجبن والفِرَاء، فقال: "الحلالُ ما أَحَلَّ اللهُ في كتابهِ، والحرامُ مَا حَرَّمَ اللهُ في كِتَابهِ، وَمَا سَكَتَ عنهُ فهوَ مِمَّا عَفَا الله" (¬3). رواه الثوري -رحمه الله- والحُفَّاظ عن سلمان موقوفًا. قلتُ: وهو حديثٌ جامِعٌ بلِيغٌ مُوجَزٌ، تَضَمَّنَ قواعد الشريعة حُكْمًا وأدبًا؛ لأنَّ الحُكمَ الشَّرعي في الأمر: إِمَّا مسكوتٌ عنه أو مُتَكَلَّمٌ به، وهوَ أمرٌ أو نَهْيٌ؛ فالأمرُ ألَّا يُضَيَّع كالإيمان والإسلام وما وجب من خصائلهما، والمُحَرَّم حقه أن لا يُقَارَب؛ كالكفر والزِّنا والسَّرقة والقذف والسِّحر وشهادة الزور وأكل الربا ومال اليتيم. ¬
و "فرض" و "افترض" بمعنى، والاسم: الفريضة، والجمع: فرائض؛ أي: أوجبَ وحَتَمَ وأَلزَمَ، والفرض ضد النفل، والفريضةُ أيضًا ما فرض في السَّائمة من الصَّدقة، يقال: أفرضت الماشية؛ أي: بَلَغَت نِصَابًا يجِبُ فيه الفريضة، والفريضتان: الجَذَعَةُ من الغنم، والحِقَّةُ من الإبل، والفريضة في المواريث معروفة. ومعنى "فلا تُضَيِّعُوها": لا تَتْركوها ولا تتهاونوا فيها، وقُومُوا بها كما فُرِضَ كليكم. و"الحُدُودُ": جمعُ حَدٍّ، وهو الحَاجِزُ بين الشَّيئين، وحَدُّ الشيء: مُنْتَهَاهُ، تقول: حدَدْتُ الدَّارَ أَحُدُّها حدًّا، والتحديد مثله. ومعنى "فلا تعتدوها": لا تجاوزوها، وقِفُوا عندها، وأقيموها، ولا تُهْمِلُوهَا، ولا تُحَابوا فيها؛ فإِنَّهُ وَرَدَ: "حَدٌّ يُقَامُ في الأرضِ خَيْرٌ مِن أَنْ تُمْطِرَ السَّماءُ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا" (¬1). والمراد بالحدود هنا: الزَّوَاجر دون الوقوف عند النواهي، والأوامر بألَّا يتكرَّر مع ما قبلها بحدوده مقدرة يجب الوقوف عند تقدير الشَّرع لها، وكذا المحرمات لها حدود محدودة؛ فإن حملت على الزواجر فمعنى "لا تعتدوها": لا تَزِيدُوا عليها على مَا أَمَرَ بهِ الشَّارعُ، وزيادةُ الفاروق الحَدَّ إلى ثمانين مِن باب التنكيل والزجر. ¬
وحديث عليٍّ - رضي الله عنه -: "لا يموت أَحَدٌ في حَدٍّ وفي نَفْسِي مِنهُ شَيءٌ إلَّا شارب الخمر؛ فإنَّهُ لو ماتَ ودَيْتُهُ، وذلك أنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَسُنَّهُ" (¬1). المراد أنه لم يَسُنَّهُ بنَصِّ قوله وفعله، وإن حُمِلت على الوقوف عند النواهي، فمعنى "لا تعتدوها": لا تجاوزوا ما حَدَّ لكم الشَّرعُ بمخالفةِ الأمور، وارتكاب المحظور. ثالثها: معنى "فرض": أَوْجَبَ وَأَلْزَمَ؛ كما سلف، وإضاعةُ الفرائض إِمَّا تركها كما سلف أيضًا، أو تأخيرها عن وقتها، وهو أخف، وإلَّا عند المجاوزة كما قررناه. و"الانتهاك": الارتكاب والاقتحام. و"سَكَتَ عن أَشياءَ رَحْمَةً لَكُمْ مِن غَيْرِ نِسْيَان؛ فَلَا تَبْحَثُوا عنها" فإن الرَّبَّ تعالى لم يَنْسها: {لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه: 52]. وقال -عليه الصلاة والسلام-: "إِنَّ أَعْظَمَ المسلمينَ جُرْمًا: مَنْ سَأَلَ عن شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ؛ فَحُرِّمَ مِن أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ" (¬2)، وقال تعالى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]. وقد نَهَى الشَّارِعُ عن كَثْرةِ السُّؤالِ إلَّا فيما لابُدَّ منهِ، وروى أبو هريرة -رفعه-: "اترُكُوني مَا تَرَكْتُكُمْ، وإِذَا حَدَّثتُكُمْ فَخُذُوا عَنِّي؛ فَإِنَّما أُهْلِكَ الَّذِينَ مِنْ ¬
قَبْلِكُمْ بِكَثْرَةِ مَسَائِلِهِمْ، واختِلافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِم" (¬1). وإن الله سبحانه لَمَّا أرسلَ رَسُولَهُ، وأنزلَ عليه كتابَهُ، وأمرَهُ بتبليغهِ إلى الأُمَّةِ قال -عليه الصلاة والسلام-: "إِنَّ اللهَ أَمَرَكُمْ بأَشْيَاءَ، فَامْتَثِلُوهَا، وَنَهاكُمْ عَنْ أَشْيَاءَ؛ فَاجْتَنِبُوها، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ، فَلَا تَسْأَلُوا عَنْها"، وذلك كُلُّهُ على معنَى الرِّفقِ بالخَلْقِ، وَنَفْيِ الحَرَجِ عنهم، وإرادةِ التَّسْهيلِ عليهم، وكانَ يَتْرُكُ العَمَلَ خَوْفًا أنْ يُفْرَضَ عليهم. وقال: "لو قلتُ: نَعَمْ، لَوَجَبَتْ" في أشباهِ ذَلِكَ، إلَّا أنْ تَنْزِلَ بالعبدِ نَازِلَةٌ، فحينئذ يتَعَيَّن عليه السؤال عنها فكانت الصحابةُ - رضي الله عنهم - قد فَهِمَتْ ذلك، فَكَفَّتْ وسَكَتَتْ، وكان يُعْجِبُهُم أن يأتيَ الأعرابُ يسألونَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيُجيبُهُم، فَيَسْمَعُونَ وَيَعُون. وروى "الترمذي" (¬2) أنَّ شي ذلك نزلت الآية السَّالِفَةُ، وكان بنو إسرائيل يَسْأَلونَ فَيُجَابونَ عَمَّا يَسْأَلُونَ، ويُعطَوْنَ مَا طَلَبُوا حتى كان ذلك لهم فتنةً، وأَدَّى ذلك بهم إلى هلاكِهِم" فاجتَنَبَتِ الصَّحابةُ ما فعلتْهُ بنو إسرائيل حتى بَالَغَ بعضُ العلماءِ فقال: لا يجوزُ السُّؤال في النَّوَازِل للعلماء حتى تَقَعَ. وكان السَّلفُ يقُولون في مِثْلِها: دَعُوهَا حتى تَنْزِل، وإنَّهُ لمكروهٌ، وإن لم يكن حرامًا، إلَّا أنَّ العلماءَ أَصَّلُوا، وَفَرَّعُوا، وَمَهدُوا، وَسَطَّرُوا لَمَّا خَافُوا ذَهابَ العُلماء ودُرُوسَ العِلمِ. ¬
خاتمة: قد يتمَسَّكُ به الظَّاهِرِيُّ لمذهبهِ اتِّباعُ الظَّاهر، وما لا حكم فيه ردوه إلى حكم ما قبل ورود الشرع، وفيها مذاهب معروفة، ومذهب أصحابنا وأكثر المتكلِّمين على أنها على الحَظْر، وهو ظاهر الحديث "لأنَّه نهى عن البحث عما سُكِتَ عنه، والقول بالقياس وإلحاق المسكوت عنه بالمنطوق إلحاق؛ فما سكت عنه فيكون على خلاف قياس الشَّرع، فيكون مردودًا، عملًا بقوله -عليه الصلاة والسلام-: "مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عليهِ أَمْرُنَا فَهوَ رَدٌّ". وهذا الاستدلال ظني، وأدلة القياس ظاهرة؛ فلا يعارضها الظني (¬1). ¬
الحديث الحادي والثلاثون
الحديثُ الحادي والثلاثون عنْ أَبي العبَّاسِ سَهْلِ بن سَعْدٍ السَّاعِديِّ - رضي الله عنه - قال: جَاءَ رَجُلٌ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: يَا رسولَ اللهِ! دُلَّنِي على عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِي اللهُ وَأَحَبَّنِي النَّاسُ؟ قال: "ازهَدْ في الدُّنيَا يُحِبَّكَ اللهُ، وازهَدْ فِيمَا في أَيْدِي النَّاس يُحِبَّكَ النَّاسُ". حديثٌ حَسَنٌ، رواهُ ابن ماجه وغيْرُهُ بِأَسَانِيدَ حَسَنَةٍ (¬1). الكلام عليه من وجوه: أحدها: في التعريف براويه: وهو أبو العباس -كما ذكره المصنف-، أو أبو يحيى سهل بن سعد بن ¬
مالك بن خالد السَّاعِدي المدني -وقيل: سعد بن سعد بن مالك، والأول أصح-، لهُ ولأَبيهِ صُحْبَةٌ، مات سنة ثمان وثمانين -أو إحدى وتسعين- عن مائة ونحوها، وهو آخر مَن ماتَ مِن الصَّحابةِ بالمدينة -على أحد الأقوال- وكان اسمه: حزنًا؛ فسمَّاهُ الشَّارع: سَهْلًا (¬1). وابن ماجه اسمه: أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه القزويني صاحب "السنن"، و"التفسير"، و"التاريخ"، وُلِدَ سنةَ تِسعٍ ومِائتين، ومات سنة ثلاث وسبعين (¬2). ثانيها: هذا الحديث أحد الأحاديث الأربعة التي عليها مدار الإسلام -كما سلف- وقد جُمِعَتْ في قوله شِعرًا: عُمْدَةُ الدِّينِ عِندَنَا كَلِمَاتٌ ... أَرْبَعٌ مِنْ كَلام خَيْرِ البَرِيَّهْ اتَّقِ الشُّبُهاتِ، وازْهَدْ، وَدَعْ مَا ... لَيسَ يَعْنِيكَ، واعْمَلَنَّ بِنِيَّهْ (¬3) ثالثها: قوله: "يُحِبَّك الله" هو بفتح الباء المشددة، والأصل: "يحبِبْك" بكَسرِ الأُولى وسكون الثانية، مجزوم على جواب الأمر الذي هو "ازهد في الدنيا" فأُسْكِنت الباء الأولى عند إرادةِ الإدغَامِ بنقل حركتها إلى الساكن قبلها -وهو الحاء- فاجتَمَعَ ساكِنَان، فحُرِّك الآخر لالتقاء الساكنين بالفتح تخفيفًا. ¬
قال المازري: "الباري تعالى لا يُوصَفُ بالصِّفةِ المَعْهُودَةِ فينا، لأَنَّهُ مُقَدَّسٌ عن أنْ يميل أو يمال إليه، وليس بذي جنس وطبع فيوصف بالشَّوْقِ الذي تَقْتَضِيهِ الطَّبيعةُ البشريَّةُ، وإنما محبته تعالى للخلق: إرادته لثوابهم ونعيمهم، على رأي بعض أهل العلم، وعلى رأي بعضهم: أنَّ المحبَّةَ راجِعَةٌ إلى نَفْسِ الإثابة والتنعيم لا الإرادة" (¬1). أي: فَعَلَى هذا يكونُ صفة فِعْلٍ، وعلى الأول صفة ذات. وبه قال ابن فورك (¬2). ومعنى محبة المخلوقين له: إرادَتُهُمْ أنْ يُنَعِّمَهُمْ ويُحْسِنُ إليهم، أو لِمَا ابتدأهم به من نِعَمِهِ ودَفَعَ من نقمهِ، وإليه الإشارة بقوله -عليه الصلاة والسلام-: "أَحِبُّوا الله؛ لِمَا يَغْذُوكمْ بهِ مِنْ نِعَمِهِ" (¬3)، {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34]، "جُبِلَت القلوبُ على حُبِّ مَن أحسَنَ إليها"، ولا إحسانَ في الحقيقةِ إلَّا لله، لأنَّهُ خالقها وخالقهم، ومن محبته: محبته رسله وأنبيائه وأوليائه وملائكته، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، واتِّباع سُنَّةِ رَسُولِهِ. تَعْصِي الإلهَ وأَنْتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ ... هذا مُحَالٌ في القِيَاسِ بَدِيعُ لَوْ كانَ حُبُّكَ صَادِقًا لأَطَعْتَهُ ... إنَّ المُحِبَّ لمن يُحِبُّ مُطِيعُ (¬4) ¬
وللقوم فيها عبارات: التُّسْتَرِي: "هي معانَقةُ الطَّاعة، ومبايَنَةُ المُخَالفة". الروذباري: "المُوَافَقَة". يحيى بن معاذ: "ليس الصادِقُ مَن ادَّعَى محبَّتَهُ ولم يَحْفَظْ حُدُودَهُ" (¬1). وقد أوضحها القُشَيْري، وصاحِبُ "المُفْهِم" (¬2). رابعها: حَثُّ الشَّارع على التقَلُّلِ مِن الدُّنيا وما فيها، وقال: "كُنْ في الدُّنيَا كَأَنَّكَ غَريبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ" (¬3)، "حُبُّ الدُّنيا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ" (¬4). وفي "الودعانيات المَوْضُوعة" (¬5) من حديث أبي هريرة، عن أبي سعيد الخدري -رفعه-: سمعتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول -يعظه-: "ارغبْ فيما عِندَ الله؛ يحبك الله، وازهد فيما في أَيْدِي الناس يُحِبَّكَ النَّاسُ، إِنَّ الزَّاهِدَ في الدُّنيا يُرِيحُ قَلْبَهُ وَبَدَنَهُ في الدُّنيا والآخِرَةِ، والرَّاغِبُ في الدُّنيا يُتْعِبُ قَلْبَهُ وَبَدَنَهُ في الدُّنيا والآخِرَة، لَيَجِيئَنَّ أَقوامٌ يَوْمَ القِيامَةِ لهم حَسَنَاتٌ كَأَمْثَالِ الجبالِ، فَيُؤْمَرُ بهم إلى النَّارِ". فقيلَ: يا نَبِيَّ اللهِ! أَوَ يُصَلُّونَ؟ قال: "كانوا يُصَلُّونَ وَيَصُومُونَ وَيَأْخُذُونَ وهنًا مِن اللَّيلِ؛ لكِنَّهمْ كانوا إذَا لاحَ لهم بِشيءٍ مِنَ الدُّنيا وَثَبُوا عليه". ¬
وقد قال -عليه الصلاة والسلام- في حديث: "أيها الناس! اتقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ، واسعَوْا في مَرْضَاتِهِ، وَأَيْقِنُوا مِنَ الدُّنيا بالفَنَاءِ، ومنَ الآخِرَةِ بالبَقَاءِ، واعمْلُوا لِمَا بعدَ الموت، فَكَأَنَّكَ بالدُّنيا وَلَمْ تَكُنْ، وبالآخِرَةِ وَلَمْ تَزَلْ، إِنَّ مَن في الدُّنيا ضَيْفٌ، وَمَا في يَدِهِ عَاريَّةٌ، وإنَّ الضَّيْفَ مُرْتَحِلٌ، والعَارِيةُ مَرْدُودَةٌ، والدُّنيا عَرَضٌ حَاضِرٌ، يَأْكُلُ مِنْها البَرُّ والفَاجِرُ، والدُّنيا مُبغَّضَةٌ لأَوْلِياءِ الله، مُحَبَّبةٌ لأَهْلِها فَمَنْ شَارَكَهم في مَحْبُوبهم أَبْغَضُوهُ" (¬1). فأرشدَ الشَّارعُ السَّائِلَ إلى تَرْكِها بالزُّهدِ فيها، ووعده على ذلك بِحُبِّ الله له -وهو رضاه عنه- فإنَّ محبتَهُ لهم رِضَاهُ عنهم، وأرشده إلى الزُّهد فيما في أَيْدِي الناس إن أرادَ مَحَبَّة الناس له، والكل حب الدنيا؛ فليس في أيدي الناس شيء يتباغضون ويتنافسون [عليه] (¬2) إلَّا الدنيا، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "مَنْ كانتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ: جَمَعَ اللهُ شَمْلَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ في قَلْبهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنيا وهي رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كانَت الدُّنيا هَمَّهُ: شَتَّتَ اللهُ شَمْلهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بينَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتهِ مِن الدُّنيا إلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ" (¬3)، والسَّعيد من اختارَ باقِيةً يَدُومُ نَعِيمُها، على بالِيَةٍ لا يَنْفَدُ عَذَابها. قال بعضهم: "ووجه كون الزهد في الدنيا سببًا لمحبة الله؛ أنه تعالى يُحِبُّ مَن أطاعه، ويبغِضُ مَن عصاهُ، والطَّاعةُ مع المحبة للدنيا مِمَّا لا يجتمع، وقد ¬
سلف أن حبها خطيئة، والله لا يحب الخطايا ولا أهلها، ولأن الدنيا لعب ولهو وزينة، والله لا يُحِبُّ ذلك؛ ولأنَّ القلبَ بيت الرَّب، والله وحده لا شريكَ له، ولا يُحِبُّ أن يُشرك به في بيتهِ حب الدنيا ولا غيرها. وبالجملة: فمُحِبُّ الدنيا مبغوضٌ عِندَ الله؛ فالزَّاهد فيها الرَّاغِبُ عنها محبوبٌ له، ومحبة الدنيا المكروهة هي إيثارها لقضاء شهوات النفس وأوطارها؛ لأن ذلك شغل عن الله، أما محبتها لفعل الخير وتقديم الأجر بها عند الله ونحو ذلك فهو عبادة؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "نِعْمَ المَالُ الصَّالِحُ مع الرَّجل الصَّالِح، يَصِلُ بهِ رَحِمًا، وَيَصْنعُ بهِ مَعْرُوفًا" (¬1) أو كما قال. وفي الأثر: "إذا كان يوم القِيامَة جمع الله الذَّهَب والفِضَّة كالجَبَلَيْنِ العَظِيمَيْن، ثم يقولُ: هذا مَالنا عَادَ إلَيْنَا؛ سَعِدَ بهِ قَوْم وشَقِي به آخرون" (¬2). ووجه كون الزهد فيما عَند الناس سببًا لمحبَّةِ الناس؛ فلأنَّ الناس يتهافَتُونَ على الدُّنيا بطِبَاعهم "إذ الدُّنيا مِيتَةٌ، والناس كِلابها؛ فمن زاحمهم عليها أَبْغَضُوهُ، ومَنْ زَهدَ فيها وَوَفَّرَها عليهم أَحَبُّوهُ، وقد سلف طرفٌ من ذلك. وللشَّافعي - رضي الله عنه - (¬3): ومَن يَذُقِ الدُّنيا فإني طَعِمْتُهَا ... وسِيقَ إِلَيْنَا عَذْبُها وعَذَابُها ¬
فما هي إلَّا جِيفةٌ مُسْتَحِيلةٌ ... عليها كِلابٌ هَمُّهُنَّ اجتِذَابُها فإن تَجْتَنِبْها كُنْتَ سِلْمًا لأَهْلِهَا ... وإن تَجْتَذِبْهَا نَازَعَتْكَ كِلَابُها (¬1) ولا تبعدُ محبة الجن أيضًا له، إذ لفظ الناس يشمله. خامسها: "الزهد" -لغة-: الإعراض عن الشيء لاستقلاله واحتقارهِ وارتفاع الهِمَّة عنه، مأخوذٌ مِن قولهم: شيء زهيد؛ أي: قليل. وفي الحديث: "إنك لزهيد" (¬2). والمختار في حده أنه استصغار الدنيا واحتقارها: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} [النساء: 77]، {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس: 24] الآية، ويكفيه منها زاد الراكب، والإقبال على المراقب، فشخصه في الأشباح، وروحه مع الآخرة في الأرواح. وحكى الحارث المحاسبي -رحمه الله- فيما يزهد فيه ثلاثة أقوال: الحياة أو النقد أو متعلقات البدن، كالأكل واللبس، والظاهر أن دنيا كلِّ إنسانٍ على حَسب حاله، وقد قال حارِثةُ للشارع: "أَصْبَحْتُ مؤمنًا حقًّا! فقال له: إِنَّ لِكُلِّ حَقٍّ حقيقةً؛ فما حقيقة إيمانك؟ قال: عَزَفَتْ نفسي عن الدنيا؛ فاستوى عندي حَجَرها ومَدَرها، وكأني أنظرُ إلى عَرْشِ رَبِّي بارزًا، وكأني أنظر إلى أهل الجنةِ في ¬
الجنةِ يَتَنَعَّمُون، وإلى أهل النارِ في النارِ ينقمون. قال: "يا حارثة، عرفت فالزم" (¬1) هذا أو قريبًا منه. خليليَّ لا واللهِ مَا أَنَا مِنكُما ... إذا علمٌ مِن آل ليلى بَدَا لِيَا فمثل هذا تكون الدنيا له سجنًا، ومقامه فيها هَمًّا وغمًّا "كما قال -عليه الصلاة والسلام-: "الدُّنْيَا سِجْنُ المؤمنِ وجَنَّةُ الكافِرِ" (¬2). * * * فصلٌ والزهد في الحرام واجب، وهو زهد العوام، وفيما عدا الضروريات من أداء المباحات -وهو المراد من هذا الحديث ظاهرًا- وهو زهد الخواص العارفين بالله، والزهد في الشبهات الظاهر وجوبه؛ لأنه قد يوقع في الحرام كما سلف، واجتناب الحرام واجب، والزهد فيما سوى الله من دنيا وجنة وغير ذلك، وقصد صاحب هذا الوصول إلى الرب تعالى والتقرب منه. ¬
فصلٌ والمزهود من أجله الباعث على الزهد، والذي يكون عنه الزهد خمسة أشياء: الدنيا؛ لأنها فانية شاغلة عن التفكر النافع. ولأنها تنقص عند الله درجات مَن رَكَنَ إليها. ولأن تركها قُربةٌ مِن الله، وعلو مَرْتبةٍ عنده منه في درجات الجنة. وطول الحبس والوقوف للحساب، والسؤال عن شكر النعمة. ورضوان الله، والأمن من سخطه -وهو أكبرها- {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 72]، وهو الغاية (¬1). وقيل: من سمي باسم "الزاهد" فقد سمي بالقاسم ممدوح بهذا مع تعجله الراحة دنيا وأخرى؛ فَهُمُ الملوك حقيقة: إن الزهاد في روح وراحةٍ ... قلوبُهم عن الدنيا مُرَاحَه إذا أبصرتهم أبصرت قومًا ... ملوك الأرض شِيمَتُهُم سماحه وهم العقلاء؛ لإيثارهم الباقي على الفاني. قال الشافعي -رحمه الله-: "لو أَوْصَى لأَعقلِ الناسِ صُرِفَ لهم" (¬2). ¬
وشتَّان مَن شغَلَتهُ الدُّنيا أو اشتَغَلَ بالله: تَشَاغَلَ قومٌ بدنياهمُ ... وقوم تخلوا لمولاهمُ فأَلزَمَهُم بابَ مرضاته ... وعن سائر الناس أغناهمُ * * *
الحديث الثاني والثلاثون
الحديثُ الثاني والثلاثون عن أبي سَعِيدٍ سَعْدِ بنِ مَالِك بنِ سِنَانٍ الخُدْريِّ - رضي الله عنه - أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ". حديثٌ حَسَنٌ، رواهُ ابنُ مَاجَهْ (¬1) والدَّارَقُطْنِي (¬2) وغيرُهما مُسْنَدًا. ورَوَاهُ مَالِكٌ في "المُوَطَّأ" (¬3) مُرْسَلًا، عن عَمْرِو بن يَحْيَى، عن أبيهِ، عن رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَأَسْقَطَ أَبَا سَعِيدٍ، ولهُ طُرُقٌ يُقَوَّى بَعضُها بِبَعْضٍ (¬4). ¬
الكلام عليه من وجوه: أحدها: في التعريف بروايه: وهو خُدري -بدال مُهْمَلةٍ قطعًا-: نسبة إلى خدرة، قبيلةٌ مِن الأنصار من أصحابِ الشَّجرةِ، وهو أحدُ الفقهاءِ، ماتَ سنةَ أربعٍ وسبعين بالمدينة (¬1). و"مالك": هو الإمام أبو عبد الله الأصبحي، إمام أحد المذاهب المتبوعة، أُفْرِدَت تَرجَمَتُهُ بالتَّألِيف، وكان مَولِدُهُ سَنةَ ثلاثٍ وتسعين، ومات سنة تسع وسبعين ومائة في ربيع الأول (¬2). ثانيها: "المسند": هو ما اتصل سنده إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. و"المرسَلُ": ما سَقَطَ منه الصَّحابي عند المُحَدِّثين، وأي راوٍ كان عند الأصوليين (¬3). وهذا الحديث وهَّاهُ ابن حزم، وقد رَدَدتُ عليه في "تخريجي لأحاديث الرافعي" وغيره (¬4). لا جرم، قال المُصَنِّفُ: "ولهُ طُرق يُقَوَّى بعضُها بِبَعْضٍ"، أي: في بعض طرقه لِينٌ يُجْبَرُ بغيره ويَقْوَى، وهو مُرَجِّحٌ وعاضِدٌ، وقد يكون العاضد كتابًا مثل أنْ يكونَ الحديثُ ضعيفًا، لكن يوافِقُهُ ظَاهِرُ آيةٍ، أو عمومها فَيَقْوَى بها ويتعاضَدَان، وقد يكون سُنَّةً تُعَاضِدُهُ: إِمَّا عن راوي الحديث نفسه، أو عن ¬
غيره، وقد قيل في المثل: لا تُخَاصِم بِوَاحِدٍ أَهْلَ بَيْتٍ ... فَضَعِيفَانِ يَغْلِبَانِ قَوِيًّا وقال ابن الصلاح: "رواه الدارقطني في "جامعه" مِن وُجوهٍ مُتَّصِلًا، وهو حديث حسن". وقال مَرَّةً: "أسنَدَهُ مِن وُجُوهٍ، ومجموعها يقوي الحديث ويحسِّنه، وقد نَقَلَهُ جماهيرُ أهلِ العلمِ واحتجُّوا به، فعن أبي داود أنه قال: "الفقه يدور على خمسة أحاديث ... " (¬1) وَعدَّ هذا الحديث مِن الخمسةِ. قال: "فعدُّ أبي داودَ له مِن الخمسةِ، وقوله فيه يُشْعِرُ بكونهِ عنده غير ضعيف، وجعله خُمْس الشَّريعة" (¬2). قال ابن عبد البر: "ولم يختلف عن (¬3) مالك في هذا الحديث وإرساله، وقد رواه الدِّراوَرْدِي عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسنده، ولهُ طُرقٌ كَثيرةٌ، ومعناه صحيحٌ في الأصول أيضًا، وقد ثَبَتَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "حَرَّمَ اللهُ مِنَ المُؤْمنِ: دَمَهُ ومَالَهُ وَعِرْضهُ، وأَلَّا يُظَنَّ بهِ إلَّا الخير" (¬4). ¬
وقال -أيضًا-: "إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ" (¬1) [يعني مِن] (¬2) بعضكم على بعض. وقد قال تعالى: "يا عِبادِي! إنِّي حَرَّمتُ الظُّلمَ على نَفْسِي، وجَعَلْتُهُ بينَكُمْ مُحَرَّمًا؛ فَلَا تَظَالَموا" -وقد سلف- (¬3)، وقال تعالى: {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه: 111]. وأصلُ الظُّلم: وضعُ الشَّيءِ في غير موضِعِهِ، وأخذه من غير وجهه؛ ومَن أَضَرَّ بأخيه فقد ظَلَمَهُ، وصَحَّ: "الظُّلمُ ظُلُمَات يَوْمَ القِيَامَةِ" (¬4). وروى مَعْمَر، عن جابر الجُعْفِي، عن عِكْرمةَ، عن ابن عباس مَرفُوعًا: "لا ضَرَرَ ولا ضِرار، وللرَّجلِ وضعُ خَشَبِهِ في جِدَارِ جَارِهِ" (¬5). جابر الجُعْفِي مُتكلَّمٌ فيه، قال أبو عُمَر: "شعبة والثَّوري يُثنِيان عليه ¬
ويصفانهِ بالحفظِ والإتقانِ. وكان ابن عُيَيْنَةَ يذمُّه ويَحْكِي مِن سُوءِ مذهبه ما (¬1) يُسقِطُ رِوَايَتَهُ، واتَّبَعَهُ على ذلك أصحابه: علي بن المدِيني، وابن مَعِين وغيرهما" (¬2). قال: "ولهذا قُلتُ: إِنَّ هذا الحديث لا يُسنَدُ مِن وجهٍ صحيح" (¬3). وأما قوله: "لا ضَرَرَ ولا ضِرَارَ" فَخَبَرُ "لا" محذوف؛ أي: في ديننا، أو في شريعَتِنَا، أو في سُنَّتِنَا، وظاهرُ الحديثِ تحريمُهُ مُطْلقًا قليلُهُ وكثِيرُهُ، ضرورة كون النَّكرة في سياق النَّفي تَعُم، ثم الظَّاهِرُ تَغَايرُ هذين اللَّفظين حَمْلًا له على التأسيس؛ إذْ هو أَوْلَى مِن التَّأكِيد، فالضَّررُ مِن واحدٍ كالقتل، والضِّرارُ مِن اثنين كالقتال، مِن حيث إنَّ "ضِرَار" مصدر: ضار، وفاعَل إنما يكون من اثنين غالبًا. وقيل: إنهما لفظتان بمعنى واحدٍ، تكَلَّم بِهِمَا جميعًا على وجهِ التَّأكِيدِ (¬4)، وهو ظاهر لفظ الجوهري حيث قال: "الضرر" و"الضِّرار" خلاف النَّفع، وقَدْ ضَرَّهُ وضَارَّهُ بمعنى، والاسمُ: "الضّر"." (¬5). وقال ابن حبيب (¬6): ""الضَّرَرُ" عند أهل العربية الاسم، و"الضِّرار" الفعل". قال: "ومعنى: "لا ضرر": لا يَدخُلُ على أَحَدٍ ضررًا لم يُدخِلهُ على نفسه، ومعنى "ولا ضرار": لا يضار أحدٌ بأحدٍ" (¬7). ¬
وقال الخُشَنِيُّ (¬1): ""الضرر" الذي لكَ فيه منفعةٌ وعلى جارك فيه المَضَرَّة، و"الضِّرار": الذي ليس لك فيه منفعة، وعلى جارك فيه المضرة" (¬2). وهذا وجهٌ حَسَنُ المَعْنَى في الحديث. وجاءَ في بعض طُرقه المسنَدَةِ مِن طريق عمرو بن يحيى -بعد "لا ضرر ولا ضرار"-: "من ضَارَّ ضَارَّ اللهُ بهِ، ومَنْ شَاقَّ شَاقَّ اللهُ عليهِ" (¬3). وقال بعضهم: "الضَّرَرُ" و"الضِّرَارُ" مِثلُ القَتْلِ والقِتَال، و"الضَّرر": أن تَضُرَّ مَن لا يَضُرُّكَ، و"الضِّرار" أن تضرّ بمن قد أضَرَّ بكَ مِن غير جِهَةِ الاعتِدَاءِ بالمثل والانتصار بالحق، وهو نحو قوله -عليه الصلاة والسلام-: "أَدِّ الأَمَانَةَ إلى مَن أَئتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ" (¬4) أي: بعد أن انتصرت منه في خيانَتِهِ ¬
لَكَ، والنَّهيُ إِنَّمَا وقعَ على الابتداء، ومَا يكونُ في معنى الابتِدَاءِ، كأنه يقول: ليس لك أن تخونَهُ وإنْ كانَ قد خانَكَ؛ كَمَا (¬1) لَمْ يكُنْ لهُ أن يخونك، وأَمَّا مَن عاقَبَ بمِثْلِ مَا عُوقِبَ به وأخذَ حَقَّهُ فليسَ بخائِنٍ، وإِنَّمَا الخائِنُ مَن أخذَ ما ليس لهُ، أو أكثر مِمَّا لهُ. وقد اختَلَفَ الفُقَهَاءُ في الذي يَجْحَدُ حَقًّا عليه ويمنَعُهُ ثم يظفرُ المجحودُ بمالِ الجاحدِ قد ائتمنه عليه أو نحو ذلك، فقال قائل منهم: ليس له أن يأخذ حقه من ذلك؛ لظاهِر الحديث الذي أَوْرَدْنَاهُ: " ... ولا تَخُنْ مَن خَانَكَ". وقال آخرون: له أن يَنْتَصِفَ مِنهُ ويأخذ مِنهُ حقَّهُ عَمَلًا بقِصَّةِ هِند: "خُذِي مِنْ مَاله مَا يَكْفِيكِ" (¬2). وللفقهاء في هذه المسألة وجوهٌ واعتلالاتٌ؛ محلّها كتب الخلافيات، وإنما ذَكَرنَا هذا هنا لِمَا في مَعنَى "الضِّرَار" مِن مُدَاخَلةِ الانتصارِ بالإضرارِ مِمَّن أَضَرَّ بكَ. والذي يَصِحُّ في النَّظَرِ ويَثبُتُ في الأصولِ أنَّهُ ليسَ لأَحَدٍ أن يَضُرَّ بأخيهِ سواءٌ أضَرَّ بهِ قبلُ أمْ لَا، إلَّا أن يَنْتَصِرَ -إن قدر- بما أُبِيحَ له من الاعتداءِ بالحَقِّ الذي له بمِثلِ مَا اعْتُدِيَ عليه، والانتِصارُ ليسَ باعتِدَاءٍ، ولا ظُلْمٍ، ولا ضَرَرٍ إذا كان على الوَجهِ الذي أباحَتهُ السُّنَّة (¬3)، وكذا ليس لأَحدٍ أنْ يُضِرَّ بأَحَدٍ مِن غير الوَجهِ الذي هو الانتصار (¬4) مِن حَقِّهِ، ومَن أدخَلَ على أخيهِ المُسلِم ضَرَرًا مِنهُ؛ ¬
فإِنْ أَدخَلَ عليه ضَرَرًا بفِعلٍ مَا كأَنْ فعَلَهُ فَأَضَرَّ فعْلُهُ لذلك بجاره أو بغير جاره، نُظِرَ إلى ذلك الفِعل؛ فَإِنْ كان أكثر ضررًا على الفاعل مِن الضَّرَرِ الدَّاخِل على الجار بسَبَبِ ترْكِ ذلك في ماله إذا قطع عنه ما فعله، قطع أكثر الضَّرَرين وأعظمهما حُرْمَةً في الأصول. مِثالُهُ: فتح الكوَّة للضوء، وتطلع منها على الحُرُم، مَنَعَهُ المالِكِيَّةُ دَفعًا لأكثر الضَّرَرين، وعندَ الشافعية يجوز، وشَرَط بعضهم علوها بحيث لا يطَّلع على الجار، ومثله البناء وإحداث الرَّحَا المُضِرَّة بالجار عندهم (¬1)، وكذا منعَ العلماء مِن دُخَّان الفُرن والحمام، والدُّود المُتَوَلِّد مِن الزبل المنشور في الرِّحَاب وأمثاله؛ إذا ظهرَ ضَرَره، وبَقِيَ أثره، وخُشِيَ تماديه دونَ مَا إذا كان مِثلَ ساعةٍ خفيفةٍ [مثل: نَفْضِ التُّرابِ والحُصُر] (¬2) على الباب، ومَا زالَ جبريلُ يُوصِي بالجار حتى ظَنَّ الشَّارعُ -صلوات الله وسلامه عليه- أَنَّهُ يُوَرِّثُهُ (¬3). وقد روي أنه -عليه الصلاة والسلام- "لَعَنَ مَن ضَارَّ مُسْلِمًا أو مَاكَرَهُ" (¬4) لكنَّ سنَدَهُ لا يقوم منه ضعف كما قال أبو عُمَر. ¬
قال: "ولكنَّه يخاف عقوبة ما جاءَ فيه" (¬1) فإنه مُوَافِقٌ للقوَاعِدِ. ثالثها: "الضرر" مصدر: ضره يضره ضرًّا وضرارًا، و"الضرار" مصدر: ضاره يضاره ضرارًا، وفي التنزيل: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231]. و"الضَّرَر": إلحاقُ مَفسَدَةٍ بالغير مُطْلَقًا. و"الضِّرَار": إلحاقُ مَفسدةٍ به على وَجْهِ المُقَابَلَةِ كما أسلفناه؛ أي: كل منهما يقصد ضرر صاحبه (¬2). وفي رواية: "ولا إِضْرَار" (¬3) بالألف، وهو مَصدَر: أَضرَّ به إِضرَارًا: إذا ألحَقَ به ضَررًا، وهو في معنى الضَّرَر. وقال ابن الصلاح: ""ضرار" على وزن فِعَال، أي أنه مكسور الضَّاد". قال: "وهو على ألسِنة كثير مِن الفقهاء والمُحَدِّثين: "ولا إضرار" بهمزة مكسورة قبل الضاد، ولا صحة لذلك" (¬4). قلتُ: وقوله: "لَا ضَرَرَ ولا ضِرَارَ" فيه حذْفٌ، أصله: لا لحوق ولا إلحاق ضَرَرٍ بأحَدٍ، ولا فعل ضرار مع أحد. ثُمَّ المعنى: لا لحوق ضرَرٍ شَرْعًا إلَّا بمُوجَبٍ خَاصٍّ؛ ليُخرِجَ الحدود والعقوبات، والله تعالى يقول: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ ¬
الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28]، {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6]، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقال رسول الله -عليه أفضل الصلاة والسلام-: "الدِّين يُسْرٌ"، و"بُعِثْتُ بالحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ" (¬1) أي: السَّهلة، ونحو ذلك من النصوص المُتَظَاهِرة المُصَرِّحة بوضع الدِّين على تحصيل المصلحة والنفع. والضَّرَرُ مَنهِيٌّ عنه مُزالٌ، ثم هاتان اللَّفظَتَانِ تَقْتَضِيَانِ رِعَايةَ المصالح إثباتًا والمفاسد نَفْيًا، إذ الضَّرَرُ هو المفسدةُ؛ فإذا انتَفَت لَزِمَ إثبَاتُ النَّفع الذي هو المصلحة؛ لأنهما تَفِيضان لا واسطةَ بينَهُمَا. ثم الأَدِلَّةُ السَّمعِيَّةُ المتَّفَق عليها أربع: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس. والمختَلَف فيها أربعةَ عَشَر: الاستِصحَاب، الاستِحْسَان، الاستدلال، المصالح المُرْسَلة، سَدُّ الذَّرَائِع، إجماعُ المدينة، الكوفة، العتْرَة (¬2)، الخلفاء الأربعة، إجماع الشيخين، قول الصحابي، البراءة الأصلية، الاستقراء، الأخذ بالأخف. والخوض فيها محلُّه كتبُ "الأصول" وأقواها: النص والإجماع، ثم ¬
هُمَا إِمَّا أنْ يُوافِقَا رِعَايةَ المصالح فَبِهَا ونِعمَتْ، أم لا فيُخَصَّصُ بها؛ لاعتناء الشارع بها (¬1). * * * ¬
الحديث الثالث والثلاثون
الحديثُ الثالِثُ والثَّلاثُونَ عن ابنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ، لادَّعَى رِجَالٌ أَمْوَالَ قَوْمٍ وَدِمَاءَهُمْ، لَكنِ البَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِي، واليَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ". حديثٌ حَسَنٌ، رواهُ البَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ هَكَذَا (¬1)، وَبَعضُهُ في "الصَّحِيحَيْنِ". وقال في "شَرح مُسْلِمٍ": "رواه البيهقي بإسنَادٍ جَيِّدٍ حَسَنٍ أو صَحِيحٍ" (¬2). * * * الكلامُ عليه مِن وُجُوهٍ: والتعريفُ برَاوِيهِ سَلَفَ. و"البيهقي" هو الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين صاحب التصانيف، وُلِدَ سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، وماتَ سنةَ ثمانٍ وخمسين وأربَعِمائةٍ (¬3). أحدها: لفظ "الصحيح" أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ، ¬
لادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهمْ، ولكنَّ اليَمِينَ عَلَى المُدَّعَى عليه" (¬1). وفي رواية: "أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى باليَمِينِ عَلَى المدَّعَى عليه". وكذا رواه مع "الصحيحين": أصحاب "السنن" (¬2) وغيرهم من رواية ابن عباس مرفوعًا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وغلط الأصيلي حيث قال: "لا يصح مرفوعًا؛ إنما هو قول ابن عباس، كذا رواه أيوب ونافع الجمحي، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس" (¬3). وقد رواه البخاري (¬4) من طريق ابن جريج مرفوعًا. وأبو داود والترمذي من طريق نافع بن عمر الجمحي، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس مرفوعًا (¬5). قال الترمذي: "حديث صحيح". فقد صَحَّ رفعُهُ بشهادةِ هذه الأَئِمَّةِ: البخاري ومسلم والترمذي؛ فلا يَضُرهُ مَن وَقَفَهُ، ولا يُعَدُّ ذلك اضطرابًا ولا تعارضًا؛ فإن الرَّاوي قد يَعرض له ما يُوجِبُ السُّكوتَ عن الرَّفع من نسيانٍ أو اكتفاءٍ بعِلم السَّامع أو غير ذلك، والرافع عدل ثبت؛ فلا يلتفت إلى الوقف إلَّا في الترجيح عند التعارض كما هو مبين في الأصول. ¬
وجاء في رواية: "أن امرأتين كانتا تخرُزَان في بيت -أو في حجرة- فَجُرِحَتْ إِحْدَاهُمَا، وقد أنفذ بالإشفي في كفِّها؛ فادَّعَتْ على الأُخرَى، فَرُفِعَ ذَلِكَ إلى ابن عباس، فَذَكَرَ الحديثَ: لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بدَعْوَاهُمْ لَذَهَبَتْ دِمَاؤُهمْ وَأَمْوَالُهمْ، ذَكِّرُوها بالله فاقرَؤُوا عليها: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77] فذَكَّرُوها فاعتَرَفَتْ". فقال ابن عباس: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اليَمِينُ عَلَى المُدَّعَى عليهِ" (¬1). ثانيها: هذا الحديثُ قاعدٌ كبيرٌ مِن قواعد الشَّريعةِ، وأَصلٌ من أُصولِ الأحكام، وأعظم مرجع عند التَّنَازع والخِصَام، وقد قيل: إنه فصل الخِطَاب الذي أُوتيه داود، كما سلف في الخطبة أنه لا يقبل قول الإنسان فيما يدعيه بمجرد دعواه؛ بل لا بد من استناد إلى ما يقوي دعواه من البينة أو تصديق المدعى عليه ولو كان المدعى فاضلًا شريفًا أو حقًّا خفيفًا، وإلَّا فالدَّعَاوى مُتَكافِئة، والأصل: براءَةُ الذِّمَم من الحقوق، فلابُدَّ مِمَّا يدل على تعلق الحق بالذِّمة وتتَرَجَّح به الدَّعْوَى؛ فإن طَلَبَ يَمِين المُدَّعى عليه فله ذلك. وقد بيَّن الشَّارعُ الحكمة في كونه لا يعطي بمجرد دعواه؛ لأنه لو أعطى بمجردها لادعيت الدِّماءُ والأموالُ واستُبيحت، ولا يمكن المدعى عليه أن يصون ماله ودمه، وأما المدعي فيمكن صيانتهما بالبَيِّنة أيضًا، وجانب المُدَّعِي ضعيف؛ لدعواه خلاف الأصل، وجانب المُنْكِر قوي؛ لموافقةِ الأصل في البراءة، والبينة حجة قوية لبعدها عن التُّهمة، واليمين حُجَّة ضعيفة لقربها منها، فجعل القوي في جانب الضَّعيف، والضعيف في جانب القوي، وهو جانب المنكر تعديلًا، وهو توجيهٌ حَسَنٌ. ¬
ثالثها: هذا الحديث يُسْتَدَلُّ به بمسائل: الأولى: أنَّ اليمينَ مُتَوَجِّهةٌ على كلِّ مَن ادُّعِي عليه حقٌّ، سواءٌ كان بينه وبين المُدَّعي اختلاط أم لا. وقالت طائفة من العلماء: لا بد من خلطة لئلَّا يبتذل السُّفهاء أهل الفضل بتحليفهم مرارًا في اليوم الواحد، وهو مذهب الفقهاء السبعة، وبه قضى عليٌّ، وهو قول مالك وجل أصحابه، وأكثر الفقهاء على خلافه، ووافقهم ابن نافع، وابن لبابة -من أصحاب مالك رحمه الله-. واختُلِفَ في تفسير الخلطة؛ هل هي معرفته بمعاملته ومداينته بشاهد أو بشاهدين، أو يكفي الشبهة، أو أن تليق به الدَّعوى بمثلها على مِثْلهِ، أو يليق به أن يعامل بمثلها؟ أقوال؛ ودليل الجمهور الحديث، ولا أصل لاشتراط الخلطة من كتاب ولا سنة ولا إجماع (¬1). الثانية: إبطال التَدْمية -في قول مالك-، ووجه تسوية الشارع بين الدماء والأموال في أن المدعي لا يسمع قوله فيها؛ فإذا لم يسمع في مرضه: لي عند فلان في دينار أو درهم، كان أَحْرَى وأَوْلى ألا يسمع قوله: دمي عند فلان؛ لحرمة الدماء. وقد يقال: إن مالكًا لم يسند ذلك لقول المدَّعِي ذلك؛ بل للقسامة على القتل والتدمية لَوْثٌ يُقَوِّي جانب المُدَّعِي حين يبدأ بالأيمان كسائر أنواع اللَّوْث (¬2). ¬
ثالثها: "المُدَّعى عليه": هو المطلوب منه، و"المُدَّعِي": هو الطَّالب، ووجه كون اليمين على المدَّعى عليه أن الأصل براءة ذمته عما طلب منه، وهو متمسك به، والاحتمال مندفع باليمين، وقام الإجماع على استحلاف المدَّعَى عليه في الأموال، واختلفوا في غير ذلك؛ فمذهب الشافعي وأحمد وأبى ثور: وجوبها على كل مدعى عليه في حد أو طلاق أو نكاح أو عتق، أخذًا بعموم ظاهر الحديث؛ فإن نَكَلَ حَلَف المُدَّعِي وثبت دعواه. وقال أبو حنيفة وأصحابه -رحمهم الله-: يحلف على النكاح والطلاق والعتق؛ وإن نكل لزمه ذلك كله. وقال الثوري والشَّعبي وأبو حنيفة -رحمهم الله-: لا يستحلف في الحدود والسرقة. وقال نحوه مالك -رحمه الله - (¬1). رابعها: "لو" حرف امتناعٍ لامتِنَاعٍ؛ أي: امتناع الشيء لامتناع غيره، أو حرف لِمَا سيقع لوقوع غيره، كما قاله سيبويه (¬2)، والمعنى على هذه: أن دعوى رجال مال قوم كان سيقع؛ لوقوع إعطاء الناس بدعاويهم، والمراد عليها، وعلى الأولى أن بدعوى الرجال أموال قوم أعطاهم إياها فوضع الدعوى موضع الأخذ؛ لأنها سببه، ولا شك أن أخذ مال المدعى عليه ممتنع؛ لامتناع إعطاء المدعي بمجرد دعواه، وكذلك أخذ مال المدعى عليه كان سيقع لوقوع إعطاء المدعي بدعواه، ولا يقع بدون ذلك. و"الرجال" هم الذكور قطعًا. ¬
ورواية: "ناس" تعم الرجل والمرأة، وأما "القوم" فهل تختص بالرجال أو تعم النساء؟ قولان: حجة الأول: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ} [الحجرات: 11] وقول زهير: وَمَا أَدْري أَقَوْمٌ آلُ حِصْن أَمْ نِسَاءُ (¬1) وأجيب عنه بأن ذلك من قرب التقسيم فقط (¬2). وحجة الثاني: قوله تعالى: {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ} [غافر: 31] ونحوه، وتقول العرب: ليس هذا بأرض قومي ولا من نسائهم. وأُجيب عنه بأنَّ النساءَ إنَّما دخلت لقرينةِ التَّكليف ونحوهِ. وغايَرَ بين قوله: "لادَّعى رجَالٌ أَمْوَالَ قَوْمٍ" ولم يقل: "أموال رجال" ولا: "قوم أموال قوم" دفعًا لتِكْرَار أحدهما بغير فائدةٍ، وإنه على القول بأن النساء يدخُلن في لفظ القوم؛ لأن الدَّعوى في الرجال أغلب بخلاف المدعى عليه. وقدَّمَ الأموال في رواية المُصَنِّف على الدماء، ورواية "الصحيح" عكسه لغلبة الخصومات فيها؛ لأن أخذها أيسر، وامتداد اليد إليها أسهل، وإن كان الاهتمام بالدماء أعظم؛ لأنه أول ما يقضى بين الناس فيها، فهي من ذا الوجه أعظم خطرًا من المال، على أن العطف بالواو لا يفيد ترتيبًا. وموضوع "لكن" الاستدلال، وهي وإن كانت إنما تكون بين نفي وإثبات، ¬
نحو: "ما قام زيد، لكن عمرو" وهي هنا بعد إثبات، ولا نفي قبلها؛ لأنها كذلك في المعنى، إذ معنى "لو يعطى": لا يعطى بدعواهم المجردة، لكن بالبينة، وهي على المدعي. وقوله: "لكن البَيِّنة عَلَى المُدَّعي، واليَمِينُ على مَنْ أَنْكَرَ" أتى بالمدعي معرفًا؛ لأن فيه ضربًا من التعريف المعنوي لظهوره وإقدامه على الدعوى، فأتى فيه بلام التعريف المناسبة له و"المنكر" فيه ضرب من الإيهام والتنكير لاستخفائه وتنكيره؛ فأتى فيه بـ "مَنْ" إذ فيها إبهام وتنكير شبيه بحاله. وقوله: "واليَمِينُ عَلى مَنْ أَنْكَر" عامٌّ خص منه صور: القسامة؛ فإنها في جانب المدعي. واليمين مع الشاهد الواحد في جانب المدعي. ويمين المدعي إذا ردها عليه المنكر عندنا وعند أحمد في رواية. وأيمان الأمناء حين يتهمون في دعاويهم، كالوكيل والمرتهن ونحوهما. * * *
الحديث الرابع والثلاثون
الحديث الرابع والثلاثون عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرهُ بِيَدِهِ؛ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ؛ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمانِ". رواه مسلم (¬1). الكلام عليه من وجوه -والتعريف براويه سلف-: أحدها: هذا الحديث قاله أبو سعيد - رضي الله عنه - لَمَّا قَدَّم مروان خُطبةَ العيدِ قَبلَ الصلاة، وقال له رجلٌ: الصلاة قَبْلَها! فقال: فقد تُرِكَ مَا هُنَالِكَ! فقال أبو سعيد - رضي الله عنه -: "أمَّا هذا فقد قَضَى ما عليه؛ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... ". فَذَكَر الحديث، وهو أدلُّ دليل على أن أولَّ مَن فعلَ هذا مروان لا عثمان أو عمر، ولم يصح ذلك؛ ووَجهُهُ أنَّهُ سمَّاهُ مُنْكَرًا بمحضَرٍ مِن الصَّحابةِ، ولو كان قد سُبِقَ به عملٌ، أو كان أحدٌ مِن الصَّحابة قد فعله، أو مَضَت به سُنَّة [لم يُسمِّهِ أبو سعيد منكرًا] (¬2). ¬
وتأخر أبي سعيد عن إنكاره حتى سُبِقَ إليه: قد لا يكون هو حاضرًا أول ما شرع في أسباب الخطبة، ثم حضر، أو كان حاضرًا، أو خشي فتنة، أو هَمَّ به فسبق ثم عضده. لكن في "الصحيحين" (¬1) عن أبي سعيد: "أنه هو الذي جَذَبَ يَدَ مَرْوَان حِينَ رَآهُ يَصْعَدُ المِنْبَر، فرَدَّ عليه مروان بمثل ما رَدَّ على الرَّجُل" فيجوزُ أن تكونَ قضيةً أُخرى. ثانيها: هذا الحديث يرجع إلى قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]، {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71]، وقوله: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة: 79] وأشباه ذلك، ومن السنة إلى قوله -عليه الصلاة والسلام-: "إِذَا ظَهرَ المُنْكَرُ في أُمَّتِي فَلَمْ يُنْكِرُوهُ؛ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهم اللهُ بِعِقَابٍ مِنْ عِندهِ" (¬2) في أَحاديثَ أُخَر مشهورة. ثم إنَّ هذا الحديث يصلح أن يكون نصف علم الشريعة؛ لأنه إما معروف يجب العمل به، أو منكر يجب النهي عنه، وقام الإجماع على الأمر بالتغيير باليد، وقد تطابق على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: الكتاب والسنة مع الإجماع، وهو أيضًا من النصيحة التي هي الدين، ولم يخالف في ذلك إلَّا بعض الرافضة -ولا يعتد به- وهم مسبوقون بالإجماع، ووجوبه بالشرع لا بالعقل خلافًا للمعتزلة. ¬
وأما قوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة: 105] الآية، فليس مخالفًا لِمَا ذَكَرْنَا؛ ولأن المذهب الصحيح عند المحققين في معناها: أنكم إذا فعلتم ما كُلِّفتُم به فلا يضرُّكم تقصيرُ غيرِكم، مثل قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 18]. وإذا كان كذلك فمما كلف به الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإذا فعله ولم يمتثل المخاطب ولا عتب بعد ذلك على الفاعل؛ لكونه أدى ما عليه، فإنما عليه الأمر والنهي لا القبول. ثم إنهما فرض كفاية تُسْقِطُ الحَرَجَ عن الباقين إذا قام به البعض، وإنْ تَرَكَهُ الكُلُّ أَثِمُوا مع التَّمكِين بلا عُذر ولا خَوْفٍ، ثم إنه قد يتعيَّن كما إذا كان في موضِع لا يعلَمُ به غيره، أو كمن يرى زوجته أو ولده أو غلامه على منكر أو تقصير في المعروف، ولا يسقط ذلك عن المكلف لكونه لا يفيد في ظنه، فذكِّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين، وقال تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إلا الْبَلَاغُ} [المائدة: 99]. ولا يشترط فيه الكمال؛ بل يأمر وينهى، وإن كان يرتكب ذلك فيأمر نفسه وينهاها كغيره، ولا يختص ذلك بأرباب الولايات؛ بل ذلك ثابت للآحاد، وهو إجماع، ولا بد من عمله بما يأمر به وينهى عنه. والدَّقائِقُ مخصوصةٌ بالعلماء، وإنما يُنكر ما أُجمِعَ عليه دون ما اختُلِف؛ فقد قيل: كل مجتهد مصيب (¬1)، والأصح: أنه لا يغير ما كان على مذهب غيره، ¬
وكذا ليس للمفتي ولا للقاضي أن يعترض على من خالفه إذا لم يخالف نصًّا ولا إجماعًا ولا قياسًا جليًّا (¬1). وهذا الباب قد ضُيِّع أكثره في أزمان متطاولة، ولم يبق إلَّا الرُّسوم، وهو بابٌ عظيم به قِوامُ الأمر ومِلاكه، وإذا كثُر الخبثُ عمَّ العِقابُ: الصَّالح والطَّالح، وإذا لم يأخذوا على أيدي الظالم أَوْشَكَ أن يعمهم الله بعقاب: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} [النور]. فينبغي للطالب والسَّاعي في رضا الشَّريعةِ أن يعتني بذلك فإن نفعَهُ عامٌّ، ولا يهابُ أحدًا؛ فإن الرب -جل جلاله- وعده بالنصرة حيث قال: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج: 40]، وقال: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)} [آل عمران]، وقال: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]، وقال: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)} [العنكبوت] والآية بعده، والأجرُ على قدر النَّصب، ولا يُحابي صديقَهُ ولا يُداهنه، بل حقه نصحه. ولا بأس باستعمال الرِّفق فيه، فالله رفيقٌ يُحِبُّ الرِّفقَ في الأمر كُلِّهِ، ويُغْلِظُ على المُسْرِف، وما أحسن قول الإمام الشافعي: "مَن وَعَظ أَخاهُ سرًّا، فقد ¬
نصحَهُ، ومَن وعظَهُ علانيةً؛ فقد فَضَحَهُ وشانَهُ" (¬1)، "بَدَأَ الإسلَامُ غَريبًا وَسَيَعُودُ غَريبًا كَمَا بَدَأَ" (¬2). أنبأني الحافظ فتح الدين اليعمري، عن شيخ الإسلام الإمام تقي الدين القشيري لنفسه -رحمه الله تعالى-: قد عُرِّفَ المُنْكَرُ واستُنْكِر الـ ... ـمعروفُ في أيَّامِنا الصعبه وصارَ أهلُ العلم في وَهْدَةٍ ... وصارَ أَهْلُ الجَهلِ في رتبه ساروا فما للجُود فيما مضى ... من الذين جاروا بهِ نِسْبَه فقلتُ للأبَرارِ أهل التُّقى ... والدِّين لمَّا اشتدَتِ الكُربه لا تُنْكروا أحوالَكُم قد أتَتْ ... نوبتُكم في زمن الغُربه ومن العجب أن ما قام به الذين اتصفوا بصفات تنكرها عليهم أقل المريدين. بالمِلْح يصلح ما يُخْشَى تغيُّرهُ ... فكيفَ بالمِلح إِنْ حَلَّت بهِ الغِيَرُ وما أحسن قوله: هذا الزَّمَانُ الذي كُنَّا [نُحَاذِرُهُ] (¬3) ... في قولِ كَعْبٍ وفي قَوْلِ ابن مَسْعُودِ إنْ دَامَ هذا وَلَمْ تَحْدُثْ لَهُ غِيَرٌ ... لَمْ يُبْكَ مَيْتٌ وَلَمْ يُفْرَح بمَوْلُودِ فرعٌ من هذا الباب: بيان العيب في المَبيع ولو كان أجنبيًّا. ¬
ثم الشارع -صلوات الله وسلامه عليه- نَقَلَهُ بعد اليدِ إلى اللسان فيعظ ويُخَوِّف. ثم القلب، ومعناه: يكرهه بقلبه ويعزم أنه لو قدر على التغيير لغير، وهذا جهده. ومعنى "أضعف الإيمان": أقل ثمراته؛ إذ فيه الكراهة فقط، وقد جاء في رواية: "وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإيمانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ" (¬1) أي: لم يبق وراء هذه المرتبة مرتبة أخرى؛ لأنه إذا لم يكرهه بقلبه فقد رضي بالمعصية، وليس ذلك شأن أهل الإيمان؛ بل هو كفرٌ إن اعتقدَ جوازَهُ، وإن رَضِيَ به لغلبة الهوى والشهوة مع اعتقاد تحريمه فهو فاسق. و"الإيمان" هنا: الإسلام؛ فالمراد أنه من آثاره ومقتضاه لا من حقيقة معناه، إذ سبق في حديث جبريل -عليه الصلاة والسلام- "أن الإيمان هو التصديق" إلى آخره. قال القاضي عياض -رحمه الله-: "هذا الحديث أصلٌ في صِفةِ [التَّغيير] (¬2)، فحق المُغَيِّر أن يُغَيِّره بكلِّ وجهٍ أَمْكَنَهُ زواله به قولًا كان أو فعلًا، فيكسِرُ آلات الباطل، ويُريق المُسْكِر بنفسه أو نائبه، وينزع المغصُوب ويردها إلى أربابها أو يأمره؛ فإن احتيج إلى إظهار سلاح أو حرب رُفِعَ إلى السُّلطان، وبعضهم رأى الإنكار بكل حال، وإن قتل ونيل منه كل أذى" (¬3). ¬
قال إمام الحرمين -رحمه الله-: "وإذا جارَ والي الوقت وظهر ظلمه ولم ينزجر بالقول؛ فلأهل الحل والعقد التواطؤ على خلعه" (¬1). وهذا غريب منه؛ وهو محمول على ما إذا لم يخف منه إثارة مفسدة أعظم منه. وليس للآمر بالمعروفِ البحثُ والتَّفتيشُ والتَّجسس واقتحامُ الدُّور بالظنونِ؛ بل إن عَثَرَ على مُنْكَر غيَّرَهُ. واستثنى الماوردي -رحمه الله- من ذلك ما إذا أخبَره مَن يَثِقُ بقوله أنَّ رَجُلًا خَلَا برجل ليقتله أو امرأةٍ ليزني بها؛ فإنه يجوزُ له في مثل هذه الحالة أن يتجَسَّسَ ويقدم على الكشف والبحث حذرًا من فَوَات ما لا يَسْتَدْرِكُهُ (¬2). * تتِمَّات: إحداها: "المنكر": مَا لا يَسُوغُ شَرعًا، ودَلِيلُهُ (¬3) يَأْباهُ وَيُنْكِرُهُ. و"المعروف" خلافه. ثانيها: هذا الخطاب للأمة أجمع، الحاضرُ له والغائِبُ؛ فالحاضر يُعلِم الغائب، وهذه الرؤية يُحْتَمَل أن تكونَ بصَرِيَّة، والأشبه أنَّها عِلْمِيَّةٌ. ومعنى "فليُغَيِّرهُ": يُزيلُهُ ويُبَدِّلهُ بغَيْرِهِ. ثالثها: ظاهِرُ الحديث وجوب الإنكار مطلقًا، ومحلّه إذا لم يخف تزايده بإنكاره ولا خاف مفسدة؛ فإن خافها فلا يجب، ولا يشترط إذن الإمام فيه إلَّا أن يخاف من تركه مفسدة، ومن لا تكليف عليه لا وجوب عليه، وكذا العاجز. ¬
رابعها: قدَّم اليد؛ لأنها أبلغ، ثم اللسان بأن يصيح أو يأمر من يزيل، ثم القلب؛ بالأعمال بالنيات، ويجب على العبد كراهة ما كرهه الله من المعاصي، وشبيه هذا الترتيب قوله - صلى الله عليه وسلم - لعمران بن حصين: "صَلِّ قَائِمًا؛ فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِن لَمْ تَسْتَطِع فَعَلى جَنْب؛ فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَمُسْتَلْقٍ، لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَها" (¬1). ودفع الصائل بخلاف هذا؛ فإنه انتقال من الأدنى إلى الأعلى بخلاف ما نحن فيه، والمعتبر في ذلك تحصيل المصلحة وأمن المفسدة. خاتمة: المؤمن العدل: هو الآمر بالمعروف، الناهي عن المنكر، ومن لا فيهما فالمنافق؛ لأن الله -عزَّ وجلَّ- وصفه بذلك، ثم إن كان مع ذلك ترك ذلك مع عدم الحاجة إليه؛ فهو معذور، وإن كان معها فإن كان لِعُذْر سَقَط لذلك عنه أو قام غيره مقامه، فلا حَرَجَ عليه فيه، وإلَّا فهو آثمٌ فاسِقٌ، أو آمر بالمعروف غير ناهٍ عن المنكر؛ ففي تركه النهي عن المنكر التفصيل المذكور، وإن كان عكسه فكذلك. * * * ¬
الحديث الخامس والثلاثون
الحَدِيثُ الخَامِسُ والثلاثُون عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، ولا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بيعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا، المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، ولا يَخْذُلُهُ، ولا يَكْذِبُهُ، ولا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَا هُنَا" -وَيُشِيرُ إلى صَدْرِهِ، ثَلاثَ مَرَّاتٍ- "بحسبِ امرئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ المُسلِمَ، كُلُّ المُسْلِمِ على المُسْلِمِ حَرَام: دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ". رواه مُسْلِمٌ (¬1). * * * هذا حديثٌ عظيمُ الفوائدِ كثيرُ العوائدِ: أحدها: "الحسد": تمني زوال النعمة، وهو حرام قبيح بالإجماع، وقد قال -عليه الصلاة والسلام-: "إِيَّاكُم والحَسَدَ؛ فإنَّ الحَسَدَ يَأْكُلُ الحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الحَطَبَ -أو قال: الخَشَبَ-" (¬2). وهو لُغةً: تَمَنِّي زوال نعمة المحسود وعودها إليك، يقال: حسده يحسده ¬
حسودًا، وبعضهم يقول: يحسِد -بكسر السين- والمصدر: حسدًا -بالتحريك- وحسادة، وحسدتك على الشَّيء، وحسدوك عليه؛ فأمَّا "الغِبطَةُ" فهي: تمَنَي حالَ المغبوطِ مِن غير أن يُريدَ زَوَالَها عنهُ، تقول منه: غَبَطَهُ بما نالَ غَبطًا وغِبطَةً. وقد يوضع الحسد موضعها لتقارُبِهِمَا، كما قال -عليه الصلاة والسلام-: "لا حَسَدَ إلا في اثنتين ... " (¬1). أي: لا غِبطَةَ أعظمَ ولا أحقَّ مِن الغبطةِ بهاتين الخَصلَتَيْن. فمعنى "لا تَحَاسَدُوا" -والأصل: "لا تتحاسدوا" فحذفت إحدى التاءين تخفيفًا-: لا يحسد بعضكم بعضًا، ووجه قبح الحسد أنه اعتراض على الخالق ومعاندة له. ولبعضهم: أَلَا قُلْ لِمَن بَاتَ لي حاسِدًا ... أتدرِي على مَن أسأتَ الأدب يعني: على الله -سبحانه وتعالى- حيثُ كَرِهتَ فَضْلَهُ، وعانَدتَ فِعلَهُ. وقال أبو الطَيِّب -رحمه الله تعالى-: وأَظلمُ أَهْلِ الأرضِ مَن كَانَ حَاسِدًا ... لِمَن بَاتَ في نَعمَائِهِ يَتَقَلَّبُ ووجه ظلمه: أنه يجب عليه أن يحب لمحسوده ما يحب لنفسه، وهو لا يحب لنفسه زوال النعمة؛ فقط أسقط حق محسوده عليه؛ ولأن في الحسد تعب النفس وحزنها بغير فائدة وبطريق محرمة؛ فهو تصرف رديء: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 54] وفي الحكمة: إن الحسود لا يسود. دعَ الحسودَ وما يلقاهُ من كَمَدِه .... كَفَاكَ مِنهُ لَهِيبُ النَّار في كَبدِهْ ¬
إن لُمتَ ذَا حَسَدٍ نَفَّسْتَ كُرْبَتَهُ .... وإِنْ سَكَتَّ فَقد عَذَّبتَهُ بيَده الثانية: "النَّجَش" في اللغة: الختل؛ أي: الخداع، ومنه قيل للصائد: ناجش؛ لأنه يختل الصيد ويَحتالُ له؛ فمعنى "لا تناجشوا": لا ينجش بعضكم على بعض، وهو: أنْ يَزيدَ في الثمَنِ لا لِرَغْبَةٍ؛ بل لِيُغْر غَيْرهُ، وهو حرام لأنه غش وخديعة؛ فمن غشنا فليس مِنَّا، ولأنه تَرَكَ النَّصحَ الواجِبَ، وتركُ الواجِبِ حرام، وقد يكون بمواطأة وبدونها. وقد اختُلِفَ في صِحةِ البيع المنجوش فيه؛ فقيل: يبطل بناءً على أن النَّهيَ يقتَضِي الفساد، وهو أحد الأقوال في الأصول، وثالثها في العبادات دون المعاملات، رابعها: إن رجع إلى معنى في المَنْهي عنه فتعم وإلَّا فلا، والتحقيق: إن رجع لذات المنهي عنه أو لوصف لازم له اقتضى الفساد، أو لأمر خارج أو لوصف غير لازم فلا، ومذهب الشافعي -رحمه الله- أن البيعَ صَحِيح؛ لأنَّ النَّهيَ فيه ليس راجعًا إلى العقد ولا ما يلزمه من ركن أو شرط، والأصح عند أصحابه لا خيار له لتقصيره (¬1). الثالثة: معنى "لا تَبَاغَضُوا": لا تتعاطوا أسباب البغضاء؛ لأنَّ الحُبَّ والبغض معانٍ قلبِيَّةٌ لا قدرَةَ للإنسان على اكتسابها، ولا يملك التصرف فيها، كما قال -عليه الصلاة والسلام-: "اللَّهمَّ هذا قَسْمِي فِيمَا أملِكُ؛ فَلَا تَلمني فِيمَا تَملِكُ وَلا أَملِكُ" (¬2) يعني: القلب؛ أي: في حبِّهِ وبُغْضِهِ، والبغض للشيء: هو ¬
النفْرةُ منه لمعنى مستقبح فيه، والظَّاهِرُ أنه مُرادِف للكراهة أوْ يقارِبُها، وقد يكون من طَرفَيْن، ومن واحد، ولله ولغيره، ولا شكَّ في حُرمةِ البُغض والتَّباغُض؛ للنَّهْي عنهُ، إلَّا في الله، فإنه واجبٌ ومِن كَمالِ الإيمان، قال الله تعالى: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1]، وقال -عليه أفضل الصلاة والسلام-: "مَنْ أَحَبَّ للهِ، وَأَبْغَضَ للهِ، وَمَنع للهِ، وَأَعطَى للهِ، فَقَدِ استَكْمَلَ الإِيمانَ" (¬1). الرابعة: معنى "لا تَدَابَرُوا": لا يُدبِرُ بعضكُم عن بعض، أي: تعرِضُ عنه بما يَجِبُ له مِن حقوق الإسلام من الإعانةِ والنُّصرةِ ونحوِهِمَا، و"التَّدَابر": المُعَادَاةُ، وقيل: المُقَاطَعَةُ، لأنَّ كُل واحِدٍ يُوَلي صَاحِبهُ دُبُرَهُ، ولا مُلازَمَةَ بَيْنَهُ وبين التَّباغُضِ، لأنَّ الشَخص قد يبغِضُ صاحِبَهُ عادَةً، وقد يُعرِضُ عنهُ -وهو يُحِبُّهُ- خَشْيَةَ تُهْمَةٍ أو تأديبًا له ونحو ذلك، وفي نحو هذا قيل: لا تكتمِ الحبَّ إلَّا خشيةَ التُّهمِ و"تدابروا" أصله: "تتدابروا" بتاءين، حُذِفَتْ إحداهما تخفيفًا، وهل هي تاء المضارعة أو تاء الكلمة؟ فيه خلاف، وكذلك الخلاف فيما قبلها، وهي "تحاسدوا" و "تناجشوا" و "تباغضوا". الخامسة: عِلَّةُ النَّهي عن بيع البعض على بيع البعض: تغيير القلوب والنفرة، وربما أدى تعاطي مفسدة صاحبه، وذلك حرام، وفي صحة البيع ¬
خلف سبق وسلف، مأخذه كما سلف من: إن كان النَّهيُ لمعنى خارج عن المنهي؛ هل يقتضي الفساد أم لا؟ أما الذِّمي فبيع المسلم عليه محتمل جوازه لنقص حرمته، والذمي لا يؤالف، ويحتمل حرمته للإيذاء، وهو أيضًا في ذِمَّتِنا وعكسه؛ فلا يجوز له ولا يبعد أن يُؤَدَّب عليه لافتياتهِ واستخفافهِ. ومثال ذلك: أن يأمر البائع بالفسخ ليبيعه مثله، وفي معناه: الشراء على الشراء، وضرره على المشتري، والأول على البائع، والسوم على السوم، والخِطبة على الخِطبة كلُّ ذلك مَنْهِيّ عنه، وكذا كل ما في معناه مما ينفر القلوب ويورث التباغض، إلَّا أنْ يرضَى مَن لهُ الحَقُّ فيجوزُ؛ لأنهُ حقه فله تركه ولزوال علة التنافر. السادسة: قوله: "وكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا" هو شبيهٌ بالتَّعليل لِمَا سَلَفَ، كأنَّهُ قال: إذا تركتم ذلك كنتم إخوانا وإذا لَمْ تَكُونُوا كذلك كنتم أعداءً؛ فَتَعَامَلُوا وتعاشَرُوا معاملةَ الإخوةِ، ومعاشرتهم في المودَّةِ والرِّفقِ والشَّفَقَةِ والملاطفة والتعاون على الخير مع صفاءِ القلوب، والنصيحة على كل حال. و"الإخوان" و "الإخوة" من غير نَسَبٍ كالأخُوَّة من النسب، ومعنى "وكونوا عباد الله إخوانًا": اكتسبوا ما تصيرون به إخوانًا، كما سبق ذكره وغيره من فِعلِ المُؤَلِّفَات وتركِ المُنفِّرَات. وقوله: "عباد الله" أي: يا عباد الله، حقكم أن تطيعوه بأن تكونوا إخوانًا، ووجه طاعة الله في كونِهم إخوانًا: التعاضد على إقامَةِ دِينهِ وإِظهارِ شِعَارهِ؛ إذ بدون ائتلاف القلوب لا يتم ذلك، أَلَا ترى قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 62].
السابعة: قوله: "المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِم" قد سلف مَعنَاهُ، والأُخُوَّةُ تارةً تكون نَسَبِيَّةً بأن تَجْمَعَ الشخص ولادة من صلْب أو رَحِم أو منهما، وتارة تكون دينيَّةً؛ بأن يجمعهما دين واحد ورأي واحد، وفي التنزيل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] والأخُوَّة الدِّينية أعظم من النسبية، بدليل أن الأَخَوَيْن من النَّسَب إذا افتَرقا في الدِّين لم يَتَوَارَثا، والأَجْنَبِيَّان إذا توَافَقَا في الدِّين تَوَارَثا؛ إما بإسلام أحدهما على يد الآخر، كما كان أولًا ثُمَّ نُسِخ، أو بعموم الدين عند فقد القرابة، أو لغير ذلك. الثامنة: معنى "لا يظلمه": لا يدخل عليه ضررًا بغير إذنٍ شَرعِي؛ لأن ذلك حرام يُنَافي الأُخُوَّةَ، بل الظُّلم حَرَام للكافر (¬1) [فالمسلم أولى] (¬2). ¬
الحديث السادس والثلاثون
الحديث السادس والثلاثون عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمنٍ كربَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنيا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كربَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلى مُعسِرٍ، يَسَّرَ الله عَلَيْهِ في الدُّنيَا والآخِرَةِ، وَمَنْ ستَرَ مُسْلِمًا؛ ستَرةُ اللهُ في الدُّنيا والآخِرَةِ، واللهُ في عَوْنِ العَبْدِ مَا كَانَ العبدُ في عَوْنِ أَخِيهِ، وَمَنْ سَلَكَ طَريقًا يَلْتَمِسُ فيهِ عِلْمًا سَهلَ اللهُ لَهُ بهِ طَريقًا إلى الجَنةِ، وَمَا اجتَمَعَ قَوْمٌ في بَيْتٍ مِنْ بُيوتِ اللهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهم؛ إلا نَزَلَتْ عليهم السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهمُ الرَّخمَةُ، وَحَفَتْهمُ المَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدهُ، وَمَنْ بَطَّأَ بهِ عَمَلُهُ لَم] (¬1) يُسْرع بهِ نَسَبُهُ". رواه مسلم بهذا اللفظ (¬2). * * * هذا حديثٌ عَظِيمٌ، جامِعٌ لأنواعٍ مِن العُلوم والقواعدِ والآداب، وراويهِ سَلَفَ التَّعريف به. ولنختصر الكلام عليه في مواضع: ¬
أولها: معنى "نفَّس": فرج وأزال، وهو من تنفس الخناق، كأنه رخَّى الخِنَاق حتى تأخذ لها نَفَسًا. و"الكُربة": ما أهمَّ النَّفس وغَمَّ القلب، كأنها مُشْتقَّة مِن كرب الشيء للمقاربة، لأن الكرب يقارب أن يُزهِقَ النَّفسَ، ففيه فضيلةُ تنفيس الكُرَبِ عن المؤمنين، وفضل قضاء حوائجهم ونفعهم بما تيسر من علم أو مال أو معاونة أو مُشَاورة بمصلحة أو نصيحة أو غير ذلك، وفضل السِّتْر على المسلم وهو من باب إعانته وتفريج الكرب عليه وستر زلَّاته، ويدخل في كشف الكربة وتفريجها: من أزالها بمال، أو جاه، أو مساعدة أو إشارة أو رأي أو دلالة -كما ذكرناه- وأن ذلك يجازى عليه بجنسه في تيسير كرب الآخرة. والعادة أنَّ الجزاء مِن جِنس العمل ثوابًا وعقابًا، كالتَّنْفيس بالتَّنْفيس، واليُسر باليُسْر، والعون بالعون، كما ذكر في هذا الحديث، ونظائره كثيرة في أحكام الدنيا والآخرة، وكان مقتضى ذلك قطع ذكر الزاني وفرج الزانية؛ لتكون العقوبة في محل الجناية كما في السرقة، لكن لما كانا آلة التناسل الحافظة، فَرُوعِيَ بقاؤهما. وإنما كان التنفيس مطلوبًا شرعًا مثابًا عليه، لأن الخلق عيال الله فتنفيس كربهم إحسانٌ إليهم، والعادة أن السيِّدَ والمَلِكَ يُحِبُّ الإحسان إلى عياله وحاشيته والمُحسِن إليهم، وفي الأثر: "الخَلْقُ عِيَالُ الله، فأحبهم إلى الله أَرفَقُهم بعياله" (¬1). ثانيها: فيه فضيلة التَّيْسِير على المعسِر والجزاء عليه في الآخرة، كما مَرَّ في تنفيس الكربة. ¬
ثالثها: فيه فضل ستر عورة المسلم، والمكافأة عليها بجنسها لِمَا مَرَّ، ولأنَّ الله تعالى حييٌّ كريم سِتِّيرٌ، وستر العورة من الحياء والكرم؛ ففيه التَخلّقُ بخلق الله - جل جلاله - والله يُحِبُّ التَّخلُّق بأخلاقهِ. والسِّترُ المندوبُ إليه هنا المرادُ به الستْر على ذوي الهيئات ونحوهم ممن ليس معروفًا بالفَسادِ والأَذَى؛ فإن خالفه لم يأثم إجماعًا وخالف الأولى، وربما ارتكب المكروه في بعض الصور، فأمَا المعروف بذلك فيستحب ألا يستر عليه؛ بل يرفع قصته إلى ولي الأمر إن لَمْ يَخَفْ مِن ذلك مفسدة؛ لأنَّ الستر على مثل هذا مطمعة في الإيذاء أو الفساد وانتهاكِ المُحَرَّمات، أو جَسَارَةِ غَيْرِهِ على مثل فعله هذا، ثم هذا في معصِيةٍ وَقَعَت، أمَّا مُسْتَدَام عليها يجبُ الإنكار عليه ولا يحل التأخير؛ فإن عجز لَزمَهُ رفعها إلى ولي الأمر إذا لم يترتب على ذلك مفسدة، وأما جَرحُ الرُّواة، والشُّهود، والأُمناء على الصَّدقات والأوقاف والأيتام ونحوهم فَيَجِبُ جَرحُهم عند الحاجة، ولا يحِلّ الستر عليهم إذا رأى منهم ما يقدح في أهليتهم، وليس هذا مِن الغِيبَةِ المُحرَمةِ؛ بل مِن النَّصِيحةِ الواجِبَةِ، وهو إجماعٌ. فإن قلتَ: لِمَ غايَرَ فقال في الأوَّل: "عن مؤمن" وقال في الستر: "مَنْ سَتَرَ مسْلِمًا"؟ وأُجِيبَ بأنه يحتمل أن يكون من باب تغاير الألفاظ دفعًا للتَّكرار، أو بأن الكربَةَ لمَا كانت معنى باطنًا -على ما سلف في تفسيرها- ناسَبَ الإيمان الذي هو باطن وهو التصديق، كما سلف في حديث جبريل، والسِّتر لمَا كان يتعَلّقُ بالأمور الظَّاهِرَةِ غالبًا ناسبَ وصف الإيمان الذي هو عمل الظاهر (¬1). ¬
فإن قلتَ: لِمَ قال: "نَفَسَ الله عنهُ كُربَةً مِنْ كُرَبِ يوم القِيامَةِ"، ولم يذكر كرب الدنيا، وقال: "سَتَرهُ اللهُ في الدُّنيا والاخرةِ"؟ وأُجِيبَ بأنه يحتمل أن هذا اتفاق، لأنَّ الترغيب حاصل، فَكِلَا الأمرين -أعني: التَنْفِيس والسِّتر- في الدَّارَيْن أو في أحدهما، ويحتمل أن الدنيا لمَّا كانت محل العورات والمعاصي، احتُيجَ إلى السِّتر فيها، وأمَّا الكُرَبُ فهي وإن كانت الدنيا محلًا لها، لكن لا نسبة لكربتها إلى كرب الآخرة حتى تُذْكَر معها. رابعها: فيه فضيلةُ عونِ الأخ على أموره والمكافآت عليها بجنسها من الإعانة الإلهية، وقوله: "ما كان العَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ" أي: مدة كونه في عونه، ولا فرقَ بين كونهِ في عونهِ بقَلبِهِ أو بيدِهِ أو بهِمَا، لأنَّ الكُل عون، ثم ظاهِرُ الحديث: اختصاصُ الثَّوابِ المذكور بالمُسلم والمؤمن والأخ، والأشبه أن يثاب عليه في المؤمن والكافر، لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "إنَّ الله كتَبَ الإحسَانَ على كُلِّ شَيْءٍ"، وقوله: "في كُلِّ كَبْدٍ حَرَّى أَجْرٌ" (¬1). ويحمل الحديث المذكور على أن المؤمن أولى بالتنفيس من الكافر؛ لشرف الإيمان، والأجر عليه أعظم، ثم يليه الذِّمِّي، ثم المستأمن، ثم الحربي على حسب قوة تعلقهم بالإسلام وضعفه. خامسها: فيه فضلُ السَّعي به، والمراد: العلم الشَّرعي، وإنما ينفعُه إذا قَصدَ به وجه الله، والعلمُ الشَّرعيُّ كتفسيرٍ، وحديثٍ، وفقهٍ، وأُصُولٍ ونحو ذلك، لا الخارج عنه كالفلسفي والطبيعي والرياضي. نعم، إن قصدَ بعلمِها معرفتَها والردَّ عليهم ودفع شُبههم، فإنهُ مِن إعدادِ القوَّةِ، وإنما خَصصنَاهُ بالشَّرعي؛ لقوله: "سَهلَ اللهُ لَهُ طَريقًا إلى الجَنَّةِ". ¬
وفيه أنَّ سلوك طريق العلم يجازى عليه بتسهيل طريق الثَّواب إلى الجنة؛ فالمراد أن طلَبَهُ وتحصيلَه يُرشِدُ إلى سبيل الهدايةِ والطَّاعة المُوصِلَةِ إلى الجنة، وذلك بتسهيل الله له، وإلَّا فبدونِ لُطفِهِ وتوفِيقهِ لا ينتفع بشيء؛ علم ولا غيره، أو أنه يُجَازى على طلبه وتحصيله بتسهيل دخول الجنة بقطع العقبات الشَّاقة دونها يوم القيامة، بأن سهَّل عليه الوقوف في المَحشَرِ والجَوَازِ على الصراط ونحو ذلك. سادسها: "الطريق" فعيل من الطرقِ؛ لأنَّ الأرجل ونحوها تَطْرُقُهُ وتَطْلُبُهُ وتَسْعَى فيه. و"السَّكِينَةُ": فَعِيلةٌ من السُّكون، وهي الطمأنينة والوقار، واختار القاضي عياض -رحمه الله- أنها هنا الرَّحمة (¬1)، وفيه ضعف؛ لعطف الرحمةِ عليه، وهي تَقْتَضِي المُغَايرة؛ وذلك أنَّ أهلَ الذِّكْر لمَّا تغشاهم الرَّحمةُ، وتَنْزلُ عليهم السَّكِينةُ لا ينزعجون بمحتقر دنيا يشغلهم به. ومعنى "غَشِيَتْهم": خالطتهم وعمتهم، و"غشى" في لغة العرب لا يستعمل إلَّا في شيء شمل المغشي من جميع أجزائه وجوانبه، والمعنى في هذا أن غشيان الرحمة بهم بحيث استوعبت كل ذنب تقدَّمه -إن شاء الله-. و"حفتهم": أحاطت بهم وضايقتهم: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} [الزمر: 75] فكأَنَّ الملائكة قربت منهم قربًا، لم تترك بينهم وبينهم درجة تسع شيطانًا. و"بَطَّأ": أخَّر. ¬
و"القوم" قد سلف الخِلافُ فيه قريبًا، فإن قلنا: هم الذكور والإناث فلا إشكال، وإن قلنا: الرِّجال خاصة أُلحِقَ النساءُ بهم في ذلك قياسًا، و"قوم" هنا نَكِرة، وهي شائعة في جنسها، فكأَنَهُ يقول: أي قوم قعدوا يذكرون الله؛ كان لهم ذلك، مذنبين كانوا أو مطيعين. سابعها: فيه دلالة على فضيلة الاجتماع على تلاوة القرآن في المسجد، وهو مذهبنا ومذهب الجمهور، وقال مالك -رحمه الله-: "يُكرَه". وتأوَّلهُ بعض أصحابه (¬1). ويلحق بالمسجد في هذه الفضيلة الاجتماع في مدرسة ورياط ونحوهما، ويدل عليه الحديث الآخر، فإنه مطلق يتناول جميع المواضع، ويكون التقييد في الأول خرج على الغالب؛ لا سيما في ذلك الزمان، ولا يكون له مفهوم يعمل به، وخُصَّت به لشرفها، لكن الأرض كلها مسجد غير أن العبادة في الموضع المعد لها أفضل. وفيه أن الاجتماع في بيوت الله لمذاكرة الكتاب ومدارسته يجازى عليه بأسباب: أحدهما: نُزُول السَّكِينة عليهم -وهي الطمأنينة كما سلفَ، وبذكر الله تطمئن القلوب، والمراد بها: تطمين الإيمان حتى يُفضِي إلى الرضوان في جوار الرحمن. ثانيها: غشيان الرَّحمة لهم، لأنَّ ذكرَ الله إحسان، والرحمة إحسان، و {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إلا الْإِحْسَانُ (60)} [الرحمن: 60]. ¬
ثالثها: حفُّ الملائكة بهم؛ للاستماع تعظيمًا للمذكور، وإكرامًا للذَّاكر. رابعها: ذَكَرَهم الله فيمن عنده من الملائكة؛ لقوله: هو {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152]، {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45]. وقوله: "مَنْ ذَكَرَني في نَفْسِهِ ذَكَرتُهُ في نَفْسِي، وَمَنْ ذَكرَني في مَلأٍ ذَكرتُهُ في ملأٍ خَيْرٍ مِنه ... " (¬1). خامسها: فيه أن الإسراع إلى العبادة إنما هي بالأعمال لا بالأحساب؛ لقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] وفي الحديث: "ائتوني بأَعمَالِكُم، لا تَأْتُوني بأَنْسَابِكُم" (¬2)، وقوله: "كلُّكُم مِنْ آدَمَ، وآدمُ مِنْ تُرَاب" (¬3)؛ ولأن الله خلق الخلق لطاعته، وهي المؤثرة لا غيرها: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)} [المؤمنون: 101] والناس على أقسام أربعة: عالم ونسيبٌ، لا فيهما، عالم لا نسيب عكسه (¬4)، والمؤَثِّر في ذلك كلِّهِ العلم المقرونُ بالعَمَل لا النَّسب؛ فمعنى قوله: "ومَن بطَّأَ بهِ عَمَلهُ لَمْ يُسْرع بهِ نَسَبُهُ" معناه: من كان عمله ناقصًا لم يُلحِقهُ نَسبُه مرتبةَ أصحابِ الأعمال؛ فينبغي ألا يَتَّكِل على شَرَفِ نَسَبهِ وفضيلة الآباء ويقصر في العمل. ¬
خاتمة -تنعطف على ما مضى-: التَّنفِيسُ عادَةً؛ إنَّما ينصرف إلى الجزءِ اليسير من حَلٍّ وعَقدٍ، فكان ثوابه وقت الحاجة إليه وهو يوم القيامة، والتَّنفيسُ عن الموسر أبلغ؛ فلهذا عم ثوابه دنيا وأُخرَى، والسِّتر أعم من رؤيته على شيء، أو يرى احتياجه إلى شيء كالنكاح مثلًا فيعينه، أو إلى الكسب قيقيم له وجه بضاعة يتجر فيها (¬1). والإجمال في قوله: "واللهُ في عَوْنِ العَبْدِ ... " إلى آخره، لاتسع بيانه الطُّروس؛ فإنه مُطلَقٌ في أيِّ حالٍ كان. وجاء في رواية: "ما جَلَسَ قَوْم يَذْكُرُونَ الله" (¬2) والمراد به هنا ما ينصرف إلى الحمد والثناء عليه. وقوله: "وذَكَرَهُم الله فِيمَنْ عِنْدَهُ" مقتضاه أن يكون ذكره لهم في الأنبياء وكرام الملائكة بأن يذكرهم جل جلاله، ويجوز أن يكون: أثبتهم فيمن عنده، كما يقول الإنسان لأخيه: اذكرني في كتابك. و"الله": الله. ¬
الحديث السابع والثلاثون
الحديث السابع والثلاثون عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى- قال: "إِنَّ الله تعالى كَتَبَ الحَسَنَاتِ وَالسيئَاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ همَ بِحَسَنَةٍ فَلَم يَعمَلْها كَتَبَها اللهُ عِنْدهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَإِنْ هم بها فَعَمِلَها كَتَبَها اللهُ عِندَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إلى سَبْعِمائةِ ضِعْف إلى أَضعافٍ كَثِيرَةٍ، وَإِنْ هَم بسَيئَةٍ فَلَم يَعمَلْها كتَبَها اللهُ عِندهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَإِنْ هَم بها فَعَمِلَها كتَبَها اللهُ سَيئَةً واحِدَة". رواهُ البُخَاريُّ ومُسلم في "صحيحيهما" (¬1). * * * هذا الحديثُ شريف عَظِيم، بيَّنَ فيه الشَّارع مِقْدَارَ تفضُّل الله بأَنْ جَعَلَ همَ العبدِ بالحسنةِ وإن لم يعملها حسنة، وجعل همَّه بالسيئةِ إن لم يعملها حسنة، وإن عملها سيئة واحدة، وإن عمل الحسنة كتبها عشرًا. وأوله يقتضي أنه من الأحاديث الإلهية نحو: "أنا عِندَ ظَن عَبْدِي بي" (¬2) وليس المراد ذلك؛ إنما المراد فيما يحكيه عن فضل ربه، أو حكم ربه، أو نحو ذلك، وهذا فضل عظيم مِن رَبٍّ كريم يُضَاعِفُ الحسنات دون السيئات، وكتب لهم الهمَّ بالحسنةِ؛ لأنَّ إرادة الخير فعل دون السَّيئة، فإن الترك خير ¬
"إِنَّمَا تَركها مِنْ جَرَّائي" أي: من أجلي، وهذا كقوله -عليه الصلاة والسلام-: "فَإن لَمْ يَفْعَلْ فَلْيُمسِكْ عَن الشَّرِّ فَإِنَّهُ صَدَقَة" (¬1)، أمَّا مَنْ تَرَكها عَجْزًا فلا تُكْتَبُ له حسنة، وهذا من عظيم لُطْفِهِ، وما ألطف قوله: "عنده" وهو إشارة إلى الاعتناء بها، ثم أكَّدَها بـ "كاملة" لذلك، ولم يقل مثله في السَّيئة، وأكد تركها بـ "كاملة" وأكد فعلها بـ "واحدة" تقليلًا، ولم يؤكدها بـ"كاملة" وهو دالٌّ على أنَّ الحفظةَ تَكْتُبُ ما همَّ به العبدُ مِن حسنةٍ أو سيِّئة، وتعلم اعتقاده لذلك لا كما زعم بعضهم أنها إنما تَكْتُب ما ظَهر من أعمال العبد وسُمِعَ. وقد روى ابن وهب، عن معاوية بن صالح، عن كثير بن الحارث، عن القاسم مولى معاوية، عن عائشة قالت: "لأن أذكر الله في قلبي أحب إليَّ مِن أن أَذكره بلساني سبعين مرَّة، وذلك لأنَّ مَلَكًا لا يكتبها، وسرًّا لا يَسمعها" (¬2) والصَّوابُ في ذلك: ما صَحَّ مِن الحديث عنه - عليه الصلاة والسلام- إنَّ الهمَّ بالحَسَنَةِ يُكْتَب، وهي فعل العبد بقلبه دون سائر الجوارح كالذِّكر. والمعنى الذي يصل به الملكان الموكلان بالعبد إلى علم ما يهم به بقلبه هو المعنى الذي يصل به إلى ذكر ربه بقلبه، ويجوز أن يكون جعل الله لها إلى علم ذلك سبيلًا، كما جعل لكثير لمن أنبيائه السبيل إلى كثير من علم الغيب، وقد أخبر الله تعالى عن عيسى -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} [آل عمران: 49]، وقد أخبر نبينا -صلوات الله وسلامه عليه- أيضًا بكثير من علم الغيب؛ فغير مستنكر ذلك في حق المَلَكَيْن، وقد قيل: إن ذلك بِريح يظهر لهما مِن القلب! ¬
وللسَّلف اختلافٌ في أيِّ الذِّكْرَيْن أفضل: ذِكرُ القلب أو ذِكْرُ العَلَانِية؟ وقال صاحب "الإفصاح": "معنى"كتب": مبالغ تضعيفها، فعرفت الكَتبُةُ مِن ذلك التَّقدير؛ فلا يحتاجون إلى أن يستفسروا في كُلِّ وقتٍ كيف يَكْتُبون ذلك، ومن رحمتهِ بهذه الأُمَّةِ لمَّا قصَّر أعمارها ضاعف أعمالها؛ فمن همَّ بحسنة كُتِبَ ذلك الهمُّ بحسنة؛ فإن عَمِلَها فقد ظهرت إلى ديوان العمل فضاعفها عشرًا. ثم قوله: "إلى سبعمائة ضعف" إِنَّمَا يعني: على مِقْدَار ما يكون فيها من خُلُوصِ النِّيةِ، وإيقاعها في مواضعها التي يريد صاحبها حسنًا، قال تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]، وقال تعالى: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261] أي: بعد السبعمائة ضعف؛ بدليل قوله تعالى: {أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة: 245]. والمعنى في ذِكر السبعمائة أن العربَ تَنْتَهِي في التكَثير مِن عددِ الآحاد إلى سبعةٍ، وكذلك إذا أتوْا بالثمانية عَطَفُوا عليها بالواو، ويعنون أنه قد انتهى عدد القلَّةِ وخَرَجَ إلى عددِ الكثرة في قوله تعالى: {وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 112]، وقال تعالى: {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22]، وقال تعالى: {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73]، فإذا ضربت السبعة في عشرة كانت سبعين، ثم السبعون في عشرة: سبعمائة. ثم قال بعد ذلك: {أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة: 245]، و {كَثِيرَةً} هنا نكرة، وهي أشمل من المعرفة، فمقتضاه أن يحسب توجيه الكثيرة على أكثر ما يمكن؛ فإذا تصدق العبد بحبة بُرٍّ، فإنه يحسب أن الحسنة لو بذرها في أزكى أرض، وتعاهدها إلى أن استَحصَدها، ثم سنة، ثم أخرى إلى يوم القيامة،
فيجتمع من الحَبَّةِ أمثال الجبال، وإن كانت مثقال ذرة من جنس الأثمان، فإنه ينظر إلى أربح شيء يُشْتَرى في ذلك الوقت، ويقدر أنه لو بيع في أَنْفَقِ سوق في أعظم بلَدٍ يكون ذلك الشيء أشد الأشياء نفاقًا، ثم يُضاعف إلى يوم الجزاء، فتأتي الذَّرَّة بما يكون مقدارها على قدر عظم الدنيا كلها. وعلى هذا جميع أعمال البِر في معاملة الله إذا خرجت سهامها عن نية وأغرقت في نزع (¬1) قوس الإخلاص كانت تلك السهام ممتدة لا تنتهي عن يوم القيامة. ومن ذلك أن فضلَ الله تعالى يتضاعف بالتَّحويل، كما إذا تصَدَّق على فقير بدرهم فآثر غيره به من هو أشد فقرًا؛ فيؤجر آخر، ثم آخر، ثم هكذا فيما تطاول؛ فإنه يحسب للمتصدِّق عن كُلِّ دِرهم عشرة؛ فإذا تحوَّل إلى الثاني انتقل ذلك إلى الثاني، فصار له عشرة وللأول عشرته التي انتقلت عشرة إلَّا أنها عشرة معشَّرة؛ لأن له أجر من عمل به، فكل واحد بعشرة، فصارت مائة؛ فإذا تصدق بها الثاني صارت للثاني مائة وللأول ألف؛ فإذا تصدق بها الثالث صارت له مائة وللثاني ألف وللأول عشرة آلاف، فتضاعف إلى ما لا يعلم مقداره إلَّا الله؛ وذلك لأن المتصدّق الأول بالدرهم أجره وأجر من عمل به سواء، فكلما تحول من شخص إلى شخص ضوعف ذلك للمتصدق الأول من حيث إنَّ له مثل أجره وأجر من عمل به المنتقل إليه. ومن ذلك أيضًا أنه إذا حاسب الربُّ عبدَه يوم القيامة، فكانت حسناته متفاوتات؛ فيهن الرفيعة المقدار التي وعد الشارع ألف ألف حسنة أو ألفي ألف حسنة، فإنه تعالى بفضله وجوده يحسب سائر الحسنات بسعر تلك الحسنة العليا؛ لأن كرمه وجوده أعظم من أن يناقش من رضي عنه في ذلك، وقد قال: ¬
{وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] كما أنه "إذا قالَ العَبْدُ في سُوقٍ مِن أَسْوَاقِ المسلمينَ: لا إله إلَّا اللهُ وَحدهُ لا شَريكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحمدُ، وَهْوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ، رَافِعًا بها صَوْتَهُ؛ كَتَبَ اللهُ لَهُ بذلِكَ أَلْفَ أَلْفِ (¬1) حَسَنةٍ، وَمَحَا عَنْهُ أَلْفَ ألفِ سَيِّئةٍ، وَبَنَى لَهُ بيتًا في الجَنَّةِ" (¬2) على ما جاء في الحديث. وهذا الذي ذكرناه إنما هو بمِقْدَارِ المعرِفَةِ، لا على مقدار فَضْل الله -سبحانه وتعالى- فإنه فوق أن يحده أحد أو يحصره خلق" (¬3). * تتمات: معنى "كتب": قدَّر، كما مضى، أو أَمَرَ الحفظةَ بكِتَابتها، أو كَتَبَها في عِلْمِهِ على وَفْقِ الواقع فيها، وهو راجعٌ إلى قدَّر. وقوله: "ثم بيَّن ذلك" أي: فصَّلَ الشَّارعُ ما أجملَ أولًا بقوله: "إن [الله] (¬4) كتب الحسنات والسيئات". والحاصل أن لفظ الحديث طابق معناه من التَّضْعِيف والتكميل والاعتناء، وإفراد السيئة: {فَلَا يُجْزَى إلا مِثْلَهَا} [الأنعام: 160] وهذا أعظم ما يكون في الإحسان، وأخف ما يكون في المسامحة. ¬
وقد جاء في "الصحيح": "ولا يَهلِكُ على اللهِ إلَّا هالك" (¬1) أي: لا يُعاقَب مع هذه المُسامحة إلَّا مُفَرِّط غايةَ التَّفريط، والله أعلم. * * * ¬
الحديث الثامن والثلاثون
الحديث الثامن والثلاثون عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله تعالى قال: "مَنْ عَادَى لي وَليًّا؛ فَقَد آذَنْتُهُ بِالحَربِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِليَّ عندِي بِشَيء أَحَبَّ إليَّ مِمَّا افتَرَضْتُ عليهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إليَّ بالنَّوَافِلِ حَتَّى أحِبَّهُ؛ فَإِذَا أَحبَبْتُهُ كنْتُ سَمعَهُ الذي يَسْمَعُ بهِ، وَبَصَرَهُ الذي يبصِرُ بهِ، وَيَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بِها، وَرِجْلَهُ التي يَمشِي بِها، وَلَئِنْ سَأَلَني لأُعطِيَنَّهُ، وَلَئِن استَعَاذَني لأُعِيذَنَّه". رواه البخاري (¬1). * * * هذا الحديثُ من الأحاديث الإلهيَّة؛ لأنهُ مِن كلام الله، غير أنه ليس له حكم القرآن؛ لعدم تواترهِ، وهو أصل في السُّلوك إلى الجليل جل جلاله والوصول إلى معرفته ومحبته وطريقه؛ إذ المفتَرَضات: إما باطن -وهو الإيمان-، أو ظاهر -وهو الإسلام-، أو مركب بينهما -وهو الإحسان-، كما مَرَّ في حديث جبريل. والإحسان هو المُتَضَمِّنُ لمقامات السَّالكين مِن الزُّهد والتَّوكل والإخلاص والمراقبةِ والتوبةِ ونحوها وهي كثيرة، وهو يرجع إلى قوله تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)} [يونس: 62]، وقوله تعالى: ¬
{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} [الأنفال: 17] إذ هو شَبِيه بقوله: "ويَدَهُ التي يَبْطِشُ بها"، وفي روايةٍ: "فَبِي يَسْمَعُ، وبي يبصِرُ، وبي يَمشِي" (¬1). ومعنى: "آذنتُهُ": أَعلَمتُهُ أنه محارِبٌ لي، ومنه: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279]. و"ولي الله": من تولَّاهُ بالطَّاعةِ والتَّقْوَى واتبعَ شرعَهُ؛ فتولَّاهُ بالحِفْظِ والنُّصرةِ مِن الوَلْي، وهو القرب. و"العدو" ضده. و "الأنثى" عدُوَّة، نادر (¬2). وقد اطردت العادة بأن عدو العدو صديق، وصديق الصديق صديق، وعدو العدو عدو، وصديق العدو عدو، فكذلك عدو ولي الله عدو الله؛ فلا جرم يحاربه الله، ومحاربة العبد ربه تحصل بأكل الربا، وبمعاداته أولياءَه، وبِقَطع الطريق خصوصًا لا بعموم معاصيه، والصُّور التي ذكرناها وردت في الكتاب والسنة. و"التقرب إلى الله تعالى" إما بفرضهِ أو نَفْلِهِ، والأول أحبها إلى الله وأشدها تقريبًا؛ لجزم الأمر بها، وهي مُتَضَمِّنةٌ الثَّوابَ على الفعل، والعقاب على التَّرك بخلاف النوافل، فهي أكمل فكانت اليد أحب. ورُوِيَ: "أنَّ ثَوَابَ الفرضِ يَزيدُ عليهِ سَبْعِينَ دَرَجَةً". فالفرض كالرأس، والنفل كالفرع، وسبب ذلك أن الفرض فيه العمل بالإيمان بوجوبه، وهو من باب الإيمان بالغيب وهو عظيم، ففيه الاهتمام بأمر ¬
الفرائض؛ فلا تقدم نافلة على فريضة، وإذا لم يُصَل الفرض لا يُسَمِّي نافلة؛ فالتَّقرب بالنوافل إثر الفرائض، كما أشار إليه بقوله: "ولا يَزَالُ عبدي يتَقَرَّبُ إليَّ بالنَّوَافِل حتَّى أحِبَّه" فليحافظ على ذلك؛ فإن الله يحبه. وقوله: "ولا يزال عبدي ... " إلى آخره، هو معلوم من الشاهد؛ فإن الإنسان إذا داوم خدمة السلطان ومهاداته أحبَّه وقَرَّبَهُ. واختلف الناس في وجه قوله: "كنتُ سمعَهُ ... " إلى آخره، والمعتمد منه أنه مجاز أو كناية عن نصرته وتأييده وإعانته؛ فهو مما حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه؛ أي: كنت حافظ سمعه؛ فلا يسمع إلا ما يحل ... إلى آخره، أو كنت سمعه؛ أي: مسموعه؛ لأن المصدر قد جاء بمعنى المفعول، قالوا: أنت رجائي. بمعنى: مرجوي، والمعنى أنه لا يسمع إلَّا ذكري، ولا يلتذ إلَّا بتلاوة كتابي، ولا يأنس إلَّا بمناجاتي. وقد جاء: "أن موسى - عليه السلام - كان إذا انصرفَ مِن مناجاته؛ يسمع كلام الخلق كأصوات الحمير". وكيف تَرى ليْلى بعين تَرى بها ... سِواها وما طَهَّرَتها بالمدامع وتَلْتذُّ منها بالحديث وقد جرى .. حديثُ سِواها في خُرُوت (¬1) المسامع ومعنى "يَدَهُ التي يَبْطِشُ بها": لا يمدها إلَّا لِمَا مَا فيه رضاي ومحبتي، ولا يمشي برجله إلَّا كذلك. يا ليلى والله ما جئتُكم زائرًا ... إلَّا رأيتُ الأرضَ تُطْوى لي ¬
ولا انْثَنَى عَزْمي عن بابِكم ... إلَّا تَعَثَرتُ بأذيالي والاتحادية زعموا أن هذا الكلام على حقيقته، وأن الله هو عين عبده، أو حال فيه، تعالى الله عن ذلك (¬1). ومعنى "لأعطينه": ما سأل، وكذا "لأعُيذَنَّه" أي: مِمَّا يخاف؛ لأن التقدير أنه تقرَّب إلى الله فأَحَبَّهُ الله، وهذه حالةُ الحبيب مع المحبوب؛ يعطيه ما سأل، ولا يرد دعاءه، ويُعِيذُه مما استعاذ؛ بل وإن لم يسأل ويستعيذ، لكن الرب جل جلاله يحب لعبده سؤاله بخلاف بني آدم. الربُ يَغْضَبُ إن تركتَ سؤالَه ... وبُنَي آدم حين يُسألُ يَغْضبُ والذي يظهر أنه علامة، وأنه لمن يكون الله أحبه أن يكون بالصفة المذكورة؛ فلا يسمع ما لم يأذن له الشَّرع في سماعه، ولا يبصر ولا يمد يدًا ولا يسعى بِرِجْل إلَّا كذلك؛ فهذا هو الأصل، إلَّا أنه قد يغلب على العبد الذِّكْر حتى يُعرَفُ بذلك؛ فإذا خُوطِبَ بغيره لم يَكَن يَسْمَع لمن يخاطبه حتى يتقرَّب إليه بذكر الله، غير أهل ذكر الله توصلًا إلى أن تسمع لهم، وذلك في المبصرات والمتناولات والسعي إليها، وتلك طبقة عالية، نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجعلنا من أهلها. ¬
وقوله: "حتى أُحِبَّه" هو بضم الهمزة وفتح الباء. و"يَبْطِشُ" بفتح أوله وكسر الطاء. و"استعاذني" ضبط بالنون وبالباء الموحَّدة، وكلاهما صحيح (¬1). وقوله: "مِمَّا افتَرَضتُ عليه" أي: من أدائه، كما صرَّح به في روايةٍ. وفيه: أن الرب جل جلاله قدَّم الإعذار إلى كُلِّ مَن عادى وليّا له؛ فإنه بنفس المعاداة للولي إيذانٌ مِن الله بأنه محارِبهُ؛ فإن أخذه على غِرَّةٍ (¬2)، فإن ذلك بعد الإعذار بتقدم الإنذار. ومعنى "عادى لي وليا": اتخذه عدوًا، ولا أرى المعنى إلَّا: أنه عاداه من أجل ولايته لله، فهذا وإن تضمن مع توجيه (¬3) القول: "من عادى لي وليًّا" من أجل ولايته، فإنه يشير من الحذر من إيذاء قلوب أولياء الله لا على الإطلاق؛ لأنه إذا كانت الأحوال تقتضي نزاعًا بين وليين لله في محاكمة أو خصومة راجعة إلى استخراج حق أو كشف غامض، فإن هذا لا يتناول هذا القول؛ لأنه قد جرى بين الصدِّيق والفاروق خصومه، وبين العبَّاس وعلي، وكثير من الصحابة ما جرى وكلهم كانوا أولياء الله، فكأنَّ هذا يَتَنَاول مَن عادى وليًّا لله مِن أجل كونهِ وَليًّا لله، مع كونه يشير إلى التَّحذير من إيذاءِ وليِّ الله (¬4). وفيه: أنَّ العبدَ إذا صارَ مِن أهل حُبِّ الله لم يَمتَنِع أن يسأل ربه حوائجه، ولا أن يستعيذه مما يخافه، كما أوضحناه. * * * ¬
الحديث التاسع والثلاثون
الحديث التاسع والثلاثون عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الله تَجَاوَزَ لي عَنْ أُمتي الخَطَأَ، والنِّسْيَانَ، وَمَا استُكْرِهُوا عَلَيْهِ". حَدِيثٌ حَسَنٌ، رواهُ ابنُ ماجَهْ والبَيهقِيُّ وغيرهُما (¬1). الكلام عليه من وجوه: أحدها: هذا الحديث روي بألفاظ أوضحتها في "تخريجي لأحاديث الرافعي" (¬2). وفي رواية: "عُفِيَ لأمّتي عَن الخَطأ ... " (¬3) إلى آخره، وهي احسن انتظامًا، ووجه انتظام الأولى أن "تجاوز" متضمن معنى "ترك" تقديره: إن الله ترك عن ¬
أمتي الخطأ، وتقديره: إن الله تجاوز لي من أمتي الخطأ، وأحسنها مركبة من عجز هذا الحديث، وصدر قوله: "إنَّ الله تَجَاوَزَ عَنْ أُمتي عَمَّا وَسْوَسَتْ بهِ صُدُورُها" (¬1) الحديث. ثم هذا الحديث عامُّ النَّفع، عظيم الوقع، يرجع إلى قوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5]، وهو يَصِحُّ أنْ يُسَمَّى نصف الشريعة؛ لأن فعل الإنسان إِمَّا أن يصدر عن قصد واختيار، وهو العبد مع الذكر، أو لا، وهو الخطأ والنسيان والإكراه، وهذا القسم معفوّ عنه، والأول مأخوذ به، والعفو عن هذه الأفعال هو مقتضى الحكمة والنظر، مع أن الله -سبحانه وتعالى- لو أخذ بها لكان عادلًا. ووجه ذلك أن فائدة التَّكليف وغايته تَمْييز الطَّائع مِن العاصي: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42]. لكن الطاعة والمعصية يستدعِيان قصدًا ونيةً، ويستند إليهما الثواب والعقاب، والمخطئ والناسي لا قصد لهما، وكذا المكره؛ لأنه آلةٌ، ولهذا ذهب غالب الأصوليين إلى أن هؤلاء الثلاثة غير مكلفين. ووجه عموم هذا الحديث أن الفعل خطأً ونسيانًا وإكراهًا، يقع في الطهارة والصلاة والصوم والحج والطلاق وغيرها من أبواب العلم في صورٍ كثيرةٍ ومسائل عديدة، وفيها خلاف عندنا. والأشبه: عدم الوقوع، وهو مَبْنِيٌّ على أن التَّجاوز عن حكم الخطأ والنسيان أو عن إثمه أو عنهما جميعًا، والكل محتمل. ¬
فائدة: "الخطأ" نقيضُ الصواب وهو يُمَدُّ، وقرئ بهما قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} [النساء: 92] تقول منه: أخطأت وتخطَّأت، ولا يقول: أخطيت، قال الجوهري: "وبعضهم يقوله" (¬1). و"الخِطءُ": الذَّنب في قوله تعالى: {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} [الإسراء: 31] أي: إثمًا، تقول منه: خَطئ يخْطِئ خِطْأً وخِطْأة، قال أبو عبيدة (¬2): "خطئ" و"أخطأ" لغتان بمعنى. وقال الأموي: "المخطئ": من أراد الصواب فصار إلى غيره، و"الخاطئ" من فعل ما لا ينبغي" (¬3). وفي الحديث: "لَا يَحتَكِرُ إلا خَاطئ" (¬4). و"النِّسيَان" خلاف الذِّكر والحفظ، ويطلق على التَّرك، ومنه: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67]، وقوله تعالى: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237]، والتأخير نحو قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} [البقرة: 106] أي: نؤخرها. وقد اختلف في "الخطأ" و"النسيان" المذكورين في قوله تعالى: {إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] فقيل: "النسيان" بمعنى "الترك" أي: إن تركنا شيئًا من طاعتك؛ فلا تؤاخذنا، وقيل: الذهول والخطأ غير المقصود؛ عملًا ¬
بهذا الحديث، وقال ابن زيد -رحمه الله-: "المعنى: {إِنْ نَسِينَا} المأمور {أَوْ أَخْطَأْنَا} في النَّهي" (¬1). وقال عطاء -رحمه الله-: "جهلنا أو تعمدنا" (¬2). ويقال: أَكْرَهْتُهُ على كذا: إذا حَمَلْتُهُ عليه كُرهًا، وكَرَّهْتُ الشَّيءَ أكرهه كراهة وكراهية فهي شيء كريه ومكروه، و "الكُره" بالضم: المشقة، ويقال: قمت على كُره؛ أي: على مشقَّة، وأقامني فلان على [كَره] (¬3) -بالفتح- إذا أُكْرِهَ عليه، وكان الكسائي يقول: "الكَرهُ والكُرهُ لغتان". قاله الجوهري (¬4). ¬
الحديث الأربعون
الحديث الأربعون عن ابنِ عُمَر - رضي الله عنهما - قال: "أَخَذَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمَنْكِبَيَّ فَقَالَ: "كُنْ في الدُّنْيَا كَأنَّكَ غَريب أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ". وكانَ ابنُ عُمَرَ يَقُولُ: "إِذَا أَمسَيتَ فَلَا تَنْتَظِر الصَّبَاحَ، وَإِذَا أصبحتَ فَلَا تَنْتَظِر المَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمنْ حَيَاتِكَ لِموتكَ". رواهُ البُخَاري (¬1). * * * هذا الحديثُ شريفٌ جامِعٌ لمعاني الخير، ومعناه: لا تركَنْ إلى الدنيا، ولا تتَّخِذْها وطنًا، ولا تُحَدِّث نفسك بطولِ البقاءِ فيها، ولا بالاعتناء بها، ولا تتعلق فيها بما لا يتعلق به الغريب في غير وطنهِ، ولا تشتغل فيها بما لا يشتغل به الغريب الذي يريد الذهاب إلى أهله (¬2). وحاصِلُهُ: الحضُّ على قِلَّةِ المحافَظةِ عليها، وقِلَّةِ الاقتناءِ، والزُّهدِ في الدُّنيا. وبيانه: أن الغريب قليلُ الانبساطِ إلى الناس؛ بل هو مُسْتَوْحش منهم، إذْ ¬
لا يكادُ يمُرُّ بمن يعرده فيأنس به ويستكثر بخلطته، فهو ذليل في نفسه خائف، وكذلك عابر السبيل -أي: المار على الطريق- لا يَنْفذُ (¬1) في سفره إلَّا بقوتهِ عليه وخفته من الأثقال، غير متشبِّثٍ بما يمنعه من قطع سفره، معه زاد وراحلة يبلغانه إلى بغيته من قصده، وهذا دالٌّ على إيثار الزُّهد في الدُّنيا، وأخذ البلْغَةِ منها والكفاف؛ فكما لا يحتاج المسافر إلى أكثر مما يبلغه إلى غاية سفره، كذلك لا يحتاج المؤمن في الدنيا إلى أكثر مما يبلغه إلى المحل. وقول ابن عمر - رضي الله عنهما -: "إذا أمسيتَ .. " إلى آخره، حضٌّ منه على أن يجعل الموت نُصب عينيه؛ فيستعد بالعمل الصالح، وحضٌّ منه على تقصير الأمل، وترك الميل إلى غرور الدنيا، والمبادرة إلى العمل. وقوله: "وَخُذْ مِن صِحَّتكَ لِمَرَضِكَ"حضٌّ على اغتنام صِحَّتِهِ؛ فيجتهد فيها لنفسه خوفًا من حُلولِ مرضٍ به يَمنعه عن العمل. وكذلك قوله: "وَمنْ حَيَاتِكَ لِمَوتكَ" تنبيه على اغتنام أيام حياته، لا تَمُرُّ عنه باطلًا في سهو وغفلة؛ لأنَّ مَن مات قد انقطع عمله وفاته أَمَله (¬2)، فلا ينفعه ندمه فيقدم وطنه بغير زاد، وقد ذم الله الأمل وطوله: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 3]. ¬
فصل وفي الحديث ما يدلُّ على الحضِّ على التَّشبه بالغريب؛ لأن الغريب إذا دخل بلدة لم يناقش أهلها في مجالسهم، ولم يجزع أن يروه على خلاف عادته في الملبوس، ولا يكون مدثرًا معهم، وكذلك عابر السبيل لا يتخذ دارًا، ولا يلج في الخصومات مع الناس، ولا يشاححهم، ناظرًا إلى لُبثهِ معهم أيامًا يسيرة، فكل أحوال الغريب وعابر السبيل في الدنيا مستحبة أن تكون للمؤمن؛ لأن الدنيا ليست وطنًا؛ لأنها تحبسه عن داره، وهي الحائلة بينه وبين قراره. فصل فالحديث أصلٌ في الفراغ عن هذه الدَّار، والزهد فيها، والرغبة عنها، والاحتقار لها، والقناعة فيها بالبُلْغة خوف فوات المقصود. وما أحسن قول المصنف -رحمه الله- في آخر الكتاب: "معناه: لا تركن إليها، ولا تتخذها وطنًا، ولا تُحَدِّث نفسك بطول البقاء فيها، ولا بالاعتناء بها، ولا تتعلق منها بما لا يتعلق به الغريب في غير وطنه، ولا تشتغل فيها بما لا يشتغل به الغريب الذي يريد (¬1) الذهاب إلى أهله" (¬2)؛ فالعبدُ خُلِقَ للعبادةِ، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56] فإن وُفِّقَ لها كان مِن أهل الجِنان، وإن خُذِلَ-والعياذ بالله- كان من أهل الشيطان، قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)} [الكهف: 7]، وقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] ففي الحقيقة العبد مُرسَل، أرسله سيده إلى بلد غريب؛ فشأنه البدار إلى ما أرسله والحذار؛ ليعود إلى الوطن الحقيقي. ¬
فصل وقول ابن عمر هو مُقْتَضَبٌ مِن معنى الحديث، لأنَّ الغريب لا يدري متى يتوجَّهُ إلى وطنهِ مساءً أو صباحًا، فيجتَهِدَ في الطَّاعةِ ولزوم الجماعة. فائدة: "المَنْكِب" -بفتح الميم وكسر الكاف-: مجتمع العضد والكتف، و"مَنْكِبيَّ" بالتثنية. فصل في الحديث مَسُّ المعلِّم بعض أعضاء المتَعَلِّم عند التعلُّم، أو الموعوظ عند الوعظ، ومثله قول ابن مسعود - رضي الله عنه -: "علَّمَني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التشهد، كفِّي بينَ كفَّيْه" (¬1)؛ وذلك للتأنيس والتنبيه والتذكير. وفيه دليل على محبته لابن عمر وابن مسعود إذ (¬2) العادة أن لا يفعل ذلك إلَّا لمن يميل إليه قلبه. وفيه الابتداءُ بالنَّصيحةِ والإرشادِ لِمَنْ لم يطلب ذلك. وفيه حرصه (¬3) -عليه الصلاة والسلام- على إيصالِ الخير لأُمَّتهِ؛ فإن هذا الكلام لا يخص ابن عمر وحده (¬4). ¬
الحديث الحادي والأربعون
الحديث الحادي والأربعون عن أبي محمد عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُم حَتَّى يكونَ هواهُ تَبَعًا لِمَا جِئتُ به". حديثٌ صحيح، رُوِّيناه في كتاب "الحجة" بإسنادٍ صحيح (¬1). الكلام عليه من وجوه: أحدها: التعريف براويه: وهو أبو محمد كما جزم به المُصَنِّف -رحمه الله-. وقيل: أبو عبد الرحمن. أسلم قبل أَبيهِ، وكان مِن عُلماء الصحابة والعُبَّاد، وهو أحد العبادِلة، حَفِظَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألف مثل. روى عنه: سِبطُهُ شعيب بن محمد، وعروة، وطاووس، وأُممٌ. ¬
مات بالطائف -وقيل: بمصر- سنة خمس وستين (¬1). ثانيها: "كتاب الحُجَّة" هذا كتاب جيد نافع، سماه مؤلفه: "الحجة في اتِّباع المَحَجَّة في عقيدة أهل السنة" ومؤلفه هو العلامة: أبو القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل الحافظ (¬2)، ذَكَرَهُ في أوائلِهِ، في "فصل: ذكر الأهواء المذمومة". وإسنادُهُ كما قال المُصَنِّف: "إسنادٌ صحيحٌ"؛ فإنه أخرجه عن: محمود بن إسماعيل الصيرفي، أبنا محمد بن عبد الله بن شاذان، أبنا عبد الله بن محمد بن محمد التمار، أبنا أبو بكر بن أبي عاصم، ثنا محمد بن مسلم بن وارة (¬3)، ثنا نعيم بن حماد، ثنا عبد الوهاب الثقفي، ثنا بعض مشيختنا -هشام أو غيره- عن محمد بن سيرين، عن عقبة بن أوس، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُؤْمنُ أَحَدُكم حتى يَكُونَ هوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئتُ بهِ" (¬4). وأخبرنا شيخنا العوفي -مشافهة- عن ابن رواج، عن السلفي الحافظ، أبنا ¬
أبو القاسم ميمون بن عمر بن محمد الفقيه الثاني بباب الأبواب، أبنا أبو حفص عمر بن الحسن الأزجي، أبنا أبو حامد أحمد بن أبي طاهر الإسفراييني، أبنا إبراهيم بن محمد بن عبدك الشعراني، أبنا الحسن بن سفيان النسوي، أبنا أبو بكر بن محمد بن الحسين الأعين، أبنا نعيم به. وقال هشيم بن حسان: جَازِمًا به. وعبد الوهاب هذا من رجال "الصَّحِيحين" كان اختلط؛ بل خَبَره فلم يجد فيه شيئًا بعد أن وقع فيه. قال أبو داود: "تغيَّرَ هو وجرير بن حازم؛ فحجب الناس عنهما" (¬1). ثالثها: هذا الحديث موافق لقوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65]. قيل: إن سبب نزولها: قصة شِرَاج الحَرَّة، وقد شرحناها مستوفاة في "شرح صحيح البخاري"، و"شرح العمدة" فليراجع (¬2)؛ فإنه -عليه الصلاة والسلام- أشار على الأنصاري بما فيه مصلحة، فلمَّا أغضَبَهُ استوفى للزبير بن العوام حقه (¬3). وفيه إرشاد الحاكم إلى الإصلاح بين الخُصُوم، وإن اصطلحوا وإلَّا استَوْفى لِذِي الحَقِّ حقَّهُ. والصبْرُ على الأذى من باب جهاد النَّفس وقَمعِها، وهذه أخلاق الأنبياء ¬
والصديقين: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]، و"الصَّبرُ مِن الإيمانِ بمَنْزِلةِ الرَّأس مِن الجَسَدِ" كما قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - (¬1)، ولا شك فيه. رُوِّينا عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - مرفوعًا: "الصبرُ ثلاثة: فصبر على المُصيبةِ، وصَبر على الطَّاعةِ، وصبر عن المَعصِيةِ؛ فَمَنْ صَبَرَ على المُصِيبة حتى يَرُدَّها بحُسْن عزائها؛ كلتَبَ الله له ثلاثمائة درجةٍ، ما بين الدَّرجةِ إلى الدَّرَجةِ ما بين السَّماءِ إلى الأرض، ومَن صبرَ على الطَّاعةِ؛ كتَبَ الله له ستمائة درجةٍ، مَا بينَ الدَّرجةِ إلى الدَّرجةِ ما بين تُخوم الأرضِ السابعة إلى مُنْتَهى العرش، ومَنْ صَبَرَ عن المعصِيَةِ، كتبَ الله له سبعمائة درجة، ما بينَ الدَّرجةِ إلى الدرجةِ ما بينَ تُخُوم الأرض السابعة إلى منتهى العرش" (¬2). وتسمية الرب جل جلاله بـ"الصبور" و "خير الصابرين" هو بمعنى: يعلم تأخير العقوبة على من يستحق. رابعها: معنى قوله: "حتى يكونَ هواه تبعًا لِمَا جئتُ به" أي: من هذه الشريعة المطهرة الكاملة؛ فلا يؤمن حتى يميل طبعه وقلبه إلى ذلك، كما يكون ذلك في محبوباته الدنيوية التي جُبِلَت النُّفوس على الميل إليها، لا بمجاهدةٍ وتصَبُّر، واحتمال مشَقَّة، أو بعض كراهة ما؛ بل بهواها كما يهوى المحبوبات المشتهيات، فإن من أحب شيئًا تَبِعَهُ هوَاهُ ومالَ عن غيره إليهِ ووالاه، ولذلك ¬
لم يقل: "حتى يأتمر بما أمر به"، أو "حتى يجيء بما جئت به"، أو نحو ذلك؛ فإن المأمور بالشيء الملتزم به قد يفعله اضطرارًا لا اختيارًا، ولهذا لم يقتصر في الآية السالفة على: {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] بل قال: {ثُمَّ لَا يَجِدُوا} ثم أكد بالمصدر في قوله: {تَسْلِيمًا} فلا يتوقف أصلًا (¬1). وهذا وجيزٌ مُخْتَصر جامِع لأَفرادِ الشَّريعةِ؛ وذلك أنَّه -عليه أفضل الصلاة والسلام- إِنَّما جاء بشرائع الدِّين الكاملة، من الإيمان والإسلام والإحسان والنُّصح العام والخاص والاستقامة؛ فإذا كان هواه تبعًا لِمَا جاءَ به الشَّارعُ مِن الدين -أُصوله وفُرُوعهِ- فهو المؤمن حقًّا، والكافِر مُعرِضٌ عن ذلك إلى هواه، فهو الخاسِرُ حقًّا؛ فمن غلب عقله هواه فاز، ومن غلب هواه عقله؛ فالبهائم خير منه. وعظٌ: إنَّ الهوَانَ هُوَ الهوَى قُصِرَ اسْمُهُ ... فَإِذَا هويْتَ فقد لَقِيتَ هوانا ويقال: إن هشام بن عبد الملك لم يقل في عمره إلَّا هذا البيت: إذَا أَنْتَ لَمْ تعصِ الهوَى قادَكَ الهوَى ... إلى بعضِ مَا فيهِ عَليكَ مَقَالُ فإذا خالف ميله فهو الرجل الشجاع؛ فإن العطب في الملام للنفس، والمنافرة هو المنجى من المهالك (¬2)، وفقنا الله إلى ذلك. ¬
فائدة: "الهوى" مقصور: هوى النفس؛ يعني: ما تحبه وتميل إليه، ويُجْمَعُ على "أَهْوَاء". و"الهواء" ما بين السماء والأرض وكل متجوِّف ممدود، والجمع: "الأهوية" وقوله تعالى: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [إبراهيم: 43] قيل: جوف لا عقول فيها، وقيل: متجوِّفة لا تَعِي شيئًا، نسأل الله العافية.
الحديث الثاني والأربعون
الحديث الثاني والأربعون عنْ أنس - رضي الله عنه - قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "قالَ اللهُ تَعَالى: يَا ابنَ آدَمَ، إِنَّكَ مَا دَعَوْتَني وَرَجَوْتَنِي، غَفَرتُ لَكَ عَلى مَا كَانَ مِنْكَ وَلا أُبَالِي. يا ابنَ آدَمَ، لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرتَني، غَفَرتُ لَكَ. يا ابنَ آدَمَ، لَوْ أَتَيتني بِقُرَابِ الأرضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَني لا تُشْرِكُ بي شَيْئًا؛ لأتَيتكَ بقُرَابِها مَغْفِرَةً". رواه الترمذي وقال: "حسن صحيح" (¬1). الكلام عليه وجوه: أحدها: في التعريف براويه، وقد سَلَفَ. وأخرجه أبو عوانة في "مسنده الصحيح" من حديث أبي ذر - رضي الله عنه - (¬2). ¬
ثانيها: في ألفاظه وفيه مواضع: أحدها: "آدم" قيل: أعجمي لا اشتقاق له. وقيل: هو عربي مُشْتَقٌّ مِن أَدِيم الأرض؛ لأنه خُلِقَ منه، أو من الأدمة -وهي حمرة تميل إلى السواد- وهو لا يَنْصَرِفُ؛ للعلَمِيَّة ووزن الفعل؛ إذ وزنه "أفعل" مثل أحمر، والأصل "أأدم" بهمزتين أُبدلت الثانية -وهي فاء الفعل- ألفًا، ولا يجوز أن يكون وزنه فاعلًا؛ إذ لو كان كذلك لانصرف مثل "عالم" و"خاتم"، والتعريف وحده غير مانع، وليس بأعجمي لا كما قال الأول. وجمعُهُ: أَو آدم، مثل: أحمر وأحامر، وقيل: وزنه "فاعل" وجمعه: آدمون وأوادم، ويلزم قائل هذه المقالة صرفه كما سلف. وقال الطبري: ""آدم" فعل رباعي سمي به" (¬1). وفي الحديث: "خُلِقَ آدم مِن أَدِيم الأرض كُلِّها؛ فَخَرَجَت ذُرِّيته على نحوِ ذَلِكَ، فيهم الأبيضُ والأسودُ والأحمَرُ، والسَّهلُ والحَزَنُ، والطَّيِّبُ والخَبِيثُ" (¬2). ثانيها: "ما دعوتني" أي: مدة دوام دعائك؛ فهي مصدرية ظرفية، نحو قوله تعالى: {مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} [فاطر: 37]. ¬
وغَلِطَ بعضُ الشُّرَّاح مِن الفُقهاء؛ فقال: هي شرطية. ثالثها: "الرجاء" -ضد اليأس-: وهو تأميل الخير واعتقاد قرب وقوعه، وهو ممدود، والمقصور " الرجا" بمعنى: الناحية، ومنه قوله تعالى: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} [الحاقة: 17] وكذا: رجا البئر. رابعها: "غَفَرْتُ لَكَ" أي: سترتُ، كما سلف في شرح الخُطبَةِ، والفعل: غَفرَ يَغْفِرُ، وفيه لغة: غَفِرَ يَغفَر، والمصدر: الغفر والغفران والمغفرة -اللهم اغفر لنا-. فائدة: "العفو" مثله، تقول: عفوتُ عن الرَّجُل، إذا تَرَكْتَ ذَنبَهُ ولم تُعَاقِبهُ. وأشار ابن عطية -رحمه الله- إلى فَرقٍ لَطِيف بينَهُما؛ فقال في قوله تعالى: {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا} [البقرة: 286]: " {وَاعْفُ عَنَّا}، فِيمَا وَاقعنَاهُ وانكَشَف، {وَاغْفِرْ لَنَا}، أي: استُر ما عَلمتَ مِنَّا، {وَارْحَمْنَا} تَفَضَّل مبتدئًا برحمةٍ مِنكَ" (¬1). فائدة: للتوبةِ أركان ثلاثةٌ: الإقلاع عن المعصيةِ، والنَّدمُ على ما وَقَع منه، والعزمُ على ألا يعودَ؛ فإن تعلَّقت بآدميٍّ فبأَدَاءِ الحقِّ إليهِ، أو التَّحللَ مِنهُ؛ فإن كان فيها كفَّارةٌ تَوَقَّفت على فِعلِها. خامسها: قوله: "عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ" أي: على تَكرار معصيتك. وقوله: "ولا أُبَالي" أي: بذنوبك، وكأنه من "البال"، لأنه تعالى لا حُجَّةَ عليه فيما يَتَفَضَّلُ به، ولا مُعَقِّبَ لِحُكمِهِ، ولا مانع لعَطَائهِ، وهو أَهلُ التَّقْوى وأهلُ المَغفِرة. ¬
سادسها: "عَنَان" -بفتح العين المهملة- هو السحاب، الواحدة: عنانة وأعنان. و"أعنان السماء": صفائحها وما اعتَرضَ مِن أَقطَارها؛ كأنه جمع "عنن". وقيل: هو ما عَنَّ لك منها؛ أي: ظهر إذا رَفعتَ رَأسَكَ. والمعنى: لو قدَرت ذنوبك أشخاصًا؛ فملأت ما بين السماء والأرض، وهذا مثال في المتناهي؛ فكيف في غير المتناهي؟! فإن كرم الباري تعالى وفضله وإحسانه وجوده لا نهاية له. سابعُها: "قُرَاب" -بضم القاف أشهر من كسرها-، ومعناه: ما يقارب ملأها وقيلَ: مِلْؤُها، وهو أشبه؛ لأن الكلام في سياق المبالغة. ثامِنُها: الدعاء يتناول النفع والصلاح والرجاء. تاسعها: معنى "لَقِيتَني لا تُشْرِكُ بي شَيْئًا" أي: مُتَّ مُعتَقِدًا توحيدي، مُصَدِّقًا برُسلي؛ فلا راحة للمؤمن دون لقاء ربهِ، فالإيمان شرط في غفران الذنوب التي هي دون الشّرك؛ فإنه الأصلُ المَبْنيّ عليه قبول الطاعات وغفران المعاصي، أما مع الشِّرك فلا أصلَ يَبْتَنِي عليه ذلك: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} [الفرقان: 23] فالذَّنبُ إنْ كان شِركًا فغفره بالاستغفار منه وهو الإيمان، وإن كان غيره فبسؤال المغفرة. الوجه الثالث: في فوائده: فيه: الحثُّ على الدُّعاء، ومن خالف في ذلك فلا يعبَأُ بهِ، وقد قال تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، وقال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] أي: قريب بالإجابة والقدرة إذا لم يكن فيه اعتداء.
وفي "الصحيح": "أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا قال: اللَّهمَّ اغفر لي ذَنْبِي، فقال -تبارك وتعالى-: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، عَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ وَيَأْخُذُ بالذَّنب". قال في الثالثة -أو الرابعة-: "اعمَلْ مَا شِئْتَ فَقد غَفَرتُ لَكَ" (¬1). أي: ما دمتَ تُذنب وتتوب وتستغفر. ولا شكَّ أنَّ الدُّعاءَ مُخُّ العِبادَةِ، والرَّجاء يتضمَّن حسن الظن بالله، وهو يقول: "أَنا عِندَ ظَنِّ عَبْدِي بي"، وعند ذلك تتوجه الرحمة على العبد، وإذا توجهت فلا مُمسِكَ لها، ولا يتعاظمها شيء؛ لأنَّها وَسِعَت كُلَّ شيءٍ، فلو بَلَغَت ذنوبُ العبد الأرض والفضاء حتى ارتفعت إلى السماء ثم استغفرها غُفرت له؛ لأنه طَلَبَ الإقالةَ مِن كريم، فإن الاستغفار استقالة، والكريم محل إقالة العَثَرات وغفر الزلات، وقد طلب الاستغفار، ووعد بالإجابة، قال تعالى: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح: 10]، وقال -تبارك وتعالى-: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود: 52] الآية، وفي الحديث: "لولا أنَّكُم تُذْنِبونَ لَذَهبَ اللهُ بكُم وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ غَيْركُم، فَيُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ؛ فَيَغْفِرُ لَهم" (¬2). وفي التنزيل: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53]، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]. والإجماعُ قائِمٌ على ذلك، أعني: على أنَّ مَن ماتَ كَافِرًا يُخلَّد، وأن من مات عاصيًا لا يُخَلَّد؛ بل هو تحت المشيئة، وهذا إحسانٌ عامٌّ، وحلم وافِر، وفَضْل كَثِير وبُشْرَى، ونظِيرُهُ الحديث الصحيح: "واللهِ، للهُ أَفْرَحُ بتوبةِ أَحَدِكُم مِنْ أَحَدِكُم بضَالَّتِهِ لَوْ وَجَدها" (¬3). ¬
وفَرَحُ البارِي: رضاه من عبده (¬1). وحقيقةُ لفظِ الاستغفارِ: اللَّهمَّ اغفر لي، ويقوم مقامه: أستغفر الله؛ لأنه خَبَرٌ في معنى الطّلب. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أَمرنا، وتُبْ علينا؛ إنك أنت التوَّابُ الرَّحيم. آخر الكَلام على "الأربعين" على وجهِ الاختصار، الجامِعةِ لقواعدِ الإسلام ومباني الأحكام، وكان مُصَنِّفهُ وَعَدَ بشرح؛ فعاقَهُ القَدَرُ، وقِصَرُ العُمر، فلا حذَرَ منهُ ولا مَفَر، وله أجرُ أَمَلِهِ؛ فنِيَّةُ المؤمن خير مِن عملِهِ. والحمدُ لله ربِّ العالمينَ. قال شيخنا مؤلفه -فسح الله في مُدَّتهِ، ونفع الله الإسلام بعلومه وبركته-: وقد كنتُ فرغتُ مِن تسويدها يوم الجمعة سابع عشر رمضان المعَظَّم، من سنةِ تسع وخمسين وسبعمائة، واتَّفق تبييضه يوم الثلاثاء ثاني عشر جمادى الآخرة من سنة ثمان وثمانين وسبعمائة، وأجزتُ رِوَايَتَهُ لِمَنْ أدركَ حَيَاتي من المسلمين قاله (¬2) مؤلفه غفر الله له، وختم له بالحسنى بمَنِّهِ وكَرَمهِ؛ إنه على كل شيء قدير. ¬
وكاتبه: العبدُ الفقير المعترف بالتقصير: عبد الرحمن بن محمد بن عبد الجبار ابن أبي بكر بن حسين الشعبي، غفر الله تعالى له ولوالديه، ولمن دعا لهم بالمغفرة، ولمن كتب له، ولوالديه، ولجميع المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، آمين، والحمد لله أوَّلًا وآخرًا، وظاهرًا وباطنًا، كما يُحِبُّ ربنا ويرضى. وكان الفراغ من فراغه: بعد صلاة الظهر يوم الإثنين ثاني عشر شهر شوال الواقع في سنة (913) من الهجرة النبوية، على شارعها أفضل الصلاة والسلام، والحمد لله رب العالمين (¬1). ¬
فهرس المراجع
فهرس المراجع (¬1) 1 - " الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير"، تأليف الحافظ الحسين الجورقاني (ت: 543 هـ)، ت: د. عبد الرحمن الفريوائي، دار الصميعي- الرياض، ط 3، 1415 هـ. 2 - الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة" [الإيمان]، تأليف الإمام عبيد الله بن محمد بن بطة العكبري الحنبلي (ت: 387 هـ)، ت: رضا بن نعسان معطي، دار الراية- الرياض، ط 2، 1415 هـ. * كتاب القدر من"الإبانة"، ت: د. عثمان الأثيوبي، دار الراية- الرياض، ط 1، 1415 هـ. * كتاب الرد على الجهمية من "الإبانة"، ت: د. يوسف الوابل (1 - 2)، ووليد نصر (ج 3)، دار الراية، ط 1، 1418 هـ. 3 - "الإبهاج في شرح المنهاج"، تأليف علي بن عبد الكافي السبكي (ت: 756 هـ) وولده تاج الدين عبد الوهاب (ت: 771 هـ)، ت: د. أحمد الزمزمي، د. نور الدين صغيري، دار البحوث للدراسات الإسلامية- دبي، ط 1، 1424 هـ. 4 - "ابن عربي عقيدته وموقف علماء المسلمين منه"، تأليف دغش العجمي، مكتبة أهل الأثر- الكويت، ط 1، 1432 هـ. 5 - "إتحاف الخيرة المهرة بأسانيد العشرة"، تأليف العلامة أحمد بن أبي بكر البوصيري (ت: 840 هـ)، ت: دار المشكاة للبحث العلمي، دار الوطن الرياض، ط 1، 1420 هـ. 6 - "اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية"، تأليف الإمام محمد بن أبي بكر الدمشقي الحنبلي "ابن القيم" (ت: 751 هـ)، ت: د. عواد المعتق، مطابع الفرزدق-، الرياض، ط 1، 1408 هـ. 7 - "أجوبة الحافظ ابن حجر على أسئلة بعض تلاميذه"، تحقيق أ. د. عبد الرحيم بن محمد القشيري، أضواء السلف- الرياض، ط 1، 1424 هـ. 8 - "الآحاد والمثاني"، تأليف الإمام أبي بكر أحمد بن عمر الشيباني المعروف بابن أبي عاصم (ت: 287 هـ)، ت: د. باسم الجوابرة، دار الراية- الرياض، ط 1، 1411 هـ. 9 - "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام"، تأليف العلامة الفقيه تقي الدين ابن دقيق العيد (ت: 702 هـ)، ت: العلامة أحمد محمد شاكر، مكتبة السنة- القاهرة، ط 1، 1414 هـ. ¬
10 - "الإحكام في أصول الأحكام"، تأليف علي بن محمد الآمدي (ت: 631 هـ)، ت: الشيخ العلامة عبد الرزاق عفيفي، دار الصميعي- الرياض، ط 1، 1424 هـ. 11 - "الأحكام السلطانية والولايات الدينية"، تأليف علي بن محمد البغدادي الماورديّ (ت:450 هـ)، ت: خالد السبع العلمي، دار الكتاب العربي، ط 1، 1410 هـ. 12 - "إحياء علوم الدين"، تأليف أبي حامد الغزالي (ت: 505 هـ)، - وبذيله المغني عن حمل الأسفار للعراقي-، مكتبة المشهد الحسيني- القاهرة [لا توجد سنة نشر]. 13 - "أخبار أصبهان"، تأليف الإمام أبي نعيم الأصبهاني أحمد بن عبد الله (ت: 430 هـ)، دار الكتاب الإسلامي. 14 - "أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - وآدابه"، تأليف الحافظ أبي الشيخ الأصبهاني عبد الله بن محمد بن جعفر (ت: 369 هـ)، ت: د. صالح بن محمد الونيان، دار المسلم- الرياض، ط 1، 1418 هـ. 15 - "الآداب"، تأليف العلامة أحمد بن الحسين البيهقي (ت: 458 هـ)، ت: عبد القدوس بن محمد نذير، مكتبة الرياض الحديثة، ط 1، 1407 هـ. 16 - "الأدب"، تأليف الإمام أبي بكر بن أبي شيبة (ت: 235 هـ)، ت: د. محمد رضا القهوجي، دار البشائر الإسلامية- بيروت، ط 1، 1420 هـ. 17 - "أدب الكاتب"، تأليف الإمام عبد الله بن مسلم بن قتيجة (ت: 276 هـ)، ت: محمد الدالي، مؤسسة الرسالة- بيروت، ط 1، 1402 هـ. 18 - "الأدب المفرد"، تأليف الإمام محمد بن إسماعيل البخاري (ت: 256 هـ)، ت: الشيخ العلامة الإمام محمد بن ناصر الدين الألباني، دار الصّديق- السعودية، ط 2، 1421 هـ. 19 - "الأذكار"، تأليف يحيى بن شرف النووي (ت: 676 هـ)، ت: علي الشربجي، وقاسم النوري، مؤسسة الرسالة بيروت، ط 1، 1412 هـ. * طبعة أخرى: ت: خليل الميس، وعليها شرح مختصر لابن علان، دار الكتاب العربي- بيروت، ط 15، 1406 هـ. 20 - "الأربعون البلدانية"، تأليف الحافظ الرحلة أبي طاهر السلفي أحمد بن محمد الأصبهاني (ت: 576 هـ)، ت: مسعد السعدني، أضواء السلف- الرياض، ط 1، 1418 هـ. 21 - "الأربعون في الحث على الجهاد"، تأليف الحافظ أبي القاسم علي بن الحسن المعروف بابن عساكر (ت: 571 هـ)، ت: عبد الله بن يوسف، دار الخلفاء- الكويت، ط 1، 1404 هـ. 22 - "الأربعون"، تأليف الحافظ أبي العباس الحسن بن سفيان النسوي (ت: 303 هـ)، ت: محمد بن ناصر العجمي، دار البشائر- بيروت، ط 1، 1414 هـ. 23 - "الأربعون"، تأليف الفقيه يحيى بن شرف النووي (ت: 676 هـ)، ت: محمود الأرناؤوط، دار البشائر- سوريا، ط 1، 1418 هـ. *طبعة أخرى: ت: قصي الحلاق وأنور بن أبي بكر الشيخي، دار المنهاج جدة، ط 2، 1431 هـ (والإحالات على الطبعة الأولى إلا عند التعيين).
24 - "الأربعون"، تأليف الإمام الحافظ أبي الحسن محمد بن أسلم الطوسي (ت: 242 هـ)، ت: مشعل بن باني المطىيري دار ابن حزم- بيروت، ط 1، 1421 هـ. 25 - "الأربعون"، تأليف الإمام الحافظ القاسم بن الفضل الأصبهاني (ت: 489 هـ)، ت: مشعل بن باني المطيري، دار ابن حزم- بيروت، ط 1، 1421 هـ. 26 - "الأربعون الأبدال العوالي"، تأليف الحافظ أبي القاسم علي بن الحسن بن عساكر الدمشقي (ت:571 هـ)، ت: محمد بن ناصر العجمي، دار البشائر- بيروت، ط 1، 1425 هـ. 27 - "الأربعون البلدانية"، تأليف الحافظ الإمام أبي طاهر السلفي أحمد بن محمد الأصبهاني (ت: 576 هـ)، ت: مسعد بن عبد الحميد السعدني، أضواء السلف- الرياض، ط 1، 1418 هـ. 28 - "الأربعون البلدانية"، تأليف الحافظ أبي القاسم ابن عساكر (ت: 571 هـ)، ت: محمد مطيع الحافظ، مركز جمعة الماجد بدبي، ودار الفكر المعاصر بيروت، ط 1، 1413 هـ. 29 - "الأربعون حديثًا"، تأليف الإمام أبي بكر محمد بن الحسين الآجري (ت: 360 هـ)، ت: بدر البدر، مكتبة المعلا - الكويت، ط 1، 1408 هـ. 30 - "الأربعون الصغرى"، تأليف الحافظ أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي (ت؛ 458 هـ)، ت: أبي إسحاق الحويني، دار الكتاب العربي- بيروت، ط 1، 1408 هـ. 31 - "الأربعين في إرشاد السائرين إلى منازل المتقين، -الأربعون الطائية-، تأليف أبي الفتوح محمد بن علي الطائي (ت: 555 هـ)، ت: د. علي حسين البواب، مكتبة المعارف- الرياض، ط 1، 1417 هـ. 32 - "إرشاد الحبيب إلى مغالطات عبد الله نجيب" -حول التصوف والصوفية-، تأليف دغش العجمي، - طبعة خيرية- ط 1، 1428 هـ. 33 - "إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل"، تأليف الشيخ المحدِّث محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي- بيروت، ط 2، 1405 هـ. 34 - "أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -"، تأليف العلامة محمد بن يوسف الصالحي الدمشقي (ت: 942 هـ) - قطعة من كتابه "سبل الهدى"-، ت: محمد نظام الدين الفتيح، دار ابن كثير- دمشق، ط 4، 1421 هـ. 35 - "أسد الغابة في معرفة الصحابة"، تأليف عز الدين ابن الأثير علي بن محمد الجزري (ت: 630 هـ)، ت: محمد إبراهيم البنا، محمد عاشور، ومحمود عبد الوهاب فايد، دار الشعب- القاهرة، ط 1970 م. 36 - "الأسماء والصفات"، تأليف العلامة أحمد بن الحسين البيهقي (ت: 458 هـ)، ت: عبد الله الحاشدي، مكتبة السوادي بجدة، ط 1، 1413. 37 - "الأسماء المبهمة في الأنباء المحكمة"، للخطيب البغدادي (ت: 463 هـ)، ت: عز الدين علي السيد، مكتبة الخانجي، ط 3. 1417 هـ.
38 - "الأشباه والنظائر في قواعد الفقه"، تأليف العلامة سراج الدين عمر بن علي النصاري "ابن الملقن" (ت:804 هـ)، ت: مصطفى محمود الأزهري، دار ابن القيم وابن عفان- الرياض والقاهرة، ط 1، 1431 هـ. 39 - "الإصابة في تمييز الصحابة"، تأليف الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت: 852 هـ)، ومعه "الاستيعاب" لابن عبد البر، تصوير دار الكتاب العربي. 40 - "اصطناع المعروف"، تأليف الحافظ أبي بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا (ت: 281 هـ)، ت: محمد خير رمضان يوسف، دإر ابن حزم- بيروت، ط 1، 1422 هـ. 41 - "إصلاح المال"، تأليف الإمام أبي بكر بن أبي الدنيا (ت: 281 هـ)، ت: مصطفى مفلح القضاة، دار الوفاء- المنصورة، ط 1، 1410 هـ. 42 - "إصلاح المساجد من البدع والعوائد"، تأليف الشيخ محمد جمال الدين القاسمي، ت: الإمام محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي- بيروت، ط 5، 1403 هـ. 43 - "إصلاح المنطق"، تأليف العامة اللغوي يعقوب بن السكِّيت (ت: 244 هـ)، ت: العلامة أحمد شاكر، والعلامة عبد السلام هارون، دار المعارف- مصر، ط 1، 1368 هـ. 44 - "أصول الدين"، تأليف العلامة عبد القاهر بن طاهر البغدادي الإسفرائيني (ت: 429 هـ)، مدرسة الإلهيات بدار الفنون التركية- استانبول، ط 1، 1346 هـ- 1928 م. 45 - "أصول السنة"، تأليف الإمام محمد بن عبد الله بن عيسى الشهير بابن زمنين (ت: 399 هـ)، ت: عبد الله بن محمد البخاري، مكتبة الغرباء الأثرية- المدينة النبوية، ط 1، 1415 هـ. 46 - "الاعتقاد"، تأليف العلامة أحمد بن الحسين البيهقي (ت: 458 هـ)، ت: أحمد بن إبراهيم أبو العينين، دار الفضيلة الرياض، ط 1، 1420 هـ. 47 - "اعتقاد أهل السنة"، تأليف الحافظ أبي بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي (ت: 371 هـ)، ت: جمال عزون، دار الريان- الإمارات، ط 1، 1413 هـ. 48 - "الاعتصام"، تأليف العلامة أبي إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي (ت: 790 هـ)، ت مشهور بن حسن سلمان، مكتبة التوحيد- البحرين، ط 1، 1421 هـ. 49 - "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام"، تأليف الإمام سراج الدين عمر بن علي الأنصاري "ابن الملقن" (ت:804 هـ)، ت: د. عبد العزيز المشيقح، دار العاصمة الرياض، ط 1، 1417 هـ. 50 - "أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري"، تأليف الإمام أبي سليمان حمد بن محمد الخطابي (ت: 388 هـ)، ت: د. محمد بن سعد آل سعود، جامعة أم القرى- مكة، ط 1، 1409 هـ. 51 - "إعلام الموقعين عن رب العالمين"، تأليف الإمام ابن القيم محمد بن أبي بكر الدمشقي (ت: 751 هـ)، ت: طه عبد الرؤوف سعد، دار الجيل- بيروت، 1973 م.
52 - "افتتاح القاري لصحيح البخاري"، تأليف ابن ناصر الدين الدمشقي (ت: 842 هـ) [ضمن مجموع فيه رسائله]، ت: مشعل بن باني المطيري، دار ابن حزم، ط 1، 1422 هـ. 53 - "الإفصاح عن معاني الصحاح"، تأليف العلامة الوزير أبي المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة (ت: 560 هـ)، ت: د. فؤاد عبد المنعم أحمد، دار الوطن- الرياض، ط 2، 1417 هـ. 54 - "اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم"، تأليف شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية (ت: 728 هـ)، ت: د. ناصر العقل، مكتبة الرشد الرياض، ط 3، 1413 هـ. 55 - "الاقتضاب في غريب الموطأ وإعرابه على الأبواب"، تأليف محمد بن عبد الحق التلمساني (ت: 625 هـ)، ت: د. عبد الرحمن العثيمين، مكتبة العبيكان- الرياض، ط 1، 1421 هـ. 56 - "الإقناع"، تأليف الإمام أبي بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري (ت: 318 هـ)، ت: د. عبد الله بن عبد العزيز الجبرين، مكتبة الرشد- الرياض، ط 3، 1418 هـ. 57 - "الإقناع في حل ألفظ أبي شجاع"، تأليف الشيخ محمد الشربيني الخطيب، المطبعة الأزهرية- القاهرة، ط 3، 1344 هـ- 1925 م. 58 - "الإقناع لطالب الانتفاع"، تأليف شرف الدين موسى بن أحمد أبو النجا الحجاوي المقدسي الحنبلي (ت: 968 هـ)، ت: د. عبد الله التركي، دار هجر- القاهرة، ط 1، 1418 هـ. 59 - "إكمال المعلم بفوائد مسلم"، تأليف العلامة أبي الفضل القاضي عياض بن موسى اليحصبي (ت: 544 هـ)، ت: د. يحيى إسماعيل، دار الوفاء- المنصورة، ودار الندوة العالمية- الرياض، ط 2، 1425 هـ. 60 - "الإكمال في رفع الارتياب عن المؤتلف والمختلف في الأسماء والكنى والأنساب"، تأليف الحافظ أبي نصر علي بن هبة الله ابن ماكولا (ت: 475 هـ)، ت: الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي، مجلس دائرة المعارف- الهند، ط 1، 1381 هـ. 61 - "الأم"، تأليف الإمام الشافعي محمد بن إدريس" (ت: 204 هـ)، ت: محمد زهري النجار، تصوير دار المعرفة. 62 - "الأمالي"، تأليف العلامة عبد الملك بن محمد بن بشران (ت: 430 هـ)، ت: عادل بن يوسف العزازي، دار الوطن الرياض، ط 1، 1418 هـ. 63 - "أمالي ابن سمعون"، تأليف المحدِّث أبي الحسين محمد بن أحمد بن سمعون البغدادي (ت:387 هـ)، ت: د. عامر حسن صبري، دار البشائر بيروت، ط 1، 1423 هـ. 64 - "الأمثال" -في الحديث النبوي-، تأليف الحافظ عبد الله بن محمد بن جعفر المعروف بأبي الشيخ الأصبهاني (ت: 369 هـ)، ت: د. عبد العلي عبد الحميد، الدار السلفية- الهند، ط 1402 هـ.
65 - "إنارة الفكر بما هو الحق في كيفية الذكر"، تأليف العلامة برهان الدين البقاعي الشافعي (ت: 885 هـ)، ت: سليمان الحرش، مكتبة العبيكان- الرياض، ط 1، 1421 هـ. 66 - "إنباء الغمر بأبناء العمر"، للحافظ ابن حجر العسقلاني، ت: د. حسن حبشي، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية- القاهرة، 1418 هـ. 67 - "الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء"، تأليف الحافظ أبي عمر ابن عبد البر يوسف بن عبد الله (ت: 463 هـ)، ت: عبد الفتاح أبو غدة، دار البشائر- بيروت، ط 1، 1417 هـ. 68 - "الأنساب"، تأليف الإمام أبي سعد عبد الكريم بن محمد التميمي السمعاني (ت ت 562 هـ)، ت: الشيخ العلامة عبد الرحمن المعلمي، تصوير عن الطبعة الأولي عام 1382 هـ. 69 - "الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف"، تأليف العلامة أبي الحسن علي بن سليمان المرداوي (ت: 885 هـ) -طبع مع المقنع والشرح الكبير-، ت: د. عبد الله التركي، دار هجر- القاهرة، ط 1، 1416 هـ. 70 - "الأوائل"، تأليف الحافظ أبي بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم (ت: 287 هـ)، ت: الشيخ محمد بن ناصر العجمي، دار الخلفاء- الكويت، ط 1. 71 - "الإيضاح"، تأليف العلامة اللغوي أبو علي الحسن بن أحمد الفارسي (ت: 377 هـ)، ت: د. كاظم بحر المرجان، عالم الكتب بيروت، ط 2، 1416 هـ. 72 - "إيضاح المكنون في الذيل علي كشف الظنون عن أسامي والفنون"، تأليف إسماعيل باشا البغدادي (ت: 1339 هـ). 73 - "الإيمان"، تأليف الإمام الحافظ عبد الله بن محمد بن أبي شيبة (ت: 235 هـ)، ت: الشيخ العلامة محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي- بيروت، ط 2، 1403 هـ. 74 - "الإيمان"، تأليف الحافظ محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني (ت: 243 هـ)، ت: حمد الجابري الحربي، الدار السلفية- الكويت، ط 1، 1407 هـ. 75 - "الإيمان"، تأليف الإمام الحافظ محمد بن إسحاق بن منده (ت: 395 هـ)، ت: الشيخ العلامة علي بن محمد بن ناصر الفقيهي، مؤسسة الرسالة- بيروت، ط 2، 1406 هـ. 76 - "الإيمان"، تأليف العلامة أبي يعلى الحنبلي محمد بن الحُسَين بن الفراء البغدادي الحنبلي (ت: 458 هـ)، ت: د. سعود الخلف، دار العاصمة- الرياض، ط 1، 1410 هـ. 77 - "البحر المحيط في أصول الفقه"، تأليف بدر الدين محمد بن بهادر الزركشي الشافعي (ت: 794 هـ)، ت: عبد القادر العاني، وزارة الأوقاف- الكويت، ط 2، 1413 هـ. 78 - "بدائع الفوائد"، تأليف الإمام ابن القيم (ت: 751 هـ)، ت: محمد منير بن عبده آغا الدمشقي، الطبعة المنيرية. 79 - "البداية والنهاية"، تأليف الحافظ إسماعيل بن عمر بن كثير (ت: 774 هـ)، ت: مركز البحوث والدراسات بدار هجر، دار هجر- القاهرة، ط 1، 1417 هـ.
80 - "البدع والنهي عنها"، تأليف العلامة محمد بن وضاح القرطبي (ت: 287 هـ)، ت: الشيخ بدر البدر، دار الصميعي- الرياض، ط 1، 1416 هـ. 81 - "البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع"، تأليف العلامة محمد بن علي الشوكاني (ت: 1250 هـ)، ت: د. حسين بن عبد الله العمري، دار الفكر- دمشق، ط 1، 1419 هـ. 82 - "البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير"، تأليف العلامة سراج الدين عمر بن علي الأنصاري "ابن الملَقِّن" (ت: 804 هـ)، ت: دار الهجرة- السعودية، ط 1، 1425 هـ. 83 - "بذل المجهود في ختم سنن أبي داود"، تأليف العلامة. محمد بن عبد الرحمن السخاوي (ت: 902 هـ)، ت: د. بدر بن محمد العماش، مؤسسة الرسالة، ط 1. 84 - "بستان العارفين"، تأليف الفقيه يحيى بن شرف النووي (ت: 676 هـ)، دار الريان للتراث القاهرة، ط 1، 1987 م. 85 - "بُغية الباحث عن زوائد مسند الحارث"، تأليف الحافظ نور الدين الهيثمي الشافعي (ت: 807 هـ)، ت: د. حسين الباكري، الجامعة الإسلامية- المدينة النبوية، ط 1، 1413 هـ. 86 - "بهجة المجالس وأنس المجالس"، تأليف الإمام أبي عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري القرطبي (ت: 463 هـ)، ت: محمد مرسي الخولي، د. عبد القادر القط، الدار المصرية للتأليف والترجمة، 1963 م. 87 - "بيان الدليل على بطلان التحليل"، تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية أحمد بن عبد الحليم الحراني (ت: 728 هـ)، ت: د. فيحان بن شالي المطيري، مكتبة لينة- القاهرة، ط 2، 1416 هـ. 88 - "بيان الوهم والإيهام الواقعين في كتاب الأحكام"، تأليف الحافظ ابن القطان الفاسي على ابن محمد (ت: 628 هـ)، ت: د. الحسين آيت سعيد، دار طيبة- الرياض، ط 1، 1418 هـ. 89 - "تاج العروس من جواهر القاموس"، تأليف محمد مرتضى الحسيني الزَّبيدي (ت: 1205 هـ)، ت: مجموعة من الباحثين، وزارة الإعلام- الكويت، ط 1، 1965 م. 90 - "تاريخ الأدب العربي"، تأليف كارل بروكلمان، ترجمه د. عمر صابر عبد الجليل، الهيئة المصرية العامة للكتاب- القاهرة، 1995 م. 91 - "تاريخ الأمم والملوك"، تأليف الإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري (ت. 310 هـ)، ت: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف- القاهرة، ط 2، 1387 هـ. 92 - "تاريخ بغداد"، تأليف الحافظ أبي بكر أحمد بن علي بن ثابت، المعروف بالخطيب البغدادي (ت: 463 هـ)، تصوير دار الكتب العلمية- بيروت. 93 - "تاريخ الرقة ومن نزلها من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعين والفقهاء والمحدِّثين"، تأليف الإمام أبي علي محمد بن سعيد القشيري الحراني (ت: 334 هـ)، ت: إبراهيبم صالح، دار البشائر- دمشق، ط 1، 1419 هـ.
94 - "التاريخ الكبير"، تأليف الإمام محمد بن إسماعيل البخاري (ت: 256 هـ)، ت: العلامة عبد الرحمن المعلمي، حيدر أباد ط 1، 1361 هـ تصوير دار الكتب العلمية. 95 - "تالي تلخيص المتشابه"، تأليف الحافظ الخطيب البغدادي (ت: 463 هـ)، ت: مشهور حسن، وأحمد الشقيرات، دار الصميعي الرياض، ط 1، 1417 هـ. 96 - "تأويل مختلف الحديث"، تأليف الإمام عبد الله بن مسلم بن قتيبة (ت: 276 هـ)، ت: نور الله شوكت بيكر، المكتبة المكية ومؤسسة الريان، ط 1، 1429 هـ. 97 - "تأويل مشكل القرآن"، تأليف الإمام عبد الله بن مسلم بن قتيبة (ت: 276 هـ)، ت: السيد أحمد صقر، دار الكتب العلمية- بيروت، ط 3، 1401 هـ. 98 - "التبصير في معالم الدين"، تأليف الإمام محمد بن جرير الطبري (ت: 310 هـ)، ت: د. علي الشبل، دار العاصمة- الرياض، ط 1، 1416 هـ. 99 - "التحبير شرح التحرير"، تأليف العلامة علاء الدين علي بن سليمان المرداوي الحنبلي (ت: 885 هـ)، ت: د. عبد الرحمن الجبرين، ود. عوض القرني، ود. أحمد السراح، مكتبة الرشد- الرياض، ط 1، 1421 هـ. 100 - "تحرير ألفاظ التنبيه"، تأليف العلامة محيي الدين يحيى بن شرف النووي (ت: 676 هـ)، ت: عبد الغني الدقر، دار القلم- دمشق، ط 1، 1408 هـ. 101 - "تحفة الإخباري بترجمة البخاري"، تأليف الحافظ ناصر الدين الدمشقي محمد بن أبي بكر (ت: 842 هـ)، ت: محمد بن ناصر العجمي، دار البشائر الإسلامية- بيروت، ط 1، 1413 هـ. 102 - "التحفة العراقية في الأعمال القلبية"، تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 728 هـ)، ت: د. يحيى بن محمد الهنيدي، مكتبة الرشد- الرياض، ط 1، 1421 هـ. 103 - "تحفة المسؤول في شرح مختصر منتهى السُّول"، تأليف أبي زكريا يحيى بن موسى الرهوني (ت: 773 هـ)، ت: د. الهادي بن الحسين شبيلي، دار البحوث للدراسات الإسلامية- دبي، ط 1، 1422 هـ. 104 - "التحقيق في مسائل الخلاف"، تأليف العلامة أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي (ت: 597 هـ)، ت: د. عبد المعطي القلعجي، دار الوعي العربي- حلب، 105 - "التدمرية"، تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 728 هـ)، ت: محمد بن عودة السعوي، ط 1، 1405 هـ. 106 - "التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة"، تأليف العلامة أبي عبد الله القرطبي محمد بن أحمد بن فرح الأنصاري (ت: 671 هـ)، ت: د. الصادق بن محمد بن إبراهيم، مكتبة المنهاج- الرياض، ط 1، 1425 هـ. 107 - "تذكرة الحفاظ"، تأليف الحافظ الذهبي (ت: 748 هـ)، ت: الشيخ عبد الرحمن المعلِّمِي، مصوَّرة عن طبعة دار المعارف العثمانية.
108 - "تذكرة السامع والمتكلِّم في أدب العالم والمتعلِّم"، تأليف بدر الدين محمد بن إبراهيم بن جماعة الشافعي (ت: 733 هـ)، ت: محمد بن مهدي العجمي، دار البشائر- بيروت، ط 1، 1429 هـ. 109 - "تذكرة المحتاج إلى أحاديث المنهاج"، تأليف العلامة الفقيه سراج الدين عمر بن علي الأنصاري "ابن الملَقِّن" (ت: 804 هـ)، ت: الشيخ حمدي عبد المجيد السلفي، المكتب الإسلامي- بيروت، ط 1، 1415 هـ. 110 - "ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك"، تأليف القاضي عياض بن موسى اليحصُبي الأندلسي المالكي (ت: 544 هـ)، ت: محمد الطنجي، ط 2، 1403 هـ. 111 - "الترغيب والترهيب"، تأليف العلامة عبد العظيم بن عبد القوي المنذري (ت: 656 هـ)، ت: مصطفي محمد عمارة، دار إحياء التراث العربي، ط 3، 1388 هـ. 112 - "الترغيب والترهيب"، تأليف الإمام أبي القاسم إسماعيل بن محمد الأصبهاني -قوام السنة- (ت: 535 هـ)، ت: أيمن صالح شعبان، دار الحديث- القاهرة، ط 1، 1414 هـ. 113 - "التسعينية"، تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 728 هـ)، ت: د. محمد بن إبراهيبم العجلان، مكتبة المعارف- الرياض، ط 1، 1420 هـ. 114 - "تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة الأربعة"، تأليف الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت: 852 هـ)، ت: د. إكرام الله إمداد الله، دار البشائر- بيروت، ط 1، 1416 هـ. 115 - "تعظيم قدر الصلاة"، تأليف الإمام محمد بن نصر المروزي (ت: 394 هـ)، ت: د. عبد الرحمن الفريوائي، مكتبة الدار- المدينة النبوية، ط 1، 1406 هـ. 116 - "التعليق علي الموطأ"، تأليف هشام بن أحمد الوقَّشي الأندلسي (ت: 489 هـ)، ت: د. عبد الرحمن بن سليمان العثيمين، مكتبة العبيكان- الرياض، ط 1، 1421 هـ. 117 - "التعيين في شرح الأربعين"، تأليف نجم الدين سليمان بن عبد القوي الطوفي الحنبلي (ت: 716 هـ)، ت: أحمد حاج محمد عثمان، مؤسسة الريان- بيروت، والمكتبة المكية- مكة، طـ 1، 1419 هـ. 118 - "تغليق التعليق علي صحيح البخاري"، تأليف الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت: 852 هـ)، ت: سعيد عبد الرحمن القزقي، المكتب الإسلامي- بيروت، ط 2، 1420 هـ. 119 - تفسير البغوي -"معالم التنزيل وأسرار التأويل"- تأليف الإمام محيي السنة أبي محمد الحسين بن مسعود البغوي (ت: 516 هـ)، ت: محمد النمر، وعثمان جمعة، وسليمان الحرش، دار طيبة- السعودية، ط 3، 1416 هـ. 120 - تفسير الطبرى -"جامع البيان عن تأويل القرآن"-، تأليف الإمام محمد بن جرير الطبري (ت: 310 هـ)، ت: مركز البحوث والدراسات العربية والإسلامية بإشراف د. عبد الله التركي، ط 1، 1422 هـ.
* طبعة أخرى: الشيخ العلامة أحمد شاكر، والعلامة الأديب محمود شاكر رحمهما الله، دار المعارف- مصر. 121 - "تفسير غريب الموطأ"، تأليف عبد الملك بن حبيب الأندلسي (ت: 238 هـ)، ت: د. عبد الرحمن بن سليمان العثيمين، مكتبة العبيكان- الرياض، ط 1، 1421 هـ. 122 - "تفسير القرآن"، تأليف الإمام عبد الرزاق بن همام الصنعاني (ت: 211 هـ)، ت: د. مصطفى مسلم محمد، مكتبة الرشد - الرياض، ط 1، 1410 هـ. 123 - "تفسير القرآن"، تأليف الإمام أبي المظفر منصور السمعاني الشافعي (ت: 489 هـ)، ت: ياسر بن إبراهيم، وغنيم بن عباس، دار الوطن- الرياض، ط 1، 1418 هـ. 124 - "تفسير القرآن العظيم"، تأليف الحافظ أبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير (ت: 774 هـ)، ت: سامي السّلامة، دار طيبة- الرياض، ط 1، 1418 هـ. 125 - "تفسير القرآن العظيم مسندًا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين"، تأليف الإمام الحافظ ابن أبي حاتم الرازي (ت: 327 هـ)، ت: أسعد الطيب، مكتبة الباز مكة المكرمة، ط 2، 1419 هـ. 126 - "تقريب التهذيب"، تأليف الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت: 852 هـ)، ت: صغير أحمد شاغف أبو الأشبال، دار العاصمة- الرياض، ط 1، 1416 هـ. 127 - "تكملة الإكمال"، تأليف الحافظ أبي بكر محمد بن عبد الغني البغدادي الحنبلي المعروف بابن نقطة (ت: 629 هـ)، ت: د. عبد القيوم عبد رب النبي، جامعة أم القرى- مكة، ط 1، 1408 هـ. 128 - "تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير"، تأليف الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت: 852 هـ)، ت: عبد الله هاشم اليماني، ط 1، 1384 هـ. 129 - "التمهيد في أصول الفقه"، تأليف الإمام أبي الخطاب الكلوذاني الحنبلي (ت: 510 هـ)، ت: د. مفيد أبو عمشة، ود. محمد بن إبراهيم، جماعة أم القرى- مكة، ط 1، 1406 هـ. 130 - "التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد"، تأليف الحافظ ابن عبد البر (ت: 463 هـ)، ت: مجموعة من الباحثين، مصورة عن الطبعة الأولى المغرب. 131 - "تنبيه المعلم بمبهمات صحيح مسلم"، تأليف أبي ذر أحمد بن برهان الدين سبط ابن العَجَمي (ت: 884 هـ)، ت: مشهور بن حسن آل سلمان، دار الصميعي- الرياض، ط 1، 1415 هـ. 132 - "التنقيح لألفاظ الجامع الصحيح"، تأليف بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي (ت: 794 هـ)، ت: د. يحيى بن محمد الحكمي، مكتبة الرشد- الرياض، ط 1، 1424 هـ. 133 - "التهجد وقيام الليل"، تأليف الإمام أبي بكر بن أبي الدنيا (ت: 281 هـ)، ت: مصلح بن جزا بن فدغوش الحارثي، مكتبة الرشد- الرياض، ط 1، 1418 هـ.
134 - "تهذيب الأسماء واللغات"، تأليف العلامة أبي زكريا محيي الدين بن شرف النووي (ت: 676 هـ)، طباعة إدارة الطباعة المنيرية. 135 - "تهذيب التهذيب"، تأليف الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت: 852 هـ)، ت: إبراهيم الزيبق، وعادل المرشد، مؤسسة الرسالة، ط 1، 1416 هـ. 136 - "تهذيب الكمال في أسماء الرجال"، تأليف الحافظ جمال الدين أبي الحجاج يوسف المزي (ت: 742 هـ)، ت: بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة- بيروت، ط 6، 1415 هـ. 137 - "تهذيب اللغة"، تأليف أبي منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370 هـ)، ت: عبد السلام هارون، الدار المصرية للتأليف والنشر- القاهرة، سنة 1966 م. 138 - "التوحيد"، تأليف الإمام محمد بن إسحاق بن منده (ت: 395 هـ)، ت: الشيخ أ. د. علي بن محمد بن ناصر الفقيهي، الجامعة الإسلامية- المدينة البوية. 139 - "الوضيح لشرح الجامع الصحيح"، تأليف العلامة الفقيه سراج الدين عمر بن علي الأنصاري "ابن الملَقِّن" (ت: 804 هـ)، ت: دار الفلاح للبحث العلمي، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية- قطر، ط 1، 1429 هـ. 140 - "توضيح المشتبه"، تأليف الحافظ شمس الدين محمد بن عبد الله القيسي ابن ناصر الدين الدمشقي (ت: 842 هـ)، ت: محمد نعيم العرقوسي، مؤسسة الرسالة- بيروت، ط 2، 1414 هـ. 141 - "تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد"، تأليف الشيخ العلامة سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب (ت: 1233 هـ)، ت: أسامة بن عطايا العتيبي، دار الصميعي- الرياض، ط 1، 1428 هـ. 142 - "الثقات"، تأليت الإمام محمد بن حبان البستي (ت: 354 هـ)، ت: د. محمد عبد المعيد خان، مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدر أباد، ط 1، 1393 هـ. 143 - "الجامع"، تأليف الإمام عبد الله بن أبي زيد القيرواني- مالك الصغير - (ت: 386 هـ)، ت: عبد المجيد التركي، دار الغرب- بيروت، ط 2، 1990 م. 144 - "جامع بيان العلم وفضله"، تأليف الحافظ أبي عمر يوسف بن عبد البر (ت: 463 هـ)، ت: أبو الأشبال الزهيري، دار ابن الجوزي- الدمام، ط 1، 1414 هـ. 145 - "جامع البيان في القراءات السبع"، تأليف الإمام الحافظ أبي عمروا الداني عثمان بن سعيد (ت: 444 هـ)، ت: مجموعة من الباحثين، جامعة الشارقة- الإمارات، ط 1، 1428 هـ. 146 - "جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثًا من جوامع الكلم"، تأليف الحافظ زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين الشهير بابن رجب الحنبلي (ت: 795 هـ)، ت: الشيخ شعيب الأرناؤوط، والأستاذ إبراهيم باجس، مؤسسة الرسالة- بير وت، ط 6، 1416 هـ. 147 - "جامع الرسائل"، مجموعة رسائل من تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 728 هـ)، جمع وتحقيق د. محمد رشاد سالم، مطبعة المدني، ط 2، 1405 هـ.
148 - "الجامع في الحديث"، تأليف الحافظ عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي (ت: 197 هـ)، ت: د. مصطفي حسن حسين، دار ابن الجوزي- الدمام، ط 1، 1416 هـ. 149 - "الجامع لأحكام القرآن"، تأليف الإمام أبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي (ت: 671 هـ): ت: د. عبد الله التركي، مؤسسة الرسالة- بيروت، ط 1، 1427 هـ. 150 - "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع"، تأليف الإمام أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي (ت: 463 هـ)، ت: د. محمود الطحان، مكتبة المعارف- الرياض، ط 1، 1403 هـ. 151 - "الجامع لشعب الإيمان"، تأليف العلامة أحمد بن الحسين البيهقي (ت: 458 هـ)، ت: عبد العلي عبد الحميد، مكتبة الرشد- الرياض، ط 1، 1423 هـ. 152 - "جامع المسائل لشيخ الإسلام ابن تيمية" (ت: 728 هـ)، جمع وتحقيق: الشيخ محمد عزير شمس، دار عالم الفوائد- مكة المكرمة، ط 1، 1422 هـ. 153 - "جامع المسانيد"، تأليف العلامة أبي الفرج ابن الجوزي عبد الرحمن بن علي (ت: 597 هـ)، ت: د. علي البواب، مكتبة الرشد- الرياض، ط 1، 1426 هـ. 154 - "الجرح والتعديل"، تأليف الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي (ت: 327 هـ)، ت: العلامة عبد الرحمن المعلمي، دائرة المعارف العثمانية- حيدر آباد، 1، 1371 هـ. 155 - "جزءٌ فيه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، نضَّر الله امرأً سمع مقالتي فأداها"، تأليف العلامة أبي عمرو أحمد بن محمد المديني (ت: 333 هـ)، ت: بدر البدر، دار ابن حزم- بيروت، ط 1415 هـ. 156 - "جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على محمد خير الأنام"، تأليف الإمام ابن القيم (ت: 751 هـ)، ت: مشهور بن حسن سلمان، دار ابن الجوزي- الدمام، ط 1، 1417 هـ. 157 - "الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي "، تأليف أبي الفرج المعافى بن زكريا النهرواني (ت: 390 هـ)، ت: د. محمد مرسي الخولي، عالم الكتب- بيروت، ط 1، 1413 هـ. 158 - "جمهرة اللغة"، تأليف أبي بكر محمد بن الحسن بن دريد البصري (ت: 321 هـ)، ت: السيد زين العابدين الموسوي، دائرة المعارف العثمانية، ط 1 ,1344 هـ. 159 - "الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي "، تأليف الإمام ابن القيم (ت: 751 هـ)، ت: الشيخ محمد حامد الفقي، مكتبة السنة المحمدية - القاهرة، ط 1، 1367 هـ. 160 - "الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر"، تأليف الحافظ محمد بن عبد الرحمن السخاوي (ت: 902 هـ)، ت: إبراهيم باجس، دار ابن حزم- بيروت، ط 1، 1419 هـ. 161 - "حاشية رد المحتار علي الدرر المختار شرح تنوير الأبصار"، تأليف محمد أمين الشهير بابن عابدين، المكتبة التجارية- مكة، ط 2، 1386 هـ.
162 - "حاشية السندي علي سنن النسائي"، تأليف العلامة أبو الحسن نور الدين بن عبد الهادي السندي (ت: 1138 هـ)، اعتناء: عبد الفتاح أبو غدة، طبع بحاشية النسائي، دار البشائر- بيروت، ط 3، 1414 هـ. 163 - "الحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة"، تأليف الحافظ أبي القاسم إسماعيل الأصبهاني المعروف بقوام السنة (ت: 535 هـ)، ت: د. محمد بن ربيع بن هادي المدخلي، ومحمد محمود أبو رحيم، دار الراية- الرياض، ط 1، 1411 هـ. 164 - "حجة الوداع"، تأليف الإمام أبي محمد علي بن أحمد "ابن حزم الأندلسي" (ت: 456 هـ)، ت: أبو صهيب الكرمي، بيت الأفكار- الرياض، ط 1، 1418 هـ. 165 - "حسن الظن بالله عزَّ وجلَّ"، تأليف الإمام أبي بكر بن أبي الدنيا (ت: 281 هـ)، ت: مخلص محمد، دار طيبة- الرياض، ط 2، 1408 هـ. 166 - "الحديث الضعيف وحكم الاحتجاج به"، تأليف الشيخ د. عبد الكريم بن عبد الله الخضير، مكتبة المنهاج الرياض، ط 1، 1425 هـ. 167 - "الحطة في ذكر الصحاح الستة"، تأليف أبي الطيب صديق حسن خان القنوجي (ت: 1307 هـ)، ت: علي حسن الحلبي، دار عمار- الأردن، ودار الجيل بيروت، ط 1، 1407 هـ. 168 - "حقيقة البدعة وأحكامها"، تأليف د. سعيد بن ناصر الغامدي، مكتبة الرشد- الرياض، ط 3، 1419 هـ. 169 - "الحلم"، تأليف الحافظ أبو بكر بن أبي الدنيا (ت: 281 هـ)، ت: مجدي السيد إبراهيم، مكتبة القرآن- القاهرة، ط 1، 1406 هـ. 170 - "حلية الأولياء وطبقات الأصفياء"، تأليف الحافظ أبي نعيم الأصفهاني (ت: 430 هـ)، تصوير دار الكتب العلمية عن الطبعة الأولي (1375 هـ). 171 - "الخصائص"، تأليف أبي الفتح عثمان بن جني (ت: 393 هـ)، ت: محمد علي النجار، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط 4، 1999 م. 172 - "خصائص المسند"، تأليف الحافظ أبي موسى المديني (ت: 581 كل)، ت: الشيخ العلامة أحمد شاكر- طبع مع المسند-، دار المعارف- القاهرة، 1392 هـ. 173 - "خلاصة الأحكام"، تأليف العلامة يحيى بن شرف النووي (ت: 676 هـ)، ت: حسين إسماعيل الجمل، مؤسسة الرسالة- بيروت، ط 1، 1418 هـ. 174 - "خلق أفعال العباد"، تأليف الإمام محمد بن إسماعيل البخاري (ت: 256 هـ)، ت: د. فهد بن سليمان الفهيد، دار أطلس الخضراء- الرياض، ط 1، 1425 هـ. 175 - "درر العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة"، تأليف تقي الدين أحمد بن علي المقريزي (ت: 845 هـ)، ت: د. محمود الحليلي، دار الغرب- بيروت، ط 1، 1423 هـ.
176 - "الدر المنثور في التفسير بالمأثور"، ئأليف جلال الدين السيوطي (ت: 911 هـ)، ت: مركز البحوث والدراسات العربية والإسلامية بدار هجر- القاهرة، إشراف د. عبد الله التركي، ط 1، 1424 هـ. 177 - "الدُّر النضيد في أدب المفيد والمستفيد"، تأليف العلامة بدر الدين محمد بن محمد الغزي العامري الشافعي (ت: 984 هـ)، ت: نشأت بن كمال المصري، مكتبة التوعية الإسلامية- القاهرة، ط 1، 1426 هـ. 178 - "درء تعارض العقل والنقل"، تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 728 هـ)، ت: د. محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية- الرياض، ط 1، 1411 هـ. 179 - "الدرة الفاخرة في كشف علوم الآخرة"، تأليف الغزالي، ت: محمد عبد القادر عطا، مؤسسة الكتب الثقافية بيروت، ط 1، 1407 هـ. 180 - "الدعاء"، تأليف الإمام الحافظ سليمان بن أحمد الطبراني (ت: 360 هـ)، ت: د. محمد سعيد البخاري، دار البشائر- بيروت، ط 1، 1407 هـ. 181 - "دلائل النبوة"، تأليف العلامة أحمد بن الحسين البيهقي (ت: 458 هـ)، ت: د. عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العلمية- بيروت، ط 1، 1405 هـ. 182 - "الدليل الشافي علي المنهل الصافي "، تأليف جمال الدين يوسف بن تغري بردي (ت: 874 هـ)، ت: فهيم محمد علوي شلتوت، دار الكتب والوثائق القومية- القاهرة، ط 1، 1998 م. 183 - "ديوان الأعشى"، مع شرح أبي عباس ثعلب المسمى بـ "الصبح المنير في شرح أبي بصير"، مطبعة آدلف هلزهوش لندن، ط 1، 1927 م. 184 - "ديوان زهير بن أبي سلمي"، ت: علي حسن فاعور، دار الكتب العلمية بيروت، ط 1، 1408 هـ. 185 - "ديوان الإمام الشافعي"، جمعه وعلق عليه محمد عفيف الزعبي، مكتبة المعرفة سورية ودار العلم جدة، ط 3، 1392 هـ. 186 - "ذم الغيبة والنميمة"، تأليف الإمام أبي بكر عبد الله بن محمد المعروف بابن أبي الدنيا (ت: 281 هـ)، ت: د. نجم عبد الرحمن خلف، دار الاعتصام- القاهرة، ط 1، 1989 م. 187 - "ذم قسوة القلب"، تأليف العلامة الفقيه زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن رجب الحنبلي (ت: 795 هـ)، ت: الوليد بن فريان، دار عالم الفوائد- مكة، ط 1، 1416 هـ. 188 - "ذم الكلام وأهله"، تأليف شيخ الإسلام أبي إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري الهروي (ت: 481 هـ)، ت: د. عبد الرحمن الشبل، مكتبة العلوم والحكم- المدينة النبوية، ط 1، 1416 هـ. 189 - "ذم الهوى"، تأليف العلامة أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي (ت: 597 هـ)، ت: مصطفى عبد الواحد، دار الكتب الإسلامية- القاهرة، ط 1، 1381 هـ.
190 - "الذيل التام على دول الإسلام"، تأليف الحافظ شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي (ت: 902 هـ)، ت: حسن إسماعيل مروة، مكتبة العروبة- الكويت، ط 1، 1413 هـ. 191 - "رؤوس المسائل وتحفة طلاب الفضائل"، تأليف العلامة أبي زكريا يحيى بن شرف النووي (ت: 676 هـ)، ت: د. عبد الرؤوف الكمالي، دار البشائر الإسلامية- بيروت، ط 1، 1428 هـ. 192 - "الرد على البكري"، تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية، ت: محمد بن علي عجال، دار الغرباء الأثرية- المدينة النبوية، ط 1، 1417 هـ. 193 - "الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله"، تأليف إمام أهل السنة أحمد بن حنبل (ت: 241 هـ)، ت: دغش بن شبيب العجمي، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية- دولة قطر، ط 1، 1429 هـ. 194 - "رسائل ابن حزم الأندلسي"، جمع وتحقيق د. إحسان عباس، المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت، ط 1، 1401 هـ. 195 - "رسالة في إهداء الثواب للنبي - صلى الله عليه وسلم - "، تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 728 هـ)، ت: أشرف عبد المقصور، دار أضواء السلف- الرياض، ط 1، 1423 هـ. 196 - "الرسالة القشيرية"، تأليف أبي القاسم القشيري النيسابوري (ت: 465 هـ)، ت: عبد الحليم محمود، ود. محمود بن الشريف، دار الشعب- القاهرة، ط 1، 1409 هـ. 197 - "الرسالة المُغْنية في السكوت ولزوم البيوت"، تأليف العلامة أبي علي الحسن بن أحمد بن البناء البغدادي الحنبلي (ت: 471 هـ)، ت: فرحان الشمري، ومشعل الظفيري، دار إيلاف- الكويت، ط 1، 1418 هـ. 198 - "الروح"، تأليف الإمام ابن القيم (ت: 751 هـ)، ت: د. بسام علي العموش، دار ابن تيمية- الرياض، ط 2، 1412 هـ. 199 - "روضة العقلاء ونزهة الفضلاء"، تأليف الإمام محمد بن حِبَّان البستي (ت: 354 هـ)، ت: محمد عبد الرزاق حمزة، ومحمد حامد الفقي، تصوير مكتبة دار الباز- مكة المكرمة. 200 - "رياض الصالحين"، تأليف العلامة يحيى بن شرف النووي (ت: 676 هـ)، ت: عبد العزيز رباح، وأحمد يوسف الدقاق، دار المأمون للتراث- دمشق، ط 4، 1401 هـ. 201 - "زاد المسير في علم التفسير"، تأليف الإمام أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي (ت: 597 هـ)، ت: شعيب الأرناؤوط، وزهير الشاويش، المكتب الإسلامي- بيروت، ط 4، 1407 هـ. 202 - "زاد المعاد في هدي خير العباد"، تأليف الإمام ابن القيم (ت: 751 هـ)، ت: الشيخين عبد القادر الأرناؤوط، وشعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة- بيروت، ط 16، سنة 1408 هـ. 203 - "الزاهر في غريب ألفاظ الإمام الشافعي"، تأليف العلامة أبي منصور الأزهري محمد بن أحمد (ت: 370 هـ)، ت: د. عبد المنعم طوعي بشناتي، دار البشائر- بيروت، ط 1، 1419 هـ.
204 - "زغل العلم"، تأليف الحافظ أبي عبد الله محمد بن أحمد الذهبي (ت: 748 هـ)، ت: الشيخ محمد بن ناصر العجمي، مكتبة الصحوة الإسلامية- الكويت، ط 1، 1404 هـ. 205 - "الزهد"، تأليف الإمام وكيع بن الجراح (ت: 197 هـ)، ت: الشيخ د. عبد الرحمن عبد الجبار الفريوائي، مكتبة الدار- المدينة النبوية، ط 1، 1404 هـ. 206 - "الزهد"، تأليف الإمام عبد الله بن المبارك (ت: 181 هـ)، ت: حبيب الرحمن الأعظمي، تصوير دار الكتب العلمية- بيروت. 207 - "الزهد"، تأليف الإمام هناد بن السري الكوفي (ت: 243 هـ)، ت: د. عبد الرحمن بن عبد الجبار الفريوائي، دار الخلفاء- الكويت، ط 1، 1406 هـ. 208 - "الزهد"، تأليف الإمام أحمد بن حنبل (ت: 241 هـ)، ت: الشيخ عبد الرحمن بن قاسم النجدي، تصوير دار الكتب العلمية- بيروت، ط 1، 1398 هـ. 209 - "الزهد"، تأليف الإمام أبي داود السجستاني سليمان بن الأشعث (ت: 275 هـ)، ت: ضياء الحسن السلفي، الدار السلفية- الهند، ط 1، 1413 هـ. 210 - "الزهد"، تأليف الإمام أبي بكر بن أبي عاصم النبيل الضحاك (ت: 282 هـ)، ت: د. عبد العلي عبد الحميد، الدار السلفية- الهند، ط 1، 1403 هـ. 211 - "سؤالات الأثرم للإمام أحمد"، رواية الإمام الحافظ أبي الحسن علي بن أبي طاهر القزويني، ت: خير الله شريف، دار العاصمة، ط 1، 1422 هـ. 212 - "سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد"، تأليف الإمام محمد بن يوسف الصالحي الشامي (ت: 942 هـ)، ت: مجموعة من الباحثين، المجلس الأعلي للشؤون الإسلامية- القاهرة، ط 1، 1414 هـ. 213 - "سلسلة الأحاديث الصحيحة"، تأليف المُحَدِّث محمد بن ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف الرياض، والمكتب الإسلامي- بيروت. 214 - "سلسلة الأحاديث الضعيفة"، تأليف الشيخ ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف- الرياض، ط 1، 1412 هـ. 215 - "السنن"، تأليف الإمام الحافظ سعيد بن منصور (ت: 227 هـ)، ت: حبيب الرحمن الأعظمي، الدار السلفية- الهند، ط 1، 1403 هـ. 216 - "السنن"، تأليف الإمام الحافظ سعيد بن منصور (ت: 227 هـ) - قسم التفسير-، ت: د. سعد بن عبد الله الحميِّد، دار الصميعي- الرياض، ط 1، 1414 هـ. 217 - "السنن"، تأليف الحافظ أبي داود سليمان بن الأشعث (ت: 275 هـ)، ت: عزت الدعاس، وعادل السيد، دار ابن حزم- بيروت، 1418 هـ. 218 - "السنن"- "الجامع الكبير"-، تأليف الحافظ محمد بن عيسى الترمذي (ت: 279 هـ)، ت: د. بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي- بيروت، ط 2، 1418 هـ.
219 - "السنن"- المجتبي-، تأليف الحافظ أحمد بن شعيب النسائي (ت: 303 هـ)، اعتناء: عبد الفتاح أبو غدة، دار البشائر- بيروت، ط 3، 1414 هـ. 220 - "السنن"، تأليف الحافظ محمد بن يزيد القزويني المعروف بابن ماجه (ت: 275 هـ)، ت: محمد فؤاد عبد الباقي، مكتبة ابن تيمية- القاهرة. 221 - "السنن"، تأليف الحافظ عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي (ت: 255 هـ)، ت: حسين سليم أسد، دار المغني- الرياض، ط 1، 1421 هـ. 222 - "السنن"، تأليف الحافظ الإمام علي بن عمر الدارقطني (ت: 385 هـ)، ت: شعيب الأرناؤوط وحسن شلبي وعبد اللطيف حرز الله وأحمد برهوم، مؤسسة الرسالة- بيروت، ط 1، 1424 هـ. 223 - "السنن الصغرى"، تأليف الحافظ أحمد بن الحسين البيهقي (ت: 458 هـ)، ت: د. عبد المعطي قلعجي، جامعة الدراسات الإسلامية- باكستان، ط 1، 1410 هـ. 224 - "السنن الكبرى"، تأليف الإمام أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي (ت: 303 هـ)، ت: حسن عبد المنعم شلبي، مؤسسة الرسالة- بيروت، ط 1، 1421 هـ. 225 - "السنن الكبرى"، تأليف الحافظ أحمد بن الحسين البيهقي (ت: 458 هـ)، تصوير دار المعرفة عن الطبعة الأولى بحيدر أباد. 226 - "السنن الواردة في الفتن وغوائلها والساعة وأشراطها"، تأليف الحافظ أبي عمرو الداني عثمان بن سعيد الأندلسي (ت: 444 هـ)، ت: د. رضا الله بن محمد إدريس المباركفوري، دار العاصمة- الرياض، ط 1، 1416 هـ. 227 - "السنة"، تأليف الإمام أبي بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم (ت: 287 هـ)، ت: الشيخ الدكتور باسم الجوابرة، دار الصميعي- الرياض، ط 1، 1419 هـ. 228 - "السنة"، تأليف الإمام عبد الله بن أحمد بن حنبل (ت: 290 هـ)، ت: د. محمد بن سعيد القحطاني، رمادي للنشر- الرياض، ط 2، 1414 هـ. 229 - "السنة"، تأليف الإمام محمد بن نصر المروزي (ت: 294 هـ)، ت: د. عبد الله بن محمد البصيري، دار العاصمة- الرياض، ط 1، 1422 هـ. 230 - "السنة"، تأليف الحافظ أبي بكر أحمد بن محمد الخلال (ت: 311 هـ)، ت: د. عطية الزهراني، دار الراية- الرياض، ط 1، 1410 هـ. 231 - "سير أعلام النبلاء"، تأليف الحافظ الذهبيِ (ت: 748 هـ)، ت: مجموعة من الباحثين، مؤسسة الرسالة- بيروت، ط 2، 1402 هـ. 232 - "الشافي في شرح مسند الشافعي"، تأليف العلامة مجد الدين أبي السعادات المبارك بن محمد الجزري المعروف بابن الأثير (ت: 606 هـ)، ت: أحمد بن سليمان، وياسر إبراهيم، مكتبة الرشد- الرياض، ط 1، 1426 هـ.
2 - "شأن الدعاء"، تأليف الحافظ أبي سليمان حمد بن محمد الخطابي (ت: 388 هـ)، ت: أحمد يوسف الدقاق، دار المأمون للتراث- دمشق، ط 1، 1404 هـ. 234 - "شذرات الذهب في أخبار من ذهب"، تأليف الأديب عبد الحي بن العماد الحنبلي (ت: 1089 هـ)، دار إحياء التراث العربي بيروت. 235 - "شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك"، تأليف العلامة بهاء الدين عبد الله بن عقيل العقيلي المصري الهمداني (ت: 769 هـ)، ت: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر- بيروت، ط 16، 1394 هـ. 236 - "شرح الأصول الخمسة"، تأليف القاضي عبد الجبار بن أحمد المعتزلي (ت: 415 هـ)، ت: د. عبد الكريم عثمان، مكتبة وهبة- القاهرة، ط 3، 1416 هـ. 237 - "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة"، تأليف الإمام هبة الله بن الحسن الطبري اللالكائي (ت: 418 هـ)، ت: د. أحمد بن سعد حمدان، دار طيبة- الرياض، ط 3، 1415 هـ. 238 - "شرح حديث النزول"، تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية، ت: د. محمد الخميس، دار العاصمة- الرياض، ط 1، 1414 هـ. 239 - "شرح السنة"، تأليف الإمام الحسين بن مسعود البغوي (ت: 516 هـ)، ت: شعيب الأرناؤوط، وزهير الشاويش، المكتب الإسلامي بيروت، ط 2، 1403 هـ. 240 - "شرح صحيح البخاري"، تأليف العلامة أبي الحسين علي بن خلف بن بطال (ت: 449 هـ)، ت: ياسر بن إبراهيم، مكتبة الرشد- الرياض، ط 1، 1420 هـ. 241 - "شرح صحيح مسلم"، تأليف العلامة يحيى بن شرف النووي (ت: 676 هـ)، ت: مجموعة من الباحثين- وخليل الميس، دار القلم- بيروت، ط 3. 242 - "شرح العقيدة الطحاوية"، تأليف الإمام ابن أبي العز الحنفي (ت: 792 هـ)، ت: د. عبد الله التركي، وشعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة- بيروت، ط 5، 1413 هـ. 243 - "شرح علل الترمذي"، تأليف الحافظ ابن رجب الحنبلي (ت: 795 هـ)، ت: د. همام عبد الرحيم سعيد، مكتبة الرشد- الرياض، ط 2، 1421 هـ. 244 - "شرح الكوكب المنير"، تأليف العلامة ابن النجار محمد الفتوحي الحنبلي (ت: 972 هـ)، ت: د. محمد الزحيلي، د. نزيه حماد، مكتبة العبيكان- الرياض، ط 1، 1413 هـ. 245 - "شرح مختصر الروضة"، تأليف العلامة نجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبد القوي الطوفي (ت: 716 هـ)، ت: د. عبد الله التركي، مؤسسة الرسالة- بيروت، ط 3، 1419 هـ. 246 - "شرح معاني الآثار"، تأليف العلامة أبي جعفر الطحاوي أحمد بن محمد (ت: 321 هـ)، ت: محمد زهري النجار، محمد سيد جاد الحق، عالم الكتب- بيروت، 1414 هـ. 247 - "شرح مشكل الآثار"، تأليف العلامة أبي جعفر الطحاوي أحمد بن محمد (ت: 321 هـ)، ت: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة- بيروت، ط 1، 1415 هـ.
248 - "شرف أصحاب الحديث"، تأليف الإمام أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي (ت: 463 هـ)، ت: د. محمد سعيد خطيب أوغلي، دار إحياء السنة النبوية- تركيا، ط 1، 1971 م. 249 - "شرط القراءة على الشيوخ"، تأليف الحافظ المسند أبي طاهر السِّلفي الأصبهاني (ت: 576 هـ)، ت: محمد بن فريد زريوح، دار التوحيد- الرياض، ط 1، 1429 هـ. 250 - "الشريعة"، تأليف الإمام الحافظ محمد بن الحسين الآجري (ت: 360 هـ)، ت: د. عبد الله الدميجي، دار الوطن- الرياض، ط 1، 1418 هـ. 251 - "شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل"، تأليف الإمام ابن القيم شمس الدين محمد بن أبي بكر الدمشقي (ت: 751 هـ)، ت: عمر بن سليمان الحفيان، مكتبة العبيكان - الرياض، ط 1، 1420 هـ. 252 - "شمائل النبي - صلى الله عليه وسلم - "، تأليف الإسام الحافظ محمد بن عيسى الترمذي (ت: 279 هـ)، ت: ماهر ياسين الفحل، دار الغرب الإسلامي- بيروت، ط 1، 2000 م. 253 - "الصبر"، تأليف الحافظ أبي بكر ابن أبي الدنيا (ت: 281 هـ)، ت: محمد خير رمضان، دار ابن حزم- بيروت، ط 1، 1418 هـ. 254 - "الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية"، تأليف العلامة إسماعيل بن حماد الجوهري (ت: 393 هـ تقريبًا)، ت: أحمد عبد الغفور عطَّار، دار العلم للملايين- بيروت، ط 3، 1404 هـ. 255 - "صحيح ابن حبان" -بترتيب ابن بلبان-، تأليف الإمام محمد بن حِبَّان البستي (ت: 354 هـ)، ت: الشيخ شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة- بيروت، ط 3، 1418 هـ. 256 - "صحيح ابن خزيمة"، تأليف الإمام الحافظ محمد بن إسحاق بن خزيمة (ت: 311 هـ)، ت: محمد مصطفى الأعظمي، المكتب الإسلامي- بيروت، ط 2، 1412 هـ. 257 - "صحيح البخاري"- الجامع الصحيح المسند-، تأليف الإمام الحافظ محمد بن إسماعيل البخاري (ت: 256 هـ)، اعتنى به: د. محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة- بيروت, ط 1، 1422 هـ. 258 - "صحيح الترغيب والترهيب للمنذري"، تأليف الشيخ العلامة المحدِّث محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف- الرياض، ط 1، 1420 هـ. 259 - "صحيح سنن أبي داود"، تأليف الشيخ ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي- بيروت، ط 1، 1408 هـ. 260 - "صحيح سنن أبي داود وضعيفه" -الأم-، تأليف العلامة محمد ناصر الدين الألباني، غراس للنشر والتوزيع- الكويت، ط 1، 1423 هـ. 261 - "صحيح سنن الترمذي"، تأليف العلامة ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي -بيروت، ط 1، 1408 هـ.
262 - "صحيح سنن النسائي"، تأليف العلامة ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي- بيروت، ط 1، 1408 هـ. 263 - "صحيح سنن ابن ماجه"، تأليف العلامة ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي- بيروت، ط 1، 1408 هـ. 264 - "صحيح مسلم"، تأليف الإمام الحافظ مسلم بن حجاج النيسابوري (ت: 261 هـ)، ت: محمد فؤاد عبد الباقي، المكتبة الإسلامية- تركيا، ط 1، 1374 هـ. 265 - "صريح السنة"، تأليف الإمام الحافظ محمد بن جرير الطبري (ت: 310 هـ)، ت: بدر المعتوق، دار الخلفاء- الكويت، ط 1، 1405 هـ. 266 - "الصلاة وحكم تاركها"، تأليف الإمام ابن القيم (ت: 751 هـ)، ت: تيسير زعيتر، المكتب الإسلامي- بيروت، ط 2، 1405 هـ. 267 - "الصلة في تاريخ أئمة الأندلس وعلمائهم ومحدثيهم وفقهائهم وأدبائهم"، تأليف الحافظ خلف بن عبد الملك بن بشكوال (ت: 378 هـ)، الدار المصرية للتأليف، 1966 م. 268 - "الصمت وآداب اللسان"، تأليف الحافظ أبي بكر بن أبي الدنيا (ت: 281 هـ)، ت: د. نجم عبد الرحمن خلف، دار الغرب الإسلامي- بيروت، ط 1، 1406 هـ. 269 - "الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة"، تأليف الإمام ابن القيم (ت: 751 هـ)، ت: د. علي بن محمد الدخيل الله، دار العاصمة- الرياض، ط 1، 1408 هـ. 270 - "صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط وحمايته من الإسقاط والسَّقط"، تأليف العلامة أبي عمرو بن الصلاح (ت: 643 هـ)، ت: د. موفق بن عبد الله بن عبد القادر، دار الغرب الإسلامي- بيروت، ط 1، 1404 هـ. 271 - "الضعفاء"، تأليف الحافظ محمد بن عمرو العقيلي (ت: 322 هـ)، ت: حمدي عبد المجيد السلفي، دار الصميعي- الرياض، ط 1، 1420 هـ. 272 - "ضعيف الترغيب والترهيب"، تأليف العلامة الألباني، مكتبة المعارف، ط 1، 1420 هـ. 273 - "ضعيف الجامع الصغير"، تأليف الشيخ الألباني، المكتب الإسلامي- بيروت، 1410 هـ. 274 - "ضعيف سنن أبي داود"، تأليف الشيخ الألباني، المكتب الإسلامي، ط 1، 1408 هـ. 275 - "ضعيف سنن الترمذي"، تأليف الشيخ الألباني، المكتب الإسلامي، ط 1، 1408 هـ. 276 - "ضعيف سنن النسائي"، تأليف الشيخ الألباني، المكتب الإسلامي، ط 1، 1408 هـ. 277 - "ضعيف سنن ابن ماجه"، تأليف الشيخ الألباني، المكتب الإسلامي، ط 1، 1408 هـ. 278 - "الضوء اللامع لأهل القرن التاسع"، تأليف الحافظ شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي (ت: 902 هـ)، تصوير دار الجيل عن الطبعة الأولى.
279 - "طبقات الحنابلة"، تأليف القاضي أبي الحُسَين محمد بن أبي يعلى الفرَّاء البغدادي الحنبلي (ت: 526 هـ)، ت: د. عبد الرحمن العثيمين، الأمانة العامة- الرياض، ط 1، 1419 هـ. 280 - "طبقات الشافعية"، لأبي بكر بن أحمد بن محمد ابن قاضي شهبة الدمشقي (ت: 851 هـ)، ت: د. الحافظ عبد العليم خان، عالم الكتب- بيروت، ط 1، 1407 هـ. 281 - "طبقات الشافعية الكبرى"، تأليف تاج الدين عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السُّبكي (ت: 771 هـ)، ت: د. محمود الطناحي، ود. عبد الفتاح الحلو، دار هجر- القاهرة، ط 2، 1413 هـ. 282 - "الطبقات الكبرى"، تأليف الإمام محمد بن سعد (ت: 230 هـ)، تقديم د. إحسان عباس، دار صادر- بيروت، تصوير عن الطبعة الأولى، 1377 هـ. 283 - "طبقات علماء الحديث"، تأليف الإمام أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي الصالحي (ت: 744 هـ)، ت: أكرم البوشي، وإبراهيم الزيبق، مؤسسة الرسالة- بيروت، ط 2، 1417 هـ. 284 - "طرح التثريب في شرح التقريب"، تأليف العلامة أبي زرعة أحمد بن عبد الرحيم بن الحسين العراقي (ت: 818 هـ)، تصوير أم القرى للطباعة والنشر- القاهرة. 285 - "طِلْبةُ الطلَّبَةِ في الاصطلاحات الفقهية على ألفاظ كتب الحنفية"، تأليف العلامة نجم الدين أبي حفص عمر بن محمد النسفي (ت: 537 هـ)، ت: خالد عبد الرحمن العك، دار النفائس- بيروت، ط 2، 1420 هـ. 286 - "الطيورِيات"، تأليف الحافظ الرحلة أبي طاهر السِّلَفي أحمد بن محمد الأصبهاني (ت: 576 هـ)، ت: مأمون الصاغرجي، ومحمد أديب الجادر، دار البشائر- دمشق، ط 1، 1422 هـ. 287 - "عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي"، تأليف الفقيه أبي بكر محمد بن عبد الله "ابن العربي المالكي" (ت: 543 هـ)، تصوير مكتبة ابن تيمية - لقاهرة. 288 - "عجالة المحتاج إلى توجيه المنهاج"، تأليف سراج الدين عمر بن علي الأنصاري "ابن الملَقِّن" (ت: 804 هـ)، ت: عز الدين هشام بن عبد الكريم البدراني، دار الكتاب الأردن، ط 1، 1421 هـ. 289 - "العزلة والانفراد"، تأليف الإمام أبي بكر ابن أبي الدنيا (ت: 281 هـ)، ت: مشهور بن حسن آل سلمان، دار الوطن- الرياض، ط 1، 1417 هـ. 290 - "عِقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة"، تأليف جلال الدين عبد الله بن نجم بن شاس (ت: 616 هـ)، ت: أ. د. حميد بن محمد لحمر، دار الغرب الإسلامي- بيروت، ط 1، 1423 هـ. 291 - "العظمة"، تأليف الحافظ أبي الشيخ الأصبهاني عبد الله بن محمد (ت: 369 هـ)، ت: د. رضا الله بن محمد المباركفوري، دار العاصمة- الرياض، ط 1، 1408 هـ.
292 - "علل الحديث"، تأليف الإمام أبي محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي (ت: 327 هـ)، ت: محمد بن صالح الدباسي، دار ابن حزم- بيروت، ط 1، 1424 هـ. 293 - "العلل المتناهية في الأحاديث الواهية"، تأليف العلامة ابن الجوزي الحنبلي (ت: 597 هـ)، ت: رشاد الحق الأثري، إدارة ترجمان السنة- باكستان. 294 - "العلل الواردة في الأحاديث النبوية"، تأليف الإمام الحافظ أبي الحسن علي بن عمر الدارقطني (ت: 385 هـ)، ت: محفوظ الرحمن زين الله السلفي، دار طيبة- الرياض، ط 1، 1420 هـ. 295 - "العلل ومعرفة الرجال"، تأليف الإمام أحمد بن حنبل (ت: 241 هـ)، ت: د. وصي الله بن محمد عباس، دار القبس- الرياض، ط 2، 1427 هـ. 296 - "علوم الحديث"- مقدمة ابن الصلاح-، تأليف العلامة أبي عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري (ت: 643 هـ)، ت: نور الدين عتر، دار الفكر- دمشق، ط 3، 1404 هـ. 297 - "عمل اليوم والليلة"، تأليف الحافظ أبي بكر أحمد بن محمد المعروف بابن السني (ت: 364 هـ)، دار المعارف العثمانية- حيدر آباد، ط 2، 1358 هـ. 298 - "عيون الأخبار"، تأليف الإمام عبد الله بن مسلم بن قتيبة (ت: 276 هـ)، ت: أحمد زكي، المؤسسة المصرية العامة للتأليف- القاهرة، ط 1، 1383 هـ. 299 - "غاية السُّول في خصائص الرسول - صلى الله عليه وسلم - "، تأليف الإمام ابن الملقن (ت: 804 هـ)، ت: عبد الله بحر الدين عبد الله، دار البشائر- بيروت، ط 1، 1414 هـ. 300 - "غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام"، تأليف العلامة محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي- بيروت، ط 3، 1405 هـ. 301 - "غريب الحديث"، تأليف الإمام أبي سليمان حمد بن محمد الخطابي (ت: 388 هـ)، ت: د. عبد الكريم العزباوي، جامعة أم القرى- مكة، ط 1، 1402 هـ. 302 - "غريب الحديث"، تأليف العلامة أبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي الحنبلي (ت: 597 هـ)، ت: د. عبد المعطي القلعجي، دار الكتب العلمية- بيروت، ط 1، 1495 هـ. 303 - "الغريين في القرآن والحديث"، تأليف العلامة أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي (ت: 401 هـ)، ت: أحمد فريد المزيدي، مكتبة الباز، مكة المكرمة، ط 1، 1419 هـ. 304 - "الغياثي" -غياث الأمم في التياث الظُّلم-، تأليف أبي المعالي عبد الملك الجويني- إمام الحرمين - (ت: 478 هـ)، ت: د. عبد العظيم الديب، ط 2، 1401 هـ. 305 - "الغيلانيات" -الفوائد-، تأليف الحافظ أبي بكر محمد بن عبد الله الشافعي (ت: 354 هـ)، ت: حلمي كامل أسعد، دار ابن الجوزي الدمام، ط 1، 1417 هـ.
306 - "الفائق في غريب الحديث"، تأليف جار الله محمود بن عمر الزمخشري (ت: 583 هـ)، ت: محمد أبو الفضل إبراهيم، وعلي البجاوي، تصوير دار المعرفة- بيروت، ط 2. 307 - "فتاوى ومسائل ابن الصلاح"، تأليف أبي عمرو ابن الصلاح عثمان بن عبد الرحمن الشَّهرزوري (ت: 643 هـ)، ت: د. عبد المعطي أمين قلعجي، دار المعرفة- بيروت، ط 1، 1406 هـ. 308 - "فتح الباري شرح صحيح البخاري"، تأليف العلامة الفقيه زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين الشهير بابن رجب الحنبلي (ت: 795 هـ)، ت: مجموعة من الباحثين بدار الحرمين المصرية، مكتبة الغرباء الأثرية- المدينة النبوية، ط 1، 1417 هـ. 309 - "فتح الباري شرح صحيح البخاري"، تأليف الحافظ ابن حجر (ت: 852 هـ)، وعليه تعليقات شيخنا الإمام عبد العزيز بن باز، دار الريان- القاهرة، ط 1، 1407 هـ. 310 - "الفتح المبين بشرح الأربعين"، تأليف شهاب الدين أحمد بن محمد بن حجر الهيتمي (ت: 974 هـ)، ت: مجموعة من الباحثين، دار المنهاج- جدة، ط 1، 1428 هـ. 311 - "فتح المغيث بشرح ألفيَّه الحديث"، تأليف الحافظ شمس الدين أبي الخير محمد بن عبد الرحمن السخاوي (ت: 902 هـ)، ت: د. عبد الكريم الخضير، د. محمد بن عبد الله آل فهيد، مكتبة دار المنهاج- الرياض، ط 1، 1426 هـ. 312 - "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان"، تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية، ت: د. عبد الرحمن اليحيى، دار طويق- الرياض، ط 1، 1414 هـ. 313 - "الفروسية"، تأليف الإمام ابن القيم (ت: 751 هـ)، ت: مشهور حسن سلمان، دار الأندلس - حائل، ط 1 ,1414 هـ. 314 - "الفصل للوصل المدرج في النقل"، تأليف الحافظ أحمد بن علي بن ثابت البغدادي الخطيب البغدادي (ت: 463 هـ)، ت: محمد مطر الزهراني، دار الهجرة، ط 1، 1418 هـ. 315 - "فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -"، تأليف الإمام إسماعيل بن إسحاق القاضي المالكي (ت: 282 هـ)، ت: العلامة محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، ط 3، 1397 هـ. 316 - "فضائل الصحابة"، تأليف الإمام أحمد بن حنبل (ت: 241 هـ)، ت: الشيخ د. وصي الله بن محمد عبَّاس، دار ابن الجوزي- الدمام، ط 2، 1420 هـ. 317 - "فضائل القرآن"، تأليف الحافظ أبي العباس جعفر بن محمد المستغفري (ت: 432 هـ)، ت: د. أحمد بن فارس السلوم، دار ابن حزم- بيروت، ط 1، 1427 هـ. 318 - "الفقيه والمتفقه"، تأليف الحافظ أبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي (ت: 463 هـ)، ت: عادل العزازي، دار ابن الجوزي- الدمام، ط 1، 1417 هـ. 319 - "فوائد الحديث"، تأليف العلامة تمام بن محمد الرازي الدمشقي (ت: 414 هـ)، ت: د. جاسم الفهيد الدوسري، ومعه "الروض البسام بترتيب وتخريج فوائد تمام"، دار البشائر- بيروت، ط 1، 1408 هـ.
320 - "فوائد حسان"، تأليف الحافظ المسند أبي طاهر السِّلفي الأصبهاني (ت: 576 هـ)، ت: محمد بن فريد زريوح، دار التوحيد الرياض، مطبوع بذيل "شرط القراءة علي الشيوخ"، ط 1، 1429 هـ. 321 - "قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة"، تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 728 هـ)، ت: الشيخ العلامة ربيع بن هادي المدخلي، دار لينة- القاهرة، ط 1، 1412 هـ. 322 - "القاموس المحيط"، تأليف مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزأبادي الشيرازي الشافعي (ت: 817 هـ)، دار الكتب العلمية- بيروت، ط 1، 1415 هـ. 323 - "القدر"، تآليف الإمام أبي بكر جعفر بن محمد الفريابي (ت: 301 هـ)، ت: عبد الله بن حمد المنصور، أضواء السلف- الرياض، ط 1، 1418 هـ. 324 - "قضاء الحوائج"، تأليف الحافظ أبي بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا (ت: 281 هـ)، ت: محمد خير رمضان يوسف، دار ابن حزم- بيروت، ط 1، 1422 هـ. 325 - "القضاء والقدر"، تأليف أحمد بن الحسين البيهقي (ت: 458 هـ)، ت: محمد آل عامر مكتبة العبيكان- الرياض، ط 1، 1421 هـ. 326 - "قطر الولي على حديث الولي"، تألينكت العلامة محمد بن علي الشوكاني (ت: 1250 هـ)، ت: إبراهيم هلال، دار الكتب الحديثة- القاهرة. 327 - "قواعد الأحكام في إصلاح الأنام"- القواعد الكبرى-، تأليف الفقيه عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام (ت: 660 هـ)، ت: د. نزيه حماد، د. عثمان ضميرية، دار القلم- دمشق، ط 1، 1421 هـ. 328 - "قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث"، تأليف الشيخ محمد جمال الدين القاسمي، دار إحياء السنة. 329 - "الكتاب"، تأليف سيبويه أبي بشر عمرو بن عثمان (ت: 180 هـ)، ت: أ. د. محمد كاظم البكاء، سؤسسة الرسالة- بيروت، ط 1، 1425 هـ. 330 - "الكامل في التاريخ"، تأليف الإمام علي بن أبي الكرم المعروف بابن الأثير الجزري (ت: 620 هـ)، ت: عبد الوهاب النجار، إدارة الطباعة المنيرية، ط 1، 1348 هـ. 331 - "الكامل في ضعفاء الرجال"، تأليف الحافظ عبد الله بن عدي الجرجاني (ت: 365 هـ)، ت د. سهيل زكار، ويحيى غزاوي، دار الفكر- بيروت، ط 3، 1409 هـ. 332 - "الكشاف عن حقائق التنزيل"، تأليف جار الله محمود الزمخشري المعزلي (ت:538 هـ)، تصوير دار المعرفة. 333 - "كشف الأستار عن زوائد البزار"، تأليف الحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي (ت: 807 هـ)، ت: الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي، مؤسسة الرسالة بيروت، ط 2، 1404 هـ.
334 - "كشف الخفاء ومزيل الإلباس فيما يدون من الحديث على ألسنة الناس"، تأليف العلامة إسماعيل العجلوني (ت: 1162 هـ)، تصوير دار الكتب العلمية- بيروت، ط 3، 1408 هـ. 335 - "كشف المشكل من حديث الصحيحين"، تأليف العلامة أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي (ت: 597 هـ)، د. علي حسين البواب، دار الوطن- الرياض، ط 1، 1418 هـ. 336 - "الكفاية في علم الرواية"، تأليف الحافظ أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي (ت: 463 هـ)، المكتبة العلمية بالمدينة النبوية. 337 - "لسان العرب"، تأليف العلامة جمال الدين محمد بن مكرم، ابن منظور الإفريقي المصري (ت: 711 هـ)، دار صادر- بيروت. 338 - "اللمع في أصول الفقه"، تأليف العلامة أبي إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي (ت: 476 هـ)، ت: محيي الدين ديب مستو، يوسف علي بديوي، دار ابن كثير- دمشق، ط 3، 1423 هـ. 339 - "لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية شرح الدرة المضيَّهَ في عقيدة الفرقة المرضية"، تأليف العلامة محمد بن أحمد السفاريني الحنبلي (ت: 1188 هـ)، المكتب الإسلامي- بيروت، ط 3، 1411 هـ. 340 - "مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب"، جمع وتحقيق مجموعة من الباحثين، طباعة جامعة الإمام محمد بن سعود- الرياض. 341 - "المتَّفق والمُفترق"، تأليف الخطيب البغدادي (ت: 463 هـ)، ت: د. محمد صادق الحامدي، دار القادري- دمشق، ط 1، 1417 هـ. 342 - "مجاز القرآن"، تأليف العلامة أبي عبيدة معمر بن المثني التيمي (ت: 210 هـ)، ت: د. محمد فؤاد سزكين، مؤسسة الرسالة- بيروت، ط 2، 1401 هـ. 343 - "مجالس العلماء"، تأليف العلامة اللغوي أبي القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي (ت: 340 هـ)، ت: عبد السلام هارون، وزارة الإعلام- الكويت، ط 2، 1984 م. 344 - "المجروحين من المحدثين"، تأليف الإمام محمد بن حِبَّان البستي (ت: 354 هـ)، ت: حمدي عبد المجيد السلفي، دار الصميعي- الرياض، ط 1، 1420 هـ. 345 - "مجمع الأمثال"، تأليف أبي الفضل أحمد بن محمد الميداني (ت: 218 هـ)، محمد أبو الفضل إبراهيم، عيسى البابي الحلبي وشركاه، ط 1، 1398 هـ. 346 - "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد"، تأليف الحافظ نور الدين الهيثمي (ت: 857 هـ)، تصوير دار الكتاب العربي بيروت. 347 - "مجمل اللغة"، تأليف العلامة اللغوي أحمد بن فارس (ت: 395 هـ)، ت: زهير سلطان، مؤسسة الرسالة بيروت، ط 2، 1406 هـ.
348 - "مجلس في حديث جابر الذي رحل فيه مسيرة شهر إلي عبد الله بن أُنيس"، تأليف الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي (ت:842 هـ) [ضمن مجموع فيه رسائله]- ت: مشعل بن باني المطيري، دار ابن حزم، ط 1، 1422 هـ. 349 - "المجموع شرح المهذب للشيرازي"، تأليف العلامة محيي الدين بن شرف النووي الشافعي (ت:676 هـ)، ت: محمد نجيب المطيعي، دار إحياء التراث العربي بيروت، 1415 هـ. 350 - "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" (ت: 728 هـ)، جمع: الشيخ عبد الرحمن بن قاسم النجدي، الدار السلفية- مصر، وطبعة وزارة الأوقاف- السعودية. 351 - "مجموعة الرسائل المنيرية"، جمع وتحقيق محمد منير الدمشقي، دار إحياء التراث العربي- بيروت، مصورة عن الطبعة الأولى 1343 هـ. 352 - "المحبة لله سبحانه"، تأليف الحافظ إبراهيم بن عبد الله الجنيد (ت: 270 هـ تقريبًا)، ت: عبد الله بدران، دار المكتبي- دمشق، ط 1، 1423 هـ. 353 - "المحدث الفاصل بين الراوي والواعي"، تأليف العلامة الحسن بن عبد الرحمن الرامهرمزي (ت: 360 هـ)، ت: د. محمد عجاج الخطيب، دار الفكر، ط 3، 1404 هـ. 354 - "المحرر في مصطلح الحديث"، تأليف الشيخ الدكتور حمد بن إبراهيم العثمان، الدار الأثرية عمَّان، ط 1، 1429 هـ. 355 - "المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز"، تأليف أبي محمد عبد الحق بن عطية الأندلسي (ت: 341 هـ)، ت: مجموعة من المحققين، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر، ط 2، 1428 هـ. 356 - "محض الصواب في فضائل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - "، تأليف العلامة يوسف بن عبد الهادي الحنبلي "ابن المبرد" (ت: 909 هـ)، ت: د. عبد العزيز الفريح، دار أضواء السلف- الرياض، ط 1، 1420 هـ. 357 - "المحلى"، تأليف الإمام أبي محمد بن حزم الأندلسي (ت: 456 هـ)، ت: العلامة أحمد محمد شاكر، تصوير دار التراث- القاهرة. 358 - "المختارة" -المستخرج من الأحاديث المختارة-، تأليف العلامة ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي (ت: 643 هـ)، ت: أ. د. عبد الملك بن دهيش، مكتبة الأسدي مكة المكرمة، ط 5، 1429 هـ. 359 - "مختصر الصواعق المرسلة علي الجهمية والمعطلة لابن القيم" (ت: 751 هـ)، اختصره محمد بن الموصلي (ت: 774 هـ)، ت: د. الحسن العلوي، أضواء السلف- الرياض، ط 1، 1425 هـ. 360 - "مداراة الناس"، تأليف الحافظ أبي بكر بن أبي الدنيا (ت: 281 هـ)، ت: محمد خير رمضان يوسف، دار ابن حزم- بيروت، ط 1، 1418 هـ.
361 - "مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين"، تأليف الإمام ابن القيم (ت: 751 هـ)، ت: الشيخ العلامة محمد حامد الفقي، دار الكتاب العربي، 1392 هـ. 362 - "المدخل إلي السنن الكبرى"، تأليف العلامة أحمد بن الحسين البيهقي (ت: في 45 هـ)، ت: أ. د. محمد ضياء الرحمن الأعظمي، أضواء السلف الرياض، ط 2، 1420 هـ. 363 - "المراسيل"، تأليف الإمام الحافظ أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني (ت: 275 هـ)، ت: د. عبد الله بن مساعد الزهراني، دار الصميعي- الرياض، ط 1، 1422 هـ. 364 - "مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع"، تأليف العلامة صفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحق البغدادي (ت: 739 هـ)، ت: علي محمد البجاوي، دار إحياء الكتب العربية عيسى البابي، ط 1، 1373 هـ. 365 - "مسائل الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه"، رواية حرب بن إسماعيل الكرماني (ت: 280 هـ)، ت: د. ناصر بن سعود السلامة، مكتبة الرشد- الرياض، ط 1، 1425 هـ. 366 - "مساوئ الأخلاق ومذمومها"، تأليف العلامة أبي بكر الخرائطي محمد بن جعفر (ت: 327 هـ)، ت: مصطفي شلبي، مكتبة السوادي- جدة، ط 1، 1413 هـ. 367 - "المستدرك على الصحيحين"، تأليف الحاكم أبي عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري (ت: 405 هـ)، دائرة المعارف العثمانية. * "المسند"، تأليف الحارث بن أبي أسامة (ت: 282 هـ) = بغية الباحث 368 - "المسند"، تأليف الإمام محمد بن إدريس الشافعي (ت: 204 هـ)، ترتيب محمد عابد السندي، ت: السيد يوسف علي الحسيني، والسيد عزت العطار الحسيني، دار الكتب العلمية- بيروت، ط 1، 1370 هـ. 369 - "المسند"، تأليف الإمام عبد الله بن الزبير الحميدي (ت: 219 هـ)، ت: حسين سليم أسد الداراني، دار السقا - دمشق، ط 1، 1996 م. 370 - "المسند"، تأليف الحافظ علي بن الجعد الجوهري (ت: 230 هـ)، ت: عبد [الهادي] بن عبد القادر، مكتبة الفلاح- الكويت، ط 1، 1405 هـ. 371 - "المسند"، تأليف الإمام أحمد بن حنبل (ت: 241 هـ)، ت: مجموعة من الباحثين، مؤسسة الرسالة- بيروت، ط 1، 1420 هـ. * طبعة أُخرى: ت: العلامة أحمد شاكر، دار المعارف، القاهرة، 1392 هـ. 372 - "المسند"، تأليف الإمام إسحاق بن راهويه المروزي (ت: 238 هـ)، ت: د. عبد الغفور عبد الحق البلوشي، مكتبة الإيمان- المدينة النبوية، ط 1، 1412 هـ. 373 - "المسند"، تأليف الحافظ أبي داود الطيالسي سليمان بن داود الجارود (ت: 204 هـ)، ت: د. محمد بن عبد المحسن التركي، دار هجر- مصر، ط 1، 1419 هـ.
374 - "المسند"، تأليف الحافظ عبد الله بن محمد ابن أبي شيبة (ت: 235 هـ)، ت: عادل عزازي، وأحمد فريد، دار الوطن- الرياض، ط 1، 1418 هـ. 375 - "المسند"، تأليف الحافظ أبي يعلى أحمد بن علي التميمي (ت: 307 هـ)، ت: حسين سليم أسد، دار المأمون للتراث دمشق، ط 1، 1404 هـ. 376 - "المسند"- البحر الزخار-، تأليف الإمام أبي بكر أحمد بن عمرو العتكي البزار (ت: 292 هـ)، ت: الشيخ د. محفوظ الرحمن زين الله، مكتبة العلوم والحكم المدينة النبوية، ط 1، 1409 هـ. 377 - "المسند"، تأليف الإمام أبي عوانة يعقوب بن إسحاق الإسفرائيني (ت: 316 هـ)، ت: أيمن عارف الدمشقي، دار المعوفة بيروت، ط 1، 1419 هـ. 378 - "المسند"، تأليف العلامة أبي سعيد الهيثم بن كليب الشاشي (ت: 335 هـ)، ت: د. محفوظ الرحمن زين الله، مكتبة العلوم والحكم المدينة النبوية، ط 1، 1410 هـ. 379 - "المسند"، تأليف الحافظ أبي بكر محمد بن هارون الروياني (ت: 307 هـ)، ت: أيمن علي أبو يماني، مؤسسة قرطبة، ط 1، 1416 هـ. 380 - "مسند الشهاب"، تأليف القاضي أبي عبد الله محمد بن سلامة القضاعي (ت: 454 هـ)، ت: الشيخ حمدي عبد المجيد السلفي، مؤسسة الرسالة- بيروت، ط 2، 1407. 381 - "مسند الشاميين"، تأليف الإمام الحافظ سليمان بن أحمد الطبراني (ت: 360 هـ)، ت: الشيخ حمدي عبد المجيد السلفي، مؤسسة الرسالة- بيروت، ط 2، 1417 هـ. 382 - "مسند الموطأ"، تأليف الإمام عبد الرحمن بن عبد الله الجوهري (ت: 381 هـ)، ت: لطفي الصغير، وطه بن علي بو سريح، دار الغرب الإسلامي بيروت، ط 1، 1997 م. 383 - "مشارق الأنوار على صحاح الآثار"، تأليف الإمام القاضي عياض بن موسى اليحصبي المالكي (ت: 544 هـ)، المكتبة العتيقة- تونس، ودار التراث- القاهرة، مصورة عن الطبعة الأولي 1333 هـ. 384 - "مصباح الزجاجة في زوائد بن ماجه"، تأليف العلامة أحمد بن أبي بكر البوصيري (ت: 840 هـ)، ت: موسى محمد، ود. عزت علي، دار الكتب الحديثة القاهرة، ط 1، 1405 هـ. 385 - "مصطلحات المذاهب الفقهية وأسرار الفقه الموموز في الأعلام والكتب والآراء والترجيحات"، تأليف مريم محمد الظفيري، دار ابن حزم- بيروت، ط 1، 1422 هـ. 386 - "المصعد الأحمد في ختم مسند الإمام أحمد"، تأليف العلامة شمس الدين بن الجزري (ت: 833 هـ)، ت: العلامة أحمد شاكر -طبع مع المسند-، دار المعارف- القاهرة، 1392 هـ. 387 - "المصنف"، تأليف الإمام عبد الرزاق بن همام الصنعاني (ت: 211 هـ)، ت: حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي- بيروت، ط 2، 1403 هـ. 388 - "المُصَنَّف"، تأليف الإمام أبي بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة (ت: 235 هـ)، ت: محمد عوامة، دار القبلة ومؤسسة علوم القرآن، ط 1، 1427 هـ.
389 - "معالم السنن"- شرح سنن أبي داود-، تأليف أبي سليمان حَمْد بن محمد الخطابي (ت: 388 هـ)، مطبوع مع "سنن أبي داود"، ت: عزت الدعاس، وعادل السيد، دار ابن حزم- بيروت، 1418 هـ. 390 - "معاني القرآن"، تأليف الإمام أبي زكريا يحيى بن زياد الفراء (ت: 207 هـ)، عالم الكتب- بيروت، ط 3، 1403 هـ. 391 - "المعجم الأوسط"، تأليف الإمام الحافظ سليمان بن أحمد الطبراني (ت: 360 هـ)، ت: طارق عوض الله، وعبد المحسن الحسيني، دار الحرمين- القاهرة، ط 1، 1415 هـ. 392 - "معجم البلدان"، تأليف العلامة شهاب الدين أبي عبد الله ياقوت الحموي (ت: 626 هـ)، دار صادر- بيروت، ط 2، 1995 م. 393 - "معجم الصحابة"، تأليف العلامة أبي الحسين عبد الباقي بن قانع (ت: 351 هـ)، ت: صلاح المصراتي، مكتبة الغرباء الأثرية - المدينة النبوية، ط 1، ط 1، 1418 هـ. 394 - "المعجم الكبير"، تأليف الحافظ أبي قاسم سليمان بن أحمد الطبراني (ت: 360 هـ)، ت: الشيخ حمدي عبد المجيد السلفي، دار إحياء التراث العربي- بيروت، ط 2، 1404 هـ. 395 - "المعجم الكبير"- المجلد (13) -، تأليف الحافظ الطبراني (ت: 360 هـ)، ت: فريق من الباحثين؟! - الرياض الجريسي، ط 1، 1429 هـ. 396 - "المعجم المؤسس للمعجم المفهرس"، تأليف الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت: 852 هـ)، ت: محمد شكور أمرير المياديني، مؤسسة الرسالة- بيروت، ط 1، 1417 هـ. 397 - "معرفة السنن والآثار"، تأليف الحافظ أبي بكر بن الحسين البيهقي (ت: 458 هـ)، دار الوعي حلب- وداء الوفاء- القاهرة، ط 1، 1412 هـ. 398 - "معرفة الصحابة"، تأليف الإمام أبي نعيم الأصبهاني أحمد بن عبد الله (ت: 430 هـ)، ت: عادل بن يوسف العزازي، دار الوطن- الرياض، ط 1، 1419 هـ. 399 - "المطلع على أبواب المقنع"، تأليف العلامة شمس الدين محمد بن أبي الفتح البعلي الحنبلي (ت: 709 هـ)، ت: الشيخ زهير الشاويش، المكتب الإسلامي- بيروت، ط 1، 1401 هـ. 400 - "المعلقات العشر"- ضمن شرح المعلقات -للخطيب التبريزي، ث: فخر الدين قباوة، دار الفكر دمشق، ط 1، 1418 هـ. 401 - "المعلم بفوائد مسلم"، تأليف أبي عبد الله محمد بن علي المازري (ت: 536 هـ)، ت: محمد الشاذلي النفير، دار الغرب الإسلامي- بيروت، ط 2، 1992 م. 402 - "المغني"، تأليف الإمام ابن قدامة المقدسي موفق الدين أبي محمد عبد الله بن محمد الحنبلي (ت: 620 هـ)، ت: د. عبد الفتاح الحلو، ود. عبد الله التركي، دار هجر- القاهرة، ط 2، 1412 هـ.
403 - "مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج"، تأليف الشيخ محمد بن أحمد الشربيني الخطيب الشافعي الأزهري (ت: 977 هـ)، مطبعة مصطفى البابي، 1377 هـ-1958 م. 404 - "مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية أهل العلم والإرادة"، تأليف الإمام ابن القيم (ت: 751 هـ)، ت: علي بن حسن الحلبي، دار ابن عفان- الدمام، ط 1، 1416 هـ. 405 - "مفردات ألفاظ القرآن"، تأليف الراغب الأصفهاني (ت: 423 هـ)، ت: صفوان عدنان داوودي، دار القلم- دمشق، ط 1، 1412 هـ. 406 - "المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم"، تأليف العلامة أبي العباس أحمد بن عمر القرطبي (ت: 656 هـ) ت: مجموعة من الباحثين، دار ابن كثير- دمشق، ط 1، 1417 هـ. 407 - "مقالات الإسلاميين واختلاف المصلِّين"، تأليف الإمام أبي الحسن الأشعري علي بن إسماعيل (ت: 330 هـ)، ت: محمد محيي الدين عبد الحميد، مكتبة النهضة المصرية، ط 2، 1389 هـ. 408 - "المقنع في علوم الحديث"، تأليف الإمام سراج الدين عمر بن علي الأنصاري المشهور بـ "ابن الملقن" (ت: 804 هـ)، ت: عبد الله بن يوسف الجديع، دار فواز للنشر- السعودية، ط 1, 1413 هـ. 409 - "مكارم الأخلاق ومعاليها"، تأليف العلامة أبي بكر محمد بن جعفر الخرائطي (ت: 327 هـ)، ت: د. سعاد سليمان، مطبعة المدني- القاهرة، ط 1، 1411 هـ. 410 - "المكتفى في الوقف والابتداء"، تأليف الإمام أبي عمرو الداني الأندلسي (ت: 444 هـ)، تحقيق جايد زيدان مخلف، وزارة الأوقات العراقية، ط 1، 1403 هـ. 411 - "مناقب الإمام أحمد بن حنبل"، تأليف العلامة أبي الفرج ابن الجوزي (ت: 597 هـ)، ت: د. عبد الله التركي، دار هجر- القاهرة، ط 2، 1409 هـ. 412 - "مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - "، تأليف العلامة ابن الجوزي الحنبلي (ت: 597 هـ)، ت: د. زينب القاروط، دار الكتب العلمية- بيروت، ط 3، 1407 هـ. 413 - "مناقب الشافعي" -آداب الشافعي ومناقبه-، تأليف الإمام أبي محمد عبد الرحمن ابن أبي حاتم الرازي (ت: 327 هـ)، ت: عبد الغني عبد الخالق، مكتبة الخانجي- القاهرة، ط 2, 1413 هـ. 414 - "مناقب الشافعي"، تأليف العلامة أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي (ت: 458 هـ)، ت: السيد أحمد صقر، تصوير مكتبة دار التراث- القاهرة. 415 - "المنتخب"، تأليف الحافظ عبد بن حميد (ت: 249 هـ)، ت: مصطفى العدوي، دار الأرقم - الكويت، ط 1، 1405 هـ. 416 - "المنتقى في السنن"، تأليف عبد الله بن علي بن الجارود النيسابوري (ت: 307 هـ)، ت: أبي إسحاق الحويني، دار الكتاب العربي- بيروت، ط 2، 1414 هـ.
417 - "المنتقى شرح موطأ إمام دار الهجرة"، تأليف القاضي أبي الوليد سليمان بن خلف الباجي الأندلسي (ت: 494 هـ)، مطبعة السعادة- القاهرة، ط 1، 1332 هـ تصوير دار الكتاب الإسلامي. 418 - "منتهى الآمال في شرح حديث إنما الأعمال"، تأليف جلال الدين السيوطي (ت: 911 هـ)، ت: محمد عطية، دار ابن حزم- بيروت، ط 1، 1419 هـ. 419 - "منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية"، تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية، ت: د. محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود- الرياض، ط 1، 1406 هـ. 420 - "المنهج المبين في شرح الأربعين"، تأليف العلامة أبي حفص تاج الدين عمر بن علي الفاكهاني المالكي (ت: 731 هـ)، ت: شوكت بن رفقي بن شوكت، دار الصميعي- الرياض، ط 1 , 1428 هـ. 421 - "المنهل العذب الروي في ترجمة قطب الأولياء النووي"، تأليف العلامة شمس الدين السخاوي (ت: 902 هـ)، ت: محمد العيد الخطرواي، دار التراث- المدينة النبوية، ط 1، 1409 هـ. 422 - "موافقة الخُبر الخَبر في تخريج أحاديث المختصر"، تأليف الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت: 850 هـ)، ت: حمدي عبد المجيد السلفي وصبحي السامرائي، مكتبة الرشد- الرياض، ط 3، 1419 هـ. 423 - "الموسوعة الفقهية"، إصدار وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية- دولة الكويت. 424 - "الموضح لأوهام الجمع والتفريق"، تأليف الحافظ أبي بكر علي بن ثابت الخطيب البغدادي (ت: 463 هـ)، ت: الشيخ العلامة عبد الرحمن المعلمي، دار الفكر الإسلامي، ط 2, 1405 هـ. 425 - "الموضوعات"، تأليف العلامة أبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي (ت: 597 هـ)، ت: نور الدين بن شكري، أضواء السلف- الرياض، ط 1، 1418 هـ. 426 - "الموطأ"، تأليف الإمام مالك بن أنس (ت: 179 هـ) - رواية يحيى الليثي (ت: 244 هـ) -، ت: د. بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي- بيروت، ط 2، 1417 هـ. 427 - "الموطأ"، تأليف الإمام مالك بن أنس (ت: 179 هـ) رواية محمد بن الحسن الشيباني (ت: 189 هـ)، ت: عبد الوهاب عبد اللطيف، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية- القاهرة، ط 8، 1424 هـ. 428 - "الموطأ"، تأليف الإمام مالك، رواية أبي مصعب الزهري (ت: 242 هـ)، ت: د. بشار عواد ومحمود محمد خليل، مؤسسة الرسالة بيروت، ط 2، 1413 هـ. 429 - "موقف شيخ الإسلام ابن تيميَّة من آراء الفلاسفة ومنهجه في عرضها"، تأليف د. صالح بن غرم الله الغامدي، مكتبة المعارف- الرياض، ط 1، 1424 هـ. 430 - "ميزان الاعتدال في نقد الرجال"، تأليف الحافظ شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي (ت: 748 هـ)، ت: علي البجاوي، تصوير دار الفكر بيروت.
431 - "نتائج الأفكار في تخريج أحاديث الأذكار"، تأليف الحافظ ابن حجر العسقلاني، ت: الشيخ حمدي عبد المجيد السلفي، مكتبة ابن تيمية- مصر، ط 1، 1406 هـ. 432 - "نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر"، تأليف العلامة أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي (ت: 597 هـ)، ت: محمد عبد الكريم الراضي، مؤسسة الرسالة- بيروت، ط 2، 1405 هـ. 433 - "نصب الراية لأحاديث الهداية"، تأليف العلامة جمال الدين أبي محمد عبد الله بن يوسف الحنفي الزيلعي (ت: 762 هـ)، المجلس العلمي بالهند، تصوير دار إحياء التراث العربي، ط 3، 1407 هـ. 434 - "نقد الطالب لزَغَل المناصب"، تأليف العلامة شمس الدين ابن طولون الصالحي الدمشقي (ت: 953 هـ)، ت: مجموعة من الباحثين، دار الفكر المعاصر- بيروت، ط 1، 1412 هـ. 435 - "النكت على ابن الصلاح"، تأليف الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت: 852 هـ)، ت: العلامة ربيع بن هادي المدخلي، دار الراية- الرياض، ط 2، 1408 هـ. 436 - "النكت على مقدمة ابن الصلاح"، تأليف العلامة بدر الدين أبي عبد الله محمد بن جمال الدين بهادر الزركشي الشافعي (ت: 794 هـ)، ت: د. زين العابدين بن محمد بلا فريج، أضواء السلف- الرياض، ط 1، 1419 هـ. 437 - "النهاية في غريب الحديث والأثر"، تأليف العلامة مجد الدين المبارك بن محمد الجزري "ابن الأثير" (ت: 606 هـ)، ت: طاهر الزاوي، ومحمود الطناحي، دار الفكر- بيروت. 438 - "نوادر الأصول في معرفة أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -"، تأليف الحكيم الترمذي محمد بن علي المؤذن (ت: 285 هـ)، ت: توفيق محمود تكلة، دار النوادر- سوريا، ط 1، 1431 هـ. 439 - "هدي الساري"، تأليف الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت: 852 هـ) طبع مع "فتح الباري". 440 - "الواضح في أصول الفقه"، تأليف العلامة أبي الوفاء ابن عقل علي بن عقيل (ت: 513 هـ)، ت: د. عبد الله التركي، مؤسسة الرسالة- بيروت، ط 1، 1420 هـ. 441 - "الورع"، تأليف الإلمام أبي بكر ابن أبي الدنيا (ت: 281 هـ)، ت: محمد الحمود، الدار السلفية- الكويت، ط 1، 1408 هـ. 442 - "اليقين"، تأليف الحافظ أبي بكر بن أبي الدنيا (ت: 281 هـ)، ت: مصطفى عطا، مؤسسة الكتب الثقافية- بيروت، ط 1، 1414 هـ. * * *